Professional Documents
Culture Documents
جامعة تونس
ك ّلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية بتونس
مخبر دراسات مغاربية
الكروم واخلمور
يف البالد التونسية عبر التاريخ
فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات
30 - 29جوان و 01جويلية 2018
مقدمة
كان استهالك اخلمر لدى مختلف احلضارات إما من السلوكات املنبوذة
أو من الطقوس الدينية املقدسة (ديونيسوس أو باكوس أو باخوس يف امليثيولوجيا
اإلغريقية) .فقد تراوحت منزلة اخلمر بني منزلتي املدنس واملقدس (املخمور يف
احلانة يقابله املتخ ّمر يف احلضرة الصوفية) .ولم يشذ تاريخ البالد التونسية عن
هاتني املنزلتني ،فنجدها يف حقب يف مرتبة املقدس ،ويف حقب أخرى يف مستوى
املدنس .لم يخرج اخلمر يف تونس احلديثة عن نسق ازدواجية النظر إلى ظاهرة
جتارتها واستهالكها فاملتتبع ملختلف املصادر التي تتناول تاريخ تونس احلديث يالحظ
بشكل واضح ظاهرة إغالق وهدم اخلمارات عند كل تغير يف أعلى هرم السلطة
وكأن من سبقه لم
السياسية ،فبمجرد صعود حاكم جديد ،يتجدد اإلغالق والهدم ّ
يهدم ولم يُغلق .هذا التعامل مع فضاءات بيع واستهالك اخلمور له من هذه الزاوية
عالقة بالسلطة السياسية أكثر منها بالعوامل االقتصادية واألخالقية الصرفة.
يضاف إلى ذلك أن جتارة اخلمور بأنواعها لم تكن مح ّل اهتمام
اإلخباريني ،ولم يفردوها بفصول أو أخبار ،فغالبا ما يكون ذكرها عرضيا يف
إطار احلديث عن حتوالت سياسية أو اجتماعية أو أخبار عا ّمة .أما بالنسبة
إلى املصادر األخرى ،مثل الوثائق األرشيفية ،أو مراسالت القناصل األوروبيني،
أو كتابات الرحالة فتكون اإلشارات مرتبطة بذكر معطيات مجالية ،حول فضاء
معني أو شخصية ،وبالتالي ال يكون ذكرها كذلك إال عرضا .يف املقابل تعتبر
وثائق األرشيف األكثر ثراء يف هذا املجال إذ جند ذكر اخلمارات يف وثائق
األحباس يف إطار حتديد مواقع ومعالم ومباني مرتبطة بالعقار احملبس ،وقد
تشير كذلك إلى حتويرات أدخلت على بعض املعالم ،يف إطار إنشاء مؤسسات
جديدة مثل املساجد واملدارس والزوايا وغيرها ،لكنها تبقى قليلة رغم ثرائها.
املعهد التحضيري للدراسات األدبية والعلوم االنسانية ،جامعة تونس.
)1
ورغم تعدد املصادر التي نستقي منها املعلومات التي قد تساعدنا على
تتبع أخبار اخلمارين واخلمارات واخلمر صناعة وجتارة وترويجا واستهالكا ،كانت
املعطيات املتوفرة يف مستهل الفترة احلديثة وصوال إلى بداية القرن التاسع عشر
قليلة حاولت استغاللها بعض الدراسات .2فقد تعرض حسني بوجرة إلى تفاصيل
دقيقة حول الظاهرة على الزمن الطويل وصوال إلى القرن التاسع عشر الذي يعتبر
قرن الطفرة .ودون العودة إلى ما مت تناوله ودون العودة كذلك إلى مظاهر اخلالف
واالختالف واملسارات التاريخية املتنوعة حول الظاهرة سنركز اهتمامنا،يف مقالنا
هذا ،على ثالث أبعاد رئيسية يف عالقة باخلمر خالل القرن التاسع عشر بالبالد
التونسية وهي توطينها يف النصوص التشريعية ويف املجال وأهلنة املصطلحات.3
وقد ش ّكلت ظاهرة اخلمر يف أبعادها التشريعية واملجال ّية واالجتماع ّية
(السياس ّية والقانون ّية
السلطة احلسين ّية ونظمها التقليد ّية ّ
حلقة من حلقات تفكيك ّ
واالجتماع ّية) وفرض القوى الغرب ّية إرادتها التي ت ّوجت مبعاهدة باردو.
)2بوجرة (حسني)« ،الظاهرة اخلمرية وتطورها بالبالد التونسية يف العهد التركي» ،الكراسات
التونسية ،العددان ،2009 ،42-41ص .114-26
) 3يستعمل مفهوم التوطني يف عدة حقول معرفية منها االجتماعية واالقتصادية ويش ّكل
السياسية
بُعد التخطيط والتنظيم قاسمها املشترك .فعملية التوطني بأشكالها املختلفةّ ،
واالجتماعية واالقتصادية ،ال حتدث على نحو مباشر وتلقائي ،بل هي عمل ّية إراد ّيةغايتها
الوصول إلى تنظيم منسجم ومتناسق ،أساسها وضوح الهدف يف ذهن الفاعل ،ود ّقة خطة
عمله يف بعديها الزمني واملجالي ووسائل حتقيقها .أما التوطني العشوائي فكثيرا ما يفضي
إلى نتائج تخضع لتوازن الضغط والتفاعل االجتماعي بني القوى الفاعلة .والتوطني الذي
نتناوله هو توطني مرتبط بظرفية سياسية واقتصادية فارقة يف تاريخ تونس القرن التاسع
السلطة واملجتمع احمللّيني مع القوى الغرب ّية من خالل ظاهرة اخلمر
عشر مرتبط بجدل ّية ّ
التي كانت مبثابة «االغتصاب» -التحديث ( -أو اإلصالحات املفروضة) الذي عاشت على
وقعه اإليالة خالل القرن التّاسع عشر.
)4ابن عبد العزيز (حمودة) ،الكتاب الباشي ،قسم السرة ،حتقيق محمد ماضور ،الدار التونسية
للنشر.1970 ،
يوحي لنا ابن عبد العزيز يف هذا املقتطف بوضعيتني سادتا يف زمانه ،الوضعية
األولى التي كان فيها اخلمر متعارف على صناعته وجتارته واستهالكه ،والوضعية
الثانية وتتمثل يف منع الباي لذلك .هذا املنع يف جوهره موجه لألهالي من رعية
الباي فال ميكن أن يسحب على الرعايا األجانب املستقرين بالبالد ،والطاقم
العامل يف القنصليات ،إضافة إلى أسرى القرصنة من املسيحيني الذين ال نعتقد
بأن الباي شملهم باملنع .ففي أغلب الفترات التاريخية قبيل القرن التاسع عشر،
ّ
كانت جتارة اخلمر سائدة ولم تنقطع بالكل ّية لهذه االعتبارات وتذكر ذلك دفاتر
األداءات املوظفة على هذا الصنف من البضاعة حتت مسميات تخفي طبيعة
النشاط .فاالتفاقيات تراعي حقوق اجلاليات األجنبية يف ممارسة معتقداتها
وعاداتها ونظمها مبا ال ميس مباشرة بشعائر املسلمني أو دينهم أو عقيدتهم.
وقد كان التمتّع بهذه احلقوق داخل فضاءات خاصة بهذه اجلاليات سواء يف
دورهم أو يف الفنادق اخلاصة بهم أو يف مقرات القنصليات ،دون أن نهمل حق
األسرى األوروبيني املنتشرين يف الدور والبساتني والقصور ولكن أساسا يف
الزنداالت املنتشرة يف احلاضرة بصفة خاصة.
عندما تشير املصادر اإلخبارية إلى قرارات منع متتالية حسب البايات
(حسني بن علي 1735-1705علي باشا 1756-1735وعلي باي ،)1782-1759
فهي من وجهة نظر سياسية مراحل التأسيس للدولة فحسني بن علي اتخذ
إجراءاته يف إطار البحث عن شرعية لدولة جديدة ظهرت على أنقاض املراديني
من جهة وإبراهيم الشريف ( )1705-1702من جهة ثانية .أما علي باشا فكان
يبحث بدوره عن شرعية استحواذ على السلطة من عمه بدعم من عساكر أتراك
اجلزائر يف حني أن علي باي كان مبثابة إعادة التأسيس مع البحث عن تدعيم
شرعية اجلمهور من أهل البالد .ويالحظ املتمعن يف قرارات املنع بأنها كانت
موجهة أساسا إلى املصنّعني أو املستهلكني أو املر ّوجني من األهالي .وعندما
تشير هذه املصادر إلى هدم خمارات فذلك يدفعنا ضرورة إلى البحث عن طبيعة
األنشطة السائدة داخل هذه املقرات قبل هدمها ،وإذا ما تو ّفرت املعطيات علينا
حتديد أصحابها ،وموقعها داخل النسيج احلضري ،واألهم عالقة هذه الفضاءات
بالوضعيات الثالث ،التصنيع واالستهالك والترويج احمللي .إضافة إلى ذلك يجب
البحث عما إذا كان هدم الفضاءات املروجة للخمر أو املصنعة له ،يدخل يف باب
محاربة الظاهرة بصورة عامة أو هي فقط استغالل العملية لتلميع صورة الباي.
