You are on page 1of 42

‫وزارة التعليم العالي والبحث العلمي‬

‫جامعة تونس‬
‫ك ّلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية بتونس‬
‫مخبر دراسات مغاربية‬

‫إهداء لروح الفقيد حسني بوجرة‬

‫الكروم واخلمور‬
‫يف البالد التونسية عبر التاريخ‬
‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‬
‫‪ 30 - 29‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪2018‬‬

‫جمع النصوص وقدم لها‬


‫األستاذ علي الطيب‬

‫تونس ‪2023 -‬‬


‫جلنة التنظيم‪:‬‬
‫حسني بوجرة‬
‫علي الطيب‬
‫اللّجنة العلمية‪:‬‬
‫الصــادق بوبكــر ‪ -‬نبيــل قاللــة ‪ -‬ابراهيــم جدلــة ‪ -‬بشــير يزيــدي ‪ -‬فاطمــة بــن ســليمان ‪-‬‬
‫عامــر يونــس ‪ -‬مح ّمــد ابراهيــم الســعداوي ‪ -‬الهــادي الرياحــي ‪ -‬علــي الطيــب ‪ -‬جــال‬
‫حســان مــوري‪.‬‬
‫التليلــي ‪ّ -‬‬
‫حقوق النشر محفوظة لكل ّية العلوم االنسانية واالجتماعية بتونس‪.‬‬
‫التصميم‪ :‬توفيق الساسي ‪ /‬طبع‪ :‬السنباكت‪.‬‬
‫ر‪.‬د‪.‬م‪.‬ك‪ - 978-9938-44-038-6 .‬تونس ‪2023‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪2018‬‬ ‫‪2‬‬
‫الفهرس‬
5 .‫احياء لذاكرة الفقيد حسني بوجرة‬
7 .‫ اخلمر بالقيروان يف العهد األغلبي‬:‫محمد سعيد‬
47 .‫ شواهد عن الكروم من غابة صفاقس‬:‫سهام القالل‬
‫ جدلية املقدس والدنيوي من خالل تفشي‬:‫آمال احملفوظي‬
73 .‫ظاهرة شرب اخلمر يف مدينة القيروان يف العصر احلديث‬
‫ وتوطينها القانوني‬،‫ حترير جتارة اخلمر‬:‫محمد فوزي املستغامني‬
101 .‫ تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬:‫واملجالي‬
‫ شرب اخلمر والسلوك الليلي للمخمور مبدينة‬:‫بشير براهمي‬
‫تونس من خالل تقارير املكلفني باحلراسة (النّوبطشية) سنتي‬
139 .‫هـ‬1278 /‫م‬1860-1861
‫ جتارة اخلمر «املوازية» بالبالد التونسية خالل‬:‫الطيب بوعجيلة‬
161 .‫الفترة املعاصرة‬
7 In memoriam
9 Introduction
17 Mounir Fantar : Du cep au cratère : matériaux
historiographiques, épigraphiques et archéologiques sur la
vigne et le vin en Tunisie dans l’Antiquité.
53 Ameur Younès : Notes sur le vin en Byzacène orientale
durant la période romaine.
79 Taïeb Neffati : La consommation de vin dans la Tunisie
précoloniale à travers des sources italiennes.
91 Ali Taieb : Le patrimoine viti-vinicole en Tunisie :
itinéraire d’un terroir et mémoire d’une « aristocratie »
culturale à l’époque contemporaine.
117 Mouna Taamallah : Espace viticole tunisien entre
1890 et 1990 : cartographie géo-historique.
139 Mohamed Sassi : La difficile transition en matière de
politique agricole en Tunisie : les exportations de vin vers
la CEE entre 1956 et 1976.

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


3 2018 ‫ جويلية‬01 ‫ جوان و‬30 - 29 ،‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪:‬‬
‫تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬
‫‪1‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫مقدمة‬
‫كان استهالك اخلمر لدى مختلف احلضارات إما من السلوكات املنبوذة‬
‫أو من الطقوس الدينية املقدسة (ديونيسوس أو باكوس أو باخوس يف امليثيولوجيا‬
‫اإلغريقية)‪ .‬فقد تراوحت منزلة اخلمر بني منزلتي املدنس واملقدس (املخمور يف‬
‫احلانة يقابله املتخ ّمر يف احلضرة الصوفية)‪ .‬ولم يشذ تاريخ البالد التونسية عن‬
‫هاتني املنزلتني‪ ،‬فنجدها يف حقب يف مرتبة املقدس‪ ،‬ويف حقب أخرى يف مستوى‬
‫املدنس‪ .‬لم يخرج اخلمر يف تونس احلديثة عن نسق ازدواجية النظر إلى ظاهرة‬
‫جتارتها واستهالكها فاملتتبع ملختلف املصادر التي تتناول تاريخ تونس احلديث يالحظ‬
‫بشكل واضح ظاهرة إغالق وهدم اخلمارات عند كل تغير يف أعلى هرم السلطة‬
‫وكأن من سبقه لم‬
‫السياسية‪ ،‬فبمجرد صعود حاكم جديد‪ ،‬يتجدد اإلغالق والهدم ّ‬
‫يهدم ولم يُغلق‪ .‬هذا التعامل مع فضاءات بيع واستهالك اخلمور له من هذه الزاوية‬
‫عالقة بالسلطة السياسية أكثر منها بالعوامل االقتصادية واألخالقية الصرفة‪.‬‬
‫يضاف إلى ذلك أن جتارة اخلمور بأنواعها لم تكن مح ّل اهتمام‬
‫اإلخباريني‪ ،‬ولم يفردوها بفصول أو أخبار‪ ،‬فغالبا ما يكون ذكرها عرضيا يف‬
‫إطار احلديث عن حتوالت سياسية أو اجتماعية أو أخبار عا ّمة‪ .‬أما بالنسبة‬
‫إلى املصادر األخرى‪ ،‬مثل الوثائق األرشيفية‪ ،‬أو مراسالت القناصل األوروبيني‪،‬‬
‫أو كتابات الرحالة فتكون اإلشارات مرتبطة بذكر معطيات مجالية‪ ،‬حول فضاء‬
‫معني أو شخصية‪ ،‬وبالتالي ال يكون ذكرها كذلك إال عرضا‪ .‬يف املقابل تعتبر‬
‫وثائق األرشيف األكثر ثراء يف هذا املجال إذ جند ذكر اخلمارات يف وثائق‬
‫األحباس يف إطار حتديد مواقع ومعالم ومباني مرتبطة بالعقار احملبس‪ ،‬وقد‬
‫تشير كذلك إلى حتويرات أدخلت على بعض املعالم‪ ،‬يف إطار إنشاء مؤسسات‬
‫جديدة مثل املساجد واملدارس والزوايا وغيرها‪ ،‬لكنها تبقى قليلة رغم ثرائها‪.‬‬
‫ املعهد التحضيري للدراسات األدبية والعلوم االنسانية‪ ،‬جامعة تونس‪.‬‬
‫‪)1‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪101‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫ورغم تعدد املصادر التي نستقي منها املعلومات التي قد تساعدنا على‬
‫تتبع أخبار اخلمارين واخلمارات واخلمر صناعة وجتارة وترويجا واستهالكا‪ ،‬كانت‬
‫املعطيات املتوفرة يف مستهل الفترة احلديثة وصوال إلى بداية القرن التاسع عشر‬
‫قليلة حاولت استغاللها بعض الدراسات‪ .2‬فقد تعرض حسني بوجرة إلى تفاصيل‬
‫دقيقة حول الظاهرة على الزمن الطويل وصوال إلى القرن التاسع عشر الذي يعتبر‬
‫قرن الطفرة‪ .‬ودون العودة إلى ما مت تناوله ودون العودة كذلك إلى مظاهر اخلالف‬
‫واالختالف واملسارات التاريخية املتنوعة حول الظاهرة سنركز اهتمامنا‪،‬يف مقالنا‬
‫هذا‪ ،‬على ثالث أبعاد رئيسية يف عالقة باخلمر خالل القرن التاسع عشر بالبالد‬
‫التونسية وهي توطينها يف النصوص التشريعية ويف املجال وأهلنة املصطلحات‪.3‬‬
‫وقد ش ّكلت ظاهرة اخلمر يف أبعادها التشريعية واملجال ّية واالجتماع ّية‬
‫(السياس ّية والقانون ّية‬
‫السلطة احلسين ّية ونظمها التقليد ّية ّ‬
‫حلقة من حلقات تفكيك ّ‬
‫واالجتماع ّية) وفرض القوى الغرب ّية إرادتها التي ت ّوجت مبعاهدة باردو‪.‬‬

‫‪ -I‬السلطة يف تونس احلديثة وجتارة اخلمور بني احلظر والتحرير‬


‫أشار حمودة بن عبد العزيز يف نص متجيدي ملواله علي باي بن حسني‬
‫(‪ )1782-1759‬إلى «املأثرة العظمى التي سارت الركبان بخبرها وشاعت يف‬
‫اخلافقني فضيلتها وارتفع يف أقصى البالد صيتها‪ ،‬وهي إبطاله لعصر اخلمر‬
‫وبيعها وجلبها من بالد النصارى ‪ -‬أهلكهم اهلل ‪ -‬يف جميع أقطار مملكته وهدمه‬
‫حلاناتها‪ ،‬وإقامة احلد على شاربها والتنكيل مبن عثر عليه يعصرها أو يبيعها»‪.4‬‬

‫‪ )2‬بوجرة (حسني)‪« ،‬الظاهرة اخلمرية وتطورها بالبالد التونسية يف العهد التركي»‪ ،‬الكراسات‬
‫التونسية‪ ،‬العددان ‪ ،2009 ،42-41‬ص ‪.114-26‬‬
‫‪ ) 3‬يستعمل مفهوم التوطني يف عدة حقول معرفية منها االجتماعية واالقتصادية ويش ّكل‬
‫السياسية‬
‫بُعد التخطيط والتنظيم قاسمها املشترك‪ .‬فعملية التوطني بأشكالها املختلفة‪ّ ،‬‬
‫واالجتماعية واالقتصادية‪ ،‬ال حتدث على نحو مباشر وتلقائي‪ ،‬بل هي عمل ّية إراد ّيةغايتها‬
‫الوصول إلى تنظيم منسجم ومتناسق‪ ،‬أساسها وضوح الهدف يف ذهن الفاعل‪ ،‬ود ّقة خطة‬
‫عمله يف بعديها الزمني واملجالي ووسائل حتقيقها‪ .‬أما التوطني العشوائي فكثيرا ما يفضي‬
‫إلى نتائج تخضع لتوازن الضغط والتفاعل االجتماعي بني القوى الفاعلة‪ .‬والتوطني الذي‬
‫نتناوله هو توطني مرتبط بظرفية سياسية واقتصادية فارقة يف تاريخ تونس القرن التاسع‬
‫السلطة واملجتمع احمللّيني مع القوى الغرب ّية من خالل ظاهرة اخلمر‬
‫عشر مرتبط بجدل ّية ّ‬
‫التي كانت مبثابة «االغتصاب» ‪ -‬التحديث ‪( -‬أو اإلصالحات املفروضة) الذي عاشت على‬
‫وقعه اإليالة خالل القرن التّاسع عشر‪.‬‬
‫‪ )4‬ابن عبد العزيز (حمودة)‪ ،‬الكتاب الباشي‪ ،‬قسم السرة‪ ،‬حتقيق محمد ماضور‪ ،‬الدار التونسية‬
‫للنشر‪.1970 ،‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪102‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫يوحي لنا ابن عبد العزيز يف هذا املقتطف بوضعيتني سادتا يف زمانه‪ ،‬الوضعية‬
‫األولى التي كان فيها اخلمر متعارف على صناعته وجتارته واستهالكه‪ ،‬والوضعية‬
‫الثانية وتتمثل يف منع الباي لذلك‪ .‬هذا املنع يف جوهره موجه لألهالي من رعية‬
‫الباي فال ميكن أن يسحب على الرعايا األجانب املستقرين بالبالد‪ ،‬والطاقم‬
‫العامل يف القنصليات‪ ،‬إضافة إلى أسرى القرصنة من املسيحيني الذين ال نعتقد‬
‫بأن الباي شملهم باملنع‪ .‬ففي أغلب الفترات التاريخية قبيل القرن التاسع عشر‪،‬‬
‫ّ‬
‫كانت جتارة اخلمر سائدة ولم تنقطع بالكل ّية لهذه االعتبارات وتذكر ذلك دفاتر‬
‫األداءات املوظفة على هذا الصنف من البضاعة حتت مسميات تخفي طبيعة‬
‫النشاط‪ .‬فاالتفاقيات تراعي حقوق اجلاليات األجنبية يف ممارسة معتقداتها‬
‫وعاداتها ونظمها مبا ال ميس مباشرة بشعائر املسلمني أو دينهم أو عقيدتهم‪.‬‬
‫وقد كان التمتّع بهذه احلقوق داخل فضاءات خاصة بهذه اجلاليات سواء يف‬
‫دورهم أو يف الفنادق اخلاصة بهم أو يف مقرات القنصليات‪ ،‬دون أن نهمل حق‬
‫األسرى األوروبيني املنتشرين يف الدور والبساتني والقصور ولكن أساسا يف‬
‫الزنداالت املنتشرة يف احلاضرة بصفة خاصة‪.‬‬
‫عندما تشير املصادر اإلخبارية إلى قرارات منع متتالية حسب البايات‬
‫(حسني بن علي ‪ 1735-1705‬علي باشا ‪ 1756-1735‬وعلي باي ‪،)1782-1759‬‬
‫فهي من وجهة نظر سياسية مراحل التأسيس للدولة فحسني بن علي اتخذ‬
‫إجراءاته يف إطار البحث عن شرعية لدولة جديدة ظهرت على أنقاض املراديني‬
‫من جهة وإبراهيم الشريف (‪ )1705-1702‬من جهة ثانية‪ .‬أما علي باشا فكان‬
‫يبحث بدوره عن شرعية استحواذ على السلطة من عمه بدعم من عساكر أتراك‬
‫اجلزائر يف حني أن علي باي كان مبثابة إعادة التأسيس مع البحث عن تدعيم‬
‫شرعية اجلمهور من أهل البالد‪ .‬ويالحظ املتمعن يف قرارات املنع بأنها كانت‬
‫موجهة أساسا إلى املصنّعني أو املستهلكني أو املر ّوجني من األهالي‪ .‬وعندما‬
‫تشير هذه املصادر إلى هدم خمارات فذلك يدفعنا ضرورة إلى البحث عن طبيعة‬
‫األنشطة السائدة داخل هذه املقرات قبل هدمها‪ ،‬وإذا ما تو ّفرت املعطيات علينا‬
‫حتديد أصحابها‪ ،‬وموقعها داخل النسيج احلضري‪ ،‬واألهم عالقة هذه الفضاءات‬
‫بالوضعيات الثالث‪ ،‬التصنيع واالستهالك والترويج احمللي‪ .‬إضافة إلى ذلك يجب‬
‫البحث عما إذا كان هدم الفضاءات املروجة للخمر أو املصنعة له‪ ،‬يدخل يف باب‬
‫محاربة الظاهرة بصورة عامة أو هي فقط استغالل العملية لتلميع صورة الباي‪.‬‬
‫سنحاول التطرق إلى عمق املسألة بتتبع عالقة السلطة بتجارة‬
‫وصنع اخلمر بالبالد التونسية قبيل القرن التاسع عشر‪ .‬لقد ركزت املصادر‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪103‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫اإلخبارية‪ ،5‬على مفاخر ومحاسن الباي حسني ومن أهمها املنشآت التي‬
‫أقامها يف مختلف املجاالت والفضاءات اجلغرافية داخل احلاضرة وخارجها‬
‫ومن ضمن هذه املنشآت مدرسة النخلة (جوار جامع الزيتونة) وجامعه اجلديد‬
‫وما يتبعه من املركب االقتصادي الديني (حومة الصباغني) ومت التركيز على‬
‫هاذين املعلمني ألهميتهما املعمارية واملجال ّية إذ أنشئت األولى بجوار جامع‬
‫الزيتونة‪ ،‬املركز الديني الرئيسي داخل احلاضرة بل منارة العلم ال بالنسبة إلى‬
‫البالد التونسية فحسب وإمنا بالد املغرب عموما‪ ،‬وما إنشاء مدرسة بجواره إال‬
‫تدعيم لهذه القاعدة العلمية التعليمية التي تاخمت نهج الكتبيني وتدعمت الحقا‬
‫مبدارس أنشأها علي باشا‪ .‬لو ربطنا بني إحداث هذه املنشآت العلمية الدينية‪،‬‬
‫بأن العالقة ج ّد‬
‫وبني طبيعة تركيبة حاشية حسني بن علي‪ ،‬وسياسته‪ ،‬لوجدنا ّ‬
‫وطيدة‪ ،‬فاملقربون من الباي هم من كبار رجال الدين نذكر منهم على سبيل‬
‫املثال ال احلصر يوسف برتقيز ومحمد سعادة وحمودة الرصاع‪ .‬فقد كانت‬
‫سياسة التحالف مع الرموز الدينية واملراهنة على الدين‪ ،‬من أسس سياسة‬
‫حسني بن علي لبناء شرعية حلكمه شخصيا ولساللة حاكمة‪ .‬يف هذا اإلطار‬
‫كانت املنشآت الدينية خطابا لبناء هذه الشرعية الدينية‪ ،‬ولذلك كان التشريع‬
‫لهذه احلقبة التأسيسية هاجس اإلخباريني املعاصرين حلسني بن علي لهذه‬
‫الشرعية‪ ،‬وتدوينها‪ .‬فتش هؤالء اإلخباريون يف ثنايا التأسيس عن ك ّل ما ّ‬
‫يدعم‬
‫رسم الصورة‪ ،‬صورة من «أمنت الطرقات‪ ،‬وكثرت يف أيامه اخليرات»‪ .‬ويف هذا‬
‫اإلطار ملا أشاد اإلخباريون بسياسة بناء اجلوامع وتأسيس املدارس ركزوا كثيرا‬
‫على مواقع التشييد والبناء‪ ،‬وفخموا من عملية حتويل االستعمال للفضاء من‬
‫خمارات الى بيوت علم ودين‪ ،‬مسلطني الضوء على حتويل املدنس إلى مقدس‪.‬‬
‫فمآثر الباي ال تكمن فقط يف بناء دور العبادة ومدارس العلم‪ ،‬وإمنا كذلك يف‬
‫هدمه ملق ّرات املنكرات‪ ،‬فهو ناصر احلقّ والدين يف مقابلة الفسق والفجور‬
‫والكفر‪ ،‬أي دعم املقدس على حساب املدنس‪ .‬يف هذه الوضعية يجد الباحث‬
‫نفسه بني خطاب البحث عن الشرعية وتلميع الصورة وبني تهيئة املجال وإعادة‬
‫هيكلته وفق الظرفية اجلديدة‪.‬‬
‫هل ألغى حسني بن علي صناعة وجتارة واستهالك اخلمر عندما‬
‫هدم اخلمارات وبنى مكانها مدرسة النخلة واجلامع اجلديد؟ ميكننا إعادة‬
‫قراءة عمليات الهدم واإلنشاء وفهم مسألة املنع انطالقا من الوثائق األرشيفية‬
‫ووثائق األوقاف‪ .‬فبالعودة إلى هذه الوثائق نتبني أن املباني املشار إليها على أنها‬
‫‪ )5‬سواء حسني خوجة يف ذيل بشائر أهل اإلميان بفتوحات آل عثمان أو محمد الوزير السراج‬
‫يف احللل السندسية يف األخبار التونسية أو الصغير بن يوسف يف املشرع امللكي‪.‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪104‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫خمارات لم تكن سوى زنداالت تأوي أسرى القرصنة وقد كانت هذه الزنداالت‬
‫على ذ ّمة هؤالء األسرى‪ ،‬يستعملونها مقرات إقامة ومبيت ولتجارة اخلمر يف‬
‫آن واحد‪ .‬تقع املدرسة األولى يف سوق عرفت بفندق الزبيب ونعلم االرتباط‬
‫الوثيق بني الزبيب واخلمور وهي مجاورة جلامع الزيتونة ومبقربة من فنادق‬
‫العساكر االنكشارية‪ ،‬وأنشئت على أنقاضها مدرسة النخلة أو احلسينية الكبرى‬
‫كما أشارات املصادر إلى رفعه للمنكرات ببناء الفندقني والسوق العظيم قرب‬
‫سوق السكاجني‪ ،‬وكانت سابقا مخازن يبيع فيها النصارى اخلمر فاعتنى برفع‬
‫هذه الرذيلة»‪ 6‬وهذه املنطقة املجاورة لسوق البركة املختص يف جتارة العبيد‬
‫كانت بها هي األخرى مجموعة من الزنداالت التي بها أسرى القرصنة‪ ،‬إضافة‬
‫إلى ذلك قد تكون هذه الزنداالت‪-‬اخلمارت قد نشطت سوقها بتردد العساكر‬
‫االنكشارية املستقرين يف القصبة أو يف الفنادق داخل احلاضرة ثم تراجعت‬
‫مكانتها االقتصادية‪ .‬أما املنشأة الثالثة‪ ،‬فكانت على حساب عقارات ويف الغالب‬
‫أنها كانت من ممتلكات عثمان داي وصلت حسني بن علي بالوراثة من زوجته‬
‫فاطمة عثمانة وبالشراء من ورثة عثمان داي‪ ،‬ومن بني هذه العقارات هناك‬
‫إشارة إلى زندالة وحمام تابعني لعثمان داي أنشأ على أنقاضهما اجلامع اجلديد‬
‫الذي بناه سنة ‪ 1727‬م‪ .‬ولم تقتصر التحويرات على احلاضرة فقط بل شملت‬
‫مدنا أخرى على غرار سوسة التي مت حتويل زندالتها املستخدمة كذلك يف جتارة‬
‫اخلمر إلى حمام يف أواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر‪.7‬‬
‫يف إطار إبراز فضائل ومحاسن مخدومه علي باي بن حسني‪ ،‬أشار‬
‫حمودة بن عبد العزيز يف كتابه الباشي‪ ،‬ويف نص طويل حول اخلمر‪ ،‬أن سوق‬
‫وأن العامل األساسي يف ذلك يعود إلى‬ ‫اخلمر كانت نافقة قبل حسني بن علي ‪ّ ،‬‬
‫عادة معاقرة جند الترك لشرب اخلمر‪ ،‬وفرضهم ذلك على حكام البالد إلى عهد‬
‫حسني بن علي‪ ،‬الذي بادر بإغالق ما أشرنا إليه من خمارات‪ ،‬وذلك يف ارتباط‬
‫بتدعيم قوة النفوذ املركزي‪ ،‬وتراجع مكانة عسكر الترك‪ ،‬ويضيف إلى ذلك عامال‬
‫آخر كان وراء إحجام امللوك السابقني عن إبطال احلانات‪ ،‬مت ّثل يف ما كانوا‬
‫يحقّقونه «من األموال العظيمة التي يأخذونها من امللتزمني لبيعها يف ك ّل سنة‪،‬‬
‫ومن الضريبة التي يجعلونها على من يبيعها من أسارى النصارى الذين بأيديهم»‪.8‬‬

