You are on page 1of 30

‫جامعة العقيد الحاج لخضر ‪ -‬باتنة‬

‫كليــــــــة الحقـــــــــــوق‬
‫قسم العلوم السياسية‬

‫دفعة الماجستير (دبلوماسية وعالقات دولية)‬

‫مقياس‪ :‬االتجاهات النظرية التقليدية في العالقات الدولية‬

‫‪:‬الموضــوع‬

‫أزمة التنظير في العالقات الدولية‬


‫‪International Relations Theorizing Crisis‬‬

‫إعداد‪:‬‬ ‫‪:‬إشراف‬
‫الطالب‪ ،‬سليم العايب‬ ‫الدكتور‪ ،‬عبد الناصر‬
‫حندلي‬
‫‪2008/2007‬‬
‫الـمقدمــة‬
‫يرتبط موضوع أزمة التنظير بغياب نظرية عامة في تفسير العالقات‬
‫الدولية‪.‬حيث إن غياب هده األخيرة هو الذي أوقع التنظير للعالقات الدولية في‬
‫أزمة‪,‬وهي تنتج أساسا من غياب نظرية عامة شاملة لمختلف أبعاد ومتغيرات الظاهرة‬
‫الدولية زماكنية من جهة ‪,‬ومن جهة أخرى تفسير ووصف العالقة بين هده المتغيرات‬
‫واألبعاد (كيف كانت ‪,‬وكيف ستكون في المستقبل) ‪ ,‬وهذا ما أدى إلى ظهور نظريات‬
‫جزئية في العالقات الدولية حيث أن كل نظرية تشمل متغيرات محدودة من الظاهرة‬
‫الدولية‪ ،‬إضافة عن عجزها عن التنبؤ بمستقبل الظاهرة‪.‬‬
‫ويستمد أهمية هدا الموضوع من أن العالقات الدولية جزء من اهتماماتنا اليومية‪,‬‬
‫إضافة انه يمثل مصير دول وأمم‪,‬ولهذا كان البد للباحثين االهتمام به ومحاولة تفسيره‬
‫بغية فهمه‪,‬وكذلك تزويد صناع القرار بما يمكنهم من ترشيد سياساتهم وتنوير الطريق‬
‫أمامهم بما يضمن مصير دولهم وأممهم‪,‬وإلي هنا يمكن أن نطرح اإلشكالية التالية‪:‬‬
‫ما هي العوامل التي أدت إلى حدوث أزمة التنظير؟ والى أي مدى يمكن التخفيف منها ؟‬
‫وتحت هده اإلشكالية ندرج الفرضيات التالية‪:‬‬
‫‪ -‬تأثير البيئة االنجلوساكسونية كان احد أسباب أزمة التنظير في العالقات الدولية ‪.‬‬
‫‪ -‬تعقيد الظاهرة الدولية وصعوبة التكهن بمآالتها كان احد أسباب أزمة التنظير ‪.‬‬
‫‪ -‬يمكن أن تساهم نظرية كوسموبوليتانية أو نظرية مركبة في التخفيف من أزمة التنظير‪.‬‬
‫‪ -‬قد تؤدي بيداغوجية جديدة لدراسة العالقات الدولية ‪ .‬إلى التخفيف من أزمة التنظير‪.‬‬
‫لإلجابة على هده الفرضيات ومعالجة الموضوع نضع الخطة التالية ‪:‬‬
‫الفصل األول‪:‬أزمات التنظير في العالقات الدولية ودور المدرسة الواقعية في التخفيف‬
‫منها‪.‬‬
‫المبحث األول‪:‬أزمات التنظير في العالقات الدولية‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ .‬دور المدرسة الواقعية في التخفيف من أزمات التنظير‪.‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬من أجل بدائل منهجية وبيداعوجية لدراسة وفهم العالقات الدولية‪.‬‬
‫المبحث األول‪.‬من اجل لوحة مفاتيح تركيبية لفهم العالقات الدولية‪.‬‬
‫المبحث الثاني ‪.‬من اجل نظرية كوسموبوليتانية للعالقات الدولية‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪.‬من اجل بيداغوجية جديدة لدراسة العالقات الدولية‪.‬‬
‫وقد اعتمدت في هدا البحث علي المنهج التحليلي وأحيانا على المنهج‬
‫الوصفي ‪,‬كما واجهتني عدة صعوبات متمثلة في قلة األدبيات التي عالجت هدا‬
‫الموضوع‪,‬وأحيانا صعوبة الحصول عليها‪.‬‬

‫خطــة البحـــث‬
‫الـمقدمــة‬
‫الفصل األول‪ :‬أزمات التنظير في العالقات الدولية ودور‬
‫المدرسة الواقعية في التخفيف منها‬
‫المبحث األول‪ :‬أزمــات التنظيــر في العالقـــات الدوليــة‬
‫المبحث الثاني‪ :‬دور المدرسة الواقعية في التخفيف من‬
‫أزمات التنظير‬

‫الفصل الثاني‪ :‬من أجل بدائل منهجية وبيداغوجية‬


‫لدراسة وفهم‬
‫العالقات الدولية‬
‫المبحث األول‪ :‬من أجل لوحة مفاتيح تركيبية لفهم العالقات‬
‫الدولية‬
‫المبحث الثاني‪ :‬من أجل نظرية كوسموبوليتانية للعالقات‬
‫الدولية‬
‫المبحث الثالث‪ :‬من أجل بيداغوجيا جديدة لدراسة العالقات‬
‫الدولية‬
‫الخاتمـــة‬
‫الفصل األول‪:‬‬

‫أزمات التنظير في العالقات الدولية ودور المدرسة‬


‫الواقعية في التخفيف منها‬

‫الـمبحث األول‪:‬‬
‫أزمــات التنظيــر في العالقـــات الدوليــة‬

‫‪ 1-‬أزمة التعميم في بناء نظرية غربية ذات أفق عالمي‬


‫نالحظ أن معظم النظريات في العالقات الدولية هي نظريات ناتجة عن بيئة‬
‫غربية‪ ،‬وبصفة خاصة فهي نظريات وليدة البيئة األنجلوسكسونية‪ ،‬ماعدا النظرية‬
‫الماركسية التقليدية والحديثة‪ .‬يقول األستاذ محمد محفوظ‪" :‬البناء النظري للعالقات‬
‫الدولية بصفة خاصة والعلوم السياسية بصفة عامة واألدوات المنهجية والتقنية التي‬
‫يعتمد عليها الباحث والدارس هي في ‪ -‬أغلبها – مستعارة من البيئة األنجلوسكسونية"‪.‬‬
‫وهذا ما جعل هذه النظريات تتأثر بالواقع الذي انبثقت منه‪ ،‬وهو الواقع الغربي دون‬
‫غيره‪ ،‬وهو السبب الذي جعل هذه النظريات عاجزة عن التطبيق في بيئات أخرى مثل‬
‫العالم الثالث‪ ،‬والسبب نفسه الذي جعل هذه النظريات ال ترقى إلى نظريات عامة وشاملة‬
‫في العالقات الدولية‪ ،‬وهذا يرجع إلى خصوصيات كل بيئة من بيئات المجتمع الدولي‪.‬‬
‫وفي هذا الصدد‪ ،‬يقول الدكتور عبد الناصر جندلي‪ ..." :‬فما يصلح للمجتمعات الغربية‬
‫قد ال يصلح لمجتمعات العالم الثالث والعكس صحيح‪ ،‬فاالتجاه الواقعي مثال يعبر عن‬
‫واقع المجتمع الغربي الذي يتميز بحب السيطرة واستعمال القوة بمختلف أشكالها‬
‫وأنواعها بغية تحقيق المصلحة الوطنية ‪ ،national interset‬وفضال عن ذلك أن‬
‫للباحث الغربي من اإلمكانيات المادية والمعنوية ما يؤهله ويمكنه من بلورة أي نظرية‬
‫في العالقات الدولية على عكس الباحث في العالم الثالث الذي يفتقر إلى مثل هذه‬
‫اإلمكانيات"‪.‬‬
‫إذن النظريات الغربية للعالقات الدولية هي نظريات متأثرة بالقيم المركزية في‬
‫الثقافة الغربية (القيم المادية) وهذا ما يجعلها بعيدة عن استيعاب بيئات أخرى تختلف‬
‫قيمها عن القيم الغربية والتي من بينها العالم الثالث‪ ،‬إضافة إلى أن الباحث في العالم‬
‫الثالث ال يملك األدوات المنهجية والتقنية التي تمكنه من بلورة نظريات تعبر عن القيم‬
‫المستنبطة من ثقافته‪ ،‬عكس الباحث في الغرب‪ ،‬فضال عن ذلك فإن الباحث في العالم‬
‫الثالث يعتمد على األدوات المنهجية والتقنية التي جاء بها الباحث في الغرب ولهذا فإنتاج‬
‫الباحث في العالم الثالث يعد امتدادا للفكر الغربي‪.‬‬

