Professional Documents
Culture Documents
الإنسان المجروح
الإنسان المجروح
6
هذه هى الرسالة التى يحاول الكتاب الهام
والقّيم ،أن يرسلها لكل إنسان جارح أو
مجروح ،حتى تستعيد النسانية إنسانيتها،
ويعود النسان إلى طبيعته الولى كما خلقه
الله من البدء.
فالكتاب الذى بين يديك أيها القارئ الكريم هو
محاولة لتضميد جراح البشر من خلل امتلكهم
لحريتهم الحقيقية ،وهو يحتوى على أربعة أبواب
ضمت ثلثة عشر فصل ً ،بجانب مقدمة تمهيدية،
وأوضح فى الباب الول عصر القلق ،سمات عصرنا
وكيف نحيا فيه وموقع الله فينا من هذا العصر القلق،
وعرض الباب الثانى أسياد وعبيد ،أغنياء وفقراء
لبعض صور جراحات النسان وصور استعباده
لخيه النسان ،وعرض الباب الثالث لجذور
الستبداد ،والتى تبدء من اللذة المرضية إلى عائلة
الستبداد والستعباد وأعوانهم ،والباب الرابع عرض
للدكتاتور والدكتاتورية ،والعوامل التى أدت إلى
الدكتاتورية وظهور الدكتاتور وأساليب حكمه ،وأخيرا ً
وضع الكتاب الحل لنهاية جروح إنسان هذا العصر،
والحل هو المسيح يسوع ،فقد ختم المؤلف كتابه
بمقال عنوانه :المسيح دعوة إلى الحرية.
أما مؤلف هذا الكتاب الراهب كاراس المحرقى ،فهو
ليس فقط رجل دين بل أديب وباحث فى آن واحد ،فمن
خلل عرضه لفصول الكتاب تشعر أنك أمام أديب
كن من لغته وأسلوبه وأدواته ،فتلحظ جمال اللفاظ متم ّ
والعبارات وبلغة الفكار والمقاطع ،وفى نفس الوقت
7
تشعر أنك أمام باحث مدقق رجع إلى الكثير من
المراجع الدينية والعلمية ،وقام بالتحقيق الدقيق
للمعلومات والراء ،وهو غزير فى إنتاجه ،فله أكثر من )
34مؤلفا ً( الرب يحفظ حياته ويمنحه نعمة وبركة
لننتفع بصلواته ،ويقدم لنا كل ما يفرح قلوبنا ويغذى
عقولنا وأرواحنا من كلم نافع مفيد.
نسأل الله أن يكون هذا العمل لمجد اسمه القدوس
وبركة لكل من يقرأه ،بشفاعة أمنا القديسة
الطاهرة العذراء مريم ،وجميع مصاف القديسين،
وبصلوات أبينا القديس النبا شنوده الثالث وشريكه فى
الخدمة الرسولية نيافة الحبر الجليل النبا ساويرس
أسقف ورئيس دير المحرق العامر ..وللهنا كل مجد
وكرامة إلى البد آمين.
8
مممممم
إن كل من ينظر إلى بنى جنسه ،يقر ويعترف بأن
النسان مجروح ويوما ً بعد يوم تزداد جروحه! الخليقة
كلها " تئن وتتمخض معا ً " كما يقول معلمنا بولس
الرسول )رو !(22 :8
لقد زادت جروح النسان فاستنزفت دماؤه ،وما
كتابى إل محاولة لتضميد جروح البشر ،محاولة
بسيطة وضعيفة ،تبحث عن حق من حقوق النسان
سلبه منه الغاصبون ،وهذا الحق إنما هو الحرية!
إنه صرخة تبحث عن معنى الحياة ،صرخة ليس لها
هدف إل أن تدفع عن النسان -صورة الله -الحجار
الثقيلة التى تُلقى عليه كل يوم ،حتى يقدر أن يعيش،
يتعبد ،يفكر ،يكتب ،يعّبر عن رأيه بل خوف أو تردد ،وهذا
ليس ثورة ول يهدف إلى ثورة ،ولكنه فكر إنسان حر
يؤمن بالله وشرائعه التى تدعو إلى الحرية ،فكل إنسان
له حق الحياة ،وهذه الحياة تصير بل معنى ،إذا كان
النسان ل يملك حريته التى هى عطية من الله ،وليست
منحة من إنسان كما يتوهم البعض!
كل المجتمعات التى احترمت حرية النسان ،ووفرت
له المن والسلم ..تقدمت ،أما الذين داسوا على كرامة
النسان واحتقروا آدميته وقتلوا مواهبه ،وسجنوا حريته..
عاشوا فى ظلم ل يعرفون شيئا ً فى الحياة سوى
لذاتهم ،واللذة عندهم هى إشباع شهوات الجسد!
أؤمن أن كثيرين سوف يسيئون فهم هذا الكتاب،
خاصة السطحيين ،والناقدين المغرضين غير المتعمقين،
خوفا من ثورة أرواحهم! ولكنً وغيرهم سيسدون آذانهم
9
-6 -
من أجل الحرية التى نحن بصدد الحديث عنها يجب أن
نكتب ،ومن أجل العدل يجب أن ُننقد ،ومن أجل الحق
يجب أن ننظر إلى النقد ونعالج الخطاء إن وجدت!
لقد بدأت كتابى بمقدمة بسيطة ،تتحدث عن
جروح العصر ،ثم جاء الباب الول يحمل اسم
"عصر القلق" وفيه أصف عصرنا الغريب بكل
مشاكله ،موضحا ً أن إنسان القرن العشرين على الرغم
من اختراعاته المذهلة ،التى جعلته يسبح فى الفضاء،
سمى النسان ويغوص فى أعماق البحار ..إل أنه قـلقُ ،
سمى العصر بعصر القلق! القـلق ،و ُ
ِ بالنسان
ثم تحدثت فى الباب الثانى عن الطبقية تحت
عنوان " أسياد وعبيد ،أكواخ وقصور" فالطبقية
كانت ول تزال -وإن اختلف الشكل -من السباب التى
زادت من جروح النسان!
وبينما كنت أقرأ قصة خروج بنى إسرائيل من أرض
مصر ،خطر لى أن أتحدث عن القسوة والستبداد
م ل ؟! ألم يتحدث كأحد العوامل التى تجرح النسان ول ِ َ
الكتاب المقدس عن استبداد فرعون وإذلله لبنى
إسرائيل! ألم يأمر هيرودس الملك بقطع رأس
المعمدان أعظم مواليد النساء! ألم يحدثنا الكتاب
المقدس عن ملوك كثيرين أذلوا البشر واستعبدوهم،
وأمروهم أن يقدموا لهم فروض العبادة والسجود!
ثم خطر ببالى إن كثيرين سيفسرون كتابى على أنه
" كتاب سياسى" والكتب السياسية محظور كتابتها على
رجال الدين ،عندئذ كنت قد تشبعت بفكرة :إن كل ما
جاء فى الكتاب المقدس من حق رجل الدين أن
10
يكتب فيه ،لن هذا هو الكتاب العظم الذى يؤمن به
ومن حقه أن يفسركل ما جاء فيه ..فلو أننى كنت أعظ
طلب منى إعطاء وصف دقيق لشخصية فرعون أو و ُ
سئلتهيرودس ،هل أكون مخطئا ً لو قلت :مستبد ،ولو ُ
عن معنى الستبداد ،هل أكون سياسيا ً لو عّرفته موضحا ً
الفرق بينه وبين الدكتاتورية والطغيان ،إن الخطأ من
وجهة نظرى هو التحدث عن أشخاص ،أما التحدث عن
أنظمة وقوانين دون المساس بالخرين فهذا حق لكل
كاتب ،خاصة إذا كان كلمه مدعما ً بآراء وأقوال فلسفة
وعلماء وقديسين وآيات من الكتاب المقدس!
أما الباب الرابع فقد جاء يحمل اسم " الدكتاتور"
وفيه نتحدث عن شخصية -وليس شخصًا -أذلت البشر
وأسالت دماء كثيرين ،والحق إننى تعجبت عندما عرفت
أن هذه الشخصية التى مجرد ذكرها يُذيب القلوب،
كانت فى يوم لفظة سامية ل ُتعطى لكل إنسان! فكيف
فرة ،هذا ما سـوف نعرفه فى تحولت إلى لفظـة من ّ
الجزء الخاص بالدكتاتور ،أما خاتمـة الكتاب فجاءت
بسيطة مثل المقدمة وتحمل اسم " المسيح :دعوة
للحرية ".
هذا هو كتابي..
ً
وهذا ما أردت أن أقوله ،مترنما أمام السماء والرض،
وإن جاء المــوت الن واختطفنــي ،ووقفــت أمــام عــرش
الديان العادل ،لقلت ما هو أكثر بكل فرح ،لني لــم أتبــع
ســوى نــداء الحــق ،ولكــن مــاذا نقــول ل ُنــاس وضــعوا
لرواحهم شرائع عالمية ،فإذا انفرد عن شرائعهم إنسان
قالوا :إنه متمرد شرير ،وساقط دنس يســتحق المــوت..
11
451
- -
ويبقى السؤال :هل يظل النسان عبــدا ً لشــرائع فاســدة
إلى انقضاء الدهر ،أم يسعى ليتحرر ليحيا بالروح وللروح
؟! أيبقى النسان محدقا ً بــالتراب ،أم يح ـ ُ
ول عينيــه نحــو
السماء كيل يرى جسده بين الشواك والجماجم ؟!
أخيرا ً ُأقدم محبتى وشكرى وتقديرى ،للعالم الجليل
والخادم المين ،الستاذ الدكتور جمال شحاتة ،الذى
تفضل مشكورًا ،بمراجعة الكتاب والتقديم له ..الرب
يعوضه على تعب محبته ،واهتمامه ،وتشجيعه ...وللهنا
المجد الدائم إلى البد آمين.
ممممممم
ممممم ممممممم
12
مممممممم مممممممم
لشك أن النسان يطرق باب الحياة ،ويرحل منها فى
غير موعد أو استئذان ،ولكن بين الميلد والرحيل هناك
رحلة عابرة ،لها جاذبيتها وجمالها ،ول زالت رحلة الحياة
هى قمة القضايا النسانية التى تسعى كل الجماعات أن
تجعلها أكثر جمال ً ،فكل القوانين التى وضعها النسان،
هدفها أن تصون الحياة وتوفر لها المن والسلم،
والنبياء عندما جاءوا أرادوا أن يزرعوا زرعا ً إلهيا ً ،ترتبط
جذوره فى الرض بجذور روحية تمتد إلى السماء.
ولكن على الرغم من هذا ،إل أن اللم ل يزال
موجودًا ،لقد زرعوا جذورا ً روحية ،ولكنهم لم ينزعوا
جذور اللم ،التى تأصلت فى كيان النسان ،وأصبحت
من المستحيل أن ت ُنتزع منه ..وإن كان لكل إنسان
ميزات تميزه عن الخر ،إل أن الجميع عند الدموع
يلتقون وفى البكاء من اللم يتساوون " فكل الخليقة
تئن وتتمخض معا ً " كقول معلمنا بولس الرسول )رو
.(22 :8
ُانظروا لتاريخ البشر ،لتروا أنهم بدأوا جماعة صغيرة
ثم ازدادوا ،عاشوا موزعون على الرض ،عزلتهم
الجغرافيا بجبالها وصحاريها وبحورها ،ولكن بقى عنصر
النسانية يربط البشرية المتفرقة ،واللم الذى يئن
تحت جبروته كل البشر.
فى كــل بلد العــالم صــراخ يمــزق القلــب ،مــن شــدة
مظالم ل ُتحصى ،منها التشرد والجوع والحرمــان ،ومنهــا
خلقى ..هــذا غيــر الســتبداد الدمان والفساد والنحلل ال ُ
13
-8 -
والحروب والقتل والســرقة ..ومــا هــذا إل إعلن واضــح،
على أن العـالم يتـأوه والنسـان مجـروح ،البشـرية كلهـا
صارت خاضعة تحت نير اللم الثقيل.
النسان مجروح جرحا ً عميقا ،جرح الفقر المُميت
الذى صار يذبح الناس ذبحًا ،فمعظم البشر
يحصدهم الموت حصدا ً ،بسبب القحط الذى عم كثيرا ً
من بلد العالم ..فأصبحت الغالبية العظمى تئن صباحا ً
ومساء من قسوة وألم الجوع ،وأقلية يتنعمون
ً
ً
ويتلذذون ،إل أنهم هم أيضا يئنون ،ولكن بسبب الثراء
الفاحش وما ينتج عنه من شر وفساد ،وبين الثرياء
والمعدمين قلة ل قيمة لها ،أو قل ل ذكر لهم فى
التاريخ ،الذى ل يشغل صفحاته بهؤلء وغيرهم من
المعذبين المهملين ...يكفيه أخبار العظماء والثرياء
والمشهورين.
يقولون :إن مليين من البشر يموتون كل عام جوعًا،
والبشرية فى مناطق كثيرة تئن ثراًء وشبعا ً وتخمة ،ففى
إحدى الجرائد قرأت خبرا ً يكاد ل يُصدق تحت عنوان
) زفاف ُأسطورى ( يصف لنا احتفال ملك بروناى
بزفاف إبنته ،يقول الخبر:
كان بريق الذهب والماس ،أشد من سطوع أشعة
صنعتالشمس فى سماء السلطنة ،فمن الذهب ُ
المقاعد والطباق وأدوات المائدة ،وبالمجوهرات الثمينة
ُزينت الملبس والحزمة والساعات وحضر الحفل )6
آلف( مدعو ،أقاموا فى قصر يبلغ عدد حجراته )(1778
حجرة ،أما عن الهدايا فأثمنها عربة رولزرويس ،تم
تحويلها بمعرفة صنّاع بروناى ،وبكميات من الذهب،
14
01
- -
وأمتار من الحرير ..إلى ما ُيشبه عربة الزفاف الملكية،
وخلف زجاج العربة جلست الميرة تحمل باقة الورود:
الفرع من الذهب والوراق من الماس .
صنعت كراسى ) 6آلف( مدعو من الذهب ! فى لقد ُ
الوقت الذى ينام مليين البشر على الرصفة فى
الشوارع! وعلى الرض فى المنازل! فأى عالم هذا
الذى نعيش فيه وأية أرض تلك التى تحملنا !!
إنسان يموت جوعا ً وإنسان يموت شبعا ً !!
مليين الدولرات تُنفق على دعايات مشاهير
العظماء! ومليين البشر يعانون من التشرد والجوع! لقد
خان أغنياء كثيرين عهد الله ،فأغمدوا السيوف التى
وضعها الله فى أيديهم لقامة عمل الرحمة ،وتقلدوا
سيوفا ً غيرها ،لهى إلى الشريعة ول إلى الطبيعة،
ومشوا بها يفتتحون لنفسهم طريق شهواتهم ولذاتهم،
حتى ينالوا منها ما يريدون ،فأصبحنا نرى الفقراء
يموتون جوعا ً فل يجدون من ُيحسن إليهم ،وما أسهل أن
يخوض النسان بحرا ً من الدماء ،إذا رأى على شاطئه
الخر جنيه ،ولكن ما أصعب أن ينفق ولو مليما ً منه،
على مريض فى حاجة إلى أدوية ،أو جائع فى حاجة إلى
أطعمة!!..
نعترف بأن الله لم يخلق النسان ليقتر عليه رزقه،
ولم يقذف به فى المجتمع ليموت جوعًا ،بل أرادت
حكمته أن يخلقه ويخلق له فوق بساط الرض ،وتحت
ظلل السماء ،ما يكفيه من مؤونته ويسد حاجته ،ولكن
قام القوى على الضعيف وغدر به وسلب رزقه،
فصارت لحوم الفقراء تنحدر فى بطون الغنياء
15
انحدارًا ،فتغير نظام القسمة العادلة ،وتشوه وجهها
الجميل.
قال روكفلر الملياردير المريكى " :ما أعجب هذه
الحياة ،إن كل ممتع فيها مضر" ! ثم شرح وجهة نظره
فقال :الطعام الدسم مضر بصحة النسان ،والمال
الكثير مثير للعصاب ،مقلق للراحة ،باعث على الخوف
من ضياعه ،وحب إمرأة جميلة يمكن أن يدمر النسان،
وذلك إذا تفرغ لها واستعبده جمالها ،والحرص على
الستجابة لكل مطالبها.
هذه خبرة إنسان ،لم يكن ينقصه المال ول القوة ول
النجاح بمفهوم البشر ،إنما كان ينقصه شئ واحد أل
وهو :حب الناس له ،ولهذا عندما أراد أن يعرف شعور
الناس نحوه ،عمل استفتاء فى إحدى المجلت ،التى
كان يملكها عن أكثر الرجال المكروهين فى أمريكا،
فكانت النتيجة :إن روكفلر أكثر رجل مكروه فى
أمريكا كلها وبل منافس!
وعندما أراد أن يكسب حب الناس وعطفهم بنى
كنيسة ،وكان يلقى فيها عظة الحد بنفسه ،ومع ذلك ما
كان أحد يحضر إل أتباعه! ول تتعجبوا إن قلت لكم :إن
الناس كانوا ل يمرون من أمام الكنيسة ،بل عندما
كانوا يقتربون منها ،كانوا يمرون من طريق آخر ،وقد
وصلت كراهية الناس ،أن أحد أقربائه طلب منه أن يأخذ
جثة ابنه الميت ليدفنها فى مكان آخر ،لنه ل يقبل أن
يدفن إبنه فى المدافن التى بناها روكفلر ،الذى تلوثت
يده بالقتل والنهب..
16
ممم ممممممم مم مممم ممممم مممم م
مممممممممم ممم مممم م مممممم ممممممم
مممممممم ممممم مممممم ممم مممممم م!
فيا ليت يد الغنياء تمتد لتمنع انحدار دموع المساكين،
فاليد التى تمنع دموع الفقراء أفضل من اليد التى تُريق
تفرح القلوب أشرف من التى تُبقر
ّ الدماء ،والتى
البطون ،فالمحسن هـو أفضل من القائد وأشرف من
المجاهد ،وكم هناك فرقا ً :بين من يحيى الموات ومن
يميت الحياء!
خلقى ،الذى اشتعلت ول شك فى أن النحلل ال ُ
نيرانه وغزا نواحى كثيرة من حياتنا ،أضاف إلى جروح
النسان جرحا ً ما أشد ألمه! لقد صار الجنس إله هذا
العصر ،وما أكثر الذين سجدوا له وسقطوا تحت
أوهامه ،فمعظم المطبوعات اليوم ،الفلم هى عن
الجنس ،حتى وسائل الدعاية أصبحت هى ال ُخرى تعتمد
على الجنس ،وما هذا إل إعلن أن الناس فقدوا هدفهم
فى الحياة ،بل إرادتهم وإيمانهم ،وأصبحوا يتحركون فى
دائرة بل مركز أو محيط ثابت ..فالسعى وراء الجنس
هو بداية النهاية ،ولهذا قال أحد مؤرخى الغرب :إن
خلقى سيدمرنا لو لم يدمرنا النحلل ال ُ
الشيوعيون.
لقد تورط المجتمع الغربى فى الجنس وامتل به،
بحيث أصبح يسيل من مسام حياته ،فأصبحت اللذة
هى الهدف الوحيد الذى ينشده مليين البشر ،وأصبح
المذهب المسيطر الن هو مذهب المتعة ،فكثرت
الكتابات المنحرفة ،والفلم المثيرة ..ويبقى السؤال
17
21
- -
الحائر :هل الحرية أن يعيش الناس فى الفساد ؟! ثم ما
هى نهاية النغماس فى الجنس ؟! ألم يؤكد معلمنا
القديس بطرس الرسول ،إن الحرية ل يجب أن تكون
سترة للشر )1بط ! (16 :2قد نكون على صواب لو
قلنا :إن الحريـة الحقيقية هى :أن أفعل ما يجب ل
ما أريد.
إن النغماس فى الجنس ل يولد سعادة كما يظن
البعض ،بل عذابا ً نتيجة الشعور بالذنب والصراع الداخلى
المرير ،وبعد قليل يجد الخاطئ نفسه مصابا ً بأمراض
نفسية وجسدية ..وشخصيته قد تعطلت وُاحبطت
مساعيها فى البحث والنمو ،وتصبح شهواته شهوات
انفلت زمامها ،ومن المستحيل السيطرة عليها ،ول
عجب فى هذا ،لن من يتحدى قانون الطهارة
اللهى يعيش فى توتر دائم ،ومن يبحث عن
نشوات جديدة واختبارات مثيرة ،يكون دائما ً فى قبضة
الخوف والشك والقلق ..وينظر للخرين كما لو كانوا
موائد شهية ،يقترب منهم عندما يشـعر بحاجته للطعام،
أما النفوس فتظل بعيدة كخدام أذلء.
خلقى ،وإنما وليس الجنس وحده هو ثمرة النحلل ال ُ
انهيار العلقات الزوجية ،ورفض القوانين والمبادى
الخلقية ،وتلف عقول المليين بسبب إدمان المخدرات
وتعاطى المسكرات ،وتمرد الولد على والديهم ،كل
هذه مظاهر للنحلل الخلقى ،وقد زادت من جروح
البشر وأكثرت من نزيفه.
أيضا ً الحروب جرحا ً كان ول زال يؤلم البشر
فالحروب التى مضت ل زالت تؤرق حياتهم ،والحروب
18
القائمة تُقلق ضميرهم ،فرائحة الهواء حتى الن
مفعمة بالحقد التاريخى وصراعات الشعوب ،ول
زالت قصص المذابح والحروب ..التى تنشرها الصحافة
تثير الرعب والفزع فى قلوب الكثيرين.
إن الحرب ما هى إل مظهر من مظاهر العنف بل
قمة أعمال العنف التى تجرح النسان وتمزق الروابط
بين البشر ،وُتدخل الحقد والكراهية فى قلوب
الجماعات ،يكفى أنها تفقد النسان سلمه ،وهل يمكن
لنسان أن يحيا بل سلم! لقد قامت حروب كثيرة،
وحتى الن لم تتمكن منظمة دولية أو هيئة دينية فى
وضع حد لها ،ولعل السبب هو عداوة النسان لخيه
النسان ،فالنسان منذ أن سقط امتل قلبه بالحقد
والكراهية والغيرة ..وإل لماذا قتل قايين أخاه هابيل ؟!
كما أن للطمع دورا ً خطيرا ً فى انتشار الحروب،
فالنسان شره للمال وكلما اغتنى طلب المزيد ،فمن
المعروف أن سلم الطمع ل نهاية له ،فكلما ارتقى
النسان درجة نظر الى البعد ،أما الدرجة العلى فى
سلم الطمع ليست إل سرابا ً خادعا ً أو وهما ً كاذبا ً !
هذا عن الحروب الدموية ،أما الحروب العلمية
والدينية فلها أيضا ً جروح ،فالعلم الذى جعل النسان
يسبح فى الفضاء ويغوص فى أعماق البحار ،وأعطى له
الطائرة والسيارة والكمبيوتر ..هو أيضا ً الذى أعطاه
القنبلة الذرية ،التى أنزلت الموت واللم على
هيروشيما.
وهناك وثائق تؤكد أن الحرب الجرثومية
والكيميائية ستتحكم فى مصير كوكبنا قبل نهاية
19
41
- -
القرن الحالى ،فما أكثر الجراثيم التى يمكن أن تقضى
على أمة بأسرها ،وما أكثر الفيروسات التى لها قدرة
على إحداث انهيار صحى شامل فى قارة بأكملها !
أما الديان فلزالت حروب تُقام ودماء تُسال
باسمها ،وها نحن نتساءل :هل يرضى الله القدوس
بأنهار الدماء التى تُسال من أجـله وباسم الدين ؟!
وكأن مهمة الله أن يحيى الموات ،ومهمة
النسان أن يميت الحياء!
وهل ينكر أحد أن الخوف مزق كيان البشر ،فالخوف
جرح له جذور منذ القدم ،وعلى الرغــم مــن أن المســيح
ســعى ليحــرر النســان مــن قيــدين همــا :الخوف مــن
الســماء والخــوف مــن الرض ،إل أنــه ل زال يحيــا
خائفًا ،ويبقى السؤال الحائر :كيف ينمــو مجتمــع ويتقــدم
حضاريا ً ،وقد مل الخوف قلوب شعبه؟!
فالخوف سم قاتل للحياة والتقدم ،والنســان الخــائف
ل يمكن أن ُيبدع ،أو ُيطلق ما فى وجدانه من أحاســيس،
سيصــيبه الشــلل ،وينطفــئ والعقل الخائف المتردد حتما ً ُ
فيه نور الحكمة والمعرفة..
سمه فى كيان أما الخوف من السماء ،فقد تسرب ُ
الجنس البشرى عن طريق كهنة المم ،الــذين صــوّروا
الله جبارا ً قاسيا ً منتقمًا ،إذ كانت فكرتهــم عــن اللــه أنــه
أعظم مخيـف ،والنسـان مـا هـو إل عبـد ذليـل ،مخلـوق
ضعيف ،ولهذا سـجن الكهنة القدماء النســان فــى دائرة
محرمات ،وأرعبوه بفكــرة جهنــم والنــار الكلــة ،فتحــول
الله فــى نظــر القــدمين إلــى أ ُســطورة ،كمــا لــو كــانت
خيالية ولكنها تبث الرعب فى النفوس.
20
نعم لقد أزلت طبقة الكهنوت الناس بتخويفهم من
الله والسماء ،بعد أن ظنوا أنهم أمسكوا بمفاتيح
الجنة والنارُ ،يدخلون وُيخرجون من يشاؤون! أما
نتائج هذا الذلل فكان امتصاص أرزاق البسطاء وعامة
الشعب ،تحت ستار بناء الهياكل والمعابد ،وما كان هذا
التسخير إل لبناء أنفسهم ل لبناء المعابد كما كانوا
يدعون!
فى أوقات السلم كان على الشعب أن يعطوا الكهنة
نصيبهم ،وفى أوقات الكوارث يدفع الشعب الموال
لتقام الصلوات ،حتى تكف اللهة عن الغضب والنتقام،
فتحول النسان إلى عبد مطحون فى دنياه ،خائف ذليل
أمام آخرته ،وتحولت فكرة الله إلى شبح مجهول ل
ُيرضيه إل الذبائح والتقدمات ،وانتشرت الساطير
والخرافات وقصص الجن ،وساد نفوذ السحرة
والمنجمين ،وُاقيمت حواجز وسدود بين النسان والله،
إلى أن جاء السيد المسيح وحرر النسان من خوف
السماء ،الذى قيده به رجال الدين ،وفتح أبواب السماء
على مصراعيها ،ونادى بأن كل مؤمن هو ابن الله ،كما
عّلمه طريق التحاد بالله ،وأعلن له أن ملكوت الله فى
داخله " ها ملكوت الله داخلكم " )لو .(21:17
هذا عن خوف النسان من السماء ،أما خوفه من
الرض فله أيضا ً جذور ،فقد مرت على البشرية فترات
حاول فيها بعض البشر تأليه أنفسهم ،والويل لمن ل
يسجد لهم أو لمعبوداتهم ،فمن طبيعة البشر فرض
النفوذ ،ومن طبيعتهم أيضا ً الخوف من القوة ،فهذه آفة
21
ورثها النسان عن مجتمع الغابة وعصور الجهل والظلم
!!
لكن المسيح كما حرر النسان من خوف السماء،
حرره أيضا ً من استبداد البشر ،عندما نعت هيرودس
الملك بالثعلب ،وسمى الفريسيين بالحيات أولد
الفاعى ،وشحذ فكر رؤساء الكهنة والكتبة حّراس
شريعة موسى ،وأمسك سوطا ً وهو إنسان فقير يحيا
فى أسرة فقيرة ،ل يحمل سلطة ول يؤيده قانون
وضرب باعة الحمام وقلب موائد الصيارفة ..السوط
الذى أرعب البشرية يمسكه المسيح ل ليجلد البشر
بل روح الوثنية وشبح المادية ،ويطرد روح الشر من
هيكل الله ..وهكذا زلزل ابن البشر فى ثورته العارمة
كل أركان المة اليهودية فتلعثمت قلوبهم ،واضطربت
سيوفهم ،وخجل قوادهم وعلماؤهم ،وهرب التجار
والعبيد والحراس ..ولم يجسر أحد أن يتصدى له أو يرد
عليه أو يدنو منه.
لن من يجعل كتب السماء شبكة ،يصطاد بها أموال
البشر هو خائن لشريعة السماء ،ومن يقلده المؤمنين
سلطة فيمتشقها سيفا ً ويرفعه فوق رؤوسهم مراِءٍٍ،
ومن يسلمه الضعفاء أعناقهم فيربطها بالحبال ،ويقبض
عليها بيد من حديد وأخرى من نار ..ول يتركها حتى
تنسحق وتتبدد كالرماد ظالم ،هو ذئب كاسر! يدخل
الحظيرة فيظنه الراعى خروفا ً وينام مطمئنًا ،وعند
مجئ الظلم يثب على النعاج ويخنقها ،وهو نهم يحترم
موائد الطعام أكثر من مذابح الهيكل ،محتال يدخل من
شقوق الجدران ول يخرج إل بسقوط البيت ،ولص
22
61
- -
صخرى القلب ،ينتزع الدرهم من الرملة والفلس من
اليتيم !
النسان مجروح أيها الحباء ،لنه عطشان إلى شئ
عظيم اسمه الحرية! التى أصبحت مجرد كلمة نسمعها
كلنا نرى
ونقرأ عنها ،ولكن ل يعيشها الكثيرونُ ..
العصافير فوق أغصان الشجر ،وهى تتراقص فوق
الوراق ،فى سعادة غامرة ل تبالى بما يحيط بها ،ولكنها
تقفز فى غير خوف أو قلق ،لست أعرف عنها شيئا ً
لكنى أ ُدرك أن الحياة تسرى فى كيانها ،وأن حيوية
غامرة تتدفق فى هذه الكائنات الصغيرة الضعيفة وأن
قوة تمدها بهذه الحياة ،وأدرك أيضا ً أن كل هذا إنما
ثمرة من ثمار الحرية ...ل ننكر أن فلسفة جديدة شقت
طريقها فى عصرنا ،تدعو إلى استقلل الفرد ذاتيًا،
فالنضج الروحى ينمو فى كل مكان ،نضج يتفهم أهمية
العدل والمساواة والحرية ..فقد أصبح الن واضحا ً أن
الحياة ل تزدهر إل فى النسان الحر ،الذى يملك
فكره ،ويسيطر على ذاته ،ويقود خُطواته ..ولكن حتى
الن لم تزل شعوب ترزح تحت قيود الذل والعبودية..
فبعد تحررها من عبودية الستعمار ،رزحت تحت عبودية
الفقر والجهل والتعصب ..تحررت الشعوب من قيود
المم القوية الغنية ورزحت تحت أغلل السخرة
الجتماعية والنفسية ..وهى بل شك قيود ما أصعب
فكها! وجروح ليس من السهل تضميدها!
لقد حصلت شعوب كثيرة على الحرية ،لكنها للسف
الشديد لم تحصل على عالم أفضل كما كانت ترجو! وما
تزال الصحف تنقل إلينا صورا ً أكثر عن الظلم
23
والستغلل والرياء ..بصورة تضاهى بل تفوق أحيانا ً ما
كان يجرى فى أيام الملوك المستبدين ،وهاهى تحيا فى
نكسات سياسية واقتصادية واجتماعية ..إن احترام
المجتمع لحرية الفرد ،قانون إلهى وليس منحة أو هبة
يمنحها إنسان لخر والعدالة كما يقول سقراط
الفيلسوف :ليست منحة من القاضى وإنما هى
حق للمتقاضين عليه أن يوفرها لهم ،أما حياة
النسان فهى دعوة إلهية خاصة به ،ول معنى للدعوة
اللهية إذا سلبناها الحرية ،والويل لمن يحتقر إنسانا ً
ويحاول أن يذله ويسلب حريته أو يكبح النار اللهية
المقدسة المشتعلة فى وجدانه.
كل المجتمعات التى احترمت حرية النسان ،ورفعت
من شأنه ،تقدمت وازدهرت حضارتها ،وأبدع ُأدباؤها
وفنانوها ومفكريها ..أما الذين داسوا على كرامة
النسان واحتقروا آدميته ،وقتلوا حريته ،عاشوا فى ظلم
ليعرفون شيئا ً فى الحياة ،سوى إشباع رغباتهم
المشتعلة وعواطفهم المضطربة! ويبقى السؤال :كيف
يمكن لمجتمع أن ينمو ويتقدم ،وقد تحول
سبل التفكير، قطعت عنه ُ شعبه إلى قطيعُ ،
وُالغيت شخصيته ،وكل النظرات توجه إليه على
أنه عبد ذليل!!
أما الجرح العظم فى حياة النسان ،هو عدم معرفته
لله معرفة حقيقية ،فرغم انتشار الثقافة ،واتساع
الكرازة ،ونمو الوعى الدينى ،إل أن كثيرين لم يخلصوا
فى علقتهم بالله! يجب أن نعرف أن الله خلق النسان
ونه ،بحيث أنه ل يقدر أن يعيش بدونه ،فنحن كما قال وك ّ
24
81
- -
القديس ُأغسطينوس " :خرجنا من عند الله،
وستظل أرواحنا هائمة إلى أن تلتقى بالله " ..ولهذا
مهما امتلك وتمتع ..فل بد له من الله.
قال أحد الدباء
" إن السماء تبكى بدموع الغمام ..ويخفق قلبها
بلمعان البرق ..وتصرخ بهدير الرعد ،وإن الرض تئن
بحفيف الرياح ..وتضج بأمواج البحر ،وما بكاء السماء
ول أنين الرض إل رحمة بالنسان ".
فياليتك تبكى كلما وقع نظرك على سخص متألم أو
إنسان مجروح ،فتبتسم سرورا ً ببكائك ..واغتباطا ً
بدموعك ..لن الدموع التى تنحدرعلى خديك فى مثل
هذا الموقف هى حبات لؤلؤ أو قل :سطور من نور..
تسجل لك فى صحيفة الحياة البيضاء " :إنـك إنسـان ".
25
ى أفلطون -سيدرك مدى الحماقة التي ارتكبها ،حين
أنجب مثل هذا المخلـوق وربــاه ،حــتى أصـبح أقــوى مــن
الشعب ،فأسوار حماية الدكتاتورعالية ،يعجز الناس عــن
تســلقها ليتخلصــوا منــه ،وهكــذا يظــل الشــعب لســنوات
كثيرة خائفًا ،مرتعبًا ،ذلي ً
ل.
ممممم مم مم مممممممم مممممم مممم
مممممم ممم ممممممم ممم ممممممممم !!
26
27
الباب الول
عصـــر القلــق
الفصل الول
ممممم ممممممم
الفصل الثاني
مممم مممم مممممم
الفصل الثالث
ممم مممم مم ممم ممممم !
الفصل الرابع
ممم مممم مممممم
مم ممم مممممم م
28
02
- -
ممممم ممممم
ممممم ممممممم
إنسان اليوم يمكن وصفه بصفات كثيرة أهمها
القلق ،فهو قِلق وهمومه كثيرة ،وكثيرا ً ما يتساءل عن
مصيره وعائلته وأمواله ..في عصر سادت فيه السرقة
والنهب ،بل ساد الظلم والرهاب !!..مليين من البشر
في أنحاء العام يتألمون من شدة الكبت ،ومن كثرة
مظالم ل ُتحصى ولبد لهم أن يتساءلوا:
لماذا الظلم والطغيان ؟! لماذا الضغوط
والصراعات ؟! لماذا الذل والقيود ..إن كان الله خلقنا
لنعيش أحرارا ً ؟! وثمة ألوف من البيوت المحطمة
والمزعزعة ،التي خلت جدرانها من الفرح ،وقد صارت
أشبه بمستشفى كبير للمراض النفسية والعصبية
يتساءلون :أين سطور الفرح في كتاب حياتنا ؟! هل
تظل أنفسنا بين جدران مظلمة تتنفس هواًء مفعما ً
بالكراهية ؟! إلى متى نرتدي ثياب الفقر المبطنة
بأنفاس الموت ؟!
إننا نحيا في عصر يتألم فيه البرار والخطاة على
السواء..عصر يذبح الشر الخير بسيف حاد علنا ً
وعلى مرأى من جميع الناس ..وهذا دفع البعض أن
يتساءلوا :هل رسالة النسان في الحياة أن يحيا بوجه
حزين ،مكتئب رغم ما في الحياة من متع ،وما في
الطبيعة من جمال ،ورغم ما في النسان من رغبة في
التمتع بكل ما في الطبيعة من جمال ؟! أين بذور
29
طرحت السعادة التى وضعها الله في قلوبنا ؟! لماذا ُ
على الصخر لتلتقطها الغربان وتذريها الرياح ؟!
وفي ظل المشاكل القتصادية المعقدة ،نرى
مليين البشر يذبحهم الجوع ذبحا ً ،والبشرية في أماكن
كثيرة تئن ثراًء وشبعا ً وتخمة ،مليين يموتون جوعًا،
!
ومليين غيرهم يموتون تعذيبا ً واضطهادًا ،لن الزعماء
في أماكن كثيرة يسجنون الحرية ويقيدون
الفكر ويقتلون البداع ،وكل هذا يجعلنا نتساءل :أى
عالم هذا الذي نعيش فيه ؟! إنسان يموت جوعا ً وإنسان
يمـوت شبعًا! إنسان يموت بالحرية وإنسان يموت
بالعبودية !! أسئلة كثيرة يطرحها المتألمين ،وما أكثر
البلدان التي تنتابها ويلت الحروب وفيها مؤمنون أتقياء
يتساءلون :لماذا صارت الرض كأنهار من الدماء ؟!
لماذا يستبد الغنى بالفقير ،والقوي بالضعيف ويريد أن
يقضي عليه وينهب خيراته ؟!
30
22
- -
كان ل يناسبني ،وكثيرا ً ما أتساءل :أليس من حقي أن
أعمل ! أليس من حقي أن أتزوج ! أليس من حقي أن
أتمتع بالحياة ! أليس من حقي أن أعبد ربي !!..إن
تفكيري في مشاكل العصر قتل صلواتي
وسلب تأملتي وأضعف روحياتي وقضى على
خدماتي !!
هنا فقط أدركت خطورة كلمة )ل أعمل( ،التي
صارت مصدر قلق للكثيرين ،قد ل تظنها مشكلة ،ولكن
علماء النفس والجتماع بدأوا يدركون خطورتها ،وما ينتج
عنها من قلق وعدم استقرار ،وأيضا ً من شر وفساد..
حدة وقسوة الفراغ ،وهنا أصبح فانتشار البطالة زاد من ِ
ً
الملل مشكلة جديدة وأيضا كبيرة ،فعندما تزداد نسبة
البطالة ،وعندما يوجد وقت فراغ أكثر ،تكثر أبعاد
مشكلة ) ماذا نفعل ؟ ( ،ماذا نفعل لنواجه متطلبات
الحياة وتحديات العصر؟! ماذا نفعل لنشغل الفراغ
ونقتل الوقت ؟! ماذا نفعل لنثبت وجودنا بين الناس ؟!
فحيث البطالة هناك الفراغ والملل والفساد ،فما من
خطية إل سببها الفراغ ،وحيث البطالة هناك أيضا ً
تدهور في مستوى التعليم ،وانحطاط قيمة الدارسين!