‫‪ )6‬بن يوسف (محمد الصغير)‪ ،‬املشرع امللكي يف سلطنة أوالد علي تركي‪ ،‬نشر أحمد الطويلي‪،‬‬
‫ج ‪ ،1‬ص ‪.31‬‬
‫‪ )7‬السعداوي (أحمد)‪ ،‬تونس يف القرن السابع عشر‪ :‬وثائق األوقاف يف عهد الدايات والبايات‬
‫املراديني‪ ،‬كلية اآلداب والفنون واإلنسانيات‪ 2011 ،‬ص ‪.258‬‬
‫‪ ) 8‬بن عبد العزيز (حمودة)‪ ،‬الكتاب الباشي‪ ،‬ص ‪.375‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪105‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫لم تكن اخلمارات التي ذكرتها املصادر اإلخبارية إذا سوى زنداالت‬
‫يش ّكل توفير اخلمور لألسرى والنصارى املقيمني بالبالد وظيفة من وظائفها‪.‬‬
‫فمنذ ستينيات القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر‪ ،‬بدأت موازين‬
‫القوى تتغير بني االياالت العثمانية املغاربية الناشطة يف القرصنة من جهة‬
‫والقوى األوروبية‪ ،‬التي استعادت االستقرار داخل أوروبا من جهة أخرى‪ ،‬لتتراجع‬
‫بذلك القرصنة ونتائجها‪ ،‬وتتراجع أعداد األسرى‪ ،9‬األمر الذي جعل العديد من‬
‫اخلاصة بهم غير مستعملة وهو ما تطلب إعادة تهيئتها وتوظيفها‬
‫ّ‬ ‫الزنداالت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يف أنشطة أخرى‪ ،‬السيما النشاط التجاري الذي حل محل القرصنة‪ ،‬مثل ما‬
‫جسدته سياسة حسني بن علي ببنائه للفنادق‪.‬‬ ‫ّ‬
‫بأن استهالك اخلمر واالجتار به حق من حقوق األسرى‬ ‫وميكن التأكيد ّ‬
‫ّ‬
‫تفرضه االتفاقيات املبرمة مع القوى األوروبية‪ ،‬والتي لم تتخل عنه الدولة يف‬
‫حل ّكام من املراديني إلى إبراهيم الشريف وصوال إلى حسني بن‬ ‫تونس رغم تغ ّير ا ُ‬
‫علي‪ .‬ولقد كان لتوازن القوى اجلديد انعكاسات أخرى متثلت يف إبرام اتفاقيات‬
‫جديدة أو جتديد اتفاقيات قدمية‪ ،‬مبرجعيات جديدة‪ .‬ويف هذا اإلطار جاءت‬
‫معاهدة تونس مع فرنسا لسنة ‪ ،1710‬وهي حتيني التفاقيات سابقة تعود إلى سنة‬
‫نصت اتفاقية ‪ 1665‬يف بندها الثامن عشر الذي‬ ‫‪ 1665‬وثانية سنة ‪ .1672‬وقد ّ‬
‫أصبح الحقا من حتصيل احلاصل يف االتفاقيات‪ ،‬حق القنصل الفرنسي ورعايا‬
‫فرنسا يف ما يحتاجونه من خمور مع االلتزام بعدم بيعه‪ .10‬لذا كانت الزنداالت من‬
‫مت عبرها التشريع‬ ‫جهة‪ ،‬والتجار األوروبيون من جهة ثانية وقناصل دولهم‪ ،‬ب ّوابة ّ‬
‫لتجارة اخلمر وتسويقها‪ ،‬وما يؤكد ذلك هو تواصل توريد اخلمور زمن حسني‬
‫بن علي وعلي باشا الذي كان أشهر البايات مبادرة بهدم اخلمارات‪ .‬ففي أرصدة‬
‫وظف‬‫األرشيف الوطني التونسي حسابات للمشرفني على جتارة اخلمر‪ 11‬وقيمة ما ّ‬
‫عليهم من أداءات يف إطار لزمة اخلمر‪ ،‬إذ تشير احملاسبة إلى وجود مكلّفني نعتوا‬

‫‪9) PANZAC (D.), Les corsaires barbaresques. La fin d’une épopée 1800-1820,‬‬
‫‪Paris, CNRS, 1999, coll. Méditerranée, 311 p.‬‬
‫‪C. DAVIS (R.), Esclaves chrétiens, maîtres musulmans, Paris, éd. Jacqueline‬‬
‫‪Chambon, 2006.‬‬
‫‪10 Art. 18. - « Le Consul jouira de l'exemption de tous droits pour les provisions,‬‬
‫‪vivres et marchandises nécessaires à sa maison ; il ne lui sera, cependant, permis,‬‬
‫‪à lui et à tous ceux de sa nation, de faire entrer du vin et de l'eau-de-vie, qu'autant‬‬
‫‪qu'il leur en faudra pour leur nécessaire, sans qu'ils puissent en vendre, sous peine‬‬
‫‪de confiscation, ainsi qu'il sera pratiqué avec tous les autres Consuls et leurs‬‬
‫‪nationaux, sans une permission expresse ».‬‬
‫‪ )11‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬دفتر ‪ 34‬لسنة ‪« 1744-1743‬لزمة اخلمر» بتونس على يد باتيسته االشكربان الكبير‬
‫باحلفصية وباتيسته الطبرقي اشكربان اخلمر سنة ‪.1744-1743‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪106‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫بالكبير والصغير وتوضع حتت تسمية «االشكربان» إضافة الى «ورديان باشي»‪.‬‬
‫كان مقر «االشكربان» الكبير يف احلفصية‪ ،‬أ ّما «االشكربان» الصغير فمق ّره غار‬
‫امللح ومجال تص ّرفه طبرقة‪ ،‬وقد يكون ذلك نتيجة ارتباطه باألوروبيني املستقرين‬
‫يف محطات صيد املرجان املوكولة للفرنسيني والطبرقيني قبل إجالئهم عنها‬
‫ّ‬
‫متأخرة ملا تخلد بذ ّمته)‪ .‬ويف أواخر فترة علي‬ ‫سنة ‪( 1741‬قد تكون احملاسبة‬
‫باشا جند محاسبة مصطفى ورديان باشي على محصول «الطبارن» وذلك سنة‬
‫‪ 12 1751-1749‬وقد تواصلت احملاسبة إلى أواخر فترة حكمه‪ .‬كما جند إشارة‬
‫وظف عليه من مكس‪ ،‬إضافة إلى الزبيب الذي‬ ‫إلى اخلمر القادم من مالطة وما ّ‬
‫صنعه النصرانيون والذي كانت فيه الدولة شريكا باعتبار حصولها حسب النص‬
‫على «مكسب الزبيب الذي صنعه النصرانيون»‪ .‬وترشد املصادر األرشيفية كذلك‬
‫إلى أهم مواقع اخلمارات حيث أشارت إلى «القرامد وغيرها» كما أشارت كذلك‬
‫إلى لزمة اخلمر يف الدفاتر التي تعود إلى ما بعد عودة أوالد حسني بن علي‬
‫وحت ّدد ملتزمها وهو محمود قراجة سنة ‪ .1757‬وتتناقض هذه املعطيات التي‬
‫تؤكدها املصادر األرشيفية مع ما حاول ابن عبد العزيز التأكيد عليه واملتم ّثل‬
‫نصه واملقامات‬ ‫أن ّ‬
‫يف منع اخلمر إنتاجا وجتارة واستهالكا‪ .‬ومن األرجح إذا ّ‬
‫املمجدة للقرار وما تعلّق باملشروع الذي بادر به علي باي يف قطع‬ ‫ّ‬ ‫واألشعار‬
‫اخلمارات‪ ،‬لم تشمل سوى استهالك األهالي‪ ،‬أو لنقل علنية استهالكهم‪ .‬فعندما‬
‫السلطة كانت هناك عديد اخلمارات ذائعة الصيت‬ ‫تو ّلى علي باي بن حسني ّ‬
‫السيما خمارة القرامد داخل باب البحر وهي مجاورة للمجال التجاري احل ّر‬
‫وفنادق األوروبيني السيما فندق الفرنسيس واالنقليز واجلنويني وغيرهم إضافة‬
‫إلى اخلمارات اخلاصة باألتراك واملنتشرة على طول الطريق الرابط بني القصبة‬
‫وباب البنات‪ .13‬ويبدو من خالل الدفاتر اجلبائية أن هذا الباي قام فعال بإبطال‬
‫جتارة اخلمر بشكل صارم إذ نالحظ توقف اإليرادات اجلبائية املرتبطة بتجارة‬
‫اخلمر وآخر محاسبة جندها بالدفتر ‪ 59‬كانت مع املشرفني على هذه املداخيل‬
‫فيما بني ‪ 1182-1162‬هـ ‪ 1769-1749 /‬م‪ .‬وآخر املعطيات الواردة يف مراسالت‬
‫القناصل الفرنسيني واخلاصة بتجارة اخلمر مراسلة بتاريخ ‪ 6‬جوان ‪ 1758‬هي‬
‫عبارة عن شكوى تقدم بها تاجر فرنسي حول عدم خالص ديون متخلدة بذمة‬
‫املكلّف بقمرق اخلمر بتونس وكان حكم الباي فيها متكينه من مخازن اخلمر‬

‫وعطل حانة احلفصية وجعلها دار ضرب‪ ،‬ويف أواسط دولته‬‫ّ‬ ‫‪ )12‬بقوله «ثم جاء علي باشا بعهد‬
‫منع بيع العنب للخ ّمارة وعصره واقتصر بهم على بيع ما يجلب إليهم من بالد النصارى وما‬
‫يستقطرونه بالطبخ من الزبيب والتني»‪ ،‬بن عبد العزيز‪ ،‬نفس املصدر‪ ،‬ص ‪.375‬‬
‫‪ )13‬ابن عبد العزيز‪ ،‬نفس املصدر‪.‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪107‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫وبيع الكم ّية التي تعادل قيمة ديونه‪ .14‬تكمن الصرامة يف منع جتارة اخلمر وقطع‬
‫قيمتها يف إيرادات الدولة اجلمركية إ ّال أ ّنه وكما اشرنا سابقا يبقى للقناصل‬
‫ورعاياهم احلق يف اخلمر دون أداءات مثل ما نصت على ذلك االتفاقيات‪ ،‬كما ال‬
‫أن تصنيع اخلمر واستهالكه قد انقطعا بالكلية‪ 15‬وإمنا أصبحا أكثر سرية‬ ‫نعتقد ّ‬
‫وأن اخلطتني اإلداريتني املشرفتني على‬
‫واتّخذا مسالك أخرى غير معلنة‪ ،‬السيما ّ‬
‫هذا الصنف من البضائع لم ينقطع ذكرهما يف املصادر األرشيفية وهما باألساس‬
‫«الورديان باشي وارده كوشطه» و»االشكربان» بالنسبة إلى األول هو رئيس احلرس‬
‫املكلّف مبراقبة أسرى القرصنة واحلدود البحرية «‪ »guarda-costas‬أ ّما بالنسبة‬
‫إلى الثاني فهو املشرف على مراقبة اخلمور وتخزينها وتوزيعها على املستحقني‬
‫من األوروبيني‪ .‬ويف هذا اإلطار نعتقد على ضوء هذا املنع الذي أوردته املصادر‬
‫أن جتارة اخلمور أصبحت حتت املراقبة‬ ‫اإلخبارية وأكدته الوثائق األرشيفية‪ّ 16‬‬
‫املش ّددة وحصر استهالكها املعترف به يف «النصارى» دون غيرهم‪.‬‬
‫باالنتقال إلى فترة حمودة باشا (‪ )1814-1782‬ننتقل إلى صورة‬
‫مغايرة للحاكم والظرفية‪ .‬تزامنت فترة حكم حمودة باشا مع انتعاش جديد‬
‫لنشاط القرصنة‪ ،‬وهو ما نتج عنه ضرورة ارتفاع عدد األسرى األوروبيني‪،‬‬
‫وانتعاش الزنداالت ومراكز اإليواء املعدة لهم‪ ،‬بل ميكن التأكيد على عودة‬
‫زنداالت قدمية إلى سالف نشاطها السيما زندالة القرامد‪ ،‬وهي من أشهر‬
‫اخلمارات الزنداالت باحلاضرة لقربها من باب البحر كما أشرنا إلى ذلك‪.‬‬
‫واستعاد االشكربان مكانته إذ لم يقتصر ذكره يف دفع القمرق واملكوس بل‬