‫‪ 2-‬أزمة الشمولية في متغيرات العالقات الدولية‪:‬‬


‫ترجع أزمة الشمولية في متغيرات العالقات الدولية إلى عدم وجود نظريات‬
‫تشمل جميع المتغيرات األساسية في الظاهرة الدولية‪ ،‬فمثال المدرسة الواقعية ترى أن‬
‫المتغير األساسي هو القوة‪ ،‬بينما المدرسة المثالية تركز على األخالق‪ ،‬أما االتجاه‬
‫الماركسي فيرى أن المتغير الرئيسي هو االقتصاد‪ .‬فكل نظرية من هذه النظريات ترى‬
‫بأن متغيرا ما هو المتغير الرئيسي في الظاهرة الدولية‪ ،‬إال أن الظاهرة الدولية تحتوي‬
‫على متغيرات كثيرة منها االقتصادية والسياسة والعسكرية والثقافية واالجتماعية بما‬
‫تحمله هذه المتغيرات من أبعاد الصراع والتنافس أو التعاون والتكامل‪.‬‬
‫إذن فغياب نظرية تجمع كل متغيرات الظاهرة الدولية هو الذي أدى إلى وجود‬
‫أزمة الشمولية في نظريات العالقات الدولية‪ ،‬يقول الدكتور عبد الناصر جندلي‪" :‬إن‬
‫منشأ هذه األزمة يكمن في الفكرة التي مفادها أن االستناد إلى متغير بعينه غير كاف‬
‫لدراسة الظاهرة الدولية دراسة شاملة‪ ،‬ألنها ظاهرة كالنية متعددة ومتنوعة الجوانب‪،‬‬
‫ولدراستها يجب أن تتوفر كل المتغيرات في نظرية واحدة‪ ،‬عندئذ يمكن أن نقول بوجود‬
‫نظرية عامة شاملة للعالقات الدولية"‪.‬‬
‫‪ 3-‬أزمة الذرائعية‪:‬‬
‫تعود أزمة الذرائعية إلى صعوبة تفسير الظواهر الدولية والتنبؤ بما ستكون عليه‬
‫في المستقبل‪ ،‬يقول األستاذ محمد شلبي‪":‬التنبؤ يهتم بما سوف يكون في المستقبل ألنه‬
‫بمثابة اختيار لمجموعة من العالقات القائمة بين متغيرا أو ظواهر أو أحداث تقبل‬
‫المالحظة والمشاهدة ولهذا تكون تلك التنبؤات مصيغة في شكل قانون أو نظرية علمية‬
‫معلنة وال يتحقق القانون أو النظرية إال بفهم تلك الوقائع والظاهر وتقديم تفسير لها في‬
‫شكل حكم احتمالي"‪.‬‬
‫فالنظرية في العالقات الدولية يجب أن تكون قادرة على تحليل الظاهرة كما هي‪،‬‬
‫وكيف ستكون‪ ،‬ولهذا يجب أن تكون النظرية قادرة على كشف العالقة بين المتغيرات‬
‫المتحكمة في الظاهرة حاليا وكيف ستكون هذه العالقة مستقبال‪ .‬وهنا يقول الدكتور عبد‬
‫الناصر جندلي‪" :‬النظرية في العالقات الدولية يجب أن تكون قادرة على تحليل "كيف‬
‫يحدث هذا" في إطار عالقة جدلية للثالوث المتكون من الظاهرة – الزمان ‪ -‬المكان ‪،‬‬
‫فالظاهرة الدولية هي ظاهرة اجتماعية متغيرة زمكانيا وبصفة مستمرة‪ ،‬ولمواكبة ذلك‬
‫التغير ومتابعته‪ ،‬يجب أن تكون النظرية قادرة على تفسير المبررات التي أوجدت‬
‫الظاهرة‪ ،‬أو تلك التي أدت إلى تغيير نفس الظاهرة في فترات زمنية متعاقبة ومتباينة‪.‬‬
‫ومن خالل استيعاب هذه األسباب والمبررات‪ ،‬يمكن أن ينبأ الباحث بما ستؤول إليه نفس‬
‫الظاهرة مستقبال"‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬تعود أزمة الذرائعية إلى الصعوبات التي تواجه النظرية في العالقات‬
‫الدولية في وظيفة التفسير والتنبؤ للظواهر الدولية المتغيرة زمانيا ومكانيا‪.‬‬
‫‪ 4-‬أزمة التعددية‪:‬‬
‫تعود هذه األزمة إلى عدم إمكانية توحيد لالتجاهات الفكرية والتنظيرية للعالقات‬
‫الدولية‪ ،‬وهو ما أدى إلى ظهور عدة نظريات تتناول العالقات الدولية كل من منطلقاتها‪،‬‬
‫وحسب الزاوية التي تنظر من خاللها للظاهرة الدولية‪ ،‬ويرجع ذلك إلى سببين‪:‬‬
‫(‪ 1‬بما أن نظريات العالقات الدولية جاءت متأثرة ببيئتها الخاصة‪ ،‬فهي وليدة الظروف‬
‫االقتصادية والسياسية التي عاش فيها صاحب هذه النظرية‪ ،‬حيث تساهم هذه الظروف‬
‫في تشكيل خلفيات يمكن أن ينطلق منها الباحث‪ ،‬فمثال ميكيافللي عندما صاغ أفكاره في‬
‫تلك العبارة الشهيرة‪" ،‬إن الغاية تبرر الوسيلة وأن الضرورة ال تعرف القانون"‪ ،‬ال شك‬
‫أن واقع الدويالت اإليطالية هو الذي أثر على صياغة أفكاره المتمحورة حول محاولة‬
‫توحيد الدويالت اإليطالية‪.‬‬
‫(‪ 2‬إن تناول فروع وتخصصات علمية مستقلة عن علم العالقات الدولية للظاهرة‬
‫الدولية‪ ،‬مثل العلوم القانونية وعلم االقتصاد عن طريق المواضيع التي تنتمي إليها مثل‬
‫القانون الدولي بالنسبة للعلوم القانونية‪ ،‬واالقتصاد الدولي بالنسبة لعلم االقتصاد‪ ،‬وهذا ما‬
‫يجعل الدارس للظاهرة الدولية يأتي بنظرية للعالقات الدولية يغلب عليها طابع‬
‫التخصص الذي درسه‪ ،‬كالمدرسة الماركسية بشقيها الكالسيكي والحديث التي تعالج‬
‫الظاهرة الدولية من خالل الزاوية االقتصادية‪ ،‬وهذا تماشيا مع طابع التخصص الذي‬
‫درسه المنظرون لهذه المدرسة وهو علم االقتصاد‪ ،‬كذلك من يدرس الظاهرة الدولية من‬
‫خالل التاريخ المقارن‪ ،‬تأثرا بالتخصص الذي يدرسه وهو التاريخ‪.‬‬
‫إذن تعدد النظريات يعود إلى تعدد الزاوية التي تناولت من خاللها الظاهرة‬
‫الدولية من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى تعدد التخصصات التي تناولت الظاهرة الدولية‪ ،‬وهذا‬
‫ما يحول دون توحيد االتجاهات التنظيرية في العالقات الدولية كونها ال تنتمي إلى حقل‬
‫علم العالقات الدولية‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪:‬‬
‫دور المدرسة الواقعية في التخفيف من أزمات‬
‫التنظير‬

