Professional Documents
Culture Documents
رسالة في تحقيق المبدأ والمعاد
رسالة في تحقيق المبدأ والمعاد
*
رسالة يف حتقيق املبدأ واملعاد
ملحمد أمني بن الصدر الشرواين
فيقول الراجي عفو ربه الصمداين حممد أمني بن الصدر الشرواين الشهري مبال زاده حفظهما اهلل عن موجبات
الندامة :هذه نبذة من احلقائق وزبدة من الدقائق تتعلق بتحقيق املبدأ واملعاد ،واهلل اهلادي إىل سبيل الرشاد.
النسخة املتعمدة يف التحقيق ،نسخة املؤلف املبيضة املوجودة بقسم أسعد أفندي يف املكتبة السليمانية ،برقم .3614اما النسخة االخرى املسودة *
موجودة يف قسم عمجه زاده حسني يف املكتبة السليمانية برقم .321واملُشار اليها يف التحقيق حبرف (ز).
موضوعات ابن اجلوزي (.)274/1 1
ز :سلمت. 2
85
NAZARİYAT Journal for the History of Islamic Philosophy and Sciences
مال العقل للتجارة إىل عامل الغربة واألبدان لتربح بتحصيل كماالهتا ،فترجع إىل الوطن األصلي ساملًا غامنًا،
الض َللَ َة
﴿اشتَ َر ُوا َّ اللهوت يف مقعد صدق عند مليك مقتدر ،وقليل ما هم؛ فإن األكثرين ْ ويتمكن يف عامل ّ
ين﴾ (البقرة ،)16/2فالبدن للروح مبزنلة املركب واآللة ،وتعلقه ِ ِ
َما َربِ َح ْت ت َج َارتُ ُه ْم َو َما َكانُوا ُم ْهتَد َ بِالْ ُه َد ٰى ف َ
به بواسطة الروح احليواين الذي هو خبار لطيف يتكون من لطيف األغذية ،وحمله القلب الصنبوري ،ويفيض
عليه القوى احليوانية ،فينبعث منه ويسري حامال لتلك القوى إىل أعماق البدن بواسطة العروق الضوارب،
كالشمع إذا أديرت يف زوايا البيت .مث أن تعلقه بالبدن ليس تعلقا حلوليا أو إحتاديا ،بل تعلق التدبري والتصرف،
كتعلق امللك باململكة ،إال أن هذا التعلق ملا كان يف هذه النشأة راسخا ،ومستمرا شبهيا باالحتاد ،انصبغ
الروح بصبغ املادة ،وتكدر بالكدورات البشرية ،وتلوث بالقاذورات اجلسمانية ،ومال إىل اللذات العاجلة
َنط َر ِة ِم َن
ني َوالْ َقنَا ِط ِري ال ُْمق َ
ات ِم َن النِّ َساء َوالْبَنِ َ
الش َه َو ِ
اس ُح ُّب َّ والشهوات الفانية ،كما قال تعاىلُ ﴿ :زيِّ َن لِلنَّ ِ
آب﴾ الل ِعن َد ُه ُح ْس ُن ال َْم ِ الدنْيا َو ّ اع ال َ ِ ْح ْر ِث َذلِ َك َمتَ ُ
ْخ ْي ِل ال ُْم َس َّو َم ِة َوا َألنْ َعا ِم َوال َ
الذ َه ِب َوالْ ِف َّض ِة َوال َ
َّ
ْحيَاة ُّ َ
اك ْم(آل عمران )41/3فنسي الروح وطنه ،ولقاء حمبوبه احلقيقي هبذا اإلهنماك ،كما قال تعاىل﴿ :الْيَ ْو َم نَْن َس ُ ِ
ِدنَا إِل َٰى آ َد َم ِمن ق َْب ُل َفنَ ِس َي َول َْم َد َعه ْ َاء يَ ْو ِم ُك ْم َٰهذَا﴾ (اجلاثية ،)34/54وقال تعاىلَ :
﴿ولَق ْ َك َما نَ ِسيتُ ْم لِق َ
ِين﴾ (البقرة ،)213/2ومذكرين هلم أهنم ِين َو ُمن ِذر َ نَ ِج ْد لَ ُه َع ْز ًما﴾ (طه﴿ ،)45/20فَب َع َث ّ
الل النَّبِيِّ َ
ني ُمبَ ِّشر َ َ
ّر ُه ْم بأيَّا ِم الل﴾ (ابراهيم ،)5/14أي أيام وصال اهلل تعاىل. ّ
َ َِ تعاىل﴿وذ ِ
َك ْ َ إلينا راجعون ،كما قال
فافترق الناس فرقتني فرقة أجابوا داعي اهلل وآمنو برسوله وهم الذين مل ينطفأ نور فطرهتم اليت فطر اهلل الناس
عليها ،لكنهم على طبقات متخالفات حسب تفاوت استعداداهتم.
وفرقة ختم اهلل على قلوهبم وغلبت عليهم شقوهتم وكانوا قوما ضآلّني ،قال اهلل تعاىل﴿ :يَ ْو َم يَْأ ِت َل تَ َكل ُ
َّم
ْس إَِّل بِإِ ْذنِ ِه َف ِم ْن ُه ْم َش ِق ٌّي َو َس ِعي ٌد﴾ (هود ،)105/11فيجب على العاقل أن جيتهد يف حتصيل الكماالت
نَف ٌ
السرمدية والسعادات السنية؛ لينال على احلياة األبدية.
فنقول :السعادة العظمى واملرتبة العليا للنفس معرفة الصانع مبَ له من صفات الكمال والتزنه عن النقصان،
ومبا يصدر عنه من الآلثار واألفعال يف النشأة األوىل واآلخرة ،وباجلملة معرفة املبدأ واملعاد املعرب عنها باإلميان
باهلل واليوم االخر .وهلذه املعرفة طريقان :أحدمها :طريقة أهل النظر واإلستدالل ،وثانيهما طريقة الرياضة
واملجاهدات .والفرق بينهما أن أهل الطريقة األُوىل يعلمون علم اليقني ما يشاهده أهل الطريقة الثانية بعني
علي بن سينا ل َّما
اليقني .وفوقها مرتبة اليقني اليت هي مقام الفناء واالستهالك حكي َّأن الشيخ الرئيس أبا ٍّ
صحب مع قطب العارفني أيب سعيد أيب اخلري ،قُ ّدس سرهُ ،سئل كل منهما عما جرى به مع اآلخر ،فقال
الرئيس :يشاهد هذا الشيخ ما نعلمه ،وقال أبو سعيد :يعلم ابن سينا ما نعاينه.