سنحاول التطرق إلى عمق املسألة بتتبع عالقة السلطة بتجارة
وصنع اخلمر بالبالد التونسية قبيل القرن التاسع عشر .لقد ركزت املصادر
اإلخبارية ،5على مفاخر ومحاسن الباي حسني ومن أهمها املنشآت التي
أقامها يف مختلف املجاالت والفضاءات اجلغرافية داخل احلاضرة وخارجها
ومن ضمن هذه املنشآت مدرسة النخلة (جوار جامع الزيتونة) وجامعه اجلديد
وما يتبعه من املركب االقتصادي الديني (حومة الصباغني) ومت التركيز على
هاذين املعلمني ألهميتهما املعمارية واملجال ّية إذ أنشئت األولى بجوار جامع
الزيتونة ،املركز الديني الرئيسي داخل احلاضرة بل منارة العلم ال بالنسبة إلى
البالد التونسية فحسب وإمنا بالد املغرب عموما ،وما إنشاء مدرسة بجواره إال
تدعيم لهذه القاعدة العلمية التعليمية التي تاخمت نهج الكتبيني وتدعمت الحقا
مبدارس أنشأها علي باشا .لو ربطنا بني إحداث هذه املنشآت العلمية الدينية،
بأن العالقة ج ّد
وبني طبيعة تركيبة حاشية حسني بن علي ،وسياسته ،لوجدنا ّ
وطيدة ،فاملقربون من الباي هم من كبار رجال الدين نذكر منهم على سبيل
املثال ال احلصر يوسف برتقيز ومحمد سعادة وحمودة الرصاع .فقد كانت
سياسة التحالف مع الرموز الدينية واملراهنة على الدين ،من أسس سياسة
حسني بن علي لبناء شرعية حلكمه شخصيا ولساللة حاكمة .يف هذا اإلطار
كانت املنشآت الدينية خطابا لبناء هذه الشرعية الدينية ،ولذلك كان التشريع
لهذه احلقبة التأسيسية هاجس اإلخباريني املعاصرين حلسني بن علي لهذه
الشرعية ،وتدوينها .فتش هؤالء اإلخباريون يف ثنايا التأسيس عن ك ّل ما ّ
يدعم
رسم الصورة ،صورة من «أمنت الطرقات ،وكثرت يف أيامه اخليرات» .ويف هذا
اإلطار ملا أشاد اإلخباريون بسياسة بناء اجلوامع وتأسيس املدارس ركزوا كثيرا
على مواقع التشييد والبناء ،وفخموا من عملية حتويل االستعمال للفضاء من
خمارات الى بيوت علم ودين ،مسلطني الضوء على حتويل املدنس إلى مقدس.
فمآثر الباي ال تكمن فقط يف بناء دور العبادة ومدارس العلم ،وإمنا كذلك يف
هدمه ملق ّرات املنكرات ،فهو ناصر احلقّ والدين يف مقابلة الفسق والفجور
والكفر ،أي دعم املقدس على حساب املدنس .يف هذه الوضعية يجد الباحث
نفسه بني خطاب البحث عن الشرعية وتلميع الصورة وبني تهيئة املجال وإعادة
هيكلته وفق الظرفية اجلديدة.
هل ألغى حسني بن علي صناعة وجتارة واستهالك اخلمر عندما
هدم اخلمارات وبنى مكانها مدرسة النخلة واجلامع اجلديد؟ ميكننا إعادة
قراءة عمليات الهدم واإلنشاء وفهم مسألة املنع انطالقا من الوثائق األرشيفية
ووثائق األوقاف .فبالعودة إلى هذه الوثائق نتبني أن املباني املشار إليها على أنها
)5سواء حسني خوجة يف ذيل بشائر أهل اإلميان بفتوحات آل عثمان أو محمد الوزير السراج
يف احللل السندسية يف األخبار التونسية أو الصغير بن يوسف يف املشرع امللكي.
خمارات لم تكن سوى زنداالت تأوي أسرى القرصنة وقد كانت هذه الزنداالت
على ذ ّمة هؤالء األسرى ،يستعملونها مقرات إقامة ومبيت ولتجارة اخلمر يف
آن واحد .تقع املدرسة األولى يف سوق عرفت بفندق الزبيب ونعلم االرتباط
الوثيق بني الزبيب واخلمور وهي مجاورة جلامع الزيتونة ومبقربة من فنادق
العساكر االنكشارية ،وأنشئت على أنقاضها مدرسة النخلة أو احلسينية الكبرى
كما أشارات املصادر إلى رفعه للمنكرات ببناء الفندقني والسوق العظيم قرب
سوق السكاجني ،وكانت سابقا مخازن يبيع فيها النصارى اخلمر فاعتنى برفع
هذه الرذيلة» 6وهذه املنطقة املجاورة لسوق البركة املختص يف جتارة العبيد
كانت بها هي األخرى مجموعة من الزنداالت التي بها أسرى القرصنة ،إضافة
إلى ذلك قد تكون هذه الزنداالت-اخلمارت قد نشطت سوقها بتردد العساكر
االنكشارية املستقرين يف القصبة أو يف الفنادق داخل احلاضرة ثم تراجعت
مكانتها االقتصادية .أما املنشأة الثالثة ،فكانت على حساب عقارات ويف الغالب
أنها كانت من ممتلكات عثمان داي وصلت حسني بن علي بالوراثة من زوجته
فاطمة عثمانة وبالشراء من ورثة عثمان داي ،ومن بني هذه العقارات هناك
إشارة إلى زندالة وحمام تابعني لعثمان داي أنشأ على أنقاضهما اجلامع اجلديد
الذي بناه سنة 1727م .ولم تقتصر التحويرات على احلاضرة فقط بل شملت
مدنا أخرى على غرار سوسة التي مت حتويل زندالتها املستخدمة كذلك يف جتارة
اخلمر إلى حمام يف أواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر.7
يف إطار إبراز فضائل ومحاسن مخدومه علي باي بن حسني ،أشار
حمودة بن عبد العزيز يف كتابه الباشي ،ويف نص طويل حول اخلمر ،أن سوق
وأن العامل األساسي يف ذلك يعود إلى اخلمر كانت نافقة قبل حسني بن علي ّ ،
عادة معاقرة جند الترك لشرب اخلمر ،وفرضهم ذلك على حكام البالد إلى عهد
حسني بن علي ،الذي بادر بإغالق ما أشرنا إليه من خمارات ،وذلك يف ارتباط
بتدعيم قوة النفوذ املركزي ،وتراجع مكانة عسكر الترك ،ويضيف إلى ذلك عامال
آخر كان وراء إحجام امللوك السابقني عن إبطال احلانات ،مت ّثل يف ما كانوا
يحقّقونه «من األموال العظيمة التي يأخذونها من امللتزمني لبيعها يف ك ّل سنة،
ومن الضريبة التي يجعلونها على من يبيعها من أسارى النصارى الذين بأيديهم».8
)6بن يوسف (محمد الصغير) ،املشرع امللكي يف سلطنة أوالد علي تركي ،نشر أحمد الطويلي،
ج ،1ص .31
)7السعداوي (أحمد) ،تونس يف القرن السابع عشر :وثائق األوقاف يف عهد الدايات والبايات
املراديني ،كلية اآلداب والفنون واإلنسانيات 2011 ،ص .258
) 8بن عبد العزيز (حمودة) ،الكتاب الباشي ،ص .375
لم تكن اخلمارات التي ذكرتها املصادر اإلخبارية إذا سوى زنداالت
يش ّكل توفير اخلمور لألسرى والنصارى املقيمني بالبالد وظيفة من وظائفها.
فمنذ ستينيات القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر ،بدأت موازين
القوى تتغير بني االياالت العثمانية املغاربية الناشطة يف القرصنة من جهة
والقوى األوروبية ،التي استعادت االستقرار داخل أوروبا من جهة أخرى ،لتتراجع
بذلك القرصنة ونتائجها ،وتتراجع أعداد األسرى ،9األمر الذي جعل العديد من
اخلاصة بهم غير مستعملة وهو ما تطلب إعادة تهيئتها وتوظيفها
ّ الزنداالت
ّ ّ
يف أنشطة أخرى ،السيما النشاط التجاري الذي حل محل القرصنة ،مثل ما
جسدته سياسة حسني بن علي ببنائه للفنادق. ّ
بأن استهالك اخلمر واالجتار به حق من حقوق األسرى وميكن التأكيد ّ
ّ
تفرضه االتفاقيات املبرمة مع القوى األوروبية ،والتي لم تتخل عنه الدولة يف
حل ّكام من املراديني إلى إبراهيم الشريف وصوال إلى حسني بن تونس رغم تغ ّير ا ُ
علي .ولقد كان لتوازن القوى اجلديد انعكاسات أخرى متثلت يف إبرام اتفاقيات
جديدة أو جتديد اتفاقيات قدمية ،مبرجعيات جديدة .ويف هذا اإلطار جاءت
معاهدة تونس مع فرنسا لسنة ،1710وهي حتيني التفاقيات سابقة تعود إلى سنة
نصت اتفاقية 1665يف بندها الثامن عشر الذي 1665وثانية سنة .1672وقد ّ
أصبح الحقا من حتصيل احلاصل يف االتفاقيات ،حق القنصل الفرنسي ورعايا
فرنسا يف ما يحتاجونه من خمور مع االلتزام بعدم بيعه .10لذا كانت الزنداالت من
مت عبرها التشريع جهة ،والتجار األوروبيون من جهة ثانية وقناصل دولهم ،ب ّوابة ّ
لتجارة اخلمر وتسويقها ،وما يؤكد ذلك هو تواصل توريد اخلمور زمن حسني
بن علي وعلي باشا الذي كان أشهر البايات مبادرة بهدم اخلمارات .ففي أرصدة
وظفاألرشيف الوطني التونسي حسابات للمشرفني على جتارة اخلمر 11وقيمة ما ّ
عليهم من أداءات يف إطار لزمة اخلمر ،إذ تشير احملاسبة إلى وجود مكلّفني نعتوا
9) PANZAC (D.), Les corsaires barbaresques. La fin d’une épopée 1800-1820,
Paris, CNRS, 1999, coll. Méditerranée, 311 p.
C. DAVIS (R.), Esclaves chrétiens, maîtres musulmans, Paris, éd. Jacqueline
Chambon, 2006.
10 Art. 18. - « Le Consul jouira de l'exemption de tous droits pour les provisions,
vivres et marchandises nécessaires à sa maison ; il ne lui sera, cependant, permis,
à lui et à tous ceux de sa nation, de faire entrer du vin et de l'eau-de-vie, qu'autant
qu'il leur en faudra pour leur nécessaire, sans qu'ils puissent en vendre, sous peine
de confiscation, ainsi qu'il sera pratiqué avec tous les autres Consuls et leurs
nationaux, sans une permission expresse ».