‫‪ 1-‬تفسير الواقعية لظاهرة الصراع في السياسة العالمية‬


‫إن سيطرة الواقعية على حقل العالقات الدولية لمدة طويلة وهي فترة الثالثينيات‬
‫واألربعينيات من القرن العشرين في تفسير ظاهرة الصراع في السياسة الدولية‪ ،‬فقد‬
‫تمكنت من كشف أهم الدوافع اإلنسانية في تفسير السلوك العدواني للدول‪ ،‬فحسب‬
‫مورغانثو ووالتز‪ ،‬فالرغبة اإلنسانية في القوة وحب السيطرة والخوف وعدم اليقين‪ ،‬هي‬
‫أهم الدوافع اإلنسانية التي تفسر السلوك الصراعي للدول‪ .‬تقول األستاذة فضيلة‬
‫محجوب‪" :‬عندما يتحدث مورغانثو عن الرغبة اإلنسانية في القوة والهيمنة‪ ،‬وعندما‬
‫يتعامل والتز مع الخوف وعدم اليقين في العالقات الدولية‪ ،‬فهما بذلك يضعان اليد على‬
‫أهم الدوافع اإلنسانية‪ ،‬وال يتسنى ألي نظرية في مجال العالقات الدولية أن تكتمل بدون‬
‫أن تأخذ في اعتبارها مثل تلك العوامل‪ ،‬ولن يتمكن العديد من النظريين من االستحواذ‬
‫على القلوب وعقول الدارسين والممارسين مثل والتز ومورغانثو بتفسيراتهم لسياسات‬
‫العالم‪ ،‬وباختصار‪ ،‬ومما الشك فيه فإن الواقعية تمكنت من السيطرة على سير العالقات‬
‫الدولية لمدة طويلة"‪.‬‬
‫إذن فنجاح الواقعية في تفسير ظاهرة التنافس والصراع في العالقات الدولية‬
‫بالرجوع إلى الدوافع اإلنسانية مثل الخوف وعدم اليقين والرغبة في القوة والسيطرة‪،‬‬
‫والتي ال يمكن ألي نظرية أن تكتمل دون األخذ بهذه الدوافع على حد تعبير األستاذة‬
‫فضيلة محجوب هو الذي جعل الواقعية تهيمن على حقبتين من القرن العشرين؛ هذا من‬
‫جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى فقد تمكنت الواقعية كذلك من تفسير ظاهرة الصراع في العالقات‬
‫الدولية من زاوية أخرى‪ ،‬وهي فوضوية النظام الدولي الذي يعد أحد المصادر الهامة‬
‫للصراع والتنافس بين الدول الناتج عن غياب السيادة الدولية‪ ،‬وفي هذا الصدد تقول‬
‫األستاذة فضيلة محجوب‪":‬وبال شك فإن والتز قد قام بثورة في أفكارنا حول العالقات‬
‫الدولية عندما ركز حول البناء الفوضوي بدال من اإلنسان والدولة مغيرا بذلك الشكل‬
‫الداخلي للتفكير‪ ،‬ولهذا السبب فقط البد أن يطلق على والتز العبقري‪ ،‬والخالصة أنه ليس‬
‫من السهل الوصول إلى أن ما يفسر الحرب حقيقة هو غياب السيادة الدولية التي يمكن‬
‫أن تمنع الحروب‪ ...‬وقبل والتز كان دائما نابليون وهتلر وأحيانا بعض أنظمة اإلقطاعيين‬
‫المسؤولين عن أسباب الحروب‪ ،‬وبمعنى آخر قبل والتز كان دائما اإلنسان والدولة اللذان‬
‫تسببا في الحرب‪ ،‬وبعد والتز هناك بناء عالمي‪ ...‬واستطاع روبرت جيرفيس تفسير‬
‫سبب أن الدول التي يمكن أن تتفق على أهداف معينة ولها مصالح متساوية في تحقيق‬
‫هذه األهداف تفشل في التعاون"‪.‬‬
‫إذن تعتبر الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي أحد أسباب الصراع بين الدول ولهذا‬
‫فإن نجاح الواقعية في تفسير ظاهرة الصراع الدولي بإرجاعه إلى أهم األسباب التي‬
‫تؤدي إلى التنافس بين الدول سواء من خالل الدوافع اإلنسانية من جهة‪ ،‬ومن جهة‬
‫أخرى من خالل البنية الفوضوية للنظام الدولي‪ ،‬هو الذي جعل المدرسة الواقعية تهيمن‬
‫على فترة طويلة من سير العالقات الدولية‪ ،‬وهو ما جعل هذا المنظور المهيمن يخفف‬
‫من أزمة التنظير من خالل إعطاء تفسير كاف لظاهرة من ظواهر العالقات الدولية‪،‬‬
‫وهي ظاهرة الصراع الدولي‪ ،‬كذلك فإن الواقعية ساهمت في التخفيف من أزمة التنظير‬
‫عندما كانت كمنظور مهيمن‪ ،‬حيث كادت أن تكون نظرية عامة في العالقات الدولية لوال‬
‫أنها فشلت في التنبؤ بالنهاية التي كانت للحرب الباردة‪ ،‬وظهور انتقادات مضادة من‬
‫طرف مدارس أخرى‪.‬‬
‫‪ 2-‬عدم إعطاء تعريف محدد للقوة‬
‫يعتبر عدم إعطاء الواقعية لتعريف محدد للقوة هو أحد األسباب الذي جعلها‬
‫تهيمن على حقب معينة من تاريخ العالقات الدولية‪ ،‬فالقوة في المدرسة الواقعية كمفهوم‬
‫مبهم يمكن أن يشمل عدة متغيرات تساهم في تشكيل القوة الوطنية أو القومية‪ ،‬كالسكان‪،‬‬
‫واأليديولوجيا‪ ،‬والموارد الطبيعية‪ ،‬والتطور التكنولوجي‪...‬إلخ من العوامل المشكلة للقوة‬
‫الوطنية أو القومية‪ .‬يقول األستاذ إسماعيل صبري مقلد‪ ..." :‬والقوة التي تعنيها النظرية‬
‫الواقعية ليست مجرد القوة العسكرية أو وسائل اإلكراه المادي بمعناه الضيق‪ ،‬ولكنه القوة‬
‫القومية ‪ national power‬بمفهومها الشامل بمختلف عناصرها ومكوناتها المادية‬
‫وغير المادية‪ ،‬ومنها على سبيل المثال ال الحصر‪ :‬السكان‪ ،‬الموارد الطبيعية‪ ،‬والمواقع‬
‫االستراتيجي‪ ،‬ومستوى التطور التكنولوجي‪ ،‬والجهاز اإلنتاجي‪ ،‬ونظام الحكم‬
‫ومؤسساته‪ ،‬والزعامة السياسية واأليديولوجية والدبلوماسية‪ ،‬والدعاية‪ ،‬والرأي العام‪،‬‬
‫ومستوى التسلح‪...‬إلخ"‪ .‬ولهذا فأي متغير تبرز أهميته على الساحة الدولية يدخل في‬
‫مفهوم القوة عند الواقعيين‪ ،‬فعند ظهور المتغير العسكري مثال كمتغير مؤثر في العالقات‬
‫الدولية يقول الواقعيون هذا يدخل ضمن مفهوم القوة القومية‪ ،‬ونفس الشيء بالنسبة‬
‫للمتغيرات األخرى‪ ،‬فكلما برز متغير على الساحة الدولية يقولون إنه يدخل في مفهوم‬
‫القوة القومية‪ ،‬وهذا ما جعلها تهيمن لفترة ما وبالتالي التخفيف من أزمة التنظير إلى حد‬
‫ما‪.‬‬

‫‪ 3-‬توافق الطرح الواقعي مع بعض مجريات األحداث الدولية‬


‫يرجع كذلك سبب هيمنة الواقعية على حقل العالقات الدولية لفترة معينة إلى تناغم‬
‫الطرح الذي جاءت به الواقعية مع مجربات األحداث الدولية‪ ،‬حيث طابقت نظرتها مع‬
‫سير األحداث على الساحة الدولية‪ ،‬فالحرب العالمية األولى وسيطرة العامل العسكري‬
‫على الساحة الدولية أدى إلى تراجع الطرح األخالقي وبروز الطرح الواقعي بقوة‪ ،‬بتأكيد‬
‫أن الدول تندفع للحرب من أجل مصالحها ليتطابق ذلك مع مجريات األحداث الدولية‬
‫حيث بروز النزعات االستعمارية وتكالب الدول على ضم المناطق الحيوية في أقاليم ال‬
‫تخضع لسيطرتها‪ ،‬في تنافس محموم لالستيالء على الموارد الطبيعية‪ ،‬فحسب جون جاك‬
‫روش‪" ،‬العالقات الدولية تم إعادة البحث فيها بتأثير ثالثة عوامل‪:‬‬
‫(‪ 1‬الحرب العالمية األولى بثالث عشر مليون قتيل‪ ،‬التي كادت أن تحطم الحضارة‬
‫الغربية‪ ،‬أدت التفكير عن أسباب الحروب وشروط تخفيف السالم الدائم والشامل‪،‬‬
‫باستخدام مبادئ وتقنيات لمالحظة سياسية لعنف متوقع الظهور‪.‬‬
‫(‪ 2‬تحول آليات التوازن في أوروبا في القرن العشرين‪ ،‬تولد تحليل األسباب التاريخية‬
‫للحرب‪ ،‬ولهذا فأدبيات العالقات الدولية تهدف الستبدال تحليل التاريخ الدبلوماسي بنظرة‬
‫اجتماعية مبنية على تأثيرات القوة‪.‬‬
‫(‪ 3‬أخيرا رفض الواليات المتحدة األمريكية أخذ مكانتها بعد التدخل العسكري الفاصل‬
‫في ‪ ،1917‬والذي جاء من منبع تفكير عام على دور القوة ومحدودية العمل الدبلوماسي‪.‬‬
‫إذن فبروز دور العامل العسكري على الساحة الدولية كعامل أساسي في هذه‬
‫الفترة وما أدى إلى االستعمال المفرط للقوة وانتشار الحروب‪ ،‬أدى على التطابق مع‬
‫تفسيرات الواقعية المبنية كلها على القوة وكأن التعاون غير وارد بين الدول تماما‪ ،‬وهذا‬
‫ما أدى إلى فشلها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة‪ ،‬عن مسايرة األحداث‪ ،‬وذلك لبروز‬
‫العامل االقتصادي وتراجع العامل العسكري‪ ،‬وانقلبت الصورة في أوروبا من الحرب‬
‫إلى التعاون‪ ،‬ولهذا فإن التناغم الذي حدث بين ظروف المرحلة التي مرت بها العالقات‬
‫الدولية مع سيطرة العالم العسكري على اللعبة الدولية‪ ،‬مما أدى إلى انتشار الصراع‬
‫والتنافس بين الدول‪ ،‬وبين تفسيرات هذه المدرسة التي صورت لنا العالقات الدولية على‬
‫أنها عالقات صراع ‪ ،‬هو الذي جعل هذه النظرية تهيمن على فترة معتبرة من سير‬
‫العالقات الدولية‪ ،‬والمهم أن التخفيف من أزمة التنظير جاء من حيث تفسير الواقعية‬
‫لجانب مهم من جوانب السياسة الدولية أال وهو الصراع‪ ،‬كما يمكن أن تعتبر الواقعية قد‬
‫خففت من أزمة التنظير من خالل تطابقها مع مجريات األحداث ولو لفترة محدودة من‬
‫سير العالقات الدولية‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪:‬‬