مث َّإن السالكني للطريقة األُوىل إن كان مستندهم يف ذلك األدلة السمعية املستندة إىل الوحي أو ما ينتهي
إليها ،فهم أهل الشريعة واملتكلمون ،وإال فهم احلكماء املشاؤون؛ والسالكون للطريقة الثانية إن وافقوا يف
رياضاهتم أحكام الشريعة ،فهم أهل الطريقة والصوفيون ،وإال فهم احلكماء اإلشراقيون.
86
Ahmet Kamil Cihan, Arsan Taher, Muhammad Amın al-Shirwanı’s Treatise on Eschatology:
An Analysis and Critical Edition of Risalah fı tahqıq al-mabda’ wa-al-ma‘ad
وحاصل الطريقة الثانية االستكمال بالقوة العملية والترقي يف الدرجات األربع اليت أوهلا :هتذيب الظاهر
باستعمال الشرائع النبوية والنواميس اإلهلية ،وثانيها :هتذيب الباطن عن امللكات الردية ،كالبخل واحلسد
والعجب والكرب والرياء ونقص آثار شواغله عن عامل الغيب ،وتسمى هذه املرتبة بالتخلية وثالثها ما حيصل هلا
بعد االتصال بعامل الغيب وهي حتلي النفس بالصور القدسية وامللكات السنية ،ورابعها :ما حيصل هلا عقيب
اكتساب ملكة االتصال واالنفصال عن نفسه بالكلية ،وهو مالحظة مجال اهلل تعاىل وجالله ،وقصر النظر
على كماله ،ومادام السالك 3مل يقطع هذه املراتب فهو سائر إىل اهلل ،فإذا انتهى إىل املرتبة الرابعة فقد انتهى
سريه إىل اهلل .ويليها درجات السري يف اهلل ومراتبه ،فانتهاء السري إىل اهلل مبزنلة الوصول إىل ساحل البحر،
ُج ِة البحر ،فالعارف الواصل إىل حبر احلقيقة ،إذا خاض ل َّ
ُج َة حبر الوصول ال والسري يف اهلل مبزنلة اخلوض يف ل َّ
يزال ينخلع عن القيود البشرية ،ويرتفع عنه الغواشي واحلجب اجلسمانية إىل أن خيرج عنها بالكلية ،ويتخلق
بأخالق اهلل تعاىل؛ فإذًا يرى كل قدرة مستغرقة يف قدرته املتعلقة جبميع املقدورات ،وكل علم مسغترق يف
علمه الذي ال يعزب عنه شيء من املوجودات ،وكل إرادة مستغرقة يف إرادته اليت ميتنع أن يتأتى عليها شيء
من املمكنات ،بل كل وجود وكل كمال وجود فهو صادر عنه وفائض من لدنه ،فصار احلق حينئذ بصره
الذي يبصر به ،ومسعه الذي به يسمع ،وقدرته اليت هبا يفعل ،وعلمه الذي به يعلم ،ووجوده الذي به يوجد،
فهذه مرتبة توحيد الصفات.
مث بعد ذلك يعاين العارف َّأن تَكثُّر هذه الصفات وما جيري جمراها إنَّما هو بالقياس إىل الكثرة اليت هي
فإن علمه الذايت هو بعينه قدرته
اعتبارات وشؤنات للذات األحدية ،وأما بالقياس إىل مبدأها الواحد فمتحدة؛ َّ
الذاتية ،وهي بعينها إرادته ،وكذلك سائرها؛ وإذ ال وجود ذاتيا لغريه ،فال صفات مغايرة للذات ،وال ذات
ُم ذَر ُهم﴾ (األنعام ،)91/6وهذهالل أَ َح ٌد﴾ (اإلخالص﴿ ،)1/112قُل اِهللُ ث َّ
ُل ُه َو َّ
موضوعة للصفات﴿ ،ق ْ
مرتبة توحيد الذات ،فليس هناك واصف ،وال موصوف ،وال سالك ،وال مسلوك ،وال عارف ،وال معروف،
وهذا هو الفناء يف التوحيد ومرتبة حق اليقني.
ان الْبَ ْح ُر ِم َدا ًدا لِ َك ِل َم ِ
ات َربِّي ُل ل َْو َك َ
مث النعوت اإلهلية واألخالق الربانية غري متناهية ،كما قال تعاىل﴿ :ق ْ
ات َربِّي َول َْو ِج ْئنَا بِ ِم ْث ِل ِه َم َد ًدا﴾ (الكهف ،)109/18فال ينتهي السري يف اهلل لَنَ ِف َد الْبَ ْح ُر ق َْب َل أَ ْن تَْن َف َد َك ِل َم ُ
87
NAZARİYAT Journal for the History of Islamic Philosophy and Sciences
ال بفناء السائر يف حبر التوحيد .قال صاحب الفتوحات املكية :4بعدما انتهى أمر العارف إىل أن رآه يف كل
مهب من يب يسمع ويب يبصر ،أراد العارف أن يلقي عصا السفار ويزيل عنه اسم شيء وظهر له نسمات ّ
املسافر ،وعرف َّأن األمر ال هناية له ،وأنَّه ال يزال مسافرا .انتهى .فسافروا تصحبوا وتغنموا ،فربح النفس
يف هذه التجارة وهو حتصيل كماالهتا العلمية والعملية ليستعد بذلك بقرب جوار املأل األعلى ،وخسراهنا
فق ُد ملك الكماالت والتدنس باالعتقادات وامللكات الردية واألعمال القبيحة ،فكما تلتذ النفس بعد مفارقة
األبدان مبطالعة تلك الكماالت فيها حيصل هلا من القرب بسببها ،والتمكن يف مقعد صدق عند ملك مقتدر،
ال ْفئِ َد ِة﴾ كذلك يتأمل بأضدادها وما حيصل هلا من البعد واالحتراق ب﴿ نَ ُار َّ
الل ال ُْمو َق َد ُة الَّتِي تَ َّط ِل ُع َعلَى َْ
(اهلمزة ،)7،6/114وهذا هو املراد باللّذات واآلالم العقليتني.
