You are on page 1of 386

‫ال � � � �ك � � � �ت� � � ��اب‪�  :‬سيماء ال�صاحلني‬

‫إ�ع� � � � � � �ـ � � � � � ��داد‪ :‬مركز املعارف للت�أليف والتحقيق‬


‫إ��� � � � � � �ص � � � � � ��دار‪ :‬دار املعارف الإ�سالم ّية الثقاف ّية‬
‫ت�صميم وطباعة‪:‬‬
‫‪2021‬م‬ ‫ال �ط �ب �ع��ة الأوىل‪:‬‬
‫‪ISBN 978-614-467-181-8‬‬
‫‪books@almaaref.org.lb‬‬
‫‪00961 01 467 547‬‬
‫‪00961 76 960 347‬‬
‫ال�شيخ ر�ضا خمتاري‬
‫تعريب ال�شيخ ح�سني كوراين‬
‫‪5‬‬

‫الفهرس‬
‫مق ّدمة المركز‪7..................................................................................................‬‬
‫سرهفلا‬

‫مق ّدمة المع ِّرب‪13.............................................................................................‬‬


‫مق ّدمة المؤلّف‪19.............................................................................................‬‬
‫القسم األ ّول‪ :‬الخطوة األولى‪ :‬تهذيب النفس ‪23..................................................‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬الحاجة إلى أستاذ األخالق والسير والسلوك‪33...............................‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬اجتناب الذنب الشرط المه ّم للتوفيق في الدراسة‪77....................‬‬
‫القسم الرابع‪ :‬إخالص‪ ،‬وطهارة الن ّية‪87................................................................‬‬
‫القسم الخامس‪ :‬العبادة ‪115..............................................................................‬‬
‫التوسل باألئ ّمة‪133.............................. R‬‬
‫القسم السادس‪ :‬الدعاء‪ -‬الزيارة ‪ّ -‬‬
‫القسم السابع‪ :‬صالة الليل س ّر النجاح‪153...........................................................‬‬
‫القسم الثامن‪ :‬احترام العلماء الصالحين ‪183.......................................................‬‬
‫القسم التاسع‪ :‬التواضع‪207................................................................................‬‬
‫القسم العاشر‪ :‬التسامح والنبل‪241.....................................................................‬‬
‫القسم الحادي عشر‪ :‬الجماهيريّة وخدمة الناس ‪253...........................................‬‬
‫القسم الثاني عشر‪ :‬التوكُّل ‪277..........................................................................‬‬
‫القسم الثالث عشر‪ :‬اإلباء وع ّزة النفس‪295.........................................................‬‬
‫القسم الرابع عشر‪ :‬التقوى في صرف األموال العا ّمة ‪313.....................................‬‬
‫القسم الخامس عشر‪ :‬بساطة العيش‪333............................................................‬‬
‫القسم السادس عشر‪ :‬في مواجهة الظالمين‪359.................................................‬‬
‫‪7‬‬

‫مقدمة المركز‬
‫ّ‬
‫مقدمة المركز‬
‫ّ‬

‫وصل الله عىل خري خلقه مح ّمد وآله الطاهرين‪ ،‬والسالم‬ ‫رب العاملني‪ّ ،‬‬ ‫الحمد لله ّ‬
‫بالحق املبلِّغني رساالت ربّهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عىل العلامء العاملني الناطقني‬
‫ْ َ‬ ‫َْ‬
‫قال ‪-‬تعاىل‪﴿ :-‬إ َّن َما ي َش َّ َ‬
‫الل م ِْن ع َِبادِه ِ ال ُعل َم ُاء﴾(((‪.‬‬ ‫ِ‬

‫لطلب العلوم الدين ّية‬


‫«سيامء الصالحني»‪ ،‬كتاب ق ّيم يشتمل عىل إرشادات ونصائح ّ‬
‫واملحقّقني‪ ،‬مستندا ً إىل أقوال العظامء من علامئنا السابقني وأفعالهم يف طريقة الحياة‬
‫العلم ّية وآدابها‪ ،‬وطرق التعامل مع املجتمع ومعارشة األقربني واألصدقاء‪ ،‬ومواجهة‬
‫التح ّديات من مطاوي صفحات حياتهم وقصصهم‪.‬‬
‫وقد كتبه مؤلّفه باللّغة الفارسيَّة‪ ،‬وقام بتعريبه سامحة املرحوم الشيخ حسني‬
‫كوراين ‪ ،M‬وهو املتميّز بأدبه واملعروف بسم ّو ُخلُقه‪ ،‬فأضاف إىل هذا الكتاب قيمة‬
‫وبركة‪ ،‬مضافاً إىل حسن بيانه وسالمة عباراته‪.‬‬
‫وقد التزمنا‪ ،‬يف مركز املعارف للتأليف والتحقيق‪ ،‬طباعة هذا الكتاب ونرشه؛ ملا‬
‫وتأسياً بسرية السلف الصالح‬
‫ملسنا فيه من الفائدة الجليلة لطلبة العلم األع ّزاء‪ ،‬اقتدا ًء ّ‬
‫من علامئنا العظامء ‪-‬أعىل الله مقاماتهم‪ ،-‬راجني من املوىل ‪-‬سبحانه‪ -‬أن ينتفع به‬
‫اإلخوة الكرام ملا فيه الخري والصالح‪.‬‬

‫((( سورة فاطر‪ ،‬اآلية ‪.28‬‬


‫ٓ ََ ۡ ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ِين َم َع ُه ٓۥ أش َِّدا ُء ع ٱلك َّفارِ﴾‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ٱللِ َوٱل َ‬ ‫ّ ‪ُ َّ ٞ‬‬
‫‪﴿ - 1‬حممد رسول ۚ‬
‫ٓ‬ ‫﴿ر َ َ‬
‫حا ُء بَ ۡي َن ُه ۡمۖ﴾‪.‬‬ ‫‪ُ -2‬‬
‫َّ‬
‫‪﴿ - 3‬تَ َرى ٰ ُه ۡم ُرك ٗعا ُس َّج ٗدا﴾‪.‬‬
‫َ ٗ‬
‫ٱللِ َورِ ۡض َو ٰ ٗناۖ﴾‪.‬‬
‫َ ۡ َ ُ َ ۡ ّ َ َّ‬
‫‪﴿ - 4‬يبتغون فضل مِن‬
‫ََ‬ ‫َ ُ‬
‫اه ۡم ف ُو ُجوهِهم ّم ِۡن أثر ُّ‬
‫ٱلس ُجودِ ۚ﴾(((‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪﴿ - 5‬سِيم‬

‫((( سورة الفتح‪ ،‬اآلية ‪.29‬‬


‫‪11‬‬

‫هدف الكتاب‬
‫كيف ينبغي أن نكون؟ وماذا علينا أن نفعل حتّى ال تنطبق علينا اآليات اآلتية؟‬
‫ََ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ۡ ُ َ َ ۡ ۡ َ َ َ َّ ٓ َ َ ۡ َ ٰ ُ َ َ ٰ َ َ َ َ َ ۡ َ َ ۡ‬
‫هدف الكتاب‬

‫ٱنسلخ مِن َها فأت َب َع ُه ٱلش ۡي َطٰ ُن فكن م َِن‬ ‫‪﴿ - 1‬وٱتل علي ِهم نبأ ٱلِي ءاتينه ءايتِنا ف‬
‫َ‬ ‫َ َ ۡ ۡ َ َ َ َ ۡ َ ُ َ َ َ َّ ُ ٓ َ ۡ َ َ َ ۡ‬
‫َ َُ َ َ‬ ‫َّ َ‬
‫ۡرض َوٱت َب َع ه َوى ٰ ُ ۚه ف َمثل ُهۥ ك َمث ِل‬ ‫ل إِل ٱل ِ‬ ‫ين ‪ 175‬ولو شِئنا لرفعنٰه بِها ولٰكِنهۥ أخ‬ ‫ۡٱل َغاو َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ ّۡ‬
‫ِين كذبُوا أَ‍ِبيٰت ِ َنا ۚ‬ ‫ث ذٰل َِك َمثل ٱلق ۡو ِم ٱل َ‬ ‫تك ُه يَل َ‬
‫ه‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫و‬‫ت ِمل َعل ۡيهِ يَل َهث أ ۡ‬ ‫ۡ‬
‫ن‬
‫ۚ‬ ‫ٱللك ِ ِ‬
‫إ‬ ‫ب‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ٓ َ َ َ ً ۡ َ ۡ ُ َّ َ َ َّ ْ َ‬ ‫َ َّ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َۡ‬ ‫َ ۡ‬
‫ِين كذبُوا أَ‍ِبيٰت ِ َنا َوأنف َس ُه ۡم‬ ‫فٱق ُص ِص ٱلق َص َص ل َعل ُه ۡم َي َتفك ُرون ‪ 176‬ساء مثل ٱلقوم ٱل‬
‫َ ُ ْ َۡ ُ َ‬
‫ون﴾(((‪.‬‬ ‫كنوا يظل ِم‬
‫ۡ َ َ ٰ ِ ُّ ۡ ُ‬ ‫َّ َ َ َّ‬ ‫ۡ ۡ َ َ ۡ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُۡ َ ۡ َُّ ُ ُ‬
‫ٱدلن َيا َوه ۡم‬ ‫ِين ضل َس ۡع ُي ُه ۡم ِف ٱليوة‬ ‫ين أع َمٰل ‪ 103‬ٱل‬ ‫س‬
‫‪﴿ - 2‬قل هل ننبِئكم بِٱلخ ِ‬
‫َ ۡ َ ُ َ َ َّ ُ ۡ ُ ۡ ُ َ‬
‫ون ُص ۡن ًعا﴾(((‪.‬‬ ‫يسبون أنهم يسِن‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ ۡ َ َ َّ‬
‫َ‬ ‫َۡ‬
‫ع َس ۡمعِهِۦ َوقلبِهِۦ َو َج َعل‬ ‫ع ع ِۡل ٖم َو َخ َت َم َ َ ٰ‬ ‫ٱلل َ َ ٰ‬‫ٱتَ َذ إ َل ٰ َه ُهۥ َه َوى ٰ ُه َوأ َض َّل ُه َّ ُ‬
‫ِ‬ ‫‪﴿ - 3‬أفرءيت م ِن‬
‫ۢ َ ۡ َّ َ َ َ َ َّ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َٰ ٗ َ‬ ‫َ َٰ َ َ‬
‫ون﴾(((‪.‬‬ ‫ِش َوة ف َمن َي ۡهدِيهِ ِمن بع ِد ٱللِۚ أفل تذكر‬ ‫صه ِۦ غ‬ ‫عب ِ‬
‫َُ‬ ‫ۡ َ َۡ ُ َۡ َ َ ۡ‬ ‫َ َ ُ َّ َ ُ ّ ُ ْ َّ َ ُ َ َ ۡ ُ َ َ َ‬
‫ار ۢ ۚا بِئ َس َمثل‬ ‫ٱتل ۡو َرىٰة ث َّم ل ۡم ي ِملوها ك َمث ِل ٱل ِمارِ ي ِمل أسف‬ ‫‪﴿ - 4‬مثل ٱلِين حِلوا‬
‫ۡ َ ۡ َ َّ‬ ‫َّ َ َّ ُ َ‬ ‫ۡ َ ۡ ِ َّ َ َ َّ ْ َ‬
‫ٱلظٰل ِ ِم َني﴾(((‪.‬‬ ‫ٱلل ل َي ۡهدِي ٱلقوم‬ ‫ت ٱللِۚ و‬ ‫ِين كذبُوا أَ‍ِبي ٰ ِ‬ ‫ٱلقوم ٱل‬

‫((( سورة األعراف‪ ،‬اآليات ‪.177 - 175‬‬


‫((( سورة الكهف‪ ،‬اآليتان ‪.104 - 103‬‬
‫((( سورة الجاثية‪ ،‬اآلية ‪.23‬‬
‫((( سورة الجمعة‪ ،‬اآلية ‪.5‬‬
‫‪13‬‬

‫مقدمة المعرِّب‬
‫ّ‬
‫مقدمة‬

‫األخالق والقدوة‬
‫ّ‬

‫عندما ح ّدد رسول الله ‪ P‬الهدف من بعثته املباركة بقوله‪« :‬إنّ ا ُب ِعث ُْت ألمتّم‬
‫المعرب‬

‫مكارم األخالق» فقد ح ّدد بذلك حقيقة اإلسالم واأل ّمة املسلمة‪ ،‬وعندما أوضح ‪P‬‬
‫ِّ‬

‫أ ّن الحرب مع النفس األ ّمارة بالسوء هي «الجهاد األكرب» فقد رسم الطريق إىل حفظ‬
‫اإلسالم وبناء األ ّمة‪ .‬اإلسالم مدرسة مكارم األخالق‪ ،‬ومن مل يق ّرر أن يتد ّرج يف صفوف‬
‫هذه املدرسة‪ ،‬فلم يق ّرر بع ُد أن يكون مؤمناً‪ ،‬مهام كانت معرفته باإلسالم‪ ،‬ومهام كان‬
‫الظاهري بني املسلمني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫موقعه‬
‫إنّه أشبه ما يكون مبن يذهب إىل املدرسة باستمرارٍ‪ ،‬لك ّنه يبقى يف باحتها‪ ،‬إنّه‬
‫ُ َّ‬ ‫ت ۡٱلَ ۡع َر ُ‬
‫اب َء َام َّناۖ قل ل ۡم‬
‫َ َ‬
‫داخل سور اإلسالم‪ ،‬إلّ أنّه ال يتعلّم من اإلسالم شيئا ً‪﴿ :‬قال ِ‬
‫ُ ُ ْ َّ َ َ َ ُ َ ُ َ‬
‫ولۥ ل‬
‫ُ‬ ‫ُُ‬ ‫تُ ۡؤم ُِنوا ْ َو َلٰكن قُول ُ ٓوا ْ أَ ۡسلَ ۡم َنا َول َ َّما يَ ۡد ُخل ۡٱل َ‬
‫يم ٰ ُن ِف قلوبِك ۡمۖ ِإَون ت ِطيعوا ٱلل ورس‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ٱلل َغ ُفور‪َّ ٞ‬رح ٌ‬
‫يا ۚ إ َّن َّ َ‬ ‫َ ۡ ُ ّ ۡ ۡ َ ُ ۡ َ ًۡ‬
‫ِيم﴾(((‪.‬‬ ‫يل ِتكم مِن أعمٰل ِكم ش ‍ٔ ِ‬

‫واأل ّمة املسلمة التي أرادها رسول الله ‪ P‬ليست األ ّمة التي تنتمي إليه مبج ّرد‬
‫يل مبكارم األخالق؛‬ ‫الشهادتني‪ ،‬وإنّ ا هي األ ّمة التي تنتمي إليه من خالل االلتزام العم ّ‬
‫اس‬ ‫ي أُ َّمة أ ۡخر َج ۡ‬
‫ت ل َِّلن ِ‬
‫ُ‬ ‫نت ۡم َخ ۡ َ‬ ‫ُ‬
‫﴿ك ُ‬ ‫لتصبح بذلك مؤ ّهل ًة ملخاطبة اآلخرين بااللتزام بها‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ۡ َ‬ ‫َ ۡ ۡ‬ ‫َۡ‬
‫وف َو َت ۡن َه ۡو َن َع ِن ٱل ُمنك ِر﴾(((‪ .‬وليك تبلغ األ ّمة هذه املرتبة‪ ،‬ال ب ّد من أن‬
‫تأ ُم ُرون بِٱل َمع ُر ِ‬

‫((( سورة الحجرات‪ ،‬اآلية ‪.14‬‬


‫((( سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.110‬‬
‫يستحق‪ ،‬والغنيمة‬
‫ّ‬ ‫كل فر ٍد من أفرادها بالوسام الذي‬
‫تخوض غامر الجهاد األكرب؛ ليفوز ّ‬ ‫‪14‬‬
‫املتناسبة مع جهاده‪.‬‬
‫وكام هو األمر يف ساحات الجهاد األصغر‪ ،‬حيث يكتسب جميع املجاهدين الخربة‪،‬‬
‫ُحص‪ :‬من املجاهد الذي مل تكن‬ ‫كل منهم‪ّ ،‬إل أ ّن مراتب ذلك ال تكاد ت َ‬
‫ويتصلّب عود ّ‬
‫حصيلته أكرث من جرأته عىل أن يشهد مثل هذه املعركة‪ ،‬إىل املجاهد الذي يعدل ألف‬
‫ٍ‬
‫فارس وأكرث‪.‬كذلك هو األمر يف هذه الساحة‪ ،‬ساحة الجهاد األكرب‪ ،‬األوسع مضامرا ً وأثرا ً‪،‬‬
‫أحب الصالحني ولست منهم» وما دون ذلك‪ ،‬إىل‬ ‫واألعظم عنا ًء وخطرا ً‪ :‬من مستوى « ّ‬
‫مستوى «و ّيل الله» الذي جعله الله يف درعه الحصينة‪.‬‬
‫يشكل الفارس املغوار املحور تحت النقع وبني مشتبك القنا؛ إليه يرجع الباحث‬ ‫وكام ّ‬
‫األخالقي العابد «العامل بالله»؛ إنّه املحور يف ساحة‬
‫ّ‬ ‫عن فئة‪ ،‬وبه يلحق املُثَّاقل‪ ،‬فكذلك‬
‫الجهاد األكرب وعليه تدور رحاها‪ ،‬وكام ترتبط حركة انتصارات األ ّمة يف ساحات الجهاد‬
‫األصغر مبدى وفرة املجاهدين األبطال‪ ،‬الذين وتدوا يف األرض أقدامهم وأعاروا الله‬
‫جامجمهم‪ ،‬كذلك ترتبط حركة انتصارات األ ّمة يف ساحات الجهاد األكرب مبدى ثرائها‬
‫تشكل سريتهم امتدادا ً حقيق ّياً لصاحب ال ُخلُق العظيم ‪P‬‬ ‫ّ‬ ‫بعلامئها األعالم‪ ،‬الذين‬
‫الذي كان األ ّول يف ميادين الجها َديْن األكرب واألصغر‪.‬‬
‫وتكمن أه َّم ّية العلامء بالله‪ ،‬يف مختلف مراحل تاريخنا‪ ،‬يف كونهم القدوة والنامذج‬
‫التي يجب عىل األ ّمة التواصل معها واالهتداء بهديها؛ إذ إنَّه ال ميكن ‪-‬عىل اإلطالق‪-‬‬
‫النظري‪ ،‬ومل متتلك‬
‫ّ‬ ‫لعمل ّية الرتبية األخالق ّية أن تؤيت أكلّها إذا اقترصت عىل الجانب‬
‫نسج عىل منوالها‪ .‬ومن هنا‪ ،‬كان‬ ‫تشكل القدوة‪ ،‬التي ينبغي أن يُ َ‬ ‫النامذج العمل ّية التي ّ‬
‫‪ٞ‬‬ ‫ُ ٌ‬
‫مم يدعو إليه‪.‬‬‫حامل لواء الرسالة ‪﴿ P‬أ ۡس َوة َح َس َنة﴾ يلتزم بأكرثَ ّ‬
‫حصون اإلسالم‬
‫بعد أن قىض الكفر عىل دولة اإلسالم‪ ،‬استطاع أن مي ّزق األ ّمة املسلمة‪ّ ،‬إل أنّه مل‬
‫يستطع أن ينال من اإلسالم‪.‬‬
‫ظل العلامء بالله يحوطون اإلسالم بح ّبات القلوب واملهج‪ ،‬ينفون عنه تحريف‬ ‫ّ‬
‫‪15‬‬
‫ويجسدونه يف حياتهم مستسهلني يف ذلك ما استوعره املرتفون‪ ،‬مع ّرضني رقابهم‬ ‫املح ّرفني ّ‬
‫بحق حصون اإلسالم املنيعة التي مل يقو الكفر عىل‬ ‫وصدورهم لحراب الطواغيت‪ ،‬فكانوا ّ‬
‫العسكري والثقا ّيف‪ ،‬وبقيت ح ّر ًة أب ّي ًة‬
‫ّ‬ ‫كل أمواج الغزو‬
‫وتكست عىل حدودها ّ‬ ‫اجتياحها‪ّ ،‬‬
‫تنتظر الفرصة ملحو آثار االستعامر ووصل أشالء األّمة املم ّزقة‪ ،‬وبلسمة جراحها وإعادة‬
‫السيايس‪ .‬وقد أدرك الكفر أ ّن العلامء هم قلب األ ّمة النابض الذي مي ّدها بف ّوار‬
‫ّ‬ ‫بناء كيانها‬
‫مقدمة‬

‫الدم الزيكّ‪ ،‬فج ّرد ظُ َبى انتقامه ليقطع عالقة األ ّمة بعلامئها‪ ،‬وقد نجح يف ذلك إىل ح ٍّد كبري‪.‬‬
‫ّ‬
‫المعرب‬

‫وصلت األ ّمة إىل حيث أصبحت تعيش الجهل املطبِق بسرية علامئها املاضني‪ ،‬وتعيش‬
‫ِّ‬

‫االنغالق تجاه املوجودين منهم‪.‬‬


‫حل بها نتيجة الغزو‬
‫ومم يُدمي القلب أ ّن األ ّمة حني أفاقت عىل هول الرضر الذي ّ‬
‫ّ‬
‫االستعامري‪ ،‬وبدأت تبحث عن سبيل الخالص‪ ،‬ألقت بنفسها يف غياهب بلقعٍ جديب‪،‬‬
‫ّ‬
‫كل الدروب إالّ دربها‪.‬‬
‫فغ ّردت خارج رسبها وسلكت ّ‬
‫كل الت ّيارات الثقاف ّية الوا ِفدة‪ ،‬تبحث فيها عن مق ّومات النهوض‪،‬‬ ‫انفتحت عىل ّ‬
‫كل املناهج والر ّواد والقادة‪ ،‬متنكّب ًة منهجها‪ ،‬متنكّر ًة لر ّوادها وقادتها‬‫وتع ّرفت عىل ّ‬
‫الحقيق ّيني‪ ،‬فكانت بذلك كاملستجري من ال َّرمضاء بالنار‪ .‬تحت ستار التح ّرر‪ ،‬تع ّمقت‬
‫لألجنبي‪ .‬وتحت ستار البحث عن الهويّة‪ ،‬تح ّول الضياع إىل ضال ٍل بعيد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تبع ّية األ ّمة‬
‫كل املنعطفات اإليجاب ّية عىل طريق كرامة األ ّمة‬ ‫ويكفي حصون اإلسالم فخرا ً أ ّن ّ‬
‫وع ّزتها تقرتن بأسامئهم‪ .‬ورثوا من صاحب الرسالة األعظم ‪- P‬فيام ورثوه‪« -‬اللّهم‬
‫اه ِد قومي فإنّهم ال يعلمون» فأح ّبوا األ ّمة‪ ،‬ووثقوا بها رغم جفائها‪ ،‬فق ّدموا‬
‫أعامرهم الطاهرة الزاخرة باملعاناة والبالء والجهود املضنية هدايا متواضع ًة إىل األ ّمة‬
‫قرب ًة إىل الله تعاىل‪ ،‬مل يكنز هؤالء العلامء األبرار من هذه الدنيا تِربا ً‪ ،‬وال أع ّدوا لبايل‬
‫ثوبهم ِط ْمرا ً‪.‬‬
‫كابدوا الجوع وأثقال الفقر وال َّديْن‪ ،‬وتج ّرعوا مرارة الشامتة واالستهزاء‪ ،‬دون أن‬
‫‪16‬‬
‫يخطر ببال أحدهم ‪-‬ولو للحظة‪ -‬أنّه مي ّن عىل األ ّمة بذلك؛ فهو خاد ٌم للناس‪ ،‬يح ّبهم‬
‫ألنّهم مسلمون‪ ،‬وألنّهم أ ّمة الحبيب املصطفى ‪.P‬‬

‫عصر اإلسالم‬
‫املركزي اآلن عىل مستوى األ ّمة‪ .‬ويف حني يخ ّيم‬ ‫ّ‬ ‫«ماذا بعد مدريد؟» هنا هو السؤال‬
‫اإلحباط عىل الكثريين‪ ،‬ال ميكن للمسلم ّإل أن يكون واثقاً بأ ّن هذا العرص هو عرص‬
‫اإلسالم مهام بدت األجواء حالك ًة مكفه ّرةً‪ .‬وتستند هذه الرؤية إىل عوامل عديد ٍة تقوم‬
‫ى َودِين ۡ َ‬
‫ٱل ّ ِق‬ ‫ِي أَ ۡر َس َل َر ُس َ ُ‬
‫ولۥ بِٱل ۡ ُه َد ٰ‬ ‫﴿ه َو َّٱل ٓ‬
‫ُ‬
‫جميعاً عىل قاعدة الثقة بوعد الله تعاىل‪:‬‬
‫ِ‬
‫ّ َ َۡ َ َ ُۡ ۡ ُ َ‬
‫ون﴾(((‪.‬‬ ‫شك‬ ‫ُۡ َُ ََ ّ‬
‫ِين لكهِۦ ولو ك ِره ٱلم ِ‬
‫ِلظ ِهرهۥ ع ٱدل ِ‬
‫من هذه العوامل‪ :‬الثقة بقدرة اإلسالم عىل احتواء أمواج الغزو العاتية‪ ،‬ومحارصة‬
‫آثارها لالنقضاض عليها يف الوقت املناسب‪ .‬ليست أمريكا ق َدرا ً‪ ،‬وإمنّا هي دول ٌة ّ‬
‫متجب ٌة‬
‫متتلك الكثري من عوامل الق ّوة‪ ،‬وتختزن الكثري أيضاً من عوامل الضعف‪.‬‬
‫ومل تبلغ هجمتها عىل بالد املسلمني ‪-‬بع ُد‪ -‬ما بلغه الغزو املغو ّيل‪ ،‬الذي رسعان ما‬
‫تص ّدت له حصون اإلسالم واحتوته‪ ،‬فإذا باإلسالم يفتح قلوب هؤالء الذين ظ َّنوا ردحاً‬
‫من الزمن أنّهم الفاتحون‪.‬‬
‫ومن هذه العوامل‪ :‬أ ّن أمريكا تحاول ما هو يف ح ّد املستحيل‪ ،‬تريد أن تخضع‬
‫األ ّمة لليهود؛ لتعيش األ ّمة يف سالمهم ويف عرصهم‪ ،‬تق ّدم لهم ثرواتها‪ ،‬وتتح ّول إىل سوقٍ‬
‫لترصيف منتجاتهم‪ ،‬وتأخذ منهم فتات العيش‪ .‬وهذا ما ال ميكن أن يتحقّق‪ ،‬اللّهم ّإل‬
‫سيظل القرآن الكريم‬
‫ّ‬ ‫أن نخرج من ملّتنا وندين بغري ديننا‪ .‬ما دمنا ننتسب إىل اإلسالم‪،‬‬
‫وسيظل يحذّرنا من قتلة األنبياء أعداء الله تعاىل‬
‫ّ‬ ‫فينا‪ ،‬يُ َتل يف نوادينا‪ ،‬وتهتف به مآذننا‪،‬‬
‫وأعداء رسوله‪ ،‬وأمام ذلك لن يصمد «مدريد» وال ما يخطّط الكفر ملا بعده‪.‬‬

‫((( سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.33‬‬


‫ميكن ألمريكا أن تفرض إرهابها عىل هذا النظام أو ذاك‪ّ ،‬إل أنّها لن تستطيع أن‬
‫‪17‬‬
‫ترهب األ ّمة‪ ،‬خصوصاً عندما يتعلّق األمر باليهود‪.‬‬
‫استطاعت أمريكا أن تقنع السادات بالتوقيع عىل معاهدة كامب ديفيد‪ ،‬إلّ أ ّن‬
‫املرصي املسلم ما زال خارج كامب ديفيد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الشعب‬
‫ستظل األ ّمة كلّها خارج إطار «مدريد» وسيبقى الرصاع عىل أش ّده‪ .‬وكأ ّن شيئاً مل‬ ‫ّ‬
‫الحل‪ ،‬وال دخلت األ ّمة يف سالم اليهود‪ ،‬حتّى إذا ُوقّع ما يس ّمونه حالًّ‪،‬‬
‫يكن‪ ،‬مل يتحقّق ّ‬
‫مقدمة‬
‫ّ‬

‫ومعاهد ًة للسالم‪.‬‬
‫المعرب‬

‫ومن هذه العوامل‪ :‬ثورة اإلسالم الظافرة يف هذا العرص‪ ،‬التي وفّق الله تعاىل‬
‫ِّ‬

‫الخميني {‪ ،‬وما أحدثته من صحو ٍة إسالم ّي ٍة هادرة‪،‬‬


‫ّ‬ ‫لقيادتها عبده املس ّدد اإلمام‬
‫ما يزال خزينها املبارك ميأل األودية التي سالت منه بقدرها‪ ،‬وما أكرثها!‬
‫وال يستطيع أح ٌد أن يجادل يف أ ّن األ ّمة‪ ،‬بعد هذه الثورة املباركة‪ ،‬أش ّد التصاقاً‬
‫بعقيدتها‪ ،‬وأش ّد اعتزازا ً بهويّتها‪ ،‬ووعياً لواجباتها‪ ،‬وحذرا ً من مؤامرات األعداء‪.‬‬
‫لقد التقت األ ّمة عرب هذه الثورة املباركة بقيادتها‪ ،‬وقارنت بني «العامل بالله» وغريه‪.‬‬
‫األمر الذي أ ّدى إىل كرس الحواجز املصطنعة بينها وبني عقيدتها‪ ،‬كام أ ّدى إىل أن‬
‫اإللهي يف قيادة العلامء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫رس‬
‫الخميني { ال ّ‬
‫ّ‬ ‫تكتشف األ ّمة مع اإلمام‬
‫رضبات موجعة‪ ،‬بد ًءا بالظروف التي حتّمت قبول القرار‬‫ٍ‬ ‫ورغم أ ّن األ ّمة قد تلقّت‬
‫‪ 598‬ووصوالً إىل مدريد وما بعده‪ ،‬إلّ أ ّن جسم األ ّمة اليوم غريه باألمس‪ ،‬وهو ميتلك‬
‫من مق ّومات املناعة ما يجعله أقدر عىل مواصلة املسرية التي ال تقاس ‪-‬يف عمر األمم‪-‬‬
‫مبقاييس أصغر من العقد من الزمن‪.‬‬
‫الشيوعي‪ ،‬يف عرص الصحوة اإلسالم ّية‪ ،‬حدث ًا عقائديًّا مد ِّويًا‬
‫ّ‬ ‫شكل انهيار الفكر‬‫ولقد ّ‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ينبغي إدراك آثاره اإليجاب ّية لصالح حركة الفكر‬
‫تول إعالن‬
‫الخميني رائد هذه الصحوة‪ ،‬هو الذي ّ‬
‫ّ‬ ‫وليس من باب الصدفة أ ّن اإلمام‬
‫‪18‬‬
‫التحاق الشيوع ّية مبتاحف التاريخ‪.‬‬
‫وسيكشف املستقبل ‪-‬بحول الله تعاىل‪ -‬عن نتائج هذا التح ّول الكبري‪.‬‬
‫هذا الكتاب‬
‫سنجد يف هذا الكتاب ونحن نتابع سرية علامئنا األبرار‪ ،‬مدى الخصب الذي تزخر‬
‫تصب يف غدير‬ ‫به حياة سلفنا الصالح يف املجاالت املختلفة‪ ،‬التي تشك ُِّل روافد معطاء ًة ّ‬
‫بناء الشخص ّية اإلسالم ّية األصيلة‪ ،‬القادرة عىل املساهمة الفاعلة يف حركة نهضة األ ّمة‪.‬‬
‫وقد اختار املؤلّف ستّة عرش عنواناً أساس ًّيا ‪-‬هي أقسام الكتاب‪ -‬يف بناء النفس‬
‫ٍ‬
‫موقف بالعنوان املناسب له‪،‬‬ ‫نص أو‬
‫كل ٍّ‬ ‫ومثراته‪ ،‬وتتّبع سرية العلامء األعالم‪ ،‬فألحق ّ‬
‫ٍ‬
‫خالصات ق ّيم ًة لحياة هؤالء الصالحني‪ ،‬هي مثرة كدحهم املتواصل‬ ‫مق ّدماً بذلك للقارئ‬
‫يل‪.‬‬
‫العلمي والعم ّ‬
‫ّ‬ ‫يف ميادين الجهاد‬
‫كاتب يق ّدم لك خالصة معلوماته الشخص ّية‬
‫وعندما تقرأ هذا الكتاب ال تجد نفسك أمام ٍ‬
‫الخاصة فحسب‪ ،‬وإنّ ا أنت أمام ٍ‬
‫حشد من العلامء الكبار يح ّدثونك عن تجاربهم‪،‬‬ ‫وتجربته ّ‬
‫وتح ّدثك تجاربهم عن النتائج التي وصلوا إليها‪ ،‬وعن الطريق إىل هذه النتائج‪.‬‬
‫كتاب فري ٌد يف بابه‪ ،‬ينبغي أن يُقرأ قراء ًة متأنّي ًة واعية‪ ،‬وأن يعود إليه من قرأه‬
‫إنّه ٌ‬
‫بني الحني واآلخر؛ ليتذكّر وينعم مج ّددا ً بفيض مجالسة القمم من علامء اإلسالم‪.‬‬
‫ولقد بذل املؤلّف جهدا ً كبريا ً الفتاً يف تتبّع الشذرات التي التقطها‪.‬‬
‫فجزاه الله تعاىل خري الجزاء‪ ،‬وأفاض عليه ‪-‬وعىل املع ِّرب‪-‬من بركات هؤالء األعالم‪،‬‬
‫بالنبي املصطفى وآله األطهار‪ ،‬صلوات الله وسالمه عليهم أجمعني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ورزقنا شفاعتهم‬
‫بريوت ‪ -‬حسني مح ّمد كوراين‬
‫‪ 23‬ج‪1412 ،1‬هـ‬
‫‪ 29‬ت‪1991 ،2‬م‬
‫‪19‬‬

‫مقدمة المؤ ّلف‬


‫ّ‬
‫فّلؤ‬

‫تمهيد‬
‫ملا ةمّ م‬

‫لطلب العلوم الدين ّية واملحققّني‪ ،‬وهي‬


‫هذا الكتاب يشتمل عىل إرشادات ونصائح ّ‬
‫تعلّمنا ‪-‬استنادا ً إىل أقوال العظامء وأفعالهم‪ -‬طريقة الحياة العلم ّية وآدابها‪ ،‬وطرق‬
‫دق‬

‫التعامل مع املجتمع ومعارشة األقربني واألصدقاء‪ ،‬ومواجهة التح ّديات‪.‬‬


‫لتحقيق هذا الهدف‪ ،‬حططنا الرحال يف رحاب العلامء الكبار‪ ،‬واستخرجنا هذه‬
‫املطالب من مطاوي صفحات حياتهم‪ ،‬وب ّوبنا قصصهم يف هذه املجاالت‪ ،‬وأوردناها؛‬
‫ألنّه ‪-‬وكام ال يخفى‪ -‬يجب عىل اإلنسان أن يستفيد من التاريخ‪ ،‬ولينقل خطاه يف هذا‬
‫العامل امليلء باملتناقضات عىل بصري ٍة ووضوح رؤية؛ ليمكِّنه أن يؤ ّمن سعادته يف الدنيا‬
‫واآلخرة‪.‬‬
‫ۡ َۡ‬
‫َ‬ ‫ُّ‬‫ۡ َۡ‪ْ ٞ‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ ۡ َ‬
‫وكام أشار القرآن الكريم‪﴿ :‬لقد كن ِف قص ِص ِهم عِبة ِلو ِل ٱللبٰ ِ ۗ‬
‫ب﴾‪ ،‬فإ ّن الذين‬
‫يتّعظون من التاريخ هم فقط «أولو األلباب» وأصحاب العقول‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فمن كان من أصحاب العقول واإلدراك وقرأ بدقّ ٍة سرية علامء الشيعة الكبار‬
‫شك أنّه سيعترب بها وسيحصل عىل‬ ‫يف هذا القسم من الكتاب وتدبّرها وفكّر فيها‪ ،‬فال ّ‬
‫سعادته األخرويّة الخالدة‪.‬‬
‫ميض سبعني سن ًة من عمره‪ ،‬يستيقظ فجأ ًة من نوم‬
‫وعندها‪ ،‬لن يصاب بأنّه‪ ،‬بعد ّ‬
‫الغفلة ويدرك أ ّن العطّار قد تج ّول يف مدن العشق السبع بينام هو مل يتجاوز منحنى‬
‫زقاقٍ واحد»((( وأ ّن السابقني سبقوا وبلغوا الذرى‪ ،‬وهو ما يزال يف حضيض الجهل‬
‫‪20‬‬
‫والشهوات وعبادة البطن‪ .‬األمر الذي يحمله عىل أن تذهب نفسه حرس ٍ‬
‫ات عىل ما‬
‫ف ّرط يف جنب الله‪.‬‬
‫الفاريس ما تَ ْعري ُبه‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يقول الشاعر‬
‫«يحتاج الرجل املاهر يف دهره إىل ُعم َريْن‪ُ ...‬ع ْمر يكتسب به التجربة وعمر يط ّبق‬
‫فيه ما اكتسبه»‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬لو كان لإلنسان عمران لحلّت املشكلّة‪ ،‬ولكن حيث إ ّن األمر ليس كذلك‪ ،‬فمن‬
‫الواجب أن تكون االستفادة من تاريخ الشخص ّيات العظيمة وسريتها هي التي تجعل‬
‫العمر عمرين بل وأكرث‪.‬‬
‫يف الحقيقة‪ ،‬إ ّن الذي يطّلع عىل تجارب إنسانٍ كاملٍ يف مسار الحياة ويتعلّم منه‬
‫طريقته يف مواجهة التح ِّديات‪ ،‬يصبح كأنّه اختزن هو هذه التجارب‪ ،‬وأضاف إىل عمره‬
‫عمر تلك الشخص ّية التي اطّلع عىل أحوالها(((‪.‬‬
‫وكام تق ّدم‪ ،‬فإ ّن العقالء فقط هم القادرون عىل أن يتّعظوا بالتاريخ ويتعلّموا كيف‬
‫تكون الحياة‪ ،‬واملرج ُّو أن يكون ما يف هذا الكتاب نورا ً يف روح أويل األلباب‪ ،‬الباحثني‬
‫عن العلم والسعادة الخالدة لهم وملجتمعهم‪ .‬أ ّما «عبيد البطون» الباحثون عن الراحة‬
‫والدعة و ُح ِّب الشهرة‪ ،‬فإ ّن هذه البحوث تزعجهم وتغضبهم‪ ،‬بل وأحياناً تثري ُه ْز َءهم‬
‫الطبيعي أنّه ال يُتوقَّع من أولئك التعساء غري ذلك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وسخريتهم‪ .‬ومن‬
‫إ ّن محتويات هذا الكتاب‪ ،‬س ٌري يف صدر الزمان‪ ،‬وحناياه‪ ،‬وتعلّ ٌم من حملة مشاعل‬
‫أحد ‪-‬كام هو واضح ‪-‬أن يبلغ أيّة مرتب ٍة من دون أسو ٍة‬ ‫تاريخ البرشيّة‪ ،‬وليس بوسع ٍ‬
‫وقدوة‪ ،‬وأهم ّية االقتداء بالعظامء ال تحتاج إىل إيضاح‪.‬‬

‫((( مضمون بيت مستوحى من املضامني املشابهة ملا يف دعاء االفتتاح‪« :‬إلهي ربح الصامئون‪ ،‬وفاز القامئون‪ ،‬ونجا‬
‫املخلصون ونحن عبيدك املذنبون»‪.‬‬
‫((( راجع نهج البالغة‪ ،‬تحقيق صبحي الصالح‪ ،‬ص‪ .394 - 393‬ويقول الشاعر‪:‬‬
‫عاش من أول الدهر‬ ‫تو َّهمته قد َ‬ ‫ ‬
‫إذا عرف اإلنسان أحوال من مىض‬
‫إ ّن األنبياء والرسل واألمئّة املعصومني ‪ R‬ومن بعدهم العلامء الصالحون‪،‬‬
‫‪21‬‬
‫واملتّقون‪ ،‬واملخلصون‪ ،‬هم القدوة واألسوة‪ ،‬وإىل تعاليمهم ِ‬
‫وس َيِهم ّ‬
‫متس الحاجة‬
‫باستمرار‪ ،‬يف استيضاح معامل الطريق إىل السعادة‪ ،‬وقد اخرتنا القدوة يف هذا الكتاب‬
‫من املرتبة الثانية ‪ -‬العلامء ‪ -‬لألسباب اآلتية‪:‬‬
‫والطلب األع ّزاء‪ ،‬الذين‬
‫ّ‬ ‫األسايس للكتاب أن يطّلع الروحان ّيون األماجد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أ ‪ -‬كان الهدف‬
‫الخواص‪ ،‬عىل سرية أبناء صنفهم ونوعهم؛ ليقتدوا بهم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫هم من‬
‫فّلؤ‬

‫ب ‪ -‬عندما يقرأ أحدنا سرية املعصومني يجد نفسه تلقائ ًّيا يقول‪ :‬وأين نحن منهم؟ إنّهم‬
‫ملا ةمّ م‬

‫معصومون‪.‬‬
‫دق‬

‫وهكذا نحرم أنفسنا من االستفادة من سريتهم‪ ،‬أ ّما سرية العلامء والصالحني فال‬
‫فيشكل س ّدا ً بينه وبني سريتهم؛ ألنّهم ليسوا معصومني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يستطيع أحدنا أن يقول ذلك‪،‬‬
‫خاصة‪ ،‬كانت من دوافع‬ ‫واالقتداء بهم ممكن‪ ،‬من هنا كانت لسرية العلامء‪ ،‬أهم ّي ٌة ّ‬
‫هذا الكتاب‪.‬‬
‫الواقعيي؛ ليستفيدوا منها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الرضوري أن يعرف الناس سرية علامء اإلسالم‬
‫ّ‬ ‫ج ‪ -‬إ ّن من‬
‫وليمكنهم عىل أساس ذلك أن يق ّيموا «العلامء» الذين يتص ّدون لقيادة الناس‬
‫الحقيقي منهم ِمن املزيّف‪ ،‬واألصيل من الدخيل‪ ،‬وهذا أم ٌر‬ ‫ّ‬ ‫وإرشادهم‪ ،‬ومي ّيزوا‬
‫رضوري ج ًّدا‪ ،‬فقد يؤ ّدي وجود أدعياء العلم إىل إساءة الظ ّن بالحوزات العلم ّية‬ ‫ٌّ‬
‫واملرجع ّية والعلامء بشكلٍ عا ّم‪.‬‬
‫د ‪ -‬األشخاص الذين يريدون االلتحاق بالحوزات العلم ّية ميكنهم بقراءة هذا الكتاب أن‬
‫يل ّموا بالصعوبات واملسؤول ّيات واملها ِّم الخطرية التي يستتبعها هذا الطريق؛ حتّى ال‬
‫يردوا موردا ً ليسوا من أهله‪ ،‬فيختاروا طريقاً آخر‪ ،‬حيث إنَّه‪:‬‬
‫ورجــــــــاالً لــقــصــعــ ٍة وثـــريـــد‬ ‫خــلــق الــلــه لــلــحــروب رجــــاالً‬
‫الرضوري هنا التنبيه عىل أمور‪:‬‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫‪22‬‬
‫للطلب األع ّزاء من العمل به بعد تعلّمه‬‫‪ .1‬إ ّن هذه املضامني هي من النوع الذي ال ب ّد ّ‬
‫وهي ستّة عرش قسامً‪.‬‬
‫‪ .2‬ترتيب القصص يف هذا الكتاب ال عالقة له بأه ِّميّة أصحابها‪ ،‬ما عدا ما يرتبط باإلمام‬
‫الخميني { فقد لوحظ فيها‪ ،‬قدر اإلمكان‪ ،‬أن تق ّدم عىل غريها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫‪ .3‬القصص التي أُوردت يف الكتاب أُ ِخذت من مصادر معتربة‪ ،‬وقد تج ّنبت إيراد القصص‬
‫التي تدور عىل األلسنة دون أن يعرف لها مصدر موث ّق‪ ،‬وكذلك مل أورد شيئاً من‬
‫«صور الواعظني» و«لسان الذاكرين» وإلّ فإ ّن حجم هذا الكتاب كان أصبح أكرب‬
‫مام هو عليه بكثري‪.‬‬
‫‪ .4‬كذلك ت ّم اجتناب إيراد القصص التي ال توجد شواهد وقرائن عىل ص ّحتها‪ ،‬ويف هذا‬
‫السياق اجتنبت إيراد القصص األسطوريّة‪ ،‬كتلك التي توجد يف بعض الكتب‪ ،‬وكذلك‬
‫مل أورد القصص التي يستدعي ذكرها اإلطالة‪.‬‬
‫يل هو قصص العلامء‪ ،‬كالمهم‪ ،‬وصاياهم‪ ،‬ووقائع‬ ‫األسايس والهدف األص ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ .5‬املحور‬
‫سريتهم ومق ّدمات الفصول‪ ،‬وخواتيمها ليست ّإل إليضاح الفكرة‪.‬‬
‫فإن أهدي هذا الثواب إىل‬ ‫‪ .6‬إذا كان يل من ثواب عىل هذا العمل‪ ،‬عند الله تعاىل‪ّ ،‬‬
‫أساتذيت األعاظم الذين استفدت منهم يف حوزات العلوم الدينيّة؛ أل ّن لهم ح ّقاً‬
‫عظيامً ع َّ‬
‫يل‪.‬‬
‫علم العلم كان خير أب»‪.‬‬ ‫«من َّ‬

‫رب العاملني‪.‬‬
‫والحمد لله ِّ‬
‫قم ‪ -‬رضا مختاري‬
‫مح ّرم الحرام ‪1405 -‬هـ‪.‬ق‬
‫القسم األ ّول‬

‫الخطوة األولى‪ :‬تهذيب النفس‬

‫َّ‬ ‫َ ََۡ‬
‫﴿ق ۡد أفل َح َمن َزكى ٰ َها﴾‬
‫سورة الشمس‪ ،‬اآلية ‪9‬‬
‫‪25‬‬

‫الخطوة األولى‪ :‬تهذيب النفس‬


‫ّوألا‬

‫يف ضوء توجيهات قادة الدين‪ ،‬إ َّن أ ّول ما ينبغي عىل طالب العلوم الدين ّية والروحان ّية‬
‫القيام به‪ ،‬هو أن يكون بصدد تصفية قلبه وتطهري روحه‪ ،‬وتهذيب نفسه؛ أل ّن جميع‬
‫مسقل‬
‫ا‪ :‬فنلا بيذهت ‪:‬ىلوألا ةوطخلا‬

‫القيم ترتكز عىل محور تزكية النفس‪ .‬وما مل يت ّم غسل القلب من األدران والصفات‬
‫الشيطان ّية والرذائل النفس ّية فلن يكون باستطاعة يش ٍء ‪-‬حتّى العلم‪ -‬أن ينجي اإلنسان‪.‬‬
‫بل إ ّن من مل يهذّب نفسه‪ ،‬كلّام ازداد علامً كلّام زاد إرضاره بنفسه ومبجتمعه‪ ،‬إ ّن العلم‬
‫مختص فهي سبب الحفاظ عىل الحياة‪ ،‬وإذا كانت يف‬ ‫ّ‬ ‫كالسكّني‪ ،‬إذا كانت يف يد ج ّرا ٍح‬
‫يد جاهلٍ أحمق فهي خط ٌر عىل الناس‪ .‬فيا أخي الروحا ّين‪ ،‬فكّر ج ّيدا ً وانظر يف عواقب‬
‫كل يش ٍء تطهري باطنك وتنظيف قلبك‪ .‬إ ّن حكم قتل آية الله‬ ‫األمور‪ ،‬وليكن ه ّمك قبل ّ‬
‫أي‬
‫الشهيد الشيخ فضل الله نوري ‪-‬رضوان الله عليه‪ -‬قد أصدره مع ّم ٌم مل يهذّب نفسه؛ ّ‬
‫الشيخ إبراهيم الزنجا ّين ممثّل زنجان يف املجلس النيا ّيب؛ فقد تص ّدى للقضاء يف محاكمة‬
‫الشيخ الشهيد وأفتى بقتله‪.‬‬
‫وقد ذ َّمت الروايات العلامء الذين مل يزكّوا أنفسهم ذ ّماً كبريا ً‪ ،‬وب ّينت أ ّن خطر هؤالء‬
‫ال تكاد تُ َح ّد أبعاده‪ ،‬يقول اإلمام عيل ‪« :Q‬قصم ظهري عاملٌ مته ّتك وجاهل‬
‫بتنسكه والعامل ينفّرهم بته ّتكه»(((‪.‬‬ ‫يغش الناس ّ‬ ‫متنسك‪ ،‬فالجاهل ّ‬ ‫ّ‬

‫((( بحار األنوار‪ ،‬ج‪ ،12‬ص‪.111‬‬


‫الخميني { يف هذا الصدد‪« :‬إذا مل تصلحوا أنفسكم يف الحوزات‬ ‫ّ‬ ‫يقول اإلمام‬
‫‪26‬‬
‫العلم ّية‪ ،‬فأينام ذهبتم فإنّكم تتس ّببون بانحراف الناس عن اإلسالم وجعلهم يسيئون‬
‫الظ ّن بالروحان ِّيني‪ .‬إذا درستم فقد تُصبحون علامء‪ ،‬ولكن يجب أن تعلموا أ ّن الفارق‬
‫كب ٌري ج ًّدا‪ ،‬بني العامل‪ ،‬واملهذّب‪ ،‬فكلّام اختُزن َْت هذه املفاهيم يف القلب األسود غري‬
‫املهذّب يزداد الحجاب‪ ،‬إ ّن العلم يف النفس غري املهذّبة حجاب ظالم‪ ،‬العلم نو ٌر ولكن‬
‫يف القلب األسود يصبح سبباً يف ازدياد دائرة الظلمة واالسوداد‪.‬‬
‫انتبهوا‪ ،‬إيّاكم أن تبذلوا الجهد خمسني سن ًة بك ّد اليمني وعرق الجبني يف الحوزات ث ّم‬
‫تكسبوا جه َّنم! فكّروا وادرسوا سبل إصالح املناهج الدراس ّية يف مجال األخالق وتزكية‬
‫شخص ويحرتموه قبل أن يُهذِّب نفسه‪،‬‬‫النفس وتهذيبها‪ .‬معاذ الله أن يُقبل الناس عىل ٍ‬
‫أجلء قزوين‪:‬‬ ‫تبيض اللِحى‪ .‬قال بعض ّ‬ ‫حل قبل أن ّ‬ ‫عندها يخرس نفسه‪ ،‬ابحثوا عن ٍّ‬
‫«كنت بالقرب من رجلٍ حال احتضاره‪ ،‬ويف آخر دقائق حياته فتح عينيه وقال‪ :‬إ ّن الله‬
‫ظلمني ظلامً مل يظلم أحدا ً مثله!»‪.‬‬
‫بقلب مملو ٍء ببغض الله‪ .‬عىل‬
‫إذا مل يهذّب اإلنسان نفسه ف ُيخىش أن يسلّم الروح ٍ‬
‫الشباب أن ال ينتظروا حتّى يعلو بياض غبار املوت رؤوسهم ووجوههم! ما دمتم شباباً‬
‫كل يش ٍء‬
‫فباستطاعتكم أن تفعلوا شيئاً‪ .‬انتبهوا ما دامت الفرصة باقية‪ ،‬وكونوا قبل ّ‬
‫بصدد تهذيب أنفسكم وتزكيتها»(((‪.‬‬
‫النجفي القوﭼ ّ‬
‫ّ‬
‫(((‬
‫ـاني‬ ‫مع آية اهلل‬
‫النجفي القوﭼـا ّين‪« :‬إ ّن عىل الطالب أ ّوالً أن يج َّد يف غسل باطنه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يقول آية الله‬
‫خاص ًة عندما يكون يافعاً ومل يتل ّوث باطنه بعد ويتن ّجس‪ ،‬عليه عندها أن يحول دون‬ ‫ّ‬
‫يتحل بعلم العمل‬
‫تنجيسه‪ .‬والخطوة األوىل آنذاك ‪-‬حتّى إذا كانت عن تقليد ‪ -‬أن ّ‬
‫الخميني {‪.‬‬
‫ّ‬ ‫((( الجهاد األكرب لإلمام‬
‫القوﭼـاين (‪1363 - 1295‬هـ‪.‬ق) تلميذ صاحب الكفاية مجتهد‪ ،‬يتم ّيز‬
‫ّ‬ ‫النجفي‬
‫ّ‬ ‫((( هو آية الله السيد مح ّمد حسني‬
‫وحسه الجهادي‪ ،‬وع ّزة النفس‪ ،‬وق ّوة البيان‪ ،‬وهو صاحب كتاب «سياحة يف الغرب» و«سياحة‬ ‫بوعيه السيايس‪ّ ،‬‬
‫يف الرشق»‪ ،‬وقد نُ ِقال إىل العربية‪.‬‬
‫واألخالق‪ ،‬وبعدها يسعى بج ٍّد لتحصيل علم الحقيقة؛ لكونه مطلوباً ومرغوباً ومندوباً‬
‫‪27‬‬
‫إليه ال ألم ٍر آخر»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اإلسالمي الكبير‬ ‫حول صدر المتألهين‪ ،‬الفيلسوف‬
‫«مل يكن صدر املتألّهني يريد العلم ألجل املال والجاه‪ ،‬وكان يعتقد بأ ّن طالب‬
‫العلم يجب أن ال يفكّر يف املال والجاه ّإل ما كان رضورياًّ ملعاشه‪ .‬كان صدر املتألّهني‬
‫يقول‪ :‬الشخص الذي يريد العلم للامل والجاه موجو ٌد خطر يجب الحذر منه‪ ،‬وكان يف‬
‫ّوألا‬

‫الرومي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫جلسات درسه يقرأ هذه األبيات لجالل الدين‬
‫مسقل‬

‫«تعلُّم العلم والف ّن بدون جوهره أشبه ما يكون بتمكني قاطع الطريق من الخنجر‪.‬‬
‫ا‪ :‬فنلا بيذهت ‪:‬ىلوألا ةوطخلا‬

‫الزنجي السكران من الخنجر أفضل من وقوع العلم بيد من ليس أهالً له‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إ ّن متكني‬
‫سبب للفتنة يف أيدي س ِّيئي الرسيرة‪.‬‬
‫العلم واملال واملنصب والجاه والقرآن ٌ‬
‫الحلج»(((‪.‬‬
‫الطبيعي أن يُش َنق ّ‬
‫ّ‬ ‫عندما يسقط القلم يف يد (الجاهل) الغادر فمن‬
‫وقد د َّون «هرني كربن»((( وجم ٌع من املسترشقني سرية صدر املتألّهني ‪-‬رضوان الله‬
‫عليه‪ -‬وتع ّرضوا لحياة العلامء املعارصين لهذا الفيلسوف الكبري فقالوا‪« :‬يندر أن نجد‬
‫لطلب العلوم يف مدارس أصفهان‪ ،‬كان أكرثهم‬ ‫اليوم يف جامعات الرشق والغرب نظريا ً ّ‬
‫يطلبون العلم للعلم وتبليغ الدين‪ ،‬ال ليش ٍء آخر‪.‬‬
‫ومل يكن يخلو األمر م ّمن يطلبون العلم للحصول عىل املال‪ّ ،‬إل أ ّن عددهم كان‬
‫أي تأثريٍ عىل أكرث ّ‬
‫الطلب‪.‬‬ ‫ضئيالً ج ًّدا بحيث إنَّهم مل يكن لهم ّ‬

‫((( سياحة يف الرشق‪ ،‬ص‪.214‬‬


‫((( ينبغي التنبيه عىل أ ّن هناك آراء متع ّددة حول مقتل الحالج فليالحظ‪.‬‬
‫((( من أساتذة جامعة السوربون يف فرنسا‪ ،‬جرت مناظرات علم ّية طويلة بينه وبني آية الله الس ّيد مح ّمد حسني‬
‫فست‬‫الطباطبا ّيئ صاحب امليزان ‪-‬رضوان الله عليه‪-‬كان بعضها بحضور عدد من أساتذة جامعة طهران‪ .‬وقد ّ‬
‫حصيلة تلك املناظرات‪( .‬املع ِّرب)‬
‫أ ّما اليوم‪ ،‬فالطالب الذي يدخل الجامعة ‪-‬يف الرشق أو الغرب‪ -‬هدفه أن يستطيع‬
‫‪28‬‬
‫طلب مدارس أصفهان‬ ‫يف النهاية الحصول عىل شغلٍ ميكّنه من حيا ٍة مرفّهة‪ .‬إ ّن أكرث ّ‬
‫املادي حتّى آخر‬
‫ّ‬ ‫كانوا يدرسون ليصبحوا علامء‪ ،‬حتّى إذا علموا بأنّهم سيعيشون العرس‬
‫يوم من حياتهم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫طلب مدارس أصفهان مرضب املثل‪ ،‬ولك ّنهم مع ذلك مل يكونوا يشتكون‬ ‫كان فقر ّ‬
‫والعلمي بحيث إ ّن البعض القليل‬
‫ّ‬ ‫الديني‬
‫ّ‬ ‫ما هم فيه من ضيق‪ ،‬وقد كان عمق إميانهم‬
‫الطلب الذين كانوا بعد انتهاء دراستهم يحصلون عىل جا ٍه وما ٍل مل يتمكّنوا أبدا ً‬
‫من ّ‬
‫أن يؤث ّروا يف الباقني‪ .‬والحال أ ّن اإلنسان الذي يواجه صعوبة العيش‪ ،‬ويرى أ ّن نظريه‬
‫استطاع‪ ،‬عن طريق علمه‪ ،‬أن يحصل عىل رفاه ّيته‪ ،‬يلجأ عاد ًة إىل االتجار بعلمه‪ ،‬عىل‬
‫الطلب؛ لقد كانوا يح ّبون العلم إىل ح ٍّد مل يستطع‬‫العكس من ذلك كان أكرث هؤالء ّ‬
‫بريق الدنيا أن يستهويهم(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫شروط صدر المتألهين في قبول التلميذ‬
‫طلب العلوم من جميع أنحاء إيران يقصدون شرياز لالستفادة من درس صدر‬ ‫كان ّ‬
‫ٍ‬
‫رشوط وعمل بها‪:‬‬ ‫املتألّهني‪ ،‬ولك ّنه مل يكن يقبل التلميذ ّإل إذا قبل التلميذ أربعة‬
‫األ ّول‪ :‬أن ال يكون بصدد تحصيل املال إلّ مبقدار تحصيل معاشه‪.‬‬
‫اجتامعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الثاين‪ :‬أن ال يكون ه ّمه الحصول عىل موقعٍ‬
‫الثالث‪ :‬أن ال يعيص‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن ال يقلّد(((‪.‬‬
‫فإذا قبل التلميذ هذه الرشوط وعمل بها‪ ،‬كان صدر املتألّهني يقبله يف عداد‬
‫وإل فإنّه كان يطلب منه مغادرة املدرسة‪ .‬كان صدر‬
‫تالمذته‪ ،‬ويبقيه يف مدرسته‪ّ ،‬‬

‫((( مال صدرا فيلسوف متفكر بزرك إسالمي‪ ،‬ص‪.18‬‬


‫((( املراد طبعاً التقليد املذموم يف األصول والعادات (املع ِّرب)‪.‬‬
‫املتألّهني يقول‪« :‬من املستحيل أن يتمكّن من هو بصدد تحصيل املال من تحصيل‬
‫‪29‬‬
‫العلم‪ ،‬فتحصيل مال الدنيا وتحصيل العلم عمالن متخالفان ال يقرتنان‪ ،‬والشخص الذي‬
‫وتقل ضخامته‪ ،‬وهكذا طالب تحصيل املال قد ميكنه ذلك ّإل‬ ‫يقل عرضه ّ‬‫يزيد طوله ّ‬
‫أنّه حتامً ال يستطيع تحصيل العلم‪ ،‬وأصحاب الرثوات الذين يتظاهرون بأنّهم علامء‪،‬‬
‫هم مراؤون»(((‪ .‬ومن هذه الرشوط يف قبول الطلّب‪ ،‬يتّضح ملاذا صدر املتألّهني أصبح‬
‫صدر املتألّهني‪ ،‬وما هو الذي أوصله إىل هذه الدرجة من التقوى والحكمة والعرفان‪.‬‬
‫ّوألا‬

‫ويف الواقع فإ ّن أستاذ صدر املتألّهني «املريداماد» هو الذي ربّاه هذه الرتبية‪،‬‬
‫مسقل‬

‫يوم اشرتك يف مجلس‬ ‫والستيضاح ذلك نصغي إىل وص ّية «املريداماد» لتلميذه يف أ ّول ٍ‬
‫ا‪ :‬فنلا بيذهت ‪:‬ىلوألا ةوطخلا‬

‫درسه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫صدر المتألهين في يوم دراسته األول‬
‫عندما انتهت أ ّول جلس ٍة اشرتك فيها صدر املتألّهني يف درس «املريداماد»‪ ،‬انتحى به‬
‫أستاذه جانباً وقال له‪« :‬يا مح ّمد‪ ،‬لقد قلت أنا اليوم إ ّن الشخص الذي يريد دراسة‬
‫الحكمة‪ ،‬يجب أن يهت ّم بالحكمة العمل ّية‪ ،‬وها أنذا أقول لك إ ّن الحكمة العمل ّية أمران‪:‬‬
‫األ ّول‪ :‬القيام بجميع واجبات اإلسالم‪.‬‬
‫كل ما تطلبه النفس األ ّمارة من أجل أنسها‪ .‬أداء الواجبات الدين ّية‬
‫الثاين‪ :‬اجتناب ّ‬
‫كل فائد ٍة هي ملصلحته‪.‬‬
‫رضوري؛ أل ّن الطالب عندما يؤ ّديها يستفيد من ّ‬
‫ٌّ‬
‫وأ ّما األمر الثاين ‪-‬اجتناب ما تهواه النفس األ ّمارة‪ -‬فباعتبار أ ّن طالب الحكمة يجب‬
‫أن يجتنب تأمني رغبات نفسه‪ .‬إ ّن املطيع لنفسه املشتغل بدراسة الحكمة يُحت َمل يف‬
‫حقّه قويًّا أن يخرس دينه وينحرف عن الرصاط املستقيم(((‪.‬‬

‫((( املصدر السابق‪ ،‬ص‪.186‬‬


‫((( املصدر السابق‪ ،‬ص‪ ،51 - 50‬ومن امله ّم ج ًّدا أن يتعلّم املد ّرسون املحرتمون من «املرياداماد» عليه الرحمة‬
‫الذي أرشد تلميذه يف الجلسة األوىل إىل االهتامم بالتقوى ومجانبة الهوى‪ ،‬ويضعوا ح ّدا ً إلهامل األساتذة‬
‫لطلبهم بحيث إ ّن بعضهم ال يهت ّم بأخالق تلميذه رغم عالقته به طيلة سنني عديدة‪.‬‬
‫َّ‬
‫الطب فيقول‪:‬‬
‫ازي» عن صفات تالمذة ّ‬
‫ويتح ّدث «الر ّ‬ ‫‪30‬‬
‫الطب أن ال يدرس هذا العلم لجمع املال‪ ،‬بل عليه أن‬
‫«من الواجب عىل تلميذ ّ‬
‫يتذكّر أ ّن أقرب الناس إىل الله أعلمهم وأعدلهم وأرحمهم بالناس»(((‪.‬‬
‫ازي‪ -‬هو هذا‪ ،‬يصبح‬ ‫الطب ‪-‬عىل ما ذكره الر ّ‬‫ّ‬ ‫وعندما يكون واجب طالب علم‬
‫وبكل وضوح‪ ،‬أ ّن الوصول‬
‫مم تق ّدم ّ‬ ‫واجب طالب العلوم الدين ّية أكرث وضوحاً‪ .‬نستنتج ّ‬
‫إىل الكامالت املعنويّة واإلحاطة بأرسار عامل الوجود وكامل االنقطاع إىل الله‪ ،‬وبكلمة‪،‬‬
‫أن يصبح اإلنسان عاملاً ربان ّياً‪ ،‬ال سبيل إليه إلّ يف إطار األخالق‪.‬‬
‫يقول صدر املتألّهني‪« :‬عندما كنت يف كَ َهك ((( كنت أعمل عىل تهذيب نفيس‪ ،‬كنت‬
‫أخلو بنفيس وأفكّر‪ ،‬أستعرض املعلومات التي تعلّمتها؛ كنت أحاول جاهدا ً أن أفهم‬
‫أرسار الوجود بق ّوة العلم واإلميان‪ ،‬وبسبب اإلخالص وتزكية النفس أُيض َء قلبي وفُ ِت ْ‬
‫حت‬
‫أمامي أبواب امللكوت‪ ،‬وبعدها أبواب الجربوت‪ ،‬وفهمت أرسار الدنيا اإلله ّية‪ ،‬وفهمت‬
‫أشياء مل أكن يف البداية أتص ّور أن تُف َّك يل رموزها»(((‪.‬‬
‫وينبغي اإلشارة يف هذا السياق إىل أمرين‪:‬‬
‫ٍ‬
‫شخص‬ ‫الخميني املتق ّدم «أن يقبل الناس عىل‬
‫ّ‬ ‫األ ّول‪ :‬يُستفاد من كالم اإلمام‬
‫الديني ما دام مل يهذّب نفسه‬
‫ّ‬ ‫ويحرتموه‪ ،‬قبل أن يهذّب نفسه ‪ »...‬أ ّن طالب العلم‬
‫نقال عن نور العلم العدد ‪ ،7‬ص‪.127‬‬ ‫((( الرسائل الفلسف ّية للرازي تحقيق كراواس‪ً ،‬‬
‫((( كَ َهك (بفتح األول والثاين) قرية جميلة يف سفح جبل شامخ عىل بعد حوايل ثالثني كيلومرتا ً جنوب رشقي قم‬
‫ّوقد زارها الربوفسور «هرني كربن» عام ‪ 1962‬وكتب عنها كهك تقع عىل بعد ثالثني كيلو مرتا ً جنوب رشقي‬
‫ق ّم وللوصول إليها ينبغي السري خمسة عرش كيلومرتا ً عىل طريق ق ّم ‪ -‬أصفهان ثم ّيدخل املسافر إليها يف طريق‬
‫فرعي رشقي الطريق فيميش يف صحراء جافّة خمسة عرش كيلومرتا ً‪ ،‬ويف كهك مسجد صغري يبدو أنّه بني يف‬ ‫ّ‬
‫الهجري‪ .‬ويحتمل أ ّن صدر املتألّهني كان يؤ ّدي عبادته ورياضته فيه‪ .‬يف كهك كان يتأ ّمل‬
‫ّ‬ ‫القرن الحادي عرش‬
‫ويكتب‪ ...‬وهنا أيضاً أرشقت عليه أنوار امللكوت وحصل عىل ذوق الشهود (إيقاظ النامئني‪ ،‬ص‪.)10‬‬
‫وال ميكن تحديد السنوات التي قضاها صدر املتألّهني يف هذه القرية عىل وجه الدقّة‪ ،‬ففيام يرى البعض أنّها بني‬
‫‪ 7‬و‪ 15‬سنة يرى «كربن» أنّها بني ‪ 9‬و‪ 11‬سنة (املصدر السابق) وبالقرب من كهك غار يقول البعض إ ّن صدر‬
‫املتألّهني كان يختيل فيه ليشتغل بالرياضة والذكر بعيدا ً عن األنظار‪.‬‬
‫((( مال صدرا فيلسوف ومتفكر بزرﮒ اسالمي ‪.199‬‬
‫فال ينبغي أن يتص ّدى للمها ِّم االجتامع ّية ‪ -‬الدين ّية كإمامة الجمعة والجامعة والخطبة‪،‬‬
‫‪31‬‬
‫واحرتاف التبليغ‪ ،‬وقد أثبتت التجارب أ ّن رضر ذلك أكرث من نفعه‪ ،‬والشواهد عىل ذلك‬
‫كثري ٌة ج ّدا ً ال مجال إليرادها‪.‬‬
‫كام أ ّن الواضح من جه ٍة أخرى‪ ،‬أ ّن تزكية النفس لطالب العلم يف غري الحوزات‬
‫االجتامعي كيف يوفّق الطالب‬
‫ّ‬ ‫العلم ّية أم ٌر صعب املنال ج ّدا ً‪ ،‬فمع االستغراق يف العمل‬
‫لتصفية باطنه؟ من هنا‪ ،‬كان لزاماً عىل الطالب أن يهت َّم بتزكية نفسه قبل دخول ميدان‬
‫ّوألا‬

‫االجتامعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العمل‬
‫مسقل‬

‫نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه‬ ‫عن أمري املؤمنني ‪« :Q‬من ّ‬
‫ا‪ :‬فنلا بيذهت ‪:‬ىلوألا ةوطخلا‬

‫قبل تعليم غريه‪ ،‬وليكن تأديبه بسريته قبل تأديبه بلسانه‪ ،‬ومعلّم نفسه ومؤ ّدبها‬
‫أحق باإلجالل من معلّم الناس ومؤ ّدبهم»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ - 1‬ما دمت مل تفتح نفسك يا فالن فكيف ميكنك أن تفتح نفوس اآلخرين(((؟!‬
‫‪ - 2‬ش ّد وثاق نفسك أ ّوالً وسيطر عليها‪ ،‬وآنذاك اعرِف نعمة الوعظ والنصح‪.‬‬
‫‪ - 3‬انصب منربا ً لنفسك أ ّوالً‪ ،‬عندها ميكنك أن ترعد عىل املنرب وتربق‪.‬‬
‫‪ - 4‬أرضم اللهب يف باطنك أ َّولً ‪ ،‬عندها ميكنك أن تلهب (املشاعر أيّها السالك)‪.‬‬
‫ُنضج ُحرقَ ُة الدين َ‬
‫القلب فلن ينفع كالمك أيّها املحرتم (لن يصبح نَف َُس َك حارا ً)‪.‬‬ ‫‪ - 5‬ما مل ت ِ‬
‫‪ - 6‬ما مل يكن يف كبدك حرقة فال تنفخ‪ ،‬فإ ّن نفخك لن يؤث ّر(((‪.‬‬
‫الطلب‪ ،‬وال ب ّد من‬ ‫كتب تنفع ّ‬ ‫الثاين‪ :‬األمر الثاين الذي تنبغي االشارة إليه‪ ،‬هو ذكر ٍ‬
‫ات ع ّدة‪:‬‬‫قراءتها م ّر ٍ‬

‫((( نهج البالغة‪ ،‬صبحي الصالح‪ ،‬ص‪ ،480‬الخطبة ‪.73‬‬


‫((( مثنوي طاقديس‪ ،‬ص‪.282‬‬
‫((( املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.203‬‬
‫ازي حول هذا الكتاب‪« :‬من‬
‫األ ّول‪« :‬منية املريد» للشهيد الثاين‪ .‬يقول املريزا الشري ّ‬ ‫‪32‬‬
‫طلب العلوم الدين ّية (أهل العلم) عىل قراءة هذا الكتاب‬ ‫امله ّم ج ّدا ً أن يواظب ّ‬
‫الرشيف وأن يتأ ّدبوا باآلداب الواردة فيه»(((‪.‬‬
‫الثاين‪« :‬معراج السعادة»‪ .‬ويف أه ِّم ّيته يقول أحد الكتّاب املعارصين‪« :‬هذا الكتاب‬
‫كل ليلة مقدارا ً قليالً‬
‫مه ٌّم ج ًّدا‪ ،‬ويجب أن يكون سمري الطالب باستمرار‪ ،‬بِ عنى أن يقرأ ّ‬
‫منه ويحاول ولو بجهد ٍكبري ‪ -‬أن يط ّبق ما قرأه؛ أل ّن بعض الكتب ليست للمطالعة؛‬
‫كالقصة التي تقرأها وال تعود إليها؛ فمثالً إذا اشرتيت‬
‫ّ‬ ‫أي يقرأها اإلنسان ويدعها جانباً‬
‫كتاباً يف الرياضة وقرأته ث ّم وضعته جانباً فهل ينفعك؟ كتاب كهذا يجب أن يكون يف‬
‫متناول اإلنسان باستمرار وبني الفرتة واألخرى يقرأ قسامً منه ويعمل به‪ ،‬يؤ ّدي هذه‬
‫قسم آخر‪ ،‬حتّى تظهر تدريجياً آثار هذه الرياضة‬ ‫الحركة وتلك ويك ّررهام‪ ،‬ث ّم ينتقل إىل ٍ‬
‫عليه‪ ،‬ويكتسب بدناً قويًّا وسليامً‪ .‬إ ّن كتب األخالق كذلك‪ ،‬يجب أن يقرأ اإلنسان‬
‫فصولها بل صفحاتها واحد ًة واحدة‪ ،‬ويط ّبق ما فيها‪ ،‬ويعمل به‪ ،‬ويبني نفسه من‬
‫جديد‪ ،‬وعندما ينجح يف مرحلة‪ ،‬ينتقل إىل مرحلة بعدها»(((‪.‬‬
‫الثالث‪« :‬تذكرة املتّقني» وهذا الكتاب مجموعة الرسائل والتوجيهات لثالث ٍة من‬
‫املل حسنقيل الهمدا ّين‪ ،‬الس ّيد أحمد‬
‫األساتذة الكبار يف علم األخالق‪ ،‬وهم‪ :‬املرحوم ّ‬
‫الكربال ّيئ‪ ،‬والشيخ مح ّمد البهار ّي الهمدا ّين؛ وترتكّز هذه الرسائل يف املسائل األخالق ّية‬
‫وطريق السلوك إىل الله‪ ،‬وقد جمعها األديب العارف الشيخ إسامعيل التربيز ّي‪.(((M‬‬
‫وقد نُ ِق َل أ ّن البعض عمل مبضامني هذا الكتاب وط َّبق تعليامته فبلغ بذلك مراتب سامية‪.‬‬

‫((( يادنامة عالمة أميني‪ ،‬ص‪ ،565‬الهامش‪.‬‬


‫((( هويت صنفي روحاين (‪ .)98 - 97‬وال ب ّد من التوضيح هنا أن معراج السعادة هو للموىل أحمد الرناقي‬
‫ابن املوىل مهدي الرناقي مؤلّف جامع السعادات‪ ،‬وهو من الكتب التي يويص اإلمام القائد بقراءتها كام جاء‬
‫وي ِك ُن ملن ال يجيد الفارس ّية أن يستبدل به َ‬
‫كتاب املراقبات مثالً آلية الله مليك جوادي‬ ‫رس الصالة‪ُ ،‬‬‫يف كتاب ّ‬
‫رس‬
‫كتاب ّ‬
‫بالكتاب الثالث الذي أوىص املؤلّف بقراءته َ‬
‫ِ‬ ‫كتاب فريد يف بابه‪ ،‬كام ميكن أن يستبدل‬
‫التربيزي فهو ٌ‬
‫الصالة آلية الله التربيزي نفسه‪( .‬املع ِّرب)‬
‫نقال عن كشف الغمة‪.‬‬ ‫((( رسالة السري والسلوك املنسوبة إىل السيد بحر العلوم‪ ،‬ص‪ 116‬الهامش ً‬
‫القسم الثاني‬

‫الحاجة إلى أستاذ األخالق والسير والسلوك‬

‫«هلك من ليس له حكيم يُ ِ‬


‫رشده‪.(((»...‬‬
‫جاد ‪Q‬‬ ‫اإلمام الس ّ‬

‫((( كشف الغ ّمة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.325‬‬


‫‪35‬‬

‫اآلن‪ ،‬وقد اتّضحت بعض اليشء أه ِّم ّية تزكية النفس وتصفية الباطن‪ ،‬ينبغي التأكيد‬
‫عىل أه ِّم ّية األستاذ‪.‬‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫ال تقطع هذه املرحلة بدون صحبة «الخرض»‪ .‬إنَّها لظلامت‪ ،‬فحاذر من خطر‬
‫الضياع(((‪.‬‬
‫علم وصنع ٍة يف العامل يحتاج إىل معلّم‪ ،‬وهذا األمر لش ّدة وضوحه ال‬ ‫أي ٍ‬‫إ ّن تعلّم ّ‬
‫ِب لتصديقه»‪ .‬وصناعة اإلنسان‬ ‫يجادل فيه أحد وهو‪ ،‬بحسب االصطالح‪« ،‬ت ََص ُّوره ُموج ٌ‬
‫بدون أستاذ وبشكلٍ تلقا ّيئ هي غري ممكنة‪ ،‬وال ميكن ألحد أن ي ّدعي أنّه‪ ،‬وبدون أن‬
‫يتلقّى التوجيه من أحد‪ ،‬يستطيع أن يصفِّي قلبه ويط ّهر ذاته من الرذائل األخالق ّية‪.‬‬
‫طلب العلوم الدين ّية االهتامم بها ‪-‬خصوصاً‬ ‫وعليه‪ ،‬فإ ّن املسألة األوىل التي يجب عىل ّ‬
‫الطلب املبتدئني‪ -‬أن يكونوا بصدد البحث عن أستاذ األخالق‪ ،‬فيختاروا إنساناً ح ّرا ً‬ ‫ّ‬
‫متّقياً ّ‬
‫يتول تربيتهم‪....‬‬
‫األشخاص الذين مل يتتلمذوا طيلة عمرهم عىل معلّم أخالق ويقولون‪« :‬نحن قرأنا‬
‫القرآن وأحاديث املعصومني ورسنا ووصلنا» مخطئون قطعاً وتائهون‪ .‬والحديث يف هذا‬
‫املجال ذو شجون‪ ،‬ولكن من األفضل ذكر خالصة ما يؤكّد عليه علامء األخالق املربّون‪:‬‬
‫أيّها الطالب املبتدئ‪ ،‬وأيّها األخ الروحا ّين‪ ،‬إبدأ منذ األيّام األوىل لدخولك الحوزة العلميّة‬
‫بالبحث عن أستاذ األخالق‪ ،‬وليكن ذلك ه ّمك األ ّول‪ .‬حذار أن تفعل شيئاً دون استشارة‬
‫ألستاذ يتّصف بالفهم والتح ّرق والوعي‪.‬‬

‫ازي‪.‬‬
‫((( مضمون بيت شعر فاريسّ لحافظ الشري ّ‬
‫الحق كثريون‪ ،‬افتح عني‬
‫حذارِ! انظر بعيدا ً‪ ،‬فإ ّن املحتالني الذين يُضلّون الناس عن ّ‬ ‫‪36‬‬
‫بصريتك ج ّيدا ً حتّى ال تقع يف رشاكهم‪ .‬ولقد عانيت رضر عدم االستفادة من أستا ٍذ‪،‬‬
‫وحب‬
‫ّ‬ ‫وتذ ّوقت نتائج ذلك‪ ،‬وواجهت من ج َّرائه مشاكِل عديدة‪ ،‬وبدافع اإلخالص‬
‫مصلحتك أقول‪ :‬كن بصدد البحث عن خرض هذه املرحلة‪ ،‬واعلم أنّه مل يستطع أح ٌد‬
‫أن يصبح شيئاً لوحده‪.‬‬
‫ّ‬
‫مع اإلمام الخميني {‬

‫«اختاروا أساتذة أخالقٍ لكم‪ ،‬إع ِقدوا مجالس الوعظ والخطابة والنصيحة‪ ،‬التهذيب‬
‫تلقائيّاً (بدون أستاذ) غري ممكن‪ ،‬إ ّن الحوزات محكوم ٌة بالفناء إذا خلت من مجالس‬
‫الوعظ والنصيحة‪ .‬كيف يُعقَل أن يكون علم الفقه واألصول بحاجة إىل مد ّرس؟ بحاج ٍة‬
‫كل علم وصنعة يف الدنيا بحاجة إىل أستاذ‪،‬‬ ‫درس وبحث؟ (كيف يُعقَل) أن يكون ّ‬ ‫إىل ٍ‬
‫وال تكون العلوم املعنويّة واألخالقيّة بحاجٍة إىل تعل ٍّم وتعليم؟ ث ّم يحصل عليها اإلنسان‬
‫ويحصلها بدون معلّم‪ ،‬لقد سمعت مرارا ً أ ّن سيّدا ً جليالً كان‬ ‫ّ‬ ‫تلقائيّاً «أوتوماتيكيّاً»‬
‫األنصاري(((‪ .‬كثري ٌة هي األمور التي تجعل اإلنسان مسكيناً‪ ،‬ومتنعه‬
‫ّ‬ ‫معلّم األخالق للشيخ‬
‫من التهذيب والتحصيل‪ .‬بعض هذه األمور للبعض هي هذه اللحية وال ِعاممة‪ ،‬عندما‬
‫تصبح ال ِعاممة كبري ًة قليالً وتطول اللحية‪ ،‬إذا مل يكن صاحبُهام مهذّباً‪ ،‬يبقى بال علم‪،‬‬
‫مجلس درس‬‫َ‬ ‫يصبح قعيدا ً ومن الصعب أن يستطيع أن يد ّرس نفسه األ ّمارة ويحرض‬
‫الطويس يف الثانية والخمسني من عمره كان يذهب إىل الدرس‪ ،‬يف حني أنّه‬ ‫ّ‬ ‫أحد‪ .‬الشيخ‬
‫بني العرشين والثالثني ألّف بعض هذه الكتب‪ ،‬كتاب التهذيب يقال إنّه ألّفه عندما‬
‫كان هذا عمره‪ ،‬ومع ذلك يف الثانية والخمسني كان يشرتك يف درس املرحوم السيّد‬
‫املرتىض؛ ولذلك وصل إىل هذه املرتبة»(((‪.‬‬

‫الشوشرتي أستاذ العرفان يف القرن األخري‪.‬‬


‫ّ‬ ‫((( سيأيت أ ّن هذا السيد الجليل هو املرحوم السيد عيل‬
‫((( الجهاد األكرب‪ ،‬العلم والرتبية توأمان‪.‬‬
‫«ينبغي أن تخ ِّيط شفتيك مل ّدة ‪ -‬تتعلّم فيها الكالم من العالِمني به‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫ما مل تتعلّم فال تقل من املئة واح ًدا ‪ -‬وإذا قلت فستقول حشوا ً دون ّ‬
‫شك»(((‪.‬‬
‫ِّ‬
‫أهم ّية األستاذ‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ يف العرفان‬
‫يل القايض أستاذ ّ‬ ‫يقول العارف الجليل آية الله الس ّيد ع ّ‬
‫والسري والسلوك‪« :‬أه ّم ما يلزم يف هذا الطريق األستاذ الخبري‪ ،‬البصري‪ ،‬الخارج من أرس‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫الهوى‪ ،‬الواصل إىل املعرفة اإلله ّية‪ ،‬واإلنسان الكامل الذي سافر ‪-‬باإلضافة إىل السري إىل‬
‫«بالحق»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الله‪ -‬األسفار الثالثة األخرى‪ ،‬رشط أن يكون تج ّوله وتف ّرجه يف عامل ‪ -‬الخلق‬
‫إذا أمىض اإلنسان الذي يطلب طريق الله وسلوك طريق الله‪ ،‬نصف عمره يبحث عن‬
‫يستحق هذا االهتامم‪ .‬من‬
‫ّ‬ ‫أستاذ هذا الطريق ويفتِّش عنه‪ ،‬فإنّه يكون مصيباً؛ أل ّن األمر‬
‫وصل إىل األستاذ وحصل عليه فقد قطع نصف الطريق»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الكاشي‬ ‫طريقة الشيخ‬
‫الكايش‬
‫ّ‬ ‫القوﭼـان عن أستاذه املرحوم الشيخ مح ّمد‬ ‫ّ‬ ‫النجفي‬
‫ّ‬ ‫يح ّدثنا املرحوم آية الله‬
‫الكايش الذي‬
‫ّ‬ ‫األخالقي‪ ،‬فيقول‪« :‬الشيخ مح ّمد‬
‫ّ‬ ‫صاحب الكرامات املشهورة‪ ،‬وعن تأثري حديثه‬
‫قرأت يف أصفهان «منظومة السبزوار ّي» عليه‪ ،‬كان غاي ًة يف العلم والتحقيق‪ ،‬وكان مد ّرساً‬
‫ج ّيدا ً‪ ،‬ومع أنّه كان معروفاً ومجتهدا ً يف املعقول والرياض ّيات‪ ،‬كان عىل جانبٍ كبريٍ من القداسة‬
‫والتديّن والرياضات‪ ،‬وكان باستمرار قبل الدرس يعظ مل ّدة ربع ساعة‪ ،‬وكانت موعظته مؤث ّر ًة‬
‫ج ّدا ً‪ ،‬بحيث إنَّنا ك ّنا نص ّمم أن ننرصف كلّ ّياً عن الدنيا وما فيها ونهت ّم باآلخرة»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫تنبيه هام‬
‫األمر الذي يجب االهتامم به ج ّي ًدا هو الدقّة يف اختيار األستاذ‪ .‬يجب أن يكون‬
‫الطالب دقيقاً ج ّدا ً ومحتاطاً‪ ،‬فال يختار شخصاً ملج ّرد أنّه ي ّدعي أنّه قادر‪ ،‬وبدون أن‬
‫((( مضمون بيتني ملولوي‪.‬‬
‫((( رسالة السري والسلوك املنسوبة إىل الس ّيد بحر العلوم‪ ،‬ص‪ ،176‬الهامش‪.‬‬
‫((( سياحة يف الرشق‪ ،‬ص‪.188‬‬
‫العلمة الس ّيد بحر العلوم‪،‬‬ ‫يطم ّنئ إىل ص ّحة دعواه‪ .‬ويف هذا املجال نصيحة للمرحوم ّ‬
‫‪38‬‬
‫رس والعلن‪ ،‬ومعارشته‬ ‫حيث يقول‪« :‬وأ ّما األستاذ العا ّم((( فال يُع َرف َّإل بصحبته يف ال ِّ‬
‫الباطن ّية‪ ،‬ومالحظة اكتامل إميان جوارحه وإميان نفسه‪ .‬والحذ َر الحذ َر من أن يقع‬
‫االنخداع بظهور خوارق العادات منه وبيانه لدقائق النكات‪ ،‬وإخباره بالخفايا اآلفاق ّية‪،‬‬
‫وخبايا األنفس‪ ،‬وتب ّدل بعض حاالتك نتيجة االقتداء به؛ أل ّن اإلرشاف عىل الخواطر‬
‫وطي األرض والهواء واألخبار مبا يأيت‬ ‫واالطّالع عىل الدقائق والعبور عىل املاء والنار ّ‬
‫تحصل يف مرتبة املكاشفة الروح ّية‪ ،‬وبني هذه املرحلة والهدف املطلوب‬ ‫وأمثال ذلك‪ ،‬إنّ ا ُ‬
‫مساف ٌة ال تتناهى‪ ،‬وكث ٌري من املنازل واملراحل‪ ،‬وما أكرث السالكني الذين يجتازون هذه‬
‫املرحلة ث ّم يدخلون بعدها يف وادي اللصوص واألبالسة‪ .‬ومن هنا‪ ،‬يستطيع كث ٌري من‬
‫الكفّار أن يأتوا بكثريٍ من األمور (الغريبة)‪ ،‬بل إنّه من التجلّيات الصفات ّية‪ ،‬ال ميكن‬
‫استنتاج وصول صاحبها إىل املنزل (الهدف املطلوب)»(((‪.‬‬

‫نماذج من دروس األخالق في الماضي‬


‫‪ - 1‬يقول أحد الفضالء املعارصين‪« :‬حواىل سنة ‪1341‬هـ‪.‬ق‪ ،‬طلبت مع عدد من األصدقاء‬
‫من املح ّدث الق ّم ّي ‪ -‬صاحب مفاتيح الجنان ومؤلّفات أخرى كثرية وق ّيمة ‪ -‬أن يبدأ‬
‫للطلب يف مدرسة مريزا جعفر خان يف مشهد‪.‬‬ ‫ليايل الخميس والجمعة بدرس أخالقٍ ّ‬
‫والطلب‪ ،‬وكان يرتقي املنرب‬‫ّ‬ ‫شخص من العلامء‬ ‫كان يشرتك يف الدرس حوايل ألف ٍ‬
‫ٍ‬
‫ساعات يف املسائل األخالق ّية‪ ،‬وكان تت ّبعه وتب ّحره يف األخبار‬ ‫ويتح ّدث حواىل ثالث‬

‫النص يف ما تق ّدم عىل الفقرات املنقولة‬


‫رصح صاحب ّ‬ ‫((( املراد به ما يقابل األستاذ الخاص الذي هو املعصوم كام ي ِّ‬
‫هنا ‪ -‬املع ِّرب‪.‬‬
‫النص مبا خالصته‪ :‬إ ّن املكاشفة عىل خمسة أنواع‬ ‫((( أوضح شارح رسالة الس ّيد بحر العلوم الس ّيد الطهراين هذا ّ‬
‫وإ ّن املكاشفات الروح ّية تأيت يف املرتبة الثالثة‪ ،‬ومراد الس ّيد بحر العلوم أ ّن من وصل إىل هذه املرتبة الثالثة‬
‫قد ينحرف‪ ،‬فوصوله إليها ال يكشف أنّه أهل للتلقّي عنه‪ ...‬وأ ّما العبارة األخرية عن التجلّيات الصفات ّية فاملراد‬
‫بها أ ّن التجلّيات ‪-‬كام أوردها الس ّيد الطهرا ّين‪ -‬هي أيضاً عىل أربعة أقسام‪ ،‬والتجلّيات الصفات ّية هي يف املرتبة‬
‫الثانية ووصول السالك إليها ال يكشف أنّه أصبح أهالً ألن يكون األستاذ العا ّم ‪ -‬راجع «رسالة سري وسلوك‪،‬‬
‫منسوب إىل بحر العلوم» (ص‪ )161 - 159‬املع ِّرب‪.‬‬
‫والروايات‪ ،‬واحتياطه يف النقل والرشح ‪-‬وكان يورد األحاديث املسندة غالباً ‪ -‬والتأثري‬
‫‪39‬‬
‫العجيب لكالمه‪ ،‬يرتك أكرب اإلعجاب يف نفوس املستمعني الذين كانوا جميعاً من‬
‫أهل العلم واالطّالع‪ ،‬ولكن لألسف مل يستم ّر ذلك املجلس أكرث من أش ُه ٍر ع ّدة»(((‪.‬‬
‫الخميني { مقيامً‬ ‫ّ‬ ‫‪ - 2‬أحد دروس األخالق امله ّمة والغن ّية يف ق ّم أيّام كان اإلمام‬
‫درسه هو { ومل نكن آنذاك لنحصل عىل رشف االستفادة من نور هذه‬ ‫فيها‪ُ ،‬‬
‫الشمس املرشقة‪ ،‬إلّ أ ّن األحاديث التي ينقلها أساتذة األخالق عن هذا الدرس‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫كل‬ ‫والكلامت القصار التي بقيت يف الخواطر وتتناقلها األلسن بني الحني واآلخر‪ّ ،‬‬
‫علم ومصباح هداي ٍة متو ّه ٌج عىل َم ّر الليايل واأليّام ‪ .‬ومن املؤسف أنّه يف‬ ‫منها بحر ٍ‬
‫أي يشء آخر‪ ،‬ال مجال‬ ‫ماس ٌة إىل مثل هذه املجالس أكرث من ّ‬ ‫هذه األيّام‪ ،‬والحاجة ّ‬
‫لذلك الرجل العظيم إلقامة مثل هذه الدروس بسبب كرثة املشاغل وقيادة سفينة‬
‫الثورة التي تعصف بها هوج الرياح‪ ،‬والرصاع املرير مع أعداء اإلسالم األساس ِّيني‬
‫وعىل الرغم من ذلك كلّه‪ ،‬فإنّه ‪-‬دام ظلّه‪-‬عندما يذكر‪ ،‬مبناسب ٍة أو أخرى يف أحاديثه‬
‫ويبي بعض الغوامض‪ ،‬فيقشع ّر بدن اإلنسان‬ ‫العا ّمة‪ ،‬بعض اإلرشادات ويكشف ّ‬
‫والتوكل والعرفان‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وتستويل عليه الدهشة لهذا اإلخالص العظيم واالطمئنان‬
‫وإليك فكرة عن درس اإلمام أيّام كان سامحته يف ق ّم‪ :‬يف البداية كانت هذه الجلسة‬
‫أشخاص يطم ّنئ إليهم سامحته‪ ،‬وكان يرشح‬ ‫ٌ‬ ‫محدود ًة ج ّدا ً‪ ،‬وكان يستطيع االشرتاك فيها‬
‫لهم املعارف اإلله ّية عىل أساس كتاب «منازل السائرين»‪ .‬وتدريج ّياً اتّسعت دائرة‬
‫علني‪ ،‬وباإلضافة إىل الروحان ّيني كان يحرضه‬ ‫وبشكل ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدرس‪ ،‬وأصبح يُعقَد أسبوع ّياً م ّر ًة‬
‫العرشات من مختلف الطبقات‪ .‬ث ّم أصبح إقبال الناس الكبري عىل هذا الدرس سبباً‬
‫يف أن ق ّرر اإلمام أن يعقده يومني أسبوع ّياً (الخميس والجمعة) وحاول جالوزة رضا‬
‫خان أن يعطّلوا الدرس‪ ،‬لك ّنهم ُووجِهوا بصالبة موقف اإلمام؛ فقد قال اإلمام ملبعوث‬
‫فلتأت الرشطة مبارش ًة‬‫ِ‬ ‫الرشطة‪« :‬أنا مكلّف أن أقيم هذا الدرس مهام كلّف األمر‪،‬‬

‫بترصف يسري‪.‬‬
‫((( الفوائد الرضويّة وصفحة (د) ّ‬
‫ومتنعه»‪ .‬ومل تج ُرؤ الرشطة عىل اقتحام مجلس الدرس‪ ،‬ولك ّنهم استم ّروا يف املضايقات‪،‬‬
‫‪40‬‬
‫مل صادق»‬ ‫«حاج ّ‬
‫مم اضط ّر اإلمام إىل أن ينقل الدرس من املدرسة الفيض ّية إىل مدرسة ّ‬ ‫ّ‬
‫يف محلّة «جهار مردان» وقد استم ّر األمر كذلك حتّى انتهى عرص رضا خان املظلم‪،‬‬
‫سنوات طويلة (الظاهر أنّها مثاين سنوات)‬ ‫ٍ‬ ‫فنقل اإلمام الدرس إىل الفيض ّية واستم ّر‬
‫املرب‪ّ ،‬إل أ ّن‬
‫بعدها استطاع جالوزة الشاه بأساليبهم املختلفة أن يوقفوا هذا الدرس ّ‬
‫كل فرص ٍة‬ ‫يستغل ّ‬
‫ّ‬ ‫رصخة اإلمام استم ّرت هادر ًة توقظ النامئني؛ فقد كان يف النجف وق ّم‬
‫طلب العلوم الروحان ّيني بنصائحه الب ّناءة‪ ،‬داعياً الحوزات العلم ّية إىل‬‫مناسب ٍة لينصح ّ‬
‫التقوى وجهاد النفس(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫مطه ّ‬
‫ري‬ ‫مع الشهيد‬
‫كان األستاذ الشهيد من أبرز الوجوه التي حرضت هذا الدرس وهو يح ّدثنا عن‬
‫تأثريه فيقول‪:‬‬
‫«رغم أنّني عندما هاجرت إىل ق ّم مل أكن قد أكملت املق ّدمات‪ ،‬ومل أكن أهالً لدراسة‬
‫كل‬‫األخالقي الذي كان يُقام من قبل الشخصيّة التي هي محبويب ّ‬
‫ّ‬ ‫املعقوالت إلّ أ ّن الدرس‬
‫خميس وجمعة‪ ،‬وقد كان يف الحقيقة درس معارف وسري وسلوك‪ ،‬ال درس أخالق باملعنى‬
‫العلمي‪ ،‬هذا الدرس كان يُسكرين‪ ،‬وبدون أيّة مبالغة هذا الدرس كان يستويل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الجاف‬
‫عىل مشاعري ويش ّدين إليه‪ ،‬إىل ح ّد كنت أجد نفيس حتّى االثنني والثالثاء من األسبوع‬
‫التايل ما أزال متأثّرا ً به بش ّدة‪ٌ .‬‬
‫جانب مه ٌّم من شخصيّتي الفكريّة والروحيّة تك ّون يف هذا‬
‫اإللهي طيلة اثني عرش عاماً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الدرس‪ ،‬ث ّم يف الدروس األخرى التي تلقّيتها من ذلك األستاذ‬
‫اإللهي»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كنت دامئاً أعترب نفيس مديناً له وما زلت‪ .‬ح ّقاً أقول «إنّه روح القدس‬

‫((( برريس وتحلييل أز نهضت إمام خميني‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.40 - 3‬‬


‫((( علل ﮔراش ماديـﮕري الدوافع نحو املاديّة‪ .‬الجدير بالذكر أ ّن آية الله الشهيد املط ّهري لجأ إىل هذا التلميح‬
‫يعب عن اإلمام‬
‫ألنّه مل يكن يستطيع ذكر اسم اإلمام بسبب رقابة الساواك؛ ولذلك كان املتعارف آنذاك أن ّ‬
‫النص (املع ِّرب)‪.‬‬
‫اإللهي) أو كام ورد يف ّ‬
‫ّ‬ ‫بـ(أستاذي‬
‫‪M‬‬ ‫الربوجردي‬
‫ّ‬ ‫‪ - 3‬يقول أحد املد ّرسني الحال ِّيني يف الحوزة‪« :‬استدعى آية الله‬
‫‪41‬‬
‫ازي إىل ق ّم لتدريس األخالق فيها‪ ،‬وكنا نشرتك يف‬ ‫يل آقاي شري ّ‬ ‫املرحوم املريزا ع ّ‬
‫يل أث ٌر كب ٌري يف تكوين شخصيّة الشهيد‬ ‫مجالس درسه‪ .‬وقد كان إلرشادات املريزا ع ّ‬
‫مط ّهري‪ ،‬وهو نفسه يذكر ذلك يف مق ّدمة كتابه «يف رحاب نهج البالغة»‪« :‬أرى‬
‫لزاماً أن أذكر يف هذه املق ّدمة ذلك الرجل العظيم الذي ع َّرفني أل ّول م ّر ٍة عىل نهج‬
‫البالغة‪ ،‬الذي أعترب دامئاً أ ّن تتلمذي عليه وجلويس إليه من ذخائر عمري النفيسة‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫أي يشء‪ ،‬وال مي ّر يو ٌم أو ليل ٌة ال تكون ذكراه‬ ‫َ‬


‫أستبدل بها َّ‬ ‫التي لست مستع ّدا ً ألن‬
‫مجسم ًة يف خاطري‪ .‬أسمح لنفيس أن أتج ّرأ فأقول‪ :‬لقد كان ٍّ‬
‫بحق عاملاً ربَّان ّياً‪ ،‬ولك ّني‬ ‫ّ‬
‫ال أجرؤ أن أقول‪ :‬كنت متعلّامً عىل سبيل نجاة»(((‪.‬‬
‫تربيزي ‪-‬الذي سيأيت التعريف بسريته إجامالً‪ -‬هو من أساتذة‬ ‫ّ‬ ‫‪ - 4‬املرحوم آية الله مليك‬
‫كل‬
‫للطلب وعا ّمة الناس ًّ‬ ‫الخميني يف األخالق‪ ،‬وكان يدير دروساً يف األخالق ّ‬
‫ّ‬ ‫اإلمام‬
‫عىل حدة‪.‬‬
‫يقول أحد الفضالء املعارصين يف هذا املجال‪:‬‬
‫«كان‪M‬يصوم األشهر الثالثة رجب‪ ،‬وشعبان وشهر رمضان‪ ،‬ويلقي درساً عا ّماً‬
‫يف األخالق‪ ،‬واآلن سنة ‪1393‬هـ‪.‬ق (تاريخ تأليف الكتاب) أي بعد حواىل خمسني سنة‬
‫من وفاة هذا العامل الربَّا ّين ما زالت جدران املدرسة وجوهاً تر ّدد صدى صوته الحزين‬
‫ومناجاته التي تأرس القلوب وهو ير ّدد‪« :‬اللّهم ارزقني التجايف عن دار الغرور‪،‬‬
‫واإلنابة إىل دار الخلود‪ ،‬واالستعداد للموت قبل حلول الفوت»(((‪ .‬وفضائله ‪-‬رحمة‬
‫الله عليه‪ -‬وكراماته فوق أن يحرصها هذا الكتاب ‪ -‬وقد نقل تالمذته الكثري حول زهده‬
‫وتقواه وعشقه وعرفانه‪ ،‬وع ُّدوه من بكَّايئ الزمان‪ .‬وصالة جامعته يف املدرسة الفيض ّية‬
‫ومسجد «فوق الرأس» ودرسه كذلك‪ ،‬شواهد عىل هذا امل ّدعى»(((‪.‬‬

‫والنص هنا‬
‫((( ألهم ّية ما كتبه الشهيد عن أستاذه راجع بق ّية ذلك يف املصدر املذكور (يف رحاب نهج البالغة)‪ّ ،‬‬
‫الفاريس (املع ِّرب)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ليس منقوالً عنه بل هو مرتجم عن األصل‬
‫((( مفاتيح الجنان أعامل الليلة السابعة والعرشين من شهر رمضان‪.‬‬
‫((( ﮔنجينئة دانشمندان‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.230‬‬
‫الطلب يف ق ّم سنة‬ ‫العلمة الطباطبا ّيئ كان يد ّرس األخالق لبعض ّ‬ ‫‪ - 5‬املرحوم آية الله ّ‬
‫‪42‬‬
‫‪1369 - 1368‬هـ‪.‬ق‪ .‬وكان ذلك الدورة األوىل من دروسه األخالق ّية والعرفان ّية‪،‬‬
‫ولحسن الح ّظ فقد طبعت تقريرات درسه باسم ّ‬
‫«لب اللباب»(((‪ .‬كان الس ّيد العلّمة‬
‫يهت ّم برسالة السري والسلوك املنسوبة إىل الس ّيد بحر العلوم‪ ،‬وكان يويص بقراءتها‪،‬‬
‫لخواص من تالمذته من طالّب الحقيقة ولقاء الله‪ ،‬وقد‬ ‫ّ‬ ‫وقد د َّرسها هو م ّر ٍ‬
‫ات ع ّدة‬
‫موسعٍ نسب ّياً(((‪.‬‬
‫بشكل ّ‬
‫ّ‬ ‫كان يرشحها‬
‫«يصل راعي الوادي األمين إىل هدفه عندما يخدم شعباً بإخالص ع ّدة سنني»(((‪.‬‬
‫ويف ما ييل تعريف بعدد من الشخص ّيات البارزة من أساتذة األخالق والعرفان‬
‫والسري والسلوك يف القرن األخري‪ ،‬حيث نذكر ‪-‬مع مراعاة االختصار‪ -‬ما يتعلّق بهذه‬
‫الشموع املضيئة لتكون أسامؤهم زينة هذه األوراق‪ ،‬وتأدي ًة لبعض حقّهم‪.‬‬

‫لب اللباب‪ ،‬تقرير آية الله الس ّيد الطهرا ّن (فاريس)‪.‬‬ ‫((( ّ‬
‫((( مهرتابان «فاريس»‪ ،‬ص ‪ 54‬القسم األول‪ :‬هذا الكتاب قسامن القسم األول سرية العلّمة الطباطبا ّيئ عليه‬
‫الرحمة‪ ،‬والقسم الثاين فوائد علم ّية ها ّمة تلقّاها منه تلميذه مؤلّف الكتاب آية الله الطهرا ّين وهو كتاب ق ّيم‬
‫جدا ً «املع ِّرب»‪.‬‬
‫نبي الله موىس عىل‬ ‫ازي استشهد به املؤلّف واملراد براعي الوادي األمين ُّ‬ ‫فاريس لحافظ الشري ّ‬ ‫((( مضمون بيت ّ‬
‫نب ِّينا وآله وعليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫السيد ّ‬
‫ّ‬
‫الشوشتري‬
‫(((‬
‫علي‬ ‫‪ - 1‬العارف الكامل آية اهلل‬
‫‪43‬‬
‫األنصاري‪ M‬وهو‬
‫ّ‬ ‫ويص الشيخ‬
‫أحد أملع نجوم سامء العرفان يف العرص األخري‪ّ ،‬‬
‫وتول التدريس من بعده عىل منربه‪ .‬فكان كأنّه الشيخ‪،‬‬
‫صل عىل جنازة الشيخ‪َّ ،‬‬ ‫الذي ّ‬
‫وكان املرحوم اآلخوند الخراسا ّين‪ (((M‬يحرض مجلس درسه‪ ،‬وكان السيّد يويل اآلخوند‬
‫عناي ًة ّ‬
‫خاصة‪.‬‬
‫ائري عىل النحو اآليت‪ :‬الس ّيد‬
‫الشوشرتي إىل املح ّدث الجز ّ‬
‫ّ‬ ‫يل‬
‫وينتهي نسب الس ّيد ع ّ‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫يل بن الس ّيد مح ّمد بن الس ّيد ط ّيب بن الس ّيد مح ّمد بن نور الدين بن املح ّدث‬‫ع ّ‬
‫ائري(((‪.‬‬
‫الجز ّ‬
‫يقول عنه صاحب «املآثر واآلثار»‪:‬‬
‫«املشهور بالزهد والرياضات الرشع ّية ومخالفة النفس‪ ،‬من جملة ُر َؤساء املذهب‪،‬‬
‫الحقيقي‪ ،‬مثل‬
‫ّ‬ ‫((( ينبغي التنبيه عىل أنّه حيث يرد مدح العارف يف هذا الكتاب‪ ،‬فإ ّن املقصود العارف باملعنى‬
‫هؤالء العلامء الذين ترد أسامؤهم يف هذا القسم؛ أي األشخاص الذين يلتزمون متاماً بالرشيعة اإلسالم ّية وفقه‬
‫اإلمام جعفر الصادق ‪ Q‬ال أولئك الذين يعتمدون عىل عقلهم الناقص ويخرجون من دائرة الرشيعة وال‬
‫يط ّبقون تعاليم اإلسالم‪.‬‬
‫البهاري ‪ :M‬من جملة أولئك «املغرورين» طائفة يعتربون أنفسهم‬ ‫ّ‬ ‫يقول املرحوم آية الله الشيخ مح ّمد‬
‫بالزي وخفض الصوت واإلطراق بالرأس والزفرات والتبايك‪ ،‬س ّيام إذا سمعوا كالماً يف‬ ‫عرفاء وقد اكتفوا من العرفان ّ‬
‫العشق واملح ّبة والتوحيد والفقر (مع عدم معرفة املعنى) بل البعض يتجاوز ذلك إىل الشهيق والنهيق واخرتاع‬
‫بعض األذكار والتغ ّني باألشعار وغري ذلك من األفعال الشنيعة‪ .‬وظ ّناً منهم بأّن هذه األطوار توصل الشخص إىل‬
‫مقامٍ ما‪ ،‬وليس األمر كذلك فإ ّن هؤالء واقعون يف الشبهات واملح ّرمات وترك املستح َّبات بل الواجبات‪ .‬م ّدعني‬
‫أ ّن املحتاجني إىل رياضة البدن هم ضعفاء النفوس من العوا ّم وباصطالحهم‪ :‬املحتاج إىل الرياضة هو املبتدئ‬
‫يف السلوك‪ ،‬والواقع أ ّن هذه الطائفة أضعف الناس عقالً وأش ّدهم جهالً وحمقاً‪ .‬وبعض هؤالء تو ّهم أرحاماً‬
‫كبرية ظ ّناً منه أن ّه بلغ غاية املعرفة واليقني وأخبار درجات املق َّربني وأنَّه اآلن هو يف مشاهدة املعبود ومجاورة‬
‫املقام املحمود واملالزمة يف عني الشهود متو ّهامً أنّه أصبح مطَّلقاً‪ ،‬فهو يف امللكوت يخطر يف القدس والجربوت‪،‬‬
‫مم يؤ ّدي به إىل أن ينظر نظرة احتقار وإهانة إىل الصلحاء والفقهاء واملح ّدثني وسائر العلامء م ّدعياً لنفسه من‬ ‫ّ‬
‫خوارق العادات أمورا ً مل ي ّدعها لنفسه أحد من األنبياء واألولياء ‪( -‬تذكرة املتّقني‪ ،‬ص‪.)95 - 93‬‬
‫((( صاحب «كفاية األصول» علم من أعالم الرشيعة أستاذ العلامء‪ ،‬وقائد «ثورة املرشوطة» يف إيران ويأيت الكثري‬
‫يدل عىل سم ّو منزلته {‪.‬‬ ‫مم ّ‬ ‫ّ‬
‫ائري‬
‫ائري هو الس ّيد نعمة الله الجز ّ‬ ‫األنصاري‪ ،‬ص‪ .)135‬واملح ّدث الجز ّ‬
‫ّ‬ ‫((( زندﮔاين شيخ أنصاري (حياة الشيخ‬
‫املجليس ‪ ،M‬وصاحب األنوار النعامن ّية (‪1112 - 1050‬هـ) «املع ِّرب»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تلميذ العالّمة‬
‫الكل؛ الشيخ‬
‫من الع ّدة املعدودة الذين ط َّبق صيتهم األرجاء‪ .‬كان شيخ الطائفة أستاذ ّ‬
‫‪44‬‬
‫األنصاري ير ّجحه عىل جميع أصحابه علامً وعمالً‪ ،‬بل كان‪ M‬يعترب نفسه مريدا ً‬
‫ّ‬
‫له»(((‪.‬‬
‫ويقول صاحب «لؤلؤ الصدف»‪:‬‬
‫الشوشرتي وهو‬
‫ّ‬ ‫يل‬
‫الحاج الس ّيد ع ّ‬
‫ّ‬ ‫«الس ّيد الجليل القدر صاحب الكرامات املتواترة‬
‫األنصاري ‪ -‬رغم أنّه كان يف غاية الزهد‬
‫ّ‬ ‫عتب من ز ّهاد العلامء‪ ،‬وقد كان املرحوم الشيخ‬
‫يُ َ‬
‫يجل هذا الس ّيد الجليل مبا ال مزيد عليه»‪.‬‬
‫والورع والكرامات‪ّ -‬‬

‫وجاء يف «دار السالم»‪:‬‬


‫ائري‪،‬‬
‫الشوشرتي من أوالد الس ّيد نعمة الله الجز ّ‬
‫ّ‬ ‫يل‬
‫الحاج الس ّيد ع ّ‬
‫ّ‬ ‫«املرحوم‬
‫ومن املجاورين يف النجف األرشف‪ .‬كان سلامن عرصه يف الورع والزهد والتقوى‪،‬‬
‫وقد رجعت إليه أمور الخلق بعد وفاة الشيخ‪ .‬كان مواظباً عىل االعتكاف يف مسجد‬
‫رشف بلقاء صاحب الزمان |‪ .‬وكان‬ ‫السهلة‪ ،‬والكوفة‪ ،‬وكان الناس يظ ّنون أنّه يت ّ‬
‫معروفاً بالكرامات»(((‪.‬‬
‫األنصاري والسيّد حسن‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الشوشرتي يف اإلجازة هام‪ :‬الشيخ‬
‫ّ‬ ‫يل‬
‫وشَ يْخا السيّد ع ّ‬
‫إمام جمعة شوشرت‪ .‬التحق السيّد بالرفيق األعىل يف النجف األرشف عام ‪1283‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫األنصاري(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫و ُد ِفن يف املقربة املتّصلة بباب ال ِقبلة للحرم الرشيف مقابل مقربة الشيخ‬
‫قص ٌة طريف ٌة؛ فقد درس يف النجف األرشف‪ ،‬حتّى بلغ مرتبة‬
‫لهذا الس ّيد الجليل ّ‬
‫االجتهاد‪ ،‬وأجازه علامء النجف‪ ،‬ث ّم عاد إىل وطنه‪ ،‬فاشتغل بالتدريس والقضاء‪،‬‬
‫يئ (صاحب امليزان)‪M‬‬ ‫العلمة الطباطبا ّ‬
‫القصة التي يرويها الس ّيد ّ‬
‫وهنالك وقعت ّ‬
‫فيقول‪« :‬قبل حواىل مئة سنة كان يف شوشرت عاملٌ جليل القدر‪ ،‬وكان مرجع الناس‬
‫((( املآثر واآلثار‪ ،‬ص‪.145‬‬
‫اقي ‪ -‬فاريس‪ ،‬ص‪.550‬‬
‫((( دار السالم للشيخ محمود العر ّ‬
‫((( زندﮔاين شيخ أنصاري‪ ،‬ص‪ 138 - 135‬بترصف‪.‬‬
‫الشوشرتي‪ .‬كان مشتغالً ‪-‬كسائر العلامء‬‫ّ‬ ‫يل‬
‫يف القضاء واألمور العا ّمة‪ ،‬إنّه الس ّيد ع ّ‬
‫‪45‬‬
‫األعالم‪ -‬بالتدريس والقضاء وشؤون املرجع ّية‪ ،‬وذات يوم‪ ،‬فجأة! طرق باب املنزل‬
‫شخص له معك شغل»‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫طارق‪ ،‬وعندما سأله السيّد‪« :‬من أنت؟» قال‪« :‬افتح الباب‪،‬‬
‫النساج‪:‬‬ ‫نساجاً فيسأله‪« :‬ماذا تريد؟» يقول ّ‬ ‫يل الباب‪ ،‬يرى شخصاً ّ‬ ‫عندما يفتح الس ّيد ع ّ‬
‫«الحكم الفال ّين الذي حكمت به بنا ًء عىل دعوى الشهود مبلك ّية العقار الفال ّين للشخص‬
‫الفال ّين ليس صحيحاً‪ ،‬هذا العقار لطفلٍ صغريٍ يتيم‪ ،‬ووثيقة ذلك (الح ّجة) مدفون ٌة يف‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫الشوشرتي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫خاطئ وليس لك»‪ .‬يقول آية الله‬‫ٌ‬ ‫املكان الفال ّين‪ .‬هذا الطريق الذي سلكته‬
‫النساج‪« :‬كام قلت لك»‪ .‬يقول ذلك وينرصف‪ .‬ويستغرق آية‬ ‫«وهل أخطأت»؟ يقول ّ‬
‫الشوشرتي يف التفكري‪ ،‬من هو هذا الرجل‪ ،‬وماذا قال! وق ّرر أن يتأكّد من ص ّحة‬ ‫ّ‬ ‫الله‬
‫فيتبي أ ّن وثيقة ملك الطفل اليتيم مدفون ٌة يف ذلك املكان‪ ،‬والشهود الذين‬ ‫كلمه‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫سه‪:‬‬ ‫شهدوا عىل ملكيّة غريه كانوا شهود زور‪ .‬يخاف السيّد عىل نفسه كثريا ً‪ ،‬ويقول يف ِ ِّ‬
‫«ومن يدري أ ّن كثريا ً من األحكام التي حكمت بها ليست من هذا القبيل»؟ فيستب ّد‬
‫النساج الباب قائالً‪« :‬يا جناب‬ ‫به الخوف‪ .‬ويف الليلة التالية‪ ،‬ويف الوقت نفسه‪ ،‬يطرق ّ‬
‫الشوشرتي‪ ،‬الطريق ليس هذا الذي تسلك»‪ .‬ويف الليلة الثالثة يتك ّرر ذلك‬ ‫ّ‬ ‫يل‬
‫الس ّيد ع ّ‬
‫رشف‬ ‫النساج‪« :‬ال تتأ ّخر‪ ،‬هيّئ أثاث البيت للسفر‪ ،‬بع البيت وت ّ‬ ‫بهذه الكيفيّة‪ ،‬ويقول ّ‬
‫باالنتقال إىل النجف األرشف‪ ،‬واعمل مبا قلت‪ ،‬وانتظرين بعد ستّة أشهر يف وادي السالم‬
‫يف النجف»‪.‬‬
‫الشوشرتي بتنفيذ التوجيهات‪ :‬يبيع البيت‪ ،‬ويستع ّد للسفر‬
‫ّ‬ ‫ويبدأ املرحوم‬
‫إىل النجف األرشف‪ .‬ومبج ّرد أن يصل إىل «وادي السالم» مع رشوق الشمس يجد‬
‫ٍ‬
‫بتوجيهات وينرصف‪ .‬ويدخل املرحوم‬ ‫النساج هناك‪ ،‬وكأنّه نبع من األرض‪ ،‬فيز ّوده‬
‫ّ‬
‫ومقام‬
‫ٍ‬ ‫الشوشرتي إىل النجف‪ ،‬ويعمل بهذه التوجيهات‪ ،‬فيصل إىل مرتب ٍة سامي ٍة‬
‫ّ‬
‫ال ميكن بيانه‪.‬‬
‫األنصاري يف الفقه واألصول وكان املرحوم الشيخ‬
‫ّ‬ ‫كان ‪ M‬يحرض درس الشيخ‬
‫تول الس ّيد التدريس بدالً‬ ‫يحرض درسه يف األخالق م ّر ًة يف األسبوع‪ ،‬وبعد وفاة الشيخ ّ‬
‫‪46‬‬
‫توف بعد فرت ٍة قصري ٍة‪ .‬ويف‬
‫منه وبدأ من حيث انتهى الشيخ‪ّ ،‬إل أ ّن األجل مل ميهله؛ إذ ّ‬
‫طلب‬ ‫الشوشرتي رسال ًة إىل أحد ّ‬
‫ّ‬ ‫هذه امل ّدة التي عاشها بعد الشيخ‪ ،‬كتب املرحوم‬
‫املل حسينقيل (عبد الحسني) الهمدا ّين‪،‬‬ ‫األنصاري البارزين‪ ،‬وهو اآلخوند ّ‬
‫ّ‬ ‫حوزة الشيخ‬
‫بعيد يف زمان الشيخ‪ ،‬صلة‪ ،‬وكان يستفيد منه يف املجال‬ ‫الذي كانت تربطه به منذ زمنٍ ٍ‬
‫األخالقي والعرفا ّين‪ .‬وبعد الشيخ ق ّرر أن يد ّرس بل ويكمل مباحث الشيخ التي كان قد‬ ‫ّ‬
‫كتب تقريراتها‪ ،‬كتب إليه يف هذه الرسالة يوضّ ح له أ ّن طريقتك غري مكتملة‪ ،‬ويجب‬
‫أن تحصل عىل مراتب أخرى عالية‪ ،‬وقد تأث ّر كثريا ً بهذه الرسالة التي أرشدته إىل وادي‬
‫مل حسينقيل الهمدا ّين‪ ،‬الذي كان منذ‬ ‫الحق والحقيقة‪ .‬وباختصار‪ ،‬فإ ّن املرحوم اآلخوند ّ‬ ‫ّ‬
‫الشوشرتي يف املعارف‬
‫ّ‬ ‫سنوات ع ّدة قبل وفاة الشيخ يستفيد من مجلس درس املرحوم‬ ‫ٍ‬
‫طلباً أبداالً‪،‬‬
‫ورب ّ‬
‫اإللهيّة‪ ،‬فاق األقران يف مجاهدة النفس‪ ،‬وأصبح من عجائب الدهر‪ّ ،‬‬
‫واحد منهم يعترب قطب رحى املعرفة والتوحيد‪ ،‬ويُعتَ َب املرحوم الس ّيد أحمد‬ ‫كل ٍ‬ ‫كان ّ‬
‫الهمداين ‪.M‬‬
‫ّ‬ ‫الكربال ّيئ((( أحد أبرز طالب اآلخوند‬
‫العلمة ‪« :M‬وقد كان أستاذنا العظيم العارف الذي مل يَ ُج ْد الدهر‬ ‫ويضيف ّ‬
‫التربيزي من تالمذة املرحوم الكربال ّيئ‪ ،‬هذه سلسلة‬
‫ّ‬ ‫يل القايض‬
‫مبثله املرحوم الس ّيد ع ّ‬
‫النساج‪ّ ،‬إل أنّه ال‬
‫الشوشرتي‪ ،‬وبعده إىل ذلك الرجل ّ‬
‫ّ‬ ‫أساتذنا التي تنتهي إىل املرحوم‬
‫النساج من هو‪ ،‬ومبن كان ارتباطه‪ ،‬ومن أين وبأيّة وسيلة حصل عىل هذه‬ ‫يعلم هذا ّ‬
‫املعارف والعلوم؟»(((‪.‬‬

‫الطباطبايئ ‪ M‬هنا؛ إذ إنّه قال ما تعري ُبه‪ :‬أبرز تالمذة مدرسة اآلخوند‬
‫ّ‬ ‫العالمة‬
‫((( لقد اخترص املؤلّف ما أورده ّ‬
‫(الهمداين) املريزا جواد أقاي مليك تربيزي واملرحوم الس ّيد أحمد الكربال ّيئ الطهرا ّين واملرحوم الس ّيد مح ّمد‬
‫لب اللباب‪.‬‬
‫البهاري ‪ّ -‬‬
‫ّ‬ ‫سعيد الجنو ّيب واملرحوم الشيخ مح ّمد‬
‫نقال عن الس ّيد مح ّمد حسن إلهي القايض أخو‬ ‫لب اللباب (‪ .)158 - 154‬و«ياونامه عالمة طباطبايئ‪ ،‬ص‪ً 98‬‬ ‫((( ّ‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ عليهام الرحمة‪.‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫‪ - 2‬الشيخ حسينقلي((( الهمداني ‪M‬‬
‫‪47‬‬
‫العارف الجليل والفقيه الصالح والحكيم املرحوم الشيخ حسينقيل الهمدا ّين من أبرز‬
‫الشوشرتي‪ ،‬وأكرب أساتذة العرفان واألخالق يف الفرتة األخرية الذي مل‬
‫ّ‬ ‫يل‬
‫طالب السيّد ع ّ‬
‫يصل أح ٌد بعده إىل مرتبته‪.‬‬
‫من أعاظم العلامء وأكابر فقهاء الشيعة وخامتة علامء األخالق يف عرصه‪ ،‬وهو يف‬
‫خصوص هذا العلم أم ٌر عظ ٌيم ال يح ّده وصف؛ فقد مضت حقب ٌة طويل ٌة مل يَ ُج ْد خاللها‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫الزمن مبن ماثله يف علم األخالق وتهذيب النفوس‪ ،‬وقد ُخ ِت َم به هذا الف ّن(((‪.‬‬
‫تربيزي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يقول عنه تلميذه الكبري املرحوم مليك‬
‫«ما رأيت له نظريا ً يف املراتب املذكورة(((‪ ،‬ويريد بها العبادة وطول السجود‪.‬وبعد‬
‫الشوشرتي إىل تربية النفوس املؤ ّهلة‪ ،‬اهت ّم برتبية ذوي القابل ّيات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أن دعاه املرحوم‬
‫لقسم منهم‪ ،‬ومن طلوع‬ ‫مخصصاً من الصبح حتّى طلوع الشمس ٍ‬ ‫بحيث إ ّن وقته كان ّ‬
‫مقسامً كذلك؛ أ ّول الليل‬
‫لقسم آخر‪ ،‬وهكذا‪ .‬حتّى إ ّن ليله كان ّ‬
‫الشمس إىل صدر النهار ٍ‬
‫يرب عددا ً كبريا ً‪ ،‬ك ٌُّل منهم كان يعترب من‬
‫لفريق‪ ،‬وآخره لفريقٍ آخر‪ ،‬حتّى استطاع أن ّ‬
‫أولياء الله»(((‪.‬‬

‫بعض تالمذته‬
‫ّ‬
‫املتوف سنة ‪1325‬هـ‪ ،‬وقد أوىص‬ ‫البهاري من قرية بهار يف همدان‬
‫ّ‬ ‫‪ - 1‬الشيخ مح ّمد‬
‫الشيخ الهمدا ّين إليه عند وفاته‪.‬‬
‫‪ - 2‬الس ّيد أحمد الكربال ّيئ‪.‬‬

‫((( قيل بِمعنى (غالم) فيصبح املعنى عبد الحسني الهمدا ّين (أعيان الشيعة‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪ )136‬املع ِّرب‪.‬‬
‫((( نقباء البرش ‪ -‬طبقات أعالم الشيعة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ 674‬و‪.675‬‬
‫((( الفوائد الرضويّة‪ ،‬ص‪ 148‬واملصدر السابق‪.‬‬
‫((( أرسار الصالة‪ ،‬ص‪.270‬‬
‫التربيزي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ - 3‬آقا رضا‬
‫‪48‬‬
‫آبادي‪.‬‬
‫‪ - 4‬الس ّيد كامل املشهور مبريزا آقا دولت ّ‬
‫النجفي املشهور‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ - 5‬الس ّيد مح ّمد سعيد الح ّبو ّيب الشاعر‬
‫‪ - 6‬الشيخ موىس رشارة‪.‬‬
‫‪ - 7‬الس ّيد حسن الصدر‪.‬‬
‫النجفي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مهدي الحكيم‬ ‫ّ‬ ‫‪ - 8‬الس ّيد‬
‫النجفي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫القامويس‬
‫ّ‬ ‫‪ - 9‬الشيخ باقر‬
‫الغفاري املازندرا ّين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ - 10‬الس ّيد عبد‬
‫آبادي‪.‬‬
‫‪ - 11‬الشيخ مح ّمد باقر النجم ّ‬
‫يل الهمدا ّين‪.‬‬ ‫‪ - 12‬الس ّيد ع ّ‬
‫يل الق ّم ّي‪.‬‬‫‪ - 13‬الشيخ ع ّ‬
‫النجفي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ - 14‬الس ّيد محمود الطالقا ّين‬
‫‪ - 15‬صهر الشيخ الهمدا ّين الس ّيد أبو القاسم األصفها ّين‪.‬‬
‫العظيمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تقي الشاه عبد‬ ‫‪ - 16‬الس ّيد مح ّمد ّ‬
‫تقي األصفها ّين‪.‬‬ ‫‪ - 17‬الس ّيد مح ّمد ّ‬
‫تربيزي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ - 18‬املريزا جواد مليك‬
‫يل الهمدا ّين(((‪.‬‬
‫‪ - 19‬ابن الشيخ الهمدا ّين‪ ،‬الشيخ ع ّ‬
‫آبادي(((‪.‬‬
‫‪ - 20‬املجاهد واملصلح الكبري الس ّيد جامل الدين األسد ّ‬
‫ويبدو أنّه ليس يف متناولنا اليوم كتاب أو أثر مكتوب للشيخ الهمدا ّين إلّ الرسائل‬
‫التوجيه ّية املدرجة يف آخر كتاب «تذكرة املتّقني»‪ ،‬إحداها تلك التي كتبها إىل املرحوم‬
‫يل اإليروا ّين بهذا املضمون‪:‬‬ ‫الس ّيد ع ّ‬

‫((( يادنامه عالمة طباطبايئ‪ ،‬ص ‪.99‬‬


‫((( أعيان الشيعة‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪ ،136‬ونقباء البرش‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.677‬‬
‫«جناب الس ّيد‪ :‬الحذ َر الحذ َر من القواطع األربعة‪ :‬كرثة الكالم‪ ،‬وكرثة الطعام‪ ،‬وكرثة‬
‫‪49‬‬
‫العلم يف‬
‫املنام‪ ،‬وكرثة املجالسة مع األنام‪ ،‬وعليك بتقليبها وتبديلها بذكر الله امللك ّ‬
‫الليايل واأليّام‪ ،‬والسالم»(((‪.‬‬
‫األنصاري‪ ،‬وتقريرات تالمذته لدرس فقهه‬
‫ّ‬ ‫وآلية الله الهمدا ّين تقريرات درس الشيخ‬
‫أو أخالقه؛ من ذلك‪ :‬صالة املسافر‪ ،‬الحلل‪ ،‬القضاء والشهادات‪ ،‬كتاب يف الرهن وقد‬
‫النوري(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كانت منه نسخة يف مكتبة املح ّدث‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫تربيزي ‪-‬أحد تالمذة الشيخ الهمدا ّين‪ -‬أستاذه بعد أن تتلمذ‬‫ّ‬ ‫سأل املريزا جواد مليك‬
‫عىل يده سنتني‪ :‬مل أحصل من «سريي» عىل يشء‪ ،‬فسأله الشيخ الهمدا ّين عن اسمه ومن‬
‫تربيزي‪ ،‬فيقول له‪« :‬هل لك قراب ٌة‬
‫ّ‬ ‫يكون؟! فقال متع ّجباً‪ :‬أال تعرفني؟ أنا جواد مليك‬
‫بفالنٍ وفالنٍ من آل مليك؟ وأل ّن الشيخ جواد مليك كان س ِّيئ الظ ّن بهم فقد انتقدهم‪،‬‬
‫فقال له أستاذه‪ :‬عندما تستطيع أن تق ّدم للس ِّيئ منهم ‪-‬بحسب رأيك‪ -‬حذاءه‪ ،‬فأنا آيت‬
‫يك الدرس‪ ،‬جلس يف مرتب ٍة دون بق ّية‬
‫إليك»‪ .‬ويف اليوم التايل عندما حرض الشيخ جواد مل ّ‬
‫الطلب‪ ،‬وأخذ يبحث عن الطلبة من أقاربه امللك ّيني الذين مل يكن يعتربهم صالحني‬ ‫ّ‬
‫ويعطف عليهم حتّى وصل يف مو ّدتهم إىل تقديم أحذيتهم لهم عندما يزورونه احرتاماً‬
‫لهم‪ ،‬وقد بلغ ذلك عشريتهم «امللك ّيني» املقيمني يف تربيز فزال التش ّنج الذي كان يحكم‬
‫عالقاتهم‪ .‬ويف ما بعد التقاه الشيخ الهمدا ّين‪ ،‬وقال له‪« :‬ال تعليامت جديدة‪ ،‬يجب أن‬
‫تصلح أمرك ليمكنك أن تنتفع من هذه األحكام الرشع ّية»‪ .‬ويوصيه ضمناً بأ ّن العمل‬
‫بكتاب مفتاح الفالح للشيخ البها ّيئ ج ّيد»(((‪.‬‬

‫الفاريس‪ ،‬ص ‪.37‬‬


‫ّ‬ ‫((( الحركات اإلسالم ّية يف القرن األخري عن األصل‬
‫((( تذكرة املتّقني‪ ،‬ص ‪ ،237‬وقد طبع أخريا ً يف لبنان كتاب القضاء له ‪ M‬عن مخطوط‪ ،‬ح ّدثني سامحة الح ّجة‬
‫الشيخ موىس رشارة يف الهرمل أنّه كان قد اشرتاها أيّام إقامته يف النجف األرشف (املع ِّرب)‪.‬‬
‫((( نقباء البرش‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ .677‬تاريخ حكامء وعرفاء متأخر بر صدر املتألّهني‪ ،‬ص‪.134 - 133‬‬
‫يرب تالمذته؟»‬
‫يل الزاهد‪« :‬مباذا كان أستاذك الشيخ الهمدا ّين ّ‬
‫وقد ُسئل الشيخ ع ّ‬ ‫‪50‬‬
‫فقال‪« :‬بذكر املوت»‪.‬‬
‫ويقول بعض مريدي الشيخ الهمدا ّين‪« :‬لو أ ّن شخصاً واظب يف الليايل مل ّدة سن ٍة عىل‬
‫سجد ٍة يقول فيها أربعمئة م ّرة‪« :‬ال إله إلّ أنت سبحانك ّإن كنت من الظاملني» فإنّه‬
‫سيخرج من عامل الطبيعة»(((‪.‬‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ‪« :‬تآمر جم ٌع من منتقدي الطريقة العرفان ّية اإلله ّية‬ ‫يقول ّ‬
‫والتوحيديّة للمرحوم الشيخ الهمدا ّين‪ ،‬الهازئني بها‪ ،‬وكتبوا عريض ًة إىل املرحوم الرشبيا ّين‬
‫عتب الزعيم املطلق‪ ،‬كتبوا فيها إ ّن الشيخ‬ ‫عندما كان يتص ّدى لرئاسة املسلمني‪ ،‬وكان يُ َ‬
‫حسينقيل الهمدا ّين سلك طريقة الصوف ّيني‪ .‬قرأ املرحوم الرشبيا ّين العريضة‪ ،‬ث ّم تناول‬
‫قلمه وكتب يف أسفلها‪« :‬يا ليت أ ّن الله يجعلني صوف ّياً مثل الشيخ الهمدا ّين»‪ .‬وبهذه‬
‫كل مؤامراتهم»‪.‬‬‫الجملة من هذا العامل الكبري قيض عىل ّ‬
‫الدرجزيني الهمداينّ‪ ،‬وينتهي نسبه إىل‬
‫ّ‬ ‫الشوندي‬
‫ّ‬ ‫والد الشيخ الهمدا ّين هو رمضان‬
‫األنصاري‪ ،‬الصحا ّيب املشهور‪ ،‬و«شوند» ‪-‬بفتح الشني والواو وسكون‬
‫ّ‬ ‫جابر بن عبد الله‬
‫النون‪ -‬قري ٌة قريب ٌة من درجزين من توابع همدان‪ ،‬وفيها يقيم عد ٌد كب ٌري من أحفاد‬
‫جابر‪.‬‬
‫قال يف «نقباء البرش»‪:‬‬
‫«كان والده راعياً للغنم يف بادئ أمره‪ ،‬ث ّم صار إسكافاً‪ ،‬وكان له ولدان أكربهام‬
‫املرت َجم له‪ ،‬واألصغر «كريم قيل»؛ أي عبد الكريم‪ ،‬رغب أبوهام أن يكونا من طلبة‬
‫العلم»‪.‬‬

‫((( املصدر السابق‪ ،‬ص‪ /135‬توضيح‪.‬‬


‫وكانت والدة املرتجم له يف القرية املذكورة عام ‪ ،1239‬نشأ بها ث ّم بعث به والده‬
‫‪51‬‬
‫الطلب‪ ،‬وتعلّم امليادين‪ ،‬وقرأ مق ّدمات العلوم فأمتّها‪ .‬وقد‬‫إىل طهران‪ ،‬فدخل يف سلك ّ‬
‫بنشاط غريب يُ َ‬
‫ستكث عليه إذ مل يكن حرضيّاً‪ .‬ث ّم‬ ‫ٍ‬ ‫اجتاز هذه املرحلة الدراس ّية األوىل‬
‫درس سطوح الفقه واألصول عىل بعض الفضالء‪ ،‬وحرض دروس الطبقة العليا‪ ،‬وقد‬
‫اختص بحوزة العامل األكرب الشيخ عبد الحسني الطهرا ّين الشهري بشيخ العراقني‪ ،‬ث ّم سافر‬ ‫ّ‬
‫السبزواري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إىل سبزوار فقط َنها م ّدة الزم خاللها درس الفيلسوف املعروف املوىل هادي‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫ث ّم عاد إىل قرية شوند‪ ،‬فمكث بها بني أهله وذويه برهة وهاجر إىل النجف األرشف‪،‬‬
‫األنصاري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وكانت رئاسة التدريس‪ ،‬ومرجع ّية التقليد واإلفتاء يومذاك للشيخ املرتىض‬
‫وكان املق ّدم عىل سائر أعالم النجف‪ ،‬فحرض عليه والزم درسه سنني ِطوالً ‪ .‬وكتب من‬
‫التسرتي‪ ،‬ففاق‬
‫ّ‬ ‫يل‬
‫تقريراته يف الفقه واألصول كثريا ً‪ ،‬وتتلمذ يف األخالق عىل الس ّيد ع ّ‬
‫فيه أعالم الف ّن‪.‬‬
‫األنصاري يف سنة ‪ 1281‬مل يتتلمذ عىل غريه؛ إذ مل يكن محتاجاً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ومل ّا ّ‬
‫توف أستاذه‬
‫كام مل يخرج من العراق كغريه م ّمن سافروا إىل إيران وغريها‪ ،‬بل لزم بيته وانزوى‬
‫الخواص من أهل العلم والفضل والتقى‬
‫ّ‬ ‫ومل يتص ّد للفتوى ومل يطلب الرئاسة‪ .‬إلّ أ ّن‬
‫والدين مل يرتكوه وشأنه دون أن يستفيدوا منه ويغرتفوا من معني فضله؛ فقد لحق‬
‫به منهم عد ٌد كبري‪ ،‬وألزموه بالتدريس فأجابهم‪ ،‬لك ّنه مل يرغب بالتظاهر والجهر به‬
‫بل كان درسه يف داره‪ ،‬ومع ذلك فقد كان درسه مجتمعاً حافالً‪ ،‬وكان ّ‬
‫للطلب تهافت‬
‫عليه وزحام حوله‪ ،‬وكان يد ِّرس يف الفقه واألصول‪ .‬كتبه التي ألّفها من تقريرات‬
‫كل يوم‪ ،‬وبعده يد ّرس الفقه‬‫درس يف األخالق بداره صبح ّ‬ ‫األنصاري‪ ،‬وكان له ٌ‬
‫ّ‬ ‫أستاذه‬
‫واألصول‪ »...‬إىل أن يقول‪:‬‬
‫«‪ ...‬هذه زمر ٌة من تالمذته كانوا بعده نجوماً تزان بها سامء العلم والفضيلة‪ ،‬وأنا‬
‫رشف برؤيته إذ دخلت العراق بعد وفاته‬ ‫وإن مل أدرك فيض خدمته‪ ،‬ومل يُكتَب يل الت ّ‬
‫بعامني يف ‪ ،1313‬لكن أدركت فريقاً كبريا ً من تالميذه الذين الزموه ليالً ونهارا ً حتّى‬
‫حصلوا ما أرادوا وحظوا بالسعادة األبديّة‪ ،‬وقد ط ّهرهم من أوضار هذه الحياة‪ ،‬حتّى‬ ‫ّ‬ ‫‪52‬‬
‫قرنوا العلم بالعمل‪ ،‬فقد رأيت أثر تربيته الحسنة ب َّيناً عليهم بادياً يف سيامهم‪.‬‬
‫يحس منه‬
‫التسرتي ‪-‬وهو مشغول برتبيته وصقل نفسه‪ّ -‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ ...‬وكان أستاذه الس ّيد‬
‫االستعداد واللياقة ال ليهذِّب نفسه فقط بل ليقود أمامه جمهورا ً كبريا ً‪ ،‬ويندر يف‬
‫أصحابه وأتباعه هذه الروح املركّزة‪.(((»...‬‬
‫األنصاري‪ ...‬وقبل ذلك ‪-‬صباحاً ‪ -‬كان‬
‫ّ‬ ‫واألصول عىل أساس كتاباته لتقرير الشيخ‬
‫يدرس األخالق يف منزله‪.‬‬
‫ويضيف الشيخ آقا بزرگ الطهرا ّين‪:‬‬
‫الطلب كانوا نجوماً مضيئ ًة‬‫رب الشيخ الهمدا ّين يف ف ّن األخالق عددا ً كبريا ً من ّ‬
‫وقد ّ‬
‫وزينة سامء العلم والفضيلة ومحور التقوى والفضيلة‪ .‬وأنا‪ ،‬وإن كنت مل أُوفَّق للتز ُّود‬
‫من فيض دروسه حتّى أين دخلت العراق عام ‪ 1313‬أي بعد وفاته بسنتني ّإل ّأن‬
‫أدركت جمعاً كبريا ً من تالمذته الذين كانوا مالزمني له يف الليل والنهار وقد وصلوا إىل‬
‫ما أملوا وحصلوا عىل السعادة األبديّة‪ ...‬وقد كان أثر تربيته واضحاً يف مالمحهم‪.‬‬
‫الشوشرتي كان يعرف كفاءته‪ ،‬واملرحوم الس ّيد محسن األمني‬ ‫ّ‬ ‫وأل ّن أستاذه املرحوم‬
‫الذي كان له رشف مشارك ٍة ما يف درس الشيخ‪ ،‬يقول‪« :‬مل يكن يف زمانه وال قبله بسنني‬
‫وال بعده كذلك من مياثله يف علم األخالق وتهذيب النفوس‪ ،‬وكان جارنا أ ّول ورودنا إىل‬
‫النجف األرشف سنة ‪ 1308‬وحرضنا درسه يف األخالق أيّا ًما قليلة‪ ،‬وص ّدنا عن املداومة‬
‫بأي نح ٍو كان‪،‬‬
‫عليه اشتغالنا مبا هو أه ّم‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فقد أسفنا عىل عدم املداومة عليه ّ‬
‫خلق كث ٌري من فضالء العرب والعجم م ّمن أراد الله بهم الخري‪،‬‬ ‫األخالقي ٌ‬
‫ّ‬ ‫وانتفع بدرسه‬
‫رأينا جمل ًة منهم ووجدنا أثر ذلك فيهم‪ ،‬كام أنّنا رأينا بعض من حرض عليه ومل ينتفع‬
‫ٓ‬ ‫َ ٰ َ َ ۡ ُ َّ‬
‫ٱللِ يُ ۡؤتِيهِ َمن ي َ َشا ُء ۚ﴾ وصقل السيوف الهنديّة‬ ‫بذلك‪ ،‬بل كان عىل العكس ﴿ذل ِك فضل‬
‫يصل جامع ًة‬
‫للضاب‪ ،‬أ ّما صقل األخشاب فال يجعلها سيوفاً‪ ،‬وكان ّ‬ ‫يجعلها صالحة ِّ‬

‫((( نقباء البرش‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.675 - 674‬‬


‫خاصته‪ .‬وحرض م ّر ًة إىل مسجد السهلة فأقام أيَّا ًما ونحن هناك‪ ،‬فكان‬
‫يف داره ببعض ّ‬
‫‪53‬‬
‫أصحابنا يذهبون ويصلّون خلفه»(((‪.‬‬
‫وبعد عم ٍر حافلٍ بالجهاد والسعي وتربية العرشات من ذوي الكفاءة‪ ،‬التحق‬
‫بالرفيق األعىل عندما كان مسافرا ً إىل كربالء يف الثامن والعرشين من شعبان لسنة‬
‫‪ (((1311‬و ُد ِفن يف الحجرة الرابعة من الصحن املط ّهر عىل يسار الداخل من الباب‬
‫يل عام ‪ 1359‬يف النجف األرشف‪ ،‬و ُدفن يف وادي السالم‬ ‫الزينبي‪ ،‬وت ِّ‬
‫ُوف ابنه الشيخ ع ّ‬ ‫ّ‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫املهدي |رحمة الله عليهام‪.‬‬


‫ّ‬ ‫خلف مقام‬
‫‪ - 3‬العارف الشهير آية اهلل ملكي تبريزي‬
‫هو املرحوم املريزا((( جواد بن املريزا شفيع‪ ،‬عارف كامل‪ ،‬وعامل عامل‪ ،‬وسالك واصل‪،‬‬
‫مل‬
‫وفقيه جليل‪ .‬وكام تق ّدم‪ ،‬فقد كان من تالمذة املرحوم جامل السالكني الشيخ ّ‬
‫حسينقيل الهمدا ّين‪.‬‬
‫ُولد يف تربيز‪ ،‬وبعد أن درس املق ّدمات والسطوح‪ ،‬سافر إىل النجف األرشف‪ ،‬فدرس‬
‫الفقه عىل األقا رضا الهمدا ّين صاحب «مصباح الفقيه»‪ ،‬واألصول عىل اآلخوند الخراسا ّين‬
‫النوري صاحب «املستدرك» واختار مالزمة‬‫ّ‬ ‫صاحب «الكفاية» والحديث عىل املح ّدث‬
‫الشيخ الهمدا ّين‪ ،‬فاستفاد منه حواىل أرب َع عرش َة سنة‪.‬‬
‫التربيزي يف سنة ‪ 1320‬أو ‪ ،1321‬وسكن يف تربيز‪ ،‬ث ّم سافر إىل ق ّم‬
‫ّ‬ ‫رجع املرحوم‬
‫يف أوج الثورة «املرشوطة»((( سنة ‪ 1329‬واشتغل بتدريس الفقه واألخالق وأداء سائر‬
‫الفرائض‪.‬كان درس فقهه عىل أساس «مفاتيح» الفيض الكاشا ّين‪.‬‬

