You are on page 1of 16

‫المحاضرة ‪ 6‬و‪7‬‬

‫العالقات المدنية العسكرية في اسبانيا‬

‫عناصر المحاضرة‬

‫أوالً‪ :‬طبيعة العالقات المدنية العسكرية في اسبانيا‬


‫ثانياً‪ :‬العوامل التي ساهمت في العالقات المدنية العسكرية في اسبانيا‬
‫ثالثاً‪ :‬الدروس التي يمكن أن تتعلمها دول الربيع العربي من التجربة االسبانية؟‬

‫أوال‪ :‬طبيعة العالقات المدنية العسكرية في اسبانيا‬

‫التحول الديمقراطي في اسبانيا‪ ،‬مثل كل التحوالت الديمقراطية حول العالم‪ ،‬كان معقدًا للغاية‪ ،‬وكان ال‬
‫يمكن التنبأ به بشكل كبير‪ .‬فاسبانيا كان لديها نظام سلطوي حتي نهاية السبعينيات‪ .‬فالجنرال فرانكو‬
‫سا للبالد وقائدًا عا ًما للقوات‬
‫‪ General Franco‬الذي تولي السلطة قبل الحرب العالمية الثانية كان رئي ً‬
‫المسلحة في نفس الوقت‪ .‬وقد جعل فرانكو القوات المسلحة العمود الفقري لنظامه‪ .‬فقد تولي ضباط‬
‫الجيش‪ ،‬وظائف في مجلس الوزراء‪ ،‬ومارسوا احتكار علي فرض النظام العام‪ ،‬ومارسوا حتي وظيفة‬
‫القضاء‪ .‬وكانت اسبانيا بشكل عام‪ ،‬والقوات المسلحة بشكل خاص‪ ،‬معزولة عن ديناميكيات الحداثة‬
‫والدمقراطة ‪ ،Democratization‬التي اجتاحت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية‪ .‬ولم يمنح فرانكوا‬
‫الفرصة لالنضمام للناتو‪ ،‬وال لمجلس أوروبا الذي سبق إنشاء االتحاد االوروبي‪ .‬وعلي الرغم من أنه قد‬
‫سُمح لفرانكوا باالنضمام إلي األمم المتحدة في عام ‪ ،1955‬إال أن اسبانيا كان ينظر إليها علي أنها دولة‬
‫مارقة من جزء كبير من المجتمع الدولي‪.‬‬
‫لكن طبيعة الجيش االسباني‪ ،‬خاصة محافظته السياسية‪ ،‬ودوره الخاضع والثانوي في نظام‬
‫فرانكوا‪ ،‬جعلت من األسهل وضع استراتيجية للتعامل مع القوات المسلحة‪ ،‬وبالتالي نجاح التحول‬
‫ً‬
‫مستقال في النظام السلطوي‬ ‫دورا سياسيًا‬
‫الديمقراطي‪ .‬وفي هذا السياق‪ ،‬لم يلعب الجيش االسباني ً‬
‫لفرانكوا‪ ،‬وهو الدور الذي من الممكن أن يراه الجيش ضرورة الستمراره‪ .‬وعلي العكس من جاراتها‬
‫‪1‬‬
‫البرتغال‪ ،‬حيث تبني بعض الضباط بعض األفكار اليسارية‪ ،‬كان ضباط الجيش االسبان محافظين‬
‫سياسيًا أو غير متبنين ألي أفكار سياسية‪ .‬ولذلك فقد كان من الواضح أن المدنيين الذين يريدون بناء‬
‫برنامج للتحول الديمقراطي‪ ،‬البد أن يضعوا خطة للتعامل مع القوات المسلحة‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬العوامل التي ساهمت في العالقات المدنية العسكرية في اسبانيا‬