‫‪14) PLANTET (E.), correspondances des Beys de Tunis, V 2, p. 556.‬‬


‫‪ )15‬تنص املعاهدات واالتفاقيات املبرمة سواء مع الباب العالي أو مع البايات على منح تراخيص‬
‫يف صناعة اخلل يف دورهم الستهالكهم وهذه البنود جندها تتجدد بتجدد املعاهدات‬
‫واالتفاقيات أنظر‪ :‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬السلسلة التاريخية‪ ،‬ح ‪ ،58‬م ‪ ،636‬وثيقة ‪.70096‬‬
‫‪ )16‬أورد روسو (‪ )Rousseau‬يف حولياته رواية عن أسباب احلملة العسكرية البحرية التي شنتها‬
‫فرنسا على البالد التونسية سنة ‪ 1770‬كون أحد القراصنة وهو سليمان اجلربي ويف إحدى‬
‫حتركاته بحثا عن غنيمة اعترضته سفينة جتارية فرنسية وعلى عادة املراكب البحرية متكن‬
‫الريس من الصعود إلى السفينة الفرنسية لطلب املؤونة حسب ما كان متعارف عليه بني‬
‫بحرية البلدين وامتثل الريس الفرنسي إ ّال أنّ القرصان جتاوز حدود اللياقة وافتك بالقوة‬
‫حاوية خمر مع االعتداء اللفظي على ريس السفينة الفرنسية هذه احلادثة تعللت بها فرنسا‬
‫لشن حملة عسكرية ومحاولة فرض قرارات حول حترير كل الكورسيني من األسر واالعتراف‬
‫بكورسيكا أرضا فرنسية حتترم كما حتترم فرنسا كما طالبت بتعويضات مالية لتمويل هذه‬
‫احلرب مع ضرورة معاقبة الريس التونسي وقد تزامنت هذه األحداث مع قرار الباي مبنع‬
‫اخلمر بالكلية‪ .‬أنظر ‪:‬‬
‫‪ROUSSEAU, Les annales tunisiennes, p. 173.‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪108‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫املتحصلني على إحسانات الباي‪ ،‬وذلك طبعا ملا قدمه له‬


‫ّ‬ ‫جنده كذلك يف قائمة‬
‫وللقصر‪ .‬كما جند يف أرصدة األرشيف دفترا خاصا مبصاريف إسماعيل باي‬
‫ابن محمد الرشيد باي وشقيق محمود باي (‪ )1824-1814‬يتض ّمن إشارات‬
‫لالستهالك الشخصي ألفراد االسرة احلاكمة للخمور حيث جند بصورة‬
‫أسبوعية «دبوزة روم»‪ 17‬ومصدرها «اخلرداجي»‪ ،‬وهو من التجار اليهود الذين‬
‫لهم حانوتا يف سوق القصر يتكفّل بتوفير البضائع الثمينة املستوردة من أوروبا‬
‫الس ْكر على إسماعيل بل اشتهرت سيرة‬ ‫ّ‬
‫املقطر‪ .18‬لم يقتصر ّ‬ ‫ومن بينها الروم‬
‫ّ‬
‫الباي حمودة باشا نفسه بكونه سكيرا بصيغة املبالغة‪ ،‬حيث تذهب مراسالت‬
‫القناصل إلى ح ّد القول أ ّنه يسكر يوميا‪ ،‬كما تشير املصاريف اليومية للقصر إلى‬
‫استهالك التكروري والدخان وتع ّدد اخلدم املختصني بذلك يف طاقم اخلدمات‬
‫إن سياسة املنع‬‫داخل القصر ومن بينهم قايد السبسي وواردة بيبة (‪ّ .)pippa‬‬
‫التي أق ّرها والد حمودة باشا سرعان ما اندثرت لتح ّل محلّها سياسة انفتاح‬
‫تفسر كذلك مبا‬
‫وإنا ّ‬‫واسعة قد ال تكون وليدة ميوالت الباي وحاشيته فحسب ّ‬
‫أشرنا إليه من ارتفاع عدد أسرى القرصنة وتزايد احتياجاتهم من اخلمور‪،‬‬
‫هذا فضال عن العامل االقتصادي الذي ّ‬
‫متخض عنه ارتفاع املعامالت التجارية‬
‫وعدد التجار واجلالية األوروبية‪ .19‬كانت هذه احلركية اجلديدة وراء استعادة‬
‫اخلمر مكانتها يف التصنيع واالستهالك واجلباية وتواصل هذا النشاط بعد‬
‫حمودة باشا وهو ما جنده يف دفاتر اجلباية يف بعض احلاالت حتت غطاء‬
‫نشاط الوردان باشا واالشكربان أو غطاء قمرق اخلل‪ .‬ويخفي تل ُّمس خطى‬
‫اخلمر يف الواردات التجارية ومكوسها يف احلقيقة انتشار تصنيعها محليا سواء‬
‫من قبل احملليني أو األوروبيني أو اليهود الذين اشتهروا مبقطرات الشريحة‬
‫والزبيب‪ .‬ومن املؤكد وجود هذه النشاطات قبل فترة حسني باي الثاني حتى‬
‫وإن لم نعثر على نصوص تُش ّرع نشاطهم من قبل الدولة‪ ،‬فهناك إشارت يف‬
‫مراسالت القناصل األوروبيني ويف االتفاقيات أو من خالل اإلشارات الواردة يف‬
‫الوثائق األرشيفية التي تد ّون ما كانت تستخلصه الدولة من أداءات مفروضة‬
‫على مثل هذا النشاط‪ .‬كما تؤكد الوثائق وجود تصنيع وصفته باملغشوش‪ .‬ففي‬
‫وثيقة هي عبارة على مشروع لزمة لبعث شركة لصناعة اخلمر بني الدولة ممثلة‬

‫‪ )17‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬دفتر ‪.2254‬‬


‫‪18) MOSTEGHANEMI (M. F.), « Captivité et intégration au sein d’une famille‬‬
‫‪beylicale de Tunis au début du XIXe siècle », Cahiers de la Méditerranée,‬‬
‫‪87, 2013, 335-343.‬‬
‫‪19) SAADAOUI (A.), « Les Européens à Tunis aux XVIIe et XVIIIe siècles »,‬‬
‫‪Cahiers de la Méditerranée, 67, 2003, 61-84.‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪109‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫نصها‬ ‫يف شخص حسني باش مملوك‪ 20‬وأحد األوروبيني‪ ،‬شرح هذا األخير يف ّ‬
‫مبررات اقتراحه لهذه الشركة‪ ،‬واملتمثلة أساسا يف املسألة الصح ّية‪ ،‬إذ إعتاد‬
‫بصحة‬
‫ّ‬ ‫جتار اخلمور إضافة مواد لتقوية مفعولها تتمثل يف «الزنزار» الذي يض ّر‬
‫الشاربني‪ .‬أ ّما الدافع الثاني فيتم ّثل يف محاولة إيقاف النزيف املالي الذي تتك ّبده‬
‫الدولة بتوريد اخلمور األوروبية من جهة ونزيف املنتوجات احمللية املستعملة‬
‫يف إنتاج اخلمور والتي تص ّدر مببالغ زهيدة مقارنة بأسعار اخلمور التي يت ّم‬
‫توريدها‪ .21‬هذا املقترح وما تض ّمنه من شروحات وتبريرات حملاولة اإلقناع تؤ ّكد‬
‫وجود الظاهرة اخلمرية مبراحلها الثالث األساسية وهي الصناعة والتجارة‬
‫ويتدعم هذا التأكيد بوجود العديد من املراسالت بني حسني باي‬ ‫ّ‬ ‫واالستهالك‪.‬‬
‫الثاني (‪ )1835-1824‬وقنصل فرنسا حول املعامالت التجارية اخلاصة بتجارة‬
‫اخلمر اخلاضعة إلى تراخيص ونظم‪ ،‬واإلشكال املطروح من قبل الباي من خالل‬
‫وإنا يف تع ّمد بعض التجار‬ ‫هذه املراسالت ال يتمثل يف جتارة اخلمر يف ذاتها ّ‬
‫مت االتفاق عليها‬ ‫الفرنسيني بيعه بالتفصيل «البوتيليه» خارج الفضاءات التي ّ‬
‫تنص على متكني كل من فرنسا‬ ‫بني بعض القوى األوروبية والباي حسني والتي ّ‬
‫وأنقلترا ومملكة نابولي من فتح «خمسة وعشرون دارا» لكل منها‪ .‬بدأت بالتالي‬
‫البوادر األولى للبحث عن قوانني منظمة لهذا الصنف من املنتوج‪ .‬ويبدو واضحا‬
‫من خالل مختلف املراسالت مواجهة األجهزة اإلدار ّية للدولة التونسية ع ّدة‬
‫مشاكل مرتبطة بالتحوالت يف القوانني املنظمة التي كانت يف أغلبها مسقطة‬
‫على الباي والتي تصطدم على أرض الواقع بالنظم القدمية وقد تتعارض معها‬
‫مما يخلق إشكاليات تنظيمية تفرض بدورها تعديالت‪.‬‬
‫‪ )20‬أنظر ترجمته يف‪ :‬ابن أبي الضياف (أحمد)‪ ،‬إحتاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد‬
‫األمان‪ ،‬حتقيق جلنة من وزارة الشؤون الثقافية‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪ ،‬ج ‪ ،8‬ص ‪.105‬‬
‫‪ )21‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬ح ‪ ،58‬م ‪ ،636‬وثيقة ‪« ،70147‬هذا اتفاق يف لزمة الشراب والعراقي والروم والرسولي‬
‫وجميع االرواح املقطرة مع حضرة سيدي حسني خوجة باش مملوك‪ .‬وبيان ذلك أن مشترا‬
‫الشراب وغيره من األرواح املقطرة يخرج من مملكة تونس ماال عظيما وغير هذا ان الغش‬
‫الذي يغشوا الشراب والروم وغيره فهو يض ّر ضررا ب ّينا للناس الذين يشربوه فاملعروض‬
‫جلنابكم ان تلزّموا صنعة هذه األشياء يف البلد على قلة العنب من الروم والعراقي وغير‬
‫ذلك من األشياء املذكورة التي ال تقدر تنصنع اآلن يف تونس والزم ما جتي من ب ّر اململكة‬
‫وان الدولة تربح بهذه اللزمة كثرة املال الذي هو ضايع اآلن بخروجه من عمالة تونس وتبقى‬
‫على ما هي جميع احلقوق والعوايد التي كانت تندفع قبال على الشراب وغيره وتكون صحة‬
‫الناس مضمونة من األضرار التي حتصل لشاربها كل يوم من غش الشراب ألنهم يجعلوا فيه‬
‫أنواعا من السموم ليقوى به الشراب ويسكر والكن حيث انهم يجعلوا فيه شيئا قليال فال‬
‫تظهر مضرته ساعة التي يشربه اإلنسان الكن ذلك يخلف مع الطولة أمراض املعدة واألمعاء‬
‫واالنقباض يف البطن وأمراض العصب والسفير وغير ذلك من األمراض املتوالدة من اجلنزار‬
‫الذي يجعله الطبرناجية يف الشراب ليرجع قويا»‪.‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪110‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫‪ -II‬التوطني التشريعي آلية من آليات الهيمنة األوروبية‬


‫املنظمة لصناعة وجتارة واستهالك‬ ‫ّ‬ ‫إن النظر إلى تط ّور القوانني‬
‫اخلمر يف تونس خالل القرن التاسع عشر‪ ،‬يفرض علينا وضعه يف سياق تاريخ ّية‬
‫التح ّوالت العا ّمة‪ ،‬وعلى جميع املستويات‪ .‬فإذا كانت جتارة اخلمر مرتبطة‬
‫باالستهالك ورواجه‪ ،‬فذلك يرتبط نظر ّيا بقابل ّية املجتمع للظاهرة‪ .‬فزيادة على‬
‫عدم امتالكنا ّ‬
‫ملؤشرات دقيقة حول الكم ّيات املو ّردة أو املصنّعة محليا‪ 22‬فإ ّننا ال‬
‫منلك مؤشرات حول نسبة االستهالك احمللي من املجموع‪.‬‬
‫أعطت االتفاقيات السياسية والتجارية زمن حسني باي الثاني‬
‫مخصصة لتجارة اخلمر وفق سياسة االمتيازات التي‬ ‫ّ‬ ‫إمكانية فتح محالت‬
‫استفادت منها منذ القرن السابع عشر كل من انقلترا وفرنسا إضافة إلى‬
‫مملكة نابولي يف مبادرة غير مسبوقة‪ .‬لم تشر املصادر إلى مقرات بيع اخلمور‬
‫السابقة على كونها فضاءات موضوعة حتت إدارة وإشراف «النصارى» والتي‬
‫تضع بعضها حتت تسمية «الطبارن» إال أن هذه الطبارن ليست إال الزنداالت‬
‫ومتخصصة فيه‪ .‬فاالتفاقيات التي‬
‫ّ‬ ‫ولم تكن هناك خمارات مع ّدة للغرض‬
‫ابرمها حسني باي هي مرحلة جديدة يف التعامل مع «الظاهرة اخلمرية»‬
‫وذلك يف ارتباط بالتح ّوالت التي بدأت تعرفها البالد التونسية حتت ضغط‬
‫القوى األوروبية التي انتقلت منذ العشرينات من القرن التاسع عشر إلى‬
‫مرحلة جديدة من تاريخها بظهور النتائج األولى للثورة الصناعية التي عمقت‬
‫الفوارق بني الضفة الشمالية واجلنوبية للمتوسط‪ ،‬وجعلت من بعض الدول‬
‫األوروبية مركز القوة العاملية‪ .‬أتت سنة ‪ 1816‬حملة اللورد اكسمونث لردع‬
‫أن هؤالء ورغم حتريرهم‪،‬‬‫القراصنة وفرض قرار حترير أسرى القرصنة إ ّال ّ‬
‫لم يغادر العديد منهم البالد وخ ّيروا البقاء يف ظ ّل حماية القناصل‪ .‬إلى جانب‬
‫هؤالء توافد التجار االوروبيون الذين وجدوا التشجيعات اخلارجية للهيمنة‬
‫على مفاصل احلركة االقتصادية‪ .‬أمام اتساع القاعدة االجتماعية للجاليات‬
‫األوروبية طالبت دولهم بحق رعاياها يف استهالك اخلمور‪ .‬ويف هذا اإلطار‬
‫ُفرضت على حسني باي اتفاقية فتح اخلمارات‪ ،‬لتنطلق مرحلة جديدة من‬
‫التشريعات بخصوص صناعة وجتارة واستهالك اخلمور‪.‬‬
‫يف إطار هذه احلركية اجلديدة للظاهرة اخلمرية وتوسعها وما رافقها‬
‫من غموض على مستوى التشريعات تفاقم تدريجيا ما اعتبر «جتاوزات» من قبل‬

‫‪ )22‬بوجرة (حسني)‪« ،‬الظاهرة اخلمرية»‪ ،‬ص ‪ 61‬وما يليها‪.‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪111‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫السلطة وحقوقا من طرف األوروبيني الذين غالبا ما كانوا يفتعلون اإلشكاالت‬


‫القانونية للتخلص من األداءات أو توجيهها لصاحلهم إذ لم تعد القضية مرتبطة‬
‫بالتحرمي واحللية ّ‬
‫وإنا بالضرائب واحلقوق املالية للتجار والدولة‪ .23‬لقد تسارع‬
‫نسق اخلالفات بني أجهزة ال ّدولة الفت ّية السيما بعد إعالن عهد األمان ‪1857‬‬
‫ومن بعده دستور ‪ 1861‬والقوى األوروبية وما رافق ذلك من تقنني حق األوروبيني‬
‫يف امتالك العقارات وممارسة جميع األنشطة االقتصادية واكتساحهم أغلب‬
‫فضاءات املدينة يف حني لم يكن يسمح لهم قبل القرن التاسع عشر بتجاوز حدود‬
‫الفضاء ا ُ‬
‫حل ّر جوار باب البحر والفنادق املجاورة وذلك باستثناء اليهود فمجالهم‬
‫داخل حارة اليهود باحلفص ّية‪.‬‬
‫توسع حق فتح اخلمارات‬ ‫صاحب هذا احلق يف امللكية والسكنى ّ‬
‫وانتشارها داخل احلاضرة واألرباض‪ .‬وفرضت هذه الوضعية اجلديدة هي‬
‫األخرى مواكبة القوانني لها وهو ما متخضت عنه مجموعة من القرارات تقابلها‬
‫عادة ردود من القناصل حول إجراء أو قانون يتنافى مع السائد‪ 24‬ويف ك ّل‬
‫م ّرة حتاول هذه القوى فرض سياسة األمر الواقع وتفرض امتيازات وتش ّرع‬
‫لها حتى وان كانت على حساب مصالح الدولة اجلبائية‪ .‬فقد رافق غموض‬
‫التعامل غموضا يف القوانني التي حاولت التوفيق بني النظم القدمية والنسق‬
‫السريع للعالقات التجارية والصناعية بني تونس وأوروبا وأشكالها‪ .‬يلحظ هذا‬
‫الغموض يف التشريع تقريبا يف ك ّل املجاالت مبا يف ذلك نظم الدولة وهيكلة‬
‫أجهزتها‪ ،‬التي ُوضعت خطوطها الكبرى استنادا إلى التشريعات والنظم السائدة‬
‫يف بعض الدول األوروبية‪ ،‬السيما فرنسا إلى جانب الدولة العثمانية ومصر‪.25‬‬
‫ميكن إذا أن تكون قضية تقنني صناعة وجتارة اخلمور واستهالكها من مجاالت‬
‫دراسة تطور التشريعات اخلاصة مبرحلة اإلصالحات بالبالد التونسية وتفاعل‬
‫النظم القدمية مع النظم الوافدة لتنتج قوانني مستحدثة خضعت هي األخرى‬
‫إن دراسة هذه القوانني بتشكلها وتغييراتها‬
‫إلى التحويرات وفق موازين القوى‪ّ .‬‬
‫املتوالية ينير مجاالت من مظاهر اإلصالح وعوائق تنفيذه كما حتمل يف عمقها‬
‫‪ )23‬أنظر اغلب الوثائق يف‪ :‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬السلسلة التاريخية‪ ،‬ح ‪ ،58‬م ‪.636‬‬
‫‪ )24‬أنظر‪ :‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬ح ‪ ،58‬م ‪ ،636‬وثيقة ‪« 70145‬مكتوب من قنصل الفرنسيس مؤرخ يف ‪ 17‬افريل‬
‫سنة ‪ 18( 1835‬ذي احلجة ‪ 1250‬هـ) للمشير األول يتضمن التشكي من كثرة احملالت املباع‬
‫بها اخلمر بالتقدير الضريف (البوتيلية) وطلب العمل مبا تضمنه املكتوب أعاله وان ال يغصب‬
‫رعايا دولته عن األداء املرتب عن الترخيص لهم وتخصيصهم بالبيع مبا ذكر حتى يتم االتفاق‬
‫املشار إليه أعاله مع طلب تسريح اخلمر املعرقل لرعاياه والتسجيل على الدولة مبا ينشأ عن‬
‫التعرقيل من اخلساير»‪.‬‬
‫‪ )25‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬ح ‪ ،72‬م ‪ 850‬حول صياغة القانون التجاري التونسي سنة ‪.1863-1862‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪112‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫البذور األولى للسياسة االستعمارية وتدرجها نحو معاهدة احلماية‪ .‬فقد كانت‬
‫القوى األوروبية تفرض ما ميكن أن يحمي رعاياها ويس ّهل هيمنتهم على احلياة‬
‫يتمخض عن ذلك من إشكاليات‪ ،‬تر ّدها إلى الدولة التونسية‬‫ّ‬ ‫االقتصادية‪ ،‬وما‬
‫التي حاولت مجاراة التحوالت واستحداث القوانني التي تضمن حقوقها اجلبائية‪.‬‬
‫املوظفة على صنع اخلمور‬‫ّ‬ ‫كما حاولت االعتماد على معايير جديدة لألداءات‬
‫وجتارتها ومجاالت األنشطة األخرى ومن أهمها مبادرة محمد الصادق باي إ ّبان‬
‫منظم مستمد من التجاذبات‬ ‫السلطة‪ .‬ففي سنة ‪ 1860‬بادر بوضع قانون ّ‬ ‫تقلّده ّ‬
‫املسجلة منذ بداية التشريع للظاهرة اخلمرية السيما املسألة اجلبائية حاول فيه‬
‫ّ‬
‫وضع «ثوابت» تبنى عليها بقية التشريعات أو التحويرات ‪.‬‬
‫‪26‬‬