)11أ.و.ت ،دفتر 34لسنة « 1744-1743لزمة اخلمر» بتونس على يد باتيسته االشكربان الكبير
باحلفصية وباتيسته الطبرقي اشكربان اخلمر سنة .1744-1743
بالكبير والصغير وتوضع حتت تسمية «االشكربان» إضافة الى «ورديان باشي».
كان مقر «االشكربان» الكبير يف احلفصية ،أ ّما «االشكربان» الصغير فمق ّره غار
امللح ومجال تص ّرفه طبرقة ،وقد يكون ذلك نتيجة ارتباطه باألوروبيني املستقرين
يف محطات صيد املرجان املوكولة للفرنسيني والطبرقيني قبل إجالئهم عنها
ّ
متأخرة ملا تخلد بذ ّمته) .ويف أواخر فترة علي سنة ( 1741قد تكون احملاسبة
باشا جند محاسبة مصطفى ورديان باشي على محصول «الطبارن» وذلك سنة
12 1751-1749وقد تواصلت احملاسبة إلى أواخر فترة حكمه .كما جند إشارة
وظف عليه من مكس ،إضافة إلى الزبيب الذي إلى اخلمر القادم من مالطة وما ّ
صنعه النصرانيون والذي كانت فيه الدولة شريكا باعتبار حصولها حسب النص
على «مكسب الزبيب الذي صنعه النصرانيون» .وترشد املصادر األرشيفية كذلك
إلى أهم مواقع اخلمارات حيث أشارت إلى «القرامد وغيرها» كما أشارت كذلك
إلى لزمة اخلمر يف الدفاتر التي تعود إلى ما بعد عودة أوالد حسني بن علي
وحت ّدد ملتزمها وهو محمود قراجة سنة .1757وتتناقض هذه املعطيات التي
تؤكدها املصادر األرشيفية مع ما حاول ابن عبد العزيز التأكيد عليه واملتم ّثل
نصه واملقامات أن ّ
يف منع اخلمر إنتاجا وجتارة واستهالكا .ومن األرجح إذا ّ
املمجدة للقرار وما تعلّق باملشروع الذي بادر به علي باي يف قطع ّ واألشعار
اخلمارات ،لم تشمل سوى استهالك األهالي ،أو لنقل علنية استهالكهم .فعندما
السلطة كانت هناك عديد اخلمارات ذائعة الصيت تو ّلى علي باي بن حسني ّ
السيما خمارة القرامد داخل باب البحر وهي مجاورة للمجال التجاري احل ّر
وفنادق األوروبيني السيما فندق الفرنسيس واالنقليز واجلنويني وغيرهم إضافة
إلى اخلمارات اخلاصة باألتراك واملنتشرة على طول الطريق الرابط بني القصبة
وباب البنات .13ويبدو من خالل الدفاتر اجلبائية أن هذا الباي قام فعال بإبطال
جتارة اخلمر بشكل صارم إذ نالحظ توقف اإليرادات اجلبائية املرتبطة بتجارة
اخلمر وآخر محاسبة جندها بالدفتر 59كانت مع املشرفني على هذه املداخيل
فيما بني 1182-1162هـ 1769-1749 /م .وآخر املعطيات الواردة يف مراسالت
القناصل الفرنسيني واخلاصة بتجارة اخلمر مراسلة بتاريخ 6جوان 1758هي
عبارة عن شكوى تقدم بها تاجر فرنسي حول عدم خالص ديون متخلدة بذمة
املكلّف بقمرق اخلمر بتونس وكان حكم الباي فيها متكينه من مخازن اخلمر
وعطل حانة احلفصية وجعلها دار ضرب ،ويف أواسط دولتهّ )12بقوله «ثم جاء علي باشا بعهد
منع بيع العنب للخ ّمارة وعصره واقتصر بهم على بيع ما يجلب إليهم من بالد النصارى وما
يستقطرونه بالطبخ من الزبيب والتني» ،بن عبد العزيز ،نفس املصدر ،ص .375
)13ابن عبد العزيز ،نفس املصدر.
وبيع الكم ّية التي تعادل قيمة ديونه .14تكمن الصرامة يف منع جتارة اخلمر وقطع
قيمتها يف إيرادات الدولة اجلمركية إ ّال أ ّنه وكما اشرنا سابقا يبقى للقناصل
ورعاياهم احلق يف اخلمر دون أداءات مثل ما نصت على ذلك االتفاقيات ،كما ال
أن تصنيع اخلمر واستهالكه قد انقطعا بالكلية 15وإمنا أصبحا أكثر سرية نعتقد ّ
وأن اخلطتني اإلداريتني املشرفتني على
واتّخذا مسالك أخرى غير معلنة ،السيما ّ
هذا الصنف من البضائع لم ينقطع ذكرهما يف املصادر األرشيفية وهما باألساس
«الورديان باشي وارده كوشطه» و»االشكربان» بالنسبة إلى األول هو رئيس احلرس
املكلّف مبراقبة أسرى القرصنة واحلدود البحرية « »guarda-costasأ ّما بالنسبة
إلى الثاني فهو املشرف على مراقبة اخلمور وتخزينها وتوزيعها على املستحقني
من األوروبيني .ويف هذا اإلطار نعتقد على ضوء هذا املنع الذي أوردته املصادر
أن جتارة اخلمور أصبحت حتت املراقبة اإلخبارية وأكدته الوثائق األرشيفيةّ 16
املش ّددة وحصر استهالكها املعترف به يف «النصارى» دون غيرهم.
باالنتقال إلى فترة حمودة باشا ( )1814-1782ننتقل إلى صورة
مغايرة للحاكم والظرفية .تزامنت فترة حكم حمودة باشا مع انتعاش جديد
لنشاط القرصنة ،وهو ما نتج عنه ضرورة ارتفاع عدد األسرى األوروبيني،
وانتعاش الزنداالت ومراكز اإليواء املعدة لهم ،بل ميكن التأكيد على عودة
زنداالت قدمية إلى سالف نشاطها السيما زندالة القرامد ،وهي من أشهر
اخلمارات الزنداالت باحلاضرة لقربها من باب البحر كما أشرنا إلى ذلك.
واستعاد االشكربان مكانته إذ لم يقتصر ذكره يف دفع القمرق واملكوس بل
نصها يف شخص حسني باش مملوك 20وأحد األوروبيني ،شرح هذا األخير يف ّ
مبررات اقتراحه لهذه الشركة ،واملتمثلة أساسا يف املسألة الصح ّية ،إذ إعتاد
بصحة
ّ جتار اخلمور إضافة مواد لتقوية مفعولها تتمثل يف «الزنزار» الذي يض ّر
الشاربني .أ ّما الدافع الثاني فيتم ّثل يف محاولة إيقاف النزيف املالي الذي تتك ّبده
الدولة بتوريد اخلمور األوروبية من جهة ونزيف املنتوجات احمللية املستعملة
يف إنتاج اخلمور والتي تص ّدر مببالغ زهيدة مقارنة بأسعار اخلمور التي يت ّم
توريدها .21هذا املقترح وما تض ّمنه من شروحات وتبريرات حملاولة اإلقناع تؤ ّكد
وجود الظاهرة اخلمرية مبراحلها الثالث األساسية وهي الصناعة والتجارة
ويتدعم هذا التأكيد بوجود العديد من املراسالت بني حسني باي ّ واالستهالك.
الثاني ( )1835-1824وقنصل فرنسا حول املعامالت التجارية اخلاصة بتجارة
اخلمر اخلاضعة إلى تراخيص ونظم ،واإلشكال املطروح من قبل الباي من خالل
وإنا يف تع ّمد بعض التجار هذه املراسالت ال يتمثل يف جتارة اخلمر يف ذاتها ّ
مت االتفاق عليها الفرنسيني بيعه بالتفصيل «البوتيليه» خارج الفضاءات التي ّ
تنص على متكني كل من فرنسا بني بعض القوى األوروبية والباي حسني والتي ّ
وأنقلترا ومملكة نابولي من فتح «خمسة وعشرون دارا» لكل منها .بدأت بالتالي
البوادر األولى للبحث عن قوانني منظمة لهذا الصنف من املنتوج .ويبدو واضحا
من خالل مختلف املراسالت مواجهة األجهزة اإلدار ّية للدولة التونسية ع ّدة
مشاكل مرتبطة بالتحوالت يف القوانني املنظمة التي كانت يف أغلبها مسقطة
على الباي والتي تصطدم على أرض الواقع بالنظم القدمية وقد تتعارض معها
مما يخلق إشكاليات تنظيمية تفرض بدورها تعديالت.
)20أنظر ترجمته يف :ابن أبي الضياف (أحمد) ،إحتاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد
األمان ،حتقيق جلنة من وزارة الشؤون الثقافية ،الدار العربية للكتاب ،ج ،8ص .105
)21أ.و.ت ،ح ،58م ،636وثيقة « ،70147هذا اتفاق يف لزمة الشراب والعراقي والروم والرسولي
وجميع االرواح املقطرة مع حضرة سيدي حسني خوجة باش مملوك .وبيان ذلك أن مشترا
الشراب وغيره من األرواح املقطرة يخرج من مملكة تونس ماال عظيما وغير هذا ان الغش
الذي يغشوا الشراب والروم وغيره فهو يض ّر ضررا ب ّينا للناس الذين يشربوه فاملعروض
جلنابكم ان تلزّموا صنعة هذه األشياء يف البلد على قلة العنب من الروم والعراقي وغير
ذلك من األشياء املذكورة التي ال تقدر تنصنع اآلن يف تونس والزم ما جتي من ب ّر اململكة
وان الدولة تربح بهذه اللزمة كثرة املال الذي هو ضايع اآلن بخروجه من عمالة تونس وتبقى
على ما هي جميع احلقوق والعوايد التي كانت تندفع قبال على الشراب وغيره وتكون صحة
الناس مضمونة من األضرار التي حتصل لشاربها كل يوم من غش الشراب ألنهم يجعلوا فيه
أنواعا من السموم ليقوى به الشراب ويسكر والكن حيث انهم يجعلوا فيه شيئا قليال فال
تظهر مضرته ساعة التي يشربه اإلنسان الكن ذلك يخلف مع الطولة أمراض املعدة واألمعاء
واالنقباض يف البطن وأمراض العصب والسفير وغير ذلك من األمراض املتوالدة من اجلنزار
الذي يجعله الطبرناجية يف الشراب ليرجع قويا».