‫وبشكل عام هناك أربعة عوامل أثرت علي العالقات المدنية العسكرية في اسبانيا‪ً .‬‬
‫أوال‪ ،‬مدي مدنية‬
‫النظام السابق؛ فوفقًا لفيليبي أجويرو ‪ ،Felipe Agüero‬الذي درس الحالة االسبانية في العالقات المدنية‬
‫دورا ثانويًا خالل الفترة االنتقالية‪ ،‬وذلك بسبب كون نظام الجنرال فرانكو كان‬
‫العسكرية‪ ،‬فالجيش لعب ً‬
‫نظاما مدنيًا‪ .‬العامل الثاني هو "مسار التحول الديمقراطي"‪ .‬فمسار التحول الديمقراطي في اسبانيا كان مسار‬
‫ً‬
‫تدريجي؛ وقد سيطر علي هذا المسار نتائج المفاوضات بين النخب المدنية والنخب العسكرية‪ .‬العامل الثالث‪،‬‬
‫هو دعم الرأي العام االسباني للديمقراطية‪ .‬فالنخب السياسية المدنية كانت مدعومة ومقادة بدعم قوي من‬
‫الرأي العام للديمقراطية‪ ،‬وكان الجيش مدر ًكا لهذا الدعم‪ .‬راب ًعا‪ ،‬االتحاد القوي بين الجماعات السياسية‬
‫الرئيسية‪ .‬فذلك االتحاد في الحالة االسبانية كان قويًا بشكل كاف لتحدي المؤسسة العسكرية‪.‬‬
‫وبشكل عام‪ ،‬فقد بدء التحول الديمقراطي في نهاية السبعينيات وأنتهي مع انتخاب الحزب االشتراكي‬
‫االسباني ‪ Spanish Socialist Party‬في عام ‪ .1982‬وكان العامل الحاسم في مجمل عملية التحول‬
‫الديمقراطي في اسبانيا‪ ،‬هو حسم العالقات المدنية العسكرية‪ .‬فالتحول الديمقراطي في اسبانيا يقدم "قصة‬
‫نجاح"‪ .‬وقد بدء ذلك التحول الديمقراطي كرد فعل لالنقالب الذي قام به صغار الضباط في البرتغال في ‪25‬‬
‫ابريل ‪ ،1974‬الذي أطاح بالدكتاتورية األخرى في غرب أوروبا‪ .‬لكن التحول الحقيقي والفعلي قد حدث‬
‫بعد وفاة فرانكوا في نوفمبر ‪ ،1975‬وقد فتح موته الطريق للتحول الديمقراطي‪ ،‬خاصة بعد سماحه قبل‬
‫وفاته بعودة الملكية في شخص الملك دون جوان كارلوس‪ Don Juan Carlos‬الذي مهد الطريق للتحول‬
‫الديمقراطي‪ ،‬والذي بمقتضاه ظهرت األحزاب السياسية التي تفاوضت مع بعضها البعض ومع الفاعليين‬
‫االجتماعيين والسياسيين‪ ،‬وأنشئت تدريجيًا اإلطار والعمليات المختلفة إلنشاء نظام ديمقراطي‪،‬‬
‫وإصالح العالقات المدنية العسكرية‪ .‬وقد لعبت الجهات الدولية الفاعلة‪ ،‬واألحزاب السياسية والنقابات‬
‫دورا ها ًما في المساعدة والتشجيع علي صياغة تلك العملية‪.‬‬
‫ً‬
‫وقد ساهمت ثالثة عوامل حاسمة في النجاح االسباني في إصالح وإعادة تعريف العالقات المدنية‬
‫العسكرية‪ :‬إنشاء وزارة للدفاع‪ ،‬والتي عملت علي إضفاء الطابع المؤسسي للسلطة المدنية علي القوات‬
‫‪2‬‬
‫المسلحة؛ قرار إعادة تعريف ألدوار ومهام القوات المسلحة؛ ظهور مجموعة صغيرة من المدنيين عرفوا‬
‫باسم الـ "سنهدرين" "‪ "Sanhedrin‬والذين أصبحوا بارعين وخبراء في القضايا المتعلقة باألمن والدفاع‬
‫وأخيرا دعم المؤسسات الدولية‪ ،‬خاصة الناتو‪ ،‬وفي وقت الحق االتحاد‬
‫ً‬ ‫والعالقات المدنية العسكرية‪.‬‬
‫االوروبي‪ ،‬مما ساعد على توجيه وتشجيع ظهور نموذج ديمقراطي للسيطرة المدنية علي القوات المسلحة‪.‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ ،‬بالنسبة لجماعة الـ "سنهدرين" "‪ ،"Sanhedrin‬فمنذ نهاية السبعينيات تكونت تلك المجموعة‬
‫سا من وزارة الخارجية‪ ،‬والسياسيين‬
‫وباختيارها الذاتي‪ ،‬وقد تألفت من األكاديميين والبيروقراطيين أسا ً‬
‫الذين درسوا القضايا المتعلقة باألمن والدفاع والعالقات المدنية العسكرية‪ ،‬وف ًقا للمعايير الديمقراطية‬
‫مستخدمين ب عض المصادر االكاديمية‪ ،‬وتبادل الخبرات والتشاور والمناقشة مع بعض الضباط االسبان‪،‬‬
‫والدورات التعليمية القصيرة‪ .‬وبعد االنضمام إلي الناتو في عام ‪ 1982‬أخذوا الخبرة في التدرب من خالل‬
‫مركز الحلف في بلجيكا‪ .‬باختصار‪ ،‬فقد كانوا إلى حد كبير مجموعة من العصاميين وتعلموا في الميدان‬
‫ومن خالل الفرص المتاحة‪ .‬وقد تواصل هؤالء المدنيين مع مجموعة صغيرة من الضباط واعادوا معا‬
‫تعريف العالقات المدنية‪-‬العسكرية‪ ،‬مما ساعد علي وضع القوات المسلحة تحت سيطرة مدنية ديمقراطية‪.‬‬
‫وللقيام بذلك قامت مجموعة الـ "سنهدرين" بوضع خطة لكسب تأييد القوات المسلحة من أجل السماح‬
‫ببدء إصالح العالقات المدنية العسكرية‪ .‬وطب ًقا لذلك قبل الجيش بعض الضمانات من أجل البدء في‬
‫ذلك االصالح‪ .‬حيث قدمت للقوات المسلحة ضمانات بشأن وحدة اسبانيا‪ ،‬وتوطيد النظام الملكي‪ ،‬الذي‬
‫مؤخرا‪ ،‬واحترام الشرعية‪ .‬وقدمت إليهم ضمان ات بتحديث القوات المسلحة من خالل‬
‫ً‬ ‫أعيد إنشاؤها‬
‫شراء معدات جديدة والقيام ببرامج تدريب حديثة‪ .‬فعلي سبيل المثال‪ ،‬وافقت رئاسة الوزارة المدنية في‬
‫يناير ‪ 1977‬علي رفع ميزانيات الدفاع إلي ‪ %31‬كل عام علي الرغم من أن إجمالي الزيادة خالل‬
‫الفترة من ‪ 1976-1971‬كانت ‪ %20‬فقط‪.‬‬
‫ثانيًا‪ ،‬كان إنشاء وزارة الدفاع‪ ،‬وتعيين قيادة مدنية للقوات المسلحة خطوة حاسمة في مأسسة‬
‫العالقات المدنية العسكرية؛ وكان الجمع بين األثنين شيئًا واض ًحا جدًا‪ .‬فوجود وزارة الدفاع شئ مطلوب‬
‫للتخفيف من حدة االحتماالت السياسية لرد فعل الجيش‪ .‬والوزير‪ ،‬والذي يجب أن يكون مدنيًا‪ ،‬سيقود‬
‫التوجه السياسي للوزارة‪ .‬وتجدر االشارة إلي أن الطبيعة المالزمة للجيش لن تتناسب مع ذلك النوع‬
‫من التعيين‪ ،‬خاصة إذا كان هناك تاريخ طويل من العمل بطريقة مختلفة‪ .‬وبشكل عام‪ ،‬كان الضباط في‬
‫البداية معترضين علي وضع وزارة الدفاع تحت قيادة مدنية‪ .‬فعلي سبيل المثال‪ ،‬عندما سُأل طالب‬
‫االكاديمية العسكرية‪ ،‬إذا ما كانوا يفضلون أن يكون وزير الدفاع‪ ،‬ومدير السياسة الدفاعية ‪General‬‬
‫‪ ،Director of Defence Policy‬ومدير المجلس األعلى لمعلومات الدفاع ‪director of the‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ – Superior Centre of Defence Information‬اآلن مركز االستخبارات الوطني ‪National‬‬
‫‪ ،Intelligence Centre‬مدنيًا أم عسكريًا‪ .‬أعرب هؤالء الطالب عن تفضيلهم الهائل لألفراد‬
‫العسكريين في الحاالت الثالث بنسبة (‪ 78٪ ،64٪‬و ‪ )٪74‬على التوالي‪ .‬وعلي الرغم من ذلك ففي‬
‫عام ‪ 1977‬قررت مجموعة السنهدرين ومجموعة صغيرة من الضباط السير علي منوال الدول‬
‫الديمقراطية‪ ،‬وأنشئوا وزارة الدفاع في يوليو من ذلك العام‪ .‬وفي البداية كانت وزارة جوفاء إلي حد‬
‫كبير‪ ،‬وبالكاد وزارة بيروقراطية‪ ،‬ولكن تدريجيًا‪ ،‬بدأت تتعامل بالفعل في القضايا المتعلقة بالميزانيات‬
‫والموظفين ووضع السياسية الدفاعية‪ .‬وبعد عام ‪ 1979‬تولى وزير مدني السيطرة على الوزارة‪ .‬وكان‬
‫العنصر الرئيسي اآلخر للسيطرة المدنية هو إنشاء هيئة األركان المشتركة ‪.Joint Chiefs of Staff‬‬
‫ففي عام ‪ 1984‬أصبحت هيئة األركان المشتركة هيئة استشارية‪ ،‬وليست هيئة قيادة‪ ،‬وأصبح وزير‬
‫ً‬
‫مسؤوال عن وضع السياسا ت العسكرية بوجه عام‪ .‬ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا‪ ،‬أصبحت وزارة‬ ‫الدفاع‬
‫الدفاع أداة ووسيلة بيروقراطية للمدنيين لممارسة وضع القوات المسلحة تحت سيطرة مدنية‪ ،‬واستمرت‬
‫أمرا ضروريًا‪ .‬فأثناء‬
‫سلطاتها في التوسع‪ .‬وكان تحرير الهيئات اإلدارية األخرى من الوجود العسكري ً‬
‫الحكم الدكتاتوري أخترق الوجود السياسي للجيش جميع قطاعات الحياة اإلدارية‪ .‬ولذلك فالنجاح في‬
‫إعادتهم إلي وظائفهم األساسية مسألة هامة في العالقات المدنية العسكرية‪ .‬ولتغيير قواعد اللعبة في‬
‫أقرب وقت ممكن‪ ،‬كان البد من تبني مجموعة من قوانين الدفاع‪ ،‬والمراسيم الملكية للقوات المسلحة‬
‫‪ Royal Ordinances for the Armed Forces‬في عام ‪ ،1978‬والقانون األساسي للدفاع الوطني‬
‫‪ Organic Law of National Defence‬عام ‪ ،1980‬وفرض الرقابة البرلمانية على السياسة‬
‫الدفاعية من خالل لجنة الدفاع ‪ ." Defence Commission‬ومع ذلك‪ ،‬فمع التأكيد السريع جدًا علي‬
‫سيطر ة المدنيين علي القوات المسلحة‪ ،‬كان هناك رد فعل مضاد من جانب الجيش‪ .‬ففي ‪ 23‬فبراير‬
‫‪ 1981‬قامت وحدة مدججة بالسالح من الحرس المدني باالستيالء على قصر الكونجرس‪ ،‬واحتجزت‬
‫رئيس الوزراء وأعضاء مجلس الوزراء داخل القصر‪ .‬وأصبحت الحكومة رهينة في أيديهم‪ ،‬وتحركت‬
‫وحدات عسكرية مهمة لمساعدة هذه المؤامرة والقضاء علي الديمقراطية الوليدة وإعادة اسبانيا إلي‬
‫االستبداد‪ .‬ولكن محاولة االنقالب فشلت في النهاية حينما خرج الملك كارلوس‪ ،‬بوصفه القائد العام‬
‫للقوات المسلحة‪ ،‬ودعم الديمقراطية وأدان االنقالب‪ .‬وتعلم المدنيين وحلفائهم در ًسا مهما من هذا الحدث‪،‬‬
‫حيث أصبحوا أكثر اعتداالً في استراتيجيتهم المتعلقة بتأكيد سيطرة المدنيين علي القوات المسلحة‪ .‬ومع‬
‫ذلك فقمع االنقالب قلل من المعارضة الداخلية لتوطيد الديمقراطية‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫ثالثًا‪ ،‬عضوية اسبانيا في حلف شمال األطلسي واالتحاد األوروبي‪ ،‬وقد كان ذلك عنصر أساسي‬
‫في مواصلة التحول الديمقراطي وتوطيد الديمقراطية في اسبانيا بشكل عام‪ ،‬واصالح العالقات المدنية‬
‫عضوا في أي من تلك المنظمات‪ .‬وبعد وفاه‬
‫ً‬ ‫العسكرية بشكل خاص‪ .‬فاسبانيا تحت حكم فرانكو لم تكن‬
‫فرانكوا تقدمت اسبانيا بسرعة بطلب لالنضمام إلى االتحاد األوروبي‪ .‬وبدأت المفاوضات في عام‬
‫عضوا في االتحاد االوروبي في عام ‪.1986‬‬
‫ً‬ ‫‪ ،1979‬وأصبحت اسبانيا‪ ،‬كما كان الحال في البرتغال‪،‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬تقدمت اسبانيا بطلب لالنضمام لحلف شمال االطلسي‪ ،‬وتمت الموافقة على العضوية‬
‫في مايو ‪ .1982‬ثم تجمدت عضويتها في عام أكتوبر ‪ ،1982‬ثم تجددت العضوية في مارس ‪.1986‬‬
‫وقد استفادت اسبانيا بشكل كبير من العضوية في منظمة حلف شمال األطلسي‪ً .‬‬
‫أوال‪ ،‬عن طريق إرسال‬
‫الضباط والمدنيين إلى مقر حلف شمال االطلسي في بلجيكا والقيادات المحلية األخرى للحلف‪ ،‬للتعرف‬
‫على جميع السمات التي تتميز بها القوات المسلحة في الديمقراطيات الحديثة‪ ،‬وتعلم الضباط ان السيطرة‬
‫المدنية أمر طبيعي في أغلب القوات المسلحة المحترفة في العالم‪ .‬وتعلم المدنيين أيضا كل ما يتعلق‬
‫بالقضايا الدفاعية واالمنية‪ .‬وقد درب الناتو مجموعات من البيروقراطيين في الدرجات اإلدارية‬
‫الوسطي والعليا‪ ،‬الذين تولوا ومارسوا فيما بعد السيطرة المدنية علي القوات المسلحة‪.‬‬
‫وبشكل عام‪ ،‬تمثل اسبانيا حالة نموذجية في التحول الديمقراطي‪ ،‬وقد كان إصالح العالقات المدنية‪-‬‬
‫ً‬
‫عامال رئيسيًا في نجاح ذلك التحول‪ .‬ونتيجة إلصالح العالقات المدنية‪-‬العسكرية أصبحت‬ ‫العسكرية‬
‫القوات المسلحة اال سبانية اليوم أقل عددًا‪ ،‬وأكثر مهنية واحترافية‪ ،‬وتطبق المعايير الديمقراطية في‬
‫السيطرة المدنية علي القوات المسلحة‪ .‬ولم تأخذ تلك العملية أكثر من عشر سنوات حتي أصبحت قصة‬
‫نجاح مبهرة‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬الدروس التي يمكن أن تتعلمها دول الربيع العربي من التجربة االسبانية؟‬