فبسبب اللهث الجنوني وراء لقمة العيش ،صار أصحاب
الحرف ملوكا ً جالسين على عروش تحملها ثرواتهم ،أما
أصحاب الفكر والمعرفة فصاروا ُأجراء تحت قبضتهم،
يتحكمون في مصيرهم كما يشاؤون ،فتحقق قول
سليمان الحكيم " :الجهالة جُعلت في معالي كثيرة
والغنياء يجلسون في السافل ،قد رأيت عبيدا ً على
31
الخيل ،ورؤساء ماشين على الرض كالعبيد " )جا :10
.(6،7
مم مممم ممممم مممم مم مممم ممم مممممم
مممم ممممم
ممممممممممممممم مممم ممم مممممم
مممممممم ممممم
مممممم مممممم ممم :مم مم ممممم ممممم
ممممممم م!
منذ سنوات مضت كانت نسبة النحراف قليلة لو
قورنت بهذه اليام ،فالزواج في سن مبكرة كان متاحا ً
للجميع ،أما الن فلم تعد المورهكذا ،فحيث ل عمل ل
مال ،وحيث ل يوجد مال ل يكون أيضا ً زواج ،وهذه آفة
ما أشر ضررها على السرة والمجتمع ،فالبتولية
الجبارية ،أعنى العزوبية ،غالبا ً ما تقود النسان إلى
النحراف..
وهل ننكر أننا نحيا في عصر وصل فيه النحراف إلى
قمته! فشباب اليوم أكثر قلقا ً وانحرافا ً من أمس،
والشابات أصبحن أشد قلقا ً وانحرافا ً منهم ،فما أكثر
القصص التي ُتحكى هذه اليام عن الشذوذ والخيانات
والدمان ..قصص لم نكن نسمعها أو نقرأ عنها من
قبل !!
مممم
هل تصدق أن طالبة في العدادية تصبح مدمنة !! ل
تتعجب فقد نشأت الفتاة في أسرة ممزقة ،وهذا سر
32
مطّلقة ،التي ضياعها ،فالفتاة كانت ُتقيم مع والدتها ال ُ
عادة ما تسافر للخارج تاركة لها سيارتها الفاخرة
تتحرك بها أينما تشاء ،وأموال ً كثيرة لتشتري ما يحلو
لها من مأكولت وملبوسات ،وشقة فاخرة تدعو إليها
حب من صديقات وأصدقاء ،لقد عاشت الفتاة في ما تُ ِ
حرية كاذبة ،دون أن تفهم معنى الحرية ،أو تملك
مقومات الحفاظ عليها ،فحدث في أحد اليام أن تعرفت
في النادي على )شلة( وأصبحت هذه )الشلة( ل تنفصل،
في الصباح يلتقون في النادي ،وفي المساء في أحدى
صالت الديسكو ،لكن يبدو أن )الشلة( قد مّلت
اللتقاء في الماكن العامة ،فانتهزوا فرصة سفر والدة
الفتاة للخارج وطلبوا أن يسهروا في شقتها ،وبسهولة
استجابت الفتاة وبدأت سهرتهم المشحونة بالفساد،
سمع صوت طرق شديد وفجأة في منتصف الليل ُ
ً
على الباب ،ففتح شاب فوجد ضابطا ومعه حملة للقبض
عليهم !!
لقد كانت )الشلة( تحت المراقبة منذ ظهورهم
بشكل مريب في صالت الديسكو ،وكم كان المشهد
مذهل ً ومؤسفًا ،إذ وجدوا شابا ً يمسك بيد الفتاة يعطيها
حقنة هيروين ،وبعض أفراد )الشلة( يشاهدون فيلما ً
جنسيًا ،والبعض الخر في أوضاع مخلة ،فتم القبض
عليهم وأودعت الفتاة في مؤسسة الحداث.
والن من الجاني ومن الضحية في هذه
الكارثة ؟!
33
++إن الجاني هو أول ً :التمزق السري الذي أدى
إلى انفصال الب عن الم ،وإهتمام الم بنفسها تاركة
ابنتها دون أية رعاية أو رقابة ،فالمال ل يعوض البناء
عطف وحنان والديهم ،وغالبا ً ما يقود إلى النحراف
خاصة في مرحلة المراهقة.
++وهو ثانيا ً :ضعف الرقابة في الندية على
ممارسات الشباب داخلها ،فقد أعلنت الفتاة أن بعض
المسئولين عن الرقابة في هذه الندية يبيعون السم
لمن يريده من الشباب داخل الندية.
++وهو أول ً وثانيا ً وثالثا ً :غياب دور الدين والقيم
في حياة هؤلء المخدوعين بوهم المخدر ،فلو كانت
الفتاة متدينة لكان الدين كفيل ً بحمايتها ،وحماية غيرها
من السقوط في بئر الدمان.
لقد أصبح القلق سمة من سمات عصر ضاعت فيه
القيم والمبادئ،
وكثرت فيه المتناقضات ،فبينما نرى العلم اليوم وقد
فجر لنا ينابيع الخير ،وفتح لنا أبواب المل ،فجعل
الصحراء تفتح صدورها للخضرة ،والبحار تفيض بما فيها
من ثروات ،إذ بمعظم سكان الرض يقاسي الجوع
والحرمان أكثر من أى عصر مضى ،لقد زاد ثراء
البشر ،بعض البشر ،وتعمق الفقر أكثر عند الغلبية !!
وفى الوقت الذى نرى النسان يغزو بعلمه الفضاء،
ويكتشف ما في الفلك من أسرار ،نراه أيضا ً عاجزا ً عن
حل مشاكله على سطح الرض التي يعيش عليها !! وإن
كنا نقرأ عن تصريحات لعلماء الطب يعدوننا
34
42
- -
بشخصية كاملة ل يؤلمها المرض ،إل أننا نرى أمام
أعيننا انهيارات عصبية وأمراضا ً عقلية وجسدية أكثر من
أى عصر مضى !!
كل هذا جعل إنسان العصر فريسة لضغوط نفسية
عديدة ،وجعل الحياة كما لو كانت حلبة مصارعة،
فأصبحت الحياة الن صراعا ً ُيقلق البشر ،ويبعث اللم
حدة الصراع ولكن صراع في نفوسهم ،نعم لقد زادت ِ
حول ماذا ؟! إن كان حول المال والسلطة والقوة ،قلنا:
هل الذين يمتلكون تلك الشياء شبعوا وأعلنوا رضاهم
بحياتهم ،وكفوا عن الحيرة والخوف والقلق ؟!
يجب أن نعترف بأن الفقر ليس سببا ً كافيا ً للقلق ،لن
اليمان يُغطي كل هذه الثغرات ،ويجعلها حلقات ذات
معنى في قصة كفاح جميلة ،فسر قلقنا أننا ابتعدنا عن
المبادئ اللهية السامية عن الوصايا النجيلية ،ول بديل
إل أن نجاهد ،حتى يصاحب التفوق المادي والعلمي
تفوق روحي مماثل ! وهل ينكر أحد أن النسان الذي
أصبح عملقا في الختراعات ،وصار يملك القمر
الصناعي والصاروخ والكمبيوتر ...صار قزما ً في
الروحيات !! أل ترى زوجات كثيرات يملكن العربات
والمجوهرات ...ومع هذا يصرخن من الفقر والعيشة
الضيقة !! فأي فقر هذا ؟! لبد أنه فقر روحي وهذا
سر تعبهن وقلقهن ،ولهذا يجب أن نسأل أنفسنا بين
الحين والخر :هذه الحياة ما معناها ؟ هذه الرحلة أين
خلقنا ؟ تمضي ؟ هـذا الوجود ما هدفه ؟ لماذا ُ
في كل القطاعات نشعر بأزمة النسان هذه ،سواء
في المجال الديني أو الجتماعي ،فالنسان قلق وهائج
35
وكثير الشك والنتقاد ،وتشعر بهذه الزمة كل فئات
المجتمع :الغنية والفقيرة ،المؤمنة والملحدة ،المثقفة
والجاهلة ..الجميع يعترفون بأن النسان غير مستقر،
نستطيع أن نقول :إن إنسان القرن العشرين على
الرغم من علومه الواسعة واختراعاته المبهرة ،التي
جعلته يسبح في الفضاء ،ويغوص في أعماق البحار ،إل
أنه إنسان قِلق ،وأصبح عصرنا عصر القلق .
مممممم م
ممم مممممم مممم م م
م
مم.
ممم ممممممم مممممممم ممممم
م م
مما ل شك فيه أننا نحيا في مجتمع ،نرث منه الكثير
من العادات والتقاليد ،منها ما نقبله بإرادتنا ومنها ما
نقبله مجبرين ،فمن سمة المجتمع توريث التراث،
والتراث فيه كثير من القيود ،بل كثير من عوامل
التخويف والتهويل التي تقلق النسان ،يكفي أننا نخاف
من لعنة الفراعنة ،والفراعنة أين هم ؟ ألم يموتوا !!
ولكننا توارثنا الخوف من هتك حرمات قبورهم خوفا ً من
أن تلحق بنا لعنتهم !
ومما يزيد من قلق الناس في عصرنا الحالي ،أن
كرهم به المجتمع ل يدعهم ينسون الماضي ،بل دائما ً يذ ّ
وفي نفس الوقت ينبئهم بما سيأتي عليهم في
المستقبل ،وهذا يجعل النسان قلقا ً في حاضره إذا ما
قاسه بالمستقبل ،فالدراسات الحالية معظمها تميل إلى
التشاؤم ،وكلها تشير إلى خطورة النفجار السكاني
وارتفاع مستوى المعيشة ،وتلوث البيئة ..فالتراب
ملوث ،والهواء ملوث ،والطعام ملوث ،أقول :والضمير
أيضا ً قد صار ملوثًا.
36
62
- -
وتشير الدراسات أيضا ً ،إلى أنه لو قامت حرب
عالمية فسوف تقضي على معظم سكان العالم تقريباً،
والويل لمن يستمرعلى قيد الحياة بعدها ،لن
التشوهات الجسدية التي ستُصيب الحياء ،والقحط
الذي سيعم الرض ،والنقراض الذي سيهدد كثيرا ً من
الكائنات التي يعتمد عليها النسان في غذائه ،والمياه
التي ستُصاب بالتلوثات الشعاعية ...سيكون لها أبشع
الثر في حياة النسان الذي لم تفتك به الحرب بالفعل.
ل ننكر أن هناك تقدما ً حضاريا ً ملموسًا ،ولكن على
الرغم من هذا التقدم ،إل أن إنسان العصر ل زال
خائفا ً وقلقا ً والسبب :إنه عاجز عن التعبير بما يحس
به من مخاوف تمل قلبه ،وهو بحاجة إلى طبيب
نفساني ،يساعده على إخراج المختزن في أعماقه،
حتى تهدأ روحه وتستقر نفسه ،فمجرد رأي أو نقد بّناء،
يعتبر اليوم مهاجمة وتمردا ً وعصيانًا..
ولست أدري كيف ينمو مجتمع ويتقدم حضاريا ً ،وقد
مل الخوف قلوب شعبه ،فأطفأ فيهم شعلة النطلق
والبداع !! فمن طبيعة البشر الخوف من القوة ،تلك
آفة ورثها النسان عن مجتمع الغابة ،وقلئل هم الذين
استمدوا من أعماقهم قوة صمدوا بها ضد الظلم
والطغيان ..وشقوا بها كهوف الرهبة وظلم الخوف..
مممم ممممم مممم مممم ممممممم !
كل المم التي تزرع المن في قلوب أطفالها
وشبابها وشيوخها ..تشعل فيهم نور العبقريات،
فتتقدم حضاريا ً واقتصاديًا ..وتنجب مبدعين في كل
37
المجالت ،أما المم التي ترهب شعبها وتمل بالخوف
قلوبهم ،تُطفئ فيهم شعلة البداع ،فتتقهقر وتعود
إلى الوراء ،إلى عصور الجهل والظلم ،فهل لنا أن
نقول :إن الخوف هو سم قاتل للحياة والتقدم !
يجب أن نعرف أن النسان الخائف ،ل يمكن أن يُبدع
وأن يُطلق ما في عقله من أفكار ،والعقل المرتعب
المتردد ،حتما ً سيُصيبه الشلل وينطفئ فيه نور الحكمة
والمعرفة ،وإذا انطفأ نور المعرفة تلشت الفضيلة ،فقد
قال أحد الباء :كما أنه بدون طين ل يُبنى برج،
كذلك بدون معرفة ل ُتبنى فضيله.
ولهذا ليست مبالغة مني ،أو تهكم إن قلت لكم :إن
إنسان اليوم في ظني ،لم يكتشف بعد أنه إنسان،
خاصة في الدول النامية ،وأفضل لقب يمكن أن يُطلق
عليه هو:
ممممممم مممممم مم ممممممم ممممممم!
نعم ،فإنسان العالم الثالث هو إنسان جائع ،يحيا في
بلد جائعة ،جائع للبر ،السلم ،العلم ،الحرية،
الديموقراطية ..ومطحون من الفقر ،الخوف ،أسياد
الرض ..لقد ورث الخوف فرضي به ،ورث القيود
فتعايش معها ،ورث الجوع ،الذل ،الكبت ،الجهل..
فقبلها أمراضا ً حتى نهاية حياته.
ولهذا فقد طعم الحياة ،وصار مقيدا ً بقيود ما أكثرها،
ولكي يحيا حياة حقيقية لبد من تحطيم هذه القيود ،لبد
أن يقذف بحجارة المطالب المادية ،والشهوات العالمية،
والثروات التافهة ،والهموم المزيفة ..التي ل تكف عن
38
82
- -
الصراخ ،لبد أن تحكمه قوانين الرحمة والمحبة ل
قوانين أهل الغابة ،عندئذ يدرك أن يجلس مع ذاته،
ويكتشف صور الجمال في أعماقه وفي الطبيعة ومن
حوله.
ليس النسان أيها الحباء لقيطا ً في الفضاء ،إنما
النسان هو عريس الوجود ،بل أجمل ما في الوجود،
هو لمسة من الله الحي ،والويل لمن حاول أو يحاول
أن يذله أو يستعبده ،فإذا التقت إرادة من بيدهم
الصولجان بإرادة الشعب ،انطلقت الحضارة وزاد التقدم
قِ فهناك التقهقر ،بل الفناء
والرقي ،وإذا لم تلت ِ
والضمحلل !
وأنا أرى:
إن الذين يؤمنون بالله ،يؤمنون بقيمة النسان أيضا ً،
ويؤمنون بقداسة الحياة ويعرفون أن كل كنوز الدنيا ،ل
تساوي قيمة نفس واحدة عند الله
من الكيد أن القلق يقود النسان :إما إلى التعمق
والبحث والكتشاف والرجوع إلى الله ..وإما إلى
اللمبالة والرفض والثورة والخوف والبعد عن الله ..إننا
نحصد اليوم ثمار الرفض والثورة والخوف ..وها نحن
نتساءل:
ما هو سبب اللحاد المعاصر ،والبعد عن مبادئ الدين
السامية ؟! ما سبب الخوف والنطوائية ،التي ل تصنع
شرا ً ول تسهم في صنع خير؟! ما سبب اليأس الذي
يتلقى صدمات الحياة في استسلم خانع..؟! إن السبب
في كل هذا هو:
39
مم ممممم ممم مممم مم ممم مممم
مم ممممممممم ممم ممممم.
مممم م
40
ممممم مممممم
ممممم مممم مممممم
لكل عصر إيجابياته وأيضا ً سلبياته ،وغالبا ً ما تكون
السلبيات أكثر من اليجابيات ،فطبيعة البشر بعد
السقوط أصبحت تميل إلى الشر أكثر منه إلى الخير،
ولهذا رأيت استكمال ً لموضوعنا أن أتحدث عن بعض
سمات عصرنا ،ل اليجابية إنما السلبية آمل ً أن تكون
هناك حلول ً ،ولعل أهم هذه السمات هى التى:
41
فقد النسان سلمه ،وأصبحت الحياة بل معنى ،لن
الحياة تفقد قيمتها عندما تتحول إلى ميدان للقتال ،أو
حلبة يتصارع داخلها الوحوش.
إن السبب الرئيسي لكل هذا هو :الطمع والرغبة
في الستكثار ،فالنسان غير مكتفِ ،بما عنده ولهذا
يطلب دائما ُ المزيد ،حتى وإن كان ليس في حاجة إليه..
وكذلك الدول كلما زادت ثروتها كلما طلبت المزيد،
وسعت إلى تحصيله بكل الوسائل ،ولو كانت هذه
الوسائل هي الحروب ..كما أن النمو المتزايد لوقات
الفراغ ومشاكل العصر ..له دور فعّال في زيادة نسبة
الجرائم ،وعدد البيوت المحطمة ،وها نحن نرى هذه
الطاقة الجرامية قد بدأت تظهر بيننا بصورة همجية،
فيما يقوم به الشباب المتعطل من تخريب وتدمير لثار
غالية هم ل يدركون قيمتها ول أهميتها ول معناها!...
)ل للعنف( عبارة أجمع كل الحكماء على أهميتها
وضرورة تطبيقها ،وكل من يقرأ في تاريخ الشعوب
يعرف جيدا ً ،أن أية نهضة ل يمكن أن تشتعل في وجدان
شعبها ،إل إذا كان هناك شبه إجماع على أهميتها
وضرورتها ،ولهذا فإن كل ثورات التاريخ لم تستطع أن
ُتحدث تغييرا ً جذريا ً ،إل بعد أن اقتنعت الغلبية بمبادئها
مُثلها وهضمت أفكارها ،أما التغيير بالعنف فله عواقب و ُ
وخيمة ونتائج سيئة للغاية.
عندما حاول أخناتون توحيد ديانات مصر القديمة،
وقام بثورة التوحيد اللهي ،فشل وقام ضده الكهنة،
رجال الدين أنفسهم هم الذين حاولوا قتله ،والسبب :إن
وسائل القناع بتوحيد الديانات لم تكن كافية.
42
03
- -
والسكندر الكبر عندما حاول أن يوحد الجنس
البشري ،وأقام حفلت زواج -سبعة آلف أو أكثر حفلة
زواج كل يوم -بين مختلف الجنسيات ،إنهارت تجربته.
والصين عندما حاولت أن تفرض على شعبها تنظيم
لخرى في هذا التعسف. السرة بالقوة ،فشلت هي ا ُ
واليونانييون لما حاولوا بسط نفوذهم بالقوة ،على
البلد التي استعمروها ،فشلوا هم أيضا ً فشل ً ذريعًا.
وفي عصرنا الحديث عجزت كل وسائل التعذيب
حد بين البشر ،وتجعلهم خاضعين لفكر والرهاب ...أن تو ّ
واحد ،ولعل تجربة النازية ماثلة حتى الن أمام أعيننا،
وتجربة الشيوعية والمادية ،ل تزال هذه أو تلك في
تقهقـر سريع ،وسـقوط مريع.
إذا ً القضية ليست مجرد نظرية فلسفية أو شريعة
بشرية ..يحاول البعض فرضها على الناس ولو بالقوة،
إنما القضية هي قضية النسان والدخول إلى أعماق
النسان ،ل يتم بالعنف أو الرهاب أو القتل ..لبد من
طريق آخر للدخول إلى قلب النسان ،لبد من إقناعه
واحترام عقله وحريته.
إن الحاجة اليوم تقتضي القيام بحملة تثقيف
واسعة ،حتى يتعلم النسان أن الحياة ليست ميدان
خلقوا لُيحِبوا بعضهم بعضًا ،ولكى حرب ،وأن البشر ُ
ً
يساعدوا بعضهم بعضا ،على تحقيق الغاية التي من
أجلها وجدوا ،وإن كان ولبد من حرب ،فلنحارب
الجهل ،الفقر،الفساد ،العبودية ،قاتلي الفكر والبداع،
نقاتل الذين يسلبون الضعفاء ،ونقف ضد الذين
صبوا أنفسهم آلهة ،ليسجد البشر أمام يريدون أن ين ّ
43
رأيهم ،فهؤلء هم الذين يجب أن نقاومهم ونقف ضدهم
ونحارب فكرهم..
أعتقد لو أننا حاربنا الشر ،لصرنا إنسانية جديدة ،ولو
تحولت كل رصاصة إلى حبة قمح ،وكل دانة مدفع إلى
شجرة مثمرة ،لصبحنا خليقة تنتسب إلى الله .
23
- -
عند الكثيرين ليست صعبة ،بل مستحيلة التنفيذ في
عالم مزقه القلق وأشقاه الغنى كما أشقاه الفقر تماماً،
فالنسان المطحون بهموم الدنيا صار حائرا ً في متاهات
اللذات ،باحثا ً عن دواء للهموم والثقال ،ولكن أى دواء
يبحث عنه النسان في النشوات المملؤة باللم
والحزان !!
للعوامل القتصادية والفراغ وضعف الروحيات والقلق
والعواطف المضطربة ...دور أساسي في انتشار
الباحية ،ومما ساعد على هذا منجزات العصر الحديث،
كالشرطة السينمائية وأجهزة الفيديو ،التي تنقل لنا
تطورات المجتمع الغربي ،العابثة بالقيم والمبادئ
الخلقية ،وانتشار الكتب والمجلت الجنسية المثيرة،
التي تصادف هوى في نفوس شبابنا المكبوت ،وذيوع
الموسيقى والغاني الصاخبة الداعية للضطراب ..فكل
هذا يهيج العصاب ويثير القلق ويدعو إلى الثورة.
القلق وعدم الستقرار ومشاكل العصر زادت من
نسبة النحراف ،والنحراف جعل النسان أكثر قلقًا ،لن
خطية واحدة إذا تسربت إلى قلب إنسان لنزعت منه
سلمه ،وحيث ل سلم يمل القلب ل يكون طعم للحياة،
وهل يمكن لنسان أن يحيا بل سلم ! ولهذا ل تتعجبوا
إن قلت لكم :في أحيان كثيرة تخون الزوجة زوجها ل
رغبة في الخيانة ،فلو تزوجت أحد عشاقها لخانته مع
زوجها ،ولكن لنها قلقة فقدت طعم الحياة ومعناها،
كما فقدت الهدف والوسيلة والمبدأ ،وأصبحت ل تدين
بالوفاء لحد ،وكل هذا جعل من حياتها سلسلة مفككة،
أما عطاؤها لعشيقها فل يزيد عن لحظة جنس لنها ل
45
تملك أكثر من هذا !! وربما تبكي بعد كل سقطة،
وصدقوها إن قالت إنها تخطئ بدون قصد ،لنها بالفعل
أصبحت ل تعرف ماذا تريد بالضبط !
إن النسان القلق كثيرا ً ما يسقط في الخطية بدون
قصد ،ليس رغبة في الشر ول حبا ً في الخطية يسقط !
ولكن سقوطه نابع من أنه صار ل يملك القدرة على أن
يخطط ويعمل عمل ً منظمًا ،لنه فقد هدفه وأصبح ل
يعرف ماذا يريد من الحياة ! ففي أحيان كثيرة يخرج
إنسان من منزله ،وهو ل يعلم إلى أين يذهب بالضبط ،
فإذا قابله زميل ذاهب للسينما ذهب معه ،وربما وهو
في الطريق يتركه ويذهب مع آخر إلى المقهى ،حتى
يأتي شخص قد ل يعرفه ،ويأخذه تحت ذراعيه كحمامة
قليلة الحيلة ،ليجد نفسه وسط مجموعة تلعب
القمار فيلعب ويخسر ،وإذا عاد إلى بيته ووجد قريبا ً
له يتعاطى الخمور ،يشرب حتى يسكر ثم ينام بعد يوم
كامل بل معنى ،يوم ل يدري ماذا يريد فيه بالضبط !
يكفي لثبات كلمي هذا ما قاله أحد الشباب ،عندما
أراد أن يصف حالته بعد كل مرة يسقط في الخطية إذ
قال :بعد كل مرة أُمارس فيها الجنس أشعر بعدم
ي،
شبع جنسي ،وأن شهواتي تزداد وتتضاعف ف ّ
وهذا أفقدني راحتي وسلمي ،وجعلني أسعى بعد
قليل لتحقيق لذتي من جديد ،وكثيرا ً ما كنت أستغرق
في ملذاتي ليس رغبة في الجنس ،ولكن لكي أهرب
من الخوف الذي كان يعذبانني عندما أكون وحدي !
مممم ممممممم
46
43
- -
أجمع كثيرون من علماء النفس وكبار الطباء ،بعد
إجراء عدة تجارب على مرضى كثيرين أن النفس
المضطربة الهائجة ،أو النسان القلق كثيرا ً ما يقع
فريسة للعديد من المراض النفسية والجسدية،
فالقلق يضعف المعدة ويؤثر على عملية الهضم ،كما أنه
أهم أسباب الصابة بالمراض الروماتزمية والتهابات
المفاصل والعصاب وأمراض القلب والجهاز التنفسي،
فقد قام طبيب بفحص مريض استولى عليه القلق
عقب وفاة أحد زملئه ،واستقر في ذهنه أن مصيره
سيكون مثله وهو الموت بالسكتة القلبية ،فكانت النتيجة
إصابته بقرحة في المعدة.
ً
وكان أحد الطباء يعالج مريضا بالربو ،وبعد أن
شفي تقرر خروجه من المستشفى صباح يوم الثنين، ُ
ولكنه فوجئ في صباح اليوم المحدد لخروجه ،بعودة
أعراض المرض إليه وترتب على ذلك بقاؤه في
المستشفى مدة ُأخرى لعلجه ،ولكن حدث بعد علجه
الذي استغرق عدة أسابيع أن حالته تحسنت فتقرر
خروجه ،إل أن أعراض المرض عادت إليه مرة ثانية في
صباح اليوم المحدد لخروجه ،مما لفت نظر الطباء
لبحث هذه الظاهرة الغريبة ! فتبين لهم بعد إجراء عدة
تجارب أن المريض يعمل مدرسا ً ،وقد اشتبك في
مشاجرة هددته بالطرد من المدرسة ،وقد
استبد به القلق الذي سيطر عليه للدرجة ،التي
كانت سببا ً في معاودة المرض إليه في صباح
اليوم المحدد لخروجه.
47
كما تبين لحد الطباء ،أن مريضا ً مصابا ً بمرض
جلدي كان يشتد طفحه كل يوم إثنين ،وبعد دراسة
حالته ،تبين أنه أحب فتاة وتقدم إليها وخطبها ،إل أن
الفتاة كانت تؤجل موعد الزواج عند زيارته لها أيام
الحاد ،فكانت في كل مرة تؤجل تحديد الموعد يشتد
عليه المرض ،ويظهر عليه الطفح في اليوم التالي وهو
يوم الثنين ،عندما كان يجلس مع نفسه ويفكر في
مشكلته.
ولهذا عندما أراد أحد الطباء ،وقد كان مريضا ً
بالقلب أن يوضح تأثير القلق والضطراب على القلب
قال " :إن حياتي في يد مجرم يثير غضبي ويحرك
انفعالتي النفسية ".
ممممممم ممممممم
من الظواهر المقلقة في هذا العصر هروب الناس
دي ،سواء في مرحلة الدراسة أو في من العمل الج ّ
ميدان العمل ،ومع هذا يرغبون في الوصول إلى أسمى
المراكز ،فكيف يتحقق النجاح بدون جهد ُيبذل سواء في
فتحت جامعة الدراسة أو في العمل ؟! صدقوني لو ُ
الن لتهافت الجهلء على إدارتها ،ل تتعجبوا !!
فالهدف لم يعد العلم إنما الهدف أصبح المركز ،المال،
الشهرة ...إنها عربدة بالقيم والمبادئ ...سرقة
واغتصاب لحقوق المتعلمين والمثقفين ...وإهمال لقيمة
الدارسين والباحثين...
وبينما نرى انكباب الشباب على المعرفة في البلد
المتحضرة ،نجد شبابنا قانعين بالحلول المتوسطة إن لم
48
63
- -
نقل خاملين ،يشكون من الفراغ الموحش في مختلف
بيئاتهم ،فيلجأون إلى التسلية العقيمة لملء أوقات
فراغهم ،فها نحن نراه في الشوارع والمقاهي والنوادي
يقضي ساعات فراغه المملة دون أن يجني منها أى
ثمر ،ومن هنا زادت الدانة والنميمة وانتشرت
الشائعات ..وهذه علمات على هروب النسان من
ذاته ،والهروب من النفس دليل فقرها ،إذ لول عقم
الفكر وجفاف الروح لما انقاد أبناء جيلنا إلى هذه
القوقعة وهذه السلبية ،فإن من يخشى مواجهة نفسه،
يخشى مواجهة الموت والحياة على حد سواء ولكن
إنصافا ً للشباب نسأل :كيف للجائع أن يفكر في شراء
كتاب يقرؤه؟! وكيف للمعوز أن يكون له اشتياق لبحث
يدرسه ؟!
ل أظن أن للمطحون تحت أقدام الحياة القاسية
قدرة أن يحلل أمور الحياة ويغربلها ،أو وقتا ً للقراءة
والتفكير وهم الذين يسعون من طلوع الشمس إلى
غروبها بحثا ً عن رزقهم..
ألقِ نظرة على المناطق البائسة ،هل يحيا النسان
حياة إنسانية تقوده إلى إبداع فني أو اكتشاف علمي ؟!
إننا للسف الشديد ل نغذي العقول بل نسجنها ،ونقيد
حركتها ونرسم لها طريقا ً واحدًا :أن تكون عقول ً
تابعة ،أسيرة ..ل عقول ً مفكرة ،ناضجة،
مبدعة !!
كيف يزدهر العقل ،كيف يقوى دون غذاء ؟! كيف
تطلب منه أن يفكر ،وأنت تمده بغذاء سام يقتل فيه
حركة الفكر ،عن طريق ما ُتلقيه وسائل الدعاية وأجهزة
49
العلم والكتب غير الرصينة ،التي تعتمد على الثارة
قبل كل شيء ؟! إن ما يناله الولد من تعليم ل يدخل
قلبهم ،ولهذا ل يذهبون إلى المدارس إل باشمئزاز،
وبدون رغبة في التعلم ،ول غرابة أبدا ً في ذلك ،لن
مدارس كثيرة أصبحت شركة ضخمة للتسمم العقلي
الجماعي ،والفوضى الخلقية ،وشلل حركة الذهن،
والجفاف العقلي ،فكلمة درس أصبحت تعبيرا ً عن حشو
معلومات في الذاكرة بل تنسيق أو استيعاب ! ولهذا
أصبحت المعلومات تؤذي الطلب أكثر مما تفيد ،لنها
أصبحت إرهاقا ً للذهن بالرقام والتواريخ والسماء ..التي
سرعان ما تُنسى بعد أداء المتحان مباشرة !!
إن المعرفة تصير جزءا ً من ذات النسان عندما
يتذوقها ،هنا تبدو الثقافة شجرة تنمو ،ينبوع مياه جارية
ل مستنقعا ً ساكنا ً ،فإن أردنا نهضة فكرية وعلمية
حقيقية ،يجب أن نعلم أطفالنا منذ الصغر كيف وماذا
يقرأون ،نعلمهم كيف ينقدون بدون تجريح ،كيف
يعارضون في موضوعية ،كيف يرفضون
ويحترمون ما يرفضونه ،كيف يقيمون حوارا ً
بدون صخب أو قهر ،ويجب أيضا ً أن نوفر لهم
الستقرار والسلم ..وما يحتاجونه من مستلزمات
الحياة..
83
- -
المنافع والخدمات أو تلبية حاجات ،إنما النتماء يهدف
أول ً وقبل كل شيء ،أن يحقق هدفا ً مشتركا ً يوحد بين
الجماعة ،وهنا نتذكر الجماعة المسيحية الولى
حدحد بينها الرجاء والصبر واللم ،كما و ّ
التي آمنت ،وو ّ
بينها هدف جوهري وهو تغيير العالم إلى الفضل ،وزرع
القيم الروحية السامية وتعاليم المسيح بين الناس...
إذا وجدت روح النتماء بين الجماعة كان التقدم
والزدهار ..أما إذا ضعفت روح النتماء ،ساد الستهتار
واللمبالة وعمت الفوضى بين الناس ...فالنسان الذي
يفقد انتماءه ،هو مثل اللجئ سـيظل يشـعر بالغربة
حتى نهاية حياته ،والغريب ل تهمه إل مصلحته
الشخصية.
لعل الشعور بالغربة وعدم توافر أساليب الخدمة
والرعاية ..من أهم أسباب ضعف روح النتماء ،سواء
في البيت أو الوطن أو الكنيسة ،فماذا يحدث لو عاش
إنسان في مكان ليس أحد يفتقده أو يحل مشاكله أو
يسأل عنه ؟ سيشعر بغربة تجعله يفقد روح النتماء
لهذا المكان.
إن نكبة اللمبالة وعدم النتماء ،ترجع إلى أن الناس
ل يشعرون أن المسئولين عن رعايتهم وتوفير
احتياجاتهم ،يهتمون بهم أو صادقون في خدمتهم ،إنما
والحق يقال )يخدمون أنفسهم( من هنا تتولد الحيرة
واليأس ويفقدون طريقهم ،وما دام الناس فقدوا
الطريق فلبد لهم أن يعيشوا بل مبادئ أو أهداف
يسعون لتحقيقها ،ومعظم الذين فقدوا هدفهم في
الحياة انتهى بهم المر إلى اليأس ،ولكن بعضهم يندفع
51
إلى اتجاهات خطيرة قد تؤدي إلى الهلك ،وهذا هو ما
نراه اليوم بأكثر وضوح!
52
ممممم مممممم
ممم مممم مم ممم ممممم !
أيــن اللــه..؟ ســؤال كــثيرا ً مــا يــتردد علــى ألســنة
المتألمين الذين أضعفت التجارب إيمــانهم ..فمــا أكــثر
القلوب الجريحــة المضــطربة ،الــتي تريــد أن تقــذف مــا
بداخلها من ثورة وبركان ،فتأتي ثورتها ضد اللــه كمــا لــو
كان الله هو مصدر البليا والشرور!
اللــه موجــود ،هــذه حقيقــة ل ينكرهــا إل الملحــدون،
وليس في الكون نقطة واحدة إل الله موجود فيهــا ،فهــو
الــذي " مجــده ملــء كــل الرض " )إش (3: 6هــو
الداخل في كل شئ والخارج عن كل شــئ ،وهــو أقــرب
إليــك حــتى مــن نفســك ،إنــه يخاطبــك لكنــك ل تســمعه
بسبب ضجيج أفكارك ورغباتك الهائجة ،ولو كان لك عين
روحية ،لستطعت أن تراه في لمعان النجوم!
أما آلم هذا الدهر فليست من صنع الله ،كـل مشـاكل
الحياة أوجدها النسان ،فالله لم يخلق الشــر إنمــا الشــر
وجد عندما ابتعد النسان عن الخير ،فمنذ أن ســقط آدم
انفتح باب الجحيم ،وانبثق شــعاع اللــم ،ليرســم صــورته
الحزينة على وجوه البشر ،أما جرثومــة الثــم فانتشــرت
في كيان النسـان حتى إن الجميع بل استثناء " أخطأوا
وفسدوا وأعوزهم مجد الله " )رو . (3: 3
53
لكن رغم تمرد آدم وعصيانه ،إل أن الله هو الذي بــادر
لحل المشكلة ووعد آدم بأنه سيرسل ابنــه الحــبيب إلــى
العالم ،ليسحق رأس الحية التي أغــوته ،ويعالــج مشــكلة
السقوط العظيم ،وقد أوفى بوعده في المسيح يســوع..
وهذا إنما يدل على حب الله ،فإن كان الله قد أحبك منذ
الزل ،فواضح أن محبته سوف تدوم إلى البد ،ألــم يقــل
الله بفم إرميــا النــبى " :محبة أبديــة أحببتــك مــن
أجل ذلك أدمت لك الرحمة " )إر .( 3:3
ممكــن وبســهولة أن يمحو اللــه الشــر ،ويقضــي
على الشرار ليعيش النــاس فــي ســلم ،كمــا يــتراءى
للبعض ،وقد حدث ذلك مرة أيــام نــوح ،عنــدما كــثر شــر
النســان وتلــوثت الرض بالفســاد ،فــأنزل عليهــا مــاء
الطوفان لينظفها ،وبالفعل هلك الشــرار وتنقــت الرض
واغتسلت من قذارتها ،ولكنها عادت وتلوثت من جديد.
فالمشكلة إذن في أعمــاق النســان ،والنســان " كــل
تصور أفكار قلبه إنما هــو شـرير كــل يــوم " )تــك (5: 6
ولهذا في مثل الزوان عنــدما طلــب العبيــد أن يــذهبوا
ويجمعوا الزوان من بين الحنطة ،رفض السيد مــن أجــل
نمو الحنطة ،فإذا قلعوا الزوان ربما قلعــوا الحنطــة معــه
)مت (30 :13كما أن وجود الحنطة بين الزوان له
فوائده ،وإن لــم يوجــد بيــن الحنطــة زوان فصــدقوني
سوف يخرج من القمح زوان ،فهل كــان فــي الفــردوس
زوان ؟! ألم يخرج الزوان من آدم !
54
04
- -
فل يزعجنك وجود الخطاة في العــالم ،وتحكمهــم فــي
المؤمنين ،فليس الشرارالذين يقلقوننا ويعبثون بحياتنــا،
ســـوى كومــة مــن التبــن كمـــا يقـــول القــديس
ُأغسطينوس ،أمـا أنـت فحبـة حنطـة فـإن كـان التبــن
يغطيك ويخفي ملمحــك ويكتــم علــى أنفاســك ،فثــق أن
يوم التذرية قريب ،سـيأتي يـوم الدينونـة الرهيـب ،حينئذ
ســيرفع التبــن عــن القمــح وُيحــرق بالنــار ..فتحمــل أيهــا
ُ
الحبيب ضغط التبن عليك ،ول تبتعد عن البيدر الــذي هــو
الكنيسة ،لنك إن كنت حنطة خارجا ً عن البيــدر فســوف
تأكلك الطيور.
ربما تهيج وتضطرب في كل مرة ترى فيها الشرار
يتنعمون بالخيرات والبرار يرزحون تحت ثقل المصائب
والضيقات ،وتقول في نفسك :أهذا عدلك يا رب أن
يسعد الشرار ويشقى البرار؟ فيجيبك الله :وأنت أهذا
إيمانك ؟ هل وعدتك بهذه الشياء ؟ هل صرت مسيحيا ً
لكي تتنعم في حياتك ؟ ألم أقل في العالم سيكون لكم
ضيق ؟ ألم تقرأ كلمي عن الباب الضيق ؟ فل تنظر إلى
ما يسمح به الله للشرار ،بل ُأنظر دائما ً إلى ما يحتفظ
به للبرار.
