Professional Documents
Culture Documents
ابن زمانه
«التربية من أجل المستقبل»
أ .د .عبدالكريم بكار
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم عىل نبينا حممد وعىل آله
وصحبه أمجعني وبعد:
فإن من الواضح أننا نعيش يف زمان خمتلف عن كل األزمنة
املاضية ،كام أن من الواضح أن املستقبل املنظور سيكون بمشيئة
اهلل وإذنه امتداد ًا ملا نعيشه اليوم ،بل إن التغريات الرسيعة التي
جتتاح جمتمعاتنا وأرسنا مرشحة للمزيد من الرسعة واملزيد من
االنتشار .إن من الوصايا الرتبوية املتوارثة حث اآلباء عىل أن
يربوا أبناءهم غري تربيتهم ألهنم ُخلقوا لزمان غري زماهنم ،هذه
احلكمة الرتبوية العظيمة مل تكن احلاجة إليها يف أي يوم أكثرمن
رسع من التغريات
هذه األيام ،حيث إن التطور التقني الرسيع َّ
االجتامعية يف كل نواحي احلياة ،وصارت الفوارق بني جيل
وجيل كبرية للغاية ،وهذا أوجد ارتباك ًا شديد ًا لدى كثري من
األرس املسلمة خاصة واملحاضن الرتبوية عامة ،بل إننا نعاين
من رصاع خفي بني أصول وتقاليد تربوية راسخة وبني رغبات
وتطلعات األجيال اجلديدة ،كام أن التغريات يف (سوق العمل)
3 التربية الرشيدة ()7
[ ابن زمانه ]
مقدمة الرتبية الرشيدة تستهدف ختريج جيل
صالح وناجح ومشارك يف اإلصالح إضاءة
فطر اهلل تعاىل اإلنسان عىل النظر إىل األمام ،ألن الواحد منا ال
يستطيع أن يعيش أيامه احلارضة من غري تقدير النتائج التي يمكن
أن ترتتب عىل سلوكه ،كام أننا حني نقع يف أزمة خانقة نجد يف األمل
وانتظار الفرج من اهلل تعاىل خمرج ًا لتخفيف وطأهتا عن نفوسنا.
دعونا نقول يف البداية :إن املستقبل بتفاصيله ودقائقه غيب استأثر
البارئ جل وعز بعلمه ،لكن معرفتنا بالواقع الذي نعيشه باإلضافة
إىل معرفتنا بسنن اهلل تعاىل يف اخللق ..متكننا من فهم اخلطوط العريضة
التي يمكن أن متيض فيها األحداث ،وهذا متاح لإلنسان إىل حد بعيد،
إذ إن من الواضح أن املستقبل هو يف الغالب امتداد للحارض مع
بعض التغيري ،فام نزرعه اليوم نحصده غد ًا ،كيف ال نعتقد أن هناك
تقدم ًا منتظر ًا يف جماالت مثل الطاقة الشمسية وحتلية املياه واأللعاب
االلكرتونية ووسائل االتصال ولدينا مئات ألوف الباحثني الذين
يعملون عىل حتقيق اخرتاقات يف هذه املجاالت؟ وكيف ال والعامل
يتلقى كل يوم أكثر من خرب جديد يبرش بأن املستقبل سيكون أفضل
بكل ما يتعلق بام أرشنا إليه؟
7 التربية الرشيدة ()7
[ ابن زمانه ]
-1حول اللمستقبل الرتبية هي العمل الصامت
إضاءة
واألكثر وليس النادر والشاذ .إن املربني يف هذا الزمان حمظوظون جد ًا
إذا نظرنا إىل حجم املتوفر من مصادر التثقيف املعريف ،فبلمسة زر
يمكن لألم واألب أن جيدا كل ما يريدانه يف تربية صغارمها ،وهذا
كان مستعصي ًا حتى عىل التخيل قبل أربعني سنة!
املوارد التي يمكن استقاء املعرفة الرتبوية منها كثرية ،منها الكتب
وأرشطة الكاسيت واملجالت الرتبوية والدورات التدريبية ،إىل جانب
احلوارات التي يمكن أن تتم مع املتخصصني واآلباء الناجحني ،وال
ننسى مطالعة السري الذاتية للمبدعني والعظامء حيث إهنم كثري ًا ما
يتحدثون عن األساليب التي اتبعها آباؤهم وأمهاهتم يف تربيتهم ،وعن
البيئات التي ترعر عوا فيها .اجلوهري يف كل ما ذكرناه هو اهتامم املريب
هبذا األمر ،وحني يتوفراالهتامم فإن كل السبل ستكون مفتوحة.
البيئة الرتبوية اجليدة:
زودنا اخلالق عزوجل بالقدرة عىل اإلبداع واملخاطرة والتجديد..
لكن مع هذا فإن من الواضح أن النزعة إىل التقليد والتأثر بالظروف
والوضعيات السائدة من األمور الغالبة عىل مجيع البرش بقدر معني،
ويكفي للربهنة عىل هيمنة البيئة أن أقول :إن أكثر من %99ممن
ينشؤون يف بيئة إسالمية يكونون مسلمني وأكثر من %99ممن ينشؤون
يف بيئات نرصانية أو بوذية يكونون نصارى وبوذيني ،ومن هنا فإنني
أعتقد أن توفري بيئة جيدة وصاحلة لرتبية جيل متميز ومستقبيل هو
أعظم ٍ
حتد يواجه األرس ،والنجاح فيه نجاح ال يقدَّ ربثمن.
لوتساءلنا عن مكونات البيئة التي علينا العمل عىل هتيئتها
ألمكنني أن أشري يف اجلواب إىل اآليت:
-1العناية املتواصلة:
يدل عدد من الدراسات التي أجريت عىل أرس املشهورين والنوابغ
والقادة يف خمتلف املجاالت عىل أن األرس التي ينتمون إليها هي أرس
صغرية نسبي ًا ،وكثري ًا ما يكون عدد أبنائها من اثنني إىل ثالثة ،وتفسري
هذا أن قلة عدد األبناء أتاحت الوقت للوالدين أن جيلسا مع الطفل
أكثر ،مما يساهم يف إظهار موهبته ،كام أن الطفل يف هذه احلالة يتلقى
دع ًام معنوي ًا ومادي ًا أكرب ،ومن هنا فإن البيئة الرتبوية اجليدة يكون فيها
التواصل والتفاعل بني أفرادها عىل أشده.
أمهية العناية يف الرتبية متت مالحظتها يف دراسات أخرى حيث
تبني أن الطفل األول والطفل الوحيد ،والطفل األصغر الذي ولد
بعد سنوات عدة من التوقف عن اإلنجاب يكونون أقدر من باقي
اإلخوة عىل اكتساب اللغة بشكل مبكر مما يسهم يف تنمية ذكائهم
وإظهار قدراهتم الكامنة ،كام أن الواحد منهم كثري ًا ما يلعب دور ًا
قيادي ًا يف األرسة منذ الصغر ،ويكون أميل إىل االستقالل بسبب
املعاملة املميزة التي يتلقاها.
-2بيئة غنية :
املقصود بالغنى يف املجال الرتبوي هو الغنى الثقايف فقط ،حيث
دل معظم الدراسات عىل أن املستوى التعليمي آلباء األطفال
املوهوبني أفضل من املستوى التعليمي آلباء األطفال العاديني
وتشريالدراسات إىل أن األطفال الذين يعيشون يف بيئة ثرية ثقافي ًا
(توافر الكتب ،املجالت ،القصص ،احلكايات ،األلعاب ،التواصل
اللفظي بني األبوين )..وإن كانت إمكاناهتا املادية متواضعة أميل إىل
منزله ،من باب الضغط عىل الطرف اآلخر ،وتم ذلك ،وصار يوسف
يشعر أن حياته قد صارت يف مهب الريح ،وحني عادت أمه إىل املنزل
بعد ثالثة أشهر تصاعدت خصومتها مع أبيه إىل درجة غري حمتملة،
وأخذ يوسف يكثر اخلروج من املنزل مرتدد ًا عىل منزل أحد زمالئه
وهناك تعرف عىل ابن عم ذلك الزميل ومن خالل املخالطة تعود
تناول املخدرات ،ومن أجل تأمني ثمنها صار يرسق من جيب أبيه
بعض املال ،ثم رسق بعض حيل والدته ،وأخذ أداؤه يف املدرسة
يرتاجع ،وصار ميا ً
ال إىل العزلة ،وبعد مدة صارت لديه قناعة بأن
توفري املال من أجل رشاء املخدرات يتطلب ترك الدراسة ،فرتكها،
وصار يعمل يف إحدى ورش إصالح السيارات ،وقد تم كل ذلك يف
غفلة األبوين واهنامكهام يف حرب بالوكالة عن غريمها!
قصة يوسف تتكرر يف آالف املنازل مع التباين يف بعض التفاصيل،
لكن اجلوهر يظل واحد ًا ،وهو فقدان األبوين للحد األدنى من
التفاهم والتحابب والتعاون ،وقد خرست األمة الكثري الكثري من
أبنائها بسبب جهل األبوين أوعدم رغبتهام يف توفري جو أرسي ينعم
به اجلميع !.
-4أسلوب راشد يف الرتبية:
ال يكفي لفالح األوالد ونجاحهم أن يعيشوا يف أرسة هادئة
ومنزل رحب ..بل ال بد مع ذلك من وجود أبوين بصريين باألساليب
الرتبوية الناجحة ،وهذا ما يفتقده كثري من األرس املسلمة مع األسف،
مع أن الكتب الرتبوية متأل أرفف املكتبات ،كام أن الشبكة العنكبوتية
تعج بألوف املقاالت املفيدة ،ولكن عدم االهتامم وعدم معرفة كثري
قيد أو رشط عىل مبدأ« :أحالمك أوامر» وهذا يفسد الطفل إذ يلقي
يف روعه اإلحساس بسهولة احلياة وعدم وجود أي تكاليف فيها،
كام جيعله يترصف وكأنه املستغني عن كل من حوله ..بعض اآلباء
واألمهات يبالغون يف محاية األبناء واخلوف عليهم من كل يشء ،فال
يرسلوهنم يف رحلة علمية أو ثقافية أو ترفيهية ،وال يبعثون هبم إىل
خميم ،وخيافون من اختالطهم باآلخرين ..عىل نحو يؤدي إىل عزلة
الطفل وحرمانه من اكتساب العديد من املهارات املهمة ،وهناك
إىل جانب هؤالء آباء وأمهات ألقوا احلبل عىل الغارب ،وأغمضوا
أعينهم عن مجيع ترصفات أبنائهم مما أدى إىل ضياعهم يف وقت مبكر.
التوسط والتوازن فضيلتان من أعظم الفضائل اإلنسانية وعلينا
التزامهام يف شأننا كله.
ج -تشجيع االختالف البناء ،فاإلبداع والنجاح والتفوق أمورال
تقوم عىل التشابه والتقليد ،وإنام عىل التباين والتجديد وأحيان ًا
االبتعاد عن التيار السائد .من املهم لألبوين أال يعمال عىل تكوين
نسخ مكررة عنهام أوعن األجداد والشيوخ ...من الطبيعي أن يكون
لكل واحد من األبناء هواياته ورغباته وإبداعاته ،ومادام كل ذلك
يف دائرة املباح ،وال يشكل أي خطورة عليه ،فإن غض الطرف عنه
وتشجيعه يف بعض األحيان يكون هو املطلوب.
د -تشجيع الطفل عىل أن يكون له صحبة صاحلة من خالل
الرتدد عىل حلقة حلفظ القرآن الكريم أو حضور بعض الدروس
العلمية أو االنتساب إىل ٍ
ناد ...الصحبة الصاحلة هي سفينة النجاة
يف بحر تتالطم فيه أمواج الفساد من كل شكل ولون .الطفل ال بد له
وإذا تزوجت ،ومل تنجب؟ أضف إىل هذا أن املرأة مضطرة للعمل يف
كثري من البالد اإلسالمية من أجل مساعدة زوجها عىل اإلنفاق عىل
األرسة ،كام أن األمة يف حاجة إىل املرأة الداعية والطبيبة والناشطة يف
العمل اخلريي والباحثة يف الشأن االجتامعي ..وهذا كله حيتاج إىل إعداد
وتأهيل .كرس القولبات وأنامط التفكري القديمة يتطلب تعويد الطفل
(التفكري التباعدي) أي التفكري بطرق غري مألوفة ويف أمورالعهد للبيئة
هبا ،وهذا موصول باإلبداع والتجديد وتطوير احلياة العامة.
زـ من أهم ما يميز التنشئة االجتامعية الرشيدة امتالك األبوين
والسيام األم توقعات عالية ملا يمكن أن يكون عليه الطفل يف
املستقبل .إن األم التي تعتقد أنه سيكون البنها مستقبل باهر تكون
أقدرعىل توفري بيئة غنية تساعد عىل تنمية مواهبه ،كام أن رغبتها يف
التواصل معه والعناية الفائقة به تكون أشد وأكرب ،ومما يذكر يف هذا
وهو السياق أن امرأة مرت هبند بنت عتبة ومعها ابنها معاوية
صغري فقالت هلا املرأة :إن ابنك هذا سيسود قومه ،فقالت هلا هند:
عدمته إن كان لن يسود إال قومه ! .وقد كان من شأن معاوية ما كان،
فقد مكث عرشين سنة والي ًا عىل الشام وعرشين سنة أمري ًا للمؤمنني!