‫بشكل عام من الصعب جدًا علي دول الربيع العربي أن تستلهم النموذج االسباني‪ .‬فقد بُني النموذج‬
‫االسباني علي ثالثة أعمدة متداخلة‪ .‬العمود االول هو أتفاق ناتج عن تفاوض ‪ negotiation pacts‬بين‬
‫النخبة السياسية في النظام القديم والنحبة السياسية في النظام الجديد‪ ،‬التي تولت عملية التحول‬
‫الديمقراطي‪ ،‬وإصالح العالقات المدنية العسكرية‪ .‬بموجب هذا االتفاق تم منح القوات المسلحة بعض‬
‫الضمانات واالمتيازات المؤسسية مقابل الموافقة علي إصالح العالقات المدنية العسكرية‪ .‬بدون تلك‬

‫‪5‬‬
‫الضمانات كان من المستحيل علي اسبانيا التقدم خطوة واحدة في إصالح العالقات المدنية العسكرية‪.‬‬
‫وبطبيعة الحال تفتقد دول الربيع العربي هذا العمود الهام‪.‬‬
‫العمود الثاني‪ ،‬الدور الذي لعبته جماعة السنهدرين‪ .‬فكما سبق االشارة فهم مجموعة عصامية‬
‫تعلمت كل ما يتعلق بالشئون األمنية والدفاعية والعسكرية‪ ،‬وساعدت علي إنشاء وزارة الدفاع ووضعتها‬
‫تحت قيادة مدنية ديمقراطية‪ ،‬وهي أول الخطوات في إصالح العالقات المدنية العسكرية ووضع القوات‬
‫المسلحة تحت السيطرة المدنية وف ًقا للمعايير الغربية‪ .‬وبطبيعة الحال تفتقر دول الربيع العربي إلي تلك‬
‫المجموعة‪ ،‬وال يمكن أن تتشكل في دول الربيع العربي مجموعة مماثلة لتلك المجموعة االسبانية في‬
‫المنظور القريب‪ .‬وعلي الرغم من أن بعض دول الربيع العربي بها وزارة للدفاع‪ ،‬ولكنها ليست وزارة‬
‫مدنية‪ ،‬ووزير الدفاع بتلك الدول يأتي من القوات المسلحة‪.‬‬
‫العمود الثالث‪ ،‬هو الدور الذي لعبه العامل الخارجي في دعم العالقات المدنية العسكرية في‬
‫اسبانيا ‪ .‬فكما سبق القول فقد استفادت اسبانيا من عضويتها في االتحاد االوروبي وحلف الناتو علي‬
‫تدريب المدنيين والعسكريين علي المعايير الغربية في العالقات المدنية للقوات المسلحة‪ ،‬وساعد حلف‬
‫الناتو علي تطبيع فهم العسكرين علي أن الوضع الطبيعي في الديمقراطيات‪ ،‬هو وضع الجيوش تحت‬
‫سيطرة مدنية ديمقراطية‪ .‬ودول الربيع العربي تفتقر لمثل هذا العامل الهام‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫النموذج اإلسرائيلي في العالقات المدنية العسكرية‬