البذور األولى للسياسة االستعمارية وتدرجها نحو معاهدة احلماية .فقد كانت
القوى األوروبية تفرض ما ميكن أن يحمي رعاياها ويس ّهل هيمنتهم على احلياة
يتمخض عن ذلك من إشكاليات ،تر ّدها إلى الدولة التونسيةّ االقتصادية ،وما
التي حاولت مجاراة التحوالت واستحداث القوانني التي تضمن حقوقها اجلبائية.
املوظفة على صنع اخلمورّ كما حاولت االعتماد على معايير جديدة لألداءات
وجتارتها ومجاالت األنشطة األخرى ومن أهمها مبادرة محمد الصادق باي إ ّبان
منظم مستمد من التجاذبات السلطة .ففي سنة 1860بادر بوضع قانون ّ تقلّده ّ
املسجلة منذ بداية التشريع للظاهرة اخلمرية السيما املسألة اجلبائية حاول فيه
ّ
وضع «ثوابت» تبنى عليها بقية التشريعات أو التحويرات .
26
« )26احلمد هلل هذا تقرير ترتيب يف دخول أنواع املشروبات وبيعها بساير عمالتنا بعد متام
ملتزمها اآلن.
األول :أن جميع أنواع االشربة ال تهبط يف ساير عمالتنا إال بإذن مخصوص يعني التذكرة
املبني فيها املقدار والنوع يطلب ذلك املأمور مبباشرة ما ذكر.
الثاني :أنّ األداء على املشروبات بساير أنواعها يكون قمرق كساير أنواع السلع التي تأتي من
خارج العمالة واحملل املعد لوضع ذلك اآلن على وجه اإليقاف يبطل.
الثالث :أن تذاكر تسريح املونات تبطل على كل أحد.
...ويلزم من يتس ّرح أن يؤ ّدي سراح الطبرنة خمسة عشر ماية ريال يف كل عام وسراح القهوة
ألف ريال يف كل عام وسراح املخزن سبعماية ريال وكيفية دفع ذلك يكون على أربع كرات يف
مدة العام كل كرة مسبقة على ثالثة أشهر على شرط أن تكون تلك القهاوي والطبارن حتت
نظر املأمورين بأحكام البالد ومن خالف القانون أو خرق عادة أو تأخر عن دفع ما يلزمه
يف وقته فانه يبطل من بيع ذلك ويغلق محله وال يتسامح ألحد كاينا من كان يف بيع ما ذكر
من غير تسريح مخصوص من املأمور على الوجه املذكور ومن خالف يجري عليه احلكم من
قنصل جنسه» .نفس املصدر ،وثيقة .70144
عند اتفاقه على فتح اخلمارات املوازنة بني املباح واحمل ّرم فوضع اخلمر يف خانة
اخل ّل والسبيريتو .كما وضع نسبة من املق ّرات املع ّدة لذلك حتت غطاء ال ّدور
أو احملالت املباع بها اخلمر بالتقدير الظريف (البوتيلية) 27أو املقاهي التي لها
تعريفها السائد محليا ،يف حني أ ّنها قد حتمل معنى اخل ّمارة يف املصطلحات
األوروبية السيما الفرنسية ،ومن هنا أدخل صنف جديد من احملالت املقاهي
اخلمارات ( Bistrotأو )Café Barمع اإلشارة إلى أن املصطلح املتعارف عليه
ملثل هذه احملالت إما اخلمارت بصورة مباشرة أو «طبرنة» وجمعها «طبارن» أو
وبتوسع النشاطات بدأت
ّ «طبرنات» وهي كلمة مشتقة من الالتينية (.)Taberna
توسع من التصنيفات اخلاصة بأنواع املشروبات الكحولية «قمرق اخلل الوثائق ّ
ّ
والشراب والعصير وساير املقطرات من أنواع املسكرات» وكذلك «الشراب
28
والعراقي وال ّروم والرسولي وجميع األرواح املقطرة» 29وكذلك «قمرق اخلل
والشراب والعصير وساير املقطرات من أنواع املسكرات» ،30هذا إلى جانب
املنتوج احمللي الشهير بالبوخة (مقطرات التني) والالقمي (مقطرات النخيل).
وقد نقرأ من خالل تنويع مصطلحات أنواع املشروبات ،حتى وان استمدت
من القاموس احلضاري العربي اإلسالمي ،االرتباك احلاصل لدى األجهزة
اإلدارية املعن ّية بذلك من جهة والتدفق الهام ملختلف أنواع اخلمور من جهة
ثانية ،ومن ورائها تن ّوع مصطلحات قاموس أنواع اخلمور وفضاءاتها إلى جانب
املوروث منها .من زاوية أخرى ،هناك تنوع أصناف املكاييل التي وان كان بعضها
قدمي إ ّال أ ّنه عرف حت ّوالت يف معاييره يف أوروبا ذاتها على غرار «البتية»
و«امليزرولة» و«البوتيلية» ،31التي حتتاج إلى نصوص قانونية تش ّرع استعمالها،
وتنظيرها باملكاييل واملوازين السائدة بالبالد .ويرتبط حتديد قيمة االداءات
وتوظيف الضرائب بتحديد املكاييل واملوازين ،لذلك كثيرا ما جند ارتباطا بني
حتديد املكاييل وحتديد االداءات .كما قد يعني حضور املكلفني مبراقبة القمارق
واللزامة بطريقة أو بأخرى حضور األطراف احملل ّية التي أصبحت مشاركة يف
دواليب النشاط .لذا كان من الضروري تقنني هذه العالقات ،ووضع النظم
الكفيلة بضمان حقوق امللتزم وال ّدولة .فالتعريف باملكاييل واملوازين حتمي جتاه
تدفق سيل املصطلحات اجلديدة وغيرها .أمام هذا التشتت ،تأرجحت قرارات
الدولة يف حتديد معايير وضع االداءات فتارة تعتمد املكاييل وتارة أخرى تعتمد
)27أ.و.ت ،ح ،58م ،636وثيقة .70145
)28نفس املصدر ،وثيقة .70098
)29نفس املصدر ،وثيقة وثيقة .70147
)30نفس املصدر ،وثيقة .70097
)31أنظر بوجرة« ،الظاهرة اخلمرية» ،مرجع مذكور ،ص 63وما يليها.
املقرات أو قيمة مالية ثابتة أو نسبة مئوية من البضاعة ،وهو ما أدى يف أغلب
احلاالت إلى توتر يف العالقات مع القوى األوروبية ،عبر قناصلها ،إلى جانب
رعاياها ،الذين سعت من خاللهم إلى فرض قوانني كرست هيمنة هذه القوى.
تواصل مشروع التوطني القانوني لصناعة اخلمر وجتارتها واستهالكها إلى ما
بعد معاهدة احلماية ،حيث أخذت السلط االستعمارية يف فرض قوانينها ،يف
العديد من املجاالت ،فوحدت املكاييل واملوازين ،وقننت جتارة اخلمور ،ونظمت
رخص فتحها وفضاءاتها ،ومحدداتها ،كما فرضت قانون منع فتح اخلمارات
بجانب دور العبادة وذلك سنة 1906والذي يعتبر مرحلة هامة من تاريخ الصراع
حول تقنني اخلمر ومتعلقاتها.
حاولنا يف العنصر السابق أبراز مشكلة التوطني القانوني لصنع
اخلمر وجتارته واستهالكه .وقد حاولنا إرجاء احلديث عن التوطني املجالي
للظاهرة إلى عنصر خاص رغم كونه م ّثل محور التوتّرات التي سادت بالبالد
منذ اتفاقيات فتح املقاهي والدور واملخازن املع ّدة لتجارة اخلمر يف أواخر
العشرينيات من القرن التاسع عشر والتي تفاقمت بتفاقم الظاهرة وخروجها
إلى مختلف مدن البالد السيما الساحلية منها حيث تركزت جاليات أوروبية
جديدة ارتبط قدومها بالقوانني اجلديدة واالنفتاح الواسع على أوروبا بعد
اإلعالن عن دستور .1861
ال ميكن فهم احليثيات التي م ّر بها تركيز اخلمارات بالبالد التونسية
حف به من تفاعالت بني العديد من األطراف التي جتاوز املستوى السياسي وما ّ
واإلداري والتنظيمي إلى املستوى االجتماعي وحراكه دون العودة إلى تط ّور
عالقات البالد اخلارجية وانفتاحها السريع على املجتمعات األوروبية عبر
السلطة يف تونس قناصلها وجتارها ومستثمريها الذين بادروا بالضغط على ّ
وفرض العديد من االمتيازات غير امتيازات مركنتيلية القرن السابع عشر
وإمنا امتيازات الهيمنة الرأسمالية الصناعية وسياستها االستعمارية .كان
الضغط الذي فرض على حسني باي اثر أزمة الزيوت التي كانت نتيجة لسياسة
اإلسراف التي مارسها حسني خوجة باش مملوك .32ورغم جناح شاكير صاحب
الطابع يف إنقاذ التدهور السريع للوضع ومت ّكنه من إيقاف نسق التداين ،إال أن
الظرفية كانت مواتية لفرض اتفاقيات جتارة اخلمور التي أشرنا إليها سابقا
) 32ابن أبي الضياف ،اإلحتاف ،ج ،8ص « .106وسار يف ميادين السرف ،وأعانه على ذلك
اختصاص الدولة يومئذ بزيوت الساحل ،ثم زوحم بالوزير شاكير صاحب الطابع ،ملا توقفت
الدولة بسبب السرف يف الترف ،و ُع ّذ ذلك من سوء تدبيره وهو عبد مأمور حسبه تنفيذ
األمور».