‫نالحظ من خالل قائمة املصطلحات املستعملة يف الوثائق اجلبائية‬


‫أن أهم ما ميكن استنتاجه من هذه التجاذبات الواقعة منذ فرض فتح مقاهي‬ ‫ّ‬
‫وخمارات خاصة باألوروبيني فيما بني ‪ 1829-1824‬وصوال إلى قرارات محمد‬
‫الصادق باي وتشريعات مؤسسات ال ّدولة اجلديدة بعد ظهور الوزارات والقوانني‬
‫املبن ّية على دستور عهد األمان هو التد ّرج نحو االنفتاح‪ .‬فقد كانت البدايات‬
‫محتشمة حاول من خاللها البايات التستّر على تشريعهم لتجارة اخلمر‬
‫فاستعملوا «قمرق اخلل» للتغطية إذ اخلل من املواد االستهالكية ال ّدارجة يف‬
‫املطبخ التونسي وجند آثاره يف مختلف الدفاتر تلك الراجعة إلى بدايات القرن‬
‫الثامن عشر حتى خالل الفترات التي وقع فيها منع اخلمر زمن علي باي بن‬
‫حسني (‪ )1782-1759‬بقيت صناعة اخلل وجتارته نافقتني وجند يف قائمة املواد‬
‫الغذائية املوزّعة على عائالت البايات نصيبها من اخل ّل‪ .‬حاول اذا حسني باي‬

‫‪« )26‬احلمد هلل هذا تقرير ترتيب يف دخول أنواع املشروبات وبيعها بساير عمالتنا بعد متام‬
‫ملتزمها اآلن‪.‬‬
‫ األول‪ :‬أن جميع أنواع االشربة ال تهبط يف ساير عمالتنا إال بإذن مخصوص يعني التذكرة‬
‫املبني فيها املقدار والنوع يطلب ذلك املأمور مبباشرة ما ذكر‪.‬‬
‫ الثاني‪ :‬أنّ األداء على املشروبات بساير أنواعها يكون قمرق كساير أنواع السلع التي تأتي من‬
‫خارج العمالة واحملل املعد لوضع ذلك اآلن على وجه اإليقاف يبطل‪.‬‬
‫ الثالث‪ :‬أن تذاكر تسريح املونات تبطل على كل أحد‪.‬‬
‫ ‪ ...‬ويلزم من يتس ّرح أن يؤ ّدي سراح الطبرنة خمسة عشر ماية ريال يف كل عام وسراح القهوة‬
‫ألف ريال يف كل عام وسراح املخزن سبعماية ريال وكيفية دفع ذلك يكون على أربع كرات يف‬
‫مدة العام كل كرة مسبقة على ثالثة أشهر على شرط أن تكون تلك القهاوي والطبارن حتت‬
‫نظر املأمورين بأحكام البالد ومن خالف القانون أو خرق عادة أو تأخر عن دفع ما يلزمه‬
‫يف وقته فانه يبطل من بيع ذلك ويغلق محله وال يتسامح ألحد كاينا من كان يف بيع ما ذكر‬
‫من غير تسريح مخصوص من املأمور على الوجه املذكور ومن خالف يجري عليه احلكم من‬
‫قنصل جنسه»‪ .‬نفس املصدر‪ ،‬وثيقة ‪.70144‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪113‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫عند اتفاقه على فتح اخلمارات املوازنة بني املباح واحمل ّرم فوضع اخلمر يف خانة‬
‫اخل ّل والسبيريتو‪ .‬كما وضع نسبة من املق ّرات املع ّدة لذلك حتت غطاء ال ّدور‬
‫أو احملالت املباع بها اخلمر بالتقدير الظريف (البوتيلية)‪ 27‬أو املقاهي التي لها‬
‫تعريفها السائد محليا‪ ،‬يف حني أ ّنها قد حتمل معنى اخل ّمارة يف املصطلحات‬
‫األوروبية السيما الفرنسية‪ ،‬ومن هنا أدخل صنف جديد من احملالت املقاهي‬
‫اخلمارات (‪ Bistrot‬أو ‪ )Café Bar‬مع اإلشارة إلى أن املصطلح املتعارف عليه‬
‫ملثل هذه احملالت إما اخلمارت بصورة مباشرة أو «طبرنة» وجمعها «طبارن» أو‬
‫وبتوسع النشاطات بدأت‬
‫ّ‬ ‫«طبرنات» وهي كلمة مشتقة من الالتينية (‪.)Taberna‬‬
‫توسع من التصنيفات اخلاصة بأنواع املشروبات الكحولية «قمرق اخلل‬ ‫الوثائق ّ‬
‫ّ‬
‫والشراب والعصير وساير املقطرات من أنواع املسكرات» وكذلك «الشراب‬
‫‪28‬‬

‫والعراقي وال ّروم والرسولي وجميع األرواح املقطرة»‪ 29‬وكذلك «قمرق اخلل‬
‫والشراب والعصير وساير املقطرات من أنواع املسكرات»‪ ،30‬هذا إلى جانب‬
‫املنتوج احمللي الشهير بالبوخة (مقطرات التني) والالقمي (مقطرات النخيل)‪.‬‬
‫وقد نقرأ من خالل تنويع مصطلحات أنواع املشروبات‪ ،‬حتى وان استمدت‬
‫من القاموس احلضاري العربي اإلسالمي‪ ،‬االرتباك احلاصل لدى األجهزة‬
‫اإلدارية املعن ّية بذلك من جهة والتدفق الهام ملختلف أنواع اخلمور من جهة‬
‫ثانية‪ ،‬ومن ورائها تن ّوع مصطلحات قاموس أنواع اخلمور وفضاءاتها إلى جانب‬
‫املوروث منها‪ .‬من زاوية أخرى‪ ،‬هناك تنوع أصناف املكاييل التي وان كان بعضها‬
‫قدمي إ ّال أ ّنه عرف حت ّوالت يف معاييره يف أوروبا ذاتها على غرار «البتية»‬
‫و«امليزرولة» و«البوتيلية»‪ ،31‬التي حتتاج إلى نصوص قانونية تش ّرع استعمالها‪،‬‬
‫وتنظيرها باملكاييل واملوازين السائدة بالبالد‪ .‬ويرتبط حتديد قيمة االداءات‬
‫وتوظيف الضرائب بتحديد املكاييل واملوازين‪ ،‬لذلك كثيرا ما جند ارتباطا بني‬
‫حتديد املكاييل وحتديد االداءات‪ .‬كما قد يعني حضور املكلفني مبراقبة القمارق‬
‫واللزامة بطريقة أو بأخرى حضور األطراف احملل ّية التي أصبحت مشاركة يف‬
‫دواليب النشاط‪ .‬لذا كان من الضروري تقنني هذه العالقات‪ ،‬ووضع النظم‬
‫الكفيلة بضمان حقوق امللتزم وال ّدولة‪ .‬فالتعريف باملكاييل واملوازين حتمي جتاه‬
‫تدفق سيل املصطلحات اجلديدة وغيرها‪ .‬أمام هذا التشتت‪ ،‬تأرجحت قرارات‬
‫الدولة يف حتديد معايير وضع االداءات فتارة تعتمد املكاييل وتارة أخرى تعتمد‬
‫‪ )27‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬ح ‪ ،58‬م ‪ ،636‬وثيقة ‪.70145‬‬
‫‪ )28‬نفس املصدر‪ ،‬وثيقة ‪.70098‬‬
‫‪ )29‬نفس املصدر‪ ،‬وثيقة وثيقة ‪.70147‬‬
‫‪ )30‬نفس املصدر‪ ،‬وثيقة ‪.70097‬‬
‫‪ )31‬أنظر بوجرة‪« ،‬الظاهرة اخلمرية»‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص ‪ 63‬وما يليها‪.‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪114‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫املقرات أو قيمة مالية ثابتة أو نسبة مئوية من البضاعة‪ ،‬وهو ما أدى يف أغلب‬
‫احلاالت إلى توتر يف العالقات مع القوى األوروبية‪ ،‬عبر قناصلها‪ ،‬إلى جانب‬
‫رعاياها‪ ،‬الذين سعت من خاللهم إلى فرض قوانني كرست هيمنة هذه القوى‪.‬‬
‫تواصل مشروع التوطني القانوني لصناعة اخلمر وجتارتها واستهالكها إلى ما‬
‫بعد معاهدة احلماية‪ ،‬حيث أخذت السلط االستعمارية يف فرض قوانينها‪ ،‬يف‬
‫العديد من املجاالت‪ ،‬فوحدت املكاييل واملوازين‪ ،‬وقننت جتارة اخلمور‪ ،‬ونظمت‬
‫رخص فتحها وفضاءاتها‪ ،‬ومحدداتها‪ ،‬كما فرضت قانون منع فتح اخلمارات‬
‫بجانب دور العبادة وذلك سنة ‪ 1906‬والذي يعتبر مرحلة هامة من تاريخ الصراع‬
‫حول تقنني اخلمر ومتعلقاتها‪.‬‬
‫حاولنا يف العنصر السابق أبراز مشكلة التوطني القانوني لصنع‬
‫اخلمر وجتارته واستهالكه‪ .‬وقد حاولنا إرجاء احلديث عن التوطني املجالي‬
‫للظاهرة إلى عنصر خاص رغم كونه م ّثل محور التوتّرات التي سادت بالبالد‬
‫منذ اتفاقيات فتح املقاهي والدور واملخازن املع ّدة لتجارة اخلمر يف أواخر‬
‫العشرينيات من القرن التاسع عشر والتي تفاقمت بتفاقم الظاهرة وخروجها‬
‫إلى مختلف مدن البالد السيما الساحلية منها حيث تركزت جاليات أوروبية‬
‫جديدة ارتبط قدومها بالقوانني اجلديدة واالنفتاح الواسع على أوروبا بعد‬
‫اإلعالن عن دستور ‪.1861‬‬
‫ال ميكن فهم احليثيات التي م ّر بها تركيز اخلمارات بالبالد التونسية‬
‫حف به من تفاعالت بني العديد من األطراف التي جتاوز املستوى السياسي‬ ‫وما ّ‬
‫واإلداري والتنظيمي إلى املستوى االجتماعي وحراكه دون العودة إلى تط ّور‬
‫عالقات البالد اخلارجية وانفتاحها السريع على املجتمعات األوروبية عبر‬
‫السلطة يف تونس‬ ‫قناصلها وجتارها ومستثمريها الذين بادروا بالضغط على ّ‬
‫وفرض العديد من االمتيازات غير امتيازات مركنتيلية القرن السابع عشر‬
‫وإمنا امتيازات الهيمنة الرأسمالية الصناعية وسياستها االستعمارية‪ .‬كان‬
‫الضغط الذي فرض على حسني باي اثر أزمة الزيوت التي كانت نتيجة لسياسة‬
‫اإلسراف التي مارسها حسني خوجة باش مملوك‪ .32‬ورغم جناح شاكير صاحب‬
‫الطابع يف إنقاذ التدهور السريع للوضع ومت ّكنه من إيقاف نسق التداين‪ ،‬إال أن‬
‫الظرفية كانت مواتية لفرض اتفاقيات جتارة اخلمور التي أشرنا إليها سابقا‬
‫‪ ) 32‬ابن أبي الضياف‪ ،‬اإلحتاف‪ ،‬ج ‪ ،8‬ص ‪« .106‬وسار يف ميادين السرف‪ ،‬وأعانه على ذلك‬
‫اختصاص الدولة يومئذ بزيوت الساحل‪ ،‬ثم زوحم بالوزير شاكير صاحب الطابع‪ ،‬ملا توقفت‬
‫الدولة بسبب السرف يف الترف‪ ،‬و ُع ّذ ذلك من سوء تدبيره وهو عبد مأمور حسبه تنفيذ‬
‫األمور»‪.‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪115‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫صحبة جملة من األوامر التي لم يكن أمام السلطة احلاكمة ر ّدها‪ِ ،‬لَا أصبحت‬
‫عليه البالد من وهن ومن وضعية حرجة مهددة ألمنها واستقرارها بعد احتالل‬
‫اجلزائر سنة ‪ .1830‬بعد ابرام االتفاقية بدت للعيان التجاوزات التي حتمتها‬
‫هذه الظرفية‪ ،‬فقد استغل األوروبيون «السراحات»‪ 33‬وشعورهم بضعف الدولة‬
‫ليمارسوا كل أشكال التجاوزات التي لم تقيدها يف احلقيقة االتفاقيات التي‬
‫نصت فقط على متكني جاليات األنقليز والفرنسيني والنابلطان من فتح دور‬
‫إن االتفاقات األولى التي بدأت عمليا خالل فترة حكم‬ ‫ومقاهي لتجارة اخلمر‪ّ .‬‬
‫حسني باي الثاني ‪ 1835-1824‬وبإشراف شاكير صاحب الطابع وضعت شروطا‬
‫لعدد املقاهي والطبرنات املزمع فتحها يف مدينة تونس وكيفية توزيعها‪ ،‬جملة‬
‫(امليزرولة والبتية والبرميل) وتفصيال (بالبوتيلية)‪ .‬ولتطبيق هذه االتفاق كانت‬
‫هناك عملية انفتاح سابقة تعطي لألوروبيني حق تسويغ العقارات داخل احلاضرة‬
‫غيرأن هذه الدور‬
‫ّ‬ ‫واستعمالها يف التجارة وذلك حتى قبل صدور عهد األمان‪.‬‬
‫ظلّت محصورة يف املجال إذ متتد بني املنطقة احلرة حول فنادق األوربيني وحارة‬
‫نصت االتفاقيات على أعداد‬ ‫اليهود وسوق القرانة‪ ،‬إضافة إلى حلق الوادي‪ّ .‬‬
‫محددة لكن وبسرعة أصبح من الصعب حصر العدد‪ ،‬نتيجة التساع نشاط هذا‬
‫الصنف من التجارة‪ ،‬وإسناد تصاريح جديدة‪ِ ،‬لا تد ّره على خزينة ال ّدولة من‬
‫مداخيل‪ ،‬أو كذلك للتجاوزات العديدة التي دونتها املراسالت الرسمية‪ .‬لقد‬
‫ُح ّدد عدد الدور واملقاهي يف أول اتفاق بني ثالث دول وهي بريطانيا وفرنسا‬
‫ونابولي بـ ‪ 25‬لك ّل منها إ ّال أ ّنه سرعان ما تزايد العدد بشكل كبير‪ .‬فعلى سبيل‬
‫املثال أصبح عدد اخلمارات بأصنافه املسندة لرعايا بريطانيا ‪ 59‬محال منها‬
‫‪ 48‬باحلاضرة و‪ 10‬محالت بحلق الوادي‪ .‬كما يرجع ارتفاع العدد إلى إسناد‬
‫تراخيص لدول أخرى للمشاركة يف هذا الصنف من التجارة‪ ،‬على سبيل املثال‬
‫اعترضت دولة الصاردو على سياسة احملاباة‪ ،‬واإلقصاء املتع ّمد لدولتهم يف‬
‫هذا املجال‪ ،‬وكان ر ّد الباي يف قوله «وذكرت لنا أ ّنك مازلت طالبا أن تكون‬
‫أن جميع‬ ‫رعية السردانيني مثل رعايا أحبابنا الدول وقد ذكرنا لكم قبل هذا ّ‬
‫وإنا حكمنا بعدد مخصوص من‬ ‫رعايا أحبابنا الدول سواء عندنا يف املعاملة ّ‬
‫القهاوي والديار لبيع ما ذكر يف البالد ال زايد على ذلك وال علينا يف البايع من‬
‫أي جنس والك ّل سواء»‪ .34‬لقد حت ّول فتح املقاهي واخلمارات من قضية جتارية‬
‫إلى قضية سياسية‪ ،‬زايدت عليها الدول التي فرضت الظرفية ضرورة الدخول‬
‫معها يف معاهدات وفتح السوق أمام رعاياها‪ ،‬بل عملت على احتالل مكانة‬
‫‪ )33‬هو املصطلح املستعمل خالل الفترات السابقة وتواصل استعمالها يف القرن التاسع عشر‬
‫ومعناها‪ ،‬تراخيص التصدير والتوريد‪.‬‬
‫‪ )34‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬السلسلة التاريخية‪ ،‬ح ‪ ،58‬م ‪ ،636‬وثيقة ‪.70079‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪116‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫يف السوق التونسية ومن بينها دولة الصاردو‪ .‬يبدو من خالل تسارع نسق فتح‬
‫اخلمارات ومبا يف ذلك من عشوائية أن هذه التجارة لقيت رواجا هاما وذلك‬
‫التساع قاعدة املستهلكني الذين ال نعتقد أنها اقتصرت على اجلاليات األوروبية‪.‬‬
‫فتحت اخلمارات‪ ،‬يف مستهل االنفتاح على هذه التجارة وتقنينها‪ ،‬يف الفضاءات‬
‫التي عرفت بها يف الفترات السابقة وهي املجاورة للمنطقة احلرة‪ ،‬عموما حتى‬
‫غير املرخص لها لم تكن بعيدة حيث بقيت يف نفس احمليط تقريبا‪ .‬يف مراسلة‬
‫من محمد باي إلى قناصل األوروبيني بتونس مؤ ّرخة يف موفى رمضان ‪ 1271‬هـ‬
‫‪ 16 /‬جويلية ‪ ،1855‬قدم الباي صورة الوضع الذي أصبح عليه فتح اخلمارات‬
‫يف تونس «أما بعد فان األماكن التي تباع فيها اخلمر والسبيريتو بتونس وحلق‬
‫الوادي كثرت ووقعت يف غير األماكن املناسبة بحيث يخشى من كثرتها الضرر‬
‫وقد وقع‪ .‬فلزم واحلالة هذه أن نتمم ما يف اإلعالم السابق بترتيب أداء على‬
‫الديار والقهاوي واملخازن املعدة لبيع ذلك يدفعه البايع كل شهر ويأخذ تسريحا‬
‫من املأمور ليبيع‪ .‬وال يبيع أحد شيئا من ذلك بغير تسريح وقد أمرنا بذلك‬
‫احملترم الكولير باولوا طابيه واكتفينا به يف هذه اخلدمة فاملراد أن تنبه على‬
‫من هو لنظركم بذلك ونطلب إعانتكم ملن كلفناه‪ .‬هذه اخلدمة كما هو الشأن يف‬
‫املصلحة ودمتم يف أمن اهلل وكتب يف موفى رمضان سنة ‪ 1271‬هـ ‪ 16 /‬جويلية‬
‫‪ 1855‬م»‪ .35‬تشير هذه املراسلة إلى هذا االنتشار الكبير حملالت بيع اخلمور‬
‫بأصنافها وبصور عشوائية‪ ،‬وتعلل الباي بهذه العشوائية وبدافع حماية دافعي‬
‫الضرائب منهم‪ ،‬بتوظيف ضريبة شهرية من خاللها جبر اجلميع على دفع األداء‬
‫ليظهر وكأ ّنه يحارب املنافسة غير القانونية‪ .‬املهم بالنسبة إلينا ّ‬
‫أن هذا االنتشار‬
‫مت بنسق متسارع ويف جميع االجتاهات سواء داخل احلاضرة أو يف دواخل‬ ‫ّ‬
‫البالد وقد حاولنا استخراج عدد احملالت اخلاصة برعايا األنقليز يف إحصائني‬
‫متباعدين بالنسبة إلى احلاضرة وحلق الوادي‪ .‬ففي اإلحصاء األول الذي يعود‬
‫إلى ثالثينات القرن يف بداية فتح سوق اخلمور والثاني سنة ‪ ،1852‬م ّر العدد‬
‫من ‪ 25‬إلى ‪ 59‬محال‪ .‬ولقد وضعنا اإلحصاءين يف جدول ولم نحاول ترجمة‬
‫اإلحصاء الثاني الذي جاء باللغة االيطالية السيما بالنسبة إلى تصنيف محالت‬
‫بيع اخلمر وتركناها على حالها ليتبني القارئ تنوع األصناف مقارنة بالقاموس‬
‫املعتمد يف التصنيف احمللي‪.‬‬