هل سمعت عن أيوب ؟ ل أظن إنسانا ً أصابته بليا
مثل هذا الرجل! لقد حدث انهيار كلي حوله ،مقتنياته
كلها ُأبيدت ،أبناؤه السبعة وبناته الثلثة ماتوا جميعًا ،ولم
تقف التجربة عند حد المقتنيات والبنين بل امتدت إليه ،
ضرب بالقروح الرديئة من باطن قدمه حتى هامته .. ف ُ
ً
لقد صار الغني فقيرا ،والسيد ها هو أقل من أدنى العبيد
،ويبقى السؤال :ماذا فعل أيوب حتى تصيبه هذه
55
البليا ؟ مكتوب عنه إنه " كان رجل ً كامل ً ومستقيما ً
يتقي الله ويحيد عن الشر" )أى ! (1: 1
لقد تألم أيوب! لكن الله لم يتركه ،أثناء التجربة كان
التخلى يبدو واضحًا ..لكن من يقرأ خاتمة سفر أيوب
يرى أن الله بارك آخرة أيوب أكثر من أوله،
وأعطاه نفس الولد الذين فقدهم في التجربة ،سبعة
بنين وثلث بنات) ...أى .(42
والن لنسمع ما يقوله أيوب عندما تكثر مصائبك" :
طوبى لرجل يؤدبه الرب ،فل ترفض تأديب القدير لنه
هو يجرح ويعصب يسحق ويداه تشفيان في ست
شدائد ينجيك وفي سبع ل يمسك سوء في الجوع يفديك
من الموت وفي الحرب من حد السيف " )أى -17 :5
.(21
قد ل نفهم الله أثناء التجربة ،بل قد نعترض على
سياسته وأحكامه لن ظلم اللم يحجب كل شيء عنا،
لكن ما أن تمر الضيقة تتجلى أمامنا الحقيقة بكل
وضوح ،عندئذ ل يحق لنا إل أن نقول " :ما أبعد
أحكامه عن الفحص وطرقه عن الستقصاء "
)رو .(33: 11
أليس النحات لكي يصنع تمثال ً جميل ً ،يكسر ويثقب
في المرمر بالمطارق والزاميل ؟ أل يستخدم الرسام
اللون السود ،بل ويضيفه إلى اللوان الخرى الهادئة
الجميلة لتخرج أيقونته كما يريد ؟ هكذا الله أيضا ً كثيرا ً
ما يستخدم آزاميل التجارب وسواد الشرار حتى تظهر
صورة البرار في أروع منظر لها ،فل تقل أين الله عندما
أتألم ؟ لن الله معنا ،موجود في وسطنا ،ويعرف كل
56
24
- -
احتياجاتنا ،ألم يقل رب المجد " :ها أنا معكم كل اليام
وإلى انقضاء الدهر" )مت ،(20:28إنه معنا في أحزاننا
كما هو معنا في أفراحنا ،قد ل يبعد عنا الضيقات ،ولكنه
يعطينا القوة حتى نجتازها ،وإن كان في بعض الوقات
يبدو ساكتاً ،إل أنه كما قال الكتاب " :يسكت في
محبته " )صفنيا .(17:3
مم ممممم مممم مممم ممم مممم مممم مممممم
ممممم مم
مم مممم ممممم مممم
مممممم مم مممممم ممم م
ممم مممممم
" مممم ممم مممم مممم ممم ممممم " ) مم
( 31:8م!
يحدثنا الكتاب عن الرض في بداية خلقتها فيقول" :
كانت الرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة " ،ل
ننكر أنها صورة كئيبة تصور لنا حال الكون في بداية
تكوينه ،لكن الله رفض الخراب والظلم فماذا فعل ؟
خلق أول ً النور ليكون شعاعا ً يسقط على الرض
ل ،ثم بدأ يخلق الشجار والزهور والبحار.. فيعطيها جما ً
لكى تتحول الرض الموحشة إلى أيقونة جميلةُ ،تعلن لنا
عن عظمة وإبداع الخالق.
ونحن بل شك نمر بأوقات ،نشعر فيها بأن حياتنا خربة
وخالية ومظلمة ،لكن يجب أل ننسى أن روح الله كان
يمل الرض " وروح الله يرف على وجه الغمر " )تك
(2 :1كما أن الظلم لم يدم كثيرا ً " وقال الله ليكن نور
فكان نور" )تك (3 :1فالله قادر أن يحول ظلم حياتك
إلى نور ،والخراب إلى حياة جميلة مليئة بالثمار.
57
لبد من ظلم التجارب والضيقات ،من ضباب
الفشل ،المرض ،الفقر ،لبد أن تصدم أمواج الشـر
سفينة حياتنا ،فقد قـال رب المجد " :في العالم
سيكون لكم ضيق " ،ولكن ما أجملها عبارة تلك التي
قالها بعدها " :ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم " )يو : 16
(33وهذا إنما يعطينا قوة أن نقاوم أمواج الشر في بحر
هذا العالم.
ً
وإن كنا ل نملك درعا سحرية ،تحمينا من التجارب
والضيقات ..إل أننا نملك إيمانا ً قويا ً :إنه ل شدة ول
ضيق ول اضطهاد ول جوع ول عري ول خطر ول سيف
يمكن أن يفصلنا عن محبة المسيح ،لننا في هذه جميعها
يعظم انتصارنا بالذي أحبنا " )رو .(37 -35 :8
ماذا رأى القديس يوحنا في جزيرة بطمس ؟ بابا ً
مفتوحا ً في السماء وعرش الله موضوعا ً فيها
)رؤ (28 : 4وما هذا إل إعلن أن الله موجود وباب
السماء قد ُفتح ،فإذا ُأغلقت أبواب الحياة فى وجهك،
فارفع عينيك إلى السماء فستجد بابا ً مفتوحًا ،وإلها ً
جالسا ً على عرشه ،فاتحا ً ذراعيه لستقبالك ،فل تهتز ول
تفقد ثقتك في إلهك ،فالله هو أمس واليوم وإلى البد.
هل تأملتم مرة في إله الكون ،وهو ينزل إلى
هضاب ووديان حياتنا ليرعانا ! إنه راعينا الحنون
رب المجد يسوع ،الذي يقوينا بنعمته ويرشدنا بتعاليمه
إلى طريق خلصنا ،إن سرنا في الوادي المظلم فهو
معنا ،وإن نمنا في العراء نـام معنا ،إنه " راع يرعى
قطيعه ،بذراعه يجمع الحـملن وفي حضنه يحملها "
)إش (11 : 40هل تشك أن راعينا يحرس خرافه ؟ هل
58
44
- -
تشك أنه واقف بالمرصاد لذئاب العالم حتى ل تخطفها ؟
ألم يضع المسيح راعينا نفسه من أجل خرافه ؟ فكيف
إذا ً تشك في عناية الله ورعايته !!
ممممم مممم ممم ممممم ممم مممممم م مممم
مممم
مم مممم ممم مممم ممممممم ممم ممممم ممم.
مممم
قرأت قصة عن رجل نجا وحده من حطام سفينة
غارقة ،ووجد نفسه في جزيرة مهجورة ،هناك تمكن من
بناء كوخ وضع فيه كل ما أمكن إنقاذه من الحطام،
وكان يصلي لله لكي يرسل إليه نجدة لنقاذه ،وطوال
اليوم كان يتطلع إلى الفق لعله يلمح سفينة عابرة،
فلما لم يجد عاد إلى كوخه ،فرآه وقد اشتعلت فيه
النيران بسبب شعلة كان قد أشعلها !! ونسي أن
يطفئها فسقطت وأشعلت النيران في الكوخ وأفنت كل
مقتنياته ل شك أنها كارثة أحزنت قلب الرجل ،وجعلته
ييأس من الحياة ،فل مفر من الموت إذًا ،وبالفعل جلس
الرجل منتظرا ً لحظات موته بين الحين والخر ،وفجأة
بعد وقت قصير من إشعال الكوخ ،وعلى غير المتوقع
وصلت سفينة ورست قرب الكوخ ! ماذا حدث ؟
عندما اشتعلت النيران لمح قبطان السفينة
منظرها فأسرع إلى مكانها ،إذ ظن أنها علمة
يريد أحد أن يستنجد بها ،هذا ما رواه القبطان
للرجل عندما تحدث إليه ! فسجد الرجل على الرض
59
وقدم الشكر لله من أجل النار التي كانت سببا ً في
نجاته ،فلول حريق الكوخ ماجاءت سفينة النجاة لتنقذ
حياة الرجل.
ممم مم مممم مممم مممممممم مممم
مممممممم م
ممم ممممم ممممم مممممم ممم ممممممم.
60
ممممم مممممم
ممم مممم مم ممم ممممم م
ما من إنسان إل وعانى من القلق ،ربما لحادث
مؤلم تعّرض له ،أو تعّرض له أحد أقربائه ،وربما عقب
فشل دراسي أو زيجي ..فإن واجهتك مشكلة ،ل تقابلها
بالنطواء أو الكبت أو بالنتقام من نفسك ..لن
النطواء يزيد الحساس بالمشكلة ،والكبت ما هو إل
وسيلة هروبية ل تحل مشاكلنا ،وغالبا ً ما ينتج عنه
أمراض نفسية وجسدية ..أما النتقام من النفس فيفقد
النسان احترامه ..إنه يدمر النسان خاصة إن كانت
وسائل النتقام كالسكر أو المخدرات إن مثل هذه
الوسائل ليست مجدية لمواجهة تحديات العصر ،ولها
كثير من النتائج السلبية ،ولهذا فإن أفضل وسائل
النتصار على القلق هي التي :
مممممم ممممم
إذا وجدت نفسك خائفًا ..فاسأل نفسك لماذا أنت
قل ِق ؟ ربما يكون قلقك ناتجا ً عن سقوطك في
خطية ،فواجه نفسك وحدد أسباب السقوط ،هل كان
بسبب ضعف الروحيات والبعد عن الله ؟ أم بسبب
أصدقاء السوء ؟ أم أن سقوطك نتج لكثرة اختلطك
بالشابات وعدم الحتراس في معاملتهن ؟ أم أنك
سقطت لتختبر لذة الخطية ؟ أم سقطت بجهل مثلما
يقول البعض ضحكوا علينا ؟
61
عندما واجه البن الضال نفسه وفكر في حالته ،وما
وصل إليه من انحطاط شعر بأمور عظيمة ،فتمثلت
أمام عينيه حالة الفقر والجوع التي وصل إليها ،ثم عادت
إلى مخيلته صورة المجد والغنى الوافر في بيت أبيه،
ولهذا قال " :كم من أجير عند أبي يفضل عنه الخبز
وأنا أهلك جوعا ً " )لو ،(7: 15كذلك شعر بجرمه الذى
ارتكبه عندما ترك بيت أبيه ،وهذا دفعه إلى القول " :
أقوم وأذهب إلى بيت أبي وأقول له أخطأت يا أبتاه،"..
ويقينا ً لو لم يجلس البن الضال مع نفسه ما واجه
مشكلته ،وبالتالى ما كان قد وصل إلى حياة التوبة ،ول
رجع إلى أبيه ،ول خرج من قبضة الشيطان إلى حيث
لبس الحلة والخاتم..
إن تحديد أسباب المشكلة ،من أهم عوامل التغلب
عليها ،فحاول أن تحدد أسباب قلقك ،ثم ضع حل ً لكل
سبب على حدة ،وفي نفس الوقت ل تكبت
مشاعرك ،بل اكتشف الوسائل التي تساعدك على
التعبير عن أحاسيسك الداخلية ،بممارسة هوايات
كثيرة :كالرسم أو الرياضة أو الموسيقى أو القراءة..
فمعظم أعمال الفنانين جاءت تنفيثا ً عما في أعماقهم،
من أشياء مختزنة وكانوا غير قادرين على إعلنها..
إن هذه الهوايات أشبه بالقارب الصغير ،الذي كان
ُيلقيه البحّارة في البحر لينجوا من افتراس الحوت،
فمن تقاليد البحارة قديما ً أن يلقوا بقارب إذا صادفوا
حوتا ً في البحر ليشغلوه عن مهاجمتهم ،ثم يحاولون
صيد الحوت وهو منشغل بمناطحة القارب ..وهذا ما
ينصحك به علماء النفس :أن تلقي لحوت همومك قاربا ً
62
64
- -
فارغا ً يشغلها عنك ويشغلك عنها ،إلى أن تنجح في
اصطيادها والقضاء على أسبابها ،وأقصر الطرق هو
الثقة بالنفس ،ونسيان التجارب الليمة ،والمشاركة في
النشطة الجتماعية ،والهوايات المختلفة والخدمات
الكنسية..
يقول الكاتب الشهير برناردوشو " :إن سر
الحساس بالتعاسة هو أن يتوفر لك الوقت لتتساءل هل
أنت شقي أم سعيد ؟ " ! وقد وضع المريكي
كارنيجي روشتة للتغلب على القلق والحزان والهموم
فيقول " :انشغل وابق منشغل ً دائما ً ..ل تحزن على ما
فات ..ل تبالغ في الخوف والهتمام بما سيأتي " !
ويؤكد منهجه هذا قائل ً " :إن الطبيعة ضد الفراغ ،فلو
أنك ثقبت مصباحا ً كهربائيا ً مفرغا ً من الهواء ،فإن الهواء
يتسلل إليه فورا ً ويمل كل فراغه ،وكذلك عقل النسان
إذا خل مما يشغله تسللت إليه الهموم وتمكنت منه "،
وفي كتاب اسمه فن نسيان الشقاء ،للمؤلف
المريكي جون كوبر بويز ،يؤكد أنه عندما يستغرق
النسان في العمل ،يتسلل إليه الحساس بالطمئنان
والسلم النفسي وينسى مؤقتـا ً مشاكله وأحزانه.
وبجانب شغل فراغك بالعمل المجدى والهوايات
النافعة ،يفيدك أيضا ً شئ هام أل وهو :التعبير عن
أحاسيسك ومشاعرك الداخلية ،مع صديق حميم تثق
فيه أو أحد المرشدين..
ضع في اعتبارك أن الحياة انتصارات وهزائم..
مكاسب وخسائر ..أفراح وأحزان ..والعاقل هو من ل
يسمح لهزائمه الصغيرة أن تزلزل حياته وهذا ما أكده
63
عطيل الكاتب العظيم شكسبير في مسرحيته الرائعة ُ
عندما قال " :إن الرجل الذي يسرقه لص فيبتسم ترفعا ً
يسترد من السارق بعض غنيمته ،أما من يحزن بل طائل
فإنه يسرق نفسه مرة أُخرى بعد أن سرقها اللص ،لنه
يضيف إلى خسارته المادية خسارة معنوية جديدة ل
در بثمن" !
تق ّ
والحياة أيضا ً مد وجزر ،أمواج متصاعدة تقتحم
شاطئها ،تتبعها أمواج متراجعة إلى عمق البحر،
والنسان الناضج هو من يتفهم فلسفة الحياة ،فل يتكبر
عند المد ول ينهار عند الجزر ،بل تكون حياته واقعية،
ملتزمة ،إيجابية على الدوام ،فإذا خسرت فابدأ من
جديد ولكني أنصحك أن تبدأ باللف وليس بالياء ،أول ً )أ(
ثم )ب( ثم )ت( ..وتأكد أنك في يوم ما ستصل إلى
آخر حرف وهو حرف الياء.
64
84
- -
ول نسيج الجسد ،من مادة مؤقتة إن اليمان يح ّ
ول واقع النسان تشيخ إلى معنى روحي خالد ..ويح ّ
الليم ،الذي يمتزج فيه الحزن بالفرح ،والشقاء باللذة،
والنور بالظلم ،والجمال بالقبح ،إلى معنى ل يموت،
وإلى سمو وارتقاء ل يفنيان.
باليمان يصبح العالم غير مائت ،ويصبح النسان في
حماس دائم للحياة ،وكأن الحياة تتحول باليمان إلى
لحظات من النغم المتصلة والسعادة الدائمة.
ول اللم ،إلى رغبة وهل ينكر أحد أن اليمان يح ّ
وشوق في معرفة المزيد من أسرار الذي تألم وهو
بار!! يسوع المسيح الذي بآلمه قدس اللم وأعطاه
معنى جديدًا.
والموت ،أليس اليمان يحوله إلى رحلة لكتشاف
عالم جديد ،عالم الخلود الخالي من الغش والرياء !! إن
اليمان يجعل كل العلوم التي نعرفها ونكتشفها
ونسعى إلى إدراك أسرارها ،مقدمات لشرح السر
العظم ،سر الحياة بعد الحياة.
مممم
على ظهر مركب جلست سيدة وقورة ،كانت
مسافرة لزيارة إبنتها ،لكن في منتصف الطريق ،حدث
فجأة أن هاجت المواج وقامت عاصفة شديدة ،اهتزت
لها السفينة حتى كادت أن تنقلب ،فتجمع الركاب وعل
صراخهم ،وأخذهم الفزع ،ومنهم من أخذ يسب الظروف
ويلعن حظه ..أما السيدة فظلت جالسة في مكانها
ساكنة خاشعة ،يرتسم على وجهها ابتسامة هادئة ،بينما
65
تردد شفاهها كلمات صلة هامسة ،فاستجاب الله
لصلتها وهدأت الرياح ،ولما استقر القارب وهدأت
النفوس ،إتجه الركاب إلى السيدة الهادئة وقالوا لها:
كيف احتفظت بهدوئك ونحن نواجه موتا ً محققا ً ! فقالت
السيدة في إيمان شديد :الواقع أن الموت كان
سيغير البرنامج قليل ً ،لكنه لم يكن سيعطل خطتي،
فأنا كنت ذاهبة إلى إبنتي المتزوجة في زيارة قصيرة،
ولكن لي إبنة أ ُخرى توفيت منذ سنوات ،فلو أن
القارب انقلب بي لكنت الن أزور إبنتي الثانية،
التي هي الن وديعة في يد الله بدل ً من إبنتي
الحية على الرض.
إنه اليمان بأن الله قادر أن ينقذنا من كل ما يتعبنا،
حتى وإذا تركنا فيما ل نريده ،فهو يعطينا القدرة على
الصبر والحتمال ،بل ويعطينا النعمة لتتحول الضيقات
إلى بركات والحزان إلى أفراح.
ُ
ألم يحفظ اليمان دانيال عندما ألقى في جب
السود ! والثلثة فتية ألم يحفظهم اليمان من لهيب
النار ،عندما ألقوا في التون فلم يصبهم ضرر!
ويوسف الصديق ،أليس بسبب إيمانه حفظه الله في
السجن ،وخرج منه ليصير ثانى رجل في مملكة مصر
بعد فرعون!
ضع في اعتبارك ،أن الله الذى أعطاك الحياة ،هو
الذى سيعطيك الطعام ،الذى تحيا به فى هذه الحياة،
وإذا كان الله أعطانا الجسد فلبد أنه سيعطينا ما
نلبسه فوق الجسد ،ويعطينا أيضا صحة الجسد ،ولكن
هذا ل يلغي المشاكل والحزان والتجارب والضيقات...
66
05
- -
فالسيد المسيح لم يقدم لنا طريقا ً ممهدا ً مليئا ً بالورود،
لكنه قدم لنا أصعب طريق أل وهو طريق الصليب !!
وكل من يريد أن يتبعه عليه أن " يحمل صليبه ويتبعه "
)مت .(24 : 16
ولهذا فإن المسيحية ل تقول للفقير :ليكن لك
إيمان أن الله سيغنيك ،ولكنها تقول :إن الله قد يُغنيك
إذا كان هذا لخيرك ،ولكن لنفترض أن الله لم يُرسل لك
مال ً ،فما الذي يُقلقك مادامت عنايته تشملك ! وتقول
للخائف من المرض والموت :قد تمرض وتموت ،ولكن
ما الذي يُخيفك من هذا ما دامت لك الحياة البدية !
ثق أنك بحصاة داود الفتى الصغير تستطيع أن
تنتصر على الجبابرة والشرار ،فل تهتز أمام التجارب،
ول تخر أمام الضيقات ،إنما كن كالبيت المتين المبنى
على الصخر ،حيث ل تقوى عليه المطار والرياح )مت
.(25:28
68
مممم
أراد رجل أن يبني شاليه ،فأحضر عمال ً وقد بدأوا
بالفعل في وضع الساس لبناء الشاليه ،لكن حدث أن
هبت الرياح وهاجت المواج فتغطى الساس بالوحل لنه
كان قريبا ً من الشاطئ ،فلما رأى العمال هذا المنظر
ُأصيبوا باليأس وتألموا على الخسائر ،واعتقدوا أن هذا
اليوم مشئوم ول يجب العمل فيه ! أما صاحب الشاليه
لما نظر حزنهم إلتفت إليهم وقال :أنا أرى الوحل قد
غطى كل الساس وهذا ما أنتم ترونه أيضا ً ،ولكني أرى
شيئا ً آخر لم تنظروه ولم تلتفتوا إليه ،إنها الشمس
الموجودة فوق في السماء ،والتى سوف تسطع بأشعتها
بعد قليل وتجفف الوحل ..فلنستعد من الن لنبدأ
العمل من جديد !!
69
25
- -
وربما ُتكّلف بأعمال تخشى إنجازها لكنك لو إتخذت
من القلق وسيلة إيجابية ،تجعلك تلتزم بمواعيد ،وتنهي
المهام الموكولة إليك في ميعادها المحدد ،لنجزت ،بل
وأبدعت في كل ما يوكل إليك أو ُتكّلف به.
حاول أن تتخذ من القلق وسيلة إيجابية ،تحثك على
البحث عن أفضل الوسائل لمواجهة أزماتك ،فداود
عندما وقف أمام جليات الجبار ليحاربه بكل تأكيد كان
قِلقًا ،ليس خوفا ً منه ،ولكن من أجل كثرة التفكير في
معرفة أفضل الوسائل ،التي يمكن أن ينتصر بها على
عدوه الشرس فغالبا ً ما تسأل قائل ً :
ممم ممممم ممم ممم ممممم م
مم ممم مم ممم مممم ممممم م
ممم مممم ممممم ممم مممممم م
وبعد تفكير اهتدى إلى أن الدخول في مبارزة بالسيف
والرمح مع هذا الجبار وسيلة مصيرها الفشل ،لبد إذا ً
من استخدام وسيلة لم تخطر على باله من قبل،
والمقلع والحجارة فكرة بسيطة ولكنها جديرة
بالتنفيذ ،وأفضل مكان تصوب إليه ،هو جبهة ذلك
الفلسطيني الغلف ،فهي الجزء الوحيد غير المحصن،
والذي إذا ُأصيب كانت الصابة في مقتل ،فلو كان قلق
داود قاده إلى التردد والهرب ،لقتله جليات قبل أن
يهرب منه.
71
45
- -
وكانت دائما ً تقول :أنا عمياء ولكنى أبصر أنا صماء
ولكنى أسمع أنا خرساء ولكنى أتكلم !
ورحلت ) هيلين كيلر ( عن عالمنا عام 1968م ،بعد
حياة حافلة طالت 88سنة ،استطاعت خللها أن تهزم
اليأس ،وتنتصرعلى قسوة الحياة ،وحققت المعجزة
وعاشت على أصابعها.
ممم مممم مممممممم ممممممم ممممم
مممممممم مممممم ممممممممم مممممم !
ويعد )إديسون( من العباقرة ،الذين هزموا اليأس
المادى والنفسى ،فقد فشل فى دراسته المدرسية،
وضها بالدراسة على يد ُأمه الفاضلة ،التى عندما ولكنه ع ّ
واجهها ناظر المدرسة بخبر فصل ابنها قالت له :إن ابنى
يحمل فوق كتفه رأسا ً فيه من الذكاء أكثر مما فى
رأسك ورؤوس زملئك المدرسين ! كما أنه ُأصيب
بصمم ولكنه لم يهتم بل قال عبارته المأثورة :إن
الصمم نعمة وليس نقمة ،فهو يريح النسان
من ثرثرة الناس وكلمهم الفارغ ،ويشجعه
على التركيز فى عمله!
وبعد أن قدم اختراعاته التى تزيد عن اللف ،اشتعلت
النيران فى كل معامله ،وحولتها رمادًا! فخسر ما يقرب
من المليونى دولر ،إل أنه لم ييأس ،وبدأ العمل من
جديد بعد أن نطق عبارته المعزية :هذه حقا ً كارثة إل
أنها لم تخلو من نفع ..فقد التهم الحريق جهدى ومالى،
ولكنه خلصنى أيضا ً من أخطائى ،فشكرا ً لله ،فنحن
نستطيع أن نبدأ من جديد ولكن بل أخطاء !!
72
ممم مم مممممم مممم مم مممم ممممم مممم
مممممم مم مممم مممم مممم مممممممم ممم !!
ويرحل إديسون عام 1931م ،بعد أن أهدى العالم
النور ،الذى نقل النسان إلى عصر الكهرباء ،فإديسون
هو الذى اخترع المصباح الكهربائى والتسجيل...
74
75
الباب الثاني
أســياد وعبيـد
أكــواح وقصـور
زز
.
الفصل الول
ممممممم مممممم
الفصل الثاني
ممممممم مممممم
الفصل الثالث
ممممممم
مممممم
76
77
ممممم ممممم
ممممممم م مممممم
من طبيعة البشر الميل إلى السلطة وفرض النفوذ،
فحب السيادة مرض أصاب البشرية منذ القدم ،منذ أن
ول البشر إلى طبقات :أسياد وعبيد ،لكن سقطت ،فح ّ
هذا المرض لم يصب إل ضعاف النفوس ،الشخصيات
الضعيفة ،التى ل تملك ما ُيشبع الرواح وُيغزى العقول،
ولهذا إذا سادوا يجنحون إلى الستبداد والقوة وإذلل
البشر ،والويل لمن يطفو ويلمع اسمه ،ويجد عند الناس
احتراما ً وقبو ً
ل ،ويجد الناس عنده حل ً أو مشورة .
ل..؟! أيرضى ُترى هل يرضى الله أن يحيا النسان ذلي ً
القدوس بنهر الدموع الجارف ،دموع العبيد المظلومين
والجائعين المهملين..؟! أغلب الظن إننا حتى الن لم
نفهم الله ،ول نعرف شيئا ً عن شرائعه التى تدعو إلى
الرحمة والمحبة ،وتحث الناس على فعل الخير ،بل على
بذل النفس من أجل الخرين.
ليست مشيئة الله أن يكون الناس طبقات،
بعضهم فى ثراء فاحش ،وبعضهم فى فقر مدقع ،بعضهم
أسياد يأمرون وينهون ،وبعضهم عبيد ل حق لهم إل
الطاعة والخضوع ،إنما إرادة الله أن تكون النسانية كلها
وحدة واحدة ،لها رأى واحد ،وفكر واحد ،وتحيا حياة
مشتركة يسودها الحب ويغمرها السلم بهذا الفكر
عاشت الجماعة المسيحية الولى ،فقد ذكر النجيل إن:
" جميع الذين آمنوا كانوا معا ً وكان عندهم كل شئ
78
65
- -
مشتركا ً والملك كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع"
)أع .(2
ولكن فئة ممن أحبوا الجاه والشهرة والمراكز
الرفيعة وتعظم المعيشة ..قد تجاهلوا مشيئة الله،
وسعوا لتقسيم النسانية ،لن وحدة البشرية تعوق
رغباتهم ،وتقف ضد شهواتهم ،وتهدد حياتهم ..فقضوا
حياتهم محاطين بكل مظاهر العظمة ،إل أنهم عاشوا
يئنون تحت عبء السلطة ،وجسامة المسئولية وقد
انطبق عليهم قول شكسبير " :ل راحة لرأس تحت تاج
"!
مممم مممم مممممم ممممممم مممم مممممم
مممممم ممممممم ممممم مممممم مم ممم
مممم
مممممم ممم ممممم ممممم ممممم مم ممممم
!!
سم ملوك وأباطرة شعوبهم إلى طبقات ،أنــاس لقد ق ّ
يمتلكون كل شئ ولهم كل الحقوق ،وأنــاس ل يمتلكــون
حتى أجسادهم ،وليس لهـم الحـق فـى أى شـئ ُ ،أنـاس
ســادة يــدعون أن دمــاًء مقدســة تجــرى فــى عروقهــم،
وأ ُناس عبيد تجرى فى عروقهم دماء نجسة كما يظنون،
ف المنافقون والضعفاء، وحول هؤلء العظماء وأولئك إلت َ
وتحــت أرجلهــم ارتمــى المرضــى والمهوســون بحــب
الرياسة والسلطة.
ً
من هنا نفهم ،لماذا -غالبا -ما يُصاب العظماء والملوك
والبــاطرة ..بالكبريــاء ،وأحيــان تنتهــى حيــاتهم بــالجنون،
ليس لنهــم متميــزون فــى المــواهب ،بــل لن كــل مــن
79
يحيط بهــم ل يفكــر ،فهــم غالبـا ً مــا يُحــاطون بــالمرائين،
ماسحى الجوخ ،عــديمى المــواهب ،ضــعاف الشخصــية
الــذين رفضــوا الحريــة ،وكــثيرا ً مــا يجــدون متعتهــم فــى
الرتماء فى حضن المذلة والتبعية ،فهذا يــوفر للعــاجزين
والفاشلين راحة نفسية !
إن مبدأ السيادة والعبودية يرجــع إلــى أقــدم العصــور،
فالعبودية كانت جزءا ً ل يتجزأ من العــالم القــديم ،وكــان
الفيلسوف أرسطو يعتنق مبدأ الطبقات ،ففى رأيــه أن
طبيعــة المــور يتطلــب وجـــود بعــض العبيــد ،وبعــض
النجــارين ،وبعــض الســقائين ..وذلــك لخدمــة الطبقــات
العلى من الناس.
أما العبد فلم يكن له اعتبار فى القانون ،فهو آلــه فــى
يد سيده ،الذى كان له حق الحياة والموت علــى عبيــده،
يستطيع أن يضربهم ،يفرك آذانهم ،يلقيهم فــى الســجن،
يقتلهم لتفــه الســباب ،ففــى إحــدى المــرات أمــر ســيد
بإلقــاء أحــد عبيــده فــى بركــة الســمك ،حــتى فتكــت بــه
السماك ومزقته ،لنه كـان يحمـل صـينية عليهـا كـؤوس
من الكريستال إلى ساحة المحكمــة فســقط منــه كــأس
وانكســر!! وهنــاك مــن الســياد مــن كــان يتمتــع بصــوت
الضرب القاسى -ضرب عبيده -معتبرا ً أنــه أعــذب مــن
صوت الطرب والغناء فى ُأذنه.
حدث مرة أن مر الكاتب الروسى تلستوى ،على
متسول أثناء سيره ،فوضع تلستوى يده فى جيبه وفتش،
عسى أن يجد نقودا ً يُعطيها له ،فلما لم يجد إلتفت إلى
الرجل وقال له :إنى آسف يا أخى فليس عندى نقود
أعطيها لك ،عندئذ أشرق وجه المتسول وقـال له :لقـد
80
85
- -
أعطيتنى أكثر مما طلبت ،لقد ناديتنى قائل ً " :يا أخى
"!
والقديس فرنسيس السيزى ،خرج يوما ً راكبا ً
جواده ،فصادف فى طريقه رجل ً أبرص ،كريه المنظر،
فنزل عن جواده ودنا من البرص ،وألقى بنفسه عليه،
وعانقه فى حرارة ،وقبـله كما يقّبل الخ أخاه ،ثم أخرج
كيس نقوده وأعطاه صدقة ،وكم كانت فرحته لنتصاره
على نفسه ،وما أشد دهشته حين التفت إلى ورائه
ليلقى نظرة أخيرة على البرص ،فإذا البرص قد اختفى
تماما ً !!
ممم ممممممم ممم ممم مممممم مممم م م
مممممم
مممم ممممممم ممم ممم مم مممم مممممم
مممممم
ممم ممممم مممم مممم ممممممم ممممم
ممممم.
ولكن قبل أن يدعو تولستوى الشحاذ أخًا ،وقبل أن
يحتضن القديس فرنسيس البرص ويُقّبله ،سبق أن دعا
السيد المسيح المرأة النازفة إبنته " يا إبنة إيمانك
قد شفاك " )مر ،(34 :5المرة الوحيدة التى دعى فيها
يسوع إمرأة ابنته كانت لمرأة نجسة ،وكل شئ تلمسه
يعتبر نجسًا ،وهذا يعنى :إنها ل تستطيع أن تلمس زوجها
حتى ل تنجسه وبالتالى ل يمكن أن يكون لها أولد ،ومثل
هذه لم يكن مسموحا ً لها حسب الشريعة أن تدخل
الهيكل ..لنتخيل إنسانة تجمع كل هذه الصفات :منبوذة
اجتماعيا ً وممزقة نفسيًا ،ومع هذا يدعوها رب المجد
81
يسوع إبنته ،أليس فى هذا تعليم لنا ،لنعرف كيف نعامل
الخطاة والمنبوذين..
لقد دعا السـيد المسـيح إمـرأة نجسـة إبنتـه ،وهـا هـو
يرفـض أن يــدعو تلميــذه عبيــدا ً إذ قــال لهــم " :ل
أعود أسميكم عبيــدا ً لن العبــد ل يعلــم مــا يعمــل ســيده
لكنى قد سميتكم أحـباء لنى أعلمتكم بكــل مــا ســمعته
من أبى" )يو (15 :15
من هنا عرفت معنى السيادة الذى يريده المسيح ،إنها
ليست قصرا ً وتاجا ً وصــولجانا ً ..أو أمــرا ً ونهيـا ً وســلطة..
إنما السيادة الحقيقية هى حب وبــذل وعطــاء ..وتعضــيد
للضــعفاء ..وعطــف علــى المســاكين والفقــراء ..فكــل
ولإنسان يسود إن لم يمتلئ قلبــه بــالحب والحنــان ،تحـ ّ
إلى عدو كاسر ،أوسيد ظالم...
ولهذا ففى الوقت الذى كان أبــاطرة رومــا ،يعشــقون
فن تعــذيب وإذلل الشــعوب ،وفــى عصــر كــان الملــوك
يجلسون فى قصورهم ،يتلــذذون ويتنعمــون ويســتعبدون
البشــر ،كــان ابــن البشــر ،ملــك الملــوك ورب الربــاب،
يجالس الفقراء والخطـاة والعبيـد ،ليأخـذ بيـدهم ،ويرفـع
من شأنهم ،ويزرع الرجاء فى قلوبهم !
وما هذا إل إعلن إن السيد المسيح بتجسده رفع
كرامة النسان ،وأظهــر قيمــة النفــس البشــرية عنــد
الله ،وكل الذين يقولون :إن اللــه ليــس فــى حاجــة إلــى
النسان ،هم أصــحاب نظريــات وفلســفات جوفــاء ،مثــل
مــن يقولــون :إن الفنــان المبــدع ليــس فــى حاجــة إلــى
اللوحة ،التى سكب فيها روحه وفنه.
82
06
- -
فليس بين الفنان ولوحته ،أو بين الشاعر وقصيدته أية
مصالح مادية ،وليس بين الموسيقار وألحانه أى نوع مــن
الســيادة والعبوديــة ،وإنمــا بيــن ذلــك كلــه علقــة الحــب
والبداع ،فالرسام أبدع لوحته حبا ً ل كرهًا ،والنحات أقام
تمثاله عشقا ً وإشباعا ً لرغبة العطاء العارمة فى وجــدانه،
والشــاعر أنشــأ قصــيدته لنهــا بعــض ملمحــه وأحلمــه
وأفراحه وآلمه.
مممم ممممممم ممم مممم
ممممم ممممممممم مم م
مم مممم مم مممم مم ممم ممممممم
مممم م
ممممم مممم مم مممم ممممممم ممممممم !
فالنسان أيها السياد ليس لقيطا ً فى الفضاء ،إنما
النسان أيقونة الله الجميلة ،هو عريس الوجود بل
أجمل ما فى الوجود ،هو نفخـة من الله ،لمسة من
الحى ،بعض من ملمحه الروحية ،والويل لمن يحاول
إذلله أو استعباده.
إن أحد أسرار النكبات والكوارث التى تلم
بالمجتمعات ،وتسبب انهيار الشعوب والحضارات ،إنها
تحاول أن تهدر كرامة الفرد بالعبودية ،أو بالسخرة ،أو
بالتميز الطبقى أو العنصرى ..كل ألوان الحكم التى
حاولت أن تغتصب إرادة النسان ،وأن تمزق كيانه،
انتهت إلى فناء وإلى دمار ،فحرية النسان ليست منحة
تجود بها سلطة بشرية عليه ،وإنما هى عطية من الله
الخالق الحر .
إقرأوا فى تاريخ البشرية وقّلبوا صفحاته الذهبية،
لتعرفوا أن كل العصور التى عاش فيها النسان عبدا ً
83
ذليل ً ،تحت سيادة إنسان آخر ،يفرض عليه لون عقيدته
وفكره ..فى تلك الحقبات تحولت المجتمعات إلى غابات
بشرية ،فالتاريخ يحكى عن طغاة ،أذلوا البشر وحاربوا
الثقافة والرأى الحر ،لن النسان المثقف الحر -كما
يرون -قادر على التمييز بين الصواب والخطأ،
والمعارضة والنقد ..والطغاة ل يطيقون شيئا ً من هذا..
فها " نيرون " حاكم روما المستبد المجنون )- 54
68م( يقتل أ ُمه وزوجته وأستاذه الفيلسوف
سنيكا لنهم عارضوه! وظهر له فى نشوة الطغيان
والجنون ،إن مدينة روما ليست جميلة ول بد أن تزول،
فأشعل النار فى روما ،وبدأ فى بنائها من جديد ليجعلها
على الصورة التى كان يحلم بها ..وأخيرا ً مات الطاغية
وهو يرتعد من الخوف ،مختبئا ً فى عشة حقيرة ،كان
يحاول أن يخفى نفسه فيها من أعدائه.
وفى العصر الحديث ظهر أعظم الطغاة المستبدين،
وهو " هتلر" النازى اللمانى الشهير ،الذى كان يكره
العقل الحر ،والفكر المستنير ،فقد كان يدعو اللمان أن
يفكروا بطريقة واحدة ل اختلف فيها ول تنوع ،أما
المصدر الساسى للفكر والرأى فهو عقل الزعيم لنه
يفكر بالنيابة عن الجميع ! ولهذا أشعل أتباعه النازيون
النار فى الكتب ،ففى أحد المرات أشعلوا النيران فى)
(20ألف كتاب !!
ممم ممم ممم مممممم ممم ممممممممممممم
ممممممم مممممممم مممممممممم مممممم ممم
مممممم مم ممم مممم مم مممم مممممم!
84
وأخيرا ً أطلق هتلر الرصاص على نفسه ،فمات منتحرا ً
بعد أن وصل عدد ضحاياه إلى ما يقرب من الثلثين
مليونا ً !! وانتهت النـازية الفاشـلة إلى ) سلة مهملت
( التاريخ ،وبقيت الحقيقة الناصعة وهى :إن الفكر الحر
والثقافة الرفيعة أقوى من كل الطغاة والمستبدين..
كما أن حريق الثقافة الذى أشعله النازيون فى آلف
الكتب !! لم ُيطفئ أسماء العلماء أو المفكرين
العظام ..فقد ظلوا يؤثرون بكتاباتهم فى حركة الثقافة
النسانية ! رغم ما نالهم من اضطهادات ومطاردات..
وكان حريق الثقافة عارا ً على أصحابه الفاشلين ،ونورا ً
أمام العقل النسانى الحر ،الذى ل يمكن القضاء عليه
بهذه الساليب العدوانية!