صحبة جملة من األوامر التي لم يكن أمام السلطة احلاكمة ر ّدهاِ ،لَا أصبحت
عليه البالد من وهن ومن وضعية حرجة مهددة ألمنها واستقرارها بعد احتالل
اجلزائر سنة .1830بعد ابرام االتفاقية بدت للعيان التجاوزات التي حتمتها
هذه الظرفية ،فقد استغل األوروبيون «السراحات» 33وشعورهم بضعف الدولة
ليمارسوا كل أشكال التجاوزات التي لم تقيدها يف احلقيقة االتفاقيات التي
نصت فقط على متكني جاليات األنقليز والفرنسيني والنابلطان من فتح دور
إن االتفاقات األولى التي بدأت عمليا خالل فترة حكم ومقاهي لتجارة اخلمرّ .
حسني باي الثاني 1835-1824وبإشراف شاكير صاحب الطابع وضعت شروطا
لعدد املقاهي والطبرنات املزمع فتحها يف مدينة تونس وكيفية توزيعها ،جملة
(امليزرولة والبتية والبرميل) وتفصيال (بالبوتيلية) .ولتطبيق هذه االتفاق كانت
هناك عملية انفتاح سابقة تعطي لألوروبيني حق تسويغ العقارات داخل احلاضرة
غيرأن هذه الدور
ّ واستعمالها يف التجارة وذلك حتى قبل صدور عهد األمان.
ظلّت محصورة يف املجال إذ متتد بني املنطقة احلرة حول فنادق األوربيني وحارة
نصت االتفاقيات على أعداد اليهود وسوق القرانة ،إضافة إلى حلق الواديّ .
محددة لكن وبسرعة أصبح من الصعب حصر العدد ،نتيجة التساع نشاط هذا
الصنف من التجارة ،وإسناد تصاريح جديدةِ ،لا تد ّره على خزينة ال ّدولة من
مداخيل ،أو كذلك للتجاوزات العديدة التي دونتها املراسالت الرسمية .لقد
ُح ّدد عدد الدور واملقاهي يف أول اتفاق بني ثالث دول وهي بريطانيا وفرنسا
ونابولي بـ 25لك ّل منها إ ّال أ ّنه سرعان ما تزايد العدد بشكل كبير .فعلى سبيل
املثال أصبح عدد اخلمارات بأصنافه املسندة لرعايا بريطانيا 59محال منها
48باحلاضرة و 10محالت بحلق الوادي .كما يرجع ارتفاع العدد إلى إسناد
تراخيص لدول أخرى للمشاركة يف هذا الصنف من التجارة ،على سبيل املثال
اعترضت دولة الصاردو على سياسة احملاباة ،واإلقصاء املتع ّمد لدولتهم يف
هذا املجال ،وكان ر ّد الباي يف قوله «وذكرت لنا أ ّنك مازلت طالبا أن تكون
أن جميع رعية السردانيني مثل رعايا أحبابنا الدول وقد ذكرنا لكم قبل هذا ّ
وإنا حكمنا بعدد مخصوص من رعايا أحبابنا الدول سواء عندنا يف املعاملة ّ
القهاوي والديار لبيع ما ذكر يف البالد ال زايد على ذلك وال علينا يف البايع من
أي جنس والك ّل سواء» .34لقد حت ّول فتح املقاهي واخلمارات من قضية جتارية
إلى قضية سياسية ،زايدت عليها الدول التي فرضت الظرفية ضرورة الدخول
معها يف معاهدات وفتح السوق أمام رعاياها ،بل عملت على احتالل مكانة
)33هو املصطلح املستعمل خالل الفترات السابقة وتواصل استعمالها يف القرن التاسع عشر
ومعناها ،تراخيص التصدير والتوريد.
)34أ.و.ت ،السلسلة التاريخية ،ح ،58م ،636وثيقة .70079
يف السوق التونسية ومن بينها دولة الصاردو .يبدو من خالل تسارع نسق فتح
اخلمارات ومبا يف ذلك من عشوائية أن هذه التجارة لقيت رواجا هاما وذلك
التساع قاعدة املستهلكني الذين ال نعتقد أنها اقتصرت على اجلاليات األوروبية.
فتحت اخلمارات ،يف مستهل االنفتاح على هذه التجارة وتقنينها ،يف الفضاءات
التي عرفت بها يف الفترات السابقة وهي املجاورة للمنطقة احلرة ،عموما حتى
غير املرخص لها لم تكن بعيدة حيث بقيت يف نفس احمليط تقريبا .يف مراسلة
من محمد باي إلى قناصل األوروبيني بتونس مؤ ّرخة يف موفى رمضان 1271هـ
16 /جويلية ،1855قدم الباي صورة الوضع الذي أصبح عليه فتح اخلمارات
يف تونس «أما بعد فان األماكن التي تباع فيها اخلمر والسبيريتو بتونس وحلق
الوادي كثرت ووقعت يف غير األماكن املناسبة بحيث يخشى من كثرتها الضرر
وقد وقع .فلزم واحلالة هذه أن نتمم ما يف اإلعالم السابق بترتيب أداء على
الديار والقهاوي واملخازن املعدة لبيع ذلك يدفعه البايع كل شهر ويأخذ تسريحا
من املأمور ليبيع .وال يبيع أحد شيئا من ذلك بغير تسريح وقد أمرنا بذلك
احملترم الكولير باولوا طابيه واكتفينا به يف هذه اخلدمة فاملراد أن تنبه على
من هو لنظركم بذلك ونطلب إعانتكم ملن كلفناه .هذه اخلدمة كما هو الشأن يف
املصلحة ودمتم يف أمن اهلل وكتب يف موفى رمضان سنة 1271هـ 16 /جويلية
1855م» .35تشير هذه املراسلة إلى هذا االنتشار الكبير حملالت بيع اخلمور
بأصنافها وبصور عشوائية ،وتعلل الباي بهذه العشوائية وبدافع حماية دافعي
الضرائب منهم ،بتوظيف ضريبة شهرية من خاللها جبر اجلميع على دفع األداء
ليظهر وكأ ّنه يحارب املنافسة غير القانونية .املهم بالنسبة إلينا ّ
أن هذا االنتشار
مت بنسق متسارع ويف جميع االجتاهات سواء داخل احلاضرة أو يف دواخل ّ
البالد وقد حاولنا استخراج عدد احملالت اخلاصة برعايا األنقليز يف إحصائني
متباعدين بالنسبة إلى احلاضرة وحلق الوادي .ففي اإلحصاء األول الذي يعود
إلى ثالثينات القرن يف بداية فتح سوق اخلمور والثاني سنة ،1852م ّر العدد
من 25إلى 59محال .ولقد وضعنا اإلحصاءين يف جدول ولم نحاول ترجمة
اإلحصاء الثاني الذي جاء باللغة االيطالية السيما بالنسبة إلى تصنيف محالت
بيع اخلمر وتركناها على حالها ليتبني القارئ تنوع األصناف مقارنة بالقاموس
املعتمد يف التصنيف احمللي.
من خالل اإلحصاء ميكن مالحظة تواصل نشاط أغلب احملالت التي
فتحت منذ بداية االنفتاح على جتارة اخلمور زمن حسني باي الثاني ،وهذا
التواصل ألكثر من 20سنة دليل على مردودية النشاط وأهميته .هذه األهمية
نقرؤها كذلك من خالل ارتفاع عدد احملالت وانتشارها مبختلف األشكال
القانونية أو غير القانونية داخل احلاضرة وحلق الوادي دون اعتبار انتشارها يف
مختلف املناطق الساحلية منها والداخلية .يفسر هذا االرتفاع لعدد محالت بيع
اخلمور ،بالظرفية التاريخية ،والتح ّوالت السياسية التي عرفتها البالد ،وتسارع
نسق اإلصالحات خاصة بعد إصدار عهد األمان سنة .1857وقد تضمن هذا
خصصت بشكل مباشر ملسألة األخير على األقل 5بنود من 11املُش ّكلة لنصهّ ،
التجار األجانب ،وفتح السوق احمللية أمامهم ،ومساواتهم بالتجار التونسيني ،مع
متكينهم من ممارسة جميع أنواع الصناعات ،والتمتع بحق امللكية ،36وهي البنود
التي اتفق حول عدم شرعيتها أهل املجلس الشرعي .37ودون الدخول يف تفاصيل
بأن العادة السائدة قبل عهد اإلصالحات أن سكنى النصارى يف املسألة ،نذ ّكر ّ
« )36العاشرة أن الوافدين على إيالتنا لهم أن يحترفوا بسائر الصنائع واخلدم بشرط أن يتبعوا
سائر القوانني املرتبة والتي ميكن أن تترتب مثل سائر أهل البالد ال فضل ألحد على آخر
بعد انفصالنا مع دولهم يف كيفية دخولهم حتت ذلك كما يأتي بيانه احلادية عشر أن الواردين
على إيالتنا من سائر أتباع الدول لهم أن يشتروا سائر ما ميلك من الدور واألجنة واألرضني
مثل سائر أهل البالد بشرط أن يتبعوا القوانني املرتبة والتي تترتب من غير امتناع وال فرق
يف أدنى شيء من قوانني البالد».
)37املستغامني (محمد فوزي)( ،جمع وتقدمي وحتقيق)« ،موقف أهل املجلس الشرعي من قانون
عهد األمان ،»1857مجلة الفكر اجلديد ،العددين 7و ،8جويلية وأكتوبر .2016
احلاضرة ،ال تكون إال يف احلي املعروف بهم ،جوار باب البحر حيث يتاجرون
يف فنادقهم ،أو يف الزنداالت بالنسبة إلى األسرى منهم .يف املقابل ،يسكن
اليهود يف احلارة ،ويتاجرون يف أسواق احلاضرة مثلهم مثل أهلها من املسلمني.