‫‪ )35‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬السلسلة التاريخية‪ ،‬ح ‪ ،58‬م ‪ ،636‬وثيقة ‪.70079‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪117‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪118‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫جدول محالت بيع اخلمر رعايا بريطانيا بني ‪1852-1832‬‬


‫إحصاء ‪1852‬‬ ‫السنوات ‪1832‬‬
‫مكان احملل‬ ‫نوع احملل‬
‫‪Tunis sabat el melh‬‬ ‫‪Taverna‬‬ ‫ماجوري بالطويلة حانوت‬ ‫‪.1‬‬
‫قرب حانوت باش حانبة‬
‫‪Tunis Kremed‬‬ ‫‪Caffé‬‬ ‫زوزاب باملكان حانوت‬ ‫‪.2‬‬
‫‪Tunis Zanket‬‬ ‫‪el Caffé‬‬ ‫لويز حانوت قرب السيدة‬ ‫‪.3‬‬
‫‪bramlia‬‬ ‫تونس‬
‫‪Tunis Sidy abdallah Taverna‬‬ ‫كارلوا حانوت باملكان‬ ‫‪.4‬‬
‫‪ghech‬‬
‫‪Tunis Jebbana‬‬ ‫‪Taverna‬‬ ‫باولوا مخزن بالبوالة‬ ‫‪.5‬‬
‫‪Tunis Drina‬‬ ‫‪Taverna‬‬ ‫مخزن‬ ‫قسمطني‬ ‫‪.6‬‬
‫باحلفصية‬
‫‪Tunis Sori beb el Taverna‬‬ ‫سكوا مخزن باملكان‬ ‫‪.7‬‬
‫‪bahar‬‬
‫‪Tunis El hafsia‬‬ ‫‪Taverna‬‬ ‫‪ .8‬املذكور مخزن باملكان‬
‫‪Tunis Cramed‬‬ ‫‪Taverna‬‬ ‫‪ .9‬باولوا فندق الصفاقسية‬
‫جتاه سيدي بومنديل‬
‫‪Tunis Kantra‬‬ ‫‪Taverna‬‬ ‫‪ .10‬كريست مخزن مجاور‬
‫للفندق املذكور‬
‫‪Tunis Tnouri bab el‬‬ ‫‪Taverna‬‬ ‫‪ .11‬كستانيا مخزن باملكان‬
‫‪bahar‬‬
‫‪Tunis‬‬ ‫‪Rimpetto‬‬ ‫‪Bottiga di liquori e‬‬ ‫‪ .12‬زوزاب فندق البركة‬
‫‪la‬‬ ‫‪casa‬‬ ‫‪signori‬‬ ‫‪spiriti‬‬
‫‪santillana‬‬
‫‪Tunis Zaouya el‬‬ ‫‪Bottiga di liquori e‬‬ ‫‪ .13‬سيمنوا باملكان‬
‫‪bukria‬‬ ‫‪spiriti‬‬
‫‪Tunis Bab sidi‬‬ ‫‪Bottiga di liquori e‬‬ ‫‪ .14‬انتون بفندق العربية‬
‫‪abdessalam‬‬ ‫‪spiriti‬‬
‫‪Tunis Fiuori beb el‬‬ ‫‪Bottiga di liquori e‬‬ ‫‪ .15‬زوزاب بوحلية باملكان‬
‫‪bhar‬‬ ‫‪spiriti‬‬
‫‪Tunis Drina beb‬‬ ‫‪Taverna‬‬ ‫‪ .16‬لويز باملكان‬
‫‪cartagena‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪119‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫ تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬:‫ وتوطينها القانوني واملجالي‬،‫حترير جتارة اخلمر‬

Tunis Fuori beb el Bettola e taverna ‫اندريه فندق السكاجني‬ .17


bhar
Founduk el berka Bottiga di liquori e ‫قرب‬ ‫زوزاب قهوة‬ .18
spiriti ‫السبيطار‬
Tunis Foundouk Bottiga di liquori e ‫منويل قهوة قرب سيدي‬ .19
sfax spiriti ‫املرجاني‬
Tunis Fuori bab Bottiga di liquori e ‫ماجوري بالطويلة حانوت‬ .20
Cartagena spiriti ‫قرب حانوت باش حانبة‬
Tunis Sidi Bottiga di liquori e ‫زوزاب باملكان حانوت‬ .21
abdessalam spiriti
Tunis Foundouk Bottiga di liquori e ‫لويز حانوت قرب السيدة‬ .22
[arisia[ spiriti ‫تونس‬
Tunis Souk el grieba Bottiga di liquori e ‫ كارلوا حانوت باملكان‬.23
spiriti
Tunis Dar atafal Taverna ‫ باولوا مخزن بالبوالة‬.24
Tunis Foundouk Bettola e botge ‫مخزن‬ ‫ قسمطني‬.25
ariscia ‫باحلفصية‬
Tunis Al kallalin Bettola e botga .26
Tunis Foundouk Bettola e botga .27
agraba
Tunis Sidi abdallah Taverna .28
ghech
Tunis el cramed Taverna .29
Tunis fonduk el Bottiga di liquori e .30
karma spiriti
Tunis zanchet Taverna .31
Bacicia
Tunis cramed Taverna .32
Tunis vicina beb Taverna .33
cartagena
Tunis vicina beb Taverna .34
cartagena
Tunis Kzedria Taverna .35

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


)138-101 ‫ (ص‬2018 ‫ جويلية‬01 ‫ جوان و‬30 - 29 ،‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‬ 120
‫محمد فوزي املستغامني‬

Tunis decante il Botteglia da caffé .36


conti di Dominecan
Tunis suk el falka Botteglia da caffé .37
Tunis founduk el Bottiga di liquori e .38
barka spiriti
Goletta-cotto il Bottiga di liquori e .39
battione spiriti
Goletta alla piazza Bottiga di liquori e .40
vicino il molo spiriti
Goletta-cotto il Bottiga di liquori e .41
battione spiriti
Tunis alla touila Bottiga di liquori e .42
spiriti
Goletta cabella Bottiga di liquori e .43
spiriti
Goletta nel tuk Bottiga di liquori e .44
spiriti
Goletta vicino la Bottiga di liquori e .45
chiesa latina spiriti
Goletta cabella Bottiga di liquori e .46
spiriti
Goletta vicino Bottiga di liquori e .47
Babhar spiriti
Goletta lotto il Locanda .48
bastione
Goletta vicino la Bottega di liquori .49
cabella
Tunis sulla ]Viogia[ Botteglia da caffé .50
Tunis zanchet Taverna .51
Bacicia
Tunis Bab Cartagena Bottiga di liquori e .52
spiriti
Tunis fuori Beb el Bottiga di liquori e .53
Bhar spiriti

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


121 )138-101 ‫ (ص‬2018 ‫ جويلية‬01 ‫ جوان و‬30 - 29 ،‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫‪Tunis alla clara‬‬ ‫‪Bottiga‬‬ ‫‪di liquori e‬‬ ‫‪.54‬‬


‫‪spiriti‬‬
‫‪Tunis el bevala‬‬ ‫‪Bottiga‬‬ ‫‪di liquori e‬‬ ‫‪.55‬‬
‫‪spiriti‬‬
‫‪Tunis.... de Bori‬‬ ‫‪Bottiga‬‬ ‫‪di liquori e‬‬ ‫‪.56‬‬
‫‪spiriti‬‬
‫‪Tunis.... de Bori‬‬ ‫‪Bottiga‬‬ ‫‪di liquori e‬‬ ‫‪.57‬‬
‫‪spiriti‬‬
‫‪Tunis borge beb Bottiga‬‬ ‫‪di liquori e‬‬ ‫‪.58‬‬
‫‪sueca‬‬ ‫‪spiriti‬‬
‫‪Tunis borge beb elzir Bottiga‬‬ ‫‪di liquori e‬‬ ‫‪.59‬‬
‫‪spiriti‬‬

‫من خالل اإلحصاء ميكن مالحظة تواصل نشاط أغلب احملالت التي‬
‫فتحت منذ بداية االنفتاح على جتارة اخلمور زمن حسني باي الثاني‪ ،‬وهذا‬
‫التواصل ألكثر من ‪ 20‬سنة دليل على مردودية النشاط وأهميته‪ .‬هذه األهمية‬
‫نقرؤها كذلك من خالل ارتفاع عدد احملالت وانتشارها مبختلف األشكال‬
‫القانونية أو غير القانونية داخل احلاضرة وحلق الوادي دون اعتبار انتشارها يف‬
‫مختلف املناطق الساحلية منها والداخلية‪ .‬يفسر هذا االرتفاع لعدد محالت بيع‬
‫اخلمور‪ ،‬بالظرفية التاريخية‪ ،‬والتح ّوالت السياسية التي عرفتها البالد‪ ،‬وتسارع‬
‫نسق اإلصالحات خاصة بعد إصدار عهد األمان سنة ‪ .1857‬وقد تضمن هذا‬
‫خصصت بشكل مباشر ملسألة‬ ‫األخير على األقل ‪ 5‬بنود من ‪ 11‬املُش ّكلة لنصه‪ّ ،‬‬
‫التجار األجانب‪ ،‬وفتح السوق احمللية أمامهم‪ ،‬ومساواتهم بالتجار التونسيني‪ ،‬مع‬
‫متكينهم من ممارسة جميع أنواع الصناعات‪ ،‬والتمتع بحق امللكية‪ ،36‬وهي البنود‬
‫التي اتفق حول عدم شرعيتها أهل املجلس الشرعي‪ .37‬ودون الدخول يف تفاصيل‬
‫بأن العادة السائدة قبل عهد اإلصالحات أن سكنى النصارى يف‬ ‫املسألة‪ ،‬نذ ّكر ّ‬
‫‪« )36‬العاشرة أن الوافدين على إيالتنا لهم أن يحترفوا بسائر الصنائع واخلدم بشرط أن يتبعوا‬
‫سائر القوانني املرتبة والتي ميكن أن تترتب مثل سائر أهل البالد ال فضل ألحد على آخر‬
‫بعد انفصالنا مع دولهم يف كيفية دخولهم حتت ذلك كما يأتي بيانه احلادية عشر أن الواردين‬
‫على إيالتنا من سائر أتباع الدول لهم أن يشتروا سائر ما ميلك من الدور واألجنة واألرضني‬
‫مثل سائر أهل البالد بشرط أن يتبعوا القوانني املرتبة والتي تترتب من غير امتناع وال فرق‬
‫يف أدنى شيء من قوانني البالد»‪.‬‬
‫‪ )37‬املستغامني (محمد فوزي)‪( ،‬جمع وتقدمي وحتقيق)‪« ،‬موقف أهل املجلس الشرعي من قانون‬
‫عهد األمان ‪ ،»1857‬مجلة الفكر اجلديد‪ ،‬العددين ‪ 7‬و‪ ،8‬جويلية وأكتوبر ‪.2016‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪122‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫احلاضرة‪ ،‬ال تكون إال يف احلي املعروف بهم‪ ،‬جوار باب البحر حيث يتاجرون‬
‫يف فنادقهم‪ ،‬أو يف الزنداالت بالنسبة إلى األسرى منهم‪ .‬يف املقابل‪ ،‬يسكن‬
‫اليهود يف احلارة‪ ،‬ويتاجرون يف أسواق احلاضرة مثلهم مثل أهلها من املسلمني‪.‬‬
‫انطالقا من هذه العادة‪ ،‬كان الفضاء السكني عامة بعيدا عن تأثيرات جتارة‬
‫اخلمور وحتى التي كان يتعاطاها العساكر من الترك‪ ،‬تر ّكزت يف املجال املمت ّد‬
‫من القصبة إلى باب البنات يف حني منع البايات احلسينيون بعض اخلمارات‬
‫املنتشرة وسط األحياء‪ .‬والغاية من إبعاد اخلمارات عن مراكز السكن‪ ،‬درء‬
‫التجاوزات التي تصدر عن املخمورين مثل ما أشارت إليها كتب الرحالة الذين‬
‫ع ّبروا عن مدى تخ ّوف األوروبيني من إمكانية اعتراضهم من قبل هؤالء الترك‬
‫املخمورين‪.38‬‬
‫مع االنفتاح على حر ّية التجارة مع األوروبيني‪ ،‬كان االنفتاح على جتارة‬
‫اخلمور ثم صناعتها وترويجها وكل هذه املراحل وجدت يف عهد األمان مالذها‬
‫لتنتشر يف مختلف أرجاء املدينة متس ّببة يف العديد من الشكاوى‪ ،‬وهو ما دفع‬
‫مبحمد الصادق باي‪ ،‬مبجرد وصوله إلى السلطة‪ ،‬إلى توجيه مراسالت إلى‬
‫قناصل الدول األوروبية يحدد فيها التراتيب اجلديدة املنظمة لتجارة اخلمر‬
‫نص الفصل الثامن منها‬‫واملقطرات‪ .‬جاء القانون املنظم اجلديد يف ‪ 11‬فصال‪ّ ،‬‬
‫«أن األماكن املفتوحة‪ ،‬إذا ظهرت مض ّرتها‪ ،‬أو عدم مناسبتها للموضع‪ ،‬متنع‬‫على ّ‬
‫الت‪ ،‬وذلك «بعد‬‫من بيع ما ذكر‪ .‬كما ح ّدد الفصل العاشر‪ ،‬توقيت غلق احمل ّ‬
‫العسة»‪.39‬‬
‫العشاء عند خروج ّ‬
‫أصبحت بالتالي هناك مشاكل فعلية بني الدولة ورعايا الدول األوروبية‬
‫املشتغلني مبجال اخلمر وجتاوزاتهم يف التوطن يف املجال من جهة‪ ،‬وبني هؤالء‬
‫التجار واألهالي من جهة ثانية‪ .‬وحتت فعل الشكاوى وتفاقم عددها كانت‬
‫القرارات‪ ،‬وتعديلها‪ ،‬واملراسالت بني السلطة السياسية والقناصل األوروبيني‬
‫فض النزاعات وتعديل القرارات وحتديد مسؤوليات ك ّل األطراف‪.‬‬ ‫حول ّ‬
‫سجلنا حسب الوثائق ارتفاع عدد الشكاوى‪ ،‬يف أواخر اخلمسينات‬
‫وبداية الستينات يف احلاضرة‪ ،‬ثم شملت العديد من املدن األخرى لتتخذ املسألة‬
‫صفة الظاهرة ورغم ذلك تبقى لكل منطقة خصوصياتها‪ .‬نذكر على سبيل‬
‫املثال عند فتح األوروبيني خماراتهم األولى بصفاقس وجهت للقناصل األوروبيني‬