إذا تقررت هذه املقدمات ،فأعلم َّأن املعاد ،منه ما هو روحاين هو بقاء النفس بعد خراب البدن متلذذة،
أو متأملة بلذات وآالم عقليتني ،وأثبته احلكماء والصوفية وحمققوا املتكلمني .وقد ورد إليه اإلشارة يف كالم
﴿و َل تَقُولُوا لِ َمن
ْح ْسنَ ٰى َوزِيَا َدةٌ﴾ (يونس ،)26/10وقالَ : ين أَ ْح َسنُوا ال ُ رب العزة ،قال اهلل تعاىل﴿:ل َِّّل ِذ َ
ون﴾ (البقرة ،)154/2فال تعلم نفس ما أُخفي هلم من ات بَ ْل أَ ْحيَ ٌاء َو ٰلَ ِكن َّل تَ ْش ُع ُر َ يُقْتَ ُل ِفي َسبِ ِ
يل اللَِّ أَ ْم َو ٌ
اضيَ ًة َّم ْر ِضيَّ ًة فَا ْد ُخ ِلي ِفي ِعبَا ِدي َوا ْد ُخ ِلي
ْس ال ُْم ْط َمئِنَّ ُة ْار ِج ِعي إِلَى َربِّ ِك َر ِ
قرة أعني ،وقال﴿:يَا أَيَّتُ َها النَّف ُ
ِض َوا ٌن ِّم َن اللَِّ أَ ْكبَ ُر﴾ (التوبة .)72/9 وقال{:ور ْ
َ َجنَّتِي﴾ (الفجر،)30:
ومنه ما هو جسماين ،ورد به الشرع وأمجع عليه أهل امللل الثالث ،وشهد به نصوص القرآن يف مواضع
متعددة ،حبيث ال يقبل التأويل ،وحقيقته إعادة الروح يف عامل املثال إىل البدن املثايل الذي هو بعينه هذا
البدن يف عامل االسم واملاهية ،لكن بنشأة أُخرى ملكوتية مغايرة للنشأة األُوىل ،قال تعاىلَ :
﴿و َما نَ ْح ُن
ون﴾ ذك ُر َ َد َع ِل ْمتُ ُم النَّ ْشأَ َة ُْ
الولَى َفل َْو َل تَ َّ ون َولَق ْ نشئَ ُك ْم ِفي َما َل تَ ْعل ُ
َم َ َك ْم َونُ ِ بِ َم ْسبُو ِق َ
ني َعلَى أَن نُّبَ ِّد َل أَ ْمثَال ُ
(الوقعة.)63،62،61،60/65
مث َّإن اجلنة والنار كل منهما صور األعمال واألخالق واالعتقادات؛ إذ ما من عمل من األعمال صاحلات
فإن الوحدة
وسيئات إال ويتمثل يف اآلخرة بصور متناسبة جسمانية ،وإن كانت أعراضا ومعاين يف الدنيا؛ َّ
احلقيقية حمفوظة يف املوطنني ،واجلوهرية والعرضية من أحكام النشأة وآثار املوطن ،فاجلنة وما فيها من
األشجار واألهنار والثمرات وغريها من احلور والقصور والغلمان والولدان ،هي أعماهلم وأخالقهم ومقاماهتم
وصورت يف أمثلة متالئمة وصور مناسبة ،وهلذا يقال هلم :امنا هي أعمالكم ر ّدت اليكم، وأحواهلم مثّلت ّ
قاع ليس فيها فيقولون :نعم﴿ :هذه بضاعتنا ر ّدت الينا﴾ (يوسف )65/12قال عليه السالمَّ :
(إن اجلنَّ َة ٌ
عمارة فأكثروا من غراس اجلنَّة يف الدنيا ،فقيل يا رسول اهلل :ما غراس اجلنَّ ِة! قال عليه السالم :التسبيح
فلينظر ”فلما رآه يف كل شيء أراد أن يلقي عصا التسيار ويزيل عنه اسم املسافر فعرفه ربه أن األمر ال هناية له ال دنيا وال آخرة ،وأنك ال تزال 4
مسافرا ،كما أنت على ذلك ال يستقر بك قرار“ [الفتوحات.]11/2:
88
Ahmet Kamil Cihan, Arsan Taher, Muhammad Amın al-Shirwanı’s Treatise on Eschatology:
An Analysis and Critical Edition of Risalah fı tahqıq al-mabda’ wa-al-ma‘ad
والتهليل) 5وكذا جهنَّم ،وما فيها من دركات النريان وأنواع اآلالم وعذاب القرب ،وما يشاهد فيها من
احليّات والعقارب ليس إال صور االعتقادات الباطلة ونتائج األعمال السيئة ومثرات األخالق الردية ،كانت
ِين﴾ ْكا ِفر َ ﴿وإِ َّن َج َهنَّ َم ل َُم ِح َ
يط ٌة بِال َ يف الدنيا معاين فصارت يف اآلخرة صورًا ،فهم دائمون فيها عقىب ودنياَ ،
نيام فإذا ماتوا اس ٌ (فإن النّ َ
(التوبة ،)49/9إال أنَّهم ال يتأملون هبا لكثافتهم وغلظ حجاهبم وفرط غفلتهم؛ َّ
ون﴾ (السجدة .)12/32أال يُرى َار ِج ْعنَا نَ ْع َم ْل َصالِ ًحا إِنَّا ُمو ِقنُ َ
﴿ربَّنَا أَبْ َص ْرنَا َو َس ِم ْعنَا ف ْ
انتبهوا) ،وقالواَ :
6
َّأن من انفتح عني بصريته وصار يف الدنيا من أهل اآلخرة باملوت االختياري يروهنم داخلني يف النار ،وما فيها
من أنواع العذاب متمثلني بصور مناسبة؛ لِما غلب عليهم من الصفات الذميمة( ،فاتَّقوا فَراس َة املُؤمن فإنَّ ُه
ُون ِفي بُ ُطونِه ْ
ِم نَ ًارا ال الْيَتَ َام ٰى ُظل ًْما إِنَّ َما يَْأ ُكل َ
ُون أَ ْم َو َ
ين يَْأ ُكل َ نظ ُر بِنُو ِر اهلل) ،قال عز من قائل﴿ :إِ َّن الَّ ِذ َ يّ ُ
7
َو َسيَ ْصل َْو َن َس ِع ًريا﴾ (النساء ،)10/4وقال عليه السالم( :الذين يشربون من آنية الذهب والفضة إنَّما جيرجر
يف بطوهنم نارا) ،8وقال عليه السالم ( :اجلنَّة ُح ّفت باملكاره والنار ح ّفت بالشهوات).9