انطالقا من هذه العادة ،كان الفضاء السكني عامة بعيدا عن تأثيرات جتارة
اخلمور وحتى التي كان يتعاطاها العساكر من الترك ،تر ّكزت يف املجال املمت ّد
من القصبة إلى باب البنات يف حني منع البايات احلسينيون بعض اخلمارات
املنتشرة وسط األحياء .والغاية من إبعاد اخلمارات عن مراكز السكن ،درء
التجاوزات التي تصدر عن املخمورين مثل ما أشارت إليها كتب الرحالة الذين
ع ّبروا عن مدى تخ ّوف األوروبيني من إمكانية اعتراضهم من قبل هؤالء الترك
املخمورين.38
مع االنفتاح على حر ّية التجارة مع األوروبيني ،كان االنفتاح على جتارة
اخلمور ثم صناعتها وترويجها وكل هذه املراحل وجدت يف عهد األمان مالذها
لتنتشر يف مختلف أرجاء املدينة متس ّببة يف العديد من الشكاوى ،وهو ما دفع
مبحمد الصادق باي ،مبجرد وصوله إلى السلطة ،إلى توجيه مراسالت إلى
قناصل الدول األوروبية يحدد فيها التراتيب اجلديدة املنظمة لتجارة اخلمر
نص الفصل الثامن منهاواملقطرات .جاء القانون املنظم اجلديد يف 11فصالّ ،
«أن األماكن املفتوحة ،إذا ظهرت مض ّرتها ،أو عدم مناسبتها للموضع ،متنععلى ّ
الت ،وذلك «بعدمن بيع ما ذكر .كما ح ّدد الفصل العاشر ،توقيت غلق احمل ّ
العسة».39
العشاء عند خروج ّ
أصبحت بالتالي هناك مشاكل فعلية بني الدولة ورعايا الدول األوروبية
املشتغلني مبجال اخلمر وجتاوزاتهم يف التوطن يف املجال من جهة ،وبني هؤالء
التجار واألهالي من جهة ثانية .وحتت فعل الشكاوى وتفاقم عددها كانت
القرارات ،وتعديلها ،واملراسالت بني السلطة السياسية والقناصل األوروبيني
فض النزاعات وتعديل القرارات وحتديد مسؤوليات ك ّل األطراف. حول ّ
سجلنا حسب الوثائق ارتفاع عدد الشكاوى ،يف أواخر اخلمسينات
وبداية الستينات يف احلاضرة ،ثم شملت العديد من املدن األخرى لتتخذ املسألة
صفة الظاهرة ورغم ذلك تبقى لكل منطقة خصوصياتها .نذكر على سبيل
املثال عند فتح األوروبيني خماراتهم األولى بصفاقس وجهت للقناصل األوروبيني
38) MARCEL (J. J.), Histoire de Tunis, précédée d’une description de cette Régence
par le docteur Louis Frank , Paris, 1851, p. 73.
)39أ.و.ت ،السلسلة التاريخية ،ح ،58م ،636وثيقة .70145
التي بدأت تنشأ حول جتارة اخلمر ،وان كانت مسألة القضايا املتجر ّية ،ال
تُختزل يف هذا النوع من التجارة ،بل جندها يف أغلب التجارات .لقد كان حترير
هذا القطاع وفتح السوق التونسية ،الهاجس األساسي للقوى األوروبية ،فما
ضغوطاتها على حكام البالد إ ّال من أجل ضمان هذه احلرية ،مع رفع وصاية
احتلت املسألة مكانة ها ّمة يف مشاريع ّ الدولة وإقرار حرية املنافسة .لذلك
أن اجلديد هو املتمخضة عنه .إ ّال ّ
ّ القوانني ،بدأ بعهد األمان ،وصوال إلى القوانني
أن القضايا املتجر ّية املرتبطة بتجارة اخلمور ظاهرة جديدة ،من حيث أساليب ّ
العمل والتوزّع يف املجال واالختصاصات يف العمل ونوعية الضرائب وقيمتها،
وهي كذلك ظاهرة جديدة من حيث احللول املقترحة .فاحللول هي يف األصل
نظم جديدة تستنبط حسب الظرفية ،وموازين القوى ،ومكانة املتضرر واملتسبب
يف الضرر .بدأت تظهر بالتالي مسألة قدمية يف جوهرها جديدة يف مرجعيات
النظر إليها وهي املسألة األمنية .لقد أقرت املعاهدات منذ ظهورها يف الفترة
احلديثة على ضمان أمن رعايا الدول املعاهدة برا وبحرا ،فقد نصت باألساس
على حماية رعايا هذه الدول جتاه تعديات القراصنة وتهديد مصاحلهم لكن إلى
جانب ذلك هناك تعهد بحمايتهم برا ،لكن خالل فترات األزمات كثيرا ما كانت
قنصليات الدول األوروبية أولى أهداف املراسالت اخلاصة باملسألة األمنية.
هناك زاوية جديدة تتمثل يف تطبيق القوانني املنبثقة عن الهياكل
اإلدارية اجلديدة املنظمة للمجال احلضري واملتمثلة يف بلدية تونس التي تأسست
يف 30أوت 1858تلتها الضبطية التي عوضت سلطات الداي بعد وفاة آخرهم
كشك محمد .لعبت هذه التحويرات التنظيمية يف تشكيلها مختلف األطراف
الفاعلة اجتماعيا .لقد جعل االنفتاح التجاري واالقتصادي للبالد التونسية على
مختلف القوى األوروبية وتوافد أصحاب املشاريع والعمال من األوروبيني من
املسألة األمنية هدف قنصلياتهم وقناصلهم الذين يعملون على ضمان حمايتهم
من األهالي ومن السلطات احمللية كما أشارت إلى ذلك كل املراسالت املوزعة
على مختلف امللفات األرشيفية التي تعود للفترة ومنها الوثائق اخلاصة بتجارة
اخلمور.
كتب الباي يف رد على تخوفات قنصلي فرنسا وبريطانيا حول سالمة
رعاياهما الذين بدؤوا يستقرون حديثا يف جهة صفاقس ،أ ّنه أعطى توصياته
إلى اخلاص والعام «برد البال على النصارى القاطنني بتلك النواحي أل ّنه
حصل لهم اخلوف» وواصل بانه ق ّدم عرض حال متثل يف ضرورة احترام هؤالء
النصارى نظم غلق أبواب املدينة وتوقيتها .وتشير املراسلة بأ ّنهم كانوا يعمدون
مع سلطة الدولة على مجالها .وفعال مثلت اجلاليات األجنبية عائقا أمام جتديد
النظم ،واخليارات التنظيمية املالئمة إلدارة احلركية التي شهدها املجتمع نتيجة
االنفتاح االقتصادي واالجتماعي على املجتمعات الغربية عموما ،ولكن باألساس
توسع
نتيجة االحتكاك بينهم وبني شرائح من املجتمع ،السيما عندما ازداد ّ
مجال استقرارهم داخل املدينة وربضيها .ولقد اشترى او تسوغ بعض األجانب
محالت يف األرباض أو يف أطراف احلاضرة خارج األسوار استعملت يف الغالب
لفتح خمارات أو مقاهي .كانت التقارير األولى منبثقة من مؤسسة شيخ املدينة،
وهي من املؤسسات التي أُعيدت هيكلتها وح ّددت صالحياتها ،بالتوافق بينها
وبني رئاسة البلدية بعد إحداثها يف 30أوت .1858أضيفت صالحيات رئاسة
البلدية إلى صالحيات شيخ املدينة التقليدية ،ومن بني هذه الصالحيات مسألة
أمن املدينة ليال.
باب البحر وثانيها يف محج 46ترجنة وثالثتها جوار دار اجللد والرابعة أمام قمرق
الدخان خارج باب البحر .لو ربطنا بني مواقع هذه اخلمارات والتوزع السكاني
سنالحظ بأن هذه املقاهي تفتح على األحياء الفقيرة او املناطق التي تتركز بها
جاليات أجنبية مهمشة السيما الوافدين اجلدد املستقرين يف أطراف باب البحر
أو املناطق املجاورة حلارة اليهود أو يف مناطق نشأت بها نواتات األحياء االثنية
اجلديدة على غرار املالطيني قرب ترجنة.47
لقد ارتبط انتشار اخلمارات بإعادة رسم اخلارطة السكانية ،وتوزع
السكان يف احلاضرة ،وهيكلة تنظمها والقوانني املنظمة للحركة بها ،كما ساهمت
يف رسم مسالك ارتباطها مبحيطها اخلارجي .لقد كانت املدينة تغلق أبوابها
وهي من العادات السائدة وكذلك بالنسبة إلى األرباض ،حيث تغلق األبواب من
وقت صالة املغرب إلى صالة الصبح ،وكان اإلعالن عن ذلك بخروج الفرقة
املوسيقية التابعة للداي .فمع انفتاح املدينة على اجلاليات األوروبية ،ومتكني
هذه األخيرة من شراء وتسوغ العقارات داخل أسوارها ،وكذلك تركيز العديد
منها يف مناطق مجاورة لألسوار من جهة باب البحر وباب قرطاجنة ،ويف ما
بني باب البحر وباب اجلزيرة بدأت تتشكل األحياء األوروبية .داخل هذه األحياء
اجلديدة ،بدأ يتش ّكل صنف اجتماعي جديد ،سيخلق لنفسه نواميسه وتقاليده
املغايرة لتقاليد البلدان األصلية ونواميسها وكذلك مغاير للعادات والنواميس
احمللية .فقد وجدت الدولة نفسها أمام كيان اجتماعي يعيش يف فضاء سلطتها،
وهو خارج عنها ،حتميه القنصليات التي عملت على فرض توجهاتها يف صياغة
القوانني املنظمة للعالقة بني الدولة ورعاياها.
