You are on page 1of 12

‫‪Ahmet Kamil Cihan, Arsan Taher, Muhammad Amın al-Shirwanı’s Treatise on Eschatology:‬‬

‫‪An Analysis and Critical Edition of Risalah fı tahqıq al-mabda’ wa-al-ma‘ad‬‬

‫*‬
‫رسالة يف حتقيق املبدأ واملعاد‬
‫ملحمد أمني بن الصدر الشرواين‬

‫وكرمهم بسلوك سبيل النجاة يف معرفة‬ ‫ِ‬


‫فضل العالمني على العالَمني وهداهم سبيل الرشاد‪ّ ،‬‬
‫احلمد هلل الذي ّ‬
‫املبدأ واملعاد‪ ،‬مث الصالة والسالم األتّمان على من رفع احلجب الرقائق عن وجه مجال احلقائق وعلى آله‬
‫وصحبه ما نبت زهر يف املرعى وفاح الشقائق وبعد‪.‬‬

‫فيقول الراجي عفو ربه الصمداين حممد أمني بن الصدر الشرواين الشهري مبال زاده حفظهما اهلل عن موجبات‬
‫الندامة‪ :‬هذه نبذة من احلقائق وزبدة من الدقائق تتعلق بتحقيق املبدأ واملعاد‪ ،‬واهلل اهلادي إىل سبيل الرشاد‪.‬‬

‫َح ِس ْبتُ ْم أَنَّ َما َخ َل ْقنَ ُ‬


‫اك ْم َعبَثًا َوأَنَّ ُك ْم إِل َْينَا‬ ‫ال على اهلل‪ ،‬ومستعينا بلطف اإلله قال عز من قائل ﴿أَف َ‬ ‫فأقول متوك ً‬
‫ان أَ ْن يُْت َر َك ُس ًدى﴾ (القيامة ‪.)75/36‬‬ ‫ون﴾ (املؤمنون ‪ ،)115/23‬وقال تعاىل‪﴿ :‬أَيَ ْح َس ُب ال َ‬
‫ِْنس ُ‬ ‫َل تُ ْر َج ُع َ‬
‫أبدي‪ ،‬وطنه األصلي بساط القربة وهو يف‬ ‫فاإلنسان مل خيلق عبثا ومل يترك سدى‪ ،‬وهو وإن مل يكن أزليا لكنه ٌ‬
‫عامل الشهادة يف الغربة؛ فإن حقيقة اإلنسان ليس هذا اجلوهر املحسوس والبدن امللموس‪ ،‬بل هي لطيفة ربانية‬
‫نورانية روحانية سلطانية‪ ،‬خلقت يف عامل الالهوت يف أحسن تقومي‪ ،‬مث ُردت إىل األبدان كما قال تعاىل‪:‬‬
‫ني﴾ (التني ‪ ،)5،4/95‬أي إىل عامل األبدان‬ ‫َل َسا ِف ِل َ‬ ‫ان ِفي أَ ْح َس ِن تَ ْق ِوميٍ ث َّ‬
‫ُم َر َد ْدنَا ُه أَ ْسف َ‬ ‫ِْنس َ‬ ‫﴿لَق ْ‬
‫َد َخ َل ْقنَا ال َ‬
‫الذي هو أسفل يف نظام سلسلة الوجود؛ ألن ّأوهلا جوهر عقلي إبداعي‪ ،‬كما قال عليه السالم‪( :‬أول ما خلق‬
‫اهلل العقل)‪ ،1‬وهو املراد من النور والقلم املذكورين يف احلديث أيضا‪ .‬وهناك الوجود والنور يف غاية الشرف‬
‫والكمال‪ ،‬مث تزنل منها آخذا يف النقصان إىل أن بلغ غايته وهو عامل العناصر واألبدان املسمى بعامل امللك‬
‫والشهادة‪ ،‬وتلك اللطيفة هي املكلف واملطيع والعاصي واملثاب واملعاقب‪ ،‬إال أهنا ملا كانت يف أصل الفطرة‬
‫ناقصة مستعدة الكتساب كماالهتا الالئقة هبا بواسطة القوى اجلسمانية واآلالت اجلسدانية‪ ،‬أُرسلت‪ 2‬مع رأس‬

‫النسخة املتعمدة يف التحقيق‪ ،‬نسخة املؤلف املبيضة املوجودة بقسم أسعد أفندي يف املكتبة السليمانية‪ ،‬برقم ‪ .3614‬اما النسخة االخرى املسودة‬ ‫*‬
‫موجودة يف قسم عمجه زاده حسني يف املكتبة السليمانية برقم ‪ .321‬واملُشار اليها يف التحقيق حبرف (ز)‪.‬‬
‫موضوعات ابن اجلوزي (‪.)274/1‬‬ ‫‪1‬‬
‫ز‪ :‬سلمت‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪85‬‬
‫‪NAZARİYAT Journal for the History of Islamic Philosophy and Sciences‬‬

‫مال العقل للتجارة إىل عامل الغربة واألبدان لتربح بتحصيل كماالهتا‪ ،‬فترجع إىل الوطن األصلي ساملًا غامنًا‪،‬‬
‫الض َللَ َة‬
‫﴿اشتَ َر ُوا َّ‬ ‫اللهوت يف مقعد صدق عند مليك مقتدر‪ ،‬وقليل ما هم؛ فإن األكثرين ْ‬ ‫ويتمكن يف عامل ّ‬
‫ين﴾ (البقرة‪ ،)16/2‬فالبدن للروح مبزنلة املركب واآللة‪ ،‬وتعلقه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َما َربِ َح ْت ت َج َارتُ ُه ْم َو َما َكانُوا ُم ْهتَد َ‬ ‫بِالْ ُه َد ٰى ف َ‬
‫به بواسطة الروح احليواين الذي هو خبار لطيف يتكون من لطيف األغذية‪ ،‬وحمله القلب الصنبوري‪ ،‬ويفيض‬
‫عليه القوى احليوانية‪ ،‬فينبعث منه ويسري حامال لتلك القوى إىل أعماق البدن بواسطة العروق الضوارب‪،‬‬
‫كالشمع إذا أديرت يف زوايا البيت‪ .‬مث أن تعلقه بالبدن ليس تعلقا حلوليا أو إحتاديا‪ ،‬بل تعلق التدبري والتصرف‪،‬‬
‫كتعلق امللك باململكة‪ ،‬إال أن هذا التعلق ملا كان يف هذه النشأة راسخا‪ ،‬ومستمرا شبهيا باالحتاد‪ ،‬انصبغ‬
‫الروح بصبغ املادة‪ ،‬وتكدر بالكدورات البشرية‪ ،‬وتلوث بالقاذورات اجلسمانية‪ ،‬ومال إىل اللذات العاجلة‬
‫َنط َر ِة ِم َن‬
‫ني َوالْ َقنَا ِط ِري ال ُْمق َ‬
‫ات ِم َن النِّ َساء َوالْبَنِ َ‬
‫الش َه َو ِ‬
‫اس ُح ُّب َّ‬ ‫والشهوات الفانية‪ ،‬كما قال تعاىل‪ُ ﴿ :‬زيِّ َن لِلنَّ ِ‬
‫آب﴾‬ ‫الل ِعن َد ُه ُح ْس ُن ال َْم ِ‬ ‫الدنْيا َو ّ‬ ‫اع ال َ ِ‬ ‫ْح ْر ِث َذلِ َك َمتَ ُ‬
‫ْخ ْي ِل ال ُْم َس َّو َم ِة َوا َألنْ َعا ِم َوال َ‬
‫الذ َه ِب َوالْ ِف َّض ِة َوال َ‬
‫َّ‬
‫ْحيَاة ُّ َ‬
‫اك ْم‬‫(آل عمران‪ )41/3‬فنسي الروح وطنه‪ ،‬ولقاء حمبوبه احلقيقي هبذا اإلهنماك‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬الْيَ ْو َم نَْن َس ُ‬ ‫ِ‬
‫ِدنَا إِل َٰى آ َد َم ِمن ق َْب ُل َفنَ ِس َي َول َْم‬ ‫َد َعه ْ‬ ‫َاء يَ ْو ِم ُك ْم َٰهذَا﴾ (اجلاثية‪ ،)34/54‬وقال تعاىل‪َ :‬‬
‫﴿ولَق ْ‬ ‫َك َما نَ ِسيتُ ْم لِق َ‬
‫ِين﴾ (البقرة‪ ،)213/2‬ومذكرين هلم أهنم‬ ‫ِين َو ُمن ِذر َ‬ ‫نَ ِج ْد لَ ُه َع ْز ًما﴾ (طه‪﴿ ،)45/20‬فَب َع َث ّ‬
‫الل النَّبِيِّ َ‬
‫ني ُمبَ ِّشر َ‬ ‫َ‬
‫ّر ُه ْم بأيَّا ِم الل﴾ (ابراهيم ‪ ،)5/14‬أي أيام وصال اهلل تعاىل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬‫ِ‬ ‫تعاىل﴿وذ ِ‬
‫َك ْ‬ ‫َ‬ ‫إلينا راجعون‪ ،‬كما قال‬
‫فافترق الناس فرقتني فرقة أجابوا داعي اهلل وآمنو برسوله وهم الذين مل ينطفأ نور فطرهتم اليت فطر اهلل الناس‬
‫عليها‪ ،‬لكنهم على طبقات متخالفات حسب تفاوت استعداداهتم‪.‬‬