إفراط ،وطرف تفريط، فإن لكل من القوة العقلية والعملية طرف ٍ وكذا الصراط هو صورة االعتقاد والعمل؛ َّ
وإن األطراف هلا عرض عريض ال يكاد ووسطًا حقيقيا هو االعتدال ،واألطراف رذائل ،واألوساط فضائلَّ ،
يقف عند ح ّد ،والوسط احلقيقي سواء يف االعتقاد والعمل واحد ليس إال بل ال يتصور فيه التعدد ،قال تعاىل:
َّك ْم َر َق بِ ُك ْم َعن َسبِي ِل ِه َٰذلِ ُك ْم َو َّص ُ
اكم بِ ِه ل ََعل ُ ﴿وأَ َّن َٰهذَا ِص َرا ِطي ُم ْستَ ِق ً
يما فَاتَّبِ ُعو ُه َو َل تَتَّبِ ُعوا ُّ
السبُ َل فَتَف َّ َ
ُون﴾ (األنعام .)153/5واستوضح ذلك من اخلطوط الواصلة بني كل نقطتني؛ فإنَّها وإن كانت غري ِ تَتَّق َ
الض َل ُل﴾ (يونس.)32/10 ْح ِّق إَِّل ََّماذَا بَ ْع َد ال َمتناهية لكن املستقيم منها ليس إال واحدا ،كما ال خيفى ﴿ف َ
فالصراط املستقيم هو صورة هذا الوسط من االعتقادات واألعمال ،ولكونه مغمورا فما بني األطراف الكثرية
وأحد من السيف؛ ولذا قال عليه السالم( :شيَبتين أدق من الشعر َّ أشق وصار َّ املتشاهبة صار الثبات عليه ُّ
َاستَ ِق ْم َك َما أُ ِم ْر َت﴾ (هود ،)112/11أي يف
هود) إذ قد أُمر عليه السالم فيها باالستقامة بقوله تعاىل﴿ :ف ْ
10
فإن كل
ومن تأمل يف عجائب ملكه وملكوته وغرائب صنعه وجربوته ،مل يستنكف عن قبول أمثال هذا؛ َّ
فإن للنفس نشآت شىت ،وهي يف كل نشأة ختتص بآثار ما يتعلق باآلخرة فهو من عامل امللكوت واملثال؛ َّ
وأحكام ،بل مجيع املمكنات هلا عوامل خمتلفة ،كالوجود العلمي اإلمجايل املسمى بالتعني األول ،والتفصيلي
89
NAZARİYAT Journal for the History of Islamic Philosophy and Sciences
املسمى بالتعني الثاين ،مث الروحي ،مث املثايل مث احلسي العنصري ،وهي وإن كانت حادثة يف الوجود العيين
احلسي ،إال أنَّها قدمية باعتبار وجوداهتا العلمية 11األولية ،ليس جعال جلاعل نفوذ فيها باعتبار هذا الوجود.
مث النفس تشاهد يف كل نشأة صورة تقتضيها تلك النشأة ،فكما أنَّها تشاهد يف املنام صورا ،ال تشاهدها يف
اليقظة كذلك تشاهد عند االخنالع عن البدن احلسي واالنتقال إىل البدن املثايل يف عامل املثال أُمورًا مل ميكن
فإن أصحاب املكاشفات وأرباب املشاهدات من احلكماء املتأهلني والصوفية قالوا :بني مشاهدهتا يف احلياة؛ َّ
عامل املجردات الروحية اللطيفة املسمى بعامل امللكوت وبني عامل املوجودات العينية الكثيفة املكتنفة بالقيود
ان﴾ان بَْينَ ُه َما بَ ْر َز ٌخ َل يَْب ِغيَ ِ
﴿م َر َج الْبَ ْح َريْ ِن يَلْتَ ِقيَ ِ
والعوارض املسمى بعامل امللك برزخ يسمى بعامل املثالَ ،
(الرمحن ،)20،19/55وفيه موجودات مشخصة مطابقة ملا يف اخلارج من اجلزئيات مثال هلا قائمة بنفسها
وأما
مناسبة ملا يف العاملني املذكورين ،أما لعامل امللك؛ فألهنا صور جسمانية شبحية مقيدة بقيود شبحيةَّ ،
لعامل امللكوت؛ فألهنا معلقة غري متعلقة مبكان وجهة ،كاملجردات ،حىت أنَّ ُه يرى صورة مثالية لشخص واحد
يف مرايا متعددة ،بل يف مواضع وأمكنة متكثرة ،كما حيضر ملك واحد يف ألف مكان ،كقابض األرواح
ونافخها ،ومن هذا القبيل حضور بعض األولياء يف زمان واحد يف أماكن متعددة شرقية وغربية ،ففي عامل
املثال يتروح األجساد ويتجسد األرواح ،وإىل هذا العامل أشار سيدنا صلى اهلل تعاىل عليه وسلم بأن لكل
(بأن لكل قطرة ملكا يزنل معها).12 شيء ملكا ،حىت قال عليه السالمَّ :
مث إنَّها لتلك الصور املثالية جمايل خمتلفة مثل املرآة واملتخيلة واحلس املشترك وسائر القوى الباطنية اليت هلا
أيضا نسبة إىل العاملني ،إذا انقطعت عن االشتغال باالمور اخلارجة العائقة؛ إذ حيصل هلا بذلك زيادة مناسبة
إىل ذلك العامل ،كما للمتجردين عن العالئق البشرية والكدورات اجلسمانية ،كاألنبياء واألولياء والنائمني
واملرضى ،بل يظهر لألنبياء واألولياء يف القوى الظاهرة أيضا حىت حصلت هلا تلك املناسبة بسبب االنقطاع
عن الشواغلَ ،أما ترى َّأن النّيب عليه السالم كان يشاهد جربائيل حني يزنل بالوحي والصحابة حوله كانوا
ال يشاهدونه؟ ث َُّم َّإن عامل الشهادة بالنسبة إىل عامل املثال كحلقة يف بيداء على ما ورد يف احلديث ،فما ظنك
بعامل يسع اجلنة اليت عرضها السماوات واالرض!.