كل البشرية من طينة واحدة ،هذه حقيقة ،لننا جميع ـا ً
خلــق ،فــإن كنــا كلُنــا
مــن نســل آدم ،وآدم مــن الــتراب ُ
ترابيين ،فلماذا يتعالى البعض على بعض هم بشر مثلهم،
ربما تكون لديهم مواهب أعظم من مواهبهم ،ويمتلكــون
؟!قدرات تفوق قدراتهم
فكــم مــن قــادة بل مــواهب ،ولكــن ظروف ـا ً ل نعــرف
مغزاها جعلتهم يعتلون العرش ،فصاروا يحكمون من هم
خلقا ً ودينًا ..وإن كنا ل نملــك تفســيرا ً
أفضل منهم علما ً و ُ
لكــل هــذا ،إل أننــا نملــك قــول ً إنجيلي ـا ً للقــديس بــولس
الرســول يقــول " :مــا أبعــد أحكــامه عــن الفحــص
وطرقه عن الستقصاء " )رو . (33 :11
ربما يرفع المال أو المنصب صاحبه إلى فوق ،ولكن
هذه المكانة ل تدوم ،فل بد وأن يأتى عليه يوم ويعود
إلى أرضه الحقيقية ،إلى ترابه الذى ُأخذ منه ،فعند
85
26
- -
الموت يتساوى جميع البشر ،كما قال معلمنا داود النبى:
ل ودون أغنياء وفقراء سواء " )مز ،(2:49 " عا ٍٍ
وهكذا كما يرفع المال أو المنصب ...البشر ،ترفع النار
الماء إلى فوق ،ولكنها سرعان ما تعود إلى الرض
مطرًا.
مممم
هنا أتذكر قصة ) المـاء ( الطريفة للعالم والفنان
والديب اليطالى " ليونارد دافنشى " أما القصة
فتقول:
" أرادت المياه يوما ً أن تتخلص من وجودها فى البحر
وتصعد إلى السماء ،فماذا فعلت ؟ توددت إلى عنصر
النار حتى تساعدها على ذلك ،ووافقت النار وساعدتها،
فأصبحت بفضل حرارتها أكثر خفة من الهواء وتحولت
إلى بخار ،سرعان ما ارتفع إلى السماء عاليا ً حتى
طبقات الهواء الكثر برودة..
ولم تستطع النار مساعدة المياه أكثر من ذلك،
وأصبحت قطرات الماء أكثر ثقل ً من الهواء ،ثم سقطت
إلى أسفل فى صورة مطر ،بل إنها لم تسقط وإنما
اندفعت هاوية إلى الرض ،لقد صعدت إلى فوق وهى
مليئة بالفخر والعتزاز ،ولكنها فى النهاية عادت إلى
أصلها دون رغبتها ،وامتصتها الرض الجافة ،وظلت وقتا ً
حبيسة الرض".
أريد من وراء كلمى هذا :أل ّ يتعالى أصحاب
المراكزعلى من هم أقل منهم ويخضعون
86
لسلطتهم ،ول ينظروا إلى غيرهم ممن تفوقوا عليهم
بمركز أو بشهادة أو بثروة ،كأنهم من سللة تختلف عن
سللتهم ..كما يجب على البسطاء أل يقللوا من شأنهم،
وينظروا لهؤلء كما لو كانوا من طينة تختلف عن
طينتهم ،فكل العظماء الذين أصابهم كبرياء السلطة
وغرور الحكم ،وأيضا ً شهوة التسلط وفرض الرأى ،هم
فى الحقيقة بشر مثلهم ومثلنا تمامًا ،ونادرا ً ما تخلو
حياتهم من مشاكل وضعفات وعثرات...
إنهم عظماء ،وربما نهضوا ببلدهم ،وارتقوا بشعوبهم،
ومنهم من غّير مجرى التاريخ ،إل أنهم لم يغيروا
صفاتهم البشرية وغرائزهم النسانية ،فالتاريخ
يحكى عن كبار الفلسفة الذين قدموا لنا أسمى الفكار،
كيف كانوا يعيشون فى إسراف شديد ،ومنهم من كان
نهما ً للجنس ،وشرها ً للمال ،وغارقا ً فى الغرور..
وكذا العلماء الذين قدموا لنا أروع النظريات فى كل
ميادين العلم ،لم يكونوا ملئكة أو شياطين ،وإنما كانوا
بشرا ً لهم غرائزهم ،ولهم سقطاتهم ،أما الكمال فهو
من صفات الله وحده.
ل زلت أقوال :يجب أن تتساوى كرامات البشرل
وظائفهم ،فكل إنسان ولو كان طفل ً له كرامة ،وهذه
الكرامة هى حقه فى الحياة ،فالفلح ربما ل ينال احترام
كل الناس ،لكن لول الفلح فى حقله لمات الوزير
على عرشه ،فل تقلل من شأنك أو تحط من قدرك،
فأنت لك قيمة ،إن لم تكن عند الناس ،فهى غالية عند
الله ،فل تهتز أو ُتصاب بصغر نفس أمام أى إنسان.
87
46
- -
كان " ديوجين " فقيرا ً ل يتعدى مسكنه سوى برميل
حقير يرقد فيه ،لكنه كان فيلسوفًا ،وهذا كان سر من
أسرارعظمته ،ففى إحدى المرات ذهب الملك العظيم "
السكندر الكبر" لرؤيته ،فى وقت كان يُصلح فيه
برميله ،فوقف أمامه الملك بعظمة قائ ً
ل :أنا الملك
إسكندر! فالتفت إليه ديوجين وقال له :وأنا الكلب
ديوجين !! وبعد محادثة طويلة قال الملك للفيلسوف:
إنى أراك محتاجا ً لمور كثيرة ..وإنى أريد مساعدتك
ول عنى فسلنى ما تريده ،فأجابه ديوجين قائ ً
ل :تح ّ
فقد منعت عنى الشمس وقطعت لذتى بها !!
حدث كل ذلك ورجال الملك واقفون حوله متعجبون مما
يحدث ،وملطفة الملك العظيم لديوجين ،فلما رأى
الملك دهشتهم إلتفت إليهم وقال:
مم مم ممم ممممم ممممممم
مممممم مم مممم مممممم !
أولئك وكثيرون غيرهم ..كانوا فقراء فى نظر
المجتمع ،ولكنهم لم يفقدوا كرامتهم أو شخصياتهم أو
قيمهم أومبادئهم ...ولهذا عاشوا أقوياء حتى نهاية
حياتهم ،وكان الجميع يوقرونهم ويهابونهم حتى الملوك
أنفسهم .
للنسان قيمة عظيمة ،نعـم ،وهذه القيمة تبدو واضحة
بين المستنيرين فإذا نظرت إلى الغرب ستجد حضارة
وحياة ،يحافظون عليها ويحيطونها بهالة كبير من
القداسة ،وأجمل ما فى الحياة عندهم هو النسان الذى
أنشأ الحضارة ،وفى الشرق أيضا ً حضارة تفوق حضارة
الغرب ،ولكن ما أقل قيمة النسان !!
88
ممكن فى الغرب تدمير فندق ،بل مدن بأكملها من
أجل إنقاذ حياة فرد ،أيا ً كان هذا الفرد ،أما فلسفتهم
الجميلة فهى :إن النسان هو الذى يبنى الفندق وليس
الفندق هو الذى يبنى النسان ،فإذا أنقذنا إنسانا ً واحدًا،
ربما هذا الواحد يبنى عشرات الفنادق ،أما أُلوف الفنادق
فتعجز عن أن تخلق إنسانا ً !
أقول هذا لهدف :
إن الغرب بكل نقائصه الروحية ،وما وصـل إليه من
انحلل خُلقى وفساد ،أعطى للحياة قيمتها ،وللنسان
مثل والقيم كرامته ،والعالم الثالث الذى يدّعى ال ُ
والتدين ...يسجن الحرية ويقيد الفكر ويقتل البداع،
وليزال الناس يعيشون فيه طبقات :أسيادا ً وعبيدا ً !
فياليتنا نتعلم من الغرب ما ينفعنا ،وأول ما ينفعنا هو
معرفة قيمة النسان ،واحترام حريته ،وفتح نوافذ الفكر
الحر والبداع ...أمامه.
ل ُانكر أننا ُنكرم الموتى أشد الكرام ،وننعتهم يوم
دفنهم بأحسن الصفات ،ولكن أين الحياء من هذا
الكرام ؟! لماذا ل ينالون ولو قسطا ً من هذا الحترام ؟!
نقــول إننــا نــؤمن بــالله فــى عــالم ســاد فيــه الكفــر
واللحاد ،وها نحن بهدوء نتساءل :ما هى قيمــة اليمــان
إن أهمل النسان أخــاه ،إن أذله واســتعبده ،أو أراد أن
يقضــى علــى مــواهبه الســامية الــتى غرســها اللــه فــى
وجدانه ؟!
إن الله الذى نؤمن به لم يطلب من النسان أن يقــدم
له الصــلوات ،أو يرفــع البخــور ،أو يفــى النــذور ..إل مــن
89
66
- -
أجل أن تصبح لحياته معنــى ،وأن تســتقيم علقتــه بــأخيه
النسان ،لن مــا أســهل أن يصــلى النســان أو يصــوم أو
وم يحــرق البخــور ،ولكــن مــا أصــعب أن يصــفح أو يصــ ّ
حواسه عن الشر ،ويحرق الظلــم والغــش والريــاء ،ومــا
أسهل أن يبنى أماكن للعبادة ،ولكن مـا أصـعب أن يبنـى
ذاته على العدل والحب واحترام حرية وآراء الخرين.
ما أجمل المعابد ،ولكن هل يرضى الله أن تبنى بيوت
لعبادته والبشر يسكنون الخيام ! أليس من أجل هؤلء
البؤساء تجسد ابن الله ،وعاش على الرض فقيرا ً ليس
له مكان يسند فيه رأسه !! وما أجمل الصلة ،ولكن هل
يبارك الله صلة من يحتقر أخاه ويستعبده ! أترى الله
يرضى بذبيحة من يسرق مال الخرين !
ممم مم مممممم مممممم
ممممم ممم
ممممممم مممم مممم مممممممم !!
يجب أن نعرف أيها الحباء ،إن كل إنسان يولد هو من
إبداع الخالق ،هو رسالة حية أرسلها الله وكأنه لم ييأس
بعد من خلق البشر ،ما من إنسان إل ويولد صفحة
بيضاء ل يدرى ما هو الخير وما هو الشر ،وإنما يولد وفى
أعماقه نبض يحس بالجمال وينفر من القبح ،نبض
يسعده النور ويخيفه الظلم ،يرتاح للعدل ويشقى
بالظلم ،نبض ل فضل فيه لنسان على إنسان ،فالنسان
يولد واللمسة اللهية واضحة فى كيانه ،فالحب يدفئه،
والحنان يمل قلبه ..فإن كان المر هكذا فلماذا نقتل
النبض اللهي فى النسان ؟!
ممممم ممممممم ممم مممم ممممممم مممم م!
90
ممممم مممم مممممم مم ممممم مممممم م!
ممممم مممم ممممم مممم م ممم مممممم م!
91
ممممم مممممم
ممممممم ممممممم
مرت عصور كثيرة على الجنس البشــرى ،عــاش فيهــا
النسان متنعما ً بما يملك من خيرات ،إل أنه لم يكن ثريا ً
فى عصر من العصور بقدر ما هــو عليــه اليــوم ..فــالعلم
فجــر لـه ينـابيع الخيـر ،وجعــل الصـحارى تفتـح صـدورها
للخضــرة والنمــاء ،والبحــار تتــدفق فيهــا الحيــاة ،ولعــل
الفضــاء ذات يــوم يفيــض هــو أيضـا ً علــى البشــر بــألوان
جديدة من الثروات.
ولكن رغم كل هذا لم تــزل غالبيــة ســكان الرض فــى
جوع واحتياج!! ول زالت مجزرة قتل البرياء التى
ارتكبها هيرودس تتكرر اليوم ،ل على مستوى أمــة
فقط ،بل علـى مسـتوى أمـم وشــعوب ،لن الجــوع ومـا
ينتج عنه من أمراض يحصد مليين الطفال البرياء.
لقد زاد ثراء البشر ،بعض البشر ،لكن الفقر تعمق
أكثر فأكثر عند الغالبية ،فصارت حياة البشر :إما هروبا ً
من الفقر وأوهامه ،وإما هروبا ً من الثراء وآلمه ،وأصبح
الن قليلون هم الذين يأخذون الحياة ،كأنها رحلة جميلة
متوهجة بالحب والفرح والسلم..
ق نظرة على سطح الكرة الرضية ،وتأمل المناطق أل ِِ
البائسة ،التى نطلق عليها العالم النامى أو العالم الجائع،
هل يحيا النسان حياة إنسانية ،أم أنه سارح فى أوهام
الجنات الزائفة ،وما فيها من متع ولذات من شدة ما
يعانيه من قسوة وحرمان ؟!
92
86
- -
مليين البشر يعيشون السعادة الوهمية من شدة
الفقر والجوع ،ففى الوهم والخيال ينالون ما يسعدهم
وُيدخل الفرح إلى قلوبهم ،ولكن كما أن الماء الذى
يرسم به الفنان على الجدران ل يروى عطشه ،والحلم
التى يشاهدها النائم ل تستطيع إشباعه ،كذلك من يحيا
فى أحلم اليقظة ويسرح فى الجنات الزائفة ،فالوهم ل
ُيشبع الجائع ول يروى العطشان!
ل أظن أن الرض فقيرة حتى يسودها الفقر هكذا،
وتصير قلة ثرية ،ومعظم البشر ليس لهم ما يسد
الرمق ،فالرض ليست فقيرة إنما النسان النانى هو
الذى أفقرها ،لن الرض منذ أن خلقت وحتى الن وهى
تفيض بالخير ورحمها لم يفرغ.
مممممم مممممم مممم ممم ممممم
ممممممم مممممم ممم ممممم ممممممم
مممم مممم ممممم ممممم ممممممممم !
قرأت عن رجل :إنه خسر ستة مليين دولر على
مائدة القمار ،فسألت نفسى :إنسان يخسر مبلغا ً هكذا
كم إذن تكون ثروته ؟!
وسمعت عن نجمة سينمائية :إنها تبذر على ملبسها
فقط ،أكثر من نصف مليون دولر سنويًا ،وأُخرى تملك
عربة فاخرة ثمنها خمسة مليين دولر ؟!
ولكن هذه الرقام لم تثر دهشتى ،بعد أن عرفت أن
ممثلة قد وصل أجرها 12مليون دولر نظير دور
ستمثله فى فيلم واحد ؟!
93
وملكم سوف يأخذ مبلغ قدره 20مليون دولر ،إذا
استطاع أن يحرز بطولة العالم ؟!
وماذا عن لعبى الكرة والتنس والمصارعة ...الذين
يحصلون فى دقائق على مليين الدولرات هذا غير
الشهرة والتصفيق ؟!
مممم مممممم ممم مممممم ممم ممممممم !!
كل إذن اتهاما ً إن مأساة الجوع فــى العــالم ل تشــ ّ
للــه ول الرض بأنهــا افتقــرت ،بــل اتهامـا ً للنســان
الذى أفقرها واستأثر خيراتها ! وُينتظــر مــن المســيحيين
إذا شــاؤوا أن يحققــوا دورهــم الحقيقــى كـــ " ملــح
الرض " و " نور العــالم " )مــت (14 :5أن يكونــوا
قول ً وعمل ً حتى تخف حِدة مأســاة البشــرية ،ويتعمــق
مفهــوم النســانية عنــد الغالبيــة ،لن مفهــوم النســانية
يتعطــل فــى جمهــور البائســين والمقهــورين والجــائعين،
الــذين يعــانون مــن المــرض والجهــل والــذل ..كمــا أن
طاقتهم تتعطل ويُحكم على مواهبهم بالموت البطئ .
ولبــد لكــل مــن يــؤمن أن يــرى فــى إنســانيتهم الــتى
شــوهها البــؤس والجــوع ..تشــويها ً لــوجه الســيد
حد ذاته بهــم عنــدما قــال " :الحــق المسيح الذى و ّ
أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد أُخوتى هــؤلء
الصاغر فبى فعلتم " )مت . (40 :25
ُانظروا إلى العالم اليوم ،ستجدون ثرواته كلها فى
أيدى قلة ،وتملكها أُناس ملكهم الجشع ،وبينما نسمع
الناس فى كل مكان ينادون مطالبين بالعدالة
94
07
- -
الجتماعية ،نرى الغنياء يزدادون غنى والفقراء فقرًا،
المر الذى ينطبق على المم كما ينطبق على الفراد.
ولهذا نجد العالم اليوم قد انقسم إلى أمم قليلة غنية
وغناها أكسبها قوة ،وهذه المم هى ما نُطلق عليها
العالم الول ،وأمم مستورة تكفى بالكاد حاجتها ،وأمم
ُأطلق عليها العالم الثالث أو الجائع ،يموت فيها مليين
البشر كبارا ً وصغارا ً جوعا ً وحرمانًا..
ولست أدرى إن كان القرن القادم سيعرف
أمما ً يُطلق عليها العالم الرابع أو الخامس أو
السادس ..وكم من البشر سيموتون فيها بوباء
الفقر وأنيميا الجوع !!
أية إنسانية هذه التى نعيشها !! وأية كرة أرضية تلك
التى تحملنا !! وكيف نلقى بالمسئولية على السماء
ونقول :إن الله هو الذى وزع الرزاق كما وزع على
البشر الصحة والعقول !!
ل ..ل ..إن ما يحدث ليس حكم الله ،إنما ظلم
النسان لخيه ،وأنانية المم ،وكبرياء النجاح ،وغرور
التقدم ،إنه الطمع الذى وصفه بولس الرسول بـ "
عبادة الوثان " )كو .(5 :3
لن كل من يطلب الثراء وتسيطر عليه فكرة جمع
المال ،وتحصيله بدون هدف ،يكون قد وضع الشياء
مكان الله ،وهو فى الواقع يعبد الشياء ل الله ،وهذه
هى عبادة الوثان فى أدق معانيها.
مممم
95
حكى قداسة البابا شنوده ،عن إنسان كان فى
حياته يجمع مال ً ويكنزه ،دون أن يعرف أحدا ً أين يخبئه،
ثم مرض ولزم الفراش وفى أثناء مرضه لحظوا عليه،
أنه كان يمسك فى حرص بالوسادة التى يضع عليها
رأسه ،وفى ساعة موته كان يحتضن الوسادة ،يحتضنها
فى عنف كأنه يخشى أن يأخذها أحد منه ،فتعجبوا !
وبعد موته فحصوا الوسادة وفتحوها ،فوجدوا داخلها
ُرزمة من الوراق المالية ،هى إله ذلك المسكين ،الله
الذى ظل يعبده حتى الموت!!
" إن جوع الخرين يدين حضارة الذين ل
يجوعون " ،هذه عبارة قالها أحد المدافعين عن العالم
ذى تهافت الثالث لن نهب خيرات العالم النامى ،يُغ ّ
مجتمعات البلد الغنية على البذخ ،ولكن هذا التهافت
المبنى على تجاهل وجود الخرين وحاجاتهم ..ل يمنح
السعادة ،بل يُنشئ أمراض التخمة ويزيد من النحلل
خلقى وإدمان المخدرات والمسكرات ،ويتسبب فى ال ُ
انتشار البطالة ..وهذا ما نراه اليوم واضحا!ً
ربما تنتقدونى لو قلت لكم :إن المال مصدر الثراء إذا
زاد عن حده ،يكون هو السبب المباشر لموت النسان،
وفى أحيان كثيرة يكون سبب فقره وتعاسته !! فكم من
ُأناس امتلكوا اللوف ومع ذلك عاشوا فى فقر مدقع،
لنهم أرادوا أن تكون اللوف مليين ...وفى هذا يقول
سليمان الحكيم " :يوجد من يفرق فيزداد أيضا ً ومن
يمسك أكثر من اللئق وإنما إلى الفقر" )أم .(24 :11
مممم
96
هذا وقد جاء فى الساطير القديمة :إن ملكا ً سأل
ول له كل ما يلمسه ذهبا ً فأجيبأحد اللهة أن يح ّ
سؤاله ،واستحال خبزه ذهبًا ،وماؤه صار هو الخر ذهباً،
وبالفعل صار الملك أغنى إنسان على الرض كلها،
لكنه صار فى نفس الوقت أفقر الفقراء ،لنه لما
اشتهى أن يأكل لم يجد رغيف الخبز ،الذى كان يملكه
در!العبيد وأدنياء البشر! فالملك الذى صار ذهبه ل يق ّ
كاد أن يهلك جوعا ً لو لم يندم على ما فرط منه ،وسأل
اللهة أن تحرمه هذه الميزة التى اشتهاها!
ممممم مممممم مم مممممم ممممم مممم مممممم
مم مممم ممممم ! مممم مم مممم ممم ممممم !
ليس المال أيها الحباء إل ينبوعا ً من الينابيع الجافة
الكثيرة ،التى اخترعها النسان منذ أن سقط للهو
والمسرات ،وكل من يركض نحوه كمن يركض وراء
سراب خادع ،سيجرى ويتعب ثم يعود وهو يحمـل مرارة
الختبار القائل " :باطل الباطيل الكل باطل
وقبض الريح ".
أما خداعه فيستند على عبارة تأمين الحياة ،وها نحن
نتساءل :هل يستطيع المال أن يشترى الصحة ؟ هل
يقدر أن يشترى الحب ؟ هل يمكن أن يمنع عنا الحزن
أو الموت ؟ والفضيلة التى يصفها " سقراط " بأنها
المعين الذى يتدفق منه المال ،هل يجرؤ أحد ويقول إنها
ُتشترى بالمال ؟ نستطيع أن نقول
مم ممممممم مممممم مممم مممممممم م ممممم
97
مممم مممممم ممممممم مممم مممم ممم
مممممم !
أن يسعى النسان ليكون لديه بيتا ً هادئا ً مستقرًا ،وأن
يكون قادرا ً على الوفاء بالتزاماته نحو السرة
والمجتمع ..فهذا واجب مسيحى ،ولكن أن يقّيم كل
الشياء بالمال ،وتصبح محبته للمال ،هى القوة الدافعة
للحياة فهذا شر ،وكل الذين عاشوا بهذا الفكر فشلوا
وعجزوا عن تحقيق السعادة فى حياتهم ،فالمال وإن
كانت تراه العين وتلمسه اليد ،إل أنه عاجز أن يهب
النسان سعادته ،لنه ل يستطيع أن يلمس القلب من
الداخل حيث مركز السلم الحقيقي ..فحياتنا إذا ً
ليست فى امتلء خزائنا ً بالموال ،بل بامتلء
قلوبنا بالسلم الذى يفوق كل عقل ،وهذا السلم
الروحانى ل ُيشترى بالمال !!
98
مممم
جاء فى الدب الفرنسي :إن رجل ً اشتهى أن يصير
غنيًا ،فأفنى حياته فى جمع المال ،وكان كلما زاد ماله
ازداد بخله ،ولهذا أراد أن يزوّج ابنته من رجل غنى
حتى تتسع ثروته ،وزوجته عندما اشتد عليها المرض،
كان يتهرب من استدعاء الطبيب لها توفيرا ً لجره ،وعند
الكل كان يضع الخبز بالعدد حتى ل تتبقى ك ِسر ،أما
ملبسه فما كان يغيرها إن لم تبلَ تمامًا ،فلما اقتربت
ساعة موته ،جمع كل أمواله ومقتنياته من الذهب
والمعادن ال ُخرى ..ووضعها فى خزانة أمامه ،وكان
دائم النظر إليها ليل ً ونهارا ً !
ولكن حدث فى أيامه الخيرة عندما مرض ،كما لو أن
روحه تريد أن تخرج من جسده ولكنها متعلقة بشئ !
فالرجل كان ينظر لمواله بصورة غريبة كأنه يريد أن
يأخذها معه ،فلما استمر الحال عدة أيام استدعوا كاهن
الكنيسة وقصوا عليه قصة الرجل ،فصلى على رأسه
ولما وضع الصليب على فمه ..قّبله وقبض عليه بشدة
تعلقا ً به محاول ً أخذه ،لنه كان من معدن نفيس !!
ربما يظن البعض أننا ضد المال أو نهاجم
الغنياء ،لكننا فى الحقيقة ل نُهاجم إل الستخدام
الخاطئ للمال ،ونقف ضد سلطان وغرور وكبرياء
الغنياء ،فالمال فى حد ذاته ليس جيدا ً أو رديئًا ،خيرا أو
ً
شرا ،ولكن فيه خطورة إذا أحبه النسان ،ألم يقل
معلمنا بولس الرسول " :محبة المال أصل لكل
الشرور إذا ابتغاه قوم ضلوا عن اليمان" )1تي (10 :6
99
لو أن المال استُخدم بطريقة إيجابية لحل مشاكل
كثيرين ،والكتاب المقدس قد ذكر لنا أغنياء كثيرين مثل:
إبراهيم وإسحق ويعقوب وأيوب ..ومع ذكر غناهم ذكر
أيضا ً فضائلهم ومحبتهم لله ،يكفى ما ذكره الوحى عن
أيوب الصديق إنه كان " أبـا ً للفقراء " )أى (16 :29
والذين كفنوا المسيح ألم يكونوا أغنياء !
فالمال ليس شرا ً ولكنه مسئولية ،لنه يُعطى
النسان مكانة وقوة ،والقوة سلح ذو حدين ،لنها قد
تكون قوة فى الخير والشر! بالمال يستطيع إنسان أن
يخدم بأنانية رغباته الجامحة ،وبالمال يستطيع أن
يستجيب بكرم لصراخ جاره المحتاج ،به يستطيع إنسان
أن يسير فى طريق الخطية ،وبه يستطيع آخر أن ينتشل
نفوسا سقطت فى آبار الخطية..
إن فى حياة السيد المسيح أيها الحباء ،أعظم
عزاء لكل فقير على الرض ،لقد أعلن لنا فى حياته
البسيطة ،أن السعادة ل تكمن فى المال ول القصور،
لنه عاش كل أيام حياته لم يكن له بيت يسكن فيه أو
حجر يسند إليه رأسه..إل أنه عاش فرحا ً لنه أحب
الحياة وقبلها دعوة مقدسة ورسالة من الخالق ،فكان
يفرح ليس لنه امتلك أو ربح شيئا ً ،إنما لن الخرين
كانوا يفرحون ،وإذا فقد شيئا ً لم يكن يحزن ،لن حزنه
العظم كان على الساقطين والضالين.
100
لقد عاش السـيد المسح الحياة بعد أن حررها من
آلم الغنى ،فكانت حياته بسيطة ل يشوبها الطمع أو
يرهقها الجشع أو تمزقها النانية ،عاش على الكفاف
شبعانا ً قنوعًا ،وقد رضي بالقليل لنه امتلك غنى
النفس.
ولهذا تمتع بالحياة كأنه يملكها كلها ،فاستنشق الهواء
الصافي بين الحقول ،وقضى وقتا ً فى البساتين يتأمل
جمال منظرها ويتمتع بعبير رائحتها ،وكم جلس تحت
كروم العنب يتأمل فى ذاته الكرمة الحقيقية ،وطالما
جلس على شواطئ صور وصيدا ..تلتقى عيناه بالنجوم
وهى تسبح فى مياه البحر ،وما كان أحب إليه من
الجلوس بين السماء والرض ،على قمم الجبال كأنه
حلقة الوصل بينهما.
مممممم
إن الحياة أيها الحباء تتحول إلى سجن كبير إذا
غّلف المال جدران بيوتنا ،عندئذ يكون المال هو
السلسلة ،التى تربطنا فتحرمنا من الخروج من بيوتنا
والتمتع بجمال الحياة ،خوفا ً من أن يأتي لصوص
ويسرقوا أموالنا..
حياتنا على الرض رغم قصرها ،إل أنها نقطة البداية
للحياة البدية ،والمال ليس هو النبع الذى منه ينطلق
النهر بين الجبال والصخور حيث يصب فى بحر البدية..
إنما القداسة هى النبع الصافى الذى منه تنطلق المياه
ولتكف عن الجريان حتى تصب في بحر البدية
ممممممم ممممممم ممم ممممممم مممم
101
47
- -
ممممم مم ممممم ممممم مم ممم مممممممم
ممممم ممممممم مم مممم ممم مم
ممم مممم
102
ممممم مممممم
ممممممم ممممممم
من مآسي البشرية وجود طبقات ،أسياد وعبيد،
ملوك ورعاع ،أغنياء وفقراء ،أقوياء وضعفاء ..هؤلء
يسكنون القصور ،وأولئك يعيشون فى أكواخ أو قل فى
جحور!
مشهد تراه فى بلد كثيرة ،قصور شامخة ،تطغى
بضخامتها وفخامتها على كل ما هو حولها ،وحول
القصور بيوت حقيرة ،مظلمة ،كئيبة ،أقرب فى شكلها
إلى القبور.
ً
أما القصور فغالبا ما تبعد عن الكواخ ولو قلي ً
ل ،إما
بواسطة ما ُيحيط بها من مزارع وحدائق وأشجار ،أو
بانتصابها فى أطراف المدن والقرى ،كما لو كانت
ل ،أو تهرب خوفا ً من قاع المدينة ،أو رغبةتتوارى خج ً
فى أن تبتعد ،ليخلو لسكانها أن تعيشوا على هواهم أو
كبرياًء ،فطبقة القصور كما يظنون تجرى فى عروقهم
دماء مقدسة ،ل ينبغى أن تنجسها دماء طبقة العبيد،
ولكن ما المنفعة أن يحيا إنسان فى قصر ،ينظر إليه
نظرة السير إلى جدار سجنه السوداء ،منفردا ً
بذاته أو أفكاره انفراد الطائر الجريح عن سربه !
103
عاش فى القصور ملوك وأمراء ،انتقل إليهم التاج
ممن سبقوهم ،لكن نقل التاج إلى رؤوس جديدة ،يحمل
معه كل مظاهر العظمة الكاذبة ،والمجد الباطل،
والكبرياء ،والغطرسة ،فهذه سمات التاج يحملها
إلى من ،كما يحمل أيضا ً صفات المتعة والثراء ...
وكم عاش فى قصور أسـياد وأسياد ،يتلذذون بعشق
النساء الجميلت ،ويقتنون الجواهر والمال ،لم ترهبهم
الكوارث ،ولم تزدهم الحداث إل شهوة على شهوة،
واستبدادا ً على استبداد ،وظلما ً على ظلم ،ومن هم
المظلومون ؟ طبقة الفقراء والعبيد !!
هكذا قالت :ا ُنظروا إلى هذه القصور الفخمة ،فبين
جدرانها المكسوة بالحرير تقطن الخيانة بجانب الرياء !
وتحت سقوفها المطلية بالذهب يُقيم الكذب بقرب
الكبرياء ! تأملوا جيدا ً هذه التحف المعمارية التى تمثل
المجد والسعادة ،هى مغائر يختبئ فيها الذل والشقاء
والملل ..هى قبور مكلسة يتوارى فيها مكر المرأة
الضعيفة ،وراء كحل العينين ومكياج الوجه ،وتنحجب فى
زواياها أنانية الرجل وحيوانيته بلمعان الذهب والفضة،
هى قصور تتشامخ جدرانها افتخارا ً وكبرياًء نحو العلء،
ولو أنها شعرت بأنفاس الغش السائلة عليها ،لتشققت
وتبعثرت وهبطت إلى الحضيض ،إنها قصور ينظر إليها
الفقير بأعين دامعة متمنيا ً أن يلمسها ،ولكنه لو علم بأنه
ل يوجد فى قلوب سكانها ذرة من المحبة الخالصة
لبتسم مستهزئا ً وعاد إلى كوخه مشفقا ً على سكانها!
104
67
- -
ثم أمسكت بيده وقادته إلى جانب النافذة،
وقالتُ:انظر إلي ذلك القصر ذى العمدة الرخامية
والنوافذ البلورية ،ففيه تزوج رجل من إمرأة ثرية ،ولم
تنقضِ أيام حتى مّلها وعاد إلى فساده ،وتركها فى هذا
كير جرة خمر فارغة ،وهى القصر مثلما يترك الس ّ
الن مشغولة بحب فتى جميل تسكب فى يديه عواطف
قلبها ،وتمل جيوبه من ذهب زوجها!
ثم قالت :أ ُنظر ذلك المنزل الكبير ،المزين بالنقوش
والتماثيل ،فهو منزل إمرأة خبيثة لكنها جميلة الوجه،
مات زوجها فورثت أملكه ثم تزوجت رجل ً ضعيف
الجسم والرادة ،لتحتمى باسمه من ألسنة الناس ،وهى
الن بين مريديها كالنحلة ،تمتص من الزهور ما كان حلوا ً
ولذيذًا..
أما فى تلك الدار البديعة تسكن سيدة ،جنى عليها
والداها عندما وضعا عنقها ،تحت نير زيجة فاشلة وهى
الن تذوب كالشمع بحرارة عواطفها المقيدة ،وتضمحل
على مهل كالرائحة الزكية أمام العاصفة ،وتفنى حبا ً
بفتى جميل تشعر به ول تراه ،وتتمنى أن تعانق الموت
لكى تتخلص من حياتها الجامدة ،وتتحرر من عبودية
رجل بخيل فى عواطفه وأمواله...
105
هذه هى القصور التى يرفض كثيرون أن يكونوا
من سكانها ،لكى ل ُيدفنوا أحياء فى قبورهم،
هؤلء نوعية من المتزوجين يقترنون بالجساد ويتنافرون
بالروح ،أنا ل أدينهم بل أُشفق على منهجهم الفاشل فى
الحياة وأسلوبهم العقيم اللهث وراء المتع والشهوات،
ول أكرههم ،بل أكره استسلمهم إلى الرياء والكذب
والخباثة والخيانة...
ً
من المور التى تبدو عجيبة حقا ،إن السياد يتشابهون
فى كل عصر وفى كل أمة ،فحياتهم سباق مع اللذة
والعنف واقتناء الجواهر وعشق النساء وإدمان
المخدرات وإذلل البشر ...ولهذا ل نجد فرقا ً بين
ملوك المدن المقدسة والمدن الفاسدة ،بين
ُأمراء القرى فى سهول أسيا وغابات إفريقيا،
فحياة هيرودس الملك الذى حكم أورشليم مدينة النبياء
تشبه إلى حد ما حياة دقلديانوس ونيرون ..ول تختلف
كثيرا ً عن حياة بوكاسا وعيدي أمين ..إنهم ملوك لهم
فرعنها البؤساء ،ولذاتهم يدفع ثمنها خطاياهم يك ّ
الكادحون من العبيد ،والعجيب أن التاريخ يكتب أسماء
هؤلء وينسى أسماء البؤساء والعبيد !
هلت القصور أصحابها أن ينالوا قسطا ً من ربما أ ّ
التعليم ،فمنهم من درس الدب والتاريخ ،ومنهم من
تعلم المحاماة ،هؤلء غير الذين عشقوا السياسة ،كما
أجادوا عدة لغات ..ولكنهم أجادوا أيضا ً ركوب الخيل
وفنون الحياة كالموسيقى والرقص والحفلت الصاخبة،
فصوت الموسيقى ورنين الكؤوس له معنى خاص عند
أصحاب القصور..
106
أما ساكنوا الكواخ فتعملوا هم أيضًا ،ففى مدرسة
الحياة تلقنوا دروسا ً ألحقتهم بمصاف الحكماء ،قام
بتهذيبهم فيها أساتذة اليام والليالي ،فعلمهم الجوع
السكون والصبر والحتمال ،وأرشدهم قرع العصا إلى
الستقامة ،وانتزعت الرض التى ينامون عليها وحرارة
الشمس التى يكدون تحت لهيبها انتزعت من أنفسهم
كل طمع..
ً
ل ننكر أن هناك تشابها بين الكواخ والقصور ،ولكن
أى تشابه ؟! إنه تشابه الكرامة الضائعة التى فقدها
هدرت كرامة النسان تحت ثقل النسان ،ففى الكواخ ُ
الهموم والحزان ،ففيها ول يزال يرقد الفقر واللم جنبا ً
إلى جنب ،فساكنوا الجحورل يعرفون طعم الفرح إل عند
ميلد طفل ،أو نجاح ابن ،أو زواج إبنة ،ففى مثل هذه
المناسبات فقط يُفرغون كل طاقاتهم ،إذ ل يثقون في
تكرارها أو عودتها من جديد.
هدرت أيضا ً كرامة النسان ،ولكن تحت وفى القصور ُ
ضربات النانية الجامحة الشرهة ،فإنسان القصور يعيش
إلها ً مزيفا ً ،وحين يظن النسان أنه أصبح إلها ً أو شبيها ً
بالله ،يتحول إلى مخلوق كريه ،قبيح ،وكم عرف التاريخ
فأصيبوا بمس من الجنون وانتهت ُأناسا ً أّلهوا أنفسهمُ ،
حياتهم بالموت ،مقتولين أو منتحرين!!
107
87
- -
وما الطاعة العمياء ،وفرض الرأي بالقوة ،ورفض
آراء الخرين ..إل لون من ألوان ال ُلوهية الكاذبة ،فيا
للعجب! ففى الوقت الذى نرى الله قبل من أبينا
إبراهيـم قوله " :أديان الرض كلها ل يصنع عدل ً "
)تك ،(25 :18ومن عبده موسى قوله " :أرجع عن حمو
غضبك ،إندم على الشر" )خر ،(12،14 :32نرى البشر
ل يقبلون من بعضهم نقدا ً أو نصحا ً أو إرشادا ً ! الله
نفسه لم يعامل النسان هكذا مع كونه إلهًا ،بل كثيرا ً ما
دخل مع البشر فى مناقشات وحوارات ،فكيف إذا ً
يطلب البشر لنفسهم هذا الوضع ،أو من أعطاهم هذا
الحق ؟! أليس فى هذا محاولة يسعى البشر من
خللها لتأليه أنفسهم !
لقد أساء البعض فهم الطاعة والبوة الروحية
والقيادة ،وأفضل نصح لهؤلء قول قداسة البابا
شنوده " :أما إذا كان أبوك الروحى يطالبك بطاعة
عمياء بل فهم ،ول يريح ضميرك من جهة إرشاداته أو
أوامره ،فإنه فى هذه الحالة يكون قد تأله ،ويكون أيضا ً
قد احتقر إنسانيتك ولهذا أكرر ما قلته قبل ً :أطيعوا
آباءكم ،ولكن ل تؤلهوا آباءكم ،ول تعبدوهم ،ول تفضلوا
طاعتهم على طاعة الله ".
فإن كان النسان يفقد إنسانيته ويتحطم ،حين يظن
أنه قد صار إلهًا ،أو شبه إله ،أو إمبراطورا ً طاغية ،كذلك
يفقد النسان إنسانيته ،ويتحطم كيانه ،حين يصير عبدا ً
ل ،جسدا ً منهكًا ،روحا ً محطمة ،حين يصبح بل أحلمذلي ً
أوآمال ،ليس له هدف فى الحياة سوى ملء بطنه من
أجل بقائه على قيد الحياة...
108
فى القصور يئن النسان تحت وقع أصوات اللذة ،ونار
الرغبات القاسية ،التى ل ينطفئ لهيبها ،فيها يخلع البشر
أثواب الحياء ،يتعرون من القيم ،يدوسون على كل
القوانينُ ،يقيمون الصلة للهم أعنى الجسد ،يغنون
للزمن ،يعيشون الوهم الكاذب ،يسكرون بأصوات
الطبول ،ويتمايلون كالغصان اللينة عند هبوب النسيم،
عندما يسمعون همس أوتار العود والدفوف ،ومع رنات
الكؤوس تنمو الحركة ،وتعلو الصوات ،وتتوارى الرزانة،
وتلتهب النفوس ،وتضطرب القلوب ،ويصبح ذلك القصر
بكل ما فيه ،كقيثارة مقطعة الوتار فى يد
شيطان غير منظور يضرب عليها بعنف ،ليوّلد
نغمة شاذة تُثير القلق فى النفوس .