‫وفرقة ختم اهلل على قلوهبم وغلبت عليهم شقوهتم وكانوا قوما ضآلّني‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬يَ ْو َم يَْأ ِت َل تَ َكل ُ‬
‫َّم‬
‫ْس إَِّل بِإِ ْذنِ ِه َف ِم ْن ُه ْم َش ِق ٌّي َو َس ِعي ٌد﴾ (هود‪ ،)105/11‬فيجب على العاقل أن جيتهد يف حتصيل الكماالت‬
‫نَف ٌ‬
‫السرمدية والسعادات السنية؛ لينال على احلياة األبدية‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬السعادة العظمى واملرتبة العليا للنفس معرفة الصانع مبَ له من صفات الكمال والتزنه عن النقصان‪،‬‬
‫ومبا يصدر عنه من الآلثار واألفعال يف النشأة األوىل واآلخرة‪ ،‬وباجلملة معرفة املبدأ واملعاد املعرب عنها باإلميان‬
‫باهلل واليوم االخر‪ .‬وهلذه املعرفة طريقان‪ :‬أحدمها‪ :‬طريقة أهل النظر واإلستدالل‪ ،‬وثانيهما طريقة الرياضة‬
‫واملجاهدات‪ .‬والفرق بينهما أن أهل الطريقة األُوىل يعلمون علم اليقني ما يشاهده أهل الطريقة الثانية بعني‬
‫علي بن سينا ل َّما‬
‫اليقني‪ .‬وفوقها مرتبة اليقني اليت هي مقام الفناء واالستهالك حكي َّأن الشيخ الرئيس أبا ٍّ‬
‫صحب مع قطب العارفني أيب سعيد أيب اخلري‪ ،‬قُ ّدس سره‪ُ ،‬سئل كل منهما عما جرى به مع اآلخر‪ ،‬فقال‬
‫الرئيس‪ :‬يشاهد هذا الشيخ ما نعلمه‪ ،‬وقال أبو سعيد‪ :‬يعلم ابن سينا ما نعاينه‪.‬‬
‫مث َّإن السالكني للطريقة األُوىل إن كان مستندهم يف ذلك األدلة السمعية املستندة إىل الوحي أو ما ينتهي‬
‫إليها‪ ،‬فهم أهل الشريعة واملتكلمون‪ ،‬وإال فهم احلكماء املشاؤون؛ والسالكون للطريقة الثانية إن وافقوا يف‬
‫رياضاهتم أحكام الشريعة‪ ،‬فهم أهل الطريقة والصوفيون‪ ،‬وإال فهم احلكماء اإلشراقيون‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫‪Ahmet Kamil Cihan, Arsan Taher, Muhammad Amın al-Shirwanı’s Treatise on Eschatology:‬‬
‫‪An Analysis and Critical Edition of Risalah fı tahqıq al-mabda’ wa-al-ma‘ad‬‬

‫وحاصل الطريقة األُوىل االستكمال بالقوة النظرية والترقي يف مراتبها ّ‬


‫املفصلة يف احلكمة الرمسية والغاية‬
‫القصوى من تلك املراتب هي العقل املستفاد‪ ،‬وهي أن تصري النفس مشاهدة جلميع معارفها اليقينية حبيث ال‬
‫يغيب عنها شيء‪ ،‬وذلك ال يكون إال بعد مالقاة النفس باملبادئ العالية تالقيا روحانيا واتصاهلا باملأل األعلى‬
‫اللهم إال للمتجردين عن جالبيب‬‫اتصاال عقليا‪ ،‬فال يوجد هذه املرتبة ألحد يف هذه الدار‪ ،‬بل يف دار القرار‪ّ ،‬‬
‫األبدان املنخرطني يف سلك املجردات؛ إذ قد يوجد هلم يف هذه الدار ملعات من ذلك‪ ،‬كربوق خاطفة‪.‬‬

‫وحاصل الطريقة الثانية االستكمال بالقوة العملية والترقي يف الدرجات األربع اليت أوهلا‪ :‬هتذيب الظاهر‬
‫باستعمال الشرائع النبوية والنواميس اإلهلية‪ ،‬وثانيها‪ :‬هتذيب الباطن عن امللكات الردية‪ ،‬كالبخل واحلسد‬
‫والعجب والكرب والرياء ونقص آثار شواغله عن عامل الغيب‪ ،‬وتسمى هذه املرتبة بالتخلية وثالثها ما حيصل هلا‬
‫بعد االتصال بعامل الغيب وهي حتلي النفس بالصور القدسية وامللكات السنية‪ ،‬ورابعها‪ :‬ما حيصل هلا عقيب‬
‫اكتساب ملكة االتصال واالنفصال عن نفسه بالكلية‪ ،‬وهو مالحظة مجال اهلل تعاىل وجالله‪ ،‬وقصر النظر‬
‫على كماله‪ ،‬ومادام السالك‪ 3‬مل يقطع هذه املراتب فهو سائر إىل اهلل‪ ،‬فإذا انتهى إىل املرتبة الرابعة فقد انتهى‬
‫سريه إىل اهلل‪ .‬ويليها درجات السري يف اهلل ومراتبه‪ ،‬فانتهاء السري إىل اهلل مبزنلة الوصول إىل ساحل البحر‪،‬‬
‫ُج ِة البحر‪ ،‬فالعارف الواصل إىل حبر احلقيقة‪ ،‬إذا خاض ل َّ‬
‫ُج َة حبر الوصول ال‬ ‫والسري يف اهلل مبزنلة اخلوض يف ل َّ‬
‫يزال ينخلع عن القيود البشرية‪ ،‬ويرتفع عنه الغواشي واحلجب اجلسمانية إىل أن خيرج عنها بالكلية‪ ،‬ويتخلق‬
‫بأخالق اهلل تعاىل؛ فإذًا يرى كل قدرة مستغرقة يف قدرته املتعلقة جبميع املقدورات‪ ،‬وكل علم مسغترق يف‬
‫علمه الذي ال يعزب عنه شيء من املوجودات‪ ،‬وكل إرادة مستغرقة يف إرادته اليت ميتنع أن يتأتى عليها شيء‬
‫من املمكنات‪ ،‬بل كل وجود وكل كمال وجود فهو صادر عنه وفائض من لدنه‪ ،‬فصار احلق حينئذ بصره‬
‫الذي يبصر به‪ ،‬ومسعه الذي به يسمع‪ ،‬وقدرته اليت هبا يفعل‪ ،‬وعلمه الذي به يعلم‪ ،‬ووجوده الذي به يوجد‪،‬‬
‫فهذه مرتبة توحيد الصفات‪.‬‬

‫مث بعد ذلك يعاين العارف َّأن تَكثُّر هذه الصفات وما جيري جمراها إنَّما هو بالقياس إىل الكثرة اليت هي‬
‫فإن علمه الذايت هو بعينه قدرته‬
‫اعتبارات وشؤنات للذات األحدية‪ ،‬وأما بالقياس إىل مبدأها الواحد فمتحدة؛ َّ‬
‫الذاتية‪ ،‬وهي بعينها إرادته‪ ،‬وكذلك سائرها؛ وإذ ال وجود ذاتيا لغريه‪ ،‬فال صفات مغايرة للذات‪ ،‬وال ذات‬
‫ُم ذَر ُهم﴾ (األنعام ‪ ،)91/6‬وهذه‬‫الل أَ َح ٌد﴾ (اإلخالص‪﴿ ،)1/112‬قُل اِهللُ ث َّ‬
‫ُل ُه َو َّ‬
‫موضوعة للصفات‪﴿ ،‬ق ْ‬
‫مرتبة توحيد الذات‪ ،‬فليس هناك واصف‪ ،‬وال موصوف‪ ،‬وال سالك‪ ،‬وال مسلوك‪ ،‬وال عارف‪ ،‬وال معروف‪،‬‬
‫وهذا هو الفناء يف التوحيد ومرتبة حق اليقني‪.‬‬
‫ان الْبَ ْح ُر ِم َدا ًدا لِ َك ِل َم ِ‬
‫ات َربِّي‬ ‫ُل ل َْو َك َ‬
‫مث النعوت اإلهلية واألخالق الربانية غري متناهية‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬ق ْ‬
‫ات َربِّي َول َْو ِج ْئنَا بِ ِم ْث ِل ِه َم َد ًدا﴾ (الكهف‪ ،)109/18‬فال ينتهي السري يف اهلل‬ ‫لَنَ ِف َد الْبَ ْح ُر ق َْب َل أَ ْن تَْن َف َد َك ِل َم ُ‬

‫ز‪ :‬عارف‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪87‬‬
‫‪NAZARİYAT Journal for the History of Islamic Philosophy and Sciences‬‬

