You are on page 1of 356

‫جنود وجواســيس وحكَّام‬

‫طريـــق مــر إىل ال ّث َـــورة‬


‫جنود وجواسيس وحكَّام‬
‫طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫تأليف‬
‫حازم قنديل‬
‫ترجمة‬
‫مركز الخطايب للدراسات‬
‫مقدمة املركز‬

‫لعــل مــن أصــدق األوصــاف للثــورات تشــبيهها بالظواهــر الطبيعيــة وعــى رأســها‬
‫الــزالزل‪ ،‬فــا ميكــن التنبــؤ بهــا أبــدا ً وال ميكــن وضــع قواعــد لوقوعهــا أو عــدم‬
‫وقوعهــا‪ ،‬فكــم مــن مــرة حدثــت ذات الظــروف يف ذات البــاد يف حقبتــن‬
‫مختلفتــن‪ ،‬فكانــت النتيجــة ثــورة عارمــة يف املــرة األوىل‪ ،‬وســكوتاً واســتقرارا ً تام ـاً‬
‫يف املــرة الثانيــة‪ .‬عــى أن الثابــت يف الثــورات‪ ،‬كــا يف جميــع الظواهــر التاريخيــة‪،‬‬
‫أن مــن ال يقــرأ التاريــخ جيــدا ً ويســتوعب دروســه ويســتقرأ وعــوده‪ ،‬يكــر ُر األخطــاء‪،‬‬
‫ويدفــع األمثــان مــرة بعــد مــرة‪ ،‬مضاعف ـ ًة غالب ـاً‪.‬‬
‫لقــد واجهــت ثــورات الربيــع العــريب األنظمــة القامئــة‪ ،‬التــي تعــرف رؤوســها‬
‫وخواصهــم واملقربــن منهــم‪ ،‬وغفلــت‪ ،‬أو تغافلــت‪ ،‬عــن أركان األنظمــة املرتســخة‬
‫عــر ســنني‪ ،‬ودولهــا العميقــة التــي يــكاد أهلهــا يجهلونهــا فكيــف مبــن ثــار عليهــا‪.‬‬
‫وكانـــت مـــر وال تـــزال قلـــب األمـــة اإلســـامية بثقلهـــا الســـكاين الهائـــل كـــاً‬
‫ونوعــاً‪ ،‬وموقعه ــا الجغ ــرايف العبق ــري وس ــط ب ــاد املس ــلمني‪ ،‬ومكانته ــا الراس ــخة‬
‫يف التاريـــخ اإلســـامي‪ ،‬لـــذا كانـــت االنتفاضـــة يف مـــر ســـنة ‪2011‬عـــن حـــق‬
‫أه ــم ث ــورات الربي ــع الع ــريب‪ ،‬رغ ــم أنه ــا مل تكتم ــل‪ ،‬ب ــل رغ ــم أنه ــا تح َّول ــت اىل‬
‫أمثول ــة ب ــدالً م ــن أن تك ــون مثــاً‪.‬‬
‫وموضــوع هــذا الكتــاب النظــا ُم الحاكــم يف مــر‪ ،‬نشــأته وجــذوره وصــوالً لثــاره‬
‫امل ُـ َّرة وظاللــه الكئيبــة‪ ،‬حيــث يبــدأ مــن انقــاب «الضبــاط األحــرار» عــى النظــام‬
‫امللــي‪ ،‬ويبحــث مطـ َّوالً تجاذبــات الحكــم بــن أطرافــه ومأالت هــذه التجاذبــات التي‬
‫أفضــت نهايــة املطــاف اىل تركــز الســلطة بيــد الطبقــة العســكرية‪ ،‬التــي تحالفــت مــع‬
‫طبقــة رجــال أعــال‪ ،‬هــذه الســرورة الطبيعيــة ألي حكــم اســتبدادي‪ ،‬حيــث تطالــب‬
‫الســلطة مبــا تــراه حقهــا مــن املــال‪ ،‬كــا يســعى املــال اىل مــا يشــتهيه مــن الســلطة‪.‬‬
‫رأى مركــز الخطــايب ترجمــة هــذا الكتــاب‪ ،‬الــذي أُلِّــف باإلنكليزيــة ‪-‬رغــم أن الكاتــب‬
‫مــري‪ -‬لشــموليته يف عــرض األحــداث يف ســياقاتها وترتيبهــا‪ ،‬وتناولــه لعوامــل‬
‫نشــوب الثــورة‪ ،‬التــي جــاءت نتيج ـ ًة أخــر ًة لهــا‪ .‬وحقيــق بالشــعوب العربيــة دراســة‬
‫هــذه الثــورة وغريهــا الســتخالص العــر‪ ،‬كيال تتكــرر األخطــاء‪ ،‬ويُعــاد دفــع التكاليف‪.‬‬
‫ومــن املهــم اإلشــارة أيض ـاً اىل أن هــذه الثــورة أثَّــرت تأثــرا ً شــديدا ً عــى البلــدان‬
‫العربيــة واإلســامية كافــة‪ ،‬وخصوص ـاً بــاد الشــام‪ ،‬التــي ال تنفصــل وفق ـاً لــدروس‬
‫التاريــخ وحقائــق الجغرافيــا عــن مــر وشــعبها‪.‬‬
‫الفهرس‬
‫متهيد‪11..........................................................................................................................‬‬
‫مقدمة‪ :‬العد التنازيل النقالب يوليو ‪19.....................................................................1952‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪30................................................1954‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪70....................................... "1967‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬القضاء عىل دوائر النفوذ‪ :‬ثورة التصحيح يف مايو ‪148...................... 1971‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات أكتوبر ‪166........................1973‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪ :‬ثورة يناير ‪258...........................2011‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬عىل عتبة السلطة‪ :‬الجيش بعد الثورة‪324..................................................‬‬
‫شكر وتقدير ‪353..............................................................................................................‬‬
‫عاجــا أم ً‬
‫آجــا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫"ســرى املدافعــن عــن الوطــن يصبحــون أعــداءه‬
‫ويُش ـهِرون خناجرهــم دامئًــا بوجــوه إخوانهــم يف الوطــن‪ ،‬لنســمعهم‬
‫يقولــون لطاغيــة بالدهــم‪ :‬إذا أمرتنــي أن أغــرز ســيفي يف صــدر أخــي‬
‫أو أجــز عنــق أيب أو أبقــر أحشــاء زوجتــي الحامــل‪ ،‬فلــن أتــردد طرفــة‬
‫عــن ولــو خالفــت شــايل مــا تفعلــه ميينــي"‬
‫جان جاك روسو‪ ،‬خطاب يف أصل التفاوت وأصوله بني البرش‪ -‬سنة ‪1755‬‬
‫متهيد‬

‫متهيد‬

‫ـورات قلوبَنــا ســواء نجحــت أو فشــلت‪ .‬تُعنــى دراســة الثــورة بتقــي كيفيــة‬ ‫تُ َحطِّ ـ ُم الثـ ُ‬
‫اســتيقاظ الجامهــر مــن ســباتها واندفاعهــا إىل مركــز صــدارة تاريخهــا‪ ،‬ال لــيء إال ألنها‬
‫رأت أحالمهــا مغصوب ـ ًة أو مكبوتــة‪ .‬ويف أفضــل الحــاالت‪ ،‬تكــون النتائــج دون التوقعــات‬
‫بكثــر‪ .‬ومــع أن دراســة الثــورات قــد تُ ّثبــط الهمــم‪ ،‬إال أن هــذه املراحــل النــادرة والغامضــة‬
‫مــن التاريــخ تشــكل عامــل جــذب للباحثــن املولعــن بالبحــث عــن املغامــرة والتشــويق‪.‬‬
‫ـرت وكتبــت عــن أطــول فــرة ممكنــة اســتطعت تذكُّ َرهــا عــن آفــاق الثــورة يف مــر‪،‬‬
‫ف َّكـ ُ‬
‫وقــررت قبــل خمــس ســنوات أن أنــر كتابًــا عنهــا‪ .‬ولكــن قُبيــل اكتــال مســودة الكتــاب‪،‬‬
‫را!‬
‫قفــزت الكلــات مــن الصفحــات مبــارشة لتتحقــق أمــام عينــي‪ :‬لقــد ثــار املرصيــون أخـ ً‬
‫بــن الحــرم الجامعــي الهــادئ يف لــوس أنجلــوس والحواجــز املحيطــة مبيــدان التحريــر‬
‫اتخــذت املســودة شــكلها النهــايئ‪ .‬ســارت عجلــة التاريــخ هــذه املــرة نحــو األمــام‪ ،‬وحلــق‬
‫طائــر املينريفــا((( عنــد الفجــر‪ ،‬وفيــا كان هــذا الكتــاب يتحــدث عــن تاريــخ مــى بــات‬
‫يتحـ ّدث عــن الزمــن الحــارض‪.‬‬
‫قياســا عــى‬
‫يســتحيل أن مَنَ ي ـ َز األســباب الجذريــة لثــورة ‪ 25‬ينايــر يف مــر ونص َّنفهــا ً‬
‫األســباب التــي ألهمــت أي ثــورة أخــرى‪ .‬بــل يجــب أن نُقــر عــى األقــل بأنــه مــن الســابق‬
‫ألوانــه تحديــد ســبب نــزول املاليــن إىل الشــوارع يف ذلــك اليــوم بالــذات وتعهدهــم بعــدم‬
‫العــودة إىل ديارهــم قبــل تحقيــق مطالبهــم رغــم عيشــهم تحــت وطــأة القمــع واالســتبداد‬
‫طويــا‪ .‬يبــدو أن الفشــل الســيايس واألزمــات االقتصاديــة والتحريــض األيديولوجــي‬ ‫ً‬
‫ومشــكالت الحيــاة املتجــددة تشــابكت جميعهــا خــال هــذه اللحظــات القاتلــة واألخــرة‬
‫يف حيــاة النظــام مــا بعــث عــى اليــأس‪ .‬وباملثــل‪ ،‬مل يكــن التنبــؤ بنتيجــة هــذا االضطــراب‬
‫الهائــل يف هــذه املرحلــة ســوى مجــرد تكهنــات‪ ،‬فحتــى لــو ظهــر نظــام جديــد بالفعــل‪،‬‬
‫فسيســتغرق األم ـ ُر ســنوات قبــل أن يتبلــور شــكله‪.‬‬
‫لــذا بعيــ ًدا عــن هــذه التكليفــات الشــاقة‪ -‬ورمبــا غــر املجديــة‪ ،-‬يســعى هــذا الكتــاب‬

‫‪ -1‬املينريفا هي آلهة الحكمة والعقل عند اليونان‪ ،‬والبومة طائرها فاعتُربت رم ًزا للحكمة‪( .‬املرتجم)‬

‫‪11‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫لتحقيــق هــدف أكــر تواض ًعــا وواقعيــة‪ ،‬إذ يســعى لفهــم مــا الــذي جعــل مــن الثــورة أمـ ًرا‬
‫ممك ًنــا مبجــرد تحقــق رشوطهــا املســبقة‪ .‬وبــداًلً مــن الســؤال عــن ســبب انــدالع االنتفاضــة‪،‬‬
‫أحــاول أن أرشح مــا م َّهــد الطريــق أمامهــا‪ ،‬ومــا الــذي أعــان الشــعب عــى تحــدي الطاغية‬
‫الــذي ال يُقهــر ‪-‬فيــا يبــدو ظاهـ ًرا‪ -‬وأن ينجــح فيــا أقــدم عليــه؟‬
‫الجــواب يف هــذه الحالــة كــا يف حــاالت أخــرى ال حرص لهــا يكمن يف موقف املؤسســتني‬
‫العســكرية واألمنيــة‪ .‬إن فشـ َـل أي ثــورة مــا دامــت األجهــزة القمعيــة للنظــام القديــم راغبـ ًة‬
‫وقــادر ًة عــى قمعهــا واحــد ٌة مــن الحقائــق البديهيــة القليلــة يف مجــال نظريــة الثــورة‪ .‬وقــد‬
‫يخطــر بالبــال أنهــا أمــر مفــروغ منــه‪ ،‬لكــن الكثرييــن ال يولونهــا ما تســتحق مــن االهتامم‪.‬‬
‫لكــن ملــاذا فشــلت األجهــزة القمعيــة يف حاميــة أســيادها مــن ساســة مــر رغــم أنــه مل‬
‫تُنهكهــا حــرب خارجيــة كــا حــدث يف روســيا عــام ‪ 1917‬أو حــرب أهليــة كــا حــدث يف‬
‫ليبيــا عــام ‪2011‬؟‬
‫االفــراض االختــزايل القائــل بــأن الجيــش‬
‫َ‬ ‫النجــاح األويل للثــورة يف مــر‬
‫ُ‬ ‫يتناقــض‬
‫وقــوات األمــن يشــكالن يف األســاس "القبضــة الحديديــة" أو "األيــدي القويــة" للســلطة أو‬
‫غريهــا مــن االســتعارات التــي تصورهــا وكأنهــا مجــرد توابــع وليســا مؤسســات مســتقلة‬
‫ذات مصالــح متاميــزة‪ .‬فالقــوات املســلحة واملؤسســة األمنيــة رشيــكان أساســيان يف النظام‬
‫الحاكــم ألي دولــة‪ ،‬إذ يعمــان مــع الجهــاز الســيايس وليــس لصالحــه بغــض النظــر عــا‬
‫ينــص عليــه الدســتور‪ .‬تتطابــق مصالــح الــركاء الثالثــة عــادة لتــرز وكأنهــا منــوذج عــن‬
‫الوحــدة فيــا بينهــا لكنهــا ليســت كذلــك أب ـ ًدا‪.‬‬
‫يقــول مكيافيلــي "ال مجــال للمقارنــة بــن الرجــل املســلَّح وغــر املســلَّح‪ ،‬ومــن غــر‬
‫املنطقــي أن نتوقــع مــن الرجــل املسـلَّح الخضــوع طواعيــة آلخــر أعــزل‪ ،‬أو أن يقــف الســيد‬
‫األعــزل آم ًنــا بــن خدمــه املســلحني"‪ (((.‬تبــدو هــذه املُ سـلَّمة األساســية اليــوم صحيحــة كــا‬
‫كانــت يف القــرن الســادس عــر‪ .‬ومــع ذلــك يفــرض النهــج التقليــدي لتحليــل العالقــة‬
‫بــن السياســيني والقامئــن عــى وســائل القمــع أن مؤسســتي الجيــش واألمــن تترصفــان‬
‫متا ًمــا مثــل مجموعــات الضغــط األخــرى‪ ،‬حيــث تتفاوضــان مــع السياســيني لتعزيــز‬
‫مصالحهــا‪ .‬لكــن هــذه املؤسســات القويــة عندهــا مــن األوراق القويــة أكــر مــا لــدى‬
‫‪1- Machiavelli, The Prince (2004), 68–69.‬‬

‫‪12‬‬
‫متهيد‬

‫مجموعــات الضغــط األخــرى‪ ،‬إذ تتشــابك مصالحهــا املؤسســية يف أذهــان أعضائهــا مــع‬
‫أمــن الوطــن ورمبــا وجــوده بحــد ذاتــه‪ ،‬وبالتــايل تصمــم عــى إجبــار السياســيني عــى‬
‫إعطــاء األولويــة املطلقــة للملفــات املتعلقــة بالحــرب ومواجهــة أعــداء الخــارج أو الداخــل‪.‬‬
‫وألن القــوة هــي العامــل الحاســم بالنســبة لهــذه املؤسســات بعكــس املؤسســات األخــرى‪ ،‬ال‬
‫يســتطيع السياســيون بســهولة تحجيــم نفــوذ هــذه املؤسســات مــن خــال الوســائل القانونية‬
‫واإلداريــة أو حتــى عــن طريــق تعزيــز رشعيتهــم الشــعبية‪.‬‬
‫فكيــف ميكــن للقــادة السياســيني إخضــاع رشكائهــم األقوياء؟ عادة مــا يتفاوض السياســيون‬
‫ورشكاؤهــم عــى الرتاتبيــة التــي تُ َحـ ِـدد لــكل جهــة نفوذهــا يف الســلطة‪ .‬والثقل النســبي لكل‬
‫دميقراطيــا أو غــره‬
‫ً‬ ‫مؤسســة مــن املؤسســات الثــاث هــو مــا يجعــل نظا ًمــا مــا ســواء كان‬
‫وأمنيــا اســتبداديًا‪ .‬ولــذا‪ ،‬يجــب أن يبــدأ تحليــل أي نظــام بإيضــاح‬
‫خاض ًعــا لهيمنــة الجيــش ً‬
‫العالقــة بــن مكونــات "مثلــث القــوة" هــذا‪ ،‬أو إزالــة الغمــوض املحيــط بهــا‪ .‬وهــذا هــو‬
‫جوهــر الواقعيــة املؤسســية التــي تســلط الضــوء عــى الــراع املســتمر عــى الســلطة بــن‬
‫املؤسســات الباحثــة عــن مصالحهــا الذاتيــة داخــل الدولة‪ .‬إنها ال تــرى الدولة كجســم موحد‬
‫أو مرتابــط‪ ،‬بــل كمزيــج من املؤسســات لــكل منهــا أجنداتها الخاصــة لتعزيز نفوذهــا‪ ،‬والتي‬
‫قــد تكــون أحيانًــا متصارعــة فيــا بينهــا‪ -‬بغــض النظــر عــن الهــدوء الظاهــر‪ -‬ومتحالفــة‬
‫مــع بعضهــا البعــض أحيانًــا أخــرى‪ ،‬لكــن هدفهــا دامئًــا هــو تعزيــز مصالحهــا الخاصــة‪.‬‬
‫بطبيعــة الحــال‪ ،‬تــؤدي هــذه املنافســة إىل ظهــور ترتيبــات متنــح امتيــا ًزا لبعــض املصالــح‬
‫بينــا تقمــع مصالــح أخــرى‪ .‬ولكــن هــذا التــوازن القائــم ميكــن أن يختــل ملجــرد حــدوث‬
‫بعــض التغيــرات الطفيفــة يف املشــهد الداخــي أو يف الظــروف الجيوسياســية‪ ،‬مــا يســبب‬
‫جولــة جديــدة مــن الــراع تــؤدي يف النهايــة إىل تبــدل جديــد يف موازيــن القــوى‪.‬‬
‫وبهــذه الطريقــة ميكننــا مالحظــة أن نــوع النظــام يعكــس ميــزان القــوى الســائد عنــد‬
‫نقطــة زمنيــة معينــة‪ ،‬ال التسلســل الهرمــي الرســمي أو السياســات املعتمــدة‪.‬‬
‫يُعتــر انقــاب يوليــو ‪ 1952‬نقطــة جيــدة لبــدء تحليــل الــراع داخــل مثلــث الســلطة يف‬
‫مــر‪ ،‬وذلــك مــع قيــام قــادة حركــة الضبــاط األحــرار‪ -‬متا ًمــا مثــل ُص َّنــاع أي انقــاب‪-‬‬
‫بتقســيم األدوار بــن مــن يديــرون الحكومــة ومــن ميســكون بامللــف األمني ومن يســيطرون‬
‫عــى القــوات املســلحة‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫داخليــا عــى مــدى العقــود الســتة التــي‬


‫ً‬ ‫تأرجحــت مكونــات هــذا النظــام املتاميــز‬
‫أعقبــت االنقــاب بــن التعــاون والتنافــس‪ ،‬وذلــك ألن مصالحهــم‪ -‬رغــم تقاطعهــا يف‬
‫بعــض األحيــان‪ -‬ظلــت منفصلــة انفصــااًلً واض ًحــا‪ .‬واحتاجــت القيــادة السياســية لدعــم‬
‫عســكري و‪ /‬أو أمنــي للحفــاظ عــى ســلطتها يف حــال رفضــت الجامهــر االنصيــاع‬
‫لهــا‪ ،‬لكنهــا عملــت عــى إيجــاد تنافــس بــن املؤسســتني العســكرية واألمنيــة لتعزيــز‬
‫اســتقالليتها وعــدم االرتهــان ألي مــن الجهتــن‪.‬‬
‫أدركــت املؤسســة األمنيــة أن اســتمرارية نفوذهــا مرهــون باســتمرار الحكــم االســتبدادي‬
‫املطلــق‪ ،‬وأن االنتقــال إىل الدميقراطيــة سـ ُـيف ِق ُدها ســلطَتها‪ .‬أمــا الذيــن بقــوا يف الجيــش‪،‬‬
‫ـلبا عــى جاهزيتهــم القتاليــة والصــورة‬ ‫فقــد انعكــس تعاظــم الــدور الســيايس للجيــش سـ ً‬
‫العامــة للقــوات املســلحة مــا أثــار قلقهــم‪ .‬ولــذا‪ ،‬فضلــوا العــودة إىل ثكناتهــم بعــد تطبيــق‬
‫اإلصالحــات املطلوبــة‪ ،‬عــى أن يعــودوا للتدخــل فقــط عنــد الــرورة‪.‬‬
‫تب ًعــا ملصالحهــا املختلفــة‪ ،‬اسـتُدرجت املؤسســات الثالثــة ملنافســة شــديدة محتومــة للهيمنــة‬
‫عــى الحكــم‪ ،‬وهــي منافســة اندلعــت يف بيئــة داخليــة وجيوسياســية مضطربــة‪ .‬بالتأكيــد‬
‫مل يكــن الهــدف أن تقــي مؤسســة واحــدة عــى املؤسســتني األخريــن‪ ،‬بــل إخضــاع أحــد‬
‫مكونــات الكتلــة الحاكمــة لل ُمك ِّونــن األخريــن‪ .‬وعــى مــدى ســنوات‪ ،‬أدت التحالفــات‬
‫ـرة بــن مكونــات هــذه الكتلــة الثالثيــة‪ ،‬وفيــا بينهــا وبــن القــوى املتدخلــة مــن‬ ‫امل ُتغـ ِّ‬
‫داخــل البــاد وخارجهــا إىل تبــدل موازيــن القــوى تبــداًلً مســتم ًرا‪ .‬ولكــن اتحــد املكونــان‬
‫الســيايس واألمنــي شــيئًا فشــيئًا يف مســار عــام يقــي بتهميــش رشيكهــا الثالــث‪ .‬وبحلول‬
‫الســبعينيات‪ ،‬بــدأت هيمنــة الجيــش عــى النظــام‪ -‬والتــي بــدأت خمســينيات القــرن املايض‪-‬‬
‫باالنهيــار‪ .‬ففــي اليــوم الــذي تــوىل فيــه حســني مبــارك منصــب الرئاســة‪ ،‬كانــت مــر‬
‫قــد تحولــت بالفعــل مــن دولــة عســكرية إىل دولــة أمنيــة بوليســية‪ ،‬ويف اليــوم الــذي أطيــح‬
‫فيــه بــه‪ ،‬رأى الجيــش يف االنتفاضــة الشــعبية فرصتــه لالنتقــام‪.‬‬
‫يبحــث هــذا الكتــاب يف تاريــخ التكوينــات الخفية لنظــام يوليو ‪ 1952‬يف مــر‪ ،‬من البداية‬
‫إىل النهايــة‪ ،‬اســتنا ًدا إىل املصــادر األساســية‪ -‬مذكــرات ومقابــات ووثائــق ُر ِف َعــت عنهــا‬
‫الرسيــة ومقاطــع إخباريــة‪ -‬وبعــد إعــادة قراءة كميــة هائلة مــن املؤلفات الثانويــة‪ .‬ويف هذا‬

‫‪14‬‬
‫متهيد‬

‫املقــام‪ ،‬يقــول املــؤرخ إدوارد هاليــت كار(((‪ " :‬ال تقتــر املهمــة الحقيقيــة للمــؤرخ يف الكتاب‬
‫عــى مجــرد طــرح األســئلة والبحــث عــن إجاباتها وحســب‪ ،‬بــل يف العثــور عــى إجابات غري‬
‫ـا وخيــااًلً ‪ ،‬متا ًمــا بنفــس قــدر االطــاع عــى‬
‫موجــودة يف تلــك الكتــب؛ وهــذا يتطلــب فهـ ً‬
‫الحقائــق"(((‪ .‬ومتاشـ ًـيا مــع نصيحتــه القيمــة‪ ،‬يُعيــد هــذا الكتــاب ترتيــب املنعطفات الحاســمة‬
‫الخاصــة بالــراع املســتمر عــى الســلطة يف مــر منــذ ســتة عقــود‪ ،‬والــذي اســتنزف‬
‫البــاد‪ ،‬وذلــك عــر إعــادة دراســة نشــأة املؤسســات باعتبارهــا الالعــب األســايس يف الحالة‬
‫االجتامعيــة التــي يحكمهــا منطــق القــوة‪ .‬وبقــدر مــا قــد متثِّــل هــذه الدراســة إشــكالية لدى‬
‫البعــض‪ ،‬فإنهــا خطــوة أوىل رضوريــة عــى طريــق فهــم واضــح للمشــهد املــري‪ .‬ولــذا‪،‬‬
‫بــدأ امل ُ َنظِّــر الســيايس والدبلومــايس املــري املخــرم بطــرس غــايل مذكراتــه قائـ ًـا‪:‬‬
‫"يجــب عــى كل مــن يريــد الكتابــة عــن املــايض أن يــدرك أن األحــداث املهمــة نــاد ًرا مــا‬
‫تتكشــف يف رسد وتسلســل متامســك‪ ،‬ألنهــا مبعــرة عــر الزمــن‪ ...‬ولكــن مبجــرد تجميــع‬
‫الجوانــب املختلفــة ملوضــوع واحــد‪ ،‬فســتبدو أكــر ارتباطًــا مــا كانــت عليــه يف الواقــع‪.‬‬
‫فاألفــكار واألفعــال التــي تبــدو وكأنهــا حدثــت بطريقــة عشــوائية ومنفصلــة تظهــر حينهــا‬
‫يف شــكل تسلســل واضــح ومتتابــع‪ .‬هــذا مــا يفــر صعوبــة فهــم الواقــع كــا حــدث‪...‬‬
‫(((‬
‫فاملؤرخــون يصــدرون يف النهايــة أحكا ًمــا عــى تسلســل األحــداث يف شــكلها املتكامــل"‪.‬‬
‫بعــد نظــرة عامــة وموجــزة للمظــامل التــي أدت بالجيــش إىل انقــاب عــام ‪ ،1952‬ت َـ ْد ُر ُس‬
‫الفصــول الخمســة األوىل مــن الكتــاب بتفصيــل كبــر األحــداث البــارزة التــي وضعــت‬
‫مــر يف مســارها املقــدر لهــا‪ :‬أزمــة مــارس ‪1954‬؛ هزميــة يونيــو ‪1967‬؛ ثــورة مايــو ‪1971‬‬
‫"التصحيحيــة"؛ حــرب أكتوبــر ‪1973‬؛ وثــورة ينايــر ‪ .2011‬يحــدد كل فصــل تــوازن القــوى‬
‫والقضايــا املطروحــة واألحــداث الرئيســية‪ ،‬والنتيجــة التــي مهــدت الطريــق للمرحلــة التــي‬
‫تليهــا‪ .‬ويعــرض الفصــل الختامــي ثــورة ‪ 25‬ينايــر كواحــدة مــن عــدة حلقــات مــن النضــال‪،‬‬
‫فهــي التــي أعــادت ترتيــب الالعبــن وتشــكيل موازيــن القــوى متهيـ ًدا لجولــة أخــرى‪.‬‬
‫مل يقــم أي عمــل آخــر‪ -‬عــى حــد علمــي‪ -‬بدمــج السلســلة الكاملــة مــن الحلقــات التــي‬

‫‪ -1‬مؤرخ وصحفي ودبلومايس إنجليزي (‪( .)1982-1892‬املرتجم)‬


‫‪2- Jonathan Haslam, The Vices of Integrity, 136.‬‬
‫‪ -3‬بطرس غايل "طريق مرص إىل القدس"‪ ،‬ص ‪.10-9‬‬

‫‪15‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫حدثــت يف الفــرة املمتــدة مــا بــن ‪ 1952‬و‪ 2012‬يف رسد تحليــي واحــد يختــر تجلياتِهــا‬
‫بشــكل منهجــي مــن خــال منــوذج نظــري متميــز‪ .‬لقــد فاجــأت ثــورة ‪ 2011‬الكثرييــن‬
‫حقيق ـةً‪ ،‬بســبب االعتقــاد الخاطــئ بــأن النظــام املــري حافَ ـ َظ عــى طابعــه العســكري‬
‫طــوال الوقــت‪ .‬وبعبــارة أخــرى‪ ،‬تعامــل املراقبــون بإجــاع مــع دعــم الجيــش للنظــام‬
‫باعتبــاره ثابتًــا ال يتغــر‪ .‬وحتــى الزلــزال الــذي هـ َّز مــر حتــى النخاع تــرك هــذا االعتقا َد‬
‫الســائ َد كــا هــو‪ ،‬مــع إرصار ال ُكتَّــاب عــى أن القيــادة العليــا مل تتخـ َـل عــن النظــام القائــم‪،‬‬
‫إمنــا تخلــت عــن مبــارك وأعوانــه عــى مضــض ألنهــم أصبحــوا عبئًــا عليهــا‪ .‬وســبب هــذا‬
‫فعليــا كمؤسســة ذات مصالــح‬ ‫بوضــوح أن القلــة القليلــة فقــط هــي التــي نظــرت للجيــش ً‬
‫مميــزة‪ ،‬فيــا صـ َّوره اآلخــرون بــداًلً مــن ذلــك عــى أنــه ُمكمــل للنظــام‪ ،‬ووضــع الضبــاط‬
‫رئيســا للجمهوريــة‬
‫يف خانــة واحــدة مــع أي فاعــل ســيايس ذي خلفيــة عســكرية (ســواء كان ً‬
‫رئيســا للــوزراء)‪.‬‬
‫أو مدي ـ ًرا للمخابــرات أو ً‬
‫وبالتــايل‪ ،‬فــإن الكتلــة الحاكمــة مل تكــن ُمو َّحـ َدة بالشــكل الــذي افرتضــه الكثــرون‪ ،‬وهــذا‬
‫هــو املفتــاح لتفســر االنتصــار األويل لثــورة ‪ .2011‬ففــي اليــوم الــذي قــرر فيــه الشــعب‬
‫اإلطاحــة بالنظــام‪ ،‬مل يعــد الجيــش ُمســتث ِم ًرا فيــه إذ أنــه أصبــح الطــرف األقــل ُحظْ ـ َو ًة‬
‫باالمتيــازات يف التحالــف الحاكــم الــذي انبثــق عــن انقــاب عــام ‪ .1952‬فبعــد سلســلة‬
‫حــروب ومؤامــرات ومحــاوالت انقالبيــة وتح ـ ُّوالت اجتامعيــة واقتصاديــة‪ ،‬مالــت الكفــة‬
‫بشــدة داخــل التحالــف الثــايث املــري لصالــح املؤسســة األمنيــة التــي عاشــت القيــادة‬
‫السياســية يف ظلهــا قانعــة‪ ،‬فيــا أصبــح الجيــش مه َّمشً ــا‪ ،‬إن مل يكــن ُمســتب َع ًدا متا ًمــا‪.‬‬
‫بــدأ النفــوذ االقتصــادي الــذي حظــي بــه الجيــش يتضــاءل مــع سياســة الخصخصــة العنيفة‬
‫التــي انتهجهــا الرأســاليون الذيــن ســيطروا عــى الحــزب الحاكــم؛ وتضاءلــت االمتيــازات‬
‫االجتامعيــة للجيــش أمــام تلــك املمنوحــة للنخبــة األمنيــة والسياســية‪ ،‬وتدهــورت نوعيــة‬
‫الطبقــة العاملــة فيــه تدهــو ًرا ملحوظًــا نتيجــة االنهيــار االجتامعــي والتعليمــي يف ســنوات‬
‫مبــارك‪ .‬ورمبــا جعلــه اعتــاده الحــري عــى الواليــات املتحــدة يبــدو باه ـ ًرا‪ ،‬لكنــه يف‬
‫الواقــع أعــاق قدرتــه عــى إبــراز قوتــه اإلقليميــة‪.‬‬
‫لســوء حــظ الحــكام السياســيني‪ ،‬جــاءت جهــود عــزل الجيــش يف نهايــة املطــاف بنتائــج‬
‫عكســية‪ ،‬ألن نقــل مســؤولية القمــع الداخــي مــن الجيــش إىل الرشطــة أضعــف مــن قــوة‬

‫‪16‬‬
‫متهيد‬

‫ـاط يف املناصــب الحكوميــة بالرأســاليني املنتفعــن‬ ‫ـتبدال الضبـ ِ‬


‫ـرض اسـ ُ‬ ‫النظــام‪ ،‬كــا فـ َ‬
‫ر تقشــفية ال تطــاق‪ .‬وأدى اقــران هاتــن الخطوتــن إىل انــدالع الثــورة‬ ‫عــى الشــعب تدابـ َ‬
‫التــي رحبــت بهــا القــوات املســلحة بــداًلً مــن قمعهــا‪ .‬فبمجــرد خــروج النــاس إىل الشــوارع‪،‬‬
‫كان مــن الطبيعــي أن يقــف الضبــاط إىل جانبهــم‪ ،‬إذ مل تكــن الثــورة رصاصــة عليهــم‬
‫را عــى رشكائهــم املنفلتــن‪ ،‬والعــودة إىل القمــة‪.‬‬
‫تفاديهــا بــل فرصــة ذهبيــة للتغلــب أخـ ً‬
‫مــاذا عــن القــوة االقتصاديــة واأليديولوجيــة؟ أعتقــد عمو ًمــا أن هنــاك ثالثــة مصــادر‬
‫للســلطة االجتامعيــة‪ :‬قمعيــة واقتصاديــة وأيديولوجيــة‪ .‬لكــن فيــا يتعلــق بـــمؤسسات الحكــم‪،‬‬
‫فــا يعــرف عاملنــا الحديــث ســوى ثالثــة أنــواع منهــا‪ :‬السياســية والعســكرية واألمنيــة‪ .‬تُنظــم‬
‫القــوى االقتصاديــة واأليديولوجيــة يف شــبكات ومؤسســات ذات أحجــام ووظائــف مختلفــة‪،‬‬
‫وهــي موجــودة يف الغالــب يف املجتمــع املــدين وال تؤثِّــر عــى الدولــة إال مــن خــال إحــدى‬
‫مؤسســات الحكــم الثــاث‪ .‬وهــذا هــو ســبب ذكــر االقتصــاد واأليديولوجيــا يف هــذا الكتــاب‬
‫وفــق عالقتهــا مــع املكونــات الثالثــة للكتلــة الحاكمــة‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫مقدمة‪ :‬العد التنازيل النقالب يوليو ‪1952‬‬

‫مقدمة‪ :‬العد التنازيل النقالب يوليو ‪1952‬‬

‫نــاد ًرا مــا تتوافــق نتيجــة الثــورة مــع ّنيــات أولئــك الذيــن يبدؤونهــا‪ ،‬ويُ َعـ ُّد انقــاب ‪1952‬‬
‫ونيــات أولئــك الذيــن‬
‫وثــورة ‪ 2011‬يف مــر دليـ ًـا ناص ًعــا عــى ذلــك‪ .‬لكــن فهــم خلفيــة ّ‬
‫حاولــوا اإلطاحــة بحكامهــم يســاعد يف فهــم منطــق األنظمــة التــي أنتجوهــا عــن غــر‬
‫قصــد‪ .‬إذًا‪ ،‬مــا الــذي ألهــم بالضبــط النقــاب ‪ 23‬يوليــو ‪ 1952‬الــذي نفَّذتــه مجموعــة‬
‫رسيــة مــن صغــار الضبــاط‪ ،‬أطلقــوا عــى أنفســهم اســم "حركــة الضبــاط األحــرار"‪ ،‬ومهــد‬
‫الطريــق للنظــام املــري الجديــد؟‬
‫احتــل الربيطانيــون مــر عــام ‪ 1882‬بحجــة حاميــة الســيادة املرصيــة مــن الجيــش‬
‫املــري نفســه‪ .‬وبعبــارة أخــرى‪ ،‬عندمــا تدخــل أســافهم يف الجيــش يف السياســة‬
‫للمطالبــة مبزيــد مــن الحقــوق للضبــاط واملواطنــن كانــت النتائــج كارثيــة‪ .‬عاشــت مــر‬
‫عقــو ًدا مــن الزمــن تحــت رحمــة االنتــداب االســتعامري الخانــق الــذي مل يكتـ ِ‬
‫ـف باســتغالل‬
‫مواردهــا وطــرد ملوكهــا وحكوماتهــا الذيــن خالفــوا إرادتــه وحســب‪ ،‬بــل تــرك الجيــش‬
‫أيضــا يعــاين مــن نقــص يف الكــوادر وســوء يف التجهيــز وضعــف يف التدريــب ال يــكاد‬ ‫ً‬
‫يؤهلــه ســوى لالســتعراضات العســكرية‪.‬‬
‫حتــى عندمــا حصــل املرصيــون عــى اســتقالل اســمي يف عــام ‪ 1923‬ووضعــوا دســتورهم‪،‬‬
‫كان املدنيــون قبــل أربــع ســنوات قــد أشــعلوا ثــورة ضخمــة بقيــادة حــزب الوفــد الليــرايل‬
‫دون أي مشــاركة مــن الجيــش‪ .‬واألســوأ مــن ذلــك‪ ،‬أنــه حتــى بعــد ثالثــة عقــود مــن هــذه‬
‫الثــورة املجيــدة‪ ،‬بقيــت اليــد الربيطانيــة هــي العليــا يف مــر‪ .‬فلــم يســتطع امللــك فــاروق‪،‬‬
‫الشــاب الواعــد الــذي اعتــى العــرش عــام ‪ 1936‬وهــو يف ســن السادســة عــرة‪ ،‬أن يحكــم‬
‫بحريــة مــع متركــز الجيــش الربيطــاين عــى بعــد أميــال قليلــة مــن عاصمتــه‪ ،‬و ُعلــق فشـلُه‬
‫بالنظــام الربملــاين الضعيــف يف البــاد‪ .‬ولتأكيــد االمتيــاز امللــي يف مواجهــة حــزب الوفــد‬
‫ذي األغلبيــة الشــعبية‪ ،‬بــدأ باختــاق املــررات‪ -‬باالتفــاق مــع الربيطانيــن أحيانًــا‪ -‬لحــل‬
‫الربملــان ورفــض الحكومــات املنتخبــة وتســليم امللكيــن زمــام الحكــم‪ .‬حتــى أنــه ذهــب‬
‫إىل حــد تشــكيل فرقــة اغتيــال رسيــة تُعــرف باســم "الحــرس الحديــدي"" للتخلــص مــن‬
‫خصومــه السياســيني‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫أخالقيــا التحالــف مــع أي طــرف مبــا يف ذلــك‬


‫ً‬ ‫وبــدوره رأى حــزب الوفــد أنــه مــن املــرر‬
‫الربيطانيــن لضــان حقــه الدميقراطــي يف قيــادة الربملــان والســلطة التنفيذيــة‪ .‬مل تُلحــق‬
‫لعبــة القــط والفــأر هــذه بــن امللكيــة وحــزب األغلبيــة الــرر بالسياســة الداخليــة فحســب‪،‬‬
‫بــل عــززت نفــوذ الربيطانيــن بشــكل أكــر‪ .‬وأدى االســتياء مــن السياســات الرســمية إىل‬
‫تحويــل الطاقــة الشــعبية تجــاه حركــة دينيــة صاعــدة ادعــت أن االســتقالل الوطنــي ال‬
‫ميكــن تحقيقــه إال مــن خــال اإلصــاح األخالقــي وااللتــزام الصــارم باإلســام‪ .‬فكانــت‬
‫جامعــة اإلخــوان املســلمني‪ ،‬وهــي جامعــة تأسســت عــام ‪ 1928‬يف مدينــة اإلســاعيلية عىل‬
‫ســاحل قنــاة الســويس‪ ،‬واكتســبت أتبا ًعــا جــد ًدا يو ًمــا بعــد يــوم‪ .‬ويف أواخــر األربعينيــات‬
‫مــن القــرن املــايض‪ ،‬تضخــم حجمهــا ليصــل إىل مليــوين مؤيــد وهــو مــا مثّــل ‪ %10‬مــن‬
‫ســكان مــر‪.‬‬
‫كانــت هــذه هــي مــر التــي بلــغ فيهــا معظــم الضبــاط األحــرار العقــد الثالــث مــن‬
‫عمرهــم حــن وقــع االنقــاب‪ .‬لكــن السياســة مل تكــن الــيء الوحيــد الــذي يــدور يف‬
‫أذهــان هــؤالء األعضــاء الوطنيــن يف "حركــة الضبــاط األحــرار"‪ ،‬فالفــوارق االجتامعيــة‬
‫والركــود االقتصــادي كانــا يف ذلــك الوقــت عا ِملَــن مقلقــن بنفــس القــدر‪ .‬ورغــم أن أكــر‬
‫مــن نصــف ســكان مــر البالــغ عددهــم ‪ 21‬مليونًــا كانــوا يعملــون يف الزراعــة‪ ،‬إال أن‬
‫اثنــي عــر أل ًفــا مــن مــاك األرايض الكــرى واملتوســطة ســيطروا عــى ثلــث األرايض‬
‫الصالحــة للزراعــة‪ ،‬ويف مقدمتهــم ‪ 147‬عائلــة مــن النخبــة املرصيــة‪ ،‬بينــا ظــل مــا‬
‫يقــرب مــن ‪ 11‬مليــون فــاح بــا قطعــة أرض ميلكونهــا‪ .‬أ ِمـ َـل املراقبــون آنــذاك بــأن تعمــل‬
‫الطبقــة الرأســالية الناشــئة التــي شــجعها تدفــق الــروة املفاجــئ عــى تســوية املشــكالت‬
‫االجتامعيــة مــن خــال كــر االحتــكار االقتصــادي للطبقــة القدميــة مــن املُــاك‪.‬‬
‫جمــع التجــار املرصيــون ثــروات كبــرة مــن خــال بيــع القطــن‪ -‬املنتَــج الرئيــي للتصديــر‬
‫يف البــاد‪ -‬بأســعار ضاعفتهــا الحــرب األهليــة األمريكيــة يف ســتينيات القــرن التاســع‬
‫عــر‪ ،‬ومــرة أخــرى مــن خــال تحقيــق أقــى اســتفادة مــن تزايــد الطلــب الناجــم عــن‬
‫الحربــن العامليتــن‪ .‬لكنهــم مــع ذلــك تباطــأوا يف التحــول إىل مجــال التصنيــع‪ .‬ففــي‬
‫خمســينيات القــرن املــايض‪ ،‬ســاهم القطــاع الصناعــي بنســبة ‪ %8‬فقــط مــن الدخــل‬

‫‪20‬‬
‫مقدمة‪ :‬العد التنازيل النقالب يوليو ‪1952‬‬

‫(((‬
‫القومــي‪ ،‬وكان معظــم عــال مــر البالــغ عددهــم ‪ 1.3‬مليــون عامـ ًـا مــن الحرفيــن‪.‬‬
‫ـا عــى تغيــر‬ ‫واألهــم مــن ذلــك‪ ،‬أن الصناعيــن الناشــئني يف البــاد مل يُبــدوا تصميـ ً‬
‫النظــام سياسـ ًـيا‪ .‬بينــا يف البلــدان الناميــة األخــرى‪ ،‬خاصــة تلــك التــي كانــت تعــاين مــن‬
‫االســتعامر كمــر‪ ،‬شــجع الرأســاليون االنقالبــات عــادةً‪ ،‬وبعــد الفشــل يف تفكيــك النخبــة‬
‫الحاكمــة أو تقاســم الســلطة معهــا والخــوف مــن القــوى الشــعبية الراديكاليــة والحــرص‬
‫عــى تطويــر الصناعــة يف البــاد بــأرسع مــا ميكــن‪ ،‬اختــار الرأســاليون تســليم الســلطة‬
‫السياســية إىل إدارة قويــة قــادرة عــى حاميــة وتعزيــز مصالحهــم االقتصاديــة‪ .‬وهــذا يعنــي‬
‫أن الربجوازيــة أعطــت الســيف للديكتاتوريــة العســكرية إلنقــاذ رؤوس أموالهــم‪.‬‬
‫يف الفــرة التــي ســبقت االنقــاب‪ ،‬امتلكــت مــر كل املقومــات التــي أيــدت مثــل هــذا‬
‫الســيناريو‪ ،‬فحافظــت طبقــة مــاك األرايض املنعزلــة يف األغلــب عــى مكانتهــا رافضــة‬
‫الدعــوات الســتصالح األرايض وقاومــت تطويــر الزراعــة واســتغاللها لجني األربــاح‪ ،‬وفضلت‬
‫تبديــد ثروتهــا عــى االســتهالك الواضــح للكامليــات املســتوردة‪ .‬واألخطــر مــن ذلــك أنهــا‬
‫ق َّو َضــت الطلــب املحــي يف الريــف مــن خــال خفــض األجــور ورفــع اإليجــارات‪ .‬عــاوة عىل‬
‫ذلــك‪ ،‬شــعر الرأســاليون بالعجــز الســيايس أمــام هــذه الطبقــة املالكــة‪ ،‬حيــث حــازوا فقــط‬
‫عــى ‪ ٪14‬مــن مقاعــد الربملــان املنتَ َخــب قبل االنقــاب (عــام ‪ ،)1950‬يف مقابــل ‪ ٪63‬لصالح‬
‫مــاك األرايض‪ (((.‬يف الوقــت نفســه‪ ،‬غـذَّى االحتالل الربيطاين والفســاد امللحــوظ يف الحياة‬
‫ـول الراديكاليــة والفاشــية بني الطــاب واملهنيــن والعامل‪ ،‬ومل تكــن املظاهرات‬ ‫السياســية امليـ َ‬
‫واإلرضابــات واالغتيــاالت السياســية يف ســنوات مــا بعــد الحــرب مواتيــة لألعــال التجاريــة‪.‬‬
‫يف هــذه األثنــاء‪ ،‬تعاظــم نفــوذ "حركــة الضبــاط األحــرار" وأصبحــوا ضمــن الطبقــة‬
‫الوســطى يف هــرم النظــام املــري‪ .‬ورغــم حــرص الربيطانيــن لفــرة طويلــة عــى إبقــاء‬
‫الجيــش محــدو ًدا يف الحجــم وحــره باألرســتقراطيني امل ُســاملني‪ ،‬إال أن القــوة املتصاعــدة‬
‫‪ -1‬انظــر‪ :‬عبــد الرحمــن الرافعــي (ثــورة ‪ 23‬يوليــو ‪ :1952‬تاريخنــا القومــي يف ســبع ســنوات‪ ،)1959-1952 ،‬دار‬
‫املعــارف ‪ .1989‬وطــارق البــري (الحركــة السياســية يف مــر‪ )1953-1945 ،‬دار الــروق‪2002 ،‬؛ وأنــور عبــد‬
‫امللــك‪( ،‬املجتمــع املــري والجيــش)‪ ،‬نيويــورك‪ :‬رانــدوم هــاوس‪.1968 ،‬‬
‫‪ -2‬عــي الديــن هــال‪ ،‬والســيد زهــرة‪ ،‬وضيــاء رشــوان‪ ،‬ودينــا الخواجــة (االنتخابــات النيابيــة يف مــر مــن ســعد‬
‫زغلــول إىل حســني مبــارك)‪ ،‬يف (التطــور الدميقراطــي يف مــر‪ :‬قضايــا ومناقشــات) تحريــر عــي الديــن‬
‫هــال‪ ،‬مكتــب نهضــة الــرق‪ ،1986 ،‬ص ‪.243‬‬

‫‪21‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫للنازيــة أجربتهــم عــى مراجعــة موقفهــم وإعــداد قــوة ميكــن االعتــاد عليهــا إىل حــد مــا‬
‫يف األيــام الصعبــة امل ُق ِبلَــة‪ ،‬ومــن هنــا دخلــت الطبقــة الوســطى‪ -‬مــن أبنــاء مــاك األرايض‬
‫املتوســطني واملهنيــن والتجــار‪ -‬إىل الجيــش‪ ،‬فهــم القــادرون فعـ ًـا عــى القتــال واملواجهــة‪.‬‬
‫كجــزء مــن التحضــر لحــرب محتملــة‪ ،‬أعــادت املعاهــدة الربيطانيــة‪ -‬املرصيــة عــام ‪1936‬‬
‫توزيــع الضبــاط الربيطانيــن يف منطقــة قنــاة الســويس اإلســراتيجية ووافقــت عــى‬
‫زيــادة عــدد الجيــش املــري للدفــاع عــن املــدن وتقديــم الدعــم اللوجســتي للربيطانيــن‪.‬‬
‫عــى مــدى العقــد التــايل‪ ،‬ازداد تعــداد الجيــش مــن ثالثــة آالف إىل مئــة ألــف جنــدي‪،‬‬
‫ورغــم تقليــص هــذا العــدد بعــد انتهــاء الحــرب العامليــة الثانيــة وتأديــة الجيــش لــدوره‬
‫ـبيا حيــث بلــغ ســتة وثالثــن ألــف جنــدي‪.‬‬‫را نسـ ً‬‫املطلــوب منــه فقــد ظــل العــدد كب ـ ً‬
‫انتمــى مؤسســو "حركــة الضبــاط األحــرار" إىل الدفعــة األوىل مــن شــباب الطبقة الوســطى‬
‫الذيــن انضمــوا إىل الكليــة الحربيــة أواخــر الثالثينيــات (مثانيــة مــن قــادة الحركــة األحــد‬
‫أرضــا)‪ ،‬وكانــوا مســتائني بطبيعــة الحــال مــن امتيازات‬
‫عــر جــاءوا مــن عائــات ال متلــك ً‬
‫أيضــا أن الضبــاط املرصيــن بحكــم صالتهــم‬ ‫النخبــة املالكــة لــأرايض‪ (((.‬ومــن املُ تَصـ َّور ً‬
‫بالجيــش الربيطــاين تعلمــوا تقديــر أهميــة الدولــة الدميقراطيــة الحديثــة‪ ،‬وأدركــوا أن‬
‫ســيطرتهم عــى وســائل العنــف تضعهــم يف أفضــل موقــع لتغيــر حــال مجتمعهــم‪.‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬متســك الرأســاليون املرصيــون باألرســتقراطية القدميــة حتــى النهايــة‪ .‬ورغــم‬
‫رغبتهــم بالتخلــص مــن هــذه الطبقــة امل ُب ـ ِّذ َرة والفاشــلة‪ ،‬إال أنهــم فضلــوا التعايــش معهــا‬
‫عــى الثــورة‪ .‬أشــار واقــع القطــاع الصناعــي املحــدود يف مــر حينهــا إىل ضعــف الطبقــة‬
‫العاملــة يف البــاد وتشــتتها بحيــث مل ميكنهــا التقــدم يف محاولــة للوصــول إىل الســلطة‪.‬‬
‫رمبــا كان تزايــد الراديكاليــة يف املــدن مقل ًقــا‪ ،‬لكنهــا كانــت بالتأكيــد بعيــدة كل البعــد عــن‬
‫أن تشــكل تهديـ ًدا‪ .‬لقــد اعتقــد الرأســاليون أنــه ال يــزال هنــاك وقــت لإلصــاح‪ ،‬كــا مل‬
‫يتوقعــوا أن تحــدث ثــورات ضخمــة للفالحــن‪ ،‬فقــد امتلكــت الدولــة املرصيــة (التــي ميكــن‬
‫مقارنتهــا بروســيا عــام ‪ ،1905‬وليــس فرنســا عــام ‪ )1789‬وســائل لبســط ســيطرتها املحكمــة‬
‫عــى الريــف‪ .‬وكنظرائهــم الــروس يف عــام ‪ ،1917‬ارتــاب الرأســاليون املرصيــون مــن‬

‫‪ -1‬طارق البرشي‪( ،‬الحركة السياسية يف مرص‪ ،)1945-1953 :‬دار الرشوق‪ ،2002 ،‬ص ‪.539-541‬‬

‫‪22‬‬
‫مقدمة‪ :‬العد التنازيل النقالب يوليو ‪1952‬‬

‫قيــادة ثــورة ضــد طبقــة مــاك األرايض‪ ،‬والتــي قــد تنعكــس ضدهــم يف النهايــة‪ :‬فبينــا‬
‫كانــت الربجوازيــة ال تــزال تــدرس خياراتهــا بــدا أن انقــاب عــام ‪ 1952‬يطــرح مخر ًجــا‬
‫معق ـواًلً ‪ ،‬حيــث وعــد بتقويــض نفــوذ ُمــاك األرايض الكبــار وتشــجيع الصناعــة وإبقــاء‬
‫االضطرابــات االجتامعيــة تحــت الســيطرة‪.‬‬
‫لذلــك رحــب الرأســاليون يف البدايــة باالنقــاب‪ ،‬رغــم أنــه مل يكــن لهــم أي دور فيــه ومل‬
‫يتمكنــوا مــن الســيطرة عــى القــوى التــي قامــت بــه‪ .‬ومل يكــن الضبــاط األحــرار ملتزمــن‬
‫بــيء تجــاه الليرباليــن الســاعني إىل تحديــث مــر لصالــح الرأســالية‪ .‬غــر أنهــم‬
‫اش ـتُهِروا بتنوعهــم األيديولوجــي‪ :‬فــكان بعضهــم إســاميني‪ ،‬وبعضهــم اآلخــر اشــراكيني‬
‫أو شــيوعيني أو فاشــيني‪ ،‬فيــا كان العديــد منهــم براغامتيــن‪ .‬ومل يفكــر معظمهــم يف‬
‫العــودة إىل الثكنــات بعــد إبعــاد النخبــة السياســية الفاســدة‪.‬‬
‫ـا إلنقــاذ الطبقــة الرأســالية املنكوبــة وال لتحديــث مــر‬‫إذا‪ ،‬إن مل يكــن االنقــاب ُم َص َمـ ً‬
‫وإضفــاء الطابــع الدميقراطــي عليهــا‪ ،‬فــا الــذي دفــع لحدوثــه ح ًقــا؟‬
‫إن بحثًــا موجـ ًزا يف العقــد الــذي أدى إىل االنقــاب يعطينــا ثالثــة عوامــل أثــرت بشــكل‬
‫مبــارش عــى صــورة الجيــش ومصالــح حركــة الضبــاط‪ :‬أو ًاًل‪ ،‬اإلذالل يف الداخــل والخــارج؛‬
‫ثان ًيــا‪ ،‬تزايــد االعتــاد عــى الجيــش يف القمــع الداخــي؛ وثالثًــا‪ ،‬نقــل الســيطرة عــى‬
‫الشــؤون العســكرية مــن الحكومــة املنتخبــة إىل امللــك‪.‬‬
‫ال َحـ َظ معظــم املؤرخــن التأثــر الســلبي ملــا يســمى بحــادث ‪ 4‬فربايــر ‪ ،1942‬عندمــا وقــف‬
‫الضبــاط املتمركــزون حــول القــر امللــي عاجزيــن أمــام الدبابــات الربيطانيــة التــي‬
‫حارصتهــم وأجــرت امللــك فــاروق تحــت تهديــد الســاح‪ -‬بشــكل أو بآخــر‪ -‬عــى اســتبدال‬
‫الحكومــة املشــتبه يف تعاطفهــا مــع النازيــن‪ -‬بأخــرى بقيــادة حــزب الوفــد الليــرايل‪.‬‬
‫ورغــم أن امللــك مل يــد ُع الجيــش للتدخــل‪ ،‬إال أن كربيــاء الضبــاط أصيــب بشــكل مبــارش‬
‫وهــم يشــاهدون الســفري الربيطــاين الســر مايلــز المبســون (اللــورد كيلــرن) ميــي أوامــره‬
‫عــى امللــك دون أن يســتطيعوا التــرف حيــال هــذا اإلذالل‪.‬‬
‫بعــد ثالثــة أيــام التقــى أربعامئــة ضابــط‪ ،‬مبــن فيهــم مؤســس وقائــد حركــة الضبــاط‬
‫األحــرار املقــدم جــال عبــد النــارص‪ ،‬يف نــادي الضبــاط وقــرروا تنظيــم مقاومــة ضــد‬

‫‪23‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫القــوات الربيطانيــة‪ ،‬فأرســلوا وف ـ ًدا برئاســة ضابــط املدفعيــة صــاح ســامل إلبــاغ امللــك‬
‫بقرارهــم‪ ،‬إال أن األخــر حــذره مــن أن مثــل هــذا االســتفزاز لــن ينفــع وســيدفع بريطانيــا‬
‫(((‬
‫ملزيــد مــن التصعيــد‪.‬‬
‫ألقــى هــذا الحــادث بظاللــه الســيئة لــدى الضبــاط تجــاه النخبــة السياســية بأكملهــا‪ :‬امللــك‬
‫الجبــان الــذي أطــاع اإلمــاءات األجنبيــة‪ ،‬وحــزب األغلبيــة االنتهــازي الــذي شـكَّل حكومـ ًة‬
‫تحــت وصايــة أجنبيــة‪ ،‬والربيطانيــون بطبيعــة الحــال‪ .‬ويف رســالة إىل صديــق لــه يف‬
‫املدرســة‪ ،‬أبــدى عبــد النــارص تحــره قائـ ًـا‪" :‬أشــعر بالخجــل مــن ضعــف جيشــنا"‪ (((.‬أمــا‬
‫نصبــه عبــد النــارص الح ًقــا كرئيــس‬ ‫اللــواء محمــد نجيــب مــن حــرس الحــدود‪ ،‬والــذي َّ‬
‫صــوري لالنقــاب‪ -‬معتق ـ ًدا أن أقدميتــه ســتضفي مصداقيــة عــى االنقــاب‪ -‬فقــد قــدم‬
‫اســتقالته بعــد أن فشــل الجيــش يف حفــظ رشف البــاد‪ ،‬ووصــف الحــادث يف مذكراته بأنه‬
‫مبثابــة نقطــة تحــول أقنعتــه بــأن هنــاك حاجــة لتغيــر النظــام‪ (((.‬كــا ســلطت مذكــرات‬
‫أيضــا الضــو َء عــى هــذه الواقعــة املؤملــة‪ ،‬كضابــط ســاح‬ ‫كبــار الضبــاط األحــرار اآلخريــن ً‬
‫الفرســان خالــد محــي الديــن‪ ،‬الــذي َج ـ َر َد مــع عبــد النــارص أكوا ًمــا مــن كتــب التاريــخ‬
‫والفلســفة واستكشــف حــركات سياســية مختلفــة بحثًــا عــن مخــرج ملــر‪ ،‬والرائــد يف‬
‫ســاح اإلشــارة أنــور الســادات‪ ،‬الــذي ســجنه الربيطانيــون أثنــاء الحــرب بســبب أنشــطته‬
‫رسا إىل الحــرس الحديــدي للملــك تزام ًنــا مــع عضويتــه يف‬ ‫املؤيــدة ألملانيــا قبــل أن ينضــم ً‬
‫حركــة الضبــاط األحــرار‪.‬‬
‫مثبطــة للهمــم‪ ،‬فقــد حدثــت الكارثــة العســكرية الحقيقيــة‬
‫وبقــدر مــا كانــت هــذه الحادثــة ّ‬
‫بعــد ســت ســنوات يف فلســطني‪ .‬أدى تأســيس إرسائيــل عــى الحــدود الرشقيــة ملــر إىل‬
‫تدخــل مبــارش مــن قبــل الجيــش املــري ضــد هــذا الكيــان الجديــد غــر املرغــوب فيــه‪.‬‬
‫أيضــا محاولــة‬
‫و ُوضعــت العمليــة يف ســياق الدفــاع عــن الحقــوق الفلســطينية‪ ،‬لكنهــا كانــت ً‬
‫مــن قبــل امللــك لتأديــة دور قيــادي يف العــامل العــريب الســتعادة بعض مــن هيبتــه املفقودة‪.‬‬
‫تطــوع العــرات مــن الضبــاط املرصيــن للمســاعدة يف منــع الصهاينــة مــن ســلب أرض‬
‫‪ -1‬كــال حســن عــي‪" ،‬مشــاوير العمــر‪ :‬أرسار وخفايــا ســبعني عامــا مــن عمــر مــر يف الحــرب واملخابــرات‬
‫والسياســة"‪ ،‬دار الــروق‪ ،1994 ،‬ص ‪.50‬‬
‫‪2- Said K. Aburish, Nasser: The Last Arab. New York: St. Martin’s Press,2004, 18–19.‬‬
‫رئيسا ملرص"‪ ،‬القاهرة‪ :‬املكتب املرصي الحديث‪ ،1984 ،‬ص ‪.67-66‬‬ ‫‪ -3‬محمد نجيب‪" ،‬كنت ً‬

‫‪24‬‬
‫مقدمة‪ :‬العد التنازيل النقالب يوليو ‪1952‬‬

‫الفلســطينيني‪ ،‬لكنهــم قلقــوا بشــأن تــورط الجيــش يف حــرب رســمية‪ ،‬فالجيــش املــري‬
‫مل يخــض حربًــا منــذ عــام ‪ 1882‬عندمــا حــاول عبثًــا منــع الغــزو الربيطــاين ملــر‪ .‬لــذا‬
‫كانــت حــرب فلســطني ‪ 1948‬أول اشــتباك عســكري للجيــش منــذ أكــر مــن نصــف قــرن‪.‬‬
‫عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬مل يكــن الجيــش مســتع ًدا متا ًمــا مــن حيــث التدريــب والتجهيــز‪ ،‬فقــد‬
‫ـوش دول ُمس ـتَع َم َرة أخــرى يف مجهودهــم الحــريب‪ -‬ال ســيام‬ ‫اســتخدم الربيطانيــون جيـ َ‬
‫الجيــش الهنــدي‪ -‬إال أنهــم احتفظــوا بالقــوات املرصيــة للدعــم اللوجســتي‪.‬‬
‫أدركــت هيئــة األركان عــدم رغبــة الجيــش يف القتــال‪ ،‬كــا دعمــت الحكومــة املنتخبــة‬
‫هــذا التوجــه‪ ،‬لكــن امللــك فــاروق خالـ َـف كالم قــادة الجيــش والــوزراء وأرســل الجنــود إىل‬
‫حتفهــم‪ ،‬حيــث لحقــت بهــم هزائــم متكــررة‪ .‬كانــت معنويــات الجيــش منخفضــة للغايــة‬
‫لدرجــة أن مثانيــة وعرشيــن ضابطًــا وألفــن ومئــة جنــدي اعتُ ِقلــوا يف ســاحة املعركــة‬
‫بتهمــة التمــرد بــن شــهري ســبتمرب وديســمرب ‪ ،1948‬و ُر ّحلــوا إىل مــر‪ (((.‬تحولــت‬
‫املأســاة إىل فضيحــة بعــد أن كشــفت جلســات مجلــس الشــيوخ املــري يف عــام ‪1949‬‬
‫أن الحكومــات األوروبيــة حرصــت عــى التخلــص مــن أســلحتها املتكدســة مــن الحربــن‬
‫العامليتــن‪ ،‬فعرضــت عــى حاشــية امللــك عمــوالت كبــرة لقــاء مســاعدتها يف التخلــص‬
‫منهــا‪ (((.‬ولزيــادة الطــن بلــة‪ُ ،‬وضــع اســم عبــد النــارص ليشــارك يف الوفــد الــذي أُرســل‬
‫يف فربايــر ‪ 1949‬إىل جزيــرة رودس اليونانيــة للتفــاوض عــى أول هدنــة عربيــة إرسائيليــة‪،‬‬
‫يف هزميــة سياســية ال تقــل إهانــة عــن الهزميــة العســكرية‪.‬‬
‫ســاهمت هــذه الهزائــم املدمــرة بــا شــك يف دفــع الضبــاط نحــو املشــهد الســيايس‪ .‬وليــس‬
‫ـص املنشــور األول الــذي وزعــه الضبــاط األحــرار يف نوفمــر‬
‫خصـ َ‬
‫مــن قبيــل املصادفــة أن يُ َ‬
‫‪ 1949‬إلدانــة املســؤولني عــن كارثــة فلســطني‪ ،‬وأن يشــجب البيــان األول الــذي أصــدروه‬
‫بعــد االنقــاب السياســيني الخونــة املســؤولني عــن هزميــة الجيش عــام ‪ (((.1948‬يف رســالة‬
‫أخــرى إىل صديقــه يف املدرســة‪ ،‬أشــار قائــد الضبــاط األحــرار جــال عبــد النــارص إىل‬
‫صــورة جنــوده "الرصعــى أمــام التحصينــات‪ ...‬بعــد أن اســتخدموا معــدات رديئــة اشــرتها‬

‫‪ -1‬محمد حسنني هيكل‪" ،‬سقوط نظام‪ :‬ملاذا كانت ثورة يوليو ‪ 1952‬الزمة؟"‪ ،‬دار الرشوق‪.407 ،2003 ،‬‬
‫‪ -2‬البرشي‪ ،‬الحركة السياسية يف مرص‪ ،‬ص ‪.395‬‬
‫‪ -3‬رفعــت ســيد أحمــد‪" ،‬ثــورة الجــرال‪ :‬قصــة جــال عبــد النــارص كاملــة‪ ،‬مــن امليــاد إىل املــوت (‪،)1970-1918‬‬
‫دار الهــدى‪ ،1993 ،‬ص ‪.73‬‬

‫‪25‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫حاشــية امللــك مــن صغــار الســارسة الذيــن اســتفادوا مــن الحــرب عــر تحقيــق عمــوالت‬
‫ضخمــة مــن صفقــات األســلحة"‪ (((.‬كــا تحــدث يف رســالته عــن تــرك كتيب ِتــه دون خرائــط‬
‫أو خيــام ودون دعــم لوجســتي‪ ،‬وأنــه خضــع مــع رجالــه لتعليــات متناقضــة مــن ضبــاط‬
‫القــر غــر األكفــاء‪ .‬قــى عبــد النــارص خــال هــذه الحــرب أســابيع تحــت الحصــار‬
‫يف قريــة الفالوجــة الفلســطينية‪ ،‬ليــدرك هــو وزمــاؤه الح ًقــا أن القيــادة املدنيــة مســؤولة‬
‫بالكامــل عــا حصــل معهــم‪ .‬أمــا نجيــب الــذي أصيــب مرتــن خــال الحــرب فقــد توصــل‬
‫(((‬
‫إىل النتيجــة نفســها‪" :‬لقــد كان العــدو الحقيقــي يف القاهــرة"‪.‬‬
‫ورغــم ذلــك فقــد ســاء الوضــع أكــر‪ ،‬حيــث عــاد الجنــود الغاضبــون إىل ديارهــم ليجــدوا‬
‫اآلالف مــن املواطنــن ُمحتَ َجزيــن يف مراكــز االعتقــال‪ ،‬ألن امللــك رأى يف حــرب فلســطني‬
‫فرصــة جيــدة إلعــان األحــكام العرفيــة وإســكات املعارضــة‪ ،‬وتوقــع أن يُنهي الجيــش املهمة‬
‫ويقمــع املتظاهريــن املدنيــن‪ ،‬خاصــة بعــد أن ثبــت أن والء الرشطــة للملــك ليــس ُمطلَ ًقــا‪.‬‬
‫ففــي أكتوبــر ‪ 1947‬نظَّــم ســبعة آالف ضابــط رشطــة إرضابــات مناهضة للحكومة اســتمرت‬
‫عــى فــرات متقطعــة حتــى عــام ‪ (((.1952‬وازدادت األمــور تعقي ًدا مــع تراجــع بريطانيا عن‬
‫وعدهــا باالنســحاب مــن مــر بعد الحــرب‪ .‬واحتجا ًجــا عىل ذلــك‪ ،‬ألغت الحكومــة املرصية‬
‫يف أكتوبــر ‪ 1951‬املعاهــدة اإلنجليزيــة‪ -‬املرصيــة املوقَّعــة عــام ‪1936‬مــن جانــب واحــد‪،‬‬
‫فوقــع الجيــش املــري يف موقــف حــرج‪ .‬أضفــت املعاهــد ُة رشعية عــى الوجــود الربيطاين‬
‫رســميا لتصبــح قــوة احتــال‪.‬‬ ‫ً‬ ‫يف منطقــة قنــاة الســويس‪ ،‬ولكــن بريطانيــا اآلن عــادت‬
‫شــجعت الحكومــة يف خطابهــا املواطنــن عــى شــن هجــات مســلحة ضــد املنشــآت‬
‫الربيطانيــة‪ ،‬لكنهــا طلبــت بعــد ذلــك مــن الجيــش منعهــا‪ .‬وبعــد شــهرين مــن ذلــك‪ ،‬بــدأت‬
‫القــوات الربيطانيــة يف تجريــف القــرى إليوائهــا مســلحني مرصيــن مــا أدى إىل تفجــر‬
‫املوقــف‪ .‬وبعــد حادثــة قريــة كفــر عبــده التــي هدمهــا الربيطانيــون‪ ،‬أرســل الضبــاط‬
‫عريضــة إىل امللــك والحكومــة يطلبــون فيهــا اإلذن بالدفــاع عــن الســيادة املرصيــة‪ ،‬لكــن‬
‫الســلطات تجاهلتهــا متا ًمــا‪ .‬وبعــد شــهر‪ ،‬احتــل ســبعة آالف جنــدي بريطــاين مدينــة‬
‫اإلســاعيلية املطلــة عــى قنــاة الســويس‪ ،‬فأمــرت الحكوم ـ ُة الرشط ـ َة باملقاومــة وقُتــل يف‬
‫‪1- Aburish, Nasser: The Last Arab, 24‬‬
‫رئيسا ملرص"‪ ،‬ص ‪.72‬‬
‫‪ -2‬نجيب‪" ،‬كنت ً‬
‫‪ -3‬البرشي‪" ،‬الحركة السياسية يف مرص"‪ ،‬ص ‪.295-292‬‬

‫‪26‬‬
‫مقدمة‪ :‬العد التنازيل النقالب يوليو ‪1952‬‬

‫رشطيــا و ُجــرح مثانــون أخريــن‪ .‬ومنــذ ذلــك الحــن‪ ،‬بــات يــوم‬


‫ً‬ ‫املعركــة الداميــة خمســون‬
‫‪ 25‬ينايــر مــن كل عــام عيـ ًدا لتكريــم شــهداء الرشطــة (انطلقت ثــورة ‪ 2011‬يف ذلــك اليوم‬
‫لتأكيــد التفــاوت بــن مواقــف الرشطــة البطوليــة باألمــس‪ ،‬ومواقفهــا الوحشــية اليــوم)‪ .‬يف‬
‫صبــاح اليــوم التــايل‪ ،‬أرضم املحتجــون النــار وســط القاهــرة‪ ،‬وصــدرت أوامــر للجيــش‬
‫بحفــظ األمــن يف البــاد لكــن الضبــاط شــعروا حينهــا بــأن نظامهــم فقــد كل رشعيتــه‬
‫خاصــة بعــد أن شُ ـ ِّكلَت أربــع حكومــات تبا ًعــا يف فــرة قصــرة وبشــكل رسيــع مــن ينايــر‬
‫إىل يوليــو ‪ (((.1952‬لقــد بــات مــن الواضــح حينهــا أن هنــاك فرا ًغــا يف الســلطة يف مــر‪،‬‬
‫وأن جميــع القــوى السياســية تريــد اقتنــاص الفرصــة ألنهــا ببســاطة مل تفكــر يف القــوة إال‬
‫(((‬
‫مــن منظــور "قــوة األعــداد‪ ،‬وقــوة الجامهــر ال قــوة الســاح"‪.‬‬
‫را عــى الضبــاط‪ ،‬ومتثّــل‬ ‫را كب ـ ً‬‫مثــة عا ِمــل أخــر‪ ،‬وإن كان أقــل إثــارة إال أنــه أثَّــر تأث ـ ً‬
‫بتوســع هيمنــة امللــك عــى الشــؤون العســكرية‪ .‬فقــد ســعى طــوال فــرة حكمــه النتــزاع‬ ‫ُّ‬
‫الســيطرة الفعليــة عــى الجيــش مــن الحكومــات املنتخبــة‪ .‬وكدليــل عــى قوتــه الرمزيــة‪،‬‬
‫ـر شــعار الجيــش يف أكتوبــر ‪ 1944‬مــن "اللــه‪ ،‬الوطــن‪ ،‬امللــك" ليصبــح "اللــه‪ ،‬امللــك‪،‬‬ ‫غـ َّ‬
‫ـف برفــض محاســبته عــى قــراره املشــؤوم بإرســال الجيــش إىل حــرب‬ ‫الوطــن"‪ .‬ومل يكتـ ِ‬
‫فلســطني‪ ،‬بــل طالــب بحــق تعيــن وزيــر الحربيــة ورئيــس األركان وإنشــاء املنصــب الجديــد‬
‫ـن فيــه شـ ً‬
‫ـخصا يديــن بالــوالء لــه وحــده‪ ،‬ويكــون‬ ‫املســمى بـــ "قائــد القــوات املســلحة" ليعـ ِّ َ‬
‫مســؤواًلً عــن جميــع التعيينــات والرتقيــات العســكرية‪.‬‬
‫والســرضائه‪ ،‬وافقــت حكومــة الوفــد عــام ‪ 1950‬عــى التخــي عــن حقهــا الدســتوري يف‬
‫الســيطرة عــى الجيــش‪ .‬وعــى الفــور‪ ،‬رشع فــاروق يف العمــل لتحقيــق مــا يريــد‪ ،‬وشــملت‬
‫قامئــة غــر األكفــاء الذيــن عينهــم يف مناصــب قياديــة بالجيــش صهــره الدبلومــايس وآمـ َر‬
‫ســجنٍ فاســد((( أجــرا الســجناء عــى حــرث أراضيــه باملجــان‪ .‬وأراد فــاروق قبــل أيــام‬
‫مــن االنقــاب تنصيــب ضابــط حــرس حــدود ماكــر‪ -‬بالــكاد نجــا مــن االغتيــال عــى يــد‬

‫‪ -1‬كــال حســن عــي‪" ،‬مشــاوير العمــر‪ :‬أرسار وخفايــا ســبعني عا ًمــا مــن عمــر مــر يف الحــرب واملخابــرات‬
‫والسياســة"‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪2- Selma Botman, The Rise of Communism in Egypt, NY: Syracuse University Press, 1988, 116.‬‬
‫‪ -3‬يقصد حيدر باشا رئيس مصلحة السجون‪ ،‬والذي عينه امللك وزي ًرا للحربية‪( .‬امل ُراجِع)‬

‫‪27‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫عبــد النــارص(((‪ -‬يف أعــى منصــب عســكري يف الدولــة‪ ،‬مــا اعتُــر أحــد األســباب املبــارشة‬
‫ـر محمــد نجيــب عــن االســتياء العــام داخــل املؤسســة العســكرية عندمــا‬ ‫لالنقــاب‪ .‬عـ َّ‬
‫اشــتىك ملقربــن منــه مــن أن الجيــش ال يســتطيع االنصيــاع لقيــادة عليــا مكونــة مــن تجــار‬
‫أســلحة وســارسة أرايض وعنــارص إجراميــة أخــرى‪ (((.‬ويف ينايــر ‪ ،1952‬انتُخــب نجيــب‬
‫رئيســا لنــادي الضبــاط متقد ًمــا عــى املرشــح امللــي‪ ،‬فبــدا واض ًحــا أن القــر بــدأ يفقــد‬
‫ً‬
‫والء املؤسســة العســكرية‪.‬‬
‫مــن املؤكــد أن املظــامل املؤسســية التــي تفاقمــت‪ ،‬تفــر ســبب االنقــاب الــذي نفذتــه‪ -‬أو‬
‫ســمحت بــه عــى األقــل‪ -‬القــوات املســلحة ككل‪ .‬وبغــض النظــر عــن الدوافــع االجتامعيــة‬
‫أو السياســية أو األيديولوجيــة لزعــاء حركــة الضبــاط‪ ،‬فقــد نجــح االنقــاب ألن عــرات‬
‫الضبــاط والجنــود رأوه يصــب يف صالــح مؤسســتهم‪ .‬فمــن وجهــة نظرهــم‪ ،‬مل يهــدف‬
‫االنقــاب لتعطيــل دور املؤسســة العســكرية بــل إلعــادة ترســيخه‪ .‬لقــد أرادوا تحريــر مــر‬
‫مــن االحتــال األجنبــي وإقامــة نظــام مــدين ُمصلَــح مــن شــأنه تعزيــز القــوة العســكرية‬
‫واســتعادة مصداقيتهــا‪ .‬ومل يفكــروا يف تــويل الســلطة السياســية وال إدارة برنامــج تحديــث‬
‫اجتامعــي اقتصــادي ينهــض بالدولــة‪ ،‬إذ نبههــم الفشــل الرسيــع للحكومــات العســكرية يف‬
‫العــراق (بــن عامــي ‪ 1936‬و‪ )1941‬وســوريا (بــن عامــي ‪ 1949‬و‪ )1951‬إىل االضطــراب‬
‫املصاحــب ألي حكــم عســكري‪ .‬لكــن عبــد النــارص ورفاقــه املقربــن يف حركــة الضبــاط‬
‫اعتقــدوا خــاف ذلــك‪ ،‬فقــد وقعــوا أرسى لنمــوذج إصالحــات الضابــط الــريك الثــوري‬
‫مصطفــى كــال أتاتــورك يف عرشينيــات وثالثينيــات القــرن املــايض‪ ،‬ورأوا يف االنقــاب‬
‫مجــرد خطــوة أوىل يف طريــق "ثــورة مــن األعــى" طويلــة وبعيــدة املــدى مــن شــأنها أن‬
‫تبنــي دولــة مركزيــة قويــة ذات اقتصــاد صناعــي حديــث‪ .‬وهنــا تكمــن جــذور الــراع‬
‫الــذي سيســتهلك البــاد عــى مــدى العقــود الســتة املقبلــة‪.‬‬

‫‪ -1‬يقصد اللواء حسني رسي عامر‪( .‬امل ُراجِع)‬


‫رئيسا ملرص"‪ ،‬ص ‪.67‬‬
‫‪ -2‬نجيب‪" ،‬كنت ً‬

‫‪28‬‬
‫الفصل األول‬
‫الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬


‫ليلــة ‪ 23‬يوليــو ‪ ،1952‬اســتوىل مثانــون ضابطًــا مــن الرتــب املتوســطة وبرضبــة واحــدة‬
‫عــى قيــادة القــوات املســلحة‪ ،‬واعتقلــوا جميــع اللــواءات‪ -‬باســتثناء الذيــن أيــدوا االنقــاب‪-‬‬
‫وطــردوا الضبــاط مــن رتبــة عميــد إىل رتبــة مقــدم ممــن مل يشــاركوا يف االنقــاب‪ .‬سـ ّهل‬
‫امللــك فــاروق عملهــم بطريقتــن‪ :‬فرغــم أن الســخط الكامــن يف املؤسســة العســكرية‬
‫أشــار إىل انقــاب وشــيك‪ ،‬فقــد غــادر امللـ ُـك العاصم ـ َة متوج ًهــا إىل قــره الصيفــي يف‬
‫اإلســكندرية" كاملعتــاد‪ .‬ومبجــرد أن تلقــى أخبــا ًرا عــن تحــركات غــر طبيعيــة يف الجيــش‪،‬‬
‫أمــر بعقــد اجتــاع طــارئ للقيــادة العليــا مبقــر الجيــش يف القاهــرة مــا ســهل عــى‬
‫الضبــاط األحــرار القبــض عــى كل القــادة وشــل التسلســل الهرمــي يف املؤسســة‪ ،‬فبــات‬
‫امللــك بــدون جيشــه عاج ـ ًزا متا ًمــا‪.‬‬
‫را أن عالقاتــه مــع‬ ‫ِ‬
‫الواليــات املتحــد َة للحصــول عــى دعمهــا‪ ،‬معتــ ً‬ ‫ناشــد فــاروق‬
‫الربيطانيــن قــد توتــرت بعــد أزمتــه معهــم يف حــادث فربايــر ‪ ،1942‬لكــن األمريكيــن‬
‫رأوا أن الوقــت حــان النقــاب تغيــري يف مــر يضــع حـ ًدا للفــوىض السياســية والركــود‬
‫االقتصــادي خشــية أن تنجــرف البــاد إىل الشــيوعية‪ -‬يف سياســة مامثلــة للتــي اعتمدوهــا‬
‫يف أمريــكا الالتينيــة‪ .‬إىل جانــب ذلــك‪ ،‬أخــر الضبــا ُط األحــرار الســفار َة األمريكيــة بنيتهــم‬
‫االنقــاب عــى امللــك قبــل وقــت قصــر مــن تنفيــذ تحركهــم‪ ،‬وتعهــدوا بحاميــة املصالــح‬
‫األمريكيــة‪ .‬وبدورهــا‪ ،‬أقنعــت الواليــات املتحــدة الربيطانيــن بعــدم التدخــل لحاميــة عــرش‬
‫امللــك الــذي ال يحبونــه أصـ ًـا‪ ،‬فأُجــر األخــر عــى التنــازل عــن عرشــه‪ ،‬وغــادر مــر‬
‫للمــرة األخــرة يف ‪ 2‬أغســطس (((‪.1952‬‬
‫نظَّــم زعــاء االنقــاب أنفســهم يف "مجلــس قيــادة الثــورة" املكــ َّون مــن أربعــة عــر‬
‫تقريبــا‬
‫ً‬ ‫عض ـ ًوا لتــويل الســلطة التنفيذيــة ريثــا تُنتخــب حكومــة جديــدة‪ .‬تشــكل املجلــس‬
‫مــن أعضــاء اللجنــة التنفيذيــة لحركــة الضبــاط أنفســهم‪ .‬وحفاظًــا عــى الرسيــة‪ ،‬لجــأت‬
‫الحركــة إىل اتخــاذ شــكل خاليــا دون تسلســل هرمــي أو فــروع أو لجــان‪ .‬فالضابــط املجنــد‬
‫حديثًــا يف تنظيــم الضبــاط األحــرار‪ -‬مــن خــال توصيــة عبــد النــارص عــادةً‪ ،‬ومبوافقتــه‬

‫‪ -1‬هذا خطأ من املؤلف حازم قنديل‪ ،‬فقد غادر امللك مرص يف ‪ 26‬يوليو ‪ 1952‬بعد ‪ 3‬أيام من االنقالب (امل ُراجِع)‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫دامئًــا‪ -‬يعــرف فقــط األعضــاء يف خليتــه واســمني مــن أعضــاء اللجنــة التنفيذيــة‪ ،‬ووحــده‬
‫عبــد النــارص يعــرف أســاء أعضــاء التنظيــم كافــة‪.‬‬
‫لضــان والء الجيــش‪ ،‬ضمــت اللجنــة التنفيذيــة ومجلــس قيــادة الثــورة الــذي حــل محلهــا‬
‫بعــد االنقــاب مبــارشة ضباطًــا مــن جميــع أقســام املؤسســة العســكرية‪ :‬أربعــة مــن املشــاة؛‬
‫ثالثــة مــن ســاح الفرســان؛ ثالثــة مــن ســاح الجــو؛ اثنــن مــن ســاح املدفعيــة؛ وواحــد‬
‫مــن ســاح اإلشــارة‪ ،‬وآخــر مــن حــرس الحــدود‪ .‬لكــن الثقــل الحقيقــي يف املجلــس متثّل يف‬
‫ســاح املشــاة‪ ،‬فالرجــال الثالثــة الذيــن ســيطروا الح ًقــا عــى القــرار الســيايس والعســكري‬
‫واملؤسســة األمنيــة يف مــر كانــوا مــن املشــاة‪ .‬فالرئيــس القــادم ملــر جــال عبــد‬
‫النــارص هــو القائــد الفعــي للضبــاط األحــرار‪ ،‬وعبــد الحكيــم عامــر الــذي ســيصبح قريبًــا‬
‫القائــد العــام للقــوات املســلحة هــو "شــقيق الــروح لنــارص" منــذ اليــوم الــذي التحــق فيــه‬
‫بالجيــش‪ .‬أمــا مهنــدس الجهــاز األمنــي الجديــد يف مــر زكريــا محــي الديــن فهــو ابــن‬
‫عــم الرفيــق املثقــف لعبــد النــارص خالــد محــي الديــن (الــذي َمثَّــل ســاح الفرســان يف‬
‫مجلــس قيــادة الثــورة)‪ ،‬لكنــه متيــز عــن كليهــا بصالبتــه ومزاجــه الهــادئ ونظرتــه الثاقبــة‬
‫وصمتــه الطويــل‪ .‬كــا أنــه شــديد الدقــة وذو توجــه أمنــي‪ ،‬ويُشــار إليــه عــادة باســمه‬
‫األول لفصلــه عــن ابــن عمــه ولتشــابه دوره مــع "برييــا"((( رجــل ســتالني األمنــي املخلــص‪،‬‬
‫وهــو الــذي خطــط لالنقــاب وقــاد الوحــدات التــي حــارصت امللــك يف اإلســكندرية‪ .‬أمــا‬
‫الرائــد صــاح نــر مــن كتيبــة املشــاة الثالثــة عــر فهــو مــن الصــف الثــاين داخــل حركــة‬
‫الضبــاط (وأصبــح فيــا بعــد رئيــس املخابــرات العامــة) وقــد أدى عمـ ًـا رئيســيًا يف حاميــة‬
‫النظــام الجديــد خــال أيامــه األوىل يف الســلطة‪ .‬فيــا تعــرض ضابــط املشــاة يوســف‬
‫صديــق الــذي مل ينتــمِ إىل هــذه املجموعــة للضغــط الشــديد مــا دفعــه لالســتقالة مــن‬
‫مجلــس قيــادة الثــورة ومغــادرة البــاد يف مــارس ‪.1953‬‬
‫بدورهــم‪ ،‬أعطــى أعضــاء مجلــس قيــادة الثــورة‪ -‬الذيــن مل تكــن لديهــم قوات عــى األرض‬
‫تفويضــا مطل ًقــا لعبــد النــارص‬
‫ً‬ ‫يرجعــون إليهــا‪ ،‬كأنــور الســادات وممثــي ســاح الجــو‪-‬‬
‫الــذي ض َّمهــم إىل الحركــة‪ .‬ولــذا‪ ،‬كانــت غالبيــة أصــوات مجلــس قيــادة الثــورة يف صالحــه‬
‫دامئًــا‪ ،‬ومل يعــرض طريقــه ســوى الرئيــس الصــوري اللــواء محمــد نجيــب الــذي اختــاره‬
‫هــو بنفســه‪ ،‬وخالــد محــي الديــن صاحــب الــروح الحــرة وامليــول اليســارية املتزايــد‪.‬‬
‫رئيسا لجهاز الرشطة الرسية السوفيتي يف عهد ستالني‪( .‬املرتجم)‬
‫‪ -1‬الفرينتي برييا (‪ )1953-1899‬عمل ً‬

‫‪31‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫مبجــرد إنشــاء مجلــس قيــادة الثــورة‪ ،‬و َّجــه عبــد النــارص مســاعده صــاح نــر إلعــداد‬
‫قامئتــن‪ :‬قامئــة بأســاء الضبــاط ذوي التفكــر املســتقل الذيــن قــد يُع ّرضــون أمــن النظام‬
‫الناشــئ للخطــر‪ ،‬وأخــرى بأســاء أولئــك الذيــن ينتمــون إىل "الضبــاط األحــرار" بهــدف‬
‫احتــواء طموحاتهــم السياســية‪ .‬وبحســب مذكــرات نــر‪ ،‬أُحيــل مثامنئــة ضابــط مــن أصــل‬
‫ثالثــة آالف وخمســمئة يف القامئــة األوىل للتقاعــد‪ ،‬وكُلــف اآلخــرون مبهــام إداريــة داخــل‬
‫الجيــش‪ ،‬و ُعــن البقيــة يف وظائــف مدنيــة‪ .‬ويف املقابــل‪ُ ،‬وضــع ثالمثئــة وتســعة وعــرون‬
‫ضابطًــا مــن القامئــة الثانيــة تحــت الرقابــة الصارمــة قبــل رفــع الرقابــة عنهــم جمي ًعــا‬
‫تقريبــا يف غضــون عامــن‪ .‬والغريــب أن واحـ ًدا وســبعني ضابطًــا آخــر قُتلــوا يف "حــوادث‬ ‫ً‬
‫عشــوائية" بــن مــارس وديســمرب ‪ .1953‬وللحفــاظ عــى والئهــم‪ ،‬قيــل للضبــاط املبعديــن‬
‫أن دورهــم كممثلــن للقيــادة يف املناصــب املدنيــة رضوري إلحــداث ثــورة بريوقراطيــة يف‬
‫(((‬
‫مؤسســات الدولــة‪.‬‬
‫متكنــت عمليــات التطهــر مــن تحقيــق هدفــن برضبــة واحــدة‪ :‬فقــد قضــت عــى قــوة‬
‫الضبــاط األحــرار يف الجيــش‪ ،‬بينــا شــكلت شــبكة مواليــة مــن أصحــاب املناصــب داخــل‬
‫الهيــكل اإلداري للدولــة‪ .‬يف يونيــو ‪ ،1953‬أنشــأ مجلــس قيــادة الثــورة "الحــرس الجمهــوري"‬
‫الــذي ســعى عــى حــد تعبــر قائــده األول عبــد املحســن أبــو النــور للدفــاع عــن النظــام‬
‫الجديــد يف مواجهــة املعارضــن داخــل الجيــش‪ .‬ويف أكتوبر مــن نفس العام‪ ،‬أُســس الحرس‬
‫ـرا‪ ،‬فــرض القانــو ُن رقم ‪ 505‬لعــام ‪1955‬‬ ‫الوطنــي لتدريــب املدنيــن املوالــن للثــورة‪ (((.‬أخـ ً‬
‫ووســع نطــاق ترقية ضباط الصــف إىل ضباط‪ ،‬فالجيــوش الكبرية يصعب‬ ‫التجنيـ َد اإلجبــاري َّ‬
‫إرشاكهــا يف أي انقــاب‪ .‬وبعــد ذلــك اسـتُخدم الجيــش لتحييــد التهديــدات السياســية التــي‬
‫شــكلها فلــول العهــد امللــي و ُمـ ّـاك األرايض‪ ،‬وكذلــك العــال والفالحــن املعارضــن‪ .‬وهنــا‬
‫بــدأ الضبــاط االنقالبيــون الذيــن ســيطروا عــى الحكــم بقــوة يف مناقشــة مســتقبل الدولــة‪.‬‬
‫كــا هــو الحــال يف معظــم الحــاالت‪ ،‬أدى نجــاح االنقــاب إىل انقســام فــوري يف الجيــش‬
‫بــن الراغبــن يف العــودة إىل الثكنــات واســتئناف واجبهــم املهنــي‪ ،‬واملتطلعــن إلقامــة‬

‫‪ -1‬صــاح نــر‪" ،‬مذكــرات صــاح نــر‪ ،‬الجــزء األول‪ :‬الصعــود"‪ ،‬القاهــرة‪ :‬دار الخيــال‪ ،156 ،1999 ،‬ص ‪.186‬‬
‫(عنــد مراجعــة هــذه املعلومــة يف مذكــرات صــاح نــر يف املوطــن الــذي أشــار لــه حــازم قنديــل يف الطبعــة‬
‫املذكــورة مل نجدهــا) ‪( .‬امل ُرا ِجــع)‬
‫‪ -2‬عبد املحسن أبو النور‪" ،‬الحقيقة عن ثورة ‪ 23‬يوليو"‪ ،‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪ ،2001 ،‬ص ‪.34‬‬

‫‪32‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫ـس‬
‫نظــام عســكري إلحــداث ثــورة يف املجتمــع تبــدأ مــن رأس الهــرم‪ .‬طــال االنقســا ُم مجلـ َ‬
‫ـا مــن‬‫قيــادة الثــورة ومــا دونــه مــن التشــكيالت‪ .‬لقــي املؤيــدون للعــودة إىل الثكنــات دعـ ً‬
‫نجيــب‪ -‬الرئيــس الصــوري للمجلــس‪ -‬وخالــد محــي الديــن العضــو األنضــج فكريًــا بــن‬
‫قــادة االنقــاب باإلضافــة إىل الكتلــة ذات الــوزن داخــل ســاح املدفعيــة والفرســان مــن‬
‫ذوي التوجــه الدميقراطــي واملهنــي داخــل الجيــش‪ .‬يف املقابــل‪ ،‬اصطــف دعــاة "الثــورة‬
‫مــن رأس الهــرم" خلــف عبــد النــارص‪ -‬القائــد الفعــي ملجلــس القيــادة‪ -‬وأعضــاء الصــف‬
‫الثــاين مــن الضبــاط األحــرار مــن مالزمــن ونقبــاء ممــن مل يكــن لهــم دور مهــم قبــل‬
‫االنقــاب إمنــا بــرز والؤهــم يف ســاح املشــاة ويف التشــكيالت الصغــرة كالقــوات الجويــة‬
‫والرشطــة العســكرية واالســتخبارات محــدودة الحجــم حتــى ذلــك الحــن‪ .‬دفعــت املواجهــة‬
‫بــن املعســكرين بــن عامــي ‪ 1952‬و‪ 1954‬مــر إىل مســار مضطــرب‪ ،‬وأســفرت عــن‬
‫نظــام جديــد للبــاد كنتيجــة حددتهــا إىل حــد كبــر إســراتيجياتهام املختلفــة للغايــة‪.‬‬

‫قوة موقف عبد النارص‬


‫عــر خطــاب جــال عبــد النــارص الــذي ألقــاه أمــام عــال الغــزل والنســيج يف ‪20‬‬ ‫َّ‬
‫ديســمرب ‪ 1953‬مبصنــع شــرا الخيمــة‪ ،‬عــن موقــف الضبــاط الراغبــن بالبقــاء يف‬
‫الســلطة‪ ،‬حيــث رصح بــأن "الجيــش مل يقــم بهــذه الثــورة ليحكــم أو ليقــود‪ ...‬أحــد أهدافنــا‬
‫األوىل هــو اســتعادة الحيــاة النيابيــة الحقيقيــة‪ ...‬لكننــا شــعرنا بالفــزع مــن املســاومات‬
‫واملطالــب واملنــاورات والخــداع‪ ...‬لــذا‪ ،‬قررنــا أن هــذا البلــد ال ينبغــي أن تحكمــه طبقــة‬
‫مــن السياســيني املرتزقــة"‪ (((.‬أو كــا كتــب الح ًقــا يف كتابــه "فلســفة الثــورة"‪ ،‬إن الضبــاط‬
‫األحــرار اعتــروا أنفســهم طليعــة األمــة‪ ،‬وأنهــم بحاجــة فقــط التخــاذ الخطــوة األوىل‬
‫لتشــجيع الجامهــر عــى اتباعهــم‪ .‬لكــن الذيــن ســعوا الســتغالل الثــورة هــم التافهــون مــن‬
‫(((‬
‫فلــول النخبــة القدميــة‪.‬‬
‫صحيــح أن عبــد النــارص هــو الــذي دعــا نجيــب لالنضــام إىل االنقــاب يف اللحظــة‬
‫األخــرة‪ ،‬معتقـ ًدا أن ضابطــا برتبــة لــواء ذا شــعبية كبــرة مــن شــأنه أن يضيــف مصداقيــة‬
‫إىل حركــة يقودهــا ضبــاط يف مطلــع الثالثينيــات مــن العمــر‪ ،‬مــا يضمــن دعــم الكثــر‬
‫‪ -1‬عبــد الرحمــن الرافعــي‪" ،‬ثــورة ‪ 23‬يوليــو ‪ :1952‬تاريخنــا القومــي يف ســبع ســنوات‪ ،"1959-1952 ،‬ص ‪.54 -53‬‬
‫‪ -2‬جامل عبد النارص‪" ،‬وثائق ثورة يوليو" دار املستقبل العريب‪ ،1991 ،‬ص ‪.6-5‬‬

‫‪33‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫مــن الضبــاط غــر املؤدلجــن سياسـ ًـيا‪ ،‬لكنــه راقبــه منــذ البدايــة عــن كثــب ألنــه علــم أن‬
‫الرؤســاء عــادة مــا تــزداد شــهوتهم للحكــم مبجــرد أن يجــدوا لذتــه‪ .‬ولهــذا الســبب‪ ،‬أحــاط‬
‫رئيســا‬
‫نجيــب بأفــراد مــن حاشــيته‪ .‬فبعــد تعيينــه يف منصــب الرئاســة‪ ،‬عمــل عبــد النــارص ً‬
‫ـن صدي َقــه الحميــم النقيــب عبــد املحســن أبــو النــور قائ ـ ًدا للحــرس‬ ‫ملجلــس الــوزراء و َعـ َّ‬
‫الجمهــوري (وحــدة النخبــة املكلفــة بحاميــة الرئيــس)‪ .‬كــا عقــد عبــد النــارص اجتامعــات‬
‫أســبوعية غــر رســمية مــع أعضــاء مجلــس قيــادة الثــورة لتنســيق مواقفهــم قبــل االجتــاع‬
‫مــع نجيــب الــذي تــرأس املجلــس‪ (((.‬لكــن تكتيــكات االحتــواء هــذه مل تكــن ســوى جــزء‬
‫يســر مــن خطــة عبــد النــارص الشــاملة لتوطيــد ســلطته‪ ،‬والتــي اعتمــدت عــى ثــاث‬
‫ركائــز‪ :‬بنــاء قــوة أمنيــة راســخة‪ ،‬اســتبدال مراكــز النفــوذ الحاليــة بجهــاز ســيايس جديــد‪،‬‬
‫وحشــد الدعــم الجيوســيايس‪.‬‬
‫أ‪ -‬الهيكلية األمنية‬
‫يُعتقــد يف معظــم األنظمــة االســتبدادية أن كــرة األفــرع األمنيــة تعــزز تدابــر األمــن‪،‬‬
‫وتُبقــي صانــع القــرار عــى اطــاع أكــر مــن أي صاحــب نفــوذ مبفــرده‪ ،‬وتســمح لــه‬
‫بتقســيم منافســيه والتغلــب عليهــم عنــد الــرورة‪ .‬تب َّنــى عبــد النــارص هــذه السياســة‬
‫بالكامــل‪ ،‬ودفعــه لذلــك جنــون العظمــة الغريــزي لديــه‪ .‬فقــد كلَّــف أجهــزة األمــن املدنيــة‬
‫والعســكرية مبهــام متامثلــة‪ ،‬وأنشــأ يف كل قطــاع عــدة هيئــات متنافســة‪ ،‬مــا أنتــج مجتم ًعــا‬
‫أمنيــا متعــدد الــرؤوس ينطــوي عــى العديــد مــن املشــكالت والعقبــات‪ ،‬وأثبــت هــذا نجا ًحــا‬
‫ً‬
‫را يف القمــع الداخــي‪.‬‬‫كب ـ ً‬
‫شــغل عبــد النــارص منصــب وزيــر الداخليــة كأول منصــب رســمي لــه بعــد االنقــاب‪،‬‬
‫فوجــد حينهــا بنيــة تحتيــة مناســبة للبنــاء عليهــا‪ .‬عــى مــدى ســبعة عقــود ماضيــة‪،‬‬
‫طــ َّور الربيطانيــون يف مــر جهــاز الرشطــة الرسيــة الــذي أنشــأوه عــام ‪ ،1882‬كــا‬
‫أنشــأوا وزارة الداخليــة يف مــارس ‪ ،((( 1895‬تالهــا يف عــام ‪" 1911‬القســم الخــاص"‬
‫للمراقبــة الداخليــة(((‪ .‬كــا أرســلوا ضباطًــا مرصيــن للتدريــب يف لنــدن وباريــس وســانت‬
‫‪ -1‬نرص‪" ،‬مذكرات صالح نرص‪ ،‬الجزء األول‪ :‬الصعود"‪ ،‬ص ‪.226‬‬
‫‪ -2‬تأسست وزارة الداخلية يف عهد سعيد باشا عام ‪ 1857‬وليس كام ذكر حازم قنديل‪( .‬امل ُراجِع)‬
‫‪ -3‬تأســس قســم الخدمــة الرسيــة يف عــام ‪ 1910‬بينــا تأســس قســم املخصــوص عــام ‪ 1919‬وليــس كــا يذكــر‬
‫حــازم قنديــل (امل ُرا ِجــع)‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫بطرســرغ‪ (((.‬ورغــم وعــود الضبــاط األحــرار بإلغــاء الرشطــة الرسيــة ســيئة الســمعة‪ ،‬إال‬
‫أنــه رسعــان مــا اتضــح أن عبــد النــارص اعتــزم تعزيــز دورهــا وربطهــا بخططــه وأهدافــه‪.‬‬
‫يف األربعينيــات مــن القــرن املــايض‪ ،‬بــات االعتقــال الســيايس أمـ ًرا معتــا ًدا ضد املنشــقني‪،‬‬
‫خاصــة بعــد إعــادة تعريــف الجرائــم السياســية يف عــام ‪ 1937‬لتشــمل أي تعبري عــن ازدراء‬
‫الحكومــة‪ .‬مل يكــن ازديــاد االعتقــاالت نتيجــة لتفاقــم الحنــق الربيطــاين يف الســنوات‬
‫أيضــا نتيجــة لتعزيــز قــدرة الدولــة‬
‫التــي ســبقت الحــرب العامليــة الثانيــة فحســب‪ ،‬بــل ً‬
‫توســعت يف أواخــر الثالثينيــات لتشــمل معســكرات االعتقــال‬ ‫عــى القمــع‪ .‬فالســجون مثـ ًـا َّ‬
‫التــي بُنيــت إمــا يف الصحــراء (مثــل معســكرات الهايكســتيب والطــور والواحــات) أو يف‬
‫ضواحــي املــدن (مثــل طــره وأبــو زعبــل والقناطــر)‪ .‬خــال ســنوات الحــرب‪ ،‬احتُجــز يف‬
‫هــذه املعســكرات مــا مجموعــه أربعــة آالف معتقــل ســيايس‪ ،‬وبحلــول مطلــع الخمســينيات‬
‫بلــغ العــدد خمســة وعرشيــن أل ًفــا‪ ،‬وتُشــر التقديــرات إىل أن مئــة ألــف مــري اعتقلــوا‬
‫يف هــذه الســجون خــال عهــد عبــد النــارص(((‪.‬‬
‫أيضــا مــن األمثلــة األخــرى عــى تعزيــز قــدرات النظــام‪ ،‬فقــد ورث‬
‫املراقبــة والتجســس ً‬
‫عبــد النــارص النظــام الــذي أطلــق عليــه الربيطانيــون اســم "عــن املدينــة"‪ ،‬النســخة‬
‫"الب َّصاصــن" الــذي تأســس يف مــر منــذ قــرون‪ .‬هــذا النظــام‬ ‫العرصيــة مــن نظــام َ‬
‫يف أصلــه عبــارة عــن شــبكة واســعة مــن املخربيــن‪ ،‬أو بشــكل أكــر دقــة مــن األشــخاص‬
‫العاديــن الذيــن يُبلّغــون عــن أي أنشــطة مشــبوهة لقــاء مكافــآت زهيــدة؛ ويشــمل هــؤالء‬
‫والحاّملــن والباعــة وســائقي ســيارات األجــرة ومشــغيل الهاتــف وغريهــم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املتســولني‬
‫ورغــم زيــادة قــدرات االعتقــال واملراقبــة‪ ،‬اتضــح أن النظــام امللــي الحاكــم مل يكــن فعااًلً ‪-‬‬
‫وإال ملــا اســتطاع الضبــاط األحــرار التحايــل عليــه‪ .‬لــذا‪ ،‬اهتــم عبــد النــارص أواًلً بســد‬
‫الثغــرات املوجــودة يف النظــام‪ .‬ويف أكتوبــر ‪ ،1953‬بعــد بحــث وتحقيــق ملــدة أربعــة أشــهر‪،‬‬
‫نقــل عبــد النــارص مســؤولياته الوزاريــة إىل مســاعده األمنــي عضــو مجلــس قيــادة الثــورة‬
‫زكريــا محــي الديــن‪ ،‬وهــو رجــل قليــل الــكالم يعمــل مبنهجيــة ويحقــق نتائــج متميــزة‪.‬‬
‫‪1- Laleh Khalili, and Jillian Schwedler, "Introduction," in Policing and Prisons in the Middle‬‬
‫‪East: Foundations of Coercion, ed. Laleh Khalili and Jillian Schwedler, New York: Columbia‬‬
‫‪University Press, 2010, 13.‬‬
‫‪2- Anthony Gorman. "Confining Political Dissent in Egypt Before 1952", in ibid, 158–69.‬‬

‫‪35‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫زكريا محي الدين‬

‫يــروي الصحفــي املــري محمــد حســنني هيــكل أنــه ُصـ ِـد َم خــال لقائــه األول بزكريــا‬
‫يف أكتوبــر ‪ ،1951‬حــن وجــده يُقــدم طواعيــة تقاريــر مكافحــة التجســس إىل القيــادة‬
‫السياســية رغــم كونــه ضابــط مشــاة وحســب‪ (((.‬بــات زكريــا منــذ ذلــك الحــن مســؤواًلً‬
‫عــن إعــادة هيكلــة جهــاز األمــن يف مــر بالكامــل‪ .‬وعــى عكــس جميــع الضبــاط األحــرار‬
‫تقريبــا‪ ،‬فقــد تــويف يف مايــو ‪ 2012‬عــن عمــر يناهــز أربعــة وتســعني عا ًمــا‪ ،‬دون الكشــف‬
‫ً‬
‫عل ًنــا عــن دوره التأســييس يف النظــام‪.‬‬
‫رغــم أن ضبــاط الرشطــة مل يشــاركوا يف االنقــاب‪ ،‬إال أن الضبــاط األحــرار وجهــوا زكريــا‬
‫مســبقًا إىل تعزيــز عالقاتــه مــع بعــض رجــال الرشطــة الذيــن اســتاءوا مــن النظــام‪ .‬مل‬
‫تتوفــر لدينــا قامئــة بجهــات اتصالــه بهــم‪ ،‬لكننــا نعلــم أنــه باالعتــاد عــى بعــض رجــال‬
‫الرشطــة مدعومــن بالعديــد مــن مســاعديه العســكريني‪ ،‬أعــاد تشــكيل جهــاز الرشطــة بعــد‬
‫فصــل أربعمئــة مــن ضباطهــا البالــغ عددهــم ثالثــة آالف‪ (((.‬بعــد ذلــك‪ ،‬تحــول "القســم‬
‫الخــاص" القديــم إىل جهــاز اســتخبارات جديــد باســم "مديريــة املباحــث العامــة" تحــت‬
‫إرشاف ضبــاط مــن املخابــرات الحربيــة‪ ،‬إذ متتــع بقــدرات وصالحيــات موســعة‪ ،‬وأعيــد‬
‫تســميته يف عــام ‪ 1971‬باســم مباحــث أمــن الدولــة‪.‬‬
‫بعــد جمعــه بــن منصبــه الــوزاري ومنصــب مديــر املخابــرات الحربيــة‪ ،‬أعــاد زكريــا توجيــه‬
‫أيضــا نحــو األمــن الســيايس الداخــي‪ ،‬أي مراقبــة املعارضــن املرصيــن‬ ‫هــذا الجهــاز ً‬

‫‪ -1‬هيكل‪" ،‬سقوط نظام‪ ،‬ملاذا كانت ثورة يوليو ‪ 1952‬الزمة؟"‪ ،‬ص ‪.507‬‬
‫‪2- Sirrs, A History of the Egyptian Intelligence Service, 37.‬‬

‫‪36‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫بــداًلً مــن التجســس عــى جيــوش الــدول األخــرى كــا كان مــن املفــرض أن يفعــل‪ (((.‬ويف‬
‫ـاط املخابــرات الحربيــة ملســاعدته عــى إنشــاء أول جهــاز‬ ‫ـض ضبـ ِ‬ ‫ديســمرب ‪ ،1953‬اختــار بعـ َ‬
‫اســتخبارات مــدين يف مــر ُســمي بـــ "جهــاز املخابــرات العامــة" وترأســه ملــدة ســنتني‪.‬‬
‫ـب منــه تجنيــد مجموعــة مــن الضبــاط العســكريني املوالــن وتدريبهــم كعمــاء‬ ‫كــا طُلِـ َ‬
‫قريبــا‬
‫أمنيــن وتعيينهــم يف وحــدة املخابــرات التــي يديرهــا عبــد النــارص‪ -‬والتــي سـتُعرف ً‬
‫باســم "مكتــب الرئيــس للمعلومــات"‪ .‬لــذا أســس زكريــا يف غضــون ســنوات قليلــة كيانًــا‬
‫متكامـ ًـا مــن أجهــزة املخابــرات واألمــن أصبحــت الدعامــة األساســية للنظــام الســيايس‬
‫الجديــد يف مــر‪ (((.‬ومــع أنــه تــوىل الح ًقــا عــدة مناصــب غــر أمنيــة‪ -‬مبــا يف ذلــك‬
‫منصبــي رئاســة الــوزراء ونائــب الرئيــس‪ -‬إال أنــه حافــظ عــى هيمنته عــى األجهــزة األمنية‬
‫املرتاميــة األطــراف وامل ُتح ِّك َمــة بالبــاد‪ ،‬وامل ُو َّج َهــة لحاميــة النظــام فقــط(((‪.‬‬
‫لكــن‪ ،‬وبــرف النظــر عــن عبقريــة زكريــا كمؤســس‪ ،‬فقــد كانــت الخــرة األجنبيــة‬
‫رضوريــة لبنــاء هــذا الكيــان األمنــي فالقــوى األجنبيــة يف النهايــة هــي التــي صممــت يف‬
‫األصــل أنظمــة أمنيــة حديثــة يف مســتعمراتها‪ .‬وق َّد َمــت الســفارة األمريكيــة ملــر معــدات‬
‫للمراقبــة ومكافحــة الشــغب بقيمــة مليــون دوالر عقــب االنقــاب مبــارشة‪ ،‬وســاعدت زكريــا‬
‫يف تعزيــز نظــام "عــن املدينــة" الصغــر آنــذاك مــن خــال مجموعــة كاملــة مــن املعــدات‬
‫والتقنيــات اإللكرتونيــة لتثبيــت أجهــزة تنصــت وكامــرات خفيــة يف غــرف الفنــادق‬
‫وقاعــات الطعــام العســكرية واملســاكن الخاصــة والســيارات‪ (((.‬حتــى فيــا يتعلــق بكيفيــة‬
‫إعــداد التقديــرات االســتخباراتية يف الوقــت املناســب‪ ،‬اســتعانت مــر باألمريــي تشــارلز‬
‫كرمينــز‪ ،‬الرئيــس املســتقبيل ملكتــب "تقديــرات االســتخبارات الوطنيــة" التابــع للــي أي إيه‪.‬‬
‫لكــن عبــد النــارص توقــع املزيــد‪ ،‬ففــي أكتوبــر ‪ 1952‬طلــب مســاعدة مــن الــي أي إيه يف‬
‫‪ -1‬عبد الفتاح أبو الفضل‪" ،‬كنت نائبًا لرئيس املخابرات"‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار الرشوق‪ ،2008 ،‬ص ‪.87‬‬
‫‪2- P. J. Vatikiotis, Nasser and His Generation. London: Croom Helm, 1978, 164–65.‬‬
‫‪ -3‬مــن املهــم أن نالحــظ هنــا أنــه رغــم تعامــل جميــع هــذه األجهــزة مــع امللــف األمنــي‪ ،‬إال أنــه ال ميكــن‬
‫اعتباره��ا متشاــبهة‪ .‬تقـ�ول الباحثةــ يف تطـ�ور األجهــزة األمني��ة إميــي زيجــارت‪" :‬الواقــع ليــس مثال ًيــا إىل هــذا‬
‫الحــد‪ ،‬فــوكاالت األم��ن القوم�يـ مختلفـ�ة وال تبــدو متشــابهة عنــد الــوالدة‪ ،‬كــا أنهــا ال تتطــور عــى نفــس‬
‫املسـ�ار‪ ،‬وكان الحـ�ال يف مـصر كذلـ�ك كـما سـنرى يف الفصـ�ول التاليـ�ة‪.‬‬
‫‪"Amy B Zegart، Flawed by Design: The Evolution of the CIA، JSC، and NSC": Stanford‬‬
‫‪University Press، 1999, 40‬‬
‫‪4- Copeland, The Game of Nations, 82.‬‬

‫‪37‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫إصــاح النظــام األمنــي بأكملــه‪ ،‬األمــر الــذي تح َّمــس لــه مديــر عمليــات الــي أي إيــه يف‬
‫الــرق األوســط كريميــت روزفلــت‪ .‬وبعــد بضعــة أشــهر‪ ،‬أقــام ثالثــة مــن عمــاء املخابرات‬
‫األمريكيــة معســك ًرا يف القاهــرة‪ ،‬هــم جيمــس أيشــلربغر ومايلــز كوبالنــد وفرانــك كــرن‬
‫قــد عملــوا جمي ًعــا يف فيلــق مكافحــة التجســس بالجيــش األمريــي‪ ،‬وشــهدوا الح ًقــا تحــول‬
‫مكتــب الخدمــات اإلســراتيجية (‪ )OSS‬ليصبــح وكالــة االســتخبارات املركزيــة الــي أي إيه‪.‬‬
‫بعبــارة أخــرى‪ ،‬جمــع هــؤالء بــن خــرة االســتخبارات املدنيــة والعســكرية‪ ،‬و ُعــن حســن‬
‫التهامــي املــوايل لعبــد النــارص ليكــون ضابــط االتصــال لهــم يف مــر‪ (((.‬يتذكــر عبــد‬
‫الفتــاح أبــو الفضــل الــذي كان جــز ًءا حيويًــا مــن هــذا الربنامــج كيــف اســتفاد املرصيــون‬
‫مــن خــرة ضبــاط املخابــرات األملانيــة الســابقني‪ .‬هــذه العالقــة مــع النازيــن بدأتهــا‬
‫رسا بضبــاط بارزيــن مــن وحــدات "قــوات‬ ‫الــي أي إيــه التــي ربطــت عبــد النــارص ً‬
‫األمــن الخاصــة" و"الرشطــة الرسيــة األملانيــة‪ ،‬الجســتابو"(((‪ .‬ويف أبريــل ‪ 1958‬وقَّ َعــت‬
‫مــر اتفاقيــة للتدريــب وتبــادل املعلومــات االســتخباراتية مــع االســتخبارات الســوفييتية‬
‫التــي ق َّد َمــت لهــا أحــدث تقنيــات املراقبــة واالســتجواب‪ ،‬ثــم وقعــت اتفاقيــة أخــرى بعــد‬
‫(((‬
‫عقــد مــن الزمــن مــع جهــاز شــتازي "وزارة أمــن الدولــة" يف أملانيــا الرشقيــة‪.‬‬
‫بينــا عمــل زكريــا عــى تحقيــق أهــداف عبــد النــارص يف قطــاع األمــن الداخــي‪ ،‬فكذلــك‬
‫األمــر بالنســبة ملبعوثــه يف الجيــش عبــد الحكيــم عامــر‪ .‬فمــع إعــان الجمهوريــة يف ‪18‬‬
‫أول مرســوم رئــايس لــه برتقيــة‬‫يونيــو ‪ ،1953‬أرص عبــد النــارص عــى أن يُصــدر نجيــب َ‬
‫عامــر مــن رتبــة رائــد إىل لــواء وتعيينــه قائــ ًدا عا ًمــا للقــوات املســلحة‪ .‬هــذا الصعــود‬
‫رســميا عــى رأس قيــادة املؤسســة‬
‫ً‬ ‫الرسيــع لعامــر‪ -‬ولعلــه األرسع يف التاريــخ‪ -‬وضعــه‬
‫العســكرية‪ .‬وذلــك ألن عبــد النــارص مل يؤمــن بالطريقــة الشــيوعية‪ -‬املتبعــة يف روســيا‬
‫‪1- Sirrs, History, 32–34.‬‬
‫‪ -2‬مــن بينهــم الجــرال فيلهلــم فارباكــر مــن الجيــش األملــاين‪ ،‬والضابطــان أوتــو ســكورزيني وأوســكار بــول‬
‫ديلوفانــا‪ ،‬وأربعــة ضبــاط مــن الرشطــة الرسيــة األملانيــة هــم ليوبولــد جليــم‪ ،‬وفرانــز بوينــش‪ ،‬ويواكيــم‬
‫دوملينــج‪ ،‬وألويــس أنطــون برونــر‪:‬‬
‫‪Miles Copeland, The Game of Nations: The Amorality of Power Politics, London: Weidenfeld‬‬
‫‪and Nicolson, 1970: 87; Owen L. Sirrs, A History of the Egyptian Intelligence Service: A‬‬
‫‪History of the Mukhabarat, 1910–2009, New York: Routledge (2010: 33) .‬‬
‫‪ -3‬صالح نرص‪" ،‬مذكرات صالح نرص‪ ،‬الجزء األول‪ :‬الصعود"‪ ،‬ص ‪.158‬‬

‫‪38‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫والصــن‪ -‬بإلحــاق املفوضــن السياســيني بوحــدات الجيــش لإلبــاغ عــن أنشــطة الضبــاط‪،‬‬
‫فضــل الســيطرة املبــارشة مــن أعــى هــرم الســلطة‪ ،‬وعبــد الحكيــم عامــر بطبيعــة‬ ‫إمنــا َّ‬
‫الحــال هــو املرشــح املثــايل لهــذه املهمــة‪ ،‬ففضـ ًـا عــن كونــه أقــرب أصدقــاء عبــد النــارص‬
‫إليــه منــذ التحاقهــا بالكليــة الحربيــة وســاعده األميــن يف حركــة الضبــاط األحــرار‪ ،‬فإنــه‬
‫أيضــا العضــو الوحيــد يف مجلــس قيــادة الثــورة الــذي يثــق بــه نجيــب‪ .‬فقــد شــغل منصــب‬ ‫ً‬
‫رئيــس أركانــه خــال حــرب عــام ‪ 1948‬يف فلســطني‪ ،‬وشــخصيته الــودودة واملرحــة جعلتــه‬
‫قريبــا مــن نجيــب ومقبـواًلً لديــه‪ .‬يقــول ريــاض ســامي‪ ،‬مديــر مكتــب الرئيــس نجيــب‪ ،‬إن‬ ‫ً‬
‫(((‬
‫األخــر مل يكــن ليتنــازل عــن قيــادة الجيــش ألي شــخص آخــر‪.‬‬
‫متثلــت مهمــة عامــر الرئيســية يف الســيطرة عــى الجيــش‪ ،‬وقــد أنجــز ذلــك عــر مكتــب‬
‫القائــد العــام الــذي أنشــأه عبــد النــارص أثنــاء عملــه كرئيــس للــوزراء يف عهــد نجيــب‪ .‬كان‬
‫املكتــب مســؤواًلً عــن رصــد األنشــطة املشــبوهة وإصــدار التوجيهــات السياســية للجيــش‪.‬‬
‫واســتعان عامــر مبــن ُسـ ُّموا "أوالد زكريــا" مــن الصــف الثــاين يف الضبــاط األحــرار‪ ،‬ممــن‬
‫اختارهــم زكريــا ودربهــم ليشــكلوا الكيــان األمنــي الجديــد يف البــاد‪.‬‬
‫كأول مديــر ملكتــب القائــد العــام‪ ،‬تــاه عبــاس رضــوان‬
‫ُعــن صــاح نــر يف يونيــو ‪َ 1953‬‬
‫يف عــام ‪ 1956‬وشــمس بــدران منــذ عــام ‪ 1958‬حتــى إلغــاء املكتــب يف عــام ‪ .1967‬عمــل‬
‫املكتــب كجهــة رقابيــة سياســية للتخلــص مــن الضبــاط املثرييــن للمتاعــب‪ ،‬وضــان والء‬
‫البقيــة مــن خــال نظــام املحســوبيات‪ .‬واســتطاع املكتــب إنجــاز هــذه املهــام عــر ثــاث‬
‫آليــات رئيســية‪:‬‬
‫‪1 .‬قطــع عالقــات أعضــاء مجلــس قيــادة الثــورة‪ -‬باســتثناء عبــد النــارص‪ -‬مــع بقيــة‬
‫العســكريني بحجــة الســاح لعامــر بــأداء مهامــه دون تدخــل خارجــي‪.‬‬
‫‪2 .‬عزل تشكيالت الضباط عن جميع القوى السياسية والعقائدية‪.‬‬
‫‪3 .‬واألهــم مــن ذلــك‪ ،‬إنشــاء شــبكة رسيــة مــن الضبــاط الطموحــن سياسـ ًـيا الذيــن مل‬
‫يشــاركوا يف االنقــاب نفســه‪ ،‬والحريصــن عــى إثبــات جدارتهــم للنظــام الجديــد مــن‬
‫خــال املســاعدة يف تثبيــت حكمــه‪.‬‬

‫‪ -1‬رياض سامي‪" ،‬شاهد عىل عرص الرئيس محمد نجيب"‪ ،‬املكتب املرصي الحديث‪ ،2004 ،‬ص ‪.21‬‬

‫‪39‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫بــدأ عبــد النــارص بعــد االنقــاب مبــارشة بتأســيس مكتــب القائــد العــام يف صــورة شــبكة‬
‫مــن الخاليــا‪ ،‬وبحلــول عــام ‪ ،1967‬تجــاوز أعضــاؤه خمســة وســتني ألــف ضابــط(((‪ .‬ومــن‬
‫خــال هــذه الشــبكة الواســعة‪ ،‬راقب املكتب اآلراء واألنشــطة السياســية داخل الجيــش‪ ،‬وأدار‬
‫منهجيــة التلقــن الســيايس‪ ،‬وتحكــم بشــؤون الرتقيــات والتكليفــات‪ .‬ســاهم هــذا الكيــان‬
‫األمنــي الجديــد الح ًقــا مســاهمة مهمــة يف مشــهد مــر الســيايس‪ ،‬إذ قلــب امليــزان يف‬
‫عــام ‪ 1954‬لصالــح عبــد النــارص‪ ،‬وأســس لدولــة املخابــرات يف الســتينيات‪ ،‬وكـ َّون "مراكــز‬
‫القــوة" البــارزة يف مــر بــن عامــي ‪ 1967‬و‪ ،1971‬قبــل أن ميهــد الطريــق بحلــول نهايــة‬
‫ـرة يف مــر‪.‬‬ ‫الســبعينيات لقيــام الدولــة األمنيــة املتجـ ِّ َ‬
‫ب‪ -‬الهيكلية السياسية‬
‫يف ظــل اعتــاد نجيــب بثقــة عــى شــعبيته يف الشــارع‪ ،‬انشــغل عبــد النــارص ببنــاء‬
‫منظــات سياســية متامســكة لحشــد الدعــم الشــعبي لصالحــه‪ ،‬وهــي بالتأكيــد إســراتيجية‬
‫أكــر فعاليــة‪ .‬وكقــارئ نهــم مليكيافيلــي‪ ،‬أدرك عبــد النــارص أن "النــاس بطبيعتهــم تتبــدل‬
‫مواقفهــم‪ ،‬ومــن الســهل إقناعهــم بــيء مــا‪ ،‬لكــن مــن الصعــب منعهــم مــن تغيــر رأيهــم‪.‬‬
‫لذلــك عليــك أن تكــون مســتع ًدا للحظــة التــي يفقــدون فيهــا إميانهــم بفكرتــك‪ .‬ثــم عليــك‬
‫أن تجربهــم عــى اإلميــان بهــا مــن جديــد"‪ (((.‬ولــذا‪ ،‬أنشــأ يف نوفمــر ‪1952‬وزارة جديــدة‬
‫باســم "وزارة اإلرشــاد القومــي" للرقابــة والدعايــة‪ ،‬وبــذل وزيرهــا األول وعضــو مجلــس‬
‫قيــادة الثــورة صــاح ســامل قصــارى جهــده إلبعــاد نجيــب عــن األضــواء‪ ،‬ثــم عمــل عــى‬
‫أيضــا‬
‫تشــويه ســمعته وتعزيــز صــورة عبــد النــارص بــداًلً منــه‪ .‬اعتمــد عبــد النــارص هنــا ً‬
‫عــى الخــرة األجنبيــة‪ ،‬وال ســيام عــى عميــل مكتــب الخدمــات اإلســراتيجية األمريــي‬
‫ورائــد إســراتيجية "الدعايــة الســوداء" يف أمريــكا بــول الينبارغــر‪ ،‬ومديــر معلومــات‬
‫الــرق األوســط لجوزيــف جوبلــز((( ليوبولــد فــون ميلدنشــتاين‪ ،‬وخبــر الدعايــة الســوداء‬
‫(((‬
‫لقــوات األمــن الخاصــة النازيــة يوهانــس فــون لــرز‪.‬‬

‫‪1- Anthony McDermott, Egypt from Nasser to Mubarak: A Flawed Revolution, London: Croom‬‬
‫‪Helm, 1988, 16.‬‬
‫‪2- Niccolò Machiavelli, The Prince, Indianapolis: Hackett Publishing,1995 [1532], 20.‬‬
‫‪ -3‬وزير الدعاية يف أملانيا النازية بني عامي ‪ 1933‬و‪ ،1945‬وأحد املقربني من هتلر‪( .‬املرتجم)‬
‫‪4- Sirrs, History, 45.‬‬

‫‪40‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫ولتعزيــز قاعدتــه الشــعبية تعزي ـ ًزا أكــر‪ ،‬حـ َّـل عبــد النــارص جميــع األحــزاب السياســية‬
‫القامئــة (مبوجــب القانــون ‪ 179‬لعــام ‪ )1953‬واســتبدلها يف ينايــر ‪ 1953‬بهيئــة التحريــر‪،‬‬
‫والتــي عملــت كمنصــة لرتتيــب املســرات املؤيــدة للنظــام واملحــارضات العامــة‪ ،‬فلــم يكــن‬
‫لهــا تسلســل هرمــي واضــح‪ ،‬واعتمــد عملهــا عــى ألــف ومئتــي مكتــب محــي مفتــوح لجميــع‬
‫الراغبــن يف تقديــم دعمهــم للنظــام الجديــد‪.‬‬
‫كان معظــم املنتســبني للهيئــة مــن الضباط الفاســدين واالنتهازيني السياســيني املتحمســن‬
‫لركــوب موجــة الثــورة‪ ،‬باإلضافــة إىل وجهــاء األريــاف والرأســاليني املســتعدين إلرســال‬
‫فالحيهــم وعاملهــم للتظاهــر تحــت رايــة عبــد النــارص‪ ،‬بهــدف حاميــة مصالحهــم املاليــة‬
‫يف هــذه املرحلــة املضطربــة‪.‬‬
‫عــن عبــد النــارص نفســه أمي ًنــا عا ًمــا لهيئــة التحريــر‪ ،‬رغــم أنــه فــ َّوض إدارتهــا‬
‫اليوميــة إىل رشيكــن مبتدئــن هــا الرائــد إبراهيــم الطحــاوي والرائــد أحمــد‬
‫طعيمــة‪ ،‬اللــذان كانــت وظيفتهــا يف املقــام األول مراقبــة املــزاج العــام واالتجاهــات‬
‫السياســية وإحبــاط جهــود التعبئــة التــي تقــوم بهــا القــوى السياســية األخــرى‪ -‬خاصــة‬
‫اإلســاميني والشــيوعيني مــن خــال تنظيــم تحــركات مضــادة‪ .‬ويــروي ســليامن حافــظ‪،‬‬
‫الــذي شــغل منصــب وزيــر الداخليــة يف عــام ‪ 1953‬لفــرة وجيــزة‪ ،‬أن الطحــاوي‬
‫(((‬
‫وطعيمــة كانــا يقدمــان تقاريــر منتظمــة إىل الــوزارة ضــد النشــطاء املشــتبه بهــم‪.‬‬
‫ج‪ -‬الدعم الجيوسيايس‬
‫متثلــت الركيــزة األخــرة إلســراتيجية عبــد النــارص يف تأمني الدعــم الجيوســيايس لنظامه‪،‬‬
‫فكانــت الواليــات املتحــدة يف هــذه املرحلــة املرشــح الوحيــد لضــان هــذه الغايــة‪ .‬اعتمــدت‬
‫سياســة أمريــكا يف الــرق األوســط يف خمســينيات القــرن املــايض عــى تشــجيع حــركات‬
‫االســتقالل الوطنــي للحــد مــن الهيمنــة الربيطانيــة والفرنســية‪ ،‬ثــم جــذب الــدول املســتقلة‬
‫حديثًــا إىل محورهــا مــن خــال التحالفــات اإلســراتيجية واملســاعدات االقتصاديــة‪ .‬فقــد‬
‫اقتنــع األمريكيــون بعــد حربــن عامليتــن بالتخــي عــن عزلتهــم واالنخــراط يف رصاعــات‬
‫"العــامل القديــم" عــر املحيــط األطلــي‪ ،‬واكتشــفوا أنــه رغــم افتقارهــم للخــرة األوروبيــة‬
‫يف التعامــل مــع إفريقيــا وآســيا‪ ،‬فــإن ميزتهــم النســبية تكمــن يف حقيقــة عــدم ترصفهــم‬
‫‪ --1‬سليامن حافظ‪" ،‬ذكريايت عن الثورة"‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار الرشوق‪ ،2010 ،‬ص ‪.111-108‬‬

‫‪41‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫أبــ ًدا كقــوة إمربياليــة خــارج أمريــكا الالتينيــة واملحيــط الهــادئ‪ .‬ولذلــك كان املفتــاح‬
‫لتعزيــز نفــوذ الواليــات املتحــدة هــو مــد يــد العــون ألولئــك الذيــن يتوقــون إىل تحريــر‬
‫أنفســهم مــن اإلمربياليــة األوروبيــة‪ ،‬والظهــور كرشيــك حقيقــي يف املســاعدة عــى تطويــر‬
‫عــامل مــا بعــد االســتعامر‪.‬‬
‫مــع نهايــة عــام ‪ ،1951‬شــكل وزيــر الخارجيــة ديــن آتشيســون لجنــة خاصــة بشــؤون العــامل‬
‫العــريب برئاســة كيــم روزفلــت‪ ،‬أحــد ضبــاط وكالــة املخابــرات املركزيــة امل ُنشَ ـأَة حديثًــا‪.‬‬
‫أشــارت اللجنــة إىل الحاجــة "لزعيــم عــريب يتمتــع بســلطة يف يديــه أكــر مــن أي زعيــم‬
‫عــريب آخــر يف أي وقــت مــى (ســلطة اتخــاذ قــرار غــر شــعبي) ‪ ...‬شــخص يرغــب‬
‫بشــدة يف الحصــول عــى الســلطة‪ ،‬مــن أجــل الســلطة فقــط"‪ (((.‬نجــد هــذه التوصيــة بجــاء‬
‫يف محــر وزارة الخارجيــة الربيطانيــة بتاريــخ ‪ 3‬ديســمرب ‪ ،1951‬والــذي وصــف وجهــة‬
‫النظــر األمريكيــة‪ -‬الربيطانيــة املشــركة عــى النحــو التــايل‪" :‬النــوع الوحيــد مــن الحكومــة‬
‫التــي ميكننــا أن نأمــل يف الحصــول عــى تســوية معهــا هــي حكومــة اســتبدادية رصيحــة‪...‬‬
‫قاســية وعمليــة يف آنٍ م ًعــا‪ ...‬إننــا نحتــاج مصطفــى كــال آخــر (الضابط الرتيك الــذي قاد‬
‫االنقــاب عــى الســلطان العثــاين يف عــام ‪ 1921‬واتخذ لقــب أتاتورك‪ -‬أي والــد األتراك)‪،‬‬
‫لعلمنــة بــاده وتغريبهــا‪ ...‬وذلــك بالرغــم مــن أن املرصيــن ليســوا أتــراكًا‪ ،‬وال ميكننــا‬
‫(((‬
‫طلــب رجــال مثــل مصطفــى كــال كــا لــو كنــا ننتقــي طعا ًمــا مــن قامئــة يف مطعــم!"‪.‬‬
‫يف فربايــر ‪ ،1952‬ســافر كيــم روزفلــت إىل القاهــرة للبحــث عــن أتاتــورك مــري‪ ،‬وقــد‬
‫ســبق لــه أن زار مــر مرتــن‪ :‬األوىل يف عــام ‪ 1944‬للمســاعدة يف إنشــاء فــرع القاهــرة‬
‫مــن "مكتــب الخدمــات اإلســراتيجية‪ -‬ســلف وكالــة املخابــرات املركزيــة"‪ ،‬والثانيــة يف‬
‫عــام ‪ 1950‬إلرشــاد وزارة الداخليــة املرصيــة حــول كيفيــة مواجهــة الشــيوعية‪ .‬خــال كلتــا‬
‫الزيارتــن‪ ،‬وضــع كيــم قامئــة بالشــخصيات التــي يجــب التواصــل معهــا يف الجيــش‪ ،‬وأقــام‬
‫برنامــج تدريــب عســكري للضبــاط املرصيــن الشــباب تديــره وكالــة املخابــرات املركزيــة‪.‬‬
‫ـتخباراتيا‬
‫ً‬ ‫تدريبــا اسـ‬
‫ً‬ ‫مــن الغريــب أن ســتة مــن بــن الضبــاط الخمســن الذيــن تلقــوا‬
‫حاســا يف انقــاب عــام ‪ ،1952‬وأصبــح اثنــان منهــم يف‬ ‫ً‬ ‫أمريكيــا أدوا دو ًرا‬
‫ً‬ ‫وعســكريًا‬
‫‪1- Copeland, Game, 48–49.‬‬
‫‪2- Barry Turner, Suez 1956: The Inside Story of the First Oil War, London: Hodder & Stoughton,‬‬
‫‪2006, 96.‬‬

‫‪42‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫الواقــع أعضــاء يف مجلــس قيــادة الثــورة‪ .‬ودون أن يذكــر الكثــر مــن التفاصيــل‪ ،‬اعــرف‬
‫الضابــط يف القــوات الجويــة عــي صــري‪ -‬وهــو أول ضابــط ارتبــاط رســمي بــن مجلــس‬
‫قيــادة الثــورة والواليــات املتحــدة‪ -‬بــأن "حضــور العديــد مــن الضبــاط املرصيــن يف‬
‫دورات مكتــب الخدمــات األمريــي خــال العامــن املاضيــن كان لــه تأثــر واضــح للغايــة‬
‫عــى االنقــاب يف مــر"(((‪.‬‬
‫كانــت مهمــة روزفلــت عــى مــا يبــدو هــي متهيــد الطريــق الســتبدال ســلمي للنظــام‬
‫امللــي القديــم الفاســد يف مــر قبــل أن يدفــع التطــرف املتزايــد للعــال والفالحــن‬
‫املرصيــن البــاد إىل أحضــان الشــيوعية‪ .‬واعتقــد روزفلــت أن الجيــش وحــده هــو القــادر‬
‫عــى تحديــث الدولــة وف ًقــا ملســارات يوافــق عليهــا الغــرب دون التســبب يف الكثــر مــن‬
‫االضطرابــات‪ .‬وبعــد مســا ٍع حميــدة مــن الســفري األمريــي جيفرســون كافــري‪ ،‬عقــد ممثــل‬
‫وكالــة املخابــرات املركزيــة ثالثــة اجتامعــات يف مــارس ‪ 1952‬مــع أعضــاء مــن الضبــاط‬
‫(((‬
‫األحــرار‪ ،‬مبــن فيهــم عبــد النــارص‪.‬‬
‫ووفقًــا للضابــط حســن حمــودة‪ -‬أحــد املشــاركني يف تلــك االجتامعــات املبكــرة‪ -‬فقــد‬
‫ركــزت املناقشــات عــى كيفيــة إقنــاع األمريكيــن لرشكائهــم الربيطانيــن بعــدم معارضــة‬
‫االنقــاب‪ ،‬وذلــك ملنــع تكــرار تجربــة عــام ‪ 1882‬عندمــا أجهــض الربيطانيــون "الثــورة‬
‫العرابيــة"‪ ،‬عــى أن يقــدم الضبــاط األحــرار ضامنــات لتنفيــذ اإلصالحــات الالزمــة لتحديث‬
‫(((‬
‫االقتصــاد املــري وإبقــاء الشــيوعيني تحــت الســيطرة‪.‬‬
‫يف ‪ 19‬يوليــو ‪ ،1952‬أي قبــل ثــاث ليــا ٍل مــن اســتيالء الضبــاط األحــرار عــى الســلطة‪،‬‬
‫طلــب عبــد النــارص مــن صــري إبــاغ مســاعد امللحــق العســكري األمريــي ديفيــد إيفانــز‬
‫أن االنقــاب بــات وشــيكًا‪ ،‬مؤك ـ ًدا مــرة أخــرى عــى أنــه لــن يــر باملصالــح األمريكيــة‪.‬‬
‫نفــذت الواليــات املتحــدة الجــزء الخــاص بهــا مــن الصفقــة‪ ،‬رافضــة تقديــم الدعــم للملــك‬
‫فــاروق‪ ،‬ونصحتــه بــداًلً مــن ذلــك باالســتجابة ملطالــب الضبــاط‪ .‬مــن جهتــه‪ ،‬ر َّحــب الرئيــس‬

‫‪1- Barry Turner, Suez 1956: The Inside Story of the First Oil War, London: Hodder & Stoughton,‬‬
‫‪2006, 90.‬‬
‫‪2- Copeland, Game, 51–53.‬‬
‫‪ -3‬حســن محمــد أحمــد حمــودة‪" ،‬أرسار حركــة الضبــاط األحــرار واإلخــوان املســلمني"‪ ،‬الزهــراء لإلعــام‬
‫العــريب‪ ،1985 ،‬ص ‪.89-88‬‬

‫‪43‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫األمريــي فرانكلــن روزفلــت عىل الفــور باالنقالب‪ ،‬وحــذر الربيطانيني مــن التدخل‪ ،‬ووجه‬
‫(((‬
‫ســفريه يف القاهــرة‪ -‬الــذي وصــف الضبــاط األحــرار بـ "أبنــايئ"‪ -‬لدعــم الحكــم الجديد‪.‬‬
‫طالبــا هــذه‬
‫يف اليــوم التــايل لالنقــاب‪ ،‬نقــل عبــد النــارص رســالة أهــم إىل األمريكيــن ً‬
‫املــرة مســاعدة ‪ CIA‬يف إعــادة تنظيــم جهــاز األمــن الداخــي يف مــر‪ ،‬ومحــذ ًرا مــن‬
‫االضطرابــات التــي يقودهــا الشــيوعيون يف جميــع أنحــاء البــاد‪ .‬القــت الرســالة صداهــا‬
‫بتقريــر بعنــوان "العواقــب املتوقعــة إلعــادة احتــال القاهــرة واإلســكندرية مــن قبــل‬
‫ـص إىل أن املواجهــات‬ ‫القــوات الربيطانيــة"‪ ،‬أعدتــه الــي أي إيــه عــى عجــل‪ ،‬والــذي َخلُـ َ‬
‫العنيفــة مــن شــأنها أن متهــد الطريــق الســتيالء الشــيوعيني عــى الســلطة‪ .‬ولهــذا‪ ،‬ووف ًقــا‬
‫لرئيــس مكتــب الــي أي إيــه بالقاهــرة وليــام ليكالنــد‪ ،‬قبلــت الوكالــة طلــب عبــد النــارص‬
‫قبــواًلً حســ ًنا‪ .‬وبعــد فــرة وجيــزة مــن االنقــاب‪ ،‬التقــى كيــم روزفلــت مبنــدويب عبــد‬
‫(((‬
‫النــارص لرســم املبــادئ التوجيهيــة العامــة للتعــاون املســتقبيل بــن الجانبــن‪.‬‬
‫بالتــوازي مــع العمــل يف القطــاع األمنــي‪ُ ،‬عقــدت اجتامعــات أخــرى بــن عبــد النــارص‬
‫واألمريكيــن ملناقشــة اإلصالحــات السياســية واالجتامعيــة واالقتصاديــة‪ .‬وأشــار عضــو‬
‫مجلــس قيــادة الثــورة خالــد محــي الديــن‪ ،‬الــذي حــر اجتامعــن مــن تلــك االجتامعــات‬
‫يف منــزل عبــد املنعــم أمــن (ضابــط آخــر كلفــه عبــد النــارص باالتصــال بالواليــات‬
‫املتحــدة)‪ ،‬إىل أن األمريكيــن طلبــوا بــإرصار تبنــي سياســة إعــادة توزيــع األرايض عــى‬
‫وجــه الرسعــة‪ (((.‬ويف مطلــع العــام ‪ ،1952‬أشــارت اللجنــة االستشــارية األمريكيــة‪ ،‬التــي‬
‫اقتنعــت باعتــاد الثــورات البلشــفية والصينيــة اعتــا ًدا أساسـ ًـيا عــى الفالحــن املحرومني‪،‬‬
‫ألن إعــادة توزيــع األرايض رضوري لوقايــة الفقــراء مــن الشــيوعية‪ .‬وبــرز هــذا املطلــب يف‬
‫فربايــر ‪ 1952‬مــن خــال كُتَ ّيــب صــادر عــن وزارة الخارجيــة األمريكيــة بعنــوان "إصــاح‬
‫األرايض‪ :‬تحـ ٍـد عاملــي"‪ ،‬يدعــو إىل اتخــاذ إجــراءات رسيعــة يف هــذا اإلطــار لتوجيــه رأس‬
‫املــال الزراعــي نحــو التصنيــع الرسيــع‪ .‬يف ‪ 20‬أغســطس ‪ ،1952‬أرســلت واشــنطن برقية إىل‬
‫ســفريها يف القاهــرة تفيــد بــأن "حكومــة الواليــات املتحــدة ستشــجع وتســاعد عــى إصــاح‬
‫األرايض‪ ...‬للحــد مــن أســباب االضطرابــات الزراعيــة وعــدم االســتقرار الســيايس"‪ ،‬ثــم‬
‫‪1- Aburish, Nasser: The Last Arab, 43.‬‬
‫‪2- Copeland, Game, 63.‬‬
‫‪ -3‬خالد محي الدين‪" ،‬اآلن أتكلم"‪ ،‬األهرام للرتجمة والنرش‪ ،1992 ،‬ص ‪.188‬‬

‫‪44‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫انتقلــت إىل تفصيــل مــا يجــب أن يتضمنــه هــذا القانــون‪ (((.‬ويف ‪ 9‬ســبتمرب‪ ،‬أي بعــد ثالثــة‬
‫أســابيع فقــط‪ ،‬أصــدر مجلــس قيادة الثــورة قانون اإلصــاح الزراعــي الذي أُ ِعـ َّد عىل عجل‪.‬‬
‫يف املقابــل‪ ،‬ســعى عبــد النــارص للحصــول عــى دعــم الرئيــس األمريــي دوايــت أيزنهــاور‬
‫إلقنــاع الربيطانيــن بالجــاء عــن مــر‪ .‬أرســل أيزنهــاور أواًلً ســتيف ميــد مــن الجيــش‬
‫األمريــي لتقييــم تــوازن القــوى والســيطرة داخــل مجلــس قيــادة الثــورة‪ .‬ويف مايــو‬
‫‪ ،1953‬أكــد ميــد بــأن عبــد النــارص يُحكــم قبضتــه عــى املجلــس وأن النظــام الجديــد‬
‫مســتقر إىل حــد مــا‪ .‬بــدوره‪ ،‬أيــد وزيــر الخارجيــة جــون فوســر داالس يف الشــهر التــايل‬
‫(((‬
‫التقريــر‪ ،‬وكان أول مســؤول أمريــي رفيــع املســتوى يــزور مــر يف عهــد الجمهوريــة‪.‬‬
‫بعدهــا مارســت الواليــات املتحــدة الكثــر مــن الضغــوط عــى الربيطانيــن للتفــاوض عــى‬
‫ـج يف رســالة مطولــة إىل أيزنهــاور يف ‪12‬‬ ‫خروجهــم مــن مــر‪ ،‬لدرجــة أن ترششــل احتـ َّ‬
‫يونيــو ‪ 1953‬عــى التحيــز األمريــي لصالــح عبــد النــارص رغــم التنــازالت العديــدة بعيــدة‬
‫را عــن صدمتــه وإحباطــه‪ ،‬وأكــد يف‬ ‫املــدى التــي قدمهــا الربيطانيــون لواشــنطن‪ ،‬مع ـ ً‬
‫(((‬ ‫الختــام أنــه "ال ينبغــي أن نعتقــد أننــا عوملنــا معاملــة ُم ِ‬
‫نصفــة مــن قبــل حليفنــا العظيــم"‪.‬‬
‫وفيــا أدركــت الواليــات املتحــدة منــذ اليــوم األول أن نجيب مجــرد حاكم صــوري وترصفت‬
‫وف ًقــا لذلــك‪ ،‬مثــة أســباب أخــرى جعلــت الــي أي إيــه عــى وجــه الخصــوص متحمســة‬
‫لدعــم عبــد النــارص‪ .‬انطالقًــا مــن القناعــة الســائدة وقــت الحــرب البــاردة بــأن رجــال‬
‫الجيــش األقويــاء ميكــن االعتــاد عليهــم أكــر مــن املدنيــن غــر امل ُنظَّمــن‪ ،‬ارتابــت اليس‬
‫أي إيــه بشــأن وعــد نجيــب بإعــادة الحكــم الدميقراطــي املــدين‪ .‬ويف وقــت مبكــر مــن ‪30‬‬
‫يوليــو ‪ ،1952‬أشــار وزيــر الخارجيــة ديــن أتشيســون يف برقيــة إىل الســفري األمريــي يف‬
‫القاهــرة بــأن العــودة إىل الدميقراطيــة ســتكون لهــا عواقــب غــر متوقعــة‪ ،‬وأن التعامــل‬
‫(((‬
‫مــع مجموعــة صغــرة مــن الضبــاط أســهل مــن التعامــل مــع نظــام متعــدد األحــزاب‪.‬‬
‫يــرح آرثــر شــليزنجر‪ ،‬املــؤرخ واملســاعد الخــاص للرئيــس كينيــدي‪ ،‬املنطــق الكامــن وراء‬

‫‪ -1‬محمــد عبــد الوهــاب ســيد أحمــد‪" ،‬العالقــات املرصيــة األمريكيــة مــن التقــارب إىل التباعــد‪،"1958-1952 ،‬‬
‫القاهــرة‪ :‬دار الــروق‪ ،2007 ،‬ص ‪.131‬‬
‫‪2- Copeland, Game, 64–65.‬‬
‫‪3- Turner, Suez 1956, 116.‬‬
‫‪ -4‬محمد عبدالوهاب سيد‪ ،‬العالقات املرصية األمريكية من التقارب إىل التباعد‪ ،‬ص ‪.20-19‬‬

‫‪45‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫را إىل دعــم عبــد النــارص كأحــد األمثلــة البــارزة عليهــا‪ ،‬فيقــول‪:‬‬
‫هــذه العقيــدة‪ ،‬مشــ ً‬
‫"ســيؤدي (التمــدن الســابق ألوانــه لألنظمة التي نصبهــا االنقالبيون) إىل إبعــاد أولئك الذين‬
‫ميتلكــون الســلطة الحقيقيــة (الجيــش) وســيفتح البــاب أمــام الليرباليــن غري األكفــاء الذين‬
‫قــد يتســببون يف التضخــم وســحب االســتثامرات وهــروب رؤوس األمــوال وبــدء اضطرابات‬
‫اجتامعيــة‪ ،‬وســيؤدي هــذا يف النهايــة لوصــول الشــيوعيني إىل الحكم‪ ...‬إن عمليــة التحديث‬
‫مدمــرة بطبيعتهــا لدرجــة أن املطلــب األول هــو وجــوب الحفــاظ عــى النظــام‪ .‬وليســت‬
‫القضيــة األساســية مــا إذا كانــت الحكومــة دكتاتوريــة أم نيابيــة ودســتورية‪ ،‬إمنــا القضيــة‬
‫هــي مــا إذا كانــت الحكومــة‪ -‬مهــا كانــت طبيعتهــا‪ -‬قــادرة عــى الحفــاظ عــى متاســك‬
‫املجتمــع‪ ...‬متيــل الحكومــة املدنيــة إىل اللــن وتزعزع االســتقرار‪ ،‬أمــا الحكومات العســكرية‬
‫(((‬
‫ـبيا‪ ،‬وميكــن أن توفــر األمــن الــازم للنمو االقتصــادي"‪.‬‬
‫فمســتقرة نسـ ً‬
‫مــا حســم األمــر بالنســبة لألمريكيــن هــو إظهــار عبــد النــارص لتســاهل نجيــب مــع‬
‫الشــيوعية‪ ،‬بعــد أن أظهــر هــو توجهــه الشــخيص املعــادي للشــيوعية عــر تضييــق الخنــاق‬
‫عــى إرضاب العــال يف كفــر الــدوار‪ ،‬وهــي مدينــة صناعيــة صغــرة قــرب اإلســكندرية‪.‬‬
‫وقــد أوضــح الناشــط العــايل حلمــي ياســن‪ ،‬الــذي ســاعد يف تنظيــم اإلرضاب‪ ،‬أن‬
‫العــال ســمعوا البيانــات الثوريــة التــي تعــد باســتعادة حقــوق الشــعب‪ ،‬فــرأوا بــأن الوقــت‬
‫مناســب للمــي قد ًمــا ألخــذ حقهــم يف الســيطرة عــى تنظيــم اإلنتــاج بــداًلً مــن أصحــاب‬
‫املصانــع املعارضــن للثــورة‪ .‬ومل يتوقــع أي منهــم أن عبــد النــارص سريســل يف صبــاح يــوم‬
‫‪ 13‬أغســطس ‪ ،1952‬خمســائة جنــدي إلطــاق النــار عليهــم وإعــدام اثنــن مــن زعامئهــم‬
‫بعــد محاكمــة رسيعــة خــال خمســة أيــام‪ .‬مل يكــن ســلوك الجنــود الصــادم مــر ًرا أبـ ًدا‪ ،‬ال‬
‫(((‬
‫ـا للثــورة‪.‬‬
‫ســيام وأن العــال تظاهــروا دعـ ً‬
‫كشــف عبــد النــارص حينهــا يف اجتامعاتــه مــع مســؤويل الــي أي إيــه عــن تــردد نجيــب‬
‫يف توقيــع أحــكام اإلعــدام الصــادرة بحــق املحرضــن‪ ،‬وكيــف أنــه انتقــد رصاحــة قانــون‬

‫‪1- Arthur M. Schlesinger, A Thousand Days: John F. Kennedy in the White House, Greenwich,‬‬
‫‪CT: Fawcett Publications, 1965, 186–87.‬‬
‫‪2- Helmi Yassin interviewed in Selma Botman, The Rise of Communism in Egypt, NY: Syracuse‬‬
‫‪University Press, 1988, 125–30.‬‬

‫‪46‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫اإلصــاح الزراعــي‪ ،‬ورشــح الفقيــه الدســتوري عبــد الــرازق الســنهوري املتعاطف مع اليســار‬
‫لرئاســة الــوزراء‪ .‬بــدوره حــاول نجيــب أن يــرح لألمريكيــن أن إعــدام العــال مــن شــأنه‬
‫أن يؤجــج املزيــد مــن الراديكاليــة‪ ،‬وأن الرضائــب التصاعديــة عــى األرايض الزراعيــة‬
‫شــيوعيا‪،‬‬
‫ً‬ ‫أفضــل لالقتصــاد مــن التوزيــع العشــوايئ لــأرايض‪ ،‬وأن الســنهوري مل يكــن‬
‫لكــن تربيراتــه مل تلـ َـق آذانًــا صاغيــة‪ .‬بينــا ضمنــت قنــوات االتصــال التــي أنشــأها عبــد‬
‫(((‬
‫النــارص مــع األمريكيــن‪ -‬قبــل االنقــاب وبعــده‪ -‬ثقتهــم ووطــدت عالقتــه مــع واشــنطن‪.‬‬
‫ويف النهايــة‪ ،‬اختــارت الواليــات املتحــدة‪ -‬وليــس الغــرب الرأســايل بأكملــه‪ -‬جــال عبــد‬
‫النــارص‪ :‬القائــد القــوي الــذي اعتقــد الجميــع أنــه ســيكون حاز ًمــا يف وجــه الشــيوعية‪.‬‬

‫كتلة نجيب الضعيفة‬


‫يف الوقــت الــذي انشــغل فيــه عبــد النــارص بإنشــاء نظــام جديــد‪ ،‬واصــل نجيــب االســتثامر‬
‫يف النظــام القديــم‪ .‬وبينــا كان نجــم األول يف صعــود‪ ،‬أرص األخــر عــى الســباحة عكــس‬
‫املقيــ َدة بالقانــون‪ ،‬ورشعيــة الجامعــات السياســية‬‫التيــار‪ .‬ظــل نجيــب يؤمــن بالســلطة َّ‬
‫القدميــة‪ ،‬والحاجــة إىل الدميقراطيــة‪ ،‬وأهميــة الحاضنــة الشــعبية بشــكل عــام‪ .‬وبــداًلً مــن‬
‫الزمــرة األمنيــة التــي أحــاط بهــا عبــد النارص نفســه‪ ،‬اســتقطب نجيــب محامني دســتوريني‬
‫ممــن كان لهــم وزن كبــر يف النظــام القديــم‪ ،‬وال ســيام عبــد الــرازق الســنهوري رئيــس‬
‫مجلــس الدولــة (أعــى محكمــة إداريــة يف مــر)‪ ،‬الــذي كُلِّــف بإعــداد دســتور جديــد يف‬
‫أعقــاب االنقــاب‪ ،‬وســليامن حافــظ صاحــب الخــرة القانونيــة الطويلــة‪ ،‬والــذي صــاغ‬
‫خطــاب تنــازل امللــك فــاروق عــن العــرش‪ .‬وبينــا انشــغل نجيــب بصياغــة دســتور جديــد‪،‬‬
‫ر َّوج منافســه عبــد النــارص لوجهــة النظــر القائلــة بــأن الرشعيــة الثوريــة فــوق أي دســتور‪.‬‬
‫ولعــل األهــم مــن ذلــك‪ ،‬أن خطــأ نجيــب القاتــل يف تعيــن املحامــي ســليامن حافــظ وزيـ ًرا‬
‫للداخليــة يف ســبتمرب ‪ ،1952‬لإلشــارة إىل احرتامــه للقانــون‪ ،‬جعــل مــن الســهل عــى عبــد‬
‫النــارص تــويل الــوزارة يف يونيــو ‪ 1953‬بذريعــة أن البــاد تحتــاج يف هــذا املنعطــف الحــرج‬
‫إىل قبضــة حازمــة لشــخص أقــوى مــن مجــرد محــامٍ دســتوري‪.‬‬
‫أيضــا تعزيــز شــعبيته لــدى النخــب السياســية القدميــة‪ ،‬حيــث قــدم نفســه‬
‫حــاول نجيــب ً‬
‫شــخصا مؤيــ ًدا للدميقراطيــة واملشــاريع الحــرة‪ ،‬ونــأى بنفســه‬
‫ً‬ ‫يف خطاباتــه ومقابالتــه‬
‫‪ -1‬نرص‪ ،‬مذكرات صالح نرص‪ ،‬الجزء األول‪ :‬الصعود‪ ،‬ص ‪.204-198‬‬

‫‪47‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫(((‬
‫عــن قــرارات مجلــس قيــادة الثــورة املناوئــة لألحــزاب السياســية وكبــار ُمـ َّـاك األرايض‪.‬‬
‫كانــت املشــكلة أن الهيــكل االجتامعــي والســيايس يف مــر مصمــم إلضعــاف تلــك النخــب‬
‫يف مواجهــة الدولــة‪ .‬ففــي النصــف األول مــن القــرن التاســع عــر‪ ،‬قــام مؤســس الدولــة‬
‫املرصيــة الحديثــة محمــد عــي‪ -‬عــى غــرار حكــم آل هوهنتســولرن((( يف بروســيا‪ ،‬وروســيا‬
‫القيرصيــة‪ ،‬ومرحلــة إصالحــات ميجــي((( االنتقاليــة يف اليابــان‪ -‬بتفكيــك األرســتقراطية‬
‫العســكرية للمامليــك‪ ،‬التــي تأسســت يف القــرن الثالــث عــر‪ ،‬وربــط طبقــة املــاك‬
‫بحكمــه التوســعي‪ .‬لــذا‪ ،‬وبــداًلً مــن تقســيم ملكيــة األرايض بــن أمــراء الحــرب املوالــن‪،‬‬
‫ـتقاًل ويحكــم الســكا َن الذيــن يعيشــون فيهــا ويجمــع‬
‫الذيــن يديــر كل منهــم أرضــه مسـ ً‬
‫الرضائــب ويشــكل امليليشــيات يف زمــن الحــرب‪ ،‬أعلــن محمــد عــي نفســه املالــك الوحيــد‬
‫لــأرض‪ ،‬وعامــل املــاك املرصيــن عــى أنهــم رعايــاه‪ .‬كــا أســس ســلطة مركزيــة لتحصيل‬
‫قضائيــا حديثًــا‪ ،‬وجيشً ــا ثابتًــا بــه ضبــاط مهنيــون ومجنــدون وطنيــون‪.‬‬
‫ً‬ ‫الرضائــب‪ ،‬ونظا ًمــا‬
‫ومنــذ ذلــك الحــن‪ ،‬ظــل ُمـ َّـاك األرايض يف مــر عــى هــذا الحــال‪ ،‬إذ مل تكــن لديهــم‬
‫القــدرة عــى مواجهــة مــن يســيطر عــى الدولــة ‪ -‬كــا ســعى عبــد النــارص إىل ذلــك بقــوة‪.‬‬
‫ارتكــب نجيــب خطــأ آخــر حــن اســتند بثقــة عميقــة إىل األثــر الكبــر الــذي تركــه االنقالب‬
‫عــى صورتــه أمــام النــاس‪ ،‬وحــاول الحفــاظ عــى صورتــه الشــعبية كبطــل من خــال قضاء‬
‫معظــم الفــرة املمتــدة بــن ‪ 1952‬و‪ 1954‬بالتنقــل داخــل البــاد واســتنفار الجامهــر عــر‬
‫الخطــب امللهمــة‪ ،‬وقــد نجــح يف ذلــك نجا ًحــا بال ًغــا‪" :‬عندمــا رآه النــاس فقــدوا الســيطرة‬
‫عــى أنفســهم‪ ،‬وبــدأوا يصفقــون ويهتفــون ويرمــون أنفســهم عــى ســيارته"‪ (((.‬وبالنظــر‬
‫إىل الشــعبية التــي متتــع بهــا‪ ،‬فقــد أهــدر جهــود أقــرب أعوانــه العســكريني يف حملــة‬
‫تافهــة لتعزيــز شــعبيته بــداًلً مــن زرعهــم يف األجهــزة األمنيــة الناشــئة‪ :‬فعــن ريــاض‬
‫ســامي كســكرتري صحفــي‪ ،‬ومحمــد ريــاض مســؤواًلً عــن املراســم‪ .‬كــا بــدأ منــذ عــام‬
‫‪ 1954‬يتقــرب مــن قــادة اإلخــوان املســلمني‪ ،‬عــى أمــل أن يســاعده دعــم القــوة األكــر‬
‫‪1- Aburish, Nasser: The Last Arab, 49-51.‬‬
‫‪ -2‬مــن أبــرز األرس الحاكمــة يف أملانيــا‪ ،‬ومنهــا تتفــرع العديــد مــن األرس التــي حكمــت مناطــق يف أملانيــا منــذ‬
‫القــرن الثامــن عــر حتــى مطلــع القــرن العرشيــن‪( .‬املرتجــم)‬
‫‪ -3‬فــرة انتقاليــة مــن تاريــخ اليابــان خــال القــرن التاســع عــر عرفــت فيهــا البــاد تحــوالت واســعة عــى‬
‫املســتويني الســيايس واالجتامعــي ودخلــت البــاد بعدهــا الفــرة املعــارصة مــن تاريخهــا‪( .‬املرتجــم)‬
‫‪ -4‬رفعت يونان‪" ،‬محمد نجيب‪ :‬زعيم ثورة أم واجهة حركة؟"‪ ،‬دار الرشوق‪ ،2008 ،‬ص ‪.25‬‬

‫‪48‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫رئيســا مبوجــب دســتور‬


‫شــعبية يف الشــارع عــى إعــادة الضبــاط إىل الثكنــات والبقــاء ً‬
‫ليــرايل‪ (((.‬وعــى عكــس منافســه الحــذق‪ ،‬فشــل نجيــب يف إدراك أن الشــعبية الجامهرييــة‬
‫قــد تُكتســب بســهولة وتتبخــر بالســهولة ذاتهــا‪.‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬فــإن إحــدى أســوأ عيــوب نجيب متثلــت يف كيفيــة تأمينــه للدعم األجنبــي‪ .‬فعىل‬
‫عكــس حملــة عبــد النــارص املبــارشة والجريئــة لبنــاء تحالــف أمنــي مــع الواليــات املتحــدة‪،‬‬
‫فضــل‪ -‬وهــو القلــق جـ ًدا حيــال تشــويه ســمعته‪ -‬طريقــة ملتويــة‪ .‬وبــداًلً مــن االعتــاد عــى‬
‫َّ‬
‫الضبــاط املخلصــن‪ ،‬شــجع اإلخــوا َن املســلمني عىل تأييــده يف مناقشــاتهم مــع الربيطانيني‬
‫واألمريكيــن‪ .‬فبــن مايــو ‪ 1953‬وينايــر ‪ ،1954‬أجــرى ممثــا اإلخــوان املســلمني منــر‬
‫الدلــة وصالــح أبورقيــق جولتــن مــن املحادثــات مــع موظفــي الســفارة الربيطانيــة‪ :‬الســيد‬
‫(((‬
‫حارســا أفضــل للدميقراطيــة‪.‬‬
‫إيفانــز والســيد كريزويــل‪ ،‬وذكــرا أن نجيــب ســيكون ً‬
‫تزامنــت تلــك املحادثــات مــع ســبع جوالت أخرى مــع األمريكيــن جرت بني مايو وأغســطس‬
‫‪ ،1953‬شــارك فيهــا املرشــد العــام لإلخــوان املســلمني حســن الهضيبــي بنفســه‪ .‬ويف أحــد‬
‫االجتامعــات بتاريــخ ‪ 4‬يونيــو‪ ،‬حــاول مبعــوث اإلخــوان محمــود مخلــوف تزكيــة الرئيــس‬
‫نجيــب قائـ ًـا‪" :‬ســيكون نجيــب عــى اســتعداد لتوقيــع تفاهــم رسي مــع الواليــات املتحــدة‪،‬‬
‫وســيدعم اإلخــوان املســلمون مثــل هــذه الخطــوة‪ .‬لكن عبــد النارص قــد يعارض هــذا"‪ .‬ويف‬
‫اجتــاع ‪ 17‬يوليــو أفــاد املرشــد العــام بأنــه ونجيب يؤيــدان "انســحاب الجيش مــن الحكومة‬
‫(((‬
‫واســتبداله بتحالــف ُمكــ َّون مــن رجــال صالحــن مــن مختلــف األحــزاب السياســية"‪.‬‬
‫ينطــوي هــذا االقــراح عــى العديــد مــن اإلشــكاالت‪ ،‬فالقــوى الغربيــة كــا رأينــا مل تكــن‬
‫متحمســة تجــاه الدميقراطيــة‪ ،‬وشـكَّل تفــاوض نجيــب معهــم عــر حركــة إســامية منعط ًفــا‬
‫إضافيــا مــن منظورهــم‪ .‬لكــن املشــكلة األكــر أنــه كان متحفظًــا بعــض الــيء مــع ممثليــه‪.‬‬
‫ً‬
‫حيــث بــرزت خــال محادثاتــه الرسيــة مــع اإلخــوان املســلمني‪ ،‬والتــي جــرت بــن ديســمرب‬
‫‪ 1953‬ومــارس ‪ 1954‬بــن مســاعديه ســامي وريــاض وقــادة اإلخــوان حســن عشــاوي‬
‫ومنــر دلــة‪ ،‬العديــد مــن اإلشــكاالت التــي مل يتوصــل الجانبــان إىل حلهــا‪ .‬وفيــا أراد‬

‫‪ -1‬عبد املحسن أبو النور‪" ،‬الحقيقة عن ثورة ‪ 23‬يوليو"‪ ،‬ص ‪.43-41‬‬


‫‪ -2‬عبدالرحمن الرافعي‪ ،‬ثورة ‪ 23‬يوليو ‪ ،1952‬ص ‪.134-130‬‬
‫‪ -3‬فؤاد عالم‪" ،‬اإلخوان وأنا"‪ ،‬أخبار اليوم‪ ،1996 ،‬ص ‪.556 ،548‬‬

‫‪49‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫نجيــب إعــادة إرســاء الدميقراطيــة‪ ،‬فقــد أراد اإلخــوان صفقــة شــاملة يبقــى هــو فيهــا‬
‫رئيســا‪ ،‬بــرط تعيــن قائــد للجيــش مــوايل لإلخــوان هــو العقيــد رشــاد مهنــا مــن ســاح‬‫ً‬
‫املدفعيــة‪ .‬فاعــرف نجيــب لســكرتريه الصحفــي ســامي بأنــه غــر ملتــزم باالتفــاق‪ ،‬ألنــه مل‬
‫يتخيــل قــط أن اإلخــوان ســينقلبون عليــه‪ ،‬متناسـ ًـيا أن العــودة إىل الدميقراطيــة ســتصب‬
‫(((‬
‫يف الغالــب يف مصلحــة حــزب الوفــد الليــرايل ال اإلســاميني‪.‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬كان خطــأ نجيــب الرئيــي هــو أنــه مل يطــور أي تشــكيل مــوا ٍل لــه داخــل‬
‫الجيــش‪ ،‬ناهيــك عــن مشــاهدته النظــام األمنــي الجديــد الــذي شــ َّكلَه خصومــه أمــام‬
‫ناظريــه‪ .‬صحيــح أن موقفــه املؤيــد للدميقراطيــة حظــي بدعــم غالبيــة الضبــاط‪ ،‬لكنــه مل‬
‫فضـ ًَـا متريــر األوامــر عــر القنــوات الرســمية بــداًلً مــن إنشــاء‬
‫يحــاول تنســيق جهودهــم‪ُ ،‬م ِّ‬
‫شــبكة مــن الضبــاط املخلصــن لــه‪ .‬وحتــى عندمــا توســل إليــه ضبــاط املدفعيــة والفرســان‬
‫يف أغســطس ‪ 1952‬لفعــل ذلــك‪ ،‬فقــد رفــض خوفًــا مــن أن تــؤدي االنقســامات داخــل‬
‫الجيــش لدفــع البــاد إىل شــفا حــرب أهليــة‪.‬‬
‫رس الح ًقــا لقائــد الحــرس الجمهــوري عبــد املحســن أبــو النــور‪ ،‬أنــه ال‬ ‫رأى نجيــب‪ ،‬كــا أ ّ‬
‫داعــي لتدبــر املكائــد‪ ،‬فهــو الضابــط األعــى رتبــة يف البــاد ناهيــك عــن كونــه رئيــس‬
‫(((‬
‫الجمهوريــة ورئيــس مجلــس قيــادة الثــورة‪ .‬ولــذا‪ ،‬توقــع أن يطيعــه الضبــاط دومنــا تــردد‪.‬‬
‫ورغــم تكــرار كالم مســاعده ســامي عــن أهميــة بنــاء نجيــب لقاعــدة سياســية قويــة داخــل‬
‫النظــام‪ ،‬فقــد بقــي األخــر منبهـ ًرا بهالــة ســلطته وأنــه برتبــة لــواء فمــن غــر املناســب أن‬
‫يتواصــل مــع صغــار الضبــاط‪ .‬كــا رأى أنــه مــن األفضــل لــه إضفــاء الطابــع املهنــي عــى‬
‫(((‬
‫املؤسســة العســكرية بــداًلً مــن تسييســها‪.‬‬
‫رافضــا االعــراف بأن‬
‫قلــل نجيــب مــن أهميــة تأثــر خصمــه عبــد النــارص عــى الضبــاط‪ً ،‬‬
‫ضابطًــا برتبــة مقــدم يف الجيــش ال يتمتــع "بحضــور شــعبي مميــز" ميكــن أن يهــدده(((‪-‬‬
‫كــا أشــار إىل عبــد النــارص يف مذكراتــه‪ -‬معـواًلً يف قــرارة نفســه عــى دعــم الشــعب ال‬
‫الجيــش‪ .‬لكــن شــعبيته تلــك يصعــب الحفــاظ عليهــا رغــم الجهــود التــي بذلهــا لتعزيزهــا‪،‬‬
‫‪ -1‬سامي‪ ،‬شاهد عىل عرص الرئيس محمد نجيب‪ ،‬ص ‪.51‬‬
‫‪ -2‬أبو النور‪ ،‬الحقيقة عن ثورة ‪ 23‬يوليو‪ ،‬ص ‪.43-41‬‬
‫‪ -3‬سامي‪ ،‬شاهد عىل عرص الرئيس محمد نجيب‪ ،‬ص ‪.35-33‬‬
‫رئيسا ملرص‪ ،‬ص ‪.211‬‬
‫‪ -4‬نجيب‪ ،‬كنت ً‬

‫‪50‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫وذلــك ببســاطة ألن املرصيــن ســئموا مــن النظــام القديــم وأرادوا قائ ـ ًدا قويًــا إلصــاح‬
‫البــاد‪ .‬كــا أنــه اعــرف الح ًقــا أن النــاس أرادوا "أتاتــورك مــري"‪ ،‬وهــو دور مل يكــن‬
‫راغبــا يف أدائــه‪ (((.‬لكــن عبــد النــارص يف املقابــل مل يــردد يف أداء هــذا الــدور والقيــام‬
‫ً‬
‫مبــا يلــزم لتحقيــق غايتــه‪.‬‬

‫بني ثورتني‬
‫يســتطيع املــرء بعــد مقارنــة إســراتيجيات الحكــم لــدى كل مــن جــال عبد النــارص ومحمد‬
‫نجيــب أن يســتنتج أن األخــر قــد تجلَّــت خســارته منــذ البدايــة‪ ،‬وأن نتيجــة رصاعهــا عــى‬
‫الســلطة قــد ُحســمت قبــل أن تبــدأ‪ .‬مل يســيطر عبــد النــارص عــى األجهــزة األمنيــة الجديدة‬
‫أيضــا يف كســب تأييــد القــوة‬
‫والكيــان الجامهــري الوحيــد يف البــاد فحســب‪ ،‬بــل نجــح ً‬
‫العامليــة الكــرى‪ ،‬الواليــات املتحــدة‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬كانــت مشــكلته هــي الوقــت‪ :‬إذ مل يكــن‬
‫لديــه مــا يكفــي مــن الوقــت لضبــط الجيــش وإخضــاع القــوى السياســية القدميــة‪ .‬وهكــذا‬
‫انتــر التمــرد بــن الضبــاط‪ ،‬فبــدأ أواًلً داخــل ســاح املدفعيــة يف شــهر ينايــر ‪ ،1953‬ثــم‬
‫يف ســاح الفرســان يف مــارس ‪ .1954‬مل يكــرث املنشــقون عــن الجيــش بعبــد النــارص أو‬
‫نجيــب‪ ،‬بــل أرادوا إقامــة حكــم دميقراطــي‪ ،‬لكنهــم احتشــدوا حــول نجيــب ألنــه تعاطــف‬
‫ـتحياًل نظـ ًرا ألن املدفعيــة والفرســان‪ ،‬بحكــم‬
‫مــع موقفهــم‪ .‬بــدا انتصــار عبــد النــارص مسـ ً‬
‫تجهيزاتهــا وقوتهــا الناريــة‪ ،‬كانــا مــن أقــوى فــروع الجيــش املــري‪ .‬كــا أن متــرد‬
‫الفرســان كان مدعو ًمــا مبظاهــرات شــعبية واســعة نظمتهــا جامعــة اإلخــوان املســلمني‪،‬‬
‫وضمــت العــرات مــن الليرباليــن والشــيوعيني‪ .‬فكيــف ميكــن للمؤسســة األمنيــة الناشــئة‬
‫أن تســيطر عــى مثــل هــذه القــوة الضخمــة؟‬
‫أ‪ -‬مترد املدفعية‬
‫بــدأت الحلقــة األوىل مــن هــذا الــراع القصــر عــى الســلطة مــع متــرد املدفعيــة‪ .‬كانــت‬
‫كتلــة كبــرة داخــل ســاح املدفعيــة تتــوق الســتئناف الحيــاة الربملانيــة‪ ،‬األمــر الــذي يتطلــب‬
‫عــودة الجيــش إىل الثكنــات وتســليم الســلطة إىل حكومــة مدنيــة منتخبــة‪ .‬واعتقــدوا أن‬
‫االنقــاب يهــدف فقــط إىل تطهــر األحــزاب السياســية مــن العنــارص الفاســدة وخلــع‬

‫رئيسا ملرص‪ ،‬ص ‪.181‬‬


‫‪-1‬نجيب‪ ،‬كنت ً‬

‫‪51‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫امللــك العنيــد‪ ،‬وإجبــار الربيطانيــن عــى الجــاء عــن مــر‪ ،‬وأنــه مبجــرد إمتــام هــذه‬
‫املهــام ســتقوم الدميقراطيــة يف مــر مــن جديــد‪.‬‬
‫كفــرع متميــز لديــه معــدات متطــورة‪ُ ،‬عــرف ضبــاط املدفعيــة‪ -‬كنظرائهــم يف ســاح‬
‫الفرســان‪ ،‬وبخــاف ســاح املشــاة األكــر بدائيــة‪ -‬بعقليتهــم االحرتافيــة وحامســهم‬
‫تجــاه املهــام العســكرية‪ .‬ال شــك يف أن عمليــات التطهــر املســتمرة وتقويــض االنضبــاط‬
‫ـلبيا‬
‫العســكري باســم الــوالء الســيايس أســاء إىل مزاجهــم املهنــي‪ .‬كــا اتخــذوا موق ًفــا سـ ً‬
‫مــن عبــد النــارص بعــد اكتشــافهم أن تعيينــه عقيــد املدفعيــة املحبــوب رشــاد مهنــا يف‬
‫مجلــس الوصايــة املؤلــف مــن ثالثــة أعضــاء‪ -‬والــذي أنشــئ بعــد نفــي امللــك إلدارة البــاد‬
‫حتــى بلــوغ ويل العهــد الســن املناســب‪ -‬حــدث بهــدف إقصائــه بــداًلً مــن تعزيــز مكانتــه‪.‬‬
‫يف يونيــو ‪ ،1953‬تحولــت مــر للنظــام الجمهــوري وألغيــت جميــع املناصــب امللكيــة‪ ،‬مبــا يف‬
‫ذلــك مجلــس الوصايــة‪ .‬ومــا زاد الطــن بلــة‪ ،‬أن مهنا أُخرج مــن الخدمة بالجيــش يف أكتوبر‬
‫مــن العــام الســابق و ُوضــع رهــن اإلقامــة الجربيــة بتهمة التآمــر مع اإلخــوان املســلمني‪ .‬ويُقر‬
‫صــاح نــر بــأن عبد النارص خيش من شــخصية مهنــا الكاريزمية‪ ،‬فهو الضابــط األول الذي‬
‫(((‬
‫شــكل خاليــا رسية داخــل الجيــش يف األربعينيات‪ ،‬فعزم عــى إقصائه وإبعاده عن الســلطة‪.‬‬
‫يف ‪ 14‬ديســمرب ‪ ،1952‬قــدم النقيبــان يف ســاح املدفعيــة محســن عبــد الخالــق وفتــح‬
‫التامســا إىل عبــد النــارص‪ ،‬نيابــة عــن زمالئهــم‪ ،‬يطالبــون فيــه بإعــادة تشــكيل‬
‫ً‬ ‫اللــه رفعــت‬
‫مجلــس قيــادة الثــورة إلعطــاء متثيــل متســا ٍو بــن فــروع الجيــش‪ ،‬وأن ينتخــب كل فــرع‬
‫ممثليــه يف املجلــس‪ .‬وهــدد النقيبــان يف رســالتهام بأنهــا ال يســتطيعان قبــول اإلطاحــة‬
‫مبلــك واحــد ليحكمهــم أربعــة عــر ملـكًا (يف إشــارة إىل أعضــاء مجلــس قيــادة الثــورة)‪.‬‬
‫وليفهــم مــدى معارضتهــا‪ ،‬طلــب عبــد النــارص منهــا رســم مخطــط للنظــام الســيايس‬
‫الــذي يتصورانــه‪ ،‬ونصحهــا بطباعتــه يف مقــر املخابــرات الحربيــة بذريعــة أخــذ الحيطــة‬
‫والحــذر‪ ،‬لكــن هــذه الحيلــة مل تنطـ ِـل عليهــا‪ .‬وبــداًلً مــن ذلــك‪ ،‬أقنعتهــا هــذه الطلبــات‬
‫املشــبوهة بــأن عبــد النــارص واملتعاونــن معــه ال يريــدون اإلصــاح بــل يريــدون التخلــص‬
‫منهــم جمي ًعــا‪.‬‬
‫منــذ ‪ 30‬ديســمرب حتــى ‪ 7‬ينايــر‪ ،‬عقــد النقيبــان أربعــة اجتامعــات رسيــة مــع خمســة‬
‫‪ -1‬نرص‪ ،‬مذكرات صالح نرص‪ ،‬الجزء األول‪ :‬الصعود‪ ،‬ص ‪.167‬‬

‫‪52‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫عــر آخريــن مــن زمالئهــا يف املدفعيــة‪ ،‬باإلضافــة إىل بعــض ضبــاط ســاح الفرســان‪،‬‬
‫للتخطيــط النقــاب مضــاد‪ .‬كــا التقيــا مرتــن باملرشــد العــام لجامعــة اإلخــوان املســلمني‬
‫لتأكيــد دعــم جامعتــه‪ .‬قضــت خطتهــا باعتقــال جميــع أعضــاء مجلــس قيــادة الثــورة‪-‬‬
‫باســتثناء نجيــب‪ -‬خــال أحــد اجتامعاتهــم األســبوعية‪ ،‬وذلــك باســتخدام وحــدات مــن‬
‫كتيبــة املدفعيــة األوىل‪ ،‬املتمركــزة عــى بعــد مبنيــن مــن مقــر قيــادة الثــورة‪ ،‬ثــم الســيطرة‬
‫عــى العاصمــة باســتخدام كتيبــة املدفعيــة الثانيــة ورسايــا مدرســة املدفعيــة ث َّم إعــان فرتة‬
‫انتقاليــة قصــرة برئاســة نجيــب لصياغــة دســتور جديــد للبــاد والتحضــر لالنتخابــات‪.‬‬
‫لكــن املــازم يف ســاح املدفعيــة ســامي رشف‪ ،‬والــذي كان شــقيقه مــن بــن املشــاركني‬
‫يف االنقــاب‪ ،‬أخــر املخابــرات الحربيــة بالخطــة‪ ،‬وكوفــئ لقــاء ذلــك بنيــل عضويــة‬
‫ـا‬
‫الجهــاز‪ ،‬ويف ‪ 16‬ينايــر ألقــى زكريــا محــي الديــن القبــض عــى خمســة وثالثــن متهـ ً‬
‫يف القضيــة وحاكمهــم بإجــراءات رسيعــة‪ ،‬وبحلــول ‪ 19‬مــارس ُحكــم عــى اثنــي عــر‬
‫فــر ًدا منهــم بالســجن‪ ،‬مبــن فيهــم مه ّنــا‪ (((.‬ومبجــرد اعتقــال زعــاء املحاولــة االنقالبيــة‪،‬‬
‫اجتمــع خمســمئة ضابــط مــن ضبــاط املدفعيــة يف مقــر خدمتهــم وهــددوا باســتخدام‬
‫القــوة لتحريــر زمالئهــم‪ .‬ولتهدئــة الوضــع‪ ،‬وعــد زكريــا باإلفــراج عنهــم بعــد أن ميضــوا‬
‫ثــاث ســنوات فقــط يف الســجن‪ .‬ويف رســالة لــه مــن الســجن‪ ،‬أكــد النقيــب عبــد الخالــق‬
‫أن فشــل االنقــاب املضــاد مهــد الطريــق للديكتاتوريــة يف عهــد عبــد النــارص و"برييــا" يف‬
‫إشــارة منــه إىل زكريــا‪ (((.‬ورمبــا كان هــذا صحي ًحــا حتــى ذلــك الحــن‪ ،‬لكــن الجيــش مل‬
‫يكــن قــد فقــد عزمــه بعــد‪ ،‬إذ أن متــر ًدا أكــر بكثــر كان قيــد اإلعــداد‪.‬‬
‫ب‪ -‬مترد الفرسان‬
‫مــع إخضــاع املدفعيــة‪ ،‬كانــت خطــة عبــد النــارص للبقــاء يف الســلطة عــى موعــد مــع تحـ ٍّد‬
‫أكــر‪ .‬بــدأت التوتــرات تتصاعــد عــى نحــو متزايــد بــن فريــق نجيــب مــن جهــة وفريــق‬
‫عبــد النــارص الــذي ال يثــق بــه مــن جهــة أخــرى‪ .‬وخــال اجتــاع ملجلــس قيــادة الثــورة‬
‫يف ‪ 20‬ديســمرب ‪ 1953‬اشــتىك عبــد النــارص مــن تجاهــل وســائل اإلعــام لخطبــه عــن‬
‫عمــد‪ ،‬فألقــى أعضــاء املجلــس باللــوم عــى نجيــب‪ ،‬واتهمــوه مبحاولــة اختطــاف الثــورة‪.‬‬

‫‪ -1‬محي الدين‪ ،‬اآلن أتكلم‪ ،‬ص ‪.222‬‬


‫‪ -2‬جامل حامد‪ ،‬أرسار ثورة ‪ 23‬يوليو‪ ،‬الجزء األول والثاين‪ ،‬دار العلوم‪ ،2010 ،‬ص ‪.714‬‬