‫‪38) MARCEL (J. J.), Histoire de Tunis, précédée d’une description de cette Régence‬‬
‫‪par le docteur Louis Frank , Paris, 1851, p. 73.‬‬
‫‪ )39‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬السلسلة التاريخية‪ ،‬ح ‪ ،58‬م ‪ ،636‬وثيقة ‪.70145‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪123‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫مراسالت تنبههم من خطورة ما يقدم عليه بعض رعاياهم من التوجه إلى‬


‫اخلمارات واخلروج للصيد والعودة املتأخرة التي تعرضهم إلى مخاطر الطريق‪.40‬‬
‫ميكن حصر أسباب االحتجاجات من خالل مختلف هذه الشكاوى‪،‬‬
‫وان كان تركيزنا على احلاضرة أساسا‪ ،‬يف إقالق راحة املتساكنني وفتح‬
‫اخلمارات جوار دور العبادة‪ ،‬وبيع اخلمر دون ترخيص‪ ،‬وبيع اخلمر يف مقرات‬
‫غير مرخصة للغرض‪ ،‬وبث الرعب والهلع بني املتساكنني إلى جانب أسباب‬
‫أخرى‪ .‬كانت اإلجراءات تتمثل يف مراسلة الباي لقنصل التاجر املخالف مبينا‬
‫فيها تفاصيل الوضعية ويطلب منه التدخل لفض النزاع‪ .‬جند يف الغالب ردا من‬
‫القنصل املعني فيستجيب تارة إلى طلب الباي معتبرا الطلب شرعيا ويف حاالت‬
‫أخرى تكون الوضعيات أكثر تش ّعبا ويبقى الوضع على ما هو عليه لفترات قد‬
‫تطول‪ ،‬يعجز خاللها الباي على اتخاذ قرارات صارمة‪.‬‬
‫لقد مثل توطني محالت بيع اخلمر يف املجال داخل احلاضرة موضوع‬
‫جدل فقهي وجدل سياسي واجتماعي بني األطراف الفاعلة واملؤثرة يف بناء‬
‫تصورات جديدة للتهيئة احلضرية وبناء املجتمع ونظمه‪ .‬لم يكن لرجال الدولة‬
‫عند اتخاذهم قرار حترير جتارة اخلمور يف بدايات الثالثينيات تصور واضح‬
‫ملا ميكن أن ينتج عن هذا االنفتاح فكان تفاعل الدولة وقوانينها تدريجيا‬
‫ويف بعض احلاالت اعتباطيا تؤثر فيه الرغبة يف حتسني ما تدره أداءاتها ثم‬
‫عجزها عن ضبط تفرعاتها وانتشارها غير احملسوب‪ ،‬وما يتمخض عنه من‬
‫مشاكل اجتماعية وأمنية وغيرها‪ ،‬لذا كان تفاعلها مع الظاهرة متذبذبا تذبذب‬
‫اخليارات السياسية بر ّمتها‪.‬‬
‫فما هي أهم اإلجراءات التي اتخذتها الدولة إلدارة ظاهرة انتشار‬
‫جتارة اخلمور؟‬

‫‪ -III‬تأثيرات حترير جتارة اخلمور يف ديناميكية مجال مدينة تونس‬


‫انطلق حترير جتارة اخلمور يف بداية الثالثينات‪ ،‬وبدأت تأثيراتها‬
‫تظهر منذ مراحل التأسيس‪ ،‬حيث ظهرت أولى املراسالت القنصلية التي تشير‬
‫إلى وجود جتاوزات‪ .‬مت ّثلت املراسلة يف شكوى قنصل فرنسا من انتشار احلوانيت‬
‫ّ‬
‫املرخص لهم‬ ‫أن االتفاقيات حت ّدد عدد‬
‫التي تبيع اخلمر بـ«البوتيلية» يف حني ّ‬
‫وجنسياتهم يف ذلك‪ .‬إذا تبرز املراسالت األولى‪ ،‬جانبا من القضايا املتجرية‪،‬‬
‫‪ )40‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬السلسلة التاريخية‪ ،‬ح ‪ ،58‬م ‪ ،636‬وثيقة ‪.70068‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪124‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫التي بدأت تنشأ حول جتارة اخلمر‪ ،‬وان كانت مسألة القضايا املتجر ّية‪ ،‬ال‬
‫تُختزل يف هذا النوع من التجارة‪ ،‬بل جندها يف أغلب التجارات‪ .‬لقد كان حترير‬
‫هذا القطاع وفتح السوق التونسية‪ ،‬الهاجس األساسي للقوى األوروبية‪ ،‬فما‬
‫ضغوطاتها على حكام البالد إ ّال من أجل ضمان هذه احلرية‪ ،‬مع رفع وصاية‬
‫احتلت املسألة مكانة ها ّمة يف مشاريع‬ ‫ّ‬ ‫الدولة وإقرار حرية املنافسة‪ .‬لذلك‬
‫أن اجلديد هو‬ ‫املتمخضة عنه‪ .‬إ ّال ّ‬
‫ّ‬ ‫القوانني‪ ،‬بدأ بعهد األمان‪ ،‬وصوال إلى القوانني‬
‫أن القضايا املتجر ّية املرتبطة بتجارة اخلمور ظاهرة جديدة‪ ،‬من حيث أساليب‬ ‫ّ‬
‫العمل والتوزّع يف املجال واالختصاصات يف العمل ونوعية الضرائب وقيمتها‪،‬‬
‫وهي كذلك ظاهرة جديدة من حيث احللول املقترحة‪ .‬فاحللول هي يف األصل‬
‫نظم جديدة تستنبط حسب الظرفية‪ ،‬وموازين القوى‪ ،‬ومكانة املتضرر واملتسبب‬
‫يف الضرر‪ .‬بدأت تظهر بالتالي مسألة قدمية يف جوهرها جديدة يف مرجعيات‬
‫النظر إليها وهي املسألة األمنية‪ .‬لقد أقرت املعاهدات منذ ظهورها يف الفترة‬
‫احلديثة على ضمان أمن رعايا الدول املعاهدة برا وبحرا‪ ،‬فقد نصت باألساس‬
‫على حماية رعايا هذه الدول جتاه تعديات القراصنة وتهديد مصاحلهم لكن إلى‬
‫جانب ذلك هناك تعهد بحمايتهم برا‪ ،‬لكن خالل فترات األزمات كثيرا ما كانت‬
‫قنصليات الدول األوروبية أولى أهداف املراسالت اخلاصة باملسألة األمنية‪.‬‬
‫هناك زاوية جديدة تتمثل يف تطبيق القوانني املنبثقة عن الهياكل‬
‫اإلدارية اجلديدة املنظمة للمجال احلضري واملتمثلة يف بلدية تونس التي تأسست‬
‫يف ‪ 30‬أوت ‪ 1858‬تلتها الضبطية التي عوضت سلطات الداي بعد وفاة آخرهم‬
‫كشك محمد‪ .‬لعبت هذه التحويرات التنظيمية يف تشكيلها مختلف األطراف‬
‫الفاعلة اجتماعيا‪ .‬لقد جعل االنفتاح التجاري واالقتصادي للبالد التونسية على‬
‫مختلف القوى األوروبية وتوافد أصحاب املشاريع والعمال من األوروبيني من‬
‫املسألة األمنية هدف قنصلياتهم وقناصلهم الذين يعملون على ضمان حمايتهم‬
‫من األهالي ومن السلطات احمللية كما أشارت إلى ذلك كل املراسالت املوزعة‬
‫على مختلف امللفات األرشيفية التي تعود للفترة ومنها الوثائق اخلاصة بتجارة‬
‫اخلمور‪.‬‬
‫كتب الباي يف رد على تخوفات قنصلي فرنسا وبريطانيا حول سالمة‬
‫رعاياهما الذين بدؤوا يستقرون حديثا يف جهة صفاقس‪ ،‬أ ّنه أعطى توصياته‬
‫إلى اخلاص والعام «برد البال على النصارى القاطنني بتلك النواحي أل ّنه‬
‫حصل لهم اخلوف» وواصل بانه ق ّدم عرض حال متثل يف ضرورة احترام هؤالء‬
‫النصارى نظم غلق أبواب املدينة وتوقيتها‪ .‬وتشير املراسلة بأ ّنهم كانوا يعمدون‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪125‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫إلى اخلروج للصيد والسكر والعودة متأخرين ومعربدين يف الشوارع وبالتالي‬


‫«فاملراد [من قناصلهم] أن تنبه عليهم فيتحفظون على أنفسهم وال يدورون إ ّال‬
‫يف األوقات املعتادة فيها اخلروج لهم ولغيرهم ‪ 13‬ذي احلجة ‪ 1243‬هـ ‪26 /‬‬
‫جوان ‪ 1828‬م»‪ .41‬كانت هذه أولى املراسالت املتعلقة مبحاولة ضبط حتركات‬
‫األوروبيني بعد حترير جتارة اخلمور‪ .‬مت االعتماد على القوانني السائدة حول‬
‫تنظيم احلياة الليلية للمدينة‪ ،‬وقد اخترنا مثال مدينة صفاقس لنلمح الى انتشار‬
‫الظاهرة اخلمرية حتى يف املدن املعروفة مبحافظتها‪ .‬أما بالنسبة إلى احلاضرة‬
‫فالتفاعالت االجتماعية كانت مبكرة واتخذت نفس التمشي باالعتماد على‬
‫السائد من النظم التي لم تعد قادرة على التأقلم مع الواقع اجلديد يف تلك الفترة‬
‫املبكرة من بدايات التفاعل بني اجلاليات االوروبية واملجتمع احمللي‪ .‬كما نشير‬
‫الى ان العالقة بني النصارى وأهل احلاضرة‪ ،‬هي عالقة قدمية‪ .‬فللنصارى منذ‬
‫توسعت يف عدة اجتاهات السيما يف اجتاه حارة اليهود‬ ‫قرون‪ ،‬فضاءات للتح ّرك‪ّ ،‬‬
‫يف البداية‪ .‬وقد ارتبط هذا االستقرار وتوسعه يف املجال بديناميكية العالقة بني‬
‫احلركية االقتصادية والتسرب الرأسمالي األوروبي والتوافد املستمر للعناصر‬
‫األوروبية التي كثيرا ما أشارت إليها الوثائق األرشيفية‪ .‬لقد ركزت العديد من‬
‫املراسالت على التدفق الكبير لألوروبيني والسيما غير الشرعيني منهم ونبهت‬
‫املراسالت املوجهة للقيادة العسكرية بسوسة وميناءها مبنع الهبوط للبر ألنفار‬
‫مهما كانت جنسيتهم‪ .42‬لقد ظهرت انعكاسات تدفق الهجرة األوروبية منذ فترة‬
‫حسني باي الثاني وتفاقمت مع أحمد باي الذي حاول البحث عن حلول إليقافها‬
‫وقد ربطت املراسالت بني التدفق وبني الفساد وإقالق راحة السكان وأساسا‬
‫الربط باخلمارات وما أحدثته من اضطراب يف العالقات االجتماعية وتشويش‬
‫على نظم سير احلياة احلضرية وفق النظم القدمية وهو ما تطلب التدخل‬
‫حملاولة البحث عن معادلة كانت يف احلقيقة صعبة بني محاولة حماية املجتمع‬
‫التقليدي ونظمه‪ ،‬وبني ضغوطات القناصل حلماية رعاياهم‪ ،‬وتبني املراسالت‬
‫ح ّدة اخلطاب املوجه للباي وحاشيته من رجال دولته‪ .‬فعلى سبيل املثال كان رد‬
‫«مسيوا نيكلسن قنصل دولة االمريكا باحلاضرة جلناب املعظم األرفع موالنا‬
‫وسيدنا‪ ...‬وملا يجب على الواضع اسمه أدناه أن يفرد جلنابكم انه اذا قبض على‬
‫احد رعايا األمريكان سواء كان يف الليل او يف النهار يلزم يف احلني إحضارهم‬
‫أمام القنصل حيث حبوسات تونس ال تليق إ ّال بسجن احلاللف وليس بسجن بني‬
‫آدم»‪ .43‬وال تش ّكل مراسلة القنصل االمريكي سوى عينة من العجرفة يف التعامل‬
‫‪ )41‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬السلسلة التاريخية‪ ،‬ح ‪ ،58‬م ‪ ،636‬وثيقة ‪.70068‬‬
‫‪ )42‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬السلسلة التاريخية‪ ،‬ح ‪ ،56‬م ‪ ،620‬وثيقة ‪.67878‬‬
‫‪ )43‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬السلسلة التاريخية‪ ،‬ح ‪ ،56‬م ‪ ،620‬وثيقة ‪.67903‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪126‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫مع سلطة الدولة على مجالها‪ .‬وفعال مثلت اجلاليات األجنبية عائقا أمام جتديد‬
‫النظم‪ ،‬واخليارات التنظيمية املالئمة إلدارة احلركية التي شهدها املجتمع نتيجة‬
‫االنفتاح االقتصادي واالجتماعي على املجتمعات الغربية عموما‪ ،‬ولكن باألساس‬
‫توسع‬
‫نتيجة االحتكاك بينهم وبني شرائح من املجتمع‪ ،‬السيما عندما ازداد ّ‬
‫مجال استقرارهم داخل املدينة وربضيها‪ .‬ولقد اشترى او تسوغ بعض األجانب‬
‫محالت يف األرباض أو يف أطراف احلاضرة خارج األسوار استعملت يف الغالب‬
‫لفتح خمارات أو مقاهي‪ .‬كانت التقارير األولى منبثقة من مؤسسة شيخ املدينة‪،‬‬
‫وهي من املؤسسات التي أُعيدت هيكلتها وح ّددت صالحياتها‪ ،‬بالتوافق بينها‬
‫وبني رئاسة البلدية بعد إحداثها يف ‪ 30‬أوت ‪ .1858‬أضيفت صالحيات رئاسة‬
‫البلدية إلى صالحيات شيخ املدينة التقليدية‪ ،‬ومن بني هذه الصالحيات مسألة‬
‫أمن املدينة ليال‪.‬‬

‫املصدر‪ :‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬السلسلة التاريخية‪،‬ح ‪ ،56‬م ‪.619‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪127‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫لقد مكنتنا هذه املهام من االطالع على تفاعالتها مع ظاهرتي‬