ح -يف البيئة الرتبوية اجليدة يكون ألفراد األرسة عدد من التقاليد
والعادات اجليدة ،ومن أمهها أهنم:
mيعلمون الفرق عىل نحو واضح بني اخلطأ والصواب والالئق
وغري الالئق.
يشجعون بعضهم بعض ًا ،ويعتقدون أن مصريهم واحد m
ومشرتك.
mحيرتمون بعضهم بعض ًا ،كام أهنم يتبادلون الثقة فيام بينهم.
mجيهرون باحتياجاهتم للمساعدة ،ويطلبوهنا من بعضهم.
mقادرون عىل اللعب مع ًا ويتمتعون بروح الدعابة والفكاهة.
mلدهيم انتامء ديني وحياة روحية وأخالقية مشرتكة.
mحيرتمون اخلصوصية.
mيامرسون النقد البناء ألوضاع أرسهتم.
mقادرون عىل االستامع والتحاور مع بعضهم دون توتر.
mيقدرون قيمة اإلحسان وخدمة اآلخرين.
mيتحملون عىل نحو مشرتك مسؤولية صالح أرسهتم ومتاسكها.
mيساندون بعضهم بعض ًا ،ويراعون الضعيف منهم.
إن كثري ًا من هذه األفكار واملعاين التي أرشت إليها يف فلك
احلديث عن الثقافة الرتبوية وعن البيئة اجليدة ربام يتكرر يف عدد من
السياقات ،وإنام أحببت الرتكيز عليها هنا من أجل تسهيل استيعاهبا
ومن أجل اختاذها إطار ًا توجيهي ًا ملا سأذكره بعدها ،ومن اهلل تعاىل
احلول والطول.
أ -تيار شهواين جارف وكم هائل من املغريات التي جترح عفة
الشاب ،وتؤذي طهارته السلوكية.
ب -كثرة امللهيات مما هو مباح وحمظور.
ج -تعدد طرق الكسب املحرم وإحاطة الشبهات بكثري من
مصادر الرزق.
د -عدم اكرتاث الوعي بعامل الغيب وانرصاف االهتامم عن
اآلخرة ومتطلبات الفوز فيها ،عىل نحو ما نجده لدى شعوب مثل
الشعبني الياباين والكوري.
جوهرالتدين:
ليست مهمة العقيدة اإلسالمية توفري التصورات الصحيحة عن
اخلالق جل وعال وعن رسله وكتبه واليوم اآلخر فحسب ،وإنام حتفيز
املسلم عىل االستقامة عىل أمراهلل تعاىل وكف اجلوارح عن املعايص
واالستخدامات اخلاطئة ،وعىل هذا األساس نستطيع القول:
إن جوهر التدين يتمثل يف اإلخبات هلل تعاىل والثقة به والتوكل
عليه واحلياء منه وحبه ورجائه واخلوف منه واالستئناس به ،وحتمل
األذى يف سبيله ..ومن الطبيعي أن تنعكس هذه القيم واملعاين
العظيمة عىل سلوك املسلم وعالقاته ومواقفه واهتدائه هبدي أحكام
الرشيعة الغراء وآداهبا.
إن العبادة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى هي املورد العذب الذي
يسقي شجرة اإليامن ،وإن املزيد من التعبد جيب أن يعني املزيد من
القرب من اهلل تعاىل واملزيد من الشعور بمعيته ،وإن كل عبادة ال
تؤدي إىل ذلك هي عبادة جموفة أو منقوصة أوعليلة ،وقد رؤي أحدهم
يغريه بذلك ويزينه له عىل نحو مستمر .األب مقتنع برضورة دراسة
ابنه يف جامعة جيدة ،لكنه يعتقد أن ذلك جيب أن يكون يف مرحلة
التخصص بعد االنتهاء من املرحلة اجلامعية ،لكنه ال يستطيع أن يقف
موقف ًا صلب ًا خشية اإلساءة إىل عالقته بابنه ،فأخذ يعرب عن خماوفه:
الدراسة يف كندا ممتازة ،وفيها جامعات مرموقة ،ولكن البيئة هناك
ختتلف كثري ًا عن بيئتنا ،واإلنسان حني يبتعد عن بلده تضعف مناعته
الثقافية ،ويصبح تأثره باألمور السيئة سه ً
ال .أيض ًا من ميزات السفر
بعد التخرج من اجلامعة هو أن املرء يكون يف سن مالئم للزواج،
فيتزوج ويأخذ زوجته معه ،ويف هذا عصمة وأية عصمة يف بالد متوج
بالتحلل واملغريات .األب يدعم وجهة نظره هذه بذكر العديد من
املقارنات بني أبناء أقرباء ومعارف ذهبوا إىل بالد الغربة وهم يف سن
املراهقة وآخرين ذهبوا وهم يف الثالثة والعرشين والرابعة والعرشين
وكيف كانت نتائج الناضجني أفضل ،ومن أمهها سالمة ديانتهم
ومتسكهم بأخالقهم اإلسالمية.
أحد اآلباء مل يكتف بالتعبري عن خماوفه ،وإنام حث أحد أخوال
ابنه عىل القيام بذلك .النتائج هلذا األسلوب واعدة ،فالتجربة تدل
عىل أن كثري ًا من األبناء قد غريوا رأهيم ونزلوا عند رغبات أهليهم.
أود أن أقول يف ختام هذه املعاجلة ملسألة الرتبية اإليامنية :إن
العامل يتعرض الجتياح مادي حيس دنيوي كبري ،وإن ترسيخ املعاين
اإليامنية يف هذه الظروف يشبه السباحة ضد التيار ،وهلذا فال بد من
الصرب واملثابرة وحسن الترصف؛فنحن ال نملك أي خيار آخر.
عاملنا مزدحم بكل يشء ،وعامل الغد سيكون أكثر ازدحام ًا،
وسوف تشتعل فيه املنافسة إىل مستويات جديدة .يف عامل الغد
سرتتفع وترية االستهالك لألفكار واألشياء ،وسيكون هناك الكثري
من اخليارات والبدائل والكثري من املشكالت والتحديات أيض ًا،
زمان كثرية فرصه ،وكثرية مطالبه .يكمن مفتاح التعامل مع كل هذا
يف تربية فكرية جديدة ومبرصة .األرس لدينا تستطيع ذلك عىل نحو
أفضل بكثري مما كان عليه الوضع قبل عرشين سنة ،إذ إن معظم اآلباء
واألمهات يف املدن قد تلقوا تعلي ًام عالي ًا أومتوسط ًا ،لكن تبقى احلاجة
ماسة إىل يشء من اإلدراك ملا هو مطلوب للرتبية املستقبلية ،وتبقى
احلاجة ماسة أكثر إىل درجة حسنة من (االهتامم) بام عىل األبوين
القيام به .أنا ال أريد هنا استعراض كل ما يتعلق بالرتبية الفكرية
للطفل( )1فهذا موضوع طويل وكبري جد ًا ،لكن أريد رشح ما يتعلق
باألمور التي أرشت إليها قبل قليل وكيفية التعامل معها ،وذلك
باختصار وإجياز:
أرادت أن تربينا عىل العكس من ذلك ،أي وفق أسلوب الرتبية التي
تلقتها يف أرسهتا .بعد رصاع مكشوف استمر سنوات ليست بالكثرية
اتفق أيب وأمي عىل يشء الفت ،وهو أن ترتك أمي أليب مسألة توجيه
الذكور ،ويرتك هلا توجيه البنات،وقد كان ذلك .أنا وأخي مقداد
كنا نالحظ قسوة أيب ،وكنا نجد صعوبة يف النقاش معه ،وقد فرض
علينا عند دخول اجلامعة دراسة ختصصني مل يكونا أفضل ما نرغب
يف دراسته ،وكانت النتيجة أننا خترجنا من اجلامعة وتوظفنا مثل
كل الناس ،لكن كنا نشعر بأننا شخصان عاديان ،وأننا ُحرمنا من
اختيار دراسة ما نحب دراسته ،أما أمي فقد اتبعت يف تربية أخوايت
الثالث أسلوب ًا خمتلف ًا جد ًا عن أسلوب أيب ،كانت حفظها اهلل تكثر
من مناقشة أخوايت يف كل يشء ،وكانت مستمعة جيدة جد ًا ،وإذا
ُغلبت يف النقاش كانت تعرتف بأهنا كانت عىل خطأ ،وترتاجع عن
رأهيا .رسبت إحدى أخوايت يف السنة األوىل من املرحلة املتوسطة
ألسباب ال أحب التحدث عنها ،فام كانت من والديت إال أن واستها
ووقفت إىل جانبها وحفزهتا عىل االستمرار يف الدراسة ،وكانت
النتيجة أن أختي نجحت يف السنة التالية بتفوق واضح ،وافتتحت
بذلك عهد ًا جديد ًا من النجاح والتألق ،باإلضافة إىل هذا فإن والديت
تركت ألخوايت حرية اختيار التخصص اجلامعي الذي ترغب فيه كل
واحدة منهن ،فاختارت إحداهن دراسة الكيمياء ،واختارت الثانية
دراسة الطب ،واختارت الثالثة دراسة الرياضيات ،وأرصت عليهن
بإكامل دراساهتن العليا ،وقد كان ذلك ،وقد بذلت يف سبيل ذلك
الكثري من املال الذي ورثته من أبيها ...اليوم أختي الطبيبة تعمل يف
مركز طبي مرموق جد ًا ،وينظر إليها عىل أهنا أفضل طبيبة يف ذلك
املركز ،وأختي التي درست الكيمياء نالت جائزة عاملية قبل ثالث
سنوات عىل دراسة مهمة قامت هبا ،وأختي التي درست الرياضيات
تدرس يف اجلامعة وحتظى باحرتام كبري!
ِّ
نعم إن الطفل حتى يكون مبدع ًا حيتاج إىل من يشجعه عىل إبداء
رأيه والتعبريعن أفكاره اإلبداعية مهام تكن بعيدة عن الواقع ،كام
حيتاج إىل من حيفزه عىل االكتشاف والتفكري بطريقة خمتلفة .اترك له
فرصة التخطيط حلياته الشخصية ،وأتح له الفرصة ليقوم بدور قيادي
يف بعض شؤون األرسة ،وشجعه عىل جتاوز خربات الفشل الذي قد
يتعرض له ،ذكره بأفضل إنجازاته ،ودعه ينسى نقاط ضعفه ،وسرتى
أنك قد وضعته عىل بداية طريق اإلبداع.
النظرة اإلجيابية: m
من طبيعة التقدم احلضاري أنه يزيد يف الطموحات ،أي يزيد يف
حجم ونوعية ما يطلبه اإلنسان من نفسه ومن اآلخرين ،فإذا مل يتحقق
له ذلك ،فإن ازدراء الذات والشعورباخلذالن يظالن يف متناول اليد،
أضف إىل هذا أن معظم األشياء قابلة ألن ُترى بطريقتني :طريقة
إجيابية حيث نرى ما فيها من خري ونفع ومجال ،وطريقة سلبية حيث
نلمس ما فيها من قبح ورشور وأذى ..هنا يأيت دور األرسة والبيئة عىل
نحوعام ،إذ إهنا تقوم بدور املرجح إلحدى النظرتني عىل األخرى ،يف
أيام الربيع والصيف قد نشاهد قطعة من األرض وقد غطتها نباتات
متنوعة ،فيها الورود واألشواك ..صاحب النظرة املتفائلة والتفكري
اإلجيايب يقول :هذا حقل ورد فيه يشء من الشوك ،وصاحب التفكري
السلبي والنظرة املتشائمة يقول :هذا حقل شوك ،فيه يشء من الورد،
فكل يرى بحسب النظارة التي وضعها عىل عينيه .معروف وهكذا ٌ
أنه كان متفائ ً
ال ،وكان يرى اجلانب اجلميل من األشياء، عن نبينا
دخل عىل أعرايب يعوده ،فقال« :ال بأس طهور إن وقد صح أنه
قلت طهور؟ كال بل هي محى تفورعىل شيخ
شاء اهلل» .قال األعرايبَ :
كبريُ ،تزيره القبور ،فقال النبي « :نعم إذن» [رواه البخاري] وحذر
عليه الصالة والسالم من رؤية اجلانب السلبي من احلياة االجتامعية
أهلكهم» [رواه مسلمحني قال« :إذا قال الرجل هلك الناس فهو ُ
ُ
(أهلكهم :أشهدهم هالك ًا)]. ُ
أهلكهم بالضم وهو أشهر من الفتح
تقول إحدى األمهات الفاضالت :نشأت يف أرسة كبرية حيث
كان يل أربعة إخوة ومخس أخوات ،وكانت والديت تعاين من
(اكتئاب) متوسط الشدة ،وكانت ترفض الذهاب إىل الطبيب أو
تناول أي دواء ،وقد أدى هذا إىل شعورها بالتوتر وتعكر املزاج عىل
نحو شبه دائم ،إىل جانب التحدث املستمر إلينا بأهنا تشعر بالذنب
جتاهنا ،كام أن جزء ًا من حديثها كان للتعبريعن شعورها بالنقص
وعدم الصالحية ألن تكون زوجة ناجحة ...قد كنت أكرب إخويت
وأخوايت وقد الحظت أن بعض إخويت الصغار صاروا يقلدون أمي
يف أسلوب نظرهتا للحياة ويف تعبريها عن ذاهتا ،وقد كان أيب رج ً
ال
ال بإعالة أرسته الكبرية ،لكن اهلل تعاىل أسعفنا بسيط ًا فقري ًا ومشغو ً
بخايل ،فقد كان متعل ًام وحكي ًام ،وناجح ًا يف تربية أبنائه ،فام كان منه
إال أنه صار يكثر من زيارتنا واجللوس معنا الساعات الطوال ،وكنت
أالحظ أنه يركزعىل عدد من األمور:
-1كان دائ ًام يسأل كل واحد منا :إذا انتهيت من الثانوية فام
هوالتخصص الذي ستدرسه يف اجلامعة؟ وإذا الحظ أن هناك من ال
يرغب يف إكامل دراسته اجلامعية فإنه كان يغضب ،ويسوق كل األدلة
عىل خطأ التفكري يف عدم االستمرار يف الدراسة حتى النهاية .كان خايل
يريد من كان واحد منا أن يكون له حلم يسعى إىل حتقيقه ،وكان يقص
علينا باستمرار أخبارالعظامء الذين حققوا أحالمهم مع قلة إمكاناهتم.