‫من أجل بدائل منهجية وبيداغوجية لدراسة وفهم‬


‫العالقات الدولية‬
‫المبحث األول‪:‬‬
‫من أجل لوحة مفاتيح تركيبية لفهم العالقات‬
‫الدولية‬

‫يمكننا أن نعتمد على لوحة مفاتيح تركيبية لفهم العالقات الدولية‪ ،‬فمن خالل هذه‬
‫اللوحة يمكن استعمال كل نظرية من نظريات العالقات الدولية في جانب من جوانب‬
‫الظاهرة الدولية‪ ،‬وذلك حسب تفوق كل نظرية في المجال الذي كانت فيه رائدة في تفسير‬
‫بعد من أبعاد الظاهرة الدولية‪ ،‬مثال فالنظرية الواقعية تعتبر نظرية رائدة في تفسير‬
‫ظاهرة الصراع الدولي‪ ،‬أما الليبرالية فهي رائدة في تفسير ظاهرة التعاون الدولي‪ ،‬أما‬
‫البنائية فقد فسرت تأثير األفكار إلى جانب القوة في العالقات الدولية‪ ،‬فمن خالل هذه‬
‫النظريات يمكننا تشكيل لوحة مفاتيح حيث تمثل كل نظرية مفتاحا لفهم ظاهرة ما من‬
‫ظواهر العالقات الدولية يمكن من خاللها التخفيف من أزمة التنظير عن طريق فهم هذه‬
‫الظواهر مجزءة بحيث في النهاية يمكن أن نتحصل على صورة عن العالقات الدولية‪،‬‬
‫فإن استعمال النظرية الواقعية في فهم ظاهرة الصراع الدولي بالتركيز على دور القوة‬
‫بمختلف أبعادها وتأثيرها على الظاهرة‪ ،‬مع العلم بأن القوة لها دورها المركزي في‬
‫ظاهرة الصراع قديما وسوف يكون كذلك مستقبال‪ ،‬وإال فما الذي يفسر لنا اهتمام‬
‫اآلسيويين واألوروبيين بالحفاظ وتوسيع التواجد العسكري األمريكي في مناطقهم‪ .‬كما‬
‫أصرت الواليات المتحدة األمريكية على أن تكون في المرتبة األولى عالميا وفي وضع‬
‫مهيمن‪ .‬يقول األستاذ ستيفن والتز‪" :‬وبالنسبة للواليات المتحدة األمريكية فقد أظهر العقد‬
‫الماضي كم ترغب في البقاء القوة رقم واحد‪ ،‬وكم هي مصرة على الحفاظ على مركزها‬
‫المهيمن‪ ،‬وهكذا استفادت الواليات المتحدة من تفوقها الراهن في فرض أولوياتها كلما‬
‫كان ذلك ممكنا ‪ ،‬حتى لو كلفها ذلك المخاطرة بإغضاب العديد من حلفائها التقليديين‪ .‬فقد‬
‫فرضت على روسيا سلسلة من اتفاقيات الحد من التسلح من جانب واحد (وهيمنت على‬
‫جهود السالم المحفوفة بالمشاكل في البوسنة)‪ ،‬واتخذت خطوات لتوسيع حلف الناتو حتى‬
‫الحدود الروسية‪ ،‬وأصبحت مهتمة على نحو متزايد بصعود قوة الصين"‪.‬‬
‫إذن فاالهتمام بالقوة في الشؤون الدولية كان قديما وسيبقى مستقبال‪ ،‬ولهذا‬
‫فاستعمال الواقعية في فهم دور القوة في العالقات الدولية وتأثيرها في ظاهرة الصراع‬
‫سيعطينا دوما صورة جزئية عن الشؤون الدولية القديمة والمستقبلية‪ .‬كما يمكننا االعتماد‬
‫على النظريات الليبرالية لتفسير ظاهرة التعاون الدولي حيث تحدد لنا الوسائل التي يمكن‬
‫أن تستعملها الدول لتحقيق مصالح مشتركة‪ ،‬حيث تجعلها هذه المصالح تتعاون فيما‬
‫بينها‪ ،‬كذلك فهي تبين لنا الدواقع التي تجعل الدول تتعاون أو ال تتعاون فيما بينها من‬
‫خالل مسألة الفوائد النسبية والمطلقة‪ .‬يقول األستاذ ستيفن وولتز‪" :‬فالنظريات الليبرالية‬
‫تحدد األدوات التي يمكن للدول أن تستخدمها لتحقيق مصالحها المشتركة‪ ،‬وتسلط الضوء‬
‫على القوى االقتصادية الفعالة التي يتعين على الدول والمجتمعات أن تركز عليها‬
‫وتساعدنا في فهم األسباب التي تدفع الدول إلى االختالف إزاء أولوياتها األساسية‪.‬‬
‫والمفارقة أنه على الرغم من أن حماية الواليات المتحدة هي التي أدت إلى تخفيض‬
‫خطر النزاعات واإلقليمية وعززت السالم الديمقراطي‪ ...‬فإن هذه العوامل قد تصبح‬
‫نسبيا أكثر أهمية"‪.‬‬
‫يقول كذلك األستاذ هادلي بول عندما يتكلم عن المؤسساتية الليبرالية‪:‬‬
‫"فالمؤسساتيون يعنون بدراسة الطرق التي تجعل المؤسسات لها من األمور العقالنية أن‬
‫تتعاون الدول فيما بينها انطالقا من مصالحها الذاتية‪.‬‬
‫إذن فمن خالل النظريات الليبرالية يمكننا فهم وتفسير ظاهرة التعاون بكل أبعادها‬
‫وعن طريق دور المصالح وكذا الوسائل التي تجعل الدول تتعاون فيما بينها كذلك‬
‫الدوافع التي تجعل الدول تتعاون أو ل تتعاون فيما بينها‪.‬‬
‫كذلك يمكننا االعتماد على النظرية البنائية لفهم كيفية تأثير األفكار في العالقات‬
‫الدولية وكيفية تفاعل المصلحة والهوية اجتماعيا‪ ،‬وكذا أهمية الخطاب السائد في‬
‫المجتمع وكيف تشكل وتعكس المعتقدات والمصالح‪ .‬وهنا فالبنائية ترشدنا إلى مصادر‬
‫التغيير أو التحول‪ .‬يقول األستاذ ستيفن والتز‪" :‬والواقع أن القضية المحورية في عالم ما‬
‫بعد الحرب الباردة من المنظور البنيوي هي كيف يمكن للجماعات المختلفة أن تحقق‬
‫هويتها ومصالحها‪ ،‬ومع أن القوة ليست مستبعدة هنا‪ ،‬إال أن البنيويين يؤكدون على كيفية‬
‫خلق األفكار والهوية‪ ،‬وكيف تتطور‪ ،‬وكيف تصيغ الطريقة التي تفهم بها الدول‬
‫أوضاعها وتتصرف إزاءها"‪.‬‬
‫حقيقة فإنه بعد الحرب الباردة ازداد االهتمام بالهوية على الساحة الدولية إلى‬
‫درجة كبيرة ولهذا فاالعتماد على البنائية يمكن أن يفسر لنا العديد من الشؤون الدولية‪.‬‬
‫ويضيف األستاذ ستيفن والتز‪" :‬فإن النظريات البنيوية تناسب تماما الكيفية التي تتغير بها‬
‫الهويات والمصالح مع مرور الزمن لتحدث بالتالي تحوال دقيقا في سلوك الدول وتؤدي‬
‫من وقت آلخر إلى تحوالت واسعة النطاق لكنها غير متوقعة في الشؤون الدولية‪ ،‬وهي‬
‫مالئمة تماما إذا ما استمرت الهوية السياسية في أوروبا في التحول من األمة – الدولة‬
‫إلى المنطقة اإلقليمية أو إلى إحساس أرحب بالهوية األوروبية"‪.‬‬
‫إذن فالبنائية يمكنها أن تفسر لنا كيفية تأثير األفكار والهويات في مجريات‬
‫األحداث الدولية‪ ،‬لهذا فسوف تبقى لها مكانتها بين المنظورات المتنافسة‪.‬‬
‫إذن فإذا اعتمدنا على لوحة مفاتيح تركيبية‪ ،‬بحيث تتشكل هذه اللوحة من عدة‬
‫منظورات تمسك كل واحدة منها بجزء مهم في السياسة الدولية‪ ،‬يمكننا من خاللها أن‬
‫نفهم جوانب الظاهرة الدولية كل على حدى‪ ،‬وكما سبق فالمنظورات المتنافسة التي تفسر‬
‫كل منها جوانب مهمة في الشؤون الدولية‪ ،‬تفيدنا في أخذ صورة مجزءة ومتكاملة في‬
‫نفس الوقت عن الشؤون الدولية‪ .‬يقول األستاذ ستيفن والتز‪" :‬يمكننا القول إن كال‬
‫وجهات النظر المتنافسة تمسك بجوانب مهمة في السياسة العالمية‪ ،‬سيصبح فهمنا فقيرا‬
‫إذا اقتصر تفكيرنا على مدرسة فكرية واحدة‪ ،‬ويتعين على "الدبلوماسي" في المستقبل‬
‫أن يبقى مدركا لتأكيد الواقعية على دور القوة الذي ال غنى عنه ومستوعبا لوعي‬
‫الليبرالية بالقوة المحلية آخذا بعين االعتبار رؤية البنيوية لعملية التغيير"‪ .‬وهكذا فهذه‬
‫المنظورات المتنافسة تزودنا كل منها في جانب من جوانب السياسة الدولية‪ ،‬فالواقعية‬
‫تساعدنا في فهم ظاهرة الصراع والليبرالية في فهم ظاهرة التعاون‪ ،‬أما البنائية فتساعد‬
‫على فهم كيفية تأثير األفكار في مجريات األحداث الدولية‪ ،‬ومن خالل هذه المنظورات‬
‫المتنافسة التي تشكل لوحة مفاتيح تمكننا من استيعاب الظاهرة والتخفيف من أزمة‬
‫التنظير في العالقات الدولية‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪:‬‬
‫من أجل نظرية كوسموبوليتانية للعالقات الدولية‬