‫‪53‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫ويف ‪ 23‬فربايــر ‪ 1954‬قــرر أعضــاء مجلــس قيــادة الثــورة عقــد اجتامعهــم األســبوعي يف‬
‫معرتضــا عــى مــا يحصــل‪،‬‬
‫ً‬ ‫مكتــب عبــد النــارص دون دعــوة نجيــب‪ .‬لكنــه حــر إىل املــكان‬
‫فطُلــب منــه العــودة إىل منزلــه‪.‬‬
‫أراد أعضــاء مجلــس القيــادة إقنــاع نجيــب بقبــول دوره الصــوري‪ ،‬لكــن املحاولــة جــاءت‬
‫بنتائــج عكســية بعــد يومــن متا ًمــا‪ ،‬حيــث رفــع نجيــب ســقف الــراع وقــدم اســتقالته‬
‫معل ًنــا أن رشفــه العســكري مينعــه مــن تــرؤس "جامعــة املخربيــن" التــي تديرهــا زمــرة‬
‫أمنيــة دربتهــا وكالــة املخابــرات املركزيــة األمريكيــة وعمــاء ســابقون يف الرشطــة الرسيــة‬
‫األملانيــة‪ (((.‬واعــرف نجيــب ملستشــاره القانــوين أنــه أراد مــن اســتقالته إثــارة النــاس‬
‫والجنــود‪ ،‬وهــو مــا حــدث يف النهايــة‪ (((.‬إزاء ذلــك‪ ،‬بــدأ عبــد النــارص ومــن معــه باعتــاد‬
‫خطــوات جديــدة‪ ،‬فبمبــادرة شــخصية مــن صــاح نــر مديــر مكتــب القائــد العــام ‪ ،‬وقائد‬
‫الحــرس الجمهــوري عبــد املحســن أبــو النــور‪ ،‬اسـتُبدلت وحــدة الحراســة املتمركــزة خــارج‬
‫منــزل نجيــب بجنــود مــن كتيبــة املشــاة ‪ 13‬التابعــة لنــر‪ ،‬واحتجــزوا ضبــاط الحــرس‬
‫املوالــن لنجيــب ليصبــح أعـزاًلً مــن أي حاميــة‪ .‬وهنــا تجلــت خدعــة عبــد النــارص‪ ،‬ليــس‬
‫أيضــا قيــد اإلقامــة الجربيــة بعــد‬
‫فقــط بقبــول اســتقالة نجيــب يف ‪ 26‬فربايــر بــل بوضعــه ً‬
‫(((‬
‫أن ادعــى للصحافــة أنــه أصبــح ديكتاتوريًــا وفاس ـ ًدا بشــكل ال يطــاق‪.‬‬
‫ورغــم ذلــك‪ ،‬مل يتوقــع عبــد النــارص أن اســتقالة نجيب ســتؤدي إىل مترد ســاح الفرســان‪،‬‬
‫وحــدوث متــرد شــعبي واســع‪ .‬فقــد شــعر ضبــاط ســاح الفرســان‪ -‬كزمالئهــم يف ســاح‬
‫املدفعيــة‪ -‬أن مجلــس قيــادة الثــورة يقــود البــاد نحــو الديكتاتوريــة بــداًلً مــن الدميقراطية‪،‬‬
‫وأنــه عــى وشــك توريــط الجيــش يف املشــهد الســيايس‪ .‬وعندمــا أعلــن نجيــب عــن نيتــه‬
‫الرحيــل‪ ،‬شــكل الفرســان يف ‪ 26‬فربايــر وفـ ًدا مــن مثانيــة ضبــاط بقيــادة أحمــد املــري‬
‫وفــاروق األنصــاري‪ ،‬للتفــاوض عــى تســوية ســلمية مــع مجلــس قيــادة الثــورة قبــل إعــان‬
‫اســتقالة الرئيــس‪ ،‬وطالبــوا بتشــكيل حكومــة مدنيــة مؤقتــة تــوكل إليهــا مهمــة كتابــة دســتور‬
‫جديــد وتــرف عــى االنتخابــات قبــل نهايــة العــام‪.‬‬

‫رئيسا ملرص‪ ،‬ص ‪.187-186‬‬


‫‪ -1‬نجيب‪ ،‬كنت ً‬
‫‪ -2‬سليامن حافظ‪ ،‬ذكريايت عن الثورة‪ ،‬ص ‪.117‬‬
‫‪ -3‬نرص‪ ،‬مذكرات صالح نرص‪ ،‬ص ‪ .232 -228‬أبو النور‪ ،‬الحقيقة عن ثورة ‪ 23‬يوليو‪ ،‬ص ‪.64-58‬‬

‫‪54‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫أعــرب عبــد النــارص ورفاقــه عــن قلقهــم مــن أن تطبيــق الدميقراطيــة قبــل األوان ســيعيد‬
‫تعزيــز نفــوذ القــوى الرجعيــة‪ ،‬مــا دفــع بالوفد لالنســحاب مــن املحادثــات ودعــا لالعتصام‬
‫يف مقــر ســاح الفرســان‪ .‬اســتجاب ثالمثئــة ضابــط للدعــوة‪ ،‬وبــدأت وحــدات مــن الفرقــة‬
‫املدرعــة الرابعــة‪ -‬قــوة االحتيــاط اإلســراتيجية للجيــش‪ -‬مبحــارصة املقــر العــام لقيــادة‬
‫القــوات املســلحة الــذي كان عــى الجانــب اآلخــر مبــارشة مــن مقــر ســاح الفرســان‪.‬‬
‫طالــب املنشــقون بإعــادة نجيــب إىل منصبــه وإقالــة عبــد الحكيــم عامــر وحــل مجلــس‬
‫قيــادة الثــورة‪ ،‬واالنتقــال الفــوري إىل الدميقراطيــة‪ ،‬فهــرع عبــد النــارص عــى الفــور إىل‬
‫مــكان االعتصــام إلقنــاع الضبــاط بإلغــاء عصيانهــم‪ ،‬يصحبــه حســن التهامــي ومعــه رجــال‬
‫رسا لتســجيل أســاء املحرضــن‪ .‬لكــن محاولتــه فشــلت عندمــا رفــض املرضبــون‬ ‫أمنــه ً‬
‫دخــول أي مــن العنــارص إىل القاعــة‪ ،‬وطالبــوا عبــد النــارص بالدخــول مبفــرده‪ .‬وبعــد‬
‫نقــاش حــاد بــن عبــد النــارص والضبــاط املعتصمــن‪ ،‬اتهــم الضبــا ُط مجلـ َ‬
‫ـس قيــادة الثورة‬
‫وضبــا َط األمــن بالفســاد وإســاءة اســتخدام الســلطة‪ ،‬فــرخ عبــد النــارص‪" :‬مــن أعطاكــم‬
‫الحــق للتحــدث باســم الشــعب؟" فــرد عليــه أحــد الضبــاط‪" :‬نحــن برملــان الشــعب حتــى‬
‫يُشــكل الربملــان"‪ .‬وبعــد تعرضــه للضغــط والتهديــد‪ ،‬خاصــة بعــد ســاعه تحــركات الدبابــات‬
‫خــارج القاعــة‪ ،‬تعهــد عبــد النــارص بتلبيــة جميــع مطالبهــم‪ ،‬مبــا يف ذلــك حــل مجلــس‬
‫قيــادة الثــورة وتشــكيل حكومــة جديــدة بقيــادة نجيــب وممثــل ســاح الفرســان يف مجلــس‬
‫قيــادة الثــورة خالــد محــي الديــن‪ ،‬ثــم عــاد إىل مقــر مجلــس قيــادة الثــورة وأبلــغ املجلــس‬
‫بقراراتــه وأرســل خالــد إىل منــزل نجيــب يف الســاعات األوىل مــن يــوم ‪ 27‬فربايــر يك‬
‫يتمكــن االثنــان مــن تــويل املســؤولية(((‪.‬‬
‫غضبــا شــدي ًدا‪ ،‬لدرجــة أنــه طلــب مــن عائلتــه إخــاء‬
‫غضــب عبــد النــارص إزاء مــا حــدث ً‬
‫املنــزل عــى الفــور‪ ،‬وتذكــر زوجتــه تحيــة كاظــم أنــه أخربهــا بعصبيــة أن وحــدات ســاح‬
‫(((‬
‫الفرســان قــد تقصــف املنــزل يف أيــة لحظــة‪.‬‬
‫للوهلــة األوىل‪ ،‬بــدا أن كل يشء انتهــى‪ ،‬وأن الــراع عــى الســلطة قــد ُحســم بهزميــة عبــد‬
‫النــارص‪ ،‬لكــن األحــداث رسعــان مــا تبدلــت‪" .‬اســتغرق األمــر ســاعة واحــدة فقــط"‪ ،‬كــا‬

‫‪ -1‬محي الدين‪ ،‬اآلن أتكلم‪ ،‬ص‪.273-270‬‬


‫‪ -2‬تحية عبد النارص‪ ،‬ذكريايت معه‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار الرشوق‪ ،2011 ،‬ص ‪.80‬‬

‫‪55‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫ـر خالــد مبــرارة‪" ،‬ليتبــدل الوضــع متا ًمــا‪ .‬فخــال الســتني دقيقــة التــي مــرت بــن‬
‫عـ َّ‬
‫(((‬
‫رأســا عــى عقــب"‪.‬‬
‫رحلتــي إىل منــزل نجيــب والعــودة مــن هنــاك‪ ،‬انقلــب كل يشء ً‬
‫عــادة مــا يُفــر الباحثــون الذيــن درســوا هــذا املنعطــف الحــرج مــا تــاه عــى أنــه منــاورة‬
‫مدبــرة مــن عبــد النــارص‪ ،‬لكــن ة الدقيقــة ملذكــرات بعــض املتورطــن يف األحــداث‬
‫تكشــف أن الكيــان األمنــي الناشــئ هــو الــذي قــاد ردة الفعــل‪ ،‬وأن عبــد النــارص وافــق‬
‫عــى الخطــة ببســاطة‪ .‬ويف الحقيقــة‪ ،‬نــدرك مــن خــال محادثــة الحقــة بينــه وبــن خالــد‬
‫محــي الديــن أن تفكــر األول تركــز يف تلــك املرحلــة عــى خطــة غــر عمليــة تقــي بعودة‬
‫الجيــش إىل ثكناتــه‪ ،‬والتحايــل عــى نجيــب لفــرة مــن الزمــن‪ ،‬ثــم التخطيــط النقــاب‬
‫آخــر‪ (((.‬لكــن القيــادة األمنيــة الناشــئة أدركــت أن الدميقراطيــة ســتقطع الطريــق عــى‬
‫حياتهــم املهنيــة الجديــدة الواعــدة‪ ،‬فأخــذوا بزمــام املبــادرة يف تلــك الليلــة وقلبــوا املوازين‬
‫لصالــح عبــد النــارص‪ .‬خــال تطــور األحــداث‪ ،‬كان ضابــط املشــاة جــال حــاد‪ ،‬الــذي‬
‫رضا يف مقــر القيــادة‬‫صــاغ البيــان األول للضبــاط األحــرار بعــد وصولهــم إىل الســلطة حــا ً‬
‫(((‬
‫العامــة ووصــف كيــف بقــي عبــد النــارص متفر ًجــا أمــام ذلك االنقــاب املضــاد الجــريء‪.‬‬
‫يف الطــرف اآلخــر‪ ،‬يؤيــد الضبــاط الثالثــة‪ -‬نجيــب‪ ،‬وخالــد‪ ،‬وقائــد متــرد ســاح الفرســان‬
‫أحمــد األنصــاري‪ -‬الذيــن تلقــوا هــذه الرضبــة األمنيــة املنســقة‪ -‬هــذا الوصــف‪ .‬وأشــار‬
‫نجيــب إىل أن الصحافــة وثقــت بالفعــل انتهــاكات حقــوق اإلنســان الحاصلــة وطلبــت‬
‫معاقبــة املرتكبــن‪ .‬وأكــد أنــه مــن الطبيعــي بالنســبة لضبــاط األمــن أن يفهمــوا أن‬
‫اســتئناف الحيــاة الدميقراطيــة "تعنــي نهايتهــم‪ ،‬وأنهــم سيحاســبون عــى مــا ارتكبــوه مــن‬
‫تجــاوزات"‪ (((.‬يتذكــر خالــد تحذيــره لعبــد النــارص مــن أن املواجهــة بــن القــوات املســلحة‬
‫ميكــن أن تتصاعــد إىل حــام دم‪ ،‬وكيــف أن األخــر رد عليــه بخنــوع‪" :‬مل أعــد أفهــم مــا‬
‫يجــري"‪ (((.‬وألقــى األنصــاري‪ ،‬يف رســالة مــن الســجن إىل حــاد‪ ،‬باللــوم عــى نفســه كونــه‬
‫وثــق بعبــد النــارص بــداًلً مــن اعتقالــه ورفاقــه‪ ،‬وأنــه ورفاقــه يف ســاح الفرســان اســتخفوا‬

‫‪ -1‬محي الدين‪ ،‬اآلن أتكلم‪ ،‬ص ‪.277‬‬


‫‪ -2‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.253‬‬
‫‪ -3‬حامدة حسني‪ ،‬أرسار ثورة ‪ 232‬يوليو‪ ،‬ص ‪.888-886‬‬
‫رئيسا ملرص‪ ،‬ص ‪.240‬‬
‫‪ -4‬نجيب‪ ،‬كنت ً‬
‫‪ -5‬محي الدين‪ ،‬اآلن أتكلم‪ ،‬ص ‪.279-277‬‬

‫‪56‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫برشاســة النخبــة األمنيــة الجديــدة التــي مثلــت الدميقراطيــة بالنســبة لهــا خســارة محققــة‪،‬‬
‫(((‬
‫فهــي التــي مهــدت الطريــق لالســتبداد‪ ،‬وأفرادهــا كانــوا هــم املتآمريــن الحقيقيــن‪.‬‬
‫تكتســب هــذه الجملــة األخــرة أهميــة أكــر يف ضــوء ادعــاء الســادات بــأن عبــد النــارص‬
‫دافــع عــن الدميقراطيــة يف البدايــة خــال االجتــاع األول ملجلــس قيــادة الثــورة يف ‪27‬‬
‫يوليــو ‪ ،1952‬لكــن املجموعــة األمنيــة املتعطشــة للســلطة التــي اعتقــد أنهــا ســتحمي الثــورة‬
‫(((‬
‫هــي التــي ســيطرت عــى مقاليــد الحكــم يف النهايــة‪.‬‬
‫إذا مل يكن عبد النارص هو من أطلق الرصاص‪ ،‬فمن فعل وكيف؟‬
‫ألن األوقــات العصيبــة تتطلــب اتخــاذ إجــراءات قاســية‪ ،‬فقــد أقنــع الضابطــان شــمس‬
‫بــدران وعبــاس رضــوان‪ ،‬اللــذان تحــوال للعمــل يف املجــال األمنــي‪ ،‬عبــد النــارص املــردد‬
‫باإلفــراج عــن ضبــاط املدفعيــة املعتقلــن مقابــل املســاعدة يف وأد عصيان ســاح الفرســان‪.‬‬
‫ورسعــان مــا توصــل الطرفــان إىل اتفــاق بينهــا‪ ،‬وأبلــغ بــدران ورضــوان رئيســهام‬
‫صــاح نــر بــأن ســاح املدفعيــة تحــت إمرتــه‪ .‬كان نــر قــد علــم مــن أحــد مخربيــه‬
‫بأمــر التمــرد قبــل ســاعات مــن حدوثــه‪ ،‬ومل يضيــع الوقــت بتاتًــا‪ :‬فنصــح عبــد النــارص‬
‫بلقــاء املعتصمــن يف مقــر الفرســان ملحاولــة نــزع فتيــل األزمــة‪ .‬ويف غضــون ذلــك‪،‬‬
‫أرســل محرضــن إىل أقســام عســكرية أخــرى ليصــوروا لهــم أن دعــوة ســاح الفرســان‬
‫للدميقراطيــة حيلــة تهــدف لتســليم البــاد إىل الشــيوعيني التابعــن لخالــد‪ (((.‬ومبجــرد‬
‫مغــادرة خالــد ملقــر القيــادة العامــة‪ ،‬قــام نــر بخطوتــه الحاســمة‪:‬‬
‫ـرت كتيبــة املشــاة الثالثــة عــر مبحارصة مقر ســاح الفرســان‪ ،‬وضباط املدفعيــة املفرج‬ ‫"أمـ ُ‬
‫ـت مــن عــي صــري‪ -‬نقيــب‬ ‫عنهــم مؤخـ ًرا عــر إغــاق الطــرق أمــام الدبابــات‪ .‬ثــم طلبـ ُ‬
‫القــوات الجويــة الــذي انضــم إىل النخبــة األمنيــة الجديــدة‪ -‬بإرســال طائــرات تحلــق عــى‬
‫ـلت حســن‬
‫ارتفاعــات منخفضــة فــوق الضبــاط املعتصمــن لرتهيبهم‪ .‬ويف غضون ذلك‪ ،‬أرسـ ُ‬
‫التهامــي وخمســة مــن ضبــاط املخابــرات الحتجــاز نجيــب يف مقــر املدفعيــة‪ .‬وملــا اكتشــف‬
‫عامــر أننــي أمــرت بتحريــك القــوات دون موافقتــه‪ ،‬اســتدعاين إىل مكتبه وأمســك بقمييص‬
‫ورصخ بشــكل هســتريي‪ ،‬ومسدســه موجـ ٌه إيل‪ ،‬وقــال‪" :‬ســأقتلك! لن أســمح للبلــد أن تنحدر‬
‫‪ -1‬حامد‪ ،‬أرسار ثورة ‪ 23‬يوليو‪ ،‬ص ‪.939-938‬‬
‫‪ -2‬أنور السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬القاهرة‪ :‬املكتب املرصي الحديث‪ ،1978 ،‬ص ‪.157‬‬
‫‪ -3‬نرص‪ ،‬مذكرات صالح نرص‪ ،‬ص ‪.239-236‬‬

‫‪57‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫ـدت لــه أن كل يشء‬ ‫إىل الفــوىض! أنــا القائــد العــام‪ ،‬وليــس أنــت!" لكنــه هــدأ مبجــرد أن أكـ ُ‬
‫تحــت الســيطرة وأن الثــورة أصبحــت اآلن آمنــة‪ .‬عنــد هــذه النقطــة‪ ،‬اندفع خالــد إىل املكتب‬
‫ـت منــه أن يطلــب مــن زمالئــه‬ ‫ـائاًل عمــن أمــر مبحــارصة مقــر ســاح الفرســان‪ ،‬فطلبـ ُ‬
‫متسـ ً‬
‫ـرت الرشطــة العســكرية‬ ‫را‪ ،‬أمـ ُ‬
‫أن يتفرقــوا وإال فسـ ُـيقصف مقرهــم ويقتلــون جمي ًعــا‪ .‬وأخ ـ ً‬
‫وأمــرت‬
‫ُ‬ ‫باقتحــام املقــر واحتجــاز قــادة التمــرد‪ .‬وبحلــول نهايــة اليــوم‪ ،‬أنهينــا التمــرد‪،‬‬
‫(((‬
‫ـت إىل املنــزل ألخــذ قســط مــن النــوم"‪.‬‬ ‫رضــوان‪ -‬مســاعدي‪ -‬مبتابعــة مــا تبقــى‪ ،‬وذهبـ ُ‬
‫مــع تبــدل مســار األحــداث ُدهــش الجميــع‪ ،‬فبعــض النــاس كانــوا عــى علــم باملواجهــة‬
‫الليليــة التــي دارت حــول مقــر ســاح الفرســان‪ ،‬لكــن الجميــع اســتيقظ صبــاح يــوم ‪27‬‬
‫فربايــر عــى بيــان صــادر عــن وزيــر اإلرشــاد القومــي وعضــو مجلــس قيــادة الثــورة‬
‫ـا أنــه مل يكــن أبـ ًدا جــز ًءا مــن حركــة الضبــاط‬
‫صــاح ســامل‪ ،‬يُعلــن فيــه عــزل نجيــب‪ ،‬زاعـ ً‬
‫األحــرار‪ ،‬إمنــا كُلــف بالرئاســة احرتا ًمــا لســنه‪ ،‬وأنــه يف اآلونــة األخــرة‪ -‬بدافــع مــن عقــدة‬
‫الدونيــة الواضحــة لديــه‪ -‬طالــب بســلطات دكتاتوريــة‪ .‬وعــى الفور خــرج مئــات اآلالف من‬
‫املتظاهريــن إىل شــوارع القاهــرة وهــم يهتفــون‪" :‬الســجن لعبــد النــارص! ال ثــورة بــدون‬
‫نجيــب!"‪ .‬كان حجــم االنتفاضــة هائـ ًـا لدرجــة أن مســاعدي عبــد النارص األمنيــن اعرتفوا‬
‫بــأن قمعهــا قــد يــؤدي إىل حــام دم‪ .‬هــرع صــاح ســامل عائ ـ ًدا إىل املقــر العــام‪ ،‬وهــو‬
‫رأســا عــى عقــب‪ ،‬وأنــه يجــب اســرضاؤهم‬ ‫يــرخ بــأن املحتجــن كادوا يقلبــون ســيارته ً‬
‫قبــل أن يشــعلوا البــاد‪ .‬لقــد كان اإلخــوان املســلمون‪ ،‬حلفــاء نجيــب القــوة الرئيســية لهــذه‬
‫(((‬
‫املظاهــرات كــا اعــرف عضــو اإلخــوان وأحــد منظمــي االنتفاضــة‪ ،‬محمــود جامــع‪.‬‬
‫اضطــر عبــد النــارص تحــت الضغــط إلعــادة نجيــب إىل رئاســة الجمهوريــة‪ ،‬وكذلــك رئاســة‬
‫ـاح‬
‫مجلــس قيــادة الثــورة‪ ،‬لكــن األمــور مل تعــد إىل نقطــة الصفــر متا ًمــا‪ :‬فقــد دعــا سـ ُ‬
‫الفرســان‪ ،‬بدعــم مــن االنتفاضــة الشــعبية‪ ،‬إىل اجتــاع آخــر يف ‪ 4‬مــارس ‪ 1954‬وأكــد‬
‫عــى رضورة انســحاب الجيــش مــن العمــل الســيايس‪ .‬إن عــودة نجيــب املظفــرة إىل منصبــه‬
‫بتأييــد وبدعــم مــن أقــوى ســاح يف الجيــش قــدم لــه فرصــة ذهبيــة لــرب منافســيه‪.‬‬
‫رئيســا للــوزراء‪.‬‬
‫فضــل املصالحــة‪ .‬وإلثبــات حســن نيتــه‪ ،‬عــن عبــد النــارص ً‬ ‫ومــع ذلــك فقــد َّ‬
‫وثبــت أن هــذا كان وبــااًلً عليــه‪.‬‬
‫‪ -1‬نرص‪ ،‬مذكرات صالح نرص‪ ،‬ص ‪.243-240‬‬
‫عرفت السادات‪ ،‬القاهرة‪ :‬املكتب املرصي الحديث‪ ،2004 ،‬ص ‪.51‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -2‬محمود جامع‪،‬‬

‫‪58‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫النظام الجديد يو ّحد السلطة‬


‫رشع جواســيس عبــد النــارص يف العمــل عــى الفــور‪ .‬ويف غضــون ثالثــة أيــام اعتقلــت‬
‫األجهــزة األمنيــة اآلالف ممــن شــاركوا يف االنتفاضــة‪ .‬قبــل انتهــاء األســبوع األول نفــذ‬
‫مجلــس قيــادة الثــورة أكــر خدعــة لــه باإلعــان عــن قوانــن ‪ 5‬مــارس‪ ،‬والتــي دعــت إىل‬
‫انتخــاب جمعيــة تأسيســية خــال ثالثــة أشــهر لصياغــة دســتور دميقراطــي جديــد‪ ،‬ورفــع‬
‫الحظــر عــن النشــاط الســيايس وإنهــاء الرقابــة عــى الصحافــة‪.‬‬

‫محمد نجيب‬

‫بطبيعــة الحــال‪ ،‬أثــار التغيــر املفاجــئ يف موقــف مجلــس قيــادة الثــورة شــكوك نجيــب‪،‬‬
‫لكنــه مل ميلــك خيــا ًرا ســوى املــي قُ ُد ًمــا لتجنــب اتهامــه مبعارضــة الدميقراطيــة‪ .‬ولحامية‬
‫نفســه مــن أي مؤامــرة محتملــة‪ ،‬طالــب يف ‪ 8‬مــارس بحقــه يف تعيــن كبــار الضبــاط‬
‫وص ـواًلً إىل قــادة األلويــة‪ ،‬وذلــك بهــدف تقويــض دور عبــد الحكيــم عامــر‪ .‬كــا طالــب‬
‫بصالحيــة نقــض قــرارات مجلــس الــوزراء‪ -‬إلبقــاء عبــد النــارص تحــت املراقبــة‪ -‬وباســتفتاء‬
‫شــعبي حــول رئاســته‪-‬إلضفاء الرشعيــة عــى منصبــه‪ .‬وعندمــا وافــق مجلــس قيــادة الثــورة‬
‫عــى طلباتــه دون مناقشــة‪ ،‬ازداد قلقــه أكــر فأكــر‪ .‬لكنــه مــرة أخــرى مل يفعــل شــيئًا‪ ،‬مــا‬
‫أثــار ريبــة عبــد النــارص‪.‬‬
‫أقنــع نجيــب نفســه بــأن األخــر رمبــا يعتقــد أن بإمكانــه تحويــل هيئــة التحريــر الخاصــة‬
‫بــه رسي ًعــا إىل حــزب ســيايس قــادر عــى الفــوز يف االنتخابــات املقبلــة‪ (((.‬ومــع ذلــك‪،‬‬
‫رسعــان مــا أوضحــت املراســيم الالحقــة يف ‪ 25‬مــارس أن نجيــب يدبــر مؤامــرة يف‬

‫رئيسا ملرص‪ ،‬ص‪.250-247‬‬


‫‪ -1‬نجيب‪ ،‬كنت ً‬

‫‪59‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫الخفــاء‪ .‬ألغــت املراســيم الجديــدة جميــع القيــود املفروضــة عــى أحــزاب العهــد امللــي‪،‬‬
‫ومنعــت الضبــاط األحــرار مــن املشــاركة يف االنتخابــات‪ ،‬كــا أعلنــت بشــكل رســمي نهايــة‬
‫الثــورة‪ .‬لقــد ح َّفــزت هــذه املراســيم جميــع الذيــن شــاركوا يف االنقــاب مــن الخائفــن‬
‫مــن عــودة النظــام القديــم خشــية العقــاب عــى أعاملهــم‪ ،‬ويف مقدمتهــم الضبــاط‬
‫الذيــن شــاركوا يف االنقــاب ويخشــون العقــاب‪ ،‬والفالحــن الذيــن اســتفادوا مــن إعــادة‬
‫توزيــع األرايض‪ ،‬والعــال الذيــن فضلــوا الدكتاتوريــة عــى هيمنــة األحــزاب الرأســالية‬
‫الليرباليــة‪ ،‬والربجوازيــة الصغــرة التــي بالــكاد بــدأت تســتفيد من انهيــار التسلســل الهرمي‬
‫االجتامعــي الجامــد‪ ،‬واإلخــوان املســلمني الذيــن خافــوا مــن عــودة حــزب الوفــد القــوي‪.‬‬
‫مــرة أخــرى‪ ،‬كانــت النخبــة األمنيــة هــي الطبقــة األكــر قل ًقــا بــن هــؤالء جمي ًعــا‪ ،‬فبمجــرد‬
‫رفــع الرقابــة شــنت الصحافــة حملــة منســقة ضدهــا ُمركِّــ َزة عــى ســوء اســتخدامها‬
‫للصالحيــات‪ ،‬وطالبــت مبحاكمــة أعضائهــا‪ .‬وقــد فهــم ضبــاط املدفعيــة‪ ،‬وف ًقــا ألحدهــم‪،‬‬
‫هــذه القــرارات عــى أنهــا دعــوة للقيــام بانقــاب آخــر‪ (((.‬شــعر الضبــاط املؤيــدون‬
‫للدميقراطيــة والقــوى الشــعبية بأنهــم متقدمــون خطــو ًة عــى خصومهــم‪ ،‬وأرادوا املــي‬
‫قد ًمــا ال الرجــوع إىل الــوراء‪ ،‬متطلعــن إىل دميقراطيــة جديــدة مط ـ َّورة‪ ،‬لكــن قوانــن‬
‫مــارس مهــدت لعــودة النظــام القديــم الفاســد‪ ،‬فوجــدوا أنفســهم عــن غــر قصــد ضــد‬
‫العــودة إىل الدميقراطيــة‪.‬‬
‫نــدرك مــن خــال قــراءة مذكــرات صــاح نــر أنــه كان العقــل املدبــر لقــرارات مــارس‪،‬‬
‫حيــث أراد إثــارة "ثــورة عــى الثــورة املؤيــدة للدميقراطيــة"‪ (((.‬ولتحييــد املعارضــة الشــعبية‪،‬‬
‫نصــح عبـ َد النــارص بعقــد صفقــة مــع جامعــة اإلخــوان املســلمني‪ .‬وبعــد مفاوضــات قصــرة‬
‫مــع املرشــد العــام حســن الهضيبــي القابــع يف الســجن آنــذاك‪ ،‬وافقــت جامعــة اإلخــوان‬
‫عــى التخــي عــن نجيــب مقابــل اإلفــراج عــن معتقليهــا وتجديــد تحالفها مــع عبــد النارص‪.‬‬
‫يف ‪ 26‬مــارس‪ ،‬وبعــد اإلفــراج عــن خمســمئة معتقــل مــن جامعة اإلخــوان‪ ،‬زار عبــد النارص‬
‫حســن الهضيبــي ليبــدي احرتامــه لــه‪ ،‬وحظيــت الزيــارة بتغطيــة إعالميــة كبرية‪ .‬وبعــد أربعة‬
‫أيــام نــدد الهضيبــي يف مؤمتــر صحفــي بالنظــام الحــزيب القديــم‪ ،‬وتجاهــل بعــد ذلــك‬

‫‪ -1‬حامد‪ ،‬أرسار ثورة ‪ 23‬يوليو‪ ،‬ص ‪.1028‬‬


‫‪ -2‬نرص‪ ،‬مذكرات صالح نرص‪ ،‬ص ‪.262‬‬

‫‪60‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫مناشــدات نجيــب الــذي طلــب دعمــه‪ ،‬ورفــض الــرد عــى مكاملاتــه أو اســتقبال مبعوثيــه‪.‬‬
‫اشــتىك نجيــب مبــرارة مــن أنه‪ -‬وأليــام‪ -‬يف كل مرة يتصــل فيها بالهضيبي يكــون األخري يف‬
‫الحــام‪ (((.‬ومــن الواضــح أن الجامعــة اعتقدت أن عبد النارص مســتعد ليحقــق لها مطالبها‪.‬‬
‫وبالطبــع‪ ،‬مل تكــن جامعــة اإلخــوان ســاذجة إىل هــذا الحــد‪ .‬كان عبــد النــارص أحــد‬
‫الذيــن انضمــوا إىل عــدة جامعــات سياســية يف األربعينيــات لالطــاع عليهــا مــن الداخــل‪،‬‬
‫فأصبــح عضـ ًوا يف جامعــة اإلخــوان املســلمني قبــل وقــت قصــر مــن حــرب عــام ‪،1948‬‬
‫وذلــك لتحقيــق مآربــه السياســية ال التقــارب الفكــري‪ .‬كانــت الخليــة األوىل مــن "الضبــاط‬
‫األحــرار" املكونــة مــن خمســة أعضــاء والتــي تشــكلت يف ســبتمرب ‪ ،1949‬مؤلفــة بالكامــل‬
‫مــن ضبــاط منتظمــن يف جامعــة اإلخــوان (عبــد النــارص‪ ،‬خالــد محــي الديــن‪ ،‬عبــد‬
‫املنعــم عبــد الــرؤوف‪ ،‬كــال الديــن حســن‪ ،‬حســن إبراهيــم)‪ ،‬ومــن انضمــوا لهــا الح ًقــا‬
‫كانــوا متعاونــن مــع اإلخــوان (وال ســيام عبــد الحكيــم عامــر والســادات وعبــد اللطيــف‬
‫البغــدادي)‪ .‬كــا أن عبــد النــارص وخالــد ذهبــا إىل أبعــد مــن ذلــك وانضــا إىل الجهــاز‬
‫(((‬
‫الخــاص‪ -‬الجنــاح العســكري الــري للجامعــة‪.‬‬
‫باإلضافــة إىل ذلــك‪ ،‬تــورط عبــد النــارص يف تدريــب مســلحي اإلخــوان‪ ،‬وهــو أمــر ثابــت‬
‫موثــق بالحادثــة الشــهرية التــي وقعــت يف ‪ 25‬مايــو ‪ 1949‬عندمــا اس ـتُجوب ملــدة ســبع‬
‫ســاعات مــن قبــل رئيــس الــوزراء إبراهيــم عبــد الهــادي ورئيــس األركان عثــان باشــا‬
‫املهــدي ومديــر األمــن الســيايس أحمــد طلعــت بعــد العثــور عــى كتيــب تدريبــات عســكرية‬
‫مــع عنــارص مجموعــات اإلخــوان يف فلســطني يحمــل اســمه‪ .‬لكنــه أفلــت مــن هــذا املــأزق‬
‫بزعــم أنــه أعارهــا لضابــط قُتــل الح ًقــا يف إحــدى املعــارك‪ ،‬ورمبــا وجــدوه معــه‪.‬‬
‫يتبنــى اإلخــوان روايــة ملفتــة لالنتبــاه أكــر‪ ،‬تعــود بعالقتهــم بعبــد النــارص إىل عــام ‪1941‬‬
‫عندمــا كُلــف الرائــد محمــود لبيــب بإنشــاء قاعــدة إســامية يف الجيــش‪ .‬ثــم عهــد لبيــب‬
‫قبــل موتــه لعبــد النــارص بقامئــة أعضــاء اإلخــوان املســلمني يف الضبــاط األحــرار بالجيش‪.‬‬
‫(((‬
‫وبعــد رحيلــه يف ديســمرب ‪ ،1951‬أدار عبــد النــارص التنظيــم لتحقيــق أهدافــه الخاصــة‪،‬‬

‫رئيسا ملرص‪ ،‬ص ‪.252‬‬


‫‪ -1‬نجيب‪ ،‬كنت ً‬
‫‪ -2‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،38 ،‬محي الدين‪ ،‬اآلن أتكلم‪ ،‬ص ‪.47-43‬‬
‫‪ -3‬حامد‪ ،‬أرسار ثورة ‪ 23‬يوليو‪ ،‬ص ‪.527 -524‬‬

‫‪61‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫وهــذا مــا أكــده ادعــاء نجيــب بــأن اإلخــوان ســاعدوا عبــد النــارص بشــكل مبارش يف إنشــاء‬
‫أيضــا الضابــط حســن حمــودة‪ ،‬الــذي شــارك‬ ‫الضبــاط األحــرار(((‪ .‬هــذه القصــة أكدهــا ً‬
‫مــع عبــد النــارص وخمســة آخريــن يف اجتامعــات اإلخــوان األســبوعية بــن عامــي ‪1944‬‬
‫و‪ ،1948‬قبــل تعليقهــا بســبب حــرب فلســطني‪ .‬ويف نوفمــر ‪ ،1950‬طلــب منــه عبــد النــارص‬
‫تشــكيل تنظيــم جديــد داخــل الجيــش باالعتــاد عــى أعضــاء تنظيــم اإلخــوان القديــم يف‬
‫الجيــش‪ .‬وأضــاف أنــه خــال هــذه الفــرة كان عبــد النــارص وحــده املســؤول عــن التدريــب‬
‫العســكري لشــباب الجامعــة‪ (((.‬كتبــت تحيــة زوجــة عبــد النــارص يف مذكراتهــا أن زوجهــا‬
‫يف تلــك الســنوات كان يســتقبل الضيــوف يف املنــزل ويُعلِّ ُم ُهــم عــى األســلحة الناريــة‪ ،‬ومــن‬
‫(((‬
‫الواضــح أن هــؤالء مل يكونــوا طالبًــا عســكريني‪.‬‬
‫عشــية االنقــاب‪ ،‬أدرك عبــد النــارص أنــه بالنظــر للمــوارد التنظيميــة والقــوى البرشيــة‬
‫الهائلــة للجامعــة‪ ،‬فــإن مــن الحكمــة حشــد دعمهــا لصالحــه‪ .‬ويف اجتــاع ‪ 18‬يوليــو‬
‫‪ 1952‬طلــب مــن كــوادر اإلخــوان حســن عشــاوي وصالــح أبــو رقيــق وصــاح شــادي أن‬
‫يأمــروا املتعاطفــن مــع الجامعــة يف الجيــش والرشطــة بعــدم مقاومــة االنقــاب‪ ،‬وتوجيــه‬
‫عنارصهــم املســلحة إذا لــزم األمــر ملســاعدة الجيــش يف التصــدي ألي محاولــة بريطانيــة‬
‫الحتــال القاهــرة مجــد ًدا‪ ،‬وتنظيــم مظاهــرات لدعــم النظــام الجديــد‪.‬‬
‫يف الواقــع‪ ،‬مل يبــدأ االنقــاب إال بعــد أن أعطــاه املرشــد العــام للجامعــة الضــوء‬
‫األخــر يف ‪ 21‬يوليــو‪ (((.‬وتأكيــ ًدا لهــذه الروايــة‪ ،‬يقــول العضــو الشــاب يف جامعــة‬
‫اإلخــوان محمــود جامــع إنــه تلقــى تعليــات مــن قيادتــه يف الليلــة التــي ســبقت‬
‫االنقــاب لتأمــن املنشــآت الرئيســية‪ (((.‬وامتــد شــهر العســل بــن عبــد النــارص واإلخــوان‬
‫املســلمني ليصبــح شــهو ًرا بعــد االنقــاب‪ .‬ويف عــام ‪ ،1953‬أصــدر عبــد النــارص‬
‫تعليامتــه لوزيــر الداخليــة ســليامن حافــظ باســتبعاد جامعــة اإلخــوان املســلمني مــن‬
‫(((‬
‫را إليهــم بأنهــم "أعظــم مؤيدينــا"‪.‬‬
‫الحظــر املفــروض عــى األحــزاب السياســية‪ ،‬مش ـ ً‬
‫‪ -1‬محمد نجيب‪ ،‬كنت رئيسا ملرص‪ ،‬ص ‪.167‬‬
‫‪ -2‬حمودة‪ ،‬أرسار حركة الضباط األحرار واإلخوان املسلمني‪ ،‬ص ‪ ،37-33‬ص ‪.74‬‬
‫‪ -3‬تحية عبد النارص‪ ،‬ذكريايت معه‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪ -4‬جامل حامد‪ ،‬أرسار ثورة ‪ 23‬يوليو‪ ،‬ص ‪.322-319‬‬
‫عرفت السادات‪ ،‬ص ‪.32‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -5‬محمود جامع‪،‬‬
‫‪ -6‬سليامن حافظ‪ ،‬ذكريايت عن الثورة‪ ،‬ص ‪.78‬‬

‫‪62‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫عندمــا ســعى قــادة اإلخــوان للســيطرة عــى الحكومــة عــر تســمية وزرائهــا‪ ،‬ومــع علــم‬
‫عبــد النــارص بدعمهــا لتمــرد املدفعيــة للضغــط عليــه‪ ،‬وقــع الخــاف بينهــا‪ .‬ولكــن‪ ،‬حتــى‬
‫بعــد أن حــل عبــد النــارص الجامعــة واعتقــل خمســمئة وأربعــن مــن أعضائهــا‪ -‬مبــن‬
‫فيهــم املرشــد العــام‪ -‬يف ‪ 14‬ينايــر ‪ ،1954‬اســتمر يف التــودد لقاعدتهــا الشــعبية‪ ،‬ففــي ‪12‬‬
‫فربايــر ‪ 1954‬مثـ ًـا حــر الحفــل الســنوي إلحيــاء ذكــرى ميــاد مؤســس الجامعــة حســن‬
‫البنــا‪ -‬فيــا منــع نجيــب مــن حضــور الحفــل‪ -‬وقــال يف تلــك املناســبة‪" :‬أنــا أكافــح مــن‬
‫أجــل الوفــاء باملبــادئ التــي مــات مــن أجلهــا البنــا‪ ،‬واللــه شــاهد"‪ (((.‬جعلــت هــذه العالقــة‬
‫الطويلــة وامل ُعقَّــ َدة اإلخــوان املســلمني يفرتضــون أن بإمكانهــم الوثــوق بعبــد النــارص‪،‬‬
‫لكنهــم‪ -‬كــا اتضــح‪ -‬كانــوا مخطئــن‪.‬‬
‫ن إبراهيــم‬ ‫بعــد التقــارب الوهمــي مــع اإلخــوان‪ ،‬اســتقبل عبــد النــارص مســاع َدي ِه األمنيـ ِ‬
‫الطحــاوي وأحمــد طعيمــة يف هيئــة التحريــر‪ ،‬حيــث عرضــا عليــه تنظيــم إرضاب عــام‬
‫بقيــادة عــال النقــل العــام لشــل البــاد‪ ،‬وطلبــا إذنــه لرشــوة صــاوي أحمــد صــاوي رئيــس‬
‫دعــا لعبــد النــارص‪ ،‬ويف‬ ‫ً‬ ‫اتحــاد عــال النقــل‪ .‬ويف ‪ 27‬مــارس‪ ،‬أرضب مليــون عامــل‬
‫نفــس اليــوم قامــت هيئــة التحريــر‪ -‬مبســاعدة مــن الرشطــة العســكرية‪ -‬بإحضــار شــاحنات‬
‫محملــة بالفالحــن إىل القاهــرة‪ ،‬مردديــن شــعارات مناهضــة للدميقراطيــة‪" :‬ال أحــزاب! ال‬
‫(((‬
‫برملــان! ال انتخابــات!"‪ ،‬واســتمر اإلرضاب والتظاهــرات املصاحبــة لــه ثالثــة أيــام متتالية‪.‬‬
‫يف غضــون ذلــك‪ ،‬أطلــق الثــايث األمنــي‪ ،‬نــر وبــدران ورضــوان‪ ،‬حملــة ضمــن القــوات‬
‫املســلحة لتوقيــع عريضــة للمطالبــة باســتقالة نجيــب والرتاجــع عــن قــرارات مــارس‪ .‬أدرك‬
‫الضبــاط بأنهــم قــد يفقــدون وظائفهــم ورمبــا حياتهــم فيــا لــو عــاد النظــام القديــم‪.‬‬
‫أمــا الذيــن اعرتضــوا فقــد أجربهــم زمالؤهــم عــى التوقيــع‪ ،‬فيــا فُصــل أربعــة وثالثــون‬
‫ضابطًــا مــن الذيــن امتنعــوا عــن التوقيــع واعتقــل ســتة وعــرون آخــرون‪ .‬وبثــت اإلذاعــة‬
‫العامــة محتــوى هــذه العريضــة العســكرية‪ ،‬تلتهــا عرائــض مامثلــة مــن الرشطــة والنقابــات‬
‫العامليــة‪ .‬وبعــد ذلــك أُعلــن عــن إرضاب شــامل يف الجيــش والرشطــة‪ ،‬ليظهــر أمــام الناس‬
‫أن أجهــزة الدولــة القمعيــة تقــف اآلن متحــدة خلــف عبــد النــارص‪ -‬وأن املظاهــرات املؤيــدة‬
‫لنجيــب س ـتُقمع بــا رحمــة‪ -‬كــا حــدث يف ‪ 26‬مــارس مــع عــال شــرا الخيمــة‪ ،‬الذيــن‬
‫‪ -1‬رفعت سيد أحمد‪ ،‬ثورة الجرنال‪ :‬قصة جامل عبد النارص كاملة‪ ،‬ص ‪.203-201‬‬
‫‪2- Vatikiotis, Nasser, 142–45.‬‬

‫‪63‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫قُمعــوا بوحشــية‪ .‬ويف ‪ 29‬مــارس أعلــن عبــد النــارص أنــه‪ -‬بعــد أن ســمع "صــوت الشــارع"‪-‬‬
‫حاليــا جميــع اإلرضابــات‬
‫ســيلغي قــرارات مــارس‪ ،‬ولكــن للحفــاظ عــى النظــام فسـتُحظر ً‬
‫واملظاهــرات‪ (((.‬لقــد كانــت هــذه أيا ًمــا أخــرى مــن تلــك األيــام النابليونيــة‪ ،‬حيــث أفســحت‬
‫ثــورة هتفــت بالدميقراطيــة بدايــة الطريــق للديكتاتوريــة العســكرية مــن خــال حشــد دعــم‬
‫الفالحــن واملســتفيدين مــن فقــراء املــدن‪ ،‬قبــل نبذهــم جمي ًعــا‪.‬‬
‫حــاول نجيــب الــرد عــى مــا قــام بــه عبــد النــارص‪ ،‬فاتصــل بوزيــر الداخليــة وطلــب‬
‫منــه قمــع املظاهــرات املناهضــة للدميقراطيــة‪ ،‬لكــن زكريــا قــال إنــه لــن يفعــل ذلــك مــا‬
‫مل يُ ِ‬
‫رســل لــه أم ـ ًرا موق ًعــا يــأذن لــه بإطــاق النــار عــى املدنيــن العــزل إذا لــزم األمــر‪،‬‬
‫وقــد رفــض نجيــب بالطبــع هــذا الطلــب‪ .‬ثــم فكــر يف نــر أنصــاره بــن صفــوف ســاح‬
‫الفرســان‪ ،‬لكــن خالــد حــذره مــن أن ذلــك ســيؤدي إىل مجــزرة‪ .‬وناشــد نجيــب رئيــس‬
‫طالبــا منــه املســاعدة‪ ،‬لكــن‬
‫قســم رشطــة القاهــرة عقيــد الجيــش الســابق أحمــد شــوقي‪ً ،‬‬
‫األخــر رغــم دعمــه لنجيــب إال أنــه كان مغلوبًــا عــى أمــره داخــل وزارة الداخليــة‪.‬‬
‫ومــا زاد الطــن بلــة أن نجيــب علــم مــن املصــادر الفرنســية أن الواليــات املتحــدة تدعــم‬
‫عبــد النــارص بشــدة‪ ،‬وأنهــا طلبــت مــن الربيطانيــن التدخــل نيابــة عنهــا إذا لــزم األمــر‪.‬‬
‫مل يكــن أمــام نجيــب أي خيــار آخــر ســوى اإلقــرار بــأن االنقــاب كان خط ـأً‪ ،‬وأنــه إن‬
‫مل يرغــب بدفــع البــاد إىل حــرب أهليــة‪ ،‬فعليــه أن يســتقيل‪ ،‬وقــال‪" :‬لقــد كنــت منه ـكًا‬
‫كمالكــم يف الجولــة النهائيــة؛ مل أكــن قــد ُهزمــت بعــد‪ ،‬لكنــي خــرت الكثــر مــن النقــاط‬
‫(((‬
‫خــال هــذه املبــاراة الطويلــة"‪.‬‬
‫يف املقابــل‪ ،‬أدرك رشكاء نجيــب أنهــم يف الجانــب الخــارس‪ ،‬وبــدأوا يتخلــون عنــه تبا ًعــا‪،‬‬
‫فاســتقال مستشــاره القانــوين ووزيــر الداخليــة الســابق ســليامن حافــظ يف مــارس‪.‬‬
‫وفــ َّر مســاعده محمــد ريــاض يف ‪ 27‬مــارس إىل العربيــة الســعودية‪ -‬بعــد أن توســل‬
‫إليــه بــأن يــأيت معــه‪ .‬ويف ‪ 29‬مــارس‪ ،‬تعــرض حليفــه يف مجلــس الدولــة عبــد الــرازق‬
‫الســنهوري‪ ،‬الــذي حــاول إصــاح العالقــات بينــه وبــن اإلخــوان‪ ،‬لالعتــداء يف مكتبــه‬
‫مــن قبــل ضبــاط الرشطــة العســكرية‪ ،‬ثــم قــى بضعــة أيــام يف مستشــفى عســكري‪.‬‬

‫‪ -1‬حامد‪ ،‬أرسار ثورة ‪ 23‬يوليو‪ ،‬ص ‪ ،1079-1069‬ص ‪.1167‬‬


‫رئيسا ملرص‪ ،‬ص ‪.263-257‬‬
‫‪ -2‬نجيب‪ ،‬كنت ً‬

‫‪64‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫قبــل ترسيحــه مــن الخدمــة‪ ،‬نُفــي رجــل نجيــب يف ســاح الفرســان خالــد محــي الديــن‬
‫إىل ســويرسا‪ .‬ويف شــهر أبريــل وحــده ُســجن ســبعة وثالثــون ضابطًــا ً‬
‫مواليــا لنجيــب مــن‬
‫ورُسح العــرات‪ ،‬وأعقــب ذلــك يف يونيــو عمليــة تطهــر أكــر منهجيــة‬ ‫ســاح الفرســان‪ُ ،‬‬
‫(((‬
‫شــملت مئــة وأربعــن ضابطــا آخــر‪.‬‬
‫بعدهــا انتقلــت الحملــة األمنيــة إىل املؤسســات العامــة‪ ،‬فاعتُقــل مئتــان واثنــان وخمســون‬
‫موظ ًفــا مــن موظفــي الخدمــة املدنيــة املؤيديــن للدميقراطيــة‪ ،‬يف خطــوة اعتُــرت بدايــة‬
‫لسلســلة طويلــة مــن اإلجــراءات الهادفــة "لتطهــر" الهيــكل اإلداري للدولة ووســائل اإلعالم‬
‫مــن العنــارص الرجعيــة‪ .‬ويف ‪ 15‬أبريــل جــرد مجلــس قيــادة الثــورة جميــع شــاغيل املناصــب‬
‫العامــة قبــل انقــاب يوليــو مــن كافــة حقوقهــم السياســية‪ ،‬وقــام بعدهــا بحــل النقابــات‬
‫واالتحــادات الطالبيــة‪ .‬وحــارصت شــاحنات الرشطــة الجامعــات‪ ،‬وجنــدت األجهــزة األمنيــة‬
‫(((‬
‫العديــد مــن الطــاب واملعلمــن للتجســس عــى زمالئهــم‪.‬‬
‫بعــد أزمــة مــارس ‪ ،1954‬كــرت الحكومــة عــن أنيابهــا‪ ،‬معتــرة كل مــن ال يدعمهــا بالكامل‬
‫عــد ًوا للدولــة وعميـ ًـا للقــوى األجنبيــة‪ .‬وكرئيــس للــوزراء ســيطر عبــد النــارص منــذ ذلــك‬
‫الحــن عــى الحكــم ســيطرة تامــة‪ ،‬أمــا نجيــب فلــزم منزلــه ومل يغــادره إال نــاد ًرا‪ ،‬رغــم‬
‫را‬
‫ـميا رئيــس البــاد‪ ،‬ورصح يف مذكراتــه قائـ ًـا‪" :‬دخلــت مــر اآلن ع ـ ً‬ ‫أنــه بقــي رسـ ً‬
‫ـا مــن الظلــم واإلرهــاب"‪ (((.‬ويف غضــون بضعــة أشــهر‪ ،‬نجــح معســكر عبــد النــارص‬ ‫مظلـ ً‬
‫يف تأمــن "الســيطرة الكاملــة عــى القــوات املســلحة‪ ،‬وتحييــد مراكــز الســلطة السياســية‬
‫األخــرى وتدمريهــا يف نهايــة املطــاف‪ ،‬والســيطرة عــى التعليــم واإلعــام والنقابــات املهنية‬
‫والعامليــة والتجمعــات الريفيــة يف القــرى‪ ،‬واملؤسســات الدينيــة‪ ،‬والجهــاز اإلداري للدولــة‪،‬‬
‫(((‬
‫ليســيطر يف نهايــة املطــاف عــى املجتمــع بــأرسه"‪.‬‬
‫بــدأ عبــد النــارص يســعى لحســم ملــف اإلخــوان املســلمني فبعــد محاولــة اغتيالــه املشــبوهة‬
‫يف ‪ 26‬أكتوبــر ‪ ،1954‬عندمــا أطلــق عضــو اإلخــوان محمــود عبــد اللطيــف عليــه تســع‬

‫‪1- Vatikiotis, Nasser, 142–45.‬‬


‫‪2- Ahmed Abdallah, The Student Movement and National Politics in Egypt, 1923–1973, London:‬‬
‫‪Al Saqi Books, 1985, 122.‬‬
‫رئيسا ملرص‪ ،‬ص ‪.266‬‬
‫‪ -3‬نجيب‪ ،‬كنت ً‬
‫‪4- Vatikiotis, Nasser, 127.‬‬

‫‪65‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫أي‬
‫رصاصــات مــن مســافة قريبــة أثنــاء إلقائــه خطابًــا يف اإلســكندرية والتــي مل تصبــه ٌّ‬
‫منهــا‪ ،‬بــدأ عبــد النــارص حملــة االعتقــاالت األكــر يف تاريــخ جامعــة اإلخــوان يف مــر‪،‬‬
‫فاعتقــل حــوايل عرشيــن أل ًفــا مــن أفــراد الجامعــة يف معســكرات اعتقــال بُنيــت حديثًــا‬
‫ـميا ســوى ألــف وخمســون منهــم فقــط‪ .‬وأعــدم مــن بــن‬ ‫يف الصحــراء‪ ،‬ومل يحاكــم رسـ ً‬
‫هــؤالء ســتة مــن قــادة الجامعــة‪ ،‬وحكــم عــى الباقــن مبــن فيهــم املرشــد العــام بالســجن‬
‫لســنوات طويلــة‪ .‬وحـ َّـل الجامعــة وصــادر ممتلكاتها وحظــر أدىن تعبــر عن التعاطــف معها‪.‬‬
‫يف ‪ 14‬نوفمــر أُعلــن أن التحقيقــات األمنيــة كشــفت أن جامعــة اإلخــوان املســلمني تعمــل‬
‫لصالــح نجيــب‪ ،‬وأن األخــر ُو ِضــع تحــت اإلقامــة الجربيــة يف فيــا معزولــة شــديدة‬
‫الحراســة عــى أطــراف القاهــرة‪ ،‬حيــث بقــي هنــاك ملــدة مثانيــة عــر عا ًمــا قادمــة‪.‬‬
‫ورغــم أن نجيــب أرص عــى أنــه ال عالقــة لــه مبحاولــة االغتيــال تلــك‪ ،‬إال أنــه مل يُبـ ِـد‬
‫أي تعاطــف مــع اإلخــوان الذيــن وقعــوا يف فــخ واضــح‪ .‬فســذاجتهم‪ -‬مــن وجهــة نظــره‪-‬‬
‫أعمتهــم عــن رؤيــة حقيقــة أن عبــد النــارص اســتخدمهم لتوطيــد ســلطته وحســب‪ (((.‬مــن‬
‫الســهل مالحظــة الطمــع والســذاجة اللــذان تعاملــت بهــا الجامعــة مــع كافــة الصفقــات‬
‫الرسيــة طــوال تاريخهــا‪ ،‬مــا جعلهــا عرضــة لتالعــب امللــوك أو رؤســاء الــوزراء أو أي‬
‫شــخص يف موقــع الحكــم واملســؤولية؛ وقــد ظهــر هــذا االتجــاه نفســه عــام ‪ 2011‬يف‬
‫عالقــة اإلخــوان بالضبــاط الذيــن تولــوا الســلطة بعــد انتفاضــة ‪ 25‬ينايــر الشــعبية‪.‬‬
‫يف ‪ 23‬يونيــو ‪ ،1956‬فــاز عبــد النــارص برئاســة مــر بعــد اســتفتاء حــاز فيــه نســبة‬
‫‪ ،٪99.9‬وأعلــن مبوجبــه عــن الدســتور الجديــد للبــاد‪ ،‬ف ُحـ َّـل مجلــس قيــادة الثــورة‪ ،‬وأصبــح‬
‫عبــد النــارص الحاكــم الوحيــد ملــر‪ .‬لكــن قضيــة نجيــب ظلــت محــل متابعــة واهتــام‬
‫أيضــا باســم "أزمــة‬
‫البعــض‪ ،‬ففــي عــام ‪ 1956‬تعرضــت مــر لعــدوان ثــايث ُعــرف ً‬
‫الســويس"‪ ،‬فادعــت مخابــرات عبــد النــارص أن الربيطانيــن خططــوا إلســقاط مظليــن‬
‫رئيســا‪ .‬وبالطبــع ميكننــا أن نجــزم اآلن أن‬‫خــارج العاصمــة لتحريــر نجيــب وإعــادة تنصيبــه ً‬
‫أحـ ًدا مل يخطــط ملثــل هــذه املغامــرة عــى اإلطــاق‪ ،‬لكــن حادثتــن أجربتــا عبــد النــارص‬
‫عــى أخــذ هــذا التقريــر عــى محمــل الجــد‪ :‬أو ًاًل‪ ،‬أرســل نجيــب خطابًــا إىل عبــد النــارص‬
‫يطالــب فيــه باإلفــراج عنــه للســاح لــه باملشــاركة يف املعركــة كجنــدي عــادي؛ ثان ًيــا‪،‬‬

‫رئيسا ملرص‪ ،‬ص ‪.253‬‬


‫‪ -1‬نجيب‪ ،‬كنت ً‬

‫‪66‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الجانب املظلم للعسكرة‪ :‬أزمة مارس ‪1954‬‬

‫التقــى مستشــار نجيــب القانــوين ســليامن حافــظ يف ‪ 2‬نوفمــر بالقائــد العــام للقــوات‬
‫املســلحة عبــد الحكيــم عامــر إلقناعــه بــأن عــى عبــد النــارص أن يقــدم مصلحــة األمــة‬
‫عــى مصلحتــه ويعيــد نجيــب إىل منصبــه إلرضــاء الربيطانيــن الغاضبــن مــن تأميــم قنــاة‬
‫الســويس‪ .‬ويف غضــون أيــام مــن هــذا االجتامع اعتُقــل حافظ‪ ،‬وأعــادت الرشطة العســكرية‬
‫(((‬
‫نفــي نجيــب ملــدة شــهرين إىل موقــع صحــراوي بعيــد عــى الحــدود مــع الســودان‪.‬‬
‫كانــت أزمــة مــارس ‪ 1954‬بالتأكيــد لحظــة حاســمة يف تاريــخ مــر الحديــث‪ ،‬حيــث مكَّنت‬
‫الســتبداد النظــام الجديــد‪ .‬كيــف ميكننــا تقييــم انتصــار فريــق عبــد النــارص خــال هــذه‬
‫املواجهــة األوىل الداخليــة؟ كان لنجيــب رشعيــة أكــر كقائــد معــرف بــه للثــورة وأول رئيس‬
‫للجمهوريــة‪ ،‬وأنصــا ُره مــن ُمــاك األرايض واألثريــاء كانــوا مــن أركان النظــام القديــم‪ .‬إن‬
‫الهــدف املعلــن لالنقــاب هــو بنــاء الدميقراطيــة بعــد طــرد االحتــال وعــزل الفاســدين‬
‫مــن السياســيني وامللكيــن‪ .‬وقــد حظــي هــذا النهــج بتأييــد معظــم الطبقــات املتعلمــة وجــزء‬
‫كبــر مــن الجيــش‪ .‬باختصــار‪ ،‬ميكــن للمــرء أن يَعتــر نجيــب املمثــل األفضــل للنهــج الســائد‬
‫ذلــك الوقــت والفئــات الداعمــة لــه‪ .‬ولــو أنــه فــاز حينهــا لــكان بإمــكان مــر أن تســلك‬
‫الطريــق الــذي ســلكته تركيــا‪ ،‬وألرشف الجيش عــى والدة حالة مــن الدميقراطيــة املحدودة‪.‬‬
‫مــن ناحيــة أخــرى‪ ،‬عــاش عبــد النــارص رصا ًعــا شــدي ًدا محــاواًلً إقامــة نظــام جديــد‪.‬‬
‫وبالنســبة لــه كمؤســس لهــذا النظــام الجديــد‪ ،‬فإنــه كــا ذكــر مكيافيلــي "يصبــح عــد ًوا لكل‬
‫مــن كان فاعـ ًـا يف ظــل النظــام القديــم‪ ،‬وحظــي بدعــم ضعيــف مــن الذيــن يأملــون يف‬
‫أداء دور جيــد يف ظــل النظــام الجديــد"‪ (((.‬إذن كيــف اســتطاع فريــق عبــد النــارص الفــوز‬
‫يف هــذا الــراع؟ الجــواب هــو أنــه أنشــأ عــى الفــور مجموعــة أمنيــة مــن أكرث مســاعديه‬
‫وال ًء لــه‪ ،‬والتــي تطــورت بحلــول عــام ‪ 1954‬إىل املســتوى الــكايف لتــدرك أن مصالحهــا مل‬
‫تكــن مامثلــة ملصالــح الجيــش‪ ،‬وأن الدميقراطيــة ســتدفع بحياتهــم املهنيــة الجديــدة إىل‬
‫نهايــة ســيئة‪ .‬أحــدث هــذا التقســيم املبكــر للعمــل الفــارق املؤثــر بــن الفريقــن‪ ،‬ففيــا‬
‫داخليــا‪-‬‬
‫بقــي الجيــش يتباطــأ يف عملــه‪ -‬وهــو أمــر معتــاد يف املؤسســات الكبــرة واملتباينــة ً‬
‫تحــرك األمنيــون الجــدد بحــزم ورسعــة وثبــات‪ ،‬فكان تحركهــم فعــااًلً للغاية‪ .‬وكانــت النتيجة‬
‫النهائيــة اســتبعاد خيــار الدميقراطيــة الــذي دعمــه قطــاع مــن الجيــش عــى األقــل مؤقتًــا‪.‬‬
‫‪ -1‬حافظ‪ ،‬ذكريايت عن الثورة‪ ،‬ص ‪.151-148‬‬
‫‪2- Machiavelli, The Prince (1995), 19.‬‬

‫‪67‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫وفقًــا لخالــد محــي الديــن‪ ،‬فقــد قطــع فــوز عبــد النــارص الطريــق عــى مســرة‬
‫الدميقراطيــة‪ (((.‬رمبــا تكــون هــذه مبالغــة‪ ،‬فصحيــح أن هــذه املعركــة املبكرة كانت حاســمة‪،‬‬
‫لكنهــا كانــت واحــدة فقــط مــن بــن العديــد مــن املعــارك القادمــة‪ .‬لقــد زرعــت نتيجتهــا‬
‫بــذور مواجهــة أخــرى أكــر منهــا‪ ،‬لكنهــا ســتكون هــذه املــرة بــن فريقــي عبــد النــارص‬
‫وعبــد الحكيــم عامــر‪ .‬مل يكــن عبــد النــارص ينــوي تشــكيل دكتاتوريــة عســكرية بــل نظا ًمــا‬
‫ـش‬ ‫شــعبويًا مدعو ًمــا مــن الجيــش يســمح لــه بالحكــم باســم الشــعب‪ .‬ولــذا‪ ،‬مل يتصــور الجيـ َ‬
‫أب ـ ًدا كرشيــك مســتقبيل لــه يف الحكــم‪ -‬لكــن عبــد الحكيــم عامــر ســعى لذلــك‪ .‬أصــل‬
‫املشــكلة أن عبــد النــارص‪ ،‬عــى عكــس الحالــة الروســية أو الصينيــة أو حتــى الكوبيــة‪،‬‬
‫مل يكــن لديــه حــزب ثــوري ســيايس إلبقــاء الجيــش تحــت الســيطرة‪ ،‬فلــم تكــن منظمتــه‬
‫الثوريــة الرئيســية ســوى الجيــش نفســه‪ .‬لكنــه اكتشــف اآلن‪ -‬بعــد أن عــزز ســلطته‪ -‬أن‬
‫أداة الســيطرة السياســية الوحيــدة املتاحــة هــي جهــاز األمــن‪ .‬عــى مــدى العقــد التــايل‪،‬‬
‫اندفــع نــارص كبــر السياســيني وعامــر القائــد العــام بشــكل محمــوم للحصــول عــى دعــم‬
‫مختلــف األجهــزة األمنيــة‪ ،‬والتــي ســتحدد يف نهايــة املطــاف املنتــر يف الســباق الســيايس‬
‫العســكري إىل القمــة‪.‬‬

‫‪ -1‬محي الدين‪ ،‬اآلن أتكلم‪ ،‬ص ‪.215‬‬

‫‪68‬‬
‫الفصل الثاين‬
‫دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬


‫لطاملــا تحــدث كثــرون عــن العالقــة الحميمــة بــن جــال عبــد النــارص وعبــد الحكيــم‬
‫عامــر‪ ،‬فقــال املقربــون منهــا أنهــا كانــا "إخــوة روح" حتــى اليــوم األخــر مــن كفاحهــا‪.‬‬
‫كانــت عالقتهــا الخاصــة هــي التفســر املنطقــي لــردد عبــد النــارص يف التحرك الحاســم‬
‫ضــد عامــر منــذ عــام ‪ 1956‬حتــى عــام ‪ 1967‬رغــم عــدم كفــاءة األخــر عســكريًا‪ ،‬إذ مل‬
‫را كهــذا غــر‬ ‫يرغــب نــارص يف إيــذاء مشــاعر صديقــه املقــرب‪ .‬وفيــا يبــدو أن تفس ـ ً‬
‫ٍ‬
‫كاف‪ ،‬إال أنــه مــن امل ُس ـتَب َعد احتــال أن العــداوة الشــخصية هــي التــي أشــعلت الــراع‬
‫الــذي اســتمر عقـ ًدا مــن الزمــان بــن الرجلــن‪.‬‬
‫لقــد تأجــج الــراع داخــل النخبــة األمنيــة التــي وقفــت ضــد محمــد نجيــب ومــن معــه‪،‬‬
‫وهــي مركــز القــوة الحقيقــي يف البــاد‪ .‬وانقســمت تلــك النخبــة الح ًقــا إىل معســكرين‬
‫متنافســن‪ :‬الذيــن ارتبطــوا بــوزارة الداخليــة التــي مثَّلَــت الجنــاح الســيايس للمؤسســة‬
‫األمنيــة ومعهــا املباحــث العامــة ومكتــب الرئيــس للمعلومــات‪ ،‬يف مواجهــة املرتبطــن‬
‫بالجيــش ُم َمثَّلِــن مبكتــب القائــد العــام واملخابــرات الحربيــة وجهــاز املخابــرات العامــة‪.‬‬
‫لقــد كان رصا ًعــا عــى الســلطة بــن مجموعتــن مــن املؤسســات األمنيــة‪ ،‬يــر َّوج لــه عــى‬
‫أنــه تنافــس شــخيص بــن رئيــس الجمهوريــة وقائــد الجيــش‪ ،‬وقــد اندلــع رسي ًعــا مــع‬
‫تحــوالت مذهلــة يف االنقســامات والتحالفــات‪ ،‬لينتهــي بكارثــة صبــاح ‪ 5‬يونيــو ‪.1967‬‬
‫ال عجــب يف أن عبــد النــارص أعــرب يف خطــاب ألقــاه بعــد مواجهتــه األخــرة مــع‬
‫ر إىل "دولــة‬ ‫ط األمــنِ م ـ َ‬ ‫عامــر عــام ‪ 1967‬عــن أســفه للطريقــة التــي ح ـ َّول بهــا ضبــا ُ‬
‫مخابــرات"‪ ،‬وتع َّهــ َد بتفكيــك هــذه الدولــة‪ .‬واعتــر يف وصــف دقيــق أن هزميــة يونيــو‬
‫كانــت نتــاج هــذا الواقــع‪ ،‬والعديــد مــن املراقبــن يتفقــون مــع هــذا الوصــف‪ ،‬إذ "مهــا‬
‫يكــن التقييــم التاريخــي فــإن مــا كان موجــو ًدا يف مــر آنــذاك مل يكــن أمـ ًرا معتــا ًدا‪ ،‬بــل‬
‫كان ديكتاتوريــة بــا ديكتاتــور"‪ (((.‬ســبب ذلــك أن الســلطة تسـلَّ َمها القطــاع األمنــي املــدين‬
‫والعســكري يف مقابــل نفــوذ ضئيــل للســلطة السياســية‪ .‬ففــي تلــك الفــرة‪ ،‬حكمــت الطبقــة‬
‫األرســتقراطية األمنيــة البــاد بعــد أن قطــع االنقــاب دابــر رمــوز الســلطة التقليديــة‪،‬‬

‫‪1- Aburish, Nasser: The Last Arab, 56.‬‬

‫‪70‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫وحلــت هــذه األرســتقراطية الجديــدة محــل امللكيــة القدميــة ليــس فقــط مــن الناحيــة‬
‫املجازيــة ولكــن مبعناهــا املــادي الرصيــح‪ :‬فقــد ســكنوا بيوتًــا فاخــرة وتزوجــوا مــن أرس‬
‫مرموقــة وانضمــوا إىل النــوادي االجتامعيــة النخبويــة‪ ..‬الــخ‪.‬‬
‫ميزهــم عــن النخبــة القدميــة هــو أن أســلوبهم يف الحكــم كان‬ ‫الــيء الوحيــد الــذي َّ‬
‫صار ًمــا‪ .‬حيــث اعتُقــل عــى نطــاق واســع املعارضــون املشــتبه بهــم وبشــكل غــر مســبوق‪،‬‬
‫فبلــغ متوســط عــدد املعتقلــن السياســيني طــوال الســتينيات عرشيــن ألــف معتقــل‪ ،‬وخضــع‬
‫كل مــن يعيــش يف مــر خــال تلــك الفــرة لنظــام تنصــت ومراقبــة واســع االنتشــار‬
‫طــال الهواتــف واملكاتــب واملنــازل‪ .‬حتــى الربيــد خضــع للمراقبــة بانتظــام‪ ،‬ومل ميكــن‬
‫را مــا قُبــض عــى األفــراد املشــتبه‬
‫ألحــد الوثــوق بجريانــه وزمالئــه وال حتــى أشــقائه‪ .‬وكثـ ً‬
‫بهــم سياسـ ًـيا عنــد الفجــر حيــث يكــون الشــخص مرتب ـكًا للغايــة فــا ميكنــه املقاومــة وال‬
‫أحــد حولــه ليســاعده‪ .‬ثــم يحتجــ ُز "زوار الفجــر" املشــتبه بهــم إىل أجــل غــر مســمى‪،‬‬
‫ويعذِّبونهــم بشــكل منهجــي ويجربونهــم عــى توقيــع اعرتافــات مــن شــأنها أن تجلــب لهــم‬
‫أحكا ًمــا بالســجن املشــدد‪.‬‬
‫كيف ساءت األمور إىل هذا الحد؟‬
‫بعــد متــردي ينايــر ومــارس ‪ ،1954‬تنامــت شــكوك عبــد النــارص يف الجيــش فه َّمــش قادتــه‬
‫املؤثريــن مبــن فيهــم زمــاءه يف مجلــس قيــادة الثــورة‪ -‬باســتثناء عبــد الحكيــم عامــر‪،‬‬
‫وعهــد إىل الضبــاط الذيــن تحولــوا إىل مســؤولني أمنيــن بالحفــاظ عــى النظــام‪ .‬ومــع‬
‫ذلــك‪ ،‬كان اســتقرار النظــام مهــد ًدا إثــر انقســام األجهــزة األمنيــة ضمــن هيــكل قيــادة‬
‫ذي مســتويني‪ :‬رئاســة الجمهوريــة وعــى رأســها جــال عبــد النــارص‪ ،‬والقيــادة العســكرية‬
‫بقيــادة عبــد الحكيــم عامــر‪ .‬ســيطر الرئيــس عــى أجهــزة وزارة الداخليــة التــي أنشــأها‬
‫بنفســه وعهــد بهــا إىل رفيقــه املخلــص زكريــا محــي الديــن‪ .‬لكنــه وبدافــع طبيعتــه التآمريــة‬
‫الفطريــة‪ ،‬أنشــأ وحــدة اســتخبارات فعالــة داخــل مكتــب الرئاســة مكرســة‪ -‬وف ًقــا ملديرهــا‬
‫ســامي رشف‪ -‬لجمــع املعلومــات حــول الحيــاة الشــخصية للضبــاط ومســؤويل الدولــة مــن‬
‫خــال شــبكة مــن املخربيــن وفــق نظــام تنصــت موســع(((‪ .‬وتعاظــم دور هــذه الوحــدة‬
‫أيضــا‬
‫ليــس بســبب شــخصية عبــد النــارص الشــكاكة لدرجــة الهــوس وحســب‪" ،‬ولكــن ً‬
‫‪ -1‬سامي رشف‪ ،‬عبد النارص‪ :‬كيف حكم مرص؟‪ ،‬مدبويل الصغري‪ ،1996 ،‬ص ‪.93-89‬‬

‫‪71‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫(((‬
‫ملهــارة رشف يف أداء دور ياغــو((( يف تراجيديــا الرئيــس املصــاب بجنــون العظمــة"‪.‬‬
‫وضــع "مكتــب معلومــات الرئيــس" ضبــاط الجيــش والــوزراء تحــت رقابــة صارمــة‪ ،‬فســجل‬
‫محادثاتهــم وصــ َّور اجتامعاتهــم الخاصــة بالصــوت والصــورة وج َّنــد أتباعهــم‪ ،‬وســجل‬
‫كل إشــاعة تافهــة تتعلــق بــأي منهــم بدقــة‪ .‬ومــن خــال هــذا املكتــب‪ ،‬تواصــل الرئيــس‬
‫أيضــا مــع الضبــاط الســابقني وطلــب منهــم جمــع أكــر قــدر ممكــن مــن املعلومــات عــن‬
‫ً‬
‫زمالئهــم الذيــن مــا زالــوا يعملــون يف الخدمــة‪.‬‬
‫يف املقابــل ســيطر عبــد الحكيــم عامــر عــى األجهــزة األمنيــة العســكرية (املخابــرات‬
‫الحربيــة والرشطــة العســكرية) تحــت إرشاف مكتــب القائــد العــام‪ ،‬ليقــوده يف البدايــة كل‬
‫مــن صــاح نــر وعبــاس رضــوان‪ ،‬ومــن بعدهــا شــمس بــدران‪ .‬ومــع تــويل صــاح نــر‬
‫را‪ .‬واألهــم مــن ذلــك‪ ،‬أ َّن‬
‫عــام ‪ 1957‬رئاســة جهــاز املخابــرات العامــة‪ ،‬توســع نفــوذه كث ـ ً‬
‫عامــر جمــع عــرات الضبــاط إىل جانبــه عــر تقديــم املزايــا‬
‫والرتقيــات‪ ،‬ومل يتضايــق مــن فســاده يف الجيــش ســوى أولئــك امللتزمــن بشــدة بواجبهــم‬
‫املهنــي يف الخدمــة العســكرية‪.‬‬

‫أزمة السويس ‪ :1956‬هزمية عسكرية وانتصار سيايس‬


‫مل يكــن تأميــم قنــاة الســويس يف يوليــو ‪ 1956‬بدايــة إلرهاصــات حــرب الســويس‪ ،‬إمنــا‬
‫تقريبــا إثــر نــزاع متعلــق بالجيــش‪ .‬دعــم العديــد مــن الضبــاط‬
‫ً‬ ‫بــدأت قبــل ذلــك بعامــن‬
‫االنقــاب عــام ‪ 1952‬بســبب اســتيائهم مــن عــدم تجهيــز الجيــش كقــوة مقاتلــة بالشــكل‬
‫املناســب‪ ،‬وبــدا هــذا واض ًحــا بعــد فشــله يف التصــدي لالحتــال الربيطــاين عــام ‪،1882‬‬
‫را بعــد‬
‫ثــم عجــزه عــن منــع الربيطانيــن مــن إذالل ملــك مــر يف فربايــر ‪ ،1942‬وأخـ ً‬
‫الهزميــة التــي منــي بهــا يف حــرب فلســطني عــام ‪ .1948‬لــذا‪ ،‬كان مــن الطبيعــي أن يكــون‬
‫رشاء أســلحة متطــورة عــى رأس أجنــدة عبــد النــارص‪ ،‬الــذي اســتغل عالقتــه بالــي أي‬
‫إيــه فلجــأ أواًلً إىل الواليــات املتحــدة‪.‬‬

‫‪ -1‬شــخصية خياليــة يف مرسحيــة تراجيديــة لشكســبري‪ ،‬متثــل دور الــر يف مقابــل الخــر الــذي متثلــه شــخصية‬
‫ُعطيــل‪( .‬املرتجــم)‬
‫‪2- Sirrs, A History of the Egyptian Intelligence Service, 63–64.‬‬

‫‪72‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫يف أكتوبــر ‪ُ ،1954‬عقــد لقــاء يف شــقة رجــل األمــن حســن التهامــي جمــع عبــد النــارص‬
‫وعامــر مــن الجانــب املــري‪ ،‬مــع ضابــط الــي أي إيــه مايلــز كوبالنــد والضابطــان‬
‫ألــرت جريهــاردت وويلــر إيفيالنــد مــن الجانــب األمريــي‪ .‬ووف ًقــا لكوبالنــد‪ ،‬توصــل‬
‫الجانبــان إىل اتفــاق يقــي ببيــع مــر أســلحة بقيمــة عرشيــن مليــون دوالر بــروط‬
‫ائتامنيــة ســهلة‪ .‬لكــن واشــنطن أعلنــت يف الشــهر التــايل عــن حزمــة مســاعدات اقتصاديــة‬
‫ملــر بقيمــة أربعــن مليــون دوالر دون التطــرق لصفقــة األســلحة املتفــق عليهــا‪ .‬وتلقــى‬
‫أيضــا بشــكل غــر رســمي مبلــغ ثالثــة ماليــن دوالر مــن امليزانيــة التنفيذيــة للرئيس‬
‫نــارص ً‬
‫األمريــي‪ ،‬والتــي تُخصــص عــاد ًة لعمليــات الــي أي إيــه‪ .‬ويف يوليــو ‪ 1955‬عــاد كوبالنــد‬
‫إىل واشــنطن للتشــاور مــع جــورج آلــن مســاعد وزيــر الخارجيــة لشــؤون الــرق األوســط‪،‬‬
‫بخصــوص صفقــة الســاح املؤجلــة‪ .‬ويف منتصــف ســبتمرب بعــث عبــد النــارص اليائــس‬
‫برســالة تحذيــر إىل كيــم روزفلــت مديــر عمليــات الــي أي إيــه يف الــرق األوســط‪،‬‬
‫مفادهــا أنــه إذا مل تتــم الصفقــة فقــد يفكــر يف طلــب مســاعدة عســكرية مــن الكتلــة‬
‫(((‬
‫الرشقيــة‪ ،‬لكــن األخــر مل يأخــذ رســالته عــى محمــل الجــد‪.‬‬
‫مــن الواضــح أن أمريــكا أرادت إقنــاع مــر باالنضــام إىل حلــف الدفــاع اإلقليمــي‬
‫ذي التوجــه الغــريب الــذي ســمي بـــ "حلــف بغــداد"‪ ،‬والــذي ســمح للقــوات األمريكيــة‬
‫والربيطانيــة باســتخدام أرايض ومنشــآت الــدول األعضــاء (العــراق وإيــران وتركيــا‬
‫وباكســتان) لصــد التوغــات الشــيوعية يف املنطقــة‪ .‬يقــول إســاعيل فهمــي‪ ،‬الــذي غــدا‬
‫فيــا بعــد وزي ـ ًرا للخارجيــة املرصيــة‪ ،‬أنــه حــن رفضــت مــر االنضــام للحلــف شــجع‬
‫األمريكيــون إرسائيـ َـل عــى شــن غــارات عــى قطــاع غــزة‪ -‬الخاضــع للســيطرة املرصيــة‬
‫آنــذاك‪ -‬بــن فربايــر وســبتمرب ‪ ،1955‬بحجــة إيقــاف أنشــطة الفدائيــن الفلســطينيني‪.‬‬
‫كشــفت الغــارات مجــد ًدا ضعـ َـف مــر العســكري‪ ،‬فأُجــر عبــد النــارص يف ســبتمرب ‪1955‬‬
‫عــى إبــرام "صفقــة األســلحة التشــيكية" الشــهرية مــع االتحــاد الســوفيتي‪ ،‬وهــي صفقــة‬
‫كبــرة تضمنــت رشاء مئتــي طائــرة مقاتلــة وقاذفــات قنابــل‪ (((.‬ويف خطــاب لــه يف ‪27‬‬
‫ســبتمرب ‪ 1955‬يف عــرض عســكري‪ ،‬ألقــى باللــوم كلــه عــى الغــرب قائـ ًـا‪" :‬عندمــا قمنــا‬

‫‪1- Copeland, The Game of Nations, 123–33, 148.‬‬


‫‪ -2‬حافظ إسامعيل‪ ،‬أمن مرص القومي‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة مدبويل‪ ،1983 ،‬ص ‪.47‬‬

‫‪73‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫بالثــورة لجأنــا إىل كل بلــد‪ ...‬ولتســليح قواتنــا لجأنــا إىل إنجلــرا وفرنســا وأمريــكا‪ ...‬لكننــا‬
‫مل نســمع منهــم ســوى مطالــب تقـ ّوض ســيادة مــر"(((‪.‬‬
‫صدمــت الصفقــة اإلســراتيجيني األمريكيــن الذيــن بنــوا الكثــر مــن تقديراتهــم عــى‬
‫تعهــد خروتشــوف((( العلنــي أمــام اللجنــة املركزيــة للحــزب الشــيوعي بااللتــزام بسياســة‬
‫جوزيــف ســتالني املتمثلــة يف عــدم تقديــم الدعــم الســوفيتي للــدول الناميــة غــر‬
‫الشــيوعية أبـ ًدا‪ ،‬خاصــة تلــك البعيــدة جـ ًدا واملضطربــة للغايــة‪ .‬فســتالني‪ ،‬كــا ُعــرف عنــه‬
‫جيـ ًدا‪ ،‬مــن دعــاة "االشــراكية يف بلــد واحــد"‪ ،‬ومل يكــن يتدخــل خــارج الحــدود الروســية‬
‫إال حــن يضمــن النجــاح عــى يــد حــزب شــيوعي مــوا ٍل ملوســكو‪ .‬لــذا‪ ،‬اعتقــدت واشــنطن‬
‫أن الســوفييت ينظــرون إىل القوميــن يف العــامل الثالــث بريبــة‪ ،‬إن مل يكــن بــازدراء‪،‬‬
‫وأنهــم لــن يتحالفــوا معهــم أب ـ ًدا‪.‬‬
‫ويف ظــل نجــاح الواليــات املتحــدة يف اتبــاع سياســة االحتــواء التــي حالــت دون انتشــار‬
‫الشــيوعية خــارج االتحــاد الســوفيايت وأوروبــا الرشقيــة‪ ،‬أُجــرت موســكو عــى معاملــة‬
‫قوميــي مــا بعــد االســتعامر عــى أنهــم "شــيوعيون جيــدون مبــا يكفــي" مــن أجــل كــر‬
‫عزلتهــا‪ .‬وقبــل أن يــدرك األمريكيــون مــا حــدث‪ ،‬تســبب عبــد النــارص يف توتــر الوضــع‬
‫ـف الواليات املتحــدة الغاضبة‬‫أكــر بعــد اعرتافــه بالصــن الشــيوعية يف مايــو ‪ .1956‬مل تكتـ ِ‬
‫أيضــا عرضهــا للمســاعدة يف‬‫بإلغــاء محادثــات املســاعدة العســكرية فحســب‪ ،‬بــل ســحبت ً‬
‫بنــاء الســد العــايل‪ ،‬وهــو مــروع ضخــم لتوليــد الطاقــة الكهرومائيــة كان مــن املفــرض‬
‫أن يضاعــف الطاقــة الصناعيــة ملــر‪ .‬حينهــا‪ ،‬قــدم وزيــر الخارجيــة جــون فوســر داالس‬
‫عــن غــر قصــد ذريعــة لعبــد النــارص كان يبحــث عنهــا منــذ شــهور الســتعادة حقــوق‬
‫مــر يف القنــاة‪ .‬واآلن‪ ،‬وبذريعــة الحاجــة إىل اســتثامر عائــدات القنــاة يف متويــل الســد‪،‬‬
‫تحــدى نــارص الجميــع وقــام بتأميــم القنــاة يف ‪ 26‬يوليــو ‪ 1956‬خــال خطــاب ألقــاه أمــام‬
‫حشــد كبــر مــن املرصيــن‪.‬‬
‫مل يزعــج قــرار عبــد النــارص الواليــات املتحــدة وحســب‪ ،‬بــل دفــع ثــاث دول لتنفيــذ‬
‫عمليــة عســكرية مشــركة ضــد مــر‪ ،‬فيــا ُعـرِف منــذ ذلــك الحــن بالعــدوان الثــايث‪.‬‬

‫‪ -1‬عبد الرحمن الرافعي‪ ،‬ثورة ‪ 23‬يوليو ‪ ،1952‬ص ‪.199‬‬


‫‪ -2‬رئيس االتحاد السوفييتي بني عامي ‪ 1953‬و‪( .1964‬املرتجم)‬

‫‪74‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫اختلفــت األســباب التــي دفعــت بريطانيــا وفرنســا وإرسائيــل التخــاذ هــذا القــرار‪ ،‬لكــن‬
‫تقاطــع مصالحهــم يف إســقاط النظــام املــري الجديــد هــو الــذي جعــل تعاونهــم ممك ًنــا‪.‬‬
‫فبالنســبة لربيطانيــا‪ ،‬كــا كشــف وزيــر الخارجيــة ســلوين لويــد الح ًقــا‪ ،‬فقــد قـ َّوض طمــوح‬
‫نــارص الواضــح يف إبــراز قــوة الجنــاح الرشقــي للعــامل العــريب (األردن‪ ،‬والعــراق‪ ،‬واليمــن‬
‫الجنــويب‪ ،‬ومشــيخات الخليــج) سياســات حلفــاء بريطانيــا اإلســراتيجيني وهــدد ســيطرتها‬
‫عــى حقــول النفــط يف املنطقــة‪ .‬مثّلــت ســيطرة مــر عــى قنــاة الســويس بحــد ذاتهــا‬
‫مشــكلة أخــرى‪ :‬فباإلضافــة إىل ربــع الــواردات الربيطانيــة‪ ،‬فــإن ثالثــة أربــاع احتياجــات‬
‫لنــدن النفطيــة تــأيت عــر القنــاة‪ .‬ففــي عــام ‪ 1955‬مثـ ًـا‪ ،‬مــرت ‪ 4358‬ســفينة بريطانيــة‬
‫مــن أصــل ‪ 14666‬ســفينة عــرت القنــاة‪ .‬فــإذا أُغلقــت القنــاة‪ ،‬فقــد تعــاين بريطانيــا مــن‬
‫(((‬
‫أســوأ أزمــة صناعيــة يف تاريخهــا‪.‬‬
‫مــن جهتهــا‪ ،‬اشــتكت فرنســا مــن الــدور الــذي أداه عبــد النــارص يف الجانــب األفريقــي‬
‫مــن العــامل العــريب خاصــة يف الجزائــر‪ ،‬واتهمتــه باملســؤولية عــن إشــعال الثــورة‬
‫الجزائريــة‪ .‬فبعــد تعــرض الجــراالت الفرنســيني لضغــوط شــديدة لفشــلهم يف إنهــاء الثورة‬
‫الجزائريــة‪ ،‬احتاجــوا إىل ذريعــة‪ ،‬وكان عبــد النــارص هــو الشــخصية األنســب لتعليق فشــلهم‬
‫عليــه‪ .‬ففــي دعايــة الجيــش الفرنــي‪ ،‬صــور دور مــر يف الجزائــر باعتبــاره هــو نفســه‬
‫الــدور الصينــي يف فيتنــام‪ ،‬والفــارق هــو أن مــر‪ -‬عــى عكــس الصــن‪ -‬ميكــن هزميتهــا‪.‬‬
‫لــذا‪ ،‬بعــد أن أضعــف دور الصــن فرنســا يف جنــوب رشق آســيا‪ ،‬فــا داعــي ألن تعــاين‬
‫باريــس مــن نفــس املصــر يف الــرق األوســط عــى يــد قــوة أضعــف‪ .‬وإذا ُخلــع عبــد‬
‫النــارص‪ ،‬فســتفقد جبهــة التحريــر الوطنــي الجزائريــة قدرتهــا عــى طــرد الفرنســيني‬
‫أيضــا تأثــر عــى قــرار‬‫بالقــوة‪ .‬وكــا هــو الحــال مــع بريطانيــا‪ ،‬كان لقنــاة الســويس ً‬
‫فرنســا‪" :‬مل تكــن القنــاة بالنســبة للفرنســيني مجــرد تحفــة هندســية بــل تكرميًــا لــراث‬
‫ودور نابليــون‪ ...‬ومــن جهــة أخــرى‪ ،‬كانــت رشكــة القنــاة هــي آخــر معقــل كبــر لفرنســا يف‬
‫الخــارج‪ ،‬فمجلــس إدارتهــا تحــت ســيطرة املديريــن الفرنســيني‪ ،‬ويعمــل فيــه الكثــر مــن‬
‫(((‬
‫الفنيــن الفرنســيني‪ ،‬ويوفِّــر دخـ ًـا لعــرات اآلالف مــن املســاهمني الفرنســيني"‪.‬‬

‫‪1- Paul Johnson, The Suez War, London: Macgibbon & Kee, 1957, 11–14.‬‬
‫‪2- Turner, Suez 1956, 187–93.‬‬

‫‪75‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫بعــد فــرة وجيــزة مــن قرارهــا بشــن الحــرب عــى مــر‪ ،‬تق َّربــت فرنســا مــن إرسائيــل‪.‬‬
‫فقــد أثــارت صفقــة األســلحة التشــيكية انزعــاج اإلرسائيليــن‪ ،‬ورأوا أن ليــس أمامهــم ســوى‬
‫هــذه الفرصــة ملنــع التــوازن العســكري الــذي تســعى لــه القاهــرة‪ .‬يف الخمســينيات مــن‬
‫القــرن املــايض‪ ،‬طــورت إرسائيــل وفرنســا روابــط عســكرية وثيقــة حيــث قدمــت رشكات‬
‫صناعــة األســلحة والطــران الفرنســية لزبائنهــا يف تــل أبيــب قوائــم منتجــات متنوعــة‬
‫وأمــوااًلً ســخية ملســاعدتهم عــى تطويــر قدراتهــم والنهــوض باقتصادهــم‪ .‬وارتفعــت قيمــة‬
‫الصفقــات التــي كانــت تقتــر عــى بعــض طائــرات "مــراج" و"ميســتري" إىل صفقــة‬
‫كبــرة ملســاعدة إرسائيــل عــى إنشــاء أول مفاعــل ذري لهــا يف دميونــا جنــوب فلســطني‪.‬‬
‫باإلضافــة إىل ذلــك‪ ،‬تبــادل املوســاد معلومــات اســتخبارية مــع دائــرة التوثيــق الخارجــي‬
‫ومكافحــة التجســس الفرنســية (‪ )SDECE‬حــول أنشــطة جبهــة التحريــر الوطنــي‪ .‬كــا‬
‫عرضــت فرنســا عــى إرسائيــل رشاكــة عســكرية كاملــة يف هجــوم ضــد عــدو مشــرك‪،‬‬
‫وهــو عــرض يصعــب عــى تــل أبيــب رفضــه‪ .‬ويف ‪ 21‬ســبتمرب‪ُ ،‬دعــي شــيمون برييــز‪،‬‬
‫(((‬
‫املســؤول عــن التعــاون العســكري الفرنــي اإلرسائيــي‪ ،‬إىل فرنســا للتخطيــط للعمليــة‪.‬‬
‫وفــق املنصــوص عليــه يف بروتوكــول ســيفر بتاريــخ ‪ 24‬أكتوبــر ‪ ،1956‬أراد املشــاركون يف‬
‫العــدوان الثــايث اإلطاحــة بعبــد النــارص والســيطرة عــى قناة الســويس‪ .‬ومع ذلــك‪ ،‬مل تكن‬
‫الخطــة العســكرية واللوجســتيات املطلوبــة إلنجازهــا أمـ ًرا بســيطًا‪ .‬أوكلــت إلرسائيــل مهمــة‬
‫جــر الجيــش املــري إىل الفــخ‪ ،‬بحيــث تتوغــل قواتهــا يف ســيناء لتشــتبك معــه وتوقــع بــه‪.‬‬
‫بعــد ذلــك‪ ،‬تُطالــب فرنســا وبريطانيــا بوقــف فــوري إلطــاق النــار وانســحاب الجيشــن‬
‫ملســافات متســاوية مــن قناة الســويس‪ .‬وســرفض مرص هــذا الطلــب بالتأكيد‪ ،‬ألن انســحابًا‬
‫كهــذا ســيعني تســليم ســيناء لإلرسائيليــن‪ .‬حينهــا‪ ،‬ولحاجتهــا إىل تأمني القنــاة كممر مايئ‬
‫دويل ســتحتل بريطانيــا وفرنســا منطقــة قنــاة الســويس وفــق الخطــة التاليــة‪ :‬أو ًاًل‪ ،‬تُقصــف‬
‫املطــارات املرصيــة لتحييــد القــوة الجويــة وإثــارة الذعــر بــن املرصيــن‪ .‬ثان ًيــا‪ ،‬تتعــرض‬
‫دفاعــات القنــاة لوابــل مــن القصــف البحــري العنيــف لتدمريهــا والســاح للمظليــن‬
‫را‪ ،‬ســيكون هــذا الغــزو الجــوي والبحــري قــاد ًرا عــى الســيطرة‬ ‫بالهبــوط هنــاك‪ .‬وأخ ـ ً‬
‫عــى املــدن املرصيــة املجــاورة للقنــاة والتقــدم نحــو القاهــرة لتنصيــب حكومــة صديقــة‪.‬‬

‫‪1- Turner, Suez 1956,، 260-64.‬‬

‫‪76‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫وتب ًعــا لهــذه الخطــة املتفــق عليهــا‪ ،‬اقتحــم اللــواء املــد ّرع الســابع مــن الجيــش اإلرسائيــي‬
‫األرايض املرصيــة يف ‪ 29‬أكتوبــر ‪ .1956‬فأصــدر عبــد النــارص أوامــره للكتائــب الســت‬
‫املتمركــزة هنــاك بعرقلــة التقــدم اإلرسائيــي حتــى تتمكــن الفرقــة الرابعــة املدرعــة مــن‬
‫عبــور القنــاة ودخــول املعركــة‪ .‬يف اليــوم التــايل‪ ،‬تلقــت مــر تحذيــرات عــر ســفرييها‬
‫يف لنــدن وباريــس باالنســحاب عــرة أميــال بعيـ ًدا عــن القنــاة خــال اثنتــي عــرة ســاعة‬
‫تجنبــا لتدخــل دويل‪ .‬ورسعــان مــا تأكــدت شــكوك عبــد النــارص يف أن مؤامــرة قــد ُخطــط‬ ‫ً‬
‫لهــا عندمــا أغــارت بريطانيــا وفرنســا عــى املطــارات املرصيــة‪ ،‬مــا أدى إىل تدمــر قواتــه‬
‫الجويــة‪ .‬وبحلــول نهايــة أكتوبــر‪ ،‬باتــت مــر تواجــه قــوة أكــر بأربعــة أضعاف مــن قوتها‪،‬‬
‫تتكــون مــن ألــف طائــرة وســبعمئة دبابــة وأســطولني بحريــن يضــان مئــة وثالثني ســفينة‬
‫حربيــة‪ ،‬لتكــون هــذه أكــر قــوة بريــة وبحريــة منــذ نهايــة الحــرب العامليــة الثانيــة‪.‬‬
‫بطبيعــة الحــال‪ ،‬أصيبــت القيــادة العســكرية املرصيــة بالذهــول‪ .‬وصــل عبــد النــارص يف‬
‫‪ 31‬أكتوبــر إىل مقــر القيــادة العامــة‪ ،‬فنصحــه البعــض بتســليم نفســه للربيطانيــن لتجنيــب‬
‫البــاد دمــا ًرا تا ًمــا‪ .‬وعــى مــا يبــدو‪ ،‬أصــاب الهجــوم عبــد الحكيــم عامــر بانهيــار عصبــي‪،‬‬
‫فــرخ قائـ ًـا‪" :‬الرضبــات الجويــة ســتعيد البــاد ألــف ســنة إىل الــوراء‪ ،‬وال ميكننــي أن‬
‫أُع ـ ّرض أبنــاء بلــدي ملثــل هــذه املذبحــة"‪ (((.‬يصــف الضابــط أحمــد حمــروش‪ ،‬الــذي كان‬
‫رضا يف االجتــاع‪ ،‬جــواب عبــد النــارص ملناشــدات عامــر باالستســام حيــث قــال‪" :‬لــن‬ ‫حــا ً‬
‫يستســلم أحــد‪ ،‬بــل ســيقاتل الجميــع‪ ...‬وســلوكك هــذا غــر رجــويل‪ .‬مل تُطلــق الطلقــات‬
‫األوىل إال بصعوبــة‪ .‬ســأتوىل القيــادة املبــارشة للجيــش‪ ،‬وال أريــدك أن تصــدر أي أوامــر‪...‬‬
‫(((‬
‫فــإن كنــت ال تســتطيع ســوى أن تنــدب مثــل عجــوز شــمطاء‪ ،‬فســتحاكم عســكريًا"‪.‬‬
‫عــرض الرئيــس الــذي مل يتزعــزع أمــام انهزاميــة قائــده العســكري‪ ،‬أن يقــود املعركــة‬
‫بنفســه‪ ،‬وهــو اقــراح رسعــان مــا انصــاع لــه عامــر‪ .‬أدرك عبــد النــارص أن إرســال الجيــش‬
‫رصا بــن املطرقــة والســندان مبجــرد هبــوط‬‫ملواجهــة اإلرسائيليــن يف ســيناء ســيجعله محــا ً‬
‫القــوات الفرنســية والربيطانيــة يف منطقــة القنــاة‪ ،‬وأن الطريــق املــؤدي إىل العاصمــة‬
‫عمليــا غــر محمــي‪ .‬وبحلــول ‪ 2‬نوفمــر أمــر جميــع القــوات باالنســحاب مــن‬ ‫ســيكون ً‬
‫ســيناء يف غضــون ‪ 48‬ســاعة‪ ،‬وحفــر الخنــادق حــول ضفــاف القنــاة‪ .‬ورغــم الضغــط‬
‫‪ -1‬عبد الله إمام‪ ،‬عبد النارص وعامر‪ :‬الصداقة‪ ،‬الهزمية‪ ،‬االنتحار القاهرة‪ :‬دار الخيال‪ ،1996 ،‬ص ‪.53‬‬
‫‪2- Aburish, Nasser: The Last Arab, 119.‬‬

‫‪77‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫الشــديد‪ ،‬فقــد خطــط لالنســحاب بدقــة‪ ،‬وأنقــذت تكتيكاتــه الناجحــة يف التعطيــل ثلثــي‬
‫رجــال الجيــش ومعداتــه‪ ،‬كــا منــع الطياريــن مــن دخــول املعركــة حيــث شــعر أنهــم غــر‬
‫مجهزيــن بعــد ملواجهــة املقاتــات الغربيــة‪ .‬وبعــد تنحــي عامــر‪ ،‬أمــر عبــد النــارص بإغــراق‬
‫خمســن حاويــة أســمنت عنــد املدخــل الشــايل للقنــاة ملنــع أي هجــوم مــن جهــة البحــر‬
‫األبيــض املتوســط‪ ،‬رغــم علمــه أن ذلــك ســيعيق املالحــة يف القنــاة بأكملهــا‪ .‬ويف ‪ 2‬نوفمــر‪،‬‬
‫ألقــى خطابًــا مدويًــا يف الجامــع األزهــر‪ ،‬حشــد فيــه املرصيــن إلطــاق مقاومــة شــعبية‬
‫شــاملة‪ ،‬وكلــف زكريــا محيــي الديــن بتنســيق املقاومــة يف عمــوم البــاد‪ ،‬وأرســل ثالثــة‬
‫مــن زمالئــه الســابقني يف مجلــس قيــادة الثــورة لتنظيــم املقاومــة يف املــدن عــى ضفــاف‬
‫القنــاة خاصــة حــول بــور ســعيد‪ ،‬قبــل أن يــزور جبهــة القتــال بنفســه بعــد أيــام‪ (((.‬ويف‬
‫غضــون أيــام قليلــة توقــف الهجــوم وانســحبت القــوات الربيطانيــة والفرنســية يف ‪22‬‬
‫ديســمرب دون تحقيــق مكاســب تُذكــر‪ ،‬وتبعهــم اإلرسائيليــون يف مــارس ‪.1957‬‬
‫تعرَّثت الحملة الثالثية بهذه الرسعة؟‬
‫ملاذا َّ‬
‫مــن املؤكــد أن إجــراءات عبــد النــارص الرسيعــة كان لهــا بعــض التأثــر‪ ،‬كــا عــاىن‬
‫الربيطانيــون مــن عــدة تعقيــدات لوجســتية‪ .‬يف يونيــو ‪ 1956‬أخلــت القــوات الربيطانيــة‬
‫القنــاة ومتركــزت بعي ـ ًدا ج ـ ًدا عــن الســاحل‪ ،‬فكانــت أقــرب مفــرزة لهــا يف مالطــا عــى‬
‫بعــد ســتة أيــام مــن الشــواطئ املرصيــة‪ .‬ثبــت مجــد ًدا أن تجميــع القــوات هــو أحــد أكــر‬
‫عمليــات التعبئــة صعوبــة ودقــة واســتهالكًا للوقــت يف التاريــخ العســكري‪ (((.‬ويرجع الســبب‬
‫يف ذلــك إىل أن بريطانيــا‪ ،‬كــا اعــرف هارولد ماكميــان((( يف مذكراته‪ ،‬أرادت االســتعداد‬
‫لجميــع االحتــاالت‪ .‬ومعنــى هــذا أن حكومتــه "تفتقــر إىل الخيــال واملبــادرة للتحــرر مــن‬
‫أجــواء الحــرب العامليــة الثانيــة‪ ...‬فقــد أطلقــت أســطواًلً عــى طــراز أســطول النورمانــدي‬
‫أساســا مــع مــر‪ ،‬ســيزداد‬
‫رغــم معرفتهــا املؤكــدة بــأن الــرأي العــام العاملــي‪ ،‬املتعاطــف ً‬
‫غضبــه خــال الوقــت الــذي سيســتغرقه األســطول لعبــور البحــر األبيــض املتوســط"(((‪.‬‬
‫‪1- Mohamed Abdel Ghani Al-Gamasy, The October War: Memoirs of Field Marshall El-Gamasy‬‬
‫‪of Egypt, Cairo: American University in Cairo Press, 1993, 13.‬‬
‫‪2- Elie Kedourie, Islam in the Modern World and Other Studies, New York: Holt, Rinehart, and‬‬
‫‪Winston, 1980, 172.‬‬
‫‪ -3‬رئيس وزراء بريطانيا منذ ‪ 10‬يناير ‪ 1957‬وحتى ‪ 18‬أكتوبر ‪( .1963‬املرتجم)‬
‫‪4- Turner, Suez 1956, 468.‬‬

‫‪78‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫ويف النهايــة‪ ،‬لعــب موقــف الواليــات املتحــدة واالتحــاد الســوفيتي دو ًرا بالــغ األهميــة خالل‬
‫الحــرب‪ .‬إذ مل تكــن واشــنطن عــى اســتعداد للرتاجــع عــن مرشوعهــا القــايض بإضعــاف‬
‫را ببســط نفوذهــا يف الــرق األوســط‬ ‫اإلمربياليــة األوروبيــة‪ ،‬خاصــة بعــد أن بــدأت أخ ـ ً‬
‫عــى حســاب تراجــع الهيمنــة الربيطانيــة والفرنســية‪ .‬ومــن جانبهــا‪ ،‬اعتــرت موســكو أن‬
‫هجو ًمــا كهــذا عــى دولــة قــد أقامــت معهــا للتــو تعاونًــا عســكريًا إهانــة ال تُغتفــر‪ .‬لقــد كان‬
‫هــذا الرفــض األمريــي الــرويس الــرس للحــرب عــى مــر أحــد املــرات القليلــة ج ـ ًدا‬
‫را يف إفشــال العدوان‪.‬‬ ‫التــي اتفــق الجانبــان عليهــا طــوال الحــرب البــاردة‪ ،‬وقد ســاهم كثـ ً‬
‫ـميا‪ -‬حيــث أُجرب عــى االنســحاب من ســيناء ومل يســتطع‬ ‫رغــم هزميــة الجيــش املــري رسـ ً‬
‫صــد هجــات األعــداء الجويــة أو منعهــم مــن احتــال مســاحات مــن مــر‪ -‬إال أن "حرب‬
‫ـن بعــد الحــرب أن عبــد النارص‬ ‫را سياسـ ًـيا" ملــر‪ .‬تبـ َّ‬
‫الســويس" كــا ُســميت اعتــرت "نـ ً‬
‫أخطــأ يف حســاباته حــن اســتبعد التدخــل اإلرسائيــي‪ ،‬واعتقــد بــأن املنافســة الفرنســية‬
‫الربيطانيــة يف الــرق األوســط ســتحول دون تعاونهــا‪ .‬كــا اعتقــد أن فرنســا ُمســتن َزفة‬
‫بالكامــل يف الجزائــر وال ميكنهــا فتــح جبهة أخرى‪ ،‬وقـ َّدر أن كلفة الوقــت والجهد الالزمني‬
‫لتجميــع قــوة عســكرية كبــرة ســيكونان مكلفــن للغايــة بالنســبة لربيطانيــا‪ (((.‬ومــع ذلــك‪،‬‬
‫فقــد أبــدى مرونــة سياســية كبــرة يف حشــد املقاومــة الشــعبية وتأمــن الدعــم الدبلومايس‬
‫الــذي ال يتناســب مــع قــوة بــاده‪ .‬ألهمــت خطاباتــه الحامســية وموقفــه الثابــت املرصيــن‬
‫بتبنــي خيــار املقاومــة بقــوة‪ ،‬ومــا زالــت قصــص هــذا التحــدي البطــويل جــز ًءا مــن الرتاث‬
‫الشــعبي ألبنــاء مــدن القنــاة‪ .‬كــا أن الطريقــة التــي عــرض بهــا قضيــة مــر عــى الــرأي‬
‫العــام واســتعداده لتعويــض بريطانيــا وفرنســا عــن حصصهــا املفقــودة يف قنــاة الســويس‬
‫أيضــا أنــه مخطط تكتيــي ناجح‪،‬‬ ‫قلبــت الطاولــة عــى العــدوان‪ .‬باإلضافــة إىل ذلــك‪ ،‬أثبــت ً‬
‫حيــث أ َّخــر تقــدم قــوات العــدوان ومتكــن مــن إعــادة ثلثــي الجيــش ســامل ًا إىل قواعــده‪.‬‬
‫ولكــن‪ ،‬يف نفــس الوقــت الــذي احتفــى فيــه املرصيــون وســائر شــعوب العــامل النامــي‬
‫بقيــادة عبــد النــارص السياســية‪ ،‬فقــد افتُضحــت قــدرات عبــد الحكيــم عامــر العســكرية‬
‫الزهيــدة‪ .‬يقــدم وزيــر الحربيــة الالحــق محمــد عبــد الغنــي الجمــي تحليـ ًـا للموقــف‬
‫العســكري املــري خــال الحــرب فيقــول‪:‬‬

‫‪ -1‬نرص‪ ،‬مذكرات صالح نرص‪ ،‬ص ‪.405‬‬

‫‪79‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫"رمبــا طغــى االنتصــار الســيايس عــى أدائنــا العســكري الــيء‪ ،‬لكــن ال مفــر مــن‬
‫االعــراف بأننــا فشــلنا يف تأمــن البــاد مــن الــرق والشــال‪ ،‬وأن املعتديــن مل يرضخــوا‬
‫إال للضغــط الــدويل‪ ،‬وأن إرسائيــل متكنــت مــن تحقيــق مكســب كبــر واحــد عــى األقــل‬
‫مقابــل انســحابها‪ :‬قــوة حفــظ ســام دوليــة متمركــزة يف رشم الشــيخ لضــان حريــة‬
‫املالحــة اإلرسائيليــة عــر مضيــق تــران إىل خليــج العقبــة يف البحــر األحمــر‪ .‬كان مــن‬
‫املفــرض أن يقــوم عامــر بإجــراء تعديــل عــى هيئــة األركان ورؤســاء الفــروع العســكرية‪،‬‬
‫ورفــع مســتوى الدفاعــات البحريــة والجويــة‪ ،‬وتعزيــز قواتــه العســكرية يف ســيناء لــردع‬
‫(((‬
‫أي عــدوان إرسائيــي مســتقبيل‪ ،‬لكــن أيًــا مــن هــذا مل يحصــل"‪.‬‬
‫حفاظًــا عــى شــبكة املحســوبيات التــي أقاموهــا‪ ،‬عمــل مســاعدو عامــر األمنيــون عــى‬
‫إقناعــه بــأن الحــرب كانــت خطــأ عبــد النــارص‪ ،‬فقــراره املتهــور بتأميــم القنــاة هــو الــذي‬
‫أشــعلها‪ .‬كــا حــذروه مــن أن عــزل مرؤوســيه املخلصــن لــه بضغــط مــن الرئيــس قــد‬
‫يش ـ ِّوه ســمعته إىل األبــد‪ .‬وعــى املســتوى الشــخيص‪ ،‬بــات عامــر متخوفًــا مــن الرباعــة‬
‫العســكرية التــي أظهرهــا عبــد النــارص أثنــاء الحــرب‪ ،‬ويك يســتعيد مكانتــه بــن رجالــه‬
‫عمــد إىل تقديــم الخدمــات واألعطيــات لهــم فــازداد فســادهم‪ .‬وفيــا طالبــه الرئيــس‬
‫بتغيــرات جذريــة يف القيــادة العســكرية وتشــكيالتها‪ ،‬فقــد أىب إجــراء هــذه التغيــرات‪،‬‬
‫ورفــض خــال اجتــاع ســاده التوتــر يف ‪ 15‬نوفمــر حتــى نقــل قائــد القــوات الجويــة‬
‫اللــواء محمــد صدقــي محمــود‪ -‬الــذي علــم الجميــع ضعفــه وتقصــره‪ -‬ال لــيء إال ألنــه‬
‫كان رجلــه املخلــص‪ .‬ليــس ذلــك فحســب‪ ،‬بــل انتقــد عبــد النــارص واتهمــه بالتســبب يف‬
‫(((‬
‫حــرب ال داعــي لهــا ليلقــي باللــوم يف النتيجــة عــى الجيــش‪.‬‬
‫صدمــت جــرأة عبــد الحكيــم عامــر الرئيــس عبــد النــارص‪ ،‬الــذي بــدأ يشــك يف أن الجيــش‬
‫قــد يخــرج عــن ســيطرته‪ ،‬وأن قائــده العســكري املوثــوق بــه قــد بنــى نفــوذه الخــاص يف‬
‫الجيــش‪ .‬وألول مــرة‪ُ ،‬دق اإلســفني األول بــن رفــاق الــدرب القدامــى يف وقــت هــو األســوأ‬
‫بــكل املقاييــس‪ .‬توقــع أيزنهــاور مــن مــر املمتنــة ألمريــكا أن تتبنــى عرضــه الــذي قدمــه‬
‫يف ينايــر ‪ 1957‬بتقديــم دعــم واشــنطن للــدول املهــددة بالســقوط أمــام املــد الشــيوعي‪.‬‬
‫وبــداًلً مــن ذلــك‪ ،‬هاجــم عبــد النــارص مــا يســمى "بعقيــدة أيزنهــاور" بشــدة باعتبارهــا‬
‫‪1- Al-Gamasy, The October War 13-15.‬‬
‫‪ -2‬وجيه أبو ذكري‪ ،‬مذبحة األبرياء يف ‪ 5‬يوليو ‪ ،1967‬املكتب املرصي الحديث‪ ،1988 ،‬ص ‪.71‬‬

‫‪80‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫ـداًل مــن تســليح‬


‫حيلــة إمربياليــة تــرر التدخــل العســكري األمريــي يف الــرق األوســط بـ ً‬
‫الــدول املســتقلة للدفــاع عــن حدودهــا‪ .‬ويف ‪ 22‬مــارس ‪ 1957‬اجتمــع الرئيــس األمريــي‬
‫مــع رئيــس وكالــة املخابــرات املركزيــة ألــن داالس‪ ،‬وعميلهــا املخــرم يف الــرق األوســط‬
‫كيــم روزفلــت للنظــر يف وســائل اإلطاحــة بعبــد النــارص((( عــر خطــط مــن شــأنها أن‬
‫را بعــد عقــد مــن الزمــن يك تقتلــع النظــام املــري مــن جــذوره‪.‬‬
‫تتبلــور أخـ ً‬

‫السنوات املظلمة‬
‫دفعــت هزميــة حــرب الســويس واملواجهــة التــي تلتهــا عبــد النــارص ملحاولــة إبعــاد عبــد‬
‫الحكيــم عامــر عــن القيــادة العســكرية‪ ،‬األمــر الــذي مل يكــن مــن الســهل القيــام بــه‪.‬‬
‫فبســبب ســخاء األخــر وشــخصيته الــودودة‪ ،‬اســتغله مســاعدوه األمنيــون إلنشــاء شــبكة‬
‫محســوبيات راســخة داخــل ســلك الضبــاط‪ .‬فأوعــزوا إليــه بالعمــل عــى ترقيــة نفســه إىل‬
‫رتبــة مشــر عــام ‪ -1957‬وهــي رتبــة غــر معروفــة يف املعجــم العــريب‪ -‬وســاعدوه عــى‬
‫تحويــل الجيــش إىل قبيلــة هــو رئيســها‪ ،‬وذلــك عــر توزيــع الهدايــا واإلكراميــات‪ ،‬ومنــح‬
‫االمتيــازات الشــخصية‪ ،‬وحــل الخالفــات األرسيــة‪ ،‬ودعــوة رجالــه إىل الحفــات التــي تقــام‬
‫طــوال الليــل يف منزلــه‪ ،‬والتأكــد مــن أن رجــال املشــر يتمتعــون بحصانــة تامــة‪.‬‬
‫خــال فــرة واليتــه‪ ،‬تســارعت الرتقيــات لدرجــة أنــه أمكــن للمــرء أن يصبــح عمي ـ ًدا يف‬
‫ســن األربعــن‪ ،‬بينــا كان يشــغل رتبــة العقيــد يف ذلــك العمــر خــال الخمســينات مــن‬
‫العمــر‪ .‬كــا اســتفاد جميــع الضبــاط مــن مضاعفــة رواتبهــم‪ ،‬ورفــع ســن التقاعــد‪ ،‬وحصلوا‬
‫وقروضــا بــا فوائــد‪ .‬باإلضافــة إىل‬
‫ً‬ ‫عــى منــازل صيفيــة وســيارات خاصــة ومنــح ســفر‬
‫ذلــك‪ ،‬أمــر عامــر بقبــول أبنــاء الضبــاط يف الجامعــات بغــض النظــر عــن درجاتهــم يف‬
‫(((‬
‫االختبــارات ومنحهــم امتيــازات أخــرى متنوعــة‪.‬‬
‫ألجــل هــذا وأكــر‪ ،‬بــات املشــر بالنســبة للجيــش مبثابــة "بابــا نويــل"‪ .‬يــروي العقيــد محمــد‬
‫ســليم حادثــة واحــدة تــدل عــى هــذا الواقــع فيقــول‪" :‬ذات مــرة ســار ضابــط صغــر إىل‬
‫عبــد الحكيــم عامــر وهــو عــى وشــك مغــادرة مقــر القيــادة العامــة‪ ،‬وشــكا لــه أنــه مضطــر‬
‫الســتخدام وســائل النقــل العــام للذهــاب إىل العمــل كل يــوم‪ .‬فمــزق املشــر الجــزء العلــوي‬
‫‪1- Sirrs, History, 59.‬‬
‫‪ -2‬حامد‪ ،‬أرسار ثورة ‪ 23‬يوليو‪ ،‬ص ‪.1340-1330‬‬

‫‪81‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫مــن علبــة ســجائره وكتــب عــى ظهرهــا‪( :‬عزيــزي مديــر رشكــة فيــات‪ ،‬أعـ ِ‬
‫ـط ســيارة عــى‬
‫الفــور لحامــل هــذه الرســالة)‪ ،‬دون أن يســأل عــن اســمه حتــى‪ ،‬واكتفــى بأنــه رجــل يرتــدي‬
‫(((‬
‫طلبــا للمســاعدة"‪.‬‬
‫زي الجيــش وجــاء إليــه ً‬
‫مل يُــرِد عبــد الحكيــم عامــر أن يحــل محــل الرئيــس عبــد النــارص‪ ،‬لكنــه تطلــع ليبنــي‬
‫لنفســه ســلطة مامثلــة‪ .‬فبــداًلً مــن تعزيــز قــدرة الجيــش القتاليــة‪ ،‬ك ـ ّرس نفســه لتحويــل‬
‫الجيــش إىل "دولــة داخــل دولــة" مبســاعدة معاونيــه األمنيــن‪ .‬وعامــل الجيــش عــى‬
‫أنــه إقطاعيــة شــخصية‪ ،‬فرقَّــى الضبــا َط عــى أســاس والئهــم لــه ال للرئيــس أو للدولــة‪.‬‬
‫وليســريض عبــ َد النــارص‪ ،‬زوده معاونــوه األمنيــون بسلســلة منتظمــة مــن محــاوالت‬
‫املؤامــرات التــي يزعمــون أنهــا أُحبِطــت (كمؤامــرة مزعومــة يف أبريــل ‪ 1957‬شــارك فيهــا‬
‫عمــاء بريطانيــون ومثانيــة ضبــاط بالجيــش)‪ .‬فقــد أرادوا أن يبقــى عبــد النــارص قل ًقــا‬
‫للغايــة مــن إجــراء أي تغيــر عســكري يتعــارض مــع مصالحهــم‪ (((.‬لــذا‪ ،‬فــإن مــا بــدأ‬
‫تدريجيــا إىل تأمــن هيمنــة‬
‫ً‬ ‫يف األصــل كمحاولــة لتأمــن الثــورة يف عــام ‪ ،1954‬تحــول‬
‫القيــادة العســكرية الحاليــة‪ .‬كان أمــل الرئيــس الوحيــد هــو إقنــاع عامــر بــرك الجيــش‬
‫مبحــض إرادتــه‪ ،‬وهــو أمــر مســتحيل بــكل املقاييــس‪.‬‬
‫وهكــذا‪ ،‬تحــول إىل الخيــار التــايل واألمثــل‪ :‬فبنــا ًء عــى نصيحــة مديــر مكتــب معلومــات‬
‫الرئيــس ســامي رشف‪ ،‬حــاول إنشــاء شــبكته الرسيــة الخاصــة داخــل الجيــش‪ .‬ورسعــان‬
‫مــا أدرك رشف أن جهــاز عامــر األمنــي يســيطر عــى ســلك الضبــاط‪ ،‬فحــ َّول جهــوده‬
‫إىل الكليــة الحربيــة التــي كان يرأســها قريبــه محمــد فــوزي‪ ،‬الــذي ســيصبح الحقًــا‬
‫وزيــ ًرا للحربيــة‪ .‬وبحلــول نهايــة عــام ‪ ،1956‬ج َّنــ َد رشف ســتة طــاب مــن األكادمييــة‬
‫وكلفهــم بالبقــاء كخليــة نامئــة حتــى يتخرجــوا‪ ،‬ومبجــرد انضاممهــم إىل الخدمــة العســكرية‬
‫يبــدؤون ببنــاء شــبكة مواليــة للرئيــس‪ .‬لكــن بعــد عــدة اجتامعــات‪ ،‬علــم مســاعدو عامــر‬
‫األمنيــن بأمــر الخليــة‪ ،‬وفككوهــا بعــد مواجهــة ناريــة مــع عبــد النــارص‪ .‬بعدهــا قــرر‬
‫أيضــا يف مكتــب معلومــات الرئيــس‪ ،‬التنصــت عــى هاتــف‬ ‫حســن التهامــي‪ ،‬الضابــط ً‬
‫املشــر عامــر مببــادرة شــخصية‪ .‬لكــن معاونيــه األمنيــن املتيقظــن اكتشــفوا األمــر‬

‫‪ -1‬مقابلة مع العقيد محمد سليم عام ‪.2009‬‬


‫‪ -2‬الرافعي‪ ،‬ثورة ‪ 23‬يوليو‪ ،‬ص ‪.269‬‬

‫‪82‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫(((‬
‫أيضــا إىل فيينــا لعقــد كامــل‪.‬‬
‫مجــد ًدا‪ ،‬ومل يكتفــوا بفصــل التهامــي وحســب‪ ،‬بــل نُفــي ً‬
‫بعــد تزايــد الضغــوط عليــه‪ ،‬بــات عبــد النــارص عال ًقــا مــع عامــر يف لعبــة القــط والفــأر‪.‬‬
‫ولتخفيــف شــكوك األخــر‪ ،‬أخــذ خطــوة إىل الــوراء عــر تعيــن صــاح نــر مديــر مكتــب‬
‫رئيســا لجهــاز املخابــرات العامــة يف مايــو‬
‫القائــد العــام ‪ -‬مســاعد عامــر األمنــي األبــرز‪ً -‬‬
‫‪ ،1957‬وخليفتــه مبكتــب املشــر‪ ،‬عبــاس رضــوان وزيـ ًرا للداخليــة يف أكتوبــر ‪.1958‬‬
‫ـعيا منــه لحاميــة نفســه‪ ،‬عــن مديــر املخابــرات العامــة الســابق‬ ‫ومــن جهــة أخــرى‪ ،‬وسـ ً‬
‫عــي صــري يف مكتــب معلومــات الرئيــس لالســتفادة مــن عالقاتــه يف املخابــرات العامــة‬
‫ـميا يف مايو‬
‫لتحييــد نــر‪ .‬ويف فربايــر اســتبق اســتالم نــر رئاســة املخابــرات العامــة رسـ ً‬
‫املقبــل‪ ،‬فعــن أمــن هويــدي وشــعراوي جمعــة‪ -‬امل ُق َّربــان منــه‪ -‬يف مناصــب عليــا يف‬
‫املخابــرات العامــة‪ .‬ثــم أقنــع عامــر بتعيــن العقيــد شــمس بــدران‪ -‬أحــد ضبــاط الصــف‬
‫الثــاين يف حركــة "الضبــاط األحــرار"‪ -‬مدي ـ ًرا جدي ـ ًدا ملكتــب القائــد العــام خل ًفــا لنــر‬
‫ورضــوان‪ .‬عمــل بــدران كحلقــة وصــل بــن الرئاســة والجيــش‪ ،‬وأ ِمـ َـل عبــد النــارص منــه‬
‫أن يعيــد الجيــش لدائــرة نفــوذه‪ .‬باإلضافــة إىل كل هــذه االحتياطــات التكتيكيــة‪ ،‬اطــأن‬
‫يف النهايــة لكــون زكريــا محــي الديــن مهنــدس الكيــان األمنــي بأكملــه‪ ،‬يُــرف بشــكل‬
‫غــر رســمي عــى جميــع األجهــزة األمنيــة املدنيــة‪ ،‬بغــض النظــر عمــن كان مســؤواًلً يف‬
‫املخابــرات العامــة أو وزارة الداخليــة‪.‬‬
‫ولكــن‪ ،‬رسعــان مــا فشــلت هــذه الضامنــات جميعهــا‪ ،‬فنشــب نــزاع بــن صــري ورشف‬
‫فــكان ال بــد مــن إبعــاد صــري‪ ،‬ورفــض صــاح نــر بــدء واليتــه قبــل فصــل املخابــرات‬
‫العامــة عــن هيمنــة زكريــا‪ ،‬بــل وعــزل هويــدي وجمعــة املقربــن مــن عبــد النــارص‪ ،‬مــا‬
‫أجربهــا عــى االنتقــال إىل مكتــب معلومــات الرئيــس يف غضــون بضعــة أشــهر‪ ،‬قبــل‬
‫أن يبــدأ بربــط املخابــرات العامــة باملجموعــة األمنيــة العســكرية‪ (((.‬وبذلــك باتــت جميــع‬
‫األجهــزة األمنيــة (العســكرية واملدنيــة) ‪ -‬باســتثناء مكتــب معلومــات الرئيــس الخــاص بعبــد‬
‫النــارص‪ -‬تحــت ســيطرة املشــر عبــد الحكيــم عامــر‪ .‬واألســوأ مــن ذلــك‪ ،‬أنــه نجــح يف‬
‫اســتاملة بــدران‪ ،‬جاســوس عبــد النــارص املفــرض‪ ،‬فقــد ارتــاح األخــر ألســلوبه يف اإلدارة‪،‬‬

‫‪ -1‬رشف‪ ،‬عبد النارص‪ :‬كيف حكم مرص؟‪ ،‬ص ‪.456‬‬


‫‪ -2‬أمــن هويــدي‪" ،‬خمســون عا ًمــا مــن العواصف‪ :‬ما رأيتــه قلته" مركز األهــرام للرتجمة والنــر‪ ،2002 ،‬ص ‪.195‬‬

‫‪83‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫والــذي يعطيــه اســتقاللية تتناقــض بشــكل كبــر مــع إرشاف عبــد النــارص الصــارم‪ ،‬مــا‬
‫منحــه ســيطرة افرتاضيــة عــى الجيــش بأكملــه‪.‬‬
‫بحلــول عــام ‪ ،1958‬تراجــع نفــوذ عبــد النــارص داخــل القطــاع األمنــي املــري إىل حــد‬
‫كبــر‪ .‬لكنــه يف نفــس العــام‪ ،‬حظــي بفرصــة ذهبيــة إلبعــاد عامــر عــن القيــادة‪ .‬شــكلت‬
‫القوميــة العربيــة محــور السياســة الخارجيــة النارصيــة‪ ،‬وهــي سياســة تهــدف إىل توحيــد‬
‫جميــع الــدول العربيــة يف كيــان واحــد (كاألوروبيــن الذيــن ســعوا جاهديــن لتوحيــد‬
‫أوروبــا)‪ .‬متثلــت الخطــوة األوىل مــن هــذه الخطــة طويلــة املــدى يف الوحــدة بــن مــر‬
‫وســوريا‪ ،‬أقــرب دولتــن عربيتــن‪ -‬يف املؤسســات والتوجــه‪ -‬فأُعلــن عــن قيــام الجمهوريــة‬
‫العربيــة املتحــدة‪ .‬وإلصابــة عصفوريــن بحجــر واحــد‪ ،‬قــر َر الجم ـ َع بــن توســع النفــوذ‬
‫املــري يف الخــارج وتوطيــد ســلطته يف الداخــل‪ ،‬فعــن منافســه عبــد الحكيــم عامــر‬
‫ـا لســوريا‪ ،‬والتــي أعيــدت تســميتها حينهــا باإلقليــم الشــايل‪ ،‬فوافــق األخــر معتقـ ًدا‬
‫حاكـ ً‬
‫أنــه باتــت لديــه اآلن دولــة يديرهــا بنفســه‪ .‬لكــن االتحــاد بــن البلديــن مل يســتمر ســوى‬
‫مــدة ثــاث ســنوات‪ ،‬فعــاد األمــر عــى عامــر بكارثــة عــى عــدة مســتويات‪:‬‬
‫أو ًاًل‪ ،‬نظَّــم مســاعده الســوري املوثــوق عبــد الكريــم النحــاوي االنقــاب املناهــض ملــر‪،‬‬
‫والــذي تســبب بإنهــاء الوحــدة‪.‬‬
‫ثان ًيــا‪ ،‬أعــاده القــادة الســوريون الجــدد إىل القاهــرة يف ‪ 28‬ســبتمرب ‪ 1961‬بطريقــة ُمهينــة‪،‬‬
‫حتــى أن بعــض الشــائعات تقــول إنــه عــاد يف ثيابــه الداخليــة‪.‬‬
‫ثال ًثــا‪ ،‬فشــل قادتــه العســكريون يف إرســال قــوات إىل ســوريا بالرسعــة الكافيــة للقضــاء‬
‫عــى االنقــاب‪.‬‬
‫را‪ ،‬ســمح عامــر لرجالــه باالنتشــار يف جميــع أنحــاء اإلقليــم الســوري‪ ،‬وكان هــذا‬ ‫وأخ ـ ً‬
‫أحــد العوامــل التــي غـذَّت االنقــاب‪ .‬وبســبب هــذا الخطــأ الفــادح قـ َّدم اســتقالته‪ ،‬والتــي‬
‫قبلهــا الرئيــس عبــد النــارص بارتيــاح كبــر‪ .‬وبعــد ثالثــة أيــام‪ ،‬أعــاد تعيــن زكريــا وزيـ ًرا‬
‫للداخليــة‪ ،‬وجعــل مــن رضــوان وزيــ ًرا بــا حقيبــة‪ ،‬واســتعد لخطــوة مامثلــة تســتهدف‬
‫صــاح نــر يف املخابــرات العامــة‪ .‬لكــن قبــل أن يلتقــط أنفاســه‪ ،‬كشــف زكريــا ورشف يف‬
‫ينايــر ‪ 1962‬عــن مؤامــرة عســكرية إلعــادة عامــر إىل منصبــه ونفــوذه وخلــع عبــد النــارص‬

‫‪84‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫فيــا لــو حــاول املقاومــة‪ (((.‬كان مــن الواضــح أن رجــال املشــر مل يكونــوا مســتعدين لــرك‬
‫رئيســهم‪ ،‬ولــذا اضطــر عبــد النــارص لتأجيــل طــرده مــن الجيــش‪.‬‬
‫كان عــى الرئيــس عبــد النــارص هــذه املــرة أن يرتجــل‪ ،‬فأقنــع املشــر عامــر يف ســبتمرب‬
‫بنيتــه تحويــل حكــم مــر إىل حكــم جامعــي مــن خــال مجلــس رئــايس مكــون‬ ‫‪َّ 1962‬‬
‫مــن اثنــي عــر عضـ ًوا‪ ،‬بحيــث يضــم كالهــا‪ ،‬باإلضافــة إىل بعــض الزمــاء القدامــى يف‬
‫مجلــس قيــادة الثــورة وبعــض الــوزراء املدنيــن‪ .‬ولالنضــام إىل املجلــس‪ ،‬كان عــى املشــر‬
‫أن يســتقيل ويقبــل بتعيــن مديــر الكليــة الحربيــة محمــد فــوزي قائ ـ ًدا جدي ـ ًدا للقــوات‬
‫املســلحة‪ .‬وكــا اعــرف الح ًقــا لفــوزي‪ ،‬فقــد أراد عبــد النــارص عــزل عامــر مــن الســلطة‬
‫(((‬
‫بحركــة رسيعــة‪.‬‬
‫وافــق عامــر عــى املــروع عــى مضــض‪ ،‬ومل يعــرف بالضبــط مــا الــذي ســتؤول إليــه‬
‫األمــور‪ .‬يف ‪ 18‬ســبتمرب‪ ،‬أعلــن عبــد النــارص خــال االجتــاع األول للمجلــس عــن تعيــن‬
‫رئيســا للــوزراء‪ ،‬وذكّــر عامــر بتقديــم اســتقالته كــا‬
‫مســاعده األمنــي املقــرب عــي صــري ً‬
‫هــو متفــق عليــه‪ ،‬لكنــه مل يفعــل‪ .‬ففــي اليــوم التــايل‪ ،‬جــاء شــمس بــدران ملقابلــة عبــد‬
‫النــارص وأخــره بــأن املشــر عامــر قــرر البقــاء يف منصبــه بعــد مشــاورة معاونيــه‪ .‬فغضــب‬
‫رص عــى تنفيــذ مــا اتفقــا عليــه مســبقًا‪ .‬وبعــد شــهرين‪ ،‬عــاد بــدران وبيــده رســالة‬
‫لذلــك وأ َّ‬
‫اســتقالة املشــر‪ ،‬لكنــه رسعــان مــا أدرك أنهــا خدعــة خطــرة للغايــة‪ .‬ففــي الرســالة‪،‬‬
‫التــي ادعــى بــدران أنهــا ُرُسبــت بطريقــة مــا إىل ســلك الضبــاط والصحافــة‪ ،‬قــال عامــر‬
‫إنــه اســتقال ألن عبــد النــارص ينهــج نه ًجــا ديكتاتوريًــا‪ ،‬وقــال‪" :‬إن عليــك اآلن أن تُطبــق‬
‫الدميقراطيــة‪ ...‬ال أســتطيع أن أتخيــل أنــك بعــد كل هــذا الوقــت‪ ،‬وبعــد أن قضينــا عــى‬
‫اإلقطــاع والرأســالية االســتغاللية‪ ،‬وبعــد أن وضعــت الجامهــر ثقتهــا فيــك بــا تحفــظ‪،‬‬
‫مــا زلــت تخــى الدميقراطيــة"‪.‬‬
‫ويف نفــس اليــوم‪ ،‬قبــل أن يتعــاىف عبــد النــارص مــن الصدمــة‪ ،‬تظاهــر املظليــون أمــام‬
‫منزلــه وبنادقهــم الرشاشــة موجهــة نحــو املقــر الرئــايس‪ .‬كــا أبلغــه مكتــب معلومــات‬

‫‪ -1‬محمــد فــوزي‪ ،‬حــرب الثــاث ســنوات‪ ،1970-1967 ،‬مذكــرات الفريــق أول محمــد فــوزي‪ ،‬دار املســتقبل‬
‫العــريب‪ ،1990 ،‬ص ‪.33‬‬
‫‪ -2‬محمد فوزي‪ ،‬حرب الثالث سنوات‪ ،1970-1967 ،‬مذكرات الفريق أول محمد فوزي‪ ،‬دار املستقبل العريب‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫الرئيــس أن صــاح نــر يخطــط لــيء كبــر يف املخابــرات العامــة بالتنســيق مــع هيئــة‬
‫األركان‪ .‬وبعــد أيــام قليلــة‪ ،‬حمــل إليــه بــدران رســالة جديــدة مــن عبــد الحكيــم عامــر‬
‫كتابيــا بإرســاء الدميقراطيــة‪ .‬فلــم يبـ َـق أمامــه‬
‫مفادهــا أنــه لــن يســتقيل مــا مل يتعهــد لــه ً‬
‫بعــد هــذا خيــار ســوى التفــاوض معــه‪ ،‬ف ُحــدد موعــد اللقــاء بتاريــخ ‪ 11‬ديســمرب‪ ،‬وبــدأ‬
‫ـخصيا‪ ،‬وأن أي محاولــة‬ ‫األخــر يؤكــد أن األمــن الســيايس للقــوات املســلحة يعتمــد عليــه شـ ً‬
‫إلقالتــه مــن منصبــه ســتؤدي إىل كارثــة‪ .‬وأتبــع تهديداتــه الظاهــرة بقامئــة مطالــب تضمنت‬
‫ترقيتــه مــن منصــب القائــد العــام إىل النائــب األول للرئيــس ونائــب القائــد األعــى للقــوات‬
‫ـميا)‪ ،‬باإلضافــة‬‫املســلحة (يحمــل عبــد النــارص لقــب القائــد األعــى للقــوات املســلحة اسـ ً‬
‫إىل الســيطرة الكاملــة عــى الشــؤون املاليــة واإلداريــة للجيــش‪ .‬وحــن أدرك الرئيــس أن‬
‫(((‬
‫التحــدي بينــه وبــن املشــر عامــر ســيؤدي بالتأكيــد إىل انقــاب‪ ،‬تراجــع عــن مواقفــه‪.‬‬
‫عــادت منــاورة املجلــس الرئــايس عــى عبــد النــارص بنتائــج عكســية‪ ،‬فقــد حافــظ عبــد‬
‫الحكيــم عامــر عــى نفــوذه ومنصبــه‪ ،‬بــل عــزز مــن هــذا النفــوذ بشــكل كبــر‪ ،‬وبــات‬
‫يتقاســم النفــوذ والســلطة معــه بعــد أن كان يف الدرجــة الثانيــة للحكــم‪ .‬أكــدت هــذه‬
‫املواجهــة أســوأ مخاوفــه‪ ،‬فبعــد مــا اعتــره "انقــاب عامــر الصامــت"‪ ،‬اشــتىك لزكريــا مــن‬
‫(((‬
‫وجــود دولتــن يف مــر‪ :‬دولــة رســمية يرأســها هــو‪ ،‬وأخــرى عميقــة يقودهــا عامــر‪.‬‬
‫حاليــا عصابــة‪ ...‬أنــا مســؤول‬
‫كــا اعــرف للســادات رصاحــة قائـ ًـا إن البــاد "تديرهــا ً‬
‫كرئيــس‪ ،‬لكــن عامــر هــو الــذي يحكــم"‪ (((.‬لــذا‪ ،‬كان نظــام مــر يف الســتينيات مــن‬
‫القــرن املــايض نظا ًمــا تقــوده قيادتــان‪ ،‬ومحاطًــا باالضطرابــات والقلــق‪.‬‬
‫مل يعــد الــراع عــى الســلطة يف الخفــاء كــا كان‪ ،‬فقــد ظهــر اآلن إىل العلــن‪ .‬أراد عبــد‬
‫النــارص التســلل إىل الجيــش‪ ،‬فيــا ســعى عامــر لبســط نفــوذه عــى القــرار الســيايس‪ .‬يف‬
‫رئيســا لــأركان‪ ،‬بعــد أن رفــض‬
‫مــارس ‪ 1964‬دفــع الرئيــس منافســه لتعيــن محمــد فــوزي ً‬
‫قبــل عامــن تســليمه القيــاد َة العامــة‪ ،‬لكنــه هــذه املــرة وافــق ليســريض الرئيــس آخ ـذًا‬
‫منصبــا جديـ ًدا يف التسلســل‬
‫ً‬ ‫بالحســبان تحديــد صالحياتــه باملهــام اإلداريــة التافهــة‪ ،‬وأنشــأ‬

‫‪ -1‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.208‬‬


‫‪ -2‬عبد الله إمام‪ ،‬عبد النارص وعامر‪ ،‬ص ‪.87‬‬
‫‪ -3‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.220‬‬

‫‪86‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫القيــادي أســاه "قيــادة القــوات الربيــة" وأوكل إليــه مهــات وصالحيــات القيــادة‪ (((.‬مــن‬
‫ناحيــة أخــرى‪ ،‬شــدد عامــر ومعاونــوه قبضتهــم عــى الجيــش واألمــن‪ ،‬وبــدأوا يف بســط‬
‫أيضــا‪ ،‬مــن اإلرشاف عــى اإلصــاح الزراعــي إىل‬ ‫نفوذهــم عــى القطاعــات املدنيــة ً‬
‫اإلرشاف عــى رشكات القطــاع العــام وإدارة األنديــة الرياضيــة‪ .‬لكــن يف الحقيقــة‪ ،‬مل يكــن‬
‫عبــد النــارص وال عامــر الالعبــان الحقيقيــان يف هــذا الــراع‪ ،‬إمنــا معاونوهــم األمنيــون‪.‬‬
‫ففكــرة تعيــن فــوزي يف القيــادة العامــة اقرتحهــا قريبــه ســامي رشف مديــر مكتــب‬
‫معلومــات الرئيــس‪ .‬ويف الوقــت نفســه‪ ،‬حظــي مديــر مكتــب القائــد العــام شــمس بــدران‬
‫(((‬
‫بنفــوذ وســيطرة داخــل األجهــزة األمنيــة العســكرية والجيــش أكــر مــن عامــر نفســه‪.‬‬
‫يف هــذه املرحلــة‪ ،‬نــدم عبــد النــارص عــى تجاهلــه للتنظيــم الســيايس‪ ،‬فلــو أنــه شــكل‬
‫ـا قويًــا لحافــظ عــى الجيــش يف صفــه عــر مفوضــن سياســيني مثلــا هــو‬ ‫حزبًــا حاكـ ً‬
‫الحــال يف روســيا والصــن‪ .‬لكنــه بــداًلً مــن ذلــك أراد الســيطرة عــى الجيــش مــن خــال‬
‫خاليــا رسيــة مواليــة لنظامــه‪ .‬أمــا اآلن‪ ،‬وبعــد أن بــات والء هــذه الخاليــا لعامــر مطل ًقــا‪،‬‬
‫فلــم يعــد لديــه أي طريقــة للتخلــص منهــا ألنــه ببســاطة مل يعــرف والء أعضــاء هــذه‬
‫الخاليــا(((‪ .‬لكــن األوان رمبــا مل يفــت بعــد‪ ،‬فــإذا أصبــح الجيــش قاعــدة نفــوذ لخصمــه‪،‬‬
‫فــإن األجهــزة األمنيــة التــي يســيطر عليهــا (مكتــب معلومــات الرئيــس‪ ،‬واملباحــث العامــة‬
‫يف وزارة الداخليــة‪ ،‬وقــوات الرشطــة) ال تتوافــق مــع األجهــزة املواليــة لعامر (مكتــب القائد‬
‫العــام واملخابــرات الحربيــة والرشطــة العســكرية)‪ ،‬مــا أعطــاه فرصــة لتحويــل انتباهه إىل‬
‫إنشــاء كيــان ســيايس‪ -‬رمبــا يعــزز حضــوره االجتامعــي ويحــ ِّول أعوانــه املبتدئــن إىل‬
‫‪ -1‬فوزي‪ ،‬حرب الثالث سنوات‪ ،‬ص ‪.54‬‬
‫‪ -2‬حامدة حسني‪ ،‬شمس بدران‪ :‬الرجل الذي حكم مرص‪ ،‬مكتبة بريوت‪ ،2008 ،‬ص ‪.8‬‬
‫‪ -3‬كانــت املحاكــات التــي أعقبــت هزميــة ‪ 1967‬فقــط هــي التــي كشــفت كيــف اتهــم شــمس بــدران أعضــاء مــن‬
‫صفــه (دفعــة عــام ‪ )1948‬ب��إدارة ه�ذـه الخالي��ا‪ .‬انظ��ر كت��اب س��امي رشف "عب��د الن��ارص‪ :‬كي��ف حك��م م�صر؟"‬
‫مدبويل الصغـير‪ ،1996 ،‬ص ‪.360-359‬‬
‫القانــون رقــم ‪ 306‬لســنة ‪ 1952‬يعفــي الــركات األجنبيــة مــن الرضائــب عــى األربــاح التجاريــة والصناعيــة‪.‬‬
‫القانــون ‪ 424‬لعــام ‪ 1953‬يعفــي الصــادرات الصناعيــة األجنبيــة مــن رضائــب الدخــل؛ القانــون رقــم ‪ 430‬لســنة‬
‫‪ 1953‬يعفــي املشــاريع الزراعيــة والصناعيــة املســاهمة مــن الرضائب عىل األربــاح؛ زاد القانــون ‪ 277‬لعام ‪1956‬‬
‫الرضائــب املبــارشة لتحــل محــل اإليــرادات الرضيبيــة املفقــودة عــى األنشــطة التجاريــة والزراعيــة والصناعيــة‬
‫‪(Michael N. Barnet, Confronting the Cost of War: Military Power, State, and Society in Egypt‬‬
‫‪and Israel, Princeton, NJ: Princeton University Press, 1992, 88).‬‬

‫‪87‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫حــزب حاكــم قــوي‪ .‬فــإذا نجــح يف توســيع قاعدتــه االجتامعيــة وتنظيمهــا‪ ،‬فرمبــا يتمكــن‬
‫مــن الحــد مــن نفــوذ الجيــش يف االئتــاف الحاكــم‪ ،‬ومــن هنــا ولــدت فكــرة االتحــاد‬
‫االشــرايك العــريب الــذي ُصــور منــذ البدايــة ككيــان ســيايس معــارض للجيــش‪.‬‬

‫مواجهة الجيش‬
‫را يف األحــزاب السياســية حيــث ميكــن اخرتاقهــا وتخريبهــا‬ ‫مل يثــق عبــد النــارص كثــ ً‬
‫بســهولة‪ .‬لــذا فضــل حشــد الدعــم عــر التواصــل املبــارش مــع الجامهــر مــن خــال‬
‫الخطــب ووســائل اإلعــام التــي تســيطر عليهــا الدولــة‪ .‬لكنــه أدرك بحلــول عــام ‪1962‬‬
‫أنــه حــارص نفســه دون أن يشــعر‪ ،‬فقــد أدى امتناعــه عــن تأســيس حــزب حاكــم قــوي إىل‬
‫ســيطرة الجيــش واألجهــزة األمنيــة عــى الســاحة السياســية بالكامــل‪ ،‬ولــذا عــزم عــى ســد‬
‫هــذه الفجــوة وبــدأ يف العمــل مبــا توفــر لديــه مــن نفــوذ ومقومــات‪.‬‬
‫بحلــول عــام ‪ ،1958‬مهــدت مجموعــة التيــارات السياســية الفوضويــة التــي شــكلت‬
‫هرميــة يقــوم عــى نظــام املحافظــات ُســمي‬ ‫هيئــة التحريــر الطريــق إىل هيــكل أكــر ً‬
‫بـــ "االتحــاد القومــي"‪ .‬لكــن‪ ،‬ورغــم صالبــة هيكلــه‪ ،‬فقــد تحــول االتحــاد إىل أداة رقابــة‬
‫غــر أيديولوجيــة مفتوحــة لجميــع املواطنــن تهتــم يف الغالــب بحشــد الجامهــر للرتحيــب‬
‫بكبــار شــخصيات الدولــة‪ ،‬وإلظهــار الدعــم والتأييــد للرئيــس خــال االحتفــاالت الوطنيــة‬
‫والتصويــت ملــا تقــرره الحكومــة يف االســتفتاءات‪ .‬مل يكــن لــدى هيئــة التحريــر وال‬
‫االتحــاد القومــي أي قــدرة عــى التعبئــة الشــعبية‪ ،‬إمنــا كانــا أشــبه بشــبكات اجتامعيــة‬
‫مرنــة يســتغلها أولئــك الذيــن دعمــوا النظــام‪ -‬أو باألحــرى ســعوا لالســتفادة منــه‪ .‬وقــد‬
‫جمعــا الطــاب والعــال والفالحــن واملهنيــن والتجــار‪ ،‬وكذلــك األعيــان والرأســاليني يف‬
‫األريــاف الذيــن اجتمعــوا مــن حــن آلخــر للتعبــر عــن تأييدهــم للنظــام‪.‬‬
‫أتــاح متري ـ ُر القوانــن االشــراكية عــام ‪ ،1961‬والتــي اســتخدمها عبــد النــارص لتوســيع‬
‫قاعدتــه الجامهرييــة وإحــكام قبضتــه عــى الدوائــر اإلداريــة الفرصــ َة إلعــادة تنظيــم‬
‫ومتكــن االتحــاد القومــي‪ .‬ومــن خــال امليثــاق الوطنــي لعــام ‪ 1962‬أعلــن عــن إنشــاء‬
‫االتحــاد االشــرايك العــريب‪ ،‬والــذي كان مــن املفــرض أن ُمُيثِّــل إرادة مــا أســاه "تحالــف‬
‫القــوى املنتجــة للشــعب" يف التحــرر مــن اإلمربياليــة‪ ،‬وتحقيــق االشــراكية (التــي تعنــي‬
‫اقتصــاد الدولــة املخطــط لــه) والوحــدة العربيــة‪ .‬نُظــم االتحــاد االشــرايك بشــكل منهجــي‬

‫‪88‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫عــى أســاس محوريــن‪ :‬األول يقــوم عــى التصنيــف املهنــي‪ ،‬عــر لجــان العــال والفالحــن‬
‫واملثقفــن والجنــود والرأســاليني الوطنيــن‪ ،‬وكذلــك منظمــة الشــباب االشــرايك الطالبية‪.‬‬
‫أمــا الثــاين فعــى أســاس الســكن عــر فــروع يف أحيــاء املــدن ووحــدات أساســية يف‬
‫القــرى (‪ 7500‬وحــدة باملجمــل)‪ .‬نظريًــا‪ ،‬كان مــن املفــرض أن يقــدم االتحــاد مرشــحني‬
‫للربملــان ومجلــس الــوزراء‪ ،‬فضـ ًـا عــن املناصــب القياديــة األخــرى كرؤســاء املــدن وعمــداء‬
‫الجامعــات‪ .‬كــا أوكلــت لــه مهمــة اقــراح القوانــن الترشيعيــة وسياســات الدولــة عــى‬
‫جميــع مســتوياتها‪ .‬وباختصــار‪ ،‬كان مــن املفــرض أن ميثــل االتحــاد االشــرايك كيــان‬
‫الســلطة السياســية‪.‬‬
‫عــرض نائــب مديــر املخابــرات العامــة وعضــو االتحــاد االشــرايك عبــد الفتــاح أبــو‬
‫الفضــل يف جريــدة "الطليعــة" الناطقــة بلســان النظــام أصــول وأهــداف هــذا الكيــان‬
‫الجديــد‪ ،‬وأوضــح أن االتحــاد بــدأ كمنظمــة جامهرييــة جمعــت أعضــاء مــن جميــع الفئــات‬
‫ـلميا‪ ،‬وإيجــاد أرضيــة مشــركة‬
‫االجتامعيــة للســاح لهــم بحــل نزاعاتهــم وتناقضاتهــم سـ ً‬
‫سياســيا وملتزمــة مببــادئ‬
‫ً‬ ‫تحــت إرشاف جهــاز ســيايس مؤلــف مــن عنــارص مدربــة‬
‫رافضــا حكــم الحــزب الواحــد باعتبــاره‬‫ـا ً‬ ‫الثــورة‪ .‬ونفــى أن يكــون االتحــاد حزبًــا حاكـ ً‬
‫شــيوعيا ميثــل ديكتاتوريــة‬
‫ً‬ ‫فاشــيا ميثــل مصالــح الطبقــة املهيمنــة اقتصاديًــا‪ ،‬أو‬
‫ً‬ ‫حكــا‬
‫ً‬
‫العــال‪ ،‬لتجنــب أن يكــون ُمتحيـ ًزا بطبيعتــه ضــد رشائــح املجتمــع األخــرى‪ .‬وعــى النقيــض‬
‫مــن ذلــك‪ ،‬أكــد أن االتحــاد ميثــل تحال ًفــا للشــعب ككل ويســمح للمواطنــن جمي ًعــا بالتعبــر‬
‫عــن اهتامماتهــم والتحــاور حــول طــرق للتعايــش بينهــم‪ .‬ثــم أوضــح أن النظــام يرفــض‬
‫التعدديــة السياســية ألن الرصاعــات الحزبيــة يف األنظمــة التعدديــة متثــل رصاعــات‬
‫طبقيــة‪ ،‬وهــو مــا يهــدف االتحــاد‬
‫للقضــاء عليــه‪" ،‬ففــي ظــل عــدم وجــود تناقــض أســايس بــن مصالــح القــوى املنتجــة يف‬
‫(((‬
‫املجتمــع‪ ،‬ليســت هنــاك حاجــة ليشــكل كل منهــم منظمــة سياســية مســتقلة"‪.‬‬
‫ورغــم هــذا الخطــاب‪ ،‬كان مــن الواضــح أن عبــد النــارص يتطلــع إىل إنشــاء منظمــة‬
‫لينينيــة الطــراز عــى غــرار التجــارب الســوفيتية وأنظمــة أوروبــا الرشقيــة (وخاصــة يف‬
‫يوغوســافيا)‪ .‬ويف ‪ 12‬ينايــر ‪ ،1966‬شــدد يف لقــاء مــع أعضــاء املكاتــب التنفيذيــة لالتحــاد‬

‫‪ -1‬عبد الفتاح أبو الفضل‪ ،‬كنت نائبًا لرئيس املخابرات‪ ،‬ص ‪.91-90‬‬

‫‪89‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫باملحافظــات عــى الــدور الطليعــي لــه‪ ،‬فقــال‪" :‬ال ميكننــا أن ننجــح مــا مل نفهــم الجامهــر‪.‬‬
‫يجــب أن نأخــذ أفكارهــم وآراءهــم‪ ،‬وندرســها‪ ،‬وننظمهــا‪ ،‬ونعيدهــا إليهــم‪ ،‬ثــم نوجههــم يف‬
‫االتجــاه الصحيــح"‪ .‬ثــم تحولــت لغــة خطابــه إىل لغــة عســكرية‪" :‬يجــب عليكــم التعامــل‬
‫مــع النــاس‪ ،‬وتجنيدهــم‪ ،‬ودعوتهــم‪ ...‬لتوســيع عضويــة االتحــاد االشــرايك العــريب"‪ (((.‬لكــن‬
‫بغــض النظــر عــا كان يرغــب بــه‪ ،‬فــإن االتحــاد االشــرايك مل يكــن ُمج َّه ـ ًزا ألداء هــذا‬
‫الــدور الطليعــي‪ .‬وبــدا أنــه يف حامســه لتكــرار التنظيــم املميــز لألحــزاب الشــيوعية أغفـ َـل‬
‫ـيوعيا ومل يلتــزم بشــكل ثابــت‬‫را واحـ ًدا مفقــو ًدا‪ :‬الشــيوعية‪ .‬مل يكــن عبــد النــارص شـ ً‬
‫عنـ ً‬
‫براغامتيــا‪ ،‬رغــم أنــه ُمشــبع باألفــكار النبيلــة عــن‬
‫ً‬ ‫بــأي أيديولوجيــة صارمــة‪ ،‬بــل كان رجـ ًـا‬
‫الحداثــة والعدالــة االجتامعيــة‪ .‬وغنــي عــن القــول إنــه بــدون أيديولوجيــة فــا ميكــن أن‬
‫يكــون هنــاك تلقــن أيديولوجــي‪.‬‬
‫لــذا‪ ،‬مل يســتطع االتحــاد االشــرايك ســوى ربــط املجموعــات االجتامعيــة الرئيســية بالنظــام‬
‫مــن خــال اإلغــراءات املاديــة بــداًلً مــن االلتــزام األيديولوجــي‪ .‬كان هــذا جيــ ًدا مبــا‬
‫يكفــي لتحقيــق الهــدف املبــارش لعبــد النــارص‪ :‬تجديــد نظامــه الســيايس وجعلــه عــى قــدم‬
‫املســاواة مــع الجيــش‪ .‬يقــول ســامي رشف معرتفًــا‪" :‬عانينــا مــن اختــال يف التــوازن‪،‬‬
‫فنفــوذ الجيــش منــا إىل درجــة بــات فيهــا خــارج نطــاق الســيطرة‪ ،‬لــذا أنشــأ الرئيــس‬
‫االتحــاد االشــرايك العــريب ليكــون نـ ًدا سياسـ ًـيا مقابـ ًـا للجيــش"‪ (((.‬وألن عامــر كان عــى‬
‫علــم بذلــك‪ ،‬فقــد حــارب بــراوة هــذا الكيــان الجديــد‪ .‬خــر مثــال عــى ذلــك مــا حــدث‬
‫يف املخيــم الصيفــي باإلســكندرية عــام ‪ ،1964‬عندمــا اختــار فــرع الشــباب يف االتحــاد‬
‫املدعــو "منظمــة الشــباب االشــرايك" لكــوادره املوضــوع التــايل للبحــث‪" :‬كيــف يجــب أن‬
‫يقــاوم شــباب االتحــاد االشــرايك العــريب انقالبًــا محتمـ ًـا؟" وعندمــا أبلغــت املخابــرات‬
‫(((‬
‫العســكرية املشــر عامــر باألمــر غضــب بشــدة‪.‬‬
‫أدى فقــدان االتحــاد لأليديولوجيــا‪ ،‬والهــدف الخفــي‪ -‬املتمثــل يف تحييــد الجيــش‪ -‬إىل أن‬
‫ـمولية شــديدة املركزيــة تصــدر توجيهاتهــا مــن رأس الهرم‬
‫يتحــول منــذ البدايــة إىل هيئــة شـ ّ‬
‫‪ -1‬حديــث جــال عبــد النــارص التنظيمــي يف املؤمتــر األول ألعضــاء املكاتــب التنفيذيــة فيــا يتعلــق بأســاليب‬
‫العم��ل يف االتح��اد االشتـرايك العــريب‪ ،‬الطليعــة ‪ :)2( 2‬ص ‪ ،18-11‬القاهــرة (فربايــر ‪ :)1966‬ص ‪.16-14‬‬
‫‪ -2‬سامي رشف‪ ،‬عبد النارص‪ :‬كيف حكم مرص؟‪ ،‬ص ‪.229-228‬‬
‫‪ -3‬عبدالله إمام‪ ،‬عبد النارص وعامر‪ ،‬ص ‪.90‬‬

‫‪90‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫إىل القاعــدة ليبقــى املواطنــون متعايشــن مــع سياســات النظــام ولكبــح أي معارضــة‪ ،‬أكــر‬
‫مــن كونــه جهــاز تعبئــة جامعيــة‪.‬‬
‫يصــف األمــن العــام الالحــق لالتحــاد عبــد املحســن أبــو النــور كيــف أنــه تــرأس تســع‬
‫هيئــات‪ :‬واحــدة للتلقــن‪ ،‬وأخــرى للدعايــة‪ ،‬وثالثــة ملراقبــة الشــؤون الدينيــة‪ ،‬والبقيــة لـــ‬
‫"إدارة" الطــاب والعــال والفالحــن‪ ،‬ومل يحــاول أي منهــم بــذل جهــد لتجــاوز ســيطرة‬
‫(((‬
‫النظــام عــى جميــع جوانــب الحيــاة‪.‬‬
‫وبــداًلً مــن إلهــام املجتمــع‪ ،‬قــام االتحــاد بتجنيــده عــر جعــل العضويــة رشطًــا ال غنــى‬
‫عنــه‪ ،‬ولتصبــح أرسع طريــق للحــراك االجتامعــي الصاعــد‪ .‬وبــداًلً مــن غــرس اإلميــان‬
‫بفضيلــة وعدالــة النظــام يف قلــوب وعقــول منتســبيه البالــغ عددهــم ســتة ماليــن‪ ،‬فقــد‬
‫أصبــح االتحــاد عامــل جــذب لالنتهازيــن مــن جميــع الجوانــب‪ ،‬فالذيــن توافــدوا لحجــز‬
‫مقاعدهــم فعلــوا ذلــك ألن أحدهــم بــات يــدرك أن ال حاجــة بعــد اآلن ليكــون ضابطًــا يف‬
‫الجيــش أو األجهــزة األمنيــة ليســتفيد مــن الثــورة‪ ،‬فقــد فُتــح طريــق مــدين آخــر للتــو‪ ،‬وكل‬
‫مــا يتعــن عــى املــرء لالنضــام هــو مــلء اســتامرة انتســاب وحســب‪.‬‬
‫مل تكــن هــذه أكــر مشــكلة لالتحــاد االشــرايك العــريب‪ ،‬فبســبب الطابــع األمنــي الراســخ‬
‫للنظــام‪ ،‬رسعــان مــا بــدأ الجانــب األمنــي يظهــر داخلــه‪ .‬قامــت وزارة الداخليــة أواًلً‬
‫بتفحــص أســاء األعضــاء‪ ،‬وتســمية املرشــحني للمناصــب العليــا‪ ،‬وإبقــاء الكيــان بأكملــه‬
‫تحــت املراقبــة املشــددة مــن خــال املخربيــن وأجهــزة التنصــت‪ .‬بعــد ذلــك‪ُ ،‬زرع فيــه‬
‫ضبــاط اســتخبارات‪ -‬مثــل عبــد الفتــاح أبــو الفضــل‪ -‬لتتبــع األعضــاء عــن كثــب ومراقبــة‬
‫أدائهــم العــام‪ (((.‬باإلضافــة إىل ذلــك‪ ،‬أوكل االتحــاد نفســه إىل أعضائــه وظائــف أمنيــة‬
‫كافيــا أن يقدمــوا الطاعــة للنظــام‬‫فضــا عــن واجبــات الرقابــة السياســية‪ ،‬فلــم يعــد ً‬
‫ً‬
‫أيضــا أن يرفعــوا تقاريــر رسيــة عــن أي آراء معارضــة‪ ،‬حتــى‬‫وحســب‪ ،‬بــل توجــب عليهــم ً‬
‫لــو ُعــر عنهــا يف شــكل نــكات أو بطريقــة غــر مبــارشة‪.‬‬

‫‪ -1‬عبد املحسن أبو النور‪ ،‬الحقيقة عن ثورة ‪ 23‬يوليو‪ ،‬ص ‪.233-231‬‬


‫‪ -2‬أبو الفضل‪ ،‬كنت نائبًا لرئيس املخابرات‪ ،‬ص ‪.223‬‬

‫‪91‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫بحلــول عــام ‪ ،1966‬احتــوت أرشــيفات االتحــاد الرسيــة عــى أكــر مــن ثالثــن ألــف ملــف‬
‫عــن ضبــاط الجيــش وحدهــم‪ (((.‬وقــد شــجع الرئيــس عبــد النــارص هــذا الــدور‪ ،‬ففــي‬
‫ينايــر ‪ 1966‬دعــا أعضــاء االتحــاد خــال اجتــاع معهــم عل ًنــا للعمــل كمخربيــن‪ ،‬حيــث‬
‫قــال‪" :‬يجــب أن تكونــوا شــجعانًا مبــا فيــه الكفايــة لتلفتــوا انتبــاه مكتــب محافظتكــم إىل‬
‫أي عضــو تجــدون لديــه انحرافًــا‪ ،‬وإذا مل يعالــج املكتــب األمــر فاتصلــوا باألمــن العــام‬
‫لالتحــاد"‪ (((.‬أصبــح االتحــاد بار ًعــا للغايــة يف جمــع املعلومــات لدرجــة أن مديــر املخابــرات‬
‫العامــة صــاح نــر اشــتىك لعبــد النــارص مــن أن أعضــاء االتحــاد‪ -‬مبســاعدة مــن مديــر‬
‫(((‬
‫مكتــب معلومــات الرئيــس ســامي رشف‪ -‬يتجسســون عــى عمــاء اســتخباراته‪.‬‬
‫بلــغ الهــوس األمنــي ذروتــه مــع إنشــاء التنظيــم الطليعــي‪ ،‬وهــي هيئــة رسيــة داخــل‬
‫االتحــاد االشــرايك العــريب ُصممــت يف األصــل للمســاعدة يف التلقــن العقائــدي‪ ،‬ولكنهــا‬
‫تحولــت رسي ًعــا إىل جهــاز اســتخبارات كامــل‪ .‬يوضــح عبــد النــارص خــال االجتــاع‬
‫التأســييس للتنظيــم الطليعــي يف يونيــو ‪ 1963‬أن الفكــرة مــن ورائــه هــي تشــكيل خاليــا‬
‫رسيــة يتكــون كل منهــا مــن عــرة أعضــاء جميعهــم كــوادر ُملَقَّنــون ومختــارون بعنايــة‬
‫فعليــا‪ ،‬أقنــع‬
‫للتســلل إىل املؤسســات العامــة وتجنيــد أعضائهــا‪ .‬وملســاعدته يف بــدء عملهــا ً‬
‫(((‬

‫العــرات مــن الشــيوعيني الذيــن كانــوا يُن ُهــون فــرات ســجنهم يف منتصــف الســتينيات‬
‫باالنضــام إىل املنظمــة الجديــدة‪ .‬ويف عــام ‪ ،1965‬حلَّــت األحــزاب الشــيوعية الرسيــة‬
‫نفســها وانضمــت إىل التنظيــم الطليعــي‪.‬‬
‫رأى الشــيوعيون أن العمــل مــع النظــام سيســاعدهم عــى نــر أفكارهــم بشــكل عمــي‬
‫أكــر‪ ،‬وســيبقيهم خــارج الســجن‪ .‬لكــن عبــد النــارص دمــج الكــوادر الفكريــة املوهوبــة‬
‫يف منظمتــه بــذكاء‪ ،‬وتجاهــل العنــارص العاديــن‪ ،‬حتــى أنــه ســجن العديــد منهــم ُليفقــد‬
‫قــادة الشــيوعيني قاعدتهــم الجامهرييــة داخــل التنظيــم الطليعــي‪ .‬وبالنســبة لــه‪ ،‬ســيكون‬
‫التنظيــم مبثابــة نــواة أيديولوجيــة للنظــام نفســه‪ ،‬وشــبي ًها بتنظيــم "الضبــاط األحــرار"‬
‫الــذي أنشــأه يف الجيــش قبــل عقديــن مــن الزمــن‪ ،‬لكــن بشــكل مــدين‪ .‬وبحلــول عــام‬

‫‪1- Sirrs, History, 88.‬‬


‫‪ -2‬عبد النارص‪ ،‬حديث الثورة‪ ،‬ص ‪.13‬‬
‫‪ -3‬هيكل‪ :1967 ،‬االنفجار‪ ،‬ص ‪.401‬‬
‫‪ -4‬رشف‪ ،‬عبد النارص‪ :‬كيف حكم مرص؟‪ ،‬ص ‪.191-183‬‬

‫‪92‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫‪ ،1967‬بلــغ عــدد أعضــاء التنظيــم أكــر مــن مئتــن وخمســن أل ًفــا‪ .‬أمــا املشــر وأجهزتــه‬
‫األمنيــة فلــم يكــن بإمكانهــم التغــايض عــن أمــر كهــذا‪ ،‬وبحلــول أكتوبــر ‪ ،1964‬علــم عامــر‬
‫بأمــر التنظيــم‪ ،‬وأصــدر تعليامتــه إىل بــدران إلبقائــه بعي ـ ًدا عــن الجيــش‪.‬‬
‫رغــم مهمتــه التلقينيــة املزعومــة‪ ،‬فقــد ســيطر العنــر األمنــي عــى التنظيــم الطليعــي‬
‫منــذ البدايــة‪:‬‬
‫أو ًاًل‪ ،‬مل يكــن ملؤسســيه األربعــة عالقــة تذكر باأليديولوجيــا‪ .‬صحيح أن أحدهــم‪ -‬أحمد فؤاد‪-‬‬
‫كان ذا عقيــدة اشــراكية‪ ،‬وقــد ظــن أن بإمكانــه التأثــر عــى البقيــة‪ ،‬لكــن اآلخــر‪ -‬رئيــس‬
‫تحريــر جريــدة األهــرام محمــد حســنني هيــكل‪ -‬مل يكــن ســوى أحــد املقربــن مــن عبــد‬
‫النــارص‪ ،‬وأمــا اآلخــران‪ -‬ســامي رشف وعــي صــري‪ -‬فهــا يف األســاس من رجــال األمن‪.‬‬
‫رسيــة‪ ،‬فلم يظهــر وجودهــا للعلن إال يف أغســطس‬ ‫ثان ًيــا‪ ،‬قامــت هــذه املنظمــة عــى مبــدأ ال ّ‬
‫رسيــة لنــر‬
‫‪ .1966‬فلــاذا يحتــاج الرئيــس الــذي دعــا عالنيــة إىل االشــراكية إىل هيئــة ّ‬
‫أيديولوجيتــه؟ وحتــى لــو أراد أن يصمــم منظمتــه الجديــدة عــى غــرار األحــزاب الشــيوعية‬
‫رسيــة‪ ،‬فتلــك عملــت يف الخفــاء حتــى وصــول قادتهــا إىل الســلطة‪ .‬وبالنســبة للتلقــن‬ ‫ال ّ‬
‫العقائــدي‪ ،‬فقــد شــجع يف عــام ‪ 1964‬املفكريــن االشــراكيني املســتقلني‪ ،‬وعــى رأســهم‬
‫لطفــي الخــويل‪ ،‬عــى إصــدار مجلــة شــهرية باســم "الطليعــة"‪ ،‬لــذا أســأل مــرة أخــرى‪:‬‬
‫ملــاذا الحاجــة إىل الرسيــة؟‬
‫لكــن‪ ،‬بالنظــر إىل الــدور األمنــي الــذي بــدأ التنظيــم الطليعــي القيــام بــه فــإن مبــدأ‬
‫الرسيــة يبــدو منطقيًــا جــ ًدا‪ ،‬خاصــة بعــد عــام ‪ 1965‬عندمــا أصبــح وزيــر الداخليــة‬
‫رئيســا لــه‪ .‬وبــداًلً مــن التبشــر باالشــراكية وكســب مجنديــن جــدد‪ ،‬كان‬
‫شــعراوي جمعــة ً‬
‫أعضــاء التنظيــم مك َّرســن متا ًمــا الخــراق الكيانــات االجتامعيــة كالجامعــات واملصانــع‬
‫والنقابــات ووســائل اإلعــام والدوائــر الرســمية‪ ،‬فضــا عــن االتحــاد االشــرايك العــريب‬
‫نفســه الــذي كانــوا جمي ًعــا أعضــاء فيــه‪ ،‬وذلــك للكشــف واإلبــاغ عــن األنشــطة املشــبوهة‪.‬‬
‫ووف ًقــا لبعــض املقابــات مــع بعــض أعضــاء التنظيــم الطليعــي الح ًقــا‪ ،‬فقــد قيــل لهــم أن‬
‫وظيفتهــم األساســية ليســت إقنــاع النــاس باالشــراكية‪ ،‬بــل تقديــم تقاريــر منتظمــة عــن‬
‫العنــارص التخريبيــة يف مؤسســاتهم‪ .‬مل يكــن هــذا مجــرد ســوء فهــم‪ ،‬إذ ينــص ميثــاق‬
‫املنظمــة رصاحــة عــى أن "كل عضــو مل ـ َزم بتقديــم تقاريــر [أمنيــة]‪ ...‬لرؤســائه"‪ ،‬مــا‬

‫‪93‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫جعلهــا‪ -‬عــى حــد قــول هشــام الســاموين‪ -‬أحــد أعضــاء املنظمــة‪ -‬أشــبه بالرشطــة الرسيــة‬
‫األملانيــة لكــن بوجــه ســيايس‪ (((.‬واألســوأ مــن ذلــك أن التنظيم بــداًلً من أن يــؤدي دور رأس‬
‫الحربــة األيديولوجــي فقــد جـ ّر االتحــاد االشــرايك العــريب إىل نفــس الطريــق‪ ،‬وحولــه من‬
‫حــزب يحشــد الجامهــر إىل رصح أمنــي عمــاق يركــز عــى املراقبــة والســيطرة السياســية‪.‬‬
‫لكــن‪ ،‬هــل أراد عبــد النــارص حقيقــة إنشــاء ُمنظَّ َمــة ُمو َّج َهــة لبــث الوعــي الســيايس يف‬
‫الجامهــر؟ تشــر العديــد مــن األســباب إىل خــاف ذلــك‪ ،‬إذ يبــدو أنــه فهــم املذاهــب‬
‫االشــراكية كوســيلة لتحقيــق الســيطرة اإلداريــة عــى السياســة واالقتصــاد‪ ،‬ال لتحقيــق‬
‫أغــراض ثوريــة‪ .‬وتُقــدم مراجعــة محــر االجتــاع الــري الــذي عقــده عبــد النــارص يف‬
‫‪ 7‬مــارس ‪ 1966‬يف فــرع التنظيــم الطليعــي بالقاهــرة‪ ،‬نظــر ًة مبــارشة ملــا كان يطمــح إليــه‪،‬‬
‫حيــث قــال‪" :‬ميكننــا تحقيــق الكثــر‪ ...‬ليــس مــن خــال العقــاب والرشطــة العســكرية‪...‬‬
‫إمنــا ميكننــا تغيــر النــاس مــن خــال التنظيــم الســيايس [الجديــد]"‪ ،‬لكنــه رسعــان مــا‬
‫أضــاف‪" :‬صــري [مســاعده األمنــي‪ ،‬ومؤســس التنظيــم الطليعــي‪ ،‬ورئيــس الــوزراء حينهــا]‬
‫لديــه وجهــة نظــر‪ ،‬فنحــن بحاجــة إىل مؤمنــن داخــل اإلدارة والفــروع التنفيذيــة‪ ...‬ميكــن‬
‫أيضــا تجنيــد املزيــد مــن‬
‫أن يــرف هــؤالء بنشــاط وفعاليــة عــى املوظفــن‪ ...‬ميكنهــم ً‬
‫األعضــاء ملســاعدتهم يف املراقبــة واإلرشاف"(((‪.‬‬
‫يف ظــل هــذا الضغــط الــذي شــكلته سياســات املراقبــة هــذه‪ ،‬ال يُســتغرب أن يعهــد عبــد‬
‫النــارص بقيــادة التنظيــم الطليعــي ال للمثقفــن اليســاريني بــل لضبــاط املخابــرات الذيــن‬
‫أعطــوا العمــل األمنــي األولويــة عــى األيديولوجيــا تب ًعــا لنزعتهــم األمنيــة‪ .‬وســيكون‬
‫مــن الســذاجة االعتقــاد بــأن التنظيــم ميكــن أن يحــول أعضــاءه األمنيــن إىل كــوادر‬
‫أيديولوجيــن‪ ،‬وليــس العكــس‪.‬‬
‫ويف النهايــة‪ ،‬ال ميكــن تفســر الفجــوة الكبــرة بــن ّنياتــه التــي أعلنهــا ومــا قــام بــه‬
‫إال بأنــه أراد حقيق ـ ًة إنشــاء شــبكة مدنيــة ذات نفــوذ راســخ لتعزيــز ســلطته يف مواجهــة‬
‫أيضــا‬
‫طبيعيــا ليــس فقــط يف ضــوء رصاعــه مــع عامــر‪ ،‬ولكــن ً‬ ‫ً‬ ‫الجيــش‪ .‬كان هــذا أم ـ ًرا‬
‫بســبب وقــوع مثــاين عــرة محاولــة انقــاب ضــده حتــى ذلــك الوقــت‪ .‬كــا قــال يف‬

‫‪ -1‬حامدة حسني‪ ،‬عبد النارص والتنظيم الطليعي‪ ،1971-1963 ،‬مكتبة بريوت‪ ،2007 ،‬ص ‪.22-20‬‬
‫‪ -2‬رفعت سيد أحمد‪ ،‬ثورة الجرنال‪ ،‬ص ‪.771-764‬‬

‫‪94‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫نفــس االجتــاع‪ ،‬يف مــارس‪" :‬كانــت هنــاك مكائــد مســتمرة عــى مــدى األربعــة عــر‬
‫عا ًمــا املاضيــة ومــن املرجــح أن تســتمر‪ ..‬لكننــي أعتقــد أنــه ســيكون مــن املســتحيل عــى‬
‫الجيــش االســتعداد النقــاب بــدون دعــم ســيايس"‪ (((.‬يعتقــد أحد قدامــى املنتســبني للتنظيم‬
‫الطليعــي أن عبــد النــارص مل يــرد إنشــاء منظمــة شــعبية حقيقيــة‪ -‬ناهيــك عــن االشــراكية‪-‬‬
‫إمنــا أراد مواجهــة قــوة املشــر عامــر‪ (((.‬وأصبــح االتحــاد االشــرايك العــريب ومنظمتــه‬
‫الرسيــة ح ًقــا قــوة ال يســتهان بهــا‪ ،‬لكــن بــداًلً مــن أن يســتمد االتحــاد والتنظيــم قوتهــا‬
‫مــن قاعــدة جامهرييــة واســعة‪ ،‬اعتمــدا عــى طبقــة منعزلــة مــن السياســيني االنتهازيــن‬
‫موســعة‪ .‬كان‬
‫الذيــن ينتفعــون مــن رعايــة الدولــة‪ ،‬وتــرف عليهــم عــن كثــب نخبــة أمنيــة َّ‬
‫فشــل عبــد النــارص يف بنــاء حــزب تعبئــة جامهرييــة ذا أهميــة خاصــة لعالِــم االجتــاع‬
‫العســكري إيريــك آي نوردلينجــر‪ ،‬الــذي اســتنتج مــا يــي‪:‬‬
‫را بشــكل خــاص عــن عجــز الحــكام العســكريني عــن بنــاء حــزب‬ ‫"تشـكِّل مــر مثــااًلً معـ ً‬
‫جامهــري قــادر عــى حشــد الناس مــن حوله‪ .‬وهذا الفشــل بالــذات حدث يف ظــل ظروف‬
‫مواتيــة بشــكل اســتثنايئ‪ .‬فالضبــاط الذيــن اســتولوا عــى الســلطة يف عــام ‪ ...1952‬كان‬
‫لديهــم متســع مــن الوقــت إلنشــاء حــزب كهــذا ‪ ...‬وقــد تــرأس الحكومــة أحــد الشــخصيات‬
‫الكاريزميــة القليلــة حقًــا والقــادرة عــى كســب تأييــد الجامهــر املشــحون بالعاطفــة‬
‫والــوالء والطاقــة‪ .‬ال ينقســم املجتمــع املــري عــى أســس عرقيــة أو قوميــة أو دينيــة أو‬
‫(((‬
‫لغويــة أو مناطقيــة مــن شــأنها أن تجعــل مــن بنــاء حــزب وطنــي مهمــة إشــكالية للغايــة"‪.‬‬
‫بــات لــدى االتحــاد االشــرايك والتنظيــم الطليعــي قاعــدة ســلطة اجتامعيــة تتألــف مــن‬
‫ميــزت هــذه‬
‫الطبقــة الريفيــة الوســطى الطموحــة وفرعهــا الحــري يف دوائــر الدولــة‪َّ .‬‬
‫ـزاب الحاكمـ َة يف مــر خــال العقــود الحاســمة مــن‬ ‫الرتكيبــة االجتامعيــة الفريــدة األحـ َ‬
‫الســتينيات والســبعينيات مــن القــرن املــايض‪ ،‬وظلــت فعالــة حتــى الســنوات األخــرة مــن‬
‫حكــم مبــارك‪ ،‬وانتهــى األمــر مبُـ ّـاك األرايض املتوســطني وأبنائهــم يف الدوائــر الحكوميــة‬
‫ليصبحــوا العمــود الفقــري للحــزب الحاكــم‪.‬‬

‫‪ -1‬رفعت سيد أحمد‪ ،‬ثورة الجرنال‪ ،‬ص ‪.786‬‬


‫‪ -2‬حامدة حسني‪ ،‬عبد النارص والتنظيم الطليعي‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪3- Eric A. Nordlinger, Soldiers in Politics: Military Coups and Governments, Englewood Cliffs,‬‬
‫‪NJ: Prentice-Hall, 1977, 115–17.‬‬

‫‪95‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫مــن أول مــا قــام بــه النظــام الجديــد يف عــام ‪ 1952‬أن بــدأ يف اإلصــاح الزراعــي‪،‬‬
‫فاالنقــاب حــدث يف مجتمــع شــبه إقطاعــي يســيطر فيــه ألفــان وخمســمئة مــن كبــار‬
‫مــاك األرايض مــع مئــة وســبع وأربعــن عائلــة مــن النخبــة وتســعة آالف وخمســمئة مــن‬
‫املــاك املتوســطني عــى ثلــث األرايض الصالحــة للزراعــة ونصــف مقاعــد الربملــان‪ .‬كــا‬
‫كان هنــاك أكــر مــن مليونــن ونصــف مــن أصحــاب األمــاك الصغــرة‪ ،‬وأحــد عــر‬
‫أرضــا(((‪.‬‬
‫مليــون مــزارع مســتأجر وفــاح ال ميلكــون ً‬
‫بــرف النظــر عــن املــاك األغنيــاء املتغيبــن عــن أمالكهــم‪ ،‬تعايــش الباقــون يف‬
‫الريــف وأداروا شــؤونهم عــر األعــراف االجتامعيــة التقليديــة والتسلســل الهرمــي‪ .‬وضعــت‬
‫إصالحــات األرايض الزراعيــة بشــكل تدريجــي حــدو ًدا أقــل مللكيــة األرض‪ :‬مئتــا فــدان يف‬
‫را إىل خمســن فدانًــا يف‬ ‫عــام ‪ ،1952‬ثــم ُخفّضــت إىل مئــة فــدان يف عــام ‪ ،1962‬وأخـ ً‬
‫عــام ‪( 1965‬رغــم أن الحــد األقــى مللكيــة األرسة الواحــدة كان أعــى دامئًــا)‪ .‬كان هــذا‬
‫أكــر مــن ٍ‬
‫كاف لتشــغيل مشــاريع زراعيــة مربحــة‪.‬‬
‫ويف املقابــل‪ ،‬منحــت إعــادة توزيــع األرايض لــكل فــاح فقــر خمســة فدانــات أو أقل‪ ،‬وهي‬
‫مســاحة أرض بالــكاد تكفــي للعيــش‪ .‬وفيــا مل يتمكــن الفالحــون مــن تحقيــق االســتقالل‬
‫االقتصــادي‪ ،‬فقــد أكنــوا االمتنــان للثــورة التــي ملَّكتهــم قطعــة أرض‪ .‬ولــذا‪ ،‬باتــوا قاعــدة‬
‫صلبــة للتعبئــة الشــعبية‪ ،‬لكــن عبــد النــارص املتوجس دامئًــا اختار إضعــاف قدراتهــم الثورية‬
‫لئــا يخرجــوا عــن ســيطرته‪ ،‬وأبقاهــم بــداًلً مــن ذلــك مقيديــن عــر إعــادة إنتــاج هيــاكل‬
‫الســلطة التقليديــة‪ .‬لقــد حقــق ذلــك مــن خــال الســاح لطبقــة ريفيــة وســطى بالســيطرة‬
‫عــى شــبكات املحســوبية التــي وضعهــا كبار املُــاك‪ ،‬ليقوموا بوظيفة أســافهم يف الســيطرة‬
‫عــى القــرار الســيايس‪ .‬لــذا‪ ،‬بــداًلً مــن إعــادة توزيــع كل األرايض الفائضــة بــن الفالحــن‪،‬‬
‫قروضــا لرشائهــا مــن الحكومــة‪ُ ،‬ســمح لكبــار املــاك ببيــع كل مــا يتجــاوز حــد‬
‫ً‬ ‫أو منحهــم‬
‫ماليا‪.‬‬
‫ملكيتهــم يف الســوق املفتوحــة حيــث ال يســتطيع رشاءهــا ســوى الفالحــون املقتــدرون ً‬