-2حني كان أحدنا يتحدث عن مشكلة يعاين منها ،أوكان يكرر
احلديث عن خطأ وقع فيه ،فإنه كان يبدي عدم ارتياحه لذلك ،وكان
يقول لصاحب املشكلة :اآلن دعنا مما حدث ،وتعال لنفكر يف احلل،
وكان ال يرتكه حتى يتفق معه عىل عمل معني للتخلص من تلك
املشكلة ،وكان يقول ملن يتحدث عن أخطائه :نحن أبناء اليوم ،وما
فات مات ،وال تنس أن أباك حيبك حب ًا مج ًا ،كام أن مدرسك فالن ًا
قال :إنك أفضل طالب عنده.
-3كان خايل يعاين من آالم شديدة يف الظهر ،ومع هذا فقد كان
يتمتع بروح شبابية ،وقد كان يغمرنا بالطرف اجلميلة واملهذبة ،وهلذا
فإننا كنا ننتظر قدومه إلينا بشوق شديد ،كان حياول دائ ًام أن يقول لنا:
يف احلياة مرسات وخريات تستحق منا الشكر واإلحساس بالرفاهية.
تقول تلك األم :احلمد هلل فقد نحج خايل جزاه اهلل خري اجلزاء يف
جعلنا نتفوق يف دراستنا ويف أعاملنا وحياتنا العامة ،واليوم ُينظر إلينا
من قبل جرياننا وأقربائنا عىل أننا أرسة متميزة جد ًا.
اليشء الذي أريد أن أختم به هذه الفقرة هوأن النظرة اإلجيابية
هي عملية إجرائية ،وليست غاية يف حد ذاهتا ،فنحن نريد منها جعل
لواحد من الناس ،والفرق بينهام كبري جد ًا .احلقائق تستحق منا التسليم،
أما وجهات النظر فإننا نستطيع مناقشتها ،وقد نقبلها ،وقد نرفضها.
-6احذروا التعميم عند إصدار األحكام ،فإنه من األخطاء
الشائعة جد ًا .ال يوجد هناك قبيلة كل أبنائها من األجواد أو األرشار،
كام أنه ليس هناك شعب يتمتع بالصدق أو النشاط أو الذكاء ،وكان
يقول :افعلوا كام فعل القرآن الكريم ،وأكثروا من كلمة كل ،وبعض،
وقليل وكثري وأكثر وغالب..
-7النصيحة األخرية واملهمة ألستاذنا يف هذه األمور هي جتنب
التحيز واتباع اهلوى والبناء عىل الظن يف إطالق األحكام ،وكان كثري ًا
ما يقول :معظم الناس يتبعون أهواءهم ومصاحلهم وال خيشون اهلل
تعاىل يف ظلمهم لغريهم .يقول الشاب :حني كنت يف الثانوية كان
أخي (ربيع) يف املرحلة االبتدائية ،وكنت قد عزمت عىل تربيته عىل
هذه القيم واملعاين ،وقد كانت استجابته مذهلة إىل درجة أن أساتذته
كانوا يعجبون من مناقشاته هلم وإدراكه للحالة االجتامعية.
mالرؤية الواقعية:
الرتبية اجليدة هي التي توجد لدى الطفل نوع ًا من التوازن بني
املثالية والواقعية ،اإلنسان املثايل يرتبط بالقيم التي يؤمن هبا ،ويتطلع
إىل املستقبل مع غض الطرف عن كثري من معطيات الواقع.اإلنسان
الواقعي يعرتف بالواقع ،ويتكيف معه إىل حد اخلضوع له ،مع إمكانية
التخيل عن بعض املبادئ والقيم التي يؤمن هبا.
يف املستقبل سيجد الشباب أنفسهم يف ظروف حرجة حتتاج إىل
توازنات دقيقة ،واألرسة املسلمة املهتمة يف حاجة إىل غرس معاين
وحض الناس عىل القيام بمثل ذلك .يا أبنائي أفضل طريقة يمكن
اتباعها هنا هي أن تقوموا بتشكيل فرق تطوعية لذلك ،متام ًا كام
فعل ابن خالكم أمحد حني أسس مجعية ملكافحة التدخني والتوعية
بأرضاره..
إذن يمكن أن نقول :إن اإلنسان الواقعي هو شخص يعرف
الواقع عىل نحو جيد ،ويعرف كيف حيصن نفسه من رشوره
وسلبياته،كمعرفته بفرصه وخياراته ،ثم بعد ذلك حياول إصالح
ذلك الواقع باحلكمة والعمل املتواصل.
mالنقد الب ّناء:
لو رجعنا إىل املايض لوجدنا أن الرتبية يف البيوت واملدارس وحتى
احللقات العلمية كانت متيل إىل التشجيع عىل السامع ،وليس النقاش،
وإىل اخلضوع والتوافق ،وليس إبداء الرأي واملنافحة عنه ،وهذا
يعود يف ظني إىل أن كثريين من السابقني كانوا جيعلون طواعية املرتيب
وموافقته ملربيه مساوي ًا لتقديره واحرتامه ،كام أن طبيعة التعليم القائم
عىل احلفظ والتلقني ،وليس عىل التفكري واالجتهاد حتبذ الصمت
واالتباع( ..ابن زمانه) سيجد أن االستمرارعىل ذلك النحو ال يصلح
لزمان ميلء باآلراء واخليارات واملعطيات التي حتتاج إىل نقد وتقويم
وتطوير وهتذيب ،ومن هنا فإن الرتبية اجلديدة تقوم عىل تشجيع
األطفال عىل أن ُيعملوا أذهاهنم فيام يرون ،ويسمعون ،وأن حياولوا
طرح اجلديد من املبادرات واألفكار واملرشوعات.
mالنقد رضورة:
ليس تعويد الطفل النقدَ شيئ ًا ترفيهي ًا ،بل هو حاجة أو رضورة،
وذلك ألن بني ما نقوله ،ونفعله وبني الكامل والتامم هوة ال يستطيع
بنو البرش ردمها ،ونحن نستطيع من خالل النقد تضييقها إىل ٍ
حد ما،
أضف إىل هذا شيئ ًا مه ًام ،هو أن العقل البرشي ال يكتشف أفضل
اآلراء واألفكار دفعة واحدة ،وإنام عىل سبيل التدرج ،وهلذا فإن
ما أقوله أنا وأنت يف قضية من القضايا ليس هنائي ًا ،فإذا تم عرضه
عىل اآلخرين ،وأبدوا رأهيم فيه ،فإنه يقرتب من النضج من خالل
التعديالت والتحويرات التي يقرتحوهنا .احلقيقة املؤكدة هي أن كثري ًا
من الترصفات قابل ألن ُيقرأ بعيون خمتلفة فحني يقوم ثري كبري بدعوة
عدد كبري من الناس إىل طعام الغداء يف منزله أو يف أحد املطاعم ،فإن
بعض الناس سينظر إىل هذا العمل بإعجاب شديد عىل أنه واحد من
مظاهر الكرام والسخاء ،وبعضهم سينظر إليه عىل أنه تبذير وإرساف
ألن لبعض املوظفني عند ذلك الثري حقوق ًا ،يامطل يف أدائها هلم،
وهناك من سيقول :إن الرجل متهم بالبخل ،ويريد من خالل تلك
الدعوة الفخمة تغيري تلك الصورة الذهنية عنه ،ومنهم من سيقول:
إن تلك الدعوة ليست دلي ً
ال عىل الكرم ،وهي يشء عادي جد ًا من
رجل يملك مئات املاليني ..هكذا خيتلف الناس يف تفسري ما يرونه،
وهم أشد اختالف ًا جتاه األفكار النظرية املجردة ،وهذا كله يتطلب من
رجاالت الغد أن يكونوا مستعدين ملامرسة النقد بطريقة صحيحة.
تقول إحدى الفتيات :إنني أنتمي إىل أرسة معروف عنها أنه ال
يعجبها العجب وال الصيام يف رجب ،كام يقولون فمعظم جلساتنا
العائلية عبارة عن جدال ونقاش ونقد واعرتاض عىل قول فالن وعمل
عالن ،وكان هذا يشكل مصدر قلق روحي لنا مجيع ًا ،لكننا مل نكن
قادرين عىل التخفيف من حدته ،تقول الفتاة :كنت أتردد عىل منزل
معلمة من معلاميت ،وكنت أعدَّ ها مرشدة يل ،تنصحني ،وأستشريها
يف أخص خصوصيايت ،وذات يوم قالت يل :أود أن أفاحتك بأمر من
مدة ،وقد أحجمت عن ذلك حرص ًا عىل مشاعرك .قلت هلا :أنت
بمثابة الوالدة ،بل إن بعض ما أستشريك فيه ال تعرف والديت عنه
شيئ ًا ،وسأكون سعيدة بكل ما تقولينه .قالت مرشديت :أنت يا (هند)
ومـجدَّ ة ومن أرسة مثقفة ،لكن لديك مشكلة ،هي أنك فتاة ذكية ُ
متليكن لسان ًا حاد ًا ،وحني تبدين وجهة نظرك يف رأي من اآلراء ال
تفكرين يف مشاعر األشخاص الذين هتامجني آراءهم ،ويلمس من
جيالسك بأن لديك نوع ًا من العجرفة وشيئ ًا من االعتداد املبالغ فيه
بالذات ...وأخذت معلمتي تعدَّ د يل معائب أسلويب يف نقاش آراء
اآلخرين واالعرتاض عليها ،واحلقيقة أنني شعرت بالكثري من الضيق
من كالمها ،لكن ال بد من اإلصغاء إليها حيث ال خيار آخر ،وحني
خرجت من عندها فكرت يف كالمها ،واكتشفت عىل نحو رسيع أن
كل ما قالته معلمتي صحيح ،وأن ما أشارت إليه من أساليب النقد
البناء ليس باليشء املستحيل أو الصعب ،فأخي (باسم) يامرس
النقد مثيل أو أكثر ولكنه يكاد يلتزم عىل نحو مطلق بكل األدبيات
التي أشارت إليها معلمتي سعاد ،وكأنه يطبق شيئ ًا قرأه يف كتاب
من تأليفها ...قد كانت حلظة وضوح شديد بالنسبة إ ّيل ،وبعد متعن
متمهل فيام قالته معلمتي ،وبعد استحضار أسلويب وأسلوب أخي
باسم يف النقد أخذت قل ًام وورقة وكتبت املقارنة التالية لعيل أقتدي
به ،وأختلص من بعض عادايت السيئة:
لو أين فعلت كذا وكذا ،ولكن قل :قدَّ ر اهلل وما شاء فعل ،فإن (لو)
تفتح عمل الشيطان» .نحن يا بني نأخذ العربة من املايض ،ثم نطوي
صفحته ،وقد هنى النبي عن اإلكثار من (لو) ألن فيها انشغا ً
ال باملايض
عن احلارض ،كام أن فيها نوع ًا من االعرتاض عىل القدر .قال االبن:
اآلن كيف يمكنني االستدراك عىل املايض؟ قال األب :تستطيع اآلن
أن تنال (املاجستري) يف ختصص حتبه عن طريق الدراسة عىل النت،
وستجد أنه ستفتح أمامك فرص جديدة ،وتستطيع خالل سنوات
قليلة تعلم لغة جديدة ،وتصبح مدرس ًا هلا ،أو مرتمج ًا منها وإليها،
وتستطيع وتستطيع ..املهم أن تكف عن التأسف عىل ما فات.
-2اإلنسان العميل إنسان منطقي ،فهو ال يطلب من نفسه وال من
غريه ما ال يطيقه ،ألن ذلك سيؤدي إىل القعود والكف عن املحاولة
والشعور بالعجز .عىل األبوين أن يكونا منطقيني من خالل تقدير
الفروق الفردية بني أبنائهام ،مما يرتتب عليه أال يطلبا من األبناء أدا ًء
واحد ًا ،أوإتقان يشء واحد بدرجة واحدة .أحد الطالب يف املرحلة
الثانوية كان ذكاؤه قريب ًا من املتوسط ،وكان عبث ًا حياول احلصول عىل
درجات متكنه من دخول كلية الطب ،وقد الحظ والده أنه صار
منهمك ًا يف الدراسة إىل حد التفريط يف أداء الصالة ،وإىل حد رفض
مساعدة والدته يف بعض شؤون املنزل ،ومع هذا فالدرجات التي كان
حيصل عليها يف االختبارات املدرسية كانت قليلة .هنا حاول األب
إقناع ولده بأن يدرس بعد الثانوية يف معهد مهني ،ونجح يف املحاولة.
