You are on page 1of 6

‫]‪[1‬‬

‫اللغة العربية غريبة في دارها‬


‫للشيخ الجزائري أبو اليقظان إبراهيم‬

‫‪http://www.aboulyakdan.com/makal_alloughat%20alarabia.htm‬‬

‫ل يخفى أن اللغة العربية لغة الدين السلمي‪،‬‬


‫لغة القرآن المجيد‪ ،‬لغة الحديث الشريف‪ ،‬لغة‬
‫التدوين والتأليف في السلم‪ ،‬لغة التخاطب‬
‫والتفاهم بين سائر المسلمين في الدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬فهي الصلة بين الله تعالى وعباده‬
‫وبين رسوله وأمته وبين شرعه وعباده‪ ،‬وبين‬
‫الوائل والواخر‪ ،‬وبين الغائبين والحاضرين‪.‬‬
‫وإحياؤها إحياء لتلك الصلة الكبرى والرابطة‬
‫العظمى والحبل المتين‪ ،‬وإماتتها إماتة لتلك‪،‬‬
‫وسعادة المسلمين منوطة بإحيائها ل من حيث‬
‫كونها لغة قومية فقط ـ وحياة القومية بحياة‬
‫لغتها وموتها بموتها ـ ولكن من حيث كونها لغة‬
‫الدين‪ ،‬لغة الشريعة أيضا‪ ،‬إذ ل تتلقى هذه كما‬
‫يجب إل بإتقان تلك وتفهم أساليبها ومناهجها‬
‫عند أئمتها وأمرائها‪.‬‬
‫و لهذا بذل علماء المسلمين وفطاحلهم في‬
‫العصور الولى عصور الرقي العقلي و النضوج‬
‫العلمي و الدبي جهودا هائلة في خدمتها‪،‬‬
‫فقسموها إلى فنون شتى خصوها بالتدوين و‬
‫التأليف‪ ،‬و قد أجادوا فيها‪ ،‬و بلغوا فيها غاية‬
‫الضبط و التقان‪ ،‬ولكل في خدمتها وجهة هو‬
‫موليها وناحية هو قاصدها ‪ ,‬وكانت النتيجة أن‬
‫أصبحت اللغة العربية لغة غنية بمفرداتها‬
‫وبعلومها وبأساليبها‪.‬‬
‫فقامت لها أسواق رائجة في نوادي دمشق‬
‫وبغداد وقرطبة والقيروان والقاهرة وتجاوبت‬
‫أصداء الدباء والشعراء والعلماء بين جدران سائر‬
‫الممالك السلمية‪.‬‬
‫ثم بعد هذا الزدهار تولها الذواء والذبول إلى‬
‫أن كادت تضمحل وتلك سنة الله في كل كائن‬
‫حي ماديا كان أم أدبيا فمن دور التكون إلى دور‬
‫الطفولية ‪ ,‬إلى دور الشبيبة ‪ ,‬إلى الكهولة ‪ ,‬إلى‬
‫الشيخوخة‪ ..‬إلخ‪ .‬لول أن القرآن الكريم كان لها‬
‫كالعمود الفقري من جسمها حافظا لها من‬
‫التلشي ‪ ,‬وفي هذا الدور الخير قيض الله‬
‫لحيائها وبعثها من جديد ‪ ,‬رجال من مصر‬
‫والشام وتونس ‪ ,‬فوفوها حقها من الخدمة‬
‫والتدوين وهذبوها مما علق بها في دور تدنيها‬
‫من اللفاظ الدخيلة ‪ ,‬والساليب الغريبة‬
‫المهجورة ‪ ,‬وفتحوا باب اشتقاقها لسماء‬
‫المستحدثات العصرية‪,‬فأعربوا بذلك أن اللغة‬
‫العربية وسع صدرها لحمل المانة التي عرضها‬
‫الله على السموات والرض والجبال فأبين أن‬
‫يحملنها ‪ ,‬فهي أولى وأجدر بحمل ما يلده كل‬
‫عصر من غرائب الختراع و الكتشاف فقطعوا‬
‫بهذا ألسنة الخراصين الذين يدعون أن اللغة‬