‫‪ -1‬حــوايل ‪ 12000‬مالــك يســيطرون عــى ‪ 2‬مليــون فــدان‪ ،‬أي مــا يشــكل ثلــث األرايض الصالحــة للزراعــة‪9500 :‬‬
‫منهــم متوســطو امللكيــة ميتلكــون مــا بــن ‪ 50‬و‪ 200‬فــدان‪ ،‬والباقــي يعتــرون مــن كبــار املــاك‪ ،‬باإلضافــة إىل‬
‫را‪ ،‬العائلة املالكــة التي امتلكــت ‪48000‬‬
‫‪ 134‬أرسة مــن النخبــة تســيطر عــى مــا بــن ‪ 1000‬و‪ 5000‬فــدان‪ .‬وأخـ ً‬
‫فــدان وســيطرت عــى ‪ 45000‬إضافيــة مصنفــة كأوقاف دينيــة (الرافعي‪ ،‬ثــورة ‪ 23‬يوليــو ‪ :1952‬تاريخنا القومي‬
‫يف ســبع ســنوات‪ ،1959-1952 ،‬ص ‪63-61‬؛ البــري "الحركــة السياســية يف مــر ‪ ،"1953-1945‬ص ‪.80-79‬‬

‫‪96‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫ـبيا لــأرايض التــي ُخصصــت للاملكــن الصغــار (الذيــن‬ ‫ســمحت األســعار الرخيصــة نسـ ً‬
‫ميلكــون مــا بــن عــرة إىل خمســن فدانًــا) بــأن يصبحــوا ُمـ ّـاكًا متوســطني (ميتلكــون مــا‬
‫بــن خمســن إىل مئتــي فــدان)‪ ،‬وأن يصبــح المُـ ّـاك املتوســطون أكــر ثــرا ًء‪ .‬لــذا‪ ،‬م َّك َنــت‬
‫قوانــن اإلصــاح الزراعــي الطبقــة الوســطى الريفيــة التــي ارتفــع عددهــا بشــكل بســيط‬
‫مــن ‪ 22‬أل ًفــا بعــد الدفعــة األوىل مــن قانــون اإلصــاح الزراعــي يف عــام ‪ 1952‬إىل ‪29‬‬
‫أل ًفــا يف عــام ‪ ،1965‬مــن زيــادة ملكيتهــا لــأرايض بنســبة ‪ ،%29‬ودخلهــا الســنوي بنســبة‬
‫‪ ،%24‬ونصيبهــا مــن قــروض الدولــة واإلعانــات بنســبة ‪ %80‬خــال نفــس الفــرة(((‪.‬‬
‫ـاح األرايض ميــزا َن‬
‫بعــد تعزيــز القــوة االقتصاديــة ملــاك األرايض املتوســطني‪ ،‬حـ َّول إصـ ُ‬
‫ــاك إىل الطبقــة املتوســطة التــي باتــت تتمتــع بهيمنــة‬ ‫القــوى السياســية مــن كبــار الم ُ ّ‬
‫مطلقــة يف الريــف‪ .‬وهكــذا أُعطيــت األولويــة لألمــن واالســتقرار عــى حســاب التعبئــة‪،‬‬
‫وهــو أمــر رمبــا خــدم النظــام يومهــا‪ ،‬لكنــه قــد يُســتخدم ضــده غـ ًدا‪ .‬أمــا عبــد النــارص‬
‫فقــد اعتــر أن الرهــان عــى أعيــان القــرى أضمــن لــه‪.‬‬
‫عــززت القوانــن االشــراكية التــي ُمــررت يف يوليــو ‪ 1961‬بشــكل تعســفي‪ ،‬والتــي ت َّوجــت‬
‫حمل ـ َة عبــد النــارص لوضــع االقتصــاد تحــت ســيطرة الدولــة‪ ،‬مكانــة الطبقــة الوســطى‬
‫الريفيــة مــن خــال تقويــض القــوة االقتصاديــة للطبقــة الحرضيــة الغنيــة‪ .‬وال يجــادل أحــد‬
‫يف أن نســخة عبــد النــارص مــن اشــراكية الدولــة أرضت مبصالــح الــركات الخاصــة‪ ،‬إال‬
‫أن الرأســاليني وأصحــاب العقــارات الكبــار الســابقني (مــع توفــر الكثــر مــن املــال يف‬
‫أيديهــم بعــد بيــع أراضيهــم) تــرددوا يف الخضــوع للسياســات الجديــدة‪ .‬فقــد اعتــروه‬
‫ـموليا‪ ،‬وامتنعــوا عــن االســتثامر فيــه‪ ،‬مفضلــن تحقيــق أرباحهــم يف املجــاالت‬‫نظا ًمــا شـ ً‬
‫غــر اإلنتاجيــة كاملضاربــة العقاريــة‪.‬‬
‫ورغــم أن الرئيــس بــذل قصــارى جهــده إلغرائهــم بالعــودة إىل االســتثامرات اإلنتاجيــة‬
‫مــن خــال اإلعفــاءات الرضيبيــة املختلفــة‪ ،‬فــإن هــذا مل يعـ ِّوض هواجســهم تجــاه النظــام‪.‬‬
‫وبعــد أزمــة الســويس‪ ،‬قُ ـ ِّدر أن ‪ 6‬ماليــن جنيــه إســرليني فقــط‪ -‬مــن أصــل ‪ 45‬مليونًــا‬

‫‪1- Leonard Binder, In a Moment of Enthusiasm: Political Power and the Second Stratum in‬‬
‫;‪Egypt, Chicago: University of Chicago Press, 1978, 344‬‬
‫رشيف يونس‪ ،‬الزحف املقدس‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار مريت‪ ،2005 ،‬ص ‪.69‬‬

‫‪97‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫أعيــد توجيههــا بعيــ ًدا عــن الزراعــة‪ -‬اســتُثمرت يف القطــاع الصناعــي‪ ،‬بينــا اســتُثمر‬
‫الباقــي يف العقــارات‪ .‬يف عــام ‪ 1956‬وحــده‪ ،‬شـكَّل االســتثامر العقــاري ‪ %75.8‬مــن جميــع‬
‫االســتثامرات الخاصــة‪ .‬ويف ينايــر ‪ ،1957‬لجــأ عبــد النــارص ألول مــرة لتأميــم الــركات‬
‫األجنبيــة وتشــكيل الهيئــة االقتصاديــة واللجنــة العليــا للتخطيــط القومــي إلدارة التنميــة‬
‫االقتصاديــة‪ .‬ثــم وضــع أكــر البنــوك املرصيــة تحــت ســيطرة الدولــة يف فربايــر ‪،1960‬‬
‫(((‬
‫وصــاغ أول خطــة خمســية بــن عامــي ‪.1965-1960‬‬
‫ورغــم أن الربجوازيــن أُجــروا بعــد قوانــن التأميــم عــى العمــل يف الدولــة كمــدراء‬
‫تنفيذيــن‪ ،‬إال أنهــم حافظــوا عــى عنادهــم‪ .‬ففــي عــام ‪ 1961‬أفــاد زكريــا عــن وجــود‬
‫مجموعــة مــن ثالثــن ضابطًــا رفيعــي املســتوى يجتمعــون بانتظــام مــع الرأســاليني‬
‫املرصيــن‪ ،‬وأنهــم يدفعــون املشــر عامــر ملســاعدتهم عــى إنهــاء الديكتاتوريــة واســتعادة‬
‫أيضــا عــى أن ثلثــي االقتصــاد ال‬ ‫الحريــات الخاصــة‪ .‬كــا كشــف تقريــر زكريــا الضــوء ً‬
‫يــزال يف أيــدي القطــاع الخــاص (الــذي شــمل ‪ %80‬مــن التجــارة‪ ،‬و‪ %70‬مــن مشــاريع‬
‫البنــاء واملشــاريع الصناعيــة)‪ ،‬وأن نصــف عــال مــر يعملــون يف رشكات خاصــة‪ ،‬لــذا‬
‫كان مــن الــروري التحــرك رسي ًعــا ضــد الرأســاليني‪ .‬يف أكتوبــر ‪ ،1961‬اعتقــل زكريــا‬
‫أربعــن مســتثم ًرا بــار ًزا‪ ،‬ويف منتصــف نوفمــر صــادر األصــول املاليــة لـــسبعمئة وســبعة‬
‫وســتني آخريــن‪ .‬ثــم اســتولت الحكومــة عــى مثانــن مرصفًــا ورشكــة تأمــن وثالمثئــة‬
‫وســبع وســتني رشكــة تجاريــة‪ (((.‬كانــت القوانــن االشــراكية لعــام ‪ 1961‬الخطــوة املنطقيــة‬
‫التاليــة‪ ،‬فقــد قضــت عــى حصــص القطــاع الخــاص يف القطاعــات املرصفيــة والتأمــن‬
‫والتجــارة الدوليــة والصناعــات الثقيلــة والنقــل والفنــادق الكبــرة ووســائل اإلعــام‪ .‬حتــى‬
‫يف الصناعــات الخفيفــة واملتوســطة والــركات التجاريــة‪ -‬املجــال األخــر للمؤسســات‬
‫الخاصــة‪ -‬أصبــح القطــاع العــام رشيـكًا مــع االســتحواذ عــى مــا ال يقــل عــن ‪ .%50‬بحلــول‬
‫عــام ‪ ،1967‬أرشفــت لجنــة الرقابــة العليــا للدولــة عــى مثــان وأربعــن مؤسســة عامــة‪،‬‬
‫(((‬
‫والتــي بدورهــا أدارت ثالمثئــة واثنتــن ومثانــن رشكــة تابعــة لهــا‪.‬‬

‫‪1- Anwar Abdel-Malek, Egypt: Military Society, New York: Random House, 1968, 81, 108.‬‬
‫‪2- Anwar Abdel-Malek, Egypt: Military Society, New York: Random House, 1968, 160.‬‬
‫‪3- McDermott, Egypt from Nasser to Mubarak, 121–22.‬‬

‫‪98‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫وبســبب قوانــن الرفــاه االجتامعــي التــي ُمــر َرت خــال نفــس الفــرة‪ ،‬تضخمــت‬
‫البريوقراطيــة والقطــاع العــام بشــكل أكــر‪ .‬ففــي عــام ‪ ،1962‬قــررت حكومــة عبــد النــارص‬
‫قبــول جميــع خريجــي الثانويــة العامــة يف الجامعــة‪ ،‬وتأمــن وظيفــة لــكل خريــج جامعــي‪.‬‬
‫نتيجــة لذلــك‪ ،‬قفــزت العاملــة الحكوميــة يف القطاعــات املدنيــة وحدهــا مــن ‪ 770‬أل ًفــا يف‬
‫عــام ‪ 1962‬إىل حــوايل ‪ 1.1‬مليــون بحلــول عــام ‪ .1967‬ويف نفــس الوقــت ارتفعــت معــدالت‬
‫التوظيــف الحكوميــة بــن عامــي ‪ 1962‬و‪ 1969‬إىل ‪ُ ( ٪70‬وظــف خاللهــا أكــر مــن ‪٪60‬‬
‫مــن خريجــي الجامعــات)‪ ،‬وزادت رواتــب الدولــة بنســبة ‪ (((.%102‬وغنــي عــن القــول إن‬
‫هــذا التوســع مل يعكــس النمــو الســكاين وال االقتصــادي‪ ،‬بــل كان جــز ًءا مــن محاولــة عبــد‬
‫النــارص تعزيـ َز قاعدتــه االجتامعيــة املدنيــة‪.‬‬
‫أعطــى التوســع يف الطبقــة اإلداريــة الحرضيــة ملــاك األرايض املتوســطني فرصــة ذهبيــة‬
‫لتعزيــز نفوذهــم ليشــمل املدينــة‪ ،‬وبات أبناؤهــم اآلن يبحثون عن عمل يف الدوائر الرســمية‬
‫ورشكات القطــاع العــام‪ .‬لهــذا الســبب‪ ،‬تشــكلت الربجوازيــة البريوقراطيــة التــي تضاعــف‬
‫حجمهــا بــن عامــي ‪ 1962‬و‪ ،1965‬بشــكل كبــر مــن أبنــاء وجهــاء الريــف‪ .‬ورسعــان مــا‬
‫حـ َّول هــؤالء البريوقراطيــون الشــباب القطــا َع العــام إىل متاهــة مــن اإلقطاعيــات التجارية‬
‫واملاليــة‪ ،‬والتــي أُلحقــت باإلقطاعيــات الزراعيــة التــي أسســتها عائالتهــم يف األريــاف‪.‬‬
‫بفضــل موقعهــا اإلســراتيجي يف املدينــة والريــف‪ ،‬شــكلت هــذه النخبــة الجديــدة اآلن‬
‫مــا ســمي باالتحــاد االشــرايك العــريب‪ ،‬حصــن حكــم عبــد النــارص املنيــع‪ .‬مــن هنــا‬
‫نســتنتج أن الغايــة مــن اإلصــاح الزراعــي والقوانــن االشــراكية كانــت سياســية وليســت‬
‫اقتصاديــة‪ (((.‬ويف الواقــع‪ ،‬دفــع هــذا التحالــف‪ ،‬بــن طبقــة مــن ُمــاك األرايض األثريــاء‬
‫وبرجوازيــة الدولــة التــي قــام عليهــا االقتصــاد‪ ،‬نحــو االســتثامر التجــاري والعقــاري بــداًلً‬
‫مــن الصناعــة‪ .‬حتــى أن الزراعــة عانــت ألن مــاك األرايض املتوســطني نقلــوا جــز ًءا‬
‫را مــن عائداتهــم إىل املناطــق الحرضيــة الســتثامرها وتنميتهــا مــن خــال مشــاريع‬ ‫كب ـ ً‬
‫اقتصاديــة قصــرة األجــل بــداًلً مــن إعــادة اســتثامرها يف األرض‪ ،‬وباتــوا ينظــرون إىل‬
‫األرض كمصــدر للوجاهــة االجتامعيــة والنفــوذ ال كأصــل إنتاجــي‪.‬‬

‫‪1- Brooks, Shaping Strategy, 72–73.‬‬


‫‪ -2‬فاطمة فرج‪ ،‬األهرام ويكيل‪ ،‬القاهرة (‪.)1998/1/10‬‬

‫‪99‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫أمــا بالنســبة للنظــام فالفقــر يف سياســاته االقتصاديــة مــر ُّده إىل الفقــر يف سياســاته عمو ًما‪.‬‬
‫فبــداًلً مــن تركيــزه عــى التنميــة‪ ،‬اندفــع مــن جهة نحــو تقليــص املصالــح الرأســالية‪ ،‬واحتاج‬
‫إىل رشــوة املجتمــع لتربيــر أســاليبه الديكتاتوريــة مــن جهــة أخــرى‪ .‬وشــملت االلتزامــات‬
‫املكلفــة املفروضــة عــى البريوقراطيــة والقطــاع العــام توظيــف جميــع خريجــي الجامعــات‪،‬‬
‫وتوفــر مســاكن رخيصــة‪ ،‬ورعايــة صحيــة وتعليميــة مجانية‪ ،‬ومــا إىل ذلك‪ .‬واضطــرت رشكات‬
‫القطــاع العــام مثـ ًـا يف الســتينيات إىل زيــادة حصــة األجــور بنســبة ‪ %40‬الســتيعاب أربعــة‬
‫أضعــاف احتياجاتهــا مــن طــاب الجامعــات دون زيــادة مقابلــة يف اإلنتاجيــة أو الربــح‪ .‬ويف‬
‫الدوائــر الرســمية وحدهــا‪ ،‬بلــغ عــدد املوظفــن املدنيــن عــى جــدول الرواتــب بحلــول عــام‬
‫‪ 1967‬مليــون موظــف‪ (((.‬كان مثــن هــذا كلــه الفــوىض اإلداريــة والفســاد‪ ،‬يف مقابــل وجــود‬
‫املاليــن مــن املوظفــن يف املجــال الطبــي والزراعــي املســتعدين لدعــم االتحــاد االشــرايك‬
‫العــريب‪ .‬مــن الواضــح أن عبــد النــارص اعتــر مؤسســات الدولــة إىل حــد مــا هيــاكل للســلطة‬
‫السياســية‪ ،‬وحاضنــات لطبقــة جديــدة مــن املواطنــن ترتبــط مصالحهــم بحزبــه الحاكــم‪.‬‬
‫بــدا متكــن طبقــة محافظــة مــن أعيــان القــرى وموظفــي الخدمــة املدنيــة أنســب لزمــرة‬
‫الرئيــس األمنيــة أكــر من تعبئة النشــطاء الحرضيــن أو الفالحني الخارجني عن الســيطرة‪.‬‬
‫أرســت تجربــة مــر الطويلــة مــع االنتخابــات (التــي يعــود تاريخهــا إىل عــام ‪)1866‬‬
‫أعــااًلً سياســية معينــة يف الريــف‪ ،‬كقيــام أعيــان القريــة بتســجيل الفالحــن للتصويــت‬
‫لإلقطاعيــن أو حشــدهم لدعــم مرشــح معــن‪ .‬كل مــا كان عىل عبــد النارص ومــن معه فعله‬
‫هــو اســتثامر هــذا املكـ ِّون املوجــود مســبقًا ملصالحهــم الخاصــة‪ ،‬أي بــداًلً مــن إنشــاء هياكل‬
‫جديــدة فــإن عليهــم التمســك بهيــاكل الســلطة القامئــة‪ .‬بهــذا املعنــى‪ ،‬كان إقصــاء الطبقــة‬
‫العليــا يف القريــة رمزيًــا‪ ،‬فقــد نُقــل نفوذهــا الســيايس ببســاطة إىل الطبقــة التاليــة لهــا‪.‬‬
‫حظــي االتحــاد االشــرايك العــريب بقاعــدة اجتامعيــة كبــرة بفعــل دعــم الفالحــن وأعيان‬
‫القــرى والريــف واملوظفــن والعــال واملرشفــن عليهــم يف الدوائــر الرســمية ورشكات‬
‫القطــاع العــام‪ .‬وبدورهــم‪ ،‬ســيطر هــؤالء األعيــان واملــدراء عــى أجهــزة االتحــاد وأفرعــه‬
‫وانتخبــوا أنفســهم يف مختلــف هيئاتــه التمثيليــة‪ .‬وال يعنــي هــذا أن هــذه الطبقــة ش ـ َّكلَت‬
‫طبقــة حاكمــة جديــدة‪ ،‬ألن دورهــا كان يف الحقيقــة دعـ َم الســلطة‪ ،‬أمــا نفوذهــا فقــد بقــي‬

‫‪ -1‬يونس‪ ،‬الزحف املقدس‪ ،‬ص ‪.67-66‬‬

‫‪100‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫محليــا يف الغالــب‪ ،‬واقتــرت تطلعاتهــا عــى زيــادة الــروة وتعزيــز املكانــة االجتامعيــة‪.‬‬
‫ً‬
‫ووفقًــا ملعايــر غايتانــو موســكا‪ (((،‬فقــد مثَّلَــت هــذه الطبقــ ُة "الطبقــ َة الثانيــ َة يف‬
‫فعليــا مبقاليــد الســلطة‬
‫الســلطة"‪ ،‬تلــك التــي تتوســط بــن النظــام واملجتمــع دون اإلمســاك ً‬
‫السياســية‪ (((.‬ووف ًقــا لتيمــويث ميتشــل(((‪ ،‬تش ـكِّل تجربــة عبــد النــارص دراســة حالــة جيــدة‬
‫ملجموعــة العالقــات املعقــدة التــي تشــكل الدولــة‪" :‬مل تعــد تظهــر بشــكل أســايس يف‬
‫شــكل قــوة مركزيــة تتدخــل لبــدء التغيــر‪ ،‬بــل كمامرســات محليــة للحكــم وفــرض األمــن‬
‫والرتهيــب‪ ،‬بحيــث تحافــظ عــى مســتوى معــن مــن عــدم املســاواة‪ ...‬مل يــرع مركــز‬
‫الحكــم يف التغيــر لكنــه حــاول توجيــه الســلطات املحليــة إىل أنشــطة مــن شــأنها تعزيــز‪...‬‬
‫(((‬
‫ســيطرة النظــام"‪.‬‬
‫تظهــر بصــات النخبــة األمنيــة التابعــة للرئيــس يف جميــع مراحــل عمليــة بنــاء هذه الســلطة‪.‬‬
‫أراد الرئيــس نفســه بنــاء قاعــدة شــعبية أوســع‪ .‬ففــي خطــاب ألقــاه يف ‪ 16‬أكتوبــر ‪،1961‬‬
‫انتقــد االتحــا َد القومــي إلدراج أقــل مــن ألفــي ناشــط مــن أبنــاء املــدن مــن بــن أعضــاء‬
‫لجانــه البالــغ عددهــم ‪ 29520‬عضـ ًوا‪ ،‬بينــا مثّــل الباقــون التجمعــات الريفيــة‪ ،‬وتعهــد بــأن‬
‫االتحــاد القومــي الجديــد ســيقوم بإجــراءات وقائيــة ضــد تســلل هــذه العنــارص‪ ،‬أهمهــا أن‬
‫يشــغل العــال والفالحــون نســبة ‪ %50‬مــن عضويتــه‪ .‬لكــن‪ ،‬رسعــان مــا أُحبطــت املبــادرة‬
‫الرئاســية عندمــا وافــق صــري وبقيــة الطاقــم األمنــي عــى ضــم مــاك األرايض بحجــم‬
‫"خمســن فدانًــا" إىل فئــة الفالحــن‪ ،‬واعتــروا أعضــاء مجالــس إدارات رشكات القطــاع‬
‫العــام ضمــن العــال‪ (((.‬ثــم فـ َّوض عبــد النــارص معاونيــه األمنيــن مبهمــة رصف العنــارص‬
‫املحافظــة أثنــاء االنتقــال مــن مرحلــة االتحــاد القومــي إىل االتحــاد االشــرايك العــريب‪.‬‬
‫وكانــت النتيجــة أن ‪ %1.5‬فقــط مــن أعضــاء االتحــاد القومــي الذيــن تقدمــوا بطلبــات‬
‫لالنضــام إىل االتحــاد االشــرايك اسـتُبعدوا‪ ،‬فيــا بقــي ‪ ٪78‬مــن املســؤولني عــن الوحــدات‬
‫‪ 1‬عضو مجلس النواب اإليطايل بني عامي ‪( .1919-1909‬املرتجم)‬
‫‪2- Binder, Enthusiasm, 13.‬‬
‫‪ -3‬عامل سياسة أمرييك ولد عام ‪( .1955‬املرتجم)‬
‫‪4- Timothy Mitchell, Rule of Experts: Egypt, Techno-Politics, Modernity, Berkeley: University of‬‬
‫‪California Press, 2002, 168–69.‬‬
‫‪ -5‬عبـ�د الباس�طـ عب��د املعط��ي‪ ،‬الطبق��ات االجتامعيةــ ومس��تقبل م�صر‪ :‬اتجاهــات التغيــر والتفاعــات‪-1975 ،‬‬
‫‪ ،2020‬القاهــرة‪ :‬مريــت للنــر واملعلومــات‪ ،2002 ،‬ص ‪.78‬‬

‫‪101‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫القرويــة لالتحــاد القومــي‪ ،‬و‪ %60‬مــن أولئــك الذيــن يرتأســون مناصــب أمانــة االتحــاد‬
‫القومــي يف املــدن‪ ،‬شــغلوا نفــس املناصــب يف ظــل االتحــاد الجديــد‪ (((.‬ليــس ذلــك فحســب‪،‬‬
‫فقــد تضاعــف نصيــب أعيــان األريــاف مــن ‪ ٪11.7‬يف عهــد االتحــاد القومــي يف برملــان‬
‫عــام ‪ ،1957‬إىل ‪ ٪30‬يف االنتخابــات الربملانيــة التــي أرشف عليهــا االتحــاد االشــرايك عــام‬
‫‪ (((.1964‬أكــدت عقليــة "الشــيطان الــذي نعرفــه" التــي تحكــم التفكــر األمنــي الســتمرار‬
‫هيمنــة الطبقــة الوســطى الريفيــة وفروعهــا الحرضيــة‪ .‬وكــا خلُــص املســؤول االســتخباري‬
‫الكبــر عبــد الفتــاح أبــو الفضــل بعــد خمــس ســنوات مــن عملــه يف االتحــاد االشــرايك‪ ،‬فإن‬
‫الحــزب الجديــد مل يتشــكل فقــط مــن نفــس الرشائــح االجتامعيــة التــي تشــكل منهــا الحــزب‬
‫(((‬
‫أيضــا‪.‬‬
‫القديــم وحســب‪ ،‬ولكــن مــن نفــس األشــخاص ً‬
‫هــذه املجموعــة مــن االنتهازيــن مــن الطبقــة الوســطى هــي التــي أدارت واســتفادت مــن‬
‫الحــزب الحاكــم عــى مــدى العقــود الخمســة املقبلــة‪ -‬رغــم مــا تعــن عليهــا مــن تقاســم‬
‫الغنائــم مــع رجــال األعــال األكــر ثــرا ًء بعــد الســبعينيات‪ .‬وبــداًلً مــن تقويــض الطبقــة‬
‫الجديــدة مــن ضبــاط األمــن‪ ،‬فقــد زود االتحــاد االشــرايك هــذه الطبقــة الحرضيــة يف‬
‫معظمهــا بعالقــات تربطهــا بالريــف‪ ،‬مــا أدى إىل توثيــق العالقــات بــن القطاعــن‬
‫األمنــي والســيايس أكــر مــن ذي قبــل‪ .‬ويف نهايــة املطــاف‪ ،‬نجــح هــذا التحالــف األمنــي‪-‬‬
‫الســيايس يف تهميــش الجيــش‪ ،‬ولكــن عــى حســاب تعزيــز الحكــم الديكتاتــوري‪ .‬ومل تكــن‬
‫قضيــة كمشــيش يف عــام ‪ -1966‬إحــدى القــرى الصغــرة عــى دلتــا النيــل‪ -‬ســوى دليــل‬
‫مبكــر عــى العواقــب الرهيبــة لهــذا التحالــف الناشــئ‪.‬‬
‫قضية كمشيش‬
‫ســلطت قضيــة كمشــيش الضــوء عــى االصطفــاف الــذي بــدأ خــال األيــام األخــرة التــي‬
‫ســبقت حــرب عــام ‪ .1967‬أصبحــت هــذه القريــة الصغــرة التــي يبلــغ عــدد ســكانها عــرة‬
‫آالف نســمة ومســاحتها ‪ 2120‬فدانًــا يف محافظــة املنوفيــة عــى دلتــا النيــل يف شــال‬
‫مــر (مســقط رأس الســادات ومبــارك)‪ ،‬قضيــة رأي عــام عاملــي يف عــام ‪ ،1966‬وحظيــت‬
‫‪1- Binder, Enthusiasm, 309–15.‬‬
‫‪ -2‬أمــاين عبــد الرحمــن صالــح‪" ،‬أصــول النخبــة السياســية املرصيــة يف الســبعينات‪ :‬النشــأة والتطــور"‪ ،‬الفكــر‬
‫اإلســراتيجي العــريب ‪ ،)1988( 26‬ص ‪ ،50-9‬ص ‪.23‬‬
‫‪ -3‬أبو الفضل‪ ،‬كنت نائبًا لرئيس املخابرات‪ ،‬ص ‪.226‬‬

‫‪102‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫بتغطيــة واســعة مــن وســائل اإلعــام املرصيــة والعامليــة‪ ،‬واســتقبلت زيــارات لشــخصيات‬
‫بــارزة عــدة مثــل تــي جيفــارا(((‪ ،‬وجــان بــول ســارتر(((‪ ،‬وســيمون دي بوفــوار(((‪ ،‬كــم‬
‫ذكرهــا فيــدل كاســرو يف إحــدى خطاباتــه الحامســية‪ .‬احتفــى جميــع هــؤالء بكمشــيش‬
‫باعتبارهــا املثــال الوحيــد لثــورة الفالحــن يف مــر مــا بعــد االنقــاب‪ ،‬رغــم أن الواقــع مل‬
‫يكــن بهــذا املســتوى الــذي تصـ ّوروه‪ .‬كانــت أهميتهــا الحقيقيــة أنهــا عكســت بدقــة التكويــن‬
‫الســيايس ملــر وتوازنــات القــوى فيهــا يف ذلــك الوقــت‪ .‬يعتقــد لطفــي الخــويل‪ ،‬رئيــس‬
‫تحريــر مجلــة "الطليعــة"‪ ،‬أن قضيــة كمشــيش مثَّلَــت "مقيــاس حــرارة ســيايس واقتصــادي"‬
‫لحالــة البــاد‪ (((.‬فيــا وصفهــا مديــر املخابــرات العامــة صــاح نــر بأنهــا ذروة الــراع‬
‫(((‬
‫عــى الســلطة الــذي اســتنزف البــاد خــال الســتينيات‪.‬‬
‫بــدأ األمــر برمتــه مــع قيــام نشــطاء الفالحــن بحملــة ضــد عائلــة الفقــي التــي هــي مــن‬
‫كبــار مــاك األرايض‪ ،‬والتــي احتفظــت لنفســها بـــ ‪ 650‬فدانًــا فــوق الحــد املنصــوص‬
‫عليــه يف قوانــن اإلصــاح الزراعــي‪ .‬كــا أدانــت الشــكاوى املقدمــة ضــد املــاك االتحــاد‬
‫جنبــا إىل جنــب مــع وجهــاء القريــة‪ -‬الســلوك‬‫االشــرايك ومســؤويل األمــن‪ ،‬الذيــن سـ ّهلوا‪ً -‬‬
‫االحتيــايل لهــذه األرسة‪ .‬تركــزت الحملــة عــى رفــع طلبــات التــاس إىل الرئيــس وقيــادة‬
‫االتحــاد االشــرايك يف القاهــرة‪ ،‬يقودهــا اثنــان مــن الشــيوعيني هــا صــاح الديــن‬
‫حســن وزوجتــه شــاهندة مقلــد‪ .‬فيــا تجاهــل معاونــو عبــد النــارص األمنيــن هــذه‬
‫الطلبــات‪ ،‬وحرصــوا أال تصــل إليــه‪ .‬لكــن كل ذلــك ظهــر للعلــن خــال جولــة الرئيــس يف‬
‫الريــف يف مــارس ‪ ،1966‬عندمــا ســمع املتظاهريــن يهتفــون‪" :‬ثــورة كمشــيش تحيــي الثــورة‬
‫رس َعــة نحــو موكبــه لتســليمه مذكــرة تفصيليــة‬
‫األم!" وتبعتــه شــاهندة مقلــد التــي انطلقــت ُم ِ‬
‫‪ -1‬كان إرنســتو "تــي" جيفــارا ثوريًــا ماركسـ ًيا أرجنتين ًيــا‪ ،‬وطبي ًبــا‪ ،‬ومؤل ًفــا‪ ،‬وزعيــم حــرب العصابات‪ ،‬ودبلوماسـ ًيا‪،‬‬
‫ومنظـ ًرا عســكريًا‪ .‬شــخصية رئيســية يف الثــورة الكوبيــة‪ ،‬وقــد أصبــح وجهــه املنمــق رمـ ًزا للثقافــة املضــادة يف‬
‫كل مــكان للتمــرد والشــارات العامليــة يف الثقافــة الشــعبية‪.‬‬
‫‪ -2‬جــان بــول تشــارلز إميــارد ســارتر كان فيلســوفًا فرنسـ ًيا‪ ،‬وكات ًبــا مرسح ًيــا‪ ،‬وروائ ًيــا‪ ،‬وكاتــب ســيناريو‪ ،‬وناشـطًا‬
‫سياس ـ ًيا‪ ،‬وكاتــب ســرة ذاتيــة‪ ،‬وناق ـدًا أدب ًيــا‪ ،‬ويعتــر شــخصية بــارزة يف الفلســفة الفرنســية واملاركســية يف‬
‫الق��رن العرشي��ن‪ .‬كان س��ارتر أح��د الش��خصيات الرئيس��ية يف الفلس��فة الوجودي��ة‪.‬‬
‫‪ -3‬ســيمون لــويس إرنســتني مــاري برترانــد دي بوفــوار كانــت فيلســوفة وجوديــة فرنســية‪ ،‬وكاتبــة‪ ،‬ومنظــرة‬
‫اجتامعيــة‪ ،‬وناشــطة نســوية‪.‬‬
‫‪ -4‬لطفي الخويل‪ ،‬ترمومرت كمشيش‪ ،‬الطليعة ‪ ، )1966( )6( 2‬ص ‪ ،9-5‬ص ‪.5‬‬
‫‪ -5‬نرص‪ ،‬مذكرات صالح نرص‪ ،‬ص ‪.211‬‬

‫‪103‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫عــن القصــة بأكملهــا‪ -‬كان فالحــو كمشــيش مــن بــن أول مــن دعمــوا قوانــن اإلصــاح‬
‫الزراعــي يف عــام ‪ ،1952‬وكــم كان مبلــغ رعبهــم عندمــا أصبــح "اإلقطاعيــون" آل الفقــي‬
‫ُم َمثِّلــن ألول منظمــة شــعبية لعبــد النــارص (هيئــة التحريــر)‪ ،‬لكنهــم بعــد ذلــك عرفــوا أن‬
‫كبــار قــادة االتحــاد القومــي واالتحــاد االشــرايك العــريب يف املحافظــة مــن حلفــاء آل‬
‫الفقــي الصغــار‪ ،‬وكيــف اتفــق آل الفقــي مــع مســؤويل األمــن للتأكــد مــن اعــراض طلبــات‬
‫را‪ ،‬كيــف أن هــذه املرسحيــة برمتهــا‬ ‫التــاس الفالحــن واحتجــاز القامئــن عليهــا‪ .‬وأخ ـ ً‬
‫جعلــت األمــر يبــدو كــا لــو أن املنظــات السياســية للثــورة "ولــدت ميتــة"‪ (((.‬عنــد عودتــه‬
‫إىل القاهــرة‪ ،‬طالــب الرئيــس بإجــراء تحقيــق كامــل يف القضيــة‪ ،‬فادعــى مســؤولو االتحــاد‬
‫والرشطــة أنهــا قضيــة ثانويــة أثارهــا مثــرو الشــغب مــن الشــيوعيني‪ ،‬وقــرروا دفــن‬
‫القضيــة‪ .‬لكــن بعــد أســابيع‪ ،‬قُتــل حســن برصــاص فــاح يعمــل لصالــح الرشطــة‪ ،‬فاندلعــت‬
‫أعــال شــغب ضخمــة قــام بهــا الفالحــون رسعــان مــا تصــدرت عناويــن الصحــف املحليــة‬
‫والدوليــة‪ .‬أبــرزت التغطيــة الصحفيــة مــدى ضآلــة تحــول هيــكل الســلطة يف الريــف بعــد‬
‫عقــد ونصــف مــن اإلصــاح الزراعــي‪.‬‬
‫بصفتــه املزدوجــة كضابــط اســتخبارات وعضــو يف االتحــاد االشــرايك العــريب‪ُ ،‬كلِّــف أبــو‬
‫الفضــل بالتحقيــق يف جرميــة القتــل‪ .‬بعــد بضعــة أســابيع‪ ،‬أفــاد التحقيــق بــأن حســن كان‬
‫يف الواقــع يقــدم شــكوى تلــو األخــرى إىل مســؤويل االتحــاد االشــرايك العــريب ومكتــب‬
‫معلومــات الرئيــس بشــأن انتهــاكات آل الفقــي‪ .‬جميــع هــذه الشــكاوى مل تلـ َـق اهتام ًمــا مــن‬
‫الجهــات املعنيــة‪ ،‬واعتقلــت وزارة الداخليــة حســن مرتــن‪ ،‬األوىل (بــن نوفمــر ‪1954‬‬
‫ـيوعيا‪ ،‬واألخــرى (خــال األســبوع الثــاين مــن ســبتمرب ‪)1965‬‬ ‫وفربايــر ‪ )1956‬لكونــه شـ ً‬
‫ـاميا‪ (((.‬كــا قدمــت أرملــة حســن للمحققــن مذكــرة أمنيــة مكتوبــة يف ‪ 3‬مارس‬ ‫لكونــه إسـ ً‬
‫‪ -1966‬أي قبــل أســابيع مــن مقتلــه‪ -‬فيهــا اتهــام لزوجهــا بإثــارة الرعــاع وتحذيــره مــن‬
‫أنشــطته التخريبيــة‪ ،‬مــا يعنــي تــورط األجهــزة األمنيــة يف اغتيالــه‪ (((.‬كــا كشــف التحقيــق‬
‫أن رئيــس مجلــس األمــة‪ ،‬أنــور الســادات‪ ،‬تدخــل لصالــح آل الفقــي‪ ،‬وأنــه حــاول حتــى‬
‫مدعيــا أن تحقيقاتــه الخاصــة (التــي أجراهــا محمــود جامــع‪،‬‬ ‫بعــد جرميــة القتــل دعمهــم ً‬
‫‪ -1‬شاهندة مقلد‪ ،‬من أوراق شاهندة مقلد‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار مريت‪ ،2006 ،‬ص ‪.94-60‬‬
‫‪ -2‬أبو الفضل‪ ،‬كنت نائ ًبا لرئيس املخابرات‪ ،‬ص ‪.246-244‬‬
‫‪ -3‬مقلد‪ ،‬من أوراق شاهندة مقلد‪ ،‬ص ‪.108‬‬

‫‪104‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫املقــرب منــه والــذي صــودف أنــه عضــو يف جامعــة اإلخــوان املســلمني) أكــدت براءتهــم‬
‫مــن جميــع التهــم‪ -‬ســواء املتعلقــة بانتهــاك قانــون إصــاح األرايض أو التحريــض عــى‬
‫القتــل‪ ،‬كــا زعــم الســادات أن حســن وزوجتــه كانــا عميلــن ســوفياتيني‪ ،‬وأنهــا اســتقبال‬
‫(((‬
‫زيــارات منتظمــة ومتويـ ًـا مــن الســفارة الروســية‪.‬‬
‫مل يكــن الســادات الــذي تــوىل الح ًقــا منصــب الرئاســة املمثــل الوحيــد يف هــذه الدرامــا‬
‫أيضــا يف التســر عــى القضيــة‬ ‫التــي تكشــفت شــيئًا فشــيئًا‪ ،‬فاآلخــرون الذيــن شــاركوا ً‬
‫وصلــوا إىل مناصــب يف الســلطة واعتلــوا مناصــب رفيعــة‪ ،‬بــداًلً مــن أن يعاقبــوا عــى‬
‫تقصريهــم‪ .‬ومــن األمثلــة البــارزة يف الجانــب الســيايس مــن هــؤالء كــال الشــاذيل‪ ،‬وزيــر‬
‫الدولــة لشــؤون مجلــي الشــعب والشــورى واألمــن العــام املســاعد للحــزب الحاكــم‪ ،‬الــذي‬
‫مثَّــل االتحــاد االشــرايك يف ذلــك الوقــت يف املنوفيــة‪ ،‬ويف الجانــب األمنــي عبــد الحليــم‬
‫مــوىس الــذي غــدا الح ًقــا وزيــر الداخليــة‪ ،‬وحســن طلعــت الــذي ُعــن فيــا بعــد مديـ ًرا‬
‫ألمــن الدولــة‪ (((.‬وجديــر بالذكــر أنــه يف ســبتمرب ‪ ،1998‬قــاد آل الفقــي وأتباعهــم قمــع‬
‫فالحــي كمشــيش الذيــن رفضــوا قــرار الرئيــس حســني مبــارك القــايض بالرتاجــع عــن‬
‫قــرار حاميــة الدولــة املكفولــة للمزارعــن املســتأجرين والــذي أُ ِقــر خمســينيات القــرن‬
‫العرشيــن‪ .‬فــآل الفقــي حافظــوا عــى ملكيــة األرايض التــي تفــوق الحــد املنصــوص عليــه‬
‫يف القانــون‪ ،‬وطمعــوا باملزيــد‪ ،‬وكانــت شــاهندة مقلــد‪ ،‬أرملــة حســن‪ ،‬ال تــزال حيــة حيــث‬
‫عملــت عــى رفــع معنويــات الفالحــن‪ ،‬فلــم يتغــر يشء يذكــر حتــى بعــد ثالثــة عقــود‪.‬‬
‫أثــار تهــاون الكــوادر السياســية واألمنيــة قلــق عبــد النــارص الــذي أشــار إىل "مأســاة‬
‫كمشــيش" خــال خطابــه يف عيــد العــال عــام ‪ ،1967‬كداللــة عــى أن االنتهازيــن قــد‬
‫اختطفــوا االتحــاد االشــرايك العــريب‪ ،‬وأنهــم حتــى بعــد مصــادرة أرايض كبــار المُـ ّـاك‪،‬‬
‫"ظلــوا أباطــرة كــا كانــوا مــن قبــل‪ ،‬وأكــر مــن ذلــك حتــى"‪ (((.‬وقبــل هــذا الخطــاب‬
‫بأيــام قليلــة‪ ،‬صــدرت جريــدة "األخبــار" بعنــوان دراماتيــي نصــه‪" :‬عبــد النــارص يحــذر‬
‫مــن القــوى املضــادة للثــورة"‪ .‬أمــا املشــر عبــد الحكيــم عامــر فقــد انزعــج ح ًقــا مــن‬
‫العالقــات الحميمــة التــي تتشــكل بــن الرئيــس ومعاونيــه األمنيــن (يف مكتــب معلومــات‬
‫عرفت السادات‪ ،2004 ،‬ص ‪.77-75‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -1‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪ ،223-216‬جامع‪،‬‬
‫‪ -2‬مقلد‪ ،‬من أوراق شاهندة مقلد‪ ،‬ص ‪.138‬‬
‫‪ -3‬مقلد‪ ،‬من أوراق شاهندة مقلد‪ ،‬ص ‪.143-142‬‬

‫‪105‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫الرئيــس ووزارة الداخليــة) مــن جهــة‪ ،‬والنخبــة الريفيــة مــن جهــة أخــرى‪ ،‬واعتــر ذلــك‬
‫تهديـ ًدا محتمـ ًـا لنفــوذ الجيــش الســيايس‪ .‬ولــذا‪ ،‬أرادا تصفيــة هــذا املعقــل األخــر للرجعيــة‬
‫االجتامعيــة يف البــاد‪ ،‬فاتفقــا‪ٌّ ،‬كل ألســبابه الخاصــة‪ ،‬عــى تشــكيل لجنــة تصفيــة اإلقطــاع‪.‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬أدى النــزاع الداخــي حــول مــن تشــمله اللجنــة إىل تأســيس لجنــة مــن ‪22‬‬
‫عضــ ًوا ضمــت األســاء املعتــادة مــن كال الطرفــن األمنيــن‪ :‬صــري ورشف وجمعــة‬
‫(((‬
‫وآخريــن مرتبطــن بعبــد النــارص‪ ،‬يف مقابــل عامــر وبــدران ونــر وحلفائهــم‪.‬‬
‫يف غضــون أســابيع‪ ،‬تلقــت اللجنــة شــكاوى مــن مئــات القــرى ضــد ســلطة كبــار مــاك‬
‫األرايض التــي ال تــزال مهيمنــة هنــاك‪ .‬كشــفت التحقيقــات أن أكــر مــن ‪ %45‬مــن‬
‫الفالحــن مــا زالــوا بــا أرض‪ ،‬وأن ‪ %95‬مــن الفالحــن ميتلكــون أقــل مــن ‪ 5‬فــدان‪ ،‬وأن‬
‫‪ %5‬مــن مــاك األرايض فقــط يســيطرون عــى ‪ %43‬مــن مجمــوع األرايض الصالحــة‬
‫للزراعــة‪ .‬وســلطت طلبــات االلتــاس الضــوء عــى كيفيــة ســيطرة الربجوازيــة الزراعيــة‬
‫الصاعــدة عــى الريــف سياسـ ًـيا‪ .‬إثــر ذلــك‪ ،‬أصــدرت اللجنــة تقريرهــا النهــايئ رسي ًعــا‪،‬‬
‫وجــاء فيــه‪" :‬بعــد مثانيــة أشــهر مــن العمــل املتواصــل‪ ...‬قامــت لجنــة اإلصــاح الزراعــي‬
‫إقطاعيــا مــن‬
‫ً‬ ‫بحجــز أو مصــادرة حــوايل مئتــي ألــف فــدان‪ ...‬وطَــردت مئتــن وعرشيــن‬
‫الريــف‪ ...‬وطــردت مئــات مــن رؤســاء البلديــات ورجــال الديــن واملســؤولني التابعــن‬
‫لإلقطاعيــن‪ ،‬وحلــت عــرات اللجــان القرويــة يف االتحــاد االشــرايك العــريب‪ ...‬وكانــت‬
‫هــذه ثــورة زراعيــة‪ (((.‬وش ـ َّكلَت دعايــة ممتــازة لعامــر وفريقــه‪.‬‬
‫هي َنــة‪ .‬فحصــت اللجنــة‪ -‬بضغــط مــن مســؤويل األمــن‬ ‫ويف الواقــع‪ ،‬كانــت النتائــج ِّ‬
‫املرتبطــن باالتحــاد االشــرايك‪ 330 -‬حالــة فقــط مــن أصــل خمســة آالف قريــة مرصيــة‬
‫قبــل أن تســتنتج عــى عجــل أنــه ال توجــد انتهــاكات منهجيــة‪ ،‬ســوى بعــض املخالفــات‬
‫غــر القانونيــة‪ .‬ومل يهمهــم أن بعــض هــذه املخالفــات كانــت جليــة بوضــوح‪ ،‬كالعائــات‬
‫الســت التــي لــدى كل منهــا مــا بــن ‪ 1275‬و‪ 4500‬فــدان‪ ،‬مــع أن القانــون ال يســمح‬
‫بـــأكرث مــن ثالمثئــة فــدان لــكل أرسة‪ (((.‬ومل يهمهــم أن هنــاك‪ -‬كــا ورد يف التقريــر‪ -‬مــا‬
‫يصــل إىل مئتــي ألــف فــدان مل تُعلَــم بهــا الســلطات القانونيــة‪ .‬وقُلصــت املشــكلة ليبقــى‬
‫‪ -1‬إمام‪ ،‬عبد النارص وعامر‪ ،‬ص ‪.93‬‬
‫‪ -2‬الطليعة‪ ،‬مارس ‪ ،1967‬ص ‪.128-124‬‬
‫‪ -3‬إمام‪ ،‬عبد النارص وعامر‪ ،‬ص ‪.94‬‬

‫‪106‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫اإلقطاعيــون املرتبطــون بالنظــام القديــم‪ ،‬دون أي مــؤرش عــى ظهــور طبقــة جديــدة مــن‬
‫(((‬
‫مــاك األرايض التــي يرعاهــا النظــام الجديــد‪.‬‬
‫مل تكــن النخبــة األمنيــة املدنيــة والعســكرية بحاجــة إىل التحقيــق يف كيفيــة حــدوث‬
‫ذلــك‪ -‬فهــم الذيــن ســمحوا بذلــك‪ ،‬كــا مل يكــن ألعضــاء اللجنــة أي مصلحــة حقيقيــة يف‬
‫تغيــر الوضــع‪ .‬وقــرر معاونــو عبــد النــارص‪ -‬رمبــا دون الرجــوع إليــه‪ -‬عــد َم تغيــر هيــكل‬
‫الســلطة الــذي وضعــوه يف الريــف‪ ،‬فيــا قــرر عامــر‪ -‬بعــد التلويــح قليـ ًـا بتخريــب هــذا‬
‫االتفــاق‪ -‬أن هــذه املســائل شــتت تفكريهــم للغايــة‪ ،‬وأن جهودهــم يجــب أن تركــز بالكامــل‬
‫عــى الشــؤون العســكرية بــداًلً مــن الشــؤون االجتامعيــة‪ ،‬وكان هــذا القــرار األخــر هــو‬
‫الــذي مهــد الطريــق لجولــة الــراع النهائيــة املؤملــة عــام ‪.1967‬‬

‫‪1- Mitchell, Rule of Experts, 154–70.‬‬

‫‪107‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫الجيش بحاجة اىل حرب‬


‫بالنســبة ملثــل هــذا املعركــة القصــرة‪ ،‬تبقــى الحــرب العربيــة اإلرسائيليــة عــام ‪ 1967‬واحــدة‬
‫مــن أكــر املواجهــات أهميــة يف التاريــخ‪ .‬كانــت الهزميــة يف مــر "مفا ِجئــة يف مجملهــا‪،‬‬
‫ومذهلــة يف حجمهــا‪ ،‬ومدمــرة للــروح يف تأثريهــا‪ ،‬بحيــث سـتُذكر عــى أنهــا أكــر هزميــة‬
‫للعــرب يف القــرن العرشيــن"‪ (((.‬كيــف نفــر التسلســل املذهــل لألحــداث التــي م ّهـ َدت إىل‬
‫هــذه الهزميــة؟ كيــف ميكننــا تفســر التمســك الشــديد لزعيــم بــارع سياسـ ًـيا مثــل عبــد‬
‫النــارص بالتصعيــد مــع إرسائيــل‪ ،‬رغــم أنــه يعــرف مــدى ضعــف ســيطرته عــى جيشــه؟‬
‫يؤكــد التفســر األويل عــى عــدم كفــاءة املؤسســات السياســية والعســكرية يف مــر يف‬
‫ذلــك الوقــت‪ ،‬ويشــر تفســر شــائع آخــر يف مــر إىل مؤامــرة دبرتهــا واشــنطن وتــل‬
‫أبيــب م ًعــا لتدمــر نظــام عبــد النــارص‪ .‬يزعــم محللــون ودبلوماســيون إرسائيليــون أنــه‬
‫اعتقــد أن بإمكانــه هزميــة إرسائيــل بالفعــل‪ ،‬أو عــى األقــل انتــزاع تنــازل ســيايس كبــر‬
‫منهــا عــر خدعــة عســكرية كبــرة‪ .‬بــا شــك فــكل هــذه التفســرات تحمــل يف طياتهــا‬
‫جــز ًءا مــن الحقيقــة‪ ،‬لكــن إذا أردنــا التفكــر يف الســؤال األكــر إشــكالية حــول ســبب‬
‫دفــع الجيــش بالبــاد إىل حافــة الحــرب يف يونيــو ‪ ،1967‬بعيـ ًدا عــن محاولــة رشح ســبب‬
‫الهزميــة‪ ،‬فيمكننــا حينهــا أن نــرى أن أيًــا مــن هــذه التفســرات ال تصــح‪ .‬فــإذا كانــت‬
‫مؤسســات النظــام عدميــة الكفــاءة‪ ،‬واملشــر عامــر يعــرف ذلــك (كــا هــو مبــن أدنــاه)‪،‬‬
‫فلــاذا التــرع يف الحــرب؟ وإذا كانــت الواليــات املتحــدة وإرسائيــل قــد اســتدرجتا مرص‪،‬‬
‫وعلــم كل مــن عبــد النــارص وعامــر بهــذا األمــر (كــا ســنناقش أدنــاه)‪ ،‬فلــاذا يقعــان يف‬
‫يائســا تهدئــة‬
‫الفــخ؟ وإذا كنــا نلقــي باللــوم يف التصعيــد عــى عبــد النــارص‪ ،‬فلــاذا حــاول ً‬
‫املوقــف حتــى اللحظــة األخــرة؟ رمبــا ســيبقى الدافــع الحقيقــي وراء هــذا التصعيــد غــر‬
‫را‬
‫خفيــا إىل األبــد‪ ،‬لكــن منطــق الــراع عــى الســلطة داخــل النظــام يقــدم تفسـ ً‬‫املــرر ً‬
‫يدمــج بشــكل أفضــل األدلــة التاريخيــة املتاحــة‪ ،‬والــذي يشــر إىل اتجــاه واحــد فقــط‪ :‬أن‬
‫فاعليــة إســراتيجية التــوازن التــي وضعهــا الرئيــس أقنعــت عامــر ورفاقــه أن الجيــش إذا‬
‫تدريجيــا‪.‬‬
‫ً‬ ‫مل يحقــق إنجــا ًزا مذهـ ًـا يف أقــرب وقــت‪ ،‬فســيخرس نفــوذه‬
‫دعونــا أواًلً نؤكــد كيــف عــرف عامــر بشــكل جــازم أن الجيــش مل يكــن جاه ـ ًزا للحــرب‪،‬‬
‫‪1-Aburish, Nasser: The Last Arab, 249.‬‬

‫‪108‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫حتــى وهــو يتظاهــر بأنــه يســتعد لهــا‪ .‬ففــي ‪ 16‬ديســمرب ‪ ،1966‬تلقــى املشــر تقريـ ًرا مــن‬
‫القيــادة العليــا للجيــش ينصــح بعــدم الدخــول يف أي مواجهــة عســكرية مــع إرسائيــل يف‬
‫املســتقبل املنظــور‪ .‬اســتند التقريــر إىل اآلثــار الكارثيــة التــي خلفتهــا حــرب اليمــن عــى‬
‫القــوات املســلحة‪ ،‬حيــث أرســل الجيــش املــري يف عــام ‪ 1962‬خــراء عســكريني لدعــم‬
‫القوميــن اليمنيــن ذوي امليــول اليســارية‪ -‬وهــي فرصــة اغتنمهــا لتعزيــز الصــورة العامــة‬
‫للجيــش فيــا اعتقــد أنــه ســيكون حملــة قصــرة غــر مكلفــة ضــد قطــاع الطــرق املؤيديــن‬
‫للنظــام امللــي هنــاك‪.‬‬
‫وبحســب وزيــر الحربيــة محمــد فــوزي‪ ،‬كانــت إســراتيجية عامــر يف اليمــن أشــبه‬
‫الجيــش عــى إطــاق النــار بشــكل‬‫َ‬ ‫مبرسحيــة‪ ،‬ومجــرد اســتعراض للقــوة‪ .‬فقــد شــجع‬
‫مفــرط عــى الجبــال اليمنيــة‪ ،‬ال لــيء ســوى إظهــار القــوة القاهــرة للجيــش‪ .‬ومنــح‬
‫ترقيــات ميدانيــة وأوســمة عســكرية للضبــاط الذيــن بالــكاد شــهدوا القتــال هنــاك‪ ،‬واختلــق‬
‫مســاعدوه بيانــات صحفيــة عــن مآثــر الجيــش البطوليــة يف اليمــن‪ (((.‬واشــتىك الســادات‪،‬‬
‫املســؤول عــن الجانــب الســيايس للحــرب‪ ،‬مــن تعامــل عامــر مــع الحــرب عــى أنهــا‬
‫"مــرح جديــد لتعزيــز موقفــه وبســط نفــوذه"‪ (((.‬كادت خطــة املشــر أن تنجــح‪ ،‬خاصــة‬
‫وأن الواليــات املتحــدة يف عهــد جــون كينيــدي اعرتفــت يف البدايــة بالجمهوريــن يف‬
‫اليمــن‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬رسعــان مــا أقنعــت الســعودية واململكــة املتحــدة ‪-‬اللتــان دعمتــا النظــام‬
‫امللــي اليمنــي‪ -‬الرئيــس األمريــي لينــدون جونســون بتغيــر موقــف بــاده‪ ،‬فالســعوديون‬
‫ال يســتطيعون التعايــش مــع نظــام شــيوعي عــى حدودهــم الجنوبيــة‪ .‬فيــا مل يســتطع‬
‫الربيطانيــون تحمــل ســقوط مينــاء عــدن اإلســراتيجي بيــد الشــيوعيني‪ ،‬وكان جونســون‬
‫أكــر تشــد ًدا مــن ســلفه يف محاربــة الشــيوعية‪ (((.‬تــورط الجيــش املــري يف اليمــن‬
‫بحــرب غــر تقليديــة ضــد مقاتلــن ممولــن مــن الغــرب ومرتزقــة أوروبيــن‪ ،‬ومــا بــدأ‬
‫كعمليــة بســيطة ال تتطلــب أكــر مــن بضــع مئــات مــن الضبــاط تحول إىل مســتنقع اســتهلك‬
‫(((‬
‫بحلــول عــام ‪ 1965‬مــا ال يقــل عــن ســبعني ألــف رجــل‪.‬‬

‫‪ -1‬فوزي‪ ،‬حرب الثالث سنوات‪ ،‬ص ‪.26-24‬‬


‫‪ -2‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.211‬‬
‫‪3- Schlesinger, A Thousand Days, 523.‬‬
‫‪4- Vatikiotis, Nasser and His Generation, 162.‬‬

‫‪109‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫قيــم التقريــر الــذي قدمتــه القيــادة العامــة يف نهايــة عــام ‪ 1966‬تأثــر هــذا الواقــع‬ ‫َّ‬
‫الجديــد‪ ،‬وأكَّــ َد فشــل األســلوب العســكري التقليــدي يف مواجهــة حــرب العصابــات يف‬
‫اليمــن‪ ،‬وأوضــح كيــف تخــى الجنــود املرصيــون عــن كل قواعــد الحــرب الحديثــة يف هــذه‬
‫العمليــة غــر التقليديــة‪ .‬كــا ذكــر التقريــر كيــف نــي الطيــارون املقاتلــون أساســيات‬
‫القصــف اإلســراتيجي والقتــال بعــد خمــس ســنوات مــن الرضبــات بــا هــدف واضــح‬
‫ضــد بلــد ليــس لديــه قــوة جويــة وال قــدرات دفــاع جــوي‪ ،‬وأن ثقــة الجيــش بنفســه‬
‫تراجعــت عندمــا شــعر بــأن اليمنيــن يتفوقــون عليــه عنــد كل مواجهــة‪ ،‬وأن اإلحبــاط‬
‫الــذي متلَّــك الجنــود دفعهــم الســتخدام املعــدات والذخائــر دون أدىن تفكــر‪ .‬كــا أشــارت‬
‫التقاريــر الالحقــة إىل أن قيــود امليزانيــة التــي فرضتهــا حــرب اليمــن أجــرت الجيــش‬
‫يف مــارس ‪ 1967‬عــى ترسيــح اآلالف مــن جنــود االحتيــاط وتجميــد التجنيــد اإلجبــاري‬
‫ملــدة ثالثــة أشــهر‪ .‬وملــا قــرر املشــر عامــر يف مايــو ‪ 1967‬التصعيــد‪ ،‬كان الجيــش حينهــا‬
‫يعــاين مــن نقــص بنســبة ‪ %37‬يف القــوة البرشيــة‪ ،‬و‪ %30‬يف األســلحة الفرديــة‪ ،‬و‪ %24‬يف‬
‫املدفعيــة‪ ،‬و‪ %45‬يف الدبابــات‪ ،‬و‪ %70‬يف العربــات املدرعــة‪ ،‬كل هــذا نتيجــة لهــذه القيــود‪.‬‬
‫وكان عــدد الطياريــن املد َّربــن أقــل مــن عــدد الطائــرات املتوفــرة (كانــت النســبة لــدى‬
‫ن‬
‫اإلرسائيليــن ثالثــة طياريــن لــكل طائــرة‪ ،‬و‪ 0.8‬طيــار لــكل طائــرة يف مــر)‪ ،‬ومل ت ُـ َ‬
‫حظــرة طائــرات واحــدة محصنــة يف الســنوات الخمــس التــي ســبقت الحــرب‪.‬‬
‫وصــف تقريــر آخــر عــن التدريــب العســكري عــام ‪ 1967-1966‬بأنــه أســوأ عــام‬
‫تدريــب يف تاريــخ الجيــش املــري‪ ،‬إذ مل تُ ْجــ َر أي منــاورة عــى مســتوى لــواء‪ ،‬ومل‬
‫يُســتخدم ســوى ‪ %5.2‬مــن الوقــود املخصــص للتدريــب‪ .‬أمــا فيــا يتعلــق بالذخائــر‪ ،‬فقــد‬
‫اســتهلك املشــاة ‪ %26‬فقــط مــن حصتهــم املخصصــة للتدريبــات العســكرية‪ ،‬واســتهلك‬
‫مســتودع األســلحة ‪ %15‬فقــط مــن مخصصاتــه‪ ،‬واملدفعيــة ‪ .%18‬كشــفت املزيــد مــن‬
‫األرقــام املذهلــة أن كل دبابــة أطلقــت يف املتوســط طلقــة واحــدة فقــط خــال فــرة‬
‫التدريــب بأكملهــا‪ ،‬وكل مدفــع هاوتــزر أطلــق مــا ُمع َّدلــه ‪ 1.5‬طلقــة فقــط‪ ،‬وكل بــازوكا‬
‫را‪ ،‬وألن االعتبــارات األمنيــة أملَــت عــدم تجنيــد‬‫أطلــق متوســط ‪ 15‬قذيفــة فقــط‪ .‬أخــ ً‬
‫جنــود متعلمــن‪ ،‬مل تتجــاوز غــر األميــن مــن املشــاة ‪ ،%19‬ومــن البحريــة ‪ ،%18‬ومــن‬
‫القــوات الجويــة ‪ %21‬فقــط‪ ،‬مــا قلــل مــن الكفــاءة اإلجامليــة للقــوات املســلحة‪ .‬أضــف‬
‫إىل ذلــك أن آخــر منــاورة كبــرة عــى مســتوى الفــرق أجراهــا الجيــش كانــت يف عــام‬

‫‪110‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫(((‬
‫يخــف هــذا عــى أحــد‪.‬‬
‫‪ ،1954‬ولــذا كان وضــع القــوات املســلحة بالعمــوم ســيئًا ومل َ‬
‫بالطبــع‪َ ،‬علِ ـ َم عبــد النــارص بهــذه الحالــة املزريــة للقــوات املســلحة‪ .‬وأدرك‪ ،‬حتــى قبــل‬
‫حــرب اليمــن‪ ،‬أن سياســة تقديــم الــوالء عــى حســاب الكفــاءة‪ ،‬التــي اتبعهــا معاونــو املشــر‬
‫األمنيــون ح َّولــت مناصــب القيــادة العســكرية إىل مجــرد وظائــف مدفوعــة األجــر‪ .‬كــا‬
‫علــم أن الجيــش بــدأ يخــر حربــه يف اليمــن والتــي أشــار إليهــا بأنهــا "فيتنامــه"‪ (((.‬يف‬
‫الواقــع‪ ،‬أكــد قائــد األركان آنــذاك فــوزي أن الرئيــس عبــد النــارص مل يكــن لديــه عشــية‬
‫(((‬
‫تقريبــا عــى الجيــش‪ ،‬وأنــه حــاول تجنــب الحــرب بــأي مثــن‪.‬‬
‫ً‬ ‫حــرب ‪ 1967‬أي ســيطرة‬
‫كــا أبلــغ املشــر عامــر برصيــح العبــارة أن هنــاك مؤامــرة أمريكيــة إرسائيليــة لتدمــر‬
‫الجيــش وإســقاط النظــام بأكملــه‪.‬‬
‫توتــرت العالقــات األمريكيــة املرصيــة بعــد عــام ‪ 1957‬إثــر رفــض عبــد النــارص االنضــام‬
‫إىل التحالفــات الدفاعيــة اإلقليميــة التــي رعتهــا الواليــات املتحــدة‪ .‬وقــرر األمريكيــون أن‬
‫نســخة مــر مــن القوميــة العربيــة تخريبيــة مثــل الشــيوعية‪ ،‬وبــدأوا مــن تلــك اللحظــة‬
‫فصاع ـ ًدا تهيئــة الســعودية لتــويل قيــادة العــامل العــريب وتقويــض الهيمنــة املرصيــة‪َ .‬و َر َد‬
‫يف برقيــة مــن وزارة الخارجيــة إىل الســفارة األمريكيــة يف القاهــرة بتاريــخ ‪ 27‬ســبتمرب‬
‫‪ ،1957‬مــا يــي‪" :‬تبــدو مــر مصممــة عــى محاولــة حرمــان الــدول األخــرى مــن حريــة‬
‫االختيــار التــي تطالــب بهــا لنفســها‪ .‬وتــر عــى أن يتبنــى جميــع جريانهــا سياســة الحيــاد‬
‫توصــل ِب ُح ِّريَّـ ٍة إىل أن بإمكانهــم ضــان اســتقاللهم ضامنًا‬‫اإليجــايب رغــم أن بعضهــم قــد َّ‬
‫ـا ســتواجه‬ ‫أفضــل مــن خــال االرتبــاط بتحالــف األمــن الجامعــي املضــاد للشــيوعية‪ ...‬حتـ ً‬
‫الواليــات املتحــدة هــذه القوميــة التــي تُســتخدم كغطــاء للجهــود التــي تبذلهــا دولــة مــا‬
‫(((‬
‫للســيطرة عــى الــدول األخــرى وإلــزام الــدول األخــرى باتبــاع سياســاتها اتبا ًعــا أعمــى"‪.‬‬
‫ـا‬
‫حرصــا منــه عــى إنقــاذ العالقــات الثنائيــة بــن الجانبــن‪ ،‬اســتقبل عبــد النــارص تعميـ ً‬
‫ً‬
‫أرســله كينيــدي يف أغســطس ‪ 1961‬إىل القــادة العــرب بحفــاوة‪ ،‬أعقبتــه مراســات شــخصية‬
‫دامــت ملــدة عامــن تبــادل الرئيســان خاللهــا خمــس وســبعني رســالة‪ .‬لقــد اعتقــد كينيــدي‬
‫‪1- Gamasy, October War, 39–40; Dunstan, The Six Day War 1967, 26.‬‬
‫‪ -2‬سامي رشف‪ ،‬عبد النارص‪ :‬كيف حكم مرص؟‪ ،‬ص ‪.336‬‬
‫‪ -3‬فوزي‪ ،‬حرب الثالث سنوات‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪ -4‬محمــد عبــد الوهــاب ســيد أحمد‪ ،‬العالقات املرصيــة األمريكية من التقارب إىل التباعــد‪ ،1958-1952 ،‬ص ‪.151‬‬

‫‪111‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫ـارَص‪ ،‬وهــذا مــا منــع اســتمرار تدهــور العالقــات‬‫أن عبــد النــارص يصبــح أخطـ َر عندمــا يحـ َ‬
‫ر عندمــا تــوىل جونســون منصــب الرئاســة‬ ‫بــن الجانبــن حينهــا‪ (((.‬لكــن كل هــذا تغ ـ َ َّ‬
‫خصوصــا خــال الفــرة‬
‫ً‬ ‫خل ًفــا لكينيــدي(((‪ .‬طــور جونســون عالقــات حميمــة مــع إرسائيــل‬
‫التــي تزعــم فيهــا األغلبيــة مبجلــس الشــيوخ‪ ،‬واســتاء مــن دور أمريــكا يف إجبــار إرسائيــل‬
‫عــى االنســحاب مــن ســيناء بعــد حــرب ‪ ،1956‬واعتقــد أن القــوة هــي اللغــة الوحيــدة‬
‫نائبــا لفــرة طويلــة عــن تكســاس‪ ،‬فقــد ارتبــط‬‫التــي يفهمهــا عبــد النــارص‪ .‬ونظـ ًرا لكونــه ً‬
‫أيضــا بتكتــات النفــط التــي شــعرت بالتهديــد مــن متــدد نزعــة عبــد النــارص القوميــة ذات‬ ‫ً‬
‫امليــول اليســارية إىل دول الخليــج‪.‬‬
‫كلــف جونســون يف البدايــة روبــرت كومــر‪ ،‬أحــد ضبــاط وكالــة املخابــرات املركزيــة_‬
‫والــذي خــدم الحقًــا يف مجلــس األمــن القومــي_ بتطويــر إســراتيجية لجــر الجيــش‬
‫املــري إىل حــرب اســتنزاف بهــدف إضعافــه وتشــويه ســمعته‪ .‬كانــت حــرب اليمــن بدايــة‬
‫جيــدة لهــذه اإلســراتيجية‪ ،‬وقــد خطــط لهــا كومــر بإتقــان لدرجــة أن زمــاءه يف مجلــس‬
‫األمــن القومــي بــدأوا يســمونها بـــ "حــرب كومــر"‪ .‬وملزيــد مــن الضغــط عــى االقتصــاد‬
‫املــري‪ ،‬أوقــف جونســون شــحنات القمــح األمريــي إىل القاهــرة (مدعو ًمــا بالقانــون‬
‫العــام األمريــي ‪ .((()480‬لكنــه خطــط لعمليــة أخــرى أكــر فت ـكًا خلــف الكواليــس‪ .‬فمــع‬
‫اقــراب نهايــة عــام ‪ ،1966‬حــذر رئيــس البنــك الــدويل الســابق‪ ،‬يوجــن بــاك‪ ،‬عبــد‬
‫ـخصيا‪ ،‬مــن أن املســؤولني يف واشــنطن يناقشــون خططًــا‬
‫النــارص الــذي اعتــره صدي ًقــا شـ ً‬
‫إلطــاق العنــان (‪ )unleash‬إلرسائيــل لتشــن حربًــا عــى مــر يف وقــت مــا مــن العــام‬
‫املقبــل‪ .‬علــم محمــد حســنني هيــكل‪ -‬أقــرب مستشــاري الرئيــس‪ -‬أن لجنــة تنســيق أمريكيــة‬
‫كاًل مــن والــت روســتو وروبــرت كومــر (مــن مجلــس األمــن القومــي)‪،‬‬ ‫إرسائيليــة تجمــع ً‬
‫وريتشــارد هيلمــز وجيمــس أنجلتــون (مــن وكالــة املخابــرات املركزيــة)‪ ،‬وموشــيه ديــان‪،‬‬
‫ومائــر عميــت‪ ،‬وإفرايــم إيفــرون (ممثلــن إلرسائيــل) شُ ــكلت يف عــام ‪ 1967‬للتخطيــط‬
‫لحــرب تهــدف إىل اســتبدال النظــام املــري الحــايل بآخ ـ َر صديــقٍ لهــا‪ -‬وأُطلــق عــى‬

‫‪1- Schlesinger, Thousand Days, 522–23.‬‬


‫‪ -2‬لقــي الرئيــس األمريــي جــون كندي مرصعه إثر عمليــة اغتيال غامضة بتاريخ ‪ 22‬نوفمرب ســنة ‪( .1963‬املرتجم)‬
‫‪ -3‬قانــون أمريــي ينــص عــى بيــع فائــض القمــح األمريــي للــدول الناميــة بأســعار مخفضــة‪ ،‬وأن يتــم الدفــع‬
‫بالعملــة املحليــة لهــذه الــدول‪ ،‬وتخصــص األمــوال لنفقــات البعثــات الدبلوماســية فيهــا‪( .‬املرتجــم)‬

‫‪112‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫العمليــة اســم "صيــد الديــك الرومــي"‪ (((.‬يف اليــوم األول مــن الحــرب‪ ،‬قــدم والــت‬
‫روســتو مذكــرة إىل جونســون جــاء يف مطلعهــا‪" :‬فيــا يــي تقريــر مرفــق‪ ...‬عــن اليــوم‬
‫(((‬
‫مثاليــا حيــث كانــت الرتويــكا‬
‫األول الصطيــاد الديــك الرومــي"‪ .‬اعتُــر هــذا التوقيــت ً‬
‫(((‬

‫الســوفيتية الجديــدة تركــز عــى الشــؤون الداخليــة‪ ،‬وتواجــه ضغطًــا مــن الكتلــة الرشقيــة‬
‫والصــن لوقــف دعــم الــدول غــر الشــيوعية عســكريًا‪ .‬كــا احتاجــت الواليــات املتحــدة‬
‫يف ذلــك الوقــت حدثًــا لــرف االنتبــاه عــن التصعيــد يف فيتنــام‪.‬‬
‫ومبــا أن املشــر عبــد الحكيــم عامــر علــم بالحالــة الســيئة التــي كان عليهــا الجيــش‪،‬‬
‫بالنيــات األمريكيــة اإلرسائيليــة‪ ،‬فلــاذا شــعر بأنــه مضطــر‬
‫ووصلتــه التحذيــرات املتعلقــة ّ‬
‫للقيــام مبغامــرة ال تُعقــل صيـ َـف عــام ‪1967‬؟‬
‫الجــواب يكمــن يف نجــاح إســراتيجية عبــد النــارص الداخليــة يف مقابــل نفــوذ الجيــش‪.‬‬
‫ففــي عــام ‪ ،1962‬قــرر مــع معاونيــه األمنيــن أنــه مــن املســتحيل عــزل عامــر ومعاونيــه‬
‫أو إغراءهــم بــرك الجيــش‪ ،‬ولــذا كان عليهــم تجاهــل الجيــش آنــذاك والعمــل لتعزيــز‬
‫نفوذهــم فيــا عــداه‪ ،‬فأعــادوا صياغــة إســراتيجيتهم‪ ،‬وقــرروا التحــول مــن مهاجمــة‬
‫عامــر ومــن معــه مبــارش ًة إىل فــرض حصــار عليهــم‪ .‬فــإذا مــا ُمنعــوا مــن الوصــول إىل‬
‫الجيــش‪ ،‬فبإمكانهــم تعزيــز الســلطة السياســية عــر بنــاء منظــات جديــدة والســيطرة عــى‬
‫نشــئ االتحــاد االشــرايك العــريب عــام ‪ ،1962‬تــاه التنظيــم‬‫الســلطة التنفيذيــة‪ .‬وهكــذا‪ ،‬أُ ِ‬
‫الطليعــي عــام ‪ .1963‬وقــاد مســاعدو الرئيــس األمنيــون الحكومـةَ‪ ،‬فرتأســها عــي صــري‬
‫بــن عامــي ‪ 1962‬و‪ ،1965‬وزكريــا محــي الديــن بــن عامــي ‪ 1965‬و‪ .1967‬كــا انخفضــت‬
‫تدريجيــا مــن ‪ %51.5‬يف أغســطس ‪ 1961‬ثــم ‪ %47‬يف‬ ‫ً‬ ‫نســبة الضبــاط يف مجلــس الــوزراء‬
‫(((‬
‫ســبتمرب ‪ ،1962‬وص ـواًلً إىل ‪ %36.3‬يف مــارس ‪.1964‬‬

‫‪ -1‬هيكل‪ ،‬حرب ‪ ،1967‬ص ‪.374-361‬‬


‫‪2- Dunstan, The Six Day War 1967, 72.‬‬
‫‪ -3‬مجموعــة الحكــم الثالثيــة التــي أعلــن عنهــا وفــق خطــة العــام ‪ 1960‬يف االتحــاد الســوفييتي‪ ،‬وتقــي بــأن‬
‫يتــوىل رئاســة االتحــاد الســوفييتي ثالثــة أشــخاص يف منصــب األمــن العــام بــداًلً مــن واحــد‪( .‬املرتجــم)‬
‫‪4- Richard H. Dekmejian, "Egypt and Turkey: The Military in the Background," in Soldiers,‬‬
‫‪Peasants, and Bureaucrats: Civil-Military Relations in Communist and Modernizing Societies,‬‬
‫‪ed. Roman Kolkowicz and Andrzej Korbonski, Boston: George Allen & Unwin,1982, 31.‬‬

‫‪113‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫أيضــا‪ ،‬مــن خــال القوانــن‬ ‫عــزز الرئيــس عبــد النــارص ومــن معــه نفــوذه االقتصــادي ً‬
‫وســ َعت‬
‫االشــراكية الصــادرة يف يوليــو ‪ 1961‬وغريهــا مــن القوانــن الالحقــة التــي َّ‬
‫ســيطر َة الدولــة عــى االقتصــاد‪ .‬وحتــى مــن الناحيــة األيديولوجيــة‪ ،‬فقــد متكــن مــن زيــادة‬
‫ســيطرته مــن خــال التبنــي الشــامل لخطــاب قومــي عــريب واشــرايك‪ ،‬مــا أضفــى‬
‫الرشعيــة عــى كل مــن التنظيــات السياســية والقوانــن االقتصاديــة الجديــدة‪ .‬حولــت هذه‬
‫تدريجيــا مــن الجيــش ورشكائــه‬
‫ً‬ ‫اإلســراتيجيات مبجموعهــا ميــزان القــوى داخــل النظــام‬
‫األمنيــن إىل الجهــاز الســيايس وأجهزتــه األمنيــة املواليــة لــه‪ .‬وبينــا نجــح الجيــش يف‬
‫املحافظــة عــى نفــوذه أمــام محــاوالت فــرض الســيطرة السياســية‪ ،‬اعتقــد املشــر عامــر‬
‫أن هــذه التغيــرات الجديــدة مل تعــزز مــن نفــوذ الجهــاز الســيايس عــى حســاب ســلطة‬
‫أيضــا اســتقاللية الجيــش يف الســنوات القادمــة‪.‬‬ ‫الجيــش فحســب‪ ،‬بــل هــددت ً‬
‫تب ًعــا ملــا ســبق‪ ،‬بــدأ املشــر عامــر بعــض اإلجــراءات الوقائيــة‪ .‬وإلحــكام ســيطرته عــى‬
‫الضبــاط يف هــذه األوقــات العصيبــة‪ ،‬طلــب مــن مديــر مكتبــه شــمس بــدران إجــراء‬
‫تغيــر شــامل للقيــادة العســكرية بــد ًءا بهيئــة األركان وص ـواًلً إىل قــادة الكتائــب‪ ،‬فأعــاد‬
‫توزيــع ثالمثائــة ضابــط يف صيــف عــام ‪ ،1966‬يف أكــر حملــة مــن نوعهــا منــذ عــام‬
‫‪ .1952‬وألول مــرة‪ ،‬تلقــى موالــوه أوامــر ميدانيــة (مهمــة ومرهقــة للغايــة) إلبقــاء القــوات‬
‫تحــت الســيطرة‪ ،‬بينــا اســتدعي الضبــاط املشــكوك بهــم إىل مقــر القيــادة العامــة‪ ،‬بحيــث‬
‫يكونــون تحــت أعــن بــدران ومكتــب القائــد العــام‪ (((.‬وأرص بعدهــا عــى تعيــن بــدران‬
‫وزي ـ ًرا للحربيــة‪ ،‬وهــو منصــب وزاري مل يســبق لــه أن اهتــم بــه مــن قبــل‪ .‬ومبجــرد أن‬
‫وافــق عبــد النــارص عــى هــذا الطلــب‪ ،‬أصــدر يف ســبتمرب ‪ 1966‬مرســو ًما بصفتــه نائــب‬
‫القائــد األعــى‪ ،‬يحمــل الرقــم ‪ 367‬لعــام ‪ ،1966‬والــذي وســع صالحيــات وزيــر الحربيــة‬
‫لتشــمل جميــع الشــؤون اإلداريــة وامليزانيــة املتعلقــة بالجيــش‪ ،‬باإلضافــة إىل الســيطرة عــى‬
‫املخابــرات الحربيــة‪ ،‬واملحاكــم العســكرية‪ ،‬ومجموعــة أخــرى مــن الهيئــات ذات الصلــة‬
‫بالجيــش‪ .‬يف مــوازاة ذلــك‪ ،‬أصــدر قــرار نائــب القائــد األعــى رقــم ‪ 118‬لســنة ‪،1966‬‬
‫بتقليــص مســؤوليات قائــد األركان فــوزي‪ ،‬حليــف عبــد النــارص‪ ،‬إىل مهــام إداريــة ثانويــة‪،‬‬
‫ومنعــه مــن أي اتصــال مبــارش مــع الوحــدات القتاليــة‪ .‬بعــد ذلــك‪ ،‬قــام مــع وزيــر الحربيــة‬
‫بــدران بإعــادة تنظيــم املؤسســة العســكرية بأكملهــا بحيــث يكون رؤســاء الفــروع والوحدات‬
‫‪ -1‬حامد‪ ،‬أرسار ثورة ‪ 23‬يوليو‪ ،‬ص ‪.1383-1380‬‬

‫‪114‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫(((‬
‫اإلداريــة مســؤولني أمامهــم مبــارشة دون الرجــوع لرئيــس األركان أو رئيــس الجمهوريــة‪.‬‬
‫بعــد تأمــن مجــال نفــوذه األســايس‪ -‬القــوات املســلحة‪ -‬انتقل املشــر عامر ملحاولــة تقويض‬
‫املؤسســات املنافســة‪ .‬ففــي عــام ‪ ،1965‬ادعــى بــدران أن رجالــه يف املخابــرات العســكرية‬
‫كشــفوا عــن مؤامــرة يحيكهــا اإلخــوان املســلمون لإلطاحــة بالنظــام‪ ،‬وأنــه يف ضــوء عــدم‬
‫كفــاءة وزارة الداخليــة‪ ،‬قــرر تكليــف املباحــث الجنائيــة العســكرية مبهمــة التحقيــق‪ .‬وإدراكًا‬
‫منهــا بحقيقــة األمــر‪ ،‬كافحــت املباحــث العامــة بــوزارة الداخليــة لتثبــت أن هــذه التقاريــر‬
‫ُمل َّف َقــة‪ .‬واشــتد العــداء بــن الجيــش واملباحــث العامــة لدرجــة أن فــؤاد عــام‪ ،‬الــذي كان‬
‫را يف املباحــث آنــذاك ثــم أصبــح الح ًقــا نائــب مديرهــا‪ ،‬اعتُقــل يف ســجن‬ ‫ضابطًــا صغ ـ ً‬
‫عســكري إثــر تالســنه مــع بــدران بشــأن شــخص مشــتبه بــه(((‪ .‬ووفــق مــا رواه عــام الح ًقــا‪،‬‬
‫ـخصيا‪ ،‬فلرمبــا بقيت يف‬
‫لــو مل يعلــم زكريــا مبــا حــدث وطلــب مــن عبد النــارص التدخــل شـ ً‬
‫الســجن مــدى الحيــاة‪ (((.‬ولتقديــم أدلــة تدعــم مزاعــم بــدران‪ ،‬اعتقلــت الرشطــة العســكرية‬
‫يف يوليــو ‪ 1965‬مــا يقــرب مــن ثالثــن أل ًفــا مــن اإلســاميني‪ ،‬واســتطاعت تحقيــق هدفهــا‪،‬‬
‫عــى حســاب أرواح مئتــن وخمســن عضـ ًوا مــن اإلخــوان ماتوا تحــت التعذيــب يف مختلف‬
‫ِ‬
‫يكتــف بــدران‬ ‫الســجون العســكرية‪ (((.‬وبذريعــة عــدم كفــاءة أجهــزة األمــن املدنيــة‪ ،‬مل‬
‫أيضــا قانــون الخدمــة العســكرية رقــم ‪25‬‬ ‫بإضعــاف املباحــث العامــة فحســب‪ ،‬بــل أصــدر ً‬
‫ـص عــى أن املنازعــات القانونيــة بــن املدنيــن والضبــاط ســتصبح‬ ‫لعــام ‪ ،1966‬الــذي نـ َّ‬
‫مــن اختصــاص املحاكــم العســكرية(((‪ ،‬ليصبــح الضبــاط اآلن فــوق القانــون بشــكل رســمي‪.‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬مل يشــعر عامــر ورفاقــه باألمــان‪ .‬ففــي نوفمــر ‪ ،1966‬ســمع مــراد غالــب‪،‬‬
‫ســفري مــر يف موســكو ووزيــر الخارجيــة الالحــق‪ ،‬محادثــ ًة بــن مديــر املخابــرات‬
‫العامــة صــاح نــر وبعــض مســاعدي عامــر يشــكون خاللهــا مــن أنــه مــا دام الرئيــس‬

‫‪ -1‬فوزي‪ ،‬حرب الثالث سنوات‪ ،‬ص ‪.38-37‬‬


‫‪ - -2‬بحس��ب رواي��ة ع�لام‪ ،‬فإن��ه خ�لال نقل�هـ الوزي�رـ الس��ابق عب��د العزيــز عــي مــن قبضــة املباحــث العامــة إىل‬
‫الســجن الحــريب‪ ،‬قــال ألفــراد الســجن هــذا عبدالعزيــز باشــا‪ ،‬فغضــب بــدران حــن ســمع تلفظــه بكلمــة باشــا‪،‬‬
‫واحتجـ�ز فـ�ؤاد عـلام هـ�و اآلخـ�ر يف السـ�جن‪( .‬امل ُرا ِجـ�ع)‪.‬‬
‫‪ -3‬عالم‪ ،‬اإلخوان وأنا‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪ -4‬حامدة حسني‪ ،‬شمس بدران‪ ،‬ص ‪.82-63‬‬
‫‪ -5‬فوزي‪ ،‬حرب الثالث سنوات‪ ،‬ص ‪.52-42‬‬

‫‪115‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫عبــد النــارص يســيطر عــى الســلطة التنفيذيــة‪ ،‬فــإن موقفهــم ســيبقى ضعي ًفــا‪ (((.‬ولــذا‪،‬‬
‫طلــب املشــر أن يتــوىل هــو أو بــدران رئاســة الــوزراء‪ ،‬وهــو مــا رفضــه الرئيــس بشــكل‬
‫قاطــع‪ .‬فبــدأت التوتــرات تتصاعــد مــرة أخــرى قبــل التوصــل إىل حــل وســط يف نهايــة‬
‫رئيســا للــوزراء محــل زكريــا‪ ،‬وهــو ضابــط‬
‫عــام ‪ ،1966‬حيــث عــن محمــد صدقــي ســليامن ً‬
‫ر الرتاجــ َع يف العنــر العســكري يف‬ ‫عــوض املشــ ُ‬
‫َ‬ ‫معــروف ببعــده عــن السياســة‪ .‬ثــم‬
‫(((‬
‫الحكومــة‪ ،‬ودفعــه مــن أقــل مــن ‪ %36‬يف عهــد زكريــا إىل ‪ %55.2‬يف عهــد ســليامن‪.‬‬
‫بعضــا مــن رصيدهــا‪ ،‬ألن جــز ًءا مــن التســوية يقــي‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬خــرت مجموعــة عامــر ً‬
‫رئيســا لهيئــة املخابــرات‬
‫بتعيــن محمــد صــادق‪ ،‬امللحــق العســكري املــري يف بــون‪ً ،‬‬
‫الحربيــة‪ (((.‬فبعــد أن أمــى ســنوات عديــدة يف الخــارج‪ ،‬اعتــره الطرفــان محايـ ًدا‪ ،‬لكــن‬
‫بالنظــر إىل أن إســراتيجية عبــد النــارص تحولــت مــن مواجهــة الجيــش إىل احتوائــه‪ ،‬فــإن‬
‫هــذا التعيــن الجديــد يُضــاف بالتأكيــد إىل هــذه اإلســراتيجية‪ ،‬وســلب الكثــر مــن املشــر‬
‫وفريقــه (كــا ســيظهر يف املســتقبل)‪.‬‬
‫رغــم جميــع املنــاورات املذكــورة أعــاه‪ ،‬أدرك املشــر ومــن معــه أن الجيــش مــا مل يحقــق‬
‫قريبــا‪ ،‬فــإن نفــوذه يف تركيبــة النظــام املــري ســيرتاجع‬ ‫دراميــا يف وقــت مــا ً‬
‫ً‬ ‫إنجــا ًزا‬
‫أكــر‪ .‬مل تكــن معالجــة القضايــا املحليــة‪ ،‬كالتحقيــق يف انتهــاكات اإلصــاح الزراعــي أو‬
‫اعتقــال النشــطاء اإلســاميني كافيــة‪ ،‬فالســلطات املدنيــة كانــت قــادرة عــى التعامــل مــع‬
‫هــذه املهــام تعامـ ًـا أفضــل‪ .‬وبعــد أدائــه البائــس يف اليمــن والــذي شــوه صورتــه‪ ،‬كان‬
‫عــى الجيــش أن يثبــت جدارتــه يف الســاحة التــي ال ميكــن ألي شــخص آخــر أن يعمــل‬
‫فيهــا‪ ،‬إنهــا ســاحة املعركــة‪ .‬ألنــه‪ ،‬كــا أعلــن تومــاس هوبــز ذات مــرة‪" ،‬ال يتحقــق الــرف‬
‫عســكري إال عــر الحــرب"‪ (((.‬وهكــذا‪ ،‬مهــد الطريــق لحــرب مل تكــن كارثيــة عــى املنطقــة‬
‫أيضــا يف تدمــر املشــر عامــر متا ًمــا‪.‬‬
‫فحســب‪ ،‬بــل تســببت ً‬

‫‪ -1‬مــراد غالــب‪ ،‬مــع عبــد النــارص والســادات‪ :‬ســنوات االنتصــار وأيــام املحــن‪ -‬مذكــرات مــراد غالــب‪ ،‬القاهــرة‪:‬‬
‫مركــز األهــرام للرتجمــة والنــر‪ ،2001 ،‬ص ‪.101‬‬

‫‪2- Dekmejian, "Egypt and Turkey", 33.‬‬


‫‪3- Sirrs, History, 95.‬‬
‫‪4- Hobbes, Leviathan (1968).‬‬

‫‪116‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫"عند الفجر ننام"‬


‫بــدأ كل يشء يف ديســمرب ‪ ،1966‬عندمــا أرســل عامــر برقيــة مــن باكســتان إىل الرئيــس‬
‫عبــد النــارص يطالبــه بنــر القــوات يف ســيناء إلســكات املنتقديــن العــرب الذيــن اتهمــوا‬
‫الجيــش املــري باالختبــاء وراء قــوات الطــوارئ التابعــة لألمــم املتحــدة املتمركــزة هنــاك‬
‫منــذ عــام ‪ .1956‬تجاهــل الرئيــس يف البدايــة الطلــب‪ ،‬لكــن املشــر تلقــى تقاريــر غــر‬
‫مؤكــدة مــن مصــادر روســية بــأن إرسائيــل تحشــد قواتهــا ضــد ســوريا‪ ،‬فأمــر عــى الفــور‪-‬‬
‫يف ‪ 14‬مايــو ‪ -1967‬بتعبئــة عامــة يف ســيناء‪ ،‬مــر ًرا يف وقــت الحــق موقفــه لعبــد النــارص‬
‫مــن خــال االستشــهاد باتفاقيــة الدفــاع املشــرك بــن مــر وســوريا‪ ،‬التــي أبرمــت قبــل‬
‫عــام يف محاولــة إلعــادة بنــاء الثقــة املفقــودة بــن البلديــن منــذ االنفصــال بينهــا قبــل‬
‫غضبــا شــدي ًدا‪ ،‬خاصــة وأنــه التقــى بعامــر‬
‫خمــس ســنوات‪ .‬غضــب الرئيــس عبــد النــارص ً‬
‫يف الليلــة الســابقة وأمــر بإعــادة التحقــق مــن صحــة التقريــر الســوفيتي قبــل اتخــاذ أي‬
‫إجــراء‪ .‬لكــن املشــر تجاهــل األمــر ودعــا قيادتــه لالجتــاع يف صبــاح اليــوم التــايل وأمــر‬
‫بالتعبئــة‪ (((.‬ثــم أرســل عبــد النــارص رئيــس األركان فــوزي‪ -‬وهــو الضابــط الرفيــع املســتوى‬
‫الوحيــد الــذي يثــق بــه‪ -‬إىل دمشــق للتأكــد مــن خــر الهجــوم اإلرسائيــي الوشــيك‪ .‬يف ‪15‬‬
‫مايــو‪ ،‬أبلــغ األخــر عامــر أنــه مل يكــن هنــاك جنــود إرسائيليــون عــى الحــدود الســورية‪،‬‬
‫وأن التقريــر الســوفيتي ال أســاس لــه‪ .‬لكــن املشــر‪ ،‬كــا يتذكــر فــوزي‪" :‬مل يبــا ِل مــع‬
‫مــا أبلغتــه بــه‪ ...‬فبــدأت أشــك يف أن حشــد القــوات اإلرسائيليــة املزعــوم مل يكــن الســبب‬
‫(((‬
‫الرئيــي ألمــر التعبئــة"‪.‬‬
‫ر عامــر مــن أن اللجنــة االستشــارية (التــي يرأســها محمد‬‫حــذر الرئيــس عبــد النــارص املشـ َ‬
‫حســنني هيــكل املقــرب مــن الرئيــس) أوصــت بعــدم التصعيــد بســبب الوضــع الجيوســيايس‬
‫الهــش والعالقــات املتوتــرة مــع الواليــات املتحــدة‪ .‬وخــال اجتــاع ُعقــد يف عــان يف ‪2‬‬
‫مايــو‪ ،‬حــذر العاهـ ُـل األردين قائـ َد القــوات العربيــة املشــركة الفريــق عبــد املنعــم ريــاض‪-‬‬
‫والــذي ســيصبح رئيــس األركان املــري الح ًقــا‪ -‬من أن مصــادره يف واشــنطن ولندن أكدت‬
‫لــه أن إرسائيــل تتآمــر مــع الواليــات املتحــدة لجــر مرص إىل حــرب مدمــرة (كان امللــك قلقًا‬

‫‪1- Brooks, Shaping Strategy, 90.‬‬


‫‪ -2‬فوزي‪ ،‬حرب الثالث سنوات‪ ،‬ص ‪.72‬‬

‫‪117‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫عــى مصــر الضفــة الغربيــة‪ ،‬التــي كانــت ال تــزال تحــت وصايتــه)(((‪ .‬ولــدى عودتــه إىل‬
‫القاهــرة‪ ،‬قــدم ريــاض تقريـ ًرا كامـ ًـا إىل عامــر‪ .‬لكــن هيــكل‪ ،‬مــع تصاعــد وتــرة خطــاب‬
‫الحــرب رغــم تحذيراتــه‪ ،‬ســأل يف ‪ 13‬مايــو عــا إذا كان الرئيــس قــد اطلــع عــى التقريــر‪،‬‬
‫والــذي حاملــا علــم بأمــر التقريــر طلــب نســخة منــه‪ ،‬لكــن عامــر مل يرســلها إال يف ‪ 14‬مايو‬
‫(((‬
‫ـش بالفعــل إىل ســيناء وطلــب انســحاب جميــع قــوات األمــم املتحــدة‪.‬‬
‫بعــد أن عــر الجيـ ُ‬
‫يف محاولــة يائســة منــه للســيطرة عــى الوضــع‪ ،‬طلــب عبــد النــارص مــن عامــر نســخة‬
‫مــن الرســالة التــي خطــط لتســليمها إىل قائــد قــوات طــوارئ األمــم املتحــدة‪ ،‬فأرســل لــه‬
‫ـس النســخ َة العربيــة وحــذف املطالبــة‬
‫نســختني باللغتــن العربيــة واإلنجليزيــة‪ ،‬فعـ َّد َل الرئيـ ُ‬
‫بانســحاب جميــع قــوات األمــم املتحــدة‪ ،‬واقتــر عــى الحديــث عــن إعــادة انتشــار جزئيــة‬
‫لهــا‪ .‬ثــم طلــب مــن عامــر التأكــد مــن أن كلتــا النســختني ال تتضمــن ســوى الطلــب بإعــادة‬
‫توزيــع جزئيــة لقــوات الطــوارئ‪ ،‬وهــو مــا وعــد بفعلــه‪ .‬لكنــه يف ‪ 16‬مايــو‪ ،‬اتصــل بالرئيــس‬
‫ليعتــذر إليــه بــأن النســخة اإلنجليزيــة مــن الرســالة التــي قُدمــت إىل األمــم املتحــدة ال‬
‫تــزال‪ -‬بســبب خطــأ مــا‪ -‬تطالــب باالنســحاب الكامــل لقــوات الطــوارئ‪ .‬فاتصــل الرئيــس‬
‫رسي ًعــا مبقــر األمــم املتحــدة يف نيويــورك لســحب الرســالة‪ ،‬لكــن وكيــل األمــن العــام‬
‫(((‬
‫لألمــم املتحــدة رالــف بانــش رفــض ذلــك‪ -‬رمبــا تحــت ضغــط أمريــي‪.‬‬
‫بعــد نــر الجيــش كامـ ًـا يف ســيناء‪ ،‬ص َّعــد املشــر عامــر مــن موقفــه مــرة أخــرى‪ .‬ففــي‬
‫‪ 21‬مايــو‪ ،‬طالــب بإغــاق مضيــق تــران أمــام املالحــة اإلرسائيليــة‪ ،‬وملَّــا َّنبهــه عبــد النــارص‬
‫إىل أن إرسائيــل قــد تتخــذ هــذا الفعــل ذريعــة للحــرب‪ ،‬رد عليــه بــأن قواتــه يف ســيناء ال‬
‫ميكــن أن تجلــس مكتوفــة األيــدي بينــا األعــام اإلرسائيليــة ترفــرف أمامهــا‪ ،‬وأنــه إذا مل‬
‫تتحقــق رغبتهــم فقــد يترصفــون بتهــور ويطلقــون النــار عــى الســفن اإلرسائيليــة‪ .‬وعندمــا‬

‫‪ -1‬يكشــف عمــل جديــد ورائــد للمــؤرخ اإلرسائيــي إيــان بابيــه (‪ ،)2012‬مــن خــال التدقيــق يف وثائــق رفعــت‬
‫عنهــا الرسيــة مؤخـ ًرا‪ ،‬أن الحكومــة اإلرسائيليــة وضعــت منــذ وقــت مبكــر خطــة قانونيــة وإداريــة شــاملة لحكم‬
‫الضفــة الغربيــة وقطــاع غــزة بنظــام عســكري قبــل صيــف عــام ‪ ،1963‬أي قبــل أربــع ســنوات مــن التصعيــد‬
‫ـداًل مــن املواقــف‬
‫يف مــر‪ .‬وهــو انتصــار آخــر لتفســر السياســة الخارجيــة عــى أســاس سياســة القــوة بـ ً‬
‫الطارئــة‪ .‬مــن املس ـلَّم بــه أيضً ــا أن الغــارة الجويــة اإلرسائيليــة‪ ،‬التــي تحمــل االســم الرمــزي "‪Operation‬‬
‫‪ ،"Moked‬كانــت نتيجــة اثنــي عــر عا ًمــا مــن التخطيــط وعــدة أشــهر مــن التدريبــات واملنــاورات املنســقة‪.‬‬
‫‪ -2‬هيكل‪ ،‬حرب ‪ ،1967‬ص ‪ ،268‬ص ‪.440-439‬‬
‫‪3- Brooks, Shaping Strategy, 91.‬‬

‫‪118‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫ســأله عــا إذا كان مســتع ًدا للحــرب‪ ،‬أجــاب عامــر‪" :‬ضعهــا يف رقبتــي‪ ،‬كل يشء جاهــز"‪.‬‬
‫ويف الحقيقــة‪ ،‬كان املشــر ورفاقــه قــد اتخــذوا القــرار بإغــاق املضيــق قبــل خمســة أيــام‬
‫مــن ذلــك‪ -‬أي يف ‪ 16‬مايــو‪ -‬بغــض النظــر عــن رأي عبــد النــارص‪ ،‬ونجــح مــرة أخــرى‬
‫يف إفشــال جهــود خفــض التصعيــد‪ (((.‬وليطمــن الرئيــس أكــر‪ ،‬ادعــى بــدران أنــه خــال‬
‫زيارتــه األخــرة ملوســكو‪ ،‬أن وزيــر الدفــاع أندريــه جريتشــكو تع َّهـ َد لــه بالدفــاع عــن مــر‬
‫فيــا لــو تدخــل األمريكيــون ملســاعدة إرسائيــل‪ -‬وهــو ادعــاء أنكــره الســوفييت بشــدة بعــد‬
‫الحــرب‪ .‬وأكــد ســفري مــر يف موســكو‪ ،‬مــراد غالــب‪ ،‬الــذي حــر االجتــاع بــن بــدران‬
‫والقــادة الســوفييت‪ ،‬الروايــة الســوفيتية‪ ،‬وأن وزيــر الحربيــة اختلــق األمــر‪ ،‬وأن الــروس‬
‫قالــوا رصاحــة إنهــم ال يســتطيعون التدخــل لصالح مــر‪ (((.‬كان عامــر بطبيعة الحــال يعلم‬
‫حقيقـ َة مــا حــدث يف موســكو‪ ،‬لكنه أخفــى مخاوف الســوفييت عمـ ًدا ووصف الحــوار الذي‬
‫إحساســا زائ ًفــا بالثقــة‪.‬‬
‫ً‬ ‫دار بــن بــدران وجريتشــكو بحيــث يغــرس يف نفــس عبــد النــارص‬
‫مــن ناحيــة أخــرى‪ ،‬مل يجهــل الرئيــس حقيقــة مــا حصــل فحســب‪ ،‬بــل مل يســتطع التحقــق‬
‫خصوصــا عندمــا أدى‬ ‫ً‬ ‫مــن مزاعــم عامــر املتعلقــة باالســتعدادات العســكرية‪ ،‬وازداد قلقــه‬
‫تعديــل وزاري إرسائيــي يف ‪ 1‬يونيــو إىل تعيــن عضــو اللجنــة األمريكيــة‪ -‬اإلرسائيليــة‬
‫رشفَــة عــى عمليــة "صيــد الديــك الرومــي" موشــيه ديــان‪ ،‬وزي ـ ًرا للدفــاع‪ .‬ومل يســتطع‬ ‫امل ُ ِ‬
‫فعــل يشء ســوى أن يطلــب مــن مصــادره االســتخباراتية البحــث يف ّنيــات إرسائيــل‪ .‬وبنــا ًء‬
‫عــى تقديــرات هــذه املصــادر‪ ،‬جمــع هيئــة األركان للمــرة األخــرة يف ‪ 2‬يونيــو وأبلغهــم أن‬
‫إرسائيــل تخطــط لهجــوم جــوي يف غضــون اثنتــن وســبعني ســاعة‪ ،‬وأنــه عليهــم إخفــاء‬
‫الطائــرات املرصيــة يف ســيناء أو حاميتهــا وتحصــن مرابضهــا ملنــع تكــرار مأســاة حــرب‬
‫ـش مــن توجيــه‬ ‫الســويس عندمــا ُدمــرت جميــع الطائــرات عــى األرض‪ .‬كــا حــذر الجيـ َ‬
‫الرضبــة األوىل‪ ،‬وإال فلــن يتمكــن مــن حشــد الدعــم الــدويل لصالحــه‪ .‬بــدا قائــد ســاح‬
‫الجــو املــري مــرد ًدا يف تلقــي الرضبــة األوىل‪ ،‬لكنــه أكــد لعبــد النــارص أنــه إذا بــدأت‬
‫أثبــت أن‬
‫إرسائيــل الهجــوم‪ ،‬فــإن خســائره لــن تتجــاوز ‪ -%20‬لكــن مــا حــدث الحقًــا َ‬
‫الخســائر الفعليــة للرضبــة األوىل التــي تلقتهــا القــوة الجويــة بلغــت ‪ (((.%85‬يف ‪ 3‬يونيــو‪،‬‬

‫‪1- Brooks, Shaping Strategy, 92.‬‬


‫‪ -2‬غالب‪ ،‬مع عبد النارص والسادات‪ ،‬ص ‪.107‬‬
‫‪3- Browne, "Six Days of War Spark Forty Years of Strife", 75.‬‬

‫‪119‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫أجــرى الرئيــس مقابلــة مــع الصحفــي الربيطــاين أنتــوين نوتنــج‪ ،‬ذكــر فيهــا بوضــوح أن‬
‫مــر "ال تخطــط ملزيــد مــن التصعيــد"‪ (((.‬ويف محاولــة أخــرة منــه لتجنــب الحــرب‪ ،‬رتــب‬
‫مــع واشــنطن الســتقبال زكريــا يف ‪ 5‬يونيــو للتفــاوض عــى مخــرج مــن األزمــة‪ ،‬لكــن‬
‫الوقــت كان قــد فــات‪ ،‬ففــي هــذا اليــوم تحدي ـ ًدا بــدأت الحــرب بالفعــل‪.‬‬
‫بعــد ســاعتني مــن طلــوع الفجــر‪ ،‬توجهــت أرساب إرسائيليــة مكونــة مــن ‪ 196‬قاذفــة‬
‫(حــوايل ‪ ٪95‬مــن ســاح الجــو اإلرسائيــي) باتجــاه مــر‪ .‬تعقــب نظــام الــرادار الــذي‬
‫تديــره مــر يف األردن العديــد مــن هــذه الطائــرات‪ ،‬لكــن الرســالة التــي أرســلها الضابــط‬
‫ـلكيا‪ ،‬والتــي تتضمــن كلمــة الــر (عنــب)‪ ،‬لتحذيــر القيــادة العامة مــن الرضبة‬‫املنــاوب السـ ً‬
‫الوشــيكة مل تكــن مفهومــة‪ ،‬فرمــوز الالســليك بُدلــت يف الليلــة الســابقة للهجــوم دون إبــاغ‬
‫موقــع الــرادار املتقــدم‪ .‬بــن الســاعة ‪ 8:00‬و‪ 11:30‬صبا ًحــا‪ ،‬دمــرت إرسائيــل ‪ ٪85‬مــن‬
‫ســاح الجــو املــري (‪ 304‬طائــرة) عــى األرض‪ ،‬باإلضافــة إىل ســبعة عــر مطــا ًرا تتمركز‬
‫فيهــا هــذه الطائــرات ومنشــآت الدفــاع الجــوي التــي تحميهــا‪ .‬خــال األيــام الســتة التاليــة‬
‫ميدانيــا وســبعة‬
‫ً‬ ‫مــن الحــرب‪ ،‬خــرت مــر ســبعمئة دبابــة وأربعمئــة وخمســن مدف ًعــا‬
‫عــر أل ًفــا وخمســمئة جنــدي (قُتــل منهــم ‪ 11500‬و ُجــرح أو أُرس الباقــون)‪ ،‬ومل يبـ َـق مــن‬
‫أصــل ثالمثئــة ألــف جنــدي يف التشــكيل العســكري ســوى نصفهــم‪ .‬ينـ ُّم حجــم الخســائر‪،‬‬
‫(((‬
‫رصح وزيــر الحــرب املســتقبيل عبــد الغنــي الجمــي مبــرارة‪ ،‬عــن ضخامــة الكارثــة‪.‬‬‫كــا َّ‬
‫واآلن‪ ،‬هــل ســعى عامــر ح ًقــا للحــرب‪ ،‬أم أنــه اعتقــد أن اســتعراض القــوة يف ســيناء هو كل‬

‫‪1- Brooks, Shaping Strategy, 65.‬‬


‫‪ -2‬الجمــي‪ ،‬حــرب أكتوبــر‪ ،‬ص‪ .79‬عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬أصابــت الحــرب االقتصــاد املــري بالشــلل‪ :‬فُقــدت‬
‫معــدات عســكرية تزيــد قيمتهــا عــن ‪ 1.5‬مليــار دوالر‪ ،‬وأُنفقــت ماليــن ال تحــى عــى توطــن النازحــن‬
‫داخليًــا يف مــدن قنــاة الســويس؛ وخــرت مــر مليــارات الــدوالرات مــن اإليــرادات املتوقعــة مــن قنــاة‬
‫الســويس (‪ 250‬مليــون دوالر ســنويًا) وحقــول النفــط يف ســيناء (‪ 100‬مليــون دوالر ســنويًا) والســياحة (‪100‬‬
‫مليــون دوالر أخــرى)‪ .‬وتســببت االســتعدادات ملعركــة تحريــر ســيناء املرتقبــة يف زيــادة الضغــط عــى االقتصــاد‪.‬‬
‫كــا انخفــض املعــدل الســنوي للنمــو االقتصــادي إىل النصــف تقري ًبــا‪ ،‬حيــث انخفــض مــن ‪ %6‬بــن عامــي‬
‫‪ 1967-1962‬إىل ‪ %3.6‬يف عــام ‪ ،1970‬ثــم انخفــض مــرة أخــرى إىل ‪ %1.7‬بــن عامــي ‪1974-1971‬‬
‫‪(O’Brien Browne, "Six Days of War Spark Forty Years of Strife," The Quarterly Journal of‬‬
‫‪Military History 22 (1): 70–79 (2009): 75; Latif Wahid, Military Expenditure and Economic‬‬
‫‪Growth in the Middle East. New York: Palgrave Macmillan, 2009: 131).‬‬
‫رجاًل و‪ 122‬دبابة (‪.)Dunstan, The Six Day War 1967, 88‬‬ ‫من ناحية أخرى‪ ،‬فقدت إرسائيل ‪ً 338‬‬

‫‪120‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫مــا يتطلبــه األمــر الســتعادة مصداقيــة الجيــش وإثبــات ســلطته كأقــوى مؤسســة يف البــاد؟‬
‫إن البحــث الدقيــق يف األحــداث التــي أدت إىل الحــرب يوضــح أن املشــر ومعاونيــه مل‬
‫يتخيلــوا أب ـ ًدا أن تصعيدهــم ســيؤدي يف الواقــع إىل انــدالع حــرب‪ ،‬بــل كانــوا ينــاورون‬
‫بوضــوح‪ .‬ولــذا‪ ،‬عندمــا ذ ّكــره رئيــس هيئــة العمليــات بسلســلة تقاريــر هيئــة األركان والتقرير‬
‫األخــر الــذي قدمــه كبــار الضبــاط يف مايــو ‪ ،1967‬والــذي حــذر مــن أن الجيــش ليــس‬
‫يف وضــع يســمح لــه باالشــتباك مــع إرسائيــل‪ ،‬رد املشــر عامــر باســتخفاف‪" :‬ال داعــي‬
‫للقلــق‪ ،‬هــذا ليــس ســوى عــرض عســكري"‪ (((.‬كــا اعــرف رئيــس جهــاز املخابــرات العامــة‬
‫صــاح نــر يف مقابلــة لــه بعــد الحــرب أن املشــر "حشــد الجيــش لهــدف ســيايس‪ ،‬وهــو‬
‫اســتعراض القــوة العســكرية يف الداخــل"((( ‪.‬‬
‫كان جانــب "العــرض" واض ًحــا عندمــا أرص‪ -‬بتهــور‪ -‬عــى الســر بقواتــه يف شــوارع‬
‫القاهــرة‪ ،‬وعــرض أســلحة ســوفيتية جديــدة وترديــد شــعارات وطنيــة‪ .‬لقــد علــم يف قــرارة‬
‫نفســه أن ‪ %80‬مــن القــوة التــي ُجمعــت يف ســيناء كانــت مــن جنــود االحتيــاط غــر‬
‫عشــوائيا‬
‫ً‬ ‫املدربــن‪ ،‬الذيــن نُقلــوا إىل الجبهــة عــى عجــل مبالبســهم املدنيــة‪ ،‬وأُلحقــوا‬
‫بوحــدات مل يخدمــوا فيهــا ســابقًا‪ .‬ويف الواقــع‪ ،‬كانــت خطــة التعبئــة تعــود لعامــن‪ ،‬وهؤالء‬
‫الجنــود مل يتدربــوا عليهــا مــن قبــل‪ .‬ورغــم أن حجــم الجيــش يف حالــة التعبئــة الكاملــة‬
‫قُـ ِّد َر عــى الــورق بـــمئتني وخمســن ألــف جنــدي‪ ،‬وأن حجمــه عــى أرض الواقــع عشــية‬
‫الحــرب مل يتجــاوز مئــة وثالثــن أل ًفــا‪ ،‬فقــد ادعــى أنــه قــاد مليــوين رجــل خــال الحــرب‪،‬‬
‫وهــو رقــم اختلقــه للمبالغــة يف قوتــه‪ .‬كــا أن رسبًــا كامـ ًـا مــن الطائــرات الســوفيتية‪،‬‬
‫فضـ ًـا عــن عــرات الدبابــات واملئــات مــن صناديــق األســلحة الفرديــة والذخــرة‪ ،‬ظلــت‬
‫(((‬
‫يف املســتودعات العســكرية بالقاهــرة حتــى نهايــة الحــرب‪.‬‬
‫باإلضافــة إىل ذلــك‪ ،‬مل تتوصــل قيــادة الجيــش إىل إســراتيجية ملموســة لتمركــز القــوات‪،‬‬
‫ناهيــك عــن بــدء األعــال الهجوميــة‪ .‬يتذكــر رئيــس األركان فــوزي كيــف كانــت أوامــر‬
‫املشــر غــر متســقة ومتغــرة عــى الــدوام‪ ،‬فراحــت الوحــدات خــال األســبوعني اللذيــن‬

‫‪ -1‬الجميس‪ ،‬حرب أكتوبر‪ ،‬ص ‪.22‬‬


‫‪ -2‬إمام‪ ،‬عبد النارص وعامر‪ ،‬ص ‪.191‬‬
‫‪ -3‬هويدي‪ ،‬خمسون عا ًما من العواصف‪ ،‬ص ‪.191‬‬

‫‪121‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫ســبقا الحــرب تــدور يف ســيناء بــا هــدف‪ (((.‬يصــف وزيــر الحربيــة الالحــق كــال حســن‬
‫عــي االســتعدادات الفوضويــة عــى النحــو التــايل‪" :‬كقائــد لــواء يف الفرقــة الرابعــة‬
‫مدرعــات‪ ،‬تســلمت أربــع عــرة مهمــة متناقضــة مــن ‪ 25‬مايــو إىل ‪ 5‬يونيــو‪ ،‬وقــدت كتيبتــي‬
‫ذهابًــا وإيابًــا ملــدة عــرة أيــام يف منــاورات بــا هــدف‪ .‬حتــى أُنهــك رجــايل متا ًمــا‬
‫وخــاب أملهــم مــن قيادتهــم املــرددة"‪ (((.‬كــا تنقــل لــواء آخــر مســافة ‪ 1200‬كيلومــر بــن‬
‫شــال وجنــوب ســيناء‪ ،‬حيــث أدخــل عامــر أربــع مراجعــات رئيســية‪ -‬ومتناقضــة‪ -‬لخطــة‬
‫االنتشــار بــن ‪ 15‬مايــو و‪ 4‬يونيــو‪ .‬وقبــل مثانيــة عــر يو ًمــا مــن الحــرب‪ ،‬اســتبدل اثنــي‬
‫عــر قائـ ًدا مــن قــادة الفــرق‪ ،‬وبعــض القيــادات األخــرى يف مســتويات دون ذلــك‪ ،‬لكــن‬
‫بعضهــم مل يســتطع الوصــول إىل فرقهــم الجديــدة قبــل انــدالع الحــرب‪.‬‬
‫يف اليــوم األول للتعبئــة يف ســيناء‪ ،‬أصــدر عامــر تعليــات صدمــت الجميــع يف القيــادة‬
‫العليــا‪ ،‬فعــن اللــواء عبــد املحســن مرتجــي قائــ ًدا للجبهــة‪ ،‬وهــو رجــل قــاد الحــرب‬
‫يف اليمــن منــذ ســنوات ويعــرف بأنــه ال يعــرف ســوى "القليــل مــن تفاصيــل الخطــط‬
‫العملياتيــة لســيناء"‪ (((.‬ورغــم تهديــدات عامــر املتكــررة بالهجــوم‪ ،‬إال أن خطتــه الوحيــدة‪-‬‬
‫خطــة قاهــر‪ -‬كانــت خطــة دفاعيــة ُوضعــت يف ديســمرب ‪ 1966‬ومل تُحــ َّدث بعــد هــذا‬
‫التاريــخ أبــ ًدا‪ .‬ويف الواقــع‪ ،‬كان مــن املمكــن أن تســتحق تســمية "الخطــة"‪ ،‬فيــا لــو‬
‫اعتمــدت بشــكل أســايس عــى اســتدراج الوحــدات اإلرسائيليــة وإيقاعهــا يف رشك "مناطــق‬
‫القتــل" الدفاعيــة‪ .‬لكــن مل يــزر عامــر ســيناء بــن عامــي ‪ 1962‬و‪ 1967‬ســوى ثــاث‬
‫(((‬
‫مــرات فقــط ملتابعــة إقامــة النقــاط الدفاعيــة املذكــورة‪.‬‬
‫ـت ترصفــات هيئــة األركان بــن اجتــاع ‪ 2‬يونيــو مــع عبــد النــارص وبدايــة الحــرب‬ ‫تثبـ ُ‬
‫بعــد ثالثــة أيــام دليـ ًـا آخــر عــى مــدى اســتبعادها الحتــال وقــوع الحــرب‪ .‬فقــد تجاهلــت‬
‫بداي ـ ًة تحذيــره مــن رضبــة جويــة إرسائيليــة وشــيكة يف صبــاح ‪ 5‬يونيــو‪ .‬ويقــول وزيــر‬
‫الحربيــة الالحــق أمــن هويــدي عــن ذلــك‪" :‬ظلــت طائراتنــا املقاتلة مكشــوف ًة عــى الجبهة‪،‬‬

‫‪ -1‬فوزي‪ ،‬حرب الثالث سنوات‪ ،‬ص ‪.11-10‬‬


‫‪ -2‬كامل حسن عيل‪ ،‬مشاوير العمر‪ ،‬ص ‪.221-211‬‬
‫& ‪3- George W. Gawrych, "The Egyptian High Command in the 1973 War," Armed Forces‬‬
‫‪Society 13 (4), 535–59 (1987).‬‬
‫‪4- Brooks, Shaping Strategy, 86.‬‬

‫‪122‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫رغــم أنهــا غــر مكلفــة بــأي مهمــة‪ ،‬وكان باإلمــكان بنــاء مالجــئ إســمنتية لهــا يف غضــون‬
‫يومــن"‪ (((.‬ومل يعلــم قائــد القــوات الجويــة يف ســيناء عبــد الحميــد الدغيــدي بتحذيــر‬
‫الرئيــس إال بعــد الهزميــة‪ (((.‬ليــس هــذا فقــط‪ ،‬بــل بعــد ســاعات مــن االجتــاع‪ ،‬وزعــت‬
‫املخابــرات الحربيــة عــى القــوات املحتشــدة يف ســيناء تقري ًرا أكــد لهم أن الصمــود العريب‬
‫ســردع إرسائيــل بالتأكيــد عــن التفكــر يف الهجــوم‪ ،‬مــا شــجع الوحــدات بطبيعــة الحــال‬
‫عــى مزيــد مــن الرتاخــي‪ .‬ويف إحــدى الوقائــع الطريفــة‪ ،‬عــر مــازم أول ســيناء بأكملهــا‬
‫يف ‪ 4‬يونيــو لتســليم ذخــرة مضــادة للدبابــات إىل املوقــع األمامــي قبالــة تبــة كونتيــا‪،‬‬
‫ومبجــرد وصولــه إىل هنــاك‪ ،‬طلــب منــه القائــد امليــداين أن يعــود أدراجــه مــع الذخــرة‪،‬‬
‫(((‬
‫مضي ًفــا‪" :‬لســنا بحاجــة إىل أي ذخــرة‪ ،‬فلــن تكــون هنــاك حــرب‪ ،‬لــذا خذهــا معــك"‪.‬‬
‫وكان القــرار الــذي ال ميكــن تفســره بانتقــال عامــر وأركانــه إىل الجبهــة يف ‪ 5‬يونيــو يف‬
‫موكــب غــر مســلح‪ ،‬وهــو نفــس اليــوم الــذي توقــع عبــد النــارص أن تبــدأ فيــه إرسائيــل‬
‫الهجــوم‪ .‬نتيجــة لذلــك‪ ،‬انقســمت القيــادة العســكرية العليــا‪ -‬مــع بــدء الهجــوم اإلرسائيــي‪-‬‬
‫بأكملهــا (مثانيــة وعــرون ضابطًــا بــن رتبتــي عميــد وفريــق) بــن الذيــن بقــوا عالقــن‬
‫معــه يف الجــو‪ ،‬وأولئــك الذيــن إمــا و َّدعــوه يف قاعــدة "أملاظــة" الجويــة يف القاهــرة أو‬
‫انتظــروه يف قاعــدة بــر متــادا يف ســيناء‪ .‬ومــا زاد الطــن بلــة‪ ،‬أن أوامــ ًرا صــدرت‬
‫لوحــدات الدفــاع الجــوي‪ -‬قبــل الهجــوم بســاعات‪ -‬بتقييد نريانهــا حتى تهبط طائرة املشــر‬
‫بأمــان‪ ،‬ومل تُلـ َغ هــذه األوامــر مبجــرد بــدء الهجــوم‪ ،‬خشــية أن يكشــف اســتخدام الالســليك‬
‫كليــا‬
‫لإلرسائيليــن أمــر طائــرة املشــر فيســقطونها‪ .‬وعليــه‪ ،‬شُ ـ َّـل الدفــاع الجــوي املــري ً‬
‫خــال املوجــات األوىل مــن هــذا الهجــوم املدمــر‪ .‬وأعــرب محمــد عبــد الغنــي الجمــي‪،‬‬
‫الــذي كان يف مركــز القيــادة املتقدمــة يف ســيناء عندمــا بــدأت الحــرب‪ ،‬عــن أســفه‬
‫(((‬
‫ـفقت عــى قواتنــا التــي مل يكــن لديهــا ضبــاط قــادة يف وقــت مثــل هــذا"‪.‬‬
‫قائـ ًـا‪" :‬أشـ ُ‬
‫بعدهــا‪ ،‬ظهــر الدليــل الحاســم عــى عــدم اســتعداد عامــر للمعركــة‪ :‬فقــد طالــب بوقــف‬
‫إطــاق النــار الــذي أقــره االتحــاد الســوفيتي بعــد ســاعة واحــدة مــن بــدء األعــال‬

‫‪ -1‬هويدي‪ ،‬خمسون عا ًما من العواصف‪ ،‬ص ‪.191‬‬


‫‪ -2‬إمام‪ ،‬عبد النارص وعامر‪ ،‬ص ‪.143‬‬
‫‪3- Dunstan, The Six Day War 1967, 15.‬‬
‫‪4- Gamasy, October War, 50.‬‬

‫‪123‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫العدائيــة‪ ،‬تــاه أمــره املأســاوي باالنســحاب العــام مــن ســيناء‪ (((.‬يصــف فــوزي كيــف‬
‫اســتدعاه صبــاح ‪ 6‬يونيــو وأعطــاه عرشيــن دقيقــة لوضــع خطــة لســحب القــوات‪ ،‬فيقــول‪:‬‬
‫"لقــد أذهلنــي الطلــب‪ ...‬كان املشــر منهـكًا نفسـ ًـيا وبــدا أنــه عــى وشــك االنهيــار العصبي‪...‬‬
‫كانــت القــوات الربيــة صامــدة وثابتــة‪ ،‬ومل يظهــر أي ســبب عــى اإلطــاق للنظــر يف‬
‫االنســحاب‪ .‬نســتطيع القــول إننــا بحلــول نهايــة اليــوم قدمنــا أدا ًء مقبــواًلً "‪ (((.‬ويتذكــر‬
‫(((‬
‫الجمــي فيقــول‪" :‬كان القتــال متواصـ ًـا‪ ...‬واحتياطــي الجيــش مل يتكبــد خســائر بعــد"‪.‬‬
‫كــا أكــد املــؤرخ العســكري ســيمون دونســتان يف تحليلــه اليومــي الشــامل للحــرب أن‬
‫أكــر مــن نصــف الوحــدات الربيــة املرصيــة حافظــت عــى قوتهــا وأبــدت مقاومــة كبــرة‬
‫للحملــة الربيــة اإلرسائيليــة خــال اليومــن األولــن‪ .‬كانــت القــوات املرصيــة يف أفضــل‬
‫حاالتهــا مبجــرد متركزهــا يف النقــاط الدفاعيــة‪ ،‬وهــذا التكتيــك ال يتطلــب ســوى الشــجاعة‬
‫وأقــل قــدر مــن التدريــب أو املهــارات‪ ،‬كــا أن الخطــة املرصيــة يف ســيناء‪ -‬عــى افــراض‬
‫وجودهــا‪ -‬كانــت دفاعيــة بحتــة‪ .‬نجــح الجنود يف عرقلــة التقــدم األويل للجيــش اإلرسائييل‪،‬‬
‫مــا أجــر الكتائــب اإلرسائيليــة عــى منــاورات اســتغرقت وقتًــا طويـ ًـا‪ ،‬بينــا كان عامــل‬
‫الوقــت بالنســبة لهــم جوهريًــا كيــا يتســنى للقيــادة املرصيــة امتصــاص الصدمــة األوىل‪،‬‬
‫ومراجعــة خططهــا‪ ،‬وإصــدار تعليــات محــددة لوحداتهــا املنتــرة عــى طــول الجبهــة‪.‬‬
‫الــيء املعقــول الــذي توجــب فعلــه حينهــا هــو العــودة إىل خــط دفــاع ســيناء الثــاين‪ ،‬وأمر‬
‫طبيعيــا‪ ،‬والتصــدي للتقــدم الــري‬
‫ً‬ ‫بالتحصــن يف ممــري متــا والجــدي املحصنــان‬
‫ُّ‬ ‫القــوات‬
‫اإلرسائيــي‪ ،‬ثــم القيــام بهجــوم مضــاد‪ .‬يعتقــد فــوزي‪ ،‬الــذي كان مســؤواًلً عــن وضــع خطة‬
‫الدفــاع عــن ســيناء قبــل عــام‪ ،‬أنــه طاملــا بقيــت ممــرات ســيناء يف متنــاول اليــد‪ ،‬فإنــه‬
‫ال ميكــن احتاللهــا‪ (((.‬وكذلــك نصحــه عبــد النــارص عندمــا أىت إىل مقــر القيــادة العامــة‬
‫يف وقــت مبكــر مــن بعــد ظهــر يــوم ‪ 5‬يونيــو بــأن يحفــر الخنــادق حــول املمــرات‪ (((.‬ومــع‬
‫ذلــك‪ ،‬بــدأ فــوزي العمــل فــو ًرا فيــا لــو قــرر املشــر تجاهــل كل ذلــك واالنســحاب عىل أي‬
‫حــال‪ .‬ويف عرشيــن دقيقــة قــدم لــه مســودة أوليــة لخطــة انســحاب مدتهــا أربعــة أيــام مــع‬
‫‪ -1‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.228‬‬
‫‪ -2‬فوزي‪ ،‬حرب الثالث سنوات‪ ،‬ص ‪.152-151‬‬
‫‪3- Gamasy, October War, 61–62.‬‬
‫‪ -4‬فوزي‪ ،‬حرب الثالث سنوات‪ ،‬ص ‪.101‬‬
‫‪ -5‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.229‬‬

‫‪124‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫تكتيــكات تأخــر كافيــة للحفــاظ عىل ســامة القــوات‪ .‬وبعــد أن حدق عامــر يف وجهه لبضع‬
‫(((‬
‫ثــوان‪ ،‬أخــره أنــه أصــدر بالفعــل أمـ ًرا باالنســحاب يف غضــون أربــع وعرشيــن ســاعة‪.‬‬
‫مــن املرجــح أنــه اعتقــد أنــه قــادر عــى تكــرار تكتيــك االنســحاب الرسيــع الــذي اتبعــه‬
‫عبــد النــارص عــام ‪ ،1956‬لكنــه نــي عــى مــا يبــدو أن عــدد القــوات هــذه املــرة كان‬
‫ـتحياًل بــدون خطــة واضحــة املعــامل‪ .‬ولــذا‪ ،‬كانــت‬
‫هائـ ًـا‪ ،‬وأن االنســحاب املنظــم كان مسـ ً‬
‫النتيجــة كارثيــة‪ :‬فقــد تخــى عــرات اآلالف مــن الجنــود عــن معداتهــم وانســحبوا بشــكل‬
‫فوضــوي ليجــدوا أنفســهم عالقــن يف الصحــراء الحارقــة تحــت رحمــة القــوة الناريــة‬
‫اإلرسائيليــة‪ ،‬ومل يعــد ســوى أقــل مــن ‪ ٪6‬منهــم بأســلحتهم‪ .‬وبينــا فُقــد ‪ 294‬جنديًــا فقــط‬
‫يف اليــوم األول مــن القتــال‪ ،‬أدى االنســحاب العــام يف ‪ 7‬يونيــو إىل مقتــل وإصابــة وأرس‬
‫‪ 17500‬ضابطًــا وجنديًــا‪ (((.‬كان قــرار عامــر باالنســحاب مــن جانــب واحــد بــا شــك أهــم‬
‫ســبب للهزميــة‪ .‬يســتذكر الجمــي تلــك الذكريــات املؤملــة مــن عمــره قائـ ًـا‪:‬‬
‫"شــاهدت القــوات تتحــرك بشــكل كثيــف غربًــا مغــادر ًة ســيناء بشــكل فوضــوي متا ًمــا‪...‬‬
‫هــل ميكــن أن يتــم االنســحاب بهــذه الطريقــة‪ ،‬بينــا يتطلــب عــاد ًة االنضبــاط الشــديد‬
‫والدقــة‪ ،‬كــا أنــه وف ًقــا لعقيــدة الحــرب يجــب أن يحــدث تزام ًنــا مــع اســتمرار القتــال‪...‬‬
‫لقــد تخلــت القيــادة امليدانيــة عــن الســيطرة عــى قواتهــا يف أكــر األوقــات حر ًجــا‪ ...‬ال‬
‫ميكــن تفســر هــذا الوضــع أو تربيــره‪ ...‬فالقــوات تنســحب بطريقــة مثــرة للشــفقة‪ ...‬يف‬
‫ظــل اســتمرار هجــات العــدو الجويــة‪ ...‬إننــا أمــام مقــرة ضخمــة مــن الجثــث املتناثــرة‪،‬‬
‫(((‬
‫واملعــدات املحرتقــة‪ ،‬والذخــرة املتفجــرة"‪.‬‬
‫قــى تخــي كبــار القــادة عــن مســؤولياتهم عــى جهــود املقاومــة يف الجبهــة‪ .‬ومــن األمثلة‬
‫عــى ذلــك‪ ،‬أن نقطــة القــوة املرصيــة األكــر تحصي ًنــا‪ ،‬يف قريــة أبــو عجيلــة‪ ،‬حــوت ‪16‬‬
‫ألــف جنــدي مــن فرقــة املشــاة الثانيــة حيــث أحاطــت بهــا غابــة مــن الدفاعــات الطبيعيــة‬
‫واألســاك الشــائكة وحقــول األلغــام والخنــادق واملدافــع املضــادة للدبابــات وقطــع املدفعية‬
‫األخــرى‪ ،‬املعــززة جميعهــا‪ ،‬مــع قرابــة تســعني دبابــة مجهــزة للهجــات املضــادة ومحميــة‬

‫‪ -1‬فوزي‪ ،‬حرب الثالث سنوات‪ ،‬ص ‪.152-151‬‬


‫‪ -2‬عيل‪ ،‬مشاوير العمر‪ ،‬ص ‪.234‬‬
‫‪3- Al-Gamasy, The October War, 64-65.‬‬

‫‪125‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫يف املخابــئ الخرســانية‪ .‬لكــن نقطــة ضعفهــا الوحيــدة كانــت غيــاب قائــد الفرقــة اللــواء‬
‫ســعدي نجيــب‪ .‬ونظـ ًرا ألنــه مديــن مبنصبــه هــذا لكونــه صديــق املشــر عامــر يف ليــايل‬
‫الــرب والســمر‪ ،‬فقــد امتنــع بشــكل مفهــوم عــن عصيــان أوامــره‪ .‬أمــا القائــد امليــداين‬
‫فلــم تكــن لديــه ســلطة الجــرال للتــرف مــن تلقــاء نفســه‪ .‬نتيجــة لذلــك‪ ،‬اســتطاع أرييــل‬
‫(((‬
‫شــارون اجتيــاح هــذا الحصــن الدفاعــي الضخــم يف غضــون ســاعات قليلــة‪.‬‬
‫شــكل تخــي القيــادة العليــا عــن دورهــا صدمــة لــدى الرتــب الدنيــا‪ ،‬إذ يتذكــر أحــد‬
‫عنــارص فرقــة املشــاة اآلليــة السادســة‪ ،‬الســائق محمــود الســواركة‪ ،‬مبــرارة قائـ ًـا‪" :‬كنــا‬
‫ننتظــر أن تصلنــا األوامــر لننفذهــا‪ ...‬لكــن قــادة الكتيبــة اختفــوا فجــأة يف ‪ 7‬يونيــو‪.‬‬
‫ـفت الح ًقــا أنهــم فــروا عــر القنــاة‪ ...‬أطلــق اإلرسائيليــون علينــا قذائفهــم واســتهدفونا‬
‫اكتشـ ُ‬
‫مبدافعهــم الرشاشــة‪ ،‬وبعدهــا مل أشــعر بــيء‪ ،‬حتــى اســتيقظت يف ســيارة إرسائيليــة‬
‫(((‬
‫غارقًــا يف دمــي"‪.‬‬
‫نهائيــا‪ -‬وقاط ًعــا متا ًمــا‪-‬‬
‫كانــت اعرتافــات بــدران أثنــاء محاكمتــه يف فربايــر ‪ 1968‬دليـ ًـا ً‬
‫عــى أن التعبئــة يف ســيناء مل تكــن ســوى خدعــة‪ ،‬حيــث قــال‪" :‬كنــا عــى يقــن بنســبة‬
‫‪ ٪100‬أن إرسائيــل لــن تجــرؤ عــى مهاجمتنــا"‪ (((.‬ولــذا‪ ،‬خلُــص وزيــر الحربيــة الالحــق‬
‫محمــد عبــد الغنــي الجمــي‪ ،‬مســتفي ًدا مــن تجربتــه يف الحــرب‪ ،‬إىل أن املشــر ظــن‬
‫أن بإمكانــه محــو آثــار حــرب الســويس (عــر طــرد مراقبــي األمــم املتحــدة وإعــادة‬
‫بســط ســيادة مــر عــى مياههــا اإلقليميــة) دون خــوض حــرب فعليــة‪ ،‬بحيــث ميكنــه‬
‫ببســاطة ترهيــب إرسائيــل مــن خــال حشــد قــوة كبــرة يف ســيناء وتوجيــه تهديــدات‬
‫وهميــة بالهجــوم‪ (((.‬وبهــذا املعنــى‪ ،‬مل يكــن يتعــن عــى الجيــش‪ -‬مــن وجهــة نظــر عامــر‪-‬‬
‫ســوى أن يســتعرض قوتــه‪ .‬وهــذا مــا حصــل‪ ،‬حيــث احتشــد عــى جبهــة ســيناء مئــة ألــف‬
‫جنــدي مــري‪ ،‬وتســعمئة وثالثــون دبابــة (معظمهــا مــن طــراز يت‪ 34-‬ويت‪ 54-‬ويت‪،)55-‬‬
‫وأربعمئــة وثالثــون مقاتلــة وقاذفــات مقاتلــة (مــن طــراز ميــغ‪ 17-‬وميــغ‪ 19-‬وميــغ‪21-‬‬
‫وســوخوي ســو‪ 7-‬وأنتونــوف أن‪ 12-‬وتوبوليــف تــو‪ )16-‬يف مواجهــة ســبعني ألــف جنــدي‬

‫‪1- Dunstan, The Six Day War 1967, 66.‬‬


‫‪ -2‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.84‬‬
‫‪3-Al-Gamasy, The October War, 76.‬‬
‫‪ -4‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.76‬‬

‫‪126‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫إرسائيــي مــع مثامنئــة دبابــة (مــن طــراز ســينتوريون إم‪ 48-‬باتــون وإم‪ 51-‬شــرمان)‬
‫ومئتــن ومثانــن قاذفــة مقاتلــة (مــن طــراز مــراج وميســتري)(((‪.‬‬
‫تُظهــر هــذه األرقــام أن كفــة امليــزان متيــل لصالــح مــر‪ .‬وشــعر املشــر عامــر بالرضــا‬
‫را‬
‫بعــد أن لفــت مســر القــوات املســلحة إىل ســيناء أنظــار الجميــع‪ ،‬مــا ســاعده أخــ ً‬
‫عــى "العــودة إىل مركــز الصــدارة يف املشــهد الســيايس‪ ،‬بعــد أن اعتقــد أنــه قريــب جـ ًدا‬
‫مــن املخــرج"(((‪ ،‬لكنــه مل يعلــم أن املخــرج الوحيــد يف هــذه املرحلــة كان فُتــح للتــو عــى‬
‫مرصاعيــه‪ .‬أتاحــت الهزميــة لعبــد النــارص الفرصــة التــي انتظرهــا طويـ ًـا إلزاحــة املشــر‬
‫ومعاونيــه‪ ،‬وإعــادة ســيطرته عــى الجيــش‪.‬‬

‫العرض النهايئ‬
‫بعــد تدمــر الجيــش يف ســيناء واحتاللهــا‪ ،‬زار الرئيــس عبــد النــارص يف ‪ 8‬يونيــو ‪1967‬‬
‫عامــ ًرا يف مقــر القيــادة العامــة وأخــره أنــه ســيلقي خطابًــا يف اليــوم التــايل ليعلــن‬
‫رئيســا‪ ،‬فقبــل‬
‫اســتقالتهام م ًعــا‪ ،‬فوافــق بــرط تعيــن معاونــه املخلــص شــمس بــدران ً‬
‫الرئيــس بذلــك‪ .‬لكنــه يف اليــوم التــايل‪ ،‬ألقــى خطابًــا أعلــن فيــه اســتقالته دون أن يذكــر‬
‫(((‬
‫ـن زكريــا خل ًفــا لــه‪.‬‬
‫اســتقالة عامــر‪ ،‬وعـ َّ‬
‫فــور انتهــاء الخطــاب‪ ،‬تدفــق مئــات اآلالف إىل الشــوارع احتجا ًجــا عــى قــرار االســتقالة‬
‫وتعهــدوا بالقتــال تحــت رايتــه لتحريــر ســيناء‪ ،‬بقيــت عفويــة هــذه املظاهــرات محــل جــدل‬
‫واســع‪ ،‬فجميعنــا نعلــم أن االتحــاد االشــرايك العــريب لديــه القــدرة التنظيميــة لحشــد‬
‫تجمعــات ضخمــة برسعــة كبــرة‪ .‬ففــي فربايــر ‪ ،1967‬اختــر عــي صــري آلية "االســتدعاء‬
‫الســيايس" لالتحــاد االشــرايك للمــرة األوىل‪ ،‬ونجــح‪ -‬باالعتــاد عــى االســتدعاء الشــفهي‬
‫فقــط‪ -‬يف حشــد مئــة ألــف شــخص يف عــر ســاعات للرتحيــب بالرئيــس العراقــي‪.‬‬
‫تكــررت التجربــة الح ًقــا عــى نطــاق أصغــر‪ ،‬حيــث حشــد االتحــاد أربعــن ألــف متظاهــر‬
‫يف ثــاث ســاعات‪ (((.‬ويف الحقيقــة‪ ،‬جــرت هــذه التدريبــات قبــل ثالثــة أشــهر فقــط مــن‬

‫‪1- Dunstan, The Six Day War 1967, 25.‬‬


‫‪ -2‬هيكل‪ ،‬حرب ‪ ،1967‬ص ‪.818‬‬
‫‪ -3‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.232‬‬
‫‪ -4‬رشيف يونس‪ ،‬الزحف املقدس‪ ،‬ص ‪.8-7‬‬

‫‪127‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫مظاهــرات ‪ 9‬يونيــو‪ ،‬مــا يوضــح أن لعنــارص االتحــاد دو ًرا يف توجيــه هــذه املظاهــرات‬
‫بغــض النظــر عــن عفويــة بعضهــا‪ .‬كــا ســاعد االتحــاد عــى منــع وزارة الداخليــة مــن قمــع‬
‫التظاهــرات‪ .‬واتصــل وزيــر الداخليــة شــعراوي جمعــة بهيــكل‪ -‬الــذي ف َّوضــه عبــد النــارص‬
‫بالــرد عــى مكاملاتــه الهاتفيــة بعــد الخطــاب مبــارشة‪ -‬ليحــذره مــن أنــه لــن يعــود بوســع‬
‫(((‬
‫رجالــه الســيطرة عــى الشــارع‪ ،‬وأن عــى الرئيــس الرتاجــع عــن قــراره‪.‬‬
‫رئيســا بــداًلً مــن‬
‫مثــة عالمــات اســتفهام مامثلــة حــول قــرار عبــد النــارص بتعيــن زكريــا ً‬
‫بــدران‪ ،‬وإرجــاء اســتقالة عامــر إىل نــرة األخبــار املســائية‪ .‬يقــول هيــكل‪ ،‬الــذي كتــب‬
‫بنياتــه‬
‫خطــاب االســتقالة‪ ،‬إنــه هــو الــذي أقنعــه بالقيــام بذلــك ‪ .‬وفيــا ال ميكننــا الجــزم ّ‬
‫(((‬

‫الحقيقيــة‪ ،‬فقــد أرجــأت وزارة اإلرشــاد القومــي إعــان اســتقالة عامــر حتــى نــرة األخبار‬
‫يف الســاعة ‪ 11:00‬مســا ًء‪ ،‬أي بعد تدفق الجامهري إىل الشــوارع حيث مل يكن ســوى القليل‬
‫منهــم يف املنــازل يشــاهدون النــرة‪ ،‬فضمنــت بذلــك أن الشــعب لــن يطالب إال بعــودة عبد‬
‫النــارص‪ .‬بقــي عامــر يف حالــة ترقــب‪ ،‬إىل أن تأكدت هواجســه صبــاح اليوم التــايل‪ ،‬عندما‬
‫غطــت الصحــف اليوميــة‪ -‬مثــل "أخبــار اليــوم"‪ -‬خــر اســتقالة الرئيــس ومطالبــة النــاس‬
‫برتاجعــه عــن االســتقالة بتفصيــل كبــر يف صفحتهــا األوىل‪ ،‬مقابــل تقرير صغــر يف زاوية‬
‫جليــا أن اختيار‬ ‫أيضــا دون مزيــد مــن التفصيــل‪ .‬كام بــدا ً‬
‫الصفحــة يشــر إىل اســتقالته هــو ً‬
‫اعتباطيــا‪ .‬ويقــول هيــكل إنــه اقــرح عــى الرئيــس‬
‫ً‬ ‫عبــد النــارص لزكريــا خل ًفــا لــه مل يكــن‬
‫اســتخالف زكريــا ألنــه األقــدر واألكفــأ بــن رفاقــه(((‪ ،‬والحقيقــة أنــه‪ -‬كــا قــال عامــر‬
‫(((‬
‫رئيســا"‪ ،‬كونه رجــل األمــن املخيف‪.‬‬
‫بحــق‪" -‬حتــى الجنــن يف بطــن أمــه لــن يقبــل بزكريــا ً‬
‫أدرك معاونــو عامــر العســكريون مــا يحــدث يف تلــك الليلــة‪ ،‬وأطلقــوا صفــارات اإلنــذار يف‬
‫املــدن إلخافــة النــاس‪ ،‬لكنهــا مل تُجـ ِـد نف ًعــا‪ .‬بعدهــا‪ ،‬قــام رئيــس املخابــرات العامــة املقــرب‬
‫مــن املشــر‪ ،‬صــاح نــر‪ ،‬بزيــارة عبــد النــارص بحضــور هيــكل إلثنائــه عــن إجــراء أي‬
‫تغيــرات يف هيئــة األركان‪ ،‬وإال فــإن الجيــش قــد يبالــغ يف رد فعلــه ويفجــر أزمــة‪ .‬لكــن‬
‫عبــد النــارص رفــض هــذا التهديــد الضمنــي‪ ،‬وقــال لنــر إنــه ســيح ّمله مســؤولية شــخصية‬

‫‪ -1‬هيكل‪ ،‬حرب ‪ ،1967‬ص ‪.851‬‬


‫‪ -2‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.843-841‬‬
‫‪ -3‬هيكل‪ ،‬حرب ‪.1967‬‬
‫‪ -4‬رفعت سيد أحمد‪ ،‬ثورة الجرنال‪ ،‬ص ‪.913‬‬

‫‪128‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫إذا مــا تــرف الضبــاط أي تــرف أحمــق‪ (((.‬يف ‪ 11‬يونيــو‪ ،‬تراجــع عبــد النــارص عــن‬
‫ـن فــوزي قائـ ًدا للجيــش‪ ،‬وصــدرت الصحــف بعنــوان‪" :‬عبــد النارص يســتجيب‬ ‫اســتقالته وعـ ّ‬
‫إلرادة املاليــن‪ :‬ســأبقى كــا أمــر الشــعب"‪.‬‬
‫را عــى مقابلــة عامــر‪ ،‬فاجتمعــا‬
‫بنــا ًء عــى طلــب هيــكل وافــق الرئيــس عبــد النــارص أخـ ً‬
‫يف ‪ 15‬يونيــو‪ ،‬وطالبــه املشــر بإعادتــه إىل منصبــه‪ ،‬لكنــه رفــض بشــدة‪ (((.‬كادت املواجهــة‬
‫التــي أعقبــت هــذا اللقــاء أن تكــون حربًــا أهليــة‪ ،‬وهــو تحـ ٍـد أخطــر بكثــر مــا واجهــه‬
‫نــارص مــن قبــل‪ (((.‬وحتــى لــو كانــا مســتعدين للتخــي عــن مناصبهــا‪ ،‬فقــد رفــض‬
‫أعوانهــا التنــازل دون مواجهــة‪.‬‬
‫كانــت حملــة التشــهري الرشســة التــي أطلقهــا رجــال املشــر ضــد الرئيــس عبــد النــارص هي‬
‫الرصاصــة األوىل يف هــذه املواجهــة‪ ،‬حيــث ح َّملــوه أو ًاًل مســؤولية نكســة ‪ 1967‬املبــارشة‪،‬‬
‫باإلضافــة إىل جميــع االنتكاســات الســابقة‪ ،‬مــن االنفصــال الســوري إىل كارثــة اليمــن‪.‬‬
‫وروجــوا لصورتــه كســيايس مضطــرب نفسـ ًـيا لطاملــا فشــل يف االرتقــاء إىل املســتوى الــذي‬
‫يزعمــه لنفســه أمــام اآلخريــن‪ .‬فبالنســبة إليهــم‪ ،‬شــخصيته وكربيــاؤه هــا اللــذان أديــا إىل‬
‫تصعيــد مايــو ‪ 1967‬ضــد إرسائيــل ومــا تبعــه مــن هزميــة‪ ،‬فهــو كــا يــرون حســاس تجــاه‬
‫انتقــادات القــادة العــرب اآلخريــن‪ ،‬ولــذا رشع يف لعبــة خطــرة تقــوم عــى سياســة حافــة‬
‫الهاويــة للحفــاظ عــى هيبتــه‪ ،‬لكنــه فشــل يف إدراك أنــه كان عــن غــر قصــد ألعوبــة يف‬
‫األيــادي اإلرسائيليــة‪ .‬وهكــذا‪ُ ،‬ص ـ ِّو َرت الهزميــة للمرصيــن نتيج ـ ًة ملغامــرة طائشــة أراد‬
‫(((‬
‫عبــد النــارص مــن خاللهــا رفــع مكانتــه وتعزيــز نفــوذه‪.‬‬
‫ثان ًيــا‪ ،‬زعــم القــادة العســكريون املحيطــون بعامــر أنهــم حــذروا الرئيــس مــن أن الجيــش‬
‫غــر مســتعد ليخــوض مغامــرة أخــرى مــن مغامــرات سياســته الخارجيــة املتهــورة‪ .‬وأشــار‬
‫رئيــس هيئــة العمليــات‪ ،‬الفريــق أنــور القــايض‪ ،‬إىل أنــه رغــم تحذيــر القيــادة العليــا لــه‬
‫عــام ‪ 1966‬مــن أن الرئيــس جونســون يحــاول توريطــه‪ ،‬إال أنــه بقــي يســر يف الفــخ‬
‫رغــم تحذيــرات العســكريني املتكــررة بأنــه ال ينبغــي أن يــدع كربيــاءه ُليع ـ ِّر َض مســتقبل‬
‫‪ -1‬هيكل‪ ،‬حرب ‪ ،1967‬ص ‪.886-875‬‬
‫‪ -2‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.884-881‬‬
‫‪3- Aburish, Nasser: The Last Arab, 267.‬‬
‫‪4- Gamasy, October War, 35.‬‬

‫‪129‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫البــاد للخطــر‪ .‬وقــد شـ َّـبه قائــد جبهــة ســيناء العقيــد عبــد املحســن مرتجــي مــا فعلــه عبــد‬
‫(((‬
‫النــارص بشــخص "ألقــى جيشً ــا ال يســتطيع الســباحة يف البحــر‪ ،‬ثــم المــه عــى الغــرق"‪.‬‬
‫فيــا ذهــب حليــف الرئيــس الســابق محمــد نجيــب‪ ،‬املحامــي الدســتوري عبــد الــرازق‬
‫الســنهوري‪ ،‬إىل حــد االدعــاء بــأن عبــد النــارص دبَّــر بطريقــة شــيطانية هزميــة جيشــه يك‬
‫يتمكــن مــن كبــح جامحــه‪ -‬كالتاجــر الــذي يحــرق متجــره عــى أمــل بدايــة جديــدة‪ (((.‬وقــد‬
‫وجــدت وجهــة النظــر األخــرة هــذه صداهــا بــن الدبلوماســيني املرصيــن‪ ،‬رغــم أنهــا‬
‫تبــدو كيديــة‪ ،‬فقــد كان مــن الســهل عليهــم‪ -‬بعــد أن انغمســوا لفــرة طويلــة يف نظريــة‬
‫سياســة القــوة((( واملؤامــرات الدوليــة‪ -‬قبــول فكــرة أن رئيســهم يعتقــد أن هزميــة عســكرية‬
‫(((‬
‫مدويــة أمــر حتمــي إلقالــة عامــر ورفاقــه‪.‬‬
‫ثال ًثــا‪ ،‬جادلــت القيــادة العســكرية بأنــه لــو أخــذ عبد النــارص برأيهــم ورضب إرسائيــل أواًلً ‪،‬‬
‫لــكان النــر مضمونًــا‪ .‬لكنــه بــداًلً مــن ذلــك رفــض خططهــم للرضبــة األوىل‪ ،‬وأعطــى‬
‫إرسائيــل املبــادرة الســرضاء األمريكيــن‪ .‬وقيــل إن صدقــي محمود قائد ســاح الجو توســل‬
‫إليــه خــال اجتامعهــم األخــر يف ‪ 2‬يونيــو للســاح لــه بشــن غــارة جويــة اســتباقية‪ ،‬لكــن‬
‫الرئيــس رصخ يف وجهــه قائـ ًـا‪" :‬مــا دمــت ال تســتطيع كســب الحــرب ضد أمريــكا‪ ،‬فاصمت‬
‫واتبــع األوامــر"‪ .‬وقــال قائــد الدفــاع الجــوي اللــواء إســاعيل لبيــب‪ ،‬إن صدقــي محمــود‬
‫عــاد يف ذلــك اليــوم إىل القيــادة العامــة والدمــوع يف عينيــه‪ ،‬وهــو يعلــم جيـ ًدا أن تلقــي‬
‫الرضبــة األوىل‪ ،‬كــا أرص الرئيــس‪ ،‬ســيدمر الجيــش‪ .‬ويقــول إن الحكومة هــي التي رفضت‬
‫طلباتــه املتكــررة للحصــول عــى متويــل لبنــاء مالجــئ إســمنتية للطائرات ومنشــآت الــرادار‪.‬‬
‫راب ًعــا‪ ،‬اتهمــت الحملــة الدعائيــة الرئيــس عبــد النــارص بتشــجيع عامــر يف ‪ 6‬يونيــو عــى‬
‫إصــدار األمــر بإخــاء ســيناء‪ .‬كــا زعــم القائــد مرتجــي‪ ،‬بــأن املشــر اعــرف لــه بــأن‬
‫الرئيــس هــو مــن دفــع باتجــاه االنســحاب املبكــر‪ ،‬فيــا قــال عبــد الســتار أمــن‪ -‬ســكرتري‬
‫(((‬
‫عامــر‪ -‬بأنــه ســمعهام يتوافقــان عــى قــرار االنســحاب‪.‬‬
‫‪ -1‬وجيه أبو ذكري‪ ،‬مذبحة األبرياء‪ ،‬ص ‪.397-380‬‬
‫‪ -2‬عبد الرزاق السنهوري‪ ،‬السنهوري من خالل أوراقه الشخصية‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار الرشوق‪ ،2005 ،‬ص ‪.314‬‬
‫‪ -3‬نظريــة سياســية قامئــة عــى اســتخدام القــوة العســكرية أو االقتصاديــة للتأثــر عــى ترصفــات وقــرارات‬
‫الحكومــات األخــرى‪( .‬املرتجــم)‬
‫‪ -4‬مراد غالب‪ ،‬مع عبد النارص والسادات‪ ،‬ص ‪.124‬‬
‫‪ -5‬وجيه أبو ذكري‪ ،‬مذبحة األبرياء‪ ،‬ص ‪ ،379-378‬ص ‪ ،403‬ص ‪.444-442‬‬

‫‪130‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫خامســا‪ ،‬أرشف املســؤولون األمنيــون عــى توزيــع خطــاب اســتقالة عامــر عــام ‪،1962‬‬ ‫ً‬
‫والــذي طالــب فيــه عب ـ َد النــارص بإحــال الدميقراطيــة محــل الدكتاتوريــة التــي أقامهــا‬
‫(((‬
‫قبــل أن تتســبب بكارثــة‪.‬‬
‫ـرا‪ ،‬الم مــن تبقــى مــن الضبــاط املحرتفــن‪ -‬الذيــن يكرهــون عامــر وزمرتــه‪ -‬عبــد‬ ‫أخـ ً‬
‫النــارص عــى تســييس الجيــش‪ .‬فهوســه باألمــن‪ -‬مــن وجهــة نظرهــم‪ -‬هــو الــذي أوجــد‬
‫أجهــزة اســتخبارات متنافســة ومكَّنهــا مــن الســيطرة عــى املؤسســة العســكرية‪ ،‬مــا ســمح‬
‫رُسح‬
‫لهــا برتقيــة الضبــاط عــى أســاس الــوالء ال الجــدارة‪ .‬ففــي عــام ‪ 1967‬وحــده‪ِّ ُ ،‬‬
‫مئــة وثالثــة وســبعون ضابطًــا كفــ ًؤا بســبب الشــك يف والئهــم‪ .‬كــا أن تركيــز أجهــزة‬
‫األمــن املختلفــة عــى منــع أي انقــاب عســكري‪ ،‬والتجســس عــى القيــادة السياســية‪،‬‬
‫رصف انتباههــا عــن مهامهــا األصليــة املتمثلــة يف مكافحــة التجســس األجنبــي‪ .‬أمــا الخطــأ‬
‫األكــر بالنســبة لهــم كان الفشـ َـل يف معرفــة قــدرة القاذفــات املقاتلــة اإلرسائيليــة الجديــدة‬
‫عــى الطــران عــى ارتفاعــات منخفضــة مــا منــع الــرادار املــري مــن رصدهــا‪ .‬وألقــى‬
‫الجمــي باللــوم عــى عبــد النــارص لعــدم إجــراء إصــاح شــامل للقيــادة العســكرية بعــد‬
‫أدائهــا الــيء يف حــرب العــام ‪ (((.1956‬وبالنظــر لكــون العديــد مــن الضبــاط غــر‬
‫املسيســن أيــدوا انقــاب عبــد النــارص بســبب الهزميــة املهينــة عــام ‪ ،1948‬فــإن فكــرة‬ ‫َّ‬
‫عــودة إرسائيــل والغــرب لنصــب فــخ ملؤسســتهم كانــت أم ـ ًرا ال يطــاق‪.‬‬
‫يف مقابــل هــذه الحملــة املؤيــدة لعامــر‪ ،‬بــدا أن معــاوين الرئيــس يف حــرة مــن أمرهــم‪،‬‬
‫را حــن فشــل يف القبــض عــى املشــر ومعاونيــه فــور وقــوع‬ ‫فقــد ارتكــب خطــأ كبــ ً‬
‫ضمنيــا‬
‫ً‬ ‫الهزميــة‪ ،‬فمنحهــم بذلــك املســاحة الكافيــة للمنــاورة والتآمــر عليــه‪ ،‬وب َّرأهــم‬
‫مــن مســؤوليتهم عــن الهزميــة‪ ،‬وإال ملــا تركهــم خــارج الســجن‪ .‬باإلضافــة إىل ذلــك‪،‬‬
‫حــن علــم مــن مصــادره االســتخبارية أن حملــة عامــر الدعائيــة تحــرض عليــه الضبــا َط‬
‫والجنــو َد العاديــن وتؤلبهــم ضــده‪ ،‬اقــرح أن يســامحه هــو وشــمس بــدران وصــاح‬
‫نــر‪" ،‬الثــايث الشــيطاين الــذي أدار دولــة داخــل الدولــة يف مــر دون علمــه أو‬
‫(((‬
‫موافقتــه"‪ ،‬فيــا لــو قبلــوا مبناصــب أقــل نفــوذًا‪ -‬كمنصــب نائــب الرئيــس لعامــر مثـ ًـا‪.‬‬
‫‪ -1‬سامي رشف‪ ،‬عبد النارص‪ :‬كيف حكم مرص؟‪ ،‬ص ‪.161-160‬‬
‫‪2- Gamasy, October War, 83.‬‬
‫‪3- Aburish, Nasser: The Last Arab, 267.‬‬

‫‪131‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫شـ َّجع تــرد ُد عبــد النــارص حلفــاء املشــر عــى املــي قد ًمــا يف حملتهــم‪ ،‬واالنتقــال مــن‬
‫مرحلــة االفــراء إىل الفعــل‪ .‬وحثَّــه مســاعدوه األمنيــون عــى رفــض أي مبــادرة للمصالحــة‬
‫بينــه وبــن الرئيــس‪ -‬مبــا يف ذلــك عرضــه األخــر بالعفــو العــام‪ -‬وبــدأ يف التخطيــط‬
‫ملؤامــرة لالســتيالء عــى الســلطة‪ .‬وكــا كان متوق ًعــا‪ ،‬قــاد الثــايث األمنــي (شــمس بــدران‬
‫وصــاح نــر وعبــاس رضــوان) املتآمريــن‪ .‬ويف ‪ 10‬يونيــو‪ ،‬نقــل صــاح نــر عامــر‬
‫إىل أحــد منــازل املخابــرات اآلمنــة يف قلــب القاهــرة‪ ،‬ومل يُســمح لــه بالعــودة إىل بيتــه‬
‫إال بعــد أن ح َّولــه بــدران ورضــوان إىل حصــن تحرســه فصيلتــان مــن القــوات الخاصــة‬
‫مــع بعــض قطــع املدفعيــة‪ ،‬باإلضافــة إىل ثالمثئــة رجــل مــن املدنيــن مــن مســقط رأس‬
‫عامــر يف صعيــد مــر مســلحني بالرشاشــات والقنابــل اليدويــة‪ .‬ثــم ناشــدوه تنفيــ َذ‬
‫قائــا‪" :‬نناشــدك أال‬
‫ً‬ ‫انقــاب عــى عبــد النــارص‪ ،‬حيــث خاطبــه اللــواء عثــان نصــار‬
‫متنــح هــذا الرجــل ســلطة علينــا‪ ...‬لــن يتــواىن عــن إذاللنــا وتدمرينــا"‪ (((.‬يف ‪ 11‬يونيــو‪،‬‬
‫اقتحــم ســتمئة ضابــط (بينهــم خمســون عمي ـ ًدا ومقــدم) مقــر القيــادة العامــة باثنتــي‬
‫عــرة عربــة مصفحــة للرشطــة العســكرية مهدديــن بطــرد فــوزي‪ ،‬ورددوا هتافــات‪" :‬ال‬
‫قائــد إال املشــر!" ثــم توجهــوا إىل منــزل املشــر ليعلنــوا والءهــم لــه‪ .‬فــور علمــه بالحادثــة‪،‬‬
‫قــام عبــد النــارص بفصــل ثالثــن مــن كبــار الضبــاط‪ ،‬بعضهــم مــن أعضــاء املجلــس‬
‫كافيــا‪.‬‬
‫األعــى للقــوات املســلحة املكــون مــن اثنــي عــر عض ـ ًوا ‪ ،‬لكــن هــذا مل يكــن ً‬
‫(((‬

‫حــاول صــاح نــر الحصــول عــى دعــم الواليــات املتحــدة لإلطاحة بعبــد النــارص‪ ،‬فاتصل‬
‫يف ‪ 26‬يونيــو بوكالــة املخابــرات األمريكيــة املركزيــة ‪ CIA‬عــر قنــاة اســتخباراتية إيطاليــة‪،‬‬
‫وادعــى أن املؤسســات العســكرية واالســتخباراتية يف مــر‪ -‬عــى عكــس عبــد النــارص‪-‬‬
‫مســتعدة لالعــراف بإرسائيــل وتغيــر النظــام االقتصــادي‪ ،‬لقــاء املســاعدة يف التخلــص‬
‫منــه ومــن أعوانــه‪ .‬ورغــم العــداء األمريــي لعبــد النــارص‪ ،‬فقــد أوىص مكتب االســتخبارات‬
‫والبحــوث بــوزارة الخارجيــة األمريكيــة بــرورة التعامــل بحــذر مــع اقرتاح صــاح نرص إذ‬
‫ميكــن أن تكــون هــذه محاولــة مرصيــة للتالعــب بالواليــات املتحــدة لالنتقــام مــن دورهــا‬
‫يف حــرب عــام ‪ (((.1967‬لذلــك‪ ،‬قــرر رجــال املشــر عامــر املــي قد ًمــا دون دعــم أمرييك‪.‬‬

‫‪ -1‬حسني‪ ،‬شمس بدران‪ ،‬ص ‪.155‬‬


‫‪ -2‬فوزي‪ ،‬حرب الثالث سنوات‪ ،‬ص ‪.168-166‬‬
‫‪3- Sirrs, History, 105.‬‬

‫‪132‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫قضــت خطــة االنقــاب‪ -‬التــي وضعهــا نــر وبــدران‪ -‬أن ترافــق وحــدات خاصــة‬
‫املشــر إىل مقرهــم قــرب قاعــدة أنشــاص الجويــة قــرب القاهــرة‪ ،‬ونقلــه مــن هنــاك‬
‫إىل القيــادة الرشقيــة عــى الضفــة الغربيــة لقنــاة الســويس‪ ،‬حيــث يرتكــز معظــم‬
‫الجيــش‪ .‬فهنــاك‪ -‬عــى حــد تعبــر قائــد قاعــدة أنشــاص الجويــة اللــواء تحســن زيك‪،‬‬
‫ســيحمي الجيــش عامــر بينــا يعمــل املظليــون بقيــادة جــال هريــدي عــى تحييــد‬
‫الحــرس الجمهــوري يف العاصمــة‪ ،‬ويســاعدون عنــارص املخابــرات العامــة يف اعتقــال‬
‫الرئيــس عبــد النــارص وأنصــاره‪ .‬يف هــذه األثنــاء‪ ،‬يوجــه عامــر خطابًــا للشــعب‪ ،‬يوضــح‬
‫(((‬
‫فيــه مســؤولية الرئيــس عــن الهزميــة‪ ،‬ويعلــن الجهــاد تحــت قيادتــه لتحريــر ســيناء‪.‬‬
‫أعــد املقربــون مــن املشــر الخطــاب العــام الــذي بــدأ بالوعــد "بكشــف الحقائــق الخفيــة‬
‫وراء الهزميــة وانتشــال األمــة املرصيــة مــن هــذا الكابــوس‪ ...‬إذ ال يحــق ألحــد خــداع‬
‫الشــعب املــري يف هــذه املرحلــة"‪ .‬ثــم تحــدث الخطــاب عــن أمــر عبــد النــارص بتعبئــة‬
‫‪ 14‬مايــو لتخفيــف الضغــط عــى ســوريا‪ ،‬وأنــه رفــض بعــد ذلــك خطــة عامــر لتوجيــه‬
‫رضبــة اســتباقية ضــد إرسائيــل‪ ،‬وبــداًلً مــن ذلــك "أصــاب القيــادة العليــا بأكملهــا‬
‫بالذهــول" حيــث أصــدر أوامــره يف ‪ 2‬يونيــو بإعــادة متوضــع القــوات يف ســيناء بشــكل‬
‫غــر عمــي ‪-‬مــن متوضــع هجومــي إىل موقــف دفاعــي يف ثالثــة أيــام‪ -‬وأمــر القــوات‬
‫أيضــا إىل تخــي‬‫الجويــة بتلقــي الرضبــة اإلرسائيليــة بشــكل ســلبي‪ .‬وأشــار الخطــاب ً‬
‫القــوى العظمــى عــن مــر‪ :‬فتخــى الســوفييت عــن تعهدهــم بالقتــال إىل جانــب‬
‫ـلميا إذا‬
‫مــر‪ ،‬وخدعــت الواليــات املتحــدة عبــد النــارص بزعمهــا أنهــا ســتحل النــزاع سـ ً‬
‫مل يبــادر الجيــش املــري بالهجــوم‪ .‬واختتــم خطابــه قائـ ًـا‪" :‬إنهــا مؤامــرة جيوسياســية‬
‫(((‬
‫ضدنــا‪ ،‬ثــم دعــا املرصيــن إىل حمــل الســاح الســتعادة أراضيهــم التــي خرسوهــا‪.‬‬
‫كانــت الخطــة متامســكة‪ ،‬لكــن تــرد َد عامــر هــو مــا أ َّخ ـ َر تنفيذهــا‪ .‬يُرجــع البعــض ســبب‬
‫هــذا الفشــل إىل عــدم كفــاءة الجيــش‪" :‬فالجيــش الــذي مل يســتطع تنظيــم نفســه لخــوض‬
‫أيضــا قــاد ًرا عــى فعــل ذلــك اآلن"‪ (((.‬قــال عــرات الضبــاط الذيــن‬ ‫الحــرب‪ ،‬مل يكــن ً‬
‫تجمهــروا حــول منزلــه لعــدة أيــام بــا هــدف إنــه بــدا غــر مســتعد نفسـ ًـيا لإلمســاك‬
‫‪ -1‬حامد‪ ،‬أرسار ثورة ‪ 23‬يوليو‪ ،‬ص ‪.1345‬‬
‫‪ -2‬رفعت سيد أحمد‪ ،‬ثورة الجرنال‪ ،‬ص ‪.933-925‬‬
‫‪3- Amos Perlmutter, Egypt: The Praetorian State, New York: Transaction Publishers, 1974, 184.‬‬

‫‪133‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫بالســلطة‪ ،‬رغــم دعــم ســتمئة ضابــط لــه عــى األقــل‪ .‬ولكنــه تحــت الضغــط الشــديد مــن‬
‫(((‬
‫صــاح نــر وبــدران اجتمــع معهــا حيــث حــددوا يــوم ‪ 27‬أغســطس موع ـ ًدا للتنفيــذ‪.‬‬
‫يُر َّجــح أن عامــر‪ -‬بالنظــر إىل تاريــخ عالقتــه مــع عبــد النــارص‪ -‬توقــع منــه أن يستســلم‬
‫كــا كان يفعــل دامئًــا منــذ عــام ‪ 1956‬حتــى تلــك األيــام‪ .‬ولعــل هــذا هــو ســبب قبولــه‬
‫ـلميا‪ .‬ورغــم اعــراض‬ ‫دعــوة عبــد النــارص للقــاء مــن أجــل تســوية الخــاف بينهــا سـ ً‬
‫مستشــاريه األمنيــن الشــديد‪ -‬الذيــن اشــتموا رائحــة الغــدر‪ ،‬خاصــة وأن الدعــوة ُس ـلِّ َمت‬
‫مــن قبــل الســادات قبــل يومــن فقــط مــن االنقــاب املخطــط لــه‪ -‬فقــد اعتقــد أن عبــد‬
‫را إلصــاح األمــور وإعــادة تعيينــه قائـ ًدا عا ًمــا‪ (((.‬لكنــه حينهــا‬
‫النــارص بــات مســتع ًدا أخـ ً‬
‫خــر فرصتــه األخــرة‪ ،‬وباتــت الكــرة اآلن يف ملعــب الرئيــس‪.‬‬
‫بنيــات عامــر وبــدأوا‬
‫قبــل أيــام مــن تنفيــذ االنقــاب‪ ،‬شــعر رجــال أمــن عبــد النــارص ّ‬
‫ـرك عــى الفــور‪ .‬فقــد تلقــى مكتــب املعلومــات التابــع للرئيــس بال ًغــا من قبــل مخربين‬
‫التحـ َ‬
‫متمرســن‪ ،‬أحدهــم عميــل يف املخابــرات العامــة وأربعــة آخــرون ضبــاط يف ســاح الجــو‬
‫واملدفعيــة‪ ،‬باإلضافــة إىل طبــاخ عامــر الشــخيص‪ .‬عنــد علمهــم باملؤامــرة‪ ،‬نصحــوا الرئيــس‬
‫بالتأكــد عــى الفــور مــن والء بعــض املســؤولني وهــم‪ :‬قائــد الحــرس الجمهــوري الفريــق‬
‫محمــد الليثــي ناصــف‪ ،‬ومديــر املخابــرات الحربيــة املعــن حديثًــا محمــد صــادق‪ ،‬قائــد‬
‫الرشطــة العســكرية الجديــد اللــواء ســعد عبــد الكريــم‪ ،‬ورئيــس جهــاز املباحــث العامــة‬
‫بــوزارة الداخليــة حســن طلعــت‪ .‬كانــت الخطــوة التاليــة هــي تشــكيل فريــق عمــل خــاص‬
‫للتخطيــط لهجــوم مضــاد‪ ،‬ضـ َّم رجــل األمــن زكريــا محــي الديــن ورئيــس املخابــرات العامة‬
‫ووزيــر اإلرشــاد القومــي الســابق أمــن هويــدي ووزيــر الداخليــة شــعراوي جمعــة‪ ،‬ورئيــس‬
‫األركان محمــد فــوزي ومديــر مكتــب الرئيــس للمعلومــات ســامي رشف‪.‬‬
‫عقــد الفريــق اجتامعاتــه بعــد منتصــف الليــل يف نــا ٍد ريــايض لتحــايش مراقبــة املخابــرات‬
‫العامــة‪ ،‬وبعــد أول لقاءيــن قدمــوا لعبــد النــارص خطــة أطلقــوا عليهــا اســم "العمليــة‬
‫جونســون"‪ .‬كانــت الخطــة‪ -‬كــا وردت يف مذكــرات ســامي رشف‪ -‬بســيطة‪:‬‬
‫أو ًاًل‪ ،‬ال بد من استدراج عامر للخروج من معقله واعتقاله يف مكان بعيد‪ ،‬فهو يترصف تحت‬

‫‪1-Aburish, Nasser: The Last Arab, 271-274.‬‬


‫‪ -2‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.250‬‬

‫‪134‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫تأثري مساعديه األمنيني‪ ،‬وال ميكن ملن حوله أن يترصفوا بدونه إذ أنه يتمتع بكاريزما كبرية‪.‬‬
‫ثان ًيــا‪ ،‬اعتــا ًدا عــى شــخصيته العاطفيــة واعتقــاده بــأن عبــد النــارص ســيرتاجع يف‬
‫النهايــة‪ ،‬فمــن املر َّجــح أن يقبــل أي دعــوة لتهدئــة األمــور مــع صديقــه‪ ،‬خاصــة إذا أُرســلت‬
‫الدعــوة عــر شــخص يثــق بــه مثــل صديقــه الســادات الــذي ســيل ِّمح لــه بــأن الرئيــس‬
‫يشــعر بأنــه محــارص وأنــه مســتعد لتقديــم تنــازالت‪.‬‬
‫ثال ًثــا‪ ،‬مبجــرد أن تقبــض الرشطــة العســكرية عليــه‪ ،‬تقتحــم قــوة مــن الحــرس الجمهــوري‪-‬‬
‫بقيــادة فــوزي‪ -‬قــره الــذي يخضــع لحراســة مشــددة‪.‬‬
‫راب ًعــا‪ ،‬وعــى الفــور‪ ،‬ســيعتقل ضبــاط املخابــرات الحربيــة ووزارة الداخليــة املتآمريــن قبــل‬
‫أن يعرفــوا مصــر قائدهــم‪.‬‬
‫خامســا‪ ،‬بعــد تغييــب عامــر ومعاونيــه عــن املشــهد ســيفقد الجيــش قدرتــه عــى التج ُّمــع‬
‫ً‬
‫لتنفيــذ مؤامــرة أخــرى‪.‬‬
‫ـن أمــن هويــدي وزيـ ًرا للحربيــة‪ ،‬وسيســيطر عــى جهــاز املخابــرات العامــة‬
‫سادســا‪ ،‬يُعـ َّ‬
‫ً‬
‫(الــذي ســاعد يف تأسيســه وتــوىل فيــه منصــب نائــب املديــر يف عــام ‪ )1957‬عــر رجالــه‪.‬‬
‫ســاب ًعا‪ ،‬يقــوم فــوزي وهويــدي بتطهــر الجيــش واملخابــرات مــن املوالــن لعامــر‪،‬‬
‫وإصــدار قوانــن إلعــادة هيكلــة كل مــن القــوات املســلحة واملؤسســات األمنيــة‪.‬‬
‫وســيكون الهــدف النهــايئ نــزع الطابــع الســيايس عــن الجيــش وإعــادة توجيــه‬
‫(((‬
‫األجهــزة االســتخبارية مــن التجســس عــى الداخــل إىل التجســس الخارجــي‪.‬‬
‫نُ ِّف ـذَت الخطــة بنجــاح‪ ،‬ووصــل املشــر إىل منــزل الرئيــس عبــد النــارص يف ‪ 24‬أغســطس‬
‫‪ 1967‬الســاعة ‪ 7:00‬مســاء‪ .‬وبعــد اجتــاع اســتمر ألكــر مــن عــر ســاعات علــت فيــه‬
‫األصــوات‪ ،‬نقــل زكريــا ومعاونــوه عامــر إىل مــكان مجهــول تحرســه الرشطــة العســكرية‪،‬‬
‫واســتوىل فــوزي وقواتــه عــى قــر عامــر بعــد حصــار دام أربــع ســاعات حدثــت فيهــا‬
‫مناوشــة قصــرة فاعتقلــوا أتباعــه‪ -‬ومــن بينهــم بــدران ورضــوان‪ -‬وصــادروا ثــاث عــرة‬
‫شــاحنة محملــة باألســلحة والذخــرة‪ .‬بعــد ســاعات مــن طلــوع الفجــر‪ ،‬تــوىل هويــدي‬
‫رئاســة املخابــرات العامــة‪ ،‬وأصــدر عــى الفــور أوامــر باعتقــال ‪ 148‬ضابطًــا مــن الجيــش‬

‫‪ -1‬رشف‪ ،‬عبد النارص‪ :‬كيف حكم مرص؟‪ ،‬ص ‪.175-160‬‬

‫‪135‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫و‪ 18‬مــن ضبــاط املخابــرات‪ -‬مبــن فيهــم رئيــس الجهــاز صــاح نــر‪ .‬يف ‪ 13‬ســبتمرب‪،‬‬
‫نُقــل عامــر إىل منــزل آمــن تابــع للمخابــرات العامــة قــرب األهرامــات‪ ،‬حيــث قيــل إنــه‬
‫انتحــر بعــد ابتــاع حبــة ســامة أعطــاه إياهــا صــاح نــر تحسـ ًـبا لفشــل خطتهــم وفــق مــا‬
‫أفــاد بــه فريــق الطــب الرشعــي الــذي فحــص جثتــه‪ (((.‬بعــد ســتة أيــام مــن وفاتــه‪ ،‬قُبــض‬
‫(((‬
‫ومدنيــا آخــر بزعــم التخطيــط لالنتقــام ملقتلــه"‪.‬‬
‫ً‬ ‫عــى ‪ 181‬ضابطًــا‬
‫قــد يتســاءل املــرء‪ :‬ملــاذا مل يبــادر باقــي ضبــاط الجيــش إلنقــاذ قائدهــم املحبــوب‬
‫ومعاونيــه وتوطيــد الحكــم العســكري أكــر؟ األكيــد أن املشــر كان لــه أنصــار يف الجيــش‬
‫رغــم الهزميــة يف الحــرب‪ ،‬فقــد غضــب العقيــد محمــد ســليم‪ -‬الــذي قاتــل يف حــرب عــام‬
‫‪ 1967‬وبعدهــا يف حــرب عــام ‪ -1973‬لوفاتــه‪ ،‬إذ يتحــدث قائـ ًـا‪:‬‬
‫"كان للجيــش تحــت قيــادة املشــر عامــر طابعــه املســتقل‪ ،‬فقــد كان أقــوى مــن الرئيــس‬
‫بــل وأقــوى مكــون مــن مكونــات النظــام‪ .‬اســتخدم عبــد النــارص هزميــة ‪ 1967‬ذريعــة‬
‫للتخلــص منــه‪ ،‬فســممه ووضــع عــدوه اللــدود محمــد فــوزي قائـ ًدا للجيــش بــداًلً منــه مــع‬
‫تفويــض رصيــح بقمــع القــوات املســلحة وإجبارهــا عــى الخضــوع‪ .‬لكــن فــوزي ذهــب إىل‬
‫أبعــد مــن ذلــك‪ ،‬إذ مل يكتـ ِ‬
‫ـف بتطويــع الجيــش‪ ،‬بــل تخلــص مــن أي ضابــط صاحــب كربيــاء‬
‫(((‬
‫أو كرامــة‪ ،‬وأذل اآلخرين"‪.‬‬
‫إذن مــا الــذي منــع الجنــود مــن العــودة؟ يصــف العقيــد عبــد العزيــز البتشــتي‪ ،‬الــذي‬
‫خــدم يف الجبهــة عــام ‪ ،1967‬الوضــع العــام داخــل الجيــش قائـ ًـا‪" :‬يتخــى الجنــود عــن‬
‫قادتهــم دون مقاومــة‪ ،‬إذا تخــى قادتهــم عنهــم يف الحــرب"‪ (((.‬وصــف قائــد لــواء بالجيــش‬
‫عــام ‪ 1967‬ووزيــر الحــرب املســتقبيل كــال حســن عــي كيــف كان هــو ورفاقــه ينظــرون‬
‫إىل رجــال عامــر عــى أنهــم ضبــاط دون املســتوى ال يقارنــون باملفوضــن السياســيني‬
‫يف الجيــش الســوفيتي‪ ...‬إمنــا هــم طبقــة حاكمــة جديــدة داخــل الجيــش"‪ ،‬وأشــار إىل‬
‫أنهــم اعتــادوا ترهيــب رفاقهــم عــر تهديدهــم باإلبــاغ عنهــم عــى أنهــم يشــكلون خطـ ًرا‬

‫‪ -1‬فوزي‪ ،‬حرب الثالث سنوات‪ ،‬ص ‪ ،175 -174‬هويدي‪ ،‬خمسني‪ ،‬ص ‪.275-249‬‬
‫‪2- Brooks, Shaping Strategy, 112.‬‬
‫‪ -3‬مقابلة مع العقيد محمد سليم‪.‬‬
‫‪ -4‬عبد العزيز البتشتي‪" ،‬الثعابني"‪ ،‬املكتب املرصي الحديث‪ ،2006 ،‬ص ‪.17‬‬

‫‪136‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫أمنيــا‪ (((.‬لــذا‪ ،‬رغــم أن عامــر ونخبتــه األمنيــة اشــروا والء عــدد كبــر مــن الضبــاط‪ ،‬إال‬
‫ً‬
‫أن الرشيحــة األوســع منهــم رأت بوضــوح كيــف أدى تســييس الجيــش والفســاد إىل تراجــع‬
‫املؤسســة ككل‪ ،‬وقــد اعتقــد الكثــر منهــم أن ذلــك "لــن يحــدث مــرة أخــرى مطل ًقــا!"‬
‫كانــت هــذه فرصــة عبــد النــارص للهيمنــة عــى النظــام قبــل أن تســتعيد القــوات املســلحة‬
‫توازنهــا‪ .‬فبعــد تغلبــه عــام ‪ 1967‬عــى منافســيه‪ ،‬بــدأ عمليــة تحويــل مــر مــن دولــة‬
‫عســكرية إىل دولــة أمنيــة‪ .‬أدرك القــادة السياســيون واألمنيــون يف مــر أن االعتــاد عــى‬
‫جيــش قــوي للغايــة ســيف ذو حديــن‪ ،‬فبإمــكان الجيــش تحصــن النظــام أمــام أي ثــورات‬
‫أيضــا‪ ،‬وقــد أوضحــت ذلــك تجربــة عبــد النــارص‬ ‫متوقعــة‪ ،‬لكنــه قــد يجعــل النظــام رهينــة ً‬
‫املريــرة مــع الضبــاط خــال مواجهاتــه مــع الرئيــس نجيــب واملشــر عامــر‪ .‬أمــا اآلن‪ ،‬فلــن‬
‫يُســمح مطل ًقــا للقــوات املســلحة بتكويــن مثــل هــذا النفــوذ الســيايس‪ .‬ولــذا‪ ،‬بــدأ منــذ عــام‬
‫‪ 1967‬الرتاجــع عــن تســييس الجيــش‪ -‬والــذي ســبق أن بــدأ يف عــام ‪ .1952‬وبقــدر مــا‬
‫كارثيــا‪ ،‬فقــد أتــاح لعبــد النــارص فرصــة ذهبيــة للتخلــص مــن‬
‫كان أداء الجيــش يف الحــرب ً‬
‫شــبكة عامــر وتقليــص دور الجيــش يف السياســة الح ًقــا‪.‬‬
‫أنشــأ أمــن هويــدي‪ -‬بصفتــه املزدوجــة كوزيــر للحربيــة ومديــر للمخابــرات العامــة‪ -‬لجنــة‬
‫لتقــي الحقائــق للتحقيــق يف أســباب هزميــة ‪ .1967‬و َعـ َزت اللجنــة الهزميــة إىل "فقــدان‬
‫القيــادة السياســية الســيطرة عــى األجهــزة العســكرية واألمنيــة التــي ترصفــت كمؤسســات‬
‫ذاتيــا"‪ (((.‬وبــن نوفمــر ‪ 1967‬وفربايــر ‪،1968‬‬ ‫مســتقلة وغــر خاضعــة للرقابــة ومكتفيــة ً‬
‫تحركــت القيــادة السياســية بشــكل حاســم لســد هــذه الفجــوة‪ :‬فشـكّل عبــد النــارص لجنــة‬
‫ـرح أكــر مــن ألــف‬ ‫مــن اثنــي عــر عضـ ًوا برئاســة زكريــا للتخلــص مــن أتبــاع عامــر‪ ،‬فـ ُ‬
‫ضابــط مــن الجيــش وثالمثئــة مــن عنــارص املخابــرات العامــة‪ ،‬واتُّهــم تســعون متآم ـ ًرا‬
‫منهــم بالخيانــة‪ ،‬منهــم شــمس بــدران وصــاح نــر وعبــاس رضــوان وأعضــاء املجلــس‬
‫(((‬
‫األعــى للقــوات املســلحة التابــع لعامــر‪ ،‬و ُحكــم عليهــم بالســجن املشــدد‪.‬‬