‫النص بتاممه لفائدته (املع ِّرب)‪.‬‬


‫((( أعيان الشيعة‪ ،‬ط‪ ،‬ج‪ ،136‬وقد أوردت ّ‬
‫((( يف تذكرة املتّقني‪ ،‬ص‪ ،327‬أ ّن وفاته‪ M‬يف شهر رجب من السنة املذكورة إلّ أ ّن املصادر األخرى ومنها نقباء‬
‫البرش‪ ،‬ص‪ 677-260‬وزندﮔـاين وشخصيت شيخ أنصاري‪ ،‬ص‪ 262‬وتاريخ حكامء وعرفاء متأخر‪ ،‬ص‪ 123‬تذكر‬
‫ما ورد يف املنت‪.‬‬
‫((( املريزا تعني ابن األمري‪ .‬وهو مصطلح يطلق عىل من كان علوياًّ من جهة األم فقط‪.‬‬
‫((( ثورة قادها صاحب الكفاية { استهدفت تحديد صالحيات امللك وتأسيس «مجلس نواب» األمر الذي‬
‫يجعل امللك ّية مرشوطة ال مطلقة‪ ...‬ويأيت مزيد من اإليضاح حولها إن شاء الله‪( .‬املع ِّرب)‪.‬‬
‫للخواص‪ ،‬واألخرى يف املدرسة‬‫ّ‬ ‫كان يقيم جلستني يف األخالق‪ ،‬إحداهام يف منزله‬
‫‪54‬‬
‫الفيض ّية للعموم‪ .‬وكان يؤ ّم املصلّني يف حرم املعصومة عليها السالم‪ ،‬وأحياناً يف املدرسة‬
‫للخواص يف‬
‫ّ‬ ‫األخالقي‬
‫ّ‬ ‫الخميني { يأت ّم به ويشرتك يف درسه‬
‫ّ‬ ‫الفيض ّية‪ ،‬وكان اإلمام‬
‫بكل معنى الكلّمة‪ ،‬من أهل العبادة والته ّجد‪ ،‬بل كان يعترب من‬ ‫املنزل‪ .‬وكان ‪ّ ،M‬‬
‫بشكل دائم‪ .‬يقول يف أرسار‬‫ّ‬ ‫بكّايئ زمانه‪ .‬وكان يصوم رجب وشعبان وشهر رمضان‬
‫وإن أشهد الله ّأن أعرف من املته ّجدين من‬ ‫الصالة‪« :‬أقول‪ :‬ال تكن كافرا ً بهذه األخبار‪ّ ،‬‬
‫كان يسمع من يوقظه ويناديه وقت ته ّجده يف أوائل أمره بلفظة «آقا»((( فيقوم لوِرده»‪.‬‬
‫ويبدو أ ّن هذا الشخص الذي كان يستيقظ لوِرده عىل صوت امللك هو املرحوم‬
‫نفسه‪ ،‬وقد ّبي األمر بهذه الصياغة يك ال ميدح نفسه‪ .‬نعم‪ ،‬إ ّن الذين يظهرون‬ ‫التربيزي ُ‬
‫ّ‬
‫االستقامة يف طريق الوصول إىل املحبوب تتن ّزل عليهم املالئكة‪ ،‬وهو رصيح قوله تعاىل‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َّ َّ َ َ ُ ْ َ ُّ َ َّ ُ ُ‬
‫التربيزي واحدا ً منهم‪ ،‬فلم‬
‫ّ‬ ‫ٱلل ث َّم ۡٱس َت َقٰ ُموا‪ ﴾...‬وقد كان املرحوم‬ ‫﴿إِن ٱلِين قالوا ربنا‬
‫يكن له ه ًدى وال مرا ٌم غري الله تعاىل‪ ،‬ومل يكن يفكّر بيش ٍء غريه‪ .‬وكان ‪ M‬من خرية‬
‫املوالني املولعني بآل الرسالة وخصوصاً اإلمام صاحب العرص |الذي كان يك ّن له ح ّباً‬
‫عارماً‪ ،‬كام يظهر بوضوح من مطاوي كتابه «املراقبات» (ص‪ .)183 - 179‬ويكفي لبيان‬
‫عظمة منزلته‪ ،‬أ ّن الحكيم والفقيه الشهيد الشيخ مح ّمد حسني األصفها ّين ‪-‬مع أنّه كان‬
‫التربيزي يطلب فيها أن يز ّوده‬
‫ّ‬ ‫مقام كبري ‪-‬كتب رسال ًة إىل املرحوم‬ ‫يف العلم والعمل ذا ٍ‬
‫بتعليامت ليط ّبقها‪ ،‬فكتب إليه رسال ًة مخترصة تض ّمنت مطالب مفيدة‪ ،‬وتجد ذلك يف‬ ‫ٍ‬
‫مجلة «حوزة» العدد الرابع‪.‬‬

‫من قصصه‬
‫خواص تالمذته‪:‬‬
‫يقول أحد ّ‬
‫«ذات ليل ٍة رأيت يف «شاهرود» يف املنام أ ّن صاحب األمر ‪ Q‬مع جامع ٍة يف‬

‫((( آقا‪ :‬س ّيد‪.‬‬


‫رشف بلقائه‪ Q‬وأق ّبل يده املباركة‪،‬‬ ‫صحراء وكأنّهم يف صالة الجامعة‪ ،‬دنوت ألت ّ‬
‫‪55‬‬
‫فرأيت بالقرب منه شيخاً جليالً تظهر يف سيامه آثار الجاللة والوقار‪ .‬وعندما استيقظت‪،‬‬
‫فكّرت يف ذلك الشيخ‪ ،‬من هو هذا املق ّرب إىل هذا الح ّد من صاحب العرص ‪-‬أرواح من‬
‫سواه فداه‪ -‬وذهبت إىل مشهد للبحث عنه فلم أره‪ .‬وسافرت إىل طهران فلم أصادفه‪،‬‬
‫ومضيت إىل ق ّم فوجدته يف إحدى غرف املدرسة الفيض ّية مشغوالً بالدرس‪ ،‬سألت عنه‬
‫يل سالم معرفة‪ ،‬وسألني‪« :‬متى‬
‫رشفت بلقائه فسلّم ع ّ‬ ‫التربيزي‪ ،‬ت ّ‬
‫ّ‬ ‫قالوا‪ :‬املريزا جواد مليك‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫جئت؟» وكأنّه كان قد رآين وعرفني واطّلع عىل ما جرى! بعد ذلك الزمته فوجدته كام‬
‫رأيته وأردت»(((‪.‬‬
‫ويقول أحد املتّصلني به‪:‬‬
‫«ذهب يوماً بعد انتهاء الدرس لزيارة أحد الطلبة يف مدرسة دار الشفاء‪ ،‬وكنت يف‬
‫خدمته‪ .‬دخل الغرفة‪ ،‬وبعد السالم والضيافة املتعارفة‪ ،‬جلس قليالً ث ّم قام وخرجنا‪،‬‬
‫يل فيوضات‬ ‫وسألته عن هدف هذه الزيارة فقال‪ :‬الليلة املاضية يف السحر أُفيضت ع ّ‬
‫عرفت أنّها ليست م ّني‪ ،‬وعندما تأكّدت وجدت أ ّن هذا الطالب كان يته ّجد ودعا يل يف‬
‫صالة الليل‪ ،‬وهذه الفيوضات بسبب دعائه فجئت لزيارته شكرا ً الهتاممه»(((‪.‬‬

‫تالمذته‬
‫كان مجلس درسه يف األخالق عامرا ً‪ ،‬وعىل ما كتب البعض فقد كان يشرتك يف درسه‬
‫يف تربيز حوايل أربعمئة(((‪ .‬ومن تالمذته يف هذا العلم‪:‬‬
‫الخميني {‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلمام‬ ‫‪-‬‬
‫فاطمي الق ّم ّي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املرحوم آية الله‬ ‫‪-‬‬

‫لب اللباب‪ ،‬ص‪.36 - 35‬‬ ‫((( رسالة ّ‬


‫((( رسالة لقاء الله‪ ،‬املق ّدمة‪ ،‬ص هـ‪.‬‬
‫((( آئينه دانشوران‪ ،‬ص‪.350‬‬
‫اليزدي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املرحوم الس ّيد محمود‬ ‫‪-‬‬
‫‪56‬‬
‫املرحوم محمود مجتهدي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫التربيزي‪ ،‬مؤلّف «تذكرة املتّقني»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الشيخ إسامعيل‬ ‫‪-‬‬

‫مؤلّفاته‬
‫له‪ M‬مؤلّفاتٌ عديدة بعضها مل يطبع بعد‪ ،‬من مؤلّفاته‪:‬‬
‫‪« - 1‬أرسار الصالة» وقد طبع مرارا ً وهو باللغة العربيّة‪.‬‬
‫‪« - 2‬املراقبات» أو «أعامل السنة»‪ ،‬طُبع مرارا ً كذلك‪ ،‬وهو باللغة العربيّة‪.‬‬
‫‪« - 3‬رسالة لقاء الله» طُبع مرارا ً وقد ترجمه بعض الفضالء املعارصين مع تقديم له‬
‫وتوضيح وإضافات‪.‬‬
‫‪ - 4‬كتاب يف الفقه‪ ،‬مل يطبع بعد جاء يف خامتته‪ :‬ت ّم الجزء األ ّول من كتاب النكاح ويتلوه‬
‫الجزء الثاين‪ ،‬وأ ّوله الوالية بيد املذنب العايص أسري اآلمال واألما ّين يف يوم السابع‬
‫عرش من شهر املظفّر وقد مضت من الهجرة السنويّة ألف وثالمثئة واثنتا عرشة سنة‬
‫الغري‪ ،‬وكتب عىل غالفه‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يف مشهد‬
‫العلمة ح ّجة اإلسالم‪ ،‬مالذ‬
‫ال يخفى أ ّن هذه الوجيزة من تصنيفات حرضة موالنا ّ‬
‫العلم صاحب النفس الزكيّة‪ ،‬العبد الصالح‬ ‫األعالم‪ ،‬باب الفتاوى واألحكام‪ ،‬آية امللك ّ‬
‫تربيزي‪ ،‬متّع الله املسلمني بطول بقائه‪ ،‬كتبه يف عنفوان شبابه‬ ‫ّ‬ ‫مريزا جواد مليك‬
‫رب العاملني أمري املؤمنني أرواح العاملني فداه يف شهر شعبان(((‪.‬‬ ‫مبشهد و ّيل ّ‬
‫الحج(((‪.‬‬
‫‪ - 5‬رسالة يف ّ‬
‫‪ - 6‬حاشية بالفارسيّة عىل «الغاية القصوى» ترجمة «العروة الوثقى» وهي ترجمة‬
‫املح ّدث الجليل الق ّم ّي للعروة الوثقى إىل الفارسيّة‪ ،‬وقد طُبِعت هذه الرتجمة‬

‫((( رسالة لقاء الله‪ ،‬املق ّدمة‪ ،‬صفحة ج‪.-3‬‬


‫((( آئينه دانشوران‪ ،‬ص‪.350‬‬
‫التربيزي حاشي ًة‬
‫ّ‬ ‫مرارا ً‪ ،‬من ذلك طبعة عام ‪1328‬هـ‪.‬ق‪ .‬يف بغداد‪ ،‬وقد كتب املرحوم‬
‫‪57‬‬
‫بالفارس ّية عىل «الغاية القصوى» ويبدو أنّها مل تُطبع‪ ،‬وقد رأيت نسخ ًة خطِّ ّي ًة منها‬
‫عىل حاشية نسخ ٍة مطبوع ٍة من الغاية القصوى‪ ،‬أورد هنا مناذج منها‪:‬‬
‫يف باب سجود الصالة‪ ،‬جاء يف منت العروة‪« :‬يجوز يف القنوت وغريه من أحوال‬
‫الفاريس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التربيزي يف الحاشية‪« :‬حتّى الشعر‬
‫ّ‬ ‫الصالة الدعاء بالفارس ّية» فكتب املرحوم‬
‫كأن يقول يف سجوده‪:‬‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫فاريس تعري ُبه‪:‬‬


‫ّ‬ ‫وأورد بيت شع ٍر‬
‫رضعي»‬
‫مؤ ّمالً أن أريض الحبيب بت ّ‬ ‫أمتــــــ ّرغ بــــالــــراب مـــتـــذ�لّـــاً‬
‫صل أربع ركعات أو أكرث من‬‫ويف باب مواقيت الصالة‪ ،‬حيث جاء يف املنت‪« :‬من ّ‬
‫صالة الليل ث ّم طلع الفجر يأيت بالباقي مخفّفاً؛ أي بدون سورة»‪ ،‬فكتب عليه الرحمة‪:‬‬
‫«يف هذه الفروع مل أعرث عىل دليلٍ عىل التخفيف‪ ،‬ال س ّيام بقيد بدون سورة»‪.‬‬
‫الخميني يويص يف كتاب «معراج‬
‫ّ‬ ‫ويكفي يف بيان أه ِّم ّية آثاره املكتوبة‪ ،‬أ ّن اإلمام‬
‫السالكني وصالة العارفني» بقراءة كتبه فيقول‪« :‬أيّها العزيز‪ ،‬ال يوسوس لك الشيطان‬
‫الشكل الذي ال محتوى له والقرش الذي‬ ‫ّ‬ ‫وال يقنعك مبا أنت عليه‪ ،‬تح ّرك قليالً وتجاوز‬
‫لب معه‪ ،‬وادرس بدقّة ذمائم أخالقك‪ .‬ولنفرتض أنّك ال تق ُّر بالعظمة ألحد من‬ ‫ال ّ‬
‫العرفاء‪ ،‬فات ّبع علامء املعرفة واألخالق الكبار أولئك املتّفق عليهم عند جمع العلامء‪،‬‬
‫وطالع من كتب العلامء املعارصين كتب الشيخ الجليل القدر العارف بالله املريزا جواد‬
‫والتعسف»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التربيزي { لعلّك إن شاء الله تخرج من هذا اإلنكار‬ ‫ّ‬
‫الوفاة‬
‫التربيزي هذه الشمعة املتو ّهجة ومعني املعارف اإللهيّة الف ّوار‪ ،‬بعد أن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫توف املرحوم‬
‫أمىض عمرا ً يف الجهاد وبناء النفوس‪ ،‬يف الحادي عرش من شهر ذي الح ّجة ‪1343‬هـ‪.‬ق‪.‬‬

‫((( معراج السالكني وصالة العارفني املطبوع يف ذكرى الشهيد املط َّهري الكتاب األ ّول‪ ،‬ص ‪.56‬‬
‫ويقع قربه يف مقربة «شيخان» بالقرب من مقربة املحقّق الق ّم ّي‪ ،‬وهو دامئاً مزار أهل‬
‫‪58‬‬
‫القلوب(((‪.‬‬
‫«لن ميوت أبدا ً من أحيا قلبه بالعشق‪ ،‬وقد ُخ َّط يف صفحة الوجود بقاؤنا»‪.‬‬
‫وقد أ ّرخت وفاته بالعرب ّية‪ُ « :‬ر ِفع العلم وذهب ِ‬
‫الحلم» وبالفارس ّية بهذا املرصع‪:‬‬
‫«از جهان جان رفت واز ملت ﭘـناه»؛ أي ذهب من العامل الروح ومن الشعب امللجأ‪.‬‬
‫يقول أحد تالمذته‪:‬‬
‫التربيزي‪ ،‬وحواىل السحر رأيت يف حال ٍة بني النوم واليقظة أ ّن‬
‫ّ‬ ‫«ليلة وفاة املرحوم‬
‫أبواب السامء فُتحت أمامي وارتفعت الحجب‪ ،‬فأمكنني أن أرى إىل ما تحت العرش‬
‫رضع ويناجي ويبيك‪ ،‬فتع ّجبت ملنزلته وقربه‬ ‫اإللهي‪ ،‬ورأيت املرحوم واقفاً يقنت ويت ّ‬‫ّ‬
‫من الله سبحانه‪ .‬وفجأةً! سمعت طرق باب املنزل‪ ،‬قمت فورا ً وفتحت الباب‪ ،‬فإذا‬
‫بأحد األصدقاء يقول‪« :‬هل ّم بنا إىل منزل األستاذ‪ ،‬قلت‪ :‬ما الخرب؟ قال‪ :‬أع ّزيك‪ ،‬لقد‬
‫انتقل إىل جوار الله»(((‪.‬‬
‫ويعتقد البعض أ ّن وفاته‪ M‬كانت كام تق ّدم اآلن‪ ،‬وقت السحر ليلة الحادي‬
‫عرش من ذي الح ّجة إلّ أ ّن الشيخ آقا بزرگ الطهرا ّين يرى أ ّن وفاته كانت يف اليوم‬
‫العارش؛ أي يوم عيد األضحى‪ ،‬وقد ورد يف مق ّدمة «لقاء الله» ما ّ‬
‫يدل عىل أ ّن وفاته‬
‫كب تكبرية اإلحرام رضوان الله تعاىل عليه‪.‬‬
‫كانت يف صالة الظهر بعد أن ّ‬

‫((( سمعت آية الله الشيخ حسن زاده آميل عرب إذاعة طهران الفارس ّية يقول ما خالصته‪ :‬مل أكن أعرف أين دفن‬
‫املرحوم مليك تربيزي‪ ،‬فسألت أحدهم فقال إنّه مدفون يف مقربة «شيخان» وكانت الساعة حواىل التاسعة ليالً‪،‬‬
‫وكنت قريباً من املقربة فقررت أن أذهب لقراءة الفاتحة عن روحه الطاهرة‪ .‬وملقربة «شيخان» بابان‪ ،‬دخلت‬
‫من أحدهام وبدأت أبحث عن رضيحه الطاهر‪ ،‬فلم أعرث عليه حتّى وصلت إىل الباب الثاين وهممت بالخروج‪،‬‬
‫فإذا بشخص يرتدي عباءة وعىل رأسه «طاق ّية» يقول يل‪ :‬تريد قرب الشيخ التربيزي؟ قلت‪ :‬نعم‪ .‬فأخذين ودلّني‬
‫عىل القرب‪ ،‬ومىض ليخرج‪ .‬قلت يف نفيس‪ :‬من أين عرف ّأن أريد قرب الشيخ؟ فناديته‪ :‬من أين عرفت ّأن أردت‬
‫التربيزي؟ فقال‪ :‬نحن نعرف زبائننا‪ .‬ومىض لشأنه‪( .‬املع ِّرب)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قرب الشيخ‬
‫((( ﮔنجمينئه دانشمندان‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،232‬وقد أورد املؤلّف هنا تحقيقا ً مخترصا ً حول وفاة آية الله التربيزي ‪M‬‬
‫خالصته أ ّن البعض أ ّرخ وفاة املع ِّرب عام ‪ 44‬والصواب ‪.43‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الكربالئي‬ ‫السيد أحمد‬ ‫‪ - 4‬جمال السالكين‬
‫‪59‬‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ يف‬
‫هو من أبرز تالمذة الشيخ حسينقيل الهمدا ّين‪ .‬يقول فيه ّ‬
‫أصفهاين األصل‪ّ ،‬إل أنّه نشأ وترعرع يف كربالء‪ ،‬وبعد‬
‫ّ‬ ‫أ ّول محاكامته(((‪« :‬املرحوم السيّد‬
‫وتدل رسائله لتالمذته وبعض محبّيه‪ ،‬عىل قلم‬ ‫بلوغه س ّن الرشد بدأ بدراسة األدب‪ّ .‬‬
‫فصيح وبيانٍ ساحر‪ .‬وبعد إكامل العلوم األدبيّة‪ ،‬بدأ بدراسة العلوم الدينيّة‪ ،‬ث ّم التحق‬
‫أخريا ً بحوزة املرحوم الشيخ كاظم الخراسا ّين ‪-‬رضوان الله عليه‪ -‬وأكمل دراسة دورة‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫العلوم الظاهريّة تحت إرشافه‪ .‬وأخريا ً انض ّم إىل حلقة الرتبية والتهذيب للمرحوم آية‬
‫الحق وأستاذ الوقت الشيخ الجليل حسينقيل الهمدا ّين { العزيز‪ ،‬والزمه سنني‬ ‫ّ‬
‫واحتل يف العلوم الظاهريّة‬
‫ّ‬ ‫ِطوالً ‪ ،‬وقد فاق األقران وأصبح يف طليعة تالمذته املهذَّبني‬
‫والباطنيّة مكاناً مكيناً ومقاماً أميناً‪ .‬وقد اختار اإلقامة يف النجف األرشف بعد وفاة‬
‫الشيخ الهمدا ّين ورشع بتدريس الفقه‪ ،‬كام كانت له اليد البيضاء يف املعارف اإللهيّة‬
‫األجلء واألحرار دائرة الكامل بيُمن‬‫وتربية الناس وتهذيبهم‪ .‬وقد بلغ عدد ٌكب ٌري من ّ‬
‫تربيته وتهذيبه‪ ،‬فأعرضوا عن بساط الطبيعة وأصبحوا من سكّان دار الخلود ومحارم‬
‫يل القايض الطباطبا ّيئ‬‫حريم القرب‪ ،‬منهم سيّد العلامء الربَّانيِّني املرحوم املريزا ع ّ‬
‫التربيزي (‪1366 - 1285‬هـ‪.‬ق) الذي هو يف املعارف اإللهيّة والفقه والحديث واألخالق‬ ‫ّ‬
‫أستاذ هذا (الاليشء)((( رفع الله درجاته السامية وأفاض علينا من بركاته»‪.‬‬
‫وقد و ّدع املرحوم الس ّيد ‪-‬صاحب الرتجمة‪ -‬الحياة املستعارة سنة ‪1330‬هـ يف النجف‬
‫الطباطبايئ عن‬
‫ّ‬ ‫األرشف والتحقت روحه باملأل األعىل رحمة الله عليه(((‪ ،‬وينقل العلّمة‬
‫أستاذه املرحوم القايض عن الس ّيد الكربال ّيئ قوله‪« :‬ك ّنا دامئاً يف خدمة املرحوم آية ّ‬
‫الحق‬

‫للعالمة الطباطبا ّيئ ‪ M‬كتاب باسم املحاكامت يف املراسالت بني الفيلسوف الشهري الشيخ مح ّمد حسني‬ ‫((( ّ‬
‫األصفها ّين املعروف بالكميا ّين والعارف الكبري الس ّيد أحمد الكربال ّيئ‪ .‬دارت هذه الرسائل حول بيت للشاعر‬
‫العطّار وقد قام أحد الفضالء مؤ ّخرا ً بطبعه مع تعليقات عليه‪.‬‬
‫((( يقصد العلّمة نفسه‪.‬‬
‫((( املحاكامت املطبوعة يف ذكرى الشهيد قدويس‪ ،‬ص ‪.270 - 269‬‬
‫الشيخ حسينقيل الهمدا ّين‪ ،‬وكان الشيخ لنا مئ ًة يف املئة ولكن مبج ّرد أن تعرف الشيخ مح ّمد‬
‫‪60‬‬
‫البهاري عىل الشيخ الهمدا ّين واتّصل به وأصبح يرت ّدد إليه باستمرار فقد «رسقه» م ّنا»‪.‬‬
‫ّ‬
‫كان املرحوم القايض يقول‪« :‬قال املرحوم الس ّيد أحمد الكربال ّيئ‪ :‬التقيت يف سفر‬
‫بدرويش ّني الضمري‪ ،‬فقال يل‪ :‬أنا مأمو ٌر أن أطلعك عىل شيئني‪« :‬األ ّول الكيمياء‪ ،‬الثاين‪:‬‬
‫ّأن غدا ً أموت فج ّهزين وادف ّني»‪.‬‬
‫فقال له الس ّيد‪« :‬أ ّما أنا فال حاجة يل إىل الكيمياء‪ ،‬وأ ّما تجهيزك فأنا مستع ّد»‪ ،‬ويف‬
‫توف ذلك الدرويش‪ ،‬فقام املرحوم الس ّيد بتجهيزه وتكفينه ودفنه(((‪ ،‬ونُقل‬ ‫اليوم التايل ّ‬
‫عن صاحب الرتجمة أيضاً أنّه قال‪ :‬ذات يوم‪ ،‬كنت نامئاً يف مكانٍ ما فأيقظني شخص‬
‫قائالً‪ :‬إذا كنت تريد أن ترى نور األسفهربية فانهض‪ ،‬وعندما فتحت عيني رأيت نورا ً ال‬
‫يتناهى مأل مرشق الدنيا ومغربها‪.‬‬
‫تجل النفس التي تشاهد‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ‪« :‬اللّهم ارزقنا» هذه هي رحلة ّ‬
‫قال ّ‬
‫الشكل وبصورة نو ٍر غري متناه»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بهذا‬

‫من تالمذة الس ّيد أحمد الكربال ّيئ (عليه الرحمة والرضوان)‬
‫البافقي((( (‪1365 - 1292‬هـ)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ - 1‬آية الله الشيخ مح ّمد‬
‫القصار(((‪.‬‬
‫‪ - 2‬املرحوم السيّد مح ّمد كاظم ّ‬
‫‪ - 3‬السيّد محسن األمني صاحب أعيان الشيعة(((‪.‬‬

‫((( مهرتابان‪ ،‬ص‪ 140‬القسم الثاين‪.‬‬


‫لب اللباب‪ ،‬ص‪.36‬‬‫((( ّ‬
‫((( كتاب «مجاهد شهيد شيخ مح ّمد تقي بافقي‪ ،‬ص‪ 57‬واملرحوم البافقي هو الذي طلب من آية الله الحائري‬
‫الطلب‪ .‬وكان عىل عالقة باإلمام املنتظر| كام‬ ‫يتول شؤون شهريّة ّ‬ ‫االنتقال إىل ق ّم إلدارة الحوزة فيها‪ ،‬وكان ّ‬
‫الشاهنشاهي عىل يديه‪ ،‬وللمرحوم البافقي‬
‫ّ‬ ‫خاصة باإلمام القائد‪ ،‬وقد تن ّبأ بسقوط الحكم‬
‫كانت له عناية ّ‬
‫مواقف جهاديّة نادرة ض ّد رضا خان‪ ،‬وتفاصيل ذلك كلِّه يف الكتاب املذكور‪ ،‬وهو فاريس‪ /‬املع ِّرب‪.‬‬
‫((( تاريخ حكامء وعرفاء (‪.)134‬‬
‫((( أعيان الشيعة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.472‬‬
‫يل القايض‪.‬‬
‫‪ - 4‬آية الله الس ّيد ع ّ‬
‫‪61‬‬
‫آبادي (األفغا ّين) من أصدقاء املرحوم‬
‫ّ‬ ‫وقد كان املرحوم الس ّيد جامل الدين األسد‬
‫الس ّيد أحمد الكربال ّيئ وأصدقاء املرحوم الس ّيد مح ّمد سعيد الح ّبو ّيب التلميذ اآلخر‬
‫للمرحوم الهمدا ّين(((‪.‬‬
‫ازي» يف سياق تعداد تالمذة‬
‫يقول الشيخ آقا بزرگ الطهرا ّين يف كتاب «هديّة الر ّ‬
‫ازي‪:‬‬
‫املريزا الشري ّ‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫النجفي سافر بعد ‪1300‬هـ‪.‬ق‪ .‬إىل سام ّراء‪ ،‬ودرس لسنوات‬


‫ّ‬ ‫‪« - 34‬الس ّيد أحمد الكربال ّيئ‬
‫العلمة مريزا حبيب الله‪ ،‬واملريزا‬
‫عىل املريزا‪ ،‬ث ّم رجع إىل النجف‪ ،‬وفيها حرض بحث ّ‬
‫العلمة حسينقيل الهمدا ّين‪ ،‬وقطع‬‫خواص ّ‬
‫ّ‬ ‫حسني الطهرا ّين‪ ،‬وبعد ذلك أصبح من‬
‫الطلب‪ ،‬وكانت‬ ‫مراحل تهذيب النفس كلّها‪ .‬وكان له درس كان يحرضه عد ٌد من ّ‬
‫وفاته يف النجف سنة ‪1332‬هـ‪.‬ق»(((‪.‬‬
‫ويقول يف «نقباء البرش»‪:‬‬
‫كان الس ّيد يختار العزلة يف الصالة ويجتنب اقتداء الناس به‪ ،‬وكان كثري البكاء بحيث‬
‫إنّه حتّى يف الصالة مل يكن يستطيع تج ّنب البكاء‪ ،‬فكان يبيك ال إراديّاً‪ ،‬خصوصاً يف‬
‫نوافل الليل‪ .‬وكان يل رشف مجاورته لع ّدة سنني؛ فقد كان منزيل قريباً من منزله‪ ،‬وقد‬
‫شاهدت منه يف هذه امل ّدة أمورا ً يطول ذكرها‪ .‬كان كثري الخدمة أل ّمه وقد تويف قبلها‪،‬‬
‫املرتضوي مقابل اإليوان‬
‫ّ‬ ‫وقد ش ّيع جنازته جم ٌع من طالّبه ومح ّبيه‪ ،‬ودفن يف الصحن‬
‫الواقع خلف املرقد املن ّور»(((‪.‬‬
‫يقول املرحوم السيّد األمني‪:‬‬
‫«شيخنا وأستاذنا‪ ،‬قرأنا عليه يف الفقه واألصول يف النجف سطحاً‪ ،‬واستفدنا من‬

‫((( الحركات اإلسالم ّية يف القرن األخري‪ ،‬ص‪.38‬‬


‫ازي‪ ،‬ص‪.66‬‬
‫((( مريزاي شرياز‪ ،‬ص‪ ،108‬هديّة الر ّ‬
‫((( نقباء البرش‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.88‬‬
‫علمه وأخالقه‪ .‬كان عاملاً فاضالً وورعاً تق ّياً كامالً مرتاضاً مهذّب النفس‪ ،‬يروي عن‬
‫‪62‬‬
‫النجفي وعن‬
‫ّ‬ ‫الشيخ حسينقيل الهمدا ّين وعن املريزا حسني بن مريزا خليل الطهرا ّين‬
‫ازي‪»(((...‬‬
‫يل بن املريزا خليل الر ّ‬
‫املل ع ّ‬
‫يل بن الحسني الخيقا ّين كلّهم عن ّ‬‫الشيخ ع ّ‬
‫وقد أورد يف آخر «تذكرة املتّقني» رسائل ع ّدة للمرحوم الس ّيد أحمد الكربال ّيئ‪ .‬كام‬
‫أصبحت املكاتبات املتبادلة بينه وبني املرحوم الكميا ّين يف متناول الجميع‪.‬‬
‫يل القايض تلميذ املرحوم الس ّيد أحمد الكربال ّيئ‪:‬‬
‫يقول الس ّيد ع ّ‬
‫«كنت أميض ليل ًة من الليايل يف مسجد السهلة وحيدا ً‪ ،‬عند منتصف الليل‪ ،‬جاء‬
‫شخص إىل مقام إبراهيم واستق ّر فيه‪ ،‬سجد إثر فريضة الصبح حتّى طلوع الشمس‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫عندها ذهبت ورأيت أنّه الس ّيد أحمد الكربال ّيئ البكّاء (قده القدويس) ومن ش ّدة‬
‫البكاء ح ّول تراب محلّه إىل طني‪ ،‬ويف الصباح ذهب وجلس يف الحجرة وكان يضحك‬
‫بحيث كان صوته يصل إىل خارج املسجد»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ّ -5‬‬
‫سيد العلماء الميرزا علي القاضي {‬

‫آية الله املريزا القايض من عجائب الدهر ونوائب األعصار وصاحب الكرامات‬
‫واملكاشفات الكثرية‪ ،‬ومن أبرز تالمذة املرحوم الس ّيد أحمد الكربال ّيئ املتق ّدم ذكره‪.‬‬
‫الحق الس ّيد‬
‫يف البدء تتلمذ املرحوم القايض يف أمور املعرفة عىل أبيه املرحوم آية ّ‬
‫ازي البارزين‪ ،‬وهو من تالمذة املرحوم‬ ‫طلب املريزا الشري ّ‬ ‫حسني القايض‪ ،‬الذي كان من َّ‬
‫القزويني‪ .‬عندما جاء املرحوم‬
‫ّ‬ ‫الحق الس ّيد قريش‬
‫إمام قيل النخجوا ّين‪ ،‬وهو تلميذ آية ّ‬
‫القايض إىل النجف األرشف‪ ،‬أرشف عىل تربيته املرحوم الس ّيد أحمد الكربال ّيئ «وقد طوى‬
‫الطريق مبراقبته» الزم املرحوم القايض لسنني متامدية املرحوم العابد الزاهد الناسك‬
‫الكشمريي ‪-‬رضوان الله عليه‪ -‬طبعاً ال بصفة التلميذ وإمنّا بعنوان املالزمة‬
‫ّ‬ ‫الس ّيد مرتىض‬

‫((( أعيان الشيعة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.472‬‬


‫((( تاريخ حكامء وعرفاء متأخر بصدر املتألّهني‪ ،‬ص‪.135‬‬
‫واالستفادة من حاالته ومشاهدة أحواله ووارداته (ما يرد عليه من املكاشفات وشبهها)‬
‫‪63‬‬
‫ومن نافلة القول أ ّن هناك تبايناً بعيدا ً يف املسلك العرفاين بني هذين العظيمني(((‪.‬‬
‫يل القايض سنة ‪1285‬هـ‪.‬ق‪ .‬وتُ ُو ِّف سنة ‪ ،1366‬كان أستاذ‬
‫ُولد املرحوم الس ّيد ع ّ‬
‫األخالق والسري والسلوك الوحيد يف عرصه يف حوزة النجف‪ ،‬وتربّت عىل يديه شخص ّيات‬
‫اآلميل‬
‫الطباطبايئ‪ ،‬وأخوه‪ ،‬واملرحوم آية الله الشيخ مح ّمد تقي ّ‬
‫ّ‬ ‫عظيمة((( منهم العلّمة‬
‫السبزواري‪ ،‬وسيأيت ذكر عد ٍد من تالمذته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫صاحب تعليقة رشح منظومة‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫كل ما عندنا فهو من املرحوم القايض‪ ،‬سواء ما‬


‫العلمة الطباطبا ّيئ‪« :‬نحن ّ‬
‫يقول ّ‬
‫كل ذلك من‬ ‫الخاص بنا‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫تعلّمناه منه يف حياته واستفدناه من محرضه أو الطريق‬
‫املرحوم القايض»(((‪.‬‬
‫«كل عطر يتض ّوع من نسيم السحر فهو من مرور الريح بح ّيك»‪.‬‬
‫ّ‬
‫خاصة به‪ ،‬طبق املوازين‬ ‫ٍ‬
‫تعليامت ّ‬ ‫لكل من تالمذته‬ ‫كان املرحوم القايض يعطي ّ‬
‫الرشعيّة‪ ،‬مع رعاية اآلداب الباطنيّة لألعامل‪ ،‬وحضور القلب يف الصلوات‪ ،‬واإلخالص يف‬
‫األفعال‪ .‬وهكذا كان يؤ ّهل قلوبهم لتقبُّل اإللهامات الغيبيّة‪.‬‬
‫كانت له حجر ٌة يف مسجد الكوفة‪ ،‬وحجر ٌة يف مسجد السهلة‪ ،‬وكان يقيض الليايل فيها‬
‫وحيدا ً‪ .‬وكان يويص تالمذته بإحياء بعض الليايل بالعبادة يف مسجد الكوفة أو السهلة‪.‬‬
‫وكان قد أوحى أنّه إذا كنتم يف الصالة أو قراءة القرآن أو يف حال الذكر والفكر فرأيتم‬
‫صورة جميلة أو أشياء أخرى من عامل الغيب فال تهت ّموا وتابعوا عملكم‪.‬‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ ‪« :M‬ذات يوم كنت جالساً يف مسجد الكوفة مشتغالً‬ ‫يقول ّ‬
‫بالذكر‪ ،‬فرأيت حوريّ ًة من الج ّنة جاءت عن مييني ويف يدها كأس من رشاب الج ّنة‪،‬‬
‫جاءت به إ ّيل وهي تحاول إثارة اهتاممي بها‪ ،‬ومبج ّرد أن أردت االلتفات إليها تذكّرت‬
‫((( مهرتابان‪ ،‬ص‪.19 ،18‬‬
‫((( يادنامه عالمة طباطبايئ‪ ،‬ص‪.61‬‬
‫((( يادنامه عالمة طباطبايئ‪ ،‬ص‪.62‬‬
‫عيني ومل أهت ّم‪ ،‬قامت تلك الحوريّة وجاءت عن شاميل وق ّدمت‬ ‫كالم األستاذ‪ ،‬فأغمضت َّ‬ ‫‪64‬‬
‫يل تلك الكأس فلم أهت ّم أيضاً ورصفت وجهي‪ ،‬فتألّمت تلك الحوريّة‪ ،‬وأنا إىل اآلن كلّام‬
‫تذكّرت ذلك املشهد أتأث ّر لتألّمها»(((‪.‬‬
‫وقد كان املرحوم القايض من املجتهدين الكبار وقد د ّرس كتباً يف الفقه‪.‬‬
‫«يف العرشة األوىل والعرشة الثانية من شهر رمضان كانت مجالس التعليم واألنس‪،‬‬
‫الطلب يذهبون إىل مجلسه‪ ،‬فيستم ّر املجلس‬ ‫ٍ‬
‫ساعات من أ ّول الليل كان ّ‬ ‫ميض أربع‬
‫بعد ّ‬
‫ساعتني‪ ،‬ولكن يف العرشة الثالثة كان املجلس يعطّل‪ ،‬وبعدها مل يكن املرحوم القايض‬
‫الطلب كانوا يبحثون عنه يف النجف‪ ،‬ومسجد‬ ‫يُرى إىل آخر الشهر‪ /‬وبالرغم من أ ّن ّ‬
‫الكوفة ومسجد السهلة أو كربالء‪ ،‬فإنّهم مل يكونوا يوفّقون للعثور عىل أثر له‪ ،‬وكانت‬
‫كل سنة حتّى وفاته(((‪.‬‬‫هذه سرية املرحوم القايض ّ‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ ‪« :M‬يف األحوال العاديّة كان باإلمكان رؤيته ولقاؤه‬ ‫يقول ّ‬
‫من عرشة إىل عرشين يوماً (من شهر رمضان) وكان األصدقاء يرت ّددون إليه وتدور‬
‫مذاكرات وأحاديث‪ ،‬وفجأةً! ينقطع خربه وأثره‪ ،‬ويبقى مل ّدة أيّام ال وجود له وال ميكن‬
‫العثور عليه‪ ،‬ال يف البيت وال يف املدرسة وال يف املسجد وال يف الكوفة وال يف السهلة‪.‬‬
‫أي خرب عنه‪ ،‬حتّى عائلته مل تكن تعرف أين يذهب وماذا يفعل‪ ،‬ومل‬ ‫أبدا ً مل يكن يوف ّ‬
‫أي مكان احتملوا‬‫يكن أحد يعلم بذلك‪ ،‬وكان الرفقاء ال يبحثون عنه يف هذه األيّام يف ّ‬
‫وجوده فيه‪ ،‬فكأنّه مل يعد موجودا ً‪ .‬بعد ع ّدة أيّام كان يظهر مج ّددا ً‪ ،‬وكانت له مجالس‬
‫خاصة يف املنزل واملدرسة‪ ،‬وكانت له كذلك الكثري من الغرائب والعجائب‪ ،‬كانت له‬ ‫ّ‬
‫حاالتٌ عجيب ٌة وغريبة(((‪ .‬وقد ُروي أ ّن القائم | إذا ظهر يبدأ دعوته من مكَّة‪ ،‬وذلك‬
‫خواصه‬
‫ّ‬ ‫بأن يقوم بني الركن واملقام وظهره إىل الكعبة ويعلن أمره‪ ،‬ويجتمع إليه من‬

‫((( مهرتابان‪ ،‬ص ‪.19‬‬


‫((( املصدر السابق‪ ،‬ص‪.17‬‬
‫نفسه‪.‬‬
‫((( املصدر السابق ُ‬
‫ثالمثئة وثالثة عرش شخصاً‪ .‬كان أستاذنا املرحوم القايض يقول‪ :‬عندها يقول لهم اإلمام‬
‫‪65‬‬
‫شيئاً فيتف ّرقون يف أقطار العامل؛ ألنّهم جميعاً م ّمن تُط َوى لهم األرض‪ ،‬فيبحثون يف جميع‬
‫شخص له الوالية املطلقة اإلله ّية‪ ،‬مأمور بالظهور‬
‫أنحاء العامل‪ ،‬ويتأكّدون أنّه ال يوجد ٌ‬
‫والقيام‪ ،‬محيط بجميع خزائن األرسار اإلله ّية‪ ،‬وصاحب األمر غريه ‪ ،Q‬فريجعون‬
‫إىل مكّة جميعاً وينقادون له»‪.‬‬
‫كان املرحوم القايض ‪-‬رضوان الله عليه‪ -‬يقول‪« :‬أنا أعرف تلك الكلّمة التي يقولها‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫لهم ‪ Q‬فتفّرقوا جميعهم من حوله وأنا «الس ّيد الطباطبا ّيئ» رأيت يف رواية أ ّن‬
‫الصادق ‪ Q‬يقول‪ :‬أنا أعرف تلك الكلمة»‪.‬‬
‫وكان املرحوم القايض‪ M‬يقول‪« :‬ال ّ‬
‫شك يف أ ّن بعض املعارصين أدركوا محرض‬
‫رشفوا بخدمته‪.‬‬
‫اإلمام ‪ Q‬وت ّ‬
‫‪Q‬‬ ‫أحد هؤالء كان منشغالً بالدعاء والذكر‪ ،‬يف مسجد السهلة يف مقامه‬
‫املعروف مبقام صاحب الزمان‪ ،‬وفجأة! يراه ‪ Q‬وسط نو ٍر ٍ‬
‫شديد ج ًّدا‪ .‬يقرتب منه‪،‬‬
‫وقد بهرته جاللة النور وعظمته بحيث كادت تفيض روحه‪ ،‬فقد انقطع نفسه وبدأ‬
‫بالع ّد وتقريباً بقي بينه وبني املوت نفسان أو ثالثة‪ .‬فأقسم عىل اإلمام املنتظر |‬
‫بأسامء الله الجالل ّية أن ال يقرتب منه أكرث‪ .‬وبعد أسبوعني‪ ،‬كان هذا الشخص يف مسجد‬
‫رشف‬ ‫الكوفة مشغوالً بالذكر فيظهر عليه صاحب الزمان | وحصل عىل مراده وت ّ‬
‫بلقائه ‪ .Q‬كان املرحوم القايض يقول‪ :‬هذا الشخص هو املرحوم الشيخ مح ّمد‬
‫يل» (أحد تالمذة القايض وصاحب «مصباح الهدى»)(((‪.‬‬‫تقي اآلم ّ‬
‫يقول أحد تالمذة املرحوم القايض‪:‬‬
‫كان للس ّيد القايض يف الليايل مجلس أخالق ومل يكن ينري مصباحاً‪ .‬ويف تلك الظلمة‬
‫كان يشرتك يف هذا املجلس بعض علامء النجف من الذين كانوا من أهل الباطن‪ ،‬وكان‬

‫((( املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.147-146‬‬


‫الحديث يدور غالباً حول معرفة النفس وتهذيب األخالق‪ ،‬وكان يتح ّدث يف العرفان‪،‬‬
‫‪66‬‬
‫شخص غري معروف كان‬ ‫ٌ‬ ‫ولك ّن غالب الحديث عن معرفة ذات اإلنسان‪ .‬وإذا حرض‬
‫يغي الحديث فيتكلّم حول زيارة س ّيد الشهداء ‪ Q‬وكان يقول (يف توجيه ذلك)‪:‬‬ ‫ّ‬
‫ألي شخص(((‪ .‬وكام تقدم كان الس ّيد‬‫كل يشء ّ‬ ‫قال ّ‬‫القابل ّيات مختلفة وال ميكن أن يُ َ‬
‫القايض تلميذ الس ّيد أحمد الكربال ّيئ يف األخالق والعرفان‪ .‬ويرى البعض أنّه تتلمذ أيضاً‬
‫ّ‬
‫املتوف سنة‬ ‫املل حسينقيل الهمدا ّين‬
‫البهاري‪ ،‬أحد تالمذة ّ‬
‫ّ‬ ‫عىل املرحوم الشيخ مح ّمد‬
‫‪1325‬هـ‪.‬ق(((‪.‬‬
‫يقول الشيخ آقا بزرك‪ ،‬حول الس ّيد املرتجم‪:‬‬
‫التربيزي‪ ،‬القايض‪ ،‬عامل‬
‫ّ‬ ‫يل ابن املريزا حسني (‪ )...‬الطباطبا ّيئ‪،‬‬
‫هو الس ّيد مريزا ع ّ‬
‫أخالقي فاضل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تقي وورع‪،‬‬
‫مجتهد‪ّ ،‬‬
‫ُولد يف تربيز يف ‪ 3‬ذي الح ّجة سنة ‪1385‬هـ‪ ،‬ونشأ يف بيت العلم والرشف‪ ،‬فأخذ‬
‫التربيزي صاحب‬
‫ّ‬ ‫األ ّول ّيات عن بعض األفاضل وتتلمذ عىل والده‪ ،‬وعىل املريزا موىس‬
‫يل قراجة داغي صاحب (حاشية‬ ‫(أوثق الوسائل) حاشية الرسائل‪ ،‬والس ّيد مح ّمد ع ّ‬
‫رشح اللمعة) وهاجر إىل النجف يف سنة ‪1313‬هـ فحرض عىل املوىل مح ّمد الفاضل‬
‫الرشبيا ّين‪ ،‬والشيخ مح ّمد حسن املامقا ّين‪ ،‬وشيخ الرشيعة األصفها ّين‪ ،‬والشيخ مح ّمد‬
‫يل‪ ،‬وكان يع ّد من أفاضل تالمذة األخري‪ ،‬فقد برع‬ ‫كاظم الخراسا ّين‪ ،‬واملريزا حسني الخلي ّ‬
‫يف الفقه واألصول والحديث والتفسري وغريها‪ ،‬وكان من رجال األخالق أيضاً‪ ،‬فقد تهذّب‬
‫يل وغريه‪ ،‬و ُعرِف بذلك يف أوساط أهل العلم‪ ،‬ود َّرس يف ذلك‪ ،‬وكان له حلقة‬ ‫عىل الخلي ّ‬
‫وتالمذة ومالزمون ومريدون‪ ،‬وكانت معرفتي به قدمية؛ إذ اتفقت هجرتنا إىل النجف‬
‫عام واحد وبدأت صلتي به يومذاك‪ ،‬وقد دامت املو ّدة والصحبة بيننا عرشات السنني‬ ‫يف ٍ‬
‫((( تاريخ حكامء وعرفاء متأخر‪ ،...‬ص‪.141‬‬
‫((( أعيان الشيعة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ 402‬ويقول عنه الس ّيد األمني‪.‬‬
‫كان من العلامء الربَّانيني‪ ،‬والسالكني املراقبني‪ ،‬تتلمذ يف النجف عىل املال حسينقيل الهمدا ّين‪ ،‬وكان من أفضل‬
‫تالمذته‪ ،‬وكان ذا صفات ومقامات رفيعة‪ ،‬مشتغالً بالعلم دائم املراقبة‪ ،‬وكان لوجوده آثار رشيفة‪.‬‬
‫فرأيته مستقيامً يف سريته كرمياً يف خلقه‪ ،‬رشيفاً يف ذاته‪ .‬وكان أهل العلم واالستقامة‬
‫‪67‬‬
‫يجلّونه ويكرمونه حتّى انتقل إىل رحمة الله ليلة األربعاء سادس ربيع األ ّول سنة‬
‫املهدي|‪ .‬له تفسري القرآن من أ ّوله إىل‬
‫ّ‬ ‫‪1366‬هـ ودفن يف وادي السالم قرب مقام‬
‫َ ۡ ۡ ََُۡ َ‬ ‫ُ َّ ُ ُ َ ُ‬
‫ون﴾ يف سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪.91‬‬ ‫ٱللۖ ث َّم ذ ۡره ۡم ِف خو ِ‬
‫ض ِهم يلعب‬ ‫قوله‪﴿ :‬ق ِل‬

‫وعلمت أ ّن له آثارا ً وكتابات غريه‪ ،‬ولك ّني مل أقف عليها‪ ،‬ولوالده ّ‬


‫املتوف سنة ‪1314‬هـ‬
‫مهدي القايض ع ّم جد املرتجم له من األعاظم املشاهري‪ ،‬ويأيت ذكر‬
‫ّ‬ ‫تفسري أيضاً‪ .‬واملريزا‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫ج ّده األ ّم ّي (ألمه) املريزا محسن‪ ،‬وبيتهم بيت فضل وتقى قديم»(((‪.‬‬

‫من كراماته‬
‫كان املرحوم القايض يذهب من النجف إىل كربالء يف أيّام الزيارات‪ :‬ومل يره أحد‬
‫شخص من كسبة سوق الساعة‬ ‫ٌ‬ ‫رسه أحد ّإل‬
‫يستقل س ّيارة‪ ،‬ومل يكن قد اطّلع عىل ّ‬
‫ّ‬
‫(السوق الكبري) حيث كان قد سافر إىل مشهد ورآه هناك وطلب منه إصالح أمر جواز‬
‫سفره وفعالً قام الس ّيد بذلك‪ ،‬وعندما رجع ذلك الرجل إىل النجف أذاع فيها بأنّه رأى‬
‫الس ّيد القايض يف مشهد‪.‬‬
‫غضب الس ّيد القايض كثريا ً وقال‪ :‬يعرف الجميع ّأن كنت يف النجف ومل أسافر‪.‬‬
‫القصة بعض الفضالء بتفصيلٍ أكرث‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫وينقل هذه ّ‬
‫«عندما رجع ذلك الرجل الكاسب من مشهد املق ّدسة إىل النجف‪ ،‬قال لرفاقه‬
‫واجهت مشكلَ ًة يف جواز سفري ومل تكن ّ‬
‫تحل يف دائرة الرشطة‪ ،‬فرجعت إىل الس ّيد‬
‫القايض وأعطيته الجواز فقال‪ :‬اذهب غدا ً إىل دائرة الرشطة واستلم جواز سفرك‪.‬‬
‫ويف اليوم التايل‪ ،‬ذهبت فوجدت الجواز جاهزا ً فأخذته ورجعت إىل النجف فقال‬
‫له أصدقاؤه‪ :‬الس ّيد القايض كان يف النجف ومل يغادرها‪ ،‬فجاء ذلك الرجل بنفسه إىل‬
‫كل أهل النجف يعلمون‬‫بالقصة‪ ،‬فأنكر الس ّيد القايض وقال‪ّ :‬‬
‫املرحوم القايض وح ّدثه ّ‬

‫((( نقباء البرش‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.1566 - 1565‬‬


‫ّأن مل أسافر‪ .‬فح َّدث ذلك الرجل فضالء ذلك العرص يف النجف مبا جرى مثل‪ :‬الشيخ‬
‫‪68‬‬
‫يل الخلخا ّيل‪ ،‬فذهبوا إىل‬
‫الربوجردي والس ّيد ع ّ‬
‫ّ‬ ‫يل مح ّمد‬‫يل‪ ،‬والشيخ ع ّ‬
‫تقي اآلم ّ‬
‫مح ّمد ّ‬
‫رصوا عليه وألَ ُّحوا حتّى وافق أن يبدأ لهم درساً يف‬
‫السيّد القايض‪ ،‬فاتحوه باألمر فأنكر‪ ،‬أ ّ‬
‫األخالق‪ .‬آنذاك كان املرحوم القايض مغمورا ً ج ّدا ً ومل يكن أحد يعرف شيئاً عن مكانته‪.‬‬
‫وأخريا ً‪ ،‬وافق وبدأ بدرس يف األخالق لهم‪ ،‬وكان يف الطبقة األوىل من تالمذته األشخاص‬
‫املسقطي‪ ،‬ويف ما بعد كان من الطبقة الثانية‬ ‫ّ‬ ‫املذكورون باإلضافة إىل الس ّيد حسن‬
‫العلمة‬
‫الكشمريي واملريزا إبراهيم السيستا ّين وأخو ّ‬
‫ّ‬ ‫العلمة الطباطبا ّيئ والسيّد أحمد‬
‫ّ‬
‫اإللهي‪ .‬ويف الطبقة الثالثة يف مرحلة تالية‪ ،‬كان الشيخ عباس‬ ‫ّ‬ ‫الس ّيد مح ّمد حسن‬
‫الرشتي املقيم يف ق ّم‪ ،‬وعدد آخر‬
‫ّ‬ ‫فومني‬
‫ّ‬ ‫تقي بهجت‬ ‫القوﭼـا ّين وآية الله الشيخ مح ّمد ّ‬
‫من فضالء النجف األرشف‪ .‬وهناك شواهد أخرى تثبت أ ّن املرحوم القايض كانت ت ُطوى‬
‫له األرض‪ ،‬برصف النظر عنها رعاي ًة لالختصار‪.‬‬
‫للعلمة الطباطبا ّيئ‬
‫مم تق ّدم يتّضح أ ّن سلسلة األساتذة يف العلوم والسرية والسلوك ّ‬
‫ّ‬
‫هم باختصا ٍر كام يأيت‪:‬‬

‫النساج‬
‫املل قيل ّ‬
‫ّ‬

‫الشوشرتي‬
‫ّ‬ ‫يل‬
‫الس ّيد ع ّ‬

‫املل حسينقيل الهمدا ّين‬


‫ّ‬

‫البهاري الهمدا ّين‬


‫ّ‬ ‫الشيخ مح ّمد‬ ‫الس ّيد أحمد الكربال ّيئ‬

‫يل القايض‬
‫السيّد ع ّ‬

‫العلمة الطباطبا ّيئ‬


‫ّ‬
‫األجلء بحفظ هذه العلوم وأن يبذروها‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ ّ‬
‫ويُنتَظَر أن يقوم تالمذة ّ‬
‫‪69‬‬
‫يف قلوب األفراد الكفوئني ليحفظوها من الضياع‪.‬‬
‫النساج وباقي‬
‫املل قيل َّ‬
‫الشوشرتي كان له أساتذة آخرون عدا ّ‬
‫ّ‬ ‫وحول أ ّن املرحوم‬
‫سلسلتهم‪ ،‬عىل فرض وجودهم‪ ،‬أم مل يكن له أستاذ غريه‪ ،‬راجع كتاب «تاريخ حكامء‬
‫وعرفاء متأخر» ‪.152/148‬‬
‫رشعة يف القرون األخرية‪ ،‬راجع‬ ‫وكذلك‪ٍ ،‬‬
‫ملزيد من االطّالع عىل سلسلة العرفاء املت ّ‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫كتاب «منتخبايت از آثار حكامي إلهي ايران»‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ 15‬الهامش‪.‬‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الخميني في العرفان‬ ‫آبادي أستاذ اإلمام‬ ‫‪ - 6‬العارف الكامل آية اهلل الشاه‬
‫آبادي ابن العامل الكبري‬
‫ّ‬ ‫يل الشاه‬
‫العارف الكامل املرحوم آية الله املريزا مح ّمد ع ّ‬
‫الشيخ مح ّمد جواد األصفها ّين‪ُ ،‬ولِد يف أصفهان سنة ‪1292‬هـ‪.‬ق‪ .‬وبدأ الدراسة عند‬
‫الجهارسوقي صاحب «مباين األصول» وأخيه األكرب الشيخ أحمد‬
‫ّ‬ ‫املرحوم املريزا هاشم‬
‫املجتهد‪ ،‬ث ّم انتقل إىل طهران واشرتك يف درس املريزا حسن اآلشتيا ّين صاحب «بحر‬
‫الفوائد» واملريزا هاشم الـﮕـيال ّين‪ ،‬واملريزا أيب الحسن جلوة‪ ،‬وقد تعلّم من هؤالء الثالثة‬
‫العظامء بالرتتيب‪ ،‬الفقه واألصول والفلسفة والعرفان‪ .‬ث ّم هاجر إىل النجف األرشف‬
‫ودرس فيها عىل اآلخوند الخراسا ّين وشيخ الرشيعة األصفها ّين واملريزا حسني خلييل‬
‫وغريهم‪.‬‬
‫ازي املعروف‬
‫تقي الشري ّ‬
‫ث ّم انتقل إىل سام ّراء فاستفاد فيها من علوم املريزا مح ّمد ّ‬
‫باملريزا الصغري‪ ،‬واملريزا الثاين‪ ،‬بعدها عاد إىل إيران وسكن يف محلّة «شاه آباد» يف شارع‬
‫آبادي وبدأ يقيم صالة الجامعة ويد ّرس‬
‫«جمهوري إسالمي» فعالً‪ ،‬ولهذا اشتهر بالشاه ّ‬
‫يف مسجد «رساج امللك» وهو املسجد الذي كان والده يقيم الصالة فيه‪.‬‬
‫الطلب‪،‬‬
‫آبادي عام ‪1347‬هـ‪.‬ق‪ .‬إىل ق ّم واشتغل فيها برتبية ّ‬
‫ّ‬ ‫انتقل املرحوم الشاه‬
‫الخميني { من أنفاسه القدس ّية‪ .‬ويف سنة‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫سنوات استفاد فيها اإلمام‬ ‫وبعد سبع‬
‫‪1354‬هـ‪.‬ق‪ .‬عاد إىل طهران واشتغل فيها كذلك بالقيام مبا يجب‪ ،‬والتأليف والتصنيف‪،‬‬
‫‪70‬‬
‫وتوف يوم الخميس الثالث من صفر ‪1369‬هـ‪.‬‬‫إىل أن بلغ السابعة والسبعني من عمره‪ّ ،‬‬
‫ازي» صاحب التفسري املشهور يف زاوية مرقد عبد‬‫ودفن يف مقربة الشيخ «أبو الفتوح الر ّ‬
‫شهرري‪ .‬وتقع هذه املقربة يف القسم الشام ّيل من صحن‬
‫ّ‬ ‫الحسني { يف‬
‫ّ‬ ‫العظيم‬
‫موالنا الحمزة‪ ،‬وهي مدفن رجال عظامء(((‪.‬‬

‫شخص ّيته العلم ّية والعرفان ّية‬


‫بحق عاملاً عامالً‪ ،‬وعارفاً كامالً‪ ،‬وشخص ّيته مجاهدة‪،‬‬
‫آبادي ّ‬
‫ّ‬ ‫لقد كان املرحوم الشاه‬
‫الخميني { ولقد أشار اإلمام يف بيانه‬
‫ّ‬ ‫مرب قائد الثورة الكبري اإلمام‬
‫ويكفي يف عظمته أنّه ّ‬
‫مبناسبة وفاة ابن أستاذه إىل هذا األمر فقال‪« :‬هذا الشهيد العزيز هو االبن البا ّر لشيخنا‬
‫يل»‪.‬‬
‫حق الحياة‪ ،‬وال ميكنني باليد واللسان أداء حقّه ع ّ‬ ‫يل يف الحقيقة ّ‬ ‫املعظّم الذي له ع ّ‬
‫مم ّ‬
‫يدل‬ ‫واإلمام أيضاً عندما يذكره ّ‬
‫يعب عنه عاد ًة بالعارف الكامل‪ ،‬روحي فداه‪ّ ،‬‬
‫عىل مراتب عالقته به وح ِّبه إيّاه وتقديره له‪ .‬وإليك بعض النامذج من ذلك من كتاب‬
‫«معراج السالكني وصالة العارفني»‪:‬‬
‫آبادي‪ ،‬روحي فداه‪ ،‬كان يقول‪ :‬يجب أن يكون اإلنسان‬ ‫‪ - 1‬الشيخ العارف الكامل الشاه ّ‬
‫الكلم لري ّدده الطفل بعده‪ ،‬هكذا يجب أن يلقّن‬ ‫وقت الذكر كمن يلقّن الطفل َ‬
‫اإلنسان قلبه الذكر‪ .‬وما دام اإلنسان يذكر بلسانه‪ ،‬منشغالً بتعليم قلبه‪ ،‬فإ ّن الظّاهر‬
‫َ ُي ُّد الباطن‪ ،‬وعندما تُ َح ُّل ُعقَد لسان طفل القلب‪ ،‬فإ ّن الباطن َ ُي ّد الظاهر‪ ،‬كام‬
‫أ ّن تلقني الطفل كذلك؛ ما دام اإلنسان يلقّن الطفل فإنّه هو الذي يعلّمه ومي ّده‪،‬‬
‫كل آثار التعب السابق‪.‬‬ ‫ومبج ّرد أن ينطق الطفل يتولّد يف اإلنسان نشاط تزول معه ّ‬
‫إذا ً يف البدء يكون املدد من املعلّم له‪ ،‬ويف النهاية يكون املدد منه إىل املعلّم‪ ،‬فإذا‬
‫واظب اإلنسان مل ّدة يف الصالة واألذكا ِر واألدعية عىل هذا املنوال‪ ،‬اعتادت النفس‬

‫مم ذكر «نقباء البرش»‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.137‬‬


‫((( راجع يف كثري َّ‬
‫وأصب َح ْت األعامل العباديّة عندها كاألعامل العاديّة‪ ،‬ال يحتاج حضور القلب فيها‬
‫‪71‬‬
‫إىل جهد‪ ،‬بل تصبح مثل األمور الطبيع ّية والعاديّة(((‪.‬‬
‫‪ - 2‬يف الحديث أ ّن رسول الله ‪ P‬خ َّط خطًّا مستقيامً وخطوطاً يف أطرافه وقال‪ :‬هذا‬
‫الخ ّط املستقيم هو سبييل‪ ،‬ويقال إنّه قال‪ :‬شيّبتني سورة هود ملكان هذه اآلية‬
‫ٱس َتق ۡم َك َما ٓ أُم ِۡر َ‬
‫ت َو َمن تَ َ‬
‫اب َم َع َك﴾‪.‬‬ ‫َ ۡ‬
‫إشارة إىل قوله‪﴿ :‬ف ِ‬
‫آبادي‪ ،‬روحي فداه‪ ،‬كان يقول‪ :‬كالمه ‪ P‬سببه أنّه طلبت‬ ‫ّ‬ ‫والشيخ العارف الشاه‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫منه استقامة األ ّمة‪ .‬والدليل أ ّن هذه اآلية وردت يف سورة الشورى‪ ،‬ومل يقل عنها‬
‫رسول الله ‪ P‬ما قاله عنها هنا‪ ،‬والسبب أنّها يف سورة الشورى غري مذيّلة بهذا‬
‫اب َم َع َك﴾(((‪.‬‬ ‫﴿و َمن تَ َ‬
‫الذيل َ‬

‫آبادي (روحي فداه) كان يقول‪ :‬جميع العبادات‬ ‫‪ - 3‬الشيخ العارف الكامل جناب الشاه ّ‬
‫الحق جلّت عظمته إىل النشأة امللك ّية للبدن؛ فكام أ ّن للعقل حظًّا من‬ ‫تنقل ثناء ّ‬
‫املعارف والثناء الربو ّيب‪ ،‬وللقلب حظًّا وللصدر حظًّا فلملك البدن أيضاً ح ّظ هو‬
‫عبارة عن هذه املناسك‪ .‬انتهى ما أفاده }(((‪.‬‬
‫آبادي‬
‫ّ‬ ‫ويف مكانٍ آخر يقول‪ :‬طيلة عمري مل أجد روحاً بلطافة روح آية الله الشاه‬
‫العلمة الشهيد مط ّهري يف هذا املجال‪:‬‬ ‫وظرافتها‪ .‬ويقول ّ‬
‫«جمع املعقول واملنقول‪ .‬وصل يف طهران إىل مقام املرجع ّية والفتوى‪ ،‬وأثناء إقامة‬
‫الحائري يف ق ّم‪ ،‬هاجر إىل ق ّم لسنوات واستفاد الفضالء من‬
‫ّ‬ ‫املرحوم الشيخ عبد الكريم‬
‫محرضه كامل االستفادة‪ .‬كان له يف العرفان امتيا ٌز ال ينافَس فيه‪ ،‬وقد استفاد أستاذنا‬
‫الخميني { من محرضه يف تلك امل ّدة‪ ،‬وكان يثني‬ ‫ّ‬ ‫الكبري آية الله العظمى اإلمام‬
‫عليه غاية الثناء‪ ،‬خصوصاً يف العرفان(((‪.‬‬

‫((( معراج السالكني وصالة العارفني املطبوع ضمن «الذكرى السنويّة للشهيد مط ّهري» الكتاب األ ّول‪ ،‬ص‪.49‬‬
‫((( املصدر السابق‪ ،‬ص‪.75‬‬
‫((( املصدر السابق‪ ،‬من الجدير بالذكر أ ّن اإلمام أنهى كتابة هذه الرسالة بتاريخ ‪ 21‬ربيع الثاين‪1358 /‬هـ‪.‬ق أي‬
‫يعب عنه بـ «دام ظلّه»‪.‬‬‫يف حياة أستاذه ولذا ّ‬
‫((( خدمات متقابل إسالم وإيران‪ ،‬ص‪ 165‬بترصف يسري‪.‬‬
‫العلمي والعرفا ّين مجاهدا ً صلباً ال يلني؛ عندما‬
‫ّ‬ ‫وقد كان‪ M‬باإلضافة إىل مقامه‬
‫‪72‬‬
‫وظل يعمل‬‫ق ّرر «رضا خان» تعطيل املساجد واملحافل الدين ّية تص ّدى له ‪ّ M‬‬
‫بوظائفه الرشع ّية والتوعية يف إطار املعارضة لرضا خان؛ بحيث اعتصم مل ّدة أحد عرش‬
‫الحسني { وقد شاركه يف هذا االعتصام املريزا مح ّمد‬ ‫ّ‬ ‫شهرا ً يف حرم عبد العظيم‬
‫ق ّمي وآخرون‪.‬‬
‫آبادي ‪-‬فضالً عن أنّه كان‬
‫ّ‬ ‫يقول سامحة اإلمام بهذا الصدد‪ :‬املرحوم آية الله الشاه‬
‫بكل معنى الكلمة‪.‬‬‫فقيهاً وعارفاً كامالً‪ -‬كان مجاهدا ً ّ‬

‫كيف تع ّرف عليه اإلمام‬


‫املجلت عن ابن اإلمام‪:‬‬
‫جاء يف بعض ّ‬
‫قال اإلمام‪« :‬التقيت به يف املدرسة الفيض ّية‪ ،‬فسألته مسأل ًة عرفان ّي ًة‪ ،‬فبدأ يتح ّدث‪،‬‬
‫علمت أنّه من أهل العرفان‪ ،‬قلت أريد أن أدرس فلم يوافق فألححت عليه حتّى قبل‬
‫أن يد ّرسني الفلسفة؛ ألنّه تص ّور ّأن أطلبها‪ .‬عندما وافق‪ ،‬قلت‪ :‬درست الفلسفة ومل‬
‫آتك ألجلها‪ ،‬أريد أن أدرس العرفان «رشح الفصوص» فامتنع ولكن لفرط إرصاري وافق‪.‬‬
‫يقول ابن اإلمام‪ :‬سألته‪ :‬كم شخصاً كنتم؟ فقال‪ :‬أحياناً عندما ك ّنا نكرث ك ّنا ثالثة‪،‬‬
‫ولكن أكرث األوقات كنت وحدي وقرأت العرفان عنده‪ .‬سألته‪ :‬هل قرأت درساً آخر‬
‫آبادي؟ قال‪ :‬أيّام التعطيل الخميس والجمعة قرأت عنده «مفاتيح‬ ‫ّ‬ ‫عند املرحوم الشاه‬
‫وقت واحد‪ ،‬كنت أقرأ رشح الفصوص ومفاتيح الغيب وقد كتبت حاشية‬ ‫الغيب» يف ٍ‬
‫عىل مفاتيح الغيب‪ ،‬سألته‪ :‬وهل قرأت عليه كتباً أخرى؟ قال‪ :‬كتاب «منازل السائرين»‬
‫شخص أو اثنان ولك ّنهم كانوا ينقطعون‬ ‫ٌ‬ ‫وكنت وحيدا ً‪ ،‬والظاهر أنّه أحياناً كان يأيت‬
‫آبادي‪ :‬املطالب التي تبيّنها ليست يف كتاب‪ ،‬من أين تأيت بها؟‬ ‫ّ‬ ‫بعد فرتة‪ .‬سألت الشاه‬
‫يل‪ ،‬وكان محيطاً ج ًّدا سواء يف الفلسفة‬ ‫فقال‪ّ :‬إن أقولها من عندي‪ .‬إ ّن له حقًّا كبريا ً ع ّ‬
‫أو العرفان‪.‬‬
‫سألته‪ :‬كم سن ًة قرأت عليه يف العرفان؟ قال‪ :‬ال أتذكّر ج ِّي ًدا‪ ،‬ولك ّنها حواىل خمس إىل‬
‫‪73‬‬
‫آبادي يختلف عن رشح‬ ‫ست سنوات‪ ،‬وأضاف‪ :‬رشح الفصوص الذي كان يرشحه الشاه ّ‬ ‫ّ‬
‫آبادي إىل ق ّم مل أكن قد‬
‫القيرصي‪ .‬كان يأيت مبطالب كثرية من عنده‪ ،‬وعندما جاء الشاه ّ‬ ‫ّ‬
‫تز ّوجت بع ُد‪ ،‬وبعد الزواج استم ّر دريس عنده أيضً ا‪.‬‬
‫آبادي كان يف ق ّم من سنة ‪ 1347‬إىل ‪1354‬؛ أي سبع‬ ‫ّ‬ ‫كام تق ّدم‪ ،‬فإ ّن املرحوم الشاه‬
‫أي مصدر ملاذا جاء املرحوم‬‫سنوات‪ ،‬واإلمام استفاد منه خالل هذه امل ّدة‪ .‬ومل يَ ِر ْد يف ّ‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫آبادي إىل ق ّم سنة ‪ 47‬ث ّم انتقل إىل طهران عام ‪ ...54‬وليس بعي ًدا أن تكون‬ ‫ّ‬ ‫الشاه‬
‫لريب هذا الرجل‬
‫اليد الغيب ّية والعناية اإلله ّية هي التي جاءت به من طهران إىل ق ّم ّ‬
‫العظيم الذي من املق ّرر أن يتح ّمل‪ ،‬يف املستقبل‪ ،‬مسؤول ّي ًة عظيم ًة ج ًّدا ويجتثّ جذور‬
‫الطاغوت ويرمي بها يف سلّة مهمالت التاريخ‪.‬‬
‫آبادي‪ ،‬مع عل ّو مقامه‬
‫ّ‬ ‫وإذا الحظنا أ ّن الدرس مل يكن عا ًّما‪ ،‬وكان املرحوم الشاه‬
‫العلمي وعظمته‪ ،‬يد ّرس اإلمام فقط وأحياناً مع شخصني آخرين‪ ،‬يصبح هذا االحتامل‬ ‫ّ‬
‫أقرب إىل اليقني فاعتربوا يا أويل األبصار‪.‬‬

‫مؤلّفاته‬
‫فاريس طبع مرارا ً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪« - 1‬شذرات املعارف أو مرام اإلسالم»‬
‫‪« - 2‬القرآن والعرتة»‪.‬‬
‫السنـﮕـلجي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪« - 3‬اإلميان والرجعة» ر ّد عىل كتاب اإلسالم والرجعة لرشيعت‬
‫‪« - 4‬اإلنسان والفطرة» وهذه الكتب الثالثة بالعرب ّية‪.‬‬
‫‪« - 5‬مفتاح السعادة يف أحكام العبادة» رسالة عمل ّية بالفارس ّية‪ ،‬مطبوع‪.‬‬
‫‪« - 6‬رشحات املعارف» جانب من دروسه العرفان ّية جمعها بعض مريديه يف ‪ 93‬صفحة‬
‫وطبعت يف مشهد عام ‪1390‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫‪ - 7‬حاشية كفاية اآلخوند الخراسا ّين‪.‬‬
‫‪« - 8‬منازل السالكني يف العرفان»‪.‬‬
‫‪« - 9‬رسالة العقل والجهل»‪.‬‬
‫‪74‬‬
‫‪« - 10‬رسالة يف النب ّوة»‪.‬‬
‫وبعض الرسائل األخرى‪.‬‬

‫من قصصه‬
‫الخميني {‬
‫ّ‬ ‫يقول املرحوم آية الله الس ّيد أحمد الزيجا ّين‪ ،‬وهو من مباحثي اإلمام‬
‫ورفقائه يف الدرس‪ ،‬حول تهيئة األسباب من الله تعاىل‪:‬‬
‫املنام اآلخر الذي أصبح سب ًبا يف نجاة شخص من خطر املوت‪ ،‬وهو املنام الذي رآه‬
‫آبادي وهو من معتمدي علامء طهران‪ ،‬قال‪:‬‬
‫يل الشاه ّ‬‫املريزا أحمد ع ّ‬
‫رأيت يف املنام ّأن جالس مع ع ّدة أشخاص يف مكان وكان معي طفل‪ ،‬وكان يوجد‬
‫هناك منحدر‪ ،‬وكنت خائفاً أن يسقط الطفل يف ذلك املنحدر‪ ،‬وفيام كنت مشغوالً‬
‫بالحديث معهم كنت منتبهاً للطفل‪ ،‬وفجأ ًة رأيت الطفل سقط‪ ،‬ومن خويف استيقظت‪.‬‬
‫أخرجت رأيس‪ ،‬فرأيت ذلك الطفل واقفاً عىل حافّة خ ّزان املاء يف املحلّة‪ .‬أردت أن أرصخ‪:‬‬
‫ارجع‪ ،‬فإذا به يف تلك اللحظة يسقط يف املاء‪ ،‬فأرسعت وتناولته‪ ،‬ولو ّأن استيقظت بعد‬
‫لحظة لكان ذلك الطفل ‪-‬بحسب الظاهر‪ -‬قد مات‪.‬‬
‫هذا مخترص يف ترجمة ع ّدة من عظامء العرفان يف العرص األخري‪ ،‬ومن الجدير بالذكر‬
‫واألجلء يف‬
‫ّ‬ ‫وإل فإ ّن العرفاء الكبار‬
‫أ ّن اختيار هؤالء الصالحني كان من باب النموذج‪ّ ،‬‬
‫املرحلة األخرية كثريون‪.‬‬

‫حول دروس األخالق‬


‫مم تق ّدم أ ّن درس األخالق وأستاذ األخالق سابقاً غريه اآلن؛ فقد كان‬
‫يتّضح ّ‬
‫خاصا ويراقبون‬
‫درسا ًّ‬
‫أساتذة األخالق يهت ّمون مبن يجدون فيهم الكفاءة‪ ،‬يد ّرسونهم ً‬
‫سلوكهم وأفعالهم خشي ًة من عدم التزامهم بالتعليامت‪ .‬وكانوا يحرصون عىل‬
‫االطّالع عىل أحوال تالمذتهم باستمرار‪ ،‬ويعطونهم التعليامت يف الوقت املناسب‪،‬‬
‫حتّى يصل التالمذة إىل مرتبة الكامل‪ .‬ومن الواضح طبعاً أ ّن تأثري هذا النوع من‬
‫‪75‬‬
‫الدروس هو أفضل بكثري من الدروس املتداولة اآلن التي تعقد أحياناً ليلة الجمعة‪،‬‬
‫أو يف يوم عطل ٍة أخرى مع كرثة التعطيل فيها واملوانع األخرى‪ ،‬ث ّم إ ّن كون الدروس‬
‫عا ّمة متنع من طرح كثري من املسائل‪ .‬ولكن بالرغم من ذلك كلّه «ما ال يُد َرك كلّه‬
‫ال يُرتك ُجلّه»؛ عندما ال ميكن الحصول عىل ذلك النوع من األساتذة الخصوص ّيني‬
‫يجب السعي دامئاً لالشرتاك يف هذا النوع من جلسات األخالق‪ ،‬وإ يّاك أن تغيب‬
‫يناثلا مسقلا‪ :‬لسلاو ريسلاو قالخألا ذاتسأ ىلإ ةجاحلا‬

‫عنها حتّى م ّرة واحدة؛ إذ إ ّن عدم املشاركة فيها يعود عىل الطالب برضر عظيم‬
‫ج ًّدا‪ .‬ومن حسن الح ّظ أ ّن يف حوزة ق ّم اآلن جلسات أخالق ّية ق ّيمة مفيدة‪ ،‬وينبغي‬
‫الطلب االهتامم بها‪.‬‬
‫عىل ّ‬
‫يتول‬
‫كام أنّه توجد اآلن هنا وهناك بعض الدروس من ذلك النوع الذي كان سابقًا ّ‬
‫فيها أساتذة أكفاء العناية بذوي الكفاءة وإرشادهم إىل طريق الكامل‪.‬‬

‫اطلب من الله‬
‫هنا قد يتبادر إىل أذهان الق ّراء هذا السؤال‪ :‬الشخص الذي ال يعرف أحدا ً وال شيئًا‬
‫ويدخل الحوزة قاد ًما (من) أرض بعيدة أو قريبة‪ ،‬كيف وبأيّة طريقة سيجد األشخاص‬
‫الكاملني ويتع ّرف عليهم ويستفيد منهم؟ وباإلضافة إىل ذلك‪ ،‬فلنفرتض أنّه عرفهم‪ ،‬فهل‬
‫أي كان؟ والجواب نعم‪ ،‬إ ّن األمر كذلك‪ ،‬ولكن يجب عن طريق‬ ‫هم مستع ّدون لرتبية ٍّ‬
‫العلم للوصول‬ ‫رضع والبكاء بني يدي الله امللك ّ‬
‫التوسل باألمئّة األطهار ‪ R‬والت ّ‬ ‫ُّ‬
‫إىل الحلقات الرتبويّة لهؤالء األساتذة الكاملني‪ ،‬واالستفادة منهم‪ ،‬فإذا كان الشخص‬
‫متعطّشاً إىل الهداية واقعاً ومن صميم القلب فإ ّن الله تعاىل يأخذ بيده ويضعه يف يد‬
‫إنسانٍ ح ّر‪.‬‬
‫القصة‬
‫العطشان يرصخ أين املاء الزالل؟ واملاء يقول أين شارب املاء؟((( وتوضّ ح ّ‬ ‫‪76‬‬
‫التالية جواب السؤال املتق ّدم‪:‬‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ ‪ :M‬عندما كنت يف طريقي من تربيز إىل النجف األرشف‬ ‫يقول ّ‬
‫للدراسة‪ ،‬مل أكن أعرف شيئاً عن النجف‪ ،‬ومل أكن أعرف أين أذهب‪ ،‬وماذا أفعل‪ ...‬كنت‬
‫وأي طريقة أختار ويكون فيها‬‫درس أدرس؟ وعىل من أتتلمذ؟ ّ‬‫أي ٍ‬
‫يف الطريق أفكّر دامئاً ّ‬
‫رضا الله تعاىل؟ عندما وصلت إىل النجف األرشف وحني الدخول تو ّجهت إىل ق ّبة أمري‬
‫املؤمنني ‪ Q‬وقلت‪:‬‬
‫وأي‬
‫أي نه ٍج أسلك ّ‬‫رشفت مبحرضك ملواصلة الدراسة‪ ،‬ولك ّني ال أعرف ّ‬ ‫يل‪ ،‬ت ّ‬
‫يا ع ّ‬
‫برنام ٍج أختار‪ ،‬أريد منك أن ترشدين إىل ما فيه صالحي‪ .‬استأجرت منزالً وسكنته‪ ،‬ويف‬
‫أي درس‪ ،‬كنت جالساً يف البيت أفكّر يف مستقبيل‪ ،‬فجأ ًة‬ ‫األيّام األوىل‪ ،‬وقبل أن أبدأ ّ‬
‫طرق الباب‪ ،‬فتحت الباب فرأيت أحد العلامء الكبار سلّم ودخل‪ ،‬جلس يف الغرفة‬
‫ور ّحب يب‪ .‬كانت له طلع ٌة جذّاب ٌة ونوران ّي ٌة ج ًّدا‪ ،‬حادثني بكامل الصفاء والصميم ّية‬
‫واألنس‪ ،‬وخالل أحاديثه قرأ يل أشعارا ً وقال يل ما مضمونه‪ :‬الشخص الذي يأيت إىل‬
‫النجف بهدف الدراسة‪ ،‬من الج ّيد أن يفكّر‪ ،‬باإلضافة إىل الدراسة‪ ،‬بتهذيب نفسه‬
‫وتكميلها وأن ال يغفل عن نفسه‪ .‬قال هذا ومىض‪.‬‬
‫رصفاته‪ ،‬وقد أث ّرت يف قلبي كلامته القصار‬ ‫ويف ذلك املجلس أرستني أخالقه وت ّ‬
‫يل‪ ،‬وطيلة الفرتة التي كنت فيها يف‬ ‫واأل ّخاذة إىل ح ّد ّأن عرفت منها برنامجي املستقب ّ‬
‫األخالقي واستفدت من‬
‫ّ‬ ‫التقي‪ ،‬اشرتكت يف درسه‬ ‫النجف مل أترك محرض ذلك العامل ّ‬
‫يل القايض {(((‪.‬‬ ‫الحاج املريزا ع ّ‬
‫ّ‬ ‫سامحته‪ ،‬ذلك العامل الكبري هو املرحوم آية الله‬

‫((( تعريب بيت شعر فاريس ملولوي‪.‬‬


‫((( يادنامه عالمة طباطبايئ‪ ،‬ص‪.120‬‬
‫القسم الثالث‬

‫اجتناب الذنب‬
‫المهم للتوفيق في الدراسة‬
‫ّ‬ ‫الشرط‬

‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬


‫ٱللۖ َو ُي َعل ُِمك ُم ُ‬ ‫َّ ُ ْ َّ‬
‫﴿وٱتقوا َ‬
‫ٱللۗ﴾‬
‫سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪282‬‬
‫كل الدم والرتاب وال تضع أسنانك عليها‬ ‫ّ‬ ‫اللقمة الــتــي تــأيت مــن طــريــق شبهة‬
‫(((‬
‫وتــخــرج نـــور الــعــرفــان مــن قــلــبــك‬ ‫إنّ ـــــا تــفــتــنــك يف طـــريـــق الــديــن‬
‫يئ ‪M‬‬
‫الشيخ البها ّ‬

‫البهائي عليه الرحمة والرضوان‪.‬‬


‫ّ‬ ‫((( تعريب شعر فاريس للشيخ‬
‫‪79‬‬

‫أحد آثار تصفية الروح ونتائجها اجتناب الذنب‪ ،‬يجب أن نعرف أ ّن ترك املعصية‬
‫من الرشوط امله ّمة للتوفيق يف تحصيل العلوم الرشع ّية؛ فمن يرتكب املح ّرمات يسو ّد‬
‫ثلاثلا مسقلا‪ :‬ةساردلا يف قيفوتلل ّمهملا طرشلا بنذلا بانتجا‬

‫قلبه وال تبقى فيه قابل ّية إرشاق نور العلم‪ ،‬ال معرفة بعض االصطالحات الجافّة‪.‬‬
‫يقول الشهيد الثاين‪:M‬‬
‫يل بن خرشم‪ :‬شكوت إىل وكيع قلّة الحفظ‪ ،‬فقال استعن عىل الحفظ بقلّة‬
‫«وقال ع ّ‬
‫الذنوب‪ ،‬وقد نظم بعضهم ذلك يف بيتني فقال‪:‬‬
‫ــــــيـــــع ســــــــــوء حـــفـــظـــي‬ ‫شــــــــكــــــــوت إىل وكـــــــ‬
‫وفــضــل الــلــه ال يـــؤتـــاه عــايص‬ ‫وقــــال اعــلــم بــــأ ّن الــعــلــم فضل‬
‫لذا يجب الحذر حتّى من الذنب الذي يبدو يف الظاهر صغريا ً‪ ،‬فإنّه قد يج ّر إىل‬
‫الشقاء‪ ،‬ويتس ّبب بالبعد الدائم عن الدراسة والحوزات‪ ،‬وسوء الظ ّن باإلسالم والروحان ّية‪.‬‬
‫األشخاص الذين دخلوا الحوزات العلميّة ث ّم طردوا من هذا املحيط املق ّدس واختاروا‬
‫طريقاً آخر‪ ،‬ليس السبب يف ذلك ّإل أنّهم مل يكونوا يتمتّعون بصالحيّة البقاء يف هذا‬
‫املقدس‪ .‬ويد القدرة اإللهيّة وو ّيل العرص | هيّأت‬
‫ّ‬ ‫الزي‬
‫املكان املق ّدس والتزيِّي بهذا ّ‬
‫زي الروحانيّني وحوزتهم(((‪.‬‬ ‫أسباب خروج مثل هؤالء األفراد من ّ‬
‫شخص عن طريقٍ يناسبه؛‬ ‫كل ٍ‬ ‫يضل ّ‬
‫األمر اآلخر الذي يجب االنتباه له هو‪ :‬أ ّن الشيطان ّ‬
‫فال يقول للمتظاهر بأنّه روحا ّين ‪ -‬نعوذ بالله ‪ -‬ارشب الخمر‪ ،‬ازنِ ‪ ،‬العب القامر‪ ،‬بل يأتيه‬
‫وحب الجاه وعبادة الرئاسة واملقام‪ ،‬والغيبة والتهمة ونرش الشائعات‬ ‫عن طريق الحسد ّ‬
‫واملزاح يف غري موقعه‪ ،‬والرثثرة وأمثال ذلك‪ ،‬ويُق ِّرب ذلك ويزيّنه له حتّى يضلّه‪.‬‬
‫((( هذا صحيح يف الجملة‪ ،‬ال مطلقاً (املع ِّرب)‪.‬‬
‫عن اإلمام الصادق‪:Q‬‬
‫‪80‬‬
‫«وجدت علم الناس كلّه يف أربع‪ :‬أ ّولها أن تعرف ربّك‪ ،‬والثاين أن تعرف ما صنع‬
‫بك‪ ،‬والثالث أن تعرف ما أراد منك‪ ،‬والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك»(((‪.‬‬
‫ومحل الشاهد هو الفقرة األخرية‪ ،‬يجب أن نبقى متن ّبهني ملا يخرجنا من ديننا‬ ‫ّ‬
‫وحب الكامل ّيات واألنان ّية‪،‬‬
‫ويؤ ّدي بنا يف وهدة السقوط‪ .‬يجب أن نحذر من الرتف ّ‬
‫مقتطفات من حديث‬ ‫ٍ‬ ‫وحب الدنيا‪ ،‬والكسل‪ ،‬والبطنة‪ ،‬وأمثال ذلك‪ .‬ولنصغِ هنا إىل‬
‫ّ‬
‫الخميني { يف هذا املجال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫اإلمام‬
‫كل يشء‪ ،‬تغتابون عظامء اإلسالم‪ .‬إذا كان اآلخرون يغتابون‬
‫«ولكن بعضكم تدوسون ّ‬
‫عطّار الزقاق أو البقّال‪ ،‬فهؤالء ينسبون إىل علامء اإلسالم فورا ً مشينة ويهينونهم‬
‫ويتج ّرؤون عليهم»‪« .‬ملاذا تقعون إىل هذا الح ّد يف غيبة إخوتكم املسلمني أو اإلساءة‬
‫إليهم أو استامع غيبتهم وأنتم مرتاحو البال؟ هل تعلمون يا ترى أ ّن هذا اللسان الذي‬
‫ميت ّد بالغيبة يداس يف يوم القيامة تحت أرجل اآلخرين؟ هل تعلمون يا ترى أ ّن الغيبة‬
‫إدام كالب النار؟»‪« .‬العزم عىل ترك الذنب ال يتوفّر لألشخاص الذين ارتكبوا الغيبة‬
‫والكذب طيلة خمسني أو سبعني سنة‪ ،‬لقد ابيضّ ت لحاهم يف املعصية‪ ،‬هؤالء يظلّون‬
‫مبتلني إىل آخر عمرهم»(((‪.‬‬
‫مل حسينقيل الهمدا ّين يف إحدى رسائله‪:‬‬
‫الحق ّ‬
‫يقول آية ّ‬
‫«وما استفدته أنا الضعيف‪ ،‬من العقل والنقل‪ ،‬أ ّن أه ّم األشياء لطالب القرب‪ ،‬هو‬
‫الج ّد والسعي يف ترك املعصية‪ ،‬وما مل تؤ ِّد هذه الخدمة فإ ّن ذكرك‪ ،‬وفكرك مجال قلبك‪،‬‬
‫لن ينفعك شيئًا؛ أل ّن خدمة الشخص للسلطان مع أنّه ٍ‬
‫عاص له ومتم ّر ٌد عليه ال فائدة‬
‫وأي خصوم ٍة أقبح‬‫أي سلطان أعظم من هذا السلطان العظيم الشأن‪ّ ،‬‬ ‫فيها‪ ،‬وال أدري ّ‬
‫من هذه الخصومة‪.‬‬
‫((( الشيخ الكليني‪ ،‬الكايف‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.50‬‬
‫((( جهاد أكرب املرفق بـ «واليت فقيه»‪ ،‬ص ‪.247‬‬
‫مم ذكرت أن طلبك مح ّب ًة إله ّية مع كونك مرتكباً للمعصية أم ٌر فاس ٌد ج ًّدا‬
‫فافهم ّ‬
‫‪81‬‬
‫وكيف يخفى عليك كون املعصية سب ًبا للنفرة؟ وكون النفرة مانعة الجمع مع املح ّبة؟ وإذا‬
‫تحقّق عندك أ ّن ترك املعصية أ ّول الدين وآخره‪ ،‬وظاهره‪ ،‬وباطنه‪ ،‬فبادر إىل املجاهدة‪،‬‬
‫واشتغل بتامم الج ّد يف املراقبة‪ ،‬من أ ّول قيامك من نومك يف جميع أناتك إىل نومك‪،‬‬
‫والزم األدب يف مق َّدس حرضته‪ ،‬واعلم أنّك بجميع أجزاء وجودك‪ ،‬ذ ّر ًة ذ ّرةً‪ ،‬أسري قدرته‪.‬‬
‫ورا ِع حرمة رشيف حضوره وأعبده كأنّك تراه‪ ،‬فإن مل تكن تراه فإنّه يراك‪ ،‬والتفت دامئاً‬
‫ثلاثلا مسقلا‪ :‬ةساردلا يف قيفوتلل ّمهملا طرشلا بنذلا بانتجا‬

‫إىل عظمته وحقارتك‪ ،‬ورفعته ودناءتك‪ ،‬وع ّزته وذلّتك‪ ،‬وغناه وحاجتك‪ ،‬وال تغفل عن‬
‫(جل جالله)‪ ،‬مع التفاته إليك دامئاً‪ ،‬وقم بني يديه مقام العبد الذليل‪،‬‬‫شناعة غفلتك عنه ّ‬
‫الضعيف‪ ،‬وتبصبص تحت قدميه‪ ،‬بصبصة الكلّب الخائف‪ .‬أَ َوال يكفيك رشفاً وفخرا ً أنّه‬
‫أذن لك يف ذكر اسمه العظيم بلسانك القذر الذي ن ّجسته قاذورات املعايص!‬
‫إذًا أيّها العزيز‪ ،‬حيث إ ّن هذا الكريم الرحيم جعل لسانك مخزن جبل النور‪ ،‬يعني‬
‫ذكر اسمه الرشيف‪ ،‬فمن عدم الحياء أن يكون مخزن السلطان بالنجاسة وقاذورات‬
‫الغيبة والكذب والفحش واألذى وغري ذلك من املعايص‪ .‬مخزن السلطان يجب أن يكون‬
‫محلّه مملو ًءا بالعطر وماء الورد ال النجس امليلء بالقاذورات‪.‬‬
‫معاص ترتكب بجوارحك‬ ‫شك أنّك إذا مل تكن دقيقاً يف املراقبة فلن تعرف أيّة ٍ‬ ‫وال ّ‬
‫وأي نريان توقد‪،‬‬
‫أي األذن‪ ،‬واللسان‪ ،‬والعني‪ ،‬واليد‪ ،‬والرجل‪ ،‬والبطن‪ ،‬والفرج‪ّ ،‬‬ ‫السبع؛ ّ‬
‫وأي فساد تلحق بدينك‪ ،‬وأيّة جراحات منكرة توقعها بقلبك بسيف لسانك‪ ،‬وسنانه؟!‬ ‫ّ‬
‫إذا كنت مل تُقتل فذلك ج ّيد ج ّدا ً‪ .‬وإذا أردت رشح هذه املفاسد فالكتاب ال يتّسع لها‪،‬‬
‫ماذا ميكنني (أن أفعل) يف ورق ٍة وأنت الذي مل تط ّهر جوارحك بعد من املعايص؟ كيف‬
‫تنتظر أن أكتب إليك شيئاً يف رشح أحوال القلب؟ إذا ً‪:‬‬
‫ث ّم العجل العجل يف الج ّد واملراقبة»(((‪.‬‬ ‫البدار البدار إىل التوبة الصادقة‬

‫مام ذكرت إىل «قاذورات املعايص»‬


‫((( تذكرة املتّقني‪ ،‬ط‪ ،1‬انتشارات نور فاطمة‪ ،‬ص‪ 178 - 177‬ومن قوله فافهم ّ‬
‫رصف يسري والسطر األخري هو كذلك بلفظ ِه املع ِّرب‪.‬‬
‫هو عبارته عليه الرحمة بت ُّ‬
‫البهاري‪:-M -‬‬
‫ّ‬ ‫ويقول األستاذ الكبري يف علم األخالق املرحوم الشيخ مح ّمد‬
‫‪82‬‬
‫«إ ّن السالك سبيل التقوى‪ ،‬يجب عليه مراعاة أمور‪ ،‬األ ّول‪ :‬ترك املعايص‪ ،‬وهذا هو‬
‫الذي بُني عليه قوام التقوى‪ ،‬وأُ ّسس عليه أساس اآلخرة واألوىل‪ ،‬وما تق ّرب املتق ّربون‬
‫بيشء أعىل وأفضل منه‪.‬‬
‫فعلت حتّى أُمرتُ أن‬
‫َ‬ ‫ومن هنا‪ ،‬فعندما سأل موىس ‪ Q‬الخرض ‪ Q‬ماذا‬
‫بلغت هذه املرتبة ؟ قال‪ :‬برتك املعصية‪.‬‬
‫أتعلّم منك؟ ب َم َ‬
‫قبيح من العبد الذليل الذي‬
‫فعىل اإلنسان أن يعلم هذا‪ ،‬ونتيجته كبرية حقًّا‪ ،‬كم هو ٌ‬
‫اإللهي ‪-‬وذلك مبقتىض‬
‫ّ‬ ‫هو آنًا فآنًا مستغرق يف النعم اإلله ّية وهو يف املحرض املق ّدس‬
‫كل يشء ال باملزايلة((( وأينام كنتم فهو معكم‪-‬كم‬‫كل يشء ال باملقارنة وغري ّ‬ ‫قوله مع ّ‬
‫وبكل‬
‫قبيح من العبد ‪ -‬أنّه بالرغم من هذا يزيل ستار الحياء عن وجهه؟ ويرتكب ّ‬ ‫هو ٌ‬
‫الحق أ ّن مثل هذا الشخص‬
‫جرأة وصالفة مناهي ملك امللوك؟ وما أشنعه وما أجفاه! ّ‬
‫ينبغي أن يحبس يف سجن ج ّبار الساموات واألرضني أبد اآلبدين‪ ،‬إلّ أن يتوب وتشمله‬
‫أذيال الرحمة اإلله ّية الواسعة‪.‬‬
‫قال اإلمام الصادق ‪ Q‬لحفص بن غياث‪:‬‬
‫ذنب واحد»(((‪.‬‬
‫«يا حفص‪ُ ،‬يغفَر للجاهل سبعون ذن ًبا قبل أن يغفر للعامل ٌ‬
‫وباإلضافة إىل جميع ذلك‪ ،‬حيث إ ّن صاحب العرص ‪-‬أرواحنا فداه وحسب قوله‪-‬‬
‫كل معصي ٍة تصدر ع ّنا هي‬
‫هو((( مطّل ٌع عىل أعاملنا ومحي ٌط بجزئيّات أفعالنا؛ فإ ّن ّ‬
‫كسهم مس ّد ٍد إىل قلب من هو واسطة فيض املخلوقات‪ .‬أنظر كيف يتألّم من ذنوب‬ ‫ٍ‬

‫((( يف نهج البالغة‪ ،‬صبحي الصالح‪ ،‬ص ‪ ، 40‬ج ‪ ،1‬هكذا‪ :‬مع كل يشء ال مبقارنة وغري كل يشء ال مبزايلة‪.‬‬
‫((( الشيخ الكليني‪ ،‬الكايف‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ ، 47‬باب لزوم الح ّجة عىل العامل وتشديد األمر عليه الحديث رقم ‪.1‬‬
‫((( «نحن وإن ك ّنا ثاوين مبكاننا النايئ عن مساكني الظاملني حسب الذي أرانا الله تعاىل لنا من الصالح وبشيعتنا‬
‫املؤمنني يف ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقني فإنا يحيط علمنا بأنبائكم وال يُ ْع ُز ُب عنا يش ٌء من أخباركم»‪،‬‬
‫بحار األنوار‪ ،‬ج ‪ ،53‬ص ‪.175‬‬
‫الشيعة ويشكو منها‪ ،‬عىل ما ورد يف توقيعه املبارك إىل الشيخ املفيد‪ ،‬ويعترب أ ّن سبب‬
‫‪83‬‬
‫طول الغيبة هو عدم عمل الشيعة بواجباتهم‪« :‬ولو أ ّن أشياعنا ‪-‬وفّقهم الله لطاعته‪-‬‬
‫عىل اجتامع من القلوب يف الوفاء بالعهد عليهم‪ ،‬ملا تأ ّخر عنهم ال ُي ْمن بلقائنا‪ ،‬ولتع ّجلت‬
‫ميسنا عنهم ّإل ما‬
‫حق املعرفة وصدقها منهم بنا‪ ،‬فام ّ‬ ‫لهم السعادة مبشاهدتنا عىل ّ‬
‫مم نكرهه وال نؤثره منهم»(((‪.‬‬
‫يتّصل بنا ّ‬
‫ّ‬
‫اإلمام الخميني{‬
‫ثلاثلا مسقلا‪ :‬ةساردلا يف قيفوتلل ّمهملا طرشلا بنذلا بانتجا‬

‫يقول أحد املق ّربني من اإلمام‪:‬‬


‫«من األمور التي يتّفق فيها جميع الذين يعرفون اإلمام‪ ،‬أنّه ال يغتاب مطلقاً‪ ،‬منذ‬
‫بأي شكلٍ كان أن يغتاب أحد‪ ،‬وإذا تكلّم وأراد أن يبدأ‬‫شبابه ال يسمح يف مجلسه ّ‬
‫بالغيبة فإنّه يتد ّخل فورا ً ّ‬
‫ويغي املوضوع والحديث»‪.‬‬
‫وكل يش ٍء يقوله يكون قد التزم‬
‫ومن هنا‪ ،‬حيث إ ّن هذا الرجل يط ّبق قبل أن يتكلّم‪ّ ،‬‬
‫به عمل ًّيا‪ ،‬فإ ّن مواعظه تستق ّر يف القلب وتروي أرواح املتعطّشني إىل السعادة‪.‬‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫المحدث القمي ‪M‬‬

‫جاء يف سرية الشيخ ع ّباس الق ّم ّي‪ M‬أنّه مل يكن أح ٌد يجرؤ أن يغتاب أحدا ً يف‬
‫مجلسه‪ ،‬كائناً من كان‪ ،‬وهو أيضاً كان يحرتز من الغيبة والكذب مبا يفوق التص ّور‪ .‬أيّام‬
‫مرضه الذي كانت وفاته فيه‪ ،‬جاء أحد علامء طهران لعيادته‪ ،‬كان الشيخ ع ّباس ذلك‬
‫اليوم متألّامً ج ّدا ً‪ ،‬ويفكّر يف أم ٍر شغل باله‪ .‬سأله ذلك العامل عن سبب تألّمه‪ ،‬فأجابه‪:‬‬
‫الحج أردت ‪-‬طبق سرية املح ّدثني يف اإلجازة ‪ -‬أن أمت ّيز من أحد مح ّديث‬
‫يف سفري إىل ّ‬
‫العا ّمة‪ .‬وعندما فاتحته باألمر‪ ،‬قال يل شيئاً‪ ،‬وملصلح ٍة ما أنكرت ذلك كذباً‪ .‬واآلن أفكّر‬
‫اإللهي(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كيف سأُس ِّوغ هذا الكذب غدا ً يف يوم القيامة يف محرض العدل‬

‫((( بحار األنوار‪ ،‬ج ‪ ،53‬ص ‪.175‬‬


‫((( حاج شيخ عباس قمي مرد وتقوا وفضيلت‪ ،‬ص ‪. 66 - 65‬‬
‫ترك المكروه والمباح‬
‫‪84‬‬
‫كث ٌري من علامئنا كانوا يبقون دهرا ً ال يرتكبون مكروهاً‪ ،‬وال مباحاً‪ ،‬فكيف بالحرام؟‬
‫وإليضاح ذلك نذكر بعض النامذج‪:‬‬
‫قل»(((‪.‬‬‫‪ - 1‬يقول الشهيد األ ّول يف قواعده‪« :‬ومن الخرسان رصف الزمان يف املباح‪ ،‬وإن ّ‬
‫ومن الواضح أ ّن من كان هذا قوله وهو من نعرف‪ ،‬كيف ستكون سريته‪.‬‬
‫يل‪ -‬يف‬‫الشوشرتي ‪-‬وهو من تالمذة املحقّق األردبي ّ‬‫ّ‬ ‫املل عبد الله‬‫‪ - 2‬يقول املرحوم ّ‬
‫بني‪ّ ،‬إن بعدما أمرين مشايخي ‪-‬رحمهم الله‪ -‬بالعمل برأيي‪ ،‬ما‬ ‫موعظته البنه‪« :‬يا ّ‬
‫ارتكبت مباحاً وال مكروهاً إىل اآلن حتّى األكل والرشب والنوم»(((‪.‬‬
‫فعل مباح فضالً‬‫يل‪« :‬ومل يصدر عنه فيها ‪ -‬أربعني سنة ‪ٌ -‬‬ ‫‪ - 3‬وقالوا يف املق ّدس األردبي ّ‬
‫عن الحرام واملكروه»(((‪.‬‬
‫اإلسالمي الكبري‪ ،‬فعل‬
‫ّ‬ ‫‪ - 4‬يقول املح ّدث الق ّم ّي‪« :‬مل يصدر عن املريداماد الفيلسوف‬
‫مباح‪ ،‬طيلة عرشين عاماً»(((‪.‬‬
‫‪ - 5‬يقول أحد املق ّربني من اإلمام‪« :‬ذات يوم قال اإلمام‪ :‬ارفعوا هذه الس ّجادة من هنا؛‬
‫فإ ّن عليها صور حيوانات وتُك َره الصالة يف الغرفة التي فيها صورة»(((‪.‬‬
‫السبزواري يف ترجمة نفسه‪« :‬والحقري كنت‬ ‫ّ‬ ‫املل هادي‬
‫‪ - 6‬يقول الفيلسوف الشهيد ّ‬
‫إىل عرشة كاملة من عمري يف سبزوار‪ ،‬وبعدها أخذين إىل مشهد جناب املستطاب‬
‫السبزواري ‪-‬أعىل‬
‫ّ‬ ‫مل حسني‬ ‫الحاج ّ‬
‫ّ‬ ‫العامل العامل والعابد الناسك والناسك املته ّجد‬
‫لسنوات يقيم يف مشهد مشتغالً بالدراسة‪ .‬كان سامحته‬ ‫ٍ‬ ‫الله مقامه‪ -‬الذي كان‬
‫مراقباً لنفسه يف االنزواء وتقليل الطعام والعفاف واجتناب املح ّرمات واملكروهات‬

‫((( القواعد والفوائد‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.119‬‬


‫للنوري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫((( دار السالم‬
‫األردبييل يف روضات الجنات‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.181‬‬
‫ّ‬ ‫((( منتخب التواريخ‪ ،‬ص‪ 196‬وتجد غري ذلك يف احتياط املق ّدس‬
‫((( الفوائد الرضوية‪ ،‬ص‪.423‬‬
‫((( فازهايئ أز أبعاد روحي إمام‪ ،‬ص‪.20‬‬
‫واملواظبة عىل الفرائض والنوافل‪ .‬والداعي حيث كنت معه يف غرفة واحدة‪ ،‬كنت‬
‫‪85‬‬
‫مساهامً يف ذلك ومشاركاً‪ ،‬وقد بقينا عىل هذا املنوال م ّد ًة طويلة‪ ،‬وأمضيت سنوات‬
‫يف الرياضات وقد كان ذلك املرحوم أستاذنا يف العلوم العرب ّية والفقه ّية واألصول ّية»(((‪.‬‬
‫ٌ‬
‫سؤال لرسول اهلل ‪P‬‬
‫القزويني‪ ،‬وهو أخو الشهيد الثالث ومن العلامء‬
‫ّ‬ ‫املل مح ّمد صالح الربغا ّين‬
‫املرحوم ّ‬
‫الكبار‪ ،‬رأى رسول الله ‪ P‬يف املنام وسأله أسئل ًة ع ّدة‪ ،‬أحدها‪ :‬ما هو السبب يف‬
‫ثلاثلا مسقلا‪ :‬ةساردلا يف قيفوتلل ّمهملا طرشلا بنذلا بانتجا‬

‫ٍ‬
‫ومكاشفات‪ ،‬ويف هذا الزمان ُس ّد باب‬ ‫أ ّن العلامء‪ ،‬يف السابق‪ ،‬كانوا أصحاب كر ٍ‬
‫امات‬
‫قسموا األحكام إىل قسمني‪:‬‬‫املكاشفات؟ فأجابه ‪« :P‬السبب أ ّن العلامء يف املايض ّ‬
‫وكل ما كان مكروهاً أو مباحاً‬
‫واجب وحرام‪ ،‬وكانوا يرتكون الحرام ويأتون بالواجب‪ُّ ،‬‬
‫كانوا يعتربونه من املح ّرمات؛ أي كانوا عمل ًّيا يرتكون املباحات واملكروهات‪ ،‬ويأتون‬
‫قسمتم األحكام‬‫باملستح ّبات ويعتربونها من الواجبات‪ ،‬ولك ّنكم ‪-‬طبقة املتأ ِّخرين ‪ّ -‬‬
‫عمل ًّيا إىل خمسة أقسام‪ ،‬وترتكون املستح ّبات وتفعلون املكروهات واملباحات‪ ،‬ولهذا‬
‫ُس ّدت دونكم أبواب الكرامات واملكاشفات»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الهمداني‬ ‫البهاري‬ ‫مع المرحوم الشيخ محمد‬
‫مل حسينقيل الهمدا ّين‪،‬‬
‫يقول هذا العارف الجليل الذي هو من أبرز تالمذة اآلخوند ّ‬
‫وبتعبري الشيخ آقا بزرگ الطهرا ّين هو أجلّهم وأعظمهم(((‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬من رشوط السالك أن يجتنب املكروهات مهام أمكن‪ ،‬وينشغل باملستح ّبات‪،‬‬
‫كل مكرو ٍه جائز! فكثريا ً ما يكون ترك املكروه‬
‫وال يحقر ّن شيئاً من املكروهات فيقول‪ّ :‬‬
‫مستحب صغري أش ّد أثرا ً يف القرب من املوىل وأكرث مقبول ّي ًة عنده من ّ‬
‫كل ما‬ ‫ّ‬ ‫أو فعل‬
‫عداه‪ .‬ويتّضح هذا من التأ ّمل يف العرف ّيات‪.‬‬

‫((( تاريخ حكامء وعرفاء متأخر‪ ،‬ص‪.109‬‬


‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪.52‬‬
‫((( نقباء البرش‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.677‬‬
‫صحيح أ ّن الشارع املق ّدس‬
‫ٌ‬ ‫الثالث‪ :‬ترك املباحات يف غري مقدار اللزوم والرضورة‪،‬‬ ‫‪86‬‬
‫أباح أمورا ً كثرية‪ ،‬ولكن حيث إنّه يف الباطن ال يرغب لعبده أن ينشغل بغريه وينرصف‬
‫إىل أمور الدنيا‪ ،‬فمن املستحسن للعبد أن يستجيب لرغبة املوىل‪ ،‬فيرتك هذه الزخرات‪،‬‬
‫وتأس ًيا باألمئّة الطاهرين(((‪.‬‬
‫حتّى وإن مل يكن ارتكابها حراماً‪ ،‬اقتدا ًء بالنب ِّيني ِّ‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫وصية المرحوم البيد آبادي ‪M‬‬

‫يف رسال ٍة توجيهيّ ٍة له يقول الحكيم والعارف الكبري املرحوم البيد ّ‬


‫آبادي‪:‬‬
‫هم واحدا ً‪ ،‬وأن يبذل كامل الج ّد والجهد‪،‬‬ ‫«عليه إذًا أن يو ّحد همومه فيجعلها ًّ‬
‫ويحصل ملكة التقوى؛ أي ال يحوم‪ ،‬بقدر املمكن‪ ،‬حول‬ ‫ّ‬ ‫ليضع قدمه يف جا ّدة الرشيعة‪،‬‬
‫وفعل‪ ،‬وحالً ‪ ،‬وخيالً ‪ ،‬واعتقا ًدا؛ لتحصل له الطهارة الصوريّة‬
‫قول‪ً ،‬‬
‫الحرام واملشتبه املباح‪ً ،‬‬
‫واملعنويّة‪ ،‬وهي رشط العبادة‪ ،‬وليرتتّب أثر عىل العبادة وال تكون محض صوريّة»(((‪.‬‬
‫قال بعض العارفني‪:‬‬
‫«إ ّن عا ّمة الناس أب ًدا‪ ،‬دون املتل ّبس بالعلم مبرتبة‪ ،‬فإذا كان ور ًعا تق ًّيا صال ًحا تل ّبست‬
‫العا ّمة باملباحات‪ ،‬وإذا اشتغل باملباح تل ّبست العا ّمة بالشبهات‪ ،‬فإن دخل بالشبهات‬
‫مم هو مشا َهد بال ِعيان فال‬ ‫تعلّق العا ّم ُّي بالحرام؛ فإن تناول الحرام كفر العا ّم ّي‪ ،‬وهذا ّ‬
‫يحتاج إىل النقل من األعيان»(((‪.‬‬
‫الخميني {‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ويقول لقامن العرص اإلمام‬
‫ويغيون‬
‫«املؤمل هنا‪ ،‬أ ّن الناس إذا رأوا منكم عمالً ال يتوقّعونه ينحرفون عن الدين‪ّ ،‬‬
‫يغيون رأيهم بالشخص ويسيئون الظ ّن به»(((‪.‬‬
‫رأيهم بالعلامء ال بالشخص‪ ،‬يا ليت أنّهم ّ‬

‫((( تذكرة املتّقني‪ ،‬ص‪.102 - 101‬‬


‫((( األنوار النعامن ّية‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.341‬‬
‫((( حوزة (مجلّة) العدد ‪ ،10‬ص‪.74‬‬
‫((( جهاد أكرب املرفق بواليت فقيه‪ ،‬ص‪.206‬‬
‫القسم الرابع‬

‫اإلخالص‪ ،‬وطهارة الن ّية‬

‫ني َ ُل ّ‬
‫ٱدل َ‬ ‫َ َ ٓ ُ ُ ٓ ْ َّ َ ۡ ُ ُ ْ َّ َ ُ ۡ‬
‫مل ِص َ‬
‫ِين﴾‬ ‫ِ‬ ‫﴿وما أمِروا إِل ِلعبدوا ٱلل‬
‫(سورة الب ِّينة‪ ،‬اآلية ‪)5‬‬
‫‪89‬‬

‫لطلب العلوم الدين ّية االهتامم بها‪ ،‬هي أن يكونوا بصدد‬‫إحدى املسائل التي ينبغي ّ‬
‫تحصيل اإلخالص وتطهري ن ّيتهم وتصفيتها‪ ،‬وأن ال ينقلوا خطاهم‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬إلّ من‬
‫عبارلا مسقلا‪ :‬ينلا ةراهطو ‪،‬صالخإلا‬

‫أجل الله ‪-‬سبحانه‪ -‬وأن ال يكون هدفهم أب ًدا الوصول إىل األهداف الدنيويّة املل ّوثة‪.‬‬
‫وحب الجاه‪،‬‬
‫يجب أن يُخرج الطالب من رأسه من أ ّول الطريق‪ ،‬التفكري باملركز‪ّ ،‬‬
‫والبحث عن الشهرة والوصول إىل املرجعيّة والقيادة‪ ،‬إمامة الجمعة والجامعة‪ ،‬نيابة‬
‫وإل فإ ّن علمه ليس‬ ‫حب الناس واحرتامهم وأمثال ذلك‪ّ .‬‬‫االجتامعي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫املجلس‪ ،‬املوقع‬
‫فقط لن ينفعه‪ ،‬بل كلّام سار أكرث كلّام ازداد قربًا من جه ّنم‪ ،‬ووفّر أسباب تعاسته ‪ -‬ويف‬
‫أغلب األحيان تعاسة املجتمع والناس‪ .‬األرضار التي لحقت بهذا الدين الحنيف طيلة‬
‫تاريخ اإلسالم بوساطة غري املخلصني‪ ،‬والرضبات التي أرهقت جسده ال تُ َع ّد‪ ،‬وقد رأينا‬
‫مناذج من ذلك‪ ،‬وعليه فال داعي للتفاصيل‪.‬‬
‫إ ّن تحصيل األخالق صعب ج ًّدا وال ميكن الحصول عليه ببساطة؛ إنّه الرشط األساس‬
‫لكل األعامل‪ ،‬ويحتاج إىل جهاد طويل ومستم ّر‪ ،‬كام أنّه يحتاج إىل االستقامة‪ .‬جاء يف‬ ‫ّ‬
‫رس من أرساري استودعته قلب من أحببت‬ ‫الحديث أ ّن الله تعاىل قال‪« :‬اإلخالص ٌّ‬
‫من عبادي»(((‪ .‬ومن حصل عىل هذه الرتبة و ُوفّق لتصفية ن ّيته فقد م ّن الله عليه بأكرب‬
‫وجل‪ -‬عىل عب ٍد‬
‫نعمة‪ .‬يف الحديث عن اإلمام الصادق ‪« :Q‬ما أنعم الله ‪-‬ع َّز َّ‬
‫وجل‪ -‬غريه»(((‪.‬‬
‫أجل من أن ال يكون يف قلبه مع الله ‪-‬ع َّز َّ‬ ‫ّ‬

‫((( منية املريد‪ ،‬ص‪.43‬‬


‫((( بحار األنوار‪ ،‬ج‪ ،70‬ص‪.249‬‬
‫مبتسم‬
‫ً‬ ‫‪ - 1‬يقال إ ّن املرحوم الس ّيد بحر العلوم ‪-‬رضوان الله عليه‪ -‬رآه تالمذته يوماً‬
‫‪90‬‬
‫خمس وعرشين سن ًة من املجاهدة‪ ،‬تأ ّملت‬ ‫ضاحكًا‪ ،‬فسألوه عن السبب‪ ،‬فقال‪ :‬بعد ٍ‬
‫يف نفيس اآلن فوجدت أ ّن أعاميل مل تعد عن رياء‪ ،‬فقد استطعت أن أتخلّص من‬
‫ذلك(((‪.‬‬
‫التربيزي‪« :‬نُقل عن أحد‬
‫ّ‬ ‫يك‬
‫‪ - 2‬يقول العارف الواصل الكامل املرحوم الشيخ جواد املل ّ‬
‫الصف األ ّول‪ ،‬يف صالة الجمعة‪ .‬وبعد‬ ‫يصل يف ّ‬ ‫العلامء أنّه كان مل ّدة ثالثني سنة‪ّ ،‬‬
‫الصف الثاين‪،‬‬
‫الصف األ ّول‪ ،‬فوقف يف ّ‬ ‫ثالثني سنة‪ ،‬مل يستطع ذات يوم أن يصل إىل ّ‬
‫الصف الثاين‪ ،‬فتن ّبه أ ّن صالته خالل‬
‫يحس بالخجل حيث إ ّن الناس يرونه يف ّ‬ ‫وإذا به ّ‬
‫الصف األ ّول‪ ،‬كانت مشوب ًة بالرياء‪ ،‬فقىض صالة‬ ‫هذه امل ّدة الطويلة‪ ،‬أمام الناس‪ ،‬ويف ّ‬
‫هذه امل ّدة كلّها»‪.‬‬
‫التربيزي‪« :M‬وانظر يا أخي إىل هذا العامل املجاهد‪ ،‬وتأ ّمل يف رتبته من‬‫ّ‬ ‫ويضيف‬
‫والصف األ ّول يف هذه امل ّدة الطويلة؟ ومل يتص ّد‬
‫ّ‬ ‫املجاهدة‪ ،‬كيف مل تفته صالة الجامعة‬
‫لإلمامة؟ وانظر لقضائه صلوات ثالثني سنة بهذه الشبهة‪ ،‬وتفطّن من ذلك إىل عظمة‬
‫األمر وش ّدة اهتامم السلف يف اإلخالص واملجاهدة»(((‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬إ ّن امله ّم كيف ّية العبادة‪ ،‬ال الكم ّية والكرثة والقّلة؛ ففي القرآن الكريم‪:‬‬
‫ٗ‬ ‫ۡ ُ ُ ۡ َ ُّ ُ َ‬
‫ك ۡم أ ۡح َس ُن َع َمل ۚ﴾ وليس ليبلوكم أيّكم أكرث ً‬
‫عمل‪.‬‬ ‫﴿لَبل َوكم أي‬
‫ِ‬

‫الربوجردي ‪:M‬‬
‫ّ‬ ‫‪ - 3‬ينقل البعض م ّمن كانوا قريبني من املرحوم آية الله العظمى‬
‫«رأيناه قبل الوفاة متأل ًِّم ج ًّدا وكان يقول‪ :‬الخالصة انتهى عمرنا‪ ،‬وها نحن ذاهبون‬
‫عمل! فقال أحدهم ‪ -‬عىل عادة‬ ‫ومل نستطع أن نق ّدم ألنفسنا شيئًا أو أن نعمل ً‬
‫املتملّقني من أصحاب الجاه ظ ًّنا منه أ ّن املقام مقام متلّق‪ :-‬موالنا‪ ،‬أنت ملاذا تقول‬
‫كل آثار الخري هذه‬‫ذلك؟ نحن املساكني يجب أن نقوله أ ّما أنت فال‪ .‬بحمد الله ّ‬

‫((( لب اللباب‪ ،‬ص‪.55‬‬


‫رصف‪.‬‬
‫((( املراقبات‪ ،‬ص‪ 141‬بت ُّ‬
‫كل هذه املؤلّفات‪ ،‬املسجد الذي بنيته‬ ‫الطلب الذين ربّيتهم‪ّ ،‬‬
‫كل هؤالء ّ‬ ‫التي تركتها‪ّ ،‬‬
‫‪91‬‬
‫بهذه العظمة‪ ،‬بنيت مدارس يف املكان الفال ّين واملكان الفال ّين‪...‬عندما قال ذلك‪ ،‬قال‬
‫الس ّيد‪« :‬أخلص العمل فإ ّن الناقد بصري بصري» أتظ ّن أ ّن هذه األعامل حيث إنّها‬
‫َ ُ َ‬ ‫﴿وأَ َّن َّ َ‬
‫ٱلل ب ِ َما ت ۡع َملون‬ ‫عند الناس كذلك يجب أن تكون يف محرض الله تعاىل كذلك؟ َ‬

‫َخبِري‪.(((»﴾ٞ‬‬
‫بنا ًء عليه‪ ،‬يجب أن يبقى اإلنسان حذ ًرا إىل آخر عمره حتّى ال يستدرجه الشيطان‬
‫عبارلا مسقلا‪ :‬ينلا ةراهطو ‪،‬صالخإلا‬

‫إىل دائرته‪ ،‬ويخطف من كفّه جوهرة اإلخالص‪ ،‬ويجب أن نعلم أ ّن الشيطان ال يرتك‬
‫اإلنسان وشأنه حتّى النفَس األخري‪ّ ،‬إل املخلصني ‪-‬كام يُستفاد من القرآن الكريم ‪-‬‬
‫فإنّهم ال يقعون يف رشاكه‪.‬‬
‫الحاج إمام قيل ننجوا ّين الذي كان أستاذ املرحوم الس ّيد حسني القايض ‪-‬والد‬ ‫ّ‬ ‫‪-4‬‬
‫كل مراحل الكامل يف األخالق ّيات والعلوم‬ ‫يل القايض‪ -‬وطوى ّ‬ ‫املرحوم الس ّيد ع ّ‬
‫القزويني؛ يقول‪« :‬بعد أن بلغت س ّن‬ ‫ّ‬ ‫اإلله ّية عىل املرحوم الس ّيد قريش‬
‫الشيخوخة‪ ،‬رأيت الشيطان وك ّنا واقفني معاً عىل جبل‪ ،‬فوضعت يدي عىل لحيتي‪،‬‬
‫وقلت له‪ :‬لقد بلغت س ّن الشيخوخة فإذا كان باإلمكان أن تدعني‪ ،‬قال الشيطان‪:‬‬
‫أنظر إىل هذا الجانب‪ ،‬وعندما نظرت‪ ،‬رأيت واديًا عميقًا ج ًّدا‪ ،‬ومن ش ّدة الخوف‬
‫منه يفقد اإلنسان صوابه ويطري ل ّبه‪ .‬قال الشيطان‪ :‬ليس يف قلبي رحمة ومروءة‬
‫وعطف أب ًدا‪ ،‬وإذا قُ ِّدر ووقعت يف قبضتي فسيكون مكانك قعر هذا الوادي الذي‬
‫تراه»(((‪.‬‬
‫يف بدء الدراسة ميكن أن يعترب البعض أنفسهم من ّزهني من التل ّوث باألهداف‬
‫أي دافع أو هدف غري الله‪ ،‬ولكن يجب االنتباه‬ ‫الفاسدة‪ ،‬ويتص ّورون أنّهم ليس لهم ّ‬
‫إىل أنّه ال ميكن االطمئنان بهذه الرسعة‪ ،‬ومن الواجب البحث ‪ -‬يف ضوء مصباح‬

‫((( تعليم وتربيت در اسالم‪ ،‬ص‪ ،234‬وتجد الحديث املذكور يف رسالة باسم ﭼـهل حديث قديس ‪ ،38‬ط‬
‫كتابفرويش علمية اسالمية‪1368 ،‬هـ‪.‬ق‪.‬‬
‫((( لب اللباب‪ ،‬ص‪.55‬‬
‫العقل والقرآن واألحاديث‪ -‬يف زوايا القلب ومحاكمة النفس وتطهريها من األهداف‬
‫‪92‬‬
‫الفاسدة‪.‬‬
‫كل يشء يظ ّن أنّه ليس له هدف ّإل رضا الله تعاىل‪،‬‬ ‫عندما يكون اإلنسان عاجزا ً عن ّ‬
‫ولكن هذا ليس كاف ًيا‪ ،‬بل يجب أن يصبح الشخص بحيث إنّه إذا أقبلت عليه الرئاسة‬
‫والشهرة واملنصب واملوقع يو ًما ما فال يخرس نفسه وينبهر بها‪ ،‬وأن يستعمل هذه‬
‫األمور االعتباريّة كوسيل ٍة للوصول إىل األهداف اإللهيّة‪ّ .‬إل أ ّن االطمئنان إىل هذا ال‬
‫ميكن أن يحصل بهذه البساطة كام تق ّدم‪ .‬يقول مولوي‪:‬‬
‫«يف نفسك أفعى يف غاية الضخامة‪ ،‬من قال إنّها ماتت‪ ،‬فإنّها يف ذبول من غ ّم العجز‬
‫(عن الوسيلة) ولو أنّها وجدت الوسيلة فإ ّن فرعونها الذي اختارت االنزواء بأمره يقيم‬
‫مؤسسة فرعون ّية تقطع طريق مئة موىس ومئة هارون»‪.‬‬ ‫عندها ّ‬
‫ميكن القول بجرأة إ ّن سبب أكرث ابتالءات املجتمع ومشاكله هو عدم اإلخالص‪،‬‬
‫وفقدان التفكري بأن يكون الشخص إله ًّيا‪ .‬واالختالفات املوجودة يف بعض األماكن بني‬
‫األقل فإ ّن أحد الطرفني ‪-‬‬
‫املسؤولني الروحانيّني وغريهم‪ ،‬سببها هو هذا األمر‪ ،‬وعىل ّ‬
‫مخلصا‪.‬‬
‫ً‬ ‫وأحيانًا كالهام ‪ -‬ليس‬
‫يقول اإلمام الصادق‪:Q‬‬
‫محب ليش ٍء يحوط‬
‫كل ّ‬‫«إذا رأيتم العامل مح ًّبا للدنيا فاتّهموه عىل دينكم؛ فإنّ ّ‬
‫أحب»(((‪.‬‬
‫ما ّ‬
‫أهل ملواقعهم ومراكزهم تن ّحوا جانبًا‪ ،‬وسلّموها ألهلها‪ ،‬ملا‬
‫لو أ ّن أولئك الذين ليسوا ً‬
‫بكل هذه التعاسة‪:‬‬
‫ك ّنا اليوم ابتُلينا ّ‬
‫ورجـــــــــاالً لــقــصــعــة وثـــريـــد‬ ‫خــلــق الـــلـــه لــلــحــروب رجــــاالً‬

‫((( منية املريد‪ ،‬ص‪ ،46‬ومعامل الدين‪ ،‬ص‪ 12‬املقدمة‪.‬‬


‫التح ّية والسالم لروح املرحوم آية الله العظمى امليال ّين الطاهرة الذي كان قد ر ّوض‬
‫‪93‬‬
‫الخميني مبناسبة‬
‫ّ‬ ‫نفسه‪ ،‬وأعرض عنه املنصب واملوقع‪ ،‬وكتب يف رسال ٍة له إىل اإلمام‬
‫يدل عىل حبّه الكبري لهذا الوجود املق ّدس وتضامنه معه‪ ،‬جاء يف‬ ‫إبعاده إىل تركيا ما ّ‬
‫الرسالة‪:‬‬
‫«هنيئًا لتلك األرض السعيدة بترشيف سامحتك فيها‪ ،‬قلوب جميع املؤمنني تتطلّع‬
‫والكل يدعون لك بالنرص والتأييد؛‬‫إليك‪ ،‬فإنّه تعاىل جعل أفئد ًة من الناس تهوي إليك‪ّ ،‬‬
‫عبارلا مسقلا‪ :‬ينلا ةراهطو ‪،‬صالخإلا‬

‫الحق والحقيقة‪ ،‬إ ّن‬


‫لكل املحافل الروحان ّية والدين ّية‪ ،‬وقولك كالم ّ‬
‫فأنت اللسان الناطق ّ‬
‫طريقك ‪ -‬وأنت وارث األنبياء ‪ -R‬هو الطريق الذي عيّنه الله لألنبياء أويل العزم‬
‫وأمئّة الهدى عليهم الصالة والسالم»(((‪.‬‬
‫ومن املناسب هنا اإلشــارة إىل أ ّن املرحوم آية الله امليال ّين كان يهت ّم اهتام ًما‬
‫خاصا باملدرسة الحقّان ّية((( يف ق ّم ‪ -‬والشهيد بهشتي والشهيد ق ّدويس كانا مسؤويل‬ ‫ًّ‬
‫تلك املدرسة‪ -‬وكان مستع ًّدا أن يؤ ّمن ميزان ّيتها دون أن يتد ّخل يف برامجها؛ ليتمكّن‬
‫املسؤولون من التخطيط لها كام يشاؤون‪ .‬وهذه من خصوص ّياته؛ أي أنّه كان مستع ًّدا‬
‫عمل مبساعدته دون أن يُذكَر اسمه أب ًدا‪.‬‬
‫أن يت ّم ٌ‬
‫النجفي القوﭼـا ّين {‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يقول العامل املستنري املرحوم آية الله الس ّيد حسن‬
‫«الطالب يجب أن يدرس لله‪ ،‬يعني أن يدرس من أجل إنقاذ الج ّهال وهدايتهم‬
‫يحب مثل هذا‬ ‫وإرشادهم‪ ،‬أن يح ّرر عباد الله من ورطة الجهالة والضاللة‪ ،‬إ ّن الله ّ‬
‫الطالب‪ .‬إذا درس بن ّية أموال الدنيا والرئاسة الدنيويّة وغلبة األمثال واألقران‪ ،‬فإنّه‬
‫لن يح ّمل نفسه جهد فهم يشء وال يكون بصدد ذلك‪ ،‬بل يقنع بأربع كلامت ب ّراقة‬
‫ميكنه أن يقنع بها الج ّهال؛ ولذا فإ ّن املتظاهرين بالقداسة‪ ،‬الذين يسلكون طريق‬
‫التدليس ليسوا علامء وال ميتلكون املعارف اليقين ّية‪ ،‬والحال أ ّن أ ّول الدين معرفة‬

‫((( برريس وتحلييل أز نهضت امام خميني‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.749‬‬


‫((( املدرسة الحقانية مدرسة كانت قبل الثورة اإلسالمية مركزا ً للطالب املجاهدين يف خط اإلمام القائد {‪.‬‬
‫ُُۡ‬ ‫َ ۡ َ َّ‬ ‫ََ َ َۡ ُ ۡ‬
‫ٱلنس إِل ِلَعبد ِ‬
‫ون﴾((( أي‬ ‫و ِ‬ ‫ٱل َّن‬
‫﴿وما خلقت ِ‬ ‫الله‪ ،‬ووسط الدين معرفة الله‪،‬‬ ‫‪94‬‬
‫ليعرفون»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الخميني‬ ‫مقتطفات من كالم اإلمام‬
‫حب الدنيا عىل قلبه‪ ،‬يتأذّى‬ ‫وحب الهوى‪ ،‬واستوىل ّ‬ ‫«إذا ابتُيل اإلنسان مبرض الدنيا ّ‬
‫من غري أهل الدنيا وما فيها‪ ،‬العياذ بالله يضمر العداء لله وعباد الله واألنبياء واألولياء‬
‫اإلله ِّيني ومالئكة الله‪ ،‬ويشعر تجاههم بالحقد والبغض‪ .‬وعندها عندما تأيت املالئكة‬
‫بأمر الله لقبض روحه ينفر منهم بش ّدة؛ ألنّه يرى أ ّن الله ومالئكة الله يريدون أن‬
‫يفصلوه عن محبوبه ‪ -‬الدنيا واألمور الدنيويّة ‪ -‬ومن املمكن أن يغادر الدنيا وهو معا ٍد‬
‫وحب النفس يتغلّب عليكم وال يدعكم تدركون‬ ‫حب الدنيا ّ‬ ‫للحق تعاىل‪ ،‬وإذا كان ّ‬
‫ّ‬
‫بالحق‬
‫ّ‬ ‫الحقائق والواقع ّيات أو تخلصون أعاملكم لله ويحول بينكم وبني التوايص‬
‫والصرب وتش ّذ طريق هدايتكم‪ ،‬فأنتم واقعون يف الخرسان‪ ،‬إنّكم حينذاك م ّمن خرس‬
‫الدنيا واآلخرة؛ ألنّكم خرستم شبابكم وبقيتم محرومني من نعم الج ّنة واملزايا األخرويّة‪،‬‬
‫ومع ذلك فليس لكم من الدنيا يشء‪ ،‬اآلخرون إذا مل يكن لهم طريق إىل الج ّنة فلهم‬
‫األقل يتمتّعون باملزايا الدنيويّة‪ ،‬ولكن أنتم!!!‬
‫دنيا ما عىل ّ‬
‫حب الدنيا ‪ -‬ال سمح الله ‪ -‬يف قلوبكم بالتدريج‪ ،‬ويصل األمر إىل‬
‫احذروا أن يزداد ّ‬
‫أن يستطيع الشيطان أن يسلب إميانكم‪ .‬إذا كان فيكم علقة ارتباط بالدنيا فاجهدوا أن‬
‫تستحق املح ّبة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بكل زخارفها وإغراءاتها الظاهريّة أحقر من أن‬
‫تقطعوها‪ .‬هذه الدنيا ّ‬
‫فكيف عندما يكون اإلنسان محروماً من مظاهر الحياة هذه؟ وماذا لكم من الدنيا‬
‫حتّى تتعلّق قلوبكم بها؟ أنتم واملسجد واملحراب واملدرسة أو زاوية البيت ليس لكم‬
‫غري ذلك‪ ،‬فهل من الصحيح أن تتنافسوا مع بعضكم عىل املسجد واملحراب وتوجدوا‬
‫االختالف وتفسدوا املجتمع؟‬

‫((( سورة الذاريات‪ ،‬اآلية ‪.56‬‬


‫((( سياحة يف الغرب مق ّدمة‪ ،‬ص‪ ،31 - 30‬وانظر سياحة يف الرشق‪ ،‬ص‪.512-510‬‬
‫حب النفس والجاه‪،‬‬‫أنتم إذا خلَّصتم ن ّياتكم وأصلحتم أعاملكم وأخرجتم من قلوبكم ّ‬
‫‪95‬‬
‫فإ ّن املقامات العالية والدرجات الرفيعة تنتظركم‪ .‬إ ّن املقام املع ّد لع ّباد الله الصالحني ال‬
‫يعادل يف مقابله جميع الدنيا وما فيها ‪ -‬رغم مظاهرها املصطنعة ‪ -‬رشوى نقري‪.‬‬
‫اجهدوا أن تصلوا إىل مثل هذه املراتب العالية‪ ،‬وإذا استطعتم أن ترفعوا من‬
‫مستوياتكم بحيث تصبحون ال تهت ّمون بهذه املقامات وال تعبدون الله للوصول إىل هذه‬
‫األمور‪ ،‬بل ادعوه واسجدوا له‪ ،‬وم ّرغوا رؤوسكم بالرتاب؛ ألنّه أهل للعبادة والكربياء‪.‬‬
‫عبارلا مسقلا‪ :‬ينلا ةراهطو ‪،‬صالخإلا‬

‫عندها تتم ّزق «حجب النور» وتصلون إىل «معدن العظمة»(((‪ .‬فهل تستطيعون‪ ،‬يا‬
‫ترى‪ ،‬بهذه األعامل واألفعال التي تقومون بها بهذا الطريق الذي تسلكون‪ ،‬أن تصلوا‬
‫مقام كهذا؟»(((‪.‬‬
‫إىل ٍ‬
‫ّ‬
‫المرجعية‬ ‫اجتناب‬
‫قوم من املسلمني وهو يرى من هو‬
‫النبي األكرم‪« :P‬من تقدّ م عىل ٍ‬
‫يقول ّ‬
‫أفضل منه فقد خان الله ورسوله واملسلمني»(((‪.‬‬
‫ويقول اإلمام الصادق ‪« :Q‬من دعا الناس إىل نفسه وفيهم من هو أعلم‬
‫منه فهو مبتدع ّ‬
‫ضال»‪.‬‬
‫الدعوة إىل «النفس» لها مصاديق كثرية‪ ،‬وألسباب يرصف النظر عنها هذا فلندعها‪،‬‬
‫كل هذا الظلم مصدره الراعي»‪« .‬متى‬ ‫ِ‬
‫ولنمض‪« :‬عتابنا ليس عتابًا للذئب؛ إذ إ ّن ّ‬
‫تستقيم السطور والحال أ ّن االعوجاج يف املسطرة(((‪ ،‬علامؤنا السابقون الذين تحلّوا‬

‫((( إشارة إىل ما يف املناجاة الشعبان ّية‪ :‬حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور وتصل إىل معدن العظمة الخ‬
‫مفاتيح الجنان‪ ،‬ص‪.155‬‬
‫((( «جهاد أكرب» امللحق بـ«واليت فقيه‪ ،‬ص‪ 256-252‬ملخ ًَّصا»‪.‬‬
‫نقال عن التمهيد للباقالينّ‪.‬‬
‫((( الغدير‪ ،‬ج‪ ،18‬ص‪ً ،291‬‬
‫((( ينبغي التنبيه عىل أ ّن املراد بيانه هنا (هو) أن تسلّل بعض غري األكفاء إىل هذا املوقع املق ّدس والخطري ترتت ّب‬
‫علم بأ ّن تاريخ املرجع ّية يشهد بأ ّن أمثال هؤالء يفتضح أمرهم عادة ويفقدون ثقة الناس‬ ‫عليه هذه املفاسد ً‬
‫املس بكرامة هذا املوقع الذي هو استمرار لوالية املعصوم ‪.‬‬
‫|‬ ‫بهم وليس املراد أب ًدا ّ‬
‫برتبي ٍة دين ّي ٍة سليمة‪ ،‬وكانوا يدرسون علم األخالق وتهذيب النفس‪ ،‬وكانوا علامء يف هذا‬
‫‪96‬‬
‫املجال لكانوا يحتاطون أش ّد االحتياط يف التص ّدي للمسؤول ّيات الدين ّية‪ ،‬ومل يكونوا فقط‬
‫يجتنبون التص ّدي للحصول عىل مقام وموقع‪ ،‬بل إنّهم كانوا عندما تتو ّجه األنظار إليهم‬
‫خاصة يف شأن املرجع ّية الخطري‬ ‫طبيعي يرفضون الزعامة‪ ،‬ويستنكفون عنها ّ‬ ‫ّ‬ ‫بشكلٍ‬
‫وحامية الدين وحفظ نواميس الله‪.‬‬
‫علامء الشيعة الذين ر ّوضوا أنفسهم‪ ،‬والعارفون بالله‪ ،‬واملوقنون باملعاد العلامء‬
‫حب الدنيا والرئاسة قد أعمى قلوبهم‪ ،‬مل يكونوا عىل استعداد‬ ‫املتبصون الذين مل يكن ّ‬ ‫ِّ‬
‫أن يض ّحوا مبصالح األ ّمة من أجل أربعة أيّام من الرئاسة‪ ،‬كانوا يعلمون ج ّي ًدا أ ّن أمو ًرا‬
‫والذهني ‪ -‬ال ب ّد من توفّرها يف التص ّدي للمسؤول ّيات الدين ّية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كثرية ‪ -‬غري الفقه املد ّون‬
‫يل وكثري من املعلومات‪ .‬ومن هنا‪ ،‬مل‬ ‫العيني والعم ّ‬
‫ّ‬ ‫الخارجي‬
‫ّ‬ ‫وهي عبارة عن الفقه‬
‫يكونوا يتص ّدون ببساطة إلحراز هذه املواقع‪ ،‬والشواهد عىل ما ُذكِر كثرية»(((‪.‬‬
‫وإليك بعض النامذج‪:‬‬

‫الخميني {‬
‫ّ‬ ‫‪ - 1‬اإلمام‬
‫كريس القيادة مل‬
‫منذ شبابه‪ ،‬حيث بلغ مرتبة االجتهاد وإىل اليوم‪ ،‬وقد استوى عىل ّ‬
‫أي خطو ٍة يف التعريف بنفسه‪ ،‬والحصول عىل مقام وموقع‪ ،‬ومل يرصف األموال‬ ‫يخ ُط ّ‬
‫والتوصل إىل املنصب‪ ،‬ومل‬
‫ّ‬ ‫الرشع ّية وحقوق الكادحني واملحتاجني يف الرتويج السمه‬
‫تصدر عنه دعايات شخص ّية‪ ،‬وهو من حيث املبدأ يتنفّر من بساط الرئاسة ومقام‬
‫املرجع ّية كام يتنفّر اإلنسان من امل ّيت املتعفّن‪ .‬ويف الحقيقة إ ّن املرجع ّية والرئاسة هي‬
‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫التي جاءته تسعى إليه وال ترتكه ولوال أ ّن اإلحساس بالخطر عىل املجتمع‬
‫مينعه من ترك قيادة هذه القافلة املنهوبة والحريى‪ ،‬فلم يكن أبدا ً ليطأ هذا الوادي كام‬
‫فعل طيلة ستّني سنة من عمره‪ ،‬ومل يقم بأيّة خطوة يف طريق الحصول عىل منصب‪،‬‬

‫((( بيداء ﮔـران أقاليم قبلة‪ ،‬ص‪.126‬‬


‫فلم يكن يسمح بطبع صورته ورسالته حتّى بدء الثورة‪ ،‬حيث طبعها الناس ونرشوها‬
‫‪97‬‬
‫علم بأنّه مل يسمح بطبع رسالته العلم ّية أب ًدا حتّى كرثت املطالبة بذلك من املقلّدين‬
‫ً‬
‫وعلت أصواتهم‪ ،‬ومل يرصف يف طبعها شيئاً من بيت املال‪ .‬بل إ ّن أ ّول طبعة ُجمعت‬
‫كلْفتها من الناس‪ ،‬وطيلة الفرتة التي كان فيها اإلمام يف ق ّم مل تعط نسخة واحدة منها‬
‫وأصل مل يكن يوجد يف بيته من نسخها(((‪.‬‬ ‫إىل أحد م ّجانًا‪ً ،‬‬
‫نقل عن أحد تالمذة اإلمام‪ :‬قبل وفاة املرحوم آية الله‬ ‫املجلت‪ً ،‬‬ ‫جاء يف بعض ّ‬
‫عبارلا مسقلا‪ :‬ينلا ةراهطو ‪،‬صالخإلا‬

‫بسنوات عديدة‪ ،‬كان اإلمام قد كتب حاشية عىل «الوسيلة» و«العروة»‬ ‫ٍ‬ ‫الربوجردي‬
‫ّ‬
‫ومع أنّنا ك ّنا نرت ّدد إىل منزله كث ًريا فلم نكن نعلم أ ّن له حاشية عىل هذين الكتابني‪،‬‬
‫مع أ ّن هذه األمور لها حساباتها عند من يريد أن يصبح مرج ًعا؛ يعني إذا أراد أحد‬
‫األقل ‪ -‬بأنّه كتب هذه الكتابات‪ّ .‬إل أ ّن اإلمام مل‬
‫املرجع ّية فإنّه يخرب املق ّربني منه عىل ّ‬
‫يخربنا بذلك ولو تلمي ًحا‪ ،‬وك ّنا أحيانًا نسأله عن فتواه يف مسأل ٍة ما فيجيب ببيان رأيه‬
‫دون أن يشري إىل حاشيته عىل «العروة» أو «الوسيلة» ومل نعلم بها ّإل بعد وفاة املرحوم‬
‫الطلب بهذا الصدد وطلبوا منه ذلك‪.‬‬ ‫الربوجردي‪ ،‬وذلك أيضاً بعد أن راجعه ّ‬
‫ّ‬ ‫آية الله‬