وبإثبات هذا العامل ينكشف لك كثري من الشهادات واألُمور املستغربة البعيدة من العقول املقيدة مبقتضيات
احلواس املشغولة مبستلذات القوى عن االرتقاء إىل هذا العامل فضال عما فوقه؛ وبه ينحل أيضا كثري من
مشكالت الربزخ واملحشر ،كظهور األخالق والسجايا يف القرب بالصور احلسنة ،أو صور احليات والنريان
والعقارب؛ وكوزن األعمال من غري حاجة إىل تأويله بوزن الصحائف؛ وكخلق النار واجلنة اليت عرضها،
90
Ahmet Kamil Cihan, Arsan Taher, Muhammad Amın al-Shirwanı’s Treatise on Eschatology:
An Analysis and Critical Edition of Risalah fı tahqıq al-mabda’ wa-al-ma‘ad
كعرض جمموع السماوات واألرض؛ وكقصة معراج الرسول عليه السالم ،فإنه كان بالبدن املثايل ،وهلذا
قالت عائشة رضي اهلل عنها( :ما فقدت جسد حممد)13؛ وهبذا ينحل أيضا الشبهة املشهورة وهي :أنَّ ُه لو
صار مؤمن غذاء لكافر وجزء من بدنه فإعادهتا غري متصورة ،ولو وقعت يلزم تعذيب األجزاء املطيعة،
بأن املحشور هو األجزاء األصلية ،ولعل اهلل حيفظه من أن يصري جزء أصليا ال جيدي نفعا؛ إذ الشريعة والقول َّ
املحمدية قاضية حبشر األجزاء الفضلية؛ إلنَّه أَ َم َر عليه السالم باجتناب اجلنب عن قلم الظفر وإزالة الشعر قبل
اإلغتسال ،بل األكفان أيضا حمشورة حىت أمر عليه السالم بتجديد األكفان ،ووجه االحنالل َّأن اإلنسان كان
أوالً على نشأة روحانية ،كما ورد يف احلديث( :خلق اهلل األرواح قبل األجساد بأل َفي عام) ،14مث حصل
ألن هذا العنصر له صفوة وكدر، له يف الدنيا نشأة عنصرية ،وهي جامعة جلسمانية لطيفة وجرمانية كثيفة؛ َّ
فما كان من صفوته فهو جسم ومثال وملكوت ،وما كان من كدره فهو جرم ،واجلرم كثيف ظاهر وأثر،
اللب إىل القشر ،ولذا خوطب النيب عليه السالم يف أولواجلسم لطيف باطن مدثور ،نسبته إىل اجلرم نسبة ّ
األمر ب﴿يا أيُّها امل َُّدثر﴾ (امل ّدثر.)1/74
مث النفس حتشر يف ذلك العامل يف بدن جسماين وهو نشأة جامعة للروحانية والعنصرية ،ومن أحكام هذه
النشأة وخواصها جواز الكون يف مكانني يف آن ،فاملحشور واملعاد هو جسمانية جلميع األجزاء األصلية
والفضلية يف اآلكل واملآكول مجيعا ،ولعل مراد القوم باألجزاء األصلية هو هذا امللكوت املعاد ،ال ما يقابل
الفضلية ،مث َّإن البدن املثايل اجلسماين يتغذى وينمو ويعود رطبا طريا باإلميان والعمل الصاحل ﴿إِل َْي ِه يَ ْص َع ُد
الصالِ ُح يَ ْرف َُع ُه﴾ (فاطر ،)10/35وكلما قوي اجلسماين ضعف اجلرماين ويتدرج ْك ِل ُم َّ
الطيِّ ُب َوال َْع َم ُل َّ ال َ
يف الرقة حىت يصري كقشر .نقل عن بايزيد البسطامي ،قدس سره( ،انسلخت عن جلدي كما انسلخت
رق اجلرماين و ضعف يظهر فيه نور 15اجلسماين املثايل الباطن ويتألأل مشرقا فيه ،قال تعاىل: احليَّ ُة) ،وكلما َّ
الس ُجو ِد﴾ (الفتح ،)29/48وقال عليه السالم( :من كثُر صالتُُه بِالليل ِم ِم ْن أَثَ ِر ُّ
يما ُه ْم ِفي ُو ُجو ِهه ْ
﴿س َِ
16
وجه ُه بالنهار).َح ُس َن ُ
ال لنبينا صلى اهلل عليه وسلم حىت
وأعلى مراتب هذه التصفية ،وهو غلبة اجلسماين على اجلرماين قد حاص ً
كان عدمي الظل .فاملؤمن لكون جسمانيته القريبة من الروحاين قويًّا ورطبًا بربكة اإلميان والعمل الصاحل صار
ألي تصرف كان ،كقضيب رطب مييل تار ًة ويستقيم أُخرى وال ينكسر عند هبوب الرياح، ال ومستعدًا ّقاب ً
وهلذا تعلق أرواح املؤمنني بأبداهنم يف النشأة اجلامعة للتجرد والتعلق على سبيل الطوع واالختيار.