‫ال بفناء السائر يف حبر التوحيد‪ .‬قال صاحب الفتوحات املكية‪ :4‬بعدما انتهى أمر العارف إىل أن رآه يف كل‬
‫مهب من يب يسمع ويب يبصر‪ ،‬أراد العارف أن يلقي عصا السفار ويزيل عنه اسم‬ ‫شيء وظهر له نسمات ّ‬
‫املسافر‪ ،‬وعرف َّأن األمر ال هناية له‪ ،‬وأنَّه ال يزال مسافرا‪ .‬انتهى‪ .‬فسافروا تصحبوا وتغنموا‪ ،‬فربح النفس‬
‫يف هذه التجارة وهو حتصيل كماالهتا العلمية والعملية ليستعد بذلك بقرب جوار املأل األعلى‪ ،‬وخسراهنا‬
‫فق ُد ملك الكماالت والتدنس باالعتقادات وامللكات الردية واألعمال القبيحة‪ ،‬فكما تلتذ النفس بعد مفارقة‬
‫األبدان مبطالعة تلك الكماالت فيها حيصل هلا من القرب بسببها‪ ،‬والتمكن يف مقعد صدق عند ملك مقتدر‪،‬‬
‫ال ْفئِ َد ِة﴾‬ ‫كذلك يتأمل بأضدادها وما حيصل هلا من البعد واالحتراق ب﴿ نَ ُار َّ‬
‫الل ال ُْمو َق َد ُة الَّتِي تَ َّط ِل ُع َعلَى َْ‬
‫(اهلمزة‪ ،)7،6/114‬وهذا هو املراد باللّذات واآلالم العقليتني‪.‬‬

‫إذا تقررت هذه املقدمات‪ ،‬فأعلم َّأن املعاد‪ ،‬منه ما هو روحاين هو بقاء النفس بعد خراب البدن متلذذة‪،‬‬
‫أو متأملة بلذات وآالم عقليتني‪ ،‬وأثبته احلكماء والصوفية وحمققوا املتكلمني‪ .‬وقد ورد إليه اإلشارة يف كالم‬
‫﴿و َل تَقُولُوا لِ َمن‬
‫ْح ْسنَ ٰى َوزِيَا َدةٌ﴾ (يونس‪ ،)26/10‬وقال‪َ :‬‬ ‫ين أَ ْح َسنُوا ال ُ‬ ‫رب العزة‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿:‬ل َِّّل ِذ َ‬
‫ون﴾ (البقرة‪ ،)154/2‬فال تعلم نفس ما أُخفي هلم من‬ ‫ات بَ ْل أَ ْحيَ ٌاء َو ٰلَ ِكن َّل تَ ْش ُع ُر َ‬ ‫يُقْتَ ُل ِفي َسبِ ِ‬
‫يل اللَِّ أَ ْم َو ٌ‬
‫اضيَ ًة َّم ْر ِضيَّ ًة فَا ْد ُخ ِلي ِفي ِعبَا ِدي َوا ْد ُخ ِلي‬
‫ْس ال ُْم ْط َمئِنَّ ُة ْار ِج ِعي إِلَى َربِّ ِك َر ِ‬
‫قرة أعني‪ ،‬وقال‪﴿:‬يَا أَيَّتُ َها النَّف ُ‬
‫ِض َوا ٌن ِّم َن اللَِّ أَ ْكبَ ُر﴾ (التوبة ‪.)72/9‬‬ ‫وقال‪{:‬ور ْ‬
‫َ‬ ‫َجنَّتِي﴾ (الفجر‪،)30:‬‬

‫ومنه ما هو جسماين‪ ،‬ورد به الشرع وأمجع عليه أهل امللل الثالث‪ ،‬وشهد به نصوص القرآن يف مواضع‬
‫متعددة‪ ،‬حبيث ال يقبل التأويل‪ ،‬وحقيقته إعادة الروح يف عامل املثال إىل البدن املثايل الذي هو بعينه هذا‬
‫البدن يف عامل االسم واملاهية‪ ،‬لكن بنشأة أُخرى ملكوتية مغايرة للنشأة األُوىل‪ ،‬قال تعاىل‪َ :‬‬
‫﴿و َما نَ ْح ُن‬
‫ون﴾‬ ‫ذك ُر َ‬ ‫َد َع ِل ْمتُ ُم النَّ ْشأَ َة ُْ‬
‫الولَى َفل َْو َل تَ َّ‬ ‫ون َولَق ْ‬ ‫نشئَ ُك ْم ِفي َما َل تَ ْعل ُ‬
‫َم َ‬ ‫َك ْم َونُ ِ‬ ‫بِ َم ْسبُو ِق َ‬
‫ني َعلَى أَن نُّبَ ِّد َل أَ ْمثَال ُ‬
‫(الوقعة‪.)63،62،61،60/65‬‬

‫مث َّإن اجلنة والنار كل منهما صور األعمال واألخالق واالعتقادات؛ إذ ما من عمل من األعمال صاحلات‬
‫فإن الوحدة‬
‫وسيئات إال ويتمثل يف اآلخرة بصور متناسبة جسمانية‪ ،‬وإن كانت أعراضا ومعاين يف الدنيا؛ َّ‬
‫احلقيقية حمفوظة يف املوطنني‪ ،‬واجلوهرية والعرضية من أحكام النشأة وآثار املوطن‪ ،‬فاجلنة وما فيها من‬
‫األشجار واألهنار والثمرات وغريها من احلور والقصور والغلمان والولدان‪ ،‬هي أعماهلم وأخالقهم ومقاماهتم‬
‫وصورت يف أمثلة متالئمة وصور مناسبة‪ ،‬وهلذا يقال هلم‪ :‬امنا هي أعمالكم ر ّدت اليكم‪،‬‬ ‫وأحواهلم مثّلت ّ‬
‫قاع ليس فيها‬ ‫فيقولون‪ :‬نعم‪﴿ :‬هذه بضاعتنا ر ّدت الينا﴾ (يوسف‪ )65/12‬قال عليه السالم‪َّ :‬‬
‫(إن اجلنَّ َة ٌ‬
‫عمارة فأكثروا من غراس اجلنَّة يف الدنيا‪ ،‬فقيل يا رسول اهلل‪ :‬ما غراس اجلنَّ ِة! قال عليه السالم‪ :‬التسبيح‬

‫فلينظر ”فلما رآه يف كل شي‏ء أراد أن يلقي عصا التسيار ويزيل عنه اسم املسافر فعرفه ربه أن األمر ال هناية له ال دنيا وال آخرة‪ ،‬وأنك ال تزال‬ ‫‪4‬‬
‫مسافرا‪ ،‬كما أنت على ذلك ال يستقر بك قرار“ [الفتوحات‪.]11/2:‬‬

‫‪88‬‬
‫‪Ahmet Kamil Cihan, Arsan Taher, Muhammad Amın al-Shirwanı’s Treatise on Eschatology:‬‬
‫‪An Analysis and Critical Edition of Risalah fı tahqıq al-mabda’ wa-al-ma‘ad‬‬

‫والتهليل)‪ 5‬وكذا جهنَّم‪ ،‬وما فيها من دركات النريان وأنواع اآلالم وعذاب القرب‪ ،‬وما يشاهد فيها من‬
‫احليّات والعقارب ليس إال صور االعتقادات الباطلة ونتائج األعمال السيئة ومثرات األخالق الردية‪ ،‬كانت‬
‫ِين﴾‬ ‫ْكا ِفر َ‬ ‫﴿وإِ َّن َج َهنَّ َم ل َُم ِح َ‬
‫يط ٌة بِال َ‬ ‫يف الدنيا معاين فصارت يف اآلخرة صورًا‪ ،‬فهم دائمون فيها عقىب ودنيا‪َ ،‬‬
‫نيام فإذا ماتوا‬ ‫اس ٌ‬ ‫(فإن النّ َ‬
‫(التوبة ‪ ،)49/9‬إال أنَّهم ال يتأملون هبا لكثافتهم وغلظ حجاهبم وفرط غفلتهم؛ َّ‬
‫ون﴾ (السجدة ‪ .)12/32‬أال يُرى‬ ‫َار ِج ْعنَا نَ ْع َم ْل َصالِ ًحا إِنَّا ُمو ِقنُ َ‬
‫﴿ربَّنَا أَبْ َص ْرنَا َو َس ِم ْعنَا ف ْ‬
‫انتبهوا) ‪ ،‬وقالوا‪َ :‬‬
‫‪6‬‬

‫َّأن من انفتح عني بصريته وصار يف الدنيا من أهل اآلخرة باملوت االختياري يروهنم داخلني يف النار‪ ،‬وما فيها‬
‫من أنواع العذاب متمثلني بصور مناسبة؛ لِما غلب عليهم من الصفات الذميمة‪( ،‬فاتَّقوا فَراس َة املُؤمن فإنَّ ُه‬
‫ُون ِفي بُ ُطونِه ْ‬
‫ِم نَ ًارا‬ ‫ال الْيَتَ َام ٰى ُظل ًْما إِنَّ َما يَْأ ُكل َ‬
‫ُون أَ ْم َو َ‬
‫ين يَْأ ُكل َ‬ ‫نظ ُر بِنُو ِر اهلل) ‪ ،‬قال عز من قائل‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذ َ‬ ‫يّ ُ‬
‫‪7‬‬