‫العناصر األساسية للمحاضرة‬

‫مقدمة‬

‫ً‬
‫أوال ‪ -‬غياب االطار الدستوري المحدد للعالقات المدنية العسكرية في إسرائيل‬
‫ثانيا‪ -‬تعاظم هيمنة المؤسسة العسكرية علي المؤسسات المدنية‬
‫ثالثًا ‪ -‬دور كبار العسكريين كجماعة ضغط في حياة إسرائيل السياسية‬
‫رابعًا‪ :‬تأثير التغير في السياسة الدفاعية اإلسرائيلية علي العالقات المدنية العسكرية‪.‬‬
‫سا‪ :‬تقييم النموذج اإلسرائيلي في العالقات المدنية العسكرية‬
‫خام ً‬

‫مقدمة‬

‫يقدّم النموذج االسرائيلي نموذ ًجا مهما في العالقات المدنية العسكرية التي قامت علي أساس التداخل‬
‫بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة المدنية وذلك على أساس عاملين بارزين هما‪ :‬الدور والبنية‪ .‬ولكن‬
‫ك ّل ذلك يت ّم خلف واجهات "ديمقراطية" وفي ظ ّل ادعاءات مصطنعة تتصل بمقولة "األمن المهد ّد"‬
‫واحتياجاته وضروراته‪ .‬وقد عبّر الباحث االسرائيلي بنكو إلدار عن هذه الحقيقة بقوله‪" :‬يؤثّر الجيش‬
‫في شخصية الشبّان‪ ،‬وفي شخصيّة المواطن‪ ،‬وتتعلّق به‪ ،‬إلى درجة كبيرة حريّتنا السياسية‬
‫واالجتماعية"‪ .‬وقد أعتبر الباحثان دان هور وفيتش وموشيه ليساك في سياق بحثهما في تحديث نظريّة‬
‫الحدود المرنة بين القطاعين العسكري والمدني في إسرائيل أن المشاركة المدنية الواسعة في مهام‬
‫سستين العسكريّة والسياسية‪ ،‬والشبكات االجتماعية بما فيها‬
‫األمن الوطني‪ ،‬والحدود الغامضة بين المؤ ّ‬
‫أعضاء النخبة من ك ّل من العسكريين والمدنيين‪ ،‬تعتبر إحدى الصفات الرئيسية المميّزة لنمط اسرائيل‬
‫ي مجتمع آخر‬
‫المتفرد في العالقات المدنية العسكرية‪ ،‬وقد أكد الباحثان إلى أن اسرائيل هي أقرب من أ ّ‬
‫ّ‬
‫إلى نموذج "شعب تحت السالح"‪ .‬وقد أكد أيضا إلى أن التجربة االسرائيلية في هذا المجال تشكل تحدّيا ً‬

‫‪7‬‬
‫قويا ً للجدل القائم بين الكثيرين من الدارسين حول وجود عالقة مباشرة بين االهتمامات األمنية المتزايدة‬
‫صصة لألمن‪ ،‬وبين هيمنة النخبة العسكرية على النخبة‬
‫للدولة‪ ،‬والحصة المتعاظمة من الموارد المخ ّ‬
‫المدنية‪ .‬ويذهب بعض خبراء الشؤون العسكرية إلى أن يطلقوا على إسرائيل صفة "دولة ديمقراطية‬
‫المعسكر"‪ .‬كما يرى البعض أن "المواطن االسرائيلي هو جندي في إجازة لمدّة أحد عشر شهرا ً"‪ .‬أ ّما‬
‫موشيه ديان الذي شغل منصب رئيس األركان (‪ 1953‬ـ ‪ )1957‬ث ّم منصب وزير الدفاع (‪ 1967‬ـ‬
‫‪ )1974‬وأصبح من أشهر قادة الجيش‪ ،‬فقد كان يرى‪" :‬أن إسرائيل ليس لديها سياسة خارجية وإنّما‬
‫سياسة دفاعية فقط‪ ،‬بمعنى أنّه بدالً من أن يكون إلسرائيل استراتيجية شاملة في خدمة تحقيق أهداف‬
‫السياسة الخارجية‪ ،‬فإنها تضع سياستها الخارجية في خدمة استراتيجيتها الشاملة على المستويين‬
‫فيعرف المجتمع االسرائيلي بأنّه "جيش‬
‫ّ‬ ‫العسكري واألمني‪ .‬أما الباحث االسرائيلي يسرائيل شاحاك‪،‬‬
‫له دولة وليس دولة لها جيش"‪.‬‬
‫وبشكل عام فقد وضع دافيد بن جوريون أسس العالقات المدنية العسكرية‪ ،‬حيث حاول تحييد النفوذ‬
‫السياسي للعسكريين عبر الجمع بين منصبي رئاسة الوزراء ووزارة الدفاع وتوحيد الجيش اإلسرائيلي‬
‫واالنتقائية الحزبية التي اتبعها في انتقاء القيادات العسكرية‪ ،‬وقد سار معظم القادة العسكريين‬
‫اإلسرائيليين علي نفس منوال بن جورين‪.‬‬
‫ولكن بشكل عام سادت الخالفات بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة المدنية حول تحديد نطاق‬
‫صالحيات المؤسسة العسكرية‪ .‬فعلي سبيل المثال الخالفات التي نشبت بين رئيس الوزراء موشية‬
‫شاريت مع وزير الدفاع بنحاس الفون الذي لم يتمكن من السيطرة على المؤسسة العسكرية بما أفضي‬
‫إلي القيام بعمليات عسكرية في الدول العربية دون تفويض من مجلس الوزراء فيما عرف بفضيحة‬
‫الفون ‪ ،‬مرورا ً بتجاوز وزير الدفاع اإلسرائيلي موشية دايان للتفويض السياسي خالل حرب ‪1967‬‬
‫والوصول لقناة السويس العتبارات المالئمة الميدانية؛ والخالفات بين شارون حينما كان وزيرا ً للدفاع‬
‫مع رئيس الوزراء مناحم بيجن والقيام بعمليات عسكرية واسعة النطاق ضد لبنان عامي ‪ 1978‬و‪1982‬‬
‫والتي انتهت بمحاصرة بيروت دون تفويض من مجلس الوزراء أو القيادات السياسية وهو نمط تكرر‬
‫في فترات مختلفة بما يعبر عن التضاد بين الموائمات السياسية واالعتبارات العسكرية الميدانية‪:‬‬

‫‪8‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬غياب اإلطار الدستوري المحدد لمالمح العالقات المدنية العسكرية في إسرائيل ‪1976-1948‬‬