-3اإلنسان العميل يفكر يف نتائج عمله ،ويفكر يف اخلطوة التالية،
وذلك ألن عدم التفكري يف اخلطوة التالية يعني إمكانية الدخول يف
ارتباك طويل عريض ،وقد حدث أللوف الفتيان ويف كل مكان من
األرض أن تركوا املدرسة بسبب إغراء بعض األقرباء واألصدقاء:
ما املال الذي ستحصل عليه لو أمتمت دراسة الثانوية بل لو أمتمت
دراسة ،اجلامعة؟ تعال واشتغل معنا ،وسيكون لك دخل أكرب بكثري
من أي دخل ستحصل عليه بعد سنوات من الرتدد عىل املدرسة
للحصول عىل معلومات عقيمة ...يرتك الشاب املدرسة ،ويذهب
إىل مهنة ،ثم يكتشف أن املهنة شاقة ،أو يكتشف أن بيئة تلك املهنة
منحطة ،أو يكتشف أن األجر الذي حدثوه عنه غري متوافر ..مهمة
األبوين تكمن يف حتذير األبناء من االنزالق يف طرق غري آمنة،
وغري واضحة ،وهلام االستعانة بتجارب أبناء اجلريان واألصدقاء
واألقرباء.
-4هناك فارق مهم بني اإلنسان العميل واإلنسان غري العميل،
وهذا الفارق يتجسد يف أن اإلنسان العميل يعامل الناس عىل ما
هم عليه ،كام أنه يلتزم باألخالق والتقاليد والرشوط املوجودة يف
املجال الذي يعمل فيه .اإلنسان غري العميل يكثر من الشكوى من
كل يشء ،ويريد لكل األشياء أن تساير مزاجه وهواه .إحدى البنات
كانت تدرس يف اجلامعة ،وكانت ال تكف عن انتقاد كل ما يف اجلامعة
من النظم إىل أساليب التدريس إىل املباين والتجهيزات ،...فقالت
هلا إحدى زميالهتا :إذا كانت اجلامعة سيئة إىل هذا احلد ،فام الذي
يبقيك فيها؟! قالت :ال أجد أفضل منها .قالت هلا زميلتها :إذن كوين
عملية ،وتكيفي مع الواقع وحاويل االستفادة من املوجود هنا إىل احلد
األقىص.
إليه .كان من عادة أحد اآلباء ،حني جيلس مع أبنائه أن يستمع لكل ما
يقولونه باهتامم بالغ ،وحني يطرح أحدهم فكرة لعمل أو مرشوع ،أو
كان يتحدث عن تغيري وضعية من الوضعيات ،فإن األب كان يثني
عىل الفكرة ،لكن كان ال يمل من القول :وكيف يمكن تنفيذ ذلك؟
ثم يتبع السؤال بسؤال آخر عن املال والوقت واإلمكانات البرشية
املطلوبة لتنفيذ الفكرة وكيفية توفريها ..وكانت النتيجة يف الغالب
رتح أن ما يطرحه ليس عملي ًا ،ويف
اكتشاف صاحب الفكرة أواملق َ
أحيان قليلة كانت األرسة تبني الفكرة وتتكاتف عىل تنفيذها بعد
اإلجابة اإلجيابية عىل تساؤالت األب.
التنظري والتخطيط وطرح األفكار اجلديدة أمور مهمة للغاية ،ولكن
علينا دائ ًام أن نتساءل :ما قيمة أفكار ومرشوعات ال تتوافراإلمكانات
لتحقيقها؟
ال نبالغ حني نقول :إن األزمة األساسية التي يعاين منها العامل
احلس اإلنساين ،ويكثر
ّ اليوم هي أزمة أخالقية حيث يرتاجع
الزيف ،والتناقض بني ما يفعله الناس يف خلواهتم ،وما يفعلونه أمام
اآلخرين .هذه األزمة مرشحة للتصاعد بسبب زيادة درجة التحرض،
مع أن من املفرتض أن يصحب زيادة الوعي لدى الناس زيادة يف
االلتزام األخالقي ،لكن يبدو أن من شأن املزيد من الرفاهية فتح
شهية الناس عىل املزيد من تلبية الرغبات والعمل عىل حتقيق املزيد
من املصالح الشخصية ،وهذان األمران كثري ًا ما يكون التجاوب
معهام عىل حساب حسن اخللق واستقامة السلوك!
يمكن لنا أن نقول :إن الرتبية األخالقية تقوم عىل ركيزتني أساسيتني:
األوىل هي :الركيزة العاطفية حيث يتم الرتكيز عىل هتذيب اجلانب
الروحي والنفيس ،وذلك عند بناء قيم مثل التسامح واالحرتام
واملحبة والثقة بالنفس...
الركيزة الثانية هي :الركيزة الفكرية إذ يتم اعتامد املنطق واملحاكمة
العقلية عند ترسيخ بعض القيم من مثل قيم :التعاون والتفاوض
59 التربية الرشيدة ()7
[ ابن زمانه ]
-5سمات أخالقية وسلوكية القراءة طريق املجد .
إضاءة
قبل بلوغ ابنه السابعة بثالثة أيام قال لزوجته :ولدنا سامر سيبلغ
السابعة بعد ثالثة أيام ،ونريد أن نجعل هذا اليوم مميز ًا لنخربه بأنه
حان وقت ابتدائه بالصالة ،وسرُ َّ ت األم من الفكرة ،واتفقا عىل
هدية يقدماهنا له ،وقالت األم :أنا سأمهد له من اليوم ،ويف مساء
بلوغه السابعة قدما له اهلدية مع سيل من القبالت احلارة والتعبري
عن حبهام له ،وحني سأله أبوه ما اليشء الذي سيتغري يف حياتك بعد
هذا اليوم؟ قال :الصالة يا أيب سأحافظ عىل الصالة ،فقبله األب،
وتأكدت األم من معرفته بكيفية التطهر والوضوء ومن مدى معرفته
بكيفية الصالة ،وما يقوله الطفل يف كل وضعية من وضعياهتا .األب
واألم مل يلحا عىل الطفل ،وإنام كانا يذكرانه بالصالة كل مدة ،عم ً
ال
بقول اهلل جل شأنه :ﱫ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﱪ .اتفق
األب مع إمام املسجد عىل تقديم هدية له كل مدة من مال تركه معه
األب ،فأحب الطفل املسجد واإلمام ،وصار له أصدقاء يف املسجد
يزورونه ويزورهم ،وخيرج معهم يف بعض الرحالت ،وحني بلغ
السابعة عرشة صار هو الذي يتابع إخوته الصغار عىل الصالة
وبنفس أسلوب أبيه!
-5حتتاج األرسة املهتمة برتبية أبنائها تربي ًة أخالقية رشيدة ،إىل
أن يكون موقفها األخالقي واضح ًا جتاه ما جيري يف احلياة االجتامعية
العامة ،ألن الوضوح يف هذه األمور يولد نوع ًا من املناعة األخالقية
لدى الصغار ،كام أنه يصبح مصدراعتزاز هلم .أحد األبناء سأل أمه:
أمي ملاذا نرى فالن ًا وفالن ًا من زمالء أيب يف العمل قد اشرتوا منازل يف
مصايف بالدنا وأيب مل يشرتمنز ً
ال مثلهم؟!
قالت األم :نحن يا بني لسنا فقراء بحمد اهلل ،ونحن نستأجر منز ً
ال
لالصطياف كل سنة ،ونستمتع مع بعضنا .قال االبن :مل جتيبيني عىل
سؤايل؟
قالت األم :يا بني ال أريد أن أملز أحد ًا أو ِّ
أعرض به ،لكن أود أن
أقول لك :إن والدك ال يرسق من عمله وال يرتيش ،وما نوفره من
مرتبه قليل ،وال يساعد عىل رشاء منزل.
قال االبن :احلمد هلل أب كريم أفخر باالنتساب إليه.
يف أرسة أخرى حدث أن قام أحد األبناء املراهقني بكرس مصباح
الشارع عمد ًا بسبب طيشه ،وقد جاءت الرشطة إىل املنزل تسأل
عنه ،فقال ألمه :قويل هلم :إين غري موجود .قالت األم :ال يمكن أن
أكذب من أجل الدفاع عن ولد ارتكب خطأ شنيع ًا ،وقالت للرشطة
هو موجود ،وسيخرج إليكم اآلن ،وهو الذي كرس املصباح ،ونحن
مستعدون لدفع الغرامة املرتتبة عىل ذلك .هذا الوضوح والثبات عىل
احلق رضوري يف تربية فتيان سيعيشون يف زمان ،قد يكون خفوت
الصوت األخالقي فيه هو أبرز ما متكن مالحظته.
أهم السامت األخالقية املطلوبة:
-1الصدق:
هو الفضيلة العظمى يف كل األزمنة ،وهو مفتاح للكثري من أبواب
اخلري عىل ما نلمسه من قوله « :عليكم بالصدق فإن الصدق هيدي
إىل الرب ،وإن الرب هيدي إىل اجلنة ،وما يزال الرجل يصدق ،ويتحرى
الصدق حتى يكتب عند اهلل صديق ًا ،وإياكم والكذب فإن الكذب
هيدي إىل الفجور ،وإن الفجور هيدي إىل النار ،وما يزال الرجل
يكذب ،ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اهلل كذاب ًا» [رواه مسلم].
أنواع الغش والتزوير وإخفاء احلقيقة تتطور برسعة مذهلة،
و(ابن زمانه) سيواجه أنواع ًا من الكذب بسبب التطور التقني ال
نتخيلها نحن اآلن ،وهلذا فإن بناء سمة الصدق لدى أطفال اليوم
جيب أن يكون متين ًا وعميق ًا للغاية .يف املستقبل سيكون لألفراد
واهليئات والرشكات وكل من يلتزم بالصدق والشفافية مكانة كبرية،
وستجلب هلم تلك املكانة ،الكثري من اخلري والنفع ،ونحن نعرف يف
عامل التجارة أنه حتى تربح أرباح ًا منتظمة ،فإنه ينبغي أن يكون لديك
زبائن دائمون ،ولن يكون لديك زبائن دائمون إال إذا كنت صادق ًا
معهم ،وناصح ًا هلم.
ملاذا يكذب الطفل ؟
علينا أن نقول ابتداء :إن الطفل حني يولد ال تكون لديه مناعة
أو حصانة من الكذب ،بل يمكن القول :إنه يتعلم الصدق واألمانة
بالتدرج من أرسته واملجتمع الذي يعيش فيه ،وقد تبني أن كذب
األطفال أنواع عدة ،منها:
mالكذب اخلياىل أوكذب االلتباس حيث إن الطفل ابن الثالثة
ختتلط لديه احلقيقة باخليال ،فهو ال يفرق بني اليشء الذي حيلم به
أو يتخيله وبني اليشء املاثل يف الواقع ،وال خطورة يف هذا النوع من
الكذب ألنه يزول يف سن السادسة أوالسابعة.
mالكذب بغرض االستحواذ واحلصول عىل املزيد من املنفعة،
كام يفعل الطفل حني ُيسأل :هل أخذت نصيبك من احللوى ،فيقول:
ال ،ويكون فع ً
ال قد أخذ نصيبه.
نفيس يف املنزل ،فيتهم الطفل أحد إخوانه أوأقربائه بأنه فعل ذلك
مع أن الطفل ال يعرف فع ً
ال من قام بالكرس.
mالكذب بسبب اخلوف من العقاب ،وهذا يكون كثري ًا يف العادة
لدى األطفال الذين يعيشون يف أرسة تسود فيها القسوة والعقاب
الصارم.
الكذب بسبب تقليد الكبار ،ألن الطفل يعتقد أن الكبار m
دائ ًام عىل صواب ،ومن ثم فإنه يقلدهم يف كذهبم دون أن يعرف أنه
يرتكب أي خطأ.
كيف نرسخ فضيلة الصدق لدى الطفل؟
-1عىل األبوين لزوم الصدق املطلق يف كل كالمهم ،والسيام
الوعود التي يطلقوهنا ألبنائهم .احذرأن تقدم وعد ًا بيشء تشك يف
قدرتك عىل تنفيذه.
-2احذراإلكثاريف الكالم عن أمهية الصدق أمام الطفل ،ألن
هذا قد يولد لديه رد فعل عكسي ًا.
-3جيب أن يشعر الطفل من خالل تعامل أبويه معه أن الصدق
منجاة ،وأن عقوبة الكذب عند اخلطأ ستكون مضاعفة.
-4االنفتاح عىل األطفال والسامع هلمومهم ومشكالهتم خيفف
من حاجتهم إىل الكذب.
مناسبة.
mال تسأل شخص ًا عن نسبه أو عمره أو مرتبه أو أسباب قدومه
إىل البلد ،الذي أنت فيه ،فهذا من التدخل يف اخلصوصيات ،وإذا
وبعد مدة كررنفس الكلامت ،فام كان من األب إال أن أ َّنبه ،ومل يرتكه
حتى أعطاه العهد عىل عدم العودة إىل ذلك .النبالء كذلك ينسون
اإلساءات القديمة التي صدرت من فالن وعالن ،إهنم قد عودوا
أنفسهم جتاوز املايض ،واالنفتاح عىل املستقبل مع الظن بأن الناس
يتعلمون من أخطائهم ،وهلذا فإن تعاملهم مع بعضهم يف املستقبل
سيكون أفضل.
mيف املستقبل سيواجه الناس املزيد من الضغوط بسبب ارتفاع
مستوى األداء يف األعامل وبسبب كثرة متطلبات احلياة ،وهلذا فإن (ابن
زمانه) يف حاجة إىل التمتع بروح مرحة وحفظ عدد جيد من النكات
والطرف الذكية واملهذبة كي خيفف عن نفسه وعن جلسائه من الكرب
النفيس الذي سيجد نفسه فيه .إن من األفكار اخلاطئة التي تلقفها
بعض الناس من اجليل السابق االعتقا َد بأن التدين احلق مقرون باجلدية
الزائدة ورصامة تعابري الوجه واللسان ،واالعتقاد بأن املزاج والضحك
واحلديث اهلازل أمور تقرتن برقة الدين واالستخفاف بتعاليم الرشيعة.