‫‪ -1‬كامل حسن عيل‪ ،‬مشاوير العمر‪ ،‬ص ‪.117‬‬


‫‪ -2‬أمني هويدي‪ ،‬خمسون عاما من العواصف‪ ،‬ص ‪.191-190‬‬
‫‪ -3‬حامدة حسني‪ ،‬شمس بدران‪ ،‬ص ‪.151-143‬‬

‫‪137‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫ويف أكتوبــر ‪ ،1967‬قــدم هويــدي للرئيــس مذكــرة طويلــة بعنــوان "إعــادة تنظيــم العمــل‬
‫يف األجهــزة العليــا بــوزارة الحربيــة"‪ .‬أكــدت املــادة الخامســة مــن املذكــرة عــى طــرق‬
‫متكــن الرئيــس ووزيــر الحربيــة مــن خــال الســيطرة عــى ميزانيــة الدفــاع ورشاء‬
‫األســلحة وكافــة النفقــات وشــؤون أفــراد القــوات املســلحة‪ .‬بينــا اقرتحــت املــادة التاســعة‬
‫تقســيم الســلطة يف الجيــش بــن القائــد األعــى (الرئيــس) ورئيــس األركان ووزيــر‬
‫الحربيــة‪ .‬يف ‪ 25‬ينايــر أقــر القانــون ‪ 4‬لعــام ‪ 1968‬املعنــون بـــ "الســيطرة عــى شــؤون‬
‫الدفــاع والقــوات املســلحة" هــذه االقرتاحــات‪ ،‬باإلضافــة إىل منــح الرئيــس الســيطرة عــى‬
‫جميــع التعيينــات العســكرية وص ـواًلً إىل رتبــة عقيــد‪ ،‬فألغــى عبــد النــارص رتبــة املشــر‬
‫وقلــص عــدد مــن يحملــون رتبــة فريــق ولــواء بأكــر مــن النصــف‪ .‬واألهــم مــن ذلــك‬
‫أنــه حــل مكتــب القائــد العــام للقــوات املســلحة‪ -‬مركــز التحكــم لســلطة عامــر‪ -‬وأعــاد‬
‫هيكلــة القيــادة العامــة بحيــث ربــط رؤســاء الهيئــات والفــروع العســكرية الرئيســية مبــارشة‬
‫مبنصــب الرئيــس‪ ،‬وأصبــح وزيــر الحربيــة ممثــل رئيــس الجمهوريــة يف القــوات املســلحة ال‬
‫العكــس‪ .‬كــا حــل عبــد النــارص املباحــث الجنائيــة العســكرية‪ ،‬التــي شــكلها عامــر إلرشاك‬
‫الجيــش يف التحقيقــات الجنائيــة املدنيــة‪ .‬ثــم شــكل مجلــس الدفــاع الوطنــي عــام ‪1969‬‬
‫برئاســة رئيــس الجمهوريــة ووزراء الحربيــة والخارجيــة والداخليــة وقــادة املخابــرات‬
‫مــع قــادة آخريــن يتولــون مناصــب إســراتيجية أخــرى‪ ،‬وأســندت إليهــا مهمــة رســم‬
‫(((‬
‫اإلســراتيجية الجيوسياســية ملــر‪ -‬مــا أضعــف ســلطة املجلــس األعــى للقــوات املســلحة‪.‬‬
‫خاصــا داخــل املخابــرات‬
‫ـا ً‬ ‫ولتعزيــز قبضــة رئيــس الجمهوريــة أكــر‪ ،‬أنشــأ هويــدي قسـ ً‬
‫العامــة لتــويل مهــام مكتــب القائــد العــام امل ُن َحــل حينها لرصــد االتجاهــات السياســية داخل‬
‫القــوات املســلحة‪ .‬ثــم عمــل يف جهــاز املخابــرات العامــة‪ ،‬فتمكــن خــال ثــاث ســنوات‬
‫مــن إصــاح وإعــادة تنظيــم قطــاع االســتخبارات وإعــادة توجيهــه مــن التجســس عــى‬
‫املرصيــن إىل التجســس عــى القــوى األجنبيــة‪ ،‬وإســناد مهمــة الرقابــة الداخليــة إىل وزارة‬
‫الداخليــة واملباحــث العامــة التابعــة لهــا‪ .‬وهكــذا ألقــى عبد النــارص يف ‪ 3‬مارس ســنة ‪1968‬‬

‫‪ -1‬هوي��دي‪ ،‬خمس��ون عا ًمــا مــن العواصــف‪ ،‬ص ‪ .451 -438‬كان النجــاح األول للقســم هــو فضــح املحــاوالت‬
‫الســوفيتية لنــر الشــيوعية يف ســاح الجــو‪ ،‬يف تقريــر قــدم لعبــد النــارص يف ‪ 21‬مايــو ‪( 1970‬هويــدي‪،‬‬
‫خمســون عا ًمــا مــن العواصــف‪ :‬مــا رأيتــه قلتــه‪.)6-305 ،‬‬

‫‪138‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫ـرا‪ ،‬انتــزع االتحــاد االشــرايك العــريب‬


‫خطابًــا لالحتفــال "بســقوط دولــة املخابــرات"‪ (((.‬أخـ ً‬
‫الســيطرة عــى ثالمثئــة وســبع وســتني رشكــة تابعــة للقطــاع العــام مــن املوالــن لعامــر‪.‬‬
‫بعــد هــذه الخطــوات الدراماتيكيــة أصــدر الرئيــس عبــد النــارص بيــان ‪ 30‬مــارس‪ ،‬الــذي‬
‫ألقــى باللــوم يف هزميــة ‪ 1967‬عــى الرتكيبــة العســكرية‪ -‬االســتخباراتية‪ ،‬وتعهــد بإبعــاد‬
‫الجيــش عــن الشــأن الســيايس وإنشــاء نظــام ســيايس مــن خــال دســتور جديــد‪ ،‬صيــغ‬
‫الح ًقــا نهايــة عــام ‪ ،1970‬وإن مل يُصــا َدق عليــه إال بعــد أشــهر‪.‬‬
‫مثــة مــؤرشات عديــد تــدل عــى جديتــه يف الوفــاء بهــذه الوعــود‪ ،‬فقــد انخفضــت نســبة‬
‫الضبــاط يف مجلــس الــوزراء مــن ‪ %66‬عــام ‪ 1967‬إىل ‪ %21‬يف عــام ‪ ،1970‬وتراجــع‬
‫العــدد يف مجلــس أمنــاء االتحــاد االشــرايك العــريب مــن ‪ %75‬يف عــام ‪ 1962‬إىل ‪%43‬‬
‫يف عــام ‪ (((.1970‬كــا أن املعينــن الجــدد يف القيــادة العليــا كانــوا جنــو ًدا محرتفــن‬
‫معروفــن اســتاءوا لفــرة طويلــة مــن تقديــم عامــر ومــن معــه للــوالء عــى عنــر‬
‫رئيســا‬
‫الكفــاءة‪ .‬ومــن األمثلــة البــارزة عــى ذلــك تعيــن أحمــد إســاعيل يف مــارس ‪ً 1969‬‬
‫لــأركان‪ ،‬وعبــد الغنــي الجمــي قائ ـ ًدا لجبهــة قنــاة الســويس‪ ،‬وســعد الديــن الشــاذيل‬
‫قائ ـ ًدا لوحــدات املظليــن‪ .‬وهــؤالء الثالثــة هــم مــن قــادوا الجيــش املــري يف حــرب‬
‫أكتوبــر عــام ‪ .1973‬كــا ُعــن حافــظ إســاعيل‪ -‬ســكرتري عامــر العســكري امله َّمــش الــذي‬
‫طلــب يف عــام ‪ 1960‬نقلــه إىل وزارة الخارجيــة بعيـ ًدا عــن أزمــات مكتــب القائــد العــام‪-‬‬
‫يف أبريــل ‪ 1970‬مدي ـ ًرا لجهــاز املخابــرات العامــة‪.‬‬
‫فعــن حليفــه القديــم محمــد‬
‫كافــأ عبــد النــارص يف عــام ‪ 1970‬اثنــن مــن أنصــاره‪َ َّ ،‬‬
‫رئيســا‬
‫فــوزي وزي ـ ًرا للحربيــة‪ ،‬ومديــر املخابــرات الحربيــة املخلــص لــه محمــد صــادق ً‬
‫لــأركان‪ .‬وبغــض النظــر عــن صــدق توجهــه بنقــل الجيــش نحــو مســتويات أعــى مــن‬
‫االحرتافيــة‪ ،‬إال أن هــذه التعيينــات تشــر إىل أنــه مل يأمــن جانــب الجيــش متا ًمــا أو أنــه‬
‫را لنصائــح معاونيــه األمنيــن‪.‬‬‫ظــل أس ـ ً‬
‫مــع بــدء تهميــش الجيــش سياســيًا‪ ،‬بــات الرئيس أمــام خيارين‪ :‬إضفــاء الطابــع الدميقراطي‬
‫عــى النظــام أو إيجــاد ضامــن آخــر الســتقراره‪ .‬يف بيــان ‪ 30‬مــارس‪ ،‬أشــار الرئيــس إىل‬
‫‪1- Sirrs, History, 109.‬‬
‫‪ -2‬مجدي حامد‪ ،‬املؤسسة العسكرية والنظام السيايس املرصي‪ ،‬ص ‪.36-35‬‬

‫‪139‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫تصميمــه عــى متابعــة املســار األول‪ ،‬لكــن رسعــان مــا اس ـتُب ِع َد هــذا الخيــار ً‬
‫عمليــا مــن‬
‫تقريبــا‪ .‬ونظ ـ ًرا لحــل مكتــب‬
‫ً‬ ‫خــال التكويــن املؤســي الــذي حكــم مــر ملــدة عقديــن‬
‫القائــد العــام وإعــادة توجيــه جهــاز املخابــرات العامــة نحــو جمــع املعلومــات االســتخبارية‬
‫عــن الــدول األجنبيــة‪ ،‬وتوجيــه الرشطة العســكرية نحــو إنفاذ القوانــن يف القوات املســلحة‪،‬‬
‫باتــت أنشــطة جهــاز املخابــرات العامــة تقتــر عــى مكافحــة التجســس‪ ،‬والتجســس عــى‬
‫الجهــات األجنبيــة‪ ،‬بينــا حافظــت وزارة الداخليــة عــى دورهــا عــر املباحــث العامــة‪،‬‬
‫واســتمر مكتــب الرئيــس للمعلومــات الخــاص برئيــس الجمهوريــة‪ ،‬واالتحــاد االشــرايك‬
‫العــريب ذو التوجــه األمنــي‪ ،‬مــع التنظيــم الطليعــي الــري التابــع لــه يف أداء مهامهــم‪.‬‬
‫بعــد فــرة قصــرة مــن التخبــط‪ ،‬اســتقر أمــر عبــد النــارص‪ -‬بضغــط ممــن حولــه‪ -‬عــى‬
‫الحفــاظ عــى النظــام االســتبدادي‪ ،‬واســتبدال الحاميــة العســكرية بنظــام أمنــي قــوي‪،‬‬
‫واتخــذ خطــوة كبــرة يف هــذا االتجــاه عــر إنشــاء قــوات األمــن املركــزي بدايــة عــام‬
‫‪ ،1969‬والتــي بلــغ تعدادهــا يف عــام ‪ 1970‬مئــة ألــف مــن مجنديــن عســكريني أُلحقــوا‬
‫بــوزارة الداخليــة‪ -‬وهــو ترتيــب غــر معتــاد أبــ ًدا‪ .‬فرغــم أن املباحــث العامــة ومكتــب‬
‫الرئيــس للمعلومــات هــا املســؤوالن الوحيــدان آنــذاك عــن املراقبــة والتحقيقــات‪ ،‬إال أنهام‬
‫عاجــزان عــن إخــاد أعــال الشــغب يف الشــوارع‪ ،‬وهــي مهمــة كانــت تتوالهــا الرشطــة‬
‫العســكرية يف الســابق‪ .‬أمــا اآلن‪ ،‬وبعــد أن أراد عبــد النــارص عــدم االعتــاد عــى الجيــش‪،‬‬
‫كان عليــه أن ينشــئ قــوة رشطــة شــبه عســكرية تقــوم بهــذه املهمــة‪ .‬ولــذا‪ ،‬أنشــأ قــوات‬
‫(((‬
‫األمــن املركــزي لتجنــب اللجــوء للجيــش يف الســيطرة عــى أحــداث الشــغب‪.‬‬

‫صعود أركان الحكم الجديد‬


‫مــع إبعــاد الجيــش وظهــور مؤسســات األمــن املدنيــة‪ ،‬بــات عبــد النــارص جاه ـ ًزا ليك ـ ِّرس‬
‫نفســه بالكامــل لحــرب التحريــر القادمــة‪ .‬ويف ‪ 1‬يوليــو ‪ -1967‬حيــث مل تكــد متــي ثالثــة‬
‫أســابيع عــى الهزميــة‪ -‬بــدأت مــر حــرب اســتنزاف رشســة مــع القــوات اإلرسائيليــة يف‬
‫ســيناء اســتمرت حتــى توقيــع وقــف إطــاق النــار يف أغســطس ‪ 1970‬ليلتقــط الطرفــان‬
‫أنفاســهام قليـ ًـا‪.‬‬
‫‪1- Robert Springborg, Mubarak’s Egypt: Fragmentation of the Political Order, Boulder, CO:‬‬
‫‪Westview Press, 1989, 101.‬‬

‫‪140‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫كان البنــد األول يف جــدول أعــال عبــد النــارص يقــي بإعــادة توجيــه السياســة الخارجية‬
‫املرصيــة مــن عــدم االنحيــاز إىل أي مــن القطبــن الرشقــي والغــريب إىل تحالــف وثيــق‬
‫مــع االتحــاد الســوفيتي‪ -‬مــا ســيكون لــه تأثــر كبــر عــى تــوازن القــوى املحــي‪ .‬لكــن ملاذا‬
‫تخــى عــن عمليــة التــوازن التــي اعتربهــا دامئًــا حجــر الزاويــة يف سياســته الخارجيــة‬
‫وانحــاز إىل جانــب الــروس؟‬
‫إن أفضــل مــا قيــل يف وصــف حــرب ‪ 1967‬مــا قالــه الرئيــس الفرنــي شــارل ديغــول‬
‫بأنهــا "تنفيــذ إرسائيــي لحــرب أمريكيــة"‪ (((.‬طــوال الســتينيات‪ ،‬شــعر عبــد النــارص أنــه‬
‫ذهــب بعي ـ ًدا يف محاوالتــه لكســب تعاطــف الواليــات املتحــدة‪ ،‬ومــا مراســاته الطويلــة‬
‫ـال عــى ذلــك‪ .‬كــا قــدم لفتــة تصالحيــة أخــرى يف عــام‬ ‫والوديــة مــع جــون كينيــدي إال مثـ ٌ‬
‫‪ 1965‬عــر اســتبدال عــي صــري‪ -‬الــذي اعتقــد األمريكيــون أنــه رجــل موســكو القــوي‬
‫يف القاهــرة‪ -‬بزكريــا املــوايل ألمريــكا كرئيــس للــوزراء‪ .‬بعــد أيــام قليلــة مــن التعديــل‬
‫الــوزاري‪ ،‬أبلــغ عبــد النــارص الســفري األمريــي رصاحــة بأملــه يف أن تســر العالقــات بــن‬
‫(((‬
‫سلســا‪.‬‬
‫را ً‬ ‫الجانبــن بعــد هــذا التغيــر س ـ ً‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬واصــل الرئيــس جونســون خططــه الحازمــة ضــد القــوات املرصيــة يف اليمــن‪.‬‬
‫كــا أنــه‪ -‬بتأثــر مــن صقــور السياســة الخارجيــة األمريكيــة كاألخويــن روســتو (والــت‪،‬‬
‫مستشــار األمــن القومــي‪ ،‬وشــقيقه يوجــن‪ ،‬الــذي شــغل منصــب وكيــل وزارة الخارجيــة)‪،‬‬
‫رأى أن عبــد النــارص مــا هــو إال دميــة ســوفييتية يجــب التخلــص منهــا‪.‬‬
‫بعــد الحشــد املــري للقــوات يف ســيناء يف مايــو ‪ ،1967‬أكــد رئيــس وكالــة املخابــرات‬
‫املركزيــة ريتشــارد هيلمــز لجونســون أن النــر اإلرسائيــي ســيدمر عبــد النــارص‪ ،‬أو عــى‬
‫إقليميــا‪ .‬بعــد ذلــك‪ُ ،‬عقــد يف ‪ 26‬مايــو‬
‫ً‬ ‫األقــل ســيحد مــن قدرتــه عــى فــرض ســطوته‬
‫اجتــاع حاســم يف البنتاغــون جمــع وزيــر الخارجيــة اإلرسائيــي أبــا إيبــان بوزيــر الدفــاع‬
‫األمريــي ورئيــس هيئــة األركان املشــركة ومديــر وكالــة املخابــرات املركزيــة‪ ،‬ملناقشــة‬
‫املعركــة القادمــة‪ .‬اتفــق املخططــون اإلســراتيجيون عــى أن النــر اإلرسائيــي الرسيــع‬
‫يعتمــد عــى قــدرة تــل أبيــب عــى أن تبــادر بالرضبــة األوىل قبــل مــر‪.‬‬

‫‪ -1‬هيكل‪ ،‬حرب ‪ ،1967‬ص ‪.914‬‬


‫‪ -2‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.245‬‬

‫‪141‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫يف اليــوم التــايل‪ ،‬أرســلت الواليــات املتحــدة برقيــة إىل عبــد النــارص تعــده فيهــا باملســاعدة‬
‫يف التفــاوض عــى تســوية ســلمية إذا امتنعــت مرص عــن الهجــوم أواًلً ‪ .‬ويف ‪ 30‬مايو ســافر‬
‫رسا إىل واشــنطن للحصــول عــى ضــوء أخــر واضــح مــن‬ ‫رئيــس املوســاد مئــر عميــت ً‬
‫(((‬
‫وزيــر الدفــاع روبــرت مكنــارا ومديــر االســتخبارات هيلمــز لبــدء العمليــات العســكرية‪.‬‬
‫قــدم املفــاوض األمريــي املخــرم وليــام كوانــت روايــة مغايــرة بعــض الــيء ملــا حــدث‬
‫مدعيــا أن جونســون حــاول يف البدايــة ثنــي اإلرسائيليــن عــن‬ ‫خــال ذلــك االجتــاع‪ً ،‬‬
‫شــن الرضبــة األوىل‪ ،‬ولكــن يف نهايــة مايــو أدرك الرئيــس األمريــي أن "الوســيلة الواقعيــة‬
‫الوحيــدة إلقنــاع إرسائيــل بعــدم التــرف مبفردهــا هــي شــن أمريــكا عمـ ًـا عســكريًا‬
‫أحــادي الجانــب إلعــادة فتــح مضيــق تــران‪ .‬لكــن جونســون مل يكــن مســتع ًدا للقيــام بذلك‬
‫بســبب الكونجــرس‪ .‬لــذا‪ ،‬أذعــن لقــرار إرسائيــل بشــن حــرب اســتباقية وتأكــد مــن أنهــم‬
‫يعرفــون مســبقًا أنــه مــا دام يف منصبــه فلــن يتكــرر الضغــط األمريــي عليهــا عــى غــرار‬
‫مــا حــدث أثنــاء أزمــة الســويس عــام ‪ .1956‬ويف األيــام الحاســمة التــي ســبقت اتخــاذ‬
‫(((‬
‫إرسائيــل قــرار الحــرب‪ ،‬تحــول موقــف واشــنطن مــن الرفــض إىل القبــول الحــذر"‪.‬‬
‫يف ‪ 3‬يونيــو‪ ،‬أرســلت الواليــات املتحــدة الســفري تشــارلز بوســت مــن وزارة الخارجيــة‪،‬‬
‫ومستشــار جونســون الشــخيص روبــرت أندرســون‪ ،‬كمبعوثــن منفصلــن إىل القاهــرة‬
‫لطأمنــة مــر بــأن إرسائيــل لــن تبــدأ الحــرب مــن جهتهــا‪ ،‬ودعيــا زكريــا للقــاء جونســون‬
‫يف ‪ 5‬يونيــو للتوصــل إىل حــل وســط‪ .‬يف الليلــة التــي ســبقت الحــرب‪ ،‬طلــب يوجني روســتو‬
‫مــن ســفري مــر يف واشــنطن طأمنــة عبــد النــارص أن "إرسائيــل لــن تبــدأ األعــال‬
‫ا عــن‬‫العدائيــة أب ـ ًدا"‪ (((.‬لــذا‪ ،‬ال عجــب يف شــعوره بــأن الواليــات املتحــدة خدعتــه‪ ،‬فض ـ ً‬
‫كونهــا غــدرت بــه‪.‬‬
‫لكــن الخــداع الدبلومــايس مل يكــن الــيء الوحيــد الــذي أغضــب عبــد النــارص‪ ،‬وال‬
‫الدعــم األمريــي النشــط إلرسائيــل خــال املعركــة عــر املســاعدة يف التجســس والتشــويش‬
‫عــى االتصــاالت املرصيــة فاجــأه‪ .‬لكــن مــا أغضبــه فعـ ًـا هــو رد الفعــل األمريــي تجــاه‬

‫‪1- Browne, "Six Days of War," 74; Dunstan, The Six Day War 1967, 19.‬‬
‫"?‪2- William B. Quandt, "Lyndon Johnson and the June 1967 War, What Color Was the Light‬‬
‫‪Middle East Journal 46 (2), 198–228 (1992).‬‬
‫‪3- Gamasy, October War, 30–33.‬‬

‫‪142‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫التجــاوزات اإلرسائيليــة يف الحــرب‪ .‬وقــد علــم أن اإلدارة األمريكيــة طلبــت رصاح ـ ًة مــن‬
‫إرسائيــل االبتعــاد عــن الضفــة الغربيــة التــي كانــت تحــت ســيطرة حليــف أمريــكا الوثيــق‬
‫امللــك حســن ملــك األردن‪ ،‬ومرتفعــات الجــوالن التــي ســيدفع احتاللهــا ســوريا إىل أحضان‬
‫الســوفييت‪ .‬لكــن اإلرسائيليــن مل يكتفــوا بتجاهــل هــذه املطالــب فحســب‪ ،‬بــل اســتبقوا أي‬
‫جهــد أمريــي إليقافهــم ومنعهــم فقصفــوا ســفينة التجســس "يــو إس ليــريت" التابعــة‬
‫(((‬
‫للبحريــة األمريكيــة يف ‪ 8‬يونيــو‪ ،‬مــا أســفر عــن مقتــل ‪ 34‬بحــا ًرا وإصابــة ‪ 171‬آخريــن‪.‬‬
‫أثبتــت هــذه الحادثــة لعبــد النــارص بــأن الواليــات املتحــدة ال متتلــك نفــوذًا عــى إرسائيــل‬
‫مطل ًقــا‪ ،‬وأنــه إذا أراد اســتعادة ســيناء فعليــه القتــال مــن أجلهــا باســتخدام كل املســاعدات‬
‫التــي ميكنــه الحصــول عليهــا‪ ،‬والــروس وحدهــم هــم مــن عرضــوا عليــه املســاعدة حينهــا‪.‬‬
‫مل يقــدم الســوفييت ملــر أســلحة هجوميــة جديــدة فقــط (كدبابــات ‪ ،T-62‬وقاذفــات‬
‫‪ Tu-16‬ومقاتــات ‪ MiG-21‬املعدلــة)‪ ،‬بــل وعــدوا عبــد النــارص خــال زيارتــه ملوســكو‬
‫يف ينايــر ‪ ،1970‬بتقديــم نظــام دفــاع جــوي متكامــل مــن صواريــخ "ســام ‪ "6-‬التــي‬
‫ال تســتطيع مــر بدونهــا أن تدخــل حربًــا أخــرى‪ ،‬كــا قــرروا‪ -‬يف "لفتــة عســكرية‬
‫رصيحــة"‪ -‬إرســال الطياريــن والفنيــن واملدربــن الــروس للمســاعدة يف إعــادة بنــاء‬
‫الجيــش املــري وتشــغيل دفاعاتــه الجويــة‪ (((.‬كان بضــع عــرات مــن املدربــن قــد‬
‫وصلــوا مــر رفقــة الدفعــة األوىل مــن األســلحة الســوفيتية يف عــام ‪ ،1957‬لكــن هــذا‬
‫العــدد بلــغ مــع الشــحنات الجديــدة ثالثــة آالف مــدرب عــام ‪ ،1967‬ثــم خمســة عــر أل ًفــا‬
‫عــام ‪ ،1970‬وصـواًلً إىل عرشيــن ألــف خبــر بحلــول عــام ‪ (((.1972‬يف املقابــل‪ ،‬كان عــى‬
‫عبــد النــارص بالطبــع أن يقــدم بعــض التســهيالت لألســطول الســوفيتي الخــاص بالبحــر‬
‫املتوســط يف مينــايئ اإلســكندرية وبــور ســعيد‪ ،‬باإلضافــة إىل خمــس قواعــد جويــة موزعــة‬
‫(((‬
‫يف جميــع أنحــاء البــاد‪.‬‬

‫‪1- James Scott, The Attack on the Liberty: The Untold Story of Israel’s Deadly 1967 Assault on a‬‬
‫‪U.S. Spy Ship, New York: Simon & Schuster, 2009.‬‬
‫‪2- Gamasy, October War, 117.‬‬
‫‪3- McDermott, Egypt from Nasser to Mubarak, 155–63.‬‬
‫‪4- Saad El-Din Shazly, The Crossing of the Suez: The October War (1973), London: Third World‬‬
‫‪Centre for Research and Publishing, 1980, 71.‬‬

‫‪143‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫انشــغال عبــد النــارص باالســتعدادات للحــرب أجــره عــى تكليــف مرؤوســيه األمنيــن‬
‫والسياســيني بالشــؤون الداخليــة‪ .‬وقــد مهــد تفكيكــه لنفــوذ املخابــرات العامــة والجيــش يف‬
‫الســلطة‪ ،‬الطريــق أمــام صعــود الثــايث األمنــي املســيطر‪ :‬ســامي رشف وشــعراوي جمعــة‬
‫وعــي صــري‪ .‬وأدى التقــارب مــع االتحــاد الســوفيتي إىل تعزيــز صعــود هــذا الثــايث إىل‬
‫أبعــد مــن ذلــك‪ ،‬إثــر تهميــش زكريا املــوايل ألمريكا (املســؤول األمنــي األكرث نفــوذًا واألقرب‬
‫لعبــد النــارص)‪ ،‬ومحافظــة الــروس عــى روابــط قويــة مــع كل منهــم (كــا ســنذكر يف‬
‫الفصــل التــايل)‪ ،‬حتــى اشـتُهر هــذا الثــايث الجديــد بــن األوســاط الشــعبية بأنــه "حكومــة‬
‫مــر الخفيــة"‪ (((.‬لكــن التســمية التــي طغــت كانــت تلــك التــي أطلقهــا هيــكل عليهــم حــن‬
‫ســاهم بـــ "مراكــز القــوى"‪ .‬ومــرة أخــرى‪ ،‬بــدأ األشــخاص الذيــن اعتمــد عليهــم الرئيــس‬
‫عبــد النــارص يف الدفــاع عــن نظامــه بتطويــر أجنداتهــم الخاصــة‪ .‬إن الســؤال األبــرز يف‬
‫هــذه املرحلــة هــو‪ :‬كيــف مل تح ِّفــز هــذه الهزميــة انــدالع ثــورة شــعبية‪ -‬تســاعدها رمبــا‬
‫بضعــة فــرق عســكرية متمــردة‪ -‬كــا حــدث يف روســيا وبروســيا بعــد الحــرب العظمــى؟‬
‫نســبيا اإلجابــة عــى الجــزء املتعلــق بالجيــش فقــد كان يف حالــة صدمــة‬ ‫ً‬ ‫مــن الســهل‬
‫تامــة‪ ،‬وبقــدر مــا كانــت الهزميــة مهينــة إال أن األســوأ أنهــا مل تســتغرق ســوى ســتة أيــام‬
‫عاطفيــا ضــد أعظــم قوتــن بريتــن يف أوروبــا‪،‬‬
‫ً‬ ‫رسيعــة‪ .‬وعــى عكــس الجنــود املشــحونني‬
‫مل يقاتــل الجنــود املرصيــون إال نــاد ًرا خــال هــذه األيــام‪ .‬كــا أن آثــار عقــد مــن تســييس‬
‫الجيــش والســيطرة األمنيــة‪ -‬وهــو يشء ال مثيــل لــه يف جيــوش قيــارصة روســيا أو بروســيا‪-‬‬
‫احتاجــت إىل ســنوات يك تتــاىش متا ًمــا‪.‬‬
‫لكــن‪ ،‬إن كان كل هــذا يفــر عــدم تحــرك الجيــش‪ ،‬فــا هــي أســباب الخضــوع الشــعبي؟‬
‫يف الحقيقــة‪ ،‬قــام النــاس باحتجاجــات عديــدة‪ ،‬حيــث خرجــت انتفاضــات طالبيــة وعاملية‬
‫ضخمــة يف فربايــر ونوفمــر عــام ‪ -1968‬وهــي األوىل مــن نوعهــا منــذ عــام ‪ -1954‬حيــث‬
‫أطلــق عــال الصلــب يف حلــوان املوجــة األوىل مــن االحتجاجــات يف ‪ 21‬فربايــر ضــد مــا‬
‫اعتــروه عقوبــات مخففــة ضــد اإلهــال العســكري أثنــاء الحــرب‪ .‬ورسعــان مــا أشــعلت‬
‫هــذه الــرارة احتجاجــات يف املصانــع والجامعــات يف جميــع أنحــاء البــاد‪ .‬ومــع ذلــك‪،‬‬
‫مــن املالحــظ أن مطالــب الطــاب كانــت أكــر حــدة وشــمولية‪ ،‬وارتقــت يف األســاس إىل‬
‫‪ -1‬جــال حــاد‪ ،‬الحكومــة الخفيــة يف عهــد عبــد النــارص‪ ،‬القاهــرة‪ :‬الشــارقة املتحــدة للطباعــة والنــر والتوزيع‪،‬‬
‫‪ ،2008‬ص ‪.1‬‬

‫‪144‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬دولتان داخل الدولة "الطريق إىل يونيو ‪"1967‬‬

‫مســتوى التنديــد الشــامل بالنظــام ككل‪ ،‬حيــث رددوا هتافــات "لتســقط الدولــة العســكرية!"‬
‫و"تســقط الدولــة البوليســية!" يف نفــس الوقــت‪ ،‬وكأنهــم يشــرون إىل أنهــم لــن يقبلــوا‬
‫بتغيــر بســيط يف تعيينــات مســؤويل القمــع األمنــي‪.‬‬
‫حــارصت الدبابــات العســكرية املتظاهريــن وحلَّ َقــت املروحيــات فــوق رؤوســهم‪ -‬فالجيــش‬
‫ال زال يحتفــظ ببعــض ســطوته الســابقة‪ -‬لكــن هــذا كان فقــط للرتهيــب وللتأكــد مــن أن‬
‫األمــور لــن تخــرج عــن الســيطرة‪ .‬كان مــن املتوقــع أن تفــرض وزارة الداخليــة النظــا َم‪،‬‬
‫وقــد فعلــت ذلــك بطريقــة انتقاميــة‪ :‬بعــد أن اســتمرت مظاهــرات فربايــر ونوفمــر‬
‫ملــا يقــارب األســبوع‪ ،‬فرقتهــا وزارة الداخليــة بعــد أن اســتخدمت الذخــرة الحيــة‪ ،‬مــا‬
‫شــخصا وإصابــة ســبعمئة واثنــن وســبعني آخريــن‬ ‫ً‬ ‫أســفر عــن مقتــل واحــد وعرشيــن‬
‫بجــروح‪ ،‬واعتقــال ألــف ومئــة متظاهــر‪ (((.‬قــد يكــون ســبب احتــواء مظاهــرات عــام ‪1968‬‬
‫(وهــو عــام حاســم بالنســبة للعــال والطــاب يف مــر وحــول العــامل) التحــول الرسيــع‬
‫مــن القمــع العســكري إىل القمــع البوليــي‪ ،‬قبــل أن تتــاح للمتظاهريــن فرصــة التعبــر‬
‫عــن مطالبهــم‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬مل تكــن وحشــية الرشطــة يف تلــك األحــداث ســوى إحــدى‬
‫أعــراض القمــع املتجــذر يف مــر منــذ عــام ‪ 1952‬ملواجهــة أي محاولــة ثوريــة‪ ،‬ســواء‬
‫أكانــت وحشــية األجهــزة األمنيــة العســكرية أو املدنيــة‪ .‬إن الســبب الحقيقــي لفشــل هــذه‬
‫التظاهــرات يف إحــداث تغيــر شــامل هــو أن قبضــة النظــام األمنيــة املشــددة نــاد ًرا مــا‬
‫ســمحت للنشــطاء بتنظيــم صفوفهــم لتنفيــذ ثــورة واســعة النطــاق‪ -‬وهــي ظاهــرة تكــررت‬
‫يف ثــورة ‪.2011‬‬
‫ولكــن رغــم فشــل متظاهــري عــام ‪ ،1968‬فقــد قدمــوا ألركان الحكــم الجديــد ذريعــة‬
‫إلقنــاع الرئيــس بعــدم التفكــر بجديــة يف االنتقــال إىل الدميقراطيــة‪ ،‬بحجــة أن الشــارع‬
‫يتأثــر مبــا يــروج لــه عمــاء مدعومــون مــن الخــارج‪ ،‬وأن أي نشــاط معــارض كهــذا يف‬
‫وقــت الحــرب لــن يكــون مقبـواًلً البتــة‪ .‬ومــرة أخــرى‪ ،‬ضاعــت فرصــة التحــول نحــو نظــام‬
‫ســيايس منفتــح‪ ،‬ففــي املــرة األوىل‪ -‬عــام ‪ -1954‬طالبــت بذلــك األغلبيــة داخــل ســلك‬
‫الضبــاط الذيــن أثــار تدخــل الجيــش يف الشــؤون السياســية قلقهــم‪ .‬ويف عــام ‪،1967‬‬
‫تأكــدت هــذه املخــاوف للجميــع‪ ،‬وكان مــن املفــرض أن تكــون االحتجاجــات املطالبــة‬
‫‪ -1‬لطفــي الخــويل‪ ،‬حــرب يونيــو ‪ 1967‬بعــد ثالثــن ســنة‪ ،‬القاهــرة‪ :‬مركــز األهــرام للرتجمــة والنــر‪ ،1997 ،‬ص‬
‫‪ ،45-27‬ص ‪.153-149‬‬

‫‪145‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫بالدميقراطيــة أكــر فعاليــة‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬فقــد اســتطاعت األجهــزة األمنيــة يف كلتــا‬
‫الحالتــن إســكات أصــوات املعارضــة ومنعتهــم مــن املطالبــة بــأي مطلــب مــن هــذا القبيــل‪.‬‬
‫لكــن رمــز القيــادة والصمــود تحطــم هــذه املــرة‪ ،‬وشــارف حكــم عبــد النــارص عــى بلــوغ‬
‫خــط النهايــة‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫القضاء عىل دوائر النفوذ‪ :‬ثورة التصحيح يف مايو ‪1971‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫القضاء عىل دوائر النفوذ‪ :‬ثورة التصحيح يف مايو ‪1971‬‬


‫مل تكــن وفــاة جــال عبــد النــارص املبكــرة يف ‪ 28‬ســبتمرب ‪ 1970‬إثــر نوبــة قلبيــة لتأيت يف‬
‫وقــت أســوأ مــن هــذا‪ ،‬فقــد أحدثــت موجــة حــزن عارمــة يف جميــع أنحــاء البــاد‪ ،‬حيــث‬
‫خــرج ســبعة ماليــن مــن املعزيــن يف موكــب الجنــازة الــذي بلــغ طولــه عــرة كيلومــرات‪-‬‬
‫لعلــه األكــر يف التاريــخ‪ -‬وأُجــر منظمــو الجنــازة عــى نقــل جثامنــه مــن منطقــة إىل‬
‫أخــرى داخــل العاصمــة عــر مروحيــة لتجنــب تزاحــم املواطنــن الباكــن عليــه‪.‬‬
‫فضـ ًـا عــن تعلــق النــاس بشــخصية عبــد النــارص الكاريزميــة األبويــة‪ ،‬فقــد بــدت الزعامــة‬
‫السياســية شــاغرة بشــكل مقلــق‪ ،‬ألنــه مل يهيــئ أح ـ ًدا يخلفــه مــن بعــده‪ .‬والجميــع نظــروا‬
‫إىل نائــب الرئيــس أنــور الســادات‪ ،‬كشــخص ضعيــف ال يحظــى بشــعبية داخــل الجيــش وال‬
‫خارجــه‪ .‬قبــل انقــاب عــام ‪ ،1952‬كان الســادات ضابطًــا يف ســاح اإلشــارة‪ ،‬أحــد أكــر‬
‫الفــروع العســكرية تواض ًعــا حيــث تقتــر مهمتــه عــى مجــال االتصــاالت‪ .‬وعــى عكــس‬
‫معظــم الضبــاط األحــرار‪ ،‬مل يكــن قــد خــاض حربًــا مــن قبــل‪ ،‬ففــي حــرب عــام ‪1948‬‬
‫يف فلســطني كان هاربًــا مــن الســجن‪ ،‬حيــث اعتُقــل بعــد تواطــؤه مــع النازيــن لغــزو‬
‫مــر عــى أمــل طــرد االحتــال الربيطــاين‪ .‬ثــم حصــل عــى عفــو ملــي وأعيــد دمجــه‬
‫يف الســلك العســكري بعــد انضاممــه إىل الحــرس الحديــدي‪ ،‬وهــي منظمــة رسيــة مكرســة‬
‫الغتيــال أعــداء امللــك فــاروق السياســيني‪.‬‬
‫بعــد االنقــاب‪ ،‬عاتبــه رفاقــه ألنــه مل يبلغهــم مبكانــه ليلــة االنقــاب‪ ،‬فقــد اصطحــب‬
‫زوجتــه يف تلــك الليلــة إىل الســينام وتشــاجر مــع أحــد املشــاهدين وانتهــى بــه األمــر يف‬
‫مركــز الرشطــة‪ .‬اشــتبه الضبــاط األحــرار حينهــا أنــه خطــط الســتخدام تذاكــر الســينام‬
‫وتقريــر الرشطــة كأعــذار تثبــت غيابــه عــن القــر فيــا لــو فشــل االنقــاب‪ ،‬وإذا نجــح‬
‫فســيدعي أن األوامــر مل تصلــه يف الوقــت املناســب‪ -‬وهــو مــا ادعــاه حينهــا بالفعــل‪ .‬لكــن‬
‫وأســقطت عنــه االتهامــات‪ ،‬ليعلــن الســادات بعدهــا‬ ‫عبــد النــارص تدخــل لصالحــه حينهــا ُ‬
‫يف أحــد االجتامعــات األوىل ملجلــس قيــادة الثــورة أنــه يعطــي حقــه يف التصويــت لعبــد‬
‫النــارص‪ ،‬مــا دعــم قــدرة األخــر عــى اتخــاذ القــرارات التــي يراهــا مناســبة‪ .‬وبســبب‬
‫هــذا املوقــف اإليجــايب بــات الســادات العضــو الوحيــد يف مجلــس قيــادة الثــورة الــذي‬

‫‪148‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬القضاء عىل دوائر النفوذ‪ :‬ثورة التصحيح‪...‬‬

‫بقــي إىل جانــب عبــد النــارص حتــى النهايــة‪ .‬وبســبب إرصار عبــد النــارص عــى تنــاوب‬
‫املرشــحني املوثوقــن عــى منصــب نائــب الرئيــس‪ ،‬وجــد الســادات نفســه الخليفــة الرشعــي‬
‫ـض يف منصبــه ذاك بضعــة أشــهر‪.‬‬ ‫لحكــم عبــد النــارص‪ ،‬رغــم أنــه مل ُمُيـ ِ‬
‫بغــض النظــر عــن الهواجــس الشــعبية‪ ،‬فقــد أثــارت رئاســة الســادات قلــق الضبــاط‪ ،‬خاصــة‬
‫وأن الجيــش بــدأ العــد التنــازيل للحــرب بعــد أن وعــد عبــد النــارص بتحريــر ســيناء مــن‬
‫االحتــال اإلرسائيــي يف غضــون أشــهر قليلــة‪ ،‬فشــخصية الســادات الضعيفــة وافتقــاره‬
‫التــام للخــرة الحربيــة قــد يدفعــه للتخــي عــن الخيــار العســكري والبحــث عــن الســام‬
‫مــع إرسائيــل‪ .‬كــا رأوا أن طبيعتــه التآمريــة‪ -‬التــي تظهرهــا مؤامراتــه مــع النازيــن عــى‬
‫حكــم امللــك قبــل االنقــاب‪ -‬ســتدفعه لعقــد صفقــات رسيــة مــع أمريــكا‪ ،‬فهــي الدولــة‬
‫الوحيــدة القــادرة عــى الضغــط عــى إرسائيــل‪.‬‬
‫وهكــذا أمــل الضبــاط يف وصــول رئيــس أكــر حز ًمــا إىل القيــادة يف هــذه األوقــات‬
‫العصيبــة تحديـ ًدا‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬مل يكــن منصــب الســادات كنائــب للرئيــس هــو الــذي فضــل‬
‫ترشــيحه‪ ،‬بــل تــوازن القــوى بــن دوائــر النفــوذ التــي تركهــا عبــد النــارص مــن بعــده‪ .‬فقــد‬
‫شــهد خريــف عــام ‪ 1970‬ســعي ثالثــة مــن أقطــاب األجهــزة األمنيــة لتوطيــد نفوذهــم يف‬
‫البــاد‪ :‬فســيطر عــي صــري رئيــس املخابــرات العامــة األســبق عــى االتحــاد االشــرايك‬
‫ورئيســا للتنظيــم الطليعــي الــري التابــع‬
‫الحاكــم‪ ،‬و ُعــن شــعراوي جمعــة وزيـ ًرا للداخليــة ً‬
‫لالتحــاد االشــرايك‪ ،‬بينــا تــرأس ســامي رشف مكتــب الرئيــس للمعلومــات‪ .‬ورغــم أن‬
‫التنظيــم الطليعــي واملخابــرات العامــة كانــا أقــوى بكثــر مــن مكتــب الرئيــس للمعلومــات‬
‫الــذي يســيطر عليــه رشف‪ ،‬إال أن األخــر اســتكمل قوتــه التنظيميــة بالتحالــف مــع قريبــه‬
‫وزيــر الحربيــة محمــد فــوزي‪ ،‬وتوليــة مســاعده يف مكتــب الرئيــس أحمــد كامــل لرئاســة‬
‫جهــاز املخابــرات العامــة‪.‬‬
‫أدى مــوت عبــد النــارص املفاجــئ إىل دفــع هــؤالء املتنفذيــن للتفــاوض عــى ترتيــب جديــد‬
‫للســلطة‪ .‬فانقســموا بــن قائلــن بــرورة تــويل شــخص مــن بينهــم ملنصــب الرئاســة‪،‬‬
‫وآخريــن يقولــون بــأن مــن الحكمــة تنصيــب رئيــس شــكيل وإدارة البــاد باســمه‪ -‬كــا‬
‫فعلــوا يف األيــام األخــرة مــن عهــد عبــد النــارص‪ -‬دون تحمــل املســؤوليات والتبعــات‬
‫التــي يفرضهــا منصــب الرئاســة‪ .‬واســتقر بهــم األمــر عــى تنصيــب رئيــس مــن بينهــم‪،‬‬

‫‪149‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫رئيســا بشــكل مؤقــت والحكــم مــن خاللــه ريثــا ينظمــون‬


‫واتفقــوا عــى انتخــاب الســادات ً‬
‫صفوفهــم فيســتبدلونه‪ -‬كــا اعتقــدوا‪ -‬بســهولة‪ .‬وليتأكــدوا مــن بقــاء الرئيــس الجديــد‬
‫تحــت ســيطرتهم‪ ،‬قــرروا محارصتــه مــن جميــع الجهــات‪ ،‬برتقيــة عــي صــري إىل منصــب‬
‫نائــب الرئيــس‪ ،‬وســامي رشف إىل وزيــر لشــؤون الرئاســة‪ .‬بــدا تنصيــب الســادات وكأنــه‬
‫رهــان آمــن‪ ،‬إذ مل يكــن لــه أتبــاع يف املؤسســة العســكرية أو األمنيــة‪ ،‬ومل يشــغل أي منصــب‬
‫تنفيــذي بــن عامــي ‪ 1956‬و‪ ،1969‬وكان مــن أقــل السياســيني شــعبية داخــل االتحــاد‬
‫االشــرايك العــريب‪ ،‬والنــاس ينظــرون إليــه بشــكل كبــر كشــخص طفيــي‪.‬‬
‫مل ينفــرد الضبــاط وحدهــم بهــذا التقديــر‪ ،‬فقــد اعتقــد األمريكيــون أن الســادات لــن‬
‫يســتمر يف الحكــم ألكــر مــن بضعــة أســابيع‪ ،‬ووصفــه هــري كيســنجر بأنــه مهــرج‬
‫ســيايس‪ (((.‬كــا اعــرف محمــد حســنني هيــكل‪ ،‬رئيــس تحريــر جريــدة األهــرام وأقــرب‬
‫مستشــاري عبــد النــارص والــذي شــارك يف املناقشــات حــول مــن يخلــف عبــد النــارص‬
‫وأدار الحملــة االنتخابيــة للســادات‪ ،‬بأنــه كان يعــرف مــدى ضعفــه‪ ،‬لكنــه أمــل يف أن‬
‫"مســؤوليات الرئاســة مــن شــأنها أن تســتثري العنــارص اإليجابيــة يف شــخصيته وتعززهــا‬
‫ومتكنــه مــن التغلــب عــى العنــارص الضعيفــة فيهــا‪ ،‬حيــث كان منــوذج الرئيــس األمريــي‬
‫ـرا وليــس آخ ـ ًرا‪ ،‬أشــار الســادات نفســه يف مذكراتــه إىل أنــه‬
‫ترومــان يف ذهنــه"‪ (((.‬وأخـ ً‬
‫(((‬
‫ُرشــح للرئاســة فقــط بســبب ضعفــه الواضــح‪.‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬كان لديــه مــا يعتمــد عليــه‪ ،‬فصحيــح أنــه ال يحظــى بأتبــاع وال مؤيديــن‪ ،‬ولكــن‬
‫خدمتــه كأمــن عــام لالتحــاد القومــي (‪ )1961-1957‬وكرئيــس للربملــان (‪،)1969-1961‬‬
‫باإلضافــة إىل فــرة عملــه القصــرة كنائــب للرئيــس‪ ،‬زودتــه بخــرة واســعة يف كيفيــة‬
‫تدبــر املكائــد السياســية‪ .‬واألهــم مــن ذلــك رمبــا‪ ،‬أنــه أدرك االنقســامات التــي يعــاين‬
‫منهــا خصومــه وانعــدام الثقــة فيــا بينهــم‪ ،‬وقــد صمــم‪ -‬كــا اعــرف يف مقابلــة الحقــة‪-‬‬
‫عــى لعــب أوراقــه بعنايــة وفــق خطــة "فــرق تســد"‪ (((.‬فبــدأ بتشــكيل تحالــف قوامــه مــن‬

‫‪1- Henry Kissinger, White House Years, New York: Little, Brown, 1979, 1276–77.‬‬
‫‪2- Mohamed Hassanein Heikal, Autumn of Fury: The Assassination of Sadat, London: Andre‬‬
‫‪Deutsch, 1983, ix.‬‬
‫‪ -3‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.163‬‬
‫‪ -4‬أنيس منصور‪ ،‬من أوراق السادات‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار املعارف‪ ،2009 ،‬ص ‪.420‬‬

‫‪150‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬القضاء عىل دوائر النفوذ‪ :‬ثورة التصحيح‪...‬‬

‫عنــارص الحــرس الجمهــوري وضبــاط الرشطــة والعســكريني املحرتفــن‪ ،‬وتفــوق بذلــك عىل‬
‫دوائــر النفــوذ رغــم قدمهــم ورســوخهم يف املؤسســات العســكرية واألمنيــة والسياســية‪.‬‬

‫محاولة عرقلته‬
‫رئيســا مؤقتًــا ريثــا يرتبــون بيتهــم الداخــي‪ ،‬وفهــم أن‬
‫أدرك الســادات أن خصومــه أرادوه ً‬
‫مــرور الوقــت ليــس يف صالحــه‪ .‬لــذا‪ ،‬رشع يف العمــل عــى الفــور وأصــدر العديــد مــن‬
‫جزئيــا إىل تعزيــز اســتقالليته كرئيــس‪ ،‬لكنهــا ســعت يف الغالــب‬
‫القــرارات التــي هدفــت ً‬
‫إىل تشــتيت انتبــاه خصومــه وإبقائهــم منقســمني حــول كيفيــة الــرد‪ .‬وكمثــال عــى هــذه‬
‫القــرارات‪ ،‬تعيينــه الدبلومــايس املخــرم محمــود فــوزي كرئيــس للــوزراء‪ ،‬وإثــارة الحديــث‬
‫مجــد ًدا حــول خطــط إنشــاء اتحــاد عــريب بــن مــر وســوريا وليبيــا ورمبــا الســودان‪-‬‬
‫وهــي املحاولــة الثانيــة لتوحيــد العــامل العــريب بعــد تفــكك الوحــدة املرصيــة الســورية‬
‫عــام ‪ .1961‬حــرم القــرار األول بــذكاء دوائــر النفــوذ مــن تعيــن أحدهــم يف منصــب‬
‫ـا مل يجــرؤ أحــد عــى االعــراض عليــه‬ ‫رئاســة الــوزراء‪ ،‬بينــا قــدم يف الوقــت نفســه اسـ ً‬
‫فقــد شــغل محمــود فــوزي منصــب وزيــر خارجيــة مــر لســنوات‪ ،‬وكان كبــر مستشــاري‬
‫عبــد النــارص للشــؤون الدوليــة‪ ،‬ويتمتــع بســمعة طيبــة وكفــاءة وحياديــة سياســية‪ .‬فــا‬
‫يســتطيع خصــوم الســادات‪ -‬الذيــن ادعــوا التمســك بنهــج عبــد النــارص‪ -‬الطعــن يف والء‬
‫فــوزي إلرث ســيدهم‪ ،‬وال ميكنهــم إنــكار أن الوضــع الجيوســيايس الهــش يف البــاد يتطلــب‬
‫را لرئاســة الــوزراء‪.‬‬
‫دبلوماسـ ًـيا خب ـ ً‬
‫كان اإلعــان عــن تشــكيل االتحــاد العــريب مبثابــة حركــة بارعــة أخــرى‪ ،‬فبعــد أن أثــار‬
‫خصومــه ضجــة خــال اجتــاع اللجنــة التنفيذيــة العليــا لالتحــاد االشــرايك العــريب يف ‪6‬‬
‫مــارس ‪ 1971‬لاللتــزام بشــن الحــرب عــى إرسائيــل يف يونيــو‪ ،‬إذ تراجــع الســادات عــن‬
‫قــرار الحــرب متذر ًعــا باإلجــراءات املطولــة الالزمــة لدخولهــا‪ ،‬وادعى الســادات أنــه يحاول‬
‫تعزيــز قــوة مــر تجهـ ًزا للحــرب ال مجــرد املامطلة‪ .‬واألهــم من ذلــك أن اتفاقيــة االتحاد‪-‬‬
‫بنــا ًء عــى طلــب الســادات‪ -‬دعــت إىل إصــاح مؤســي اســتعدا ًدا لالندمــاج املقصــود‪ ،‬مــا‬
‫(((‬
‫أتــاح لــه فرصــة مثينــة إلخــراج منافســيه مــن املؤسســات الجديــدة دون مواجهتهــم‪.‬‬

‫‪ -1‬أحمد حمروش‪ ،‬غروب يوليو‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار املستقبل العريب‪ ،‬ص ‪ ،187‬ص ‪.37‬‬

‫‪151‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫أمــام تحــركات الســادات الجريئــة والرسيعــة قــرر خصومــه املواجهــة‪ ،‬إذ كان بإمكانهــم‬
‫رئيســا للــوزراء‪ ،‬لكــن قــرار تشــكيل االتحــاد العــريب كان‬‫قبــول تعيــن محمــود فــوزي ً‬
‫قاتـ ًـا بالنســبة لهــم‪ ،‬ألنهــم علمــوا أن الســادات يخطــط الســتخدامه كذريعــة إلبعادهــم عن‬
‫مناصبهــم ومراكــز القــرار‪ .‬وبعــد إعالنــه عن تشــكيل االتحــاد يف ‪ 21‬أبريــل ‪ ،1971‬حرصت‬
‫دوائــر النفــوذ عــى اســتخدام اللجنــة التنفيذيــة العليــا لالتحــاد االشــرايك لحــق النقــض‬
‫ضــده‪ .‬وعندمــا حــاول االلتفــاف عــى هذا النقــض مبناشــدة اللجنــة املركزية لالتحــاد‪ ،‬قدم‬
‫ـرت يف‬ ‫لــه ســامي رشف مذكــرة (بتاريــخ ‪ 20‬أبريــل) يزعــم فيهــا أن القــوات املســلحة عـ َّ‬
‫اســتفتاء عــام عــن رفضهــا القاطــع لالتحاد العــريب‪ -‬رغم أن الســادات مل يأمــر بإجراء هذا‬
‫(((‬
‫االســتفتاء لكــن رشف قــام بــه عــى أي حــال ليثبــت أن الضبــاط متحمســون للقتــال اآلن‪.‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬كانــت الخطــوات الحاســمة رضوريــة بالنســبة لــرف ومــن معــه ملواجهــة‬
‫انقــاب الســادات غــر املتوقــع‪ ،‬واتفقــوا جمي ًعــا عــى وجــوب خلعــه‪ ،‬لكنهــم اختلفــوا يف‬
‫كيفيــة فعــل ذلــك‪ .‬كان الخيــار األول االنقــاب عليــه‪ ،‬لكنــه بــدا مــن الصعــب ج ـ ًدا جــر‬
‫الجيــش إىل معركــة سياســية يف القاهــرة فيــا تحتــل إرسائيــل ســيناء‪ .‬باإلضافــة إىل ذلــك‪،‬‬
‫أوضحــت تقاريــر املخابــرات العامــة أن الضبــاط رفضــوا العــودة إىل خــوض الرصاعــات‬
‫السياســية‪ ،‬خاصــة يف الوقــت الــذي ال زالــوا فيــه يحاولــون معالجــة املشــكالت الناجمــة‬
‫أيضــا أن تطهــر عبــد النــارص الشــامل‬
‫عــن الــزج بالجيــش يف السياســة‪ .‬علينــا أن نتذكــر ً‬
‫للقــوات املســلحة بعــد عــام ‪ 1967‬تــرك بعــض الضبــاط ممــن بقــوا عــى مقربــة مــن‬
‫العمــل الســيايس‪ .‬وقــد جعــل الســادات مــن أولوياتــه الســيطرة عــى الجيــش يك يتمكــن‬
‫مــن تصفيــة دوائــر النفــوذ‪ .‬بــن أكتوبــر وديســمرب ‪ ،1970‬زار الســادات الخطــوط األماميــة‬
‫بشــكل متكــرر وعقــد أربــع اجتامعــات مــع كبــار الضبــاط‪ .‬يف ‪ 1‬ديســمرب‪ ،‬وخــال اجتــاع‬
‫اســتمر لتســع ســاعات مــع هيئــة األركان‪ ،‬تعهــد بشــن الحــرب مبجــرد أن يتــم الجيــش‬
‫اســتعداداته‪ ،‬وأعلــن أن عــام ‪ 1971‬ســيكون عــام الحســم‪ ،‬كــا أملــح إىل أن منافســيه‬
‫(((‬
‫را بزيــادة حجــم القــوات بنســبة قدرهــا ‪.٪25‬‬
‫ومغامراتهــم التافهــة تعيقــه‪ ،‬ووعدهــم أخـ ً‬
‫رغــم كل ذلــك‪ ،‬مــى وزيــر الحربيــة محمــد فــوزي يف التخطيــط لالنقــاب‪ ،‬ففــي ‪21‬‬
‫أبريــل أصــدر توجي ًهــا مكتوبًــا بخــط اليــد إىل قائــد األركان محمــد صــادق يأمــره بإعــداد‬
‫‪ -1‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.299‬‬
‫‪ -2‬حمروش‪ ،‬غروب يوليو‪ ،‬ص ‪.30‬‬

‫‪152‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬القضاء عىل دوائر النفوذ‪ :‬ثورة التصحيح‪...‬‬

‫خطــة طــوارئ لتأمــن العاصمــة عــر وحــدات الرشطــة العســكرية‪ -‬الكتيبــة السادســة‬
‫امليكانيكيــة واللــواء ‪ 22‬مشــاة ميكانيــي‪ .‬وأضــاف يف رســالته‪ -‬بشــكل مثــر للريبــة‪ -‬أنــه‬
‫مبجــرد تفعيــل خطــة الطــوارئ هــذه‪ ،‬فلــن يتلقــى الجيــش تعليامتــه إال مــن خاللــه هــو‬
‫أي فــوزي وشــعراوي جمعــة وســامي رشف‪ .‬وبــداًلً مــن أن يتبــع صــادق هــذه التوجيهــات‪،‬‬
‫تحفــظ عليهــا وأبلــغ هيــكل خــال األســبوع األول مــن مايــو أنــه فيــا لــو واجــه الرئيــس‬
‫الســادات أي تحديــات داخليــة‪ ،‬فلــن يكتفــي بدعمــه وحشــد بقيــة الضبــاط خلفــه‪ ،‬بــل‬
‫(((‬
‫ســيرشك معــه قائــد الحــرس الجمهــوري‪ -‬املكــون مــن كتيبتــن‪ -‬الليثــي ناصــف يف ذلــك‪.‬‬
‫غضــب صــادق مــن املؤامــرات السياســية الغــادرة التــي يُخطَّــط لهــا يف العاصمــة يف وقــت‬
‫يجــب فيــه توجيــه كل االهتــام إىل املجهــود الحــريب‪ ،‬وعقــد العــزم عــى أال يخــر معركــة‬
‫أخــرى مــع إرسائيــل‪ .‬لقــد أراد ببســاطة مــع بقيــة القــوات املســلحة أن يكســب الحــرب‪،‬‬
‫واعتقــدوا أن املشــاحنات السياســية تؤجــل ذلــك‪ .‬وكــا اعــرف اللــواء ناصــف الح ًقــا لزميله‬
‫الضابــط حســن حمــودة‪ ،‬فقــد حــذره صــادق مــن أنــه إذا حدثــت أي خيانــة للســادات‪،‬‬
‫فسيحشــد الجيــش ملنــع حــدوث ذلــك حتى لــو أدى األمــر إىل حــام دم‪ (((.‬أعطى الســادات‬
‫ناصــف داف ًعــا أقــوى للبقــاء معــه‪ ،‬حيــث زعــم أن دوائــر النفــوذ تتآمــر إلزاحتــه مــن منصبه‬
‫واســتبداله بأحــد املوالــن لهــا‪ .‬وبنــا ًء عليــه‪ ،‬حــذر ناصــف رشف مــن أنــه وحلفــاءه يجــب‬
‫أال يســمحوا لخالفاتهــم مــع الســادات أن تصــل إىل نقطــة املواجهــة العنيفــة‪ ،‬وإال فســيكون‬
‫(((‬
‫مضطـ ًرا لاللتــزام بواجبــه الدســتوري يف الدفــاع عــن الرئيــس‪.‬‬
‫مــع تــايش احتــاالت حــدوث انقــاب عســكري‪ ،‬وضــع املتآمــرون اآلن رهاناتهــم عــى‬
‫االنقــاب الســيايس‪ .‬كان مــن املقــرر اإلطاحــة بالســادات مــن خــال قــرار صــادر عــن‬
‫االتحــاد االشــرايك العــريب‪ -‬متا ًمــا كــا طــرد الزعيــم الســوفيتي نيكيتــا خروتشــوف‬
‫مــن الســلطة يف عــام ‪ -1964‬لكــن معظــم أعضــاء اللجنــة املركزيــة الذيــن اتصلــوا بهــم‬
‫بــدوا مرتدديــن يف إثــارة املشــكالت دون ذريعــة واضحــة‪ .‬لــذا‪ ،‬اتُّخــذ القــرار بإثــارة أزمــة‬

‫‪ -1‬هيكل‪ ،‬خريف الغضب‪ ،‬ص ‪.41-40‬‬


‫‪ -2‬حســن حمــودة‪ ،‬أرسار حركــة الضبــاط األحــرار واإلخــوان املســلمني‪ ،‬القاهــرة‪ :‬الزهــراء لإلعــام العــريب‪،‬‬
‫‪ ،1985‬ص ‪.173‬‬
‫‪ -3‬سامي رشف‪ ،‬عبد النارص‪ :‬كيف حكم مرص؟‪ ،‬ص ‪.412-408‬‬

‫‪153‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫سياســية‪ -‬دســتورية مــن شــأنها أن تحفزهــم عــى العمــل‪ (((.‬ووف ًقــا للمخطــط الجديــد‪ ،‬فــإن‬
‫الــوزراء واملديريــن التنفيذيــن يف االتحــاد االشــرايك العــريب سيســتقيلون بشــكل جامعــي‬
‫احتجا ًجــا عــى اســتبداد الســادات املتزايــد‪ .‬ومبجــرد اإلعــان عــن االســتقاالت‪ ،‬ســيعمل‬
‫االتحــاد والتنظيــم الطليعــي عــى إســقاط الحكومــة مــن خــال سلســلة مــن اإلرضابــات‬
‫يف اإلدارات الرســمية والقطــاع العــام‪ .‬بعدهــا‪ ،‬تبــث إذاعــة وتلفزيــون الدولــة األناشــيد‬
‫الوطنيــة‪ ،‬وتبــث دعايــة تحفيزيــة لدفــع الجامهــر إىل الشــوارع وإجبــار الجيــش عــى‬
‫التدخــل لفــرض النظــام‪ (((.‬عندهــا ســيتعني عــى الســادات املحــارص إمــا التنحــي أو‬
‫تقاســم الســلطة مــع رشكائــه األقويــاء‪.‬‬

‫الرضبة القاتلة‬
‫كان عيــد العــال لعــام ‪ 1971‬مبثابــة تجربــة ملخططــات املتآمريــن‪ ،‬وقــد حــره عثــان‬
‫أحمــد عثــان‪ ،‬أحــد أصدقــاء الســادات املقربــن والــذي صــار الح ًقــا أغنــى رجــل يف‬
‫قائــا‪" :‬لقــد الحظــت كيــف وزع املتآمــرون صــور‬ ‫ً‬ ‫مــر‪ .‬يتذكــر عثــان ذلــك اليــوم‬
‫عبــد النــارص عــى العــال ووزعــوا أنصارهــم بشــكل منظــم يف أرجــاء القاعــة ليهتفــوا‬
‫بشــعارات مؤيــدة لعبــد النــارص يف حركــة تهــدف للتشــكيك برشعيــة الســادات"‪ (((.‬مــن‬
‫جهتــه متســك الســادات مبوقفــه‪ ،‬واختتــم حديثــه بإدانــة مدويــة ملــا تقــوم بــه دوائــر‬
‫النفــوذ قائـ ًـا "الشــعب هــو صاحــب هــذا الوطــن‪ ،‬وهــو الــذي ســيقاتل بــأرواح أبنائــه إىل‬
‫جانــب القــوات املســلحة‪ ...‬ال توجــد جامعــة متتلــك الحــق يف فــرض إرادتهــا عــى النــاس‬
‫عــر نفوذهــا‪ ...‬الشــعب وحــده هــو الســيد يف تقريــر مصــره"‪ (((.‬ويف اليــوم التــايل‪،‬‬
‫أبعــد الســادات عــي صــري مــن رئاســة االتحــاد االشــرايك ومــن منصــب نائــب الرئيــس‪،‬‬
‫واستشــار يف ذلــك محمــد فــوزي ليحمــي ظهــره‪ ،‬فيــا مل يُبـ ِـد األخــر أي اعــراض ظ ًنــا‬
‫(((‬
‫منــه أن عــزل صــري ســيوفر فرصــة لقريبــه رشف ليقــوم بخطوتــه‪.‬‬
‫مــع انتشــار أنبــاء املواجهــة املرتقبــة يف أنحــاء البالد‪ ،‬بــات من املتوقــع أن يبــدأ االصطفاف‬
‫‪ -1‬سامي رشف‪ ،‬عبد النارص‪ :‬كيف حكم مرص؟‪ ،‬ص ‪.425‬‬
‫‪2- Binder, In a Moment of Enthusiasm, 389.‬‬
‫‪ -3‬عثامن أحمد عثامن‪ ،‬صفحات من تجربتي‪ ،‬املكتب املرصي الحديث‪ ،1981 ،‬ص ‪.402‬‬
‫‪ -4‬أنيس منصور‪ ،‬من أوراق السادات‪ ،‬ص ‪.142‬‬
‫‪ -5‬حمروش‪ ،‬غروب يوليو‪ ،‬ص ‪.88‬‬

‫‪154‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬القضاء عىل دوائر النفوذ‪ :‬ثورة التصحيح‪...‬‬

‫بــن فريقــن‪ .‬يف هــذه األثنــاء‪ ،‬عــادت العديــد مــن الشــخصيات لتظهــر مــن جديــد‪ ،‬فكان‬
‫منهــم حســن التهامــي مســؤول مخابــرات عبــد النــارص املخــرم الــذي اختلــف مــع عبــد‬
‫الحكيــم عامــر واضطــر للبقــاء خــارج البــاد حتى ســقوطه‪ .‬عمــل التهامي والســادات ســويًا‬
‫عــن قــرب منــذ أربعينيــات القــرن املــايض‪ ،‬ولــذا أمــل يف أن يصبــح أكــر مســاعد أمنــي‬
‫للرئيــس بعــد رحيــل رشف ورفاقــه‪ ،‬وهــذا مــا حــدث بالفعــل‪ .‬كذلــك عــاد حافــظ إســاعيل‬
‫للظهــور مجــد ًدا‪ ،‬بعــد أن قــى املرحلــة الســابقة يف وزارة الخارجيــة حتى غيــاب عامر عن‬
‫املشــهد بالكليــة‪ ،‬ثــم ُعــن يف عــام ‪ 1970‬مديـ ًرا لجهــاز املخابــرات العامــة قبل أن يســتبدله‬
‫ســامي رشف بعــد بضعــة أشــهر مبســاعده أحمــد كامــل‪ ،‬فعينــه الســادات مستشــا ًرا لألمــن‬
‫القومــي‪ -‬وهــو منصــب جديــد مل يُســند لغــره‪ .‬ورغــم أن أيــام إســاعيل يف املخابــرات‬
‫العامــة كانــت قليلــة‪ ،‬إال أن العالقــات التــي طورهــا أفادتهــم خــال أحــداث مايــو ‪.1971‬‬
‫يف ‪ 11‬مايــو‪ ،‬حصــل الســادات عــى جائــزة مثينــة‪ :‬وصلتــه أرشطــة صوتية توضــح بالتفصيل‬
‫أيضــا الدليــل‬
‫املؤامــرة التــي تحــاك ضــده‪ .‬مل تقــدم األرشطــة إنــذا ًرا لــه فحســب‪ ،‬بــل ً‬
‫املــادي الــذي يحتاجــه ملحاكمــة منافســيه بتهمــة الخيانــة العظمــى‪ .‬لكــن مــن الــذي ســجل‬
‫هــذه األرشطــة وســلمها لــه؟ مــن املتفــق عليــه عمو ًمــا أن العديــد مــن األطــراف يقومــون‬
‫بتســجيل جلســات منافســيهم‪ ،‬ويرجــع ذلــك إىل عــدم الثقــة فيــا بينهــم‪ .‬ولــذا كلــف رشف‬
‫مكتــب الرئيــس للمعلومــات وجهــاز املخابــرات العامــة بالتجســس عــى الســادات ورشيكيــه‪،‬‬
‫جمعــة وصــري‪ .‬وباملثــل‪ ،‬طلــب جمعــة مــن املباحــث العامــة بــوزارة الداخليــة التنصــت‬
‫عــى جميــع املحادثــات الجاريــة بــن مســؤويل الدولــة‪ ،‬مبــن فيهــم املتعاونــون معــه‪ .‬ولكــن‬
‫يصعــب تحديــد هويــة مــن ســلم هــذه التســجيالت للســادات‪ ،‬رغــم ادعــاء األخــر أن‬
‫ضابــط رشطــة صغــر (النقيــب طــه زيك) الــذي تربطــه صداقــة بأحــد أصهــاره هــو مــن‬
‫أيضــا محاولــة‬
‫ســلمه األرشطــة‪ ،‬وأن األرشطــة مل تكشــف املؤامــرة االنقالبيــة فحســب‪ ،‬بــل ً‬
‫ـرا يف املخابــرات‬‫اغتيــال الرئيــس الســادات‪ (((،‬وقــد أكــد رشف روايــة الســادات وأن مخـ ً‬
‫العامــة يعمــل لصالــح التهامــي أو إســاعيل هــو مــن رسب هــذه التســجيالت‪ (((.‬لكــن‬
‫روايــة أخــرى تقــول إن ضابطًــا يف وكالــة املخابــرات املركزيــة األمريكيــة يف القاهــرة‬
‫يدعــى تومــاس تويــن هــو مــن أبلــغ الســادات باملؤامــرة‪ ،‬معتم ـ ًدا عــى معلومــات مــن‬
‫‪ -1‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.304‬‬
‫‪ -2‬رشف‪ ،‬عبد النارص‪ :‬كيف حكم مرص؟‪ ،‬ص ‪.457‬‬

‫‪155‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫أحــد مخربيــه الرسيــن يف الــي جــي يب (فالدميــر ســاخاروف) وبعــض املكاملــات التــي‬
‫اعرتضتهــا الســفارة األمريكيــة‪ (((.‬يف اليــوم التــايل‪ ،‬وبينــا اجتمــع الســادات مــع القــوات‬
‫املســلحة املتمركــزة يف الســويس‪ ،‬أبلغــه صــادق باملؤامــرة التــي تلــوح يف األفــق وأكــد لــه‬
‫(((‬
‫أنــه يقــف إىل جانبــه ألن الوقــت وقــت الحــرب ال املكائــد السياســية‪.‬‬
‫يقودنــا هــذا إىل جانــب آخــر مهــم يف الــراع الــذي دار عــى الســلطة بــن الســادات‬
‫ودوائــر النفــوذ‪ ،‬وهــو الجانــب الجيوســيايس‪ .‬مل يســتطع املتآمــرون العمــل دون توفــر دعــم‬
‫يــرق إىل مســتوى كاريزميــة‬ ‫جيوســيايس لهــم‪ ،‬وقــد أصيبــوا بالشــلل ألن أيًــا منهــم مل ّ‬
‫عبــد النــارص‪ ،‬ولــذا حاولــوا تعويــض نقــص الدعــم الشــعبي عــر التحالــف مــع االتحــاد‬
‫الســوفييتي كقــوة عظمــى‪ .‬منــذ تعيينــه مســؤواًلً عــن االتحــاد االشــرايك يف عــام ‪،1962‬‬
‫وغالبــا مــا كان يُشــار‬
‫ً‬ ‫أيديولوجيــا‪،‬‬
‫ً‬ ‫صــور عــي صــري نفســه عــى أنــه شــيوعي ملتــزم‬
‫أيديولوجيــا للشــيوعية‪ ،‬فقــد‬
‫ً‬ ‫مخلصــا‬
‫ً‬ ‫إليــه برجــل روســيا يف القاهــرة‪ .‬ورغــم أنــه مل يكــن‬
‫قــاد التنظيــم الطليعــي عــى غــرار النمــط اللينينــي الــذي اعتــره الســوفييت األمــل الوحيد‬
‫ـيوعيا‪ ،‬أن الجيــش‬‫لرتويــج الشــيوعية الحقيقيــة يف البلــد‪ .‬أوضــح فــوزي‪ ،‬الــذي مل يكــن شـ ً‬
‫بحاجــة ماســة إىل الدعــم الــرويس إلعــادة بنــاء نفســه بعــد هزميــة ‪ .1967‬فيــا اتضــح‬
‫الح ًقــا أن رشف كان عــى األرجــح أحــد عمــاء الــي جــي يب(((‪ .‬وحــن ق ـ َّد َم املتآمــرون‬
‫اســتقالتهم الجامعيــة يف ‪ 14‬مايــو‪ ،‬كان كبــر الخــراء العســكريني الــروس يف القاهــرة‬
‫(((‬
‫يتنــاول العشــاء يف منــزل رشف‪.‬‬
‫يف إطــار العالقــات الحميمــة بــن دوائــر النفــوذ والروس‪ ،‬زار صربي موســكو يف ديســمرب‬
‫‪ 1970‬لتحذيرهــم مــن نيــة الســادات تســليم البــاد إىل أمريــكا فهــي الدولــة الوحيــدة التي‬
‫ميكــن أن تســاعده يف التوصــل إىل اتفــاق ســام مــع إرسائيــل‪ .‬ويف منتصــف أبريــل ‪،1971‬‬

‫‪1- Sirrs, A History of the Egyptian Intelligence Service, 120.‬‬


‫‪2- Brooks, Shaping Strategy, 117.‬‬
‫‪ -3‬يف عــام ‪ ،1974‬نــر ضابــط منشــق مــن املخابــرات الســوفيتية (يك جــي يب) كتابًــا يكشــف عــن كيفيــة تجنيــده‬
‫لــرف عــام ‪ .1958‬وأشــار الســادات إىل الكتــاب خــال خطــاب ألقــاه أمــام الربملــان يف ‪ 14‬مــارس ‪،1974‬‬
‫را إىل أن رشف اعـترف لـ�ه يف رسـ�الة مـ�ن السـ�جن بأنـ�ه أسـ�س عالقـ�ة خاصـ�ة مـ�ع السـ�وفييت‪.‬‬ ‫مشـي ً‬
‫‪John Barron, KGB: The Secret Work of Soviet Secret Agents, New York: Reader’s Digest Press,‬‬
‫‪1974; Sirrs, A History of the Egyptian Intelligence Service, 64–65,‬‬
‫عرفت السادات‪ ،‬ص ‪.151‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -4‬جامع‪،‬‬

‫‪156‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬القضاء عىل دوائر النفوذ‪ :‬ثورة التصحيح‪...‬‬

‫أي قبــل أســبوعني مــن احتــدام املواجهــة الداخليــة‪ ،‬ســافر رشف إىل االتحــاد الســوفيتي‬
‫لطلــب مســاعدة الــروس يف إزاحــة الســادات مــن الســلطة‪ (((،‬وســاعدته يف ذلــك العديــد‬
‫مــن األدلــة املاديــة عــى تعامــل الرئيــس املــزدوج مع كل من واشــنطن وموســكو‪ .‬فقد ســجل‬
‫جهــاز املخابــرات العامــة اجتامعــات رسيــة أجريت يف مــارس ‪ 1971‬بني مبعويث الســادات‬
‫وممثــل املخابــرات األمريكيــة يف مــر دونالــد بريجــوس‪ ،‬حيــث عــرض الســادات حينهــا‬
‫(((‬
‫قطــع عالقاتــه مــع الســوفييت إذا أقنــع األمريكيــون إرسائيــل باالنســحاب مــن ســيناء‪.‬‬
‫را مــا أشــار إىل منافســيه عــى أنهــم عمــاء‬ ‫علــم الرئيــس الســادات بــكل هــذا‪ ،‬وكثــ ً‬
‫انتقاليــا فيــا يســتعدون إليصــال‬‫ً‬ ‫رئيســا‬
‫أيضــا أن الســوفييت يعتربونــه ً‬ ‫روس‪ ،‬وأدرك ً‬
‫رسا يف مــارس‬ ‫أحــد حلفائهــم إىل الســلطة‪ .‬ويف محاولــة منــه لتــدارك ذلــك زار موســكو ً‬
‫‪ 1971‬لطأمنــة القــادة الســوفييت عــى والئــه لهــم‪ ،‬وأخربهــم أنــه قــد يحتــاج إىل إجــراء‬
‫تعديــل وزاري يف القيــادة السياســية مؤكــ ًدا لهــم أن تحالفهــم إمنــا هــو مــع مــر‪ ،‬ال‬
‫مــع أفــراد معينــن‪ (((.‬وكدليــل عــى حســن نيتــه‪ ،‬منــح األســاطيل الســوفيتية يف البحــر‬
‫األبيــض املتوســط​​والبحــر األحمــر بعــض املوانــئ اإلضافيــة‪ .‬بعدهــا أخــر الســفري‬
‫قائــا‬
‫ً‬ ‫الســوفيتي يف القاهــرة أنــه عــى وشــك عــزل صــري مــن منصبــه‪ ،‬وطأمنــه‬
‫"إن كان لــك صديــق يف مــر‪ ،‬فهــو أنــور الســادات"‪ (((.‬كــا عــن املفكــر الشــيوعي‬
‫وأخــرا‪ ،‬وللحــد‬
‫ً‬ ‫(((‬
‫الشــهري إســاعيل صــري عبــد اللــه وزيــرا يف الحكومــة الجديــدة‪.‬‬
‫مــن شــكوكهم‪ ،‬وقــع يف ‪ 23‬مايــو ‪ 1971‬معاهــدة صداقــة بــن مــر واالتحــاد الســوفيتي‪-‬‬
‫وهــي اتفاقيــة تــردد عبــد النــارص مــن قبــل يف توقيعهــا‪ .‬لكــن منــاورات الســادات مل‬
‫تكــن وحدهــا التــي حرمــت املتآمريــن ضــده مــن الدعــم الســوفيتي النشــط‪ .‬يقــول مــراد‬
‫غالــب‪ -‬الــذي كان ينهــي خدمتــه بعــد عقــد مــن الزمــن كســفري ملــر يف موســكو‪-‬‬
‫رسوا لــه بأنهــم ال يســتطيعون دعــم مجموعــة ال متتلــك قيــادة‬ ‫إن القــادة الســوفييت أ ّ‬
‫(((‬
‫وغالبــا مــا كانــت تتنافــس فيــا بينهــا بــداًلً مــن أن تتعــاون‪.‬‬
‫ً‬ ‫أو أجنــدة متامســكة‪،‬‬
‫‪1- Barron, KGB, 58–59.‬‬
‫‪ -2‬رشف‪ ،‬عبد النارص‪ :‬كيف حكم مرص؟‪ ،‬ص ‪.401‬‬
‫‪ -3‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.303‬‬
‫‪4- Heikal, October 1973, 224.‬‬
‫‪ -5‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.225‬‬
‫‪ -6‬غالب‪ ،‬مع عبد النارص والسادات‪ ،‬ص ‪ ،161‬ص ‪.176‬‬

‫‪157‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫رغــم غيــاب الدعــم الســوفييتي‪ ،‬قــرر املتآمــرون املــي قد ًمــا يف خطتهــم‪ .‬فبعــد يــوم‬
‫مــن إقالــة صــري مــن منصبــي رئاســة االتحــاد االشــرايك ونائــب الرئيــس‪ ،‬أبلــغ محمــد‬
‫فــوزي هيئــة األركان بــأن الرئيــس الســادات تخــى عــن برنامــج االســتعداد للحــرب‪ ،‬ورفــع‬
‫فــوزي جهوزيــة الوحــدات العســكرية املتمركــزة بالقــرب مــن العاصمــة‪ (((.‬ور ًدا عــى ذلــك‪،‬‬
‫التقــى الســادات مــع كبــار القــادة يف قاعــدة أنشــاص الجويــة قــرب القاهــرة لتحذيرهــم‬
‫مــن وجــود خونــة داخــل وخــارج القــوات املســلحة‪ (((.‬ومــع توفــر األدلــة القاطعــة بوجــود‬
‫مؤامــرة تحــاك ضــده‪ ،‬رفــع الســادات درجــة خطــورة األوضــاع مــن حولــه‪ ،‬وأعلــن عــن‬
‫خطــط إلعــادة هيكلــة االتحــاد االشــرايك‪.‬‬
‫يف ‪ 13‬مايــو عــزل الســادات شــعراوي جمعــة مــن وزارة الداخليــة والتنظيــم الطليعــي‪.‬‬
‫وألنــه يعلــم أن هاتفــه مراقــب‪ ،‬أرســل مســاعده الشــخيص الســتدعاء محافــظ اإلســكندرية‬
‫ممــدوح ســامل وعينــه وزيـ ًرا للداخليــة وأرســله للــوزارة قبــل أن يتلقــى جمعــة خــر إقالتــه‪.‬‬
‫عمــل ســامل كضابــط أمــن ســيايس لفــرة طويلــة‪ ،‬فبــدأ حياتــه املهنيــة يف األربعينيــات‬
‫بفــرع اإلســكندرية للرشطــة الرسيــة التــي ســيطرت عليهــا بريطانيــا‪ ،‬ثــم تــرأس فــرع‬
‫املباحــث العامــة يف اإلســكندرية بعــد انقــاب ‪ 23‬يوليــو‪ (((.‬مل يــرد الســادات االعتــاد‬
‫فقــط عــى عالقــات ســامل يف وزارة الداخليــة‪ ،‬فأرســل مفــرزة مــن الحــرس الجمهــوري‬
‫لتأمــن ســيطرته عــى الــوزارة ومصــادرة أي أرشطــة مراقبــة يُعــر عليهــا هنــاك‪ .‬يف‬
‫الوقــت نفســه‪ ،‬التقــى بــرف لطأمنتــه بشــأن عــزل جمعــة‪ ،‬وأخــره أنــه ميكنــه االســتمرار‬
‫(((‬
‫يف وظيفتــه كاملعتــاد‪.‬‬
‫وبالطبــع‪ ،‬كان لــدى رشف خطــط أخــرى‪ ،‬لــذا توجــه مبــارشة إىل القيــادة العامــة للجيــش‪،‬‬
‫حيــث وجــد جمعــة ينتظــر انتهــاء لقــاء وزيــر الحربيــة فــوزي مــع كبــار القــادة‪ .‬طالــب‬
‫فــوزي هيئــة األركان بإقالــة الســادات لتعاملــه الــري مــع األمريكيــن بهــدف التوصل إىل‬
‫تســوية ســلمية مــع إرسائيــل وعــدم دخــول الحــرب‪ .‬ثــم التفــت إىل قائــد األركان صــادق‬
‫وســأله عــا إذا كان مســتع ًدا لتنفيــذ التوجيــه الــذي أعطــاه إيــاه قبــل ثالثــة أســابيع‪.‬‬

‫‪ -1‬حامد‪ ،‬الحكومة الخفية يف عهد عبد النارص‪ ،‬ص ‪ ،155-153‬ص ‪.181‬‬


‫‪ -2‬أنيس منصور‪ ،‬من أوراق السادات‪ ،‬ص ‪.430 429‬‬
‫‪3- Sirrs, History, 21, 53.‬‬
‫‪ -4‬منصور‪ ،‬من أوراق السادات‪ ،‬ص ‪.431‬‬

‫‪158‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬القضاء عىل دوائر النفوذ‪ :‬ثورة التصحيح‪...‬‬

‫رافضــا املشــاركة يف تنظيــم انقــاب آخــر‪ ،‬وأضــاف‬‫لكــن صــادق فاجــأه وانتقــده بشــدة ً‬
‫"إذا أردت االســتقالة فلــك ذلــك‪ ،‬لكــن الجيــش لــن يتحــرك‪ ...‬لــن يعــود الجيــش لينخــرط‬
‫يف السياســة يف الوقــت الــذي نســتعد فيــه للحــرب"‪ (((.‬وعندمــا أيقــن أن الضبــاط لــن‬
‫ينجــروا إىل هــذا االشــتباك‪ ،‬اصطحــب فــوزي ضيفيــه إىل منــزل جمعــة‪ .‬ســيطر صــادق‬
‫عــى الفــور عــى مقــر القيــادة العامــة وأمــر القــوات بعــدم التحــرك‪ ،‬ثــم اتصــل بالســادات‬
‫ليبلغــه أن الجيــش ســيبقى عــى الحيــاد يف هــذه املواجهــة‪ ،‬ويف نفــس ليلــة ‪ 14‬مايــو متــت‬
‫ترقيــة صــادق إىل منصــب وزيــر الحربيــة‪(((.‬‬
‫بالنســبة للمتآمريــن مــن أصحــاب النفــوذ فقــد حــان الوقــت لتأديــة فرصتهــم األخــرة‪،‬‬
‫وذلــك عــر اســتقالتهم بشــكل جامعــي عــى وســائل اإلعــام الحكوميــة مبــارشة‪ .‬لكــن‬
‫وزيــر الصناعــة عزيــز صدقــي‪ -‬وملنــع أي مظاهــرات مناهضــة للســادات‪ -‬أمــر العاملني يف‬
‫القطــاع العــام بالنــزول إىل الشــوارع للتعبــر عــن دعمهــم للرئيــس‪ ،‬ويف اليــوم التــايل ُعني‬
‫رئيســا للــوزراء‪ .‬يف ذلــك املســاء‪ ،‬قــرر أرشف مــروان‪ -‬صهــر عبد النارص والســاعد‬
‫صدقــي ً‬
‫األميــن لــرف يف مكتــب الرئيس للمعلومات‪ -‬الوقوف إىل جانب الرئيس الســادات وتســليم‬
‫أرشــيف رشف الــري بــداًلً مــن تهريبــه مــن القرص الرئــايس كام طلــب منه رشف مســبقًا‪،‬‬
‫وقــد وصــف الســادات لصديقــه القديــم محمــود جامــع كيــف هــرع مــروان خلــف أحــد‬
‫(((‬
‫مســاعدي رشف وأطلــق بضــع طلقــات يف الهــواء إلجبــاره عــى تســليم الوثائــق الرسيــة‪.‬‬
‫إثــر ذلــك‪ُ ،‬رقــي مــروان عــى الفــور ليصبــح مديــر مكتــب الرئيــس للمعلومــات‪ .‬ويف‬
‫منتصــف الليــل‪ ،‬أرســل الســادات أحمــد إســاعيل إىل املخابــرات العامــة ليكــون رئيســها‬
‫الجديــد‪ ،‬وأمــره بتســليم أي تســجيالت رسيــة تتعلــق باملؤامــرة‪ .‬شــغل إســاعيل منصــب‬
‫رئيــس األركان يف عهــد عبــد النــارص‪ ،‬لكــن األخــر أقالــه مرتــن خــال مســرته املهنيــة‬
‫لعــدم كفاءتــه‪ ،‬ولــذا ناصــب إســاعيل عبــد النــارص وأعوانــه املقربــن مــن مراكز الســلطة‬
‫العــداء‪ .‬يف ‪ 15‬مايــو ‪ ،1971‬وبعــد تأمــن الشــوارع واملؤسســات الكــرى‪ ،‬اعتقــل الســادات‬
‫جميــع املتآمريــن مببنــى وزارة الداخليــة وهــم واحــد وتســعون مســؤواًلً ‪ ،‬منهــم ســت وزراء‬
‫(بينهــم رشف وجمعــة وفــوزي)‪ ،‬ومديــر املخابــرات العامــة‪ ،‬وعــرون مديــ ًرا تنفيذيًــا‬
‫‪ -1‬هيكل‪ ،‬خريف الغضب‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪ -2‬رشف‪ ،‬عبد النارص‪ :‬كيف حكم مرص؟‪ ،‬ص ‪.418-417‬‬
‫عرفت السادات‪ ،‬ص ‪.168‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -3‬جامع‪،‬‬

‫‪159‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫مــن االتحــاد االشــرايك‪ ،‬وثالثــة وعــرون كاد ًرا مــن كــوادر التنظيــم الطليعــي‪ ،‬وأربعــة‬
‫أعضــاء يف الربملــان‪ ،‬وســتة مــن كبــار البريوقراطيــن‪ ،‬واثنــان مــن مســؤويل اإلعــام‪،‬‬
‫والباقــون مــن القــوات املســلحة‪ .‬بعدهــا شُ ــكلت محكمــة طــوارئ‪ ،‬و ُعــن املســاعد األمنــي​​‬
‫للســادات حســن التهامــي عضـ ًوا فيهــا‪ ،‬وذلــك ملحاكمــة املتآمريــن بتهمــة الخيانــة العظمــى‪،‬‬
‫(((‬
‫فأصــدرت بحــق قــادة املتآمريــن أحكا ًمــا طويلــة بالســجن‪.‬‬
‫بــرت هــذه االعتقــاالت مبــا وصفــه الســادات باعتــزاز بـــثورته التصحيحيــة‪ ،‬التــي يُفرتض‬
‫أنهــا صححــت االنحــراف الحاصــل عن أهداف انقــاب ‪ .1952‬مع انشــغال الجيش يف جبهة‬
‫ســيناء‪ ،‬بــات الوقــت مناسـ ًـبا لنقــل مهــام الســيطرة الداخلية مــن الجيــش إىل الرشطة‪ ،‬وهي‬
‫عمليــة بدأهــا عبــد النــارص بعــد عــام ‪ ،1967‬وتطلــب هذا إعــادة تنظيــم املؤسســات األمنية‪.‬‬
‫بنــا ًء عــى طلــب الرئيــس الســادات‪ ،‬تــوىل أرشف مــروان اإلرشاف عــى تفكيــك املهــام‬
‫االســتخبارية لـــمكتب الرئيــس للمعلومــات وإعــادة تنظيمــه كأمانــة عامــة للمعلومــات ت ُ ِعــد‬
‫ملخصــات رئاســية تعتمــد عــى الصحــف واملذكــرات مــن املؤسســات الحكوميــة‪ .‬ورغــم‬
‫قدرتــه عــى إصالحــه وجعلــه يف خدمــة أهدافــه الخاصــة‪ ،‬وجــد الســادات أن االحتفــاظ‬
‫بجهــاز اســتخبارات قريــب جـ ًدا مــن منصــب الرئاســة ليــس باألمــر الصائــب‪ ،‬إذ ميكنــه أن‬
‫يــؤدي عمــل حــارس البوابــة ويحجــب املعلومــات األساســية عــن الرئيــس‪ .‬كانــت الخطــوة‬
‫التاليــة هــي تعزيــز ســلطة وزارة الداخليــة‪ ،‬فتوســعت الــوزارة بشــكل كبــر مــع أكــر مــن‬
‫اثنتــي عــرة إدارة متخصصــة جديــدة‪ ،‬يــرأس كل منهــا مســاعد وزيــر‪ ،‬وذلــك إلعفــاء‬
‫الوزيــر واملباحــث العامــة مــن املهــام الرشطيــة غــر السياســية‪ .‬ثــم أصــدر مرســو ًما بإعادة‬
‫هيكلــة كبــرة للمباحــث العامــة‪ ،‬فتخلــص مــن الضبــاط املشــتبه يف والئهــم‪ ،‬وكذلــك أولئــك‬
‫الذيــن لديهــم خلفيــة عســكرية‪ ،‬وأعــاد تركيــز جهودهــا عــى مواجهــة األنشــطة السياســية‬
‫فقــط‪ ،‬بــداًلً مــن تشــتتها بــن هــذا املجــال ومجــال مكافحــة الجرميــة املنظمــة‪ ،‬فتغــر‬
‫(((‬
‫اســمها وظهــر منــذ ذلــك الحــن جهــاز مباحــث أمــن الدولــة القــوي‪.‬‬
‫عكســت مباحــث أمــن الدولــة التجربــة املؤسســية البــارزة ألســافها كالرشطــة الرسيــة يف‬
‫العهــد امللــي‪ ،‬واملباحــث العامــة يف عهــد عبــد النــارص‪ .‬ورغــم عمليــات التطهــر التــي‬

‫‪1- Binder, Enthusiasm, 393–94.‬‬


‫‪2- Sirrs, History, 121.‬‬

‫‪160‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬القضاء عىل دوائر النفوذ‪ :‬ثورة التصحيح‪...‬‬

‫صاحبــت أول تحــول مــن الجهــاز املخصــوص إىل املباحــث العامــة) عــى يــد زكريــا محــي‬
‫الديــن‪ ،‬معــاون عبــد النــارص األمنــي‪ ،‬إال أن التأثــر الدائــم للذاكــرة املؤسســية أجــر عبــد‬
‫النــارص عــى التعامــل معهــا ببعــض الشــكوك‪ ،‬فأحاطهــا مبؤسســات أمنيــة موازيــة‪ .‬لقــد‬
‫كان قل ًقــا مــن جديــة قطــع ضبــاط املباحــث العامــة كل عالقاتهــم مــع النظــام القديــم‬
‫الــذي كانــوا يف خدمتــه قبــل أشــهر فقــط‪ .‬لكــن‪ ،‬بعــد الرتاجــع النســبي لنفــوذ املباحــث‬
‫العامــة يف الخمســينيات والســتينيات مــن القــرن املــايض‪ ،‬فقــد عــادت مــن جديــد يف عهد‬
‫الســادات كجهــاز أمنــي رائــد يف مــر‪ .‬باإلضافــة إىل ذلــك‪ ،‬وعــى عكــس ســابقاتها‪ ،‬فقــد‬
‫حظيــت بهيــكل قيــادة مركــزي مــن النــوع العســكري‪ ،‬نجــح يف إخضــاع فروعهــا‪ -‬حتــى‬
‫التــي يف املحافظــات البعيــدة‪ -‬إلرشاف وزارة الداخليــة‪ .‬وبالتــايل‪ ،‬تزامــن انتقــال مســؤولية‬
‫ضبــط األمــن الداخــي مــن الجيــش إىل وزارة الداخليــة مــع تحــول الســلطة داخــل القطــاع‬
‫األمنــي​​نفســه مــن أجهــزة املخابــرات املدنيــة والعســكرية إىل وزارة الداخليــة والرشطــة‬
‫الرسيــة املعــززة حديثًــا‪ .‬ومنــذ ذلــك الحــن‪ ،‬اعتمــد الســادات يف معظــم املناصــب‬
‫الحكوميــة الرئيســية عــى ضبــاط الرشطــة‪ ،‬لدرجــة أن مديــر مكتبــه الشــخيص فــوزي عبــد‬
‫(((‬
‫الحافــظ كان ضابــط رشطــة ســابق‪.‬‬
‫را‪ ،‬حــل الرئيــس الســادات التنظيــم الطليعــي ذا التوجــه األمنــي‪​​،‬ونصــب نفســه أمي ًنــا‬
‫أخـ ً‬
‫رئيســا للجنــة‬
‫عا ًمــا لالتحــاد االشــرايك‪ ،‬وعــن صديقــه القديــم عبــد الســام الزيــات ً‬
‫املركزيــة مــع بعــض املرؤوســن املختاريــن بعنايــة كمديريــن تنفيذيــن جــدد يف االتحــاد‪.‬‬
‫ورئيســا للربملــان‪.‬‬
‫ويف العــام التــايل‪ ،‬عــن ســيد مرعــي أمي ًنــا عا ًمــا جديــ ًدا لالتحــاد ً‬
‫ينحــدر مرعــي مــن عائلــة كبــرة مــن ُمــاك األرايض‪ ،‬وشــغل يف عهــد عبــد النــارص‬
‫منصــب وزيــر الزراعــة‪ ،‬كــا تصــادف أنــه صهــر الســادات وصديقــه املقــرب‪ (((.‬يف‬
‫را‪ ،‬وبــدأت مــر فصـ ًـا جديـ ًدا مــن فصــول‬ ‫ســبتمرب ‪ ،1971‬صــدر الدســتور الدائــم أخـ ً‬
‫تاريخهــا املضطــرب بعــد انقــاب ‪.1952‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬ظــل إضعــاف الســادات املذهــل لخصومــه األقويــاء ســؤااًلً عال ًقــا يف األذهــان‪.‬‬
‫را مــا ركــز التفســر األكــر شــيو ًعا عــى مكــر الرئيــس الســادات‪ ،‬فقــد أظهــر نفســه‬ ‫كث ـ ً‬
‫مبظهــر الضعيــف ليبقــى ضمــن النظــام الســيايس لــدى عبــد النــارص‪ ،‬وطــأن دوائــر‬
‫‪ -1‬هيكل‪ ،‬خريف الغضب‪ ،‬ص ‪.76‬‬
‫‪2- Abdallah, The Student Movement and National Politics in Egypt, 1923–1973, 179.‬‬

‫‪161‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫رئيســا قبــل أن يتواصــل برباعــة مــع املتعاونــن معــه داخــل‬


‫النفــوذ مبــا يكفــي لينصبــوه ً‬
‫الجيــش واألمــن واملؤسســات السياســية‪ ،‬وأشــغل خصومــه ببعضهــم البعــض‪ .‬ومــع ذلــك‪،‬‬
‫كان خصومــه يســيطرون عــى جميــع مؤسســات الدولــة الكــرى‪ ،‬ومــن الصعــب تصديــق‬
‫أن مكائــده وحدهــا هــي التــي تســببت يف خســارتهم هــذه املعركــة‪ .‬لــذا رغــم أن الســات‬
‫والتكتيــكات الشــخصية أدت وظيفتهــا يف هــذا الــراع‪ ،‬إال أن التحليــل املؤســي الدقيــق‬
‫كافيــا لهــذا الفشــل غــر املتوقــع‪.‬‬
‫ـببا ً‬
‫يعطينــا سـ ً‬
‫بــادئ ذي بــدء‪ ،‬اســتُنزفت دوائــر النفــوذ هــذه بالكامــل بــن عامــي ‪ 1956‬و‪ 1967‬يف‬
‫رصاع عــى الســلطة مــع جامعــة عبــد الحكيــم عامــر‪ .‬ومل يبــدأوا محاوالتهــم للســيطرة‬
‫عــى الســلطة إال يف عــام ‪ ،1968‬بعــد تقويــض مؤسســات عامــر القويــة (املخابــرات‬
‫العســكرية واألجهــزة األخــرى املرتبطــة بالجيــش) والتأكــد مــن أن عبــد النــارص منشــغل‬
‫للغايــة باالســتعدادات الحربيــة للتأكــد مــن جهوزيتهــا‪ .‬ومل تعطهــم وفــاة عبــد النــارص يف‬
‫ســبتمرب ‪ 1970‬الوقــت الــكايف لتقاســم النفــوذ بالــرايض‪.‬‬
‫تقريبــا أن تنتظــم دوائــر النفــوذ بشــكل هرمــي فيــا يتمتــع الالعبــون‬
‫ً‬ ‫كان مــن املســتحيل‬
‫الرئيســيون بنفــوذ متســا ٍو مــن الناحيــة املؤسســية‪ :‬فصربي يســيطر عىل االتحاد االشــرايك‪،‬‬
‫وجمعــة وزيــر الداخليــة‪ ،‬ورشف يديــر أجهــزة املخابــرات‪ .‬ونظ ـ ًرا ألن االئتالفــات تتشــكل‬
‫عــاد ًة بــن األحــزاب الضعيفــة واألقــوى منهــا‪ ،‬فلــم تســمح موازيــن القــوى املتقاربــة‬
‫هــذه ببنــاء تحالــف فيــا بينهــا‪ ،‬وهــذا مــا أوصــل الســادات إىل ســدة الرئاســة‪ .‬احتــاج‬
‫املتنافســون إىل رئيــس ضعيــف يشــغل هــذا املنصــب ريثــا يرتبــون شــؤونهم‪ .‬لكــن عــي‬
‫صــري أثبــت أنــه الحلقــة األضعــف بــن أقرانــه بحكــم نــوع الســلطة التــي ســيطر عليهــا‪،‬‬
‫فهــي مجــرد ســلطة سياســية ال قــدرة لهــا عــى البطــش باآلخريــن‪ ،‬فتلقــى رضبــة قويــة‬
‫يف يوليــو ‪1969‬عندمــا أفــاد تقريــر مــن رشف بــأن هنــاك تقاربًــا بــن صــري والــروس‬
‫مــا أجــر عبــد النــارص عــى عزلــه مــن منصــب أمــن عــام االتحــاد االشــرايك ليصبــح‬
‫عضـ ًوا عاديًــا فيــه‪ ،‬وهــو مــا حــدث بطريقــة مهينــة متذر ًعــا بعالقاتــه غــر املرشوعــة مــع‬
‫موســكو‪ .‬وعندمــا عزلــه الســادات يف ‪ 2‬مايــو مــن منصــب نائــب الرئيــس وعضويــة االتحاد‬
‫االشــرايك‪ ،‬تخــى عنــه رفيقــاه رشف وجمعــة عــى أمــل أن يتمكنــا اآلن مــن انتخــاب رئيــس‬
‫جديــد بســهولة أكــر‪ ،‬لكــن هــذا التــرف انعكــس بســوء عليهــا‪ .‬فتجربــة صــري كرئيــس‬

‫‪162‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬القضاء عىل دوائر النفوذ‪ :‬ثورة التصحيح‪...‬‬

‫للــوزراء بــن عامــي ‪ 1962‬و‪ 1965‬وأمي ًنــا عا ًمــا لالتحــاد االشــرايك العــريب بــن عامــي‬
‫‪ 1962‬و‪ ،1969‬باإلضافــة إىل آخــر منصــب لــه كنائــب للرئيــس بــن عامــي ‪ 1970‬و‪،1971‬‬
‫فضـ ًـا عــن االحــرام الــذي حظــي بــه لــدى الســوفييت‪ ،‬جعلــه املرشــح الوحيــد املحتمــل‬
‫لرئاســة الجمهوريــة‪.‬‬
‫اعتقــد ســامي رشف أن بإمكانــه أن يصبــح أقــوى رجــل يف البــاد‪ ،‬فقــام ‪-‬مبوافقــة‬
‫الســادات‪ -‬بتهميــش اثنــن مــن أبــرز رجــال األمــن املرصيــن‪ ،‬زكريــا محــي الديــن وأمــن‬
‫هويــدي‪ .‬ف ُعــزل األول مــن جميــع مناصبــه الرســمية يف أواخــر عهــد نــارص‪ ،‬بينــا ُعــرض‬
‫عــى الثــاين عــام ‪ 1971‬منصــب وزاري ثانــوي‪ ،‬مــا دفعــه إىل رفــض العــرض والتقاعــد‪.‬‬
‫كــا ضغــط رشف عــى الســادات املــردد لوضــع مســاعده يف مكتــب الرئيــس للمعلومــات‬
‫أحمــد كامــل عــى رأس جهــاز املخابــرات العامــة‪ ،‬معتقـ ًدا أنــه بذلــك سيمســك بــكل خيــوط‬
‫قريبــا منــه وحليفًــا لــه‪،‬‬
‫فضــا عــن كــون وزيــر الحربيــة ً‬ ‫ً‬ ‫املخابــرات يف البــاد‪ .‬هــذا‬
‫فلــاذا يرتاجــع إذن؟ ال بــد أنــه أدرك أن حلفــاءه مل يكونــوا أكــر مــن مجــرد دمــى بــا‬
‫فعاليــة‪ ،‬إذ مل يح ـ َظ فــوزي باحــرام الجيــش وال والئــه‪ ،‬فقــد ُهمــش كرئيــس أركان يف‬
‫عهــد عبــد الحكيــم عامــر‪ ،‬وتآمــر مــع الرئيــس عبــد النــارص ضــده فخــر محبــة الضبــاط‬
‫الذيــن أحبــوا املشــر‪ ،‬ومل يســعفه الوقــت وال املــوارد بــن عامــي ‪ 1967‬و‪ 1971‬لبنــاء‬
‫ـض يف رئاســة جهــاز املخابــرات العامــة‬‫شــبكة نفــوذ واســعة النطــاق‪ .‬أمــا كامــل‪ ،‬فلــم ُمُيـ ِ‬
‫ســوى بضعــة أشــهر قبــل مواجهــة مايــو ‪ ،1971‬ومل يســتطع اخــراق الجهــاز بالشــكل‬
‫كاًل مــن فــوزي وكامــل كانــا مــن ذوي الثقــل الســيايس املحــدود‪ ،‬خاصــة‬ ‫املطلــوب‪ .‬كــا أن ً‬
‫عنــد مقارنتهــا بأســافهام األقويــاء‪ ،‬كشــمس بــدران وصــاح نــر‪ .‬وال ننــى أن رشف‬
‫ومعســكره قــد تفــوق عليهــم أرشف مــروان يف مكتــب الرئيــس للمعلومــات ومحمــد صــادق‬
‫والليثــي ناصــف يف الجيــش والحــرس الجمهــوري‪.‬‬
‫را‪ ،‬رغــم ســيطرة شــعراوي جمعــة عــى وزارة الداخليــة والتنظيــم الطليعــي‪ -‬مــا جعلــه‬‫أخـ ً‬
‫يبــدو أكــر قــوة مــن فــوزي وكامــل‪ -‬لكــن وزارة الداخليــة مل تصــل للمســتوى الــذي يســمح‬
‫لهــا بحاميــة النظــام مبفردهــا إال يف التســعينيات‪ ،‬أي بعــد عقــد كامــل مــن حكــم مبــارك‪.‬‬
‫بالنظــر إىل وضــع جمعــة يف الحقبــة التاريخيــة التــي عمــل فيهــا‪ ،‬مل يكــن مــن املعقــول‬
‫ـتقاًل دون دعــم مــن الجيــش واالســتخبارات‪.‬‬ ‫بالنســبة لــه يف عــام ‪ 1971‬أن يتــرف مسـ ً‬

‫‪163‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫تجسســيا قويًــا‪ ،‬لكنــه افتقــر إىل االنضبــاط الهرمي أو‬


‫ً‬ ‫ورمبــا كان التنظيــم الطليعــي جهــا ًزا‬
‫الحــاس األيديولوجــي لقيــادة ثــورة شــعبية‪ .‬وفيــا انشــغل رشف وجمعــة برتتيــب أوراقهــا‬
‫وقيــاس قوتهــا النســبية‪ ،‬كان الســادات قــد اســتعد للتحــرك‪.‬‬
‫مــن الجديــر بالذكــر أن الخطــة التــي وضعهــا خصــوم الســادات عــى عجــل ونفَّذوهــا‬
‫ارتجاليــا يف ‪ 14‬مايــو كانــت كارثيــة بحــق‪ ،‬فهــي أشــبه بتكــرار لالنتفاضــة الشــعبية يف‬
‫ً‬
‫مــارس ‪ 1954‬التــي نُظمــت لتقويــض حكــم الرئيــس محمــد نجيــب‪ ،‬والتظاهــرات التــي‬
‫نســقها االتحــاد االشــرايك يف أعقــاب اســتقالة عبــد النــارص يف يونيــو ‪ 1967‬إلعــادة‬
‫تنصيبــه‪ .‬رمبــا نــي املتآمــرون أنهــم وعــى عكــس أزمــة عــام ‪ ،1954‬قــد قطعــوا جمي ًعــا‬
‫عالقتهــم بالجيــش‪ ،‬ومل يعــودوا أولئــك الضبــاط الصغــار املتهوريــن الذيــن ميكنهــم‬
‫دعــوة رفاقهــم للتحــرك مــع بضــع دبابــات أو مدافــع‪ ،‬أو التحليــق بعــدد مــن الطائــرات‬
‫الســتعراض قوتهــم‪ .‬ورغــم أنهــم حاولــوا إثــارة الجمهــور عــر زعمهــم أن الســادات يخــون‬
‫ثــورة عبــد النــارص (متا ًمــا كــا اتهمــوا نجيــب يف عــام ‪ ،)1954‬إال أن تلــك الثــورة مل‬
‫تعــد حديثــة النشــأة إلقنــاع املرصيــن بأنهــا ال تــزال بحاجــة إىل إنقــاذ‪ .‬وبغــض النظــر‬
‫عــن مــدى تأثريهــم‪ ،‬فــإن أيًــا منهــم مل يتمتــع بشــعبية عبــد النــارص التــي جعلــت مــن‬
‫الســهل واملعقــول ملاليــن النــاس النــزول إىل الشــوارع يف عــام ‪ 1967‬للمطالبــة بعودتــه‪.‬‬
‫لقــد اســتمدوا قوتهــم بشــكل رئيــي مــن املناصــب املؤسســية التــي شــغلوها‪ ،‬لــذا فــإن‬
‫اســتقالتهم مــن مناصبهــم القويــة وتخليهــم عنهــا‪ ،‬عــى أمــل زعزعــة حكــم الســادات‪،‬‬
‫ـراتيجيا فاد ًحــا ال مثيــل لــه‪ .‬لكــن‪ ،‬وكــا الحــظ كارل ماركــس‪" :‬التاريــخ‬
‫ً‬ ‫كانــت خطــأ اسـ‬
‫يعيــد نفســه مرتــن‪ ،‬أواًلً عــى شــكل مأســاة‪ ،‬والثــاين عــى شــكل مهزلــة"‪ .‬مــا حاولــت‬
‫دوائــر النفــوذ تحقيقــه يف مايــو ‪ 1971‬كان بالتأكيــد مهزلــة واضحــة‪.‬‬
‫لــذا ومبعنــى آخــر‪ ،‬مل يكــن مايــو ‪ 1971‬مواجهــة بــن معســكرين متقابلــن‪ ،‬ولكــن بــن‬
‫رئيــس وأفــراد متباينــن​​يتدافعــون لتوطيــد ســلطتهم‪ .‬ولذلــك فاز الســادات‪ ،‬وم ّهــد انتصاره‬
‫الطريــق لصعــود الدولــة البوليســية يف مــر يف ظــل وزارة الداخليــة رسيعــة التطــور‬
‫وجهازهــا االســتخبارايت الرئيــي‪ :‬مباحــث أمــن الدولــة‪ .‬لكــن قبــل كل هــذا‪ ،‬كانــت هنــاك‬
‫حــرب يجــب عــى الســادات أن يخوضهــا‪ ،‬فطريقــه إىل الســلطة ميــر عــر ســيناء املحتلــة‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات أكتوبر‪1973‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات أكتوبر ‪1973‬‬


‫بــدأ الــراع عــى الســلطة بــن أنــور الســادات وخصومــه يف عــام ‪ 1971‬يتجــاوز‬
‫املناوشــات الجانبيــة والتافهــة الســابقة مقارنــة باملعركــة الحاميــة التــي خاضهــا معهــم اآلن‪.‬‬
‫يف عــام ‪ ،1967‬بــدأ جــال عبــد النــارص بنــزع الطابــع الســيايس عــن الجيــش لكنــه مل‬
‫يســتطع إمتــام ذلــك فــات وهــو يف مرحلــة مبكــرة مــن هــذا العمــل‪ .‬وبــدأت للتــو مرحلــة‬
‫انتقاليــة للتحــول مــن هيمنــة الجيــش عــى املشــهد الســيايس إىل هيمنــة األجهــزة األمنيــة‪.‬‬
‫ولــذا‪ ،‬فــإن شــن أي حــرب عــى إرسائيــل وكســبها يف هــذه املرحلــة يهــدد بإعــادة الجيــش‬
‫إىل مركــز الصــدارة‪ .‬كــا أن الفشــل يف أي حــرب وتكبــد الهزميــة مــرة أخــرى ســيكون يف‬
‫أفضــل األحــوال انتحــا ًرا سياسـ ًـيا‪ .‬أمــا الطريــق الوســط فيــا لــو ُوجــد يف أرض الواقــع‬
‫فقــد كان ضي ًقــا وشــائكًا‪ ،‬إذ يقــي بشــن حــرب ناجحــة دون إعــادة نفــوذ الضبــاط إىل‬
‫املشــهد الســيايس‪ .‬وال ميكــن تحقيــق ذلــك إال عــر تحقيــق انتصــار عســكري محــدود‪،‬‬
‫ـعبيا‪ .‬إذ ال ميكــن الســاح بظهــور بطــل‬ ‫واألهــم مــن ذلــك أال يفــرز للمرصيــن رم ـ ًزا شـ ً‬
‫عســكري يف أعــن النــاس ألنــه قــد يســتأثر بــوالء القــوات املســلحة ويتصــدر املشــهد العــام‬
‫بر َّمتــه‪ .‬ولــذا يجــب أن يــرى الجنــود واملواطنــون عــى حــد ســواء أن تحريــر ســيناء إنجــاز‬
‫ســيايس يف املقــام األول ال عســكري‪ ،‬وأن يبــدو املجهــود الحــريب ثانويًــا يف مقابــل الــدور‬
‫الســيايس‪ .‬يف هــذا املنعطــف الحــرج‪ ،‬اســتغل الســادات موهبتــه يف التخطيــط إىل أبعــد‬
‫بعضــا مــن‬
‫حــدود‪ .‬تطلــب هــذا النجــاح إســراتيجية حــذرة وصلبــة‪ ،‬إذ ســيوظف الرئيــس ً‬
‫أفضــل الجــراالت املرصيــن يف مهــام قصــرة األجــل إلنجــاز مهــام عســكرية صعبــة قبــل‬
‫عزلهــم ‪-‬ويفضــل حينهــا تشــويه ســمعتهم‪ -‬يك ال يتمكنــوا مــن ترجمــة إنجازاتهــم العســكرية‬
‫سياسـ ًـيا‪ .‬فهــل باإلمــكان القيــام بذلــك؟ هــذا مــا ســيتناوله هــذا الفصــل‪.‬‬

‫لقاء محتدم‬
‫بــدأ كل يشء يف مايــو ‪ 1971‬بعــد أن ســجن الســادات وزيــر الحربيــة محمــد فــوزي بتهمــة‬
‫الخيانــة العظمــى‪ ،‬رغــم جهــوده يف إعــادة بنــاء الجيــش بعــد عــام ‪ 1967‬ووضعــه خطــة‬
‫عبــور قنــاة الســويس‪ .‬يف نوفمــر مــن العــام نفســه‪ ،‬أعــاد الســادات صياغــة قوانــن‬
‫الرتقيــة العســكرية عــر مرســوم رئــايس منحــه ســلطة غــر محــدودة عــى اللجنــة التــي‬

‫‪166‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫تتخــذ هــذه القــرارات " لجنــة ضبــاط القــوات املســلحة"(((‪ ،‬ثــم عــن قيــادة عليــا جديــدة‬
‫برئاســة وزيــر الحربيــة محمــد صــادق ورئيــس األركان ســعد الديــن الشــاذيل‪ .‬أثــار هــذا‬
‫التعيــن األخــر ضجــة داخــل القــوات املســلحة‪ ،‬حيــث اعتــرت بعــض الرتــب أن ترقيــة‬
‫الشــاذيل‪ -‬قائــد املظليــن الجــريء‪ -‬جــاءت عــى حســاب ثالثــن مــن كبــار اللــواءات‪ .‬لكــن‬
‫الســادات أدرك أنــه بحاجــة لقائــد لديــه جــرأة وقــدرات اســتثنائية‪ -‬كالشــاذيل‪ -‬لقيــادة‬
‫القــوات املرصيــة يف الحــرب القادمــة‪ .‬وكان عــى الشــاذيل البقــاء يف مهمتــه حتــى‬
‫ـبيا عــن وزيــر الحربيــة صــادق وطاقمــه مبجــرد إمتــام‬
‫النهايــة‪ ،‬بينــا ميكنــه االســتغناء نسـ ً‬
‫الجيــش اســتعداداته القتاليــة مبســتواها األقــى‪.‬‬
‫صمــم الوزيــر صــادق وطاقمــه منــذ البدايــة عــى كســب الحــرب‪ ،‬لهــذا انحــاز إىل عبــد‬
‫النــارص ضــد عامــر حــن كان مديـ ًرا للمخابــرات الحربيــة‪ ،‬كــا ســاعد الســادات بصفتــه‬
‫رئيســا لــأركان يف التخلــص مــن خصومــه املتآمريــن‪ .‬لكــن صــادق وكبــار مســاعديه مل‬ ‫ً‬
‫يعــودوا متأكديــن اآلن مــن عــزم الســادات عــى خــوض الحــرب‪ .‬يعلــق محمــد حســنني‬
‫هيــكل‪ ،‬املستشــار املقــرب مــن الســادات وقبلــه عبــد النــارص‪ ،‬عــى هــذه األحــداث التــي‬
‫اطلــع عــى تفاصيلهــا قائـ ًـا‪" :‬اتســعت الهــوة يف مــر بــن الجيــش والسياســيني‪ ،‬وأصبــح‬
‫مــن الواضــح أن السياســيني ال يثقــون بقــدرة الجيــش‪ ،‬كــا ال يثــق الجيــش بكفــاءة‬
‫السياســيني"‪ (((.‬ونشــب الخــاف بــن الســادات وهيئــة األركان حــول خطــة الحــرب نفســها‪،‬‬
‫وأشــار قائــد األركان ســعد الديــن الشــاذيل إىل أن املجلــس األعــى للقــوات املســلحة اقتنــع‬
‫ـاماًل‪ :‬متشــيط كامــل ورسيــع لكامــل ســيناء‪...‬‬
‫بــأن عــى مــر أن تشــن هجو ًمــا "قويًــا وشـ ً‬
‫لتدمــر تجمعــات العــدو‪ ...‬وتحريــر جميــع أراضينــا املحتلــة"‪ (((.‬وكــا أقــر اجتــاع املجلــس‬
‫يف ‪ 2‬ينايــر ‪ ،1972‬فــإن عــى الهجــوم أن يضمــن اســتيالء الجيــش املــري عــى ممــرات‬
‫أيضــا رأي وزير الحربية الســابق فوزي القابع يف الســجن اآلن‪ .‬يف الســابق‪،‬‬ ‫ســيناء(((‪ ،‬وهــو ً‬
‫امتــد خــط الدفــاع املــري األول مــن حــدود مــر مــع االحتــال اإلرسائييل يف فلســطني‬
‫إىل ممــرات ســيناء‪ ،‬وامتــد خــط الدفــاع الثــاين من املمــرات إىل قنــاة الســويس‪ ،‬فيام كانت‬

‫‪1- Brooks, Shaping Strategy, 131.‬‬


‫‪2- Heikal, October 1973, 262.‬‬
‫‪3- Shazly, The Crossing of the Suez, 25.‬‬
‫‪4- Brooks, Shaping Strategy, 132.‬‬

‫‪167‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫القنــاة نفســها هــي خــط الدفــاع الثالــث‪ .‬أمــا اآلن‪ ،‬فيتمركــز الجيــش املــري عــى طــول‬
‫(((‬
‫خــط الدفــاع الثالــث‪ ،‬وعليــه بالحــد األدىن أن يتقــدم إىل الخــط الثــاين حيــث املمــرات‪.‬‬
‫نظ ـ ًرا ملركزيــة الجــدل املثــار حــول هــذه املمــرات يف كل الروايــات التــي تتنــاول حــرب‬
‫أكتوبــر‪ ،‬ســنتناول فيــا يــي وبإيجــاز أهميــة هــذه املمــرات اإلســراتيجية‪ .‬يصــف الضابــط‬
‫املخــرم حســن حمــودة‪ -‬أحــد الضبــاط األحــرار والــذي شــارك يف حــرب عــام ‪-1948‬‬
‫ممــري متــا والجــدي بأنهــا هديــة الطبيعــة ملــر ملســاعدتها يف الدفــاع عــن ســيناء(((‪،‬‬
‫ر عامــر بحفــر الخنــادق فيهــا يف صبــاح‬ ‫وهــي املمــرات التــي نصــح عب ـ ُد النــارص املش ـ َ‬
‫‪ 5‬يونيــو يك ال يجتــاح اإلرسائيليــون ســيناء‪ .‬والغريــب أن هــذه املمــرات هــي التــي طلــب‬
‫أيضــا مــن القــوات اإلرسائيليــة التوقــف عندهــا خــال حــرب ‪ ،1967‬بحجــة‬ ‫موشــيه ديــان ً‬
‫(((‬
‫أنهــا توفــر "خطــوط دفــاع أفضــل بكثــر مــن القنــاة"‪.‬‬
‫يتذكــر القائــد اإلرسائيــي‪ -‬ورئيــس الــوزراء املســتقبيل‪ -‬أرييــل شــارون بوضــوح كيــف أنهــم‬
‫قدمــوا خدمــة مجانيــة للقــوات املرصيــة يف عــام ‪" 1956‬فشــل الهجــوم الجــوي اإلرسائيــي‬
‫يف طــرد املدافعــن املحارصيــن يف رشنقــة الخنــادق املحفــورة عــى طــول قمــم التــال‬
‫والكهــوف املحفــورة يف صخــور املمــر شــديدة االنحــدار‪ .‬بالنســبة للمرصيــن‪ ،‬كان األمــر‬
‫أشــبه بإطــاق النــار عــى هــدف مكشــوف يف ميــدان رمايــة‪ ...‬الطريقــة الوحيــدة التــي‬
‫رأيتهــا مناســبة لندافــع بهــا عن أنفســنا هي التقــدم إىل املمر والســيطرة عىل مواقــع هناك‪،‬‬
‫(((‬
‫حيــث متنــع املنحــدرات الشــديدة والضيقــة الدبابــات املرصيــة القادمــة مــن املنــاورة"‪.‬‬
‫يف الحقيقــة‪ ،‬شــعر اإلرسائيليــون بأنهــم مضطــرون لبنــاء خــط دفــاع عــى طــول الضفــة‬
‫الرشقيــة للقنــاة (والــذي ُعــرف الح ًقــا باســم "خــط بارليــف" الشــهري) ألنهــم أدركــوا أنــه‬
‫ال إمكانيــة للدفــاع يف أرض ســيناء املفتوحــة ســوى تلــك املمــرات‪ .‬ووصفتهــا مجموعــة‬
‫الخــراء العســكريني الدوليــن ‪ -‬الذيــن تدارســوا حــرب أكتوبــر فيــا بينهــم‪ -‬بأنهــا أشــبه‬

‫‪ -1‬فوزي حرب‪ ،‬حرب الثالث سنوات ‪ ،1970-1967‬ص ‪.101‬‬


‫‪ -2‬حمودة‪ ،‬أرسار حركة الضباط األحرار واإلخوان املسلمني‪ ،‬ص ‪.137‬‬
‫‪3- Matti Golan, The Secret Conversations of Henry Kissinger: Step-by- Step Diplomacy in the‬‬
‫‪Middle East, New York: Quadrangle/New York Times Book Co, 1976, 147.‬‬
‫‪4- Sharon in Turner, Suez 1956, 317–19.‬‬

‫‪168‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫بـــجبال غــر قابلــة لالخــراق‪ (((.‬وكل طالــب يف األكادمييــة العســكرية املرصيــة يتعلــم أن‬
‫الســيطرة عــى هــذه املمــرات هــي إحــدى املذاهــب اإلســراتيجية القليلــة الراســخة للدفــاع‬
‫عــن حــدود مــر الرشقيــة‪ -‬عقيــدة امتــدت مــن أيــام الفرعــون تحتمــس الثالــث إىل زمــن‬
‫الجــرال الربيطــاين اللنبــي‪ (((.‬وقــد لخــص الخبــر العســكري األمريــي الشــهري أنتــوين‬
‫كوردســان هــذه العقيــدة قائـ ًـا‪ :‬باالعتــاد عــى ســيناء كســاحة قتــل مكشــوفة‪ ،‬فــإن أي‬
‫(((‬
‫معركــة تــدور فيهــا تكــون ببســاطة ســباقًا ذو اتجاهــن للســيطرة عــى املمــرات‪.‬‬
‫ملــاذا اكتســبت تلــك املمــرات هــذه األهميــة البالغــة؟ قــدم الضابــط عبــد العزيــز البتيشــتي‬
‫مــن ســاح املظليــن نظــرة شــاملة حــول أهميتهــا‪ ،‬فذكــر أن ســيناء تنقســم مــن الناحيــة‬
‫اإلســراتيجية إىل ثالثــة أقســام‪ :‬املثلــث الجنــويب الواقــع بــن خليجــي البحــر األحمــر‪،‬‬
‫ويتكــون مــن كثبــان رمليــة يتعــذر عبورهــا بواســطة العربــات املدرعــة وناقــات الجنــود‪،‬‬
‫بينــا يتكــون الرشيــط الشــايل عــى طــول البحــر األبيــض املتوســط​​يف الغالــب مــن‬
‫أحــواض الرمــال املتحركــة واملســتنقعات املوحلــة‪ ،‬واملنحــدرات الشــديدة‪ ،‬والتــال الوعــرة‬
‫التــي تعيــق تقــدم املدرعــات الثقيلــة‪ .‬وبالتــايل فــإن القطــاع األوســط بأرضيتــه الصلبــة‬
‫واملفتوحــة هــو الجــزء الوحيــد املناســب لتحــركات املشــاة واملدرعــات‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬فــإن‬
‫هــذا القطــاع واســع جــ ًدا بحيــث ال ميكــن فيــه التصــدي للرضبــات الجويــة وغــارات‬
‫املدرعــات الخاطفــة‪ -‬وهــا التخصصــان اللــذان يتقنهــا الجيــش اإلرسائيــي‪ .‬ولحســن‬
‫الحــظ‪ ،‬تقــع عــدة ممــرات جبليــة يف قلــب هــذا القطــاع األوســط‪ :‬املمــران الرئيســيان هــا‬
‫را مــن‬‫ممــر متــا يف الجنــوب وممــر الجــدي يف الشــال‪ ،‬عــى بعــد حــوايل ‪ 32‬كيلوم ـ ً‬
‫قنــاة الســويس‪ ،‬باإلضافــة إىل بعــض املمــرات األصغــر منهــا‪ .‬فبمجــرد أن يتمركــز الجيــش‬
‫يف هــذه املمــرات‪ ،‬بــات مــن املســتحيل دفعــه إىل الــوراء‪ ،‬حيــث أنهــا ممــرات ضيقــة‬
‫جـ ًدا مــا يكســبها مناعــة أمــام القصــف الجــوي (نــاد ًرا مــا تصيــب القذائــف قمــم التــال‬
‫ـبيا (ميتــد ممــر متــا‬
‫والجبــال)‪ .‬كــا أن الكهــوف الجبليــة عــى طــول املمــرات الطويلــة نسـ ً‬
‫را) توفــر نقاطًــا مثاليــة‬
‫را‪ ،‬وممــر الجــدي عــى طــول ‪ 29‬كيلوم ـ ً‬ ‫عــى طــول ‪ 32‬كيلوم ـ ً‬

‫‪1- Insight Team, Yom Kippur War, 70.‬‬


‫‪ -2‬هيكل‪ ،‬خريف الغضب‪ ،‬ص ‪.60‬‬
‫‪3- Anthony H. Cordesman, Arab-Israeli Military Forces in an Era of Asymmetric Wars, Westport,‬‬
‫‪CT: Praeger Security International, 2006, 201–2.‬‬

‫‪169‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫للقناصــن ليوقفــوا تقــدم القــوات املعاديــة (التــي تضطــر للتقــدم يف طابــور واحــد نظـ ًرا‬
‫را‪ ،‬توفــر هــذه املمــرات قواعــد انطــاق آمنــة لشــن العمليــات‪ ،‬مــا‬ ‫لضيــق املمــرات)‪ .‬أخـ ً‬
‫يســمح للوحــدات بشــن هجــات مفاجئــة يف جميــع أنحــاء ســيناء والعــودة إىل قواعدهــا‬
‫قبــل أن تتمكــن قــوات العــدو مــن التغلــب عليهــا‪ .‬باختصــار‪ ،‬فــإن مــن يتحكــم بهــذه‬
‫املمــرات يتحكــم بالقطــاع األوســط لســيناء‪ ،‬ومــن يتحكــم بهــذا القطــاع يســيطر عــى شــبه‬
‫الجزيــرة بأكملهــا‪ .‬ولــذا‪ ،‬يعتــر االســراتيجيون العســكريون ســيناء مــن بــن أبــرز الحواجز‬
‫(((‬
‫الطبوغرافيــة التــي يصعــب التغلــب عليهــا يف العــامل‪.‬‬
‫يف بدايــة كتابــه الضخــم الــذي تحــدث فيــه عــن حــرب أكتوبــر‪ ،‬أوضــح اللواء جــال حامد‬
‫(أحــد قــادة حركــة الضبــاط األحــرار) املخاطــر التــي ينطــوي عليهــا الفشــل يف االســتيالء‬
‫عــى املمــرات‪ .‬بدايــة‪ ،‬تحتــل ممــرات ســيناء منحــد ًرا أعــى مــن منحــدر قنــاة الســويس‪،‬‬
‫مــا يجعــل مــن يبنــي خــط دفاعــه يف مواقــع ثابتــة عــى طــول ضفــاف القنــاة يف وضــع‬
‫يسء للغايــة؛ ثان ًيــا‪ ،‬إنشــاء خــط دفــاع واحــد يف منطقــة صحراويــة مكشــوفة مثــل ضفــاف‬
‫القنــاة يجعلهــا عرضــة لالخــراق أو التطويــق مــن قبــل قــوات العــدو‪ ،‬وهــي قاعــدة تُــدرس‬
‫للطــاب املبتدئــن يف مجــال حــرب الصحــراء يف األكادمييــة العســكرية املرصيــة؛ ثال ًثــا‪ ،‬ال‬
‫ميكــن اعتبــار رؤوس الجســور غــر املحصنــة (مثــل تلــك التــي أراد الســادات إقامتهــا عــى‬
‫طــول القنــاة) قواعــد عســكرية يف حــد ذاتهــا‪ ،‬إمنــا نقــاط انطــاق للتقــدم‪ -‬لــو بقيــت‬
‫قــوات الحلفــاء متمســكة بــرؤوس جســورها يف النورمانــدي‪ ،‬أللقاهــم النازيــون يف البحــر‬
‫ليعــودوا أدراجهــم مهزومــن‪ .‬باختصــار‪َ ،‬خلُــص حــاد إىل أن مطالبــة الجيــش املــري‬
‫بالتحــول مــن الهجــوم إىل الدفــاع مبــارشة بعــد عبــوره قنــاة الســويس (أي قبــل الوصــول‬
‫(((‬
‫إىل املمــرات) يعنــي التنــازل عــن عنــر املبــادرة يف ســيناء لصالــح العــدو‪.‬‬
‫رغــم أن الســادات أكــد للقيــادة العليــا أنــه ينــوي االســتيالء عــى املمــرات خــال املوجــة‬
‫األوىل مــن الهجــوم‪ ،‬فقــد رأى جرناالتــه بوضــوح أنــه لــن يفعــل ذلــك‪ ،‬حيــث أنــه أراد‬
‫بــدء الحــرب قبــل تأمــن األســلحة الالزمــة لهجــوم كاســح ينجــح يف الســيطرة عــى هــذه‬
‫املمــرات‪ .‬خــال اجتــاع لهيئــة األركان يف ‪ 24‬ينايــر ‪ ،1972‬انتقــد وزيــر الحربيــة صــادق‬
‫الســادات عالنيــة إلفســاده العالقــة مــع االتحــاد الســوفيتي املــورد الوحيــد لألســلحة ملــر‪.‬‬
‫‪ -1‬البتشتي‪ ،‬الثعابني‪ ،‬ص ‪ ،74-67‬ص ‪ ،85-84‬ص ‪.107‬‬
‫‪ -2‬حامد‪ ،‬املعارك الحربية عىل الجبهة املرصية‪ ،‬ص ‪.54-52‬‬

‫‪170‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫ورغــم عــدم وجــود عالقــة وديــة بــن الوزيــر صــادق والــروس‪ ،‬إال أنــه أدرك أن شــن‬
‫حــرب بــدون أســلحة كافيــة ينــذر بهزميــة عســكرية أخــرى‪ .‬وقــد فاقــم قــرار الســادات‬
‫أحــادي الجانــب بطــرد جميــع الخــراء الســوفييت (أكــر مــن خمســة عــر ألــف خبــر)‬
‫يف يوليــو ‪ -1972‬دون استشــارة قــادة الجيــش‪ -‬مــن انزعــاج القيــادة العليــا‪ .‬كــا أشــار‬
‫قائــد هيئــة العمليــات عبــد الغنــي الجمــي إىل أن أيًــا مــن القــادة مل يكــن متأكـ ًدا متا ًمــا‬
‫مــن ســبب ودوافــع اتخــاذ هــذا القــرار‪ ،‬لكنهــم اكتشــفوا أنــه قــرار الســادات وحــده‪ ،‬حيــث‬
‫قــال‪" :‬اعتقدنــا يف القيــادة العامــة أن القــرار‪ ...‬اتخــذه مجلــس الــوزراء أو مجلــس الدفــاع‬
‫الوطنــي‪ ،‬لكننــا اكتشــفنا الح ًقــا أنــه قــرار الســادات وحــده"‪ (((.‬حــاول الشــاذيل املذهــول‬
‫أن مينــع الرئيــس الســادات ويؤثــر عليــه فقــال لــه "يجــب أن تــدرك مــدى خطــورة هــذا‬
‫القــرار‪ ...‬وأنــت تعــرف ذلــك طب ًعــا‪ .‬ال شــك يف أنــه ســيؤثر عــى قدراتنــا‪ ،‬فالوحــدات‬
‫را يف أنظمــة دفاعنــا الجــوي وحربنــا اإللكرتونيــة"‪ .‬حتــى‬ ‫الســوفيتية تلعــب دو ًرا كبــ ً‬
‫صــادق‪ ،‬الناقــد الشــديد للســوفييت‪ ،‬فعــل كل مــا يف وســعه لثنــي الســادات عــن ذلــك‪،‬‬
‫(((‬
‫ولكــن دون جــدوى‪.‬‬
‫بلــغ التوتــر بــن الرئيــس وجرناالتــه ذروتــه ليلــة ‪ 24‬أكتوبــر ‪ ،1972‬خــال اجتــاع‬
‫اســتثنايئ للمجلــس األعــى للقــوات املســلحة طغــت عليــه أجــواء التوتــر واالحتقــان‪ .‬طلــب‬
‫الســادات مــن وزيــر الحربيــة صــادق االســتعداد للحــرب بحلــول منتصــف نوفمــر‪ ،‬وهــو‬
‫أمــر تجاهلــه األخــر‪ ،‬ألنــه علــم أن الهجــوم املبكــر ســيقترص عــى عبــور القنــاة فقــط‬
‫دون االســتيالء عــى املمــرات‪ ،‬فمــن املحتمــل أن تكــون النتائــج كارثيــة‪ .‬ولــذا‪ ،‬طلــب مــن‬
‫كبــار مســاعديه أن يبــدوا اعرتاضاتهــم برصاحــة يف املــرة القادمــة التــي يجتمعــون فيهــا‬
‫بالرئيــس‪ .‬ويف االجتــاع التــايل‪ ،‬اعتقــد الســادات أنــه يتفقــد االســتعدادات النهائيــة للحرب‬
‫وحســب‪ ،‬بينــا كانــت القيــادة العليــا مصممــة عــى التعبــر عــن اعرتاضهــا باإلجــاع عــى‬
‫خطتــه‪ .‬وبحســب محــر االجتــاع‪ ،‬بــدأ الســادات بنفــي الشــائعات القائلــة بأنــه يبيــع‬
‫مــر لألمريكيــن‪ ،‬وادعــى أن الواليــات املتحــدة هــي التــي تحــاول اســتدراجه للتوصــل‬
‫إىل تســوية ســلمية مــع إرسائيــل‪ (((.‬لكــن نائــب وزيــر الحربيــة عبــد القــادر حســن وقائــد‬

‫‪1- al-Gamasy, The October War, 141–45.‬‬


‫‪2- Shazly, Crossing, 111.‬‬
‫‪ -3‬موىس صربي‪ ،‬وثائق حرب أكتوبر‪ ،‬القاهرة‪ :‬أخبار اليوم‪ ،1979 ،‬ص ‪.31‬‬

‫‪171‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫البحريــة محمــود فهمــي شــككا يف حكمــة قــراره يف "الذهــاب إىل الحــرب باألســلحة‬
‫املتوفــرة لدينــا"‪ ،‬وأضافــا أن خســارة معركــة أخــرى مــع إرسائيــل ســتدمر معنويــات الجيــش‬
‫والشــعب م ًعــا‪ .‬لكــن الســادات رصخ يف وجههــا قائـ ًـا إن أيًــا منهــا ليــس لديــه الحــق أو‬
‫(((‬
‫الكفــاءة ملســاءلته‪.‬‬
‫ويكشــف املحــر بعــد ذلــك إرصار حســن وعنــاده بــأن حربًــا محــدودة ال ميكــن أن‬
‫تحــرر ســيناء‪ ،‬وأن الجيــش املــري إن مل يُبــقِ اإلرسائيليــن تحــت الضغــط مــن خــال‬
‫هجــوم متواصــل‪ ،‬فســتتحول الحــرب برسعــة إىل حــرب دفاعيــة ميــؤوس منهــا حــول بعــض‬
‫رؤوس الجســور غــر املهمــة عــى ضفــاف قنــاة الســويس‪ ،‬مــا مينــح إرسائيــل األفضليــة‬
‫بســبب تفــوق قوتهــا الجويــة‪ .‬فــرد عليــه الرئيــس الســادات بــأن مهمــة املجلــس األعــى‬
‫هــي تعويــض نقــص الســاح باملوهبــة والتخطيــط الجيــد‪ .‬وعندمــا اعــرض حســن مــرة‬
‫أخــرى‪ ،‬صــاح الســادات يف وجهــه قائـ ًـا "هــذه هــي املــرة الثانيــة التــي تعــرض عــي‬
‫فيهــا‪ ،‬ولــن أســمح بذلــك‪ ...‬أنــا املســؤول عــن اســتقالل هــذا البلــد‪ ،‬وأنــا أعــرف مــا أفعلــه‪.‬‬
‫اعرتاضــا آخــر وسـ ُـيطلب منــك البقــاء يف املنــزل‪ ...‬هــذا عــار‬
‫ً‬ ‫هــذا ليــس مــن شــأنك‪ ،‬قــدم‬
‫ـت سياسـ ًـيا"‪ .‬وحــن أشــار محمــود فهمــي إىل أنــه‬ ‫عليــك! الــزم حــدك! أنــت جنــدي‪ ،‬ولسـ َ‬
‫مــن غــر املناســب أن يوبــخ الرئيــس جرناالتــه بهــذه الطريقــة املهينــة‪ ،‬وبخــه الســادات‬
‫غاضبــا عــن‬
‫ً‬ ‫ـس الســادات‬ ‫أيضــا‪ .‬بعــد انتهــاء االجتــاع‪ ،‬ســأل الوزي ـ ُر صــادق الرئيـ َ‬‫هــو ً‬
‫ســبب عقــد االجتــاع مــا دام غــر مســتعد الحــرام وجهــة نظــر قــادة الجيــش أو حتــى‬
‫االســتامع إليهــم‪ ،‬فجــاء رد الرئيــس بعــد يومــن عــر فصــل جميــع الذيــن اعرتضــوا عــى‬
‫خطتــه أثنــاء االجتــاع مبــن فيهــم وزيــر الحربيــة ونائبــه‪ ،‬باإلضافــة إىل أكــر مــن مائــة‬
‫(((‬
‫مــن كبــار الضبــاط خــال األســابيع التــي تلــت ذلــك‪.‬‬
‫عندمــا وصــف الســادات االجتــاع الح ًقــا يف إحــدى املقابــات‪ ،‬مل يكــن لديــه أي رادع‬
‫املجلــس األعــى للقــوات املســلحة عــى أنــه‬
‫َ‬ ‫مينعــه مــن االنتصــار لنفســه‪ .‬فقــد صــ ّور‬
‫عقليــا‪ ،‬ومرتزقــة‪،‬‬
‫"مجموعــة مــن التالميــذ الصغــار‪ ،‬تتألــف مــن يســاري مخــدوع‪ ،‬ومختــل ً‬
‫وخائــن ملــر‪ ،‬ومتآمــر‪ ...‬ثــم اتضــح أن وزيــر الحربيــة قــام بجــوالت عــى الوحــدات‬

‫‪ -1‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.321-319‬‬


‫‪ -2‬صربي‪ ،‬وثائق حرب أكتوبر‪ ،‬ص ‪.67-65‬‬

‫‪172‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫يعــرب فيهــا عــن رفضــه للحــرب"‪ (((.‬فمــن وجهــة نظــره‪ ،‬كان الوزيــر صــادق ومــن معــه‬
‫جبنــاء ال ميلكــون الشــجاعة لخــوض الحــرب‪ .‬ثــم ادعــى أن صــادق متــورط يف انقــاب‬
‫(((‬
‫غــر مــدروس بهــدف منــع الحــرب‪ ،‬وأنــه كان ال بــد مــن وضعــه رهــن اإلقامــة الجربيــة‪.‬‬
‫رس لصديقــه القديــم محمــود جامــع أنــه قلــق بشــأن شــعبية صــادق بــن‬ ‫لكــن الســادات أ َّ‬
‫الجنــود‪ ،‬خاصــة بعــد جهــوده الرائعــة يف تدريــب القــوات وتطويرهــا‪ (((.‬وتوصــل رئيــس‬
‫األركان الشــاذيل‪ ،‬الــذي عمــل مــع صــادق عــن كثــب وحــر اجتــاع أكتوبــر املصــري‪،‬‬
‫إىل نتيجــة مامثلــة تقــي بــأن صــادق نجــح بالفعــل يف تعزيــز شــعبيته داخــل الجيــش مــن‬
‫(((‬
‫خــال الحوافــز املاديــة والرمزيــة‪ ،‬وأن الســادات اعتقــد أن هــذا يهــدد أمنــه كرئيــس‪.‬‬
‫يؤكــد الضابــط واملــؤرخ أحمــد حمــروش((( وهيــكل((( صحــة هــذا االدعــاء فقــد عاشــا هــذه‬
‫األحــداث عــن كثــب‪ .‬وتجــدر اإلشــارة هنــا إىل أن الرئيــس الســادات علــم مــن مديــر‬
‫املخابــرات العامــة أحمــد إســاعيل بتزايــد شــعبية وزيــر الحربيــة صــادق‪ ،‬وهــي إحــدى‬
‫(((‬
‫أوىل حــاالت تجســس املخابــرات عــى الجيــش‪.‬‬
‫وكدليــل عــى شــعبية صــادق وحقيقــة أن العديــد مــن الضبــاط يشــاركونه وجهــات نظــره‪،‬‬
‫خططــت مجموعــة رسيــة مــن الضبــاط تطلــق عــى نفســها اســم "حركــة إنقــاذ مــر"‬
‫لإلطاحــة بالرئيــس‪ ،‬وذلــك بعــد شــهر مــن إقالــة صــادق‪ .‬رددت املجموعــة حجــة وزيــر‬
‫الحربيــة املعــزول بــأن هنــاك محاولــة "لدفعنــا إىل الحــرب بينــا نحــن غــر مســتعدين‪،‬‬
‫وهــذا مــن شــأنه أن يــؤدي إىل تدمــر قواتنــا املســلحة"‪ (((.‬ومــا أثــار اســتياء الضبــاط‪ ،‬أن‬
‫ـا أن جواســيس مباحــث‬ ‫الرئيــس الســادات كلــف مباحــث أمــن الدولــة بالتحقيقــات‪ ،‬زاعـ ً‬
‫أمــن الدولــة هــم الذيــن كشــفوا املؤامــرة الرسيــة‪ ،‬وليــس املخابــرات الحربيــة‪ ،‬ولــذا فقــد‬
‫نالــوا ثقتــه‪ .‬يقــول الشــاذيل إنــه فوجــئ عندمــا ســمع الرئيــس الســادات ووزيــر الداخليــة‬

‫‪ -1‬منصور‪ ،‬من أوراق السادات‪ ،‬ص ‪.336-335‬‬


‫‪ -2‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.320‬‬
‫عرفت السادات‪ ،‬ص ‪.164‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -3‬جامع‪،‬‬
‫‪4- Shazly, Crossing, 123–26.‬‬
‫‪ -5‬حمروش‪ ،‬غروب يوليو‪ ،‬ص ‪.147‬‬
‫‪6- Heikal, October 1973, 251.‬‬
‫‪7- Sirrs, A History of the Egyptian Intelligence Service, 127.‬‬
‫‪8- Shazly, Crossing, 129.‬‬

‫‪173‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫ممــدوح ســامل يتهــان صــادق وأتباعــه بأنهــم عمــاء للحكومــة الســعودية‪ (((.‬كشــفت‬
‫التحقيقــات أن مــن بــن املتآمريــن قائــد املنطقــة املركزيــة يف القاهــرة ورئيــس املخابــرات‬
‫الحربيــة‪ ،‬إىل جانــب اثنــن مــن قــادة الفــرق وقائــد القــوات الخاصــة‪ ،‬وقــادة لوحــدات‬
‫أصغــر‪ .‬امتــد هــذا التنظيــم الــري إىل عمــق القــوات املســلحة‪ ،‬وقضــت الخطــة باعتقــال‬
‫القــادة السياســيني واألمنيــن والضبــاط العســكريني املوالــن للرئيــس‪ ،‬وذلــك يف ‪ 9‬نوفمرب‬
‫‪ 1972‬أي يف حفــل زفــاف ابنــة الشــاذيل‪ (((.‬ويف ‪ 26‬أكتوبــر ‪ ،1972‬اتخــذ الســادات قــرا ًرا‬
‫آخــر أثــار الكثــر مــن الجــدل بتعينــه مديــر املخابــرات أحمــد إســاعيل وزيـ ًرا للحربيــة‪.‬‬

‫الطريق نحو أكتوبر‬


‫حــاز أحمــد إســاعيل رتبــة لــواء منــذ مــدة طويلــة‪ ،‬فقــد تخــرج مــن الكليــة الحربيــة عــام‬
‫‪ ،1938‬وبلــغ حتــى هــذا العــام مــن العمــر ســتة وخمســن عا ًمــا‪ .‬منعتــه طبيعتــه الحــذرة‬
‫مــن االنضــام إىل الضبــاط األحــرار رغــم أنــه خــدم مــع العديــد منهــم كقائــد لــواء يف‬
‫حــرب ‪ 1948‬يف فلســطني‪ .‬وكغــره مــن عــرات الضبــاط اآلخريــن‪ ،‬مل يكــن أداؤه يف‬
‫حــرب الســويس عــام ‪ 1956‬مميـ ًزا‪ .‬فــا هــي املؤهــات الخاصــة التــي حصــل عليهــا لتــويل‬
‫املنصــب العســكري األعــى يف مثــل هــذا الوقــت الحــرج؟‬
‫رغــم صعوبــة التأثــر عــى أفــكار الســادات‪ ،‬إال أن مــا مييــز إســاعيل عــن غــره مــن‬
‫الجــراالت أن تاريخــه يف القــوات املســلحة إىل جانــب وضعــه الصحــي يحــول دون تشــكيل‬
‫نفــوذ خــاص بــه داخــل رتــب الجيــش‪ .‬أو ًاًل‪ ،‬أُعفــي إســاعيل مــن مهامــه مرتــن بســبب‬
‫عــدم كفاءتــه‪ ،‬كقائــد فرقــة يف أغســطس ‪ 1967‬وقائــد لــأركان يف ســبتمرب ‪ .1969‬وهكــذا‪،‬‬
‫(((‬
‫فقــد تــوىل منصبــه الجديــد بعــد إهانتــه كشــخص فُصــل مــن الخدمــة بســبب اإلهــال‪.‬‬
‫ثان ًيــا‪ ،‬رغــم أن إســاعيل مل يُع َجــب بــه ســوى القليــل مــن الضبــاط‪ ،‬إال أنــه كان عــد ًوا‬
‫لــدو ًدا لزميــل لــه خــال ســنوات خدمتــه هــو قائــد األركان الحــايل ســعد الديــن الشــاذيل‪.‬‬
‫ظــل االثنــان متخاصمــن منــذ شــجارهام باأليــدي يف الكونغــو عــام ‪ ،1960‬عندمــا حــاول‬
‫إســاعيل التباهــي بســلطته كملحــق عســكري ملــر أمــام الشــاذيل الــذي خــدم يف قــوة‬

‫‪1- Shazly, Crossing, 129‬‬


‫‪ -2‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.130‬‬
‫‪3- Sirrs, History, 121.‬‬

‫‪174‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫نقيبــا حينهــا‪ ،‬إال أنــه‬


‫األمــم املتحــدة املتمركــزة هنــاك‪ .‬ورغــم أن الشــاذيل كان ال يــزال ً‬
‫رفــض االنصيــاع للعميــد إســاعيل ليــس فقــط ألن األخــر ليــس لــه ســلطة عليــه‪ ،‬بــل ألنــه‬
‫أيضــا أن إســاعيل ليــس بكــفء لهــذا املنصــب‪ .‬ويف الواقــع‪ ،‬اســتقال الشــاذيل يف‬ ‫اعتقــد ً‬
‫ـاعيل‬
‫مــارس ‪ 1969‬مــن منصــب قائــد القــوات الخاصــة عندمــا عــن عب ـ ُد النــارص إسـ َ‬
‫قائـ ًدا لــأركان‪ ،‬ولكــن قبــل املوافقــة عــى اســتقالته أقيــل إســاعيل مجــد ًدا‪.‬‬
‫ومــن غــر املســتغرب أن الشــاذيل عندمــا استشــاره الســادات حــول مــن ســيحل محــل‬
‫صــادق يف منصــب وزيــر الحربيــة نصحــه بــأن يعــن مــن شــاء إال إســاعيل‪ .‬ولكــن‬
‫الرئيــس عــن إســاعيل ومل يكــرث لنصيحــة الشــاذيل الــذي يقــول إنــه شــعر بالفــزع‬
‫ـدي ســجل حافــل مــن الخالفــات مــع أحمــد‬ ‫حينهــا‪ ،‬فناشــده قائـ ًـا‪" :‬ســيدي الرئيــس‪ ...‬لـ ّ‬
‫إســاعيل يعــود إىل أكــر مــن اثنــي عــر عا ًمــا‪ ،‬منــذ أن التقينــا يف الكونغــو‪ ،‬ومنــذ ذلــك‬
‫الحــن والعالقــات بيننــا ســيئة‪ .‬لــذا‪ ،‬ســيكون مــن املســتحيل أن نعمــل م ًعــا بانســجام"‪ .‬لكــن‬
‫الســادات مل يكــرث لذلــك وأجابــه فقــال‪" :‬أنــا أعــرف كل ذلــك"‪ (((.‬ويف النهايــة‪ ،‬كان‬
‫إســاعيل يخــوض معركــة خــارسة مــع مــرض الرسطــان الــذي أصيــب بــه‪ ،‬وأقــر الســادات‬
‫بــأن األطبــاء أبلغــوه بحالــة إســاعيل وأكــدوا أنــه ال يســتطيع العمــل يف منصــب يتطلــب‬
‫را‪ ،‬لكنــه رفــض كل ذلــك ألنــه يثــق بإســاعيل‪ .‬كــا اعــرف الســادات‬ ‫منــه جه ـ ًدا كب ـ ً‬
‫أن إســاعيل قــى معظــم وقتــه بحلــول ‪ 19‬أكتوبــر (أي يف منتصــف الحــرب متا ًمــا)‬
‫مســري ًحا يف رسيــر صغــر خــارج مركــز العمليــات ‪ 10‬بغرفــة قيــادة الحرب‪(((.‬فلــاذا‬
‫اتخــذ الرئيــس مثــل هــذا القــرار الغريــب؟‬
‫عــى الرغــم مــن نقــاط ضعفــه‪ ،‬كان ألحمــد إســاعيل رصيــده الســيايس املؤثــر بعــض‬
‫الــيء‪ .‬فقــد كان هــو والســادات صديقــن منــذ عــام ‪ ،1938‬مــا دفــع الرئيــس للوثــوق‬
‫يف والئــه لــه‪ (((.‬كــا ســاعده عــى ذلــك شــعور إســاعيل مبــرارة إقالتــه املتكــررة‪ ،‬فقــد‬
‫اســتاء مــن تعيينــات عبــد النــارص األمنيــة والعســكرية مــا جعلــه مناسـ ًـبا متا ًمــا للعمــل‬
‫كمديــر لجهــاز املخابــرات العامــة بعــد رصاع مايــو ‪ ،1971‬فشــعر باالمتنــان الشــديد ألن‬
‫الســادات أعــاده مــن النســيان إىل مثــل هــذا املنصــب املرمــوق‪ .‬كل هــذا يعنــي أن بإمكانــه‬
‫‪1- Shazly, Crossing, 124–25.‬‬
‫‪ -2‬منصور‪ ،‬من أوراق السادات‪ ،‬ص ‪.367‬‬
‫‪ -3‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.362‬‬

‫‪175‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫خدمــة الســادات جيـ ًدا والعمــل عــى نــزع الطابــع الســيايس عــن الجيــش‪ .‬وخــال لقائــه‬
‫األول مــع الســادات كوزيــر للحربيــة‪ ،‬حــذر إســاعيل مــن وجــود مســتوى غــر مقبــول مــن‬
‫النشــاط الســيايس داخــل الجيــش‪ ،‬وأن أولويتــه هــي تصفيــة جميــع الــوالءات السياســية‬
‫عينــه يف املخابــرات أواًلً ليكتســب‬
‫داخــل القــوات املســلحة‪ .‬وأضــاف الرئيــس الســادات أنــه ّ‬
‫(((‬
‫الخــرة التــي ســيحتاجها للقيــام بهــذه املهمــة الحاســمة‪.‬‬
‫األهــم مــن كل ذلــك‪ ،‬أن إســاعيل مل تكــن لديــه ثقــة كبــرة يف احتــاالت النــر‬
‫العســكري‪ .‬فقبــل أســابيع مــن توليــه منصبــه الجديــد‪ ،‬قــدم إىل الســادات تقري ـ ًرا مــن‬
‫جهــاز املخابــرات العامــة يقــول فيــه‪" :‬مــر ليســت مســتعدة للحــرب‪ ...‬إن أي هجــوم تشــنه‬
‫أو تقــوده مــر يف ظــل الظــروف الحاليــة قــد يــؤدي إىل كارثــة"‪ (((.‬وبهــذا املعنــى‪ ،‬كان‬
‫إســاعيل الرجــل الوحيــد مــن بــن قــادة الجيــش املــري الذيــن ال يــرددون يف قبــول‬
‫خطــة الرئيــس الســادات الرسيــة حــول شــن حــرب محــدودة‪ ،‬والتــي تهــدف فقــط إىل‬
‫تشــكيل عامــل ضغــط للوصــول إىل تســوية سياســية‪ .‬وبصفتــه مديـ ًرا للمخابــرات العامة بني‬
‫مايــو ‪ 1971‬وأكتوبــر ‪ ،1972‬أدار إســاعيل القنــاة الخلفيــة مــع وكالــة املخابــرات املركزيــة‪،‬‬
‫لــذا علــم مبــا حــاول الســادات ترتيبــه مــع األمريكيــن‪ (((.‬يقــدم قائــد األركان الشــاذيل‬
‫أفضــل تلخيــص لســبب قيــام الســادات بتعيــن إســاعيل وزيــ ًرا للحربيــة حيــث قــال‪:‬‬
‫"لقــد كان رجـ ًـا ضعي ًفــا يتصــف بالخضــوع والبلطجــة‪ ...‬يتهــرب مــن تحمــل مســؤولية اتخاذ‬
‫القــرارات مفضـ ًـا تلقــي األوامــر بــداًلً مــن إعطائهــا‪ .‬مل يكــن يحظــى بشــعبية كبــرة بــن‬
‫القــوات املســلحة‪ ،‬وال يُســتغرب أن أســلوبه كان فظًــا جـ ًدا‪ .‬وفيــا ال يهتــم مبشــكالت مــن‬
‫حولــه الشــخصية‪ ،‬فقــد كان يكــرس اهتاممــه بالكامــل عندمــا يتعلــق األمــر بأرستــه‪ ...‬لقــد‬
‫كان انعــدام شــعبيته هــذا ميــزة أخــرى مــن مزايــاه بالنســبة للســادات‪ .‬ولــذا بطبيعــة الحــال‬
‫كان عــى خــاف مــع قائــد األركان‪ ...‬أمــا النقطــة التــي ال تغتفــر فهــي أن إســاعيل كان‬
‫فعليــا يحتــر‪ ،‬والرئيــس الســادات أدرك أنــه مصــاب بالرسطــان‪ ..‬فقــد أقعــده املــرض‬ ‫ً‬
‫مــدة عــام عــى األقــل قبــل أن يعينــه الســادات وزي ـ ًرا للحربيــة‪ ..‬واعــرف األخــر بأنــه‬
‫علــم بذلــك‪ .‬يف خطــاب ألقــاه عــام ‪ ،1977‬قــال الســادات إنــه علــم مبــرض إســاعيل قبــل‬
‫‪1- Gamasy, The October War, 152–58.‬‬
‫‪2- Shazly, Crossing, 27.‬‬
‫‪ -3‬هيكل‪ ،‬خريف الغضب‪ ،‬ص ‪.64‬‬

‫‪176‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫وأثنــاء حــرب أكتوبــر‪ ،‬وأخــره األطبــاء أن إســاعيل مريــض جـ ًدا وغــر قــادر عــى اتخــاذ‬
‫القــرارات‪ ...‬مل يكــن إســاعيل مناسـ ًـبا لوظيفتــه‪ ،‬وكان لضعفــه عواقــب وخيمــة عــى بــاده‪.‬‬
‫(((‬
‫لكــن الــر يكمــن يف الرجــل الــذي عــن إســاعيل ثــم تالعــب بــه"‪.‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬فــأي حــرب ســتكون محفوفــة باملخاطــر ســواء كانــت محــدودة أو غــر ذلــك‪،‬‬
‫فــأي هزميــة أخــرى ملــر ســتكون كارثيــة عــى املســتوى الســيايس‪ .‬يف الوقــت نفســه‪،‬‬
‫فــإن مــن شــأن االنتصــار الكبــر أن يصنــع أبطــااًلً عســكريني ميكنهــم بعــد ذلــك الوصــول‬
‫إىل شــعبية كبــرة داخــل وخــارج الجيــش مــا يؤهلهــم لتحــدي الســادات‪ ،‬ومــا محمــد‬
‫نجيــب وعبــد النــارص إال أمثلــة عــى ذلــك‪ .‬فرغــم هزميــة مــر الفادحــة يف عــام ‪،1948‬‬
‫إال أن الشــجاعة التــي أظهرهــا القائــدان نجيــب وعبــد النــارص أثنــاء القتــال أكســبتهام‬
‫را مــن زمالئهــم الضبــاط‪ ،‬ومنحتهــا الرشعيــة الكافيــة لتحــدي امللــك فــاروق‪.‬‬ ‫ـا كبـ ً‬
‫دعـ ً‬
‫ولتجنــب هــذا الخطــر متا ًمــا‪ ،‬قــرر الســادات العمــل عــى تحقيــق الســيناريو األفضــل‬
‫بالنســبة لــه‪ :‬تحريــر ســيناء دون حــرب واســعة لتحقيــق انتصــار ســيايس بحــت‪ .‬لكنــه‬
‫مل يكــن ســاذ ًجا لدرجــة أن يعتقــد أن إرسائيــل ســتتنازل عــن األرايض املحتلــة ببســاطة‪،‬‬
‫إمنــا أمــل يف تكــرار مــا حــدث يف حــرب الســويس عــام ‪ ،1956‬دون الدخــول يف حــرب‬
‫مفتوحــة‪ .‬ففــي ذلــك العــام‪ ،‬حققــت مــر انتصــا ًرا سياسـ ًـيا مذهـ ًـا دون الحاجــة إىل‬
‫نــر يف ســاحة املعركــة‪.‬‬
‫يف ‪ 24‬أكتوبــر ‪ ،1972‬التقــى الســادات مــع املجلــس األعــى للقوات املســلحة‪ ،‬وأكــد عىل أنه‪:‬‬
‫"يجــب أن نتذكــر مــا فعلنــاه عــام ‪ ...1956‬عندمــا حــول عبــد النــارص الهزميــة العســكرية‬
‫إىل نــر ســيايس"‪ (((.‬وترســخ يف فكــر الســادات أن الواليــات املتحــدة هــي التــي قدمــت‬
‫ذلــك النــر ملــر عــى طبــق مــن فضــة‪ .‬ولــذا يذكــر باعتــزاز يف مذكراتــه عــن الحــرب‬
‫ـا يف تحويــل الهزميــة العســكرية إىل نــر ســيايس"‪ .‬كــا‬ ‫أن " أيزنهــاور أدى عمـ ًـا حاسـ ً‬
‫رأى يف قــرار عبــد النــارص عــام ‪ 1967‬التنحــي لصالــح زكريــا املــوايل ألمريــكا اعرتافًــا‬
‫مــن جانبــه بــأن "هنــاك قــوة واحــدة تحكــم مــر والعــامل‪ ،‬وهــي‪ :‬أمريــكا"‪ .‬وقــد لخــص‬
‫(((‬
‫ذلــك يف عبارتــه الشــهرية حــن قــال‪ :‬متتلــك أمريــكا ‪ %99‬مــن أوراق الــرق األوســط‪.‬‬
‫‪1- Shazly, Crossing, 126–27.‬‬
‫‪ -2‬صربي‪ ،‬وثائق حرب أكتوبر‪ ،‬ص ‪.54‬‬
‫‪ -3‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪ ،194‬ص ‪ ،232‬ص ‪.390‬‬

‫‪177‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫وبنــا ًء عــى ذلــك‪ ،‬شــن الســادات حربــه الخاصــة املحــدودة ليكســب قلــب أمريــكا وعقلهــا‪.‬‬
‫وزعــم صديقــه املقــرب‪ ،‬محمــود جامــع‪ ،‬أن الســادات طــور عالقــات وثيقــة مــع األمريكيــن‬
‫قبــل ســنوات مــن توليــه الرئاســة(((‪ .‬ويقــول محلــل املخابــرات األمريكيــة الســابق أويــن‬
‫ســرس إن هنــاك مــؤرشات قويــة عــى أن "روابــط الســادات طويلــة األمــد باالســتخبارات‬
‫األمريكيــة ســاعدته يف تعزيــز قبضتــه عــى الرئاســة‪ ،‬رغــم اشــتباه الكثرييــن بواشــنطن‬
‫يف أن رئاســته لــن تــدوم طويـ ًـا"‪ (((.‬كانــت خطوتــه األوىل بعــد توليــه الرئاســة ‪ -‬كــا هــو‬
‫مســجل يف مذكراتــه الخاصــة‪ -‬دعوتــه أللــرت ريتشاردســون‪ ،‬وزيــر الصحــة األمريــي‬
‫واملبعــوث إىل جنــازة عبــد النــارص‪ ،‬لجــس نبضــه‪ (((.‬لكــن ريتشاردســون أفــاد حــن عــاد‬
‫إىل الواليــات املتحــدة بــأن الســادات لــن يســتمر أكــر مــن ســتة أســابيع يف الحكــم‪ .‬بعــد‬
‫ذلــك‪ ،‬ســعى الرئيــس للحصــول عــى دعــم أعضــاء الكونجــرس خــال زيارتهــم للقاهــرة يف‬
‫مــارس ‪ ،1971‬فخــال هــذه الزيــارة أســس لصداقــة حميمــة مــع ديفيــد روكفلــر‪ .‬كــا حاول‬
‫اســرضاء ويليــام روجــرز أثنــاء زيارتــه للقاهــرة يف مايــو ‪ -1971‬وهــي أول زيــارة لوزيــر‬
‫خارجيــة أمريــي منــذ عــام ‪ -1953‬عــر التعهــد بإقالــة وزيــر خارجيتــه محمــود ريــاض‬
‫بســبب مواقفــه املتشــددة تجــاه أمريــكا وإرسائيــل‪ (((.‬وذهــب الســادات إىل أبعــد مــن ذلــك‪،‬‬
‫فدعــا رئيســة الــوزراء اإلرسائيليــة غولــدا مائــر بعــد أربعــة أشــهر مــن وفــاة عبــد النــارص‪،‬‬
‫(((‬
‫إلجــراء محادثــات رسيــة للتوصــل إىل تســوية ســلمية لكنهــا رفضــت دعوتــه‪.‬‬
‫مــع ذلــك‪ ،‬أثبتــت هــذه املحــاوالت املتفرقــة أنهــا غــر كافيــة‪ ،‬واحتــاج الســادات لقنــاة‬
‫خلفيــة منتظمــة وموثوقــة‪ .‬ولــذا‪ ،‬اســتعان بعبــد املنعــم أمــن‪ ،‬مســؤول االرتبــاط ســابقا مــع‬
‫األمريكيــن وأحــد أعضــاء حركــة الضبــاط األحــرار‪ .‬طلــب الســادات مــن أمــن االتصــال‬
‫رسا بالقائــم باألعــال األمريــي يف القاهــرة دونالــد بريجــوس‪ ،‬ورئيــس مكتــب وكالــة‬ ‫ً‬
‫املخابــرات املركزيــة يوجــن تــرون‪ .‬لكنــه مل يعلــم أن جهــاز املخابــرات العامــة كان يتنصــت‬
‫عــى مكاتــب وشــقق كل مــن بريجــوس وتــرون‪ ،‬وأن كل مــا قيــل بينهــم وبــن أمــن قــد‬

‫عرفت السادات‪ ،‬ص ‪.140‬‬


‫ُ‬ ‫‪ -1‬جامع‪،‬‬
‫‪2- Sirrs, History, 117.‬‬
‫‪ -3‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪.296 ،‬‬
‫‪ -4‬أحمد حمروش‪ ،‬غروب يوليو‪ ،‬ص ‪ ،17‬ص ‪.46-40‬‬
‫‪ -5‬مراد غالب‪ ،‬مع عبد النارص والسادات‪ ،‬ص ‪.193‬‬

‫‪178‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫تنصتــوا عليــه وأرســلوه عــر منافســيه إىل الســوفييت‪ .‬يف ‪ 22‬ينايــر ‪ 1971‬وخــال االجتامع‬
‫را‬
‫األول بــن أمــن وبريجــوس وتــرون‪ ،‬طلــب أمــن دعــم الواليــات املتحدة للســادات‪ ،‬مشـ ً‬
‫إىل ميولــه املعاديــة للســوفييت بعــد أن اعتــذر عــن املشــكالت غــر املــررة التــي أثارهــا‬
‫عبــد النــارص مــع الواليــات املتحــدة‪ ،‬وقــال "مشــكلة عبــد النــارص أنــه بالــغ يف شــكوكه‪،‬‬
‫أيضــا كل مــا‬
‫وارتــاب يف جميــع مــن حولــه ومــن كل يشء‪ ...‬ليــس ذلــك فحســب‪ ،‬فقــد فعــل ً‬
‫بوســعه يف ســبيل مجــده‪ ،‬واعتقــد أن تحــدي أمريــكا ســرفع مــن شــأنه‪ ...‬ومل يفعــل ذلــك‬
‫مــن أجــل بلــده أو العــرب أو العــامل النامــي‪ ،‬إمنــا لتعزيــز مكانتــه الشــخصية"‪ .‬وعندمــا‬
‫ـا‪ ،‬أجــاب أمــن "لقــد كان‬ ‫أيضــا قائـ ًدا عظيـ ً‬
‫ذكــره بريجــوس بلباقــة أن عبــد النــارص كان ً‬
‫ـا فقــط ألنــه تســبب يف كــوارث كبــرة لبــاده"‪ (((.‬ومــع ذلــك‪ ،‬مل تســفر املبــادرة عــن‬
‫عظيـ ً‬
‫يشء‪ ،‬وبــدأ الســادات يف البحــث عــن قنــاة أكــر فاعليــة‪.‬‬
‫يف هــذه املرحلــة‪ ،‬أدرك الرئيــس أنــه بحاجــة إىل مســاعدة خارجيــة‪ ،‬فتواصــل مــع صديقــه‬
‫كــال أدهــم‪ ،‬الرئيــس األســطوري للمخابــرات الســعودية‪ ،‬واملقــرب منــه لدرجــة أنــه شــهد‬
‫حفــل زواجــه يف عــام ‪ .1955‬نصحــه أدهــم بإظهــار حســن نيتــه لألمريكيــن عــر طــرد‬
‫الخــراء العســكريني الســوفييت مــن مــر‪ ،‬وهــو مــا فعلــه الســادات يف يوليــو ‪ .1972‬ويف‬
‫الشــهر نفســه‪ ،‬دعــا وكالــة املخابــرات املركزيــة إلرســال ممثــل رســمي لهــا إىل القاهــرة‬
‫ألول مــرة منــذ عــام ‪ (((.1967‬ولكــن رغــم اســتعداد إدارة نيكســون‪ ،‬الــذي أبدتــه مــن خــال‬
‫العديــد مــن البيانــات الرســمية‪ ،‬للعمــل عــى تســوية ســلمية بــن الجانبــن إذا مــا أُنهيــت‬
‫مهمــة الســوفييت يف مــر‪ ،‬إال أنهــا تجاهلــت إشــارات الســادات متا ًمــا‪ .‬وقــد أوضــح‬
‫كيســنجر الح ًقــا لعصمــت عبــد املجيــد‪ ،‬ممثــل مــر لــدى األمــم املتحــدة‪ ،‬أن األمريكيــن‬
‫"ال يدفعــون مقابــل أي يشء يُعــرض عليهــم مجانًــا"‪ (((.‬وبعبــارة عامــة‪ ،‬تخلــص الســادات‬
‫مــن ورقــة املســاومة الخاصــة بــه دون التفــاوض عــى مقابــل مناســب‪ ،‬معتقـ ًدا أن الواليات‬
‫فعليــا‬
‫املتحــدة ملتزمــة بتقديــر هــذا الكــرم الــذي يبديــه‪ -‬وهــو تكتيــك مدمــر أدمــن عليــه ً‬
‫خــال الســنوات القليلــة الالحقــة‪ .‬بعــد ذلــك‪ ،‬اتصــل رئيــس املخابــرات الســعودية بهيــكل‬

‫‪1- Heikal, October 1973, 758–60.‬‬


‫‪2- Sirrs, History, 123.‬‬
‫‪ -3‬عصمــت عبــد املجيــد‪ ،‬زمــن االنكســار واالنتصــار مذكــرات دبلومــايس عــن أحــداث مرصيــة وعربيــة ودوليــة‬
‫نص�فـ ق��رن م�نـ التح��والت الك�برى‪ ،‬القاهــرة‪ :‬دار الــروق‪ ،1998 ،‬ص ‪.121‬‬

‫‪179‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫وقــدم لــه العــرض التــايل‪" :‬أنــت الشــخص الوحيــد الــذي يثــق بــه الرئيــس ح ًقــا‪ ،‬وقــد‬
‫طلــب منــا التحــدث إليــك مبــارشة‪ .‬نريــد الرتتيــب لرتكيــب خــط ســاخن بــن منــزيل‬
‫ومنزلــك"‪ .‬لكــن هيــكل رفــض طلبــه عــى الفــور‪ ،‬ألنــه يعلــم أن املخابــرات الســعودية‬
‫ربيبــة وكالــة املخابــرات املركزيــة‪ .‬وبعــد أســابيع قليلــة‪ ،‬أخــره وزيــر الحــرب صــادق أن‬
‫الرئيــس الســادات قــام برتكيــب مثــل هــذا الخــط الســاخن يف منزلــه‪ (((.‬وقــد أكــد محلــل‬
‫املخابــرات األمريكيــة أويــن ســرس أن الســادات اســتخدم هــذا الخــط الســاخن يف منزلــه‬
‫(((‬
‫لالتصــال بعمــاء وكالــة املخابــرات املركزيــة‪.‬‬
‫يف النهايــة‪ ،‬أدرك الســادات أن كل هــذه االتصــاالت الغامضــة ال ميكنهــا أن تحقــق‬
‫سياســيا ذا قيمــة عاليــة كتحريــر ســيناء‪ ،‬لــذا قــرر إعــادة توجيــه كل طاقاتــه‬
‫ً‬ ‫إنجــا ًزا‬
‫نحــو الرجــل الــذي يعتقــد أنــه يحمــل مفاتيــح القــوة األمريكيــة‪ :‬هــري كيســنجر‪ .‬أدرك‬
‫الســادات ألول مــرة أن مستشــار األمــن القومــي األمريــي كيســنجر مهتــم مبــر عندمــا‬
‫تلقــى هيــكل دعــوة مــن دونالــد كينــدال (رئيــس رشكــة بيبــي كــوال‪ ،‬وصديــق نيكســون)‬
‫يف ‪ 18‬يونيــو ‪ 1971‬للقــاء كيســنجر عــى انفــراد يف منزلــه بواليــة كونيتيكــت‪ .‬رفــض‬
‫هيــكل الدعــوة وحــاول أن يــرح للســادات املحبــط للغايــة أن عــى مــر أال تجــري‬
‫محادثــات مــع األمريكيــن مــن موقــع ضعــف‪ .‬ويف ديســمرب ‪ ،1972‬لجــأ الســادات إىل‬
‫وزيــر الحربيــة الجديــد أحمــد إســاعيل الستشــارته‪ ،‬فنصحــه األخــر بــأن يرســل مبعوثًــا‬
‫ـخصيا للقــاء كيســنجر‪ .‬وهكــذا‪ُ ،‬عقــد اجتــاع يف منــزل كينــدال يف فربايــر ‪ 1973‬بــن‬ ‫شـ ً‬
‫ـرا‪ ،‬بعــد العديــد‬
‫كيســنجر ومستشــار الســادات لألمــن القومــي حافــظ إســاعيل‪ (((.‬وأخـ ً‬
‫مــن املحــاوالت اليائســة‪ ،‬بــدا أن بصيــص أمــل يلــوح يف األفــق‪ .‬ورغــم عــدم جــدوى هــذا‬
‫االجتــاع‪ ،‬إال أنــه افتتــح القنــاة الخلفيــة الرسيــة الشــهرية بــن الجانبــن والتــي ســاهمت‬
‫مســاهمة حيوي ـ ًة خــال الحــرب‪.‬‬
‫لكــن‪ ،‬طاملــا مل تســتطع مــر شــن حــرب فلــم يكــن هنــاك الكثــر مــا ميكــن فعلــه‪.‬‬
‫اعتقــد كيســنجر أن الســادات باســتطاعته فتــح أبــواب العــامل العــريب أمــام الواليــات‬
‫املتحــدة‪ ،‬لكــن حــرص الرئيــس الســادات عــى االنضــام إىل املعســكر األمريــي شــجع‬
‫‪ -1‬هيكل‪ ،‬خريف الغضب‪ ،‬ص ‪.45-44‬‬
‫‪2- Sirrs, History, 121.‬‬
‫‪3- Heikal, October 1973, 235, 270–71.‬‬

‫‪180‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫كيســنجر عــى االنتظــار حتــى تنضــج الثمــرة‪ .‬وقــد أشــار االنفــراج األمريــي‪ -‬الســوفيتي‬
‫إىل إمكانيــة التــأين‪ ،‬فــا الــذي دفــع أمريــكا لالنتظــار؟‬
‫مــن وجهــة نظــر كيســنجر‪ ،‬تطلبــت إعــادة ترتيــب القــوى اإلقليميــة أن تعــرف جميــع‬
‫األطــراف املعنيــة بواقعــن جيوسياســيني‪ :‬أو ًاًل‪" ،‬أن إرسائيــل قويــة جـ ًدا (أو ميكــن أن تكون‬
‫قويــة جـ ًدا) بحيــث ال ميكــن هزميتهــا حتــى لــو اجتمــع عليهــا جميــع جريانهــا العــرب‪ ،‬وأن‬
‫الواليــات املتحــدة ســتقود املواجهــة ضــد التدخــل الســوفيتي يف املنطقــة‪ .‬وثان ًيــا‪ ،‬أن "مفتاح‬
‫الــرق األوســط موجــود يف واشــنطن"‪ (((.‬أدرك الســادات يف تقديــره الحقيقــة الثانيــة‪،‬‬
‫لكنــه مل يــزل بحاجــة للتســليم بــاألوىل‪ .‬لذلــك‪ ،‬ورغــم أن حافــظ إســاعيل حــاول تشــجيع‬
‫كيســنجر حــن أشــار لــه بأنهــا "املــرة األوىل منــذ ربــع قــرن التــي يســتعد فيها زعيــم عريب‬
‫(((‬
‫للدخــول يف اتفاقيــة ســام مــع إرسائيــل"‪ ،‬إال أن األخــر مل تؤثــر فيــه هــذه املحــاوالت‪.‬‬
‫قائــا "مــاذا فعلــت يف تلــك املحادثــات؟‬‫ً‬ ‫حــن تذكــر كيســنجر هــذه الجلســات رصح‬
‫تحدثــت مــع مبعــوث الســادات عــن الطقــس ومواضيــع أخــرى يف العــامل‪ ..‬ولعبــت معــه‪..‬‬
‫(((‬
‫وكان هــديف كســب الوقــت وتأجيــل املرحلــة الخطــرة لشــهر آخــر‪ ،‬ورمبــا ســنة أخــرى"‪.‬‬
‫وهكــذا‪ ،‬تراكمــت الضغوطــات املحليــة والدوليــة للحيلولــة دون وقوع الحــرب‪ -‬وإن كان ذلك‬
‫ألســباب مختلفــة جـ ًدا‪ :‬حــرص املرصيــون عــى تحريــر أرضهــم‪ ،‬بينــا ســعى األمريكيــون‬
‫إلقناعهــم بأنهــم ال يســتطيعون فعــل ذلــك مــن خــال الحــرب‪ .‬وخــرج عــرات اآلالف مــن‬
‫الطــاب إىل الشــوارع يف جميــع أنحــاء مــر مطالبــن بشــن الحــرب‪ .‬ويف ‪ 12‬أكتوبــر‬
‫‪ ،1972‬وقعــت حادثــة مقلقــة ج ـ ًدا‪ ،‬حيــث قــاد النقيــب عــي حســن قائــد رسيــة مدرعــة‬
‫متمركــزة خــارج العاصمــة دباباتــه إىل مســجد الحســن يف قلــب القاهــرة لحشــد النــاس‬
‫ضــد تــردد الســادات يف شــن الحــرب‪ .‬لكــن األمــر األكــر إثــارة للقلــق يف مــا حــدث هــو‬
‫أن أيًــا مــن نقــاط التفتيــش العســكرية عــى طــول الطريــق مل تحــاول إيقافــه‪ (((.‬ومــن‬
‫ناحيــة أخــرى‪ ،‬نقــل حافــظ إســاعيل للســادات اعتقــاد كيســنجر بــأن املرصيــن ال ينبغــي‬

‫‪1- Henry Kissinger, Diplomacy, New York: Simon & Schuster, 1994, 737.‬‬
‫‪ -2‬ويليــام بــر‪ ،‬أرسار حــرب أكتوبــر يف الوثائــق األمريكيــة‪ ،‬ترجمــة خالــد داود‪ ،‬القاهــرة‪ :‬مركــز األهــرام‬
‫للرتجمــة والنــر‪ ،2004 ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪3- Kissinger in Golan, Secret Conversations, 145.‬‬
‫‪4- Shazly, Crossing, 117.‬‬

‫‪181‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫أن يتوقعــوا الكثــر طاملــا أنهــم مهزومــون عســكريًا‪ ،‬وســلط الضــوء عــى قســم مــن لقائــه‬
‫مــع كيســنجر يف فرنســا يف ‪ 20‬مايــو ‪ ،1973‬حيــث قــال لــه األخــر‪" :‬لقــد أخربتــك مؤخـ ًرا‪،‬‬
‫وســأقولها مــرا ًرا‪ :‬اإلرسائيليــون يف موقــف هــو األفضــل بالنســبة لهــم يف الوقــت الحايل‪...‬‬
‫وطاملــا شــعرت إرسائيــل أنهــا قــادرة عــى الحفــاظ عــى موقفهــا‪ ،‬فإننــا بصــدق ال نعتقــد‬
‫أنهــا ســترتاجع أبـ ًدا"‪ (((.‬لقــد كانــت الرســالة واضحــة‪ :‬مل يعــد مــن املمكــن تأجيــل الحــرب‪.‬‬