‫َو َسيَ ْصل َْو َن َس ِع ًريا﴾ (النساء‪ ،)10/4‬وقال عليه السالم‪( :‬الذين يشربون من آنية الذهب والفضة إنَّما جيرجر‬
‫يف بطوهنم نارا)‪ ،8‬وقال عليه السالم‪ ( :‬اجلنَّة ُح ّفت باملكاره والنار ح ّفت بالشهوات)‪.9‬‬

‫إفراط‪ ،‬وطرف تفريط‪،‬‬ ‫فإن لكل من القوة العقلية والعملية طرف ٍ‬ ‫وكذا الصراط هو صورة االعتقاد والعمل؛ َّ‬
‫وإن األطراف هلا عرض عريض ال يكاد‬ ‫ووسطًا حقيقيا هو االعتدال‪ ،‬واألطراف رذائل‪ ،‬واألوساط فضائل‪َّ ،‬‬
‫يقف عند ح ّد‪ ،‬والوسط احلقيقي سواء يف االعتقاد والعمل واحد ليس إال بل ال يتصور فيه التعدد‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬
‫َّك ْم‬ ‫َر َق بِ ُك ْم َعن َسبِي ِل ِه َٰذلِ ُك ْم َو َّص ُ‬
‫اكم بِ ِه ل ََعل ُ‬ ‫﴿وأَ َّن َٰهذَا ِص َرا ِطي ُم ْستَ ِق ً‬
‫يما فَاتَّبِ ُعو ُه َو َل تَتَّبِ ُعوا ُّ‬
‫السبُ َل فَتَف َّ‬ ‫َ‬
‫ُون﴾ (األنعام ‪ .)153/5‬واستوضح ذلك من اخلطوط الواصلة بني كل نقطتني؛ فإنَّها وإن كانت غري‬ ‫ِ‬ ‫تَتَّق َ‬
‫الض َل ُل﴾ (يونس‪.)32/10‬‬ ‫ْح ِّق إَِّل َّ‬‫َماذَا بَ ْع َد ال َ‬‫متناهية لكن املستقيم منها ليس إال واحدا‪ ،‬كما ال خيفى ﴿ف َ‬
‫فالصراط املستقيم هو صورة هذا الوسط من االعتقادات واألعمال‪ ،‬ولكونه مغمورا فما بني األطراف الكثرية‬
‫وأحد من السيف؛ ولذا قال عليه السالم‪( :‬شيَبتين‬ ‫أدق من الشعر َّ‬ ‫أشق وصار َّ‬ ‫املتشاهبة صار الثبات عليه ُّ‬
‫َاستَ ِق ْم َك َما أُ ِم ْر َت﴾ (هود‪ ،)112/11‬أي يف‬
‫هود) إذ قد أُمر عليه السالم فيها باالستقامة بقوله تعاىل‪﴿ :‬ف ْ‬
‫‪10‬‬

‫ُل أَ َم َر َربِّي بِالْ ِق ْس ِط﴾ (األعراف‪.)29/7‬‬


‫قوله تعاىل‪﴿ :‬ق ْ‬

‫فإن كل‬
‫ومن تأمل يف عجائب ملكه وملكوته وغرائب صنعه وجربوته‪ ،‬مل يستنكف عن قبول أمثال هذا؛ َّ‬
‫فإن للنفس نشآت شىت‪ ،‬وهي يف كل نشأة ختتص بآثار‬ ‫ما يتعلق باآلخرة فهو من عامل امللكوت واملثال؛ َّ‬
‫وأحكام‪ ،‬بل مجيع املمكنات هلا عوامل خمتلفة‪ ،‬كالوجود العلمي اإلمجايل املسمى بالتعني األول‪ ،‬والتفصيلي‬

‫رواه ابن حبان يف صحيحه (‪.)821‬‬ ‫‪5‬‬


‫من كالم علي بن أيب طالب «ختريج االحياء» للعراقي (‪.)28/4‬‬ ‫‪6‬‬
‫رواه الترمذي يف سننه (‪.)3127‬‬ ‫‪7‬‬
‫رواه مسلم يف صحيحه (‪.)2065‬‬ ‫‪8‬‬
‫أخرجه الترمذي قي سننه ( ‪.) 2559‬‬ ‫‪9‬‬
‫رواه الترمذي يف سننه (‪.)3297‬‬ ‫‪10‬‬

‫‪89‬‬
‫‪NAZARİYAT Journal for the History of Islamic Philosophy and Sciences‬‬

‫املسمى بالتعني الثاين‪ ،‬مث الروحي‪ ،‬مث املثايل مث احلسي العنصري‪ ،‬وهي وإن كانت حادثة يف الوجود العيين‬
‫احلسي‪ ،‬إال أنَّها قدمية باعتبار وجوداهتا العلمية‪ 11‬األولية‪ ،‬ليس جعال جلاعل نفوذ فيها باعتبار هذا الوجود‪.‬‬

‫مث النفس تشاهد يف كل نشأة صورة تقتضيها تلك النشأة‪ ،‬فكما أنَّها تشاهد يف املنام صورا‪ ،‬ال تشاهدها يف‬
‫اليقظة كذلك تشاهد عند االخنالع عن البدن احلسي واالنتقال إىل البدن املثايل يف عامل املثال أُمورًا مل ميكن‬
‫فإن أصحاب املكاشفات وأرباب املشاهدات من احلكماء املتأهلني والصوفية قالوا‪ :‬بني‬ ‫مشاهدهتا يف احلياة؛ َّ‬
‫عامل املجردات الروحية اللطيفة املسمى بعامل امللكوت وبني عامل املوجودات العينية الكثيفة املكتنفة بالقيود‬
‫ان﴾‬‫ان بَْينَ ُه َما بَ ْر َز ٌخ َل يَْب ِغيَ ِ‬
‫﴿م َر َج الْبَ ْح َريْ ِن يَلْتَ ِقيَ ِ‬
‫والعوارض املسمى بعامل امللك برزخ يسمى بعامل املثال‪َ ،‬‬
‫(الرمحن‪ ،)20،19/55‬وفيه موجودات مشخصة مطابقة ملا يف اخلارج من اجلزئيات مثال هلا قائمة بنفسها‬
‫وأما‬
‫مناسبة ملا يف العاملني املذكورين‪ ،‬أما لعامل امللك؛ فألهنا صور جسمانية شبحية مقيدة بقيود شبحية‪َّ ،‬‬
‫لعامل امللكوت؛ فألهنا معلقة غري متعلقة مبكان وجهة‪ ،‬كاملجردات‪ ،‬حىت أنَّ ُه يرى صورة مثالية لشخص واحد‬
‫يف مرايا متعددة‪ ،‬بل يف مواضع وأمكنة متكثرة‪ ،‬كما حيضر ملك واحد يف ألف مكان‪ ،‬كقابض األرواح‬
‫ونافخها‪ ،‬ومن هذا القبيل حضور بعض األولياء يف زمان واحد يف أماكن متعددة شرقية وغربية‪ ،‬ففي عامل‬
‫املثال يتروح األجساد ويتجسد األرواح‪ ،‬وإىل هذا العامل أشار سيدنا صلى اهلل تعاىل عليه وسلم بأن لكل‬
‫(بأن لكل قطرة ملكا يزنل معها)‪.12‬‬ ‫شيء ملكا‪ ،‬حىت قال عليه السالم‪َّ :‬‬
‫مث إنَّها لتلك الصور املثالية جمايل خمتلفة مثل املرآة واملتخيلة واحلس املشترك وسائر القوى الباطنية اليت هلا‬
‫أيضا نسبة إىل العاملني‪ ،‬إذا انقطعت عن االشتغال باالمور اخلارجة العائقة؛ إذ حيصل هلا بذلك زيادة مناسبة‬
‫إىل ذلك العامل‪ ،‬كما للمتجردين عن العالئق البشرية والكدورات اجلسمانية‪ ،‬كاألنبياء واألولياء والنائمني‬
‫واملرضى‪ ،‬بل يظهر لألنبياء واألولياء يف القوى الظاهرة أيضا حىت حصلت هلا تلك املناسبة بسبب االنقطاع‬
‫عن الشواغل‪َ ،‬أما ترى َّأن النّيب عليه السالم كان يشاهد جربائيل حني يزنل بالوحي والصحابة حوله كانوا‬
‫ال يشاهدونه؟ ث َُّم َّإن عامل الشهادة بالنسبة إىل عامل املثال كحلقة يف بيداء على ما ورد يف احلديث‪ ،‬فما ظنك‬
‫بعامل يسع اجلنة اليت عرضها السماوات واالرض!‪.‬‬