‫إن التأسيس لنظرية كوسموبوليتانية للعالقات الدولية قد يؤدي على الحد من أزمة‬
‫التنظير أو على األقل التخفيف منها‪ ،‬بحيث أن النظرية الكوسموبوليتانية تجمع كل‬
‫النظريات التقليدية (االتجاه األخالقي‪ ،‬الواقعي‪ ،‬السلوكي‪ ،‬الماركسي‪ ،‬ونظرية التكامل)‬
‫والحديثة (النقدية االجتماعية‪ ،‬البنائية‪ ،‬مابعد الحداثة‪ ،‬النسوية) في العالقات في الدولية‪،‬‬
‫حيث تجمع كل المنطلقات االبستمولوجية والمنهجية واألنطولوجية للنظريات الوضعية‬
‫وما بعد الوضعية‪ ،‬وهكذا يمكن أن تكون نظرية ذات أفق عالمي‪.‬‬

‫مشروع النظرية الكوسموبوليتانبة للعالقات الدولية‬

‫النظريات التكوينية ما بعد‬ ‫النظريات التفسيرية الوضعية‬


‫الوضعية‬
‫‪ -‬النظرية االجتماعية النقدية‬ ‫‪ -‬االتجاه األخالقي‬
‫النظرية الكوسموبوليتانية ‪ -‬النظرية‬ ‫‪ -‬االتجاه الواقعي‬
‫البنائية‬
‫‪ -‬نظرية ما بعد الحداثة‬ ‫‪ -‬االتجاه السلوكي‬
‫‪ -‬النظرية النسوية‬ ‫‪ -‬االتجاه الماركسي‬
‫‪ -‬اتجاه التكامل الدولي‬

‫يقول الدكتور عبد الناصر جندلي‪" :‬إن عالمية النظرية تكمن في مدى إحاطتها‬
‫بمختلف األطر التحليلية واألنساق الفكرية على أصعدة االبستمولوجية والمنهجية‬
‫واألنطولوجية والنظرية من شتى بقاع العالم‪ ،‬وال يقتصر األمر على العالم المتقدم بل أن‬
‫تشمل العالم المتخلف باعتباره جزءا ال يتجزأ من البيئة الدولية"‪ .‬نعم‪ ،‬فإن النظرية لكي‬
‫ترقى على مستوى عالمي البد أن تشمل كل األطر المنهجية واإلبستمولوجية‬
‫واألنطولوجية والنظرية من مختلف بيئات العالم‪ .‬ثم يضيف الدكتور عبد الناصر جندلي‬
‫قوله‪" :‬إن النظرية الكوسموبوليتانية بهذا المعنى هي مزيج من تلك النظريات التفسيرية‬
‫الوضعية والنظريات التكوينية ما بعد الوضعية"‪.‬‬
‫عندما تمزج النظرية الكوسموبوليتانية بين االتجاهات التفسيرية والتكوينية فإنها‬
‫قد تصل إلى النظرية العامة في العالقات الدولية ألنها تحيط بجميع جوانب وأبعاد‬
‫الشؤون الدولية‪ ،‬فعند األخذ بمبادئ النظريات التقليدية الوضعية فإنها سوف تعطي‬
‫األخالق دورها في السياسة الدولية‪ ،‬وللقوة والعوامل االقتصادية دورها‪ ،‬وفي هذا‬
‫الخصوص يقول الدكتور جندلي عبد الناصر‪" :‬إن ما يزيد في تدعيم طرحنا لما يسمى‬
‫بالنظرية الكوسموبوليتانية هو ذلك التفاعل بين المثالية والواقعية الذي سيظل من السمات‬
‫البارزة في لعبة العالقات الدولية في القرن الحادي والعشرين ألن القوة هي التي تصنع‬
‫مثاليتها بنفسها‪ .‬فالمجتمع الدولي هو بحاجة ماسة لضمان حد أدنى من االحترام لمبادئ‬
‫القانون الدولي بتعهداتها ومسؤولياتها بالمبادئ األخالقية والقانونية دون اللجوء إلى‬
‫استخدام القوة"‪.‬ويقول كذلك‪ ..." :‬وفي سعيها إلى تغيير النظام الدولي وتحقيق النظام‬
‫الدولي المرغوب القائم على أساس العدل والمساواة والسلم واألمن‪ ،‬ناهيك عن تقاطعها‬
‫مع نظرية التبعية في محاولتها كشف القناع عن الهيمنة الشاملة للشمال المتقدم على‬
‫الجنوب المتخلف"‪.‬‬
‫إذن فالنظريات التقليدية الوضعية تقريبا كلها تتفاعل مع بعضها البعض‬
‫ومتقاطعة أحيانا‪ ،‬فالنظرية المثالية تتقاطع مع نظرية التبعية وذلك مع الليبرالية وما بعد‬
‫السلوكية في تقديم النظام المرغوب فيه‪ ،‬كما أنها تتفاعل مع الواقعية كذلك‪ ،‬ولهذا فعندما‬
‫تأخذ النظرية الكوسموبوليتانية بمبادئ النظريات التفسيرية الوضعية يمكنها أن تمس كل‬
‫جوانب وحيثيات أبعاد السياسة الدولية‪ ،‬هذا من جهة ومن جهة أخرى‪ ،‬فعندما أخذها‬
‫كذلك بالمنطلقات المنهجية واألنطولوجية واالبستمولوجية للنظريات الحديثة‪ ،‬قد يؤدي‬
‫ذلك إلى جعلها نظرية عامة وعالمية في العالقات الدولية‪ ،‬ألن النظريات الحديثة ما بعد‬
‫الوضعية كذلك قد ألقت الضوء على جوانب مهمة من الظاهرة الدولية‪ ،‬إضافة إلى‬
‫تقاطعها مع بعض النظريات الوضعية‪ .‬يقول الدكتور عبد الناصر جندلي‪" :‬فقد كانت‬
‫النظرية االجتماعية النقدية تطويرا للماركسية التقليدية في اعتمادها على المادية‬
‫التاريخية‪ ،‬كما تلتقي مع المثالية في دعوتها إلى تحرير البشرية من البنى الجائرة‬
‫للسياسة الدولية التي تهيمن عليها القوى الكبرى"‪.‬‬
‫ويضيف كذلك الدكتور عبد الناصر جندلي في تعليقه على البنائية‪" :‬أما البنائية‬
‫فتمثل دورا وسطيا توفيقيا بين االتجاهات النظرية الوضعية (التفسيرية) واالتجاهات‬
‫النظرية ما بعد الوضعية (التكوينية) معتمدة في تصورها على بعض المفاهيم المركزية‬
‫كتذاتانية البنى األساسية للنظام الدولي‪ ،‬الوعي اإلنساني‪ ،‬الهوية‪ ،‬العالقة بين الفاعل‬
‫والبنية‪ ...‬واعتبرت النسوية صرخة نسوية على تلك النظريات التفسيرية التي تجاهلت‬
‫إقحام العنصر النسوي الجنس النوع في دراستها للعالقات الدولية"‪ .‬أضف على ذلك ما‬
‫جاءت به نظرية ما بعد الحداثة بأفعال اللغة‪ ،‬إذن فالنظريات ما بعد الوضعية (التكوينية)‬
‫قد مست كذلك حيثيات وجوانب مهمة في الشؤون الدولية وباإلضافة إلى أنها كانت‬
‫متقاطعة في بعض األحيان مع النظريات التقليدية‪ ،‬فالنظرية االجتماعية النقدية تتقاطع‬
‫مع المثالية في السعي إلى تغيير النظام القائم‪ ،‬كما تتقاطع البنائية جزئيا مع الواقعية‪ ،‬كما‬
‫أن البنائية كذلك اتخذت موقفا وسطا بين المنظورات التقليدية الوضعية والحديثة ما بعد‬
‫الوضعية‪.‬‬
‫إذن فالنظرية الكوسموبوليتانية عندما تقوم بمزيج بين مبادئ النظريات التفسيرية‬
‫والنظريات التكوينية تكون قد مست جميع جوانب وأبعاد وحيثيات السياسة الدولية‪،‬‬
‫باإلضافة إلى حصولها على كم هائل من األدوات التحليلية والمفهوماتية‪ ،‬مع وضع‬
‫الثالوث الوظائفي للنظرية في الحسبان‪ ،‬هكذا يمكن لهذه النظرية أن تصبح نظرية عامة‬
‫في العالقات الدولية وذات أفق عالمي حيث يمكن من خاللها الحد من أزمة التنظير أو‬
‫على األقل التخفيف منها‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪:‬‬
‫من أجل بيداغوجيا جديدة لدراسة العالقات‬
‫الدولية‬