‫بني مرص واالنتصار‬


‫بــدت الواليــات املتحــدة مــرددة يف إعطــاء الرئيــس الســادات حـ ًـا سياسـ ًـيا بحتًــا‪ ،‬مــا‬
‫اضطــره الختيــار مســار آخــر بالــغ الدقــة عــر إطــاق العنــان للجيــش مــن ناحيــة‪ ،‬وكبــح‬
‫نجاحــه مــن ناحيــة أخــرى‪ .‬ويف حــن أراد جرناالتــه تحريــر ســيناء بقــوة الســاح‪ ،‬ســعى‬
‫الرئيــس لتكــرار ســيناريو العــام ‪ 1956‬عــر شــن عمليــة متثــل تحديًــا عســكريًا رمزيًــا مــن‬
‫شــأنه أن ميهــد الطريــق لتســوية سياســية بحتــة‪ .‬مــن هنــا نشــأ مفهــوم "الحــرب املحــدودة"‬
‫التــي قــرر الســادات أنهــا ستشــمل عبــور قنــاة الســويس واالســتيالء عــى مســاحة ضيقــة‬
‫عــى الضفــة الرشقيــة ليثبــت إلرسائيــل أن املرصيــن قــادرون عــى تعريــض أمنهــا للخطر‪.‬‬
‫وســتكون حجتــه أمــام الجنــود والشــعب املــري أنــه أُجــر عــى خــوض حــرب محــدودة‬
‫ألنــه مل يســتطع تأمــن أســلحة كافيــة مــن الســوفييت‪ ،‬وأن الواليــات املتحــدة لــن تســمح‬
‫بهزميــة إرسائيــل‪ .‬واعرتفــت املحللــة اإلســراتيجية ريــزا بروكــس بــأن "مفهــوم حــرب‬
‫الســادات‪ ...‬املبنــي عــى حقيقــة أن الجيــش املــري غــر قــادر عــى االنتصــار أمــام‬
‫عــدوه الــذي يفوقــه قــوة‪ ،‬كان غــر تقليــدي"‪ (((.‬كــا رصح الخبــر العســكري جوليــان‬
‫ســكوفيلد بــأن خطــة الســادات القامئــة عــى "إســراتيجية الحــرب غــر العســكرية تجلــت‬
‫(((‬
‫يف هجــوم دبلومــايس مرتبــط بهجــوم عســكري"‪.‬‬
‫كانــت املشــكلة أن التــزام الرئيــس مبفهــوم الحــرب املحــدودة اصطــدم بــإرصار الجيــش‬
‫(مــن القيــادة العليــا إىل مــا دونهــا) عــى تحريــر ســيناء مــن خــال حــرب اســتنزاف‬
‫طويلــة‪ .‬وألســباب مفهومــة‪ ،‬رفضــت القــوات املســلحة رغبــة الرئيــس يف مهاجمــة إرسائيــل‬

‫‪ -1‬ويليام بري‪ ،‬أرسار حرب أكتوبر‪ ،‬ص ‪.47-37‬‬


‫‪2- Brooks, Shaping Strategy, 104.‬‬
‫‪3- Julian Schofield, Militarization and War, New York: Palgrave Macmillan, 2007, 98.‬‬

‫‪182‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫بطريقــة تحقــق "انتصــا ًرا دبلوماسـ ًـيا خــارج ســاحة املعركــة"‪ (((.‬لكــن بعــد عــدة محــاوالت‬
‫فاشــلة لتحــدي الســادات أو اإلطاحــة بــه‪ ،‬انصــاع الجيــش لخطتــه‪ .‬ومــع مــرور الوقــت‪،‬‬
‫أصيــب الضبــاط باإلرهــاق‪ ،‬وباتــوا يأملــون بــأن ال تبعدهــم مهمتهــم خــال الحــرب عــن‬
‫العاصمــة طويـ ًـا‪ ،‬ثــم مــا لبثــوا أن فقــدوا حامســهم بالكليــة‪ .‬ولكــن لألســف‪ ،‬كــا توقــع‬
‫بعــض كبــار الضبــاط‪ ،‬أدت ســيطرة الســادات املشــددة عــى العمليــات يف النهايــة إىل‬
‫مــا وصفتــه صحيفــة (صنــداي تاميــز) بأنــه "نــر مــر املفقــود"(((‪ ،‬فيــا رصح فريــق‬
‫الخــراء الدوليــن الذيــن درســوا الحــرب بأنــه "النــر الــذي ألقتــه مــر بعي ـ ًدا"‪ ،‬كــا‬
‫(((‬
‫وصفــه منظّــر عســكري غــريب بأنــه طريــق مــر "مــن النــر إىل الهزميــة الذاتيــة"‪.‬‬
‫واألهــم مــن ذلــك‪ ،‬قــول املــؤرخ العســكري والــر بويــن بــأن " مــر مل يكــن لديهــا ســوى‬
‫أمــل ضئيــل لالنتصــار يف النضــال الــذي كانــت تخوضــه‪ ...‬لكنهــا اقرتبــت جـ ًدا‪ -‬رمبــا يف‬
‫غضــون ســاعات‪ -‬مــن القيــام بذلــك"(((‪ ،‬وذكرنــا هيــكل بــأن "مصــر املعــارك يتحــدد قبــل‬
‫(((‬
‫إطــاق الطلقــة األوىل"‪.‬‬
‫لقــد أوضــح الســادات نيتــه منــذ البدايــة‪ ،‬فبالرغــم مــن أنــه‪ -‬كــا أشــار رئيــس هيئــة‬
‫العمليــات املشــر محمــد الجمــي‪ -‬أرص عــى العمــل مبفــرده عــى وضــع اإلســراتيجية‬
‫العامــة للحــرب وإدارة العمليــات امليدانيــة‪ ،‬إال أنــه أشــار إىل أن هدفــه شــن معركــة رمــزي"‬
‫اســتباقية‪ (((.‬فقــد أعــرب يف اجتامعــه مــع هيئــة األركان يف فربايــر ‪ 1973‬عــن أن الفــوز‬
‫يف األربــع وعرشيــن ســاعة األوىل فقــط مــن الحــرب هــو املهــم‪ (((.‬كــا شــارك الخطــوط‬
‫العريضــة لخطتــه مــع إســاعيل فهمــي‪ -‬الــذي عني يف صيــف العــام ‪ 1973‬وزيـ ًرا لخارجية‬
‫مــر‪ -‬فأصيــب األخــر بالصدمــة‪ ،‬وحــاول أن يوضــح للســادات أن الحفــاظ عــى األمــن‬
‫القومــي ملــر يقــي بــرورة نجــاح الحــرب يف تحريــر األرايض املحتلــة‪ ،‬أو الســيطرة‬
‫عــى ممــرات ســيناء عــى األقــل‪ .‬وإال‪ ،‬فســتبقى يــد إرسائيــل هــي العليــا يف املفاوضــات‬

‫‪1- Julian Schofield, Militarization and War, New York: Palgrave Macmillan, 2007, 109.‬‬
‫‪ -2‬غالب‪ ،‬مع عبد النارص والسادات‪ ،‬ص ‪.213‬‬
‫‪3- Barnet, Confronting the Cost of War, 128.‬‬
‫‪4- Boyne, The Two o’Clock War, xiv.‬‬
‫‪5- Heikal, 1967, 24.‬‬
‫‪6- Gamasy, The October War, 313.‬‬
‫‪ -7‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.329‬‬

‫‪183‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫التــي ســتتبع الحــرب‪ (((.‬وقــد أيــد املتخصصــون العســكريون الذيــن درســوا الحــرب هــذا‬
‫الــرأي‪ .‬صحيــح أن الجيــش املــري مل يكــن قــاد ًرا عــى مجــاراة اإلرسائيليــن بالحــرب‬
‫الخاطفــة‪ ،‬وأنــه بالــكاد قــادر عــى خــوض حــرب متحركــة عــر ســيناء‪ ،‬لكنــه كان قــاد ًرا‬
‫(((‬
‫عــى تحقيــق نــر ملمــوس مــن خــال االحتفــاظ باملمــرات التــي ميكنــه الدفــاع عنهــا‪.‬‬
‫يف الواقــع‪ ،‬كانــت هــذه هــي الخطــة األصليــة‪ ،‬وقــد وضــع وزيــر الحربيــة الســابق فــوزي‬
‫اللمســات األخــرة عليهــا يف ســبتمرب ‪ ،1970‬تحــت اســم "الخطــة ‪ُ ."200‬وضعــت الخطــة‬
‫عــى ثــاث مراحــل لتحريــر ســيناء بأكملهــا يف اثنــي عــر يو ًمــا‪ :‬األوىل باســم (جرانيــت‬
‫‪ )1‬والتــي قضــت بعبــور قنــاة الســويس‪ ،‬تليهــا مبــارشة املرحلــة الثانيــة باســم (جرانيــت ‪)2‬‬
‫لالســتيالء عــى املمــرات‪ ،‬ثــم كان مــن املفــرض أن تعيــد القيــادة العامــة تقييــم الوضــع‬
‫قبــل أن تأمــر بالتقــدم إىل الحــدود املرصيــة مــع فلســطني املحتلــة‪ .‬يف مــارس ‪ ،1971‬كانت‬
‫الخطــة جاهــزة إلجــراء التمرينــات الالزمــة عليهــا‪ ،‬وكان مــن املفــرض تنفيذهــا بعــد ذلــك‬
‫بوقــت قصــر‪ ،‬لكــن وفــاة عبــد النــارص أدت إىل تأجيلهــا‪ (((.‬وادعــى الســادات أن الخطــة‪،‬‬
‫(((‬
‫ـخصيا مــع عبــد النــارص مطلــع ســبتمرب ‪ ،1970‬كانــت دفاعيــة فقــط‪.‬‬ ‫التــي راجعهــا شـ ً‬
‫ومــع وصــول الشــاذيل إىل رئاســة األركان‪ ،‬طُلــب منــه تحديــث الخطــة وإضفــاء الطابــع‬
‫(((‬
‫الهجومــي عليهــا‪.‬‬
‫كانــت الخطــة الجديــدة مشــابهة للســابقة متا ًمــا‪ ،‬فتضمنــت عبــور املشــاة واملدرعــات‬
‫املرصيــة لقنــاة الســويس واقتحــام تحصينــات بارليــف تحــت غطــاء قصــف مدفعــي ثقيــل‬
‫وغــارات جويــة‪ .‬ثــم‪ ،‬إذا ســمح الوضــع بذلــك‪ ،‬فســيتقدمون برسعــة إىل املمــرات الجبليــة‬
‫تقيــم القيــادة العامــة جــدوى التقــدم إىل األمــام‪ .‬لــذا‪ ،‬كــا أكــد‬
‫ويتخندقــون هنــاك ريثــا ّ‬
‫(((‬
‫الجمــي‪ ،‬فــإن الهــدف األســايس للعمليــة بأكملهــا هــو الســيطرة عــى ممــرات ســيناء‪.‬‬
‫تزام ًنــا مــع الهجــوم املــري‪ ،‬ســيهاجم الســوريون املواقــع اإلرسائيليــة يف مرتفعــات‬
‫الجــوالن‪ -‬والتــي خرسوهــا يف حــرب ‪ -1967‬وســيطردونهم مــن هنــاك‪ .‬بــدت الخطــة‬
‫‪ -1‬إسامعيل فهمي‪ ،‬التفاوض من أجل السالم يف الرشق األوسط‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة مدبويل‪ ،1985 ،‬ص‪ ،30‬ص ‪.38-37‬‬
‫‪2- Insight Team, Yom Kippur War, 86.‬‬
‫‪ -3‬فوزي‪ ،‬حرب الثالث سنوات‪ ،‬ص ‪ ،12‬ص ‪.365‬‬
‫‪ -4‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.320‬‬
‫‪5- Shazly, Crossing, 18.‬‬
‫‪6- Gamasy, The October War, 138–39.‬‬

‫‪184‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫مثاليــة عــى الــورق‪ ،‬إال أن كبــار الضبــاط املرصيــن مل يكونــوا متأكديــن متا ًمــا مــا يفكــر‬
‫الســادات بــه‪ ،‬ولذلــك‪ ،‬وبعــد تلقيهــم يف ‪ 1‬أكتوبــر التوجيهــات األوىل املتعلقــة بالحــرب‪،‬‬
‫فقــد طلبــوا يف ‪ 5‬أكتوبــر توجيهــات أخــرى (وقــد صــاغ هيــكل كليهــا)‪ .‬أراد الضبــاط مــن‬
‫الســادات أن يذكــر لهــم رصاحــة أن الهــدف مــن الحــرب هــو "تحريــر األرايض املحتلــة‬
‫وفــق مراحــل تقدميــة وف ًقــا للمعطيــات امليدانيــة"‪ ،‬فقــد كانــوا يخشــون مــن أنــه ينــوي‬
‫(((‬
‫شــن هجــوم محــدود‪ ،‬ثــم تحميــل الجيــش مســؤولية الفشــل يف تحريــر ســيناء بأكملهــا‪.‬‬
‫بحلــول أكتوبــر ‪ ،1973‬حشــدت مــر جيشً ــا قوامــه ‪ 1.2‬مليــون جنــدي‪ ،‬واعتقــدت هيئــة‬
‫األركان أنهــا اآلن قــادرة عــى تعويــض التفــوق الجــوي اإلرسائيــي مــن خــال شــبكة دفــاع‬
‫جــوي متكاملــة محكمــة مــن صواريــخ ‪ SA-2‬و‪ SA-3‬الثابتــة‪ ،‬وصواريــخ "ســام ‪ "6‬املتنقلــة‪،‬‬
‫وصواريــخ "ســام‪ 7-‬ســريال" املحمولــة‪ .‬كــا ســعت للتغلــب عــى التفــوق اإلرسائيــي يف‬
‫ســاح املدرعــات مــن خــال تأمــن عــدد وفــر مــن صواريــخ "ســاغر" املضــادة للدبابــات‬
‫وقذائــف اآلر يب جــي‪ ،‬والتصــدي للصواريــخ اإلرسائيليــة التــي تهــدد العمــق املــري مــن‬
‫خــال صواريــخ "ســكود" و"فــروغ" القــادرة عــى الوصــول إىل عمــق إرسائيــل‪.‬‬
‫ألول مــرة منــذ ســنوات‪ ،‬شــعر القــادة املرصيــون أنهــم مســتعدون ملواجهــة عدوهــم يف‬
‫معركــة عادلــة‪ .‬قبيــل فجــر ‪ 6‬أكتوبــر‪ ،‬قامــت وحــدات الضفــادع املرصيــة بتخريــب أنابيــب‬
‫النفــط املمتــدة تحــت املــاء والتــي خططــت إرسائيــل إلشــعال النــران فيهــا إذا حــاول‬
‫املرصيــون عبــور القنــاة‪ .‬ويف الســاعة ‪ 2:05‬بعــد الظهــر‪ ،‬نفــذ أســطول جــوي مــري‬
‫مكــون مــن مئتــن واثنتــن وعرشيــن طائــرة مقاتلــة رضبــة جويــة مدمــرة اســتهدفت‬
‫مراكــز االتصــاالت واملطــارات اإلرسائيليــة ومواقــع صواريــخ هــوك يف ســيناء‪ ،‬وبــدأ ألفــا‬
‫مدفــع "هاوتــزر" والعديــد مــن مدافــع الهــاون الثقيلــة بإطــاق موجــات متواصلــة مــن‬
‫نــران املدفعيــة عــر القنــاة‪ ،‬والتــي عربتهــا تحــت هــذا الغطــاء النــاري الكثيــف مجموعات‬
‫كبــرة مــن جنــود املشــاة يف قــوارب مطاطيــة وجســور عامئــة‪ .‬اقتحمــت القــوات املرصيــة‬
‫خمســة وثالثــن حص ًنــا مــن حصــون خــط بارليــف‪ ،‬وأقامــت خمســة جســور عــى الضفــة‬
‫الرشقيــة للقنــاة‪ .‬وبحلــول الليــل‪ ،‬حقــق املرصيــون أكــر عبــور يف التاريــخ العســكري‪ ،‬حيــث‬
‫بلــغ عــدد الجنــود الذيــن عــروا القنــاة مئــة ألــف جنــدي‪ ،‬مســلحني بصواريــخ محمولــة‬

‫‪1- Heikal, October 1973, 311–12; Gamasy, The October War, 191.‬‬

‫‪185‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫عــى الكتــف ومضــادة للدبابــات‪ ،‬باإلضافــة إىل ألــف دبابــة وثالثــة عــر ألــف وخمســمئة‬
‫(((‬
‫عربــة مدرعــة‪.‬‬
‫بحلــول نهايــة اليــوم الثــاين مــن القتــال‪ ،‬وبفضــل تكتيــكات املشــاة املبتكــرة للتصــدي‬
‫لآلليــات والطائــرات‪ ،‬وتحــت حاميــة مظلــة مــن بطاريــات ســام املتمركــزة عــى طــول‬
‫القنــاة‪ ،‬متكــن الجيــش املــري مــن تدمــر تســع وأربعــن طائــرة إرسائيليــة وخمســمئة‬
‫دبابــة‪ .‬وفيــا قــ َّدرت القيــادة املرصيــة أن مــا ال يقــل عــن ‪ 10‬آالف جنــدي مــري‬
‫ســيقتلون أثنــاء عبــور القنــاة‪ ،‬إال أن عــدد مــن قتلــوا مل يتجــاوز مئتــي جنــدي خــال أول‬
‫يومــن مــن الحــرب‪ .‬حيــدت القــوات املرصيــة ســاحي املدرعــات والجــو اإلرسائيليــن‬
‫مؤقتًــا‪ ،‬فســيطرت عــى ســاحة املعركــة وكانــت يف وضــع يســمح لهــا بالتقــدم إىل املمــرات‬
‫قبــل أن يســتفيق اإلرسائيليــون مــن هــول مــا حــدث‪ (((.‬وإزاء مــا حــدث‪ ،‬اضطــر املــؤرخ‬
‫اإلرسائيــي البــارز آيف شــايم لالعــراف قائـ ًـا "قليـ ًـا مــا نجــد يف التاريــخ أمثلــة لخطــة‬
‫(((‬
‫مباغتــة إســراتيجية متكاملــة كتلــك التــي حققتهــا مــر"‪.‬‬
‫كانــت املرحلــة التاليــة هــي االســتيالء عــى املمــرات واســتنزاف الجيــش اإلرسائيــي بالقتال‬
‫املســتمر‪ ،‬ومل يكــن األمــر بعيــد املنــال إذ "إن عمليــة حســابية بســيطة تؤكــد عجــز إرسائيــل‬
‫عــن تحمــل حــرب دفاعيــة مطولــة"‪ (((.‬يف أول مؤمتــر صحفــي لــه خــال الحــرب‪ ،‬اعــرف‬
‫وزيــر الدفــاع اإلرسائيــي موشــيه ديــان قائـ ًـا "أشــك فيــا إذا كان هنــاك مــكان آخــر‬
‫يف العــامل كلــه محمــي مبجموعــة كثيفــة مــن الصواريــخ الحديثــة كهــذه‪ .‬أشــك يف وجــود‬
‫مــكان يف روســيا أو فيتنــام مجهــز مثــل الجبهــة املرصيــة عــى ضفــة القنــاة"‪ (((.‬وبعبــارة‬
‫أخــرى‪ ،‬فهــم القــادة اإلرسائيليــون أن حفــاظ مــر عــى عنــر املبــادرة ســيجرهم إىل‬
‫حــرب اســتنزاف طويلــة األمــد يف ســيناء‪ .‬كــا أدركــوا عجزهــم عــن تحقيــق رضبــة قاضية‬

‫‪1- Shazly, Crossing, 157.‬‬


‫‪2- Gamasy, The October War, 226, 250.‬‬
‫‪3- Avi Shlaim, "Failures in National Intelligence Estimates: The Case of the Yom Kippur War",‬‬
‫‪World Politics 28 (3), (1976), 348–80.‬‬
‫‪4- Boyne, Two o’Clock War, 58.‬‬
‫‪5- Insight Team, Yom Kippur War, 189.‬‬

‫‪186‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫رسا لفريقــه قائـ ًـا "مل تكــن هنــاك‬


‫رسيعــة كــا يف الســابق‪ .‬ويف الواقــع‪ ،‬اعــرف ديــان ً‬
‫(((‬
‫دبابــة واحــدة آنــذاك بــن تــل أبيــب والخطــوط اإلرسائيليــة يف ســيناء"‪.‬‬
‫ســجل املراســل اإلرسائيــي مــايت غــوالن املــزاج الســائد يف تــل أبيــب خــال أول يومــن‬
‫مــن الحــرب‪ ،‬فكتــب‪" :‬كانــت الســيدة جولــدا مئــر والوزيــر ديــان ورئيــس األركان ديفيــد‬
‫العــازار متعبــن ومتشــامئني لدرجــة أنهــم كانــوا مســتعدين لالستســام"‪ (((.‬يف الوقــت‬
‫نفســه‪ ،‬وصــف مراســل صحيفــة نيويــورك تاميــز الحــريب هــري تانــر الــروح القتاليــة‬
‫عــى الجبهــة املرصيــة فكتــب "هــدف كل جنــدي مــري‪ :‬التقــدم نحــو الــرق"‪ (((.‬كــا‬
‫ُــص فريــق الخــراء الــدويل الــذي درس الحــرب إىل القــول‪" :‬إذا اختــار املرصيــون‬ ‫َخل َ‬
‫املــي قد ًمــا‪ ،‬فيبــدو أن إرسائيــل‪ -‬حتــى مــع تدابريهــا االحتياطيــة‪ -‬ســتعجز عــن مواجهــة‬
‫الهجــوم املــري املســتمر‪ .‬لقــد شــعرت طواقــم الدبابــات اإلرسائيليــة بالقلــق إزاء تقــدم‬
‫حملــة الصواريــخ املرصيــن كدبيــب النمــل‪ ،‬وعجــز التكتيــكات اإلرسائيليــة القدميــة عــن‬
‫التعامــل مــع كامئنهــم التــي ال نهايــة لهــا"‪ (((.‬وبالفعــل‪ ،‬بحلــول مســاء يــوم ‪ 8‬أكتوبــر‪،‬‬
‫حشــدت مــر قــوة قتاليــة قوامهــا أكــر مــن مئــة ألــف مقاتــل عــى بُعــد بضــع كيلومرتات‬
‫مــن ممــرات ســيناء‪ ،‬مدعومــة بأربعــة فــرق (اثنتــان مصفحــة واثنتــان مؤللــة) ولواءيــن‬
‫مدرعــن عــى الضفــة املقابلــة مــن القنــاة‪ ..‬لقــد حــان الوقــت للمــي قد ًمــا!‬
‫لكــن‪ ،‬وبــداًلً مــن التقــدم إىل املمــرات‪ ،‬قــررت مــر "تســليم عنــر املبــادرة الــذي حــازت‬
‫عليــه برباعــة إىل اإلرسائيليــن"‪ (((.‬وقــال وزيــر الحربيــة الالحــق الفريــق كــال حســن‬
‫عــي أن الســادات‪ -‬رغــم ضغــط قيــادة األركان للتقــدم رسي ًعــا والســيطرة عــى املمــرات‬
‫ـراتيجيا‪ -‬أوقــف الهجــوم يف ‪ 9‬أكتوبــر‪ ،‬يف قــرار كاريث للغايــة‪ (((.‬مل تخرتق‬
‫ً‬ ‫الرضوريــة إسـ‬
‫اآلليــات املرصيــة ســيناء بالعمــق الــكايف‪ ،‬وبينــا امتــد رأس الجــر املــري عــى طــول‬
‫را فقــط‪ ،‬وهــي نصــف املســافة بــن القنــاة‬ ‫القنــاة‪ ،‬مل يتجــاوز عمقــه ســتة عــر كيلوم ـ ً‬

‫‪1- Boyne, Two o’Clock War, 58.‬‬


‫‪2- Golan, Secret Conversations, 66.‬‬
‫‪ -3‬األهرام‪ ،‬القاهرة (‪.)13/10/1973‬‬
‫‪4- Insight Team, Yom Kippur War, 191.‬‬
‫‪ -5‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.226‬‬
‫‪ -6‬كامل حسن عيل‪ ،‬مشاوير العمر‪ ،‬ص ‪.319‬‬

‫‪187‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫واملمــرات‪ .‬شــكل هــذا القــرار يف الحــرب النكســة األوىل والقاتلــة يف نهايــة املطــاف‪ ،‬فقــد‬
‫(((‬
‫عمليــا "مكاســبها باالنتظــار لفــرة طويلــة جـ ًدا لبــدء املرحلــة الثانيــة"‪.‬‬
‫دمــرت مــر ً‬
‫قــال الجمــي إنــه حــاول تحذيــر الرئيــس الســادات مــن أن أي تأخــر وأي تخفيــف‬
‫للضغــط عــى اإلرسائيليــن يعنــي منحهــم زمــام املبــادرة والســاح لهــم بتعزيــز دفاعاتهــم‬
‫وشــن هجــوم مضــاد‪ .‬وأكــد لــه أن الطريقــة الوحيــدة لحاميــة املكاســب التــي حققتهــا‬
‫مــر هــي مواصلــة الهجــوم رشقًــا حتــى الوصــول إىل املمــرات‪ ،‬والــذي ســينفذ اآلن‬
‫"يف ظــل ظــروف هــي األفضــل بالنســبة لنــا واألســوأ بالنســبة لهــم"‪ (((.‬كــا لخــص‬
‫املجلــس االستشــاري العســكري (يتألــف مــن ثــاث لــواءات‪ ،‬ويشــار إليــه مبركــز العمليــات‬
‫‪ )11‬يف ‪ 7‬أكتوبــر توصياتــه إىل الســادات يف جملــة واحــدة قصــرة هــي‪" :‬تقــدم إىل‬
‫املمــرات"‪ (((.‬وتوقعــت برقيــة أرســلتها الســفارة األمريكيــة يف القاهــرة إىل البنتاغــون‬
‫أن الجيــش املــري سيســيطر عــى املمــرات فــو ًرا(((‪ ،‬قابلتهــا رســالة مامثلــة مــن‬
‫الســفارة الســوفيتية يف ‪ 8‬أكتوبــر‪ .‬وتواصــل الســفري الــرويس فالدميــر فينوغــرادوف‬
‫مــع هيــكل واصفًــا طلبــه باألمــر العاجــل‪ ،‬ثــم أخــره أن الخــراء العســكريني الــروس‬
‫أصيبــوا بالحــرة مــن قــرار الســادات بعــدم التقــدم إىل املمــرات‪ ،‬وأنــه أخــر الســادات‬
‫شــخصيا بــأن االســتطالع الســوفيتي يؤكــد أن مــا ال يزيــد عــن لواءيــن إرسائيليــن‬ ‫ً‬
‫فقــط يعرتضــان طريقــه‪ ،‬مــا يعنــي أن باإلمــكان االســتيالء عــى املمــرات يف غضــون‬
‫ســاعتني‪ (((.‬يذكــر وزيــر الخارجيــة املــري مــراد غالــب أن الســوفييت حــذروا الســادات‪،‬‬
‫عــر عالقاتــه التــي طورهــا يف موســكو خــال فــرة عملــه كســفري‪ ،‬مــن أن نــر قواتــه‬
‫عــى الضفــة الرشقيــة التــي يبلــغ طولهــا مئتــي كيلومــر دون الدخــول يف عمــق ســيناء‬
‫وتثبيــت القــوة الهجوميــة يف املمــرات ســيكون انتحــا ًرا عســكريًا‪ (((.‬وعــى مــدار األيــام‬
‫التاليــة‪ ،‬حــذر الجــراالت الســوفييت مــر مــرا ًرا وتكــرا ًرا مــن أن مثــل هــذا الخطــأ‬

‫‪1- Insight Team, Yom Kippur War, 135, 172, 232.‬‬


‫‪2- Gamasy, The October War, 264.‬‬
‫‪3- Heikal, October 1973, 438.‬‬
‫‪ -4‬بري‪ ،‬أرسار حرب أكتوبر‪ ،‬ص ‪.151‬‬
‫‪5- Heikal, October 1973, 392–93.‬‬
‫‪ -6‬غالب‪ ،‬مع عبد النارص والسادات‪ ،‬ص ‪.213‬‬

‫‪188‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫الفــادح معنــاه التخلــص مــن كل املكتســبات املحققــة حتــى اآلن(((‪ ،‬ولكــن دون جــدوى‪.‬‬
‫يف ‪ 9‬أكتوبــر‪ ،‬تلقــى الســادات بعدهــا تقريــر املوقــف رقــم ‪ 4‬مــن قادتــه امليدانيــن‪ ،‬أكــدوا‬
‫فيــه أن اإلرسائيليــن أعــادوا توجيــه طاقاتهــم نحــو الجبهــة الســورية بعيـ ًدا عــن الجانــب‬
‫املــري‪ ،‬وأنهــا الفرصــة األفضــل لتطويــر الهجــوم‪ .‬ويف ‪ 11‬أكتوبــر اتصــل رئيــس الــوزراء‬
‫الســابق ووزيــر الخارجيــة محمــود فــوزي بالرئيــس الســادات ليبلغــه بــأن العديــد مــن‬
‫الــدول الصديقــة أعربــت عــن قلقهــا بشــأن التوقــف املــري غــر املــرر‪ ،‬فــرد الســادات‬
‫قائـ ًـا‪" :‬اطمئنــوا‪ ،‬كل يشء بــن يــدي‪ ".‬تبــع ذلــك يف ‪ 11‬أكتوبــر تقريــر الحالــة رقــم ‪6‬‬
‫إرسائيليــا مضــا ًدا خــال ‪ 48‬ســاعة‪ ،‬وأكــد الحاجــة‬
‫ً‬ ‫مــن الجبهــة‪ ،‬والــذي توقــع هجو ًمــا‬
‫للتقــدم إىل املمــرات اآلن‪ .‬ويف نفــس اليــوم‪ ،‬تلقــى الســادات تقريريــن‪ ،‬أحدهــا مــن‬
‫املخابــرات الحربيــة‪ ،‬يحــذران مــن أن توقــف الهجــوم أربــك ضبــاط الجيــش‪ ،‬وأنــه بــات‬
‫نقــاش الســاعة بــن الضبــاط والجنــود الذيــن مل يعــودوا يفهمــون مهمتهــم‪ .‬والتقريــر‬
‫الثــاين جــاء مــن وزارة الداخليــة‪ ،‬حيــث ذكــر أن العديــد مــن املرصيــن مبــا يف ذلــك‬
‫(((‬
‫العديــد مــن الضبــاط املتقاعديــن أربكهــم توقــف الهجــوم املفاجــئ‪.‬‬
‫بــدا وزيــر الحربيــة أحمــد إســاعيل‪ -‬حليــف الســادات‪ -‬يف حــرة مــن أمــره‪ ،‬فقــد اعتقــد‬
‫كغــره مــن أركان القيــادة العامــة أن رؤوس الجســور مــن املفــرض أن تكــون مبثابــة‬
‫نقــاط انطــاق للســيطرة عــى املمــرات‪ -‬خاصــة بعــد أن كان أداء املرصيــن أفضــل بكثــر‬
‫مــا كان متوق ًعــا وأداء اإلرسائيليــن أســوأ بكثــر مــن التوقعــات خــال أول يومــن مــن‬
‫الحــرب‪ (((.‬شــجعت حــرة إســاعيل املشــر الجمــي ليكســبه إىل جانبــه يك يتمكــن مــن‬
‫إقنــاع الســادات بالســاح بالتقــدم‪ .‬وأوضــح إلســاعيل أن أمــر الســادات بالتوقــف غــر‬
‫أيضــا‪ .‬ثــم أضــاف بشــكل قاطــع "أتوســل إليكــم‬
‫مــرر مــن الناحيــة العســكرية‪ ،‬بــل وكاريث ً‬
‫أن تتذكــروا أن مبــدأ املــي رشقًــا نحــو املمــرات اعتمدنــاه مســبقًا ومل يكــن هنــاك خــاف‬
‫راغبــا يف‬
‫حولــه"‪ ،‬لكــن توســاته مل تلـ َـق آذانًــا صاغيــة‪ .‬مــن الواضــح أن إســاعيل مل يكــن ً‬
‫التشــكيك بأوامــر الرئيــس‪ ،‬وقــال إنــه قــرار ســيايس بحــت‪ (((.‬خــال مقابلــة لــه أجراهــا‬

‫‪1- Boyne, Two o’Clock War, 96.‬‬


‫‪2- Heikal, October 1973, 396–422.‬‬
‫‪3- Insight Team, Yom Kippur War, 169.‬‬
‫‪4- Gamasy, The October War, 265–66.‬‬

‫‪189‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫معــه هيــكل يف صحيفــة األهــرام املرصيــة اليوميــة بتاريــخ ‪ 14‬نوفمــر ‪ -1973‬حيــث‬


‫مل ميــض شــهر عــى الحــرب‪ -‬مل يذكــر إســاعيل ســبب موافقتــه عــى هــذا التوقــف‬
‫مكتفيــا بــرد رسيــع وغامــض " أنــا لســت مــن النــوع املغامــر"‪ (((.‬ويف الحقيقــة‪،‬‬
‫ً‬ ‫التكتيــي‪،‬‬
‫مــع إدراكــه ملــا يفكــر فيــه الســادات‪ ،‬فقــد علــم أنــه مل يطمــح لتحقيــق نــر عســكري‬
‫مبــارش‪ ،‬إمنــا أراد اســتثامر الحــرب إلثــارة أزمــة خطــرة مبــا يكفــي إلقنــاع الواليــات‬
‫املتحــدة بخطــورة الوضــع اإلقليمــي فيــا لــو بقــي دون حــل‪ .‬ولــذا‪ ،‬مل تكــن هنــاك حاجــة‬
‫للتقــدم أكــر يف عمــق ســيناء‪.‬‬
‫مــع أخــذ كل ذلــك بعــن االعتبــار‪ ،‬فــإن نظــرة عــى مــا كان يقــوم بــه الســادات مــن‬
‫معارضــا نصيحــة جميــع قــادة‬‫ً‬ ‫وراء الكواليــس قــد تكشــف رس أمــره بإيقــاف التقــدم‪،‬‬
‫جيشــه وخــراء بعــض الجيــوش األخــرى‪ .‬بعــد عرشيــن ســاعة فقــط مــن عبــور قواتــه‬
‫للقنــاة‪ ،‬أرســل الســادات برقيــة رسيــة إىل هــري كيســنجر‪ -‬دون علــم قــادة الجيــش‪ -‬عــر‬
‫القنــاة الخلفيــة التــي يديرهــا حافــظ إســاعيل‪ .‬وبينــا كانــت القــوات املرصيــة تحقــق‬
‫نجا ًحــا تلــو اآلخــر‪ ،‬أكــد الرئيــس لكيســنجر أن "مــر ال تنــوِي تصعيــد االشــتباكات أو‬
‫توســيع املواجهــة"‪ (((.‬رد كيســنجر الــذي ُعــن حينهــا وزيـ ًرا للخارجيــة عــى الفــور برســالة‬
‫قبــول أشــار فيهــا لعــدم قدرتــه عــى التدخــل إذا تصاعــد القتــال‪ .‬كانــت هــذه أوىل‬
‫الربقيــات الرسيــة الثامنيــة والثالثــن التــي أرســلت بــن ‪ 7‬و‪ 29‬أكتوبــر‪ ،‬والتــي حــاول‬
‫يائســا دفــع كيســنجر للضغــط عــى تــل أبيــب لتوافــق عــى االنســحاب مــن‬‫فيهــا الســادات ً‬
‫ســيناء وفــق تســوية ســلمية‪ (((.‬وقــد ذكــر كيســنجر يف مذكراتــه أنــه "مل ميــر يــوم واحــد‬
‫طــوال فــرة الحــرب دون أن نتلقــى رســالة مــن القاهــرة أو نرســل أخــرى إليهــا"‪ (((.‬لذلــك‪،‬‬
‫مل يكــن لقــرارات الســادات العســكرية عالقــة بالتطــورات امليدانيــة يف ســاحة املعركــة‪،‬‬
‫بــل مبحاوالتــه للحصــول عــى دعــم كيســنجر يف تســوية النــزاع دون مزيــد مــن القتــال‪،‬‬
‫وبالتــايل تحقيــق هدفــه النهــايئ املتمثــل يف التوصــل لحــل ســيايس مــن خــال عمليــة‬
‫عســكرية محــدودة‪.‬‬

‫‪1- Heikal, October 1973, 440.‬‬


‫‪2- Gamasy, The October War, 237.‬‬
‫‪3- Heikal, October 1973, 792–858.‬‬
‫‪4- Gamasy, The October War, 239.‬‬

‫‪190‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫لكــن كيســنجر بــداًلً مــن أن يســاعد الســادات اســتدعى الســفري اإلرسائيــي يف واشــنطن‬
‫سيمشــا دينيتــز إىل مكتبــه إلبالغــه بتعهــد الســادات بعــدم التوغــل إىل مــا بعــد الرشيــط‬
‫الضيــق الــذي أ ّمنــه عــى الضفــة الرشقيــة‪ .‬وقــال لــه‪" :‬يقــول املرصيــون إن جســورهم هــذه‬
‫لــن تدخــل يف العمــق أكــر مــا هــي عليــه اآلن"‪ ،‬ودفــع األمريكيــون إرسائيــل للتــرف‬
‫أيضــا أن الربقيــة مفيــدة خــال اجتامعــه مــع وزيــر الدفــاع‬ ‫وف ًقــا لذلــك‪ (((.‬وجــد كيســنجر ً‬
‫جيمــس شــليزنجر يف ‪ 7‬أكتوبــر‪ .‬أمــا محللــو البنتاغــون فقــد خلصــوا إىل أنــه مــن الجنــون‬
‫توقــع عبــور القــوات املرصيــة القنــاة ثــم جلوســهم مكتــويف األيــدي ليهــدروا وقتهــم‪ .‬لكــن‬
‫كيســنجر أكــد لهــم أن هــذا بالضبــط مــا ســيفعله املرصيــون‪ ،‬ونصــح البنتاغــون بوضــع‬
‫خططــه وف ًقــا لذلــك(((‪ ،‬ورسعــان مــا وجــدت هــذه املحادثــة طريقهــا إىل إرسائيــل‪ .‬طلــب‬
‫رئيــس األركان اإلرسائيــي إليعــازار مســاعدة الجيــش األمريــي لتقييــم خياراتــه‪ ،‬ويف ‪8‬‬
‫أكتوبــر‪ ،‬وصــل مســؤول يف البنتاغــون إىل تــل أبيــب وبحوزتــه ملــف مــيء بصــور األقــار‬
‫الصناعيــة ملواقــع القــوات املرصيــة والســورية عــى الجبهتــن‪ ،‬فــأوىص قــادة االحتــال‬
‫بتجميــد إحــدى الجبهتــن وتركيــز كل الجهــود عــى األخــرى‪ ،‬قبــل العــودة إىل الجبهــة‬
‫األوىل مجــد ًدا‪ (((.‬وافــق الجــراالت اإلرسائيليــون عــى ذلــك‪ ،‬علـاً أنهــم ال ميلكــون املــوارد‬
‫الالزمــة للتعامــل مــع الجبهتــن يف وقــت واحــد‪ .‬فيــا الســؤال الوحيــد اآلن هــو‪ :‬أي جبهــة‬
‫يجــب تجميدهــا؟ إن عمــق شــبه جزيرة ســيناء مقارنـ ًة بقرب مرتفعــات الجوالن مــن املراكز‬
‫الســكانية اإلرسائيليــة يعطــي األفضليــة لتجميــد الجبهة املرصيــة‪ -‬طاملا أن املرصيــن بالطبع‬
‫(((‬
‫ال يخططــون للســيطرة عــى املمــرات‪ ،‬تب ًعــا ملــا علمــوه جمي ًعــا بفضــل مــا فعلــه الســادات‪.‬‬
‫شــهد اللــواء كــال حســن عــي هــذه التطــورات عــى جبهــة القتــال‪ ،‬ومل يكتشــف فلســفة‬
‫الســادات حــول هــذه الحــرب إال يف التســعينيات‪ ،‬عندمــا رفعــت الرسيــة عــن مراســاته‬
‫الرسيــة مــع الواليــات املتحــدة‪ .‬يصــف عــي كيــف علــم بعــد ذلــك أن كيســنجر قــد وعــد‬
‫الســادات بأنــه إذا أبطــأ تقــدم الجيــش فبإمكانــه إقنــاع إرسائيــل باالنســحاب مــن ســيناء‬
‫دون قتــال‪ ،‬لكــن األمريكيــن بعــد ذلــك خدعــوا املرصيــن وأخــروا اإلرسائيليــن أن‬

‫‪ -1‬بري‪ ،‬أرسار حرب أكتوبر‪ ،‬ص ‪.126‬‬


‫‪ -2‬حمروش‪ ،‬غروب يوليو‪ ،‬ص ‪.194‬‬
‫‪3- Gamasy, The October War, 247–48.‬‬
‫‪4- Boyne, Two o’Clock War, 45.‬‬

‫‪191‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫بإمكانهــم إدارة ظهورهــم للقــوات املرصيــة آمنــن‪ ،‬والرتكيــز عــى جبهتهــم مــع ســوريا‪ ،‬ثم‬
‫العــودة إىل جبهــة ســيناء فــور اســتعدادهم لذلــك‪ .‬وفجــأة ارتبــك الســوريون بعــد أن كانــوا‬
‫يف هــذه املرحلــة عــى وشــك تحريــر الجــوالن بنجــاح‪ ،‬يف نفــس الوقــت الــذي أُجــر فيــه‬
‫املرصيــون عــى البقــاء يف املواقــع التــي توقفــوا عندهــا رغــم تــايش املقاومــة اإلرسائيليــة‬
‫يف ســيناء‪ (((.‬وقــد كتــب الجمــي بعــض االنعكاســات الســيئة لهــذه القنــاة الخلفيــة بــن‬
‫الســادات واألمريكيــن‪ ،‬فتحفــظ يف تعليقــه األول بشــكل ملحــوظ حيــث قــال‪" :‬مل يكــن من‬
‫الــروري بالنســبة لنــا طأمنــة الواليــات املتحــدة حــول مصالحهــا يف الوقــت الــذي وقفــت‬
‫فيــه عل ًنــا ضــد مــر وســوريا ودعمــت إرسائيــل بالكامــل وعــى جميــع املســتويات‪ ...‬أعتقد‬
‫أن اإلجــراءات السياســية يف هــذه الحالة مل تســاعد العمليــات العســكرية"‪ .‬ويف موضع آخر‬
‫مــن مذكراتــه تكلــم برصاحــة أكــر‪ ،‬فاملراســات الرسية بالنســبة لــه ال توضــح أن توجيهات‬
‫الســادات كانــت باســتمرار تتعــارض مــع اإلنجازات العســكرية‪ ،‬إمنــا تظهر بشــكل محبط أن‬
‫القيــادة كشــفت عــن ّنياتهــا العســكرية لدولــة تســاعد العــدو بنشــاط‪ ،‬بينــا ميــوت الجنــود‬
‫املرصيــون عــى جبهــة القتــال‪ (((.‬ويقــر مــؤرخ الحــرب والــر بويــن أن "مجــرد معرفــة‬
‫كيســنجر بنيــة الســادات عبــور القنــاة واالســتيالء عــى رشيــط محــدود ورمــزي فقــط عــى‬
‫طــول القنــاة‪ ...‬ســمح لــه بخلــط األوراق الدبلوماســية لصالــح الواليــات املتحــدة ومســاعدة‬
‫إرسائيــل باملســتوى املطلــوب متا ًمــا"‪ (((.‬فيــا كانــت مالحظــات هيــكل أكــر دراماتيكيــة‬
‫حيــث قــال‪" :‬كانــت هــذه هــي املــرة األوىل يف التاريــخ التــي تكشــف فيهــا دولــة يف‬
‫(((‬
‫حالــة حــرب عــن ّنياتهــا ألعدائهــا‪ ،‬وتطلــق يدهــم عــى الجبهتــن السياســية والعســكرية"‪.‬‬
‫عندمــا اتضــح أن خســائر إرسائيــل الفادحــة خــال األيــام األوىل مــن الحــرب قــد شــلت‬
‫بشــكل فعــال قدراتهــا الهجوميــة‪ ،‬ضاعفــت الواليــات املتحــدة مســاهمتها يف املجهــود‬
‫الحــريب اإلرسائيــي‪ .‬أقنــع كيســنجر نيكســون خــال لقائهــا يف ‪ 9‬أكتوبــر أن انتصــار‬
‫ـتحياًل‪ ،‬وأن الســبيل الوحيــد ملنــع ذلــك هــو يف تعويض‬
‫العــرب ســيجعل التفــاوض معهــم مسـ ً‬
‫الخســائر اإلرسائيليــة‪ (((.‬وكــرر الحجــة نفســها يف اجتــاع مجموعــة العمــل الخاصــة‬
‫‪ -1‬كامل حسن عيل‪ ،‬مشاوير العمر‪ ،‬ص ‪.319‬‬
‫‪2- Gamasy, The October War, 240, 272.‬‬
‫‪3- Boyne, Two o’Clock War, 66.‬‬
‫‪4- Heikal, October 1973, 360.‬‬
‫‪5- Henry Kissinger, Years of Upheaval, New York: Little, Brown, 1992, 481–82.‬‬

‫‪192‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫(((‬
‫بواشــنطن يف ‪ 17‬أكتوبــر حيــث قــال‪ " :‬كانــت إرسائيــل لتمــوت لــوال جرسنــا الجــوي"‪.‬‬
‫لــذا‪ ،‬ورغــم اســتياء بعــض املحللــن مــن محاولة كيســنجر الفاشــلة لربــط حزمة املســاعدات‬
‫إلرسائيــل بتعهــد اللــويب اليهــودي بالتخــي عــن تعديــل جاكســون‪ ،‬الــذي اشــرط للموافقــة‬
‫عــى اتفاقيــة التجــارة بــن الواليــات املتحــدة واالتحــاد الســوفيتي الســاح بحريــة هجــرة‬
‫(((‬
‫اليهــود الــروس(((‪ ،‬وألقــى آخــرون باللــوم عليــه يف عرقلــة املســاعدة ألســباب تكتيكيــة‪.‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬انطلــق الجــر الجــوي األمريــي يف نهايــة املطــاف يف الوقــت املناســب ليغــر‬
‫مــن مســار الحــرب عــر تجديــد الرتســانة العســكرية اإلرسائيليــة التــي حــارب املرصيــون‬
‫بشــدة لتدمريهــا‪ ،‬وتوفــر معــدات جديــدة أكــر تطــو ًرا مل تســتطع مــر مواجهتهــا‪ .‬مــع‬
‫ذلــك‪ ،‬مــن املهــم أن نضيــف أن نيكســون مل يكــن لديــه أي تحفظــات‪ .‬ففــي يونيــو ‪،1974‬‬
‫أي بعــد بضعــة أشــهر مــن الحــرب‪ ،‬التفــت الرئيــس األمريــي خــال اجتــاع للقــادة‬
‫اليهــود األمريكيــن إىل وزيــر خارجيتــه وقــال "هــري‪ ،‬هــل تذكــر حــن أتيــت إيل يف‬
‫اليــوم الرابــع مــن الحــرب واقرتحــت إرســال خمــس طائــرات؟ وقلــت يل إن أمكننــا إرســال‬
‫(((‬
‫خمــس طائــرات‪ ،‬فأجبتــك إن كان هــذا مطلوبــا فلرنســل لهــم خمســن طائــرة إذًا"‪.‬‬
‫كان مــن الواضــح أنــه رغــم تدخــل كيســنجر املهــم‪ ،‬فــإن الرئيــس نيكســون هــو الــذي‬
‫اتخــذ القــرارات الحاســمة يف النهايــة‪ .‬كانــت نقطــة التحــول هــي اجتــاع نيكســون يف‬
‫‪ 9‬أكتوبــر مــع فريــق األمــن القومــي الخــاص بــه‪ ،‬حيــث أوضــح أن "إرسائيــل يجــب أال‬
‫تخــر الحــرب‪ ...‬وطلــب إخبــار إرسائيــل أن بإمكانهــا اســتهالك جميــع مــا لديهــا بحريــة‪...‬‬
‫(((‬
‫مــع التأكيــد أن الواليــات املتحــدة ســتعوض كل ذلــك بالكامــل دون أي تأخــر"‪.‬‬
‫وصلــت الدفعــة األوىل مــن اإلمــدادات العســكرية األمريكيــة يف ‪ 10‬أكتوبــر إىل مطــار‬
‫العريــش يف ســيناء‪ .‬ورغــم إلحــاح قــادة جيشــه والســوفييت‪ ،‬فقــد رفــض الســادات تدمــر‬
‫آخــر مطــار إرسائيــي يف ســيناء ( ُدمــرت مطــارات "املليــز" و"بــر متــادا" متا ًمــا) دون أن‬
‫يخــر أيًــا منهــم بدوافعــه‪ .‬لكــن الســادات الح ًقــا كتــب يف مذكراتــه أنــه رغــم علمــه بــأن‬

‫‪ -1‬بري‪ ،‬أرسار حرب أكتوبر‪ ،‬ص ‪.207‬‬


‫‪2- Golan, Secret Conversations, 54.‬‬
‫‪3- Boyne, Two o’Clock War, 119.‬‬
‫‪4- Golan, Secret Conversations, 49.‬‬
‫‪5- Boyne, Two o’Clock War, 75–79.‬‬

‫‪193‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫دبابــات أمريكيــة هبطــت يف العريــش محملــة بالوقــود وانضمــت إىل املعركــة عــى الفــور‪،‬‬
‫(((‬
‫إال أنــه مل يرغــب يف اســتفزاز األمريكيــن بقصــف املطــار‪.‬‬
‫بعــد ثالثــة أيــام‪ ،‬يف ‪ 13‬أكتوبــر‪ ،‬كانــت عمليــة "عشــبة النيــكل"‪ -‬أكــر جــر جــوي يف‬
‫التاريــخ‪ -‬قــد بــدأت‪ ،‬ويف غضــون ثالثــة وثالثــن يو ًمــا (بــن ‪ 13‬أكتوبــر و‪ 14‬نوفمــر)‪،‬‬
‫أمتــت طائــرات النقــل األمريكيــة العمالقــة ("يس‪ 5‬جالكــي" و"يس‪ 141-‬ســتارليفرت")‬
‫إجــايل ‪ 569‬مهمــة نقــل ملعــدات بقيمــة ‪ 88.5‬مليــون دوالر‪ .‬إجــااًلً ‪ ،‬وفــر هــذا الجــر‬
‫الجــوي ‪ %90‬مــن الصواريــخ التــي أُطلقــت خــال الحــرب‪ ،‬وشــملت الشــحنات ســتمئة‬
‫دبابــة (مــن نــوع ‪ M-48‬و‪ )M-60‬وعــرات الطائــرات النفاثــة (من نــوع ‪ A-4‬و‪ .)F-4‬لكن‬
‫مــا قلــب املوازيــن ح ًقــا هــو حصــول إرسائيــل عــى ثالثــة أنــواع مــن الصواريــخ املتقدمــة‪:‬‬
‫"صواريــخ تــاو" املضــادة للدبابــات‪ ،‬و"صواريــخ مافريــك" جــو‪ -‬أرض‪ ،‬و"صواريــخ رشايــك"‬
‫املضــادة للــرادارات وأجهــزة التشــويش اإللكرتونيــة التــي أبطلــت مفعــول رادارات "ســام"‬
‫وحافظــت عــى ســامة ســاح الجــو اإلرسائيــي‪ (((.‬وكــا أشــار إليعــازار بامتنــان‪ ،‬فــإن‬
‫أيضــا مدربــن‬‫البنتاغــون مل يجهــز هــذه األســلحة لالســتخدام الفــوري فحســب‪ ،‬بــل أرســل ً‬
‫أمريكيــن لتدريــب اإلرسائيليــن عــى كيفيــة اســتخدامها‪ .‬وهكــذا‪ ،‬كان الجــر الجــوي يف‬
‫رشا ومفتو ًحــا مــن قبــل‬
‫تقديــر رئيــس هيئــة العمليــات املشــر الجمــي عمـ ًـا عســكريًا مبــا ً‬
‫الواليــات املتحــدة ضــد مــر‪ ،‬ولــوال هــذه املســاعدة الصارخــة ملــا اســتطاعت إرسائيــل‬
‫قلــب املوازيــن لصالحهــا‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬عندمــا شــكا الجمــي للســادات قلــب أمريــكا‬
‫(((‬
‫ملوازيــن املعركــة "اســتمع بهــدوء إىل كالمــي‪ ،‬ومل يُظهــر أي قلــق"‪.‬‬
‫نجحــت إرسائيــل‪ ،‬التــي أعيــد تســليحها واســتعادت جاهزيتهــا‪ ،‬يف صــد الهجــوم الســوري‬
‫بــن ‪ 8‬و‪ 14‬أكتوبــر‪ ،‬بينــا ظــل الجيــش املــري يف مكانــه دون حــراك‪ .‬ومــع تقهقــر‬
‫القــوات الســورية وتراجعهــا‪ ،‬بــدأ الهجــوم اإلرسائيــي املضــاد يف ســيناء‪ .‬كان هــذا عندمــا‬
‫أمــر الســادات‪ -‬متحديًــا القيــادة العليــا بأكملهــا مــرة أخــرى‪ -‬بالتقــدم ليــس فقــط إىل‬
‫املمــرات‪ ،‬بــل إىل ســت نقــاط متقدمــة يف قلــب عمــق ســيناء داخــل خطــوط العــدو‪.‬‬
‫ملــاذا هــذا التغيــر املفاجــئ يف املوقــف؟ بــرر الســادات موقفــه بالضغــط الشــديد الــذي‬
‫‪ -1‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.347‬‬
‫‪2- Boyne, Two o’Clock War, 209, 263.‬‬
‫‪3- Gamasy, The October War, 275–79.‬‬

‫‪194‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫يتعــرض لــه الســوريون‪ ،‬حيــث شــعر أنــه مضطــر للتخفيــف عنهــم‪ .‬بــدا هــذا التربيــر‬
‫غريبــا نظ ـ ًرا ألن إرسائيــل مل تكــن لتســتطيع مهاجمــة الســوريني لــوال توقــف الســادات‬ ‫ً‬
‫التكتيــي ملــدة أســبوع‪ ،‬والــذي ال ميكــن تفســره بحــال‪ ،‬ولعــل التفســر األكــر واقعيــة ملــا‬
‫حــدث هــو يف تباطــؤ تواصــل كيســنجر بشــكل مريــب خــال األيــام القليلــة التــي ســبقت‬
‫هــذا الهجــوم‪ .‬أصبــح موقــف الســادات الداخــي حر ًجــا للغايــة‪ ،‬حيــث توغلــت املقاتــات‬
‫اإلرسائيليــة يف عمــق الجبهــة الداخليــة‪ ،‬وقصفــت بورســعيد والعديــد مــن مــدن دلتــا النيــل‪،‬‬
‫وخلفــت وراءهــا خمســمئة قتيــل مــن املدنيــن‪ .‬ومــع تصاعــد حــدة رســائل الســادات إىل‬
‫واشــنطن‪ ،‬جــاءت ردود كيســنجر عــى غــر مــا متنــى‪ ،‬حيــث زعــم مثـ ًـا‪ ،‬يف رســالة يف ‪12‬‬
‫أكتوبــر‪ ،‬أن الواليــات املتحــدة "ال تتابــع العمليــات اإلرسائيليــة بالتفصيــل‪ ،‬وهــم ال يبلغونهــا‬
‫بهــا مســبقًا"‪ ،‬ولــذا ال يســتطيع فعــل يشء ملنعهــم‪ (((.‬وكأي جنــدي مل يشــهد معركــة مــن‬
‫قبــل‪ ،‬اعتقــد الســادات أن اســتئناف الهجــوم ســيكون منــاورة تكتيكيــة رائعــة إلثــارة قلــق‬
‫واشــنطن‪ .‬ومل يعلــم أن هــذا بالضبــط مــا تنتظــره إرسائيــل اآلن بعــد أن احتــوت الهجــوم‬
‫الســوري‪ ،‬وأعــادت تســليح قواتهــا‪ ،‬وعــادت لالنتقــام‪.‬‬
‫أرادت القيــادة العســكرية املرصيــة منــع مــا رأتــه خطــأ فاد ًحــا ال يقــل خطــورة عــن توقــف‬
‫الهجــوم يف البدايــة‪ .‬وقــد عــارض املجلــس االستشــاري العســكري يف مركــز العمليــات ‪11‬‬
‫األمــر بشــدة‪ ،‬موض ًحــا أن نســبة نجــاح الهجــوم يف هــذه املرحلــة املتأخــرة مــن الحــرب ال‬
‫تتجــاوز ‪ (((.%20‬وســلط الشــاذيل والجمــي وآخــرون الضــوء عــى أن إرسائيــل كانــت يف‬
‫بدايــة الحــرب يف حالــة هــروب‪ ،‬لكنهــا اآلن تســتعد لهجــوم مضــاد‪ .‬كان الخيــار الوحيــد‬
‫ملــر يف هــذه املرحلــة هــو الدفــاع عــن رؤوس الجســور عــى ضفــة القنــاة بأفضــل‬
‫مــا ميكــن ريثــا يتوصــل إىل اتفــاق لوقــف إطــاق النــار‪ ،‬حيــث أن أي حركــة ستتســبب‬
‫ببعــرة الخطــوط الدفاعيــة وتســمح للعــدو باالخــراق‪ (((.‬باإلضافــة إىل ذلــك‪ ،‬قــدم قائــدي‬
‫الجيشــن الثــاين والثالــث اســتقالتهام‪ -‬رغــم رفــض وزيــر الحربيــة قبولهــا وقولــه إن‬
‫(((‬
‫عليهــا اتبــاع األوامــر‪ (((.‬لقــد اتضــح لجميــع املعنيــن أن الخطــة جنونيــة بالفعــل‪.‬‬
‫‪1- Heikal, October 1973, 426.‬‬
‫‪ -2‬املرجع السادات‪ ،‬ص ‪.438‬‬
‫‪3- Shazly, Crossing, 166; Gamasy, The October War, 271.‬‬
‫‪4- Heikal, October 1973, 432.‬‬
‫‪5- Boyne, Two o’Clock War, 108.‬‬

‫‪195‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫ولتخفيــف الضغــط‪ ،‬أمــر الســادات الفرقتــن ‪ 21‬و‪ 4‬مدرعــات بعبــور القنــاة لدعــم‬
‫الهجــوم‪ ،‬مــا زاد مــن غضــب قــادة الجيــش‪ .‬متثــل الفرقتــان ‪ 21‬و‪ 4‬مدرعــات جوهــر‬
‫االحتياطــي اإلســراتيجي ملــر‪ ،‬فــإذا تركتــا الضفــة الغربيــة للقنــاة وعربتــا إىل الــرق‪،‬‬
‫فســيكون مــن املســتحيل ردع إرسائيــل عــن غــزو الــر املــري‪ .‬لكــن الرئيــس الســادات‪،‬‬
‫رغــم علمــه بفداحــة هــذا الخطــأ‪ ،‬أرص عــى قــراره مــرة أخــرى‪ .‬يف ‪ 14‬أكتوبــر‪ ،‬وكــا‬
‫كان متوق ًعــا‪ ،‬خــرت مــر خــال الهجــوم مئتــن وســتني دبابــة (مقابــل عــر دبابــات‬
‫إرسائيليــة فقــط) وكان ال بــد مــن إيقافــه يف نفــس اليــوم بعــد أن أصيــب قائــد الجيــش‬
‫الثــاين ســعد مأمــون بنوبــة قلبيــة فــكان ال بــد مــن اســتبداله‪ (((.‬يف الســاعة ‪ 3:00‬مــن‬
‫صبــاح يــوم ‪ 18‬أكتوبــر‪ ،‬حــدث أحــد ردود الفعــل األكــر غرابــة عــى الكارثــة‪ ،‬عندمــا شــق‬
‫خمســة عــر ضابطًــا مــن الرتــب املتوســطة طريقهــم مــن القيــادة العامــة إىل القــر‬
‫وحرصــا منــه عــى معرفــة مــا وراءهــم‪،‬‬
‫ً‬ ‫الرئــايس وطالبــوا برؤيــة الســادات دون تأخــر‪.‬‬
‫اســتقبلهم الســادات يف غرفــة نومــه مرتديًــا بيجامــا‪ .‬أقــر لــه الضبــاط أن الجيــش يغــي‬
‫مــن الغضــب واإلحبــاط بســبب قراراتــه التــي ال ميكــن تفســرها‪ ،‬وأن األفــكار املجنونــة‬
‫تنتــر بــن زمالئهــم‪ -‬مــا يشــر بوضــوح إىل إمكانيــة حــدوث انقــاب‪ -‬ولذلــك قــرروا‬
‫مصارحتــه‪ .‬وبــدوره شــكرهم الســادات عــى صدقهــم ووعدهــم مبقابلتهــم مجــد ًدا ‪ -‬وهــو‬
‫(((‬
‫مــا مل يفعلــه بالطبــع‪.‬‬
‫األهــم مــا حــدث أن تحــرك القــوات نحــو األمــام أحــدث فجــوة واســعة يف خطــوط‬
‫الدفــاع مبــا يكفــي لتســلل القــوات اإلرسائيليــة وراء الخطــوط املرصيــة وعبــور القنــاة إىل‬
‫الضفــة الغربيــة املكشــوفة اآلن‪ ،‬كــا توقــع الجــراالت مــن قبــل متا ًمــا‪ .‬ومــرة أخــرى‪ ،‬كان‬
‫دور أمريــكا حيويًــا‪ .‬فوف ًقــا لحســابات كيســنجر‪ ،‬تتطلــب التســوية املســتقبلية للنــزاع وف ًقــا‬
‫إرسائيليــا مذهـ ًـا قبــل وقــف إطــاق النــار‪ .‬اشــتملت‬
‫ً‬ ‫لــروط الواليــات املتحــدة إنجــا ًزا‬
‫خطتــه البســيطة عــى املامطلــة بإعــان اتفــاق وقــف إطــاق النــار‪ ،‬ومواصلــة إمــداد‬
‫إرسائيــل باألســلحة واملعلومــات اإلســراتيجية التــي تلقاهــا مــن الســادات حتــى "تطــرد‬
‫إرسائيــل املرصيــن مــن الضفــة الرشقيــة‪ ...‬أو تجعــل موقفهــم هنــاك حر ًجــا"‪ ،‬وبعــد ذلــك‬

‫‪1- Boyne, Two o’Clock War, 128.‬‬


‫‪2- Heikal, October 1973, 487.‬‬

‫‪196‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫(((‬
‫ميكنــه املــي قد ًمــا يف وقــف إلطــاق النــار لتقويــض اإلنجــازات العســكرية ملــر‪.‬‬
‫يف ‪ 9‬أكتوبــر‪ ،‬طلــب امللحــق العســكري اإلرسائيــي يف واشــنطن مردخــاي غور من كيســنجر‬
‫الحصــول عــى صــور مــن األقــار الصناعيــة‪ ،‬فأصــدر األخــر تعليامتــه للجــرال برنــت‬
‫ضمنيــا يف مراســاته مع كيســنجر‬‫ً‬ ‫ســكوكروفت لتزويــده بهــا‪ (((.‬وفيــا كان الســادات يهــدد‬
‫بتصعيــد األمــور عــى الجبهــة‪ -‬عــى أمــل أن يدفــع هــذا التهديــد كيســنجر للتحــرك‪ -‬وقــع‬
‫حــادث غريــب‪ .‬فللمــرة األوىل واألخــرة خــال الحــرب‪ ،‬قامــت طائــرة اســتطالع أمريكيــة‬
‫(‪ )SR-71A Blackbird‬باســتطالع جبهــة القتــال يف يومــي ‪ 13‬أكتوبــر و‪ 15‬أكتوبــر‪ ،‬أي‬
‫يف اليــوم الســابق للتقــدم املــري وصبــاح اليــوم التــايل لفشــله‪ ،‬بهــدف اكتشــاف مــا إذا‬
‫كان تحــرك القــوات املرصيــة قــد أحــدث بالفعــل فجــوة بــن خطوطهــا الدفاعيــة‪ ،‬وموقعها‬
‫بالضبــط إن ُوجــدت‪ .‬أثنــاء تفحــص القيــادة اإلرسائيليــة العليــا للصــور‪ ،‬وجــدوا إحــدى هذه‬
‫الثغــرات موجــودة بالفعــل بــن رؤوس الجســور للجيشــن املــري الثــاين والثالــث يف‬
‫الدفرســوار‪ (((.‬وكــا روى كيســنجر يف مذكراتــه‪ ،‬فقــد حــث اإلرسائيليــن فــو ًرا عــى اتخــاذ‬
‫إجــراء حاســم إذا مــا أرادوا الحفــاظ عــى أفضليتهــم قبــل التفــاوض عــى وقــف إطــاق‬
‫النــار(((‪ -‬وقــد فعلــوا ذلــك بالتأكيــد‪ .‬ففــي ‪ 15‬أكتوبــر‪ ،‬شــق لــواءان إرسائيليــان طريقهــا‬
‫أســفل الجنــاح األميــن للجيــش الثــاين عــر القنــاة‪ ،‬واتســع الخــرق مــع اســتمرار القــوات‬
‫اإلرسائيليــة يف التدفــق غربًــا‪ .‬وبحلــول ‪ 22‬أكتوبــر‪ ،‬بــات لــدى إرسائيــل ســبعة ألويــة‬
‫(((‬
‫مدرعــة عــى الضفــة الغربيــة‪ ،‬حينهــا دعــا كيســنجر إىل وقــف إطــاق النــار‪.‬‬
‫قــدم الخــرق ميــزة إيجابيــة واحــدة للســادات‪ ،‬وهــي الذريعــة لعــزل الشــاذيل وتدمــر مــا‬
‫حققــه مــن إنجــاز‪ .‬ومل يكــن أمــام الســادات ســوى هــذا الخيــار‪ ،‬فالشــاذيل أول ضابــط‬
‫يتمتــع مبثــل هــذا النفــوذ والجاذبيــة داخــل وخــارج الجيــش منــذ زمــن طويــل‪ .‬يف ‪18‬‬
‫أكتوبــر‪ ،‬طلــب منــه الســادات الذهــاب إىل الجبهــة إليقــاف تدفــق القــوات اإلرسائيليــة‪.‬‬
‫فعــاد األخــر إىل العاصمــة يف ‪ 20‬أكتوبــر ليحــذر الســادات وبقيــة أركان الحــرب مــن‬

‫‪1- Boyne, Two o’Clock War, 102.‬‬


‫‪2- Heikal, October 1973, 401.‬‬
‫‪ -3‬عيل‪ ،‬مشاوير العمر‪ ،‬ص ‪.361‬‬
‫‪4- Kissinger, White House Years, 522–23.‬‬
‫‪5- Gamasy, The October War, 282.‬‬

‫‪197‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫أن الخــرق سيتســع مــا مل ترتاجــع أربعــة ألويــة مــن الــرق إىل الضفــة الغربيــة ملواجهــة‬
‫التوغــل اإلرسائيــي‪ .‬ووف ًقــا لرئيــس هيئــة العمليــات املشــر عبــد الغنــي الجمــي‪ ،‬فقــد كان‬
‫أيضــا رأيــه ورأي القــادة امليدانيــن‪.‬‬
‫هــذا ً‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬رفــض الســادات ذلــك دون تقديــم عــذر معقــول‪ (((.‬وعندمــا أرص الشــاذيل‬
‫عليــه‪ ،‬انفجــر يف وجهــه قائـ ًـا‪" :‬ملــاذا تقــرح دامئًــا ســحب قواتنــا مــن الضفــة الرشقيــة‪...‬‬
‫يجــب أن تحاكــم عســكريًا‪ .‬إذا أرصرت عــى هــذه االقرتاحــات فســأحاكمك عســكريًا‪ .‬ال‬
‫أريــد ســاع كلمــة أخــرى"‪ (((.‬كانــت الخطــة السياســية تقــي بتحميــل الشــاذيل مســؤولية‬
‫الفشــل يف ســد الخــرق أمــام قــوات العــدو‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬قــام الشــاذيل بعملــه‪ .‬اتفــق خــراء‬
‫الحــرب عــى أن مــا أشــار بــه الشــاذيل كان "أكــر تهديــد لالنتصــار اإلرسائيــي‪ ...‬لكــن من‬
‫حســن حــظ إرسائيــل أن توصياتــه ُرفضــت"‪ (((.‬وال عجــب يف أن الشــاذيل قــال الح ًقــا يف‬
‫مذكراتــه بــأن "رفــض ســحب األلويــة املدرعــة األربعــة كان مزي ًجــا مــن الجنــون والجهــل‬
‫والخيانــة"‪ (((.‬ووف ًقــا للمــؤرخ العســكري بويــن‪ ،‬كان قــرار الســادات أشــبه بـــستالينجراد‬
‫صنعهــا بيديــه‪ .‬حيــث غامــر بالجيــش الثالــث‪ ،‬وتســبب بتطويقــه ومحارصتــه‪ .‬لقــد ق ـ َّدر‬
‫بــدم بــارد أن خطتــه تســتحق املغامــرة بتدمــر محتمــل للجيــش الثالــث آمـ ًـا أنــه ال يــزال‬
‫(((‬
‫بإمكانــه قلــب املوازيــن الدبلوماســية‪.‬‬
‫بــدوره‪ ،‬وصــف الســادات رئيــس أركانــه بالجــن فقــال "عــاد إيل مــن الخطــوط األماميــة‬
‫مرتج ًفــا‪ ،‬وقــال يل‪ :‬يجــب أن نســحب كل قواتنــا مــن ســيناء‪ ...‬ويف تلــك الليلــة‪ ،‬عزلتــه‬
‫وعينــت الجمــي مكانــه"‪ (((.‬كــرر الســادات املزاعــم نفســها للصحفيــن بعــد الحــرب‪ ،‬زاعاًمً‬
‫أن الشــاذيل "انهــار قائـ ًـا إن الحــرب قــد انتهــت‪ ،‬والكارثــة وقعــت‪ ،‬وعلينــا االنســحاب مــن‬
‫ســيناء بالكامــل"‪ (((.‬تتحــدث روايــة الســادات عــن أن الشــاذيل أُرســل إىل الجبهــة يف ‪16‬‬
‫أكتوبــر (والحقيقــة أنــه أُرســل إىل هنــاك يف ‪ 18‬أكتوبــر)‪ ،‬يف وقــت كان "مــن الســهل‬
‫‪1- Gamasy, The October War, 290.‬‬
‫‪2- Shazly, Crossing, 172.‬‬
‫‪3- Boyne, Two o’Clock War, 180–84.‬‬
‫‪4- Shazly, Crossing, 180.‬‬
‫‪5- Boyne, Two o’Clock War, 201.‬‬
‫‪ -6‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص‪.349‬‬
‫‪7- Insight Team, Yom Kippur War, 345.‬‬

‫‪198‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫ج ـ ًدا إنهــاء الخــرق الــذي حصــل‪ ...‬لكنــه أهــدر وقتًــا مثي ًنــا يف جمــع املعلومــات وتشــكيل‬
‫قيــادة عــى خــط الجبهــة تتجــاوز منافســه املشــر إســاعيل‪ .‬ويف الواقــع‪ ،‬كانــت القــوات‬
‫الخاصــة قــد تقدمــت بالفعــل إىل الدفرســوار واعــرف اإلرسائيليــون مبــدى رشاســتها يف‬
‫القتــال‪ ...‬لكــن الشــاذيل ســحبها بحجــة جمــع املزيــد مــن املعلومــات‪ ،‬وكانــت النتيجــة أن‬
‫اتســع الخــرق أكــر"‪ (((.‬والح ًقــا‪ ،‬فوجــئ الدارســون للحــرب بالخــداع املذهــل الــذي اتســمت‬
‫(((‬
‫بــه روايــة الســادات عــن هــذه الحادثــة وغريهــا مــن مجريــات الحــرب‪.‬‬
‫مل يكــن لــدى الســادات ســوى شــاهد وحيــد هــو قائــد ســاح الجــو حســني مبــارك‪ ،‬لكــن‬
‫كل مــن حــر ذلــك االجتــاع دحــض روايتــه‪ .‬فقــد أكــد الجمــي‪ ،‬الــذي حــل يف النهايــة‬
‫محــل الشــاذيل‪ ،‬أن األخــر مل يُصــب بانهيــار عصبــي ومل يــد ُع لالنســحاب الكامــل‪ ،‬وأن‬
‫الرئيــس الســادات مل يُ ِقلْــه حتــى ديســمرب‪ ،‬أي بعــد شــهرين مــن التاريــخ الــذي زعــم فيــه‬
‫أنــه فعــل ذلــك‪ (((.‬وحتــى قبــل أن ينــر شــهود هــذه األحــداث مذكراتهــم‪ ،‬مل يصــدق‬
‫هــذه القصــة امللفقــة ســوى قلــة مــن النــاس‪ ،‬وال ســيام يف صفــوف الجيــش‪ .‬فســمعة‬
‫الشــاذيل الطيبــة عــى مــدى ســنني طويلــة يف كل مــن العــامل العــريب وإرسائيــل بصفتــه‬
‫حامســا واندفا ًعــا يف مــر تؤكــد أن مــن غــر املعقــول أن يتــرف بهــذه‬ ‫الضابــط األكــر ً‬
‫الطريقــة املهينــة‪.‬‬
‫يف عــام ‪ ،1973‬وصــف دبلومــايس غــريب الشــاذيل بـــ "مــويش ديــان مــر"‪ ،‬مضي ًفــا أنــه‬
‫رغــم عــدم ســعيه أبــ ًدا للوصــول إىل هــذه "املكانــة األســطورية‪ ،‬إال أنــه مــع ذلــك كان‬
‫بطـ ًـا يف أعــن الجامهــر املرصيــة حتــى قبــل حــرب أكتوبــر‪ -‬كنمــوذج للضابــط املــري‬
‫الجديــد"‪ .‬وتتــداول األوســاط الشــعبية يف مــر قصــة اشــتباكه مــع النازيــن يف عــام‬
‫‪ ،1942‬حــن رفــض االنســحاب حتــى إجــاء رجالــه بأمــان؛ وكــم كان أداؤه رائ ًعــا كقائــد‬
‫فصيلــة مشــاة يف حــرب عــام ‪ ،1948‬وكقائــد للمظليــن يف حــرب اليمــن يف الســتينيات؛‬
‫وال ســيام كيــف متكــن يف عــام ‪ 1967‬مــن إعــادة جميــع جنــوده إىل القاهــرة ســاملني‪،‬‬
‫وهــي القصــة التــي جعلــت منــه أســطورة‪ .‬ورغــم الهــوة التــي تفصــل عــادة بــن ضبــاط‬
‫قريبــا ج ـ ًدا مــن رجالــه‪" ،‬وبــداًلً مــن امليداليــات‬
‫الجيــش وجنودهــم‪ ،‬فقــد كان الشــاذيل ً‬
‫‪ -1‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.348‬‬
‫‪2- Boyne, Two o’Clock War, 200.‬‬
‫‪3- Gamasy, The October War, 282.‬‬

‫‪199‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫والرتــب التــي ميكــن أن تخلــق حاج ـ ًزا بينــه وبينهــم‪ ،‬كان يرتــدي قبعــة عاديــة‪ ،‬وحــذا ًء‬
‫ولباســا ممو ًهــا لجنــدي مظــي‪ ".‬وبفضــل ذكائــه الحــاد وتألقــه التنظيمــي‪ ،‬زادت‬ ‫عســكريًا‪ً ،‬‬
‫شــعبيته األســطورية زيــادة كبــرة أثنــاء التحضــر لحــرب أكتوبــر‪ (((.‬وهكــذا اتضــح للجميــع‬
‫أن الســادات خطــط بـــغريزة تآمريــة ضــد ضابــط حظــي باحــرام مهنــي كبــر وشــعبية‬
‫(((‬
‫واســعة بــن القــوات املســلحة "‪.‬‬
‫رســل الشــاذيل إىل لنــدن ثــم الربتغــال للعمــل كســفري‪ ،‬قبــل أن يُطــرد‬‫يف ديســمرب ‪ ،1973‬أُ ِ‬
‫مــن الخدمــة عــام ‪ 1978‬بعــد أن نــر مذكراتــه التــي بدأهــا عــى النحــو التــايل‪" :‬كتبتهــا‬
‫حاليــا منصــب رئيــس بلــدي‪ ،‬الرجــل‬‫بــردد‪ ،‬وبــأىس وغضــب‪ ...‬عــن الرجــل الــذي يشــغل ً‬
‫الــذي كان مســؤواًلً عــن التشــويه الكامــل إلنجــازات القــوات املســلحة"‪ (((.‬ثــم خصــص‬
‫را مــن مذكراتــه لفضــح ســلوك الســادات املخــادع أثنــاء الحــرب‪،‬‬ ‫الشــاذيل جــز ًءا كبــ ً‬
‫وكشــف دور القيــادة السياســية يف تقويــض أمــن مــر القومــي للحفــاظ عــى النظــام‬
‫االســتبدادي‪ ،‬الــذي يدعــم ســطوته بالكــذب عــى املواطنــن ثــم التجســس عليهــم ملعرفــة‬
‫ـا عــى إبقــاء القــوات‬ ‫مــا إذا كانــوا يصدقــون األكاذيــب‪ .‬لقــد كان هــذا النظــام مصمـ ً‬
‫املســلحة خاضعــة لهــذه النهايــة الواقعيــة واملحتومــة‪ ،‬حتــى لــو كان الثمــن هــو فشــل‬
‫غيابيــا بتهمــة إفشــاء أرسار‬
‫هجومنــا عــى العــدو"‪ .‬كان متوق ًعــا أن يحاكَــم الشــاذيل ً‬
‫(((‬

‫عســكرية‪ ،‬فاضطــر لالنتقــال إىل الجزائــر حيــث شــكل جبهــة التحريــر الوطنــي املرصيــة‪،‬‬
‫والتــي ســعت إلســقاط نظــام الســادات‪ .‬ويف عــام ‪ ،1992‬عــاد إىل مــر ليتــم القبــض‬
‫عليــه يف املطــار عــى الفــور ونقلــه إىل الســجن‪ .‬بعدهــا بعامــن‪ ،‬أطلــق رساحــه وتــرك منــذ‬
‫ذلــك الحــن العمــل يف الشــأن العــام‪.‬‬
‫يتخــل عنــه كبــار الضبــاط‪ ،‬إذ تقــر أرستــه بــأن وزيــر الدفــاع حســن‬ ‫َّ‬ ‫مــع ذلــك‪ ،‬مل‬
‫طنطــاوي (شــغل منصبــه بــن عامــي ‪ )2011 -1991‬زاره ليطمــن عليــه بانتظــام‪ ،‬وســاعده‬
‫يف اســتصدار أمــر مــن املحكمــة عــام ‪ 2005‬بإســقاط جميــع التهــم املوجهــة إليــه‪ (((.‬وعــى‬

‫‪1- Insight Team, Yom Kippur War, 226–28.‬‬


‫‪2- McDermott, Egypt from Nasser to Mubarak, 168.‬‬
‫‪3- Shazly, Crossing, 9–10.‬‬
‫‪ -4‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.96‬‬
‫‪ -5‬محي الدين‪ ،‬حرب أكتوبر‪ :‬األمنية األخرية للشاذيل‪ ،‬ص ‪.23-20‬‬

‫‪200‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫خطــى الســادات‪ ،‬اعتــره مبــارك عــد ًوا لــه حتــى نهايــة عهــده‪ .‬عــاش الشــاذيل حتــى‬
‫ـس‬
‫ـش فيــه الرئيـ َ‬
‫ر الجيـ ُ‬
‫أحــداث ثــورة ينايــر ‪ ،2011‬لكنــه تــويف يف ليلــة اليــوم الــذي أجـ َ‬
‫حســني مبــارك عــى التنحــي‪ .‬وبعــد أســابيع قليلــة‪ ،‬نُــرت مذكراتــه التــي ُحظــرت يف‬
‫مــر ســابقًا‪ ،‬ورسعــان مــا احتلــت صــدارة الكتــب األكــر مبي ًعــا ‪ -‬وهــي لفتــة رمزيــة مــن‬
‫الجيــش لقائــده البــارز‪.‬‬
‫بالعــودة إىل حــرب أكتوبــر‪ ،‬فقــد باتــت الظــروف مهيــأة التفــاق وقــف إطــاق النــار‪،‬‬
‫فتــم التفــاوض عليــه يف موســكو بــن كيســنجر وليونيــد بريجنيــف‪ ،‬ووافــق عليــه الجميــع‬
‫مبوجــب قــرار مجلــس األمــن رقــم ‪ .338‬يف ‪ 22‬أكتوبــر‪ ،‬وخــال عودتــه مــن موســكو‪،‬‬
‫حــط كيســنجر يف تــل أبيــب لطأمنــة رئيســة الــوزراء اإلرسائيليــة جولــدا مائــر‪ -‬القلقــة‬
‫مــن أن االتفــاق مل يعــن مراقبــن مــن األمــم املتحــدة لــإرشاف عــى تنفيــذ وقــف‬
‫إطــاق النــار‪ ،‬خاصــة وأن اإلرسائيليــن ال يحتاجــون ســوى إىل يومــن إضافيــن‬
‫الســتكامل تطويــق الجيــش املــري"‪ (((.‬أحدثــت كتائــب بــرن أدان وأرئيــل شــارون‪ -‬التــي‬
‫را‬
‫عملــت بحريــة شــبه كاملــة عــى الجانــب الغــريب مــن القنــاة‪ -‬ثغــرة طولهــا ‪ 24‬كيلومـ ً‬
‫يف مظلــة الدفــاع الجــوي املــري‪ ،‬التــي تحمــي القــوات الربيــة املرصيــة‪ ،‬مــا ســمح‬
‫للجيــش اإلرسائيــي باســتئناف هجومــه الفتــاك عــر الدبابــات وســاح الجــو عــى جانبــي‬
‫القنــاة‪ (((.‬فيــا رفــض الســادات االعــراف بأخطائــه ووصــف الخــرق بأنــه عــرض مرسحــي‬
‫أمــام الشاشــات(((‪ ،‬لكنــه رسعــان مــا وافــق عــى وقــف إطــاق النــار‪.‬‬
‫أيضــا‪ ،‬لكــن‬
‫كجميــع قراراتــه الســابقة‪ ،‬كان قبــول وقــف إطــاق النــار موضــع نــزاع حــاد ً‬
‫هــذه املــرة مــع مســاعده املقــرب منــه حافــظ إســاعيل‪ ،‬الــذي ذُهــل ملوافقــة الســادات‬
‫عــى االتفــاق دون أي رشط‪ ،‬ونصحــه بــاإلرصار عــى انســحاب إرسائيــل مــن الضفــة‬
‫را عــن املوقــف‬
‫الغربيــة للقنــاة أواًلً ‪ -‬حيــث ميثــل االتفــاق يف صورتــه املعروضــة تنــازاًلً كبـ ً‬
‫األويل الداعــي إىل اســتمرار القتــال حتــى انســحاب إرسائيــل إىل حــدود يونيــو ‪.1967‬‬
‫وانزعــج إســاعيل مــن ثقــة الســادات الكبــرة يف كيســنجر رغــم كل مــا حــدث‪ ،‬خاصــة‬
‫بعــد أن تغــاىض األخــر عــن انتهــاكات إرسائيــل لوقــف إطــاق النــار‪.‬‬
‫‪1- Golan, Secret Conversations, 86–87.‬‬
‫‪2- Insight Team, Yom Kippur War, 343.‬‬
‫‪ -3‬منصور‪ ،‬من أوراق السادات‪ ،‬ص ‪.235‬‬

‫‪201‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬تــرك اتفــاق وقــف إطــاق النــار الجيــش الثالــث املحــارص واملكــون‬
‫مــن خمســة وأربعــن ألــف جنــدي تحــت رحمــة إرسائيــل‪ ،‬بعــد أن قطــع اإلرسائيليــون‬
‫املدخــل الرئيــي إىل ســيناء عــر ســيطرتهم عــى طريــق القاهــرة‪ -‬الســويس‪ (((.‬باإلضافــة‬
‫إىل ذلــك‪ ،‬أكــد كل مــن حافــظ إســاعيل وهيــكل خــال اجتامعهــا مــع الســادات‪ ،‬يف ‪21‬‬
‫أكتوبــر‪ ،‬أن قــرار األمــم املتحــدة ال يطالــب بوقــف األعــال العدائيــة فحســب‪ ،‬بــل يطالــب‬
‫أيضــا بعقــد مفاوضــات مبــارشة بــن الجانبــن‪ ،‬األمــر الــذي يتعــارض مــع موقــف مــر‬ ‫ً‬
‫القديــم بعــدم التفــاوض مبــارشة مــع إرسائيــل‪ .‬وبعبــارة أخــرى‪ ،‬قــد ميثــل قبــول القــرار‬
‫تســوية سياســية كبــرة‪ ،‬ال عســكرية وحســب‪ .‬ولــذا‪ ،‬ناشــد إســاعيل الرئيــس الســادات‬
‫أن يعيــد النظــر‪ ،‬وقــال لــه "ســيدي الرئيــس‪ ،‬ال حاجــة لهــذا االندفــاع‪ ...‬أعتقــد فعـ ًـا أن‬
‫القــوات املســلحة مــا زالــت قــادرة عــى املواجهــة والتعامــل مــع الوضــع الراهــن"‪ .‬لكــن‪،‬‬
‫حــن مل تلــق مناشــداته أذنًــا صاغيــة‪ ،‬اتخــذ حافــظ إســاعيل خطــوة كلفتــه منصبــه فيــا‬
‫بعــد‪ .‬ففــي ‪ 24‬أكتوبــر‪ ،‬وبــداًلً مــن أن يــرح أســباب قبــول مــر لوقــف إطــاق النــار‬
‫أمــام مجموعــة مــن أعضــاء الحكومــة الحائريــن‪ ،‬فقــد أعصابــه واعــرف بــأن الرئيــس‬
‫الســادات يتــرف مبفــرده دون األخــذ بــرأي أحــد‪ .‬ويف ‪ 22‬أكتوبــر‪ ،‬أي قبــل يومــن‬
‫مــن ذلــك‪ ،‬ســمع هيــكل كال ًمــا مشــاب ًها مــن مديــر مكتــب الشــؤون العســكرية املحبــط‬
‫العقيــد عبــد الــرؤوف رضــا‪ ،‬الــذي قــال‪" :‬مــر يف خطــر‪ ...‬الرئيــس الســادات ال يســتمع‬
‫ملستشــاريه‪ ،‬بــل ويرفــض أحيانًــا حتــى رؤيتهــم‪ ...‬حاولــت أن أرشح لــه الوضــع العســكري‪...‬‬
‫(((‬
‫والغضــب املتزايــد بــن الضبــاط الشــباب‪ ...‬لكنــه مل يســتمع يل"‪.‬‬
‫را‪ ،‬دعــا الرئيــس الســادات إىل اجتــاع للمجلــس األعــى للقــوات املســلحة يف ‪21‬‬ ‫أخــ ً‬
‫را يف اســتئناف الحــرب إلنقــاذ الجيــش الثالــث‬‫نوفمــر‪ .‬فاعتقــد الضبــاط أنــه فكــر أخـ ً‬
‫ومــدن القنــاة التــي تحارصهــا إرسائيــل‪ .‬مل يكــن هــذا مجــرد حــاس مــري‪ ،‬فقــد قــدم‬
‫رئيــس األركان اإلرسائيــي نفســه مذكــرة إىل جولــدا مائــر أعــرب فيهــا عــن قلقــه وحــذر‬
‫مــن أن إطالــة الحصــار ســتمنح جنــود الجيــش الثالــث فرصــة اللتقــاط أنفاســهم بينــا‬
‫يعيــد رفاقهــم عــى الضفــة الرشقيــة بنــاء دفاعــات جويــة مــن صواريــخ ســام‪" ،‬ومــع‬
‫ـش‬
‫تقــدم اإلرسائيليــن عــى األرض‪ ،‬قــد ينقلــب املوقــف فجــأة‪ ،‬ويدفــع املرصيــون الجيـ َ‬
‫‪1- Gamasy, The October War, 295–97.‬‬
‫‪2- Heikal, October 1973, 524–27, 569.‬‬

‫‪202‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫اإلرسائيــي نحــو املعركــة النهائيــة"‪ (((.‬لكــن بــداًلً مــن مناقشــة خطــط الســتئناف الحــرب‪،‬‬
‫شــكر الســادات الجميــع عــى خدمتهــم الجليلــة للبــاد‪ ،‬وأعلــن أنــه يعتــر أن الحــرب اآلن‬
‫انتهــت‪ ،‬وأمــل أال تتدخــل القــوات املســلحة يف هــذه املرحلــة يف الشــأن الســيايس‪ ،‬مضي ًفــا‬
‫أن محادثــات وقــف إطــاق النــار "شــأن ســيايس‪ ،‬وســواء توصلنــا إىل اتفــاق أم ال‪ ،‬فهــذا‬
‫ال يعنــي شــيئًا بالنســبة لكــم‪ ،‬فعليكــم أن تهتمــوا بشــؤونكم الخاصــة"‪ (((.‬بطبيعــة الحــال‪،‬‬
‫را بالخــر بالنســبة للضبــاط الذيــن شــعروا أن الرئيــس أنهــى الحــرب‬ ‫مل يكــن هــذا مب ـ ً‬
‫بشــكل مفاجــئ وقبــل األوان‪.‬‬
‫وفــوق كل ذلــك‪ ،‬قــدم الســادات يف ‪ 15‬مايــو ‪ 1974‬إىل الربملــان مــا أســاه "ورقــة أكتوبر"‬
‫را‬
‫التــي تــرح رؤيتــه للمســتقبل‪ .‬وادعــى أن إســراتيجيته خــال حــرب أكتوبــر "أنهــت أخـ ً‬
‫تدريجيــا لضــم املزيــد مــن األرايض‪ ...‬يف‬‫ً‬ ‫املــروع التوســعي الصهيــوين الــذي ســعى‬
‫كل مرحلــة‪ ...‬أمــا اآلن‪ ،‬ومــع انتهــاء آمالهــا التوســعية‪ ...‬فقــد رشعــت إرسائيــل يف رحلــة‬
‫مراجعــة شــاملة للنفــس‪ ،‬ومراجعــة ألســس العقيــدة الصهيونيــة نفســها"‪ (((.‬لكــن األســوأ مل‬
‫يــأت بعــد‪ ،‬ففــي نفــس الورقــة‪ ،‬ألقــى الســادات باللــوم يف انخفــاض النمــو االقتصــادي يف‬
‫مــر عــى اإلنفــاق العســكري‪ ،‬ملم ًحــا‪ -‬حتــى قبــل اســتعادة ســيناء‪ -‬إىل أن ميزانيــة الدفاع‬
‫ســتنخفض بشــكل كبــر‪ .‬كــا قــدم دعــوات رصيحــة لجــذب املســتثمرين املرصيــن‪ ،‬مــا‬
‫أشــار إىل نيتــه للنهــوض بالقطــاع االقتصــادي‪ .‬لقــد أدرك الســادات أن هــذه الطبقــة هــي‬
‫التــي دعمــت إســراتيجيته الحربيــة أكــر مــن غريهــا‪ .‬فحتــى قبــل حــرب أكتوبــر‪ ،‬كان‬
‫هنــاك إجــاع واضــح بــن الرأســاليني املرصيــن عــى أن الحــرب املســتقبلية يجــب أال‬
‫تضعــف مخططهــم لالنضــام إىل املعســكر الغــريب والرشاكــة مــع املســتثمرين األمريكيــن‪.‬‬
‫وبنــا ًء عــى ذلــك‪ ،‬فقــد فضلــوا حربًــا قصــرة ومحــدودة تليهــا مبــارشة تســوية ســلمية‪،‬‬
‫بغــض النظــر عــن التنــازالت السياســية أو العســكرية التــي ينطــوي عليهــا األمــر‪ .‬أمــا مــا‬
‫كان يحلــم بــه الجيــش املــري مــن خــوض حــرب اســتنزاف طويلــة‪ ،‬مــع كل مــا يصاحبهــا‬
‫(((‬
‫مــن اضطرابــات وخســائر اقتصاديــة‪ ،‬فلــم يكــن وار ًدا بالنســبة لهــم عــى اإلطــاق‪.‬‬

‫‪1- Boyne, Two o’Clock War, 262.‬‬


‫‪2- Shazly, Crossing, 195.‬‬
‫‪ -3‬أنور السادات‪ ،‬أوراق أكتوبر‪ ،‬الطليعة ‪( )5( 10‬مايو ‪ ،)1974‬ص ‪.146 -131‬‬
‫‪ -4‬عادل غنيم‪ ،‬أزمة الدولة املرصية املعارصة‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار العامل الثالث‪ ،2005 ،‬ص ‪.85‬‬

‫‪203‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫مل يكــن هنــاك مــن يتحــدى الســادات‪ ،‬بــل إن قامئــة الضبــاط ذوي النفــوذ داخــل الجيــش‬
‫تقلصــت أكــر‪ .‬فقبــل شــهر مــن الحــرب‪ُ ،‬دفــع قائــد الحــرس الجمهــوري الليثــي ناصــف‬
‫مــن رشفــة يف لنــدن فســقط ومــات‪ ،‬وكان قــد أقيــل مــن منصبــه قبــل بضعــة أشــهر‪ ،‬رمبــا‬
‫ألنــه دخــل إىل مكتــب الرئيــس الســادات دون قبعتــه العســكرية‪ ،‬وهــو مــا اعتــره الســادات‬
‫عالمــة عــى عــدم االحــرام‪ .‬ثــم عــرض عليــه الرئيــس منصــب ســفري يف أوروبــا‪ ،‬لكنــه‬
‫أرص عــى البقــاء يف مــر‪ .‬ويف النهايــة‪ ،‬اضطــر للســفر إىل لنــدن إلجــراء فحوصــات‬
‫ريا يف لنــدن‪،‬‬‫ـن الشــاذيل ســف ً‬‫طبيــة ومل يعــد بعدهــا أبـ ًدا‪ .‬بعــد شــهرين مــن الحــرب‪ُ ،‬عـ ّ‬
‫ـن القــادة امليدانيــون الرئيســيون الثالثــة يف وظائــف مدنيــة كمحافظــن‪ (((.‬يذكــر‬ ‫كــا ُعـ ّ‬
‫رئيــس تحريــر جريــدة األهــرام أحمــد بهــاء الديــن كيــف شــعر القــادة بالخيانــة ألنهــم‬
‫أُبعــدوا بقســوة عــن الجيــش بعــد كل مــا أنجــزوه‪ (((.‬ومــع ذلــك‪ ،‬مل يكــن مــن املعقــول أن‬
‫يتــرف الســادات بطريقــة أخــرى‪ .‬فقــد أراد أن ميهــد الطريــق أمــام الجيــش للقبــول‬
‫بتســوية سياســية‪ ،‬ليــس باملعنــى الكالســييك الــذي وضعــه كالوزفيتــز‪ ،‬حيــث يحقــق الجيــش‬
‫أهدافًــا سياســية‪ ،‬إمنــا مــن خــال إثبــات عــدم قدرتــه عــى تحقيــق مــا ميكــن للزعيــم‬
‫الســيايس فقــط تحقيقــه عــر املفاوضــات‪.‬‬
‫وبنفــس القــدر مــن األهميــة‪ ،‬أراد الســادات إدارة الحــرب بطريقــة ال تعــرض خطتــه للخطر‬
‫را مــا تــرك هــذا الهــدف األخــر قــادة الســادات‬ ‫ليكســب رعايــة أمريــكا لنظامــه‪ .‬كث ـ ً‬
‫ومستشــاريه الدبلوماســيني يف حــرة مــن أمرهــم‪ .‬مل يســتطع أحــد معرفــة ســبب إعجــاب‬
‫الســادات بكيســنجر‪ ،‬لدرجــة وصفــه بأنــه شــخص "صــادق نفــذ مــا وعــد بــه"‪ (((.‬وأوضــح‬
‫الســادات للصحافيــن أنــه قبــل مقرتحــات وزيــر الخارجيــة األمريــي دون أي اعــراض‬
‫(((‬
‫را‪ ،‬كنــت أعتــره صدي ًقــا‪ ،‬وال أحــب املســاومة مــع أصدقــايئ"‪.‬‬‫مــر ًرا "أحــب كيســنجر كثـ ً‬
‫رمبــا يكــون هــذا هــو الســبب يف تلقيــه رســالة مــن كيســنجر يعــرض فيهــا أن يــزور‬
‫القاهــرة إذا قبلــت مــر وقــف إطــاق النــار الفــوري‪ ،‬فالتــزم الســادات بــه عــى الفــور‪.‬‬
‫مــع ذلــك‪ ،‬بــرزت ثقــة الرئيــس الســادات بكيســنجر بشــكل أكــر خــال اليومــن األخرييــن‬

‫‪1- Shazly, Crossing, 202.‬‬


‫‪ -2‬أحمد بهاء الدين‪ ،‬محاورايت مع السادات‪ ،‬ص ‪.93‬‬
‫‪3- Al-Gamasy, The October War, 330.‬‬
‫‪4- Insight Team, Yom Kippur War, 442.‬‬

‫‪204‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫مــن الحــرب‪ .‬ففــي ‪ 24‬أكتوبــر‪ ،‬هــدد الســوفييت بالتدخــل ملنــع هزميــة مــر‪ ،‬بعــد أن‬
‫اتضــح أن إرسائيــل ليســت عــى اســتعداد لاللتــزام التــام باتفــاق وقــف إطــاق النــار‪.‬‬
‫فــرد كيســنجر وجيمــس شــليزنجر عــى مذكــرة بريجنيــف برفــع مســتوى التأهــب القتــايل‬
‫األمريــي مبــا يف ذلــك القيــادة الجويــة اإلســراتيجية النوويــة إىل "ديفكــون ‪ ،((("3‬و ُعــزز‬
‫األســطول األمريــي الســادس بحاملــة طائــرات أخــرى‪ .‬ولتأكيــد تصميــم الواليــات املتحــدة‬
‫عــى الذهــاب إىل حافــة الهاويــة إزاء هــذه القضيــة‪ ،‬هــدد كيســنجر يف خطــاب تلفزيــوين‬
‫قائـ ًـا "لــدى كل طــرف منــا ترســانات نوويــة قــادرة عــى إبــادة البرشيــة‪ .‬يتوجــب عــى‬
‫كلينــا بشــكل خــاص التأكــد مــن بقــاء املواجهــات ضمــن الحــدود التــي ال تهــدد الحضــارة‬
‫البرشيــة"‪ (((.‬لكنــه بعــد ذلــك لجأ إىل الســادات ليوضح موقفه للســوفييت‪ ،‬ورغــم أن الرئيس‬
‫الســادات طلــب ســابقًا أن تكــون مهمــة مراقبــة وقــف إطــاق النــار مشــركة بــن أمريــكا‬
‫(((‬
‫وروســيا‪ ،‬فقــد صــدم الســوفييت يف ‪ 26‬أكتوبــر عندمــا طُلــب منهــم البقــاء خــارج املهمــة‪.‬‬
‫ـلوك الرئيــس الســادات وزيـ َر الخارجيــة األمريــي كيســنجر‪ ،‬وقــد ســجل يف عــدة‬ ‫أذهــل سـ ُ‬
‫تقريبــا عــى طلبــات إرسائيــل‪ ،‬وطلــب‬
‫ً‬ ‫مناســبات كيــف أن الســادات وافــق عــى الفــور‬
‫فقــط‪ -‬كإجــراء لحفــظ مــاء الوجــه‪ -‬تقدميهــا عــى أنهــا مقرتحــات أمريكيــة وليســت‬
‫إرسائيليــة‪ (((.‬كــا فوجــئ كيســنجر بــأن الســادات بقــي ودو ًدا تجاهــه طــوال الحــرب بشــكل‬
‫(((‬
‫مســتغرب‪ ،‬رغــم كل مــا قدمــه إلرسائيــل‪.‬‬
‫اســتنتج وزيــر الخارجيــة املــري مــراد غالــب أن الخــرق العســكري اإلرسائيــي نتــج عــن‬
‫(((‬
‫الخــرق الســيايس الــذي أحدثتــه الواليــات املتحــدة داخــل القيــادة السياســية املرصيــة‪.‬‬
‫ويف محادثــة لــه مــع هيــكل بعــد لقائــه األول بكيســنجر‪ ،‬يف ‪ 7‬نوفمــر ‪ ،1973‬تحــدث‬
‫الســادات بفخــر عــن كيفيــة بدايــة االجتــاع موض ًحــا "قلــت لــه‪ :‬هــري‪ ،‬ال تضيــع وقتــك‬
‫يف التفاصيــل‪ ...‬أنــت رجــل إســراتيجي‪ ،‬وأنــا كذلــك‪ ،‬لــذا دعنــا ال ننشــغل بالتفاصيــل‪...‬‬
‫املســتقبل متوقــف عــى ســؤال واحــد‪ :‬هــل ميكــن أن نكــون أصدقــاء؟ أريــد أن نصبــح‬
‫‪ -1‬مقياس لحالة الجهوزية الدفاعية األمريكية‪( .‬املرتجم)‬
‫‪2- Kissinger in Golan, Secret Conversations, 91.‬‬
‫‪3- Boyne, Two o’Clock War, 260.‬‬
‫‪4- Golan, Secret Conversations, 112, 161.‬‬
‫‪5- Kissinger, White House Years, 527.‬‬
‫‪ --6‬مراد غالب‪ ،‬مع عبد النارص والسادات‪ ،‬ص ‪.214‬‬

‫‪205‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫أصدقــاء‪ ،‬وإذا أصبحــت مــر صديقــة لكــم‪ ،‬فــإن املنطقــة بأكملهــا ســتنفتح عليكــم"‪.‬‬
‫وتحــدث الســادات لهيــكل عــن أن الســوفييت هــم العــدو الحقيقــي‪ ،‬وكيــف خطط الستشــارة‬
‫صديقــه ديفيــد روكفلــر حــول أفضــل الطــرق لفتــح الســوق املرصيــة أمــام املســتثمرين‬
‫األجانــب‪ ،‬وكيــف اعتــر هــذه الحــرب آخــر معركــة ملــر مــع إرسائيــل‪.‬‬
‫يف ســبتمرب ‪ ،1975‬علــم هيــكل خــال مأدبــة عشــاء يف منــزل الصحفي األمريــي املخرضم‬
‫أيضــا مــن‬
‫وكاتــب الخطابــات الرئاســية جوزيــف كرافــت بجــورج تــاون أن الســادات طلــب ً‬
‫(((‬
‫ـخصيا ونظامــه ألن الكثرييــن يتآمــرون ضــده داخل بلــده"‪.‬‬
‫الواليــات املتحــدة تأمينــه شـ ً‬

‫عندما سكتت البنادق‬


‫مــع انتهــاء الحــرب‪ ،‬كان املشــر عبــد الغنــي الجمــي الضابــط الوحيــد املتبقــي مــن‬
‫بــن الشــخصيات الرئيســية التــي خططــت للقتــال يف أكتوبــر‪ .‬فبعــد إقالــة الشــاذيل مــن‬
‫منصبــه‪ ،‬نُقــل إســاعيل إىل مستشــفى يف لنــدن قبــل وفاتــه يف ديســمرب ‪ ،1974‬وأُبعــد‬
‫ـن الجمــي وزي ـ ًرا للحربيــة‪ ،‬مــا يعنــي‬ ‫القــادة امليدانيــون إىل القطــاع املــدين‪ ،‬فيــا ُعـ ّ‬
‫أن دوره يف الســقوط مــن رتبــة النجوميــة قــد حــان اآلن‪ .‬فمكانتــه العســكرية الكبــرة‬
‫باتــت تشــكل تهدي ـ ًدا واض ًحــا‪ ،‬حيــث اكتســبها باعتبــاره املهنــدس الحقيقــي لعمليــة عبــور‬
‫قنــاة الســويس الشــجاعة‪ ،‬وكان مــن أشــد املنتقديــن للطريقــة التــي أدار بهــا الرئيــس‬
‫الســادات الحــرب‪ .‬كــا كان ســيعارض بــا شــك خطــة الرئيــس إلعــادة توجيــه الجيــش مــن‬
‫مياديــن القتــال نحــو املشــاريع االقتصاديــة واملدنيــة‪ .‬عــزا الجمــي هزميــة ‪ 1967‬إىل ســوء‬
‫اســتخدام الطاقــات العســكرية‪ ،‬فقــال‪" :‬انخرطــت القــوات املســلحة يف اســتصالح األرايض‪،‬‬
‫واإلســكان‪ ،‬ونظــام النقــل‪ ...‬لقــد أرض حضــور الجيــش ونفــوذه املتزايــد يف الحيــاة املدنيــة‬
‫مبســؤوليته الرئيســية املتمثلــة يف كونــه قــوة مقاتلــة جاهــزة لخــوض املعــارك"‪ (((.‬وهــذا‬
‫بالضبــط مــا كان يخطــط لــه الســادات بالنســبة للجيــش يف مرحلــة مــا بعــد الحــرب‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫كان مــن الخطــر بالنســبة لــه الســاح للجمــي بتصــدر هــذه املرحلــة‪ ،‬فتوجــب عليــه اتخاذ‬
‫التدابــر الالزمــة قبــل االنخــراط يف محادثــات الســام وإجــراءات مــا بعــد الحــرب‪.‬‬

‫‪1- Heikal, October 1973, 675–80.‬‬


‫‪2- Gamasy, The October War, 85.‬‬

‫‪206‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫يف ‪ 28‬أكتوبــر‪ ،‬وبينــا كان ال يــزال يف منصــب رئيــس هيئــة العمليــات‪ ،‬كُلِّـ َـف الجمــي‬
‫مبهمــة غــر محبــذة تتمثــل يف رئاســة الوفــد املــري يف أوىل جــوالت املفاوضــات‬
‫املرصيــة‪ -‬اإلرسائيليــة املبــارشة‪ ،‬والتــي أقيمــت يف خيمــة عــى طريــق القاهــرة‪ -‬الســويس‬
‫را مــن القاهــرة‪ ،‬بهــدف الفصــل بــن القــوات املرصيــة واإلرسائيليــة‬ ‫عــى بعــد ‪ 101‬كيلومـ ً‬
‫يف ســيناء ومتهيــد الطريــق أمــام التســوية السياســية‪ (((.‬لكــن مــع كونه جنديًــا محرتفًــا يتَّ ِب ُع‬
‫األوام ـ َر عــى الــدوام‪ ،‬فقــد الحــظ الضبــاط اإلرسائيليــون أنــه بقــي طــوال املفاوضــات‬
‫(((‬
‫حزي ًنــا بشــكل واضــح‪.‬‬
‫يف ‪ 11‬ينايــر‪ُ ،‬دعــي للقــاء كيســنجر يف أســوان‪ ،‬بعــد أيــام مــن ترقيتــه إىل منصــب رئيــس‬
‫األركان‪ ،‬ملناقشــة املزيــد مــن ترتيبــات وقــف إطــاق النــار‪ .‬ومبجــرد بــدء االجتــاع‪ ،‬ذُهــل‬
‫الجميــع لحديــث كيســنجر عــن أن الســادات وافــق بالفعــل عــى قــر الوجــود املــري‬
‫يف ســيناء بشــكل دائــم عــى ســبعة آالف جنــدي وثالثــن دبابــة‪ ،‬وتقليــص قــوة الجيشــن‬
‫الثــاين والثالــث املتمركــزة آنــذاك يف ســيناء (قوامهــا مئــة ألــف جنــدي مجهزيــن بشــكل‬
‫جيــد) إىل مثــاين كتائــب مســلحة تســلي ًحا خفي ًفــا‪ ،‬مــا أفقــد الجمــي صوابــه‪ ،‬حيــث يــروي‬
‫يف مذكراتــه أنــه رصخ يف وجــه كيســنجر قائـ ًـا‪:‬‬
‫("إنــك تعطــي إرسائيــل مــا يضمــن أمــن قواتهــا وتحرمنــا مــن كل مــا مــن شــأنه حاميــة‬
‫قواتنــا‪ .‬أنــا أرفــض هــذا‪ ،‬وال ميكننــي بصفتــي رئيــس أركان القــوات املســلحة تربيــر ذلــك‬
‫غاضبــا والدمــوع يف عينــي‪ ،‬وذهبــت إىل الحــام‪...‬‬
‫ً‬ ‫ـادرت غرفــة االجتامعــات‬
‫لقواتنــا"‪ ...‬غـ ُ‬
‫داعيــا‬
‫تقديـ ًرا للجهــود الكبــرة والتضحيــات الجســيمة التــي بُذلــت خــال الحــرب‪ ،‬ومل أ َر ً‬
‫لهــذا التنــازل الضخــم الــذي قــد يعــرض قواتنــا املســلحة للخطــر‪ .‬توقعــت مــن الرئيــس‬
‫الســادات أن يستشــر املشــر أحمــد إســاعيل‪ ،‬أو يستشــرين‪ ...‬إذ مل تكــن هنــاك حاجــة‪-‬‬
‫(((‬
‫سياســية أو عســكرية‪ -‬لقبــول هــذا اإلجــراء املجحــف)‪.‬‬
‫لكــن الجمــي مل يكــن يــدرك أن هنــاك حاجــة للقبــول بهــذا اإلجــراء تتمثــل ببســاطة‬
‫يف رغبــة الرئيــس الســادات يف الفــوز بالرعايــة األمريكيــة بــأي مثــن‪ .‬يف اليــوم التــايل‪،‬‬

‫‪1-Gamasy, The October War, 313.‬‬


‫‪2- Golan, Secret Conversations, 116.‬‬
‫‪3- Gamasy, The October War, 335–37.‬‬

‫‪207‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫وبخــه الســادات وحــذره مــن رضورة الوفــاء بوعــوده التــي قطعهــا لكيســنجر‪ ،‬وأنــه ال‬
‫يتعــن عليــه استشــارة الجيــش عنــد اتخــاذ قــرارات سياســية‪ (((.‬يف مــارس ‪ ،1974‬أي بعــد‬
‫ـارَص احتجا ًجــا عــى قــرار خفــض‬ ‫شــهرين‪ ،‬اندلــع متــرد بــن جنــود الجيــش الثالــث املحـ َ‬
‫عــدد القــوات والقبــول بإنهــاء األعــال العدائيــة‪ .‬كان باســتطاعة هــؤالء الجنــود فعــل‬
‫(((‬
‫يشء مــا‪ ،‬ومــع ذلــك‪ ،‬فقــد كانــوا معزولــن عــن بقيــة الجيــش‪ ،‬فضـ ًـا عــن البلــد كلــه‪.‬‬
‫يف يونيــو ‪ ،1975‬اعتُقــل ثالثــة وأربعــون ضابطًــا مــن عــدة وحــدات بتهمــة التخطيــط‬
‫لالنقــاب عــى الســادات‪ .‬ومنــذ فربايــر ‪ 1976‬حتــى أبريــل‪ ،‬اســتقال عــدد كبــر مــن‬
‫الضبــاط احتجا ًجــا عــى سياســات الرئيــس‪ .‬كــا أقــال الســادات يف منتصــف عــام ‪1977‬‬
‫العديــد مــن القــادة رفيعــي املســتوى لدعمهــم محاولــة انقــاب قــام بهــا ضبــاط البحريــة‪،‬‬
‫مظليــا‪ .‬ويف يوليــو ‪ ،1977‬حــدث اضطــراب كبــر‬ ‫تبــع ذلــك اعتقــال أربعــة عــر ضابطًــا ً‬
‫بــن القــوات املســلحة‪ ،‬حيــث بــدا أن الكثرييــن منهــم متعاطفــون مــع دعــوة رئيــس األركان‬
‫(((‬
‫ـش للوقــوف يف وجــه ديكتاتوريــة الســادات‪.‬‬‫الســابق الشــاذيل الجيـ َ‬
‫مل يكــن غضــب الجمــي ‪-‬والعديــد مــن الضبــاط اآلخريــن‪ -‬عــى مــا يبــدو مجــرد غضــب‬
‫جــرال عجــوز عنيــد‪ .‬حيــث ذكــر وزيــر الخارجيــة إســاعيل فهمــي‪ ،‬الــذي أدار املفاوضات‬
‫كاًل مــن كيســنجر‬
‫املبكــرة مــع الواليــات املتحــدة وإرسائيــل‪ ،‬أن تنــازالت الســادات صدمــت ً‬
‫واإلرسائيليــن‪ (((.‬وملــا انتقــد فهمــي املقرتحــات اإلرسائيليــة طلــب منــه الســادات مغــادرة‬
‫القاعــة‪ ،‬ثــم اعتــذر لضيفــه األمريــي قائـ ًـا "الجمــي وفهمــي رجــان طيبــان لكنهــا ال‬
‫يفهــان أي يشء"‪ .‬وفيــا يتعلــق بقضيــة خفــض القــوات‪ ،‬مثـ ًـا‪ ،‬أرص الجمــي عــى أن‬
‫مــر لــن تســتطيع الدفــاع عــن ســيناء بــدون مئتــن وخمســن دبابــة كحــد أدىن‪ .‬لكــن‬
‫كيســنجر أراد خفــض هــذا الرقــم إىل مئــة دبابــة‪ .‬لــذا‪ ،‬طلــب يف لقائــه مــع الســادات أن‬
‫يكــون العــدد ثالثــن دبابــة‪ ،‬وهــو عــدد غــر معقــول بتاتًــا‪ ،‬عــى أمــل أن توافــق مــر‬
‫بعــد ذلــك عــى مئــة دبابــة‪ .‬لكــن الســادات وافــق عــى الفــور‪ ،‬مــا أثــار صدمــة كيســنجر‬
‫كــا ذكــر هــو بنفســه‪ .‬وهــذا مــا أشــعره باإلغــراء‪ ،‬فقــرر تجربــة حظــه مــرة أخــرى‪ .‬طلــب‬

‫‪1- Gamasy, The October War, 335–37.‬‬


‫‪2- Brooks, Shaping Strategy, 121.‬‬
‫‪3- Dekmejian, "Egypt and Turkey", 38–39.‬‬
‫‪ -4‬فهمي‪ ،‬التفاوض من أجل السالم يف الرشق األوسط‪ ،‬ص ‪.117‬‬

‫‪208‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫اإلرسائيليــون مــن قبــل ســحب مظلــة الدفــاع الجــوي "ســام"‪ -‬الغطــاء الوحيــد للوجــود‬
‫را مــن القنــاة‪ .‬لكــن الجمــي أكــد‬ ‫املــري يف ســيناء‪ -‬ووضعهــا عــى بعــد عرشيــن كيلومـ ً‬
‫أنــه مــن املســتحيل الرتاجــع ألكــر مــن خمــس كيلومــرات‪ .‬ورغــم ذلــك‪ ،‬ناشــد كيســنجر‬
‫الســادات‪ -‬الــذي وافــق عــى الفــور‪ -‬أال "يتــم توضيــح تفاصيــل خفــض القــوات والقيــود‬
‫املفروضــة عــى الســاح يف الرســائل الخاصــة التــي أرســلها الرئيــس نيكســون إليــه"‪،‬‬
‫وهكــذا لــن يعــرف املرصيــون بهــا‪ (((.‬واســتمر فــرض القيــود عــى الجيــش املــري تبا ًعــا‪:‬‬
‫را يف ســيناء‪ ،‬وســتغلق‬ ‫فلــن متتلــك املدفعيــة املرصيــة ســوى ســتة وثالثــن مدف ًعــا صغ ـ ً‬
‫الحــدود بشــكل كامــل أمــام املتســللني الفلســطينيني‪ ،‬وسـ ُـيفتح مضيــق البحــر األحمــر وقنــاة‬
‫الســويس أمــام املالحــة اإلرسائيليــة‪ ،‬وســيعاد بنــاء مــدن قنــاة الســويس وتوســيعها وملئهــا‬
‫بالســكان كضــان لعــدم انــدالع نزاعــات مســتقبلية‪ .‬كــا سيناشــد الســادات الــدول النفطية‬
‫العربيــة الغنيــة برفــع الحظــر عــن الواليــات املتحــدة حتــى قبــل التوصــل إىل تســوية‪ ،‬فيــا‬
‫وسيســتقبل الرئيــس نيكســون يف‬
‫ســتزود مــر إرسائيــل مبليــوين طــن مــن النفــط ســنويًا‪ُ .‬‬
‫(((‬
‫القاهــرة بحشــود مبتهجــة ملســاعدته يف تحســن صورتــه يف أعقــاب فضيحــة ووترغيــت‪.‬‬
‫ما الذي كان السادات يحاول تحقيقه؟‬
‫قائــا‪" :‬جــرااليت‪ ...‬يضيعــون‬‫ً‬ ‫في محادثــة خاصــة مــع أحمــد بهــاء الديــن‪ ،‬أوضــح‬
‫الوقــت يف تفاصيــل تافهــة‪ .‬إنهــم ال يفهمــون أين مل أكــن أتفــاوض حــول فــك االشــتباك‬
‫مــع إرسائيــل‪ ،‬بــل مــع أمريــكا‪ .‬عندمــا ذهبــت إىل الحــرب‪ ،‬مل أكــن أخوضهــا ضــد الجيــش‬
‫اإلرسائيــي‪ ،‬بــل لزعزعــة قناعــات جميــع دوائــر الحكــم األمريكيــة‪ :‬الرئاســة‪ ،‬والكونغــرس‪،‬‬
‫أيضــا"‪ (((.‬لكــن فريــق األمــن‬
‫ووكالــة املخابــرات املركزيــة‪ ،‬والبنتاغــون‪ ...‬ورجــال األعــال ً‬
‫القومــي لــدى الســادات رأى األمــور بشــكل مختلــف‪ .‬وقــد خلُــص وزيــر الخارجيــة فهمــي‬
‫يف مذكراتــه إىل أن الســادات أهــدر مبفــرده كل مــا متكــن الجيــش املــري مــن تحقيقــه‬
‫خــال الحــرب‪ (((.‬وأكــد مــراد غالــب‪ ،‬وزيــر الدولــة للشــؤون الخارجيــة أثنــاء الحــرب‪،‬‬
‫أن لــدى الســادات قناعــة بــأن الواليــات املتحــدة هــي أفضــل ضامــن لنظامــه‪ ،‬وهــو مــا‬

‫‪1- Golan, Secret Conversations, 160–65.‬‬


‫‪2- Heikal, Autumn of Fury, 73, 214.‬‬
‫‪ -3‬أحمد بهاء الدين‪ ،‬محاورايت مع السادات‪.158 ،‬‬
‫‪ -4‬فهمي‪ ،‬التفاوض من أجل السالم يف الرشق األوسط‪.118 ،‬‬

‫‪209‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫كلفنــا املجــد الــذي حققنــاه أثنــاء عبــور القنــاة‪ (((.‬أشــار هيــكل إىل أن الســادات أســاء‬
‫فهــم عقيــدة الحــرب املحــدودة التــي تســتخدم فيهــا اإلنجــازات العســكرية لتعزيــز النفــوذ‬
‫الســيايس للدولــة بــداًلً مــن التضحيــة بهــا إلرضــاء الحلفــاء السياســيني املحتملــن‪ (((.‬ومــن‬
‫الطبيعــي أن يصــدم موقـ ُـف الســادات مــن الحــرب القــاد َة العســكريني بشــدة‪ .‬فقــد "قــدم‬
‫ـا وقاتلــوا بشــكل جيــد"‪ ،‬بحســب الشــاذيل‪ ،‬لكــن "قادتهــم‬ ‫جنــود مــر وقادتهــا أداء عظيـ ً‬
‫(((‬
‫السياســيني خذلوهــم"‪.‬‬
‫عندمــا ســكتت أصــوات املدافــع‪ ،‬أشــارت اإلحصائيــات البســيطة إىل انتصــار إرسائيــي‪:‬‬
‫فقــد قُتــل خمســة عــر ألــف وســبعمئة جنــدي عــريب مقابــل أربعــة آالف ومئــة وخمســن‬
‫إرسائيليًــا‪ ،‬وأُرس مثانيــة آالف وواحــد وثالثــون​​جنديًــا عربيًــا مقابــل مئتني وواحــد وأربعني‬
‫جنديًــا إرسائيليًــا‪ ،‬و ُدمــرت ألــف وتســعمئة وخمســون دبابــة عربيــة مقابــل مثامنئــة وخمســة‬
‫وســبعني دبابــة إرسائيليــة‪ ،‬كــا أُســقطت أربعمئــة واثنتــا عــرة طائــرة مرصيــة مقابــل مئة‬
‫وتســع عــرة طائــرة إرسائيليــة‪ ،‬وأصيبــت ثالثــون ســفينة بحريــة مقابــل ســفينة إرسائيليــة‬
‫واحــدة فقــط‪ .‬أمــا يف الســيطرة عــى األرض‪ ،‬فقــد انتهــى األمــر بســيطرة إرسائيــل عــى‬
‫املزيــد مــن األرايض عــى الضفــة الغربيــة للقنــاة أكــر من تلــك التــي اســتولت عليها مرص‬
‫عــى الضفــة الرشقيــة‪ .‬ويف ينايــر ‪ ،1974‬اضطــرت مــر لســحب جيشــيها الثــاين والثالــث‬
‫إىل الضفــة الغربيــة للقنــاة‪ ،‬ومل يتبـ َّـق منهــا ســوى قــوة رمزيــة قوامهــا ســبعة آالف جنــدي‬
‫لحاميــة الرشيــط الــذي يبلــغ عرضــه عــرة كيلومــرات‪ ،‬والــذي ســيطروا عليــه بعــد العبور‪،‬‬
‫فيــا تحصنــت القــوات اإلرسائيليــة يف املمــرات التــي تســيطر عــى شــبه جزيــرة ســيناء‪.‬‬
‫يف العــام التــايل‪ ،‬وافــق اإلرسائيليــون عــى إعــادة متوضعهــم خلــف املمــرات مبــارشة‬
‫وانتــرت قــوات األمــم املتحــدة بــن الجيشــن‪ (((.‬فــا عجــب إذن يف أن يعتقــد الضبــاط‬
‫املرصيــن‪ ،‬كــا وصــف الشــاذيل‪ ،‬أن الســادات تنــازل مبفــرده عــن كل مــا حققــه الجيــش‬
‫املــري بعــد تضحيــات كبــرة‪ .‬لقــد رضــخ‪ -‬دون استشــارة أحــد‪ -‬للطلــب اإلرسائيــي‬

‫‪ -1‬غالب‪ ،‬مع عبد النارص والسادات‪ ،‬ص ‪.215‬‬


‫‪2- Heikal, October 1973, 453.‬‬
‫‪3- Shazly, Crossing, 205.‬‬
‫‪4- Insight Team, Yom Kippur War, 450; Richard B. Parker, The Politics of Miscalculation in the‬‬
‫‪Middle East, 352–58.‬‬

‫‪210‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫بتقليــص الوجــود العســكري املــري رشق القنــاة إىل ال يشء‪ (((.‬أو كــا رصح الشــاذيل‬
‫حــن قــال بــكل حــزن "لقــد ألقــى الرئيــس بعيــ ًدا بأعظــم جيــش جمعتــه مــر عــى‬
‫اإلطــاق"‪ (((.‬ومــع ذلــك‪ ،‬أشــار املــؤرخ العســكري ســيمون دونســتان إىل أن املرصيــن مــا‬
‫زالــوا يعتقــدون حتــى يومنــا هــذا‪ -‬خالفًــا ملــا أجمعــت عليــه جميــع الدراســات التــي تناولت‬
‫حــرب أكتوبــر‪ -‬أنهــم كانــوا منترصيــن‪ ،‬مضي ًفــا بشــكل ســاخر‪" ،‬يف الــرق األوســط‪ ،‬تعــد‬
‫(((‬
‫أساســا لــكل يشء"‪.‬‬
‫القــدرة عــى الفهــم ً‬
‫ومبثــل هــذه النظــرة املكللــة باملــرارة تجــاه الرئيــس الســادات‪ ،‬اضطــر وزيــر الحربيــة عبــد‬
‫الغنــي الجمــي‪ ،‬ورئيــس األركان محمــد عــي فهمــي قائــد الدفــاع الجــوي أثنــاء الحــرب‪،‬‬
‫ومــن بقــي يف صفــوف الضبــاط مــن رفاقهــم الكبــار للرحيــل‪ .‬وبــدأوا جمي ًعــا وبشــكل‬
‫متزايــد ينتقــدون تقــارب الســادات بحــرارة مــع الواليــات املتحــدة وإرسائيــل‪ ،‬واألهــم مــن‬
‫ذلــك الحــط مــن مكانــة الجيــش والتالعــب مبســؤولياته‪ (((.‬يف ‪ 5‬أكتوبــر ‪ ،1978‬اسـتُبدلت‬
‫قيــادة حــرب أكتوبــر بأكملهــا‪ ،‬لكــن التوقيــت كان مؤمل ًــا‪ .‬يقــول املشــر الجمــي يف‬
‫مذكراتــه "لقــد أزعجنــي وأفزعنــي اختيــار تاريــخ ‪ 5‬أكتوبــر إلحــداث تغيــرات يف القيــادة‬
‫العســكرية‪ ،‬حيــث ُحرمــت القيــادة القدميــة‪ -‬املش ـكّلة ممــن ســاهموا مســاهمة رئيســي ًة يف‬
‫حــرب أكتوبــر ‪ -1973‬حتــى مــن املشــاركة يف احتفــال القــوات املســلحة بالنــر يف ‪6‬‬
‫أكتوبــر"‪ (((.‬اعــرف محمــود جامــع أن صديقــه الســادات اختــار ذلــك اليــوم عم ـ ًدا يك‬
‫(((‬
‫يــدرك الجمــي واآلخــرون حجمهــم الحقيقــي‪.‬‬
‫مل يكــن خليفــة الجمــي أكــر حظًــا‪ .‬فكــا حصــل مــع أحمــد إســاعيل مــن قبــل‪ُ ،‬عــن‬
‫كــال حســن عــي مدي ـ ًرا للمخابــرات العامــة لفــرة قصــرة قبــل تعيينــه وزي ـ ًرا للدفــاع‪.‬‬
‫وعــى غــرار إســاعيل‪ ،‬كُلــف مبهمــة إبقــاء الجيــش تحــت الســيطرة وبعيـ ًدا عــن السياســة‪.‬‬
‫التقــى الســادات وعــي ألول مــرة يف مستشــفى املعــادي العســكري يف ‪ 20‬يونيــو ‪،1967‬‬
‫عندمــا كان األخــر يعالــج مــن إصابــات تعــرض لهــا عــى جبهــة القتــال‪ ،‬وهنــاك تأثــر‬
‫‪1- Brooks, Shaping Strategy, 141.‬‬
‫‪2- Shazly, Crossing, 184.‬‬
‫‪3- Dunstan, The Six Day War 1967, 91.‬‬
‫‪4- Springborg, Mubarak’s Egypt, 97.‬‬
‫‪5- Gamasy, The October War, 402.‬‬
‫عرفت السادات‪ ،‬ص ‪.191‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -6‬جامع‪،‬‬

‫‪211‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫الســادات باســتيائه مــن إقحــام الضبــاط يف عــامل السياســة‪ ،‬ومــن زمالئــه املغروريــن‬
‫األغبيــاء الذيــن كانــوا يقــودون الجيــش‪ (((.‬وهكــذا‪ ،‬كان تعيــن عــي يف هــذا املنصــب يعــد‬
‫برفــع مســتوى احــراف القــوات املســلحة‪ .‬لكــن االحــراف بالنســبة لــه يعنــي اســتئصال‬
‫ـش‬‫ضبــاط الجيــش ضعيفــي املســتوى الذيــن َعـ َّر َض وجو ُدهــم يف املؤسســة العســكرية الجيـ َ‬
‫لخطــر جســيم‪ -‬كــا اتضــح يف حــريب عــام ‪ 1956‬و‪ -1967‬ال تقليص لقــوة الجيــش القتالية‬
‫وإبعــاده عــن سياســات األمــن القومــي‪ (((.‬ولــذا‪ ،‬أيــد تعزيــز القــوة العســكرية‪ ،‬وأعطــاه‬
‫كافيــا داخــل القــوات‬
‫أداؤه املتميــز كقائــد للفرقــة الرابعــة املدرعــة خــال الحــرب نفــوذًا ً‬
‫املســلحة للمــي قد ًمــا نحــو تحقيــق هــذا الهــدف‪ .‬لكــن عــي اســتمر يف قيــادة الجيــش‬
‫ـن وزيـ ًرا للخارجيــة ويُكلَّــف مبهمــة غــر محبــذة تتمثل يف‬ ‫لبضعــة شــهور فقــط قبــل أن يُعـ َّ‬
‫(((‬
‫تطويــر عالقــات ســلمية مــع إرسائيــل‪ ،‬وهــو مــا سيفســد ســمعته بــن القــوات املســلحة‪.‬‬
‫عندهــا‪ ،‬رصح لوزيــر الدولــة للشــؤون الخارجيــة الجديــد بطــرس غــايل عــن إحباطــه‬
‫(((‬
‫إثــر خفــض مكانتــه‪ ،‬لكنــه مــع ذلــك مل يكــن أمامــه خيــار ســوى االنصيــاع لألوامــر‪.‬‬
‫مل يكمــل الوزيــر أحمــد بــدوي‪ -‬بديــل كــال عــي يف وزارة الدفــاع وأحــد الضبــاط‬
‫أيضــا‪ -‬مــدة عــام يف منصبــه‪ ،‬حيــث قُتــل يف ‪ 2‬مــارس ‪ 1981‬يف حــادث تحطــم‬ ‫املؤثريــن ً‬
‫مروحيــة عــى بعــد أربعمئــة ميــل جنــوب غــرب القاهــرة مــع ثالثــة عــر مــن كبــار القــادة‬
‫العســكريني (تســعة برتبــة لــواء‪ ،‬وثالثــة برتبــة عميــد‪ ،‬وعقيــد)‪ .‬تحدثــت الروايــة الرســمية‬
‫عــن تشــابك ذيــل املروحيــة بســلك كهربــايئ‪ ،‬مــا تســبب يف فقدانهــا توازنهــا وتحطمهــا‪.‬‬
‫لكــن الطيــار كانــت لــه قصــة مختلفــة‪ ،‬حيــث أكــد أن محــرك املروحيــة تعــرض النقطــاع‬
‫مفاجــئ يف الدائــرة الكهربائيــة‪ .‬كــا قــال ســكرتري بــدوي إن أحــد الضبــاط (اللــواء‬
‫(((‬
‫صــاح قاســم) رصخ قبــل الحــادث مبــارشة "هنــاك يشء خاطــئ يف هــذه الطائــرة"‪.‬‬
‫مل تكــن هــذه الشــهادات الســبب الوحيــد الــذي أثــار شــكوك الكثرييــن‪ ،‬فقــد دارت‬
‫أيضــا أســئلة حــول ســبب وجــود وزيــر الدفــاع وثالثــة عــر مــن كبــار مســاعديه عــى‬ ‫ً‬
‫نفــس املروحيــة‪ ،‬واألهــم مــن ذلــك‪ :‬كيــف ميكــن للطيــار املســؤول عــن مثــل هــذا الجمــع‬
‫‪ -1‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.242‬‬
‫‪ -2‬عيل‪ ،‬مشاوير العمر‪ ،‬ص ‪.117‬‬
‫‪ -3‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.444-441‬‬
‫‪ -4‬بطرس غايل‪ ،‬طريق مرص إىل القدس‪ :‬قصة الرصاع من أجل السالم يف الرشق األوسط‪ ،‬ص ‪.315‬‬
‫‪ -5‬رجب البنا وخميس البقري‪ ،‬األهرام ‪ .34416:3‬القاهرة‪.)1981/5/3( .‬‬

‫‪212‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫املتميــز أن يرتكــب مثــل هــذا الخطــأ البســيط‪ ،‬حيــث يقــود طائرتــه املروحيــة قــرب أســاك‬
‫كهربائيــة يف وضــح النهــار؟! مل يكــن رد الحكومــة مقن ًعــا للغايــة‪ ،‬ونفــت مقالــة افتتاحيــة‬
‫يف جريــدة األهــرام الشــهرية هــذه االتهامــات بشــدة‪ ،‬معتمــدة عــى ادعــاء الســادات بــأن‬
‫هــذه األنــواع مــن املؤامــرات تحــدث فقــط يف األنظمــة الرديئــة كالنظامــن الســوري‬
‫والليبــي‪ ،‬ولكــن ليــس يف مــر‪ (((.‬وردت مجلــة أكتوبــر األســبوعية يف عددهــا الصــادر‬
‫يف ‪ 8‬مــارس بشــكل أكــر إبدا ًعــا‪ ،‬حيــث أوردت عرشيــن حــادث طــران مشــابه يف جميــع‬
‫(((‬
‫أنحــاء العــامل لإلشــارة إىل أنــه حــادث طبيعــي وحســب‪.‬‬
‫اعتُــر بــدوي أحــد أبطــال حــرب أكتوبــر‪ ،‬ومتتــع بشــعبية كبــرة داخــل ســلك الضبــاط‪.‬‬
‫واشــتهر بالدفــاع عــن الســويس والتصــدي للتقــدم اإلرسائيــي خــال األيــام األخــرة مــن‬
‫الحــرب‪ ،‬وكان مســؤواًلً عــن مراقبــة القــوات اإلرسائيليــة عــى الضفــة الغربيــة للقنــاة حتــى‬
‫توقيــع اتفــاق فــك االشــتباك‪ .‬واألهــم مــن ذلــك‪ ،‬أنــه أدىل ببعــض املالحظــات املثــرة‬
‫للجــدل يف مجلــس النــواب قبــل أســابيع مــن وفاتــه‪ ،‬قائـ ًـا "إن انتقــال الــرق األوســط‬
‫مــن كونــه ميــدان حــروب تقليديــة إىل ســاحة مواجهــة نوويــة أمــر خطــر للغايــة‪ .‬نأمــل‬
‫أال يحــدث ذلــك‪ ،‬ولكــن إذا حــدث ذلــك وامتلــك طــرف إقليمــي [يقصــد إرسائيــل] أســلحة‬
‫نوويــة‪ ،‬فلــن يكــون لدينــا خيــار آخــر ســوى املحافظــة عــى تــوازن القــوى معــه"؛ كــا‬
‫أكــد أن "مــر ســتبقى دامئًــا القــوة املوثوقــة يف مواجهــة األخطــار التــي تواجــه العــامل‬
‫العــريب‪ ...‬وأن الســام ال ينبغــي أن يــؤدي إىل أي تغيــر يف طبيعــة أو مهــام القــوات‬
‫املســلحة"‪ .‬ورفــض محــاوالت الرئيــس الســادات لتهميــش الجيــش‪ ،‬أو التعهــد بعــدم تطويــر‬
‫مخفيــا‪ .‬فقــد كان علوي‬‫أســلحة غــر تقليديــة لــردع إرسائيــل‪ ،‬فيــا بقــي جــزء مــن القصــة ً‬
‫حافــظ‪ ،‬أحــد الضبــاط األحــرار الــذي انتُخــب لعضويــة مجلــس النــواب يف الثامنينيــات‪،‬‬
‫ميــا لبــدوي‪ ،‬واتهــم الســادات ومبــارك بالتآمــر لقتلــه وزمالئــه ألنهــم خططــوا‬ ‫صدي ًقــا قد ً‬
‫لفضــح فســاد صفقــات الســاح التــي تورطــت القيــادة السياســية فيهــا‪ ،‬وكذلــك محاوالتهــا‬
‫املكشــوفة إلبقــاء القــوات املســلحة تحــت وصايتهــا‪ .‬وذكــر أن وزيــر الدفــاع بــدوي أخــره‬
‫قبــل أســبوعني مــن مقتلــه بأنــه واجــه الســادات مبــا يعرفــه‪ ،‬لكــن األخــر بــداًلً مــن اتخــاذ‬
‫إجــراءات ملعالجــة األمــور ســلمه قامئــة بأســاء كبــار الضبــاط الذيــن يريــد إبعادهــم مــن‬
‫‪ -1‬إبراهيم نافع‪ ،‬األهرام‪.)1981/6/3( .‬‬
‫‪2- October, March 8, 1981, 8–9.‬‬

‫‪213‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫القــوات املســلحة عــى الفــور‪ .‬فغضــب بــدوي ورفــض األمــر‪ ،‬مذكّـ ًرا الســادات بــأن هــؤالء‬
‫هــم مــن بــن أفضــل جنــود مــر‪.‬‬
‫وفقًــا ملــا قالــه حافــظ‪ ،‬فقــد اقتنــع بــدوي بوجــوب اإلطاحــة بالقيــادة السياســية يف‬
‫ـرا يف تقديــم طلــب خــال جلســة‬ ‫البــاد‪ (((.‬بعــد محــاوالت متواصلــة نجــح حافــظ أخـ ً‬
‫برملانيــة رســمية‪ ،‬يف ‪ 5‬مــارس ‪ ،1990‬إلجــراء تحقيــق خــاص يف حادثــة مقتــل بــدوي‬
‫ورفاقــه‪ ،‬لكــن طلبــه رسعــان مــا أُرجــئ‪ .‬بعــد ثــورة ‪ ،2011‬أكــد أحمــد عبــد اللــه‪ ،‬أحــد‬
‫الكــوادر القياديــة يف الحــزب الحاكــم وأحــد أقــارب بــدوي‪ ،‬أن األخــر التقــى بالســادات‬
‫قبــل مثانيــة وأربعــن ســاعة مــن الحــادث وهــدد باالســتقالة إثــر محــاوالت الرئاســة‬
‫(((‬
‫إفســاد الجيــش والســيطرة عليــه‪.‬‬
‫وكــا كان متوق ًعــا‪ ،‬مل يؤمــن كثــرون يف داخــل الجيــش وخارجــه بــأن مــا حــدث كان‬
‫عرضيــا‪ ،‬إمنــا اعتــروه خطــوة اســتباقية قــام بهــا الســادات لكبــح جــاح القيــادة‬
‫ً‬ ‫حادثًــا‬
‫ـخصيا تصديــق هــذه "الشــائعات"‬
‫العســكرية‪ .‬وبالرغــم مــن أن كــال حســن عــي رفــض شـ ً‬
‫عــى حــد وصفــه‪ ،‬فقــد اعــرف بأنهــا انتــرت يف جميــع أنحــاء مــر‪ (((.‬بعــد بضعــة‬
‫رميــا‬
‫أشــهر‪ ،‬اغتيــل الطيــار‪ -‬الــذي نجــا مــن الحــادث يف ظــروف غامضــة‪ -‬يف شــقته ً‬
‫بالرصــاص‪ (((.‬ويف الواقــع‪ ،‬كان أحــد املــررات التــي ســاقها قتلــة الســادات أثنــاء‬
‫(((‬
‫اســتجوابهم عــام ‪ 1981‬هــو تورطــه يف قضيــة مقتــل بــدوي ‪.‬‬
‫إىل جانــب طــرد معظــم الضبــاط الذيــن كان لهــم بعــض الــوزن يف القــوات املســلحة‬
‫والتشــهري بهــم‪ ،‬وجــه الســادات لجيشــه رضبــة أشــد يف مايــو ‪ 1979‬بإصــدار املرســوم‬
‫الرئــايس رقــم ‪ .35‬وف ًقــا ملذكــرة تفســر املرســوم‪ ،‬فــإن "الضبــاط الذيــن شــغلوا أعــى‬
‫املناصــب يف القــوات املســلحة‪ ،‬يف هيئــة العمليــات‪ ،‬وكقــادة للوحــدات العســكرية الرئيســية‬
‫يف حــرب ‪ 6‬أكتوبــر ‪ ،1973‬ســيخدمون يف صفــوف القــوات املســلحة مــدى الحيــاة‪...‬‬
‫وســيظلون مستشــارين عســكريني لصالــح القــوات املســلحة مــدى الحيــاة‪ .‬وال يجــوز لهــم‬

‫‪ -1‬محمد شعبان‪ ،‬من قتل أحمد بدوي؟‪ ،‬الشباب ‪ ،410‬ص ‪ ،55-54‬القاهرة‪.)2011/9( .‬‬
‫‪ -2‬محمد الباز‪ ،‬الفجر‪.)2011/8/22( .‬‬
‫‪ -3‬كامل حسن عيل‪ ،‬مشاوير العمر‪ ،‬ص ‪.476‬‬
‫‪ -4‬محمد الباز‪ ،‬اتهام مبارك‪ ،‬ص ‪.9‬‬
‫‪ -5‬عادل حمودة‪ ،‬اغتيال رئيس‪ ،‬ص ‪ ،119‬عنرت عبد اللطيف‪ ،‬تفتح امللف الشائك وتكشف باألسامء‪ ،‬ص ‪.5‬‬

‫‪214‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫شــغل مناصــب عســكرية يف الهيــكل التنظيمــي للقــوات املســلحة يك ال تتعــارض مكانتهــم‬


‫(((‬
‫والغايــة مــن االســتفادة مــن تجربتهــم الفريــدة مــع مبــادئ التجديــد واالســتمرارية"‪.‬‬
‫حســم هــذا املرســوم مصــر القــادة املخرضمــن مــن جيــل أكتوبــر بأكملــه‪ ،‬حيــث حكــم‬
‫عليهــم بالعيــش يف غياهــب النســيان‪ ،‬بحيــث ال ميكنهــم إصــدار أوامــر عســكرية أو تأديــة‬
‫دور مؤثــر يف الحيــاة السياســية‪.‬‬
‫يف عــام ‪ ،1974‬كتــب عــامل االجتــاع العســكري اإلرسائيــي عامــوس بريملاتــر أن نظــام‬
‫كليًــا‪ ،‬بعــد أن أصبــح اآلن يف وضــع يســمح‬ ‫الســادات تخــى عــن اعتــاده عــى الجيــش َّ‬
‫لــه بالتحكــم بسياســات مــر الخارجيــة والدفاعيــة‪ (((.‬فقــد همشــت سياســات الســادات‬
‫يف الســبعينيات الجيــش إىل حــد النســيان‪ ،‬وح ـ َّدت مــن نفــوذه الســيايس‪ .‬تُظ ِه ـ ُر بعــض‬
‫املــؤرشات الدقيقــة تناقــص عــدد الضبــاط يف مجلــس الــوزراء مــن تســعة عــر وزي ـ ًرا‬
‫ميثلــون ‪ %65.5‬مــن املجلــس يف عــام ‪ ،1967‬إىل أحــد عــر وزي ـ ًرا ميثلــون ‪ %33.3‬يف‬
‫عــام ‪ ،1970‬إىل أربعــة ميثلــون ‪ %12.5‬يف عــام ‪ ،1976‬إىل ثالثــة فقــط ميثلــون ‪ %9.1‬مــن‬
‫املجلــس يف عــام ‪ .1977‬وفيــا كان ‪ %9‬مــن ســفراء عبــد النــارص ضباطًــا‪ ،‬فقــد منعهــم‬
‫الســادات متا ًمــا مــن الوصــول إىل الســلك الدبلومــايس‪ .‬وبينــا كان اثنــان وعــرون مــن‬
‫محافظــي مــر البالــغ عددهــم ‪ ،26‬ضباطــا يف عــام ‪ ،1964‬تناقــص العــدد إىل خمســة‬
‫(((‬
‫ضبــاط يف عــام ‪.1980‬‬
‫تــدل النظــرة العامــة للمســار الصعب الذي ســلكه الســادات يف الســبعينيات عن إســراتيجية‬
‫أكــر إرصا ًرا عــى كبــح جــاح الضبــاط‪ .‬يف مايــو ‪ ،1971‬ســجن الرئيــس الســادات وزيــر‬
‫الحربيــة محمــد فــوزي بتهمــة الخيانــة العظمــى رغــم جهــوده يف إعــادة بنــاء الجيــش‬
‫بعــد عــام ‪ 1967‬ووضــع خطــة لعبــور قنــاة الســويس‪ .‬ويف أكتوبــر ‪ ،1972‬تــم وضــع بديلــه‬
‫محمــد صــادق وكبــار مســاعديه رهــن اإلقامــة الجربيــة واتهمهــم بال ُجــن رغــم كفاحهــم‬
‫وحامســهم يف إعــداد الجيــش للمعركــة الوشــيكة‪ .‬وبــداًلً مــن ترقيــة رئيــس األركان ســعد‬
‫الديــن الشــاذيل‪ ،‬صاحــب اإلرادة القويــة والشــعبية العريضــة‪ ،‬إىل أعــى منصــب عســكري‪،‬‬
‫فقــد عــن الســادات أحمــد إســاعيل املريــض بالرسطــان وزيـ ًرا للحربيــة عشــية الحــرب‪.‬‬
‫‪1- Gamasy, The October War, 404.‬‬
‫‪2- Perlmutter, Egypt, 201.‬‬
‫‪3- Springborg, Mubarak’s Egypt, 95–96; Brooks, Shaping Strategy, 119.‬‬

‫‪215‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫ـن خــال املعركة‪،‬‬ ‫ـا أنــه َجـ ُ‬


‫وقبــل أيــام مــن انتهــاء الحــرب‪ ،‬اســتبدل الســادات الشــاذيل زاعـ ً‬
‫وعــن مكانــه رئيــس هيئــة العمليــات عبــد الغني الجمــي‪ .‬ثم متــت ترقية األخــر إىل منصب‬
‫وزيــر الحربيــة فــور وفــاة إســاعيل املتوقعــة عــام ‪ .1974‬لكــن‪ ،‬مبجــرد إبــرام اتفاقيــات‬
‫فــك االشــتباك والتســويات السياســية األخــرى‪ ،‬اسـتُبدل الجمــي بكــال حســن عــي املدافع‬
‫األخــر عــن االحرتافيــة العســكرية‪ ،‬والــذي شــغل منصــب مديــر جهــاز املخابــرات العامــة‬
‫نائبــا لــه مــن أضعــف مؤسســات مــر وأقلهــا قــدرة‬ ‫يف ذلــك الوقــت‪ .‬ثــم اختــار الســادات ً‬
‫حيــدت بعض الحــوادث‬ ‫عــى التآمــر واالنقــاب عليــه‪ :‬حســني مبــارك مــن ســاح الجــو‪ .‬كــا َّ‬
‫الغامضــة مــن تبقــى مــن النافذيــن داخــل املؤسســة العســكرية‪ ،‬ف ُدفــع الليثــي ناصــف قائــد‬
‫الحــرس الجمهــوري مــن رشفــة بلنــدن‪ ،‬وقتــل وزيــر الحربيــة أحمــد بــدوي ومعــه ثالثــة‬
‫عــر ضابطًــا رفي ًعــا يف حــادث تحطــم مروحيــة‪ .‬ويف الوقــت نفســه‪ ،‬أجــرى الســادات‬
‫تعديـ ًـا وزاريًــا واســع النطــاق شــمل جميــع القيــادات الرئيســية‪ ،‬وأصــدر مرســو ًما رئاسـ ًـيا‬
‫مينــع أولئــك الذيــن شــاركوا يف حــرب أكتوبــر مــن التقاعــد مــن الجيــش (وبالتــايل تحريــر‬
‫أنفســهم للعــب دور ســيايس) أو تــويل منصــب فعــال يف الجيــش (حيــث ميكنهــم االســتفادة‬
‫مــن ســمعتهم العســكرية لتعزيــز نفوذهــم)‪ ،‬وهكــذا أبعد جميــع الجــراالت املقاتلــن العظامء‬
‫يف مــر إىل منطقــة معزولــة بــن السياســة والجيــش‪ ،‬حيــث ال ميكنهــم العــودة ملراكــز‬
‫النفــوذ أبــ ًدا‪ .‬ثــم أعــاد الرئيــس الســادات توجيــه الجيــش ككل مــن مؤسســة ذات توجــه‬
‫قتــايل إىل مؤسســة اقتصاديــة‪ ،‬معل ًنــا بشــكل واضــح أن حــرب أكتوبــر ‪ 1973‬هــي حــرب‬
‫مــر األخــرة‪ ،‬وأن عــى الجيــش اآلن أن يوجــه طاقتــه نحــو "حــرب التنميــة االقتصاديــة"‪.‬‬
‫قبــل االنتهــاء مــن هــذا القســم‪ ،‬يجــب عىل املــرء أن يطــرح ســؤااًلً يتعلــق باستســام الجيش‬
‫الظاهــر أمــام زعيمــه املــدين‪ ،‬رغــم أن سياســاته هــددت مصالــح املؤسســة العســكرية وأمن‬
‫مــر القومــي بشــكل واضــح‪ .‬مــا الــذي منــع الضبــاط مــن االنتفــاض ضد الســادات؟‬
‫هنــاك إجابتــان عــى هــذا الســؤال‪ ،‬األوىل أنــه يف الواقــع انتفــض ضــده‪ ،‬حيــث امتــأت‬
‫فــرة واليــة الســادات التــي امتــدت لعقــد مــن الزمــان مبحــاوالت االنقــاب‪ ،‬وتحــدى كبــار‬
‫العســكريني قراراتــه يف كل خطــوة خطاهــا‪ .‬واإلجابــة الثانيــة أنــه رغــم تعبــر الجنــود‬
‫حقيقــة عــن إحباطهــم‪ ،‬ويف مناســبات عديــدة عــن ســخطهم تجــاه الرئيــس‪ ،‬إال أن الجيــش‬
‫مل يكــن يف وضــع يســمح لــه مبواجهــة النظــام الســيايس يف الســبعينيات‪ .‬أدى إضعــاف‬

‫‪216‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫عبــد النــارص لقيــادة القــوات املســلحة بــن عامــي ‪ 1967‬و‪ ،1968‬واســتئناف الســادات‬
‫تقريبــا‪ .‬ومــع إبعــاد‬
‫تلــك السياســة بــن عامــي ‪ 1971‬و‪ ،1972‬إىل تــرك الجيــش بــا قيــادة ً‬
‫اآلالف مــن الضبــاط بــن عامــي ‪ 1954‬و‪ ،1974‬وهزميــة الجيــش املدويــة يف عامــي ‪1956‬‬
‫و‪ ،1967‬أعقبتهــا حــرب غــر حاســمة يف عــام ‪ ،1973‬كل ذلــك أدى إىل تقويــض املؤسســة‬
‫العســكرية واإلرضار بصورتهــا الشــعبية وجعلهــا متعبــة جـ ًدا مــن التدخــات السياســية‪ .‬وقــد‬
‫ســاهم توســع نفــوذ قــوات األمــن املواليــة للنظام الســيايس بشــكل حاســم يف إبقــاء الجيش‬
‫تحــت الســيطرة (كــا هــو موضــح أدناه)‪ .‬ومــع وجــود فــراغ يف قيادته وضعــف يف صفوفه‬
‫وغيــاب قادتــه البارزيــن‪ ،‬مل يســتطع الجيــش حشــد قوتــه لإلطاحــة بالقيــادة السياســية‪.‬‬

‫االتجاه نحو الغرب‬


‫مل يعــد النظــام املــري قامئًــا عــى الجيــش بعــد ترسيــح قادتــه وتوجيهــه بعي ـ ًدا عــن‬
‫السياســة‪ ،‬فقــد اعتمــد عــى األجهــزة األمنيــة والسياســية للســيطرة عــى الشــعب لكنــه ظــل‬
‫يبحــث عــن رشيــك جديــد يف الحكــم يضمــن لــه اســتقرار النظــام‪ .‬أرص عبــد النــارص‬
‫رافضــا الخيــار الســهل بــأن يصبــح تابعــا إلحــدى القــوى‬ ‫بشــدة عــى اســتقالل مــر ً‬
‫العامليــة‪ ،‬كــا فعــل العديــد مــن معارصيــه‪ .‬لقــد أراد بنــاء مــر لتصبــح قــوة إقليميــة‪،‬‬
‫وإدارة الحكــم مــن خــال التحالفــات اإلســراتيجية ألداء دور رئيــي يف السياســة العامليــة‬
‫أيضــا‪ ،‬ومــن هنــا جــاءت الحاجــة إىل قــوة عســكرية قويــة قــادرة عــى إبــراز قــوة مــر‬ ‫ً‬
‫يف جميــع أنحــاء العــامل النامــي‪ .‬مــع وصــول الســادات إىل الســلطة‪ ،‬بــات واض ًحــا إىل حـ ٍـد‬
‫مــا أن متكــن الجيــش لــه مثنــه الســيايس‪ ،‬ســواء كان يدعــم الدميقراطيــة (كــا يف مطلــع‬
‫الخمســينيات) أو يحــاول الهيمنــة عــى النظــام (كــا يف الســتينيات)‪ .‬يتطلــب اســتقرار‬
‫نظــم االســتبداد اتبــاع سياســة الحيــاد يف املعــادالت الدوليــة وإضعــاف دور الجيــش‪ ،‬فــكان‬
‫عــى مــر العــودة إىل الخيــار الــذي حــاول عبــد النــارص تجنبــه لفــرة طويلــة‪ :‬أن تصبــح‬
‫تابعــة إلحــدى القــوى العظمــى‪ ،‬فيــا كان الســؤال الوحيــد‪ :‬ألي قــوة تتبــع؟‬
‫اختــار الســادات الواليــات املتحــدة‪ ،‬ليــس فقــط ألن الــروس مل يثقــوا بــه ومل يحرتمــوه‪،‬‬
‫بــل ألن االتحــاد الســوفيتي نفســه‪ -‬كــا كان واض ًحــا للجميــع‪ -‬بــدأ يكافــح منــذ منتصــف‬
‫الســبعينيات للحــاق بالغــرب حيــث بــدأت معــامل عــامل أحــادي القطــب بالظهــور‪ ،‬فــأراد‬
‫الســادات أن يقــف يف نهايــة املطــاف إىل جانــب القــوة املتفوقــة‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫وبطبيعــة الحــال‪ ،‬تزامــن هــذا مــع العديــد مــن التنــازالت العســكرية‪ ،‬وكان نــزع الســاح‬
‫مــن ســيناء عــى رأس القامئــة‪ .‬ومل يقتــر األمــر عــى إعطــاء إرسائيــل منطقة عازلــة تبلغ‬
‫أيضــا مــن التدريــب‬
‫مســاحتها ‪ 37‬ألــف كيلومــر مربــع فحســب‪ ،‬بــل حــرم الجيــش املــري ً‬
‫أو بنــاء املنشــآت يف الجــزء األكــر إســراتيجية مــن البــاد‪ .‬ويف أبريــل ‪ ،1974‬أُعلــن عــن‬
‫نهايــة اعتــاد مــر الحــري عــى األســلحة الســوفيتية‪ ،‬تبعه عــام ‪ 1979‬إعــان عن ربط‬
‫إمــدادات األســلحة املرصيــة وتدريبــات الجيــش بالواليــات املتحــدة عــر حزمــة املســاعدات‬
‫العســكرية الســنوية البالغــة ‪ 1.3‬مليــار دوالر‪ ،‬رغــم تحالــف واشــنطن مــع إرسائيــل‪.‬‬
‫ويف خطــوة ثالثــة يف طريــق توطيــد الصداقــة بــن الجانبــن‪ ،‬وافقــت مــر يف نوفمــر‬
‫‪ 1980‬عــى إجــراء تدريبــات عســكرية مشــركة مــع القــوات األمريكيــة (منــاورات النجــم‬
‫الســاطع الســنوية) للمســاعدة يف تعريفهــم بحــروب الصحــراء‪ ،‬حيــث حــرص األمريكيــون‬
‫عــى اكتســاب هــذه املهــارات لحــاالت الطــوارئ املســتقبلية‪ .‬أمــا التنــازل العســكري‬
‫الرابــع الــري فــكان بتعهــد الســادات بالتخــي عــن جهــود عبــد النــارص لتطويــر أســلحة‬
‫نوويــة‪ (((.‬تبــع ذلــك العديــد مــن التنــازالت الســخية واملفاجئــة إذا صــح التعبــر‪ ،‬مثــل‬
‫قــرار الســادات يف عــام ‪ 1975‬بتســليم بطاريــة كاملــة مــن صواريــخ "ســام‪ "6 -‬الســوفيتية‬
‫املضــادة للطائــرات (الســاح الثمــن للغايــة الــذي قدمــه لــه االتحــاد الســوفيتي لحاميــة‬
‫(((‬
‫ســاء مــر) للجيــش األمريــي يك يتمكــن مــن إيجــاد طــرق لدراســته وإبطــال جــدواه‪.‬‬
‫أيضــا مــع تنــازالت سياســية كبــرة أربكــت الســلك الدبلومــايس املــري بأرسه‬
‫ترافــق هــذا ً‬
‫وتســببت يف اســتقالة ثالثــة وزراء خارجيــة مــن مناصبهــم بــن عامــي ‪ 1972‬و‪1978‬‬
‫احتجا ًجــا عــى تقويــض الســادات للمصالــح الوطنيــة للبــاد‪ ،‬وهــي التنــازالت التــي أجــرت‬
‫الســادات عــى تعديــل وزارتــه أربــع مــرات بــن عامــي ‪ 1978‬و‪ 1980‬ليتمكــن مــن طــرد‬
‫منتقديــه يف الحكومــة‪.‬‬

‫‪1- Bruce Riedel, 2010. "If Israel Attacks," National Interest 109: 6–13 (2010), 8.‬‬
‫‪2- John K. Cooley, Unholy Wars: Afghanistan, America, and International Terrorism, London:‬‬
‫‪Pluto Press, 2000, 35–36.‬‬

‫‪218‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫ما هي تلك التنازالت السياسية؟‬


‫تعلقــت التنــازالت األكــر قيمــة بطبيعــة الحــال باملفاوضــات التــي أعقبــت حــرب أكتوبــر‪.‬‬
‫ففــي البدايــة‪ ،‬استســلم الرئيــس الســادات متا ًمــا ملكائــد وزيــر الخارجيــة األمريــي‬
‫هــري كيســنجر ودبلوماســيته املكوكيــة بــن عامــي ‪ 1973‬و‪ .1975‬ورفــض الســاح لكبــار‬
‫مســاعديه بالتشــكيك يف اقرتاحــات كيســنجر‪ ،‬وأشــار إليــه باعتــزاز عــى أنــه " الرجــل‬
‫الــذي مل يكــذب عــي أبـ ًدا‪ ،‬ومل يخــن وعــوده عــى اإلطــاق"‪ (((.‬ليــس هــذا فحســب‪ ،‬بــل‬
‫بــدأ فجــأة يكيــل املــدح ألمريــكا ويثنــي عــى نبــل أمريــكا‪ ،‬وأمريــكا الحقيقيــة التــي تقــف‬
‫إىل جانــب أي بلــد يف حاجــة إىل املســاعدة يف ســبيل إنشــاء عــامل أفضــل"(((‪ ،‬متناسـ ًـيا أن‬
‫الواليــات املتحــدة كانــت مســؤولة مبفردهــا عــن إهــدار مكاســب مــر العســكرية خــال‬
‫حــرب أكتوبــر‪.‬‬
‫مــع أن جهــود كيســنجر مل تُســفر عــن يشء يُذكــر‪ ،‬اســتمر الســادات يف وضــع كل بيضــه‬
‫يف الســلة األمريكيــة وقــرر يف مــارس ‪ 1976‬إلغــاء معاهــدة الصداقــة املرصيــة الســوفيتية‬
‫مــن جانــب واحــد‪ ،‬وإهانــة الســوفييت يف كل مناســبة عــى أمــل إرضــاء الواليــات املتحــدة‪،‬‬
‫حتــى رغــم إيضــاح وزيــري خارجيتــه املتعاقبــن إســاعيل فهمــي ومحمــد إبراهيــم كامــل‬
‫لــه أنهــا رغــم ميلهــا الشــخيص ألمريــكا فــإن مــا يفعلــه يخالــف كل املبــادئ الدبلوماســية‬
‫الســليمة‪ .‬فالواليــات املتحــدة ســرعى دامئًــا وقبــل كل يشء املصالــح اإلرسائيليــة‪ ،‬وبــدون‬
‫بعــض الدعــم الســوفيتي فســتضع مــر نفســها تحــت رحمــة إرسائيــل‪ (((.‬أضــف أن الرئيس‬
‫الســادات‪ -‬مــن خــال ربطــه مصــر مــر الســيايس والعســكري بالحليــف الرئيــي‬
‫إلرسائيــل‪ -‬مل يُلــزم الدولــة مبفاوضــات مجهولــة املعــامل مــع إرسائيــل فحســب‪ ،‬بــل أجربهــا‬
‫أيضــا عــى التفــاوض مــن موقــع ضعــف‪.‬‬ ‫ً‬
‫أمــا بالنســبة ملســاعدي الســادات الدبلوماســيني‪ ،‬فــإن قــراره بالســفر إىل القــدس يف‬
‫عــام ‪ 1977‬كان القشــة التــي قصمــت ظهــر البعــر‪ .‬ففــي أكتوبــر مــن ذلــك العــام‪،‬‬
‫تلقــى الســادات مذكــرة مكتوبــة بخــط اليــد مــن الرئيــس جيمــي كارتــر يشــرط عليــه‬

‫‪ -1‬منصور‪ ،‬من أوراق السادات‪ ،‬ص ‪.240‬‬


‫‪ -2‬السادات‪ ،‬البحث عن الذات‪ ،‬ص ‪.366‬‬
‫‪ -3‬محمد إبراهيم كامل‪" ،‬السالم الضائع يف كامب ديفيد"‪ ،‬القاهرة‪ :‬كتاب األهايل‪ ،1983 ،‬ص ‪.108‬‬

‫‪219‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫فيهــا للحصــول عــى دعــم الواليــات املتحــدة "خطــوة جريئــة مــن رجــل الدولــة [يقصــد‬
‫الســادات] للمســاعدة يف التغلــب عــى العقبــات التــي تواجــه محادثــات الســام‪ (((.‬ورغــم‬
‫أن الســادات نفــى أن تكــون مذكــرة كارتــر قــد ألهمــت مبــادرة الســام الكــرى‪ ،‬إال أن‬
‫أحمــد بهــاء الديــن‪ -‬الــذي كان معــه عنــد تلقيــه الرســالة‪ -‬ذكــر أن الســادات أظهرهــا لــه‬
‫(((‬
‫وتفاخــر قائـ ًـا "كــا تــرى‪ ،‬الرئيــس األمريــي يســتجديني"‪ ،‬ومل يســتطع أن يخذلــه‪.‬‬
‫وقــد ذكــر وزيــر الخارجيــة الالحــق محمــد إبراهيــم كامــل أن الســادات اعــرف لــه‬
‫أنــه اســتلهم مبــادرة الذهــاب إىل إرسائيــل مــن رســالة كارتــر‪ (((.‬يف ‪ 5‬نوفمــر أي بعــد‬
‫أيــام قليلــة مــن اســتالمه املذكــرة‪ ،‬اســتدعى الســادات كبــار املســؤولني العســكريني‬
‫والدبلوماســيني ليشــاركهم أفــكاره‪ .‬حــاول وزيــر الخارجيــة فهمــي التفاهــم معــه موض ًحــا‬
‫أنــه بعــد كل األوراق التــي أضاعهــا مل يبـ َـق لديــه ســوى ورقــة واحــدة‪ :‬االعــراف بإرسائيــل‬
‫وإنهــاء حالــة الحــرب‪ .‬وناشــده أال يلعــب هــذه الورقــة مــا مل يحصــل عــى ضامنــات‬
‫صارمــة بــأن تُعــاد ســيناء عــى األقــل دون قيــد أو رشط‪ ،‬ناهيــك عــن األرايض العربيــة‬
‫املحتلــة األخــرى‪ .‬أمــا إذا أرص عــى املــي يف خطتــه لالعــراف بإرسائيــل مــن جانــب‬
‫واحــد عــى أمــل إحــراج املجتمــع الــدويل وإبهــار األمريكيــن وفضــح التعنــت اإلرسائيــي‪،‬‬
‫فســتصبح مــر عاريــة متا ًمــا يف أي مفاوضــات مســتقبلية‪.‬‬
‫أمــا وزيــر الحربيــة الجمــي فــكان أقــل حــذ ًرا مــن نظــره الدبلومــايس‪ ،‬وعنــد ســاعه‬
‫مببــادرة الســادات املخطــط لهــا "رفــع يديــه ورصخ‪ :‬الكنيســت‪ ،‬ال! ال داعــي لذلــك"‪ (((.‬إثــر‬
‫ذلــك‪ ،‬اســتقال فهمــي وبعــض كبــار الدبلوماســيني‪ ،‬فبحــث الرئيــس الســادات عــن شــخص‬
‫مــن خــارج الســلك الدبلومــايس ميكنــه االعتــاد عليــه‪ .‬وقبــل أيام مــن رحلتــه إىل إرسائيل‪،‬‬
‫ـن األســتاذ يف جامعــة القاهــرة بطــرس غــايل‪ ،‬الــذي غــدا الح ًقــا األمــن العــام لألمــم‬
‫عـ ّ‬
‫املتحــدة‪ ،‬وزيــ ًرا للدولــة للشــؤون الخارجيــة‪ ،‬وبعــد عودتــه مبــارشة طلــب مــن صديقــه‬
‫القديــم محمــد إبراهيــم كامــل‪ ،‬الــذي ُســجن معــه يف زنزانــة واحــدة يف األربعينيــات‬

‫–‪1- Zbigniew Brzezinski, Power and Principle: Memoirs of the National Security Advisor, 1977‬‬
‫‪1981, New York: Farrar, Straus and Giroux, 1983, 110.‬‬
‫‪ -2‬بهاء الدين‪ ،‬محاورايت مع السادات‪ ،‬ص‪.161‬‬
‫‪ -3‬كامل‪ ،‬السالم الضائع‪ ،‬ص ‪.177‬‬
‫‪ -4‬فهمي‪ ،‬التفاوض من أجل السالم يف الرشق األوسط‪ ،‬ص ‪ ،397‬ص ‪.398‬‬

‫‪220‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫بســبب أنشــطتهام املعاديــة لربيطانيــا‪ ،‬العمــل كوزيــر للخارجيــة‪ ،‬فتــوىل األخــر منصبــه‬
‫بعــد الرحلــة إىل إرسائيــل‪ .‬يتذكــر كامــل أن الســادات قــال لــه يف يــوم تعيينــه وزيــ ًرا‬
‫"ســمحت لنفــي بتعيينــك دون استشــارتك أواًلً ألننــي أعتــرك ابنــي‪ ،‬وأحتــاج لشــخص‬
‫(((‬
‫ميكننــي الوثــوق بــه متا ًمــا"‪.‬‬
‫بالنســبة لبطــرس غــايل‪ ،‬فقــد كان ســبب ضمــه إىل الوفــد يف مثــل هــذه الرحلــة املثــرة‬
‫للجــدل واض ًحــا للغايــة‪ .‬أشــار بطــرس يف مذكراتــه إىل أن الســادات اختــاره ألنــه اعتقــد أن‬
‫تلقائيــا‪ :‬فهــو ينحــدر مــن إحدى أكــر العائــات اإلقطاعيــة‪ ،‬وخــدم العديد‬
‫ســمعته مشــوهة ً‬
‫مــن أســافه يف النظــام امللــي كــوزراء‪ ،‬وصــودرت ممتلــكات عائلتــه أو ُوضعــت تحــت‬
‫وصايــة الدولــة يف عهــد عبــد النــارص‪ .‬كــا أنــه مســيحي مــري متــزوج مــن يهوديــة‪،‬‬
‫(((‬
‫ومؤيــد للغــرب بشــدة‪ .‬وباختصــار‪ ،‬فإنــه ينتمــي إىل النظــام امللــي القديــم بشــكل كامــل‪.‬‬
‫كتــب مستشــار األمــن القومــي للرئيــس كارتــر زبيغنيــو بريجنســي أن مبــادرة الســادات‬
‫توافقــت متا ًمــا مــع هــدف إرسائيــل املتمثــل يف "حــر عمليــة الســام يف اتفــاق إرسائييل‬
‫مــري منفصــل‪ ،‬مــن شــأنه أن يقســم العــرب بينــا يســمح إلرسائيــل مبواصلــة احتــال‬
‫(((‬
‫الضفــة الغربيــة وغــزة"‪.‬‬
‫إن أي باحــث يف العالقــات العربيــة اإلرسائيليــة يعــرف جي ـ ًدا أن تحييــد مــر‪ -‬الدولــة‬
‫العربيــة األكــر واألقــوى واألكــر تعــدا ًدا للســكان‪ -‬مــن معادلــة الــراع قــد أضعــف‬
‫املعســكر العــريب بشــدة وحــرم املفاوضــن اآلخريــن (ســوريا‪ ،‬األردن‪ ،‬فلســطني ولبنــان)‬
‫مــن أوراق القــوة املســاعدة عــى إنهــاء االحتــال اإلرسائيــي ألراضيهــم‪ .‬لكــن كــا توقــع‬
‫فهمــي‪ ،‬فــإن زيــارة الســادات ذاتهــا إىل تــل أبيــب وتعهــده يف الكنيســت بجعــل حــرب‬
‫أكتوبــر األخــرة بــن الدولتــن قــد قدمــت إلرسائيــل كل مــا تحتاجــه‪ -‬االعــراف والســام‬
‫‪ -‬ومل تعطهــا أي ســبب لتقديــم تنــازالت‪.‬‬
‫بحلــول نهايــة عــام ‪ -1978‬أي بعــد عــام واحــد مــن الزيــارة‪ -‬بقيــت املفاوضــات عالقة حيث‬
‫اســتمر كيســنجر بإدارتهــا‪ ،‬فإرسائيــل تحتــل ســيناء‪ ،‬والجــزء األكــر مــن الجيــش املــري‬

‫‪ -1‬كامل‪ ،‬السالم الضائع‪ ،‬ص ‪.41‬‬


‫‪ -2‬غايل‪ ،‬طريق مرص إىل القدس‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫‪3- Brzezinski, Power and Principle, 235.‬‬

‫‪221‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫يتمركــز عــى الضفــة الغربيــة للقنــاة كــا كان الحــال بالضبــط منــذ عــام ‪ .1967‬عرضــت‬
‫الواليــات املتحــدة حينهــا اســتضافة محادثــات ســام يف كامــب ديفيــد بهــدف الضغــط‬
‫عــى الســادات ومحارصتــه‪ -‬بحســب مهنــدس املحادثــات بريجنســي‪ -‬بــن خياريــن‪ :‬إما أن‬
‫يخــر دعــم الواليــات املتحــدة أو يقبــل مبــا يقدمــه اإلرسائيليــون‪ .‬وكــا أشــار بريجنســي‬
‫فقــد "اختــار الســادات الخيــار الثــاين"‪ (((.‬وال عجــب يف أن الرئيــس الســادات غــادر إىل‬
‫كامــب ديفيــد دون وزيــر الحربيــة الجمــي أو أي ممثــل عســكري آخــر‪ ،‬وأنــه أقــال‬
‫(((‬
‫الجمــي وبقيــة أعضــاء هيئــة األركان بعــد أســبوعني مــن توقيــع اتفاقيــة كامــب ديفيــد‪.‬‬
‫علــم الجمــي ومعاونــوه مــن مصــادر مقربــة مــن الســادات أنــه وافــق مــن حيــث املبــدأ‬
‫را رشق ممــرات ســيناء حتــى قبــل‬ ‫عــى تجريــد املنطقــة مــن الســاح عــى بعــد ‪ 150‬كيلومـ ً‬
‫الســفر إىل كامــب ديفيــد‪ ،‬وحــذروا الســادات مــن أن هــذا مــن شــأنه أن "يضــع القــوات يف‬
‫موقــع دفاعــي وهجومــي أضعــف‪ ،‬وهــو أمــر غــر مقبــول مــن املنظــور العســكري"‪ (((.‬لكــن‬
‫قســمت االتفاقيــة ســيناء إىل ثــاث مناطــق‪ :‬املنطقــة ‪ ،A‬التــي غطــت‬ ‫كــا توقعــوا‪ ،‬فقــد ّ‬
‫وســمح ملــر فيهــا بنــر فرقــة مشــاة ميكانيكيــة (‪22‬‬ ‫را رشق القنــاة ُ‬‫مســاحة ‪ 50‬كيلوم ـ ً‬
‫ألــف جنــدي مســلحني و‪ 230‬دبابــة)‪ .‬أمــا يف املنطقتــن ‪ B‬و‪ ،C‬اللتــن تفــاوت عرضهــا‬
‫را غــرب الحــدود الدوليــة‪ ،‬فلــم يُســمح ملــر ســوى بنــر ثــاث‬ ‫بــن ‪ 20‬و‪ 40‬كيلومــ ً‬
‫وحــدات مــن دوريــات الحــدود مســلحة بأســلحة خفيفــة وقــوات رشطــة مدنيــة‪ .‬كــا ُمنعــت‬
‫مــر مــن اســتخدام أي مــن مطــارات ســيناء أو بنــاء مهابــط جديــدة فيهــا‪ (((.‬مل يكــن‬
‫ضبــاط الجيــش املــري يســعون لحــرب أخــرى‪ ،‬ولكــن‪ -‬كــا أوضــح الخبــر العســكري‬
‫أنتــوين كوردســان‪" -‬دعــم مــر لعمليــة الســام ال يعنــي أن عليهــا أن تقبــل مبوقــف‬
‫إســراتيجي ضعيــف أو نــوع مــن التفــوق الــذي مينــح إرسائيــل أفضليــة هجوميــة"(((‪،‬‬
‫وهــذا بالضبــط مــا قدمــه الســادات إلرسائيــل‪.‬‬

‫‪1- Brzezinski, Power and Principle, 274.‬‬


‫‪2- Brooks, Shaping Strategy, 136.‬‬
‫‪3- Gamasy, The October War, 141.‬‬
‫‪ -4‬كامل‪ ،‬السالم الضائع‪ ،‬ص ‪.644-623‬‬
‫‪5- Cordesman, Arab-Israeli Military Forces, 202.‬‬

‫‪222‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫را‪ .‬قــال وزيــر‬ ‫مــع ذلــك‪ ،‬عــى املــرء أن يعــرف أن الضغــط عــى الســادات كان كبــ ً‬
‫الخارجيــة كامــل إن الرئيــس الســادات مل يتوقــع أنــه بعــد كل تنازالتــه وتــودده للواليــات‬
‫املتحــدة فإنهــا ســتظل تتبنــى املوقــف اإلرسائيــي مــن القضيــة‪ (((.‬قبــل يومــن مــن توقيــع‬
‫االتفاقيــة‪ ،‬هــدد الســادات باالنســحاب معربًــا عــن خيبــة أملــه حيــث أنــه رغــم اســتعداده‬
‫غــر املحــدود الســتيعاب املصالــح األمريكيــة‪ ،‬إال أنــه ال يــزال يُطلــب منــه تقديــم أكــر مــا‬
‫يســتطيع تحملــه‪ .‬ويف هــذه األجــواء املتوتــرة‪ ،‬قــرر الرئيــس كارتــر أن يــزوره‪ .‬وإليــك كيــف‬
‫وصــف الرئيــس األمريــي املشــهد بكلامتــه الخاصــة "قبــل زيارتــه غــرت مالبــي يك أبــدو‬
‫أكــر رســمية‪ ...‬كان وفــد الســادات بأكملــه واق ًفــا معــه عــى الرشفــة‪ ،‬فطلبــت منــه الدخول‪.‬‬
‫وغاضبــا للغايــة‪ .....‬قلــت لــه‪( ،‬أفهــم أنــك ســتغادر‪ ...‬وســيعني هــذا أواًلً‬
‫ً‬ ‫لقــد بــدا متوت ـ ًرا‬
‫وقبــل كل يشء إنهــاء العالقــة بــن الواليــات املتحــدة ومــر) ‪ ...‬لقــد بــدا الســادات‬
‫مرتن ًحــا للغايــة"‪ (((.‬بطبيعــة الحــال‪ ،‬قــرر الســادات البقــاء ومنــح كارتــر‪ -‬بعــد تهديــد األخري‬
‫"تفويضــا مطل ًقــا يف جولــة املفاوضــات الالحقــة مــع اإلرسائيليــن"‪ (((.‬لتربير هذا‬
‫ً‬ ‫الصــارم‪-‬‬
‫الخضــوع غــر املــرر أمــام مســاعديه‪ ،‬ادعــى الســادات أن كارتــر أراد عــزل رئيــس الوزراء‬
‫اإلرسائيــي مناحيــم بيغــن‪ ،‬وأظهــر للعــامل أن إرسائيــل كانــت ضــد الســام‪ .‬يف الواقــع‪،‬‬
‫وكــا قــال عضــو الفريــق األمريــي يف كامــب ديفيــد ويليــام كوانــت لبطــرس غــايل الــذي‬
‫رضا يف املحادثــات‪ ،‬فقــد أكــد الســادات لكارتــر أنــه عــى اســتعداد لقبــول‬ ‫أيضــا حــا ً‬‫كان ً‬
‫(((‬
‫العــرض اإلرسائيــي‪ ،‬لكنــه أراد مــن مرؤوســيه أن يعتقــدوا أنــه فعــل ذلــك عــى مضــض‪.‬‬
‫وف ًقــا لبطــرس غــايل‪ ،‬رأى الوفــد املــري يف االتفاقيــة إذالاًلً ملــر ويف نــزع الســاح‬
‫يف ســيناء عــى وجــه الخصــوص عقبــة خطــرة أمــام قــدرة مــر عــى الدفــاع عــن‬
‫نفســها أمــام أي هجــوم إرسائيــي مســتقبيل‪ (((.‬كــا رأوا أن مــر عزلــت نفســها عــن‬
‫العــامل العــريب بالدخــول يف اتفــاق ســام منفصــل مــع إرسائيــل‪ ،‬مــا يعنــي أنهــا ق َّوضــت‬
‫مكانتهــا الجيوسياســية أكــر‪ .‬بــدوره اســتقال وزيــر الخارجيــة إبراهيــم كامــل يــوم توقيــع‬

‫‪ -1‬كامل‪ ،‬السالم الضائع‪ ،‬ص ‪.514‬‬


‫‪2- Brzezinski, Power and Principle, 271–72.‬‬
‫‪ -3‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.283‬‬
‫‪ -4‬غايل‪ ،‬طريق مرص إىل القدس‪ ،‬ص ‪.150‬‬
‫‪ -5‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪ ،149‬ص ‪.153‬‬

‫‪223‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫االتفاقيــة‪ ،‬وعــر عــن تقييمــه إلســراتيجية الســادات التفاوضيــة يف كامــب ديفيــد يف‬
‫مذكراتــه بوضــوح حيــث قــال‪" :‬كــدت أمــوت مــن الخــزي واالشــمئزاز والحــزن ألننــي‬
‫(((‬
‫شــاهدت هــذه املأســاة تتكشــف للعيــان"‪.‬‬
‫للمــرة األخــرة‪ ،‬حــاول دبلومــايس شــاب اســمه نبيــل العــريب محاولــة يائســة أن يــرح‬
‫للرئيــس الســادات أن وعــود كارتــر بشــأن الفلســطينيني والقــدس ال قيمــة لهــا‪ .‬بعــد تظاهره‬
‫باالســتامع إىل العــريب باهتــام‪ ،‬أجــاب الســادات‪" :‬كــا رأيتــم‪ ،‬لقــد ســمعتكم دون أن‬
‫أقاطعكــم يك يتوقــف منتقــدي عــن نــر الشــائعات حــول عــدم اســتامعي ألي شــخص‬
‫أو قــراءة أي يشء يقــدم إيل‪ .‬لكــن مــا قلتــه للتــو دخــل إىل أذين اليمنــى وخــرج مــن‬
‫األذن اليــرى‪ .‬أنتــم يف وزارة الخارجيــة تعتقــدون أنكــم تفهمــون السياســة‪ ،‬لكــن الحقيقــة‬
‫أنكــم ال تفهمــون شــيئًا‪ .‬مل يعــد بإمــكاين االهتــام بنصائحكــم أو مالحظاتكــم‪ .‬أنــا رجــل‬
‫أتبــع إســراتيجية كــرى ال يســتطيع أحــد منكــم إدراكهــا أو اســتيعابها‪ ،‬ومل أعــد بحاجــة‬
‫لسفســطتكم وتقاريركــم التافهــة"‪ (((.‬الجديــر بالذكــر أن العــريب أصبــح أول وزيــر خارجيــة‬
‫ملــر بعــد ثــورة ينايــر ‪ ..2011‬وبعــد مراســم التوقيــع عــاد الســادات إىل فندقــه للقــاء‬
‫الصحفيــن‪ ،‬وعنــد ســؤاله عــن ســبب اســتقالة كامــل‪ ،‬أجــاب قائـ ًـا‪" :‬أنــا أعــذره ألنــه‬
‫ينهــار أمــام الضغــط الشــديد"‪ ،‬ثــم بعــد أن اســتمرت األســئلة املتعلقــة بوفــده الســاخط‬
‫عــى هــذه االتفاقيــة‪ ،‬التفــت إىل بطــرس غــايل وقــال‪" :‬مــن الواضــح أن وزارتكــم بحاجــة‬
‫إىل تنظيــف"‪ (((.‬ومــن الغريــب أن الدبلوماســيني الصغرييــن الوحيديــن اللذيــن بديــا عــى‬
‫توافــق مــع الســادات يف كامــب ديفيــد (أحمــد ماهــر وأحمــد أبــو الغيــط) ُعينــا يف وقــت‬
‫الحــق كوزيــري خارجيــة يف عهــد مبــارك‪ ،‬وقــد ســاعدت سياســاتهام الخارجيــة املتوافقــة‬
‫مــع مبــارك عــى تأجيــج ثــورة ‪.2011‬‬
‫رمبــا مل يكــن موقــف مــرؤويس الســادات حقيقة خــارج املقبــول‪ ،‬بالنظر إىل أن بريجنســي‬
‫نفســه ســجل بذهــول كيــف راعــى الســادات بشــكل مفــرط املخــاوف األمريكيــة وأزعــج‬
‫غالبــا مــا كان ينتقــد أعضــاء وفــده أمــام‬
‫بــا مــرر بقيــة دول العــامل العــريب‪ ،‬وأنــه ً‬

‫‪ -1‬كامل‪ ،‬السالم الضائع‪ ،‬ص ‪.515‬‬


‫‪ -2‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.608-607‬‬
‫‪ -3‬غايل‪ ،‬طريق مرص إىل القدس‪ ،‬ص ‪.156‬‬