وكم من المؤامرات حدثت فى القصور ،وكم تصارع
البناء من أجل اعتلء العروش ،فعاشوا حياتهم قانعين
بتلك اللذة الوحشية – لذة القتل وسفك الدماء – حتى
يرى الناس جباههم اللمعة يتلل فوقها تاج المُلك
المرصع بالذهب والجواهر ،ففى القصور ذهب وفضة،
تيجان وصولجانات تستحق المنافسة ،وفيها أوامر
وسيوف مسلطة نحو العبيد ،ويا لهم من عبيد ،يعدون
لسيادهم كل وسائل الترفيه ،يناولونهم بأيديهم كؤوس
الخمور ،ويطفئون لهم النوار عندما ُيمارسون الشرور،
وكم جلسوا تحت أقدام أسيادهم ل يتحدثون حتى
يحدثهم مولهم ول يرفعون أنظارهم حتى يناديهم .
109
ولكن من هم هؤلء العبيد ؟ أليسوا هم الذين بنوا
القصور!! نعم لقد عاش أصحاب الكواخ ول زالوا
يعيشون عبيدا ً لصحاب القصور ،يستنزفون دماءهم
ويأكلون لحومهم ،عرقا ً ودموعا ً ودماءً ..تعبا ً وآلما ً
وشقاءً ..دفعها هؤلء العبيد ليبنوا لسيادهم القصور،
بنوها تحت وقع السياط ،وما أبشع فن الجلد الذى عرفه
الرومان وعلموه لحكام المدن التى احتلوها ! ل أظن
ل ،وإنما لقمة تمنع الموت من أنهم نالوا أجرا ً عاد ً
القضاء على هذه الكائنات ،ولعل عار تسخير البشر
واستغللهم لم يزل يلطخ الجبين بالخزى ،حتى فى
حضارة النور ولكنه يتخذ ثوبا ً غير الثوب وصورة غير
الصورة ،فما الفرق بين من يُقيم قصرا ً بل أجر وبين من
يقيمه بأجر ل ُيذكر؟! بل لعل سخرة عصرنا أشد إيلما ً
ومرارة ،إذ تلفها كلمات العدل والمساواة ،فترن
ً
الكلمات فى آذان عبيد العصر ،كما لو كانت لحنا من
ألحان الوهم أو أغنية من أغاني الرياء!
ومما يُلفت النظر هو أن القصور بُنيت ول زالت تُبني،
وليس على واجهتها أى نقش من أقوال الله أو رسوم
النبياء والملئكة ..إنما زُينت بالمناظر الطبيعية التى
عشق سكانها لذتها ،أما التماثيل فقد انتصبت فى
أروقتها ومداخلها ،تماثيل النساء والطيور والحيوانات،
شيدت باسم وما هذا إل إعلن واضح :إن غالبية القصور ُ
الرض والجسد ،وليس باسم السماء والروح !
110
08
- -
ل ننكر أن قصورا ً كثيرة شابهت المعابد ،سواء فى
منظرها أو فخامتها ،فمن الخارج ل نستطيع أن نميز بين
هذا وذاك ،أما الداخل فشتان بين جدران ترن بينها
أصداء الناشيد الدينية ،وجدران ترن بينها أصوات
الموسيقى الصاخبة والغاني الخليعة وقرع الكؤوس ..
فى المعابد نري البخور وقد عّبق كل أركانها ،أرواح
البشر تذوب فيها حبا ً فى خالقها ،فيها يشرب النسان
من خمر السكينة والسلم ،فالصلوات هى سمة المعابد
الولى ،أما فى القصور فنرى دخان الشهوات وقد مل
كل أركانها برائحتة النجسة ،وأرواح البشر قد انتشت
بالكلمات البذيئة ،وأجسادهم مطروحة على الرض وقد
أسكرها خمر الكروم والمشروبات الدنيئة ..فما المنفعة
أن يقضى إنسانا ً حياته متمرغا ً فى الشهوات ؟ ألم نقل:
إن الشهوة ل تشبع ول ُتشبع ،آلما ً تسبقها وآلما ً
تلحقها !
111
فى أعظم القصور كان يسكن أمير الحكمة،
سليمان بن داود أعظم الملوك ،وكانت تسكن معه
أميرة المراء إبنة فرعون ،التى ُزفت إليه من مصر إلى
فلسطين فى موكب ليس له مثيل ،فقد كان يسير من
حولهما ُألوف العبيدُ ،يغنون ويرقصون ويُضيئون الشموع
ويذبحون العجول ..لكن يبدو أن القصر كان أعظم
وأكبر من أن تسكنه إمرأة واحدة ،حتى لو كانت إبنة
فرعون ،فسعى سليمان المتعطش إلى اللذات إلى
إتخاذ نساء غريبات ،تزوجهن رغم تحذير السماء ،فعاش
يتمرغ فى لذات ونعيم القصور ،ولم تطفئ نار شهوته
صلة ولم يطهر أعماقه حوار إلهي ،ولم يكسر حِدة
نزواته منظر الهيكل الشامخ الذى بناه !
مممم مممممم ممم مممم ممم ممم مممم ممممم:م
ممم
مممم مممممم ممم مممممم
ممممم ممم م
مممممم!!
112
ومضت آلف السنين على موت الملك العظيم ،إل أن
نهر التاريخ ل يتجمد ،بل سيظل هكذا منطلقا ً ل تعطله
جسامة الحداث ول يعيق اندفاعه عقبات ،فالزمن
يكنس أمامه الملوك شأنهم شأن الصعاليك ،مرت
القرون تِلو القرون والوضع كما هو القصر والكوخ
قائمان ،وأيضا ً الظلم والبؤس قائمان ..وعلى الرغم من
أن الشريعة قد ُأعطيت للنسان لتقل الفوارق بين
الناس إل أن البشر لزالوا طبقات ،أغنياء وفقراء،
أسيادا ً وعبيدًا ،كأنه سر من أسرار الوجود ُأغلق
عليه باب الفهم ! فمنذ آدم حتى الن لم يزل تيار
البؤس والحرمان ،وموكب المعذبين والجائعين متصل ً،
لزالت الحياة كما هى :قلة حكمت الكثرة وكثرة
شقيت لتنعم القلة !!
لكن على الرغم من كل ذلك ،إل أننى أرى المستقبل
يحمل فى حناياه رؤى مبهجة ،وعلى الرغم الظلم
الكثيف الذى يحيط به ،وبرغم شراسة الشر وقبح
الجوع ،فإن نهر الدم والدموع سيجف يومًا ،لن تتحول
الرض إلى فردوس أو أن الحياة ستخلو من المآسى،
فإن أعظم المآسى ربما يكون فكر مريض تمّلك
النسان ،والنسان لن يُمحى ،بل سيظل هكذا بكل ما
فيه ،من نور وظلم ،ولكن ستنمو النسانية فى مجالت
العلقات بين البشر ،ستغزو أنوار الحرية أكثر وأكثر
المناطق المظلمة المقهورة ،ستنبثق أشعة الثقافة،
سيتخطى البشر حواجر التفرقة ستجف وطأة الظلم..
113
هذه رؤيتى وإن بدت مثالية أو بعيدة التحقيق ،غير
أن النظرة إلى الوراء ،إلى أعماق الزمن السحيق،
تكشف لنا عما حققته إنسانيتنا من تقدم ،فأين أسواق
؟! أينالجوارى والرقيق ..التى كان النسان فيها ُيباع
صبوا أنفسهم آلهة ؟! أين عصور عصور الحكام الذين ن ّ
الخرافات والساطير بعد انتشار المعرفة فى معظم
المجتمعات ؟!
مممم ممم مممممم مم مممم ممم ممممممم !
ممم مممم ممم مم مممم مممم مم
ممممممم !
114
28
- -
الباب الثالث
مركـــبة فرعـــون
الفصل الول
مممممم ممممممم
الفصل الثاني
مممم ممممممممم
الفصل الثالث
ممممم ممممممممد
مممممم ممممممم
115
116
ممممم ممممم
ممممممم ممممممممم
ترجـع كلمة اسـتبداد ديسبوتزم Despotism
والمسـتبد ديسبوت ،Despotإلى الكلمة اليونانية
لسرة أو ديسبوتيس Despotesالتى تعنى :رب ا ُ
لسري، سيد المنزل ،ثم خرجت الكلمة من النظام ا ُ
وصارت تُطلق على نمط من أنماط الحكم الملكي،
الذي تكون فيه سلطة الملك على رعاياه ،ممثلة
لسلطة الب على أبنائه في ا ُ
لسرة.
لسرة التي لكن هذا الخلط بين وظيفة الب في ا ُ
هي مفهوم أخلقي ،ووظيفة الملك التي هي مركز
سياسي ،يؤدي بالطبع إلى الستبداد ..ولهذا يستخدمه
كثيرين خاصة في الدول النامية ،غير المتحضرة،
للسيطرة على البسطاء ،أو بمعنى أدق للضحك على
السذج وغيرهم من الجهلء والضعفاء ..مدّعين أنهم آباء
للجميع !! وهذا يعني من وجهة نظرهم:
إن من حقهم أن يحكموا حكما ً استبداديا ،لن الب
ً
ل فوق الجميع ،وبالتالي ل تجوز معارضته كما يرون عا ٍٍ
أو مناقشة أمره ! فقراره مطاع بل أدنى معارضة،
واحترامه واجب مفروض على الجميع ! وهذا يعني :إن
أى انتقاد لمن يظن أنه أب للجميع ُيعد عيبا ً فهناك إذن
كبت للرأي ! والسؤال هنا :كيف سيتحقق التقدم ،إن لم
نقل هذا خطأ وذاك صواب ،هذا يجوز وذاك ل يجوز!
117
48
- -
يجب أن نعرف أن سلطة الب تشترط العناية
بأولده ،والهتمام بهم ،وإل فقد سلطانه
عليهم ،فهي إذن تقترن بإطعامهم وتربيتهم ورعايتهم..
فإذا وصلوا إلى سن الرشد انتهت سلطته عليهم ،وهكذا
يبدأ البن في الستقلل ليبدأ حياته الجديدة ،غير أن هذا
الستقلل ل يعفي البن من إكرام والده ،المر الذي
تحُتمه الخلق وتفرضه الديان ،ففي الوصية الخامسة
من الوصايا العشر نجد أمرا ً صريحا ً يقول ":أكرم أباك
وأمك لكي تطول أيامك على الرض التي
ُيعطيك الرب إلهك " )خر .(12 :20
فإن كان المستبد يرغب أن تكون أوامره مطاعة،
مثل طاعة البن لقرارات أبيه ،عليه أن يقوم برعاية
شعبه كما يرعى الب عائلته ،ويجاهد ويسهر من أجل
سلمها ،ول ينظر إلى امتيازات المركز ،فالسلطة إن
كانت لها بعض المتيازات ،فلها أيضا ً كثير من
اللتزامات ،فالبوة الحقيقية تتطلب الرعاية ،والرعاية
هي الخرى تتطلب البذل من أجل الخرين ،ولدينا
السيد المسيح الذي كان يجول في كل مكان يصنع
خيرًا ،أعظم مثال في القيادة المخلصة ،والرعاية
الصادقة ،والمحبة الصافية ،الخالية من الغش ،فقد
وصل به الحب أن مات لكي تحيا الخليقة المائتة
بموته!!
لقد ظهر مصطلح الستبداد لول مرة في )ق (5
قبل الميلد ،وكان الفيلسوف " أرسـطو " هو الذي
طوره ،وقابل بينه وبين الطغيـان ،وقال " :إنهماّ
نوعان من الحكم يعاملن رعاياهم على أنهم
118
عبيد " !! ومع ذلك ظل مصطلح الطغيان طوال
العصور الوسطى ،الكثر استخداما ً والوسع انتشاراً،
لوصف الحاكم المستبد أو المغتصب الشرير ..ثم بدأ
مصطلح الستبداد يظهر ،نتيجة لترجمات مؤلفات
أرسطو ول سيما كتاب السياسة.
وكان " مكيافيللي " في ) ق (16هو أول من قارن
بين الستبداد والطغيان ،عندما قابل بين النظام الملكي
في أوربا ،والطغيان الشرقي في الدولة العثمانية ،في
كتابه المشهور" المير".
لكن ظهور مصطلح الستبداد في )ق (18يرجع إلى
" مونتسيكيو" المفكر الفرنسي ،الذي جعل الستبداد
أحد الشكال الثلثة للحكم وهي :الجمهوري،
الملكي ،الستبدادي ،وعلى الرغم من أنه أدان
الستعباد بكل أشكاله ،إل أنه انتهى إلى أن الستبداد
نظام طبيعي بالنسبة للشرق! ولكنه غريب وخطر على
الغرب ! وهي نفسها فكرة أرسطو الذي قسم العالم
قسمين :شرق وغرب ،للشرق أنظمة خاصة ل تصلح
إل له ،وهي بطبيعتها استبدادية ،يُعامل فيها الحاكم
رعاياه كالحيوانات أوالعبيد !...وللغرب أنظمة سياسية
خاصة ،ترفض تطبيق الستبداد لنه يهدد النظام الملكي.
ومع التقدم ظهر مفكرون كثيرون ،أخذوا ينادون بأن
الستبداد والطغيان نظامان باليان ،ل يجوز تطبيقهما
إل على النظم السياسية القديمة ،أما المجتمع الجديد
الذي يدعو إلى الديمقراطية والمساواة والحرية ،فل
يمكن بأي حال من الحوال أن يقبل مثل هذه النظمة،
أو يتسلط عليه دكتاتور أو مستبد ..لن الشعب الذي
119
68
- -
يتسلط عليه مستبد ،ل يمكن أن يكون حرا ً بأي شكل
من الشكال ،إنما هو مستعبد لقصى درجة ،ففي ظل
النظام الستبدادي ،ل رأي أو مشورة أو حوار ..وبالتالي
ل تقدم أو نمو أو ازدهار ..إنما يعم القحط والذل ..سائر
البلد ولكننا نتساءل:
هل الشعب هو وحده الذي يعيش في ذل واستعباد ؟
ل تتعجبوا إن قلت لكم إنه في ظل الستبداد يكون
المستبد ،الذي يأمر وينهي وينهب ويقتل ويتنعم ويلهو،
أكبر المستعبدين لخطر المستبدين أعني
الخطية! لنه بانغماسه في الملذات الفاسدة
والشهوات الفانية ،وتلوث يديه بدماء البرياء ..قد صار
عبدا ً للخطية ،والكتاب المقدس يقول " :إن من يعمل
الخطية هو عبد للخطية " )يو (34 :8وهل هناك أقسى
من عبودية الخطية ؟!
يقول القديس ُأغسطينوس
" يا له من استعباد مذل هو استعباد الخطية ،فإن
معظم الذين يتألمون من استبداد أسياد ظالمين ،يتمنون
لو يباعون ليغيروا على القل مواليهم ،ولكن ماذا
يستطيع أن يعمل عبد الخطية ؟ وبمن يستجير؟ وممن
ُيباع ؟ وأخيرا ً نرى العبد وقد مل مطلب سيده ،يرغب
أن يتخلص منه ،ولكن إلى أين يهرب عبد الخطية ؟! إن
هرب جّر وراءه الخطية " !
والحق إن النفس المستبدة تحيا دائما ً في حالة
عبودية ،عبودية الشر ،الذى من ثماره الخوف والشك
والقلق وعذاب الضمير ..فهي تتوقع على الدوام أن
120
تموت مقتولة ،ولهذا ل يثق المستبدون في أحد حتى
أقرب الناس إليهم ،كما أنهم يعيشون في تذمر وشكوى
وآلم ل حصر لها ،وهذا كله ل يقارن بآلم الشعور
بالنقص تجاه المثقفين وأصحاب المواهب السامية!!
هل سألت نفسك مرة :لماذا يذل المستبدون
المتعلمين ويحاولون التخلص من أصحاب
المواهب ..؟! أل تعلم أن جوهر القضية يكمن في
قلقهم وشعورهم بالنقص تجاه هؤلء المثقفين ! يجب
أن نعرف أن النفس المستبدة هي نفس فقيرة ،كلما
تنظر داخلها ل تجد سوى فراغ ،فتبحث خارجها لتقتني
ما يمل فراغها ،فماذا تقتني ؟! تتصيد أخطاء الخرين
أصحاب النفوس الكريمة والمواهب السامية ،لكي
تخضعهم لسلطانها ،وتجعلهم تحت قبضتها ،فمثل هذا
السلوك يعطيها إحساسا ً بأنها أقوى وأفضل منهم!!
إذن فالمستبد هو عبد بالمعنى الصــحيح ،بــل هــو
شخص قد بلغ أقصى درجات العبودية ،طالما أن دوافعــه
الحيوانية ،هي التي تســيطر عليــه وتــدفعه إلــى ارتكــاب
الفحشاء ..أما شروره التي يرتكبها فهي التي تجعله غير
قادر على التحكم في نفسه ،فيصبح أكثر النــاس بؤسـا ً ،
وباســتمراره فــي الحيــاة تــزداد مســاوئه ،فيصــير أشــهر
الناس حسدا ً وغدرا ً وفجـورا ً وظلمًا… وهذه كلها خطايــا
تجعله أشقى الناس وأتعسهم! وها نحن نتســـاءل :كيف
يأخــذ إنســان علــى عــاتقه حكــم الخريــن وهــو
نفســه عـاجز عــن حكـم نفســه ! كيـف لمريــض
عاجز عن مغادرة فراشه يــذهب ليفتقــد النــاس
ويحل مشاكلهم ! أليس هذا تخلفا ً ! ألم يقل سليمان
121
الحكيم " :مالك روحه خير ممن يأخــذ مدينــة " )أم
!! (32 :16
لعـــل أبـــرز هـــذه الشخصـــيات فـــي الكتـــاب
المقــدس :هـو فرعــون ملــك مصـر ،الـذي صـار
اسمه يُطلــق كلقــب كراهيــة علــى المســتبدين،
فما هي قصــته ؟ كــان فرعــون ملك ـًا ،لكنــه مســتبد،
ولذلك أذل شــعب إســرائيل واســتعبدهم أشــد اســتعباد!
ولنه كان شريرا ً " أسلمه الله إلى شــهوات قلبــه"
)رو (24 :1فتركه لقساوة قلبه حتى إنه لم ينثنِ ،ولم
يلن عن عناده رغم كل مــا حــل بــه مــن ضــربات ،فكلنــا
نعرف الضربات العشر ،التي أصــابته وكــل شــعبه عقابـا ً
على خطاياه وقســاوة قلبــه )خــر (7فلمــا جــاء الــوقت
المحدد من قبل الله لخروج شعب إســرائيل مــن مصــر،
شــعر فرعــون أن مئات اللــوف الــذين يســتعبدهم فــي
طريقهم للحرية والخــروج مــن ســجن العبوديــة ،فماذا
ل يجري وراءهم ومعه ستمائة مركبــة ليلحــق فعل ؟ ظ ّ
بهم ،فإلى أى مكان قادته مركباته وفرسانه ؟ إلى عمق
البحر الحمر ليمت هو وجنوده وفرسانه عقابا ً لهم علــى
قسوتهم وإذللهم للبشر )خر ! (14
ممممم مم ممممم مم ممم ممممم ممممم ممممم
مممم مم
ممممم م مممم ممم مممم ممممم ممممممم
ممممممم مممم
مممممم مممممم ممممممممم ممم ممم مممم
ممممم ممممممممم
122
88
- -
مممم مممم مممممم ممم ممم ممممم ممم
ممممم ممممممم !
ولعل أسوء ما كان في فرعون ،ليس اســتبداده ببنــي
إسرائيل فقط ،بــل محــاولته تأليه نفســه ! الــتي هــي
صورة من صور الستبداد ،بل أسوأ صوره ! فهــل هنــاك
أشد ظلما ً وقسـوة مـن إجبـار البشـرعلى تــرك خـالقهم
ليعبــدوا إنســانا ً ضــعيفا ً مثلهــم مصــيره الفنــاء ! فمــن
المعروف أن عبادة الحاكم مصــدرها الشــرق ،فقــد
انتشــرت فــي مصــر وبابــل وإيــران ،حــتى إن الســكندر
الكبر عندما جاء إلى مصــر عبــدوه كــإله ،ولهــذا بعــد أن
غزا الشرق طلب من اليونانيين أن يسجدوا له كما سجد
ج ـرح فــىله الفرس ! ومن العجيب أن السكندر عندما ُ
يده تعجب أن دمه ينزف مثل باقى البشــر! ومــن
هنــا وبمــرور الزمــن أصــبح النــاس يعتقــدون أن طبيعــة
الملوك غير طبيعتهم! هكذا تصور القــدماء الحــاكم كــأنه
من طبيعة إلهية! أو أيــة طبيعــة ُأخرىولكنهــا ليســت بــأي
شكل من الشكال طبيعة بشرية! فهو علــى الرض إمــا
إله أو ابن إلــه ! أو يحكــم بتفــويض مباشــر مــن
أحد اللهة ! فهــو إذن يســمو علــى الطبيعــة البشــرية،
وبالتــالي تســمو إرادتــه علــى إرادة الشــعب ! ول بــديل
لرضائه إل بالطاعة المطلقة ،أعنى" الطاعة العميــاء
" وهــي بحــق عميــاء ل تــرى ،لنهــا لــو كــانت تــرى
لستطاعت أن تميز بين البشــر الضــعفاء واللــه الــذي ل
يضعف أو يموت !!
هــا هــو أفلطــون الفيلســوف يحــاول فــي كتــاب
المشـــهور " الجمهوريــة " ومـــن خلل ُأســـطورة أو
123
ُأكذوبة كما يسميها ! إقنــاع الحكــام بــأنهم ينتمــون
لطبقة أســمى مــن طبقــة الشــعب ،وأنهــم ولــدوا
ليكونوا حكامًا ،والهم من ذلك أن يقنع باقي المــواطنين
بأنهم ولدوا ليكونوا محكومين ،وأن هذه الفروق الطبقية
جــزء مــن نظام إلهــي ،وبشــيء مــن الخجــل يــتراجع
أفلطــون لخــوفه مــن عــدم تصــديق ُأكــذوبته ،فيعــرض
سقراط ُأسطورته البارعة فيقــول :ســأقول لهــم إنكــم
جميعا ً ُأخوة ،غير أن الله الذي خلقكم ،قــد مــزج تركيــب
أولئك الذين يستطيعون الحكم منكم بالذهب ،لهــذا كــان
هــؤلء أنفســكم ،ثــم مــزج تركيــب الحــراس بالفضــة،
وتركيب الفلحين والصناع بالحديــد والنحــاس ..إن هنــاك
نبوة تقول:
مم مممممم مممم مم ممممم مممممم ممممممم!!
هذه الفكرة لعبت دورا ً هاما ً في التاريخ ،وقامت عليها
السلطة في معظم الحضارات القديمة ! فالحــاكم يتخــذ
لنفســه صــفات قدســية يشــارك بهــا اللــه ! وهــي نفــس
الصــفات الــتي يتخــذها المســتبدون ليُرهبــوا النــاس،
ويجبروهم على الخضوع ! ولكن هذه الصفات قــد تكــون
واضــحة يعلنهــا الحــاكم ،وقــد تكــون مســتترة ،وإن كــان
مضمونها ظاهرا ً من خلل سلوكه فهو على أقل تقــدير:
يتعــالى علــى الجميــع ،يعتــد برأيــه ،ل ينصــت ول يســتمع
لمشورة أحد ،أوامره ل تُناقش ،يرغــب أن يُطــاع طاعــة
عمياء...
حـب أحــدًا ،وهــل ومما ل شك فيه أن المســتبد ل يُ ِ
يمكن لمن يكره نفسه أن يحب الخرين ؟! ولعل
124
09- -
حــب أحــدا ً ل
أعظم دليل على هذا هــو قســوته ،فالــذي يُ ِ
يقسو عليه أو يستعبده..
ويتحدث أرســطو عــن هــذه الســمة فيؤكــد ،إن مــن ل
ُيحِب ذاته ل يمكن له أن يُحِب أو يُصادق أحدا ً ،فالشــرير
ل يجد في نفســه أى شـيء صـالح ،يمكــن أن يــثير لـديه
عاطفة الصداقة أو المحبة ! أما البار الــذي تــدرب علــى
حــب ،ل القربــاء فقــط بــل حب نفسه فإنه يعرف كيف ي ُ ِ
والعــداء أيضــا ً ! ويبقــى الســؤال :مــاهو المفهــوم
الحقيقــي لحــب الــذات ؟ هــل تلبيــة شــهواتها
وتحقيق رغباتها حتى وإن كانت غير صالحة؟!
إن حب الذات الحقيقي هو إشباع النفس بالفضيلة ،أو
بمعنــى آخـر هــو إشــباع الجــانب الروحــي فـى النسـان،
وليس الجسدي كما يعتقد البعض ! وكل من يُحِب نفسه
بهذا المفهومُ ،يقدم على أعمال المحبة بكل فــرح ،وهــو
بــذلك يقــود نفســه إلــى الســتقرار النفســي والســلم
الروحي..
ويرى أرسطو إن النسان المُحِِب لذاته هو من يخضــع
لعقله ويضبط نفسه ،ويتحكم فــي أهــوائه ،أما المحبــة
الخــــاطئة للنفــــس فهــــي تلبيــــة شــــهواتها
والسـتجابة لنـداء لـذاتها ،وهــذا المفهــوم الخــاطئ
رفضه السيد المسيح عندما قــال " :مــن يُحِـب نفســه
ُيهلكها ومن يُبغض نفســه فــي هــذا العــالم يحفظهــا إلــى
حياة أبدية " )يو (25 :12فماذا كان يقصد بهلك النفس
؟ أعتقد مقاومة رغباتها وقمع شهواتها التي تفصلها عــن
خالقها.
125
مم ممم ممم ممممممم مممممممم ممممم ممممم
ممممممم
مممم م ممم ممم مم ممممم مممممم ممم مم
ممم مم م
مممم ممممم مم مممم مممممم ممممممم مممم م
ممممممم م!
يجــــب أول ً أن نفــــرق بيــــن الشــــخص الســـادي
والبلطجي ،الذي يفرض سيطرته على الناس من أجل
ابتزازهم ،فهدف البلطجي هو البتزاز ،والعنف ما هــو إل
وســيلة لتخويــف النــاس حــتى يــدفعوا لــه ،أى أن هــدفه
النهــائي هــو الحصــول علــى المــال والممتلكــات ..أمــا
السـادي فـالمر مختلــف فهــو يحتــاج نفســيا ً إلـى علقـة
يكــون هــو فيهــا الجــانب القــوى ،المســيطر ،المــر وأن
يكون الطرف الخر هو الضعيف الذليل ،الخاضــع ..وهــذا
لن يتحقق إل بالتهديد والعتداء على الخريــن ..فالهــدف
الساسي للسـادي ،هـو تحقيــق سـيطرته المطلقـة بأيــة
وسيلة حتى يخضع له الخرون ،ولهذا يحرص في علقتــه
أن يكــون النــاس فــي حاجــة مســتمرة لــه ،كــأن يكــون
مصــدر رزقهــم ،أو يعــرف أشــياء عنهــم ..لــو أعلنهــا
تفضحهم ،وتقضي عليهم وعلى سمعتهم !
وهــو دائم ـا ً يعامــل بقسوة متناهيــة مــن يقعــون
تحت سلطانه ،ويتحين الفرصة لهانتهم والتقليــل مــن
شأنهم ،ولهذا كثيرا ً ما يتعمد إهانة شــخص ضــعيف أمــام
مجموعة من الناس ،ويكون متأكدا ً أن هذا الشــخص لــن
يتمكن من الدفاع عن نفسه ،لعجزه أو لحتياجه الشــديد
إليه ! فالطبيب إذا كان ساديا ً فإنه يتلــذذ بالقســوة علــى
126
مريضه ! وكذلك يفعل المدرس مع تلميذه ،والسجان مع
سجينه !..إنها القسوة المتعمدة واليذاء بدون وجه حــق،
لنسان فى موقف ضعف أو عجز أو احتياج !
ويتلـــذذ الســـادى بمشـــاهدة الخريـــن وهـــم
يتألمون ،سواء جسديا ً أو معنويا ً ! فهــذا يحقــق لــه
قــدرا ً مــن المتعــة والراحــة النفســية بمــا فــى ذلــك ألــم
الحيوانات ،فهو ينتشى إذا رأى طيرا ً ُيذبح أو وحشا ً ُيقتل
! كما أنه يلجأ الى الكــذب ونشــر الشــاعات ..مــن أجــل
إيذاء الناس واليقاع بهم ! وهــو يطلــب مــن الخريــن أن
يطيعوه طاعة عمياء ،ووسيلته فى هذا إرهابهم ،ويرفض
أية معارضة أو رأى مخــالف ،ويستشــيط غضــبا ً إلــى حــد
العنف غير المحدود للطاحة بمن يختلف معهم.
كما أنه يتلذذ بتقييد حريــة الخريــن والتحكــم المطلــق
فى كل تحركاتهم بــل ومصــائرهم ،ســواء كــان الخــرون
أبنــاءه ،أو زوجتــه ،أو المرؤوســين الــذين يعملــون تحــت
إدارته ،ويتلذذ بالكثر وهو يراهم يتألمون لحرمــانهم مــن
حقوقهم ،ويتسرب السرور إلى قلبه حين يسمع بمعانات
الناس من ظلم ،أو مجاعة ..أمــا قســوة وعــداوة وعنــف
الشخص السادى ،فهى تتشكل حسب درجــة تعلمــه
وثقافته ونشأته ،فالستاذ الجامعى ل يبطش بتلميذه
عن طريق الضرب ،كما يفعل الحرفيين بصبيانهم ،ولكن
بــأن يجعــل الدراســة صــعبة ،وتكــون سـعادته فــى رهبــة
التلميذ منه ،ونظرات الخوف فى عيونهم ،والبــؤس فــى
وجــوههم وهــم يرســبون فــى المتحانــات! والمــدير ل
يستطيع هو الخر ضرب مــوظفيه ،ولكنــه يجعلهــم تحــت
التهديد المستمر بفقدان الوظيفة ،أو بكتابة تقرير ســيئ
127
29
- -
يؤدى الى عقابهم أو فصلهم من العمل !..وهو بهــذا ُيعــد
مصــدر متــاعب للخريــن ،علــى الرغــم مــن أن داخلــه
ضعيف ،خائف ،فاشل ،عاجز ..ولكن ماذا نقول لو تــولى
مثل هذا سلطة ؟! إن مبدأ السادي يتلخص في التــي
:
+طالما استطعت أن أضرب فلن
يضربني أحد.
+طالما جعلتك تفشل في الحياة فلن
أفشل أنا .
+طالما فصلتك من عملك فلن أفقد
عملي أنا .
128
ممممم مممممم
مممممم مممممممممم
ما من أحد قرأ في تاريخ البشرية ،إل ووجد صفحات
كثيرة مليئة بالظلم ،يصل بعضها إلى حد عدم
التصديق ،فصفحات تاريخ البشر مكتوبة بدماء الذل
والعبودية ،دماء الستبداد والطغيان والدكتاتورية ،فمنذ
آلف السنين ،بل منذ أن وجد النسان على الرض وهو
يعاني من ظلم أخيه ! وقد ظهرت هذه الصورة البشعة
في بداية تكوين الجنس البشري ،عندما قام قايين
على أخيه البار هابيل وقتله غـدرا ً وحسدا ً )تك (8 :4
ومنذ ذلك الوقت أصبحت حياة البشر ،كما لو كانت
سلسلة حلقاتها من الكبت واللم والذل والعبودية...
منذ القدم والنسان يعاني ،ومنذ القدم وهو يقاوم
قدر المستطاع المستبدين ،محاول ً النتصار لكي تصبح
لحياته معنى ولوجوده هدف ،حتى يتعبد ،يقرأ ،يكتب،
يقول كلمة الحق بل خوف أو تردد ..فالحياة ل تستقيم
في عبد ذليل مكبوت ،جسده منهك على الدوام ،وعقله
غير قادر أن يميز الخطأ من الصواب !
وعلى الرغم من أن النبياء قد جاءوا يحملون رسالة،
تدعوا إلى المحبة والعطاء وبذل النفس ..لقد جالوا في
الرض مبشرين ،ليزرعوا العدل والمساواة والحرية ،بين
الناس لكن كثيرين أهملوا البذار المقدسة ولكن هل
ماتت الكلمة ؟ بالطبع ل ،بل مات الخطاة وظلت كلمة
الله حية ،إلى أن جاء ملء الزمان وخرج الزارع
129
49
- -
الحقيقي رب المجد يسوع ،تاركا ً مجده ،آخذا ً صورة
عبد ،ليلقي بذاره ،أى تعاليمه المقدسة على قلوب
البشر من جديد ،لعلهم يرونها بماء التوبة ويسمدونها
بأعمالهم الحسنة ،لتأتي بثمار ..ولكن كما حدث مع
النبياء ،هكذا أيضا ً حدث مع المسيح ،قلة قبلوا الكلمة،
وكثرة هم من رفضوها ..ليبقَ الظلم رغم كل ما عمله
الله قائمًا ،كأنه سر من أسرار الوجود قد ُأغلق عليه
باب الفهم والتفسير !! ول زالت الدكتاتورية قائمة،
والستبداد كما هو موجود ،وإن اختلفت الشكال
والساليب ،وإل فلماذا انتشرت أمراض العصر :كالخوف
والكبت والقلق ...بين المليين ؟! أليس لنهم غير
قادرين على النقد والمطالبة بحقوقهم ! أليس لنهم
خائفون بل مرتعبون ،من قسوة وبطش وظلم أسياد
الرض عاجزون التعبير عن أنفسهم !!
نعترف بأن الصفحات الدامية ،القائمة على القسوة
والعنف والنهب ..في تاريخ النسان ،أكثر من الصفحات
المشرقة ،القائمة على العدل والمساوة والحرية..
وليزال النسان حتى يومنا هذا يكافح ،حتى يتخلص من
الظلم الذي ينشر ظلله في شتى بقاع الرض ،ويمل
القلب النساني بالحزان في كل مكان ،ولكن كلمة حق
يجب أن نقولها من أجل العدل الذي نتحدث عنه أل
وهي :
إن كان العالم كله قد ساده الستبداد في فترة من
الفترات ،إل أن نصيب الشرق من الستبداد ،كـان
أكـبر وأطول من أية بقعة ُأخرى على الرض ،حتى
أصبحت لفظتا الشرق والستبداد ،متجاورتين في
130
معظم الكتب التي تناولت موضوع الستبداد،
وقد أكد هذا أرسطو عندما وصف الشرقيين بأنهم
ولدوا بطبيعتهم عبيدا ً ،وها هو " هيجل "
الفيلسوف اللماني ،يصف الصينين بأنهم قد
خلقوا ليجروا عربة المبراطور! ُ
صحيح أن أمما ً كثيرة حكمها طغاة ومستبدون منذ
أقدم العصور ،كما هو الحال في اليونان القديمة ،حتى
صار هناك عصر أطلق عليه المؤرخون اسم " عصر
طغاة اليونان " ويؤرخون له منذ اعتلء كبسيليوس
Kypselusطـاغية كورنثه الشهير عام ) 650ق .م (
وينتهي بطرد أبناء الطاغية بيزستراتوس Pesistratus
من أثينا عام ) 510ق .م ( أى ما يقرب من نصف قرن،
وقعت فيها المدن اليونانية تحت سيطرة مجموعة من
الطغاة ،غير أن من يدقق في التاريخ ،يجد أن نظام
الحكم المطلق في الشرق :أطول سنينًا ،وأكثر شمو ً
ل،
وأشد ظلما ً ...من نظيره في الغرب !
هذه الظاهرة الشاذة ،المؤلمة والمدمرة ،أدت إلى
ظهور مجموعة متنوعة من النظريات والراء ..التي
تفسر لنا ظاهرة الطغيان أو الستبداد بصفة عامة،
والطغيان الشرقي بصفة خاصة ،من منظور فلسفي
كما هو الحال في نظرية أرسطو ،وبعضها من
ً
منظوراقتصادي كما اعتقد فيتفوجل ،وأخيرا كانت
نظرية التحليل النفسي ،التي ردت الطغيان إلى تلك
العلقة السادومازوخية.
ممممممم ممم مممممممم مممممم ممممممم :
131
ممممم ممممم
أما أقدم نظرية تفسر لنا السباب التي جعلت بعض
الحكام في الشرق ،يبتلعون كل شيء دون أدنى مقاومة
من أحد ،بل استسلم عجيب من الجميع هي نظرية
أرسطو ،التى ترجع إلى القرن الثالث قبل الميلد.
فقد اعتقد فيلسوف اليونان ،إن هناك أُناسا ً
خلقوامهيئين بطبيعتهم لن يكونوا عبيدا ً ،فقد ُ
لخدمة غيرهم ،فالتفرقة بين الدنى والعلى موجودة
في الطبيعة وفي جميع الشياء ،ومن الفضل -كما يرى
-أرسطو أن يحكم الجانب العلى ويخضع الدنى ،ومن
هنا فإننا نجد أن بعض الناس هم بطبيعتهم سادة
وبعضهم عبيد ،فالستعباد بالنسبة لهؤلء نافع بقدر ما
هو عادل!!..
وينتهي أرسطو من ذلك إلى الحكم ،على بعض
الجناس بأنهم عبيد ،والبعض الخر أحرار بالطبع ،وقد
جعل من اليونانيين السادة الحرار ،فهم ل يجوز
استعبادهم ،لنهم ورثوا الروح العالية والشجاعة ،أما
الشرقيون فهم بطبيعتهم عبيد ،من هنا نجد أرسطو
ينصح تلميذه السكندر الكبر في أحد رسائله ،بمعاملة
اليونانيين معاملة القائد ،أما الشرقيون فيعاملهم معاملة
السيد لعبيده !!
يقول أرسطو
" يتمثل الطغيان بمعناه الدقيق في الطغيان
الشرقي ،حيث نجد لدى الشعوب السيوية ،على خلف
132
69
- -
الشعوب الوربية ،طبيعة العبيد ،وهي لهذا تحتمل حكم
الطغاة بغير شكوى أو تذمر" !
أما أرسطو فقد كانت نظريته عنصرية ،لن نظرية
الستعلء كانت جزءا ً من التفكير الفلسفي عند اليونان،
فهم وحدهم القادرون على خلق الحضارة والستمتاع
بالحرية ،والحريصون على القيم النسانية والمُثل العليا،
وهم السادة وبقية الشعوب برابرة وهمج وعبيد!..
ونحن ل ننكر أنه من الضروري لبقاء المجتمع ،وجود
درجات متفاوتة في المراكز والثروات والذكاء
والقدرات ..فطبيعة المور تتطلب وجود بعض الخدم
والحرفيين والمزارعين ..لخدمة الطبقات العلى ،كما
أن الحياة الجتماعية يتوقف بقاؤها على اختلط الناس
بعضهم ببعض ،وهذا الختلط أو هذا المتزاج ينمو ويزداد
بالعتماد المتبادل من الواحد على الخر ،فالغني يعتمد
على الفقير من أجل العمل ،والفقير يعتمد على الغني
لنيل معاشه ،فلو أصبح كل الناس أغنياء لمات الجميع
من الجوع ،لنهم ل يجدون من يحرث ويزرع ويحصد
الرض ..نستطيع أن نقول:
مم ممممممم مم ممممم مممم مممممم
ممممم !