‫جاء يف بعض الصحف عن أحد املق ّربني إىل اإلمام‬


‫الربوجردي‪ ،‬ورغم أ ّن الدرس األ ّول يف حوزة ق ّم كان درس‬
‫ّ‬ ‫بعد وفاة املرحوم آية الله‬
‫اإلمام‪ّ ،‬إل أنّه مل يكن يفكّر باملرجع ّية‪ ،‬حتّى إنّه مل يكن يشرتك يف املجالس واملحافل‪،‬‬
‫يل أحد مح ّبي اإلمام وتالمذته أن أذهب إىل‬ ‫التي كانت تُعقَد يف ق ّم‪ .‬ذات يوم اقرتح ع ّ‬
‫لعل أحصل عىل موافقته عىل طبع رسالته‪.‬كان الوقت صباحاً‪ ،‬دخلت منزل‬ ‫سامحته ّ‬
‫اإلمام‪ ،‬كان اإلمام جالساً عىل بساط وكان زمييل يتح ّدث يف أ ّن املجتمع اليوم بحاجة‬
‫لكم‪ ،‬ومن ش ّدة ح ّبه لإلمام قال كلم ًة لعلّها كانت لغوا ً‪ ،‬أتذكّر ج ّيدا ً أ ّن وجه اإلمام‬
‫يل»‪ .‬وحتّى حاشية العروة‬ ‫«كل ليس كذلك إ ّن اإلسالم ليس متوقِّفًا ع ّ‬
‫احم ّر فجأة‪ ،‬وقال‪ّ :‬‬
‫الطلب بطبعها عىل نفقتهم‪ ،‬إلّ أنّهم احتاجوا مبلغًا من املال‬ ‫الوثقى قام عد ٌد من ّ‬
‫رصف يسري‪.‬‬
‫((( برريس وتحلييل أز نهضت امام خميني‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،28‬بت ُّ‬
‫اقي ‪-‬صهر اإلمام‪ -‬إذا أمكنك أن تأخذ بق ّية املبلغ من اإلمام‪ ،‬وبعد‬
‫فقلت للمرحوم إرش ّ‬ ‫‪98‬‬
‫أيّ ٍام ع ّدة‪ ،‬أجاب بأ ّن اإلمام قال‪« :‬أنا مل أقل اطبعوها»‪.‬‬
‫املكبات‪ .‬تلك الليلة‬
‫وبعد وفاة املرحوم آية الله الحكيم ليالً‪ ،‬أعلن نبأ وفاته من ّ‬
‫كان اإلمام يف النجف عىل السطح‪ ،‬يقول أحد األخوة‪ :‬سمعت صوت بكاء اإلمام‪ ،‬ورأيته‬
‫جالساً يبيك‪ ،‬وفيام بعد قال اإلمام‪« :‬أحرضوا الجميع وقولوا لهم‪ :‬ليس لكم ّ‬
‫الحق أن‬
‫أي مجلس حتّى إذا تلقّى مصطفى (ابن اإلمام)‬ ‫تدافعوا ع ّني‪ ،‬وأن تذكروا اسمي يف ّ‬
‫صفع ًة عىل أذنه وإذا س ّبوين فال تقولوا شيئاً»‪ .‬وعىل الرغم من وجود أشخاص كانوا‬
‫يرسلون من يقومون بحمالت دعائ ّية لهم‪ ،‬إىل هذه الجهة‪ ،‬وتلك‪ ،‬فإ ّن اإلمام موقفه‬
‫كام ذكر؛ بحيث إنّه مل يكن يرىض أن يدعى إىل مرجع ّيته‪ .‬ويف تلك األيّام كان أشخاص‬
‫من املوصل وكركوك يزورون اإلمام‪ ،‬ويسألونه‪ :‬من نقلّد؟ فيقول‪ :‬من كنتم تقلِّدون؟‬
‫ويجيبون‪ :‬الس ّيد الحكيم‪ ،‬فيقول اإلمام‪ :‬ابقوا عىل تقليد الس ّيد الحكيم‪.‬‬
‫يل وهبه قدر ًة‬
‫نعم‪ ،‬من كان مع الله كان الله معه‪ .‬ومن هنا‪ ،‬نرى اليوم أ ّن الله الع ّ‬
‫وشوك ًة ال نظري لها بني علامء الشيعة من الغيبة الكربى وحتّى عرصنا الحارض‪.‬‬
‫جاء يف سرية الس ّيد ابن طاووس‪ :M‬عىل الرغم من أنّه كان أهالً لالفتاء واملرجع ّية‪،‬‬
‫فلش ّدة تقواه مل يُف ِْت أبدا ً ومل يتص َّد للمرجع ّية‪.‬‬
‫األنصاري بعد وفاة الشيخ‬
‫ّ‬ ‫طلب الشيخ‬‫ازي الكبري‪ ،‬جاء أ ّن ّ‬
‫وحول املريزا الشري ّ‬
‫رصوا عليه إرصارا ً كبريا ً حتّى أقنعوه بقبول هذه املسؤوليّة‪،‬‬ ‫اختاروه للمرجعيّة‪ ،‬وأ ّ‬
‫قائل «مل يخطر يف ذهني أبدا ً ّأن‬‫فجرت دموعه عىل خ ّديه ولحيته املباركة‪ ،‬ث ّم أقسم ً‬
‫أحمل عبء هذه املسؤوليّة العظيمة»‪ .‬وهذه الجملة القصرية من املريزا الكبري جدير ٌة‬
‫طلب العلم أن يقتدوا به ويفكّروا كام كان يفكّر‪.‬‬‫بالتأ ّمل ج ّدا ً‪ ،‬وينبغي عىل ّ‬

‫األنصاري وسعيد العلامء ‪M‬‬


‫ّ‬ ‫‪ - 2‬الشيخ‬
‫أمر املرحوم صاحب الجواهر يف أيّامه األخرية بعقد اجتامع يض ّم جميع علامء النجف‬
‫األنصاري‬
‫ّ‬ ‫من الطراز األ ّول‪ ،‬وعقد املجلس املذكور بحضور صاحب الجواهر‪ ،‬إلّ أ ّن الشيخ‬
‫‪99‬‬
‫(األنصاري)» وبعد‬
‫ّ‬ ‫مل يكن موجودا ً‪ .‬قال صاحب الجواهر‪« :‬أحرضوا الشيخ مرتىض أيضاً‬
‫البحث عنه كثريا ً‪ ،‬وجدوا الشيخ يف زاوي ٍة من حرم أمري املؤمنني ‪ Q‬متو ّجهاً نحو‬
‫القبلة يدعو لصاحب الجواهر بالشفاء‪ ،‬وبعد دعائه أخربوه باألمر‪ ،‬فمىض لالشرتاك يف‬
‫ذلك املجلس‪ .‬أجلس صاحب الجواهر الشيخ بجوار فراشه‪ ،‬وأخذ يده ووضعها عىل‬
‫قلبه‪ ،‬وقال‪« :‬اآلن طاب يل املوت» ث ّم قال للحارضين‪« :‬هذا مرجعكم من بعدي» ث ّم‬
‫عبارلا مسقلا‪ :‬ينلا ةراهطو ‪،‬صالخإلا‬

‫األنصاري وقال له‪« :‬قل ِّْل من احتياطك فإ ّن الرشيعة سمحة سهلة»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تو ّجه إىل الشيخ‬
‫وانتهى املجلس‪ ،‬ومل يلبث صاحب الجواهر أن التحق بالرفيق األعىل‪ ،‬وجاء دور الشيخ‬
‫مجتهد مسل ٍّم باجتهادهم‬ ‫ٍ‬ ‫تول قيادة األ ّمة‪ ،‬ولك ّنه بالرغم من أ ّن أربعمئة‬
‫مرتىض يف ّ‬
‫اعرتفوا بأعلم ّيته(((‪ ،‬امتنع عن اإلفتاء وقبول املرجع ّية‪ ،‬وكتب رسال ًة إىل «سعيد العلامء»‬
‫‪-‬املتوف حواىل ‪1270‬هـ الذي كان آنذاك يف إيران‪ ،‬وكان الشيخ زميله يف الدراسة يف‬ ‫ّ‬
‫كربالء‪ ،‬وكان يرى أنّه أعلم منه‪ -‬كتب إليه رسالة بهذا املضمون‪ :‬عندما كنت يف كربالء‪،‬‬
‫وك ّنا ندرس معاً عىل «رشيف العلامء» كنت أكرث م ّني فهامً واستيعاباً‪ ،‬واآلن ينبغي أن‬
‫تأيت إىل النجف وتقوم بأعباء هذا األمر‪ .‬فكتب إليه «سعيد العلامء» يف الجواب مبا‬
‫حاصله‪ :‬لقد بقيت أنت خالل املدة املاضية يف الحوزة مشتغالً بالتدريس واملباحثة‪،‬‬
‫أحق م ّني بهذا األمر‪ .‬وبعد وصول الجواب‬ ‫وبينام انشغلت أنا بأمور الناس‪ ،‬ولذا فأنت ّ‬
‫األنصاري بزيارة حرم أمري املؤمنني ‪ Q‬وطلب من ذلك اإلمام العظيم أن‬ ‫ّ‬ ‫رشف‬
‫ت ّ‬
‫يعينه‪ ،‬بإذن الله تعاىل‪ ،‬يف هذا األمر الخطري ويس ّدده(((‪.‬‬

‫األنصاري ‪M‬‬
‫ّ‬ ‫بكاء الشيخ‬
‫يقول أحد خدم حرم أمري املؤمنني ‪« :Q‬كالعادة ذهبت إىل الحرم الرشيف‬
‫رشقي الرضيح املق ّدس صوت بكا ٍء عالياً‬
‫قبل طلوع الفجر بساعة‪ ،‬فجأة‪ ،‬سمعت من ّ‬

‫نقال عن زندﮔـاين شيخ أنصاري‪.‬‬ ‫((( علامي معارصين‪ ،‬ص‪ً 61‬‬


‫((( زندﮔـاين شيخ أنصاري‪ ،‬ص‪ 74-73‬والكالم يج ّر الكالم‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.127‬‬
‫متف ّجعاً ونشيجاً متح ّرقاً‪ ،‬تعجبت كثريا ً! صوت من هذا؟ هذا البكاء املشجي من أين؟‬
‫‪100‬‬
‫يف هذا الوقت عاد ًة ال يأيت الز ّوار إىل الحرم‪ .‬وفيام كنت أفكّر يف ذلك‪ ،‬كنت أتق ّدم قليالً‬
‫األنصاري ‪ M‬وقد وضع وجهه عىل الرضيح‬ ‫ّ‬ ‫قليالً ألرى ما الخرب‪ .‬فجأة‪ ،‬رأيت الشيخ‬
‫املق ّدس وهو يبيك كالثكىل‪ ،‬ويخاطب باللهجة الدزفول ّية بحرق ٍة وأنني أمري املؤمنني‬
‫‪ Q‬قائالً‪ :‬س ّيدي‪ ،‬موالي‪ ،‬يا أبا الحسن‪ ،‬يا أمري املؤمنني‪ ،‬هذه املسؤول ّية التي‬
‫أصبحت عىل عاتقي خطري ٌة ج ّدا ً ومه ّم ٌة ج ّدا ً‪ ،‬أريد منك أن تحفظني من الزلل والخطأ‪،‬‬
‫وإل فسأهرب من‬ ‫وعدم القيام بواجبي‪ ،‬وأن ترشدين دامئاً يف طوفان الحوادث املؤملة‪ّ ،‬‬
‫تح ّمل مسؤول ّية القيادة واملرجع ّية ولن أقبلها(((‪.‬‬

‫كمري‬
‫ّ‬ ‫‪ - 3‬املرحوم آية الله الس ّيد حسني الكوه‬
‫كمري هو من تالمذة صاحب الجواهر‬ ‫ّ‬ ‫يُقال إ ّن املرحوم آية الله الس ّيد حسني الكوه‬
‫األنصاري‪ ،‬وكان مجتهدا ً مشهورا ً‪ ،‬وكان درسه من الدروس األساس ّية‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬ ‫والشيخ‬
‫ألي‬
‫الواضح أ ّن درس الخارج يف الفقه واألصول متهيد للرئاسة واملرجع ّية‪ ،‬واملرجع ّية ّ‬
‫طالب هي مبعنى أنّه ينتقل دفع ًة واحد ًة من الصفر إىل ما ال نهاية‪ ،‬وعليه‪ ،‬فالطالب‬
‫حساسة ‪ -‬هي مرحلة تدريس الخارج ‪ -‬وكان‬ ‫الذي له ح ّظ يف املرجع ّية يجتاز مرحلة ّ‬
‫الس ّيد الكوه كمري يف مثل هذه املرحلة ‪.‬‬
‫ذات يوم كان‪ M‬عائدا ً من مكان ‪ -‬مثالً من زيارة شخص ‪ -‬مل يكن قد بقي إىل‬
‫حني درسه أكرث من نصف ساعة‪ ،‬فرأى أ ّن الوقت ال يتّسع للذهاب إىل البيت؛ ولذا‬
‫فضّ ل أن يجلس يف املسجد بانتظار موعد الدرس‪ .‬دخل املسجد ومل يكن قد حرض‬
‫طلبه‪ .‬رأى يف زاوية املسجد شيخاً عادياًّ جدا ًّ جالسا ًمع ّ‬
‫طلب ع ّدة يد ّرسهم‪،‬‬ ‫أح ٌد من ّ‬
‫العادي‬
‫ّ‬ ‫استمع املرحوم الس ّيد حسني إىل درسه‪ ،‬ومبنتهى الغرابة رأى أ ّن هذا الشيخ‬
‫ق ّمة يف التحقيق‪ .‬حمله ذلك عىل أن يأيت يف اليوم التايل مبكرا ً عمدا ً ويستمع إىل درسه‪.‬‬
‫جاء واستمع‪ ،‬فازداد اقتناعاً بانطباعه الذي ك ّونه يف اليوم املايض‪ ،‬وتك ّرر ذلك أليّام‬
‫((( املكاسب‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ 123‬املق ّدمة ط كالنرت‪.‬‬
‫ع ّدة‪ ،‬فحصل للمرحوم الس ّيد حسني اليقني بأ ّن هذا الشيخ أعلم منه‪ ،‬وأنّه يستفيد من‬
‫‪101‬‬
‫مخيا ً‬
‫درسه وأنّه إذا حرض تالمذته درس هذا الشيخ فسيستفيدون أكرث‪ .‬هنا رأى نفسه ّ‬
‫بني التسليم والعناد‪ ،‬بني اإلميان والكفر‪ ،‬بني اآلخرة والدنيا‪ ،‬ويف اليوم التايل عندما جاء‬
‫طلبه واجتمعوا قال‪ :‬أيّها األح ّبة‪ ،‬أريد اليوم أن أقول لكم شيئاً جديدا ً‪ :‬هذا الشيخ‬ ‫ّ‬
‫أحق م ّني بالتدريس‪ ،‬وأنا أستفيد منه واآلن‬‫طلب ّ‬ ‫الجالس يف ذلك الجانب مع ع ّدة ّ‬
‫العادي املستضعف الذي كانت آثار‬‫ّ‬ ‫نذهب كلّنا إىل درسه‪ ،‬والتحق بحلقة درس الشيخ‬
‫عبارلا مسقلا‪ :‬ينلا ةراهطو ‪،‬صالخإلا‬

‫الفقر بادي ًة عليه‪ .‬هذا الشيخ الرثّ اللباس هو الذي ُعرف فيام بعد باسم الشيخ مرتىض‬
‫الدزفول «وأستاذ املتأ ِّخرين»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫األنصاري‬
‫ّ‬
‫وكان الشيخ آنذاك قد عاد لت ّوه من سفر استم ّر ع ّدة سنوات إىل مشهد وأصفهان‬
‫وكاشان‪ ،‬وكان قد حصل من هذا السفر عىل زاد وافر‪ ،‬خصوصاً من محرض املرحوم‬
‫شخص وجدت فهو مصداق «أسلم‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬
‫اقي‪ .‬مثل هذه الحالة لدى ّ‬ ‫الشيخ أحمد الرن ّ‬
‫كمري بعد‬
‫ّ‬ ‫وجهه لله»(((‪ .‬ومن الجدير بالذكر أ ّن الشيعة األتراك قلّدوا املرحوم الكوه‬
‫األنصاري(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وفاة الشيخ‬

‫‪ - 4‬آية الله الس ّيد مح ّمد فشاريك‬


‫ازي األ ّول لقبول املرجع ّية‪ ،‬قال‪« :‬لست أهالً‬
‫عندما جاؤوا إليه بعد وفاة املريزا الشري ّ‬
‫لذلك؛ أل ّن الرئاسة الرشع ّية تحتاج إىل أمو ٍر غري العلم بالفقه واألحكام‪ ،‬من السياسات‬
‫وسوايس يف هذه األمور‪ ،‬فإذا دخلت يف هذا املجال أفسد‬
‫ٌّ‬ ‫رجل‬
‫ومعرفة واقع األمور‪ ،‬وأنا ٌ‬
‫وال أصلح‪ ،‬وال يسوغ يل غري التدريس» وهكذا أرجع هذا العامل املر ّوض نفسه‪ ،‬الناس‬
‫ازي(((‪.‬‬
‫إىل املريزا مح ّمد تقي الشري ّ‬

‫إلهي‪ ،‬ص‪ ،347‬بترصّف يسري واملكاسب‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،150‬املق ّدمة ط كالنرت‪.‬‬
‫((( عدل ّ‬
‫ازي‪ ،‬ص‪ ،19‬والكرام الربرة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.421‬‬
‫((( هديّة الر ّ‬
‫((( ملزيد االطّالع عىل ترجمته راجع «ريحانة األدب»‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪ ،341‬والفوائد الرضويّة‪ ،‬ص‪.594‬‬
‫مرياث األعلم ّية‬
‫‪102‬‬
‫أورد آية الله املرحوم الس ّيد أحمد الزنجا ّين ‪« M‬قال ابن املرحوم الس ّيد مح ّمد‬
‫ازي الكبري‪ ،‬أرسلني والدي إىل املرحوم املريزا‬ ‫فشاريك ‪« :M‬بعد وفاة املريزا الشري ّ‬
‫ازي ‪ -‬املريزا الصغري ‪ -‬ألقول له‪ :‬إذا كنت تعترب نفسك أعلم م ّني‬ ‫مح ّمد تقي الشري ّ‬
‫فتفضَّ ْل قل ذلك حتّى أُرجع زوجتي وأوالدي إليك يف التقليد‪ ،‬وإذا كنت تعتربين أعلم‬
‫فأرجع أنت عائلتك إ ّيل يف التقليد‪ .‬وعندما نقلت هذه الرسالة إىل املريزا‪ ،‬فكّر قليالً‬
‫وقال‪ :‬قل لسامحته هو ما رأيه؟ ونقلت هذا السؤال الذي كان مبنزلة الجواب إىل‬
‫أي يش ٍء تراه أنت ميزاناً لألعلم ّية؟ إذا كان امليزان دقّة‬
‫والدي فقال‪ :‬اذهب وقل له ّ‬
‫النظر والتحقيق فأنت أعلم‪ ،‬وإذا كان امليزان الفهم العر ّيف فأنا أعلم‪ .‬وذهبت ثاني ًة إىل‬
‫أي االثنني يعتربه ميزاناً؟ وأبلغت‬ ‫املريزا وأبلغته بذلك‪ .‬ففكّر قليالً أيضاً وقال‪ :‬سامحته ّ‬
‫هذا الجواب ‪ -‬السؤال ‪ -‬ففكّر والدي قليالً وقال برسور‪ :‬ال يبعد أ ّن دقّة النظر ميزان‬
‫ازي(((‪.‬‬
‫األعلم ّية ومالكها‪ ،‬ث ّم قال‪ :‬فلنقلّد جميعنا املريزا الشري ّ‬

‫فرح املرجع ّية‬


‫ازي األ ّول‪ ،‬وكان‬
‫كان املرحوم الس ّيد مح ّمد فشاريك أحد أكرب تالمذة املريزا الشري ّ‬
‫الحائري‬
‫ّ‬ ‫بعده يعترب من كبار الفقهاء‪ ،‬وهو أستاذ املرحوم آية الله الشيخ عبد الكريم‬
‫مؤسس الحوزة العلميّة يف ق ّم‪ ،‬وأستاذ عد ٍد آخر من األعاظم‪.‬‬
‫ّ‬
‫الحائري‪ :‬سمعت من أستاذي آية الله فشاريك‪« :‬عندما تويف املريزا‬
‫ّ‬ ‫يقول املرحوم‬
‫الشريازي األ ّول ذهبت إىل البيت فرأيت أ ّن يف قلبي رسورا ً‪ ،‬وكلّام فكّرت فلم أجد‬
‫ّ‬
‫ومرب‪ ،‬والعظمة التي كان يتمتّع بها‬‫ّ َّ‬ ‫سب ًبا لذلك فاملريزا تويف‪ ،‬وقد كان أستاذي‬
‫من حيث العلم والتقوى والنباهة والذكاء عجيبة وقليلة النظري‪ .‬يضيف املرحوم‬
‫أي مكان أصابه الخراب! من أين أتيت بهذا الرسور‬ ‫الفشاريك‪ :‬وفكّرت م ّد ًة ألرى ّ‬
‫لعل سبب الرسور أنّني سأصبح يف هذه‬ ‫وما سببه؟ وأخريا ً وصلت إىل هذه النتيجة‪ّ :‬‬

‫((( الكالم يج ّر الكالم‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.263 - 262‬‬


‫األيّام مرجع تقليد‪ .‬فنهضت وذهبت إىل الحرم وطلبت منه ‪ Q‬أن يرفع هذا‬
‫‪103‬‬
‫أحس مبيلٍ إىل الرئاسة‪ .‬بقي إىل الصبح يف الحرم‪ ،‬وعندما جاء‬ ‫الخطر ع ّني‪ ،‬يبدو ّأن ّ‬
‫صباحاً إىل التشييع رأوا أ ّن عينيه محم ّرتان بش ّدة‪ ،‬وكان واضحاً أنّه كان طيلة ليلته‬
‫يبيك‪ .‬وأخريا ً حاول وحاول ومل يخضع لتح ّمل أعباء الرئاسة‪ .‬نعم‪ ،‬هكذا يراقب رجال‬
‫الله أنفسهم‪ ،‬بحيث إنَّهم يصلون إىل ح ّد املرجع ّية والج ّو مه ّيأ متاماً‪ ،‬ولك ّنهم مع‬
‫ذلك يظلّون أكرب من الرئاسة»(((‪.‬‬
‫عبارلا مسقلا‪ :‬ينلا ةراهطو ‪،‬صالخإلا‬

‫‪ - 5‬املريزا الق ّم ّي والس ّيد مح ّمد املجاهد‬


‫يقال إنّه عندما جاء الس ّيد مح ّمد املجاهد ‪-‬ابن صاحب الرياض‪ -‬إىل ق ّم كان املحقِّق‬
‫الق ّم ّي ‪-‬صاحب القوانني‪ -‬قد بلغ آنذاك س ّن الشيخوخة‪ ،‬فاستضاف ذات ليل ٍة الس ّيد‬
‫مح ّمد مع جمع‪ ،‬وكانت له معهم مباحثات علم ّية‪ .‬يف ذلك املجلس قال املحقق الق ّم ّي‪:‬‬
‫«الهدف من دعوتكم هذه الليلة ومن املباحثات العلم ّية‪ ،‬هو أ ّن س ّن الشيخوخة فتّت‬
‫قواي‪ ،‬فأردت أن أتح ّدث معكم قليالً‪ ،‬لرتوا هل إ ّن ملكة االستنباط ما تزال موجود ًة َّيف‬
‫أم ال؟ فقال الس ّيد مح ّمد املجاهد‪ :‬إذا كانت ملكة االستنباط هي هذه املوجودة فيك‬
‫فأنا وأمثايل ليست لنا ملكة استنباط»‪.‬‬
‫ونقل عن الس ّيد مح ّمد املجاهد أنّه سئل‪« :‬هل آية الله الس ّيد مح ّمد باقر ح ّجة‬
‫اإلسالم مجتهد أم ال؟ فقال‪:‬‬
‫أجل من أن أشهد باجتهاده أنا وأمثايل‪ ،‬بل اسألوه هل الس ّيد مح ّمد ‪ -‬يعني‬‫شأنه ّ‬
‫نفسه‪ -‬مجتهد أم ال؟»(((‪.‬‬

‫‪ - 6‬الس ّيد مح ّمد مهدي الطباطبا ّيئ (األخ األصغر للسيد مح ّمد املجاهد)‬
‫يل ‪-‬صاحب الرياض‪ -‬وبدأ بالتدريس يف‬
‫درس الس ّيد مح ّمد مهد ّي عىل والده الس ّيد ع ّ‬

‫((( يادنامه شهيد قدويس‪ ،‬ص‪.203‬‬


‫((( الوحيد البهبهاينّ‪ ،‬ص‪ ،261‬وقصص العلامء‪ ،‬ص‪.143‬‬
‫طالب‪ ،‬وقد كان‬ ‫زمن والده‪ ،‬وكان تالمذة والده يحرضون درسه الذي كان يشرتك فيه مائتا ٍ‬
‫‪104‬‬
‫مع َرتفاً له من الجميع باالستدالل‪ ،‬والنقض‪ ،‬واإلبرام‪ ،‬والجدل‪ ،‬وكان مجتهدا ً مطلقاً‪ ،‬بصريا ً‪،‬‬
‫العلمي الشامخ‪ ،‬مل يتص َّد‬
‫ّ‬ ‫عتب أهالً للمرجعيّة‪ ،‬ولك ّنه بالرغم من هذا املقام‬
‫كامالً‪ ،‬وكان يُ َ‬
‫للقضاء‪ ،‬واإلفتاء‪ ،‬مع أ ّن الجميع كانوا يعرتفون له‪ ،‬وقد بذلت جهود كثرية ليقبل استالم‬
‫األموال التي كانت تأيت من الهند للساكنني يف كربالء‪ ،‬ويرشف عىل رصفها فلم يوافق(((‪.‬‬
‫مهدي ‪:M‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫شاهد عىل عظمة الس ّيد مح ّمد‬ ‫والقصة التالية خري‬
‫ّ‬
‫رشفت بزيارة العتبات‬ ‫القزويني ‪ :M‬ت ّ‬
‫ّ‬ ‫تقي الربغا ّين‬
‫املل مح ّمد ّ‬
‫يقول الشهيد ّ‬
‫املق ّدسة (يف العراق) بعد الدراسة يف أصفهان‪ ،‬وحرضت درس العامل الكبري الس ّيد عيل‬
‫الطباطبا ّيئ ‪-‬صاحب الرياض‪ -‬وكان يد ّرس يف اليوم األ ّول يف مسألة «نسخ الوجوب‬
‫وعدم بقاء الجواز» فنقضت كالمه بالشجرة املقطوعة حيث ذهب «الفصل» وبقي‬
‫«الجنس»‪ .‬وفجأة‪ ،‬تص ّدى يل شاب مل ينبت الشعر يف وجهه بعد‪ ،‬وكان جالساً بالقرب‬
‫من الس ّيد وكان يتكلّم كالماً تحقيق ّياً مبنتهى الفصاحة والبالغة وطالقة اللسان‪ ،‬وكاد‬
‫يل‪ ،‬ومل أكن أمتكّن من مجاراته‪ ،‬فغضبت وقلت‪ :‬أيّها الطفل‪،‬‬ ‫أن يلزمني ويتغلَّب ع ّ‬
‫يل وقال‪ :‬إذا كان عندك يشء فقله طبقاً لقواعد‬ ‫ملاذا تخلط؟ فغضب املرحوم السيّد ع ّ‬
‫البحث‪ ،‬إنّه وإن كان طفالً إلّ أنّه شبل‪ .‬وعندما سألت من هو ذلك الطفل‪ ،‬قالوا إن ّه‬
‫سكت ومل أقل شيئاً(((‪.‬‬
‫يل‪ ،‬عندها ّ‬
‫االبن املحبوب والخلف الرشيف للس ّيد ع ّ‬

‫الكليايس ‪M‬‬
‫ّ‬ ‫‪ - 7‬الشيخ مح ّمد إبراهيم‬
‫الكليايس الخراسا ّين األصفها ّين‪ :‬أنّه كان يقول‪:‬‬
‫ّ‬ ‫جاء يف ترجمة الشيخ مح ّمد إبراهيم‬
‫يل بوجوب كتابة‬ ‫مل أكن أريد كتابة رسالة عمل ّية‪ ،‬لك ّن املريزا الق ّم ّي ‪ M‬حكم ع ّ‬
‫رسالة وبيان فتاواي‪ ،‬قلت له‪ :‬ال طاقة لبدين عىل جه ّنم‪ ،‬ويف النهاية وبنا ًء عىل إرصاره‬
‫(وحكمه) كتبت رسالة(((‪.‬‬
‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪ ،20 - 10‬ونجوم السامء‪ ،‬ص‪.408 - 407‬‬
‫((( املصدر نفسه‪.‬‬
‫((( املصدر نفسه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المازندراني‬ ‫مع المرحوم مل صالح‬
‫‪105‬‬
‫عليم‪ ،‬شجا ًعا‪ ،‬عفيفًا‪ ،‬سخيًّا‪،‬‬ ‫حكيم‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫يقول ‪« :M‬إنّ ا تصلح الرئاسة ملن يكون‬
‫سليم‪ ،‬صبو ًرا‪ ،‬شكو ًرا‪ ،‬قنو ًعا‪ ،‬ور ًعا‪،‬‬‫عادالً‪ ،‬فهيامً‪ ،‬ذكيّاً‪ ،‬متواضعاً‪ ،‬رقيقًا‪ ،‬رفيقًا‪ ،‬حييًّا‪ً ،‬‬
‫وقو ًرا‪ ،‬ح ًّرا‪ ،‬عف ًّوا‪ ،‬مؤث ّ ًرا‪ ،‬مسام ًحا‪ ،‬صديقًا‪ ،‬وفيًّا‪ ،‬شفيقًا‪ ،‬مكافيًا‪ ،‬متو ّد ًدا‪ ،‬متوك ًّل‪ ،‬عاب ًدا‪،‬‬
‫بالحق‪ ،‬متج ّنبًا عن جميع‬ ‫ّ‬ ‫زاهدا ً‪ ،‬موفيًا‪ ،‬محس ًنا‪ ،‬با ًّرا‪ ،‬فائ ًزا بجميع أسباب االتّصال‬
‫أسباب االنقطاع عنه»(((‪.‬‬
‫عبارلا مسقلا‪ :‬ينلا ةراهطو ‪،‬صالخإلا‬

‫ّ‬
‫الغيبي‬ ‫انقطاع اإللهام‬
‫الربوجردي ‪ M‬مبارش ًة قوله‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يقول املرحوم الشهيد ق ّدويس‪« :‬سمعت من الس ّيد‬
‫سابقاً‪ ،‬قبل الوصول إىل املرجع ّية والرئاسة كنت أحياناً أسمع صوتاً يرشدين‪ ،‬ولك ّني مل‬
‫أكن أ َرى قائله‪ ،‬هذه األصوات تك ّررت كثريا ً واستم ّرت إىل ما قبل فرتة‪ ،‬ومع مجيء‬
‫ويس يقول‪:‬‬‫أمر املرجع ّية والرئاسة مل يستم ّر ذلك اإللهام وانقطع»‪ .‬كان املرحوم الق ّد ّ‬
‫الربوجردي هي أيضاً‬
‫ّ‬ ‫«الالفت أ ّن رئاسة صحيحة مئة يف املئة وإله ّية كرئاسة الس ّيد‬
‫مانعة! فكيف بنا نحن؟ إ ّن لنا حساباً آخر»(((‪.‬‬
‫التقوى واجتناب اإلمامة في صالة الجماعة‬

‫‪ - 1‬املحدّ ث الجليل الق ّم ّي‬


‫يقول أحد العلامء املعارصين‪« :‬عندما كنت يف بداية دراستي‪ ،‬ويف مرحلة املق ّدمات‪،‬‬
‫كنت أسمع كثريا ً اسم املح ّدث الق ّم ّي يف مجلس والدي املعظّم‪ ،‬مقروناً باإلجالل‪،‬‬
‫رشفت باإلقامة يف مشهد للدراسة‪ ،‬اعتربت أ ّن زيارته غنيمة كربى‪ .‬وطيلة ع ّدة‬‫وعندما ت ّ‬
‫سنوات من معارشة هذا العامل املؤمن‪ ،‬وبعد التع ّرف إىل مراتب علمه وعمله وعبادته‬
‫وتقواه عن قرب‪ ،‬كان إكباري له يزداد يوماً بعد يوم‪ .‬يف أحد الشهور الرمضان ّية طلبت‬

‫((( تحفة العامل يف رشح خطبته العامل‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.157‬‬


‫((( يادنامه شهيد قدويس‪ ،‬ص‪.207‬‬
‫منه ‪-‬مع ع ّدة من األصدقاء ‪ -‬أن مي ّن عىل املؤمنني واملح ّبني بإقامة صالة الجامعة يف‬
‫‪106‬‬
‫مسجد «كوهرشاد»‪ ،‬وبعد إرصا ٍر وإلحاح‪ ،‬قبل هذا االقرتاح‪ ،‬وأقام صالة الظهر والعرص‬
‫لع ّدة أيّام يف أحد أقسام املسجد‪ .‬وكان عدد املصلّني يزداد يوماً بعد يوم‪ ،‬ومل متض عرشة‬
‫اعتيادي‪ .‬وذات يوم‬
‫ّ‬ ‫أيّام حتّى كان الخرب قد انترش وأصبح عدد الحضور كبريا ً ج ّدا ً وغري‬
‫بعد إمتام صالة الظهر‪ ،‬قال يل وكنت قريباً منه‪ :‬أنا ال أستطيع اليوم أن أصيل العرص‪،‬‬
‫ث ّم ذهب ومل يعد تلك السنة إىل صالة الجامعة‪ .‬وعندما التقيته وسألته عن سبب ترك‬
‫صالة الجامعة قال‪ :‬الحقيقة ّأن يف ركوع الركعة الرابعة سمعت صوت املقتدين خلفي‬
‫يقولون‪« :‬يا الله يا الله إ ّن الله مع الصابرين» وكان الصوت يأيت من مكانٍ ٍ‬
‫بعيد ج ّدا ً‪،‬‬
‫جعلني هذا أنتبه إىل زيادة عدد املصلّني بنسب ٍة كبرية‪ ،‬ففرحت أل ّن املجتمعني كثريون‬
‫إىل هذا الح ّد‪ .‬وبنا ًء عليه‪ ،‬فلست أهالً لإلمامة(((‪.‬‬
‫والطريف أ ّن املح ّدث الق ّم ّي هو ذلك الذي كان يف النجف األرشف يف إحدى ليايل‬
‫َ‬
‫الجمعة يقرأ سورة يس بعد صالة الليل‪ ،‬وعندما وصل إىل هذه اآلية الرشيفة‪﴿ :‬هٰ ِذه ِۦ‬
‫َ َ َّ ُ َّ ُ ُ ۡ ُ َ ُ َ‬
‫ون﴾ ك ّرر تلك اآلية ع ّدة م ّرات‪ ،‬ث ّم جعل يك ّرر قوله‪ :‬أعوذ بالله‬ ‫جهنم ٱل ِت كنتم توعد‬
‫ويتغي حاله ج ّدا ً‪ ،‬بحيث إنّه مل يستطع إكامل السورة‪ ،‬وبقي كذلك حتّى أذان‬ ‫ّ‬ ‫من النار‪،‬‬
‫الصبح فقام إىل الصالة(((‪ .‬نعم‪ ،‬وعىل الرغم من هذه التقوى واإلميان الصادق بالله‪،‬‬
‫والخشية منه ‪-‬سبحانه‪ -‬ال يرى نفسه أهالً إلقامة الجامعة‪ ،‬ويعتزلها‪ .‬هذا هو اإلنسان‬
‫املخلص الذي ملك نفسه وبكلمة العامل الربا ّين وأمثاله‪ ...‬هؤالء من كانوا؟ ونحن ماذا؟‬
‫أولئك روحانيّون أم نحن؟‬

‫ازي األصفها ّين‬


‫يل الشري ّ‬
‫‪ - 2‬املريزا ع ّ‬
‫يقول األستاذ الشهيد مط ّهري ضمن الثناء عىل هذا األستاذ الشهيد الكبري‪« :‬عندما‬

‫((( الفوائد الرضوية‪ ،‬املقدمة بترصف يسري‪.‬‬


‫((( حاج شيخ عباس قمي مرد تقوا وفضيلت‪ ،‬ص‪.62 - 61‬‬
‫رصون عليه أن يصعد املنرب ليعظهم‪،‬‬
‫كان يأيت إىل ق ّم‪ ،‬كان العلامء من الطبقة األوىل ي ّ‬
‫‪107‬‬
‫كان منربه «حال» أكرث من كونه «قال» وكان يجتنب إمامة الجامعة‪ .‬يف إحدى السنوات‬
‫يصل جامع ًة يف هذا الشهر يف مدرسة‬
‫ويف شهر رمضان‪ ،‬ألزموه‪ ،‬وبعد إرصا ٍر كبري‪ ،‬أن ّ‬
‫الصدر يف أصفهان‪ .‬ومع أنّه مل يحرض بانتظام حيث مل يكن يتح ّمل التق ّيد بساعة‬
‫مح ّددة فإ ّن املؤمتّني به بلغوا من الكرثة ح ّدا ً كبريا ً‪ .‬سمعت أ ّن صلوات الجامعة املجاورة‬
‫يبق فيها أحد‪ .‬ولك ّنه رغم ذلك مل يستم ّر»(((‪.‬‬ ‫مل َ‬
‫عبارلا مسقلا‪ :‬ينلا ةراهطو ‪،‬صالخإلا‬

‫الشوشرتي‬
‫ّ‬ ‫‪ - 3‬املرحوم الشيخ عبد الله‬
‫الشوشرتي ذات يوم لزيارة الشيخ البها ّيئ‪ ،‬وبقي عنده م ّدة‪ ،‬فارتفع‬
‫ّ‬ ‫ذهب املرحوم‬
‫صوت املؤذِّن قال له الشيخ البها ّيئ‪« :‬صلّوا هنا لنقتدي بكم ونحصل عىل ثواب‬
‫يصل يف بيت الشيخ‪ ،‬بل نهض وذهب إىل‬ ‫الجامعة» ففكّر املوىل قليالً ومل يوافق أن ّ‬
‫منزله‪ .‬وسئل‪ :‬ملاذا مل تجب الشيخ إىل طلبه مع أنّك تهت ّم بالصالة أ ّول وقتها؟ فقال‪:‬‬
‫النفيس يختلف إذا اقتدى يب الشيخ‪ ،‬ولست‬ ‫ّ‬ ‫«تأ ّملت نفيس قليالً فرأيت أ ّن وضعي‬
‫أي فرق بني اقتدائه وعدمه‪ ،‬ولذا مل أجبه إىل البقاء»(((‪.‬‬ ‫بحيث ال يكون عندي ّ‬
‫يئ ‪M‬‬ ‫‪ - 4‬فارا ّيب عرصنا ّ‬
‫العلمة الطباطبا ّ‬
‫العلمة كثريا ً‪،‬‬
‫العلمة‪« :‬منذ أيّام الدراسة كنت أذهب إىل بيت ّ‬ ‫يقول أحد تالمذة ّ‬
‫الغصة يف قلبي؛ إذ مل أحصل‬ ‫ومل يدعني أبدا ً أوفّق للصالة خلفه جامعة‪ ،‬بقيت هذه ّ‬
‫رشف يف شهر‬ ‫عىل فيض االئتامم به‪ .‬ومنذ ذلك الوقت وحتّى اآلن واألمر كذلك‪ ،‬إىل أن ت ّ‬
‫وصل يف بيتنا‪ ،‬جعلنا غرفته‬ ‫شعبان ‪1401‬هـ‪.‬ق بزيارة اإلمام الرضا ‪ Q‬يف مشهد ّ‬
‫كتاب أراد‪ .‬وحان وقت املغرب‪ ،‬فأخذت س ّجادتني له وألحد‬ ‫أي ٍ‬ ‫املكتبة؛ ليستطيع تناول ّ‬
‫مرافقيه الذي كان مم ّرضاً له يسهر عىل راحته‪ .‬فرشت الس ّجادتني وخرجت من الغرفة‬
‫ألن كنت أعلم ّأن إذا كنت موجودا ً يف‬ ‫ليبدأ هو بالصالة فأدخل الغرفة وأقتدي به؛ ّ‬
‫((( در نهج بالغة‪ ،‬ص‪ 12‬املق ّدمة‪.‬‬
‫((( بيدار ﮔران أقاليم قبله‪.‬‬
‫الغرفة فلن يرىض باإلمامة‪ .‬ومىض حواىل ربع ساعة عىل وقت الغروب‪ ،‬سمعت صوتاً‬
‫‪108‬‬
‫لتصل‪.‬‬
‫يناديني‪ ،‬كان املنادي هو املرافق‪ ،‬وعندما جئت قال‪ :‬إنّه جالس هكذا وينتظرك ّ‬
‫متوسالً تفضّ لوا أنتم وصلّوا صالتكم‬
‫قبلت أنا أقتدي قال‪ :‬نحن نقتدي‪ ،‬رجوته‪ :‬اطلب ّ‬
‫أصل معك‬ ‫نفسه‪ ،‬قلت‪ :‬منذ أربعني سنة وأنا أطلب منك أن ّ‬ ‫قال‪ :‬نحن نق ّدم الطلب َ‬
‫وبتبسم مح ّبب قال‪« :‬سن ٌة أخرى‬‫ّ‬ ‫صال ًة واحدة وحتّى اآلن مل أوفّق فتفضّ ل بالقبول‪.‬‬
‫أيضاً فوق تلك األربعني»‪ .‬والواقع ّأن مل أجد يف نفيس القدرة للتق ّدم عليه والصالة‬
‫رص عىل موقفه وال يتنازل عنه‬ ‫واقتدائه يب‪ ،‬فخجلت خجالً شديدا ً‪ .‬وأخريا ً رأيت أنّه م ٌّ‬
‫بأي وجه من الوجوه‪ ،‬وليس مناسباً بعد استدعائه يل‪ -‬أن أخالفه وأذهب إىل غرفة‬ ‫ّ‬
‫وأصل فرادى‪ ،‬قلت‪« :‬أنا عب ٌد لك ومطيع‪ ،‬إذا أمرتني أطيع»‪ .‬قال‪« :‬آمر؟ ماذا‬ ‫أخرى ّ‬
‫أقول؟ لك ّن ذلك طلبي»‪ .‬فقمت وصلّيت املغرب واقتدى هو يب‪ .‬وهكذا وبعد أربعني‬
‫سنة باإلضافة إىل أنّني مل أمتكّن من االقتداء به ويف صالة واحدة وقعت تلك الليلة يف‬
‫مثل هذا الفخ‪ ،‬يشهد الله أ ّن قسامت وجهه‪ ،‬وحالة الحياء التي كانت ظاهرة يف وجهه‬
‫أثناء طلبه كانت تخجل النسيم‪ ،‬أ ّما صالبته فكانت تذيب الجامد»(((‪.‬‬

‫‪ - 5‬رشيف العلامء ‪M‬‬

‫يصل‬
‫األنصاري مل يكن يرىض أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫هذا العامل الكبري الذي كان أستاذ الشيخ األعظم‬
‫وصل‪ .‬وأثناء الصالة انرصف ذهنه ال‬ ‫رص عليه الناس ذات م ّرة وافق ّ‬ ‫إماماً‪ ،‬ولكن عندما أ ّ‬
‫حل مسأل ٍة علم ّية‪ ،‬فلم ِّ‬
‫يصل بعد تلك الصالة؛ إذ إنّه مل ي َر نفسه أهالً لذلك(((‪.‬‬ ‫إراديّاً ‪ -‬إىل ّ‬

‫‪ - 6‬آية الله الس ّيد صدر الدين الصدر ‪M‬‬

‫هو والد اإلمام موىس الصدر‪ ،‬وأحد ثالثة مراجع كانوا يتولّون إدارة الحوزة العلم ّية‬
‫الربوجردي‬
‫ّ‬ ‫الربوجردي‪ .‬عندما جاء آية الله‬
‫ّ‬ ‫الحائري وقبل آية الله‬
‫ّ‬ ‫يف ق ّم بعد آية الله‬
‫محل إقامته صالة الجامعة‪ ،‬واعتزل أمور الرئاسة إىل‬ ‫إىل قم‪ ،‬تنازل له الس ّيد الصدر عن ّ‬
‫((( مهرتابان ‪ -‬القسم األول‪ ،‬ص ‪.52 - 50‬‬
‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪.115‬‬
‫َ ُ َ ۡ َ ُ َ َّ َ َ ُ ُ َ ُ ٗ‬ ‫ۡ َ‬
‫يدون ُعل ّوا ِف‬ ‫ك َّ‬
‫ٱدل ُار ٱٓأۡلخِرة نعلها ل ِلِين ل ي ِر‬ ‫ح ٍّد كبري‪ ،‬وقال يف بيان سبب ذلك‪﴿ :‬ت ِل‬
‫‪109‬‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ‬ ‫َۡ‬
‫ۡرض َول ف َس ٗاداۚ َوٱل َعٰقِ َب ُة ل ِل ُم َّتقِ َني﴾(((‪.‬‬
‫ٱل ِ‬

‫ويس ‪M‬‬
‫‪ - 7‬آية الله الشهيد قدّ ّ‬
‫وحب الشهرة‪ ،‬وكان‬ ‫ويس يكره الشهرة ّ‬ ‫جاء يف ترجمة هذا العامل الجليل‪ :‬كان ق ّد ّ‬
‫يتول طيلة عمره إمامة الجامعة م ّر ًة واحدة‪ ،‬ويف‬ ‫يعترب ذلك منشأ سقوط اإلنسان‪ ،‬مل َّ‬
‫عبارلا مسقلا‪ :‬ينلا ةراهطو ‪،‬صالخإلا‬

‫حدود املستطاع كان يدخل املجالس بهدوء ودون أن يثري انتباه اآلخرين‪ ،‬ويجلس يف‬
‫أحس‬
‫آخر املجلس بني األشخاص العاديّني‪ .‬مل يكن يتص ّدى للوعظ والخطابة ّإل إذا ّ‬
‫الرشعي يفرض ذلك‪ .‬ونادرا ً ما كان يوافق عىل املقابالت اإلعالم ّية (إذاعة‬
‫ّ‬ ‫بأ ّن التكلّيف‬
‫وتلفزيون وصحافة) خصوصاً إذا كان الهدف تسويغ أعامله والدفاع عنها‪ ،‬كان يقول‪:‬‬
‫«السقوط من أعني الناس أفضل من السقوط يف رشك هوى النفس»(((‪ .‬كان الحضور‬
‫يف درس أخالق الشهيد ق ّدويس صباح الخميس م ّر ًة واحدة كافياً ليتهاوى قرص آمال‬
‫كل يشء غري الله‪ ،‬ال قيمة له‪ ،‬كان يقول برصاحة‪« :‬أيّها السادة(((‪،‬‬ ‫اإلنسان‪ ،‬ويتيقّن أ ّن ّ‬
‫إذا كُنت ُم قد جئتم لتتعلّموا ث ّم تذهبوا لتحاربوا الروحا ّين يف مدينتكم أو قريتكم‬
‫وتصبحوا أمئَّة جامعة ليق ّبل الناس أيديكم ويقتدوا بكم وتحصلوا عىل اسم ورسم‬
‫(جاه) ويعطوكم سهم اإلمام‪ ،‬فال َع َج َل وقبل فوات األوان وقبل أن تتعاظم مسؤول ّيتكم‪،‬‬
‫اذهبوا وابحثوا عن كسب حالل حتّى ال تصبحوا م ّمن خرس الدنيا واآلخرة»(((‪.‬‬

‫الربوجردي؛ إذ يبدو أ ّن مراد الس ّيد‬


‫ّ‬ ‫((( نور العلم ‪ -‬مجلّة ‪ -‬العدد ‪ ،7‬ص‪ .79‬وليس كالمه‪ M‬تعريضاً بالسيد‬
‫الربوجردي جاءته الرئاسة فمن نازعه فيها فهو م ّمن يريد عل ّوا ً يف األرض وفسادا ً؛ أل ّن الله‬
‫ّ‬ ‫الصدر أ ّن الس ّيد‬
‫الربوجردي ومل تكن قبله مثن ّية لغريه ‪ -‬املع ِّرب ‪.-‬‬
‫ّ‬ ‫أعلم حيث يجعل رسالته ويؤيّد هذا أ ّن الوسادة ثنيت للسيد‬
‫((( يادنامه شهيد ق ّدويس‪ ،‬ص‪.136‬‬
‫((( املخاطبون هم طلّب العلوم الدين ّية ‪ -‬وكان الشهيد ق ّدويس يرشف عىل مدرسة «الحقّان ّية» كام تق ّدم ‪-‬‬
‫املع ِّرب ‪.-‬‬
‫((( املصدر املتق ّدم‪ ،‬ص‪.140‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إخالص العلمة الطباطبائي ‪M‬‬
‫‪110‬‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ ‪ M‬إخالصه الكامل والتا ّم‪ ،‬وشهرة‬
‫إحدى خصوص ّيات األستاذ ّ‬
‫الطلب شاهد صدق عىل هذا امل ّدعى‪.‬‬
‫مؤلَّفاته‪ ،‬وتربيته هذه النوعية من ّ‬
‫يقول أحد تالمذته يف هذا املجال‪« :‬األمر الثالث الذي يلفت االنتباه من الناحية‬
‫أي نوع من أنواع‬ ‫املعنويّة واألخالق ّية أكرث من األمرين السابقني‪ ،‬هو تح ّرر األستاذ من ّ‬
‫التظاهر بالعلم واملعرفة‪ .‬ودامئاً كان مح ّركه يف العمل اإلخالص ورضا الله ‪-‬سبحانه‪-‬‬
‫نحن الذين ك ّنا عىل صل ٍة به أكرث من غرينا ال نتذكّر أنّه ‪-‬ولو م ّر ًة واحدة‪ -‬تح ّدث يف‬
‫موضوع بحيث تشعر منه التظاهر بالعلم أو أنّه تح ّدث يف أمر مل يُسأل عنه‪ .‬لو أ ّن‬
‫العلمي‪ ،‬مل‬
‫ّ‬ ‫شخصاً بقي معه يف السفر مل ّدة سنة ومل تكن له معرفة مس َّبقة مبستواه‬
‫مؤسس طريق ٍة جديد ٍة يف التفسري وصاحب أطروح ٍة‬ ‫يكن يتص ّور أبدا ً أ ّن هذا الشخص ّ‬
‫ٌ‬
‫معرتف له يف السري‬ ‫يف القواعد الفلسفيّة ومبتكر ٍة ملسائل جديدة يف الفلسفة‪ ،‬وأستاذ‬
‫نبي‬
‫بحق طبق مضمون الحديث الذي ُروي عن ج ّده رسول الله ّ‬ ‫والسلوك‪ .‬كان سلوكه ّ‬
‫اإلسالم العظيم‪« :P‬أخلص العمل فإنّ الناقد بصري»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إخالص العلمة الشيخ محمد جواد البالغي ‪M‬‬

‫«كان يف أعامله شديد التو ّجه إىل الله سبحانه‪ ،‬شديد اإلخالص يف العمل‪ ،‬بحيث‬
‫إنّه يف بعض كتبه املطبوعة مثل رسالة «التوحيد والتثّليث» وكتاب «الرحلة املدرسيّة»‬
‫كاتب مجهول وكان يقول‪:‬‬ ‫(املطبوع ‪1344‬هـ‪.‬ق) مل يكتب اسمه‪ ،‬بل نرشهام باسم ٍ‬
‫باسم آخر‬
‫«هديف الدفاع عن اإلسالم والتشيّع والحقيقة‪ ،‬وسواء طُبع الكتاب باسمي أو ٍ‬
‫فال فرق أبدا ً»(((‪ .‬نعم‪ ،‬هذا هو شعار املصلحني املؤمنني ب ِقيَم اإلميان العليا‪ ،‬وبهذه‬
‫صف األحرار والخالدين‪ ،‬وهذا منوذج يف ما يبطل‬ ‫البالغي يف ّ‬
‫ّ‬ ‫الفضيلة والسم ّو أصبح‬
‫املادي لحركات اإلنسان»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التفسري‬

‫((( يادنامه عالمة طباطبايئ‪ ،‬ص‪.48‬‬


‫((( مشكاة‪ ،‬مجلّة‪ ،1‬ص‪.126‬‬
‫((( بيدار ﮔران أقاليم قبله‪ ،‬ص‪.212-27‬‬
‫صاحب الذريعة‬
‫‪111‬‬
‫املرحوم الشيخ آقا بزرگ الطهرا ّين‪ ،‬صاحب الكتاب القيّم «الذريعة»‪ ،‬عندما يطّلع عىل‬
‫األميني‪ ،‬يطلب من الله أن يهب بقيّة عمره‪ ،‬لصاحب الغدير؛‬ ‫ّ‬ ‫للعلمة‬
‫عظمة كتاب الغدير ّ‬
‫لينجز الغدير‪ .‬وقد كتب يف التقريظ الذي ح ّرره يف الثاين من شهر رمضان سنة ‪1371‬هـ‪.‬ق‬
‫أجل‬
‫رص عن وصف هذا الكتاب القيّم‪ ،‬وشأنه ‪ -‬الغدير ‪ّ -‬‬ ‫«إن قا ٌ‬
‫األميني ما يأيت‪ّ :‬‬
‫ّ‬ ‫للعلمة‬
‫ّ‬
‫وأسمى من أن يوصف ويُث َنى عليه‪ .‬إ ّن العمل الوحيد الذي ميكنني القيام به أن أدعو الله‬
‫عبارلا مسقلا‪ :‬ينلا ةراهطو ‪،‬صالخإلا‬

‫فإن أدعو الله مخلصاً أن يضيف‬ ‫أن يطيل عمر املؤلّف وأن يجعل عاقبة أمره خريا ً؛ ولهذا‪ّ ،‬‬
‫كل ما يصبو إليه»(((‪.‬‬
‫بقيّة عمري إىل عمره الرشيف؛ ليتمكّن من تحقيق ّ‬
‫الحكيم الشهير‬
‫السبزواري‪ .‬مع أ ّن شؤون الزعامة كانت‬
‫ّ‬ ‫الحكيم الصالح املرحوم الشيخ هادي‬
‫يتول إمامة جامعة‪ ،‬ومل يشرتك يف وليمة‪،‬‬ ‫متوفّر ًة له‪ ،‬فقد أعرض عنها كلّ ّياً‪ ،‬حتّى إنّه مل َّ‬
‫ومل يخالط زعامء بلده‪ ،‬ومل تظهر منه أيّة رغبة يف تص ّدر املجالس واالهتامم باملوائد‬
‫والدعوات الفخمة وألوان األطعمة ودعاء قارئ التعزية له وتقبيل العوا ّم ليده‪ .‬كانت‬
‫حياته عاديّ ًة ج ّدا ً‪ ،‬بعيد ًة عن الكامل ّيات‪ ،‬ومل يكن يعترب لنفسه ميز ًة عىل اآلخرين‪ ،‬ومل‬
‫يرب أطفاله تربي ًة مرتفة‪ ،‬بل‬
‫يستغل أبدا ً احرتام الناس الوافر له‪ ،‬ومل ي ّدخر ماالً ومل ِّ‬‫ّ‬
‫ع َّودهم عىل التواضع‪ ،‬واالبتعاد عن الرئاسة والزعامة‪.‬‬
‫صاحب الحدائق‬
‫يقول املرحوم الشيخ عبد الله املامقا ّين يف رجاله‪« :‬حكم الوحيد البهبها ّين ببطالن‬
‫الصالة خلف صاحب الحدائق‪ ،‬ولك ّن صاحب الحدائق حكم بص ّحة الصالة خلف الوحيد‬
‫البهبها ّين‪ ،‬وعندما سئل عن ذلك قال‪« :‬تكليفي أن أص ّحح االقتداء به‪ ،‬وتكليفه‪ ،‬مبقتىض‬
‫فتواه‪ ،‬ال يص ّحح الصالة خلفي‪ ،‬وعدم تصحيحه الصالة خلفي اجتهاد ال يسقطه عن‬

‫((( مري حامد حسني‪ ،‬ص‪ 145‬بترصف‪.‬‬


‫العدالة»‪ .‬وقد تح ّمل صاحب الحدائق هذا بسبب رواج املذهب األصو ّيل(((‪ ،‬ويضيف‬
‫‪112‬‬
‫املرحوم املامقا ّين‪ :‬أنظر ‪-‬يرحمك الله تعاىل‪ -‬إىل هذا الرجل كيف ر ّوض نفسه وط ّهرها‬
‫يحق إطالق اسم النائب عن الح ّجة ‪-‬أرواحنا فداه‪-‬‬
‫من أرجاس هوى النفس! وملثله ّ‬
‫نعم‪ ،‬إنّه وأمثاله مصداق «العامل الربا ّين» ال أولئك الذين هم مصداق هذه األبيات‪:‬‬
‫وعليك مــن الــخــارج ثــوب الرياء‬ ‫«يــا مــن باطنك عــا ٍر مــن التقوى‬
‫ألوان فليس يف بيتك سوى حصري وضيع»‬ ‫ال تضع عىل الباب ستارا ً ذا سبعة‬

‫(سعدي)‬
‫«يع ّدون الرياء حالالً وكأس الخمر حراماً‪ ،‬ما أطرف هذه الطريقة وامللّة! ما أطرف‬
‫هذه الرشيعة وهذا الدين!» (حافظ)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إخالص المحدث القم ّي‬
‫عندما كان املح ّدث الق ّم ّي مقيامً يف مشهد‪ ،‬كان يف أحد املواسم يعظ يف مسجد‬
‫ﮔـوهرشاد‪ ،‬فجاء املرحوم الشيخ عبّاس تربتي ‪ -‬وهو من العلامء األبرار والروحانيّني‬
‫محل إقامته إىل مشهد؛ ليستفيد من مواعظ الشيخ‬ ‫ال ُعبَّاد ‪ -‬من «تُربت حيدريّة» ّ‬
‫عبّاس الق ّم ّي‪ .‬كان الشيخ الرتبتي صديقاً قدمياً للشيخ الق ّم ّي‪ ،‬وكانت تربطهام عالق ٌة‬
‫حميمة ومتينة‪ .‬وذات يوم ومن فوق املنرب‪ ،‬وقعت عني الشيخ الق ّم ّي عىل الشيخ عبّاس‬
‫الرتبتي يف زاوية من املجلس املكت ّظ يستمع إىل حديثه‪ ،‬عندها قال الشيخ الق ّم ّي‪ :‬أيّها‬
‫الناس‪ ،‬سامحة الشيخ موجود‪ ،‬استفيدوا من علمه‪ .‬وعىل الرغم من كرثة الناس الذين‬
‫يتول الحديث إىل آخر شهر‬ ‫كانوا قد جاؤوا ألجله‪ ،‬نزل عن املنرب وطلب من الشيخ أن ّ‬
‫مم‬ ‫كل ما أطلته السامء ّ‬ ‫رمضان بدالً منه‪ ،‬وهكذا كان «أنا» عبد اله ّمة من ت ّحرر من ّ‬
‫فيه لون الجذب واإلغراء(((‪.‬‬

‫((( وحيد بهبهاين‪ ،‬ص‪ .123‬وتنقيح املقال‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.335 - 334‬‬


‫((( مضمون بيت شعر فاريس والنص بكامله من كتاب حاج شيخ عباس قمي مرد تقوا وفضيلت‪ ،‬ص‪.29-28‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قال المحدث القم ّي البنه الكبير‬
‫‪113‬‬
‫«عندما ألّفت كتاب «منازل اآلخرة» وطبعته ووصل إىل ق ّم‪ ،‬وصلت إحدى نسخه‬
‫يبي بعض املسائل دامئاً يف صحن حرم املعصومة‬ ‫إىل الشيخ عبد الرزّاق الذي كان ّ‬
‫‪ O‬قبل صالة الجامعة‪ ،‬وكان والدي املرحوم (الزاير) مح ّمد رضا من مريدي الشيخ‬
‫عبد الرزّاق‪ ،‬وكان يشرتك يوميّاً يف مجلسه‪.‬كان الشيخ عبد الرزّاق يف النهار يفتح كتاب‬
‫«منازل اآلخرة» ويقرأ منه للمستمعني‪ .‬وذات يوم‪ ،‬جاء والدي إىل البيت وقال‪« :‬يا‬
‫عبارلا مسقلا‪ :‬ينلا ةراهطو ‪،‬صالخإلا‬

‫شيخ عبّاس ليتك كنت مثل هذا الواعظ تستطيع أن ترقى املنرب وتقرأ يف هذا الكتاب‬
‫الذي قرأ لنا اليوم فيه»‪ .‬وع ّدة مرات أردت أن أقول له إ ّن هذا الكتاب من مؤلّفايت‪،‬‬
‫كل م ّرة أسيطر عىل نفيس وأسكت‪ ،‬واكتفيت بأن قلت‪ :‬تفضّ ل بالدعاء‬ ‫ولك ّني كنت يف ّ‬
‫ليوفّقني الله تعاىل»(((‪.‬‬
‫عن أمري املؤمنني ‪« :Q‬الدنيا كلّها جهل ّإل مواضع العلم‪ ،‬والعلم كلّه ح ّجة‪،‬‬
‫ّإل ما عمل به‪ ،‬والعمل كلّه رياء‪ّ ،‬إل ما كان مخلصاً‪ ،‬واإلخالص عىل خطر‪ ،‬ح ّتى‬
‫َۡ ۡ َ‬ ‫ْ َٓ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫ينظر العبد مبا يختم له»((( وبنا ًء عليه‪﴿ :‬ف َمن كن يَ ۡر ُجوا ل ِقا َء َر ّبِهِۦ فل َي ۡع َمل ع َمل ٗ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ٗ َ ُۡ‬
‫ش ۡك ب ِ ِع َب َادة ِ َر ّبِهِۦٓ أ َح َ ۢدا﴾(((‪.‬‬
‫صٰل ِحا ول ي ِ‬

‫((( املصدر السابق‪ ،‬ص‪.49 - 48‬‬


‫((( بحار األنوار‪ ،‬ج‪ ،70‬ص‪.242‬‬
‫((( سورة الكهف‪ ،‬اآلية ‪.110‬‬
‫القسم الخامس‬

‫العبادة‬

‫ََ َ َۡ ُ ۡ‬
‫ٱل َّن َو ۡٱل َ‬
‫نس إ َّل ِلَ ۡع ُب ُ‬
‫ون﴾‬
‫ِ‬ ‫د‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿وما خلقت ِ‬
‫(سورة الذاريات‪ ،‬اآلية ‪)56‬‬
‫‪117‬‬

‫كل مسلم هو عبادة الله تعاىل والتو ّجه إىل‬ ‫محل اهتامم ّ‬ ‫أه ّم أمر ينبغي أن يكون ّ‬
‫خاصة بالنسبة إىل من هم قادة قافلة‬ ‫ساحة قدسه‪ .‬ويكتسب هذا املوضوع أه ِّم ّي ًة ّ‬
‫سماخلا مسقلا‪ :‬ةدابعلا‬

‫البرشيّة التائهة وعلامء الدين اإلله ّيون‪ .‬ومن هنا‪ ،‬نرى أ ّن العلامء الكبار‪ ،‬باإلضافة إىل‬
‫عنايتهم الكبرية بسائر أبعاد الدين الحنيف‪ ،‬كانت لهم عناي ٌة ّ‬
‫خاصة استثنائ ّية بهذا األمر‪،‬‬
‫وكام كانوا يحزرون قصب السبق يف العلم كانوا يأتون يف الطليعة يف مجايل العبادة‬
‫والعمل‪ ،‬وقد بلغوا يف ذلك الق ّمة الشامخة‪ ،‬وبكلمة‪ :‬كانوا علامء وعبادا ً‪ .‬وبعبار ٍة أخرى‪،‬‬
‫خاصة للواجبات واملستح ّبات واألدعية‬ ‫كان سلفنا الصالح وعلامؤنا الكبار يولون أه ِّم ّي ًة ّ‬
‫والزيارات والصلوات املستح ّبة‪ ،‬وإذا ك ّنا نريد أ ّن نكون الخلف لهؤالء األعاظم والعلامء‬
‫شك أ ّن من الواجب علينا أن نحيا حياتهم ونقتدي بهم ونقتفي أثرهم‪،‬‬ ‫الربان ّيني‪ ،‬فال ّ‬
‫ونسعى أن ال نكون مصداق هذا الحديث الرشيف‪ ...« :‬عامل تارك لعلمه‪ ،‬فهذا هالك‪،‬‬
‫وإ ّن أهل النار ليتأذّون من ريح العامل التارك لعلمه‪ ،‬وإ ّن أش ّد أهل النار ندام ًة وحرسة‪،‬‬
‫رجل دعا عبدا ً إىل الله‪ ،‬فاستجاب له‪ ،‬وقبل منه‪ ،‬فأطاع الله‪ ،‬فأدخله الله الج ّنة‪ ،‬وأدخل‬ ‫ٌ‬
‫الداعي النار برتكه علمه واتّباعه الهوى وطول األمل»(((‪.‬‬
‫نصيحة من شيخ اإلشراق‬
‫يقول هذا الفيلسوف الكبري حول أه ِّم ّية العبادة اإلسالم ّية وأثرها يف تكميل الروح‬
‫اإللهي‪ ،‬واملواظبة عىل‬
‫ّ‬ ‫ورقي النفس‪« :‬ومن الطرائق العبادة الدامئة مع قراءة الوحي‬ ‫ّ‬
‫الصلوات يف جنح الليل والناس نيام‪ ،‬والصوم‪ ،‬وأحسنه ما يؤ ّخر فيه اإلفطار إىل الس َحر ؛‬
‫(((‬

‫((( الشيخ الكليني‪ ،‬الكايف‪ ،‬ج‪ ،1‬باب استعامل العلم‪.‬‬


‫((( ال ترصفك غرابة ذلك عن احرتام الفكرة إذ الظاهر أن املراد أن يجرب اإلنسان ذلك وميكن أن يختار له نهارا ً‬
‫قصريا ً‪ ...‬هذا إذا أمكنه ذلك «وعىل قدر أهل العزم تأيت العزائم» املع ِّرب‪.‬‬
‫لتقع العبادة يف الليل عىل الجوع‪ ،‬وقراءة آيات يف الليل مه ِّيجة لرقّة وشوق»(((‪.‬‬
‫‪118‬‬
‫وإليك مناذج من عبادة الشموس الساطعة يف عامل الروحان ّية‪ ،‬واهتاممهم بالفرائض‬
‫واملستح ّبات‪.‬‬
‫ّ‬
‫اإلمام الخميني{‬

‫هذا الرجل العظيم الذي مل تُع َرف بعد منزلته العلم ّية والعمل ّية حتّى للكثريين من‬
‫الخواص‪ ،‬ميتاز من علامء الشيعة يف هذا امليدان أيضاً‪ ،‬وعندما تطرح أحياناً قصص عن‬ ‫ّ‬
‫واملجلت ‪ -‬ورغم أنّها قطرة من بحار‪ّ -‬إل أنّها ترتك‬
‫ّ‬ ‫تو ّجهه وعبادته يف الخطب والكتب‬
‫املرء غريق الحرية‪ .‬ويذكر هنا بعض ذلك‪:‬‬
‫اإللهي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يقول أحد املق ّربني من هذا القائد‬
‫كل مظاهر الشجاعة وعدم الخوف يف سبيل الله قد‬ ‫«يف الوقت الذي نجد أ ّن ّ‬
‫تبلورت يف روح اإلمام‪ ،‬فإنّه أبدا ً ال يغفل عن األذكار والنوافل واملستح ّبات‪ ،‬وحتّى‬
‫يتمش تكون السبحة يف يده ويكون مشغوالً بالذكر والزيارة‪ .‬يقرأ اإلمام‬ ‫عندما يكون ّ‬
‫كل فرصة تسنح ويكون ذلك عادة‬ ‫القرآن ع ّدة م ّر ٍ‬
‫ات يوم ّياً بذلك الصوت امللكويتّ‪ ،‬ويف ّ‬
‫بعد صالة الصبح وقبل صالة الظهر والعرص واملغرب والعشاء‪ ،‬أو يف أيّة فرص ٍة أخرى‪.‬‬
‫اإللهي‪ ،‬وعندما نذهب إليه مرارا ً يف النهار‬
‫ّ‬ ‫املستحب‬
‫ّ‬ ‫فإنّه ملتز ٌم يف هذه األوقات بهذا‬
‫نجده مشغوالً بقراءة القرآن‪ .‬يف منزل شارع «دربند شمريان» رأيناه مرارا ً يقرأ دعاء‬
‫كميل بصوته امللكويتّ الذي يذكّر بتسبيح املالئكة وتقديسها»(((‪.‬‬
‫ويقول أحد مالزمي اإلمام يف النجف األرشف‪:‬‬
‫كل ثالثة‬
‫كل يوم عرشة أجزاء من القرآن يف شهر رمضان؛ أي أنّه يف ّ‬‫«يقرأ سامحته ّ‬
‫أيّام يختم القرآن م ّرة‪ .‬كان اإلخوة يفرحون أنّهم ختموا القرآن م ّرة فيكتشفون أ ّن‬

‫((( فريادروزها‪ ،‬ص‪ 195‬والتلويحات‪ .‬ط استامبول‪ ،‬ص‪.114-113‬‬


‫((( فرازهايئ أز أبعاد روحي أخالقي وعرفاين إمام خميني‪ ،‬ص‪.19‬‬
‫اإلمام قد ختمه يف امل ّدة نفسها عرشا ً أو إحدى عرشة م ّرة‪ ،‬وأتص ّور أ ّن برنامجه اآلن‬
‫‪119‬‬
‫ما يزال كذلك‪ .‬ذات ليلة يف شهر رمضان كنت نامئاً‪ ،‬كان بيت اإلمام صغريا ً (‪ 45‬مرتا ً)‪،‬‬
‫يصل‪ ،‬وقد رفع يديه‬ ‫تبي أنّه اإلمام كان واقفاً يف الظالم ّ‬ ‫استيقظت‪ ،‬سمعت صوتاً‪ ،‬ث ّم ّ‬
‫يف القنوت وهو يدعو ويبيك‪ .‬كانت عادته يف شهر رمضان أن يبقى إىل الصباح مشغوالً‬
‫بالصالة والدعاء‪ ،‬وبعد صالة الصبح ينام قليالً‪ ،‬ث ّم يبدأ مبزاولة أعامله»(((‪.‬‬
‫جاء يف بعض املطبوعات عن ابن اإلمام قوله‪:‬‬
‫سماخلا مسقلا‪ :‬ةدابعلا‬

‫«يف اليوم األ ّول ملغادرة الشاه لطهران ك ّنا يف نوفل لوشاتو‪ ،‬اجتمع حول منزل‬
‫صحفي‪ ،‬أُ ِع ّد لإلمام مكا ٌن ووقف فيه‪ ،‬وكانت جميع‬
‫ّ‬ ‫اإلمام حوايل ثالمثئة إىل أربعمئة‬
‫كل ع ّدة أشخاص من الصحف ّيني يف سؤا ٍل واحد‪،‬‬ ‫الكامريات تعمل‪ ،‬كان املقرر أن يشرتك ّ‬
‫أجاب اإلمام عن ع ّدة أسئلة‪ ،‬سؤالني أو ثالثة‪ ،‬وسمع صوت آذان الظهر‪ ،‬وفورا ً غادر‬
‫اإلمام املكان‪ ،‬وقال‪« :‬اآلن يفوت وقت فضيلة الظهر‪ ،‬فتع ّجب جميع الحارضين من أ ّن‬
‫شخص أن يصرب ع ّدة دقائق ليجيب عىل‬ ‫اإلمام غادر املكان بدون مس ِّوغ‪ ،‬فطلب منه ٌ‬
‫األقل عن أربعة أو خمسة أسئلة أخرى‪ ،‬فأجاب اإلمام مغضباً‪ :‬غري ممكن أبدا ً»‪.‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫الشيرازي الكبير‬ ‫الميرزا‬
‫هذا العامل الربا ّين‪ ،‬واملرجع الشجاع الواعي‪ ،‬محطّم حكم األجانب‪ ،‬واملقلّص‬
‫لنفوذهم‪ ،‬من ّجي الشعب اإليرا ّين؛ حيث أعاد إليه شخص ّيته‪ ،‬وع ّزته‪ ،‬وثقته بنفسه؛ أي‬
‫ازي صاحب الفتوى الشهرية بتحريم التنباكو‪.‬‬ ‫املريزا مح ّمد حسن الشري ّ‬
‫جاء يف ترجمته‪« :‬كان يحفظ أكرث آيات القرآن‪ ،‬وكذلك أدعية شهر رمضان وأدعية‬
‫األوقات األخرى والزيارات التي كان يقرأها يف حرم األمئّة‪ ،‬ومل يكن يأخذ معه كتاب‬
‫أي حرم‪ ،‬علامً بأنّه كان يقيض فرت ًة طويلة يف قراءة الدعاء‪ ،‬والزيارة‪ ،‬وحيث‬
‫دعاء إىل ّ‬
‫إنّه كان رقيق القلب‪ ،‬ف ّوار الدمعة فقد كان يبيك كثريا ً‪ ،‬وكانت له هيبة كبرية يف نفوس‬

‫((( املصدر السابق‪ ،‬ص‪.70‬‬


‫اإللهي»(((‪ .‬نقل الشيخ آقا بزرگ الطهر ّاين يف‬
‫ّ‬ ‫الجميع حتّى أبنائه‪ ،‬وهذا هو الجالل‬
‫‪120‬‬
‫ازي» عن املوىل مح ّمد زمان املازندرا ّين ‪-‬أحد تالمذة املريزا‪ -‬قوله‪« :‬أورد‬
‫«هديّة الر ّ‬
‫النوري يف «الكلمة الط ّيبة» بعض كراماته وأحواله وعباداته ورياضاته‬
‫ّ‬ ‫العلمة‬
‫أستاذنا ّ‬
‫الرشع ّية يف النجف األرشف»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫السيد محمد باقر الشفتي ‪M‬‬ ‫حجة اإلسالم‬
‫التنكابني ‪« :M‬أوائل دخويل إىل النجف األرشف‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يقول املرحوم املريزا أحمد‬
‫يصل‬
‫الطويس‪ ،‬حيث كان ّ‬ ‫ّ‬ ‫كنت أذهب يف وقت صالة املغرب والعشاء إىل مسجد الشيخ‬
‫فيه صاحب الجواهر؛ ألقتدي به‪ .‬ولكن يف وقت صالة الصبح كنت أقتدي باملرحوم‬
‫الشَ فتي‪ ،‬وكنت أذهب يوميّاً من منزيل الواقع عىل مساف ٍة بعيد ٍة نسبيًّا لالقتداء به‪،‬‬
‫طلبه‪« :‬ليس‬ ‫يكب تكبرية اإلحرام كان مي ّد‪ ،‬سألت ّ‬ ‫وكنت أقف قريبًا منه‪ ،‬عندما كان ّ‬
‫يف «الله» م ّد فلامذا مي ّد السيّد؟» قالوا‪« :‬سألناه عن ذلك فقال‪ :‬عندما أتلفّظ بالكلمة‬
‫املباركة «الله» أخرج من حالة االختيار‪ ،‬وهذا امل ّد ليس اختياريًّا»‪ .‬كان السيّد يؤ ّدي‬
‫ألي مستمعٍ أنّه يؤ ّدي صالته‬ ‫الصالة كلّها بخضو ٍع تا ّم وحزن‪ ،‬بل وبكاء‪ .‬وكان واضحاً ّ‬
‫مبنتهى حضور القلب‪ ،‬وكان يقرأ ذكر الركوع والسجود يف النوافل ثالث ًا‪ ،‬ويضع تحت‬
‫كفيّه تربتني‪ .‬وباختصار‪ :‬كانت صالة ذلك العظيم ال نظري لها وال مثيل يف الحضور‬
‫والخضوع‪ ،‬وكانت تشجي املستمع وتبكيه‪ .‬كان السيّد يحفظ املناجاة الخمس عرشة‬
‫النوري الحكيم املعروف هي‬ ‫ّ‬ ‫يل‬ ‫ويقرأها يوميّاً وهو يبيك‪ ،‬وقد سمعت أ ّن صالة ّ‬
‫املل ع ّ‬
‫من حيث الخوف والهيبة والحضور أكمل من صالة ح ّجة اإلسالم الشفتي‪ ،‬ويف ذلك‬
‫مم عليه علامء هذا العرص‪ ،‬وكان والدي‬ ‫الزمان كان العلامء غالباً يؤ ّدون الصالة بأفضل ّ‬
‫الكلبايس (مح ّمد إبراهيم) كاملة‬
‫ّ‬ ‫يصل مبنتهى حضور القلب‪ ،‬كام كانت صالة املرحوم‬ ‫ّ‬
‫وكان يطيل الصالة كثريا ً»(((‪.‬‬
‫ازي‪ ،‬ص‪.52-51‬‬
‫((( بيدار ﮔران أقاليم قبله‪ ،‬ص‪ .220-219‬وهديَّة الر ّ‬
‫ازي‪ ،‬ص‪.105‬‬
‫((( هديّة الر ّ‬
‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪.137-104‬‬
‫ِّ‬
‫أهم ّية صالة الجماعة‬
‫‪121‬‬
‫الكلبايس العامل‬
‫ّ‬ ‫يقول املح ّدث الق ّم ّي‪« :‬رأيت رسال ًة فيها صورة إجازتني من املرحوم‬
‫املعارص للسيّد الشّ فتي إىل ولده مح ّمد‪ ،‬كتب يف آخر إحداهام‪ :‬أخرب اإلخوة يف الدين‬
‫واألخلء املؤمنني ّأن قلت لك‪ ،‬يا نور عيني مح ّمد مواجهة‪ّ :‬إن ال أرىض أن ترتك الجامعة‬
‫ّ‬
‫تصل صال ًة واحدة بغري جامعة»(((‪.‬‬
‫بل قلت مبالغاً‪ :‬ال ِّ‬
‫ّ‬
‫الشيخ األنصاري ‪M‬‬
‫سماخلا مسقلا‪ :‬ةدابعلا‬

‫العبادات التي كان الشيخ مواظباً عليها يوم ًّيا إىل آخر عمره الرشيف ‪-‬باإلضافة إىل‬
‫الفرائض والنوافل الليل ّية والنهاريّة واألدعية والتعقيبات‪ -‬هي عبارة عن قراءة جز ٍء من‬
‫القرآن وصالة جعفر الط ّيار والزيارة الجامعة وزيارة عاشوراء(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الميرزا حسين الخليلي ‪M‬‬

‫هذا الرجل العظيم أحد قادة حركة املرشوطة‪« ،‬كان حسن األخالق كريم النفس‬
‫بهي الطلعة‪ ،‬جميل املحرض‪ ،‬متّزناً وقورا ً‪ ،‬ويف الوقت نفسه مرحاً‪ .‬ال يرتك أبدا ً‬
‫واليد‪ّ ،‬‬
‫القيام بأعامل مسجد الكوفة والسهلة وسائر العبادات‪ ،‬وكان يعتكف سنويًّا يف العرشة‬
‫األخرية من شهر رمضان يف مسجد الكوفة‪ ،‬ويقرأ بني الطلوعني زيارة عاشوراء باستمرار‪،‬‬
‫كام كان يذهب سريا ً عىل األقدام إىل كربالء يف أغلب الزيارات املخصوصة»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الميرزا محمد جعفر األنصاري ‪M‬‬

‫األنصاري‪ ،‬ومن مراجع خوزستان‬


‫ّ‬ ‫هذا العامل الجليل من أقارب املرحوم الشيخ مرتىض‬
‫كل انشغاالته الدراس ّية مل يرتك عباداته التي كان قد التزم‬
‫املشهورين‪« .‬عىل الرغم من ّ‬
‫بها منذ س ّن البلوغ‪ ،‬وباإلضافة إىل قراءة جز ٍء من كالم الله وصالة جعفر الط ّيار {‬
‫كان يقرأ يوم ًّيا الزيارة الجامعة وعاشوراء يف ٍ‬
‫وقت واحد واقفاً‪ ،‬وكان تو ّجهه أثناء‬

‫((( الفوائد الرضويّة‪ ،‬ص‪.12-11‬‬


‫((( زندﮔـاين وشخصيت شيخ أنصاري‪ ،‬ص‪.90‬‬
‫((( املصدر السابق‪ ،‬ص‪.249‬‬
‫العبادة مم ّيزا ً‪.‬كانت ذاكرته عجيب ًة ج ًّدا؛ فقد كان يحفظ القرآن املجيد وتعقيبات‬
‫‪122‬‬
‫وكل يوم وليلة يف شهر رمضان ‪.(((»...‬‬
‫كل شهر ّ‬
‫الصالة وأدعية ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العلمة الطباطبائي ‪M‬‬

‫املعنوي‪ ،‬وكان من أهل‬


‫ّ‬ ‫العلمة مراحل يف مراتب العرفان والسري والسلوك‬ ‫«قطع ّ‬
‫الذكر والدعاء واملناجاة‪ ،‬عندما كنت أراه يف الطريق كان ‪ -‬يف الغالب ‪ -‬منشغالً بذكر‬
‫الله‪ ،‬ويف الجلسات التي اشرتكت فيها بني يديه‪ ،‬عندما يخيّم السكوت عىل املجلس‬
‫كانت شفتاه تتح ّركان بذكر الله‪ ،‬كان ملتزماً بالنوافل‪ ،‬وكان أحياناً يُرى يف الطريق ّ‬
‫يصل‬
‫النافلة‪.‬كان يحيي ليايل شهر رمضان‪ ،‬يطالع قليالً ويقيض باقي الوقت يف الدعاء‪ ،‬وقراءة‬
‫األقل لزيارة حرم‬‫القرآن‪ ،‬والصالة‪ ،‬واألذكار‪.‬كان يف ق ّم يذهب م ّرة يف األسبوع عىل ّ‬
‫جه غالبا ً إىل زيارة اإلمام الرضا ‪Q‬‬ ‫املعصومة ‪ ،O‬ويف موسم الصيف كان يتو ّ‬
‫رشف بزيارة الحرم‪ ،‬ويجلس من جهة الرأس الرشيف‪ ،‬منرصفاً إىل الزيارة‬ ‫ويف الليايل يت ّ‬
‫والدعاء»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشيخ آقا بزرگ الطهراني ‪M‬‬

‫نقرأ يف أحوال هذا العامل املتت ِّبع‪ ،‬والنشيط والنموذج الرفيع يف االستقامة وعل ّو‬
‫كل مشاغله العلم ّية الكبرية‪ ،‬وتت ّبعه الواسع‬
‫اله ّمة وال َجلَد‪ :‬كان الشيخ بالرغم من ّ‬
‫ج ًّدا‪ ،‬ال يغفل عن القيام بالعبادات اإلسالم ّية‪ ،‬والرياضات الرشع ّية وتهذيب النفس‪،‬‬
‫كل ليلة أربعاء سريا ً عىل األقدام من النجف إىل مسجد السهلة‬ ‫وترويضها؛ كان يذهب ّ‬
‫(‪ 10‬كيلو مرتات من النجف) ويشتغل هناك بالصالة والدعاء والعبادة‪ ،‬وكانت هذه‬
‫سريته دامئاً حتّى بعد وصوله إىل س ّن الثامنني‪.‬‬
‫وكان الشيخ أيضاً إمام جامعة‪ ،‬استم ّر يف ذلك حتّى سنة ‪ 1376‬يف مسجد الشيخ‬
‫الطويس يف النجف‪ .‬بعد هذه السنة حيث تع ّرض لحادث سري يف طريق كربالء‪ ،‬وبسبب‬
‫ّ‬
‫((( زندﮔـاين وشخصيت شيخ أنصاري‪ ،‬ص‪.382‬‬
‫((( يادنامه عالمة طباطبايئ‪ ،‬ص‪ُ 131‬ملَخ ًَّصا‪.‬‬
‫الطريحي واستم ّر يؤ ّم املصلّني فيه إىل‬
‫ّ‬ ‫الطويس عن منزله اختار مسجد آل‬
‫ّ‬ ‫بعد مسجد‬
‫‪123‬‬
‫ما قبل وفاته ب ّعدة سنوات(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫السبزواري‬ ‫الفيلسوف الكبير المل هادي‬
‫كل ليلة يف الشتاء‪ ،‬والصيف‪ ،‬والربيع‪ ،‬والخريف‪ ،‬يف أ ّول الثلث األخري‬
‫وكان يستيقظ ّ‬
‫من الليل‪ ،‬وينشغل بالعبادة يف ظالم الليل وحتّى طلوع الشمس‪ .‬وكذلك كان ينرصف‬
‫إىل العبادة أ ّول الليل مل ّدة ثالث ساعات يف الظالم‪ ،‬كام كان مييش يف داره نصف ساعة‬
‫سماخلا مسقلا‪ :‬ةدابعلا‬

‫يوميّاً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشيرازي‬ ‫الحكيم الجليل المل صدرا ‪ -‬صدر المتألهين‬
‫ُوف يف البرصة‬ ‫بحج بيت الله الحرام مرارا ً‪ ،‬وقد ت ِّ‬
‫رشف ّ‬‫هذا املحقّق البعيد الغور ت ّ‬
‫يف امل ّرة السابعة التي كان يف طريقه فيها إىل بيت الله الحرام(((‪ .‬يقول أحد الفضالء‬
‫إسالمي‪ ،‬ومن نوادر الز ّهاد والع َّباد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫وعارف‬ ‫ٍ‬
‫فيلسوف‬ ‫املعارصين‪« :‬صدر املتألّهني‪ ،‬أكرب‬
‫(ساة) أتباع الرشيعة املح ّمدية الحقيق ّيني‪ ،‬ومن املخلصني الواقع ّيني ألهل بيت‬ ‫ومن ُ‬
‫النب ّوة‪.‬كان يعترب يف مراعاة اآلداب والسنن اإلسالم ّية واملواظبة عليها «سلامن» العرص‬
‫و«أبا ذ ّر» الزمان‪ ،‬مل يتّصل طيلة عمره بأصحاب النفوذ‪ ،‬ومل ينحرف آناً واحدا ً عن‬
‫الحق والحقيقة‪ ،‬ومل يتّخذ العلم وسيل ًة للتق ّرب إىل امللوك والحكام‪ ،‬وقد قرن‬ ‫رصاط ّ‬
‫العلم بالعمل‪ ،‬وكان من الق ّوة يف األمور النظريّة يف السنام األعىل‪ ،‬ويف االشتغال يف‬
‫العبادة وتصفية الروح يف سلك أعاظم أرباب الكشف واليقني»(((‪.‬‬

‫((( شيخ آقا بزرگ‪ ،‬ص‪.8 7‬‬


‫ترصح بذلك كثري من املصادر منها «ادوار الفقه»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ .33‬وهدي ّة األحباب‪ ،‬ص‪ 205‬والفوائد الرضويّة‪،‬‬ ‫((( ّ‬
‫ص‪ 38‬وسفينة البحار‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،311‬ولؤلؤة البحرين‪ ،‬ص‪ .131‬والكنى واأللقاب‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ ،410‬ونجوم السامء‬
‫رصح مصادر أخرى بأ ّن وفاته‬
‫ومعجم املؤلّفني‪ ،‬مستدرك الوسائل‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪ ،424‬والبحار‪ ،‬ج‪ ،109‬ص‪ ،131‬وت ّ‬
‫الحج للم ّرة السابعة منها قصص العلامء‪ ،‬ص‪ ،329‬ورسالة «سه أصل»‪ ،‬ص‪ ،9‬وفرهنـﮓ معني‪،‬‬ ‫أثناء رجوعه من ّ‬
‫ج‪ ،5‬ص‪ ،990‬ومنها ما يرت ّدد يف ذلك مثل أعيان الشيعة‪ ،‬ج‪ ،9‬ص‪ 322‬حيث قال «وقد ّ‬
‫توف سنة ‪ 1050‬يف البرصة‬
‫الحج للم ّرة السابعة أو بعد رجوعه»‪.‬‬
‫يف طريقه إىل ّ‬
‫((( اللمعة اإلله ّية والكلامت الوجيزة‪ ،‬ص‪ 37‬املق ّدمة‪.‬‬
‫ّ‬
‫التنكابني‬ ‫العالم الجليل الميرزا سليمان‬
‫‪124‬‬
‫التنكابني‬
‫ّ‬ ‫يقول صاحب «قصص العلامء «حول والده املرحوم املريزا سليامن‬
‫النوري ‪« :M‬كان‬ ‫ّ‬ ‫يل‬
‫مل ع ّ‬
‫الذي كان من تالمذة الحكيم الكبري والشهري اآلخوند ّ‬
‫والدي مواظباً عىل الصالة أ ّول وقتها‪ ،‬وقراءة النوافل الراتبة وكان يقرأ جزءا ً من‬
‫الحق املبني»‬ ‫القرآن يوميّاً وأيضاً سورة يس يف ّ‬
‫كل صباح مع مئة م ّرة «ال إله ّإل امللك ّ‬
‫وبعض األذكار األخرى‪ ،‬وكان يقرأ سورة الواقعة يف قنوت الوترية ؛ أي نافلة العشاء‪،‬‬
‫ومل يرتك صالة الليل أبدا ً‪ .‬استيقظت ذات يوم وقت السحر‪ ،‬فرأيته يبيك بكا ًء مريرا ً‪،‬‬
‫وبعد م ّدة عندما توقف بكاؤه سألته عن السبب‪ ،‬فقال‪« :‬كنت أقرأ يف قنوت صالة‬
‫الوتر املناجاة الخمس عرشة وكنت أبيك‪ ،‬فجأ ًة سمعت من السقف صوتاً يقول‪ :‬أيّها‬
‫العامل العامل»‪.‬‬
‫رصح املرحوم الوالد بأكرث من ذلك‪ ،‬ث ّم قال‪« :‬عندما سمعت ذلك الصوت‬ ‫ومل ي ّ‬
‫يل البكاء بحيث مل أمتكّن من إمتام الصالة‪ ،‬وال إراديّاً جلست وبكيت‪ ،‬وما دمت‬ ‫استوىل ع ّ‬
‫عىل قيد الحياة فلست راضياً أن تخرب أحدا ً بذلك»‪ .‬يقول «صاحب قصص العلامء»‪:‬‬
‫الخمس عرش َة يف قنوت الوتر دامئاً»(((‪.‬‬
‫َ‬ ‫كان املرحوم يقرأ املناجاة‬
‫إدراك ليلة القدر‬
‫الكلبايس‪ ،‬الذي كان من معارصي املريزا الق ّم ّي‬
‫ّ‬ ‫جاء يف سرية الشيخ مح ّمد إبراهيم‬
‫والسيّد الشفتي‪ ،‬ومن تالمذة السيّد بحر العلوم‪ ،‬وصاحب الرياض‪ ،‬أنّه أدرك ليلة القدر‬
‫ظل مل ّدة سن ٍة كاملة يحيي الليايل بالعبادة حتّى‬‫حتامً وأحياها بالعبادة؛ ذلك ألنّه ّ‬
‫الصباح‪ ،‬ومن الواضح أ ّن ليلة القدر هي إحدى ليايل السنة(((‪.‬‬
‫ًّ‬
‫يوميا‬ ‫جزء من القرآن‬
‫املجليس ‪-‬صاحب‬
‫ّ‬ ‫املجليس األ ّول ‪ M‬لولده الشيخ مح ّمد باقر‬
‫ّ‬ ‫العلمة‬
‫يف وص ّية ّ‬
‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪.73‬‬
‫نفسهُ‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،11‬والفوائد الرضويّة‪ ،‬ص‪.10‬‬
‫((( املصدر ُ‬
‫بحار األنوار‪ -‬يوصيه بقراءة جزء من القرآن يوم ّياً‪ ،‬ومطالعة رسالة أمري املؤمنني لإلمام‬
‫‪125‬‬
‫الحسن ‪ Q‬املذكورة يف نهج البالغة‪ ،‬والعمل بها‪.‬‬
‫السيد ّ‬
‫ّ‬
‫علي صاحب الرياض‬
‫عاىن صاحب الرياض كثريا ً يف سبيل العلم‪ ،‬واملشهور أنّه‪ M‬حصل عىل العلم‬
‫رضع ومناجاة الله تعاىل؛ ألنّه ‪-‬ظاهرا ً‪ -‬مل يكن مستواه أثناء الدراسة بحيث‬
‫بالبكاء والت ّ‬
‫وصل إليها‪ ،‬ويقال إنّه كان يحيي ليايل‬
‫ميك ّنه الوصول إىل هذه الرتبة العالية التي َ‬
‫سماخلا مسقلا‪ :‬ةدابعلا‬

‫الجمعة‪ ،‬حتّى الصباح‪ ،‬مشتغالً فيها بعبادة الله تعاىل‪.‬‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫آية اهلل النجفي القوﭼـاني ‪M‬‬

‫يقول هذا العامل الجليل حول أيّام دراسته ما يأيت‪« :‬يف هذه الفرتة‪ ،‬التي هي السنة‬
‫الثالثة إلقامتي ودراستي يف أصفهان‪ ،‬وبسبب تأثري مواعظ األستاذ الكامل اآلخوند‬
‫السبزواري‪ ،‬وبسبب املعارف التي ك ّنا نتلقّاها منه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الكايش الذي ك ّنا نقرأ عليه منظومة‬
‫ّ‬
‫رغبت تدريج ّياً بإحياء الليل‪ ،‬إىل أن بدأت أفكّر بالرياضة يف مكان رياضة الشيخ البها ّيئ‪،‬‬
‫يف مقربة «تخت فوالد أصفهان» بني القبور ويف رسداب‪ ،‬حيث بنوا مبساحة قرب مكاناً‬
‫مسقفًا بحجار مليئة بالنتوء عىل عمق درجتني‪ ،‬مبقدار القرب‪ ،‬إلّ أ ّن وجهته إىل القبلة‬
‫بحيث ميكن لإلنسان أن يؤ ّدي فيه صالته بركو ٍع وسجود‪ .‬فكّرت أن أُظهر لألصدقاء‬
‫أن ّني ذاهب إىل طهران وأذهب إىل ذلك الرسداب أختفي فيه نهارا ً‪ ،‬وأقيض الليل يف‬
‫الصحراء بجوار املوىت ألط ّهر نفيس من الرذائل وأحلّيها بالفضائل‪ ،‬وأكون بذلك قد‬
‫قمت بسياحة يف مقامات العارفني ومنازلهم‪ .‬وبقيت هذه األفكار تراودين م ّدة‪ ،‬وكنت‬
‫أحياناً أتص ّور أ ّن ذلك محض رهبان ّية (‪ )...‬وك ّنا نقرأ العزاء ليايل الجمعة‪ ،‬وق ّررت أن‬
‫أبقى مستيقظاً حتّى الصباح منشغالً بقراءة القرآن واألدعية واألوراد وأن اشتغل بني‬
‫الطلوعني بزيارة عاشوراء‪ ،‬وشيئاً فشيئاً أقلعت عن التفكري مبرشوع «تخت فوالد»(((‪.‬‬

‫((( سياحت رشق‪ ،‬ص‪ 198-196‬ملخ ًَّصا‪.‬‬


‫الفيلسوف العظيم المرحوم الميرداماد‬
‫‪126‬‬
‫يقول املح ّدث الق ّم ّي‪« :‬نقل عن «حدائق املق ّربني» أ ّن املريداماد بلغ الغاية يف‬
‫العبادة‪ ،‬وكان يقرأ القرآن الكريم كثريا ً‪ ،‬بحيث إ ّن أحد األشخاص املعتمدين نقل يل أنّه‬
‫كل ليلة خمسة عرش جزءا ً من القرآن»(((‪.‬‬‫كان يقرأ يف ّ‬
‫ّ‬
‫اآلخوند الخراساني صاحب الكفاية ‪M‬‬

‫يصل الصبح واملغرب جامعة‬ ‫يقول مؤلّف كتاب حياة اإلسالم‪« :‬كان اآلخوند ّ‬
‫كل صلواته جامعة‪ ،‬ومل تفته أبدا ً نوافل الليل‬ ‫يصل ّ‬
‫إلّ يف شهر رمضان حيث كان ّ‬
‫الحق ظاهرة من‬ ‫وال النهار‪ ،‬ومل تكن عبادته رصف أداء التكليف‪ ،‬بل كانت جذبة ّ‬
‫صال بسقف منزله‪،‬‬ ‫عباداته»(((‪ .‬يقول أحد جريان سامحته‪« :‬كان سقف بيتنا متّ ً‬
‫كل من‬ ‫وعويل يفتّت القلب‪ ،‬بحيث إ ّن ّ‬ ‫ٌ‬ ‫وكان له‪ M‬يف سجوده تح ّر ٌق وأن ٌني‬
‫املحب عند‬
‫ّ‬ ‫يتغي؛ كان يبيك كام‬‫كان قايس القلب وسمعه فمن املستحيل أن ال ّ‬
‫كل هذا الخوف‬ ‫وصاله‪ ،‬وهو يبيك عىل زمان الفراق ‪/‬كام العبد الجاين الذي يعيش ّ‬
‫واالضطراب‪ .‬كان صايف الباطن نظيف الظاهر‪ ،‬مل يكن يتص ّنع أبدا ً وكان م َّرب ًءا من‬
‫التزوير والتدليس‪ ،‬وكان غاية يف مراقبة نفسه‪ ،‬ومل تفته زيارة أمري املؤمنني ‪Q‬‬
‫أبدا ً‪ّ ،‬إل أنّه كان يؤ ّديها مخترصة‪.‬‬
‫قال أحد أصحابه‪« :‬قلت له أطل املكث يف الحرم قليالً حتّى إذا مل تكن منشغالً‬
‫بيشء‪ ،‬اهت ّم بنفسك بعض اليشء؛ أي را ِع ما يقوله الناس‪ ،‬فرأيت أنّه قبض عىل لحيته‬
‫بيده‪ ،‬وقال مبنتهى االنكار‪ :‬يعني تقول أن أرشك بالله تعاىل وألجأ إىل الرياء يف آخر‬
‫اإللهي اثني عرش‬
‫ّ‬ ‫عمري ومع ابيضاض لحيتي؟» والخالصة ّأن تأ ّملت يف أحوال هذا النور‬
‫عاماً فلم أ َر يف حاالت هذا الشخص الجليل وأقواله وأفعاله مخالفة أبدا ً للمندوبات‬
‫واملكروهات اإللهيّة‪ ،‬مل يكن يأيت بذلك تكلّفاً‪ ،‬بل أصبح ذلك مقتىض طبعه‪ .‬وكان‬

‫((( فوائد الرضويّة‪ ،‬ص‪ .419‬وهدية األحباب‪ ،‬ص‪.152‬‬


‫الحق أ ّن الله تعاىل يأخذ بيده ويقّربه منه‪.‬‬
‫((( إشارة إىل ق ّمة الخضوع وحضور القلب يف العبادة واملراد بجذبة ّ‬
‫يشارك يف تشييع الجنائز ومجالس الفاتحة وعيادة املرىض‪ ،‬وينظر يف األمور الحسب ّية‬
‫‪127‬‬
‫والحوائج النوع ّية والشخص ّية للمسلمني ومل يكن ير ّد لصاحب حاجة طلباً»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫القزويني‬ ‫البرغاني‬ ‫شهيد المحراب مل محمد تقي‬
‫جاء يف نجوم السامء حول هذا العامل الذي استشهد عىل يد «البابيّة» الضالّني‪:‬‬
‫«كان { يذهب دامئاً عند منتصف الليل إىل مسجده ويشتغل باملناجاة واألدعية‬
‫الخمس عرشةَ‪ ،‬وكانت‬ ‫رضع والته ّجد إىل طلوع الفجر الصادق‪ ،‬وكان يحفظ املناجاة‬‫والت ّ‬
‫سماخلا مسقلا‪ :‬ةدابعلا‬

‫َ‬
‫هذه سريته إىل الليلة التي رشب فيها رشبة الشهادة»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األصفهاني‬ ‫العاملي‬ ‫السيد صدر الدين‬
‫أورد املرحوم الشيخ ع ّباس الق ّم ّي يف ترجمته‪« :‬وهذا الس ّيد الجليل كان بكّا ًء وكثري‬
‫املناجاةن وقد نقل أنّه يف إحدى ليايل شهر رمضان دخل حرم املؤمنني ‪ Q‬وجلس‬
‫بعد الزيارة يف جهة ما فوق الرأس املق ّدس وبدأ بقراءة دعاء أيب حمزة‪ ،‬ومبج ّرد أن بدأ‬
‫بعبارة «إلهي ال تؤ ّدبني بعقوبتك» سيطر عليه البكاء‪ ،‬وأخذ يك ّرر هذه العبارة ويبيك‬
‫حتّى أغمي عليه وأخرجوه من الحرم املط ّهر»(((‪.‬‬
‫َ‬
‫دعاء اإلمام الباقر ‪ Q‬في السحر‬
‫رشفت ذات م ّرة بزيارته ‪-‬رضوان‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ ‪« :M‬ت ّ‬ ‫يقول أحد تالمذة ّ‬
‫تنس دعاء باقر علوم النب ّيني ‪ Q‬يف الس َحر؛‬
‫الله عليه‪ -‬وذكرت له حاجتي‪ ،‬فقال‪ :‬ال َ‬
‫فإ ّن فيه البهاء والجامل والعظمة والنور والرحمة والعلم والرشف‪ ،‬وليس فيه ذكر‬
‫للحور والغلامن إذا كانت الج ّنة حلوةً‪ ،‬فإ ّن سبب الج ّنة أحىل»‪.‬‬
‫«ملاذا أنت زاهد يف هوى الج ّنة؟ ملاذا أنت غافل عن سبب الج ّنة؟»(((‪.‬‬

‫((( مرﮔـي درنور‪ ،‬ص‪.395 ،394‬‬


‫األميني‪ ،‬والكرام الربرة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.229 ،226‬‬
‫ّ‬ ‫((( تجد ترجمة هذا العامل الجليل يف شهداء الفضيلة للعلّمة‬
‫((( منتهى اآلمال‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪.63‬‬
‫فاريس‪.‬‬
‫((( مجموعة مقاالت‪ ،‬ص ‪ ،157 - 156‬السطر األخري ترجمة بيت شعر ّ‬
‫ابن سينا‬
‫‪128‬‬
‫يقول ابن َخلِّكان يف تاريخه حول الشيخ الرئيس‪« :‬وكان إذا أشكلت عليه مسألة‬
‫وجل أن يس ّهلها عليه ويفتح مغلقها له»‪ .‬إ ّن‬
‫وصل ودعا الله ع َّز َّ‬
‫توضّ أ وقصد الجامع ّ‬
‫اإلنسان إذا أعرض عن عالئق هذه النشأة وصفا خاطره وو ّجه نفسه الناطقة‪ ،‬فإنّه‬
‫ميكنه الوصول إىل عامل امللكوت بشكلٍ أفضل‪ ،‬وميكنه الحصول عىل هدفه «الحقيقة»‬
‫بشكلٍ أرسع»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫البهبهاني‬ ‫حفيد الوحيد‬
‫الكل الوحيد البهبها ّين‪ ،‬يقول عن فرتة دراسته وذكرياتها‪:‬‬
‫الشيخ أحمد حفيد أستاذ ّ‬
‫«كان يف القلب رأفة عجيبة ويف الصدر انرشاح عجيب‪ ،‬وكنت يف أغلب األوقات أبقى‬
‫أمل ذلك أبدا ً‪ ،‬ويف أكرث ليايل الجمعة‬
‫إىل الصبح مشغوالً باملطالعة والكتابة ومل أكن ّ‬
‫الطلب إىل مسجد الكوفة‪ ،‬واشتغل بالعبادة‪ .‬وك ّنا نذهب إىل مسجد‬ ‫كنت أذهب مع ّ‬
‫التمر ومسلم‬
‫السهلة وصعصعة وزيد ومسجد الح ّنانة وزيارة قرب كميل بن زياد وميثم ّ‬
‫بن عقيل وهاين بن عروة‪ ،‬وكلّام كنت أشعر بانقباض قلبي كنت أذهب إىل زيارة أهل‬
‫القبور ومقام صاحب األمر ‪ Q‬وقرب هود وصالح يف وادي السالم‪ ،‬وكان يحصل يل‬
‫فورا ً‪ ،‬انرشاح وأنس يعجز قلمي ولساين عن بيانهام»(((‪.‬‬
‫الشيخ المفيد ‪M‬‬

‫األجلء‪ ،‬يقول عنه صهره‬


‫كام هو واضح‪ ،‬فإ ّن الشيخ املفيد من كبار علامء الشيعة ّ‬
‫يصل أو يطالع‬
‫الجعفري‪« :‬ما كان ينام من الليل إلّ هجعة‪ ،‬ث ّم يقوم ّ‬
‫ّ‬ ‫وتلميذه أبو يعىل‬
‫أو يدرس أو يتلو القرآن»(((‪.‬‬

‫((( املصدر السابق‪ ،‬ص‪.103 - 102‬‬


‫((( الوحيد البهبهاين‪ ،‬ص‪.339‬‬
‫((( خدمات متقابل إالم وإيران‪ ،‬ص‪ .483‬ومري حامد حسني‪ ،‬ص‪.55‬‬
‫لكلم أمري‬‫نعم‪ ،‬هؤالء العظامء هم األتباع الحقيق ّيون للقرآن‪ ،‬ومصداق واضح ّ‬
‫‪129‬‬
‫الليل فصا ّفون أقدا َمهم‪ ،‬تالني ألجزاء القرآن يرتّلونها ترتيالً‪،‬‬
‫املؤمنني ‪« :Q‬أ ّما َ‬
‫أنفسهم‪ ،‬ويستثريون به دوا َء دائهم‪ ،‬فإذا م ّروا بآي ٍة فيها تشويق‪ ،‬ركنوا‬ ‫ُي َح ِّزنون به َ‬
‫إليها طمعاً‪ ،‬وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً‪ ،‬وظ ّنوا أنّها ن ُْص َب أعينهم‪ ،‬وإذا م ّروا‬
‫مسامع قلوبِهم‪ ،‬وظ ّنوا أنّ زفري جه ّنم وشهيقها يف‬‫َ‬ ‫بآي ٍة فيها تخويف‪ ،‬أَ ْص َغ ْوا إليها‬
‫أصول آذانهم‪ ،‬فهم حانُونَ عىل أوساطهم‪ ،‬مفرتشون لجباههم‪ ،‬وأكفّهم‪ ،‬وركبهم‪،‬‬
‫وأطراف أقدامهم‪ ،‬يطلبون إىل الله تعاىل يف َفكاك رقابهم‪ ،‬وأ ّما النها َر‪ ،‬فحلامء‪،‬‬
‫سماخلا مسقلا‪ :‬ةدابعلا‬

‫علامء‪ ،‬أبرار أتقياء»(((‪.‬‬


‫اإلفراط والتفريط‬
‫لألسف فإ ّن الكثريين مبتلون يف هذا األمر ‪ -‬العبادة ‪ -‬إ ّما باالفراط أو التفريط؛‬
‫فالبعض ‪-‬وهم طبعاً قلّة يُ َع ّدون عىل األصابع‪ -‬مبج ّرد أن يتعلّموا ع ّدة مصطلحات‬
‫بالتكب والتبخرت والتفرعن‪ ،‬إىل ح ّد‬
‫ّ‬ ‫حرفيّة وحفظ ع ّدة أبيات من ألفيّة ابن مالك يبتلون‬
‫أنّهم يصبحون وكأنّهم فتحوا الفضاء أو فلقوا الذ ّرة‪ ،‬فيديرون ظهورهم لصالة الجامعة‬
‫والدعاء وزيارة عاشوراء‪ ،‬ويجعلون وردهم دامئاً ما يأيت‪ :‬إ ّن مقام العامل أسمى من مقام‬
‫العابد‪ ،‬والدعاء‪ ،‬وقراءة القرآن‪ ،‬والزيارة‪ ،‬شغل العجائز‪ ،‬ومن ليسوا مشغولني بالدراسة‪،‬‬
‫االجتامعي‪ ،‬إ ّن الدراسة واجبة‪ ،‬وهذه األمور مستحبّة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والعمل‬
‫العلمي‬
‫ّ‬ ‫السبزواري‪ ،‬رغم مقامه‬
‫ّ‬ ‫هؤالء املساكني ال يعلمون أ ّن أشخاصاً كالفيلسوف‬
‫ساعات أ ّول الليل‪ ،‬وكذلك الشيخ‬‫ٍ‬ ‫والعرفا ّين الشامخ‪ ،‬كان دامئاً يتف ّرغ للعبادة ثالث‬
‫كل‬‫الخميني مع أنّه محيط العلوم واملعارف ورغم ّ‬ ‫ّ‬ ‫األنصاري‪ ،‬ويف زماننا اإلمام‬
‫ّ‬ ‫األعظم‬
‫مشاغله االجتامع ّية‪ ،‬فإنّه يويل هذا األمر أه ِّم ّية كربى ويهت ّم به أميّا اهتامم‪ .‬العلم بدون‬
‫اإللهي» بل‬
‫ّ‬ ‫يستحق أن يس ّمى «العلم‬
‫ّ‬ ‫علم‪ ،‬وال‬ ‫زيارة عاشوراء وأمثالها ليس يف الحقيقة ً‬
‫ليس أكرث من معرفة بعض االصطالحات الجافّة‪.‬‬

‫((( نهج البالغة‪ ،‬صبحي الصالح‪ ،‬ص‪ ،304‬خ‪ ،193‬املعروفة بخطبة هامم‪.‬‬
‫وطبقاً ملا قاله اإلمام الصادق ‪ Q‬فإ ّن نوران ّية العلم وحقيقته ال تحصل بقراءة‬
‫‪130‬‬
‫بعض الكتب األدب ّية واألصول ّية والفقه ّية‪ ،‬بل «العلم نور يقذفه الله يف قلب من‬
‫يشاء» ومن حيث املبدأ فإ ّن الدراسة ليست هدفاً‪ ،‬بل هي مق ّدمة إلقامة أحكام الله‬
‫تعاىل وتو ّجه عباده إليه‪.‬‬
‫يف مقابل هذا الفريق‪ ،‬فريق آخر تش ّبثوا بالدعاء والزيارة فقط‪ ،‬ووضعوا جانباً ّ‬
‫كل أبعاد‬
‫رض‪ ،‬وحرصوا‬ ‫اإلسالم األخرى‪ ،‬وانشغلوا بهذا البعد فقط‪ ،‬وبشك ٍل ٍ‬
‫ناقص أيضاً ومخ ّرب وم ّ‬
‫هذا الدين الحنيف بالزيارات وأمثالها فهم ال يدرسون‪ ،‬أو يقترصون يف الـ‪ 24‬ساعة عىل‬
‫درس واحد وميضون أكرث أوقاتهم بالبطالة والكسل ويعتذرون بأنّنا «مشغولون ببناء النفس‬ ‫ٍ‬
‫وتهذيبها» وأ ّن «العلم يجلب الغرور» وهو «الحجاب األكرب» وأمثال ذلك بحيث إنّه يجب‬
‫حق يراد بها باطل»‪.‬‬
‫أن يقال حول هذه األقوال من هؤالء األشخاص‪« :‬كلمة ّ‬
‫هؤالء أيضاً مخطئون ج ًّدا‪ ،‬وكام يرفض اإلسالم الفريق األ ّول‪ ،‬فإنّه يرفض الفريق‬
‫الثاين‪ ،‬وينطبق عليهام معاً كالم أمري املؤمنني ‪« :Q‬ال ترى الجاهل ّإل مفرطاً أو‬
‫مف ّرطاً»((( أال يعلم هؤالء األشخاص أنّه لو كان باإلمكان أن يصبح اإلنسان عاملاً بالدعاء‬
‫وإدارة السبحة وتحريكها فام هي الرضورة التي أوجبت عىل كبار علامئنا ‪ -‬كام تق ّدم‬
‫كل أنواع الحرمان واملشاكل‬ ‫كل تلك الجهود املضنية يف الدراسة؟ ويعانوا ّ‬
‫‪ -‬أن يبذلوا ّ‬
‫والصعوبات واملصائب؟‬
‫هذا الفريق تكون عاقبة أفراده أنّهم يصبحون جهالء‪ ،‬وبعد فرت ٍة يضلّون‪ ،‬وال‬
‫يستفيدون شيئاً ّإل كونهم عبئاً عىل املجتمع‪ ،‬ويرصفون أموال بيت املال‪ ،‬ويريقون‬
‫ماء وجه الشيعة‪ .‬من الجدير بهؤالء أن يطّلعوا عىل ما جاء يف مفاتيح الجنان يف أعامل‬
‫الليلة الواحدة والعرشين والثالثة والعرشين اللتني هام ليلة القدر وربيع العباد و«ليلة‬
‫القدر خري من ألف شهر» ويقرؤوا هذه الجملة‪ :‬وقال شيخنا الصدوق‪ :‬ومن أحيا هاتني‬
‫الليلتني مبذاكرة العلم فهو أفضل(((‪.‬‬

‫((( نهج البالغة‪ ،‬صبحي الصالح‪ ،‬ص‪ ،479‬باب الحكم‪ ،‬الحكمة ‪.70‬‬
‫((( مفاتيح الجنان‪ ،‬ص‪.222‬‬
‫مم تق َّدم حتّى اآلن أ ّن اإلفراط والتفريط كلَ ْيهام خطأ‪ ،‬وكام قال أمري‬
‫نستنتج ّ‬
‫‪131‬‬
‫املؤمنني ‪« :Q‬اليمني والشامل مضلّة والطريق الوسطى هي الجادة»(((‪.‬‬
‫االعتدال والطريق الوسطى‬
‫يجب أن يسلك الطالب طريق ًة معتدلة‪ ،‬ويجب أن يكون منشغالً بالدراسة ّ‬
‫بكل‬
‫وسعه‪ ،‬وأن يبذل الجهد الكبري يف ذلك مستنفرا ً طاقته كُلَّها‪ ،‬وأن ينشغل مع ذلك‬
‫رض ذلك بدراسته‪ ،‬فيأيت‬‫وجنباً إىل جنب بالعبادات والزيارات واألدعية‪ ،‬بحيث ال ي ّ‬
‫سماخلا مسقلا‪ :‬ةدابعلا‬

‫وإل فإ ّن عمله يكون سبباً‬


‫بهذه املستحبّات‪ ،‬فيزيد تو ّجهه إىل الله تعاىل يوماً بعد يوم‪ّ .‬‬
‫لتعاسته وشقائه‪ ،‬ويف صورة العكس ‪-‬أي العبادة بدون دراسة‪ -‬يج ّره جهله ويُودي به‬
‫إىل ورطة الهالك‪ .‬وسيأيت يف ما ييل املزيد حول هذا‪ ،‬إن شاء الله‪.‬‬

‫((( نهج البالغة‪ ،‬صبحي الصالح‪ ،‬ص‪ ،58‬خ‪.16‬‬


‫القسم السادس‬

‫‪R‬‬ ‫التوسل باألئ ّمة‬


‫ّ‬ ‫الدعاء‪ -‬الزيارة ‪-‬‬

‫«‪ ...‬بأيب أنتم وأ ّمي ونفيس‪ ،‬وأهيل ومايل‪ ،‬من أراد الله بدأ بكم‪ ،‬ومن و َّحده قبل‬
‫عنكم‪ ،‬ومن قصده تو ّجه بكم‪»...‬‬
‫من الزيارة الجامعة‬
‫‪135‬‬

‫ٓ‬ ‫َ َ‬
‫ُ ۡ َّ ۡ ُ َ ُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬
‫ك ۡمۖ﴾((( من أه ّم أسباب التوفيق التو ّجه الكثري‬ ‫﴿قل َما َي ۡع َبؤا بِكم ر ِب لول دعؤ‬
‫والتوسل باألمئّة األطهار ‪ R‬خصوصاً‬ ‫ّ‬ ‫نحو الله تعاىل‪ ،‬واالهتامم باألدعية والتو ّجه‬
‫سداسلا مسقلا‪ :‬الدعاء‪ -‬الزيارة ‪ -‬التوسل باألئمة ‪R‬‬

‫التوسالت تساعد اإلنسان مساعد ًة عظيم ًة‬‫بالوجود املق ّدس بق َّية الله األعظم‪ .‬إ ّن هذه ّ‬
‫تصح الغفلة‬
‫ج ًّدا يف تحصيل العلم وكسب اإلخالص وتهذيب النفس وترك الذنوب؛ ولذا ال ّ‬
‫الخميني{‬
‫ّ‬ ‫عن هذا األمر‪ .‬وجدير هنا أن نتذكّر أ ّن من أه ّم أرسار توفيق اإلمام‬
‫وتوسله باألمئّة األطهار املعصومني ‪ R‬وإليك‬ ‫اإللهي وعالقته ّ‬
‫ّ‬ ‫هو تو ّجه هذا القائد‬
‫مناذج من ذلك‪ ،‬ومن سرية العلامء بشكلٍ عا ّم‪.‬‬
‫ّ‬
‫اإلمام الخميني{‬

‫جاء يف إحدى املطبوعات‪« :‬طيلة إقامته يف النجف فإنّه مل يرتك زيارة حرم‬
‫ّ‬

‫كل ليلة‪ ،‬إلّ يف موارد استثنائيّة‪ ،‬ويف أغلب الزيارات‪ ،‬كان يقصد‬ ‫األمري ‪ّ Q‬‬
‫ّ‬

‫رضيح سيّد الشهداء ‪ ،Q‬ويف عاشوراء يقرأ يوميًّا‪ ،‬زيارة عاشوراء‪ ،‬مع تكرار‬
‫الفقرات التي ينبغي تكرارها مئة م ّرة‪ .‬منذ أكرث من خمسني سنة وإىل اآلن نادرا ً‬
‫ما يطلع الفجر واإلمام نائم‪ .‬يهت ّم كثريا ً بالته ّجد وقيام الس َحر‪ ،‬يف النجف األرشف‬
‫وحني كانت درجة الحرارة خمسني ورغم شيخوخته والضعف املفرط صام شهر‬
‫رمضان الذي كان يومه حينها مثا َين عرشة ساعة‪ ،‬ومل يكن يفطر إلّ بعد صالة‬
‫املغرب والعشاء والنوافل»‪.‬‬

‫((( سورة الفرقان‪ ،‬اآلية ‪.77‬‬


‫الخميني» حديث عن فرتة إقامة اإلمام يف النجف‪ ،‬نجد‬
‫ّ‬ ‫ويف كتاب «نهضة اإلمام‬
‫‪136‬‬
‫فيه‪:‬‬
‫«اآلن أيضاً يف النجف مل يرتك اإلمام أبدا ً برنامجه ّ‬
‫الخاص‪ :‬الزيارة والعبادات واألعامل‬
‫املستح ّبة‪ .‬يف هذه السنوات التي أمضاها اإلمام يف النجف‪ ،‬يف الشتاء‪ ،‬ويف الصيف‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ساعات بعد الغروب‪،‬‬ ‫ويف الليايل املمطرة‪ ،‬والباردة‪ ،‬دامئاً ويف الساعة الثالثة؛ أي ثالث‬
‫يل بن أيب طالب ‪ Q‬ومل يرتك ذلك ّإل يف موارد‬ ‫يكون اإلمام يف الحرم املط ّهر لإلمام ع ّ‬
‫استثنائ ّية‪ ،‬تلك التي يكون فيها مريضاً أو أ ّن األحكام العرف ّية أُعلِنت يف املدينة»(((‪.‬‬
‫ويف املطبوعة السابقة الذكر‪:‬‬
‫يقول ابن اإلمام‪« :‬ذات ليلة وقع يف العراق انقالب‪ ،‬وفُرِضت األحكام العرف ّية‪ ،‬وجاء‬
‫تبي أنّه ليس موجودا ً فاضطربت‪ ،‬فتّشت الغرف فلم أجده‪ ،‬صعدت‬ ‫وقت زيارة اإلمام‪ّ .‬‬
‫إىل السطح فإذا باإلمام واقفًا بات ِّجاه حرم أمري املؤمنني ‪ Q‬مشغول بالزيارة»‪.‬‬
‫ويقول أحد املق ّربني من اإلمام‪:‬‬
‫خمس عرشة سنة‪،‬‬ ‫«مثالً الزيارة الجامعة الكبرية‪ ،‬كان اإلمام يقرأ هذه الزيارة طيلة َ‬
‫كل ليلة‪ّ ،‬إل يف الليايل التي كان يذهب فيها إىل كربالء‪ ،‬أو أنّه يكون مريضاً مرضاً شديدا ً‪،‬‬‫ّ‬
‫كل ليلة ويف ساعة‬ ‫بحيث ال ميكنه االنتقال من داخل البيت إىل غرفة االستقبال‪ .‬كان ّ‬
‫خاصة يقف بإزاء رضيح موىل املتَّقني ويقرأ الزيارة الجامعة‪ ،‬الزيارة التي تحتاج قراءتها‬ ‫ّ‬
‫إىل ساعة تقريباً‪ّ ،‬إل أ ّن اإلمام يشعر عند قراءتها أنّه واقف بني يدي أمئّته املعصومني‬
‫يبي ما هو حقّهم‪ ،‬إنّها يف الحقيقة دورة يف التعريف باإلمام‪ ،‬وإنّه ألمر ذو داللة كبرية‬ ‫ّ‬
‫أ ّن اإلمام التزم بها طيلة خمسة عرش عاماً‪ .‬كان اإلمام يف جميع الزيارات املخصوصة‬
‫ينتقل من النجف إىل كربالء وزيارة أيب عبد الله الحسني ‪ Q‬واآلن حيث اإلمام يف‬
‫يتمش يوم ًّيا‬
‫وبكل ق ّوة ونشاط ّ‬‫طهران فإنّه يؤ ّدي هذه الزيارات بشكلٍ آخر(‪ )...‬إنّه ّ‬

‫((( برريس وتحلييل أز نهضت إمام خميني‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.29‬‬


‫ساعتني أو ثالث ًا والسبحة بيده وهو منشغل بالذكر أو بزيارة عاشوراء‪ ،‬ويف هذه الفرتة‬
‫‪137‬‬
‫قلّام يزعجه أحد باالقرتاب منه‪.‬‬
‫عالقة اإلمام بأهل البيت ‪ R‬ال توصف‪ ،‬اإلمام عاشق ألهل البيت‪ ،‬مبج ّرد‬
‫أن يسمع نداء «يا حسني» يبيك ال إرادياًّ‪ .‬رغم أ ّن اإلمام صابر يف مواجهة املصائب‬
‫وال تبكيه حتّى املشاكل التي تكون مبستوى شهادة الس ّيد مصطفى ‪-‬ابن اإلمام‪-‬‬
‫إلّ أنّه مبج ّرد أن يقول قارئ العزاء «السالم عليك يا أبا عبد الله» تجري قطرات‬
‫سداسلا مسقلا‪ :‬الدعاء‪ -‬الزيارة ‪ -‬التوسل باألئمة ‪R‬‬

‫دموعه‪ .‬وهذه يف الحقيقة ليست عالق ًة عاديّة‪ ،‬ويف تلك األحيان كان فيها كث ٌري من‬
‫«املتج ّددين» قبل الثورة يهاجمون مواكب العزاء واللَّطْم ‪ -‬ولو أ ّن هذا التفكري‬
‫منى ملا بقيت آثار من شعائر اإلسالم وألُفرغنا من محتوانا ‪ -‬منذ ذلك الوقت كان‬
‫اإلمام يش ّجع تلك املراسم التقليديّة يف مواكب العزاء‪ ،‬واآلن نرى كيف يويص‬
‫الناس بإقامة مجالس العزاء يف األ يّام امله ّمة خصوصاً يف يوم عاشوراء‪ .‬وعادة‬
‫يأيت ق ّراء العزاء العريقون ويقرؤون األشعار التي كانت تقرأ قدمياً‪ ،‬واإلمام يبيك‪،‬‬
‫ويخترص الق ّراء ذكر املصيبة يف مجالسهم عادة مراعا ًة لحال اإلمام‪ ،‬حيث إنّه‬
‫ّ‬

‫خاصة وأنّه يف هذه‬‫شديد التعلّق بأهل البيت إىل ح ّد أنّه قد يؤذيه البكاء الكثري‪ّ ،‬‬
‫ّ‬

‫ٍ‬
‫بصوت عال‪.‬‬ ‫األوقات يبيك‬
‫ذات يوم ‪ -‬وكان ذكرى شهادة الزهراء ‪ - O‬طُلِب من اإلمام أن يتفضّ ل بالحضور‬
‫يف املجلس الذي ض ّم اإلخوة يف مكتب اإلمام بهذه املناسبة‪ .‬جاء اإلمام وجلس‪ ،‬ومبج ّرد‬
‫بصوت عال‪ ،‬فاخترص‬‫ٍ‬ ‫أن بدأ أحد اإلخوة من أعضاء املكتب بذكر املصيبة بىك اإلمام‬
‫القارئ رعاي ًة لحال اإلمام‪ ،‬وكانت قطراته تنهمر عىل خ ّديه كح ّبات اللؤلؤ‪ .‬ورغم أ ّن‬
‫ات مختلفة‪ ،‬فإنّه ال يتح ّرج من البكاء عىل‬ ‫يفسون بكاء اإلمام تفسري ٍ‬
‫الدنيا واإلعالم ّ‬
‫س ّيد الشهداء حتّى أمام عدسة التلفزيون‪.‬‬
‫طلب مدرسة الرفاه لإلمام‪« :‬ملاذا ال تذكرون يف أحاديثكم اإلمام‬
‫ذات يوم‪ ،‬قال أحد ّ‬
‫كل‬
‫املنتظر ّإل قليالً؟» ومبج ّرد أن سمع اإلمام ذلك وقف وقال‪« :‬ماذا تقول؟ أال تعلم أ ّن ّ‬
‫ما عندنا هو من اإلمام صاحب الزمان | ّ‬
‫وكل ما عندي هو من اإلمام صاحب الزمان؟‬
‫‪138‬‬
‫وكل ما عندنا من الثورة هو من اإلمام صاحب الزمان؟»‪.‬‬
‫ّ‬
‫املعنوي بالله وأهل البيت ‪ R‬يبقى شامخاً‬
‫ّ‬ ‫من هنا‪ ،‬فإ ّن اإلمام بهذا االرتباط‬
‫دامئاً كالطود وال يزلزله يشء(((‪.‬‬
‫الخميني يف‬
‫ّ‬ ‫يقول أحد أساتذة األخالق املعروفني يف حوزة ق ّم‪« :‬عندما كان اإلمام‬
‫فرنسا كتب ثالث رسائل إىل ثالث ٍة من علامء ق ّم قائالً‪ :‬الثورة بحاجة إىل دعاء فادعوا‬
‫لنرص الثورة»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األميني صاحب الغدير‬ ‫العلمة‬
‫األميني العشق والوالء الكامل آلل مح ّمد عليهم السالم‪ ،‬عشقاً‬ ‫ّ‬ ‫العلمة‬
‫من خصائص ّ‬
‫كان مشهورا ً تتناقله األلسن‪ ،‬بحيث ميكن القول إ ّن الغدير أث ٌر من آثار العشق العارم‪.‬‬
‫خاصة بسامع مصائب اإلمام الحسني وأصحابه‪ ،‬والتأ ّمل‬ ‫ومن هنا‪ ،‬كانت له عالقة ّ‬
‫ٍ‬
‫بصوت عال بكا ًء مريرا ً ومتف ّجعاً‪ ،‬وكثريا ً ما ات ّفق أ ّن الخطباء‬ ‫يف مصابهم‪ ،‬وكان يبيك‬
‫وتغي حاله‪ ،‬عند‬‫األميني ُّ‬
‫ّ‬ ‫العلمة‬
‫والنائحني وسائر الحارضين واملستمعني كانوا يرون ّ‬
‫ذكر املصيبة‪ ،‬فيتأث ّرون تأث ُّ ًرا شدي ًدا‪ ،‬ويبكون مثله بكاء املتف ّجع‪ .‬حقًّا كان املجلس‬
‫األميني‪ ،‬ويجري فيه ذكر مصائب آل مح ّمد‪ ،‬وكأ َّن واح ًدا من‬ ‫ّ‬ ‫العلمة‬
‫الذي يحرضه ّ‬
‫آل مح ّمد ‪ P‬موجو ٌد يف ذلك املجلس‪ ،‬وكانت هذه الحالة تشت ّد وتبلغ أوجها عندما‬
‫يذكر قارئ املصيبة اسم الص ّديقة الكربى فاطمة الزهراء ‪ O‬عندها كان تحم ّر‬
‫جبهته وخ ّداه‪ ،‬ويبيك كام يبيك من اعتدى عىل ناموسه‪ ،‬وها هم يح ّدثونه اآلن عن ذلك‬
‫وتشعر أ ّن عينيه تقذفان اللهب مع الدموع الغزيرة املنهمرة منهام»(((‪.‬‬

‫((( فرازهايب أز ابعاد روحي‪ ،‬أخالقي وعرفاين إمام خميني‪ ،‬ص‪.24-22‬‬


‫((( حامسه غدير‪ ،‬ص‪.298‬‬
‫ّ‬
‫البهبهاني‬ ‫الوحيد‬
‫‪139‬‬
‫رشف‬
‫املعروف أ ّن الشيخ مح ّمد باقر املعروف بـ«الوحيد البهبها ّين» كان عندما يت ّ‬
‫محل نزع‬
‫‪-‬أي ّ‬ ‫بحرم سيّد الشهداء ‪ Q‬للزيارة‪ ،‬يقبّل أ ّوالً عتبة «الكفشداريّة» ّ‬
‫رشف بدخول الحرم‬‫األحذية‪ -‬وميسح وجهه املبارك‪ ،‬ولحيته الرشيفة‪ ،‬وبعد ذلك يت ّ‬
‫خاصان لذكر‬
‫بخضوع‪ ،‬وخشوع‪ ،‬ورقّة قلب‪ ،‬ويقرأ الزيارة‪ ،‬وكانت له عناية واحرتام َّ‬
‫مصيبة سيّد الشهداء ‪.(((Q‬‬
‫سداسلا مسقلا‪ :‬الدعاء‪ -‬الزيارة ‪ -‬التوسل باألئمة ‪R‬‬

‫ّ‬
‫االستشفاء بآثار األئمة ‪R‬‬

‫ائري مل يكن يستطيع يف‬


‫يقول املح ّدث الق ّم ّي‪« :‬حيث إ ّن الس ّيد نعمة الله الجز ّ‬
‫بدء دراسته أن يشرتي مصباحاً للمطالعة‪ ،‬فقد كان يطالع يف ضوء القمر‪ ،‬ونتيجة كرثة‬
‫املطالعة‪ ،‬ضعف برصه‪ ،‬ولذلك بدأ ميسح برتبة س ّيد الشهداء‪ ،‬وتربة سائر األمئّة ‪R‬‬
‫عىل عينيه‪ ،‬ومن بركة تلك الرتبة كان نور برصه يزداد ويقوى»‪.‬‬
‫الدمريي ‪-‬مؤلّف «حياة‬
‫ّ‬ ‫ويضيف املحقّق الق ّم ّي‪« :‬وليس هذا األمر غريباً؛ أل ّن‬
‫ّ‬

‫معي‬
‫الحيوان»‪ -‬وغريه ينقلون أ ّن «األفعى عندما تصاب بالعمى متسح عينيها بنبات ّ‬
‫الخاصيَّة يف نبت ٍة َّما‪ ،‬فام العجب يف أن يجعل‬
‫ّ‬ ‫فتبرص‪ ،‬وإذا كان الله تعاىل يجعل تلك‬
‫ّ‬

‫النبي ‪P‬؟» ويضيف أيضاً‪« :‬وهذا الحقري أيضاً كلّام ضعف برصي‬ ‫مثلها يف تربة ابن ّ‬
‫مبس كتابة األحاديث‬‫بسبب كرثة الكتابة‪ ،‬أت ّربك برتاب مراقد األمئّة ‪ R‬وأحياناً ّ‬
‫واألخبار‪ ،‬وبحمد الله فإ ّن مييني يف غاية الق ّوة‪ ،‬وأميل‪ ،‬إن شاء الله‪ ،‬أن تق ّر عيني‬
‫بربكتهم يف الدنيا واآلخرة»(((‪.‬‬
‫يقول ابن املح ّدث الق ّم ّي‪ :‬ال أنىس أنّنا عندما ك ّنا يف النجف ذات يوم صباحاً (حواىل‬
‫سنة ‪1357‬هـ‪.‬ق؛ أي قبل وفاته بسنتني) استيقظ والدي وقال‪ :‬اليوم تؤملني عيناي‬
‫بش ّدة وال أستطيع املطالعة والكتابة‪ ،‬وكان يبدو متألّامً ج ًّدا‪ ،‬كان لسان حاله تقريباً‪:‬‬

‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪.202‬‬


‫((( الفوائد الرضوية‪ ،‬ص‪.695‬‬
‫النبي ‪-‬صلوات الله عليهم‪ -‬أبعدوين عنهم وطردوين‪ ،‬كانت عادته أن يقول ذلك‬
‫لعل آل ّ‬ ‫ّ‬
‫‪140‬‬
‫أحياناً بتأث ّر ويبيك»‪.‬‬
‫ويضيف ابن املح ّدث الق ّم ّي‪:‬‬
‫«عندها كنت منشغالً بالدراسة‪ ،‬ذهبت إىل املدرسة‪ ،‬وعندما رجعت ظهرا ً رأيته‬
‫«تحسنت عيناك؟» قال‪« :‬زال األمل كُلِّ ًّيا»‪ .‬قلت‪« :‬ب َم عالجته؟»‬
‫ّ‬ ‫مشغوالً بالكتابة‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫قال‪« :‬توضّ أت وجلست تجاه القبلة ومسحت كتاب الكايف عىل عيني فارتفع األمل»‪.‬‬
‫يبتل بعدها طيلة عمره بأمل العينني»‪ .‬وكتاب الكايف الذي مسح به عينيه كان‬ ‫ومل َ‬
‫املل عبد الله التُّوين صاحب كتاب «الوافية»‪ ،‬وكان املح ّدث‬ ‫خطِّ ًّيا بخ ّط الفقيه املشهور ّ‬
‫الق ّم ّي يح ّبه كثريا ً‪ .‬وعندما كان مقيامً يف مشهد‪ ،‬مرض ابنه الصغري الذي كان عمره‬
‫ثالث سنوات‪ ،‬فأحرض له دوا ًء محلِّ ًّيا وبعد الغيل‪ ،‬وإضافة قليلٍ من السكّر إليه‪ ،‬جاؤوا‬
‫بالدواء إىل الطفل ليرشبه فوضع املح ّدث إصبع يده اليمنى يف الدواء وح ّركه قليالً‪.‬‬
‫ألن كتبت‬ ‫قالت زوجته‪« :‬اصرب قليالً ألحرض ملعقة»‪ ،‬قال‪« :‬قصدت بذلك االستشفاء؛ ّ‬
‫بهذه اليد آالف األحاديث عن األمئّة الطاهرين ‪.(((»R‬‬
‫زيارة عاشوراء‬
‫األنصاري‪« :‬كان من جملة‬
‫ّ‬ ‫جاء يف ترجمة املرحوم الشيخ مرتىض حفيد الشيخ‬
‫عاداته قراءة زيارة عاشوراء م ّرتني يف اليوم‪ ،‬صباحاً وعرصا ً‪ ،‬وكان مواظباً عىل ذلك ج ًّدا‪.‬‬
‫شخص يف النوم‪ ،‬فسأله عن حاله‪ ،‬فقال يف الجواب ثالثاً‪ :‬عاشوراء‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وبعد وفاته رآه‬
‫عاشوراء‪ ،‬عاشوراء»‪.‬‬
‫وقد كان الفقيه العادل املرحوم الشيخ جواد مشكور مرجع تقليد قسم من‬
‫الشيعة يف العراق‪ ،‬ويف ليلة ‪ 26‬صفر ‪1336‬هـ‪.‬ق‪ .‬رأى يف منامه يف النجف األرشف‬
‫عزرائيل ‪ Q‬وبعد السالم سأله‪« :‬من أين جئت؟‬

‫((( حاج شيخ عباس قمي مرد تقوا وفضيلت‪ ،‬ص‪.58-56‬‬


‫املحل ّيت‪.‬‬
‫‪ -‬من شرياز‪ ،‬وقد قبضت روح املرحوم املريزا إبراهيم ّ‬
‫‪141‬‬
‫‪ -‬وما حال روحه يف عامل الربزخ؟‬
‫‪ -‬يف أفضل الحاالت ويف أحسن حدائق الربزخ‪ ،‬وقد وك ََّل الله به ألف ملك يطيعون‬
‫أوامره‪.‬‬
‫أي عملٍ وصل إىل هذا املقام؟‬ ‫‪ -‬بسبب ّ‬
‫‪ -‬بسبب قراءة زيارة عاشوراء»‪.‬‬
‫سداسلا مسقلا‪ :‬الدعاء‪ -‬الزيارة ‪ -‬التوسل باألئمة ‪R‬‬

‫املحليت مل يرتك زيارة عاشوراء طيلة ثالثني سنة يف آخر عمره‪ ،‬ويف‬
‫«املرحوم املريزا ّ‬
‫اليوم الذي كان ال يستطيع قراءتها ملرض أو غري ذلك كان يستنيب من يقرأها عنه»‪.‬‬
‫ويف اليوم التايل لليلة التي رأى فيها الشيخ مشكور هذا املنام‪ ،‬ذهب إىل منزل آية‬
‫ازي ‪-‬املريزا الثاين‪ -‬وح ّدثه باملنام‪ ،‬فبىك املريزا‪ ،‬وسئل عن‬
‫تقي الشري ّ‬
‫الله املريزا مح ّمد ّ‬
‫املحل ّيت‪ ،‬وقد كان من أعمدة الفقه»‪ .‬قالوا‪« :‬لقد‬
‫توف املريزا ّ‬‫سبب البكاء‪ ،‬فقال‪« :‬لقد ّ‬
‫رأى الشيخ مناماً وصدقُه غري معلوم»‪ ،‬قال املريزا‪ :‬بىل‪ ،‬منام إلّ أنّه منام الشيخ مشكور‬
‫وليس منام أفراد عاديّني‪.‬‬
‫ّ‬

‫املحليت‬
‫ويف اليوم التايل‪ ،‬جاءت برق ّية من شرياز إىل النجف‪ ،‬تحمل نبأ وفاة املريزا ّ‬
‫ّ‬

‫وتثبت صدق منام الشيخ»(((‪.‬‬


‫الشهيد المجهول‬
‫جم‪ ،‬وكان ملتزماً‬ ‫يحب أهل بيت العصمة ح ًّبا ًّ‬
‫ويس ‪ّ M‬‬ ‫كان الشهيد آية الله الق ّد ّ‬
‫النبي ‪ P‬وبالحضور يف مجالس عزاء‬ ‫والتوسل بآل بيت ّ‬ ‫ّ‬ ‫بزيارة الجمعة وعاشوراء‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ يؤكّد عىل‬
‫س ّيد الشهداء ‪ Q‬كان ‪-‬رحمة الله عليه‪ -‬يقول‪« :‬كان ّ‬
‫ذلك» ومل يكن يرتك زيارة عاشوراء يف أيّام مح ّرم وصفر‪ ،‬وكان يهت ّم بالزيارة الجامعة‬
‫وكان يعتقد بقراءة النسخة األكرث اعتامدا ً‪ .‬كان يقول‪ :‬أنا ملتزم يف زيارة عاشوراء بنسخة‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ‪ .‬نسخة املرحوم القايض كام يأيت‪ :‬يف‬
‫املرحوم آية الله القايض أستاذ ّ‬
‫((( داستانهاي شكفت‪ ،‬ص‪ ،274-243‬الفقه ‪.114‬‬
‫جملة «فأسأل الله الذي أكرم مقامك وأكرمني بك أن يرزقني طلب ثأرك» حذف كلمة‬
‫‪142‬‬
‫«بك» ووصل «وأكرمني» بـ«أن يرزقني»‪ ،‬وكذلك يف جملة «أن يرزقني طلب ثارك مع‬
‫مهدي»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إمام هدى «اختار نسخة «مع إمام‬
‫ويس‪:‬‬
‫يقول أحد أصدقاء املرحوم الق ّد ّ‬
‫«الظاهر أنّه كان مواظباً عىل زيارة عاشوراء؛ ألنّه عندما كان امل ّدعي العا ّم للثورة‪،‬‬
‫خاصة نتيجة مواظبته عىل زيارة عاشوراء‪ ،‬وعندما‬ ‫رأيت يف املنام أنّه قد وهب علوماً ّ‬
‫ح ّدثته بذلك تأث ّر وقال‪ :‬منذ م ّدة مل أوفّق لذلك‪ .‬وكان هذا بسبب كرثة أشغاله يف‬
‫اال ّدعاء العا ّم‪ ،‬وقد كان يعترب هذه األعامل أوىل‪ ،‬ومن هنا قال‪ :‬منذ م ّدة مل أوفّق لقراءة‬
‫زيارة عاشوراء»(((‪.‬‬
‫عالج البالء‬
‫يقول الشهيد دستغيب‪« :‬نقل عن املرحوم آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم‬
‫مؤسس الحوزة يف ق ّم‪ :‬عندما كنت أدرس يف سام ّراء ابتيل أهايل سامراء مبرض‬
‫الحائري‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫كل يوم ع ّدة‪ .‬ذات يوم‪ ،‬كنت يف منزل أستاذي املرحوم‬ ‫الوباء والطاعون‪ ،‬وكان ميوت يف ّ‬
‫رشف املرحوم املريزا‬
‫الس ّيد مح ّمد فشاريك‪ ،‬وقد اجتمع ع ّدة من أهل العلم‪ ،‬وفجأة ّ‬
‫ازي‪ ،‬وجرى الحديث عن مرض الوباء وأ ّن جميع الناس مع ّرضون‬ ‫مح ّمد تقي الشري ّ‬
‫للخطر‪ .‬قال املرحوم املريزا‪« :‬إذا حكمت بحكم فهل يجب تنفيذه أم ال؟» قال جميع‬
‫أهل املجلس‪« :‬طبعاً»‪ ،‬قال‪« :‬أنا أحكم أن يقرأ الشيعة الساكنون يف سام ّراء من اليوم‬
‫وحتّى عرشة أيّام زيارة عاشوراء‪ ،‬ويهدون ثواب ذلك إىل روح الس ّيدة نرجس والدة‬
‫اإلمام الح ّجة بن الحسن‪ L‬لريتفع البالء عنهم»‪ .‬أبلغ أهل املجلس هذا الحكم‬
‫إىل جميع الشيعة وبدأ الجميع بقراءة زيارة عاشوراء‪ .‬ويف اليوم التايل مل ميت أحد من‬
‫الشيعة‪ ،‬وتوقّف ذلك كلّ ّياً‪ ...‬فسأل بعض الس ّنة أصدقاءهم الشيعة عن السبب‪ ،‬فقالوا‪:‬‬

‫((( يادنامه شهيد قدويس‪ ،‬ص‪.68-67‬‬


‫((( املصدر السابق‪ ،‬ص‪.49‬‬
‫إنّه زيارة عاشوراء وبدأ السنة بقراءتها فارتفع عنهم البالء»‪.‬‬
‫‪143‬‬
‫أجل من أن يقول شيئاً‬ ‫ازي ّ‬ ‫يضيف الشهيد دستغيب‪« :‬ال ّ‬
‫شك أ ّن مقام املريزا الشري ّ‬
‫التوسل؛ أي قراءة عاشوراء مل ّدة عرشة أيّام مل يرد يف رواية‪،‬‬
‫من عنده‪ ،‬وحيث إ ّن هذا ّ‬
‫فلعلّه أصدر ذلك الحكم إثر رؤيا صادقة أو مكاشفة أو رؤية اإلمام‪ ،‬وقد ثبت صدق‬
‫تأثريه‪.‬‬
‫الشريازي يف كربالء طيلة أيّام عاشوراء‪،‬‬ ‫كان يُقام مجلس عزاء يف منزل املريزا‬
‫سداسلا مسقلا‪ :‬الدعاء‪ -‬الزيارة ‪ -‬التوسل باألئمة ‪R‬‬