‫والواقع أن هناك العديد من العوامل التي حدّدت مالمح العالقات المدنية ـ العسكرية في إسرائيل‪،‬‬
‫سس الدولة دافيد بن غوريون لدور الجيش في السياسة‪ ،‬باإلضافة‬
‫وعلى رأس هذه العوامل رؤية مؤ ّ‬
‫الي طبيعة نشأة الدولة وأهدافها وحاجتها الدائمة لألمن‪ ،‬مما يفرض على الجيش القيام بأدوار رئيسية‬
‫في عملية صنع القرار السياسي‪ .‬لقد كانت رؤية بن غوريون بشأن العالقات المدنية ـ العسكرية في‬
‫إسرائيل في عام ‪ 1948‬على النحو التالي‪ :‬أن يكون الجيش تابعا ً لحكومة الشعب فقط‪ ،‬والعسكريون ال‬
‫يتصرفون إال بناء على مهام محد ّدة بواسطة حكومة الشعب‪ .‬ومن هنا فالجيش ـ بحسب بن غوريون ـ‬
‫ّ‬
‫مجرد أداة لتنفيذ سياسات الحكومة‪.‬‬
‫ّ‬
‫على صعيد آخر‪ ،‬لم تتوفّر للمؤ ّ‬
‫سسة العسكرية االسرائيلية منذ نشأتها‪ ،‬النصوص القانونية التي‬
‫سسات الدولة السياسة من جهة أخرى‪ .‬ففي "القانون اإلداري"‬ ‫ّ‬
‫تنظمها من جهة‪ ،‬وتحدّد عالقتها بمؤ ّ‬
‫لسنة ‪ 1948‬إشارات مختصرة إلى القوات المسلّحة‪" :‬الحكومة المؤقتة يمكن أن تبني قوات مسلّحة في‬
‫التصرفات القانونية والضرورية للدفاع عن الدولة"‪ .‬وفي‬
‫ّ‬ ‫البر والبحر والجو وتملك سلطة القيام بكافة‬
‫‪ 26‬مايو ‪ 1948‬أصدرت الحكومة المؤقّتة قانون "قوات الدفاع في اسرائيل" وهو القانون الذي أنشأ‬
‫قوة مسلّحة‬
‫"جيش الدفاع االسرائيلي‪ .‬وقد أقتصر هذا القانون على إنشاء الجيش وحظر تكوين أيّة ّ‬
‫التطرق إلى‬
‫ّ‬ ‫خارجه‪ ،‬والنص على أن وزير الدفاع هو المسؤول عن تطبيق هذا القانون‪ ،‬وذلك من دون‬
‫تنظيم القوات المسلّحة أو إلى شكل العالقة بين المدنيين والعسكريين‪ .‬وحتى عام ‪ 1976‬ـ وهو العام‬
‫الذي شهد وضع قانون أساسي للجيش ـ ظهر تشريعان قانونيان يتعلّقان بالعسكريين‪ّ .‬‬
‫األول‪" :‬قانون‬
‫الخدمة العسكرية (‪ ،")1949‬وهو ال يتعلّق بالعالقات المدنية ـ العسكرية‪ .‬والثاني‪" :‬قانون نطاق‬
‫سلطة العسكريين (‪ ،")1955‬الذي يحدّد سلطة العسكريين ومهام رئيس األركان العامة للجيش ونظام‬
‫الرتب العسكرية‪.‬‬
‫سسات‬ ‫سسة العسكرية من دون قانون شامل ّ‬
‫ينظمها ويحدّد العالقة بينها وبين مؤ ّ‬ ‫وهكذا ظلّت المؤ ّ‬
‫الدولة السياسية‪ ،‬األمر الذي م ّهد الطريق أمام اشتراكها في عملية صنع القرار السياسي‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫ثانيًا‪ :‬تعاظم هيمنة المؤسسة العسكرية علي المؤسسات المدنية‬

‫لقد حقّق بن غوريون سيطرة قوية على الجناحين المدني والعسكري في الدولة‪ ،‬وذلك من خالل توليه‬
‫لمنصبي رئيس الوزراء ووزير الدفاع (‪ 1948‬ـ ‪ 1954‬و‪ 1955‬ـ ‪ )1963‬متجاوزا ً في ذلك الدور‬
‫الذي حدّده هو للجيش عشيّة قيام الدولة‪ .‬وقد تمكّن بن جوريون من فرض سيطرته تلك من خالل‪:‬‬
‫‪ -1‬تعيين ضبّاط موالين لحزبه (مفاي ـ حزب ع ّمال اسرائيل) في المناصب الحيوية في الجيش‬
‫‪ -2‬نشر مبادئ وأفكار "مفاي" في الجيش‪.‬‬
‫‪ -3‬اختيار جنراالت متقاعدين لمناصب سياسية بارزة في “المفاي”‪.‬‬

‫ومن خالل تلك االجراءات هيمن بن جوريون بشكل تام علي المؤسسة العسكرية‪ ،‬كما شكل بن غوريون‬
‫نخبة صغيرة من العسكريين والمدنيين عهد إليهم اتخاذ القرارات االستراتيجية في سرية تامة وبعيداً‬
‫عن الكنيست والحكومة‪ ،‬وأبرز األمثلة علي ذلك كان قرار الحرب عام ‪ 1956‬وقرار بناء مفاعل‬
‫ديمونة‪ .‬وقد درج العديد من رؤساء الوزارات على إتباع ما فعله بن غوريون مثل ليفي إشكول في‬
‫الفترة من ‪ 1963‬إلى ‪ 1969‬وأسحق رابين من العام ‪ 1992‬ـ إلى ‪ .1995‬إال أنه في أعقاب حرب‬
‫سسة العسكرية‪ ،‬وذلك من قبل اللجنة التي ش ّكلها‬
‫أكتوبر ‪ 1973‬أثيرت مسألة العالقة بين الحكومة والمؤ ّ‬
‫مجلس الوزراء للتحقيق في أسباب التقصير في تلك الحرب‪ ،‬والتي عرفت باسم "لجنة أجرانات"‪ .‬وقد‬
‫أوضحت اللجنة في تقريرها أنه ال يوجد تحديد لتوزيع الصالحيات في الشؤون األمنية بين رئيس‬
‫الحكومة ووزير الدفاع ورئيس هيئة األركان العامة‪ ،‬وال يوجد تحديد للعالقة بين القيادة السياسية‬
‫والقيادة العليا للجيش‪ .‬وفي أعقاب صدور هذا التقرير صدر القانون األساسي للجيش في عام ‪.1976‬‬
‫وذلك بهدف تصحيح ذلك التقصير الذي أشار إليه تقرير لجنة اجرانات‪.‬‬
‫ولكن لم يكن تأثير القانون األساسي للجيش قويا‪ ،‬فقد تعاظم دور المؤسسة العسكرية وزادت‬
‫ّ‬
‫محطة‬ ‫هيمنتها علي المؤسسات المدنية‪ .‬وفي هذا السياق تجدر اإلشارة إلى أن الجيش االسرائيلي لديه‬
‫إذاعة خاصة به‪ ،‬وهي ّ‬
‫تبث برامجها إلى جميع السكان لمدّة أربع وعشرين ساعة في اليوم وبتغطية‬
‫شاملة من النشرات االخبارية وشؤون الساعة‪ ،‬ولديه أيضا ً مجلّة أسبوعية رائجة خاصة به‪ .‬ويقوم‬
‫الجيش االسرائيلي بتنفيذ برامج للتدريب العسكري في المدارس العليا‪ ،‬ويدير عددا ً من المدارس‬
‫المهنية‪ ،‬ويقدّم سلسلة عن البرامج التعليمية للجنود‪ .‬وينهمك الجيش أيضا ً في نشاط استيطاني‪ ،‬وهو‬
‫مسؤول عن الرقابة على المطبوعات‪ .‬وهنا يطرح السؤال حول اإلشكالية العويصة المرتبطة بالسر‬
‫‪10‬‬
‫سر معظم‬
‫الكامن وراء الرقابة المدنية الفعّالة والمتوازنة‪ .‬وقد حدد بن مئير أربعة عوامل يبدو أنها تف ّ‬
‫االختالفات في الرقابة المدنية بين دولة وأخرى ومن فترة إلى أخرى‪ ،‬وهي كالتالي‪:‬‬
‫سك بسلطتها والمحافظة على امتيازاته‪.‬‬
‫‪ -1‬تصميم السلطة المدنية على التم ّ‬
‫‪ -2‬التزام العسكريين االيديولوجي الثابت تجاه حكم ديمقراطي مقرونا ً باعتقاد عميق ال يتزعزع بمبدأ‬
‫السيطرة المدنية علي القوات المسلحة‪.‬‬
‫‪ -3‬احترام السلطة السياسية المدنية لالستقالل الذاتي للعسكريين المحترفين واالحساس بالثقة في القيادة‬
‫العليا للقوات المسلّحة‪.‬‬
‫‪ -4‬وجود إطار دستوري واضح وخطوط عريضة قانونية دقيقة تحدّد وظائف وسلطة ومسؤوليات ك ّل من‬
‫السلطتين المدنية والعسكرية‪.‬‬
‫وفي هذا السياق يحدّد استاذ العلوم السياسية في جامعة تل أبيب يورام بيري ‪ Yoram Peri‬المالمح‬
‫الخاصة بالمرحلة االنتقالية التي سبقت إنشاء الدولة بين القوتين السياسية والعسكرية واصفا ً إيّاها بعالقة‬
‫سيطرة مزدوجة‪.‬‬