ولكن هل الختلف في المواهب والمراكز يتنافى مع
البساطة ؟! هل التفاوت في الغنى يتنافى مع العدل
والحترام والمحبة والرحمة ؟! هل التفاوت يشترط
وجود أسياد وعبيد ،أُناس يملكون كل شيء ولهم الحق
في كل شيء ،وأُناس ل يملكون مواهبهم ؟! إن كل ما
133
نأمله هو :تساوي الكرامات ل الوظائف
والمواهب والقدرات! ...
ولم تبعد نظرية مونتسيكيو )1755 -1689م( عن
ذلك كثيرًا ،فقد نادى المفكر الفرنسي ،بأن الستبداد
نظام طبيعي بالنسبة للشرق ،ولكنه غريب وخطر على
الغرب !
أما الفيلسوف اللماني هيجل )1831 -1770م(
فيعتقد أن الطغيان في الشرق ،يرجع إلى أن الشرقيين
لم يتوصلوا بعد إلى معرفة أن النسان حر ،وكل ما
عرفوه أن شخصا ً معينا ً حر أل وهو :الحاكم الطاغية !
أما بقية الشعب عبيد له ،فالعبودية في الشرق ترجع
إلى انعدام الوعي الذاتي ..يقول هيجل :
" إن الشعب في الصين ليس لديه عن نفسه إل أسوأ
المشاعر ،فهو لم يُخلق إل ليجر عربة المبراطور ،وهذا
هو قدره المحتوم ،وسلوكهم اليومي يدل على ضآلة
الحترام الذي يكنونه لنفسهم كأفراد وبشر" !
ممممم ممممممم
عكف المفكر المريكي الجنسية ،اللماني الصل ،
كارل فيتفوجل Karl Wittfogel ( 1896- 1988م ( على
دراسة بلدان الشرق ونظمها السياسية والقتصادية،
وفي عام )1957م( أصدر كتابا ً ضخما ً في مجلدين،
قضى في إعداده نحو ما يقرب من ثلثين عامًا ،وعنوان
الكتاب " الستبداد الشرقي :دراسة مقارنة
للسلطة المطلقة " ،فيه يُبرز دور العوامل
القتصادية في نشأة الطغيان.
134
89
- -
يرى فيتفوجل أن هناك علقة قوية بين
الستبداد الشرقي ووجود النهر ،ففي المجتمعات
الشرقية التي تعتمد على النهر في الزراعة ،تكون
الحكومة هي أعظم مالك للرض ،ولهذا فهي تحتاج إلى
قيام سلطة مركزية استبدادية ،وذلك لشق الترع
والقنوات وإقامة السدود ..وهذه المهام كلها ل تتحقق
بالجهد الفردي ،بينما ل غنى عنها للنتاج الزراعي ،ومن
ثم لبد من وجود عمل جماعي تحكمه قوة استبدادية،
تحولت إلى ما نسميه " الطغيان الشرقي ".
ويعتقد فيتفوجل أن السلطة المطلقة التي
يمارسها الحاكم على رعاياه مكنت حكام بابل
والعراق ومصر ،من بناء مقابر ومعابد وقصور ضخمة
وآثار هائلة ل تزال باقية حتى الن ،وهي لم يكن ممكنا ً
إقامتها إل بالسخرة والسيطرة التامة ،على أعداد هائلة
من اليدي العاملة ،كما أن هذه السلطة المطلقة ،هي
التي مكنت الحاكم من أن يكون إلها ً على الرض ،فكلنا
نعرف أن الفرعون كان ُيعبد كإله في مصر ،وعندما جاء
السكندر الكبر إلى مصر عبدوه كإله !
لكن ما الذي يحدث للفرد إذا تطلع إلى الستقلل
الذاتي في ظل هذه السلطة المطلقة ؟ يجيب
فيتفوجل :بأن السلطة المطلقة التي يمارسها
الطغيان الشرقي ،ل تتحمل وجود قوى أخرى بجوارها،
كما أنها تنجح على المستوى السيكولوجي في إحباط
رغبة الفرد في العمل السياسي المستقل.
كما أن الحكومات في المجتمعات الشرقية تعتمد
على مبدأ التخويف ،ومن هنا فإن الطغيان الشرقي
135
اضطرأن يحكم معتمدا ً على العقاب تحت ستار" إن
البرياء من البشر قلة " ! ولهذا نظرت المجتمعات
الشرقية إلى العقاب ،على أنه الوسيلة الجوهرية
الوحيدة لنجاح الدولة في إدارة شئونها.
وهكذا نجد أن شريعة " مانـو" الهندوسية تقر
العقاب وبث الرعب ،باعتبارهما الساس للسلم
والنظام الداخلي ! ويبقى السؤال الحائر بل إجابة :لماذا
ل ،قد يكون مريضا ًُيعاقب إنسان لجرم مجرما ً فاش ً
جسديا ً أو ممزقا نفسيا ً ؟! كيف يُعاقب البرار من أجل
الشرار ،أو الطهار من أجل الزناة ؟!
وينتقل فيتفوجل إلى الحديث عن السلطة المقدسة،
التي أضفاها طغاة الشرق على أنفسهم حتى ل يخضعوا
لمساءلة الناس ،وفي نفس الوقت يكون لهم القدرة
على معاقبتهم..غير أن هذه العقوبات لم تكن أدبية أو
أخلقية ،تخاطب ضمير الفرد ،بل كانت جسدية مثل:
الجلد والضرب بالسياط أو العصي ..ففي مصر القديمة
ُتظهر السجلت أن الموكلين للشراف على
المشروعات العامة ،كانوا يسيرون والعصي في أيديهم،
ومن ل يدفع الضرائب كان ُيضرب ويُقيد ويُلقى في
القناة.
ومن الطبيعي أن تؤدي الخصائص السابقة بالفرد إلى
العزلة ،وهي عزلة فردية يخلقها الخوف والرعب اللذين
يعيش فيهما ،ففي ظل الستبداد ل يجد الفرد أمامه،
سوى الخضوع المطلق كرد فعل حذر ووحيد ،وذلك
بالطبع يؤدي إلى كارثة أخلقية ،حيث تنتشر مجموعات
136
001
- -
يصعب
ُ كبيرة من الرذائل ..والمراض النفسية التي قد
علجها !
تلك هي بعض السمات العامة لنظرية فيتفوجل عن
جع أسبابه إلى التحكم في الطغيان الشرقي ،والتي تُر ّ
مياه النهر ،وما يستتبعه من أعمال جماعية تتطلب وجود
سخرة ،والسخرة بدورها تتطلب بث الرعب والذعر بين
الناس ،لرغامهم على الطاعة المطلقة ومعاقبة العصاة
ملح لمن يقرأ هذه النظرية: منهم ،إل أن السؤال ال ُ
لماذا تكون الحكومة المركزية استبدادية
بالضرورة ؟!
أل يمكن أن تكون هناك حكومة مركزية ديمقراطية،
تتحكم في النهر وتقوم بجميع المهام المطلوبة ،عن
طريق التعاون ل السخرة ؟ وهل صحيح أن جميع النهار
في العالم ،التي تعتمد عليها زراعة الرض في الدول
الزراعية ،أدت إلى ظهور حكومات طاغية ؟!
ممممممم ممممممممممممم
يُعبر هذا المصطلح عن العلقة الوثيقة ،التي تربط
بين الشخصية السادية أى المسيطرة أو المتحكمة،
لخرى التي تتلذذ بأن توقع اللم بالخرين! وا ُ
المازوخية ،التي هي عكسها تتقّبل اللم بل وتستمتع
به!
وينسب مصطلح السادية Sadismإلى المركيز
الفرنسي دي ساد Desade (1740 - 1814م( الذي
ظهرت نزعته السادية في سلوكه الشاذ ،وتجلت بشكل
صارم في كتاباته المنحرفة ،وهذا إنما يعود إلى
137
لمه ،فهي التي دفعت به إلى كراهيته الشديدة ُ
لنثى بصفة عامة ،ومهما تكن خلفية النتقام من ا ُ
طفولته ،فلشك أنه كان يتمتع باضطراب وعدم اتزان،
كما كان مشهورا ً بشذوذه وجرائمه الجنسية ،فقد ألف
كتابا ً أسماه " الفلسفة في المخدع " صب فيه
لعناته الصارخة المدمرة على الدين والخلق القديمة،
بحجة أنهما يتعارضان مع مجتمع الحرية ،ودعا إلى هدم
الزواج وتحطيم قيوده ،وحّرض الرجال والنساء على
الحرية المطلقة في المتعة الجسدية ،ولكن هذا ليس
بغريب على رجل قضى معظم حياته في سجون باريس
ودفعت به اضطراباته النفسية إلى دخول مستشفى
المراض العقلية ،حيث أمضى بقية حياته فيها .
أما مصطلح الماشوسية أو المازوخية Masoshism
فهو القطب المضاد للسادية ،إذ يعبّر عن حاله الفرد
الذي يتقبل كل ما يقع عليه من آلم نفسية وجسدية،
من شخص آخر دون أى تذمر ،بل بالعكس يقبلها فرحا ً
ومستمتعا ً !!
ويُنسب هـذا المصطلح إلى الكاتب النمساوي ليبولد
زاخر مازوخ Lepold Zacher Masoch (1836- 1895م(
الذي كان يعيش مع عمته التي كانت لها علقة برجل
آخر ،فبدافع حب الستطلع اختفى مازوخ وهو ل يزال
صغيرًا ،في دولب الملبس ليشاهد ما يحدث من مناظر
جنسية ،فلما اكُتشف أمره عاقبته عمته بضرب مؤلم،
وهكذا يفسر المحللون النفسانيون:
مممم مممممم ممم ممممم مممم ممم مممم
مممم
138
ممم ممممممم ممممممم مممم ممم مممممم
ممم!
والحق إن الشخصية المازوخية تُعد لغزا ً ! إذ كيف
ُيفهم أن هناك ُأناسا ً ل يكتفون بالتقليل من شأن
أنفسهم أو إضعافها أو إيذائها ..وإنما يستمتعون بذلك
أيضا ً !! من هنا ذهب علماء النفس إلى القول بأنه :إذا
كان هناك ُأناس يسعون إلى الخضوع والستسلم
والمعاناة ،فلبد أن يكون هناك شيء آخر يسعون
لتحقيقه ،أو نقص يحاولون تكميله أو ضعف يريدون
إشباعه ،فما هو الهدف إذن ؟ هو باختصار :الحتماء
في ظل شخص آخر أقوى حتى تعيش تلك النفس في
أمان ! أو في ظل سلطة أخرى تغمرها بقوتها ! أو في
ظل إنسان تنتفع من ورائه بشيء قد يكون ماديا ً أو
معنويًا!..
تلك هي الخصائص العامة للشخصية المازوخية ،التي
ل تجد لنفسها قيمة ول لحياتها معنى ،إل من خلل
شخصية ُأخرى أقوى ُتحيط بها ،وتُشعرها بالمان ،وتقوم
نيابة عنها بالمسئولية ،فما هي خصائص هذه الشخصية
القوى ،أعني الشخصية السادية أوالمسيطرة ؟
جميع الشكال السادية التي يمكن أن نلحظها ترجع
في نهاية المر إلى دافع أساسي أل وهو :السيطرة
الكاملة على الشخص الخر ،بأن تجعله عاجزا ً تحت
مطلق عليه ،وتتصرف فيه إرادتها وتُصبح هي الحاكم ال ُ
كما تشاء ،فتذله وتستعبده...
139
201
- -
ولكن الشيء العجيب هو إن الشخصية السادية
على الرغم من قوتها وسلطتها ،إل أنها تكون دائما ً
وبصفة مستمرة ،في حاجة إلى الشخصية المازوخية
الضعيفة المستسلمة ،التي يمكن أن تجرحها وتهينها
أمام الخرين ،لتشعر أو لُتشعر الخرين بقوتها
وسلطانها ،فهي تعلم جيدا ً أن الشخص المازوخي ،ل
يمكن أن يدافع عن نفسه أو يعترض أو يتفوه بكلمة
طالما سيده هو المتكلم !! وهكذا يحتاج الشخص
السادي ،الذى هو القوى ،إلى الشخص المازوخي
الضعف بقدر ما يحتاج المازوخي إلى السادي ! والفارق
بينهما :إن أحدهما يبحث عن أمان في شخص يبتلعه،
والخر يسعى إلى المان عن طريق ابتلع شخص آخر،
لكن في الحالتين يضيع استقلل الذات !!
تلك كانت مجموعة متنوعة من النظريات ،التي
تفسر لنا الستبداد بصفة عامة ،والستبداد الشرقي
بصفة خاصة :بعضها من منظور فلسفي ،وآخر من
منظور اقتصادي ،وثالث من منظور نفسى ،وقد يجوز
لنا أن نستبعد نظرية أرسطو التي تقول :إن
الشرقيين ولدوا عبيدًا ،ولهذا السبب يتحملون الستبداد
بغير شكوى أو تذمر! أما نظرية فيتفوجل فقد تكون
هناك اعتراضات كثيرة عليها ،لكن فيها جانبا ً من
الصواب ،إل أن قيمتها وهو الجانب المهم ،أنها تبرز
العوامل القتصادية في نشأة الستبداد ،وإن كان ذلك ل
يمنع بالطبع تضافر العوامل السيكولوجية معها ،بحيث
تتحول العلقة بين الحاكم وشعبه ،إلى علقة
سادومازوخية ،فالحاكم يريد ابتلع الشعب والسيطرة
140
عليه والتحكم فيه ،والشعب الضعيف ،المستسلم ،
الخائف ،يريد أن يذوب في شخصية الحاكم حتى يحميه
ويشعره بالمان!!..
نستطيع أن نقول :ليس هناك شعوب تعشق
الحرية ،وُأخرى تسعى إلى العبودية ،لكن الشرقيين قد
ألفوا الستبداد من طول معاشرتهم له ،حتى أصبح
لديهم الستعداد ،لقبول هذا اللون القاتم من الحكم
على أنه أمر طبيعي ،أو أنه شر مفروض عليهم ل
يستطيعون التخلص منه !!
141
ممممم مممممم
ممممم ممممممممم ..
مممممم ممممممم
ل شك أن للمستبد أعوانا ً ،ينفّذون أفكاره الشريرة
وخططه الجهنمية ،لكنهم من المرتزقة الشرار ،الذين
بل قيم أو أو سلوكيات حسنة ،كما أن للستبداد عائلة
ذات جذور قديمة ،ولها تاريخ يرجع للف السنين ،إل أنها
غير شريفة ،ل تعرف سوى القسوة والظلم والذلل،
ومنذ أن تكونت عائلة الستبداد ،وهي دائما ً وستظل إلى
البد ،موضعا ً للكراهية والخوف لموضعا ً للحب
والعجاب.
أما أفراد عائلة الستبداد فهى كثيرة أبرزها:
الطغيان ،الدكتاتورية ،السلطة المطلقة،
ال ُتوقراطية )حكم الفرد الذي يجمع كل شيء في
يده ،بصورة غير مباشرة عن طريق ُأناس تحت
سلطانه ،ول يعملون إل ما يأمرهم به(،
والثيئوقراطية )الحكم تحت شعار الدين( ،وسوف
يقتصر حديثنا هنا عن الطغيان ،الذي يعد أخطرأفراد
عائلة الستبداد ،أما الدكتاتورية فسوف يأتي الحديث
عنها في الباب الخاص بالدكتاتور والستبداد قد عّرفناه
في الفصل الول من هذا الباب.
مممممم ممممممم مم ممممممم.
142
يعّرف أرسطو الطغيان على أنه :اغتصاب
السلطة ،وهي عملية يقوم بها فرد يستخدم الخداع أو
القوة لكي يقفز إلى الحكم ،وكثيرا ً ما يحدث ذلك عن
طريق استخدام مجموعة من الجنود المرتزقة ،ويعتقد
أرسطو أن حكم الطغاة غير مستقر ،وذلك بسبب
كراهية الشعب الشديدة للحكم التعسفي.
والحق إن القسوة التي يستخدمها الطاغية بل مبرر،
هي مصدر كراهية الناس له ،فكل إنسان في حاجة إلى
أن يشعر بالمان ،وإن قلنا إن العدالة بدون القوة
عاجزة ،فالقوة هي أيضا ً بدون عدالة طاغية،
فلبد إذن من وضع العدالة والقوة جنبا ً إلى جنب ،بحيث
نعمل على جعل العادل قويًا ،وجعل القوي عاد ً
ل ،كما أن
السوط يخيف البشر ولكنه ل يغير صفاتهم ،وهكذا تظل
النار مختبئة تحت الرماد حتى تأتي الفرصة لتظهرعلى
السطح من جديد .
يقول أفلطـون
" إنك لن تحيل حصانا ً جموحا ً إلى حصان وادع بأن
تلهب جسمه بالسوط ،ولن تحيل الهمجي إنسانا ً دمثا ً
بنبذه من المجتمع ،فإن يكن المجرم مجنونا ً وجب أن
ُيعالج من جنونه ،وإن يكن جاهل ً وجب أن يعلم ،فاقتلع
الجريمة بالحكمة ،لكن حذار أن تصب على المجرم
سوط عذاب ".
وكان أول من استخدم كلمة طاغية تيرانوس
Tyrannosهو الشاعر اليوناني أرخيلوس ،الذي عاش
143
401
- -
في منتصف القرن السابع قبل الميلد ،عندما أطلقها
على الملك جيجز ملك ليديا الذي أطاح بملكها السابق.
يقول الشاعر:
" أنا ل أهتم بثروة جيجز ،وأنا ل أحسده كما أنني ل
أغار من اللهة ول أرغب في أن أكون طاغية ".
فهل كان أرخيلوس يقصد بكلمة طاغية هنا
المغتصب ،على اعتبار أن جيجز اغتصب عرش مملكة
ليديا ؟ ليست هناك إجابة حاسمة!
إل أن هناك من يرى أن الكلمة اليونانية تيرانوس
Tyrannosومنها النجليزية تيرانت Tyrantلها علقة
بكلمة ليديا ،فهي مشتقة من كلمة تـرها المدينة
الليدية ،ومعنى اللفظ هو قلعة.
إل أن هناك رأيا ً آخر ،يؤكد وجود علقة بين كلمة
طاغية تيرانوس وبين القبائل التركية ،التي كانت تعيش
مون هذه متفرقة في أسيا العليا ،فالفرس كانوا يُس ّ
البلد توران ،وبمرور الزمن تطورت الكلمة ،حتى
أصبحت تُلفظ عند اليونان تيران ومعناها طاغية..
هذا وقد جاء في دائرة معارف البستاني ما يفيد
بأن :الطاغية هو لقب ملك الروم ،وقد وردت بهذا
المعنى في تواريخ العرب ،ولعلهم أرادوا بها معنى يفيد
معنى اللفظة اليونانية تيرانوس ،وأصل معناها عندهم
ملك أو أمير ..فلما أقامت الملوك على الستبداد
برعيتها ،لن سلطتها ل تعرف حدا ً ،ول تقف عند رحمة
أو عدل ،ذهب اسمها مرادفا ً للطاغية .
144
601
- -
ويواصل البستاني حديثه موضحا ً الفرق بين
الطاغية والمسـتبد فيقول :وربما يخلط البعض بين
الطاغية والمستبد من الحكام فالختلف بينهما واضح،
فالمستبد من تفّرد برأيه واستقل به ،فقد يكون مصلحا ً
يريد الخير ويأتيه ،أما الطاغية فيستبد طبعًا ،مسرفا ً في
المعاصي والظلم ،وقد يلجأ في طغيه إلى اتخاذ
القوانين والشرائع سترا ً يتستر به ،فيتمكن مما يطمح
إليه من الجور والظلم والفتك برعيته وهضم حقوقها،
وقد يكيف فظائعه بقالب العدل ،فيكون أشر الطغاة،
وأشدهم بطشا ً بمن تناولته سلطتهم .
ويختم البستاني حديثه عن الطاغية بطرح المشكلة،
التي كثيرا ً ما أُثيرت في تاريخ الطغاة وأعني بها
السؤال :هل يجوز قتل الطاغية ؟ فالمسيحية ل
ُتبيح القتل كما جاء فى الوصايا العشر ،أما العلماء
والمشرعين وكثيرين غيرهم ..فقد أباحوا قتل
الطغاة ،ولم يعتبروا من قتل طاغية إنسان مجرم ،بل
أوجبت له بعض القوانين المكافأة !! وها هو شيشرون
عندما تحدث عن قوانين اليونان ،أوضح أنها تقضي بمنح
من قتل طاغية الجائزة الوليمبية ،وله أن يسأل
القاضي ما يتمنى ،وعلى القاضي إجابة سؤله!!
والواقع أن كلمة طاغية لم تكن تعني في بداية
استخدامها حاكما ً شريرا ً ،ففي العصور اليونانية
القديمة ،وعلى وجه التحديد في القرنين السابع
والسادس قبل الميلد ،كانت تعني في بعض استخدامها
ملك أوحاكم ،بل قد يُسمى الملك بالطاغية في
سياق المجاملة أو المديح ،ثم بدأت الكلمة تحمل
145
معنى كريها ً ول تزال تحمله حتى اليوم ! وذلك لن
كلمة طاغية أصبحت مرتبطة بالقتل والنهب
والفساد والستمتاع باللذات الحسية… ومن هـنا
كان أفلطون بارعا ً عندما جعل غاية هذا الحكم إشباع
الحيوان الكبر ،والحيوان الكبر عند أفلطون هو
الطاغية الجاهل الذي يُرضي شهواته ول يخضع لحكم
العقل ،فالطاغية على حد تعبير أفلطون:
ممم ممم مممم مم مممم مممممم !
أما من الناحية القانونية ،فالطاغية كان ول يزال
المحور الساسي لكل القوانين التى ُتمارس ،فل قانون
إل ما يأمر به ،حتى لو خالفت أوامره القوانين القديمة،
بل إنه قد يصدر قانونا ً جديدا ً يخالف ما أصدره من
قبل !
ولهذا فليس ثمة غرابة ،إذا ما وجدنا هذا التناقض
شائعا ً في حكم الطغاة ،فما أكثر القوانين والقرارات
التي يصدرها الطاغية تحت تأثيرالنفعالت ،التى هى
بطبيعتها وقتية ومتقلبة ،وهو بالطبع ل يدري خطورة
قراره الذي يمس حياة النسان !
مثل هذه التصرفات تجعل الناس تحيا فى قلق ،فمن
المعروف أن الرعية أثناء حكم الطاغية تكون في حالة
شديدة من الرعب ،فالنسان بطبيعته يخشى أصحاب
النفوذ ويتهيب أصحاب السلطة ،وقليلون هم الذين
تحرروا من هذا الخوف .
مممم ممممم مممم مممم ممممممم!
146
801
- -
ففي التاريخ كما يقول البعض ما يشير إلى أن الرعية،
قد تصمت ول تبالغ في الشكوى إذا تسلط عليها طاغية،
كأن الجبن يأخذ منها كل مأخذ ،فيخمد أنفاسها ،وترضخ
صاغرة ،كأنها تتقي شر نقمته ،خلفا ً بما لو اعتدلت
السلطة فتجاهر الرعية بمطلبها ،حينئذ ينطبق عليهم
قول الشاعرالكبير نزار قباني " :يصير الناس في
مدينة ضفادع مفقوءة العيون ،فل يثورون ول يشكون ول
يغنون ول يبكون ..تحترق الغابات والطفال والزهار،
تحترق الثمار ويصبح النسان في موطنه أذل من
الصرصار" !!
أما أعوان المستبد فهم رفاق السوء ،الممزقين
نفسيا ً وروحيًا ،فمثل هذه الشخصية البُهيمية كما يُسميها
أفلطون ،لن تقّرب إليها إل الشـرار ،عديمو المواهب،
الممزقون نفسيا ً واجتماعيًا ،الذين احترفوا السرقة
والنهب ،وأجادوا الوشاية والشهادة الزور مقابل رشوة
أو اعتلء منصب أو إرضاء زعيم ،فالمستبد في حاجة
إلى أن تكون له أيد ٍ يمارس بها الظلم والطغيان.
والواقع أنه يستحيل على هذه اليدي التى تلوثت أن
لخرى الظلم ،وتعمل تنسى نفسها ،فتمارس هي ا ُ
لحسابها الخاص ،وتغرف بدورها من أموال الخرين التي
هي أموال الشعب.
مممم مم مم مممم ممممم ممممممم مم ممممم
ممممم
ممممم م ممم مم مممممم مم ممممم ممممممم م
ممم ممممم مممم ممم ممممم ممممم
ممممممم!! ..
147
من المؤكد أن أعوان المستبد ،قبل أن يستولي على
السلطة وينفرد بزمام الحكم ،كانوا من المنافقين
الشرار ،ولهذا عندما استولى وتملك على الحكم صاروا
هم معاونيه ومستشاريه ،فمثال هؤلء على أتم
الستعداد لعمل أى شيء من أجل الوصول !
إل أنهم مهما وصلوا إلى أعلى المراكز فهم ليسوا
أحرارا ً كما يتوهم البعض بل هم عبيد ! وليسوا سعداء
قون على مراكزهم ،خائفون بل أشقياء ! فهم دائما ً قل ِ
على أموالهم ،ولنهم يعلمون جيدا ً أن القتل غالبا ً ما
يكون هو نهايتهم لكثرة ما ارتكبه من شرور ،فهم لذلك
يعيشون في رعب ،ولهذا ل يتحركون إل وسط الحاشية
أو الحرس الخاص!..
كما أنهم يعيشون في شك دائم من كل المحيطين
بهم ،فالمستبد ل يثق في أحد من أعوانه أو أقاربه ..بل
ل يثق حتى في نفسه! والعوان يتوقعون في أية لحظة
أن يغدر بهم الزعيم المستبد ،لمجرد وشاية ،أو كلمة
يسمعها ،أو فكرة شريرة تخطرعلى باله ،فشعار
المستبد أو الدكتاتور أو الطاغية :
مم ممم مم ممممم مم ممم ممم ممممممم !
ولهذا فحياة الرجل الذي يكون في خدمته ،يمكن
تشبيهها بحياة من يعيش وسط النيران ! بل إن الحياة
وسط النيران أخف وطأة من خدمة المستبد ،أو العيش
وسط حاشيته أو وسط العاملين معه ،لن النيران قد
تحرق جزءا ً من الجسم أو الجسم كله في أشد الحوال،
أما نار المستبد فتمتد ل إلى الشخص ،بل إلى ُأسرته
وأقاربه وأصدقائه ...قد نكون على صواب إن قلنا :
148
مم ممممم مم ممممم
مم ممممممم ممم مم م
ممممم مممممم مم مممم ممممم مممممم!
ولن المستبد ل يثق في إنسان ،فهو إذن ل يفصح
لحد بأفكاره الداخلية خاصة العميقة ،وهذا ما تؤكده
الوثائق منذ أقدم العصور ،فقد جاء في إحدى أوراق
البردي المخطوطة ،نصيحة كتبها ملك لبنه يقول فيها :
" ابتعد وأعزل نفسك عن الرعايا الذين يخضعون لك ،ل
تقترب منهم وأنت وحيد ،ول تشغل نفسك ،ول تمل
فراغك بأخ ،ول تعرف صديقًا ،وحتى إذا نمت فعليك أن
تراقب بنفسك قلوبهم لن النسان ليس له أعوان وقت
الشدة " !
كما أن التراث الهندي ،يحدد الخطار الكثيرة التي
ُتحيط بالحاكم ،ويناقش الوسائل التي يمكن بواسطتها
أن تنقلب عليه الحاشية ،ولهذا لبد أن يحترس في
قصره بحيث تكون إقامته آمنة ،وأن يتخذ كافة
الحتياطات اللزمة ،حتى ل ُيدس له أحد السم ،ولبد أن
يراقب جميع أفراد الحاشية وأن يسيطر عليهم ،كما لبد
للملك أن يتجسس على رئيس وزرائه ،وأن يكون حذرا ً
من أصدقائه المقربين إليه ،وأيضا ً من زوجاته ،ومن
أخوته ،وبصفة عامة من وريثه ،وهناك عبارة تتردد كثيرا ً
عن طغاة الهنود تقول:
ممممممم مممممممم ممممم ممم
ممم مممممم ممممممم ممممم !
وهكذا تنتشر جميع الرذائل الخلقية ،ل وسط الشعب
فقط بل وسط الحاشية أيضًا ،فينتشر المكر والغش
149
والرياء والتملق ...وُتحاك المؤامرات والدسائس ،إذ أن
كل فرد يسعى لتحقيق مصالحه الذاتية وأغراضه
الشخصية بشتى الطرق ،ويتهم كل فريق غيره بالتآمر
لكى يبعده عن مكانه ،والنتيجة هى هجرة الناس إلى
لخرى واعتزال أصحاب المواهب الحياة البلد ا ُ
السياسية ،لكى يتفرغوا لتنمية مواهبهم ..ويبقى السؤال
الحائر بل إجابة شافية:
ممم مممم مممممم مم ممممم مممممم م
ممم مم مممم ممممممم ممممممم مممممممم!
هذا الوسط الشاذ الغريب ،يحتاج في الحقيقة إلى
دراسة عميقة ،فالمستبد رغم سطوته وجبروته ،ل يحيا
بين القوياء اجتماعيا ً والمثقفين علميا ً ...إنما بين
الضعفاء وعديمي المواهب وماسحى الجوخ ..يجد
المستبد شخصيته! وهؤلء بدورهم يجدون سعادتهم في
من يتحكم فيهم ،ويفرض سيطرته عليهم!
فـي الظاهر يبدو لنا أن هناك تناقضًا ،ولكن لو تعمقنا
ل ،لوجدنا أن ثمة أسبابا ً نفسية تحتم وجود هـذه قلي ً
العلقة الغريبة ،التي تبـدو غـير طبيعية !! من هنا نفهم،
لماذا يُحاط الباطرة والمستبدون دائما ً بالشخصيات
التافهة الضعيفة ؟! الجابة باختصار :إنهم ُيشبعون
كبرياءهم وتسلطهم ،هذا من جهة المستبدين ،أما
الضعفاء فإنهم يجدون راحتهم في الرتماء في أحضان
التبعية والمذلة ،فهذا يوفر لهم راحة نفسية ،ويعوضهم
عن شعورهم المريربالنقص ،أو ما عانوه من حرمان
خاصة فى طفولتهم المبكرة..
150
011
- -
والحق إننا لم نقرأ أن أحدا ً من العباقرة أو المفكرين
أو العلماء ..قبِل في يوم ما أن تكون رأسه في مستوى
أرجل أصحاب العروش ،وهم جالسون على كراسي من
ذهب في أبراج من فضة ،يتنعمون ويتلذذون والناس
تحت أرجلهم يئنون ويصرخون من قسوة اللم
والجوع…!! وإن وجد البعض فهؤلء قلة ول نأخذ بهم
فى هذا المر الشاذ الغريب!
151
الباب الرابع
الدكتـاتــور
الفصل الول
ممممممممممم مممممممممم
الفصل الثاني
ممممم مممم ممممممممم
الفصل الثالث
ممممم مممممممممم
مممممممم ممممم
152
211
- -
ممممم ممممم
ممممممممممم م
ممممممممم
كان النظام الملكي هو السائد في أوربا قبل
الميلد ،لكنهم استبدلوه بالنظام الجمهوري دون أن
يلغوا سلطة الملك ،فماذا فعلوا ؟ وضعوا من الضوابط
ما اعتقدوا أنه كفيل بأن يمنع الستبداد ،فأسندوا
عرفا باسم القنصلين Consules السلطة إلى شخصين ُ
أي الزميلين ،وبانتقال سلطة الملك إلى القناصل ،أصبح
هؤلء الحكام هم الذين يرعون المن والنظام في
الدولة.
أما في أوقات الطوارئ كحالت الحرب أو غير
ذلك ،فكانا القنصلن بناءً على مشورة مجلس
الشيوخ يعينان حاكما ً مطلقا ً ،يمارس سلطتهما
بمفرده لمدة أقصاها ستة أشهر على أكثر تقدير ،وكان
هذا الحاكم المطلق يُدعى في أول المر حاكم
الشعب ،ثم أصبح لقبه الدكتاتور .Dictator
وكان هذا الحاكم المطلق يتخذ له مساعدًا ،شخصا ً
ُيدعى قائد الفرسان ،وأكثر الذين تولوا منصب
الدكتاتور ،ينتمون إلى القرنين الرابع أو الخامس قبل
الميلد.
إذن فكلمة دكتاتور ، Dictatorومنها الدكتاتورية
Dictatorshipرومانية الصل ،اسُتخدمت في العصور
153
القديمة كمنصب لحاكم يرشحه القنصلن أو أحدهما،
بتزكية من مجلس الشيوخ ويتمتع هذا الحاكم بسلطات
استثنائية ،وتخضع له الدولة كلها والجيش بكامله في
أوقات الزمات المدنية أو العسكرية ،ولفترة محددة،
فطبيعة نظام الدولة الرومانية كانت تقتضي اتخاذ هذه
التدابير الستثنائية :فالسلطة موزعة بين قنصلين
متساويين ،ومجموعة من الموظفين ،ومجلس الشيوخ..
ولذلك نص الدستور منذ أن وضع ،على أن يكون
للحكومة الحق في أوقات الطوارئ ،أن توقف كل
سلطات أولئك الحكام وتسلم الحكم لشخص واحد ،وقد
جرت العادة أن يكون قائدا ً عسكريًا ،وفى الغالب من
طبقة الشراف ..فيصبح هذا الشخص هو الدكتاتور،
وتنتهي سلطته الستثنائية بانتهاء الزمة ،ويؤدي بعد ذلك
الحساب عما قام به من أعمال .
ولعل أقرب شخص عندنا الن يقربنا من وظيفة
الدكتاتور هو القائد العسكري ،الذي ُيعين في أوقات
عصيبة تمر بها البلد لتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة
ولفترة محددة ..وإن كانت سلطته إلى حد ما ل تكون
مطلقة كسلطة الدكتاتور قديمًا.
وقد يتقيد الدكتاتور الروماني بالمدة التى ُتحدد لـه
من ِقبل المسئولين مثل " سنسناتس " Cincinatus
عين دكتاتورا ً نحو عام )
وهو قائد عسـكري ورجل دولةُ ،
458ق .م( ،عندما كان الجيش الروماني يمر في ذلك
الوقت بأزمات خطرة ..فلما تم تعينه استجاب في
الحال ،فترك مزرعته وجمع فرقا ً من الجنود ،وقام
بمساعدة الجيش ،حتى انتصر ثم تقاعد بعد ذلك ،وذلك
154
كله حدث في ستة عشر يومًا ،ثم اسًتدعي مرة ُأخرى
وعين دكتاتورا ً عام ) 439ق .م( ،وقد أدى مهمته على
أكمل وجه ثم عاد بعدها إلى مزرعته.
أما الستثناء من ذلك فهو " سل ّ " Sullaالـذي قد
تم تعيينه عـام ) 82ق.م( دكتاتورا ً لمدة غير محددة،
وظل في منصبه حوالى ثلث سنوات.
والثاني هو " يوليوس قيصر " ،الذي اتخذ لنفسه
سلطات دكتاتورية لمدة عشر سنوات ،عام ) 46ق .م(،
ثم ُأعطيت له هذه السلطات مدى الحياة ،وقد كان ذلك
قبل اغتياله بقليل على يد " بروتس " الذي طعنه
بالخنجر! أتذكرون العبارة الشهيرة " :حتى أنت
يابروتس " !! إنها آخر كلمات نطق بها يوليوس قيصر
قبل اغتياله.
هذا عن الدكتاتور قديمًا ،أما في الستخدام الحديث
فإن الدكتاتور أو الدكتاتورية بصفة عامة ،هى مصطلح
يعني :النظام الذي يتولى فيه شخص واحد جميع
السلطات ،في الغالب تكون بطريقة غير مباشرة ،عن
طريق ُأناس هم أدوات فى قبضة يده ! ويفرض أوامره
وقراراته بالقوة ،ول يكون أمام المواطنين سوى الطاعة
والخضوع.
أو هو نظام الفرد الواحد ،الذي يحكم وفقا ً لهوائه
ورغباته الخاصة ،دون أن يتقيد بقواعد أو قوانين!
فهو ل يسترشد إل بأفكاره ،ول يتوجه إل بإرادته!
ويرى الفيلسوف أرسطو :إن الدكتاتورية أشر أنواع
الحكم ،لنها تسخّر مصلحة الكل ،أي كل الشعب،
155
411
- -
لتحقيق مصالح فرد أو مطامع شخص واحد هو بل شك
الدكتاتور!
فالحكم الفضل عند أرسطو هو الذي يجعل كل فرد
يستغل مواهبه ،ويستمتع بأيامه ،وهذا الطراز من الحكم
هو حكم دستوري ،أما الحكم غير الدستوري فهو حكم
الستبداد ،سواء كان فردا ً واحدًا ،أو قلة ،أو كثرة ،ويرى
أرسطو إن السلطة المطلقة ،هى سلطة ل ضابط لها
سواء مارسها فرد أو مارستها جماعة ،وكما قال
المفكرالنجليزى جون لوك ،فى كتابه الشهير" روح
القوانين " :
156
خطورة هذا المرض اللعين ،في أنه مرض معدٍٍ ،فإذا
ظهر في مكان سهل انتشاره في بقية الماكن ا ُ
لخرى.
فمن المعروف إن الدكتاتوريين يقلدون بعضهم،
ويستفيدون من بعضهم البعض ،وذلك فيما يلجأون إليه
من طرق وأساليب لقمع وإذلل الشعب ،ومن هنا كانت
العدوى واردة ،وكما قلنا من قبل :إنه ل فرق بين
دكتاتور أبيض ودكتاتور أسود ،أو دكتاتور من أسيا وآخر
من إفريقيا أو أوربا ...فللجميع فكر واحد وأسلوب
واحد ،كما لو كانوا قد تربـوا معًا ،أو تعلموا في مدرسة
واحدة !!
والحق إن الدكتاتور هو شخص غريب ،ولو سارت
المور طبيعيا ً ما كان ممكنا ً أن يصل إلى مركزه ،بحكم
إمكاناته المحدودة ومواهبه المعدومة ،لكنه قفز إلى
منصبه عن طريق غير شرعي ،ولهذا نجده يتحكم في
شئون الناس بإرادته ل بإرادتهم ،ويُحاكمهم بهواه ل
بشريعتهم…
ولخوفه الشديد على مركزه ،الذي يعلم جيدا ً أنه ل
يستحقه ،وسوف ُيغصب منه كما اغتصبه من سابقه،
يكمم أفواه البشر لسدها عن النطق بالحق ،والمطالبة
بالشرع والقانون ...فهو ل يعرف ول يعترف بقانون ،لن
إرادته هي القانون ،وكل ما يقوله أمر واجب التنفيذ
حتى ولو كان خطأ !! وما على المواطنين سوى الطاعة
والخضوع ،أعنى الخنوع!
إن حكم الدكتاتور هو حكم مطلق ،بل رقيب ول
حسيب ،ول مسئولية من أي نوع ،إنه السيد الوحد الذي
157
611
- -
يحكم لمصلحته الشخصية وأهدافه الخاصة ،فالدكتاتور
له مصالح وأهداف غير مصالح الشعب ،فهو ل يهتم
بالناس ول باحتياجاتهم ،إنما اهتمامه ينصب على ذاته،
وتنفيذ رغباته...