‫‪224‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫األمريكيــن واإلرسائيليــن عندمــا يحاولــون تنبيهــه لذلــك‪ (((.‬روى كامــل وبطــرس غــايل‬
‫أنــه كلــا أشــار أحدهــا إىل أن تنــازالت الرئيــس الســادات تهــدد مصالــح مــر‪ ،‬يجيبهــم‬
‫دامئًــا "لنفعــل هــذا مــن أجــل كارتــر"‪ (((.‬وقــد قلــق بريجنســي حيــال احتــال حــدوث‬
‫مكــروه للســادات يف كامــب ديفيــد‪ ،‬وشــعر بالحاجــة إىل اتخــاذ االحتياطــات الالزمــة‪.‬‬
‫وقــال يف مذكراتــه "بعــد عــوديت إىل مقصــوريت‪ ...‬التقيــت بأفــراد األمــن لفــرض تدابــر‬
‫صارمــة أكــر للوصــول إىل مقصــورة الســادات"‪ (((.‬ويف اليــوم األخــر مــن املحادثــات‪،‬‬
‫كتــب بريجنســي يف مذكراتــه‪" :‬قــد نحصــل عــى اتفــاق تســوية اليــوم‪ ،‬رغــم أن العــبء‬
‫ســيقع عــى كاهــل الســادات‪ ،‬وســيكون مــن الصعــب عليــه تربيــر ذلــك"‪ (((.‬ورغــم تعاطــف‬
‫بريجنســي مــع محنــة نظرائــه املرصيــن‪ ،‬إال أنــه أدرك أن الســادات حريــص عــى إثــارة‬
‫إعجــاب األمريكيــن فقــط‪ .‬ووف ًقــا ملــا قالــه‪ ،‬فــإن فريــق التفــاوض املــري فشــلوا يف‬
‫إدراك حقيقــة أن رئيســهم رأى يف عمليــة الســام فرصــة لتشــكيل عالقــة أمريكيــة مرصيــة‬
‫(((‬
‫جديــدة‪ ...‬ليصبــح رجــل الدولــة املفضــل لــدى أمريــكا"‪.‬‬
‫أيضــا عــى توثيــق التعــاون‬ ‫إىل جانــب التنــازالت العســكرية والسياســية‪ ،‬وافــق الســادات ً‬
‫األمنــي​​مــع رشكائــه األمريكيــن الجــدد‪ .‬كان أحــد الجوانــب الرئيســية للعمليــات الرسيــة‬
‫للواليــات املتحــدة هــو تحديــد الحلفــاء اإلقليميــن املســتعدين لتمويــل هــذه العمليــات‬
‫وتنظيمهــا‪ ،‬وتحميلهــا يف نهايــة املطــاف املســؤولية الكاملــة لهــذه العمليــات‪ .‬ونظ ـ ًرا ألن‬
‫وكالــة املخابــرات املركزيــة باتــت مشــبوهة للغايــة خــال واليــة الرئيــس نيكســون بســبب‬
‫انتهاكاتهــا‪ ،‬فقــد حرصــت إدارة كارتــر عــى الحــد مــن عملياتهــا األمنيــة الرسيــة‪ ،‬وبــداًلً‬
‫مــن ذلــك دفعــت حلفاءهــا اإلقليميــن إىل القيــام بهــذه املهــام‪ .‬كان إعــداد مــر لهــذا‬
‫الــدور أحــد األهــداف األساســية لسياســة كيســنجر يف الــرق األوســط يف منتصــف‬
‫الســبعينيات‪ .‬لــذا‪ ،‬يف ‪ 1‬ســبتمرب ‪ ،1976‬التقــى رؤســاء املخابــرات األمريكيــة والفرنســية‬
‫يف القاهــرة بأربعــة مــن نظرائهــم يف الــرق األوســط مــن مــر وإيــران والســعودية‬
‫واملغــرب لتأســيس نــادي "ســفاري" يف القاهــرة‪ ،‬وهــو منظمــة رسيــة تهــدف إىل مواجهــة‬
‫‪1- Brzezinski, Power and Principle, 238.‬‬
‫‪ -2‬كامل‪ ،‬السالم الضائع‪ ،‬ص ‪ ،603‬غايل‪ ،‬طريق مرص إىل القدس‪ ،‬ص ‪.149‬‬
‫‪3- Brzezinski, Power and Principle, 265.‬‬
‫‪ -4‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.270‬‬
‫‪ -5‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪ ،236‬ص ‪ ،265‬ص ‪.270‬‬

‫‪225‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫الشــيوعية يف أفريقيــا‪ .‬وقــد نفــذ النــادي خــال عامــن عمليــات رسيــة ضــد الشــيوعيني‬
‫(((‬
‫يف الكونغــو وإثيوبيــا والصومــال‪.‬‬
‫ولكــن بعــد ذلــك‪ ،‬أدت اإلطاحــة بالشــاه عــام ‪ 1979‬إىل تعزيــز مكانــة مــر باعتبارهــا‬
‫الرشيــك األمنــي​​اإلقليمــي األول ألمريــكا‪ .‬ووفــق هــذه املكانــة الجديــدة‪ ،‬متثلــت مهمتهــا‬
‫األوىل يف تزويــد العــراق بأســلحة ســوفيتية ملســاعدته يف اإلطاحــة بالنظــام اإليــراين‬
‫الجديــد‪ .‬أمــا املهمــة الثانيــة واألكــر إثــارة فتمثلــت يف دعــم املقاومــة األفغانيــة ضــد‬
‫الســوفييت‪ ،‬حيــث دفــع االحتــال الــرويس لهــذه الدولــة العازلــة املحايدة بريجنســي لوضع‬
‫خطــة لدفــن الســوفييت هنــاك دون تدخــل عســكري أمريــي مبــارش‪ -‬متا ًمــا كــا فعــل‬
‫الســوفييت بالواليــات املتحــدة يف فيتنــام‪ .‬كانــت خطتــه بســيطة‪ :‬إطــاق العنان للمتشــددين‬
‫اإلســاميني لقتــال املحتلــن الســوفييت‪ .‬يف ‪ 9‬ينايــر ‪ ،1980‬قــدم بريجنســي مذكــرة إىل‬
‫كارتــر يحــدد فيهــا إســراتيجيته الســتخدام املرصيــن والســعوديني والباكســتانيني لتنفيــذ‬
‫هــذا املخطــط‪ (((.‬وبحلــول نهايــة الشــهر‪ ،‬أبــرم صفقــة يف القاهــرة مــع الســادات بعــد أن‬
‫وافــق األخــر عــى تجنيــد وتدريــب جيــش متطــوع مــن شــباب اإلســاميني املرصيــن‬
‫وتجهيزهــم ببنــادق ‪ AK-47‬وذخــرة وقذائــف الهــاون وصواريــخ أرض جــو مــن طــراز‬
‫"ســام‪ 7 -‬ســريال"‪ ،‬وصواريــخ "ســاغر" وقذائــف "آر يب جــي" املضــادة للدبابــات مــن‬
‫را‪ ،‬قــام بشــحنها إىل أفغانســتان عــى مــن طائــرات شــحن‬ ‫املســتودعات املرصيــة‪ .‬وأخ ـ ً‬
‫أمريكيــة طــارت مــن قواعــد يف مدينتــي قنــا وأســوان بجنــوب مرص‪ .‬أمــا الســعوديون فقد‬
‫ســاهموا باملــال والخطبــاء‪ ،‬ووافقــت باكســتان عــى التعامــل مــع األمــور اللوجســتية‪ .‬يف‬
‫الواقــع‪ ،‬بــدأ الســادات ورجالــه عمليًــا بتجنيــد ضبــاط الصــف مــن املتشــددين يف الجيــش‬
‫الــري الــذي تــم حشــده ملحاربــة الســوفييت"‪ (((.‬كان هــؤالء بالطبــع هــم املقاتلــون الذيــن‬
‫عــادوا إىل مــر يف التســعينيات لقيــادة حملــة عنــف ضــد النظــام‪ ،‬ثــم بــرز نشــاطهم‬
‫املتشــدد دوليًــا عــر تنظيــم القاعــدة‪.‬‬
‫حصــل الســادات لقــاء ذلــك عــى وعــد أمريــي بحاميتــه ونظامــه‪ ،‬ووضــع عميـ ُـل وكالــة‬
‫را لإلعجــاب ألمــن الســادات الشــخيص‪،‬‬ ‫املخابــرات املركزيــة وليــام بــاكيل برنام ًجــا مث ـ ً‬
‫‪1- Cooley, Unholy Wars, 24–27.‬‬
‫‪2- Brzezinski, Power and Principle, 444–54.‬‬
‫‪3- Cooley, Unholy Wars, 31–32.‬‬

‫‪226‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫تديــره وكالــة املخابــرات املركزيــة مبيزانيــة ســنوية قدرهــا عــرون مليــون دوالر‪ .‬وكجــزء‬
‫مــن هــذا الربنامــج‪ ،‬تعاقــد ضابــط وكالــة املخابــرات املركزيــة يف القاهــرة جيمــس فيــز مع‬
‫خــراء مكافحــة اإلرهــاب األمريكيــن لتدريــب حــراس الســادات الشــخصيني‪ .‬لكــن مــن‬
‫الواضــح أن أكــر مــن مائــة فريــق مــن الحــراس الشــخصيني (متباينــة يف عــدد عنارصهــا‬
‫وف ًقــا ملهمــة كل منهــا) مل تكــن كافيــة‪ ،‬وبقــي الســادات يشــعر بحاجتــه للســفر بطائــرة‬
‫مروحيــة ألنــه‪ -‬بعكــس ســلفه عبــد النــارص الــذي كان يســافر يف موكــب مفتــوح‪ -‬علــم‬
‫بكــرة مبغضيــه‪ .‬فانتقلــت ثــاث طائــرات مروحيــة مــن أصــل خمــس مــن مدينــة ويســتالند‬
‫األمريكيــة إىل القاهــرة حيــث اشــرتها مــر بأمــوال أمريكيــة‪ .‬ثــم وســع الســادات حجــم‬
‫الحــرس الجمهــوري مــن كتيبــة مشــاة إىل لــواء مــن القــوات الخاصــة مــزود بالدبابــات‬
‫والعربــات املدرعــة ونظــام اتصــاالت متطــور‪ .‬واألهــم مــن ذلــك‪ ،‬أن الواليــات املتحــدة‬
‫ســاعدت يف تعزيــز أجهــزة األمــن املرصيــة التــي أدت دو ًرا حيويًــا للغايــة يف حفــظ‬
‫اســتقرار النظــام‪ .‬وســمحت تقنيــة املراقبــة األمريكيــة لــوزارة الداخليــة بزيــادة قدراتهــا‬
‫عــى التنصــت عــى املكاملــات الهاتفيــة مــن ‪ 1200‬خــط يف عــام ‪ 1971‬إىل ‪ 16‬أل ًفــا يف‬
‫عــام ‪ .1979‬ويف عــام ‪ ،1980‬قدمــت الواليــات املتحــدة لــوزارة الداخليــة كامــرات شــوارع‬
‫ملراقبــة الطــرق الرئيســية والســاحات العامــة يف القاهــرة‪ ،‬ومراكــز تنصــت متنقلــة وغريهــا‬
‫مــن أجهــزة التجســس اإللكرتونيــة املتطــورة التــي عــززت قــدرة مــر عــى التجســس عــى‬
‫(((‬
‫مواطنيهــا إلبطــال جهــود املعارضــة املنظمــة‪.‬‬
‫ملــاذا قــدم الســادات الكثــر مــن التنــازالت غــر الرضوريــة؟ كان هــذا هــو الســؤال الــذي‬
‫شــغل كيســنجر ومجلــس الــوزراء اإلرسائيــي خــال محادثــات وقــف إطــاق النــار‪ ،‬والــذي‬
‫أثــار غضــب مستشــار الســادات حافــظ إســاعيل خــال اجتــاع ملجلــس الــوزراء انتقــد‬
‫فيــه سياســات الرئيــس عالنيــة‪ ،‬والســؤال الــذي ردده وزيــر الحربيــة الجمــي حــن اندفــع‬
‫للخــروج مــن لقائــه مع كيســنجر بعينــن دامعتني‪ ،‬والســؤال الــذي دفع ثالثــة وزراء خارجية‬
‫لالســتقالة عــى التــوايل خــال أربــع ســنوات‪ ،‬والذي تســبب يف خالف الســادات مــع أقرب‬
‫مستشــاريه مبــن فيهــم هيكل ومحمــود جامع‪ ،‬وحري بريجنســي لعدة أيــام يف كامب ديفيد‪.‬‬
‫ملــاذا بــدد الســادات إنجــازات الجيــش املــري وأهــدر قيمــة مــر الجيوسياســية ودفعهــا‬
‫بقــوة إىل فلــك الواليــات املتحــدة‪ ،‬أمل تُع ـ ّرض هــذه العمليــة مصالحهــا الوطنيــة للخطــر؟‬
‫‪1- Sirrs, History, 137, 153.‬‬

‫‪227‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫أجــاب كل طــرف إجابــة مختلفــة‪ ،‬فقــال كيســنجر للقــادة اإلرسائيليــن إن "الســادات وقــع‬
‫را‬
‫ضحيــة ضعفــه البــري وتعجلــه لتحقيــق حلمــه بــأن يــرى نفســه‪ -‬وبرسعــة‪ -‬يركــب منتـ ً‬
‫يف ســيارة مكشــوفة‪ ...‬مــع تصفيــق آالف املرصيــن لــه"‪ (((.‬أمــا جــواب بريجنســي فــكان‬
‫أكــر إبدا ًعــا‪ ،‬حيــث قــال يف مذكراتــه حــول كامــب ديفيــد "مــا يقلقنــي هــو أن الســادات‬
‫يبــدو وكأنــه ال يفــرق بوضــوح بــن الحقيقــة والخيــال‪ ،‬وأن معظــم حقائقــه ببســاطة غــر‬
‫صحيحــة"‪ (((.‬ويتفــق هيــكل مــع هــذه اإلجابــة حيــث يقــول "الســادات الهــارب مــن الواقــع‬
‫أصبــح الســادات الحــامل‪ ،‬والســادات الحــامل صــار الســادات املمثــل‪ .‬لقــد كان الســادات‬
‫ميثّــل يف معظــم حياتــه‪ ،‬وأحيانًــا ميثــل عــدة أدوار يف الوقــت نفســه"‪ (((.‬كــا اشــتىك‬
‫وزيــر الخارجيــة فهمــي مــن مــدى قلقــه مــن العمــل مــع شــخص يختلــق األكاذيــب ثــم‬
‫يصدقهــا‪ .‬ففــي بدايــة عالقتــه بالســادات‪ ،‬كان يظنــه مجــرد شــخص ســاذج غــر ناضــج‪،‬‬
‫ـعيا‬
‫لكنــه قبــل أن يقــدم اســتقالته أدرك أن الرئيــس الســادات يُق ـ ّوض مصالــح مــر سـ ً‬
‫وراء تحقيــق مجــده الخــاص‪ ،‬مضي ًفــا أن "خــوف الســادات مــن الحــرب‪ ...‬وغــروره املبالــغ‬
‫بــه مثــران للشــفقة"‪ (((.‬ويصفــه صديقــه املقــرب ووزيــر خارجيتــه بأنــه صاحــب حالــة‬
‫نفســية فريــدة‪ ،‬فهــو رجــل يعيــش يف عــامل الخيــال ويقنــع نفســه باســتمرار أن أحالمــه‬
‫رئيســا بــات نرجسـ ًـيا إىل حــد ال يطــاق‪ ،‬لقــد كان مول ًعــا بســاع‬
‫حقيقــة‪ ،‬وبعــد أن أصبــح ً‬
‫صوتــه ورؤيــة صورتــه يف األخبــار"‪ (((.‬ويقــر جامــع‪ ،‬أحــد أصدقــاء الســادات املقربــن‪،‬‬
‫نرجســيا ومتعجرفًــا بشــكل متزايــد بعــد حــرب أكتوبــر‪ ،‬وأن أنانيتــه‬
‫ً‬ ‫أن األخــر بــات‬
‫كليــا‪ (((.‬أمــا املســؤولون الســوفييت الذيــن تعاملــوا مــع الســادات أثنــاء‬
‫املفرطــة أعمتــه ً‬
‫الحــرب فيدركــون جيــ ًدا أنــه يعــاين مــن جنــون العظمــة‪ (((.‬حتــى الخــراء الدوليــون‬
‫قيمــوا حــرب أكتوبــر اعتــروه رجـ ًـا مكبوتًــا إىل حــد مــا‪ ،‬يعيــش اضطرابًــا بــن‬‫الذيــن َّ‬
‫النشــوة واالكتئــاب‪ (((.‬باختصــار‪ ،‬عــزا جــزء كبــر مــن أصدقــاء الســادات ومرؤوســيه‪-‬‬
‫‪1- Golan, Secret Conversations, 152–53.‬‬
‫‪2- Brzezinski, Power and Principle, 93.‬‬
‫‪ -3‬هيكل‪ ،‬خريف الغضب‪ ،‬ص ‪.13‬‬
‫‪ -4‬فهمي‪ ،‬التفاوض من أجل السالم يف الرشق األوسط‪ ،‬ص ‪ ،13‬ص ‪ ،108‬ص ‪.129-127‬‬
‫‪ -5‬كامل‪ ،‬السالم الضائع‪ ،‬ص ‪ ،191-189‬ص ‪.193‬‬
‫عرفت السادات‪ ،‬ص ‪.191‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -6‬جامع‪،‬‬
‫‪7- Boyne, Two o’Clock War, 94.‬‬
‫‪8- Insight Team, Yom Kippur War, 46.‬‬

‫‪228‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫(((‬
‫العســكريني واملدنيــن واملحليــن واألجانــب‪ -‬قراراتــه إمــا إىل طغيانــه أو انتهازيتــه‪.‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬مــن الواضــح أن هــذه اإلجابــات غــر مرضيــة‪ .‬إنهــا تقــدم الســادات عــى‬
‫عقليــا أو خائــن‪ .‬لكــن ســجله الطويــل والرائــع‬
‫أنــه إســراتيجي ضعيــف للغايــة أو مختــل ً‬
‫يف العمــل الســيايس يقــول عكــس ذلــك‪ ،‬ومــن األرجــح أن هــؤالء الساســة والعســكريني‬
‫املرتبكــن قيمــوا الســادات مبقيــاس خاطــئ‪ .‬بعضهــم تســاءل‪ :‬كيــف ميكــن لشــخص داهيــة‬
‫مثــل الســادات أن يرتكــب كل هــذه األخطــاء التكتيكيــة‪ ،‬ويبــدد إنجــازات مــر العســكرية‬
‫وأوراقهــا الدبلوماســية واحــدة تلــو األخــرى مقابــل بعــض املكاســب القليلــة واملحــدودة؟‬
‫وتســاءل آخــرون‪ :‬كيــف ميكــن لرجــل دولــة حديــث أن يصــاب بجنــون العظمــة بحيــث‬
‫يُقــ ّوض مصالــح بــاده بينــا يســتمر يف التفكــر بطريقــة أخــرى يف عاملــه الخيــايل‪.‬‬
‫مــا يجعــل كل هــذه التفســرات مضللــة هــو أنهــا تقيــس أداء الســادات مبقيــاس اإلنجــاز‬
‫الوطنــي‪ ،‬بينــا عمــل الســادات حينهــا قبــل كل يشء كعنــر فاعــل يف الــراع عــى‬
‫الســلطة داخــل النظــام‪ ،‬والــذي اســتنزف مــر منــذ عــام ‪ ،1952‬حيــث أراد تعزيــز نفــوذه‬
‫وســلطته واســتقرار النظــام الســيايس الــذي ميثلــه يف وجــه رشيكــه يف الحكــم والــذي‬
‫أزعجــه عــى الــدوام‪ :‬الجيــش‪ .‬لذا‪ ،‬ورغــم إخفاقاتــه التكتيكيــة املتعــددة‪ ،‬إال أن إســراتيجية‬
‫الســادات الشــاملة كانــت جيــدة للغايــة‪.‬‬
‫جــاء قــرار الســادات بتغيــر تحالفــات مــر واالســتعاضة عــن قــوة الجيــش املــري‬
‫بالحاميــة األمريكيــة يف إطــار اســراتيجية محســوبة للغاية‪ .‬فعــى مدى العقديــن املاضيني‪،‬‬
‫أثبــت االعتــاد عــى الجيــش أنــه ميثــل مشــكلة بحــد ذاتــه عــى أقــل تقديــر‪ ،‬األمــر الــذي‬
‫جعــل القيــادة السياســية عرضــة لالضطرابــات التــي أثارهــا الضبــاط‪ .‬واشــتىك الســادات‬
‫مــن كــرة املؤامــرات يف عهــد الرئيــس عبــد النــارص والتــي كانــت مبعــدل مؤامــرة كل‬
‫ســتة أشــهر‪ (((.‬وعــى عكــس الجيــش وتقلبــات مزاجــه‪ ،‬فقــد قدمــت الواليــات املتحــدة ملرص‬
‫ـا ثابتًــا مــع بعــض الــروط فقــط‪ ،‬وهــي‪ :‬الســام مــع إرسائيــل‪ ،‬والتخــي عــن دور‬ ‫دعـ ً‬
‫بنــاء قــوة للعــرب‪ ،‬واالشــراك يف الحملــة العامليــة الحتــواء الشــيوعية (واإلســاميني الحقًا)‪،‬‬
‫وفتــح االقتصــاد أمــام املســتثمرين األجانــب‪ ،‬واإلشــارة إىل انفتــاح النظــام الســيايس‪.‬‬

‫‪1- Brooks, Shaping Strategy, 111.‬‬


‫‪ --2‬منصور‪ ،‬من أوراق السادات‪ ،‬ص ‪.336‬‬

‫‪229‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫مل يتــورع الســادات عــن تحقيــق أي مــن هــذه املطالــب‪ ،‬إذ مل يُع ـ ّرض أي منهــا نظامــه‬
‫للخطــر‪ .‬فتجنــب املواجهــات العســكرية املســتقبلية مــع إرسائيــل‪ ،‬واالنســحاب مــن فــوىض‬
‫السياســة العربيــة يضمنــان االســتقرار الداخــي لنظامــه‪ .‬فيــا اســتكملت محاربة الشــيوعية‬
‫يف الخــارج الجهــود املبذولــة لتقويــض اليســاريني يف الداخــل‪ ،‬واليشء نفســه انطبــق الحقًا‬
‫عــى اإلســاميني‪ .‬أمــا فيــا يتعلــق بالتحــرر االقتصــادي والســيايس فيمكــن ضبــط كل‬
‫ذلــك مبــا يتناســب مــع مصالــح النظــام‪ ،‬فبالنظــر إىل حلفــاء أمريــكا يف أمريــكا الالتينيــة‬
‫وجنــوب رشق آســيا ميكــن مالحظــة أن اإلصالحــات الدميقراطيــة عــى وجــه الخصــوص‬
‫ميكــن أن تبقــى يف إطارهــا الشــكيل‪ .‬وقد أوضح الســادات بنفســه إســراتيجيته يف محادثة‬
‫خاصــة مــع أحمــد بهــاء الديــن‪ ،‬وهــو أحــد معارفــه القدامــى ورئيــس تحريــر صحيفــة‬
‫األهــرام اليوميــة والــذي عــاد حينهــا مــن زيــارة لطهــران يف ينايــر ‪ ،1974‬حيــث قــال لــه‪:‬‬
‫"كــا تعلــم‪ ،‬لقــد اعتــرت شــاه إيــران لفــرة طويلــة منوذ ًجــا يل بــن قــادة العــامل الثالــث‪.‬‬
‫أمــا زعــاء دول عــدم االنحيــاز الذيــن مــأ رصاخهــم العــامل لســنوات‪ -‬نهــرو ونكرومــا‬
‫وســوكارنو وحتــى عبــد النــارص‪ ،‬بــل حتــى تيتــو الــذي ال يــزال عــى قيــد الحيــاة‪ -‬فأيــن‬
‫هــم اآلن؟ مــات البعــض و ُهــزم البعــض وأُطيــح بالبعــض‪ ،‬وانكمــش البعــض اآلخــر يف‬
‫حدودهــم مثــل تيتــو‪ .‬ومل يبـ َـق مــن هــذا الجيــل ســوى حاكــم واحــد فقــط عــى عرشــه‪،‬‬
‫بــكل قوتــه ومجــده ويبحــث عــن مصالحــه مــع العــامل كلــه‪ :‬إنــه شــاه إيــران‪ .‬والســبب يف‬
‫ذلــك بســيط‪ ،‬ففــي حــن اعتقــد جميــع هــؤالء القــادة أن العــامل يحكمــه قطبــان عظيــان‬
‫(روســيا وأمريــكا) وحاولــوا التعامــل معهــا عــى قــدم املســاواة‪ ،‬إال أن هــذا االعتقــاد كان‬
‫بعي ـ ًدا عــن الحقيقــة‪ .‬هنــاك قــوة عظمــى واحــدة يف هــذا العــامل هــي أمريــكا فقــط‪،‬‬
‫أمــا روســيا فليســت حتــى قــوة عظمــى ثانيــة فهــي متأخــرة عــن أمريــكا بعــر خطــوات‬
‫ورمبــا عرشيــن‪ ..‬وشــاه إيــران وحــده هــو الــذي أدرك ذلــك‪ ،‬فــاذا فعــل؟ جلــس يف حضن‬
‫أمريــكا ولبــس أثوابهــا‪ ،‬وبينــا رحــل جميــع أصدقائــه وفــت أمريــكا باحتياجــات الشــاه‪.‬‬
‫وعندمــا اندلعــت ثــورة يف عهــد رئيــس الــوزراء محمــد مصــدق عــام ‪ 1953‬هرب الشــاه إىل‬
‫إيطاليــا‪ ،‬ثــم أعــاده األمريكيــون ونصبــوه مــرة أخــرى عــى العــرش‪ ...‬لهــذا الســبب أعتقــد‬
‫(((‬
‫أنــه رجــل المــع وخــارق للعــادة"‪.‬‬

‫‪ -1‬بهاء الدين‪ ،‬محاورايت مع السادات‪ ،‬ص ‪.69-68‬‬

‫‪230‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫عندمــا حــاول بهــاء الديــن تذكــره بأن الشــاه حصل عــى هذا النــوع من الحاميــة ألن لديه‬
‫احتياطيــات نفطيــة هائلــة وبلــده عــى حــدود االتحــاد الســوفيتي مبــارشة‪ ،‬مل يعلــق عــى‬
‫كالمــه‪ (((.‬ومــن املفارقــات أن الشــاه‪ -‬الــذي خلعــه شــعبه وتخلــت عنــه الواليــات املتحــدة‪-‬‬
‫اضطــر لقضــاء أيامــه األخــرة يف القاهــرة‪ ،‬مســتمت ًعا بضيافــة معجبــه الــري الســادات‪.‬‬
‫وتعلي ًقــا عــى اســتقبال الرئيــس املــري للملــك الفــاريس املخلــوع‪ ،‬الحظ أحــد املراقبني يف‬
‫(((‬
‫صحيفــة نيويــورك تاميــز كيــف أنه مــن املمتع رؤية الشــاه الجديــد يحتضن الشــاه القديم‪.‬‬

‫العودة إىل الجبهة الداخلية‬


‫رغــم أن مظلــة الحاميــة األمريكيــة أريــد منهــا أن تحــل محــل الحاميــة العســكرية للجهــاز‬
‫الســيايس‪ -‬ومبعنــى آخــر‪ ،‬أن تحــل محــل الجيــش يف نظــام الحكــم‪ -‬فعلينــا أن نتذكــر أن‬
‫تقويــض نفــوذ طــرف مــن أطــراف الكتلــة الثالثيــة الحاكمــة مثــل الجيــش يتطلــب تعزيــز‬
‫نفــوذ الطرفــن اآلخريــن (الجهازيــن الســيايس واألمنــي)‪ .‬لــذا‪ ،‬فكــر الســادات يف كيفيــة‬
‫تعزيــز قــوة الجهازيــن الســيايس واألمنــي‪ ،‬حتــى وهــو يتواصــل مــع الواليــات املتحــدة‬
‫يف الخــارج‪ .‬فمــن البديهــي إذًا العمــل عــى متكــن وزارة الداخليــة مــن التعامــل مــع‬
‫ـا بعــض‬ ‫سياســات القمــع الداخــي‪ ،‬أمــا فيــا يتعلــق بالحــزب الحاكــم فقــد بقــي مبهـ ً‬
‫الــيء‪ .‬كان االتحــاد االشــرايك الــذي أسســه عبــد النــارص بحاجــة إىل إعــادة تأهيــل‪،‬‬
‫أيضــا‪ -‬بشــكل جوهــري أكــر‪ -‬مــن حيــث قاعدتــه‬ ‫ليــس فقــط مــن حيــث الهيكليــة ولكــن ً‬
‫غالبــا‬
‫االجتامعيــة‪ .‬اعتمــد االتحــاد الــذي ورثــه الســادات عــن ســلفه عــى موظفــي الدولــة ً‬
‫مــن كــوادر االتحــاد والبريوقراطيــن والعاملــن يف القطــاع العــام وأصحــاب العقــارات‬
‫مــن الطبقــة املتوســطة‪ .‬لكــن‪ ،‬هــذه القاعــدة مل تعــد كافيــة فقــد كان مــن املرجــح أن يظــل‬
‫املوظفــون العموميــون‪ -‬البالــغ عددهــم يف عــام ‪ 1978‬حــوايل ‪ 3.2‬مليــون شــخص‪ -‬عــى‬
‫الحيــاد حــن يختلــف قادتهــم فيــا بينهــم‪ ،‬كــا حصــل يف مايــو ‪ 1971‬عندمــا اختلــف‬
‫الرئيــس الســادات مــع وزرائــه فجلــس كــوادر الحكومــة دون حــراك ال يعرفــون أي جانــب‬
‫يدعمــون‪ .‬كــا أن وجهــاء القــرى الذيــن يقــدر عددهــم بنحــو ثالثــة آالف وســتمئة مــن‬

‫‪ -1‬بهاء الدين‪ ،‬محاورايت مع السادات‪ ،‬ص ‪.69‬‬


‫‪2-Youssef M Ibrahim, "U.S. Stake in Egypt Rests on One Man—Anwar el-Sadat", New York‬‬
‫‪Times (3/30/1980), E3.‬‬

‫‪231‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫مــاك األرايض املتوســطني فقــد كانــوا محــدودي األفــق‪ ،‬ومــن املرجــح أن يظلــوا كذلــك‬
‫بحيــث ميكنهــم حشــد النــاس يف مناطقهــم األصليــة أو الخــروج يف مســرة للرتحيــب بكبار‬
‫الشــخصيات الحكوميــة‪ ،‬لكنهــم بالتأكيــد يفتقــرون لالهتــام أو القــدرة عــى التدخــل يف‬
‫الرصاعــات السياســية عــى مســتوى البلــد‪ .‬أضــف أن دعــم املوظفــن العموميــن وأعيــان‬
‫ـا ثانويًــا‪ ،‬بينــا يحتــاج الحــزب الحاكــم اآلن إىل قاعــدة اجتامعيــة‬
‫القــرى ســيبقى دعـ ً‬
‫نشــطة تربــط مصالحهــا مبصالــح الحــزب وتكــون عــى اســتعداد للقتــال مــن أجلــه عنــد‬
‫الــرورة‪ .‬باختصــار‪ ،‬كانــت مــر بحاجــة إىل نخبــة سياســية جديــدة‪.‬‬
‫مل يكــن وار ًدا العــودة لتوظيــف عنــارص الجهــاز الســيايس يف الجيــش كــا كان الحــال‬
‫قبــل التغيــرات التــي أحدثهــا االتحــاد االشــرايك يف عــام ‪ ،1962‬إمنــا الهــدف األســايس‬
‫مــن تجديــد الحــزب الحاكــم هــو إحــداث تــوازن مــع الجيــش‪ .‬إن جلــب ضبــاط رشطــة‬
‫للقيــام بهــذه املهمــة مــن شــأنه أن ينهــي االســتقالل النســبي للجهــاز الســيايس الــذي ميثلــه‬
‫الرئيــس الســادات‪ ،‬مــا يعنــي نهايــة العمــل الســيايس‪ .‬أمــا ضبــاط األمــن فهــم مســؤولون‬
‫فعليــا‪ .‬وحتــى‬
‫اآلن عــن اجتثــاث املنافســن املحليــن وال ميكــن اتهامهــم بــإدارة الحكومــة ً‬
‫لــو اســتطاع النظــام الســيايس البقــاء لفــرة مــن الوقــت عــر الحكــم باإلكــراه الرصيــح‪،‬‬
‫اجتامعيــا واســ ًعا‪ .‬وألن الســادات‬
‫ً‬ ‫فــإن اســتقراره عــى املــدى الطويــل يتطلــب تحالفًــا‬
‫أراد قاعــدة اجتامعيــة مخلصــة ال تديــن بــيء لعبــد النــارص‪ ،‬وألنــه علــم أن االنفتــاح‬
‫االقتصــادي بنــد غــر قابــل للتفــاوض عــى األجنــدة األمريكيــة‪ ،‬فقــد عقــد العــزم عــى‬
‫تســليم الحــزب الحاكــم للطبقــة الرأســالية الناشــئة‪.‬‬
‫يقــول الباحــث يف شــؤون الــرق األوســط رميونــد هينبــوش إن "الســادات‪ ،‬الــذي افتقــر‬
‫إىل املكانــة التــي متكنــه مــن متابعــة تحقيــق التــوازن الوســطي الــذي حققــه عبــد النــارص‬
‫بــن النخبــة والجامهــر‪ ،‬احتــاج إىل قاعــدة دعــم قويــة تدعــم ســلطته‪ .‬ونظــ ًرا ألن‬
‫خصومــه كانــوا مــن اليســار فيــا دعمــه املحتمــل مــن التوجــه اليمينــي‪ ،‬فمــن املنطقــي‬
‫للغايــة اختيــاره التوجــه اليمينــي"‪ ،‬وهــو قــرار شــجعه إلعــادة االصطفــاف الدبلومــايس‬
‫مــع الواليــات املتحــدة والحاجــة إىل تحفيــز وتعزيــز االهتــام األمريــي مبــر‪ ،‬لجعلــه‬
‫ـول عميــل وكالــة املخابــرات املركزيــة مايلــز كوبالنــد أن املســتثمرين‬
‫وكيـ ًـا مناسـ ًـبا"(((‪ .‬يقـ ُ‬
‫‪1- Raymond A Hinnebusch, "The Formation of the Contemporary Egyptian States from Nasser‬‬
‫‪and Sadat to Mubarak", in The Political Economy of Contemporary Egypt, ed. Ibrahim M.‬‬

‫‪232‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫األمريكيــن قامــوا بضغــوط هائلــة‪ ،‬حتــى يف ظــل حكــم عبــد النــارص‪ ،‬للوصول إىل الســوق‬
‫املرصيــة وإقامــة مشــاريع مشــركة مــع املرصيــن‪ (((.‬ومبعنــى آخــر‪ ،‬أشــارت كل األدلــة‬
‫إىل الحاجــة لطبقــة رجــال أعــال ومجموعــة نفــوذ قويــة لهــا مصلحــة حقيقيــة يف بقــاء‬
‫النظــام‪ ،‬وبــات التحــدي األول للرئيــس الســادات اآلن هــو إيجــاد أو إنشــاء هــذه الطبقــة‪.‬‬
‫يف تلــك الســنوات‪ ،‬قامــت األنظمــة املدعومــة عســكريًا يف دول مثــل تركيــا وتشــييل‬
‫وإندونيســيا عــى تحالــف بــن الجــراالت والرأســاليني يجمعهــم الخــوف مــن حركــة‬
‫شــيوعية منظمــة‪ .‬لكــن النظــام العســكري يف مــر تأســس يف وقــت مبكــر ج ـ ًدا‪ ،‬ومل‬
‫كاف ومل ينضــج نضالهــم حينهــا‬ ‫يطــور الرأســاليون وال الشــيوعيون مصالحهــم بشــكل ٍ‬
‫بعــد‪ .‬وبــداًلً مــن االضطــرار لالنحيــاز إىل جانــب يف مجتمــع مســتقطب بشــكل واضــح‪،‬‬
‫قــام نظــام يوليــو ‪ 1952‬بتأميــم الــراع الطبقــي وقــدم نفســه عــى أنــه الــويص عــى‬
‫البلــد ككل‪ .‬أضــف أنــه نجــح خــال الخمســينيات والســتينيات مــن القــرن املــايض يف منــع‬
‫تطــور املجموعــات االجتامعيــة املســتقلة‪ ،‬وألغــى بشــكل فعــال الســاحة السياســية بالكامــل‪.‬‬
‫وبحلــول الوقــت الــذي وصــل فيــه الســادات إىل الســلطة‪ ،‬مل تعــد الفئــات االجتامعيــة‬
‫تتخيــل نفســها مســتقلة عــن الدولــة‪ ،‬إذ ال ميكنهــا التطــور إال معهــا ومــن خاللهــا‪ (((.‬لــذا‪،‬‬
‫إذا احتــاج الســادات إىل نخبــة مــن رجــال األعــال فعليــه أن ينشــئ واحــدة بنفســه‪ ،‬وهــذا‬
‫هــو هــدف سياســته االقتصاديــة‪ ،‬املعروفــة باســم االنفتــاح‪.‬‬
‫لكن أين ميكن للمرء أن يجد ما يلزمه إلنتاج هذه النخبة الجديدة؟‬
‫تــررت الطبقــة الرثيــة مــن كبــار مــاك األرايض بشــدة بســبب قوانني إصــاح األرايض‪،‬‬
‫وافتقــر مــاك األرايض املتوســطون إىل التامســك‪ ،‬ورفــض الرأســاليون االســتثامر يف‬
‫ظــل قوانــن عبــد النــارص التعســفية‪ .‬لدرجــة بــروز طبقــة تحكمــت بوســائل اإلنتــاج‬
‫ومــوارده وتشــكلت مــن برجوازيــة الدولــة يف القطــاع العــام والبريوقراطيــة‪ ،‬وبلغــت‬
‫حــوايل ‪ 34‬أل ًفــا مــن مديــري القطــاع العــام و‪ 11‬أل ًفــا مــن كبــار املســؤولني اإلداريــن‪.‬‬
‫وقــد تــرروا بشــدة مــن أزمــة عــام ‪ 1967‬يف ميــزان املدفوعــات وعجــز امليزانيــة‬
‫‪Oweiss, 188–209, Washington, DC: Center for Contemporary Arab Studies, Georgetown‬‬
‫‪University, 1990.‬‬
‫‪1- Copeland, The Game of Nations, 213.‬‬
‫‪ -2‬سامر سليامن‪ ،‬النظام القوي والدولة الضعيفة‪ ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪233‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫والتدهــور االقتصــادي الالحــق‪ .‬ومــع نهايــة عهــد عبــد النــارص‪ ،‬باتــوا مقتنعــن بــرورة‬
‫االهتــام بأنفســهم‪ ،‬وبــدأوا يف العمــل كمحفزيــن لــرأس املــال الخــاص مقابــل حصــص‬
‫مــن األربــاح والعمــوالت‪ .‬وهكــذا وجــد الســادات قاعدتــه األوليــة يف برجوازيــة الدولــة‪.‬‬
‫"مــع وجــود قــدم لهــا يف مناصــب حكوميــة عاليــة وحضــور بــارز يف القطــاع الخــاص‪ ،‬مل‬
‫تكــن هــذه الفئــة القــوة االجتامعيــة األكــر إســراتيجية فحســب‪ ،‬بــل باتــت الفئــة األكــر‬
‫اســتعدا ًدا لقبــول قيادتــه"‪ (((.‬ثــم بــن عامــي ‪ 1971‬و‪ ،1980‬ورغــم كل الحديــث عــن تحرير‬
‫االقتصــاد‪ ،‬منــت العاملــة الحكوميــة بنســبة ‪ %70‬وزاد التوظيــف يف الخدمــة املدنيــة يف‬
‫الســنوات الثــاث األخــرة مــن واليــة الســادات وحدهــا بنســبة ‪ %10‬ســنويًا‪ ،‬وهــي نســبة‬
‫(((‬
‫تزيــد عــن متوســط​​‪ %8.5‬املســجل خــال ســنوات عبــد النــارص‪.‬‬
‫كان مــن املتوقــع حينهــا أن تســمح هــذه الفئــة العنيــدة بتمريــر العديــد مــن املشــاريع‬
‫ملجموعــة مختــارة مــن رواد األعــال مــن القطــاع الخــاص‪ ،‬لتحويــل مــاك األرايض‬
‫والتجــار واملقاولــن املتباينــن​​إىل مجموعــة متامســكة مــن الرأســاليني الذيــن ســيظلون‬
‫نســبيا بالنظــر إىل‬
‫ً‬ ‫ســهاًل‬
‫ً‬ ‫مرتبطــن ارتباطًــا جوهريًــا بالســلطة السياســية‪ .‬كان هــذا‬
‫مســؤولية الدولــة عــن إصــدار تراخيــص التجــارة الخارجيــة والبنــاء‪ ،‬وتقديــم اإلعفــاءات‬
‫الرضيبيــة‪ ،‬والعفــو عــن التهــرب الرضيبــي‪ ،‬وتقديــم القــروض مــن خــال البنــوك العامــة‬
‫دون طلــب ضامنــات‪ ،‬وتخصيــص األرايض بأســعار رمزيــة‪ ،‬ومــا إىل ذلــك‪ .‬لكــن الدولــة مل‬
‫تقلــص دورهــا يف الحيــاة االقتصاديــة‪ ،‬بــل نقلــت وظيفتهــا مــن توجيــه الفائــض املرتاكــم‬
‫نحــو التنميــة إىل أن تصبــح نو ًعــا مــن الوســيط بــن املــوارد العامــة والرأســاليني‬
‫االســتحواذيني مــن املحليــن واألجانــب‪ .‬قــد يقــول املــرء إن مــا حــدث خــال تلك الســنوات‬
‫(((‬
‫مل يكــن رأســالية ترعاهــا الدولــة بقــدر مــا كان فســا ًدا ترعــاه الدولــة‪.‬‬
‫ولبــثّ الــروح يف هــذه الطبقــة الرأســالية الجديــدة وإضفــاء طابــع خــاص عليهــا‪ ،‬قــرر‬
‫الســادات إعــادة تأهيــل بعــض العائــات الرثيــة‪ .‬يف ديســمرب ‪( 1970‬أي بالــكاد بعــد‬
‫شــهرين مــن وفــاة عبــد النــارص)‪ ،‬شــكل الســادات لجنــة برئاســة عصمــت عبــد املجيــد‬
‫لرفــع املظــامل الســابقة مــن خــال إعــادة املمتلــكات الزراعيــة واملاليــة املحجــوزة لنخبــة‬
‫‪1- Hinnebusch, "The Formation of the Contemporary Egyptian States", 192–93.‬‬
‫‪2- Brooks, Shaping Strategy, 115.‬‬
‫‪ -3‬أماين عبد الرحمن صالح‪ ،‬أصول النخبة السياسية املرصية يف السبعينات‪ :‬النشأة والتطور‪ ،‬ص ‪.16‬‬

‫‪234‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫مــا قبــل عــام ‪ 1952‬والتــي تبلــغ حــوايل ســتامئة أرسة(((‪ ،‬بهــدف أن يصبــح مــاك األرايض‬
‫باألمــس رأســايل اليــوم‪.‬‬
‫أيضــا إىل هــذه الطفــرة‪ ،‬حيــث أدت الزيــادة يف أســعار النفــط‬
‫وانضــم العــال والفالحــون ً‬
‫جزئيــا عنهــا‪ -‬إىل تصاعــد كبــر يف هجــرة الفقــراء‬
‫التــي أعقبــت حــرب أكتوبــر ‪-‬ونتجــت ً‬
‫املرصيــن إىل ليبيــا والعــراق ودول الخليــج‪ ،‬بزيــادة مــن ‪ 58‬ألــف مغــرب يف عــام ‪1970‬‬
‫إىل أكــر مــن ‪ 5‬ماليــن يف عــام ‪ .((( 1980‬واســتثمر املغرتبــون معظــم أموالهــم يف مــر‪،‬‬
‫وعــادوا لالنضــام إىل فئــة األعــال اآلخــذة يف االتســاع‪ .‬يف غضــون ذلــك‪ ،‬تغــرت‬
‫نظرتهــم األيديولوجيــة مــن كيفيــة تأمــن حقوقهــم االقتصاديــة يف القريــة واملصنــع إىل‬
‫كيفيــة كســب املــال بســهولة‪ .‬وكشــفت دراســة اســتقصائية أجريــت عــام ‪ 1996‬أن ‪٪92.2‬‬
‫مــن العــال ال ينتمــون إىل حــزب ســيايس وال يحملــون أي آراء أيديولوجيــة‪ ،‬أمــا املتحزبون‬
‫(((‬
‫فقــد انضــم ‪ ٪85.7‬منهــم إىل الحــزب الحاكــم‪.‬‬
‫ـميا بفتح البــاد أمام‬
‫ثــم جــاء القانــون رقــم ‪ 43‬لعــام ‪ ،1974‬الــذي بــدأ عهد "االنفتــاح" رسـ ً‬
‫االســتثامر األجنبــي وإلغــاء العديــد مــن قيــود عهــد عبــد النــارص‪ .‬طبــق الســادات سياســة‬
‫"االنفتــاح" بشــكل صــارم للغايــة‪ ،‬حيــث طلــب مــن املجموعــة االقتصاديــة يف حكومتــه‬
‫التشــاور معــه دامئًــا حتــى يتمكــن مــن تســهيل عملهــم‪ .‬ثــم اســتبدل يف عــام ‪ 1976‬أســتاذ‬
‫االقتصــاد عبــد العزيــز حجــازي بوزيــر الداخليــة ممــدوح ســامل كرئيــس للــوزراء‪ ،‬مــر ًرا‬
‫را ومامطلة غــرت الحكومــة‪ ...‬واليوم يزيل ممــدوح كافة‬ ‫قــراره بقولــه‪" :‬عندمــا رأيــت تأخـ ً‬
‫النظــم والقيــود التــي تعيــق تحــرر االقتصــاد"(((‪ .‬وكــا أوضــح بهــاء الديــن‪ ،‬كانــت جرميــة‬
‫حجــازي أنــه اعتقــد أن تحريــر االقتصــاد يهــدف يف الواقــع إىل إعــادة بنــاء االقتصــاد‬
‫املــري‪ ،‬ولكــن عــى أســاس رأســايل جديــد‪ .‬لكنــه مل يعلــم أنهــا كانــت جــز ًءا مــن صفقــة‬
‫سياســية أبرمهــا الســادات مــع األمريكيــن‪ ،‬وهــي صفقــة لتحويــل مــر مــن دولــة صناعية‬
‫(((‬
‫محتملــة إىل دولــة خدميــة‪ ،‬وســوق يعتمــد دامئًــا عــى املنتجــات األجنبيــة واألعطيــات‪.‬‬
‫‪ -1‬عصمت عبد املجيد‪ ،‬زمن االنكسار واالنتصار‪ ،‬ص ‪.111‬‬
‫‪ -2‬محمود عبد الفضيل‪ ،‬خواطر حول قضية االقتصاد املرصي‪ ،‬القاهرة‪ :‬املستقبل العريب‪ ،1983 ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪ -3‬عبــد الباســط عبــد املعطــي‪" ،‬الطبقــات االجتامعيــة ومســتقبل مــر"‪ ،‬القاهــرة‪ :‬مريــت للنــر واملعلومــات‪،‬‬
‫‪ ،2002‬ص ‪.248-247‬‬
‫‪ -4‬قنديل‪ ،‬التطور السيايس‪ ،1986 ،‬ص ‪.90‬‬
‫‪ -5‬بهاء الدين‪ ،‬محاورايت مع السادات‪ ،‬ص ‪ ،25‬ص ‪.90‬‬

‫‪235‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫لــذا‪ ،‬بينــا ادعــى الســادات أن سياســة "االنفتــاح" شــجعت الرأســالية الصناعيــة فــإن‬
‫األرقــام تقــول غــر ذلــك‪ .‬تــم ضــخ مبلــغ هائــل مــن املــال يف األعــال العقاريــة وأنــواع‬
‫مختلفــة مــن األنشــطة التجاريــة‪ .‬وبــن عامــي ‪ 1970‬و‪ ،1980‬قفــز العائــد عــى االســتثامر‬
‫يف البنــاء مــن ‪ 42.1‬إىل ‪ ،%62.8‬يف حــن ســجلت تجــارة الجملــة زيــادة أعــى تراوحــت‬
‫مــن ‪ 43.6‬إىل ‪ (((.%75.4‬وارتفــع عــدد وكالء الــركات األجنبيــة مــن بضــع عــرات يف‬
‫عــام ‪ 1974‬إىل ‪ 16‬أل ًفــا يف عــام ‪ ،1981‬واســتهلكت املشــاريع التجاريــة ‪ %42‬مــن إجــايل‬
‫القــروض املرصفيــة خــال نفــس الفــرة‪ (((.‬وبحلــول نهايــة ســبعينيات القــرن املــايض‬
‫"أصبحــت القاهــرة مدينــة وســطاء ووكالء بالعمولــة لألوروبيــن واألمريكيــن‪ ...‬يتنقلــون‬
‫بــن الفنــادق الفخمــة والــوزارات الحكوميــة‪ ،‬ويحاولــون عقــد الصفقــات عــى نطــاق‬
‫متزايــد باســتمرار"‪ .‬ويف بلــد يخلــو مــن أصحــاب املاليــن يف عــام ‪ ،1970‬بــرز فيــه أكــر‬
‫مــن ‪ 17‬ألــف مليونــر بحلــول عــام ‪ 1980‬وأصبــح ‪ 7‬آالف منهــم مــن أصحــاب املاليــن‬
‫ببســاطة مــن خــال املضاربــة يف بيــع ورشاء األرايض‪ .‬يف النصــف الثــاين مــن ســبعينيات‬
‫القــرن املــايض‪ ،‬نُقلــت نســبة ‪ %53.5‬مــن األرايض اململوكــة للدولــة عــى ســاحل البحــر‬
‫األبيــض املتوســط إىل ملكيــات خاصــة دون دفــع أي أمــوال‪ -‬هــذه األرايض وحدهــا أعيــد‬
‫بيعهــا يف الســوق الخــاص مقابــل أربــع مليــارات جنيــه‪ (((.‬وارتفعــت نســبة أعــال البنــاء‬
‫يف النصــف الثــاين مــن الســبعينيات بنســبة ‪ ،%107‬أكــر مــن ‪ %90‬منهــا مــن الشــقق‬
‫الفاخــرة والفيــات ومنــازل للعطــات‪ .‬كــا ُخصصــت بــن عامــي ‪ 1974‬و‪ %43 1979‬مــن‬
‫(((‬
‫االســتثامرات الوطنيــة و‪ %60‬مــن املســاعدات والقــروض األجنبيــة ألعــال البنــاء‪.‬‬
‫بحلــول عــام ‪ ،1987‬باتــت القطاعــات غــر الصناعيــة (الخدمــات والبنــاء بشــكل أســايس)‬
‫متثــل ‪ %60‬مــن الناتــج املحــي اإلجــايل للبــاد وتُوظِّــف ‪ %53‬مــن اليــد العاملــة‪ ،‬يف‬
‫نفــس الوقــت الــذي ميثــل فيــه القطــاع الصناعــي ‪ %19‬مــن الناتــج املحــي اإلجــايل‬
‫ويعمــل فيــه ‪ %14‬مــن األيــدي العاملــة‪ ،‬فيــا كانــت الزراعــة متثــل ‪ %21‬وتوظــف ‪%33‬‬

‫‪ -1‬رفعت سيد أحمد‪ ،‬ثورة الجرنال‪ ،1993 ،‬ص ‪.474‬‬


‫‪ -2‬عبد املعطي‪ ،‬الطبقات االجتامعية ومستقبل مرص‪ ،‬ص ‪ ،105‬ص ‪.191‬‬
‫‪ -3‬هيكل‪ ،‬خريف الغضب‪ ،‬ص ‪.191 -183‬‬
‫‪ -4‬عبــد الفضيــل‪ ،‬تأمــات يف املســألة االقتصاديــة املرصيــة‪ ،90 ،‬عبــد املعطــي‪ ،‬الطبقــات االجتامعيــة ومســتقبل‬
‫مــر‪ ،‬ص ‪.121‬‬

‫‪236‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫منهــا‪ (((.‬وقــد قــارن أســتاذ االقتصــاد محمــود عبــد الفضيــل بــن تراجــع القطــاع الصناعــي‬
‫يف مــر يف ظــل الوصايــة األمريكيــة يف الســبعينيات مــع الرتاجــع الــذي فرضتــه القــوى‬
‫األوروبيــة عــى محمــد عــي بعــد هزميتــه عــام ‪ (((.1840‬وهكــذا أســس الســادات لدولــة‬
‫التبعيــة املرصيــة‪ ،‬الدولــة غــر الناميــة وغــر الصناعيــة واملتحــررة بشــكل عشــوايئ‪ ،‬وســار‬
‫مبــارك مــن بعــده عــى خطــاه‪.‬‬
‫ومــا زاد الطــن بلــة‪ ،‬أن مــر بــدأت تغــرق يف الديــون‪ .‬ففــي عــام ‪ ،1971‬بلــغ الديــن‬
‫املــدين ملــر ‪ 1.3‬مليــار دوالر والــذي ُخصــص يف الغالــب ملشــاريع إســراتيجية واســترياد‬
‫ســلع إســراتيجية‪ ،‬مثــل قــرض ‪ 380‬مليــون دوالر الــذي قدمــه الســوفييت للمســاعدة يف‬
‫بنــاء الســد العــايل والصناعــات الثقيلــة‪ ،‬و‪ 205‬ماليــن دوالر مســتحقة للواليــات املتحــدة‬
‫عــن شــحنات القمــح‪ .‬وبلــغ الديــن العســكري ‪ 1.7‬مليــار دوالر أغلبــه خــاص بــروط‬
‫ائتامنيــة ميــرة قدمهــا الــروس‪ .‬وبعــد عقــد واحــد فقــط أي يف عــام ‪ ،1981‬قفــز الديــن‬
‫املــدين إىل ‪ 19.5‬مليــار دوالر معظمهــا مســتحق للواليــات املتحــدة‪ ،‬والديــون العســكرية‬
‫إىل ‪ 5.7‬مليــار دوالر‪ .‬وبعبــارة أخــرى‪ ،‬شــهد عهــد الســادات الــذي امتــد لعــر ســنوات‬
‫زيــادة الديــن الخارجــي ملــر عــر مــرات‪ .‬واألســوأ مــن ذلــك‪ ،‬أن ثالثــة أربــاع الديــون‬
‫املدنيــة ملــر ذهبــت لتمويــل االســتهالك‪ .‬ليــس هــذا فقــط‪ ،‬فبــداًلً مــن اســتخدام عائدات‬
‫النفــط املتزايــدة‪ ،‬والتــي منــت بنســبة ‪ %40‬ســنويًا نتيجــة الطفــرة النفطيــة‪ ،‬لســداد بعــض‬
‫را للقلــق أكــر‬
‫الديــون‪ُ ،‬وجهــت األمــوال مــرة أخــرى نحــو االســتهالك وبــات الوضــع مثـ ً‬
‫(((‬
‫مــن ذي قبــل‪.‬‬
‫خاضــت مــر خمــس حــروب خــال عرشيــن عا ًمــا بــن عامــي ‪ 1955‬و‪ 1975‬مســتخدمة‬
‫مــا قيمتــه ‪ 2.2‬مليــار دوالر مــن األســلحة الســوفيتية‪ ،‬قُــدم مــا قيمتــه خمســمئة مليــون‬
‫دوالر منهــا كمســاعدات‪ .‬وباملقارنــة‪ ،‬مل تخــض مــر خــال الســنوات الســت بــن عامــي‬
‫‪ 1975‬و‪ 1981‬حروبًــا قــط‪ ،‬ومل تخطــط لخــوض أي حــرب‪ ،‬لكنهــا تكبــدت ديونًــا بقيمــة‬

‫‪1- Ibrahim M Oweiss, "Egypt’s Economy: The Pressing Issues", in The Political Economy‬‬
‫‪of Contemporary Egypt, ed. Ibrahim M. Oweiss, 3–49, Washington, DC: Center for‬‬
‫‪Contemporary Arab Studies, Georgetown University, 1990, 9.‬‬
‫‪ -2‬عبد الفضيل‪ ،‬تأمالت يف املسألة االقتصادية املرصية‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫‪ -3‬هيكل‪ ،‬خريف الغضب‪ ،‬ص ‪ ،78‬ص‪.211‬‬

‫‪237‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫‪ 6.6‬مليــار دوالر للواليــات املتحــدة‪ ،‬باإلضافــة إىل ســتمئة وخمســن مليــون دوالر إضافيــة‬
‫(((‬
‫ســنويًا لســداد هــذه الديــون‪.‬‬
‫ســاهمت الحكومــة األمريكيــة واملســتثمرون مــن القطــاع الخــاص مســاهمة مهمــ ًة يف‬
‫تشــكيل هــذا الواقــع االقتصــادي‪ ،‬فكالهام شــارك يف هندســة التغيــرات الحاصلــة يف عهد‬
‫الســادات وكانــا العاملــن الرئيســيني فيــه‪ .‬يقر ديفيــد روكفلر أنــه كان املستشــار االقتصادي‬
‫الرئيــي للســادات‪ ،‬حيــث اســتحوذت زياراتــه املتكــررة ملــر عــى اهتــام الســادات‬
‫ـف الســادات بالتباهــي بـــصداقته مــع‬‫املعــروف بحبــه للمشــاهري والرجــال األقويــاء‪ .‬مل يكتـ ِ‬
‫أيضــا‬
‫عامليــا‪ -‬متا ًمــا كصداقتــه مــع كيســنجر وكارتــر‪ -‬بــل منحــه ً‬
‫رجــل األعــال املشــهور ً‬
‫صالحيــة الوصــول إىل جميــع البيانــات االقتصاديــة ملــر واستشــاره يف كل قراراتــه املهمة‪.‬‬
‫وغنــي عــن الذكــر أن روكفلــر مل يضــع يف اعتبــاره دامئًــا مصالــح صديقــه الســادات‪ ،‬إمنــا‬
‫(((‬
‫حريصــا عــى الرتويــج ألعاملــه الخاصــة وأعــال املســتثمرين األمريكيــن اآلخريــن‪.‬‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫لكــن األمــر األكــر إثــارة للقلــق هــو أن الجانــب املــري مل ُمُتــارس عليــه أي ضغوطــات‬
‫لتنفيــذ سياســات معينــة أو التخــي عنهــا‪ ،‬مــا أتــاح للســادات أن يحكــم كــا يشــاء‪ .‬وكان‬
‫هــذا متوق ًعــا نظـ ًرا لعــدم وجــود ضغــوط داخليــة عــى النظــام يف البدايــة للتحــول نحــو‬
‫االقتصــاد الحــر‪ ،‬بــل كان قــرا ًرا مــن أعــى إىل أســفل مدفو ًعــا إىل حــد كبــر بالضغــط‬
‫األمريــي‪ .‬وبطبيعــة الحــال‪ ،‬بــدأت البضائــع األمريكيــة تتدفــق إىل الســوق املــري مبجــرد‬
‫انفتاحــه عــى البضائــع األجنبيــة‪.‬‬
‫بــن عامــي ‪ 1974‬و‪ ،1984‬اســتوردت مــر مــا قيمتــه ‪ 2.8‬مليــار دوالر مــن البضائــع‬
‫األمريكيــة بنســبة ‪ %33‬مــن إجــايل الــواردات املرصيــة‪ ،‬يف نفــس الوقــت الــذي بلغــت‬
‫فيــه الصــادرات املرصيــة إىل الســوق األمريكيــة ‪ 33‬مليــون دوالر‪ ،‬أي مــا نســبته ‪ ٪8‬فقــط‬
‫مــن إجــايل الصــادرات املرصيــة‪ .‬ويبــدو الخلــل أكــر وضو ًحــا عندمــا يــدرك املــرء أن‬
‫را واحــ ًدا فقــط هــو‬
‫‪ %85‬مــن الصــادرات املرصيــة إىل الواليــات املتحــدة متثــل عنــ ً‬
‫‪1- Heba Handoussa, "Fifteen Years of US Aid to Egypt—A Critical Review", in The Political‬‬
‫‪Economy of Contemporary Egypt, ed. Ibrahim M. Oweiss, 109–24, Washington, DC: Center‬‬
‫‪for Contemporary Arab Studies, Georgetown University, 1990, 114; Barnet, Confronting the‬‬
‫‪Cost of War, 130.‬‬
‫‪ -2‬بهاء الدين‪ ،‬محاورايت مع السادات‪ ،‬ص ‪.114‬‬

‫‪238‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫منطقيــا بالنظــر إىل حصــول املســتثمرين األمريكيــن عــى‬ ‫ً‬ ‫النفــط‪ (((.‬كان هــذا بالطبــع‬
‫‪ %70‬مــن األربــاح التــي تحققــت يف قطــاع البــرول يف مــر‪ ،‬أي حــوايل ‪ 9.5‬مليــار‬
‫دوالر يف عقــد واحــد (‪ .)1984 -1974‬وعــى نطــاق أصغــر‪ ،‬يــرز الخلــل يف العالقــات‬
‫التجاريــة بــن الجانبــن حينهــا يف قطــاع املطاحــن األمريــي‪ .‬ففــي عــام ‪ ،1983‬أصبحــت‬
‫مــر أكــر زبــون أجنبــي للمطاحــن األمريكيــة حيــث اســتوردت منتجــات بقيمــة ‪2.31‬‬
‫را وقوبلت‬ ‫مليــار دوالر‪ .‬ويف املقابــل‪ ،‬تــرر قطــاع املطاحــن القــوي يف مــر تــر ًرا كبـ ً‬
‫صادراتــه إىل األســواق األمريكيــة بعوائــق صارمــة لتقتــر الصــادرات يف ذلــك العــام‬
‫(‪ )1983‬عــى ‪ 218‬مليــون دوالر فقــط‪ .‬لكــن املصــارف األمريكيــة حققــت أعــى عوائــد‬
‫خــال الســنوات األوىل مــن االنفتــاح‪ .‬فبــن عامــي ‪ 1974‬و‪ ،1980‬ارتفــع عــدد املصــارف‬
‫الخاصــة يف مــر مــن صفــر إىل ســتة وخمســن مرصفًــا العديــد منهــا أمريــي‪ .‬وبحلــول‬
‫عــام ‪ ،1985‬اســتحوذت املصــارف األمريكيــة عــى مــا قيمتــه ‪ 9.9‬مليــار دوالر مــن ودائــع‬
‫العمــات األجنبيــة‪ ،‬ثــم ُحــول الجــزء األكــر منهــا إىل الخــارج مــا حــرم االقتصــاد املــري‬
‫مــن مدخــرات قيمــة‪ .‬وباختصــار‪ ،‬مــن الواضــح أن سياســة االنفتــاح أفــادت املســتثمرين‬
‫جليــا يف االرتفــاع الهائــل يف الصــادرات األمريكيــة إىل‬
‫را‪ ،‬ويبــدو هــذا ً‬ ‫األمريكيــن كث ـ ً‬
‫(((‬
‫مــر واألربــاح الكبــرة يف قطاعــي البــرول واملصــارف‪.‬‬
‫أيضــا عــى حكومــة الســادات خمســة‬ ‫بــن عامــي ‪ 1974‬و‪ ،1984‬عرضــت الواليــات املتحــدة ً‬
‫عــر مليــار دوالر يف شــكل قــروض ومســاعدات‪ ،‬وهــي الدفعــة األوىل من برنامــج الوكالة‬
‫األمريكيــة للتنميــة الدوليــة الضخــم الــذي بــدأ بتزويد مــر بـ ‪ 2.3‬مليــار دوالر ســنويًا بعد‬
‫توقيعهــا معاهــدة الســام مــع إرسائيــل يف عــام ‪ .1979‬ورغــم أن حزمــة املســاعدات هــذه‬
‫ســعت يف املقــام األول إىل تعزيــز االقتصــاد املــري‪ ،‬إال أن الواليــات املتحــدة حققــت منها‬
‫مكاســب كبــرة‪ .‬فقــد اســتدعت رشوط الوكالــة األمريكيــة للتنميــة الدوليــة مــن الحكومــة‬
‫املرصيــة اســتخدام أمــوال املســاعدات للدفــع مقابــل "الخدمــات االستشــارية األمريكيــة‬
‫غالبــا مــا تكــون باهظــة الثمــن"‪ ،‬باإلضافــة‬
‫املفرطــة‪ ...‬والســلع والخدمــات األمريكيــة التــي ً‬
‫إىل الحفــاظ عــى بريوقراطيــة الوكالــة األمريكيــة للتنمية الدوليــة املتضخمــة (‪ 1030‬موظفًا‬

‫‪ -1‬عبــد املنعــم املشــاط‪ ،‬الرتبيــة املدنيــة وعمليــة التحــول الدميقراطــي يف مــر‪ ،‬القاهــرة‪ :‬مكتبــة نهضــة الــرق‪،‬‬
‫‪ ،1986‬ص ‪.61‬‬
‫‪2- Handoussa, "Fifteen Years of US Aid to Egypt", 122.‬‬

‫‪239‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫يف مــر يف الســبعينيات مقارنــة بـــ ‪ 4‬فقــط يف إرسائيــل)‪ .‬عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬احتفظــت‬
‫الواليــات املتحــدة بالحــق يف اتخــاذ القــرارات املتعلقــة بأولويــات االســتثامر‪ ،‬مــا دفــع‬
‫البعــض لإلشــارة إىل الوكالــة عــى أنهــا متثــل حكومــة الظــل يف مــر‪ .‬وكمثــال عــى ذلــك‪:‬‬
‫وجهــت الواليــات املتحــدة ‪ %82‬مــن مســاعداتها يف عــام ‪ 1978‬إىل قطــاع البــرول الــذي‬
‫خــدم الســوق األمريكيــة بشــكل أســايس‪ ،‬وأنفقــت أقــل مــن ‪ %4‬عــى الصناعــة رغــم حاجة‬
‫مــر امللحــة لتطويــر صناعاتهــا إلرضــاء ســوقها املتنامــي وزيــادة صادراتهــا‪ ،‬وبالتــايل‬
‫معالجــة العجــز املزمــن يف امليــزان التجــاري‪ .‬ولــذا‪ ،‬مــن املنصــف القــول إن املســاعدات‬
‫(((‬
‫األمريكيــة ملــر ســجلت أربا ًحــا أمريكيــة كبــرة مــن حيــث االســتثامر والتجــارة"‪.‬‬
‫مــارس الســادات نفســه ضغوطًــا مبــارشة عــى الداخــل املــري نيابــة عــن املســتثمرين‬
‫األمريكيــن‪ .‬فحــن رفضــت حكومتــه مثـ ًـا عــرض روكفلــر عــام ‪1973‬بفتــح فــرع لبنــك‬
‫ـف بانتقــاد وزرائــه فحســب‪ ،‬بــل أصــدر مرســو ًما بدمج‬ ‫"تشــيس مانهاتــن" يف مــر‪ ،‬مل يكتـ ِ‬
‫بنــك "تشــيس" بأحــد أكــر بنــوك القطــاع العــام يف مــر‪ :‬البنــك األهــي‪ ،‬وذلــك إلعفــاء‬
‫الفــرع الجديــد مــن القيــود املفروضــة عــى التمويــل األجنبــي‪ .‬كــا تدخــل الســادات يف‬
‫صفقــة بوينــج مــع رشكــة مــر للطــران التــي كانــت عــى وشــك رفــض العــرض الباهــظ‬
‫الثمــن قبــل أن تتلقــى رســالة مــن ســكرتري الســادات جــاء فيهــا مــا يــي‪" :‬ســيدي العزيــز‪،‬‬
‫أصــدر الرئيــس أوامــره بــرورة توقيــع االتفاقية مــع (بوينــج) والرتتيبــات املاليــة املصاحبة‬
‫عــى الفــور"‪ (((.‬ثــم يف عــام ‪ -1974‬وخالفًــا لنصيحــة وزرائــه‪ -‬أجــاز الســادات تشــكيل أول‬
‫لــويب أعــال يف البــاد باســم "مجلــس األعــال املــري األمريــي املشــرك"‪ -‬والــذي‬
‫أعيــدت تســميته يف عــام ‪ 1981‬بـــالغرفة التجاريــة األمريكيــة يف مــر‪ .‬كان مــن املتوقــع‬
‫أن يتمتــع هــذا اللــويب بقــوة هائلــة بســبب صالتــه املبــارشة بالرئاســة‪ ،‬وقــد كشــفت دراســة‬
‫لتوصيــات الغرفــة التجاريــة األمريكيــة يف مــر خــال الســنوات األوىل مــن عملهــا عــن‬
‫انخراطهــا العميــق يف تشــكيل السياســة االقتصاديــة الوطنيــة ملــر بــداًلً مــن مجــرد إزالــة‬
‫(((‬
‫العقبــات أمــام االســتثامر األمريــي‪.‬‬

‫‪ -1‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.117-110‬‬


‫‪ -2‬هيــكل‪ ،‬خريــف الغضــب‪ ،‬ص ‪ ،83-82‬ص ‪ .185‬وألمثلــة أخــرى أنظــر‪ :‬أمــاين قنديــل‪" ،‬التطــور الســيايس يف‬
‫مــر وصنــع السياســات العامــة"‪ ،‬ص ‪.91‬‬
‫‪ -3‬قنديل‪ ،‬التطور السيايس يف مرص‪ ،‬ص ‪.104-103‬‬

‫‪240‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫بحلــول مثانينــات القــرن العرشيــن‪ ،‬باتــت مــر حبيســة املســار الــذي حــدده الســادات‪.‬‬
‫فعــى الصعيــد املحــي‪ ،‬جعــل الســادات انفتــاح النظــام معتمـ ًدا عــى برجوازية توســعية غري‬
‫مســتعدة للتخــي عــن فــرص اإلثــراء التجــاري واملضاربــات‪ ،‬وال لتقليــص منــط اســتهالكها‬
‫الجديــد يف الحيــاة‪ .‬وباتــت االنعكاســات أكــر صعوبــة نظ ـ ًرا ألن اعتــاد مــر الهائــل‬
‫عــى الواليــات املتحــدة جعلهــا عرضــة للضغــوط الخارجيــة املتزايــدة لتســليم اقتصادهــا‬
‫لهــذه الربجوازيــة االســتهالكية(((‪ ،‬وهــي طبقــة‪ -‬عــى حــد تعبــر االقتصــادي املــري‬
‫البــارز إبراهيــم عويــس‪" -‬كرســت أنشــطتها للتجــارة قصــرة األجــل‪ ،‬وحققــت أربا ًحــا نقدية‬
‫غالبــا مــا كانــت ت ُ َّد َخــر يف شــكل نقــود أو مجوهــرات‪ ،‬أو تُنفــق عــى الكامليــات‬
‫عاليــة‪ً ...‬‬
‫غــر الرضوريــة أو االســتهالك الســخي‪ ،‬أو تُســتثمر أو تُ َّدخــر يف الخــارج"‪ (((.‬وقــارن‬
‫هيــكل بينهــم وبــن نخبــة مــا قبــل يوليــو ‪ 1952‬فقــال‪" :‬كانــت الطبقــة اإلقطاعيــة القدميــة‬
‫صغــرة ومســت ِغلة‪ ،‬لكــن ثروتهــا وطموحاتهــا كانــت قامئــة عــى ملكيــة األرض‪ ،‬فحصتهــا‬
‫يف تــراب مــر تعنــي أنهــا مل تنفصــل متا ًمــا عــن الوطــن وال تخلــو أب ـ ًدا مــن الوطنيــة‬
‫(((‬
‫األساســية التــي تــأيت مــن ترســيخ الجــذور‪ .‬لكــن األغنيــاء الجــدد ليــس لديهــم جــذور"‪.‬‬
‫كانــت هــذه أكــر مخــاوف عبــد النــارص‪ ،‬فقــد تيقــن‪ -‬كــا قــال ذات يــوم ملديــر صنــدوق‬
‫النقــد الــدويل‪ -‬إن الدولــة التــي تقــدم املــواد الخــام والخدمــات بشــكل أســايس للعــامل‬
‫الصناعــي وتكــون النخبــة االقتصاديــة فيهــا مبعظمهــا مــن التجــار واملضاربــن وليــس‬
‫قريبــا ضحيــة طبقــة ثريــة فاســدة غــر وطنيــة ال تســاهم مســاهمة‬
‫الصناعيــن‪ ،‬ســتصبح ً‬
‫جوهريــة يف إنتــاج البــاد ومتيــل إىل تصديــر أرباحهــا إىل ســويرسا‪ (((.‬لكــن الســادات‬
‫تجاهــل تحذيــر عبــد النــارص وأغــرق الحــزب الحاكــم بالجرثومــة التــي ســتؤدي يف نهايــة‬
‫املطــاف إىل انهيــار الســقف عــى الجميــع يف ينايــر ‪.2011‬‬
‫قــال هيــكل ســاخ ًرا‪" :‬مل تكــن مــر يف الحقيقــة تتحــول من اقتصــاد مخطــط إىل اقتصاد‬
‫الســوق بــل إىل اقتصــاد ســوبر ماركــت‪ ...‬وانقســم املجتمــع املــري حينهــا بــن القطــط‬
‫الســان وداعميهــم‪ -‬الذيــن رمبــا بلغــوا مئــة وخمســن ألــف شــخص عــى أكــر تقديــر‪-‬‬

‫‪1- Hinnebusch, "The Formation of the Contemporary Egyptian States", 192–93.‬‬


‫‪2- Oweiss, "Egypt’s Economy", 34.‬‬
‫‪ -3‬هيكل‪ ،‬خريف الغضب‪ ،‬ص ‪.87‬‬
‫‪4- Copeland, Game of Nations, 216.‬‬

‫‪241‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫مــن جهــة‪ ،‬وبقيــة الشــعب مــن جهــة أخــرى"‪ (((.‬كــا كشــفت إحصائيــات البنــك الــدويل‬
‫عــن زيــادة يف األربــاح التــي تجنيهــا الـــ ‪ %5‬األكــر عــى مقيــاس الدخــل بــن عامــي‬
‫‪ 1970‬و‪ 1980‬مــن ‪ %17‬إىل ‪ ،%22‬مــع انخفــاض مصاحــب يف الدخــل ألدىن ‪ %20‬عــى‬
‫(((‬
‫مقيــاس الدخــل مــن ‪ %7‬إىل ‪%5‬؛ كل ذلــك مــع معــدل تضخــم بلــغ عــام ‪.٪35 1979‬‬
‫رغــم كل مــا ســبق‪ ،‬حصــل الســادات يف النهايــة عــى النخبــة السياســية الجديــدة وفق هرم‬
‫حقيقــي يضــع الرأســاليني الذيــن ترعاهــم الدولــة يف القمــة‪ ،‬وكــوادر االتحــاد االشــرايك‬
‫القدامــى وحلفاءهــم الريفيــن يف الوســط‪ ،‬وموظفــي الدولــة وعاملهــا الذيــن حققــوا‬
‫مكاســب كوســطاء أو يفتقــرون إىل املهــارات للبقــاء خــارج القطــاع العــام يف القاعــدة‪،‬‬
‫وبــات التحالــف الســيايس الجديــد أقــوى مــن أي وقــت مــى‪ .‬وألول مــرة منــذ عــام‬
‫‪ُ ،1952‬جمعــت النخبــة االقتصاديــة الحقيقيــة يف املجتمــع مــع املســؤولني البريوقراطيــن‬
‫والكــوادر السياســية‪ ،‬وال يحتــاج الســادات اآلن ســوى لوعــاء ســيايس يســتطيع مــن خاللــه‬
‫حشــد الدعــم‪ ،‬ومــن هنــا ُولــد الحــزب الوطنــي الدميقراطــي‪.‬‬
‫أعلــن الســادات يف يوليــو ‪ 1971‬عــن خطــط إلصــاح االتحــاد االشــرايك‪ ،‬ومــرة​​أخــرى‬
‫بعــد املوافقــة عــى الدســتور الدائــم يف اســتفتاء ســبتمرب ‪ .1971‬ولكــن‪ ،‬بعــد الحــرب‬
‫واتبــاع سياســة االنفتــاح بــدأ يف إعــادة بنــاء النظــام الســيايس‪ .‬ويف ينايــر ‪ ،1976‬شــكل‬
‫الســادات ثــاث منصــات داخــل االتحــاد االشــرايك متثــل اليســار واليمــن والوســط‪.‬‬
‫ُعــن رئيــس الــوزراء (ووزيــر الداخليــة وضابــط أمــن الدولــة الســابق) ممــدوح ســامل‬
‫مســؤواًلً عــن املنصــة الوســطى الكبــرة‪ ،‬و ُحولــت الربامــج الثالثــة بعدهــا إىل أحــزاب‬
‫سياســية مبوجــب القانــون ‪ 40‬لعــام ‪ ،1977‬حيــث أصبــح برنامــج الوســط هــو الحــزب‬
‫الحاكــم الجديــد الــذي أطلــق عليــه يف البدايــة اســم "الحــزب االشــرايك املــري"‪ ،‬ثــم‬
‫أعيــدت تســميته يف يوليــو ‪ 1978‬بالحــزب الوطنــي الدميقراطــي‪ .‬وبحيــث يجــب عــى‬
‫اللجنــة التــي يرأســها األمــن العــام للحــزب الوطنــي أن تصــادق عــى تأســيس أي حــزب‬
‫جديــد‪ ،‬والهــدف مــن هــذا هندســة نظــام ســيايس مــع حــزب حاكــم مهيمــن محــاط‬
‫مبجموعــة مــن أحــزاب املعارضــة الشــكلية املواليــة مــن اليســار واليمــن‪.‬‬

‫‪ -1‬هيكل‪ ،‬خريف الغضب‪ ،‬ص ‪.88-86‬‬


‫‪ -2‬رفعت سيد أحمد‪ ،‬ثورة الجرنال‪ ،‬ص ‪.475-474‬‬

‫‪242‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫ـميا‪ ،‬انتقــل أعضــاؤه البالــغ عددهــم ســتة‬


‫لذلــك بينــا تــم حــل االتحــاد االشــرايك رسـ ً‬
‫ماليــن ببســاطة إىل الحــزب الجديــد‪ .‬و ُوصــف الحــزب الوطنــي الدميقراطــي بأنــه نســخة‬
‫كربونيــة مــن االتحــاد االشــرايك‪ :‬يرأســه رئيــس الجمهوريــة؛ يشــغل نفــس املقــر واملقــرات‬
‫باملحافظــات؛ يحصــل عــى املــال مــن ميزانيــة الدولــة؛ يســتخدم وســائل اإلعــام الحكوميــة‬
‫ـا إداريًــا مــن البريوقراطيــة؛ جمــع يف صفوفــه موظفــي القطــاع العــام‬ ‫بحريــة؛ يتلقــى دعـ ً‬
‫مــن ذوي الياقــات البيضــاء والزرقــاء؛ تــم توصيلــه بشــبكة أعيــان القــرى نفســها؛ وظــف‬
‫الكــوادر االنتهازيــة الفاســدة نفســها؛ واعتمــد عــى وزارة الداخليــة لتزويــر االنتخابــات‬
‫وقمــع املعارضــة‪ .‬لكــن الفــارق األســايس هــو أنــه بعــد التنظيــف املنهجــي للحــزب إثــر‬
‫التحــول مــن االتحــاد االشــرايك إىل الحــزب الوطنــي الدميقراطــي‪ ،‬مل تعــد النخبــة‬
‫الحاكمــة تتكــون مــن موظفــن سياســيني بــل مــن رجــال أعــال ترعاهــم الدولــة‪ .‬وبــدأ‬
‫الحــزب الحاكــم والربملــان‪ -‬الــذي يســيطر عليــه الحــزب‪ -‬يف تلبيــة احتياجــات الطبقــة‬
‫الرأســالية الصاعــدة‪.‬‬
‫ملواكبــة هــذه التغيــرات االقتصاديــة والسياســية‪ ،‬قــد يكــون مــن املفيــد إجــراء مســح‬
‫موجــز للمســار املهنــي ألحــد النــاذج البــارزة لهــذه النخبــة السياســية الجديــدة‪ :‬رجــل‬
‫األعــال وعضــو مجلــس الــوزراء والقيــادي يف الحــزب الوطنــي الدميقراطــي عثــان‬
‫أحمــد عثــان‪ .‬بــدأ عثــان عملــه كمقــاول يف أربعينيــات القــرن املــايض وتــرأس رشكــة‬
‫"املقاولــون العــرب" التابعــة لــه‪ ،‬والتــي تطــورت يف الســتينيات لتتحــول إىل إمرباطوريــة‪.‬‬
‫ومــن خــال معرفتــه بالقائــد العــام عبــد الحكيــم عامــر والســادات‪ ،‬تجنــب عثــان أســوأ‬
‫ـميا يف عــام ‪ 1961‬إال أنــه احتفظ بالســيطرة‬‫آثــار موجــة التأميــم‪ ،‬فرغــم تأميــم رشكتــه رسـ ً‬
‫الفعالــة عــى عملياتهــا‪ -‬كــا فعــل ‪ %75‬مــن رجــال األعــال الذيــن تــم تأميــم رشكاتهــم‪.‬‬
‫كانــت الحكومــات عميــل عثــان الرئيــي ســواء يف مــر أو يف دول عربيــة أخــرى‪ :‬ففــي‬
‫عــام ‪ ،1953‬بنــى أول منشــآت عســكرية ســعودية مبا يف ذلــك األكادميية العســكرية للمملكة‪،‬‬
‫أيضــا بنــى يف العــراق مرابــض إلطــاق الصواريــخ ومخابــئ وحظائــر‬ ‫ويف الخمســينيات ً‬
‫خرســانية وقواعــد عســكرية‪ ،‬وكذلــك يف ليبيــا يف منتصــف الســتينيات ويف أبــو ظبــي يف‬
‫عــام ‪ .1968‬كــا قــام بتنفيــذ مشــاريع مدنيــة كبناء مبنــى الربملــان الكويتي ومجالــس املدن‬
‫يف عــام ‪ .1954‬وأمنــت اتصــاالت عثــان باملخابــرات الحربيــة يف مــر أكــر مــروع‬

‫‪243‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫لــه‪ :‬حيــث شــكل لجنــة لبنــاء الســد العــايل يف أواخــر الخمســينيات مــن القــرن املــايض‪.‬‬
‫كــا كلفــه عامــر بإعــادة بنــاء بورســعيد بعــد تدمريهــا عــام ‪ .1956‬ويف تلــك الســنة التقــى‬
‫(((‬
‫عثــان بالســادات للمــرة األوىل‪ ،‬حيــث أصبحــا عــى حــد وصفــه مــن أقــرب األصدقــاء‪.‬‬
‫مــع تــويل الســادات الســلطة‪ ،‬كلــف عثــان ببنــاء "كوبــري ‪ 6‬أكتوبــر" وهــو أطــول كوبــري‬
‫يف مــر‪ .‬ثــم حصــل يف عــام ‪ 1970‬عــى ‪ 40‬مليــون جنيــه عمولــة لبنــاء مخابــئ وحظائــر‬
‫الطائــرات وقواعــد الصواريــخ‪ ،‬وكُلــف يف عــام ‪ 1972‬بإنشــاء ناقــات دبابــات عامئــة‬
‫الســتخدامها يف عبــور قنــاة الســويس‪ ،‬وبعــد العبــور مبــارشة طُلــب منــه بنــاء جســور تربــط‬
‫بــن الضفتــن الرشقيــة والغربيــة‪ .‬يف أكتوبــر ‪ُ ،1973‬عــن وزيـ ًرا لإلســكان وأُســندت إليــه‬
‫مهمــة إعــادة بنــاء مــدن قنــاة الســويس وتطهــر وتوســيع القنــاة نفســها باالعتــاد بشــكل‬
‫أســايس عــى رشكتــه الخاصــة‪ .‬يف عــام ‪ ،1974‬أضــاف الســادات إىل حقيبتــه الوزاريــة‬
‫مســؤولية األمــن الغــذايئ‪ ،‬مــا ســمح لــه ألول مــرة بتوســيع أعاملــه إىل مــا بعــد قطــاع‬
‫البنــاء لتشــمل مجــاالت متنوعــة مثــل النقــل وإنتــاج الغــذاء (مــزارع الســمك والدواجــن‬
‫وتربيــة املــوايش واملنتجــات الزراعيــة)‪ ،‬واســتصالح األرايض (أكــر مــن خمســن ألــف‬
‫فــدان)‪ ،‬وكان مــن الصعــب عــى أقرانــه منافســة رجــل لديــه منفــذ رســمي إىل املــوارد‬
‫العامــة والتصاريــح‪ .‬ثــم انتقــل عثــان بعــد ذلــك إلنشــاء "بنــك قنــاة الســويس" أحــد أوائــل‬
‫البنــوك الخاصــة يف مــر‪ ،‬باإلضافــة إىل ناديــه الريــايض الخــاص‪.‬‬
‫ـن عثــان كنائــب لرئيــس الــوزراء لشــؤون التنميــة ً‬
‫ورئيســا للجنــة‬ ‫يف نوفمــر ‪ُ ،1976‬عـ ِّ َ‬
‫التنميــة يف الحــزب الوطنــي الدميقراطــي‪ (((.‬وخــال العــام األخــر مــن واليتــه كوزيــر‬
‫لإلســكان (‪ ،)1981‬خصــص مــا مجموعــه ‪ 3.7‬مليــار جنيــه ملشــاريع البنــاء ذهــب نصفهــا‬
‫أيضــا عــى مليــوين مــر مربــع مــن‬ ‫إىل رشكــة "املقاولــون العــرب"‪ .‬حصلــت الرشكــة ً‬
‫األرايض اململوكــة للجيــش يف القاهــرة مجانًــا يف املنطقــة املعروفــة باســم الجبــل األحمــر‬
‫يف حــي العباســية بالقاهــرة‪ ،‬وعندمــا عــارض جــرال ذائــع الصيــت يف الجيــش الصفقــة‬
‫أُجــر عــى االســتقالة‪ .‬ويف املجمــل‪ ،‬فــإن معظــم األمــوال التــي اســتخدمها عثــان إلنشــاء‬
‫(((‬
‫مشــاريعه كانــت أمــوااًلً عامــة‪.‬‬
‫‪ -1‬عثامن أحمد عثامن‪ ،‬صفحات من تجربتي‪ ،‬ص ‪ ،195-164‬ص ‪ ،226‬ص ‪.394-389‬‬
‫‪ -2‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪ ،468-422‬ص ‪.647-608‬‬
‫‪ -3‬هيكل‪ ،‬خريف الغضب‪ ،‬ص ‪.189-188‬‬

‫‪244‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫يف املقابــل‪ ،‬قــدم عثــان العديــد مــن الخدمــات السياســية للســادات‪ .‬فقــد اســتخدم‬
‫عالقاتــه القويــة مــع اإلخــوان املســلمني لضــان دعمهــم للســادات وتوجيــه حنقهــم ضــد‬
‫النشــطاء اليســاريني يف الجامعــات والنقابــات العامليــة والجمعيــات األخــرى‪ .‬بعــد إقالــة‬
‫الســادات لعــي صــري يف ‪ 2‬مايــو‪ ،‬هــرع عثــان إىل مقــر الرشكــة وح ّمــل مائــة حافلــة‬
‫بالعــال وأمرهــم بتطويــق منــزل الرئيــس لحاميتــه مــن أي أذى‪ .‬ثــم ســاعد يف تشــويه‬
‫ســمعة أعــداء الســادات مؤك ـ ًدا وجهــة النظــر القائلــة بــأن قــادة مراكــز القــوى كانــوا‬
‫عمــاء للســوفييت‪ ،‬وادعــى أنــه شــاهد عــن قــرب كيــف كان رئيــس األركان ســعد الديــن‬
‫الشــاذيل خــال حــرب ‪ 1973‬مــرد ًدا ومضطربًــا وغــر مســتقر‪ ،‬كــا اشــتهر باالنضــام‬
‫إىل الســادات يف رحلتــه إىل إرسائيــل عــام ‪ 1977‬إلظهــار الدعــم لــه‪ .‬صمــم عثــان بعــد‬
‫ذلــك رشاكــة اقتصاديــة للســادات مــع رشكات محليــة وأجنبيــة‪ ،‬فنســق مشــاركة الوكالــة‬
‫األمريكيــة للتنميــة الدوليــة يف الحيــاة االقتصاديــة ملــر‪ ،‬وقــدم رشوطًــا مواتيــة للعديــد‬
‫مــن التكتــات األمريكيــة بــد ًءا مــن رشكــة كوكاكــوال‪ .‬كــا ســاعد خــال ســنوات عملــه يف‬
‫الحــزب الوطنــي الدميقراطــي يف إنشــاء أكــر مــن مثانــن رشكــة خاصــة‪ ،‬ولخــص يف‬
‫مذكراتــه دوره االقتصــادي عــى النحــو التــايل "كانــت سياســتي هــي فتــح البــاب أمــام‬
‫(((‬
‫القطــاع الخــاص ليقــود الحيــاة االقتصاديــة يف البــاد"‪.‬‬
‫لــكل مــا ســبق‪ ،‬اعتُــر عثــان املمثــل الجوهــري للطبقــة الحاكمــة الجديــدة يف مــر‪ ،‬فهــو‬
‫وس ـ َع رأســاله مــن خــال مؤسســات الدولــة‪ ،‬ثــم تــوىل دو ًرا قياديًــا يف الحكومــة‬ ‫رجــل َّ‬
‫والحــزب الحاكــم‪ .‬مــن املهــم هنــا مقارنــة ثرواتــه بــن عهــد عبــد النــارص وعهد الســادات‪،‬‬
‫ففيــا كان يكســب لقمــة عيشــه كمديــر بالقطــاع العــام يف عهــد عبــد النــارص مل يكــن لــه‬
‫أي تأثــر عــى الحيــاة االقتصاديــة حينهــا‪ ،‬ناهيــك عــن الحيــاة السياســية‪ .‬لكــن مــع وصول‬
‫العبــا‬
‫أيضــا ً‬
‫الســادات إىل الســلطة‪ ،‬فقــد حقــق مكاســب ماليــة ال ميكــن تصورهــا وأصبــح ً‬
‫اقتصاديًــا وسياسـ ًـيا رئيسـ ًـيا‪ ،‬واســتمر الحــال كذلــك خــال حكــم مبــارك مــع تغيــر طفيــف‪.‬‬
‫أيضــا‬
‫مل يكــن الحــزب الوطنــي الدميقراطــي بالطبــع قــوة اقتصاديــة فحســب‪ ،‬بــل كان ً‬
‫را مــن خــال التنظيــم الطليعــي ذي التوجهــات األمنيــة‪ ،‬والــذي‬
‫ـتخباراتيا صغـ ً‬
‫ً‬ ‫جهــا ًزا اسـ‬
‫توافــد أعضــاؤه البالــغ عددهــم مئــة وخمســن ألفًــا بشــكل جامعــي لالنضــام إىل‬

‫‪ -1‬عثامن أحمد عثامن‪ ،‬صفحات من تجربتي‪ ،‬ص ‪ ،362-346‬ص ‪ ،472-404‬ص ‪ ،578‬ص ‪.643‬‬

‫‪245‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫الحــزب وســيطروا عــى املناصــب الرئيســية فيــه وداخــل الــوزارات الحكوميــة‪ .‬ولكــن‬
‫رغــم قــوة الحــزب الوطنــي‪ ،‬إال أنــه مل يكــن قــاد ًرا عــى العمــل بــدون الحاميــة الشــاملة‬
‫ِ‬
‫تكتــف الــوزارة بــإدارة القمــع اليومــي فحســب‪ ،‬بــل‬ ‫التــي توفرهــا وزارة الداخليــة‪ .‬مل‬
‫أيضــا يف كل جانــب مــن جوانــب الحيــاة السياســية للحــزب الحاكــم‪ :‬فتابعــت‬ ‫شــاركت ً‬
‫املتقدمــن لعضويــة الحــزب الوطنــي ودققــت يف خلفياتهــم؛ وراقبــت الصعــود الكبــر‬
‫لرجــال األعــال؛ أرهبــت وأخضعــت العنــارص املناوئــة للحــزب الوطنــي يف الجامعــات‬
‫واملصانــع والقــرى‪ .‬كــا قامــت بتزويــر االنتخابــات الربملانيــة والطالبيــة والنقابيــة لضــان‬
‫فــوز الحــزب باألغلبيــة‪ .‬وباختصــار‪ ،‬مل يكــن اســتبداد الحــزب الوطنــي ممك ًنــا لــوال غطــاء‬
‫الدولــة البوليســية مكتملــة األركان‪.‬‬

‫سيطرة السادات عىل الجيش والرشطة‬


‫ـش عــن مركــز الصدارة يف املشــهد الســيايس واكتســبت العديد‬ ‫أقصــت وزار ُة الداخليــة الجيـ َ‬
‫مــن امتيازاتــه‪ ،‬مــا أثــار بطبيعــة الحــال عــداء متبــاداًلً بــن الطرفــن‪ .‬وفيــا كان األمنــاء‬
‫العامــون لالتحــاد االشــرايك يأتــون دامئًــا مــن خلفيــة عســكرية‪ ،‬فقد ُولِـ َد الحــزب الوطني‬
‫الدميقراطــي برعايــة مــن اللــواء ممــدوح ســامل خريــج كليــة الرشطة‪ .‬كــا حرص الســادات‬
‫عــى تعيــن محافظــن مــن ضبــاط الرشطــة أكــر مــن ضبــاط الجيــش‪ .‬واألكــر إثــارة‬
‫للقلــق هــو مقــدار الســلطة التــي اكتســبها وزراء الداخليــة يف عهــد الســادات‪ ،‬خاصــة اللواء‬
‫نبــوي إســاعيل يسء الســمعة الــذي شــغل املنصــب يف النصــف الثــاين مــن الســبعينيات‪.‬‬
‫كان إســاعيل أحــد ضبــاط الرشطــة القالئــل الذيــن وقفــوا ضــد نجيــب وســاعدوا يف‬
‫تنظيــم مظاهــرات مــارس ‪ 1954‬التــي أســقطت املعســكر املؤيــد للدميقراطيــة‪ ،‬فكوفــئ بعــد‬
‫االنقــاب بوظيفــة يف الرشطــة الرسيــة‪ -‬التي تحول اســمها الح ًقــا إىل مباحث أمــن الدولة‪-‬‬
‫وترقــى يف املناصــب حتــى أصبــح مســاع ًدا رئيســيًا ملمــدوح ســامل‪ ،‬الــذي كان أول ضابــط‬
‫رئيســا للــوزراء يف عــام ‪.1976‬‬
‫رشطــة يشــغل منصــب وزيــر الداخليــة يف عــام ‪ 1971‬ثــم ً‬
‫بعــد فشــل الــوزارة يف التعامــل مــع أحــداث انتفاضــة الخبــز يف ينايــر ‪( 1977‬سنناقشــها‬
‫أدنــاه)‪ ،‬اســتدعى الســادات إســاعيل لتعزيــز فعاليــة قــوات الرشطــة‪ .‬واعــرف إســاعيل‬
‫بفخــر أنــه متتــع بنفــوذ كبــر يف عهــد الســادات لدرجــة أنــه "رشــح" أعضــاء مجلــس‬

‫‪246‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫الــوزراء املســتقبلني‪ ،‬مبــن فيهــم رئيــس الــوزراء‪ .‬ففــي حادثــة شــهرية‪ ،‬أراد الســادات أن‬
‫ينتقــل أعضــاء الحــزب االشــرايك املــري إىل الحــزب الوطنــي حديــث النشــأة‪ ،‬فدخــل‬
‫إســاعيل إىل أحــد اجتامعــات الحــزب االشــرايك املــري وأمــر أعضــاءه باالنتقــال إىل‬
‫(((‬
‫الحــزب الجديــد دون تأخــر‪.‬‬
‫لكــن مــا زاد مــن غضــب ضبــاط الجيــش هــو أنهــم أصبحــوا بشــكل متزايــد تحــت‬
‫متابعــة مباحــث أمــن الدولــة التابعــة للداخليــة‪ .‬وكأمثلــة عــى ذلــك‪ ،‬كُلــف رئيــس األركان‬
‫الســابق ســعد الديــن الشــاذيل يف عــام ‪ 1972‬برئاســة لجنــة تقييــم مؤلفــة مــن خمســة‬
‫عــر جــرااًلً ‪ .‬وعندمــا قــدم إىل وزيــر الحربيــة توصيــات اللجنــة للرتقيــات العســكرية‬
‫متعلــا بتقاريــر مباحــث أمــن الدولــة‪ .‬وحــن اســتلمت‬
‫ً‬ ‫حــذف األخــر بعــض األســاء‬
‫مــر شــحنة مــن دبابــات ‪( T-62s‬الدبابــات الروســية األكــر تطــو ًرا يف ذلــك الوقــت)‬
‫وقــررت هيئــة األركان يف اجتــاع لهــا يف ‪ 26‬فربايــر ‪ 1972‬إرســالها عــى الفــور إىل‬
‫الخطــوط األماميــة‪ ،‬اكتشــفوا أن هــذه الدبابــات ســتبقى يف القاهــرة ريثــا تتحقــق‬
‫مباحــث أمــن الدولــة مــن قــادة لــواء الدبابــات‪ .‬وخــال اجتــاع بــن الرئيــس الســادات‬
‫وقادتــه يف ‪ 19‬مــارس ‪ ،1972‬اتهــم الســادات كبــار الضبــاط بتأليــب الجنــود ضــد‬
‫سياســاته‪ ،‬وعندمــا نفــى الحــارضون ذلــك قــام باســتدعاء ضابــط مــن مباحــث أمــن‬
‫الدولــة مــن غرفــة انتظــار جانبيــة لتأكيــد التهمــة وإثباتهــا‪ (((.‬كــا عــزل الســادات‬
‫وزيــر الحربيــة محمــد صــادق وكبــار مســاعديه مــن مناصبهــم بنــا ًء عــى تقاريــر‬
‫(((‬
‫أمنيــة تفيــد بأنــه بــات يتمتــع بشــعبية كبــرة داخــل الجيــش وينتقــد سياســات الرئيــس‪.‬‬
‫وكلــف الســادات مســاعده األمنــي‪ ،‬مديــر مكتــب الرئيــس للمعلومــات‪ ،‬أرشف مــروان‬
‫بالتفــاوض عــى واردات األســلحة قبــل حــرب ‪ 1973‬بــداًلً مــن تكليــف وفــد عســكري بهــذه‬
‫ـب مديــر مباحــث أمــن الدولــة اللــواء فــؤاد عــام‬‫املهمــة‪ .‬واملثــال األخــر تكليفــه نائـ َ‬
‫(((‬

‫(((‬
‫بالتحقيــق يف مؤامــرة مزعومــة خطــط لهــا ضبــاط متوســطو الرتــب يف مــارس‪.1981‬‬

‫‪ -1‬محمود فوزي‪ ،‬النبوي إسامعيل وجذور منصة السادات‪ ،‬ص‪ ،49‬ص ‪.90-86‬‬
‫‪2- Shazly, Crossing, 83–99.‬‬
‫‪3- Sirrs, History, 127.‬‬
‫‪ -4‬عبد الرحمن السيد‪ ،‬األهرام‪.5/7/2005 ،‬‬
‫‪ -5‬فؤاد عالم‪ ،‬اإلخوان وأنا‪ ،‬ص ‪.413‬‬

‫‪247‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫مــع تصاعــد املنافســة بــن الجيــش ووزارة الداخليــة‪ ،‬شــكلت "انتفاضــة الخبــز" يف ينايــر‬
‫‪ 1977‬اختبــا ًرا شــدي ًدا للمؤسســتني‪ .‬تطلبــت سياســة االنفتــاح االقتصــادي التــي اتبعهــا‬
‫تدريجيــا للدعــم الحكومــي الــذي كان املرصيــون يعتربونــه مــن الثوابــت‬‫ً‬ ‫الســادات رف ًعــا‬
‫لديهــم ملــا يقــرب مــن ثالثــة عقــود‪ .‬لذلــك‪ ،‬خــرج املرصيــون إىل الشــوارع بعــد قــرار‬
‫الحكومــة بخفــض الدعــم إىل النصــف (وبالتــايل رفــع ســعر الطحــن واألرز والســكر‬
‫والســلع األساســية األخــرى)‪ .‬كانــت أعــال الشــغب يف ‪ 19-18‬ينايــر ‪ 1977‬هــي األكــر‬
‫واألكــر عن ًفــا منــذ انقــاب عــام ‪ ،1952‬لدرجــة أن الســادات اضطــر إىل الهــروب مــن‬
‫أســوان إىل القاهــرة يف مروحيــة قبــل أن تهاجــم الجامهــر الغاضبــة اســراحته بأســوان‪.‬‬
‫ومل تكــن الرشطــة حينهــا مجهــزة للتعامــل مــع أعــال الشــغب الواســعة بهــذا الحجــم‪،‬‬
‫فاضطــر الســادات الســتدعاء الجيــش‪ .‬لكــن وزيــر الحربيــة الجمــي قــال إنــه لــن يأمــر‬
‫رجالــه بالتدخــل مــا مل تبطــل حكومــة الســادات القــرار املثــر للجــدل‪ ،‬مــا دفــع األخــر‬
‫را‪ ،‬اســتتب األمــن يف البــاد بعــد مقتــل مئــة وســتني متظاهــ ًرا‬ ‫إللغائــه بالفعــل‪ .‬وأخــ ً‬
‫وإصابــة مثامنئــة واعتقــال خمســة آالف‪ (((.‬تلقــى الضابــط يف أمــن الدولــة عاصــم جنيــدي‬
‫وزمــاؤه أوامــر مــن الســادات بتعقــب كل مركبــة عســكرية وضابــط يف الشــارع الشــتباهه‬
‫يف أن وزيــر الحربيــة الجمــي يخطــط لتنفيــذ انقــاب‪ .‬لــذا ال يُســتغرب أن الســادات‬
‫رفــض االعــراف بــدور الجيــش يف خطابــه العــام بعــد انتهــاء أعــال الشــغب‪ ،‬وطلــب مــن‬
‫جميــع الصحــف أن تحــذو حــذوه‪ .‬واســتفاد الرئيــس مــن هــذه األحــداث يف أن تهميــش‬
‫الجيــش يتطلــب عســكرة الرشطــة‪ ،‬وقــال اللــواء جنيــدي إن وزارة الداخليــة وضعــت عــى‬
‫الفــور "خطــة ‪ "100‬التــي حــددت كيفيــة الســيطرة عــى الدولــة يف حالــة انــدالع ثــورة‬
‫(((‬
‫شــعبية أخــرى‪ ،‬وهــي الخطــة التــي فشــلت فشـ ًـا ذري ًعــا يف ينايــر‪.2011‬‬
‫مبســاعدة النبــوي إســاعيل الــذي ال يرحــم‪ ،‬بــدأ الرئيــس الســادات يف تعزيــز قــوة‬
‫الرشطــة مــن حيــث العــدد والســاح‪ ،‬فارتفــع عــدد قــوات األمــن املركــزي شــبه العســكرية‬
‫يف عــام ‪ 1977‬رسي ًعــا مــن مئــة ألــف إىل ثالمثئــة ألــف جنــدي(((‪ ،‬و ُعــززت ترســانتها‬
‫‪1- McDermott, Egypt from Nasser to Mubarak, 54.‬‬
‫‪ -2‬عاصــم جنيــدي يف ثــورة ‪ 25‬ينايــر‪ :‬قــراءة أوليــة ورؤيــة مســتقبلية‪ ،‬عمــرو هاشــم ربيــع‪ ،‬القاهــرة‪ :‬مركــز‬
‫األهــرام‪ ،2011 ،‬ص ‪.154‬‬
‫‪ -3‬الصــواب هــو أن حجــم األمــن املركــزي ارتفــع مــن ‪ 12‬ألــف جنــدي وضابــط إىل ‪ 100‬ألــف بعــد انتفاضــة‬
‫الخبــز‪ ،‬انظــر‪ :‬أحمــد موالنــا‪ ،‬دهاليــز األمــن املركــزي‪ ،‬منتــدى العاصمــة‪.2022 ،‬‬

‫‪248‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫بعبــوات الغــاز املســيل للدمــوع والعربــات املدرعــة بــداًلً مــن الهــراوات والبنــادق‪ (((.‬يف عام‬
‫‪ 1979‬وحــده‪ ،‬زودت الواليــات املتحــدة قــوات األمــن املركــزي بـــ ‪ 153946‬قنبلــة غاز مســيل‬
‫آليــا و‪ 328000‬رصاصــة مطاطيــة‪ُ (((.‬جهــزت قــوات األمــن املركــزي‬ ‫للدمــوع و‪ 2419‬ســا ًحا ً‬
‫لالســتغناء عــن االســتعانة بالجيــش الســتعادة النظــام العــام عنــد كل أزمــة‪ ،‬مــا يعنــي أن‬
‫الجيــش مل يعــد مبثابــة املــاذ األخــر بالنســبة للنظــام‪ .‬وعــى حــد تعبــر أحــد املحللــن "إن‬
‫كانــت مباحــث األمــن الدولــة تشــكل عيــون وآذان ومحققــي النظــام‪ ،‬فــإن قــوات األمــن‬
‫املركــزي هــي أداة القــوة الغاشــمة الخاصــة بــه"‪ (((.‬كان متوق ًعــا أن ترتاجــع درجــة انعــدام‬
‫الثقــة بــن الســادات وجيشــه لدرجــة أنــه طلــب مــن وزارة الداخليــة اإلرشاف عــى أمنــه‬
‫الشــخيص داخــل وزارة الدفــاع والقواعــد العســكرية األخــرى‪ (((.‬لقــد بلغــت العالقــة بــن‬
‫الجنــود والقائــد العــام أدىن مســتوياتها منــذ مواجهــة عبــد النــارص وعبــد الحكيــم عامــر‬
‫ـض‬‫عــام ‪ .1967‬يتذكــر العقيــد محمــد ســليم‪ -‬الــذي قــى أيامــه األخــرة يف الجيــش‪ -‬بعـ َ‬
‫املناقشــات التــي أجراهــا مــع زمالئــه يف ذلــك الوقــت‪ ،‬فيقــول‪:‬‬
‫"أدركنــا جمي ًعــا أن اإلســراتيجية العامــة هــي إضعــاف الجيــش وتعزيــز نفــوذ الرشطــة‪،‬‬
‫حيــث بــدأ ذلــك مــع ممــدوح ســامل عــام ‪ 1971‬لكنــه مل يشــتد إال بعــد تــويل نبــوي‬
‫إســاعيل وزارة الداخليــة عــام ‪ .1977‬لقــد عشــنا لــرى اليــوم الــذي أصبــح فيــه وزيــر‬
‫أيضــا كيفيــة دعــم قــوات األمــن املركــزي لتصبــح‬
‫الداخليــة أقــوى رجــل يف مــر‪ ،‬وتابعنــا ً‬
‫مســؤولة عــن مكافحــة الشــغب‪ ،‬ورسعــان مــا بــات االســتغناء عنــا ممك ًنــا فيــا مل نكــن‬
‫(((‬
‫قادريــن عــى فعــل يشء حيــال ذلــك"‪.‬‬
‫قــررت وزارة الداخليــة يف هــذه املرحلــة اســتعراض عضالتهــا فيــا وصفــه هيــكل بأنــه‬
‫"خريــف الغضــب"‪ .‬ففــي ‪ 3‬ســبتمرب ‪ ،1981‬قــرر نبــوي إســاعيل املنتــي بالســلطة‬
‫اعتقــال ثالثــة آالف مــن كبــار املفكريــن والصحفيــن ورجــال الديــن والقساوســة وأعضــاء‬
‫درســا‬
‫الجامعــات املعارضــة‪ ،‬مبــن فيهــم هيــكل‪ ،‬حيــث أراد إيداعهــم الســجن ليلقنهــم ً‬

‫‪ -1‬محمود فوزي‪ ،‬النبوي إسامعيل‪ ،‬ص ‪.156-154‬‬


‫‪ -2‬عبداملنعم املشاط‪ ،‬العوامل الخارجية‪ ،‬ص ‪.65‬‬
‫‪3- Sirrs, History, 162.‬‬
‫‪ -4‬حمودة‪ ،‬اغتيال رئيس‪ ،‬ص ‪.239‬‬
‫‪ -5‬مقابلة مع العقيد محمد سليم‪.2009 ،‬‬

‫‪249‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫يردعهــم عــن انتقــاد سياســات الســادات‪ .‬ورغــم شــكوك نائــب مديــر مباحــث أمــن الدولــة‬
‫فــؤاد عــام الجديــة حــول هــذه الحملــة الرشســة‪ ،‬إال أنــه زعــم عجــزه أمــام وزيــر الداخلية‬
‫الــذي اعتقــد أن بقدرتــه الســيطرة عــى الدولــة بأكملهــا‪ .‬يف الواقــع‪ ،‬ســجل عــام يف‬
‫مذكراتــه أن رئيســه أوىص بدايــة باعتقــال قامئــة تضــم ‪ 12‬ألــف معــارض‪ ،‬قبــل أن يقنعــه‬
‫بعــض ضبــاط الرشطــة مــن ذوي الخــرة بــرورة تقليــص هــذا العــدد‪ (((.‬وبعــد يومــن‬
‫مــن االعتقــاالت الجامعيــة‪ ،‬ألقــى الســادات خطابًــا ناريًــا يف الربملــان محتفـ ًـا مبــا أســاه‬
‫ثــورة ســبتمرب‪ ،‬فشــتم أحــد املعتقلــن (الــذي صــودف أنــه داعيــة إســامي ذو مكانــة)‬
‫واص ًفــا إيــاه بأنــه يتعفــن يف الســجن كالكلــب‪ ،‬ورصخ أمــام الحارضيــن املذهولــن قائـ ًـا‬
‫(((‬
‫"احــذروا! لــن أرحــم أح ـ ًدا بعــد اآلن!"‬
‫الرضبة القاتلة!‬
‫يف ‪ 6‬أكتوبــر ‪ ،1981‬كان املرصيــون يتابعــون موكــب النــر الســنوي لالحتفــال بالعبــور‬
‫البطــويل لقنــاة الســويس يف اليــوم األول مــن حــرب عــام ‪ ،1973‬وهــم يعلمــون أن هــذا‬
‫االحتفــال مختلــف عــا قبله (رغــم أنهم مل يدركوا مــدى هذا االختــاف)‪ .‬كان من املفرتض‬
‫أن يكــون العــرض األكــر مــن نوعــه مبناســبة الذكــرى الثامنــة لحــرب أكتوبر وباســتعراض‬
‫لألســلحة الغربيــة (معظمهــا أمريكيــة) التــي حصلــت عليهــا مــر مؤخـ ًرا‪ ،‬وقــد نُظــم قبــل‬
‫أشــهر قليلــة مــن انســحاب إرسائيــل النهــايئ مــن ســيناء يف أبريــل ‪ ،1982‬وبالــكاد بعــد‬
‫شــهر مــن أكــر حملــة قمــع شــنها الســادات ضــد املعارضــة الداخليــة يف ســبتمرب ‪.1981‬‬
‫جلــس جميــع قــادة البــاد والعــرات مــن الشــخصيات األجنبيــة املرموقــة يف منصــة‬
‫العــرض حــول الرئيــس الســادات‪ ،‬الــذي ارتــدى زيــه العســكري املصمــم يف لنــدن عــى‬
‫الطــراز الــرويس واملغطــى برشائــط ونجــوم (منحهــا هــو لنفســه) ووشــاح أخــر مــن‬
‫الكتــف إىل الخــر (أســاه وشــاح العــدل)‪ .‬وبــدأ مســر الضبــاط والطــاب بزيهــم‬
‫العســكري الالمــع‪ ،‬تتبعهــم أرتــال ال نهايــة لهــا مــن الدبابــات واملدافــع مــع أطقمهــا لتحيــة‬
‫القائــد األعــى‪ ،‬واملقاتــات األمريكيــة تحلــق مدويــة فوقهــم يف تشــكيالت ضيقــة تاركــة‬
‫خلفهــا آثــار الدخــان امللــون‪ .‬كان مــن املفــرض أن يرمــز العــرض إىل قــوة وعظمــة‬

‫‪ -1‬عالم‪ ،‬اإلخوان وأنا‪ ،‬ص ‪.269‬‬


‫‪ -2‬حمودة‪ ،‬اغتيال رئيس‪ ،‬ص ‪.65‬‬

‫‪250‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫إنجــازات الســادات خــال فــرة حكمــه التــي اســتمرت عق ـ ًدا مــن الزمــن‪ ،‬لكــن الكيفيــة‬
‫التــي انتهــى بهــا الحــدث مل تكــن أقــل رمزيــة‪ .‬ففــي اللحظــة التــي حــدق فيهــا الســادات‬
‫يف الطائــرات الجديــدة‪ ،‬انفصلــت عربــة مصفحــة عــن رتــل مؤلــف مــن اثنــي عــر قطعــة‬
‫مدفعيــة وشــقت طريقهــا نحــو املنصــة‪ ،‬فقفــز أربعــة مســلحون مــن العربــة وألقــوا قنابــل‬
‫يدويــة عــى املنصــة وأطلقــوا نــران بنادقهــم عــى الحارضيــن‪ .‬ويف أربعــن ثانيــة فقــط‪،‬‬
‫قُتــل الرئيــس الســادات مــع تســعة آخريــن‪ ،‬وأصيــب مثانيــة وعــرون آخــرون‪ .‬ورغــم‬
‫إصابــة جســد الســادات بـــ ‪ 39‬رصاصــة‪ ،‬إال أن التقريــر الطبــي ذكــر أن ســبب الوفــاة هــو‬
‫صدمــة عصبيــة‪ .‬يُتوقــع أن تكــون هــذه هــي املــرة األوىل يف التاريــخ املــد َّون التــي اغتــال‬
‫فيهــا املرصيــون فرعونهــم‪ .‬لكــن مــا زاد الطــن بلــة‪ ،‬أن أحـ ًدا مل يهتــم بحضــور جنازتــه‬
‫ســوى قلــة قليــة مــن النــاس‪ -‬مــا أجــر مذيعــة التلفزيــون األمريكيــة باربــرا والــرز عــى‬
‫التكهــن بــأن الســادات لــو اســتطاع رؤيــة مــدى قلــة اهتــام املرصيــن بــه فســيموت مــرة‬
‫ثانيــة مــن شــدة الحــزن‪ (((.‬وعلــق هيــكل عــى الحــدث قائ ـاً‪:‬‬
‫"يف ذلــك الوقــت‪ ،‬رأى كثــرون يف الغــرب اغتيــال الســادات مجــرد عمــل آخــر مــن‬
‫أعــال العنــف التــي يبــدو أال معنــى لهــا والتــي قضــت عــى الكثــر مــن الشــخصيات‬
‫العامــة البــارزة‪ ...‬وهــذا خطــأ متا ًمــا‪ ...‬فالقــوى التــي تآمــرت عــى الســادات كانــت جــز ًءا‬
‫مــن التوجــه الســائد يف املجتمــع املــري متا ًمــا مثــل القــوى التــي أطاحــت بالشــاه والتــي‬
‫كانــت جــز ًءا مــن التوجــه الســائد يف إيــران‪ ...‬بــرز هــذا واض ًحــا وبشــكل مأســاوي ومصور‬
‫يف جنازتــه عندمــا نقلــه إىل قــره عــدد مــن املســؤولني األجانــب‪ ،‬مبــن فيهــم ثالثــة‬
‫رؤســاء ســابقني للواليــات املتحــدة ورئيــس وزراء إرسائيــل‪ ،‬ومعهــم حفنــة مــن رفاقــه مــن‬
‫(((‬
‫رجــال الدولــة املرصيــة كمشــيعني"‪.‬‬
‫مل يحــ َظ اغتيــال الســادات بالكثــر مــن البحــث خــال العديــد مــن الدراســات التــي‬
‫تناولــت مــر‪ ،‬ومــن املســلم بــه أن عمليــة االغتيــال كانــت مــن أكــر االغتيــاالت إثــارة يف‬
‫التاريــخ الحديــث‪ .‬فبــداًلً مــن قتــل الســادات بالســم أو بتفجــر قنبلــة مزروعــة عــى جانب‬
‫الطريــق أو بطلقــة قنــاص مختبــئ يف مــكان مــا‪ ،‬قــرر القتلــة إعدامــه عل ًنــا‪ -‬بأســلوب‬
‫رميــا بالرصــاص‪ .‬وبغــض النظــر عــن الرمزيــة‪ ،‬فقــد ســلط االغتيــال وعواقبــه‬ ‫عســكري‪ً -‬‬
‫‪ -1‬حمودة‪ ،‬اغتيال رئيس‪ ،‬ص ‪ ،25-18‬ص ‪.233‬‬
‫‪ -2‬هيكل‪ ،‬خريف الغضب‪.5-X ،‬‬

‫‪251‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫الضــوء عــى ظهــور القــوة الجديــدة التــي تبلــورت مــع النهايــة القرسيــة لعهــد الســادات‪.‬‬
‫لذلــك‪ ،‬مــن املؤســف ميــل املحللــن إىل تجاهــل هــذا الحــدث الخطــر‪ ،‬أو التعامــل معــه‬
‫يف أفضــل األحــوال كحلقــة دراميــة معزولــة عــن التشــدد اإلســامي‪ ،‬فالحقيقــة أن الذيــن‬
‫دينيــا‪.‬‬
‫ضغطــوا عــى الزنــاد كانــوا متشــددين ً‬
‫مل تحـ َظ عالقــات القتلــة بالجيــش باالهتــام الــكايف‪ ،‬ومل يكــن الســياق الــذي وقــع فيــه‬
‫االغتيــال واض ًحــا متا ًما‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال ميكن اســتمرار هذا اإلغفــال يف ضوء الحقائق التالية‪:‬‬
‫أو ًاًل‪ ،‬خــدم القتلــة جمي ًعــا يف الجيــش املــري‪ :‬فزعيــم املجموعــة كان مالز ًمــا أول يف‬
‫رقيبــا بالحــرس‬
‫ســاح املدفعيــة (خالــد اإلســامبويل مــن لــواء املدفعيــة ‪ ،)333‬وآخــر كان ً‬
‫احتياطيــا‪ ،‬أمــا آخرهــم فــكان‬
‫ً‬ ‫الوطنــي وجنــدي مشــاة ســابق‪ ،‬والثالــث كان مالز ًمــا أول‬
‫ضابطًــا ســابقًا يف الدفــاع الجــوي‪.‬‬
‫ثان ًيــا‪ُ ،‬خطِّـ َط ملؤامــرة االغتيــال مــن قبــل مقــدم منشــق مــن املخابــرات الحربيــة وبطل من‬
‫أبطــال حــرب أكتوبــر‪ ،‬والــذي كان لعائلتــه شــارع يف القاهــرة يحمــل اســمها (عبــود الزمر‪،‬‬
‫الــذي أطلــق الجيــش رساحــه فــو ًرا بعــد ثــورة ‪ ،2011‬أي بعــد ثالثــة عقــود يف الســجن)‪.‬‬
‫ثال ًثــا‪ ،‬حــدث االغتيــال نفســه خــال عــرض عســكري يف منطقــة مؤمنــة عســكريًا مــع‬
‫ثــاث نقــاط تفتيــش لضــان عــدم دخــول ذخــرة حيــة إىل ســاحة العــرض‪.‬‬
‫راب ًعــا‪ ،‬كشــف وزيــر الداخليــة نبــوي إســاعيل أن خطــة االغتيــال األصليــة تضمنــت‬
‫اصطــدام مقاتلــة مــن ســاح الجــو مبنصــة العــرض‪ -‬عــى غــرار الكاميــكازي‪ -‬مــا يعنــي‬
‫أن املتآمريــن كانــوا عــى صلــة بطياريــن مــن القــوات الجويــة‪ (((.‬كــا اعــرف العقــل‬
‫(((‬
‫املدبــر للعمليــة عبــود الزمــر بتجنيــد ضبــاط يف الحــرس الجمهــوري‪.‬‬
‫خامســا كشــفت التحقيقــات أن القتلــة طلبــوا مــن وزيــر الدفــاع عبــد الحليــم أبــو غزالــة‬
‫ً‬
‫جانبــا‪ ،‬ورصخــوا قائلــن إن هدفهــم‬‫وقــادة عســكريني آخريــن عنــد إطــاق النــار التنحــي ً‬
‫هــو الرئيــس ووزيــر داخليتــه‪.‬‬
‫سادســا‪ ،‬رغــم أن املخابــرات الحربيــة وصفــت القاتــل الرئيــي بأنــه إســامي متطــرف‬ ‫ً‬
‫(اســتجوبته املخابــرات الحربيــة يف أكتوبــر ‪ 1980‬بتهمــة التشــدد اإلســامي‪ ،‬لكــن التحقيــق‬
‫‪ -1‬فوزي‪ ،‬النبوي إسامعيل‪ ،‬ص ‪.119‬‬
‫‪ -2‬مقابلة مع محمد سعد عبد الحفيظ ومحمد خيال‪ ،‬عبود الزمر يكشف أرسار جديدة‪ ،‬ص ‪.7‬‬

‫‪252‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫ُعلــق حينهــا)‪ ،‬ورغــم اعتقــال شــقيقه قبــل أيــام قليلــة مــن العــرض العســكري بنفــس‬
‫(((‬
‫التهمــة‪ ،‬إال أنــه ُســمح لــه باملشــاركة يف العــرض‪.‬‬
‫ســاب ًعا‪ ،‬كان مــن املفــرض أن يكــون االغتيــال مبثابــة بدايــة ملحاولــة انقــاب كاملــة عــى‬
‫الســلطة بدعــم مــن انتفاضــة شــعبية(((‪ -‬تشــر هــذه املحاولــة إىل الشــعور الســائد بــأن‬
‫الجيــش قــد تخــى عــن النظــام‪ ،‬وأنــه إذا أتيحــت لــه الفرصــة لالنضــام إىل التمــرد أو‬
‫عــدم قمعــه عــى األقــل فســيفعل‪.‬‬
‫ثام ًنــا‪ ،‬أشــار رئيــس األركان الســابق ســعد الديــن الشــاذيل يف مقابلــة مــع مجلــة نيوزويــك‬
‫بعــد أيــام مــن االغتيــال أن الضبــاط الذيــن ظــل عــى اتصــال معهــم كانــوا مقتنعــن بــأن‬
‫(((‬
‫االغتيــال خطــوة يف االتجــاه الصحيــح‪.‬‬
‫ـرا‪ ،‬كانــت العديــد مــن األســباب التــي قدمهــا املتآمــرون حــول قتــل الســادات مرتبطــة‬
‫أخـ ً‬
‫بالجيــش‪ .‬وبعــد إطــاق رساح الزمــر مــن الســجن يف مــارس ‪ ،2011‬قــال يف مقابلــة لــه‬
‫"اغتلنــا الســادات ألنــه وافــق عــى إنهــاء الــراع العســكري بــن العــرب وإرسائيــل مــا‬
‫(((‬
‫أضعــف مكانــة مــر اإلقليميــة"‪.‬‬
‫يقــال إن الزمــر تــردد يف األمــر باغتيــال الســادات ألنــه اعتقــد أن بإمكانــه تجنيــد عــدد‬
‫(((‬
‫كاف مــن الضبــاط خــال بضعــة أشــهر ليســاعدوه عــى تــويل الســلطة دون عنــاء يذكــر‪.‬‬‫ٍ‬
‫وقــال نائــب مديــر مباحــث أمــن الدولــة فــؤاد عــام إن التحقيقــات كشــفت عــن انقــاب‬
‫(((‬
‫خطــط لــه ضبــاط مــن الرتــب املتوســطة يف مــارس ‪ ،1981‬لكــن رجالــه اســتبقوا األمــر‪.‬‬
‫ويف الليلــة التــي ســبقت االغتيــال‪ ،‬قــال وزيــر الداخليــة إســاعيل لرئيــس الــوزراء إنــه‬
‫شــبه متأكــد مــن أن الرئيــس لــن ينجــو مــن العــرض بســبب التطــرف الكامــن يف صفــوف‬
‫الجيــش‪ ،‬وأنــه حــذر الســادات مــن أنــه ســيكون عــى وجــه الخصــوص عرضــة للخطــر يف‬

‫‪ -1‬حمودة‪ ،‬اغتيال رئيس‪ ،‬ص ‪ ،28‬ص ‪.78‬‬


‫‪ -2‬مقابلة مع محمد سعد عبد الحفيظ ومحمد خيال‪ ،‬عبود الزمر يكشف أرسار جديدة‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪ -3‬حمودة‪ ،‬اغتيال رئيس‪ ،‬ص ‪.52-50‬‬
‫‪ -4‬مقابلة مع محمد سعد عبد الحفيظ ومحمد خيال‪ ،‬عبود الزمر يكشف أرسار جديدة‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪ -5‬هيــكل‪ ،‬خريــف الغضــب‪ ،‬ص‪ ،267‬مقابلــة مــع محمــد ســعد عبــد الحفيــظ ومحمــد خيــال‪ ،‬عبــود الزمــر يكشــف‬
‫أرسار جديــدة‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪ -6‬عالم‪ ،‬اإلخوان وأنا‪ ،‬ص ‪.413‬‬

‫‪253‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫منطقــة يســيطر عليهــا الجيــش لكــن الســادات تجاهــل تحذيراتــه‪ (((.‬ويؤكــد اللــواء أحمــد‬
‫الفــويل‪ -‬أحــد حــراس الســادات الشــخصيني الذيــن شــهدوا ذلــك اليــوم الرهيــب‪ -‬أن وزير‬
‫الداخليــة إســاعيل حــذر مــن هــذا العــرض عــى وجــه الخصــوص‪ (((.‬املثــر لالهتــام أن‬
‫مباحــث أمــن الدولــة بل ًغــت حــول االغتيــال قبــل ســاعتني منــه وأرســلت مبعوثًــا رسي ًعــا‬
‫إلخــاء الســادات مــن مــكان العــرض‪ ،‬لكــن الرشطــة العســكرية منعتــه مــن الوصــول إىل‬
‫(((‬
‫الرئيــس أو وزيــر الداخليــة‪.‬‬
‫رغــم أن كل مــا ســبق ذكــره ال يشــر إىل تــورط الضبــاط جمي ًعــا يف عمليــة االغتيــال‪ ،‬إال‬
‫أنــه يشــر إىل ثــاث حقائــق ال جــدال فيهــا‪ :‬أن العديــد مــن الضبــاط العســكريني شــاركوا‬
‫يف التخطيــط لالغتيــال وتنفيــذه والتســر عليــه‪ .‬وأن القتلــة كانــوا عــى ثقــة مــن أن‬
‫الجيــش‪ -‬عــى أقــل تقديــر‪ -‬غــر مبــال بنظــام الســادات‪ .‬وأنــه يف ضــوء الحقائــق املذكــورة‬
‫أعــاه‪ ،‬فمــن الواضــح مــرة أخــرى أنــه ال ميكــن الوثــوق بالجيــش‪ .‬لهــذا الســبب‪ ،‬أكــد‬
‫روبــرت ســرينغبورغ أنــه ال ميكــن تفســر االغتيــال بــرف النظــر عــن االســتياء العــام‬
‫داخــل الجيــش‪ (((.‬مل تكــن هــذه الحادثــة منفصلــة أبــ ًدا‪ ،‬بــل كانــت لحظــة الــذروة يف‬
‫األزمــة التــي عاشــها النظــام حينهــا‪ .‬فلــاذا إذن فشــلت محاولــة االســتيالء عــى الســلطة؟‬
‫مــن الواضــح أن املتآمريــن أضعفــوا حضــور جهــاز الرشطــة‪ ،‬قــوة القمــع األخــرى يف‬
‫النظــام الحاكــم والرشيــك األصغــر فيــه والــذي بلــغ أشــده يف ظــل حكــم ورعايــة‬
‫الســادات‪ .‬فرغــم إرســال قــوة عســكرية محــدودة إىل محافظــات الصعيــد لقمــع انتفاضــة‬
‫مهمــا أو‬
‫ً‬ ‫إســامية‪ ،‬إال أن الجيــش أدى دو ًرا ثانويًــا يف اســتعادة النظــام‪ .‬وســواء كان‬
‫متهاونًــا أو كالهــا‪ ،‬فلــم يكــن بإمــكان الجيــش يف تلــك املرحلــة أن ينتــر بشــكل كامــل‬
‫يف البــاد‪ ،‬فتوجــب عــى قــوة الرشطــة أن تتحمــل العــبء بأكملــه‪ .‬وبعــد ســاعات مــن‬
‫تأكيــد وفــاة الســادات‪ ،‬طُلــب مــن وزارة الداخليــة تنفيــذ "الخطــة ‪ "100‬لتأمــن املواقــع‬
‫الحكوميــة اإلســراتيجية مــن خــال وحــدات األمــن املركــزي‪ .‬ثــم ألقــت مباحــث أمــن‬
‫الدولــة القبــض عــى الزمــر وزعــاء التنظيــم اآلخريــن قبــل أن يتســببوا يف املزيــد مــن‬

‫‪ -1‬فوزي‪ ،‬النبوي إسامعيل‪ ،‬ص ‪.114-110‬‬


‫‪ -2‬مقابلة مع جامل الكشيك‪ ،‬مشاهد املوت يف رواية اغتيال السادات‪ ،‬ص ‪.5‬‬
‫‪ -3‬فوزي‪ ،‬النبوي إسامعيل‪ ،‬ص ‪ ،123‬عالم‪ ،‬اإلخوان وأنا‪ ،‬ص ‪.312‬‬
‫‪4- Springborg, Mubarak’s Egypt, 97.‬‬

‫‪254‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أفول شمس القادة العسكريني‪ :‬اضطرابات ‪...‬‬

‫الــرر‪ .‬يف غضــون ذلــك‪ ،‬كُلِّـ َـف فريــق متخصــص يف مكافحــة اإلرهــاب يتبــع ملباحــث أمن‬
‫الدولــة ووحــدة املخابــرات الحربيــة رقــم ‪ 75‬مبهمــة دقيقــة تتمثــل يف التحقيــق يف التــورط‬
‫املحتمــل للجيــش يف االغتيــال‪ (((.‬واســتغرقت التحقيقــات أكــر مــن شــهرين‪ ،‬حوكــم بعدهــا‬
‫ســتة مــن ضبــاط املدفعيــة أمــام القضــاء العســكري و ُعــزل عــدد غــر معلــوم مــن الضباط‬
‫مــن الخدمــة‪ .‬وكان مــن بــن املتورطــن ضبــاط رفيعــو الرتــب مثــل املقــدم ممــدوح أبــو‬
‫جبــل مــن ســاح املدفعيــة‪ ،‬والرائــد عصــام القمــري الــذي كان مــن بــن أكــر مــن دمــروا‬
‫(((‬
‫بطــا مــن أبطــال الحــرب‪.‬‬
‫دبابــات إرسائيليــة يف حــرب عــام ‪ 1973‬واعتــر حينهــا ً‬
‫را‪ ،‬ويتذكــر قائــد‬
‫مثلــت التحقيقــات بالنســبة لضبــاط وزارة الداخليــة إنجــا ًزا ونجا ًحــا كبـ ً‬
‫قــوات األمــن املركــزي اللــواء عبــد الرحمــن الفرمــاوي‪ -‬الــذي أصبــح محافــظ بورســعيد‬
‫يف عهــد مبــارك‪ -‬بفخــر مــدى فعاليــة وكفــاءة الــوزارة يف أعقــاب االغتيــال‪ ،‬فيقــول‪:‬‬
‫"يف يــوم اغتيــال الســادات كنــت يف مقــر األمــن املركــزي‪ ،‬ودون انتظــار ســاع رأي وزيــر‬
‫الداخليــة قمــت عــى الفــور بتنفيــذ الخطــة ‪ُ .100‬وضعــت الخطــة لوحــدات األمــن املركــزي‬
‫لتأمــن املواقــع اإلســراتيجية‪ ،‬كمبنــى التلفزيــون والــوزارات الرئيســية‪ ،‬ملنــع أي انقــاب‬
‫محتمــل‪ .‬خــال اليومــن التاليــن‪ ،‬أرســلت قــوات األمــن املركــزي إىل الصعيــد للتعامــل مــع‬
‫تهديــد متــرد إســامي هنــاك‪ .‬واضطررنــا إىل االعتــاد عــى الجيــش يف النقل خاصــة وأننا‬
‫كنــا بحاجــة إىل طائــرات مروحيــة‪ .‬لكننــا مل نطلــب مســاعدة الجيــش ألنــه كان حينهــا محل‬
‫تحقيــق مباحــث أمــن الدولــة حيــث اغتيــل الســادات يف منطقة مؤمنــة عســكريًا دون وجود‬
‫أي عنــر رشطــة حولــه‪ .‬خــال تلــك األيــام األوىل‪ ،‬اعتقدنــا عىل نطــاق واســع أن الضباط‬
‫(((‬
‫متورطــون يف االغتيــال‪ ،‬لكننــا مل نكــن متأكديــن متا ًمــا‪ ،‬فنتيجــة التحقيقات تظــل رسية"‪.‬‬
‫مــع بدايــة واليــة مبــارك طويلــة األمــد‪ ،‬تحــدد مســار النظــام بشــكل واضــح‪ُ :‬همــش الجيــش‬
‫وبــات يُنظــر إليــه بارتيــاب متزايــد‪ ،‬فيــا أثبتــت الرشطــة والءهــا للنظــام وجدارتهــا بثقتــه‪،‬‬
‫أمــا النخبــة التجاريــة الجديــدة يف الحــزب الوطنــي الدميقراطــي فباتــت متثــل أقــوى‬
‫قاعــدة اجتامعيــة للنظــام‪ .‬لكــن تحـ ٍـد آخــر بــرز أمــام مبــارك ووجــب التغلــب عليــه‪ ،‬إذ‬
‫يبــدو أن الجيــش ال يــزال لديــه بعــض القــدرة عــى افتعــال املشــكالت‪.‬‬
‫‪1- Sirrs, History, 149–51.‬‬
‫‪ -2‬عالم‪ ،‬اإلخوان وأنا‪ ،‬ص ‪.284‬‬
‫‪ -3‬مقابلة مع عبد الرحمن الفرماوي‪.2009 ،‬‬

‫‪255‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪ :‬ثورة يناير ‪2011‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪ :‬ثورة يناير ‪2011‬‬


‫"كانــت أفضــل األوقــات واألســوأ يف آن م ًعــا"‪ ،‬هكــذا افتتــح تشــارلز ديكنــز قصتــه املؤملــة‬
‫عــن الثــورة الفرنســية‪ ،‬وهكــذا كان الحــال يف مــر خــال عهــد محمــد حســني مبــارك‬
‫الــذي اســتمر ثالثــن عا ًمــا ليفــوق فــرة حكــم ســلفيه الالمعــن مجتمعــن‪ ،‬وهــي الفــرة‬
‫األطــول يف تاريــخ مــر الحديــث منــذ عهــد محمــد عــي (‪ .)1848 -1805‬كان عهــده‬
‫األفضــل بالنســبة للمســتفيدين مــن نظــام يوليــو ‪ :1952‬طبقــة حاكمــة تنهــب دون رقابــة أو‬
‫عقــاب‪ ،‬وقــادة أمنيــون اعتــروا أنفســهم‪ -‬عــى حــد تعبــر أحدهــم‪ -‬ســادة البــاد(((‪ ،‬بينــا‬
‫هــي الفــرة األســوأ بالنســبة لآلخريــن‪ :‬الشــعب والجيــش‪.‬‬

‫قبل الغرق يف بحر النسيان‪ :‬موقف الجيش األخري‬


‫محمــد حســني مبــارك رابــع رئيــس ملــر وهــو أول رئيــس مل ينضــم إىل حركــة الضبــاط‬
‫األحــرار‪ ،‬رغــم أنــه تخــرج مــن الكليــة الحربيــة قبــل ثــاث ســنوات مــن انقــاب عــام‬
‫‪ .1952‬أمــى مبــارك عقــد الخمســينيات كمــدرب للقــوات الجويــة‪ ،‬ثــم ســافر إىل روســيا‬
‫الســتكامل التدريبــات ومل يعــد إىل مــر ســوى يف منتصــف الســتينيات‪ .‬خــال حــرب‬
‫‪ ،1967‬زعــم مبــارك أن طائــرات أمريكيــة شــاركت مبــارشة يف الرضبــة الجويــة ضــد‬
‫مــر‪ ،‬لكنــه أثــار انزعــاج الرئيــس عبــد النــارص حــن فشــل يف تقديــم أي دليــل يدعــم‬
‫مزاعمــه‪ .‬بعــد انتهــاء الحــرب‪ ،‬نقلــه عبــد النــارص إىل وظيفــة إداريــة كمديــر ألكادمييــة‬
‫القــوات الجويــة‪ ،‬لكــن حظوظــه تبدلــت يف عهــد أنــور الســادات الــذي فضــل تقديــم‬
‫الضبــاط املغموريــن البعيديــن عــن السياســة فعينــه يف عــام ‪ 1972‬قائـ ًدا للقــوات الجويــة‬
‫ونائبــا لوزيــر الحربيــة‪ .‬ويف عــام ‪ ،1975‬متــت ترقيتــه إىل منصــب نائــب الرئيــس فــكان‬ ‫ً‬
‫مخلصــا وطائ ًعــا لرئيســه الســادات‪ -‬بعكــس العديــد من مرؤوســيه العســكريني والسياســيني‪-‬‬
‫ً‬
‫ومل يشــكك أب ـ ًدا يف حكمتــه الخاصــة باصطفــاف مــر مــع العــامل الغــريب‪.‬‬
‫را مــن تفكــر مبــارك‬‫منــذ بدايــة توليــه الرئاســة‪ ،‬شــغلت أمريــكا بشــكل خــاص حيـ ًزا كبـ ً‬
‫لدرجــة أنــه خــال إحــدى مقابالتــه األوىل بعــد توليــه املنصــب تفاخــر بأنــه زار واشــنطن‬
‫‪ - -1‬أدىل مديــر األمــن بإحــدى محافظــات دلتــا النيــل (البحــرة) بهــذا التعليــق خــال ثــورة ينايــر‪ ،‬مذكـ ًرا قواتــه‬
‫بأنهـ�م "سـ�ادة البـلاد" وحثهـ�م عـلى "قطـ�ع أيـ�دي مـ�ن يجـ�رؤ عـلى ذلـ�ك" أي املتظاهريـ�ن‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫را عــا إذا كان ميتلــك جنا ًحــا‬ ‫نائبــا للرئيــس لدرجــة أنــه ســئل كث ـ ً‬
‫عــدة مــرات بصفتــه ً‬
‫خاصــا يف فنــدق "ذا ماديســون"‪ .‬ويف الحقيقــة‪ ،‬زار مبــارك واشــنطن أربــع مــرات خــال‬ ‫ً‬
‫العــام األخــر إلدارة كارتــر‪ ،‬والتقــى برونالــد ريغــان يف أكتوبــر ‪ 1981‬قبــل أيــام مــن‬
‫اغتيــال الســادات‪ .‬يف نهايــة تلــك املقابلــة ختــم كالمــه مؤكـ ًدا أنــه "لــوال الواليــات املتحــدة‬
‫صعبــا ولــكان مــن املســتحيل تحقيــق مــا حققــه الرئيــس الســادات‪ .‬أشــعر‬ ‫لــكان األمــر ً‬
‫باالرتيــاح الكبــر بشــأن التعامــل مــع الواليــات املتحــدة‪ ،‬وســأواصل القيــام بذلــك وتعزيــز‬
‫(((‬
‫عالقتنــا"‪.‬‬
‫مــع وصــول مبــارك إىل الســلطة‪ ،‬كان الجيــش قــد ُروض إىل حــد كبــر حيــث أدت عمليــات‬
‫املسيســن‪،‬‬
‫التطهــر يف الخمســينيات والســتينيات مــن القــرن املــايض إىل إزاحــة الضبــاط َّ‬
‫يف حــن تقاعــد ضبــاط الســبعينيات و ُعــزل أي ضابــط آخــر يتمتــع بشــعبية كبــرة أو يقــدم‬
‫الــوالء للجيــش بــداًلً مــن القــادة السياســيني‪ .‬لكــن اللــواء عبــد الحليــم أبــو غزالــة مل يبـ ُد‬
‫أنــه كاآلخريــن‪ ،‬فهــو يصغــر مبــارك بعامــن فقــط وبــدآ مســرتهام العســكرية يف الوقــت‬
‫تقريبــا‪ .‬لكنــه عــى عكــس مبــارك انضــم إىل الضبــاط األحــرار وشــارك يف حــريب‬ ‫ً‬ ‫نفســه‬
‫ميدانيــا يف‬
‫ً‬ ‫أيضــا دو ًرا‬
‫‪ (((1948‬و‪ ،1956‬ومل يشــارك يف كارثــة ‪ .1967‬أدى أبــو غزالــة ً‬
‫حــرب ‪ 1973‬كقائــد ملدفعيــة الجيــش الثــاين يف ســيناء بــداًلً مــن قضــاء الحــرب بجانــب‬
‫الســادات يف القاهــرة مثــل مبــارك‪ ،‬كــا كان عــى عكــس مبــارك باحثًــا عســكريًا كتــب‬
‫عــدة كتــب يف العلــوم العســكرية منهــا اســتخدام الطــرق الرياضيــة يف األعــال الحربيــة‪،‬‬
‫وفــن الحــرب‪ ،‬مــع تركيــزه الدائــم عــى رضورة تحســن األداء القتــايل للقــوات املســلحة‬
‫املرصيــة‪ .‬لكنــه تجنــب السياســة ومل يكتســب شــعبية واســعة داخــل القــوات املســلحة‪ ،‬ولــذا‬
‫بــدا أنــه ال يشــكل تهدي ـ ًدا للســادات ومبــارك مــن بعــده‪ .‬ورغــم ذلــك‪ ،‬عزلــه الســادات‬
‫مــن الجيــش بعــد انتهــاء الحــرب وعينــه ملح ًقــا عســكريًا يف واشــنطن بــن عامــي ‪1977‬‬
‫و‪ 1980‬حيــث مل يكــن دوره يف بنــاء التحالــف املــري األمريــي الجديــد محب ـذًا لــدى‬
‫رفاقــه املرتابــن منــه‪.‬‬
‫بــدا أن عالقــة أبــو غزالــة مببــارك جيــدة للغايــة‪ ،‬فقــد عمــا ســويًا عــى توطيــد العالقــات‬
‫ـن يف‬‫مــع البنتاغــون وأوىص بــه مبــارك‪ -‬بصفتــه نائــب الرئيــس الســادات حينهــا‪ -‬ليعـ َّ‬
‫‪ --1‬األهرام القاهرة (‪.)1981/9/10‬‬
‫‪ - -2‬أبوغزالة تخرج من الكلية الحربية يف عام ‪ 1949‬بعد انتهاء حرب ‪( .1948‬امل ُراجِع)‬

‫‪259‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫منصــب رئيــس األركان يف عــام ‪ ،1980‬ثــم وزيــر الدفــاع يف العــام التــايل‪ .‬ومــن أوىل‬
‫قــرارات مبــارك بعــد توليــه الرئاســة أن رقــاه إىل رتبــة مشــر والتــي ظلــت شــاغرة منــذ‬
‫نائبــا لرئيــس الــوزراء‪ .‬وكأي‬
‫وفــاة املشــر عبــد الحكيــم عامــر ‪ ،‬باإلضافــة إىل تعيينــه ً‬
‫(((‬

‫شــخص آخــر تــوىل أعــى منصــب عســكري يف مــر بــد ًءا مــن عبــد الحكيــم عامــر‬
‫وانتهــا ًء بحســن طنطــاوي آخــر وزيــر دفــاع يف عهــد مبــارك‪ ،‬اختــار أبــو غزالــة الــوالء‬
‫للجيــش عــى الــوالء الســيايس‪ .‬وبــداًلً مــن الســعي لتحقيــق مصالــح الرئيــس مبــارك‪ ،‬ســعى‬
‫إىل متكــن القــوات املســلحة مــن خــال التواصــل مــع الجنــود والشــعب وتأمــن أكــر‬
‫قــدر ممكــن مــن الدعــم الشــخيص الــذي ميكــن أن يحصــل عليــه مــن الواليــات املتحــدة‪.‬‬
‫يف البدايــة‪ ،‬رفــع أبــو غزالــة رواتــب رجالــه وعــزز مــن مســتوى املرافــق العســكرية‬
‫واملركبــات وحتــى الــزي العســكري‪ .‬ورسعــان مــا بات الجنــود يشــرون إليــه يف محادثاتهم‬
‫الخاصــة بأنــه "رجــل الســاعة" و"النجــم الســاطع" و"املنقــذ" الــذي أنقــذ الجيــش مــن أفــول‬
‫نجمــه املحتــوم‪ .‬واألخطــر مــن ذلــك مــن وجهــة نظــر مبــارك أن الضبــاط باتــوا يقارنونــه‬
‫بعبــد الحكيــم عامــر يف كرمــه وشــخصيته الــودودة‪ (((.‬وكــا حصــل بــن عبــد النــارص‬
‫وعبــد الحكيــم عامــر‪ ،‬فقــد توتــرت العالقــة بــن مبــارك وأبــو غزالــة‪ .‬لكــن األخــر مل‬
‫يتبــع أســلوب عامــر االســتفزازي‪ ،‬وبــداًلً مــن مواجهــة الرئيــس مبــارك عــر التهديــدات‬
‫واالنفعــاالت العاطفيــة فقــد تجنبــه بالكليــة واســتمر يف تعزيــز نفــوذه داخــل الجيــش‬
‫مثــا‪ -‬عــى تعديــات مبــارك يف القيــادة العامــة يف‬ ‫بــد أي اعــراض‪ً -‬‬ ‫وخارجــه‪ ،‬ومل يُ ِ‬
‫ـتك حــن أطــاح بــه مبــارك مــن الحزب‬ ‫خريــف عــام ‪ 1983‬دون استشــارته‪ .‬كــا أنــه مل يشـ ِ‬
‫الحاكــم عــام ‪ 1984‬متذر ًعــا مبــادة دســتورية تجاهلهــا الســادات بعــد إحــكام قبضتــه عــى‬
‫القــوات املســلحة تحظــر عــى ضبــاط الجيــش املشــاركة يف العمــل الســيايس‪ .‬وكان ببســاطة‬
‫(((‬
‫يشــارك يف أي اجتــاع يرغــب يف حضــوره للحــزب الوطنــي تحــت ذرائــع مختلفــة‪.‬‬
‫نجــح أبــو غزالــة يف الوصــول إىل الجامهــر أكرث من عامر‪ ،‬وســواء كان عــن صدق أو مكر‬
‫فقــد ســلك الطريــق األقــر واألكــر فاعليــة لذلــك‪ :‬الديــن‪ .‬والحــظ روبــرت ســرينغبورغ‬

‫‪ُ -1‬رقــي وزيــر الحربيــة خــال حــرب أكتوبــر أحمــد إســاعيل إىل رتبــة مشــر يف عــام ‪ ،1974‬وكذلــك الجمــي‬
‫حصــل عــى رتبــة املشــر قبــل طنطــاوي‪( .‬امل ُرا ِجــع)‬
‫‪ -2‬سعيد إسامعيل عيل‪ ،‬هذا النجم الساطع‪ ،‬ص ‪.3‬‬
‫‪ -3‬عبد املنعم املشاط‪ ،‬العوامل الخارجية والتطور الدميقراطي يف مرص‪ ،‬ص ‪.67‬‬

‫‪260‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫(((‬
‫أنــه عــى النقيــض مــن صــورة مبــارك املحبــذ للعلامنيــة‪ ،‬فقــد رســخ صورتــه كرجــل ورع‪.‬‬
‫وكمثــال عــى ذلــك‪ ،‬لــوح أبــو غزالــة يف مقابلــة متلفــزة يف أكتوبــر ‪ 1986‬بتقــواه مشــد ًدا‬
‫رافضــا دعــوات علمنــة الجيــش‪ (((.‬يف‬
‫عــى أن اإلميــان أمــر رضوري لصــاح جنــوده ً‬
‫يونيــو ‪ ،1987‬أوضــح يف مقابلــة مــع صحيفــة األهــرام أن العقيــدة العســكرية املرصيــة‬
‫مســتوحاة مــن القــرآن‪ (((.‬كــا هاجــم مــرا ًرا أســاليب الرشطــة الوحشــية ضــد اإلســاميني‬
‫مــا دفــع الناشــط البــارز يف جامعــة اإلخــوان محمــد عبــد القــدوس إىل التأكيــد عــى أن‬
‫املشــر أبــو غزالــة أحــد املســؤولني القالئــل يف الدولــة الذيــن قـ ّدروا "الدافــع اإلســامي‬
‫يف املجتمــع والسياســة املرصيــة وكانــوا عــى اســتعداد للتصالــح معهــا"‪ (((.‬وســاعده عــى‬
‫ذلــك ارتــداء زوجتــه الحجــاب وكــون صهــره مختــار نــوح شــخصية إســامية مشــهورة‪.‬‬
‫فتامشــيا مــع ســمعته‬
‫ً‬ ‫لكــن أخطــر مــا قــام بــه أبــو غزالــة كان متعلقًــا باألمريكيــن‪،‬‬
‫أيضــا كمناهــض قــوي للشــيوعية‪ ،‬وأكــد‬‫باعتبــاره محافظًــا يف الجانــب الدينــي فقــد بــرز ً‬
‫(((‬
‫أن مــر القويــة عســكريًا هــي الضــان األبــرز يف وجــه التســلل الســوفيتي للمنطقــة‪.‬‬
‫يف مقابلــة لــه مــع صحيفــة "‪ "Aviation Week and Space Technology‬حــذر أبــو‬
‫غزالــة مــن أن الشــيوعيني يهــددون إمــدادات النفــط األمريكيــة عــر وجودهــم يف إثيوبيــا‬
‫واليمــن وليبيــا‪ ،‬وأن تعزيــز قــوة مــر العســكرية سيســاعد يف احتــواء هــذا التهديــد‬
‫ألن مــر تــرف عــى الطريــق الرابــط بــن البحــر األبيــض املتوســط​​والبحــر األحمــر‬
‫واملحيــط الهنــدي ‪ ،‬ويجــب حاميــة هــذه الطــرق البحريــة الثالثــة لضــان التدفــق املســتمر‬
‫(((‬
‫للنفــط إىل الــدول املناوئــة للشــيوعية‪.‬‬
‫ويف مقابلــة أخــرى يف صيــف عــام ‪ 1988‬مــع مجلــة املصــور األســبوعية‪ ،‬أشــار إىل مصلحة‬
‫القاهــرة وواشــنطن املشــركة يف تعزيــز قــوة مــر‪ (((.‬لكــن رسعــان مــا اتضــح ملبــارك أنــه‬

‫‪1- Springborg, Mubarak’s Egypt, 100.‬‬


‫‪ -2‬عبد القدوس‪ ،‬أوالد البلد‪ ،‬ص ‪.3‬‬
‫‪ -3‬أحمد عبد الله‪ ،‬الجيش‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫‪ -4‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪5- Springborg, Mubarak’s Egypt, 100.‬‬
‫‪6- McDermott, Egypt from Nasser to Mubarak, 175.‬‬
‫‪7- Steven A. Cook, Ruling but Not Governing: The Military and Political Development in Egypt,‬‬
‫‪Algeria, and Turkey, Baltimore: John Hopkins University Press, 2007, 81.‬‬

‫‪261‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫عنــد أي مواجهــة محتملــة بينــه وبني أبو غزالة فمــن املحتمل أن متيل الواليــات املتحدة نحو‬
‫خصمــه‪ .‬هــذا الجمــع بني شــعبية أبو غزالــة يف الجيــش وصورته العامــة املتدينــة والعالقات‬
‫الجيــدة التــي طورهــا مــع الواليــات املتحــدة أشــارت إىل أنــه لــو أراد مبــارك إقالتــه فعليــه‬
‫التفكــر يف ثــورة تصحيــح ال تقــل عــن تلــك التــي أطلقهــا الســادات يف مايــو (((‪ ،1971‬هذا‬
‫بالطبــع مــا مل يرتكــب أبوغزالــة خطـأً فاد ًحــا ما‪ .‬ولســوء حظ الجيــش‪ ،‬فقد ارتكــب خطأين‪.‬‬
‫أمــا الخطــأ الفــادح األول فهــو املوافقــة عــى ســحب قــوات الجيــش بعــد نرشهــا بكامــل‬
‫قوتهــا لقمــع متــرد قــوات األمــن املركــزي يف فربايــر ‪ 1986‬دون مســاومة لتعزيــز نفــوذ‬
‫الجيــش الســيايس‪ .‬بــدأ التمــرد حــن تفاقمــت األمــور إثــر شــائعات عــن متديــد فــرة‬
‫خدمــة عنــارص األمــن املركــزي ملــدة ثــاث ســنوات وغضبهــم نتيجــة املعاملــة الســيئة‬
‫التــي عاملهــم بهــا ضبــاط الرشطــة طــوال ســنوات‪ ،‬واألجــور املنخفضــة التــي يتقاضونهــا‬
‫وظــروف املعيشــة املتدنيــة التــي يعانــون منهــا‪ ،‬إثــر ذلــك نــزل ســبعة عــر ألــف مجنــد‬
‫مــن قــوات األمــن املركــزي إىل الشــوارع يف ‪ 25‬فربايــر ‪ 1986‬وبــدأوا أعــال شــغب وحرق‬
‫ونهــب عشــوايئ يف جميــع أنحــاء العاصمــة‪ .‬فشــلت وزارة الداخليــة يف قمــع املتمرديــن‪،‬‬
‫وأوضــح قائــد قــوات األمــن املركــزي اللــواء عبــد الرحمــن الفرمــاوي أنــه رغــم الشــائعات‬
‫التــي ال أســاس لهــا مــن الصحــة فــإن الــوزارة ال ميكنهــا املخاطــرة بإرســال وحــدات‬
‫أخــرى مــن قــوات األمــن املركــزي ملواجهــة املتمرديــن‪ ،‬ألن أفرادهــا قــد يتعاطفــون مــع‬
‫زمالئهــم‪ .‬كــا أن قــوات الرشطــة النظاميــة مل تكــن كافيــة‪ ،‬فعددهــا قليــل وأفرادهــا‬
‫مســلحون باملسدســات فقــط‪ .‬وأضــاف اللــواء فرمــاوي قائـ ًـا‪" :‬لقــد كنــا يف مــأزق‪ ،‬فقــوات‬
‫األمــن املركــزي هــي الــذراع الضاربــة لقــوة الرشطــة‪ ،‬فمــن يســتطيع اآلن كبــح جامحهــا‬
‫بعــد أن خرجــت عــن الســيطرة؟"‪ (((.‬علــم مبــارك اإلجابــة‪ ،‬ولخوفــه الشــديد اضطــر إىل‬
‫إعــان حظــر تجــول ملــدة ثالثــة أيــام واســتدعاء الجيــش‪ ،‬فيــا مل تعــرض وزارة الداخليــة‬
‫عــى القــرار‪ .‬الحقيقــة أنهــم عجــزوا عــن التعامــل مــع التمــرد نظـ ًرا ألن فســادهم انتــر‬
‫واســترشى وال بــد مــن أن يدفعــوا الثمــن‪ .‬لكنهــم مل يبــدوا قلقــن بشــأن الجيــش‪ ،‬حيــث‬
‫قــال قائــد األمــن املركــزي اللــواء فرمــاوي‪" :‬كنــا نعلــم أنــه ال يوجــد تقــارب بــن الجيــش‬
‫وقــوات األمــن املركــزي‪ ،‬وبالتــايل لــن ينضمــوا إليــه بالتأكيــد‪ .‬كــا علمنــا أن أبــو غزالــة‬
‫‪1- Springborg, Mubarak’s Egypt, 102, 124–25.‬‬
‫‪ -2‬مقابلة مع اللواء عبد الرحمن الفرماوي‪.2009 ،‬‬

‫‪262‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫ضابــط محــرف ووطنــي ولــن يســتغل الفرصــة للقيــام بانقــاب"‪ (((.‬وهــو محــق يف ذلــك‪،‬‬
‫فبــداًلً مــن اغتنــام الفرصــة للقيــام بانقــاب مــن شــأنه أن يعيــد الهيمنــة العســكرية عــى‬
‫النظــام كــا فعــل الجيــش يف عــام ‪ 2011‬أو عــى األقــل منــع الرئيــس مــن إضعافــه عــر‬
‫خطــوة اســتباقية‪ ،‬إال أن الجيــش تــرك الفرصــة تُفلــت مــن يــده‪.‬‬
‫انتــر الجيــش يف اليــوم الثــاين مــن التمــرد وانتقــم مــن منافســيه القدامــى مــا أســفر‬
‫عــن مقتــل مئــة وســبعة مــن املجنديــن وإصابــة ســبعمئة وخمســة عــر آخريــن يف غضــون‬
‫يومــن‪ .‬يف اليــوم الثالــث مــن التمــرد‪ ،‬أعــاد الجيــش االســتقرار للبــاد وأمــر أبــو غزالــة‬
‫صعبــا‪ ،‬وال بــد أن مبــارك تنهــد بارتيــاح‬
‫رجالــه بالعــودة إىل الثكنــات‪ .‬لقــد كان موق ًفــا ً‬
‫وهــو يشــاهد الدبابــات وناقــات الجنــد املدرعــة ترتاجــع وتعــود إىل قواعدهــا‪ .‬ومــع ذلــك‪،‬‬
‫ارتفعــت شــعبية أبــو غزالــة بعــد هــذه الحادثــة الحساســة فقــد أظهــر رجالــه انضباطًــا‬
‫وكفــاءة وخرجــوا مــن املشــهد كأفضــل مــا يكــون‪ .‬وعــى العكــس مــن ذلــك‪ ،‬اســتاء الــرأي‬
‫العــام إزاء ســوء معاملــة ضبــاط الرشطــة ملجنديهــم فضـ ًـا عــن عــدم كفاءتهــم يف التعامــل‬
‫مــع الفــوىض التــي أحدثوهــا‪.‬‬
‫ملاذا ترصف املشري أبو غزالة بهذه السامحة؟‬
‫رمبــا كان هــذا مبثابــة دليــل عــى التبعيــة الناجحــة للجيــش منــذ عــام ‪ 1967‬فصاع ـ ًدا‪،‬‬
‫حيــث مل يعــد لــدى الضبــاط طموحــات سياســية وال يفكــرون يف القيــام بانقــاب جديــد‪.‬‬
‫لكــن الغالــب أن قــرار أبــو غزالــة نابــع عــن ثقتــه املفرطــة التــي كانــت يف محلهــا متا ًمــا‪،‬‬
‫فقــد اســتحوذ عــى والء جنــوده وثقــة وإعجــاب املواطنــن ودعــم الراعــي األجنبــي‬
‫الرئيــي ملــر‪ .‬فلــم يكــن بحاجــة للقيــام بانقــاب أو اغتنــام أي فرصــة ليحقــق مــا يريــد‬
‫أو هكــذا كان يعتقــد‪ .‬بعــد أيــام قليلــة مــن التمــرد‪ ،‬اســتقبل أبــو غزالــة محمــد حســنني‬
‫هيــكل يف شــقته وشــكا لــه مــن أن مبــارك ينقلــب عليــه‪ ،‬مؤك ـ ًدا أن "الرئاســة مل تخطــر‬
‫ببــايل قــط"‪ ،‬وأضــاف‪" :‬أنــا أعــرف الوضــع املــزري الــذي متــر بــه البــاد وأنــا ســعيد‬
‫مبنصبــي‪ ،‬ولــو كنــت أرغــب يف الرئاســة لفعلــت ذلــك خــال متــرد قــوات األمــن املركــزي‪،‬‬
‫حــن كانــت دبابــايت متمركــزة يف جميــع أنحــاء العاصمــة ومل يتطلــب األمــر منــي ســوى‬
‫إرســال ضابــط واحــد ال أكــر‪ -‬وبرتبــة مــازم‪ -‬إىل اســتوديوهات التلفزيــون والراديــو‬

‫‪ -1‬مقابلة مع اللواء عبد الرحمن الفرماوي‪.2009 ،‬‬

‫‪263‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫الحكوميــة إلذاعــة بيــان نيابــة عنــي وتنتهــي القصــة كلهــا يف غضــون خمــس دقائــق‪ ،‬وكان‬
‫النــاس ســرحبون بوصــويل إىل الســلطة"‪ (((.‬واتضــح الح ًقــا أن هــذه كانــت آخــر فرصــة‬
‫للجيــش حتــى عــام ‪ 2011‬لتعزيــز قوتــه التــي اســتنفدت برسعــة‪ .‬لكــن أبــو غزالــة ارتكــب‬
‫خطــأه الفــادح الثــاين‪ ،‬والــذي كان قاتـ ًـا بالفعــل‪.‬‬
‫يف ‪ 5‬ســبتمرب ‪ ،1988‬ذكــرت صحيفــة يديعــوت أحرونــوت اإلرسائيليــة عــى صفحتهــا األوىل‬
‫أن وزيــر الدفــاع املــري قــد يحاكــم يف الواليــات املتحــدة لحيازتــه بشــكل غــر قانــوين‬
‫(طريقــة لبقــة لوصــف "التهريــب") أجــزاء مــن الصواريــخ والتكنولوجيــا األمريكيــة بــدون‬
‫إذن البنتاغــون‪ .‬كان الصــاروخ املعنــي مــن طــراز "ســكود‪ -‬ب " مبــدى يصــل إىل تســعمئة‬
‫كيلومــر‪ ،‬والــذي أمــل أبــو غزالــة يف إنتاجــه مــن خــال مــروع ثــايث (يُشــار إليــه‬
‫باســم ‪ )Project-T‬يشــمل العــراق واألرجنتــن‪ .‬ومــا زاد الطــن بلــة أن الصحيفــة كشــفت‬
‫رسا عــى صفقــة صواريــخ مــع كوريــا الشــالية ومحاولتــه تطويــر‬ ‫تفــاوض أبــو غزالــة ً‬
‫أســلحة كيامويــة دون علــم أمريــكا‪ .‬هنــا‪ ،‬أدرك الرئيــس مبــارك أن عليــه التحــرك برسعــة‪،‬‬
‫فقــد عــززت هــذه األخبــار بــا شــك مكانــة املشــر أبــو غزالــة داخــل الجيــش لكنهــا‬
‫(((‬
‫أفقدتــه دعــم الطــرف الوحيــد الــذي أثــار قلــق مبــارك‪ :‬الواليــات املتحــدة‪.‬‬
‫يف أبريــل ‪ُ ،1989‬خفضــت رتبــة أبــو غزالــة إىل منصــب مســاعد رئــايس قبــل أن تدفعــه‬
‫املهــام الوضيعــة التــي كلفــه بهــا الرئيــس مبــارك الحريــص عــى إظهــار الــوالء لواشــنطن‬
‫إىل االســتقالة يف فربايــر ‪ .1993‬وملنعــه مــن دخــول العمل الســيايس‪ ،‬ادعــت وزارة الداخلية‬
‫أنــه متــورط يف قضيــة لــويس أرتــن التــي هــزت القاهــرة يف أبريــل ‪ ،1993‬والتــي تتضمن‬
‫فضائــح جنســية ورشــاوي وانتهــاكات سياســية مختلفــة‪ .‬واتهمتــه مجلــة روز اليوســف‬
‫األســبوعية املق ّربــة مــن الحكومــة بالتــودد إىل لــويس أرتــن ومســاعدتها يف املحكمــة عــى‬
‫الفــوز يف قضيــة نــزاع عــى ملكيــة أرض ضــد زوجهــا الســابق‪ .‬ولتشــويه ســمعته الدينية إىل‬
‫األبــد‪ ،‬أضافــت املجلــة أن الرشطــة ســجلت عــدة مكاملات جنســية رصيحــة بينه وبــن أرتني‪.‬‬
‫صحيــح أن املحكمــة برأتــه بعــد ذلــك بعامــن‪ ،‬لكــن ســمعته كانــت قــد تــررت بالفعــل‪.‬‬
‫الالفــت للنظــر أنــه حــن قــرر مبــارك يف عــام ‪ 2005‬إجــراء أول انتخابــات رئاســية‬

‫‪ -1‬محمد حسنني هيكل‪ ،‬مبارك وزمانه‪ ،‬ص ‪.143‬‬


‫‪ -2‬محمد الباز‪ ،‬املشري‪ ،‬ص ‪.81-78‬‬

‫‪264‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫بــداًلً مــن االســتفتاء املعتــاد عــى الرئيــس الحــايل‪ ،‬حصــل إجــاع شــعبي عــى أن أبــو‬
‫غزالــة هــو الوحيــد الــذي ميكــن أن ينافــس مبــارك حتــى بعــد أكــر مــن عقــد عــى‬
‫التقاعــد‪ .‬وقــام اإلعالمــي محمــد البــاز مبســاعدة أبــو غزالــة يف وضــع الخطــوط العامــة‬
‫لربنامجــه الرئــايس‪ ،‬لكــن مبــارك زاره قبــل ســاعات مــن موعــد إعــان ترشــيحه يف نقابــة‬
‫الصحفيــن يف ‪ 29‬يونيــو ‪ ،2005‬وأقنعــه بالرتاجــع‪ .‬ومل يخــرج أبــو غزالــة بعدهــا ليتحــدث‬
‫أمــام الــرأي العــام​​مــرة أخــرى‪ ،‬وتــويف بعــد ذلــك بثــاث ســنوات‪ (((.‬أنهــى ســقوط أبــو‬
‫غزالــة عهــد الجــراالت البارزيــن‪.‬‬
‫ُعــن يوســف صــري أبــو طالــب وزي ـ ًرا للدفــاع بــداًلً مــن املشــر أبــو غزالــة يف قــرار‬
‫ذيك مــن مبــارك وذلــك لعــدة أســباب‪ .‬بدايــة‪ ،‬خــدم أبــو غزالــة تحــت إمرتــه يف الجيــش‬
‫الثــاين طــوال عقــد الســبعينيات‪ ،‬مــا أجــره عــى االســتقالة يف اليــوم الــذي ُرقــي فيــه‬
‫أبــو غزالــة إىل أعــى منصــب عســكري يف الدولــة‪ .‬كــا أنــه ظــل بعيـ ًدا عــن الجيــش ملــدة‬
‫ســت ســنوات حــن ُعــن محافظًــا للقاهــرة‪ ،‬ونتيجــة لكرهــه العلنــي ألبــو غزالــة فــإن‬
‫االتصــاالت التــي أجراهــا مــع زمالئــه الســابقني بقيــت مقيــدة إىل حــد كبــر‪ .‬أضــف أن‬
‫املهمــة التــي كُلــف بهــا بالقضــاء عــى إرث أبــو غزالــة تضمنــت بشــكل أكــر أنــه لــن يكــون‬
‫عــى اتفــاق مــع ســلك الضبــاط‪ .‬وبحلــول عــام ‪ ،1991‬اســتطاع تقليــص دور الجيــش يف‬
‫االقتصــاد‪ ،‬وقــى عــى البنيــة التحتيــة للبحــث والتطويــر املثــرة للجــدل التــي أسســها‬
‫أبــو غزالــة إلنتــاج الصواريــخ‪ (((.‬ويف خطــوة أخــرة‪ ،‬عــن مبــارك يف مايــو قائـ َد الحــرس‬
‫الجمهــوري حســن طنطــاوي وزيـ ًرا للدفــاع بــداًلً عــن يوســف صــري‪ ،‬فخدمــه طنطــاوي‬
‫بإخــاص وأمانــة ملــدة عرشيــن عا ًمــا قبــل أن ينقلــب عليــه خــال ثــورة ‪.2011‬‬

‫أسطورة االمتيازات العسكرية يف ظل مبارك‬


‫يدفعنــا تخــي الجيــش يف نهاية املطــاف عن النظام يف عــام ‪ 2011‬إىل التســاؤل‪ :‬ملاذا أكرث‬
‫الجيــش مــن الشــكوى يف عهــد مبارك؟ أمل يســتحوذ عىل حيــز كبري من اقتصــاد البالد؟ أمل‬
‫يتمتــع أعضــاؤه بامتيــازات اجتامعيــة واقتصاديــة متعــددة؟ مــاذا عــن الرعايــة األمريكيــة؟‬
‫ملــاذا يحمــل الضبــاط شــكاوى ضــد النظــام يف حــن أن أكــر مــن مائتــي ضابــط منهــم‬
‫‪ -1‬محمد الباز‪ ،‬املشري‪ ،‬ص ‪.166‬‬
‫‪2- Eytan, Gazit, and Gilbo, The Middle East Military Balance (1993), 140.‬‬

‫‪265‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫يتلقــون كل عــام تدريبــات مــن القــوة العظمــى الوحيــدة يف العــامل‪ ،‬ويشــاركون بانتظــام‬
‫يف التدريبــات املشــركة مــع الجنــود األمريكيــن؟ مــا الــذي يعانــون منــه يف الوقــت الــذي‬
‫تضمنــت ترســانتهم أحــدث األســلحة يف العــامل (دبابــات أم‪ 1‬أبرامــز وطائــرات إف‪16-‬‬
‫املحســنة‪ ،‬وغــر ذلــك)؟ كانــت هــذه االمتيــازات أكــر‬
‫فايتينــغ فالكــون‪ ،‬وصواريــخ هــوك ّ‬
‫مــن كافيــة لخنــق املعارضــة داخــل ســلك الضبــاط ولــراء والء الجيــش‪ (((.‬وبعد كل هــذا‪ ،‬ما‬
‫الــذي ميكــن أن يطلبــه الجنــود أكــر من بعــض االمتيــازات مللء جيوبهــم وتعزيــز مكانتهم؟‬
‫يف الواقــع‪ ،‬أخفــت هــذه االمتيــازات الظاهريــة عــد ًدا مــن القضايــا املثــرة للقلــق والتــي‬
‫ميكــن رؤيتهــا يف القطــاع االقتصــادي والروابــط مــع أمريــكا والقيــود السياســية التــي‬
‫يفرضهــا النظــام والســياق االجتامعــي الــذي اضطــر الجيــش للعمــل ضمنــه‪ ،‬وهــي قضايــا‬
‫ال ميكــن أن تظهــر إال يف ظــل فرضيــة تــرى بــأن أفراد القوات املســلحة مشــغولون بشــؤون‬
‫الحــرب واالســتعداد للقتــال‪ ،‬أي أن الجيــش يهتــم بالفعــل بالعمــل كمؤسســة عســكرية‪ .‬وهنــا‬
‫تحــرين كلــات كالوزفيتــز التــي ال تنــى‪ ،‬حيــث قــال "إن الهــدف الــذي مــن أجلــه‬
‫يُجنــد الجنــود ويقــدم لهــم اللبــاس والســاح والتدريــب‪ ،‬والغايــة التــي ألجلهــا ينامــون‬
‫(((‬
‫ويأكلــون ويرشبــون ويخرجــون يف مســر هــي ببســاطة أن عليهــم أن يقاتلــوا"‪.‬‬

‫مثاًل‪:‬‬
‫‪ -1‬انظر ً‬
‫‪Springborg, Mubarak’s Egypt; Yahya M. Sadowski, Scuds or Butter: The Political Economy‬‬
‫‪of Arms Control in the Middle East, Washington: Brookings Institution, 1993; Cassandra,‬‬
‫‪"Impending Crisis in Egypt" Middle East Journal 49 (1): 9–27 (1995); Alan Richards and John‬‬
‫‪Waterbury, A Political Economy of the Middle East, Boulder, CO: Westview Press, 1996; D.‬‬
‫‪Weiss and U. Wurzel, The Economics and Politics of Transition to an Open Market Economy,‬‬
‫‪Paris: Development Center at the OECD, 1998; Hillel Frisch, "Guns and Butter in the Egyptian‬‬
‫‪Army," Middle East Review of International Affairs 5 (2): 1–14 (2001); Cook, Ruling but Not‬‬
‫‪Governing; Philippe Droz-Vincent, "From Political to Economic Actors: The Changing Role‬‬
‫‪of Middle Eastern Armies," in Debating Arab Authoritarianism: Dynamics and Durability in‬‬
‫‪Nondemocratic Regimes, ed. Oliver Schlumberger, 195–214, Stanford, CA: Stanford University‬‬
‫‪Press, 2007; Thomas Richter, "The Political Economy of Regime Maintenance in Egypt: Linking‬‬
‫‪External Resources and Domestic Legitimation," in Debating Arab Authoritarianism: Dynamics‬‬
‫‪and Durability in Nondemocratic Regimes, ed. Oliver Schlumberger, 177–94. Stanford, CA:‬‬
‫‪Stanford University Press, 2007.‬‬
‫‪2- Michael Howard, Clausewitz, New York: Oxford University Press, 1983, 36.‬‬

‫‪266‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫‪ .1‬املجمع االقتصادي‪ -‬العسكري‬


‫بعــد أن أعلــن الســادات أن حــرب أكتوبــر هــي آخــر حــرب عربيــة إرسائيليــة‪ ،‬أعــاد توجيــه‬
‫الجيــش نحــو مشــاريع التنميــة االقتصاديــة مــن خــال جهــاز مرشوعــات الخدمــة الوطنيــة‬
‫الــذي أُنشــئ عــام ‪ .1978‬يقــال إن املجمــع االقتصــادي‪ -‬العســكري الــذي بُني بعد الســادات‬
‫وظــف رمبــا مائــة ألــف شــخص مــع محفظــة أعــال متنوعــة تشــمل البنــاء واســتصالح‬
‫األرايض والصناعــات الزراعيــة وأكــر مــن ثالثــن مصن ًعــا للســلع املدنيــة‪ .‬هــذا فضـ ًـا‬
‫عــن األســلحة (مروحيــات مجمعــة‪ ،‬وعربــات مصفحــة‪ ،‬وقذائــف الهــاون ومدافــع الهاوتــزر‬
‫والصواريــخ قصــرة املــدى والذخــرة)‪ ،‬والتــي غطــت ‪ %60‬مــن احتياجــات الجيــش وتركت‬
‫كافيــا إلدارة أعــال تصديــر إىل البلــدان الناميــة تقــدر مبليــارات الــدوالرات‬
‫فائضــا ً‬
‫لــه ً‬
‫ســنويًا‪ .‬كــا متتــع الضبــاط بامتيــازات فحصلــوا عــى شــقق ســكنية ومصايــف وأغذيــة‬
‫وخدمــات مدعومــة فضـ ًـا عــن التوظيــف يف مؤسســات الدولــة بعــد التقاعــد‪.‬‬
‫يف صيــف عــام ‪ ،1984‬تســاءلت سلســلة مــن املقــاالت االفتتاحيــة التــي كتبهــا أعضــاء‬
‫املعارضــة اليســارية عــن الدافــع وراء "إعــادة تقديــم الجيــش كعنــر اقتصــادي فعــال يف‬
‫املقــام األول"‪ (((.‬جــاء رد الجيــش رسي ًعــا‪ ،‬فبعــد أن أوضــح املتحدثــون باســمه أال عالقــة‬
‫للجيــش بهــذا القــرار الســيايس البحــت مشــددين عــى املنطــق الرســمي املذكــور يف توجيــه‬
‫رئــايس عــام ‪ 1979‬وأعيــد تأكيــده يف أمــر رئــايس آخــر بعــد ثــاث ســنوات‪ ،‬والــذي يجعــل‬
‫الجيــش مســؤواًلً عــن تحقيــق االكتفــاء الــذايت واملســاهمة يف التنميــة االقتصاديــة الوطنيــة‬
‫مــن خــال توفــر الســلع والخدمــات الرخيصــة‪ .‬ثــم توســع الضبــاط يف هــذا املنطــق مــن‬
‫خــال املقــاالت الصحفيــة‪ ،‬فذ ّكــر اللــوا ُء إبراهيــم شــكيب ال ُق ـ َّرا َء بــأن عــى الجيــش يف‬
‫(((‬
‫زمــن الســلم إيجــاد عمــل ملجنديــه‪.‬‬
‫قــال اللــواء أحمــد فخــر إنــه يك يســتقر االقتصــاد فــا ميكــن للجيــش أن يتخــى عــن‬
‫أفــراده أمــام ســطوة تقلبــات الســوق‪ ،‬لــذا فمــن الواجــب توفــر العيــش الكريــم لهــم‬
‫عــى أقــل تقديــر‪ (((.‬تبــع ذلــك عــدد مــن املقابــات التــي ســلط فيهــا وزيــر الدفــاع أبــو‬

‫‪ -1‬محمد نور فرحات‪ ،‬حول حكم املؤسسات وتحكم املؤسسات‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪ -2‬إبراهيم شكيب‪ ،‬شك ًرا أيها السادة‪ ،‬ص ‪.5‬‬
‫‪ -3‬أحمد فخر‪ ،‬الفكر العسكري املرصي وإدارة الرصاع‪ ،‬ص ‪.9‬‬

‫‪267‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫غزالــة الضــوء عــى معانــاة الضبــاط مــن التضخــم ووصــف الخدمــات املدعومــة التــي‬
‫يقدمهــا الجيــش ألفــراده بأنهــا زهيــدة بوضــوح مقارنــة باملعايــر الفاخــرة التــي يتمتــع‬
‫بهــا أفــراد الطبقــات املتوســطة والعليــا‪ (((.‬وبــا ريــب‪ :‬ال يحتــاج األمــر ســوى أن يــزور‬
‫املراقــب مــر زيــارة قصــرة آنــذاك ليالحــظ تهالــك متاجــر التخفيضــات العســكرية‬
‫والســيارات واملجمعــات الســكنية ومنتجعــات الشــواطئ‪ ،‬مقارنــة بتلــك التــي تتمتــع بهــا​​‬
‫الطبقــة الوســطى مــن املرصيــن‪ .‬فــا عجــب أن الجيــش فشــل باســتمرار يف تجنيــد‬
‫أعضــاء النخــب الحرضيــة املتعلمــة يف البــاد‪.‬‬
‫خــال املؤمتــر الســنوي للحــزب الوطنــي عــام ‪ ،1986‬ألقــى أبــو غزالــة كلمــة اشــتىك فيهــا‬
‫مــن أن اإلنفــاق الدفاعــي املنخفــض عــرض الجيــش ملتاعــب ماليــة خطــرة‪ ،‬وأكــد أن‬
‫(((‬
‫امليزانيــة الحاليــة بالــكاد تغطــي األجــور الزهيــدة والخدمــات املقدمــة ألفــراد الجيــش‪.‬‬
‫بعدهــا بوقــت قصــر‪ ،‬ذكــر مبــارك نفســه يف خطــاب عــام أن ال ُّن َّقــاد الذين اتهمــوا الجيش‬
‫بتكديــس الــروة يجــب أن يعلمــوا أن نصــف مكاســبه "أُنفقــت عــى أجــور الجنود ومــا تبقى‬
‫عــى مالبســهم ومســاكنهم وصيانــة املعــدات"‪ (((.‬أكــد تقريــر صــادر عــن الجهــاز املركــزي‬
‫للمحاســبات يف عــام ‪ 2008‬أن النشــاط االقتصــادي للجيــش غطى الــرورات دون أن يولد‬
‫فائضــا ملحوظًــا‪ (((.‬ولــذا‪ ،‬مل يكــن الرئيــس مبــارك يكــذب يف هــذا الجانــب عــى األقــل‪.‬‬
‫ً‬
‫كــا أشــار املحللــون إىل أن أولئــك الذيــن ســلطوا الضــوء عــى امتيــازات الضبــاط تناســوا‬
‫أن السياســات االقتصاديــة التضخميــة للســادات ومبــارك تســببت يف تــآكل قيمــة األجــور‬
‫الحكوميــة (بنســبة ‪ ٪60‬عــى األقــل بــن عامــي ‪ 1981‬و‪ ،1986‬وأكــر بعد ذلــك)‪ ،‬ويف حني‬
‫أن املوظفــن املدنيــن بإمكانهــم العمــل بعــد انتهــاء الــدوام الرســمي فقــد أخــذوا رشــاوي‬
‫لتعزيــز دخلهــم الضئيــل واملتقلــص برسعــة‪ ،‬فيــا الضبــاط عالقــون يف رواتبهــم الشــهرية‪.‬‬
‫بعــد اإلطاحــة مببــارك‪ ،‬اعــرف أحــد املعلقــن يف الفايننشــال تاميــز بــأن "امرباطوريــة‬
‫الجيــش االقتصاديــة الشــهرية هــي أكــر تواض ًعــا مــا يُعتقــد عمو ًمــا‪ ،‬ورمبــا تقلصــت مبــا‬
‫يتناســب مــع االقتصــاد الوطنــي الــذي منــا بأكــر مــن ‪ %3‬ســنويًا منــذ عــام ‪ .2003‬ورغــم‬

‫‪ -1‬الباز‪ ،‬املشري والفريق‪ ،‬ص ‪.70‬‬


‫‪ -2‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.64‬‬
‫‪ -3‬عبد الله‪ ،‬الجيش‪ ،‬ص ‪.20‬‬
‫‪ -4‬عبد الخالق فاروق‪ ،‬جذور الفساد اإلداري يف مرص‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الرشوق‪ ،2008 ،‬ص ‪.288‬‬