لقد وجدنا أنفسنا ونحن نتحدث عن اخلمر والظاهرة اخلمرية
نتحدث عن األحياء األوروبية ،وعن سياسة القناصل ،وعالقتهم بالدولة
وصياغة القوانني .ويتم ّثل هذا االرتباط بني خطي املسير يف العالقة القائمة بني
الرعايا األوروبيني ،ومقرات استقرارهم ،وتردد العديد منهم ،على اخلمارات
القدمية املنتشرة أساسا داخل األسوار ،أو التي بدأت تظهر على أطرافها خارج
السور ،تفاعال مع هذه الديناميكية السكانية .وهذه احلركية هي التي أنتجت
الصراعات بني مختلف التشكيالت االجتماعية وأصنافها سواء بني األفراد أو
املجموعات ويف خضم هذا الصراع نشأت محاوالت التوفيق والتنظيم ووضع
اللبنات األولى للنظم اجلديدة الناجتة عن هذا االحتكاك .وحتى نبقى على
)46كلمة محج يف املدينة تعني النهج املتجه قبلة والتسمية فيها رمزية االجتاه للحج.
47) DONATO (M.), Rue des Maltais : la vie de la colonie maltaise de Tunisie, Nice :
Gandini, 2002.
مستوى املسألة املجالية نشير إلى بداية مسألة حرية التنقل بني احلاضرة
بفضائها التقليدي داخل األسوار ونظمه التقليدية وبني الضرورات التي يفرضها
االنفتاح على األحياء اجلديدة .يف هذا اإلطار طرح املجلس البلدي منذ ستينيات
القرن التاسع عشر مشروع على «الهمام املفخم أمير األمراء سيدي محمد وزير
العمالة صان اهلل كماله وسدد أعماله أما بعد ...فاملعروض على جناب الوزارة
أن مما جال فيه نظر املجلس البلدي أ ّنه حيث ظهرت املصلحة يف فتحاحملروسة ّ
أبواب املدينة بالليل ملا يف ذلك من دوام التواصل بني السكان مبا يزيد يف تلك
املصلحة أن تفتح أبواب أخرى يف بعض أماكن من سور املدينة ،كباب مثال بني
باب البحر وباب قرطاجنة وآخر بينه وبني باب اجلزيرة ليسهل بذلك اجلوالن
يف احلاضرة وحيث ال مضرة يف ذلك فهو من املصالح البينة ...املجلس البلدي
يف 10شعبان 1278هـ 11 /مارس 1862م» .48فالتوزع اجلديد للخمارات من
جهة واجلاليات األوروبية من جهة ثانية لعب دورا هام يف إعادة تشكل املظهر
احلضري وأساسا النظم املسيرة له وما التركيز على أربع خمارات يرتادها
«األوباش» إال دليل على التوزع حسب الثروة واملكانة االجتماعية فمرتادي
اخلمارات صورة تعكس االنتماء االجتماعي فأحياء املالطيني أو األحياء التي
ظهرت على طول املجال املجاور لألسوار من جهة البحيرة هي يف الغالب أحياء
للمهمشني من الوافدين الذين كثيرا ما أشارت إليهم املراسالت على أساس
عربدتهم وعدم نفعهم وهو ما يذكرنا مبقولة حمودة بن عبد العزيز عن حديثه
عن مرتادي اخلمارات بقوله« :وترى أكثر من يتعاطى شربها فقراء ال ميلكون
شيئا ،وكلّما دخل يف أيديهم شيء من الدراهم صرفوه يف شربها» .49ولنا وصف
يعبر عن األصناف االجتماعية والوضع الذي ساد خارج باب البحر بإحداث
«قهوة بلصق اخلصة وأخرى أحدثت أمام دار اجللد وأخرى مبحج البحيرة قد
فج عميق ووقع االزدحام منهم بالطريق كثر هجوم الناس الرعاع إليهم من ك ّل ّ
ونبهنا عنهم مرارا برفع الكراسي واحلصر من الطريق فأبوا وطاملا يقع من ذلك
العرك ويخشى الهرج من بقايهم وهي يف احلقيقة ومفسدة باملكان».50
إلى جانب تأثير انتشار اخلمارات وظهور األحياء األوروبية خارج
أسوار احلاضرة بدأت تطرح قضية التواصل بأكثر ح ّدة وذهب البعض من
املسؤولني ،سواء انطالقا مما فرضه التعايش اليومي أو انطالقا من بعض
االمتالءات ،إلى طرح إمكانية فتح أبواب جديدة يف أسوار املدينة .ركزت
املقترحات على فتح أبواب يف السور املمتد بني باب قرطاجنة وباب البحر من
جهة وبني باب اجلزيرة وباب البحر من جهة ثانية ،وهي اجلهة من السور التي
تفتح على احلي األوروبي الذي بدأ يتوسع بشكل سريع يف النصف الثاني من
القرن التاسع عشر.
جتلّت عشوائية انتشار الظاهرة اخلمرية يف خالل العديد من املظاهر
منها انتشار اخلمارات الطرفية وانتصابها ،مبختلف اختصاصاتها وانتماءات
أصحابها االثنية .كما جتلت العشوائية والهامشية يف تركيبة مرتاديها،
وسوء استعمال الفضاء العام ،إلى جانب الفوضى والتشويش ،وانعدام األمن
واالستقرار .ورغم كل ما ميكن أن نضعه يف خانة «األزمة» ،بكل أبعادها ،ال
ميكن أن ينفي التفاعل ،ففي التنافس والصراع تنشأ القيم اجلديدة ونظمها.51
ولقد كان الفضاء التجاري احل ّر املشترك القدمي ،حول باب البحر ،حيث
فنادق األوروبيني وحيث تتم كل املعامالت التجارية ،تقليديا ،بوابة للتواصل
واالحتكاك باآلخر .وكان محور ديناميكية التثاقف وبه تش ّكل جزء من قاموس
لغوي مشترك ،ضمن نسق احلياة اليومية ،فنجد الكلمات االيطالية واالسبانية
واالنقليزية والفرنسية واملالطية 52وغيرها تختلط لتعطي جمال وأدوات لغوية
للتواصل .لم تكن األحياء اجلديدة هي فضاء التش ّكل باملعنى العملي بل
فضاءات االلتقاء ،وهي أساسا األسواق أو واملسالك العامة اجلديدة أو فضاءات
الترفيه املشتركة ،53ومنها اخلمارات التي ميكن اعتبارها احملورية إلى جانب
املقاهي ،لتكون نقطة انطالق نحو انتشار استعمال ألفاظ القاموس اجلديد
يف احلاضرة ،وأسواقها ،ودورها ،لتنصهر تدريجيا وتتم أهلنتها .هذه األلفاظ
شملت مختلف مجاالت احلياة ،من مأكل ،وملبس ،ومواد زينة ،وأفعال ،ورموز،
وسمي هذا املشترك بني ضفتي املتوسط وموانئه باللغة الهجينةla Lingua« 54
»Francaوساد يف فضاء املنطقة احل ّرة جوار باب البحر .ومع بداية حترير
جتارة اخلمر ،وانتشارها يف الفضاء احلضري داخل االسوار وخارجها ،بدأ
تشكل قاموس لغوي مرتبط بالظاهرة ،كما بدأ يتشكل قاموس قانوني جديد
مرتبط بالظرفية اجلديدة والتوازن اجلديد للقوى .فقد نشأت يف فضاء مقاهي
التكروري واخلمارات عالقات متنوعة ومختلفة ،قد جند بعض آثارها يف الوثائق
األرشيفية ،تترجمها الشكاوى واإليقافات والتجاذبات بني مختلف القوى حول
املؤسسات ذات الصالحية األمنية والقضائية املخولة للتعامل مع اجلاليات
األجنبية .ويف هذا اإلطار طرحت مسألة القوانني املنظمة للعالقات ،وكذلك
القوانني الردعية التي يجب أن تطبق ،أو يجب التفكير يف صياغتها ،وتنظيم
تطبيقها .فلقد أدى التجاور بني مختلف األصناف االجتماعية واالثنية إلى ظهور
أصناف جديدة من القضايا واملسائل املطروحة على األجهزة األمنية والرقابية
واإلدارية حيث برزت قضايا من نوع جديد تطلبت نظما وقوانني لتسوية عالقات
اجتماعية افرزها التقارب واالختالط وتقاطع املصالح أو تناقضها.
أفرز التوزع اجلديد للسكان األجانب ،والتوزع العشوائي للخمارات،
وفتح األبواب اجلديدة ،وما متخض عنها من مسالك للربط بني الفضاءات
العمرانية األوروبية والفضاءات املدينية التقليدية نظم ومعايير اجتماعية
جديدة .ونشأت هذه النظم واملعايير يف خضم الصراع االجتماعي والقيمي
التقليدي املميز للمدينة ،ونظمها املتوارثة ،يف مقابلة النظم والقيم التي
عملت اجلاليات األوروبية فرضها حتت ضغط ضرورات املعاش اليومي
وحتمية التفاعل .55لذا كانت مناطق التماس وااللتقاء هي فضاءات ميالد
هذه النظم واملعايير أو ساهمت يف نشأتها .يستنتج الدارس ملختلف
الشكاوى املقدمة من مختلف األطراف ،واملراسالت بني مختلف السلط
احمللية أو القنصلية ،طبيعة الصراع ومرجعيات الدفاع عن املواقع ،وفرض
وجهات النظر .أهم الشكاوى وأكثرها شيوعا وأقدمها يف ارتباط بالظاهرة
اخلمرية تلك املرتبطة بتسوغ عقارات للسكن وحتويلها لبيع اخلمر .شمل
هذا الصنف من الشكاوى العديد من الفضاءات احلضرية مبدينة تونس
وموجه ضد مختلف اجلنسيات السيما االيطاليني واملالطيني ،وبدرجة
أقل رعايا فرنسا الذين كانت شكاويهم حول املنافسة غير القانونية يف
جتارة اخلمر أو املشاكل األمنية ونظافة احلاضرة .ومن خالل مختلف هذه
الشكاوى ميكن استنتاج مجموعة من الضوابط التي وجهت خيارات مختلف
األطراف السيما احلوار بني السلطة بتونس والقوى األوروبية ،ومتثل هذه
الضوابط حسب ما أمكننا استخراجه من مختلف الشكاوى والتقارير بتاريخ
جمادى الثانية سنة 1276هــ 24 /جانفي :1860
55) MUSCAT (M.), L’héritage impensé des Maltais de Tunisie, L’Harmattan, Paris,
2011.