‫استقرار األوروبيني باحلاضرة ومسألة انتشار اخلمارات‪ .‬ومن بني أه ّم القضايا‬
‫املطروحة يف مختلف هذه التقارير‪ ،‬مخالفة التجار ألعراف البالد وتقاليدها‬
‫السيما بالنسبة إلى محالت بيع اخلمور‪ .‬هناك عدة أصناف من املشاكل‬
‫مرتبطة بفتح اخلمارات على مستوى التفاعل بينها وبني فضائها الواسع‪ .‬فمن‬
‫الشروط الرئيسية لفتح اخلمارات ضرورة احلصول على التراخيص وهي‬
‫تراخيص تأخذ بعني االعتبار «صالحيات فتح احملل» مبا يف ذلك احملالت‬
‫اخلمس وسبعون األولى سنة ‪ .1828‬يف احلقيقة ليس هناك نص منظم به‬
‫شروط واضحة ودقيقة وإمنا تطورت هذه الشروط وفق تفاعل املجتمع مع‬
‫احملالت اجلديدة‪ .‬ففي إطار التنافس اجلديد على املجال واستخداماته ظهرت‬
‫أزمات عبرت عنها املراسالت والشكاوى املقدمة من هذا الطرف ومن ذاك‪.‬‬
‫هذا الصنف من املشاكل قد ننظر إليه على انه رفض لآلخر وملمارساته التي‬
‫تتنافى واملرجعيات الدينية احملافظة للشق الواسع من املجتمع‪ .‬هذا املستوى‬
‫من التحليل يغطى جانب هام من املشاكل املطروحة جراء انتشار محالت بيع‬
‫اخلمور بأصنافها إال انه ليس مطلقا وال وحيدا فالعديد من األهالي كان من‬
‫مرتادي هذه اخلمارات بل ان املعطيات تبني بان هناك صنفني من املجتمع‬
‫يرتادون اخلمارات حسب املستوى االجتماعي‪ .‬فمن الواضح ان هناك خمارات‬
‫مخصصة لألثرياء وأصحاب الوجاهة سواء بالنسبة إلى األجانب أو احملليني‬
‫وهناك يف املقابل خمارات «يوجد (بها) اوباش من السيسيليان واملالطيني ومعهم‬
‫بعض من املسلمني يطوفون باألزقة إلى آخر الليل وهم صارخون بالغناء وضرب‬
‫العود والنقر وغيره يخشى منهم عظيم الضرر‪...‬وباقي القهاوي بها األعيان‬
‫ال يأتي منهم الضرر»‪ .44‬إذا لم تفرز اخلمارات وانتشارها يف املجال احتكاكا‬
‫بني مختلف األصناف االجتماعية‪ ،‬بل كرست هي األخرى الطبقية املوجودة يف‬
‫املجتمع احمللي أو األجانب فهناك خمارات يرتادها «االوباش» وهناك خمارات‬
‫يرتادها «األعيان» دون حتديد لالنتماء الديني أو العرقي‪ .‬هذا التغافل عن‬
‫التخصيص يف غالب احلاالت يعكس التعدد والتنوع يف مرتادي اخلمارات‪ ،‬وان‬
‫الظاهرة ال تشمل فئة دون أخرى وإمنا ظاهرة عامة‪ .‬وتشير تقارير الضابطية‬
‫إلى حاالت سكر تشمل العنصر النسائي‪ .45‬لم يشر التقرير املقدم من باولو‬
‫طابية إال إلى أربع خمارات خارجة عن السيطرة والتي يرتادها ما وصفهم‬
‫باألوباش وتقع هذه اخلمارات األربع يف مناطق متفرقة من احلاضرة أولها قرب‬
‫‪ )44‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬السلسلة التاريخية‪ ،‬ح ‪ ،56‬م ‪ ،620‬وثيقة ‪ .67915‬تقرير من باولو طابية إلى الوزير‬
‫األكبر مصطفى خزندار بتاريخ ‪ 30‬أوت ‪ 1870‬م‪.‬‬
‫‪ )45‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬دفتر ‪ ،4032‬ص حوادث ليلة اخلميس ‪ 10‬شوال ‪ 1277‬هـ‪ 22/‬مارس ‪.1861‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪128‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫باب البحر وثانيها يف محج‪ 46‬ترجنة وثالثتها جوار دار اجللد والرابعة أمام قمرق‬
‫الدخان خارج باب البحر‪ .‬لو ربطنا بني مواقع هذه اخلمارات والتوزع السكاني‬
‫سنالحظ بأن هذه املقاهي تفتح على األحياء الفقيرة او املناطق التي تتركز بها‬
‫جاليات أجنبية مهمشة السيما الوافدين اجلدد املستقرين يف أطراف باب البحر‬
‫أو املناطق املجاورة حلارة اليهود أو يف مناطق نشأت بها نواتات األحياء االثنية‬
‫اجلديدة على غرار املالطيني قرب ترجنة‪.47‬‬
‫لقد ارتبط انتشار اخلمارات بإعادة رسم اخلارطة السكانية‪ ،‬وتوزع‬
‫السكان يف احلاضرة‪ ،‬وهيكلة تنظمها والقوانني املنظمة للحركة بها‪ ،‬كما ساهمت‬
‫يف رسم مسالك ارتباطها مبحيطها اخلارجي‪ .‬لقد كانت املدينة تغلق أبوابها‬
‫وهي من العادات السائدة وكذلك بالنسبة إلى األرباض‪ ،‬حيث تغلق األبواب من‬
‫وقت صالة املغرب إلى صالة الصبح‪ ،‬وكان اإلعالن عن ذلك بخروج الفرقة‬
‫املوسيقية التابعة للداي‪ .‬فمع انفتاح املدينة على اجلاليات األوروبية‪ ،‬ومتكني‬
‫هذه األخيرة من شراء وتسوغ العقارات داخل أسوارها‪ ،‬وكذلك تركيز العديد‬
‫منها يف مناطق مجاورة لألسوار من جهة باب البحر وباب قرطاجنة‪ ،‬ويف ما‬
‫بني باب البحر وباب اجلزيرة بدأت تتشكل األحياء األوروبية‪ .‬داخل هذه األحياء‬
‫اجلديدة‪ ،‬بدأ يتش ّكل صنف اجتماعي جديد‪ ،‬سيخلق لنفسه نواميسه وتقاليده‬
‫املغايرة لتقاليد البلدان األصلية ونواميسها وكذلك مغاير للعادات والنواميس‬
‫احمللية‪ .‬فقد وجدت الدولة نفسها أمام كيان اجتماعي يعيش يف فضاء سلطتها‪،‬‬
‫وهو خارج عنها‪ ،‬حتميه القنصليات التي عملت على فرض توجهاتها يف صياغة‬
‫القوانني املنظمة للعالقة بني الدولة ورعاياها‪.‬‬
‫لقد وجدنا أنفسنا ونحن نتحدث عن اخلمر والظاهرة اخلمرية‬
‫نتحدث عن األحياء األوروبية‪ ،‬وعن سياسة القناصل‪ ،‬وعالقتهم بالدولة‬
‫وصياغة القوانني‪ .‬ويتم ّثل هذا االرتباط بني خطي املسير يف العالقة القائمة بني‬
‫الرعايا األوروبيني‪ ،‬ومقرات استقرارهم‪ ،‬وتردد العديد منهم‪ ،‬على اخلمارات‬
‫القدمية املنتشرة أساسا داخل األسوار‪ ،‬أو التي بدأت تظهر على أطرافها خارج‬
‫السور‪ ،‬تفاعال مع هذه الديناميكية السكانية‪ .‬وهذه احلركية هي التي أنتجت‬
‫الصراعات بني مختلف التشكيالت االجتماعية وأصنافها سواء بني األفراد أو‬
‫املجموعات ويف خضم هذا الصراع نشأت محاوالت التوفيق والتنظيم ووضع‬
‫اللبنات األولى للنظم اجلديدة الناجتة عن هذا االحتكاك‪ .‬وحتى نبقى على‬
‫‪ )46‬كلمة محج يف املدينة تعني النهج املتجه قبلة والتسمية فيها رمزية االجتاه للحج‪.‬‬
‫‪47) DONATO (M.), Rue des Maltais : la vie de la colonie maltaise de Tunisie, Nice :‬‬
‫‪Gandini, 2002.‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪129‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫مستوى املسألة املجالية نشير إلى بداية مسألة حرية التنقل بني احلاضرة‬
‫بفضائها التقليدي داخل األسوار ونظمه التقليدية وبني الضرورات التي يفرضها‬
‫االنفتاح على األحياء اجلديدة‪ .‬يف هذا اإلطار طرح املجلس البلدي منذ ستينيات‬
‫القرن التاسع عشر مشروع على «الهمام املفخم أمير األمراء سيدي محمد وزير‬
‫العمالة صان اهلل كماله وسدد أعماله أما بعد‪ ...‬فاملعروض على جناب الوزارة‬
‫أن مما جال فيه نظر املجلس البلدي أ ّنه حيث ظهرت املصلحة يف فتح‬‫احملروسة ّ‬
‫أبواب املدينة بالليل ملا يف ذلك من دوام التواصل بني السكان مبا يزيد يف تلك‬
‫املصلحة أن تفتح أبواب أخرى يف بعض أماكن من سور املدينة‪ ،‬كباب مثال بني‬
‫باب البحر وباب قرطاجنة وآخر بينه وبني باب اجلزيرة ليسهل بذلك اجلوالن‬
‫يف احلاضرة وحيث ال مضرة يف ذلك فهو من املصالح البينة‪ ...‬املجلس البلدي‬
‫يف ‪ 10‬شعبان ‪ 1278‬هـ ‪ 11 /‬مارس ‪ 1862‬م»‪ .48‬فالتوزع اجلديد للخمارات من‬
‫جهة واجلاليات األوروبية من جهة ثانية لعب دورا هام يف إعادة تشكل املظهر‬
‫احلضري وأساسا النظم املسيرة له وما التركيز على أربع خمارات يرتادها‬
‫«األوباش» إال دليل على التوزع حسب الثروة واملكانة االجتماعية فمرتادي‬
‫اخلمارات صورة تعكس االنتماء االجتماعي فأحياء املالطيني أو األحياء التي‬
‫ظهرت على طول املجال املجاور لألسوار من جهة البحيرة هي يف الغالب أحياء‬
‫للمهمشني من الوافدين الذين كثيرا ما أشارت إليهم املراسالت على أساس‬
‫عربدتهم وعدم نفعهم وهو ما يذكرنا مبقولة حمودة بن عبد العزيز عن حديثه‬
‫عن مرتادي اخلمارات بقوله‪« :‬وترى أكثر من يتعاطى شربها فقراء ال ميلكون‬
‫شيئا‪ ،‬وكلّما دخل يف أيديهم شيء من الدراهم صرفوه يف شربها»‪ .49‬ولنا وصف‬
‫يعبر عن األصناف االجتماعية والوضع الذي ساد خارج باب البحر بإحداث‬
‫«قهوة بلصق اخلصة وأخرى أحدثت أمام دار اجللد وأخرى مبحج البحيرة قد‬
‫فج عميق ووقع االزدحام منهم بالطريق‬ ‫كثر هجوم الناس الرعاع إليهم من ك ّل ّ‬
‫ونبهنا عنهم مرارا برفع الكراسي واحلصر من الطريق فأبوا وطاملا يقع من ذلك‬
‫العرك ويخشى الهرج من بقايهم وهي يف احلقيقة ومفسدة باملكان»‪.50‬‬
‫إلى جانب تأثير انتشار اخلمارات وظهور األحياء األوروبية خارج‬
‫أسوار احلاضرة بدأت تطرح قضية التواصل بأكثر ح ّدة وذهب البعض من‬
‫املسؤولني‪ ،‬سواء انطالقا مما فرضه التعايش اليومي أو انطالقا من بعض‬
‫االمتالءات‪ ،‬إلى طرح إمكانية فتح أبواب جديدة يف أسوار املدينة‪ .‬ركزت‬

‫‪ )48‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬السلسلة التاريخية‪ ،‬ح ‪ ،58‬كم ‪ ،636‬وثيقة ‪.67906‬‬


‫‪ 49‬ابن عبد العزيز‪ ،‬الكتاب الباشي‪ ،‬ص ‪.375‬‬
‫‪ )50‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬السلسلة التاريخية‪ ،‬ح ‪ ،58‬كم ‪ ،636‬وثيقة ‪.67914‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪130‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫املقترحات على فتح أبواب يف السور املمتد بني باب قرطاجنة وباب البحر من‬
‫جهة وبني باب اجلزيرة وباب البحر من جهة ثانية‪ ،‬وهي اجلهة من السور التي‬
‫تفتح على احلي األوروبي الذي بدأ يتوسع بشكل سريع يف النصف الثاني من‬
‫القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫جتلّت عشوائية انتشار الظاهرة اخلمرية يف خالل العديد من املظاهر‬
‫منها انتشار اخلمارات الطرفية وانتصابها‪ ،‬مبختلف اختصاصاتها وانتماءات‬
‫أصحابها االثنية‪ .‬كما جتلت العشوائية والهامشية يف تركيبة مرتاديها‪،‬‬
‫وسوء استعمال الفضاء العام‪ ،‬إلى جانب الفوضى والتشويش‪ ،‬وانعدام األمن‬
‫واالستقرار‪ .‬ورغم كل ما ميكن أن نضعه يف خانة «األزمة»‪ ،‬بكل أبعادها‪ ،‬ال‬
‫ميكن أن ينفي التفاعل‪ ،‬ففي التنافس والصراع تنشأ القيم اجلديدة ونظمها‪.51‬‬
‫ولقد كان الفضاء التجاري احل ّر املشترك القدمي‪ ،‬حول باب البحر‪ ،‬حيث‬
‫فنادق األوروبيني وحيث تتم كل املعامالت التجارية‪ ،‬تقليديا‪ ،‬بوابة للتواصل‬
‫واالحتكاك باآلخر‪ .‬وكان محور ديناميكية التثاقف وبه تش ّكل جزء من قاموس‬
‫لغوي مشترك‪ ،‬ضمن نسق احلياة اليومية‪ ،‬فنجد الكلمات االيطالية واالسبانية‬
‫واالنقليزية والفرنسية واملالطية‪ 52‬وغيرها تختلط لتعطي جمال وأدوات لغوية‬
‫للتواصل‪ .‬لم تكن األحياء اجلديدة هي فضاء التش ّكل باملعنى العملي بل‬
‫فضاءات االلتقاء‪ ،‬وهي أساسا األسواق أو واملسالك العامة اجلديدة أو فضاءات‬
‫الترفيه املشتركة‪ ،53‬ومنها اخلمارات التي ميكن اعتبارها احملورية إلى جانب‬
‫املقاهي‪ ،‬لتكون نقطة انطالق نحو انتشار استعمال ألفاظ القاموس اجلديد‬
‫يف احلاضرة‪ ،‬وأسواقها‪ ،‬ودورها‪ ،‬لتنصهر تدريجيا وتتم أهلنتها‪ .‬هذه األلفاظ‬
‫شملت مختلف مجاالت احلياة‪ ،‬من مأكل‪ ،‬وملبس‪ ،‬ومواد زينة‪ ،‬وأفعال‪ ،‬ورموز‪،‬‬
‫وسمي هذا املشترك بني ضفتي املتوسط وموانئه باللغة الهجينة‪la Lingua« 54‬‬
‫‪ »Franca‬وساد يف فضاء املنطقة احل ّرة جوار باب البحر‪ .‬ومع بداية حترير‬
‫جتارة اخلمر‪ ،‬وانتشارها يف الفضاء احلضري داخل االسوار وخارجها‪ ،‬بدأ‬
‫تشكل قاموس لغوي مرتبط بالظاهرة‪ ،‬كما بدأ يتشكل قاموس قانوني جديد‬

‫‪51) RAMOGNINO (N.), « Normes sociales, normativités individuelle et collective,‬‬


‫‪normativité de l'action », Langage et société, Éditions de la Maison des sciences‬‬
‫‪de l'homme, 2007/1 n° 119, p. 13 à 41.‬‬
‫‪52) CHAOUACHI (K.), La culture orale commune à Malte et à la Tunisie,‬‬
‫‪Harmattan Collection : Histoire et Perspectives méditerranéennes, 2014.‬‬
‫‪53) VALENSI (L.), « Espaces publics, espaces communautaires aux XIXe et XXe‬‬
‫‪siècles », in : Confluences Méditerranéennes, n° 10 (printemps 1994), pp. 97-109.‬‬
‫‪54) DAKHLIA (J.), Lingua franca. Histoire d’une langue métisse en Méditerranée,‬‬
‫‪Actes Sud, Arles, 2008, 591 p.‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪131‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫مرتبط بالظرفية اجلديدة والتوازن اجلديد للقوى‪ .‬فقد نشأت يف فضاء مقاهي‬
‫التكروري واخلمارات عالقات متنوعة ومختلفة‪ ،‬قد جند بعض آثارها يف الوثائق‬
‫األرشيفية‪ ،‬تترجمها الشكاوى واإليقافات والتجاذبات بني مختلف القوى حول‬
‫املؤسسات ذات الصالحية األمنية والقضائية املخولة للتعامل مع اجلاليات‬
‫األجنبية‪ .‬ويف هذا اإلطار طرحت مسألة القوانني املنظمة للعالقات‪ ،‬وكذلك‬
‫القوانني الردعية التي يجب أن تطبق‪ ،‬أو يجب التفكير يف صياغتها‪ ،‬وتنظيم‬
‫تطبيقها‪ .‬فلقد أدى التجاور بني مختلف األصناف االجتماعية واالثنية إلى ظهور‬
‫أصناف جديدة من القضايا واملسائل املطروحة على األجهزة األمنية والرقابية‬
‫واإلدارية حيث برزت قضايا من نوع جديد تطلبت نظما وقوانني لتسوية عالقات‬
‫اجتماعية افرزها التقارب واالختالط وتقاطع املصالح أو تناقضها‪.‬‬
‫أفرز التوزع اجلديد للسكان األجانب‪ ،‬والتوزع العشوائي للخمارات‪،‬‬
‫وفتح األبواب اجلديدة‪ ،‬وما متخض عنها من مسالك للربط بني الفضاءات‬
‫العمرانية األوروبية والفضاءات املدينية التقليدية نظم ومعايير اجتماعية‬
‫جديدة‪ .‬ونشأت هذه النظم واملعايير يف خضم الصراع االجتماعي والقيمي‬
‫التقليدي املميز للمدينة‪ ،‬ونظمها املتوارثة‪ ،‬يف مقابلة النظم والقيم التي‬
‫عملت اجلاليات األوروبية فرضها حتت ضغط ضرورات املعاش اليومي‬
‫وحتمية التفاعل ‪ .55‬لذا كانت مناطق التماس وااللتقاء هي فضاءات ميالد‬
‫هذه النظم واملعايير أو ساهمت يف نشأتها‪ .‬يستنتج الدارس ملختلف‬
‫الشكاوى املقدمة من مختلف األطراف‪ ،‬واملراسالت بني مختلف السلط‬
‫احمللية أو القنصلية‪ ،‬طبيعة الصراع ومرجعيات الدفاع عن املواقع‪ ،‬وفرض‬
‫وجهات النظر‪ .‬أهم الشكاوى وأكثرها شيوعا وأقدمها يف ارتباط بالظاهرة‬
‫اخلمرية تلك املرتبطة بتسوغ عقارات للسكن وحتويلها لبيع اخلمر‪ .‬شمل‬
‫هذا الصنف من الشكاوى العديد من الفضاءات احلضرية مبدينة تونس‬
‫وموجه ضد مختلف اجلنسيات السيما االيطاليني واملالطيني‪ ،‬وبدرجة‬
‫أقل رعايا فرنسا الذين كانت شكاويهم حول املنافسة غير القانونية يف‬
‫جتارة اخلمر أو املشاكل األمنية ونظافة احلاضرة‪ .‬ومن خالل مختلف هذه‬
‫الشكاوى ميكن استنتاج مجموعة من الضوابط التي وجهت خيارات مختلف‬
‫األطراف السيما احلوار بني السلطة بتونس والقوى األوروبية‪ ،‬ومتثل هذه‬
‫الضوابط حسب ما أمكننا استخراجه من مختلف الشكاوى والتقارير بتاريخ‬
‫جمادى الثانية سنة ‪ 1276‬هــ ‪ 24 /‬جانفي ‪:1860‬‬