91
NAZARİYAT Journal for the History of Islamic Philosophy and Sciences
وأما الكفار والعصاة فقد قويت جرمانيتهم وغلظت وكثفت حىت كاد يذوب جسمانيتهم وينعدم ملكوهتم؛
فإن أهل الشقاوة ينفصل منهم ما قد كان فيهم من أرواح القوى اإلنسانية والصفات الروحانية ،ويتوفر َّ
يف نشأهتم صور األحوال املزاجية املادية احلاصلة يف تصوراهتم وأذهاهنم ،واألخالق الردية اليت تترتب عليها
حتل من أجزائهم البدنية يعاد إليهم وجيمع أفعاهلم يف الدنيا وأقواهلم ،وينظم إىل ملكوهتم ومثاهلم ،وكذا ما ّ
ضرس الكافر مثل أُحد ،وجلده أربعون ذراعًا بذراع اجلبار، لديهم بصورة ما فارقتهم .ولذا ورد َّأن َ
َس ْت ُقلُوبُ ُكم ِّمن بَ ْع ِد َٰذلِ َك َفهِي َكال ِ
ْح َج َار ِة أَ ْو أَ َش ُّد ُم ق َ فأرواحهم ليُبسها وشدهتا ،كما قال تعاىل﴿ :ث َّ
َ
﴿ولَ ُه أَ ْسل َ
َم َس َوةً﴾ (البقرة ،)74/2ال تقبل التصرف إال بعنف ،وال تتعلق يف اآلخرة بأبداهنم إال بكرهَ ، قْ
(آل عمران ،)83/3فمثلهم كمثل نبت ون﴾ ِ َو ًعا َو َك ْر ًها َوإِل َْي ِه يُ ْر َج ُع َ ال ْر ِ
ض طْ او ِ
ات َو َْ َمن ِفي َّ
الس َم َ
ون﴾ الس ُجو ِد ف ََل يَ ْستَ ِط ُيع َ يابس ينكسر ويتأىب عن تقلبه كيف يراد ﴿يَ ْو َم يُ ْك َش ُف َعن َس ٍ
اق َويُ ْد َع ْو َن إِلَى ُّ
(القلم.)40/68
فاملؤمن يف النشأة الروحانية السابقة كانت خالية عن املعاين اجلسمانية واخلواص الروحانية وساذجة عن مجيع
كماالهتا املمكنة ،فإذا قارن روحه اجلسد يف النشأة الدنياوية حصل له ذوق املعاين ،واخلواص ،إذا فارقها
أيّام الربزخ حيصل له ذوق املعاين اخلاصة به احلاصلة له أيّام املقارنة .مث إذا اتّصل به يف النشأة اجلامعة اتصاال
فإن بكمال الطرفني احلياة واملمات فكأنَّ ُه جلمعه بني التجرد والتعلق اختياريا بربكة اإلميان والعمل الصاحلَّ ،
حى دائما ميت دائما .فنعيم جنَّ ِة األعمال ،أعين :احلور والغلمان وأنواع األطعمة واألشرِبَة وسائر اللذات
اجلسمانية من حظوظ احلياة ،ونعيم جنَّ ِة اإلميان ،أعين :اللقاء وسائر ما ال عني رأت ،وال أُذن مسعت ،وال
ُر ِة أَ ْعيُ ٍن﴾ (السجدة ،)18/32ملشاهدة أنوار ْس َّما أُ ْخ ِف َي لَ ُهم ِّمن ق َّ خطر على قلب أح ٍد ممَّا﴿ ،ف ََل تَ ْعل ُ
َم نَف ٌ
أح ُد ُكم ربَّ ُه حتَّى يَ ُموت).17
احلق واالنغماس يف حبر النور من حظوظ املوت ،قال عليه السالم( :ال يَل َقى َ
وأما الكافر فلعدم قبوله هذه التصرفات بطوع واختيار لقساوة قلبه ويبسه ،فهو حمروم عن خري الطرفني، َّ
﴿إن اهللَ َح َّر َم َها على ون﴾ (املطففني ،)15/33وقالَّ : ِم يَ ْو َمئِ ٍذ ل ََّم ْح ُجوبُ َ
ه ب ر ن ع م
ُ ْ َ َّ ِّ ْهن
َِّإ لَّ َ
﴿ك تعاىل: قال
ِب﴾ (احلديد.)13/57 اءك ْم فَالْتَ ِم ُسوا نُورًا ف ُ
َضر َ ِين﴾ (األعراف ،)50/7وقالِ ﴿ :ق َ
يل ْار ِج ُعوا َو َر ُ الكا ِفر َ
َ
فالكافر ليس له نعيم اجلنَّ ِة؛ لعدم حياته ،وال نعيم اللقاء؛ لعدم موته ،قال اهلل تعاىلَ ﴿ :فإِ َّن لَ ُه َج َهنَّ َم َل يَ ُم ُ
وت
ِفي َها َو َل يَ ْحيَ ٰى﴾ (طه ،)74/20وهذا هو اخلسران املبني.
92
Ahmet Kamil Cihan, Arsan Taher, Muhammad Amın al-Shirwanı’s Treatise on Eschatology:
An Analysis and Critical Edition of Risalah fı tahqıq al-mabda’ wa-al-ma‘ad
ربالغاذي و ال ُْمنمي واملولد وغري ذلك ،حىت قالواَّ :إن األلوان الكثرية العجيبة يف رياش الطواويس فاعلها ُّ
إظالل اإلشراقات نورية ونسب معنوية يف تلك األرباب النورية ،حىت َّأن رائحة نوعها ،وكذا مجيع اهليئات ُ
فإن األرباب يفيض عليها من مبادئها أنوار أُخر عارضة ،ويلزمها نسب معنوية رب نوعه؛ َّ املسك ظل هليئة يف ِّ
خمتلفة ،فيظهر صورها يف أصنافها اجلسمانية ،وإىل تلك األرباب أشار سيدنا كاشف احلقائق عليه أفضل
ِ لك ا ِ
جلبَ ِ
الر ِّب مثال ملربوبه َك البِ َحارِ) .ويسمى تلك األرباب ُمثُالً؛ لكون َ ومل ُ
ال َ الصلوات بقوله( :أتاين َم ُ
18
يف العامل العقلي ،واملربوب مثاال َلربِّ ِه يف العامل العيين ،فدام أحدمها بدوام اآلخر وانتفى بانتفائه ،وهذا ما قاله
أمساء يقتضي كل واحد منها مظهرًا ومرتب ًة كليّ ًة من العامل ،فيتجلى فيه ويظهر آثاره للحق ً الصوفية من َّأن ِّ
رب األرباب ،وملا كان مرتبة األمساء عنه ،ويسمى ذلك االسم بالنسبة إىل هذا النوع ربًَّا .والواجب املطلق ُّ
ُون َخي ٌر أَ ِم اللَُّ ال َْو ِ
اح ُد اإلهلية دون مرتبة الذات؛ لكوهنا مقام التفرقة والكثرة ،قال اهلل تعاىل﴿ :أَأَ ْربَ ٌ
َرق َ ْ اب ُمتَف ِّ
وراء طو ِر العقل ،والعقول طور َ َه ُار﴾ (يوسف .)39/12ولنقتصر على هذا القدر يف هذا الباب ألنَّه ٌ الْق َّ
قاصرة ،والعزائم متقاعدة ،امتألت القلوب من الرسوم والعادات ،حىت كاد اإلنسان يلتحق باحليوانات.