‫إن التغيرات الهيكلية والعميقة التي طرأت على السياسات الدولية في العقود‬
‫األخيرة كمرحلة تختلف بشكل جذري عن تلك المراحل التي تبلور فيها النظام الدولي‬
‫طوال مرحلة الحرب الباردة‪ ،‬حيث أدى ذلك على عجز المنظرين عن تقديم أنساق‬
‫نظرية قادرة على استيعاب مختلف الظاهر الدولية‪ ،‬ولذلك ال بد من إعادة النظر في‬
‫أدواتنا التحليلية بحيث تصبح منسجمة مع التغيرات الجذرية الحديثة‪" .‬ولهذا أصبح من‬
‫الضروري البحث عن منظورات وتصورات جديدة لتدريس مادة العالقات الدولية بشكل‬
‫يتجاوز تلك التقسيمات التقليدية والتعاريف الجامدة التي دأبنا عليها طوال مرحلة الحرب‬
‫الباردة‪ ،‬ما سيفتح آفاقا جديدة للباحثين في العالقات الدولية"‪.‬‬
‫وللبحث عن منظورات وتصورات جديدة لدارسي العالقات الدولية بصيغة تتعدى‬
‫تلك التعاريف الجامدة والتقسيمات التقليدية‪ ،‬البد من خلق روح تداخلية وتوافقية بين‬
‫مختلف المجاالت المعرفية من اجل التوصل إلى فهم أعمق وأشمل للسياسة الدولية‪،‬‬
‫القيام بدراسات معمقة إلرساء بيداغوجية جديدة لمقاربة العالقات الدولية‪.‬‬

‫‪ 1-‬إدخال فلسفة التعقيد في دراسة العالقات الدولية‪:‬‬


‫أصبحت المفاهيم النظرية واألدوات التحليلية القديمة غير قادرة على إدراك‬
‫التحوالت السريعة والعميقة على الساحة الدولية بل قد تصبح مفاهيم وأدوات عائقة لفهم‬
‫التحوالت والتفاعالت في الشؤون العالمية‪ ،‬ولهذا البد من خلق تعاون بين مختلف‬
‫المعارف من اجل إثراء فهم التغيرات الشاملة للسياسة الدولية لما بعد الحرب الباردة‪.‬‬
‫يقول األستاذ محمد سعدي‪" :‬إن المفاهيم التقليدية للعالقات الدوليةقد تصبح مفاهيم عائقة‬
‫لفهم التحوالت السياسية في العالم المعاصر‪ ،‬فأداة واحدة لم تعد كافية لوصف التعقيد‬
‫المتزايد لعالم تتضاعف مشاكله وتوتراته وتنخفض إمكانيات فهمه وإدراكه‪ ،‬ولهذا ينبغي‬
‫خلق تعاون وثيق بين مختلف المعارف التاريخية والنظرية واالجتماعية من أجل إثراء‬
‫فهمنا الشامل لوضعية ما بعد الحرب الباردة"‪ .‬عند خلق التعاون بين مختلف‬
‫البراديغمات قد يمكننا من فهم متغيرات ما بعد الحرب الباردة‪ ،‬ولهذا يضيف األستاذ‬
‫محمد سعدي‪" :‬وفي هذا السياق نفسه ينادي برتران بادي بضرورة إرساء سوسيولوجيا‬
‫للعالقات الدولية تتفاعل داخلها العلوم السياسية واالجتماعية مع العالقات الدولية بشكل‬
‫يساعد على إدراك صيرورة الديناميات الجديدة للبيئة الدولية‪ .‬ومن جهتهم يعتقد‬
‫الجغرافيون دوران وليفي وريتاني بأن ثمة غياب للتواصل بين مختلف البراديغمات"‪،‬‬
‫ألن المتخصصين في العالقات الدولية وقعوا في ما يسميه جيمس روزنو بالسجون‬
‫المفاهيمية فهم ال يلجأون إلى الزخم الهائل في االختصاصات األخرى إال في حاالت‬
‫نادرة أو حاالت الضرورة‪ ،‬وهذا ما يعرقل االندماج بين البراديغمات‪" .‬وإذا كان التطور‬
‫المستمر للعلوم اإلنسانية في تراجع الدوغمائيات النظرية فإنه أيضا ساهم في إنغالق‬
‫المناهج بعضها عن بعض‪ ،‬ولهذا فإن كل المشاريع المتعددة التخصصات‬
‫‪ pluridisciplinaire‬تنتهي إلى حوار الطرشان أو إلى مونولوغات‪ .‬والحل يكمن في‬
‫التوصل على تقويض التقوقعات التخصصية والمعرفية"‪ .‬وهو كذلك ألن االضطراب‬
‫والحذر والتعقيد وعدم اليقين أصبح من الخصائص المميزة لعالمنا‪ ،‬وألن اإلنسان أصبح‬
‫يجهل أكثر مما يعرف والزالت األحداث والتطورات الدولية تفاجئنا بتغيرات جذرية لم‬
‫نكن نتوقعها‪" ...‬الاليقين والبحث عن المرجعيات والقلق الناتج عن انهيار المعنى الذي‬
‫كان يكتسي العديد من الصراعات واالستراتيجيات والطموحات الفكرية والنظرية‪ ،‬كل‬
‫هذا جعل المحللين واالستراتيجيين ورجال السياسة يعيشون مرحلة اضطراب وخيبة‬
‫أمل‪ ،‬فاألحداث والتطورات على مستوى الواقع تجاوزت بامتياز كل الترتيبات التنظيرية‬
‫والتكهنات الشمولية لمحاولة فهم اتجاه التطورات العالمية"‪.‬‬
‫أضف إلى ذلك قيام صراعات إثنية دموية في العديد من جهات العالم وانفجار‬
‫كيانات دوالتية‪ ،‬مما جعل الباحثين في العالقات الدولية في تردد وقلق كبيرين‪" ،‬لقد‬
‫أحسوا (الباحثون في العالقات الدولية) بالحيرة واإلحباط بسبب عجزهم عن التكهن‬
‫والتنبؤ‪ ،‬وقد أخذوا على حين غرة بتغيرات لم تكن متوقعة وفقدوا تركيزهم بفعل‬
‫اكتشافهم للتعقيد‪ .‬العالم يبدو لهم ممتلئا بالشذوذ وغير مفهوم‪ .‬إن الصدمة تفرض الخروج‬
‫من نزاعات المدارس واالتجاهات والبحث ليس عن نظريات جديدة للعالقات الدولية أ‪,‬‬
‫عن قوانين بل عن مفاهيم جديدة‪ ...‬ويبدو أنه فقط تبني تداخلية معرفية قوية يمنح بعض‬
‫الخطوط لفهم العالم"‪ .‬نعم‪ ،‬للخروج من نزاعات المدارس واالتجاهات ينبغي تبني‬
‫تداخلية معرفية قوية‪ ،‬ولهذا البد من القيام بما يلي‪:‬‬
‫‪ 6‬توظيف مصطلحات لغوية تأخذ بعين االعتبار نسبية الحقائق‪ ،‬مثال استعمال‬
‫تعابير "يبدو‪ ،‬يمكن‪ ،‬قد يكون‪ ،‬لعل" بدال من التعابير الشائعة "إن‪ ،‬من المؤكد‪،‬‬
‫مما الشك فيه‪"..‬‬
‫‪ 7‬التخلي عن المنهجية التي تفرض القول (إما أسود أو أبيض) واعتماد منهجية‬
‫قبول الجديد‪.‬‬
‫وهذا ما يحقق تعدد الرؤى وتعدد أدوات وأساليب التحليل لفهم العالم‪.‬‬