نعم إن اإلرساف يف أي يشء مما ذكرناه هو يشء سيئ لكن قدر ًا معتد ًال
منه يظل شيئ ًا حمبوب ًا ومطلوب ًا .دعوين أقول إن رصامة كثري من اآلباء
وجديتهم الزائدة قد جعلت أبناءهم ينفرون منهم ،ويندفعون إىل
األقران والزمالء ليجدوا لدهيم ما فقدوه يف بيوهتم .إذا كانت املعرفة
هي خبز الدماغ ،فإن املرح هو قوت الروح فعلموا األطفال من خالل
السلوك العميل كيف تظل أرواحهم يف انتعاش ورسور.
mلدى الناس ما يكفيهم من اهلموم واملشكالت ،وهم ليسوا
يف حاجة إىل املزيد من ذلك ،وإن من الطبيعي أن ينفث املصدور،
أجل عدم استهالك الكثري من الوقود ومن أجل احلفاظ عىل البيئة ..مع
األيام اكتسبنا كثري ًا مما أراد لنا أيب أن نكتسبه حيث صار حسنا نحو البيئة
مرهف ًا جد ًا ،وأدراكنا كم كان أيب عىل صواب ،وقبل سنوات تم تكريم
والدي من قبل البلدية عىل أنه الرجل النموذجي يف محاية البيئة!
األرسة يف حاجة إىل قراءة كتيب عن محاية البيئة واحلفاظ عىل
املوارد قراءة مجاعية ثم التأمل فيام يمكن تطبيقه داخل املنزل ويف
السلوك العام جلميع أفراد األرسة من تلك التعليامت والتنبيهات
التي تشتمل عليها كتب محاية البيئة عادة؛ فاألمر خطري للغاية ،ألنه
يتعلق بوجودنا وصحتنا وبوجود وصحة األجيال القادمة .نحن هنا
ضيوف عىل هذه األرض وجيب أن نترصف كام يترصف الضيف يف
بيت كريم استضافه لديه.
-6تأجيل الرغبات:
يف املستقبل سيجد (ابن زمانه) الكثري من املغريات التي جتذبه
نحو املزيد من اللهو واملتعة ،وسيكون هذا عىل حساب استقامته
يف بعض األحيان ،كام أنه سيكون عىل حساب إنتاجيته وإنجازه يف
أحيان أخرى .من اجلدير بالذكر أن نقول هنا :إن طبيعة التمسك
بأهداب الدين احلنيف تدرب الصغار والكبار عىل املزيد من التحكم
بأنفسهم ومقاومة رغباهتم ،وكثري منا مر بتجارب عديدة ،محله فيها
التزامه بصالة اجلامعة مث ً
ال عىل ترك متابعة القراءة يف رواية عظيمة
أو متابعة فلم وثائقي أو مسلسل أو االستمرار يف التحدث إىل بعض
األصدقاء ،الصيام نفسه هو عبارة عن كبح الرغبة يف تناول الطعام
والرشاب وغريها من املشتهيات.
حني يسمع الطفل والدته تقول لوالده :يف إمكاننا اليوم األكل
من حارض الرزق يف البيت دون أن حترض أي يشء من السوق،بسبب
انشغالك يدرك الطفل فضيلة تأخري نيل يشء مهم من أجل إنجاز أو
مبارشة يشء أهم ،وحني يقول الرجل البنه سأؤجل زياريت لصديقي
فالن إىل الغد كي أساعدك يف االستعداد المتحان العلوم ،فإنه يدرك
أيض ًا أن من املمكن لكثري من األعامل أن يؤدى يف أوقات خمتلفة
الصغارالكبار وهم يؤجلون رغباهتم
َ وهكذا ..إىل جانب مشاهدة
هناك أيض ًا أمور أخرى بسيطة تساعدهم عىل هذا ،فقد كانت إحدى
األمهات تقول ألطفاهلا لكم عندي مبلغ من النقود،ومن حق كل
واحد منكم أن يأخذه اآلن ،وسيكون هذا املبلغ أكرب إذا انتظر حتى
يأخذه آخر الشهر ،وقد كان معظم األبناء يوافقون عىل االنتظار.
أم أخرى كانت ترتك اخليارألطفاهلا يف ترتيب مذاكرة دروسهم
ويف الذهاب إىل بيوت بعض األصدقاء ومشاهدة بعض الربامج،
وقد الحظت أن الطفل الذي اختار كتابة واجباته ومذاكرة دروسه
بنفسه ،كان يقاوم التشتت ويذاكر بحامسة أكرب!
إن تدريب الطفل عىل توظيف (حديث النفس) يف التحكم برغباته
يشء مفيد جد ًا ،ويف هذا ،يقول أحد الشباب :حني كنت أدرس يف
املرحلة االبتدائية كان من الواضح ع َّ
يل البدانة الشديدة ،وكان ذلك
يسبب يل وألرسيت بعض احلرج ،وكان أخي الكبري موك ً
ال من قبل
أيب بمتابعتي يف هذا األمر ،وكان دائ ًام ينبهني إىل أمور تساعدين عىل
ختفيف وزين ،وقد كان من إرشاداته يل أن أقول كلام مهمت بمد يدي
لفتح باب الثالجة :أنا ال آكل بني الوجبات ،ال للمزيد من الطعام ،وال
اختصاصه وقد وفدوا إىل بلده من أنحاء األرض ،مما يوجب عليه أن
يكون مستعد ًا للعمل أيض ًا يف أي مكان من األرض.
ما الذي تتطلبه الرتبية عىل االستعداد لالرحتال؟
-1تعويد الطفل اخلروج يف رحالت مع بعض أساتذته ومرشديه
خارج مدينته ،وذلك منذ سن الثانية عرشة.
-2توعية الطفل وحتذيره من مكائد املحتالني وأساليب اإلجرام
التي يتبعها بعض األرشار يف إيذاء األطفال.
-3تعويد الطفل والفتى قراءة كتاب أو أكثر عن األوضاع املادية
واالجتامعية والثقافية للبلد الذي سيقوم برحلة إليه ،والبلد الذي
سيدرس ،أو يعمل فيه.
-4يسبق كل ذلك االستعداد النفيس لدى األرسة البتعاد بعض
أبنائها عنها من أجل حتقيق مصلحتهم الشخصية.
إن الطري حني تنبت قوادمه وخوافيه ويقوى جناحاه ،يصبح
مؤه ً
ال ملغادرة العش واهلجرة إىل بالد بعيدة ،وهكذا أبناؤنا وفلذات
أكبادنا.
-8التوازن الشخيص:
لو تأملنا يف حياة معظم الناس لوجدنا أهنم عىل نحو عام ميالون
إىل التطرف واالنحياز نحو يشء مهم ،مما جيعلنا نعتقد أن االتزان
ليس هو األصل يف شخصياتنا ،وأن االعتدال ليس هو األكثر يف
مواقفنا ،بل إهنام شيئان نتعلمهام ونتدرب عليهام ،ونجاهد أنفسنا
من أجل لزومهام .التوازن مطلوب يف كل وقت ،لكن ربام يكون
الطلب عليه يف املستقبل أشد بسبب كثرة املغريات وكثرة الضغوط
أيض ًا حيث جيد املرء نفسه منجذب ًا نحو يشء معني ،أو مدفوع ًا يف
ٍ
اجتاه ما ،واحلقيقة أن احلديث عن التوازن الشخصيي ذو ذيول كثرية،
وجماالت التوازن عديدة ،ومنها الكبري ومنها الصغري ،وأنا سأشريهنا
إىل أمهها عىل نحو رسيع:
أ -التوازن بني الدنيوي واألخروي:
اهلل جل وعال أوصانا بالعناية بمصرينا األخروي ،وأوصانا كذلك
بالعناية بشأننا الدنيوي ألن أمورنا ال تستقيم من غري هذا ،يقول
سبحانه :ﱫ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ
ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﱪ [سورة القصص]77 :
من مهام األهل تعويد الطفل املحافظة عىل أداء الصالة بوقتها
ولو كان عنده اختبارات ،أو كان مستغرق ًا يف قراءة رواية أو مشاهدة
فيلم ...كل يشء يف وقته مجيل ومريح.
ب -التوازن بني الشخيص واالجتامعي:
اجليل اجلديد مع أنه يتواصل مع أنحاء العامل إال أنه يميل إىل االنطواء
عىل نحو عام ،وتعرف هذا من تضاؤل عدد األصدقاء ووهن الصالت
بني األرحام واألقرباء .التوازن يف هذا يعني رعاية الشأن الشخيص
ونيل حظ النفس من العزلة واهلدوء وممارسة اهلوايات اخلاصة إىل
جانب اجللوس مع العائلة وزيارة األرحام واالنخراط يف بعض األعامل
التطوعية ،واخلروج يف بعض الرحالت ،واالشرتاك يف النقاشات التي
جتري داخل املنزل وخارجه ،املهم يف هذا أال يضغط األهل عىل األبناء
يف هذا ضغط ًا ينفرهم من االجتامع والتواصل مع غريهم ،إذ إن لكل
طفل طبيعته اخلاصة ،وينبغي أن نراعيها ونحن نحملهم عىل ما نحب.
أي توازن سنحصل عليه سيكون منقوص ًا ،ولكن املحاولة تأيت دائ ًام
بيشء من اخلري.
-9النزعة اإلنسانية:
ال نتجاوز احلقيقة إذا قلنا :إن اإلنسان أناين بطبعه ،وإن نفسه
ومصاحله تأيت أو ً
ال وثاني ًا وثالث ًا ..كام أنه ال يفكر كثري ًا فيمن حوله،
وال ينظر إىل األشياء إال من خالل ذاته وقيمه ومصاحله وخرباته ،مع
أن كثري ًا مما لديه يمكن أن يكون مشوب ًا باخلطأ والنقص.
اخلالق العظيم يعلمنا أنه قد كرم اإلنسان لذاته بقطع النظرعن
أي يشء آخر ،كام يف قوله سبحانه :ﱫ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ
ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮜﮝ
ﮞ ﮟﱪ [سورة اإلرساء ]70 :وحذرجل شأنه من إزهاق
الروح البرشية ،وجعل قتل نفس واحدة مثل قتل الناس مجيع ًا،
فقال سبحانه :ﱫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ
ﭚ ﭛﭜ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﱪ [سورة
املائدة.]32 :
األرسة هي التي تبذريف عقل الطفل ونفسه معاين احرتام اإلنسان
وإكرامه ومراعاته ،وأعتقد أن مما يساعدها عىل هذه املهمة العظيمة
الوعي باألمور التالية :
-1التقليل من لوم اآلخرين قدر اإلمكان ،فاخلطأ والغفلة والنسيان
أمور موجودة يف حياة كل إنسان ،وكلام صفحنا عن الناس وتغافلنا عن
هفواهتم ،وقللنا من معاتبتهم كنا أقرب إىل قلوهبم .إن إدخال الرسور
-3الصورة الذهنية:
نعرفهم عىل
كام أننا نحن الذين نسمي صغارنا ،كذلك نحن الذين ِّ
ذواهتم من خالل التشجيع والنقد واألحاديث العادية ،وهنا أود أن
أقول :إن الناس يف املايض كانوا كثري ًا ما جيعلون الطفل يرسم صورة
ِّ
ويذكرونه بعيوبه ذهنية سلبية عن ذاته إذ ُيعرضون عن تشجيعه،
وأخطائه! املطلوب اليوم عكس هذا متام ًا ،إذ إن عىل األبوين واإلخوة
الكبار أن يوضحوا للصغري أهم امليزات التي لديه من نحو سعة اخليال
وقوة الذاكرة وحسن اخللق واملثابرة ونعومة التعامل مع اآلخرين
وطاعة الوالدين والصرب عىل متابعة العمل ..وإذا كان لدى الطفل
بعض نقاط الضعف مثل قرصالقامة أو دمامة الوجه أوانخفاض
مستوى الذكاء أو ضعف القدرة عىل الرتكيز أوبعض عيوب النطق
فإن من املهم عدم حتدث األهل عن ذلك عىل نحو مبارش ال عىل سبيل
اجلد وال عىل سبيل املزاح ولكن يتحدثون بطرق شتى عن أشخاص
ناجحني وصاحلني وحمرتمني عندهم نفس نقاط الضعف التي عند
ابنهم حتى ال يفكر الطفل فيها ويركزون يف حديثهم عىل نقاط القوة
بوصفها تعويض ًا عن نقاط الضعف؛ وما يمكن معاجلته عىل نحو
مبارش مثل ضعف الرتكيز أو فرط احلركة ..فإن األرسة تعاجله.
عىل األرسة أال تسمح ملدرس غري عارف بمسؤولياته ولقريب أو
صديق ال يعرف أصول الرتبية أن يشوه الصورة الذهنية التي يقومون
برسمها وترسيخها لدى الطفل عن ذاته.