وهذا ليس بغريب على من اغتصب السلطة ،سواء
بالقوة أو عن طريق العصابات أو الخونة… أو من نشأوا
في البيئات الوضيعة ،فمعظم الدكتاتوريين خرجوا من
ُأسر ممزقة اجتماعيا ً ونفسيا ً وثقافيا ً وأيضا ً ماديا ً …
وهكذا عاشوا في السلطة يعوضون النقص الذي عانوا
منه في طفولتهم وشبابهم ،ويا ليتهم عرفوا كيف
يسدون الثغرات الكبيرة في حياتهم ،لكنهم للسف
الشديد زادوا من الثغرات ،لنهم صاروا يملكون كل
شيء ،المال ،القرار ،المجد… لكنهم لم يملكوا وسائل
العلج ! فمثل هذه الشياء وإن كانت تراها العين
وتلمسها اليد ،إل أنها عاجزة عن أن تصل إلى أعماق
القلب حيث مركز السلم الحقيقي ،والستقرار النفسي
!
ولهذا فهم غالبا ً ما ينتقمون من أصحاب الجاه
والمتعلمين والغنياء ،إنهم أعداء لصحاب المراكز
والمواهب ! وهذا ليس بغريب على أناس بل مواهب،
إنما المكر والعنف والفساد…هي كل مواهبهم!!
خر الدكتاتور كل موارد رعاياه ،لشباع وغالبا ً ما يس ّ
رغباته أو ملذاته أو متعه الخاصة… فعلى شهواته
وحاشيته ينفق الدكتاتور بل رقيب ،ولجل تحصيل المال
لينفق ،يفرض الضرائب ويسرق ويغتصب حقوق
الخرين…
158
فقد قيل عن ديونيسيوس الول ) ق 4ق.م (
دكتاتور سيراقوصه بصقلية :إنه جمع حُلي النساء
وباعها ،كما سرق الرداء الذهبي الذي كان يغطي الله
زيوس ! زاعما ً أن الجو في الشتاء يكون باردا ً على نحو
ل ُيطاق ،وفي الصيف يكون حارا ً على نحو ل ُيطاق
أيضًا ،وفي كلتا الحالتين يكون الرداء عديم النفع بالنسبة
للله !!
أما متع الدكتاتور فقد تكون حسية كالكل والسكر
والجنس… وقد كانت كذلك بالفعل عند الدكتاتوريين
القدماء ،وقد تكون متعته في طموحاته التي تهدف
لتوسيع مملكته ،وفرض نفوذه ،فضم البلد المجاورة
والغارة عليها من أجل تدعيم الثروة ،أو إقامة
إمبراطورية كانت شهوة كثيرين.
ولعل أعظم مثال لنا على ذلك هو السكندر الكبر،
الذي سيطرت عليه فكرة أن يخضع العالم كله لمملكته،
فتتسع المبراطوريه اليونانية ،وبالتالي يمتد نفوذه
وسلطانه إلى كل العالم ،وعندما لم يجد بلدا ً يفتتحها،
قيل إنه بكى !!
ولن الدكتاتور يسعى لشباع شهواته وتنفيذ أفكاره
الخاصة ،بكافة الوسائل حتى وإن كانت خاطئة ،فهو لهذا
يرفض أن يخضع للمساءلة أو المحاسبة ،ولهذا لنندهش
عندما نقرأ أن الوليـد بن عبد الملك استفسر ذات
مرة قائل ً :أيمكن للخليفة أن ُيحاسب ؟! والسؤال
هنا عن الحساب من الله ،وها نحن نتساءل:
ممممم مم مممم
مم مم ممم ممم مم م
159
مممم مم مممم مممممم مم مممممم!
ول تتعجب إذا قرأت أو سمعت عن عبد الملك بن
مروان ،إنه عندما تولى الخلفة صعد على المنبر ليلقي
الخطبة الدستورية فقال :والله لو أمرني أحد
بتقوى الله بعد مقامي هذا إل وضربت عنقه !!
قال هذا ثم نزل !!
وعندما تولى ابنه يزيـد الخلفة ،أتى بأربعين شيخا ً
فشهدوا له ما على الخلفاء حساب ول عذاب !!
وعندما أرسل ابن المقفع للمنصور ،ينصحه بحسن
اختيار معاونيه ،وحسن سياسة الرعية عوقب عقابا ً
مبرحا ً ،لنه تجرأ على النصح والرشاد وليس المديح
بتقطيع أطرافه قطعة قطعة ،وأُحمي له تنّور
طعه إربا ً إربا ً ويُلقيه في ذلك التنور حتى حرقة
وجعل ُيق ّ
ّ
كله وهو ينظر إلى أطرافه كيف تقطع ثم ُتحرق !!
حتى لو قيل إن هذه القصص غير حقيقية أو مبالغ
فيها ،فالتاريخ يحكي عن أباطرة فعلوا أكثر مما فعل
أولئك !!
في ظل هذا الجو المرعب ،ل يكون أمام الشعب
سوى طريق أوحد ل غير أل وهو :تنفيذ كل الوامر
بل مناقشة! سواء كانت ضارة أو نافعة ،في صالحه أو
ضده ،إذا أرادوا الحياة ! ومن هنا أصبحت الطاعة
العمياء هى سمة المواطن الصالح.
والحق إنها ليست طاعة بالمفهوم الصحيح لهذه
الكلمة ،بل هى إن أردنا الدقة خنوعًا ،ولكي يتعلم
الجميع الطاعة ،أصبحت التربية منذ الصغر ،تعد
160
811
- -
المواطن للخضوع التام ،والطاعة العمياء ،فالتلميذ الجيد
هو البن المطيع !!
وهكذا يقترب الدكتاتور من التأله ،بل صار في قرارة
نفسه إلهًا ،يرهب الناس ،ويتعالى عليهم ،ويذلهم
بسلطته ،ويسلب أموالهم حتى ل يجدوا ملجأ إل
الخضوع والتملق له ..ولهذا كثيرا ً ما يطلق الدكتاتور
على نفسه صفات أو ألقاب الله :التى تعبر عن قدراته
اللنهائية مثل :القاهر ،الجبار ،المقتدر ،ولي النعم،
المالك أرواح البشر..
في حين أن الله ل ُيرهب البشر ول يذلهم ،حتى إذا
ضلوا الطريق أو انحرفوا ..فإن الله كثيرا ً ما يتمهل
عليهم ،ول يُعاقبهم في الحال ،أو على كل خطية "
فالله يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى
معرفة الحق ُيقبلون " )1تي ( 4 :2أتذكرون قول
داود النبى " :إن كنت للثام راصدا ً يارب من يثبت
لن من عندك المغفرة " .
ولكن عندما يتوهم الدكتاتور أنه قد صار إلها ً أو شبيها ً
بالله ،ويتخذ لنفسه سلطات مطلقة! فإنه ل يفقد
كرامته فقط ،بل وإنسانيته أيضًا ،فيتحول إلى شخص
فر ،ومهما امتلك من القوة والسلطان ...فإن مكروه ،من ّ
مصيره حتما ً الموت ،وإن لم يكن من الناس فمن الله،
والكتاب المقدس يقدم لنا دليل ً في شخص هيرودس
الملك ،فعندما ظن هيرودس أنه صار إلها ً ضربه الله
فمات ،فما هي قصة ذلك الدكتاتور ؟
161
كان هيرودس ملكا ً على اليهودية ،لكنه كان دكتاتورًا،
فهو الذي ذبح يعقوب أخا يوحنا بالسيف ) أع ( 1،2 :12
) أع .( 19-12:3 وسجن بطرس الرسول
وكعادة الدكتاتوريين ،إذلل الشعب وإفقاره ،وذلك
لكى يلجأوا إليه ،فلما ازداد الشعب القديم إنحدارا ً
وبؤسًا ..ذهبوا إلى الملك ليستحسنوه ،ومن أجل
إطعامهم جعلوه إلها ً إذ قالوا " :هذا صوت إله ل
صوت إنسان "!! فلما قَِبل الملك أن المدح المغلف
عط المجد لله ،ضربه ملك الرب بالرياء والمكـر ،ولم يُ ِ
)أع :12 فصار يأكله الدود ومات في الحال
.(23 -20
ولن الدكتاتور يعلم أنه معّرض للموت في أية لحظة،
والغتيال هو نهايته ،يُحيط نفسه بحراسة مشددة
لحمايته من ناحية ،وللقبض على معارضيه وعقابهم من
ناحية ُأخرى ،وفي حراسته يعتمد على المرتزقة وأدنياء
البشر ،وغالبا ً ما ُيرشيهم ويعطيهم مناصب لم يكونوا
يحلمون بها ،ولو سارت المور على طبيعتها ما كان
ممكنا ً أن يصلوا إليها ،لنهم ذوو مواهب وإمكانات
لخرى ..فهو كما يقولمحدودة ،هذا غير التسهيلت ا ُ
الفيلسوف أرسطو:
" مممم ممم مممم مممم ".
ربما يدافع البعض عن أسلوب الدكتاتور قائلين :إن
هدفه خير المة تحت أي أسلوب ..فالدكتاتور كما
يظن البعض له إيجابيات ،لكننا بهدوء نتساءل :ما هي
قيمة اليجابيات إذا كان المقابل تدمير النسان وتحطيم
162
021
- -
قيمه ومبادئه ؟! ما قيمة اليجابيات إذا كان ثمنها تحويل
الشعب إلى جماجم عظمية تسير منزوعة المخاخ !
شخصيات تافهة تطعنها مشاعر الخوف والعجز وعدم
سبل الحق، القدرة على إبداء الرأي ! قطيع ُقطعت عنه ُ
فلم يعد يرى الحق وفي نفس الوقت عاجز عن
ممارسته !
ليس للدكتاتور أية إيجابيات ،هذه حقيقة ،بل حياته،
أفكاره ،تصرفاته ،قوانينه ..كلها سلبيات والنتيجة
واضحة :التخلف في كل المجالت العلمية والثقافية
والقتصادية… فالدكتاتور هو المصدر الرئيسي للجهل
والفساد وكل الرذائل التي تعم البلد ،لنه يسعى بكل
إمكاناته لن يلغي فكر النسان وتحطم شخصيته ،وإذا
صار النسان مثل حيوان ل تتعدى حريته الحظيرة،
ضاعت آدميته ،ومات فيه البداع ،وانعدام البتكار.
مم مممم مممممم ممممممممممممممم ممممم!
إن موقف الدكتاتور هو موقف من يقطع شجرة
ليقطف ثمرة منها ! فى حين لو تُركت الشجرة لخرجت
أثمارا ً وأثمارا ً ،ولكن هكذا الدكتاتوريون ل يقنعون إل
بأفكارهم ،فل إيجابيات للدكتاتور ،وليس هناك ما يُعرف
بالدكتاتور العادل ،فهذا مصطلح يخدم أغراضا ً خاصة!
لن الدكتاتورية هي أسوأ أنواع الحكم ،لنها نظام
يستخدم السلطة استخداما ً فاسدا ،كما يتخذ العنف
سلحا ً ضد الكائنات البشرية ..
ولهذا كما يرى أرسطو ل يستطيع رجل حر ،أن
يتحمل هذا النوع من الحكم ،وإذا كان في استطاعته
163
الهروب لهرب ،فالنسان الحر ل يتحمل مثل هذه
الشكال التعسفية من الحكم إل مرغمًا ،وكل الذين
يعشقون الحرية ،ويمقتون العبودية ،ينظرون إلى
الدكتاتورية على أنها تدمير للنسان ،لنها نظام يحيل
البشر إلى عظام نخرة ،فليس أضعف من الدكتاتورية
نظاما ً للحكم !
ولهذا ل يمكن أن تذكر الدكتاتورية بطريقة فيها مدح،
وهكذا تبدو عبارة الدكتاتور العادل بالغة الغرابة! والواقع
أنها ليست دقيقة وتناقض اللفاظ ! إن كانت كلمة
دكتاتور تشير إلى الحاكم الظالم أو القاسي ،أو
الشرير..
وإذا كان الدكتاتوريون في نظر البعض وحوشا ً بشرية،
ظهرت في التاريخ لتحكم شعوبها بالنار والحديد ،وإذا
كان البعض الخر يذهب إلى أنهم ليسوا مرضى نفسيين
فقط ،بل هم أمراض وأوبئة ..يسعون أن تكون الرعية
كالغنام في طاعتها ،وكالكلب في تذللها وتملقها !
الواقع أن هذه التعبيرات أقرب إلى تعبير:
ممممممم ممممممم مم مممممم مممممم !
ل شك أن الدكتاتورية تهدم إنسانية النسان،
والطغيان يحول البشر إلى عبيد ،يكفي أن المجتمع في
عهد الدكتاتورية يتحول إلى عيون وجواسيس يراقب
بعضها البعض ،ولهذا ل تتعجب إذا رأيت أخا ً يرشد عن
أخيه ،وجارا ً يكتب تقارير عن جاره ،ومرؤوسا ً يكتب
حقائق مزيفة عن رئيسه ! فعندما تُسجن الحرية تكثر
الوشاية ،وتحاك الدسائس والمؤامرات.
164
حتى الدكتاتور نفسه يعيش في شك من كل
المحيطين به ،فيبث عيونه في كل مكان ،لكي تنقل له
تحركات الناس وأفعالهم وأقوالهم ..ولن الدكتاتور
إنسان بل قيم ،وليس له أصدقاء ،ول يفي بوعد أو كلمة
شرف ،فهو لذلك يفرض جواسيس على جواسيسه،
فتتحول الحياة إلى دائرة من الخوف والرعب
والشك!...
لم نسمع فى يوم ما عن دكتاتور ،إنه كان موضع حب
وإعجاب الناس ،إنما التاريخ يشهد إن كل الدكتاتوريين
كانوا محل ً للكراهية ،بدائيين من الناحية ،قليلي
المواهب ،بل أخلق أو مبادئ أو قيم ..ومهما أنجزوا
فستظل أعمالهم بل قيمة ،إذ يكفيهم تدمير النسان !
يعوض عنه بشيء ! ولهذا إذاّ ومعروف أن النسان ل
مات الدكتاتور ل يبكي عليه أحد من البشر !! أتعرفون
السبب :
مممم مممممم مممم ممممم ممممم ممممم م
مممم مممم مم ممم ممم مممم مممممم مممم!
ما معنى أن يفرض دكتاتور آراءه وأفكاره على
الخرين ،دون أن يناقشهم أو يأخذ بآرائهم ؟! إن مثل
هذا السلوك حتى وإن كان في صالحهم ،إل أنه ل يصلح
القصر ،الذين لم يصلوا بعد إلى سن
إل مع الطفال ِ
الرشد ،أما الكبار وإن كانوا بسطاء الفكر فلهم أساليب
ُأخرى لقناعهم ،ولعل أفضل هذه الساليب هو الحوار،
الذي ُيشعر النسان بإنسانيته… أقول :
مم ممممممم مممم مم مممم مممم ممم ممممم
165
221
- -
مم ممممممم ممم مممممم مم مممممممم
ممممممم !
نستطيع أن نقول مع أفلطون :إن أسوء ما يوجد
على الرض هو الدكتاتور ،ونتحد مع أفلطون في تعريف
الدكتاتور بأنه :مثل كل شر ،أو قل حيوانا ً شرسا ً ليس
له هدف ،إل أن يفتك بالخرين ويلتهم البشر ،وها نحن
نتساءل:
ماذا لو ملك هذا الحيوان المتوحش وصار هو المهيمن
الوحيد ؟ ماذا نقول إذا طالت مدة رئاسته ؟ فمن
المعروف أن الدكتاتورل يتقاعد أبدا ً إذ ليس له سن فيها
يحال إلى المعاش ،فهو إما أن ُيقتل أو يطيح به شخص
آخر ! " لن كل الذين يأخذون بالسيف بالسيف
يهلكون" )مت " (52 :26بالسيف يموت كل
خاطئ" )عا .(10 :9
ولو أمكن التعميم فيما يخص طبيعة عنف
الدكتاتوريين نقول :إنهم ُأناس لديهم اضطراب في
المشاعر تجاه الخرين ،وكثيرا ً ما يتوفر لديهم الميل
إلى تجسيم المشكلت خارج أنفسهم ،وإسقاط
أوجه نقصهم على الخرين ،كما أن كل إنسان
تستهويه العمال الدموية ،والساليب التعسفية،
واستعباد البشر وإذللهم ،ويكون كل تركيزه على ذاته
وشهواته دون أن يبالي باحتياجات ومشاعر الخرين،
ويحاول النتقام من البارزين الذين هم أفضل منه علما ً
خلقا ً ودينًا ،هو إنسان مريض نفسي مهما حاول البعض و ُ
166
تبرير سلوكه ،إذ كيف ل ُناس أسوياء ظاهريا ً اقتراف
مثل هذه الفعال الدموية والتعسفية !!
مممم ممممم ممممم ممممم!!
مم مم ممم ممم ممممم!!
167
ممممم مممممم
ممممم مممم ممممممممم
لكن كيف يظهر الدكتاتور؟ وما هي مبررات وجــوده
في الحكم ؟ وما هــي الدعائم الــتي يســتند عليهــا فــي
حكمه ؟ ثم كيف يحتفظ بعرشه الــذي ل يفصــله عنــه
إل الموت ؟ أسئلة ل حصر لها تُطرح حــول هــذا الثعبــان
البشري ،ول توجــد إجابــة واحــد ة تحــل لغــز هــذه الفــة
البشرية ،إذ أن عوامل كــثيرة ،منهــا تاريخيــة وجغرافيــة،
واجتماعية واقتصادية ..أدت إلى ظهور الدكتاتور.
كمــا أن مــبررات وجــوده فــي الســلطة عديــدة ،لعــل
أهمهــا -بحســب فكــره -إنقــاذ الشــعب مــن الضــياع،
وإصلح ما فسد ،أو بمعنى أدق ما أفسده السابقون ،أما
كيف يحتفظ بعرشه ،فأعتقد أن حرسه الخاص الذي هــو
بمثابــة حاشــية كــبيرة لــه ،يلعــب الــدور الرئيســي فــي
حمايته ،كمــا أن محـاربته للموهــوبين والبــارزين ،وإفقـار
وإذلل الشعب ،ونشر الوشاية ،أو غير ذلك مــن وســائل
سلبية تدميرية ،كلها أساليب لها دور في حمــايته ،ولكــن
لفترة ،لنه في الغالب إما أن يُقتل أو ُينفى !
ويصف الفيلسوف أفلطون في كتاب "
الجمهورية " كيفية ظهور الدكتاتور من الديمقراطية
نفسها ! فيوضح أن الديمقراطية أو الحرية تُفهم في
أحيان كثيرة فهما ً خاطئًا ،فتكون النتيجة انتشار
الفوضى ،التي من ثمارها انتهاك حقوق البشر ،وغياب
القانون ..فتظهر الجماعات من الغوغاء ،وتكون
168
421
- -
السيطرة الكاملة للفتوات الجهلء ،فيقفز الدكتاتور إلى
الحكم ،لنه غالبا ً ما يكون واحدا ً من هؤلء المرضى،
المهوسين بحب السلطة ! فالحكومة الدكتاتورية كما
يرى أفلطون:
مممم مم ممممممم ممممممممممم ممممممم
مم مممممم ممم مم مممممم ممممممم ..
وفي أحيان كثيرة يعم الفساد أنحاء البلد ،ل بسبب
الفوضى ،وإنما بسبب فساد الحاكم ،ولعل أشهر
عصور الفساد هي عصور الملكية ،فمعظم الملوك
الذين تولوا السلطة بالوراثة وتربعوا على عرش الملك،
ضلوا وحادوا عن طريق الحق ! فالنتيجة الطبيعية تسّلط
المنحلين ،وتمّلك المنافقين ،وتوّلي الجهلة أعلى
المناصب ..فل يجد الشعب بديل ً ليتخلص من هذا الفساد
سوى الثورة أو النقلب ،وغالبا ً ما يكون قائد الثورة هو
الذي يتولى الحكم ،فيحكم بلده بالنار والحديد ،ثم بعد
قليل يخضع لبريق السلطة ،فيسعى بكل ما يملك من
إمكانات ،للحفاظ على العرش والتربع على كرسي
الحكم ،فماذا يفعل ؟ يبدأ في إصدار قوانين إرهابية
وأحكام سياسية تعسفية ،لجبار الناس على طاعة
أوامره ،والخضوع المطلق لقراراته ،فيتحول دون أن
يريد إلى دكتاتور ،شأنه شأن من كان يحكم قبله ،وإن
اختلف الشكل أو السلوب!
لكننا نؤكد أن أهم وأخطر العوامل ،التي ساعدت
على انتشار الدكتاتورية ،سواء في العصور القديمة أو
الحديثة ،هي قلـة مواهب القادة ونشأتهم
الممزقة ،فمعظم الذين وجدوا نشوتهم في إذلل
169
621
- -
البشر واستعبادهم ..نشأوا في أوساط منحطة خُلقيا ً
وماديًا ..فعاشوا يعانون الحرمان في كل شئ :المال،
العلم ،الحب ..فما أن تملكوا حتى سعوا بكل طاقاتهم
لشباع رغباتهم الجنسية ..وشهواتهم الحسية ..التي
ظلت مكبوتة عدة سنوات.
ومن الطبيعي أن يبدأ هؤلء حملتهم النتقامية ضد
من كان أفضل منهم ،ليعوضوا النقص في شخصياتهم،
وها سليمان الحكيم يؤكد هذا بقوله " :تحت ثلثة
تضطرب الرض وأربعة ل تستطيع احتمالها ،تحت عبد
إذا ملك وأحمق إذا شبع خبزًا ،تحت شنيعة إذا
تزوجت وآمة إذا ورثت سيدتها " )أم ! (22 ،21 :30
فها هو هتلر أشهر دكتاتور في العصر الحديث ،الذي
مزق العالم تمزيقا ً ،يولد في ُأسرة فقيرة في النمسا،
فذاق منذ نعومة أظافره كل ألوان العذاب بسبب الفقر
والحرمان ،حتى إن ظروفه المالية أجبرته على ترك
المدرسة مبكرًا ،ولما فشل في احتراف الرسم ،وعجز
عن النخراط في أي عمل آخر ،وضاقت عليه حياته في
سٍ ل يرحم فقيره ،هاجر على ألمانيا واستقر مجتمع قا ٍ
في ميونخ ،حيث عمل نقاشا ً قبل أن يلتحق بالجيش
ويشارك في الحرب العالمية الولى..
وعيدي أمين دكتاتور أوغندا ،ذو النوادر الطريفة،
فقد طلب مرة من رئيس تنزانيا أن يلعب معه مباراة
في الملكمة ،بدل ً من أن يدخل معا ً في حرب ويذهب
ضحاياها اللوف !..هذا الدكتاتور لم يكن يعرف القراءة
والكتابة ،وليس له شهادة ميلد ،استقبل حياته في
الغابة ،كما أنه لم يلتحق بمدرسة في حياته !!
170
أما في إفريقيا الوسطى فقد ظهر بوكاسا ،الدكتاتور
الغريب الطوار المتقلب المزاج ،الذي قام بعملية سطو
على قمة السلطة ،بعد أن كان متطوعا ً في الجيش
الفرنسي برتبة رقيب ،إل أنه بعد الستقلل ينخرط في
جيش بلده ،ويتدرج في المراتب العسكرية ،حتى يقوم
بانقلب عسكري ،يعين على إثره نفسه في معظم
مناصب الدولة الهامة:
-رئيس الجمهورية مدى الحياة
-وزير الدفاع
-وزير الداخلية
-وزير الزراعة
-حامل الختام الرسمية الملكية
فأي قرار هذا الذي اتخذه ؟! وما هي مواهبه وقدراته
حتى يشغل كل هذه المناصب وحده ؟! ثم ماذا يفهم
في الوظائف التي شغلها ؟! إنه عشق السلطان
المطلق ،حب السياسة المركزية ،الخوف على المركز
محاولة يائسة لتعويض حرمان الطفولة والصبا !!
فهل ُأناس مثل أولئك يستحقوا أن يحكموا بشرا أو
ً
يقودوا بلدا ً ؟! كيف ؟ كيف لمريض مشلول قدرة
أن يذهب ليفتقد المرضى ويعالج المجروحين ؟
نعم كيف ل ُناس ترجع أفعالهم إلى الخلل النفسي،
والنشأة الممزقة ،أو التربة القذرة التي نبتوا فيها ..أن
يتولوا رعاية أو قيادة من هم أفضل منهم علما ً وخُُلقا ً
ودينًا؟! ولكن هذه هي الحياة منذ أن وجدت:
ممم مممم مممممم ممممم مممم ممممم مممممم
مممم
171
مممم مم مممممم ممم
مممممم مم مم م م
ممممممم!
يتولى الدكتاتور الحكم كما قلنا ليُنقذ البلد من
الفوضى التي عمتها ،أو الفساد الذي دنسها ،فهو يظهر
على أنه المنقذ الذي سيعيد المن والنظام والستقرار
إلى البلد ..حتى يشعر كل مواطن أنه آمن على نفسه
وأهله وأولده ..فالمبرر لظهور الدكتاتور هو قدرته على
النهوض بالشعب ،وحل المشاكل ،والسيطرة على
الزمات ،بعد أن أصبح القائد الحالي عاجزا ً عن حلها..
ولهذا يبدأ أيامه الولى من حكمه ،متبعا ً سياسة
الرحمة والحب والمسامحة ،فيتقرب من الناس ،ويبتسم
لكل من يقابله ،بل ويحييه ،وربما ينحني أمامه ! كما أنه
يستنكر كل أساليب العنف وإذلل البشر ،ويعفي الناس
من الديون ،ويلغي الضرائب ،ويوزع الراضي على
الشعب ،ويهتم بالفقراء ،وبصفة عامة يتصنع الود
والطيبة والكرم والحترام مع الجميع!..
إذن فسياسة المكر هي أبرز سمات سياسة
الدكتاتور في بداية حكمه ،وإذا تساءلت لماذا ؟ ُأجيب:
ون حرسا ً خاصا ً لنه في البداية ل يكون قد ك ّ
يحميه من أية انقلب يقوم ضده كما أنه يريد أن يجمع
معلومات عن الشخصيات البارزة ،ويعرف ضعفات
معاونيه لذللهم وإجبارهم على تنفيذ سياسته ..وهذا كله
ل يتم إل بالمكر والبتسامات المصطنعة ،فما أن يتملك
فسرعان ما يبدأ في القضاء على معارضيه ،وكل من
يشعر فيهم القدرة على الوقوف ضده !
172
821
- -
وإلى هنا ل تنتهي سياسته ،فبعد أن يتخلص من أعدائه
ل يكف عن شروره ،بل يريد أن ُيظهر قوته في حماية
شعبه ،فماذا يفعل عميل الشيطان ؟ يشعل الحرب
داخل البلد ،وهذه الحرب الهلية غالبا ً ما تكون فتنة
ُيثيرها ! فيشعر الشعب بحاجته الشديد إلى قائد قوى
يحتمي فيه وينقذه ،وهل من منقذ غير القائد يستطيع
بإمكاناته أن ينقذهم ؟!
مم ممممم ممممم ممممممم ممممممم ممممم
ممممممممم
مممم ممممم ممممممم ممم مممم مممممم ممم
مممم
مممم ممممم مممم ممم مممم ممم ممم
مممممم !!
بعد أن يقضي الدكتاتورعلى أعدائه يجد نفسه سيدا ً
مطاعًا ،فالطريق قد زالت منه اللغام والشواك ،عندئذ
يفعل ما يريد سواء كان خطأ أم صوابًا ،فل يجد مانعا ً
من سفك دماء أقرب الناس إلية فنيرون قتل أُمه
ومعلمه ! ول تتعجب إن قرأت أو سمعت عن تلفيق
التهم الباطلة أو المحاكمة ..لشخاص أبرياء بدون
قانون ،فالدكتاتور يحتقر القوانين أشد احتقار ول يعترف
فذ!
بها ،فكلمه هو القانون الذي ينبغي أن ين ّ
ولما لم يعد هناك شئ أو شخص يستطيع أن يقف في
وجه الدكتاتور فإنه يصبح على -حد تعبير أفلطون -عبد
الجنون ،وينقلب حكمه إلى كارثة ،فالجبار الذي أمسك
بدفة الحكم ليكون مخلصا ً للشعب ،ل يُقيم وزنا ً لدماء
البشر ،أو أموالهم ،أو أعراضهم ،فيقتل البرار ظلمًا،
173
ويسفك دماء العلماء والمفكرين والبارزين غيرة
وحسدًا..
وهذه قصة دكتاتور روماني ،تقدم لنا صفحة قاتمة
من تاريخ الظلم ،وهي بل شك صفحة سوداء مليئة
بالقسوة والعنف ،إنها صفحة خالية من كل معاني
الرحمة والعدل واحترام كرامة وحقوق النسان ..إنه
كاليجول الذي حكم روما في القرن الول الميلدي !
بدأ كاليجول حكمه بأسلوب الماكرين ،فماذا فعل ؟
أفرج عن المسجونين ،وأعاد المنفيين ،كما خفف
الضرائب على الشعب ،ووزع أموال ً كثيرة على
المحتاجيـن ،أما الديمقراطية فكانت شعاره ! فظـن
النـاس أن عصر كاليجول هو العصر الذهبي
للمبراطورية الرومانية ولكن سرعان ما خابت الظنون
! فبعد ثلثة أشهر من حكم هذا الوحش البشري انقلب
الحال ،وظهرت المور على حقيقتها ،فكاليجول ليس إل
وحشا ً بشريا ً ،متعطشا ً دائما ً لسفك الدماء ،أعصابه
متوترة ،شره للملذات ،نهما ً للجنس ،ل يخضع لقانون أو
يلتزم بمبدأ ..فهل من سبب لذلك ؟! نعم !
لقد اكتشف في بداية حكمه :ان كلمته مطاعة
ومسموعة بصورة لم يكن يتوقعها ،وأنه
يستطيع عمل أي شئ وفي أي وقت ومع أي
إنسان دون أدنى اعتراض ،فتسلل سم السلطة
المطلقة إلى عقله ،فأصبحت قراراته صادرة عن
إحساسه الجنوني بأنه يملك الرض وما عليها ،ولنه
اقتنع تماما ً أن أحدا ً ل يقدر أن يقول له " ل " !! أرغم
174
031
- -
أعضاء مجلس الشيوخ أن ُيقّبلوا قدميه !!
والعجيب:
ممم ممممم ممممم ممممم مممم ممممم مممممم
ممم مم مممممم ممم ممممممم ممممم ممممم!
أما سلوكه بالنسبة للنساء فقد كان شاذا ً بصورة
فرة ،فقد أمر بطلق ُأخته ليتزوجها ! ثم من ّ
مقّززة و ُُ
ماتت فحزن عليها إل أن حزنه عليها لم يمنعه من
تطليق زوجات كثيرات ليصبحن عشيقات له ! وذات
مرة حضر زفاف إحدى النساء الشهيرات في روما،
وفي ليلة الزفاف أعجبته العروس فأخذها إلى قصره
وتزوجها !
وازدادت سلوكياته الشاذة ،فصار ل يستحم إل
حب أن يلقي بالنقود الذهبية من شرفة بالعطور! وكان ي ُ ِ
قصره على الناس ،لكى يستمتع بمنظرهم وهم
يتزاحمون على النقود التي يُلقيها جللته ! فكانت نتيجة
هذا التبذير هي الفلس ! فماذا فعل ليحصل على المال
؟ فرض الضرائب على الشعب بعد أن كان قد خففها !
وكان يقتل الغنياء ليحصل على أموالهم !
ومن أعمال هذا الدكتاتور الشاذة ،أنه قرر يوما ً تقديم
جميع الصلع من المساجين طعاما ً للوحوش التي كان
يربيها ليستمتع بألعابها ! وقد وصل إلى قمة الجنون
عندما اختار حصانه المفضل ليجعل منه عضوا ً في
مجلس الشيوخ ! ثم اختاره لكى يكون وليا ً للعهد ،ووارثا ً
لعرش المبراطورية !!
مممممم مم ممممم مممممم ممم ممممم مممم م
ممممم ممممم ممممممم ممممممم ممممممم !
175
ومن الصفات الدامية التي يمثلها كاليجول ،نتعلم أن
السلطة المطلقة تقود إلى فساد مطلق ،وتؤدي
إلى جرائم وكوارث ما أصعب علجها ،وهي إن كانت
شرا ً يفتك بالبشر ،فهي أيضا ً مأساة لصحابها ،فيندر
أن يكون هناك دكتاتورقد سلم من دكتاتوريته ،وها هو
كاليجول نفسه قد انتهى به المر أن ُيقتل على يد أحد
ضباطه !
يجب أن نعترف بأن الغاية النهائية للدكتاتور لكي
يحتفظ بعرشه ،هي تدمير روح المواطنين ،وزرع
الشك وانعدام الثقة فيما بينهم ،وجعلهم عاجزين عن
عمل أي شئ ،كذلك تعويد الناس على العمال
الخسيسة ،والعيش بل كرامة ،بحيث يسهل عليهم أن
يعتادوا الذل والهوان ! فإذا دُمرت روح الشعب انتشر
الجهل وسادت الفوضى وانعدمت المواهب وأصبحت
الحياة عائمة ،هنا يصطاد الدكتاتور في عكارة المياه،
وهكذا يميل الدكتاتور إلى هدم الدولة ذاتها ،بهدمه لروح
المواطنين التى هى الساس لقيام الدولة !
ولهذا نشبه الدكتاتور بما كان يفعله همج لويزنانة !
فما هي لويزنانة وماذا كان الهمج يفعلون فيها ؟ هي
ولية أمريكية عاصمتها باتون روج أصبحت في عام )
1812م( الولية رقم ) (18وفي هذه الولية كان
الهمج لكي يقطفوا الثمار يقطعون الشجرة
نفسها ! فالنتيجة واضحة ،لو استمر هذا السلوك فبعد
قليل فلن نجد شجرة واحدة ،فتنتشر المجاعات وترتفع
نسبة الموتى ،إلى أن تنتهي البشرية كلها !
176
231
- -
لقد أصبح الن واضحا ً أن الحالة النفسية ،هي حجر
الساس في البداع والنمو والزدهار ..فالنسان الحر
المستقر نفسيا ً وبدنيا ً يستطيع أن يُنتج أكثر وبصورة
أفضل من القلِق أو المتوتر ،وهذا ما أكده عالم القتصاد
الشـهير آدم سـميث ) 1790 –1723م ( عندما قال
في كتابه المشهور ) ثروات المم ( :إن العامل الحر
يزيد عن العبد في النتاج ،لن القهر يحجب نشاط
النسان وذكاءه وإبداعه !
وعبودية النسان ،كما يرى عالم القتصاد الفرنسي
سي ) 1848 -1787م( ،تعطل مواهبه، الشهير رو ّ
وتقيد إرادته ،ول يقتصر ضررها على ميدان الخلق
فحسب ،بل يتعداه إلى الضرار بالنظام القتصادي أيضًا،
لن في ظل النظام الدكتاتوري يكاد العمل أن يتوقف،
ول يكون حديث الناس إل عن الدكتاتور وكيفية الخلص
منه.
والن نقترب من السؤال الذي يثيره البعض :هل
يستطيع الدكتاتور أن يحفظ الود لعوانه ؟! لقد
وصل الدكتاتور إلى السلطة بواسطة أعوان ،قد يكونون
من المرتزقة الشرار ،أوغيرهم من أدنياء البشر ،وكنوع
من رد الجميل ،أعطاهم بعد توّليه الحكم إما مراكز أو
أموال ..فهل علقته بهؤلء يمكن أن تستمر إلى
البد ؟!
يجب أن نعترف بأن الدكتاتور بحكم تكوينه النفسي،
ل يستطيع أن يحيا مع إنسان حياة مركزها
الحب ،فالمبادئ والقيم ل مجال لها في حياة الدكتاتور،
فهو على استعداد أن يغدر بأى إنسان إذا شك فيه ،حتى
177
الذين ساندوه إذا أصبحوا من ذوي النفوذ ،يعّبرون عن
آرائهم بكل صراحة ،وينتقدون تصرفاته ،فلبد أن يقضي
عليهم ،وفي النهاية ل يترك شخصا ً ذا قيمة سواء بين
أصدقائه أو أعدائه إل ويقتله ،أو على القل يحد من
نفوذه أو شهرته ،أو يقيد مواهبه ،ويسجن حريته ،ولهذا
فإن سنوات حكم الدكتاتور هي سنوات غليان ،إذ أن
البلد تكون في حالة حرب مع الجميع !
أما سبب فقدان ثقة الدكتاتور في الجميع ،فيرجع إلى
أن الدكتاتور يعرف جيدا ً أنه مكروه ،والجميع بعد أن
اكتشفوا سياسته الملتوية وأسلوبه الماكر يريدون
الطاحة به ،ولكن كيف يتحقق حلمهم ؟ لبد من ثورة أو
انقلب أو استخدام أحد أعوانه المقربين إليه ليغدر به..
ولهذا السبب تنعدم ثقته حتى في أصحابه وحاشيته..
ولنه يفقد ثقته في الجميع فهو لذلك يحاول مراقبتهم،
ويسعى جاهدا ً لمعرفة أخبارهم ،وجمع المعلومات
المخزية عنهم ،ولهذا تكون له عشيقات كثيرات ،لشباع
شهواته المتعطشة على الدوام ،هذا من ناحية ،وعلى
أمل أن يبّلغن عن أزواجهن من ناحية ُأخرى ،ولنفس
السبب تراه يفرط في تدليل الخدام والعبيد حتى يفشوا
أسرار أسيادهم ! ولهذا السبب أيضا ً يختار الفاسدين من
أدنياء البشر في نظام حكمه ،ليكونوا له مرافقين
ومستشارين ،فهم عبيد التملق والنفاق ،والدكتاتور
حب من يتملقه، تسره المداهنة ،وينتشي من النفاق ،وي ُ ِ
ولهذا ل نجد إنسانا ً شريفا ً يقدم على مثل هذا العمل
الدنيء ،أما الرجل المنحط فليس لديه استعداد للقيام
178
بمثل هذا العمل فقط وإنما يسعى إليه بكل ما يملك من
إمكانات !
179
ممممم مممممم
مممم ممممممممم ممممممم
مممم
أما صفات الدكتاتور ،والساليب التي يلجأ إليها لكي
يحتفظ بعرشه ،فهي تقليدية يتوارثها الدكتاتوريون! وقد
ابتكر أغلبها بريندر Perianderطاغية كورنثه )-625
585ق.م( وإن كان قد استمد الكثير منها من سمات
الحكم في بلده ! ولعل أهم هذه الصفات والساليب
هي التي :
مممممم ممممممم
حياة الدكتاتور كما يصفها أفلطون هي سلسلة من "
أعياد اللذة " سواء كانت حسية كالكل والشرب
والسكر والجنس ..أو نفسية كحب السيطرة والتملك..
ومن المعروف أن من يعيش للذاته تكون حياته بل
مبادئ ،لن اللذة عندما تتملك على إنسان تجعله في
حالة عجز تام ،عن معرفة قريبه حامل القيم السامية،
ومن أجل تحقيق لذاته هو على أتم الستعداد أن يفعل
أي شئ في أي إنسان!
كما أن اللذات تولد لذات لبد من إشباعها ،وإشباع
اللذات المتجددة كل يوم يحتاج إلى مال ،ولكن المال
سرعان ما ينتهي ،فما هو الحل ؟ تبديد الميراث
والممتلكات! ومع ذلك تبقى اللذات تلح بعنف ،وتلد
180
431
- -
لذات ُأخرى أشد قسوة وإلحاحًا ،فتصرخ اللذات العنيفة
وتلدغه ،فيجري هنا وهناك كالمجنون باحثًا ،عن من
يملك شيئا ً يأخذه منه سواء بالخديعة أو بالكراه ..ولن
الدكتاتور ل يقيم وزنا ً للقيم أو المبادئ الخلقية ..فهو
إذن ل يتورع عن ضرب إهانة أو قتل كل من يقاومه،
حتى لو كان هذا الشخص أباه أو أخاه أو إبنه أو
صديقه...