‫العربية وإن كانت لغة الدين‪ ,‬فهي ليست لغة‬
‫علم‪.‬‬
‫ول ينكر ما فتح للغة العربية من خدماتهم هاته‬
‫من الزدهار والنضوج ومن التساع و النتشار‬
‫ومجاراة اللغات الحية ‪ ,‬ومسابقتها في مضمار‬
‫الحياة‪.‬‬
‫فكما كان لتلك مدارسها ومجامعها ومعجماتها و‬
‫نواديها ومجالتها وجرائدها ‪ ,‬فكذلك كانت لهذه‬
‫وإن كانت بصور مصغرة‪.‬‬
‫فلو أن اللغة العربية وجدت ما وجدت اللغات‬
‫الحية الخرى من الدول الكبرى‪ ،‬والمساعدات‬
‫العظيمة المادية والمعنوية على النمو و‬
‫النتشار‪ ،‬لصبحت قي مقدمة اللغات الحية‬
‫رواجا وانتشارا وثروة‪ ،‬ولكن هو الحظ يقوم تارة‬
‫ويعثر مرارا‪ ،‬ولو لقت تلك اللغات ما لقته‬
‫العربية من عناصر الوهن و الضمحلل لماتت‬
‫منذ زمان‪ ،‬ولكن الله سبحانه وتعالى الذي جعل‬
‫القرآن ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من‬
‫خلفه ـ وهو عربي مبين ـ قد كتب للغة العربية‬
‫الحياة و الخلود مادام قرآنه في أرضه‪ ،‬ولو كان‬
‫الناس قاطبة بعضهم لبعض ظهيرا‪.‬‬
‫وكلما وهن عظمها وضعف حالها بعث الله من‬
‫يجدد أمرها‪ ،‬وينفخ فيها من ذلك الكتاب الكريم‬
‫وكلم حماته روح الحياة كما بعث أولئك الرجال‬
‫في هذا العصر على إحيائها وإعلء شأنها ‪ ,‬ذلك‬
‫هو حظها اليوم من أبنائها في الشرق‪ .‬و ما هو‬
‫حظها من أبنائها المسلمين الجزائريين يا ترى؟‬
‫إن حظها منهم عاثر وحالها بينهم حال غريب‬
‫في داره ‪ ,‬أمش معي أيها الخ الكريم ‪ ,‬وادخل‬
‫المحال العمومية ول سيما في العاصمة ‪,‬‬
‫المجتمعات والنوادي والمحتفلت والمقاهي ‪,‬‬
‫والمسارح وغيرها من الماكن الهلية اصغ جيدا‬
‫لما تسمعه من المتخاطبين ‪ ,‬فماذا تسمع هنالك‬
‫يا ترى؟ تسمع رطانة غريبة وخليطا من اللغة ل‬
‫هو عربي ول بربري ول فرنسي و إنما هو مزيج‬
‫من العربية و البربرية والفرنسية‪ ،‬والعربية منه‬
‫أقل الثلثة مع ما هي عليه من التكسر و‬
‫الختزال‪.‬‬
‫و الغرب من هذا أنك ترى كثيرا ما يقع إشكال‬
‫بين المتخاطبين بالعربية فإذا التجأوا إلى‬
‫الفرنسية تفاهموا وزال الشكال والكل عرب‬
‫مسلمون‪ .‬ومما يقضي بالدهشة والستغراب أنك‬
‫ترى متصاحبين عربيين مسلمين يتخاطبان باللغة‬
‫الجنبية كلغتهما الصلية نابذين لغتهما ولغة‬
‫أجدادهما ظهريا ‪ ,‬ظنا منهم أن ذلك من‬
‫مقتضيات التمدن الحديث ‪ ,‬والتكلم بلغة الجداد‬
‫إنما هو تمسك بقشور بالية تنافي الرقي‬
‫والتمدن الواجب احتذاؤهما وإن كان فيه إماتة‬
‫المجد والشرف والعظمة القومية‪ ،‬والمغلوب‬
‫يتقصى أثر الغالب ويقلده شبرا بشبر وذراعا‬
‫بذراع‪ ,‬وإن كان في ذلك حتفه و هلكه‪.‬‬