‫‪268‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫الشــائعات القائلــة بــأن بعــض الجــراالت قــد أصبحــوا أغنيــاء‪ ،‬فــإن الهــدف الرئيــي مــن‬
‫أنشــطة الجيــش االقتصاديــة هــو الحــد مــن تأثــر خصخصــة االقتصــاد املتســارعة عــى‬
‫مســتويات معيشــة الضبــاط"‪ (((.‬يف مــارس ‪ ،2012‬كشــف مســاعد وزيــر الدفــاع للشــؤون‬
‫املاليــة وعضــو املجلــس األعــى للقــوات املســلحة اللــواء محمــود نــر يف نــدوة بالقاهــرة‬
‫عــن أن الحجــم اإلجــايل لألنشــطة االقتصاديــة للجيــش يف عــام ‪ 2011‬بلــغ ‪ 6.3‬مليــار‬
‫جنيــه مــري (حــوايل مليــار دوالر أمريــي)‪ ،‬وأن األربــاح املحققــة يف عهــد مبــارك بلغــت‬
‫(((‬
‫ـبيا‪.‬‬
‫‪ 7.7‬مليــار جنيــه‪ -‬وهــو رقــم ضئيــل نسـ ً‬
‫مثــة ادعــاء مرتبــط بهــذا الشــأن يقــول بــأن اإلنفــاق العســكري ظــل مرتف ًعــا يف عهــد‬
‫مبــارك‪ ،‬وأن ميزانيــة الدفــاع مل متتــد إليهــا يــد الســلطات التنفيذيــة أو الترشيعيــة‪ .‬لكــن‬
‫تقاريــر مــن مصــادر أمريكيــة وأوروبيــة وإرسائيليــة ومرصيــة كشــفت مؤخـ ًرا عــن عــدم‬
‫دقــة هــذا التقييــم‪ .‬ففيــا بلــغ اإلنفــاق العســكري يف منتصــف الســبعينيات ‪ ٪33‬مــن الناتج‬
‫املحــي اإلجــايل للبــاد‪ ،‬فقــد انخفــض بشــكل كبــر بعــد ذلــك ليصــل إىل ‪ ٪19.5‬يف عــام‬
‫ـجاًل أدىن مســتوى لــه يف تاريــخ مــر الحديــث‪.‬‬ ‫‪ 1980‬ثــم إىل ‪ ٪2.2‬يف عــام ‪ 2010‬مسـ ً‬
‫وتذبذبــت نفقــات الدفــاع بــن مــا يقــارب ‪ 2.4‬مليــار دوالر و‪ 4.2‬مليــار دوالر خــال فــرة‬
‫حكــم مبــارك التــي اســتمرت ثالثــة عقــود‪ ،‬دون أن يتــم تعديلهــا عــى اإلطــاق بســبب‬
‫اآلثــار املدمــرة للتضخــم أو التكلفــة املتزايــدة للتكنولوجيــا أو الزيــادة يف الناتــج املحــي‬
‫اإلجــايل ملــر والتــي بلغــت حــوايل عــرة أضعــاف بــن عامــي ‪ 1980‬و‪( 2010‬مــن ‪17.8‬‬
‫مليــار دوالر إىل ‪ 188‬مليــار دوالر)((( أضــف أن مبلــغ ‪ 1.3‬مليــار دوالر املحتفــى بــه والــذي‬

‫‪1- Yazid Sayigh, "Egypt’s Army Looks Beyond Mubarak", Financial Times (2/3/2011): 11, my‬‬
‫‪emphasis.‬‬
‫‪ -2‬جامل‪ ،‬العسكري‪ ،‬ص ‪.2‬‬
‫‪ -3‬تس��تند ه��ذه األرق�اـم إىل‪ :‬زئيــف إيتــان ومــارك أ‪ .‬هيلــر‪ ،‬امليــزان العســكري للــرق األوســط‪ ،‬مركــز جــايف‬
‫للدراســات اإلســراتيجية‪ ،‬القــدس‪ :‬جريوســاليم بوســت بــرس‪90-74 :1983 ،‬؛ إيتــان‪ ،‬هيلــر‪ ،‬أهــارون ليفــران‪،‬‬
‫امليــزان العســكري للــرق األوســط‪ ،‬مركــز جــايف للدراســات االســراتيجية‪ ،‬بولــدر‪ ،‬كولــورادو‪ ،‬مطبعــة وســتفيو‪،‬‬
‫‪1985‬؛ إيتــان وشــلومو غازيــت‪ ،‬التــوازن العســكري للــرق األوســط‪ ،‬مركــز جــايف للدراســات اإلســراتيجية‪،‬‬
‫بولــدر‪ ،‬كولــورادو‪ :‬مطبعــة وســتفيو‪31-218 :1991 ،‬؛ إفرايــم كام ويفتــاح شــابري‪ ،‬امليــزان اإلســراتيجي للــرق‬
‫األوســط‪ ،2003 -2002 ،‬مركــز جــايف للدراســات اإلســراتيجية‪ ،‬تــل أبيــب‪-191 ،2003 ، Kedem Printing :‬‬
‫‪93‬؛ تســفي شــتاوبر وشــابري‪ ،‬التــوازن العســكري للــرق األوســط‪ ،2005 -2004 ،‬مركــز جــايف للدراســات‬
‫اإلســراتيجية‪ ،‬برايتــون‪ :‬مطبعــة ساســكس األكادمييــة‪2005 ،‬؛ كوردســان‪ ،‬القــوات العســكرية العربيــة =‬

‫‪269‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫تقدمــه الواليــات املتحــدة ســنويًا قــد انخفضــت قيمتــه الحقيقيــة بنســبة ‪%50‬عــى األقــل‬
‫منــذ توقيــع معاهــدة الســام يف عــام ‪ .1979‬وبــداًلً مــن االســتمتاع باالزدهــار واالمتيازات‪،‬‬
‫عــاش الجيــش يف كثــر مــن األحيــان مــع مخــاوف موازنــة الحســابات التــي قــد تفــرض‬
‫ـرا لدرجــة أن‬‫خفــض رواتــب العســكريني بشــكل كبــر‪ (((.‬ويف الواقــع‪ ،‬ســاء الوضــع كثـ ً‬
‫اإلســراتيجيني اإلرسائيليــن الحظــوا أن العامــل الالفــت يف ترســانة القــوات املســلحة‬
‫املرصيــة القتاليــة هــو أن جــز ًءا منهــا يُحت َفــظ بــه يف مســتودعات التخزيــن مبــا يف ذلــك‬
‫الطائــرات بســبب قيــود امليزانيــة"(((‪ ،‬وبســبب هــذه القيــود "حظــي تدريــب املحــاكاة‪-‬‬
‫(((‬
‫منخفــض الكلفــة‪ -‬باألولويــة عــى حســاب التدريــب املبــارش"‪.‬‬
‫كــا كانــت لــدى الجيــش مخــاوف جديــة فيــا يتعلــق بالصناعــات العســكرية‪ ،‬والتــي‬
‫تعــززت يف األصــل يف عهــد عبــد النــارص مطلــع الخمســينيات مــن القــرن املــايض‪ .‬يف‬
‫أبريــل ‪ ،1975‬أقنــع الســادات ثــاث دول خليجيــة (اإلمــارات وقطــر والســعودية) أن تســاهم‬
‫كل منهــا بـــ ‪ 260‬مليــون دوالر لتمويــل الصناعــات العســكرية مــن خــال مــروع جديــد‬
‫يســمى الهيئــة العربيــة للصناعــة العســكرية‪ .‬قدمــت مــر أســهمها يف شــكل أصــول‬
‫عينيــة‪ ،‬وبذلــك وصلــت أصــول الهيئــة األوليــة إىل ‪ 1.04‬مليــار دوالر‪ (((.‬لكــن الرعــاة العــرب‬
‫انســحبوا يف عــام ‪ 1979‬احتجا ًجــا عــى معاهــدة الســام املرصيــة اإلرسائيليــة‪ .‬ومــع‬
‫اســتيالء الســادات عــى الهيئــة وإعــادة تســميتها بالهيئــة العربيــة للتصنيــع‪ ،‬فقــد انخفــض‬
‫رأس مالهــا بشــكل كبــر‪ .‬وميكــن للمــرء القــول بــأن األمــر الــذي ألحــق الــرر األكــر‬
‫بالكربيــاء العســكري هــو أن الهــدف النهــايئ مل يعــد تحريــر صنــع القــرار اإلســراتيجي‬
‫يف مــر مــن املورديــن األجانــب‪ -‬كــا أراد عبــد النــارص يف األصــل‪ -‬بــل تحــول لتصبــح‬
‫الهيئــة تاجــر ســاح إقليمــي‪.‬‬
‫واإلرسائيليــة يف عــر الحــروب غــر املتكافئــة‪ ،‬ويســتبورت‪ ،‬كونيكتيكــت‪ :‬برايجــر ســيكيوريت إنرتناشــونال‪،‬‬
‫‪2006‬؛ لطيــف وحيــد‪ ،‬اإلنفــاق العســكري والنمــو االقتصــادي يف الــرق األوســط‪ ،‬نيويــورك‪ :‬بالجريــف‬
‫ماكميــان‪ ،2009 ،‬ص ‪41-137‬؛ روال خلــف ودانيــال دومبــي‪" ،‬الجيــش ممــزق بــن الــوالء للمرصيــن والرئيــس‬
‫والواليــات املتحــدة"‪ ،‬الفاينانشــيال تاميــز (‪3 ،)2011/3/2‬؛ وائــل جــال‪ ،‬العســكري‪ :‬مرشوعنــا أرق وزارة‬
‫الدفــاع‪ ،‬الــروق القاهــرة (‪.)28/3/2012‬‬
‫‪1- Frisch, "Guns and Butter", 2.‬‬
‫‪2- Eytan, Heller, and Levran, The Middle East Military Balance (1985), 91.‬‬
‫‪3- Eytan and Levran, The Middle East Military Balance (1986), 131.‬‬
‫‪4- Barnet, Confronting the Cost of War, 143.‬‬

‫‪270‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫را‪ ،‬مل يــزود تصديــر األســلحة الجيــش بقــوة اقتصاديــة مســتقلة فقــد أبقتــه القيــادة‬ ‫أخ ـ ً‬
‫السياســية تحــت رقابــة مشــددة‪ .‬يف مــارس ‪ ،1976‬عــن الســادات رجــل االســتخبارات‬
‫ورئيــس مكتــب معلومــات الرئيــس أرشف مــروان مســؤواًلً عــن التصنيــع العســكري‪ ،‬ومكــث‬
‫يف منصبــه حتــى أكتوبــر ‪ .1978‬اســتقبل الضبــاط هــذا التعيــن باســتياء واضــح خاصــة‬
‫بعــد أن زعمــت إرسائيــل الح ًقــا أن مــروان كان أحــد أبــرز أدواتهــا يف مــر ولقبتــه بـــ‬
‫"كبــر الجواســيس"‪ ،‬رغــم ادعــاء مبــارك الح ًقــا أن مــروان عمــل كعميــل مــزدوج‪ (((.‬ومــا‬
‫أثــار دهشــة الجميــع أن مــروان (املســاعد األمنــي​​الســابق للســادات) انتقــل بعدهــا إىل‬
‫لنــدن حيــث عــاش حيــاة باذخــة كمليارديــر وشــارك يف صفقــات تجاريــة رفيعــة املســتوى‬
‫تضمنــت محاولــة االســتحواذ عــى نــادي تشــيليس لكــرة القــدم عــام ‪ .1984‬ويف نهايــة‬
‫املطــاف‪ ،‬مــات مــروان يف صيــف عــام ‪ 2007‬بعــد دفعــه مــن رشفــة "كارلتــون هــاوس‬
‫تــراس" يف لنــدن وقــد بلــغ مــن العمــر ‪ 62‬عا ًمــا‪ ،‬دون الكشــف عــن هويــة الفاعــل‪ (((.‬يف‬
‫عهــد مبــارك‪ ،‬انخــرط الضبــاط املوالــون‪ -‬كضابــط املخابــرات الســابق حســن ســامل‪ -‬يف‬
‫تجــارة األســلحة املرصيــة‪ .‬وحتــى مــن الناحيــة القانونيــة‪ ،‬أعطــت املــادة ‪ 108‬مــن الدســتور‬
‫املــري لعــام ‪ 1971‬للرئيــس ســلطة عــى عقــود الدفــاع واألنشــطة األخــرى ذات الصلــة‪،‬‬
‫وهــو االمتيــاز الــذي توســع بشــكل أكــر عــر القانــون ‪ 146‬لعــام ‪ 1981‬الــذي منحــه‬
‫(((‬
‫تحدي ـ ًدا ســلطة عــى صــادرات األســلحة‪.‬‬

‫‪ .2‬التحالف الجيوسيايس‬
‫عــى الرغــم مــن أن أي نــوع مــن املســاعدة العســكرية األجنبيــة يــأيت مصحوبًــا بــروط‪،‬‬
‫فــإن الســبب الــذي جعــل املســاعدة األمريكيــة مشــكلة منــذ اليــوم األول لهــا هــو الظــروف‬
‫والقيــود املحــددة التــي جــاءت معهــا‪ .‬فبعــد أربــع ســنوات مــن تركــه منصبــه‪ ،‬أوضــح وزيــر‬
‫الدفــاع الســابق أبــو غزالــة يف مقابلــة معــه يف يونيــو ‪ 1997‬أن العســكريني املرصيــن‬
‫أحبطــوا للغايــة كــون مصــدر تدريبهــم األســايس وأســلحتهم ملتزم بإبقــاء التفوق العســكري‬

‫‪1- Sirrs, A History of the Egyptian Intelligence Service, 130–31.‬‬


‫‪ -2‬عبد الرحمن السيد‪ ،‬األهرام (‪.)2007/5/7‬‬
‫‪ -3‬محمــد حلمــي مــراد‪ ،‬الرقابــة الغائبــة عــى اإلنفــاق العســكري والتفويضــات الالنهائيــة لصفقــات الســاح‬
‫وميزانيــة القــوات املســلحة‪ ،‬الشــعب‪ ،‬القاهــرة (‪.)1986/9/9‬‬

‫‪271‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫إلرسائيــل عــى جميــع الــدول العربيــة‪ُ (((.‬ســجل هــذا االلتــزام األمريــي يف كتابــات بعــض‬
‫كبــار الساســة األمريكيــن مثــل هــري كيســنجر وعضــو مجلــس األمــن القومــي روبــرت‬
‫ـميا يف رســالة مــن الرئيــس رونالــد ريغــان إىل رئيــس‬‫كومــر‪ ،‬قبــل أن يتــم توضيحــه رسـ ً‬
‫الــوزراء اإلرسائيــي مناحيــم بيغــن يف عــام ‪ 1986‬مكــر ًرا التــزام أمريــكا بـــ "ضــان‬
‫(((‬
‫التفــوق اإلرسائيــي يف التســلح عــى جميــع الــدول العربيــة مجتمعــة"‪.‬‬
‫وقــد تأكــد هــذا االلتــزام العــام يف مناســبات عــدة‪ .‬فمثـ ًـا بالرغــم مــن مســاعدة الواليــات‬
‫املتحــدة ملــر عــى دمــج الطائــرات املقاتلــة مــن طــراز إف‪ 16 -‬يف ســاحها الجــوي‪ ،‬إال‬
‫أنهــا تعمــدت إبقــاء عددهــا أقــل مــن ثلثــي تلــك التــي متتلكهــا إرسائيــل‪ .‬وعندمــا طالبــت‬
‫مــر بالحصــول عــى أســلحة محــددة‪ ،‬مثــل صــاروخ جــو‪ -‬جــو بعيــد املــدى مــن طــراز‬
‫(إيــه آي إم‪ 120-‬أمــرام) الــذي قدمتــه إدارة كلينتــون لإلمــارات بســهولة‪ ،‬رفــض البنتاغــون‬
‫طلبهــا بســبب االعرتاضــات اإلرسائيليــة‪ .‬وبينــا تعاونــت الواليــات املتحــدة تعاونًــا وثي ًقــا‬
‫مــع إرسائيــل يف إنتــاج أســلحة متطــورة‪ ،‬كتوفريهــا ‪ %70‬مــن تكاليــف تطويــر برنامــج‬
‫"الســهم" املضــاد للصواريــخ الباليســتية‪ ،‬فقــد امتنعــت عــن مســاعدة مــر يف بنــاء برنامج‬
‫صاروخــي متقــدم‪ .‬لذلــك‪ ،‬يف الوقــت الــذي تشــرك فيــه ترســانة الجانبــن يف العديــد‬
‫مــن أنــواع األســلحة‪ ،‬إال أن حصــة إرسائيــل كانــت أفضــل مــن حيــث الكميــة والنوعيــة‪ ،‬بــل‬
‫أيضــا مــن مســاعدة الواليــات املتحــدة يف الحفــاظ عــى فجوة‬ ‫اســتفاد مصنعوهــا املحليــون ً‬
‫تكنولوجيــة لصالحهــا‪ (((.‬وال ننــى أن أبــو غزالــة فقــد منصبه حني أجربه اعــراض الواليات‬
‫املتحــدة عــى تهريــب تكنولوجيــا الصواريــخ األمريكيــة والتعامــل مــع كوريــا الشــالية‬
‫الشــيوعية بهــدف تجهيــز الجيــش املــري بشــكل أفضــل مــا تســمح بــه الواليــات املتحــدة‪.‬‬
‫(((‬
‫لــذا‪ ،‬أغضبــت إقالتــه عــى خلفية هذا الســبب العــرات من الضبــاط والجنــود املرصيني‪.‬‬
‫راضيــا عــن وتــرة‬
‫وفقًــا ملحللــن إســراتيجيني إرسائيليــن‪ ،‬مل يكــن الجيــش املــري ً‬
‫إمــدادات األســلحة مــن الواليــات املتحــدة ورغــب يف تجنــب االعتــاد املفــرط عــى مــورد‬
‫واحــد ولــذا طلــب مســاعدة الــدول األخــرى‪ ،‬لكــن الواليــات املتحــدة قوضــت بشــكل‬

‫‪ -1‬الباز‪ ،‬املشري والفريق‪ ،‬ص ‪.208-206‬‬


‫‪ -2‬هيكل‪ ،‬خريف الغضب‪ ،‬ص ‪.71‬‬
‫‪3- Frisch, "Guns and Butter", 3–5.‬‬
‫‪ -4‬مقابلة مع العقيد محمد سليم‪.2009 ،‬‬

‫‪272‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫منهجــي مســاعيه تلــك‪ (((.‬وعــى ســبيل املثــال‪ ،‬عندمــا طلــب الجيــش مــن الــروس يف عــام‬
‫‪ 1997‬تحديــث نظــام دفاعــه الجــوي بشــحنة مــن صواريــخ إس‪ 300 -‬للدفــاع الصاروخــي‪،‬‬
‫والتــي تصــادف أنهــا مؤهلــة بشــكل خــاص للتصــدي لصواريــخ كــروز التــي متتلكهــا‬
‫إرسائيــل‪ ،‬أوقــف البنتاغــون الصفقــة‪ .‬بعــد مفاوضــات مطولــة‪ُ ،‬ســمح ملــر فقــط يف‬
‫عــام ‪ 2003‬باســتخدام األمــوال األمريكيــة لتحديــث بعــض صواريخهــا الروســية املتقادمــة‬
‫مــن طــراز ســام‪ .3 -‬وقــد وضعــت سياســة نقــل الرســائل األمريكيــة إىل مــر‪ -‬يف رأي‬
‫الخــراء العســكريني األمريكيــن أنفســهم‪" -‬قيــو ًدا خطــرة عــى قــدرة مــر يف التعامــل‬
‫مــع أي هجــوم تشــنه إرسائيــل"‪ (((.‬ويف تقديــر إرسائيــي مبكــر للقــدرات املرصيــة بعــد‬
‫عامــن مــن حكــم مبــارك‪ ،‬بــرز اســتنتاج أكــر شــمولية يقــول بــأن "السياســة التــي تبناهــا‬
‫الرئيــس الســادات بعــد عــام ‪ 1973‬تســببت يف تخلــف مــر عــن إرسائيــل والــدول العربيــة‬
‫(((‬
‫األخــرى يف ســباق التســلح يف الــرق األوســط"‪.‬‬
‫أبــرز تحليــل أكــر دقــة أن املســاعدة األمريكيــة أعطــت األولويــة للقــوات الجويــة والبحرية‬
‫(التــي تلقــت حــوايل ‪ %80‬مــن املنحــة الســنوية)‪ ،‬وبدرجــة أقــل لســاح املدرعــات‪ ،‬عــى‬
‫حســاب ســاحي الدفــاع الجــوي واملدفعيــة‪ .‬يُ َعـ ُّد الدفــاع الجــوي أمـ ًرا بالــغ األهميــة ملــر‬
‫كونــه يتمتــع باســتقاللية عــن باقــي فــروع الجيــش‪ ،‬وقــد اســتمر يف االعتامد عــى صواريخ‬
‫أرض‪-‬جــو القدميــة القادمــة مــن الكتلــة الرشقيــة (خاصــة صواريــخ ســام‪ ،)6 -‬مــع بعــض‬
‫صواريــخ "هــوك" األمريكيــة املحســنة‪ .‬وباملثــل‪ ،‬بلــغ عــدد قطــع املدفعيــة املرصيــة يف‬
‫التســعينيات مئتــي قطعــة أمريكيــة الصنــع مــن أصــل ألفــن ومئتــي قطعــة‪ (((.‬ومــن املثــر‬
‫لالهتــام مالحظــة العالقــة بــن عــدم اهتــام الواليــات املتحــدة بالدفــاع الجــوي املرصي‬
‫واملدفعيــة املرصيــة‪ -‬اللــذان أثبتــا مــرا ًرا أنهــا رضوريــان لقــوة الــردع املرصيــة‪ -‬ودعمهــا‬
‫للقــوات الجويــة والبحريــة القامئــة عــى التكنولوجيــا والتــي ال أمــل ملــر يف التفــوق‬
‫بهــا عــى إرسائيــل‪ .‬قــد يفــر هــذا الشــائعات التــي تــرددت عــن رفــض وزيــر الدفــاع‬
‫(((‬
‫حســن طنطــاوي محــاوالت الواليــات املتحــدة إلعــادة هيكلــة القــوات املســلحة املرصيــة‪.‬‬
‫‪1- Eytan, Heller, and Levran, Middle East Military Balance (1985), 87.‬‬
‫‪2- Cordesman, Arab-Israeli Military Forces in an Era of Asymmetric Wars, 175–77.‬‬
‫‪3- Eytan, Heller, and Tamari, Middle East Military Balance (1983), 89.‬‬
‫‪4- Eytan, Gazit, and Gilbo, Middle East Military Balance (1993), 136–42.‬‬
‫‪ -5‬جامل عصام الدين‪ ،‬املشري الصامت طنطاوي‪ ،‬ص ‪.1‬‬

‫‪273‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫ومــا زاد الطــن بلــة أن الضبــاط املرصيــن رأوا عــزم الواليــات املتحــدة عــى إبقائهــم‬
‫أقــل شــأنًا مــن إرسائيــل‪ ،‬بــل وســعيها لتحديــث القــوة العســكرية اإلرسائيليــة بانتظــام عــى‬
‫صعيــد األســلحة والعقيــدة اإلســراتيجية واإلعــداد‪ (((.‬تفاقــم هــذا الشــعور نظـ ًرا ألن الجيش‬
‫ال يــزال يصنــف إرسائيــل عــى أنهــا تهديــد رئيــي ألمــن مــر‪ ،‬وقــد رصح أبوغزالــة‬
‫بذلــك يف الربملــان يف فربايــر ‪ (((.1987‬باإلضافــة إىل ذلــك‪ ،‬ســمت التدريبــات العســكرية‬
‫الســنوية إرسائيــل رصاحـ ًة كهــدف للتدريــب‪ ،‬مثــل بــدر عــام ‪ 1996‬وجبــل فرعــون يف عام‬
‫‪ ،1998‬وأُجريــت عــى أرض تشــبه ســيناء‪ .‬وليــس ً‬
‫رسا أن أكــر متركــز للقــوات املرصيــة يقــع‬
‫يف املنطقــة الواقعــة بــن القاهــرة وقنــاة الســويس‪.‬‬
‫باختصــار‪ ،‬ترتكــز جميــع قــدرات مــر وعتادهــا وانتشــارها عــى جبهــة واحــدة فقــط‬
‫لالشــتباك مــع قــوة واحــدة فقــط‪ :‬جيــش الدفــاع اإلرسائيــي‪ (((.‬إن االعتــاد املفــرط‬
‫عــى الواليــات املتحــدة جعــل الجيــش املــري يشــعر بأنــه مكشــوف وأعــزل أمــام أي‬
‫عــدوان إرسائيــي محتمــل يف املســتقبل‪ (((.‬يقــول اإلســراتيجي العســكري الشــهري أنتــوين‬
‫كوردســان "رغــم التــزام مــر الراســخ بخيــار الســام‪ ،‬فإنــه ال ميكنهــا تجاهــل خطــر‬
‫بعــض األزمــات السياســية غــر املتوقعــة أو تحــول إســراتيجي ميكــن أن يجعــل إرسائيــل‬
‫مــرة أخــرى تهدي ـ ًدا‪ .‬لــذا يجــب أن تحافــظ عــى قــوة ردع دفاعيــة مناســبة للتعامــل مــع‬
‫(((‬
‫خطــر حــدوث انهيــار غــر محتمــل لعمليــة الســام مــع إرسائيــل"‪.‬‬
‫بغــض النظــر عــن إرسائيــل‪ ،‬رسعــان مــا أدرك الضبــاط املرصيــون أنــه ال يُس ـ َم ُح لهــم‬
‫بإظهــار قــوة مــر اإلقليميــة يف أي اتجــاه‪ .‬دافعــت الواليــات املتحــدة كقــوة عظمــى عــن‬
‫مصالحهــا يف جميــع أنحــاء املنطقــة بشــدة‪ ،‬مــن الســودان واألردن إىل اليمــن وســوريا‬
‫ولبنــان‪ ،‬والخليــج بالطبــع‪ .‬حتــى عندمــا اسـتُدعيت مــر إىل جانــب عرشيــن دولــة أخــرى‬
‫للمشــاركة يف عمليــة عاصفــة الصحــراء لتحريــر الكويــت‪ ،‬مل يُسـ َم ْح لها بعد ذلــك بأدى دور‬
‫أماًل يف إنشــاء‬‫أكــر نشــاطًا يف أمــن الخليــج عــر إعالن دمشــق لعــام ‪ ،1992‬والذي شــكل ً‬

‫‪1- Springborg, Mubarak’s Egypt, 95.‬‬


‫‪ -2‬موىس الجندي‪ ،‬ضجة يف إرسائيل حول ترصيحات املشري‪ ،‬األهرام ‪ ،45392:3‬القاهرة (‪.)1987/18/2‬‬
‫‪3- Frisch, "Guns and Butter", 6.‬‬
‫‪ -4‬الباز‪ ،‬املشري والفريق‪ ،‬ص ‪.208 -206‬‬
‫‪5- Cordesman, Arab-Israeli Military Forces, 200.‬‬

‫‪274‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫قــوة دفــاع عربيــة تحــت القيــادة املرصية الســورية‪ .‬ومــا زاد الطــن بلــة أن أداء الفرقتني‬
‫(((‬
‫اللتــن أرســلتهام مــر للحــرب ضــد العــراق ق ََّي َمتْـ ُه املصــادر األمريكيــة بأنــه متوســط‪.‬‬
‫شــخصيا عــى‬
‫ً‬ ‫ووصــف الخبــر العســكري األمريــي نورفيــل دي أتكــن الــذي أرشف‬
‫تدريــب الضبــاط املرصيــن أداءهــم بأنــه متوســط‪ (((.‬كان مــن الواضــح أنــه بعــد ســنوات‬
‫مــن التحديــث األمريــي مل تحقــق القــوات املســلحة املرصيــة الكثــر مــن التقــدم‪ .‬رمبــا‬
‫يرجــع ذلــك إىل أن الحــرب‪ -‬مــن وجهــة نظــر أمريكيــة‪ -‬مل تكــن مــن ضمــن اهتاممــات‬
‫مــر‪ ،‬وتوقــع البعــض أن يتخــذ الجيــش املــري دور قــوة ردع خلفيــة‪ (((.‬ويف أحســن‬
‫األحــوال‪ ،‬ميكــن اســتخدام الجيــش املــري‪ ،‬الــذي اعتــر نفســه يف املــايض طليعــة‬
‫الجيــوش املتقدمــة يف عــامل مــا بعــد االســتعامر‪ ،‬كقــوة درك إقليميــة إىل جانــب حلفــاء‬
‫ـس‬ ‫الواليــات املتحــدة‪ .‬وقــد بــدا التناقــض األمريــي يف أوضــح صــوره عندمــا أُ ِ‬
‫رسـ َـل نفـ ُ‬
‫الرجــال الذيــن ســبق إرســالهم إىل الكونغــو لدعــم باتريــس لومومبــا يف عــام ‪ 1960‬إىل‬
‫هنــاك مــرة أخــرى يف عــام ‪ 1977‬لدعــم اســتبداد موبوتــو املؤيــد ألمريــكا‪.‬‬
‫مــن الواضــح أن الرئيــس مبــارك مل يشــارك رجالــه مخاوفهــم‪ ،‬فخــال لقائــه األول يف ‪5‬‬
‫ديســمرب ‪ 1981‬مــع الصحفــي واملستشــار الســيايس املخــرم محمــد حســنني هيــكل‪ ،‬بــدا‬
‫أنــه قــد حســم أمــره فيــا يتعلــق مبوقفــه الجيوســيايس والحــرب‪ .‬وعندمــا انتقــد هيــكل‬
‫عــدم فعاليــة عمليــة الســام والتحالــف غــر املتكافــئ مــع الواليــات املتحــدة‪ ،‬قاطعــه‬
‫قائــا‪" :‬كان الســادات محقًــا‪ ،‬ال أعــرف ملــاذا أقــام عبــد النــارص صداقــة مــع‬
‫ً‬ ‫مبــارك‬
‫هــؤالء الــروس الفقــراء‪ .‬أمــا الســادات فقــد فضــل بحــق األمريــكان األســخياء‪ .‬إن أكــر‬
‫خطــأ ارتكبــه عبــد النــارص هــو تحديــه لألمريكيــن‪ .‬بينــا اختــار الرئيــس الســادات‬
‫بحكمــة الســام مــع إرسائيــل‪ .‬كان ينبغــي عــى الرئيــس عبــد النــارص أن يــدرك أن قتــال‬
‫إرسائيــل ميــؤوس منــه فاليهــود يســيطرون عــى العــامل كلــه كــا تعلــم‪ .‬خذهــا منــي‪ ،‬ال‬
‫(((‬
‫أحــد يســتطيع تجــاوز أمريــكا"‪.‬‬

‫‪1- Eytan, Gazit, and Giblo, Middle East Military Balance (1993), 141.‬‬
‫‪2- De Atkine, "Why Arabs Lose Wars", 13.‬‬
‫‪3- Frisch, "Guns and Butter", 6.‬‬
‫‪ -4‬هيكل‪ ،‬مبارك وزمانه‪ ،‬ص ‪.65‬‬

‫‪275‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫مل تكــن التطــورات يف الداخــل أقــل إحباطًــا للضبــاط‪ ،‬فالجيــش الــذي تــوىل الســلطة يف‬
‫يوليــو ‪ 1952‬باســم الشــعب واتبــع سياســات تنمويــة لصالــح الطبقــات املتوســطة والدنيــا‪،‬‬
‫بــات اليــوم مدع ـ ًوا لدعــم نظــام ينحــاز إىل أصحــاب الــراء الفاحــش‪ .‬مــع صعــود نجــل‬
‫الرئيــس مبــارك ورشكائــه مــن رجــال األعــال املرتبطــن بالواليــات املتحــدة خــال العقــد‬
‫األخــر مــن حكــم مبــارك‪ ،‬انتقــد وزيــر الدفــاع حســن طنطــاوي (وفــق مــا كشــفته وثائــق‬
‫ويكيليكــس) االتجــاه الــذي يســر فيــه النظــام بشــكل عــام‪ ،‬وتنامــي دور نجــل مبــارك‬
‫ودائرتــه الرأســالية عــى وجــه الخصــوص‪ ،‬ووفــق جــاك جولدســتون فقــد "اســتاءت‬
‫فضـ َـل تعزيــز نفــوذه مــن خــال‬ ‫القيــادة العليــا للجيــش بشــدة مــن جــال مبــارك الــذي َّ‬
‫رجــال األعــال والسياســيني ال مــن خــال الجيــش‪ ،‬يف الوقــت الــذي جنــى فيــه املرتبطون‬
‫(((‬
‫بــه أربا ًحــا طائلــة مــن االحتــكارات الحكوميــة والصفقــات مــع املســتثمرين األجانــب"‪.‬‬
‫يف مطلــع عــام ‪ ،2006‬قــال وزيــر الدفــاع حســن طنطــاوي للرئيــس مبــارك بطريقــة لبقــة‬
‫أنــه لــن يكــون مــن الحكمــة تأليــب الجيــش عــى الشــعب إلجبــاره عــى قبــول شــخصية‬
‫ال تحظــى بشــعبية كرئيــس‪ (((،‬لكــن رأســاليي الحــزب الحاكــم مل يأبهــوا بكالمــه‪ .‬وعندمــا‬
‫ـر عــن قلقه‬ ‫أخــر الســفري األمريــي فرانســيس ريــكاردون أحدهــم أنــه ســمع طنطــاوي يُ َعـ ِّ ُ‬
‫بشــأن ترشــيح جــال مبــارك للرئاســة قيــل لــه إن الرئيــس حســني مبــارك ميكنــه إقالــة‬
‫(((‬
‫وزيــر الدفــاع متــى شــاء‪ ،‬وأضــاف املصــدر "طنطــاوي ليــس أقــوى مــن أبوغزالــة"‪.‬‬
‫بينــا حقــق الرأســاليون املرتبطــون بالطبقــة السياســية أربا ًحــا ضخمــة بالرشاكــة مــع‬
‫املســتثمرين األمريكيني‪ ،‬كانت املســاعدات العســكرية األمريكية باهظة الثمن‪ .‬خاضت مرص‬
‫حــرب الســويس عــام ‪ 1956‬وحــرب اليمــن (‪ )1967-1962‬وحــرب ‪ 1967‬وحــرب االســتنزاف‬
‫(‪ ،)1970 -1967‬وحــرب أكتوبــر (‪ )1973‬بأســلحة روســية مل تكلفهــا ســوى ‪ 1.7‬مليــار دوالر‬
‫فقــط‪ ،‬يف عالقــة اســتمرت عقديــن مــن الزمــن مع االتحــاد الســوفيتي‪ .‬يف املقابــل‪ ،‬تكبدت‬
‫مــر يف الســنوات الخمــس األوىل مــن تحالفهــا مــع الواليــات املتحــدة ديونًــا بقيمــة ‪6.6‬‬
‫(((‬
‫مليــار دوالر‪ ،‬رغــم أنهــا مل تخــض حروبًــا‪ ،‬ومل تخطــط للقيام بذلــك خالل تلك الســنوات‪.‬‬
‫‪1- Jack A. Goldstone, "Understanding the Revolutions of 2011: Weakness and Resilience in‬‬
‫‪Middle Eastern Autocracies", Foreign Affairs 90: (3), 8-16 (2011).‬‬
‫‪ -2‬هيكل‪ ،‬مبارك وزمانه‪ ،‬ص ‪.306‬‬
‫‪ -3‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.305‬‬
‫‪4- Handoussa, "Fifteen Years of US Aid to Egypt", 114.‬‬

‫‪276‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫را‪ ،‬فــإن اتفاقيــات كامــب ديفيــد ومعاهــدة الســام الالحقة لعــام ‪ ،1979‬التي اســتندت‬ ‫أخـ ً‬
‫إليهــا املســاعدة العســكرية األمريكيــة‪ ،‬مل تكــن محــل ترحيــب للعديــد مــن كبــار الضبــاط‬
‫املرصيــن منــذ البدايــة‪ (((.‬فقــد أدت إىل تجريــد ســيناء مــن أي وجــود عســكري مــري‪،‬‬
‫و ُم ِنـ َع اســتخدا ُم املطــارات العســكرية‪ ،‬ومل يُســمح ســوى بنرش فرقــة مشــاة ميكانيكية واحدة‬
‫فقــط عــى طــول الضفــة الرشقيــة لقنــاة الســويس‪ ،‬بينــا ُمُينــع يف بقيــة أنحــاء ســيناء‬
‫نــر أكــر مــن ثــاث وحــدات حــرس حــدود ورجــال رشطــة مســلحني بأســلحة خفيفــة‪.‬‬
‫منعــت هــذه القيــود مــر مــن حشــد قواتهــا يف ســيناء‪ -‬حتــى للتدريــب‪ -‬وإال فســتعتربها‬
‫إرسائيــل ذريعــة إلعــان الحــرب‪ .‬لــذا‪ ،‬ال يُســتغرب أن تتمحــور إحــدى أوىل التوصيــات‬
‫التــي قدمهــا املمثلــون العســكريون يف مؤمتــر الوفــاق الوطنــي بعــد ثــورة ‪ 2011‬حــول‬
‫مراجعــة القيــود اإلرسائيليــة املفروضــة عــى انتشــار القــوات املرصيــة وحجمهــا يف ســيناء‪.‬‬

‫‪ .3‬القيود السياسية‬
‫مــع نفــور الجيــش عمو ًمــا مــن العمــل الســيايس بعــد هزميــة ‪ ،1967‬إال أن تطويــر الجيــش‬
‫املزعــوم واملتزامــن مــع حــرب أكتوبــر ‪ 1973‬مل يكــن كــا متنــى القــادة العســكريون‬
‫الذيــن أردوا أن يصبــح قــاد ًرا عــى تحقيــق أداء قتــايل أفضــل‪ .‬قبــل الجيــش باالبتعــاد‬
‫عــن السياســة كخطــوة نحــو تطويــره بالشــكل املناســب‪ ،‬وذلــك بعــد أن أجمــع املحللــون‬
‫عــى أن أســباب هزائــم مــر مردهــا لفســاد املؤسســة العســكرية الــذي يقــوده املتورطــون‬
‫يف العمــل الســيايس‪ .‬لكــن رسعــان مــا أدرك الضبــاط أن االســتبداد فــرض قيــو ًدا مامثلــة‬
‫عــى قــدرات الجيــش القتاليــة حتــى بعــد ابتعادهــم عــن السياســة‪ .‬فالحــكام املســتبدون ال‬
‫يتحملــون فكــرة القائــد العبقــري الــذي يــرز يف الحــرب ويســتثمر إنجازاتــه وأمجــاده يف‬
‫ســاحة املعركــة للوصــول إىل منصــب ســيايس‪ .‬لــذا‪ ،‬تســتبق األنظمــة الخائفــة صعــود هــؤالء‬
‫األبطــال العســكريني الــذي ولــدوا يف ســاحة املعــرك مــن خــال جعــل القــرار العســكري‬
‫مركزيًــا وحــره يف بعــض الجــراالت املوثــوق بهــم‪.‬‬
‫إن أســلوب الحــرب الــذي متليــه السياســة صــارم للغايــة بحيــث ال يســمح بإســراتيجية‬
‫"حــرب الحركــة" املتفوقــة التــي تعتمــد عــى منــاورات ديناميكيــة وعفويــة‪ ،‬فتتطلــب ضباطًا‬
‫متوســطي الرتــب ومســتقلني يتخــذون القــرار بشــكل ارتجــايل يف املعركــة دون أوامــر‬
‫‪1- Waterbury, The Egypt of Nasser and Sadat, 376.‬‬

‫‪277‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫تاريخيــا عــر معــارك الفيلــق‬


‫ً‬ ‫مســبقة‪ .‬وقــد ثبتــت فعاليــة هــذا النــوع مــن الحــروب‬
‫أيضــا‬
‫الرومــاين والقــوات االتحاديــة األمريكيــة والفريماخــت األملــاين وآخريــن‪ ،‬وهــي ً‬
‫ُحب ـذَة إلرسائيــل منــذ عــام ‪ .1948‬يقــول املــؤرخ العســكري ســيمون‬ ‫إســراتيجية القتــال امل َّ‬
‫دونســتان "يف جميــع أقســام الجيــش اإلرسائيــي‪ ،‬تؤكــد القيــادة عــى عنــر املبــادرة‬
‫جليــا لــدى ضبــاط الجيــش‬ ‫لــدى جميــع الرتــب للحفــاظ عــى زخــم الهجــوم‪ .‬بــرز هــذا ً‬
‫(((‬
‫اإلرسائيــي والقــادة الصغــار الذيــن عملــوا بثقافــة أهــاراي العربيــة التــي تعني "اتبعنــي"‪.‬‬
‫وعــى النقيــض مــن ذلــك‪ ،‬أثبــت أســلوب الهجــات الثابتــة والدفــاع يف الخنــادق الــذي‬
‫اعتمــد عليــه الجيــش املــري يف الحــروب مــرا ًرا وتكــرا ًرا أنــه دون املســتوى املطلــوب‪.‬‬
‫لذلــك يســتطيع أي باحــث يف الحــروب العربيــة اإلرسائيليــة أن يالحــظ قــوة مــر يف‬
‫قدرتهــا الدفاعيــة العنيــدة‪ ،‬يف حــن أن ضعفهــا الرئييس قــد يُعزى إىل عجزها املســتمر عن‬
‫شــن حــرب خاطفــة متحركــة‪ .‬لقــد عــاىن الســلوك الحــريب املــري يف ظــل هيــكل قيــادة‬
‫وســيطرة شــديد املركزيــة للضبــاط امليدانيــن مينــع االرتجــال واملبــادرات غــر املــرح‬
‫بهــا‪ ،‬و"يس ـفّه بشــكل تــام مبــادرات صغــار الضبــاط‪ ،‬وهــم الــكادر الــذي تعتمــد عليــه‬
‫الحــرب املتنقلــة"‪ (((.‬أدرك الجيــش املــري هــذا الضعــف املتحكــم بعملياتــه‪ ،‬وقد اســتعرض‬
‫كبــار املؤرخــن العســكريني ‪-‬عــى رأســهم اللــواء حســن البــدري واللــواء جــال حــاد‪ -‬يف‬
‫مطلــع الســبعينيات أداء الجيــش املــري وخلصــوا إىل أنــه كان ضعي ًفــا يف تنفيــذ العمليــات‬
‫(((‬
‫التــي اعتمــدت عــى املنــاورة الهجوميــة‪ ،‬رغــم مزايــاه الكامنــة يف ســاحة املعركــة‪.‬‬
‫خصوصــا خــال حــرب أكتوبــر‪ ،‬فباملقارنــة بالفــوىض التــي ســببها‬ ‫ً‬ ‫بــرز هــذا الضعــف‬
‫أمثــال بــرن أدان وأرئيــل شــارون اللــذان شــقا طريقهــا خلــف الخنــادق املرصيــة وأحدثــا‬
‫الخــرق الشــهري‪ ،‬كان قــادة الفــرق واأللويــة املرصيــة مقيديــن بقــرار حفنــة مــن الجرناالت‬
‫القدامــى القابعــن يف مركــز "العمليــات ‪ "10‬بالقاهــرة‪ .‬وعندمــا ُســئل ضابــط مــري‬
‫متوســط​​الرتبــة خــال مقابلــة بعــد الحــرب عــن القائــد امليــداين األكــر حيويــة مــن وجهــة‬
‫نظــره قــال ببســاطة "وزيــر الحربيــة أحمــد إســاعيل"‪ .‬وعندمــا ُســئل قائــد الدبابــة‪ -‬الــذي‬
‫اشــتىك مــن أنــه كان عــى بُعــد نصــف ســاعة مــن ممــر متــا‪ ...‬نصــف ســاعة فقــط"‪-‬‬
‫‪1- Dunstan, The Six Day War 1967, 22.‬‬
‫‪2- Insight Team, Yom Kippur War, 164, 341.‬‬
‫‪3- Brooks, Shaping Strategy, 130–31.‬‬

‫‪278‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫عــن ســبب عــدم ســيطرته عــى هــذه املواقــع ذات القيمــة اإلســراتيجية‪ ،‬هــز كتفيــه وقــال‬
‫"اســألهم يف القاهــرة"‪ .‬كــا ُســئل صغــار الضبــاط عــن ســبب عــدم ردهــم عــى الخــرق‬
‫اإلرسائيــي للخطــوط األماميــة املرصيــة يف الدفرســوار بالرسعــة الكافيــة قــال أحدهــم‬
‫موض ًحــا "لشــن عمليــة يشــارك فيهــا الجيشــان الثــاين والثالــث تحتــاج لتعميــم أوامــر‬
‫(((‬
‫تحمــل توقيــع أربعــة ضبــاط أركان مختلفــن"‪.‬‬
‫يف املقابــل‪ ،‬عندمــا ســئل مؤســس جيــش الدفــاع اإلرسائيــي ديفيــد بــن غوريــون عــن أهــم‬
‫منصــب يف دولــة إرسائيــل أجــاب دون تــردد "قــادة الكتائــب‪ ...‬هــؤالء هــم الرجــال الذيــن‬
‫يحمــون مســتقبل إرسائيــل"‪ (((.‬خلــص الكولونيــل نورفيــل دي أتكــن الــذي تراكمــت لديــه‬
‫ســنوات مــن الخــرة يف تدريــب الضبــاط املرصيــن إىل أن "ضابــط الصــف يف الجيــش‬
‫(((‬
‫األمريكــي يتمتــع بســلطة مماثلــة لضابــط برتبــة عقيــد فــي جيــش عربــي"‪.‬‬
‫لذلــك‪ ،‬بينــا أ ِمــل الجيــش يف أن يــؤدي ابتعــاده عــن السياســة لجعلــه جديـ ًرا بالثقــة أكــر‬
‫يف نظــر السياســيني‪ ،‬مــا يســمح لــه بتعزيــز قدرتــه الحربيــة دون أي قلــق‪ .‬بــدأ الحديــث‬
‫عــن أنــه لــن يكــون هنــاك املزيــد مــن الحــروب‪ ،‬حتــى أن وزارة الحربيــة ُغــر اســمها يف‬
‫عــام ‪ 1979‬وأصبحــت تُعــرف باســم وزارة الدفــاع‪ .‬عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬اســتمر االســتبداد‬
‫الســيايس الــذي منــع مــر لفــرة طويلــة مــن تبنــي عقيــدة الحــرب املتحركــة‪ .‬وأدت إقالــة‬
‫إحساســا‬
‫ً‬ ‫قــادة الجيــش البارزيــن وإعــادة التوزيــع غــر املــرر آلخريــن يف القيــادة العليــا‬
‫بــأن األداء العســكري املميــز وشــعبية الضابــط بــن الجنــود ال يــزاالن يهــددان منصــب‬
‫الضابــط حتــى بعــد دعــم النظــام املزعــوم لتطويــر الجيــش‪.‬‬
‫اعتمــد مبــارك كمــن ســبقوه بشــكل كبــر عــى األجهــزة األمنيــة خاصــة أمــن الدولــة) يف‬
‫مراقبــة مــن متيــز" بــأي شــكل أو طريقــة‪ ،‬فبــات بإمــكان التقاريــر األمنيــة أن تــؤدي لعزل‬
‫ضابــط جيــد مــع تعويــض تقاعــدي الئــق يف العــادة للحــد مــن اســتيائه‪ (((.‬بعــد ســنوات‬
‫قليلــة مــن حكــم مبــارك‪ ،‬أدرك الضبــاط بــكل أمل أنــه "مــا مل تتغــر السياســة العربيــة‬
‫عــى املســتويات األساســية‪ ،‬فمــن غــر املرجــح أن تكتســب الجيــوش العربيــة مجموعــة‬
‫‪1- Insight Team, Yom Kippur War, 340–41.‬‬
‫‪ -2‬إمام‪ ،‬عبد النارص وعامر‪ ،‬ص ‪.33‬‬
‫‪3- De Atkine, "Why Arabs Lose Wars", 17.‬‬
‫‪ -4‬مقابلة مع العقيد محمد سليم‪.2009 ،‬‬

‫‪279‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫الخصائــص التــي تتصــف بهــا الجيــوش الحديثــة لتحقيــق االنتصــارات يف ســاحة املعركــة‬
‫(((‬
‫مهــا كان ضباطهــا وأفرادهــا شــجعانًا أو أكفــاء"‪.‬‬

‫‪ .4‬السياق االجتامعي‬
‫مــن أخطــر التحديــات التــي واجهــت الجيــش هــي مجموعــة املجنديــن املســموح لــه‬
‫االســتفادة منهــم‪ .‬مــع أن غالبيــة القــوات بالخدمــة يف مــر‪ ،‬ناهيــك عــن االحتيــاط‪ ،‬هــم‬
‫مــن املجنديــن‪ ،‬إال أن هــذه الفئــة االجتامعيــة تعــاين منــذ فــرة طويلــة مــن مشــاكل ناتجــة‬
‫عــن تــدين معايريهــا التعليميــة والصحيــة‪ .‬اتُخــذت بعــض الخطــوات ملعالجــة هــذه املشــكلة‬
‫يف إطــار االســتعداد لحــرب أكتوبــر أهمهــا الســاح للجيــش بتجنيــد خريجــي الجامعــات‬
‫واالحتفــاظ بهــم‪.‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬تأكــد الســادات يف األشــهر التــي أعقبــت الحــرب مــن ترسيــح ‪ 1.2‬مليــون‬
‫مجنــد مــري متمــرس يف الحــرب‪ ،‬عــى عكــس البلــدان األخــرى التــي تغــري الضبــاط‬
‫ذوي الخــرة بإعــادة تجنيدهــم‪ ،‬مــا أدى إىل خفــض حجــم القــوات بالخدمــة بحلــول عــام‬
‫‪ 1980‬إىل حــوايل أربعمئــة وســتني أل ًفــا‪ ،‬وبقــي كذلــك منــذ ذلك الحــن‪ .‬يُعزى تحســن أداء‬
‫الجيــش امللفــت للنظــر يف عــام ‪ 1973‬مبعظمــه لضــم عنــارص متعلمة مــن الطبقة الوســطى‬
‫إىل صفوفــه‪ ،‬لكــن هــذا مل مينــع الســادات مــن مراجعــة صيغــة التجنيــد اإلجبــاري بعــد‬
‫الحــرب لتحريــر هــذه الطبقــة وضمهــا إىل القطــاع الخــاص‪ .‬خــدم خريجــو الجامعــات يف‬
‫الجيــش ملــدة تســعة شــهور‪ ،‬أمــا ذوو املؤهــات األدىن فقــد خدمــوا مــن ســنتني إىل ثــاث‬
‫(((‬
‫ســنوات‪ .‬ومــرة أخــرى‪ ،‬تشــكل الجيــش مبعظمــه مــن الفالحــن الجائعــن واألميــن‪.‬‬
‫أعقــب ذلــك العديــد مــن التعقيــدات‪ ،‬حيــث كان يُنظــر إىل هــؤالء املجنديــن عــى أنهــم‬
‫ال يســتطيعون ســوى التعامــل مــع بعــض الواجبــات املتواضعــة‪ ،‬وبالتــايل مل يتلقــوا ســوى‬
‫القليــل مــن التدريــب وبعضهــم مل يتلـ َّـق أي تدريــب عــى اإلطــاق‪ .‬أثنــاء تدريبهــم‪ ،‬مل‬
‫تدريبــا عــى مســتوى الكتيبــة أو أقــل منــه باســتخدام معــدات‬
‫يتلـ َّـق هــؤالء املجنــدون ســوى ً‬
‫قدميــة مل تعــد مســتخ َدمة يف الوحــدات العاملــة بالخدمــة‪ (((.‬ولذلــك بــات مــن املســتحيل‬
‫‪1- De Atkine, "Why Arabs Lose Wars", 20, my emphasis.‬‬
‫‪2- Barnet, Confronting the Cost, 143–44.‬‬
‫‪3- Cordesman, Arab-Israeli Military Forces, 159.‬‬

‫‪280‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫عــى الجيــش املــري اســتيعاب التكنولوجيــا املتقدمــة والتدريــب الــذي توفــره الواليــات‬
‫املتحــدة‪ .‬حتــى املرصيــون املتعلمــون واجهــوا العديــد مــن العقبــات بســبب التدهــور العــام‬
‫يف نظــام التعليــم‪ ،‬وألن التعليــم العــام املجــاين وصـواًلً إىل الجامعــة يُثنــي الكثرييــن عــن‬
‫متابعــة التدريــب التقنــي أو املهنــي‪.‬‬
‫ـف بتقديــم تدريــب تقنــي يسء‬ ‫متثلــت اإلشــكالية بشــكل خــاص يف أن الحكومــة مل تكتـ ِ‬
‫أيضــا إىل الدراســات السياســية واألمنيــة بريبــة كبــرة‪ .‬ففــي بلــد بــه‬
‫فحســب‪ ،‬بــل نظــرت ً‬
‫ثــاث وعــرون جامعــة‪ ،‬مل يكــن ملــر ســوى برنامجــن كاملــن يف العلــوم السياســية‬
‫دون أي مراكــز دراســة حــرب مؤثــرة‪ .‬ونظ ـ ًرا لــرورة إبعــاد مســائل األمــن الســيايس‬
‫والقومــي عــن العلــاء يف ظــل أجــواء االســتبداد‪ ،‬فقــد ُحـ ِر َم الجيــش مــن "مثقفــي قضايــا‬
‫الدفــاع" الذيــن يســاهمون يف صياغــة اإلســراتيجية والعقيــدة يف املجتمعــات املفتوحــة‪.‬‬
‫باختصــار‪ ،‬لقــد عــاىن الجيــش مــن خلــل وظيفــي ونقــص يف التمويــل ونظــام تعليمــي‬
‫مقيــد يوفــره نظــام فاســد وغــر كــفء‪.‬‬
‫عندمــا طالبــت القيــادة العليــا بحقهــا يف تقديــم مكافــآت خاصــة للمجنديــن ذوي الكفــاءة‬
‫العاليــة ممــن يريــدون إعــادة تجنيدهــم‪ُ ،‬رفــض طلبهــا بحجــة عــدم وجــود تهديــد لألمــن‬
‫القومــي يــرر هــذا النــوع مــن اإلنفــاق‪ (((.‬ودون هــذه املكافــآت املغريــة بــات مــن املتوقــع‬
‫أن يفشــل املجنــدون يف الجيــش يف حــث أعضــاء الطبقــة الضيقــة مــن النخــب املؤهلــة‬
‫واملتحمســة (الذيــن يلتحقــون عــادة مبــدارس خاصــة أو دوليــة) عــى التفكــر يف االلتحــاق‬
‫بالجيــش‪.‬‬
‫مــن املثــر لالهتــام أن ضبــاط الجيــش املحبطــن بــدأوا يف عــام ‪ 1996‬بإرســال وفــود‬
‫تجنيــد إىل الجاليــات املرصيــة املغرتبــة لتجنيــد ضبــاط وجنــود مــن النــوع الــذي يحتاجــه‬
‫الجيــش والــذي ال يوفــره نظــام التعليــم املحــي‪ ،‬ولكــن دون جــدوى‪ (((.‬نتيجــة لذلــك‪ ،‬كتــب‬
‫را مــن مكونــات الجيــش املــري‬ ‫املحلــل العســكري األمريــي كوردســان أن "جــز ًءا كب ـ ً‬
‫ـبيا ومتواضعــة التجهيــز‪ ،‬وكثــر منهــا‬
‫العســكرية باتــت تتألــف مــن وحــدات ضعيفــة نسـ ً‬
‫تقريبــا تتطلــب عــدة شــهور مــن التدريــب‬
‫ً‬ ‫يتطلــب الكثــر مــن جنــود االحتيــاط‪ ،‬وكلهــا‬

‫‪1- Barnet, Confronting the Cost, 143–44.‬‬


‫‪2- Frisch, "Guns and Butter", 5–6.‬‬

‫‪281‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫لتصبــح فعالــة"‪ ،‬وألن هــذه القــوة يصعــب أن تســتخدم املنــاورات الرسيعــة والتكتيــكات‬
‫املرتجلــة يف الحــرب الحديثــة‪ ،‬فــإن هيكلهــا أصبــح ثابتًــا بشــكل أكــر مــا يجعلهــا يف‬
‫(((‬
‫الواقــع أشــبه بـــحامية عســكرية ال غــر‪.‬‬
‫يف ختــام هــذا الجــزء‪ ،‬فمــن الواضــح أن الجيــش يف عهــد مبــارك عــاىن مــا وصفــه أحــد‬
‫الكتــاب املرصيــن بـــ "اختــال الرتــب"‪ :‬وهــو تنافــر نفــي ينتــر بــن أعضــاء مؤسســة‬
‫يتعــارض مركزهــم مــع واجباتهــم األصليــة‪ (((.‬تــدرب الضبــاط املرصيــون عــى الحــرب‬
‫ـب منهــم الدفــاع‬ ‫ـا رغــم أنهــم مل يســتخدموا هــذه التدريبــات يف القتــال‪ ،‬فيــا طُلِـ َ‬ ‫علـ ً‬
‫عــن الشــعب يف ظــل حرمانهــم مــن نوعيــة املجنديــن واألســلحة واألمــوال الالزمــة للقتــال‪.‬‬
‫كــا اعتمــدوا بقــوة عــى دولــة أجنبيــة تعهــدت بالحفــاظ عــى تفــوق عدوهــم (إرسائيــل)‪،‬‬
‫ـش قادتهــم وق ـ َّوض مصالحهــم التجاريــة باســم التبعيــة املهنيــة‪.‬‬ ‫وخدمــوا يف نظــام ه َّمـ َ‬
‫ورغــم أنهــم ُوعــدوا باســتقاللية مؤسســتهم‪ ،‬إال أنهــم ظلــوا تحــت املراقبة املســتمرة من قبل‬
‫أجهــزة األمــن املتطفلــة التــي ســيطرت عــى حياتهــم املهنيــة مــن خــال التقاريــر األمنيــة‪.‬‬
‫ـميا‪ -‬مل مينــع‬
‫مــا زاد الطــن بلــة أن الرئيــس مبــارك‪ -‬القائــد األعــى للقــوات املســلحة رسـ ً‬
‫نفســه يف املقابــات الصحفيــة (خاصــة مــع التلفزيــون اإلرسائيــي) مــن تأكيــد اقتناعــه‬
‫بــأن "الحــرب قــد عفــا عليهــا الزمــن"‪ .‬لقــد جــادل بــا كلــل أن الحــروب تنتهــي دامئًــا‬
‫را ونذهــب مبــارشة إىل املفاوضــات؟ إنهــا‬ ‫بتســوية ســلمية‪ ،‬فلــاذا ال نســلك طري ًقــا مختـ ً‬
‫لؤلــؤة الحكمــة التــي اســتعصت عــى أجيــال مــن رجــال الدولــة قبلــه‪ ،‬مــا فائــدة وجــود‬
‫رسا أن نــوع الــردع‬
‫جيــش إذن؟ أجــاب مبــارك باســتمرار "الــردع"‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬مل يكــن ً‬
‫الــذي دار يف خلــده‪ -‬كــا أثبــت مــرا ًرا وتكــرا ًرا‪ -‬ليــس لبنــاء قــوة عســكرية بــل إلبقــاء‬
‫مــر (أكــر دولــة عربيــة وأكرثهــا ســكانًا) محايــدة يف جميــع النزاعــات اإلقليميــة‪ .‬مــن‬
‫الصعــب تخيــل أن الضبــاط سـ ُـيعجبون بهــذه الترصيحــات‪ ،‬ال ســيام وأن الرئيــس مبــارك‬
‫مل يكــن مســامل ًا إىل هــذا الحــد يف التعامــل مــع مواطنيــه‪ ،‬لكــن يبــدو أن الحــرب التــي‬
‫تقودهــا أجهــزة األمــن ضــد املرصيــن مل تتقــادم بعــد يف قامــوس مبــارك‪.‬‬

‫‪1- Cordesman, Arab-Israeli Military Forces, 162.‬‬


‫‪ -2‬عبداملنعم املشاط‪ ،‬العوامل الخارجية‪ ،‬ص ‪.64‬‬

‫‪282‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫وضع الرشطة يف املقدمة‬


‫بعــد تهميــش الجيــش بنجــاح‪ ،‬لجــأ النظــام إىل بســط ســيطرته وفــرض األمــن عــر جهــاز‬
‫أمــن الدولــة التابــع لــوزارة الداخليــة‪ .‬أثبتــت الــوزارة والءهــا للنظــام الســيايس بعــد عــام‬
‫‪ ،1952‬فاســتمرار االســتبداد أدى إىل تعزيــز ســلطتها وامتيازاتهــا‪ .‬وباملثــل‪ ،‬ســيرتاجع نفــوذ‬
‫أمــن الدولــة فيــا لــو ســيطر املؤيــدون للدميقراطيــة عــى الحكــم والذيــن كان الجيــش‬
‫يدعمهــم أو يغــض الطــرف عنهــم‪ .‬لــذا‪ ،‬كان مــن الطبيعــي أن يواصــل النظــام تعزيــز‬
‫قــوة حليفــه املخلــص فيــا عرقــل القــادة العســكريون املؤثــرون بــد ًءا مــن عامــر إىل‬
‫أبــو غزالــة هــذا االتجــاه بــكل مــا يف وســعهم‪ .‬ولكــن مــع تراجــع قــوة الجيــش تعــزز‬
‫نفــوذ األجهــزة األمنيــة وشــغل ضبــاط الرشطــة الســابقني مناصــب سياســية عليــا كرئاســة‬
‫الــوزراء واألمانــة العامــة للحــزب الحاكــم‪.‬‬
‫شــكل متــرد قــوات األمــن املركــزي اختبــا ًرا شــدي ًدا لهــذا التحالــف الســيايس‪ -‬األمنــي‪.‬‬
‫أدركــت الــوزارة أنــه مل يعــد بإمكانهــا االعتــاد عــى "العبيــد املســلحني" الذيــن يســيطر‬
‫عليهــم بواســطة التخويــف واإلرهــاب مــن قادتهــم بــداًلً مــن املكافــآت‪ .‬عشــية صعــود‬
‫مبــارك إىل املنصــب‪ ،‬أنشــئت وحــدة القــوات الخاصــة داخــل قــوات األمــن املركــزي كقــوة‬
‫نخبــة للتعامــل مــع مهــام مكافحــة اإلرهــاب املعقــدة‪ .‬لكــن التعامــل مــع التحديــات اليوميــة‬
‫كأعــال الشــغب واإلرضابــات بقــي مــن مســؤولية قــوات األمــن املركــزي‪ .‬عــاىن هــؤالء‬
‫الفالحــن املجنديــن خــال فــرة خدمتهــم التــي دامــت ثــاث ســنوات مــن املعاملــة غــر‬
‫اإلنســانية‪ ،‬كســوء التغذيــة واإلقامــة‪ ،‬والحرمــان مــن النــوم وارتــداء الــزي الرســمي البائس‪.‬‬
‫بعــد متردهــم الــذي مل يــدم طويـ ًـا يف فربايــر ‪ ،1986‬بــذل قائــد قــوات األمــن املركــزي‬
‫اللــواء عبــد الرحمــن الفرمــاوي قصــارى جهــده لتحســن وضعهــم املعيــي‪ .‬ورغــم زيــادة‬
‫رواتبهــم املتواضعــة‪ ،‬إال أن غذائهــم ومالبســهم ومســاكنهم باتــت أفضــل مــا اعتــادوا‬
‫عليــه يف القــرى املتواضعــة التــي أتــوا منهــا‪ .‬كــا ســمح لهــم مبســاحة كافيــة للتنفــس‬
‫والتجــول يف جميــع أنحــاء املدينــة وتطويــر مهاراتهــم للعمــل يف املســتقبل‪ (((.‬ولتســهيل‬
‫عملهــم وتعزيــز اعتبارهــم املتــدين بشــكل كبــر لذواتهــم‪ُ ،‬خصــص الجــزء األكــر مــن‬
‫مخصصــات الرشطــة املتزايــدة لــراء معــدات مكافحــة الشــغب لقــوات األمــن املركــزي‬
‫‪ -1‬مقابلة مع اللواء عبدالرحمن الفرماوي‪.2009 ،‬‬

‫‪283‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫مــا جعــل عنــارصه أكــر اســتعدا ًدا لتنفيــذ واجباتهــم‪ ،‬والتــي لخصهــا ســرينغبورغ عــى‬
‫النحــو التــايل‪:‬‬
‫"لقــد كُلفــوا بإخضــاع الطــاب املتظاهريــن يف العديــد مــن الجامعــات‪ ،‬وترهيــب‬
‫املرضبــن يف املراكــز الصناعيــة يف الدلتــا‪ ،‬ومواجهــة النشــطاء اإلســاميني يف الصلــوات‬
‫والتجمعــات الكبــرة يف مختلــف أنحــاء صعيــد مــر‪ ،‬والتعامــل مــع الفالحــن املتظاهرين‬
‫ضــد انقطــاع إمــدادات ميــاه الــري يف جميــع أنحــاء الريــف‪ .‬باإلضافــة إىل الوقــوف يف‬
‫نوبــات حراســة مدتهــا ‪ 12‬ســاعة يف عــدد ال يحــى مــن املنشــآت اإلســراتيجية وغــر‬
‫(((‬
‫اإلســراتيجية يف جميــع أنحــاء البــاد"‪.‬‬
‫ُعــن اللــواء الفرمــاوي يف النهايــة محافظًــا ملدينــة بورســعيد الســاحلية‪ ،‬وعــن الرئيــس‬
‫قيــادة أكــر قســوة يف منصــب وزيــر الداخليــة هــو اللــواء زيك بــدر املشــهور بســمعته‬
‫الســيئة ملســؤوليته عــن حملــة قمــع ضــد اإلســاميني يف الصعيــد الــذي مزقــه العنــف‬
‫آنــذاك‪ .‬أطلــق بــدر حملــة تطهــر دقيقــة يف أجهــزة األمــن‪ ،‬فبني مــارس وأغســطس ‪،1986‬‬
‫(((‬
‫أقــال أو أحــال للتقاعــد مئــات الضبــاط مبــن فيهــم مديــر قطــاع مباحــث أمــن الدولــة‪.‬‬
‫أشــارت واحــدة مــن أفضــل دراســات اإلدارة العامــة يف مــر إىل أن وزارة الداخليــة يف‬
‫عهــد مبــارك تحولــت إىل "إمرباطوريــة بريوقراطيــة مرعبــة"‪ ،‬خاصــة بعــد توســعها الكبــر‬
‫مــن خــال القــرار الــوزاري رقــم ‪ 702‬لعــام ‪ 1986‬الــذي قســمها إىل أربعــة وثالثــن‬
‫دائــرة منفصلــة بحجــة التخصــص‪ .‬وارتفــع حجــم قــوات الرشطــة مــن مئــة وخمســن ألــف‬
‫رجــل يف عــام ‪ 1974‬إىل أكــر مــن مليــون يف عــام ‪ ،2002‬وهــو مــا ميثــل زيــادة مــن‬
‫‪ 9‬إىل ‪ %21‬مــن العاملــة الحكوميــة‪ .‬هــذا بالطبــع باإلضافــة إىل أربعمئــة وخمســن ألــف‬
‫مجنــد مــن قــوات األمــن املركــزي((( (مــا يعــادل عرشيــن فرقــة مــن الجيــش) الذيــن‬
‫خدمــوا ملــدة ثــاث ســنوات‪ ،‬وســتني أل ًفــا مــن الحــرس الجمهــوري واثنــي عــر ألــف‬
‫(((‬
‫جنــدي مــن حــرس الحــدود الذيــن قدمــوا تقاريرهــم للــوزارة‪.‬‬

‫‪1- Springborg, Mubarak’s Egypt, 142–43.‬‬


‫‪2- Sirrs, History, 162.‬‬
‫‪ - -3‬هــذا الرقــم مــن مبالغــات عبــد الخالــق فــاروق‪ ،‬فاألمــن املركــزي يف عهــد مبــارك مل يتجــاوز مئــة وعرشيــن‬
‫ألــف جنــدي وضابــط‪( .‬امل ُراجِع)‬
‫‪ -4‬عبد الخالق فاروق‪ ،‬جذور الفساد اإلداري يف مرص‪ ،‬ص ‪.281-275‬‬

‫‪284‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫بشــكل عــام‪ ،‬بلــغ عــدد قــوات األمــن يف مــر مــا يقــرب مــن مليــوين رجــل أمــن (أو‬
‫مرتبطــن باألمــن) مــن بــن ســكان رمبــا يبلــغ عددهــم ‪ 83‬مليــون نســمة خــال العقــد‬
‫األخــر مــن عهــد مبــارك‪ .‬لفهــم ضخامــة هــذا الرقــم علينــا أن نتذكــر أن قــوة الرشطــة‬
‫الســوفيتية يف عهــد ســتالني يف الثالثينيــات مل تتجــاوز ‪ 142‬ألــف رجــل‪ (((.‬ويبلــغ تعــداد‬
‫الــروس اليــوم ‪ 142‬مليــون رويس يف ظــل قــوة أمنيــة قوامهــا ‪ 200‬ألــف فــرد فقــط‪ (((.‬ويف‬
‫عــام ‪ ،2009‬بلــغ حجــم الجيــش الصينــي بأكملــه ‪ 2.3‬مليــون فقــط مــن أصــل ‪ 1.3‬مليــار‬
‫نســمة‪ (((.‬فيــا مل يتجــاوز تعــداد الجيــش املــري نفســه يف عــام ‪ 2010‬أكــر مــن ‪460‬‬
‫ألــف جنــدي‪ .‬مثــة حقيقــة أخــرى مثــرة لالهتــام‪ :‬يُق ـ ّدر خــراء مكافحــة التمــرد نســبة‬
‫الضبــاط إىل املواطنــن الالزمــة الحتــواء متــرد مشــابه ملــا كان عليــه الوضــع يف العــراق‬
‫وأفغانســتان بـــعرشين ضابطًــا لــكل ألــف مواطــن‪ (((.‬لكــن يف بلــد مســتقر متا ًمــا كمــر‬
‫يف عهــد مبــارك كانــت النســبة خمســة وعرشيــن رجــل أمــن لــكل ألــف مواطــن‪.‬‬
‫يف الوقــت نفســه‪ ،‬زادت نفقــات وزارة الداخليــة بــن عامــي ‪ 1988‬و‪ 2002‬مــن ‪ %3.5‬إىل‬
‫مــا يقــرب مــن ‪ %6‬مــن الناتــج املحــي اإلجــايل‪ .‬ومــن الناحيــة املاليــة‪ ،‬ارتفعــت النفقــات‬
‫خــال الســنوات األربــع األوىل مــن حكــم مبــارك مــن ‪ 260‬مليــون جنيــه إىل ‪ 348‬مليــون‬
‫تقريبــا‪ ،‬مــن ‪ 819‬مليــون جنيــه‬
‫جنيــه‪ .‬بعــد ذلــك تضاعفــت أجــور الرشطــة أربعــة أضعــاف ً‬
‫يف عــام ‪ 1992‬إىل ‪ 3‬مليــار جنيــه يف عــام ‪ .2002‬ومــع ذلــك‪ ،‬كانــت الزيــادة الحقيقيــة‬
‫يف إيــرادات الرشطــة تــأيت مــن الرضائــب التــي فرضتهــا الحكومــة عــى املواطنــن مــن‬
‫(((‬
‫التســعينيات فصاعـ ًدا‪.‬‬
‫مل يكــن هــذا أســوأ مــا يف األمــر‪ ،‬فمنــذ انتخابــات عــام ‪ 1984‬اتخــذ ســلوك القمــع منعطفًا‬
‫جديـ ًدا عندمــا اســتأجرت الرشطــة مجرمــن صغــار لرتهيــب املعارضــن وكبــح أنشــطتهم‪.‬‬
‫كان ذلــك متوق ًعــا باعتبــار تكليــف الرئيــس مبــارك لوزيــر داخليتــه اللــواء حســن أبــو باشــا‬
‫‪1- Theda Skocpol, States and Social Revolution: A Comparative Analysis of France, Russia, and‬‬
‫‪China, New York: Cambridge University Press, 1979, 226.‬‬
‫‪2- Andrei Soldatov and Irina Borogan, "Russia’s New Nobility", Foreign Affairs 89 (4), 78–83.‬‬
‫‪3- Piers Brendon, "China Also Rises", The National Interest 110, 12.‬‬
‫‪4- Michael O’Hanlon, "Staying Power", Foreign Affairs 89 (4), 71–77 (2010).‬‬
‫‪ -5‬ســامر ســليامن‪ ،‬النظــام القــوي والدولــة الضعيفــة‪ ،‬ص ‪ ،86-84‬عبدالخالــق فــاروق‪ ،‬جــذور الفســاد اإلداري‬
‫يف مــر‪ ،‬ص ‪.285‬‬

‫‪285‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫بالتأكــد مــن حصــول الحــزب الحاكــم عــى مــا ال يقــل عــن ‪ %95‬مــن األصــوات‪ (((.‬كان‬
‫العنــف الوســيلة الوحيــدة لتحقيــق مثــل هــذا الهــدف الطمــوح‪ ،‬إذ أن للعبــث بصناديــق‬
‫االقــراع حــدوده‪ .‬شــكل بلطجيــة الشــوارع الخيــار األفضــل ملامرســة العنــف دون توريــط‬
‫الحكومــة‪ .‬تعــود فكــرة "االســتعانة مبصــادر خارجيــة للقمــع إىل ســبعينيات القــرن املــايض‪،‬‬
‫عندمــا زودت وزارة الداخليــة يف عهــد الســادات اإلســاميني املتشــددين بالســكاكني‬
‫والقبضــات الحديديــة والقضبــان املعدنيــة لالعتــداء عــى الجامعــات املناهضة للســادات(((‪.‬‬
‫كــا أنشــأت الــوزارة يف عــام ‪ 1972‬فرقًــا طالبيــة خاصــة ملهاجمــة وإرهــاب الزمــاء‬
‫(((‬
‫املشــاغبني يف الحــرم الجامعــي‪.‬‬
‫خــال العــام األخــر مــن حكــم الســادات‪ ،‬اســتخدمت الرشطــة البلطجيــة عــى نطــاق‬
‫(((‬
‫محــدود لتخريــب اجتــاع نقابــة املحامــن الــذي انتقــد سياســات الرئيــس الســادات‪.‬‬
‫ومــع تضــاؤل​​املعارضــة عــر القمــع املســتمر عــى يــد الجيــش يف الخمســينيات والســتينيات‬
‫ثــم عــى نحــو متزايــد مــن ِق َبـ ِـل وزارة الداخليــة منــذ الســبعينيات‪ ،‬بــدا أنــه مل يعــد هنــاك‬
‫املزيــد مــن التحديــات التــي يجــب مواجهتهــا‪ .‬كانــت آخــر عمليــة كبــرة للرشطــة هــي‬
‫احتــواء متــرد إســامي محــدود بــن عامــي ‪ 1992‬و‪ .1997‬وبعــد ســقوط ألفــي قتيــل‬
‫واعتقــال ســبعة وأربعــن أل ًفــا آخريــن‪ ،‬متكنــت وزارة الداخليــة مــن إنهــاء متــرد املتشــددين‬
‫اإلســاميني برسعــة‪ (((.‬منــذ ذلــك الحــن‪ ،‬مل تكــن هنــاك أي عالمــات عــى وجــود مشــاكل‬
‫يف األفــق‪ ،‬ولــذا أُســندت مهــام قمــع بســيطة وأعــال قــذرة إىل البلطجيــة يف أحــداث‬
‫معينــة لعــدم توريــط الرشطــة‪.‬‬
‫تقــوم املباحــث الجنائيــة برتشــيح املجرمــن الصغــار لضبــاط أمــن الدولــة‪ ،‬الذيــن‬
‫يقومــون بعــد ذلــك بإعدادهــم وتســليمهم إىل األمــن املركــزي ملســاعدتهم عــى األرض‪.‬‬
‫خــال االنتخابــات‪ ،‬يفتعــل البلطجيــة مشــاجرات خــارج مراكــز االقــراع إلعطــاء الرشطــة‬
‫ذريعــة العتقــال ممثــي املعارضــة وتعليــق عمليــة التصويــت‪ .‬كــا يرضبــون النشــطاء‬

‫‪ -1‬هيكل‪ ،‬مبارك وزمانه‪ ،‬ص ‪.121‬‬


‫‪ - -2‬مل يذكر املؤلف دليل عىل ادعاءاته املذكورة‪( .‬امل ُراجِع)‬
‫‪ -3‬أحمد عبد الله‪ ،‬الحركة الطالبية والنظام السيايس يف مرص‪.1980 ،‬‬
‫‪ -4‬هيكل‪ ،‬خريف الغضب‪ ،‬ص ‪.213‬‬
‫‪5- Gilles Kepel, Jihad: The Trial of Political Islam, London: I. B. Tauris, 2006, 276–99.‬‬

‫‪286‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫أثنــاء املظاهــرات إلخافتهــم دون توريــط الحكومــة بشــكل مبــارش‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬مل تســتطع‬
‫الرشطــة منــع هــؤالء البلطجيــة مــن االعتــداء عــى املواطنــن العاديــن خــارج أوقــات‬
‫االســتعانة بهــم‪ .‬وفــرت "عالقــة العمــل الرسيــة بــن البلطجيــة وضبــاط أمــن الدولــة‪...‬‬
‫(((‬
‫الحاميــة للبلطجيــة يف الشــوارع فحولتهــم إىل وحــوش مطلقــة العنــان دون أي رادع"‪.‬‬
‫خــال العقــد األخــر مــن حكــم مبــارك‪ ،‬قــام البلطجيــة املرتبطــن بالرشطــة مبضايقــة‬
‫املواطنــن األثريــاء للحصــول عــى املــال‪ ،‬وتحرشــوا بالنســاء يف الشــوارع املزدحمــة‪،‬‬
‫وأرهبــوا أصحــاب املتاجــر واألعــال الصغــرة‪ ،‬بــل وأكــر مــن ذلــك‪ .‬وال يُســتغرب أن‬
‫تقريــر حقــوق اإلنســان حــول مــر الصــادر عــن وزارة الخارجيــة األمريكيــة لعــام ‪2006‬‬
‫حــذر مــن أن "ثقافــة اإلفــات مــن العقــاب انتــرت يف كافــة أجهــزة األمــن‪ .‬لقــد أصبــح‬
‫(((‬
‫عمليــا ألعوبــة بيــد البلطجيــة‪.‬‬
‫املواطنــون ً‬
‫ومــا زاد الطــن بلــة أن رجــال الرشطــة أنفســهم بــدأوا يترصفــون كبلطجيــة‪ ،‬حيــث الحــظ‬
‫أحــد املراقبــن خــال زيــارة قصــرة ملــر أنــه "ميكــن احتجــاز املواطــن املــري العــادي‬
‫يف مركــز للرشطــة وتعذيبــه ملجــرد أن ضابــط الرشطــة ال يحــب مظهــره"‪ (((.‬لقــد تزايــد هذا‬
‫االتجــاه منــذ الســبعينيات‪ ،‬فبــن عامــي ‪ 1974‬و‪ 1976‬ســجلت الصحــف ألول مــرة حــاالت‬
‫ملشــتبهني جنائيــن‪ -‬وليســوا سياســيني‪ -‬يتعرضــون للتعذيــب عــى يــد أفــراد الرشطــة‬
‫لالعــراف بالجرائــم التــي ارتكبوها أو رمبا مل يرتكبوهــا‪ .‬كان التعذيب يف القضايا الجنائية‬
‫وحشـ ًـيا لدرجــة أن املشــتبه بهــم اعرتفــوا يف عــدة حــاالت بارتــكاب جرميــة قتــل يُعاقَــب‬
‫عليهــا باإلعــدام‪ ،‬وليكتشــفوا بعــد ذلــك أن ضحاياهــم املزعومــن ما زالــوا عىل قيــد الحياة‪.‬‬
‫مثَّــل هــذا نقطــة تحــول يف العالقــة بني املرصيــن والرشطــة‪ ،‬فاملواطنــون أصبحــوا‪ -‬وليس‬
‫النشــطاء‪ -‬يتعرضــون للتعذيــب لالعــراف بالجرائــم بــداًلً مــن املعارضــة السياســية‪ ،‬من قبل‬
‫محققــن جنائيــن بــداًلً مــن ضبــاط الرشطة الرسيــة‪ ،‬ويف مراكــز الرشطة بداًلً مــن مراكز‬
‫االحتجــاز النائيــة‪ .‬بعدهــا أصبــح عنــف أفــراد الرشطــة مســترشيًا‪ ،‬إذ مل يعــد يقتــر عــى‬
‫أيضــا إلجبــار املواطنني عىل دفع الرشــاوى وســحب الشــكاوى‬ ‫أخــذ اعرتافــات قرسيــة‪ ،‬بــل ً‬
‫وتوقيــع العقــود التجاريــة‪ .‬ويف الواقــع‪ ،‬تجــاوز التعذيــب عــى أيــدي أفــراد الرشطــة حــدود‬
‫‪ -1‬نبيل عمر‪ ،‬حبيب العاديل‪ :‬أرسار رحلة الصعود إىل عرش الداخلية‪ ،‬األهرام ‪.45388:5‬‬
‫‪2- Cordesman, Arab-Israeli Military Forces, 192–95.‬‬
‫‪3- Shatz, "Mubarak’s Last Breath", 8.‬‬

‫‪287‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫تلقائيــا دون جهــد أو تفكــر‪ ،‬وهــو أمــر‬


‫ً‬ ‫املامرســات املتكــررة ليصبــح ســلوكًا معياريًــا يُطبــق‬
‫وعيــا أو تركيـ ًزا أو تخطيطًــا كاملــن‪ ،‬فقــد أصبــح العنــف طب ًعــا"‪ (((.‬كجــزء مــن‬
‫ال يتطلــب ً‬
‫طقــوس التــدرج يف املهنــة‪ ،‬يُطلــب مــن الضباط الشــباب أن يلكموا ويركلوا الســجناء املشــتبه‬
‫ـوائيا يف يومهــم األول يف مركــز الرشطــة‪ ،‬بينــا يُصبــح مــن يرفــض هــذا األمــر‬ ‫بهــم عشـ ً‬
‫أضحوكــة أمــام زمالئــه‪ ،‬وينظــر إليهــم رؤســاؤهم عــى أنهــم ضعــاف القلــب وغــر أكفــاء‪.‬‬
‫مــن غــر املســتغرب أن ثلــث املجيبــن عــى االســتبيان الــذي أجــراه مركــز أبحــاث مرتبــط‬
‫بــوزارة الداخليــة عــام ‪1989‬حــول وجهــة النظــر الشــعبية للرشطــة أعربــوا عــن اســتيائهم‬
‫مــن العنــف امل ُرتكَــب ضــد املواطنــن العاديــن يف املقــرات األمنيــة‪ .‬ولكــن بــداًلً مــن‬
‫ضمنيــا عندمــا بُــدل شــعار الرشطــة الرســمي‬
‫ً‬ ‫إصــاح أســاليب الرشطــة‪ ،‬أُ ِقــر هــذا األســلوب‬
‫مــن "الرشطــة يف خدمــة الشــعب" إىل "الرشطــة والشــعب يف خدمــة الوطــن"‪ .‬بــن عامــي‬
‫‪ 2002‬و‪ ،2006‬قــدم املواطنــون مئتــن وواح ـ ًدا وعرشيــن بال ًغــا ضــد انتهــاكات الرشطــة‬
‫فضــا عــن‬
‫ً‬ ‫باســتثناء عــرات الحــاالت األخــرى التــي مل يتقــدم أصحابهــا بشــكوى‪،‬‬
‫حــاالت التعذيــب املمنهــج يف مراكــز احتجــاز أمــن الدولــة‪ .‬يف عــام ‪ 2008‬وحــده‪ ،‬ســجلت‬
‫منظــات حقــوق اإلنســان املرصيــة تســعمئة وســت عــرة حالــة عنــف مــن قبــل الرشطــة‬
‫(((‬
‫ضــد ســجناء غــر سياســيني‪.‬‬
‫ملاذا ترصفت الرشطة بهذه الطريقة؟‬
‫يتوقــع املــرء أن تكــون العالقــة بــن األنظمــة ومنافســيها عالقــة عنيفــة‪ ،‬لكــن ملــاذا تخلــل‬
‫الكثــر مــن العنــف العالقــة بــن الرشطــة واملواطــن املســامل غــر املســيس مــا جعــل‬
‫املواطنــن العاديــن يخافــون مــن مجــرد املــرور أمــام مركــز الرشطــة‪ ...‬حتــى لــو كانــوا‬
‫م َّدعــن ال مدعــى عليهــم‪ (((.‬يف دراســة مثــرة للقلــق حــول أجهــزة الرشطــة املرصيــة‪،‬‬
‫خلصــت بســمة عبــد العزيــز إىل أن تحــول ضبــاط األمــن مــن أدوات للســلطة إىل ســلطة‬
‫قامئــة بذاتهــا أي مــن خــدم مخلصــن للنظــام إىل مســتفيدين رئيســيني منــه‪ ،‬أعــاد صياغة‬
‫العالقــة بــن الرشطــة واملواطــن مــن جديــد لتصبــح بــن الســيد وعبــده‪" .‬ميكــن للســادة‬

‫‪ -1‬بسمة عبد العزيز‪ ،‬إغراء السلطة املطلقة‪ ،‬ص ‪.46-45‬‬


‫‪ -2‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.59-52‬‬
‫‪ -3‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.10-9‬‬

‫‪288‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫أيضــا حرمــان أي شــخص مــن كرامته‬ ‫الجــدد أن مينحــوا الحاميــة ملــن يختــارون‪ ،‬وميكنهــم ً‬
‫أو كربيائــه أو حريتــه أو الثقــة أو االحــرام أو أي قيمــة إنســانية"‪ (((.‬تتطلــب هــذه الصيغــة‬
‫الجديــدة أن يتــم االعتــداء عــى املواطنــن يف األماكــن العامــة‪ ،‬وأن يلمســوا عــن قــرب‬
‫القــوة املطلقــة للرشطــة ويتخلَّــوا عــن أي أمــل يف املقاومــة‪ .‬لــذا‪ ،‬كان من الطبيعــي أن يصل‬
‫مســتوى كراهيــة املواطنــن العاديــن للرشطــة بحلــول عــام ‪ 2011‬إىل درجــات قياســية‪.‬‬
‫كان جهــاز مباحــث أمــن الدولــة هــو املكـ ّون الوحيــد مــن مكونــات وزارة الداخليــة الــذي‬
‫حافــظ عــى اجتهــاده ورصانتــه‪ ،‬لكنــه رسعــان ما تطــور ليصبــح "دولــة داخل الدولــة"‪ .‬فقد‬
‫ق ـ َّزم جميــع املؤسســات الحكوميــة األخــرى‪ ،‬وبــدأ يدقــق يف أســاء املرشــحني للمناصــب‬
‫الوزاريــة ومقاعــد الربملــان‪ ،‬واملحافظــن ورؤســاء الجامعــات‪ ،‬ومجالــس التحريــر ورشكات‬
‫القطــاع العــام واملصــارف‪ ،‬وبالطبــع الجيــش‪ .‬بــات كل يشء يقــع تحــت ســلطة مباحــث أمن‬
‫الدولــة يف طريقــة تذكرنــا بالتقاليــد الفاشــية والشــيوعية يف أســوأ حاالتهــا‪ .‬وفيــا ركــز‬
‫جهــاز املخابــرات العامــة يف الغالــب عــى العالقــات الخارجيــة‪ ،‬أصبحــت مباحــث أمــن‬
‫الدولــة مســؤولة حرصيًــا عــن املراقبــة والقمــع الداخليــن‪ ،‬وتجنيــد املخربيــن يف كل قطــاع‬
‫مــن قطاعــات املجتمــع ومامرســة التعذيــب بشــكل منهجــي ضــد املعتقلــن الذيــن تجــاوز‬
‫عددهــم خــال ثالثــن عا ًمــا مــن حكــم مبــارك ثالثــن ألفًــا‪ .‬يف عــام ‪ 2010‬وحــده‪،‬‬
‫بلــغ عــدد الســجناء يف مراكــز االحتجــاز حــوايل ســبعة عــر أل ًفــا‪ (((.‬وصفــت منظــات‬
‫حقــوق اإلنســان طقــوس التعذيــب التــي تديرهــا مباحــث أمــن الدولــة عــى النحــو التــايل‪:‬‬
‫"عندمــا يدخــل املحتجــز مبنــى الســجن يكــون عــادة معصــوب العينــن ومقيــد اليديــن‬
‫لتخويفــه أو تشــتيت انتباهــه أو حاميــة هويــات أفــراد الرشطــة‪ .‬يتعــرض املحتجــزون وهــم‬
‫يرتــدون مالبســهم الداخليــة فقــط لإلهانــات والشــتائم والتهديــد باالعتــداء الجنــي عــى‬
‫الســجني وأفــراد أرستــه‪ .‬التعذيــب الجســدي جــزء مــن الروتــن حيــث يتعــرض املعتقلــون‬
‫يف كثــر مــن األحيــان للــركل أو الــرب بالعــي أو الهــراوات‪ .‬ويُعلــق بعــض الســجناء من‬
‫معاصمهــم لفــرات طويلــة‪ .‬أمــا الصعــق بالصدمــات الكهربائيــة يف األعضــاء التناســلية‬
‫(((‬
‫فيبــدو أنــه جــزء مــن روتــن التعذيــب"‪.‬‬
‫‪ -1‬بسمة عبد العزيز‪ ،‬إغراء السلطة املطلقة‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪2- Shatz, "Mubarak’s Last Breath", 6.‬‬
‫‪3- Sirrs, History, 165.‬‬

‫‪289‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫يف االنتخابــات الربملانيــة عــام ‪ ،2005‬نجــح اإلخــوان املســلمون يف الحصــول عــى ‪%20‬‬
‫مــن مقاعــد الربملــان‪ -‬وهــو إنجــاز تاريخــي بالنظــر إىل عــدم فــوز أي قــوة معارضــة بأكرث‬
‫مــن ُعــر املقاعــد خــال العقــود الســتة املاضيــة‪ .‬اعتــر هــذا الحــدث مــن األدلــة عــى‬
‫مــدى إحــكام ســيطرة مباحــث أمــن الدولــة عــى الحيــاة السياســية يف مــر‪ ،‬فحــن ُســئل‬
‫املرشــد العــام لجامعــة اإلخــوان بعــد أربــع ســنوات عــا إذا كان يتوقــع نجا ًحــا مامثـ ًـا يف‬
‫االنتخابــات املقبلــة‪ ،‬قــال إنــه غــر متأكــد‪ ،‬وعلــل أنــه يف املــرة األخــرة "أعطتنــا مباحــث‬
‫أمــن الدولــة قامئــة بالدوائــر التــي ســنخوض االنتخابــات فيهــا‪ ،‬ووعدونــا بالســاح لنــا‬
‫بالفــوز يف معظمهــا‪ .‬لكــن فيــا يخــص انتخابــات العــام املقبــل – أي عــام ‪ -2010‬فإنهــم‬
‫مل يتصلــوا بنــا حتــى اآلن"‪ .‬وعندمــا طلــب منــه املحــاور املذهــول توضيــح مــا قالــه‪،‬‬
‫أوضــح أن إدارة بــوش ضغطــت عــى مــر إلضفــاء الطابــع الدميقراطــي عــى الحكــم‪،‬‬
‫وأرادت مباحــث أمــن الدولــة إخافــة واشــنطن قليـ ًـا‪ ،‬فيــا مل متانــع جامعــة اإلخــوان يف‬
‫(((‬
‫الحصــول عــى املزيــد مــن املقاعــد‪.‬‬
‫وال عجــب يف ذلــك‪ ،‬فحــن انقلبــت مباحــث أمــن الدولــة ضــد اإلخــوان انخفضــت‬
‫حصتهــم يف االنتخابــات التاليــة التــي جــرت يف عــام ‪ ،2010‬مــن مثانيــة ومثانــن مقعـ ًدا‬
‫ـف الحــزب‬ ‫إىل صفــر! يف تلــك االنتخابــات التــي كانــت األخــرة يف عهــد مبــارك‪ ،‬مل يكتـ ِ‬
‫الوطنــي الدميقراطــي الحاكــم بالســيطرة عــى ‪ ٪97‬مــن مقاعــد الربملــان‪ ،‬بــل فــاز عــن‬
‫مقاعــده ألول مــرة تســعة وأربعــون ضابــط رشطة(((‪.‬يســتذكر رئيــس مجلــس النــواب فتحــي‬
‫هاتفيا‬
‫ً‬ ‫رسور صدمتــه لــدى ســاعه النتائــج قائـ ًـا‪" :‬قلــت إن هــذا غبــاء ســيايس‪ ...‬اتصلــت‬
‫أيضــا إىل‬
‫ـتكيت ً‬
‫برئيــس أمــن الدولــة اللــواء حســن عبــد الرحمــن وســألته عــا يجــري‪ .‬واشـ ُ‬
‫صفــوت الرشيــف‪ -‬ضابــط مخابــرات ســابق واألمــن العــام للحــزب الوطنــي الدميقراطــي‬
‫لقــد عملــت مــع الرئيــس مبــارك ملــدة خمســة وعرشيــن عا ًمــا‪ ،‬لكننــي شــعرت مؤخ ـ ًرا أن‬
‫(((‬
‫وزارة الداخليــة هــي التــي تديــر شــؤون البــاد"‪.‬‬
‫‪ -1‬مجــدي الجــاد‪ ،‬شــارل فــؤاد املــري وأحمــد الخطيــب‪ ،‬مهــدي عاكــف يف أول حــوار صحفــي بعــد أزمــة‬
‫االنســحاب‪ ،‬املــري اليــوم ‪ ،11‬القاهــرة (‪.)2009/24/10‬‬
‫‪ --2‬تتضــح أهميــة ‪ %97‬يف عــام ‪ 2010‬عنــد مقارنتهــا مــع النســبة التــي حصــل عليهــا الحــزب الوطنــي‬
‫الدميقراطــي يف االنتخابــات الســابقة‪ %89 :‬عــام ‪1979‬؛ ‪ %87‬عــام ‪1984‬؛ ‪ %78‬عــام ‪1987‬؛ ‪ %81‬عــام‬
‫‪1990‬؛ ‪ %79‬يف عــام ‪2000‬؛ و‪ ٪68.5‬عــام ‪( 2005‬غنيــم‪ ،‬عظمــة الدولــة املرصيــة‪ ،‬ص ‪.)178‬‬
‫‪ -3‬مقابلــة فتحــي رسور مــع محمــد مســلم‪ ،‬املــري اليــوم واجهــت فتحــي رسور باالتهامــات فكشــف أرسا ًرا =‬

‫‪290‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫يف النهايــة‪ ،‬أعطــى تعيــن حبيــب العــاديل وزيــ ًرا للداخليــة الشــكل النهــايئ للدولــة‬
‫البوليســية‪ .‬تخــرج العــاديل مــن أكادمييــة الرشطــة عــام ‪ ،1961‬وعمــل ضابــط أمــن دولــة‬
‫بــن عامــي ‪ 1965‬و‪ ،1993‬ثــم عمــل لفــرة وجيــزة مدي ـ ًرا ألمــن منطقتــي ســيناء وقنــاة‬
‫الســويس قبــل أن يعــود إىل القاهــرة كمديــر لألمــن عــام ‪ ،1995‬ومدي ـ ًرا ملباحــث أمــن‬
‫را وزيـ ًرا للداخليــة عــام ‪ .1997‬كدليل عــى دوره املركزي يف نظام‬ ‫الدولــة عــام ‪ ،1996‬وأخـ ً‬
‫الحكــم‪ ،‬شــغل العــاديل منصــب وزيــر الداخليــة ملــدة أربعــة عــر عا ًمــا متتاليــة‪ ،‬بينــا بلــغ‬
‫متوســط الســنوات التــي قضاهــا أســافه يف الــوزارة منــذ عــام ‪ 1952‬فصاعـ ًدا ‪ 3.2‬ســنة‪.‬‬
‫وســع العــاديل نطــاق الرقابــة لتشــمل جميــع الشــخصيات املؤثــرة يف املجتمــع وليــس فقــط‬ ‫َّ‬
‫الشــخصيات الحكوميــة واملعارضــة‪ .‬ونظــم اســتخدام البلطجيــة يف االنتخابــات واملهــام‬
‫األخــرى‪ ،‬أواًلً يف القاهــرة خــال انتخابــات عــام ‪ ،1995‬ثــم يف جميــع أنحــاء البــاد بعــد‬
‫انتخابــات العــام ‪ .2000‬األهــم مــن ذلــك أنــه أقــام عالقــات حميمة مــع "لجنة السياســات"‪،‬‬
‫(((‬
‫الجنــاح األكــر نفــوذًا يف الحــزب الحاكــم والــذي هيمــن عليــه رجــال األعــال‪.‬‬
‫مــن وجهــة نظــر قانونيــة‪ ،‬ج ـ َّرم قانــون الطــوارئ املــري مامرســات الرشطــة القمعيــة‪.‬‬
‫بقــي القانــون ‪ 162‬لعــام ‪ 1958‬ســاري املفعــول وبشــكل مســتمر منــذ عــام ‪( 1967‬باســتثناء‬
‫را ثابتًــا يف النظــام‬ ‫مثانيــة عــر شــه ًرا بــن عامــي ‪ 1980‬و‪ )1981‬حتــى أصبــح عن ـ ً‬
‫الســيايس املــري‪ .‬يســمح القانــون باالحتجــاز املطــول دون محاكمــة‪ ،‬ومينــح أوامــر‬
‫الحتجــاز املعتقلــن‪ ،‬ويحظــر اإلرضابــات العامليــة والتظاهــر دون إذن الرشطــة‪ ،‬ويــرر‬
‫الرقابــة عــى الصحافــة ويتيــح محاكمــة الســجناء السياســيني لــدى محاكــم خاصــة‪ ،‬وت ُحـ ُّد‬
‫مــن حــق املتهمــن يف االســتئناف‪ .‬كــا تعــززت قــدرة األجهــزة األمنيــة بشــكل كبــر يف‬
‫عهــد مبــارك‪ ،‬وذلــك عــر تقنيــات التحكــم الجديــدة التــي مل تتوفــر ألســافه‪ .‬ومتاشـ ًـيا مع‬
‫فكــرة مايــكل مــان((( القائلــة بــأن التقــدم التكنولوجــي مي ّكــن مــن توليــد هيــاكل جديــدة‬
‫للدولــة‪ ،‬مــا يســمح ببدائــل تاريخيــة غــر متوفــرة مــن قبــل‪ ،‬يســتطيع املــرء القــول بــأن‬
‫الدولــة البوليســية الخاضعــة للســيطرة املشــددة يف مــر مل تكــن ممكنــة لــوال أدوات‬
‫املراقبــة التــي ســمحت لجهــاز مباحــث أمــن الدولــة بالتجســس عــى املواطنــن الذيــن‬

‫خطرية‪ ،‬الحلقة األوىل‪ ،‬املرصي اليوم‪ ،‬القاهرة (‪.)2011/24/03‬‬


‫‪ -1‬عمر‪ ،‬حبيب العاديل‪ ،‬ص ‪.5‬‬
‫‪ -2‬يف كتابه مصادر القوة االجتامعية‪( .‬املرتجم)‬

‫‪291‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫يســتخدمون هواتفهــم املحمولــة‪ ،‬ومراقبــة شــبكات التواصــل االجتامعــي وتتبــع املركبــات‬


‫عــر تقنيــات األقــار الصناعيــة املتطــورة‪ ،‬ومــا إىل ذلــك‪.‬‬
‫را‪ ،‬يجــب عــى املــرء أن يالحــظ أن توطيــد الدولــة البوليســية يف مــر تناســب متا ًمــا‬ ‫أخـ ً‬
‫مــع مــزاج الرئيــس مبــارك‪ ،‬فكــا كـ ّرس عبد النــارص والســادات مفهــوم أمن النظــام‪" ،‬كان‬
‫مهووســا بــه"‪ (((.‬تبنــى مبارك إســراتيجية أمنية غــر تقليدية‪،‬‬
‫ً‬ ‫مبــارك شــغوفًا باألمــن‪ ،‬ورمبا‬
‫وبــداًلً مــن اســتهداف مجموعــات املعارضــة الرئيســية أبقى املجتمــع بأكمله مشــلواًلً بالخوف‬
‫مــن خــال منــط مذهــل مــن االعتقــال واإلفــراج‪ ،‬ثــم إعــادة االعتقــال‪ ،‬والرضب العشــوايئ‬
‫ملختلــف النشــطاء واملواطنــن العاديــن وحتــى بعــض النخــب الحاكمة دون تفســر أو مربر‪.‬‬
‫وعــى عكــس أســافه‪ ،‬اهتــم مبــارك بشــكل مفــرط بســامته الشــخصية‪ .‬يتذكــر روبــرت‬
‫ســرينغبورغ بعــد الفــرة التــي قضاهــا يف القاهــرة كيــف أن "شــبكة األمــن املرتاميــة‬
‫األطــراف التــي تنتــر مــن فيلتــه يف مــر الجديــدة تتجــاوز بكثــر أي تدابــر ســابقة‬
‫لحاميــة الرؤســاء‪ .‬إن كتيبــة حراســه الشــخصيني هائلــة ح ًقــا‪ ...‬فوســائل الراحــة والحريــات‬
‫التــي يتمتــع بهــا املواطنــون العاديــون مقارنــة بإجــراءات األمــن الرئاســية‪ ،‬مل تكــن محــل‬
‫اعتبــار‪ .‬فأحيــاء املدينــة تُغلــق بأكملهــا قبــل أي تحــرك رئــايس"‪ (((.‬عندمــا دعــي مبــارك‬
‫أمنيــا لتفقــد‬
‫را ً‬ ‫لقضــاء ليلــة يف قــر باكنغهــام‪ ،‬أرســل وفـ ًدا مكونًــا مــن ســتة عــر خبـ ً‬
‫الغرفــة التــي مــن املفــرض أن يقيــم فيهــا‪ -‬وغنــي عــن القــول‪ ،‬أن الســلطات الربيطانيــة‬
‫مل تقبــل دخــول ســوى اثنــن فقــط مــن الخــراء بعــد توســات شــديدة مــن ســفري مــر‬
‫يف لنــدن‪ (((.‬مل يكــن مفاجئًــا إذن أنــه رغــم االتجــاه الــذي بــدأ يف عهــد الســادات نحــو‬
‫تهميــش الجيــش وتعزيــز دور األجهــزة األمنيــة‪ ،‬أن تتحــول مــر بشــكل كبــر خــال فــرة‬
‫حكــم مبــارك مــن دولــة عســكرية إىل دولــة بوليســية‪.‬‬

‫تنظيم العمل السيايس‬


‫مل يُل ـغِ تهميــش الجيــش ومتكــن أجهــزة األمــن والرشطــة الحاجــة إىل حــزب حاكــم يف‬
‫ميــدان السياســة‪ .‬فمنــذ الخمســينيات‪ ،‬ظــل الهيــكل العــام ووظيفــة هــذا الحــزب متســقني‬
‫‪1- Springborg, Mubarak’s Egypt, 27.‬‬
‫‪ -2‬املرجع السابق‪.‬‬
‫‪ -3‬هيكل‪ ،‬مبارك وزمانه‪ ،‬ص ‪.201‬‬

‫‪292‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫إىل حــد مــا‪ ،‬رغــم تغــر تركيبتــه االجتامعيــة بشــكل جــذري‪ .‬لطاملــا تشــكل الحــزب الحاكــم‬
‫عــى شــكل هرمــي مــع قاعــدة شــعبية عريضــة يف الريــف تضيــق كلــا اقــرب املــرء مــن‬
‫املــدن وص ـواًلً إىل القيــادة املركزيــة يف القاهــرة‪ .‬مــن حيــث الوظيفــة‪ ،‬اســتمر الحــزب‬
‫يف العمــل كمنظــم للقواعــد االجتامعيــة للنظــام‪ .‬مــا هــذه القواعــد؟ وكيــف تغــر وزنهــا‬
‫النســبي مبــرور الوقــت؟‬
‫بــرف النظــر عــن املهنيــن الحرضيــن الذيــن ارتبطــوا بالنظــام مــن خــال التوظيــف‬
‫يف البريوقراطيــة واملصانــع العامــة‪ ،‬أراد عبــد النــارص مــن خــال الحــزب بنــاء قاعــدة‬
‫صلبــة مــن الفالحــن والعــال‪ .‬ولكــن رغــم أن املوظفــن العموميــن والفالحــن والعــال‬
‫أصبحــوا يف الواقــع مجــرد أعضــاء يف الحــزب‪ ،‬إال أنهــم مل يكتســبوا أي أهميــة مــن‬
‫الناحيــة السياســية‪ .‬وبــداًلً مــن حشــد هــؤالء املوالــن‪ ،‬فضــل الحــزب رشائهــم مــن خــال‬
‫املســاعدات املوســمية الســتباق حشــدهم مــن قبــل القــوى السياســية املتنافســة‪ .‬ونظــ ًرا‬
‫للتناقــض الــذي ال ميكــن حلــه بــن مصالــح هــذه القاعــدة الشــعبية (الطبقــة الدنيــا يف‬
‫الغالــب) ومصالــح النخــب الحزبيــة‪ -‬النخــب التــي تغــر تكوينهــا عــر الزمــن‪ ،‬فقــد أصبــح‬
‫مــن غــر املمكــن أن يتــرف الحــزب بخــاف ذلــك‪.‬‬
‫لقــد ســيطر أكــر مــن ألــف ضابــط عســكري يف عهــد عبــد النــارص عــى املناصــب‬
‫السياســية الرئيســية‪ ،‬وعندمــا تقاعــدوا اختــر بدالؤهــم مــن الطبقــة نفســها‪ (((.‬لذلــك‪،‬‬
‫مثــا يف عــام ‪ 1962‬ســتة عــر ضابطًــا‬ ‫ضمــت األمانــة العامــة لالتحــاد االشــرايك ً‬
‫مــن أصــل خمســة وعرشيــن عض ـ ًوا‪ (((.‬ولكــن بحلــول نهايــة الســتينيات‪ ،‬ســيطرت الطبقــة‬
‫الوســطى الريفيــة عــى بريوقراطيــة الدولــة والقطــاع العــام‪ (((.‬كانــت مطالــب هــذه الفئــة‬
‫الثانيــة محــدودة‪ :‬كمعظــم الفالحــن‪ -‬أغنيــاء أو فقــراء‪ -‬أرادت الطبقــة األوىل يف الريــف‬
‫أن تُعطــى حريتهــا الكاملــة‪ ،‬بينــا أراد املوظفــون العموميــون الصعــود يف ســلم التوظيــف‬
‫ورمبــا جنــي ثــروة متواضعــة مــن خــال الرشــاوى والعمــوالت‪ .‬مــع سياســة التحريــر‬
‫االقتصــادي واالزدهــار النفطــي منــذ عهــد الســادات‪ ،‬تســللت فئــة اجتامعيــة جديــدة إىل‬
‫الحــزب هــي فئــة رجــال األعــال لتجمــع يف صفوفهــا بــن الرأســاليني الذيــن ترعاهــم‬
‫‪1- Perlmutter, Egypt, 112.‬‬
‫‪ -2‬حسني‪ ،‬عبد النارص والتنظيم الطليعي‪ ،1971-1963 ،‬ص ‪.37‬‬
‫‪ -3‬حمروش‪ ،‬غروب يوليو‪ ،‬ص ‪.223‬‬

‫‪293‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫الدولــة (خاصــة يف قطاعــات العقــارات والتجــارة والتمويــل) ورجــال األعــال الصغــار‬


‫(املقاولــون الصغــار‪ ،‬وأصحــاب رشكات التصديــر واالســترياد ورصف العمــات)‪.‬‬
‫بحلــول مطلــع القــرن الحــادي والعرشيــن‪ ،‬أفســحت هــذه الفئــة األخــرة الطريــق أمــام‬
‫الرأســاليني االحتكاريــن الذيــن رمبــا جمعــوا ثرواتهــم يف البدايــة مــن خــال عالقاتهــم‬
‫داخــل الدولــة‪ ،‬لكنهــم أصبحــوا اآلن أكــر مــن أن يُســيطَ َر عليهــم مــن أعــى‪ .‬يف نهايــة‬
‫املطــاف‪ ،‬تــوىل هــؤالء األغنيــاء املناصــب السياســية العليــا ســواء يف مجلــس الــوزراء أو يف‬
‫قيــادة الحــزب‪ .‬وفيــا اســتمرت الطبقــة الوســطى الريفيــة وموظفــو الدولــة يف التعامــل‬
‫مــع األمــور الروتينيــة‪ ،‬مثــل االنتخابــات ومظاهــرات الدعــم‪ ،‬كان رجــال األعــال البارزون‬
‫هــم مــن يصــوغ السياســات‪ .‬وألول مــرة منــذ العــام ‪ ،1952‬بــدأت النخــب االقتصاديــة‬
‫تتالعــب بالدولــة بــداًلً مــن أن تتالعــب الدولــة بهــا‪.‬‬
‫مل يخطــط مبــارك لألمــر بهــذه الطريقــة‪ ،‬إمنــا أراد يف األصــل الحفــاظ عــى الهيــكل‬
‫الــذي وضعــه الســادات بحيــث يخــدم رجــال األعــال املرتبطــون بالدولــة كمصــدر دعــم‬
‫للحــزب الحاكــم ال أكــر‪ .‬كانــت نيتــه الحفــاظ عــى الحــزب الوطنــي الدميقراطــي كحــزب‬
‫بريوقراطيــة الدولــة‪ ،‬حيــث ميثــل رجــال األعــال إحــدى مجموعــات املصالــح العديــدة‪.‬‬
‫وبعبــارة أخــرى‪ ،‬رفــض الســاح للرأســاليني بالســيطرة عــى الحــزب‪ .‬يعتقــد مبــارك‬
‫أن الســنوات التــي قضاهــا كنائــب لرئيــس الجمهوريــة ونائــب لرئيــس الحــزب الوطنــي‬
‫الدميقراطــي قــد شــحذت مهاراتــه يف الســمرسة املحليــة مبــا يكفــي لتمكينــه مــن إبقــاء‬
‫الحــزب عــى املســار الصحيــح‪.‬‬
‫حــن تــوىل مبــارك الرئاســة‪ ،‬كانــت ثــاث مجموعــات غــر متوافقــة تديــر آلــة الحــزب‪:‬‬
‫كــوادر يســارية (بقايــا االتحــاد االشــرايك)‪ ،‬والرأســاليني (ال ســيام رجــل األعــال‬
‫عثــان أحمــد عثــان)‪ ،‬واالنتهازيــون (موظفــو الحــزب والعنــارص الربجوازيــة الطفيليــة‬
‫الذيــن انضمــوا إىل الحــزب الوطنــي الدميقراطــي ملكاســب ماديــة طفيفــة)‪ .‬ر ّوج مبــارك‬
‫للمجموعــة األخــرة ألنهــا بــدت األكــر مرونــة‪ ،‬مــع األخــذ يف االعتبــار أن االنتهازيــن ال‬
‫ميتلكــون قــوة أيديولوجيــة وال اقتصاديــة ميكنهــم االســتفادة منهــا‪ .‬بعــد عامــن مــن توليــه‬
‫ـن مبــارك البريوقراطــي يوســف وايل الــذي بنــى مســرته املهنيــة يف وزارة‬ ‫منصبــه‪ ،‬عـ ّ‬
‫الزراعــة أمي ًنــا عا ًمــا للحــزب الوطنــي الدميقراطــي‪ ،‬وســاعده كــال الشــاذيل‪ -‬الرجــل‬

‫‪294‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫املخــرم الــذي خــدم يف جميــع املنظــات السياســية التــي تأسســت بعــد عــام ‪ .1952‬ثــم‬
‫اســتبدل مبــارك ســبعة مــن ثالثــة عــر عض ـ ًوا يف املكتــب الســيايس‪ ،‬وســتة عــر مــن‬
‫ثالثــة وعرشيــن عض ـ ًوا يف األمانــة العامــة‪ ،‬وتســعة مــن رؤســاء اللجــان الخمــس عــرة‬
‫الدامئــة للحــزب الوطنــي الدميقراطــي‪ ،‬يف خطــوة تهــدف إىل التخلــص مــن الرأســاليني‬
‫(((‬
‫البارزيــن‪ ،‬كعثــان أحمــد عثــان ومــن عــى شــاكلته‪.‬‬
‫را‪ ،‬عــزز الرئيــس مبــارك اعتــاد الحــزب الوطنــي عــى بريوقراطيــة الدولــة‪ ،‬التــي‬ ‫أخ ـ ً‬
‫كانــت بالنســبة لجميــع األغــراض العمليــة مبثابــة امتــداد للحــزب الحاكــم‪ .‬مل تكــن‬
‫بريوقراطيــة الدولــة مجــرد ملحــق صغــر‪ ،‬فقــد تضخمــت برسعــة مــن مليــون موظــف‬
‫يف عــام ‪ 1974‬إىل ‪ 3.5‬مليــون يف عــام ‪ -1986‬وهــو الوقــت الــذي جــرت فيــه هــذه‬
‫التغيــرات‪ .‬ولكــن بغــض النظــر عــا أراده مبــارك‪ ،‬تقاســم األعضــاء الرأســاليون املتبقون‬
‫يف الحــزب األدوار مــع بريوقراطــي الدولــة‪ ،‬بحيــث عمــل الرأســاليون كرعــاة وحــاة‪،‬‬
‫وقــدم البريوقراطيــون الدعــم اللوجســتي واإلداري لهــم‪ .‬واألهــم مــن ذلــك أنهــم وفــروا‬
‫لهــم الفــرص لجمــع الــروات الشــخصية‪ .‬وهكــذا دخــل الحــزب الحاكــم ببــطء وثبــات‬
‫ميــدان األعــال التجاريــة الكــرى‪ ،‬إذ أن الهيــكل االقتصــادي الــذي أقامــه الســادات‬
‫ـتحياًل‪.‬‬
‫صعبــا‪ ،‬إن مل يكــن مسـ ً‬‫جعــل االبتعــاد عــن هــذا املســار ً‬

‫‪1- Springborg, Mubarak’s Egypt, 137, 158–69.‬‬

‫‪295‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫ِمن َف ْتحِ االقتصا ِد إىل إلغا ِء القيو ِد‬


‫جــاء مبــارك إىل الســلطة بعــد ســبع ســنوات مــن تطبيــق سياســة البــاب املفتــوح االقتصادية‬
‫(االنفتــاح)‪ .‬وكــا ناقشــنا يف الفصــل الســابق‪ ،‬كانــت هــذه الســنوات غنيــة للبعــض‪،‬‬
‫ومقفــرة للبعــض اآلخــر‪ .‬لكــن التأثــر العــام لهــذه السياســة كان مدمـ ًرا لالقتصــاد لدرجــة‬
‫أن أحــد قــرارات الرئيــس األوىل كان عقــد مؤمتــر وطنــي الستكشــاف ُسـ ُـبل تجنــب مــا‬
‫رآه أزمــة اقتصاديــة تلــوح يف األفــق‪ .‬طــوال فــرة حكمــه‪ ،‬أكــد مبــارك عل ًنــا أن الوضــع‬
‫االقتصــادي املــردي يف مــر كان خطــأ الشــعب‪ .‬وذكــر أن النمــو الســكاين هــو ســبب‬
‫تقويــض جهــود الحكومــة لتحســن الظــروف االجتامعيــة واالقتصاديــة‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬فــإن‬
‫املؤمتــر االقتصــادي الــذي بــدأ يف فربايــر ‪ 1982‬قــال بخــاف ذلــك‪ ،‬فقــد كشــف تقريــره‬
‫النهــايئ املك ّمــل بالعديــد مــن الدراســات األخــرى خــال هــذه الفــرة عــن النتائــج املــرة‬
‫لالنفتــاح االقتصــادي‪.‬‬
‫اتفــق كبــار االقتصاديــن يف مــر عــى أن الرأســالية االنتهازيــة دفعــت االقتصــاد‬
‫املــري نحــو التجــارة الخارجيــة والتمويــل واالبتعــاد عــن القطاعــات اإلنتاجيــة‪ .‬قفــزت‬
‫نســبة التجــارة الخارجيــة مــن الناتــج املحــي اإلجــايل مــن ‪ %35‬يف عــام ‪ 1974‬إىل ‪%97‬‬
‫ـؤرشا مقل ًقــا يف بلــد ادعــى أنــه يف طريقــه إىل مصــاف‬‫يف عــام ‪ (((،1979‬مــا يعطــي مـ ً‬
‫الــدول املصنعــة‪ .‬لكــن األمــر األكــر إثــارة للقلــق هــو أن مــر تحولــت برسعــة مــن ُمص ِّدر‬
‫ـاف للغــذاء‪ .‬وانخفــض إجــايل الصــادرات املرصيــة مــن ‪ %38‬عــام‬ ‫ـاف إىل مســتورد صـ ٍ‬ ‫صـ ٍ‬
‫‪ 1974‬إىل ‪ %14‬عــام ‪ ،1981‬بينــا انخفضــت صادراتهــا الزراعيــة عــى وجــه الخصــوص‬
‫(((‬
‫مــن ‪ %41.4‬مــن إجــايل الصــادرات عــام ‪ 1973‬إىل ‪ %15.5‬عــام ‪.1980‬‬
‫ويف نفــس الوقــت‪ ،‬اســتوردت مــر مطلــع الثامنينيــات ‪ %60‬مــن احتياجاتهــا الغذائيــة‬
‫مــع أن نصــف قوتهــا العاملــة كانــت تعمــل يف الزراعــة‪ .‬وقــد عانــت املنتجات اإلســراتيجية‬
‫أكــر مــن غريهــا‪ ،‬ففيــا كانــت مــر تُص ـ ِّد ُر ‪ %40‬مــن إنتاجهــا مــن الســكر يف عــام‬
‫أيضــا يف اســترياد‬
‫‪ 1970‬فقــد توقفــت بعــد عقــد مــن الزمــن عــن تصديــر الســكر‪ ،‬وبــدأت ً‬
‫‪ %35‬مــن احتياجاتهــا مــن الســكر‪ .‬يف الوقــت نفســه‪ ،‬خــرج اســترياد الكامليــات عــن‬

‫‪ -1‬عبد الفضيل‪ ،‬تأمالت يف املسألة االقتصادية املرصية‪ ،‬ص ‪.50‬‬


‫‪ -2‬عبد املعطي‪ ،‬الطبقات االجتامعية ومستقبل مرص‪ ،‬ص ‪ ،145‬ص ‪.174‬‬

‫‪296‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫الســيطرة حيــث تضاعــف اســترياد املالبــس‪ ،‬وتضاعــف اســترياد مســتحرضات التجميــل‬


‫ثــاث مــرات‪ ،‬واســترياد الســجائر والســاعات مبقــدار عــرة أضعــاف‪ .‬وازداد اســترياد‬
‫األجهــزة الكهربائيــة اثنتــي عــرة مــرة‪ ،‬وواردات الســيارات أربعــة عــر ضع ًفــا‪ ،‬واألطعمــة‬
‫الفاخــرة مثانيــة عــر ضعفًــا‪ .‬وبحلــول عــام ‪ ،1979‬ذهــب ‪ %53‬مــن الناتــج املحــي‬
‫اإلجــايل ملــر لتمويــل الــواردات‪ (((.‬حتــى يف الزراعــة نفســها‪ ،‬بــرز اتجــاه للتحــول إىل‬
‫املنتجــات الفاخــرة‪ ،‬حيــث حلــت الفواكــه والخــروات باهظــة الثمــن محــل القمــح واألرز‬
‫وقصــب الســكر واملــواد األساســية األخــرى‪ .‬وتضاعفــت املســاحة املخصصــة ملثــل هــذه‬
‫املنتجــات الغريبــة بــن عامــي ‪ 1970‬و‪ 1980‬واســتمرت يف الزيــادة بعــد ذلــك‪ .‬اتفــق‬
‫االقتصاديــون عــى أن الدولــة باتــت عاجــزة عــن تحمــل أنشــطة املضاربــة واملشــاريع‬
‫قصــرة األجــل ملســتثمري القطــاع الخــاص ورشكائهــم األجانــب‪ ،‬كــا أنهــا ال تســتطيع‬
‫تحمــل االتجاهــات االســتهالكية التــي ظهــرت يف الســبعينيات خاصــة تلــك املوجهــة نحــو‬
‫الكامليــات املســتوردة‪ .‬ويف الختــام‪ ،‬كان مــن الــروري العــودة إىل التنميــة االقتصاديــة‬
‫(((‬
‫املخططــة للدولــة حتــى لــو ُســمح للقطــاع الخــاص أداء دور رائــد يف هــذه العمليــة‪.‬‬
‫يقــع اللــوم األكــر عــى الــركات التــي تأسســت مبوجــب القانــون ‪ 43‬لعــام ‪ ،1974‬الــذي‬
‫افتتــح مســرة االنفتــاح‪ .‬بحلــول نهايــة الســبعينيات‪ ،‬بــات إجــايل صادراتهــم املقــدرة بـــ‬
‫‪ 26‬مليــون دوالر بعيـ ًدا بشــكل كبــر عــن فاتــورة الــواردات الضخمــة البالغــة ‪ 609‬ماليــن‬
‫دوالر‪ ،‬والتــي أُنفــق معظمهــا عــى املنتجــات الفاخــرة‪ (((.‬ســاعد هــؤالء الرأســاليون‬
‫التجاريــون الصغــار عــى تحويــل مــر ليــس فقــط إىل مجتمع اســتهاليك بل إىل مســتهلك‬
‫للكامليــات األجنبيــة‪ ،‬وهــو األمــر األكــر خطــورة‪ .‬خــال العقــد الــذي قضــاه الســادات يف‬
‫منصبــه‪ ،‬تضاعفــت حصــة التجــارة يف الناتــج املحــي اإلجــايل ملــر مــن أقــل مــن ‪%10‬‬
‫إىل ‪ %19‬مــع زيــادة حصــة الــركات الخاصــة يف هــذا القطــاع مــن أقــل مــن ‪ %50‬إىل‬
‫‪ %70‬خــال نفــس الفــرة‪ ،‬وبحلــول منتصــف التســعينيات قفــز إىل ‪ (((.٪95‬تُرجــم ذلــك‬
‫محليــا مــن خــال عــدة مــؤرشات‪ ،‬حيــث توســعت تجــارة الجملــة مثـ ًـا بــن عامــي ‪1970‬‬‫ً‬

‫‪ -1‬هيكل‪ ،‬خريف الغضب‪ ،‬ص ‪.210‬‬


‫‪ -2‬سليامن‪ ،‬النظام القوي والدولة الضعيفة‪ ،‬ص ‪.40‬‬
‫‪3- Handoussa, "Fifteen Years of US Aid", 116.‬‬
‫‪ -4‬عبد املعطي‪ ،‬الطبقات االجتامعية ومستقبل مرص‪ ،‬ص ‪.104‬‬

‫‪297‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫و‪ 1980‬مــن ‪ %43.6‬إىل ‪ (((،%75.4‬وازداد الــوكالء املرصيــون للتجــار األجانــب مــن بضــع‬
‫عــرات عــام ‪ 1974‬إىل ســتة عــر أل ًفــا عــام ‪ .1981‬كــا اســتهلكت املشــاريع التجاريــة‬
‫‪ %42‬مــن إجــايل القــروض املرصفيــة خــال نفــس الفــرة‪ (((،‬وارتفعــت أعــداد محــات‬
‫(((‬
‫الســوبر ماركــت بــن عامــي ‪ 1974‬و‪ 1978‬مبعــدل ‪ %22‬ســنويًا‪.‬‬
‫لــم ُيحــدث الرأســماليون التجاريــون فــي عهــد الســادات ً‬
‫طلبــا واسـ ًـعا علــى املنتجــات‬
‫املســتوردة التــي ال يمكــن للحكومــة أن تأمــل فــي تلبيتهــا فحســب‪ ،‬بــل أقامــوا ً‬
‫أيضــا عالقــات‬
‫قويــة مــع بيروقراطييــن فــي الدولــة شــجعتهم القيــادة السياســية يف البدايــة‪ ،‬ثــم أصبحــت‬
‫بحلــول الثامنينيــات متشــابكة للغايــة إذ ال ميكــن احتواؤهــا أو تعطيلهــا‪ .‬مــن ناحيــة أخــرى‪،‬‬
‫" اســتمدت الرشيحــة األقــوى مــن الربجوازيــة ثروتهــا وتأثريهــا مــن العالقــات الطفيليــة‬
‫مــع الدولــة ال مــن خــال األنشــطة التجاريــة‪ .‬فقــد بنــوا إمرباطوريــات يف ظــل الدولــة‬
‫بينــا ســتذبل يف أوج املنافســة االقتصاديــة املفتوحــة"‪ (((.‬وهكــذا‪ ،‬قاتلــوا مــن أجــل حياتهم‪.‬‬
‫را مــن أرباحهــم مــع املوظفــن العموميــن‬ ‫مــن ناحيــة أخــرى‪ ،‬تقاســم هــؤالء جــز ًءا كب ـ ً‬
‫مقابــل إعفــاءات مخصصــة مــن الرضائــب والتعريفــات والوصــول غــر القانــوين إىل‬
‫املــوارد الحكوميــة (القــروض املرصفيــة‪ ،‬واملســاعدات الخارجيــة‪ ،‬واألرايض‪ ،‬والخدمــات‪،‬‬
‫ومــا إىل ذلــك) واالحتــكارات التجاريــة‪ ،‬وهكــذا دواليــك‪ .‬ويف الســبعينيات‪ ،‬تعاقــدت الدولــة‬
‫مــن تحــت الطاولــة مــع رجــال أعــال ذوي صلــة عــى مــا يقــدر بنحــو ‪ %62‬مــن أنشــطة‬
‫القطــاع العــام‪ .‬أدى الفســاد بــدوره إىل رفــع مســتويات معيشــة موظفــي الخدمــة املدنيــة‬
‫إىل درجــة مل يعــد بإمكانهــم التخــي عنهــا‪ .‬وباختصــار‪ ،‬بــات مبــارك يف مواجهــة شــبكة‬
‫(((‬
‫محســوبيات واســعة ال ميكــن املســاس بهــا أب ـ ًدا‪.‬‬
‫مل يكــن التشــوه االقتصــادي ســوى أحــد املشــكالت التــي أحدثتهــا سياســة االنفتــاح‪،‬‬
‫فعواقبــه االجتامعيــة كان لهــا أثــر بالــغ عــى الناحيــة السياســية‪ .‬بدايــة‪ ،‬مل تســاعد طبيعــة‬
‫سياســة االنفتــاح غــر اإلنتاجيــة عــى خلــق فــرص عمــل كافيــة‪ ،‬فقــد ظلــت الدولــة هــي‬

‫‪ -1‬رفعت سيد أحمد‪ ،‬ثورة الجرنال‪ ،‬ص ‪.474‬‬


‫‪ -2‬عبد املعطي‪ ،‬الطبقات االجتامعية ومستقبل مرص‪ ،‬ص ‪ ،105‬ص ‪.191‬‬
‫‪ -3‬هيكل‪ ،‬خريف الغضب‪ ،‬ص ‪.211-210‬‬
‫‪4- Springborg, Mubarak’s Egypt, 87.‬‬
‫‪ -5‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪ ،35‬ص ‪.87-85‬‬

‫‪298‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫صاحــب العمــل الرئيــي وارتفعــت نســبة البريوقراطيــن مــن ‪ %3.8‬مــن الســكان عشــية‬
‫سياســة االنفتــاح إىل ‪ %10‬مــن الســكان يف عــام ‪ .1986‬واســتمر هــذا االتجــاه يف عهــد‬
‫مبــارك مــع قيــام البريوقراطيــة بحلــول نهايــة عهــده بتوظيــف مــا يقــرب مــن ‪ 5.5‬مليــون‬
‫مــري‪ .‬يف الوقــت نفســه‪ ،‬وظفــت املصانــع العامــة أكــر مــن ســتمئة ألــف عامــل‪.‬‬
‫ويف املقابــل‪ ،‬جلبــت رشكات القطــاع الخــاص خــال العقــد األول مــن سياســة االنفتــاح‬
‫‪ 28‬ألــف فرصــة عمــل جديــدة‪ (((.‬لكنهــا يف الحقيقــة أدت لظهــور آالف األغنيــاء مــن‬
‫أصحــاب املاليــن يف مجتمــع فقــر للغايــة‪ .‬أضــف أن هــؤالء األغنيــاء فاحــي الــراء مل‬
‫يكونــوا مــن كبــار الصناعيــن الذيــن يوســعون ســوق العمــل‪ ،‬بــل مســتوردين ورصافــن‬
‫ووســطاء فضـ ًـا عــن مــاك أرايض النظــام القديــم ممــن أُعيــد تأهيلهــم‪ .‬وســواء شــكلت‬
‫هــذه املجموعــة مــن املســتثمرين "برجوازيــة كومــرادور((( كاملــة أو مجــرد مافيــا‪ ...‬فــإن‬
‫النتيجــة واحــدة"‪ (((،‬فلــم يســاهموا يف الصناعــة وال يف التوظيــف‪ .‬األكــر خطــورة مــن‬
‫ذلــك هــو تأثــرات إعــادة التوزيــع التــي قامــت بهــا سياســة االنفتــاح‪ ،‬فقــد أوضحــت‬
‫النتائــج اإلحصائيــة للبنــك الــدويل يف عــام ‪ 1980‬أن اآلثــار التوزيعيــة لسياســة التحريــر‬
‫االقتصــادي لــدى الســادات هــددت بخلــق توتــرات طبقيــة‪ .‬ففيــا بلغــت حصــة أفقــر ‪%20‬‬
‫مــن الســكان مــن الدخــل القومــي ‪ %5‬فقــط‪ ،‬فــإن حصــة أغنــى ‪ %5‬منهــم بلغــت ‪،%22‬‬
‫وحصــة أغنــى ‪ %10‬منهــم بلغــت ‪ 33‬يف املائــة‪ ،‬وتجــاوزت حصــة أغنــى ‪ %20‬منهــم ‪%50‬‬
‫(((‬
‫مــن الدخــل القومــي‪.‬‬
‫ـارك‪ -‬كســلفه الســادات‪ -‬فرصـ ًة طويلة نسـ ً‬
‫ـبيا نتيجــة لطفــرة النفط يف الســبعينيات‪.‬‬ ‫ُم ِنـ َ‬
‫ـح مبـ ُ‬
‫مــع ارتفــاع أســعار النفــط زادت عائــدات البــاد مــن صــادرات النفــط وتحويــات‬
‫املرصيــن العاملــن يف الــدول النفطيــة مــع ازديــاد حركــة املــرور يف قنــاة الســويس‪.‬‬
‫شــكلت هــذه املصــادر أكــر مــن ثلــث إيــرادات الدولــة مــع أقــل مــن ‪ %50‬مــن الرضائــب‪.‬‬
‫بــن عامــي ‪ 1975‬و‪ ،1985‬منــت التحويــات مــن ‪ 366‬مليــون دوالر إىل ‪ 3.9‬مليــار دوالر‬
‫ومنــت الصــادرات البرتوليــة مــن ‪ 381‬مليــون دوالر إىل ‪ 5‬مليــار دوالر‪ ،‬بينــا جلبــت‬

‫‪ -1‬عبد الفضيل‪ ،‬تأمالت يف املسألة االقتصادية املرصية‪ ،‬ص ‪.125-124‬‬


‫‪ -2‬طبقة الربجوازية املتحالفة مع رأس املال األجنبي‪( .‬املرتجم)‬
‫‪3- Springborg, Mubarak’s Egypt, 22.‬‬
‫‪4- Oweiss, "Egypt’s Economy", 12.‬‬

‫‪299‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫إدارة قنــاة الســويس مليــار دوالر ســنويًا‪ .‬لكــن أســعار النفــط تراجعــت مــن ‪ 36‬دوال ًرا‬
‫للربميــل يف عــام ‪ 1980‬إىل ‪ 12‬دوال ًرا يف عــام ‪ .1986‬وبــدأ االنهيــار يف مــر يف عــام‬
‫‪ 1986‬حيــث تراجعــت الصــادرات إىل النصــف مــن ‪ 2.26‬مليــار دوالر إىل ‪ 1.2‬مليــار دوالر‪،‬‬
‫وانخفضــت إيــرادات رســوم قنــاة الســويس مــن مليــار دوالر إىل أقــل مــن ‪ 900‬مليــون‬
‫دوالر‪ .‬وتســبب هــذا عــى الفــور يف انخفــاض حــاد يف احتياطيــات العمــات األجنبيــة‪،‬‬
‫وهــي كارثــة مدمــرة يف بلــد نســبة االســترياد فيــه عاليــة‪.‬‬
‫بحلــول عــام ‪ ،1986‬انخفضــت مســاهمة صــادرات النفــط يف احتياطيــات العمــات‬
‫األجنبيــة مــن ‪ %33‬إىل ‪ ،%12.6‬يف حــن انخفضــت مســاهمة التحويــات مــن ‪ %43‬إىل‬
‫‪ .%27‬وارتفعــت معــدالت التضخــم إىل ‪ %23‬والبطالــة إىل ‪ .%19‬ســاهم قــرار الواليــات‬
‫املتحــدة يف نفــس العــام القــايض بتعليــق حزمــة مســاعدات بقيمــة ‪ 265‬مليــون دوالر‬
‫إلخضــاع مــر لإلصالحــات التــي أوىص بهــا صنــدوق النقــد الــدويل يف إرهــاق االقتصــاد‬
‫املــري‪ (((،‬يف التمهيــد ألزمــة ديــون مدمــرة يف البــاد‪.‬‬
‫حــرص الســادات عــى إعطــاء شــعبه جرعــة رسيعــة مــن االزدهــار الــذي وعــد بــه بعــد‬
‫إبــرام الســام مــع إرسائيــل‪ ،‬معتم ـ ًدا عــى املســاعدات الخارجيــة‪ .‬وضاعفــت سياســاته‬
‫الديــن الخارجــي مــن ‪ 7.5‬مليار دوالر يف عــام ‪ 1977‬إىل ‪ 14.7‬مليــار دوالر يف عام ‪،1980‬‬
‫وقفــزت مخصصــات الديــون املرتبطــة بهــا خــال نفــس الفــرة مــن ‪ 454‬مليــون دوالر إىل‬
‫‪ 1.6‬مليــار دوالر‪ .‬كبــدت نهايــة الطفــرة النفطيــة البــاد مزيـ ًدا مــن الديــون‪ ،‬والتــي وصلــت‬
‫بحلــول عــام ‪ 1987‬إىل رقــم غــر معقــول‪ 40 :‬مليــار دوالر (يف ظــل التوقعــات بــأن ترتفــع‬
‫يف عــام ‪ 1991‬إىل ‪ 53‬مليــار دوالر)‪ ،‬مــع خدمــة ديــن ســنوية تبلــغ ‪ 2.1‬مليــار دوالر‪.‬‬
‫اســتهلكت خدمــة الديــن يف عــام ‪ 1980‬نحــو ‪ %24‬مــن إجــايل الصــادرات‪ ،‬وتضاعفــت‬
‫بعــد عقــد مــن الزمــان لتصــل إىل ‪ (((.%46‬بنهايــة عــام ‪ ،1987‬أعلنــت الحكومــة املرصيــة‬
‫عجزهــا عــن خدمــة ديونهــا الخارجيــة ناهيــك عــن ســدادها‪ ،‬وأعلنــت يف عــام ‪1989‬‬
‫إفالســها مــا يعنــي أنهــا مل تعــد مؤهلــة لتلقــي القــروض الدوليــة التــي تحتاجهــا لعجزهــا‬
‫عــن الوفــاء بالتزاماتهــا املحليــة‪.‬‬

‫‪ -1‬سليامن‪ ،‬النظام القوي والدولة الضعيفة‪.54 ،‬‬


‫‪ -2‬املرجع السابق‪.190 ،‬‬

‫‪300‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫شــكلت املشــاركة يف الحــرب عــى العــراق عــام ‪ 1991‬الفرصــة الوحيــدة لــي تبــدأ البــاد‬
‫يف النهــوض مــرة أخــرى‪ ،‬حيــث اشــرطت الواليــات املتحــدة‪ -‬أكــر دائــن لهــا‪ -‬أن يشــارك‬
‫الجيــش املــري يف الحــرب مقابــل شــطب نصــف ديــون مــر وإقنــاع نــادي باريــس‬
‫ودول الخليــج التخــاذ الخطــوات نفســها‪ .‬بــدت مصداقيــة التحالــف الــدويل الــذي حــاول‬
‫جــورج بــوش األب تشــكيله لتحريــر الكويــت معلقــة عــى مشــاركة الــدول العربيــة األخــرى‪.‬‬
‫أساســيا للــدول العربيــة‬
‫ً‬ ‫شــكل انخــراط مــر‪ -‬عــى حــد تعبــر بــوش نفســه‪ -‬غطــاء‬
‫األخــرى التــي أرادت االنضــام للتحالــف‪ .‬لكــن مبــارك تــردد يف البدايــة‪ .‬ففي ‪ 7‬أغســطس‬
‫‪ 1990‬التقــى بوزيــر الدفــاع األمريــي ديــك تشــيني فعــرض عليــه أن تســمح مــر‬
‫للطائــرات األمريكيــة بالتحليــق يف األجــواء املرصيــة‪ ،‬وللبــوارج األمريكيــة بعبــور قنــاة‬
‫الســويس‪ ،‬وباســتخدام القواعــد املرصيــة للتــزود بالوقــود‪ ،‬لكنــه اســتبعد املشــاركة الفعليــة‬
‫عرضــا ال ميكنــه رفضــه‬
‫يف التحالــف العســكري‪ .‬ويف األول مــن ســبتمرب‪ ،‬قــدم لــه بــوش ً‬
‫يقــي بإعفــاء مــر مــن نصــف ديونهــا الخارجيــة‪ ،‬مــا أغــرى الرئيــس مبــارك بشــدة‪.‬‬
‫يف إشــارة إىل رد فعــل مبــارك خــال لقائهــا األول يف نوفمــر ‪ ،1990‬قــال بــوش بفخــر‬
‫أيضــا عــا إذا كانــت القــوات املرصيــة‬
‫تقريبــا‪ .‬وســألته ً‬
‫ً‬ ‫"لقــد اتفقنــا عــى جميــع القضايــا‬
‫(((‬
‫ســتدخل العــراق فأجــاب أنــه ســيفعل كل مــا هــو رضوري"‪.‬‬
‫رغــم إلغــاء نصــف ديونهــا الخارجيــة عــام ‪ ،1991‬إال أن مــر ظلــت تخــر معظــم‬
‫تحويــات العــال القادمــة مــن العــراق ودول الخليــج األخــرى نتيجــة للحــرب‪ .‬كــا‬
‫انخفضــت املســاعدات الخارجيــة حيــث باتــت مــر بعــد انهيــار جــدار برلــن تتنافــس‬
‫عــى املســاعدات الغربيــة مــع عــرات الــدول الشــيوعية الســابقة يف أوروبــا‪ .‬يف عــام‬
‫‪ ،1991‬مل يكــد النمــو االقتصــادي يبلــغ نســبة ‪ ،%1‬فيــا بلــغ النمــو الســكاين نســبة ‪%2‬‬
‫را‬
‫وانخفــض دخــل الفــرد إىل ‪ 600‬دوالر مــن ‪ 750‬دوال ًرا يف عــام ‪ ،1986‬مــا أثــر تأث ـ ً‬
‫را عــى مســتوى املعيشــة‪ (((.‬وتوقــع صنــدوق النقــد الــدويل مــن الحكومــة أن تزيــد‬
‫خط ـ ً‬
‫مــن معانــاة املرصيــن مــن خــال خفــض الدعــم الحكومــي‪.‬‬

‫‪1- George Bush and Brent Scowcroft, A World Transformed, New York: Vintage Books, 1998,‬‬
‫‪339–40, 41.‬‬
‫‪2- Wahid, Military Expenditure and Economic Growth in the Middle East, 133.‬‬

‫‪301‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫أُجــر مبــارك‪ ،‬تحــت ضغــط أمريــي مكثــف وأزمــة ماليــة متفاقمــة‪ ،‬عــى اعتــاد برنامــج‬
‫اإلصــاح االقتصــادي والتكيــف الهيــكيل الــذي صممــه صنــدوق النقــد الــدويل يف عــام‬
‫‪ ،1991‬والــذي دعــا إىل الحــد مــن الرعايــة االجتامعيــة وبيــع الــركات العامــة مــن أجــل‬
‫الســيطرة عــى اإلنفــاق الحكومــي والديــون‪ .‬بحلــول عــام ‪ ،1995‬ألغــت الحكومــة ‪%75.82‬‬
‫مــن اإلعانــات التــي كانــت تقدمهــا يف الثامنينيــات ومل تعــد ملتزمــة بتوظيــف خريجــي‬
‫الجامعــات‪ .‬أعــاد القانــون ‪ 203‬لســنة ‪ 1991‬هيكلــة القطــاع العــام إىل ‪ 314‬رشكــة قابضــة‬
‫ورشكات تابعــة للتحضــر لخصخصتهــا‪ ،‬وخصصــت الواليــات املتحــدة والرشكات الرأســالية‬
‫الرائــدة مــا يقــرب مــن ســتمئة مليــون دوالر لتمويــل اســتحواذ القطــاع الخــاص عــى هــذه‬
‫(((‬
‫ـهاًم يف ‪ 124‬رشكة من أصل ‪ 314‬رشكة‪.‬‬ ‫الــركات‪ .‬وبحلــول عــام ‪ ،1999‬باعت الحكومة أسـ ً‬
‫بــدا أن الســنوات القليلــة األوىل قــد أثبتــت صحــة مبــادئ الليرباليــة الجديــدة‪ .‬فخــال‬
‫العقــد األول (‪ ،)2001-1991‬نجــح الربنامــج يف تقليــص عجــز املوازنــة مــن ‪ ٪15.3‬إىل ‪٪3‬‬
‫مــن إجــايل الناتــج املحــي وتحقيــق معــدل منــو بنســبة ‪ (((.٪5‬كــا قفــزت حصــة رأس‬
‫املــال الخــاص مــن ‪ %58‬يف عــام ‪ 1991‬إىل ‪ %74‬يف عــام ‪ ،1996‬وهــو مــا هــدف إليــه‬
‫أيضــا(((‪ .‬لكــن حصــة القطــاع العــام انخفضــت بــن عامــي ‪ 1982‬و‪ 2002‬مــن‬ ‫الربنامــج ً‬
‫‪ %54‬مــن إجــايل الناتــج املحــي و‪ %70‬مــن إجــايل االســتثامر إىل ‪ %28‬مــن الناتــج‬
‫(((‬
‫املحــي اإلجــايل و‪ %44‬مــن االســتثامرات‪.‬‬
‫ومــن خــال نظــرة فاحصــة نســتطيع اكتشــاف أنــه ال توجــد عالقــة لهــذه الطفــرة‬
‫االقتصاديــة بربنامــج اإلصــاح االقتصــادي‪ .‬فقــد أدى قــرار الدائنــن بشــطب نصــف‬
‫الديــن الخارجــي ملــر لقــاء مشــاركتها يف حــرب الخليــج عــام ‪ 1991‬إىل توفــر ‪15.5‬‬
‫مليــار دوالر مــن مدفوعــات الفوائــد بحلــول عــام ‪ .1996‬لــذا فــإن أكــر مســاهم يف‬
‫التحــول االقتصــادي ملــر نتــج عــن قــرار ســيايس مــن الواليــات املتحــدة وحلفائهــا‪ .‬أضف‬
‫‪ -1‬غنيم‪ ،‬أزمة الدولة املرصية املعارصة‪.158 ،86 ،‬‬
‫‪2- Mitchell, Rule of Experts, 272.‬‬
‫‪ -3‬يوضــح تحليــل حصــص الــركات الخاصــة يف مختلــف قطاعــات االقتصــاد بــن عامــي ‪ 1981‬و‪ 1999‬كيــف‬
‫زادت حصتهــا مــن ‪ %70‬إىل ‪ %94.4‬مــن الناتــج املحــي اإلجــايل يف التجــارة؛ مــن ‪ %51.3‬إىل ‪ %76.6‬يف‬
‫البنــاء؛ مــن ‪ %26‬إىل ‪ %32‬يف التمويــل؛ ‪ %33.6‬إىل ‪ %73.8‬يف الصناعــة والتعديــن؛ و‪ %98‬إىل ‪ %99.6‬يف‬
‫الزراعــة (عبــد املعطــي‪ ،‬الطبقــات االقتصاديــة ومســتقبل مــر‪.)359 ،‬‬
‫‪4- Amr Ismail Adly, "Politically-Embedded Cronyism", 11.‬‬

‫‪302‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫أن الدولــة اســتمرت يف جنــي ثلــث إيراداتهــا مــن اإليــرادات التــي تجلبهــا مؤسســتان‬
‫حكوميتــان هــا رشكــة قنــاة الســويس والهيئــة املرصيــة العامــة للبــرول‪ ،‬بــداًلً مــن فــرض‬
‫رضائــب عــى القطــاع الخــاص اآلخــذ يف التوســع‪ .‬تكشــف هــذه الحقيقــة األخــرة كيــف‬
‫أن التحريــر االقتصــادي املزعــوم مل يفعــل شــيئًا يذكــر لحرمــان النظــام مــن إحــدى أبــرز‬
‫أصولــه املتمثلــة يف قدرتــه عــى االســتفادة مــن أنــواع مختلفــة مــن اإليــرادات ثــم إعــادة‬
‫توزيعهــا بطــرق ســمحت لــه بالحفــاظ عــى الســلطة‪.‬‬
‫باإلضافــة إىل حقــول النفــط والغــاز‪ ،‬كانــت العائــدات يف مــر مســتمدة مــن ســيطرة‬
‫الدولــة عــى رصف املســاعدات الخارجيــة وعائــدات قنــاة الســويس‪ ،‬واألهــم مــن ذلــك‬
‫تخصيــص األرايض‪ .‬شــغل التــوزع الســكاين ‪ %4‬فقــط مــن مســاحة البــاد‪ ،‬مــع تصنيــف‬
‫الباقــي عــى أنهــا أراض عامــة مــا ســمح للنظــام بتخصيــص األرايض ملطــوري العقــارات‬
‫املختاريــن أو أقطــاب الفنــادق أو أصحــاب العقــارات بــأي ســعر وبــأي ظــروف يختارونهــا‪.‬‬
‫اســتغل رجــال األعــال املرتبطــن سياسـ ًـيا هــذه الفرصــة أميــا اســتغالل‪ :‬فابتــدا ًء مــن‬
‫تســعينيات القــرن املــايض‪ ،‬انتــرت حــول العاصمــة مجمعــات ســكنية مس ـ َّورة يف شــكل‬
‫ضواحــي عــى الطــراز األمريــي‪ ،‬وامتــدت منتجعــات العطــات عــى طــول ســواحل البحــر‬
‫األبيــض املتوســط​​والبحــر األحمــر‪ ،‬وأصبحــت املضاربــة العقاريــة هــي االســتثامر األكــر‬
‫رب ًحــا يف البلــد‪ .‬بحلــول عــام ‪ ،2002‬حــل القطــاع العقــاري محــل الزراعــي كثالــث أكــر‬
‫قطــاع اســتثامر غــر نفطــي متقد ًمــا عــى التصنيــع‪ .‬وبــداًلً مــن توليــد طفــرة يف التصديــر‪،‬‬
‫ولّــد التحريــر االقتصــادي طفــرة يف البنــاء‪ ،‬وبــدأت مــر بنــاء املشــاريع عــى أرضهــا‬
‫(((‬
‫الصالحــة للزراعــة بينــا اضطــر شــعبها الســترياد احتياجاتــه الغذائيــة مــن الخــارج‪.‬‬
‫مثــة جانــب مقلــق آخــر يف حلقــة اإلصــاح االقتصــادي هــذه برمتهــا يتعلــق باألســاس‬
‫املنطقــي لربنامــج الخصخصــة‪ .‬يؤكــد الحســاب التقليــدي أن مــر مل تعــد قــادرة‬
‫عــى تغطيــة خســائرها الناتجــة عــن فشــل القطــاع العــام‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬عشــية برنامــج‬
‫صنــدوق النقــد الــدويل‪ ،‬كانــت ‪ 260‬رشكــة مــن أصــل ‪ 314‬رشكــة مملوكــة للدولــة‬
‫تحقــق أرباحــا مقابــل ‪ 54‬رشكــة فقــط تعــاين مــن الخســائر‪ ،‬بينــا تتعــادل البقيــة‪.‬‬
‫عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬جلبــت الــركات الرابحــة (التــي تحقــق صــايف ربــح ســنوي قــدره‬

‫‪1- Timothy Mitchell, "Dreamland", 29, 274–81.‬‬

‫‪303‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫‪ 550‬مليــون دوالر) أمــوااًلً أكــر مــن الخســائر (‪ 110‬مليــون دوالر فقــط كل عــام)‪.‬‬
‫شــكلت البنــوك األربعــة الكبــرة اململوكــة للقطــاع العــام مصــدر القلــق الحقيقــي‪ ،‬حيــث‬
‫أن أكــر مــن ‪ %30‬مــن قروضهــا تتعــر‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬بــرزت املشــكلة مــع هــذه البنــوك‬
‫يف توجيههــا األمــوال العامــة مــن خــال الــركات التابعــة لهــا يف القطــاع الخــاص إىل‬
‫مجموعــة صغــرة مــن رجــال األعــال املرتبطــن بالدولــة‪ .‬ورغــم تخلــف هــؤالء عــن ســداد‬
‫أيضــا عــى املزيــد مــن القــروض بفضــل عالقاتهــم السياســية‪ ،‬مــا‬‫قروضهــم فقــد حصلــوا ً‬
‫أدى إىل تأخــر اإلجــراءات القانونيــة ضدهــم وفــرار بعضهــم مــن البــاد قبل توجيــه التهم‬
‫لهــم‪ (((.‬احتفظــت البنــوك العامــة بنســبة ‪ %60‬مــن إجــايل الودائــع وقدمــت ‪ %50‬مــن‬
‫القــروض‪ .‬وبحلــول أواخــر التســعينيات‪ ،‬تلقــى مثانيــة وعــرون عميـ ًـا مدعو ًمــا سياسـ ًـيا‬
‫‪ %13‬مــن إجــايل االئتــان العــام املقــدم للقطــاع الخــاص‪ ،‬مبتوســط​​قــدره مليــار جنيــه‬
‫مــري لــكل منهــم‪ ،‬وقُــدم أكــر مــن ‪ ٪53‬مــن هــذه القــروض بــدون ضامنــات كافيــة‪.‬‬
‫بحلــول عــام ‪ ،2002‬كان اثنــا عــر مدي ًنــا فقــط قــد امتلكــوا ‪ %18‬مــن القــروض املتعــرة‬
‫يف القطــاع املــريف العــام‪ (((.‬لكــن الحكومــة‪ -‬كــا هــو متوقــع‪ -‬اســتخدمت ‪ %40‬مــن‬
‫عائداتهــا مــن الخصخصــة (‪ 1.5‬مليــار دوالر بحلــول عــام ‪ )1997‬لســداد الديــون املعدومــة‬
‫ألصدقائهــا مــن رجــال األعــال‪ ،‬بــداًلً مــن تقديــم خدمــات الرعايــة االجتامعيــة كــا‬
‫وعــدت‪ .‬وبالتــايل مل تكــن للصعوبــات املاليــة التــي واجهتهــا مــر عالقــة بالقطــاع العــام‬
‫الفاشــل بقــدر مــا كانــت مرتبطــة بالوضــع الــذي ُربطــت فيــه األمــوال العامــة مبشــاريع‬
‫رجــال األعــال املدعومــن سياسـ ًـيا‪ .‬إذًا مــن اإلنصــاف أن نســتنتج مــع َعالِــمِ السياســة‬
‫تيمــويث ميتشــل "أن برنامــج اإلصــاح مل يُخــرج الدولــة مــن الســوق ومل يُل ـغِ اإلعانــات‬
‫العامــة املرسفــة‪ .‬إمنــا تركــز تأثــره الرئيــي عــى جمــع األمــوال العامــة يف يــد فئــات‬
‫محــدودة‪ .‬لقــد ح َّولَــت الدولــة املــوارد بعيــ ًدا عــن الزراعــة والصناعــة‪ .‬وبــدأت تدعــم‬
‫الرأســاليني بــداًلً مــن املصانــع‪ ،‬وقامئــن اإلســمنت بــداًلً مــن املخابــز‪ ،‬واملضاربــن بــداًلً‬
‫(((‬
‫مــن املــدارس"‪.‬‬

‫‪1- Mitchell, Rule of Experts, 276–82.‬‬


‫‪2- Amr Ismail Adly, "Politically-Embedded Cronyism: The Case of Post- Liberalization Egypt" ,‬‬
‫‪Business and Politics 11 (4), 11–12.‬‬
‫‪3- Mitchell, Rule of Experts, 276–82.‬‬

‫‪304‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫را‪ ،‬ونتيجــة لتعميــق مشــاركة القطــاع الخــاص يف االقتصــاد‪ ،‬بــات اقتصــاد مــر‬ ‫أخــ ً‬
‫أكــر عرضــة للرأســالية العامليــة ال ســيام بالنظــر إىل أن الــركات املرصيــة خــال‬
‫التســعينيات اســتوردت أكــر مــن ‪ %70‬مــن مدخــات إنتاجهــا وصــدرت أقــل مــن ‪%44‬‬
‫مــن منتجاتهــا‪ .‬إثــر هيمنــة املكــون األجنبــي يف الصناعــات املحليــة والتــي شــملت يف‬
‫معظــم الحــاالت إعــادة التجميــع املحــي للمنتجــات املصنعــة يف الخــارج‪ ،‬باتــت إمكانيــة‬
‫ظهــور طبقــة رأســالية صناعيــة قابلــة للحيــاة أمـ ًرا مســتبع ًدا مــن مســرة إعــادة الهيكلــة‬
‫يف التســعينيات‪ .‬وبالتــايل‪ ،‬باتــت هــذه الطبقــة الجديــدة مــن حيــث الســات واملصالــح‬
‫(((‬
‫مجــرد امتــداد للطبقــة القدميــة‪" :‬تجــار الســبعينيات صــاروا رأســايل التســعينيات"‪.‬‬
‫لكــن االختــاف الرئيــي هــو أن املجموعــة األخــرة مل تعــد راضيــة عــن العيــش يف ظــل‬
‫الســلطة‪ ،‬فمــع الكثــر مــن رأس املــال املرتاكــم حــان الوقــت بالنســبة لهــم لدخــول عــامل‬
‫السياســة‪ .‬ألول مــرة منــذ عــام ‪ ،1952‬بــدأت مقاليــد القيــادة السياســية تنزلــق يف أيــدي‬
‫الطبقــة االقتصاديــة الحاكمــة‪.‬‬

‫تبديل الحرس‬
‫من هم هؤالء الرأسامليون الجدد؟‬
‫يف بدايــة األلفيــة الجديــدة‪ ،‬وقــع االقتصــاد املــري تحــت ســيطرة أقــل مــن عرشيــن‬
‫تكتـ ًـا عائليًــا‪ ،‬وجمــع بــن مؤســي هــذه العائــات الكثــر مــن القواســم املشــركة‪ :‬عمــل‬
‫معظمهــم يف مجــال البنــاء؛ بــدأت أعاملهــم التجاريــة مــن خــال عقــود حكوميــة؛ قامــوا‬
‫بســحب األمــوال بحريــة مــن البنــوك العامــة؛ دخلــوا يف رشاكــة مــع مســتثمرين أجانــب‬
‫(خاصــة األمريكيــن)؛ اســتخدموا قــوة عاملــة صغــرة نســبيًا (مبتوســط ‪ 3‬آالف عامــل)؛‬
‫وتلبــي منتجاتهــم احتياجــات األثريــاء‪ .‬مــن املؤكــد أن هــذا الجــزء الطبقــي ال ميثــل‬
‫الربجوازيــة املرصيــة برمتهــا‪ ،‬لكنــه شــكل الجــزء الــذي يكســب منــه بقيــة أعضــاء الطبقــة‬
‫والــذي مل يكــن لــدى أي منهــم أي أمــل يف منافســته أو إزاحتــه‪ .‬تحــت هــذه املجموعــة‬
‫املحــدودة مــن رجــال األعــال فاحــي الــراء الذيــن ترعاهــم الدولــة‪ ،‬متتــع ‪ %5‬آخريــن‬
‫مــن املرصيــن بــراء متواضــع‪ ،‬وقُســم مــن تبقــى مــن املجتمــع بدقــة بــن الفقــراء نســبيًا‬
‫و‪ %50‬يعيشــون تحــت خــط الفقــر (أقــل مــن دوالريــن يف اليــوم)‪ .‬ضمــت املجموعــة‬
‫‪ -1‬عبد املعطي‪ ،‬الطبقات االجتامعية ومستقبل مرص‪ ،‬ص ‪ ،176-160‬ص ‪.195‬‬

‫‪305‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫األخــرة قرابــة عــرة ماليــن مــري يعيشــون يف أحيــاء عشــوائية مــن األكــواخ مبنيــة‬
‫يف ضواحــي العاصمــة وصفهــا عــامل اجتــاع مــري بأنهــا "أحيــاء فقــرة بــا مــدارس أو‬
‫مستشــفيات أو نــوا ٍد أو شــبكات رصف صحــي أو مواصــات عامــة أو حتــى مراكــز رشطــة‪،‬‬
‫(((‬
‫والتــي أصبحــت عاملًــا مليئًــا بالعنــف والرذيلــة"‪.‬‬
‫رغــم هــذا الخلــل االجتامعــي واالقتصــادي املحبــط‪ ،‬بــدأ الرأســاليون الجــدد ينافســون‬
‫عــى كســب املزيــد من الســلطة السياســية‪ .‬علم مبــارك جي ًدا أن اســتقرار نظــام ‪ 1952‬يقوم‬
‫عــى صيغــة مبادلــة الحقــوق االجتامعيــة بأخــرى سياســية‪ .‬وف ًقــا لهــذا العقــد االجتامعــي‬
‫غــر املكتــوب‪ ،‬وفــرت الدولــة ملواطنيهــا فــرص العمــل والتعليــم والرعايــة الصحيــة والســلع‬
‫والخدمــات املدعومــة مقابــل تنازلهــم عــن حقهــم يف املشــاركة يف السياســة‪ .‬لكنــه أدرك‬
‫أيضــا أن هــذا الرتتيــب يتطلــب دولة مورسة باســتمرار‪ .‬وفــرت األرايض املحجــوزة واألصول‬ ‫ً‬
‫املاليــة والــركات املؤممــة واملســاعدات الســوفيتية الرخيصــة حتــى عــام ‪1971‬عائــدات‬
‫كافيــة للدولــة للقيــام بهــذا الــدور‪ .‬واعتقــد عبــد النــارص أن التصنيــع الــذي تقــوده‬
‫الدولــة ســيحقق عوائــد كافيــة ملواصلــة سياســات الرفاهيــة قبــل أن تجــف هــذه املــوارد‪.‬‬
‫لكــن رشاكــة الســادات مــع الواليــات املتحــدة حلــت محــل املســاعدة الســوفيتية الرخيصــة‬
‫مبســاعدات أمريكيــة مرشوطــة وباهظــة التكلفــة‪ .‬ومل تكتـ ِ‬
‫ـف سياســة البــاب املفتــوح بتبديــد‬
‫ثــروة الدولــة يف القطاعــات غــر الصناعيــة فحســب‪ ،‬بــل جعلــت الدولــة مدينــة للحكومــات‬
‫األجنبيــة‪ .‬واألهــم مــن ذلــك أن الرشاكــة بــن قطاعــي األعــال والسياســة‪ ،‬التــي شــجعها‬
‫الســادات بنشــاط‪ ،‬ســمحت للرأســاليني الصاعديــن بتثبيــت أنفســهم يف البريوقراطيــة‬
‫والحــزب الحاكــم‪ ،‬ليبــدأوا يف التحكــم بالدولــة مــن أعــى‪ .‬ويف نهايــة املطــاف‪ ،‬دفــع‬
‫تدهــور الوضــع املــايل يف مــر والضغــط املســتمر مــن املراكــز الرأســالية العامليــة‬
‫مبــارك لتفكيــك آخــر بقايــا القــوة االقتصاديــة للدولــة (الدعــم الحكومــي والقطــاع العــام)‬
‫واالعتــاد أكــر فأكــر عــى املســتثمرين مــن القطــاع الخــاص‪.‬‬

‫‪1- Saad Eddin Ibrahim, Egypt, Islam, and Democracy, Cairo: American University in Cairo‬‬
‫‪Press, 1996, 39–41; Diane Singerman, "The Networked World of Islamist Social Movements",‬‬
‫‪in Islamic Activism: A‬‬
‫‪Social Movement Theory Approach, ed. Q. Wiktorowicz, 143–63. Bloomington: Indiana‬‬
‫‪University Press, 2004, 161.‬‬

‫‪306‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫ومــع ذلــك‪ ،‬كانــت هــذه الطبقــة الجديــدة هــي األخطــر سياسـ ًـيا مــن بــن كل مجموعــات‬
‫النخبــة االقتصاديــة يف حقبــة مــا بعــد ‪ 1952‬ألنهــا الوحيــدة التــي جمعــت بــن التحالــف‬
‫مــع املراكــز الرأســالية العامليــة وبــن التحالــف مــع حــكام الدولــة وموظفيهــا‪ .‬كــا أنهــم‬
‫كانــوا منظمــن متعطشــن‪ .‬فقــد أنشــأوا يف التســعينيات لجنــة مشــركة بــن جمعيــة‬
‫رجــال األعــال املرصيــن ومنصتهــم الرســمية منــذ عــام ‪ 1979‬ومجلــس الــوزراء‪ .‬كان‬
‫الهــدف املعلــن لهــذه اللجنــة "تقديــم املشــورة" للــوزراء قبــل اعتــاد السياســات واللوائــح‬
‫االقتصاديــة‪ .‬بعــد ذلــك تســللوا إىل الهيئــات االقتصاديــة التــي تديرهــا الدولــة مثــل غرفتــي‬
‫التجــارة والصناعــة ليكونــوا قادريــن عــى تكويــن املزيــد مــن روابــط القــوة املتبادلــة بــن‬
‫(((‬
‫هــذه الجمعيــات والحكومــة‪ ،‬واســتخدامها لتعزيــز مصالحهــم التجاريــة‪.‬‬
‫لكــن رسعــان مــا ثبــت أن تكتيــكات الضغــط هــذه غــر كافيــة‪ ،‬فقــد بــرزت الحاجــة‬
‫إىل إســراتيجية أكــر جــرأة‪ .‬لــذا قــرروا االلتفــاف حــول مــريف اســتثامري شــاب بــدأ‬
‫حياتــه املهنيــة يف "بنــك أوف أمــركا" وعمــل يف لنــدن لفــرة قبــل أن يعــود إىل القاهــرة‬
‫يف عــام ‪ .1995‬متتــع هــذا الشــاب بصفتــن مغريتــن‪ :‬الطمــوح الســيايس‪ ،‬وأنــه نجــل‬
‫الرئيــس‪ .‬يف عــام ‪ ،2000‬أســس جــال مبــارك وأصدقــاؤه املقربــون الجــدد جمعيــة "جيــل‬
‫املســتقبل"‪ ،‬وهــي جمعيــة أهليــة تهــدف إىل تعزيــز صــورة جــال كقائــد للشــباب يف مــر‪.‬‬
‫ورئيســا للجنــة‬
‫ـن مبــارك نجلــه يف األمانــة العامــة للحــزب الوطنــي ً‬ ‫يف نفــس العــام عـ َّ‬
‫الشــباب والتنميــة‪.‬‬
‫يف عــام ‪ ،2002‬أنشــأ جــال وتــرأس هيئــة سياســية جديــدة داخــل الحــزب أســاها "لجنــة‬
‫السياســات"‪ ،‬والتــي رسعــان مــا أصبحــت القلــب النابــض للحــزب الحاكــم وتجســي ًدا لـــ‬
‫"التفكــر الجديــد"‪ -‬شــعار مؤمتــر الحــزب الوطنــي الدميقراطــي لعــام ‪ .2002‬كانــت‬
‫"لجنــة السياســات" يف األســاس عبــارة عــن بلــورة للرأســاليني واملثقفــن الليرباليــن‬
‫الجــدد‪ ،‬وأصبــح جــال نفســه "رم ـ ًزا ملــا أحدثتــه املباركيــة‪ ..‬التحــرر االقتصــادي يف ظــل‬
‫غيــاب التحــرر الســيايس واملحســوبية املتزايــدة"‪ (((.‬لكــن املرصيــن منــذ البدايــة أشــاروا‬

‫‪1- Robert Bianchi, "Interest Groups and Politics in Mubarak’s Egypt", in The Political Economy‬‬
‫‪of Contemporary Egypt, ed. Ibrahim M. Oweiss, 210- 221, Washington, DC: Center for‬‬
‫‪Contemporary Arab Studies, Georgetown University, 1990, 215.‬‬
‫‪2- Shatz, "Mubarak’s Last Breath", 9–10.‬‬

‫‪307‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫إىل اللجنــة بســخرية عــى أنهــا "حكومــة جــال"‪ ،‬لكنهــم مــع ذلــك مل يعلمــوا أن أعضاءهــا‬
‫قريبــا أول "حكومــة لرجــال األعــال" يف البــاد‪.‬‬
‫سيش ـكِّلون ً‬
‫يف صبــاح يــوم ‪ 14‬يوليــو ‪ ،2004‬اســتيقظ املرصيــون املطمئنــون عــى نبــأ تكليــف‬
‫مهنــدس الحاســب أحمــد نظيــف بتشــكيل حكومــة مختــارة بعنايــة مــع رأســايل جــال‬
‫والنيوليرباليــن‪ .‬وضــم مجلــس الــوزراء ســتة مــن الرأســاليني االحتكاريــن الذيــن‬
‫كُلفــوا بــوزارات مرتبطــة مبــارشة بحقائبهــم التجاريــة‪ ،‬باإلضافــة إىل عــدد مــن املثقفــن‬
‫النيوليرباليــن البارزيــن‪ .‬وعــى ســبيل املثــال ال الحــر‪ُ ،‬عــن أحمــد املغــريب صاحــب‬
‫مجموعــة "فنــادق أكــور" الســياحية وزيــ ًرا للســياحة‪ ،‬وبعدهــا بعــام وزيــ ًرا لإلســكان‬
‫والبنــاء‪ .‬و ُعــن رئيــس منطقــة الــرق األوســط وشــال أفريقيــا التابعــة لرشكــة "يونيليفــر"‬
‫ِّــف رئيــس‬
‫متعــددة الجنســيات رشــيد محمــد رشــيد وزيــ ًرا للصناعــة والتجــارة‪ .‬كــا ُكل َ‬
‫أيضــا‬
‫مجلــس إدارة "مجموعــة املنصــور للســيارات" محمــد منصــور بــوزارة النقــل (كان ً‬
‫ورئيســا لغرفــة التجــارة األمريكيــة يف مــر‬ ‫أمي ًنــا عا ًمــا ملؤسســة جــال لجيــل املســتقبل‪ً ،‬‬
‫بــن عامــي ‪ 1999‬و‪ .)2003‬و ُعهِــ َد إىل الخبــر االقتصــادي يف صنــدوق النقــد الــدويل‬
‫يوســف بطــرس غــايل بــوزارة املاليــة‪ .‬وتــوىل األســتاذ بجامعــة القاهــرة محمــود محــي‬
‫الديــن وزارة االســتثامر‪ ،‬وقــد انتُخــب الح ًقــا مديـ ًرا تنفيذيًــا للبنــك الــدويل‪ .‬وجميــع هــؤالء‬
‫بالطبــع أعضــاء يف "لجنــة السياســات"‪.‬‬
‫مل تكــن الســيطرة عــى مجلــس الــوزراء ســوى الخطــوة األوىل‪ ،‬تبعتهــا "برجوازيــة" كاملــة‬
‫لقيــادة الحــزب الحاكــم بأكملــه‪ .‬ضاعــف رجــال األعــال بالحــزب الوطنــي الدميقراطــي‬
‫نصيبهــم مــن مقاعــد الربملــان بأكــر مــن الضعــف‪ ،‬فحصلــوا عــام ‪ 2000‬عــى ‪ 77‬مقعــد‬
‫مقارنــة بـــ ‪ 37‬يف عــام ‪ ،1995‬أي مــن ‪ %8‬إىل ‪ %17‬مــن مقاعــد الربملــان‪ (((.‬اســتطاع‬
‫هــؤالء تعزيــز نفوذهــم يف الربملــان بعــد ســيطرتهم عــى اللجــان الربملانيــة الرئيســية‪،‬‬
‫وأهمهــا لجنــة التخطيــط وامليزانيــة التــي ترأســها قطــب الحديــد والصلــب أحمــد عــز‪،‬‬
‫معلــم جــال وأقــرب رشيــك لــه‪ .‬وقــد أصبــح عــز منــذ العــام ‪ 2005‬زعيــم األكرثيــة يف‬
‫الربملــان‪ .‬يقــول رئيــس مجلــس النــواب فتحــي رسور‪" :‬حــن كنــا نصــوت‪ ،‬إذا رفــع أحمــد‬
‫عــز يــده باملوافقــة يوافــق ممثلــو حــزب األكرثيــة‪ ،‬وإذا مل يرفــع يــده يرفضــون‪ ...‬لقــد‬

‫‪ -1‬محمد أبو رضا‪ ،‬البنية السياسية واالجتامعية ملجلس العام ‪ ،2000‬الدميقراطية‪ ،‬ص ‪.81-1‬‬

‫‪308‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫اعتقــد أعضــاء الحــزب الوطنــي أنــه ميتلــك الســلطة يف ترشــيحهم لالنتخابــات الربملانيــة‬
‫مــن قبــل الحــزب‪ ...‬وكانــت تربطــه عالقــة قويــة بجــال مبــارك"‪ (((.‬يف عــام ‪ ،2006‬أصبــح‬
‫جــال نفســه األمــن العــام املســاعد للحــزب الوطنــي الدميقراطــي‪.‬‬
‫شــكلت الســيطرة عــى جامعــات الضغــط التجاريــة ومجلــس الــوزراء والحــزب الحاكــم‬
‫والربملــان خطــوات مهمــة‪ ،‬لكن ماذا عن الرئاســة؟ بــدأت نخبة رجال األعــال الجديدة اآلن‬
‫يف دفــع جــال إىل املنصــب التنفيــذي األعىل (الرئاســة)‪ ،‬بذريعة إســناد الرئاســة لشــخصية‬
‫مدنيــة بعــد أن ظلــت حك ـ ًرا عــى الضبــاط الســابقني منــذ عــام ‪ .1952‬وبــدأوا ميهــدون‬
‫الطريــق لتعديــات دســتورية أُعلن عنها يف عامــي ‪ 2005‬و‪ ،2007‬وضعت رشوطًا النتخابات‬
‫رئاســية عــى مقــاس جــال وحــده‪ ،‬وألغــت اإلرشاف القضــايئ عــى عمليــة التصويــت‪.‬‬
‫وهكــذا بــدأت الحملــة املشــؤومة لتعزيــز رشعيــة جــال مبــارك الشــاب‪ ،‬والتــي بلغــت ذروة‬
‫الســخافة حــن ق َّدمــه صديقــه عــز أمــام مؤمتــر الحــزب الوطنــي الدميقراطــي األخــر‬
‫يف عــام ‪ 2010‬باســم "جــال قائــد ثــورة التحديــث"‪ ،‬لكــن حــرس الحــزب القديــم قــاوم‬
‫هــذا التوجــه‪ .‬بعــد ثــورة ‪ ،2011‬تحــدث فتحــي رسور املــوايل للنظــام مــع املراســلني عــن‬
‫إحباطــه فقــال‪" :‬كان دخــول رجــال األعــال إىل مجلــس الــوزراء خطـأً كب ً‬
‫ريا‪ ،‬ال ســيام أنهم‬
‫كُلفــوا باملجــاالت التــي تخصصــوا فيهــا مــا تســبب يف تناقــض بــن مصالــح القطاعــن‬
‫العــام والخــاص‪ .‬وقلــت هــذا للحــزب أكــر مــن مــرة لكــن أحـ ًدا مل يســتمع إيل"‪ (((.‬رمبــا‬
‫ألقــى الكثــرون باللــوم يف هــذه التغيــرات عــى األب الرئيــس حســني مبــارك‪ ،‬الــذي أراد‬
‫توريــث الحكــم البنــه (مــع إرصار األم عــى حــد وصــف البعــض)‪ .‬لكــن عــد ًدا من األســباب‬
‫املوضوعيــة تفــر ســبب اعتــاد الجهــاز الســيايس بشــكل متزايــد عــى أصدقــاء جــال‬
‫مــن الرأســاليني االحتكاريــن‪ ،‬وأهمهــا فائــض الــراء املــايل والدعــم الجيوســيايس‪.‬‬
‫بــن عامــي ‪ 1992‬و‪ ،2002‬ارتفــع الديــن املحــي مــن ‪ 67‬إىل ‪ %90‬مــن الناتــج املحــي‬
‫اإلجــايل‪ ،‬واعتمــدت الدولــة يف تســيري أعاملهــا عــى الديــون‪ .‬ومبــا أن الحــزب الحاكــم‬
‫أيضــا يعمــل اعتــا ًدا عــى الديــون‪ .‬ولكــن مــن هــم‬
‫يعيــش عــى مــوارد الدولــة فإنــه كان ً‬
‫الدائنــون؟ يقــع نصــف الديــن عــى بنــوك القطــاع العــام التــي مل يكــن لديهــا خيــار ســوى‬

‫‪ -1‬مقابلة فتحي رسور مع محمود مسلم‪ ،‬املرصي اليوم واجهت فتحي رسور‪ ،‬الحلقة األوىل‪.7 ،‬‬
‫‪ -2‬املصدر السابق‪ ،‬الحلقة األخرية‪.9 ،‬‬

‫‪309‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫طاعــة الحــكام‪ ،‬حتــى عندمــا تجــاوزوا الودائــع العاديــة وانخرطــوا يف مجموعــة صناديــق‬
‫التقاعــد والضــان االجتامعــي‪ .‬أمــا املصــدر الثــاين فهــو أذون الخزانــة‪ ،‬رغــم أن جمــع‬
‫األمــوال عــر هــذه الطريقــة ُمر ِهــق ويســتهلك الوقــت‪ .‬لــذا‪ ،‬كان االعتــاد عــى كــرم‬
‫الرأســاليني املوالــن للنظــام الطريقــة املتاحــة األســهل واألرسع إلبقــاء الجهــاز الســيايس‬
‫قــاد ًرا عــى الوفــاء بديونــه‪ (((.‬فقامــوا بدايــة بتوجيــه األمــوال مــن خــال صفقــات تجاريــة‬
‫ملتويــة‪ ،‬يؤ ّمــن خاللهــا املســتثمر عقـ ًدا أو قطعــة أرض ليحصــل الســيايس يف املقابــل عــى‬
‫عمولــة‪ .‬كــا ســددت التربعــات واألعــال الخرييــة جــز ًءا مــن الفاتــورة‪ .‬ولكــن حــن بــدأ‬
‫الرأســاليون االحتكاريــون يف تــويل مســؤولية الحــزب الحاكــم والحكومــة أخــذوا عــى‬
‫أيضــا‪ .‬فقامــوا بتمويــل اتفاقيــات الحــزب‪ ،‬وأطلقــوا حمــات‬ ‫عاتقهــم املســؤوليات املاليــة ً‬
‫إعالميــة حكوميــة‪ ،‬ودفعــوا رشــاوي للتضييــق عــى املعارضــة‪ ،‬واشــروا أصواتًــا ونظمــوا‬
‫مظاهــرات مؤيــدة للنظــام‪ ،‬وهل ـ َّم ج ـ ًّرا‪ .‬وازداد االعتــاد عــى كــرم الرأســاليني بشــكل‬
‫منهجــي‪ ،‬ليكشـ َـف عجـ ُز ميزانيــة الدولــة بنســبة ‪ %27‬يف عــام ‪ ،2011‬والــذي يقــدر بنحــو‬
‫(((‬
‫‪ 140‬مليــار جنيــه‪ ،‬أن النظــام يغــرق أكــر فأكــر يف الديــون‪.‬‬
‫ومــن خــال رشاكاتهــم التجاريــة مــع مســتثمرين عامليــن‪ ،‬أكــد أصدقــاء جــال للنظــام‬
‫أنــه مــع الضغــط الرســمي إلضفــاء الطابــع الدميقراطــي عــى الحيــاة السياســية فــإن‬
‫الدعــم الغــريب لــن يتوقــف‪ .‬لعــب رجــال األعــال دور الجــر مــع النظــام الرأســايل‬
‫العاملــي إلبقــاء أســواقهم مرتبطــة مبراكــز االســتثامر العامليــة‪ ،‬وهــو دور أداه الرأســاليون‬
‫املرصيــون بامتيــاز‪ .‬حتــى أنهــم رافقــوا مبــارك خــال زياراتــه الســنوية لواشــنطن‪ -‬أشــبه‬
‫بلــويب متنقــل‪ .‬خــال الســنوات الثــاث األوىل مــن حكومــة نظيــف‪ ،‬تضاعــف االســتثامر‬
‫األجنبــي يف مــر ثــاث مــرات‪ (((.‬بعــد ذلــك‪ ،‬أدى القــرار األمريــي يف عــام ‪2004‬‬
‫بتخصيــص مســاعدات الوكالــة األمريكيــة للتنميــة الدوليــة للقطــاع الخــاص بــداًلً مــن‬
‫الحكومــة إىل تعزيــز ثقلهــم الســيايس‪.‬‬
‫كان مــن الطبيعــي بعــد ذلــك أن يطلــب الرأســاليون الجــدد يف مــر أكــر مــا ســبق‬
‫إلبــرام صفقــات رديئــة مــع السياســيني‪ .‬أراد النظــام اآلن يف مقابــل الخدمــات القيمــة‬
‫‪ -1‬سليامن‪ ،‬النظام القوي والدولة الضعيفة‪ ،‬ص ‪ ،196-192‬ص ‪.218‬‬
‫‪ -2‬حازم الببالوي‪ ،‬أربعة أشهر يف قفص الحكومة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الرشوق‪ ،2012 ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪ -3‬جالل أمني‪ ،‬مرص واملرصيني يف عهد مبارك‪ ،‬القاهرة‪ ،2009 ،‬ص ‪.93‬‬

‫‪310‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫التــي قدمهــا إعــادة هيكلــة االقتصــاد مــن خــال املفاهيــم النيوليرباليــة‪ .‬مــع النظــام‬
‫تدريجيــا بــن عامــي ‪ 2002‬و‪ ،2010‬فُــرض ‪ %60‬مــن‬ ‫ً‬ ‫الرضيبــي الجديــد الــذي تحقــق‬
‫العــبء الرضيبــي عــى عمــوم الســكان مــن خــال الرضائــب والتعريفــات غــر املبــارشة‬
‫(مثــل رضيبــة املبيعــات) التــي ال متيــز بــن األغنيــاء والفقــراء‪ .‬يف الوقت نفســه‪ ،‬انخفضت‬
‫الرضائــب عــى عائــدات األعــال إىل النصــف‪ ،‬مــن ‪ 40‬إىل ‪ ،٪20‬وتســاهلت ســلطة جبايــة‬
‫الرضائــب متا ًمــا مــع التهــرب الرضيبــي مــا ســمح لرجــال األعــال‪ -‬إذا قُبــض عليهــم‪-‬‬
‫(((‬
‫بدفــع املبلــغ املســتحق عليهــم مــع غرامــة صغــرة دون دخــول الســجن‪.‬‬
‫بعدهــا يف عــام ‪ ،2009‬صاغــت الحكومــة رضيبــة العقــارات املشــؤومة‪ ،‬والتــي فرضــت‬
‫رضائــب عــى املســاكن الخاصــة للمواطنــن بغــض النظــر عــن ثرواتهــم أو مســتوى‬
‫دخلهــم‪ -‬وهــو قــرار مثــر للجــدل لدرجــة أن الرئيــس مبــارك نفســه تدخــل إليقافــه قبــل‬
‫أســابيع مــن دخولــه حيــز التنفيــذ‪ .‬مــن جانــب آخــر‪ ،‬بــرزت مشــكلة مســتويات األســعار‬
‫املتزايــدة باســتمرار‪ .‬ففــي ينايــر ‪ ،2003‬قامــت الحكومــة بتعويــم ســعر رصف العملــة مــا‬
‫تســبب يف تراجــع قيمــة الجنيــه املــري أمــام الــدوالر األمريــي بنســبة ‪ .%25‬بــررت‬
‫الحكومــة القــرار بالحاجــة إىل تحســن امليــزان التجــاري يف مــر‪ ،‬وبــداًلً مــن ذلــك‬
‫اســتمرت أنشــطة االســترياد بالوتــرة نفســها وارتفعــت أســعار الســلع والخدمــات املســتوردة‬
‫را‪ .‬ألول‬
‫را عــى املكونــات املســتوردة) كث ـ ً‬
‫(واملنتجــات املحليــة التــي تعتمــد اعتــا ًدا كب ـ ً‬
‫مــرة يف تاريخهــم الحديــث‪ ،‬عــاىن املرصيــون مــن اآلثــار الشــديدة للركــود التضخمــي‪.‬‬
‫وصــف ميتشــل‪ ،‬الــدارس املتعمــق لــكل مــن مــر والنيوليرباليــة‪ ،‬الســبب فقــال‪:‬‬
‫تضيــق‬
‫"الليرباليــة الجديــدة انتصــار للخيــال الســيايس‪ ،‬حيــث أن إنجازهــا مــزدوج‪ :‬ففيــا ّ‬
‫نافــذة النقــاش الســيايس‪ ،‬تجدهــا تطلــق الوعود مــن هذه النافــذة بآفاق ال حــدود لها‪ .‬فمن‬
‫ناحيــة‪ ،‬تؤطــر الليرباليــة الجديــدة املناقشــة العامــة املخت َزلــة لالقتصــاد التقليــدي‪ -‬الجديــد‬
‫وتُصـ ّور الرفاهيــة الجامعيــة للشــعب من حيــث كيفية تعديلها بشــكل إجاميل فقــط مع ضبط‬
‫امليزانيــات العامــة النقديــة واملاليــة‪ .‬ومــن ناحيــة أخــرى‪ ،‬تراهــا تُهمــل االهتاممــات الفعليــة‬
‫(((‬
‫ألي مجتمــع محــي أو جامعــي ملمــوس لتشــجع أكــر أحــام االدخــار الخــاص غــزارة"‪.‬‬