‫‪2-‬نماذج نظرية إلرساء التعقيد في دراسة العالقات الدولية‪:‬‬


‫لقد فقدت االتجاهات النظرية الكبرى تماسكها ألن البيئة التي أنشئت فيها هذه‬
‫االتجاهات قد تغيرت بشكل جذري‪ ،‬وأصبح حقل العالقات الدولية مسرحا لنقاشات‬
‫واسعة تهتم بالوضعية الراهنة وفهم التأثيرات المختلفة في الظواهر الدولية‪ ،‬حيث أن‬
‫العالم أصبح ثنائي األبعاد‪ ،‬فمن جهة نظام ما بين الدول ومن جهة أخرى مجتمع ما عبر‬
‫وطني‪ .‬يقول جيمس روزنو أننا "دخلنا عصر السياسة ما بعد الدولية ‪la politique‬‬
‫‪ ،post-internationale‬حيث أن الواقع العالمية أصبح ثنائي األبعاد‪ ،‬من جهة هناك‬
‫النظام ما بين الدوالتي ‪ inter-étatique‬التقليدي‪ ،‬ومن جهة أخرى هناك مجتمع ما عبر‬
‫وطني ومتعدد المراكز‪ ،‬تتفاعل عبره مجموعة جديدة من الفاعلين غير الدوالتيين‪.‬‬
‫ويرى جيمس روزنو أن تحليل العالقات الدولية ينبغي أن يتجاوز االرتباط التقليدي‬
‫بمفاهيم السيادة والقوة والدولة والصراع‪ ...‬والتغير المهم الذي طرأ على الساحة الدولية‬
‫يكمن في ظاهرة التعقيد ‪."la compléxité‬‬
‫تضاف إلى ظاهرة التعقيد ظاهرة العولمة التي أصبحت تتداخل فيها العديد من‬
‫العوامل االقتصادية والسياسية واالجتماعية والثقافية على المستوى العالمي من خالل‬
‫التكنولوجيا وانتشار المعلومات والمبادالت التجارية‪.‬‬
‫ولمحاولة تحليل العالقات الدولية من خالل مناهج مختلفة ينبغي فهم التعقيد الذي‬
‫يتسم به العالم حيث أنه عبارة عن نظام جد معقد‪ ،‬وأنه مجموعة من الشعوب بمعتقداتها‬
‫وثقافاتها وأسواقها وأيديولوجياتها وشبكاتها عبر الوطنية‪ ،‬ولهذا نسق متكون من العديد‬
‫من األنساق المعقدة‪ .‬يقول بهجت قرني‪" :‬إن مسألة التعقيد المرتبطة بمجال دراسة‬
‫العالقات الدولية والتي تضفي عليها الدينامية وغياب االنسجام والقابلية المستمرة لتلقي‬
‫التحوالت والتطورات‪ ،‬تجعل الشروع في أبحاث تجمع بين تخصصات معرفية متعددة‬
‫أمرا ضروريا"‪ .‬ولتبيين اإلمكانيات التي يمنحها مفهوم التعقيد لفهم العالقات الدولية‬
‫بشكل جيد‪ ،‬البد من االستعانة بنماذج من المعارف المختلفة‪.‬‬

‫الجغرافيا والعالقات الدولية‬


‫وهي عبارة عن محاولة لمجموعة من الباحثين الجغرافيين حاولوا إعطاء مقاربة‬
‫نظرية تعتمد على عدد من المناهج والمعارف العلمية‪ ،‬ألنه كما يرون أنه لم يعد من‬
‫الممكن االكتفاء بأدوات واحدة لفهم هذا العالم المعقد‪ ،‬وفي هذا السياق يعتقد جاك ليفي‬
‫بأن براديغم التعقيد يظهر كمنهج جديد إلدماج المستجدات والتحوالت النظرية في‬
‫السنوات األخيرة من خالل التركيز على ما يلي‪:‬‬
‫‪ 8‬ضرورة بذل جهود تنظيرية كبيرة تتطلب التفسير والتحليل لمواجهة التجريبية‬
‫واالنتقائية السائدة بقوة‪.‬‬
‫‪ 9‬تبني البنائية كطرح يساعد على اإلبداع المفاهيمي‪ ،‬ألن العلوم اإلنسانية ليس‬
‫هدفها هو التوصل إلى كشف حقائق ثابتة‪ ،‬بل نقترح مجموعة من االفتراضات‬
‫إلدراك الواقع‪.‬‬
‫‪ 10‬االبتعاد عن المقتربات الكالسيكية الجامدة والتركيز على الفاعلين وأنشطتهم‬
‫ورغباتهم‪ ،‬واعتبار العلوم اإلنسانية في حاجة إلى أن تجدد مفاهيمها ومرتكزاتها‪.‬‬