‫هذا شيء من حظ العربية من أبنائها‬
‫الجزائريين ‪ ,‬وذلك حظها من أبنائها في‬
‫الشرق ‪ ,‬والفرق كبير بين الحظين ‪ ,‬هو كالفرق‬
‫بين الحرية والعبودية ‪ ,‬وبين العلم والجهل‪،‬‬
‫وتلك الحالة السيفة نتيجة طبعية لمور ‪:‬‬
‫أول‪ :‬جهل المسلمين وإعراضهم عن العلم‬
‫الصحيح وضعف تمسكهم بالدين الحنيف ‪ ,‬ولو‬
‫أنهم عضوا على دينهم بالنواجد ‪ ,‬وأقبلوا على‬
‫العلم الصحيح ونفروا من الجهل نفورهم من‬
‫الفقر لكان للغة العربية بينهم مالها بين‬
‫إخوانهم في الشرق من المكانة العليا و المنزلة‬
‫الرفيعة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬عدم رغبة الحكومة في وجودها والعمل‬
‫على قتلها وإماتتها لسرار تعلمها هي ‪ ,‬فلو‬
‫تركتها وشأنها ولم تصبها في مقاتلها بتقييد‬
‫حرية نشرها أو أنها نشطت سيرها وأنعشت‬
‫روحها فجعلتها بجانب لغتها رسمية في الدارات‬
‫والمدارس وغيرها كما يقتضيه النصاف نحو‬
‫الغلبية الساحقة لكان لها شأن وأي شأن‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬وهن القومية العربية و اندماجها في‬
‫القومية البربرية وعدم اعتبار هذه للعربية بما‬
‫يجب للسلم من العتبار‪ ،‬وللوسيلة حكم‬
‫المقصد فلو كانت للعنصرية العربية نعرتها على‬
‫إحياء لغتها أو كان للعنصرية البربرية نحو اللغة‬
‫العربية ما لها نحو الدين من التقدير و العتبار‬
‫لقاموا جميعا ـ وهم كلهم مسلمون وهي لغتهم‬
‫جميعا ـ بخدمات جليلة نحوها تجعلها في الجزائر‬
‫كما هي في تونس‪.‬‬
‫و لكن ل إياس للعربية من أبنائها الجزائريين‬
‫وقد لحت منهم بوارق آمال نحو إحيائها في‬
‫ربوعهم و أخذ يدب في عروقهم دبيب‬
‫إحساسهم وشعورهم نحو إنعاش روحها‪.‬‬
‫و لئن لم يبد منهم نحو ذلك عمل مفيد جدي فقد‬
‫أبدوا منهم من التألم و الشكوى من تلك الحال‬
‫السيفة‪ ،‬و الشعور بالنقص أول مراتب الكمال‪،‬‬
‫وما ظهور الجرائد العربية و تأسيس بعض‬
‫النوادي إل أثر من ذلك‪ ،‬و أول الغيث قطر ثم‬
‫ينسكب‪.‬‬
‫إلى القارئ الكريم قطعة من خطاب شاب‬
‫جزائري ألقاه بالفرنسية في حفلة تأسيس‬
‫النادي العربي بباريس سابقا ليعلم به مبلغ‬
‫التذمر من الجهل بلغتهم الصلية وعدم‬
‫اقتناعهم بما هم عليه من اللغة الجنبية‪.‬‬
‫قال و قد أجال نظرة حزينة في إخوانه ‪ :‬كم‬
‫يحزنني و يمزق نياط قلبي أن أكون عربي‬
‫الصل عربي النزعة فل أستطيع أن أخاطبكم إل‬
‫بلغة الجنبي و أن أستمع لخطبكم فل أفهم منها‬
‫إل نبراتكم التي تهز جوانحي و أرى حماسكم‬
‫فأكاد أطير جنونا بكم ‪...‬إلخ‪.‬‬
‫وادي ميزاب‪ ،‬ع ‪(3/11/1927) 55 :‬‬ ‫]‪[1‬‬

You might also like