‫ّ‬
‫والطلب إىل حرم س ّيد الشهداء وحرم‬ ‫ّ‬ ‫وكان يف اليوم العارش يذهب ومعه العلامء‬
‫أيب الفضل الع ّباس ويقيمون مجلس عزاء هناك أيضاً‪ ،‬كانت عادة املريزا أن يقرأ يف‬
‫كل يوم زيارة عاشوراء‪ ،‬ث ّم ينزل لالشرتاك يف مجلس العزاء‪ .‬يقول أحد األعاظم‪:‬‬ ‫غرفته ّ‬
‫«ذات يوم كنت حارضا ً قبل املوعد املق ّرر‪ ،‬فجأة‪ ،‬نزل املريزا بحالة غري عاديّة منكرسا ً‬
‫حزيناً‪ ،‬نزل الدرج ودخل املجلس‪ ،‬وقال‪« :‬اليوم يجب أن تذكروا مصيبة عطش س ّيد‬
‫الشهداء ويكون العزاء حولها»‪ .‬فتأث ّر جميع أهل املجلس كثريا ً‪ ،‬وأغمي عىل بعضهم‪،‬‬
‫وعىل تلك الحالة انتقلوا برفقة املريزا إىل الصحن والحرم املق ّدس وكأ َّن املريزا كان‬
‫ّ‬

‫مأمورا ً بهذا التنبيه»(((‪.‬‬


‫ّ‬

‫ً‬
‫زيارة عاشوراء أربعين يوما‬
‫النجفي القوﭼـا ّين ‪ - M-‬الذي‬
‫ّ‬ ‫يتح ّدث العامل الواعي واملتّقي املرحوم آية الله‬
‫طلب اآلخوند الخراسا ّين البارزين‪ ،‬عن ذكريات أيّام دراسته يف أصفهان التي‬ ‫كان من ّ‬
‫استم ّرت أربع سنوات (‪1318 - 1314‬هـ‪.‬ق) فيقول‪:‬‬
‫«بعد املجيء إىل املدينة (أصفهان) رأيت ذات ليلة‪ ،‬املوت يف النوم عىل شكل‬
‫حيوان بحجم عجل عمره سنة‪ ،‬ورأيت خلفه ثالثة أو أربعة من أوالده وهم يسريون‬
‫خلفه يف الهواء وهم أصغر منه‪ ،‬وأثناء مسريهم يف الهواء م ّروا من فوق منزلنا الذي‬

‫((( داستانهاي شكفت‪ ،‬ص‪ 323‬القصة رقم ‪.148‬‬


‫كان يف قوجان ونزل واحد من أوالده فقط عىل حائط منزلنا‪ .‬كتبت إىل والدي‪« :‬أخربين‬
‫‪144‬‬
‫ألن مش ّوش البال عليك» وقبل أن ت َِص َل إليه رسالتي‪ ،‬وصل َْت إ َّيل رسالته‬‫عن وضعك؛ ّ‬
‫يخربين فيها بوفاة زوجته‪ ،‬وكتب أيضاً أ ّن مبلغ االثني عرش توماناً الذي اقرتضته قبل‬
‫كل ممتلكات‬ ‫عرش سنوات لزيارة العتبات قد أصبح بسبب الربا مثانني توماناً‪ ،‬ومل تكن ّ‬
‫أيب تعادل مثانني توماناً‪.‬‬
‫ق ّررت أن أقرأ زيارة عاشوراء أربعني يوماً عىل سطح مسجد الشاه يف أصفهان‪ ،‬وكانت‬
‫يل ثالث حوائج‪ :‬إحداها دين والدي‪ ،‬والثاين املغفرة‪ ،‬والثالثة العلم الكثري واالجتهاد‪.‬‬
‫كنت أبدأ بقراءتها قبل الظهر وأنتهي منها قبل اآلذان‪ ،‬كانت تستغرق ساعتني‪ .‬انتهت‬
‫األربعون يوماً‪ ،‬ومل ميض شهر حتّى جاءتني رسالة من والدي يقول فيها‪« :‬لقد أ ّدى‬
‫اإلمام موىس بن جعفر ‪ Q‬ديني»‪ .‬فكتبت إليه‪« :‬بل أ ّداه س ّيد الشهداء‪ ،‬وكلّهم‬
‫نور واحد» وأل ّن زيارة عاشوراء ظهر أثرها رسيعاً‪ ،‬ومل يكن ذلك ممكناً بحسب األسباب‬
‫الظاهريّة‪ ،‬فقد عقدت العزم عىل أن أقرأها يف مح ّرم وصفر لحاجة هي أه ّم الحاجات‬
‫يف رأيي‪ ،‬وقرأتها أربعني يوماً عىل سطح مسجد الشاه بكامل االهتامم وكامل االحتياط؛‬
‫مبعنى ّأن كنت أميض ساعتني متّجهاً إىل القبلة‪ ،‬واقفاً يف مقابل الشمس حتّى النهاية‪.‬‬
‫انتهى الختم الثاين‪ ،‬بعدها رأيت مناماً أ ّن الحاجة قضيت»(((‪.‬‬
‫النجفي القوﭼـا ّين إىل النجف األرشف عام ‪1318‬هـ وقد كان عمره‬
‫ّ‬ ‫وقد سافر املرحوم‬
‫الطلب آنذاك كام يأيت‪« :‬سنويًّا ويف‬
‫يبي بعض عادات ّ‬ ‫آنذاك ثالثاً وعرشين سنة‪ .‬وهو ّ‬
‫وطلب النجف‬ ‫زيارة األربعني‪ ،‬نصف رجب‪ ،‬نصف شعبان وعرفة‪ ،‬كان من واجبايت أنا ّ‬
‫‪ -‬نوعاً ‪ -‬الذهاب إىل كربالء‪ .‬أ ّما يف أ ّول رجب وعيد الفطر وعاشوراء فقد كان الذهاب‬
‫من املستحبّات‪ ،‬كانوا أحياناً يذهبون وأحياناً أخرى ال يذهبون‪ ،‬وسبب عدم ذهابهم‬
‫إىل كربالء يف عاشوراء أ ّن مجالس العزاء نوعاً يف خصوص عاشوراء هي يف النجف أفضل‬
‫منها يف كربالء مبحتواها وروحان ّيتها؛ ولذلك يبقون يف النجف ويزورون من هناك»(((‪.‬‬
‫بترصف‪.‬‬
‫((( سياحت رشق ّ‬
‫((( سياحت رشق‪ ،‬ص‪.390‬‬
‫العالقة ّ‬
‫بسيد الشهداء ‪Q‬‬
‫‪145‬‬
‫الخميني‪ ،‬أنّه كان‬
‫ّ‬ ‫الخميني ابن اإلمام‬
‫ّ‬ ‫«إحدى خصوص ّيات الشهيد الس ّيد مصطفى‬
‫ملتزماً بالذهاب إىل كربالء من النجف األرشف سريا ً عىل قَ َد َم ْيه‪ ،‬ويف جميع الزيارات‬
‫الخاصة باإلمام الحسني ‪ .Q‬كان الناس يف النجف عادة يذهبون إىل كربالء سريا ً‬ ‫ّ‬
‫عىل األقدام سنويًّا يف النصف من شعبان وعرفة واألربعني وأ ّول رجب ونصفه‪ ،‬وكان‬
‫هو يذهب يف ع ّدة مناسبات‪ .‬أحياناً كانت قدماه تتو ّرمان وتدميان‪ّ ،‬إل أنّه وبالرغم‬
‫سداسلا مسقلا‪ :‬الدعاء‪ -‬الزيارة ‪ -‬التوسل باألئمة ‪R‬‬

‫من ذلك يواصل طريقه‪ ،‬لقد كان ‪ M‬ظريفاً ذ ّواقاً‪ ،‬حلو املعرش أنيس املجلس‪ ،‬ومع‬
‫التوسل يف الطريق إىل‬
‫ذلك فقد كان يف أوقات الدعاء والزيارة ال نظري له أثناء دعاء ّ‬
‫بكل تو ّجه والدموع تنهمر من عينيه طيلة فرتة‬ ‫كربالء‪.‬كان يواصل السري ويقرأ الدعاء ّ‬
‫ٍ‬
‫وبصوت عال‬ ‫الدعاء‪ ،‬وعندما يحني ذكر مصيبة س ّيد الشهداء كان يبيك بكاء الثكىل‬
‫وكتفاه يهت ّزان من ش ّدة البكاء‪.‬‬
‫شخص اسمه الشيخ جعفر‪ ،‬يقرأ العزاء دامئاً باختصار بعد صالة اإلمام‬
‫كان هناك ٌ‬
‫الخميني يف مسجد الشيخ‪ ،‬ومل يكن الحارضون يهت ّمون مبجلسه‪ ،‬فكانوا يغادرون‬ ‫ّ‬
‫ّ‬

‫املسجد تدريج ًّيا‪ .‬الوحيد الذي كان ملتزماً باالستامع إليه هو املرحوم الشهيد الس ّيد‬
‫مصطفى‪ ،‬حتّى إنّه أحياناً كان يبقى املستمع الوحيد ملجلس الشيخ جعفر»!‪.‬‬
‫ّ‬

‫التوسل‪ ،‬رجل السيف‬


‫نعم‪ ،‬هذا هو رجل الجهاد ومجلس العزاء‪ ،‬رجل الكفاح ودعاء ّ‬
‫وزيارة س ّيد الشهداء سريا ً عىل األقدام‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشيخ محمد جواد البالغي ‪M‬‬
‫كان شديد العالقة بآل بيت الرسالة‪ ،‬خصوصاً اإلمام الحسني ‪Q‬؛ يقول مؤلّف‬
‫وحب ثابت‪ ،‬ولواله‬
‫«مايض النجف وحارضها»‪« :‬له يف الحسني ‪ Q‬عقيد ٌة راسخة ٌّ‬
‫متسك بها والتزم بشعائرها وقام بها خري‬
‫ألمات املعاندون الشعائر الحسين ّية (‪ )...‬لك ّنه ّ‬
‫قيام (‪ )...‬وكان يسري شخص ًّيا يف مواكب العزاء ويحثّ الناس عىل ذلك»(((‪.‬‬

‫((( مشكاة‪ ،‬العدد ‪ ،1‬ص‪.128-126‬‬


‫قراءة العزاء قبل التدريس‬
‫‪146‬‬
‫الحائري يأمر أن يقرأ أحد قبل بدئه‬
‫ّ‬ ‫كان آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم‬
‫بالتدريس مجلس عزاء سيّد الشهداء ‪ Q‬وبعد ذلك يبدأ درسه‪ .‬كذلك كان‬
‫سامحته حتّى بعد أن أصبح املرجع األعىل‪ ،‬يشرتك يف مواكب اللطم والعزاء وكسائر‬
‫«كل ما عندي فهو‬
‫الناس العاديّني يلطم عىل رأسه وصدره‪ ،‬وعندما سئل عن ذلك قال‪ّ :‬‬
‫قصة مرضه ونجاته من املوت بشفاعة سيّد‬‫من اإلمام الحسني‪ »Q‬ث ّم يروي له ّ‬
‫الشهداء‪.(((Q‬‬
‫صاحب عبقات األنوار ‪M‬‬

‫يقول الشيخ آقا بزرگ الطهرا ّين يف ترجمة العامل املحقّق املتت ّبع صاحب املجموعة‬
‫العظيمة والق ِّيمة «عبقات األنوار» مري حامد حسني ‪ M‬ما يأيت‪« :‬أخربين املريزا‬
‫الحائري أنّه ‪ -‬أي‬
‫ّ‬ ‫اليزدي الخطيب‬
‫ّ‬ ‫العسكري نقالً عن الس ّيد حسني‬
‫ّ‬ ‫مح ّمد الطهرا ّين‬
‫الس ّيد حسني ‪ -‬قال‪:‬‬
‫«كنت مسبوقاً أ ّن السيّد حامد حسني ال يطيق سامع املصائب املشجية التي جرت‬
‫ُ‬
‫عىل ج ّده الحسني‪ ،‬وأهل بيته ‪R‬؛ ولذا ال تُقرأ يف محرضه‪ ،‬فاتّفق يوماً أنّه دخل‬
‫الحسينيّة يف «لكهنوا» حني قراءيت ومل أشعر به‪ ،‬وقرأت بعض املصائب وإذا باألصوات‬
‫والكل يأمرين بالتوقّف عن القراءة‪ ،‬وبعد حني ظهر يل أ ّن السيّد قد غيش‬
‫قد ارتفعت‪ّ ،‬‬
‫عليه»(((‪.‬‬
‫صاحب مستدرك الوسائل‬
‫النوري ‪ -‬صاحب‬
‫ّ‬ ‫يقول صاحب «الذريعة» عن أستاذه الكبري املرحوم الشيخ حسني‬
‫«ومم س ّنه يف تلك األعوام أثناء إقامته يف النجف‪ :‬زيارة س ّيد‬
‫ّ‬ ‫مستدرك الوسائل‪:-‬‬
‫األنصاري من سفن األخيار‬
‫ّ‬ ‫الشهداء مشياً عىل األقدام‪ ،‬فقد كان ذلك يف زمن الشيخ‬
‫((( ﮔـنجينه دانشمندان‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.302‬‬
‫((( نقباء البرش‪ ،‬طبقات أعالم الشيعة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.350-349‬‬
‫وأعظم الشعائر‪ ،‬ولكن ترك يف األخري وصار من عالئم الفقر وخصائص األدن َْي من‬
‫‪147‬‬
‫فلم‬ ‫الناس‪ ،‬فكان العازم عىل ذلك يتخفّى عن الناس ملا يف ذلك من ّ‬
‫الذل والعار‪ّ .‬‬
‫رأى شيخنا ضعف هذا األمر اهت ّم له والتزمه‪ ،‬فكان يف خصوص زيارة عيد األضحى‬
‫الدواب لحمل األثقال واألمتعة‪ ،‬ومييش هو وصحبه لك ّنه لضعف مزاجه ال‬ ‫ّ‬ ‫يكرتي بعض‬
‫يستطيع قطع املسافة من النجف إىل كربالء مببيت ليلة كام هو املعتاد آنذاك‪ ،‬بل كان‬
‫يقيض يف الطريق ثالث ليايل (‪ )...‬ويف السنة الثانية والثالثة‪ ،‬زادت رغبة الناس والصلحاء‬
‫سداسلا مسقلا‪ :‬الدعاء‪ -‬الزيارة ‪ -‬التوسل باألئمة ‪R‬‬

‫والذل إىل أن صار عدد الخيم يف بعض السنني‬‫باألمر‪ ،‬وذهب ما كان يف ذلك من اإلهانة ّ‬
‫لكل واحدة بني العرشين والثالثني نفرا ً»‪.‬‬
‫أزيد من ثالثني‪ّ ،‬‬
‫ويقول ‪« :M‬كان ‪ -‬أعىل الله مقامه ‪ -‬ملتزماً بالوظائف الرشع ّية عىل الدوام‪،‬‬
‫خاص ال يتخلّف عنه؛ فوقت كتابته من بعد صالة‬ ‫شغل ّ‬ ‫لكل ساع ٍة من يومه ٌ‬ ‫وكان ّ‬
‫العرص إىل قرب الغروب‪ ،‬ووقت مطالعته من بعد العشاء إىل وقت النوم‪ ،‬وكان ال ينام‬
‫ّإل متط ّهرا ً وال ينام من الليل ّإل قليالً‪ ،‬ث ّم يستيقظ قبل الفجر بساعتني‪ ،‬فيج ّدد وضوءه‬
‫رشف قبل الفجر بساعة إىل‬ ‫وال يستعمل املاء القليل‪ ،‬بل كان ال يطَّ ّهر ّإل بالك ّر‪ ،‬ث ّم يت ّ‬
‫ّ‬

‫الحرم املط ّهر‪ ،‬ويقف ‪ -‬صيفاً وشتا ًء ‪ -‬خلف باب القبلة فيشتغل بنوافل الليل إىل أن يأيت‬
‫ّ‬

‫الس ّيد داود نائب خازن الروضة‪ ،‬وبيده مفاتيح الروضة‪ ،‬فيفتح الباب ويدخل شيخنا‪،‬‬
‫وهو أ ّول داخل إليها وقتذاك‪ .‬وكان يشرتك مع نائب الخازن بإيقاد الشموع‪ ،‬ث ّم يقف‬
‫فيصل الصبح‬
‫يف جانب الرأس الرشيف‪ ،‬فيرشع بالزيارة والته ّجد إىل أن يطلع الفجر‪ّ ،‬‬
‫خواصه من الع ّباد واألوتاد‪ ،‬ويشتغل بالتعقيب‪ ،‬وقبل رشوق الشمس‬ ‫جامعة مع بعض ّ‬
‫بقليل يعود إىل داره فيتو ّجه رأساً إىل مكتبته العظيمة املشتملة عىل ألوف من نفائس‬
‫الكتب واآلثار النادرة العزيزة الوجود أو املخترصة عنده فال يخرج منها ّإل للرضورة‬
‫يغي منهجه ويشتغل بعد الرجوع من الحرم الرشيف‬ ‫(‪ )...‬أ ّما يف يوم الجمعة‪ ،‬فكان ّ‬
‫مبطالعة بعض كتب الذكر واملصيبة ‪ -‬العزاء ‪ -‬لرتتيب ما يقرؤه عىل املنرب يف داره‬
‫ويخرج من مكتبته بعد الشمس بساعة إىل مجلسه العا ّم‪ ،‬فيجلس ويح ّيي الحارضين‬
‫ويؤ ّدي التعارفات‪ ،‬ث ّم يرقى املنرب فيقرأ ما رآه يف الكتب ذلك اليوم‪ ،‬ومع ذلك يحتاط يف‬
‫‪148‬‬
‫رصحاً به يف األخبار القطع ّية‪ ،‬وكان إذا قرأ املصيبة تنحدر دموعه عىل شيبته‪.‬‬
‫ما ليس م ّ‬
‫وقص الشارب‬‫وبعد انقضاء املجلس‪ ،‬يشتغل بوظائف الجمعة من التقليم والحلق ّ‬
‫والغسل واألدعية واآلداب والنوافل وغريها‪ ،‬وكان ال يكتب بعد عرص الجمعة ‪ -‬عىل‬
‫رشف بزيارة الحرم ويشتغل باملأثور إىل الغروب‪ .‬كانت هذه عادته إىل‬ ‫عادته ‪ -‬بل يت ّ‬
‫أن انتقل إىل جوار ربّه»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العلمة الطباطبائي ‪M‬‬

‫من صفات هذا الرجل الروحا ّين الكبري تعلّقه الذي ال يوصف وخشوعه يف محراب‬
‫النبي األكرم‪ ،‬ومل تكن انشغاالته العلميّة ليالً ونهارا ً لتحول بينه وبني ّ‬
‫التوسل بهم‬ ‫آل ّ‬
‫ورفع التحيّة والسالم إىل مقام الرسالة والوالية‪ ،‬وكان يعترب أ ّن توفيقه ره ٌن بهذه‬
‫التوسالت‪ .‬وكان شديد االحرتام ألحاديثهم‪ ،‬حتّى الروايات املرسلة والضعيفةكان يتعامل‬
‫ّ‬
‫معها باحتياط‪ ،‬ومل يكن يحتمل أدىن إساءة أدب واعوجاج سليقة تجاه هذه الساللة‬
‫الطاهرة‪.‬‬
‫العلمة‪:‬‬
‫يقول أحد تالمذة ّ‬
‫خاصة ومح ّبة مم ّيزة لألمئّة الطاهرين ‪-‬صلوات الله عليهم‬ ‫«كان لألستاذ عالقة ّ‬
‫أجمعني‪ -‬وعندما يذكر اسم أحدهم كانت تظهر يف وجهه مالمح التواضع واألدب‪ ،‬وكان‬
‫خاصا لإلمام صاحب الزمان (أرواحنا فداه)‪ .‬كان يعترب أ ّن لهم ‪ R‬أي‬ ‫يك ّن احرتاماً ًّ‬
‫رسول الله ‪ P‬واألمئّة ‪ ،R‬والص ّديقة الكربى‪ ،‬مقاماً ومنزلة فوق التص ّور‪ ،‬وكان‬
‫يتم ّيز بالخضوع والخشوع الواقع ّيني والوجدان ّيني تجاههم‪ ،‬ويعترب منزلتهم ملكوت ّية‪،‬‬
‫كام كان محيطاً بسريتهم وتاريخهم بشكلٍ كامل»‪.‬‬

‫نقال عن مق ّدمة دار‬


‫نقال عن طبقات أعالم الشيعة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ .548-546‬وقد أوردته هنا ً‬
‫النص ً‬
‫((( ترجم املؤلف ّ‬
‫رصف يسري‪.‬‬‫السالم‪ ،‬نقالً عن املصدر املذكور بت ّ‬
‫ويقول تلمي ٌذ آخر من تالمذته‪:‬‬
‫‪149‬‬
‫«‪ ...‬النقطة األوىل‪ :‬العالقة بأهل البيت ‪ ،R‬ويف الحقيقة كان الوالء ألهل البيت‬
‫بالنسبة إليه مبنزلة الشمعة التي تيضء ليل حياته‪ ،‬كانت عالقته بأهل البيت‪-‬خصوصاً‬
‫أمري املؤمنني ‪ -Q‬تبلغ ح ّد العشق‪ .‬ال أذكر أبدا ً أنّه م ّر بذكر اسم أحد األمئّة دون‬
‫رشف سنويًّا ويقيض الصيف‪ ،‬عندما يدخل‬ ‫أداء مراسم االحرتام‪ .‬يف مشهد‪ ،‬حيث كان يت ّ‬
‫صحن حرم اإلمام الرضا‪ Q‬رأيت مرارا ً ‪ -‬عندما كنت يف خدمته ‪ -‬أنّه يضع يديه‬
‫سداسلا مسقلا‪ :‬الدعاء‪ -‬الزيارة ‪ -‬التوسل باألئمة ‪R‬‬

‫املرتعشتني عىل عتبة الباب ويق ّبلها ‪ -‬وببدنه املرتجف ‪ -‬من صميم القلب‪ .‬وأحياناً‬
‫عندما كنت التمس منه الدعاء‪ ،‬كان يقول يل‪ :‬اذهب وخذ حاجتك من اإلمام ‪Q‬‬
‫كل يشء هناك»‪.‬‬ ‫نحن هنا لسنا شيئاً‪ّ ،‬‬
‫النبي ومقام الوالية‪،‬‬
‫أي شخص تجاه آل ّ‬ ‫مل يكن يتح ّمل أدىن إساءة أدب ومن ّ‬
‫وكان يتعامل مع هؤالء األشخاص مبنتهى الحزم‪ .‬من املمكن أن يتساهل يف األخطاء‬
‫العلمي‪ ،‬أ ّما يف مقابل األشخاص‬
‫ّ‬ ‫العلم ّية‪ ،‬ويلتزم يف تصحيحها ونقدها حدود األدب‬
‫الذين يسيؤون ‪-‬ولو قليالً‪ -‬إىل مقام والية أهل البيت‪ ،‬فلم يكن يستطيع أن يسكت‪،‬‬
‫ّ‬

‫بأي نحو ٍكان‪ ،‬طريقته هذه واضحة يف كتبه‪ ،‬أ ّما يف املجلس فقد‬ ‫بل كان يواجه ذلك ّ‬
‫ّ‬

‫كانت أكرث رصاحة وأش ّد وضوحاً‪ .‬يف ليايل شهر رمضان‪ ،‬كان يشرتك يف املجالس التي‬
‫يقرأ فيها عزاء س ّيد الشهداء ‪ ،Q‬أحياناً كان يبقى إىل السحر‪ ،‬وكان ح ّبه ألهل‬
‫البيت‪ ،‬وتعلّقه بهم‪ ،‬يظهر بوضوح‪.‬كان غالباً ما يشرتك يف مجالس العزاء واملرايث‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وبصوت عال‪ ،‬بحيث إ ّن بدنه كلّه‬ ‫يف أيّام الجمعة‪ ،‬وأحياناً كان يبيك بكا ًء مريرا ً‪،‬‬
‫شك أن ّكثريا ً من توفيقاته وليدة هذه‬ ‫يرتجف‪ ،‬والدموع تنهمر من عينيه‪ ،‬وال ّ‬
‫الخصلة (‪ )...‬وهي خصلة بارزة يف جميع تالمذته‪ ،‬كان يحيي جميع ليايل شهر‬
‫رمضان حتّى الصباح منش ِغ ًل بالعبادة والكتابة وكان ينام مع طلوع الشمس ‪ -‬وبعد‬
‫عبادات السحر ‪ -‬إىل الظهر»(((‪.‬‬

‫((( يادنامه عالمة طباطبايئ‪ ،‬ص‪ 174-172‬بترصف‪.‬‬


‫المسير إلى الجهاد ومسجد السهلة‬
‫‪150‬‬
‫عندما هاجم الروس واإلنكليز إيران يف أواخر أيّام اآلخوند الخراساين ‪-‬صاحب‬
‫«الكفاية»‪ - M‬وأصدر املرحوم الخراسا ّين حكم الجهاد‪ ،‬ق ّررت األكرثية الساحقة‬
‫من علامء العراق‪ ،‬التو ّجه معه إىل إيران‪ ،‬يقول مؤلّف كتاب «حياة اإلسالم» يف هذا‬
‫الصدد‪« :‬بعد أن ات ّفق جميع علامء النجف وكربالء والكاظمني وسام ّراء مع سامحته‬
‫اإلسالمي (إيران) ق ّرر سامحته التو ّجه ليلة األربعاء ‪21‬‬
‫ّ‬ ‫عىل التو ّجه للدفاع عن البلد‬
‫للتوسل بو ّيل العرص | ومنه‬ ‫ذي الح ّجة الحرام سنة ‪1329‬هـ‪.‬ق إىل مسجد السهلة؛ ّ‬
‫إىل كربالءـ فالكاظميّة‪ ،‬ومنها إىل إيران مع جميع حجج اإلسالم‪.‬عند ذلك حجز كثري‬
‫لكل عرشة أو اثني‬ ‫من الفضالء واملجتهدين غرفهم قبل يوم من املوعد املق ّرر‪ ،‬وكان ّ‬
‫كل أمتعة السفر إىل مسجد السهلة‪ ،‬حتّى إ ّن الكسبة كالخبّاز‬ ‫عرش منهم غرفة ونقلوا ّ‬
‫والبقّال نقلوا أسباب كسبهم إىل مسجد السهلة‪ ،‬وكث ٌري منهم ق ّرروا السفر إىل إيران»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫صدر المتألهين‬
‫مقيم يف «كهك» مشغولً ببحث املسائل الفلسف ّية‬ ‫كان هذا الفيلسوف الكبري ً‬
‫وتحقيقها‪ ،‬كان ينتقل بني الحني واآلخر من «كهك» إىل ق ّم لزيارة املعصومة (سالم الله‬
‫املل صدرا يف بحث «اتّحاد العاقل‬ ‫لحل املشكالت العلم ّية (‪ )...‬يقول ّ‬‫والتوسل بها ّ‬
‫ّ‬ ‫عليها)‬
‫باملعقول» بهذا الصدد ما يأيت‪« :‬إ ّن مسألة كون النفس عاقلة لصور األشياء املعقولة‬
‫من أغمض املسائل الحكم ّية التي مل تنقّح ألحد من علامء اإلسالم إىل يومنا هذا‪ ،‬ونحن‬
‫لـم رأينا صعوبة هذه املسألة وتأ ّملنا يف أشكال كون العلم بالجوهر جوه ًرا وعرضً ا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫يل» كالشفاء‪ ،‬والنجاة‪ ،‬واإلشارات‪،‬‬ ‫ومل نر يف كتب القوم‪ ،‬س ّيام كتب رئيسهم «أيب ع ّ‬
‫وكل من يف‬ ‫وعيون الحكمة‪ ،‬وغريها‪ ،‬ما يشفي العليل‪ ،‬ويروي الغليل‪ ،‬بل وجدناه ّ‬
‫الطويس نصري الدين‬
‫ّ‬ ‫طبقته وأشباهه‪ ،‬كتلميذه «بهمينار» وشيخ أتباع الرواق ّيني واملحقّق‬
‫رضعاً غريزيًّا إىل‬ ‫وغريهم (‪ )...‬فتو ّجهنا تو ّجهاً جبلّ ّياً إىل مس ّبب األسباب‪ ،‬وت ّ‬
‫رضعنا ت ّ‬

‫((( مرﮔـي درنور‪ ،‬ص‪.269‬‬


‫مس ّهل األمور الصعاب يف فتح هذا الباب؛ إذ ك ّنا قد ج ّربنا مرارا ً كثرية س ّيام يف باب‬
‫‪151‬‬
‫إعالم الخريات العلم ّية وإلهام الحقائق اإلله ّية ملستحقّيه ومحتاجيه أ ّن عادته اإلحسان‬
‫واإلنعام‪ )...( ،‬وشيمته رفع أعالم الهداية وبسط أنوار اإلفاضة‪ ،‬فأفاض علينا يف ساعة‬
‫تسويدي هذا الفصل من خزائن علمه علامً جديدا ً‪ ،‬وفتح عىل قلوبنا من أبواب رحمته‬
‫فتحاً مبيناً‪ ،‬وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم فنقول‪.(((»...‬‬
‫وقد نقل أحد العلامء عن خ ّط صدر املتألّهني ‪ M‬ما يوضح انتقاله‪ M‬من‬
‫سداسلا مسقلا‪ :‬الدعاء‪ -‬الزيارة ‪ -‬التوسل باألئمة ‪R‬‬

‫«كهك» إىل ق ّم لزيارة املعصومة ‪ O‬لهذا الغرض‪ ،‬وهو قوله‪« :‬كنت حني تسويدي‬
‫هذا املقام بـ«كهـﮓ» من قرى ق ّم فجئت إىل ق ّم زائرا ً لبنت موىس بن جعفر (سالم الله‬
‫عليهام)‪ ،‬مستم ًّدا منها‪ ،‬وكان يوم جمعة فانكشف يل هذا األمر بعون الله تعاىل»(((‪.‬‬
‫كام نقل أحد العلامء عن خ ّط ابن صدر املتألّهني تاريخ هذه اإلفاضة (الذهاب إىل‬
‫ق ّم للزيارة وما أفاضه الله عليه) وأنّه يوم الجمعة يف شهر جامدى األوىل سنة سبع‬
‫وثالثني بعد األلف وقد مىض من عمر املؤلّف آنذاك مثان وخمسون سنة»(((‪.‬‬
‫ّ‬

‫نص آخر أ ّن يوم الجمعة ذاك كان السابع من شهر جامدى األوىل(((‪.‬‬
‫ويوضح ّ‬
‫الحقيقة ّ‬
‫ّ‬

‫المرة‬
‫والتوسل باألمئّة‬
‫ّ‬ ‫مم تق ّدم يتّضح ج ّيدا ً أ ّن طريقة العلامء الربَّان ّيني هي التو ّجه‬
‫ّ‬
‫األطهار ‪ R‬وقراءة األدعية والزيارات‪ .‬هنا يجب االعرتاف لألسف أ ّن الدعايات‬
‫املسمومة التي بثَّها املستعمرون قبل الثورة ‪ -‬اإلسالم ّية يف إيران ‪ -‬تركت أثرها يف إبعاد‬
‫الناس عن األدعية‪ ،‬واألمر كذلك أيضاً بالنسبة إىل كثريٍ من ّ‬
‫الطلب األم ّيني أو املتعلّمني‬
‫ّإل أنّهم ليسوا هادفني‪ ،‬بل هم «ال أُبال ّيون» حتّى إ ّن بعض املدارس العلم ّية ال تقرأ فيها‬

‫((( األسفار‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.313 - 312‬‬


‫((( اتحاد عاقل به معقول ‪ -‬فاريس‪ ،‬ص‪.109-107‬‬
‫((( املصدر السابق‪.‬‬
‫((( منتخبايت أز رثار حكامي إلهي إيران‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ 18‬الهامش‪.‬‬
‫أدعية تعقيب الصالة‪ ،‬ويقرؤون بدالً منها سورة من القرآن وباختصار‪ ،‬تركت «املفاتيح»‬
‫‪152‬‬
‫اإللهي‪ ،‬أن يقيض عىل آثار‬
‫ّ‬ ‫جانباً إىل أن كان انتصار الثورة‪ ،‬واستطاع اإلمام هذا القائد‬
‫تلك الدعايات املسمومة بحيث أصبح اآلن‪ ،‬وبربكة وجوده الرشيف‪ ،‬يقرأ دعاء الندبة‬
‫والتوسل والخ‪ ...‬يف أكرث مدن إيران وقراها‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫وكميل‬
‫ومن املناسب‪ ،‬يف نهاية املطاف هنا‪ ،‬إيراد بعض كلامته الد ِّريّة‪:‬‬
‫يقول (رضوان الله تعاىل عليه)‪:‬‬
‫«أوضح األمئّة الطاهرون كثريا ً يف املسائل بلسان األدعية‪ ،‬لسان األدعية يختلف‬
‫عم عداه من أساليبهم ‪ R‬والتي كانوا يبيّنون بها األحكام‪ .‬أكرث املسائل‬ ‫كثريا ً ّ‬
‫الروحان ّية‪ ،‬مسائل وراء الطبيعة‪ ،‬وما يتعلّق مبعرفة الله‪ ،‬بي ّنوه بلسان األدعية‪ ،‬ولكن‬
‫نحن نقرأ هذه األدعية إىل اآلخر ولألسف ال نلتفت إىل هذه املعاين(((‪ ،‬هذه األدعية‪،‬‬
‫الغيبي‪ ،‬وليست فقط ال تح ّد من‬ ‫ّ‬ ‫هذه التو ّجهات إىل الله تن ّبه اإلنسان إىل املبدأ‬
‫النشاط‪ ،‬بل إنّها سبب النشاط والفعاليّة‪ ،‬الفعاليّة التي ليست للذات‪ ،‬بل لعباد الله‪،‬‬
‫ويفهم أ ّن الفعال ّية لعباد الله هي خدمة لله‪ .‬هؤالء الذين ينتقدون كتب األدعية إمنا‬
‫يفعلون ذلك ألنّهم ال يعلمون أ ّن هذه األدعية الواردة عن أمئّتنا كاملناجاة الشعبان ّية‬
‫ودعاء كميل ودعاء عرفة والسامت و‪ ...‬كيف تصلح اإلنسان»(((‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬نرى أ ّن اإلمام عندما أبعد إىل ترك ّيا‪ ،‬يطلب يف إحدى رسائله األوىل التي‬
‫كتبها إىل عائلته أن يرسلوا إليه «مفاتيح الجنان» والصحيفة الس ّجاديّة‪ ،‬ومل يغفل عن‬
‫أي وقت من األوقات(((‪.‬‬‫هذا األمر ‪-‬كسائر أبعاد اإلسالم ‪ -‬يف ّ‬
‫َ َ َ ََۡ ۡ َ ُ ْ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ّ َ ّ َ ٌ ُ ُ َ ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ََ َ‬
‫جيبوا ِل‬
‫جيب دعوة ٱدلاع إِذا دع ِنۖ فليست ِ‬ ‫﴿ِإَوذا سألك عِبادِي ع ِن فإ ِ ِن ق ِريبۖ أ ِ‬
‫َ ۡ ُ ۡ ُ ْ َ َ َّ ُ ۡ َ ۡ ُ ُ َ‬
‫ون﴾(((‪.‬‬ ‫ولؤمِنوا ِب لعلهم يرشد‬

‫((( الجهاد األكرب‪.‬‬


‫((( دعاي روز عرفه (روز شناخت) املقدمة بترصف‪.‬‬
‫((( نهضت إمام خميني‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.8‬‬
‫((( سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.186‬‬
‫القسم السابع‬

‫صالة الليل س ّر النجاح‬

‫كـــرة الـــنـــوم تــــورث الــحــرات‬ ‫يـــا طــويــل الـــرقـــاد والــغــفــات‬


‫لــــرقــــادا ً يـــطـــول بــعــد املـــات‬ ‫إ ّن يف الــقــر إن نــزلــت إلــيــه‬
‫بـــذنـــوب عــمــلــت أو حــســنــات‬ ‫ومــــهــــادا ً مـــمـــ ّهـــدا ً لـــك فيه‬
‫املح ّجة البيضاء‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪397‬‬
‫‪155‬‬

‫طلب العلوم الدين ّية‬ ‫من األمــور التي يجب عىل جميع املسلمني‪ ،‬خصوصاً ّ‬
‫رضع يف األسحار‪.‬‬
‫والروحان ّيني‪ ،‬أن يهت ّموا بها‪ ،‬مسألة قيام السحر والته ّجد والت ّ‬
‫عباسلا مسقلا‪ :‬اجنلا ّرس ليللا ةالص‬

‫ُذكِرت هذه املسألة يف القرآن الكريم يف أكرث من عرشة مواضع‪ ،‬وقد ورد الثناء عىل‬
‫املته ّجدين باألسحار بعبارات مختلفة‪.‬‬
‫والروايات يف فضيلة صالة الليل وذ ّم تركها ‪-‬بنا ًء عىل كالم العارف الواصل املرحوم‬
‫التربيزي ‪ M‬بلغت ح ّد التواتر(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املليك‬
‫يصل صالة الليل»(((‪.‬‬
‫يقول اإلمام الصادق ‪« :Q‬ليس من شيعتنا من مل ّ‬
‫للطلب أن يهت ّموا بهذا‬
‫ويرى أحد أساتذة األخالق أ ّن من الواجبات الحتم ّية ّ‬
‫املستحب ويلتزموا به وينريوا قلوبهم باملناجاة يف األسحار‪ ،‬واالختالء بالله تعاىل‪،‬‬
‫ّ‬
‫الحق‪ ،‬ويح ِّولوا بذلك ظلمة الليل إىل نهار‪.‬‬
‫والتفكّر يف آيات ّ‬
‫التربيزي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يقول املرحوم املليك‬
‫طلب اآلخرة إىل يشء من‬
‫«وحىك يل شيخي يف العلوم الحقّة‪ :‬أنّه ما وصل أحد من ّ‬
‫املقامات الدين ّية ّإل ‪ -‬إذا كان ‪ -‬من املته ّجدين»‪.‬‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ‪:‬‬
‫يقول ّ‬
‫رشفت بالنجف األرشف للدراسة ونظرا ً للقرابة والرحم‪ ،‬كنت أحياناً أت ّ‬
‫رشف‬ ‫«عندما ت ّ‬
‫بزيارة املرحوم القايض‪ .‬وذات يوم كنت واقفاً يف مدرسة يف النجف فم ّر املرحوم القايض‬

‫((( أرسار الصالة‪ ،‬ص‪.289‬‬


‫بترصف يسري‪.‬‬
‫((( املصدر نفسه‪ ،‬ص‪ّ ،293‬‬
‫بني‪ ،‬إذا كنت تريد الدنيا‬
‫من هناك‪ ،‬وعندما وصل إ ّيل وضع يده عىل كتفي‪ ،‬وقال‪« :‬يا ّ‬ ‫‪156‬‬
‫فصل صالة الليل»‪.‬‬
‫فصل صالة الليل‪ ،‬وإذا كنت تريد اآلخرة ِّ‬
‫ِّ‬
‫وقد أث ّر ّيف هذا الكالم إىل ح ّد ّأن بعد ذلك وطيلة خمس سنوات رجعت بعدها إىل‬
‫إيران مل أترك مجلس الس ّيد القايض‪ ،‬وكنت أصل الليل عنده بالنهار‪ ،‬ومل أف ّوت لحظ ًة‬
‫ميكنني االستفادة فيها من فيضه‪ ،‬وبعد عوديت إىل وطني املألوف وحتّى وقت وفاة‬
‫األستاذ كانت عالقاتنا قامئة‪ ،‬وكان املرحوم القايض ‪ -‬ومبقتىض عالقة األستاذ والتلميذ‬
‫العلمة‪« :‬نحن‬‫‪ -‬يز ّودين بأوامره وتوجيهاته وكانت املراسالت بيننا مستم ّرة»‪ .‬ويضيف ّ‬
‫كل ما عندنا فهو من املرحوم القايض»(((‪ .‬نعم‪ ،‬هكذا تصنع املواعظ البليغة بأهلها‪.‬‬
‫ّ‬
‫يف حديث عن اإلمام الصادق ‪« :Q‬أبغض الخلق إىل الله جيفة بالليل بطّال‬
‫بالنهار»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫السيئة‬ ‫التربية‬
‫الطلب‪« :‬قال يل أحدهم ‪ -‬وهو بحسب الظاهر عامل متَّقٍ ‪« :-‬األفضل أن ال‬
‫قال أحد ّ‬
‫يصل صالة الصبح يف آخر وقتها‪ ،‬حتّى ال يصاب بالعجب‬ ‫يصل اإلنسان صالة الليل‪ ،‬وأن ّ‬
‫ّ‬
‫والتكرب‪ ...‬وحيث إ ّن صالة الليل تؤ ّدي إىل الغرور فيجب تركها»‪ .‬أضاف ذلك الطالب‬
‫إثر كالمه ‪ -‬وحيث ّأن كنت أثق به ‪ :-‬تركت صالة الليل ع ّدة سنوات مع ّأن كنت أبقى‬
‫مستيقظاً وقت السحر»‪.‬‬
‫انظر إىل هذه الرتبية الس ّيئة والتفكري األعوج‪ .‬قيل لذلك الطالب‪ :‬إ ّن ذلك الشخص‬
‫كان شيطاناً قال هذا القول املزخرف؛ ألنّه إذا كان ذلك صحيحاً فإنّه ينسحب عىل‬
‫جميع املستح ّبات وعليه‪ ،‬فيجب القول برتك صالة الجامعة وقراءة القرآن والدعاء حتّى‬
‫ال نقع يف الغرور‪ .‬وفساد هذا الكالم من الوضوح بحيث ال يحتاج إىل بسط القول يف‬
‫ر ّده‪.‬‬
‫((( مهرتابان‪ ،‬ص‪.16‬‬
‫((( بحار األنوار‪ ،‬ج‪ ،84‬ص‪ .158‬أرسار الصالة‪ ،‬ص‪.289‬‬
‫البديهي أ ّن اإلنسان يجب عليه‪ ،‬حتّى مع أداء املستح ّبات‪ ،‬أن ينقّي نفسه‬ ‫ّ‬ ‫إ ّن من‬
‫‪157‬‬
‫من الرذائل األخالق ّية‪ .‬ومن حيث املبدأ فإنّ‪ ،‬صالة الليل نفسها سبب يف توفيق اإلنسان‬
‫لتصفية نفسه من الصفات الرذيلة‪ ،‬والله الذي وفّق لصالة الليل يوفّق للسالمة من‬
‫مرض ال ُع ْجب الخطري‪ .‬ث ّم إ ّن هذا الشخص «الالأُبايل» إىل هذا الح ّد؛ بحيث إنّه يؤ ّخر‬
‫صالة الصبح إىل آخر الوقت‪ ،‬ال معنى أبدا ً البتالئه بالعجب‪ ،‬وملَ العجب؟ إنّه كاألعمى‬
‫الذي ال ميكنه أن يرى من ليست محرماً له‪ .‬إ ّن التح ّدي الكبري هو أن يلتزم اإلنسان‬
‫عباسلا مسقلا‪ :‬اجنلا ّرس ليللا ةالص‬

‫بتل بالعجب‪ ،‬أ ّما التقوى السلب ّية‪ ،‬فال قيمة لها‪ ،‬بل امله ّم هو التقوى‬
‫باملستح ّبات وال يُ َ‬
‫االيجاب ّية‪.‬‬
‫يقول السالك الكامل املرحوم املليك‪:‬‬
‫«نعم‪ ،‬قد ينام من ته ّيأ لالنتباه لطفاً من الله ‪-‬اللطيف عليه يف سياسته أمر عبوديّته‪-‬‬
‫حفظاً له من العجب أو تعريضاً له لزيادة األجر من كرثة أسف فوت الته ّجد‪ ،‬ولكن‬
‫الذي يُستفاد من األخبار أ ّن ذلك ال يكون ّإل قليالً‪ ،‬ليلة أو ليلتني»(((‪.‬‬
‫ويرى البعض أ ّن قيام الليل ونافلته يتنافيان مع الدرس‪ ،‬ويحوالن دون التحصيل‪،‬‬
‫وأنَّهام باختصار مضيعة للوقت‪ ،‬ويجب قضاء ذلك الوقت يف الدرس واملطالعة‪.‬‬
‫التربيزي يف جواب هؤالء‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يقول آية الله املليك‬
‫«وكيف كان فإ ّن من له أدىن تت ّبع يف أخبار أهل البيت ‪ R‬وأحوال السلف من‬
‫يشك يف أ ّن صالة الليل ليست ض ّد تحصيل العلم‪ ،‬بل‬ ‫مشايخنا العظام ‪-‬رحمهم الله‪ -‬ال ّ‬
‫املحصلني من كان من املته ّجدين‬
‫ّ‬ ‫هي من أسبابه القريبة والقويّة‪ ،‬وكثريا ً ما رأينا من‬
‫وصار ذلك سبباً الستقامة فهمه‪ ،‬وجودة ذهنه يف الوصول إىل املطالب الحقّة يف املسائل‬
‫الطلب املج ّدين يف مطالعة‬
‫العلم ّية‪ ،‬وارتقى إىل املراتب العالية يف العلم‪ ،‬بخالف ّ‬
‫الكتب العلم ّية ‪ -‬غري املته ّجدين ‪ -‬فقلّام خرج منهم صاحب ملك ٍة مستقيمة‪ ،‬نعم‪ّ ،‬‬
‫ربا‬

‫((( أرسار الصالة‪ ،‬ص‪.291‬‬


‫يوجد فيهم مدقّق مشكّك‪ ،‬ولكن ال يكون محقّقاً وال يكون يف علمه بركة كاملة‪ ،‬بل‬
‫‪158‬‬
‫يقل خريه ونوره وال يوفّق لفوائد هذا العلم»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫التربيزي أه ِّم ّية صالة الليل بالتفصيل يف كتابه الق ّيم «أرسار‬
‫ّ‬ ‫وقد تناول آية الله‬
‫شك يف أ ّن من أكرب مصاديق توفيق الطالب هو‬ ‫أي حال‪ ،‬فال ّ‬ ‫الصالة» فلرياجع‪ .‬وعىل ّ‬
‫وكل من ُحرِم من هذا الفيض يجب عليه أن يكون بصدد الحصول عليه‪،‬‬ ‫قيام السحر‪ّ ،‬‬
‫أي هدف ومرتبة بدون صالة الليل‪.‬‬ ‫وليعلم أ ّن أحدا ً مل يتمكّن من الوصول إىل ّ‬
‫زينب ‪ O‬ليلة الحادي عشر من ّ‬
‫محرم‬
‫يف ليلة العارش من مح ّرم كانت السيدة زينب ‪ O‬وكان اإلمام الحسني ‪Q‬‬
‫وكل يشء‪ ...‬يف ليلة الحادي عرش كانت زينب‬‫كل شخص‪ّ ،‬‬ ‫كانت زينب وكان الجميع‪ّ ،‬‬
‫ومل يكن غري زينب‪ ،‬زينب س ّيدة النساء‪ ،‬يف هذه الليلة كانت زينب هي الراعي‪ ،‬هي‬
‫قائدة قافلة األرسى وملجأ األيتام‪ .‬رغم ثقل املصائب ومرارتها‪ ،‬كانت زينب طودا ً‬
‫شامخاً واجهت املصائب ومل يرمش لها جفن‪ .‬تولّت حراسة األرسى‪ ،‬تولّت جمع النساء‬
‫واألطفال‪ ،‬تولّت تجميع الهامئني عىل وجوههم يف الصحراء‪ ،‬تولّت متريض العليل‬
‫الضعيف‪.‬كانت الروح لألجساد التي فقدت الروح‪ ،‬والبهجة للقلوب التي فقدت‬
‫البهجة‪ ،‬والرمق للنفوس التي فقدت الرمق‪.‬‬
‫كانت متيض مرسع ًة من هذه الجهة إىل تلك‪ ،‬تبحث ع ّمن افتقدت‪ ،‬كان رضب‬
‫السياط يؤملها‪ ،‬وأشواك الصحراء تدميها‪ ،‬إلّ أ ّن زينب تبحث عن اليتامى‪ ،‬كانت كبدها‬
‫تحرتق‪ ،‬ولك ّنها تبحث عن اليتامى‪ .‬هذا الجسد الذي ه ّده األمل‪ ،‬كانت املعجزة‪ ،‬أثبتت‬
‫طفل تحت حوافر الخيل‪ ،‬وال احرتقت امرأ ٌة‬‫زينب كفاءة منقطعة النظري‪ :‬فلم يسقط ٌ‬
‫كل هذه املها ّم‪،‬‬
‫طفل يف تلك الليلة املشؤومة‪ .‬وبعد أن انجزت زينب ّ‬ ‫بالنار‪ ،‬وال ضاع ٌ‬
‫واطأمنّت عن سالمة الجميع‪ ،‬تو ّجهت إىل الله وانرصفت إىل العبادة وصلّت صالة‬
‫الليل‪ .‬لقد كانت متعبة ج ّدا ً بحيث إنّها مل تستطع أن تصلّيها وقوفاً‪ ،‬فصلّت صالة الليل‬
‫((( أرسار الصالة‪ ،‬ص ‪.295 - 294‬‬
‫رضعت إىل الله تعاىل وابتهلت‪ .‬كانت زينب إله ّية‪ ،‬واإلله ّيون هكذا‬
‫من جلوس‪ ،‬وت ّ‬
‫‪159‬‬
‫يواجهون املصائب وال يرمش لهم جفن صابرين شاكرين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والد العلمة الشهيد مطهري‬
‫يقول األستاذ الشهيد‪:‬‬
‫«هناك سلسلة لذائذ معنويّة‪ ،‬تن ّمي معنويّاتنا‪ ،‬وتسمو بها‪ ،‬صالة الليل لها عند من‬
‫عباسلا مسقلا‪ :‬اجنلا ّرس ليللا ةالص‬

‫هو من أهل الته ّجد‪ ،‬وصالة الليل‪ ،‬ومن هو من الصادقني‪ ،‬والصابرين‪ ،‬واملستغفرين‬
‫وواقعي لصالة الليل‪،‬‬‫ّ‬ ‫حقيقي‬
‫ّ‬ ‫مصل‬
‫باألسحار‪ ،‬لذّة وبهجة‪ ...‬تلك اللذّة التي يشعر بها ٍّ‬
‫رب وأتوب إليه» من قوله‪« :‬العفو العفو» وذكر‬ ‫من صالة ليلة من قوله‪« :‬أستغفر الله ّ‬
‫رب»‬‫رب يا ّ‬‫األقل والدعاء لهم‪ ،‬اللذّة التي يشعر بها من قوله‪« :‬يا ّ‬ ‫أربعني مؤمناً عىل ّ‬
‫ال ميكن أبدا ً أن يشعر بها شخص بطّال يتسكّع يف علب الليل‪ ،‬لذّة صالة الليل أعمق‬
‫بكثري‪ ،‬أقوى‪ ،‬أكرث نشاطاً‪ .‬ولكن إذا أغرقنا أنفسنا يف لذّة الدنيا املاديّة‪ ،‬مثالً نتحلّق أ ّول‬
‫الليل حول بعضنا‪ ،‬ونأخذ بالحديث والضحك‪ ،‬ولنفرتض أنّنا مل نغتب أل ّن ذلك حرام‪،‬‬
‫واقترصنا فقط عىل املزاح املباح‪ ،‬وبعدها توضع املائدة ونأكل حتّى التخمة‪ ،‬بحيث‬
‫يصبح حتّى التنفس صعباً علينا‪ ،‬بعدها نسقط كاملوىت يف فراشنا‪ .‬هل نستطيع آنذاك‬
‫أن نوفّق لالستيقاظ سحرا ً قبل طلوع الفجر بساعتني ونناجي من أعامق الروح «يا ّ‬
‫رب‪،‬‬
‫رب»؟ أصالً لن نستيقظ‪ ،‬وإذا استيقظنا فكالسكارى نعب املاء ع ّباً‪.‬‬ ‫رب‪ ،‬يا ّ‬
‫يا ّ‬
‫إذا ً إذا أراد اإلنسان أن يدرك اللذائذ املعنويّة واإلله ّية يف هذه الدنيا‪ ،‬ال سبيل له ّإل‬
‫أن يص َّد نفسه عن اللذائذ املاديّة‪.‬‬
‫أقسم بالله‪ ،‬أ ّن اللذّة التي يشعر بها املؤمن عندما يستيقظ يف ذلك الوقت يف الليل‪،‬‬
‫ويقع نظره عىل السامء املليئة بالنجوم‪ ،‬ويقرأ آيات آخر سورة آل عمران التي هي‬
‫صوت الوجود املنبعث من قلب الوجود‪ ...‬ويتّحد صوته ‪ -‬بقراءتها ‪ -‬مع صوت الوجود‬
‫‪ -‬هذه اللذّة ‪ -‬تعادل عمرا ً من اللذّة املاديّة يف هذه الدنيا‪ ...‬إنسان كهذا ال يستطيع‬
‫أن يعيش مثلنا‪ ،‬ال يستطيع أن يجلس إىل مائدة العشاء مع أنّه ظهرا ً تناول األطعمة‬
‫الدسمة‪ ،‬أنواع اللحوم‪ ،‬والسمن الحيوا ّين والنبا ّيت‪ ،‬أنواع الحلويات وأنواع املق ّبالت‪ ...‬وال‬
‫‪160‬‬
‫يستطيع أن يجلس عشا ًء ويتناول أيضاً مقدارا ً من الحساء لتحريك اشتهائه للطعام‪.‬‬
‫الشخص الذي يفعل ذلك ال يستطيع أن يستيقظ عند منتصف الليل‪ ،‬وإذا استيقظ فال‬
‫ميكنه أن يلت ّذ باملناجاة؛ لذلك فإ ّن األشخاص الذين كانوا أهالً لهذه التوفيقات ‪ -‬وقد‬
‫رأيناهم ‪ -‬مل يكونوا يأبهون لهذه اللذائذ املاديّة التي تعلّقنا بها‪ .‬وال مانع من أن أذكر‬
‫بالخري هنا والدي املعظّم‪ ،‬من أ ّول وعيي كنت أرى هذا الرجل الرشيف ال يسمح أبدا ً‬
‫أن يتجاوز وقت نومه ثالث ساعات بعد الغروب ‪ -‬كان ينام يف هذا الوقت باستمرار‪،‬‬
‫يتناول طعام العشاء أ ّول الليل‪ ،‬وبعد ثالث ساعات بدءا ً من أذان املغرب ‪ -‬ينام‪،‬‬
‫األقل‪ ،‬واملقدار الذي كان يقرأه من القرآن‬ ‫ويستيقظ قبل طلوع الفجر بساعتني عىل ّ‬
‫وبأي فراغ بال واطمئنان خاطر‪ ،‬كان يؤ ّدي صالة الليل‪ .‬اآلن‪ ،‬مىض‬ ‫األقل‪ّ ،‬‬
‫هو جزء عىل ّ‬
‫من عمره حواىل مئة سنة وما رأيت أبدا ً أنّه رأى مناماً مزعجاً‪ .‬هذه األمور تحيي القلب‪،‬‬
‫واإلنسان الذي يريد أن يستفيد من مثل هذه اللذّة ال ب ّد وأن يخفّف من اللذائذ‬
‫املاديّة ليصل إىل تلك اللذّة األعمق»((( نعم‪ ،‬إ ّن أباً كهذا يق ّدم للمجتمع ابناً كهذا‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشهيد مطهري‬
‫إحدى خصوصيّات الشهيد مط ّهري ‪-‬رضوان الله عليه‪ -‬اهتاممه الكبري بالته ّجد‬
‫وقيام الليل‪ ،‬وقد كان منذ فرتة دراسته إىل آخر عمره املبارك ملتزماً بذلك‪.‬‬
‫يقول الشيخ املنتظري بهذا الصدد‪« :‬من خصائص املرحوم التزامه وح ّبه املفرط‬
‫للذكر‪ ،‬والدعاء‪ ،‬وقيام الليل‪ .‬أذكر أنّه يف أوائل تعارفنا‪ ،‬كان ملتزماً بصالة الليل‪ ،‬وكان‬
‫يحثّني عليها‪ ،‬وكنت أمتلّص من ذلك بح ّجة أ ّن ماء حوض املدرسة مالح وغري نظيف‬
‫لعيني‪ ،‬إىل أن رأيت ذات ليلة يف النوم ّأن نائم وشخص يوقظني قائالً‪« :‬أنا‬ ‫َّ‬ ‫رض‬
‫وم ّ‬
‫وتصل صالة‬‫يل ‪ Q‬يأمرك اإلمام أن تنهض ّ‬ ‫عثامن بن حنيف ممثّل أمري املؤمنني ع ّ‬

‫((( احياء تفكر إسالمي‪ ،‬ص‪ .95-93‬ومن الجدير بالذكر أ ّن الشهيد مطهري كتب هذا يف حياة والده الذي تو ّف‬
‫قبل شهادة األستاذ الشهيد بع ّدة سنوات‪.‬‬
‫الليل وهذه الرسالة أرسلها ‪ Q‬إليك»‪ .‬كان مكتوباً يف تلك الرسالة التي كان حجمها‬
‫‪161‬‬
‫صغريا ً بخ ّط أخرض «هذه براء ٌة لك من النار»‪ .‬ويف عامل النوم جلست ّ‬
‫متحيا ً مف ّكرا ً‬
‫متحيا ً أيقظني‬
‫الزمني بني عرص اإلمام ‪ Q‬وعرصنا‪ ،‬وأثناء جلويس يف النوم ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالفاصل‬
‫وصل صالة الليل‬‫الشهيد مط ّهري وبيده إناء ماء قائالً‪« :‬أحرضت هذا املاء من النهر‪ ،‬قم ِّ‬
‫وال تبحث عن عذر»(((‪.‬‬
‫خامنئي رئيس الجمهوريّة }(((‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يل‬
‫يقول ح ّجة اإلسالم الس ّيد ع ّ‬
‫عباسلا مسقلا‪ :‬اجنلا ّرس ليللا ةالص‬

‫«عندما كان الشهيد مط ّهري يأيت إىل مشهد كان أحياناً ينزل يف بيتنا‪ ،‬الغرفة التي‬
‫باب واحد‪ ،‬كان ملتزماً دامئاً بقراءة‬
‫كان ينام فيها يفصلها عن الغرفة التي كنت أنام فيها ٌ‬
‫القرآن قبل النوم‪ ،‬وقد سمعت صوته أثناء الته ّجد وصالة الليل كان يبيك‪ ،‬طبعاً كثريون‬
‫هم الذين يصلّون صالة الليل‪ ،‬أما مصلّو صالة الليل بتلك الحالة من البكاء فهم قلّة‪،‬‬
‫فيام بعد سمعنا من أصدقائه القدامى مثل الشيخ املنتظري وغريه أنّه كان منذ أيّام‬
‫يصل صالة الليل ومن أهل الته ّجد‪.‬‬
‫دراسته ّ‬
‫يقول ابن األستاذ الشهيد مطهري ‪ M‬يف معرض الحديث عن ليلة استشهاده‪:‬‬
‫«يف تلك الليلة التي سمعنا فيها بنبأ اغتياله‪ ،‬بقينا مستيقظني حتّى الصباح‪ ،‬والساعة‬
‫كل ليلة ‪ -‬عىل العادة ‪ -‬لصالة‬
‫الثانية والنصف ر ّن جرس الساعة التي كانت توقظه ّ‬
‫صل صالة ليله مض ّمخاً بدمه الطاهر قبل‬
‫الليل‪ّ ،‬إل أنّه مل يعد عىل قيد الحياة‪ .‬كان قد ّ‬
‫املوعد املق ّرر يف ظلمة الشارع»‪.‬‬
‫يقول أحد الفضالء واملحقّقني املعارصين ‪-‬عىل ما نقل عنه‪:-‬‬
‫«ويف عالقته بإلهه كان عارفاً من أهل الذكر والسلوك والعبادة‪ .‬لقد قال مرارا ً‪:‬‬
‫«أحب أن أذهب إىل ق ّم‪ ،‬وأشتغل بالرياضة‪ ،‬والعبادة‪ ،‬والعرفان»‪ .‬كانت هذه أمنيَّته‪ ،‬مل‬
‫ّ‬

‫((( يادنامه أستاذ شهيد مطهري‪ ،‬الكتاب األ ّول‪ ،‬ص‪.173‬‬


‫ويل أمر املسلمني وقائد الثورة اإلسالم ّية اآلن دام ظلّه العايل‪.‬‬
‫((( ّ‬
‫يرتك أبدا ً طيلة عمره قراءة القرآن قبل النوم‪ ،‬وصالة الليل‪ ،‬وهكذا‪ ...‬وأثر تأللؤات هذه‬
‫‪162‬‬
‫الخاص من إمام األ ّمة كان يرى الحقائق بعني القلب»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العبادة وقربه‬
‫كذلك يقول أحد أصدقاء األستاذ‪:‬‬
‫«قيام الليايل املظلمة‪ ،‬والبكاء‪ ،‬واملناجاة يف خلوات السحر‪ ،‬والتوغّل يف الذكر والفكر‪،‬‬
‫واملامرسة يف قراءة القرآن ومجانبة أهل الدنيا‪ ،‬وع ّباد الهوى وااللتحاق بأهل الله‬
‫كل ذلك كان مشهودا ً يف سريه وسلوكه»(((‪.‬‬ ‫وأولياء الله‪ّ ،‬‬
‫أيضاً يقول أحد الكتّاب املعارصين‪:‬‬
‫بكل وجوده‪ ،‬وكان‬
‫«مط ّهري املته ّجد واملستغفر باألسحار‪ ،‬كان يُؤنس هذا العامل ّ‬
‫متن ّعامً به‪ .‬يف إحدى خطبه سمعته يقرأ هذين البيتني ‪-‬وذلك ّ‬
‫يدل عىل اهتاممه بهذه‬
‫املراحل‪:-‬‬
‫«أخىش أن أذهب ومل أ َر عامل الروح‪ ،‬أخىش أن أذهب من العامل ومل أ َر العامل‪ ،‬فأكون‬
‫يف عامل الروح عندما أذهب إليه من عامل الجسد‪ ،‬مل أر عامل الروح وأنا يف عامل الجسد»‪.‬‬
‫هذا الرجل كان يع ّد نفسه ‪-‬ومنذ سنوات طوال‪ -‬لهذا السفر وقد أمىض عمرا ً ينقل‬
‫الخطى عىل هذا الطريق متز ّودا ً زاد الته ّجد‪ ،‬ممتطياً صهوة قيام الليل‪ ،‬مسرتشدا ً بدليل‬
‫فيض السحر‪ ،‬ويقيناً أنّه وصل إىل مقاصد كثرية‪ .‬هذه مؤلّفاته الوافرة وخدماته الجليلة‬
‫عالمة فوزه وتوفيقه‪ ،‬وكذلك حصوله عىل سعادة الشهادة»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫تهجد اإلمام‬
‫يقول أحد املق ّربني من اإلمام‪:‬‬
‫الصحة واملرض‪ ،‬يف‬
‫الخميني صالة الليل‪ :‬يف حال ّ‬
‫ّ‬ ‫«منذ خمسني سنة مل يرتك اإلمام‬
‫يصل صالة‬
‫السجن ويف األحوال االعتياديّة وأثناء النفي‪ ،‬وحتّى عىل رسير املرض كان ّ‬

‫لب اللباب‪ ،‬ص‪ 20-19‬املق ّدمة‪.‬‬


‫((( ّ‬
‫((( حوزة‪ ،‬العدد ‪ ،3‬ص‪ ،32 - 31‬مقالة «اآلفاق الفكريّة لخارج الحوزة» (فاريس)‪.‬‬
‫الليل‪ .‬مرض اإلمام يف ق ّم‪ ،‬وبنا ًء عىل أمر األطباء كان ينبغي أن ينتقل إىل طهران‪ ،‬كان‬
‫‪163‬‬
‫الج ّو باردا ً وكان الثلج واملطر يتساقطان‪ ،‬وكان الجليد يغطّي الشوارع‪ ،‬بقي اإلمام‬
‫صل أيضاً صالة‬
‫ع ّدة ساعات يف سيارة اإلسعاف‪ ،‬وبعد االنتقال إىل مستشفى القلب ّ‬
‫الليل‪.‬‬
‫يف الليلة التي كان قادماً فيها من باريس إىل طهران كان الجميع يف الطائرة نياماً‪،‬‬
‫يصل صالة الليل‪ ،‬وإذا كنت قد رأيت‬ ‫فقط اإلمام كان يف الطبقة العليا من الطائرة ّ‬
‫عباسلا مسقلا‪ :‬اجنلا ّرس ليللا ةالص‬

‫تدل عىل قيام الليل وبكاء ظالم‬‫اإلمام عن قرب فإ ّن آثار الدموع عىل خ ّديه املباركني ّ‬
‫الليل‪ .‬ينقل بعض أفراد الحرس يف ق ّم‪ ،‬أحياناً كان اإلمام عندما يستيقظ لصالة الليل‬
‫يتفقّدهم»(((‪.‬‬
‫الخميني قوله‪:‬‬
‫ّ‬ ‫جاء يف إحدى املطبوعات عن ابن اإلمام‬
‫‪« - 1‬يف الليلة التي ك ّنا متّجهني فيها من باريس إىل إيران‪ ،‬يف الطائرة قام اإلمام ألداء‬
‫صالة الليل‪ ،‬وكان يبيك بحيث إ ّن مضيفي الخطوط الفرنس ّية‪ ،‬تع ّجبوا وسمعت أنّهم‬
‫كل ليلة‪.‬‬
‫سألوا‪ :‬هل هناك ما يؤذي اإلمام؟ قلت‪ :‬إنّها عادة اإلمام يف ّ‬
‫صل صالة الليل‬ ‫‪ - 2‬عندما اعتُقل اإلمام‪ ،‬ونُقل من ق ّم إىل السجن يف زمن الطاغوت‪ّ ،‬‬
‫بحالة بحيث قال يل يف ما بعد أحد من كانوا مع اإلمام ‪ -‬الظاهر أنّه العقيد العصار‬
‫‪ -‬لقد تأث ّرنا كثريا ً بصالة اإلمام ّ‬
‫وظل أحدنا إىل طهران يبيك‪.‬‬
‫‪ - 3‬عندما ك ّنا نسري من النجف باتّجاه الكويت‪ ،‬انطلقنا صباحاً الساعة الرابعة ّ‬
‫وربا‬
‫كل املصاعب واملشاكل التي واجهناها‬ ‫قبل ذلك‪ ،‬انطلقنا بعد أذان الصبح‪ ،‬وبعد ّ‬
‫وحواىل الساعة الثانية عرشة نام اإلمام يف فندق البرصة‪ ،‬ومل ينم ساعتني حتّى ر ّن‬
‫وصل صالة الليل وبعدها صالة الصبح»‪.‬‬ ‫جرس ساعته واستيقظ ّ‬

‫((( فرازهايئ از ابعاد امام‪ ،‬ص‪.20‬‬


‫ّ‬
‫التبريزي‬ ‫آية اهلل الملكي‬
‫‪164‬‬
‫يقول أحد املق ّربني منه ‪:M‬‬
‫«عندما كان يستيقظ للته ّجد وصالة الليل‪ ،‬كان يف البداية يبقى يف فراشه م ّدة‪،‬‬
‫ويرتفع صوته فيها بالبكاء‪ ،‬ث ّم يخرج من الغرفة إىل ساحة الدار‪ ،‬فينظر إىل السامء‪،‬‬
‫َۡ‬ ‫ويقرأ آيات ﴿إ َّن ف َخ ۡلق َّ َ َ‬
‫ۡرض﴾ من آخر سورة آل عمران‪ ،‬ث ّم يضع رأسه‬ ‫ت َوٱل ِ‬
‫ٱلسمٰو ٰ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫عىل الحائط ويبيك لفرتة‪ ،‬وبعد التطهري يجلس م ّدة بجانب الحوض قبل الوضوء ويبيك‪،‬‬
‫مصله والبدء بصالة الليل كان يجلس يف‬‫وباختصار منذ استيقاظه وحتّى املجيء إىل ّ‬
‫مصله فال ميكن بعد ذلك وصف حاله»‪.‬‬ ‫ع ّدة أماكن ويقوم ويبيك وعندما يصل إىل ّ‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫المحدث القمي ‪M‬‬
‫جاء يف ترجمة هذا املح ّدث الجليل‪:‬‬
‫كل أيّام السنة يف الفصول األربعة يستيقظ قبل طلوع الفجر بساعة عىل‬ ‫كان يف ّ‬
‫األقل‪ ،‬ويشتغل بالصالة والته ّجد‪ .‬كان يهت ّم كثريا ً بعبادة آخر الليل وقبل بزوغ الفجر‪،‬‬
‫ّ‬
‫وكان يعتقد أ ّن أفضل املستح ّبات العبادة والته ّجد‪ ،‬يقول ابنه الكبري‪« :‬يف حدود ما‬
‫أتذكّر‪ ،‬مل يفته قيام آخر الليل حتّى يف األسفار‪ .‬كان ملتزماً بذلك»‪.‬‬
‫النوري؛ صاحب املستدرك‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يقول املح ّدث الق ّم ّي حول أستاذه املريزا الشيخ حسني‬
‫رضعاً‬
‫كل ليلة مت ّ‬
‫«كان شديد االجتهاد يف الزهد والعبادة‪ .‬مل تفته صالة الليل‪ ،‬كان يف ّ‬
‫مناجياً»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المجلسي األول‬ ‫العلمة‬
‫يقول حفيد الوحيد البهبها ّين يف كتاب «مرآة األحوال»‪« :‬سمعت من بعض الثقات‬
‫رضع‬ ‫املجليس األ ّول قال‪« :‬يف ليل ٍة من الليايل‪ ،‬وبعد الصالة والته ّجد والبكاء والت ّ‬
‫ّ‬ ‫أ ّن املوىل‬
‫أي يشء أطلبه من الله ‪-‬ع َّز‬ ‫بني يدي الله تعاىل‪ ،‬وجدت نفيس بحال ٍة علمت معها أ ّن ّ‬
‫يل بتحقيقه‪ .‬وفيام كنت أفكّر ماذا‬ ‫وجل‪ -‬فهو مقرون باإلجابة طبعاً‪ ،‬وسيم ّن الله ع ّ‬ ‫َّ‬
‫((( حاج شيخ عباس قمي مرد تقوا وفضيلت‪ ،‬ص‪.69-61‬‬
‫أطلب من الله طلباً دنيوياًّ أم أخرويّاً‪ ،‬فجأة ارتفع صوت مح ّمد باقر بالبكاء يف مهده‪،‬‬
‫‪165‬‬
‫بحق مح ّمد وآل مح ّمد ‪ P‬اجعل هذا الطفل مر ّوج الدين ونارش أحكام‬ ‫فقلت‪ :‬إلهي ّ‬
‫س ّيد املرسلني ووفّقه التوفيقات التي ال تح ّد»‪ .‬ث ّم يقول حفيد الوحيد‪ :‬ومن املسلّم أ ّن‬
‫خوارق العادات التي ظهرت من ذلك العظيم ليست ّإل بسبب دعاء هذا العظيم»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشيخ محمد األشرفي‬
‫كان‪ M‬من تالمذة سعيد العلامء‪ ،‬وكان يشتغل من منتصف الليل حتّى الصباح‬
‫عباسلا مسقلا‪ :‬اجنلا ّرس ليللا ةالص‬

‫‪-‬جل وعال‪ -‬ويلطم عىل صدره ورأسه‪ .‬وعندما يطلع الصباح‬ ‫رضع ومناجاة الله ّ‬
‫بالت ّ‬
‫يكون يف غاية الضعف‪ ،‬بحيث أ ّن من ال يعرفه كان يتص ّور إذا رآه‪ ،‬أنّه غادر فراش‬
‫املرض اآلن(((‪ .‬نعم‪ ،‬كام يقول أمري املؤمنني ‪« :Q‬قد براهم الخوف بَ ْري القداح‪،‬‬
‫ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرىض وما بالقوم من مرض»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫حجة اإلسالم الشفتي‬
‫هذا الس ّيد الجليل كان يراقب الله تعاىل دامئاً‪ ،‬ومل يكن مينعه يشء عن حالة الحضور‬
‫واملراقبة‪ .‬ومن كرثة البكاء أثناء الته ّجد جرحت زوايا عينيه‪.‬‬
‫يقول أحد املق ّربني من هذا العظيم‪:‬‬
‫«ذهبت معه إىل إحدى القرى وبتنا الليل‪ ،‬يف الطريق قال يل الس ّيد‪ :‬أال تنام؟‬
‫وذهبت ألنام‪ .‬عندما ظ ّن الس ّيد ّأن منت‪ ،‬نهض وبدأ بالصالة‪ ،‬أقسم بالله ّأن رأيت‬
‫مفاصل كتفه وأعصابه ترتجف بحيث إنّه كان يك ّرر ألفاظ الصالة لش ّدة حركة الفكني‪،‬‬
‫القلبي‬
‫ّ‬ ‫حتّى يؤديها بشكلٍ صحيح‪ .‬يبدو أ ّن مفاصل كتفه كانت ترتجف لش ّدة حضوره‬
‫بني يدي الله‪ ،‬وكان مبج ّرد أن يخلو املجلس تجري دموعه‪ ،‬كان انهامر دموعه مقارناً‬
‫لخروج آخر شخص من مجلسه»‪.‬‬

‫((( وحيد بهبهاين‪ ،‬ص‪.100‬‬


‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪.123‬‬
‫((( نهج البالغة‪ ،‬صبحي الصالح‪ ،‬ص‪ ،304‬خطبة هامم‪ ،‬ص‪.193‬‬
‫يقول املح ّدث الق ّم ّي‪:‬‬
‫‪166‬‬
‫«نقلت عن سامحته حكايات كثرية يف العبادات والدعاء ومناجاة قايض الحاجات»(((‪.‬‬
‫التنكابني‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يقول املرحوم‬
‫رضع والدعاء من منتصف الليل حتّى الصباح‪ ،‬كان يتج ّول يف‬ ‫«كان دأبه البكاء والت ّ‬
‫دار مكتبته كاملجانني وهو يدعو ويناجي ويلطم عىل رأسه وصدره حتّى الصباح‪ .‬وكان‬
‫صوت بكائه عالياً بحيث إذا استيقظ جريانه سمعوه‪ ،‬ويف النتيجة ولكرثة بكائه‪ ،‬ابتيل‬
‫ببعض األمراض يف أواخر عمره وكان األطباء مينعونه من البكاء‪ .‬وعندما كان يذهب إىل‬
‫املسجد مل يكن أحد من الق ّراء يرتقي املنرب يف حضوره»‪.‬‬
‫التنكابني حول ابن املرحوم الشفتي الس ّيد أسد الله الذي كان من‬
‫ّ‬ ‫ويقول املرحوم‬
‫معارصيه‪:‬‬
‫كل ليلة من منتصف الليل وحتّى الصباح يف مكان خا ٍل بالدعاء واملناجاة‬‫«يشتغل يف ّ‬
‫والبكاء‪ ،‬ومل يكن له نظري يف البكاء من خوف الله»(((‪.‬‬
‫آية الله الشيخ جعفر كاشف الغطاء‪:‬‬
‫رضع‬
‫جاء يف ترجمة هذا املحقّق‪ :‬كان الشيخ‪ ،‬يف العبادة وصفاء الباطن وحالة الت ّ‬
‫والبكاء بني يدي الله تعاىل والته ّجد وقيام الليل والدعاء واملناجاة‪ ،‬أحد أوتاد الدهر‪،‬‬
‫مستحب(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وكان يبذل جهده مهام استطاع حتّى ال يفوته عمل‬
‫القزويني‪:‬‬
‫ّ‬ ‫تقي الربغا ّين‬
‫يقول شهيد املحراب الشيخ مح ّمد ّ‬
‫«جاء املرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء يوماً إىل قزوين‪ ،‬ونزل يف بيت أحد‬
‫األعاظم‪.‬كانت يف ذلك البيت حديقة‪ ،‬وحان وقت النوم‪ ،‬ونام الجميع‪ ،‬ومنت يف زاوي ٍة‬
‫صل‬ ‫من الحديقة‪ .‬وعندما مىض هزيع من الليل‪ ،‬سمعت الشيخ يناديني قائالً‪« :‬قم ِّ‬
‫صالة الليل»‪ ،‬فقلت‪« :‬نعم أقوم»‪ ،‬فمىض الشيخ ومنت مج ّددا ً‪ ،‬وفجأة سمعت صوتاً‪،‬‬
‫((( وحيد بهبهاين‪ ،‬ص‪.222‬‬
‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص ‪.137 - 123‬‬
‫((( وحيد بهبهاين‪ ،‬ص‪.195‬‬
‫رضع ويناجي ويبيك‪.‬‬
‫قمت بحثت عن مصدر الصوت‪ .‬عندما اقرتبت‪ ،‬وجدت الشيخ يت ّ‬
‫‪167‬‬
‫ميض خمس‬‫وقد ترك صوته أثرا ً يف نفيس بحيث ِّإن منذ تلك الليلة وحتّى اآلن وبعد ّ‬
‫وأصل صالة الليل»(((‪.‬‬
‫كل ليلة ّ‬
‫وعرشين سنة أستيقظ ّ‬
‫جاء يف الفوائد الرضويّة‪:‬‬
‫«رأيت يف بعض املؤلّفات أ ّن الشيخ زار «رشت» يف إحدى السنني‪ ،‬وحيث إ ّن أمئّة‬
‫الجامعة فيها مل يكونوا يصلّون النوافل‪ ،‬فقد رفع ذلك إىل الشيخ فقال‪« :‬ال تقتدوا خلف‬
‫عباسلا مسقلا‪ :‬اجنلا ّرس ليللا ةالص‬

‫يصل النوافل»‪ .‬وعندما سمع أمئّة الجامعة ذلك التزموا بالنوافل»(((‪.‬‬


‫من ال ّ‬
‫يقول الشيخ حسن ابن الشيخ كاشف الغطاء‪:‬‬
‫كل ليلة وقت السحر‪ ،‬وكان يأيت إىل أبواب الغرف‬ ‫«كانت عادة والدي االستيقاظ ّ‬
‫ويوقظ العيال واألطفال جميعاً لصالة الليل قائالً‪« :‬قوموا صلّوا صالة الليل»‪ .‬وكان‬
‫الجميع يستيقظون‪ ،‬وكنت أنا آنذاك صغريا ً‪ ،‬وكان النوم يغلبني‪ ،‬وعندما كان الشيخ‬
‫يصل إىل باب غرفتي ويناديني‪« :‬قم»‪ ،‬كنت أقول وأنا مم ّدد‪« :‬وال الضالّني» أو «الله‬
‫أصل»(((‪.‬‬
‫أكرب» أي ِّإن ّ‬
‫النجفي القوﭼ ّ‬
‫ّ‬
‫ـاني‬ ‫آية اهلل‬
‫يقول ‪ M‬عن أيّام دراسته يف أصفهان‪« :‬يف هذه الغرفة الجديدة‪ ،‬التي كانت‬
‫متّصل ًة بغريها من الغرف‪ ،‬فتحنا يف وسط املشكاة ثقباً ومددنا منه حبالً‪ ،‬كان أحد‬
‫طرفيه يف غرفة صديقي‪ ،‬وطرفه اآلخر يف غرفتي‪ .‬كان صديقي وقت النوم يربط ذلك‬
‫الطرف بيده‪ ،‬وأربط أنا هذا الطرف بيدي‪ ،‬حتّى إذا ما استيقظ أحدنا سحرا ً لصالة‬
‫أي صوت حذرا ً من أن يستيقظ طالب‬ ‫الليل‪ ،‬يستيقظ اآلخر بوساطة هذا الحبل بدون ّ‬
‫آخر عىل صوتنا وال يكون راضياً بذلك»(((‪.‬‬
‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪.193‬‬
‫((( الفوائد الرضوية‪ ،‬ص‪ .73‬وقصص العلامء‪ ،‬ص‪.190-189‬‬
‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪.185‬‬
‫((( سياحة يف الرشق‪ ،‬ص‪.199-198‬‬
‫ّ‬
‫البروجردي‬ ‫أستاذ آية اهلل العظمى‬
‫‪168‬‬
‫الربوجردي‬
‫ّ‬ ‫يقال إ ّن املرحوم آية الله السيّد «مح ّمد باقر الدرﭼـه إي» ‪-‬أستاذ آية الله‬
‫النجفي القوﭼـا ّين‪ -‬كان يقرأ دعاء أيب حمزة الثام ّيل يف قنوت‬
‫ّ‬ ‫النائيني وآية الله‬
‫ّ‬ ‫واملريزا‬
‫صالة الليل واقفاً‪.‬‬
‫تعطيل الدرس‬
‫خواص الس ّيد بحر‬
‫ّ‬ ‫يقول املرحوم املوىل زين العابدين السلاميس الذي كان من‬
‫كل ليلة يف أزقّة النجف ويحمل‬ ‫العلوم واملالزمني له‪« :‬كان الس ّيد بحر العلوم يتج ّول ّ‬
‫الطلب أن استوضحه السبب‪،‬‬ ‫الطعام للفقراء‪ .‬وم ّرة عطّل الدرس ع ّدة أيّام‪ ،‬فكلّفني ّ‬
‫وعندما سألته عن ذلك‪ ،‬قال‪« :‬ال أد ّرس»‪ .‬وبعد ع ّدة أيّام‪ ،‬سألته مج ّددا ً عن سبب‬
‫وجل يف منتصف‬‫الطلب يناجون الله ع َّز َّ‬‫تعطيل الدرس قال‪« :‬مل أسمع أبدا ً هؤالء ّ‬
‫الطلب ال‬
‫رضعون ويبكون‪ ،‬مع ّأن أتج ّول يف الليايل يف األزقّة ومثل هؤالء ّ‬ ‫الليل ويت ّ‬
‫الطلب عىل ما قاله ‪ M‬انرصفوا إىل صالة‬ ‫يستحقّون أن أد ّرسهم»‪ .‬وعندما اطّلع ّ‬
‫رضع والبكاء (‪ )...‬واستأنف الس ّيد درسه»(((‪.‬‬
‫الليل والت ّ‬
‫ّ‬
‫الشهيد قدوسي ‪M‬‬

‫«كان يهت ّم كثريا ً حتّى باملستحبّات واملكروهات‪ .‬كان يعترب صالة الليل رضور ًة‬
‫خاص‪ ،‬قال ‪-‬يف مسجد كوهرشاد‪« :-‬لقد كان صعباً‬ ‫للروحا ّين‪ .‬ذات ليلة‪ ،‬وباضطراب ّ‬
‫(((‬
‫يل ج ّدا ً‪ ،‬مل أكن أتوقّع ذلك أبدا ً حينام سمعت أ ّن أحد أساتذة املدرسة «الحقّانيّة»‬
‫ع ّ‬
‫فتبي أنّه ال يراعي تناول الطعام بكميّة قليلة ليالً»‪.‬‬
‫يصل صالة الليل‪ .‬فاتحته باألمر ّ‬ ‫ال ّ‬
‫م ّرة أخرى قال‪« :‬عندما ك ّنا يف نهاوند‪ ،‬ك ّنا نذهب بشكلٍ عائ ّ‬
‫يل م ّر ًة واحد ًة سنويًّا‬
‫إىل بيت أحد املعارف تلبي ًة لدعوته‪ .‬وبعد تكرار ذلك ع ّدة مرات‪ ،‬الحظت ّأن يف تلك‬

‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪.174-173‬‬


‫((( مدرسة يف قم كان يديرها الشهيد ق ّدويس وكانت مركزا ً للطلبة املجاهدين يف خط اإلمام‪ ،‬وقد تق ّدمت اإلشارة‬
‫إليها‪.‬‬
‫الليلة التي أحرض فيها تلك املائدة ال أستيقظ لصالة الصبح إلّ يف آخر الوقت [وال أوفّق‬
‫‪169‬‬
‫لصالة الليل] فانتبهت إىل أ َّن يف أموال ذلك الشخص إشكاالً‪.‬‬
‫كل مجلس‬‫خاص عنده‪ّ ،‬‬ ‫كان للته ّجد وصالة الليل واألدعية املختلفة واملأثورة موقع ّ‬
‫كان يحرضه الشهيد ق ّدويس يجري فيه الحديث حول صالة الليل وأهم ّيتها‪.‬كان يرى‬
‫أ ّن الطالب الذي ال يستطيع أن يرتك النوم والفراش الدافئ من أجل صالة الليل‪ ،‬ففي‬
‫نفس ِه‬
‫املستقبل لن يتنازل عن أمور كثرية‪.‬كان يعترب الرياء آف ُة اإلخالص‪ ،‬وكان يف الوقت ِ‬
‫عباسلا مسقلا‪ :‬اجنلا ّرس ليللا ةالص‬

‫يقول‪« :‬أحياناً ‪-‬وبحربة الرياء هذه‪ -‬تجعل الشيطان يسيطر عليك‪ ،‬وبح ّجة أنّك قد تقع‬
‫يف الرياء يحول بينك وبني صالة الليل ويسلبك املناجاة والدعاء»‪.‬‬
‫الطلب‬
‫عرص يوم عرفة ‪ -‬ورغم اهتاممه الكبري بالدراسة ‪ -‬كان يعطّل الدروس؛ ليقرأ ّ‬
‫جامعي إىل جمكران؛ لينرصفوا‬ ‫ّ‬ ‫للطلب لوازم الذهاب بشكلٍ‬‫دعاء عرفة‪ .‬كان يه ِّيئ ّ‬
‫هناك للدعاء والصالة‪ .‬املفضّ لون يف املدرسة كانوا هم األكرث ته ّجدا ً ال األكرث تحصيالً‬
‫(فقط)‪ .‬عندما قال البعض‪ :‬لو أنّنا نطالع بدالً من صالة الليل لكان أفضل‪ ،‬قال‪ :‬ولكن‬
‫الخميني كان يقول‪ :‬صالة الليل ال تستغرق وقتاً طويالً‪ ،‬وهكذا كان‬
‫ّ‬ ‫آية الله العظمى‬
‫يوضّ ح رضورة التع ّبد إىل جانب العلم‪ .‬كان يقول‪ :‬الطالب الذي يكون مستيقظاً وقت‬
‫صالة الليل وال يصلّيها سيصبح من األرشار»(((‪.‬‬
‫النموذجي مل يرتك صالة الليل‪ ،‬وكان كلّام استيقظ ليالً‬
‫ّ‬ ‫واملرب‬
‫ّ‬ ‫هذا الرجل الكبري‬
‫يج ّدد وضوءه ث ّم ينام؛ ألنّه كان يرى نفسه يف محرض الله‪.‬‬
‫هنيئاً لهذه النجوم الساطعة يف الليايل املظلمة‪ ،‬الذين هم مصداق قوله تعاىل‪:‬‬
‫َ ۡ َ ُ ۡ َۡ َۡ ُ َ‬ ‫َۡ‬ ‫ّ َ ۡ َ َۡ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ ٗ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ون﴾(((‪.‬‬ ‫ج ُعون ‪ 17‬وبِٱلسحارِ هم يستغفِر‬ ‫﴿كنوا قل ِيل مِن ٱل ِل ما يه‬

‫((( يادنامه شهيد آية الله قدويس‪ ،‬ص‪.130 - 129‬‬


‫((( سورة الذاريات‪ ،‬اآليتان ‪.18 - 17‬‬
‫يقول أمري املؤمنني ‪ Q‬حول مثل هؤالء‪« :‬طوىب لنفس أ ّدت إىل ر ّبها فرضها‪،‬‬ ‫‪170‬‬
‫وعركت بجنبها بؤسها‪ ،‬وهجرت يف الليل غمضها‪ ،‬ح ّتى إذا غلب الكرى عليها‬
‫وتوسدت كفّها يف معرش أسهر عيونهم خوف معادهم‪ ،‬وتجافت‬ ‫افرتشت أرضها‪ّ ،‬‬
‫عن مضاجعهم جنوبهم‪ ،‬وهمهمت بذكر ر ّبهم شفاههم‪ ،‬وتقشّ عت بطول‬
‫استغفارهم ذنوبهم‪ ،‬أولئك حزب الله أال إنّ حزب الله هم املفلحون»(((‪.‬‬
‫يقول أحد الكتّاب املعارصين‪:‬‬
‫«أخي الروحا ّين‪ ،‬إذا كنت تريد خدمة نفسك واملجتمع وحفظ ماء وجه اإلسالم‬
‫والشيعة‪ ،‬يجب أن تكون هكذا وتتّصف بهذه الصفات‪ .‬وإذا كنت ال تريد ‪ -‬أو ال‬
‫تستطيع ‪ -‬أن تعيش كام عاش هؤالء العظامء وتختار هذا األسلوب‪ ،‬فإ ّن طريق السوق‬
‫مفتوح‪ ،‬وسوق الكسب قائم عىل قدم وساق»‪.‬‬

‫((( نهج البالغة‪ ،‬صبحي الصالح‪ ،‬ص‪ ،42‬الرسالة رقم ‪« 45‬رسالته إىل ابن حنيف»‪.‬‬
‫‪171‬‬

‫عملية‬
‫ّ‬ ‫توجيهات‬
‫عباسلا مسقلا‪ :‬اجنلا ّرس ليللا ةالص‬

‫إىل املبتعدين عن الكسل والرتف‪ ،‬الباحثني عن أسباب السعادة‪ ،‬نُ َق ِّد ُم فيام ييل‬
‫مناذج من تعليامت أعاظم عامل العرفان والسري والسلوك‪ ،‬وهي نافع ٌة ج ًّدا يف بناء‬
‫النفس وتهذيبها والحصول عىل السعادة الخالدة‪.‬‬
‫السجدة الطويلة‬
‫التربيزي ‪:M‬‬
‫ّ‬ ‫يقول آية الله املليك‬
‫جليل عارف كامل{ (املراد آية الله الشيخ حسينقيل الهمدا ّين)‬ ‫«كان يل شي ٌخ ٌ‬
‫ما رأيت له نظريا ً (‪ )...‬سألته عن عملٍ مج ّرب يؤث ّر يف إصالح القلب وجلب املعارف‪،‬‬
‫كل يوم‬ ‫فقال{‪ :‬ما رأيت عمالً مؤثّرا ً يف ذلك مثل املداومة عىل سجدة طويلة يف ّ‬
‫َّ ٓ َ ٰ َ َّ ٓ َ َ ُ ۡ َ ٰ َ َ ّ ُ ُ َ َّ‬
‫ٱلظٰل ِ ِم َني﴾ يقوله‬ ‫وليلة واحدة‪ ،‬يقال فيها‪﴿ :‬ل إِله إِل أنت سبحنك إ ِ ِن كنت مِن‬
‫وهو يرى نفسه مسجون ًة يف سجن الطبيعة‪ ،‬ومق ّيد ًة بقيود األخالق الرذيلة‪ ،‬مق ّرا ً بأنّك‬
‫يا إلهي مل تفعل ذلك يب ومل تظلمني و(إنّ ا) أنا الذي ظلمت نفيس وأوقعتها يف هذه‬
‫اله ّوة‪ ،‬و[باإلضافة إىل ذلك] قراءة سورة القدر يف ليلة الجمعة ويف عرصها مئة مرة»‪.‬‬
‫التربيزي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ويضيف املرحوم‬
‫كل منهم عىل حسب مجاهدته‪ ،‬وسمع عن بعضهم‬ ‫«وكان أصحابه عاملني بذلك ّ‬
‫أنّه كان يقوله ثالثة آالف مرة‪ ،‬وبالجملة هذه السجدة وبركاتها معروفة عند العاملني‬
‫بها ولكن برشط املداومة»(((‪.‬‬
‫((( أرسار الصالة‪ ،‬ص‪ 271-270‬واملراقبات‪ ،‬ص‪.123‬‬
‫ّ‬
‫السيد بحر العلوم‬ ‫مع‬
‫‪172‬‬
‫جاء يف رسالة السري والسلوك للسيّد بحر العلوم‪:‬‬
‫«واألوراد يف أوقات الذكر كثرية‪ ،‬وما أذكره أنا بطريقي يكفي الطالب‪ ،‬وأفضل أوقاته‬
‫كل أوقات الذكر‪ ،‬ورد كلمة النفي واإلثبات‬
‫السحر وبعد فريضتي الصبح‪ ،‬والعشاء‪ ،‬ويف ّ‬
‫كل ألف مرة بعد الفريضتني‪ ،‬وكذلك‬‫املركّب والبسيط واالسم املحيط‪ ،‬ويا نور يا قدوس ّ ً‬
‫يل بحرف النداء وبدونه‪ ،‬وورد ألف مرة التوحيد يف‬ ‫ورد مح ّمد رسول (الله)‪ ،‬ويا ع ّ‬
‫الليايل نفيس»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الهمداني‬ ‫آية اهلل الشيخ حسينقلي‬
‫جاء يف إحدى رسائل هذا العارف الكبري‪:‬‬
‫الطبيعي أن ال يخرس طالب القرب‬
‫ّ‬ ‫«والخالصة أنّه بعد السعي يف املراقبة‪ ،‬فمن‬
‫األقل ساعة أو ساعتني قبل طلوع الفجر إىل‬
‫االستيقاظ وقيام السحر عىل أن يكون عىل ّ‬
‫ويصل صالة الليل بآدابها وحضور القلب‪.‬‬
‫مطلع الشمس ّ‬
‫وإذا ات َّسع وقته فليشتغل بالذكر أو الفكر أو املناجاة‪ّ ...‬إل أنّه يجب أن ينرصف‬
‫يف قدر معني من الليل‪ ،‬إىل الذكر بحضور (قلب) وأن ال يخلو يف جميع حاالته من‬
‫فليحصله بأسبابه‪ ،‬وبعد الفراغ يس ّبح تسبيح س ّيدة النساء‬
‫ّ‬ ‫الحزن‪ ،‬وإذا مل يتس َّن له ذلك‬
‫‪ O‬ويقرأ التوحيد اثنتي عرشة م ّرة‪ ،‬ويقول عرشا ً ال إله ّإل الله وحده ال رشيك‬
‫له‪ ،‬له امللك((( الخ‪ ،‬ومئة مرة ال إله إلّ الله‪ ،‬ويستغفر سبعني ّمرة‪ ،‬ويتلو مقدارا ً من‬
‫القرآن الرشيف‪ ،‬ويقرأ طبعاً دعاء الصباح املعروف يعني «يا من دلع لسان» إىل آخره‪،‬‬
‫كل وضوء ركعتني فهو ج ّيد ج ًّدا‪ ...‬ولينتبه أن ال‬ ‫ويكون دامئاً عىل وضوء‪ ،‬وإذا ّ‬
‫صل بعد ّ‬
‫((( رسالة السري والسلوك املنسوبة إىل الس ّيد بحر العلوم‪ ،‬ص‪ 190‬واملراد بكلمة ألف إىل قوله املحيط «ال إله إلّ‬
‫الله» قولها ألفاً ويا نور يا قدوس ألفاً ومح ّمد رسول الله ويا عيل مل يح ّدد عددهام ولك ّن شارح الكتاب قال‬
‫األ ّول يقال ‪ 254‬والثاين ‪ 121‬أو ‪ 110‬ال فرق والتوحيد التي يقال ألفاً املراد بها سورة التوحيد (املع ِّرب)‪.‬‬
‫كل يشء قدير» مفاتيح‬ ‫حي ال ميوت بيده الخري‪ ،‬وهو عىل ّ‬ ‫((( «‪ ...‬وله الحمد يحيي ومييت‪ ،‬ومييت ويحيي‪ ،‬وهو ّ‬
‫الجنان‪ ،‬ص‪.22‬‬
‫وليس َع سعياً بليغاً يف قضاء حوائج املسلمني‪ ،‬ال‬
‫بأي وجه من الوجوه‪ْ ،‬‬ ‫يصل أذاه ألحد ّ‬
‫‪173‬‬
‫س ّيام العلامء‪ ،‬وال س ّيام أتقيائهم‪ ،‬وأن يقرأ ليلة الجمعة القدر مئة م ّرة وعرص الجمعة‬
‫مئة(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫البهاري‬ ‫آية اهلل الشيخ محمد‬
‫التربيزي» يقول‪:M‬‬
‫ّ‬ ‫يف رسالة إىل أحد أصدقائه «الشيخ أحمد‬
‫عباسلا مسقلا‪ :‬اجنلا ّرس ليللا ةالص‬

‫أي مرتبة كنت‪ ،‬نصف الرمق ذلك الذي ما يزال فيك‪،‬‬ ‫«‪...‬إذن خالصة الكالم أنّك يف ّ‬
‫ذلك املقدار (من العمل) الذي ميكنك أن تعمله بسهولة إذا مل تتساهل فيه وعملت‬
‫به فإ ّن قوتك ‪ -‬عىل العمل ‪ -‬تزيد مبقداره بل أكرث؛ ألنّه تعاىل قال‪« :‬اد ُن م ّني ش ًربا‬
‫أد ُن منك ذرا ًعا»‪ .‬وإذا تساهلت فيه (املقدار القليل من العمل) فإ ّن ذلك املقدار‪،‬‬
‫مثل‪ ،‬إذا منت الليل إىل الصباح‪ ،‬كنت تريد أن‬ ‫من ق ّوتك‪ ،‬يصبح يف معرض الزوال‪ً ،‬‬
‫تستيقظ ومل تستيقظ‪ ،‬اآلن الوقت أ ّول الصباح مبج ّرد أن تلتفت قم؛ فإ ّن االستيقاظ‬
‫جل جالله‪ .‬فال تف ِّوت هذه‬ ‫مستقل وتوفيق من الله َّ‬‫ّ‬ ‫فيض‬
‫وقت الطلوعني يف ح ّد ذاته ٌ‬
‫الفرصة بالتساهل‪ ،‬ال تصغ إىل الشيطان وهو يقول‪ :‬هناك متّسع كبري يف الوقت لصالة‬
‫الصبح‪ ،‬إ ّن هدفه معلوم‪ ،‬وكذلك (إذا) جلست يف مجلس‪ ،‬وثرثرت كثريا ً‪ ،‬ولغوت كثريا ً‪،‬‬
‫بأي ُمس ِّوغ ميكنك‪،‬‬ ‫فاسو ّد قلبك‪ّ ،‬إل أنّك تستطيع أن تغادر املكان قبل نصف ساعة‪ّ ،‬‬
‫إذن ال تخرس هذه النصف ساعة وقم‪ .‬ال تقل وما الفائدة أنا منذ الصباح منشغل‬
‫بالتخريب؛ فإن ّه ميكنك بهذا الجز ّيئ (النصف ساعة) أن تفعل الكثري إن شاء الله تعاىل‪.‬‬
‫فمن الواجب إذًا عىل الشيخ أحمد العمل بهذا الرتتيب‪:‬‬
‫يصح أن يذهب بعض وقته س ًدى‪،‬‬ ‫أ ّوالً‪ :‬مهام كان عمله يجب أن ال يض ّيع أوقاته‪ ،‬فال ّ‬
‫لكل يش ٍء وقتاً‪ ،‬يقسم أوقاته‪ ،‬يجب أن ِّ‬
‫يعي وقتاً للعبادة‪ ،‬ال يقوم يف هذا‬ ‫يعي ّ‬
‫يجب أن ّ‬
‫يعي وقتاً لكسبه وتحصيل معاشه‪ ،‬ووقتًا للقيام بشؤون‬‫بأي عملٍ غري العبادة‪ ،‬وأن ّ‬
‫الوقت ّ‬

‫((( تذكرة املتّقني‪ ،‬ص‪.213-211‬‬


‫أهله وعياله‪ ،‬ووقتاً لألكل والنوم‪ ،‬وال يخلط بني أوقات هذه األمور فيتلف وقته ويض ّيعه‪،‬‬
‫‪174‬‬
‫يخصص أ ّول الليل للنوم فال يسهر عبثاً ليفوته آخر الليل‪ ،‬وليغلب عليه النوم‬ ‫مهام أمكن ّ‬
‫متذكّرا ً «الله» ولينم عىل طهارة وليقرأ األدعية املأثورة خصوصاً تسبيح الص ّديقة الطاهرة‬
‫‪ ،O‬وال يجنب مع امتالء البطن‪ ،‬وأن يستيقظ قبل الصبح (الفجر) ومبج ّرد أن‬
‫يستيقظ يسجد سجدة الشكر‪ ،‬وإذا كان ال يستيقظ تلقائ ّياً فَلْ ُي َه ِّيئ أسباب إيقاظه‪ ،‬وبعد‬
‫َّ‬
‫االستيقاظ ينظر يف أطراف الساموات‪ ،‬ويقرأ متأ ّمالً اآليات املباركة التي أ ّولها‪﴿ :‬إِن ِف‬
‫ۡ‬ ‫َ ُۡ‬ ‫َۡ‬ ‫َخ ۡلق َّ َ َ‬
‫ۡرض﴾‪ ...‬إىل ‪﴿ ...‬إِنَّ َك ل تل ُِف ٱل ِم َيع َاد﴾((( وبعدها يتط ّهر‪ ،‬ث ّم يتوضّ أ‬
‫ت َوٱل ِ‬
‫ٱلسمٰو ٰ ِ‬ ‫ِ‬
‫مصله‪ ،‬ويقرأ دعاء «إلهي غارت نجوم سامئك»‬ ‫ويستعمل السواك ويتعطّر ويجلس يف ّ‬
‫ث ّم يرشع بصالة الليل بالرتتيب الذي ذكره الفقهاء ‪-‬رضوان الله تعاىل عليهم‪ -‬مثل الشيخ‬
‫بهاء الدين (البها ّيئ)‪ M‬يف «مفتاح الفالح» وغريه‪ ،‬ويف «املصابيح» وغريها‪ ،‬ولريا ِع يف‬
‫إجامل عمله وتفصيله واختصاره مقدار سعة الوقت‪.‬‬
‫بأي شغل غري‬ ‫الحاصل‪ :‬أن يجعل إىل طلوع الشمس وقت العبادة‪ ،‬وال يشتغل ّ‬
‫العبادة‪ ،‬وال يؤ ّجل األعامل األخرى إىل ذلك الوقت‪ ،‬ويشتغل يف متام هذه الفرتة باألذكار‪،‬‬
‫واألوراد املرشوعة‪ ،‬إذا كان مل يصبح بعد من أهل الفكر‪ ،‬وأ ّما إذا اتفق مروره يف ساحة‬
‫الفكري‪ ،‬الذي هو منشغل به‪ .‬إذا رأى‬‫ّ‬ ‫الفكر فل ُيعمل فكره يف هذه األوقات‪ ،‬يف الشأن‬
‫أ ّن فكره يجري بسهولة فليستم ّر يف الفكر عوضاً من األوراد والتعقيبات(((‪.‬‬
‫أي األعامل يؤث ّر فيه‪،‬‬
‫وإذا رأى فكره جامدا ً‪ ،‬فليرتك ذلك‪ ،‬وليأخذ بالذكر‪ ،‬وليالحظ ّ‬
‫فليق ّدمه عىل سائر األوراد‪ ،‬سواء قراءة القرآن أم املناجاة‪ ،‬أم الذكر‪ ،‬أم الصالة‪ ،‬والسجدة‪،‬‬
‫وأن يكون‪ ،‬غالباً مهام أمكن‪ ،‬عىل طهارة ويستغفر بعد صالة الصبح مئة م ّرة‪ ،‬ويقول‬

‫((( سورة آل عمران‪ ،‬اآليات ‪.194 - 190‬‬


‫وكل املعارف اإلله ّية من النب ّوة واإلمامة واملعاد وتجد‬
‫((( الظاهر أ ّن املراد بالفكر التفكري يف الله تعاىل وقدرته ّ‬
‫ما يوضح ذلك بعض الروايات التي تحثّ عىل الفكر يف رسالة السري والسلوك املنسوبة إىل الس ِّيد بحر العلوم‬
‫‪ 192-191‬ومن هذه الروايات ما ورد عن اإلمام الصادق ‪« :Q‬أفضل العبادة إدمان التفكّر يف الله ويف‬
‫قدرته» (املع ِّرب)‪.‬‬
‫كلمة التوحيد (ال إله ّإل الله) مئة م ّرة‪ ،‬وال يرتك سورة التوحيد إحدى عرش م ّرة‪ ،‬ومئة‬
‫‪175‬‬
‫الخاصة‬
‫ّ‬ ‫صل عىل مح ّمد وآل مح ّمد وع ّجل فرجهم‪ ،‬وأن يقرأ اإلستغفارات‬ ‫م ّرة اللّهم ّ‬
‫بعد صالة العرص مع سورة القدر عرشا ً وأن ال يرتك الصوم قدر اإلمكان‪ ،‬خصوصاً ثالثة‬
‫كل شهر‪ ،‬إذا كان‬‫كل شهر‪ ،‬وهي الخميس األ ّول واآلخر‪ ،‬واألربعاء الوسط من ّ‬ ‫أيّام من ّ‬
‫وإل فمراعاة املزاج أوىل؛ أل ّن البدن «مركوب» اإلنسان (وساط ُة نقله)‬
‫مزاجه مساعدا ً ّ‬
‫يصح أن يح ّد من أهوائه كثريا ً حتّى ال يطغى‪ ،‬وال يطيعها بعد‬
‫رضر تعطّل؛ ولذا ال ّ‬ ‫فإذا ت ّ‬
‫عباسلا مسقلا‪ :‬اجنلا ّرس ليللا ةالص‬

‫كل األمور‪ ،‬اإلفراط والتفريط يف أيّة مرتبة كالهام‬


‫أبدا ً‪« ،‬خري األمور أوسطها» جارية يف ّ‬
‫كل وقت من الليل‬ ‫ليسا صحيحني‪ ،‬ومن هنا قالوا‪« :‬عليكم بالحسنة بني الس ّيئتني» ويف ّ‬
‫ميكنه‪ ،‬يُستَ ْحسن أن يسجد سجدة طويلة‪ ،‬بحيث ال يتعب البدن‪ ،‬ويكون ذكره فيها‬
‫رب األعىل وبحمده» ومهام أمكن‪.‬‬ ‫«سبحان ّ‬
‫كل ما يقرأه ينبغي أن يكون بحضور قلب فال يكون انتباهه يف مكان آخر‪ ،‬وتنبغي‬ ‫ّ‬
‫املداومة‪ ،‬بحيث يصبح ما يقرأه ملكته وعادته حتّى ال يرتكه»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫األصفهاني‬ ‫رسالة إلى المرحوم‬
‫التربيزي رسال ًة إىل الفيلسوف واألصو ّيل املشهور الشيخ مح ّمد حسني‬
‫ّ‬ ‫كتب آية الله‬
‫األصفهان‪ ،‬نقل فيها تعليامت عن أستاذه املرحوم الهمدا ّين‪ ،‬نذكر هنا مقتطفات منها‪:‬‬
‫ّ‬
‫كان املرحوم املغفور له يقول‪ :‬يجب أن يقل َِّل اإلنسان الطعام والنوم أكرث من‬
‫الروحي‪ ،‬وميزان ذلك كام‬
‫ّ‬ ‫املتعارف قليالً؛ ل ُيض ِعف البعد الحيوا ّين فيه ويُ َق ِّو َي البعد‬
‫ب ّينه سامحته هو‪:‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬أن ال يتناول اإلنسان الطعام يف اليوم والليلة إلّ مرتني ويرتك حتّى املتف ّرقات‬
‫التي يتناولها بني الطعامني‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬عندما يأك ُُل يجب أن يكون ذلك بعد الجوع بساعة مثالً‪ ،‬ث ّم يأكل بحيث ال‬

‫((( تذكرة املتّقني‪ ،‬ص‪.110-104‬‬


‫يشبع متام الشبع‪ ،‬هذا يف ك ّم الطعام‪ .‬وأ ّما كيف َّيته‪ ،‬فباإلضافة إىل اآلداب املعروفة‪ ،‬أن‬
‫‪176‬‬
‫ال يأكل اللحم كثريا ً‪ ،‬مبعنى أن ال يأكله يف وجبتي اليوم والليلة معاً (بل يأك ُُل اللحم‬
‫كل أسبوع مرتني أو ثالثاً يف الليل‪ ،‬ويف النهار‪( ،‬أي أن ال يكون‬ ‫يف إحداهام)‪ ،‬ويرتكه يف ّ‬
‫أي من الوجبتني‪ ،‬بل يأكل فيها شيئاً آخر)‪ .‬ويرتكه م ّرة إذا استطاع‬ ‫اللحم طعامه يف ّ‬
‫للتك ّيف‪ ،‬ويجب أن ال يكون م ّمن اعتاد عىل تناول البزورات (املخلوطة) وال يرتك صيام‬
‫كل شهر إذا استطاع‪.‬‬‫ثالثة أيّام من ّ‬
‫ست ساعات‪ ،‬ويهت ّم طبعاً‬
‫وأ ّما عن تقليل النوم فكان يقول‪ :‬أن ينام يف اليوم والليلة ّ‬
‫بحفظ اللسان واجتناب أهل الغفلة كثريا ً‪...‬‬
‫هذه (األمور) تكفي يف إضعاف البعد الحيوا ّين‪.‬‬
‫وأ ّما يف تقوية البعد الروحا ّين‪ :‬فأ َّو ًل‪ :‬يجب أن يكون دامئاً متّصفاً باله ّم والحزن‬
‫القلبي لعدم وصوله إىل املطلوب‪.‬‬‫ّ‬
‫الس ْي إىل سامء املعرفة‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬أن ال يرتك الذكر والفكر ما استطاع؛ أل ّن هذين هام جناحا َّ‬
‫يف الذكر‪ :‬كان عمدة ما يويص به‪ ،‬أذكار الصبح‪ ،‬والعشاء؛ أه ّمها ما ورد يف األخبار‬
‫وأه ّم (ذلك) تعقيبات الصلوات‪ ،‬واألكرث أه ِّميّة (من هذه العمدة)‪ :‬ذكر وقت النوم‬
‫املأثور يف األخبار‪ ،‬ال سيّام أن يغلب عليه النوم حال الذكر متط ِّه ًرا‪.‬‬
‫وحول قيام الليل كان يقول‪:‬‬
‫يف الشتاء ثالث ساعات‪ ،‬ويف الصيف ساعة ونصف‪ ،‬وكان يقول‪ :‬لقد ملست آثارا ً كثرية‬
‫َّ ٓ َ ٰ َ َّ ٓ َ َ ُ ۡ َ ٰ َ َ ّ ُ ُ َ َّ‬
‫ٱلظٰل ِ ِم َني﴾؛ أي يف‬ ‫اليونيس ﴿ل إِله إِل أنت سبحنك إ ِ ِن كنت مِن‬
‫ّ‬ ‫يف سجدة الذكر‬
‫املداومة عىل ذلك‪ ،‬بحيث ال ترتك يف اليوم والليلة‪ .‬وكلّام كانت أكرث كلّام ازداد تأثريها‪،‬‬
‫وأقل ذلك أربعمئة م ّرة‪ .‬وأنا (العبد) ج ّربت ذلك كام ا ّدعى تجربتها ع ّدة أشخاص‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وواحدة أيضاً‪ :‬قراءة القرآن بقصد هديّته إىل خاتم النب ّوة صلوات الله عليه وآله(((‪.‬‬

‫((( حوزة‪ ،‬العدد ‪ ،4‬ص‪.68-66‬‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الكربالئي‬ ‫السيد أحمد‬ ‫آية اهلل‬
‫‪177‬‬
‫طلبه‪ ،‬أورد ‪ M‬تعليامت‪ ،‬نذكر هنا خالصتها‪:‬‬
‫يف رسالة إىل بعض ّ‬
‫‪ - 1‬كامل الدقّة والتأ ّمل يف الوص ّية أ ّول الصبح‪.‬‬
‫‪ - 2‬كامل املراقبة يف متام النهار‪.‬‬
‫‪ - 3‬املحاسبة عند النوم‪.‬‬
‫‪ - 4‬التدارك والسياسة باملجازاة بالض ّد‪ :‬عند املخالفة يسوس نفسه فيجازيها عىل‬
‫عباسلا مسقلا‪ :‬اجنلا ّرس ليللا ةالص‬

‫املعصية بحملها عىل ض ّد ما فعلته‪ ،‬عىل التفصيل املعهود يف كتب األخالق‪.‬‬


‫رضع‪،‬‬
‫‪-‬جل جالله‪ -‬باملناجاة‪ ،‬والت ّ‬‫‪ - 5‬املواظبة عىل ساعة الخلوة ‪-‬عن األغيار ‪ -‬مع الله َّ‬
‫كل ليلة بني صالة‬ ‫والتبتُّل‪ ،‬والخضوع‪ ،‬والخشوع إليه‪ .‬وينبغي أن يجعل ذلك يف ّ‬
‫اليونيس‪:‬‬
‫ّ‬ ‫املغرب والعشاء‪ ،‬أو بعد العشاء‪ ،‬فيسجد السجدة املعهودة (سجدة الذكر‬
‫ال إله ّإل أنت سبحانك ‪ )...‬ويذكر الله بعده مبا ساعد عليه التوفيق مع كامل‬
‫عم سواه بأرسهم‪،‬‬ ‫(بكل وجوده) واإلعراض ّ‬ ‫الحضور واإلقبال عىل الله تعاىل بكلّ َّيته ّ‬
‫(جل جالله)‪.‬‬‫كأنّه ال موجود سواه َّ‬
‫‪ - 6‬عندما يتعب من الذكر ينرصف إىل التفكّر‪ ،‬من أنا؟ وأين أنا؟ من أين جئت؟ وأين‬
‫أذهب؟ ويتع ّمق يف التفكري يف نفسه ليجدها وكأنّه ال أحد يف عامل الوجود‪ ،‬ويسأل‬
‫‪-‬جل وعال‪ -‬قائالً‪ :‬إلهي ع ّرفني نفيس‪ ،‬فليست هناك فضيحة وشناعة تفوق عدم‬ ‫الله َّ‬
‫معرفة الشخص نفسه‪.‬‬
‫‪ - 7‬املواظبة التا ّمة عىل الته ّجد وقيام السحر واالشتغال بنافلة الليل‪ ،‬مع كامل حضور‬
‫(القلب) واإلقبال‪ ،‬واالشتغال بالتعقيب‪ ،‬وقراءة القرآن إىل طلوع الشمس‪.‬‬
‫‪ - 8‬عدم ترك االستغفار سبعني أو مئة م ّرة صباحاً ومسا ًء‪.‬‬
‫‪ - 9‬عدم ترك التهليل مئة م ّرة «ال إله ّإل الله» كذلك صباحاً ومسا ًء‪.‬‬
‫‪ - 10‬األذكار املعهودة‪« :‬سبحان الله العظيم وبحمده»‪« ،‬أستغفر الله» عرش م ّرات‬
‫صباحاً ومسا ًء عىل ّ‬
‫األقل‪.‬‬
‫و«رب أعوذ بك‪ »..‬و«أشهد أن ال إله‬
‫‪ - 11‬وكذلك «ال إله إال الله وحده ال رشيك له‪ّ »..‬‬ ‫‪178‬‬
‫ّإل الله وحده ال رشيك له‪ »..‬واالستغفارات املنقولة عن الس ّيد ابن طاووس ‪-‬رضوان‬
‫رب ال رشيك لك أصبحنا وأصبح امللك للّه»‪ ،‬أو «أمسينا‬ ‫الله عليه‪ -‬و«اللّهم أنت ّ‬
‫صل عىل املصطفى مح ّمد واملرتىض‬ ‫وأمىس امللك للَّه»‪ ،‬والصلوات الكبرية‪« :‬اللّه َّم ِّ‬
‫يل ‪.»...Q‬‬ ‫ع ّ‬
‫كل ليلة جمعة وعرص جمعة‪.‬‬ ‫‪ - 12‬املواظبة عىل سورة القدرة مئة م ّرة ّ‬
‫كل األمور املذكورة‪ ،‬االعتقاد بأ ّن الله حارض وناظر يف متام األوقات ليالً‬ ‫‪ - 13‬وأه ّم من ّ‬
‫ونهارا ً نوماً ويقظ ًة يف جميع األحوال ويف جميع الحركات والسكنات‪ ،‬بحيث إذا‬
‫‪-‬جل سلطانه‪ -‬وأن ال تنس هذا املسو ّد‬ ‫أمكن ال يغفل آناً وطرفة عني عن حضوره ّ‬
‫الوجه يف جميع األحوال‪.‬‬
‫والتوسل باإلمام الح ّجة |‪ ،‬فهو وساط ُة‬
‫ّ‬ ‫‪ - 14‬رعاية املواظبة التا ّمة عىل دوام التو ّجه‪،‬‬
‫كل صالة‪،‬‬ ‫ّهم ع ّرفني نفسك‪ »..‬بعد ّ‬ ‫فيض الزمان‪ ،‬وعدم ترك دعاء الغيبة و«الل َّ‬
‫وسورة التوحيد هديّة له ‪ Q‬ودعاء الفرج «إلهي عظم البالء‪.»..‬‬
‫‪ - 15‬املواظبة عىل الطهارة مهام أمكن والنوم عىل طهارة وتسبيح الزهراء ‪ O‬عند‬
‫كل صالة واجبة‪.‬‬ ‫النوم وبعد ّ‬
‫الكريس‪ ،‬واملواظبة عىل سجدة الشكر بعد االستيقاظ من النوم وقراءة‬ ‫ّ‬ ‫‪ - 16‬قراءة آية‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫اآليات املعهودة ﴿إ َّن ف َخ ۡلق َّ َ َ‬
‫ۡرض﴾((( بعد االستيقاظ لنافلة الليل‬ ‫ت َوٱل ِ‬ ‫ٱلسمٰو ٰ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫مع كامل التو ّجه للمعنى والتفكّر فيه والنظر يف السامء والكواكب واآلفاق‪ ،‬وقراءة‬
‫دعاء الصحيفة الس ّجاديّة (دعاء ‪ )32‬بعد صالة الليل‪ ،‬وعدم ترك ذلك(((‪.‬‬

‫((( سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.190‬‬


‫((( تذكرة املتَّقني‪ ،‬ص‪.186-182‬‬
‫ّ ً‬ ‫ّ‬
‫الهمداني مجددا‬ ‫مع آية اهلل‬
‫‪179‬‬
‫كتب يف إحدى الرسائل‪:‬‬
‫«طبعاً ال تتساهل يف اجتناب املعصية وإذا ‪ -‬ال سمح الله ‪ -‬عصيت‪ ،‬فتب برسعة‪،‬‬
‫وصل ركعتني‪ ،‬واستغفر الله سبعني م ّرة‪ ،‬بعد الصالة‪ ،‬واسجد‪ ،‬واطلب يف سجودك‬ ‫ِّ‬
‫العفو‪ ،‬من الله‪ ،‬فاملرج ّو أن يعفو‪.‬‬
‫عباسلا مسقلا‪ :‬اجنلا ّرس ليللا ةالص‬

‫وقد ذكرت املعايص الكبرية يف بعض الرسائل العمل ّية فتعلّمها واتركها‪ .‬وحذار من‬
‫أن تحوم حول الغيبة والكذب واألذيّة (أذيّة املؤمنني)‪ ،‬استيقظ قبل الصبح ‪ -‬الفجر‬
‫مل محسن فيض‬ ‫األقل‪ ،‬واسجد‪ ،‬وما ذكر يف «منهاج النجاة» للمرحوم ّ‬ ‫‪ -‬بساعة عىل ّ‬
‫ٍ‬
‫وشاف لعمل الليل والنهار‪ ،‬فاعمل‬ ‫جل جالله عليه‪ٍ -‬‬
‫كاف‬ ‫‪-‬الفيض الكاشا ّين رضوان الله َّ‬
‫واس َع أن ال يكون عملك وذكرك مبحض اللسان‪ ،‬وأن يكون بحضور‬ ‫بذلك الرتتيب‪ْ ،‬‬
‫القلب؛ أل ّن العمل بدون حضور القلب ال يُصلح القلب‪ ،‬حتّى وإن كان له ثواب قليل‪.‬‬
‫طبعاً طبعاً‪ ...‬ف َّر من الطعام الحرام‪ ،‬ال تأكل إلّ الحالل‪ ،‬كل القليل من الطعام‪ ،‬وال‬
‫تأكل كثريا ً يعني ال تأكل أكرث من حاجة بنيتك‪ ،‬ال كثريا ً بحيث يثقلك ويقعدك عن‬
‫العمل‪ ،‬وال قليالً بحيث يتس ّبب بضعفك ويقعدك بسبب الضعف عن العبادة‪ ،‬ومهام‬
‫استطعت فصم‪ ،‬برشط أن ال متأل يف الليل ‪ -‬معدتك ‪ -‬بدل النهار‪.‬‬
‫الحاصل‪ ،‬الطعام بقدر حاجة البدن ممدوح‪ ،‬وكرثته وقلَّته كِلْتاهام مذمومتان‪ .‬وابدأ‬
‫وغش املسلمني‪ .‬ويجب أن تكون‬ ‫والغل‪ّ ،‬‬
‫بقلب طاه ٍر من الحقد‪ ،‬والحسد‪ّ ،‬‬ ‫بالصالة ٍ‬
‫محل الجبهة بنجاس ٍة غري‬
‫س ّجادتك ومكان صالتك مباحني ‪ -‬ورغم أن تن ٌّج َس مكانٍ غري ّ‬
‫مرسية ال يبطل الصالة‪ّ -‬إل أ ّن عدمه أفضل‪ .‬وينبغي الوقوف يف الصالة كام يقف العبد‬
‫بني يدي مواله الجليل بعنق ُملْتوية وقلب خاضع وخاشع‪ .‬وبعد صالة الصبح‪ ،‬أستغفر‬
‫الله سبعني م ّرة وقل كلمة التوحيد الط ّيبة «ال إله إلّ الله» مئة م ّرة‪ ،‬واقرأ دعاء الصباح‬
‫كل يوم ما أمكنك وعىل‬ ‫املشهور‪ ،‬وال ترتك تسبيح س ّيدة النساء بعد الفريضة‪ .‬واقرأ ّ‬
‫األقل جزءا ً من القرآن باحرتام‪ ،‬ووضوء‪ ،‬وخضوع‪ ،‬وخشوع‪ ،‬وال تتكلّم أثناء القراءة ّإل‬ ‫ّ‬
‫الكريس‪ ،‬والفاتحة م ّرة‪ ،‬والتوحيد أرب ًعا‪ ،‬والقدر‬
‫ّ‬ ‫لرضورة ‪ -‬واقرأ عند النوم الشهادة‪ ،‬وآية‬
‫‪180‬‬
‫خمس عرشة م َّرةً‪ ،‬وآية شهد الله‪ ،‬واالستغفار مناسبان‪.‬‬
‫إذا استطعت أحياناً فاقرأ سورة التوحيد املباركة مئة م ّرة‪ ،‬فذلك ج ّيد ج ًّدا‪.‬‬
‫وال تغفل عن ذكر املوت‪ ،‬وضع يدك عىل خ ّدك األمين ونم وأنت تذكر الله (نومة‬
‫﴿لٓ إ َل ٰ َه إ َّلٓ أَ َ‬
‫نت‬
‫َّ‬
‫امليت يف القرب) وال تغفل عن الوص ّية‪ ،‬وك ّرر ما استطعت الذكر املبارك‬
‫ِ ِ‬
‫َّ‬ ‫ك إ ّن ُك ُ‬‫ُ ۡ َ َ َ‬
‫أي وقت‪.‬‬ ‫نت م َِن ٱلظٰل ِ ِم َني﴾ إفعل ذلك كثريا ً يف ّ‬ ‫سبحٰن ِ ِ‬
‫كل منهام اقرأ سورة القدر املباركة مئة م ّرة‪ ،‬وال‬ ‫ويف ليلة الجمعة وعرصها يف ّ‬
‫الخمس عرشةَ‪ ،‬ما رأيت حالك‬ ‫َ‬ ‫كل ليلة جمعة‪ ،‬وكذلك املناجاة‬ ‫ترتك دعاء كميل يف ّ‬
‫واملتوسلني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫منسجامً معها‪ ،‬س ّيام مناجاة الشاكني‪ ،‬والتائبني‪ ،‬واملفتقرين‪ ،‬واملريدين‪،‬‬
‫وكل ما فيها ‪( -‬الصحيفة)‬ ‫واملعتصمني‪ .‬إقرأها كث ًريا وكذلك أدعية الصحيفة الكاملة ّ‬
‫يف موقعه املناسب ج ّيد ج ًّدا‪ ،‬ويف وقت العرص استغفر الله سبعني م ّرة وقل م ّرة‪:‬‬
‫تنس‬
‫الخاصة وال َ‬‫ّ‬ ‫«سبحان الله العظيم سبحان الله وبحمده» واقرأ االستغفارات‬
‫وكل هذه‪ ،‬مع ترك املعايص‪ ،‬ج ّيدة‬ ‫السجدة الطويلة‪ ،‬وتطويل القنوت ج ّيد ج ًّدا‪ّ .‬‬
‫ج ًّدا»(((‪.‬‬

‫إلى المستغفرين باألسحار‬


‫يقول املرحوم آية الله املليك‪:‬‬
‫يغل يده إىل عنقه‪،‬‬
‫ث ّم إ ّن من األعامل املؤث ّرة يف إثارة الرقّة‪ ،‬والخشية‪ ،‬والبكاء‪ ،‬أن ّ‬
‫وأن يلبس املرسح‪ ،‬وأن يحثو الرتاب عىل رأسه‪ ،‬ويخ ّر عىل الرتاب‪ ،‬ومي ّرغ وجهه به‪،‬‬
‫وأن مييش‪ ،‬ويقف‪ ،‬ويضع رأسه عىل الجدران‪ ،‬ويصيح‪ ،‬ويسكت‪ ،‬ويتم ّرغ يف الرتاب‪،‬‬
‫ويفرتض نفسه يف املحرش‪ ،‬ث ّم يعاتب نفسه ملا ورد من عتاب أهل الجرائم‪ ،‬ث ّم‬
‫ينظر نظرة عن ميينه‪ ،‬ويتفكّر يف أحوال أصحاب اليمني‪ ،‬وصورهم‪ ،‬ولباسهم‪ ،‬وزيّهم‪،‬‬

‫((( تذكرة املتّقني‪ ،‬ص‪.237-234‬‬


‫ث ّم ينظر عن شامله ويق ّدر نفسه مع أصحاب الشامل‪ ،‬ويتص ّور أحوالهم املنكرة‪،‬‬
‫‪181‬‬
‫وغل األيدي‪ ،‬واالقرتان مع الشياطني‪ ،‬ولبس القطران‪،‬‬ ‫من سواد الوجه وزرقة العني ّ‬
‫ومقطّعات النريان‪ ،‬والزبانية كلّهم حارضون‪ ،‬وإىل أمر ربِّهم ناظرون‪ ،‬ث ّم ليحذر من‬
‫ۡ َ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َّ ۡ َ َ ُّ‬ ‫ُ ُ َ ُ ُّ‬
‫يم َصلوهُ ‪ 31‬ث َّم ِف سِلسِلةٖ ذ ۡرع َها‬‫ح‬‫صدور الخطاب بقوله‪﴿ :‬خذوهُ فغلوهُ ‪ 30‬ثم ٱل ِ‬
‫َ ُۡ َ َ ٗ َ ۡ ُ ُ‬
‫ٱسلكوهُ﴾(((‪.‬‬ ‫سبعون ذِراع ف‬
‫ّ‬
‫توضيح ال بد منه‬
‫عباسلا مسقلا‪ :‬اجنلا ّرس ليللا ةالص‬

‫البديهي أ ّن هذه التعليامت ال ميكن اإلتيان بها جميعاً وبشكلٍ دائم ‪ -‬والعمل بها‬
‫ّ‬ ‫من‬
‫رضا ً بدراستهم‪.‬‬
‫رضا‪ ،‬للبعض وم ّ‬ ‫يحتاج إىل ٍ‬
‫وقت كبري‪ ،‬بل قد يكون اإللتزام بها جمي ًعا م ًّ‬
‫بنا ًء عليه‪ ،‬يجب العمل طبق توجيه األستاذ حتّى ال يعطي العمل ‪ -‬ال سمح الله ‪-‬‬
‫نتيج ًة معكوسة‪.‬‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ ‪ M‬ضمن تعداد األمور التي يجب أن يلتزم بها السالك‪:‬‬
‫يقول ّ‬
‫«الثاين والعرشون‪ :‬الورد هو عبارة عن األذكار واألوراد اللسان ّية‪ ،‬وكيفيتّها وك ّم ّيتها‬
‫رض اآلخرين‪ .‬وأحياناً‬ ‫منوطتان برأي األستاذ؛ أل ّن لها حكم الدواء الذي ينفع البعض‪ ،‬وي ّ‬
‫قد يشتغل السالك بذكرين أحدهام يو ّجهه إىل الكرثة‪ ،‬واآلخر إىل الوحدة‪ ،‬ويف حالة‬
‫كل منهام‪ ،‬وال ينتفع بيش ٍء طبعاً‪ .‬إذًا األستاذ رش ٌط يف األوراد‬ ‫اجتامعهام تبطل نتيجة ٍّ‬
‫التي مل يرد فيها إذ ٌن عا ّم‪ .‬أ ّما ما ورد فيه إذن عا ّم‪ ،‬فال مانع منه»(((‪.‬‬

‫((( املراقبات‪ ،‬ص‪.150-149‬‬


‫مم ورد فيه إذن عا ّم فالحظ (املع ِّرب)‪.‬‬
‫((( أقول‪ :‬أكرث األمور الواردة يف هذه التعليامت ّ‬
‫القسم الثامن‬

‫احترام العلماء الصالحين‬

‫ت﴾‬ ‫ٰ‬ ‫ِين أُوتُوا ْ ۡٱلع ۡل َم َد َر َ‬


‫ج‬ ‫ِنك ۡم َو َّٱل َ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ٱلل َّٱل َ‬
‫ِين َء َام ُنوا م‬ ‫﴿يَ ۡرفَعِ َّ ُ‬
‫ٖۚ‬ ‫ِ‬
‫(سورة املجادلة‪ ،‬اآلية ‪)11‬‬
‫‪185‬‬

‫كل‬‫واجب عىل ّ‬
‫ٌ‬ ‫عتب احرتام العلامء الصالحني من أسباب التوفيق‪ ،‬وهو أم ٌر‬ ‫يُ َ‬
‫ذنب‬ ‫مسلم‪ ،‬خصوصاً ّ‬
‫طلب العلوم الدين ّية‪ .‬إ ّن عدم احرتام العلامء املتّقني وإهانتهم‪ٌ ،‬‬
‫نماثلا مسقلا‪ :‬نيحلاصلا ءاملعلا مارتحا‬

‫وسبب للشقاء وقرص العمر والحرمان من تحصيل العلم والتقوى‪ .‬واملراد‬ ‫ٌ‬ ‫ال يُغتفَر‬
‫بحق‪ ،‬ال علامء السوء؛ فإ ّن هؤالء يجب فضحهم وإطالع الناس عىل‬ ‫طبعاً العلامء ّ‬
‫حقيقة أمرهم‪ .‬وإليكم مناذج من األقوال والقصص يف مجال احرتام العلامء الذين‬
‫يخشون الله تعاىل‪:‬‬
‫ّ‬
‫اإلمام الخميني {‬

‫لإلمام القائد يف هذا الصدد إيضاحات مربّية ج ًّدا‪ ،‬يذكر هنا بعضها‪ ،‬يقول سامحته‪:‬‬
‫بكل ما‬
‫‪« - 1‬أنا وأنت لسنا أهالً لذلك‪ ،‬ولكن من الج ّيد أن ال ننكر ويكون لدينا إميان ّ‬
‫فلعل هذا اإلميان اإلجام ّيل ينفعنا‪ .‬أحياناً يكون لإلنكار‬
‫قاله الله ‪-‬تعاىل‪ -‬وأولياؤه؛ ّ‬
‫بال مس ِّوغ‪ ،‬والر ّد يف غري محلّه املناسب وبدون علم وفهم‪ ،‬أرضار كثرية ج ّدا ً‪ .‬وليست‬
‫هذه الدنيا عامل االنتباه لتلك األرضار‪ .‬مثالً‪ ،‬مبج ّرد أن تسمع أ ّن الحكيم الفال ّين‪ ،‬أو‬
‫العارف الفال ّين‪ ،‬أو املرتاض الفال ّين‪ ،‬قال شيئاً ال ينسجم مع سليقتك‪ ،‬وال يستسيغه‬
‫فلعل لذلك املطلب منشأ من الكتاب والس ّنة‬ ‫ذوقك‪ ،‬ال تحمله عىل البطالن والخيال؛ ّ‬
‫والعقل ومل تره أنت‪ .‬ما هو الفرق بني أن يفتي فقيه بفتوى يف باب الديات مثالً ومل‬
‫تسمع أنت مبثلها‪ ،‬فرتفض هذه الفتوى دون الرجوع إىل مصدرها‪ ،‬وبني أن يقول‬
‫سالك إىل الله أو ٌ‬
‫عارف بالله شيئاً يف املعارف اإلله ّية أو حول الج ّنة وجه ّنم وترفضه‬ ‫ٌ‬
‫أنت بدون الرجوع إىل مصدره؟ من السهل أن تهني أو تتج ّرأ‪ .‬قد يكون لدى ذلك‬
‫الشخص الذي هو من أهل ذلك الوادي (املجال) وصاحب ذلك الف ّن‪ ،‬مستن ٌد من‬
‫كتاب الله أو أخبار أمئّة الهدى ومل تطّلع عليه أنت‪ ،‬عندها تكون قد رددت عىل الله‬
‫‪186‬‬
‫ورسوله بدون عذ ٍر وجيه! ومن املعلوم أ ّن قَ ْولَ َه «مل ينسجم مع سليقتي» أو «مل يبلغ‬
‫علمي إىل هذا الح ّد» أو «سمعت من خطباء املنابر خالفه» هذه ليست أعذارا ً(((‪.‬‬
‫‪ - 2‬من األمور امله ّمة التي ينبغي التن ّبه لها وينبغي عىل اإلخوان املؤمنني‪ ،‬خصوصاً أهل‬
‫‪-‬كث الله أمثالهم‪ -‬االهتامم بها‪ ،‬أنّهم إذا سمعوا كالماً من بعض علامء النفس‬ ‫العلم ّ‬
‫وأهل املعرفة‪ ،‬فال يرمونه بالفساد بدون ح ّج ٍة رشع ّية‪ ،‬مبج ّرد أنّه ليس مألوفاً أو أنّه‬
‫اصطالحات ال ح ّظ لهم منها‪ ،‬وال يُحقِّرون أهلها ويُهينونهم‪ ،‬وال يظ ُّنون‬ ‫ٍ‬ ‫مبني عىل‬
‫ٌّ‬
‫الحق‬
‫كل من يستعمل مصطلحات مراتب ومقامات األولياء والعرفاء وتجلِّيات ّ‬ ‫أ ّن ّ‬
‫مم هو متداول يف مصطلحات أهل املعرفة فهو صو ّيف‪ ،‬أو‬ ‫واملح ّبة‪ ،‬وأمثال ذلك ّ‬
‫مر ّوج لدعاوى الصوف ّية‪ ،‬أو أنّه ينسج من عنديّاته وليس له عىل ذلك ح ّجة أو برهان‬
‫رشعي‪ .‬قسامً بروح الص ِّديق أ ّن كلامت نوع هؤالء رشح بيانات القرآن والحديث»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فكّر يف هذا الحديث الوارد عن الصادق ‪ Q‬حول القلب السليم‪ ،‬وانظر هل‬
‫ميكن حمله عىل يش ٍء آخر غري الفناء الذا ّيت‪ ،‬وترك الذات‪ ،‬والذات ّية‪ ،‬واإلنّ ّية‪ ،‬واألنان ّية‪،‬‬
‫كام يرد التعبري عىل لسان أهل املعرفة؟‬
‫هل قرأت مرارا ً املناجاة الشعبان ّية الواردة عن أمري املؤمنني وأوالده املعصومني‬
‫‪ R‬وفكّرت يف فقراتها وتدبّرت فيها؟ إ ّن غاية آمال العارفني ومنتهى أمن َّية السالكني‬
‫هذه الفقرة الرشيفة يف الدعاء الرشيف‪:‬‬
‫«إلهي هب يل كامل االنقطاع إليك‪ ،‬وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك‪ ،‬ح ّتى‬
‫تخرق أبصار القلوب حجب النور‪ ،‬فتصل إىل معدن العظمة‪ ،‬وتصري أرواحنا معلّقة‬
‫بع ّز قدسك»‪.‬‬
‫ما هو املقصود من التعلّق بع ّز القدس يا ترى‪ ،‬هل حقيقة «الحظته فصعق‬
‫لجاللك» غري الصعق املتداول عىل ألسنة األولياء؟‬

‫((( أربعون حديثًا‪ ،‬الحديث األول‪ ،‬ص‪.129 - 128‬‬


‫هل املقصود من التجلّيات الواردة يف دعاء السامت العظيم الشأن غري التجلّيات‬
‫‪187‬‬
‫مم يف هذا الحديث‬ ‫أي ٍ‬
‫عارف يا ترى أكرث ّ‬ ‫واملشاهدات املتداولة عندهم؟ هل يف كلامت ّ‬
‫الرشيف املنقول يف الكتب املعتربة للشيعة والس ّنة وميكن القول إنّه من األحاديث‬
‫املتواترة؟ هل رأيته؟‬
‫مم افرتضت عليه‪ ،‬وإنّه يتق ّرب‬ ‫«ما يتق ّرب إ ّيل عبدٌ من عبادي بيش ٍء ّ‬
‫أحب إ ّيل ّ‬
‫إ ّيل بالنافلة ح ّتى أح ّبه فإذا أحببته كنت إذاً سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبرصه الذي‬
‫نماثلا مسقلا‪ :‬نيحلاصلا ءاملعلا مارتحا‬

‫يبرص به‪ ،‬ولسانه الذي ينطق به‪ ،‬ويده التي يبطش بها إن دعاين أجبته‪ ،‬وإن سألني‬
‫أعطيته»‪.‬‬
‫باختصار‪ ،‬الشواهد عىل ذلك أكرث من أن تتّسع لها هذه املخترصات‪ .‬وهدفنا من‬
‫هذه اإلطالة أن نق ّرب إخوتنا اإلميان ّيني من املعارف بعض اليشء‪ ،‬وأن نخرج من قلوبهم‬
‫إساءة الظ ّن بعلامء اإلسالم الكبار ورميهم بالتص ّوف‪ .‬ال أن نُ ِّربئ فقط ساحة العلامء‬
‫املق ّدسة من هذه األدران؛ إذ إنّه باإلهانة والتحقري ال يصبح العبد ذليالً عند الله إذا‬
‫كان طاهرا ً بل تزداد حسناته‪ .‬ومهام كان نصيب اإلنسان يف الدنيا قليالً‪ ،‬فإ ّن الله تعاىل‬
‫قد يجرب ذلك بفضله العميم‪ ،‬بل إ ّن أكرث هدفنا هو لفت نظر الق ّراء إىل املعارف اإلله ّية‬
‫وتهذيب الباطن؛ فإنّهام معاً من ّ‬
‫املهمت‪ ،‬بل غاية بعثة األنبياء وإنزال الكتب»(((‪.‬‬

‫‪ - 1‬كان شيخنا العارف ‪-‬روحي فداه‪ -‬يقول‪:‬‬


‫«ال تلعن أحدا ً أبدا ً حتّى الكافر الذي ال تعلم أنّه مات كافرا ً ّإل إذا أخرب الو ّيل‬
‫املعصوم عن حاله بعد املوت؛ إذ لعلّه آمن أثناء موته‪ .‬إذا ً ال تلعن بشكل عا ّم‪ .‬واحد له‬
‫مثل هذه النفس الق ّديسة بحيث ال يرىض بلعن شخص هو يف الظاهر كافر الحتامل أن‬
‫يكون آمن عىل عتبة املوت‪ ،‬وواحد مثلنا ‪-‬وإىل الله املشتىك‪ -‬كان واعظ املدينة‪ ،‬مع أنّه‬
‫من أهل العلم والفضل‪ ،‬يقول وهو عىل املنرب وبحضور العلامء والفضالء‪« :‬فالن مع أنّه‬

‫((( معراج السالكني وصالة العارفني‪ ،‬ص‪.56-55‬‬


‫كان حكيامً كان يقرأ القرآن!» هذا مثل أن نقول‪ :‬فالن مع أنّه كان نب ّياً معتقدا ً باملبدأ‬
‫‪188‬‬
‫واملعاد‪ .‬أنا أيضاً ال أحرتم كثريا ً العلم وحده‪ ،‬والعلم الذي ال يستتبع اإلميان هو الحجاب‬
‫األكرب‪ ،‬ولكن ال ميكن خرق الحجاب بدون الدخول فيه‪ .‬العلوم بذر املشاهدات‪ ،‬يبدو‬
‫أ ّن من املمكن أحياناً الوصول إىل مقامات بدون حجاب االصطالحات والعلوم‪ ،‬ولكن‬
‫هذا من غري الطريق العادي‪ ،‬وخالف الس ّنة الطبيع ّية‪ .‬وهو نادر الحصول»(((‪.‬‬

‫‪ - 2‬قال سامحته يف درس الخارج يف الفقه‪:‬‬


‫مسألة «اليانصيب» من مسائل الفقه االجتهاديّة‪ ،‬وقد تختلف فيها آراء املجتهدين؛‬
‫أل ّن مثل هذه املسألة ليست من مسائل الفقه الرضوريّة والواضحة ليتّفق فيها الجميع‪.‬‬
‫يل‬‫الخوانساري واملرحوم الس ّيد يونس األردبي ّ‬
‫ّ‬ ‫يف هذه املسألة‪ ،‬كان املشهور أ ّن املرحوم‬
‫‪-‬رضوان الله عليهام‪ -‬يقوالن بجوازها‪ ،‬طبعاً‪ ،‬اجتهادهام أ ّدى إىل الجواز وهذا ال يُس ِّو ُغ‬
‫أن نطعن عليهام ألنّهام أفتيا بذلك‪ ،‬كام أنّه ليس لهام أن يطعنا علينا ألنّنا ال نقول‬
‫بالجواز‪ ،‬بل ميكنهام أن يبحثا املسألة معنا بحثاً علم ّياً‪.‬‬
‫الطلب متن ِّبهني ج ّيدا ً إىل أعاملهم الصغرية‪ ،‬يجب أن يكونوا‬
‫يجب أن يكون السادة ّ‬
‫منتبهني إىل ألفاظهم ج ّيدا ً‪ ،‬حتّى ‪ -‬ال سمح الله ‪ -‬ال يسلب التوفيق منهم بوساطة شطر‬
‫اإللهي والرصاط املستقيم(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املحصلني أو يخرجوا عن الطريق‬‫كلمة‪ ،‬أو يخرجوا من زمرة ّ‬
‫‪ - 3‬وما أدراك ما ّ‬
‫مل صدرا‪:‬‬
‫الخميني عن األوضاع‬
‫ّ‬ ‫خواص اإلمام‬
‫ّ‬ ‫املجلت املعروفة‪ :‬تح ّدث أحد‬ ‫جاء يف إحدى ّ‬
‫خصصوا وقتاً يف الليل والنهار‬‫الطلب قد ّ‬
‫العا ّمة ‪1342‬هـ وقبل ذلك‪ ،‬فقال‪« :‬كان ّ‬
‫يقضونه يف قسم االستقبال من منزل اإلمام (ال ّرباين) وكان يدور يف بعض األحيان نقد‬
‫الطلب متألِّمني؛ أل ّن اإلمام ال يخطو خطوة باتجاه املرجع ّية‪ ،‬بل‬
‫لبعض الروحان ِّيني وكان ّ‬