إعلم أن ههنا ألفاظا متس احلاجة إىل معرفة معانيها ،وهي أربعة :القلب والروح والنفس والعقل.
َّأما القلب فهو يطلق على معنيني :أحدمها :اللحم الصنوبري الذي يف جتويفه دم أسود ،والثاين :لطيفة ربانية
روحانية هلا تعلق بالقلب اجلسماين ،هي املدرك من اإلنسان واملكلف واملخاطب ،وهبا يتميز اإلنسان عن
سائر احليوانات ،بل هي حقيقة اإلنسان املخلوقة يف أحسن تقومي.
وأما الروح فهو يطلق تار ًة على هذه اللطيفة ،وتار ًة على البخار الذي ينبعث من ذلك الدم األسود ،وينتشر َّ
بواسطة العروق إىل مجيع أجزا ِء البدن ،وفيضان نور احلياة واحلس واحلركة والسمع والبصر واللمس والشم منه
يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار يف زوايا البيت وقد أشرنا إليه سالفا ،والروح هبذا املعىن يسمى حيوانيا.
وأما النَّفس فهو أيضا يطلق على أمرين :أحدمها :املعىن اجلامع للصفات الذميمة ،كما قال عليه السالم: َّ
نفس َك اليت بني جنبيك) ،وثانيهما :اللطيفة املذكورة إال َّأن هلا أحواالً خمتلفة وأوصافا(أع َدى َع ُد ّو َك ُ
19
فإن النَّفس إذا سكنت حتت األوامر وزايلها االضطراب بسبب معارضة متفاوت ًة يسمى بكل اعتبار باسم؛ َّ
الشهوات مسيت مطمئنة ،وإذا مل يتم سكوهنا وصارت موافقة للقوة الشهوانية تار ًة ومعرض ًة عليها أُخرى
مسيت لوامة؛ ألهنا تلوم صاحبها عند التقصري يف العبادة ،وإن تركت االعتراض وأطاعت مبقتضى الشهوات
ٍ
باعتبارات شىت ،فاملسمى واحد ليس إال. لهم ِة وغريها
مسيت ّأمارة ،وقد تُسمى بأمساء أخر مثل ال ُْم َ
93
NAZARİYAT Journal for the History of Islamic Philosophy and Sciences
وأما العقل فيطلق تار ًة على العلوم املدركة باللطيفة املذكورة ،وتار ًة على نفس تلك اللطيفة.
مث َّإن لِلقلب جنودًا ،وبيانه :أنَّه ل ََّما كان اكتساب الكماالت اإلنسانية موقوفا على البدن ،فالبُ َّد من حفظه
جبلب ما يوافقه ودفع ما ينافره ،فأنعم اهلل عليه جللب املوافق جبندين باطن وهو الشهوة ،وظاهر وهو اآلهتا ،وملا
توقفت الشهوة للشيء والنَّفرة عنه على معرفته ،أنعم عليه يف املعرفة جبندين باطنني :أحدمها :اإلدراكات اخلمس
ومنازهلا احلواس اخلمس ،وثانيهما :القوى اخلمس ومنازهلا جتاويف الدماغ وبطوهنا ،فاإذا َعلِم املوافق اشتهاه،
وإذا َعلِم املنافر نَ َفر عنه وانبعث حنو دفعه ،والباعث يسمى إرادة ،واملحرك لألعضاء قدر ًة .فجميع جنود القلب
اصط ِح َب يف اإلنسان هذه اجلنود الدراك ِة الظاهر ِة والباطنةَّ ،
فلما ُ بكثرهتا يرجع إىل القدرة واإلرادة والقوى ّ
اجتمعت فيه أربعة أوصاف َسبُعية حتمله على العداوة ،وبَ ِهي ِميِّ ٍة حتمله على الشره واحلرصَ ،
وربَّانية حتمله على
االستبداد واالنسالخ 20عن القيود السفالنية واإلطالق عن رب َق ِة العبودية ،وشيطانية حتمله على املكر واخلداع.
فالسعيد من سخرت نفسه للصفة الربانية ،فجعل اهلل تعاىل مقصده ،والدار اآلخرة مستقره ،والدنيا مزنله،
والبدن مركبه ،واللسان ترمجانه ،واألعضاء كتابه وخدمه ،واحلواس جواسيسه تؤدي ما تطلع عليه من
املحسوسات إىل اخلازن ،مث تعرض اخلازن على امللك أعين :حقيقة اإلنسان ،فيقتبس منه ما حيتاج يف تدبري
مملكته ،ونيل السعادة يف آخرته.