‫ثالثًا‪ :‬دور كبار العسكريين كجماعة ضغط في حياة إسرائيل السياسية‬

‫في أعقاب االنتصار الذي أحرزته اسرائيل في عام ‪ ، 1967‬أصبح الجيش قناة رئيسية للتعبئة وشغل‬
‫العسكريون المناصب العليا على الصعيد السياسي وصعيد اإلدارة العامة‪ .‬ولكن شكلت اخفاقات جيش‬
‫الدفاع اإلسرائيلي في بداية حرب ‪ 1973‬لحظة اختبار للعالقات ما بين القيادة السياسية والقيادة‬
‫العسكرية‪ ،‬خاصة العالقات بين رئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس هيئة األركان‪ .‬فقد أوصت لجنة‬
‫التحقيق بتغيير قانون الجيش االسرائيلي‪ .‬وفعالً ت ّم األخذ بهذه التوصية‪ .‬وفي سنة ‪ 1975‬أصدر الكنيست‬
‫قانونا ً جديدا ً‪ .‬وعلى الرغم من الجهود الكثيرة التي بذلت في صوغه‪ ،‬فإن الناتج‪ ،‬لم يكن أكثر وضوحا ً‬
‫مرة أخرى لتفسيرات مختلفة‪ ،‬والرتباطه في الواقع بشخصيات القادة الذين‬
‫من السابق‪ ،‬لكونه خضع ّ‬
‫يشغلون المناصب الرئيسية في هيئة األركان العامة ووزارة الدفاع والحكومة‪ .‬وبموجب قانون عام‬
‫‪ 1976‬صار الجيش خاضعا ً للحكومة وللسلطات المدنية وأضحى الوزير المسؤول عنه بالنيابة عن‬
‫الحكومة هو وزير الدفاع‪ ،‬وأصبح رئيس األركان العامة ـ صاحب أكبر رتبة في القيادة العليا للجيش‪،‬‬
‫والذي يت ّم تعيينه من جانب الحكومة بناء على توصية وزير الدفاع ـ خاضعا ً لسلطة الحكومة ووزارة‬
‫الدفاع‪ ،‬وهكذا صارت لرئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس األركان العام مهام عسكرية‪ .‬فرئيس‬
‫‪11‬‬
‫الوزراء هو رئيس الهيئة التنفيذية في البالد ويأتمر بأمره وزير الدفاع ورئيس هيئة األركان العامة‪.‬‬
‫ومنذ التعديل الذي ت ّم على القانون األساسي للجيش في عام ‪ 1991‬صار رئيس الوزراء رئيسا ً للجنة‬
‫الوزارية التي ت ّم استحداثها تحت اسم "اللجنة الوزارية لألمن الوطني" (المجلس الوزاري المصغّر)‪،‬‬
‫المفوضة في إعالن الحرب‪ ،‬وإنهاء العمليات العسكرية دونما‬
‫ّ‬ ‫وبناء علي ذلك اصبحت الحكومة هي‬
‫حاجة إلى موافقة رسمية من الكنيست‪ .‬لكن بموجب تعديل أخر صدر في عام ‪ 1992‬وجرى العمل به‬
‫بدءا ً من عام ‪ ، 1996‬صار على الحكومة ضرورة إبالغ لجنة الخارجية واألمن في الكنيست بأسرع‬
‫وقت ممكن بقرار اللجوء إلى الحرب‪ ،‬وأصبح وزير الدفاع هو المسؤول عن العمليات العسكرية خالل‬
‫فترة الحرب‪ ،‬ويبقى في الوقت نفسه خاضعا ً لتعليمات وقرارات الحكومة‪ .‬وعلى الرغم من صدور هذه‬
‫القوانين وتعديالتها‪ ،‬فإن العالقات المدنية العسكرية في اسرائيل عادت إلى سالف عهدها وتح ّكمت‬
‫الطبي عة الشخصية للقيادات والزعامات في تحديد مالمح تلك العالقة‪ ،‬ومثلما كانت شخصية بن غوريون‬
‫القوية هي أساس سيطرته على القطاعين المدني والعسكري في الدولة فإن شخصية الذين جاؤوا من‬
‫بعده هي التي حدّدت طبيعة العالقات المتبادلة بين رجاالت القيادتين العسكرية والمدنية‪ .‬ولقد كان‬
‫للجيش نفوذ قوي إبان فترة شغل موشيه ديان لمنصب وزير الدفاع (‪ 1967‬ـ ‪ )1974‬وكذلك كانت‬
‫عليه الحال أيضا ً إبان تولي فايتسمان وشارون واسحق رابين للمنصب نفسه‪ .‬واالمثلة علي ذلك كثيرة‪،‬‬
‫فمثلما حقّق الجيش عام ‪ 1967‬نفوذا ً كبيرا ً في عملية صنع القرار السياسي وتجاوز أوامر القيادة المدنية‬
‫في الضفّة الشرقية لقناة السويس وفي الجوالن السورية‪ ،‬فقد تجاوز الجيش أوامر القيادة في الحرب‬
‫ولذلك ففي أعقاب مجازر صبرا وشاتيال التي تواطأ فيها الجيش االسرائيلي‬ ‫على لبنان عام ‪.1982‬‬
‫مع بعض الميليشيات اللبنانية‪ ،‬أثيرت مسألة العال قات المدنية والعسكرية من جديد من قبل لجنة التحقيق‬
‫التي عرفت باسم "لجنة كاهان"‪ .‬وقد حذّرت اللجنة في تقريرها من تجاوز وزير الدفاع آرييل شارون‬
‫ورئيس هيئة األركان العامة رفائيل إيتان وعدم تنسيقهما مع رئيس الحكومة مناحيم بيغن وطالبت‬
‫بوضع حدود معيّنة لمسؤوليات وزير الدفاع والقيادة العليا للجيش‪ ،‬وهو األمر الذي لم يحدث‪ .‬وأكثر‬
‫من هذا أنه جرى الحديث عن خداع شارون لبيجن والكذب عليه وإخفاء بعض المعلومات واألوامر‬
‫عنه‪.‬‬
‫وعلى الرغم من ك ّل ما سبق ذكره فإن قيام الدولة الصهيونية ّ‬
‫بقوة السالح هو الذي جعل وما يزال‬
‫سسة العسكرية وكبار القادة العسكريين الفئة األهم في اسرائيل‪ .‬ومنذ ذلك ش ّكل األمن‬
‫يجعل من المؤ ّ‬
‫الهدف األبرز للدولة بعد قيامها‪ .‬وألن استراتيجية الدولة قامت على مفهوم التو ّسع‪ ،‬فقد كان من الطبيعي‬
‫سعية‪ .‬األمر الذي يستوجب تخصيص‬
‫أن يكون الجيش وقياداته العسكرية هي األداة لتحقيق األهداف التو ّ‬
‫‪12‬‬
‫نسبة عالية من الموازنة العا ّمة للدولة للشؤون العسكرية‪ .‬وذلك على نحو جعل من نسبة اإلنفاق‬
‫العسكري في إسرائيل من أعلى النسب في العالم‪ .‬وتجدر اإلشارة أيضا ً إلى أن ما يقرب ‪ %15‬من‬
‫إجمالي عدد السكان في الدولة يعملون بالجيش‪ ،‬وهي من النسب األعلى في العالم‪ .‬كما تحول الجيش‬
‫االسرائيلي بصورة تدريجية ليصبح المستودع األهم لتصدير الكوادر القيادية إلى جل القطاعات المدنية‬
‫وخاصة‪ :‬مجلس الوزراء ومعاهد التعليم ومراكز األبحاث واألحزاب والكتل السياسية‪ .‬ولع ّل ما يؤ ّكد‬
‫ذلك ان حكومة الوحدة الوطنية التي تش ّكلت عام ‪ 1988‬قد ض ّمت أحد عشر وزيرا ً من العسكريين‬
‫المتقاعدين وذلك من أصل ‪ 25‬وزيرا ً وكذلك ض ّمت حكومة اليمين التي ش ّكلها نتنياهو عام ‪1996‬‬
‫بماض عسكري رفيع وهم وزير الزراعة والبيئة رفائيل اتيان من حزب‬
‫ٍ‬ ‫خمسة وزراء يتمتّعون‬
‫“تسوميت” ووزير األمن الداخلي افيغدور كهالني‪ ،‬ووزير الدفاع اسحق موردخاي‪ ،‬ث ّم وزير المالية‬
‫دان هوروفيتش‪ ،‬ووزير البنية األساسية آرييل شارون (ليكود) وجميعهم من كبار الضبّاط السابقين في‬
‫الجيش‪ .‬وهذا فضالً عن أن رئيس الدولة االسبق عيزر فايتسمان كان من كبار العسكريين في سالح‬
‫الجو‪ .‬وفي إحصائية نشرت عام ‪ 1992‬تبين أن ‪ %32‬من المناصب اإلدارية العليا في الدولة‪ ،‬و‪%16‬‬
‫ّ‬
‫موظفي شركات األعمال‪ %12.2 ،‬من العاملين في الشركات‬ ‫ّ‬
‫موظفي قطاع التعليم‪ ،‬و‪ %22.4‬من‬ ‫من‬
‫الحكومية‪ ،‬و‪ %9.6‬من العاملين في وزارة الخارجية هم من العسكريين السابقين‪ .‬هذا فضالً عن أن‬
‫العديد من األحزاب يعمل على جذب أكبر عدد من العسكريين المتقاعدين ووضعهم في أماكن متقدّمة‬
‫على القوائم االنتخابية جذبا ً ألصوات الناخبين‪.‬‬