-4املدرسة اجليدة:
مهام كان اهتامم األرسة بصغارها ،فإهنا ال تستطيع أن تقدم
مثالية بام تعنيه الكلمة قال هلا ولدها والذي كان يف املرحلة اإلعدادية
(املتوسطة) :إين أبذل كل جهدي حتى أكون األول عىل زمالئي،
وأعتقد أنني سأفوز بذلك ،فأساتذيت حيبونني ،وأحيان ًا أذهب إىل
بعضهم يف مكاتبهم ،فيرشحون يل بعض املسائل واملوضوعات التي
وأحست األم من كالم آخرالبنها
َّ مل يرشحوها لنا يف قاعات الدراسة،
أنه يعمل ضد تفوق اثنني من زمالئه عليه بأساليب شتى ،فقالت له:
يابني ال هيمني أن تكون األول أوالثاين ،أوالثالث ،فهذا حني تدخل
اجلامعة لن يكون له أي قيمة ،ثم إن ُأ َّ
خوة اإلسالم تتطلب من املرء
أن حيب إلخوانه من اخلري مثل ما حيبه لنفسه ،وهلذا فأنا أريد منك
أن تدرس مع بعض زمالئك ،وإذا كان بعضهم متعثرين يف بعض
املواد ،فأرجو أن تساعدهم ،يابني نجاحك ونجاح زمالئك يصب يف
النهاية يف مصلحة واحدة ،هي مصلحة بلدنا ،وأظن أنك تعي ذلك
عىل نحو جيد!
-6املساعدة عىل الرتكيز:
زماننا هو زمان االختصاص واالهتامم بالتفاصيل الصغرية،
وسوف يرتسخ هذا يف املستقبل أكثر فأكثر بسبب التقدم التقني
واملعريف املطرد .إن املراقب يالحظ أن كثري ًا من األطفال ال يلقون أي
عناية ومعونة يف اكتشاف ميوهلم أو يف العثورعىل الفرع املعريف املالئم
هلم ،وذلك بسبب غياب هذه الثقافة عن معظم أرسنا ومدارسنا !.
إن من املهم أن نتذكر أن كل طفل هوعبارة عن خمطوطة فريدة يف
تكوينه اجلسمي والعقيل والنفيس ،وسيكون من اخلطأ البالغ معاملة
كل األطفال معاملة واحدة ،كام أن من املهم أن نتذكرأن البارئ جل
وعز قد منح كل إنسان ميزة معينة ،أو نقطة تفوق عىل كثري من أقرانه،
ومهمتنا تتمثل يف اكتشاف نقطة التفوق ورعايتها وتنميتها حتى متنح
الطفل نوع ًا من الفرادة يف بلده وحميطه األوسع .الذكاء املوجود لدى
اإلنسان متنوع ،ورغباته أيض ًا متنوعة ،واليشء األمجل هو إجياد درجة
عالية من التوافق بني مواهب الطفل ورغباته ،والفرع املعريف الذي
يتخصص فيه .معرفة ميول الطفل وإمكاناته العقلية يمكن اكتشاف
كثري منها من خالل بعض اختبارات الذكاء ،ومن خالل درجات
الطفل يف املدرسة ،ومن خالل مالحظات والديه ،وأساتذته ،وقد
يكون األهم من كل ذلك اليشء الذي يرغب الطفل يف قضاء وقت
فراغه فيه ،فاإلنسان يشعر أن معظم األنشطة التي يامرسها يف أوقات
الفراغ هي أنشطة للمتعة والرتفيه ،فإذا رأينا الطفل يميل يف أوقات
فراغه إىل قرض الشعر أو اخلطابة أو تفكيك وتركيب بعض األجهزة
واآلالت أو إجراء بعض التجارب الكيميائية والفيزيائية ..أدركنا
بوضوح أن ميوله متجهة نحو ما يشغل به فراغه .حني يظهر ميل الطفل
إىل يشء معني ،فإن تشجيعه والثناء عىل إنجازه يرسخ ذلك امليل لديه،
كام أن األطفال حيبون أن يكونوا مثل آبائهم يف اختصاصاهتم ومهنهم
ووظائفهم ومثل أساتذهتم الذين حيبوهنم وحيرتموهنم ،لكن هذا قد
يتوافق مع قدراهتم ومواهبهم ،وقد اليتوافق ،وال بد من االنتباه إىل
هذا عىل نحو جيد .نحن يف الرتبية كثري ًا ما نقف حائرين أمام معضلة
كربى ،هي :كيفية التوفيق بني طبيعة الطفل وميوله وبني أعراف
املجتمع وتقاليده ومتطلبات العيش فيه ،وكثري ًا ما نلجأ إىل احللول
الوسطى يف هذا ،وعىل سبيل املثال :إذا كانت هواية الطفل هي
املطالعة يف كتب التاريخ ،فقد ال يكون من املالئم دفعه إىل الرتكيز عىل
دراسة التاريخ يف اجلامعة ،ألن سوق العمل ليس يف حاجة إىل مؤرخ،
وإذا كان الطفل حيب دراسة الزراعة ،و ُيبدي اهتامم ًا كبري ًا هبا ،ولكن
البلد مملوء باملهندسني الزراعيني ،أوأنه ليس فيه نشاط زراعي متقدم
ومكثف ،فإنه يمكن أن نشجع الطفل عىل أن تكون الزراعة هواي ًة
يامرسها يف أوقات فراغه ،ويقدم من خالهلا خدمة ألهله وجمتمعه،
وحني يصبح الطفل يف املرحلة املتوسطة أواإلعدادية ،فإن من املهم
أن نساعده عىل الرتكيز عىل ختصص يناسب مواهبه ،وحيتاجه البلد،
إىل جانب توافر اإلمكانات املادية ملتابعة الطفل أوالفتى لدراسته يف
املستقبل ،وحني يستقر الرأي عىل يشء معني ،فإن من املهم التواصل
مع مدريس الطالب حتى يساعدوه عىل التفوق يف ذلك التخصص.
األرسة تلقبه بلقب واحد من أعالم ذلك التخصص ،وتتيح له
الفرصة لزيارة املعارض واملتاحف واملؤسسات واملصانع التي تثري
وتوسع آفاق تفكريه ،وإذا أمكن أن يصل ذلك االبنِّ خربات الطفل،
إىل آخر مرحلة يف دراسة ما حيبه ويرغب فيه ،كان ذلك شيئ ًا عظي ًام
جد ًا.
-7التعلق بالكتاب:
حضارة اإلسالم بدأت بالقراءة (اقرأ) واستمرت فرتة حيويتها
بالقراءة ،وإن أي هنضة جديدة نؤمل انطالقها البد أن تقوم عىل
القراءة واصطحاب الكتاب .نحن نعرف أن املعرفة هي خبز الدماغ،
وأن العقل من غري معرفة يكاد يكون أشبه بحاسوب بدون برامج،
ومن هنا كانت تنشئة األجيال اجلديدة عىل حب الكتاب وتعشق
حاجة إىل أن يتعب نفسه يف الدراسة ،حيث إنه لن حيتاج إىل الوظيفة،
وثروة أبيه حتتاج إىل إدارة ،ويمكن أن يعمل عندما يكرب يف إدارهتا.
بعض وسوسات الطالب الكساىل كانت نابعة من احلسد ،فالكسول
يريد لكل الناس أن يكونوا مثله كساىل ،وبعض وسوساهتم كانت
ترتكز يف تزيني العمل املهني يف عيون زمالئهم املجتهدين ،وكم من
فتى جمتهد قيل له :إن استمرارك يف الدراسة حتى تتخرج من اجلامعة
سوف يستهلك عرشسنوات من عمرك ،وبعد ذلك ستناضل من أجل
احلصول عىل وظيفة ال يسد مرتبها الرمق ،ولو أنك تركت املدرسة
وأنت يف املتوسطة ،والتحقت بمهنة من املهن ،فإنه خالل ثالث
سنوات سيصبح لك دخل أفضل من دخل اجلامعي ..أضف إىل هذا
أن الطفل حني يصاحب الكساىل فإنه يشعر بالتفوق ومل يكن بالفعل
متفوق ًا ،هلذا كله وجب عىل األبوين محاية أطفاهلم من صحبة الكساىل
وذوي الطموحات املتدنية ،والذين يدرسون يف مدارس منخفضة
اجلودة ألهنا يف الغالب تعمل عىل خفض طموحات وتطلعات طالهبا.
-9تقبل األفكار اجلديدة:
(ابن زمانه) سيجد نفسه مغمور ًا باألفكار واألشياء اجلديدة
بسبب كثرة املخرتعني وكثرة الباحثني يف امليادين كافة ،وإن كثرة
اجلديد ستعني كثرة األشياء واألفكار القديمة واملتقادمة (تقدم
أجهزة اجلوال نموذج ًا عىل ما نقوله) .املوقف من اجلديد سيحدد
املوقف من القديم ،واملوقف من القديم سيحدد املوقف من اجلديد.
ال أحد يقول :إن كل األفكار واملنتجات القديمة هي أفضل من
اجلديدة ،وال أحد يقول :إن كل جديد هو أفضل من القديم ألن
الواقع يكذب هذا القول وذاك .إذن املوضوع حيتاج إىل بصرية وإىل
توازن ووعي ،وإال فإن االنفتاح املطلق عىل كل جديد وتقبله دون
تفكري قد يؤدي باملرء إىل الضالل والغواية وأحيان ًا الدمار ،كام أن
جمرب قد يؤدي إىل الضعف التمسك بالقديم ألنه قديم أوألنه َّ
والعزلة والتهميش وبالتايل التخلف ،يقول أحد الشباب النابه
جد ًا :نشأت يف أرسة قروية بسيطة ،وقد كان تعليم أيب متواضع ًا
جد ًا حيث إنه ترك املدرسة حني كان يف الصف اخلامس االبتدائي
حتى يساعد جدي يف مزرعته ،لكن الذين جيلسون مع أيب يظنون
أنه قد أهنى املرحلة الثانوية أو أكثر ملا يرون يف كالمه من حكمة
وروية ومعرفة بالواقع وانفتاح عىل األشياء اجلديدة ،كان أيب كثري ًا
ما جيلس مع مثقفي القرية ،ويتناقش معهم يف العديد من األمور،
وكانوا يسعدون باحلديث معه ،وكنت أالحظ أنه يركز عىل العديد
من املعاين واملفاهيم بطرق وأساليب خمتلفة ،ومنها:
mاالعرتاف بأننا نخطئ أحيان ًا ،ونصيب أحيان ًا أخرى.
mكل جديد له هبجته ولذته ،وكل قديم كان يوم ًا ما جديد ًا وكل
جديد سيصبح يف يوم من األيام قدي ًام ،والعاقل من يستفيد من اجلديد
قبل أن يصبح قدي ًام.
mمادام الكامل هلل وحده ،ومادام اإلنسان ناقص ًا ،فإنه قد ينجح
يف بعض أعامله ،وقد يفشل ،املهم أال جيلس الواحد منا يف بيته خوف ًا
من الفشل ،ليحاول ولعل اهلل ييرس له األمور.
mعلينا أال نصغي لليائسني ألهنم مهزومون ،ومن اخلطأ االقتداء
هبم .أيب كان صادق ًا مع نفسه وكان فع ً
ال يتعامل مع والديت ومع إخويت
وفق هذه املفاهيم ،بل إن أسلوبه يف (الزراعة) كان وفق املبادئ التي
ذكرهتا وقد حدث يف أحد األيام أن أرسلت مديرية الزراعة يف املدينة
مرشد ًا زراعي ًا ،وهوشاب متخرج يف كلية الزراعة ،وعىل درجة عالية
من التهذيب واهلدوء ،لكن كان فهمه لطريقة تفكري املزارعني حمدود ًا،
فقد كان يظن أن دراسته اجلامعية املتخصصة جتعلهم يتقبلون كالمه
دون نقاش ،وهلذا فإنه أرشدهم إىل أمهية (الري بالتنقيط) والتخلص
من زراعة بعض أنواع اخلضار ألن أرايض القرية ال تناسبها ..لكن
القوم وقفوا منه موقف ًا عدائي ًا وذلك لتوجسهم من العمل بأفكار مل
جيربوها من قبل ،وألن إنتاج أراضيهم وفري ومناسب ،أي أهنم مل
يكونوا يعانون من مشكالت تدفعهم إىل قبول كالم املرشد الزراعي.
والدي رمحه اهلل هو الوحيد الذي وقف إىل جانب املهندس ،ودافع
عن أفكاره ،بل إنه أول من عمل هبا ،وحني تضاعف إنتاج مزرعتنا
أخذ أهل القرية يقلدونه ،وبذلك حتسن وضع قريتنا عىل نحو الفت.
عىل الواحد منا أن يناقش مع الصغار باستمرار ميزات األشياء،
فحني تطرح فكرة أو خيرج منتج جديد ،أو نسمع عن أسلوب جديد
يف التعامل مع أمر من األمور ،فإن من املفيد جد ًا أن تنقسم األرسة
إىل فريقني :فريق يتحدث عن إجيابيات اجلديد وسلبيات القديم،
وفريق يتحدث عن سلبيات اجلديد وإجيابيات القديم ،ومهام تكن
قوة حجج كل فريق فإن من املؤكد أننا هبذا احلوار سوف نتخلص من
االنحيازاملطلق للجديد أوالقديم ،وقد قام بذلك كثري من الرشكات
واملؤسسات الكربى ،وتبني أنه أسلوب ناجع لرتشيد العالقة بني
اإلنسان وبني املتغريات املختلفة يف حميطه.