‫‪55) MUSCAT (M.), L’héritage impensé des Maltais de Tunisie, L’Harmattan, Paris,‬‬
‫‪2011.‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪132‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫‪ -‬أن ال تكون اخلمارة يف زقاق غير نافذ‪ ،‬يعيق التنقل السيما بالنسبة‬
‫إلى النساء‪،‬‬
‫‪ -‬أن ال تكون مجاورة لدور عبادة خاصة اجلوامع‪،‬‬
‫‪ -‬أن ال يتسوغ محال بغاية السكنى ويحوله لتجارة اخلمر دون ترخيص‪،‬‬
‫‪ -‬أن يخضع فتح اخلمارات الى تراخيص‪،‬‬
‫‪ -‬أن يأخذ بعني االعتبار الناحية األمنية للمتساكنني أو رواد اخلمارات‬
‫من األجانب‪،‬‬
‫‪ -‬احترام الطريق العام‪،‬‬
‫‪ -‬أن ال يتسبب وجودها يف التشويش وإقالق راحة املتساكنني ويعيق‬
‫تنقالتهم‪.‬‬
‫‪ -‬أن يتضرر من فتح اخلمارة تاجر يف نفس االختصاص أو غيره من‬
‫االختصاصات التي ينفر الزبائن التردد عليها بسبب وجود اخلمارة‬
‫ويف جمادى الثانية سنة ‪ 1276‬هـ ‪ 24 /‬جانفي ‪.1860‬‬
‫ويف مراسلة من شيخ املدينة إلى الوزارة الكبرى بتاريخ ‪ 29‬نوفمبر‬
‫‪ ،1871‬نوردها كاملة إلملامها بأهم التأثيرات املرتبطة بتجارة اخلمر «جناب‬
‫الوزارة الكبرى السامية حرس اهلل كمالها أما بعد السالم عليكم ورحمة اهلل‬
‫وبركاته فانه غير خفي على عزيز جنابكم أن عادة وعرف البلد ال يسوغان‬
‫سكنى اإلفرجن أو اليهود إال باألماكن املعدة لهم خصوصا باحلوانيت املجاورة‬
‫لدور املسلمني حيث أن غالبهم يبيع بها ما ال يحل بيعه كاخلمر كما هو مشاهد‬
‫باحلوانيت أو سرا حتى ال يطلع عليه األمر البعض من أبناء املسلمني عند‬
‫تناوله وبعضهم يلقي قذرته كل صباح بالطريق ويريق املاء وكثير من املارين‬
‫تناله الضرورة ‪ .‬وقد يصعدون للسطح على عادتهم ورمبا يكشف على دار جاره‬
‫هذا وقد كثر اآلن سكنى اإلفرجن وغالبهم من رعايا دولة ايطاليا بحوانيت ودور‬
‫وعلوات مجاورة لدور املسلمني الغير املسوغ لهم باحلوانيت بيع غير الضروريات‬
‫أن املباع بتلك احلوانيت السميد ونحوه ويصدر من‬ ‫كاخلضر ونحوه ويظهرون ّ‬
‫بعضهم ما ذكرناه فإذا نهوا عن شيء من ذلك لم ميتثلوا ولذا أعلمنا جنابكم‬
‫بهذا الكتاب»‪.56‬‬

‫‪ )56‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬السلسلة التاريخية‪ ،‬ح ‪ ،58‬م ‪ ،636‬وثيقة ‪.70146‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪133‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫لقد كانت اخلمارات وحترير جتارة اخلمر من العوامل التي ساهمت‬


‫يف حركية املجتمع احلضري (بطبيعة احلال الى جانب عوامل أخرى) وساهمت‬
‫بدرجة هامة يف الدفع إلى وضع قوانني تنظم العالقات داخل املجال احلضري‬
‫الذي أصبح مفتوحا بحكم استقرار األوروبيني وإجبارية فتح األبواب لتسهيل‬
‫التواصل بني ما هو داخل األسوار وما هو خارجها‪ .‬متثلت هذه القوانني يف التنقل‬
‫يف شوارع احلاضرة ليال حيث عملت السلط احمللية على منع كل تشويش يتسبب‬
‫فيه املخمورين عند خروجهم من اخلمارات ليال ومنع استعمالهم لآلالت املوسيقية‬
‫التي يعمد البعض إلى استعمالها مجاهر بالغناء بالصوت العالي بني األزقة وهو‬
‫ما يقلق راحة املتساكنني وكان هذا اجلانب محور مراسالت عديدة بني الهياكل‬
‫اإلدارية احمللية مبا يف ذلك الباي والقناصل األوروبيني والتي أفضت إلى اتفاق‬
‫هؤالء القناصل على مجموعة من التراتيب التي عرضوها على الباي ومتثلت يف‪:‬‬
‫«الوسايل التي استقر عليها رأي نواب الدول إجابة الستدعاء الدولة‬
‫التونسية لهم يف اإلعانة على جلب ما يقتضي راحة السكان‪:‬‬
‫‪ -‬األول‪ :‬غلق القهاوي والطبارن قبل نصف الليل بساعتني ال أكثر‪،‬‬
‫‪ -‬الثاني‪ :‬إلزام كل إنسان يجول يف الطريق ليال بعد الساعة املذكورة أن‬
‫يكون مصحوبا بفنار وإال فيتوقف‪،‬‬
‫‪ -‬الثالث‪ :‬الرخصة ألعوان الضابطية احمللية أن يضعوا اليد على كل‬
‫أجنبي إذا عثروا عليه يف حال ارتكابه جناية بشرط اإلتيان به حاال‬
‫إلى قنصالت جنسه‪،‬‬
‫‪ -‬الرابع‪ :‬تنبيه على عدم العزف بآالت الطرب باألزقة والتجمع بها‬
‫والدوران بها بجماعات بعد الساعة املذكورة‪،‬‬
‫‪ -‬اخلامس‪ :‬اطالع الدولة التونسية على جتريدة أسماء الركاب عند‬
‫قدوم كل فابور بوسطه أو غيره‪،‬‬
‫‪ -‬السادس‪ :‬إلزام كل أجنبي يقدم لتونس أن يأخذ من قنصالت جنسه‬
‫يف أثناء الشهر الذي يلي قدومه إجازة يف اإلقامة أو حجة يف بيان‬
‫جنسيته والتعريف بذاته‪.‬‬
‫كتب يف تونس يف ‪ 13‬اينار سنة ‪ 1876‬م»‪.57‬‬ ‫ ‬

‫‪ )57‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬السلسلة التاريخية‪ ،‬ح ‪ ،58‬م ‪ ،636‬وثيقة ‪.67917‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪134‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫ان دراسة اجلوانب االجتماعية لتحرير جتارة اخلمر‪ ،‬خالل القرن‬


‫التاسع عشر‪ ،‬ال يجب حصرها يف مسألة اندماج األوروبيني يف املنظومة‬
‫االجتماعية احمللية فقط‪ ،‬وإمنا كذلك يف تفاعل املجتمع احمللي مع األطراف‬
‫اخلارجية الوافدة ومستويات التفاعل وانعكاساته االقتصادية واالجتماعية‬
‫والثقافية هذا دون التغاضي عن مسألة تنافس القوى األوروبية حول تونس‬
‫السيما االيطاليني الذين اعتبروا الهجرة واالستقرار والهيمنة على العديد من‬
‫القطاعات سواء احلرفية احلضرية‪ ،‬أو الفالحية الريفية‪ ،‬مدخال لفرض سياسة‬
‫األمر الواقع‪ .‬لم تكن سياسة الباي الردعية قادرة على فرض سلطة الدولة حتى‬
‫‪58‬‬
‫على اخلارجني عن القانون من رعايا الدول األجنبية وما وقع يف حادثة باطو‬
‫التي ارتبطت هي األخرى بالسكر واخلمر لم يعد طرحها ممكنا باعتبار انقالب‬
‫موازين القوى‪ ،‬وأمام هذا العجز حاولت السلطة البحث عن اتفاقيات يساهم‬
‫القناصل األوروبيني يف صياغتها والبحث عن ترتيب ترضى جميع األطرف‪ .‬فتح‬
‫هذا الباب من املشاورات حول املسألة األمنية‪ ،‬فتح باب املشاركة األجنبية يف‬
‫إدارة الشؤون احمللية‪ ،‬والتي ميكن اعتبارها شكال من أشكال فقدان السيادة‪.‬‬
‫فقد راسل الباي مختلف القناصل للبحث عن حل للمسألة األمنية ليال يف ظل‬
‫رفضهم متكني الضابطية من ممارسة دورها األمني وبلغ التنازل من الباي حد‬
‫متكني أعوان من القنصليات من مرافقة الدوريات الليلية للضابطية‪ ،‬كحل من‬
‫احللول ملسألة الفوضى التي يحدثها السكارى من األوروبيني داخل احلاضرة‬
‫ويف أطرافها‪ .‬ففي إطار سعي الدولة إلى وضع قانون لعمل الضبطية وإرضاء‬
‫القناصل متكينهم من املساهمة يف صياغة عدد من الفصول إما بصورة مباشرة‬
‫أو عبر إبداء املالحظات أو الضغط يف اجتاه حتديد أشكال التعامل مع اجلاليات‬
‫األجنبية يف تونس‪ .‬لقد كان حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وانتشار اخلمارات‪ ،‬مدخال‬
‫لوضع املؤسسة األمنية حتت مراقبة األطراف اخلارجية‪.‬‬

‫‪ )58‬ابن أبي الضياف‪ ،‬االحتاف‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪ .233‬تتمثل احلادثة يف شكوى تقدمت بها مجموعة‬
‫من سكان احلاضرة ادعوا فيها أنّ يهوديا «سوقة اليهود اسمه باطو يخدم على كرطون للقايد‬
‫نسيم شمامة رئيس اليهود بأنه شتم مسلما وكان اليهودي حال الشتم بحالة سكر على عادته‬
‫املعروفة منه» فأمر الباي محاكمته من قبل املجلس الشرعي على املذهب املالكي املتشدد يف‬
‫مثل هذه املسائل فكانت القتل قرار املجلس وتسبب ذلك يف حملة رهيبة ضد الباي ودولته‬
‫من قبل القناصل والدول األجنبية‪.‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪135‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫مثال منقول (تعريب شخصي) عن‪:‬‬


‫‪GIUDICE (Ch.), « Diaspora italienne et identités urbaines à Tunis, XIXe-‬‬
‫‪XXIe siècle Italian Diaspora and Urban Identities in Tunis, 19-21th Centuries »,‬‬
‫‪Diasporas, p. 85-104.‬‬

‫فإن‬
‫إذا كانت املبررات املعتمدة هي الفوضى التي يحدثها رواد املقاهي ّ‬
‫النتيجة هي وضع مؤسسات املراقبة والعقاب حتت مراقبة هذه األطراف‪ ،‬وما‬
‫بأن الهدف الرئيسي من وضع اليد على آليات املراقبة‬‫ميكن أن ينتج عنه‪ ،‬ونعتقد ّ‬
‫هو إحكام القبضة األمنية من جهة‪ ،‬واملساهمة يف تسهيل استقرار بعض األطراف‬
‫األوروبية على حساب بعضها‪ ،‬يف إطار التنافس بينها من جهة أخرى‪ .‬فالسيطرة‬
‫ّ‬
‫التدخل األجنبي بصورة مباشرة‪ ،‬السيما وأنها‬ ‫على أجهزة الدولة ومفاصلها تس ّهل‬
‫أتت يف سياق تاريخي اتسم بتسارع األحداث يف أوروبا وسباق حتييز املجال السيما‬
‫يف ايطاليا التي حققت وحدتها القومية بعد صراعات تدخلت فيها كل من النمسا‬
‫وفرنسا‪ .‬وال نعتقد بأن واقع األحداث السياسية والعسكرية يف أوروبا لم يؤثر يف‬
‫حوار اخلمارات والتنافس بني القوميات الذي تطور الحقا لصراع حول تقسيم‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪136‬‬
‫محمد فوزي املستغامني‬

‫املستعمرات‪ .‬وبالنسبة إلى البالد التونسية تدعمت تدريجيا أطماع ايطاليا بعد‬
‫ضمان وحدتها واملراسالت املتكررة واملوجهة أساسا إلى كل من فرنسا وانقلترا‬
‫كثيرا ما أثارت قضية الهجرة االيطالية‪ .‬وقد قامت فرنسا بعد احتاللها للبالد‬
‫بتقييم احلضور االيطالي‪ ،‬ال يف احلاضرة فقط‪ ،‬وإمنا يف البالد عموما‪ 59‬وذلك ملا‬
‫مثلته اجلالية االيطالية من منافسة للمعمرين الفرنسيني الذين لم يكن حضورهم‬
‫شبيها للحضور االيطالي ال من حيث العدد وال من حيث املكانة االجتماعية واألدوار‬
‫االقتصادية‪ .60‬حملت الوثائق األرشيفية اخلاصة بتحرير جتارة اخلمر وانتشارها‬
‫مالمح التحوالت التي عرفتها أوروبا ففي بدايات التحرير كانت الوثائق تشير إلى‬
‫السلسليان باعتبارهم وحدة اجتماعية وسياسية لها خصوصيتها وحتصلت مثلها‬
‫مثل األمم ذات االمتيازات وهي بريطانيا وفرنسا على حق فتح ‪ 25‬خمارة إلى‬
‫جانب ذكر الصاردو كوحدة أخرى مستقلة‪ ،‬لتقلص تدريجيا التصنيفات املعتمدة‬
‫مت االقتصار على تصنيف «االيطالي»‬ ‫للحديث عن الوحدات السياسية االيطالية و ّ‬
‫خاصة بعد الستينيات‪ ،‬وهي فترة بدايات تبلور فكرة الوحدة االيطالية‪.‬‬

‫خامتة‬
‫الربط بني اخلمارات وبني أحياء اجلاليات األوروبية‪ ،‬جعلنا ننتقل من‬
‫احلديث عن اخلمارات يف ذاتها إلى احلديث عن آليات الربط‪ ،‬وتأثير توزعها يف‬
‫املجال على احلركية بني مختلف مكونات احلاضرة‪ ،‬وأبوابها‪ ،‬ونظم تسييرها‪،‬‬
‫وانفتاح فضاءاتها‪ ،‬لتتراجع ادوار األسوار كح ّد فاصل‪ ،‬وما يرافق ذلك من‬
‫انعكاسات‪ ،‬ال فقط على سلوك اجلاليات األجنبية‪ ،‬وإمنا كذلك حترك األهالي‪،‬‬
‫متس‬
‫وثقافة التنقل والسهر واالحتفال والتزاور والسهر باألساس‪ .‬هذه التحوالت ّ‬
‫بدورها من نظام العالقات داخل األسرة‪ .‬املوضوع له تفرعات عديدة لذلك خيرنا‬
‫التركيز على التأثيرات املباشرة وغير املباشرة دون التعمق يف تناولها‪ .‬فالتوسع يف‬
‫استعمال الوثائق العدلية التي تدون احلوادث مبدينة تونس ليال يبني لنا عمق تأثير‬
‫الظاهرة اخلمرية يف السلوكات االجتماعية‪ ،‬ال عند اجلاليات‪ّ ،‬‬
‫وإنا عند األهالي‬
‫من اجلنسني ففي سنة ‪ 1861-1860‬سجلت أكثر من ‪ 1800‬حالة سكر مبدينة‬
‫تونس وربضيها‪ ،61‬وما تعلق بالسكر من جتاوزات‪ .‬إذا كان حترير جتارة اخلمر‬
‫‪59) GASTON )L.), Le peuplement italien en Tunisie et en Algérie, Paris, A. Colin,‬‬
‫‪1905.‬‬
‫‪ )60‬انظر حول ذلك‪:‬‬
‫‪GANIAGE (J.), Les origines du Protectorat français en Tunisie, 1861-1881,‬‬
‫‪préface : Pr. Khalifa Chater, Berg-édition, 2015, p. 34.‬‬
‫‪ )61‬أ‪.‬و‪.‬ت‪ ،‬دفتر ‪.4032‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫‪137‬‬ ‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬
‫حترير جتارة اخلمر‪ ،‬وتوطينها القانوني واملجالي‪ :‬تقويض ملقومات اجتماعية ومتهيد لالستعمار‬

‫وتصنيعه واستهالكه مسألة جتارية واقتصادية باألساس إ ّال أ ّنها مثلت محور‬
‫حتوالت قانونية تشريعية ومجالية وسلوكية اجتماعية‪ .‬فقد جاء حترير اخلمارات‬
‫والتردد عليها ليفتح فضاءات تفاعل اجتماعي جديدة ساهمت يف إعادة تشكل‬
‫بعض الثوابت احلضارية والثقافية وساهمت يف نشأة ثقافة جديدة ال فقط يف‬
‫وإنا التواصل مع اآلخر‪ .‬فالتفاعل ساهم يف إعادة تشكيل املشهد‬ ‫النظرة للخمر ّ‬
‫احلضري وكذلك القواعد واملرجعيات الثقافية والسلوكات اليومية والنظم واإلدارة‬
‫وكل ما ميكن أن تفرضه العالقة بني اخلمر واخلمار واملخمور ومن جاورهم أو‬
‫تفاعل معهم باي شكل من األشكال‪ .‬فوضع خارطة كاملة لتوزع اخلمارات مشروع‬
‫قد يفتح أبواب البحث والتمحيص بأكثر عمق بالنسبة إلى حاضرة تونس ولكن‬
‫كذلك بالنسبة إلى بقية املدن والقرى التي انتشرت بها اخلمارات واجلاليات‬
‫األجنبية‪ .‬لكن لنجيب عن اإلشكالية احملورية التي وضعنا من اجلها عملنا هذا‬
‫وهو السياسة األوروبية جتاه البالد التونسية والضغوطات التي فرضتها مختلف‬
‫هذه القوى لزعزعة البني الثقافة واالجتماعية واالقتصادية للبالد التونسية والتي‬
‫كانت اخلطوات األولى املمهدة للتدخل االستعماري املباشر‪ .‬هذه السياسة املمهدة‬
‫لالستعمار والتي حاولنا إبراز أهم جوانبها من خالل تطور الظاهر اخلمرية ولكن‬
‫كذلك ميكن تلمسها يف مختلف املجاالت األخرى باعتماد نظرة تاريخية مجهرية‬
‫تسلط الضوء على اجلزئيات الدالة على احلركية التي عرفها املجتمع حتت هذه‬
‫الضغوطات األوروبية‪.‬‬

‫الكروم واخلمور يف البالد التونسية عبر التاريخ‬


‫فعاليات الندوة العلم ّية املنعقدة باحلمامات‪ 30 - 29 ،‬جوان و ‪ 01‬جويلية ‪( 2018‬ص ‪)138-101‬‬ ‫‪138‬‬

You might also like