‫رابعًا‪ :‬تأثير التغير في السياسة الدفاعية اإلسرائيلية علي العالقات المدنية العسكرية‪.‬‬

‫شهدت السياسة الدفاعية اإلسرائيلية تحوالت هيكلية نتيجة للتغير في طبيعة التهديدات وتراجع‬
‫التهديدات النابعة من الصراع مع دول الجوار كنتاج لنجاح غايات السياسة العسكرية اإلسرائيلية في‬
‫فرض بقاء إسرائيل كأمر واقع على دول الجوار وتثبيت وجودها في المنطقة العربية والحفاظ على‬
‫اختالل توازن القوى اإلقليمي لصالحها‪ .‬ويبدو أن المحفز األساسي للتغير في االستراتيجية الدفاعية هو‬
‫إدراك العسكريين للتغير في طبيعة التهديدات وإن مشاركة السياسيين في عملية صياغة االستراتيجية‬
‫العسكرية بدأت في التراجع منذ انقضاء المرحلة التأسيسية بزعامة بن جوريون وحتى خالل تلك‬
‫المرحلة ظهر دور القيادات العسكرية وخاصة يجال ألون وموشي ديان‪ .‬ويعتبر التداخل بين أدوار‬
‫السياسيين والعسكريين عامالً مؤثرا ً في تقليص دور السياسيين في عملية صياغة االستراتيجية‬
‫العسكرية على الرغم من اعتبارها أحد أهم اختصاصاتهم وسلطاتهم في صنع السياسة الدفاعية‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫واستدعت التغيرات في طبيعة التهديدات الستحداث أبعاد جديدة في االستراتيجية العسكرية مثل‬
‫الردع الدفاعي وتقليص االعتماد على القوات البرية باإلضافة إلى إعادة توظيف استراتيجية شد‬
‫األطراف الحتواء التهديدات اإلقليمية المحتملة‪ .‬أما على المستوى المالي فإن عبء اإلنفاق الدفاعي‬
‫على االقتصاد اإلسرائيلي قد تراجع نتيجة لتصاعد حجم الناتج المحلي اإلجمالي وتراجع اإلنفاق‬
‫العسكري بصورة نسبية نتيجة للجدل حول ضرورة خفض النفقات واالرتقاء بكفاءة الموازنة العسكرية‪،‬‬
‫ومن ثم يمكن القول أن تصاعد وتراجع اإلنفاق العسكري يرتبط بالتهديدات الخارجية‪.‬‬
‫وقد أدي الجدل الداخلي حول تصاعد التأثير السياسي للعسكريين الي استحداث عدة آليات لتحجيم‬
‫دورهم في النظام السياسي وعملية صنع السياسة الدفاعية السيما على أثر نتائج تحقيقات لجنة فينوجراد‬
‫عقب حرب لبنان الثانية‪ ،‬ومن أهم هذه اآلليات صياغة تشريع جديد إلطالة الفترة الفاصلة بين إحالة‬
‫القيادات العسكرية للتقاعد ومشاركتهم في العمل السياسي الحزبي والتنفيذي وتفعيل دور مجلس األمن‬
‫القومي لموازنة نفوذ المؤسسة العسكرية في عملية صنع السياسة الدفاعية وتوليد خيارات خارج نطاق‬
‫مصالح المؤسسة العسكرية في الحفاظ على الموازنة العسكرية فضالً عن االتجاهات لتقليص اإلنفاق‬
‫العسكري وترشيده وخصخصة الصناعات الدفاعية‪.‬‬