ث َُّم َّإن لِلقلب أعماالً أربعة قبل عمل اجلوارح :األول اخلواطر ،والثاين حترك الرغبة مبا خطر حبكم الطبع،
(إن
ويسمى ميل الطبع ،وهذان ال يؤاخذ العبد هبما؛ إذ ليسا 21باختياره ،وهذا هو املراد بقوله عليه السالمَّ :
بأن هذا مع صدر َها ما مل تَعمل به او تتكلم) ،22والثالث حكم النفس َّ وسو َست به َ اهللَ جتاو َز عن اَُّمتِي ما َ
قبحه ينبغي أن يُفعل ،وهذا أيضا ال يؤاخذ به وإن كان اختياريا إذ ال عزم ،والرابع يقيم 23العزم على الفعل
﴿وإِن تُب ُدوا َما ِفي أَنف ِ
ُس ُك ْم أَ ْو تُ ْخفُو ُه وإن مل يفعل ملانع ،وهذا يؤاخذ به العبد ،وهو املراد بقوله تعاىلْ َ :
اس ْب ُكم بِ ِه اللَُّ﴾ (البقرة.)284/2
يُ َح ِ
و ِم َّما ينبغي أن يُعلم اخلاطر نوعان :أحدمها ما يدعوا إىل اخلري ،وسببه ال ُْملقى له يف القلب يسمى ملكا،
ِف السبب ُس ِّمي ذلك اخلاطر وحيًا ،وإن مل يُعرف السبب ُسمي اخلاطر إهلامًا ونَفثا يف الروع، فإن ُعر َ
وعلما لدنيا .وثانيهما :خاطر يدعوا إىل الشر ،ويُسمى وِسواسا ،وسببه ال ُْملقى له يسمى شيطانا ،وقد يلقي
الشيطان له خريا ،ويدعوا إليه ليفوت منه ما هو أفضل منه ،فقلب املؤمن دائما بني ال َْملك والشيطان ،وهو
لب ال ُْمؤ ِم ِن بَني أصب َع ِ ِ
ني من أصابِ ِع َّ
الرمحن يُقلِّبُ ُه ُما كيف يَ َش ُاء). املراد باألصبعني يف قوله عليه السالم( :قَ ُ
24
َ
94
Ahmet Kamil Cihan, Arsan Taher, Muhammad Amın al-Shirwanı’s Treatise on Eschatology:
An Analysis and Critical Edition of Risalah fı tahqıq al-mabda’ wa-al-ma‘ad
ومن اخلاطر ما يقع يف القلب مبباشر ِة أسباب من العبد وهي َّإما النَّ َظ ُر واالستدالل ،كما يف طريقة االستدالليني،
فإن القلب ُمستعد ألن يَتَ َجلى فيه حقائق األشياء عند وإما هتذيب الباطن وتصفيته وهي طريقة الصوفيني؛ َّ
مقابلة مرآته مبرآة اللوح املحفوظ وخلوه عن احلجب ،فإذا ارتَ َفع احلجب ،واملوانع وتطهر القلب عن لوث
األخالق الذميمة و َدنَ ِس امللكات الردية وانفتحت أبواب القلب حنو ملكوت السماوات واألرض واتَّصل
باملأل األعلى واملبادئ العالية ،انعكس إليه ما فيها من صور احلقائق والعلوم واملعارف ،فصار عالَما عقليًا
ِم﴾ (فصلت ،)53/41وهذا هو ُسه َْاق َو ِفي أَنف ِ ِم آيَاتِنَا ِفي ْالف ِ ﴿سنُرِيه ْمضاهيًا للعامل احلسي ،قال تعاىلَ :
املراد بليلة القدر ،ينكشف للنفس فيها أحوال امللك وامللكوت ،كما قال تعاىلٰ َ :
﴿و َك َذلِ َك نُرِي إِبْ َرا ِه َ
يم
ض﴾ (األنعام .)75/4ول ََّما كان أكثر ما يَتَجلى مرآة القلب يف شهر رمضان ات َو َْ
ال ْر ِ او ِالس َم َ
وت َّ َك ََمل ُ
الذي أُنزل فيه القرآن بواسطة الصوم الذي هو تضييق جماري الشيطان يف بدن اإلنسان ،صار مصادفة ليلة
القدر يف رمضان أكثَر ،أال يُرى َّأن من ُجعل له هذ ِه ال َْمرتَبة يف غري رمضان أيضا فقد صادف ليلة القدر،
فَ ِمالك األمر هو رفع موانع القلب وتصفية مرآته وتصقيله ،وتلك املوانع مخسة :أحدها نقصان يف الذات
وأصل الفطرة ،كقلب الصيب واملجانني ،والثاين :كدروة املعاصي وخبث الشهوات ،قال تعاىلَ :
﴿ك َّل بَ ْل
ون﴾ (املطففني ،)14/83والثالث :العدول عن اجلهة ،وهو االشتغال َى ُقلُوبِهِم َّما َكانُوا يَ ْك ِسبُ َ ان َعل ٰ
َر َ
باألُمور الدنيوية ،والرابع :االعتقادات الباطلة واجلهليات املركبة والظنون الفاسدة املركوزة يف الطبع ،قال
ون﴾ (يونس ،)66/10اخلامس :اجلهل بطريق العثور على املطلوب ،كما يف ﴿وإِ ْن ُه ْم إَِّل يَ ْخ ُر ُص َ
تعاىلَ :
ِم﴾ (احلديد.)27/57 ﴿و َر ْهبَانِيَّ ًة ابْتَ َد ُعو َها َما َكتَْبنَا َها َعل َْيه ْ
زهاد الكفرة والرهابني ،قال تعاىلَ :
فإذا ارتفع هذه املوانع صار القلب كمرآة جملوة حوذي هبا ما يقابلها من الصور العلمية واحلقائق املتأدية،
وإما من الباطن
َّإما من اخلارج وطرق احلواس الظاهرة اليت هي كاألهنار اخلمسة بالنسبة إىل خواص القلبَّ ،
نصب من األهنار اخلارجية ال خيلو عن كدر األوهام والظنون واألبواب املفتوحة حنو املأل األعلى ،إال َّأن ال ُْم َّ
خبالف ما إذا ُس َّدت طرق اخلارج وحوذي بالقلب إىل امللكوت األعلى؛ فإنَّه يظهر فيه ينابيع احلكمة ،فهي
ْج ًريا﴾ (اإلنسان ،)6/76ويسمى هذه العلوم علوم املكاشفة. ﴿ َع ْينًا يَ ْش َر ُب بِ َها ِعبَا ُد اللَِّ يُف ِّ
َج ُرونَ َها تَف ِ
95
NAZARİYAT Journal for the History of Islamic Philosophy and Sciences
96