-2الرسالة:
هي تلك املهام الكربى ،وذلك املسار العريض الذي سنسلكه
إىل حتقيق رؤيتنا ألنفسنا .إذا كانت رؤيتي هي أن أكون داعية ناجح ًا
ومؤثر ًا ومن اخلمسة األوائل يف بلدي مث ً
ال ،فإن رسالتي هي تكوين
شخصيتي ومعاريف ومهارايت الدعوية عىل نحو يمكنني من ذلك،
وهذا يشكل نصف املهمة ،أما النصف الثاين فهو القيام بأعامل
وتكون لدهيم
ِّ وأنشطة دعوية قوية ومؤثرة ،تغري يف حياة الناس،
صورة إجيابية جد ًا عني ،فام دور األبوين يف هذا؟
أ -حتفيز الطفل عىل مطالعة سري الدعاة الناجحني ،وحثه عىل
اختاذ واحد من أعالمهم قدوة له.
ب -احلرص عىل أن حيفظ الطفل أوالفتى أكرب قدرممكن من
اآليات واألحاديث النبوية ألهنا تشكل ذخرية أساسية للداعية.
ج -االطالع عىل السرية النبوية عىل نحو عميق.
د -هتيئة الظروف للطفل حتى يتمكن من حضور أكرب قدر ممكن
من جمالس وحمارضات ولقاءات كبار الدعاة.
هـ -جعل الولد يعتقد أن اخليار الوحيد الذي ال يفكريف غريه هو
نيل درجة الدكتوراه يف الدعوة من جامعة جيدة.
و -تدريبه عىل اخلطابة حتى يربع فيها يف وقت مبكر ،وإحلاقه
بإحدى املجموعات التي تتيح له الفرصة ملامرسة اخلطابة عملي ًا.
ز -تذكريه دائ ًام باألخالقيات واآلداب التي يتحىل هبا كبار الدعاة،
وعىل رأسها اإلخالص هلل تعاىل ثم التواضع.
ح -العمل عىل تذليل العقبات التي تواجهه خالل امليض يف
طريقه ،وكام ذكرت فإن هذه اجلهود تبدأ والطفل يف الثانية عرشة من
عمره ،وبعضها يبدأ قبل ذلك ،كام هو الشأن يف حفظ القرآن الكريم،
واألحاديث الرشيفة.
-3األهداف:
هي جمموعة اخلطوات واألعامل املربجمة التي تساعد املرء عىل
الوصول إىل الرؤية التي رسمها يف خميلته لنفسه ،وحني ننظر إىل طبيعة
االرتباط بني األهداف نجد أن ما هو هدف صغري ليس سوى وسيلة
هلدف كبري ،وما هو هدف كبري ليس سوى غاية لألهداف الصغرية،
وهذا يعني أننا ال نستطيع بلوغ أهدافنا النهائية من غريحتديد عدد
تقربنا منها ،وهذه مشكلة معظم الناس،
من األهداف الصغرية التي ِّ
حيث إن يف أذهاهنم أمور ًا يرغبون يف الوصول إليها دون أن حيددوا
كيفية ذلك الوصول ومتطلباته ،فظلت أمنياهتم أحالم ًا هائمة ،وماتوا
دون أن حيققوا شيئ ًا منها!
يقول أحد األطباء املشهورين :حني كنت يف احلادية عرشة من
عمري سافر أيب والذي كان يتاجر باحلبوب إىل مدينة قريبة من مدينتنا،
وأرص عىل اصطحايب معه ،ومل أكن أعرف سبب ذلك ،ويف الطريق
َّ
قال يل :كنت وأنا صغري مثلك أحلم بأن أكون طبيب ًا ،لكن ظروف
جدك املادية كانت صعبة جد ًا ،فاضطررت لرتك املدرسة بعد إهناء
املرحلة االبتدائية من أجل مساعدة جدك يف أعامل الزراعة ،ومازلت
أشعر بالكثري من األسى لعدم متكني من ذلك! يقول الطبيب :أيب
أنا أشعر بمثل ما كنت تشعر به ،ولكن ال أعرف إن كان حتقيق ذلك
ممكن ًا .قال األب :إذا كنت راغب ًا فع ً
ال فاترك الباقي عيل .بعد أيام أنشأ
أيب وكان مستور احلال من الناحية املادية باالتفاق مع والديت صندوق ًا
لتوفرياملال من أجل دراستي للطب حني أكرب ،وكان كل مخسة أو ستة
أشهر يذكر يل الرقم الذي بلغته أموال الصندوق من أجل تذكريي
بإرصاره عىل دراستي للطب ،وحني أهنيت دراسة املرحلة املتوسطة
قال أيب :قريتنا بعيدة عن العاصمة حيث كلية الطب كام أن مستوى
الدراسة لدينا ضعيف ،وأنت تعرف أن دراسة الطب حتتاج إىل شهادة
الثانوية بدرجات عالية ،وهلذا فقد قررت أنا ووالدتك االنتقال إىل
العاصمة ،ونظر ًا ألن صندوق دراستك ليس فيه الكثري من املال ،فقد
بعت قطعة من أريض من أجل ذلك ،وانتقلنا إىل العاصمة ،ودرست
املرحلة الثانوية يف أحسن مدرسة أهلية يف العاصمة ،وحصلت عىل
درجات مرتفعة ..أرسيت منذ انتقالنا إىل العاصمة كانت مرصة عىل
منادايت بالدكتور خالد ،إىل جانب أنني ومن أجل التهيؤ لدخول كلية
الطب كنت قد تطوعت للعمل مع اهلالل األمحر أربع ساعات يف
األسبوع ،وخالل ذلك حصلت عىل عدد من الدورات يف اإلسعاف،
وكنت أتردد عىل املستشفى املركزي للمساعدة يف ترتيب ملفات
املرىض ..دخلت بحمد اهلل كلية الطب وحتقق النصف األول من
احللم ،أما النصف الثاين ،فقد كان توفري املال املطلوب للذهاب بعد
التخرج إىل بلد مرموق للحصول عىل شهادة (البورد) يف أمراض
الصدر حيث كان ذلك ما أمتناه ..مل أكن أعرف حني مهمت بالسفر
إلكامل دراستي أن أيب قد باع ما تبقى لديه من أرض من أجل ذلك،
وسافرت ودرست ،وخترجت ،وحني عدت بكى أيب بكاء حار ًا من
شدة الفرح ،وقال يل :يا بني ال أريدك أن تكون طبيب ًا عادي ًا مثل معظم
الطفل بعمل ،فطالبه باالستمرار فيه حتى ينتهي ،ولو أدى ذلك
إىل تأخري وضع الطعام مث ً
ال مدة عرش دقائق ،وإذا وجد صعوبة يف
الذهاب إىل املسجد بسبب برد ومطر ،فشجعه عىل ذلك ،وهيئ له ما
يعينه عليه من مظلة ومعطف سميك.
mإتقان العمل ينمي خ ُلق املثابرة ألنه حيتاج إىل وقت ودقة وأناة،
ويف هذا السياق فإن إحدى األمهات كانت تطلب من ابنتها إعادة
كتابة الواجب املدريس أكثر من مرة بغية إتقانه ،وأم أخرى كانت
تطلب من ابنتها إعادة غسيل بعض الصحون ومسح زجاج النافذة
إذا مل تقم بام تعتقد أنه املطلوب.
mيطرأ علينا الكثري من امللل وتصبح املثابرة من غريمعنى ،إذا
مل يكن لدينا حلم نسعى إليه ،إن وجود احللم لدى الصغار والكبار
يعني أن لبذل اجلهد هناية ،ويعني أن هناك منطقة للراحة واملتعة
سنصل إليها ،قل له :إذا كنت ضمن اخلمسة األوائل يف مسابقة
القرآن الكريم ،فسيكون لزام ًا عيل أن أحقق لك طلبك الفالين ،وقل
له :إذا ساعدت إخوتك الصغار يف أداء واجباهتم ،فسأشرتي لك
الدراجة التي حتبها .حاول دائ ًام أن تشعره أن مثابرته عىل أي يشء
ستجلب له الرسور وستجعله حيصل عىل بعض ما يتطلع إليه..طبع ًا
من املهم عدم االلتزام الدائم بذلك ،إذ عىل الطفل أن يفعل الصواب
ولو مل تكن هناك مكافأة عليه.
mاجلهد الذي يبذله الصغري قد يأيت بنتيجة إجيابية ،وقد ال يأيت،
ومن ثم فإن علينا من أجل تشجيعه عىل االستمرار يف بذل اجلهد
أن نثني عىل حماوالته وجهوده وليس عىل النجاحات والنتائج التي
ال أكون مبالغ ًا لذا قلت :إن املبادرة لدى شخص من الناس هي أقوى
دليل عىل متتعه بالسامت والقدرات القيادية يف احلياة العامة عىل األقل،
ومن ثم كان لزام ًا عىل األرس أن تنمي روح املبادرة لدى صغارها بكل
الوسائل املمكنة :
كيف ننمي لدى الطفل فضيلة املبادرة؟
أ -القدوة احلسنة :وجود أب مبادر يظل شيئ ًا أساسي ًا يف تكوين
فضيلة املبادرة لدى الصغار ،ومن هنا تنبع األمهية القصوى النخراط
األبوين يف عمل تطوعي ينتفع به الناس مهام يكن ذلك العمل
بسيط ًا وصغري ًا .إن الطفل حني ينظر إىل والده ،وهو يساعد أيتام ًا
يف بناء مسكن هلم ...يدرك أمهية عدم التمحور حول الذات ،وأمهية
اإلسهام يف مساعدة اآلخرين.
ب -التشجيع عىل املحاولة :يشعر كثري من الناس بأمهية تقديم
خدمة ما ،لكن الذي يمنعهم من تقديمها هو اخلوف من الفشل
حيملوا أنفسهم ما ال يطيقون ،ويف هذه احلالة فإن
واخلوف من أن ِّ
عىل الكبار يف األرسة أن يرشحوا للصغار أمهية االنطالق إىل فعل
يشء يعود عليهم أوعىل جمتمعهم باخلريوالنفع مع التهوين من شأن
اإلخفاق ،فالذي حياول ويفشل أفضل بكثري من الذي ال يقوم بأي
أن من اجتهد حماولة ،وإن الذي حياول جيتهد ،وقد أخربنا نبينا
فأصاب ،فله أجران ،ومن اجتهد فأخطأ ،فله أجر واحد.
ج -كثرة الفرص :من املهم أن نرشح للطفل أن لدينا دائ ًام ما
يكفي من الفرص لتقديم خدمة متميزة واإلسهام يف ختفيف معاناة
شخص أوأرسة ،ومساعدة شخص عىل أن حييا حياة أفضل ،واألجر
عظيم عند اهلل تعاىل ،ويكفي يف هذا قوله « :من كان يف حاجة أخيه
فرج عن مسلم كربة ،فرج اهلل عنه هبا كربة
كان اهلل يف حاجته ،ومن َّ
من كرب يوم القيامة[ »...أخرجه الشيخان] نعم ما ُيغلق باب أمام
مبادرة أو عمل من األعامل حتى يفتح باب آخر.
-2الثقة بالنفس:
عملية القيادة والتأثري يف اآلخرين حتتاج إىل أن يكون من يريد قيادة
الناس موضع ثقة لدهيم ،وال يكون الشخص موثوق ًا لدى غريه إال إذا
كان يثق بنفسه وقدراته ،والشك يف أن بعض الناس يولدون ولدهيم
استعداد قوي ألن تكون ثقتهم بأنفسهم عالية ،ولكن يظل للتعامل مع
الطفل وتدريبه تأثري ال يستهان به يف إكسابه تلك الثقة .عدم تعريض
الطفل لإلهانة إىل جانب الثناء عليه وإشعاره بأمهيته من األموراملهمة
يف جعله يثق بنفسه ،أضف إىل هذا تدريبه عىل اكتساب كثري من
ال وصعب ًا يصبح ممكن ًا وسه ً
ال بعد اخلربات واملهارات ،فام يبدو مستحي ً
التدريب عليه ،يقول أحد املدراء الناجحني :كان أيب رمحه اهلل شيخ ًا
لقبيلة كبرية ،وقد ورث الوجاهة يف قبيلته من أبيه ،وقد كان حتصيله
العلمي دون املتوسط ،لكنه كان حكي ًام تلجأ إليه القبيلة يف امللامت ،كام
أنه بسبب صمته وهدوئه وبعد نظره كانت له مهابة عظيمة يف نفوسنا
ونفوس الناس من حوله .بوصفى أكرب أوالده كان من غري أن خيربين
يعدُّ ين ألن أكون خليفته ،مع أنه مل يتحدث أمامي يف يوم من األيام عن
ذلك ،لكن اكتشفت ذلك بعد أن دخلت كلية إدارة األعامل ،فقد تبني
ال إعداد ابن عزيز عليه ليكون يل أن أيب يترصف معي كمن يريد فع ً
زعي ًام لقومه يف املستقبل ،ويصعب عيل تعداد كل الطرق واألساليب
يستمع بإنصات وصرب ،كام أنه كان يشجعني عىل أن أسأل عن
األشياء التي ال أعرفها ،وكان يف الوقت نفسه يقول يل وإلخويت :إن
اإلنسان الشهم يأبى الضيم ،وإذا حاول أحد إذالله أوإجباره عىل
يشء ال يريده ،فإنه يقول (ال) بملء فيه.
mكان كثري ًا ما يقول يل :يا بني أنت أكرب أوالدي ،وأرى فيك الكثري
من اخلري ،فحاول أن تكون حمبوب ًا من إخوتك :آثرهم عىل نفسك،
وقدم هلم املساعدة املمكنة ،وإذا غلط أحد منهم ،فساحمه بعد أن تعرفه
عىل غلطه ،وقد أخذت بنصائحه ،ورصت أنا وإخويت مرضب املثل
يف التحابب والتفاهم بني مجيع أقربائنا .أنا اليوم أدير رشكة كبرية ،ويل
مكانة مرموقة لدى مجاعتي ،وإين أشعر بحق أن ما تعلمته من أيب ويف
بيتي أهم مما درسته يف كلية إدارة األعامل يف اجلامعة!