‫وبإثبات هذا العامل ينكشف لك كثري من الشهادات واألُمور املستغربة البعيدة من العقول املقيدة مبقتضيات‬
‫احلواس املشغولة مبستلذات القوى عن االرتقاء إىل هذا العامل فضال عما فوقه؛ وبه ينحل أيضا كثري من‬
‫مشكالت الربزخ واملحشر‪ ،‬كظهور األخالق والسجايا يف القرب بالصور احلسنة‪ ،‬أو صور احليات والنريان‬
‫والعقارب؛ وكوزن األعمال من غري حاجة إىل تأويله بوزن الصحائف؛ وكخلق النار واجلنة اليت عرضها‪،‬‬

‫ز‪ :‬عملي‪.‬‬ ‫‪11‬‬


‫رواه الطربي يف تارخيه (‪.)65/1‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪90‬‬
‫‪Ahmet Kamil Cihan, Arsan Taher, Muhammad Amın al-Shirwanı’s Treatise on Eschatology:‬‬
‫‪An Analysis and Critical Edition of Risalah fı tahqıq al-mabda’ wa-al-ma‘ad‬‬

‫كعرض جمموع السماوات واألرض؛ وكقصة معراج الرسول عليه السالم‪ ،‬فإنه كان بالبدن املثايل‪ ،‬وهلذا‬
‫قالت عائشة رضي اهلل عنها‪( :‬ما فقدت جسد حممد)‪13‬؛ وهبذا ينحل أيضا الشبهة املشهورة وهي‪ :‬أنَّ ُه لو‬
‫صار مؤمن غذاء لكافر وجزء من بدنه فإعادهتا غري متصورة‪ ،‬ولو وقعت يلزم تعذيب األجزاء املطيعة‪،‬‬
‫بأن املحشور هو األجزاء األصلية‪ ،‬ولعل اهلل حيفظه من أن يصري جزء أصليا ال جيدي نفعا؛ إذ الشريعة‬ ‫والقول َّ‬
‫املحمدية قاضية حبشر األجزاء الفضلية؛ إلنَّه أَ َم َر عليه السالم باجتناب اجلنب عن قلم الظفر وإزالة الشعر قبل‬
‫اإلغتسال‪ ،‬بل األكفان أيضا حمشورة حىت أمر عليه السالم بتجديد األكفان‪ ،‬ووجه االحنالل َّأن اإلنسان كان‬
‫أوالً على نشأة روحانية‪ ،‬كما ورد يف احلديث‪( :‬خلق اهلل األرواح قبل األجساد بأل َفي عام)‪ ،14‬مث حصل‬
‫ألن هذا العنصر له صفوة وكدر‪،‬‬ ‫له يف الدنيا نشأة عنصرية‪ ،‬وهي جامعة جلسمانية لطيفة وجرمانية كثيفة؛ َّ‬
‫فما كان من صفوته فهو جسم ومثال وملكوت‪ ،‬وما كان من كدره فهو جرم‪ ،‬واجلرم كثيف ظاهر وأثر‪،‬‬
‫اللب إىل القشر‪ ،‬ولذا خوطب النيب عليه السالم يف أول‬‫واجلسم لطيف باطن مدثور‪ ،‬نسبته إىل اجلرم نسبة ّ‬
‫األمر ب﴿يا أيُّها امل َُّدثر﴾ (امل ّدثر‪.)1/74‬‬

‫مث النفس حتشر يف ذلك العامل يف بدن جسماين وهو نشأة جامعة للروحانية والعنصرية‪ ،‬ومن أحكام هذه‬
‫النشأة وخواصها جواز الكون يف مكانني يف آن‪ ،‬فاملحشور واملعاد هو جسمانية جلميع األجزاء األصلية‬
‫والفضلية يف اآلكل واملآكول مجيعا‪ ،‬ولعل مراد القوم باألجزاء األصلية هو هذا امللكوت املعاد‪ ،‬ال ما يقابل‬
‫الفضلية‪ ،‬مث َّإن البدن املثايل اجلسماين يتغذى وينمو ويعود رطبا طريا باإلميان والعمل الصاحل ﴿إِل َْي ِه يَ ْص َع ُد‬
‫الصالِ ُح يَ ْرف َُع ُه﴾ (فاطر‪ ،)10/35‬وكلما قوي اجلسماين ضعف اجلرماين ويتدرج‬ ‫ْك ِل ُم َّ‬
‫الطيِّ ُب َوال َْع َم ُل َّ‬ ‫ال َ‬
‫يف الرقة حىت يصري كقشر‪ .‬نقل عن بايزيد البسطامي‪ ،‬قدس سره‪( ،‬انسلخت عن جلدي كما انسلخت‬
‫رق اجلرماين و ضعف يظهر فيه نور‪ 15‬اجلسماين املثايل الباطن ويتألأل مشرقا فيه‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫احليَّ ُة)‪ ،‬وكلما َّ‬
‫الس ُجو ِد﴾ (الفتح‪ ،)29/48‬وقال عليه السالم‪( :‬من كثُر صالتُُه بِالليل‬ ‫ِم ِم ْن أَثَ ِر ُّ‬
‫يما ُه ْم ِفي ُو ُجو ِهه ْ‬
‫﴿س َ‬‫ِ‬
‫‪16‬‬
‫وجه ُه بالنهار)‪.‬‬‫َح ُس َن ُ‬
‫ال لنبينا صلى اهلل عليه وسلم حىت‬
‫وأعلى مراتب هذه التصفية‪ ،‬وهو غلبة اجلسماين على اجلرماين قد حاص ً‬
‫كان عدمي الظل‪ .‬فاملؤمن لكون جسمانيته القريبة من الروحاين قويًّا ورطبًا بربكة اإلميان والعمل الصاحل صار‬
‫ألي تصرف كان‪ ،‬كقضيب رطب مييل تار ًة ويستقيم أُخرى وال ينكسر عند هبوب الرياح‪،‬‬ ‫ال ومستعدًا ّ‬‫قاب ً‬
‫وهلذا تعلق أرواح املؤمنني بأبداهنم يف النشأة اجلامعة للتجرد والتعلق على سبيل الطوع واالختيار‪.‬‬

‫«األجوبة املستوعبة» إلبن عبد الرب (‪.)135‬‬ ‫‪13‬‬


‫أخرجه ابن اجلوزي يف املوضوعات (‪.)190/2‬‬ ‫‪14‬‬
‫ز ‪ -‬نور‪.‬‬ ‫‪15‬‬
‫أخرجه ابن اجلوزي يف موضوعاته (‪)412/2‬‬ ‫‪16‬‬

‫‪91‬‬
‫‪NAZARİYAT Journal for the History of Islamic Philosophy and Sciences‬‬

‫وأما الكفار والعصاة فقد قويت جرمانيتهم وغلظت وكثفت حىت كاد يذوب جسمانيتهم وينعدم ملكوهتم؛‬
‫فإن أهل الشقاوة ينفصل منهم ما قد كان فيهم من أرواح القوى اإلنسانية والصفات الروحانية‪ ،‬ويتوفر‬ ‫َّ‬
‫يف نشأهتم صور األحوال املزاجية املادية احلاصلة يف تصوراهتم وأذهاهنم‪ ،‬واألخالق الردية اليت تترتب عليها‬
‫حتل من أجزائهم البدنية يعاد إليهم وجيمع‬ ‫أفعاهلم يف الدنيا وأقواهلم‪ ،‬وينظم إىل ملكوهتم ومثاهلم‪ ،‬وكذا ما ّ‬
‫ضرس الكافر مثل أُحد‪ ،‬وجلده أربعون ذراعًا بذراع اجلبار‪،‬‬ ‫لديهم بصورة ما فارقتهم‪ .‬ولذا ورد َّأن َ‬
‫َس ْت ُقلُوبُ ُكم ِّمن بَ ْع ِد َٰذلِ َك َفهِي َكال ِ‬
‫ْح َج َار ِة أَ ْو أَ َش ُّد‬ ‫ُم ق َ‬ ‫فأرواحهم ليُبسها وشدهتا‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬ث َّ‬
‫َ‬
‫﴿ولَ ُه أَ ْسل َ‬
‫َم‬ ‫َس َوةً﴾ (البقرة‪ ،)74/2‬ال تقبل التصرف إال بعنف‪ ،‬وال تتعلق يف اآلخرة بأبداهنم إال بكره‪َ ،‬‬ ‫قْ‬
‫(آل عمران ‪ ،)83/3‬فمثلهم كمثل نبت‬ ‫ون﴾ ِ‬ ‫َو ًعا َو َك ْر ًها َوإِل َْي ِه يُ ْر َج ُع َ‬ ‫ال ْر ِ‬
‫ض طْ‬ ‫او ِ‬
‫ات َو َْ‬ ‫َمن ِفي َّ‬
‫الس َم َ‬
‫ون﴾‬ ‫الس ُجو ِد ف ََل يَ ْستَ ِط ُيع َ‬ ‫يابس ينكسر ويتأىب عن تقلبه كيف يراد ﴿يَ ْو َم يُ ْك َش ُف َعن َس ٍ‬
‫اق َويُ ْد َع ْو َن إِلَى ُّ‬
‫(القلم‪.)40/68‬‬