‫سوسيولوجيا العالقات الدولية‬


‫ينطلق هذا التحليل من إعطاء العالقات الدولية صبغة تحليلية سوسيولوجية قصد‬
‫تبيان بعض المتغيرات التي أصبحت تطبع النظام الدولي المعاصر‪ ،‬وهذا ما قام به‬
‫برتران بادي مع العديد من الباحثين تحت تأثير مجموعة من علماء االجتماع‪" ،‬ألن‬
‫النظام الدولي أصبح يفتقد تدريجيا صفته الدوالتية‪ ،‬فنحن أمام فضاءات ومجاالت تتداخل‬
‫فيها المصالح االقتصادية واألديان والثقافات واألفراد والمهاجرون‪ ...‬والعالقات الدولية‬
‫لم تعد من صنع الدول فقط‪ ،‬بل تحركها سياساة جديدة تقود دها تيارات العولمة"‪.‬‬
‫ولهذا البد من إدخال ما يسمى سوسيولوجية الفاعلين وسوسيولوجية العالقات‬
‫الدولية كمفاهيم جديدة في عملية التنظير‪ ،‬ألن العالم أصبح يتألف من عدد ال نهائي من‬
‫الوحدات التي تتحرك في آن واحد‪" ،‬والدراسة السوسيولوجية للفاعلين الدوليين من‬
‫خالل هويتهم‪ ،‬حركيتهم واستراتيجيتهم في التفاعل مع المحيط كفيلة بمنح إمكانية إدراك‬
‫بعض الظواهر المعقدة للنظام الدولي المعاصر” ‪ .‬وهذا ما يمنح المقاربة السوسيولوجية‬
‫مصداقية في تحليل العالقات الدولية بحيث تكون أكثر اقترابا لمختلف الظواهر المعقدة‬
‫للسياسة الدولية‪.‬‬
‫فلسفة التعقيد عند إدغار موران‬
‫لفهم الظواهر االجتماعية واإلنسانية بصفة عامة‪ ،‬ينبغي إدخال فلسفة التعقيد في‬
‫الفكر المعاصر‪ ،‬والخروج من فلسفة التخصص المغلق الذي يجزئ الواقع بشكل‬
‫متعسف‪ .‬يرى إدغار موران عالم االجتماع الفرنسي أن "التعقيد أصبح الرهان األكبر‬
‫في الفكر المعاصر‪ ...‬ومن أجل ذلك ينبغي االنتقال من فكر التخصص الصارم المنغلق‬
‫على نفسه‪ ...‬إلى فكر متفتح تتفاعل داخله مختلف المعارف قصد الوصول إلى فهم أعمق‬
‫وأشمل للظواهر اإلنسانية وذلك في إطار ما يسميه موران ‪inter-‬‬
‫‪ ، transdisciplinarité‬حيث تتقاطع مختلف المعارف المعنية بموضوع ما عوض أن‬
‫ينغلق كل فكر على ذاته" وهنا إدغار موران في تنظيره لفلسفة التعقيد يعتمد على‬
‫مجموعة من المبادئ أهمها‪:‬‬
‫‪ 16‬السيبرنيتيكا ‪ :la cybernétique‬فكرة رد الفعل المرجعي التي تشكل قطيعة مع‬
‫مبدأ السببية الخطية ‪ la causalité linéaire‬بإقرار مبدأ الحلقة السببية ‪la‬‬
‫‪ ،boucle causale‬حيث يؤثر على المفعول والنتيجة‪ ،‬وهذه األخيرة تؤثر‬
‫بدورها في السبب‪.‬‬
‫‪ 17‬نظرية األنساق ‪ :la théorie des systèmes‬وأهم مبادئها مبدأ أن الكل هو‬
‫أكثر من حصيلة أجزائه‪ ،‬ألنه هناك جملة من المتغيرات والصفات تبرز مع‬
‫تنظيم الكل ويمكن أن يؤثر بشكل رجعي في األجزاء‪ ،‬واألجزاء يمكن أن تملك‬
‫صفات تكون غائبة في الكل‪.‬‬
‫‪ 18‬التنظيم الذاتي (نظرية لفنيومان)‪ :‬الحظ فيها أن اآلالت الصناعية ال يمكن لها أن‬
‫تصحح نفسها وتضبط نفسها ذاتيا‪ ،‬عكس اآللة الحية التي تملك خاصية التطور‬
‫وإعادة اإلنتاج والتولد الذاتي من خالل تعويض الجزيئات والخاليا الميتة بأخرى‬
‫جديدة‪.‬‬
‫كما توصل فون فورستر إلى أنه داخل الفوضى يوجد نظام خاص‪ ،‬أو كما يقول‬
‫أتالن‪ ،‬الصدفة المنظمة‪ ،‬حيث أنه ثمة تفاعل بين النظام والتنظيم‪ ،‬وهو الذي كان‬
‫وراء نشوء العالم‪.‬‬
‫‪ 24‬المبدأ الحواري‪ :‬وهو مبدأ يوحد بين مبادئ ومفاهيم متناقضة ومتنافرة ظاهريا‪،‬‬
‫لكن ال يمكن فصلها عن بعضها البعض من أجل فهم الواقع‪ ،‬والجمع بين مفاهيم‬
‫متناقضة ومتصارعة ضروري من أجل فهم التطور التنظيمي في هذا العالم‬
‫المعقد‪.‬‬
‫‪ 25‬مبدأ الهولوغرامشية‪ :‬وهو مبدأ أن الجزء يوجد في الكل‪ ،‬والكل يوجد في الجزء‪،‬‬
‫فالفرد جزء من المجتمع والمجتمع موجود في الفرد من خالل القيم والثقافة‪.‬‬
‫‪ 26‬مبدأ التنظيم اإليكوداتي‪ :‬أي أنه كلما كان السلوك أكثر تعقيدا ازدادات مرونة‬
‫التكيف والتالؤم مع البيئة وقابلية االستجابة للمتغيرات الخارجية والسلوك بدوره‬
‫قادر على تعديل البيئة حيث يؤثر على تنظيمها ويكيفها بما يالئم النظام الحي‪.‬‬
‫إذن البد من إدخال مفاهيم النظام والالنظام والتعقيد والتنظيم في الفكر المعاصر‬
‫والتعامل مع ككل متكامل في سبيل مواجهة التحديات التي يفرضها تعقد المجتمع‬
‫العالمي على المستوى الشمولي والجزئي‪ ،‬فقد أصبح التعقد حاضرا في كل الميادين‬
‫االجتماعية والسياسية واالقتصادية والثقافية‪.‬‬
‫الـخاتـمة‬

‫من خالل ما سبق نستنتج أن األسباب التي أدت إلى حدوث أزمة التنظير في‬
‫العالقات الدولية ترجع أحيانا للطبيعة المعقدة للظاهرة الدولية كونها تنتمي إلى الظاهرة‬
‫اإلنسانية حيث يصعب تحديدا لمتغيرات الرئيسية والثانوية المتحكمة في الظاهرة الدولية‬
‫وتفسير العالقة بين هذه المتغيرات (كيف كانت‪ ,‬وكيف هي‪ .‬وكيف ستكون)‪ ,‬وأحيانا‬
‫أخرى تتعلق هذه األزمة بالبيئة التي نشأ فيها المنظرين لهذا الحقل المعرفي‪ ,‬ومساهمتها‬
‫في تشكيل المنظار الذي ينظرون من خالله للقضايا الدولية‪.‬‬
‫كما نستنتج أن المدرسة الواقعية كمنظور مهيمن لفترة الثالثينيات واألربعينيات‬
‫للقرن العشرين‪ ,‬جاءت بمفاهيم واسعة ومبهمة يمكنها استعاب بعض المتغيرات التي‬
‫قد تبرز على الساحة الدولية من حين إلى آخر إضافة إلى أنها أعطت تفسيرات لجزء‬
‫مهم من الظاهرة الدولية ساهمت في التخفيف من أزمة التنظير‪.‬‬
‫كما نستنتج أنه يمكن التخفيف من أزمة التنظير من خالل لوحة مفاتيح تركيبية‬
‫لفهم الظاهرة الدولية من خالل االعتماد على كل نظرية من النظريات لفهم جانب من‬
‫جوانب الظاهرة‪ ,‬إذ أن كل نظرية تفسر جانب من جوانب الظاهرة الدولية‪ ,‬وهكذا‬
‫نحصل على صورة عامة للظاهرة‪ ,‬عن طريق جمع تلك الجوانب المجزئة‪.‬‬
‫كما يمكن التخفيف من أزمة التنظير من خالل مشروع نظرية كوسموبوليتانية‬
‫تجمع بين مختلف المنطلقات األنطولوجية واإلبستمولوجية والمنهجية للنظريات التقليدية‬
‫التفسيرية ( الوضعية) والمنطلقات األنطولوجية واإلبستومولوجية والمنهجية للنظريات‬
‫الحديثة التكوينية ( ما بعد الوضعية) إلدراك العجز المسجل عند كل نظرية‪.‬‬
‫أو يمكن أيضا التخفيف من أزمة التنظير عن طريق بداغوجية جديدة لدراسة‬
‫العالقات الدولية من خالل إدخال فلسفة التعقيد في دراسة العالقات الدولية وذلك ألنها‬
‫ظاهرة في غاية التعقيد‪.‬‬
‫قائمة الـمراجع‬
‫الكتب باللغة العربية‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬سعدي‪( ،‬محمد)‪ ،‬مستقبل العالقات الدولية من صراع الحضارات إلى أنسنة الحضارة‬
‫وثقافة السالم‪( ،‬بيروت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬ط‪)2006 ،1‬‬
‫‪ -‬شلبي‪( ،‬محمد)‪ ،‬المنهجية في التحليل السياسي‪ :‬المفاهيم‪ ،‬المناهج‪ ،‬االقترابات‬
‫واألدوات‪( ،‬الجزائر‪ :‬ب‪ .‬د‪ .‬ن‪)1997 ،‬‬
‫‪ -‬مقلد‪( ،‬إسماعيل صبري)‪ ،‬نظريات السياسة الدولية‪ :‬دراسة تحليلية مقارنة‪( ،‬الكويت‪:‬‬
‫مطابع مفهومي‪ ،‬ط‪)1986 ،1‬‬
‫‪ -‬هادلي‪( ،‬بول)‪ ،‬المجتمع الفوضوي‪ :‬دراسة النظام في السياسة العالمية‪( ،‬اإلمارات‬
‫العربية المتحدة‪ :‬ترجمة ونشر مركز الخليج لألبحاث‪ ،‬ط‪)2006 ،3‬‬

‫الكتب باللغة األجنبية‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪Roche, (Jean Jacques), Théories des Relations Internationales, (Paris: -‬‬


‫)‪Edition Montchrestein, 5eme Edition, 2004‬‬

‫الـمقاالت‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬محجوب‪( ،‬فضيلة)‪ ،‬القوة الثابتة للواقعية بعد الحرب الباردة‪،‬‬


‫‪www.ahram.org.eg/acpss/ahram/2001/1/1/read104.htm‬‬
‫‪ -‬والتز‪( ،‬ستيفن)‪ ،‬العالقات الدولية‪ ،‬عالم واحد ‪ ..‬نظريات عدة‪( ،‬ترجمة‪ :‬منير كمال)‪،‬‬
‫الثقافة العالمية‪ ،‬عدد ‪ ،89‬جويلية ‪1998‬‬

‫األطروحات العلمية‪:‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪ -‬جندلي‪( ،‬عبد الناصر)‪ ،‬انعكاسات تحوالت النظام الدولي لما بعد الحرب الباردة على‬
‫االتجاهات النظرية الكبرى للعالقات الدولية‪ ،‬أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في العالقات‬
‫الدولية‪ ،‬جامعة الجزائر‪ ،‬كلية العلوم السياسية واإلعالم‪.2004/2005 ،‬‬

You might also like