‫سا‪ :‬تقييم النموذج اإلسرائيلي في العالقات المدنية العسكرية‬


‫خام ً‬

‫عندما وضع المسؤولون االسرائيليون القانون األساسي للجيش ردا ً على انتقادات لجنة اجرانات في‬
‫أعقاب الفشل االستخباراتي الخطير عام ‪ ، 1973‬كانوا يسعون إلى تقديم تعبير واضح لمبدأ الرقابة‬
‫والسيطرة المدنية وتحديد العالقات الدقيقة مع المؤسسة العسكرية‪ .‬ولكن مع ذلك فقد فشل القانون في‬
‫تحقيق هدفه المعلن‪ .‬وعادت األمور لتأخذ مجراها المألوف منذ تأسيس الكيان تحت سقف ما سمي "ميل‬
‫السياسيين نحو المرونة والغموض البنّاء" في التعاطي مع طبقة القيادة العسكرية العليا في الجيش‪ .‬ومن‬
‫هنا بقيت األسئلة الحاسمة الكثيرة في العالقة بين المؤسسة العسكرية والمؤسسات المدنية دون اجابة‪.‬‬
‫وباختصار يرى الباحث يهودا بن مئير أنه توجد ثالثة مجاالت رئيسية مثيرة للمتاعب في عالقات‬
‫المؤسسة العسكرية اإلسرائيلية بالسلطات المدنية‪ ،‬وك ّل واحد منها بحاجة ملحّة إلى تصحيح وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬االفتقار إلى الوضوح الدستوري والقانوني‬
‫‪ -2‬االفتقار إلى المعلومات المدنية في التخطيط االستراتيجي‬
‫سسة الدفاع‬
‫‪ -3‬واالفتقار إلى التوازن الصحيح بين السلطتين العسكرية والمدنية في مؤ ّ‬
‫‪14‬‬
‫ومع أن أيّا ً من هذه القضايا الثالث ال تش ّكل‪ ،‬حتى اآلن‪ ،‬تهديدا ً خطيرا ً للعالقات المدنية العسكرية‬
‫الفعّالة‪ ،‬فكلّها تش ّكل تهديدا ً محتمالً‪ ،‬ولكن في ضوء التغييرات االجتماعية والسياسية والديموغرافية‬
‫تمر الدولة‪ ،‬وغياب زعامة محلية ذات كاريزما تاريخية كقيادات الصهيونية التاريخية‬
‫الدراماتيكية التي ّ‬
‫واالفتقار إلى إجماع واضح لتحديد مستوى السلطة التي يستخدمها وزير الدفاع تجاه رئيس األركان‬
‫والجيش عموماً‪ ،‬والفشل في معالجة دور رئيس الوزراء تجاه الجيش‪ ،‬تعتبر بمثابة الغام قابلة لالنفجار‬
‫تمر بها الدولة‪.‬‬
‫في أيّة لحظة من لحظات األزمة الحرجة التي قد ّ‬
‫وبشكل عام فقد صنف بيرلميوتر الجيش االسرائيلي في خانة الجيش الثوري المحترف مثله‬
‫مثل الجيش الصيني تماما ً‪ .‬ويقول أن الصفة الرئيسية المميّزة للجندي الثوري المحترف هي أنه أداة‬
‫لحركة ايديولوجية‪ .‬ففيما يتعلّق بجيش التحرير الشعبي الصيني‪ ،‬هو خادم الثورة الشيوعية‪ ،‬فالجيش‬
‫االسرائيلي فهو أداة الصهيونية‪ .‬وفي معرض شرحه لمفهوم االستقالل الذاتي االحترافي يقول‬
‫سسة العسكرية في اسرائيل والصين عمل على ضمان احترافيته‬
‫بيرلميوتر‪" :‬أن االستقالل الذاتي للمؤ ّ‬
‫العالية وخضوعه السياسي‪ .‬ويؤ ّكد بيرلميوتر أيضا ً أنه في ك ّل من الصين وإسرائيل فإن الزعماء‬
‫االيديولوجيين هم الذين بنوا القوات العسكرية المسلّحة‪ ،‬الحزب الشيوعي في الصين وحزب العمل في‬
‫اسرائيل‪ ،‬وذلك من أجل تجميع وتولّي السلطة السياسية بكاملها في نهاية األمر‪ .‬ويشير بيرلميوتر إلى‬
‫أن اسرائيل حقّقت نجاحا ً أكثر من الصين في وتثبيت الصفة االحترافية المهنية على العسكريين‪.‬‬
‫وفي واقع األمر فمن خالل استخدام التصنيف التقليدي للدول بناء على أنظمتها السياسية البريتورية‬
‫(الديكتاتورية العسكرية) والمحترفة (الديمقراطيات الغربية الليبرالية) والشيوعية المتداخلة‪ ،‬فإن يورام‬
‫ال تماما ً مع‬
‫بيري يزعم أن إسرائيل تقع في مكان ما بين النظامين األخيرين‪ ،‬وهو تصنيف يأتي متماث ِ‬
‫نموذج بيرلميوتر في الثورية االحترافية‪ .‬واعتمادا ً على هذا النموذج حاول ك ّل من هوروفيتش وليساك‬
‫تحديث نظ رية الحدود المرنة بين القطاعين العسكري والمدني باعتبارها حجر الزاوية في العالقات‬
‫المدنية العسكرية في اسرائيل‪ .‬وعلى هذا األساس فالنتيجة التي يصالن إليها هي أن المشاركة المدنية‬
‫سستين العسكرية والسياسية‪ ،‬تعتبر إحدى‬
‫الواسعة في مهام األمن الوطني‪ ،‬والحدود الغامضة بين المؤ ّ‬
‫المتفرد في مجال العالقات المدنية العسكرية‪ .‬والشاهد العملي‬
‫ّ‬ ‫الصفات الرئيسية المميّزة لنمط إسرائيل‬
‫على هذا التقدير هو وجود العديد من كبار النخب العسكرية االسرائيلية في ك ّل من الحكومة والكنيست‬
‫مع ما يستتبع ذلك من تداخل في االعتبارات المدنية والعسكرية أثناء عملية اتخاذ قرارات الحرب أو‬
‫التعبئة العامة‪ .‬وفي هذا المجال تجدر اإلشارة إلى أنه على الرغم من االستحداث الذي ت ّم بموجب‬
‫‪15‬‬
‫ينص على وجوب موافقة الكنيست على القرار التنفيذي بالتعبئة‬
‫ّ‬ ‫القانون الصادر عام ‪ 1992‬والذي‬
‫العسكرية واستدعاء وزير الدفاع قوات االحتياط من جهة‪ ،‬وعلى الميزانية العامة للدولة‪ ،‬بما فيها‬
‫ميزانية الدفاع من جهة أخرى‪ ،‬فإن واقع األمر الحاصل هو أنه نتيجة لوضع الدولة األمني فإن قرار‬
‫التعبئة العسكرية وقرار الحرب وتمويلها أنما تت ّم جميعها من دون انتظار موافقة الكنيست‪.‬‬
‫كذلك تجدر اإلشارة إلى وجود عدد من المؤشرات في النموذج اإلسرائيلي هي علي سبيل المثال‪:‬‬
‫‪ ‬تراجع دور المحاكم في إسرائيل‪ ،‬وخاصة ما يس ّمى محكمة العدل العليا‪ ،‬في فرض رقابتها‬
‫على الجيش والشؤون العسكرية‪ ،‬ولع ّل هذا التراجع‪ ،‬الذي بدأ منذ مطلع الثمانينات‪ ،‬يتّضح‬
‫بصورة أكبر في عجز تلك المحاكم عن معارضة أو تعطيل أي قرار للقوات المسلحة‪.‬‬
‫‪ ‬لم تسر العالقات المدنية العسكرية في إسرائيل على وتيرة واحدة وإن بدت الخالفات بين‬
‫شاغلي السلطة السياسية والعسكريين السمة الغالبة للعالقات إال أن الخالفات لم تتطور في أي‬
‫حالة إلى درجة الصدام بين الطرفين أو حدوث انقالب عسكري نتيجة لعالقات التداخل‬
‫والشراكة المدنية العسكرية‪.‬‬
‫وأخيرا يمكن اعتبار الحالة اإلسرائيلية أقرب إلى اتجاهات تحليل االندماج المدني العسكري‬
‫(النمط المتداخل في العالقات المدنية العسكرية) وذلك لغياب الحدود الفاصلة بين المدني والعسكري‬
‫في الحالة اإلسرائيلية وافتقاد العالقات المدنية العسكرية في إسرائيل ألطر قانونية واضحة تحدد دور‬
‫المؤسسة العسكرية في النظام السياسي على الرغم من الدور المركزي للمؤسسة العسكرية في تأسيس‬
‫الدولة وتوطيد أركانها وصهر القوميات المختلفة في إطارها فضالً عن أدائها لوظائف مواجهة‬
‫التهديدات الداخلية والخارجية والتنشئة السياسية والتجنيد السياسي والمجتمعي‪.‬‬
‫ومن هنا يتبيّن أن المؤسسة العسكرية االسرائيلية ما تزال تتمتّع باليد الطولى في أبرز وأه ّم‬
‫القرارات المصيرية للدولة على الصعيدين العسكري والسياسي‪.‬‬

‫‪16‬‬

You might also like