‫فاملؤمن يف النشأة الروحانية السابقة كانت خالية عن املعاين اجلسمانية واخلواص الروحانية وساذجة عن مجيع‬
‫كماالهتا املمكنة‪ ،‬فإذا قارن روحه اجلسد يف النشأة الدنياوية حصل له ذوق املعاين‪ ،‬واخلواص‪ ،‬إذا فارقها‬
‫أيّام الربزخ حيصل له ذوق املعاين اخلاصة به احلاصلة له أيّام املقارنة‪ .‬مث إذا اتّصل به يف النشأة اجلامعة اتصاال‬
‫فإن بكمال الطرفني احلياة واملمات فكأنَّ ُه جلمعه بني التجرد والتعلق‬ ‫اختياريا بربكة اإلميان والعمل الصاحل‪َّ ،‬‬
‫حى دائما ميت دائما‪ .‬فنعيم جنَّ ِة األعمال‪ ،‬أعين‪ :‬احلور والغلمان وأنواع األطعمة واألشرِبَة وسائر اللذات‬
‫اجلسمانية من حظوظ احلياة‪ ،‬ونعيم جنَّ ِة اإلميان‪ ،‬أعين‪ :‬اللقاء وسائر ما ال عني رأت‪ ،‬وال أُذن مسعت‪ ،‬وال‬
‫ُر ِة أَ ْعيُ ٍن﴾ (السجدة‪ ،)18/32‬ملشاهدة أنوار‬ ‫ْس َّما أُ ْخ ِف َي لَ ُهم ِّمن ق َّ‬ ‫خطر على قلب أح ٍد ممَّا‪﴿ ،‬ف ََل تَ ْعل ُ‬
‫َم نَف ٌ‬
‫أح ُد ُكم ربَّ ُه حتَّى يَ ُموت)‪.17‬‬
‫احلق واالنغماس يف حبر النور من حظوظ املوت‪ ،‬قال عليه السالم‪( :‬ال يَل َقى َ‬
‫وأما الكافر فلعدم قبوله هذه التصرفات بطوع واختيار لقساوة قلبه ويبسه‪ ،‬فهو حمروم عن خري الطرفني‪،‬‬ ‫َّ‬
‫﴿إن اهللَ َح َّر َم َها على‬ ‫ون﴾ (املطففني‪ ،)15/33‬وقال‪َّ :‬‬ ‫ِم يَ ْو َمئِ ٍذ ل ََّم ْح ُجوبُ َ‬
‫ه‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫م‬
‫ُ ْ َ َّ ِّ ْ‬‫ه‬‫ن‬
‫َّ‬‫ِ‬‫إ‬ ‫ل‬‫َّ‬ ‫َ‬
‫﴿ك‬ ‫تعاىل‪:‬‬ ‫قال‬
‫ِب﴾ (احلديد‪.)13/57‬‬ ‫اءك ْم فَالْتَ ِم ُسوا نُورًا ف ُ‬
‫َضر َ‬ ‫ِين﴾ (األعراف‪ ،)50/7‬وقال‪ِ ﴿ :‬ق َ‬
‫يل ْار ِج ُعوا َو َر ُ‬ ‫الكا ِفر َ‬
‫َ‬
‫فالكافر ليس له نعيم اجلنَّ ِة؛ لعدم حياته‪ ،‬وال نعيم اللقاء؛ لعدم موته‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪َ ﴿ :‬فإِ َّن لَ ُه َج َهنَّ َم َل يَ ُم ُ‬
‫وت‬
‫ِفي َها َو َل يَ ْحيَ ٰى﴾ (طه‪ ،)74/20‬وهذا هو اخلسران املبني‪.‬‬

‫فإن املثال ما‬


‫مث إنه رمبا يقرع مسعك لفظ املثل‪ ،‬وال يغرك تشابه لفظ ال ُْمثُل واملثال‪ ،‬فتزعم أنَّ ُهما واح ٌد كال؛ َّ‬
‫وأما املثُل فأعلم َّأن أفالطون اإلهلي وحكماء الفرس وغريهم من املتأهلني والصوفية ذهبوا إىل أَّن لكل‬ ‫مسعت‪َّ ،‬‬
‫نوع من األنواع املوجودة يف عامل امللك علويًا كان أو سفليًا بسيطًا أو مركبًا‪ ،‬ربًّا يف عامل النور‪ ،‬هو ذات‬
‫جمردة نورية غري مقيدةٌ بقيو ٍد عارض ٌة لذلك النوع قدمي ٌة قائم ٌة بنفسها مدبرة لذلك النوع‪ ،‬ذو عناية به‪ ،‬وهو‬

‫رواه مسلم (‪.)2245‬‬ ‫‪17‬‬

‫‪92‬‬
‫‪Ahmet Kamil Cihan, Arsan Taher, Muhammad Amın al-Shirwanı’s Treatise on Eschatology:‬‬
‫‪An Analysis and Critical Edition of Risalah fı tahqıq al-mabda’ wa-al-ma‘ad‬‬

‫رب‬‫الغاذي و ال ُْمنمي واملولد وغري ذلك‪ ،‬حىت قالوا‪َّ :‬إن األلوان الكثرية العجيبة يف رياش الطواويس فاعلها ُّ‬
‫إظالل اإلشراقات نورية ونسب معنوية يف تلك األرباب النورية‪ ،‬حىت َّأن رائحة‬ ‫نوعها‪ ،‬وكذا مجيع اهليئات ُ‬
‫فإن األرباب يفيض عليها من مبادئها أنوار أُخر عارضة‪ ،‬ويلزمها نسب معنوية‬ ‫رب نوعه؛ َّ‬ ‫املسك ظل هليئة يف ِّ‬
‫خمتلفة‪ ،‬فيظهر صورها يف أصنافها اجلسمانية‪ ،‬وإىل تلك األرباب أشار سيدنا كاشف احلقائق عليه أفضل‬
‫ِ‬ ‫لك ا ِ‬
‫جلبَ ِ‬
‫الر ِّب مثال ملربوبه‬ ‫َك البِ َحارِ) ‪ .‬ويسمى تلك األرباب ُمثُالً؛ لكون َ‬ ‫ومل ُ‬
‫ال َ‬ ‫الصلوات بقوله‪( :‬أتاين َم ُ‬
‫‪18‬‬

‫يف العامل العقلي‪ ،‬واملربوب مثاال َلربِّ ِه يف العامل العيين‪ ،‬فدام أحدمها بدوام اآلخر وانتفى بانتفائه‪ ،‬وهذا ما قاله‬
‫أمساء يقتضي كل واحد منها مظهرًا ومرتب ًة كليّ ًة من العامل‪ ،‬فيتجلى فيه ويظهر آثاره‬ ‫للحق ً‬ ‫الصوفية من َّأن ِّ‬
‫رب األرباب‪ ،‬وملا كان مرتبة األمساء‬ ‫عنه‪ ،‬ويسمى ذلك االسم بالنسبة إىل هذا النوع ربًَّا‪ .‬والواجب املطلق ُّ‬
‫ُون َخي ٌر أَ ِم اللَُّ ال َْو ِ‬
‫اح ُد‬ ‫اإلهلية دون مرتبة الذات؛ لكوهنا مقام التفرقة والكثرة‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬أَأَ ْربَ ٌ‬
‫َرق َ ْ‬ ‫اب ُمتَف ِّ‬
‫وراء طو ِر العقل‪ ،‬والعقول‬ ‫طور َ‬ ‫َه ُار﴾ (يوسف‪ .)39/12‬ولنقتصر على هذا القدر يف هذا الباب ألنَّه ٌ‬ ‫الْق َّ‬
‫قاصرة‪ ،‬والعزائم متقاعدة‪ ،‬امتألت القلوب من الرسوم والعادات‪ ،‬حىت كاد اإلنسان يلتحق باحليوانات‪.‬‬

‫فلنورد فصال يف عجائب القلب‪.‬‬

‫إعلم أن ههنا ألفاظا متس احلاجة إىل معرفة معانيها‪ ،‬وهي أربعة‪ :‬القلب والروح والنفس والعقل‪.‬‬

‫َّأما القلب فهو يطلق على معنيني‪ :‬أحدمها‪ :‬اللحم الصنوبري الذي يف جتويفه دم أسود‪ ،‬والثاين‪ :‬لطيفة ربانية‬
‫روحانية هلا تعلق بالقلب اجلسماين‪ ،‬هي املدرك من اإلنسان واملكلف واملخاطب‪ ،‬وهبا يتميز اإلنسان عن‬
‫سائر احليوانات‪ ،‬بل هي حقيقة اإلنسان املخلوقة يف أحسن تقومي‪.‬‬