‫‪ -1‬سليامن‪ ،‬النظام القوي والدولة الضعيفة‪.217-207 ،‬‬


‫‪2- Mitchell, "Dreamland", 28.‬‬

‫‪311‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫منــذ اليــوم األول الــذي تحولــوا فيــه إىل سياســيني‪ ،‬أدار هــؤالء الرأســاليني ظهورهــم‬
‫ملشــاكل مــر االجتامعيــة الحــادة‪ :‬الفقــر‪ ،‬البطالــة‪ ،‬األميــة‪ ،‬تدهــور الخدمــات العامــة‪،‬‬
‫االزدحــام الحــري‪ ،‬مــدن الصفيــح‪ ،‬والتلــوث ومــا إىل ذلــك‪" .‬لقــد أدى خطــاب اإلدارة‬
‫والســامة املاليــة وقــوى الســوق إىل نــزع الطابــع الســيايس عــن هــذه القضايــا املعقــدة‪،‬‬
‫(((‬
‫وحـ َّول مســائل عــدم املســاواة االجتامعيــة والفقــر إىل قضايــا تتعلــق بالكفــاءة والرقابــة"‪.‬‬
‫بخــاف نظرائهــا الريفيــن امله َملــن يف الســبعينيات‪ ،‬مل تكــن النخبــة الرأســالية الجديــدة‬
‫أيضــا أكــر تطل ًُّبــا‪ .‬فقــد تطلَّــب توســع أعاملهــم مــن الدولــة‬
‫أكــر ثــرا ًء فحســب بــل كانــت ً‬
‫تحريــر االقتصــاد وخصخصــة املؤسســات العامــة وخفــض اإلعانــات للفقــراء والرضائــب‬
‫لألثريــاء‪ ،‬والســاح لهــم بســهولة الوصــول إىل املــوارد العامــة‪ .‬أيًــا كان الفائــض الــذي‬
‫قــد تســتخدمه الدولــة لتلبيــة االحتياجــات االجتامعيــة امللحــة‪ ،‬فقــد اقتلعــه الرأســاليون‬
‫املقربــون مــن جيــوب الحــزب الحاكــم‪ .‬بلــغ توتــر الجهــاز الســيايس حــده األقــى‪،‬‬
‫وتقلصــت مســاحة منــاورة الساســة التقليديــن إىل حــد كبــر‪.‬‬
‫طاغيــا وامتــد مــن الــرأس إىل الذيــل‪ .‬تــرددت‬
‫يف الوقــت نفســه‪ ،‬أصبــح مســتوى الفســاد ً‬
‫شــائعات عــن أن الرئيــس مبــارك وعائلتــه جمعــوا ثــروة تصــل إىل ســبعني مليــار دوالر‪،‬‬
‫و ُز ِعــ َم أن أربعــن مــن وزرائــه ورشكائــه املقربــن ال تقــل ثــروة أحدهــم عــن مليــار‬
‫دوالر‪ (((.‬وقـ َّدم الجهــاز املركــزي للمحاســبات بــن أكتوبــر ‪ 1999‬ويوليــو ‪ 2004‬ألــف تقريــر‬
‫يفصـ ُـل االنتهــاكات املختلفــة التــي ارتكبهــا مســؤولو الدولــة ورجــال األعــال املقربــون‪.‬‬‫ِّ‬
‫قـ َّدرت التقاريــر أن الفســاد املــايل كلَّــف االقتصــاد خــال تلــك الســنوات مئــة مليــار جنيــه‬
‫مــري‪ ،‬باإلضافــة إىل خمــس مليــارات جنيــه أُهــدرت يف غســيل األمــوال وخمســمئة‬
‫(((‬
‫مليــون جنيــه يف شــكل رشــاوي للموظفــن العموميــن‪.‬‬
‫بعــد ثــورة ‪ ،2011‬غمــرت عــرات قضايــا الفســاد مكتــب النائــب العــام‪ .‬ففــي األســابيع‬
‫التــي أعقبــت الثــورة‪ ،‬اعتُ ِقــل الرئيــس مبــارك وعائلتــه ومســاعدوه مــن بــن عــرات‬

‫‪1- Mitchell, Rule of Experts, 230.‬‬


‫‪2- Goldstone, "Understanding the Revolutions of 2011," 11; Philip Inman, "Mubarak Family‬‬
‫‪Fortune Could Reach $70bn, Say Experts: Egyptian President Has Cash in British and Swiss‬‬
‫‪Banks Plus UK and US Property", Guardian (2/4/2011), 1.‬‬
‫‪ -3‬غنيم‪ ،‬أزمة الدولة املرصية املعارصة‪ ،‬ص ‪.93‬‬

‫‪312‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫الــوزراء (مبــن فيهــم رئيــس الــوزراء)‪ ،‬ورؤســاء مجلــي النــواب والشــيوخ يف الربملــان‪،‬‬
‫ورمبــا أكــر مــن عرشيــن مــن رجــال األعــال (مبــن فيهــم أحمــد عــز)‪ ،‬أو أُصــدرت‬
‫مذكــرات توقيــف بحقهــم بتهمــة الفســاد املــايل وإســاءة اســتخدام املنصــب‪ .‬يســتحق‬
‫فهــرس كامــل للتهــم دراســة مســتقلة‪ ،‬لكــن بعــض األمثلــة قــد توضــح نــوع وحجــم الفســاد‬
‫خــال العقديــن األخرييــن مــن حكــم مبــارك‪.‬‬
‫مــن الجيــد البــدء بحالــة حســن ســامل كمثــال‪ ،‬الصديــق املفضــل للرئيــس مبــارك (ورمبــا‬
‫الوحيــد)‪ .‬بــدأ ســامل حياتــه املهنيــة كعنــر أمــن‪ ،‬قبــل أن يســتقيل عشــية وصــول مبــارك‬
‫إىل الســلطة ويتحــول إىل األعــال التجاريــة‪ .‬كان أول مــروع ناجــح لــه هــو مــروع‬
‫مشــرك مــع صهــر مبــارك وضابطــن ســابقني يف وكالــة املخابــرات املركزيــة األمريكيــة‪.‬‬
‫كلَّــف البنتاغــون الرشكــة األمريكيــة املرصيــة للنقــل والخدمــات‪ -‬التــي ُعرِفــت فيــا بعــد‬
‫باســم "‪ -"White Wings‬بنقــل األســلحة األمريكيــة إىل مــر ( ُعلــم فيــا بعــد أنهــا رشكــة‬
‫غــر قانونيــة‪ .‬ومنــذ ذلــك الحــن‪ ،‬أصبــح ســامل واحـ ًدا مــن أشــهر تجــار األســلحة الذيــن‬
‫شــاركوا يف مثــل هــذه العقــود البــارزة‪ ،‬مثــل إيــران كونــرا يف الثامنينيات‪ .‬كشــفت وســائل‬
‫اإلعــام األمريكيــة يف عــام ‪1987‬عــن املــروع برمتــه‪ ،‬ويف العــام التــايل تــم تباحــث‬
‫األمــر خــال جلســة اســتامع يف الربملــان املــري عقدهــا عضــو مجلــس الشــعب املعــارض‬
‫علــوي حافــظ وطالــت مــدة ســبع ســاعات‪ .‬ثــم تحــول ســامل إىل القطــاع الســياحي وبنــاء‬
‫وإدارة بعــض أفخــم املنتجعــات يف املــدن الســاحلية مثــل رشم الشــيخ‪.‬‬
‫يف عــام ‪ ،2000‬شــارك ســامل يف تأســيس رشكــة غــاز رشق املتوســط​​املرصيــة مــع رشيكــه‬
‫اإلرسائيــي ضابــط املوســاد الســابق يــويس ميــان‪ .‬زودت الرشكــة إرسائيــل بـــ ‪ %40‬مــن‬
‫احتياجاتهــا مــن الغــاز الطبيعــي بســعر مخفــض‪ ،‬يف وقــت كانــت فيــه مــر يف حاجــة‬
‫ماســة إىل الطاقــة واملــال‪ .‬ويف عــام ‪ ،2008‬بــاع ســامل ‪ %12‬مــن أســهمه إىل مســتثمرين‬
‫أمريكيــن اثنــن مقابــل ‪ 2.2‬مليــار دوالر‪ .‬خــال تلــك الفــرة‪ ،‬خــرت مــر ســبعمئة‬
‫وأربعــة عــر مليــون دوالر لبيعهــا غازهــا بثمــن بخــس‪ (((.‬أمــا ســامل الــذي قــدرت ثروتــه‬
‫بـــخمسة عــر مليــار دوالر فقــد هــرب إىل ديب بعــد خمســة أيــام مــن ثــورة ينايــر بحقيبــة‬
‫‪1- Salwa Samir, "Books Banned in the Mubarak Era," Egyptian Gazette 17207: 1. Cairo‬‬
‫‪(4/15/2011) Youssra Zahran, "Hussein Salem: The Fall of the Man of the Regime", in Al-Fajir‬‬
‫‪292:6, Cairo, 2/21/2011.‬‬

‫‪313‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫تحتــوي عــى خمســمئة مليــون دوالر نقـ ًدا‪ ،‬لكــن الســلطات اإلماراتيــة رفضــت الســاح لــه‬
‫بالدخــول بــكل هــذه النقــود وأعيــد إىل مــر‪ .‬بعــد فــرة وجيــزة‪ ،‬هــرب إىل فيلتــه الفخمــة‬
‫يف إســبانيا حيــث اعتقلــه اإلنرتبــول‪ ،‬لكــن األخــر رفــض تســليمه ألنــه‪ -‬كــا تبــن‪ -‬حصــل‬
‫(((‬
‫عــى الجنســية اإلســبانية وتخــى عــن جنســيته املرصيــة‪.‬‬
‫مثــال صــارخ آخــر هــو أحمــد عــز‪ ،‬ثالــث أغنــى رجــل يف مــر بــروة تزيــد عــن عــرة‬
‫نصــب نفســه كمهنــدس للنظــام الســيايس الجديــد‪ .‬امتلــك عــز عــام‬‫مليــارات دوالر‪ ،‬والــذي َّ‬
‫‪ 1996‬مصنعــن صغرييــن للصلــب والســراميك‪ ،‬وبحلــول عــام ‪ 2004‬احتكــر الصناعــة بعــد‬
‫تقريبــا وبــدون‬
‫ً‬ ‫االســتحواذ عــى أكــر رشكــة حديــد وصلــب مملوكــة للدولــة بشــكل مجــاين‬
‫مــزاد علنــي‪ .‬اســتمر ســخاء الدولــة‪ ،‬حيــث منحــت وزارة التجــارة والصناعــة لرشكــة عــز‬
‫مجانًــا تراخيــص بقيمــة ســتمئة وســتني مليــون جنيــه لبنــاء مصنعــن إضافيــن يف املنطقــة‬
‫الصناعيــة الحــرة يف الســويس‪ .‬يف ‪ 29‬مايــو و‪ 15‬ســبتمرب ‪ ،2004‬قــ َّدم رئيــس الجهــاز‬
‫املركــزي للمحاســبات جــودت امللــط تقريريــن مــن ‪ 278‬صفحــة إىل رئيــس مجلــس النــواب‬
‫حــول احتــكارات عــز غــر املرشوعــة‪ .‬كشــف هــذان التقريــران كيــف ســيطر عــز عــى‬
‫‪ %55.3‬مــن الســوق املحــي و‪ %72.3‬مــن صــادرات الحديــد املقــوى و‪ %47.9‬و‪ %83.2‬مــن‬
‫(((‬
‫صــادرات الحديــد املســطح‪.‬‬
‫اعــرف رئيــس الربملــان رسور أنــه حــن اقرتحــت الحكومــة ترشي ًعــا ملكافحــة االحتــكار‬
‫مــن شــأنه أن يصــادر ‪ %10‬مــن أربــاح املخالفــن‪ ،‬تدخــل عــز‪ -‬رئيــس لجنــة املوازنــة يف‬
‫الربملــان‪ -‬لوضــع حــد للغرامــة مببلــغ ثالمثئــة مليــون جنيــه‪" .‬اشــتكيت للرئيــس وقلــت لــه‬
‫أن هــذا األمــر ال ميكــن أن ميــر‪ ،‬فطلــب مــن صفــوت الرشيــف (األمــن العــام للحــزب‬
‫الوطنــي الدميقراطــي) حــل القضيــة‪ .‬جــاء الرشيــف إىل مكتبــي واســتدعى أحمــد عــز‬
‫لينقــل اعرتاضــات الرئيــس‪ ...‬ومــا أثــار دهشــتي متســك عــز مبوقفــه‪ ...‬واضطررنــا إىل‬
‫تقديــم تنــازالت‪ ...‬عندهــا أدركــت أن أحمــد عــز أقــوى مــن الرئيــس‪ ،‬وأنــه ميثــل قــوة‬
‫(((‬
‫خطــرة بإمكانهــا أن تتحــدى الرئيــس"‪.‬‬

‫‪ -1‬صفية منري‪ ،‬مليارات حسني سامل‪ ،‬الرشوق‪ ،‬ص ‪.868-863‬‬


‫‪ -2‬مقابلة امللط مع حمدي حامدة‪ ،‬أحاور جودت امللط رئيس الجهاز املركزي للمحاسبة‪ ،‬ص ‪.5‬‬
‫‪ -3‬مقابلة رسور مع مسلم‪ ،‬املرصي اليوم واجهت فتحي رسور‪ ،‬الحلقة الثانية‪ ،‬ص ‪.10‬‬

‫‪314‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫خصصــت الدولــة يف عهــد مبــارك ســبعة وســتني أل ًفــا ومئتــي كيلومــر مربــع (مســاحة‬
‫تعــادل مســاحة فلســطني ولبنــان والكويــت وقطــر والبحريــن مجتمعــة) بقيمــة مثامنئــة‬
‫مليــار جنيــه مــري للمســتثمرين املفضلــن‪ .‬باإلضافــة إىل ذلــك‪ ،‬كلَّــف التحويــل غــر‬
‫القانــوين لـــمئة وخمســة ومثانــن ألــف فــدان مــن األرايض الصالحــة للزراعة إىل مشــاريع‬
‫بنــاء االقتصــاد املــري يف العقــد املــايض مثانيــة وســبعني مليــار جنيــه‪ .‬يف األســابيع‬
‫التــي أعقبــت ثــورة ‪ ،2011‬نظــرت املحاكــم يف ‪ 123‬قضيــة تتعلــق بانتهــاكات القانــون ‪89‬‬
‫لعــام ‪ 1994‬الــذي يقــي بتخصيــص أراض عامــة ملــن يدفــع أعــى ســعر‪ .‬عينــة صغــرة‬
‫تكفــي للتوضيــح‪ :‬اســتحوذت رشكــة عــز عــى ‪ 21‬مليــون مــر مربــع بســعر أربعــة جنيهــات‬
‫مرصيــة للمــر يف املنطقــة الصناعيــة عــى خليــج الســويس‪ ،‬فقــط إلعــادة بيعهــا لــركات‬
‫أجنبيــة مقابــل ألــف جنيــه مــري للمــر خــال عامــن‪.‬‬
‫يف وقــت الحــق‪ ،‬خصــص وزيــر الســياحة زهــر جرانــة قطــع أرايض يف بعــض أفضــل‬
‫املواقــع الســياحية بأســعار أقــل بكثــر مــن أســعار الســوق‪ ،‬مــا كلــف الدولــة أكــر مــن‬
‫مليــاري جنيــه يف عــام ‪ 2006‬وحــده‪ .‬وخصــص وزيــر اإلســكان والتعمــر أحمــد املغــريب‬
‫بــن ينايــر ‪ 2006‬وديســمرب ‪ 2008‬أكــر مــن ‪ 27.2‬مليــون مــر مربــع لثــاث عــرة رشكــة‬
‫تســيطر فيهــا رشكــة "بــامل هيلــز" اململوكــة لعائلتــه عــى مــا مقــداره ‪ %49‬و‪ %100‬مــن‬
‫هــذه الــركات‪ .‬يف "بــامل هيلــز" نفســها‪ ،‬ارتفــع رصيــد نجــل مبــارك األصغــر عــام ‪2009‬‬
‫مبقــدار ‪ 16‬مليــون جنيــه إســرليني‪ ،‬وذلــك نتيجــة الرتفــاع قيمــة األرض التــي اســتحوذت‬
‫عليهــا الرشكــة‪ .‬أهــدى وزيــر الزراعــة أمــن أباظــة ‪ 11556‬فدانًــا يف ســيناء مجانًــا ألحــد‬
‫رجــال األعــال‪ ،‬ثــم بــاع مثانيــة آالف فــدان مــن تلــك املســاحات للمســتثمرين األجانــب‬
‫مقابــل ثالمثئــة وخمســن مليــون جنيــه‪.‬‬
‫اســتحوذت الــركات اململوكــة ألبنــاء الرئيــس وأصهــاره عــى مســاحات شاســعة مــن‬
‫األرايض الزراعيــة عــى طريــق القاهــرة‪ -‬اإلســكندرية الصحــراوي بســعر زهيــد يبعــث عــى‬
‫الســخرية‪ ،‬بلــغ مئتــي جنيــه مــري للفــدان‪ ،‬لبنــاء مجمعــات فخمــة مــن مئــات الفيــات‬
‫مباليــن الــدوالرات‪ .‬بــاع وزيــر اإلســكان والبنــاء الســابق إبراهيــم ســليامن أربعــن ألــف‬
‫مــر مربــع مــن األرايض املطلــة عــى البحــر األبيــض املتوســط​​مقابــل ثالمثئــة جنيــه‬
‫مــري للمــر الواحــد بــداًلً مــن قيمتهــا الســوقية الحقيقيــة البالغــة مثانيــة آالف جنيــه‪.‬‬

‫‪315‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫را‪ ،‬كلَّـ َـف رئيــس الــوزراء أحمــد نظيــف البــاد مــا مجموعــه ‪ 51.2‬مليــار جنيــه مــري‬
‫أخـ ً‬
‫مــن خــال متريــر القــرار الــوزاري ‪ 2843‬لعــام ‪ ،2009‬الــذي رشع يف االســتحواذ املتنــازع‬
‫عليــه عــى ‪ 1.5‬مليــون فــدان مقابــل ‪ %2.5‬مــن ســعر الســوق‪ (((.‬إذًا‪ ،‬كان مــن الطبيعــي أن‬
‫تبلــغ ثــروة جرانــة ‪ 13‬مليــار جنيــه بعــد أن كانــت رشكته مببلــغ ‪ 4‬مليــارات جنيه قبــل دخوله‬
‫مجلــس الــوزراء‪ .‬وضاعــف املغــريب ثروتــه التــي مل تتجــاوز يف عــام ‪ 2004‬أربــع مليــارات‬
‫وتســعمئة مليــون جنيــه إىل أربــع أضعــاف بعــد أن أصبــح وزيـ ًرا لتبلــغ ســبعة عــر مليــار‬
‫(((‬
‫جنيــه‪ ،‬باإلضافــة إىل ثالثــة مليــارات جنيــه عــى شــكل قــروض مخفضــة مــن البنــوك‪.‬‬
‫كان متوق ًعــا بعــد ثــورة ‪ 2011‬إعــادة فتــح ملــف الخصخصــة‪ .‬ومــع أن تأميــم وســائل اإلنتاج‬
‫يف الخمســينيات والســتينيات مــن القــرن املــايض قــد تــم مــن خــال القوانــن‪ ،‬إال أنــه‬
‫أعيــدت خصخصتهــا مــن خــال قــرارات إداريــة تعســفية مــع قصــور يف الشــفافية أو‬
‫غيابهــا‪ .‬فمثـ ًـا‪ ،‬قــدرت الحكومــة عــام ‪ 1991‬القيمــة اإلجامليــة للقطــاع العــام بـــ ‪ 124‬مليار‬
‫خاصــا ض َّخــم هــذا الرقــم إىل خمســمئة مليــار جنيــه‪ .‬وبحلــول‬‫جنيــه‪ -‬مــع أن مستشــا ًرا ً‬
‫يوليــو ‪ ،2000‬بِيــع مــا يقــرب مــن نصــف القطــاع العــام مقابــل ‪ 15.6‬مليــار جنيــه‪ ،‬مــا‬
‫دفــع الحكومــة إىل تعديــل تقديراتهــا الســابقة بأثــر رجعــي إىل مبلــغ ســخيف بلــغ ‪28.8‬‬
‫مليــار جنيــه ورسعــان مــا تــم الكشــف عــن قضايــا فســاد بــارزة‪.‬‬
‫مــن أوائــل الصفقــات التــي ُمــررت يف عــام ‪ 1994‬كانــت بيــع رشكــة بيبــي كــوال التابعــة‬
‫للقطــاع العــام مقابــل ‪ 131‬مليــون جنيــه مقســمة عــى النحــو التــايل‪ %49 :‬إىل رجــل‬
‫األعــال محمــد نصــر املرتبــط سياسـ ًـيا بالنظــام‪ ،‬و‪ %49‬لرشكــة ســعودية‪ ،‬و‪ %2‬لتكتــل‬
‫بيبــي‪ -‬كــوال العاملــي‪ .‬بعــد أربــع ســنوات‪ ،‬اشــرت رشكــة بيبــي‪ -‬كــوال ‪ %77‬مــن األســهم‬
‫مقابــل أربعمئــة مليــون جنيــه‪ ،‬أي ثالثــة أضعــاف قيمــة الرشكــة بأكملهــا عنــد بيعهــا ألول‬
‫مــرة‪ .‬ادعــى نصــر أنــه نجــح يف تغيــر مســار الرشكــة يف هــذه الفــرة القصــرة لكــن‬
‫ادعــاءه مل يُقنــع أحـ ًدا‪ ،‬خاصــة وأن التقاريــر الصــادرة عــن الجهــاز املركــزي للمحاســبات‬
‫كشــفت عــن ضعــف أداء مســتثمري القطــاع الخــاص يف الــركات العامــة التــي اشــروها‪.‬‬
‫وبالفعــل‪ ،‬أنجــز رجــال األعــال بــن عامــي ‪ 1997‬و‪ 2002‬قرابــة ‪ %52‬مــن االســتثامرات‬
‫املوعــودة يف جميــع القطاعــات‪ ،‬و‪ %26‬مــن االســتثامرات املتوقعــة يف القطــاع الصناعــي‪،‬‬
‫‪ -1‬حاتم الجهمي وأحمد عبد القوي‪ ،‬تحقيقات نيابة أمن الدولة يف قضايا فساد الوزارة‪ ،‬الرشوق‪.‬‬
‫‪ -2‬فؤاد عالم‪ ،‬اإلخوان وأنا‪ ،‬ص ‪.3‬‬

‫‪316‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫وغطــت الدولــة الباقــي‪ (((.‬بعــد أشــهر مــن ثــورة ‪ ،2011‬أعيــدت ثــاث مــن كــرى الرشكات‬
‫املخصخصــة إىل ملكيــة الدولــة بعــد أن كشــفت املحاكــم حيــل الفســاد التــي نُقلــت مــن‬
‫(((‬
‫خاللهــا إىل ملكيــات خاصــة‪ ،‬وتــم التحقيــق يف عــرات القضايــا األخــرى‪.‬‬

‫السيطرة عىل قنبلة زمنية‬


‫كانــت أيــام مــر املظلمــة تــزداد قتامــة‪ .‬فبــن عامــي ‪ 2000‬و‪ ،2009‬ارتفــع الناتــج املحــي‬
‫اإلجــايل مــن ‪ 92.4‬مليــار دوالر إىل ‪ 187.3‬مليــار دوالر وزاد النمــو االقتصــادي مــن‬
‫‪ %3.2‬إىل ‪ .%5‬لكــن النمــو االقتصــادي الــذي تحقــق خــال ذلــك العقــد (بســبب تضاعــف‬
‫أســعار النفــط بعــد غــزو العــراق وزيــادة االســتثامرات األجنبيــة) مل يُوظَّــف يف تحســن‬
‫مســتوى معيشــة عامــة النــاس‪ .‬يف عــام ‪ ،2006‬تراجــع نصيــب الفــرد مــن الدخــل القومــي‬
‫اإلجــايل بنســبة ‪ %7‬عــا كان عليــه يف عــام ‪ .2000‬ويف نفــس العــام‪ ،‬أشــارت تقاريــر‬
‫البنــك الــدويل إىل أن ‪ %47‬مــن املرصيــن يعيشــون بأقــل مــن دوالريــن يف اليــوم‪ (((.‬يف‬
‫(((‬
‫عــام ‪ ،2010‬قُـ ِّد َرت البطال ـ ُة بنحــو ‪ %26.3‬مــع زعــم الحكومــة أنهــا بلغــت ‪ %10‬فقــط‪.‬‬
‫وبــات أكــر مــن ثالثــة ماليــن شــخص يعملــون يف الســوق الســوداء‪ .‬اســتهلك اإلنفــاق‬
‫ـض الدع ـ ُم عــى املــواد‬‫عــى التعليــم أقــل مــن ‪ ٪5‬مــن الناتــج املحــي اإلجــايل‪ ،‬و ُخ ِّفـ َ‬
‫الغذائيــة بنســبة ‪ %20‬مــا أدى إىل زيــادة أســعار املــواد الغذائيــة املختلفــة مبقــدار ثالثــة‬
‫أضعــاف‪ .‬وبينــا قــام األغنيــاء بتزيــن مجمعاتهــم الفخمــة ببحــرات صناعيــة وأحــواض‬
‫ســباحة‪ ،‬عــاىن ‪ ٪79‬مــن املرصيــن مــن صعوبــة الحصــول عــى ميــاه الــرب النظيفــة‬
‫(((‬
‫ونظــام الــرف الصحــي املناســب‪.‬‬
‫تقريبــا خــال العقديــن األخرييــن مــن حكم مبــارك‪ ،‬وبــات الريف‬
‫عــاىن جميــع املرصيــن ً‬
‫ـهاًل‪ .‬فقــد ألغــى القانــون رقــم ‪ 96‬لعــام ‪ 1992‬املكاســب التــي حققهــا الفالحــون‬
‫هدفًــا سـ ً‬
‫وبــداًل مــن اإليجــارات‬
‫ً‬ ‫مــن خــال قانــون اإلصــاح الزراعــي رقــم ‪ 178‬لعــام ‪.1952‬‬
‫املنظمــة يف القانــون القديــم‪ ،‬نــص القانــون الجديــد عــى أن عقــود املســتأجرين البالــغ‬
‫‪ -1‬غنيم‪ ،‬أزمة الدولة املرصية املعارصة‪ ،‬ص ‪.95-93‬‬
‫‪ -2‬محمد باسل‪ ،‬ثالث أحكام تاريخية ضد فساد الخصخصة يف عهد مبارك‪ ،‬الرشوق‪.964-961 ،‬‬
‫‪3- Wahid, Military Expenditure and Economic Growth, 134–42.‬‬
‫‪4- Shatz, "Mubarak’s Last Breath", 6.‬‬
‫‪ -5‬بسمة عبد العزيز‪ ،‬إغراء السلطة املطلقة‪ ،‬ص ‪.91-90‬‬

‫‪317‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫عددهــم ‪ 1.2‬مليــون يف الريــف ســتنتهي بنهايــة عــام ‪ ،1997‬مــا يســمح ملــاك األرايض‬
‫الغائبــن إمــا بالتفــاوض عــى عقــود جديــدة أو بيــع أراضيهــم وطــرد الفالحــن‪ .‬وبالطبــع‪،‬‬
‫بــررت الحكومــة القانــون بتوفــر املزيــد مــن رأس املــال لالســتثامر‪ .‬وألن ســبعة ماليــن‬
‫فــاح وعائالتهــم يعيشــون عــى هــذه األرايض فيــا مل تقــدم الحكومــة أي حلــول ملحنتهــم‬
‫الحتميــة‪ ،‬اندلعــت احتجاجــات عنيفــة يف عمــوم الريــف‪.‬‬
‫بــن أكتوبــر ‪ 1997‬وصيــف ‪ ،1999‬تفشــت مصــادرة األرايض وتخريــب املعــدات الزراعيــة‬
‫لدرجــة أن الحكومــة اضطــرت إىل إصــدار أوامــر لقــوات األمــن املركــزي إلخضــاع‬
‫الفالحــن الغاضبــن‪ .‬وباملثــل‪ ،‬أدت الخصخصــة العدوانيــة وتخــي الحكومــة بالجملــة عــن‬
‫القطــاع العــام إىل العديــد مــن اإلرضابــات العامليــة‪ 161 :‬إرضابًــا يف عــام ‪ ،2001‬و‪ 86‬يف‬
‫عــام ‪ ،2003‬وإرضاب ‪ 6‬أبريــل الوطنــي العنيــف يف عــام ‪ ،2008‬وأكــر مــن ‪ 700‬إرضاب‬
‫يف عــام ‪ .2010‬ويف الواقــع‪ ،‬رمبــا شــارك مليونــا عامــل يف هــذه اإلرضابــات بــن عامــي‬
‫‪ 2001‬و‪ (((.2011‬حتــى داخــل املعقــل التقليــدي لســلطة الدولــة‪ -‬البريوقراطيــة‪ -‬كانــت‬
‫األمــور تتدهــور‪ .‬مل تتجــاوز نســبة املوظفــن الحاصلــن عــى رواتــب جيــدة نســبة ‪،%0.2‬‬
‫أي قرابــة ‪ 8‬أالف مســؤول (مبــن فيهــم الــوزراء)‪ ،‬وبعضهــم تلقــوا رواتــب مــن ســتة أرقــام‪،‬‬
‫بينــا تراجــع باقــي املوظفــن البالــغ عددهــم خمســة ماليــن وخمســمئة ألــف موظــف‬
‫تدريجيــا ليصبحــوا يف درجــة الطبقــة الدنيــا‪ (((.‬أضــف أن النخبــة التجاريــة الجديــدة مل‬
‫ً‬
‫تقبــل بالتعــاون الطبقــي‪ ،‬فبقــي الرأســاليون االحتكاريــون يترصفــون كأقطــاب متنافســة‬
‫أكــر مــن كونهــم قيــادة طبقيــة موحــدة‪ ،‬ولــذا فشــلوا يف اســتيعاب البريوقراطيــن رفيعــي‬
‫املســتوى ومــاك األرايض املتوســطني والرأســاليني الزراعيــن تحــت وصايتهــم‪ .‬وبشــكل‬
‫أعــم‪ ،‬أثــار تدهــور قــدرة الدولــة عــى تقديــم الخدمــات األساســية والمباالتهــا تجــاه‬
‫البطالــة والفقــر غضــب املاليــن‪.‬‬
‫مل يكــن بإمــكان الضامــن النهــايئ للنظــام أن يقــف مكتــوف األيــدي فيــا املليــارات‬
‫تتــرب مــن يــد إىل أخــرى دون علمــه‪ ،‬فــكان البــد مــن أن يُعطــى حصتــه مــن العمليــة‪.‬‬
‫كشــفت التحقيقــات األوليــة أن وزيــر الداخليــة حبيــب العــاديل وعائلتــه ميتلكــون تســع‬
‫فيــات وســبع شــقق وخمســة وســبعني فدانًــا مــن األرايض الزراعيــة وثالثــة عــر موق ًعــا‬
‫‪ -1‬غنيم‪ ،‬أزمة الدولة املرصية املعارصة‪ ،‬ص ‪.115-113‬‬
‫‪ -2‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.142‬‬

‫‪318‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫للبنــاء ومركـ ًزا تجاريًــا يف رشم الشــيخ وأربــع ســيارات مرســيدس‪ .‬وباإلضافــة إىل الودائــع‬
‫املرصفيــة‪ ،‬بلغــت ثروتــه مثانيــة مليــارات جنيــه‪ (((.‬طالــب أمــن الدولــة بقطعــة أرض شاســعة‬
‫مــن األرض (العســكرية) يف حــي القاهــرة الصاخــب مبدينــة نــر إلنشــاء مقــره الجديــد‪.‬‬
‫ويف اإلســكندرية‪ ،‬حصــل مثانيــة وثالثــون مــن ضبــاط مباحــث أمــن الدولــة عــام ‪2000‬‬
‫عــى ســبعمئة وخمســن ألــف مــر مربــع مــن األرايض مقابــل ثالثــة عــر جني ًهــا للمــر‪،‬‬
‫بينــا تجــاوز ســعر الســوق حينهــا ثالمثئــة جنيــه للمــر‪ .‬بعــد ثــورة ينايــر‪ ،‬جمــدت املحاكــم‬
‫املرصيــة أصــول ‪ 52‬ضابــط أمــن مــن ذوي الرتــب العاليــة متهمــن بالفســاد‪ (((.‬و ُح ِكـ َم عىل‬
‫العــاديل بالســجن ملــدة اثنــي عــر عا ًمــا وغرامــة قدرهــا ثالثــة وعرشيــن مليــون جنيــه‬
‫إســرليني بتهمــة غســل األمــوال وإســاءة اســتخدام املنصــب لتكديــس الــروة‪.‬‬
‫وغنــي عــن القــول‪ ،‬أن الفســاد الحكومــي املتزايــد دفــع النظــام أكــر إلطــاق يــد وزارة‬
‫الداخليــة‪ .‬وبــداًلً مــن الضغــط عــى النظــام إلضفــاء الطابــع الدميقراطــي‪ -‬كــا يتوقــع‬
‫املنظــرون الليرباليــون‪ -‬أدرك الرأســاليون املرصيــون الذيــن تحولــوا إىل وزراء أنهــم اآلن‬
‫مدينــون لقــوات األمــن أكــر مــن أي وقــت مــى‪ .‬فاالضطرابــات االجتامعيــة الناجمــة‬
‫عــن تقلــص الخدمــات االجتامعيــة‪ ،‬واالرتفــاع املســتمر يف األســعار‪ ،‬وترسيــح اآلالف مــن‬
‫العاملــن يف القطاعــن العــام والخــاص‪ ،‬والفســاد املنظــم واملســعور الــذي يلحــق الحيــاة‬
‫االقتصاديــة‪ ،‬كل ذلــك تطلــب قم ًعــا مســتم ًرا‪ .‬ال عجــب أن لجنــة السياســات التــي أسســها‬
‫جــال مبــارك توســعت يف عام ‪ 2005‬لتســيطر عــى وزارة الداخليــة‪ .‬وبعبارة أخــرى‪ ،‬ال زال‬
‫الحكــم قامئًــا عــى القمــع حتــى بعــد خضــوع املؤسســات السياســية لســيطرة النيوليرباليــة‪.‬‬
‫مل يكــن هــذا مجــرد تشــويه داخــي للنيوليرباليــة العامليــة‪ ،‬فبالنســبة ملنارصيهــا يقــول‬
‫ميتشــل‪" :‬القمــع أثــر جانبــي غــر متوقــع‪ ،‬مؤســف ومتقطــع‪ ،‬ورمبــا مؤقــت للصدمــات‬
‫التــي تصاحــب توســع الســوق العامليــة"‪ ،‬ولكــن بشــكل نقــدي يُنظــر إليــه أنــه "أداة شــائعة‬
‫(((‬
‫يف التنميــة الرأســالية‪ ،‬وال ســيام لتوغــل العالقــات الرأســالية يف مناطــق جديــدة"‪.‬‬
‫اعتمــد مايــكل مــان وجهــة نظــر مامثلــة حــول تداخــل القمــع والنيوليرباليــة‪ ،‬فاألنظمــة‬
‫"بؤســا اقتصاديًــا قصــر‬
‫ـج ً‬ ‫خصوصــا متيــل إىل تنفيــذ السياســات التــي تُن ِتـ ُ‬
‫ً‬ ‫االســتبدادية‬
‫‪ -1‬جامل الجزيري‪ ،‬ممتلكات العاديل‪ ،‬الرشوق‪.‬‬
‫‪ -2‬صربي‪ ،‬زوار الفجر استولوا عىل ممتلكات الشعب‪ ،‬ص ‪.6‬‬
‫‪3- Mitchell, Rule of Experts, 297–98.‬‬

‫‪319‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫املــدى لرؤيــة ليرباليــة جديــدة مشــكوك فيهــا عــى املــدى الطويــل"‪ ،‬إذ ال داعــي للقلــق‬
‫بشــأن الفــوز يف االنتخابــات‪ (((.‬قــد يفــر هــذا ســبب اســتنتاج لجنــة تقــي الحقائــق‬
‫التــي ُعينــت للتحقيــق يف محاولــة قمــع ثــورة ‪ 2011‬أن الحــزب الوطنــي الدميقراطــي‬
‫ووزارة الداخليــة مســؤوالن بالقــدر ذاتــه عــن فســاد الحيــاة السياســية‪ (((.‬ظلــت ثــروات‬
‫األجهــزة السياســية واألمنيــة مرتبطــة ارتباطًــا وثي ًقــا حتــى اليــوم األخــر‪ ،‬وقــد دفعهــا‬
‫هــذا االرتبــاط للضغــط عــى املجتمــع إىل أقــى الحــدود‪.‬‬
‫ـا بشــكل متزايــد إىل مجالــن‪،‬‬ ‫فعليــا هــو أن االقتصــاد املــري أصبــح منقسـ ً‬
‫مــا حــدث ً‬
‫ال وســط بينهــا‪ :‬أحدهــا يخــدم أقــل مــن ‪ %10‬مــن املرصيــن بقــوة رشائيــة عاليــة‬
‫واضحــة‪ ،‬واآلخــر لعامــة النــاس الذيــن بالــكاد يعيشــون‪ .‬كــا شــاهد الجميــع‪ ،‬أرســلت‬
‫الطبقــة العليــا املحــدودة أطفالهــا إىل مــدارس خاصــة باهظــة الثمــن‪ ،‬وتلقــت أرسهــم‬
‫عاليــا‪ ،‬وأقامــوا يف مجمعــات فخمــة بهــا مالعــب‬
‫العــاج يف مستشــفيات مجهــزة تجهيـ ًزا ً‬
‫جولــف ونــوادي فخمــة‪ ،‬ويقضــون إجازاتهــم يف منتجعــات شــاطئية فخمــة‪ ،‬وقــادوا‬
‫ســيارات فاخــرة‪ ،‬وتســوقوا يف بعــض أرقــى مراكــز التســوق يف الــرق األوســط‪ .‬لقــد‬
‫أصبحــت مــر دولــة فاشــلة يف نظــر شــعبها‪ ،‬وذلــك بســبب الطبقــة العليــا الحاكمــة‪.‬‬
‫ُمــررت القوانــن فقــط يك يتمكــن القليــل منهــم مــن إثــراء أنفســهم مــن خــال تجاوزهــا‪،‬‬
‫بينــا عــاىن بقيــة املرصيــن مــن وطــأة العــبء األكــر‪ ،‬فقــد وقــع العــبء الرضيبــي‬
‫عــى الفقــراء لخدمــة األغنيــاء املتهربــن مــن الرضائــب‪ .‬وأصبحــت الرشــوة هــي األصــل‪،‬‬
‫وباتــت التصاريــح القانونيــة معروضــة للبيــع‪ .‬باختصــار‪ ،‬لقــد أصبــح الفســاد يف مــر‬
‫ـص الخبــر االقتصــادي الســيايس ســامر ســليامن بــكل حــزن‪،‬‬ ‫أســلوب حيــاة‪ .‬وكــا َخلُـ َ‬
‫(((‬
‫فــإن "قصــة مــر يف ربــع القــرن املــايض كانــت قصــة نجــاح النظــام وفشــل الدولــة"‪.‬‬
‫لكــن كيــف وصــل املجتمــع املــري إىل هــذا االســتقطاب الحــاد؟ وملــاذا تنقلــب الطبقــة‬
‫الوســطى التــي لطاملــا رعاهــا النظــام ضــده؟‬
‫رغــم أن الطبقــة الوســطى غــر الصناعيــة (الربجوازيــون مــن الريفيــن واملوظفــن‬

‫‪1- Michael Mann, Incoherent Empire, New York: Verso, 2003, 70.‬‬
‫‪ -2‬تقرير خلف عيل حسن‪ ،‬تقيص الحقائق‪ ،‬ص ‪.4‬‬
‫‪ -3‬سليامن‪ ،‬النظام القوي والدولة الضعيفة‪ ،‬ص ‪.271‬‬

‫‪320‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬هدوء طويل قبل العاصفة الكربى‪...‬‬

‫الحكوميــن‪ ،‬وصغــار رجــال األعــال‪ ،‬واملهنيــون) شــكلت يف البدايــة حص ًنــا للنظــام الــذي‬
‫نتــج عــن االنقــاب‪ ،‬إال أن الظــروف السياســية املتغــرة أدت إىل انقســام هــذه الطبقــة‬
‫الوســطى حيــث أثبتــت مكوناتهــا املختلفــة فائدتهــا يف أوقــات متفرقــة‪ .‬ومــع تســبب‬
‫النظــام الجديــد بظهــور املزيــد واملزيــد مــن الشــظايا‪ ،‬فإنــه مل يعــد قــاد ًرا عــى إرضائهــا‬
‫جمي ًعــا كــا أنــه مل يعــد بحاجــة للكثــر منهــا‪ .‬فقــد أصبــح مــن املمكــن االســتغناء عــن‬
‫الطبقــة الوســطى الريفيــة ألن التزويــر املبــارش لالنتخابــات (املمــول مــن املنــح املبــارشة‬
‫مــن رأســايل الحــزب الحاكــم وتُنفــذه وزارة الداخليــة) ألغــى أهميــة الســيطرة السياســية‬
‫يف الريــف‪ .‬واآلن بــات باإلمــكان الضغــط عليهــم لبيــع أراضيهــم إلشــباع شــهية فاحــي‬
‫الــراء ملشــاريع الصناعــات الزراعيــة العمالقــة‪.‬‬
‫أيضــا ألن تفكيــك القطــاع العــام قلــل مــن دورهــا‬‫كانــت منابــع برجوازيــة الدولــة تجــف ً‬
‫الوســيط بــن رجــال األعــال الطموحــن واملــوارد العامــة‪ .‬فمــن يحتــاج إىل وســطاء يف‬
‫ظــل ســيطرة الرأســاليني عــى الحكومــة مبــارشةً؟ لكــن األمــر مل يقتــر عــى دخــول‬
‫الثعلــب يف حظــرة الدجــاج‪ ،‬فتحريــر الســوق والتيســرات البريوقراطيــة حرمهتــم مــن‬
‫االبتــزازات الصغــرة التــي فرضوهــا عــى املواطنــن وصغــار رجــال األعــال‪ .‬وأضيفــت‬
‫إىل ويــات انقســامات الطبقــة الوســطى تلــك الخاصــة بطبقــة رجــال األعــال الطفيليــة‬
‫التــي بــرزت يف أواخــر الســبعينيات والثامنينيــات‪ .‬فقــد رفــع أباطــرة الحــزب الحاكــم‬
‫حواجــز دخــول الســوق‪ ،‬وقضــوا عــى املنافســن بســهولة نســبية‪ .‬وبــدأ التســامح مــع‬
‫را‪ ،‬مــع ارتفــاع معــدالت‬
‫األســاك الصغــرة يف عــامل األعــال يتقلــص شــيئًا فشــيئًا‪ .‬أخ ـ ً‬
‫البطالــة والتضخــم املذهلــة باتــت الحيــاة مســتحيلة بالنســبة لشــباب الطبقــة املتوســطة‬
‫املتعلمــن الذيــن أدركــوا أن شــهاداتهم التــي حصلــوا عليهــا مل تعــد تأخذهــم بعي ـ ًدا يف‬
‫عــامل االقتصــاد الليــرايل الجديــد يف مــر‪ .‬لقــد فقــدت كل أقســام الطبقــة الوســطى‬
‫تدريجيــا وأصبحــت يف صفــوف الســاخطني عــى الوضــع العــام‪.‬‬ ‫ً‬ ‫هــذه رضاهــا وتأييدهــا‬
‫ويف النهايــة‪ ،‬حافــظ القســم املحــدود مــن الطبقــة املتوســطة املرتبــط مبــارشة بالجهــاز‬
‫الســيايس (الطبقــة العليــا مــن الربجوازيــة) عــى والئــه‪ ،‬يف حــن اســتاءت معظــم مكونــات‬
‫الطبقــة الوســطى مــن النظــام لتخليــه عنهــم‪ .‬بــدت الثــورة يف هــذه الحالــة الســبيل‬
‫الوحيــد للخــروج مــن املعانــاة‪ ،‬ومــع اقــراب عقــارب الســاعة مــن ســبتمرب ‪ -2011‬التاريــخ‬

‫‪321‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫الــذي كان مــن املفــرض أن يســلم فيــه الرئيــس مبــارك الحكــم لنجلــه جــال وحلفائــه‬
‫الرأســاليني‪ -‬مل تكــن الطبقــة الوســطى تتوقــع شــيئًا أقــل مــن الخــراب التــام‪ .‬وحــن‬
‫خرجــت الدعــوة التخــاذ موقــف نهــايئ ضــد النظــام يف ‪ 25‬ينايــر ‪ ،2011‬مل يكــن لــدى‬
‫هــؤالء شــيئًا ليخــروه‪.‬‬
‫لكــن الحقيقــة هــي أن مبــارك مل يفعــل أكــر مــن اتبــاع الخــط الــذي رســمه ســلفه لنفســه‪.‬‬
‫فقــد عــزز االتجاهــات الثالثــة التــي ُو ِض َعــت عندمــا تــوىل منصبــه يف عــام ‪ :1981‬تهميــش‬
‫الجيــش؛ متكــن قــوات األمــن؛ واالعتــاد املتزايــد عــى الطبقــة الرأســالية التــي ترعاهــا‬
‫الدولــة إلدارة البــاد‪ .‬دفعــت هــذه التيــارات الثالثــة الخفيــة القويــة النظــام ببــطء وثبــات‪،‬‬
‫ولكــن إىل نهايتــه‪ :‬ثــورة ‪ 25‬ينايــر ‪ .2011‬وبالطبــع‪ ،‬ال يعفــي هــذا مبــارك مــن املســؤولية‬
‫عــن كل التدهــور والبــؤس الــذي حــل بالبــاد تحــت قيادتــه‪ .‬ولكــن لفهــم مــا حــدث‬
‫بالفعــل بــداًلً مــن مجــرد إلقــاء اللــوم عــى شــخص بعينــه‪ ،‬يجــب أن يبــدأ املــرء باالعــراف‬
‫أساســا كان الحفــاظ عــى هيــكل النظــام الــذي ورثــه يف مســاره‬ ‫بــأن مــا فعلــه مبــارك ً‬
‫الصحيــح‪ ،‬فمبــارك عامــل اســتقرار لهــذا املســار ومل يبتكــره بنفســه‪ .‬وباعــراف الجميــع‪،‬‬
‫كان الســر يف هــذا املســار املحــدد شــاقًا والنتيجــة بعيــدة كل البعــد عــن الحتميــة‪ .‬مثــة‬
‫ـب تجاو ُزهــا‪ ،‬وأزمــات وجــب نــزع فتيلهــا‪ ،‬وعقبــات يف كل خطــوة عــى‬ ‫عواصــف ت َ َو َّجـ َ‬
‫الطريــق‪ .‬فنفــوذ الجيــش تحــت قيــادة املشــر الداهيــة عبــد الحليــم أبــو غزالــة صاحــب‬
‫ـوات األمــن املركــزي املفــرض أنهــا‬‫را‪ .‬وقــادت قـ ُ‬ ‫الشــخصية الكاريزميــة كان أكــر تأث ـ ً‬
‫محــل ثقــة متــر ًدا مســل ًحا ضــد الحكومــة‪ .‬وضغطــت النخبــة التجاريــة النهمــة التــي تســللت‬
‫إىل الحــزب الحاكــم أكــر مــا يجــب بــا أدىن تفكــر عــى الدولــة للحصــول عــى تنازالت‬
‫منهــا‪ .‬لكــن بعــد كل ذلــك بــدا االنهيــار املفاجــئ (ورمبــا املؤقــت) للنظــام يف عــام ‪2011‬‬
‫نتيجــة تراكميــة لســتة عقــود مــن الــراع عــى الســلطة داخــل االئتــاف الحاكــم‪.‬‬

‫‪322‬‬
‫الفصل السادس‬
‫عىل عتبة السلطة‪ :‬الجيش بعد الثورة‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫عىل عتبة السلطة‪ :‬الجيش بعد الثورة‬


‫تعلي ًقــا عــى الثــورات الشــعبية التــي عصفــت بأوروبــا يف عــام ‪ ،1989‬كتــب عــامل االجتــاع‬
‫تشــارلز تيــي‪" :‬يف زمــن االســتهالك والــدول القويــة‪ ...‬لَــم يبـ ُد أن بوســع املنشــقني داخــل‬
‫الــدول األوروبيــة فعــل يشء مــا أكــر مــن زرع القنابــل أو الكتابــة عــى الجــدران أو‬
‫ـاح أو القمـ ُع‪،‬‬
‫إطــاق اللعنــات بصــوت خافــت أو االستســام‪ .‬رمبــا ينتــج عــن ذلــك اإلصـ ُ‬
‫أمــا الثــورة فــا‪ ...‬يف عــام ‪ ،1989‬أبطلــت شــعوب أوروبــا الرشقيــة بقــوة أي تحليــل يشــر‬
‫ضمنيــا إىل إنهــاء التمــرد‪ ،‬فقــد صنعــوا ثوراتهــم بأنفســهم"‪ (((.‬وبعــد أقــل مــن عقديــن مــن‬
‫ً‬
‫كتابــة تيــي لهــذه الكلــات التــي ال تُنــى‪ ،‬جــاء دور العــرب‪.‬‬
‫جامعيــا‬
‫ً‬ ‫بــدأت كــرة الثلــج تتدحــرج مــن املغــرب العــريب‪ ،‬عندمــا صفعــت رشطيــة خري ًجــا‬
‫عاطـ ًـا عــن العمــل بســبب عملــه كبائــع متجــول دون ترصيــح‪ ،‬فــأرضم الشــاب الغاضــب‬
‫النــار يف نفســه مــا أدى إىل انــدالع انتفاضــة عارمــة أطاحــت بالقيــادة السياســية للبــاد‬
‫خــال ثالثــة أســابيع‪ .‬حــدث كل هــذا يف بلــد لــه ظــروف مشــابهة للواقــع املــري‪ :‬إنهــا‬
‫تونــس‪ .‬عــى عكــس الحكــم امللــي يف املغــرب واألردن حيــث الجيــش مــوا ٍل للســلطة‪،‬‬
‫واملجتمعــات القبليــة يف ليبيــا واليمــن والقبليــة امللكيــة يف الخليــج حيــث تســيطر القبيلــة‬
‫الحاكمــة عــى القيــادة العســكرية بينــا قــد يــأيت التمــرد مــن القبائــل الصغــرى‪ ،‬شُ ــكلت‬
‫ودينيــا وقــد أقســموا عــى‬
‫عرقيــا ً‬
‫الجيــوش املرصيــة والتونســية مــن الســكان املتجانســن ً‬
‫الــوالء للدســاتري الجمهوريــة الحديثــة‪ .‬وعــى عكــس األنظمــة التــي يســيطر عليهــا الجيــش‬
‫نصبهــا‬
‫يف ســوريا والجزائــر والســودان‪ ،‬تح ّولــت البلــدا ُن مــن األنظمــة العســكرية التــي َّ‬
‫ـش يف‬ ‫االنقــاب إىل دول بوليســية بشــكل كامــل‪ ،‬ف َه َّمشــت النخبـ ُة السياســية املشــبوهة الجيـ َ‬
‫كال البلديــن لصالــح مؤسســة أمنيــة يتســع نفوذهــا شــيئًا فشــيئًا‪ ،‬ولــذا أصبــح الجيــش يف‬
‫حريصــا عــى تغيــر صيغــة الحكــم مبجــرد أن تســمح الظــروف بذلــك‪.‬‬ ‫ً‬ ‫كال البلديــن‬
‫را‪ ،‬عانــت الطبقــات الدنيــا يف كلتــا الدولتــن مــن نخبــة رجــال األعــال االنتهازيــة‬ ‫أخ ـ ً‬
‫والفاســدة التــي ترعاهــا الدولــة وتتمتــع بعالقــات قويــة مــع املســتثمرين العامليــن‪ .‬بطبيعــة‬
‫الحــال‪ ،‬كانــت تونــس أصغــر بكثــر مــن مــر مــن حيــث املســاحة وعــدد الســكان وحجــم‬

‫‪1- Charles Tilly, European Revolutions, Cambridge: Blackwell Publishers, 2, 1993.‬‬

‫‪324‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬عىل عتبة السلطة‪ :‬الجيش بعد الثورة‬

‫قــوات الرشطــة والجيــش‪ ،‬لكــن تجربتهــا أثــرت بوضــوح عــى املرصيــن إذ أظهــرت لهــم‬
‫أن املســتحيل يف نظرهــم كان يف الواقــع ممك ًنــا‪ .‬بــدأ املرصيــون حينهــا بالتحــرك وأدرك‬
‫الجيــش املحبــط أن العامــل الخارجــي الــذي كان يأمــل يف أن يحـ ِّول ميــزان القــوة الراكــد‬
‫را يف الظهــور‪.‬‬
‫ملصلحتــه قــد بــدأ أخـ ً‬
‫(((‬
‫مثانية عرش يو ًما‬
‫كان عــام ‪ 2011‬عــام االســتخالف املزعــوم‪ ،‬حيــث أكــدت التقاريــر املتداولــة يف جميــع‬
‫أنحــاء البــاد أن حســني مبــارك يخطــط لنقــل الســلطة البنــه جــال يف شــهر ســبتمرب‪ .‬ومع‬
‫رحيــل حســني مبــارك‪ -‬آخــر املتبقــن مــن الحــرس القديــم يف الحــزب الحاكــم‪ -‬لــن تكــون‬
‫هنــاك محكمــة اســتئناف حيــال تــورط جــال مبــارك يف الفســاد االقتصــادي واســتغالل‬
‫املقربــن مــن الرأســاليني‪ .‬يعتــر تاريــخ "‪ 25‬ينايــر" يف مــر "يــوم الرشطــة"‪ -‬وهــو يوم‬
‫ميــا لذلــك الصبــاح الدمــوي مــن عــام ‪ 1952‬عندمــا قتــل الربيطانيــون‬ ‫عطلــة وطنيــة تكر ً‬
‫العــرات مــن رجــال الرشطــة املرصيــة ألنهــم رفضــوا تســليم أســلحتهم ووقفــوا شــامخني‬
‫دفا ًعــا عــن الكرامــة الوطنيــة‪ -‬وهــو يــوم لطاملــا ُسـلِّ َط فيــه الضــوء عــى التبايــن القاتــم‬
‫بــن مــا كانــت عليــه الرشطــة يف املــايض ومــا أصبحــت عليــه اليــوم‪.‬‬
‫مل يكــن لــدى مــر يف ‪ 25‬ينايــر ‪ 2011‬معارضــة منظمــة ميكــن الحديــث عنهــا‪ ،‬فقــد‬
‫انضــم املثقفــون والناشــطون الســاخطون مــن جميــع طبقــات املجتمــع إىل عــدة جبهــات‬
‫موحــدة‪ .‬كانــت هنــاك "حركــة كفايــة" التــي تأسســت عــام ‪ 2004‬ملنــع مبــارك (األب‬
‫واالبــن) مــن الرتشــح للرئاســة يف العــام التــايل‪ ،‬والجمعيــة الوطنيــة للتغيــر التــي تأسســت‬
‫يف عــام ‪ 2010‬ودعــت إلجــراء انتخابــات حــرة ولرتشــيح املديــر الســابق للوكالــة الدوليــة‬
‫للطاقــة الذريــة محمــد الربادعــي ملنصــب تنفيــذي أعــى‪ ،‬هــذا فضـ ًـا عــن عــدد كبــر‬
‫مــن أحــزاب املعارضــة املتواضعــة التــي متثــل الليرباليــن واليســاريني والتــي نــاد ًرا مــا‬
‫تحــدت النظــام‪ .‬كــا كانــت جامعــة اإلخــوان املســلمني حينهــا قــد أمتــت عامهــا الثامنــن‬
‫منــذ التأســيس‪ ،‬وهــي حركــة إصــاح بريوقراطيــة للغايــة تالعــب بهــا النظــام عــى الــدوام‬
‫(لتخويــف الليرباليــن يف مطلــع الخمســينيات‪ ،‬واليســاريني يف الســبعينيات‪ ،‬واإلســاميني‬
‫‪ -1‬املعلومــات الــواردة يف هــذا القســم مبنيــة عــى عــرات املقابالت الشــخصية مــع املتظاهرين مع انــدالع الثورة‪،‬‬
‫وكذلــك األفــام الوثائقيــة القصــرة الثامنيــة عــر لجريــدة الــروق التــي ســجلت التطــورات اليوميــة للثــورة‪.‬‬

‫‪325‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫املتشــددين يف الثامنينيــات والتســعينيات‪ ،‬واألمريكيــن طــوال الوقــت)‪ ،‬قبــل أن تُســتبعد‬


‫مــن املشــهد (عــادة إىل الســجن) مبجــرد أن ينتهــي دورهــا‪.‬‬
‫يضــاف إىل مــا ســبق حركتــان ظلتــا حبيســتا شــبكة اإلنرتنــت‪" :‬حركــة شــباب ‪ 6‬أبريــل"‬
‫التــي تخلــد اســمها ذكــرى اإلرضاب يف ذلــك اليــوم مــن عــام ‪ 2008‬عندمــا تعــرض العامل‬
‫املرضبــون للقمــع بالذخــرة الحيــة‪ ،‬وصفحــة "كلنــا خالــد ســعيد" عــى فيســبوك التــي‬
‫ُســميت باســم الصبــي الســكندري الــذي ُهشِّ ــم رأســه عــى حجــارة الرصيــف صيـ َـف ‪2010‬‬
‫ألنــه تالســن مــع رجــال الرشطــة‪ .‬تشــر الصفحــة‪ ،‬التــي أنشــأها املديــر التنفيــذي للتســويق‬
‫يف "غوغــل" وائــل غنيــم البالــغ مــن العمــر ثالثــن عا ًمــا وجذبــت أكــر مــن نصــف مليــون‬
‫متابــع خــال ثالثــة أشــهر‪ ،‬إىل كيفيــة تعامــل املرصيــن مــع قضيــة الشــاب املقتــول‪ .‬فقــد‬
‫شــعر املرصيــون أن أح ـ ًدا مل يعــد آم ًنــا‪ ،‬بغــض النظــر عــن مــدى التزامهــم الســيايس‪.‬‬
‫باختصــار‪ ،‬مل تكــن املعارضــة املرصيــة عشــية الثــورة أكــر مــن مجــرد مزيــج مــن الربامــج‬
‫املنظمــة بشــكل فضفــاض مــع عضويــة متداخلة متثــل جميــع االنتــاءات السياســية والفئات‬
‫العمريــة‪ .‬ورغــم ارتفــاع أصــوات املعارضــن وتصاعــد أنشــطتهم بشــكل متزايــد منــذ عــام‬
‫عــر‬
‫‪ ،2005‬إال أن السياســيني ورجــال األمــن مل يــروا أي ســبب يدعوهــم للقلــق‪ .‬وقــد ّ‬
‫تهكــم مبــارك خــال الجلســة االفتتاحيــة للربملــان عــام ‪( 2010‬قبــل شــهر مــن الثــورة)‬
‫عــن هــذه الحالــة املريحــة حيــث قــال‪" :‬دعهــم (قــوى املعارضــة) يرفّهــوا عــن أنفســهم"‪.‬‬
‫لهــذا الســبب مل يفكــر أحــد يف الدعــوة للتظاهــر بشــكل جــاد يف ‪ 25‬ينايــر‪ ،‬ونُــرت‬
‫الدعــوة عــى صفحتــي "حركــة شــباب ‪ 6‬أبريــل" و"كلنــا خالــد ســعيد" عــى فيســبوك‪ .‬يف‬
‫اليــوم الــذي حــدده أعضــاء الصفحتــن للتظاهــر‪ ،‬نظــم النشــطاء الشــباب مــن جميــع‬
‫التوجهــات األيديولوجيــة (رمبــا بلــغ تعدادهــم عرشيــن أل ًفــا) مظاهــرة أمــام مقــر وزارة‬
‫الداخليــة عــى بُعــد ثالثــة أبنيــة مــن ميــدان التحريــر يف القاهــرة‪ ،‬يف حــي وســط املدينــة‬
‫التاريخــي الــذي بنــي يف القــرن التاســع عــر ليشــبه التخطيــط الدائــري والهندســة‬
‫را لإلعجــاب مــع األخــذ يف االعتبــار أن‬ ‫املعامريــة لوســط باريــس‪ .‬كان هــذا أمــ ًرا مثــ ً‬
‫األحــداث املاضيــة مل يتجــاوز املشــاركون فيهــا بضــع مئــات‪ ،‬وقُمــع املتظاهــرون باســتخدام‬
‫الغــاز املســيل للدمــوع وخراطيــم امليــاه‪ ،‬واعتُقــل ثالثــون ناشـطًا وقُتــل طالــب جامعــي مــن‬
‫مدينــة الســويس‪.‬‬

‫‪326‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬عىل عتبة السلطة‪ :‬الجيش بعد الثورة‬

‫اســتمرت املســرات عــى مــدى اليومــن التاليــن وجذبــت املزيــد واملزيــد مــن املشــاركني‬
‫وانتــرت يف جميــع أنحــاء البــاد (مــن القاهــرة واإلســكندرية ودلتــا النيــل ومــدن قنــاة‬
‫الســويس إىل املحافظــات الجنوبيــة ذات العقليــة املســتقلة وص ـواًلً إىل الواحــات املعزولــة‬
‫يف الصحــراء الغربيــة)‪ .‬شــددت قــوات الرشطــة قبضتهــا واعتقلــت أربعــة آالف متظاهــر‬
‫وناشــط مــن بينهــم وائــل غنيــم ورئيــس مــر املســتقبيل محمــد مــريس‪ ،‬واســتخدمت‬
‫الرصــاص املطاطــي إىل جانــب الغــاز واملــاء‪ ،‬وقُ ِتــل أربعـ ُة أشــخاص و ُجـر َِح أكـ ُ‬
‫ر مــن مئــة‬
‫صحفيــا لرفضهــم تكــرار مزاعــم‬
‫ً‬ ‫آخريــن‪ .‬وهوجمــت نقابــة الصحفيــن واحتُ ِجــز عــرون‬
‫وســائل اإلعــام الحكوميــة حــول "املخربــن" و"الخارجــن عــن القانــون" الذيــن ينهبــون‬
‫ويحرقــون املمتلــكات العامــة‪ ،‬وأُصـ ِـد َر تحذي ـ ٌر شــديد اللهجــة لقــوى املعارضــة بالوقــف‬
‫الفــوري لكافــة التحــركات يف الشــارع‪.‬‬
‫لكــن بــداًلً مــن اختبــاء النشــطاء‪ -‬كــا يف كل مــرة‪ -‬شــجعهم القمــع الوحــي الــذي لجــأت‬
‫إليــه أجهــزة النظــام األمنيــة واألكاذيــب الشــنيعة التــي روجتها وســائل إعالمه عــى مواصلة‬
‫االحتجــاج واملقاومــة‪ .‬نُــرت دعــوة عــر جميــع وســائل التواصــل االجتامعــي ليــوم غضــب‬
‫ـارَصون النــاس لالنضــام إليهــم‪ .‬ورغــم‬ ‫بتاريــخ "الجمعــة ‪ 28‬ينايــر"‪ ،‬وناشــد النشــطاء املحـ َ‬
‫قريبــا أنذرهــم مبــا‬
‫تــردد املرصيــن‪ ،‬إال أن الحديــث عــن تســلم جــال مبــارك للســلطة ً‬
‫هــو أســوأ بكثــر مــا يعيشــونه‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬أثــارت حملــة القمــع املدمــرة املحتملــة مخــاوف‬
‫الكثرييــن‪ ،‬واســتيقظ املرصيــون يف ذلــك الصبــاح مذعوريــن ليكتشــفوا أن أجهــزة األمــن‬
‫قطعــت جميــع خدمــات شــبكة اإلنرتنــت والهواتــف املحمولــة‪ ،‬وأغرقــت الشــوارع بفــرق‬
‫مكافحــة الشــغب والعربــات املدرعــة‪ .‬يف ذلــك اليــوم‪ ،‬فضــل الكثــرون البقــاء يف منازلهــم‬
‫مــا مل يكونــوا مجربيــن عــى حضــور صــاة الجمعــة‪ .‬لكــن يبــدو أن األيــام الثالثــة املاضيــة‬
‫أثــارت حامســة الخطبــاء يف جميــع أنحــاء البــاد للتنديــد بالديكتاتوريــة والحــث عــى‬
‫الخــروج وتحــدي الســطوة األمنيــة‪ ،‬فاشــتعلت املســاجد إثــر خطــب الجمعــة وخــرج ســيل‬
‫مــن املتظاهريــن الغاضبــن الذيــن تدفقــوا مــن مســاجد القاهــرة البالــغ عددهــا ثالمثئــة‬
‫ألــف مســجد لتبــدأ املســرات الحاشــدة نحــو ميــدان التحريــر‪.‬‬
‫حــاول رجــال الرشطــة املقاومــة واســتخدموا الذخــرة الحيــة ونــران القناصــة املوجهــة‬
‫بالليــزر‪ ،‬كــا دهســوا املتظاهريــن بالســيارات املدرعــة فقــد أعامهــم ضبــاب الغــاز املســيل‬

‫‪327‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫للدمــوع‪ .‬وحاولــوا ردع املتظاهريــن بخراطيــم امليــاه عاليــة الضغــط ولكــن دون جــدوى‪.‬‬
‫أصيــب رجــال الرشطــة باإلرهــاق‪ ،‬فقــد ظلــوا يف الشــارع بكامــل عتادهــم ملــدة أربعــة أيــام‬
‫متتاليــة‪ ،‬واعــرف وزيــر الداخليــة نفســه أنهــم اسـتُنزفوا فهــم مجهــزون لقمــع حفنــة مــن‬
‫املتظاهريــن يف املناطــق الحرضيــة أو الطــاب املتهوريــن أو مجموعات صغــرة من العامل‬
‫والفالحــن‪ ،‬لكنهــم اآلن يواجهــون ماليــن املتظاهريــن‪ :‬إنهــم اآلن يواجهــون الشــعب‪.‬‬
‫شــهد ضابــط أمــن الدولــة الســابق اللــواء عصــام جنيــدي بشــكل مبــارش كيــف ت ُ ِر َكــت‬
‫قــوات الرشطــة عالقــة يف الشــوارع دون طعــام أو مــاء أو نــوم أو حتــى بطاريــات جديــدة‬
‫ألجهــزة االتصــال الالســليك‪ ،‬وشــوهد الكثــر منهــم يخلعــون زي الرشطــة ويهربــون‪ (((.‬بعــد‬
‫معــارك الشــوارع البطوليــة حــول أحيــاء وســط القاهــرة وجســور النيــل حيــث قُ ِتـ َـل املئــات‪،‬‬
‫بــدت قــوات األمــن عــى وشــك االستســام‪ .‬وبعــد مواجهــات عنيفــة خاصــة عــى جــر‬
‫قــر النيــل‪ -‬املفتــاح الغــريب لوســط املدينــة‪ -‬تراجعــت وحــدات الرشطــة وأصبــح الطريــق‬
‫أمــام املتظاهريــن مفتو ًحــا‪ .‬يف هــذه املرحلــة الحرجــة‪ ،‬كان أمــام الثــوار عدة خيــارات‪ :‬إىل‬
‫أيــن يتجهــون بعــد ذلــك؟ مــن اليســار إىل مبنــى اتحــاد املحطــات اإلذاعيــة والتلفزيونيــة‪-‬‬
‫الجهــاز اإلعالمــي املركــزي للنظــام‪ -‬ووزارة الخارجيــة املجــاورة لــه‪ ،‬أو إىل اليمــن باتجــاه‬
‫مقــر الربملــان ومقــر مجلــس الــوزراء ووزارة الداخليــة‪ -‬املركــز العصبــي للدولــة البوليســية‬
‫يف مــر‪ -‬أو إىل األمــام مبــارشة نحــو ميــدان التحريــر كــا كان مقصــو ًدا يف البدايــة‬
‫قبــل االنهيــار املفاجــئ للرشطــة‪ .‬اختــار املتظاهــرون الخيــار األخــر مــا وفــر للنظــام‬
‫وقتًــا مثي ًنــا لتحصــن تلــك املواقــع اإلســراتيجية بحلــول الليــل‪ ،‬وملــا حــاول بضــع عــرات‬
‫مــن املتظاهريــن يف تلــك الليلــة شــق طريقهــم إىل بعــض هــذه املواقــع يف وقــت الحــق‪-‬‬
‫الشــتباههم يف أنهــم قــد اتخــذوا الخيــار الخاطــئ‪ -‬كانــت الطــرق قــد أُغلقــت بالفعــل‪.‬‬
‫ملــاذا اختــار املتظاهــرون ســاحة عامــة كبــرة (حــوايل ‪ 490‬ألــف قــدم مربــع تتســع رمبــا‬
‫ملليــون شــخص) بــداًلً مــن مقــرات الدولــة الحساســة‪ ،‬وهــو قــرار مصــري حــدد مســار‬
‫الثــورة فيــا بعــد؟ كان الجميــع يعلــم أن االســتيالء عــى ســاحة وســط البلــد لــن يشــل‬
‫الحيــاة يف مدينــة مرتاميــة األطــراف مثــل القاهــرة‪ ،‬كــا أنــه مــن غــر املحتمــل أن يجعــل‬
‫حركــة املــرور عــى طرقهــا املزدحمــة أســوأ مــا هــي عليــه بالفعــل‪ .‬وعــى عكــس األزقــة‬
‫‪ -1‬عاصــم جنيــدي‪" ،‬أداء جهـ�از الرشط��ة" يف كتــاب‪ :‬ثــورة ‪ 25‬ينايــر‪ :‬قــراءة أوليــة ورؤيــة مســتقبلية‪ ،‬القاهــرة‪:‬‬
‫مركــز األهــرام للدراســات السياســية واالســراتيجية‪ ،2011 ،‬ص ‪.153-152‬‬

‫‪328‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬عىل عتبة السلطة‪ :‬الجيش بعد الثورة‬

‫الضيقــة واملبــاين املكتظــة يف األحيــاء الشــعبية بالعاصمــة‪ ،‬كانــت الســاحة عبــارة عــن أرض‬
‫مفتوحــة ال مــكان لالختبــاء فيهــا‪ .‬إذًا إن مل يخطــط املتظاهــرون لشـ ّـل املدينــة وال للحفــاظ‬
‫عــى عنــر املنــاورة فيــا لــو أُجــروا عــى الدخــول يف معــارك شــوارع‪ ،‬فــا الــذي كانــوا‬
‫يفكــرون فيــه؟‬
‫إن امليــزة الوحيــدة التــي يوفرهــا موقــع كميــدان التحريــر الواســع واملكشــوف هــي الرؤيــة‬
‫وحســب‪ .‬مل يســتلهم منظمــو الثــورة التجــارب مــن ثــوار أوروبــا أواخــر القــرن التاســع‬
‫عــر ومطلــع القــرن العرشيــن وال مــن جريانهــم يف ليبيــا وســوريا‪ ،‬ومل يســتوعبوا رضورة‬
‫خلــق حالــة موازيــة للســلطة مــن خــال احتــال املبــاين الحكوميــة وتثبيــت أنفســهم يف‬
‫أحيــاء مزدحمــة‪ ،‬واالســتيالء عــى مــدن بأكملهــا‪ ،‬واســتخدام كل ذلــك كأســاس لفــرض‬
‫تدريجيــا‪ .‬لكنهــم بــداًلً مــن ذلــك اســتلهموا األفــكار مــن ثــورات أوروبــا‬
‫ً‬ ‫النظــام الجديــد‬
‫الرشقيــة يف عــام ‪( 1989‬وقــد اعــرف العديــد منهــم الح ًقــا بدراســة هــذه التجربــة بدقة)‪،‬‬
‫حيــث نجــح املتظاهــرون الســلميون حينهــا يف قلــب نظــام الحكــم الشــيوعي يف تجربــة‬
‫يُحســدون عليهــا‪ .‬وبــدا أن احتــال الســاحات والشــوارع الواســعة ميثــل إســراتيجية قابلــة‬
‫للتطبيــق بالفعــل‪ ،‬فبالنســبة إلســراتيجية تقــوم عــى حشــد الــرأي املحــي والعاملــي وتجــرؤ‬
‫النظــام عــى إطــاق النــار عــى املدنيــن أمــام مئــات الكامــرات ومراســي األخبــار‪ ،‬فــإن‬
‫ميــدان التحريــر (وغــره مــن الســاحات املركزيــة يف جميــع أنحــاء مــدن املحافظــات‬
‫املرصيــة) مناســب لهــذه الخطــة متا ًمــا‪ ،‬وقــد نجــح‪ -‬يف الوقــت الحــايل(((‪.‬‬

‫‪ -1‬كان العنــر املفقــود هنــا هــو الســياق الجيوســيايس املختلــف جذريًــا‪ .‬فمــع تراجــع الراعــي الســوفيتي‬
‫لألنظمــة الشــيوعية املتعــرة يف أوروبــا الرشقيــة وعــزم العــامل الرأســايل القلــق بقيــادة الواليــات املتحــدة‬
‫واالتحــاد األورويب عــى عــدم الســاح بخــروج األمــور عــن الســيطرة‪ُ ،‬عــرض عــى متظاهــري عــام ‪ 1989‬كل‬
‫أشــكال املســاعدة املمكنــة مبــا يف ذلــك التغطيــة اإلعالميــة املســتمرة واإلنــذارات الغربيــة ضــد القمــع العنيــف‬
‫الــذي يتعرضــون لــه‪ .‬وعــى النقيــض مــن ذلــك‪ ،‬كان النظــام االســتبدادي يف مــر يخــدم مصالــح أقــوى‬
‫القــوى اإلقليميــة والعامليــة‪ ،‬وبعــد أن هــدأت املوجــة األوىل مــن الدعــم الــدويل كان مــن املتوقــع أن يُســمح‬
‫لحــكام البــاد الجــدد (بغــض النظــر عــن الخطــاب األمريــي واألورويب) بتصفيــة حــركات التمــرد ببــطء‪ ،‬أو‬
‫القيــام بــكل مــا هــو رضوري للعــودة إىل العمــل كاملعتــاد‪ .‬يف األشــهر التــي أعقبــت اإلطاحــة مببــارك‪ ،‬أصبــح‬
‫ميــدان التحريــر أشــبه بســجن يف الهــواء الطلــق حيــث ميكــن محــارصة املتظاهريــن وتجاهلهــم مــع اســتمرار‬
‫الحيــاة يف الخــارج كاملعتــاد‪ ،‬وانتظــرت القــوات الحكوميــة تــايش القــوة الثوريــة‪ ،‬وهــو مــا حصــل فعـ ًـا‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫احتفظــت قــوات الرشطــة يف جعبتهــا ببطاقــة أخــرى مل تســتخدمها بعــد‪ ،‬ففتحــت بوابــات‬
‫مثانيــة عــر ســج ًنا وعــرات أقســام الرشطــة‪ ،‬وحرضــت الســجناء عــى اســتغالل ظــروف‬
‫رميا‬
‫الفــوىض‪ .‬وعندمــا قــاوم رئيــس مباحــث قطــاع الســجون اللــواء محمد البطــران قتلــوه ً‬
‫بالرصــاص‪ .‬يعتقــد ضبــاط الرشطــة أن إطــاق املجرمــن مــن شــأنه أن يرهــب املواطنــن‬
‫مبــا يكفــي إلعادتهــم إىل بيوتهــم‪ ،‬ولكــن بــداًلً مــن ذلــك أرضم املتظاهــرون النــران يف‬
‫أقســام الرشطــة ومقــار الحــزب الحاكــم يف جميــع أنحــاء البــاد انتقا ًمــا ورسعــان مــا‬
‫شــكلوا فــرق حراســة لألحيــاء لحاميــة عائالتهــم وممتلكاتهــم‪ .‬لبضــع ســاعات مثينة‪ ،‬ســيطر‬
‫املتظاهــرون عــى الشــوارع وتــرددت أصــداء الهتافــات التــي أعلنــت مطلــب الثــورة يف‬
‫جميــع أنحــاء البــاد‪" :‬الشــعب يريــد إســقاط النظــام!"‪ ،‬و"ارفــع راســك فــوق أنــت مرصي!"‬
‫بقيــت القــوات املســلحة حتــى ذلــك الحــن يف موقــف املتفــرج‪ ،‬وحــن ظهــر عجــز وزارة‬
‫الداخليــة عــن إيقــاف الثــورة اضطــر الرئيــس املحــارص إىل اســتدعاء حفــاري قبــوره‪-‬‬
‫الجيــش‪ -‬يف محاولــة أخــرة لفــرض النظــام يف البــاد‪ .‬انطلــق الجيــش إىل الشــوارع بثقــة‪،‬‬
‫ورغــم والء أعضــاء هيئــة األركان ملبــارك أو عــدم مباالتهــم بسياســاته عــى أقــل تقديــر إال‬
‫أن ذلــك مل مينعهــم تحــت وطــأة الــرأي العــام داخــل الجيــش مــن التخــي عــن مبــارك‬
‫وتركــه ليلقــى مصــره الوشــيك‪ .‬لــو تــرف الجيــش بخــاف ذلــك فلرمبــا أدى ذلــك إىل‬
‫تصــدع صفوفــه التــي كانــت منــذ اليــوم األول داعمــة للثــورة بشــكل واضــح دون انتظــار‬
‫التعليــات مــن القيــادة‪.‬‬
‫يف الليلــة األوىل مــن الثــورة‪ ،‬شــوهد جنــود مــن الجيــش عــى شاشــة التلفزيــون يبتســمون‬
‫ـارات مثــل "يســقط مبــارك"! وهتــف‬ ‫ويعانقــون املتظاهريــن‪ ،‬وكُ ِت َبــت عــى الدبابــات عبـ ٌ‬
‫املتظاهــرون‪" :‬الشــعب والجيــش إيــد واحــدة"! كــا ألقــت مجموعــة مــن املتظاهريــن‬
‫أنفســهم فــوق ســيارة جيــب عســكرية قبــل أن تصــل إىل وســط القاهــرة وهــم يرصخــون‬
‫بجنــون‪" :‬هــل أنتــم هنــا لتطلقــوا الرصــاص علينــا؟"‪ ،‬فرتجــل عقيــد مــن الســيارة وعانــق‬
‫أحــد املتظاهريــن وقــال لــه‪" :‬ليــس هنالــك مــا تخشــاه‪ ،‬ســنقطع أيدينــا قبــل أن نطلــق‬
‫رصاصــة واحــدة عليكــم‪ ،‬إن مطالبكــم مرشوعــة فانطلــق وال ترتاجــع إىل الــوراء"‪ .‬كانــت‬
‫الرســالة واضحــة منــذ البدايــة‪ ،‬وحتــى قبــل أن يعــرف الجيــش مــدى توســع الثــورة أو‬
‫رضا منــذ البدايــة يراقبهــا حتــى النهايــة‪.‬‬
‫اســتمرارها فقــد كان حــا ً‬

‫‪330‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬عىل عتبة السلطة‪ :‬الجيش بعد الثورة‬

‫صحفيــا‬
‫ً‬ ‫يف نهايــة هــذا اليــوم الدامــي‪ ،‬عقــد الرئيــس األمريــي بــاراك أوبامــا مؤمت ـ ًرا‬
‫أعــرب فيــه عــن قلقــه مــن اســتخدام العنــف ضــد املتظاهريــن الســلميني‪ ،‬لكــن مبــارك‬
‫أرص عــى املحاولــة‪ .‬خــال خطابــه األول للشــعب بعــد الثــورة يف منتصــف ليلــة ‪ 28‬ينايــر‪،‬‬
‫اســتخدم الديكتاتــور املخــرم سياســة العصــا والجــزرة فأعلــن حظــر تجــول يف جميــع‬
‫نائبــا للرئيــس ألول مــرة‬
‫املــدن الكــرى‪ ،‬ويف املقابــل أقــال حكومــة أحمــد نظيــف وعــن ً‬
‫منــذ ثالثــن عا ًمــا‪ .‬لكــن رسعــان مــا أصيــب املتظاهــرون باإلحبــاط حــن تبــن أن نائــب‬
‫الرئيــس مل يكــن ســوى رئيــس املخابــرات املخيــف عمــر ســليامن‪ ،‬وأن الحكومــة الجديــدة‬
‫تشــكلت برئاســة صديــق مبــارك الحميــم والقائــد الســابق للقــوات الجويــة ووزيــر الطــران‬
‫املــدين يف مــر أحمــد شــفيق‪ .‬ولزيــادة الطــن بلــة‪ ،‬بقــي خمســة عــر مــن أعضــاء‬
‫الحكومــة التــي أقيلــت لتوهــا يف مناصبهــم‪ ،‬ومل يُســتبدل ســوى وزيــر الداخليــة وحفنــة‬
‫مــن الرأســاليني االحتكاريــن‪.‬‬
‫مــن الواضــح إذًا أن مبــارك مل يكــن مســتع ًدا للتخــي عــن شــر واحــد مــا كان يعتقــد أنــه‬
‫رضوري للغايــة‪ .‬حينهــا أعلــن املتظاهــرون اعتصا ًمــا "دامئًــا" يف ميــدان التحرير وســاحات‬
‫وخيــم النشــطاء باســتمرار يف الســاحات‬
‫رئيســية أخــرى حــول مــر حتــى تنحــي مبــارك‪ّ ،‬‬
‫املركزيــة (فميــدان التحريــر مثـ ًـا ضــم مــا ال يقــل عــن خمســن ألــف متظاهــر يف جميــع‬
‫األوقــات)‪ ،‬وتضاعفــت األعــداد خــال النهــار بعــرات اآلالف‪ .‬يف تلــك املياديــن أقيمــت‬
‫املستشــفيات امليدانيــة واملســارح وحفــات الغنــاء والخطــب‪ ،‬ونصبــت شاشــات التلفزيــون‬
‫العمالقــة وانتــر باعــة املــواد الغذائيــة واملتطوعــون لجمــع القاممــة‪ ،‬وحتــى صالونــات‬
‫الحالقــة كانــت حــارضة لتأمــن راحــة املتظاهريــن‪ .‬بأعالمهــم والفتاتهــم وخيامهــم‪ ،‬كان‬
‫الثــوار مســتعدين لثــورة طويلــة األمــد‪ ،‬ثــورة تحولــت منــذ ذلــك الحــن إىل معركــة صــر‪.‬‬
‫يف ‪ 30‬ينايــر‪ ،‬انتــرت قــوات الرشطــة بحــذر لكنهــا ابتعــدت عــن املناطــق الســاخنة‬
‫مفضلــة الســاح للجيــش بالتعامــل مــع املوقــف‪ .‬يف اليــوم التــايل‪ ،‬أصــدرت القيــادة العليــا‬
‫بيانهــا األول الــذي أكــدت فيــه أن القــوات املســلحة لــن تســتخدم القــوة لقمــع املتظاهريــن‪.‬‬
‫واعــرف رئيــس مجلــس النــواب األخــر يف عهــد مبــارك أنــه خــال اجتــاع حــره مــع‬
‫الرئيــس وكبــار مســاعديه أوضــح وزيــر الدفــاع أن "الجنــود لــن يرضبــوا املتظاهريــن‪،‬‬
‫إنهــم موجــودون هنــاك لحاميتهــم وليــس االعتــداء عليهــم"‪ .‬كــا أوضــح أحــد أعضــاء‬

‫‪331‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫املجلــس العســكري الح ًقــا أن "القــوات املســلحة تولــت املســؤولية قبــل تنحــي الرئيــس وف ًقــا‬
‫(((‬
‫للبيــان الــذي نــص عــى أن الجيــش يعــرف برشعيــة مطالــب الشــعب املــري"‪.‬‬
‫لــذا كان عــى مبــارك يف اليــوم التــايل أن يبــذل جهـ ًدا أكــر‪ ،‬فوعــد يف خطــاب عاطفــي‬
‫بعــدم الرتشــح أو الســاح البنــه بالرتشــح يف االنتخابــات املقبلــة وذكّــر املرصيــن‬
‫بــدوره الوطنــي خــال حــرب أكتوبــر عــام ‪ .1973‬كــا أملــح إىل تغيــرات جذريــة يف‬
‫الحــزب الحاكــم وإجــراء تحقيــق شــامل يف مســؤولية قــوات الرشطــة عــن القمــع العنيــف‬
‫لالحتجاجــات‪ .‬كثــرون تأثــروا بخطابــه العاطفــي‪ ،‬ولكــن بعــد أقــل مــن أربــع وعرشيــن‬
‫ســاعة اندفــع املرتزقــة الحمقــى الذيــن اســتأجرهم الحــزب الوطنــي مــع قــوات الرشطــة‬
‫إىل ميــدان التحريــر عــى ظهــور الجــال والخيــول وجلــدوا املتظاهريــن وطاردوهــم يف‬
‫جميــع أنحــاء امليــدان‪ .‬ويف غضــون ســاعات قليلــة ظهــر املزيــد مــن أنصــار النظــام عــى‬
‫أســطح املبــاين املحيطــة‪ ،‬فأمطــروا املتظاهريــن يف امليــدان بقنابــل املولوتوف‪ .‬واجــه الثوار‬
‫بالحجــارة وحواجــز بُنيــت عــى عجــل‪ ،‬وبعــد معركــة دامــت ســتة عــر ســاعة انســحب‬
‫املهاجمــون‪ .‬لقــد أقنعــت حادثــة "معركــة الجمــل" ســيئة الســمعة يف ‪ 2‬فربايــر‪ /‬شــباط‬
‫املرصيــن أن عــى مبــارك الرحيــل‪.‬‬
‫لكــن بــداًلً مــن التنحــي‪ ،‬حــاول مبــارك بــذل قصــارى جهــده إلرضــاء الثــوار مــن خــال‬
‫التنــازالت السياســية‪ :‬فوجــه نائــب الرئيــس للتفــاوض مــع دعــاة التظاهــر‪ ،‬وشُ ــكلت لجنــة‬
‫لتعديــل الدســتور‪ ،‬كــا ُعــزل األمــن العــام للحــزب الوطنــي وكــوادره القياديــة مبــن فيهــم‬
‫نجــل الرئيــس جــال ومالزمــه الرئيــي أحمــد عــز مــن الحــزب الحاكــم‪ .‬و ُحلــت لجنــة‬
‫السياســات ســيئة الســمعة و ُعينــت شــخصية إصالحيــة إلصــاح الحــزب بالكامــل‪ ،‬فيــا ُمنــع‬
‫وزيــر الداخليــة ووزراء األعــال يف الحكومــة القدميــة مــن الســفر و ُجمــدت ممتلكاتهــم‬
‫واسـتُجوبوا مــن قبــل النائــب العــام‪ .‬باإلضافــة لــكل ذلــك‪ ،‬أُفــرج عــن بعــض النشــطاء مبن‬
‫فيهــم وائــل غنيــم (أجــرى األخــر مقابلــة تلفزيونيــة مثــرة انهــارت دموعــه يف نهايتهــا‬
‫فكســب املزيــد مــن التعاطــف العــام مــع الثــورة)‪ ،‬وعــادت خدمــة اإلنرتنــت وراجــت شــائعة‬
‫بســفر مبــارك إىل أملانيــا إلجــراء فحوصــات طبيــة‪ .‬لكــن املتظاهريــن ظلــوا مرصيــن عــى‬
‫مطالبهــم‪ ،‬وبــد ًءا مــن ‪ 8‬فربايــر اس ـتُكملت املســرات واالعتصامــات اليوميــة بإرضابــات‬
‫‪ -1‬دالي��ا عث�مان‪ ،‬مس��اعد وزي��ر الدف��اع للش��ؤون القانوني��ة والدس�تـورية يف ح��وار‪ :‬اللــواء ممــدوح شــاهني‪:‬‬
‫الرئيــس القــادم "ملــزم" بتغيــر الدســتور‪ ،‬املــري اليــوم‪.2011-3-16 :‬‬

‫‪332‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬عىل عتبة السلطة‪ :‬الجيش بعد الثورة‬

‫يف الــركات واملصانــع العامــة والخاصــة‪ .‬يف الوقــت نفســه‪ ،‬دعــت الحكومــات يف جميــع‬
‫أنحــاء العــامل‪ -‬باســتثناء حكومتــي إرسائيــل والســعودية‪ -‬النظــام لالنصيــاع للمطالــب‬
‫الشــعبية‪ .‬يف ‪ 10‬فربايــر‪ ،‬تــويف األســطورة العســكرية وخصــم النظــام العنيــد ســعد الديــن‬
‫الشــاذيل رئيــس أركان حــرب ‪ ،1973‬وســار متظاهــرون حــول ميــدان التحريــر وهــم يبكون‬
‫ويهتفــون باســمه ويقدمــون التعــازي للضبــاط الذيــن أحاطــوا بامليــدان‪.‬‬
‫يف نفــس اليــوم‪ ،‬اجتمــع املجلــس األعــى للقــوات املســلحة بــدون قائــده األعــى (الرئيــس‬
‫ـا‪ .‬ويف وقــت الحــق مــن تلــك الليلــة‪ ،‬أعلــن التلفزيــون‬ ‫مبــارك) فيــا اعتُــر انقالبًــا ناعـ ً‬
‫ـا فيــا قــال مديــر وكالــة املخابــرات املركزيــة‬‫الرســمي أن الرئيــس ســيلقي خطابًــا مهـ ً‬
‫ليــون بانيتــا أمــام الكونجــرس إن مبــارك ســيتنحى‪ .‬أســتعد املتظاهــرون لحفلــة العمــر‪،‬‬
‫لكــن مبــارك ألقــى خطابًــا متحذلقًــا عكــس مــا كان متوق ًعــا‪ ،‬وختمــه بقــراره تفويــض‬
‫ســلطاته مؤقتًــا لنائــب الرئيــس‪ .‬مــا إن ســمع املتظاهــرون يف ميــدان التحريــر هــذا الجــزء‬
‫مــن الخطــاب حتــى بــدأوا بالــراخ مذهولــن وبإلقــاء األحذيــة عــى شاشــات التليفزيون‪.‬‬
‫حاملــا انتهــى الخطــاب‪ ،‬تحــرك مئــات اآلالف إىل القــر الرئــايس عــى بعــد أربعــن‬
‫را مــن وســط املدينــة وطوقــوه يف وقــت مبكــر مــن فجــر ‪ 11‬فربايــر‪.‬‬ ‫كيلوم ـ ً‬
‫كان املشــهد أمــام خياريــن‪ :‬إمــا أن يأمــر مبــارك الجيــش واألمــن بتصفيــة الثــورة بــكل‬
‫فعليــا بحــام دم‪ ،‬أو ســيضطره املجلــس العســكري إىل‬ ‫الوســائل الرضوريــة مــا يتســبب ً‬
‫االســتقالة‪ .‬يف وقــت الحــق مــن بعــد الظهــر‪ ،‬نقلــت مروحيـ ٌة الرئيـ َ‬
‫ـس وعائلتــه إىل منتجــع‬
‫رشم الشــيخ املطــل عــى البحــر األحمــر‪ ،‬وأعلــن نائــب الرئيــس أن مبــارك قــد ســلم‬
‫الســلطة إىل املجلــس العســكري‪ .‬أعلنــت القيــادة العليــا عــى الفــور عزمهــا عــى االنســحاب‬
‫مــن املشــهد الســيايس بعــد فــرة انتقاليــة مدتهــا ســتة أشــهر والتــي مــن املفــرض أن‬
‫تنتهــي بانتقــال الحكــم إىل ســلطة منتخبــة‪ ،‬وبعــد مثانيــة عــر يو ًمــا مــن التحــدي الشــعبي‬
‫وســقوط أكــر مــن ألــف متظاهــر‪ ،‬بــدأ فصــل جديــد مــن الحكايــة‪.‬‬

‫‪333‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫العسكر ومثن التح ّرر السيايس‬


‫رغــم مشــاركة مــا يقــرب مــن اثنــي عــر مليــون مــري يف الثــورة التــي اســتمرت‬
‫مثانيــة عــر يو ًمــا‪ ،‬إال أن عقــو ًدا مــن القمــع البوليــي اســتبعدت إمكانيــة ظهــور حركــة‬
‫ثوريــة منظمــة تتصــدر املشــهد‪ .‬ومــا مل يقــف الجيــش إىل جانــب الشــعب فمــن املحتمــل‬
‫أن التمــرد كان سيســتمر لفــرة كافيــة إلقنــاع القيــادة السياســية بــرورة التنحــي‪ .‬ولــو مل‬
‫تكــن العالقــات داخــل النظــام متقلبــة بســبب الــراع املحتــدم عــى الســلطة داخــل الكتلــة‬
‫الحاكمــة ملــا أدار الجيــش ظهــره لرشكائــه السياســيني واألمنيــن يف هــذا املنعطــف الحــرج‪.‬‬
‫لكــن الجيــش بعــد تهميشــه مــن قبــل األجهــزة األمنيــة والسياســية لســنوات رأى يف الثــورة‬
‫فرصــة لاللتفــاف حــول الساســة واألمنيــن والعــودة إىل قمــة النظــام‪ .‬واآلن‪ ،‬كيــف اســتغل‬
‫الجيــش موقعــه الجديــد بعــد عودتــه (مؤقتًــا عــى األقــل) إىل املشــهد الســيايس؟‬
‫يف األشــهر التــي أعقبــت ســقوط مبــارك‪ ،‬اتخــذ الجيــش عــدة خطــوات جريئــة يف‬
‫السياســة الخارجيــة يف مــؤرش واضــح عــى اســتيائه مــن تراجــع الــدور الجيوســيايس ملرص‬
‫إقليميــا‪ .‬تضمنــت هــذه الخطــوات الســاح لســفينتني‬
‫ً‬ ‫وتصميمــه عــى إظهــار قــوة مــر‬
‫إيرانيتــن يُشــاع أنهــا تحمــان صواريــخ إىل لبنــان باإلبحــار عــر قنــاة الســويس يف‬
‫مــارس ‪ 2011‬ألول مــرة منــذ الثــورة اإلســامية يف إيــران‪ ،‬رغــم معارضــة الواليــات املتحــدة‬
‫وإرسائيــل الشــديدة‪ ،‬وكُــ ِر َّرت نفــس الخطــوة يف فربايــر ‪2012‬؛ إرســال وفــود شــعبية‬
‫بقيــادة شــخصيات إســامية إىل طهــران إلصــاح العالقــات املرصيــة اإليرانيــة؛ إيفــاد‬
‫مديــر املخابــرات الجديــد مــراد مــوايف إىل ســوريا وقطــر‪ ،‬وهــا دولتــان عاملهــا مبــارك‬
‫وكأنهــا معاديتــان‪ ،‬الستكشــاف ســبل اســتئناف التعــاون املتبــادل؛ فتــح الحــدود مــع غــزة‬
‫التــي تســيطر عليهــا حــاس رغــم االحتجاجــات اإلرسائيليــة؛ التوســط يف اتفــاق وطنــي‬
‫جمــع حــاس وفتــح بعــد أن أدى دعــم النظــام القديــم غــر املــروط لفتــح إىل تعطيــل‬
‫آفاقــه لســنوات؛ التوســط يف تبــادل أرسى بــن الفلســطينيني وإرسائيــل أطلــق خالله رساح‬
‫أكــر مــن ألــف ناشــط فلســطيني مقابــل جنــدي إرسائيــي واحــد (جلعــاد شــاليط‪ ،‬الجنــدي‬
‫الشــهري الــذي أرسه مقاتلــو حــاس يف يونيــو ‪ ،2006‬وكان تحريــره الذريعــة الرســمية‬
‫للهجــوم اإلرسائيــي املدمــر عــى غــزة يف ديســمرب ‪2008‬؛ تشــجيع النقــاش العــام حــول‬
‫رضورة التعديــل عــى قــرار نــزع الســاح يف ســيناء وتعديــل اتفاقيــات الســام املرصيــة‬

‫‪334‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬عىل عتبة السلطة‪ :‬الجيش بعد الثورة‬

‫اإلرسائيليــة؛ اعتقــال عميــل موســاد مزعــوم (والــذي صــودف أنــه مواطــن أمريــي يدعــى‬
‫إيــان غرابيــل) ألول مــرة منــذ عقــود‪ ،‬وتبديلــه بخمســة وعرشيــن معتقـ ًـا مرصيًــا يف‬
‫الســجون اإلرسائيليــة؛ مداهمــة املنظــات األجنبيــة غــر الحكوميــة باســتخدام الوحــدات‬
‫أمريكيــا مــن الســفر لتلقــي متويــل غــر قانــوين (رغــم أنــه‬
‫ً‬ ‫العســكرية ومنــع تســعة عــر‬
‫اضطــر إلطــاق رساحهــم بعــد شــهرين بضغــط مــن الواليــات املتحــدة)؛ وغريهــا مــن‬
‫الخطــوات املامثلــة واملثــرة للجــدل‪.‬‬
‫إحــدى الحــوادث امللفتــة هــي الــرد العســكري عــى مقتــل ســتة جنــود مرصيــن يف ســيناء‬
‫عــى يــد إرسائيليــن يف ‪ 17‬أغســطس‪ ،‬حيــث أرص الجيــش عــى تقديــم اعتــذار إرسائيــي‬
‫خاصــا إال أن‬‫مقتضبــا‪ .‬ورغــم أن هــذا ال يُظهــر تبج ًحــا ً‬ ‫ً‬ ‫ـميا‬
‫رســمي‪ ،‬فتلقــى اعتــذا ًرا رسـ ً‬
‫الجديــر بالذكــر أن اثنــن وعرشيــن مرصيًــا قُتلــوا بني ســبتمرب ‪ 2004‬وأغســطس ‪ 2011‬يف‬
‫حــوادث حدوديــة مامثلــة مــع بعــض الشــكوى مــن الســلك الدبلومــايس ملبــارك‪ .‬كــا أطلـ َـق‬
‫ـر يف الشــهر التــايل مبجلــة النــر الناطقــة‬ ‫غاضبــا نُـ ِ َ‬
‫ً‬ ‫اللــوا ُء عبــد املنعــم كاطــو ترصي ًحــا‬
‫بلســان الجيــش مــن أن إرسائيــل مل تعــد قــادرة عــى التــرف بحريتهــا دون أن تلقــى‬
‫عقابهــا‪ ،‬وهاجــم الواليــات املتحــدة ألنهــا "قدمــت كل دعمهــا إلرسائيــل‪ ...‬كالعــادة"‪ ،‬مضي ًفــا‬
‫أن اتفاقيــة الســام املرصيــة اإلرسائيليــة منحــت كل طــرف الحــق يف مراجعــة املــواد التــي‬
‫تحكــم حجــم القــوات يف ســيناء "بالرغــم مــن أن النظــام القديــم مل يســتخدم هــذا الحــق‬
‫ـرا‪ ،‬وافــق الجيــش يف أبريــل ‪ 2012‬عــى إلغــاء صفقــة تصديــر الغــاز الطبيعــي‬ ‫أبـ ًدا"‪ (((.‬أخـ ً‬
‫املثــرة للجــدل بــن مــر وإرسائيــل‪ ،‬ورد وزيــر الدفــاع عــى االحتجاجــات اإلرسائيليــة‬
‫بالتأكيــد عــى أن الجيــش ســوف يكــر يــد كل مــن يجــرؤ عــى تهديــد مــر‪ .‬ورغــم أن‬
‫هــذه املســاعي غــر املنتظمــة مل تُضــف الكثــر إال أنهــا عكســت عــى األقــل رغبــة القيــادة‬
‫العليــا يف اســتعادة دورهــا بعــد أن همشــتها القيــادة السياســية ألكــر مــن ثالثــة عقــود‪.‬‬
‫لكــن الجيــش تــرف بــردد أكــر عــى الجبهــة الداخليــة‪ ،‬ففــي الشــهرين األولــن مــن‬
‫حكمــه بــدا املجلــس العســكري خج ـواًلً وحــذ ًرا للغايــة يف إقصــاء الالعبــن األقويــاء مــن‬
‫رمــوز النظــام القديــم‪ .‬كان األمــر يتطلــب أوامــر قضائيــة بحــل الربملــان واملجالــس البلديــة‬
‫والحــزب الحاكــم‪ ،‬ووضــع رمــوز النظــام القديــم (مبــن فيهــم الرئيــس مبــارك وعائلتــه‬

‫‪ -1‬عبد املنعم كاطو‪ ،‬املالمح األساسـ�ية إلدارة األزمة وإعادة األمن يف ربوع سـ�يناء‪ ،‬النرص‪ ،‬العدد ‪ ،867‬ص ‪.14-15‬‬

‫‪335‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫وكبــار مســاعديه السياســيني واألمنيــن) للمحاكمــة بتهمــة الفســاد املــايل والتهــم الجنائيــة‬
‫فقــط بــداًلً مــن التهــم السياســية‪ ،‬مــع إفســاح املجــال أمــام املتظاهريــن ملداهمــة مقــرات‬
‫أمــن الدولــة وفروعهــا قبــل أن يتمكــن عنارصهــا مــن متزيــق وثائــق التجريــم‪ .‬وبــداًلً مــن‬
‫ذلــك‪ ،‬وجهــت القيــادة العليــا قواتهــا لحاميــة مراكــز الرشطــة ووزارة الداخليــة‪ ،‬وأجــازت‬
‫عمليــات تطهــر أمنيــة محــدودة ملتزمــة بنــص القانــون وعزلــت الضبــاط القريبــن مــن‬
‫ســن التقاعــد‪ .‬وبــداًلً مــن إلغــاء الدســتور الدائــم لعــام ‪ ،1971‬أعــادت القيــادة العليــا‬
‫إصــداره (بعــد تعديــات شــاملة) يف شــكل إعــان دســتوري متــت املوافقــة عليــه عــر‬
‫اســتفتاء شــعبي‪.‬‬
‫ال يتعلــق األمــر فقــط ببــطء اإلصالحــات وعــدم شــموليتها وحســب‪ ،‬فقــد لجــأت الرشطــة‬
‫تدريجيــا إىل العنــف لقمــع املطالــب الشــعبية بإجــراء تغيــرات أكــر جذريــة‪،‬‬
‫ً‬ ‫العســكرية‬
‫بــد ًءا بالتفريــق القــري العتصامــات ميــدان التحريــر يف ‪ 9‬مــارس‪ /‬آذار و‪ 8‬أبريــل‪/‬‬
‫نيســان‪ .‬واألســوأ مــن ذلــك أن الجيــش رسعــان مــا أطلــق العنــان لــوزارة الداخليــة لتبطــش‬
‫باملتظاهريــن‪ ،‬ابتــداء مــن ‪ 28‬يونيــو عندمــا تعرضــت عائــات شــهداء الثــورة لالعتــداء‬
‫إثــر إرصارهــم عــى إجــراء محاكــات أرسع‪ ،‬كــا أيــد اســتخدام بلطجيــة مســتأجرين‬
‫مــن قبــل األمــن (متنكريــن يف صــورة منــارصي املجلــس العســكري) لإليقــاع مبســرة‬
‫كانــت يف طريقهــا نحــو وزارة الدفــاع يف ‪ 23‬يوليــو‪ /‬متــوز وقمعهــا‪ .‬بعدهــا أصبــح العنــف‬
‫العســكري‪ -‬األمنــي ضــد املتظاهريــن ممنه ًجــا‪ ،‬فبــات يتكــرر خــال العــام الــذي أعقــب‬
‫تقريبــا‪ :‬اعتــداء قــوات األمــن عــى‬
‫ً‬ ‫ســقوط مبــارك مــرة كل شــهر متب ًعــا نفــس النمــط‬
‫املتظاهريــن بالتزامــن مــع اســتفزازات مــن قبــل بلطجيــة مســتأجرين؛ حشــد اآلالف مــن‬
‫النشــطاء والعامــة لصــد الهجــوم؛ دعــوة الرشطــة العســكرية للتدخــل لحاميــة املنشــآت‬
‫الرئيســية؛ وجــر الجيــش للدخــول يف املعركــة‪.‬‬
‫بلغــت وحشــية أجهــزة الدولــة درجــة عاليــة خاصــة يف الشــهرين األخرييــن مــن عــام‬
‫‪ 2011‬عندمــا اس ـتُخدم غــاز األعصــاب باإلضافــة إىل الغــاز املســيل للدمــوع والذخــرة‬
‫الحيــة ضــد املتظاهريــن وقُ ِتـ َـل مــا يقــرب مــن مئــة ناشــط‪ .‬يف حادثــة مروعــة يف فربايــر‬
‫‪ 2012‬خــال مبــاراة لكــرة القــدم يف بورســعيد تعرض املشــجعون املؤيــدون للثــورة (ألرتاس‬
‫ريــايض حمــى املتظاهريــن بانتظــام مــن وحشــية الرشطــة) العتــداء مــن قبــل البلطجيــة‬

‫‪336‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬عىل عتبة السلطة‪ :‬الجيش بعد الثورة‬

‫قُتــل عــى إثــره ســبعون مشــج ًعا وأصيــب العــرات‪ ،‬فيــا قامــت القــوات األمنيــة بإقفــال‬
‫بوابــات امللعــب بالسالســل ملنــع أي شــخص مــن الهــروب‪ .‬غضــت القــوات املســلحة الطــرف‬
‫عــن اعتقــال وتعذيــب النشــطاء الثوريــن (وشــاركت يف بعــض األحيــان)‪ ،‬ولجــأت إىل‬
‫الدعايــة الرماديــة والســوداء وتكتيــكات اغتيــال الشــخصية للتشــهري بهــم (كــا حــدث يف‬
‫يوليــو‪ /‬متــوز ‪ 2011‬عندمــا اتهــم أعضــاء املجلــس العســكري عل ًنــا شــباب حركــة ‪ 6‬أبريــل‬
‫بأنهــم يتلقــون التمويــل والتدريــب عــى التخريــب مــن قبــل عمــاء أجانــب)‪.‬‬
‫باختصــار‪ ،‬مــع أن املجلــس األعــى للقــوات املســلحة قطــع رأس املؤسســات السياســية‬
‫واألمنيــة إال أنــه رفــض إجــراء التغيــرات الثوريــة التــي لجــأ إليهــا أســافه يف عــام ‪1952‬‬
‫إلعــادة تشــكيل النظــام‪ .‬أوضــح مســاعد وزيــر الدفــاع للشــؤون القانونيــة ممــدوح شــاهني‬
‫يف مقابلــة مــع صحيفــة "املــري اليــوم" يف ‪ 17‬مــارس‪ -‬بعــد خمســة أســابيع مــن تنحــي‬
‫مبــارك‪ -‬أن القيــادة العليــا تنأى بنفســها عــن السياســة‪ ،‬وأن املجلس األعىل للقوات املســلحة‪-‬‬
‫عــى عكــس الضبــاط األحــرار‪ -‬يحكــم باســم الجيــش ككل وليــس كعنــر ثــوري‪ ،‬فقــال‪:‬‬
‫"يعتقــد البعــض أن القــوات املســلحة تولــت زمــام األمــور بحكــم الرشعيــة الثوريــة‪ ،‬لكــن‬
‫القــوات املســلحة حــن رأت البــاد تنهــار تدخلــت بحكــم كونهــا القــوة الوحيدة عــى األرض‬
‫القــادرة عــى حاميــة البــاد‪ .‬فــأدارت شــؤون البــاد وفــق إعــان مبنــي عــى املــادة ‪ 88‬من‬
‫دســتور ‪ 1971‬التــي تح ّمــل الجيــش مســؤولية أمــن الوطــن وحاميتــه‪ .‬مــا حــدث عــام ‪1952‬‬
‫كان يف الواقــع رشعيــة ثوريــة‪ ،‬ألن الضبــاط األحــرار قاموا بالثورة واســتولوا عىل الســلطة‪.‬‬
‫(((‬
‫اآلن لدينــا وضــع مختلــف فالذيــن ثــاروا يف ‪ 25‬ينايــر ‪ 2011‬هم مــن وصل إىل الســلطة"‪.‬‬
‫مــا مل يوضحــه اللــواء شــاهني هــو ســبب عجــز الجيــش عــن متابعــة مســار مشــابه ملســار‬
‫حركــة الضبــاط األحــرار يف يوليــو ‪ .1952‬ملــاذا كان األداء العســكري املحــي مقيـ ًدا ومربـكًا‬
‫بخطــوة لألمــام وعــدة خطــوات للــوراء؟ هــل هــذا دليــل عــى تهــاون الجيــش أم أنــه مــن‬
‫أعــراض العقليــة العســكرية املحافظــة واألبويــة فحســب‪ ،‬والتــي هــي بطبيعــة الحــال غــر‬
‫(((‬
‫مســتعدة للتغيــرات الثوريــة؟‬

‫‪ -1‬داليا عثامن‪ ،‬اللواء ممدوح شاهني‪ :‬الرئيس القادم "ملزم" بتغيري الدستور‪ ،‬املرصي اليوم‪.2011-3-16 ،‬‬
‫‪ -2‬تجــى املوقــف األبــوي للجيــش يف تعليــق املشــر حســن طنطــاوي حيــث قــال إن "الثــوار أبناؤنــا وإخواننــا‪،‬‬
‫لكنهــم رمبــا يفتقــرون للفهــم الواضــح والشــامل للوضــع"‪ .‬وصــل هــذا املوقــف إىل أبعــاد فكاهيــة عندمــا =‬

‫‪337‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫مــن ناحيــة أخــرى‪ ،‬ال تتعــارض املصالــح الواقعيــة للضباط بالــرورة مع املُثُــل الدميقراطية‬
‫للثــورة‪ .‬إن التناقــض يف حــال الجيــوش بــن الحكــم االســتبدادي والدميقراطيــة يجعــل هذا‬
‫األمــر واض ًحــا للغايــة‪ ،‬فالدكتاتوريــون مثل مبــارك عادة مــا يكونون مرتابني من جيوشــهم‪،‬‬
‫ورغــم االمتيــازات التــي يقدمونهــا لهــم فإنهــم يُبقــون الضبــا َط تحــت قيــود صارمــة مــن‬
‫خــال املراقبــة األمنيــة املســتمرة وتعزيــز نفــوذ املوالــن بغــض النظــر عــن كفاءتهــم‪،‬‬
‫وتعزيــز االنقســام داخــل ســلك الضبــاط والتحقــق مــن نفــوذ الضبــاط ذوي الشــعبية مثــل‬
‫أبــو غزالــة‪ ،‬والتخلــص مــن الشــخصيات ذات التفكــر املســتقل‪ ،‬وتجاهــل دور الجيــش‬
‫أثنــاء صياغــة السياســات‪ -‬وهــي إســراتيجيات تقــوض كفــاءة الجيــش وجهوزيتــه القتاليــة‪.‬‬
‫عــى النقيــض مــن ذلــك‪ ،‬تغمــر العديــد مــن الدميقراطيــات جيوشــها بامتيــازات اجتامعيــة‬
‫وتحتفــي بالبطــوالت العســكرية‪ ،‬وتشــجع الجــراالت املتقاعديــن عــى أداء وظائــف مربحــة‬
‫يف القطــاع الخــاص أو الرتشــح ملنصــب مــا (مثــل دوايــت أيزنهــاور وكولــن بــاول)‪،‬‬
‫وإرشاك قــادة األركان يف تطويــر أهــداف األمــن القومــي واســراتيجيات الدفــاع‪ .‬ليــس‬
‫مــن قبيــل املصادفــة أن تُثبــت جيــوش الــدول الدميقراطيــة بشــكل متكــرر فعاليتهــا يف‬
‫ســاحة املعركــة ضــد جيــوش األنظمــة االســتبدادية‪ ،‬فالحقيقــة أن الجيــوش تنتعــش يف‬
‫الدميقراطيــات وترتاجــع يف ظــل االســتبداد‪ .‬األهــم مــن ذلــك‪ ،‬أن الدميقراطيــة تزيــل‬
‫نهائيــا تهديــد أجهــزة األمــن املكلفــة برتويــض القــوات املســلحة إلشــباع شــهية الديكتاتــور‬
‫ً‬
‫النهــم للســيطرة‪ -‬وهــو عائــق شــديد أمــام اســتقاللية القــوات املســلحة املرصيــة‪.‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬فــإن الســعي إىل تحســن وضــع الفــرد ضمــن الرتتيــب االنتقــايئ للنظــام‬
‫االســتبدادي يختلــف عــن تحويــل املجتمــع لتعظيــم املصلحــة العامــة لصالــح مؤسســة واحدة‬
‫فقــط‪ ،‬فاألخــر إنجــاز رائــد رمبــا يتجــاوز قبضــة الطبقــة العســكرية التــي بالــكاد ميكن أن‬
‫تتخيــل شــكل الحكــم الحــر‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬فــإن خــوف الضبــاط مــن اإلصــاح الدميقراطــي‬
‫ال يرجــع ملــا يتوهمونــه فحســب فالنظــرة املتمعنــة تكشــف عــن ثالثــة أســباب قــد متنــع‬
‫= حــاول أحــد أعضــاء املجلــس العســكري تربيــر رد املجلــس القــايس عــى املتظاهريــن كالتــايل‪ :‬العالقــة بــن‬
‫العســكريني والثــوار "تشــبه األب الــذي يرســل ابنــه إىل املدرســة ويشــجعه عــى الدراســة بــن الحــن واآلخــر‪،‬‬
‫فيقــول لــه‪ :‬ادرس يــا عزيــزي ألجــي‪ ،‬ثــم يقــرب موعــد االمتحــان وعليــه حينهــا أن يــرخ يف وجهــه‪ :‬أمتــم‬
‫دراســتك!" كــا متثــل هــذا عــر صــورة أنتجتهــا وزارة الدفــاع وانتــرت يف جميــع أنحــاء البــاد يف صيــف‬
‫عــام ‪ .2012‬تلــك الصــورة التــي كان مــن املفــرض أن ترمــز إىل وحــدة الجيــش والشــعب تضمنــت جنديًــا‬
‫يحــدق يف عينــي طفــل يحملــه بحــذر بــن ذراعيــه‪ ،‬فالرضيــع العاجــز هنــا ميثــل الشــعب‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬عىل عتبة السلطة‪ :‬الجيش بعد الثورة‬

‫الجيــش مــن التأييــد الكامــل ملطالــب الثــورة أو دخــول املشــهد الســيايس بثقــة كــا حــدث‬
‫يف عــام ‪ ،1952‬وكلهــا متعلقــة باألجهــزة األمنيــة‪.‬‬
‫بــادئ ذي بــدء‪ ،‬منــع عــزل القــوات املســلحة منــذ ســبعينيات القــرن املــايض عــن جميــع‬
‫التيــارات السياســية‪ ،‬مــن خــال وضــع الضبــاط تحــت املراقبــة األمنيــة املســتمرة وإبعــاد‬
‫املسيســة‪ ،‬مــن خلــق حركــة ذات خيــال ســيايس جــريء للضبــاط ذوي الفكــر‬ ‫العنــارص َّ‬
‫داخــل ســلك الضبــاط‪ .‬ثــم مل يكــن لــدى أولئــك الذيــن تولــوا القيــادة رؤيــة بديلــة ملســتقبل‬
‫كاف لتضاريســها السياســية وتعقيداتهــا االجتامعيــة واالقتصاديــة‪.‬‬ ‫مــر أو حتــى فهــم ٍ‬
‫ثانيــا‪ ،‬وعــى نقيــض البنيــة التحتيــة األمنيــة البدائيــة واملرنــة التــي ســقطت بــن يــدي‬ ‫ً‬
‫صانعــي االنقــاب يف عــام ‪ ،1952‬واجــه الجيــش اآلن مؤسســة متعجرفــة ومتحركــة قــادرة‬
‫عــى مقاومــة محــاوالت الســيطرة عليهــا مــن أعــى برشاســة‪ .‬وتعــزز الخطــر الــذي متثلــه‬
‫وزارة الداخليــة اآلن بحيــث أصبــح ضبــاط الرشطــة مرتبطــن للغايــة باملســؤولني ورجــال‬
‫األعــال وصغــار املجرمــن لتلبيــة مســاعيهم دون إحــداث فــوىض كبــرة‪ .‬ثالثًــا‪ ،‬دفــع‬
‫التشــوه االقتصــادي وعــدم املســاواة االجتامعيــة والتضييــق الســيايس الــذي أنتجــه النظــام‬
‫القديــم الجيــش عــى التفكــر مرتــن يف القــوى التــي قــد يطلقهــا مــن خــال االنفتــاح‬
‫عــى الحيــاة السياســية‪ ،‬واالضطرابــات التــي قــد تنجــم عــن إضعــاف األجهــزة األمنيــة‬
‫أمــام هــذا التدافــع الشــعبي‪.‬‬
‫إن املشــهد الســيايس املــيء بالفــوىض واالســتقطاب الحــاد والــذي ورثــه املجلــس األعــى‬
‫للقــوات املســلحة مهــم هنــا‪ ،‬حيــث مل تظهــر (بعــد أكــر مــن عــام عــى الثــورة) أي قيــادة‬
‫معــرف بهــا ومل تتبلــور أي حركــة ملموســة الســتثامر الطاقــة الشــعبية والتفــاوض نيابــة‬
‫عــن الشــعب‪ -‬بفضــل عقــود مــن األمــن الوقــايئ والجهــود التــي بُذلــت للقضــاء عــى‬
‫إيديولوجيــا الذيــن‬
‫ً‬ ‫املعارضــة‪ .‬مل يكــن التحالــف غــر املســتقر بــن النشــطاء املتعارضــن‬
‫قــادوا الثــورة‪ ،‬وال جامعــة اإلخــوان املســلمني‪ -‬الجامعــة املعارضــة الكبــرة التــي تنتظــر‬
‫ريــاح التغيــر لجنــي املكاســب‪ -‬عــى مســتوى يســمح بتوجيــه الثــورة التــي ســاعدوا يف‬
‫توليدهــا‪ .‬إن عــدم وجــود طليعــة ثوريــة موثوقــة متثــل مبصداقيــة مطالــب الثــورة وتســيطر‬
‫عــى الشــارع بالتعــاون مــع الجيــش قــد زاد مــن مخــاوف املجلــس األعــى للقــوات املســلحة‬
‫مــن خــروج النــاس الغاضبــن عــن الســيطرة فيــا لــو ُخلِـ َع بــاب االســتبداد‪ .‬وعــى نفــس‬

‫‪339‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫املنــوال‪ ،‬فــإن فشــل النشــطاء الدميقراطيــن يف االعــراف بالــدور الثــوري املحتمــل‬


‫للجيــش منعهــم مــن التفكــر يف رشاكــة حقيقيــة مــع الضبــاط‪ .‬واســتمر الليرباليــون‬
‫بالتمســك بشــكل صــارم بقضيــة الســيطرة املدنيــة عــى الحكــم‪ ،‬ورأى اليســاريون الجيــش‬
‫فقــط كمؤسســة محافظــة يف خدمــة الطبقــة الحاكمــة‪ -‬وكال املوقفــن اعتمــدا يف الغالــب‬
‫عــى العبــارات املكــررة النظريــة (وتقاريــر إخباريــة وشــائعات ال أســاس لهــا مــن الصحــة)‬
‫بــداًلً مــن التحليــل الدقيــق للوضــع املحــدد ومظــامل الجيــش يف ظــل نظــام مبــارك‪.‬‬
‫لذلــك‪ ،‬تخــى املجلــس العســكري عــن فكــرة الســيطرة عــى األجهــزة األمنيــة واختــار‬
‫الطريــق األكــر أمانًــا‪ :‬الوقــوف إىل جانــب األمــن حتــى لــو كان ذلــك يعنــي إضاعــة‬
‫فرصــة نــادرة لتفكيــك عــدوه املســتبد مــع الحفــاظ عــى ســلطته وامتيازاتــه يف إطــار‬
‫دميقراطــي‪ .‬لكــن املجلــس العســكري مل يــدرك أنــه مــن خــال التعــاون مــع األمــن فإنــه‬
‫يخــدم مصالــح املؤسســة األمنيــة‪ ،‬وأدرك مســؤولو وزارة الداخليــة جي ـ ًدا أن الجيــش لديــه‬
‫فرصــة االختيــار‪ .‬لــكل مــن الدميقراطيــات واألنظمــة االســتبدادية أعــداء خارجيــون لــذا‬
‫فهــي بحاجــة إىل جيــوش قويــة‪ ،‬لكــن الديكتاتوريــات فقــط‪ -‬مــع هوســها الطبيعــي بنظرية‬
‫"العــدو الداخــي" هــي التــي تجيــز القمــع املحــي‪ .‬فــإذا أصبحــت مــر دولــة دميقراطيــة‬
‫فــا يــزال بإمكانهــا أن تفتخــر بجيشــها‪ ،‬لكنهــا بالتأكيــد ســتلغي االمتيــازات املتضخمــة‬
‫ألجهــزة األمــن‪ .‬لــذا‪ ،‬رغــم أن املصالــح العســكرية فرضــت إعــادة هيكلــة جهــاز أمنــي‬
‫ُوظِّـ َـف ضــد الجيــش لعقــود مــن الزمــن‪ ،‬ومــع أن هــذه املصالــح ال تتعــارض بالــرورة‬
‫مــع الحكــم الدميقراطــي‪ ،‬إال أن قلــة الخــرة السياســية والخــوف مــن أن تــؤدي الفــوىض‬
‫الداخليــة لجــر الجيــش إىل أنشــطة قــوات األمــن التــي طــال أمدهــا منــع املجلــس األعــى‬
‫للقــوات املســلحة مــن التدخــل والســيطرة عــى قــوات األمــن‪ ،‬مفضـ ًـا تفويــض هــذه املهمــة‬
‫إىل ســلطة مدنيــة منتخبــة ميكنــه عزلهــا كلــا ســمحت الظــروف بذلــك‪ -‬إن وجــدت‪ .‬ولهــذا‬
‫الســبب‪ ،‬مل يجــرؤ املجلــس العســكري عــى فتــح بــاب املشــكالت عــى مرصاعيــه‪.‬‬
‫ربــط هــذا املوقــف مصــر الجيــش‪ -‬مؤقتًــا عــى األقــل‪ -‬باألجهــزة األمنيــة‪ ،‬وبــدأ الذيــن‬
‫هتفــوا البارحــة "الشــعب والجيــش إيــد واحــدة!" يرصخــون غاضبــن‪" :‬الشــعب يطالــب‬
‫بإعــدام املشــر!"‪ ،‬وتحــول الثنــاء عــى وطنيــة ونزاهــة القــوات املســلحة إىل إدانــة شــديدة‬
‫مــن قبــل النشــطاء لســلك الضبــاط الفاســدين‪ ،‬وتحولــت اإلشــادة الدوليــة باحرتافيــة‬

‫‪340‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬عىل عتبة السلطة‪ :‬الجيش بعد الثورة‬

‫الجيــش إلدانــة السياســات املروعــة للقيــادة العليــا والتهديــد بوقــف املســاعدات األمريكيــة‪.‬‬
‫حتــى املواطنــون العاديــون الذيــن مل ينخرطــوا بعــد يف الثــورة أصبحــوا ينظــرون إىل‬
‫الجيــش بريبــة (مــع أنهــم رمبــا ال زالــوا يدعمونــه باعتبــاره الحــل لالضطرابــات املدنيــة)‪.‬‬
‫باختصــار‪ ،‬تدهــورت الصــورة العامــة للقــوات املســلحة مــن رشيــك محــرم يف الثــورة إىل‬
‫زعيــم معلــن للثــورة املضــادة‪ .‬وبــدا أن الجيــش قــد عــر إىل الجانــب اآلخــر مــن املشــهد‬
‫وانضــم إىل أكــر منافســيه عــى الســلطة‪ :‬املؤسســة األمنيــة‪ .‬بعــد أشــهر مــن الثــورة‪،‬‬
‫أصبــح الهتــاف األكــر شــعبية يف املظاهــرات‪" :‬الجيــش والرشطــة إيــد واحــدة!" وبــدا وكأن‬
‫الجيــش قــد استســلم لصيغــة الســلطة التــي وضعهــا الســادات وحافــظ عليهــا مبــارك‪ ،‬حيــث‬
‫يهيمــن الجهــاز األمنــي ويتمتــع أعوانــه السياســيون باملكانــة والــروة ويراقــب الجيــش‬
‫بشــكل يسء مــن زاويــة بعيــدة‪.‬‬
‫كان هنــاك بطبيعــة الحــال خيــار آخــر غــر معلــن يقــي بتنفيــذ انقــاب أو إحــداث نــوع‬
‫مــن االنهيــار يف سلســلة القيــادة‪ .‬إال أن الضبــاط والجنــود ظلــوا متحديــن وراء قادتهــم‬
‫ثانيــا‪،‬‬
‫لعــدد مــن األســباب‪ :‬أواًلً ‪ ،‬غيــاب حركــة ثوريــة داخــل أو خــارج ســلك الضبــاط‪ً .‬‬
‫نشــأت خيبــات األمــل الســابقة تجــاه كبــار الضبــاط مــن الشــعور بخضوعهــم للسياســيني‪،‬‬
‫وهــو مــا مل يعــد كذلــك‪ .‬ثالثًــا‪ ،‬ال يــرى أفــراد الجيــش قادتهــم كمخادعــن‪ :‬فالثــورة‬
‫طالبــت بالدميقراطيــة وقــد نظــم املجلــس العســكري بالفعــل انتخابــات حــرة‪" -‬فــاذا‬
‫ـبيا وقامــت بــه‬
‫أيضــا؟"‪ .‬كــا أن القمــع العنيــف للمدنيــن كان محــدو ًدا نسـ ً‬‫يريــد الثــوار ً‬
‫الرشطــة العســكرية‪ ،‬لــذا ففــرص الصــدام كانــت قليلــة‪ .‬كــا أن الجيــش ال يعــاين مــن‬
‫انقســامات عرقيــة أو قبليــة أو طائفيــة أو اجتامعيــة فأفــراده يأتــون مــن خلفيــة متجانســة‬
‫إىل حــد مــا‪.‬‬
‫ورغــم وجــود متييــز واضــح بــن مجنــدي الطبقــة الوســطى ومجنــدي الطبقــة الدنيــا‬
‫تاريخيــا‬
‫ً‬ ‫(معظمهــم مــن الفالحــن) وضبــاط الصــف‪ ،‬إال أنــه مل ينتــج عــن هــذا التمييــز‬
‫توتــرات طبقيــة‪ .‬يخــدم املجنــدون مــدة ثــاث ســنوات قبــل أن يعــودوا إىل محافظاتهــم‪،‬‬
‫ويعتــرون فــرة خدمتهــم محنــة مؤســفة لكنهــا مؤقتــة‪ ،‬ومتــرد املجنديــن الوحيــد املســجل‬
‫(يف عــام ‪ )1986‬حــدث يف قــوات الرشطــة وليــس الجيــش‪ ،‬ونجــم عــن شــائعات مفادهــا‬
‫أن فــرة خدمتهــم ســتم َّدد‪ .‬أمــا بالنســبة لضبــاط الصــف‪ ،‬فــإن التحاقهــم بالجيــش هــو‬

‫‪341‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫الطريــق األفضــل لهــم للوصــول إىل املكانــة االجتامعيــة التــي يطمحــون لهــا أو يحميهــم‬
‫عــى األقــل مــن الفقــر واإلذالل‪ .‬قــد تكــون لــدى ضبــاط الصــف شــكاوى ماليــة بــن‬
‫الحــن واآلخــر‪ ،‬لكــن ال يوجــد دليــل عــى تجمعهــم يف جبهــة معارضــة متامســكة‪ .‬صحيــح‬
‫أن التســييس املرتجــل الــذي أعقــب الثــورة قــد يــؤدي إىل حــدوث انقــاب يف مرحلــة مــا‪،‬‬
‫ولكــن يف هــذه الحالــة قــد يكــون أولئــك الذيــن وصلــوا إىل الســلطة يجهلــون السياســة‬
‫كبقيــة زمالئهــم‪.‬‬
‫قوات األمن‪" :‬دموية ال تخضع للضغوط"‬
‫مــع وجــود كل هــذه القــوة يف متنــاول اليــد‪ ،‬يتســاءل املــرء مــا الــذي أصــاب املؤسســة‬
‫األمنيــة املرصيــة القويــة بالشــلل أثنــاء الثــورة؟ تشــر األدلــة حتــى اآلن إىل أن غطرســة‬
‫الســلطة هــي التــي أصابــت األجهــزة األمنيــة خــال الســنوات األخــرة مــن عمــر النظــام‬
‫ودفعتهــا لتجاهــل بــوادر ثــورة وشــيكة‪ .‬مل يكــن جهــاز مباحــث أمــن الدولــة املتيقــظ دامئًــا‬
‫متفاجئًــا مــا حــدث‪ .‬ففــي ‪ 18‬ينايــر ‪ 2011‬قــدم رئيــس مباحــث أمــن الدولــة تقريـ ًرا إىل‬
‫وزيــر الداخليــة يحــذر فيــه مــن تكــرار الســيناريو التونــي يف مــر‪ ،‬واقــرح خطــوات‬
‫عمليــة لتجنــب ثــورة شــعبية‪ ،‬كإعفــاء املواطنــن مــن بعــض األعبــاء االقتصاديــة الجديــدة‪،‬‬
‫ووقــف االســتحواذ غــر القانــوين عــى األرايض العامــة (مؤقتًــا)‪ ،‬والحــد مــن مامرســات‬
‫الرشطــة القمعيــة‪ (((.‬لكــن وزيــر الداخليــة مفــرط الثقــة تجاهــل التقريــر‪ ،‬ولــذا ُغيبــت‬
‫قــوات األمــن املركــزي‪ -‬اليــد الضــارب للــوزارة‪ -‬عــن أجــواء الثــورة املرتقبــة ومل تُج َّهــز‬
‫ملواجهتهــا‪ .‬يف مدينــة الســويس مثـ ًـا‪ ،‬حيــث وقعــت بعــض أكــر املواجهــات دمويــة خــال‬
‫الثــورة‪ ،‬اشــتىك رئيــس األمــن املركــزي يف مذكــرة رســمية مــن عدم جهوزيــة رجالــه ملواجهة‬
‫(((‬
‫املظاهــرات الحاشــدة ألن تقاريــر مباحــث أمــن الدولــة "مل تؤخــذ عــى محمــل الجــد"‪.‬‬
‫كان متوق ًعــا أن يصــاب الوزيــر شــديد الثقــة بصدمــة كبــرة‪ ،‬فرجــال األمــن تعاملــوا‬
‫لســنوات مــع نشــطاء متفرقــن وجامعــات معارضــة غــر فعالــة‪ ،‬لكنهــم مل يتوقعــوا‬
‫انتفاضــة جامهرييــة أبـ ًدا واعتقــدوا أنهــا ســتحتاج إىل تحضــرات واســعة النطــاق وميكــن‬
‫اكتشــافها بســهولة‪ .‬بعــد إلقــاء القبــض عليــه‪ ،‬اعــرف وزيــر الداخليــة حبيــب العــاديل‬

‫‪ -1‬خالد حنفي‪ ،‬حسن عبد الرحمن رفع تقرير للعاديل يحذره من تكرار السيناريو التونيس‪ ،‬الفجر‪.‬‬
‫‪ -2‬أسامة خالد‪ ،‬شهادة قائد األمن املركزي يف منطقة القناة‪ ،‬املرصي اليوم‪.2011-3-16 ،‬‬

‫‪342‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬عىل عتبة السلطة‪ :‬الجيش بعد الثورة‬

‫للنائــب العــام مبــدى حريتــه هــو ورجالــه‪:‬‬


‫"التقينــا يف وزارة الداخليــة يف ‪ 24‬ينايــر قبــل يــوم واحــد مــن انــدالع املظاهــرات للمــرة‬
‫األوىل‪ ،‬ومــرة أخــرى يف ‪ 27‬ينايــر قبــل يــوم واحــد مــن "يــوم الغضــب" يــوم الجمعــة‪،‬‬
‫لكننــا مل نتوقــع هــذا العــدد مــن املتظاهريــن أو اســتمرار املظاهــرات ومل نعتقــد أب ـ ًدا‬
‫أننــا قــد نكــون أقــل عــد ًدا منهــم‪ ...‬مل تكــن لدينــا خطــة للتعامــل مــع مثــل هــذه األحــداث‬
‫الجســيمة‪ ...‬مل يكــن لــدى قواتنــا املعرفــة والتدريــب إلجــراء عمليــة تســتغرق عــدة أيــام‪...‬‬
‫قــررت إبــاغ الرئيــس بــأن علينــا اللجــوء إىل القــوات املســلحة‪ ...‬مل يتوقــع أحــد مظاهــرات‬
‫(((‬
‫بهــذا الحجــم وتلــك األعــداد‪ ،‬كان هــذا غــر مســبوق ومل يتوقــع أحــد مــا حــدث"‪.‬‬
‫يف مقابلــة مــع جريــدة األهــرام صبــاح يــوم ‪ 25‬ينايــر‪ ،‬أكــد الوزيــر نفســه للمواطنــن أن‬
‫"الذيــن يخططــون للنــزول إىل الشــوارع ليــس لهــم وزن‪ ...‬وأن قــوات األمــن قــادرة عــى‬
‫(((‬
‫ردعهــم‪ ...‬وأن الذيــن يأملــون يف تكــرار الســيناريو التونــي هــم مراهقــون مثقفــون"‪.‬‬
‫إذًا فأحــد األســباب الرئيســية لنجــاح الثــورة هــو أن املتظاهريــن مل يكــن لديهــم خطــط‬
‫متامســكة أو منظمــة ميكــن أن تثــر انتبــاه األجهــزة األمنيــة‪ ،‬إمنــا نســقوا تحركاتهــم ســاعة‬
‫الحــدث وليــس مســبقًا‪ ،‬واتخــذوا قراراتهــم يو ًمــا بيــوم‪ .‬وبعــد انــدالع الثــورة‪ ،‬مل تكــن‬
‫هنــاك حركــة ثوريــة محــددة بحيــث يتــم تفكيكهــا‪ ،‬ومل يُعت َقــل قــاد ٌة معينــون ومل يُكشــف‬
‫عــن مخططــات تفصيليــة‪ .‬وباختصــار‪ ،‬مل يكــن هنــاك يشء محــدد لتتــم متابعتــه وقمعــه‪.‬‬
‫باإلضافــة إىل ذلــك‪ ،‬تراجعــت كفــاءة قــوات مكافحــة الشــغب يف تلــك اآلونــة بوضــح‪ ،‬وأدى‬
‫بهــا غيــاب حــركات معارضــة فعالــة للدخــول يف حالــة مــن اإلهــال لدرجــة أنهــا أوكلــت‬
‫بلطجيــة مأجوريــن مبهمــة قمــع االحتجاجــات (كــا نوقــش يف الفصــل الســابق)‪ .‬وبقيــت‬
‫قــوات األمــن املركــزي حتــى انــدالع الثــورة "ســيئة التدريــب‪ ،‬منخفضــة األجــور‪ ،‬وســيئة‬
‫التجهيــزات‪ ،‬وتتشــكل مــن مجنديــن دون املســتوى املطلــوب"‪ (((.‬خــال التحقيقــات التــي‬
‫أعقبــت الثــورة‪ ،‬اعــرف العــاديل بفشــله يف قمــع املتظاهريــن ألن "قــوات األمــن املركــزي‬
‫أُن ِه َكــت‪ ...‬مل يســبق أن شــاركوا إال يف تفريــق مظاهــرات محــدودة بالهــراوات أو بخراطيــم‬

‫‪ -1‬نبيل السجينى ومحمد دنيا‪ ،‬النص الكامل لتحقيقات النيابة مع العاديل‪ ،‬األهرام‪.‬‬
‫‪ -2‬جنيدي‪ ،‬ثورة ‪ 25‬يناير‪ :‬قراءة أولية ورؤية مستقبلية‪ ،‬ص ‪.149‬‬
‫‪3- Cordesman, Arab-Israeli Military Forces in an Era of Asymmetric Wars, 187.‬‬

‫‪343‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫امليــاه وعبــوات الغــاز املســيل للدمــوع والرصــاص املطاطــي‪ ...‬لقــد أصيبــوا بالذعــر ألنهــم‬
‫(((‬
‫كانــوا األقــل عــد ًدا للمــرة األوىل"‪.‬‬
‫ـض عــى كبــار مســؤويل الــوزارة (وعــى رأســهم‬ ‫بعــد شــهر مــن اإلطاحــة مببــارك‪ ،‬قُ ِبـ َ‬
‫وزيــر الداخليــة العــاديل نفســه) إلصدارهــم أوامــر بإطــاق النــار عــى املتظاهريــن‬
‫وإســاءة اســتغالل الســلطة لتكديــس الــروة‪ .‬كــا تضمنــت القامئــة إىل جانــب العــاديل‬
‫رؤســاء مباحــث أمــن الدولــة وقــوات األمــن املركــزي واألمــن العــام‪ ،‬فضـ ًـا عــن رؤســاء‬
‫األمــن يف خمــس محافظــات وأربعــة عــر ضابطًــا رفيــع املســتوى‪ .‬امللفــت للنظــر أن كبــار‬
‫مســاعدي وزيــر الداخليــة كانــوا جمي ًعــا مــن دفعــة ‪ 1971‬يف أكادمييــة الرشطــة‪ ،‬وهــو‬
‫العــام الــذي بــدأ فيــه الســادات تعزيــز نفــوذ قــوات الرشطــة‪ .‬أصــدر وزيــر الداخليــة‬
‫بعــد الثــورة القــرار الــوزاري رقــم ‪ 509‬لعــام ‪ ،2011‬والــذي اســتبدل جهــاز مباحــث أمــن‬
‫الدولــة بجهــاز جديــد هــو قطــاع األمــن الوطنــي‪ .‬وجــرت عمليــة تطهــر يف صفــوف‬
‫قيــادة مباحــث أمــن الدولــة‪ ،‬ففُصــل خمســمئة ضابــط مــن أصــل ألــف ومئــة ضابــط‬
‫يف الجهــاز مبــا يف ذلــك ثالثــة وعــرون لــوا ًء‪ ،‬بينــا تــم نقــل ســتة وســتني عميـ ًدا إىل‬
‫أقســام الرشطــة األخــرى‪ (((.‬مــع ذلــك‪ ،‬ظلــت عمليــات التطهــر هــذه شــكلية حيــث طُبقــت‬
‫يف الغالــب عــى الضبــاط الذيــن يشــغلون مناصــب هامشــية أو املقبلــون عــى التقاعــد‪.‬‬
‫يف ‪ 28‬يونيــو ‪ ،2011‬اعتــدت وحــدات األمــن املركــزي عــى املتظاهريــن يف ميــدان‬
‫التحريــر الذيــن كانــوا يطالبــون باتخــاذ إجــراءات أكــر حز ًمــا ضــد النظــام القديــم‪.‬‬
‫مل يكــن عنــف قــوات الرشطــة هــذه املــرة مفرطًــا وحســب مــع اإلفــراط يف اســتخدام‬
‫(صنعــت يف الواليــات املتحــدة يف‬ ‫قنابــل الغــاز املســيل للدمــوع الجديــدة واألكــر فت ـكًا ُ‬
‫مايــو ‪ 2011‬يف داللــة عــى مســاهمة أمريــكا الســخية يف دعــم الدميقراطيــة يف مــر‬
‫أيضــا مــع إســاءات وتهديــدات لفظيــة حــول تصميــم‬ ‫مــا بعــد مبــارك)‪ ،‬لكــن ذلــك ترافــق ً‬
‫الرشطــة عــى معاقبــة النــاس عــى مــا فعلــوه‪ .‬لكــن بعــد قتــال اســتمر طــوال الليــل أصيــب‬
‫فيــه أكــر مــن ألــف مــدين‪ ،‬اضطــرت الرشطــة للرتاجــع تحــت الضغــط إىل مقــر وزارة‬
‫الداخليــة املحصــن‪ ،‬ورسعــان مــا طوقــت وحــدات الرشطــة العســكرية املتظاهريــن‪ .‬أثــار‬
‫‪ -1‬السجينى ودنيا‪ ،‬ص ‪.4‬‬
‫‪ -2‬يــري البــدري‪ ،‬وزيــر الداخليــة ينهــي خدمــة ‪ 23‬لــوا ًء مــن "أمــن الدولــة" وينقــل ‪ 66‬عميـدًا‪ ،‬املــري اليــوم‪،‬‬
‫‪.2011-3-26‬‬

‫‪344‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬عىل عتبة السلطة‪ :‬الجيش بعد الثورة‬

‫الحــادث انتفاضــة ثانيــة‪ ،‬ففــي يــوم الجمعــة ‪ 8‬يوليــو الغاضــب خرجــت مســرة مليونيــة‬
‫أعقبهــا اعتصــام ملــدة ثالثــة أســابيع يف ميــدان التحريــر‪ .‬اســتجاب املجلــس األعــى للقوات‬
‫املســلحة بتعديــل الحكومــة املدنيــة الضعيفــة واإلذن بفصــل ســتمئة وتســعة وســتني مــن كبار‬
‫ضبــاط الرشطــة مبــا يف ذلــك خمســمئة وخمســة لــوا ًء واثنــن ومثانــن عمي ـ ًدا واثنــن‬
‫ومثانــن مقد ًمــا‪ ،‬باإلضافــة إىل نقــل أربعــة وخمســن مــن الضبــاط الصغــار متهمــن‬
‫(((‬
‫بقتــل املتظاهريــن إىل مهــام إداريــة بانتظــار املحاكمــة‪ ،‬ونقــل أربعــة آالف ضابــط آخــر‪.‬‬
‫غــر أن القتــال مل ينتـ ِه بعــد‪ ،‬فقــد اســتمر هــذا الكر والفــر غــر املتكافئ بــن املتظاهرين‬
‫والرشطــة عــى مــدى األشــهر القليلــة التاليــة مــا أكــد حقيقتــن واضحتــن متا ًمــا‪ :‬أواًلً ‪،‬‬
‫أن الجهــاز األمنــي رغــم عمليــات التطهــر واإلذالل مــا زال يأمــل يف الصمــود أمــام الثــورة‬
‫واســتعادة موقعــه املتميــز مــن خــال خلــق شــقاق بــن الشــعب والجيــش وفــق إســراتيجية‬
‫وثانيــا‪ ،‬أن إســراتيجية الرشطــة نجحــت حتــى ذلــك الحــن‬ ‫"فــرق تســد" املفيــدة دامئًــا؛ ً‬
‫بســبب موقــف الجيــش الحــذر وتخوفــه مــن احتــال حــدوث فــوىض داخليــة‪ .‬مــن الواضح‬
‫أن هــذه األحــداث األمنيــة املحرضــة نجحــت يف إيقــاع القــوات املســلحة يف فــخ العنــف‬
‫املتصاعــد بهــدف تصفيــة املعســكر الثــوري‪ .‬واألهــم مــن ذلــك مــن الناحيــة الرمزيــة‪ ،‬أنــه‬
‫مل يتــم تحميــل أي مســؤول أمنــي مســؤولية قتــل املتظاهريــن خــال الثــورة نفســها‪ .‬يف ‪2‬‬
‫ـاض عــى مبــارك ووزيــر الداخليــة األخــر يف عهــده بالســجن مــدى‬ ‫يونيــو ‪ ،2012‬حكــم قـ ٍ‬
‫الحيــاة لفشــلهام يف حاميــة املتظاهريــن‪ -‬وهــي تهمــة سياســية وليســت جنائيــة‪ -‬لكنــه‬
‫ـر عــى إطــاق رساح قــادة املؤسســة األمنيــة لعــدم كفايــة األدلــة‪ .‬فرغــم كل مــا حــدث‬ ‫أُجـ ِ َ‬
‫خــال الثــورة وبعدهــا‪ ،‬إال أن األجهــزة األمنيــة خرجــت مــن تلــك املرحلــة ســاملة بأعجوبــة‪.‬‬

‫شل الحياة السياسية؟‬


‫ُّ‬
‫أبــرز مــا أكدتــه ثــورة ينايــر واألحــداث التــي تلتهــا هــو أن األجهــزة األمنيــة مل تكــن‬
‫أيضــا‪ .‬فلــوال تزويــر االنتخابــات‬
‫الداعــم الرئيــي للنظــام وحســب‪ ،‬بــل قلبــه النابــض ً‬
‫وقمــع املجتمــع املــدين وترهيــب الساســة املتنافســن واحتــواء االضطرابــات الجامهرييــة‬
‫واملراقبــة الدقيقــة للقــوات املســلحة لــكان مــن املرجــح أن ينهــار كيــان النظــام الســيايس‬
‫متا ًمــا كــا حــدث بعــد انهيــار وزارة الداخليــة حــن هزمتهــا الثــورة هزميــة مؤقتــة‪.‬‬
‫‪ -1‬أمين فاروق‪ ،‬إنهاء خدمة ‪ 505‬لواءات رشطة و‪ 164‬عميدًا وعقيدًا‪ ،‬األهرام‪ ،‬العدد ‪1 :45510‬‬

‫‪345‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫فحاملــا انســحبت قــوات الرشطــة مــن الشــوارع مل يكــن بوســع املكــون الســيايس للكتلــة‬
‫الحاكمــة يف مــر بحزبهــا الحاكــم وأجهــزة الدولــة‪ ،‬واألعــراف واألنظمــة املعمــول بهــا‬
‫والتحالفــات الخارجيــة‪ ،‬إال أن تقــاوم بصعوبــة حتــى قُبــض عــى الرئيــس مبــارك وعائلتــه‬
‫وكبــار مســاعديه؛ و ُحـ َّـل الحــزب الحاكــم واعتُ ِقـ َـل قــاد ُة الحــزب الوطنــي والــوزراء (مبــا يف‬
‫ذلــك رئيــس الــوزراء) ورؤســاء مجلــي النــواب والشــيوخ وحلفائهــم التجاريــن (بــد ًءا مــن‬
‫قطــب صناعــة الصلــب والعقــل الســيايس املدبــر أحمــد عــز) و ُجمــدت أصولهــم املاليــة‪.‬‬
‫بعدهــا بــدأت عمليــة التخلــص مــن املوالــن للنظــام يف الصحافــة والجامعــات ودوائــر‬
‫تقريبــا‪.‬‬
‫الدولــة‪ ،‬وألغيــت الخريطــة السياســية القامئــة يف غضــون أســابيع دون أي مقاومــة ً‬
‫نــدد كــوادر النظــام القديــم بأســيادهم القدامــى واندفعــوا لالنضــام إىل أحــزاب جديــدة‪،‬‬
‫جزئيــا‪ -‬ســعوا إلثــارة مــا‬
‫واألكــر عنــا ًدا بينهــم‪ -‬بتشــجيع مــن عــودة الرشطــة لحاميتهــم ً‬
‫يكفــي مــن املتاعــب للمجلــس العســكري ليرتكهــم وشــأنهم بــداًلً مــن تفكيــك قوتهــم‪ .‬بــات‬
‫ـتغالليا واســتبداديًا مل ميتلــك ســلطة‬
‫مــن الواضــح أن الجهــاز الســيايس بقــدر مــا كان اسـ ً‬
‫كليا عــى مســاعديه األمنيــن‪ .‬ولــذا كان متوق ًعــا أن بقاء‬
‫خاصــة بــه‪ ،‬إمنــا اعتمــد يف بقائــه ً‬
‫املؤسســة األمنيــة ينــذر بإمكانيــة إفســاد املســؤولني املنتخبــن يف املســتقبل أو ابتزازهــم‬
‫للخضــوع لســلطتها املطلقــة‪ .‬تشــر لهــذا الرسعــة التــي اختــر بهــا وزيــر الداخليــة منصــور‬
‫العيســوي املعــن يف مــارس ‪ 2011‬إلعــادة هيكلــة الــوزارة‪ ،‬والــذي بــدا مســتخفًا مبــا يحدث‬
‫بوضــوح يف مقابلتــه مــع جريــدة "املــري اليــوم" يف ‪ 19‬ســبتمرب ‪ 2011‬حيــث ســخر مــن‬
‫املســرات املليونيــة يف ميــدان التحريــر بزعمــه أن الســاحة ال ميكــن أن تســتوعب أكــر من‬
‫ثالمثئــة ألــف شــخص‪ ،‬ونــزع صفــة الشــهادة عــن مئــات الذيــن قتلــوا يف املواجهــات مــع‬
‫الرشطــة ونعتهــم بأنهــم مجــرد بلطجيــة‪ ،‬وأن القتــى بنــران القناصــة يف ميــدان التحريــر‬
‫خــال الثامنيــة عــر يو ًمــا األوىل مــن الثــورة هــم الشــهداء الحقيقيــون فقــط‪ .‬ثــم انتهــى‬
‫الوزيــر عيســوي بــاإلرصار عــى أن هــؤالء القناصــن عمــاء أجانــب عــروا الحــدود قبــل‬
‫أيــام مــن ‪ 25‬ينايــر مــا يُعفــي الرشطــة مــن مســؤولية مــا حــدث‪ .‬واختتــم الوزيــر الــذي‬
‫يُفــرض أنــه "ثــوري" بتحذيــر املرصيــن مــن أن كل مــن يجــرؤ عــى مهاجمــة مركــز‬
‫(((‬
‫للرشطــة أو أي منشــأة عامــة أخــرى ســوف يُطلــق عليــه الرصــاص بــا رحمــة يف القلــب‪.‬‬

‫‪ -1‬املرصي اليوم‪ ،13 :2654 ،‬القاهرة ‪.2011/09/19‬‬

‫‪346‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬عىل عتبة السلطة‪ :‬الجيش بعد الثورة‬

‫ولكــن بعــد اإلطاحــة بجهــاز مبــارك الســيايس‪ ،‬بــدأ البحــث عــن أولئــك الذين ميكنهــم ملء‬
‫الفــراغ بشــكل جــدي حيــث ظهــر عــى أنقــاض النظــام الســيايس القديــم مشــهد ســيايس‬
‫فوضــوي بشــكل ال يصــدق‪ ،‬نتيجــة عقــود مــن القمــع البوليــي‪ .‬رمبــا تكــون ســاهمت‬
‫الثــورة التــي خرجــت دون قيــادة يف إنجــاح هــذه الظاهــرة‪ ،‬لكنهــا أثبتــت إشــكالية كبــرة‬
‫مبجــرد أن بــدأت األمــور تتكشــف‪ .‬فاإلســاميون الذيــن يزعمــون أنهــم ميثلــون رشيحــة‬
‫واســعة مــن املرصيــن (وهــو مــا ثبــت بفوزهــم بنســبة ‪ %70‬مــن املقاعــد الربملانيــة ويف‬
‫االنتخابــات الرئاســية الح ًقــا) انقســموا إىل معســكرين كبرييــن‪ :‬األصوليــون (الســلفيون)‬
‫تاريخيــا بالســلبية السياســية (باســتثناء جــزء صغــر مــن املتشــددين الذيــن‬
‫ً‬ ‫املعروفــون‬
‫ســجن مبــارك قادتهــم)؛ وجامعــة اإلخــوان املســلمني‪ ،‬الجامعــة السياســية االجتامعيــة‬
‫البــارزة منــذ مثانيــة عقــود‪.‬‬
‫ناقــش األصوليــون فيــا بينهــم جــدوى نزولهــم مــن مكانتهــم الســامية إىل مســتنقع‬
‫السياســة‪ ،‬فنظــم الذيــن وافقــوا عــى املشــاركة يف السياســة أنفســهم يف أكــر مــن أربعــة‬
‫أحــزاب مختلفــة (أكربهــا حــزب النــور)‪ ،‬والذيــن رفضــوا ذلــك أضافــوا ملســة سياســية عــى‬
‫دورهــم الدعــوي التلفزيــوين‪ .‬وانقســمت جامعــة اإلخــوان املســلمني بنفــس القــدر‪ ،‬ففــي‬
‫األســابيع التــي أعقبــت الثــورة تصــارع القــادة املحافظــون إلبقــاء أعضائهــا تحــت الســيطرة‬
‫ريا إىل الســاحة‬
‫لكــن الكــوادر اإلصالحيــة خاصــة الشــباب جادلــوا بــأن خــروج الجامعــة أخ ً‬
‫السياســية ألغــى القاعــدة الحديديــة لـــلطاعة‪ .‬ورغــم أن القيــادة املركزيــة شــكلت جنا ًحــا‬
‫ـميا باســم "حــزب الحرية والعدالــة"‪ ،‬إال أن املئات انشــقوا وأنشــأوا ثالثة أحزاب‬
‫سياسـ ًـيا رسـ ً‬
‫سياســية أخــرى وبعضهــم انضــم إىل أحــزاب كانت قد فعلــت ذلك بالفعل قبل بضع ســنوات‪.‬‬
‫رغــم هــذا االنقســام‪ ،‬وافــق اإلســاميون جمي ًعــا عىل خريطــة الطريــق التي وضعهــا املجلس‬
‫األعــى للقــوات املســلحة (التــي دعــت إىل إدارة املرحلــة االنتقاليــة مــن خــال االنتخابــات‬
‫واإلصالحــات القانونيــة بــداًلً مــن اإلجــراءات الراديكاليــة) دون تحفظــات‪ ،‬ورفضــوا‬
‫تأييــد املســرات الثوريــة والدعــوات إلعــادة إشــعال الثــورة‪ ،‬فهــم قــادرون عــى الفــوز يف‬
‫االنتخابــات دون عنــاء فلــاذا يخاطــرون مبواجهــة مــع الجيــش؟ يف املقابــل‪ ،‬ســمح الجيش‬
‫واألمــن لإلســاميني بتعزيــز ســلطتهم عــى الربملــان وحصل حــزب الحريــة والعدالــة التابع‬
‫لجامعــة اإلخــوان املســلمني عــى ‪ %45.7‬مــن األصــوات وحصــل حــزب النــور الســلفي عىل‬

‫‪347‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫‪ .%24.6‬وبالطبــع‪ ،‬فإنــه ال عالقــة لهــذا بالتوجــه الســيايس لضبــاط الجيــش والرشطــة أو‬
‫تدينهــم‪ ،‬بــل باألحــرى لقدرتهــم عــى اســتخدام اإلســاميني يف تســوية الوضــع الســيايس‪.‬‬
‫تاريخيــا عــى أداء أدوار ثانويــة بــرف النظــر عــن شــعبيتهم‪ ،‬ومل‬
‫ً‬ ‫مل يعتــد اإلســاميون‬
‫يقتــر فهمهــم للسياســة عــى مجــرد دعــم مــن هــو يف الســلطة‪ ،‬كــا مل يقتــر األمــر‬
‫عــى أن تلزمهــم "حتميتهــم الدينيــة" إلعطــاء األولويــة للعمــل الدعــوي عــى حســاب العمــل‬
‫الســيايس أمـ ًـا بحصــول التدخــل اإللهــي‪ .‬ولكنهــم اتســموا بســمتني محددتــن جعلتهــم‬
‫عامـ ًـا مفيـ ًدا لــكل مــن ضبــاط الجيــش ورجــال األمــن‪ .‬مــن وجهــة نظر عســكرية‪ ،‬لــن تثق‬
‫القــوى الجيوسياســية (ســواء اإلقليميــة أو الدوليــة) مطل ًقــا يف حكــم اإلســاميني وســتفضل‬
‫دامئًــا وجــود ويص حكيــم إىل جانبهــم للتحقــق مــن منــع تجاوزاتهــم‪ -‬ومــن هــو أفضــل‬
‫وأكــر مســؤولية مــن القيــادة العليــا‪ .‬وبطبيعــة الحــال‪ ،‬ميكــن للتصاميــم الجيوسياســية‬
‫الكــرى لإلســاميني أن تــزود الجيــش بنــوع الخطــاب الــازم لتعزيــز نفــوذه والحفــاظ‬
‫عــى امتيازاتــه وأداء دور إقليمــي أكــر نشــاطًا‪.‬‬
‫وباملثــل‪ ،‬أدركــت املؤسســة األمنيــة أن بإمكانهــا توظيــف اإلســاميني يف السياســة القمعيــة‪،‬‬
‫فالســنوات التــي عاشــوها مــن العمــل الــري جعلتهــم مرتابــن ومهيئــن لرؤيــة املؤامرات‬
‫يف كل مــكان‪ ،‬وأجنــدة اإلصــاح األخالقــي الصــارم الخاصــة بهــم تتطلــب مراقبــة‬
‫مســتمرة للرشطــة‪ .‬وبالتــايل‪ ،‬قــد يدركــون أهميــة أجهــزة املراقبــة الواســعة وإنفــاذ القانــون‬
‫تلقائيــا‪ .‬هــذه هــي‬
‫ً‬ ‫بالنســبة ألجندتهــم ويغضــون الطــرف عــن التجــاوزات املرتبطــة بهــا‬
‫طبيعــة الحــركات األيديولوجيــة التــي تســمح لنفســها بامتيــازات اســتثنائية لتكــون قــادرة‬
‫عــى تحقيــق التحــول الشــامل للمجتمــع الــذي يطمحــون إليــه‪ ،‬بغــض النظــر عــن مــدى‬
‫ورافضــا لهــذا التغيــر‬
‫ً‬ ‫الرباغامتيــة أو االنتهازيــة ألعضائهــا‪ .‬وكلــا كان املجتمــع متمــر ًدا‬
‫وف ًقــا ألجندتهــم املتخيلــة تــزداد جرعــات االســتبداد لديهــم إلجبــار املجتمــع عــى االنصيــاع‬
‫لهــم‪ .‬ولــذا‪ ،‬لــن يعــارض اإلســاميون االســتبداد طاملــا أنهــم ليســوا ضحايــاه‪.‬‬
‫أثبــت اإلســاميون يف العــام الــذي أعقــب الثــورة أنهــم عــى مســتوى املهمــة‪ ،‬فقــد أداروا‬
‫ظهورهــم للعديــد مــن الفــرص التــي أتيحــت لهــم لقيــادة الثــورة كــا فعــل اإلســاميون‬
‫يف إيــران عــام ‪ .1979‬ورغــم االضطرابــات التــي عصفــت بالبــاد‪ ،‬ظلــت إســراتيجيتهم‬
‫للتغيــر عمو ًمــا كــا هــي وآمنــوا باســتخدام املكاســب السياســية‪ -‬كاالنتصــارات االنتخابيــة‪-‬‬

‫‪348‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬عىل عتبة السلطة‪ :‬الجيش بعد الثورة‬

‫كمنصــات لنــر أجندتهــم الثقافيــة وإضفــاء الرشعيــة عــى دورهــم كممثلــن لإلســام‪،‬‬
‫عــى أمــل أن يلتــزم جميــع املرصيــن يف نهايــة املطــاف مبرشوعهــم األيديولوجــي‬
‫ويخضعــوا لقيادتهــم املطلقــة‪ .‬عندهــا فقــط ميســك اإلســاميون بالســلطة بقــوة ويطــردون‬
‫كل املنافســن السياســيني‪ .‬فالصــر مــن وجهــة نظرهــم هــو مفتــاح النــر‪ ،‬ولــن يتحقــق‬
‫النــر الحقيقــي إال عندمــا يحتشــد املرصيــون تحــت رايتهــم انطالقًــا مــن قناعــة‬
‫أيديولوجيــة وليــس مجــرد مســألة تفضيــل انتخــايب‪.‬‬
‫يف الوقــت الحــايل‪ ،‬يتعــن عــى اإلســاميني اجتيــاز فــرة االختبــار هــذه (التــي تختــر‬
‫التزامهــم بالدميقراطيــة) ومواصلــة حملتهــم إلحــداث التحــول الثقــايف دون اســتعداء‬
‫الجيــش أو األمــن أو الشــعب‪ .‬ويف نهايــة املطــاف‪ ،‬ســيكونون يف وضــع يســمح لهــم‬
‫بالوقــوف عــى أقدامهــم والتغلــب عــى املؤسســات العســكرية واألمنيــة‪ .‬هــل ســتنجح هــذه‬
‫اإلســراتيجية؟ نعــم هــذا ممكــن‪ .‬تُظهــر الخالفــات بــن الضبــاط واإلســاميني أن تحالفهم‬
‫تخللــه الكثــر مــن التوتــر‪ ،‬فاإلســاميون قلقــون بحــق مــن أن يبيعهــم الجيــش (كــا فعــل‬
‫عبــد النــارص يف عــام ‪ ،)1954‬والضبــاط يخشــون أن مييــل اإلســاميون الحتــكار الســلطة‬
‫جانبــا‪ .‬ولكــن مــرة أخــرى‪ ،‬قــد يو َّجــه اإلســاميون مــن قبــل الجيــش واألمــن‬
‫وإقصائهــم ً‬
‫ألداء الــدور الــذي طاملــا برعــوا فيــه‪ :‬دور املحفــز ملــن هــم يف الســلطة‪ .‬ومــرة أخــرى‪ ،‬قــد‬
‫يجــدون أنفســهم يف الجانــب الخطــأ مــن التاريــخ‪.‬‬
‫مل تكــن الجامعــات العلامنيــة‪ -‬التــي تعاونــت منــذ عــام ‪ 2005‬يف العديــد مــن الكيانــات‬
‫املوحــدة مثــل "كفايــة" و"الجمعيــة الوطنيــة للتغيــر"‪ -‬أقــل تنو ًعــا مــن اإلســاميني‪ ،‬لكــن‬
‫تأثريهــم يف الشــارع كان أضعــف بكثــر‪ .‬وقــد تجــى ذلــك مــن خــال حملتهــم املنســقة‬
‫ضــد االســتفتاء الــذي أقــره اإلســاميون عــى اإلعــان الدســتوري يف مــارس ‪ 2011‬والتــي‬
‫أيضــا‪ .‬اســتمد‬
‫أقنعــت ‪ %23‬فقــط مــن الناخبــن‪ ،‬وكانــت مكاســبهم يف الربملــان متواضعــة ً‬
‫النشــطاء العلامنيــون الرشعيــة مــن دورهــم يف إشــعال الثورة التــي انضم إليها اإلســاميون‬
‫عــى مضــض فيــا بعــد‪ ،‬ومــن كونهــم قــادرون عــى تزويــد النظــام الجديــد برجــال‬
‫دولــة أكــر عرصيــة ودميقراطيــة‪ ،‬كــا أنهــم يتمتعــون باملزيــد مــن التعاطــف الــدويل‪.‬‬
‫لكــن األشــهر التــي أعقبــت الثــورة شــهدت احتــكاكًا مســتم ًرا بينهــم وبــن الجيــش بســبب‬
‫موقــف املجلــس العســكري املنضبــط تجــاه النظــام القديــم وإرصاره عــى االســتفتاءات‬

‫‪349‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫واالنتخابــات (التــي ال يســتطيع العلامنيــون الفــوز بهــا) باعتبارهــا الوســيلة الوحيــدة‬


‫لإلصــاح‪ .‬كــا شــكك ٌّكل مــن الليرباليــن واليســاريني عل ًنــا يف قيمــة الحفــاظ عــى قــوة‬
‫محببــن للقيــادة العليــا‪ .‬كل هــذا‬
‫عســكرية كبــرة ومكلفــة‪ ،‬مــا جعلهــم بطبيعــة الحــال غــر َّ‬
‫يشــر إىل أنــه يف غيــاب مفاجــأة كبــرة أخــرى‪ -‬رمبــا نتيجــة اندمــاج قــوى املعارضــة‬
‫عــى يــد الثــوار الذيــن ال يعرفــون الخــوف اآلن‪ -‬فلــن تتمكــن القــوى غــر اإلســامية عــر‬
‫صناديــق االقــراع مــن تحقيــق مــا فشــلت يف تحقيقــه خــال الثــورة‪.‬‬
‫وهكــذا يســتنتج املــرء أن ميــزان القوى الســيايس كان يف األشــهر التي أعقبت الثــورة مبثابة‬
‫الضعــف‪ .‬لقــد كشــف تخــي الجيــش عن النظــام القديــم والهزميــة املؤقتة للمؤسســة‬ ‫ميــزان َّ‬
‫األمنيــة مــدى ضعــف املكــون الســيايس للنظــام‪ ،‬وأثبتــت قــوى املعارضــة التــي هيمنــت عىل‬
‫املشــهد بعــد الثــورة أنهــا أضعــف مــن تلــك التــي أطيــح بهــا‪ .‬ويبقــى الالعبــان الفاعــان‬
‫هــا املؤسســتان العســكرية واألمنيــة فيــا جولــة جديــدة مــن الــراع عــى وشــك أن تبدأ‪.‬‬
‫يبقــى أن نــرى مــن ســيفوز بالســباق إىل القمــة‪ :‬هــل ســتصبح مــر مــرة أخــرى تحــت‬
‫ســيطرة الجيــش كــا بــدأت يف الخمســينيات‪ ،‬أم ستســتمر يف العمــل كدولــة بوليســية‬
‫كــا كانــت منــذ أواخــر الســبعينيات؟ مثــة يشء واحــد مؤكــد‪ :‬لقــد وضــع األمــن والعســكر‬
‫جانبــا يف هــذه املرحلــة حيــث وجــد كالهام نفســه مضطـ ًرا لعقد تحالــف رضوري‬‫خالفهــا ً‬
‫لتحقيــق االســتقرار الســيايس مــن خــال تقويــض القــوى الراديكاليــة والدخــول يف الكتلــة‬
‫الحاكمــة املتغــرة كرشيــك ســيايس ذي عقليــة إصالحيــة‪.‬‬

‫الجمهورية الثانية؟‬
‫بــدت االضطرابــات والتوتــرات يف الفــرة االنتقاليــة شــديدة الوضــوح يف صيــف عــام‬
‫‪ .2012‬فبينــا كان املرصيــون يســتعدون ألول انتخابــات رئاســية تنافســية يف البــاد‪،‬‬
‫وصلــت االنقســامات بــن الثــوار إىل أبعــاد مأســاوية حيــث فشــلوا يف االتفــاق عــى‬
‫ممثــل واحــد مــا أدى إىل إنتــاج خمســة مرشــحني للرئاســة‪ .‬يف غضــون ذلــك‪ ،‬قدمــت‬
‫جامعــة اإلخــوان املســلمني مرشــحها‪ :‬أســتاذ الهندســة وزعيــم حــزب الحريــة والعدالــة‬
‫محمــد مــريس‪ ،‬وتجمعــت فلــول النظــام القديــم حــول الفريــق أحمــد شــفيق‪ ،‬قائــد القــوات‬
‫الجويــة الســابق وآخــر رئيــس للــوزراء يف عهــد مبــارك‪ .‬يف الجولــة األوىل التــي جــرت‬

‫‪350‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬عىل عتبة السلطة‪ :‬الجيش بعد الثورة‬

‫يف األســبوع األخــر مــن شــهر مايــو‪ ،‬صــوت املرصيــون بشــكل حاســم لصالــح الثــورة‬
‫ولكــن أصواتهــم تشــتت بــن مرشــحي الثــوار الخمســة ففشــلوا يف إيصــال أي منهــم‬
‫إىل الجولــة الثانيــة‪ .‬وتنافــس الوصيفــان‪ -‬اإلســاميون ومرشــحو النظــام القديــم‪ -‬عــى‬
‫أصــوات الناخبــن املرصيــن البالــغ عددهــم ‪ 51‬مليــون ناخــب‪.‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬بــدأ الجيــش يف منتصــف شــهر يونيــو بتأمــن ضــان تفوقــه يف النظــام‬
‫الجديــد‪ -‬مــا يشــار إليــه اآلن يف وســائل اإلعــام املرصيــة باســم الجمهوريــة الثانيــة‪-‬‬
‫بغــض النظــر عــن الفائــز‪ .‬يف ‪ 14‬يونيــو‪ ،‬حلــت املحكمــة الدســتورية الربملــان‪ .‬وقبــل ثالثــة‬
‫أيــام مــن الجولــة الثانيــة مــن االنتخابــات الرئاســية املقــرر أن تبــدأ يف ‪ 16‬يونيــو‪ ،‬منــح‬
‫وزيــر العــدل الرشطــة العســكرية واملخابــرات العســكرية الحــق يف اعتقــال املواطنــن‪،‬‬
‫وبالتــايل قنــن مهامهــم األمنيــة الداخليــة‪ .‬وبعــد ســاعة مــن إغــاق مراكــز االقــراع‬
‫لالنتخابــات الرئاســية أصــدر املجلــس األعــى للقــوات املســلحة إعالنًــا دســتوريًا بتوليــه‬
‫الســلطة الترشيعيــة بانتظــار انتخــاب مجلــس نيــايب جديــد‪ ،‬وحصــل عــى حــق النقــض عىل‬
‫صياغــة الدســتور الجديــد واحتفــظ بالســلطة الحرصيــة عــى جميــع القــرارات املتعلقــة‬
‫بالقــوات املســلحة وطالــب الرئيــس املنتخــب بالحصــول عــى إذنــه قبــل إعــان الحــرب‪.‬‬
‫ومــع ذلــك‪ ،‬متثــل التطــور األبــرز يف إحيــاء املجلــس األعــى للقــوات املســلحة ملجلــس‬
‫الدفــاع الوطنــي املــري الــذي أنشــأه عبــد النــارص ألول مــرة للتعامــل مــع تهديــدات‬
‫األمــن القومــي (الخارجيــة والداخليــة)‪ .‬انعقــد املجلــس القديــم بدعــوة مــن الرئيــس‬
‫وضــم ممثلــن عســكريني اثنــن فقــط‪ :‬القائــد العــام ووزيــر الحربيــة حينهــا‪ .‬ونظــ ًرا‬
‫ألن عبــد النــارص ومــن بعــده اتخــذوا عــاد ًة قــرارات أحاديــة الجانــب دون مشــورة ذات‬
‫تأثــر فــكان املجلــس نــاد ًرا مــا يجتمــع ورسعــان مــا فقــد دوره‪ .‬لكــن أداء املجلــس األعــى‬
‫للقــوات املســلحة مؤخ ـ ًرا‪ ،‬والــذي بــرز يف ‪ 18‬يونيــو مبوجــب املرســوم ‪ 348‬لعــام ‪،2012‬‬
‫كان مختل ًفــا متا ًمــا‪ .‬ضــم املجلــس أحــد عــر ممثـ ًـا عســكريًا وســتة مدنيــن فقــط مبــن‬
‫فيهــم الرئيــس(((‪ ،‬وكان باإلمــكان عقــده بنــاء عــى رغبــة أغلبيــة األعضــاء واتخــاذ قراراتــه‬

‫‪ -1‬املمثلــون العســكريون هــم وزيــر الدفــاع ومســاعده وقــادة األركان ورئيــس هيئــة العمليــات‪ ،‬األمــن العــام‬
‫ل��وزارة الدف��اع ورئي��س القض��اء العس��كري‪ ،‬ومدي��ر املخابرــات الحربيــة ومديــر املخابــرات العامــة (عــادة مــا‬
‫يكــون ضابطًــا مــن الجيــش)‪ .‬واملمثلــون املدنيــون هــم‪ :‬رئيــس الجمهوريــة ورئيــس مجلــس الــوزراء ورئيــس‬
‫مجلـ�س النـ�واب‪ ،‬ووزراء الداخليـ�ة والخارجيـ�ة واملاليـ�ة‪.‬‬

‫‪351‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫باألغلبيــة املطلقــة‪ .‬يعنــي هــذا مــن الناحيــة العمليــة أن مجلــس الدفــاع الوطنــي ميكــن أن‬
‫يجتمــع وميــرر القــرارات بــدون حضــور الرئيــس‪ ،‬ولكــن الرئيــس ال ميكنــه فعــل ذلــك إذا‬
‫مــا تجاهــل الضبــاط دعوتــه النعقــاد املجلــس‪.‬‬
‫بعــد انتخابــات رشســة شــارك فيهــا نصــف الناخبــن املســجلني فقــط‪ ،‬فــاز مرشــح اإلخوان‬
‫املســلمني محمــد مــريس بنســبة ‪ ٪51.7‬مــن األصــوات‪ ،‬ليصبــح أول مــدين وأول إســامي‬
‫را‪ ،‬اقــرب اإلســاميون‬ ‫ـعبيا يف تاريــخ مــر‪ .‬أخـ ً‬‫رئيســا‪ ،‬وأول رئيــس منتخــب شـ ً‬‫ـب ً‬ ‫يُنت َخـ ُ‬
‫مبباركــة عســكرية وأمنيــة مــن تــويل الــدور الــذي طمحــوا إليــه عــى مــدى مثانيــة عقــود‪،‬‬
‫املتمثــل يف الوصــول إىل رأس الجهــاز الســيايس الحاكــم‪ .‬لكــن مــع بــروز الجيــش إىل‬
‫املشــهد العــام واســتمرار دور املؤسســة األمنيــة رغــم االضطرابــات الثوريــة‪ ،‬بــات عــى‬
‫ـراتيجيا‪ .‬فــإذا قــررت مواجهــة املؤسســتني‬
‫ً‬ ‫جامعــة اإلخــوان املســلمني أن تتخــذ خيــا ًرا إسـ‬
‫القمعيتــن يف محاولــة للهيمنــة عــى النظــام عــر ثــورة تصحيحيــة عــى غــرار مــا فعــل‬
‫الســادات‪ ،‬فمــن املؤكــد أن مــر ســتتجه نحــو مزيــد مــن االضطرابــات السياســية‪ ،‬مــع‬
‫عــدم يقينهــم مــن النتيجــة‪ .‬وإذا اتبعــت خطــى النظــام القديــم وتحالفــت مــع املؤسســة‬
‫األمنيــة فمــن املحتمــل أن يعــاد إنتــاج النظــام االســتبدادي الســابق يف مــر‪ ،‬وإن كان‬
‫بنكهــة إســامية تضفــي عليــه الرشعيــة‪ .‬وإذا تفــاوض اإلخــوان مــع القــوات املســلحة‬
‫عــى مواقــع نفــوذ منفصلــة (وإن كانــت متداخلــة) يكــون للجيــش فيهــا الكلمــة األخــرة‬
‫يف الشــؤون العســكرية وشــؤون األمــن القومــي بينــا يحتفــظ املدنيــون بالســيطرة عــى‬
‫الحيــاة السياســية بشــكل عــام‪ ،‬فــإن الدميقراطيــة الوليــدة يف مــر قــد تتعــزز وتتوســع‬
‫تدريجيــا‪ -‬كــا هــو الحــال يف تركيــا وغريهــا مــن الحــاالت التــي يحتفــظ فيهــا الجيــش‬
‫ً‬
‫مجلســا عســكريًا سياسـ ًـيا) بنفــوذ حاســم يف "السياســات العليــا" دون‬‫(كمؤسســة وليــس ً‬
‫تقويــض السياســة التعدديــة‪.‬‬
‫إننــا إذًا أمــام جولــة أخــرى مــن الــراع بــن مكونــات مثلــث القــوة الثالثــة املعاد تشــكيله‪:‬‬
‫تــر املؤسســة األمنيــة عــى اســتعادة هيمنتهــا ونفوذهــا؛ ويســعى أقطــاب الحكم الســيايس‬
‫الجــدد لتثبيــت حضورهــم بــن هذيــن الطرفــن القويــن‪ .‬وبينــا قــد ال تبــدو هــذه‬
‫النتيجــة مرضيــة للذيــن ضحــوا بأرواحهــم لتحريــر بالدهــم مــن قبضــة هــذه املؤسســات‬
‫القويــة‪ ،‬إال أن هــذا الواقــع هــو مــا تبقــى لنــا يف ظــل تــوازن القــوى القائــم‪.‬‬

‫‪352‬‬
‫شكر وتقدير‬

‫شكر وتقدير‬
‫الكتابــة بالتأكيــد وظيفــة منعزلــة‪ ،‬لكــن التفكــر ليــس كذلــك‪ .‬هنــاك الكثــرون لنشــكرهم‬
‫ولكــن عــى املــرء دامئًــا أن يبــدأ مبعلميــه‪ .‬إن معلمــي األول هــو والــدي‪ ،‬ففــي ســن مبكــرة‬
‫ج ـ ًدا أثبــت يف ذهنــي أنــه ال ينبغــي ألحــد أن يناقــش موضو ًعــا مل يبحثــه بدقــة ومــن‬
‫عــدة زوايــا مختلفــة‪ .‬إنــه الشــخص الــذي أُد ِي ـ ُن لــه بهــذا الكتــاب‪ ،‬وهــو الــذي أرســلني‬
‫يف رحلــة قــراءة اســتمرت عقديــن وبلغــت ذروتهــا يف العمــل الــذي أقــوم بــه اآلن‪ .‬كــا‬
‫أود أن أشــكره وأعاممــي عــى تحويــل كل تجمــع عائــي إىل نقــاش فكــري‪ .‬أمــا أســتاذي‬
‫األكادميــي األول فهــو الربوفيســور بهجــت قــرين الــذي ع ّرفنــي عــى عــامل املنح الدراســية‬
‫وشــجعني عــى االرتقــاء إىل مســتويات التفــاين والعمــل الجــاد‪ .‬أمــا األســتاذ عــاد شــاهني‬
‫مدرســا وصدي ًقــا جي ـ ًدا‪ .‬كــا قــدم يل األســتاذان فرهــاد كاظمــي وتيمــويث‬ ‫فقــد كان يل ً‬
‫ميتشــل‪ ،‬ومــن بعدهــا الربوفيســور ويليــام روي النصــح والتشــجيع بســخاء‪ .‬وأنــا مديــن‬
‫أيضــا بشــكل خــاص للربوفيســور روجــرز بروباكــر الــذي يدفعنــي دامئًــا إىل األمــام‬ ‫ً‬
‫بانتقاداتــه املفصلــة بعنايــة‪ .‬إن تفانيــه يف األوســاط األكادمييــة ومســاعدة الطــاب عــى‬
‫أيضــا أن مســاري املهنــي‬
‫تحقيــق أقــى إمكاناتهــم أمــر مثــر لإلعجــاب ح ًقــا‪ .‬وال أنــى ً‬
‫الحــايل مل يكــن ممك ًنــا لــوال الدعــم غــر املــروط الــذي قدمــه يل الربوفيســور جيفــري‬
‫برجــر‪ ،‬صاحــب النبــل والكــرم بحــق‪.‬‬
‫يشــتيك العديــد مــن الباحثــن الشــباب مــن أنهــم مل يجــدوا أب ـ ًدا نــوع اإلرشــاد الــذي‬
‫يطمحــون إليــه‪ .‬ويف وقــت يصعــب فيــه العثــور عــى معلــم عظيــم‪ ،‬فقــد أنعــم اللــه عــي‬
‫باألســتاذين بــري أندرســون ومايــكل مــان‪ ،‬وهــا شــخصيتان بارزتــان يف علــم االجتــاع‬
‫التاريخــي وقــد قدمــا إرشــاداتهام وتعليقاتهــا املوســعة عــى هــذا الكتــاب وكانــا مصــدر‬
‫إلهــام بالنســبة يل إثــر مواقفهــا الجميلــة‪.‬‬
‫وقــد اســتفدت بشــكل كبــر مــن املحادثــات مــع األصدقــاء والزمــاء والطــاب يف القاهــرة‬
‫ولــوس أنجلــوس‪ ،‬وال ســيام أعضــاء الدائــرة الفكريــة املتجمعــة حــول خالــد محمــود‪ ،‬وهــو‬
‫مصــدر نــور يوجهنــي يف حيــايت‪ .‬كــا ســاهم الربوفيســور جــون طومســون يف كامربيــدج‬
‫مســاهم ًة حاســم ًة يف مســاعديت يف صياغــة هــذا الكتــاب للقــارئ العــام‪ .‬وأود أن أشــكر‬

‫‪353‬‬
‫جنود وجواسيس وحكَّام‪ ،‬طريق مرص إىل الثَّورة‬

‫عمــرو قنديــل وأدهــم الخــويل وأمــرة شــاهني عــى تزويدهــم يل مبــواد أرشــيفية نــادرة‪.‬‬
‫كل الشــكر يعــود إىل أودريــا ليــم‪ ،‬املحــررة الخــاص يب يف دار ‪ Verso‬للنــر لتحقيقهــا‬
‫أقــى اســتفادة مــن هــذا العمــل مــع الحفــاظ عــى ســامته بــداًلً مــن متزيقــه لتلبيــة‬
‫االهتــام املتواضــع للقــارئ العــادي‪.‬‬
‫والــدي عــى دعمهــا الــذي ال يتزعــزع‪ .‬أمــا‬‫ّ‬ ‫عــى املســتوى الشــخيص‪ ،‬أود أن أشــكر‬
‫زوجتــي ناهــد فهــي الشــخص الوحيــد الــذي كان بإمكانــه تحمــل روتــن العمــل غــر‬
‫املعقــول الخــاص يب‪ ،‬لــذا فــا توجــد كلــات ميكــن أن تعــر عــن امتنــاين لــكل مــا فعلتــه‬
‫ومــا زالــت تفعلــه‪ ،‬ولكــن قبــل كل يشء عــى ابتســامتها التــي تــيء أيامــي الكئيبــة‪.‬‬
‫أمــي الوحيــد هــو أن ينشــأ طفــاي ليــى وعــي‪ ،‬اللــذان كانــا صغرييــن جـ ًدا عــى التظاهر‬
‫يف ميــدان التحريــر‪ ،‬يف مــر مختلفــة‪ .‬عندمــا يبلغــان مــن العمــر مــا يكفــي لقــراءة هــذا‬
‫الكتــاب‪ ،‬فإنهــا ســيفعالن ذلــك بريبــة كبــرة رافضــن تصديــق أن أبنــاء وطنهــا كان‬
‫عليهــم أن يتحملــوا الكثــر مــن الفســاد والقمــع واليــأس‪ .‬أنقــل إليهــا نصيحــة كانــت تعنــي‬
‫الكثــر بالنســبة يل يف فتــويت‪" :‬إن عــدم معرفــة مــا حــدث قبــل أن تولــد يبقيــك طفـ ًـا‬
‫إىل األبــد"‪.‬‬

‫‪354‬‬

You might also like