‫((( رسالة لقاء الله‪ ،‬ص‪.259‬‬


‫((( رسالة نوين‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.266‬‬
‫يعتزل‪ .‬وذات يوم جاء املرحوم الشهيد الس ّيد مصطفى يبلّغنا أ ّن اإلمام يقول‪« :‬سمعت‬
‫‪189‬‬
‫أنّه أحياناً تت ّم غيبة العلامء وإهانتهم‪ ،‬أنا ال أرىض أن يغتاب أح ٌد أحدا ً يف هذا البيت‬
‫أو يهني أحدا ً»‪.‬‬
‫السلاميس يف ق ّم‪ ،‬أخربوه أنّه يف مجلس‬
‫ّ‬ ‫كان اإلمام يد ّرس األصول عرصا ً يف مسجد‬
‫املل صدرا ‪ -‬صدر املتألّهني ‪ -‬فغضب اإلمام‬
‫درس بعض املحقّقني و ّجهت إهانة إىل ّ‬
‫املل صدرا‪ .‬ملاذا‬
‫مل صدرا؟ املسائل التي عجز عنها ابن سينا حلّها ّ‬
‫وقال‪« :‬وما أدراك ما ّ‬
‫نماثلا مسقلا‪ :‬نيحلاصلا ءاملعلا مارتحا‬

‫ال نراقب ألسنتنا؟»‪.‬‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫القزويني‬ ‫السيد حسين‬ ‫المرحوم‬
‫ضمن تعداد أه ّم الفضائل يف كتابه «أخالق وسري وسلوك» يقول ‪:M‬‬
‫«الحادي عرش‪ :‬تعظيم األوامر اإلله ّية وتعظيم علامء الدين وأهل التقوى وأصحاب‬
‫الورع من املؤمنني وتكرميهم‪ ،‬فذلك منشأ صالح الدنيا‪ ،‬ونجاة العقبى»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫البهبهاني‬ ‫الوحيد‬
‫العلمي‪ ،‬والع ّزة‪ ،‬والــرف‪ ،‬واإلذعــان من‬
‫ّ‬ ‫سئل ‪« :M‬ب َم بلغت هذا املقام‬
‫اآلخرين»؟ فكتب يف الجواب‪« :‬أنا ال أعترب نفيس شيئاً أبدا ً‪ ،‬وال أع ّد نفيس يف مستوى‬
‫أكف أبدا ً عن‬
‫ولعل الذي أوصلني إىل هذا املقام‪ ،‬هو أنّني مل ّ‬ ‫العلامء املوجودين‪ّ .‬‬
‫أي ٍ‬
‫وقت ما‬ ‫وأن مل أترك الدراسة يف ّ‬ ‫تعظيم العلامء وإجاللهم‪ ،‬وذكر أسامئهم بالخري‪ّ ،‬‬
‫استطعت ذلك‪ ،‬وكنت أق ّدمها دامئاً عىل سائر األعامل»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المحدث القم ّي‬
‫يف مفاتيح الجنان يقول املح ّدث الجليل الق ّم ّي ‪ M‬حول دعاء الجوشن الكبري‪:‬‬
‫«الثاين‪ :‬استحباب قراءة هذا الدعاء يف أ ّول شهر رمضان‪ ،‬وأ ّما قراءته يف خصوص‬

‫((( أخالق وسري وسلوك‪ ،‬ص‪.26‬‬


‫((( وحيد بهبهاين‪ ،‬ص‪ 136‬وهديّة األحباب‪ ،‬ص‪.115 - 114‬‬
‫املجليس ‪-‬ق ّدس الله روحه‪ -‬قال‬
‫ّ‬ ‫العلمة‬
‫ليايل القدر‪ ،‬فليس يف األخبار ذكر لذلك‪ .‬لك ّن ّ‬
‫‪190‬‬
‫يف ذيل أعامل ليايل القدر يف «زاد املعاد»‪« :‬وقد ورد يف بعض الروايات قراءة دعاء‬
‫كل ليلة من هذه الليايل الثالث»‪ ،‬وكالمه يف هذا املجال كاف‪ ،‬أحلّه‬
‫الجوشن الكبري يف ّ‬
‫الله دار السالم»(((‪.‬‬
‫ويقول هذا املح ّدث العظيم يف ترجمة أحد فالسفة الشيعة الكبار‪:‬‬
‫(أن أنا) الحقري ال أرى نفيس أهالً‬
‫«وقد ن ّبه بعض العلامء إىل أخطائه ولكن حيث ّ‬
‫لنقل عرثات العلامء‪ ،‬فضالً عن العظامء‪ ،‬والقادة‪ ،‬فال جرم أطوي كشحاً‪ ،‬وأرجع إىل‬
‫ترجمته»(((‪.‬‬
‫وقد جاء يف ترجمة هذا املح ّدث الق ّم ّي الجليل‪:‬‬
‫كان شديد االحرتام ألهل العلم وخصوصاً السادات وأوالد رسول الله‪ ،P‬وإذا وجد‬
‫سيّد يف املجلس مل يكن يتق ّدم عليه وال مي ّد رجله باتّجاهه‪.‬‬
‫وينقل ابنه عن املرحوم سلطان الواعظني قوله‪« :‬يف أوائل طبع «مفاتيح الجنان»‪،‬‬
‫يدي‪ ،‬وكنت مشغوالً بالزيارة‪ ،‬رأيت‬
‫كنت ذات يوم يف رسداب سام ّراء‪ ،‬وكان الكتاب بني ّ‬
‫اليدوي) وعامم ًة صغرية‪ ،‬جالساً‪ ،‬مشغوالً بالذكر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫شيخاً يلبس عباءة عاديّة (من النسيج‬
‫وسألني الشيخ‪« :‬ملن هذا الكتاب؟» قلت‪« :‬للمح ّدث الق ّم ّي»‪ .‬وبدأت أمدح الكتاب‪،‬‬
‫يستحق املدح إىل هذا الح ّد‪ ،‬فال متدح بدون م ّربر»‪ .‬قلت مغضباً‪« :‬قم‬
‫ّ‬ ‫قال الشيخ‪« :‬ال‬
‫يل وقال‪« :‬تأ ّدب‪ ،‬إنّه هو املح ّدث‬‫واذهب من هنا»‪ ،‬فوضع الجالس بجانبي يده ع ّ‬
‫الق ّم ّي»‪ .‬فقمت وق ّبلته واعتذرت إليه‪ ،‬وانحنيت ألق ّبل يده‪ ،‬ولك ّنه مل يسمح بذلك‪،‬‬
‫وانحنى وق ّبل يدي وقال‪« :‬أنت س ّيد»»‪.‬‬

‫((( مفاتيح الجنان‪ ،‬ص‪.85‬‬


‫((( الفوائد الرضويّة‪ ،‬ص‪.379‬‬
‫يقال‪ :‬قبل وفاة املح ّدث الق ّم ّي بساعات جاؤوه مبقدار من عصري التفاح وكانت‬
‫‪191‬‬
‫طفلة من السادات يف منزله ‪ M‬فقال املح ّدث‪« :‬ق ّدموا ذلك لهذه الطفلة العلويّة‬
‫أ ّوالً لترشب ث ّم أعطونيه»‪ .‬وهكذا كان‪ ،‬ق ّدم العصري للطفلة فرشبت قليالً ث ّم رشب‬
‫املح ّدث الباقي بقصد االستشفاء»(((‪.‬‬
‫الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء‬
‫يقول صاحب كتاب «اللمعات» يف كتابه هذا‪« :‬قال أستاذنا الشيخ حسن بن‬
‫نماثلا مسقلا‪ :‬نيحلاصلا ءاملعلا مارتحا‬

‫الشيخ جعفر الكبري صاحب كتاب «كشف الغطاء» يف مجلس الدرس‪ ،‬ذات يوم‪:‬‬
‫«كان الشيخ الكبري يف الليايل‪ ،‬ينام قليالً ث ّم يستيقظ ويبقى مشغوالً باملطالعة إىل‬
‫رض ع واملناجاة إىل طلوع الفجر‪ .‬ذات ليلة سمعنا‬ ‫وقت صالة الليل‪ ،‬ث ّم يأخذ بالت ّ‬
‫تغيت‬‫رصاخه ونحيبه‪ ،‬وكان كأنّه يلطم عىل رأسه‪ ،‬ركضت أنا وإخويت فرأيناه وقد ّ‬
‫حالته وقد بلّلت دموعه ثيابه‪ ،‬وهو يلطم عىل رأسه ووجهه‪ ،‬أمسكنا بيديه‪ ،‬وسألناه‬
‫عن السبب قال‪« :‬صدر ع ِّني خطأ‪ ،‬ذلك ّأن أ ّول الليل كنت أفكّر يف مسألة فقهيّة‬
‫َّبي العلامء الكبار حكمها‪ ،‬وكنت أبحث عن دليل الحكم يف أحاديث أهل البيت‬
‫‪ R‬فراجعت كتب األحاديث ع ّدة ساعات ومل أجد مستندها‪ ،‬وتعبت وقلت‬
‫بسبب التعب الشديد‪« :‬جزى الله العلامء خريا ً‪ ،‬حكموا حكامً بدون دليل» ث ّم منت‪،‬‬
‫فرأيت يف عامل النوم ّأن ذهبت إىل الحرم املط ّهر لزيارة أمري املؤمنني‪ ،Q‬وعندما‬
‫الصفة س ّجادا ً‪ ،‬ومنربا ً عالياً يف صدر املجلس‪،‬‬
‫محل نزع األحذية رأيت يف ُّ‬
‫وصلت إىل ّ‬
‫وشخصاً موقّرا ً ذا وج ٍه جميلٍ ونورا ّين جالساً عىل املنرب وقد أخذ بالتدريس‪ ،‬وكان‬
‫غاصاً بالعلامء األعالم‪ ،‬يستمعون إىل الدرس‪ ،‬سألت شخصاً‪« :‬من هم هؤالء؟‬ ‫املكان ّ‬
‫ومن هو الجالس عىل املنرب؟» قال‪« :‬هو املحقّق األ ّول صاحب الرشائع‪ ،‬وهؤالء‬
‫الذين تحت املنرب هم علامء الشيعة»‪ .‬فرسرت وقلت يف نفيس حيث ّإن منهم طبعاً‬
‫سيحرتمونني‪ ،‬وعندما صعدت إىل حيث كانوا سلّمت‪ ،‬ولك ّنهم أجابوا جواب املكره‬

‫((( حاج وشيخ عباس قمي مرد تقوا وفضيلت‪ ،‬ص‪.64-62‬‬


‫والتفت إىل املحقّق‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫العابس‪ ،‬وأرشدوين إىل مكان للجلوس‪ .‬فغضبت لذلك‪،‬‬
‫‪192‬‬
‫«ألست من فقهاء الشيعة‪ ،‬فلم تتعاملون معي هكذا؟»‬
‫ُ‬
‫فقال املحقّق مبنتهى الح ّدة‪« :‬يا جعفر‪ ،‬بذل علامء اإلمام ّية جهودا ً وأنفقوا الكثري‬
‫كل حديث يف‬ ‫حتّى جمعوا أخبار األمئّة األطهار من أطراف املدن من الرواة وصنفوا ّ‬
‫محلّه بأسامء الرواة‪ ،‬وأحوالهم‪ ،‬وتصحيحها‪ ،‬وتوثيقها أو تضعيفها حتّى يأيت أمثالك‬
‫ويجدوا مستند األحكام ودليلها‪ .‬أنت جلست ع ّدة ساعات عىل الس ّجادة والحظت‬
‫كل ما لديك وفورا ً اعرتضت عىل‬ ‫عددا ً من الكتب املوجودة لديك ومل تالحظ بعد ّ‬
‫العلامء ونسبت إليهم أنّهم أفتوا بدون مستند ودليل‪ ،‬يف حني أ ّن هذا الرجل املوجود‬
‫تحت املنرب‪ ،‬أورد هذا الحديث يف ع ّدة أماكن من كتابه‪ ،‬وذلك الكتاب موجود بني كتبك‬
‫املل محسن الفيض الكاشا ّين»‪ .‬أضاف الشيخ جعفر‪:‬‬ ‫ومؤلّفه هذا الشخص الذي يس َّمى ّ‬
‫«فارتعدت فرائيص من كالم املحقّق‪ ،‬واستيقظت من النوم‪ ،‬وبسبب ذنبي والندم عليه‬
‫أصبحت عىل هذه الحالة التي ترون»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫(((‬
‫السيد محمد المجاهد‬
‫عندما جاء املرحوم الس ّيد مح ّمد املجاهد من العراق إىل إيران للجهاد ض ّد الروس‪ ،‬ذهب‬
‫بعد أن دخل قزوين إىل مسجد الشاه فيها‪ ،‬وتوضّ أ من حوض املسجد‪ .‬وفورا ً أخذ أهل قزوين‬
‫يبق يف الحوض منه يشء(((‪.‬‬‫ماء ذلك الحوض للتي ّمن والت ّربك واالستشفاء‪ ،‬بحيث مل َ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الطوسي‬ ‫المحقق‬
‫‪M‬‬ ‫الطويس‬
‫ّ‬ ‫يقول املح ّدث الق ّم ّي حول الس ّيد املرتىض‪« :‬وكان نصري الدين‬
‫إذا جرى ذكره يف درسه يقول «صلوات الله عليه»‪ ،‬ويلتفت إىل القضاة واملد ّرسني‬
‫صل عىل املرتىض»(((‪.‬‬
‫الحارضين درسه‪ ،‬ويقول‪ :‬كيف ال يُ ّ‬

‫((( زندﮔـاين وشخصيت شيخ أنصاري‪ ،‬ص‪.157-155‬‬


‫((( تق ّدم أنّه ابن صاحب الرياض رحمهام الله‪.‬‬
‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪ ،125‬در بحاثة األدب ج‪ ،3‬ص‪.401‬‬
‫((( سفينة البحار‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.227‬‬
‫ّ‬
‫صدر المتألهين‬
‫‪193‬‬
‫أورد أحد أصدقاء الشهيد مط ّهري يف ترجمته‪« :‬أثناء اإلقامة يف ق ّم ك ّنا يوماً يف‬
‫النهاوندي مع األستاذ مط ّهري والشهيد بهشتي وشخص أو‬ ‫ّ‬ ‫منزل الشيخ مح ّمد فريد‬
‫اثنني آخرين‪ .‬وصل البحث إىل صدر املتألّهني‪ ،‬فقال صاحب البيت‪« :‬بعض آراء صدر‬
‫ازي‪ ،‬وبعض عبارات األسفار عني عبارات كتاب «املباحث‬ ‫املتألّهني مأخوذ ٌة من الفخر الر ّ‬
‫ازي»‪ ،‬وقد دفع هذا الكالم ‪-‬الذي أثار تع ّجب الحارضين وإنكار‬ ‫املرشقيّة» للفخر الر ّ‬
‫نماثلا مسقلا‪ :‬نيحلاصلا ءاملعلا مارتحا‬

‫ازي وبدأ‬
‫النهاوندي كتاب الفخر الر ّ‬
‫ّ‬ ‫بعضهم‪ -‬عىل املقارنة بني الكتابني‪ .‬تناول املرحوم‬
‫أي فرق‪،‬‬‫يقرأ‪ ،‬وفتح آخر أسفار صدر املتألّهني‪ ،‬طابقنا العبارات معاً فلم يكن هناك ّ‬
‫مم مل يسبقني إليه أحد»‪.‬‬ ‫حتّى إنّنا يف مكانٍ ما وجدنا يف الكتابني هذه العبارة «هذا ّ‬
‫وبأ ٍمل دافع املرحوم املط ّهري عن صدر املتألّهني وقال‪« :‬كانت طريقة العلامء يف بيان‬
‫العلمي أنّهم إذا رأوا كالم عا ٍمل آخر يوضّ ح مرادهم بشكلٍ مناسب‪ ،‬ينقلون تلك‬
‫ّ‬ ‫املطلب‬
‫العبارات اقتباساً‪ ،‬دون اإلشارة إىل املصدر‪ ،‬مثالً كثري من عبارات املرحوم الشيخ آقا رضا‬
‫األنصاري‪ ،‬أو ذكر شخصاً آخر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الهمدا ّين يف كتاب الصالة هي عني عبارات أستاذه الشيخ‬
‫ال أتذكّر‪.‬‬
‫قصة أخرى‪ :‬جرى البحث يف غرفة الشهيد مط ّهري يف املدرسة الفيض ّية بينه وبني‬ ‫ّ‬
‫املرحوم الشيخ غالم حسني البادكو ّيب ‪-‬أحد علامء مشهد ومد ّرسيها األتقياء‪ ،‬وكان‬
‫ضيف الشهيد‪ -‬كان البحث حول نظريّة «وحدة الوجود» لصدر املتألّهني‪ .‬كان املرحوم‬
‫مهدي‬
‫ّ‬ ‫البادكو ّيب يتابع البحث بدقّة نظر‪ّ ،‬إل أنّه كان كأستاذه املرحوم آية الله املريزا‬
‫األصفها ّين املد ّرس املشهور يف مشهد‪ ،‬ليسا ضليعني يف املسائل الفلسف ّية‪ ،‬وكان يبطل‬
‫نظريّة صدر املتألّهني‪ ،‬وأحياناً يتّخذ كالمه شكل املغالطة واإلرصار عليها‪ ،‬ويف النهاية‬
‫كل يشء ال مبقارنة‬ ‫قال الشهيد مط ّهري بحزم‪« :‬هذه الجملة من نهج البالغة‪« :‬مع ّ‬
‫كل يشء ال مبزايلة»‪ ،‬ليست سوى نظرية صدر املتألّهني هذه وقطع البحث»(((‪.‬‬ ‫وغري ّ‬

‫((( يادنامه أستاذ شهيد مرتىض مطهري‪ ،‬الكتاب األول‪ ،‬ص‪.328-327‬‬


‫ّ‬
‫الكلباسي‬ ‫آية اهلل‬
‫‪194‬‬
‫الكلبايس إىل ق ّم وذهب إىل مزارها‪ ،‬كان مييش يف املزار حافياً‬
‫ّ‬ ‫عندما جاء آية الله‬
‫وقال‪« :‬هذا املزار ميلء بالعلامء ورواة الحديث؛ لذا ورعاي ًة لألدب‪ ،‬ال أريد أن أسري‬
‫عىل قبورهم منتعالً»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫سبب التهجم على العلماء‬
‫الخميني يف كتابه الق ّيم والرشيف «كشف‬‫ّ‬ ‫قبل أكرث من أربعني سنة كتب اإلمام‬
‫وكل واحد من أصحاب اآلراء الباطلة‬ ‫األرسار» تحت العنوان املذكور ما يأيت‪« :‬وهؤالء ّ‬
‫واألقوال النشاز ألنّهم يعلمون أ ّن الوحيدين القادرين عىل التص ّدي لهم يف املجتمع‬
‫مختصني يف هذا املجال أو إذا‬‫ّ‬ ‫وفضح أكاذيبهم هم العلامء‪ ،‬وسائر الناس إ ّما ليسوا‬
‫قل أو كرث‪ ،‬فإنّهم ال يعتربون واجبهم التص ّدي‪ ،‬لهؤالء السائبني‪ .‬اليشء‬‫كان لهم اطّالع‪َّ ،‬‬
‫كل يشء هو‬ ‫الوحيد الذي يهت ّمون به ألجل تحقيق أهدافهم املسموعة ويق ّدمونه عىل ّ‬
‫بكل وسيل ٍة ممكنة وكذباً وزورا ً ليفصلوا الناس‬
‫أن يو ّجهوا التهم واالفرتاءات إىل العلامء ّ‬
‫بكل ما أمكنهم ل ُيفتح‬
‫عنهم ويحقّروهم يف أعني الناس ويضعفوا تأثريهم الروحا ّين ّ‬
‫بكل اطمئنان للتالعب بأرواح بعض الناس املساكني وأعراضهم‬ ‫أمامهم امليدان فينرصفوا ّ‬
‫نبي‬
‫وأموالهم‪ .‬يشهد التاريخ أ ّن الجهة الوحيدة التي حفظت دين الناس منذ وفاة ّ‬
‫اإلسالم وحتّى اليوم وحالوا دون تأثري أباطيل السائبني هم العلامء والروحان ّيون‪،‬‬
‫واآلخرون إ ّما أنّهم مل يكونوا أهالً لذلك‪ ،‬أو أنّهم مل يكونوا يعتربون واجبهم ذلك»(((‪.‬‬
‫شهيد المحراب آية اهلل دستغيب‬
‫يقول ‪« :M‬ورد الوعيد بالعقوبة الشديدة عىل كفران نعمة وجود العلامء‪ ،‬منها‬
‫النبي األكرم ‪:P‬‬
‫ما ورد عن ّ‬

‫((( منتخب التواريخ‪ ،‬ص‪.453‬‬


‫((( كشف األرسار‪ ،‬ص‪.9 - 8‬‬
‫«سيأيت زمان عىل الناس يف ّرون من العلامء كام يف ّر الغنم من الذئب‪ ،‬فإذا كان‬
‫‪195‬‬
‫ذلك ابتالهم الله بثالثة أشياء‪ :‬األ ّول‪ :‬يرفع الربكة من أموالهم‪ ،‬والثاين‪ :‬سلّط الله‬
‫عليهم سلطاناً جائراً‪ ،‬والثالث‪ :‬يخرجون من الدنيا بال إميان»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشعراني‬ ‫العلمة‬
‫يقول املرحوم الشعرا ّين‪« :‬والنصيحة األخرية أن ال يعتربوا أ ّن العلم بدون التقوى‬
‫والورع ذا قيمة أبدا ً‪ ،‬وأن ال يستخفّوا بكالم علامء الدين‪ ،‬وأن يعلموا أ ّن تعظيمهم‬
‫نماثلا مسقلا‪ :‬نيحلاصلا ءاملعلا مارتحا‬

‫أحيا ًء وأمواتاً يوجب مزيد التوفيق»(((‪ .‬وأنا أغتنم الفرصة هنا‪ ،‬وأحذّر طلّب العلوم‬
‫الدينيّة ‪-‬الذين هم مثيل مل يصلوا إىل كامل العلم‪ -‬أن ال يسيئوا الظ ّن أبدا ً بكبار علامء‬
‫أقل جزاء لهذا العمل هو الحرمان من فيض علومهم‪ .‬ما أتعسه شقا ًء‬ ‫الدين؛ إذ إ ّن ّ‬
‫أن يكون الشخص سيِّئ الظ ّن بكبار علامء الدين وال يعتني بكالمهم‪ .‬إذا وجدت عاملاً‬
‫أي يشء‬ ‫يعرتض عىل كالم آخر ويف ّنده‪ ،‬فالسبب يف ذلك أنّهم يحبّون الحقيقة أكرث من ّ‬
‫آخر‪ ،‬وإذا سها شخص أو أخطأ فمن الواجب التنبيه عىل ذلك؛ ألنّه ليس معصوماً‪ ،‬ومل‬
‫يبذل الدقّة املطلوبة‪ ،‬وم ّر به رسيعاً‪ ،‬فبقي ذلك السهو يف كالمه‪ ،‬ولو أنّه م ّر به ثانية‬
‫ألصلحه(((‪.‬‬
‫تعظيم األستاذ‬
‫وكل ما ورد حول احرتام العلامء وما قيل يشت ّد‬‫خاصة‪ّ ،‬‬‫لتعظيم األستاذ والعلم ميزة ّ‬
‫تأكُّده بالنسبة إىل األستاذ ويكتسب أه ِّم ّية تفوق ما عداها‪ ،‬من هنا‪ ،‬كان عظامؤنا‬
‫خاصا‪ ،‬وكانوا يحذّرون من اإلساءة إىل املعلّم‪ ،‬معتربين أ ّن ذلك‬
‫يولون هذا األمر اهتام ًما ًّ‬
‫‪-‬احرتام العلامء‪ -‬أحد أسباب التوفيق يف الدراسة‪.‬‬

‫((( الذنوب الكبرية‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ ،35‬والحديث يف سفينة البحار‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.220‬‬
‫((( ترجمة‪ ،‬ورشح فاريس‪ ،‬تبرصة املتعلّمني‪ ،‬ص‪.808‬‬
‫((( ترجمة ورشح فاريس تجريد االعتقاد‪ ،‬ص‪.569‬‬
‫«وحق سائسك‬ ‫ّ‬ ‫املروي عن زين العابدين ‪:Q‬‬ ‫ّ‬ ‫ويف حديث الحقوق الطويل‬ ‫‪196‬‬
‫بالعلم التعظيم له والتوقري ملجلسه وحسن االستامع إليه واإلقبال عليه وأن ال‬
‫ترفع عليه صوتك وال تجيب أحداً يسأله عن يشء‪ ،‬ح ّتى يكون هو الذي يجيب‪،‬‬
‫وال تحدّ ث يف مجلسه أحداً‪ ،‬وال تغتب عنده أحداً‪ ،‬وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك‬
‫بسوء‪ ،‬وأن تسرت عيوبه‪ ،‬وتظهر مناقبه‪ ،‬وال تجالس له عد ًّوا‪ ،‬وال تعا ِد له ول ّياً‪،‬‬
‫‪-‬جل وع َّز‪ -‬بأنّك قصدته وتعلّمت علمه‬ ‫فإذا فعلت ذلك شهدت لك مالئكة الله َّ‬
‫‪-‬جل اسمه‪ -‬ال للناس»(((‪ .‬إذا وفّقت ألداء هذه الحقوق تجاه أستاذك سيشهد‬ ‫لله َّ‬
‫مالئكة السامء مبا فيه خريك‪ ،‬ونفعك‪ ،‬وأنّك سلكت طريق أستاذك‪ ،‬وطلبت العلم لله‪،‬‬
‫وتعلّمت منه هدفاً إله ّياً‪.‬‬
‫صاحب الكفاية‪ ،‬قائد ثورة المشروطة في إيران‬
‫اقي‪ ،‬وهو من تالمذة املرحوم اآلخوند‬
‫يقول املرحوم آية الله ضياء الدين العر ّ‬
‫اسان صاحب الكفاية‪:‬‬
‫الخر ّ‬
‫يل وكان طالباً شابّاً‪،‬‬
‫ازي الكبري‪ ،‬جاء ابنه املريزا ع ّ‬
‫«بعد وفاة املرحوم املريزا الشري ّ‬
‫كل مكان ومجلس‪.‬‬ ‫فأخذ أستاذنا اآلخوند يصطحبه معه حيثام ذهب ويق ّدمه يف ّ‬
‫فاستاء تالمذة اآلخوند الذين كانوا فضالء ومجتهدين؛ ألنّهم كانوا يرون أستاذهم يسري‬
‫شاب‪ ،‬فدفعوين ‪ -‬وكنت أصغرهم س ّناً ‪ -‬أن أفاتح األستاذ باألمر وحملني‬ ‫خلف طالب ّ‬
‫الشاب وتق ّدمه عىل نفسك يف‬ ‫ّ‬ ‫ذلك عىل الجرأة‪ ،‬فقلت له‪« :‬ما معنى تقديم ابن املريزا‬
‫ازي؟‬
‫أقل من أبيه املريزا الشري ّ‬
‫كل مكان‪ ،‬مع أنّك لست ّ‬ ‫ّ‬
‫يقول الشيخ آقا ضياء‪ :‬فنظر إ ّيل اآلخوند نظرة‪ ،‬وقال‪« :‬إذا كان ذلك يزعجك فال‬
‫يل»(((‪.‬‬
‫واجب ع ّ‬
‫ٌ‬ ‫تتبعنا‪ ...‬هذا ابن أستاذي واحرتامه‬

‫للتوسع يف موضوع البحث‪.‬‬


‫((( منية املريد‪ ،‬ص‪ ،106‬ويستحسن الرجوع إىل هذا الكتاب ّ‬
‫((( مرﮔـي درنور‪ ،‬ص‪.72‬‬
‫ازي‪ ،‬مع أ ّن‬
‫«مل يرتق اآلخوند املنرب للتدريس طيلة حياة أستاذه املريزا الكبري الشري ّ‬
‫‪197‬‬
‫عمر اآلخوند كان قد تجاوز الخمسني وكان مجتهدا ً مسلامً ومد ّرساً‪ .‬رغم ذلك واحرتاماً‬
‫ألستاذه‪ ،‬كان ال يرتقي املنرب يف النجف ويد ّرس طالبه جالساً عىل األرض‪.‬‬
‫ويف أ ّول درس بعد وفاة املريزا يف سام ّراء ارتقى اآلخوند املنرب وجلس يف صدره وقال‪:‬‬
‫«قال األستاذ ‪ M‬وأقول»‪.‬‬
‫دوي يف املحافل العلم ّية يف النجف(((‪.‬‬
‫قالوا وقد كان لهذه الـ«أقول» ّ‬
‫نماثلا مسقلا‪ :‬نيحلاصلا ءاملعلا مارتحا‬

‫ّ‬
‫الرشتي‬ ‫الميرزا حبيب اهلل‬
‫«عندما كان املريزا حبيب الله ‪ M‬يريد الخروج إىل الصحن يف حرم األمري ‪Q‬‬
‫للتدريس كان يتوضّ أ‪ ،‬ويقرأ سورة يس املباركة يف الطريق عن حفظ‪ ،‬وعند وصوله إىل‬
‫األنصاري‪ ،‬ويهدي ثوابها‬
‫ّ‬ ‫باب القبلة يكمل قراءة السورة بجانب رضيح أستاذنا الشيخ‬
‫الطلب وبيان‬
‫إىل روحه ويستم ّد العون من روح ذلك العظيم؛ ليمكنه تدريس مئات ّ‬
‫الحقائق العلم ّية بشكلٍ أفضل وأوضح»(((‪.‬‬
‫قبول عطاء األستاذ‬
‫الريض مؤلّف نهج البالغة أنّه كان عزيز النفس ج ّدا ً ومل يكن‬
‫جاء يف ترجمة الرشيف ّ‬
‫القصة التالية‬
‫العباسيي‪ ،‬وحتّى والده(((‪ .‬ويف ّ‬
‫ّ‬ ‫يقبل هديّة أحد أو عطاءه حتّى الخلفاء‬
‫لسبب واحد هو إكرامه واحرتامه لألستاذ‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ترى كيف أنّه قبل عطاء أستاذه‬
‫يك إبراهيم بن أحمد‬
‫مستهل شبابه يقرأ القرآن عىل الفقيه املال ّ‬
‫ّ‬ ‫كان الرشيف يف‬
‫الطربي‪ ،‬وذات يوم سأل األستاذ الرشيف‪« :‬أين تسكن؟‬
‫ّ‬
‫‪ -‬يف منزل أيب يف محلّة «بب محول»‪.‬‬

‫((( املصدر السابق‪ ،‬ص‪.98‬‬


‫((( املصدر السابق‪ ،‬ص‪.82‬‬
‫((( رياض العلامء‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪ ،84 - 83‬ومفاخر إسالم‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.299‬‬
‫‪ -‬مثلك ال ينبغي أن يسكن يف منزل والده‪ ...‬وهبتك منزيل يف محلّة الكرخ»(((‪.‬‬
‫‪198‬‬
‫وأىب الرشيف‪ ،‬فأعاد عليه أستاذه الكالم‪ ،‬فقال الرشيف‪:‬‬
‫‪« -‬يا شيخ أنا مل أقبل ب َّر أيب قطّ‪ ،‬فكيف أقبل من غريه؟»‬
‫ألن أبوك الروحا ّين وهو أبوك الجسام ّين‪.‬‬
‫حق أبيك؛ ّ‬‫‪ -‬إ ّن حقّي عليك أعظم من ّ‬
‫‪ -‬قد قبلت الدار»(((‪.‬‬
‫القصة وقعت بعد‬‫يقول مؤلّف كتاب الس ّيد الريض‪« :‬يجب اإللتفات إىل أ ّن هذه ّ‬
‫الريض‪ ،‬وقبل رفع قرار‬
‫ّ‬ ‫الريض من اإلبعاد والنفي وزواج الس ّيد‬
‫ّ‬ ‫رجوع والد الرشيف‬
‫املصادرة عن أموال والد الرشيف‪ ،‬وإلّ فال مجال أبدا ً لهذا السؤال والجواب وعطاء‬
‫البيت وهبته»(((‪.‬‬
‫أعلى درجات األدب‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ‪:‬‬
‫يقول أحد تالمذة ّ‬
‫وإعجاب شدي ٌد بأستاذه املرحوم‬‫ٌ‬ ‫العلمة الطباطبا ّيئ ‪ M‬عالق ٌة‬ ‫«كان ألستاذنا ّ‬
‫القايض‪ ،‬كان ح ّقاً يرى نفسه أمامه صغريا ً‪ .‬وكان يبحث يف شخص ّية املرحوم القايض‬
‫عن دنيا من العظمة واألبّهة وأرسار التوحيد وامللكات واملقامات‪ .‬ذات يوم ق ّدمت له‬
‫هديّة عطر‪ ،‬تناول العطر بيده وفكّر قليالً وقال‪ :‬م ّرت سنتان عىل وفاة أستاذنا املرحوم‬
‫القايض ومنذ ذلك الوقت وإىل اآلن مل أتعطّر‪ .‬يضيف تلميذه‪ :‬وإىل هذه الفرتة األخرية‬
‫كلّام كنت أق ّدم له عطرا ً كان يقفل القنينة ويضعها يف جيبه ومل أ َر أنّه تعطّر‪ ،‬مع أنّه‬
‫مىض عىل وفاة أستاذه ستَّ ٌة وثالثون عاماً»(((‪.‬‬

‫((( السيد الريض مؤلف نهج البالغة‪ ،‬ص‪.37-36‬‬


‫((( منية املريد‪ ،‬ص‪.111‬‬
‫((( السيد الريض‪ ،‬ص‪ .37-36‬بترصف‪.‬‬
‫((( مهرتابان‪ ،‬ص‪.16 - 15‬‬
‫ّ‬
‫الشيرازي الكبير‬ ‫الميرزا‬
‫‪199‬‬
‫ازي» يف فصل «تالمذة املريزا»‪:‬‬
‫يقول الشيخ آقا بزرك الطهرا ّين يف «هديّة الر ّ‬
‫املدريس‪ ،‬كان يهت ّم به املريزا كثريا ً‬
‫ّ‬ ‫يل‪ ،‬إبن مري س ّيد حسن أصفها ّين‬‫«‪ - 217‬مري س ّيد ع ّ‬
‫الحق الذي كان لوالده عىل املريزا»‪.‬‬
‫بسبب ّ‬
‫يقول املريزا‪ :‬طلب إ ّيل الشيخ األنصار ّي يف أواخر حياته‪ ،‬أن أج ّدد النظر يف رسائله «الرسائل»‬
‫وأنقّحها‪ ،‬مع أنّه كان قد ك ّررها ع ّدة م ّرات‪ ،‬ولكن بلحاظ احرتام األستاذ مل أوافق عىل ذلك(((‪.‬‬
‫نماثلا مسقلا‪ :‬نيحلاصلا ءاملعلا مارتحا‬

‫ّ‬
‫الحائري‬ ‫آية اهلل‬
‫مؤسس الحوزة العلم ّية يف ق ّم أ ّن والده قال‪:‬‬
‫الحائري ّ‬
‫ّ‬ ‫ح َّدث ابن آية الله العظمى‬
‫أؤسس الحوزة كلّها رهن‬ ‫«التوفيقات التي كانت من نصيبي واستطعت يف ظلّها أن ّ‬
‫الخدمات التي ق ّدمتها ألستاذي املرحوم الس ّيد مح ّمد فشاريك‪ ،‬يف الفرتة التي ابتُيل بها‬
‫سامحته مبرض شديد‪ ،‬بلغ به إىل ح ّد ّأن كنت طيلة ستّة أشهر أق ّدم له اإلناء لقضاء‬
‫الحاجة‪ ،‬وكنت أفتخر بذلك»‪.‬‬
‫غاية االحترام‬
‫كث ٌري من علامئنا الكبار عندما يذكر أحدهم اسم أستاذه يتبعه بكلمة «روحي فداه»‬
‫وذلك أسمى درجات التعظيم‪ ،‬واالحرتام‪ ،‬والذوبان يف األستاذ‪ .‬وهنا مناذج من ذلك‪:‬‬
‫آبادي‬
‫ّ‬ ‫الخميني ‪-‬وقد تق ّدمت اإلشارة إىل ذلك‪ -‬أستاذه الشاه‬‫ّ‬ ‫عندما يذكر اإلمام‬
‫يقول‪« :‬شيخنا العارف الكامل‪ ،‬روحي فداه»‪ .‬ويف تأبني ابنه‪ ،‬يقول اإلمام‪« :‬هذا الشهيد‬
‫حق الحياة‪ ،‬وال ميكنني باليد واللسان أن‬
‫يل‪ ،‬ح ّقاً‪ُّ ،‬‬
‫العزيز ابن شيخنا الجليل الذي له ع ّ‬
‫أؤ ّدي واجب شكره»‪.‬‬
‫العلمة‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ‪ ،‬يقول الشهيد مط ّهري يف كتبه‪« :‬حرضة األستاذ ّ‬
‫وعن ّ‬
‫الطباطبا ّيئ‪ ،‬روحي فداه»‪.‬‬

‫((( مريزاي شريازي‪ ،‬ص‪.16 - 15‬‬


‫للعلمة‪:‬‬
‫ويقول تلميذ آخر ّ‬
‫‪200‬‬
‫مل‬‫«هناك نسخة من املبدأ واملعاد لصدر املتألّهني بخ ّط الحكيم املحقّق اآلخوند ّ‬
‫التربيزي‬
‫ّ‬ ‫العلمة الس ّيد مح ّمد حسني الطباطبا ّيئ‬
‫الالهيجي يف مكتبة األستاذ ّ‬
‫ّ‬ ‫عبد الرزّاق‬
‫روحي فداه‪.(((»..‬‬
‫ويقول أحد الفضالء املعارصين‪:‬‬
‫العلمة الشعرا ّين‪ ،‬روحي فداه‪.(((»..‬‬
‫«أتذكّر نقطة قالها شيخي العامل األستاذ ّ‬
‫العلمة‬
‫أمضيت سنوات يف طهران استفدت فيها من محرض األستاذ الجليل املرحوم ّ‬
‫املريزا مهدي إلهي‪ ،‬روحي فداه‪.(((»..‬‬
‫اإللهي‬
‫ّ‬ ‫«مل أسمع أبدا ً يف محرض أستاذي املرحوم جناب ّ‬
‫العلمة السيّد مح ّمد حسن‬
‫التربيزي من شخص عتاباً أو ّ‬
‫أي كلمة زائدة أو ناقصة»(((‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الطباطبا ّيئ‬

‫جزاء سوء األدب‬


‫ائري ‪:M‬‬
‫يقول املح ّدث الجليل الس ّيد نعمة الله الجز ّ‬
‫«وكان يف أصفهان رجل عامل من مجتهدينا رأيناه‪ ،‬وقرأنا عليه‪ ،‬وقد كان يف أ ّول‬
‫فلم نشأ ذلك التلميذ‪ ،‬أنكر قراءته عىل ذلك الشيخ‪،‬‬ ‫تحصيله يقرأ عند مجتهد آخر‪ّ ،‬‬
‫كل ما قرأ عندي‬‫ومل يق ّر له بالفضل‪ ،‬فبلغ األستاذ قوله‪ ،‬فدعا عليه وقال‪« :‬اللّهم اسلبه ّ‬
‫وأخذه ع ّني»‪ .‬فسلبه الله الحافظة بعد ما كان مشهورا ً بالحفظ‪ ،‬فصار ال يحفظ مسألة‬
‫كل مسألة من مراجعة كتبه ومؤلّفاته‪ .‬وهو اآلن موجود‬ ‫عىل خاطره‪ ،‬بل ال ب ّد له يف ّ‬
‫يف أصفهان‪ ،‬ونحن نحمد الله عىل توفيقه لنا ل ِّرب املشائخ والقيام بوظائف خدمتهم‪،‬‬
‫واالستغفار لهم أحيا ًء وأمواتاً ورضاهم ع ّنا»(((‪.‬‬

‫((( رسائل فلسفي مال صدرا‪ ،‬ص‪ 65‬املقدمة وغريه‪.‬‬


‫((( معرفت نفيس‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.232‬‬
‫((( املصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.224‬‬
‫((( املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.242‬‬
‫((( األنوار النعامن ّية‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.92 - 91‬‬
‫التنكابني‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يقول املرحوم‬
‫‪201‬‬
‫القزويني يشكل يف مجلس‬‫ّ‬ ‫العلمة الس ّيد إبراهيم‬
‫«كان أحد تالمذة املرحوم ّ‬
‫الدرس كثريا ً ويناقش أستاذه‪ ،‬وذات يوم أخذ يناقش األستاذ ويجادله‪ ،‬وأجابه األستاذ‪،‬‬
‫تهذ»‪ .‬قال‪« :‬أسمع هذياناً»‪ .‬فسكت الس ّيد‬‫فرفض كالمه دون دليل‪ ،‬فقال األستاذ‪« :‬ال ِ‬
‫القزويني‪ .‬وبعد انتهاء الدرس رجع التلميذ إىل منزله‪ ،‬ومبج ّرد أن أراد الصعود عىل‬
‫ّ‬
‫كل‬
‫العلوي أصابه أمل يف ظهره‪ ،‬وطالت معاناته فيه‪ ،‬ومل تنفع معه ّ‬
‫ّ‬ ‫الدرج إىل الطابق‬
‫نماثلا مسقلا‪ :‬نيحلاصلا ءاملعلا مارتحا‬

‫محاوالت العالج‪ .‬وبعد وفاة األستاذ تن ّبه إىل أ ّن هذا قد يكون بسبب ما جرى بينهام‪،‬‬
‫فعي شهريّة البنه‪ ،‬ونذر الزيارة إىل كربالء وكان يق ّدم خدمات لعائلة أستاذه املرحوم‪،‬‬
‫ّ‬
‫وحج بيت الله الحرام وعىل رغم ذلك مل يشف وما يزال مبتىل بذلك املرض»(((‪.‬‬ ‫ّ‬
‫جاء يف هامش األنوار النعامن ّية‪:‬‬
‫«كان يف النجف رجل فاضل له خربة بالعبارات الغامضة واملطالب املعقّدة يف‬
‫مختلف الكتب‪ ،‬وكان يبحث عن مثل هذه املسائل ويستخرجها من الكتب‪ ،‬ويطرحها‬
‫التربيزي ‪-‬الذي كان من املراجع الكبار‬‫ّ‬ ‫عىل العامل الجليل الشيخ مح ّمد حسن املامقا ّين‬
‫والطلب‪ ،‬ومل‬
‫ّ‬ ‫وتوف سنة ‪1323‬هـ‪ -‬يطرحها عليه يف املجالس العا ّمة ومجالس العلامء‬ ‫ّ‬
‫يكن له هدف إلّ إهانة ذلك الرجل العظيم وتحقريه وإظهار عجزه أمام اآلخرين‪.‬‬
‫وعندما تن ّبه العلامء لن ّيته نهوه عن هذه العادة القبيحة ونصحه أصدقاؤه‪ ،‬ولك ّنه مل‬
‫يكن يتق ّبل النصيحة ورسعان ما مات؛ إذ ابتيل مبرض عضال وقىض يف شبابه ومل ّ‬
‫يشك‬
‫أحد أ ّن السبب يف مرضه وقرص عمره إساءته األدب مع الشيخ املامقا ّين»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫األنصاري‬ ‫جزاء إهانة الشيخ‬
‫األنصاري عائدا ً من كربالء إىل النجف ومعه جمع من العلامء‪ ،‬منهم‬
‫ّ‬ ‫كان الشيخ‬
‫ويص الشيخ‪ ،‬وأستاذ آية الله الهمدا ّين‪ .‬عندما‬
‫الشوشرتي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫يل‬
‫العارف الكبري الس ّيد ع ّ‬
‫بترصف‪.‬‬
‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪ّ 12‬‬
‫بترصف‪.‬‬
‫((( األنوار النعامن ّية‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪ّ 92‬‬
‫ركبوا السفينة‪ ،‬وقع حذاء الشيخ سهوا ً عىل بساط أحد مشايخ العرب‪ ،‬وكان يبغض‬
‫‪202‬‬
‫الشيخ ويحسده‪ ،‬فقال بوقاحة‪« :‬العجم ال أدب لهم وال معرفة خصوصاً أهل شوشرت»‬
‫الشوشرتي من الشيخ أن يجيبه عىل وقاحته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فلم يقل الشيخ شيئاً‪ ،‬وطلب الس ّيد عيل‬
‫إلّ أ ّن الشيخ بقي ساكتاً‪ .‬وعرص ذلك اليوم ابتيل الشيخ العراقي بالقولنج‪ ،‬وبعد قليل‬
‫أخرجوا جنازته من السفينة للدفن(((‪.‬‬

‫((( زندﮔـاين وشخصيت شيخ أنصاري‪ ،‬ص‪ 801‬بترصف‪.‬‬


‫‪203‬‬

‫في احترام أسماء اهلل تعالى والرسول ‪P‬‬


‫والقرآن الكريم والعترة الطاهرة ‪R‬‬
‫نماثلا مسقلا‪ :‬نيحلاصلا ءاملعلا مارتحا‬

‫إذا كان احرتام العلامء يحظى بهذا املستوى من األه ِّم ّية‪ ،‬فمن الواضح ج ّدا ً ّ‬
‫أي‬
‫اهتامم يجب أن يبلغه احرتام أسامء الله تعاىل‪ ،‬والرسول ‪ ،P‬والقرآن الكريم‪ ،‬والعرتة‬
‫الطاهرة‪ .‬ومن املناسب هنا ‪-‬استطرادا ً وألهم ّية املوضوع‪ -‬ذكر مناذج من أدب العلامء‬
‫يف هذا املجال‪:‬‬
‫كان السيّد ابن طاووس ‪ M‬إذا ذكر اسامً من أسامء الله تعاىل ذكر بعده دامئاً‬
‫الخميني { يلتزم‬
‫ّ‬ ‫«جل وعال» وأمثال ذلك‪ .‬ويالحظ أ ّن اإلمام‬
‫«جل جالله» أو ّ‬
‫ّ‬
‫بذلك‪.‬‬
‫ميس جلد كتاب يف الحديث بدون وضوء‪ ،‬فضالً عن‬ ‫وكان املح ّدث الق ّم ّي ‪ M‬ال ّ‬
‫أصل عبارات الحديث‪ .‬وكان كلّام أراد قراءة الروايات أو كتابتها يجلس بأدب ‪ -‬جلسة‬
‫التش ّهد يف الصالة‪ -‬متوضّ ئاً مستقبل القبلة ث ّم يبدأ عمله(((‪.‬‬
‫األجلء‪ ،‬ال يتلفّظ بأسامء املعصومني الرشيفة‪ ،‬إذا مل يكن متوضّ ئاً‪ ،‬ويف‬
‫كان بعض ّ‬
‫الرواية أ ّن اإلمام الصادق‪ Q‬كان إذا ذكر اسم رسول الله ‪ P‬ينحني بحيث يصبح‬
‫وجهه املبارك قريباً من ركبتيه»(((‪.‬‬

‫((( حاج شيخ عباس قمي‪ ،‬مرد تقوا وفضيلت‪ ،‬ص‪.56‬‬


‫((( ﮔـاهان كبرية‪ ،‬ص‪.126‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مع المحدث القم ّي‬
‫‪204‬‬
‫يف أحوال اإلمام الصادق ‪ Q‬كتب املح ّدث الق ّم ّي ‪« :M-‬وكان ‪ Q‬كثري‬
‫الحديث حسن املجلس وكثري الفوائد‪ ،‬وكلّام أراد أن يقول قال رسول الله ‪ّ P‬‬
‫تغي‬
‫رض تارة ويصف ّر أخرى‪ ،‬بحيث إنّه ال يعرفه من كان يعرفه»‪.‬‬
‫لونه‪ ،‬يخ ّ‬
‫«يقول املؤلّف‪ :‬تأ ّمل ج ّيدا ً حال اإلمام الصادق ‪ Q‬يف تعظيم رسول الله وتوقريه‪،‬‬
‫يتغي لونه عند نقل حديثه وذكر اسمه ‪ P‬مع أنّه كان ابن ّ‬
‫النبي وبضعته‪.‬‬ ‫وكيف ّ‬
‫وصل عليه بعد‬‫وتعلّم منه ذلك‪ ،‬واذكر اسم الرسول ‪ P‬بنهاية التعظيم واالحرتام‪ِّ ،‬‬
‫ذكر اسمه‪ .‬وإذا كتبت اسمه الرشيف‪ ،‬فاكتب الصلوات بعد اسمه بدون رمز وإشارة‬
‫تكتف ‪-‬كبعض املحرومني من السعادة‪ -‬برمز (ص) أو (صلعم) ونحو ذلك‪ ،‬بل‬ ‫ِ‬ ‫وال‬
‫تتلفّظ باسمه املبارك وال تكتبه بدون وضوء‪ ،‬ومع ذلك كلّه اعتذر منه ‪ P‬إذ إنّك‬
‫قصت يف واجبك تجاهه وقل بلسان العجز‪« :‬أغسل فمي باملسك وماء الورد ألف م ّرة‬ ‫َّ‬
‫ومع ذلك فإ ّن التلفّظ باسمك منتهى إساءة األدب»(((‪.‬‬
‫مع الشهيد الثاني‬
‫يقول الشهيد الثاين يف كتابه القيّم «منية املريد»‪ ...« :‬ويراعي األدب يف وضع الكتب‬
‫الكل‪ ،‬ث ّم يراعي التدريج‪،‬‬
‫باعتبار علومها‪ ،‬ورشفها‪ ،‬ورشف مص ِّنفها‪ ،‬فيطبع األرشف أعىل ّ‬
‫الكل‪ ،‬واألوىل أن يكون يف خريطة ذات عروة‬ ‫فإن كان فيها املصحف الكريم جعله أعىل ّ‬
‫يف مسامر‪ ،‬أو وتد‪ ،‬يف حائط طاهر نظيف يف صدر املجلس‪ ،‬ث ّم تفسري الحديث‪ ،‬ث ّم‬
‫أصول الدين‪ ،‬ث ّم أصول الفقه‪ ،‬ث ّم الفقه‪ ،‬ث ّم العربيّة‪ ...‬وإذا نسخ شيئاً من كتب العلم‬
‫الرشعيّة‪ ،‬فينبغي أن يكون عىل طهارة‪ ،‬مستقبالً‪ ،‬طاهر البدن والثياب‪ ،‬والحرب‪ ،‬والورق‪،‬‬
‫ويبدأ الكتابة بكتابة «بسم الله الرحمن الرحيم‪ ،‬والحمد لله والصالة عىل رسوله وآله»‬
‫وإن مل يكن املص ّنف قد كتبها‪ ،‬لكن إن مل يكن من كالم املص ّنف أشعر بذلك‪ ،‬بأن‬
‫يقول بعد ذلك‪« :‬قال املص ّنف أو الشيخ» ونحو ذلك‪ .‬وكذلك يختم الكتاب بالحمدلة‪،‬‬
‫((( منتهى اآلمال‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪ ،7‬الباب الثامن والشطر األخري ترجمة بيت شعر فاريس‪.‬‬
‫والصالة والسالم‪ ،‬بعد ما يكتب آخر الجزء الفال ّين ويتلوه كذا وكذا إن مل يكن أكمل‬
‫‪205‬‬
‫الكتاب‪ ،‬ويكتب إذا أكمل «ت ّم الكتاب الفال ّين» أو «الجزء الفال ّين» وبتاممه ت ّم الكتاب‪،‬‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬ففيه فوائد كثرية‪.‬‬
‫وجل‪ ،‬أو‬
‫وكلَّام كتب اسم الله تعاىل أتْبعه بالتعظيم‪ ،‬مثل‪ :‬تعاىل‪ ،‬أو سبحانه‪ ،‬أو ع َّز َّ‬
‫النبي ‪ ،P‬كتب بعد‪« ،‬الصالة‬ ‫تق ّدس‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬ويتلفّظ بذلك أيضاً‪ ،‬وكلَّام كتب اسم ّ‬
‫ويصل ويسلّم هو بلسانه أيضاً‪.‬‬
‫عليه وعىل آله والسالم» ّ‬
‫نماثلا مسقلا‪ :‬نيحلاصلا ءاملعلا مارتحا‬

‫وال يخترص الصالة يف الكتاب‪ ،‬وال يسأم من تكريرها‪ ،‬ولو وقعت يف السطر مرارا ً‪ ،‬كام‬
‫يفعل بعض املح ّررين املختلفني‪ ،‬من كتابة «صلعم» أو «صلم» أو «صم» أو «صلسم»‬
‫أو «صله»؛ فإ ّن ذلك كلّه خالف األوىل والنصوص‪ ،‬بل قال بعض العلامء «إ ّن من كتب‬
‫«صلعم» قطعت يده»‪.‬‬
‫وأقل ما يف اإلخالل بإكاملها‪ ،‬تفويت الثواب العظيم عليها‪ ،‬فقد ورد عنه ‪ ،P‬أنّه‬
‫ّ‬
‫يل يف كتاب‪ ،‬مل تزل املالئكة تستغفر له‪ ،‬ما دام اسمي يف ذلك‬ ‫صل ع ّ‬ ‫قال‪« :‬من ّ‬
‫الكتاب»‪.‬‬
‫وإذا م ّر بذكر أحد من الصحابة‪ ،‬سيّام األكابر كتب «ريض الله عنه» أو «رضوان‬
‫الله عليه»‪ ،‬أو بذكر أحد من السلف األعالم كتب «‪ »M‬أو «تغ ّمده الله برحمته»‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬وقد جرت العادة باختصاص الصالة والسالم باألنبياء‪ .‬وينبغي أن يجعل‬
‫كل مؤمن‪ ،‬كام َّ‬
‫دل‬ ‫لألمئّة ‪ ،R‬السالم‪ ،‬وإن جاز خالف ذلك‪ ،‬بل يجوز الصالة عىل ّ‬
‫عليه القرآن والحديث‪ .‬وكتابة ما ذكر من الثناء ونحوه‪ ،‬هو دعاء يُ ْن ِشئُ ُه ال كال ٌم يرويه‪،‬‬
‫فال يتقيّد فيه بالرواية‪ ،‬وال بإثبات املص ّنف‪ ،‬بل يكتبه وإن سقط من األصل املنقول أو‬
‫املسموع منه‪ .‬وإذا وجد شيئاً يف ذلك‪ ،‬قد جاءت به الرواية أو مذكورا ً يف التصنيف‪،‬‬
‫كانت العناية بإثباته وضبطه أكرث(((‪.‬‬

‫((( منية املريد‪ ،‬ص‪.178 - 176‬‬


‫ّ‬
‫العلمة بحر العلوم ‪M‬‬
‫‪206‬‬
‫العلمة بحر العلوم ‪ M‬يف‬
‫يف سياق تعداد لوازم السلوك إىل الله تعاىل يقول ّ‬
‫رسالة السري والسلوك املنسوبة إليه‪:‬‬
‫«الحادي عرش‪ :‬حفظ األدب بالنسبة إىل الله تعاىل والرسول وخلفائه اإلثني عرش‬
‫(صل الله عليه وعليهم)‪ .‬وهذه املرحلة مغايرة لإلرادة ‪ -‬وإن كانتا تجتمعان يف بعض‬ ‫ّ‬
‫شخص بني يدي اإلمام ‪ Q‬بكالم‬ ‫املوارد‪ ،‬وهذا الرشط من الرشائط املعظمة؛ تكلّم ٌ‬
‫فيه شائبة ثبوت قدرة لإلمام‪ ،‬فسقط اإلمام عىل األرض ومرغ جبينه املق ّدس بالرتاب‪.‬‬
‫وآخر ح ّرك لسانه بكالم اعرتاض‪ ،‬فمأل فمه رمادا ً‪ .‬وطائفة من أرباب القلوب مل يقرؤا‬
‫القرآن جلوساً‪ ،‬بل كان أحدهم ميسك القرآن بيديه مواجهاً القبلة واقفاً مبنتهى العجز‬
‫واملسكنة ويتلو القرآن‪ .‬ويف محرض القرآن أ ّما أنّهم مل يجلسوا أو راعوا غاية األدب‪ ،‬كام‬
‫يف حضور السالطني‪ .‬والبعض كانوا يقفون تعظيامً ألسامء الله واألسامء الرشيفة واألمئّة‬
‫‪ .R‬وبعض عاشوا حياتهم يف الجلوس والذهاب واألكل وسائر الحاالت وكأنّهم‬
‫يرون الله حارضا ً هناك وراعوا األدب‪ .‬ورعاية األدب حني عرض الحاجات واالحرتاز من‬
‫ألفاظ األمر والنهي من جملة اللوازم»(((‪.‬‬

‫((( رسالة سري وسلوك منسوب به بحر العلوم‪ ،‬ص‪.146‬‬


‫القسم التاسع‬

‫التواضع‬

‫ُ َ ََ َۡ‬
‫َ ٗ‬ ‫ٱلرِنَٰمۡح َّٱل َ‬
‫ِين َي ۡمشون ع ٱل ِ‬
‫ۡرض ه ۡونا﴾‬
‫َ َ ُ‬
‫اد َّ‬ ‫﴿وعِب‬

‫(سورة الفرقان‪ ،‬اآلية ‪)63‬‬


‫‪209‬‬

‫ۡ‬
‫اح َك ل َِم ِن َّٱت َب َع َك م َِن ٱل ُم ۡؤ ِمن َِني﴾(((‪.‬‬
‫ٱخف ۡض َج َن َ‬
‫َ ۡ‬
‫﴿و ِ‬

‫لكل من‬ ‫شك يف أ ّن أحد أه ّم الصفات وأسامها‪ ،‬هو التواضع‪ .‬التواضع جميل ّ‬ ‫ال ّ‬
‫عساتلا مسقلا‪ :‬عضاوتلا‬

‫لكل من اتصف به‪ّ ،‬إل أنّه‬ ‫والتكب بالعكس‪ ،‬إنّه قبيح ّ‬


‫ّ‬ ‫تحل به‪ ،‬ولك ّنه للروحا ّين أجمل‪،‬‬
‫ّ‬
‫من طالب العلم أش ّد قبحاً‪ .‬الرتاب ّية والتواضع سبب عل ّو اإلنسان وسم ّوه‪ ،‬وإرادة العل ّو‬
‫سبب يف سقوطه إىل حضيض الجهالة والشقاء‪ ،‬ومبعث االبتالء بالتعاسة‪ .‬وكثرية هي‬
‫التكب واألنان ّية‪ ،‬منها‪ :‬الجاه واملقام‪،‬‬
‫األمور التي تؤ ّدي إىل االتّصاف بهذا ال ُخلُق القبيح‪ّ :‬‬
‫واملال‪ ،‬والتملّك‪ ،‬والعلم‪ ،‬واملعرفة‪.‬‬
‫بعض األفراد املحدودين مبج ّرد أن يتعلّموا بضعة اصطالحات رصف ّية ونحويّة‬
‫وشبهها‪ ،‬يصابون بالغرور إىل ح ّد أنّهم يعتربون أنفسهم ‪-‬نعوذ بالله‪ -‬يف مرتبة النب ّوة‪،‬‬
‫الطبيعي أ ّن مثل هؤالء األشخاص إذا وفّقوا لرتبية‬ ‫ّ‬ ‫األقل أعلم العلامء‪ .‬ومن‬
‫أو عىل ّ‬
‫ۡ ۡ َّ‬ ‫ُ‬
‫﴿و َما ٓ أوت ُ‬
‫ِيتم ّم َِن ٱل ِعل ِم إِل‬ ‫صحيحة فسينزلون تدريجيا ً عن برجهم العايل ويدركون أنّه َ‬
‫ّ‬
‫َ ٗ‬
‫وفريق آخر اتّخذوا العلم سلّامً ووسيلة‪ ،‬ويتوقّعون أن ينحني الناس احرتاماً‬ ‫ٌ‬ ‫قل ِيل﴾‪،‬‬
‫بكل أعاملهم ويؤ ِّمنوا لهم مستلزمات معيشتهم‪.‬‬ ‫لهم‪ ،‬وينتظروا أوامرهم ويقوموا عنهم ّ‬
‫القصاب املجال‬ ‫مثالً‪ ،‬يتوقّعون أن تنجز الدوائر معامالتهم بشكلٍ استثنا ّيئ‪ ،‬ويفسح لهم ّ‬
‫قبل غريهم‪ ،‬ويق ّدم الخ ّباز لهم الخبز قبل سائر الناس‪ ،‬ويحطّمون شخص ّياتهم مبثل‬
‫هذه ال ّرتهات‪ .‬ولألسف فإ ّن الذين يحملون هذا النوع من التفكري ليسوا قلّة‪ ،‬ويجب‬
‫ّ‬
‫أن يكونوا بصدد إصالح أنفسهم‪ .‬والبعض أيضا ً يفتخرون بعلمهم ويقرعون طبل ﴿ل َِم ِن‬
‫ۡ ۡ‬
‫ٱل ُمل ُك﴾ ويعتربون أنفسهم لذلك مق ّدمني عىل اآلخرين وأفضل منهم‪ .‬ولكن كام ورد يف‬

‫((( سورة الشعراء‪ ،‬اآلية ‪.215‬‬


‫الحديث‪« :‬من قال أنا أعلم فهو جاهل»((( هؤالء أناس جهلة مبتلون بضعف الشخص ّية‬
‫‪210‬‬
‫وعقدة النقص تجاه الناس‪ ،‬إنهم يريدون بهذا اال ّدعاء الفارغ‪ ،‬وبهذه املحاوالت الحصول‬
‫التكب‪ ،‬إذا صدر ع َّمن يباحثهم أو يناظرهم كالم‬
‫عىل شخص ّية كاذبة‪ .‬وطائفة من فرط ّ‬
‫صحيح‪ ،‬فإنّهم يكابرون‪ ،‬وإذا ُس ِئلوا سؤاالً ال يعرفون جوابه‪ ،‬فهم ال ميتلكون شهامة‬
‫باللف والدوران؛ ليغطّوا بذلك جهلهم خوف‬ ‫قول «ال أدري» ويحاولون إسكات السائل ّ‬
‫السقوط من أعني الناس‪.‬‬
‫ويف هذا الفصل‪ ،‬نذكُر ‪-‬بحول الله تعاىل‪ِ -‬ق َص ًصا هي نقيض النامذج املتق ّدمة‪ ،‬ودواء‬
‫مفيد لتلك األمراض القاتلة‪.‬‬
‫يقول أمري املؤمنني‪« :Q‬فلو أرخص الله يف الكرب ألحد من عباده لرخّص فيه‬
‫لخاصة أنبيائه وأوليائه‪ ،‬ولك ّنه سبحانه ك ّره إليهم التكابر‪ ،‬وريض لهم التواضع‪،‬‬
‫ّ‬
‫فألصقوا باألرض خدودهم‪ ،‬وعفّروا يف الرتاب وجوههم وخفضوا أجنحتهم‬
‫للمؤمنني»(((‪.‬‬
‫ومن الواضح أ ّن للتواضع حدودا ً وموارد ال ينبغي تجاوزها؛ ليلقي اإلنسان نفسه يف‬
‫الذل بيده‪ .‬وقد تكفّلت كتب األخالق ببحث ذلك‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫اإلمام الخميني {‬

‫كل هذا‬
‫الواقعي للكلمة‪ ،‬ورغم ّ‬‫ّ‬ ‫الخميني { متواضعاً باملعنى‬
‫ّ‬ ‫كان اإلمام‬
‫حي العامل مل يكن يرى نفسه ّإل طالب علم‪.‬‬ ‫السم ّو والعظمة والعلم واملعرفة الذي ّ‬
‫كل هذه الخدمات لإلسالم‪ ،‬فإنّه مل يكن يرى لنفسه حرماً وال حم‪ ،‬ويخاطب‬ ‫ورغم ّ‬
‫الشباب املجاهدين يف الجبهات‪« :‬أقبّل أيديكم وسواعدكم أل ّن يد الله معها‪ ،‬وأفتخر‬
‫بذلك»‪.‬‬

‫((( بحار األنوار‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.110‬‬


‫((( نهج البالغة‪ ،‬تحقيق صبحي الصالح‪ ،‬ص‪ ،290‬الخطبة القاصعة‪ ،‬رقم‪.192‬‬
‫كتب اإلمام عام ‪1385‬هـ‪.‬ق يف برق ّية من النجف أرسلها إىل أحد العلامء يف إيران‪:‬‬
‫‪211‬‬
‫رش ُف الحقري بالعتبات املق ّدسة فوز عظيم‪ ،‬إن من حيث زيارة العتبات املق ّدسة‬ ‫«ت ُّ‬
‫رشف مبحرض حرضات املراجع العظام‪ ،‬والعلامء األعالم‪،‬‬‫لألمئّة ‪ ،R‬وإن من حيث الت ّ‬
‫واألفاضل الكرام‪ ،‬يف الحوزة العلم ّية يف النجف األرشف‪ ،‬وكربالء املباركة‪ ،‬وسائر العتبات‬
‫املق ّدسة»‪.‬‬
‫اإلسالمي‪:‬‬ ‫ويقول سامحته مخاطباً ن ّواب مجلس الشورى‬
‫عساتلا مسقلا‪ :‬عضاوتلا‬

‫ّ‬
‫«فكّروا جميعاً بالناس دامئاً‪ ،‬هؤالء هم عباد الله‪ ،‬هؤالء هم الذين يقتلون اآلن عىل‬
‫رشدوا‪ ،‬وهم يعيشون يف‬ ‫الحدود‪ ،‬هم الذين يواجهون صعوبات الحرب‪ ،‬وهم الذين ت ّ‬
‫هذه األماكن وهذه الخيم دون أبسط املق ّومات‪ .‬هؤالء هم عباد الله وهم أفضل م ّني‪،‬‬
‫ويحتمل أن يكونوا أفضل منكم‪ ،‬فلامذا ال نفكّر بهم دامئاً؟»‪.‬‬
‫يقول أحد املق ّربني من اإلمام‪:‬‬
‫يستقل الطائرة من بغداد إىل باريس قال‪« :‬سأبقى أنتقل من‬‫ّ‬ ‫عندما أراد اإلمام أن‬
‫بلد آخر فال تستوحشوا‪ ،‬وتابعوا أعاملكم بدقّة‪ .‬أنا خجل واقعاً من‬‫حدود إىل حدود ٍ‬
‫الشعب اإليرا ّين لعشقه الشهادة إىل هذا الح ّد ومواصلة الثورة بهذه العزمية»‪ .‬يف حني‬
‫كانت السبل مسدودة يف وجهه‪ ،‬كان يقول‪« :‬أنا خجل من الشعب اإليرا ّين ويجب أن‬
‫أعمل بتكليفي»((( وإىل األمس القريب كان اإلمام { يجري يوم ّياً العديد من عقود‬
‫بكل لطف ومح ّبة ويز ّودهم بنصائحه(((‪.‬‬
‫الزواج‪ ،‬وكان اإلمام { يعاملهم ّ‬
‫وإليك تعريب رسالة ابن أحد الشهداء إىل اإلمام { بالنيابة عن جمع من أبناء‬
‫الشهداء واألرسى واملفقودين‪:‬‬

‫((( فزارهايئ أز أبعاد إمام‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.79‬‬


‫((( املصدر السابق‪ ،‬ص‪.45‬‬
212
‫‪213‬‬
‫قائدنا العزيز واملع ّظم‪...‬‬
‫السالم عليكم‬
‫إن شاء اهلل‪ ،‬تكونون بخري‪.‬‬
‫إذا كنتم بخري‪ ،‬وكنتم مرسورين فسنكون نحن أيض ًا مرسورين‪.‬‬
‫ومؤسسة الشهيد تقيم لنا ‪-‬أبناء الشهداء واألرسى واملفقودين‪ -‬خم ّي ًام مركزي ًّا‪ .‬ويف‬
‫عساتلا مسقلا‪ :‬عضاوتلا‬

‫ّ‬ ‫منذ سنني‬


‫للمرة الثالثة إىل هذا املخ ّيم‪ ،‬ونريد منكم‬ ‫ّ‬
‫كل سنة نتمنّى زيارتكم ولكنّا مل نستطع‪ .‬هذه السنة جئنا ّ‬
‫وتزودونا ببعض النصائح حول ما ينبغي أن نفعل بعد آبائنا‪،‬‬
‫توجهوا لنا ندا ًء ّ‬
‫وأنتم مكان آبائنا أن ّ‬
‫وماذا نفعل يف صفوف املجتمع‪.‬‬
‫حفظكم اهلل‪ ...‬إن شاء اهلل نستطيع أن نزوركم‪.‬‬
‫اخلميني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املهدي احفظ لنا‬
‫ّ‬ ‫إهلي إهلي حتّى ظهور‬
‫ابن أحد الشهداء يتمنّى هذه األمن ّية بالنيابة عن مجيع املشرتكني يف املخ ّيم‪.‬‬

‫وقد أجابه اإلمام عن رسالته وإليك تعريب الجواب‪:‬‬


‫باسمه تعاىل‬
‫ولدي العزيز جدّ ًا‪...‬‬
‫رستني رسالتك املح ّببة التي هي منك وبالنيابة عن سائر أوالد الشهداء واملفقودين واألرسى‬ ‫ّ‬
‫املضحني يف سبيل اهلل‪ ،‬ورفعة اإلسالم‬
‫ِّ‬ ‫ذكرى‬ ‫أنتم‬ ‫الذين‬ ‫الصغار‬ ‫اء‬ ‫األعز‬
‫ّ‬ ‫ا‬ ‫أي‬
‫ّ‬ ‫منكم‬ ‫آمل‬ ‫اء‪.‬‬ ‫األعز‬
‫ّ‬
‫العزيز‪ ،‬أن تبنوا أنفسكم كآبائكم للدفاع عن اإلسالم العظيم‪ ،‬والوطن العزيز‪ ،‬وأن تصبحوا بتع ّلم‬
‫اإلنساين‪ ،‬واألخالق اإلسالم ّية‪ ،‬األوالد األكفاء‬
‫ّ‬ ‫العلم‪ ،‬واألدب‪ ،‬والسعي للحصول عىل الكامل‬
‫لوطنكم‪.‬‬
‫والنبي العظيم الشأن‪ ،‬وإن شاء اهلل تعاىل تو ّفقون يف‬
‫ّ‬ ‫أعزا َءكم‪ -‬أوالد اإلسالم‬
‫أنتم ‪-‬بفقدكم َّ‬
‫رب العاملني‪ .‬وعاملوا أقاربكم خصوص ًا أ ّمهاتكم الصابرات معامل ًة حسنة‪ .‬أسأل اهلل املنّان‬
‫محى ّ‬
‫السالمة لكم والرمحة للشهداء والسالمة واحلر ّية ألرساكم ومفقوديكم والسالم عليكم‪.‬‬

‫الخميني‬
‫ّ‬ ‫املوسوي‬
‫ّ‬ ‫ش ّوال ‪ 1405‬روح الله‬
‫نعم كام يقول بعضهم‪:‬‬
‫‪214‬‬
‫«القائد الذي أجرب ممثّل كارتر وهو يف ال ّجو‪ ،‬أن يرجع من حيث أىت‪ ،‬والذي تح ّدى‬
‫يستخف بجميع القوى املاديّة لطواغيت‬ ‫ّ‬ ‫كارتر فكشف عن مضمون رسالته‪ ،‬والذي‬
‫جندي من حرس الثورة اإلسالم ّية‪،‬‬‫ّ‬ ‫العامل‪ ،‬يتواضع يف مقابل طفل أو عجوز أو مجروح أو‬
‫إىل ح ّد أن يقول‪ :‬أنا «طلبه» ‪-‬أي طالب علم‪ -‬ال أكرث‪ ،‬أنا خادم للناس‪ ،‬ال تقولوا يل قائدا ً‪،‬‬
‫يا ليتني كنت حارساً من ح ّراس الثورة اإلسالم ّية‪ ،‬و«قائدنا الطفل ابن الـ‪ 12‬عاماً الذي‬
‫ف ّجر نفسه بدبّابة عراق ّية وأمثال ذلك»‪.‬‬
‫ّ‬
‫الخراساني قائد ثورة المشروطة‬ ‫اآلخوند‬
‫جاء يف سرية هذا العامل الكبري واملجاهد املقدام‪ :‬هذا الوجود املبارك الذي كان يف‬
‫الواقع قائد الدين والدنيا ملاليني املسلمني‪ ،‬كان متواضعاً ج ّدا ً خصوصاً مع أهل العلم‪،‬‬
‫يجل أهل العلم‬
‫الطلب بالسالم ويقف لهم يف املجالس احرتاماً‪ .‬كان ّ‬ ‫كان يبادر أصغر ّ‬
‫كثريا ً(((‪.‬‬
‫والكل نيام‪ ،‬كان طالب يقرع بعنف باب الشيخ الخراسا ّين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يف ليل ٍة من الليايل‬
‫زوجة هذا الطالب تكاد تضع حملها‪ ،‬وأل ّن هذا الطالب يف النجف غريب وفقري وال‬
‫يعرف منزل القابلة؛ لهذا ّميم شطر منزل الشيخ‪ .‬ورسعان ما جاء شخص وفتح الباب‬
‫دون أن يسأل قبل ذلك من الطارق‪ ،‬رأى الطالب الشيخ وعىل رأسه شال أبيض وقد‬
‫وضع قلامً فوق أذنه اليمنى‪ ،‬ومن ش ّدة التع ُّجب والخجل نيس الطالب السالم‪ .‬قال‬
‫الشاب عن‬
‫ّ‬ ‫وعب الطالب‬
‫الشيخ‪ :‬سالم عليكم‪ ،‬ماذا تأمر؟ وماذا ميكنني أن أساعدك؟ ّ‬
‫أسفه الزعاج الشيخ وذكر له حاجته‪ ،‬متم ّنياً عليه أن يرسل معه الخادم لريشده إىل‬
‫«كل‪ ،‬الخادم ال يستطيع املجيء‪ ،‬إنّه اآلن نائم‪ .‬أنا شخص ّياً‬
‫منزل القابلة‪ .‬فقال له‪ّ :‬‬
‫رص الطالب عىل مجيء الخادم ليذهب معه‪ ،‬فقال الشيخ‪« :‬وقت عمل‬ ‫آيت معك»‪ .‬وأ ّ‬
‫الخادم انتهى؛ إنّه يعمل حتّى ساعة مع ّينة من الليل‪ ،‬واآلن وقت اسرتاحته ونومه‪،‬‬
‫((( مرﮔـي درنور‪ ،‬ص‪.401‬‬
‫اصرب قليالً وأنا آيت»‪ .‬وبعد لحظات جاء الشيخ وقد لبس عباءته وحمل بيده فانوساً‪،‬‬
‫‪215‬‬
‫وخرج من املنزل ومىش مع الطالب مساف ًة طويلة منتقالً من زقاق إىل زقاق حتّى‬
‫وصل إىل منزل القابلة‪ .‬جاءت القابلة ث ّم مىش الشيخ معهام إىل منزل ذلك الطالب‬
‫والفانوس بيده‪ .‬بعد ذلك عاد إىل بيته‪ .‬وأوصل إىل ذلك الطالب كم ّية من األر ّز‬
‫والسكر والقامش‪.‬‬
‫يقول هذا الطالب‪« :‬بعد تلك الليلة كلّام رأيت الشيخ كنت اطأطئ رأيس خجالً ّإل‬
‫عساتلا مسقلا‪ :‬عضاوتلا‬

‫أنّه كان يغمرين بلطفه باستمرار وكأنّه مل يُسد يل أيّة خدمة»(((‪.‬‬


‫وعندما ق ُِط َع ماء النجف‪ ،‬ومل ميكن ترميم القناة املوجودة‪ ،‬اكت َّظ الناس العطىش‬
‫فتدافعوا نحو بيت الشيخ‪ ،‬ح ّجة اإلسالم وملجأ األنام‪ .‬ويف يومني وليلتني أعطى الشيخ‬
‫وكل من مل يكن يحصل عىل نصيبه من املاء كان يأخذ بدل‬ ‫حوايل ثالثني لرية للناس‪ّ .‬‬
‫كوز املاء لرية‪ ،‬هي مثن حمل ماء حتّى ال يتع ّرض للخطر من ش ّدة الزحام‪ .‬وغالباً كان‬
‫يعطي النسا َء والعجزة واملرىض مثن املاء قراناً واثنني وثالثة ليشرتوا ماء الكوفة من‬
‫السقّائني‪.‬‬
‫ويف اليوم الثالث اشرتى مائتي ِح ْمل ماء من السقّائني ووزّعه يف املنزل عىل الفقراء‬
‫وال ُع َّجز‪ .‬وكان مثال الفت ّوة‪ ،‬فقد ش ّمر عن ساعده وبدأ بنفسه النفيسة يعطي املاء أو‬
‫جسدي كثري يف ذلك الزحام؛ حيث إ ّن اإلقبال‬
‫ّ‬ ‫املال بعطف وحنان‪ .‬وكان يتع ّرض ألذًى‬
‫كل ذلك األذى كان يوزّع عىل الناس ببشاشة‪.‬‬ ‫عىل املاء كبري ج ّدا ً‪ .‬ومع ّ‬
‫ومن يشاهد هذه الحاالت من شخص‪ ،‬فمن املفروض‪ ،‬بحسب القاعدة أن يحبّه‪،‬‬
‫لك ّن غالب هؤالء الناس ‪-‬خصوصاً العجائز الذين كان هو شخصيّاً يهت ّم بأمرهم ‪-‬كانوا‬
‫خاصة‪-‬أ ّن‬
‫من الطاعنني فيه بتلقني من بعض املتنفّذين‪ ،‬بل كانوا يعتقدون ‪-‬وبتعليامت ّ‬
‫إدارة السبحة لع ّدة م ّرات بلعن حرضة آية الله موجبة للفوز والصالح‪ ،‬وكانت فاكهة‬

‫((( مرﮔـي درنور‪ ،‬ص‪.380 - 379‬‬


‫مؤسسة املرشوطة‪ ،‬واملجالس النياب ّية(((‪.‬‬
‫سب ّ‬‫مجلسهم ّ‬ ‫‪216‬‬
‫متحيا ً مبهوتاً ث ّم قال متع ِّجباً‪:‬‬
‫يصل‪ ،‬بقي فرتة ّ‬
‫بدوي إىل النجف ورأى الشيخ ّ‬
‫جاء ٌّ‬
‫يصل؟»‪.‬‬
‫«شلون؟ هذا الشيخ ّ‬
‫يصل؟ والحال أنّه هو الذي أقام الصالة يف هذا العرص»‪ .‬وبعد‬ ‫قيل له‪« :‬كيف ال ّ‬
‫أن تأ ّمل قليالً يف ذلك الغريق يف بحر اإلخالص‪ ،‬قال باكياً‪« :‬والله‪ ،‬كثريون قالوا لنا‪ :‬هذا‬
‫يصل»‪ .‬قيل له‪« :‬ليست هذه أ ّول قارورة كرست يف اإلسالم‪ ،‬إ ّن‬ ‫الشيخ ال يصوم وال ّ‬
‫رئيس املسلمني ويعسوب الدين أمري املؤمنني ‪ Q‬قالوا فيه مثل ذلك»‪.‬‬
‫وتتّضح لنا أهم ّية قصص اآلخوند الشيخ الخراسا ّين ‪ M‬عندما نعلم أنّه مؤلّف‬
‫أفضل وأشمل كتاب يف األصول طيلة تاريخ اإلسالم «كفاية األصول» وأنّه الشخص ّية التي‬
‫كان يحرض درسه ألف طالب‪ ،‬فيهم الكثري من املجتهدين(((‪ .‬رصّح بهذا الشيخ آقا بزرﮒ‬
‫الطهرا ّين وأضاف‪ :‬طيلة تاريخ اإلسالم مل يظهر مد ّرس مثله‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشيخ األنصاري ‪M‬‬

‫الطلب شخص ّياً‬


‫األنصاري عايل اله ّمة جميل األخالق‪ ،‬وكان يتابع أمور ّ‬
‫ّ‬ ‫كان الشيخ‬
‫ويرشف عىل تربيتهم كاألب العطوف‪ ،‬لح ّظ ّ‬
‫طلبه أنّه منذ أيّام ال يحرض إىل الدرس يف‬
‫يحب دراسة العلوم‬
‫املوعد املح ّدد‪ ،‬فسألوه عن السبب‪ .‬قال‪« :‬أحد السادة الهاشم ّيني ّ‬

‫اساين ‪ ،M‬يراد باأل ّول أن يكون الحكم للملك‬ ‫((( االستبداد واملرشوطة‪ ،‬مصطلحان سادا يف زمن الشيخ الخر ّ‬
‫بدون رشوط وال رقابة‪ ...‬ويراد بالثاين «املرشوطة» أ ّن هناك رشوطاً ال ب ّد أن يلتزم بها امللك‪ ،‬يف طليعتها وجود‬
‫مجلس ميثّل الناس‪ ،‬وقد بدأت بوادر نهضة املرشوطة‪ ،‬سنة ‪ 1323‬يف زمن مظفّر الدين شاه الذي اضطر أمام‬
‫الحق يف تعيني‬
‫إرصار الجامهري عىل توقيع «فرمان» املرشوطة‪ ،‬ورغم ذلك ثارت ثائرة الناس ألنّه ذكر من لهم ّ‬
‫املمثّلني فع ّدد األمراء والعلامء واملالكني الخ ومل يذكر «أفراد الشعب» مام اضطر امللك إىل تذييل فرمانه‬
‫وإضافة «أفراد الشعب» وإثر ذلك مات‪ ،‬فخلفه مح ّمد عليشاه مع تشكيل أ ّول مجلس شورى ‪-‬برملان‪ -‬فعمل‬
‫عىل إلغائه‪ ،‬فأفتى الشيخ الخراسا ّين‪ M‬بخلعه ويف سياق جهوده هذه‪ ...‬حدث ما يذكره املؤلّف نتيجة‬
‫انقسام شامل آنذاك حول االستبداد واملرشوطة ‪-‬عن دائرة املعارف رشق‪ -‬مجموعة اطالعات عمومي ‪ -‬فاريس‪،‬‬
‫ص‪( 69 - 468-398‬املع ِّرب)‪.‬‬
‫((( مرﮔـي در نور‪ ،‬ص‪.398 - 397‬‬
‫الدين ّية وفاتح بذلك ع ّدة أشخاص ليد ّرسوه املق ّدمات‪ّ ،‬إل أ ّن أحدا ً منهم مل يوافق‪،‬‬
‫‪217‬‬
‫أجل من أن يتص ّدوا لهذا الدرس وقد تولّيت تدريسه(((‪.‬‬ ‫واعتربوا أ ّن شأنهم ّ‬
‫ّ‬
‫محيي علم األصول الوحيد البهبهاني ‪M‬‬

‫األخباري وإىل األبد‪:‬‬


‫ّ‬ ‫جاء يف سرية هذا العامل الكبري الذي قىض عىل املنهج‬
‫«مل يرتك الوحيد البهبها ّين التدريس‪ ،‬حتّى يف أواخر عمره‪ ،‬وليك ال يحرم من نعمته‬
‫عساتلا مسقلا‪ :‬عضاوتلا‬

‫طلب‬‫فقد اكتفى بتدريس رشح اللمعة للت ّربك ولرتغيب العلامء والفضالء وتشجيع ّ‬
‫العلم»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الطالقاني‬ ‫الشيخ مرتضى‬
‫يقول أحد الفضالء واملحقّقني املعارصين يف مقابلة معه‪:‬‬
‫ومحصلني‬
‫ّ‬ ‫الطلب كانوا ج ّيدين‬‫كانت فرتة دراستنا يف النجف ش ّيقة ج ّدا ً باعتبار أ ّن ّ‬
‫واقعاً‪ .‬واألساتذة كانوا أتقياء ج ّدا ً وقد بلغوا ح ّد النصاب (الكامل) يف العلم والعمل‪.‬‬
‫رضوري واقعاً للروحان ّيني‪ .‬يجب أ ّوالً أن يَ ْص ُف َو اإلنسان من الناحية‬
‫ّ‬ ‫درس األخالق‬
‫األخالق ّية وبعدها يطوي املراحل العلم ّية‪ .‬تذكّرت نقطة مه ّمة حول أستاذنا املحبوب‬
‫الشيخ مرتىض الطالقا ّين‪ ،‬وهي أنّه كان يد ّرس الخارج وكان يد ّرس األسفار ويد ّرس‬
‫املنظومة‪ ،‬والكفاية‪ ،‬كام كان يد ّرس الطلبة الصغار املبتدئني‪.(((»...‬‬
‫ويقول عنه يف مكان آخر‪:‬‬
‫يف الوقت الذي كان هذا العظيم يد ّرسني «األسفار» مل يكن عنده مانع من أن‬
‫يد ِّرس «األمثلة» إذا طلب منه ذلك(((‪.‬‬

‫((( زندﮔـاين وشخصيت شيخ أنصاري‪ ،‬ص‪.78‬‬


‫((( وحيد بهبهاين‪ ،‬ص‪.253‬‬
‫((( كيهان فرهنـﮕـي‪ ،‬العدد ‪ ،7‬ص‪.5‬‬
‫مثال‪.‬‬
‫((( تاريخ حكامء وعرفا‪ ،‬ص‪ 92‬و«األمثلة» كتاب يعادل النحو الواضح ً‬
‫ّ‬
‫آبادي‬ ‫الشيخ إبراهيم النجم‬
‫‪218‬‬
‫جاء حول هذا العامل الكبري‪« :‬انتقل من نجم آباد إىل طهران متن ّكرا ً‪ ،‬ويف إحدى‬
‫مدارسها سأل طالباً‪« :‬هل تريد زميالً لك يف غرفتك؟» ورأى هذا الطالب أمامه ظاهرا ً‬
‫عادياًّ‪ ،‬ومل يخطر بباله أنّه أمام أحد العلامء‪ ،‬فقال‪« :‬إذا كان شخصاً يساعد يف القيام‬
‫بخدمات الغرفة ويريحني فيمكنني أن أنسجم معه»‪.‬‬
‫وبدأ الشيخ يعمل يف الغرفة كخادم متواضعاً ساكتاً‪ ،‬وكانا معاً يف الغرفة بحيث إذا‬
‫قدم أحد يتح ّد مع ذلك الطالب ويهت ّم به‪ .‬أ ّما الشيخ‪ ،‬فكأنّه غري موجود وكأنّه ليس‬
‫شيئاً‪ .‬وذات ليلة‪ ،‬كان صاحب الغرفة يطالع كتاباً يف الفلسفة كان يدرسه‪ ،‬وطال سهره‬
‫والشيخ يتقلّب يف فراشه فالضياء مينعه النوم‪ .‬وأخريا ً أخرج رأسه‪ ،‬وقال له‪« :‬ما هو هذا‬
‫الذي تطالعه الليلة وال تنتهي منه وال تنام؟»‪ ،‬قال الطالب املغرور دون اكرتاث‪« :‬وما‬
‫دخلك؟»‪.‬‬
‫وبعد ٍ‬
‫أخذ ور ّد‪ ،‬قال الشيخ‪« :‬أرى أ ّن أمامك الكتاب الفال ّين وقد استعىص عليك فهم‬
‫العبارة الفالن ّية ألنّك تخطئ يف قراءتها‪ ،‬ث ّم نهض وقرأ له العبارة بشكل صحيح ورشح‬
‫له املراد ببيان واضح وشاف‪ .‬وقال له‪« :‬اآلن وقد ُح ّل اإلشكال قم ونم‪ ،‬ولكن برشط‬
‫وعهد‪ ،‬أن مت ّر مبا رأيت الليلة وكأ ْن مل يكن وال تذكره ٍ‬
‫ألحد أبدا ً‪ ،‬وأبقى أنا ذلك الخادم‬
‫وأنت ذلك املخدوم»‪.‬‬
‫وغرق املسكني صاحب الغرفة يف بح ٍر من الحرية‪ .‬بقي إىل الصبح يفكّر يف ما جرى‪،‬‬
‫مل ينم‪.‬‬
‫ويف اليوم التايل‪ ،‬عندما رجع من درس ذلك الكتاب وضع الكتاب بني يدي صاحبه‬
‫املجهول‪ ،‬وطلب منه أن يق ّرر له الدرس‪ ،‬فسمع رشحاً أكمل وأفضل من رشح أستاذه‪.‬‬
‫عندها استسلم وق ّرر االستفادة من الشيخ‪ .‬ويف النهاية مل يتمكّن من حفظ العهد فأخرب‬
‫زمالءه‪ ،‬األمر الذي أ ّدى إىل أن يبدأ الشيخ بالتدريس وانترش خرب مفاده‪ :‬أخريا ً بدأ‬
‫شخص اسمه إبراهيم بتدريس الفلسفة يف طهران وقد فاق جميع املد ّرسني(((‪.‬‬
‫‪219‬‬
‫أحد الفضالء املعارصين يف حوزة ق ّم كتب حوايل خمس ٍة وعرشين مجلّدا ً يف الفقه‬
‫االستدال ّيل وهو من املجتهدين الكبار‪ ،‬وهو يف التواضع بحيث إنّه يد ّرس من «كفاية‬
‫األصول» إىل الرسالة العمل ّية‪ ،‬ورغم أنّه د ّرس «الكفاية» و«املكاسب» و«الرسائل» ّرمبا‬
‫أكرث من عرشات امل ّرات‪ ،‬ال يأىب أبدا ً أن يد ّرس الكتب العاديّة مثل «الباب الحادي عرش»‬
‫الطلب املبتدئني الرسالة‬
‫و«أصول الفقه» و«منية املريد» بل قد شوهد يد ّرس لبعض ّ‬
‫عساتلا مسقلا‪ :‬عضاوتلا‬

‫العمل ّية الفارس ّية يف املدرسة الفيض ّية وعىل املأل العا ّم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المقدس األردبيلي ‪M‬‬

‫يل يف الطريق‪ ،‬ومل يعرفه‪ ،‬وكان‬


‫رأى أحد ز ّوار أمري املؤمنني ‪ Q‬املق ّدس األردبي ّ‬
‫يل‪« :‬خذ ثيايب واغسلها‬
‫ذلك الزائر يبحث ع ّمن يغسل له ثيابه‪ ،‬فقال للمق ّدس األردبي ّ‬
‫وائتني بها»‪ .‬وأخذها فغسلها وجاء بها؛ ليدفعها إليه‪ ،‬وعرف بعض من كان مبا جرى‪،‬‬
‫فبدؤوا يلومون ذلك الزائر وينكرون عليه‪.‬‬
‫يل‪« :‬وملَ؟ وماذا حدث حتّى تلوموه؟ إ ّن حقوق املؤمن عىل‬‫قال املق ّدس األردبي ّ‬
‫املؤمن أكرث من هذا بكثري»(((‪.‬‬
‫قال املح ّدث الق ّم ّي معقّباً عىل ما تق ّدم‪:‬‬
‫لقد اقتدى موالنا يف هذا العمل باإلمام الثامن ‪Q‬؛ فقد روي أ ّن اإلمام الثامن‬
‫دخل الحامم يوماً فقال له شخص ال يعرفه‪« :‬دلّك ظهري»‪ ،‬وبدأ اإلمام يدلّك ظهره‬
‫مم قاله ذلك الرجل‪ .‬فبدأ‬ ‫(ويفركه)‪ ،‬فرآه بعض من يعرفه‪ ،‬فجاؤوا واعتذروا إىل اإلمام ّ‬
‫اإلمام يح ّدثهم مب ّيناً أ ْن ال غضاضة يف ذلك‪ ،‬وهو ٍ‬
‫ماض يف عمله إىل أن أنهاه(((‪.‬‬

‫((( تاريخ حكامء وعرفاء متيخر بر صدر املتألّهني‪ ،‬ص‪.40 - 39‬‬


‫((( روضات الجنات‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.95‬‬
‫((( بيدارﮔـران ‪ -‬أقاليم قبله‪ ،‬ص‪ ،217‬فوائد الرضوية‪ ،‬ص‪.24‬‬
‫الشهيد المظلوم بهشتي ‪M‬‬
‫‪220‬‬
‫يف أوائل الفرتة التي بدأت فيها حملة االغتياالت ض ّد املسؤولني يف الجمهوريّة‬
‫اإلسالميّة عىل أيدي الفئات املسلحة املعادية للثورة‪ ،‬كان ال ب ّد للشخصيّات من القبول‬
‫باملرافقني والحرس‪ .‬قال الشهيد‪« :‬حيث إ ّن الرضورة توجب ذلك أنا أسعى حتّى اإلمكان‬
‫أن احتفظ بطريقتي السابقة‪ ،‬مثالً‪ ،‬ال أسمح أبدا ً أن يفتح يل الحرس باب السيّارة‪،‬‬
‫وسأظل ملتزماً أن أبارش هذا وأمثاله بنفيس»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العلمة الشيخ محمد جواد البالغي ‪M‬‬

‫البالغي‪ .‬قالوا إنّه كان يذهب بنفسه إىل السوق ويشرتي‬ ‫ّ‬ ‫قيل الكثري عن تواضع‬
‫ما يحتاجه ويحمله يف الشارع والزقاق كسائر الناس‪ ،‬ومل يكن يرىض أبدا ً أن يساعده‬
‫أحد يف شؤونه‪ ،‬وعندما كانوا يطلبون منه أن يساعدوه يف القيام بعمل‪ ،‬أو عمل يشء‬
‫كان يقول‪« :‬صاحب الحاجة أوىل بها (أو أوىل بحملها)‪ ،‬ورد يف الروايات‪ :‬ل ْعن من ألقى‬
‫وشق عىل اآلخرين باحتياجه»‪ .‬هذا العامل الربّا ّين كان ملتزماً بهذا األمر‬ ‫كلّه عىل الناس ّ‬
‫اإللهي بهذا الشكل وإىل هذا الح ّد(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العلمة الطباطبائي ‪M‬‬

‫يقول أحد تالمذته‪:‬‬


‫طالب‬
‫كأي ٍ‬ ‫«كان هذ الرجل ُدنْيا من العظمة‪ ،‬كان يجلس يف دار املدرسة عىل األرض ّ‬
‫صغريٍ مبتدئ‪ ،‬يأيت إىل املدرسة الفيض ّية قبيل الغروب‪ ،‬وعندما ت ُقام الصالة يلتحق‬
‫الخونساري‪ .‬كان عىل جانب‬
‫ّ‬ ‫تقي‬
‫الطلب‪ -‬بصالة املرحوم آية الله الس ّيد مح ّمد ّ‬
‫‪-‬كسائر ّ‬
‫كبري من التواضع واألدب‪ ،‬وكان يبذل جهدا ً كبريا ً لحفظ اآلداب‪ .‬وقد قلت له مرارا ً‪« :‬إ ّن‬
‫هذه الدرجة من اآلداب منك تجعلنا بال أدب فبالله عليك ارحمنا»‪.‬‬

‫((( يف خطاب للشهيد أذيع من إذاعة الجمهورية اإلسالمية يف السابع من تري‪1364/‬هـ‪.‬ش‪.‬‬


‫((( بيدارﮔـران ‪ -‬أقاليم قبله‪ ،‬ص‪.212‬‬
‫منذ حواىل أربعني سنة وإىل اآلن مل يُ َر يف مجلس متّكئاً‪ ،‬بل يجلس دامئاً يف مقابل‬
‫‪221‬‬
‫الضيوف مؤ َّدبًا مبتعدا ً قليالً عن الحائط بحيث يكون مجلسه دون مجلس الضيف‪.‬‬
‫كنت تلميذه‪ ،‬وكنت أذهب إىل منزله كثريا ً‪ ،‬وكنت أريد أن يكون مجليس دونه مراعا ًة‬
‫لألدب ولكن هيهات‪ ،‬كان يقوم ويقول‪« :‬بنا ًء عىل هذا فيجب أن نجلس نحن يف الباب‬
‫أو خارج الغرفة»‪ .‬قبل سنني عديدة كنت يف مشهد‪ ،‬وذهبت لزيارته‪ ،‬وجدته جالساً‬
‫يف الغرفة عىل فراش وكان الطبيب منعه من الجلوس عىل األرض بسبب مرض القلب‪،‬‬
‫عساتلا مسقلا‪ :‬عضاوتلا‬

‫فقام عن الفراش ودعاين للجلوس عليه فامتنعت‪ .‬وبقينا فرتة واقفني إىل أن قال أخريا ً‪:‬‬
‫«اجلس ألقول لك جملة»‪ ،‬تأ ّدبت وجلست‪ ،‬وجلس هو عىل األرض فقال‪« :‬الجملة التي‬
‫كنت أريد أن أقولها هي‪ :‬هناك أكرث نعومة»(((‪.‬‬
‫طوال ثالثني سنة كان يل فيها رشف االتّصال به‪ ،‬مل أسمع منه أبدا ً كلمة «أنا»‪،‬‬
‫ويف املقابل سمعت منه مرارا ً عبارة «ال أعلم» يف اإلجابة عن األسئلة‪ ،‬تلك العبارة‬
‫التي يرى الجهلة قولها عارا ً‪ .‬كان بحر العلم والحكمة املتالطم املوج‪ ،‬يقولها من فرط‬
‫واللفت أنّه بعد ذلك كان يجيب عن السؤال عىل صورة احتامل أو‬ ‫التواضع بسهولة‪َّ ،‬‬
‫بعبارة «يبدو يل»‪ .‬أتذكّر أ ّن شخصاً ميضء القلب كان يقول يف محرضه همساً وعيناه‬
‫مغرورقتان‪ :‬أتع ّجب كيف أ ّن األرض تستطيع أن تتح ّمل ثقل رجال من هذا النوع(((‪.‬‬
‫«منذ حواىل ثالين سنة وأنا عىل صلة باألستاذ‪ ،‬أشرتك يف درسه وأستفيد من جلساته‬
‫الخاصة ليايل الخميس والجمعة مبقدار إمكاين‪ .‬ال أتذكّر أنّه‪ ،‬ولو م ّرة واحدة طوال هذه‬
‫ّ‬
‫طلبه‪ ،‬أو أنّه أجرى عىل لسانه كلمة حا ّدة تتض ّمن إهان ًة‬
‫امل ّدة‪ ،‬غضب أو رصخ يف وجه ّ‬
‫بكل هدوء ومتانة‪ ،‬ومل يكن ينفعل أبدا ً وكان رسيع األلفة واالنسجام‬‫ألحد‪ ،‬كان يد ّرس ّ‬
‫الطلب‪ ،‬كان يألفهم وكأنّهم من‬ ‫مع األشخاص‪ .‬كان ذلك أدبه مع الجميع‪ ،‬حتّى أصغر ّ‬
‫أصدقائه الخلَّص‪ .‬كان يصغي لكالم الجميع ويعطف عليهم‪ .‬كان متواضعاً ج ّدا ً‪ ،‬مل أره‬

‫((( مهرتابان‪ ،‬ص‪.51 - 50‬‬


‫((( يادنامه عالمه‪ ،‬ص‪.37‬‬
‫أبدا ً يفتخر بنفسه أو ميدحها‪ ،‬مل يكن يبخل بال ِعلم‪ ،‬كان يق ِّدم ّ‬
‫أدق املطالب العلم ّية‬
‫‪222‬‬
‫وبكل بساطة إىل اآلخرين‪ ،‬مع أنّها أحياناً قد تكون من ابتكاراته ودون أن يثني عىل‬
‫ّ‬
‫نفسه ويقول‪ :‬مل يسبقني إليه أحد!‬
‫كان حريصاً عىل بذل العلم‪ ،‬مل يكن يرتك سؤاالً دون جواب‪ ،‬وكان يجيب السائل‬
‫مبستوى إدراكه‪ .‬كان يق ّدم املطالب العلم ّية يف عبار ٍ‬
‫ات قصرية‪ ،‬ومل يكن يستسيغ‬
‫العبارات املن ّمقة‪.‬‬
‫الطلب وقلّتهم؛ كان أحياناً يد ّرس اثنني أو ثالثة‪ ،‬ومل يكن يحرم‬
‫مل يكن يهت ّم بكرثة ّ‬
‫زي وس ّن كان يذهب إليه ميكنه‬ ‫أي ّ‬ ‫شخص ويف ّ‬‫فكل ٍ‬ ‫الطلب من االستفادة منه؛ ّ‬‫غري ّ‬
‫أن يستفيد منه‪ ،‬وقد استفاد من علمه كثريون‪ ،‬وكانت تأتيه رسائل من داخل إيران‬
‫وخارجها تتض ّمن أسئلة علم ّية ودين ّية‪ ،‬وكان يكتب جواب الرسائل بخ ّط يده‪ .‬كان‬
‫أحب هذا التعبري نحن اجتمعنا هنا‬ ‫يخاطب أحياناً بلفظة األستاذ فيقول‪« :‬أنا ال ّ‬
‫يحب امليش‪ ،‬وغالباً‬
‫لنتعاون ونفكّر معاً للحصول عىل حقائق اإلسالم ومعارفه»‪ .‬كان ّ‬
‫ما كان يذهب إىل املجالس املتنقّلة ماشياً ويف الطريق كان أيضاً يجيب عن األسئلة‬
‫العلم ّية‪.‬‬
‫ومل تكن أعامل األستاذ العلم ّية يف مستوى واحد؛ فمن جهة كان يكتب يف التفسري‬
‫الطلب وأساتذة الجامعات والعلامء األجانب‬‫(امليزان) أرقى املطالب ويرشح لألفاضل ّ‬
‫أدق املسائل الفلسف ّية‪ ،‬ومن جهة أخرى كان يكتب‬‫مثل الربوفسور «هرني كوربون» ّ‬
‫لطلب املدارس‪ .‬نعم‪ ،‬كان‬‫عادي بل كان يكتب حتّى ّ‬
‫يف أمور الدين وحقائقه مبستوى ّ‬
‫هذا الرجل الكبري واقعاً قدوة‪ .‬أتذكّر ّأن يف أوائل دراستي كنت أكتب له رسائل سخيفة‬
‫كل مشاغله العلم ّية كان يكتب جواب الرسالة بخطّه‬‫وأسأله أسئلة عاديّة‪ ،‬ولك ّنه رغم ّ‬
‫الطلب أيضاً أنّه سأل ّ‬
‫العلمة سؤاالً فأجابه‪ ،‬فسأله‬ ‫ويرسله يف أرسع األوقات‪ .‬ذكر أحد ّ‬
‫نفسه ثالث ًة واعرتض عليه فأجابه ذلك‬
‫نفسه ثانية فأجابه أيضاً‪ ،‬وسأله السؤال َ‬‫السؤال َ‬
‫العظيم للم ّرة الثالثة مبنتهى التواضع وكتب الجواب بخ ّط يده»‪.‬‬
‫مم كتبه سامحته بخ ّط يده مع صورته‪:‬‬
‫ويف ما ييل ترجمة منوذج ّ‬
‫‪223‬‬
‫باسمه تعاىل‬
‫«تس ّلمت رسالتك العزيزة وا ّطلعت عىل رغبتك الكبرية يف دراسة الفلسفة‪ ،‬الالزم أن تدرس‬
‫جربوا حتّى اآلن أن يدرسوا املقدّ مات ثم ّيبدؤون‬
‫هذا الف ّن بالطريقة التي يدرسه هبا اآلخرون وقد ّ‬
‫بدراسة الفلسفة وال يستعجلون‪ .‬ما هو متعارف اآلن سليم‪ ،‬واحلاصل أهنّم يدرسون املقدّ مات‬
‫ثم ينرصفون بعدها إىل الكتب املختلفة مثل املنظومة واإلشارات واألسفار‬
‫العرب ّية واملنطق ّية‪ّ ،‬‬
‫عساتلا مسقلا‪ :‬عضاوتلا‬

‫والشفاء‪ ،‬وإن شاء اهلل حيصلون عىل نتيجة كاملة‪.‬‬

‫والسالم عليكم‬

‫مح ّمد حسني طباطبا ّيئ‬

‫رشفت بزيارة‬
‫يقول أحد الفضالء واملحقّقني املعارصين‪ :‬يف إحدى السنوات األخرية ت ّ‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ لزيارته‪ ،‬طرقت الباب ففتحه رجل عجوز‪.‬‬
‫ق ّم‪ ،‬وذهبت إىل منزل ّ‬
‫قلت‪« :‬الس ّيد موجود؟‬
‫‪-‬نعم‪.‬‬
‫رشف بخدمته»‪.‬‬
‫‪ -‬قل له إذا كان بإمكانه أن أت ّ‬
‫ذهب وعاد وفتح باب غرفة ودخلت‪ ،‬مل يكن يف الغرفة س ّجادة أو بساط فجلست‪.‬‬
‫يل واعتذر بأنّهم عىل أُهب ِة السفر إىل مشهد للت ّ‬
‫رشف بزيارة اإلمام‬ ‫جاء الس ّيد‪ ،‬سلّم ع ّ‬
‫الرضا ‪ Q‬قال‪« :‬اذهب آليت بيشء نجلس عليه» وأراد أن يذهب‪ ،‬فأمسكت يده‬
‫بلطف‪ ،‬وقلت‪« :‬ال داعي أبدا ً»‪ ،‬ونزعت عباءيت وفرشتها‪ ،‬وقلت‪« :‬تفضّ ل ميكننا الجلوس‬
‫عىل العباءة»‪ .‬قال‪« :‬يف هذه املرحلة من عمري علّمتني درساً مربّياً»‪.‬‬
‫قلت‪« :‬هذه الجملة ‪-‬اإلنذار‪ -‬منكم مربّية أكرث‪ .‬ث ّم جلسنا وتح ّدثنا للحظات‪ .‬ولن‬
‫أنىس أبدا ً عظمة تلك اللحظات‪ ،‬وبعدها مل أوفّق للقائه ‪.(((M‬‬

‫((( يادنامه عالمه طباطبايئ‪ ،‬ص‪.61 - 60‬‬


‫العلمة الطباطبا ّيئ مسأل ًة عاديّ ًة ج ّدا ً وغري‬
‫نقل أحد األصدقاء‪ :‬رأيت شخصاً سأل ّ‬
‫‪224‬‬
‫ٍ‬
‫لشخص‬ ‫العلمة‪ ،‬وأضاف‪« :‬أسأل هذه املسألة‬ ‫مناسب ٍة حول الغسل‪ :‬أجابه املرحوم ّ‬
‫آخر»؛ أي تأكّد من ص ّحة ما قلت لك بسؤال آخر! قال السائل‪« :‬كانت املسألة عاديّة‬
‫ج ًّدا بحيث كدت أقول له‪ :‬موالي‪ ...‬كام قلت وال داعي للسؤال»‪ّ ،‬إل أنّه‪ ،‬تواضعاً‬
‫منه قال ذلك‪ ،‬وعندما مىض قلت للسائل‪« :‬ما الداعي أن تسأله هذه املسألة؟»‪.‬‬
‫قال‪« :‬كنت أعرف الجواب‪ّ ،‬إل ّأن أردت أن أتكلّم ع ّدة كلامت مع من هو تجسيد‬
‫للتقوى»‪.‬‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ‪« :‬يف مسألة «الق ّوة والفعل» التي بُحثت يف كتاب «أصول‬
‫يقول ّ‬
‫الفلسفة» أخذين املرحوم املط ّهري إىل منزله يف طهران‪ ،‬وأبقاين أسبوعا؛ً يك يصل إىل‬
‫عمق املسألة وميكنه أن يكتب حواشيها ورشوحها‪ ،‬وباحثني حتّى أقتنع»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫صدر المتألهين ‪M‬‬

‫إسالمي‪ ،‬يقول فيه أستاذه املريداماد شعرا ً يوضّ ح‬


‫ّ‬ ‫صدر املتألّهني أكرب فيلسوف‬
‫فيه «أ ّن سم ّو فضله فاق السامء وأ ّن أفالطون يخشع يف محرابه‪ ،‬وأنّه مل يجلس عىل‬
‫يعب عن نفسه بـ«بعض الفقراء من األ ّمة‬‫مسند التحقيق مثله من األ ّولني واآلخرين»‪ّ .‬‬
‫املرحومة»‪.‬‬
‫جاء يف سرية هذا الحكيم الجليل‪:‬‬
‫«مل يكن يف جميع مراحل حياته يعرف الغرور وال ُع ْجب‪ ،‬وكان دامئاً متواضعاً‪ .‬ويك‬
‫ال يجد الكرب إىل نفسه سبيالً كان يقوم بأعامل مل يكن نظراؤه يقومون بها بأنفسهم‪.‬‬
‫كان صدر املتألّهني من ّزهاً عن تكلّفات العلامء والروحان ِّيني والصوف ّيني والعارفني يف ذلك‬
‫العرص‪ ،‬ومل يكن له نظري يف التواضع يف عرصه‪ .‬يف شرياز التي هي مسقط رأسه والجميع‬
‫العلمي كانوا يعرفون أ ّن أباه من ت ّجار شرياز املشهورين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يعرفونه‪ ،‬وباإلضافة إىل مقامه‬

‫((( يادنامه شهيد مطهري‪ ،‬الكتاب األ ّول‪ ،‬ص‪.351‬‬


‫يتول رشاء املواد التموين ّية من لحم وخبز وما شابه ويحملها بنفسه إىل املنزل دون‬
‫كان ّ‬
‫‪225‬‬
‫أن تزعجه أنظار الناس املنص ّبة عليه وهم يتعج ّبون كيف أ ّن هذا العامل الكبري ال يرسل‬
‫خدمه لرشاء الخبز واللحم‪.‬‬
‫ويُحت َمل بق ّوة أ ّن صدر املتألّهني كان يقوم بذلك أحياناً ترويضاً لنفسه وتحقريا ً لها‪.‬‬
‫كان صدر املتألّهني متمكّناً مال ًّيا؛ فقد ورث ثروة أبيه‪ ،‬وكان يف بيته ع ّدة خدم‪ ،‬وكانوا‬
‫عادة يشرتون لوازم البيت‪ ،‬ولك ّن صدر املتألّهني كان يحمل اللحم والخبز بيده إىل‬
‫عساتلا مسقلا‪ :‬عضاوتلا‬

‫البيت أمام أنظار الت ّجار واآلخرين يف املدينة التي يعرفه أهلها يك يكرس غرور نفسه(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشيخ آقا رضا الهمداني ‪M‬‬

‫يل يف ترجمة الفقيه الكبري واملحقّق املدقّق‬ ‫يقول املرحوم الس ّيد محسن األمني العام ّ‬
‫املرحوم الهمدا ّين صاحب الكتاب الق ّيم «مصباح الفقيه»‪ ...« :‬من تواضعه الشديد أنّه‬
‫للطلب جميعهم‪ ،‬حتّى يف أثناء الدرس‪ ،‬والعادة املتّبعة‬ ‫لكل داخل ويقوم ّ‬ ‫كان يقوم ّ‬
‫يف النجف أ ّن الشيخ ال يقوم ألحد من تالميذه يف يوم الدرس سواء يف أثنائه وخارجه‪،‬‬
‫الطلب‪ ،‬فيقومون للداخل منهم قبل‬ ‫فإذا قام لهم علموا أ ّن ذلك اليوم يوم تعطيل‪ ،‬أ ّما ّ‬
‫رشوع الشيخ يف الدرس‪ ،‬ويف أثناء الدرس ال يقومون ألحد‪ ،‬أ ّما شيخنا املرت َجم فكلّام‬
‫دخل واحد منهم قام له ولو يف أثناء الدرس فيقوم والك ّراس الذي يقرأ فيه يف يده‪ ،‬فإذا‬
‫الطلب جالسون‪ .‬وكان يشرتي لوازم‬ ‫كان ذلك يف أثناء الدرس كان وحده القائم وباقي ّ‬
‫القصاب ينتظر فراغه ليعطيه‬ ‫بيته بنفسه‪ ،‬وال يوكل ذلك إىل أحد‪ .‬رأيته م ّرة واقفاً عىل ّ‬
‫والقصاب مشغول بالبيع للزائرين‪ ،‬ال يلتفت إىل أصحابه‬ ‫ّ‬ ‫اللحم وذلك يف أيّام الزيارة‪،‬‬
‫املواطنني؛ أل ّن انتفاعه من الغرباء أكرث‪ ،‬وكان واقفاً قبل مجيئي م ّد ًة ألله أعلم مقدارها‪،‬‬
‫أي يشء ما‬ ‫أعط الشيخ ما يريد‪ .‬فقال الشيخ‪ :‬ما يخالف‪ .‬فقلت ّ‬ ‫بالقصاب أن ِ‬ ‫فصحت ّ‬
‫القصاب‪ ،‬ووزن له‪ ،‬ووزن يل بعده‪ ،‬ولوال مجيئي‬ ‫يخالف يدعك إىل آخر الناس! فاعتذر ّ‬
‫لكان حاله حال ابنتَ ْي شعيب‪ ،‬ورأيته م ّرة يساوم عىل الحطب يوم الجمعة والخميس؛‬

‫((( مال صدرا‪ ،‬فيلسوف ومتفكر بزرﮒ إسالمي‪ ،‬ص ‪.337 ،333-332‬‬
‫ألنّهام يوما تعطيل الدروس يف األسبوع‪ ،‬يأيت الحطّابون بالحطب من ال ّربيّة عىل حمريهم‬
‫‪226‬‬
‫ويقفون بها يف األزقّة‪ ،‬فتشرتي الناس منهم‪ ،‬فقلت له‪ :‬يا شيخنا كلّف غريك يشرتي لك‬
‫ٍ‬
‫يومئذ قد رأس وقلّده الناس‪.»...‬‬ ‫أغي طريقتي وكان‬‫الحطب فقال‪ :‬أنا ال ّ‬
‫ويحب العزلة ّإل يف ما ال ب ّد منه لدين أو دنيا‪ ،‬فكان ال يجلس‬
‫ّ‬ ‫«كان يكره الشهرة‬
‫يحب أن يش ّيعه أحد إذا سافر‪ ،‬وكان مييش يف الطريق وحده وليس معه‬ ‫يف يوم عيد وال ّ‬
‫بالليل من يحمل أمامه الضياء كعادة كبار العلامء‪ ،‬وإذا رآه من ال يعرفه ظ ّنه بعض‬
‫فقراء الطلبة‪ .‬كنت أميش معه يوماً ليالً فاستقبله زائر من العجم‪ ،‬فسأله‪« :‬هل ّ‬
‫تصل‬
‫ركعات الوحشة؟» (صالة ليلة الدفن ركعتان يهدى ثوابهام للم ّيت) فقال‪« :‬ال»‪ .‬ومل‬
‫مم جرى له‬ ‫يكن يعمل لنفسه دعاية وال يلتمس من يعمل له ذلك‪ ،‬وال يتح ّدث بيشء ّ‬
‫مم فيه مت ّيز بيشء»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫آبادي‬ ‫المرحوم البيد‬
‫آبادي‪ .‬يقول فيه‬
‫ّ‬ ‫هو العامل العابد املرحوم الشيخ مح ّمد الـﮕـيال ّين املعروف بالبيد‬
‫صاحب «روضات الج ّنات»‪ :‬وحيك أنّه ‪ M‬كان من ش ّدة زهده يف الدنيا وردعه داعية‬
‫الهوى‪ ،‬ال يعبأ كثريا ً بسالطني وقته فكيف مبن كان دونهم؟! بل كان يظهر كراهيته اللقاء‬
‫حق التعظيم من كرثة ما يرونه فيه من الكرامات واملقامات‪ ،‬وكان‬ ‫بهم وهم يعظّمونه ّ‬
‫ال يستنكف من ركوب حمري الحمولة العارية والخروج إىل املسافات البعيدة النائية(((‪.‬‬
‫وال بأس هنا بالتذكري بأ ّن أمري املؤمنني ‪ Q‬يعترب هذه الصفة إحدى صفات‬
‫النبي األكرم ‪ P‬ويقول‪« :‬ولقد كان ‪ P‬يأكل عىل األرض‪ ،‬ويجلس جلسة العبد‪،‬‬‫ّ‬
‫ويخصف بيده نعله‪ ،‬ويرقع بيده ثوبه‪ ،‬ويركب الحامر العاري‪ ،‬ويردف خلفه»(((‪.‬‬

‫((( أعيان الشيعة‪ ،‬ج‪ ،7‬ص‪.21‬‬


‫بترصف يسري‪.‬‬
‫((( روضات الج ّنات‪ ،‬ج‪ ،71‬ص‪ّ 123‬‬
‫((( نهج البالغة‪ ،‬صبحي الصالح‪ ،‬ص‪ ،228‬خ‪.16‬‬
‫ّ‬
‫آية اهلل العظمى الحائري ‪M‬‬
‫‪227‬‬
‫الحائري الدواء‪ ،‬وحمله إىل‬
‫ّ‬ ‫الطلب‪ ،‬فهيّأ له املرحوم‬
‫األجلء‪« :‬مرض أحد ّ‬
‫قال أحد ّ‬
‫تحضه ث ّم حمله هو بيده ‪ -‬ومل يرض أن يحمله خادمه ‪ -‬وأخذه‬
‫منزله‪ .‬قال لزوجته أن ِّ‬
‫إىل غرفة ذلك الطالب»‪.‬‬
‫الشهيد الثاني ‪M‬‬

‫والروحي الشامخ‪ ،‬كان الشهيد يبارش بعض شؤونه الرضوريّة‬ ‫العلمي‬ ‫رغم مقامه‬
‫عساتلا مسقلا‪ :‬عضاوتلا‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بنفسه‪ .‬جاء يف سريته‪ :‬كان يحرس الكرم ليالً‪ ،‬ويف الصباح يلقي الدروس عىل الطلبة‪،‬‬
‫وك ْرمه الذي كان له يف جباع معروف محلّه اآلن‪ .‬وكان يحتطب لعياله ليالً ويشتغل‬
‫بالتجارة أحياناً‪ ،‬فيتاجر بالرشيط ويحمله إىل البالد النائية وكان يبارش ببناء داره‬
‫ومسجده الذي هو إىل جنبها يف قرية جباع‪ .‬وذكر تلميذه ابن العودي يف رسالته‪ ،‬أنّه‬
‫كان يقسم أعامله عىل أوقاته‪ ،‬وال يدع لحظ ًة من عمره يف غري اكتساب فضيلة وإفادة‬
‫مستفيد‪ ،‬وخلّف مائتي كتاب بخطّه من تأليفه وتأليف غريه(((‪.‬‬
‫المبادرة إلى السالم‬
‫نقل عن شهيد املحراب آية الله أرشيف أصفهاين قوله‪ :‬كان آية الله العظمى السيّد‬
‫الخونساري ج ّم التواضع‪ ،‬وكان يف تواضعه التزامه باملبادرة بالسالم‪ .‬وكان‬
‫ّ‬ ‫مح ّمد تقي‬
‫حريصاً عليه يف الشارع وعند دخول املدرسة‪.‬‬
‫مكبات‬‫يقول آية الله العظمى الربوجردي ‪« :M‬رأيت يف عامل النوم أنّه أعلن من ّ‬
‫حرم املعصومة ‪ O‬أ ّن جنازة الس ّيد املرتىض وصلت إىل ق ّم‪ ،‬ففكّرت يف النوم أ ّن‬
‫الس ّيد املرتىض ّ‬
‫توف منذ سنني طويلة‪ ،‬وهو أيضاً كان يف العراق فام هي املناسبة ليعلنوا‬
‫الخونساري‬
‫ّ‬ ‫مكبات الحرم تعلن وفاة آية الله‬
‫ذلك يف ق ّم؟ وعندما استيقظت سمعت ّ‬
‫وأ ّن جنازته ستصل»‪.‬‬
‫نصاً حول احتطاب الشهيد ً‬
‫ليال وقد أوردت هذا النص لشموله وداللته عىل أن ّالتواضع ومبارشة‬ ‫((( أورد املؤلّف ّ‬
‫والنص منقول عن مق ّدمة منية املريد‪.‬‬
‫الشؤون الرضورية ال تعيق عن العلم‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫مؤلف مفاتيح الجنان‬
‫‪228‬‬
‫املح ّدث الكبري عبّاس الق ّم ّي ‪ M‬يف كتابه القيّم الفوائد الرض ّوية ‪ -‬الذي هو يف‬
‫ترجمة علامء الشيعة ‪ -‬عندما يصل إىل اسمه يقول‪:‬‬
‫«حيث إ ّن هذا الكتاب الرشيف يف بيان أحوال العلامء مل أجد املناسب أن أترجم‬
‫وأقل من أن أضع نفيس يف عدادهم‪ ،‬ولذا رصفت النظر عن‬ ‫لنفيس؛ إذ ّإن أحقر ّ‬
‫ترجمتي مكتفياً بذكر مؤلّفايت»(((‪.‬‬
‫هذا هو تواضع إنسان ما تزال مؤلّفاته الق ّيمة والطريفة منذ أكرث من نصف قرن‬
‫الخواص والعوا ّم‪ .‬نعم‪ ،‬من تواضع لله رفعه الله‪ .‬هؤالء هم‬
‫ّ‬ ‫يستفيد منها ويرجع إليها‬
‫املر ّوضون ألنفسهم‪ ،‬األتقياء املؤمنون حقًّا بالله واملعاد‪.‬‬
‫مفخرة اإلسالم‬
‫يقول األستاذ الشهيد مط ّهري ‪:M‬‬
‫«قبل ع ّدة سنوات ُدعيت إىل الجمع ّية الدين ّية لجامعة شرياز‪ ،‬فوقف لتعريفي أحد‬
‫األساتذة هناك ‪ -‬وكان قبالً طالب علم ولعلّه كان تلميذي‪ -‬ويف آخر حديثه قال هذه‬
‫الزي مفخرة لآلخرين فإ ّن فالناً مفخرة ّ‬
‫زي الروحان ّية»‪ .‬شعرت‬ ‫الجملة‪« :‬إذا كان هذا ّ‬
‫أنّني أحرتق‪ .‬وعندما قمت ألتكلّم قلت‪« :‬يا فالن ما هذا الكالم الذي خرج من فمك؟!‬
‫أصالً هل تفهم ماذا تقول؟ أنا ليس يل إلّ افتخار واحد هو هذه العاممة والعباءة‪ .‬من‬
‫أنا حتّى أكون مفخرة العاممة والعباءة؟ ما هذه التعارفات الفارغة التي تتعارفون بها‬
‫مع بعضكم؟ يجب أن يقال أبو ذ ّر مفخرة اإلسالم‪ .‬اإلسالم يفتخر برتبية أبناء له يحسب‬
‫مهمً يف الثقافة البرشيّة‪ .‬الدنيا ال تستطيع أن ال تكتب اسم‬
‫لهم حساباً؛ أل ّن لهم دورا ً ّ‬
‫الطويس عىل جزء من القمر؛ أل ّن له دخالً يف بعض اكتشافات القمر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الشيخ نصري الدين‬
‫من نحن؟ وما هي قيمتنا؟‬

‫((( الفوائد الرضويّة‪ ،‬ص‪.220‬‬


‫كاشف الغطاء ‪M‬‬
‫‪229‬‬
‫األنصاري «ببعض األساطني»‬
‫ّ‬ ‫يعب عنه الشيخ‬
‫الشيخ جعفر كاشف الغطاء‪ ،‬ذلك الذي ّ‬
‫ويقول صاحب «الجواهر» فيه‪« :‬ال أستطيع رشح الفروع الفقهيّة لكشف غطائه»‪.‬‬
‫عندما كان يف أوج العظمة والشهرة‪ ،‬كثريا ً ما شوهد يحمل طرف ثوبه‪ ،‬ومييش ّ‬
‫بكل‬
‫تواضع بني صفوف املصلّني يجمع املال للفقراء‪.‬‬
‫عساتلا مسقلا‪ :‬عضاوتلا‬
‫‪231‬‬

‫ال أدري‪...‬‬
‫عساتلا مسقلا‪ :‬عضاوتلا‬

‫قول «ال أدري» يف املسائل التي ال إحاطة لإلنسان بها عالمة الشهامة والتقوى وحسن‬
‫البحث عن رضا الله والتصديق به‪ .‬والجهلة يأبون التلفّظ بها؛ ألنّهم يعتقدون خطأً‬
‫االجتامعي‪ ،‬ولك ّن ذلك ليس ّإل وسوسة شيطان ّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أنّها تح ّط من شخص ّيتهم وموقعهم‬
‫ۡ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬‫ُ ْ ََ‬ ‫ُ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬
‫ۡ ُۡ َ َ ۡ ّ َ ُ‬ ‫ََ‬
‫ٱل َّق﴾(((‪.‬‬
‫ٱللِ إِل َ‬ ‫ب أن ل َيقولوا ع‬
‫قال تعاىل‪﴿ :‬ألم يؤخذ علي ِهم مِيثٰق ٱلكِتٰ ِ‬
‫يقول أحد الفضالء‪ :‬ينبغي أن يورث العامل «ال أدري» إىل أصحابه مبعنى أن يك ّرر‬
‫هذه الكلمة دامئاً يف املسائل التي ال يعرفها ليألفوها هم ويعتادوا عليها‪ ،‬فتكون‬
‫مرياثهم منه بعد وفاته ويستعملونها حيث ينبغي‪.‬‬
‫ويقول عامل آخر‪ :‬تعلّم «ال أدري» فإنّك إن قلت «ال أدري» علّموك حتّى تدري‪،‬‬
‫وإن قلت أدري سألوك حتّى ال تدري‪ .‬واعلم أ ّن قول العامل «ال أدري» ال يضع منزلته‪،‬‬
‫بل يزيدها رفع ًة ويزيده يف قلوب الناس عظمة تفضّ الً من الله تعاىل عليه وتعويضاً له‬
‫الحق‪ ،‬وهو دليل واضح عىل عظمة محلّه وتقواه وكامل معرفته‪ ،‬وال يقدح يف‬ ‫بالتزامه َّ‬
‫املعرفة الجهل مبسائل محدودة(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشيخ األنصاري ‪M‬‬

‫األنصاري ‪-‬رضوان الله عليه‪ -‬الرجل الذي كان يف العلم والتقوى‬


‫ّ‬ ‫«املرحوم الشيخ‬
‫نابغة الدهر‪ ،‬وما يزال العلامء والفقهاء يفتخرون بفهم دقائق كالمه‪ .‬عندما كان يسأل‬

‫((( سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.169‬‬


‫((( منية املريد للشهيد الثاين ‪ ،M‬ص‪.97‬‬
‫ٍ‬
‫بصوت عا ٍل‪« :‬ال أعلم‪ ،‬ال أعلم‪ ،‬ال‬ ‫عن يشء‪ ،‬إذا كان ال يعرفه كان يتع ّمد أن يقول‬
‫‪232‬‬
‫أعلم»‪ ،‬كان يقول ذلك وبهذا الشكل؛ ليتعلّم تالمذته أن ال يستحوا من قول «ال أعلم»‬
‫إذا سئلوا عن أم ٍر ال يعرفونه‪ ،‬وكان ‪ M‬إذا سئل عن يشء يعلمه يتع ّمد الجواب‬
‫ٍ‬
‫بصوت منخفض(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يقول العلمة المطهري ‪M‬‬

‫أيّام الدراسة ذهبت يف إحدى السنني إىل نجف آباد قرب أصفهان‪ ،‬كان الوقت شهر‬
‫رمضان‪ ،‬عطّلت الدروس وكان أصدقاؤنا هناك‪ .‬ذات يوم‪ ،‬كنت أريد اجتياز الشارع‬
‫قروي وقال‪« :‬موالنا‪ ،‬عندي‬
‫إىل الطرف اآلخر‪ ،‬وعندما وصلت إىل وسط الطريق جاءين ّ‬
‫مسألة فأجبني عن مسألتي»‪ ،‬قلت‪« :‬قل»‪ ،‬قال‪« :‬هل يتعلّق غسل الجنابة بالبدن أم‬
‫كأي غسل»‪ .‬وتنبّهت إىل‬
‫بالروح؟» قلت‪« :‬أنا ال أفهم معنى هذا الكالم‪ ،‬غسل الجنابة ّ‬
‫أنّه قد يكون فكّر يف مع ًنى صحيح‪ ،‬قلت‪« :‬هو من جهة مرتبط بروح اإلنسان؛ ألنّه‬
‫يحتاج إىل نيّةـ ومن جهة أخرى يرتبط بالبدن؛ أل ّن اإلنسان يغسل بدنه»‪ .‬وسألته‪« :‬هذا‬
‫هو مرادك؟»‪.‬‬
‫قال‪« :‬ال‪ ،‬أجبني جواباً صحيحاً غسل الجنابة يتعلّق بالبدن أم بالروح؟»‪.‬‬
‫قلت‪« :‬ال أدري»‪.‬‬
‫قال‪« :‬فلامذا ك ّورت هذه العاممة عىل رأسك؟»(((‪.‬‬
‫صعدت بمقدار معلوماتي‬
‫ٍ‬
‫درجات ثالث وبدأ‬ ‫ابن الجوزي‪ ،‬أحد الخطباء املعروفني يف عرصه‪ ،‬ارتقى منربا ً ذا‬
‫يتح ّدث إىل الناس‪ ،‬فقامت امرأة من الجالسني وسألته سؤاالً قال‪« :‬ال أدري»‪ ...‬قالت‪:‬‬
‫«إذا كنت ال تدري فل َم جلست فوق الناس بثالث درجات؟ قال‪« :‬هذه الدرجات الثالث‬

‫((( سرية نبوي‪ ،‬ص‪.116‬‬


‫((( املصدر نفسه‪.‬‬
‫التي صعدتها هي مبقدار ما أعلم أنا وال تعلمونه أنتم‪ ،‬لقد صعدت مبقدار معلومايت‬
‫‪233‬‬
‫ولو ّأن أريد أن أصعد مبقدار مجهواليت لكان ينبغي أن يُص َنع يل من ٌرب يالمس فلك‬
‫األفالك»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫القاسم بن محمد بن أبي بكر‬
‫أحد فقهاء املدينة املتّفق عىل علمه وفقهه بني املسلمني‪ ،‬كام وصفه الشهيد الثاين‬
‫«إن جئت إليك ال أعرف‬ ‫وأضاف‪« :‬سئل عن يشء فقال‪« :‬ال أحسنه»‪ ،‬فقال السائل‪ّ :‬‬
‫عساتلا مسقلا‪ :‬عضاوتلا‬

‫غريك»‪ ،‬فقال القاسم‪« :‬ال تنظر إىل طول لحيتي وكرثة الناس حويل‪ ،‬والل ِه ما أحسنه»‬
‫فقال شي ٌخ من قريش جالس إىل جنبه‪« :‬يا ابن أخي الزمها فوالله ما رأيتك يف مجلس‬
‫أحب إ ّيل أن أتكلّم مبا ال‬
‫أنبه منك مثل اليوم»‪ ،‬فقال القاسم‪« :‬والله ألن يقطع لساين ّ‬
‫علم يل به»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫األسترآبادي‬
‫قال الشهيد الثاين ‪:M‬‬
‫وعن الحسن بن مح ّمد بن رشفشاه األسرتآبادي أنّه دخلت عليه يوماً امرأة فسألته‬
‫عن أشياء مشكلة يف الحيض‪ ،‬فعجز عن الجواب‪ ،‬فقالت له املرأة‪« :‬أنت َع َذبَتُك واصلة‬
‫كل مسألة يُسأل عنها‬ ‫إىل وسطك فتعجز عن جواب امرأة» فقال‪« :‬يا خالة لو علمت ّ‬
‫لوصلت َع َذبَتي إىل قرن الثور»(((‪.‬‬
‫اهلل أعلم‬
‫عم ال تعلمون فاهربوا»‪ .‬قالوا‪ :‬كيف‬
‫قال أمري املؤمنني‪« :Q‬إذا سئلتم ّ‬
‫الهرب؟ قال‪ :‬تقولُ ّن ؟«الله أعلم»‪.‬‬

‫((( سرية‪ ،‬ص‪.116 - 115‬‬


‫((( منية املريد‪ ،‬ص‪.140‬‬
‫نفسه‪ ،‬واملراد بال َع َذبَة‪ :‬طرف العاممة‪.‬‬
‫((( املصدر ُ‬
‫أمي ًا‪ ،‬بسبب ّ‬
‫التكبر‬ ‫األستاذ الذي صار ّ‬
‫‪234‬‬
‫يقول الشهيد دستغيب ‪:M‬‬
‫ازي‪ ،‬حيث كان‬ ‫قبل حواىل أربعني سنة ويف هذه الغرف يف مسجد مشري امللك الشري ّ‬
‫الطلب يقيمون كان يوجد مد ّرس ماهر ‪-‬وعمدا ً ال أذكر اسمه‪ -‬كان يد ّرس القوانني‬ ‫ّ‬
‫واملط ّول وكان مشهورا ً بق ّوة الذاكرة وسعة اطّالعه‪ .‬ونام ذات ليلة‪ ،‬وعندما استيقظ‬
‫يصل الصبح فنيس سورة الحمد‪.‬‬ ‫صباحاً رأى أنّه فقد ذاكرته‪ ،‬حتّى إنّه كان يريد أن ّ‬
‫صل سبعني سنة‪ ،‬واآلن ال يتذكّر الصالة‪ ،‬فتح القرآن رأى نفسه أنّه ال يستطيع‬ ‫لقد ّ‬
‫القراءة‪ .‬لقد فقد ذاكرته إىل ح ّد أنّه مل يعد مي ّيز األلف من الباء وبقي عىل هذه الحال‬
‫إىل أن مات(((‪.‬‬

‫((( استعاذه‪ ،‬ص‪.240‬‬


‫‪235‬‬

‫بالحق‪...‬‬
‫ّ‬ ‫إقرار‬
‫عساتلا مسقلا‪ :‬عضاوتلا‬

‫بالحق‪ ،‬فإذا الحظوا أثناء املناظرات واملباحثات أ ّن الطرف املقابل‬


‫املتواضعون يق ّرون ّ‬
‫بكل معنى الكلمة‪.‬‬‫للحق ّ‬
‫الحق يسلّمون‪ ،‬بدون أدىن محاولة التفاف‪ ،‬ويخضعون ّ‬ ‫يقول ّ‬
‫ّ‬
‫الميرزا الشيرازي ‪M‬‬

‫يقول الشيخ آقا بزرﮒ يف سياق تعداد تالمذة املريزا‪:‬‬


‫األنصاري‪ ،‬وكان مرجعاً يف مدينته‪ ،‬وبعد‬
‫ّ‬ ‫العلمة‬
‫الهرندي تلميذ ّ‬
‫ّ‬ ‫«كان املوىل مح ّمد‬
‫سنة ‪1300‬هـ‪.‬ق رجع إىل العراق لزيارة العتبات املق ّدسة‪ ،‬وكان له لقاء باملريزا‪ ،‬وجرى‬
‫بحث هذين العظيمني يف إحدى املسائل‪ ،‬وبعد ذلك عاد إىل الكاظم ّية‪ .‬وتن ّبه املريزا‬
‫الهرندي‪ ،‬فأمر أن يكتبوا له بذلك ويرسلوا‬‫ّ‬ ‫الحق مع املوىل‬
‫ازي يف ما بعد أ ّن ّ‬‫الشري ّ‬
‫الحق معه‪.‬‬ ‫الرسالة إليه مع رسول يتو ّجه إليه لهذا السبب قبل مغادرته ليخربه بأ ّن ّ‬
‫‪-‬األنصاري‪ -‬من التالمذة الفحول مألوا فجاج األرض‬
‫ّ‬ ‫قال املريزا‪ :‬كم للمرحوم الشيخ‬
‫وهم مجهولون!»(((‪.‬‬
‫الرجوع عن الفتوى‬
‫جاء حول العامل الكبري املرحوم املريزا إبراهيم الخو ّيئ ‪ :M‬ولد سنة ‪ 1248‬يف‬
‫خوى‪ ،‬ويف الخامسة والعرشين ذهب إىل النجف األرشف‪ ،‬ودرس فيها عىل الشيخ وبعده‬
‫عىل الس ّيد الكوهكمري يف الفقه واألصول واستجاز يف الرواية من الشيخ مح ّمد حسني‬

‫((( مريزاي شريازي‪ ،‬ص‪.145‬‬


‫الكاظمي والشيخ مهدي كاشف الغطاء‪ .‬كانت مرتبته العلم ّية بحيث إنّه تباحث مع‬ ‫ّ‬ ‫‪236‬‬
‫ازي‬
‫ازي يف مسألة فقه ّية واختلفا يف الفتوى فيها‪ .‬وعندما ج َّدد املريزا الشري ّ‬
‫املريزا الشري ّ‬
‫الحق مع الخو ّيئ فعدل عن فتواه وأخرب املريزا الخو ّيئ‬
‫النظر يف مدرك املسألة‪ ،‬وجد أ ّن ّ‬
‫ازي الكبري يف أوج النفوذ والشهرة‪ ،‬إىل ح ّد‬
‫بذلك(((‪ .‬حدث ذلك عندما كان املريزا الشري ّ‬
‫اإلنكليزي يف‬
‫ّ‬ ‫أنّه قىض ‪-‬يف زمان الشاه القاجاري‪ -‬بسطر واحد عىل نفوذ االستعامر‬
‫إيران‪.‬‬
‫في مجلس الدرس‬
‫اشرتك اآلخوند الخراسا ّين ذات يوم يف درس أستاذه يف سام ّراء ليت ّربك بحديثه‪ .‬كان‬
‫يستدل عىل وجهة نظره يف إحدى مسائل الدرس‪ ،‬فأشكل‬ ‫ّ‬ ‫األستاذ جالساً عىل منرب‬
‫اآلخوند عىل ما اختاره األستاذ وأوضح رأياً آخر يتب ّناه‪ .‬وأجابه األستاذ مف ّندا ً أدلّة‬
‫تلميذه‪ ،‬وأضاف أدلّة أخرى عىل ما ذهب إليه‪ .‬وتك ّرر هذا األمر بينهام م ّرتني أو ثالثاً‬
‫الطلب ساكتني يتابعون ما يجري بدقّة‪ ،‬وعندما احتدم النقاش قبل اآلخوند‬ ‫وكان سائر ّ‬
‫رأي أستاذه احرتاماً له وسكت‪ .‬انتهى الدرس‪ ،‬ويف اليوم التايل عندما ارتقى املريزا املنرب‬
‫الطلب والفضالء الحارضين قائالً‪« :‬املسألة التي دار‬ ‫وقبل أن يبدأ الدرس‪ ،‬تو ّجه إىل ّ‬
‫الحق مع جناب اآلخوند ورأيه هو الصحيح»(((‪.‬‬ ‫البحث فيها أمس ّ‬
‫األستاذ المتواضع‬
‫ائري ‪ ...« :M‬وما أحسن اإلنصاف من‬ ‫يقول املح ّدث الخبري الس ّيد نعمة الله الجز ّ‬
‫العامل‪ ،‬وقد كان يل شيخ جليل قرأت عليه كثريا ً من العرب ّية واألصول فام وجدت أحدا ً‬
‫ربا أشكلت املسألة علينا وقت الدرس‪ ،‬فإذا طالعتها أنا وكنت‬ ‫أنصف منه‪ ،‬وذلك أنّه ّ‬
‫الحق وغلطت أنا وجميع هؤالء»‪ ،‬فيغلّط‬ ‫أصغر الرشكاء س ّناً قال يل ذلك الشيخ‪« :‬هذا ّ‬
‫يل ما خطر بخاطرك‬ ‫نفسه والطلبة ألجل معرفته بص ّحة كالمي‪ ،‬ث ّم يقول يل‪ :‬إ ْملِ ع ّ‬

‫((( زندﮔـاين وشخصيت شيخ أنصاري‪ ،‬ص‪.171‬‬


‫((( مرﮔـي درنور‪ ،‬ص‪.71‬‬
‫حتّى أعلّقه حاشية عىل كتايب»‪ ،‬فأميل أنا عليه وهو يكتبه حاشية‪ ،‬وهو وقت تأليف‬
‫‪237‬‬
‫البحريني م ّد الله‬
‫ّ‬ ‫هذا الكتاب يف بالد حيدر آباد من بالد الهند واسمه الشيخ جعفر‬
‫أيّام سعادته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األردبيلي‬ ‫المحقق‬
‫يل ‪-‬رضوان‬
‫الشوشرتي واملق ّدس األردبي ّ‬
‫ّ‬ ‫كانت تدور مباحثات بني الشيخ عبد الله‬
‫الله عليهام‪ -‬وكثريا ً ما كان املق ّدس يسكت أثناء البحث أو يطلب تأجيل البحث‬
‫عساتلا مسقلا‪ :‬عضاوتلا‬

‫الشوشرتي ويخرجان من البلد‪ ،‬فيقول له‪« :‬هات‬‫ّ‬ ‫العلمة‬


‫لرياجع املسألة‪ ،‬ث ّم يأخذ بيد ّ‬
‫ويبي رأيه يف وجوهها‪ .‬ويسأله الشوشرتي‪:‬‬ ‫مسألتك»‪ .‬فيتكلّم فيها بالتفصيل والتحقيق ّ‬
‫تبي ذلك هناك مع إحاطتك التا ّمة باملسألة»؟ فيقول‪« :‬ك ّنا نتباحث أمام اآلخرين‬ ‫«ملَ ملْ ّ‬
‫وكان من املمكن أن ندخل يف املجادلة ومحاولة تغلّب أحدنا عىل اآلخر‪ .‬ولكن هنا ال‬
‫أحد ّإل الله تعاىل ونحن مبنأى عن املباهاة واملفاخرة»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫األنصاري‬ ‫الشيخ‬
‫العلمي‪ ،‬يصغي متام اإلصغاء إىل ك ُِّل من يتح ّدث‬
‫ّ‬ ‫األنصاري رغم مستواه‬
‫ّ‬ ‫كان الشيخ‬
‫الطلب‪ ،‬وذات يوم قال الشيخ من فوق منرب‬ ‫يف مجلس الدرس‪ ،‬حتّى إذا كان من أصغر ّ‬
‫التدريس‪:‬‬
‫يل بن الشيخ‬ ‫اقي والشيخ ع ّ‬‫«أيّام دراستي بخدمة رشيف العلامء واملوىل الرن ّ‬
‫(املعروف بكاشف الغطاء) كنت مغرورا ً بذهني وإدرايك وذاكريت‪ ،‬بحيث ّإن كنت كلّام‬
‫تع ّمقت يف مطلب ووصلت فيه إىل رأي‪ ،‬مل أكن أعد أهت ّم مبا يقوله أساتذيت حوله‪ ،‬بل مل‬
‫كل ما يقولونه حول ذلك املطلب‪ ،‬ولك ّني اآلن وصلت إىل قناعة رضورة‬ ‫أكن أستمع إىل ّ‬
‫ألن ج ّربت فوجدت ّأن قد أرجع عن‬ ‫الطلب حتّى آخر كالمه؛ ّ‬ ‫أقل ّ‬
‫اإلصغاء حتّى إىل ّ‬
‫رأي تبن ّيته‪ ،‬بسبب كالم طالب مبتدئ»(((‪.‬‬

‫((( األنوار النعامن ّية‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.4‬‬


‫((( زندﮔـاين وشخصيت شيخ أنصاري‪ ،‬ص‪.78 - 77‬‬
‫ازي قليل الكالم يف درس الشيخ‪ ،‬وعندما كان يتكلّم أحياناً كان‬ ‫كان املريزا الشري ّ‬ ‫‪238‬‬
‫صوته هادئاً إىل ح ّد أ ّن الشيخ كان يضطر أن مييل بات ّجاهه ليسمع كالمه‪ .‬وكلّام كان‬
‫املريزا يريد الكالم كان الشيخ يسكت الحارضين قائالً‪« :‬جناب املريزا يريد أن يتكلّم»‪.‬‬
‫(أي يعيد عرضه عليهم)‪ .‬ومن يعرف‬ ‫للطلب ّ‬ ‫وبعد أن يستمع إىل كالمه‪ ،‬يق ّرره الشيخ ّ‬
‫الشيخ يعلم مدى أه ّم ّية هذا األمر وعظمته(((‪.‬‬
‫تكريم التلميذ‬
‫كان الشيخ حسن صاحب «املعامل» والسيّد مح ّمد صاحب «املدارك» معاً تلميذ َْي‬
‫يل ‪ M‬عند تدريسه لهام مشغوالً بكتابة كتابه‬ ‫يل وكان املق ّدس األردبي ّ‬
‫املحقّق األردبي ّ‬
‫العلمة ‪ M‬وكان يق ّدم لهام أقساماً من كتابه ويقول‪« :‬أصلحا‬ ‫القيّم رشح إرشاد ّ‬
‫عباراته غري الفصيحة»‪ .‬وكان يفعل ذلك دون أن يهت ّم مبا قد يقال من أنّه يستعني‬
‫بطلبه‪ .‬إن يف ذلك لعربة(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫االستفادة من التلميذ‬
‫الربوجردي ‪-‬رضوان‬
‫ّ‬ ‫العلمي‪ ،‬وقدرة االستنباط عند آية الله العظمى‬
‫ّ‬ ‫بلغ املستوى‬
‫الله عليه‪ -‬إىل ح ّد أنّه كان يف شبابه يعرتض عىل أستاذه اآلخوند الخراساين ويشكل‬
‫اإلسالمي؛ فقد‬
‫ّ‬ ‫يقل نظريهم يف العامل‬
‫عليه‪ .‬كان اآلخوند الخراسا ّين من املد ّرسني الذين ّ‬
‫كان يف األصول عاملاً استثنائ ّياً‪ ،‬ومن أساتذة هذا العلم كام كان يف ف ّن التدريس أستاذا ً‬
‫ال نظري له‪ ،‬وكان يتمتّع بقدرة عجيبة يف البيان والتحقيق والتقرير‪ .‬كان يشرتك يف درسه‬
‫ولعل خمسمئة منهم كانوا مجتهدين‪ .‬يقال إ ّن صوته كان‬ ‫شخص ّ‬ ‫حواىل ألف ومائتي ٍ‬
‫مكب كان ميأل فضاء املسجد‪ ،‬وإذا أراد تلميذ أن يُش ِكل كان‬
‫قويًّا بحيث إ ّن صوته بدون ّ‬
‫عليه أن يقف ويقول ما يريد‪.‬‬