-أن ال تكون اخلمارة يف زقاق غير نافذ ،يعيق التنقل السيما بالنسبة
إلى النساء،
-أن ال تكون مجاورة لدور عبادة خاصة اجلوامع،
-أن ال يتسوغ محال بغاية السكنى ويحوله لتجارة اخلمر دون ترخيص،
-أن يخضع فتح اخلمارات الى تراخيص،
-أن يأخذ بعني االعتبار الناحية األمنية للمتساكنني أو رواد اخلمارات
من األجانب،
-احترام الطريق العام،
-أن ال يتسبب وجودها يف التشويش وإقالق راحة املتساكنني ويعيق
تنقالتهم.
-أن يتضرر من فتح اخلمارة تاجر يف نفس االختصاص أو غيره من
االختصاصات التي ينفر الزبائن التردد عليها بسبب وجود اخلمارة
ويف جمادى الثانية سنة 1276هـ 24 /جانفي .1860
ويف مراسلة من شيخ املدينة إلى الوزارة الكبرى بتاريخ 29نوفمبر
،1871نوردها كاملة إلملامها بأهم التأثيرات املرتبطة بتجارة اخلمر «جناب
الوزارة الكبرى السامية حرس اهلل كمالها أما بعد السالم عليكم ورحمة اهلل
وبركاته فانه غير خفي على عزيز جنابكم أن عادة وعرف البلد ال يسوغان
سكنى اإلفرجن أو اليهود إال باألماكن املعدة لهم خصوصا باحلوانيت املجاورة
لدور املسلمني حيث أن غالبهم يبيع بها ما ال يحل بيعه كاخلمر كما هو مشاهد
باحلوانيت أو سرا حتى ال يطلع عليه األمر البعض من أبناء املسلمني عند
تناوله وبعضهم يلقي قذرته كل صباح بالطريق ويريق املاء وكثير من املارين
تناله الضرورة .وقد يصعدون للسطح على عادتهم ورمبا يكشف على دار جاره
هذا وقد كثر اآلن سكنى اإلفرجن وغالبهم من رعايا دولة ايطاليا بحوانيت ودور
وعلوات مجاورة لدور املسلمني الغير املسوغ لهم باحلوانيت بيع غير الضروريات
أن املباع بتلك احلوانيت السميد ونحوه ويصدر من كاخلضر ونحوه ويظهرون ّ
بعضهم ما ذكرناه فإذا نهوا عن شيء من ذلك لم ميتثلوا ولذا أعلمنا جنابكم
بهذا الكتاب».56
)58ابن أبي الضياف ،االحتاف ،ج ،6ص .233تتمثل احلادثة يف شكوى تقدمت بها مجموعة
من سكان احلاضرة ادعوا فيها أنّ يهوديا «سوقة اليهود اسمه باطو يخدم على كرطون للقايد
نسيم شمامة رئيس اليهود بأنه شتم مسلما وكان اليهودي حال الشتم بحالة سكر على عادته
املعروفة منه» فأمر الباي محاكمته من قبل املجلس الشرعي على املذهب املالكي املتشدد يف
مثل هذه املسائل فكانت القتل قرار املجلس وتسبب ذلك يف حملة رهيبة ضد الباي ودولته
من قبل القناصل والدول األجنبية.
فإن
إذا كانت املبررات املعتمدة هي الفوضى التي يحدثها رواد املقاهي ّ
النتيجة هي وضع مؤسسات املراقبة والعقاب حتت مراقبة هذه األطراف ،وما
بأن الهدف الرئيسي من وضع اليد على آليات املراقبةميكن أن ينتج عنه ،ونعتقد ّ
هو إحكام القبضة األمنية من جهة ،واملساهمة يف تسهيل استقرار بعض األطراف
األوروبية على حساب بعضها ،يف إطار التنافس بينها من جهة أخرى .فالسيطرة
ّ
التدخل األجنبي بصورة مباشرة ،السيما وأنها على أجهزة الدولة ومفاصلها تس ّهل
أتت يف سياق تاريخي اتسم بتسارع األحداث يف أوروبا وسباق حتييز املجال السيما
يف ايطاليا التي حققت وحدتها القومية بعد صراعات تدخلت فيها كل من النمسا
وفرنسا .وال نعتقد بأن واقع األحداث السياسية والعسكرية يف أوروبا لم يؤثر يف
حوار اخلمارات والتنافس بني القوميات الذي تطور الحقا لصراع حول تقسيم
املستعمرات .وبالنسبة إلى البالد التونسية تدعمت تدريجيا أطماع ايطاليا بعد
ضمان وحدتها واملراسالت املتكررة واملوجهة أساسا إلى كل من فرنسا وانقلترا
كثيرا ما أثارت قضية الهجرة االيطالية .وقد قامت فرنسا بعد احتاللها للبالد
بتقييم احلضور االيطالي ،ال يف احلاضرة فقط ،وإمنا يف البالد عموما 59وذلك ملا
مثلته اجلالية االيطالية من منافسة للمعمرين الفرنسيني الذين لم يكن حضورهم
شبيها للحضور االيطالي ال من حيث العدد وال من حيث املكانة االجتماعية واألدوار
االقتصادية .60حملت الوثائق األرشيفية اخلاصة بتحرير جتارة اخلمر وانتشارها
مالمح التحوالت التي عرفتها أوروبا ففي بدايات التحرير كانت الوثائق تشير إلى
السلسليان باعتبارهم وحدة اجتماعية وسياسية لها خصوصيتها وحتصلت مثلها
مثل األمم ذات االمتيازات وهي بريطانيا وفرنسا على حق فتح 25خمارة إلى
جانب ذكر الصاردو كوحدة أخرى مستقلة ،لتقلص تدريجيا التصنيفات املعتمدة
مت االقتصار على تصنيف «االيطالي» للحديث عن الوحدات السياسية االيطالية و ّ
خاصة بعد الستينيات ،وهي فترة بدايات تبلور فكرة الوحدة االيطالية.
خامتة
الربط بني اخلمارات وبني أحياء اجلاليات األوروبية ،جعلنا ننتقل من
احلديث عن اخلمارات يف ذاتها إلى احلديث عن آليات الربط ،وتأثير توزعها يف
املجال على احلركية بني مختلف مكونات احلاضرة ،وأبوابها ،ونظم تسييرها،
وانفتاح فضاءاتها ،لتتراجع ادوار األسوار كح ّد فاصل ،وما يرافق ذلك من
انعكاسات ،ال فقط على سلوك اجلاليات األجنبية ،وإمنا كذلك حترك األهالي،
متس
وثقافة التنقل والسهر واالحتفال والتزاور والسهر باألساس .هذه التحوالت ّ
بدورها من نظام العالقات داخل األسرة .املوضوع له تفرعات عديدة لذلك خيرنا
التركيز على التأثيرات املباشرة وغير املباشرة دون التعمق يف تناولها .فالتوسع يف
استعمال الوثائق العدلية التي تدون احلوادث مبدينة تونس ليال يبني لنا عمق تأثير
الظاهرة اخلمرية يف السلوكات االجتماعية ،ال عند اجلالياتّ ،
وإنا عند األهالي
من اجلنسني ففي سنة 1861-1860سجلت أكثر من 1800حالة سكر مبدينة
تونس وربضيها ،61وما تعلق بالسكر من جتاوزات .إذا كان حترير جتارة اخلمر
59) GASTON )L.), Le peuplement italien en Tunisie et en Algérie, Paris, A. Colin,
1905.
)60انظر حول ذلك:
GANIAGE (J.), Les origines du Protectorat français en Tunisie, 1861-1881,
préface : Pr. Khalifa Chater, Berg-édition, 2015, p. 34.
)61أ.و.ت ،دفتر .4032
وتصنيعه واستهالكه مسألة جتارية واقتصادية باألساس إ ّال أ ّنها مثلت محور
حتوالت قانونية تشريعية ومجالية وسلوكية اجتماعية .فقد جاء حترير اخلمارات
والتردد عليها ليفتح فضاءات تفاعل اجتماعي جديدة ساهمت يف إعادة تشكل
بعض الثوابت احلضارية والثقافية وساهمت يف نشأة ثقافة جديدة ال فقط يف
وإنا التواصل مع اآلخر .فالتفاعل ساهم يف إعادة تشكيل املشهد النظرة للخمر ّ
احلضري وكذلك القواعد واملرجعيات الثقافية والسلوكات اليومية والنظم واإلدارة
وكل ما ميكن أن تفرضه العالقة بني اخلمر واخلمار واملخمور ومن جاورهم أو
تفاعل معهم باي شكل من األشكال .فوضع خارطة كاملة لتوزع اخلمارات مشروع
قد يفتح أبواب البحث والتمحيص بأكثر عمق بالنسبة إلى حاضرة تونس ولكن
كذلك بالنسبة إلى بقية املدن والقرى التي انتشرت بها اخلمارات واجلاليات
األجنبية .لكن لنجيب عن اإلشكالية احملورية التي وضعنا من اجلها عملنا هذا
وهو السياسة األوروبية جتاه البالد التونسية والضغوطات التي فرضتها مختلف
هذه القوى لزعزعة البني الثقافة واالجتماعية واالقتصادية للبالد التونسية والتي
كانت اخلطوات األولى املمهدة للتدخل االستعماري املباشر .هذه السياسة املمهدة
لالستعمار والتي حاولنا إبراز أهم جوانبها من خالل تطور الظاهر اخلمرية ولكن
كذلك ميكن تلمسها يف مختلف املجاالت األخرى باعتماد نظرة تاريخية مجهرية
تسلط الضوء على اجلزئيات الدالة على احلركية التي عرفها املجتمع حتت هذه
الضغوطات األوروبية.