‫وأما الروح فهو يطلق تار ًة على هذه اللطيفة‪ ،‬وتار ًة على البخار الذي ينبعث من ذلك الدم األسود‪ ،‬وينتشر‬ ‫َّ‬
‫بواسطة العروق إىل مجيع أجزا ِء البدن‪ ،‬وفيضان نور احلياة واحلس واحلركة والسمع والبصر واللمس والشم منه‬
‫يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار يف زوايا البيت وقد أشرنا إليه سالفا‪ ،‬والروح هبذا املعىن يسمى حيوانيا‪.‬‬

‫وأما النَّفس فهو أيضا يطلق على أمرين‪ :‬أحدمها‪ :‬املعىن اجلامع للصفات الذميمة‪ ،‬كما قال عليه السالم‪:‬‬ ‫َّ‬
‫نفس َك اليت بني جنبيك) ‪ ،‬وثانيهما‪ :‬اللطيفة املذكورة إال َّأن هلا أحواالً خمتلفة وأوصافا‬‫(أع َدى َع ُد ّو َك ُ‬
‫‪19‬‬

‫فإن النَّفس إذا سكنت حتت األوامر وزايلها االضطراب بسبب معارضة‬ ‫متفاوت ًة يسمى بكل اعتبار باسم؛ َّ‬
‫الشهوات مسيت مطمئنة‪ ،‬وإذا مل يتم سكوهنا وصارت موافقة للقوة الشهوانية تار ًة ومعرض ًة عليها أُخرى‬
‫مسيت لوامة؛ ألهنا تلوم صاحبها عند التقصري يف العبادة‪ ،‬وإن تركت االعتراض وأطاعت مبقتضى الشهوات‬
‫ٍ‬
‫باعتبارات شىت‪ ،‬فاملسمى واحد ليس إال‪.‬‬ ‫لهم ِة وغريها‬
‫مسيت ّأمارة‪ ،‬وقد تُسمى بأمساء أخر مثل ال ُْم َ‬

‫رواه مسلم (‪.)1795‬‬ ‫‪18‬‬


‫أخرجه الطرباين يف الكبري (‪.)3445‬‬ ‫‪19‬‬

‫‪93‬‬
‫‪NAZARİYAT Journal for the History of Islamic Philosophy and Sciences‬‬

‫وأما العقل فيطلق تار ًة على العلوم املدركة باللطيفة املذكورة‪ ،‬وتار ًة على نفس تلك اللطيفة‪.‬‬

‫مث َّإن لِلقلب جنودًا‪ ،‬وبيانه‪ :‬أنَّه ل ََّما كان اكتساب الكماالت اإلنسانية موقوفا على البدن‪ ،‬فالبُ َّد من حفظه‬
‫جبلب ما يوافقه ودفع ما ينافره‪ ،‬فأنعم اهلل عليه جللب املوافق جبندين باطن وهو الشهوة‪ ،‬وظاهر وهو اآلهتا‪ ،‬وملا‬
‫توقفت الشهوة للشيء والنَّفرة عنه على معرفته‪ ،‬أنعم عليه يف املعرفة جبندين باطنني‪ :‬أحدمها‪ :‬اإلدراكات اخلمس‬
‫ومنازهلا احلواس اخلمس‪ ،‬وثانيهما‪ :‬القوى اخلمس ومنازهلا جتاويف الدماغ وبطوهنا‪ ،‬فاإذا َعلِم املوافق اشتهاه‪،‬‬
‫وإذا َعلِم املنافر نَ َفر عنه وانبعث حنو دفعه‪ ،‬والباعث يسمى إرادة‪ ،‬واملحرك لألعضاء قدر ًة‪ .‬فجميع جنود القلب‬
‫اصط ِح َب يف اإلنسان هذه اجلنود‬ ‫الدراك ِة الظاهر ِة والباطنة‪َّ ،‬‬
‫فلما ُ‬ ‫بكثرهتا يرجع إىل القدرة واإلرادة والقوى ّ‬
‫اجتمعت فيه أربعة أوصاف َسبُعية حتمله على العداوة‪ ،‬وبَ ِهي ِميِّ ٍة حتمله على الشره واحلرص‪َ ،‬‬
‫وربَّانية حتمله على‬
‫االستبداد واالنسالخ‪ 20‬عن القيود السفالنية واإلطالق عن رب َق ِة العبودية‪ ،‬وشيطانية حتمله على املكر واخلداع‪.‬‬

‫فالسعيد من سخرت نفسه للصفة الربانية‪ ،‬فجعل اهلل تعاىل مقصده‪ ،‬والدار اآلخرة مستقره‪ ،‬والدنيا مزنله‪،‬‬
‫والبدن مركبه‪ ،‬واللسان ترمجانه‪ ،‬واألعضاء كتابه وخدمه‪ ،‬واحلواس جواسيسه تؤدي ما تطلع عليه من‬
‫املحسوسات إىل اخلازن‪ ،‬مث تعرض اخلازن على امللك أعين‪ :‬حقيقة اإلنسان‪ ،‬فيقتبس منه ما حيتاج يف تدبري‬
‫مملكته‪ ،‬ونيل السعادة يف آخرته‪.‬‬

‫ث َُّم َّإن لِلقلب أعماالً أربعة قبل عمل اجلوارح‪ :‬األول اخلواطر‪ ،‬والثاين حترك الرغبة مبا خطر حبكم الطبع‪،‬‬
‫(إن‬
‫ويسمى ميل الطبع‪ ،‬وهذان ال يؤاخذ العبد هبما؛ إذ ليسا‪ 21‬باختياره‪ ،‬وهذا هو املراد بقوله عليه السالم‪َّ :‬‬
‫بأن هذا مع‬ ‫صدر َها ما مل تَعمل به او تتكلم)‪ ،22‬والثالث حكم النفس َّ‬ ‫وسو َست به َ‬ ‫اهللَ جتاو َز عن اَُّمتِي ما َ‬
‫قبحه ينبغي أن يُفعل‪ ،‬وهذا أيضا ال يؤاخذ به وإن كان اختياريا إذ ال عزم‪ ،‬والرابع يقيم‪ 23‬العزم على الفعل‬
‫﴿وإِن تُب ُدوا َما ِفي أَنف ِ‬
‫ُس ُك ْم أَ ْو تُ ْخفُو ُه‬ ‫وإن مل يفعل ملانع‪ ،‬وهذا يؤاخذ به العبد‪ ،‬وهو املراد بقوله تعاىل‪ْ َ :‬‬
‫اس ْب ُكم بِ ِه اللَُّ﴾ (البقرة‪.)284/2‬‬
‫يُ َح ِ‬

‫و ِم َّما ينبغي أن يُعلم اخلاطر نوعان‪ :‬أحدمها ما يدعوا إىل اخلري‪ ،‬وسببه ال ُْملقى له يف القلب يسمى ملكا‪،‬‬
‫ِف السبب ُس ِّمي ذلك اخلاطر وحيًا‪ ،‬وإن مل يُعرف السبب ُسمي اخلاطر إهلامًا ونَفثا يف الروع‪،‬‬ ‫فإن ُعر َ‬
‫وعلما لدنيا‪ .‬وثانيهما‪ :‬خاطر يدعوا إىل الشر‪ ،‬ويُسمى وِسواسا‪ ،‬وسببه ال ُْملقى له يسمى شيطانا‪ ،‬وقد يلقي‬
‫الشيطان له خريا‪ ،‬ويدعوا إليه ليفوت منه ما هو أفضل منه‪ ،‬فقلب املؤمن دائما بني ال َْملك والشيطان‪ ،‬وهو‬
‫لب ال ُْمؤ ِم ِن بَني أصب َع ِ ِ‬
‫ني من أصابِ ِع َّ‬
‫الرمحن يُقلِّبُ ُه ُما كيف يَ َش ُاء)‪.‬‬ ‫املراد باألصبعني يف قوله عليه السالم‪( :‬قَ ُ‬
‫‪24‬‬
‫َ‬

‫ز‪ :‬انسالل‪.‬‬ ‫‪20‬‬


‫ز‪ :‬ألهنما‪.‬‬ ‫‪21‬‬
‫رواه البخاري (‪ )6664‬ومسلم (‪)127‬‬ ‫‪22‬‬
‫ز‪ :‬تصميم‪.‬‬ ‫‪23‬‬
‫رواه الترمذي يف سننه (‪.)2140‬‬ ‫‪24‬‬

‫‪94‬‬
‫‪Ahmet Kamil Cihan, Arsan Taher, Muhammad Amın al-Shirwanı’s Treatise on Eschatology:‬‬
‫‪An Analysis and Critical Edition of Risalah fı tahqıq al-mabda’ wa-al-ma‘ad‬‬