‫((( مريزاي شريازي‪ ،‬ترجمة هدية الرازي‪ ،‬ص‪.37‬‬


‫((( ريحانة األدب‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.393‬‬
‫يف مقابل أستاذ قدير من هذا النوع وقف آية الله الربوجردي ‪-‬ويف شبابه‪ -‬وطرح‬
‫‪239‬‬
‫يل كالمك» وك ّرر الربوجردي‬
‫إشكاله وق ّرر ما يريد بيانه‪ ،‬قال املرحوم اآلخوند‪« :‬أعد ع ّ‬
‫كالمه‪ ،‬فرأى اآلخوند أ ّن كالمه سليم‪ ،‬وإشكاله وارد؛ ولذلك قال‪:‬‬
‫«الحمد لله مل أمت حتّى استفدت من تلميذي»‪« ،‬التواضع دليل الوصول إىل الكامل‬
‫أل ّن الراكب عندما يصل يرت ّجل»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫عساتلا مسقلا‪ :‬عضاوتلا‬

‫مع اإلمام الخميني {‬

‫يقول اإلمام يف أحد مؤلّفاته الق ّيمة‪« :‬وإذا كنت ‪-‬ال سمح الله‪ -‬من أهل الجدال‬
‫واملراء يف املباحثة العلم ّية ‪-‬كام يتّصف بعضنا نحن الطلبة بهذه الرسيرة القبيحة‪-‬‬
‫علمي يف املجالس الرسم ّية الحافلة‬
‫رصف مل ّدة بخالف ما تهوى نفسك‪ .‬فإذا دار نقاش ّ‬‫فت ّ‬
‫بالعلامء والعوا ّم‪ ،‬ورأيت أ ّن الطرف اآلخر يقول شيئاً صحيحاً‪ ،‬فاعرتف بخطئك وأيّد‬
‫كالمه‪ ،‬واملأمول أن تتخلّص من هذه الرذيلة يف فرتة قصرية‪ .‬إن شاء الله ال يكون كالم‬
‫بعض أهل العلم وم ّدعي املكاشفة صحيحاً! يقول‪ :‬كشف يل يف إحدى املكاشفات‬
‫أ ّن «تخاصم أهل النار((( الذي أخرب به الله تعاىل هو مجادلة أهل العلم والحديث»‪.‬‬
‫وإذا احتمل اإلنسان النصيحة فيجب أن يجتهد كثريا ً ليكون بصدد التخلّص من هذه‬
‫الخصلة‪.‬‬
‫واألحاديث يف هذا الباب كثرية‪ ،‬وما أقبح أن يُ ْح َرم اإلنسان بوساطة مغالبة جزئ ّية‬
‫ال طائل تحتها وال مثر لها وال أثر‪ ،‬من شفاعة الرسول األكرم ‪ P‬ويُح ِّول مذاكرة العلم‬
‫التي هي من أفضل الطاعات ‪-‬إذا وقعت بالقصد الصحيح‪ -‬إىل أعظم املعايص‪ ،‬فتجعله‬
‫تايل عبدة األوثان»(((‪.‬‬

‫((( حكايتها وهدايتها در آثار شهيد مطهري ص‪ ،106‬والسطر األخري ترجمة بيت شعر فاريس‪.‬‬
‫َّ َ َ َ ّ ‪َ ُ َ َ ٞ‬‬
‫اص ُم أ ۡه ِل ٱنلَّارِ﴾ سورة ص‪ ،‬اآلية ‪.64‬‬‫لق ت‬ ‫((( إشارة إىل قوله تعاىل‪﴿ :‬إِن ذٰل ِك َ‬
‫املروي عن رسول الله‬
‫ّ‬ ‫((( «األربعون حديثًا‪ ،‬الحديث األ ّول‪ ،‬ص‪ 152 - 151‬والعبارة األخرية إشارة إىل الحديث‬
‫رب بعد عبادة األوثان املراء»‪ ،‬منية املريد‪ ،‬ص‪.158‬‬ ‫‪« :P‬ذروا املراء فإنّ أ ّول ما نهاين عنه ّ‬
‫القسم العاشر‬

‫التسامح والنبل‬

‫ْ‬ ‫ْ َّ ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َُ ُ ۡ َ ُ َ َ ُ ْ َ‬
‫جٰ ِهلون قالوا َسل ٰ ٗما﴾ ﴿ِإَوذا َم ُّروا بِٱللغوِ َم ُّروا ك َِر ٗاما ‪﴾72‬‬ ‫﴿ِإَوذا خاطبهم ٱل‬
‫(سورة الفرقان‪ ،‬اآليتان ‪ 63‬و ‪)72‬‬
‫‪243‬‬

‫إحدى الصفات الفاضلة واألخالق الحميدة التي أكّدت عليها اآليات والروايات‪،‬‬
‫مسألة التسامح والعفو عن الحمقى والجهلة والتح ّمل والنبل يف مقابل البلهاء‪.‬‬
‫رشاعلا مسقلا‪ :‬لبنلاو حماستلا‬

‫يجب أن يكون صدر اإلنسان كالبحر‪ ،‬فال يبادر إىل االنتقام مبج ّرد أن يؤذيه أحد‪ ،‬بل‬
‫ينبغي أن ينظر إىل مثل هذه األمور بعني التسامح‪ ،‬فال يضيق صدره‪ ،‬وال ينكرس قلبه‪،‬‬
‫وال يثنيه ذلك عن مواصلة السري باتّجاه هدفه‪ .‬وباإلضافة إىل العفو عن امليسء‪ ،‬ينبغي‬
‫أن يحسن إليه‪.‬‬
‫أقل إهانة أو احتقار يواجههم‪ ،‬هم ض ّيقو األفق‪،‬‬ ‫الذين يتحفّزون لالنتقام لدى ّ‬
‫مل تنفعهم إنسان ّيتهم‪ .‬ما أكرث ما رأينا أشخاصاً يستشهدون بكالم آذاهم قبل عرشات‬
‫السنني‪ ،‬وما زالوا يفكّرون بالعقاب الذي يشفي غليلهم بأيّة وسيلة وأيّة حيلة‪ ،‬ميكنهم‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫﴿وأن َت ۡع ُف ٓوا ْ أ ۡق َر ُب ل َِّلت ۡق َو ٰۚ‬
‫ى﴾(((‪ .‬ومل‬ ‫تحقيق ذلك‪ ،‬كأنّه مل يقرع أسامعهم قوله تعاىل‪:‬‬
‫َ‬ ‫ۡ َ ۡ َّ‬
‫ه أ ۡح َس ُن﴾(((‪.‬‬ ‫ٱلت ِ َ‬
‫يالمس شغاف قلوبهم هذا النداء امل ّحبب‪﴿ :‬ٱدفع ب ِ ِ‬
‫بالتحل‬
‫ّ‬ ‫ولقد مدح القرآن الكريم املتّصفني بهذه الصفة الحميدة وأمر املسلمني‬
‫بها‪ .‬قال تعاىل‪:‬‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َّ ۡ َ ۡ ُ ْ َ ۡ َ ُ ْ َ ٓ َ ۡ ُ َ ُ َ ۡ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫﴿ِإَوذا َس ِم ُعوا ٱللغ َو أع َرضوا عن ُه َوقالوا لَا أع َمٰل َنا َولك ۡم أع َمٰلك ۡم َسل ٰ ٌم َعل ۡيك ۡم‬
‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ل نَ ۡب َت ِغ ٱل َجٰ ِهل َِني﴾(((‪.‬‬

‫((( سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.237‬‬


‫((( سورة فصلت‪ ،‬اآلية ‪.34‬‬
‫((( سورة القصص‪ ،‬اآلية ‪.55‬‬
‫كام نجد يف أحاديث التأكيد عىل ذلك‪:‬‬
‫‪244‬‬
‫‪ - 1‬عن رسول الله ‪« :P‬أال أخربكم بخري خالئق الدنيا واآلخرة؟ العفو ع َّمن‬
‫ظلمك‪ ،‬وتصل من قطعك‪ ،‬واإلحسان إىل من أساء إليك‪ ،‬وإعطاء من حرمك»(((‪.‬‬
‫‪ - 2‬وعنه ‪« :P‬عليكم بالعفو فإنّ العفو ال يزيد العبد ّإل ع ّزاً فتصافوا يع ّزكم‬
‫الله»(((‪.‬‬
‫‪ - 3‬عن أمري املؤمنني ‪- Q‬يف وصف املتّقي‪« :‬يعفو ع ّمن ظلمه‪ ،‬ويعطي من‬
‫حرمه‪ ،‬ويصل من قطعه»((( ومن الواضح طبعاً أ ّن العفو ومقابلة اإلساءة باإلحسان‬
‫عندما يتعلّق بالحقوق الفرديّة يكون ممدوحاً‪ ،‬أ ّما إذا تعلّق باآلخرين واأل ّمة‬
‫اإلسالم ّية ومصالح املجتمع‪ ،‬فليس باستطاعة أحد أن يعفو‪ ،‬وال ب ّد أن ينال املجرم‬
‫الرشعي والقانو ّين؛ فالعفو مذموم عندما يكون سبباً لتامدي الظامل والجاهل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عقابه‬
‫«ال ترىض بإظهار العجز أمام الظامل فإ ّن دموع الشعراء سبب طغيان النار»‪.‬‬
‫«الرحمة للنمر الحا ّد األسنان ظلم لألغنام»(((‪.‬‬
‫الخميني { كيف أ ّن هذا العظيم ال يعرف املساومة وال التنازل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫خذ مثالً اإلمام‬
‫فهو يزأر عىل الظامل كاألسد الهصور‪ ،‬ولكن مل يسمع حتّى اآلن يتح ّدث عن ظلم‬
‫لحق به ويشكو من ذلك‪ .‬ومل يقل ولو م ّرة واحدة األعداء يظلمونني شخص ًّيا أو أنّهم‬
‫يهينونني‪ ،‬ومع أنّه ال يكاد يخلو يوم ّإل وتو ّجه إليه أسوأ الشتائم يف وسائل اإلعالم‬
‫الداخل ّية والخارج ّية‪ .‬إنّه يف الحقيقة ال يرى نفسه ليدافع عن نفسه‪ ،‬وما ميأل أفقه هو‬
‫الله تعاىل ودينه‪.‬‬

‫((( الكايف‪ ،‬الرتجمة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.168 - 166‬‬


‫((( املصدر نفسه‪.‬‬
‫((( نهج البالغة‪ ،‬صبحي الصالح‪ ،‬ص‪ ،305‬خطبة هامم ‪.193‬‬
‫((( مضمون بيتني لصائب وسعدي‪.‬‬
‫وهذه مناذج من سرية العلامء حول هذا املوضوع‪:‬‬
‫‪245‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المحقق الطوسي ‪M‬‬

‫الطويس ‪« :M‬سلّم شخص رسالة إىل‬ ‫ّ‬ ‫جاء يف سرية املحقق الشيخ نصري الدين‬
‫املحقّق من شخص آخر تتض ّمن أسوأ السباب والشتائم‪ ،‬وفيها قوله عن املحقّق «الكلب‬
‫ابن الكلب»‪.‬‬
‫رشاعلا مسقلا‪ :‬لبنلاو حماستلا‬

‫فقال املحقّق مالطفاً‪« :‬وصفه يل بالكلب غري صحيح ؛ أل ّن الكلب من الحيوانات‬


‫التي تسري عىل أربع‪ ،‬وهو يعوي‪ ،‬وجلده مكس ّو بالوبر‪ ،‬وله أظافر طويلة‪ ،‬وهذه‬
‫الخصوص ّيات ليست موجودة ّيف‪ ،‬فإ ّن قامتي مستقيمة وجسدي ال يكسوه الوبر‬
‫وخواصه وما‬
‫ّ‬ ‫وخواص غري فصول الكلب‬‫ّ‬ ‫وظُفْري عريض وأنا ناطق وضاحك‪ ،‬وفصويل‬
‫هو موجود ّيف مناقض ملا قاله صاحب الرسالة ع ّني»‪.‬‬
‫وهكذا أجابه بهذه اللطافة دون أن يجري عىل لسانه كلمة س ّيئة أو يؤذي رسوله(((‪.‬‬
‫األستاذ األكبر‬
‫كل اإلساءات التي كانت تو َّجه‬‫جاء حول اآلخوند الخراساين ‪« :M‬كان يتح ّمل ّ‬
‫إليه من علامء السوء‪ ،‬بل إنّه لش ّدة حيائه كان يهت ّم بالقيام باآلداب االجتامع ّية تجاه‬
‫مصادر السوء أولئك‪ ،‬بل كان ذلك يزداد‪ .‬وإذا واجه أحدهم مشكلة ما‪ ،‬كان يبذل‬
‫جهده ملساعدته‪ ،‬وكان إذا جرى ذكرهم يف مجلسه يذكر أسامءهم مقرونة بالتعظيم‪،‬‬
‫ومل يكن يجرؤ أحد أن يذكرهم بسوء يف مجلسه(((‪.‬‬
‫يف أحداث «املرشوطة» عندما وقع الخالف بني الروحان ِّيني كثريا ً ما كان يتّفق أن‬
‫لحل مشاكل كانت تواجههم‪،‬‬ ‫يضط ّر بعض أفراد الطرف اآلخر إىل اللجوء إىل اآلخوند ّ‬
‫بكل رحابة صدر‪ .‬ذات م ّرة جاءه شخص‪ ،‬وكان من أش ّدهم وقيعة‬ ‫فكان يل ّبي طلباتهم ّ‬

‫((( بيدار ﮔران أقاليم قبله‪ ،‬ص‪ ،218‬والفوائد الرضوية‪ ،‬ص‪.609‬‬


‫((( مرﮔـي درنور‪.‬‬
‫فيه وذ ّماً له‪ .‬كان هذا الشخص من خطباء كربالء املعروفني‪ ،‬وأراد أن يبيع بيته ليس ّدد‬
‫‪246‬‬
‫وإل فال»‪.‬‬
‫ديونه‪ ،‬قال له املشرتي‪« :‬إذا وقّع اآلخوند عىل سند بيتك اشرتيه ّ‬
‫ومل يكن ذلك الخطيب مستع ّدا ً أبدا ً للذهاب إىل اآلخوند؛ ألنّه قد هاجم اآلخوند‬
‫مرارا ً وعىل رؤوس األشهاد لدفاعه عن املرشوطة‪ ،‬ومن جهة أخرى كان يخىش أن‬
‫يتع ّرض له أحد من مؤيّديه عند الذهاب إليه‪ ،‬فيكون قد ع ّرض نفسه للخطر‪ .‬ولكن‬
‫ضغط ال َدين ألجأه إىل ذلك‪ ،‬فجاء من كربالء إىل النجف والتقى الشيخ اآلخوند‪ ،‬احرتمه‬
‫وبي ذلك‬
‫وعب عن رسوره بلقائه‪ّ ،‬‬‫الشيخ كثريا ً‪ ،‬وأجلسه يف صدر املجلس وجلس دونه ّ‬
‫الشخص سبب مجيئه قائالً‪« :‬أرجو أن توقّع هذا السند ألستطيع أن أبيع بيتي»‪ .‬تناول‬
‫الشيخ السند من يده وقرأه‪ ،‬ث ّم وضعه تحت الفراش‪.‬‬
‫سه‪« :‬أرأيت؟ لقد كشف هذا الرجل‬ ‫واعتمل الحقد يف قلب الخطيب‪ .‬كان يقول يف ِ ِّ‬
‫عن حقيقته‪ ،‬مل يوقّع السند‪ ،‬بل أخذه م ّني ولن أستطيع بيع البيت أبدا ً»‪ .‬ويف هذه‬
‫األثناء‪ ،‬قام الشيخ وأخرج من خزانته ع ّدة أكياس من اللريات ودفعها إىل ذلك الخطيب‬
‫قائالً‪« :‬أنت من أهل العلم وأنا ال أرىض أبدا ً بضغط الحاجة عىل أهل العلم‪ ،‬خذ هذا‬
‫رشد عائلتك‪ ،‬وإذا احتجت أيضاً ‪ -‬ال سمح الله‪-‬‬ ‫املبلغ‪ ،‬وأ ِّد ديونك وال تبع بيتك فت ّ‬
‫القصة‪« :‬عندما‬
‫فتفضّ ل إىل هنا‪ ،‬إذا كان عندي ما تحتاجه فسأكون ممت ّناً»‪ .‬يضيف ناقل ّ‬
‫رأى الخطيب ذلك وسمع‪ ،‬غمره الحياء وسيطر عليه الخجل‪ ...‬إىل ح ّد أنّه أصبح عند‬
‫ذلك من أنصار الشيخ ومح ّبيه»(((‪.‬‬
‫يقول آية الله الس ّيد هبة الدين الشهرستا ّين ‪:M‬‬
‫كنت ذات يوم يف منزل الشيخ اآلخوند يف النجف‪ ،‬وكنت جالساً يف خدمته‪ ،‬وكان‬
‫ذلك عندما بدأت ثورة املرشوطة يف إيران ووقع االختالف بني العلامء‪ .‬يف ذلك اليوم‬
‫اليزدي وأريد أن‬
‫ّ‬ ‫جاء سيّد إىل منزل اآلخوند وقال له‪« :‬أنا أقلّد آية الله السيّد كاظم‬

‫((( مرﮔـي درنور‪ ،‬ص‪.382 - 381‬‬


‫أجري معاملة مع فالن فأخذت له ختم وإمضاء وإجازة الس ّيد كاظم اليزدي وحيث إنّه‬
‫‪247‬‬
‫يقلّدكم فلم يوافق وقال‪ :‬ائتني بإجازة اآلخوند»‪ .‬فقطع أستاذنا اآلخوند كالمه وقال‪:‬‬
‫«اذهب وقل له عن لساين يقول اآلخوند‪ :‬إذا كنت واقعاً تقلّدين فيجب أن تضع ختم‬
‫اليزدي وإمضاءه عىل رأسك وتطيعه فورا ً»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الس ّيد كاظم‬
‫ّ‬
‫الميرزا الشيرازي ‪M‬‬

‫«مل يكن له ‪ M‬نظري يف حسن اللقاء وحسن السليقة وحالوة الحديث‪ .‬عند‬
‫رشاعلا مسقلا‪ :‬لبنلاو حماستلا‬

‫أي شخص كان يوفِّيه حقّه‪ ،‬بحيث إ ّن ذلك الشخص يفارقه راضياً مرسورا ً‪ .‬مل‬ ‫اللقاء مع ّ‬
‫يكن أحد يتمتّع مبثل رحابة صدره‪ .‬كان الداخلون عليه كثريين ج ّدا ً‪ ،‬وكان فيهم املؤمن‬
‫كل منهم مبا يناسب شأنه‬ ‫واملنافق والخائن واألمني‪ ،‬الصالح والطالح‪ ،‬وكان يتح ّدث مع ّ‬
‫ومنزلته‪ .‬قسامً بالله‪ ،‬إنّه مل يقل كلمة نابية حتّى ملستحقّها‪ ،‬ومل يقطّب يف وجه أحد‪،‬‬
‫بالتبسم‬
‫ّ‬ ‫ومل يجاز اإلساءة ّإل باإلحسان‪ ،‬بل كان يخاطب امليسء بأعذب منطق مقروناً‬
‫نبي اإلسالم العظيم»(((‪.‬‬
‫واالعتذار‪ .‬إنّه ال ُخلُق العظيم الذي ورثه من ّ‬
‫«إذا كان سليامن قد أودع املارد السجن فأودع مارد طبعك السجن وكن سليامن»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العلمة الطباطبائي ‪M‬‬

‫العلمة‪:‬‬
‫يقول أحد تالمذة ّ‬
‫كانت لألستاذ الجليل يف مواجهة س ّيئي الرسيرة والشياطني طريقة مستوحاة من‬
‫الكتاب والس ّنة‪ .‬أتذكّر عندما قام أحمق مغرض بعمل جاهل إلضعاف شخص ّيته العلم ّية‬
‫ََ َ ُ ۡ ۡ‬
‫ِيق ٱل َمك ُر‬ ‫بكل هدوء واطمئنان‪﴿ :‬ول ي‬
‫واستجازه جمع من مح ّبيه يف التص ّدي له‪ ،‬قال ّ‬
‫َّ َ‬
‫ٱلس ّي ِ ُئ إِل بِأ ۡهلِهِۚۦ﴾((( ورسعان ما أصبح ذلك الجاهل مصداق هذه اآلية الرشيفة‪ .‬وقد‬
‫َّ‬

‫((( املقامات العل ّية‪ ،‬ص‪.49‬‬


‫((( مريزاي شريازي‪ ،‬ص‪.49 - 48‬‬
‫((( مضمون بيت شعر فاريس‪.‬‬
‫((( سورة فاطر‪ ،‬اآلية ‪.43‬‬
‫تك ّررت هذه التجربة مع ع ّدة أشخاص ابتلوا مبصائب وفضائح عجيبة‪ ،‬وقد ثبتت هذه‬
‫‪248‬‬
‫الحقيقة عمل ّياً‪ ،‬وهي أ ّن كفران نعمة وجود الرجال اإلله ِّيني وإساءة األدب إىل العلامء‬
‫سبب يف سلب التوفيق‪ ،‬والخذالن واالفتضاح يف الدنيا واالخرة»(((‪.‬‬
‫«تعلّم الحلم من الصدف‪ ،‬فمن يقطع رأسك ق ّدم له الجواهر ال يعكّر الحجر صفو‬
‫بحر متالطم‪ ،‬العارف الذي يتألّم ما زال ماؤه ضحالً»(((‪.‬‬
‫العفو عن القاتل‬
‫يف عرص زعامة املرحوم آية الله العظمى الس ّيد أيب الحسن األصفها ّين‪ ،‬ويف إحدى‬
‫يصل صالة املغرب والعشاء جامع ًة أقدم شخص‬ ‫الليايل بينام كان يف النجف األرشف ّ‬
‫عىل قتل ابنه الذي كان أهالً لخالفة والده حقًّا‪ .‬وعندما اطّلع هذا الرجل ابن السبعني‬
‫عاماً عىل خرب شهادة ابنه‪ ،‬أظهر من الصرب والتح ّمل ما ال يوصف‪ ،‬قال‪ :‬ال حول وال قوة‬
‫وصل العشاء‪ ،‬وعفا عن قاتل ابنه(((‪.‬‬‫إلّ بالله‪ ،‬ث ّم قام ّ‬
‫ال تُشح بوجهك عن املذنب أيّها العابد‪ ،‬وانظر إليه نظرة عفو إذا كنت أنا قد فعلت‬
‫فعل اللئام‪ ،‬فم َّر يب أنت مرور الكرام‪.‬‬
‫سمعت أحد أساتذة األخالق الكبار يقول‪ :‬كان آية الله األصفها ّين يأخذ شهريّاً ّ‬
‫رصة‬
‫تصل إليه ويلقيها يف النهر‪ ،‬وكان من العظمة‬ ‫من رسائل اإلهانة والشتائم التي كانت ُ‬
‫عم فيها أبدا ً‪ ،‬وكان يسامح أصحابها‪.‬‬‫بحيث إنّه مل يكن يتكلّم بيشء ّ‬
‫الربوجردي نقالً عن خادمه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وينقل شبيه ذلك عن آية الله العظمى‬

‫((( يادنامه عالمة‪ ،‬ص‪.41 - 40‬‬


‫((( مضمون بيتني‪ /‬الثاين السعدي‪.‬‬
‫((( ﮔـنجينئه دانشمندان‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،221‬للتوسع راجع «الكالم يجر الكالم»‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.208 - 207‬‬
‫الدعاء للتلميذ‬
‫‪249‬‬
‫ائري‪:‬‬
‫يقول السيّد الجز ّ‬
‫«وأ ّما تالميذنا فمنهم من آذانا غاية اإليذاء‪ ،‬وعقَّنا نهاية العقوق‪ ،‬فنحن نقول‪ :‬اللّهم‬
‫بحق مح ّمد‬
‫لكل خري ّ‬‫قابل إساءته إلينا باإلحسان‪ ،‬وقابل عقوقه لنا ب ّربك به‪ ،‬ووفّقه ّ‬
‫وآله الطاهرين»(((‪.‬‬
‫رشاعلا مسقلا‪ :‬لبنلاو حماستلا‬

‫«من السهل أن تجازي اإلساءة باإلساءة‪ ،‬إن كنت رجالً فأحسن إىل من أساء إليك»‪.‬‬
‫«أنا أيسء وأنت تجازيني باإلساءة‪ ،‬فأخربين ما الفرق بيننا إذًا؟»(((‪.‬‬
‫التكفير‬
‫واألجلء‪ ،‬ولك ّن‬
‫ّ‬ ‫كان الشيخ محمود ‪-‬حفيد الوحيد البهبها ّين‪ -‬من العلامء الكبار‬
‫تفاهم بينهام‪ -‬أفتى‬
‫ٍ‬ ‫املريزا املسيح ‪-‬الذي كان أحد العلامء املعارصين له ونتيجة سوء‬
‫رشف بزيارة املعصومة ‪.O‬‬ ‫بكفره‪ .‬وم ّرت م ّدة‪ ،‬ث ّم جاء املريزا املسيح إىل ق ّم للت ّ‬
‫العسكري ‪ Q‬وهو أحد أكرب مساجد ق ّم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وصل جامع ًة يف مسجد اإلمام الحسن‬ ‫ّ‬
‫ولحسن الح ّظ كان الشيخ محمود قد جاء إىل ق ّم قبل ذلك‪ ،‬وعلم أ ّن املريزا املسيح‬
‫يقيم الجامعة فحرض إىل املسجد واقتدى باملريزا يف الصالة‪ .‬وبعد الصالة سأله من‬
‫حوله باستغراب‪« :‬املريزا املسيح يكفّرك وأنت تحرض جامعته؟» فقال يف الجواب‪« :‬وما‬
‫املانع؟ ال منافاة يف أن يشتبه األمر عىل املريزا ويحكم بكفري‪ .‬ولكن أعتربه أنا عادالً‪،‬‬
‫كل منا برأيه يكون مثاباً ومأجورا ً»‪ .‬وعندما بلغ‬ ‫وطبق املباين الفقه ّية‪ ،‬فعندما يعمل ّ‬
‫ذلك املريزا املسيح بادر إىل زيارة الشيخ وتح ّولت الخصومة إىل صداقة‪ .‬وكان املريزا‬
‫دامئاً معجباً بأخالق الشيخ(((‪.‬‬

‫((( األنوار النعامن ّية‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.92‬‬


‫((( ترجمة بيت منسوب للخ ّيام وما قبله ترجمه بني السعدي‪.‬‬
‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪.147 - 146‬‬
‫القصة عن املريزا الق ّم ّي صاحب «القوانني»‪ ،‬والحكيم الكبري‬
‫وقد نُقل شبيه هذه ّ‬ ‫‪250‬‬
‫النوري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يل‬
‫مل ع ّ‬
‫الشيخ ّ‬
‫ّ‬
‫سائل غير مؤدب‬
‫وزّع الشيخ جعفر كاشف الغطاء يوماً مبلغاً عىل فقراء أصفهان‪ ،‬وبعد نفاد املال‬
‫أ ّم املصلّني‪ .‬وبني الصالتني وفيام كان الناس منشغلني بالتعقيب‪ ،‬جاء سيّد فقري وقليل‬
‫األدب ووقف مقابل اإلمام قائالً‪« :‬أيّها الشيخ أعطني مال ج ّدي‪ ،‬الخمس»‪ .‬قال الشيخ‪:‬‬
‫«تأ ّخرت قليالً ولألسف مل يبق يشء»‪ .‬فام كان من هذا السيّد غري املؤ ّدب إلّ أن تفل‬
‫أي ر ّد فعل قاس‪،‬‬
‫بكل وقاحة‪ .‬أ ّما اإلمام‪ ،‬فإنّه ليس فقط مل يصدر عنه ّ‬
‫عىل لحية الشيخ ّ‬
‫يحب لحية‬
‫«كل شخص ّ‬ ‫بل نهض وأمسك طرف ثوبه ومىش بني املصلّني وهو يقول‪ّ :‬‬
‫الشيخ فليساعد السيّد» وكان الناس قد شاهدوا ما جرى فامتثلوا ومألوا طرف ثوب‬
‫يصل العرص(((‪.‬‬
‫الشيخ ماالً‪ .‬ث ّم جاء الشيخ وق ّدم ذلك كلّه إىل السيّد‪ ،‬ووقف ّ‬
‫ّ‬
‫الميرزا الشيرازي ‪M‬‬

‫عاطفي‪ ،‬فقام هذا باالعتداء‬‫ّ‬ ‫ازي لسبب‬


‫«كان يف سام ّراء رجل يحقد عىل املريزا الشري ّ‬
‫ببنت شفة‬ ‫فتوف بسبب ذلك‪ ،‬ومل ينبس املريزا ِ‬ ‫ازي ّ‬ ‫بالرضب عىل ابنه املريزا مح ّمد الشري ّ‬
‫ومل يصدر عنه أدىن ر ّد فعل‪ ،‬وحاول أعداء اإلسالم آنذاك استغالل هذه الحادثة إليجاد‬
‫اختالف بني املسلمني‪ .‬فجاء عدد منهم إىل سام ّراء‪ ،‬وقابلوا املريزا يف محاولة لتحقيق‬
‫هذا الهدف‪ ،‬وطلبوا منه أن ير ّد عىل ما حصل ويصدر تعليامته‪ .‬فأنكر عليهم املريزا‬
‫أي من أمورنا نحن‬ ‫يحق لكم التد ّخل يف ّ‬‫بش ّدة قائالً‪« :‬أريد أن تفهموا ج ّيدا ً أنّه ال ّ‬
‫املسلمني وهذه حادثة عادية وقعت بني أخوين»‪ .‬وخرجوا من بني يدي املريزا يج ّرون‬
‫أذيال الخيبة‪ .‬وعندما بلغ ذلك «الباب العايل» يف استامبول‪ ،‬فرح الخليفة العثام ّين بهذا‬
‫املوقف الذيكّ من مرجع الشيعة‪ ،‬وأمر وايل بغداد أن يقوم شخص ّياً بزيارة املريزا ويق ّدم‬

‫((( الفوائد الرضويّة‪ ،‬ص‪.74‬‬


‫له الشكر ويعتذر عن وقوع الحادثة مبدياً أسفه(((‪.‬‬
‫‪251‬‬
‫النبي يوسف ‪-‬عىل نب ّينا وآله عليه أفضل الصالة‬
‫رغم اإلساءة الشديدة من أخوة ّ‬
‫كل الشدائد واملصائب التي واجهها بسببهم فإنّه يف النتيجة عفا عنهم‬
‫والسالم‪ -‬ورغم ّ‬
‫وقال لهم‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫َ َ َ ۡ ُ ُ َ ۡ َ َ ۡ ُ َّ ُ ُ‬
‫ك ۡم َو ُه َو أ ۡر َح ُم َّ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ٱلر ٰ ِح َِني﴾(((‪.‬‬ ‫ٱلل ل ۖ‬ ‫ثيب عليكم ٱلوم ۖ يغفِر‬‫﴿ل ت ِ‬
‫رشاعلا مسقلا‪ :‬لبنلاو حماستلا‬

‫الديني يجب أن يتش ّبه بيوسف وليكن لسان حاله مرتنّ اً بقول الشاعر‪:‬‬
‫ّ‬ ‫والعامل‬
‫فمضيت مث ّـــة قــلــت ال يعنيني‬ ‫ولــقــد أمـــ ُّر عــى اللئيم يسبّني‬

‫((( شيخ آقا بزرﮒ‪ ،‬ص‪ ،29 - 28‬ترصح مصادر أخرى بأ ّن الذين أرادوا استغالل األمر هم اإلنكليز وأ ّن السفري‬
‫الربيطاين قام بزيارة املريزا فواجهه ‪M‬مبا ذكر ويبدو أ ّن األتراك كانوا وراء الحادثة باعتبار أ ّن املريزا شيعي‬
‫وإيراين وكان الخالف آنذاك بني تركيا وإيران كبريا ً فدخل االنكليز عىل الخ ّط وأدرك املريزا ذلك فقطع الطريق‬
‫عىل مكرهم األمر الذي حمل الخليفة العثام ّين عىل تقدير ذلك املوقف‪ ،‬بل ذكر أنّه طلب تفويض السفري‬
‫اإليرا ّين بحسم األمر وقد حكم املعن ّيون عىل البعض باإلبعاد ّإل أ ّن عفو املريزا شملهم (املع ِّرب)‪.‬‬
‫((( سورة يوسف‪ ،‬اآلية ‪.92‬‬
‫القسم الحادي عشر‬

‫الجماهير ّية وخدمة الناس‬

‫‪ٞ‬‬ ‫ٓ‬
‫َ ۡ َ َ ُ‬ ‫َ‬
‫ك ۡم َر ُسول‪:‬‬ ‫﴿لقد جاء‬
‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫‪ّ - 1‬م ِۡن أنفسِك ۡم‬
‫َ ٌ َ‬
‫يز َعل ۡيهِ َما َعن ُِّت ۡم‬ ‫‪ - 2‬عز‬
‫َ ِ ٌ َ َۡ ُ‬
‫‪ - 3‬ح ِريص عليكم‬
‫وف َّرح ‪ٞ‬‬ ‫ُۡ ۡ َ َُ ‪ٞ‬‬
‫ِيم﴾‬ ‫‪ - 4‬بِٱلمؤ ِمن ِني رء‬

‫(سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪)128‬‬


‫‪255‬‬

‫أنبياء اللّه واألمئّة املعصومون ‪ R‬هم أكرث الناس خدمة للناس‪ ،‬وأش ّدهم َح ْمالً‬
‫لهمومهم‪ ،‬وإحساساً بآالمهم؛ لقد واجهوا ألجل الناس مشاكل ال تُحت َمل‪ ،‬وعندما كانوا‬
‫رشع يداحلا مسقلا‪ :‬سانلا ةمدخو ةّيريهامجلا‬

‫يوا َجهون بعدم استجابة الناس لدعواتهم‪ ،‬كانت تبلغ بهم الحرسة عىل ضاللهم ح ّدا ً ال‬
‫يوصف‪ .‬يقول القرآن الكريم خطاباً للرسول األكرم ‪:P‬‬
‫ْ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ َ َ ٰ َّ ۡ َ‬ ‫َ َّ‬
‫كونُوا ُم ۡؤ ِمن َِني﴾(((‪.‬‬
‫َ ُ‬
‫خ ‪ٞ‬ع نف َسك أل ي‬
‫﴿لعلك ب ِ‬

‫ويف مكان آخر خطاباً للناس‪:‬‬


‫كم بٱل ۡ ُم ۡؤ ِمن ِنيَ‬
‫ُ ۡ َ ٌ َ َ ۡ َ َ ُّ ۡ َ ٌ َ َ ۡ ُ‬ ‫ََ ۡ َ َٓ ُ ۡ َ ُ ‪ُ َ ۡ ّ ٞ‬‬
‫ِ‬ ‫﴿لقد جاءكم رسول مِن أنفسِكم عزِيز عليهِ ما عن ِتم حرِيص علي‬
‫َُ ‪ٞ‬‬
‫وف َّرح ‪ٞ‬‬
‫ِيم﴾(((‪.‬‬ ‫رء‬

‫ومن الناحية املا ّديّة كان األنبياء واألمئّة‪ R‬يق ّدمون أكرب العون للفقراء‪ .‬وأحياناً‬
‫قيل ُم ْؤنَ ًة لهم كانوا يبكون رثا ًء لحالهم‪.‬‬
‫إذا مل يكن عندهم ما يُ ُ‬
‫ويشكل إيثار املوىل أمري املؤمنني وأهل بيته‪ R‬لليتيم واملسكني واألسري منوذجاً‬
‫ّ‬
‫لهذا النهج يف حمل ه ّم الناس والتفاين يف خدمتهم‪ ،‬د ّوى يف املأل األعىل وأنزل الرحمن‬
‫َۡ ََ‬
‫﴿هل أ ٰت‪ ﴾...‬وقد ورد يف الروايات تأكيد شديد عىل ذلك إىل ح ّد أ ّن الرسول‬ ‫فيه سورة‬
‫يهتم بأمور املسلمني فليس مبسلم»((( وقد سئل‬ ‫األكرم ‪ P‬يقول‪« :‬من أصبح ال ّ‬
‫أحب الناس إىل الله؟ فقال‪« :‬أنفع الناس للناس»(((‪.‬‬‫‪« :P‬من ّ‬

‫((( سورة الشعراء‪ ،‬اآلية ‪.3‬‬


‫((( سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.128‬‬
‫((( الكايف‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.238‬‬
‫((( املصدر السابق‪ ،‬ص‪.239‬‬
‫ويشهد التاريخ أ ّن أنفع الناس للناس وأش ّدهم خدمة لهم وحمالً لهمومهم بعد‬
‫‪256‬‬
‫واملعنوي‬
‫ّ‬ ‫األنبياء واألمئّة هم علامء الدين‪ ،‬وقد بذلوا جهودا ً ج ّبارة يف املجالني املا ّد ّي‬
‫املشاق‪ ،‬وواجهوا التح ّديات وأنواع الظلم والجنايات‬ ‫ّ‬ ‫عىل هذا الصعيد‪ ،‬وقد تح ّملوا‬
‫واالقتصادي‪ ،‬وإحياء القيم السامية اإلله ّية‬
‫ّ‬ ‫يف سبيل تحرير الناس من نري الفقر الثقايف‬
‫واإلنسان ّية ووضع إرص األغالل عن الناس‪ ،‬وذلك يف الحقيقة هو فلسفة وجود العامل‬
‫الروحا ّين‪.‬‬
‫يقول سعدي‪:‬‬
‫‪« -‬جاء ذو بصرية من املعبد إىل املدرسة ناقضاً عهد أصحاب الطريقة‪ ،‬فسألته عن‬
‫الفرق بني العامل والعابد حتّى فضَّ ل ذاك عىل هذا‪.‬‬
‫‪ -‬قال‪ :‬العابد يريد أن ينجو بنفسه مع طغيان املوج‪ ،‬والعامل يريد أن يأخذ بيد الغريق‬
‫لينقذه»(((‪.‬‬
‫ينصب سعي العامل عىل نجاة الغريق‪:‬‬‫ّ‬ ‫باختصار‪ ،‬يجب أن‬
‫«أسلك طريق الرجال األحرار وخذ بيد املنقطع يف الطريق»(((‪.‬‬
‫وهذه مناذج من سرية العلامء األبرار‪:‬‬
‫ّ‬
‫اإلمام الخميني {‬

‫يقول أحد املق ّربني من اإلمام‪:‬‬


‫«من أجمل أبعاد حياة اإلمام كيفيّة عالقته بالناس‪ ،‬ال مجال الستعراض حياة القادة‬
‫العامليِّني وتعاملهم مع الناس‪ ،‬وكيف كانت تحكم لقاءاتهم بالناس مراسم وبروتوكوالت‪،‬‬
‫وطبعاً مقايسة أولئك باإلمام ال يناسب شأن مقامه‪ .‬ونكتفي هنا بذكر بعض النامذج‬
‫القليلة ج ّدا ً‪:‬‬

‫((( تعريب ثالثة أبيات‪.‬‬


‫((( تعريب بيت‪.‬‬
‫حب عارم (عشق) إنّه يقتدي يف‬ ‫ليست عالقة اإلمام بالناس عالقة عاديّة‪ ،‬بل هي ّ‬
‫‪257‬‬ ‫ُۡ ۡ َ َُ ‪ٞ‬‬ ‫َ ُ‬
‫ِيم﴾ إنّه يحمل ه ّم‬‫وف َّرح ‪ٞ‬‬ ‫يص َعل ۡيكم بِٱلمؤ ِمن ِني رء‬ ‫ذلك بالنبي األكرم ‪َ P‬‬
‫﴿حر ٌ‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫الناس‪ ،‬ويعاملهم كاألب العطوف الذي يتم ّنى ألبنائه الصالحني السعادة دامئاً‪ .‬ولقد بىك‬
‫اإلمام مرارا ً وهو يشاهد عرب التلفزيون مناظر الفقر والحرمان التي كانت تُع َرض‪ .‬وأنتم‬
‫تذكرون األيّام األوىل النتصار الثورة عندما كان اإلمام يف ق ّم‪ ،‬كان يستقبل الناس يوم ّياً‬
‫ست ساعات‪ ،‬ومل يكن يصدر عنه أبدا ً ما ّ‬
‫يدل عىل ت ّربمه أو تعبه من ذلك‪.‬‬ ‫أكرث من ّ‬
‫رشع يداحلا مسقلا‪ :‬سانلا ةمدخو ةّيريهامجلا‬

‫كان الناس يتوافدون من الثامنة صباحاً وحتّى الواحدة ظهرا ً‪ ،‬ومنذ الرابعة عرصا ً‬
‫تظل حتّى العارشة متجمهرة أمام‬
‫حتّى الثامنة ليالً‪ ،‬ويف بعض الليايل كانت وفود الناس ّ‬
‫الخميني‪ ،‬وكان اإلمام يخرج للقائهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫منزل اإلمام‪ ،‬يقولون‪ :‬نحن ننتظر‬
‫يف كثري من األيّام‪ ،‬كان يجتمع أكرث من مئة وخمسني شخصاً يف غرفة واحدة‪ :‬الح ّر‬
‫شديد‪ ،‬وأضواء املصابيح الكاشفة ملص ّوري التلفزيون تزيد الحرارة‪ ،‬وأنفاس الحارضين‬
‫تزيد الج ّو اختناقاً حتّى تتخيل نفسك يف جحيم‪ .‬كانت صدورنا أحياناً تضيق فنخرج‬
‫كل‬ ‫من الغرفة‪ ،‬واإلمام جالس لع ّدة ساعات يستمع إىل الناس ويتح ّدث إليهم بعد ّ‬
‫كلمة تُلْقَى‪.‬‬
‫ال أنىس أ ّن الشهيد مط ّهري جاء قبل استشهاده بأسبوع‪ ،‬وقد كان ضغط الزائرين‬
‫عىل اإلمام كبريا ً إىل ح ّد أ ّن الشهيد انتظر من الساعة الثالثة صباحاً إىل الثامنة ليالً‬
‫بجوار غرفة اإلمام ومل يوفّق للقائه‪ .‬وبعد أن انتهت زيارات الناس‪ ،‬التقى اإلمام‪ .‬كان‬
‫اإلمام دامئاً يؤكّد عىل املسؤولني أن يهت ّموا بالناس‪ ،‬يجب أن تكونوا خ ّداماً للناس‪ .‬كان‬
‫دامئاً يحذّر أعضاء مكتبه‪« :‬إيّاكم أن تسيئوا معاملة الناس وليس لكم ّ‬
‫الحق أن متنعوا‬
‫الناس»‪.‬‬
‫يغص‬
‫ذات يوم‪ ،‬خرج اإلمام الستقبال الناس قبل املوعد املعتاد‪ ،‬وكان املكان ّ‬
‫بالناس الذين تجمهروا خلف الحواجز التي وضعت هناك‪ ،‬وكان يشت ّد تدافعهم عند‬
‫مجيء اإلمام بالخصوص‪ .‬فنظر اإلمام إىل من حوله‪ ،‬وقال‪« :‬إن مل تزيلوا هذه الحواجز‬
‫كل ولد يأيت‪ ،‬حتّى إذا استلزم األمر أن يبقى ساعات يف‬
‫فسأحرقها‪ .‬كان اإلمام يستقبل ّ‬
‫‪258‬‬
‫الربد والح ّر‪ .‬وقد صعد مرارا ً إىل السطح (للسالم عىل الناس) والثلج يتساقط‪ ،‬كانت‬
‫كعلم يحمله بطل‪ .‬أردنا ذات م ّرة أن نضع فوق رأسه مظلّة‪ ،‬فغضب وقال‪:‬‬‫يده ترفرف ٍ‬
‫«والناس ماذا يفعلون؟ ال حاجة يل باملظلّة»‪.‬‬
‫كل مشاغله ومسؤول ّياته كان البعض‬ ‫لقد بلغت جامهرييّته إىل هذا الح ّد‪ ،‬رغم ّ‬
‫يأتون أحياناً لطرح مشاكلهم العائل ّية أو مسائل مشابهة‪ .‬كان كثري من الناس يتوقّعون‬
‫وأي وقت؛ ولذلك كان األخوة‬ ‫أن يلتقوا باإلمام بدون تحديد موعد مس َّبق يف أيّة ساعة ّ‬
‫الحرس وأعضاء املكتب يتح ّملون أقىس املسؤول ّيات وأش ّدها؛ ألنّه كان يتحتّم عليهم‬
‫جميعاً أن يواجهوا الناس مبنتهى النبل وحسن ال ُخلُق ّ‬
‫وحب الناس‪ ،‬وحتّى إذا تع ّرضوا‬
‫للرضب فإ ّن عليهم أن ال يقولوا شيئاً؛ ذلك أل ّن اإلمام شديد العالقة بشعبه‪ ،‬إنّه يح ّبه‬
‫ح ّباً ّ‬
‫جمً‪.‬‬
‫كانت هناك مشكلة كربى يف األيّام األوىل لوصول اإلمام إىل ق ّم‪ ،‬كان اإلمام يرفض أن‬
‫يرافقه حارس مسلّح‪ ،‬كان يقول دامئاً‪« :‬أنا ال أريد مسلّحاً»‪ .‬مع أنّه كان يذهب ليالً إىل‬
‫بيوت الفضالء والشهداء وكان احتامل الخطر كبريا ً‪ .‬وكان الناس يف ق ّم مبج ّرد أن يعرفوا‬
‫أ ّن اإلمام مي ّر اآلن يف الشارع الفال ّين أو الزقاق الفال ّين‪ ،‬يخرجون جميعاً من بيوتهم‬
‫ويحيطون بس ّيارته‪ ،‬حتّى إ ّن بعضهم يجلس عىل سقف الس ّيارة‪ ،‬ال السائق يعود يعرف‬
‫أين يذهب وال اإلمام‪.‬‬
‫رغم ذلك كان يقول‪« :‬ال يتبعني أحد‪ ،‬الناس يحرسونني»‪ .‬طبعاً ك ّنا ‪-‬وبغاية‬
‫االحتياط‪ -‬نرسل ع ّدة ح ّراس مخف ّيني يف س ّيارة أخرى؛ ليقوموا مبا ميكنهم‪ .‬وقد تولّيت‬
‫قيادة الس ّيارة ع ّدة أيّام‪ ،‬كان اإلمام يقول‪« :‬انتبه ملاذا ترسع؟»‪.‬‬
‫عندما استشهد آية الله مفتّح‪ ،‬جاء اإلمام إىل وسط آالف الذين كانوا يشيّعون‬
‫حب الناس لإلمام أحاطوا به‪ ،‬وازدحموا بحيث إ ّن‬
‫جسده املخضّ ب بالدماء‪ ،‬ولش ّدة ّ‬
‫سقف السيّارة كاد يخرب‪ ،‬انترشت رائحة الدخان واحرتاق الفرامل‪ ،‬ومل أعد أعرف ماذا‬
‫أصنع! إذا بقي اإلمام يف الس ّيارة وبقي ازدحام هكذا فالس ّيارة حتامً ستتعطّل وقد‬
‫‪259‬‬
‫تحرتق‪ ،‬وإذا خرج اإلمام منها فإ ّن ش ّدة عواطف الناس قد تتس ّبب مبا ال تُح َمد ُعقباه‪.‬‬
‫وحاولت أن أرسع قليالً مستعمالً صفّارة اإلنذار‪ ،‬فارتفع صوت اإلمام‪« :‬ما الخرب؟ تريد‬
‫أن تدوس الناس بعجالت الس ّيارة!»‪ .‬قلت‪« :‬موالنا الس ّيارة تحرتق»‪ .‬قال‪« :‬اصرب‪ ،‬أريد‬
‫أن أنزل وأميش بني الناس كام ميشون»‪.‬‬
‫وكنت أعلم أنّه إذا نزل فإ ّن الحرس املحيطني سيزدحمون عليه لتقبيل يده‪ ،‬ناهيك‬
‫رشع يداحلا مسقلا‪ :‬سانلا ةمدخو ةّيريهامجلا‬

‫عن مئات اآلالف من الناس املتجمهرين‪ .‬أحياناً تكون الطريق سالكة‪ ،‬إلّ أنّه يأمر‬
‫بالتوقف؛ ليسلّم عىل الناس‪ .‬وأحياناً كان بعض األطفال يتبعون الس ّيارة إىل املنزل‪،‬‬
‫بأي مقياس ميكنك أن‬ ‫فيأخذهم اإلمام إىل البيت‪ ،‬ويق ّدم لهم هدايا كتباً أو غريها‪ّ .‬‬
‫تتجل فيه هذه‬‫تقارن هذه الروح مع قادة الدنيا؟ قائد ثورة مل يخضع للعامل كلّه كيف ّ‬
‫الروح العاطف ّية؟»(((‪.‬‬
‫يقول أحد مرافقي اإلمام يف النجف‪:‬‬
‫«ك ّنا أحياناً نذهب إىل اإلمام ونقول‪ :‬إ ّن فالناً جاء وهو بحاجة إىل مساعدة فيعطيه‬
‫اإلمام مبلغاً كبريا ً‪ ...‬ويف ما بعد نكتشف أ ّن هذا الشخص كان محتا ًجا ج ًّدا‪ .‬يف هذا‬
‫«كل من كنت أقصده ملساعديت كان يعطيني مبلغاً قليالً‪ ،‬ولك ّني‬
‫املجال يقول أحدهم‪ّ :‬‬
‫عندما جئت إىل اإلمام ‪-‬ورغم عدم معرفته يب‪ -‬فقد أنقذ حيايت بهذه املساعدة وأنقذ‬
‫أوالدي من املوت»‪.‬‬
‫عندما كان اإلمام يخرج إىل الحرم أو إىل عمل آخر‪ ،‬أو عند رجوعه إىل البيت كان‬
‫أحياناً يقول‪« :‬يا فالن اشرتِ عباءة لفالن»(((‪.‬‬

‫((( فرازهايئ أز ابعاد‪ ،‬ص‪ ،41 - 37‬بتلخيص وترصف‪.‬‬


‫((( املصدر السابق‪ ،‬ص‪.70‬‬
‫اإلسالمي بتاريخ ‪59/12/28‬هـ‪.‬ش‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يقول سامحته مخاطباً ن ّواب مجلس الشورى‬
‫‪260‬‬
‫َّ ۡ َ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫﴿ل َعلك ب ٰ ِخ ‪ٞ‬ع نف َسك﴾ ما هو سبب ّ‬
‫الغصة التي كان يتج ّرعها رسول الله ‪P‬؟ كان‬
‫يتحس عليهم؛ ألنّهم‬
‫غصته كانت من أجل ال ُكفّار‪ ،‬كان ّ‬ ‫الغصة من أجل الناس‪ّ ،‬‬
‫يتج ّرع ّ‬
‫ال يفهمون وهم يوقدون ألنفسهم جه ّنم بأيديهم‪ .‬ملاذا ال تكون يف قلوبنا بارقة صغرية‬
‫من هذه األنفس املطمئ ّنة والرشيفة؟ فنعمل ألجل الشعب‪ ،‬ال ألنفسنا‪ .‬ولو أنّنا جميعاً‬
‫كل يشء(((‪.‬‬
‫عملنا لأل ّمة لصلح ّ‬
‫ويقول أيضاً يف لقائه مع جمع من املحرومني وسكّان األكواخ بتاريخ ‪60/1/16‬هـ‪.‬ش‪:‬‬
‫«هذه الثورة اإلسالم ّية امله ّمة مدينة لجهود هذه الطبقة املحرومة طبقة سكّان‬
‫األكواخ‪ ،‬الطبقة التي أوصلت هذه النهضة إىل النرص‪ ،‬وهي أيضاً ال تتوقّع شيئاً‪ .‬أنا‬
‫أعتربكم‪ ،‬يا سكّان األكواخ‪ ،‬فوق سكّان القصور‪ ،‬إذا كان أولئك أهالً للمقايسة بكم»(((‪.‬‬
‫أستاذ العرفان واألخالق‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ ‪:M‬‬
‫يقول أحد تالمذة ّ‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ يف العرفان والذي‬
‫يل القايض ‪ -‬أستاذ ّ‬ ‫«كان املرحوم الس ّيد ع ّ‬
‫تق ّدمت ترجمته ‪ -‬من الناحية العمل ّية آية عجيبة‪ ،‬ويعرف أهل النجف وخصوصاً‬
‫أهل العلم الكثري من قصصه‪ .‬كان يف منتهى الفقر وكانت عائلته كبرية‪ ،‬وكان يف منتهى‬
‫التسليم والتفويض والتوحيد‪ ،‬بحيث مل تخرجه هذه العائلة ذ ّرة عن مساره‪.‬‬
‫ح ّدثني أحد أصدقايئ يف النجف ‪-‬وهو فعالً من أعالمها‪ -‬فقال‪ :‬ذهبت ذات يوم‬
‫إىل دكّان بائع الخضار‪ ،‬رأيت املرحوم القايض منحنياً ينتقي ّ‬
‫الخس‪ّ ،‬إل أنّه عىل عكس‬
‫الخس الذابل ذا األوراق الخشنة‪ .‬وقفت أتأ ّمله بدقّة إىل أن انتهى‬
‫املتعارف كان يختار ّ‬
‫الخس لصاحب الدكّان ليزنه‪ ،‬ووضعه السيّد تحت عباءته ومىض‪.‬‬ ‫من االنتقاء وق ّدم ّ‬

‫((( رهرب‪ ،‬ص‪.25‬‬


‫((( املصدر السابق‪ ،‬ص‪.26‬‬
‫وكنت عندها طالباً شابّاً‪ ،‬وكان املرحوم القايض رجالً مس ّناً‪ ،‬فتبعته وقلت له‪« :‬موالي‪،‬‬
‫‪261‬‬
‫الخس غري املرغوب فيه؟»‪.‬‬ ‫لدي سؤال‪ ،‬ملاذا اخرتت‪ ،‬بعكس الجميع‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫قال‪« :‬عزيزي‪ ،‬هذا الرجل بائع وفقري‪ ،‬وأنا أساعده أحياناً‪ ،‬وال أريد أن أعطيه شيئاً‬
‫بال عوض؛ ألحفظ له ع ّزته وماء وجهه‪ ،‬أ ّوالً‪ ،‬وال يعتاد عىل «األخذ» م ّجاناً فيتكاسل يف‬
‫الخس‪ ،‬وأنا أعلم‬
‫الطري والناعم أو هذا ّ‬
‫ّ‬ ‫الخس‬
‫الكسب‪ ،‬ثانياً‪ .‬وبالنسبة إلينا ال فرق بني ّ‬
‫الخس لن يشرتيه منه أحد‪ ،‬وعندما يُق ِف ُل دكّانه ظهرا ً سوف يلقي بها بعيدا ً؛‬
‫أ ّن هذا ّ‬
‫رشع يداحلا مسقلا‪ :‬سانلا ةمدخو ةّيريهامجلا‬

‫رضره وخسارته فقد اشرتيت هذا منه»(((‪.‬‬ ‫ومنعاً لت ّ‬


‫وقد شاهدت شبيه ذلك من أحذ أساتذة الحوزة العلم ّية يف ق ّم‪ ،‬وهو من تالمذة‬
‫املرحوم القايض بالوساطة‪ ،‬وعجبت من إيثار ذلك الرجل وعظمته‪.‬‬
‫«مل ميت من دأبه جميل الفعال بل اسرتاح وأودع الله روحه»‪.‬‬
‫كم ّ‬ ‫ّ‬
‫الجبة‬
‫«يف إحدى السنوات قامت زوجة الوحيد البهبها ّين‪ ،‬مج ّدد علم األصول‪ ،‬بتهيئة ج ّبة‬
‫له يف فصل الشتاء‪ .‬وفيام كان‪ ،‬عند الغروب‪ ،‬متو ّجهاً إىل املسجد للصالة‪ ،‬أرسع أحد‬
‫األوباش حافياً وقد خلع ق ّبعته‪ ،‬وقال للوحيد‪« :‬ليس عندي ق ّبعة‪ .‬الربد شديد ج ّدا ً‪،‬‬
‫ساعدين بأيّة طريقة»‪.‬‬
‫قال له الوحيد‪« :‬هل معك سكّني؟»‪ ،‬قال‪« :‬نعم»‪ ،‬فأخذ منه السكّني فورا ً وقطع‬
‫ك ّم ج ّبته‪ ،‬وقال له‪« :‬ضَ ْع هذه عىل رأسك ريثام ميكن تهيئة يشء لك غدا ً»‪ .‬ث ّم ذهب‬
‫إىل املسجد وأ ّدى الصالة‪ .‬وعندما رجع إىل املنزل رأت زوجته أ ّن ج ّبته بال ك ّم‪ ،‬فتألّمت‬
‫كثريا ً وقالت بغضب‪« :‬لقد تعبت كثريا ً حتّى ه ّيأت لك هذا الثوب وقد فعلت به ما‬
‫فعلت قطعت ك ّمه؟»‪.‬‬

‫((( مهرتابان‪ ،‬ص‪.20‬‬


‫كثريا ً ما كان الوحيد يتق ّبل الصالة والصوم االستئجاريَّ ْي ويؤ ّديهام ويعطي أجرتهام‬
‫‪262‬‬
‫لتالمذته الفقراء كاملحقّق الق ّم ّي(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشهيد الميرزا مهدي الخراساني ‪M‬‬

‫كان الشهيد الخراسا ّين ماهرا ً يف أكرث العلوم‪.‬كان البحر الزاخر والسحاب الهتّان‪،‬‬
‫ُنسب إىل السيِّد‬ ‫منرصفاً دامئاً إىل إفاضة أنواع العلوم واآلداب وتشجيع ّ‬
‫الطلب‪ .‬وت َ‬
‫الشهيد كرامات ع ّدة؛ منها أنّه عندما كان يذهب يف األسحار والليايل‪ ،‬يف الساعات التي‬
‫تكون أبواب الحرم فيها مغلّقة‪ ،‬إىل زيارة اإلمام الرضا ‪ Q‬كانت أبواب الروضة‬
‫املط ّهرة تفتح به‪ .‬وأيضاً‪ ،‬كان يف سواد الليل املظلم يحمل الزاد والطعام للفقراء واأليتام‬
‫مع مبالغ من املال‪ ،‬ويوزّعها عليهم(((‪.‬‬
‫عتاب األستاذ‬
‫يل الفقيه املعروف ‪ -‬صاحب كتاب «مفتاح الكرامة»‪ -‬يتناول‬ ‫كان الس ّيد جواد العام ّ‬
‫طعام العشاء‪ ،‬فسمع الباب يُط َرق‪ ،‬وعندما عرف أ ّن الطارق هو خادم أستاذه الس ّيد‬
‫مهدي بحر العلوم أرسع نحو الباب‪ .‬قال الخادم‪ :‬الس ّيد األستاذ يطلب مجيئك اآلن‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وضع الطعام أمامه ولك ّنه لن يبدأ قبل أن تذهب إليه‪ .‬ودون أن يكمل الس ّيد جواد‬
‫تناول عشائه‪ ،‬أرسع إىل بيت الس ّيد بحر العلوم‪ .‬ومبج ّرد أن وقعت عني األستاذ عليه‪،‬‬
‫قال له ‪-‬بغضب وح ّدة ال عهد له بهام من قبل‪« :-‬س ّيد جواد أما تخاف الله؟ أما‬
‫تستحي من الله؟» واستب ّدت الحرية بالس ّيد جواد‪ ،‬ماذا جرى وما األمر؟ مل يعاتبه الس ّيد‬
‫طيلة حياته مبثل ذلك العتاب! وحاول جاهدا ً أن يهتدي إىل السبب فلم يفلح‪ ،‬ومل ير‬
‫ب ّدا ً من السؤال‪.‬‬
‫‪ -‬هل ميكن أن يتفضّ ل الس ّيد األستاذ بذكر التقصري الذي حصل م ّني؟‬

‫((( وحيد بهبهاين‪ ،‬ص‪.141‬‬


‫((( وحيد بهبهاين‪ ،‬ص‪ ،210‬وشهداء الفضيلة‪ ،‬ص‪ ،422‬والفوائد الرضويّة‪ ،‬ص‪.673 - 671‬‬
‫يل) ال سبيل له إىل القمح‬ ‫‪ -‬منذ سبعة أيّام بلياليها وجارك (الشيخ مح ّمد نجم العام ّ‬
‫‪263‬‬
‫الزهري من البقّال املجاور ويقتات به مع‬
‫ّ‬ ‫واألرزّ‪ ،‬وهو يف هذه امل ّرة يستدين التمر‬
‫عياله‪ ،‬واليوم ذهب ليستدين التمر‪ ،‬وقبل أن يطلب ذلك قال له البقّال‪ :‬أصبح‬
‫دينك كبريا ً‪ .‬فخجل بعد ذلك أن يطلب شيئاً ورجع إىل البيت صفر اليدين‪ ،‬وبقي‬
‫هو وعائلته بدون طعام‪.‬‬
‫قسم بالله ّأن مل أعلم بذلك أبدا ً! ولو ّأن علمت لقمت مبا يجب‪.‬‬ ‫‪ -‬أُ ِ‬
‫رشع يداحلا مسقلا‪ :‬سانلا ةمدخو ةّيريهامجلا‬

‫كل إنكاري عليك ألنّك ال علم لك بأحوال جارك! ملاذا متيض سبعة أيّام بلياليها هكذا‬ ‫‪ّ -‬‬
‫يهودي أو يا نرصا ّين!‬
‫ّ‬ ‫وأنت ال تعلم؟ ولو أنّك كنت تعلم ومل تفعل شيئاً لقلت لك‪ :‬يا‬
‫‪ -‬وماذا تأمر اآلن؟‬
‫‪ -‬يأخذ الخادم هذه الصين ّية من الطعام إىل باب ذلك الرجل‪ ،‬وعند الباب تأخذ‬
‫الصين ّية أنت وتطرق الباب وتطلب منه أن تتناوال طعام العشاء معاً‪ .‬وخذ هذا املال‬
‫َوضَ ْعه تحت س ّجادته أو حصريه‪ .‬وتعتذر منه عىل تفصريك يف حقّه مع أنّه جارك‪.‬‬
‫أتعش حتّى تأيت وتخربين مبا جرى»‪.‬‬ ‫واترك الصين ّية هناك َ‬
‫وتعال‪ ،‬ولن ّ‬
‫وحمل الخادم الصين ّية الكبرية وعليها أنواع الطعام اللذيذ‪ ،‬ومىض مع الس ّيد جواد‪،‬‬
‫وعند الباب تناول الس ّيد جواد الصين ّية ورجع الخادم‪.‬‬
‫ودخل الس ّيد جواد‪ ،‬وبعد أن سمع صاحب البيت اعتذاره ورجاءه تناول الطعام‪.‬‬
‫يل) فام كان منه إلّ أن قال‪:‬‬
‫ض يف منزل الس ّيد جواد العام ّ‬ ‫أكل لقامت فعرف أنّه (مل يُ َح َّ ْ‬
‫َ‬
‫«هذا الطعام ليس طبخاً عرب ّياً‪ .‬وعليه‪ ،‬فليس من بيتك‪ ،‬وإذا مل تقل من أين فلن آكل‬
‫أبدا ً»‪ .‬وعبثاً حاول الس ّيد جواد أن يَثْنيه‪ ،‬ومل ي َر يف النهاية ب ّدا ً من إخباره ّ‬
‫وبكل ما كان‪.‬‬
‫«عجيب أمر هذا الس ّيد‪ ،‬فوالله مل يطّلع عىل‬
‫ٌ‬ ‫ووافق الشيخ عىل تناول الطعام قائالً‪:‬‬
‫رسي أحد‪ ،‬فمن أين عرف؟»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫القصة‬
‫النوري ‪ -‬صاحب املستدرك ‪ -‬يف كتابه «الكلمة الط ّيبة» هذه ّ‬
‫ّ‬ ‫ينقل املرحوم‬
‫خواص الس ّيد بحر العلوم‪ ،‬ويذكر اسم‬
‫السلاميس الذي كان من ّ‬
‫ّ‬ ‫عن املوىل زين العابدين‬
‫يل‪ ،‬وأ ّن املبلغ الذي قُ ّدم إليه كان ستني شوشاً‪ ،‬وهو الوحدة‬
‫الشيخ مح ّمد نجم العام ّ‬ ‫‪264‬‬
‫النقديّة املتداولة آنذاك(((‪.‬‬
‫ً‬
‫لم يحرم فقيرا‬
‫نُ ِقل عن املرحوم الشيخ مح ّمد صالح الربغا ّين قوله‪ :‬قال أيب‪ :‬رأيت يف النوم أ ّن‬
‫النبي األكرم ‪ P‬جالس والعلامء جالسون بني يديه واملق ّدم عليهم جميعاً هو ابن‬ ‫ّ‬
‫الح ِّل‪ .‬تع ّجبت كيف أ ّن هؤالء العلامء جميعاً ‪ -‬ما لهم من املقام والشهرة‪-‬‬ ‫فهد ِ‬
‫يجلسون دون ابن فهد مع أنّه ليس مشهورا ً كثريا ً بني العلامء؛ ولذا سألت رسول‬
‫الله ‪ P‬فقال ‪« :P‬سبب ذلك أ ّن العلامء اآلخرين كانوا إذا جاءهم فقري وعندهم‬
‫مال للفقراء يعطونه‪ ،‬أ ّما إذا مل يكن عندهم من ذلك ال يعطونه‪ .‬أ ّما ابن فهد‪ ،‬فإنّه مل‬
‫مخصص للفقراء‪ ،‬كان يعطيهم من‬ ‫ير ّد فقريا ً أبدا ً صفر اليدين‪ ،‬وإذا مل يكن عنده مال ّ‬
‫ماله؛ ولذا أحرز هذه املرتبة دونهم»(((‪.‬‬
‫الحكيم القمشه إي ‪M‬‬

‫يقول األستاذ الشهيد املط ّهري ‪ M‬حول الخصوص ّيات األخالق ّية للحكيم القمشه‬
‫إي‪:‬‬
‫بكل معنى الكلمة‪ ،‬كان يأنس بالوحدة‬ ‫«كان رجالً ح ّرا ً وعارف املرشب واملذاق ّ‬
‫ويبتعد عن الجمع إىل ح ّد ما‪ .‬كان يف شبابه ثريّاً‪ ،‬ويف مجاعة عام ‪ 1288‬وزّع جميع‬
‫أمواله املنقولة وغري املنقولة عىل املحتاجني‪ ،‬وعاش درويشاً إىل آخر عمره‪ .‬ويضيف‬
‫بزي العلامء‪ .‬املرحوم‬
‫يتزي ّ‬
‫زي القرويِّني أبدا ً‪ ،‬ومل ّ‬
‫األستاذ‪ :‬مل يرتك الحكيم القمشه إي ّ‬
‫الربوجردي يف الفلسفة الذي تتلمذ عليه‬
‫ّ‬ ‫جهانـﮕـيز خان قشقايئ ‪-‬أستاذ آية الله‬
‫لسنوات‪ -‬يقول‪:‬‬

‫((( داستان راستان‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ ،50‬والكلمة الط ّيبة‪ ،‬ص‪ ،287‬والفوائد الرضويّة‪ ،‬ص‪ ،89‬والكنى واأللقاب ج‪ ،2‬ص‪69‬‬
‫‪.70 -‬‬
‫القصة يف كتاب «حسد»‪ ،‬ص‪ ،800‬مختلفة عمّ ذكر هنا‪.‬‬
‫((( بيدار ﮔـران أقاليم قبله‪ ،‬ص‪ ،217 - 216‬وقد وردت ّ‬
‫ذهبت إىل طهران عىل أمل االستفادة من محرض الحكيم القمشه إي‪ ،‬وقصدته‬
‫‪265‬‬
‫زي باعة قامش النسيج‬ ‫يف الليلة األوىل لوصويل‪ .‬مل يكن زيّه علامئ ّياً‪ ،‬وكان زيّه يشبه ّ‬
‫اليدوي يف «سدة» (خميني شهر فعالً)‪ .‬فاتحته بحاجتي‪ ،‬فقال‪« :‬ميعادي معك غدا ً يف‬ ‫ّ‬
‫الخرابات» (محلّة خارج خندق طهران يومها)‪ .‬وكان هناك مقهى يديره درويش‪.‬‬
‫ذهبت يف اليوم التايل ومعي أسفار صدر املتألّهني‪ ،‬فرأيته يف خلوة جالساً عىل حصري‪.‬‬
‫فتحت األسفار فبدأ يقرأه عن ظهر قلب‪ ،‬ث ّم يأخذ بتحقيق املطلب‪ .‬وقد أثار وجدي بحيث‬
‫رشع يداحلا مسقلا‪ :‬سانلا ةمدخو ةّيريهامجلا‬

‫ّإن سكرت‪ ،‬وكدت أج ّن ولَ ْم أدرك ما يب‪ .‬فقال‪« :‬نعم ق ّوة الرشاب تسكر اإلبريق!»(((‪.‬‬
‫أستحي من الفقراء‬
‫جاء يف كتاب «حياة اإلسالم»‪:‬‬
‫«كان املال لدى اآلخوند الخراسا ّين والحىص عىل ح ٍّد سواء‪ ،‬ومع أنّه كان بالنسبة إىل‬
‫عدماً وصفر اليدين‪ ،‬فقد كانت الرواتب التي كان ملتزماً بتسديدها‬ ‫مقامه الشامخ ُم ِ‬
‫تبلغ شهريّاً ستمئة تومانٍ ينبغي أن تُدفَع كلّها نقدا ً‪ .‬كان كثري من العوائل املحرتمة ال‬
‫مورد لهم ّإل ما يؤ ّمنه سامحته لها‪.‬‬
‫األقل‪ ،‬مئة وخمسني إىل‬‫وكان كلّام سافر إىل كربالء للزيارة ينبغي أن يدفع‪ ،‬عىل ّ‬
‫والطلب هناك‪ ،‬وعندما مل يكن يتمكّن من تهيئة هذا املبلغ‪ ،‬ولو عن‬
‫مائتي لرية للفقراء ّ‬
‫رشف بالزيارة يف السنني األخرية ّإل‬
‫طريق االقرتاض‪ ،‬كان ينرصف عن الزيارة؛ ولهذا مل يت ّ‬
‫م ّرة أو م ّرتني يف السنة‪.‬‬
‫والطلب‪ .‬كان هناك مخبز‬ ‫شخص من الفقراء والعاجزين ّ‬ ‫وكان يتكفّل بخبز سبعمئة ٍ‬
‫خاص للفقراء‪ ،‬فكان يدفع شهريّاً حوايل ثالمثئة تومانٍ مثن خبز‪ ،‬وأحياناً كان يتأ ّخر‬
‫ّ‬
‫الدفع ثالثة أشهر أو أربعة‪ ،‬فريتفع دين الخ ّباز عىل اآلخوند إىل أربعمئة أو خمسمئة‬
‫لرية‪ ،‬يف حني أنّه مل يكن لديه يشء‪ .‬وحيث أ ّن الخ ّباز ال ميلك شيئاً‪ ،‬كان يضط ُّر لقطع‬

‫((( خدمات متقابل إسالم وإيران‪ ،‬ص‪.607 - 606‬‬


‫الخبز‪ ،‬وعندما كان يطالبه أحد‪ ،‬ال يعرف حقيقة الحال‪ ،‬بتوصية الخ ّباز أن ال يقطع‬
‫‪266‬‬
‫الخبز عنه‪ ،‬كان يبتسم ويقول‪« :‬لو كانت التوصية تؤث ّر ألوصيت‪ ،‬ولك ّنها ال تؤث ّر»‪.‬‬
‫وقد قال مرارا ً‪« :‬كلّام رأيت هؤالء الفقراء الذين ق ُِطع عنهم الخبز أستحي منهم»‪.‬‬
‫بأي شكل أمكن‪ ،‬ث ّم يواصل الخ ّباز التوزيع عىل الفقراء‪.‬‬
‫وكان اآلخوند يستدين ّ‬
‫وباإلضافة إىل جميع ما تق ّدم‪ ،‬كانت هناك مصاريف يوم ّية لحوائج الفقراء من أهل‬
‫الطلب مل تكن تخضع لضابطة مع ّينة‪.‬‬
‫والطلب وغري ّ‬
‫البلد والز ّوار ّ‬
‫غاصاً بأرباب الحوائج‪ ،‬وكذلك خارج املنزل‪ ،‬وكانت املسافة بني‬ ‫كان املنزل دامئاً ّ‬
‫منزله وبني مكان نزع األحذية يف الحرم املط ّهر حوايل مئة قدم‪ ،‬وكان يوم ّياً ينفق يف‬
‫هذا الطريق حوايل أربعة أو خمسة توامني((( عىل الفقراء والسائلني‪ .‬وإذا أظهر طالب‬
‫املاسة‪ ،‬كان يضع يده يف جيبه ويقبض دون أن يحصيها ويعطيها له‪ .‬وكثريا ً ما‬ ‫حاجته ّ‬
‫كانت تشتمل القبضة عىل التومانني أو الثالثة من التوامني البيض مع لرية أو لريتني‪ .‬كان‬
‫يتحل برحابة صد ٍر ّ‬
‫قل نظريها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وميكنني أن أقسم بجرأة أنّه إذا مل يكن ير ّجح يف حمل ه ّم الفقراء عىل أهل بيته‪،‬‬
‫األقل ينظر إليهم وإىل أهل بيته عىل ح ّد سواء‪ .‬وكان يوزّع ما زاد عىل‬
‫فإنّه كان عىل ّ‬
‫الطلب‪ .‬قال له أحد األصحاب‪« :‬بع هذه األمور التي تزيد عىل‬ ‫حاجته من الهدايا بني ّ‬
‫حاجتك وا ّدخر مثنها لوقت الضيق»‪ .‬قال‪« :‬مل أتعلّم هذه األمور»(((‪.‬‬
‫ويتح ّدث مؤلّف كتاب «حياة اإلسالم» عن ابتالءات اآلخوند يف فرتة املرشوطة‬
‫فيقول‪:‬‬
‫طلبه يف مجلس الدرس وقرأ رسالة جاءت من أهل تربيز‪ .‬كانت‬ ‫«وقف أحد فضالء ّ‬
‫تنصب ُح َم ْم النار عىل رؤوسنا‪ ،‬رجالنا وشبابنا يُقتَلون‪ ،‬ونساؤنا‬
‫ّ‬ ‫خالصتها كام يأيت‪:‬‬

‫((( كان هذا املبلغ آنذاك كبريا ً‪.‬‬


‫((( مرﮔـي درنور‪ ،‬ص‪.401 - 400‬‬
‫وأوالدنا أصبحوا أيامى ويتامى‪ ،‬وأنتم هناك مشغولون بالنوم واللذّة وال تفكّرون بنا‪.‬‬
‫‪267‬‬
‫وعندما اطّلع اآلخوند عىل مضمون الرسالة تأث ّر تأثّرا ً شديدا ً وقال‪:‬‬
‫«ال أولئك أدركوا وال أنتم‪ ،‬أيّة مرارة تج ّرعت وأتج ّرع! أ ّما إنّكم ترونني أروح وأجيء‬
‫فليس ذلك ّإل مج ّرد صورة‪ ،‬تو ّجهون القذائف من بعيد‪ .‬نحن يف نوم؟ والله مل يبق‬
‫األقل كيف‬
‫لنا قلب! وإذا كانوا ال يرون الجهود التي بذلتها من أجلهم‪ ،‬فال يرون عىل ّ‬
‫أصبح س ّبي ولعني وسائر أهل العلم شائعاً بني األراذل والجهال؟ ومن جهة يأيت ستّة‬
‫رشع يداحلا مسقلا‪ :‬سانلا ةمدخو ةّيريهامجلا‬

‫أشخاص ومثانية من طهران لقتيل‪ ،‬ومن جهة أخرى يظهر الخليفة العثام ّين عداءه‪ ،‬ومن‬
‫جهة ثالثة هؤالء يؤنّبون ويوبّخون أنّنا نامئون»‪.‬‬
‫الطلب جميعاً‪ ،‬وبعدها قال‪:‬‬
‫وعندما بلغ اآلخوند ذلك بىك ّ‬
‫تأسياً باألمئّة ‪ R‬وكنت بصدد عالج مشاكل أهل تربيز‪،‬‬ ‫«أتح ّمل ذلك كلّه ّ‬
‫وسأبقى لن أتراجع ولن أستكني بل سأبذل ما يفوق طاقتي»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشيخ زين العابدين المازندراني ‪M‬‬

‫األنصاري‪ ،‬ومرجع تقليد لجامعة‬


‫ّ‬ ‫كان ‪ M‬من تالمذة صاحب الجواهر والشيخ‬
‫كل م ّدة يأيت أحد‬
‫من الشيعة‪ ...‬وقد جاء «كان يقرتض ما استطاع ويعطي الناس‪ ،‬وكان ّ‬
‫يل املعروف بشيخ العارفني‪:‬‬ ‫أثرياء الهند فيس ِّدد قرضه‪ .‬يقول ابنه الثاين الشيخ ع ّ‬
‫يف إحدى زيارات الشيخ (زين العابدين) إىل سام ّراء‪ ،‬مرض هناك مرضاً شديدا ً‪ ،‬فجاء‬
‫ازي لعيادته‪ ،‬قال الشيخ‪« :‬أنا لست مضطرباً ليشء ّإل أل ّن روحي تعرض‬ ‫املريزا الشري ّ‬
‫عند املوت ‪ -‬بناء عىل عقيدتنا نحن اإلمام ّية ‪ -‬عىل صاحب العرص ‪ Q‬وإذا سألني‬
‫اإلمام‪ :‬لقد أعطيناك من االعتبار والوجاهة لتستطيع االقرتاض والتوزيع عىل الفقراء‬
‫فلم مل تفعل؟ فبامذا أجيبه؟‬

‫((( زندﮔـاين آخوند خراساين‪ ،‬ص‪.171 - 170‬‬


‫كل ما كان‬
‫ازي عندما سمع ذلك منه‪ ،‬رجع إىل البيت وقسم ّ‬ ‫يقال إن املريزا الشري ّ‬ ‫‪268‬‬
‫عنده من الحقوق وسائر األموال عىل املستحقّني»‪.‬‬
‫ويقول أيضاً‪:‬‬
‫يصل يف الحرم يف كربالء‪ ،‬وبعد انتهاء صالته جاءته امرأة‬
‫كان والدي‪ ،‬ذات ليلة‪ّ ،‬‬
‫وحادثته طويالً‪ .‬وعندما أردنا الرجوع إىل املنزل‪ ،‬قال للخادم الذي كان يحمل الفانوس‬
‫أن يسلك طريقاً آخر‪ .‬ومشينا م ّدة حتّى وصلنا إىل بيت‪ ،‬طرق الشيخ َ‬
‫الباب‪ ،‬ففتح‬
‫رجل صاحب مقهى‪ ،‬وعندما رأى الشيخ اضطرب وانحنى وق ّبل يد الشيخ‪:‬‬ ‫الباب ٌ‬
‫«ماذا تأمر؟‬ ‫‪-‬‬
‫أريد أن ترجع إىل زوجتك‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أمتثل وأرجع»‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫عرفنا بعدها أ ّن هذا الرجل كان قد طلّق زوجته مع أ ّن له منها ع ّدة أوالد وأخرجها‬
‫ليتوسط لها مع زوجها‪.‬‬
‫من املنزل‪ ،‬فاستنجدت بالشيخ ّ‬
‫ومن املعروف أنّه عندما طغى املاء يف كربالء‪ ،‬خرج الشيخ من املدينة وبدأ ينقل‬
‫الرتاب بعباءته ليضعه يف طريق املاء وعندما رأى الناس أ ّن هذا العامل الكبري يعمل‬
‫تأسوا به‪ ،‬وبدأ الجميع ينقلون الرتاب‪ ،‬فأقاموا س ّدا ً بقي لع ّدة سنوات‪.‬‬
‫بنفسه‪ّ ،‬‬
‫كذلك نُ ِق َل عنه أ ّن فقريا ً وقف يوماً عىل بابه‪ ،‬ومل يكن لدى الشيخ ما يعطيه له‪،‬‬
‫فتناول طاسة النحاس التي كانت يف البيت وأعطاها له قائالً‪ :‬خذها وبعها‪.‬‬
‫اللص»‪.‬‬
‫وبعد أيّام عندما تن ّبه أهل البيت لعدم وجود الطاسة‪ ،‬قالوا‪« :‬رسقها ّ‬
‫اللص‪ ،‬أنا أخذتها»(((‪.‬‬
‫وسمعهم وهو يف غرفة كتبه‪ ،‬فناداهم‪« :‬ال تتّهموا ّ‬

‫((( مرﮔـي درنور‪ ،‬ص‪.80 - 79‬‬


‫رهن المنزل‬
‫‪269‬‬
‫جاء يف سرية الشيخ جعفر كاشف الغطاء‪:‬‬
‫كل‬
‫«بلغ من ش ّدة اهتاممه بالفقراء ومساعدته لهم أنّه يف أكرث السنوات كان ينفق ّ‬
‫ما لديه‪ ،‬وعندما ال يبقى يشء‪ ،‬وعندما ال ميكنه تحصيل يشء‪ ،‬كان يرهن منزله وينفق‬
‫مثنه عىل الفقراء‪ ،‬ويبقى ال يستطيع استعامل البيت والسكن فيه حتّى يحصل عىل‬
‫املبلغ املطلوب يف إحدى سفراته‪ ،‬فيسرتجع البيت»(((‪.‬‬
‫رشع يداحلا مسقلا‪ :‬سانلا ةمدخو ةّيريهامجلا‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المحقق األردبيلي ‪M‬‬

‫كل طعامه مع‬‫يل‪ M‬أنّه يف سني الغالء كان يتقاسم ّ‬ ‫من كرامات املحقّق األردبي ّ‬
‫الفقراء‪ ،‬فيدع لنفسه سهامً كسهم الفقري‪ ...‬وذات م ّرة اعرتضت عليه زوجته وأنكرت‬
‫ذلك قائلة‪« :‬يف مثل هذه السنة ترتك أطفالك بال طعام‪ ،‬ويف النتيجة يحتاجون إىل سؤال‬
‫الناس»‪.‬‬
‫ومل يقل املق ّدس شيئاً‪ ،‬وذهب إىل مسجد الكوفة لالعتكاف‪ .‬ويف اليوم الثاين جاء إىل‬
‫بيته شخص ومعه كم ّية كبرية من الطحني والحنطة‪ ،‬وقال‪« :‬صاحب املنزل بعثه إليكم وهو‬
‫معتكف يف مسجد الكوفة»‪ .‬وعندما رجع املحقّق ‪-‬الذي مل يكن له علم مبا جرى أصالً‪ -‬إىل‬
‫ٌ‬
‫البيت وأخربته زوجته علم أ ّن ذلك من الله تعاىل وقام مبا ينبغي من لوازم الشكر»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشيخ األنصاري ‪M‬‬

‫كان يعترب أ ّن مساعدة الفقراء واملعوزين من وظائفه الحتم ّية‪ ،‬وكان ذلك دأبه منذ‬
‫صباه‪ .‬وقد تواتر عن ٍ‬
‫ثقات أنّه كان يوجد يف مزار «يري مح ّمد» يف محلّة حيدر خانه‬
‫كل ليلة إىل ذلك الفقري‪ ،‬وينام‬
‫بدزفول فقري عاجز‪ ،‬وكان الشيخ يق ّدم طعام عشائه ّ‬
‫جائعاً أو يكتفي ّ‬
‫بأقل يشء‪.‬‬

‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪.188‬‬


‫مثال املظامل للشهيد‬
‫تفصيال راجع ً‬
‫ً‬ ‫القصة يف مصادر أخرى أكرث‬
‫((( ريحانة األدب‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪368‬ن وقد وردت ّ‬
‫دستغيب ‪.M‬‬
‫يقول يف «لؤلؤ الصدف»‪:‬‬
‫‪270‬‬
‫مخصصات شهريّة وسنويّة‬‫عي لكثري من الفقراء ّ‬ ‫رسا ً‪ ،‬وقد ّ‬ ‫كانت ِهبات الشيخ ّ‬
‫تص ُل إليهم باستمرار دون أن يعرفوا مصدرها‪ .‬يف الليايل املظلمة ويف األسحار‬ ‫كانت ِ‬
‫كل عائلة مبقدار حاجتها‪ .‬وعندما ّ‬
‫توف‪،‬‬ ‫كان يقصد بيوت الفقراء متن ّكرا ً متلثّامً ويعطي ّ‬
‫عرف أ ّن ذلك الشخص الذي كان يطرق األبواب يف األوقات غري املتعارفة هو الشيخ‬
‫األنصاري((( وكان دامئاً إذا ق ّدمت إليه أشياء مثينة ‪-‬كهديّة‪ -‬يقول لخادمه امللّ ‪:M‬‬
‫ّ‬
‫والطلب»‪.‬‬
‫«بع هذا‪ ،‬ووزّع مثنه عىل الفقراء ّ‬
‫قال أحد كبار العلامء‪« :‬ذهبت إىل الشيخ وقلت له‪« :‬الس ّيد الفالين ‪-‬الذي هو من‬
‫فضالء العرص‪ -‬مضط ٌّر ج ّدا ً وامرأته مريضة فتفضّ ل مبساعدته»‪ .‬قال الشيخ‪« :‬ليس‬
‫لدي يشء إلّ مبلغ للصالة والصوم ‪-‬االستئجاريَّ ْي‪ -‬فألعطه سنتي عبادة»‪ ،‬قلت‪« :‬إنّه‬‫ّ‬
‫ابن عائلة من العوائل الرشيفة والكبرية‪ ،‬ومل يعتد ذلك‪ ،‬وهو باإلضافة إىل ذلك يدرس‪،‬‬
‫وهذه األمور تتناىف مع الدراسة»‪ .‬ففكّر الشيخ قليالً‪ ،‬وقال‪« :‬أنا أؤ ّدي سنتي العبادة‬
‫وخذ املال وادفعه له»‪ .‬وهكذا كان‪.‬‬
‫كل مشاغله كالتدريس وأجوبة االستفتاءات‪ ،‬وصالة الجامعة‪ ،‬وعيادة املرىض‪،‬‬ ‫رغم ّ‬
‫وزيارة الناس له‪ ،‬ور ّد الزيارات وتشييع الجنائز‪ ،‬والذهاب إىل بيوت الفقراء‪ ،‬والعبادات‬
‫الشخص ّية‪ ،‬وإدارة األمور املال ّية وإصالح املفاسد العا ّمة‪...‬رغم ذلك كلّه كان يؤ ّدي‬
‫الطلب‪.‬‬
‫العبادة االستئجاريّة ويدفع أجرتها إىل ّ‬
‫يل الدزفو ّيل ‪-‬الذي ُعرِف باملحتاط لش ّدة احتياطه‪ -‬عن أحد‬
‫كذلك ينقل السيّد ع ّ‬
‫أقربائه قوله‪:‬‬
‫«ذهبت يف النجف األرشف ‪-‬تحت ضغط الفقر‪ -‬إىل الشيخ وأطلعته عىل أحوايل‪.‬‬
‫لدي اآلن يشء أبدا ً‪ .‬اذهب إىل فالن‪ ،‬وقل له يُ ِ‬
‫عط َك مبلغ سنتي‬ ‫قال الشيخ‪« :‬ليس ّ‬

‫((( زندﮔـاين وشخصيت شيخ أنصاري‪ ،‬ص‪.81 - 80‬‬


‫يصل هو ويدفع املبلغ‬
‫صالة‪ ،‬وخذ املال لك وأنا أؤ ّدي السنتني»‪ .‬وهكذا ريض الشيخ أن ّ‬
‫‪271‬‬
‫للس ّيد حتّى ال ير ّده يائساً‪.‬‬
‫كل ليلة جمعة مع تقديم‬
‫وكان من جملة عادات الشيخ إقامة مجلس عزاء يف منزله ّ‬
‫الطعام لعدد من الفقراء(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الصالة االستئجارية‬
‫رشع يداحلا مسقلا‪ :‬سانلا ةمدخو ةّيريهامجلا‬

‫قد يتص ّور البعض أ ّن أداء الصالة االستئجاريّة عمل سهل‪ ،‬وليس األمر كذلك‪ .‬خصوصاً‬
‫عمل يف غاية الصعوبة‪.‬‬
‫لطالب العلم املولع بالكتاب واملطالعة‪ .‬إنّه ملثل هذا‪ٌ ،‬‬
‫ومن املناسب هنا‪ ،‬إيراد كالم للعامل الكبري املج ّرب آية الله العظمى الس ّيد حسن‬
‫االقتصادي الحرج‬
‫ّ‬ ‫املتوف سنة ‪1363‬هـ‪.‬ق‪ ،‬الذي يتح ّدث عن وضعه‬ ‫ّ‬ ‫النجفي القوﭼـا ّين‬
‫ّ‬
‫أواخر إقامته يف النجف األرشف عند بدء الحرب العامل ّية األوىل‪ ،‬وكان يومها عاملاً كبريا ً‬
‫السبزواري‪ .‬يقول ‪:M‬‬
‫ّ‬ ‫يدرس الكفاية واملكاسب ومنظومة‬
‫«نعم‪ ،‬أخذت‪ ،‬ع ّدة سنوات‪ ،‬صالة استئجاريّة من سامحته ‪ -‬يقصد أحد العلامء‬
‫الكبار يف عرصه‪ -‬ولكن يف امل ّرة األوىل أعطاين السنة بثالثة توامني ونصف‪ ،‬أعطاين‬
‫خادمه أ ّوالً تومانني‪ ،‬وقال‪« :‬تعال غدا ً عرصا ً تأخذ توماناً ونصفاً»‪ .‬أخذت التومانني‬
‫إىل البيت‪ ،‬قالوا‪ :‬أحد أطفالك مريض‪ ،‬خذه إىل الطبيب‪ ،‬حملت الطفل ومضيت إىل‬
‫الطبيب‪ ،‬وأعطاين َو ْص َف َة الدواء‪ ،‬اشرتيت الدواء بقرانني (التومان عرش قرانات) ورجعت‬
‫إىل البيت فوضعت الثامنية عرش قراناً يف زاوية‪ ،‬وقلت‪« :‬ال يأخذ أحد منها شيئاً‬
‫كل يوم) ويف اليوم‬
‫فيبقى املريض بدون دواء!» (ألنّه سيحتاج أن يشرتي له الدواء ّ‬
‫التايل‪ ،‬قريب الغروب ذهبت وأخذت الخمسة عرش قراناً ووضعتها يف الكيس ومشيت‬
‫باتّجاه الصحن يف حرم أمري املؤمنني ‪ ،Q‬وأذّن املؤذّن لصالة املغرب وعندما اجتزت‬
‫يل ثالثة قرانات قلت‪« :‬تعال‬
‫السوق ووصلت إىل الصحن‪ ،‬رأيت أحد أصدقايئ وكان له ع ّ‬

‫((( شخصيت و زندﮔـاين شيخ أنصاري‪ ،‬ص‪.82‬‬


‫خذ ثالثة قراناتك»‪ ،‬قال‪« :‬لست مستعجالً‪ ،‬فعالً عندي مال»‪ .‬قلت‪« :‬يا شيخ‪ ،‬أنا فعالً‬
‫‪272‬‬
‫مت الليلة أسلم منك»‪ .‬ومددت يدي إىل‬ ‫لدي مال‪ ،‬ويجب أن أؤ ّدي دينك حتّى إذا ّ‬ ‫ّ‬
‫كل جيويب وغريها رأيت أ ّن كيس النقود‬ ‫جيبي فلم أجد الكيس‪ ،‬فتّشت جيباً آخر‪ ،‬بل ّ‬
‫والذي فيه ختم ولوازم أخرى ال أثر له‪ ،‬ومل يظهر له أثر‪ .‬وبالرغم من حملة تفتيش‬
‫واسعة‪ ،‬مل أحصل عىل هذا املال‪ .‬التومانان اللذان أخذتهام إىل البيت ُصفا عىل عالج‬
‫وكل يوم كنت أحمله إىل الطبيب ويف طريق‬ ‫الطفل؛ فقد استم ّر مرضه عرشة أيّام‪ّ ،‬‬
‫العودة أشرتي دوا ًء وطعاماً له بقرانني إىل أن نَ َف َد التومانان وشُ في الطفل‪ .‬قلت يا ليت‬
‫ليت مبشاكل أخرى‪ ،‬وأنا اآلن‬
‫كنت ابتُ ُ‬
‫األقل ما ُ‬ ‫أ ّن هذين التومانني ضاعا أيضاً‪ ،‬فعىل ّ‬
‫كل‬
‫مشتغل بالصالة بج ّد علّها تنتهي برسعة وآخذ سنة أخرى‪ .‬وهذه الصالة أصعب من ّ‬ ‫ٌ‬
‫عمر «سخرة» يفرضه أرباب الديوان عىل الرعايا‪ .‬إ ّن الصالة االستئجاريّة عمل ّ‬
‫شاق تدع‬
‫ٍ‬
‫وخوف للعاقبة‪.‬‬ ‫اإلنسان من الناحية العمل ّية والروح ّية والجسديّة يف عذاب‬
‫وبالجملة‪ ،‬بعد ثالثني يوماً أو أربعني يوماً‪ ،‬أكملت صالة السنة‪ ،‬وذهبت وح ّدثت‬
‫خادم سامحته مبا جرى‪ ،‬وبألف م ّنة أعطاين خمسة قرانات حرياناً ملا فات‪ ...‬أعطاين‬
‫سنة بأربعة توامني‪ .‬وكنت مل ّدة طويلة ال أعرف النوم ليالً وال نهارا ً ّإل مضمضة؛ يعني‬
‫ألن كنت‬‫كنت أحصل عىل مت ّدد األعصاب نهارا ً دون أن أغفو‪ .‬ولك ّني ليالً كنت أغفو ّ‬
‫أصل جميع أوقات الليل والنهار‪،‬‬ ‫أزيد أوقات الصالة ما استطعت‪ ،‬بل أحياناً كنت ّ‬
‫وكل وجبة ساعتان متتاليتان‪ ،‬بحيث‬ ‫أصل وجبة أو وجبتني ليالً‪ ،‬وكذلك نهارا ً‪ّ ،‬‬ ‫كنت ّ‬
‫يدوخ رأيس وتكاد عيناي تخرجان من الحدقة‪ .‬وكنت أشتغل ساعتني أو ثالث ًا بالتدريس‬
‫(كفاية‪ ،‬مكاسب‪ ،‬منظومة) وأنشغل ساع ًة بالقراءة‪ ،‬حيث كنت أقرأ الجرائد بدقّة وأقرأ‬
‫عمود األخبار الخارج ّية»‪.‬‬
‫ويقول يف مكان آخر‪:‬‬
‫«وما ك ّنا نرجوه من سامحته هو سنة صالة بثالثة توامني أو أربعة‪ ،‬ث ّم إ ّن ذلك مل‬
‫يكن يحصل عادة ّإل بعد تكرار الذهاب ع ّدة م ّرات‪ .‬ك ّنا نذهب إليه ع ّدة م ّرات ويكون‬
‫جوابه بالنفي‪ ،‬فإذا أجاب باإليجاب أحياناً كان يقول‪« :‬يا شيخ عبد الرحيم‪ ،‬أعطه سنة‬
‫‪273‬‬
‫صالة»‪ ،‬فيتلو آنذاك صيغة اإلجارة بأربع مجيديّات مع تعيني األوقات وقراءة اإلقامة‪،‬‬
‫بعدها كان يقول‪« :‬اذهب وتعال غدا ً لتأخذ املبلغ»‪ .‬وك ّنا نذهب ع ّدة م ّرات الستالم‬
‫كل هذا الجهد كان يعطينا أربعة توامني‪ .‬وطيلة ثالمثئة وستّني يوماً‪ .‬إذا مل‬
‫املبلغ‪ .‬وبعد ّ‬
‫املختص به‪ ،‬أو تش ّوش بال أحدنا أثناء الصالة‪ ،‬أو انحرف مييناً أو‬
‫ّ‬ ‫يؤ ِّد حرفًا من املخرج‬
‫يسارا ً‪ ،‬أو إذا مل يكن قصد القربة خالصاً فالصالة باطلة والذ ّمة تبقى مشغولة‪ .‬إ ّن ّ‬
‫أي‬
‫رشع يداحلا مسقلا‪ :‬سانلا ةمدخو ةّيريهامجلا‬

‫الروحي والبد ّين»(((‪.‬‬


‫ّ‬ ‫سجن مع األعامل الشاقّة ليس فيه هذا العذاب‬
‫ويؤثرون على أنفسهم‬
‫قال ح ّجة اإلسالم الشيخ محسن قراءيت‪« :‬قبل انتصار الثورة اإلسالميّة‪ ،‬ذهب أحد‬
‫الروحانيّني املخلصني للتبليغ إىل إحدى القرى‪ .‬ومل يكن يف تلك القرية ماء للرشب‪،‬‬
‫وكان األهايل يبذلون جهدا ً كبريا ً ويتح ّملون مشقّات كثرية للحصول عىل املاء‪ ،‬ومل‬
‫يكن باستطاعتهم تأمني مبلغ مل ّد شبكة املاء إىل قريتهم‪ .‬وعندما رجع هذا املبلّغ‬
‫املخلص إىل ق ّم‪ ،‬باع منزله الذي كان يسكن فيه‪ ،‬وأ ّمن وصول املاء إىل تلك القرية‪،‬‬
‫توف ‪ M‬وأوالده األيتام‬ ‫ظل مستأجرا ً إىل أن ّ‬‫بيت استأجره‪ .‬وقد ّ‬ ‫وسكن هو يف ٍ‬
‫اآلن كذلك»‪.‬‬
‫القصة يف درس يف التلفزيون اتّصل يب‬
‫وأضاف الشيخ قراءيت‪« :‬عندما ذكرت هذه ّ‬
‫تلفون ّياً شخص من أهل الخري قائالً‪« :‬أنا مستع ٌّد لدفع مثن بيت ألبناء هذا املبلِّغ»‪.‬‬
‫وفعالً سلّمني املبلغ ودفعته إىل أوالده»‪.‬‬
‫َٰ َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َۡ‬ ‫ۡ َ‬
‫ون﴾(((‪.‬‬‫﴿ل ِ ِمث ِل هٰذا فل َي ۡع َم ِل ٱلع ِمل‬

‫((( سياحة يف الرشق‪ ،‬ص‪.539 - 532‬‬


‫((( سورة الصافات‪ ،‬اآلية ‪.61‬‬
‫طريقة الميرزا ‪M‬‬
‫‪274‬‬
‫كل منهم أسامء الفقراء‬
‫كل مدينة من الت ّجار‪ ،‬يرسل إىل ّ‬‫كان للمريزا األ ّول وكالء يف ّ‬
‫يف تلك املدينة‪ ،‬ويح ّدد لهم املبالغ التي يق ّدمونها لهم‪ .‬هؤالء الفقراء غري األشخاص‬
‫مخصصة شهريّاً وسنويّاً‪ .‬وكانت طريقة املريزا هذه تغطّي‬ ‫الذين كانت لهم مبالغ ّ‬
‫كل مدن العراق‪ -‬نقاط إيران املختلفة‪ .‬وكان يق ّدم لفقراء تلك املدن ما‬ ‫‪-‬باإلضافة إىل ّ‬
‫أمكنه‪ ،‬وإذا كان يوجد يف إحدى املدن عامل كبري يُعتمد عليه يُطأم ّن إليه‪ ،‬كان يرسل‬
‫إليه سنويّاً مبل ٌغ من املال ليوزّع بعضه عىل الفقراء املستحقّني حقيقة‪ ،‬ويأخذ بعضه له‪.‬‬
‫العلمة الس ّيد حسن الصدر ‪:M‬‬
‫يضيف ّ‬
‫قال يل‪ :‬ليس من اإلنصاف أن نأخذ الحقوق الرشع ّية من مدينة فيها فقراء وننساهم‪.‬‬
‫كل يشء وال يعطون شيئاً ألحد‪.‬‬
‫إ ّن الناس يرسلون لنا ّ‬
‫بطلب العلوم الدين ّية واملحتاجني يف املشاهد‪،‬‬
‫خاص ّ‬ ‫وكان املريزا يهت ّم بشكل ّ‬
‫لكل منهم شهريّة بال استثناء حتّى الذين كانوا يوافقون عىل العبادة‬ ‫فقد كان يق ّرر ّ‬
‫االستئجاريّة‪ ،‬كان يرسل إليهم مقدارا ً للعبادة ومقدارا ً كمساعدة(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشيخ عبد الوهاب الطهراني ‪M‬‬

‫األنصاري‪ ،‬وقد جاء‬


‫ّ‬ ‫هو ابن ع ّم والد الشيخ آقا بزرﮒ الطهرا ّين‪ ،‬ومن تالمذة الشيخ‬
‫يف سريته‪:‬‬
‫كان شديد التقوى والعبادة والقناعة‪ ،‬وكان يقسم املال الكثري الذي كان يرسله إليه‬
‫الطلب املحتاجني‪ ،‬ويحتفظ لنفسه بسهم‬ ‫والده لتشجيعه عىل مواصلة الدراسة‪ ،‬بني ّ‬
‫كسهم أحدهم(((‪.‬‬

‫((( مريزاي شريازي‪ ،‬ص‪.58‬‬


‫((( زندﮔـاين وشخصيت شيخ أنصاري‪ ،‬ص‪.338‬‬
‫ّ‬
‫السيد المرتضى‪M‬‬
‫‪275‬‬
‫اليافعي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يقول‬
‫عي مبالغ شهريّة لكثري‬
‫كان شديد االهتامم باملحتاجني والعوائل الفقرية‪ ،‬وكان قد ّ‬
‫من املعوزين‪ ،‬ومل يكونوا يعرفون مصدرها‪ .‬وبعد وفاة الس ّيد انقطع ذلك عنهم فعرفوا‬
‫أنّه منه(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫رشع يداحلا مسقلا‪ :‬سانلا ةمدخو ةّيريهامجلا‬

‫المرحوم السبزواري ‪M‬‬

‫جاء يف سرية هذا الفيلسوف ‪ -‬صاحب املنظومة‪« :-‬وأ ّما معاشه‪ ،‬فقد كان له يوم من‬
‫قناة عميد آباد‪ ،‬وكان له سنويّاً أربعون توماناً من بستانه‪ ،‬وثالثون «خروار»((( من الغلّة‬
‫عرشة أحامل من القطن‪ ،‬كان ينفق قسامً من هذا الدخل ‪-‬مبنتهى القناعة‪ -‬عىل معاشه‬
‫كل سنة يف العرش األخرية من صفر كان يقيم مجلس‬ ‫ويقسم الباقي بني الفقراء‪ .‬ويف ّ‬
‫العزاء ثالث ليال‪ ،‬ويق ّدم الخبز واللحم للفقراء املشلولني والعمي والعاجزين‪ ،‬ويعطي‬
‫لكل منهم قراناً‪ .‬وكان كذلك يدفع خمس أمواله وزكاتها سنويّاً بيده إىل السادات‬ ‫ّ‬
‫واملستحقّني(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشهيد قدوسي ‪M‬‬

‫أحد زمالئه يف الدراسة وأصدقائه القدامى يقول فيه‪« :‬من خصائصه كذلك االهتامم‬
‫وحل مشاكلهم‪ .‬مل يراجعه أحد‬ ‫الشديد والسعي الحثيث يف قضاء حوائج املؤمنني ّ‬
‫يف مشكل ٍة ما ّإل وحاول قدر جهده حلّها‪ ،‬كان يبذل جهودا ً كبرية يف مجال مساعدة‬
‫الطلب املحتاجني‪ ،‬ولكن دون أن يعرف أحد بذلك‪ .‬أحياناً كان يؤ ّمن مهر تزويج‬ ‫ّ‬
‫بعضهم‪ ،‬وكنت أنا وساط ًة يف إيصال ذلك إليهم‪ .‬كان يؤ ّمن لبعضهم مثن بيت دون أن‬
‫رسا ً‪.‬‬
‫يعرف أحد أيضاً‪ .‬وجميع مساعداته كانت ّ‬

‫الريض مؤلّف نهج البالغة‪ ،‬ص‪.65‬‬


‫((( الس ّيد ّ‬
‫((( الخروار حمل الدابّة أو ما يعادل ‪ 300‬كلغ‪.‬‬
‫((( تاريخ حكامء وعرفا‪ ،‬ص‪.113 - 112‬‬
‫ّ‬
‫آبادي‬ ‫المرحوم الشيخ إبراهيم النجف‬
‫‪276‬‬
‫يقول الشهيد املظلوم السيّد بهشتي يف إحدى خطبه مبناسبة استشهاد الشهيد‬
‫مطه ّري حول جامهرييّة الشيخ إبراهيم‪:‬‬
‫رحمة الله عىل الشيخ إبراهيم‪ .‬إنّه من الفضالء الذين تخ ّرجوا من ق ّم‪ ،‬عامل جليل‬
‫وجامهريي (شعبي) وهو الذي بنى مدرسة نجف آباد املوجودة فعالً؛ وليك‬ ‫ّ‬ ‫وخدوم‬
‫يقتصد يف بنائها‪ ،‬كانوا يأتون باآلج ّر والحجارة إىل الشارع العا ّم‪ ،‬ويقوم هو والناس‬
‫قبل الصالة وبعدها بنقل ذلك إىل مكان املدرسة‪ .‬ح ّدثني أصدقايئ النجف آباديّون‬
‫أ ّن الشيخ كان دامئاً يف خدمة الناس‪ ،‬أحياناً كان يصادف أن يتنازع رجل وزوجته عند‬
‫منتصف الليل‪ ،‬وال ميكن ألحدهام إمتاع اآلخر وإرضا ُؤ ُه‪ ،‬ويف النتيجة يأيت شخص عن َد‬
‫الثانية بعد منتصف الليل إىل باب الشيخ‪ ،‬يطرق الباب‪« :‬يا الله‪ ..‬يا شيخنا‪ »...‬ويكون‬
‫الحاج فالن مشكلة عائل ّية‪ ،‬فلنذهب إلصالح ذات بينهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هو نامئاً‪ ،‬يستيقظ‪ ،‬يف بيت‬
‫مل يكن يقول‪ :‬صباحاً‪ ،‬كان يقول‪« :‬فلنذهب»‪ ،‬ويرتدي ثيابه ومييض فيدخل البيت‬
‫مرحاً بشّ اشاً ويقول‪ :‬فعالً نريد الشاي‪ ،‬ويجلس بالقرب من السامور يرشب هو‪ ،‬ويق ّدم‬
‫لهم‪ ،‬ويصلح بني الرجل وزوجته‪ ،‬وتنتهي املشكلة‪ ،‬ث ّم ينهض وينرصف إىل منزله‪ .‬إذا‬
‫كان مث ّة روحان ّيون يف صلب املجتمع ويقيمون عالقات مع وجدان املجتمع والناس‪،‬‬
‫فليس ذلك ّإل ألنّهم يعيشون مع الناس ح ّقاً»‪.‬‬
‫القسم الثاني عشر‬

‫التوكُّل‬

‫َ‬ ‫َ َ َ َّ َ ۡ ّ ۡ ۡ‬
‫﴿وع ٱللِ فل َي َت َولك ٱل ُمؤم ُِنون﴾‬

‫(سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪)160‬‬


‫‪279‬‬

‫التوكل واالطمئنان وتفويض األمور إىل الله القادر املتعال ‪ -‬من جملة الصفات‬
‫ّ‬
‫الحميدة لعباد الله تعاىل‪.‬‬
‫رشع يناثلا مسقلا‪ُّ :‬كوتا‬

‫األمر الذي ينقذ من االضطراب والتشويش والرت ّدد وحمل ه ّم املستقبل‪ ،‬ومينح‬
‫التوكل‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان ق ّوة القلب واإلرادة واالنرصاف إىل القيام بأعامله واملثابرة عليها هو‬
‫وجل‪ -‬واالطمئنان إليه‪ ،‬سبحانه‪.‬‬
‫عليه ‪-‬ع َّز َّ‬
‫وهو أمر ورد التأكيد عليه كثريا ً يف القرآن الكريم‪ ،‬وقد اعتُ ِب يف بعض اآليات من‬
‫خصال املؤمنني السامية‪ ،‬كام اعتُ ِب املتوكِّلون يف عد ٍد آخر من اآليات‪ ،‬م ّمن يح ّبهم الله‬
‫ل‬

‫تعاىل‪.‬‬
‫ويف جميع األمور املا ِّديّة وغريها‪ ،‬يجب أن يكون اعتامد اإلنسان عىل الله تعاىل‪،‬‬
‫وجل‪ -‬مبعنى أن يكون ملتزماً‬
‫ويجب أن يعتقد بأ ّن تأثري األسباب والعلل هو منه ‪-‬ع َّز َّ‬
‫مبفاد‪« :‬ال مؤث ّر يف الوجود إلّ الله»‪« .‬أوحي إىل داوود‪ :‬يا داوود‪ ،‬إن أنا وضعتك فمن‬
‫يرفعك‪ ،‬وإن أنا رفعتك فمن يضعك‪ ،‬وإن أنا أعززتك فمن يذلّك‪ ،‬وإن أذللتك فمن‬
‫يع ّزك‪ ،‬وإن أنا نرصتك فمن يخذلك‪ ،‬وإن أنا خذلتك فمن ينرصك؟ فقال داوود‪ :‬األمر‬
‫والحكم لك وبيدك»(((‪.‬‬
‫للتحل بهذه الصفة؛ أل ّن التوك َُّل‬
‫ّ‬ ‫خاص‪ -‬جهدهم‬‫الطلب ‪-‬بشكلٍ ّ‬
‫ويجب أن يبذل ّ‬
‫الطلب؛‬ ‫هو الوسيلة الوحيدة التي ميكن بها مواجهة الفقر الذي هو طابع حياة أكرث ّ‬
‫لينرصفوا إىل مواصلة دروسهم دون اضطراب وقلق‪.‬‬

‫والنص منقول باملعنى (املع ِّرب)‪.‬‬


‫((( تفسري أديب وعرفاين قرآن مجيد‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ّ ،169‬‬
‫يف رسال ٍة إىل ٍ‬
‫واحد من أهل املعرفة يع ّدد فيها األمور التي ينبغي للسالك الحصول‬
‫‪280‬‬
‫البهاري ‪« :M‬السابع‪ :‬أن ال‬
‫ّ‬ ‫عليها‪ ،‬يقول العامل الجليل والعارف الكبري الشيخ مح ّمد‬
‫أي أمر متّكالً عىل حوله وق ّوته‪ ،‬بل يكون يف جميع األحوال متّكالً عىل صانعه‬
‫يكون يف ّ‬
‫جل شأنه»(((‪.‬‬
‫وخالقه ّ‬
‫ويقول الشهيد الثاين (عليه الرحمة والرضوان)‪:‬‬
‫كل واحد منهام ‪ -‬املعلم والتلميذ‪ -‬بعد تطهري نفسه من الرذائل املذكورة‬ ‫«فام يلزم ّ‬
‫اإللهي من‬
‫ّ‬ ‫وغريها توجيه نفسه إىل الله تعاىل‪ ،‬واالعتامد عليه يف أموره وتلقّي الفيض‬
‫عنده؛ فإ ّن العلم كام تق ّدم من كالم الصادق ‪ Q‬ليس بكرثة التعلّم‪ ،‬وإنّ ا هو نور‬
‫يقذفه الله تعاىل يف قلب من يشاء‪ ،‬ين ّزله عىل من يريد أن يهديه‪.‬‬
‫كل عليها وتكون‬ ‫وأن يتوك ََّل عليه ويف ّوض أمره إليه‪ ،‬وال يعتمد عىل األسباب فيتَّ ُ‬
‫وباالً عليه‪ ،‬وال عىل أحد من خلق الله ‪-‬تعاىل‪ ،-‬بل يلقي مقاليد أمره إىل الله ‪-‬تعاىل‪-‬‬
‫حينئذ من نفحات قدسه ولحظات أنسه ما يُقي ُم‬ ‫ٍ‬ ‫يف أمره ورزقه وغريهام‪ ،‬يظهر عليه‬
‫النبي ‪ P‬أ ّن الله‬
‫ويحصل مطلبه ويصلح به أمره‪ .‬وقد ورد يف الحديث عن ّ‬ ‫ّ‬ ‫به أوده‬
‫عم ضمنه لغريه‪ ،‬مبعنى أ ّن غريه يحتاج إىل السعي‬ ‫تعاىل قد تكفّل لطالب العلم برزقه ّ‬
‫عىل الرزق حتّى يحصل غالباً‪ ،‬وطالب العلم ال يكلّف بذلك‪ ،‬بل بالطلب‪ ،‬وكفاه مؤونة‬
‫الرزق إن أحسن الن ّية وأخلص العزمية‪.‬‬
‫وعندي يف ذلك من الوقائع والدقائق ما لو جمعته بلغ ما يعلمه الله من حسن‬
‫صنع الله ‪-‬تعاىل‪ -‬يب وجميل معونته منذ اشتغلت بالعلم‪ ،‬وهو مباديء عرش الثالثني‬
‫وتسعمئة إىل يومي هذا وهو منتصف شهر رمضان سنة ثالث وخمسني وتسعمئة»‪.‬‬
‫ويضيف‪« :M‬وبالجملة ليس الخرب كالعيان‪ ،‬وروى شيخنا املتق ّدم مح ّمد بن يعقوب‬
‫الكليني ‪-‬ق ّدس الله روحه‪ -‬بإسناده إىل الحسني بن علوان قال‪« :‬ك ّنا يف مجلس نطلب‬
‫ّ‬

‫((( تذكرة املتّقني‪ ،‬ص‪.114‬‬


‫فيه العلم‪ ،‬وقد نفدت نفقتي يف بعض األسفار‪ ،‬فقال يل بعض أصحابنا‪« :‬من تؤ ّمل ملا‬
‫‪281‬‬
‫نزل بك؟» فقلت‪« :‬فالناً»‪ .‬فقال‪« :‬إذًا والله ال يسعف حاجتك وال يبلغك أملك وال ينجح‬
‫طلبتك‪ ».‬قلت‪« :‬وما علمك رحمك الله؟» قال‪« :‬إ ّن أبا عبد الله ‪ Q‬ح ّدثني أنّه‬
‫قرأ يف بعض كتبه أ ّن الله تبارك وتعاىل قال‪« :‬وع ّزيت وجاليل ومجدي وارتفاعي عىل‬
‫كل مؤ ّمل غريي باليأس‪.(((»...‬‬
‫عريش‪ ،‬ألقطع ّن أمل ّ‬
‫وقد ورد عن اإلمام الصادق ‪:Q‬‬
‫رشع يناثلا مسقلا‪ُّ :‬كوتا‬

‫وجل‪ -‬إىل داوود ‪ :Q‬ما اعتصم يب عبد من عبادي دون‬ ‫«أوحى الله ‪-‬ع َّز َّ‬
‫ثم تكيده الساموات واألرض ومن فيهن ّإل‬
‫أحد من خلقي‪ ،‬عرفت ذلك من ن ّيته‪ّ ،‬‬
‫جعلت له املخرج من بينه َّن‪ ،‬وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي عرفت‬
‫ذلك من ن ّيته‪ّ ،‬إل قطعت أسباب الساموات واألرض من يديه وأسخت األرض من‬
‫ل‬

‫بأي وا ٍد هلك»(((‪.‬‬
‫تحته‪ ،‬ومل أبال ّ‬
‫ومن الواضح أن ّمفهوم التوكّل عىل الله تعاىل ال يعني أن يرتك اإلنسان األمور كلّها‬
‫لله‪ ،‬وال يكون بصدد القيام باألسباب االعتياديّة‪ ،‬بل كام يقول مولوي‪« :‬إذا كنت متوكّالً‬
‫رس «الكاسب حبيب‬ ‫فازرع وتوكّل عىل الجبّار‪ /‬وال تغفل يف التوكّل عن األسباب واسمع ّ‬
‫الله»»‪.‬‬
‫وقد قال رسول الله ‪ P‬بأعىل الصوت‪« :‬اعقل جملك وتوكّل»(((‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فمن الواجب دامئاً القيام بالواجب وعدم ّ‬
‫التنصل من املسؤول ّية بح ّجة‬
‫التوكّل‪.‬‬
‫عقارب مبعنى أ ّن األرض‬
‫َ‬ ‫«يقال إنّه قبل حواىل أربعني سنة أمطرت الدنيا يف سام ّراء‬
‫طلب املدرسة يف سام ّراء‪ّ ،‬إل واحدا ً‬ ‫كل مكان‪ ،‬وهرب ّ‬ ‫كانت تنبعث فيها العقارب من ّ‬

‫((( منية املريد‪ ،‬ص‪.62 - 61‬‬


‫((( الكايف‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.104 - 103‬‬
‫((( تعريب ثالثة أبيات ملولوي‪.‬‬
‫منهم فقد ق ّرر االستخارة‪ ،‬واستخار فكانت االستخارة عىل البقاء ج ّيدة‪ .‬فبقي ونام‪،‬‬
‫‪282‬‬
‫فلدغته العقرب ومات‪ ،‬وأخرجوا جسده من املدرسة‪ .‬إنّه هراء ح ّقاً‪ .‬يتوكّل عىل الله‬
‫ويلقي بنفسه يف قبضة العد ّو‪ ،‬يجب أن يتوكّل عىل الله ويهرب من العد ّو»(((‪.‬‬
‫السبزواري ‪:M‬‬
‫ّ‬ ‫املل هادي‬
‫«منك الجهد ومنه العناية» يقول الفيلسوف الجليل ّ‬
‫جـــــل وعـــا‬
‫ّ‬ ‫مــــقــــ ّدر األمـــــــور‬ ‫تــــوكّــــل أن تـــــدع األمــــــر إىل‬
‫رب أمـــر بــوســائــط حصل‬
‫إذ ّ‬ ‫ولــيــس هــذا أن تــكـ ّـف عــن عمل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫توكل اإلمام الخميني {‬

‫يقول أحد املق ّربني من اإلمام‪:‬‬


‫حق املعرفة‬
‫«من أبرز الصفات الروح ّية لإلمام‪ ،‬اطمئنان النفس‪ ،‬ومن يعرف اإلمام ّ‬
‫واملتغيات واملصاعب يف حياته مل يضطرب أو يتزلزل‬‫ّ‬ ‫يعلم أنّه يف جميع املنعطفات‬
‫حتّى للحظة واحدة‪ ،‬ومل يفقد صوابه أمام أيّة مشكلة عىل اإلطالق‪ .‬إنّه باستمرار يعرف‬
‫وبكل وضوح رؤية وإرصار‪ ،‬سواء قبل انتصار الثورة أو بعدها‪.‬‬ ‫ما يريد ّ‬
‫ولقد عرف الناس ذلك منه بعد االنتصار أكرث من قبل‪ ،‬وعندما كانت تعصف بالبالد‬
‫بعض الحوادث املؤملة وتعلو الكآبة وجوه الجميع من املسؤولني إىل الناس‪ .‬كان اإلمام‬
‫كالطود الشامخ‪ ،‬ليس فقط أنّه مل ت ُك ْن تعرتيه ذ ّرة من اضطراب‪ ،‬بل إ ّن طأمنينته كانت‬
‫تبعث الدفء والطأمنينة يف جميع القلوب‪.‬‬
‫قد يقول البعض‪ :‬إ ّن الكثريين إذا الحظوا مراحل الثورة وحضور الناس الدائم يف‬
‫الديني‪ ،‬يستطيعون أن‬‫ّ‬ ‫خاصة‪ ،‬ومدى تفانيهم واحتاملهم وش ّدة التزامهم‬ ‫الشدائد ّ‬
‫يدركوا أ ّن املستقبل لصالح حركة الثورة‪ ،‬فيشعرون باالطمئنان‪ ،‬ولكن إذا أمع ّنا النظر‬
‫قليالً‪ ،‬سنجد أ ّن هذا االطمئنان أيضاً والفهم املس ِّبب له ينبع من معني طأمنينة اإلمام‪،‬‬

‫((( استعاذه‪ ،‬ص‪.211 - 210‬‬


‫هذا املعني العذب الذي ال ينضب‪ .‬مع أ ّن أفق طأمنينة اإلمام كان باسامً ومرشقاً حتّى‬
‫‪283‬‬
‫عندما مل يكن يلوح يف األفق شبح للنرص‪ ،‬عندما كان حتّى الذين هم من أهل السياسة‬
‫الثوري ال يجرؤون عىل التفكري بالثورة بعدما رأوا فشل بعض الحركات‬
‫ّ‬ ‫والحس‬
‫ّ‬ ‫والفهم‬
‫التي كانت تتداعى يف منتصف الطريق أو ال تكاد تبلغه‪ ،‬أو تفشل يف مهدها‪ ،‬من قبيل‬
‫املرشوطة وحركة النفط وغريهام‪.‬‬
‫وكل‬
‫كانت الحوادث واضحة أمام عني اإلمام البصرية وضوح الشمس‪ ،‬وكان كالمه ّ‬
‫رشع يناثلا مسقلا‪ُّ :‬كوتا‬

‫مظاهر حياته تطفح باالطمئنان والتوكّل‪.‬‬


‫عندما ألقي القبض عليه‪ ،‬وأرادوا نقله إىل طهران‪ ،‬كان بعض أنصاره حول الس ّيارة‬
‫يل‬
‫يصبهم‪ .‬ويف الطريق ‪-‬يقول اإلمام‪ -‬انحرفت الس ّيارة عن الطريق األص ّ‬‫يبكون واإلمام ِّ‬
‫إىل جا ّدة تراب ّي ٍة‪ ،‬فأيقنت أنّهم يريدون قتيل‪ ،‬ولكن رجعت الس ّيارة مج ّددا ً إىل الشارع‬
‫ل‬

‫العا ّم‪ ،‬فتأ ّملت يف نفيس فوجدت ّأن مل أضطرب أبدا ً‪.‬‬
‫وعندما هاجم العراق إيران يف خطّ ٍة مدروسة متاماً ويف لحظ ٍة واحدة‪ ،‬وصل خرب‬
‫قصف املطارات ودخول آالف الدبّابات مع مئات األلوف من الجنود الحدود اإليران ّية‬
‫ومن مختلف املناطق‪ ،‬سيطر الخوف عىل الجميع‪ .‬كانت واقعاً لحظات شديدة الوطأة‬
‫عىل املسؤولني‪ ،‬وأرسع جميع مسؤويل الجيش إىل جمران‪ ،‬وأصبحت عيون املاليني ترنو‬
‫إىل بيت اإلمام‪ ،‬وخفقت القلوب وتطلّع مراسلو الصحف واملص ّورون الجميع ينتظرون‬
‫إعالن اإلمام رأيه‪ ،‬وهم يتساءلون ماذا سيقول؟ هل يرصخ هو أيضاً‪ :‬وإسالماه؟ هل‬
‫يستسلم ملطالب اآلخرين؟ هل يطلب مساعدة الدنيا يف مواجهة هذا الهجوم ويعتذر‬
‫كل يشء أن‬ ‫إىل أمريكا؟ أم يهادن روس ّيا؟ ماذا يفعل؟ ّإل أ ّن اإلمام إمام‪ ،‬ويجب قبل ّ‬
‫يطمنئ القلوب املضطربة‪ ،‬ث ّم ينرصف إىل إفهامهم ما ينبغي القيام به‪ .‬إ ّن املقام ليس‬
‫مقام عجلة‪ ،‬إنّه مقام سيطرة عىل األعصاب‪ ،‬كان اإلمام يدرك ج ِّي ًدا أ ّن عواطف الناس‬
‫بلغت أوج الغليان‪ ،‬ولسان حالهم‪ :‬نحن رهن إشارتك‪ .‬ولكن من الواضح أ ّن العد ّو‬
‫املحتل الثمل بنشوة النرص‪ ،‬ال يشكو ضعف املعنويّات وال قلّة الع ّدة والعتاد‪ ،‬وإذا‬ ‫ّ‬
‫كل يشء‪ .‬من املؤكَّد‬
‫واجهه الناس فلن يكون يف قلبه ذ ّرة رحمة‪ ،‬بل سيعمل عىل إبادة ّ‬
‫‪284‬‬
‫أ ّن النفري العا ّم آنذاك كان سيجعلنا نخرس أفضل طاقاتنا البرشيّة وغريها دفعة واحدة‪.‬‬
‫يصب اإلمام عىل نريان العواطف والحرية ماء االطمئنان والصرب ويقول بهدوء‬
‫وفجأ ًة ّ‬
‫«لص جاء ورمى حجرا ً وهرب»‪.‬‬‫حول قصف املطارات‪ّ :‬‬
‫ويف هذا السياق أيضاً والجميع قلقون عىل مصري الحرب (وما يؤول إليه أمرها) وإذا‬
‫باإلمام يقول‪« :‬الحرب نعمة إله ّية»‪ .‬ومنذ األيّام األوىل يهزأ بص ّدام وقادس ّيته‪.‬‬
‫بش بالصالة يف القدس‬‫قصة توكّل اإلمام وطأمنينته عند هذا الح ّد‪ ،‬فقد ّ‬
‫وال تنتهي ّ‬
‫وبش كذلك بنجاة جميع املستضعفني‪ .‬ح ّقاً إىل أين يصل اطمئنان اإلمام وكم هو بعيد‬
‫ّ‬
‫ساحلُه!‬
‫مسيحي‪ ،‬كان قد جاء إىل إيران‬
‫ّ‬ ‫ومن املناسب ج ّدا ً اإلشارة هنا‪ ،‬إىل ما قاله كاتب‬
‫مبناسبة ذكرى انتصار الثورة اإلسالم ّية‪ ،‬قال بعد رجوعه‪« :‬لقد ش ّدتني أمور كثرية يف‬
‫الثورة اإليران ّية ولك ّن األه ّم فيها جميعاً انطباعي عن قائد الثورة‪ ،‬لقد رأيت الكثريين‬
‫من الشخص ّيات والسياس ِّيني يف العامل‪ ،‬ولك ّني مل أ ًر أحدا ً يف طأمنينته وهدوئه‪ .‬رأيته‬
‫ثوري ال يستكني‪ ،‬تشعر بأ ّن دنيا من الهدوء‬‫يف حسين ّية جامران‪ ،‬ويف حني أنّه رجل ّ‬
‫واالطمئنان تصحبه»(((‪.‬‬
‫يقول أحد املق ّربني من اإلمام‪:‬‬
‫«أنتم تعلمون أ ّن عبء حوادث الثورة كان دامئاً عىل كاهل اإلمام‪ ،‬ولوال ذلك‬
‫كل هذه املشاكل‪ .‬كان‬ ‫االطمئنان والتوكّل لكان من املستحيل أن يستطيع تح ّمل ّ‬
‫السيايس يكشف‬
‫ّ‬ ‫املسؤولون يف أكرث الحوادث يخرجون عن طورهم‪ ،‬ومل يكن وعيهم‬
‫كل اضطرابهم‪.‬‬
‫أي مخرج‪ ،‬ولك ّنه كان بجملة واحدة ينهي ّ‬
‫لهم عن ّ‬
‫كل‬
‫التجسس (األمرييكّ) كان أكرث املسؤولني غري راضني‪ ،‬ويف ّ‬
‫ّ‬ ‫يف مجريات احتالل وكر‬

‫((( ويزﮔـيهايي أزوندﮔـي إمام خميني‪ ،‬ص‪.127 - 121‬‬


‫يوم كانوا يطرحون أمرا ً جديدا ً‪ ،‬واحد يقول‪ :‬ليس باإلمكان محاربة أمريكان‪ ،‬والثاين‬
‫‪285‬‬
‫يقول‪ :‬لقد أنزلت أمريكا ق ّواتها يف املنطقة‪ ،‬وآخر يقول‪ :‬جاء األسطول الفال ّين األمرييكّ‪.‬‬
‫وحده اإلمام كان يقول‪ :‬أمريكا ال تستطيع أن ترتكب أيّة حامقة‪ .‬ذات يوم شىك أحد‬
‫الشخص ّيات الثوريّة أمام اإلمام من املؤامرات‪ ،‬ووضع اإلمام بهدوء يده عىل صدره‬
‫أي يشء‪.‬‬
‫قائالً‪ :‬أنت ملاذا تخاف؟ ال يحدث ّ‬
‫والعجيب أنّه مهام كان يقال عن مؤامرات الرشق والغرب‪ ،‬ليس أنّه فقط مل يكن‬
‫رشع يناثلا مسقلا‪ُّ :‬كوتا‬

‫يضطرب أبدا ً‪ ،‬بل كان يصبح أكرث اطمئناناً بالنرص‪ .‬وليس عجيباً من القائد الذي يفقد‬
‫ولدا ً كآية الله الشهيد الس ّيد مصطفى ‪-‬الذي كان باستطاعته أن يكتب يف شبابه آالف‬
‫الصفحات يف التفسري وأن يتف ّوق يف املسائل الفقه ّية عىل الكثري من أساتذته‪ ،‬ومل يكن‬
‫يرتك الته ّجد وقيام الليل‪ -‬ويف شهادة شخص ّية كهذه مل يهت ّز اإلمام مبقدار ذ ّرة‪ ،‬ويف اليوم‬
‫ل‬

‫التايل يواصل تدريسه‪ .‬وقد اشرتك يف تشييعه الستحباب ذلك وكونه فقط عمالً يرضاه‬
‫الله تعاىل‪ ،‬ويف ما بعد كان وكأنّه مل يفقد ابناً‪.‬‬
‫أو عند استشهاد أصحابه كمط ّهري وبهشتي اللذين يدرك اإلمام أكرث من سواه‬
‫اإلسالمي من ج ّراء فقدهم ويشعر مبدى حاجة الحوزات‬
‫ّ‬ ‫مدى الخسارة الناجمة للفكر‬
‫العلم ّية والجامعات إليهم‪ ،‬ولك ّنه رغم ذلك يبقى عند استشهادهم متامسكاً‪.‬‬
‫يف الليلة التي وصل فيها إىل املكتب خرب استشهاد االثنني وسبعني شخصاً‪ ،‬أُصبنا‬
‫جميعاً ب ُدوار‪ ،‬ومل نكن ندري كيف نوصل هذا الخرب إىل اإلمام‪ .‬اإلمام الذي كان‬
‫جمً)‪ ،‬أُوعز إىل اإلذاعة أن ال تذيع الخرب؛ أل ّن اإلمام‬
‫يحب بهشتي بقلبه وروحه (ح ّباً ّ‬
‫ّ‬
‫يستمع إىل نرشة آخر الليل‪ .‬ت ّم االتّفاق أن يذهب الس ّيد أحمد والشيخ رفسنجا ّين يف‬
‫اليوم التايل إىل اإلمام إلخباره مبا جرى بطريق ٍة مناسبة خشية أن يصاب اإلمام بسوء‪.‬‬
‫وأويص من يف البيت أن يبعدوا املذياع عن اإلمام‪ :‬إذ كان من املحتمل أن يذاع الخرب‬ ‫َ‬
‫الساعة السابعة أو الثامنة صباحاً‪ .‬والطريف هنا أ ّن عائلة اإلمام عندما حاولت قبل‬
‫الساعة السابعة أخذ املذياع‪ ،‬يقول لها اإلمام‪« :‬دعي املذياع مكانه‪ ،‬فقد سمعت‬
‫الخرب من إحدى اإلذاعات الخارج ّية»‪ .‬واألطرف من ذلك أنّه عندما ذهب الشيخ‬
‫‪286‬‬
‫رفسنجاين والس ّيد أحمد إىل اإلمام إلخباره‪ ،‬ع َّزاهام اإلمام وه ّدأ روعهام‪ ،‬ونقل لهام‬
‫قصة هي أ ّن أحد علامء اإلسالم كان عىل املنرب فأخرب بوقوع حادثة ّ‬
‫توف فيها عدد‬ ‫ّ‬
‫كبري‪ .‬فقال ذلك العامل هذا تقارب آجال؛ أي إ ّن اآلجال اقرتبت من بعضها‪ ،‬فقد كان‬
‫مق ّررا ً أن ال ميوت هؤالء يف وقت واحد‪ ...‬لك ّن الله سبحانه قارب بني اآلجال (فامتوا‬
‫يف وقت واحد)(((‪.‬‬
‫ومل مت َّر ع ّدة أيّام‪ ،‬وك ّنا يف املكتب فأخربونا بانفجار رئاسة الوزراء وكان خربا ً مفجعاً‪ .‬أمر‬
‫اإلمام‪« :‬اذهبوا وتأكّدوا‪ ،‬أريد أن أعرف مصري الس ّيدين رجايئ وباهرن»‪ .‬ومبقدار ما كان‬
‫يحب رجايئ‬
‫يحب أن يضايقوه بذهابهم إليه‪ ،‬كان ّ‬ ‫اليي ومل يكن ّ‬ ‫يكره بني صدر والليرب ّ‬
‫وزيارته‪ ،‬إلّ أ ّن هذه الفاجعة مل تزلزل صرب اإلمام‪ ،‬وبقي متامسكاً مطمئ ًّنا بالنرص»(((‪.‬‬
‫جاء يف إحدى املطبوعات قبل انتصار الثورة بقليل حول اإلمام‪:‬‬
‫«هذا الرجل ابن السبعني ون ّيف الذي ه ّز بعزمه الراسخ التاج والعرش الشاهنشاه َّي ْي‬
‫بتاريخهام املمت ّد ‪ 2500‬سنة‪ ،‬جالس يف إحدى غرف بيت متواضع عىل األرض املفروشة‪،‬‬
‫وقد بدأ يح ّدثنا بدون أيّة مراسم وترشيفات‪ .‬وكثريا ً ما يقول يف الجواب عن حاميته‬
‫وحراسته‪« :‬الله حافظي»‪ .‬جلسنا أمام قائد الثورة دون أيّة قيود‪ ،‬نظراته الساحرة‬
‫كل الحارضين‪ .‬وال يوجد سؤال ميكنه أن يخرجه من هدوئه‪.‬‬ ‫وشخص ّيته الجليلة تبهر ّ‬
‫لقد قال مرارا ً‪ :‬الشاه يجب أن يذهب»(((‪.‬‬

‫اساين صاحب الكفاية ‪M‬حيث يقال‪« :‬أنّه عندما رضب الوباء النجف‬ ‫((( هذا العامل الكبري هو اآلخوند الخر ّ‬
‫فقىض يف يوم أو يومني عىل عدد كبري منهم عائلة اآلخوند وابنته وسيطر الخوف عىل الناس‪ ...‬صعد ‪M‬‬
‫وكل من يأيت أجله ميوت واآلن مل‬
‫حق ّ‬
‫وصبهم وقال‪ :‬أيّها الناس‪ ،‬ال تخافوا املوت ّ‬
‫املنرب ووعظ الناس وع ّزاهم ّ‬
‫يحدث إلّ تقارب اآلجال» فقال له طالب أصفهاين‪ :‬سامحة األستاذ‪ ،‬نحن نخاف من تقارب اآلجال هذا‪ .‬زندﮔـاين‬
‫آخوند خراساين‪.‬‬
‫((( فرازهايئ أز ابعاد‪ ،‬ص‪.27 - 24‬‬
‫((( تفسري آفتاب‪ ،‬ص‪.423 - 422‬‬
‫ّ‬
‫ركن اإلسالم األول‬
‫‪287‬‬
‫الدشتي ‪-‬وكان مق ّرباً من اآلخوند الخراسا ّين‪:-‬‬
‫ّ‬ ‫يقول الشيخ أحمد‬
‫خاص‬ ‫«كان الوضع املا ّيل للشيخ ‪-‬ووضعنا جميعاً‪ -‬س ّيئاً‪ .‬وذات ليلة كان للشيخ درس ّ‬
‫النائيني واملرحوم الس ّيد أيب الحسن األصفها ّين‬
‫ّ‬ ‫يشرتك فيه تالمذته البارزون مثل املريزا‬
‫اقي والشيخ عبد الله الـﮕـلبايـﮕـا ّين وعدد آخر‪ .‬عندما انتهى‬ ‫والشيخ ضياء الدين العر ّ‬
‫الدرس‪ ،‬رأينا س ّيدا ً من آل الرفيعي جاء مع شخص آخر زائر‪ ،‬ودفع ذلك الرجل الزائر‬
‫رشع يناثلا مسقلا‪ُّ :‬كوتا‬

‫مقدارا ً من الحقوق الرشع ّية إىل الشيخ فوضع هو املبلغ تحت الفراش (الذي يجلس‬
‫عليه)‪.‬‬
‫نحن الذين ك ّنا نشاهد ما يجري وكلّنا يف غاية اإلفالس فرحنا فسيعطينا الشيخ شيئاً‪،‬‬
‫رس يف أذن الشيخ شيئاً‪.‬‬
‫ولكن رسعان ما تب ّدل أملنا يأساً؛ إذ رأينا أ ّن ذلك الس ّيد قام وأ ّ‬
‫ل‬

‫فناوله الشيخ قلامً وورقة كانا بالقرب منه‪ ،‬وأشار إليه أن أكتب‪ ،‬فكتب ذلك الس ّيد‬
‫شيئاً مخترصا ً وأعطاه للشيخ‪ ،‬وعندما نظر الشيخ يف ذلك قطّب حاجبيه وم ّزق الورقة‪،‬‬
‫ث ّم م ّد يده تحت الفراش وأخرج ذلك املبلغ وأعطاه للس ّيد فأخذه وخرج مع الزائر‬
‫شاكرين‪.‬‬
‫كل ما جرى‪ ،‬وحملنا الفضول بش ّدة‬ ‫الدشتي‪ :‬ومل نفهم شيئاً من ّ‬
‫ّ‬ ‫يقول الشيخ أحمد‬
‫عىل معرفة التفاصيل‪ّ ،‬إل أ ّن األصدقاء مل يكونوا يجرؤون عىل االستفسار‪ .‬وحيث ّإن‬
‫كنت أجرأهم يف ذلك‪ ،‬أشاروا إ ّيل أن أسأل أنت‪ ،‬فسألته‪« :‬موالنا‪ ،‬ميكن أن تتفضّ لوا‬
‫قصة؟» قلت‪« :‬هذا الذي حدث‪ ،‬مجيء هذين الشخصني‬ ‫القصة»؟ قال‪« :‬أيّة ّ‬
‫ببيان ّ‬
‫ودفع أحدهام ملبغاً من املال ووضعك املال تحت الفراش‪ ،‬ث ّم إرسار الس ّيد لكم بيشء‬
‫ث ّم كتب شيئاً‪ ،‬فأخرجتم املبلغ ودفعتموه له‪ ،‬فقاما وانرصفا‪ .‬نحن مل نفهم من ذلك‬
‫شيئاً»‪ .‬قال‪« :‬هناك أمور كثرية يف الدنيا ال نفهم معناها‪ ،‬وهذه واحدة منها»‪.‬‬
‫رص ْرتُ عىل األمر وأيّدين واحد أو اثنان من الحارضين‪،‬‬
‫قال الشيخ أحمد‪ :‬ولك ّني أ َ‬
‫رصين‪ ،‬فاعلموا أ ّن ذلك الرجل الزائر جاء ودفع أربعمئة‬ ‫فقال سامحته‪« :‬ما دمتم م ّ‬ ‫‪288‬‬
‫لرية فأخذتها‪ ،‬فقال يل ذلك الس ّيد إ ّن له ولدين ويريد أن يز ّوجهام ولك ّنه مملق؛ وليك‬
‫ال يسمع أحد قلت له أن يكتب املبلغ الذي يحتاجه‪ ،‬فكتب مئة لرية فرأيت أ ّن هذا‬
‫املبلغ ال يكفي لتزويج ولدين فدفعت إليه املبلغ كلّه»‪.‬‬
‫وعندما قال الشيخ ذلك‪ ،‬بدأ جميع الحارضين بالقال والقيل‪ :‬أن كيف يا موالنا؟‬
‫أنتم تعرفون أفضل م ّنا أ ّن وضعنا املا ّيل س ِّيئ‪ .‬ودعنا نحن إىل جه ّنم‪ ،‬ملاذا ال تفكّرون‬
‫بوضعكم أنتم؟ اآلن أنتم وعيالكم يف ضائقة إىل هذا الح ّد كيف تعطي األربعمئة لرية‬
‫األقل كنت تدع شيئاً لك‪ ،‬أو عىل ّ‬
‫األقل كنت ترتك‬ ‫دفعة واحدة إىل هذا الس ّيد؟ عىل ّ‬
‫شيئاً ّ‬
‫لطلبك‪.‬‬
‫قال الشيخ أحمد‪ :‬وفيام ك ّنا نو ّجه هذه االعرتاضات‪ ،‬فجأة رأينا الشيخ يبيك‪ ،‬فسكتنا‬
‫جميعاً ّ‬
‫متحيين‪ ،‬وبدأنا نعتذر إليه مؤكّدين أنّنا مل نكن ننوي الجرأة عىل ساحة أستاذنا‬
‫املق ّدسة‪.‬‬
‫وبعد دقائق هدأ وقال‪« :‬تألّمي وانزعاجي ليس سببه أنّني أعترب ما قلتموه جرأة‬
‫يل‪ ،‬وسبب انزعاجي أنّني أرى أ ّن جميع األتعاب التي تح ّملتها بسببكم طيلة سنوات‬ ‫ع ّ‬
‫ذهبت هدرا ً؛ ألنّني أرى أنّكم مل تدركوا بعد ركن اإلسالم األ ّول وهو التوحيد‪ ،‬وأنتم‬
‫غافلون عنه وال تعلمون أ ّن الرزق من الله وليس من عبد الله‪ .‬إذا كان قصدكم من‬
‫ألن عندما‬‫هذا الكالم أن أ ّدخر لنفيس هذه األموال وأمثالها‪ ،‬فال حاجة يل باإل ّدخار؛ ّ‬
‫بكل‬
‫يل ّ‬ ‫خرجت من مشهد إىل النجف مل يكن معي ّإل مجلّدان من الكتب وم ّن الله ع ّ‬
‫هذه النعمة والع ّزة‪ .‬وإذا كان قصدكم أطفايل‪ ،‬فإ ّن وضعهم ج ّيد والله رازقهم‪ .‬وإذا كان‬
‫قصدكم أنفسكم‪ ،‬فأنتم يجب أن تتوكَّلوا عىل الله وأن يكون هو أملكم وليس غريه‪ .‬أنا‬
‫ألن أجد أنّكم نسيتم الله وأ ّملتم عبده»‪ .‬وعندما تفضّ ل الشيخ بهذه النصائح‬ ‫حزين؛ ّ‬
‫طلبه جميعاً تأثّرا ً شديدا ً وأطرقوا خجالً»(((‪.‬‬
‫تأث ّر ّ‬