-3حتمل املسؤولية:
لعل من أهم صفات القادة القدرة عىل حتمل املسؤولية ،وذلك ألن
معظم األشخاص العاديني يفرون من حتمل أي مسؤولية يف الوظائف
ويف األعامل التطوعية ويف احلياة اليومية أيض ًا إهنم حيبون املكوث يف
الظل والبقاء يف الصفوف اخللفية ،ومع أن بعض الناس خلقوا هكذا
إال أن من الصحيح أيض ًا أن بعض األرس ال تساعد أبناءها عىل امتالك
الشعور باملسؤولية وال تدرهبم عىل حتملها ،وذلك بسبب الدالل
الزائد حين ًا وبسبب الشك يف قدراهتم يف أحيان أخرى .إن مما يساعد
عىل تنمية القدرة عىل حتمل املسؤولية لدى الطفل اآليت:
mتكليف الطفل بالقيام ببعض املهام مثل الذهاب إىل البقالة
وترتيب غرفته اخلاصة ،ورعاية أخيه الصغري والرد عىل اهلاتف...
mعدم استخدام أسلوب املكافأة عىل أداء األعامل بشكل مستمر
أوغالب ،إذ ينبغي عىل الطفل أن يفهم أن عيشه داخل أرسة يتطلب
منه املسامهة يف خدمتها والنهوض ببعض أعباء املنزل .إن مكافأة
الطفل عىل نحو مستمر يشعره بأنه متربع بام يقوم به ،وهلذا فله أن
يكف عن ذلك متى ما شاء.
mعىل الطفل أن يتحمل عواقب إمهاله وتقصريه ،فهذا جيعله
يشعر باملسؤولية جتاه ترصفاته وممتلكاته ،فإذا كان الطفل مث ً
ال يفقد
أدواته املدرسية بكثرة ،فإن عىل األم أن ختصم من مرصوفه ثمن ما
يفقده من أدوات ،وإذا كانت ثياب الطفل تتسخ بكثرة نتيجة عدم
انتباهه فلها أن تكلفه بغسلها وهكذا...
mمنح الطفل مرصوف ًا حمدد ًا منذ الصغر جيعله يعرف قيمة املال،
ويعلمه رضورة تقنني رصفه حتى ال جيد جيبه فارغ ًا وهو يف أمس
احلاجة إليه.
الثناء عىل الطفل كلام نجح يف حتمل بعض املسؤوليات، m
العاملني يف جمال واحد .حني كنت أحدث أيب يف موضوع كان يضع
كل يشء يف يده جانب ًا ،ويصغي إ ّيل باهتامم بالغ ،وكان من عادته إذا
للغاية ،وذلك ألن بعض الناس يميلون إىل التشاؤم أوالتفاؤل املفرط،
وبعضهم شديد احلساسية للتدخل يف خصوصيته ،وبعضهم يشمئز
من بعض الترصفات ..وهذا كله يؤدي إىل تنازع الفريق وتشتيت
الروح اجلامعية لديه.
mاحلفاظ عىل أرسار العمل ،وهذا يف احلقيقة مطلوب يف كل
وقت؛ ويف زماننا هذا صار إفشاء أرسار العمل عبارة عن جريمة
كربى ألنه قد يؤدي إىل إفالس رشكة عمالقة وناجحة .العمل ضمن
فريق يقوم عىل الثقة ،وال يمكن بناء الثقة بني أعضاء فريق ال هيتمون
بمصلحة العمل ،أو يبدون استعداد ًا لبيعها بأي ثمن!
mاستشارة أفراد املجموعة يف كل جزئية من جزئيات العمل
املشرتك والسيام إذا كانت تتطلب ترصف ًا أو قرار ًا غري عادي ،يقول
الشاب :كان أيب يناقش مع والديت ومعنا كل صغرية وكبرية من
شؤون أرستنا ،وكان يرضخ لرأي األكثرية ،ويقول :يف الشورى
بركة وخري وإن كانت نتيجتها مغايرة ملا نحب أو نرى أنه الصواب.
mاالعرتاف باخلطأ واملبادرة إىل تصحيحه من أهم اآلداب التي
ينبغي عىل املنخرطني يف عمل مجاعي التحيل هبا ورئيس الفريق مطالب
أكثر من غريه هبذا ،وذلك ألن كل جو العمل سيصبح سيئ ًا يف حال
التامدي يف ارتكاب األخطاء وعدم وضعها عىل طاولة البحث واملناقشة.
mإن تنمية الروح اجلامعية مطلب إصالحي وحضاري ومهني،
وإن من املهم املسامهة فيها من لدن كل األطراف ويف مجيع املجاالت.
-5متحدث لبق ومقنع:
مل خيطئ العرب يف اجلاهلية حني كانوا ُيظهرون الفرح ،ويقيمون
الوالئم إذا نبغ فيهم شاعر فذ أو خطيب المع ،ففصاحة املتكلم وقدراته
عىل التأثري يف سامعيه من األمور املطلوبة للزعامة والوجاهة والتقدم
عىل األقران ،ويف املايض كان وجود خطيب مفوه مه ًام جد ًا بالنسبة
إىل قبيلته ،إذ كان بمثابة إذاعة أو فضائية تنرش فضائل القبيلة ،وتدافع
عن أحساهبا ومواقفها ...يف العرص احلديث أدرك كثري من املسؤولني
عن الرتبية والتعليم يف العديد من الدول أمهية امتالك األطفال ملهارة
التحدث ،فقرروا مادة اخلطابة بدء ًا من املرحلة االبتدائية ،وكان لذلك
آثار عظيمة يف شخصيات األطفال وثقافتهم ،إن يف إمكان األرسة
جعل القدرة عىل التحدث املؤثرواملقنع رافعة لشخصية الطفل عىل
املستوى املعريف واللغوي ومستوى اللباقة والتهذيب وفهم حاجات
اآلخرين.
األب يستطيع وبمعاونة األرسة تأسيس الرباعة يف الكالم لدى
الطفل من خالل التوجيه والتدريب عىل اإللقاء أمام أفراد األرسة
أو ً
ال ثم أمام األقرباء واألصدقاء ،وهذه بعض النصائح املوجزة يف
هذا الشأن:
أ -إعداد الطفل ليكون متحدث ًا لبق ًا وخطيب ًا مؤثر ًا ال يتم بالرسعة
التي نتمناها ،وإنام حيتاج إىل وقت وصرب وإعداد.
ب -البد من أن حيفظ الطفل الكثري من النصوص حتى يصقل
هبا خطابه ،ويدعم هبا طرحه ،ويأيت يف الذروة منها كالم اهلل تعاىل
ثم الشعر وبعض األمثال واألقوال املأثورة. وكالم رسوله
ج -ندرب الطفل عىل الكلامت القصرية التي ال تتجاوز مدة
إلقائها مخس دقائق.
د -نعرض أمام الطفل رشيط (فيديو) لطفل يتحدث بطالقة
وفصاحة مؤثرة ،وندله عىل النقاط التي جعلته متميز ًا.
هـ -نطلب من الطفل قبل أسبوع من موعد إلقاء كلمته أن
حيضرِّ ها بشكل ،جيد وتكون جلسات االستامع يف البداية خالية من
أي نقد ،وإنام التشجيع والثناء واإلعجاب.
و -حني يصبح الطفل يف املتوسط نبدأ بتسجيل املالحظات
وإظهارها له.
ز -املالحظات تدور حول الفكرة األساسية للكلمة ومدى
صواهبا وأمهيتها ثم حول أسلوب اإللقاء واستخدام طبقات الصوت
وحركات الوجه واليدين ،وال بد من أن نويل لسالمة اللغة أمهية
خاصة ،والسيام يف هذه األيام حيث صارت اللغة الفصيحة بني فكي
كامشة :اللغات األجنبية واللهجات العامية !
ح -إذا مل تكن األرسة قادرة عىل تدريب أطفاهلا عىل اخلطابة،
فلتلتمس هلم من يدرهبم عليها ،وإن مسجد احلي مكان مناسب لذلك،
كام أن بعض املراكز التدريبية تقدم دورات متخصصة يف هذا الشأن.
مهارات اإلقناع:
لعل من أهم سامت القائد الناجح امتالك القدرة عىل التأثري يف
اآلخرين من خالل جعلهم يتبنون أفكاره ،ومن خالل جعلهم
ينظرون إىل أولوياته عىل أهنا أولويات هلم .نحن حني نتحدث هنا
عن اإلقناع نتحدث عن اإلقناع النزيه والقائم عىل أسس صحيحة
ومقبولة ،وذلك ألن اإلقناع قد يتم عن طريق اخلداع واإلغراء،
وأحيان ًا يكون اإلقناع عن طريق الوصول إىل حل وسط بني شخصني
أوفريقني متخاصمني أو خمتلفني.
يف اعتقادي أن األرسة اجليدة قد ال متتلك مهارات اإلقناع املطلوبة،
لكنها تستطيع تقديم األساس األخالقي والفكري من خالل التأكيد
عىل بعض املعاين من نحو :
أ -تعليم الطفل اختيار الوقت واملكان املناسبني لطرح أفكاره،
فا لفكرة مهام كانت ممتازة إذا طرحت يف وقت غري مناسب مل يلتفت
إليها الناس ،ومل هيتموا هبا .أحد اآلباء كان يدرب أطفاله عىل هذا
من خالل حتديد وقت يف األسبوع لسامع مقرتحات كل أفراد األرسة
ومناقشتها وأيض ًا كان ينبه األطفال عىل أمهية عدم التحدث أمام
الضيوف بأي يشء يتعلق باألرسة.
ب -من املهم ملن يريد إقناع اآلخرين بفكرة أن تكون قناعته هبا
شديدة وإال فسيخفق ،وقد يقنعه اآلخرون برتكها واعتناق فكرة
مضادة هلا .يف هذا السياق قد يكون من املناسب تعليم الطفل األناة
قبل طرح أي فكرة أو املجادلة عنها ،وذلك من خالل النظر إليها
عىل أهنا خيار من اخليارات ،وبعد التأمل يف مجيع اخليارات ووجهات
النظر األخرى يتم تبني الفكرة ،أو العدول عنها ،وقد رأينا كثري ًا من
الشباب وهم يظهرون محاسة شديدة ألمور ليست من الصواب يف
يشء ،ولو أهنم بذلوا جهد ًا يف دراستها ملا حتمسوا هلا.
ج -نحن نريد تنشئة أطفالنا عىل احلوار ،وليس عىل اجلدال ،احلوار
يعني توضيح وجهة النظر من غري إحلاح عىل الطرف اآلخر بقبوهلا،
وذلك ألن احلوار هو عملية إضاءة متبادلة للنقاط املظلمة :أيضء
لك نقطة ال تراها ،وتيضء يل نقطة ال أراها ،وبعد ذلك لكلٍ منا احلق
يف اختيار ما يراه صواب ًا ،أما اجلدال فإنه هيدف إىل التغلب عىل اآلخر
من خالل تغيري قناعته ،وكثري ًا ما يشعر من هندف إىل إقناعه بيشء من
األشياء بأنه مقهور ومضغوط عليه وهذا يؤدي إىل أن يقف موقف
املعاند املتكرب ،وما أمجل قول البارئ عز وجل :ﱫﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﱪ [سورة سبأ]24 :
د -املهم دائ ًام هو االهتداء ألفضل األفكار وأفضل األساليب التي
تساعدنا عىل الرقي والتقدم بقطع النظر عن صاحبها ومصدرها ،هذا
ما يقتضيه اإلخالص واحلرص عىل اخلري ،ورحم اهلل اإلمام الشافعي
إذ يقول« :ما جادلت أحد ًا إال متنيت أن ُيظهر اهلل احلق عىل لسانه
دوين»! هذا قمة التجرد واإلخالص ،إذن علينا تربية الطفل عىل الفرح
بالوصول إىل احلق واحلقيقة بقطع النظر عن أي يشء آخر ،وهذا يمد
جسورالتواصل والثقة واملحبة بني القائد وبني من حتت قيادته.
هـ -يف عملية اإلقناع جيب البدء بام هو متفق عليه ،ثم يصار إىل إقناع
السامعني باليشء املختلف فيه ،مث ً
ال أم تريد إقناع ابنتها بأمهية عدم النوم
بعد الفجر وأمهية استغالل ذلك الوقت يف القراءة ،فامذا تقول؟
يف هذه السلسة :سلسة الرتبية الرشيدة .وإين إذ أمحد اهلل تعاىل عىل
ما أعان وهدى ألسأله سبحانه أن ينفع هبذا الكتاب إخواين القراء
وأخوايت القارئات ،كام أسأله أن جيعله ذخر ًا يل يوم ال ينفع مال وال
بنون.
واحلمد هلل رب العاملني.
املؤلف
مقدمة ..................................................
-1حول املستقبل......................... :
-1املستوى اإليامين ................................. .
-2املستوى االجتامعي ...............................
-3أسلوب العيش ...................................
-4سوق العمل ......................................
-2كلمة ال بد منها ....................... :
الثقافة الرتبوية .................................... -
البيئة الرتبوية اجليدة .............................. -
-1بيئة غنية .........................................
-2العناية املتواصلة .................................
-3زوجان متحابان .................................
-4أسلوب راشد يف الرتبية ........................ :
أ ـ تشجيع االستقاللية ................................
ب ـ التوسط يف األمور ................................