‫ومن اخلاطر ما يقع يف القلب مبباشر ِة أسباب من العبد وهي َّإما النَّ َظ ُر واالستدالل‪ ،‬كما يف طريقة االستدالليني‪،‬‬
‫فإن القلب ُمستعد ألن يَتَ َجلى فيه حقائق األشياء عند‬ ‫وإما هتذيب الباطن وتصفيته وهي طريقة الصوفيني؛ َّ‬
‫مقابلة مرآته مبرآة اللوح املحفوظ وخلوه عن احلجب‪ ،‬فإذا ارتَ َفع احلجب‪ ،‬واملوانع وتطهر القلب عن لوث‬
‫األخالق الذميمة و َدنَ ِس امللكات الردية وانفتحت أبواب القلب حنو ملكوت السماوات واألرض واتَّصل‬
‫باملأل األعلى واملبادئ العالية‪ ،‬انعكس إليه ما فيها من صور احلقائق والعلوم واملعارف‪ ،‬فصار عالَما عقليًا‬
‫ِم﴾ (فصلت‪ ،)53/41‬وهذا هو‬ ‫ُسه ْ‬‫َاق َو ِفي أَنف ِ‬ ‫ِم آيَاتِنَا ِفي ْالف ِ‬ ‫﴿سنُرِيه ْ‬‫مضاهيًا للعامل احلسي‪ ،‬قال تعاىل‪َ :‬‬
‫املراد بليلة القدر‪ ،‬ينكشف للنفس فيها أحوال امللك وامللكوت‪ ،‬كما قال تعاىل‪ٰ َ :‬‬
‫﴿و َك َذلِ َك نُرِي إِبْ َرا ِه َ‬
‫يم‬
‫ض﴾ (األنعام‪ .)75/4‬ول ََّما كان أكثر ما يَتَجلى مرآة القلب يف شهر رمضان‬ ‫ات َو َْ‬
‫ال ْر ِ‬ ‫او ِ‬‫الس َم َ‬
‫وت َّ‬ ‫َك َ‬‫َمل ُ‬
‫الذي أُنزل فيه القرآن بواسطة الصوم الذي هو تضييق جماري الشيطان يف بدن اإلنسان‪ ،‬صار مصادفة ليلة‬
‫القدر يف رمضان أكثَر‪ ،‬أال يُرى َّأن من ُجعل له هذ ِه ال َْمرتَبة يف غري رمضان أيضا فقد صادف ليلة القدر‪،‬‬
‫فَ ِمالك األمر هو رفع موانع القلب وتصفية مرآته وتصقيله‪ ،‬وتلك املوانع مخسة‪ :‬أحدها نقصان يف الذات‬
‫وأصل الفطرة‪ ،‬كقلب الصيب واملجانني‪ ،‬والثاين‪ :‬كدروة املعاصي وخبث الشهوات‪ ،‬قال تعاىل‪َ :‬‬
‫﴿ك َّل بَ ْل‬
‫ون﴾ (املطففني‪ ،)14/83‬والثالث‪ :‬العدول عن اجلهة‪ ،‬وهو االشتغال‬ ‫َى ُقلُوبِهِم َّما َكانُوا يَ ْك ِسبُ َ‬ ‫ان َعل ٰ‬
‫َر َ‬
‫باألُمور الدنيوية‪ ،‬والرابع‪ :‬االعتقادات الباطلة واجلهليات املركبة والظنون الفاسدة املركوزة يف الطبع‪ ،‬قال‬
‫ون﴾ (يونس‪ ،)66/10‬اخلامس‪ :‬اجلهل بطريق العثور على املطلوب‪ ،‬كما يف‬ ‫﴿وإِ ْن ُه ْم إَِّل يَ ْخ ُر ُص َ‬
‫تعاىل‪َ :‬‬
‫ِم﴾ (احلديد‪.)27/57‬‬ ‫﴿و َر ْهبَانِيَّ ًة ابْتَ َد ُعو َها َما َكتَْبنَا َها َعل َْيه ْ‬
‫زهاد الكفرة والرهابني‪ ،‬قال تعاىل‪َ :‬‬
‫فإذا ارتفع هذه املوانع صار القلب كمرآة جملوة حوذي هبا ما يقابلها من الصور العلمية واحلقائق املتأدية‪،‬‬
‫وإما من الباطن‬
‫َّإما من اخلارج وطرق احلواس الظاهرة اليت هي كاألهنار اخلمسة بالنسبة إىل خواص القلب‪َّ ،‬‬
‫نصب من األهنار اخلارجية ال خيلو عن كدر األوهام والظنون‬ ‫واألبواب املفتوحة حنو املأل األعلى‪ ،‬إال َّأن ال ُْم َّ‬
‫خبالف ما إذا ُس َّدت طرق اخلارج وحوذي بالقلب إىل امللكوت األعلى؛ فإنَّه يظهر فيه ينابيع احلكمة‪ ،‬فهي‬
‫ْج ًريا﴾ (اإلنسان‪ ،)6/76‬ويسمى هذه العلوم علوم املكاشفة‪.‬‬ ‫﴿ َع ْينًا يَ ْش َر ُب بِ َها ِعبَا ُد اللَِّ يُف ِّ‬
‫َج ُرونَ َها تَف ِ‬

‫كم َعا ِد ِن‬


‫اس معاد ٌن َ‬
‫ث َُّم َّإن القلوب واملرايا متفاوتة‪ ،‬فأصل الفطرة واالستعداد‪ ،‬كما قال عليه السالم‪( :‬النَّ ُ‬
‫ال وعلمًا إنَّما يفيض عليها‬ ‫والفض ِة فَ ُك ٌل ُميَ َّس ٌر لِما ُخلِ َق لَُه)‪ 25،‬فالوجود وما يتبعه من الكماالت عم ً‬ ‫الذهب َّ‬
‫على حسب ما يسعه ويقبله‪ ،‬وهذا هو السر يف مراتب تفاوت األنبياء واألولياء وسائر طبقات الناس‪ ،‬وتباين‬
‫مشارهبم ونشأهتم‪ .‬ويف احلقيقة َمرجع هذا التفاوت هو االسم الذي هو َر ُّب نَوعه‪ .‬ول ََّما كانت احلقيقة‬
‫صط َفوِيَّ ِة حتت مرتبة اسم الذات املستجمع جبميع األمساء اإلهلية واحلقائق الكونية‪،‬‬ ‫املحمدية والنشأة ال ُْم َ‬
‫ِم﴾ (الفتح‪ ،)10/48‬صار نَبيُّنا‬ ‫ون اللََّ يَ ُد اللَِّ ف َْو َق أَيْ ِديه ْ‬ ‫كما قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذ َ‬
‫ين يُبَايِ ُعونَ َك إِنَّ َما يُبَايِ ُع َ‬

‫رواه البخاري (‪ )3494‬و مسلم (‪.)2638‬‬ ‫‪25‬‬

‫‪95‬‬
‫‪NAZARİYAT Journal for the History of Islamic Philosophy and Sciences‬‬

‫نح ِص ٌر فيه‪ ،‬واألنبياء كانوا ّنو َ‬


‫اب‬ ‫كرم املكونات‪ ،‬بل أُقنوم النبوة ُم َ‬
‫أفضل املوجودات أَ َ‬‫عليه أفضل الصلوات َ‬
‫(عل ََم ُاء اَُّمتِي كأنبِيَا ِء بَنِي‬
‫اب نشأته العنصرية‪ ،‬ولذا قال عليه السالم‪ُ :‬‬ ‫نشأته الروحانية‪ ،‬كما َّأن العلماء َّنو ُ‬
‫ومغترفون من حبر كرمه‪ ،‬وفضله وواقفون لديهم عند ح ّدهم‬ ‫يل)‪ ،‬فاألنبياء كلهم ُمعترفون بفضله‪ُ ،‬‬
‫‪26‬‬
‫إسرائِ ِ‬
‫َ‬
‫من نقطة العلم أو من شكله احلكم‪:‬‬

‫ِر َن أَنْ َو َار َها لِلنَّ ِ‬


‫اس يف الظ َل ِم‬ ‫َض ٍل ُه ْم َك َو ِ‬
‫اكبُ َها يُ ْظه ْ‬ ‫سفْ‬‫فإنه َش ْم ُ‬
‫‪27‬‬
‫وقال عليه السالم‪( :‬تَ َمنَّى اثنَا َع َشر نَبِيًَّا من بَنِي إسرائيل ِم ُنهم ُموسى و ِعيسى أن يَكونوا ِمن اَُّميت)‪.‬‬

‫احلمد هلل الذي جعلنا من َّأمتِ ِه ورزقنا اتِّباع دينه وملته‪.‬‬


‫وس ِة آ ِمد ُحفظت ِمن َشر ُك ِّل ِ‬ ‫تَ َّم على ي ِد ُم َؤلِّ ِفه اجلَانِي ُم َح َّمد أمني بِن َّ‬
‫يوم‬
‫حاسد َ‬ ‫ِّ‬ ‫الصد ِر الشرواين بِ َم ُ‬
‫حر َ‬
‫الثالث والعشرين من شهر صفر املظفر سنة عشرين وألف من اهلجرة النبوية عليه أفضل التحية حامدًا ومصليًا‬
‫على نَبِيِّه وآله وصحبه أمجيعن‪.‬‬

‫األلباين يف سلسلة األحاديث الضعيفة واملوضوعة (‪.)466‬‬ ‫‪26‬‬


‫مل جنده فيما لدينا من املراجع‪.‬‬ ‫‪27‬‬

‫‪96‬‬

You might also like