‫((( مرﮔـي درنور‪ ،‬ص‪.386 - 384‬‬


‫في الصحراء المجدبة‬
‫‪289‬‬
‫النجفي القوﭼـا ّين ‪-‬وبعد م ّدة من الدراسة يف مشهد وألسباب يوضّ حها‪-‬‬
‫ّ‬ ‫ق ّرر آية الله‬
‫السفر إىل أصفهان؛ ليتابع دراسته هناك‪ .‬ويتّجه إليها سريا ً عىل األقدام مع طالب ّ‬
‫يزدي‬
‫يضل الطريق التحقا يف الصحراء بقافلة ألهل يزد‪ ،‬وهذه‬ ‫كان صديقه‪ .‬وخوفاً من أن ّ‬
‫قصة حدثت معهام يف الصحراء نتيجة التوكّل عىل الله تعاىل‪:‬‬ ‫ّ‬
‫كان يف تلك القرية «خان» للمسافرين مل ينزل فيه اليزديّون‪ ،‬بل حطّوا الرحال يف‬
‫رشع يناثلا مسقلا‪ُّ :‬كوتا‬

‫ساحة أمامه‪ .‬ونزلت وصاحبي يف إيوان مرشف عىل القافلة‪ .‬قلت له‪« :‬أنا أُه ِّيئ الشاي‬
‫وأُحرض علف الدابّة‪ ،‬وأنت اذهب واشرتِ خبزا ً»‪ .‬وعندما رجع بعد نصف ساعة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ال يوجد خبز يف هذه القرية‪ ،‬كام رجع ع ّدة أشخاص من القافلة مل يجدوا خبزا ً أيضاً‬
‫مم ا ّدخروه يف أمتعتهم لوقت الرضورة‪ ،‬نحن‬ ‫مثيل يائسني‪ ،‬وقد ق ّرروا أن يع ّدوا طعاماً ّ‬
‫ل‬

‫نحتاج طعاماً لهذه الليلة والليلة القادمة حيث إنّه ال قرية أخرى يف الطريق‪.‬‬
‫اوي ‪-‬العلف‪ -‬ال وجود‬
‫املاء غري موجود‪ ،‬والخبز بطريق أوىل‪ ،‬وحتّى النبات الصحر ّ‬
‫له‪ ،‬ليس ّد اإلنسان حاجته به‪ .‬فاملشكلة ليست واحدة أو اثنتني ‪ -‬قلت‪ :‬يا شيخ‪ ،‬هؤالء‬
‫رجعوا ومل يبحثوا أكرث‪ ،‬اتّكاالً عىل ما يف الخرج‪ ،‬فلامذا رجعت معهم ومل تبذل جهدك؟‬
‫فعم قريب يكون جاهزا ً وارشب الغليون واطم ّنئ وال‬
‫تعال اجلس وارشب الشاي‪ّ ،‬‬ ‫َ‬
‫كل إنسان مقرون بنفسه وحياته‪ ،‬ولن يسبق أحدهام اآلخر أبدا ً وهام‬ ‫تغت ّم؛ فإ ّن رزق ّ‬
‫اإللهي‪ .‬أنا اآلن أذهب وأقلب هذه القرية رأساً عىل عقب‪ .‬ويف األثناء‪،‬‬
‫ّ‬ ‫موزونان بامليزان‬
‫تتحيوا عبثاً فال ميكن‬
‫رأينا ع ّدة من اليزديِّني رجعوا وقالوا لرفاقهم‪« :‬ال تنتظروا وال ّ‬
‫الحصول يف هذه القرية عىل يشء»‪.‬‬
‫وذهبت متّكالً عىل الله‪ ،‬وما إن دخلت زقاق القرية حتّى رأيت باب البيت األ ّول‬
‫مفتوحاً‪ ،‬فدخلت ألرى أحدا ً وأطلب منه خبزا ً‪ .‬رأيت يف وسط الدار امرأة بجانب التنور‬
‫طلب العلوم الدين ّية‬
‫ترقق قطع العجني وتلقي بها يف التنور‪ ،‬فأدرت ظهري ‪-‬عىل عادة ّ‬
‫حتّى ال يقع النظر عىل أجنب ّية ولو بال ريبة‪ -‬ورفعت صويت‪:‬‬
‫‪« -‬يا أ ّم‪ ،‬عندك خبز؟‬
‫‪290‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬تفضل ادخل»‪.‬‬
‫ودخلت الدار‪.‬‬
‫‪« -‬كم تريد؟‬
‫‪ -‬م ّناً واحدا ً (‪ 3‬كيلوات)‪.‬‬
‫‪ -‬هل تريد شيئاً آخر؟‬
‫‪ -‬إذا كان لديكم يشء من املرق‪.‬‬
‫ولدي زبدة طازجة‪.‬‬
‫كل يشء موجود‪ّ ،‬‬ ‫‪ -‬لنب ومخيض وحليب وجنب ّ‬
‫‪ -‬أريد (‪ 5‬سري) ‪ 3750‬غرام» من تلك الزبدة»‪.‬‬
‫فأمرت تلك املرأة ابنتها فأعطتني ذلك‪.‬‬
‫‪« -‬كم مثن هذا؟‬
‫‪ -‬الخبز بنصف قران والزبد بقران»‪.‬‬
‫وأخرجت خمسة أقراص خبز من الت ّنور وأعطتني إ يّاها‪ .‬كان طحني الخبز من أفضل‬
‫وكل رغيف نصف ذراع أبيض ونظيف‪ ،‬مل نر من مشهد إىل ذلك‬ ‫أنواع القمح البلد ّي‪ّ ،‬‬
‫املكان مثله‪ ،‬بل كان الخبز يف تلك القرى أسود مخلوطاً بغري الطحني‪ .‬جئت بالخبز‬
‫والزبد إىل صاحبي وقلت له‪« :‬أنت قد رشبت ع ّدة أكواب من الشاي‪ ،‬أخرج الطاسة‪،‬‬
‫الخبز ما يزال حا ّرا ً‪ ،‬اثرده لقم ًة لقمة‪ ،‬وضعه يف الطاسة مع الزبد واخلطهام معاً لتذوب‬
‫الزبدة وتنفذ يف الخبز (وعندها نأكله) وأكون أنا قد تناولت كوب شاي ود ّخنت»‪.‬‬
‫قال‪« :‬هذا الخبز بهذه الروعة الذي مل أر مثله ّإل يف قوﭼـان من أين جئت به؟»‪.‬‬
‫قلت‪« :‬من ما وراء الطبيعة»‪.‬‬
‫وقسم‪ ،‬هل رأيت يف هذه القرى ‪ -‬ما عدا حوايل‬ ‫قال‪« :‬متزح»‪ .‬قلت‪« :‬أنت فكّر ِّ‬
‫طبس ‪ -‬لبناً أو مخيضاً طازجاً؟ وهل رأيت زبدة عىل اإلطالق ولو قذرة ومليئة بالشعر‬
‫فضالً عن هذه النظافة؟ وهل رأيت يف مثل هذه القرى ثورا ً أو بقرة؟ وهذه القرية‬
‫كل أهلها‪ ،‬فهؤالء اليزديّون سألوهم وهم أعرف م ّني ومنك بهذه‬
‫لنفرتض أنّك مل تسأل ّ‬
‫‪291‬‬
‫أي وضع هم من أجل‬ ‫القرية‪ ،‬ومع ذلك رجعوا يائسني وصفر األيدي‪ ،‬واآلن انظر يف ّ‬
‫وأي محرش كبري أمامك‪.‬‬
‫تأمني طعامهم ّ‬
‫‪ -‬لست مقتنعاً‪ ،‬أح ّدد لك مكان البيت فهل تجده؟ أو إذا وجدته فهل تجد تلك األ ّم‬
‫وذلك الت ّنور الحامي؟ الخبز والزبد والعجني واملخيض واللنب كلّه من الج ّنة‪ .‬أين‬
‫سمعت مب َّن ْي من الخبز بقران؟ وأين سمعت مب ِّن زبدة بثامنية قرانات ويف واد غري‬
‫رشع يناثلا مسقلا‪ُّ :‬كوتا‬

‫اليزديي الليلة هنا لنسرتيح قليالً ونرحل‬ ‫ّ‬ ‫ذي زرع؟ إلّ تحتمل أ ّن الله أخر هؤالء‬
‫معهم صباحاً حتّى ال تهلكنا حصباء الطريق‪ .‬واآلن‪ ،‬كل هذا الطعام اللذيذ واشكر‬
‫َّ َّ َ َ ۡ‬
‫ٱلل ل َم َع ٱل ُم ۡح ِسن ِ َني﴾‪ .‬قال‪« :‬إنّه واقعاً لذيذ ج ّدا ً»‪ .‬قلت‪« :‬إلّ أ ّن جزءا ً من‬ ‫الله ﴿ِإَون‬
‫مختص ومنحرص بنا‪ ،‬حتّى إذا مل ننتبه لذلك؛ أل ّن الوجود االرتكاز ّي‬ ‫ّ‬ ‫لذّته بسبب أنّه‬
‫ل‬

‫لألشياء مؤث ّر أيضاً‪ .‬إ ّن جميع موجبات اللذّة والسعادة يف هذا العامل هي فقط إضافات‬
‫الخارجي لألموال من درهم ودينار وحديقة وما شابه ال توجب‬ ‫ّ‬ ‫واختصاصات‪ ،‬والوجود‬
‫وتختص بك ترقص‬ ‫ّ‬ ‫وتختص بك‪ ،‬ومبج ّرد أن تصبح لك‬‫ّ‬ ‫لذّة لك وسعادة ما مل تُضَ ْف إليك‬
‫مختصاته فال تذهب‬ ‫ّ‬ ‫الحق‪ ،‬وإذا تلف يشء من‬‫طرباً‪ .‬وإذا كان اإلنسان مؤمناً شكر ّ‬
‫كل بني البرش رزقهم الله نعمة عىل ح ّد سواء‬ ‫نفسه حرسات‪ .‬حتّى إنّه لو فرض أ ّن ّ‬
‫ودومنا ذ ّرة من تفاوت يف أ ّي من النعم ملا كان أحد يشعر بلذّة سعادة‪ ،‬وفضالً عن ذلك‬
‫ملا كان أحد يشكر الله‪ .‬سئلت األسامك عن املاء فقالت مل نر ما ًء أبدا ً؛ ذلك أل ّن املاء‬
‫يغمرها جميعاً وعندما تعيش سمكة عىل اليابسة عندها تدرك أ ّن املاء نعمة عظيمة‬
‫ولعل إحدى أرسار وحكم التفاوت بني األفراد‬ ‫لها‪ ،‬كام قيل‪ :‬تعرف األشياء بأضدادها‪ّ .‬‬
‫الحق تعاىل هي املعرفة والشكر»‪ .‬تناولنا طعامنا‪ ،‬ومت ّددنا نسرتيح ‪ -‬كنا ند ّخن‬ ‫يف نِ َعم ّ‬
‫يحضون طعامهم والعلف‪.‬‬ ‫وعيوننا مشدودة إىل السامور واليزديِّني وهم ّ‬
‫(((‬
‫الــــرزق مــقــســوم فــا تــرحــل له واملـــوت محتوم فــا تحفل بــه‬

‫((( سياحة يف الرشق‪ ،‬ص‪.138 - 133‬‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫محمد ّ‬
‫البافقي‬ ‫تقي‬ ‫الشيخ‬
‫‪292‬‬
‫بعد إطالق رساحه من سجن رضا بهلوي‪ ،‬أُب ِعد العامل املجاهد الشيخ مح ّمد ّ‬
‫تقي‬
‫الري (جنوب طهران)‪.‬‬
‫البافقي إىل ّ‬
‫ّ‬
‫البافقي ‪ M‬ذات يوم جالساً يف منزله‪ ،‬فإذا برئيس رشطة املنطقة قد دخل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كان‬
‫وبعد السالم واإلذن بالجلوس جلس قرب الباب‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪« -‬موالنا أنا مأمور من قبل رؤسايئ أن أوفّر لك ما تحتاجه وأنفّذ طلباتك»‪.‬‬
‫البافقي وهو املو ّحد املتوكّل عىل الله‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫فغضب‬
‫‪« -‬ومن أنت حتّى ت ّدعي تنفيذ جميع طلبايت وقضاء حوائجي؟‬
‫‪ -‬أنا رئيس الرشطة‪.‬‬
‫‪ -‬إ ّن حاجتي اآلن أن تظهر غيمة يف هذه السامء الصافية املشمسة ومتطر لتبلّل‬
‫األرض فهل تستطيع أن تحقّق ذلك؟‬
‫كل ال أستطيع‪.‬‬ ‫‪ّ -‬‬
‫‪ -‬رؤساؤك هل يستطيعون؟‬
‫كل‪.‬‬ ‫‪ّ -‬‬
‫‪ -‬ورؤساؤهم كيف؟ الشاه نفسه هل يستطيع؟‬
‫كل ال يستطيع أحد منهم ذلك‪.‬‬ ‫‪ّ -‬‬
‫كل مسؤويل اململكة وتعرتف باستجدائهم‪ ،‬كيف‬ ‫‪ -‬إذًا ما دمت تعرتف بعجزك وعجز ّ‬
‫تريد أن تؤ ّمن حوائجي؟ وماذا ميكنني أن أطلب من مسؤويل اململكة العاجزين‬
‫وغري القادرين؟ قم وال تتكلّم بعد بألفاظ الرشك هذه»‪.‬‬
‫فقام رئيس الرشطة خجالً‪ ،‬وأيقن أنّه ال ميكنه التأثري بيشء عىل مثال التوكّل والتوحيد‬
‫هذا(((‪.‬‬

‫((( مجاهد شهيد حاج شيخ مح ّمد تقي البافقي‪ ،‬ص‪.125‬‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫البروجردي وإخالصه‬ ‫توكل آية اهلل‬
‫‪293‬‬
‫يقول الشهيد األستاذ مط ّهري ‪:M‬‬
‫الربوجردي ‪-‬أعىل الله مقامه‪ ،-‬وبنتيجة‬
‫ّ‬ ‫«يف السنوات األوىل ملجيء املرحوم آية الله‬
‫املرض‪ ،‬من بروجرد إىل طهران ومنها إىل ق ّم واستق ّر فيها عىل أثر طلب الحوزة العلم ّية‪.‬‬
‫بعد ع ّدة أشهر من إقامته يف ق ّم جاء الصيف وعطّلت الحوزة‪ .‬فق ّرر‪ M‬السفر إىل‬
‫مشهد للزيارة؛ ألنّه أيّام اشتداد مرضه كان قد نذر أن يزور اإلمام الرضا ‪ Q‬إذا م ّن‬
‫رشع يناثلا مسقلا‪ُّ :‬كوتا‬

‫خاص وسأل أصحابه‪« :‬من منكم‬ ‫عب عن رغبته هذه يف مجلس ّ‬ ‫الله عليه بالشفاء‪ ،‬وقد ّ‬
‫يذهب معي؟ قال الحارضون‪« :‬نرى ونخربكم»‪ .‬وتق ّرر أن تعقد جلسة يف غيابه للتشاور‪،‬‬
‫وأخريا ً ق ّرروا أ ّن املصلحة يف عدم السفر من ق ّم إىل مشهد‪ ،‬وكان السبب األساس هو أ ّن‬
‫الربوجردي حديث عهد بق ّم ما يزال الناس يف سائر املدن الواقعة يف الطريق ال‬
‫ّ‬ ‫آية الله‬
‫حق املعرفة؛ ولذا فلن يهت ّموا باستقباله واحرتامه كام ينبغي‪.‬‬
‫يعرفون هذا الرجل العظيم ّ‬
‫ل‬

‫ق ّرروا ‪-‬بنا ًء عىل ذلك‪ -‬أن يحولوا بني الس ّيد والسفر‪ّ ،‬إل أنّهم كانوا يعلمون أنّه ال‬
‫الحقيقي عىل الس ّيد ‪ -‬فاتّفقوا عىل ذكر أعذار أخرى من قبيل أنّه‬
‫ّ‬ ‫ميكنهم طرح السبب‬
‫أجريت له عمليّة جراحيّة قريباً والسفر بالسيّارة هذه املسافة الطويلة قد يؤ ّدي إىل ما‬
‫ال تحمد عقباه (ومل يكن آنذاك بني مشد وطهران طائرة أو قطار)‪.‬‬
‫ويف جلسة أخرى ذكر املرحوم أمر السفر مج ّددا ً فحاول األصحاب أن يثنوه‪ ،‬ويف‬
‫الطلب واألصحاب‪.‬‬ ‫الحقيقي من وجهة نظر ّ‬
‫ّ‬ ‫النهاية كشف أحد الحارضين عن السبب‬
‫وعندما أدرك الس ّيد هدفهم األساس‪ ،‬فام كان منه ‪-‬وهو مثال التوكُّل واإلخالص ‪-M‬‬
‫ّإل أن بدا عليه الغضب وقال بلهجة حا ّدة وروحان ّية‪« :‬لقد أخذت من الله سبعني سنة‬
‫يل بتفضّ الت ليس فيها يشء بسبب تدبريي‪ .‬كنت أسعى دامئاً‬ ‫من العمر وقد م ّن الله ع ّ‬
‫أن أعرف واجبي ألؤ ّديه‪ .‬اآلن وبعد سبعني سنة ليس من املناسب أن أهت ّم أنا بأمري‬
‫كل سأذهب»(((‪.‬‬‫وأفكّر بشؤوين الشخص ّية‪ّ ،‬‬

‫((( إمداد هاي غيبي درزندﮔـي برش‪ ،‬ص‪ 91 - 89‬بترصف‪.‬‬


‫القسم الثالث عشر‬

‫اإلباء وع ّزة النفس‬


‫‪297‬‬

‫لكل مسلم‪ ،‬وتشت ّد أه ِّم ّيتها بالنسبة إىل الروحا ّين‪ ،‬مسألة اإلباء‬ ‫من األمور امله ّمة ّ‬
‫وع ّزة النفس ورصف النظر عن مال هذا وذاك وثروته‪ .‬وبرعاية هذا األصل األساس‬
‫يستطيع املرء أن يصون كرامته ويحفظ ع ّزته‪ ،‬األمر الذي ميكِّنه أن يبقى متح ّررا ً من‬
‫رشع ثلاثلا مسقلا‪ :‬فنلا ةّزعو ءابإلا ‬

‫الرق والعبوديّة لزيد وعمرو‪ .‬من يطمع مبال اآلخرين وعطائهم‪ ،‬ويتق ّبل هداياهم‬ ‫قيود ّ‬
‫يذل نفسه ويحطّم ع ّزته اإلسالم ّية‬ ‫‪ -‬طبعاً يف كثري من املوارد ال دامئاً ‪ -‬فهو يف الحقيقة ّ‬
‫واإلميان ّية ويقيض عىل شخص ّيته‪.‬‬
‫وإنّ ا اعتربت مراعاة هذا األصل أكرث أه ِّميّ ًة بالنسبة إىل الروحا ّين؛ فأل ّن الروحا ّين ال‬
‫ويذب عن حياض اإلسالم ويقف يف وجه‬ ‫ّ‬ ‫ميكنه أن يأمر باملعروف وينهى عن املنكر‬
‫الخائن بشجاعة‪ّ ،‬إل إذا كان مل يتح ّمل منه أحد؛ ليمكنه التص ّدي دون أن يدخل يف‬
‫وإل فإنّه يبقى‬ ‫اإللهي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫حسابه أ ّن مصالحه الشخص ّية تتع ّرض للخطر ويقوم بواجبه‬
‫يل الذي هو صيانة حدود اإلسالم وهداية املجتمع إىل‬ ‫عاجزا ً عن القيام بواجبه األص ّ‬
‫التكامل والسم ّو‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬فإ ّن كثريا ً من العلامء الكبار والواعني ‪ -‬ملختلف أبعاد املسائل كام سرنى‪-‬‬
‫كانوا يرفضون هدايا أصحاب املناصب واألثرياء التي تشكّل يف الحقيقة وثيقة عبوديّة‬
‫أي تر ّدد‪.‬‬
‫بكل جرأة ودون ّ‬ ‫ذلك العامل لصاحب تلك الهديّة‪ ،‬وكانوا يرفضونها ّ‬
‫ويف الروايات نجد ذ ّماً كبريا ً لهذه الصفة الس ّيئة‪ ،‬قبول هذا النوع من الهدايا كام‬
‫نجد وصفاً لها «بالعبوديّة الدامئة» كام وصف الطامع بأنّه رهن الذلّة والصغار(((‪.‬‬
‫جاء يف الديوان املنسوب إىل أمري املؤمنني ‪:Q‬‬
‫أحــــب إ ّيل مــن ِمـــ َنـــنِ الــرجــال‬
‫ُّ‬ ‫لَـ َن ـ ْقـ ُـل الصخر مــن قُ ـلَــلِ الجبال‬

‫رق مؤب ّد‪ ،‬نهج البالغة‪ ،‬الحكمة رقم ‪ ،180‬والطامع يف وثاق ّ‬


‫الذل‪ ،‬الحكمة رقم ‪.226‬‬ ‫((( الطمع ّ‬
‫فـــا طــعــ ٌم أمــــ ّر مـــن الــســؤال‬ ‫وذقـــــت مـــــرارة األشـــيـــاء طـــ ّرا ً‬
‫ُ‬ ‫‪298‬‬
‫(((‬
‫ـب مــن مــقــاالت الــرجــال‬
‫وأصــعـ َ‬ ‫ومل أر يف الــخــطــوب أشـــ َّد هــوالً‬

‫وهكذا يتّضح أ ّن من الواجبات الحتم ّية عىل الروحا ّين أن ال يعمد يف تدبري معاشه‬
‫ألي شخص‪ ،‬سواء كان أهالً لذلك أم مل‬‫إىل مديد الطمع لهذا أو ذاك‪ ،‬وال يحني رقبته ّ‬
‫يكن‪ ،‬بل إذا أراد شخص أن يدفع إليه ماالً فابتدا ًء ودون طلب منه فإ ّن عليه أن يرفض‬
‫خاصة مستثناة‪ ،‬وتأيت اإلشارة إليها يف آخر هذا القسم‪.‬‬
‫ذلك‪ّ ،‬إل يف موارد ّ‬
‫يقول الشهيد الثاني‬
‫لكل واحد منها (العامل واملتعلّم) بعد تطهري نفسه من الرذائل املذكورة‬
‫«فمم يلزم ّ‬
‫ّ‬
‫اإللهي من‬
‫ّ‬ ‫وغريها‪ ،‬توجيه نفسه إىل الله ‪-‬تعاىل‪ -‬واالعتامد عليه يف أموره وتلقّي الفيض‬
‫عنده (‪ )...‬وال يعتمد عىل األسباب فيتَّكل عليها وتكون وباالً عليه‪ ،‬وال عىل أحد من‬
‫خلق الله ‪-‬تعاىل‪ -‬بل يلقي مقاليد أمره إىل الله تعاىل يف أمره ورزقه وغريهام‪ ،‬يظهر‬
‫ويحصل مطلبه ويُصلِح‬
‫ِّ‬ ‫حينئذ من نفحات قدسه ولحظات أنسه ما يُقي ُم به أوده‬ ‫ٍ‬ ‫عليه‬
‫النبي ‪« :P‬إنّ الله تعاىل قد تكفّل لطالب العلم‬ ‫به أمره‪ .‬وقد ورد يف الحديث عن ّ‬
‫عم ضمنه لغريه»‪ ،‬مبعنى أ ّن غريه يحتاج إىل السعي (‪ )...‬وطالب العلم‬ ‫خاصة ّ‬ ‫برزقه ّ‬
‫ال يُكلَّف بذلك (‪ )...‬إن أحسن الن ّية وأخلص العزمية‪.‬‬
‫«وعندي يف ذلك من الوقائع والدقائق ما لو جمعته بلغ ما يعلمه الل ُه من حسن‬
‫صنع الله تعاىل يب وجميل معونته منذ اشتغلت بالعلم‪ ،‬وهو مبادي عرش الثالثني‬
‫وتسعمئة إىل يومي هذا‪ ،‬وهو منتصف شهر رمضان سنة ثالث وخمسني وتسعمئة‪...‬‬
‫وبالجملة ليس الخرب كالعيان‪.(((»...‬‬
‫الديني والروحا ّين عموماً يجب أن ّ‬
‫يتحل باإلباء وع ّز‬ ‫ّ‬ ‫مم تق ّدم أ ّن «العامل‬
‫نستنتج ّ‬

‫ولعل العجز األخري «أصعب من مالحاة الرجال»‪.‬‬


‫((( ديوان أمري املؤمنني ‪ّ Q‬‬
‫ولعل إعادته هنا لفائدته الها ّمة يف البابني‪.‬‬
‫((( منية املريد‪ ،‬ص‪ .61‬وقد تق ّدم إيراد النص ّ‬
‫النفس‪ ...‬أن يرتفّع عن السفاسف فيبقى غن ّياً ‪ -‬بقناعته ‪ -‬مرفوع الهام ِة محلّقاً يف‬
‫‪299‬‬
‫املعنوي‬
‫ّ‬ ‫الروحي ومتاعه‬
‫ّ‬ ‫الديني والعامل مقامه‬
‫ّ‬ ‫يصح أن ير ّخص طالب العلم‬ ‫األعايل‪.‬ال ّ‬
‫نفسه الذي يحرص فيه عىل أن يكون متواضعاً‪،‬‬ ‫يف مقابل ما يف أيدي الناس‪ ،‬ويف الوقت ِ‬
‫يجب أن يكون عزيز النفس أب ًّيا وعفيفاً»(((‪.‬‬
‫يجب أن ال تخدعه ثروة هذا أو ذاك أو جاهه أو منزله وس ّيارته‪ ...‬وكلّام وسوس له‬
‫الشيطان قائالً‪ :‬أنظر إىل اآلخرين‪ ،‬أيّة حياة مرفّهة يعيشون‪ ،‬وأنت منذ سنني متامدية‬
‫رشع ثلاثلا مسقلا‪ :‬فنلا ةّزعو ءابإلا ‬

‫حليف الجوع أليف الفقر والفاقة‪ ،‬فليرتنّم بتأ ّمل وتع ّمق شديدين بهذه اآليات‪:‬‬
‫كه َ‬ ‫َََۡ َ ُ ْ َ َ‬ ‫َََ َ‬ ‫َ ُُ‬ ‫﴿ك ۡم تَ َر ُكوا ْ مِن َج َّنٰت َو ُع ُ‬
‫َ‬
‫ني‬ ‫ِيها ف ٰ ِِ‬ ‫ون ‪ 25‬وزروعٖ ومقا ٖم ك ِر ٖ‬
‫يم ‪ 26‬ونعمةٖ كنوا ف‬ ‫ٖ‬ ‫ي‬ ‫ٖ‬
‫َ َ َ َ ۡ َ َ ۡ ُ َّ َ ٓ ُ َ ۡ َ ُ َ َ َ ُ ْ‬ ‫اخر َ‬ ‫َ َٰ َ َ َ ۡ َ ۡ َ ٰ َ َ ۡ ً َ َ‬
‫ين ‪ 28‬فما بكت علي ِهم ٱلسماء وٱلۡرض وما كنوا‬ ‫‪ 27‬كذل ِك ۖ وأورثنها قوما ء ِ‬
‫ْ‬
‫ٰ ّ ُ َ ٰ ُ َ ۡ َ ُ ُ َّ ُ َ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ ُ َُ ُ ْ‬ ‫ُ َ‬
‫ون﴾(((‪.‬‬ ‫ٱلي يوعد‬‫ين﴾(((‪﴿ ،‬فذ ۡره ۡم يوضوا َو َيل َع ُبوا حت يلقوا يومهم ِ‬ ‫نظر َ‬
‫م ِ‬
‫كان أحد الطلبة يقول‪:‬‬
‫«كلّام نظرت إىل رفاهية أهل الدنيا‪ ،‬وتألّمت نتيجة ذلك لوضعي‪ ،‬وكاد الشيطان‬
‫يل حالة من‬
‫أن يج ّرين إىل الركون‪ ،‬ألجأ إىل قراءة هذه اآليات والتفكري فيها‪ ،‬فتغلب ع ّ‬
‫االنرصاف عن الدنيا والشوق إىل عامل اآلخرة ال يح ّدها وصف وال بيان»‪.‬‬

‫((( عن كتاب «بيداء ﮔـران أقليم قبله» ص‪.221 - 520‬‬


‫((( سورة الدخان‪ ،‬اآليات ‪.29 - 25‬‬
‫((( سورة الزخرف‪ ،‬اآلية ‪.83‬‬
‫ّ‬
‫الشيخ األنصاري ‪M‬‬
‫‪300‬‬
‫«يُر َوى أ ّن ت ّجار بغداد جمعوا مبلغاً كبريا ً من أصل أموالهم ّ‬
‫وخصصوه للشيخ‬
‫األنصاري‪ .‬سلّموا املبلغ ألحدهم وأرسلوه إىل النجف وطلبوا منه أن يقول للشيخ‪« :‬هذا‬
‫ّ‬
‫املبلغ ليس من الحقوق الرشع ّية‪ ،‬الخمس‪ ،‬الزكاة‪ ،‬أو مظامل العبادة حتّى تستشكل‬
‫لتوسع عىل نفسك ألنّك يف‬
‫باالحتفاظ به لنفسك‪ ،‬إنّه من أصل أموالنا ونحن نهبه لك؛ ّ‬
‫االقتصادي كام تعلم»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫س ّن الشيخوخة ووضعك‬
‫ورغم إرصارهم‪ ،‬مل يقبل الشيخ هذا املبلغ وقال‪« :‬أليس هي خسارة كربى يل ّأن‬
‫بعد أن أمضيت عمري فقريا ً أجعل نفيس اآلن غنيّاً؟ وأمحو اسمي من طومار الفقراء‬
‫وس ّجلهم فأحرم يف يوم الجزاء من ثوابهم؟»(((‪.‬‬
‫الحج مبلغاً من املال إىل الشيخ‬
‫وقد دفع أحد أثرياء إيران عىل أبواب سفره إىل ّ‬
‫األنصاري ليبني به أو يشرتي بيتاً لسكنه‪ ،‬إلّ أ ّن الشيخ ‪-‬بسبب ع ّزة نفسه وإبائه‪ -‬مل‬
‫ّ‬
‫الخاصة وإمنّا رصفه جميعه يف رشاء أرض وبناء مسجد‬ ‫ّ‬ ‫يرصف ذلك املبلغ يف شؤونه‬
‫األنصاري‪ ،‬وله‬
‫ّ‬ ‫عليها وهو أحد املساجد املعروفة يف النجف األرشف باسم مسجد الشيخ‬
‫اسم آخر وشائع بني الناس هو مسجد الرتك‪.‬‬
‫األنصاري ذلك املسجد‪ ،‬وقال له‪« :‬هذا‬
‫ّ‬ ‫الحج أراه الشيخ‬
‫الرثي من ّ‬
‫وعندما رجع ذلك ّ‬
‫هو منزيل الذي كنت أنت السبب فيه»(((‪.‬‬
‫األنصاري السفر إىل‬
‫ّ‬ ‫األنصاري‪ ،‬أراد أخوه الشيخ منصور‬
‫ّ‬ ‫ويف زمن مرجعيّة الشيخ‬
‫مشهد اإلمام الرضا ‪ Q‬للزيارة‪ ،‬وعندما عزم عىل السفر قال له الشيخ‪« :‬يف هذا‬
‫السفر ستلتقي شئت أم أبيت بالشاه وأمراء دولة إيران‪ ،‬ولكن احذر أن تفقد ع ّزة‬
‫نفسك فتقبل منهم ماالً وتصبح بذلك عبدا ً لهم‪ّ ،‬‬
‫وإل إذا قبلت منهم شيئاً‪ ،‬فال تدعني‬
‫إبق يف دزفول»(((‪.‬‬
‫أراك‪ ،‬أو بعد رجوعك من مشهد َ‬

‫((( زندﮔـاين وشخصيت شيخ أنصاري‪ ،‬ص‪.86‬‬


‫((( املصدر نفسه‪ ،‬ص‪ ،435‬الصدر‪.‬‬
‫نفسه‪.‬‬
‫((( املصدر السابق ُ‬
‫ّ‬
‫مؤلف نهج البالغة‬
‫‪301‬‬
‫الريض ‪ M‬شديد االلتزام مببادئ الدين الحنيف وأحكام الرشيعة‪،‬‬ ‫«كان الرشيف ّ‬
‫فكان شديد االجتناب للتملّق واملداهنة‪ ،‬ال يتجاوز أبدا ً الحقيقة يف قصائده التي‬
‫مدح بها الخلفاء العباسيّني أو السالطني الديلميّني أو وزراءهم والعلامء املعارصين‬
‫كل الروابط التي كانت تربطه بهم‪ ،‬فإنّه مل يقبل صلة أحد منهم‪ .‬وقد‬ ‫وأصدقاءه‪ .‬ورغم ّ‬
‫الديلمي ع ّدة م ّرات‪ ،‬بل إنّه مل يقبل حتّى صلة أبيه‪ ،‬وكان كرمياً‬
‫ّ‬ ‫ر ّد صالت بهاء الدولة‬
‫رشع ثلاثلا مسقلا‪ :‬فنلا ةّزعو ءابإلا ‬

‫جوادا ً‪ ،‬خصوصاً بالنسبة إىل العلامء والسادة»(((‪.‬‬


‫يقول ابن أيب الحديد شارح نهج البالغة يف أ ّول الجزء األ ّول من رشح النهج‪« :‬وكان‬
‫عفيفاً رشيف النفس‪ ،‬عايل اله ّمة‪ ،‬ملتزماً بالدين وقوانينه‪ ،‬ومل يقبل من أحد صلة وال‬
‫جائزة‪ ،‬حتّى إنّه ر َّد صالت أبيه‪ ،‬وناهيك بذلك رشف نفس وش ّدة ظلف (أي ش ّدة منع‬
‫لنفسه) فأ ّما بنو أبويه فإنّهم اجتهدوا عىل قبول ِصالتهم فلم يقبل»(((‪.‬‬
‫الريض ‪:M‬‬
‫ّ‬ ‫للسيد‬
‫يقول أحد الوزراء املعارصين ّ‬
‫الريض مولود‪ ،‬فأرسلت إليه ألف دينا ٍر يف طبق‪ ،‬عىل ما هو املتعارف‬ ‫ّ‬ ‫«ولد للس ّيد‬
‫أحد شيئاً»‪ .‬أرسلت‬ ‫الريض قائالً‪« :‬الوزير يعلم ّأن ال أقبل من ٍ‬‫ّ‬ ‫يف مثل ذلك‪ ،‬فر َّده‬
‫ذلك الطبق ثانية وقلت‪« :‬إ ّن هذا املبلغ للمولود وال عالقة لك به»‪ ،‬فر َّده ثانية وقال‪:‬‬
‫«أطفالنا أيضاً ال يقبلون من أحد شيئاً»‪ .‬أرسلته إليه ثالثة‪ ،‬وقلت‪ِ :‬‬
‫«أعط هذا املبلغ‬
‫للقابلة»‪ ،‬فر ّده وقال‪« :‬إنّنا أهل بيت ال نطلع عىل أحوالنا قابلة غريبة‪ ،‬وإنّ ا عجائزنا‬
‫يتولّني هذا األمر من نسائنا‪ ،‬ولسن م ّمن يأخذ أجرة‪ ،‬وال يقبلن صلة»‪ .‬أرسلته إليه‬
‫الريض‪« :‬ها هم‬
‫ّ‬ ‫للطلب الذين يدرسون عندك»‪ .‬فقال الس ّيد‬ ‫رابعة‪ ،‬وقلت‪« :‬هذا ّ‬
‫كل منهم ما يريد»‪.‬‬‫الطلب جميعاً حارضون‪ ،‬ليأخذ ّ‬ ‫ّ‬

‫بترصف‪.‬‬
‫الريض‪ ،‬مؤلّف نهج البالغة‪ ،‬ص‪ّ ،24 - 23‬‬
‫((( الس ّيد ّ‬
‫((( رشح النهج‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.33‬‬
‫الطلب وتناول دينارا ً واقتطع منه مقدارا ً احتفظ به ث ّم ر ّد الباقي‬
‫عندها قام أحد ّ‬
‫‪302‬‬
‫إىل الطبق‪.‬‬
‫الريض عن سبب ذلك‪ ،‬فقال‪« :‬احتجت البارحة شيئاً من الزيت‬ ‫ّ‬ ‫وسأله الس ّيد‬
‫املتول لنفقة املدرسة موجودا ً فاستدنت من البقّال حاجتي من‬ ‫ّ‬ ‫للمصباح‪ ،‬ومل يكن‬
‫الزيت‪ ،‬وقد أخذت هذا املقدار من الدينار ألداء ديني هذا»‪ .‬ث ّم ر ّد الطبق‪.‬‬
‫والطلب الروحان ّيون عىل هذه الدرجة من ع ّزة النفس‬
‫هكذا كان العلامء الربان ّيون ّ‬
‫واإلباء وعل ّو الهمة(((‪.‬‬
‫يقول مؤلّف «ريحانة األدب»‪ ،‬وكذلك يف «قصص العلامء» بعد نقل ما تق ّدم‪:‬‬
‫طلب املدرسة مفتاح لصندوق‬
‫كل طالب من ّ‬ ‫«بعد ذلك أمر السيّد بأن يكون مع ّ‬
‫ماليّة املدرسة ليأخذ حاجته عند الرضورة‪ ،‬وال يضط َّر ملراجعة املسؤول عن ذلك»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫لم يقبل هدية الملك‬
‫جاء يف ترجمة الفيلسوف الكبري امللّ هادي السبزوار ّي ‪ M-‬أنّه لش ّدة ع ّزة نفسه مل يكن‬
‫يطلب من أحد شيئاً‪ ،‬ومل يكن يقبل الهدايا أصالً‪ .‬وأمىض عمره مبنتهى الزهد والتقوى والصدق‬
‫والصفاء وعدم التكلّف ومنتهى ع ّزة النفس‪ .‬مل يكن يهت ّم بأحد من األعيان واألغنياء‪ .‬زاره‬
‫الشاه نارص الدين يف بيته بسبزوار‪ ،‬وجلس عىل الحصري الذي كان فراش غرفة تدريسه وطلب‬
‫منه تأليف كتاب يف أصول الدين‪ .‬ث ّم أرسل إليه يف ما بعد مبلغ خمسمئة تومانٍ ‪-‬وكانت‬
‫آنذاك مبلغاً كبريا ً‪ -‬إلّ أ ّن هذا الرجل األ ّيب مل يقبلها‪ ،‬وأمر أن يرصف نصفها عىل الطلّ ب‪،‬‬
‫الهاشمي ضعف ما يعطى لغريه(((‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫والنصف اآلخر عىل الفقراء موصياً أن يُعطَى الس ّيد‬

‫((( بيدار ﮔران أقاليم قبله‪ ،‬ص‪ ،222 - 221‬وجواب الرشيف يف املرة الثالثة منقول عن رشح النهج‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.40‬‬
‫((( ريحانة األدب‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.122‬‬
‫((( املصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.424 - 423‬‬
‫الملك والحكيم‬
‫‪303‬‬
‫وينقل الشهيد مط ّهري ‪-‬رضوان الله عليه‪ -‬تفاصيل وافية عن لقاء الشاه نارص الدين‬
‫اإللهي‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫ّ‬ ‫بهذا الحكيم‬
‫«يف سفره إىل خراسان‪ ،‬كان الشاه نارص الدين يستقبل من مختلف قطاعات الناس‬
‫يصل إليها‪ ،‬ث ّم يش ّيعونه عندما يخرج‪ ،‬إىل أن وصل إىل سبزوار‪ ،‬فاستقبلته‬
‫كل مدينة ُ‬
‫يف ّ‬
‫مختلف قطاعات أهلها‪ .‬وكان الشخص الوحيد الذي مل يستقبله ومل يزره ‪-‬بح ّجة أنّه‬
‫رشع ثلاثلا مسقلا‪ :‬فنلا ةّزعو ءابإلا ‬

‫السبزواري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املل هادي‬
‫معتزل‪-‬هو الحكيم والفيلسوف والعارف املعروف ّ‬
‫ومن عجيب القضاء أ ّن الشخص الوحيد الذي كان الشاه يفكّر برؤيته عن قرب يف‬
‫هذا السفر هو هذا الرجل الذي كان صيته قد انترش تدريج ّياً يف جميع أنحاء إيران‪،‬‬
‫الطلب ينثالون عليه من مختلف الجهات‪ ،‬حتّى شكّل حوزة علم ّية عظيمة يف‬ ‫وكان ّ‬
‫سبزوار‪.‬‬
‫مم سمع ورأى من التزلّف والتملّق‪ ،‬ق ّرر أن يذهب بنفسه لزيارة‬ ‫الشاه الذي تعب ّ‬
‫الحكيم‪ .‬قيل للشاه‪« :‬الحكيم ال يعرف شاهاً وال وزيرا ً»‪ .‬قال الشاه‪« :‬ولك ّن الشاه يعرف‬
‫الحكيم»‪ .‬أخربوا الحكيم باألمر وت ّم تحديد موعد‪ .‬وذات يوم قريب الظهر‪ ،‬تو ّجه الشاه‬
‫مع أحد خدمه إىل منزل الحكيم‪.‬‬
‫كان البيت عاديّاً ج ّدا ً‪ ،‬واملحتويات مثله‪ .‬وأثناء الحديث قال الشاه‪ّ :‬‬
‫«لكل نعمة‬
‫شكر‪ ،‬شكر نعمة العلم التدريس واإلرشاد‪ ،‬شكر نعمة املال اإلعانة واإلغاثة‪ ،‬شكر نعمة‬
‫فإن أرغب أن تطلب م ّني شيئاً ألوفّق للقيام به‪.‬‬
‫السلطنة طبعاً قضاء الحوائج؛ لهذا ّ‬
‫‪ -‬ليست يل أيّة حاجة وال أريد شيئاً‪.‬‬
‫‪ -‬سمعت أ ّن لك أرضاً زراع ّية‪ ،‬اسمح يل أن آمر بإعفائها من الرضيبة‪.‬‬
‫يغي‬
‫كل مدينة‪ ،‬والتغيري الجز ّيئ ال ّ‬
‫سجلت مال ّية الدولة‪ ،‬يح ّدد املبلغ الذي تدفعه ّ‬
‫‪ -‬يف َّ‬
‫شيئاً من ذلك‪ ،‬إن مل يأخذوا هذا املبلغ م ّني أخذوه من غريي حتّى ال ينقص املبلغ‬
‫املح ّدد عن سبزوار‪ .‬والشاه ال يرىض أن يكون التخفيف ع ّني أو إعفايئ سبباً يف فرض‬
‫‪304‬‬
‫مبلغٍ عىل األيتام والعجائز‪ .‬باإلضافة إىل أ ّن الدولة التي من واجبها حفظ أرواح‬
‫الناس وأموالهم وترتتّب عليها نفقات يجب تأمينها ونحن ندفع ما يرتت ّب علينا عن‬
‫رىض ورغبة»‪ .‬قال الشاه‪« :‬أرغب يف تناول طعام الغداء يف خدمتكم ومن طعامك‬
‫الذي تأكله عادة‪ ،‬فلو تأمر أن يأتوا بطعامك»‪.‬‬
‫ودون أن يتح ّرك الحكيم من مكانه صاح‪« :‬أحرضوا طعامي»‪ .‬وبرسعة جاؤوا به‪،‬‬
‫طبق من الف ّخار عليه ع ّدة أقراص من الخبز وع ّدة مالعق مع إناء مخيض وك ّم ّية من‬
‫امللح‪ .‬وضعوه أمام الحكيم والشاه‪ .‬قال الحكيم‪« :‬كل‪ ،‬فإنّه خبز حالل زراعته وحراثته‬
‫بتعبي»‪ .‬أكل الشاه لقمة‪ّ ،‬إل أنّه رأى أنّه مل يعتد أكل مثل هذا الطعام‪ ،‬بل هو عنده‬
‫ال يؤكل‪ .‬فطلب من الحكيم أن يأذن له ليحمل معه قليالً من ذلك الخبز تي ّمناً وت ّربكاً‪.‬‬
‫وبعد لحظات غادر الشاه منزل الحكيم تتملّكه الحرية والدهشة(((‪.‬‬
‫صاحب الحدائق ‪M‬‬

‫يف معرض ترجمته لنفسه يقول العامل الكبري الشيخ يوسف البحرا ّين مؤلّف الكتاب‬
‫العظيم «الحدائق النارضة»‪:‬‬
‫«حتّى عصفت يف تلك البالد ‪-‬شرياز‪ -‬عواصف األيّام التي ال تنيم وال تنام‪ ،‬فف َّرق َْت‬
‫فخرجت منها إىل بعض القرى(‪ )...‬فبقيت فيها مشتغالً‬ ‫ُ‬ ‫شملها وب ّددت أهلها (‪)...‬‬
‫باملطالعة‪ ،‬وص ّنفت هناك كتاب «الحدائق النارضة» إىل باب «اإلغسال» وأنا مع ذلك‬
‫والكف عن الحاجة إىل الناس»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مشتغل بالزراعة ألجل املعاش‬
‫َّ‬
‫أكل الخبز من العمل الخسيس‪ ،‬أفضل من منة الرئيس‬
‫السيايس والوزارة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أمىض الشيخ الرئيس ابن سينا م ّدة طويلة من عمره يف املجال‬
‫وهذا من جملة ما عابه عليه العلامء من بعده‪ .‬قالوا‪ :‬لقد رصف أكرث وقته يف هذه‬

‫((( داستان راستان‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.71 - 68‬‬


‫((( لؤلؤة البحرين‪ ،‬ص‪.445‬‬
‫األمور‪ ،‬مع أنّه كان باستطاعته ‪-‬بحكم الطاقات واملواهب التي ميتلكها‪ -‬أن يكون أكرث‬
‫‪305‬‬
‫نفعاً وفائدة‪.‬‬
‫ذات يوم كان الرئيس ابن سينا ما ّرا ً يف موكبه بأبّهته وضجيجه وخدمه وعلامئه‪،‬‬
‫فصادف يف الطريق شخصاً ك ّناساً يكنس األرض‪ ،‬وابن سينا معروف بق ّوة السمع حتّى‬
‫ُحكيت عنه يف ذلك األساطري‪ .‬كان ذلك الك ّناس ير ّدد لنفسه بيتاً من الشعر مضمونه‪:‬‬
‫لقد أعززتك أيّتها النفس يك مت ّر عليك هذه الدنيا بيرس وسهولة‪ .‬ضحك ابن سينا أل ّن‬
‫رشع ثلاثلا مسقلا‪ :‬فنلا ةّزعو ءابإلا ‬

‫هذا الرجل يكنس ومي ّن عىل نفسه بأنّه احرتمها وأكرمها حتّى ال تعاين صعوبات الدنيا‬
‫وشدائدها‪ .‬لوى ابن سينا عنان فرسه وتق ّدم منه قائالً‪ :‬لإلنصاف‪ ،‬لقد احرتمت نفسك‬
‫كثريا ً‪ .‬فلم تجد أفضل من أن تختار هذا العمل الرشيف!‬
‫وأدرك الك ّناس من قرائن الحال أ ّن هذا الشخص وزير‪ ،‬فقال له جملة تص ّبب منها‬
‫ابن سينا عرقاً من الخجل ث ّم مىض ومل يعقّب‪ .‬قال الك ّناس‪ُ :‬‬
‫«أكل الخبز من العمل‬
‫الخسيس أفضل من ِم َّنة الرئيس»!(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ديني في أيامه األولى‬ ‫طالب علم‬
‫عم جرى‬
‫نجفي قوﭼـا ّين ‪ M‬عن ع ّزة نفسه يف معرض حديثه ّ‬
‫ّ‬ ‫يتح ّدث آية الله‬
‫الديني‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫ّ‬ ‫بينه وبني أبيه عندما ق ّرر إرساله لطلب العلم‬
‫«إذا ذهبت إىل املدرسة فسأبقى جالساً‪ ،‬الطعام ال يهضم‪ .‬ويجب أن تبقى عيناي‬
‫غصة عدم فهم الدرس‬ ‫مس ّمرتني إىل الكتاب حتّى منتصف الليل‪ ،‬من جهة سأتج ّرع ّ‬
‫غصة املورد املا ّيل‪ .‬ث ّم بعد م ّدة لن أبقى قريباً منكم‪ ،‬وسأكابد مرارة‬
‫ومن جهة أخرى ّ‬
‫البعد عن الوطن ال أنيس وال معني‪ .‬فإذا مل أمت‪ ،‬فمن املقطوع به أنّني سأصبح أكرث‬
‫مم أنا عليه اآلن‪ ،‬لن أستطيع مامرسة الزراعة وما شابه‪.‬‬ ‫ضعفاً ّ‬

‫((( تعليم وتربيت در إسالم‪ ،‬ص‪.272 - 271‬‬


‫ولنفرتض ّأن رجعت ساملاً وأصبحت مجتهدا ً ومألت جرايب من العلوم‪ ،‬إلّ ّأن ال أقوى‬
‫‪306‬‬
‫ألن أعترب املشايخ الذين يطمعون‬ ‫عىل العمل‪ ،‬ويقيناً لن أطمع مبا يف أيدي اآلخرين؛ ّ‬
‫مبا يف أيدي غريهم أو يكون لهم أدىن توقّع من الغري‪ ،‬يف منت الكفر أو هامشه‪ ،‬وحتّى‬
‫مت فلن أفعل شيئاً من ذلك‪.‬‬
‫إذا ُّ‬
‫وقد قرأت يف مدرسة «املئة كلمة» أ ّن عل ّياً ‪ Q‬قال‪ّ :‬‬
‫«ذل من طمع» ولن أرىض‬
‫أبدا ً لنفيس ّ‬
‫الذل‪.‬‬
‫يضيف مخاطباً والده‪ :‬آنذاك جنابك إ ّما أن تكون موجودا ً ولك ّنك عاجز‪ ،‬أو ال سمح‬
‫الله ال تكون موجودا ً‪ .‬فامذا سيفعل آنذاك هذا االبن النشيط الذي يجيد العمل بعد‬
‫أن تكون ح ّولته بنتاً عمياء عرجاء؟ قال‪ :‬وهل الله تعاىل غري موجودا ً آنذاك؟‬
‫‪ -‬الله موجود دامئاً‪ ،‬لكن جاء يف كتب التاريخ أ ّن الله قتل سبعني نب ّياً من أنبيائه بني‬
‫الصفا واملروة أو الركن واملقام من ش ّدة الجوع ومل يتداخله الحزن عليهم‪.‬‬
‫‪ -‬إذا كان الله تعاىل ق َّدر أن متوت أنت من الجوع فسيقتلك به حتّى إذا كانت صولتك‬
‫ودولتك ملء السمع والبرص‪ .‬قم اذهب وافعل ما قلت لك يف النهار‪ ،‬تذهب إىل‬
‫غرفة أستاذك للدرس وترجع ليالً للمبيت يف منزل صديقنا‪.‬‬
‫‪ -‬عىل عيني يف أمان الله‪.‬‬
‫ذهبت مصطحباً معي ذلك الكتاب الذي اشرتيته بأربعة رياالت‪ ،‬قلت ِ‬
‫باسم الله‬
‫وتو ّجهت إىل املدرسة‪ ،‬كان عمري آنذاك ثالث عرشة سنة بالتحديد سنة ‪1308‬هـ‪.‬ق‪،‬‬
‫ازي الكبري بأربع سنوات»(((‪.‬‬
‫قبل وفاة املريزا الشري ّ‬
‫النجفي ‪ M‬عن مجريات دخوله إىل‬ ‫ّ‬ ‫ويف مكان آخر يتح ّدث السيّد القوﭼـا ّين‬
‫النجف األرشف فيقول‪« :‬باختصار‪ ،‬يف الثالثة ‪ -‬األربعة أشهر األوىل رصت «ال‪ ،‬ال» من‬
‫الطبيعي‪ ،‬كتامن‬
‫ّ‬ ‫جميع الجهات‪ ،‬ال مأوى ال ثياب‪ .‬ال طبخ‪ ،‬ال طعام‪ ،‬ال أنيس‪ .‬وكان دأيب‬

‫((( سياحت رشق‪ ،‬ص‪.45 - 44‬‬


‫يل ‪ ...Q‬وما يزال‪( ...‬املقصود‬ ‫أمري وعدم إظهار حاجتي حتّى عن الله املتعال‪ ،‬وع ّ‬
‫‪307‬‬
‫ألن كنت أعترب إظهار حاجتي‬ ‫الخاص) ّ‬
‫ّ‬ ‫املبالغة يف الكتامن وللس ّيد القوﭼـا ّين أسلوبه‬
‫للمخلوق ولو للتسلية إحدى درجات الكفر‪ ،‬والحديث عنها مع الخالق واألولياء منافياً‬
‫للتسليم‪ .‬كنت أعترب من واجبي ُس َّنة السكوت الحسنة‪ ،‬احرتق وتك ّيف‪.‬‬
‫وكنت شديد الحساس ّية من الشكوى إىل ح ّد أنّها إن صدرت عن غريي‪ ،‬استب َّد يب‬
‫الغ ّم‪ ،‬وقد صربت حتّى تب ّدلت مرارة هذا الصرب والجوع بالحالوة وامل ِّن والسلوى‪.‬‬
‫رشع ثلاثلا مسقلا‪ :‬فنلا ةّزعو ءابإلا ‬

‫كانت دواعي سعاديت فقط فهم درس اآلخوند الخراسا ّين وكتابته وزيارة حرضة‬
‫األمري ‪ Q‬والتم ّرغ عىل أعتابه‪ .‬حتّى ّإن كتبت رسالة ألقيتها يف الرضيح‪ ،‬وخالصة‬
‫ما فيها أّين أريد أن أراك أو أرى ابنك حجة العرص ‪ Q‬ونظمت بيتني من الشعر‬
‫يف مدحه»(((‪.‬‬
‫ماء وجه القناعة والفقر‬
‫الشهيدي ما يأيت‪:‬‬
‫ّ‬ ‫عسكري‬
‫ّ‬ ‫كتب الشهيد مط َّهري ‪ M‬حول العامل الح ّر املريزا‬
‫العسكري مشهورا ً بالتح ّرر ورصاحة اللهجة‪ ،‬ورغم أنّه كان يف غاية‬
‫ّ‬ ‫«كان املرحوم‬
‫الفقر‪ ،‬فلم يكن يقبل من أحد شيئاً‪ ،‬وقد اطَّلع عىل فقره أحد من علامء طهران‪ ،‬فأخرب‬
‫شهري معت ٍّد‬
‫ّ‬ ‫بذلك بعض املسؤولني من ذوي املناصب العليا‪ .‬وهكذا ت ّم تحديد راتب‬
‫العسكري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫به‪ ،‬أخذ ذلك العامل أمر الرصف وأرسل معه رسالة إىل املرحوم‬
‫وبعد أن اطّلع عىل الرسالة تألّم كثريا ً من صديقه الطهرا ّين فكتب عىل مغلّف‬
‫الرسالة‪« :‬نحن ال نريق ماء وجه القناعة والفقر» ث ّم أرسل إليه الرسالة وما فيها»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المحدث القم ّي‬
‫يف إحدى السنوات طلب أحد املحسنني من املح ّدث الق ّم ّي أن يقبل التزامه بدفع‬

‫نفسه‪ ،‬ص‪.306 - 305‬‬ ‫((( املصدر ُ‬


‫((( خدمات متقابل إسالم وإيران‪ ،‬ص‪.615‬‬
‫مبلغ خمسني دينارا ً عراق ّياً بإزاء مجلس وعظ املح ّدث وخطابته‪ ،‬وكان مرصوف املح ّدث‬
‫‪308‬‬
‫آنذاك شهرياًّ ثالثة دنانري‪ ،‬إلّ أّنه رغم ذلك قال لهذا املحسن‪:‬‬
‫«أنا أرتقي املنرب ألجل اإلمام الحسني ‪ .»Q‬ورفض قبول ذلك املبلغ(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشيعية‬ ‫ّ‬
‫المرجعية‬
‫الربوجردي ‪-‬أعىل الله مقامه‪-‬‬
‫ّ‬ ‫يف السنوات األوىل من مرجع ّية املرحوم آية الله‬
‫أرسل أحد ت ّجار طهران املعروفني واملتديّنني حوالة مببلغ ما ّيل كبري يف ورقة عاديّة‪،‬‬
‫الربوجردي‪ .‬وعندما أمسك الس ّيد‬
‫ّ‬ ‫سلّمها لشخص قادم إىل ق ّم ليوصلها إىل الس ّيد‬
‫بالورقة رمى بها جانباً وقال‪« :‬من اآلن وصاعدا ً ال ترسلوا لنا هذا النوع من الحقوق‬
‫الرشع ّية! أنتم تتص ّورون أنّكم مت ّنون علينا‪ .‬الحوزة أرشف وأع ّز وأكرث احرتاماً من أن‬
‫تو ّجه إليها مثل هذه اإلهانة»‪ .‬بعدها جاء ذلك التاجر إىل ق ّم وق ّدم اعتذاره الشديد‪.‬‬
‫إنّه لفخ ٌر للمرجع ّية اإلسالم ّية الشيع ّية أن ال تخضع ملراكز القدرة وال للناس‪،‬‬
‫بل إ ّن الناس بدافع عقيدتهم يؤ ّدون واجباتهم‪ ،‬ويدفعون الحقوق الرشع ّية املرتت ّبة‬
‫عليهم(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الوحيد البهبهاني ‪M‬‬

‫رشف‬‫األسرتآبادي قال‪« :‬أيّام إقامتي يف كربالء والت ّ‬


‫ّ‬ ‫حك أ ّن العامل العامل الشيخ رضا‬
‫يُ َ‬
‫مبالزمة الوحيد البهبها ّين‪ ،‬جاء أحد الت ّجار للزيارة وأحرض قطعة قامش مثينة هديّة‬
‫لسامحته‪ ،‬وحيث إنّه كان قد سمع أنّه ال يقبل شيئاً من أحد‪ ...‬فقد حاول أن يجد‬
‫توسط لك يف قبول الهديّة الشيخ‬ ‫الطلب‪« :‬إذا ّ‬‫الطريقة املناسبة ليقبلها منه‪ .‬قال له ّ‬
‫األسرتآبادي فقد يقبلها الشيخ الوحيد؛ ألنّه يح ّبه ويكرمه»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫رضا‬

‫((( حاج شيخ عباس قمي مروتقوا وفضيلت‪ ،‬ص‪.47 - 46‬‬


‫((( حكايتها وهدايتها وآثار شهيد مطهري‪ ،‬ص‪.91‬‬
‫وألن كنت يائساً من قبول األستاذ لهديّته فقد رفضت طلبه‪ّ ،‬إل أنّه بالغ يف اإلرصار‪،‬‬
‫ّ‬
‫‪309‬‬
‫ووعدين إذا نجحت يف إقناع األستاذ أن يعطيني قطعة قامش يل‪ .‬قلت يف نفيس‪:‬‬
‫«فألحاول‪ ،‬إذا قبل األستاذ الهديّة أكون قد قضيت حاجة مؤمن‪ ،‬وحصلت عىل هديّة‪،‬‬
‫وإل فلن يصلني رضر»‪ .‬أخذت الهديّة وقصدت منزل األستاذ‪ .‬كان الوقت ظهرا ً والح ّر‬ ‫ّ‬
‫شديدا ً‪ .‬طرقت الباب‪ ،‬جاء األستاذ بثياب االسرتاحة وفتح الباب‪ ،‬وعندما رآين سألني‬
‫عن سبب مجيئي فقلت بخجل‪« :‬أحرض رجل مؤمن قطعة قامش هديّة لك بن ّية أن‬
‫رشع ثلاثلا مسقلا‪ :‬فنلا ةّزعو ءابإلا ‬

‫تلبسها وهو يتم ّنى قبولها»‪ .‬وقبل أن أكمل كالمي بدت عليه عالمات الغضب الشديد‪،‬‬
‫العلمي من أجل‬‫ّ‬ ‫وقال‪« :‬تص ّورت أنّك يف هذا الح ّر تركت عملك وشغلتني عن بحثي‬
‫حل مشكلّة علم ّية»‪ .‬قال هذا وأقفل الباب برسعة ورجع‪ .‬بقيت مبهوتاً‪ ،‬وقلت فورا ً‪:‬‬ ‫ّ‬
‫«موالي‪ ،‬يل طلب آخر»‪.‬‬
‫فتح الباب وقال‪« :‬ماذا؟‬
‫‪ -‬ذلك الرجل وعدين أن يق ّدم يل هديّة إذا قبلت هديّته‪ ،‬فال تجعلني أخرس ذلك»‪.‬‬
‫«بني‪ ،‬ادرس وال ترصف وقتك يف هذه األمور العبث ّية»‪.‬‬
‫عندما سمع ذلك ضحك وقال‪ّ :‬‬
‫تتوسط بعد يف مثل هذه األمور»‪ .‬ومىض‪ ،‬وبقيت‬ ‫ث ّم قبل الهديّة‪ ،‬وقال‪« :‬برشط أن ال ّ‬
‫يتملّكني العجب من عظمة نفسه وسجاياه وأخالقه الحميدة»(((‪.‬‬
‫المصلح الكبير‬
‫آبادي‪ ،‬هذا العامل املض ِّحي واملصلح الثائر‬
‫ّ‬ ‫جاء يف ترجمة الس ّيد جامل الدين األسد‬
‫كل ق ّوة بريطانيا ومرص استنفرت ملواجهته‪ .‬وقد‬ ‫يكف عن نرش دعوته رغم أ ّن ّ‬‫أنّه مل ّ‬
‫وصل األمر إىل ح ّد أ ّن الخديوي توفيق ق ّرر إبعاده عن القاهرة‪ .‬وذات ليلة‪ ،‬فيام كان‬
‫الس ّيد عائدا ً إىل بيته هاجمته ق ّوات الرشطة وألقت القبض عليه؛ لنقله إىل السكّة‬
‫الحديديّة إلرساله إىل السويس‪.‬‬

‫((( وحيد بهبهاين‪ ،‬ص‪.142‬‬


‫أي مبلغ من املال‪ ،‬وعندما علم القنصل اإليرا ّين بذلك حاول‬
‫ومل يكن الس ّيد يحمل ّ‬ ‫‪310‬‬
‫أن يعطيه شيئاً فقال الس ّيد‪« :‬احتفظ به لنفسك‪ ،‬أنت أكرث حاجة إليه‪ ،‬األسد أينام‬
‫ذهب يتدبّر أمر صيده»‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشهيد آية اهلل قدوسي ‪M‬‬

‫كام كان الشهيد السعيد آية الله ق ّدويس عزيز النفس أبيًّا‪ ،‬كذلك كانت املدرسة‬
‫الطلب يتحلّون بعل ّو اله ّمة وش ّدة عفّة النفس‪.‬‬
‫تول إدراتها؛ فقد كان ّ‬ ‫الحقّانيّة التي ّ‬
‫الطلب أحياناً؛‬
‫وكان ‪ M‬ميتنع عن قبول الهدايا العينيّة التي كان الناس يرسلونها إىل ّ‬
‫الطلب عىل ع ّزة النفس‪ .‬وذات ليلة‪،‬‬ ‫يرب ّ‬ ‫الطلب‪ ،‬كان ّ‬
‫حتّى ال يؤث ّر ذلك عىل روحيّة ّ‬
‫كنت يف بيته فطرق الباب‪ ،‬وعندما رجع الشهيد قال‪« :‬أحد األشخاص أحرض طعاماً‬
‫الطلب وجاء يرجو أن أقنعهم بذلك‪ ،‬وقد‬ ‫لطلب املدرسة فلم يقبله ّ‬‫جاهزا ً من طهران ّ‬
‫بأن ال أتد ّخل إلقناعهم»‪.‬‬
‫أخربته ّ‬
‫كان يلتزم بعدم التفريق بني الطالب املجهول واملعروف ابن العامل الفال ّين وما‬
‫شابه‪ .‬يعطي الجميع عىل ح ٍّد سواء‪ .‬ولذلك كان يرفض قبول الهدايا التي تستلزم بعض‬
‫يفس بعدم احرتام‬ ‫التبعات واملداراة‪ .‬صحيح أ ّن ر ّد الهدايا عادة أمر صعب؛ حيث ّ‬
‫الـ ُمهدي ويتس ّبب ببعض السلب ّيات الحا ّدة أحياناً‪ ،‬ومن الناحية الرشع ّية يعترب ذلك‬
‫اإلسالمي‪ّ ،‬إل أ ّن الهديّة التي يتوقّع صاحبها خدمة ما من‬‫ّ‬ ‫مرفوضاً يتناىف مع ال ُخلُق‬
‫الذي أهدى إليه تجعل رقبة اإلنسان يف نري العبوديّة‪ .‬ليست هديّة يف الحقيقة بل هي‬
‫نوع رشوة تعطى يف صورة هديّة ليلني امل ُ ْه َدى إليه‪ ،‬ويقوم مبا ال تق ّره الضوابط تحت‬
‫تأثري العالقات والروابط‪ .‬وأحياناً ال يكون يف ن ّية املهدي يشء من ذلك‪ ،‬إلّ أ ّن املهدى‬
‫إليه يشعر بأنّه ‪-‬ولو بصورة ال شعوريّة‪ -‬سيتعامل مع صاحب الهديّة بايجاب ّي ٍة أكرث من‬
‫تعامله مع غريه‪ .‬سيوسوس له الشيطان ليم ّيزه من غريه يف مثل هذه الحالة ال يكون‬
‫قبول الهديّة راجحاً‪.‬‬
‫ولعل‪ ،‬من هذا النوع‪ ،‬تلك الهديّة املعت ّد بها ‪-‬حوايل نصف كيلو زعفران‪ -‬التي‬
‫ّ‬
‫الطلب‪ ،‬فلم يقبلها رغم اإلرصار الكبري؛ ألنّه رأى أنّه إذا قبلها‬
‫أرسلها إليه والد أحد ّ‬
‫‪311‬‬
‫وجاء هذا الطالب يطلب إجازة بعد م ّدة‪ ،‬أو نقص مع ّدل عالماته يف االمتحان‪ ،‬وما‬
‫شابه فإ ّن من الصعب أن يتعامل معه كام يتعامل مع اآلخرين(((‪.‬‬
‫نصيحة عارف جليل‬
‫الهمدان الكبار‪،‬‬
‫ّ‬ ‫البهاري‪ ،‬من تالمذة آية الله الشيخ حسينقيل‬
‫ّ‬ ‫املرحوم الشيخ مح ّمد‬
‫اإللهي‪ .‬يتح ّدث عن صفات العامل فيقول‪:‬‬ ‫ومن الواصلني إىل حريم القرب‬
‫رشع ثلاثلا مسقلا‪ :‬فنلا ةّزعو ءابإلا ‬

‫ّ‬
‫«الثالث‪ :‬ال ب ّد أن يكون متوكّالً عىل مواله‪ ،‬آيساً ّ‬
‫مم يف أيدي الناس‪ ،‬فال يتملّق ألحد‬
‫التكب عليهم من حيث إنّهم‬
‫من األغنياء ويس ّمي ذلك تواضعاً‪ ،‬فإ ّن تواضع الفقري هو ّ‬
‫أغنياء‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن ال يداهنهم بالخوض يف الباطل طمعاً مبا يف أيديهم من حطام الدنيا (‪.)...‬‬
‫السابع‪ :‬ما يعطيه إيّاه غريه من املال‪ :‬إن علم أنّه حرام وجب عليه االمتناع‪ ،‬وإن علم‬
‫استحب‬
‫ّ‬ ‫أنّه مشتبه أو حالل فيه م َّنة فر ّده له راجح‪ ،‬وإن علم أنّه هديّة محلّلة بغري م َّنة‬
‫مستحق‪ ،‬فإن علم‬‫ّ‬ ‫بالنبي واألمئّة ‪ R‬وإن كان من الصدقات وهو‬ ‫ّ‬ ‫تأسياً‬
‫له القبول ّ‬
‫أنّه يعطي ريا ًء وسمعة ميكن أن يُقال بعدم جواز األخذ إذا صدق أنّه إعانة عىل اإلثم‪.‬‬
‫وينبغي له التعفّف عن السؤال ما استطاع؛ فإنّه فقر مع َّجل وحساب طويل لعدم‬
‫خل ِّوه من اآلفات غالباً؛ إذ هو متض ّمن للشكوى‪ ،‬وذهاب ماء الوجه ّ‬
‫والذل عند غري الله‬
‫وإيذاء املسؤول‪ ،‬وإعطائه استحيا ًء أو ريا ًء أو إلجا ًء‪ ،‬أمر يورث شتم السائل وإيذاءه‪،‬‬
‫إىل غري ذلك من اآلفات؛ ولذا روي «أ ّن مسألة الناس من الفواحش»‪ .‬نعم‪ ،‬لو كان يف‬
‫مقام االضطرار فله ذلك‪ ،‬بل قد يجب ّإل أ ّن تشخيص درجات هذه املقامات يف غاية‬
‫اإلشكال والصعوبة»(((‪.‬‬

‫((( يادنامه شهيد آية الله قدويس‪ ،‬ص‪ 42 - 41‬و‪ 50‬و‪.1856 - 185‬‬
‫((( تذكرة املتّقني‪ ،‬ص‪.139 - 137‬‬
‫القسم الرابع عشر‬

‫التقوى في صرف األموال العا ّمة‬


‫‪315‬‬

‫خاصة‬
‫للحرص عىل األموال العا ّمة و«بيت املال» والدقّة واالحتياط يف رصفها أه ِّم ّية ّ‬
‫يف اإلسالم‪ .‬وقد حظيت هذه املسألة بأقىص درجات العناية‪ ،‬وتعترب دقّة قادة اإلسالم يف‬
‫رشع عبارلا مسقلا‪ّ :‬ماعلا لاومألا فرص يف ىوقتلا‬

‫شأن بيت املال واحتياطهم وبعد نظرهم من أكرث األمور عربة يف سرية هؤالء العظامء‪.‬‬
‫ويكشف التأ ّمل يف هذا البعد من سريتهم عن آفاق جديدة يف عظمتهم وسم ّو‬
‫روحهم‪.‬‬
‫وقد احتفظ التاريخ بنامذج كثرية عن األمئّة املعصومني ‪ R‬أكتفي هنا بذكر‬
‫يل ‪ Q‬وأفعاله‪ .‬واملأمول أن تكون هذه املواقف وهذه‬ ‫ع ّدة منها من أقوال اإلمام ع ّ‬
‫اإللهي يف وضعنا الحارض‪ ،‬درساً للجميع خصوصاً‬
‫ّ‬ ‫الدرر الثمينة املستقاة من الوحي‬
‫رصفاتهم ويحسبون لها‬
‫للمسؤولني والروحان ِّيني الذين يراقب الجميع يف هذه املرحلة ت ّ‬
‫ألف حساب‪.‬‬
‫‪ .1‬يقول اإلمام ع ّيل ‪ Q‬يف إحدى خطبه‪« :‬والله لقد رأيت عقيالً وقد أملق ح ّتى‬
‫استامين من بُ ِّركم صاعاً‪ ،‬ورأيت صبيانه شعث الشعور غرب األلوان من فقرهم‪،‬‬
‫يل القول مر ّدداً‪،‬‬
‫كأنّ ا ُس ِّودت وجوههم بالعظم‪ ،‬وعاودين مؤكّداً وك ّرر ع ّ‬
‫فأصغيت إليه سمعي‪ ،‬فظ ّن ّأن أبيعه ديني‪ ،‬وأت َّبع قياده مفارقاً طريقتي‪،‬‬
‫دنف‬‫فضج ضجيج ذي ٍ‬ ‫ثم أدنيتها من جسمه ليعترب بها‪ّ ،‬‬ ‫فأحميت له حديدة‪ّ ،‬‬
‫من أملها‪ ،‬وكاد أن يحرتق من ميسمها‪ ،‬فقلت له‪ :‬ثكلتك الثواكل يا عقيل! أت ّنئ‬
‫من حديدة أحامها إنسانها للعبه؟ وتج ّرين إىل نار س ّجرها ج ّبارها لغضبه؟ أت ّنئ‬
‫من األذى وال أئ ّن من اللظى؟!»(((‪.‬‬

‫((( نهج البالغة‪ ،‬صبحي الصالح‪ ،‬ص‪ ،347 - 346‬خ‪.224‬‬


‫‪« .2‬وقدم عليه عقيل (‪ )...‬فقال‪ :‬أعطني ما أقيض به ديني‪ ،‬وع ِّجل رساحي حتّى أرحل‬
‫‪316‬‬
‫عنك‪ ،‬قال‪ :‬فكم دينك يا أبا يزيد؟ قال‪ :‬مئة ألف درهم‪ .‬قال‪ :‬ال والله ما هي عندي‬
‫وال أملكها‪ ،‬ولكن اصرب حتّى يخرج عطايئ فأواسيكه ولوال أنّه ال ب ّد للعيال من‬
‫يشء ألعطيتك كلّه‪ .‬فقال عقيل‪ :‬بيت املال يف يدك وأنت تس ِّوفني إىل عطائك‪ .‬وكم‬
‫يل‪ :‬إن أبيت‬ ‫عطاؤك وما عساه أن يكون ولو أعطيتنيه كلّه؟ (‪ )...‬فقال له [اإلمام] ع ّ‬
‫يا أبا يزيد (‪ )...‬أخذت سيفك وأخذتُ سيفي وخرجنا جميعاً إىل الحرية‪ ،‬فإ ّن بها‬
‫ت ّجارا ً مياسري فدخلنا عىل بعضهم فأخذنا ماله فقال‪ :‬أو سارقاً جئت؟ قال‪ :‬ترسق‬
‫من واحد خ ٌري من أن ترسق من املسلمني جميعاً‪.(((»...‬‬
‫‪ .3‬كتب ‪ Q‬كتاباً إىل زياد بن أبيه نائب ابن عباس عىل البرصة عندما كان ابن‬
‫وإن أقسم بالله‬ ‫عباس حاكم البرصة ومدن األهواز وفارس وكرمان‪ ،‬جاء فيه‪ّ « :‬‬
‫قسامً صادقاً‪ ،‬لنئ بلغني أنَّك خُنت من يفء املسلمني شيئاً صغرياً أو كبرياً‪،‬‬
‫ألشدّ نّ عليك شدّ ة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل األمر‪ ،‬والسالم»(((‪.‬‬
‫‪ .4‬كتب ‪ Q‬إىل عامله‪« :‬أد ُّقوا أقالمكم‪ ،‬وقاربوا بني سطوركم‪ ،‬واحذفوا ع ّني‬
‫فضولكم‪ ،‬واقصدوا قصد املعاين‪ ،‬وإيّاكم واإلكثار‪ ،‬فإنّ أموال املسلمني ال‬
‫تحتمل اإلرضار»(((‪.‬‬
‫وقد بذل العلامء الصالحون وما يزالون دقّ ًة كبرية يف رصف «بيت مال املسلمني‬
‫فاجتنب كث ٌري منهم «سهم اإلمام» و«الشهريّة» كالحكيم املعروف املرحوم القشقا ّيئ‪،‬‬
‫الذي كان ينفق من إجارة أرض كانت له‪ ،‬واملرحوم املح ّدث الق ّم ّي الذي كان يقول‪:‬‬
‫«لست أهالً آلخذ من سهم اإلمام»‪ .‬وكان تاجر متديّن يدفع له مبلغاً قليالً يس ّد به‬
‫والعلمة الطباطبا ّيئ‪ ،‬والشهيد املظلوم الدكتور بهشتي‪ ،‬والشهيد املجهول القدر‬
‫نفقاته‪ّ .‬‬
‫الق ّدويس الذي كان يبلغ احتياطه أنّه إذا احتاج أن يقرتض مبلغاً فإنّه مل يكن يقرتض‬

‫((( بحار األنوار‪ ،‬ج‪ ،41‬ص‪.114 - 113‬‬


‫((( نهج البالغة‪ ،‬صبحي الصالح‪ ،‬كتاب ‪.20‬‬
‫((( بحار األنوار‪ ،‬ج‪ ،41‬ص‪.105‬‬
‫من طالب يأخذ «الشهريّة» املق ّررة يف الحوزة؛ حتّى ال تكون أمواله مختلط ًة بسهم‬
‫‪317‬‬
‫اإلمام ‪.Q‬‬
‫الحائري الذي كان زعيم الحوزة يف ق ّم‪ ،‬وكان مرجعاً‬
‫ّ‬ ‫كذلك املرحوم آية الله العظمى‬
‫مطلقاً‪ ،‬وكانت ت َِص ُل إليه مبالغ طائلة من الحقوق الرشع ّية‪ .‬ورغم ذلك ‪-‬وبنا ًء عىل ما‬
‫أورده بعضهم‪« -‬كان جميع أثاث بيته عند وفاته ال يعادل ‪ 1500‬تومانٍ ‪ ،‬وكان مديناً‬
‫يرض بتسديد دينه من بيت املال‪ .‬وعندما اطّلع الدائنون عىل ذلك‪ ،‬سامحوه‬ ‫ّإل أنّه مل َ‬
‫رشع عبارلا مسقلا‪ّ :‬ماعلا لاومألا فرص يف ىوقتلا‬

‫بكل ما لهم يف ذ ّمته»‪.‬‬ ‫ّ‬


‫الخميني { يف إحدى خطبه‪ ،‬قبل سنني طويلة يف بداية مواجهة‬ ‫ّ‬ ‫بل ذكر اإلمام‬
‫الحائري مل تكن متلك ليلة وفاته مثن طعام العشاء(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫للطاغوت‪ ،‬أ ّن عائلة آية الله‬
‫َّ‬
‫﴿إِن َما‬ ‫نعم‪ ،‬هكذا كانوا‪ ،‬وهكذا هم الرجال اإلله ّيون املؤمنون باملعاد ومصاديق‬
‫ََُۡ ْ‬ ‫َۡ‬
‫ي َش َّ َ‬
‫م ُ ۗؤا﴾(((‪.‬‬
‫ٱلل م ِۡن ع َِبادِه ِ ٱلعل ٰٓ‬

‫ورغم ذلك‪ ،‬ال يكاد ينقيض ال َع َج ُب من بعض األشخاص الذين يغدقون من بيت‬
‫املال بال حساب وال كتاب‪ ،‬ويؤثرون أقاربهم واملنتسبني إليهم‪ ،‬ويعيشون من بيت‬
‫املال والحقوق الرشعيّة حياة هي مرضب املثل يف الرتف‪ .‬وهكذا يق ّدمون للناس صورة‬
‫مش ّوهة عن العلامء ويسيؤون إىل اإلسالم والحوزة‪ ،‬ويزرعون االختالف والتفرقة‪ ،‬فتبّاً‬
‫لهم‪.‬‬
‫ومن الجدير بالذكر هنا‪ ،‬ما يرتبط بواجب الناس والروحان ّيني الذين يوصلون‬
‫الحقوق الرشع ّية إىل العلامء‪ ،‬إ ّن عليهم أن يبذلوا دقّة كبرية يف من يوصلون إليهم فال‬
‫يعطوا هذه األموال إىل هذا وذاك‪ .‬يقول أحد الكتّاب املعارصين‪« :‬إ ّن عىل الناس أيضاً‬
‫وكل فرد‪،‬‬
‫لكل شخص ّ‬ ‫يف هذا املجال مسؤول ّيات منها‪ :‬أن ال يدفعوا الحقوق الرشع ّية ّ‬
‫بل يوصلونها إىل حيث ترصف يف حفظ الدين وشؤون الدين‪ ،‬وباللغة الفقه ّية يجب أن‬
‫((( صحيفة نور‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.55‬‬
‫((( سورة فاطر‪ ،‬اآلية ‪.28‬‬
‫بكل معنى الكلمة وبقاء‬ ‫ينتبهوا إىل رضا اإلمام ‪ Q‬برصفها الذي هو حفظ الدين ّ‬
‫‪318‬‬
‫ينصب اهتاممهم عىل املركز‬
‫ّ‬ ‫انتقاله إىل األجيال القادمة حتّى تربأ ذ ّمتهم‪ .‬ويجب أن‬
‫اإلسالمي»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫االجتامعي األصيل الذي يخدم اإللتزام األصيل عىل مستوى العامل‬
‫ّ‬ ‫الفقهي‬
‫ّ‬
‫يستحق الرتويج بني الناس‪ ،‬والعامل‬
‫ّ‬ ‫الطلب الشباب العامل الذي‬ ‫«يجب أن يعرف ّ‬
‫رشعي وخدمة للدين واملجتمع‬ ‫ّ‬ ‫بحق‪ ،‬واجب‬ ‫يستحق‪ .‬فكام أ ّن ترويج العامل ّ‬
‫ّ‬ ‫الذي ال‬
‫وتعزيز لح ّريّة املجتمع واستمرار الرشيعة‪ ،‬فإ ّن الرتويج للعامل غري الجدير خيانة لإلسالم‬
‫والتاريخ وحصري اإلسالم وموقعه؛ ولذلك فهو من أكرب الكبائر وأعظم الخيانات للدين‬
‫كل مفسدة ونتيجة سوء‬ ‫الحق ويوم القيامة‪ ،‬هؤالء الذين ر ّوجوا لهم‪ ،‬ويعاقبون عن ّ‬ ‫ّ‬
‫كل وهن لحق بالدين من ج ّراء عدم‬ ‫ترتّبت عىل رئاسة علامء السوء هؤالء‪ ،‬وعن ّ‬
‫الجهادي»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حسهم‬‫ّ‬
‫وباختصار‪ ،‬يجب دفع الحقوق الرشع ّية إىل العالِم الذي يعلم رضا اإلمام صاحب العرص‬
‫|بدفع الحقوق إليه‪ .‬ال إىل الذين قال الشهيد مط ّهري يف أمثالهم قبل عرشين عاماً‪:‬‬
‫«مم يحمل عىل األسف الشديد أ ّن الناس يرون بأ ّم العني أ ّن األوالد واألحفاد والحوايش‬‫ّ‬
‫لبعض الـ‪( ...‬كذا) يستغلّون الهرج واملرج وعدم النظم يف موازنة الحوزات فيختلسون‬
‫املبالغ الطائلة بحيث إنّهم يعيشون سنني متامدية يرصفون مبنتهى اإلرساف وال ينفد ما‬
‫اختلسوه‪ .‬هل فكّرتم‪ ...‬مبدى إساءة هذه األمور إىل عامل الروحان ّية(((؟! وألطو كشحاً‪.‬‬
‫ّ‬
‫دقة اإلمام {‬

‫يقول أحد مالزمي اإلمام يف النجف األرشف‪:‬‬


‫«كان املرحوم الس ّيد مصطفى ابن اإلمام ‪-‬الذي أعتقد أنّه كان شخصاً ال نظري‬
‫له‪ -‬يأخذ مرصوفَه أسبوع ّياً من اإلمام‪ ،‬ومل يكن اإلمام يعطيه أبدا ً أكرث من مصاريفه‬

‫((( شيخ آقا بزرﮒ‪ ،‬ص‪.246‬‬


‫((( بيدار ﮔران أقاليم قبله‪ ،‬ص‪.126 - 125‬‬
‫((( بحثي دربارﮤ مرجعيت وروحانيت‪ ،‬ص‪.176‬‬
‫بحج بيت الله الحرام فقد أ ّمن‬
‫رشف ّ‬ ‫الرضوريّة‪ .‬وعندما أراد املرحوم الس ّيد مصطفى الت ّ‬
‫‪319‬‬
‫املبلغ الذي احتاجه من مثن بيته يف النجف ومن مبلغ كان لزوجته‪ .‬كان اإلمام يقول‬
‫يحق ألحد أن يستعمل الهاتف إىل خارج النجف»‪ .‬كان اإلمام يأذن باستعامل‬ ‫دامئاً‪« :‬ال ّ‬
‫الهاتف داخل النجف‪ ،‬أ ّما إىل كربالء مثالً وغريها‪ ،‬فلم نكن نستطيع االتّصال؛ أل ّن اإلمام‬
‫يحق لك أن تتّصل بطهران وال غريها»‪.‬‬
‫ح ّرم ذلك حتّى عىل ولده‪ .‬قال له‪« :‬ال ّ‬
‫ولكن إذا كان األمر مرتبطاً بشؤون الثورة إليصال بيان بوساطة الهاتف أو غري ذلك‬
‫رشع عبارلا مسقلا‪ّ :‬ماعلا لاومألا فرص يف ىوقتلا‬

‫من االتّصاالت فقد كان ذلك مسموحاً‪.‬‬


‫ويف مجال آخر حول االقتصاد يف استعامل الورق‪ ،‬ذات م ّرة كتب أحد اإلخوة ‪-‬وكان‬
‫املسؤول املا ّيل عند اإلمام‪ -‬شيئاً عىل ظهر مغلّف وأرسله إىل اإلمام‪ ،‬فكتب اإلمام‬
‫الجواب عىل قصاصة ورق‪ ،‬وكتب تحته‪ :‬كان ميكنك الكتابة عىل مثل هذه الورقة‪.‬‬
‫بعدها كان هذا األخ يجمع قصاصات الورق‪ ،‬ويحتفظ بها؛ ليكتب إىل اإلمام عليها عند‬
‫الحاجة‪ .‬وكان اإلمام يكتب الجواب عىل الورقة ِ‬
‫نفسها‪ .‬كثريا ً ما اتّفق أن يخرج اإلمام‬
‫من داخل البيت إىل «ال ّرباين» فريى مصباحاً كهربائ ّياً مضاء دون حاجة إليه فيط ِفئُه‪ ،‬ويف‬
‫اليوم التايل يؤنّب فيقول‪« :‬ملَ تركتم املصباح مضا ًء؟»‪.‬‬
‫كان اإلمام متش ّددا ً يف مسائل الهاتف‪ ،‬إىل ح ّد أ ّن ابن اإلمام أجرى م ّرة ع ّدة اتّصاالت‬
‫فاضط َّر لتهيئة مبلغ ودفعه إىل املسؤول املا ّيل قائالً‪« :‬لقد أجريت ع ّدة اتّصاالت‬
‫شخص ّية»(((‪.‬‬
‫ويقول أحد أعضاء مكتب اإلمام ‪-‬يف طهران‪ -‬يف هذا املجال‪:‬‬
‫العادي من‬
‫ّ‬ ‫بساطة عيش اإلمام‪ -‬التي تتل ّخص يف أنّها ال تتجاوز ما عليه الفرد‬
‫ومعب عن روحه الجامهرييّة‪ .‬دامئاً توجد لدى اإلمام مبالغ طائلة‬
‫حي ِّ‬ ‫الناس‪ -‬شاه ٌد ٌّ‬
‫من الحقوق الرشع ّية‪ ،‬ولك ّنه يراقب املصاريف بدقّة عجيبة‪ .‬مرارا ً حذّر أعضاء املكتب‬

‫((( فرازهايئ أز أبعاد روحي إمام‪ ،‬ص‪ 75 - 74‬بترصف‪.‬‬


‫بشّ دة من استعامل الهاتف لألمور الشخص ّية؛ لذلك فإنّنا يف حوائجنا نستعمل الهاتف‬
‫‪320‬‬
‫العمومي‪ .‬ال تجد يف منزل اإلمام مصباحاً واحدا ً مضا ًء دومنا حاجة إليه‪.‬‬
‫ّ‬
‫أثناء الوضوء‪ ،‬يحرص اإلمام عىل الدقّة الالمتناهية يف رصف املاء‪ ،‬إىل ح ّد أنّه كان‬
‫يقفل الصنبور «الحنفيّة» يف الفرتة الوجيزة التي تفصل بني املسح والغسل‪ .‬دامئاً كان‬
‫اإلمام ين ّبه إىل الدقّة يف املصاريف‪ ،‬وأحياناً كان يسأل‪« :‬ملاذا زادت؟ انتبهوا»(((‪.‬‬

‫سطور من نور‬
‫الخميني {‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يقول اإلمام‬
‫«‪ ...‬أل ّن الفقيه إذا كان ه ّمه أن يجمع الحطام مل يكن عادالً‪ ،‬ومل يعد مؤمتناً للرسول‬
‫ومنفّذا ً ألحكام رشيعته»(((‪.‬‬
‫«الذي يعمل ويسعى للحصول عىل الدنيا ‪-‬ولو يف أمر مباح‪ -‬ليس أمني الله وال‬
‫ميكن االطمئنان إليه ‪ -‬تكاليف فقهاء اإلسالم تختلف عن تكاليف اآلخرين‪ .‬يجب عىل‬
‫فقهاء اإلسالم ‪-‬بلحاظ مقام الفقاهة‪ -‬ترك كثري من املباحات واإلعراض عنها»‪« ،‬إذا‬
‫مل تدرسوا ‪-‬ال سمح الله‪ -‬فحرام أن تبقوا يف املدرسة‪ ،‬وال ميكنكم أن تأخذوا شيئاً من‬
‫بطلب العلوم اإلسالم ّية»(((‪.‬‬
‫الخاصة ّ‬
‫ّ‬ ‫الحقوق الرشع ّية‬
‫يطلب من السائل أداء القسم‬
‫ّ‬
‫املتوف سنة ‪1262‬هـ والذي أوردنا حتّى اآلن ع ّدة‬ ‫الكلبايس ‪M-‬‬
‫ّ‬ ‫الشيخ إبراهيم‬
‫قصص عنه‪ -‬كان شديد االحتياط يف األموال العا ّمة‪ ،‬فإذا طلب منه فقري شيئاً كان‬
‫يطلب منه شاهدا ً عىل فقره ويطلب منه أداء القسم أنّه ال يكذب وأنّه لن يرسف يف‬
‫املال الذي سيأخذه منه‪ ،‬وأنّه سيرصف باعتدال ث ّم يعطيه مرصف شهر(((‪.‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.47 - 46‬‬ ‫((( املصدر ُ‬
‫((( الحكومة اإلسالم ّية‪ ،‬ص‪.70 - 69‬‬
‫نفسه‪.‬‬
‫((( املصدر ُ‬
‫ولعل له ‪ M‬من أحوال الناس‬
‫((( الفوائد الرضويّة‪ ،‬ص‪ ،11‬وال تخلو هذه الطريقة من غرابة كام ال يخفى ّ‬
‫حوله ما يُس ِّوغ ذلك (املع ِّرب)‪.‬‬
‫ويضيف املح ّدث الق ّم ّي بعد نقل ما تق ّدم‪:‬‬
‫‪321‬‬
‫الكلبايس ليديل بشهادته عىل أمر مه ّم‪ ،‬فسأل املرحوم‪:‬‬
‫ّ‬ ‫«جاء شخص إىل املرحوم‬
‫‪« -‬ما هي مه ّمتك؟‬
‫‪ -‬أغسل املوىت»‪.‬‬
‫سأله املرحوم عن أحكام الغسل فقال ‪« :M‬عندما نُنزل امليت يف قربه نقول له‬
‫كالماً مع ّيناً فام هو؟»‪.‬‬
‫رشع عبارلا مسقلا‪ّ :‬ماعلا لاومألا فرص يف ىوقتلا‬

‫الغسال‪« :‬نقول‪ :‬هنيئاً لك أنّك انتقلت من الدنيا‪ ،‬ومل تضط َّر ألداء الشهادة‬
‫أجاب ّ‬
‫الكلبايس!»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عند الشيخ‬
‫رياالت فقط‬
‫قال أحد العلامء الكبار واألتقياء يف الحوزة العلمية بق ّم ‪-‬وهو تلميذ آية الله‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ‪ -‬إ ّن أحد علامء تربيز ذهب إىل النجف يف عرص زعامة‬
‫القايض أستاذ ّ‬
‫ومرجع ّية الشيخ مح ّمد حسن صاحب «الجواهر»‪ .‬وعندما رآه قال‪« :‬ال عجب أن يصل‬
‫الطلب‬
‫ألن أعرف منه ما يؤ ِّهله لذلك»‪ .‬ذات يوم أردت أن أوزّع عىل ّ‬ ‫إىل ما وصل إليه ّ‬
‫مبلغاً من املال‪ ...‬ولدى الحساب رأيت أ ّن بإمكاين أن أعطي ّ‬
‫لكل طالب توماناً‪ .‬وكان‬
‫آنذاك مبلغاً معت ّدا ً به‪ ،‬بدأت بالتوزيع حتّى وصلت إىل الشيخ صاحب «الجواهر»‪.‬‬
‫قلت‪« :‬هذا سهمك تفضّ ل‪.‬‬
‫‪ -‬ال آخذه‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟ ما هو السبب؟‬
‫‪ -‬أنا ال أحتاج اليوم أكرث من ريالني ‪-‬التومان عرش رياالت‪ -‬وال آخذ شيئاً من الحقوق‬
‫الرشع ّية ملرصف األيّام القادمة‪.‬ومن قال ّإن سأبقى ح ّياً؟‬
‫‪ -‬إذًا خذ ريالني وأعطني الباقي‪.‬‬
‫‪ -‬ليس عندي مثانية رياالت»‪.‬‬
‫ث ّم ذهبنا إىل من رصف التومان فأعطيته الريالني‪ ،‬مرصف يومه ذاك‪.‬‬
‫‪322‬‬
‫نعم‪ ،‬هكذا كان الرجال الطاهرون أمثال صاحب «الجواهر»‪ ،‬الذي ما تزال جواهره‬
‫ألكرث من قرن منهالً لجميع الفقهاء ومحورا ً علم ّياً يف جميع الحوزات‪.‬‬
‫صاحب «الضوابط»‬
‫القزويني‪ ،‬الفقيه املعروف كان‬
‫ّ‬ ‫املوسوي‬
‫ّ‬ ‫صاحب «الضوابط» هو الس ّيد إبراهيم‬
‫يص ُل إليه سنويًّا أكرث من عرشين ألف تومانٍ من‬ ‫معارصا ً لصاحب «الجواهر»‪ .‬وكان ِ‬
‫الهند ومبالغ كبرية من إيران وسائر البالد‪ ،‬ومع ذلك كان يعيش فقريا ً ومل يكن له ّإل‬
‫القليل الذي يس ّد الرمق ويقيم األود ومبنتهى االقتصاد(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫األنصاري‬ ‫اعتراض والدة الشيخ‬
‫األنصاري أخ اسمه الشيخ منصور‪ ،‬وكان من العلامء الكبار جليل القدر‪،‬‬‫ّ‬ ‫كان للشيخ‬
‫ّإل أنّه كان يف غاية الفقر وضيق ذات اليد‪ .‬وذات يوم رقّت والدته لحاله‪ ،‬فتو ّجهت‬
‫األنصاري الذي كان آنذاك املرجع الوحيد للشيعة‪ .‬قالت‪:‬‬
‫ّ‬ ‫باللوم إىل أخيه األكرب الشيخ‬
‫«أنت تعلم أ ّن أخاك منصور كثري العيال وهو يتج ّرع غصص الفقر‪ ،‬والشهريّة التي‬
‫رصفك وتستطيع أن تعطيه‬ ‫كل هذه األموال تحت ت ُّ‬ ‫تعطيه إيّاها ال تكفيه‪ .‬يف حني أ ّن ّ‬
‫مم تعطي اآلخرين!»‪ ،‬أصغى الشيخ بدقّة إىل كالم والدته‪ ،‬وعندما أمتّت كالمها‬ ‫أكرث ّ‬
‫ق ّدم إليها مفتاح الغرفة التي كانت األموال الرشع ّية فيها وقال لها بلهجة مؤ ّدبة‪« :‬يا‬
‫أ ّمي‪ ،‬خذي هذا املفتاح‪ ،‬وخذي ملنصور ما أردت‪ ،‬برشط أن ال أكون أنا مسؤوالً رشعاً عن‬
‫ذلك وتكون مسؤول ّيته وتبعته عليك أنت‪ .‬هذه األموال التي هي عندي حقوق الفقراء‬
‫وكل الفقراء يف هذا املجال عىل ح ّد سواء‬ ‫ُقسم بينهم بالتساوي‪ّ ،‬‬ ‫واملعوزين‪ ،‬وهي ت َ‬
‫ألحد منهم عىل غريه‪ .‬والديت‪ ،‬إذا كان لديك جواب تق ّدمينه‬ ‫كأسنان املشط‪ ،‬ال فضل ٍ‬
‫أردت‪ ،‬ولكن‬‫يوم القيامة حني ت ُسألني عن املبلغ اإلضا ّيف الذي تُؤ ِّدينه ملنصور فخذي ما ِ‬

‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪.10‬‬


‫اعلمي أ ّن أمامنا حساباً دقيقاً ج ّدا ً وصعباً ومرعباً‪ ،‬وليس فيه أدىن تسامح»‪ .‬وعندما‬
‫‪323‬‬
‫الكلم ‪-‬وكانت معدن تقوى وفضيلة وخوف من الله تعاىل‪-‬‬ ‫سمعت والدة الشيخ هذا ّ‬
‫ارتعدت فرائصها وتابت إىل الله تعاىل وأرجعت املفتاح إىل ابنها معتذرة‪ ،‬ناسية احتياج‬
‫منصور(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫األنصاري ووالدته‬ ‫الشيخ‬
‫األنصاري أنّه بعد رجوعه من مجلس درسه يذهب مبارشة‬ ‫ّ‬ ‫كانت عادة الشيخ‬
‫رشع عبارلا مسقلا‪ّ :‬ماعلا لاومألا فرص يف ىوقتلا‬

‫ليسل هذه العجوز بالحديث معها‪ ،‬فيسألها عن أوضاع الناس املتق ّدمني‬ ‫إىل والدته ّ‬
‫وميازحها حتّى يضحكها‪ ،‬ث ّم يذهب إىل غرفة املطالعة والعبادة‪.‬‬
‫ذات يوم قال الشيخ ألمه‪« :‬أتذكرين أيّام طفولتي عندما كنت منشغالً بدراسة‬
‫املق ّدمات وكنت ترسلينني لقضاء حوائج البيت فكنت أؤجلها إىل ما بعد االنتهاء من‬
‫الدرس واملباحثة؟ فكنت تغضبني وتقولني‪ :‬أنا بال َخلَف‪ .‬فهل ما تزالني اآلن بال َخلَف؟»‪،‬‬
‫أجابت أ ّم الشيخ مازحة‪« :‬نعم‪ ،‬ما زلت كذلك‪ ،‬ألنّك آنذاك مل تكن تقوم باحتياجات‬
‫البيت‪ ،‬واليوم لش ّدة احتياطك يف رصف األموال الرشع ّية ض ّيقت علينا الخناق»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشرعية‬ ‫األنصاري في األموال‬ ‫رأي الشيخ‬
‫األنصاري وقيادته‪ ،‬وعندما كان سيل الحقوق الرشع ّية يَ ُص ُّب‬
‫ّ‬ ‫يف فرتة زعامة الشيخ‬
‫اإلسالمي‪ .‬كانت عائلة الشيخ تعيش يف ظروف اقتصاديّة‬ ‫ّ‬ ‫عنده من مختلف أنحاء العامل‬
‫خصص للمنزل مبلغاً ال يكاد يُذكَر‪ .‬وذات يوم ح ّدثت عائلة‬ ‫قاسية؛ أل ّن الشيخ كان قد ّ‬
‫األنصاري‪ -‬شاكية له‪،‬‬
‫ّ‬ ‫خاص لدى الشيخ‬
‫الشيخ أحد العلامء ‪-‬الذي كان يحظى باحرتام ّ‬
‫لكلم‬‫وطلبت منه أن يفاتح الشيخ بذلك ليزيد املبلغ املق ّرر للمنزل‪ .‬استمع الشيخ ّ‬
‫مح ّدثه إىل آخره‪ ،‬ومل يعلّق بيشء ال نفياً وال إثباتاً‪ .‬ويف اليوم التايل عندما جاء الشيخ إىل‬
‫املنزل قال لزوجته‪« :‬اغسيل ثيايب واحتفظي مباء الغسالة القذر»‪ .‬وفعالً قامت الزوجة‬

‫بترصف‪.‬‬
‫((( املكاسب‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ّ 26 - 25‬‬
‫((( زندﮔـاين وشخصيت شيخ أنصاري‪ ،‬ص‪.59‬‬
‫بذلك وأخربت الشيخ‪ ،‬فطلب منها إحضار ذلك املاء القذر‪ ،‬فأحرضته‪ .‬فام كان منه ّإل‬
‫‪324‬‬
‫أن قال لها‪« :‬ارشيب هذا املاء»‪.‬‬
‫‪ -‬أرشبه؟ ال‪ .‬ما هذا الذي تأمرين به؟ وهل يرشب عاقل هذه القذارة؟‬
‫يدي هي عندي مثل هذا‬ ‫‪ -‬إذا ً اسمعي ج ّيدا ً وتأ ّميل بدقّة‪ ،‬هذه األموال التي بني ّ‬
‫املاء القذر‪ ،‬فكام أنّك ال تستطيعني وال تريدين أن ترشيب من هذا املاء‪ ،‬كذلك أنا ال‬
‫مم أعطي‬ ‫حق يل وال يجوز أن أعطيكم أكرث ّ‬ ‫أستطيع أن أرصف من هذا املال؛ ألنّه ال ّ‬
‫اآلن‪ .‬إ ّن هذه األموال أموال الفقراء‪ ،‬وأنتم وسائر الفقراء عندي مبنزلة واحدة»(((‪.‬‬
‫األنصاري طلبت منه ذات يوم رشاء قطعة قامش‬ ‫ّ‬ ‫ونقل أيضاً أ ّن زوجة الشيخ‬
‫لتغطّي بها الفُرش واللُّحف التي توضع يف جانب الغرفة نهارا ً! إلّ أ ّن الشيخ مل يستجب‬
‫لذلك لش ّدة احتياطه‪.‬‬
‫وعندما آذاها منظر الفرش واللحف أمام الناس ق ّررت أن تقتصد يف مرصف البيت‬
‫لتشرتي قطعة القامش هذه‪ .‬وفعالً بدأت تشرتي بدل ‪ 225‬غراماً من اللحم (‪ 3‬سري)‬
‫‪ 187,5‬غراماً (‪ 2‬سري) واستطاعت بسبب ذلك طيلة فرتة مع ّينة‪ ،‬أن توفّر مثن الغطاء‬
‫الذي احتاجته‪ ،‬فاشرتته‪.‬‬
‫وعندما علم الشيخ بذلك قال باستياء شديد‪« :‬يا وييل! لقد رصفت حتّى اآلن‬
‫مقدارا ً من األموال الرشع ّية بدون مس ِّوغ‪ ،‬كنت أتص ّور أ ّن (‪ 3‬سري) ‪ 225‬غراماً من اللحم‬
‫هي الح ّد األدىن الذي نحتاجه واآلن اتّضح يل خطأ ذلك‪ .‬ث ّم أمر الشيخ بارجاع قطعة‬
‫القامش وأن ال يشرتوا من اللحم ّإل مقدار ‪ 2‬سري ونصف (‪ 187‬غراماً ونصف)‪.‬‬
‫حبائل الشيطان‬
‫األنصاري ‪:M‬‬
‫ّ‬ ‫يقول أحد تالمذة الشيخ‬
‫األنصاري‪ ،‬رأيت الشيطان ذات‬
‫ّ‬ ‫«عندما كنت يف النجف األرشف أدرس عند الشيخ‬

‫بترصف‪.‬‬
‫((( املكاسب‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،129 - 128‬املق ّدمة تصحيح وتعليق كالنرت‪ّ ،‬‬
‫ليلة يف ما يرى النائم يحمل حباالً عديدة‪ .‬سألته‪« :‬ماذا تفعل بهذه الحبال؟» قال‪:‬‬
‫‪325‬‬
‫«ألقيها يف أعناق الناس وأجرهم إ ّيل فأصطادهم‪ ،‬وأمس ألقيت أحد هذه الحبال يف‬
‫األنصاري وسحبته من غرفته إىل أواسط الزقاق الذي يقع منزله‬
‫ّ‬ ‫عنق الشيخ مرتىض‬
‫فيه‪ ،‬لكن لألسف أفلت م ّني رغم الجهد الكبري الذي بذلته»‪.‬‬
‫وعندما استيقظت من النوم بدأت أفكّر يف تعبري رؤياي‪ ،‬فقلت األفضل أن أسأل‬
‫رشفت بزيارته وح ّدثته مبا رأيت‪ ،‬فقال‪« :‬صدق الشيطان‪ ،‬إ ّن‬ ‫الشيخ نفسه؛ لذلك ت ّ‬
‫رشع عبارلا مسقلا‪ّ :‬ماعلا لاومألا فرص يف ىوقتلا‬

‫امللعون أراد أمس أن يخدعني ففررت من رشاكه بلطف الله تعاىل‪ .‬أمس مل يكن‬
‫لدي ريال‬
‫لدي يشء من املال‪ ،‬واحتجنا يف البيت إىل بعض اللوازم‪ ،‬فقلت يف نفيس‪َّ :‬‬ ‫ّ‬
‫من سهم اإلمام ‪ Q‬ومل يأت وقت رصفه بعد‪ ،‬فيمكنني أن أقرتضه ث ّم أس ّدد‬
‫القرض فيام بعد‪ .‬أخذت الريال وخرجت من املنزل‪ ،‬ومبج ّرد أن أردت رشاء ما‬
‫احتجناه قلت يف نفيس‪ :‬من يضمن ّأن أستطيع أداء هذا ال َّدين فيام بعد؟ وبقيت‬
‫أفكّر يف ذلك حتّى ق ّررت نهائ ّياً أن أرجع إىل املنزل‪ ،‬فلم أشرت شيئاً وأرجعت املال‬
‫إىل مكانه(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫يبيع سجادة المنزل‬
‫األنصاري مببلغ‬
‫ّ‬ ‫أورد صاحب كتاب «لؤلؤ الصدف» أنّه عندما جيء إىل الشيخ‬
‫عرشين ألف تومانٍ من الحقوق الرشع ّية‪ ،‬وكان الشيخ يوزّعها‪- ،‬عند ذلك‪ -‬جاءه شخص‬
‫كان الشيخ اشرتى منه قمحاً ومل يكن قد دفع إليه الثمن فقال للشيخ‪« :‬مضت م ّدة‬
‫عىل تسليم القمح ومل أتسلّم مثنه بعد‪ ،‬فإذا كان باإلمكان أن تتك ّرم بثمنه اآلن»‪ .‬قال‬
‫له الشيخ‪« :‬أمهلني ع ّدة أيّام أخرى»‪ .‬فوافق الرجل وانرصف‪ .‬وكان أحد العلامء حارضا ً‬
‫«كل هذه األموال بني يديك فلِ َم استمهلت الرجل ومل‬ ‫يسمع ما جرى‪ ،‬فقال للشيخ‪ّ :‬‬
‫تعطه حقّه؟»‪ ،‬فقال الشيخ‪« :‬هذه أموال الفقراء واملحتاجني‪ ،‬وال عالقة يل بها‪ ،‬وليس‬

‫((( زندﮔـاين وشخصيت شيخ‪ ،‬ص‪.89 - 88‬‬


‫الشخيص يشء‪ ،‬وسأبيع هذه الس ّجادة لتسديد دينه؛ لذلك طلبت‬
‫ّ‬ ‫لدي اآلن من مايل‬‫ّ‬ ‫‪326‬‬
‫منه مهلة أليّام»(((‪.‬‬
‫يقول صاحب كتاب «املآثر واآلثار»‪:‬‬
‫«كان الشيعة اإلثنا عرشيّة من أهايل إيران والهند وروس ّية وبعض الواليات‬
‫العثامن ّية‪ ،‬وبعض املدن األفغان ّية والرتك ّية‪ ،‬وغريها يرسلون سنويّاً حوايل مائتي ألف‬
‫األنصاري‪ ،‬إلّ أنّه مل يكن يرصف‬
‫ّ‬ ‫تومانٍ من األوقاف والخمس وأمثال ذلك إىل الشيخ‬
‫املستحق املقتصد‪ ،‬بل كان يوصلها جميعها إىل‬ ‫ّ‬ ‫من ذلك كلّه حتّى مبقدار حاجة‬
‫املستحقّني‪ .‬طيلة سنوات زعامته العا ّمة ونيابته عن اإلمام ‪ Q‬مل يكن عنده ّإل‬
‫مل ‪ M‬وكان‬ ‫الحاج ّ‬
‫ّ‬ ‫خادم واحد‪ ،‬وكان هذا الخادم رجالً متّقياً من املع ّممني اسمه‬
‫معروفاً بذلك‪ .‬ح ّقاً لقد كان هذا العظيم من أعاجيب الدهور ونوادر العصور‪ ،‬كان‬
‫يف العلم والعمل والزهد والتقوى والورع والعبادة والرياضة من الطراز األ ّول بني‬
‫األ ّولني واآلخرين»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشرعية‬ ‫اجتناب الحقوق‬
‫الرشتي صاحب كتاب «بدائع األفكار» والذي كان‬
‫ّ‬ ‫جاء يف سرية املريزا حبيب الله‬
‫األنصاري‪:‬‬
‫ّ‬ ‫من تالمذة الشيخ‬
‫«كان معروفاً بالزهد والتقوى‪ ،‬منرصفاً عن الزخارف واالعتباريّات‪ ،‬سليم الذات‬
‫طاهر الن ّية‪ .‬كان حريصاً عىل البعد عن املرجع ّية‪ ،‬ومل يكن يرىض أن يفتي‪ ،‬وأن يقلَّد‪.‬‬
‫ومل يكن يقبل شيئاً من الحقوق الرشع ّية‪ ،‬إىل ح ّد أنّه عندما قبل مبلغاً من الشيخ جعفر‬
‫الشوشرتي عاد فقسم هذا املبلغ بني الفقراء واملحتاجني»‪.‬‬
‫ّ‬

‫نفسه‪.‬‬
‫((( املصدر السابق ُ‬
‫((( املآثر واآلثار‪ ،‬ص‪.137‬‬
‫ّ‬
‫الشيرازي‬ ‫الميرزا‬
‫‪327‬‬
‫ازي‪ ،‬أنّه‬
‫ذكر العامل املتتبّع واملحقّق الشيخ آقا بزرﮒ الطهرا ّين حول املريزا الشري ّ‬
‫معي‪ ،‬ومل يكن يسمح‬ ‫كل شخص من أفراد عائلته يف وقت ّ‬ ‫‪ M‬كان يرسل مرصف ّ‬
‫ألي منهم أن يأخذ أكرث من حقّه‪ .‬وكان يجمع الهدايا التي ت َُرسل إليه ويودعها يف بيته‬
‫ّ‬
‫الحق يف استالمها أو االحتفاظ بها(((‪.‬‬
‫مؤتَ ًنا ومل يكن ألحد من أفراد أرسته ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشيخ محمد حسن المامقاني‬
‫رشع عبارلا مسقلا‪ّ :‬ماعلا لاومألا فرص يف ىوقتلا‬

‫جاء يف سرية الشيخ مح ّمد حسن املامقا ّين ‪-‬صاحب الحاشية املعروفة عىل املكاسب‬
‫العلمي‪ ،‬كان رجالً ح ّرا ً ّ‬
‫بكل معنى الكلمة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واملتوف عام ‪1323‬هـ‪ -‬أنّه باإلضافة إىل مقامه‬
‫مل يتعلّق قلبه بزخارف الدنيا‪ ،‬ومل يكن له اهتامم يُذكَر بالطعام والرشاب واللباس وأمور‬
‫املنزل‪ ،‬ومل يرصف شيئاً من الحقوق الرشع ّية‪ ،‬ومل يكن يقبل الهدايا من الظلمة ورجال‬
‫الدولة(((‪.‬‬
‫صاحب الكفاية‬
‫جاء يف سرية الشيخ اآلخوند الخراسا ّين ‪ M‬أنّه عندما كان الت ّجار يف النجف‬
‫يستوردون األقمشة الصوف ّية الثمنية‪ ،‬وكان أوالد الشيخ يشتاقون إىل رشائها‪ ،‬ويطلبون‬
‫أي شخص أعطيكم لتشرتوا به األقمشة الصوف ّية‬‫منه املال لذلك‪ ،‬كان يقول لهم‪« :‬مال ّ‬
‫وتلبسونها؟»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫آبادي‬ ‫الشيخ محمد علي رستم‬
‫آبادي ‪-‬وهو أحد‬
‫ّ‬ ‫يل رستم‬
‫كتب الشيخ آقا بزرﮒ الطهرا ّين حول الشيخ مح ّمد ع ّ‬
‫األنصاري‪ -‬يقول‪:‬‬
‫ّ‬ ‫تالمذة الشيخ‬

‫((( مريزاي شريازي‪ ،‬ص‪.59‬‬


‫((( زندﮔـاين وشخصيت شيخ أنصاري‪ ،‬ص‪.239‬‬
‫((( مرﮔـي درنور‪ ،‬ص‪.377‬‬
‫«قبل هجريت إىل النجف بقيت لع ّدة سنوات أقتدي يف الصالة بهذا الشيخ الجليل‪،‬‬
‫‪328‬‬
‫كان ‪ M‬من عباد الله الصالحني‪ ،‬ويف منتهى الورع والتقوى‪ ،‬ومل يرصف يف شؤون‬
‫معاشه شيئاً من الحقوق الرشعيّة‪ ،‬وكان يعيش كأحد عا ّمة الناس‪ ،‬وكان يثق به العا ّم‬
‫والخاص»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫الشيخ إسماعيل السناني ‪M‬‬

‫ازي‪ .‬كتب الشيخ آقا بزرﮒ عنه قائالً‪« :‬كان‬ ‫كان ‪ M‬أحد تالمذة املريزا الشري ّ‬
‫األنصاري‪ ،‬إلّ أ ّن استفادته العلم ّية الرئيسة كانت يف محرض املريزا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يحرض درس الشيخ‬
‫وبعد أن حاز عىل درجة عالية يف العلوم الرشع ّية أرسله املريزا إىل مدينة سمنان‪ .‬ونظرا ً‬
‫إىل إحاطته بالعلوم العقل ّية والنقل ّية وفنون أخرى كثرية‪ ،‬فقد اشتهر هناك بـ«أرسطو»‬
‫وكان غاية يف التقوى واالحتياط‪ ،‬ومل يرصف شيئاً من الحقوق الرشع ّية يف أمور معاشه‪،‬‬
‫بل كان يكتفي بأجرة العبادة االستئجاريّة وبقناعة شديدة»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشيخ محمد حسين القم ّي‬
‫ازي) يف سام ّراء‪ ،‬مل يكن يرصف يف شؤونه شيئاً‬ ‫«كان من كبار تالمذة املريزا (الشري ّ‬
‫من الحقوق الرشع ّية‪ ،‬وكان يدير أمور حياته عن طريق العبادة االستئجاريّة‪ .‬ويف مجال‬
‫وصفه يجب القول باختصار‪ :‬مهام قيل يف وصفه فقد كان فوق ذلك‪ .‬وبعد وفاة املريزا‬
‫ازي‬
‫تقي الشري ّ‬ ‫بستّة أشهر عاد إىل ق ّم‪ .‬وكان ُم ِ‬
‫باحث أستاذنا آية الله املريزا مح ّمد ّ‬
‫(املعروف باملريزا الثاين والصغري) أي رشيكه يف البحث‪ .‬وكان يرتقي املنرب يف شهري‬
‫مح ّرم وصفر يف بيته ويف شهر رمضان يف مسجده»(((‪.‬‬

‫((( زندﮔـاين وشخصيت شيخ‪ ،‬ص‪.346‬‬


‫ازي فاريس‪ ،‬ص‪.113 - 112‬‬
‫((( هديّة الر ّ‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.138 - 137‬‬
‫((( املصدر ُ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العلمة الطباطبائي ‪M‬‬
‫‪329‬‬
‫العلمة حول أوضاعه املعيشيّة‪:‬‬
‫قال أحد تالمذة ّ‬
‫«كان مورده املا ّيل هو وأخوه من صغرهام منحرصا ً بقطعة أرض زراع ّية يف قرية‬
‫العلمة يقول‪« :‬هذه األرض‬ ‫«شادآباد» بتربيز‪ ،‬انتقلت إليهام إرثاً من أجدادهام‪ .‬كان ّ‬
‫ملك مطلق آلبائنا وأجدادنا»‪ .‬وكانت وسيلتهام الوحيدة لشؤون‬ ‫منذ ‪ 270‬سنة هي ٌ‬
‫معاشهام عن طريق الزراعة‪ ،‬ولو أنّها اغتُصبت منهام النقطع موردهام املا ّيل نهائ ّياً‪.‬‬
‫رشع عبارلا مسقلا‪ّ :‬ماعلا لاومألا فرص يف ىوقتلا‬

‫مل يكن ‪ M‬يقبل سهم اإلمام عىل اإلطالق‪ ،‬ومن الواضح أ ّن مستوى معيشته‬
‫أقل من املستوى؛ أل ّن مثل‬ ‫‪-‬فيام إذا انقطع هذا املورد من األرض الزراع ّية ‪ -‬سيكون ّ‬
‫األقل يأخذ شيئاً من سهم اإلمام‪،‬‬
‫يص ْل إليه من وطنه يشء فهو عىل ّ‬ ‫هذا الطالب إذا مل ِ‬
‫يصل إليهام من أرضهام الزراع ّية؟ إنّه ‪-‬إذا وصل‪-‬‬
‫ث ّم ما هي قيمة ذلك املبلغ الذي كان ُ‬
‫مبقدار تأمني االحتياجات الرضوريّة للحياة‪ ،‬ومبنتهى التوفري والقناعة»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫دقة قليلة النظير‬
‫ويس‪ ،‬حول تقواه العجيبة يف رصف األموال‬ ‫ذكر أصدقاء ومعارف الشهيد الجليل ق ّد ّ‬
‫العا ّمة أمورا ً هي يف ح ّد ذاتها عربة‪ .‬وهذا بعضها‪« :‬من جملة خصائصه ورعه وتقواه‬
‫واحتياطه يف جميع األمور‪ ،‬يف األمور املال ّية مل يكن يستفيد أبدا ً من التسهيالت املال ّية‬
‫يف الحوزة‪ ،‬ومل يكن يأخذ الشهريّة‪ ،‬وكان يدير شؤون مرصفه من أمالكه التي ورثها‪،‬‬
‫رغم أنّه كان أحياناً يحتاج إىل االقرتاض‪ ،‬فلم يكن يقرتض م ّمن اختلطت أمواله بشهريّة‬
‫ومراتب الحوزة‪.‬‬
‫كان يتألّم كثريا ً من إتالف الوقت وإتالف الطاقة وإتالف املمتلكات‪ ،‬حتّى دبّوس‬
‫أو ورقة‪ .‬بعد تجديد بناء املدرسة الحقّان ّية وتجهيزها بالتدفئة املركزيّة‪ ،‬كانت غرف‬
‫الصفوف غالباً دافئة مريحة‪ ،‬أ ّما مكتبه ‪ -‬وكان مدير املدرسة ومسؤولها‪ -‬فكان باردا ً‪،‬‬

‫((( مهرتابان‪ ،‬ص‪ 57‬بترصف‪.‬‬


‫وعندما سألته عن السبب قال‪« :‬عندما أكون وحيدا ً فال رضورة لتدفئة غرفة بهذا‬
‫‪330‬‬
‫شخيص دفع مقابل‬
‫ّ‬ ‫الحجم من أجيل وحدي»‪ .‬كان إذا استعمل هاتف املدرسة لشأنٍ‬
‫ذلك من جيبه‪ .‬وماذا أقول يف هذا اإلنسان‪ ،‬كيف عاش؟ وكيف أرسع إىل لقاء الله؟»‪.‬‬
‫والخاص‪ ،‬وكان معروفاً‬
‫ّ‬ ‫ويس بهذه الخصوص ّية عىل لسان العا ّم‬
‫«كان الشهيد ق ّد ّ‬
‫أنّه يتش ّدد غاية التش ّدد يف رصف «بيت املال» للحيلولة دون املصاريف غري‬
‫الرضوريّة‪ ،‬رعاية لالحتياط‪ .‬رغم أ ّن البعض كانوا يعرتضون عليه‪ ،‬بأ ّن هذا املنحى‬
‫يحول دون القيام ببعض الخطوات الرتفيه ّية واإلصالح ّية‪ ،‬ويتس ّبب بظهور مشاكل‬
‫اعتيادي‪ّ .‬إل أ ّن امله ّم يف األمر هو طريقة تعامل مسؤول‬
‫ّ‬ ‫وعقبات حركة األمور بشكل‬
‫حكومي (امل ّدعي العا ّم للثورة) مع بيت املال‪ ،‬فقد كان له دور بارز يف حفظ بيت‬ ‫ّ‬
‫الخاص َّية‬
‫ّ‬ ‫مال املسلمني واستثامره يف املكان املناسب ويف حدود الرضورة‪ ،‬وهذه‬
‫خاصة‪ -‬هي التي مكّنت من جمع كثري من اللوازم واآلالت العائدة إىل‬ ‫‪-‬وبكياسة ّ‬
‫بيت املال والتي كانت مبعرثة مع ّرضة للتلف‪ .‬إ ّن الدرس الذي تعلّمته من هذه‬
‫خاص هو إرصار عىل االبتعاد عن الرفاهية‪،‬‬ ‫الروح الكبرية يف هذا املجال بشكل‪ّ ،‬‬
‫رصا ً عىل أ ّن‬
‫والحذر من اإلحساس بالراحة الشخص ّية عىل حساب بيت املال‪ .‬كان م ّ‬
‫رصفه‬ ‫بكل وجوده أ ّن ما هو بت ّ‬ ‫من يستعمل شيئاً من بيت املال‪ ،‬يجب أن يعيش ّ‬
‫ملك للضعفاء واملظلومني الذين ال تصل أيديهم إليه‪ ،‬يجب أن يعيش ذلك حتّى‬
‫كل جزء من أجزاء القرش‪ ،‬حتّى ال يُبتَ َل ‪-‬ال سمح‬ ‫يصبح ُملْكًا له ويراعيه عند رصف ّ‬
‫الله‪ -‬بالغرق يف املعايص ويزول من ذهنه قبح اإلرساف»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫السيد محمد باقر الدرﭼـه اي‬ ‫آية اهلل‬
‫قال أحد تالمذته‪« :‬كان هذا العامل الجليل آية عظمى يف العلم والورع والتقوى‪ .‬كان‬
‫النبي األكرم واألمئّة املعصومني ‪ R‬يف البساطة وصفاء الروح وعدم‬ ‫بحق وارث ّ‬ ‫ّ‬
‫االكرتاث باألمور الدنيويّة‪ ،‬كأنّه مالك هبط من العرش إىل الفرش‪ ،‬وخالط الخالئق‬

‫((( يادنامۀ شهيد آيت الله قدوس‪ ،‬ص‪ 55‬و‪ 91 - 90‬و‪.108‬‬


‫لرتبيتهم‪ .‬رأيته مرارا ً وقد جاؤوه مببالغ طائلة ومن سهم اإلمام فلم يقبل دينارا ً‪ ،‬مع ّأن‬
‫‪331‬‬
‫كنت أعلم أنّه مل يكن ميلك أكرث من أربعة أو خمسة شاهيات سود(((‪ .‬عندما سألته‬
‫ولدي مرصف غدي‪ ،‬وال أدري ماذا‬ ‫عن السبب قال‪« :‬أنا اآلن بحمد الله لست مديناً‪ّ ،‬‬
‫بعد غد‪ ،‬وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ً؛ لذلك فإذا قبلت سهم اإلمام فقد تضيع‬
‫حقوق الفقراء»‪ .‬رأيت ذات م ّرة أنّهم جاؤوه بأربعمئة أو خمسمئة توماناً‪ ،‬كانت‬
‫تعادل أربعمئة ألف أو خمسمئة ألف توماناً يف زماننا هذا‪ ،‬فلم يأخذ منها ّإل ع ّدة‬
‫رشع عبارلا مسقلا‪ّ :‬ماعلا لاومألا فرص يف ىوقتلا‬

‫رياالت واستوائها‪.‬‬
‫كان إذا أكل لقمة مشتبهة‪ ،‬وضع إصبعه فورا ً يف حنجرته حتّى يقيئها‪ .‬رأيت‬
‫هذا بالخصوص منه ذات م ّرة كام ييل‪ :‬دعاه أحد الت ّجار األثرياء مع عدد من‬
‫والطلب‪ ،‬وم ّد سفرة وسيعة أنيقة مكلفة عليها أنواع األطعمة‪ ،‬وكعادته‬ ‫ّ‬ ‫العلامء‬
‫‪ M‬اكتفى بتناول مقدار قليل من الطعام‪ .‬وبعد االنتهاء من تناول الطعام وغسل‬
‫األيدي‪ ،‬ق ّدم صاحب الدعوى للسيد سندا ً يتض ّمن أمرا ً حراماً بحسب فتواه‪ ،‬وطلب‬
‫منه أن يوقّع عليه‪ .‬أدرك ‪-‬رضوان الله عليه‪ -‬أ ّن هذه الوليمة كانت مق ّدمة إلمضاء‬
‫هذا السند‪ .‬إ ّن فيها إذا ً شبهة الرشوة‪ّ ،‬‬
‫فتغي لونه وارتعدت فرائصه وقال‪« :‬أيّة اساءة‬
‫أسأتها إليك حتّى وضعت يف حلقي هذا الزقوم؟ ملاذا مل ِ‬
‫تأت بهذا السند قبل الغداء‬
‫حتّى ال أل ّوث يدي بهذا الطعام؟»‪ ،‬ث ّم نهض مضطرباً ومىض مرسعاً إىل املدرسة‪،‬‬
‫وجلس بجوار الحديقة املقابلة لحجرته ووضع إصبعه يف فمه حتّى استفرغ‪ ،‬ث ّم‬
‫تنفّس الصعداء»(((‪.‬‬
‫الـﮕـزي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫نفسه عن أستاذه اآلخر الشيخ عبد الكريم‬
‫النص املتق ّدم ُ‬
‫ويقول صاحب ّ‬
‫بحق كالشيخ البها ّيئ يف عرصه‪ ،‬كانت له املرجع ّية التا ّمة يف الفتوى‬
‫«كان ‪ّ M‬‬
‫تول القضاء يف أصفهان وتوابعها مل ّدة ثالثني إىل أربعني سنة‪ ،‬فإ ّن‬
‫والقضاء‪ .‬ورغم أنّه ّ‬

‫((( الشاهي واحد النقد اإليراين قدمياً‪.‬‬


‫((( هاميئ نامه‪ ،‬ص‪.18 - 17‬‬
‫عائلته مل تكن متلك‪ ،‬ليلة وفاته‪ ،‬النفط للرساج وال لقمة الطعام‪ ،‬وقد كتب املرحوم‬
‫‪332‬‬
‫الفشاريكّ حوالة لتأمني طعام العشاء ولوازم املعيشة ألرسته‪ .‬وكنت شخصياً شاهدا ً يف‬
‫ذلك ومبارشا ً لتلك الخدمة»(((‪.‬‬

‫نفسه‪ ،‬ص‪.19‬‬
‫((( املصدر ُ‬
‫القسم الخامس عشر‬

‫بساطة العيش‬
‫‪335‬‬

‫من أوضح خصائص القادة اإلله ِّيني يف األديان السامويّة املختلفة‪ ،‬وخصوصاً اإلسالم‪،‬‬
‫ولعل باإلمكان القول إ ّن أحد‬
‫البساطة والزهد واجتناب مظاهر الرتف والكامل ّيات‪ّ .‬‬
‫رشع سماخلا مسقلا‪ :‬شيعلا ةطاسب‬

‫النبي األكرم واألمئّة املعصومني‬


‫أه ّم عوامل انشداد الناس إىل اإلسالم هو بساطة عيش ّ‬
‫‪-‬صل الله عليه وعليهم‪ -‬ومن بعدهم علامء الدين الذين ساروا عىل نهجهم واقتدوا‬ ‫ّ‬
‫بهم‪ .‬إنّها نظرة رسيعة يف مسرية املعصومني‪ ،‬وأقوالهم يف هذا املجال تجعلنا ندرك هذه‬
‫الحقيقة بعمق‪ .‬وبعد انتصار الثورة اإلسالم ّية‪ ،‬كانت إحدى املسائل التي أكّد عليها‬
‫الخميني ‪-‬رضوان الله عليه‪ -‬وأوىص بها باستمرار هي هذه‬ ‫ّ‬ ‫كثريا ً قائد الثورة اإلمام‬
‫املسألة‪ :‬اجتناب البذخ والرتف والتفات الروحان ِّيني‪ ،‬أمئَّة الجمعة‪ ،‬املسؤولني‪ ..‬إىل بساطة‬
‫وقل أن اهت ّم ‪-‬رضوان الله عليه‪ -‬مبسألة ما بهذا املستوى من اهتاممه بهذا‬ ‫العيش‪ّ .‬‬
‫واألسايس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الحيوي‬
‫ّ‬ ‫األمر‬
‫إ ّن من العوامل التي ته ّدد الثورة اإلسالميّة املق ّدسة ويُخىش ‪ -‬ال سمح الله‪ -‬أن ينهار‬
‫بالزي الروحا ّين املق ّدس‬
‫النظام بسببه من الداخل هو إقبال أشخاص معدودين يتزيّون ّ‬
‫املتجبة إللحاق‬
‫ّ‬ ‫عىل مظاهر الرفاهية والرتف‪ .‬وال يبعد أن تكون إحدى دسائس القوى‬
‫الهزمية بالثورة‪ ،‬أن تعمل عىل تعزيز هذه الظاهرة بني الروحانيِّني فتنمو وتتع ّمق؛‪.‬‬
‫ليتف ّرق الناس املض ّحون الذين يحملون روح االستشهاد تلقائيّاً عن الثورة اإلسالميّة‬
‫وينفضوا أيديهم منها‪ .‬ال يستطيع الروحا ّين أن يدعو الناس إىل بساطة العيش والزهد‬
‫يف الدنيا‪ّ ،‬إل إذا كان هو ملتزماً بذلك‪.‬‬
‫يقول أبو األسود الدؤ ّيل‪:‬‬
‫‪336‬‬
‫هـــا لنفسك كـــان ذا التعليم‬
‫ّ‬ ‫«يـــا أيّــهــا الــرجــل املــع ـلّــم غــره‬
‫يــصــح بـــه وأنــــت سقيم‬
‫ّ‬ ‫كــيــا‬ ‫تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا‬
‫أبــــدا ً وأنـــت مــن الــرشــاد عديم‬ ‫وأراك تلقح بــالــرشــاد عقولنا‬
‫فـــإذا انتهت عنه فــأنــت حكيم‬ ‫ابـــدأ بنفسك فانهها عــن َغيِّها‬
‫بــالــقــول مــنــك ويــنــفــع التعليم‬ ‫فهناك يُسمع ما تقول ويُشتفَى‬
‫(((‬
‫عــار عليك إذا فعلت عظيم»‬ ‫ال تــنــه عــن ُخــلُــقٍ وتــــأيتَ مثلَه‬

‫سيرة المعصومين‬
‫كام تق ّدمت اإلشارة‪ ،‬كان املعصومون ‪ R‬يعيشون مبنتهى البساطة يف املجال‬
‫املا ّد ّي‪ ،‬والتاريخ حافل بالشواهد عىل ذلك‪ .‬وإليك بعض النامذج‪:‬‬

‫‪ - 1‬جاء يف حديث طويل حول الزهراء‪:O‬‬


‫«‪ ...‬فنهضت والتفَّت بشملة لها َخلِ َق ٍة (بالية) قد خيطت يف اثني عرش مكاناً‬
‫الفاريس إىل الشملة وبىك وقال‪ :‬واحزناه! إ ّن‬
‫ّ‬ ‫فلم خرجت نظر سلامن‬ ‫ب َِس َع ِف النخل‪ّ ،‬‬
‫بنات قيرص وكرسى لفي السندس والحرير‪ ،‬وابنة مح ّمد ‪ P‬عليها شملة صوف َخلِ َق ٍة‬
‫قد خيطت يف اثني عرش مكاناً»‪.‬‬
‫النبي ‪ P‬قالت‪« :‬يا رسول الله إنّ سلامن تع ّجب من‬ ‫فلم دخلت فاطمة عىل ّ‬ ‫ّ‬
‫يل منذ خمس سنني ّإل َم ْس ُك كبش نعلف‬ ‫بالحق مايل ولع ّ‬
‫ّ‬ ‫لبايس‪ :‬فوالذي بعثك‬
‫عليه بالنهار بعرينا‪ ،‬فإذا كان الليل افرتشناه‪ ،‬وإنّ ِمرفق َتنا ملن أَ َد ٍم َحشْ ُوها ليف‪،‬‬
‫النبي ‪« :P‬يا سلامن إنّ ابنتي لفي الخيل السوابق‪.(((»...‬‬ ‫فقال ّ‬

‫((( رشح شذر الذهب‪ ،‬ص‪.238‬‬


‫((( البحار‪ ،‬ج‪ ،43‬ص‪.88‬‬
‫يل ‪ Q‬أنّه قال‪:‬‬
‫ويروي ابن سعد يف طبقاته بسنده عن ع ّ‬
‫‪337‬‬
‫«لقد تز ّوجت فاطمة وما يل ولها فراش غري جلد كبش ننام عليه بالليل‪ ،‬ونعلف‬
‫عليه ِ‬
‫الناض َح بالنهار‪ ،‬وما يل ولها خادم غريها(((‪.‬‬
‫ورغم هذه القناعة‪ ،‬وهذا الزهد‪ ،‬فقد دخل رسول الله ‪ P‬عليها البيت «‪...‬‬
‫يل بن أيب طالب ‪ Q‬اشرتاها لها من يفء له‬ ‫ويف عنقها قالدة من ذهب كان ع ّ‬
‫النبي ‪« :P‬ال يغرنّك الناس أن يقولوا بنت مح ّمد وعليك لباس الجبابرة»‬ ‫فقال ّ‬
‫رشع سماخلا مسقلا‪ :‬شيعلا ةطاسب‬

‫فس رسول الله ‪ P‬بذلك»(((‪.‬‬


‫فقطعتها وباعتها واشرتت بها رقبة‪ ،‬فأعتقتها ُ َّ‬

‫‪ - 2‬وروى الصدوق يف أماليه‪:‬‬


‫النبي ‪ P‬إذا قدم من سفر بدأ بفاطمة ‪ O‬فدخل عليها فأطال عندها‬ ‫كان ّ‬
‫املكث‪ ،‬فخرج م ّرة يف سفر فصنعت فاطمة ‪ O‬مسكتني من ورق (سوارين أو‬
‫خلخالني من فضّ ة) وقالدة وقرطني وسرتا ً لباب البيت لقدوم أبيها وزوجها ‪.L‬‬
‫فلم قدم رسول الله ‪ P‬ودخل عليها‪ ،‬فوقف أصحابه عىل الباب ال يدرون يقفون‬ ‫ّ‬
‫الغضب يف‬
‫ُ‬ ‫أو ينرصفون لطول مكثه عندها‪ ،‬فخرج إليهم رسول الله ‪ P‬وقد ُعر َِف‬
‫وجهه حتّى جلس عند املنرب فظ ّنت فاطمة ‪ O‬أنّه إنّ ا فعل ذلك رسول الله ‪ P‬مل ّا‬
‫والس ْت‪ ،‬فنزعت قالدتها وقُ ْرطَ ْيها و َم َس َكتَ ْيها‪ ،‬ونزعت‬
‫رأى من امل ََس َكتَ ْ ِي والقالدة والقرطني ِّ‬
‫الس ْت‪ ،‬فبعثت بها إىل رسول الله ‪ P‬وقالت للرسول‪« :‬قل له تقرأ عليك ابنتك السالم‬ ‫ِّ‬
‫فلم أتاه قال‪« :‬فعلت فداها أبوها ‪-‬ثالث م ّرات‪-‬‬ ‫وتقول‪ :‬اجعل هذا يف سبيل الله»‪ّ .‬‬
‫ليست الدنيا من مح ّمد وال من آل مح ّمد ولو كانت الدنيا تعدل عند الله من‬
‫ثم قام فدخل عليها»(((‪.‬‬
‫الخري جناح بعوضة ما سقى فيها كافراً رشبة ماء ّ‬

‫((( طبقات ابن سعد‪ ،‬ص‪.13‬‬


‫((( البحار‪ ،‬ج‪ ،43‬ص‪.2‬‬
‫((( البحار‪ ،‬ج‪ ،43‬ص‪ ،20‬وهذه الرواية والتي قبلها ال ميكن القبول بهام عىل ظاهرهام‪ ...‬بل ال ب ّد من حملهام ‪-‬عىل‬
‫فرض ِص َّحتهام‪ -‬مع عظمة الزهراء ‪ O‬التي يرىض الله لرضاها‪ ...‬أن ّكثريا ً من غري املعصومني‪ .‬يف زمن رسول الله‬
‫‪ P‬واألزمنة األخرى ال يقبلون عىل حكام الدنيا‪ ...‬فكيف بصاحبة القصة الواجبة صلوات الله عليها؟! (املع ِّرب)‪.‬‬
‫يل ‪ Q‬يشري أحياناً يف خطبه ورسائله إىل بساطة عيشه ويقول‪:‬‬
‫‪ - 3‬كان ع ّ‬ ‫‪338‬‬
‫أ ‪« -‬والله لقد رقعت مدرعتي هذه‪ ،‬ح ّتى استحييت من راقعها‪ ،‬ولقد قال يل‬
‫السى(((‪.‬‬
‫قائل‪ :‬أال تنبذها عنك؟ فقلت اعزب ع ّني‪ ،‬فعند الصباح يحمد القوم ُّ‬
‫بقرص ْيه‪ ،‬فوالله ما كنزت‬
‫بط ْم َريْه ومن طعمه َ‬ ‫ب ‪ّ -‬أل وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه ِ‬
‫من دنياكم ترباً وال ا ّدخرت من غنامئها وفراً وال أعددت لبايل ثويب طمراً‪ ،‬وال حزت من‬
‫أرضها شرباً‪ ،‬وال أخذت منه ّإل كقوت أتان دبرة‪ ،‬ولَه َِي يف عيني أوهى وأهونُ من عفص ٍة‬
‫مقرة‪ ،‬ولو شئت الهتديت الطريق إىل مصفّى هذا العسل‪ ،‬ولباب هذا القمح ونسائج‬
‫تخي األطعمة»(((‪.‬‬
‫هذا الق ّز‪ ،‬ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودين جشعي إىل ُّ‬
‫ّ‬
‫الخميني‪:‬‬ ‫*توجيهات اإلمام‬
‫الخميني { حيث يقول‪:‬‬
‫ّ‬ ‫وهذه مناذج من توجيهات اإلمام‬
‫أقل من أن‬ ‫أ ‪« -‬أيّها الروحان ّيون‪ ،‬أنتم الدعاة إىل اتِّباع حرضة أمري املؤمنني ‪ Q‬فال ّ‬
‫تتأ ّملوا قليالً يف سرية ذلك العظيم‪ ،‬لرتوا هل إنّكم واقعاً تقتدون به يف مجال ما؟ هل‬
‫أي مظهر من مظاهر الكامل ّيات‪،‬‬ ‫تعرفون شيئاً عن زهده؟ بساطة عيشه الخالية من ّ‬
‫وهل تط ّبقون شيئاً من ذلك؟‬
‫ب ‪ -‬الشعب يتوقّع أن تكونوا أنتم أيّها الروحان ّيون مؤ ّدبني باآلداب اإلسالم ّية‪ ،‬أن‬
‫تكونوا حزب الله‪ ،‬أن تجتنبوا بهارج الدنيا وزخارفها ومظاهرها الزائفة‪.‬‬
‫ج ‪ -‬إ ّن مسؤول ّيتكم ثقيلة ج ًّدا‪ ،‬واجباتكم تختلف عن واجبات عا ّمة الناس‪ .‬ما أكرث‬
‫األمور املباحة لعا ّمة الناس‪ّ ،‬إل أنّها ليست مباحة لكم‪ ،‬وقد تكون حراماً‪.‬‬
‫كثري من األمور املباحة ال يتوقّع الناس صدورها عنكم‪ ،‬فضالً عن األعامل الوضيعة الالمرشوعة‬
‫التي إذا صدرت عنكم ‪-‬ال سمح الله‪ -‬فإنّها تيسء إىل نظرة الناس إىل اإلسالم والروحان ّية‪.‬‬

‫((( نهج البالغة‪ ،‬ص‪.160‬‬


‫((( نفس املصدر‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،45‬والحظ‪ ،‬خ‪ ،113‬وخ‪.103‬‬
‫د ‪ -‬يجب أن نكون ُعبادا ً أكرث فأكرث‪ ،‬وأن نعرض عن حطام الدنيا‪ .‬أنتم‪ ،‬أيّها السادة‪ ،‬يجب‬
‫‪339‬‬
‫أن تُ ِع ّدوا أنفسكم لحفظ األمانة اإلله ّية‪ .‬كونوا أمناء‪ ،‬قلّلوا من قيمة الدنيا يف نظركم‪.‬‬
‫ال تستطيعون طبعاً أن تكونوا مثل حرضة األمري ‪ Q‬الذي كان يقول‪« :‬ألل َف ْي ُتم‬
‫دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» لكن أعرضوا عن حطام الدنيا(((‪.‬‬
‫وكل‬
‫تخص جميع الروحان َّيني ّ‬ ‫هـ ‪ -‬من أه ّم املسائل التي يجب أن أذكّر بها‪ ،‬مسألة ّ‬
‫املعن ّيني بشؤون البلد‪ ،.‬وأنا قلق منها دامئاً‪ ،‬وهي أن ال ينزعج هؤالء الناس الذين‬
‫رشع سماخلا مسقلا‪ :‬شيعلا ةطاسب‬

‫بكل ما ميلكون من أجل اإلسالم وكانت لهم امل ّنة بذلك علينا ‪-‬أن ال ينزعجوا‬ ‫ض ّحوا ّ‬
‫م ّنا‪ -‬بسبب أعاملنا؛ ذلك أل ّن ما كان يتوقّعه الناس م ّنا‪ ،‬وهم يتوق ّعونه اآلن‪ ،‬ومن‬
‫أجله اتّبعوين واتّبعوك ‪ -‬هو كيف ّية معيشة أهل العلم‪ .‬إذا رأى الناس ‪-‬ال سمح الله‪-‬‬
‫غيوا ما هم عليه‪ ،‬بنوا عامرة‪ ،‬وتر ّددهم ‪-‬ذهابهم ومجيؤهم‪-‬‬ ‫أ ّن السادة الروحان ّيني َّ‬
‫ليس متناسباً مع شأن الروحان ّية‪ ،‬ففقد الناس ما يحملونه يف قلوبهم تجاه الروحان ّية‬
‫‪-‬من احرتام وإكبار‪ -‬فإ ّن فقد هذا وزوال اإلسالم والجمهوريّة اإلسالم ّية عىل ح ّد سواء‪.‬‬
‫طبعاً ال ب ّد من التذكري بأ ّن األفراد القالئل الذين هم يف معرض الخطر يجب أن‬
‫يحفظوا أنفسهم‪ ،‬إلّ أ ّن هؤالء أنفسهم يجب أن ينتبهوا فال يزيد األمر عىل الح ّد‬
‫الطبيعي‪ .‬ال تظ ّنوا أنّكم إذا خرجتم بع ّدة س ّيارات يتعاظم اعتباركم عند الناس‪ .‬نحن‬ ‫ّ‬
‫يجب أن نحفظ أولئك الذين حفظوا اإلسالم والجمهوريّة اإلسالم ّية‪ ،‬والذين سيحفظونهام‬
‫يف ما بعد بأن تكون أوضاعنا املعيش ّية عاديّة‪.‬‬
‫أولئك الذين يريدون حفظ أنفسهم (أمن ّياً) يجب أن يعلموا أنّهم أحياناً ميكنهم‬
‫قض عليهم إذا كان تر ّددهم‬ ‫ذلك بوساطة أخرى‪ ،‬وأمئّة الجمعة والجامعة الذين قد يُ َ‬
‫الرضوري‪ ،‬كأن يقام بإخالء الشارع‬
‫ّ‬ ‫عاديّاً‪ ،‬يجب أن ال تزيد احتياطاتهم األمن ّية عن الح ّد‬
‫من املا ّرة وينطلق الضجيج والعجيج أل ّن إمام جمعة يريد أن مي ّر‪ ،‬مثل هذه األمور‬
‫تسقط شأنهم يف املجتمع‪.‬‬

‫((( هذه النصوص من «الجهاد األكرب» لإلمام {‪.‬‬


‫ليست عظمتكم‪ ،‬أيّها السادة‪ ،‬بالدنيا‪ .‬عظمتكم باآلخرة‪ ،‬وبأن يكون لكم ماء وجه‬
‫‪340‬‬
‫وكرامة عند الله‪ .‬وهذه مسألة مه ّمة تسهم يف حفظ الجمهوريّة اإلسالم ّية‪ ،‬ويجب‬
‫التن ّبه لها كثريا ً‪ .‬وعىل أهل العلم ومجلس الوزراء واملسؤولني‪ ،‬املزيد من االنتباه؛ أل ّن‬
‫كل مكان(((‪.‬‬
‫الجميع يبحثون عن نقطة ضعف يف أهل العلم ليطرحوها يف ّ‬
‫و‪ -‬املسألة األخرى مسألة الترشيفات (مظاهر البذخ) يف أوساط الروحان ّيني التي أخذت‬
‫تزداد‪.‬‬
‫عندما تزداد الترشيفات يغيب املحتوى‪ ،‬عندما تكرث البنايات والس ّيارات واآلالت‬
‫والتجهيزات‪ ،‬فإ ّن ذلك يلحق رضرا ً بالبنية الفقه ّية لإلسالم‪ ،‬مبعنى أنّه بهذه الزخارف‬
‫(األنصاري) وصاحب «الجواهر»‪ .‬هذا‬
‫ّ‬ ‫ال ميكن أن يق ّدم للمجتمع مثل الشيخ مرتىض‬
‫يحمل عىل القلق‪ ،‬وواقعاً‪ ،‬ال أدري كيف أواجه هذا الوضع‪.‬‬
‫هذه الترشيفات تؤ ّدي إىل هزمية الروحان ّية‪ .‬عندما نقارن األوضاع املعيش ّية‬
‫لصاحب الجواهر باألوضاع املعيشية للروحان ّيني اليوم ندرك أيّة رضبة نو ّجهها إىل‬
‫أنفسنا‪ ،‬بأيدينا(((‪.‬‬
‫األنصاري وكيف كانت‪ ،‬لوال ذلك ملا استطاع‬
‫ّ‬ ‫ز ‪ -‬لقد سمع الكثريون عن حياة الشيخ‬
‫األجلء‪ ،‬وملا استطاع أن يق ّدم للمجتمع تلك الكتب الق ّيمة‪.‬‬
‫الطلب ّ‬ ‫يرب أولئك ّ‬‫أن ّ‬
‫صاحب «الجواهر» ألّف كتاباً لو اجتمع مئة شخص فقد يعجزون عن تأليفه‪ .‬مل‬
‫يكن من سكّان القصور‪ ،‬كان منزله متواضعاً‪ ،‬يُفتَح باب إحدى غرفه عىل دهليز‬
‫يهب منه نسيم حا ّر‪ .‬وكان منشغالً بتحرير «الجواهر» يف مثل هذا الج ّو‪.‬‬‫طويل‪ ،‬كان ّ‬
‫هذه األمور ال يستطيعها شخص متعلّق بالبطن بالشهوات‪ ،‬مبال الدنيا ونوالها‬
‫الطبيعي أن ال يستطيع‪ .‬وهو كالكيف ّية يف التحصيل‬
‫ّ‬ ‫وجاهها وأمثال ذلك‪ ...‬إ ّن من‬
‫(فإنّكم كلّام زاد اهتاممكم بالتج ّمالت والكامل ّيات) وإن شاء الله ال تهت ّمون ‪ -‬فإ ّن‬

‫((( جريدة كيهان الفارس ّية‪ ،‬العدد ‪ ،498‬ص‪ 28/ 12‬ش ّوال ‪1405‬هـ‪.‬‬
‫((( كيهان‪ ،‬ص‪1363 ،612‬هـ‪.‬ش‪.‬‬
‫علومكم تنقص‪.‬أولئك الذين كتبوا تلك الكتب الضخمة والق ّيمة كانت حياتهم حياة‬
‫‪341‬‬
‫األنصاري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الطلب‪ ،‬مثل الشيخ‬
‫ّ‬
‫يجب أن تكون حياة الروحان ّيني بسيطة‪ .‬الذي حفظ الروحان ّية وجعلها تتط ّور‬
‫هو هنا‪ ،‬بساطة العيش‪ .‬أولئك الذين كانوا منشأ آثار كبرية يف الحياة التزموا ببساطة‬
‫العيش‪ ،‬أولئك الذين كانوا مو ّجهني لدى الناس وكان الناس يلتزمون بتعاليمهم التزموا‬
‫ببساطة العيش‪ .‬كلّام مشَ ْي َت خطوة واحدة باتّجاه أن يكون بيتك أحسن‪ ،‬نقص من‬
‫رشع سماخلا مسقلا‪ :‬شيعلا ةطاسب‬

‫نفسه‪ .‬قيمة اإلنسان ليس بالبيت وال بالحديقة‪ ،‬لو‬ ‫معنويّتك‪ ،‬من قيمتك مبقدار ذلك ِ‬
‫كانت قيمة اإلنسان مبثل هذا الهت ّم به األنبياء‪ .‬قيمة اإلنسان ليست بأن يكون له‬
‫ضجيج وعجيج‪ ،‬وس ّيارة فخمة‪ ،‬أن يكون كثري الذهاب واإلياب‪ ،‬قيمة الروحان ّية ليست‬
‫بأن يكون للروحا ّين جهاز ومكتب ومفكّرة‪.‬‬
‫لقد أرسل العلامء من الطراز األ ّول املرحوم املد ّرس إىل طهران‪ ،‬فاشرتى عربة تج ّرها‬
‫داب ّة وكان هو يسوقها حتّى وصل إىل طهران ‪-‬من أصفهان‪ -‬ويف طهران كان بيته‬
‫متواضعاً وقد رأيته شخص ّياً وكنت أذهب إىل بيته ‪ M‬وت ّ‬
‫رشفت بخدمته مرارا ً»(((‪.‬‬
‫بساطة عيش اإلمام‬
‫خواصه ‪-‬رضوان الله عليه‪:-‬‬
‫يقول بعض ِّ‬
‫«أ ‪ -‬كان الح ّر يف النجف شديدا ً ج ّدا ً‪ ،‬وكانت تصل درجة الحرارة أحياناً إىل ‪ 50‬درجة‪.‬‬
‫وذات يوم ذهبت مع عدد من اإلخوة إىل اإلمام وقلنا‪« :‬س ّيدنا‪ ،‬الح ّر شديد وأنت‬
‫ُم ِس ّن‪ ،‬ومبا أ ّن ج ّو الكوفة معتدل فلامذا ال تذهب إليها كام يذهب اآلخرون؟»‪ ،‬قال‬
‫يف الجواب‪« :‬وكيف أذهب إىل الكوفة من أجل برودة هوائها وإخواين يف إيران يف‬
‫السجن؟»(((‪.‬‬

‫((( هذه النصوص من مجلة (حوزة) األعداد ‪.10 ،7 ،6‬‬


‫((( فرازهايئ أز أبعاد روحي‪ ،‬ص‪.69‬‬
‫ب ‪ -‬عندما كان اإلمام يف ضاحية باريس‪ ،‬وظهرت أزمة نفط يف إيران فلم يعد‬
‫‪342‬‬
‫باستطاعة الناس تدفئة بيوتهم ّإل مبشقّة وعرس‪ .‬قال اإلمام‪« :‬أتركُوا غرفتي بدون‬
‫تدفئة مواسا ًة للناس»(((‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أتذكّر أ ّن شخصاً جاء إىل اإلمام وأراه عباءته املم ّزقة قائالً‪« :‬إ ّن عباءيت مم ّزقة‬
‫فساعدين»‪ .‬فتناول اإلمام عباءته‪ ،‬وقال له‪« :‬انظر إ ّن عباءيت أيضاً مم ّزقة»(((‪.‬‬
‫يل من البيت‬ ‫د ‪ -‬ذات م ّرة ذهب اإلمام إىل كربالء للزيارة‪ ،‬ودخلت أنا إىل القسم الداخ ّ‬
‫حب االستطالع إىل معرفة ما يف ب ّراد‬ ‫لعمل ما‪ ،‬ومل تكن الخادمة موجودة‪ ،‬فدفعني ّ‬
‫اإلمام‪ .‬دخلت إىل املطبخ وفتحت ال ّرباد فإذا فيه «كاسة» فيها جنب ورشيحة بطيخ(((‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬يف البداية عندما جاء اإلمام إىل النجف مل يكن يرىض برشاء امل ّربدة للبيت‪ .‬وبعد‬
‫إرصار أحد اإلخوة وقوله‪« :‬س ّيدنا الحياة يف هذا الج ّو الحا ّر غري ممكنة بدون‬
‫مك ّيف‪ .‬إ ّن من يف البيت ال يتح ّمل»‪ .‬عندها وافق اإلمام عىل رشاء جهاز تربيد‪.‬‬
‫كذلك بعد ألف محاولة وافق اإلمام عىل رشاء ع ّدة بطّانيات‪ .‬أتذكّر أ ّن القسم‬
‫الخارجي من بيت اإلمام (ال ّرباين) قد أصبح خربة‪ ،‬فقال املرحوم إرشاقي لإلمام‪:‬‬ ‫ّ‬
‫«أعطوا لهذا البيت رونقاً‪ ،‬أصلحوه»‪ .‬قال اإلمام‪« :‬أنا ال أستطيع أن أرصف يف ذلك‬
‫من بيت املال»‪ .‬قال املرحوم إرشاقي ‪-‬صهر اإلمام‪« :-‬أنا أدفع من مايل»‪ .‬وعندما‬
‫ذهب اإلمام إىل كربالء اغتنمنا الفرصة فأصلحنا غرفة ال ّرباين ووضعنا يف أطرافها‬
‫ع ّدة فرش‪ .‬عندما رجع اإلمام ورأى ذلك‪ ،‬قطّب حاجبيه وقال‪ :‬وافقت معكم عىل‬
‫إعطاء البيت رونقاً ما ولكن ليس إىل هذا الح ّد‪ .‬هذا مع أنّنا مل نكن قد فعلنا شيئاً‬
‫كل ما يف األمر أنّا أضفنا الفرش التي اخرتنا قامشها من‬ ‫يُذكَر‪ ،‬البساط بقي نفسه‪ّ .‬‬
‫النوع الرخيص ج ّدا ً»(((‪.‬‬

‫((( تفسري آفتاب‪ ،‬ص‪ 406‬الهامش‪.‬‬


‫((( فرازهايئ‪ ،‬ص‪.70‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.74 - 73‬‬
‫((( املصدر ُ‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.75‬‬
‫((( املصدر ُ‬
‫وقال األجانب‪:‬‬
‫‪343‬‬
‫«‪ ...‬نحن اآلن بني يدي آية الله يف غرفة مبساحة ‪ ،2×2‬ونحن يف بيت يقع يف‬
‫أبعد أحياء النجف‪ ،‬املدينة التي هي من حيث الوضع الجغرا ّيف إحدى أسوأ املناطق‬
‫العراق ّية‪ ،‬يف منعطف إحدى أزقّة النجف الض ّيقة‪ ،‬حيث يشت ّد تالصق البيوت ببعضها‬
‫الخميني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لتشكّل درعاً يف مقابل حرارة الشمس املحرقة‪ .‬يقع املنزل املتواضع آلية الله‬
‫هذا املنزل يشبه مسكن أش ّد الناس يف النجف فقرا ً‪ .‬يف الغرف الثالث لهذا البيت يقيم‬
‫رشع سماخلا مسقلا‪ :‬شيعلا ةطاسب‬

‫حوايل اثني عرش شخصاً من أقرباء آية الله»(((‪.‬‬


‫وقبل انتصار الثورة بقليل‪ ،‬قال أحد العلامء‪:‬‬
‫الخميني‪ ،‬ونعاله‪ ،‬وطعامه البسيط الذي ال يتجاوز يف اليوم‬
‫ّ‬ ‫«واليوم‪ ،‬ثوبا آية الله‬
‫والليلة ك ّفاً من خبز وقليالً من لنب‪ ،‬وبطاطا‪ ،‬وع ّدة مترات‪ ،‬تحطّم أساس ديكتاتوريّة‬
‫الفرنيس يعرض حياته للناس‪ ،‬كانت املسيح ّية‬
‫ّ‬ ‫عمرها ‪ 25‬سنة‪ .‬عندما كان التلفزيون‬
‫تهت ّز‪ ،‬وخصوصاً الكاثوليك ّية التي تعرف الترشيفات املف ّخمة لبالط البابا‪ ،‬وكانت الدعوة‬
‫تشق طريقها»(((‪.‬‬‫إىل اإلسالم ّ‬
‫خواص اإلمام‪:‬‬
‫وأ ّما بعد انتصار الثورة‪ ،‬فيقول أحد ّ‬
‫عندما كان اإلمام يف مستشفى القلب بطهران‪ ،‬قال‪« :‬ذات يوم‪ ،‬يجب أن أخرج من‬
‫ج ّو املستشفى‪ ،‬هذا الج ّو يزيد يف مريض‪ ،‬وإذا مل ته ّيئوا املكان البديل فسأتدبّر األمر‬
‫بنفيس»‪.‬‬
‫كانت هناك ع ّدة أمور ال ب ّد من رعايتها يف خروج اإلمام من املستشفى؛ فذهابه‬
‫إىل ق ّم غري وارد‪ ،‬أ ّما يف طهران فإ ّن األطبّاء وافقوا عىل مغادرة اإلمام برشط أن ال‬
‫يكون مق ُّر إقامته بعيدا ً عن املستشفى‪ .‬وبعد جهد كبري‪ ،‬ت ّم استئجار منزل يف شارع‬

‫((( تفسري آفتاب‪ ،‬ص‪ ،410 - 409‬ملخصاً عن «لوموند»‪.‬‬


‫نفسه‪ ،‬ص‪.406‬‬
‫((( املصدر ُ‬
‫«دربند» مك ّونٍ من ثالث طبقات ‪ -‬الطبقة األرض ّية للحرس‪ ،‬والثانية لعائلة اإلمام‪،‬‬
‫‪344‬‬
‫والثالثة للقاءات اإلمام وبعد م ّدة من إقامة اإلمام يف هذا البيت‪ ،‬قال‪« :‬يجب أن أترك‬
‫هذا املكان‪ ،‬هذا املنزل ليس مناسباً»‪ .‬يف حني أ ّن ذلك البيت كان يصلح لشخص طهرا ّين‬
‫متوسط‪ .‬اإلشكال الوحيد يف ذلك البيت أ ّن واجهته مل ّبسة بالحجر‪.‬‬
‫ّ‬
‫قال اإلمام للس ّيد الرسو ّيل‪« :‬ابحث يل عن بيت مثل بيت أبيك»‪.‬‬
‫وبهذا بدأت املشكلّة؛ فالعثور عىل بيت قرب املستشفى‪ ،‬ومثل منزل والد الس ّيد‬
‫الرسو ّيل؛ أي من الطني مل يكن أمرا ً سهالً‪ .‬إىل أن ت ّم العثور عىل املنزل الذي استق ّر‬
‫الخاص باإلمام مك ّون من غرفتني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فيه اإلمام ‪-‬يف جامران‪ -‬مساحته ‪ 160‬مرتا ً‪ ،‬واملنزل‬
‫إحداهام للقاءات‪ ،‬والثانية لالسرتاحة والنوم‪ ،‬وأحياناً يكون عدد ز ّوار اإلمام كبريا ً‬
‫فنضط ّر إىل استعامل الغرفة الثانية‪.‬‬
‫وكان هناك بيت ملكتب اإلمام مثل بيت اإلمام ووضعت فيه ع ّدة كر ٍاس‪ ،‬وبجانب‬
‫منزل اإلمام تقع حسين ّية جامران التي ت ّربع بعض املؤمنني ببنائها‪ .‬ذات يوم‪ ،‬جاء اإلمام‬
‫الجص‪ ،‬فخرج منها مغضباً‬‫العمل يزيّنونها بأشكال هندس ّية من ّ‬ ‫إىل الحسين ّية فوجد ّ‬
‫وقال‪« :‬انتظروا ألموت وافعلوا ما شئتم»‪.‬‬
‫كل من لهم عالقة بهذه‬ ‫ورغم أ ّن إيجار املنزل كان يُدفَع‪ ،‬فقد أمر اإلمام أن يأيت ّ‬
‫البيوت ويسمع منهم ألنّه ليس مطمئناً لرضاهم‪ ،‬وفعالً جاء الجميع رجاالً ونسا ًء‬
‫رصحوا برضاهم(((‪.‬‬
‫و ّ‬
‫َ‬
‫يستبدل بزاوية السجن يف‬ ‫«نعم إ ّن اإلمام يف جميع مراحل عمره مل يشأ أبدا ً أن‬
‫طهران ‪-‬أيّام الطاغوت‪ -‬أو غرفته من الطني يف النجف‪ ،‬والحرارة املهلكة لتلك الديار‬
‫وخبزه ولبنه وسفرته الخالية‪ ،‬جا َه قرص نياوران وجالله وحشمه وخدمه»((( وعندما‬
‫عاملي‪ ،‬يستطيع أن يتن ّعم بجميع اإلمكانات املا ِّديّة‪ .‬بقيت‬
‫ّ‬ ‫أصبح أكرب وأقوى قائد‬
‫((( فرازهايئ‪ ،...‬ص‪.4/447‬‬
‫((( تفسري آفتاب‪ ،‬ص‪.169‬‬
‫بالنسقِ ِ‬
‫نفسه الذي كانت عليه يوم كان طالباً‪ ،‬غريباً‬ ‫روح ّيته وأخالقه‪ ،‬وبساطة عيشه َ‬
‫‪345‬‬
‫يف زاوية الحجرة الخربة مبدرسة دار الشفاء يف ق ّم‪.‬‬
‫مواساة الفقراء‬
‫كان صاحب «املعامل» ابن الشهيد الثاين ‪-‬رحمهام الله‪ -‬ال ي ّدخر أبدا ً ما يزيد عىل‬
‫قوته مل ّدة أسبوع مواسا ًة للفقراء واملحتاجني‪ ،‬وحرصاً عىل عدم التشبّه باألثرياء(((‪.‬‬
‫رشع سماخلا مسقلا‪ :‬شيعلا ةطاسب‬

‫وكان صدر املتألّهني يقول‪« :‬حيث إ ّن قسامً من الذنوب ينشأ من كرثة األكل‬
‫واالهتامم بالبطن‪ ،‬فيجب التقليل من الطعام»‪ .‬وكان دامئاً ير ّدد بيتاً لسعدي مضمونه‪:‬‬
‫«أَبْقِ داخلك خالياً من الطعام لرتى فيه نور املعرفة»‪ .‬وكان ‪ M‬قدوة يف قلّة الطعام؛‬
‫حيث كان يتناول يف اليوم والليلة وجبة واحدة ومل يكن طعامه يختلف عن طعام‬
‫الطلب‪ .‬ويف فصل الصيف كان يكتفي مبقدار من الفواكه أو الفالوذج (بالوده) التي‬ ‫ّ‬
‫األخالقي كان صدر املتألّهني‬
‫ّ‬ ‫كانت تكرث يف شرياز يف فصل الصيف آنذاك‪ .‬ويف املجال‬
‫أي كالم باطل مهام كان‪ ،‬ومل‬‫رجالً حسن ال ُخلُق‪ ،‬مل يُ َر أبدا ً مغضباً ومل يكن يستف ُّزه ّ‬
‫يخنه تجلّده عىل اإلطالق‪ ،‬حتّى عندما كفَّره البعض وأرادوا قتله وأجربوه عىل مغادرة‬
‫أصفهان للسكن يف قرية «كهك» من توابع ق ّم(((‪.‬‬
‫ورغم أ ّن صدر املتألّهني كان أحد أكرب علامء عرصه‪ ،‬فقد كان يعيش ببساطة‪ .‬فقد‬
‫كل شخص يحتاج إىل مراجعته يستطيع أن يتح ّدث إليه مبارشة وبدون وساطة يف‬ ‫كان ّ‬
‫أيّة ساعة من ساعات الليل والنهار‪ .‬كان ‪ M‬من العرفاء الكبار‪ ،‬وكان كسائر العرفاء‬
‫أي حاجز بينه وبني الناس‪ .‬ومع أنّه كان من‬ ‫يف عرصه والعصور املتق ّدمة‪ ،‬ال يقيم ّ‬
‫العلامء الكبار‪ّ ،‬إل أنّه مل يكن يرى لنفسه شأناً‪ ،‬كام يفعل الكثريون‪.‬‬
‫كان لبعض العلامء البارزين يف بيوتهم حاجب وكاتب‪ ،‬ومل يكن باستطاعة الناس‬
‫الوصول إىل أحدهم ّإل بعد مراجعة الحاجب والكاتب واستئذانهام‪ .‬أ ّما صدر املتألّهني‪،‬‬
‫((( ريحانة األدب‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.391‬‬
‫((( مال صدرا فيلسوف ومتفكر بزرﮒ إسالمي‪ ،‬ص‪.187‬‬
‫أي شخص أن يذهب إليه مبارشة‬
‫فلم يكن له ال كاتب وال حاجب‪ ،‬وكان باستطاعة ّ‬ ‫‪346‬‬
‫كل ما يريد ويسمع منه الجواب»(((‪.‬‬
‫ويسأله عن ّ‬
‫جاء يف كتاب «فردوس التواريخ»‪:‬‬
‫بلغ زهد الوحيد البهبها ّين ح ّدا ً بحيث إ ّن ثيابه كانت من «الكرباس الرديء» (نوع‬
‫من القامش الذي ينسج باليد) وغالباً ما كانت زوجته املك ّرمة هي التي تُه ِّيئُها وتنسجها‬
‫ومل يكن يرغب أبدا ً بألبسة الدنيا وأقمشتها‪.‬‬
‫وجاء يف «مرآة األحوال»‪:‬‬
‫مل يبال أبدا ً بجمع زخارف الدنيا التي كانت يف متناول أصغر ّ‬
‫طلبه وبأدىن التفاتة‬
‫منه‪ ،‬اعتزل الذين يكنزون الذهب‪ ،‬اجتنب معارشتهم ومحادثتهم‪ ،‬وكان يأنس بالفقراء‪.‬‬
‫يقول الشهيد مط ّهري ‪:M‬‬
‫يل‪ ،‬ومح ّمد إسامعيل‪ .‬رأى هذا العظيم زوجة‬ ‫كان للوحيد البهبها ّين ولدان‪ :‬مح ّمد ع ّ‬
‫ولده مح ّمد إسامعيل ترتدي ثياباً فاخرة‪ ،‬فاعرتض عىل ابنه‪« :‬ملاذا تشرتي لزوجتك‬
‫ت مِنَ‬ ‫ٰ‬ ‫ٱلط ّيبَ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ۡ َ ۡ َ َّ َ َ َ َّ َّ ٓ َ ۡ‬
‫مثل هذه الثياب؟»‪ ،‬أجابه‪﴿ :‬قل من حرم زِينة ٱللِ ٱل ِت أخرج لِعِبادِه ِۦ و ِ ِ‬
‫ٱلر ۡز ِ ۚق﴾؟ فهل هذه الثياب حرام؟ ومن ح ّرمها؟»‪ ،‬قال ‪« :M‬ولدي ال أقول إن ّها حرام‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ّ‬

‫بل هي حالل‪ ،‬ولك ّني أطالبك بذلك بدافع آخر‪ ،‬فأنا مرجع تقليد وزعيم هؤالء الناس‪،‬‬
‫والغني املتمكّن وغري املتمكّن‪ ،‬هناك من يلبس مثل هذه‬ ‫ّ‬ ‫وبني الناس يوجد الفقري‬
‫الثياب الفاخرة وأحسن منها‪ ،‬إلّ أ ّن الكثري من رشائح املجتمع ال يستطيعون رشاء مثل‬
‫هذه الثياب وهم يلبسون «الكرباس» (القامش الرديء)‪ .‬نحن ال نستطيع أن نجعل‬
‫الناس جميعاً قادرين عىل ارتداء مثل هذه الثياب الفاخرة‪ّ .‬إل أ ّن هناك أمرا ً نقدر عليه‪،‬‬
‫وهو مساواتهم‪ .‬إ ّن أعينهم مشدودة إلينا‪ ،‬ينظرون إلينا كقدوة‪ .‬عندما تطالب امرأة‬
‫أقل من يجد يف‬ ‫زوجها الفقري بالثياب الفاخرة‪ ،‬وهو ال يستطيع تأمني ذلك لها‪ ،‬فال ّ‬

‫بترصف يسري‪.‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪ّ 331‬‬
‫((( املصدر ُ‬
‫سريتنا ما يسلّيه ويخفّف عنه فيقول لها‪« :‬صحيح أنّنا لسنا مثل األغنياء‪ ،‬إلّ أ ّن وضعنا‬
‫‪347‬‬
‫مثل وضع الوحيد البهبها ّين‪ .‬انظري‪ ،‬إ ّن زوجة الوحيد أو زوجة ابنه تلبس مثلك»‪ .‬أعوذ‬
‫املادي عىل ما هو عليه وضع الطبقة املرفّهة والرثيّة فيفقد‬
‫ّ‬ ‫بالله من يوم يصبح وضعنا‬
‫الفقراء املسكِّن الوحيد لخواطرهم؛ لهذا السبب أقول يجب أن نعيش ز ّهادا ً؛ ليكون‬
‫زهدنا مواساة للفقراء»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫البهبهاني‬ ‫شمس الدين‬
‫رشع سماخلا مسقلا‪ :‬شيعلا ةطاسب‬

‫كان ‪ M‬من كبار تالمذة الوحيد البهبها ّين وقد جاء يف ترجمته‪:‬‬
‫كان زهده بحيث إنّه إذا بيعت جميع ثيابه التي كان يرتديها‪ ،‬ال تصل قيمتها إىل‬
‫خمسة قرانات (نصف تومان)‪ ،‬ومع ذلك كان منك ّباً ليالً ونهارا ً عىل مطالعة الكتب‬
‫الفقه ّية واألصول ّية والفلسف ّية وكتب الحديث والتفسري وغري ذلك‪ ...‬كان يقيض أكرث‬
‫أوقاته منشغالً باملطالعة‪ .‬أحياناً عندما كان يَ ُكظُّه الجوع ويضغط عليه‪ ،‬كان يرفع رأسه‬
‫َ‬
‫عن الكتاب ويلقي نظرة إىل ق ّبة اإلمام الرضا ‪ Q‬ويقرأ هذه اآلية الرشيفة‪﴿ :‬أ َّمن‬
‫ُ ُ ۡ‬
‫يب ٱل ُم ۡض َط َّر‪ ﴾...‬وكثريا ً ما كان يأتيه مال يف تلك اللحظة‪.‬‬ ‫ي‬
‫ِ‬
‫يقول تلميذه‪« :‬عندما كان املال يصل‪ ،‬كان ‪ M‬يقول‪ :‬إشرت يل منه طعاماً مخترصا ً‬
‫يس ّد الجوع وأعط الباقي للفقراء»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المحقق األعرجي ‪M‬‬

‫الكاظمي من تالمذة الس ّيد صدر الدين‬


‫ّ‬ ‫األعرجي املعروف باملق ّدس‬
‫ّ‬ ‫الس ّيد محسن‬
‫الق ّم ّي والوحيد البهبها ّين‪ .‬كان ‪ M‬عىل جانب كبري من الزهد والتقوى وبساطة‬
‫العيش‪ ،‬ومن زهده أنّه مل يكن ميلك شيئاً يضع عليه رساجه فكان يضعه عىل آج ٍّر أو‬
‫حجر(((‪.‬‬

‫للتنكابني‬
‫ّ‬ ‫القصة يف قصص العلامء‬
‫((( إحياى تفكر إسالمي‪ ،‬ص‪ 78‬وسريي ونهج البالغة‪ ،‬ص‪ ،228‬وقد أورد هذه ّ‬
‫وذكر بدالً من مح ّمد إسامعيل عبد الحسني‪ ...‬وهو الصحيح‪.‬‬
‫((( فوائد رضويّة‪ ،‬ص‪.373‬‬
‫السلاميس أنّه‬
‫ّ‬ ‫«ويف خامتة املستدرك (‪ )...‬عن العامل الجليل صاحب الكرامات املوىل‬
‫‪348‬‬
‫قال‪ :‬رأيت يف الطيف بيتاً عالياً رفيعاً منيعاً له باب كبري واسع وعليه وعىل جدران الدار‬
‫رس الناظرين‪ ،‬فسألت‪ :‬ملن هذه الدار؟ فقيل إنّها للس ّيد محسن‬ ‫مسامري من الذهب ت ّ‬
‫الكاظمي ‪-‬عليهام السالم‪-‬‬
‫ْ‬ ‫الكاظمي‪ ،‬فتع ّجبت من ذلك وقلت‪ :‬كانت داره يف مشهد‬ ‫ّ‬
‫متواضعة وكان بابها ض ّيقاً‪ ،‬وكذلك ِفناؤها‪ ،‬فمن أين له بهذا البناء؟ فقالوا‪ :‬عندما دخل‬
‫من ذلك الباب الحقري أعطاه الله تعاىل هذا الباب العايل الكبري‪ .‬وكان بيته ‪ M‬كام‬
‫ذكره املوىل يف املنام يف غاية الحقارة»(((‪.‬‬
‫تالله مــا لــخ ـراب الــدهــر عمران‬ ‫يا عــامـرا ً لخراب الدهر مجتهدا ً‬
‫ِ‬
‫كـــد ٌر والــوصــل هجران‬ ‫فصفوها‬ ‫ودع الــفــؤاد عن الدنيا وزخرفها‬
‫فأنت بالنفس ال بالجسم إنسان‬ ‫يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته‬
‫ّ‬
‫الشيخ األنصاري {‬

‫يقول الشهيد مط ّهري‪:‬‬


‫األنصاري ‪-‬الذي ث ُ ِنيَ ْت له وسادة مرجعيّة الشيعة عىل اإلطالق‪ -‬ال يختلف‬
‫ّ‬ ‫الشيخ‬
‫عم كان عليه حني دخل إىل النجف طالباً دزفوليّاً‪ .‬عندما يتأ ّملون‬
‫وضعه‪ ،‬عند موته‪ّ ،‬‬
‫بيته يرون أنّه يعيش كأش ّد الناس فقرا ً‪ .‬قال له أحدهم‪« :‬إنّك تقوم بعمل يثري اإلعجاب‬
‫كل هذه األموال الرشعيّة‪ ،‬وال ترصف منها شيئاً يف شؤونك‬ ‫تص ُل إليك ّ‬‫والتقدير حيث ِ‬
‫الخاصة»‪ .‬قال‪« :‬وأيّة روعة هذه؟‬
‫ّ‬
‫‪ -‬وهل فوق ما ذكرت من روعة ومهارة؟‬
‫‪ -‬إ ّن ما أقوم به عىل أكرث تقدير هو ما يقوم به مكارو كاشان (جمع مكاري الذي‬
‫الدواب) الذين يذهبون إىل أصفهان ويرجعون‪ .‬فهل رأيت مكاري كاشان‬
‫ّ‬ ‫يكري‬
‫الذين يعطيهم الناس أموالهم ليشرتوا لهم بها بضائع قد رسقوا شيئاً من تلك‬

‫بترصف‪.‬‬
‫نفسه‪ ،‬الهامش‪ّ ،‬‬
‫((( املصدر ُ‬
‫مهمً‪ .‬لقد تص ّورت أنّه أمر مه ّم»‪.‬‬
‫األموال؟ إنّهم أمناء‪ .‬إ ّن ما أقوم به ليس ّ‬
‫‪349‬‬
‫وهكذا نرى أ ّن املرجع ّية مل تستطع أن تؤث ّر سلباً مبقدار ذ ّرة يف روح هذا الرجل‬
‫العظيم»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫والكراث‬ ‫الخبز‬
‫األنصاري أنّها قالت‪:‬‬
‫ّ‬ ‫نُ ِق َل عن بنت الشيخ‬
‫رشع سماخلا مسقلا‪ :‬شيعلا ةطاسب‬

‫«يف أيّام الطفولة‪ ،‬عندما كنت أذهب إىل املدرسة كان األهايل يرسلون الطعام أحياناً‬
‫إىل املدرسة ليتناول الطالبات الطعام مع املعلِّمة‪ .‬ذات يوم قلت لوالديت إنّهم يحرضون‬
‫معهم ألوان األطعمة‪ ،‬وأنت ترسلني يل الخبز والك ّراث فقط‪ّ ،‬إن أخجل من ذلك‪ .‬سمع‬
‫الشيخ كالمي فقال منزعجاً‪ :‬من اآلن فصاعدا ً أرسيل لها خبزا ً فقط حتّى تصبح تتذ ّوق‬
‫الخبز وال ّكراث»(((‪.‬‬
‫اقي» يف «دار السالم»‪:‬‬
‫وقال «العر ّ‬
‫«رغم أنّه كان يتدفّق عليه سنويّاً أكرث من مئة ألف تومانٍ ((( من الحقوق الرشع ّية‪،‬‬
‫فقد انتقل إىل جوار الله تعاىل ومل يخلّف درهامً وال دينارا ً‪ ،‬واكتفى يف حياته ّ‬
‫بأقل ما‬
‫يُق َنع به»(((‪.‬‬
‫وجاء يف «ملعات البيان»‪:‬‬
‫«رغم أنّه كان يف غاية اإلعسار‪ ،‬فقد كان قانعاً يواجه الدهر بطالقة الوجه والبرش‪.‬‬
‫وعندما أصبح وحيد زمانه بقي عىل قناعته تلك‪ ،‬مل يوجد يف جميع أرجاء بيته ضمن‬
‫تركته ما يبلغ وزنه ع ّدة كيلوغرامات»‪.‬‬

‫((( سرية نبوي‪ ،‬ص‪.30 - 29‬‬


‫((( زندﮔـاين آخوند خراساين‪.‬‬
‫((( يعادل هذا املبلغ اليوم ع ّدة ماليني‪.‬‬
‫((( دار إسالم‪ ،‬ص‪.553‬‬
‫وجاء يف «نور اآلفاق»‪:‬‬
‫‪350‬‬
‫األنصاري ميلك أيّة ثروة‪ ،‬وكان يكتفي دامئاً ّ‬
‫بأقل ما يُق َنع به‪ ،‬كام كان‬ ‫ّ‬ ‫مل يكن الشيخ‬
‫أليف الضائقة املا ّديّة واإلعسار‪ .‬كان يقول‪« :‬أنا شخص فقري‪ ،‬يجب أن أعيش كواحد‬
‫من الفقراء»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫األنصاري‬ ‫جهاز ابنة الشيخ‬
‫األنصاري‪ ،‬طلب منه‬
‫ّ‬ ‫عندما أراد الشيخ تزويج ابنته البن أخيه الشيخ مح ّمد حسن‬
‫كل‬
‫الخاصة ّ‬
‫ّ‬ ‫الحاج مح ّمد صالح كبة ‪-‬وكيله يف بغداد‪ -‬أن يأذن له ليغطّي من أمواله‬ ‫ّ‬
‫نفقات هذا الزواج‪ّ ،‬إل أ ّن الشيخ مل يأذن له‪ ،‬واكتفى بجهاز ال يكاد يُذكَر‪.‬‬
‫كانت مال ّية الشيخ عند وفاته سبعة عرش توماناً‪ ،‬وكان مديناً بهذا املبلغ‪ .‬ومل تكن‬
‫فتول ذلك أحد األثرياء‪ ،‬حيث‬ ‫أرسته قادرة عىل تأمني النفقات العاديّة إلقامة العزاء‪ّ ،‬‬
‫أنفق عىل مجلس العزاء لستّة أيّام بلياليها(((‪.‬‬

‫الشيخ واألميرة‬
‫األنصاري‪:‬‬
‫ّ‬ ‫قالت ابنة الشيخ‬
‫«ذات يوم‪ ،‬جاءت ابنة الشاه نارص الدين لزيارة الشيخ يف منزله يف النجف األرشف‪.‬‬
‫اليحيوي يف سامحته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العيسوي والورع‬
‫ّ‬ ‫وعندما استق ّر بها املجلس‪ ،‬الحظت آثار الزهد‬
‫مشتعال يف املنقل‪ ،‬ورأت‬
‫ً‬ ‫‪-‬بدال من الفحم‪-‬‬
‫تأ ّملت غرفته فوجدت قليالً من الرسجني((( ً‬
‫سفرة من الخوص((( معلّقة عىل الحائط‪ ،‬وإىل جانب املنقل الذي كان من الطني رأت‬
‫مرسجة((( من ف ّخار‪ ،‬أضاءت الغرفة نصف إضاءة‪ .‬هذه كانت محتويات غرفة قطب‬
‫دائرة الفقاهة‪ ،‬ومل تستطع األمرية أمام ما رأت أن تخفي ما يدور يف خلدها‪ ،‬فقالت‪:‬‬

‫((( زندﮔـاين شخصيت شيخ أنصاري‪ ،‬ص‪.86‬‬


‫نفسه‪ ،‬ص‪.87‬‬
‫((( املصدر ُ‬
‫((( فضالت الحيوانات تجعل قطعاً وتجفّف للتدفئة‪.‬‬
‫((( ورق النخل وشبهه‪.‬‬
‫يصب فيه الدهن أو النفط وتوضع فيه فتيلة لإلنارة‪ .‬واملراد هنا ما كان فيه الدهن ال النفط‪.‬‬
‫((( إناء من فخّار ّ‬
‫يل كني»(((؟ وقبل أن تت ّم كالمها‬
‫«إذا كان العامل واملجتهد هكذا فامذا يقول الشيخ ع ّ‬
‫‪351‬‬
‫نهض الشيخ وقال مغضباً‪« :‬ماذا قلت؟ ما هذا الكالم الكفر؟ اعلمي أنّك رصت جه ّنم ّية‬
‫ألن أخىش أن‬ ‫بهذا الكالم‪ .‬قومي واخرجي من هنا‪ ،‬وال تبقي حتّى لحظة واحدة ّ‬
‫تحل بك»‪ .‬بكت األمرية من تهديد الشيخ وقالت‪« :‬س ِّيدي‪ ،‬تبت‬ ‫تشملني العقوبة التي ّ‬
‫مم قلت‪ ،‬أخطأت‪ ،‬اعف ع ِّني‪ ،‬لن أرتكب هذه الحامقات فيام بعد»‪ .‬فعفا عنها الشيخ‬ ‫ّ‬
‫يل كني»؟(((‪.‬‬
‫وقال‪« :‬أين أنت من إبداء الرأي حول سامحة الشيخ ع ّ‬
‫رشع سماخلا مسقلا‪ :‬شيعلا ةطاسب‬

‫الحكيم الكبير‬
‫السبزواري‬
‫ّ‬ ‫جاء يف بعض املصادر وصف دقيق لبيت الفيلسوف الجليل الشيخ هادي‬
‫‪-‬صاحب املنظومة‪ -‬بقسميه «ال ّرباين والج ّواين» ووصف لبساطة عيش هذا الحكيم‬
‫الكبري‪ ،‬عىل النحو اآليت‪:‬‬
‫كان «لل ّرباين» ِفناء بساحة ستّة أذرع يف ستّة أذرع‪ ،‬وكانت تقع يف الجهة الرشق ّية‬
‫منه غرفة بنيت بالطني والتنب‪ ،‬وسقفها من جسور الحديد (الشيلامن) والحطب‬
‫غري املص ّنع‪ .‬وكانت جدرانها عاديّة حتّى من الطني (ليست مط َّينة بالطني والتنب)‪.‬‬
‫وعندما سافر الشاه نارص الدين إىل خراسان أوائل صفر ‪1284‬هـ‪.‬ق قام بزيارة‬
‫الشيخ يف هذه الغرفة ‪-‬وقد تق ّدم الحديث عن ذلك‪ -‬وكانت يف حديقة الدار ع ّدة‬
‫أشجار مع ّمرة من التوت‪ ،‬وجميع غرف الدار كانت من الطني والتنب‪ّ ،‬إل أ ّن جدرانها‬
‫ُمط َّينة‪.‬‬
‫وكان طعام غدائه غالباً ما يعادل وحدة نقديّة من الخبز‪ ،‬مل يكن يأكل منه أكرث من‬
‫خمسة وسبعني غراماً مع «كاسة» نيل ّية من املخيض‪ .‬ويف أواخر عمره وبسبب تق ّدمه‬
‫يف الس ّن وسقوط أسنانه كان طعام عشائه صحناً من األرز مع املرق بدون لحم وسمن‪.‬‬

‫يل الكني‪ ،‬من الفقهاء الكبار ومن تالمذة صاحب الجواهر وصاحب الضوابط‪ .‬أقام يف طهران‬
‫((( آية الله الشيخ ع ّ‬
‫الحسني يف طريق املتو ّجه‬
‫ّ‬ ‫وكان مرجع الناس هناك‪ّ ،‬‬
‫وتوف عام ‪1306‬هـ‪.‬ق ودفن بجوار حرضة عبد العظيم‬
‫لزيارة حرضة حمزة ابن اإلمام الكاظم ‪.Q‬‬
‫((( املصدر السابق‪ ،‬ص‪ ،427‬الهامش‪.‬‬
‫وكان يكتفي بطعام ماء اللحم (آبـﮕـوشت) مع اإلسباناخ (السبانغ)‪ .‬مل يكن ميتلك‬
‫‪352‬‬
‫‪ M‬مكتبة تذكر‪ ،‬كانت مكتبته عبارة عن ع ّدة مجلَّدات معدودة(((‪.‬‬

‫قائد ثورة المشروطة‬


‫«كان يف الزهد والورع‪ ،‬أ ّول الشجرة ال ّربيّة(((‪ ،‬يف الصيف كانت ثيابه من الكرباس‬
‫أو ما يشبهه‪ ،‬ويف الشتاء من وبر الجامل أو ما يشبهه‪ .‬وكان يستعمل الثوب الواحد‬
‫ثالث سنوات أو أرب ًعا‪ ،‬وإذا أهدي إليه خالل ذلك ما يزيد عىل الكفاف أهداه إىل غريه؛‬
‫وألنّه كان شديد النظافة‪ ،‬كان الناظر إليه يتص ّور أنّه يلبس ثياباً فاخرة‪ .‬وإذا كان طعام‬
‫البيت من اللحم‪ ،‬كان يت ّم رشاء كيلو ونصف من اللحم يُطبخ يف كميّة كبرية من املاء‬
‫يحب األطعمة اللذيذة‪ .‬كان يكرث من رشاب املخيض‪.‬‬ ‫ليكفي عرشين شخصاً‪ .‬مل يكن ّ‬
‫الطلب‪ ،‬بل كان أكرث‬‫عم كان عليه وضع ّ‬ ‫املعييش مل يختلف ّ‬
‫ّ‬ ‫ورغم رئاسته فإ ّن وضعه‬
‫قناعة من الطلبة يف هذا الزمان‪.‬‬
‫كان يقول‪« :‬كان مرصوفنا سابقاً أنا وعيايل وأوالدي يف اإلثني عرش شهرا ً اثني عرش‬
‫توماناً»‪.‬‬
‫مل يكن يد ّخن أبدا ً‪ ،‬ومل يكن يرشب من الشاي أكرث من «استكان خفيف» ولذلك‬
‫فإ ّن أسنانه بقيت حتّى الرابعة والسبعني من عمره كأنّها الدر وكان يكتفي بالقليل ج ّدا ً‬
‫أقل الطلبة فلم يكن يرى لنفسه أيّة مزيَّة‪.‬‬
‫من الطعام‪ .‬ويشارك يف الطعام ّ‬
‫ويف الوقت الذي كان يعيش فيه مع أوالده الثالثة وعيالهم يف بيت واحد صغري ج ًّدا‪،‬‬
‫مهدي وشكا ضيق املكان‪ ،‬فأصغى الشيخ‬ ‫ّ‬ ‫لكل منهم غرفة‪ ،‬جاء ذات يوم ابنه األكرب‬
‫ّ‬
‫حصتنا‬ ‫إليه ث ّم قال‪« :‬بابا‪ ،‬إذا ق ُِّسمت بيوت هذه املدينة عىل املستحقّني فلن تكون ّ‬
‫أكرث من هذا»(((‪.‬‬

‫((( أرسار الحكم‪ ،‬ص‪ ،20 ،17 - 16‬وانظر تاريخ حكامء وعرفاء متأخر صدر املتألّهني‪ ،‬ص‪.111‬‬
‫((( إشارة إىل كالم موىل املتّقني «أال وأ ّن الشجرة الربيّة أصلب عودا ً» ك ‪ ،45‬نهج البالغة‪.‬‬
‫((( زندﮔـاين آخوند خراساين‪ ،‬ص‪.377-397-396‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫السيد محمد باقر الدرﭼـه إي‬
‫‪353‬‬
‫هذا الس ّيد الجليل ‪-‬الذي تق ّدم ذكر مناذج من سريته‪ -‬هو أستاذ آية الله العظمى‬
‫الس ّيد الربوجردي ‪-‬رضوان الله عليهام‪ -‬يتح ّدث تلميذه آية الله الس ّيد حسن القوﭼـا ّين‬
‫النجفي عنه ‪-‬وقد اطّلع عىل خصوص ّياته وبساطة عيشه عن قرب‪ -‬فيقول‪:‬‬ ‫ّ‬
‫كان يتعب كثريا ً‪ ،‬كان مييض الليل والنهار منشغالً باملطالعة والتفكري يف املسائل‬
‫العلم ّية‪ .‬كان يسكن يف مدرسة «نيم آورو» إحدى املدارس املعروفة يف أصفهان‪ ،‬ومل‬
‫رشع سماخلا مسقلا‪ :‬شيعلا ةطاسب‬

‫يكن له منزل يف املدينة؛ فقد ترك زوجته وأوالده يف قريته «رﭼـه بياز» مسقط رأسه‪،‬‬
‫وكان يقيض يومي الخميس والجمعة يف قريته ويرجع عرص الجمعة وقد تز ّود من‬
‫الطلب‪ .‬كان الس ّيد مح ّمد‬
‫الخبز واللنب ما يكفيه إىل آخر األسبوع‪ .‬وكان يعيش كسائر ّ‬
‫باقر من أهل إحياء الليل‪ ،‬وكان مرحاً‪ ،‬وعاش فقريا ً»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫البالغي‬ ‫آية اهلل الشيخ محمد جواد‬
‫جاء يف ترجمته ‪:M‬‬
‫كانت له غرفة صغرية ومحقّرة‪ ،‬مل يكن فيها غري حصري من الباري (بورية) وقطعة‬
‫قامش يجلس عليها (رششف)‪ ،‬ومل يكن لديه وسيلة تدفئة أو تربيد رغم أنّه كان مريضاً‪،‬‬
‫ومل يكن يخرج من هذه الغرفة إلّ للحاجات الرضوريّة(((‪.‬‬
‫كأس من طين‬
‫يقول شهيد املحراب األرش ّيف األصفها ّين ‪:M‬‬
‫الخونساري‬
‫ّ‬ ‫تقي‬
‫«كانت الكأس (اإلستكان) التي كان آية الله العظمى الس ّيد مح ّمد ّ‬

‫((( سياحت رشق‪ ،‬ص‪.164 - 163‬‬


‫((( بيدار ﮔران أقاليم قبله‪ ،‬ص‪ ،213 - 212‬واإلمام البالغي فقيه جليل مت ّيز بالتص ّدي للهجمة الفكريّة التي‬
‫استهدفت أسس اإلسالم يف عرصه‪ ،‬فدرس العلوم املختلفة عىل نفسه كام درس اللغات الفارس ّية واإلنجليزيّة‬
‫والعربيّة تعلّم األخرية للر ّد عىل التوراة املح ّرفة‪ .‬وترك مؤلّفات فريدة يف هذا املجال‪ .‬راجع «مق ّدمة الهدى إىل‬
‫دين املصطفى» ‪ -‬املع ِّرب‪.‬‬
‫يرشب بها الشاي من طني‪ ،‬فقلنا له‪« :‬موالنا‪ ،‬إ ّن قيمة الكأس والصحن ليست مرتفعة‬
‫‪354‬‬
‫بحيث ترشب بهذه»‪ .‬ويضيف‪ :‬لذا كان هؤالء (العظامء) واقعاً أسوة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫عالم يقيم في زاوية‬
‫العلمة‪،‬‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ ‪ M‬حول ظروف تع ّرفه عىل ّ‬
‫يتح ّدث أحد تالمذة ّ‬
‫وأوضاعه املعيشيّة فيقول‪:‬‬
‫العلمة‪ ،‬أحسست بالشوق إىل لقائه والتع ّرف عليه‪ ،‬وكنت‬ ‫«عندما سمعت أوصاف ّ‬
‫أغتنم فرصة متكّنني من الذهاب إىل منزله‪ .‬وذات يوم جاء أحد أصدقايئ ‪-‬وكان يسكن‬
‫معي يف املدرسة‪ ،‬وكان كذلك يرت ّدد إليه وهو اآلن من علامء رشت‪ -‬وقال‪« :‬لقد رجع‬
‫الس ّيد القايض((( من زيارة اإلمام الرضا ‪ Q‬تعال لنذهب إىل زيارته»‪ .‬وعندما دخلنا‬
‫كل‬
‫إىل املنزل‪ ،‬وجدنا أ ّن هذا الرجل املعروف واملشهور هو ذلك الس ّيد الذي نصادفه ّ‬
‫يوم يف األزقّة‪ ،‬ومل نكن نحتمل أبدا ً أنّه من أهل العلم فضالً عن التب ّحر يف العلوم‪.‬‬
‫يرتدي ِعاممة صغرية ج ًّدا من الكرباس (القامش الرديء) األزرق‪ ،‬وأزرار قبائه مفتوحة‪،‬‬
‫أقل من عاديّة‪ ،‬وبيته غاية يف البساطة والفقر‪ .‬عانقناه وجلسنا‪،‬‬ ‫وبدون جوارب‪ ،‬ثيابه ّ‬
‫وكانت جول ٌة يف جوانب بعض املسائل العلم ّية‪ ،‬فرأينا أ ّن هذا الرجل‪ ،‬واقعاً‪ ،‬عاملٌ من‬
‫العلم والدراية واإلدراك والفهم‪ ،‬بحيث عرفنا حقيقة معنى قول الشاعر‪« :‬عندما يفوز‬
‫كوز العلم بنصيب‪ ،‬فإ ّن عاملاً قد جلس يف زاوية»‪.‬‬
‫خاصاً يف‬
‫ويف ذلك املجلس بلغ إعجابنا به وح ّبنا له الذروة‪ ،‬وطلبنا منه درساً ّ‬
‫الفلسفة‪ ،‬ميكننا أن نطرح فيه ما يخطر بالبال بحريّة أثناء الدرس‪ ،‬حتّى ال يبقى إشكال‬
‫بدون جواب‪ ،‬وقد وافق ومبنتهى النبل»(((‪.‬‬

‫((( كان العلّمة الطباطبا ّيئ معروفاً بالس ّيد القايض؛ ألنّه من هذه السلسلة املشهورة يف آذربايجان‪ ،‬ولكن باعتبار‬
‫أنّه من السادات الطباطبائ ّيني فقد رجح أن يعرف بهذا االسم (الطباطبا ّيئ)‪.‬‬
‫((( مهرتابان للس ّيد الطهراين‪ ،‬ص‪ ،9 - 8‬القسم األ ّول‪.‬‬
‫العلمة يف املعارف اإلسالم ّية‪« :‬كان هو يقول‪:‬‬
‫للعلمة‪ ،‬حول أثر ّ‬ ‫ويقول تلميذ آخر ّ‬
‫‪355‬‬
‫جسموا يف أذهانكم صورة‬ ‫بدأت هذه الدروس الثالثة الفلسفة‪ ،‬األخالق‪ ،‬والتفسري‪ّ .‬‬
‫روحا ّين قادم لت ّوه من القرية إىل املدينة‪ ،‬يرتدي عاممة من الكرباس كحلية ي ّدعي‬
‫إحداث ثورة يف حوزة‪ ،‬وأيّة إمكانات ما ّديّة متوفّرة له يا ترى؟ عنوانه منزل من غرفتني‬
‫أي بيت‬ ‫استأجره شهريّاً بثامنني توماناً‪ .‬ابنه املحرتم موجود اآلن هنا‪ .‬وهو يتذكّر يف ّ‬
‫العلمة يستطيع أن يستقبل فيه حتّى‬ ‫صغري ومتواضع ترعرع‪ .‬البيت الذي مل يكن ّ‬
‫رشع سماخلا مسقلا‪ :‬شيعلا ةطاسب‬

‫رصفه‪ .‬أحياناً كنت أضط ّر للحصول‬ ‫أصدقاءه‪ .‬أوائل تع ّريف عىل األستاذ‪ ،‬كنت أتع ّجب لت ّ‬
‫علمي فأذهب إليه إىل البيت‪ .‬يفتح الباب ويضع يديه عىل طريف‬ ‫ّ‬ ‫عىل جواب سؤال‬
‫الباب ومي ّد رأسه‪ ،‬ويصغي إىل سؤايل ث ّم يجيب عنه‪ .‬أحياناً كنت أتساءل ملاذا ال يريدين‬
‫أن أدخل إىل البيت؟ وفيام بعد عندما تع ّمقت عالقتي به‪ ،‬وكنت أستطيع أحياناً‬
‫الدخول إىل املنزل عرفت السبب‪ ،‬كان يقول‪ :‬إذا اشتغلت وأخذت أجرة اليوم ثالثة‬
‫لدي من أن أذهب إىل أحد وأخربه بحاجتي وأُصب ِْح‬ ‫توامني‪ ،‬فهو أفضل عندي وأهنأ ّ‬
‫حس ُب عىل بيت أو شخص ّية‪ .‬مل ّدة طويلة كانت أموره املعيش ّية ت ُدار من حقوق‬ ‫أُ َ‬
‫التأليف‪ .‬لسنوات كان مديناً مببالغ طائلة ومل يكن يعرف بذلك املق ّربون منه‪ ،‬حتّى‬
‫ويس ‪-‬رضوان الله عليه‪-‬بهذه اإلمكانات املاديّة‪ .‬وبهذه القربة‬ ‫صهره املرحوم الق ّد ّ‬
‫واملجهول ّية أراد أن يحدث تح ّوالً عظيامً يف ثقافة البلد والعامل‪.‬‬
‫العلمة الطباطبا ّيئ يدرك العقبات متاماً‪ ،‬إلّ أنّه باالتّكال عىل الله تعاىل تجاوز‬
‫كان ّ‬
‫هذه العقبات‪ ،‬وقد أثبت الله تعاىل م ّرة أخرى للناس أ ّن من يعمل متّكالً عليه ولتحصيل‬
‫مرضاته فقط‪ ،‬فإ ّن النجاح حليفه»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫(األفغاني)‬ ‫آبادي‬ ‫السيد جمال الدين األسد‬
‫«كان الس ّيد جامل الدين يعي رسالته‪ ،‬ويدرك الجهود املضنية التي تستلزمها‪،‬‬
‫والعقبات التي تعرتض طريقه؛ لذلك مل يتز ّوج ومل يتعلّق قلبه مبلك ومال‪ .‬كانت حياته‬

‫((( يادنامه عالمة طباطبايئ‪ ،‬ص‪.199 - 198‬‬


‫وقفاً عىل أفكاره وأهدافه‪ .‬كان يكتفي يف اليوم كلّه بوجبة طعام واحدة‪ ،‬رغم أنّه كان‬
‫‪356‬‬
‫كل لحظة مستع ّدا ً للنفي واملشاكل املشابهة‪.‬‬ ‫يكرث من رشب الشاي والتدخني‪ .‬كان يف ّ‬
‫ويف الواقع‪ ،‬فإ ّن أصحاب مراكز النفوذ الذين كانوا ينفونه من هذا املكان إىل ذاك‪ ،‬كانوا‬
‫يخلقون متاعب ألنفسهم وليس له‪ .‬ثياب الس ّيد كانت تلك التي كان يلبسها‪ ،‬وكتبه يف‬
‫صدره‪ ،‬وأفكاره يف ذهنه‪ ،‬وآالمه يف قلبه(((‪ .‬يقال‪ :‬يف البداية كان الس ّيد يحمل يف السفر‬
‫حقيبة لثيابه‪ّ ،‬إل أنّه يف ما بعد مل يكن يحمل معه شيئاً(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫محمد ّ‬
‫البافقي‬ ‫تقي‬ ‫الشيخ‬
‫مل يرتد هذا الرجل الجليل طيلة عمره ‪ -72‬سنة‪ -‬غري الثياب من «الكرباس» وقامش‬
‫محل من أصفهان ويزد‪ ،‬حتّى إ ّن عاممته كانت من «الكرباس»‪ .‬مل يستعمل أبدا ً األواين‬ ‫ّّ‬
‫البلوريّة والصينيّة املستوردة من الخارج‪ .‬مل يكن يف بيته إناء من غري النحاس والف ّخار‪.‬‬
‫ومل يستهلك شيئاً من املوا ّد الغذائيّة املستوردة من الخارج(((‪.‬‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫المحدث القمي ‪M‬‬

‫أقل من مستوى‬ ‫كانت حياة املح ّدث الق ّم ّي يف غاية البساطة‪ ،‬بحيث إنّها كانت ّ‬
‫عادي‪.‬كانت ثيابه عبارة عن قباء من «الكرباس» نظيف ج ّدا ً ومعطّر‪،‬‬ ‫حياة طالب علم ّ‬
‫يلبسه لع ّدة سنوات صيفاً وشتا ًء‪ .‬مل يكن يفكّر أبدا ً بالثياب والتج ّمل‪ .‬فرش البيت كان‬
‫من ال ُبسط‪ .‬مل يكن يرصف شيئاً من سهم اإلمام‪ ،‬وكان يقول‪« :‬لست أهالً لذلك»‪ .‬من‬
‫حيث الطعام‪ ،‬كان شديد العناية واالحتياط يف ما يتناوله‪ ،‬ورغم أنّه كان مبتىل بضيق‬
‫النفس‪-‬األمر الذي يستدعي الحمية من بعض األطعمة‪ّ -‬إل أنّه كان يتناول ما حرض‪.‬‬
‫ذات يوم جاءت إىل النجف األرشف امرأتان كانتا تسكنان يف «مببئي» كانتا من‬
‫أقارب «آقا كوﭼـت» الذي كان من وجهاء النجف‪ ،‬وقامتا بزيارة املح ّدث الق ّم ّي‪،‬‬

‫((( بيدار ﮔران أقاليم قبله‪ ،‬ص‪.28 - 27‬‬


‫نفسه‪ ،‬ص‪.47‬‬
‫((( املصدر ُ‬
‫((( مجاهد شهيد حاج شيخ مح ّمد تقي بافقي‪ ،‬ص‪.154‬‬
‫‪357‬‬
‫يوسع بها عىل نفسه‪ ،‬ومل يكن يلزمه‬‫وطلبتا اإلذن بأن تدفعا له شهريّاً مبلغ ‪ 75‬روب ّية ّ‬
‫آنذاك أكرث من خمسني روب ّية شهريّاً‪ّ ،‬إل أنّه رفض ذلك‪ .‬وتد ّخل ابنه األصغر محسن‬
‫‪-‬وبإرصار‪ -‬ليقنع والده باملوافقة‪ّ ،‬إل أنّه مل يقبل‪ .‬كان أحد ت ّجار طهران يدفع له مبلغاً‬
‫ظل هذا دأبه حتّى التحق بجوار الله تعاىل‪.‬‬
‫قليالً‪ ،‬وكان املح ّدث ينفقه بغاية االقتصاد‪ّ .‬‬
‫يف أواخر عمره الرشيف‪ ،‬جاء شخص من همدان إىل النجف األرشف وزاره يف منزله‪،‬‬
‫الشخيص‪ ،‬فأخربه مبا هو عليه‪ .‬ولدى خروجه‪ ،‬ق ّدم‬
‫ّ‬ ‫وأثناء الحديث سأله عن وضعه‬
‫رشع سماخلا مسقلا‪ :‬شيعلا ةطاسب‬

‫الهمدا ّين مبلغاً من املال‪ّ ،‬إل أ ّن املح ّدث رفض قبوله رغم اإلرصار الشديد‪ .‬وبعد خروجه‬
‫قال ابن املح ّدث األكرب‪« :‬يا والدي‪ ،‬ملاذا مل تقبله؟»‪ ،‬أجاب املح ّدث‪« :‬إ ّن رقبتي هزيلة‬
‫وبدين ضعيف وال طاقة يل بجواب الله تعاىل يوم القيامة»‪ .‬ث ّم ح ّدث أهل بيته بحديث‬
‫أمري املؤمنني ‪ Q‬ليلة التاسع عرش من شهر رمضان‪ ،‬وبىك ووعظهم(((‪.‬‬

‫((( حاج شيخ عباس قمي مرد وتقوا وفضيلت‪ ،‬ص‪ 45 - 42‬والحظ البحار‪ ،‬ص‪ 276 - 42‬حول كالم أمري املؤمنني‬
‫‪ Q‬ليلة التاسع عرش من شهر رمضان‪« :‬ما من رجل طاب مطعمه ومرشبه وملبسه ّإل طال وقوفه بني‬
‫وجل يوم القيامة»‪.‬‬
‫يدي الله ع َّز َّ‬
‫القسم السادس عشر‬

‫في مواجهة الظالمين‬


‫‪361‬‬

‫طيلة تاريخ الغيبة الكربى كان علامء اإلسالم‪ ،‬امللتزمون واألمناء‪ ،‬وما يزالون باملرصاد‬
‫لكل الظاملني والجائرين والطواغيت‪ .‬ومل يق َّدم أحد عىل اإلطالق يف مجال نرصة‬ ‫ّ‬
‫رشع سداسلا مسقلا‪ :‬نيملاظلا ةهجاوم يف‬

‫املستضعفني والدفاع عن القيم اإلنسان ّية وتحرير الشعوب من قيود اإلستبداد والبطش‬
‫ما ق ّدمه هؤالء العلامء املجاهدون‪ .‬لقد ق ّدموا أرواحهم يف سبيل الله تعاىل؛ لتبقى‬
‫ورسخوا خ ّط الجهاد والشهادة‪ ،‬فسلكه الذين اقتدوا بهم‪.‬‬ ‫للناس حريّتهم وكرامتهم‪َّ ،‬‬
‫يقول أحد الكتّاب املعارصين‪:‬‬
‫‪ - 1‬توجيهات العلامء الشيعة وتعليامتهم‪ ،‬أكسبت للشهادة والفداء يف سبيل حفظ‬
‫الدين الصفة الرسم ّية الدين ّية‪ .‬وأصبح من الواضح أ ّن الحفاظ عىل العدالة‪ ،‬كام‬
‫يح ّددها الدين‪ ،‬مق ّدم عىل الحفاظ عىل الروح التي هي أمانة مستودعة وعارية‬
‫ال بد أن تُسرت ّد‪ .‬من هنا كان العلامء املصلحون يرصفون النظر عن أرواحهم مبج ّرد‬
‫الدخول يف ميادين الجهاد‪ .‬ولعلّك ال تستطيع أن تجد صفحة من تاريخنا تخلو من‬
‫خاص للشيعة(((‪.‬‬
‫حادثة دمويّة‪.‬هذه االستقامة املذهلة امتياز ّ‬
‫قد يتص ّور من ال اطّالع له عىل حقائق التاريخ أ ّن العلامء استيقظوا مؤ ّخرا ً‪ ...‬وأنّهم‬
‫تركوا الشعوب‪ ،‬يف األدوار السابقة‪ ،‬نهب سالطني الجور ووالتهم الظاملني‪ ،‬وهذا تص ّور‬
‫باطل من األساس‪ ،‬ويكفي إلدراك مدى بطالنه االطّالع عىل كتاب «شهداء الفضيلة»‬
‫األميني صاحب «الغدير» الذي ترجم فيه ملئة وثالثني من أبرز العلامء الشيعة‬ ‫ّ‬ ‫للعلمة‬
‫ّ‬
‫الشهداء‪ .‬وليس الهدف يف هذا القسم من الكتاب الحديث عن هذا الجانب‪ ،‬فقد‬
‫تكفّلت بذلك املؤلّفات الكثرية‪ ،‬بل الهدف هنا ذكر مناذج من مواقف العلامء التي ّ‬
‫تدل‬

‫((( حامسـۀ غدير‪ ،‬ص‪.324‬‬


‫عىل اجتنابهم الحكّام الظلمة أو التص ّدي لهم‪ ،‬وذكر النامذج من أقوالهم التي تكشف‬
‫‪362‬‬
‫عن يقظتهم ووعيهم لشؤون املجتمع‪.‬‬
‫الخميني والشهيد الثاين ‪-‬رضوان الله عليهام‪ -‬حول‬ ‫ّ‬ ‫نصني لإلمام‬
‫وقبل ذلك أنقل َّ‬
‫الطويس‬
‫ّ‬ ‫األجلء الذين خالطوا السالطني حفظاً ملصلحة اإلسالم‪ ،‬أمثال املحقّق‬
‫العلامء ّ‬
‫ليتبي أ ّن هؤالء العظامء هم الذين‬ ‫املجليس والشيخ البها ّيئ؛ ّ‬
‫ّ‬ ‫والعلمة‬
‫الحل ّ‬
‫والعلمة ّ ّ‬‫ّ‬
‫اإلسالمي والرشيعة املق ّدسة‪ ،‬ولوال جهودهم مل يصل إلينا يشء‪ ،‬وملا ك ّنا‬
‫ّ‬ ‫حفظوا الرتاث‬
‫شيئاً‪.‬‬
‫ّ‬
‫مع اإلمام الخميني {‬

‫«إ ّن تاريخ هذه املئة السنة األخرية‪ ،‬بني أيدينا‪ ،‬كلّام تصفّحنا مرحلة منه نجد بعض‬
‫العلامء الذين تنازلوا عن بعض املقامات واتّصلوا ببعض السالطني‪ ،‬رغم أنّهم كانوا‬
‫الحق‪ ،‬وقد‬
‫يرون الناس معارضني لذلك‪ّ ،‬إل أنّهم اختاروا ذلك لرتويج الدين وترويج ّ‬
‫حملوا هؤالء السالطني عىل ذلك‪.‬‬
‫هؤالء مل يكونوا علامء بالط‪ ،‬ويُخطئ بعض كتابنا الذين ينسبون ذلك إليهم‪ ،‬هؤالء‬
‫يصح‬
‫مل يكونوا من حوايش السالطني‪ ،‬بل كانت لهم أهداف سياس ّية وأهداف دين ّية‪ .‬ال ّ‬
‫املجليس أو املحقّق الثاين أو الشيخ البها ّيئ‬
‫ّ‬ ‫أن يتص ّور أحد‪ ،‬مبج ّرد أن يسمع مثالً أ ّن‬
‫كانت له عالقة بهؤالء السالطني‪ ،‬أ ّن هؤالء العلامء كانوا يتهافتون عىل الجاه والزعامة‪،‬‬
‫وأنّهم كانوا محتاجني للسلطان حسني أو للشاه ع ّباس‪ ،‬مل يكن يشء من ذلك‪ ،‬لقد ض ّحى‬
‫هؤالء العلامء‪ ،‬جاهدوا أنفسهم (ليمكنهم القيام بذلك)‪ .‬أرادوا نرش الدين‪ ،‬كانت هناك‬
‫يسب فيها أمري املؤمنني ‪ .Q‬سمعت أ ّن ات ّفاقاً ت ّم يف بعض البالد‬
‫مناطق ‪-‬يف إيران‪ّ -‬‬
‫السب ستّة أشهر! يف مثل هذه األجواء كان هدف هؤالء العلامء أن مينعوا‬ ‫عىل تأخري ّ‬
‫سب األمري‪ ،‬أن ينرشوا الدين واملذهب‪ ،‬وقد ع ّرضوا سمعتهم للتجريح من قبل الناس‬ ‫ّ‬
‫الذين كانوا يعرتضون عليهم آنذاك بسبب جهلهم ‪-‬كام يعرتض البعض اآلن لعدم‬
‫إدراكه حقيقة األمر‪ -‬ومل يعريوا اهتامماً لذلك‪ .‬ويف زمن األمئّة ‪ R‬أمثال ملا قاموا به‪،‬‬
‫يل بن يقطني من الوزراء‪ .‬وأمري املؤمنني ‪ Q‬بقي معهم نيفاً وأربعني سنة‪،‬‬ ‫كان ع ّ‬
‫‪363‬‬
‫يشرتك يف صالتهم‪ ،‬يرت ّدد إليهم حفظاً ملصلحة اإلسالم العليا‪ ،‬وسائر األمئّة كانوا أحياناً‬
‫يساملون‪ .‬أحياناً ال مجال لغري ذلك‪ ،‬فامذا يفعلون؟ إ ّن مصلحة اإلسالم فوق ما نتص ّور‪.‬‬
‫هؤالء العلامء الذين تح ّملوا أعباء التضحيات الجِسام ليتك ّيفوا مع امله ّمة التي قاموا‬
‫بها ث ّم أنتم تعرتضون عليهم؛ ألنّكم ال تعرفون حقيقة األمر‪ ،‬ال بدافع سوء الن ّية‪ ،‬هؤالء‬
‫مل يكونوا علامء بالط‪ ،‬كانوا يريدون صناعة اإلنسان‪.(((»...‬‬
‫رشع سداسلا مسقلا‪ :‬نيملاظلا ةهجاوم يف‬

‫مع الشهيد الثاني‬


‫«واعلم أ ّن القدر املذموم من ذلك (اتّباع السلطان) ليس هو مج ّرد اتباع السلطان‬
‫كيف اتّفق‪ ،‬بل (املذموم) اتّباعه ليكون توطئة له ووسيلة إىل ارتفاع الشأن والرتفّع عىل‬
‫وحب الدنيا والرئاسة ونحو ذلك‪ .‬أ ّما لو اتّبعه ليجعله‬
‫األقران‪ ،‬وعظم الجاه واملقدار‪ّ ،‬‬
‫الحق وقمع البدن واألمر‬ ‫وصلة إىل إقامة نظام النوع‪ ،‬وإعالء كلمة الدين وترويج ّ‬
‫باملعروف‪ ،‬والنهي عن املنكر ونحو ذلك‪ ،‬فهو أفضل األعامل فضالً عن كونه مر ّخصاً»‪.‬‬
‫«وبهذا يجمع بني ما ورد من الذ ّم وما ورد أيضاً يف الرتخيص يف ذلك‪ ،‬بل قد فعله‬
‫النجايش‪ ،‬وأيب القاسم بن روح أحد أبواب‬
‫ّ‬ ‫يل بن يقطني وعبد الله‬
‫جامعة من األعيان كع ّ‬
‫الرشيعة‪ ،‬ومح ّمد بن إسامعيل بن بزيع‪ ،‬ونوح بن دراج وغريهم من أصحاب األمئّة‪،‬‬
‫والريض وأبيهام‪ ،‬والخواجة نصري الدين‬
‫ّ‬ ‫ومن الفقهاء مثل الس ّيدين األجلّني املرتىض‬
‫الحل) وغريهم‪.‬‬
‫(العلمة ّ‬
‫والعلمة بحر العلوم جامل الدين ابن املط ّهر ّ‬ ‫الطويس ّ‬
‫ّ‬
‫وقد روى مح ّمد بن إسامعيل بن بزيع وهو الثقة الصدوق‪ ،‬عن الرضا ‪« :Q‬إنّ‬
‫لله تعاىل بأبواب الظاملني‪ ،‬من ن َّور الله به الربهان‪ ،‬ومكَّن له يف البالد ليدفع به‬
‫عن أوليائه‪ ،‬ويصلح الله به أمور املسلمني‪ ،‬ألنّه ملجأ املؤمنني من الرضر وإليه‬
‫يفزع ذو الحاجة من شيعتنا‪ ،‬به يؤمن الله روعة املؤمن يف دار الظلمة‪ ،‬أولئك‬
‫هم املؤمنون ح ّقاً‪ ،‬أولئك أمناء الله يف أرضه‪ ،‬أولئك نور الله تعاىل يف رع َّيتهم يوم‬

‫((( صحيفة نور‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،259 - 258‬من كالم لإلمام بعد شهادة‪.‬‬
‫القيامة‪ ،‬ويزهر نورهم ألهل الساموات كام تزهر الكواكب الزاهرة ألهل األرض‪،‬‬ ‫‪364‬‬
‫أولئك من نورهم نور القيامة تيضء منهم القيامة‪ ،‬خلقوا والله للج ّنة‪ ،‬وخلقت‬
‫الج ّنة لهم‪ ،‬فهنيئاً لهم‪ ،‬ما عىل أحدكم أن لو شاء لنال هذا كلّه»‪ .‬قال‪« :‬قلت مباذا‬
‫رسنا بإدخال الرسور عىل املؤمنني من‬ ‫جعلني الله فداك»؟‪ ،‬قال‪« :‬تكون معهم فت ّ‬
‫شيعتنا‪ .‬فكن منهم يا مح ّمد»‪.‬‬
‫ويضيف الشهيد ‪-‬رضوان الله عليه‪:-‬‬
‫«واعلم أ ّن هذا ثواب كريم‪ ،‬لك ّنه وضع الخطر الوخيم‪ ،‬والغرور العظيم‪ ،‬فإ ّن زهرة‬
‫وحب الرئاسة واالستعالء إذا نبتا يف القلب غطّيا عليه كثريا ً من طرق الصواب‬‫الدنيا ّ‬
‫واملقاصد الصحيحة املوجبة للثواب‪ ،‬فال ب ّد من التيقّظ يف هذا الباب»(((‪.‬‬
‫صاحب «المعالم» وصاحب «المدارك»‬
‫مل يسافر صاحب «املعامل» وصاحب «املدارك» إىل إيران خوف اضطرارهام للقاء‬
‫الصفوي‪ ،‬ومل يزورا اإلمام الرضا ‪ Q‬للسبب نفسه(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بالشاه ع ّباس‬
‫ّ‬
‫اللهم اقبض إليك ابني‬
‫عندما كان الشاه فتحعيل يف زيارة املريزا الق ّم ّي صاحب «القوانني»‪ ،‬طلب الشاه أن‬
‫يز ّوج ابن املريزا ابنته‪ ،‬وانتهت الجلسة دون موافقة الشيخ‪ّ .‬إل أنّه بقي مضطرباً من‬
‫هذا االقرتاح خشية أن يضط ّر إىل املوافقة عليه‪ ،‬فام كان منه إلّ أن لجأ إىل الدعاء قائالً‪:‬‬
‫«إلهي‪ ...‬إذا كان هذا األمر سيت ّم فاقبض ابني الشاب إليك!»‪ ،‬ورسعان ما سقط ابنه‬
‫غريقاً يف حوض املنزل‪ ،‬ث ّم فارق الحياة(((‪.‬‬

‫((( منية املريد‪ ،‬ص‪.65 - 64‬‬


‫((( األنوار النوران ّية‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪ ،342‬وريحانة األدب‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.392‬‬
‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪.10‬‬
‫ّ‬
‫الشيرازي‬ ‫الميرزا‬
‫‪365‬‬
‫بحج بيت الله الحرام سنة (‪ )1287‬أيّام والية الرشيف‬ ‫ازي الكبري ّ‬
‫رشف املريزا الشري ّ‬
‫ت ّ‬
‫البغدادي‪ .‬فأخرب صاحب البيت الحاكم‬
‫ّ‬ ‫الحسني‪ ،‬ونزل يف مكّة يف بيت موىس‬
‫ّ‬ ‫عبد الله‬
‫البغدادي املريزا بذلك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بوصول املريزا‪ ،‬فأمره أن يحرض املريزا يف مجلسه‪ .‬وعندما أخرب‬
‫أرسل املريزا إىل الرشيف الحاكم‪« :‬إذا رأيتم العلامء عىل باب امللوك فقولوا بئس‬
‫العلامء وبئس امللوك‪ ،‬وإذا رأيتم امللوك عىل أبواب العلامء فقولوا نعم العلامء ونعم‬
‫رشع سداسلا مسقلا‪ :‬نيملاظلا ةهجاوم يف‬

‫ازي‪ ،‬ث ّم نزل املريزا ضيفاً‬


‫امللوك»‪ .‬فام كان من الرشيف ّإل أن بادر إىل زيارة املريزا الشري ّ‬
‫عليه يف بيته(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫حجة اإلسالم الشفتي‪ ،‬وحاكم أصفهان‬
‫املرحوم الس ّيد مح ّمد باقر الشفتي املعروف بح ّجة اإلسالم‪ ،‬مل يقم أبدا ً بزيارة حاكم‬
‫كل م ّرة كان الحاكم يأيت فيها لزيارته كان يقف عىل عتبة الباب ويسلّم‪،‬‬ ‫أصفهان‪ .‬ويف ّ‬
‫واتّفق مرارا ً أ ّن الس ّيد مل ينتبه ملجيئه‪ ،‬وبعد لحظات عندما يراه‪ ،‬يأذن له بالجلوس‪ ،‬ومل‬
‫يتواضع له أبدا ً(((‪.‬‬
‫محاوالت األميرة‬
‫رشفت بزيارة‬‫جاءت األمرية «ضياء السلطنة» لزيارة العتبات املق ّدسة يف العراق‪ ،‬وت ّ‬
‫الشيخ مح ّمد حسني األصفهاين صاحب «الفصول»‪ ،‬وطلبت منه أن يختارها زوجة له‪،‬‬
‫ّإل أنّه مل يوافق ورفض طلبها‪ .‬وقبل ذلك كانت قد تق ّدمت بهذا الطلب إىل السيّد‬
‫مهدي ابن صاحب «الرياض»‪ .‬وفيام بعد‪ ،‬أرسلت األمرية رسوالً إىل السيّد‬ ‫ّ‬ ‫مح ّمد‬
‫إبراهيم صاحب «الضوابط» طالب ًة الزواج منه‪ّ ،‬إل أنّها منيت بالخيبة أيضاً‪ .‬لقد اعتذر‬
‫السيّد بأنّك من عائلة ثريّة ووضعي املا ّيل ال يتح ّمل مصاريفك‪ .‬أرسلت إليه‪« :‬ال أريد‬
‫منك أيّة نفقة‪ ،‬بل أنا عىل استعداد لتأمني مصاريفك مع عائلتك»‪ .‬وعندما سمع السيّد‬

‫ازي‪ ،‬ص‪.40 - 39‬‬


‫((( مريزاي شريازي ترجمة هديّة الر ّ‬
‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪.145‬‬
‫ذلك فكّر قليالً ث ّم أرسل إليها‪« :‬إ ّن زوجتي وف ّية يل‪ ،‬تح ّملت معي صعوبات مرحلة‬
‫‪366‬‬
‫الدراسة‪ ،‬وصربت عىل مختلف املرارات وزواجي منك يعني االنفصال عنها‪ ،‬وهذا من‬
‫الناحية األخالق ّية لشخص مثيل أم ٌر يف غاية السوء»‪ .‬أرسلت إليه مج ّددا ً‪« :‬بإمكانك أن‬
‫رصت عىل ذلك‬‫تبقى يف بيتك مع عائلتك إ ّن مج ّرد أن يقال إنّك زوجي هو فخر يل»‪ .‬وأ ّ‬
‫بالتامس‪ ،‬فام كان من الس ّيد هذه امل ّرة إلّ أن ير ّد عليها مبا ب ّدل أملها باليأس(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫القرآن المرصع بالجواهر‬
‫أرسل أحد امللوك الذين عارصوا الشيخ الوحيد البهبها ّين ‪ M‬نسخة نفيسة من‬
‫كتاب الله تعاىل‪ ،‬كتبت بخ ّط خطّاط مشهور‪ ،‬و ُر ِّصع جلدها بحبّات الياقوت واملاس‬
‫والزبرجد وغري ذلك من األحجار الكرمية‪ .‬يقول أحد الذين أمرهم الشاه بإيصال هذه‬
‫الهديّة إىل املرجع الوحيد البهبها ّين‪« :‬عندما وصلنا إىل بيت الشيخ طرقنا الباب‪ ،‬جاء‬
‫الشيخ بنفسه وفتح الباب‪ ،‬وقد ش ّمر عن ساعده والقلم يف يده‪ .‬سألنا‪« :‬ماذا تريدون؟‬
‫‪ -‬لقد أرسل إليكم حرضة السلطان قرآناً»‪.‬‬
‫ألقى نظرة عىل القرآن وقال‪« :‬ما هذه الزينة عىل غالف القرآن؟»‪.‬‬
‫رصع بها غالف القرآن‪.‬‬ ‫‪ -‬إنّها مجوهرات مثينة ّ‬
‫‪ -‬وما الداعي ليفعل ذلك بكتاب الله فيؤ ّدي إىل تعطيله وعدم القراءة فيه؟ استخرجوا‬
‫هذه الح ّبات وبيعوها وأعطوا مثنها للفقراء‪.‬‬
‫يزي‪ ،‬وهو مثني ج ّدا ً‪ ،‬فتفضّ ل بقبوله‪.‬‬ ‫‪ -‬هذا القرآن بخ ّط املريزا ال َّن ْي ّ‬
‫‪ -‬من جاء به فليحتفظ به وليواظب عىل القراءة فيه»‪ .‬قال ذلك وأقفل الباب ومىض(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اليزدي‪ ،‬مؤلف «مثير األحزان»‬ ‫الشيخ محسن‬
‫كان ‪ M‬من مشاهري فضالء إيران أيّام الشاه فتحعيل‪ .‬وكان من تالمذة الس ّيد مح ّمد‬
‫الخاص‬
‫ّ‬ ‫املجاهد‪ ،‬كام كان عابدا ً كبريا ً‪ ،‬ويف غاية الزهد والورع‪ .‬من خصوص ّياته تعلّقه‬

‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪.11‬‬


‫((( بيدار ﮔران أقاليم قبله‪ ،‬ص‪.219‬‬
‫بخامس أهل البيت ‪ R‬اإلمام الحسني ‪ .Q‬كان مواظباً عىل إقامة مجالس العزاء‬
‫‪367‬‬
‫القاجاري أن يقيم‬
‫ّ‬ ‫والبكاء ملصائبه‪ .Q‬ومن جملة كتبه «مثري األحزان»‪ .‬أراد الشاه‬
‫عالقة عائل ّية معه‪ ،‬بأن يز ّوج امللك ابنته البن الشيخ‪ ،‬إلّ أ ّن الشيخ حال دون تحقّق ذلك‬
‫قصة أخرى يف مواجهة الظاملني‪:‬‬‫رغم إرصار الشاه‪ .‬ولهذا العامل الكبري ّ‬
‫عندما رأى ‪ M‬حاكم يزد ميعن يف ظلم الناس‪ ،‬ع ّبأ الناس واستنفرهم ض ّده حتّى‬
‫أخرجه من يزد ذليالً‪ .‬وعندما وصل الحاكم إىل بالط الشاه‪ ،‬مل يح ّدثه بظلمه للناس‬
‫رشع سداسلا مسقلا‪ :‬نيملاظلا ةهجاوم يف‬

‫بطبيعة الحال‪ ،‬وإنّ ا أَ ْو َغ َر صدره عىل الشيخ‪ .‬وق ّرر الشاه إحضار قائد الثورة يف يزد إىل‬
‫الجامهريي‪ ،‬ويف أ ّول لقاء بني الشيخ والشاه أغلظ الشاه للشيخ‬
‫ّ‬ ‫طهران ليحارص التح ُّرك‬
‫يف القول وطلب منه أن يح ّدثه مبا جرى‪ .‬وكان الشاه يريد أن يسمع من الشيخ محاولة‬
‫تربئة نفسه‪ .‬قال الشيخ مبنتهى الشهامة‪« :‬أنا أخرجته من املدينة؛ ألنّه حاكم ظامل‬
‫ضج الفقراء من ظلمه؛ لذلك ثرت عليه»‪ .‬أمام هذه الصالبة والرصاحة‪ ،‬استب ّد الغضب‬ ‫ّ‬
‫بالشاه وأمر جالوزته أن يحرضوا الفلقة ملعاقبة الشيخ‪ .‬أحرضت الفلقة وج ّهزت‪،‬‬
‫وأصبحت رجال الشيخ جاهزتني للرضب والتعذيب‪ ،‬فقال الشاه ألمني الدولة األصفها ّين‪:‬‬
‫أي دخل يف ما جرى‪ ،‬فهو ال يل ّوث نفسه مبا حدث‪ ،‬إنّ ا كان ذلك من‬ ‫«يقيناً ليس للشيخ ّ‬
‫العاديي»‪ .‬كان يريد بذلك أن يلقن الشيخ أن يقول ولو كلمة واحدة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫األوباش والناس‬
‫صحيح‪ ،‬ال دخل يل‪ ،‬أنا بريء‪ .‬وأدرك «أمني الدولة» قصد الشاه‪ ،‬فه ّز رأسه موافقاً وقال‪:‬‬
‫يك العظيم»‪ .‬وفجأة‪،‬‬ ‫أي سوء للمقام املل ّ‬
‫«إنه و ّيف لجاللة الشاه املق ّدس‪ ،‬وال يصدر عنه ّ‬
‫رصخ الشيخ مغضباً ورجاله يف الفلقة‪« :‬ملاذا يكذب السلطان؟ أنا أخرجت الحاكم‪ ،‬أنا‬
‫بنفيس‪ ،‬الناس ال ذنب لهم»‪ .‬وفوجىء الشاه بهذا اإلرصار‪ّ ،‬إل أنّه أفهم أمني الدولة‬
‫يتوسط إلنقاذ الشيخ‪ .‬فخاطب أمني الدولة الشاه‪« :‬إنّه محرتم‪ ،‬ومن كبار العلامء‪،‬‬ ‫أن ّ‬
‫اعف عنه إكراماً يل‪ ،‬امنحه العفو املليكّ»‪ .‬فأطلق رساح الشيخ‪ ،‬وعاد إىل منزله(((‪.‬‬

‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪ ،102 - 101‬حسني (‪ )...‬املوسوي (‪ )...‬من أكابر متكلّمي اإلمامية‪ ،‬وأعاظم علامء الشيعة‬
‫املتب ّحرين يف أ ّوليات هذا القرن (‪ )...‬وله تصانيف جليلة نافعة متوج مبياه التحقيق (‪ )...‬وتعلّم الناس بأنّه بحر‬
‫طامٍ ال ساحل له‪ ،‬أه ّمها وأشهرها عقبات األنوار يف مناقب األمئّة األطهار‪ ،‬فاريس‪.‬‬
‫صاحب «عبقات األنوار»‬
‫(((‬
‫‪368‬‬
‫بعد أن ع ّدد املرحوم الشيخ آقا بزرﮒ مؤلّفات العامل الجليل السيّد مري حامد حسني‬
‫الجهادي وغريته‬
‫ّ‬ ‫حسه‬
‫صاحب املجموعة النفيسة والعظيمة «عبقات األنوار»‪ ،‬أشار إىل ّ‬
‫االستعامري‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫اإلسالميّة ض ّد مظاهر النفوذ‬
‫«واألمر العجيب أنّه ألّف هذه الكتب النفائس‪ ،‬واملوسوعات الكبار وهو ال يكتب‬
‫ّإل بالحرب والقرطاس اإلسالم ّيني‪ ،‬لكرثة تقواه وتو ُّرعه‪ ،‬وأمر تح ّرزه عن صنائع غري‬
‫املسلمني مشهور متواتر‪.(((»...‬‬
‫ابن صاحب «الرياض»‬
‫مهدي ابن صاحب الرياض أ ّن اليهود ال يعملون‬
‫ّ‬ ‫يف أواخر عمره‪ ،‬الحظ السيّد مح ّمد‬
‫بأحكام الذ ّمة‪ ،‬فتو ّجه من العتبات املق ّدسة إىل أصفهان‪ ،‬حيث استقبله ح ّجة اإلسالم‬
‫الشفتي مبنتهى اإلجالل واالحرتام‪ .‬وغادر أصفهان إىل طهران‪ ،‬حيث أمر بالتضييق عىل‬
‫القاجاري تح ّدى ذلك‬
‫ّ‬ ‫اليهود وقطع املاء عنهم‪ ،‬وفعالً ت ّم ذلك‪ّ .‬إل أ ّن الشاه مح ّمد‬
‫ونارص اليهود‪ .‬وعندما جاء الشاه لزيارة السيّد اعتذر باملرض ومل يستقبله‪ ،‬ث ّم غادر‬
‫طهران استنكارا ً‪ ،‬وأقام بجوار حرضة عبد العظيم ‪ .Q‬وعلم الشاه مبرض السيّد‬
‫فجاء لزيارته ثانية‪ ،‬إلّ أ ّن هذا العامل الجليل رفض استقباله ومل يكرتث به‪ ،‬وانتقل إىل‬
‫جوار الله تعاىل(((‪.‬‬
‫هذه مناذج من مواقف العلامء املجاهدين‪ ،‬ويف ما ييل مناذج من أقوالهم التي‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تتناول املشاكل التي يعاين منها العامل‬

‫((( جاء يف نقباء البرش‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،348 - 347‬السيد األمري حامد‪.‬‬
‫((( نقباء البرش‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.349‬‬
‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪.125 - 124‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مع المحدث النوري ‪M‬‬
‫‪369‬‬
‫النوري صاحب «مستدرك الوسائل» وأستاذ الشيخ‬ ‫ّ‬ ‫املح ّدث الجليل الشيخ حسني‬
‫آقا بزرﮒ‪ ،‬واملح ّدث الق ّم ّي‪ ،‬يقول يف كتاب «الكلمة الطيّبة» الذي أنهى تأليفه يف مح ّرم‬
‫سنة ‪1301‬هـ‪.‬ق‪ ،‬ما تعريبُه‪:‬‬
‫الباب الثاين‪ :‬يف ذكر اختالل أمر امللّة البيضاء‪ ،‬وخراب الرشيعة الغ ّراء وإرشاف‬
‫حملتها عىل االندثار‪ ،‬وأسسها عىل االنهدام‪ ،‬وعودة اإلسالم إىل حالة الغربة األوىل كام‬
‫رشع سداسلا مسقلا‪ :‬نيملاظلا ةهجاوم يف‬

‫قال ‪« :P‬بدأ اإلسالم غريباً وسيعود غريباً» (‪ )...‬ونجاة هذه الجامعة (الشيعة) يف‬
‫هذه األعصار يف غاية الصعوبة؛ ألسباب ع ّدة هي تر ّدد الكفّار إىل البالد املق ّدسة إيران‬
‫التي هي اآلن مركز اإلميان وبيضة اإلسالم‪ ،‬وكرثة اختالط املسلمني بهم ومصادقتهم‬
‫كل مدينة‬‫لهم وتداول أمتعتهم وأقمشتهم وأثاث البيت واملرشوبات واملأكوالت يف ّ‬
‫وقرية‪ ،‬وترويج املرتفني والبطّالني وأهل اللهو والطرب الذين مل يفكّروا أبدا ً بصدق‬
‫املعاد وحقيقته‪ ،‬ومل يع ّينوا ألنفسهم يف عمرهم ساعة لذلك ‪-‬ترويج هؤالء‪ -‬عادات‬
‫الكفرة وامللحدين وتقاليدهم‪ ،‬بحيث مل يبق يشء من رضوريّات الحياة ولوازم الراحة‬
‫الخارجي للبدن وطريقة‬
‫ّ‬ ‫الزي والكالم والشكل‬ ‫ّإل وللكفّار فيه اسم وعالمة‪ ،‬بل إ ّن ّ‬
‫كل ذلك أصبح يشبه املرشكني‪ ،‬بل هو مستم ٌّد من عاداتهم‪ .‬ونتائج ذلك‬ ‫رصف ّ‬‫الت ّ‬
‫مفاسد ومضا ّر ال تحىص لحقت بدين أحمد املختار ‪ ،P‬يُكتَفَى بذكر بعضها‪:‬‬
‫القلبي للكفّار وامللحدين من القلوب‪ ،‬مع أنّه من أركان الدين‬ ‫ّ‬ ‫األ ّول‪ :‬زوال البغض‬
‫لحب الله وأوليائه‪ ...‬كاملاء‬
‫وأجزاء اإلميان‪ ...‬وظهور مح ّبتهم ومو ّدتهم وهام نقيضان ّ‬
‫والنار‪ ...‬بل إ ّن معارشتهم أصبحت سبباً لالفتخار واملباهاة‪ ...‬مع أ ّن الله يقول‪:‬‬
‫ُ َ ٓ ُّ َ َ ۡ َ ٓ َّ َّ َ َ َ ُ َ ُ َ َ ۡ َ ُ ٓ ْ‬ ‫َ َّ ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ َ َ‬
‫ت ُد ق ۡو ٗما يُؤم ُِنون بِٱللِ َوٱلَ ۡو ِم ٱٓأۡلخ ِِر يوادون من حاد ٱلل ورسولۥ ولو كنوا‬ ‫﴿ل ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬
‫َءابَا َء ُه ۡم أ ۡو أ ۡب َنا َء ُه ۡم أ ۡو إ ِ ۡخ َو ٰ َن ُه ۡم أ ۡو َعشِ َري َت ُه ۡ ۚم﴾(((‪.‬‬

‫((( سورة املجادلة‪ ،‬اآلية ‪.22‬‬


‫ويقول أيضاً‪:‬‬
‫‪370‬‬
‫ۡ َّ َ‬ ‫َ ٰٓ َ ُّ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ َّ ُ ْ َ ُ ّ َ َ ُ َّ ُ ۡ َ ۡ َ ٓ َ ُ ۡ ُ َ‬
‫ون إ ِ َ ۡ‬
‫ل ِهم بِٱل َم َودة ِ َوق ۡد‬ ‫خذوا عدوِي وعدوكم أو ِلاء تلق‬ ‫﴿يأيها ٱلِين ءامنوا ل تت ِ‬
‫كم ّم َِن ۡ َ‬
‫ٱل ّ ِق﴾(((‪.‬‬ ‫َ َ ُ ْ َ َ َٓ ُ‬
‫كفروا بِما جاء‬
‫واآليات يف هذا املجال كثرية‪.‬‬
‫وجل إىل‬
‫ويف «من ال يحرضه الفقيه» عن اإلمام الصادق ‪« :Q‬أوحى الله ع َّز َّ‬
‫نبي من أنبيائه‪ ،‬قل للمؤمنني ال يلبسوا لباس أعدايئ وال يطعموا مطاعم أعدايئ‪ ،‬وال‬
‫ّ‬
‫يسلكوا مسالك أعدايئ فيكونوا أعدايئ كام هم أعدايئ» ‪.‬‬
‫(((‬

‫ث ّم يورد املح ّدث ع ّدة روايات بهذا املضمون‪ ،‬ويضيف‪:‬‬


‫القلبي للدين وطريق املسلمني‪ ،‬وعداوة املتديّنني‪ ،‬والعلامء‬
‫ّ‬ ‫الثاين‪ :‬ظهور البغض‬
‫الصالحني املتأ ّدبني بآداب الرشيعة‪ ،‬املنكرين بالقلب واللسان ملخالطة الكفّار والتش ّبه‬
‫بهم‪ .‬وهذا البغض من شأنه أن ينمو تدريج ّياً حتّى يستحكم‪ .‬ولقد بلغ من ش ّدة هذه‬
‫املفسدة أ ّن التعامل مع أهل العلم والدين كاد يصبح كالتعامل ‪-‬الذي ينبغي‪ -‬مع‬
‫اليهود‪ ،‬عندما يرون أحدا ً منهم ‪-‬أهل العلم والدين‪ -‬يشمئ ّزون وتنقبض قلوبهم‪ ،‬وإذا‬
‫خاص؛ أل ّن وجوده‬ ‫استطاعوا أن يؤذوه فعلوا‪ ،‬بل إنّهم يتنفّرون من املع ّمم بشكل ّ‬
‫ينغص عيشهم ويحول دون لهوهم وطربهم ويهزأُون به ويتغامزون استخفافاً وهزءا ً‪.‬‬ ‫ّ‬
‫بل إنّهم يتن ّدرون يف مجالس لهوهم مبحاكاة حركات أهل العلم وسكناتهم أثناء الدراسة‬
‫والعبادة وأحياناً ينظمون ذلك شعرا ً‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أ ّن نفقات هؤالء تتجاوز الخرب وتزيد عىل الدخل والشأن املتعارفني وقد‬
‫زادوا يف آالت فضول املعاش وأسباب اللهو والزينة وأنواع الثياب النفيسة واملأكوالت‬
‫الخبيثة واملرشوبات النجسة‪ ،‬بحيث إ ّن جميع ما يحصل عليه أحدهم من الحالل‬
‫والحرام‪ ،‬وتعب الليايل واأليّام‪ ،‬ال يفي بثمن قليل منها‪.‬‬

‫((( سورة املمتحنة‪ ،‬اآلية ‪.1‬‬


‫((( سورة املؤمن‪ ،‬اآلية ‪.23‬‬
‫املجسمة التي وضعت يف عداد زينة إحدى غرف‬ ‫ّ‬ ‫بلغت قيمة بعض صور الكفّار‬
‫‪371‬‬
‫أحد املرتفني ع ّدة آالف من التوامني كام نقل ذلك وثبت‪ ،‬فكم ستبلغ نفقات سائر لوازم‬
‫الزينة التي هي جزء من لوازم املعيشة (لهؤالء)؟‬
‫وهذه السرية يف الحياة ‪ -‬باإلضافة إىل أ ّن قسامً منها تبذير‪ ،‬اعترب الله تعاىل صاحبه‬
‫﴿وأَ َّن ٱل ۡ ُم ۡسف َ‬
‫ِني‬ ‫أخا الشيطان‪ ،‬وقسامً منها إرساف وهو من الكبائر وبنص كالم الجبار َ‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫ُه ۡم أ ۡص َحٰ ُب ٱنلَّارِ﴾(((‪ -‬فهي سبب الحاجة الدامئة‪ ،‬وتحمل صاحبها عىل الكسب الحرام‬
‫رشع سداسلا مسقلا‪ :‬نيملاظلا ةهجاوم يف‬

‫وظلم األنام؛ ذلك أل ّن الدخل الحالل بلحاظ التكاليف اإلله ّية املرتتّبة عليه ال يصل أبدا ً‬
‫إىل هذا ال ّحد‪-‬كام سيأيت من أ ّن عرشة آالف درهم أو عرشين ألف درهم ال تجمع من‬
‫حالل أبدا ً‪ -‬وهذا املقدار ال يفي بعرش معشار هذه النفقات‪ ،‬كام أ ّن هذه السرية يف‬
‫الحياة متنع صاحبها من اإلسهام مال ّياً يف تشييد بناء الدين وإعانة العلامء واملشتغلني‬
‫وترويج الرشيعة وتعظيم شعائر املسلمني»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشوشتري‬ ‫الشيخ جعفر‬
‫قل نظريه‪ ،‬الشيخ جعفر‬ ‫العامل الح ّر‪ ،‬الزاهد واملتّقي‪ ،‬والخطيب القدير الذي ّ‬
‫ّ‬
‫واملتوف عام ‪1303‬هـ‪.‬ق‪ .‬تح ّدث يف هذا املجال يف شهر مح ّرم عام‬ ‫الشوشرتي ‪،M‬‬
‫‪1300‬هـ‪.‬ق‪ .‬فقال‪:‬‬
‫«يف البداية أخاطب اإلسالم فأقول‪:‬‬
‫يا إسالم‪ ،‬لقد عظمت الرزيّة وجلّت املصيبة بك علينا وعىل جميع أهل الساموات‪.‬‬
‫ملاذا عظمت مصيبة اإلسالم علينا؟ أل ّن اإلسالم يف هذه األيّام بقي غريباً‪ ،‬أعرض الناس عنه‪،‬‬
‫وأقبلوا عىل الكفر والضالل وأهل الباطل‪ .‬لقد أخرب رسول الله ‪ P‬بغربة اإلسالم هذه‪.‬‬

‫((( من ال يحرضه الفقيه‪ ،‬ص‪.252‬‬


‫((( كلمـۀ ط ّيبة‪ ،‬باب دوم‪.‬‬
‫وتعود غربة اإلسالم إىل ع ّدة أسباب‪:‬‬
‫‪372‬‬
‫األ ّول‪ :‬أ ّن الكفّار واملخالفني واملنافقني أصبحوا أقوياء‪ ،‬وأهل اإلسالم ضعفاء؛ لهذا‬
‫أصبح أهل اإلسالم مييلون إىل أهل الكفر والباطل‪ ،‬وهذا الو ّد وامليل إىل الكفّار يرجع إىل‬
‫ضعف اإلميان ووهن االعتقاد‪ ،‬فلو كان إميانهم مكتمالً الختلف األمر‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أ ّن أهل اإلسالم اآلن يعملون بخالف تعاليم املصطفى ‪ P‬وأوامـرِه؛ ال‬
‫استقامة وال صدق وال إخالص‪ ،‬وال يجتنبون الحرام؛ ولذلك أصبح اإلسالم غريباً‪ .‬وأهل‬
‫الكفر رغم أنّهم ال يعتقدون بالرسول ‪ P‬بل هم أعداؤه‪ ،‬فإنّهم يعملون بأوامره‬
‫حق‪ .‬ولو أ ّن املسلمني مل يرتكوا س ّنة نب ّيهم‬
‫وتوجيهاته؛ لذلك يتص ّور الناس أنّهم عىل ّ‬
‫وأمئّتهم ملا بلغ األمر إىل ما هو عليه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أ ّن الحكّام املسلمني‪ ،‬مييلون إىل الكفّار واألجانب‪ ،‬وحيث إ ّن الناس غالباً‬
‫مييلون حيث مييل سالطينهم‪ ،‬فقد تو ّجهوا نحو الكفّار‪ .‬أال ترى أ ّن الشخص املسلم‬
‫يحب أن يقال له إنّه متفرنج؟ ولكن هل سمعت إىل اآلن شخصاً أفرنج ّياً يقال عنه‪:‬‬ ‫ّ‬
‫إسالمي؟‬
‫ّ‬
‫نعم‪ ،‬إ ّن ميل السالطني والحكّام وغري ذلك من األسباب أ ّدى إىل ميل الناس إىل‬
‫وتغيت أوضاع الرشيعة‪ ،‬واملتديّنون‬‫الكفر‪ ،‬وأن يعود اإلسالم غريباً‪ .‬تب ّدلت أركان الدين ّ‬
‫الغصات وال يقدرون أن يفعلوا شيئاً(((‪.‬‬
‫يعانون املرارات ويتج ّرعون ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التنكابني‬ ‫مع الشيخ محمد‬
‫التنكابني ‪-‬صاحب «قصص العلامء» ‪ M‬عام ‪1290‬هـ أيّام الشاه‬
‫ّ‬ ‫كتب الشيخ‬
‫نارص الدين‪ -‬قائالً‪:‬‬
‫«الظلم اآلن يف مدن إيران‪ ،‬كثري‪ ،‬وبال حدود‪ ،‬وال نظري له يف أيّة دولة»‪.‬‬

‫بترصف‪.‬‬
‫((( فوائد املشاهد‪ ،‬ص‪ّ 186 - 184‬‬
‫وكتب يف سنة ‪1296‬هـ‪ .‬ما يأيت‪:‬‬
‫‪373‬‬
‫«منذ ع ّدة سنوات واإلفرنج يرت ّددون إىل والية «تنكابن»‪ ،‬ويف فصل الربيع والشتاء‬
‫يقيمون فيها لرشاء الخشب‪ .‬وحتّى السنة املاضية ‪1295‬هـ كان الناس السفلة يعارشونهم‬
‫وال يحرتزون منهم‪ ،‬بل إ ّن بعضهم كان يرشب الخمر كاملاء‪ ،‬وكان اإلفرنج يهاجمون‬
‫أهل اإلسالم ويهزأُون بهم‪ .‬وعندما رأيت األمر كذلك تح ّدثت مع وايل البلدة فقلت‪:‬‬
‫إ ّن املسلمني يخالطون الكفّار وهم يطمعون بهم نظرا ً لفقرهم وفاقتهم ويوا ّدونهم‪،‬‬
‫رشع سداسلا مسقلا‪ :‬نيملاظلا ةهجاوم يف‬

‫بنص القرآن(‪ )...‬ث ّم إنّهم يرشبون معهم الخمر (‪ )...‬واستمرار‬ ‫ومو ّدة الكافرين حرام ّ‬
‫ذلك يؤ ّدي إىل مزيد بعد الناس عن اإلسالم؛ لذلك أقرتح أن تدعوهم إىل املناظرة‪ ،‬وأنا‬
‫عىل استعداد لذلك‪ ،‬وإذا مل يسلكوا طريق اإلنصاف يف املناظرة‪ ،‬با َهلْتُ ُهم‪ّ ،‬إل أ ّن الحاكم‬
‫رفض ذلك»(((‪.‬‬
‫ّ‬
‫الهمداني‬ ‫الشيخ‬
‫يصف العامل والعارف الكبري الشيخ حسينقيل الهمدا ّين أستاذ الس ّيد جامل الدين‬
‫اإلسالمي يف عرصه فيقول‪ ...« :‬أيّة جراحات أثخنت بها‬
‫ّ‬ ‫آبادي‪ ،‬وضع املجتمع‬ ‫ّ‬ ‫األسد‬
‫تلك األيدي بدر الدين‪ ،‬وأيّة مصائب ألحقتها بالرشع الرشيف؟ خلعوا لباس اإلله ّيني‪،‬‬
‫وارتدوا ثياب اإلفرنج ِّيني‪ .‬استبدلوا بأطعم ِة اإلسالم وأرشبته ُس َّم النصارى والدهريّني‬
‫وزقّومهم‪ .‬تركوا آداب الرشع والتزموا بآداب الكفر‪ .‬سوق الكفر والرشك يف بالدهم‬
‫معمورة‪ ،‬وسوق إسالمهم خربة‪ .‬وافضيحتاه! عسكر الكفر يف بالد وجودنا منصور‬
‫ومرسور‪ ،‬وجيش اإلسالم مقتول مأسور‪.‬‬
‫ال نحن يف عاقبة أمرنا فكّرنا‪ ،‬وال بسياسات الله (جميل صنعه) يف األمم املاضية‬
‫وقصة فرعون وقابيل‪ ،‬ظ ّنناها مزاحاً‪.(((»...‬‬
‫اعتربنا‪ .‬قض ّية أبابيل الهائلة‪ّ ،‬‬

‫((( قصص العلامء‪ ،‬ص‪.455‬‬


‫((( تذكرة املتّقني‪ ،‬ص‪.218‬‬
‫مع صاحب الكفاية‬
‫‪374‬‬
‫حاول قائد ثورة املرشوطة‪ ،‬الشيخ الخراسا ّين ‪ ،M‬يف بداية األمر‪ ،‬أن ينصح الشاه‬
‫الخاص السيّد محسن‪ ،‬نصيحة مشهورة تتألّف من‬‫ّ‬ ‫يل‪ ،‬فأرسل إليه‪ ،‬مع ممثّله‬
‫مح ّمد ع ّ‬
‫عرشة بنود‪ ،‬وهذا بعضها‪:‬‬
‫‪ - 1‬ابذل غاية جهدك لرفع شأن اململكة وعظمتها‪ ،‬ال س ّيام يف مجال الرتبية السليمة‪،‬‬
‫الح َرف والصناعات‪ ،‬واعمل عىل ترويج املنسوجات والبضائع‬ ‫وترغيب الناس يف تعلّم ِ‬
‫الوطن ّية؛ ألنّك إذا أقبلت شخص ّياً عىل استعامل املنتوجات الوطن ّية فإ ّن ذلك يدعو‬
‫املسؤولني والناس إىل االقتداء بك‪ ،‬األمر الذي يؤ ّدي إىل خروج البلد من أرس الحاجة‬
‫للمنسوجات والصناعات األجنب ّية‪.‬‬
‫رقي بلده‬
‫لقد سلك «ميكادو» ملك اليابان هذا الطريق؛ ألنّه كان يدرك أ ّن مفتاح ّ‬
‫يكمن يف عدم حاجة شعبه إىل املنتجات املستوردة‪ ،‬وإثر ذلك حقّقت اليابان‬
‫إنجازات ها ّمة‪.‬‬
‫‪ - 2‬اعمل عىل نرش العلوم والصناعات الحديثة‪ ،‬فذلك الذي أ ّدى إىل تق ّدم سائر الشعوب‪،‬‬
‫ومن البديه ّيات املسلّمة أ ّن اإليران ّيني‪ ،‬من حيث الكفاءة والقابل ّية‪ ،‬يفوقون سائر‬
‫الشعوب‪ ،‬وقد كانوا عرب التاريخ قدوة‪ ،‬وما التخلّف القائم اآلن والذي أوصل الشعب‬
‫إىل هذا الح ّد من الفقر إلّ نتيجة لعدم اهتداء املاضني إىل هذه النقطة‪ ،‬وانرصافهم‬
‫غري املس َّوغ إىل الصناعات الخارج ّية املستوردة‪ ،‬وقد رسى منهم هذا املرض إىل‬
‫سائر أفراد الناس‪ .‬إ ّن وجود إيران وإعادة بنائها يتوقّفان عىل إدراك هذه الحقيقة‪.‬‬
‫‪ - 3‬احذر‪ ،‬واحذر كثريا ً من تد ّخل األجانب يف شؤون البلد‪ ،‬وراقب‪ ،‬وراقب كثريا ً لتقيض‬
‫عىل مس ّببي الفتنة منهم؛ ألنّهم منشأ جميع االبتالءات وأنواع الفساد‪ ،‬وال ينبغي‬
‫االعتامد عليهم أبدا ً‪ .‬وهذه القروض التي أثقلت كاهل الدولة ليست ّإل مظهرا ً من‬
‫مظاهر تد ّخلهم غري املس َّوغ‪ .‬من هنا‪ ،‬فإ ّن عىل الوطن ّيني اإليران ّيني الذين يح ّبون‬
‫بلدهم أن ينتخبوا أشخاصاً أكفاء إلدارة السلطنة‪.‬‬
‫‪ - 4‬ابذل جهدك يف بسط العدالة واملساواة الواقع ّيتني‪ ،‬بحيث يكون نفس الشاه مساوياً‬
‫‪375‬‬
‫يف الحقوق ألضعف أفراد الشعب‪ ،‬ولتنفّذ األحكام الرشع ّية عىل جميع األفراد ودون‬
‫رصا ً عىل ذلك ماضياً فيه قدماً فإ ّن املخالفني‬
‫استثناء‪ ،‬وعندما يكون الشاه شخص ّياً م ّ‬
‫ويرتسخ أساس العدالة‪ .‬طبعاً ليس املقصود مج ّرد تو ّهم‬ ‫شك‪ّ ،‬‬ ‫س ُي ْم َن ْو َن بالهزمية دون ّ‬
‫ذلك والكالم عنه فقط‪ ،‬بل املقصود العمل به‪.‬‬
‫‪ - 5‬بالرجوع إىل التاريخ يتّضح لجاللة امللك أ ّن ملوك إيران سوا ًء قبل اإلسالم أو بعده‬
‫رشع سداسلا مسقلا‪ :‬نيملاظلا ةهجاوم يف‬

‫عندما كان أحدهم ينرصف إىل اللهو والشهوات‪ ،‬ويقتدي به املسؤولون‪ ،‬فإ ّن النتيجة‬
‫دامئاً كانت عجز اململكة‪ ،‬وذلّة الشعب‪ ،‬وضياع الرثوة الوطن ّية‪ ،‬واضطراب األمور‪.‬‬
‫كل ما‬ ‫أ ّما عندما كان أحد امللوك السابقني يرصف النظر عن الشهوات ويبذل ّ‬
‫لرقي البلد وتربية الشعب ونرش العلوم والصناعات وتجهيز‬ ‫يف وسعه يف العمل ّ‬
‫الجيش‪ ،‬فإ ّن النتيجة كانت يف م ّدة قصرية‪ ،‬تق ّدم البلد وعظمته وازدهاره‪ ،‬وإحراز‬
‫عصب السبق عىل سائر الدول‪ .‬وآمل ‪-‬إن شاء الله‪ -‬أن يبتعد الشاه عن الطريق‬
‫األ ّول فإنّه طريق فاسد‪ ،‬ويختار الطريق الثاين ويجعله نصب عينه ليؤيت مثاره‬
‫رسيعاً‪ ،‬إن شاء الله تعاىل‪.‬‬
‫‪ - 6‬إنّنا نتوقّع االهتامم الدائم بحفظ مقام العلم الشامخ واحرتام العلامء العاملني‬
‫والفقهاء واملصلحني؛ فإنّه إذا وقع التقصري يف هذا األمر الها ّم تع َّرض البلد والشعب‬
‫سنعض ‪-‬إىل األبد‪ -‬إصبع الندامة‪ ،‬حيث ال ينفع الندم»‪.‬‬‫ّ‬ ‫للهالك والفناء‪ .‬عندها‬
‫القاجاري‬
‫ّ‬ ‫وباإلضافة إىل هذه الرسالة التوجيه ّية‪ ،‬كان اآلخوند الخراسا ّين يويص الشاه‬
‫باستمرار عن طريق الربق ّيات والرسائل مبراعاة حقوق الناس يف إيران‪ّ ،‬إل أ ّن هذه‬
‫النصائح مل تنفع‪ ،‬وتو ّرط الشاه بقتل الناس بح ّجة حفظ الدين‪ .‬أمام ذلك يئس الشيخ‬
‫من إصالح الشاه واقتنع برضورة عزله؛ لذلك أصدر هو وثالثة من العلامء بياناً وأرسلوه‬
‫برق ّياً إىل طهران‪ ،‬وكان كام يأيت‪:‬‬
‫«فعن حكم الله‪ ،‬إىل عموم الشعب اإليرا ّين‪ :‬إ ّن بذل الجهد اليوم من أجل إزاحة‬
‫هذا السفّاك ال ّجبار والدفاع عن نفوس املسلمني وأعراضهم وأموالهم هو من أه ّم‬
‫‪376‬‬
‫الواجبات‪ ،‬وإ ّن دفع الرضائب ملأموريّة من أعظم املح ّرمات‪ ،‬وبذل الجهد يف استحكام‬
‫وتثبيت املرشوط ّية مبنزلة الجهاد يف سبيل إمام الزمان‪ ،‬واملخالفة يف ذلك والتسامح فيه‬
‫قيد شعرة مبنزلة خذالنه ومحاربته |أعاذنا الله واملسلمني من ذلك»(((‪.‬‬
‫النجفي القوﭼ ّ‬
‫ّ‬
‫ـاني‬ ‫آية اهلل‬
‫النجفي قبل أكرث من نصف‬
‫ّ‬ ‫يف كتاب «سياحة الرشق» ‪-‬الذي ألّفه آية الله السيّد‬
‫ويعب‬
‫قرن‪ -‬يصف أوضاع العراق أثناء الحرب العامليّة األوىل واحتالله من قبل اإلنكليز‪ّ ،‬‬
‫عن شديد أسفه لعدم اهتامم املسلمني بالجهاد ض ّد املستعمرين‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫«قائد الجيش اإلنكلّيزي (املكلّف باحتالل العراق) لُقّب (يف بلده) بالفاتح‪ ،‬وقد‬
‫دخل بغداد وبعد ثالثة أيّام‪ ،‬مىش متبخرتا ً ومن مسافة نصف فرسخ أمسك البندق ّية‬
‫وس ّدد طلقة إىل جهة رسايا الحكومة‪ ،‬بعدها دخل اإلنكليز بحامس شديد وملء لسان‬
‫حالهم التح ّدي واالستخفاف‪ .‬بل كان يُسمع علناً‪ :‬أنا فاتح العراق وعاصمة املسلمني‬
‫أقل من يومني‪ ،‬أغمض عينه عن العراق وغري‬ ‫الكربى واألدهى‪ .‬إ ّن هذا «الفاتح» وبعد ّ‬
‫العراق ووصل إىل جه ّنم‪ّ ،‬إل أ ّن اإلنكليز دفنوا الجثّة النجسة لقائدهم العظيم! طبق‬
‫أحكام اإلسالم‪ ،‬وبنوا عىل قربه مزارا ً مقابل املقام العظيم لإلمام موىس الكاظم ‪Q‬‬
‫وأخذوا يزورونه؛ ليحرتق ‪-‬من األىس‪ -‬املسلمون الس ّنة والشيعة‪ ،‬بل ليموت من ميتلك‬
‫َ َ ‪َ ُ َ ۡ َ َ ۡ ُ َ َ ۡ َ َّ ٰ َ َ ((( ۡ ُ َّ ٞ‬‬
‫ون﴾ وفرنسا‬ ‫كن أكثهم ل يعلم‬ ‫الوعي منهم غيظا ً وكمدا ً ﴿وقل ِيل ما همۗ﴾ ﴿ول ِ‬
‫احتلّت بالد الشام وتواصلت مع اإلنكليز يف كركوك واملوصل‪ .‬وخرجت جزيرة العرب‬
‫كلّ ًّيا من يد العثام ّين ‪-‬الذي مل يكن له يد تذكر‪ -‬ولسان حال فرنسا ينشد األراجيز‬
‫ويفتخر عىل بني أم ّية‪ ،‬خصوصاً معاوية‪.‬‬

‫بترصف‪.‬‬
‫((( زندﮔـاين آخوند خراساين‪ ،‬ص‪ 142‬و‪ّ 183 - 176‬‬
‫((( سورة ص‪ ،‬اآلية ‪.24‬‬
‫ث ّم يتح ّدث ‪ M‬عن املالحم التي سطَّرها املسلمون يف صدر اإلسالم‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫‪377‬‬
‫لقد كانت ق ّوتهم آنذاك تكمن فقط يف العمل بهذه اآلية‪:‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫اط ۡ َ‬
‫ٱل ۡي ِل ت ۡره ُِبون بِهِۦ ع ُد َّو ٱللِ‬
‫ُ‬
‫ٱس َت َط ۡع ُتم ّمِن ق َّوة ٖ َومِن ّرِ َب ِ‬‫ـدوا ْ ل َ ُهم َّما ۡ‬‫﴿وأَ ِعـ ُّ‬
‫َ‬

‫يل‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫﴿و َما تُنفِ ُقوا ْ مِن ۡ َ‬
‫شءٖ ف َ‬ ‫ك ۡم﴾((( ثم تطمنئ اآلية يف آخرها ُعباد الدنيا َ‬
‫ّ‬
‫َ َ ُ َّ ُ‬
‫وعدو‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫ُۡ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك ۡم َوأ ُ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ون﴾ وهذه اآلية الرشيفة موجودة اآلن يف القرآن‪،‬‬ ‫نت ۡم ل تظلم‬ ‫ٱللِ يُ َوف إِل‬
‫يفسها العلامء؟ وملاذا ال يوردونها يف الرسالة العمل ّية؟ وملاذا ال‬
‫ُنسخ‪ ،‬ملاذا ال ّ‬
‫ومل ت َ‬
‫رشع سداسلا مسقلا‪ :‬نيملاظلا ةهجاوم يف‬

‫كل‬
‫يح ّرض الو ّعاظ عىل املنابر عىل هذا الواجب وال يحذّرون من تركه؟ يف حني أ ّن ّ‬
‫الواجبات األخرى تسقط بأدىن عرس وح َرج‪ ،‬بينام يستم ّر وجوب هذا الواجب ما دامت‬
‫االستطاعة موجودة «ما استطعتم» وما ذلك ّإل أل ّن الهدف حفظ الدين وحفظ البيضة‪،‬‬
‫وحفظها منوط باألمان (يف دار اإلسالم) وعندما تصبح البالد اإلسالم ّية يف قبضة األجانب‬
‫املعنوي منها‬
‫ّ‬ ‫يزول األمان‪ .‬وقد أوجب تعاىل تحصيل الق ّوة الذي يشمل جميع املراتب‬
‫كل عرص ومرص‪.‬‬ ‫واملادي يف ّ‬
‫ّ‬
‫العسكري والقناعة وعدم اإلرساف والتبذير يف النفقات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وعىل هذا‪ ،‬فإ ّن التدريب‬
‫وعلم صناعة السالح‪ ،‬من الق ّوة املعنويّة التي ال وجود لها فينا بل نحن نتملّص منها‪،‬‬
‫إىل ح ّد أ ّن العلامء يحاربون ذلك استاملة للعوا ّم وملج ّرد إرضائهم‪ ،‬ويأمرون عوضاً ِمن‬
‫هذا الواجب امله ّم‪ ،‬باملستح ّبات‪ ،‬وأيّة مستح ّبات؟ إنّها من النوع النفسا ّين غري الخالص‬
‫من الشوائب‪.‬‬
‫يُروى عن اإلمام الصادق ‪« :Q‬وكان الخضاب من الق ّوة» ْ‬
‫(أي إ ّن الخضاب‬
‫يوجب املهابة يف قلوب الكافرين) فليقل علامء العرص‪ :‬املدفع والرشاش والسفينة‬
‫والدبابة من الق ّوة»‪.‬‬

‫((( سورة األنفال‪ ،‬اآلية ‪.60‬‬


‫طبعاً سيقول «املق ّدسون»‪ ،‬كام ُسمع مرارا ً‪ :‬هذه األمور هي واجب حرضة الح ّجة |‬
‫َّ َ ۡ ُ َ َّ ۡ َ ّ ۡ َ َّ َ ُ َ َ ُ َ‬
‫‪378‬‬
‫(((‬
‫حٰفِظون﴾‬ ‫أو سيقولون‪ :‬إ ّن الله تكفّل بحفظ دينه؛ ألنّه قال‪﴿ :‬إِنا نن نزلا ٱذلِكر ِإَونا لۥ ل‬
‫يل‪ ،‬وكان منذ البداية قد‬ ‫ولك ّنهم مخطئون‪ ،‬لقد كان الله أيضاً موجودا ً يف زمان ّ‬
‫النبي وع ّ‬
‫النبي وتجييشه الجيوش رغم الجوع والعطش‬ ‫كل جهود ّ‬ ‫تع ّهد بحفظ دينه‪ ،‬فلامذا إذًا ّ‬
‫امل ُهلِك َْي‪ ،‬ورغم سموم ِقفار الحجاز الوعرة؟ أمل يكن لهم نساء وأوالد؟ أمل يكونوا يرغبون‬
‫بالظل واإلسرتاحة؟ أمل يكن الله تعاىل يستطيع أن يسلّط عىل عمرو بن عبد و ّد مرض‬ ‫ّ‬
‫قلب‪ ،‬فال ميكنه أن يتامسك عىل ظهر فرسه؟ نعم‪ ،‬الله يحفظ الدين بوساطة املؤمنني‪ .‬ال‬
‫َ ۡ َ ۡ َ َ َ َ ُّ َ َ َ ٰ َ ٓ َّ َ ٰ ُ َ َ ٰ ُ َ‬
‫ون﴾(((‪.‬‬ ‫يصح أن يقال كبني إرسائيل‪﴿ :‬فٱذهب أنت وربك فقتِل إِنا ههنا قعِد‬ ‫ّ‬
‫بشخص صاحب ِه َّم ٍة وعزمية‪ .‬يجب تشمري الذيل‪ ،‬كام فعل‬ ‫ٍ‬ ‫إ ّن الله يحفظ الذكر‬
‫يل‪( ،‬واملعاهدة أ ّن ال يضع رداءه عىل كتفه حتّى يجمع القرآن كام هو حقّه‪ ،‬حتّى‬ ‫ع ّ‬
‫إذا أخذوا منه الرئاسة والسلطنة‪ ،‬ولو أحرقوا باب داره‪ ،‬ولو رضبوا زوجته املك ّرمة‬
‫النبي ‪ )P‬ال أن أحفظ نفيس من الح ّر والربد لتق ّر يب عني عمود الدين وعيون‬ ‫ابنة ّ‬
‫املؤمنني‪ ،‬وأعتني بثيايب وطعامي ليظهر َّيف جامل الدين وجالله‪ ،‬وأن أبني منزالً عالياً‬
‫وعامرة جميلة حتّى ال يصبح الدين ذليالً يف أنظار الناس‪.‬‬
‫والله‪ ،‬إنّهم اختاروا طريقاً معو ّجاً وهم يعلمون أ ّن طريقهم أعوج وليس التديّن من‬
‫عامل األلفاظ الخالية‪ .‬فقد قال‪ :‬اإلميان كلّه العمل‪ ،‬بل إ ّن وضع ق ّبعة الديانة عىل رأس‬
‫الدنيا الرصف‪ ،‬افرتاء عىل الله والرسول واالفرتاء عىل الله كفر‪ ،‬والخوف شديد‪ ،‬واألمر‬
‫كل يشء‪ .‬الله حافظ‪ ،‬وواجبهم األمر باملعروف‬ ‫عىل العلامء شديد‪ ،‬وغفلتهم أش ّد من ّ‬
‫هي بعد‬‫والنهي عن املنكر‪ ،‬وقبل أمر الغري ونهيه تأيت إطاعتهم هم أنفسهم «وإنّ ا ال َّن ُ‬
‫التناهي»‪ .‬وهذه الواجبات مرتوكة كلّها وال يفكّر بها أحد‪ ،‬بل يريحون أنفسهم بأعذار‬
‫غري مو ّجهة‪.‬‬

‫((( سورة الحجر‪ ،‬اآلية ‪.9‬‬


‫((( سورة املائدة‪ ،‬اآلية ‪.24‬‬
‫وبديهي أ ّن اطمئنان العلامء واسرتاحتهم إىل عاقبة األمر ‪-‬مع اليقني بأنّه كلّام‬ ‫ّ‬
‫‪379‬‬
‫ارتفعت درجة املعرفة والعلم كلّام اشت ّد الخوف من سوء العاقبة‪ -‬اعتامد عىل الوعود‬
‫شك أ ّن غاية الجهل أن يعتمد الشخص عىل‬ ‫الشيطان ّية الكاذبة واتكال عليها‪ ،‬وال ّ‬
‫مواعيد عدوه العرقوب ّية ويعتربه مريدا ً للخري له‪ .‬إذا ً‪ ،‬هؤالء ليسوا أولئك العلامء الذين‬
‫الحقيقي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يحملون العلم‬
‫عي (اإلنكليز) أعضاء الحكومات املحلِّ ّية يف كربالء‪ ،‬والنجف‪،‬‬ ‫بعد سنة ونصف‪ّ ،‬‬
‫رشع سداسلا مسقلا‪ :‬نيملاظلا ةهجاوم يف‬

‫رشفة يقتيض أن‬ ‫والكاظم ّية‪ ،‬وسام ّراء‪ ،‬من املسلمني‪ ،‬باعتبار أ ّن احرتام املشاهد امل ّ‬
‫كل ما احتاج إىل ذلك من مسجد السهلة والكوفة‪ ،‬وق ّرروا‬ ‫ال يحكمها كافر‪ ،‬ورم ّموا ّ‬
‫للمسجدين ك ّم ّية شهريّة من النفط لإلنارة‪ ،‬وأعطوا خ ّدام املسجدين مرتّبات شهريّة‬
‫حتّى ال يؤذوا الز ّوار (بطلب املال منهم) كام كانوا يفعلون سابقاً‪.‬‬
‫ويف شهر مح ّرم‪ ،‬أعطوا حواالت للحسين ّيات الستالم السكّر والشاي والنفط‪ .‬وتدريج ّياً‬
‫أجروا عىل األلسن أن يدعوا الناس لهم‪ ،‬وأجروا عىل ألسن األراذل من العرب أ ّن‬
‫عيىس أعظم من مح ّمد؛ أل ّن لقبه روح الله ومح ّمد حبيب الله‪ .‬وطبعاً الروح مق ّدم‬
‫عىل الحبيب؛ أل ّن الحبيب غري املحبوب‪ ،‬بينام الروح ليس غريه‪ .‬وبدأُوا يو ّجهون هذا‬
‫الطلب‪ .‬قلت (يف جواب هذا اإلشكال)‪« :‬يا عديم الغرية والدين‪ ،‬مبقتىض‬ ‫اإلشكال إىل ّ‬
‫اآلية الرشيفة «فإذا س ّويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين» كلّنا روح الله‪.‬‬
‫للنبي عيىس (هذا بالنسبة إىل روح الله‪ ،‬وأ ّما بالنسبة إىل حبيب‬‫نعم‪ ،‬هناك خصوص ّية ّ‬
‫الله‪ ،‬فإ ّن الله تعاىل نظر إىل أنبيائه فاختار من بينهم املصطفى حبيباً (مم ّيزا ً) له»‪.‬‬
‫ومن جملة أعاملهم البارزة (االنكلّيز) التي استهوت أفئدة «املق ّدسني»وقصمت‬
‫ظهر الدين‪ ،‬أنّهم أخريا ً عمدوا إىل مبلغ األربعة وعرشين ألف روب ّية ‪-‬الذي كان يصل‬
‫فقسموه‬
‫الطلب) ّ‬‫أوقاف هناك‪ -‬فيوزّع عىل املجتهدين (ليوزّعوه عىل ّ‬‫ٍ‬ ‫من الهند من‬
‫الطلب‪ ،‬ويجب أن‬ ‫بني النجف وكربالء بح ّجة أ ّن املجتهدين ال يوصلونه إىل فقراء ّ‬
‫كل من النجف وكربالء) وقد بادر‬
‫خاصة لذلك (يف ّ‬
‫نقسمه نحن بأيدينا‪ .‬فتحوا دائرة ّ‬
‫أولئك الذين لبسوا العاممة من أجل أربعة رياالت «الدنيا» إىل تسجيل أسامئهم بع ّدة‬
‫‪380‬‬
‫طرق يف دفرت مالك النار‪ .‬وهم يذهبون شهريّاً ألخذ هذه الدراهم املعدودة ّ‬
‫وبذل ال‬
‫يوصف‪ ،‬وهم مع ذلك يق ّدمون دعواتهم بإخالص حضورا ً وغياباً‪.‬‬
‫املق ّدسون املزيّفون بل الكافرون‪ ،‬بل املنافقون‪ ،‬بل جراثيم وحرشات األرض‪ ،‬أو أ ّن‬
‫اإلنكليز مق ّدسون يستحقّون اإلعجاب‪ ،‬وهم يقيناً من أهل الرحمة‪ ،‬والعثام ّين امللعون‬
‫الذي مل يكن له دين فضالً عن القداسة‪ ،‬كان يريد بقوله م ّرة واحدة «ال إله إلّ الله» أن‬
‫يدخل نفسه يف بوتقة املسلمني‪ .‬أ ّما جناب بريطانيا‪ ،‬فإنّها (تدرك أ ّن العمل هو املحور)‬
‫ترصف األموال الشؤون اإلسالم ّية التي كانت مرتوكة ال يلتفت إليها أحد‪ ،‬تعمل عىل‬
‫إصالحها ليالً ونهارا ً كأنّها تفكّر باإلسالم من تعمري زوايا مسجد الكوفة والسهلة وتأمني‬
‫النفط والخدم‪ ،‬وترويج مجالس العزاء‪ ،‬حتّى إنّها تق ّدم النفط للمشاعل التي تحمل يف‬
‫مواكب اللطم‪ .‬وأمرت الرشطة مرافقة املواكب حتّى الصباح‪ .‬لعن الله العثامن ّيني‪ ،‬بل‬
‫طلب املرشوطة والدميقراط ّيني‪ ،‬الذين يذ ّمون اإلنكليز باستمرار وقد أوقعونا يف‬ ‫وحتّى ّ‬
‫شبهة‪ -‬الحمد لله اتّضحت لنا األمور وزالت الشبهة‪ .‬لن نسمع كالمهم بعد اليوم‪ -‬وترى‬
‫غيبة اإلنكليز حراماً ‪-‬أدام الله ظلَّهم عىل الضعفاء‪ -‬قال يل أحدهم‪« :‬يا أخي‪ ،‬أال تفكّر‬
‫بهذا؟ كان يصل إىل املجتهدين شهريّاً أربعة وعرشون ألف روب ّية ومل يكن الفقري يَ ِص ُل من‬
‫ذلك حتّى نصف روب ّية! اآلن يقسمون اثني عرش ألف روب ّية (يف النجف) فتصل إىل فقراء‬
‫أقل تقدير يشبع شهريّاً‬ ‫الطلب الذين كانوا محرومني حتّى من الخبز بدون أدام‪ .‬وعىل ّ‬ ‫ّ‬
‫مئة ألف جائع‪ ،‬ويف السنة أكرث من مليون جائع‪ ،‬وقد قال الرسول ‪« :P‬من أشبع جائعاً‬
‫وجبت له الج ّنة» واملوظّفون املبارشون لهذا العمل يتلقّون األوامر من األعىل رتبة منهم‪،‬‬
‫وهكذا حتّى تصل إىل الربملان اإلنكليز ّي‪ ،‬هؤالء جميعاً رشكاء يف هذا الثواب الذي ورد يف‬
‫حديث رسول الله ‪ ،P‬بحيث يُخىش أن تدخل الج ّنة كلّها يف عداد مستعمرات اإلنكليز‪،‬‬
‫كل‬‫وال يبقى مكان للمسلمني ليكونوا مستقلّني‪ ،‬كام أ ّن األمر يف الدنيا كذلك‪ ،‬حيث تكاد ّ‬
‫بالد املسلمني تصبح يف عداد مستعمرات اإلنكليز‪ .‬فاستشطت غضباً‪ ،‬وقلت له‪:‬‬
‫«(‪ )...‬إ ّن يكَّ جبهتك وعاممتك‪ ،‬ال يغطّيان سواد صحيفة أعاملك! يا أسوأ من اإلنكليز‪،‬‬
‫‪381‬‬
‫أيّها النهروا ّين‪ ،‬عابد البطن وقصري النظر‪ ،‬حرشك الله مع اإلنكليز‪ ،‬حيثام مالت الدنيا‬
‫فإ ّن أمثالك كد ّوار الشمس تجعلون ذلك املكان (الذي فيه الدنيا) قبلة وتنحنون أمامها‬
‫يصح أبدا ً أن تتف ّوه بهذا الكفر‬ ‫وتسجدون «فهو عبد لها وملن يف يده يشء منها»‪ .‬ال ّ‬
‫مقابل األمري‪ ،‬بل إ ّن كالمك هذا أش ّد إيالماً لألمري من السيوف النهروان ّية التي سلّت‬
‫َ‬
‫يف وجهه‪ .‬أيها الكافر‪ ،‬متى يشار إىل قتيلك ويقال عنه ﴿أ َّم ۡن ُه َو َقٰن ٌِت َءانَا ٓ َء َّ ۡ‬
‫ٱل ِل﴾»؟‬ ‫ّ‬
‫رشع سداسلا مسقلا‪ :‬نيملاظلا ةهجاوم يف‬

‫الحق ُم ّزقت ‪-‬كام ُي َّزق بيت العنكبوت‪ -‬األبّهة‬


‫رأى عابد البطن هذا أ ّن هيبة كلمة ّ‬
‫تحصن فيها هذا الضعيف العقل‪ ،‬فتزلزلت أركانه‬ ‫الساحرة لدولة اإلنكليز التي كان قد ّ‬
‫وول هارباً‪.‬‬
‫وانسحب من ميدان املقاومة ّ‬
‫البديهي أ ّن الدنيا هي قبلة ومعراج‬
‫ّ‬ ‫إجامالً‪ ،‬عندما دخل اإلنكليز العراق‪ ،‬ومن‬
‫حركاتها وسكناتها‪ ،‬وبحكم «إ ّن الناس عىل دين ملوكهم» فإ ّن النهروان ّيني من املسلمني‬
‫الذين كانت الدنيا أيضاً وجهتهم الباطن ّية قد انكشف أمرهم وظهرت حقيقتهم‪ ،‬بل‬
‫الحق معهم‬
‫إنّهم كانوا دومنا حياء يفتخرون ويعتربون أ ّن سرية اإلنكليز دليل عىل أ ّن ّ‬
‫(النهروان ّيني)‪.‬‬
‫بدأت الحرب األخالق ّية (الكالم ّية) بني املسلمني‪ ،‬خصوصاً ّ‬
‫الطلب‪ .‬والقلّة الذين‬
‫كان إميانهم مستق ّرا ً وراسخاً تص ّدوا للمق ّدسني (املزيّفني) ومفاسد ديانة دولة بريطانيا‪،‬‬
‫والذل والهوان‪ ،‬خصوصاً شامتة األعداء‪ ،‬يعني‬‫ومرارات الدهر من الفقر واإلضطراب ّ‬
‫فكل ما أُ ِ‬
‫لح َق يب هو م ّمن أعرفه»‪.‬‬ ‫املحسوبني علينا‪« .‬أنا ال أرصخ أبدا ً من أذى األجانب‪ّ ،‬‬
‫كل منها سندان‪ ،‬وأسلمت األجساد‬ ‫وقفت هذه القلّة أمام هذا السيل ال َعرِم وجبه ُة ّ‬
‫ومتسكت بالعروة الوثقى‪،‬‬
‫للمقادير وأحنت الرؤوس تسليامً‪ ،‬وأغمضت العيون‪ّ ،‬‬
‫وتحصنت بالحصن الحصني‪« ،‬ال إله إلّ الله» وانرصفت إىل الجهاد والدفاع مبنتهى كظم‬ ‫ّ‬
‫الغيظ والصرب‪.‬‬
‫لقد غطّت الحروب دول الرشق والغرب والبحر وال ّرب‪ ،‬ووصل دخانها إىل السامء‪،‬‬
‫‪382‬‬
‫بأقل من تلك الحروب‪.‬‬
‫وكانت النجف كأنّها قلب الدنيا‪ ،‬ومل تكن الحرب األخالق ّية فيها ّ‬
‫يف الحقيقة‪ ،‬عجوز الدنيا الشمطاء التي زيّنت نفسها باملساحيق الكاذبة والشيطنة؛‬
‫أي بريطانيا العظمى كانت يف حرب ورصاع مع عروس اآلخرة الفت ّية املزيّنة بالصدق‬
‫الحقيقي والزينة اإلله ّية‪« .‬الدنيا واآلخرة‬
‫ّ‬ ‫والصفاء والكامالت الواقع ّية الدامئة والجامل‬
‫رضتان ال تجتمعان»‪.‬‬
‫ّ‬
‫وكثريا ً ما يختار ُم ْع َو ُّج السليقة وقليل الذوق تلك العفريتة عىل هذه الوصيفة‬
‫الجميلة‪ ،‬بـىل‪ ،‬الدنيا ساحرة‪ ،‬تعمي العيون‪« .‬طريق الدنيا مريح‪ ،‬أخرض تنبت فيه‬
‫الورود وطريق العقبى ميلء باألحجار والشوك»((( ( ُحفّت الج ّنة باملكاره‪ ،‬و ُحفّت النار‬
‫بالشهوات)‪.‬‬
‫ّ‬
‫وهلل العزة ولرسوله وللمؤمنين‬
‫التاريخي الذي أصدره‬
‫ّ‬ ‫نص البيان‬
‫ويف نهاية املطاف‪ ،‬ومن باب «وختامه مسك» هذا ّ‬
‫الخميني { عندما كان مبعوثو الرئيس األمرييك كارتر يف الج ّو يف طريقهم‬ ‫ّ‬ ‫اإلمام‬
‫إىل إيران‪ ،‬فكان السبب يف أن يرجعوا من الج ّو خائبني‪ .‬إنّه بيان يبعث عىل االعتزاز‪،‬‬
‫وطيلة أدوار الغيبة الكربى مل تبلغ ع ّزة اإلسالم األصيل هذا الح ّد‪.‬‬

‫وترصف يسري‪.‬‬
‫((( سياحت رشق‪ ،‬ص‪ ،581 - 569‬بتلخيص ّ‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫‪383‬‬
‫الخاصني لكارتر يف طريقهم إىل إيران‪ ،‬وقد ص ّمموا عىل املجيء‬ ‫ّ‬ ‫بلغني أ ّن املمثّلني‬
‫إىل ق ّم ولقايئ؛ لهذا أرى من الالزم أن أذكّر (مبا يأيت)‪:‬‬
‫عبت عن مخالفتها العلن ّية إليران‪ ،‬ومن جهة أخرى‬ ‫إ ّن دولة أمريكا بايوائها الشاه ّ‬
‫تجسس ألعدائنا ض ّد نهضتنا املق ّدسة؛ لذا فإ ّن‬
‫‪-‬كام قيل‪ -‬سفارة أمريكا يف إيران مركز ّ‬
‫الخاصني‪ .‬وباإلضافة إىل ذلك‪:‬‬ ‫اللقاء يب ليس ممكناً ّ‬
‫بأي وجه ملمثّيل كارتر‬
‫رشع سداسلا مسقلا‪ :‬نيملاظلا ةهجاوم يف‬

‫ّ‬
‫‪ - 1‬عىل أعضاء مجلس شورى الثورة أن ال يقابلوهم أبدا ً‪.‬‬
‫حق االلتقاء بهم‪.‬‬
‫‪ - 2‬ليس ألحد من املسؤولني عىل اإلطالق ّ‬
‫‪ - 3‬إذا سلّمت أمريكا الشاه املخلوع عد ّو الشعب رقم ‪ 1‬إىل إيران وتخلّت عن‬
‫التجسس ض ّد نهضتنا‪ ،‬يُفتَح باب املفاوضات يف مجال بعض العالقات التي هي‬‫ّ‬
‫ملصلحة الشعب‪.‬‬
‫‪(16/8/58‬هـ‪.‬ش)‬
‫الخميني‬
‫ّ‬ ‫املوسوي‬
‫ّ‬ ‫روح الله‬
‫اللّه ّم‪ ،‬وفّقنا لنكون خري ٍ‬
‫خلف للعظامء الذين وردت أسامؤهم يف هذا الكتاب‪.‬‬
‫‪384‬‬
‫اللّه ّم‪ ،‬وفّقنا للعمل بواجباتنا بشكل أفضل‪ ،‬ووفّقنا ملزيد السعي ملا فيه رضاك‪.‬‬
‫اللّه ّم‪ ،‬ب ّدل الخالفات القاتلة يف البالد اإلسالم ّية باالت ّحاد واإللفة‪.‬‬
‫املهدي‬
‫ّ‬ ‫اللّه ّم‪ ،‬احفظ الثورة املق ّدسة يف إيران حتّى انطالقة الثورة العامل ّية لول ّيك‬
‫الخميني { بواسع رحمتك‬ ‫ّ‬ ‫املنتظر (أرواحنا فداه)‪ .‬وتغ ّمد قائد األ ّمة اإلمام‬
‫واحرشنا معه‪ ،‬وارزقنا شفاعته‪.‬‬
‫وأيّده‬ ‫}‬ ‫الخامنئي‬
‫ّ‬ ‫اللّه ّم‪ ،‬احفظ و ّيل أمر املسلمني سامحة آية الله السيّد‬
‫بتأييدك وانرصه نرصا ً عزيزا ً‪ ،‬إنّك أرحم الراحمني‪.‬‬
‫وقد وقع الفراغ من تعريب هذا الكتاب «سيامء الصالحني» صبيحة يوم السبت‬
‫الثالث عرش من ربيع األ ّول‪1412/‬هـ‪ .‬عىل مهاجرها وآله أفضل الصالة وأت ُّم السالم‪.‬‬
‫رب العاملني‬
‫والحمد لله ِّ‬
‫بريوت ‪ -‬حسني كوراين‬

You might also like