في روسيا ظهر" ستالين " الملقب بالدكتاتور
الحمر ،رجل يحيا في شراهة غير طبيعية ،لم يألفها
العالم في حاكم من قبله ،فقد كان يلتهم كميات هائلة
من الطعام يعجز عن ابتلعها وحش كاسر ،ضخم
الجسم ،وشديد النهم ! وأنا هنا أكتب كما قرأت في
كتاب نوادر الحكام للستاذ مجدي كامل ،وإن كنت
حتى الن ل ُاصدق ما أكتبه !!
فقد ذكر المؤلف -بحسب رواية زوجة ستالين -إن
1
وجبة فطور ستالين كانت تتكون من لتر فودكا يشربه
4
دفعة واحدة ،ثم سمك الهارتك ومعه شطائر البصل
والخيار المملح والخبزالسمر ،أما الطبق الرئيسي ـ ول
زلنا نتحدث عن وجبة الفطورـ فكان يتكون من ضلوع
الغنم أو الخنزير مع البطاطا المقلية والعجة ..هذا
بالضافة للزبدة والمربى والحلوى مختلفة الشكال
والنواع...
أما الغذاء ،فقد كان في الساعة الثانية ظهرًا ،ويبدأ
كالفطور بربع لتر فودكا مع سمك الهارتك والبصل ،ثم
ربع آخر من الفودكا ،يليه الدجاج والنخاعات والسلطة
الروسية ،والخضر والبيض ،وما أن يلتهم كل ما سبق،
181
ينطلق إلى قطـع اللحم ...ثم الحـلوى ...وبعدها يشرب
الشاي ...وفي الساعة الثامنة تبدأ وقائع وجبة العشاء
بحلة كبيرة من الحساء السميك ،ثم يتبعها بالسمك
المدخن والبيض المقلي ،ثم الدجاج أو البط المشوي،
وقطع من لحم الخنزير بعد زجاجة نبيذ كاملة ،ثم بعض
الفاكهة والحلوى قبل أن يختتم وجبته بالقهوة!!! ..
مممممم مممممم
مطلق، من أهم صفات الدكتاتورعشق السلطان ال ُ
فالسياسة المركزية من ابتداع الدكتاتوريين ،ولهذا ففــي
عصور الستبداد القديمة ،ما كان أحـد يعـرف إل الزعيــم
ول يتكلم إل عن الزعيم..
أما فــي العصــر الحــديث ،فتشــغل الجــرائد والمجلت
صـــفحاتها الرئيســـية بصـــورالدكتاتور وعـــائلته ،وهكـــذا
شاشــات التليفزيــون يتخللهــا أحــاديثه ورحلتــه وأعمــاله
ومقابلته ...بصورة مملة لنها مبالغ فيهــا ! والويــل لمــن
يطفو ويلمع اسمه !
أما النتيجــة الطبيعيــة لهــذه السياســة الفاشــلة ،فهــي
التدهور والكبت والقتل والسرقة ...لن إنسانا ً يملك كــل
شئ لبد أن يفهم في كل شئ ،وهل يوجد إنسان خــبير
بكل علوم البشر ؟!
كل الدكتاتوريون هم من عشاق السلطة المطلقة،
صع بالجواهر والحجار الكريمة ،يتلل أمام فالتاج المر ّ
عيونهم ،فيجعلهم يضحون بكل شئ ،ولكي يضمن
الدكتاتور تنفيذ سياسته يشغل الوظائف بحاشيته ،ومن
182
631
- -
بأناس بل مواهب ،أو عديمى ل يخشى منهم ،أو يشغلها ُ
الخبرة ،فهؤلء أدوات مأمونة من أدوات استبداده !!
ولكن في بعض الحيان يُعطي الدكتاتور أتباعه بعض
من السلطان والنفوذ ،لكي ينفذوا أغراضه ثم بعد ذلك
يستبعدهم ،ليس كراهية فيهم بالضرورة ،بل لكي
يستعيد ما أعطاهم من سلطان ،إذ ل يجوز من وجهة
نظر الدكتاتور ،أن تكون ذرة من السلطان في يد إنسان
غيره ..فعاشق السلطان يغار على سلطته أكثر ،مما
حبها..
يغار الرجل على زوجته التي ي ُ ِ
وعندما يريد الدكتاتور أن يتخلص من رجل ،ل يهتم
بالطريقة التي يقضي بها عليه ،المهم أن يختفي من
على مسرح السياسة ،ففي ظل السلطة المطلقة،
تتلشى الهداف والمثل العليا في زحمة الخوف
والرهاب ..كما يغيب القانون وهذا هو بداية الطغيان،
أتذكرون قول المفكر النجليزي جون لوك :عندما
ينتهي القانون يبدأ الطغيان !
831
- -
ضار فيه ولكنهم يتركون ما هو نافع للجسم ،فالشياء
النافعة ل يجب أن تستأصل.
أما الدكتاتور فيفعل العكس ،ذلك لنه ل يستأصل إل
النافع أوالمفيد! فهو ل يقضي إل على الشرفاء،
والمفكرين ،وأصحاب المواهب ،والشجعان،
والمخلصين ...الذين يرفضون نفاقه ،ول يستجيبون
لفساده ،ول يلبون رغباته..
فمن أبرز سمات الدكتاتور الكراهية ،فهو ل يحب رجل ً
ذا كرامة أو شخصا ً شريفًا ،أو إنسانا ً له شخصية
دعي أنه يحتكر لنفسه هذه الصفات مستقلة ،لنه ي ّ
الحسنة ،ومن ثم يشعر أن أي إنسان شريف ،إنما
يزاحمه في الجلل ،أو يحرمه من التفوق والسيادة،
فذلك كله -من وجهة نظره -اعتداء على سلطانه
وسيادته!
وقد يقضي الدكتاتور على البارزين بطريقة غير
مباشرة ،إذ يقوم بتوزيع المناصب على القارب
والحاشية رغم قلة مواهبهم! ففي ظل الدكتاتورية ل
مجال للمتخصصين أو أصحاب المواهب ،كما أن الهدف
ليس العلم أو التقدم ،إنما المال والمركز ،أما النتيجة
فنحن نعرفها ،فالطبيب إن لم يكن ماهرا ً لمات بسببه
كثيرون ،فما بالك بإنسان ليس طبيبا ً بالمرة وقد ُفرض
على الناس ليعالجهم ويشفيهم!
ممممم مممممم مممممم
منذ آلف السنين ونتيجة لسقوط أبوينا ،دخل الموت
العالم ،وعرف الناس القتل ،بعدما قتل قايين أخاه
184
هابيل! أما مأساة قايين فل تكمن في أنه أول قاتل
فحسب ،بل أول من أدخل هذه الطريقة البشعة ،والتي
صارت فيما بعد أسهل الطرق للقضاء على البشر!
إن خطورة القتل ،تلك الجريمة التي يمارسها
الدكتاتوريين دون أن تتأذى مشاعرهم ،تكمن في أنه
بموت إنسان قد يموت اللوف ،وربما شعوب بأكملها قد
تتشرد أو تهلك ،هذا بالضافة إلى أن المقتول ل يمكن
وض عنه ،فهو ليس سلعة ُتشترى أو عملة يمكن أن يع ّ
ُ
استبدالها بأخرى.
ل ننكر أن كثيرين يظنون أن قتل الشرار فضيلة ،أو
أن القضاء على الخطاة وسيلة حسنة ،وذلك لتنظيف
المجتمع من الوبئة البشرية ،والحشرات الدمية كما
يرون ،إل أن هذا المفهوم خاطئ ،فليس من حق إنسان
أن يجعل من نفسه هيئة قضائية ،يحكم على الناس
وينفذ عليهم حكمه ،لكننا نعترف بأن قتل البرار أشنع
بكثير من قتل الشرار لسبب بسيط :إنهم أبرياء !
والحق إن من ُيقتل اليوم لو ُترك للغد فربما يتوب،
فالتاريخ يحكى لنا عن أشرار صاروا أبرارًا ،وزناة تحولوا
إلى بتوليين!!..
إن القتل لم يكن في يوم ما حل ً لمشاكلنا ،أو وسيلة
بّناءة للقضاء على معارضينا أو منافسينا ،لنه إن مات
معارض قام عوضا ً عنه ألوف ،وإن قتل منافس وقف
ضدنا مليين ،كما أن" كل ما أُخذ بالسيف بالسيف
يهلك " )مت (52 :26ومن المعروف أن كل الذين
لجأوا إلى العنف خسروا قضيتهم ،وفي النهاية خسروا
أنفسهم !
185
عندما قامت الثورة الفرنسية عام )1789م(
ظهرت على مسرح الثورة جماعة اليعاقبة ،التى
كانت تمثل حزبا ً بالمعنى الحديث ،لكن زعيمها
روبسبيير تطرف في استخدام العنف وإسالة الدماء
من أجل حماية الثورة ،حتى إنه قتل القادة البارزين
الذين كان لهم دور بارز في نجاح الثورة ! فماذا كانت
النتيجة ؟
بدأ الثوار يخافون على حياتهـم ،بسبب هذا التجاه
المتشـدد ،فقد أصبح واضحا إن من يختلف مع القائد ،أو
أن الزعيم يشك فيه مصيره العدام ،فدبروا مؤامرة
لعتقاله في ) 28يوليو 1794م(.
وفي اليوم التالي لعدامه ،قد تم إعدام 80آخرين
من أنصاره في الحزب ،وبذلك انتهت سطوة الحزب
وانتهى عصر روبسبيير الدموى الذي سمي بـ " عصر
الرهاب " !
041
- -
يوجد طريق آخر أمام الرعية سوى الستسلم الكامل
مطلق !والخضوع ال ُ
وقد أخذ البابليون هذه الفكرة نفسها ولكنهم عدلوها
ور نفسه على أن الذي أعطاه ل ،فحمورابى ص ّ قلي ً
اسمه هو إنليل ،ولهذا أطلق على نفسه ابن إنليل.
كذلك كان الرعب ملزما ً للستبداد عند الفراعنة،
وهذا ما يرمز إليه بالفعى السامة أوريوس Uraeusالتي
ترقد ملتفة حول جبهة الملك تهدد أعداءه بالدمار.
وفي الصين كان فن إدارة الحكم قديمًا ،يعّبر
باستمرار عن حاجته للعقاب المرعب ،حتى إن ما
نسميه الن وزارة العدل ،كان في التراث الصيني
القديم يسمى باسم وزارة العقوبات !
والحق إن الدكتاتور هو إنسان غريب ،ينادي بالحرية
ثم يجعلها احتكارا ً لنفسه ،وكثيرا ً ما يقول للناس :إرفعوا
رؤوسكم لقد مضى عصر الذل ،لكنه يقطع كل من
يحاول رفع رأسه ! وهو بذلك يجعل سمة عصره الخوف
والذل ..ولكن كل هذا ليس بغريب على من إتخذ المكر
والكذب والخداع ...منهج عقيم لسياسته !!
مممم ممممممممممم ممممممم ! مممم
مممم مممممم مممم مم مم مممم !
كم من دكتاتور كان مرهقًا ،ولكن ما أن يرى
مسرحيات التعذيب الوحشية أمام عينيه ،حتى يبتهج
ويزداد وجهه إشراقًا ،ومع كل سوط يهوي على جسد
أعدائه أو خصومه كانت عيناه تلمعان ببريق عجيب ،إن
صوت الصراخ يتحول في أذنيه إلى أنغام موسيقية،
187
النين يشجيه ،والصراخ يطربه ،ومنظر الدم المسفوك
يملؤه بالنشوة ..صوت السوط القاسي المؤلم يغني في
ُأذنيه ،ومنظر الدم المتساقط يتحول أمام عينيه إلى
مجوهرات!
نعترف بأن كل الدكتاتوريين ،الذين أذلوا البشر
واستعبدوهم وداسوا على آدميتهم ،هم عادة من الشواذ
فكريًا ،وشذوذهم هذا هو الذي جعلهم يحسون بالبهجة
في عذاب الخرين ،وكلما كان العذاب أشد كانت
النشوة أكبر!!
أما ضمائرهم فل تستيقظ بعد عمليات التعذيب ،بل
بعد أن ينتهوا من مذابحهم ينامون نوما ً عميقًا ،كما
يحدث مع مريض كان يتألم ثم أخذ حقنة مخدرة
فاستراحت أعصابه ،وراح على إثرها في نوم عميق ،ألم
يقل سليمان الحكيم عن الشرار " :ل ينامون إن لم
يفعلوا سوءا ً وُينزع نومهم إن لم ُيسقطوا أحدا ً
لنهم ُيطعَمون خبز الشر ويشربون خمر الظلم
" )أم ! (17 ،16 :4
ل تتعجب إن سمعت عن دكتاتور ،يأمر بجلد عبيده ،
في الوقت الذي ُيقيم فيه حفلة ماجنة ،فيرقص على
أنغام صراخ المسجونين الذين يأمر بجلدهم ،وهكذا
يختلط صراخ المذلولين بصراخ السكارى والراقصات !
فهل ُأناس مثل هؤلء وأولئك ُيعدون أقوياء ؟! بالطبع ل،
إنهم ُأناس ضعفاء يشعرون بالنقص أمام القوياء ،ولهذا
إذا رأوا رجل ً يتلوى أمامهم من اللم يشعرون بنشوة،
فما هي تلك النشوة ؟! إنها نشوة النتقام من رجال
188
أبرار أو مثقفين ،ل يستطيعون أن ينافسوهم في أي
ميدان إذا فكت قيودهم !
في ظل هذا الوسط المرعب الكئيب ،ل يجد الشعب
أمامه سوى أن يجعل سلوكه وأعماله ...تتفق مع
مطالب الدكتاتور إذا أرادوا أن ُيكتب لهم البقاء ،وهكذا
تصبح الطاعة العمياء ،هي سمة المواطن الصالح في
ظل النظمة الدكتاتورية ! أما الذين ل يطيعون
فمصيرهم :إما النفى وإما الموت !!
مممممم ممممممم
فى ظل النظمة الدكتاتورية ،يكون الهدف الرئيسى
في التربية منذ الصغر ،هو إعداد المواطن للخضوع
التام ،والتلميذ الجيد هو البن المطيع.
فالتربية عند كنفوشيوس حكيم الصين ،هي الطاعة
مطلقة للوالد والمعلم ،وهذا هو الساس الذي تُبنى ال ُ
مطلقة للسادة في المجتمع ،وبالتالي عليه الطاعة ال ُ
للحكام من الدكتاتوريين.
والفرد في بلد ما بين النهرين ،كان يجلس في
المركز تحيط به مجموعة من الدوائر تمثل السلطات
المختلفة ،التي يجب احترامها والخضوع لها ،وتمثل
لسرة :سلطة الدائرة الولى وهي القرب إليه سلطة ا ُ
لخت الكبرى ،وتقع وراء دائرة لم والخ وا ُ الب وا ُ
السرة دوائر أُخرى :كالدولة ،والمجتمع ..وتلزم لكل
منها طاعة كاملة ،فإن لم يطعْ ُيعاقب.
كما كانت السلطة في مصر القديمة تربط بين
الطاعة في المنزل وطاعة الدولة ،فالبن المطيع هو
189
241
- -
الذي ستكون له مكانه طيبة في قلب الدولة ،وسوف
يلقي حديثه قبول ً حسنا ً عند من يتحدث معه.
وهكذا نجد أن الهدف السمى في مثل هذه
الحكومات ،هو تعليم الفرد أن يطيع بغير سؤال ،ثم
تتطور خاصية الطاعة هذه ،التي تتميز بها المجتمعات
الشرقية ،إلى خاصية السجود والركوع أمام
المستبدين أو الدكتاتورين ،فالسجود في
الحضارات القديمة يحدث تقريبا ً في كل مكان ،وهو
مطلقة والخضوع التام للملك. علمة الطاعة ال ُ
ولقد مارس الصينيون القدماء السجود ،في فترة
مبكرة من حكم أسرة تشو Chou ( 1072- 771ق.م (،
ثم انتشرت بعد ذلك في جميع المراحل التالية من تاريخ
الصين..
وقد كان الهنود قديما ً يحتضنون قدم الشخص،
كمظهر من مظاهر الحترام الكبير والتقديرالعظيم،
وكان القتراب من الملك يتخذ مظهر الشخص الذي
يصلي.
وتصف سجلت مصر القديمة ،أن البلد كلها كانت
تنبطح على بطنها عندما يظهر الملك ،أما الرعايا
المخلصون فقد كانوا يزحفون على بطونهم ،لتقبيل
أرجل الملك أو ينتشوا عطره.
وكان السجود في بلد ما بين النهرين يؤدى لللهة
لخرى ..كما والحاكم والمعلم والشخصيات المتميزة ا ُ
كان يؤدي السجود أيضا ً في بلد فارس..
وهكذا نجد أن السجود للطغاة في المجتمعات
الشرقية ،أصبح من التعبيرات الصريحة ،للطاعة
190
الكاملة ،والخضوع والستسلم المطلق والحترام
والتوقير معًا ،هنا نتوقف قليل ً لنقول :إن الطاعة العمياء
يكفي من اسمها أنها عمياء ،أى لترى ! فليس
هناك أفضل من أن نتبادل الراء والخبرات ،فالرأي يثير
الرأي الخر فتتلقى الراء أو ل تتلقى ،لكن في كلتا
الحالتين يكون الحوار ،ومن الحوار السليم تخرج
الحقيقة السليمة.
أما عبارة كن فيكون !! فكلنا نعرف نتائجها ،وهي إن
دلت فتدل بالكثر على شخصية الدكتاتور المتكّبرة،
وأساليب حكمه التعسفية ،التي ل معنى لها ،كما أنها
تدل على الساليب الكثيرة التي يسعى الدكتاتور من
خللها إلى تأليه نفسه !! قد نكون على صواب إن قلنا:
مم مم ممم مم مممممم مممم ممممم ممممم
مممم
مم ممممم ممممم م ممم ممممم ممممم
مممممم
ممممم ممممممم ممممم :ممم مممم ممممممم
م!
191
441
- -
الكبت والمذلة ..كمــا يرفضــون الجلــوس تحــت أرجلهــم
وهم جالسون على عروشهم !
نعترف بــأن العقــل الحــر المســتنير ،لــه القــدرة علــى
المعرفــة والفهــم ،والتمييــز بيــن الخطــأ والصــواب ،ولــه
القــدرة أيض ـا ً علــى المعارضــة والنقــد ،أي له القـدرة
على كشف ألعيب الطغاة ،وإظهــار سياســتهم
الملتوية على حقيقتها..
والــدكتاتوريون ل يطيقــون مــن هــذا شــيئا ً ،بــل هــم
يريدون أن يضعوا غمائم على عيون الناس ،حــتى ليــروا
الحقائق وتكون أوامرهم مطاعة! ومن هنا كان التصــادم
بين الــدكتاتوريون والمثقفــون ،والســبب :إنهــم يحســون
بالخطر الدائم من الفكر الحر والعقل المستنير!
مممم
إن الفكــر ل يمــوت ،والثقافــة ل تُمحــى ،فقــد قــرأت
ور حالة مجتمع كان قادته يحرقون الكتب خوفـا ً قصة تص ّ
من المثقفين ،وما تتضمنه هذه الكتب من مبادئ وأفكــار
وقيم عن المساواة والعدل والحريــة ...ربمــا تــؤثر علــى
الناس وتقودهم إلى ثورة ..ولكي يجعلوا الناس في حالة
ســطحية ،زودوا كــل بيــت بشاشــة تليفزيونيــة كــبيرة ،ل
تعرض إل البرامج المسلية فقــط ،وتــم إغلق المكتبــات،
وُأحرقــت الكتــب ،ولكـن هـل تلشــى الفكــر؟ هـل
اندثر المثقفــون ؟ بــالطبع ل ،لن المثقفيــن تــداولوا
الكتب ســرا ً وفــروا إلــى الغابــة ،وهنــاك بــدأوا يحفظــون
الكتب حتى إذا ضبطها حارقوا الثقافة ودمروها ل تضــيع،
وقد كانت فكرة رائعة ،لن الكتــب تحــولت إلــى كائنــات
192
بشـــرية ،يحفظهـــا عقـــل النســـان ويرويهـــا لغيـــره،
والطريف في هذه القصة :إن كل واحد منهم أصبح
يسمي نفسه باسم القصة أوالكتاب الــذي حفظــه ،فهــذا
اسمه الحرب والســلم لنــه يحفــظ روايــة تولســتوي
الشــهيرة ،وهــذا اســمه البؤســاء لنــه يحفــظ روايــة
فيكتورهوجو.
ممممم ممم مممممممم ممم مممممم مم
ممممممم
مممم ممم ممممم ..ممم مممممم مممممم ممم
ممممممم مممممم ممممم ممممم مممممم
ممممم!
وفي مسرحية يوليوس قيصر الشــهيرة ،يصــف لنــا
شكسبير مدى كراهية الطغاة للفكر الحر ،وخــوفهم مــن
المفكرين النشطاء ،فالقيصر لم يكـن يخشـى أحـدا ً فـي
المبراطورية أكثر من كاسيوس النحيل! والسبب :إنــه
كان يقرأ كثيرًا ،ويتأمل فى الناس والمواقف والحــداث،
ول ُيخفى عليه شئ ،كمــا كــان يرفــض اللهــو والعبــث..
وقد كان قيصرعلى صواب ،فقد أصبح كاسيوس زعيمــا ً
للمعارضين الذين تآمروا على قيصر وقتلوه !
ممم مممممممم ممممممممممم
ماذا يحدث فــي الجتماعــات ؟ الحــديث عــن مشــاكل
الناس ،والحل ـول المقترحــة لهــذه المشــاكل ،فــإذا ســاد
النظــام الــدكتاتوري ،حتم ـا ً ســيكون حــديث النــاس عــن
الذل ،وكيفية التخلص من الدكتاتور الذي يــذلهم ! ولهــذا
السبب يســعى الــدكتاتور بكــل مــا يملــك ليمنــع لقــاءات
193
الناس ،سواء فـي النـوادي أو الحفلت أو غيـر ذلـك مـن
لخرى ،كما يسعى لحظر التعليم أو جعلــه لون ـا ً الماكن ا ُ
خروا من ألوان الدعاية له ! فمـا أكـثر الحكـام الـذين سـ ّ
جـــرائد ومجلت ،بـــل وكّتـــاب ومفكريـــن ..لفكـــارهم
الشخصــية وحيــاتهم الخاصــة ،كــأن ل شــئ فــي الوجــود
سواهم !
إن الدكتاتور يعرف جيدا ً أن تعــارف المــواطنين يــؤدي
إلى ثقة متبادلة بينهم ،وعن طريق هذه الثقــة يمكــن أن
يتحـدوا ويقفـوا ضـد الفسـاد ،ولهـذا يعمـل علـى تفريـق
الناس ،وفي نفس الــوقت يحجــب عــن النــاس كــل مــن
يعمل على تنوير العقــول ،أو بــث الشــجاعة والثقــة فــي
النفوس ! لن انتشار المعرفة ستؤدى إلى الطاحــة بــه،
ولهذا فإن طريقة التعليــم فــى ظــل النظــام الــدكتاتورى
تهدف إلى شئ واحد أل وهو :تكوين أفراد يدينون بالولء
والخلص لشخص واحد وهو :الدكتاتور!
مممممم مممممم
وهذه وسيلة ُأخرى مــن وســائل الــدكتاتور التعســفية،
يســـعى بهـــا للحفـــاظ علـــى ســـلطته ،حـــتى ينشـــغل
المواطنــون عنــه بــالبحث عــن قــوتهم ،فل يجــدون مــن
الـوقت مـا يتمكنـون فيـه مـن التـآمر عليـه ،ويكـون هـو
هاب المعطي لنهم حتما ً سيلتجئون إليه! فإذا التجــأوا الو ّ
إليه ربما يعطيهــم لكــن بعــد إذللهــم ! أمــا طــرق إفقــار
الشعب فكثيرة ولعل أبرزها فــرض الضــرائب ،بالضــافة
إلــى إقامـة المشــاريع مثــل القصـور والمنشــآت ..فهـذه
وسائل لفقار الشعب وسلب أموالهم من جهــة ،ومــن
194
جهة ُأخــرى تشــغل فراغهــم ! ول يعــود أحــد يتكلــم عــن
الدكتاتور ونظامه وحاشيته !
641
- -
نتيجــة هــذا الرعــب ،يحــدث انفصــام فــي شخصــية
ل،النسان ،لنه ل يستطيع أن ينــاقش أمــرًا ،أو ينتقــد فع ً
أو يفكر بصوت مسموع ،ولهذا يلجأ إلــى النفــاق والريــاء
في الظاهر ،وليفصح عمــا بــداخله إل إذا اختلــى بصــحبة
يثق فيها وتستطيع أن تكتم سره ،وهكــذا يعتــاد النســان
أن تكون له شخصية ظــاهرة هــي الــتي تقــول " نعم "
بصفة مستمرة ،وشخصـية خفيـة يمكـن أن تقـول " ل "
في أوقات خاصة وهي نادرة !
أما خطورة هذا النقسام ،فتنعكس على سلوك الفــرد
حتى في التدين ،فتراه يهتم بالشكل دون الجوهر ،الــذي
يتجلى في الصدق والخلص والمانة والعدل والحسان..
وفــي داخــل المجتمــع تجــده ل يهتــم إل بمصــلحته
الخاصة ،والسبب :إنه فقد روح النتماء !! ولكن صــفات
الدكتاتور على هذا النحو ،تثير في نفوس مواطنيه الكثير
من الكراهية ،فيحتاج إلى حرس أكبر عددا ً وأشد إخلصا ً
له ،وهؤلء المخلصون هم المنافقون والمنتفعون ..الذين
يغدق عليهم المــوال بكــثرة ،ول شــك أنــه لــو كــان فــي
الدولة كنوز مقدسة لنهبهـا مضـافا ً إليهـا أمـوال الضـحايا
مــن المــواطنين ،وهكــذا نجــد أن الشــعب الــذي أنجــب
الدكتاتور مضطر لطعامه هو وحاشيته ..
غير أن الشعب -كما يــرى أفلطــون -ســيدرك مــدى
الحماقة الــتي ارتكبهــا ،حيــن أنجــب مثــل هــذا المخلــوق
ورباه ،حــتى أصــبح أقــوى مــن الشــعب ،فأســوار حمايــة
الدكتاتورعالية ،يعجز الناس عن تســلقها ليتخلصــوا منــه،
وهكذا يظل الشعب لسنوات كثيرة خائفًا ،مرتعبًا ،ذلي ً
ل.
196
841
- -
ممممم مم مم مممممممم مممممم مممم
مممممم ممم ممممممم ممم ممممممممم !!
197
إن مــن يــؤمن بالحريــة يــؤمن بالنســان ،لن النســان
كــائن حــر ،فــإن ســلبناه حريتــه ســلبناه معهــا إنســانيته،
والسؤال الحائر هنا :ما قيمة إنسان بل حرية ؟ ما الفرق
لخــرى ؟ أعتقد مــن ل يــؤمن بينه وبين المخلوقات ا ُ
بالنسان ل يؤمن بالله أيضا ً ! لنــه لجــل النســان
صــلب ومــات جاء المسيح ،وحبا ً فيه ورغبة في خلصــهُ ،
على خشبة العار.
والحق إن كل من ل يـؤمن بالمسـيح ،حـتى وإن ظهــر
ل ،وســيظل أمام الناس حرا ً ،إل أنه في الحقيقة عبد ًا ذلي ً
سجين أفكاره العقيمة وجهلــه وكبريــائه! وإن كــان يقي ّــد
الناس بقيود الظلم والرهــاب ،إل أنــه لــم يــزل مربوطـا ً
بقيــود شــهواته ،يكفــي أنــه فــي أحيــان كــثيرة يعــرف
الصواب ،ولكنه نظرا ً لعجزه عن ضبط نفســه ،والتحكــم
في أهوائه يندفع نحو الشر والفساد!
إننــا نــدعو اللــه فــي صــلواتنا " أبانــا " وهــذا الب
السماوي هــو الــذي يقيــم الملــوك والمــراء ،ولكــن هــل
تعتقدون أن أباكم الذي أحبكم وعلمكم طرق الحق يريد
أن تكونوا مظلومين ومرذولين ..من قلة ليس لها هــدف
في الحياة سوى إشباع شهواتهم الرديئة ؟! هل تعتقدون
أن اللــه الــذي ينــزل الســحاب مطــرًا ،ويســتنبت البــذور
مي الزهور ،يريــد أن تكونــوا جياعـا ً لكــي تبقــى قلــة وين ّ
بينكــم تنعــم وتتلــذذ بعــرق جــبينكم ؟! هــل تعتقــدون أن
الروح الذي يدعوكم للمحبـةُ ،يقيــم عليكـم سـيدا ً قاسـيا ً
يظلمكم ويستعبدكم ؟! هل تظنــون أن الوصــايا اللهيــة،
التي تدعوكم إلى التمتع بنـور الحريـة تبعـث إليكـم بمـن
يقــودكم إلــى الظلم ؟! إذن كيــف يرضــى أبنــاء اللــه أن
198
يكونوا عبيدا ً للبشر؟ ألم يحرركم المسيح فكيف يجعلكم
البشر عبيدا ً للفســاد ؟ ألــم يرفــع يســوع رؤوســكم نحــو
السماء فكيف تخفضونها إلى التراب ؟ أما سكب يســوع
النور في قلوبكم وأرواحكم فكيــف تغمرونهــا بــالظلم ؟
هذا ما يقوله جبران خليل جبران.
إن الله قد بعث أرواحكــم فــي هــذه الحيــاة كشــعلت
ل ،فكيــف مضــيئة تنمــو بــالحب والمعرفــة فــتزداد جمــا ً
تلحقونها بالرماد لتبيد وتنطفئ ؟ ألم يهب الله نفوســكم
أجنحة لتطير بها سابحة في فضاء الحب ،فلماذا تجزونها
بأيــديكم وتــدبون كالحشــرات علــى وجــه الرض ؟! لقــد
وضع الله في قلوبكم بــذور الســعادة ،فلمــاذا تنتزعونهــا
وتطرحونها على الصخر لكــى تلتقطهــا الغربــان وتــذّريها
الرياح ؟ أما رأيتــم العصـافير وهـى تـدرب فراخهـا علـى
الطيـــران ،فكيـــف تعلمـــون صـــغاركم جـــر القيـــود
والسلســل ؟ ألســتم تنظــرون زهــور البســتان تســتودع
بذورها حرارة الشمس ،فكيــف تســلمون أطفــالكم إلــى
الظلمة الباردة ؟!
إن عالم الله هو عالم الحرية ،وليســت الحريــة أن
ننغمــس فــي الفســاد كمــا يظــن البعــض ،إنمــا الحريــة
الحقيقيــة كمــا يوضــح بطــرس الرســول ،ل يجــب أن
تكون ستارا ً للشر )1بط (16 :2فالله الحر قد خلــق
النسان علـى صــورته ومثـاله )تــك ،(27 :1ولعـل أهـم
خلق ليعيش حرًا ،فإن سمات الله هي الحرية ،فالنسان ُ
لم يحيا بكامل حريتــه ،نكــون قــد ســلبناه إحــدى ســمات
الصورة اللهية !
199
051
- -
ل،لقد ميز الله النسان على الحيــوان بــأن خلقــه عــاق ً
ومن سمات عقل النسان أنه يفكر ،فإن لم يفكر ،فمــا
هي إذن قيمته ؟! ما هي قيمة عقل عاجز عــن أن
يقول كلمته ! أليس من حق كل إنسان أن يميز
الخطــأ مــن الصــواب ! وبعــد أن يكتشــف الخطــاء،
أليــس مــن واجبــه أن يقــول :هــذا خطــأ وذاك صــواب !
ألوف الكتب بين أيدينا الن ،أليس من حقــي ومــن حــق
كل إنسان أن يقف ولو لحظة يتبين فيها صدق مـا قـرأ !
وهل هناك خطأ إذا أعلن عن الكتب الضارة ،وأوضــح مــا
بها من انحرافات أو ضللت...؟!
ما هو الضرر على اليمان من إنسان يفكــر ،أو عقــل
يتأمــل ،أو إرادة تســعى لمزيــد مــن المعرفــة ؟! مــا هــو
الضــرر إذا غربــل النســان التقاليــد الموروثــة منــذ آلف
السنين ،لكى يحيا في النور ويكون علــى صــواب ؟! قــل
لى :ما هى قيمة الحياة إن لم تكن فكــرا ً وبحثــا ً
وتجديدا ً دائما ً إلى الفضل ؟!
إن اليمــان بــدون أعمــال ميــت )يــع (21: 2
والعمال تتطلب وجود إنســان أُحبــه وأســاعده وأعطــف
عليه ،فالنسان هو الجسر الذى تعبر عليه بأعمالك لكــى
ُتظهر للناس إيمانك ،وها نحن نتساءل :ما قيمــة اليمــان
إن أهملت قريبك ؟ وهل يقبل الله إيمان مــن ل يعطــف
على فقير ول يســعف مريــض ،ويســد آذانــه عــن ســماع
صوت مستغيث ؟! هل يقبل اللــه إيمــان مــن يــذل أخــاه
ويستعبده ويقضي على مواهبه ؟!
مم ممم ممم ممممم مممممممم
ممممم مم ممممم مممممم ممم!
200
لماذا ل يتمتــع النســان بالحيــاة ؟ أليســت الحيــاة مــن
صنع الله ! ألم يجلس المسيح على شواطئ بحر طبريــة
يتأمل في ذاته ماء الحياة ! وفي جسثيماني كان يقضــي
خلواته مصــليا ً ! وعلــى الجبــال متــأمل ً ! ولمــاذا ل يتمتــع
النســان بــالله مصــدر الفــرح ،ويرتــوى مــن نبــع الحــب
والعطــف والحنــان ؟! الســبب إن المســتبدين ســيطروا
على البشـر ،ولنهـم يحملـون سـم الشـر فـي أعمـاقهم
فلبد إذن أن يمتد الشر إلى من حولهم ،وإلى مجتمعهم،
وإلى كل من يسيطرون عليهم! وفي النهاية إلــى العــالم
بأسره! لن بذار الشر ل تثمر إل الشــر ،أمــا بــذار الخيــر
فثمارها خير.
يجب أن نعترف بأن الحرية قــوة للحكــام قبــل أن
تكون قوة للشــعب ،وهــذه الفلســفة للســف الشــديد ل
يفهمها الدكتاتوريون الــذين تشـّبع عقلهــم بفكــر الظلــم،
معتقدين أن إذلل البشر وإرهابهم ،أفضل وسيلة لــدوام
السلطة وبقاء العرش! ولكــن لــو تعمقنــا قليل ً لثبــت لنــا
ضللة هذا الفكر ،لمــاذا ؟ لن الحرية هــي القاعــدة
الساسية التي ل يستطيع أي شــعب أن ينهــض
بدونها ،فبدون حرية ل نمو أو ازدهار أو إبداع أو نقـد أو
رأي أو تصحيح للخطاء !
إن أى حــاكم مهمــا كــانت إمكانــاته الماديــة وقــوته
العسكرية ،ل يستطيع أن يصل إلى النصر ،إذا كان شعبه
مكبل ً بالغلل ،والشعب اللماني ،وهــو أقــوى الشــعوب،
وأكثرها مهارات ،خسر الحرب العالمية الثانية ،لن هتلر
سلب هذا الشعب حريته ،لكن هذا الذي سلب حريــة
الناس انتهت حياته منتحرًا ،وموسوليني أيضا ً أعدمه
201
اليطــاليون أمــام الجميــع ،أليســت الحريــة إذن قــوة
وحصنا ً للحاكم !
إن العنف ل يولد إل العنــف ،وكــل إصــلح يقــوم علــى
العنف مصيره الفشل ،فالحياة أثبتــت لنــا إن كــل الــذين
حاربوا الحرية ولجأوا إلى العنف ،خسروا قضيتهم ،وفــي
النهاية خسروا أنفسهم ،وعلــى أصــحاب هــذه النظريــات
الجوفاء أن يلتفتوا إلى حقيقـة هامـة وهـي :إن الهـداف
الحسنة لبد أن تتحقق بأهداف حســنة مثلهــا ،فــإذا كــان
الهــدف نــبيل ً وكـانت وســائل تحقيقــه ســيئة ،اضــطربت
المور ،وانقلبــت المــوازين ،وتغيــرت النتــائج ،وحــتى لــو
تحقق بعض النجاح للهداف المنشودة ،فإن هــذا النجــاح
يكون شديد المرارة وغالي الثمن !
ولكن رغم توهم البعض أن محاربة الشــر ،ل تكــون إل
بأسلحة مادية ،نجد غاندي يؤكد أن محاربة الشر ،يمكن
أن تكون بأسلحة روحية أو بمقاومــة أخلقيــة ،وقــد يجــد
الدكتاتور نفسه عاجزا ً عن مواجهتها! ولماذا نتحدث عــن
غاندي ألم يقل السيد المسيح " :ل تقاوموا الشر بــل
من لطمك على خدك فحــول لــه الخــر أيضـا ً " )مــت :5
(39ألم يأمرنا السيد المسيح ل بمحبة القريب فقط بــل
والعداء أيضا ً " أحبوا أعــداءكم بــاركوا لعنيكــم أحســنوا
إلــى مبغضــيكم وصــلوا لجــل الــذين يســيئون إليكــم
ويطردونكم ) "..مت .(44 :5
والحق إن محبة العداء تمثل شريعة الكمال والكمــال
ليــس لكــل إنســان ولكننــى تعلمــت أن أفضــل وســيلة
لمقاومة الرذيلة أل نقابلها بمثلها ،بل بالفضيلة المضــادة
ذابلها ! فقاوم اللــص بأمانتــك والزانــى بطهارتــك والكـ ّ
202
بصدقك والثرثار بصمتك… فــأنت بهــذا تجلــب جمــر نــار
على رؤوسهم ،ألم يقل معلمنا بولس الرسول:
فإن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه
لنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه
ل يغلبنك الشر بل أغلب الشر بالخير
203
أخيرا ً والحــب يمل قلــبي أنــاجي
شهوة قلبي قائل ً :
من العماق نناديك أيتها الحرية فاسمعينا ،من جــوانب
الظلمة نرفع أيدينا نحوك فانظرينا ،أمام عرشك الرهيب
نقف ساحبين القيود التي قيدت آباءنا ،صارخين الصــراخ
الــذي جــرح حنــاجرهم ،نــائحين النــوح الــذي مل بيــوتهم،
مصلين الصلة التي انبثقت من أوجــاع قلــوبهم ،فاصــغي ُ
إلينا أيتها الحرية واسمعينا…
فـي زوايـا الكـواخ القائمــة فــي ظلل الفقـر والجهــل
والــذل ،نقــرع أمامــك الصــدور ،ومــن جــدران البيـــوت
الجالســة فــي ظلمــة الجهـــل ،يتصــاعد نحــوك عويــل
النفوس ،وفي زوايا المنازل المختفية بضــباب الســتبداد
تشتاق إليك القلوب وتحــن إليــك الرواح ،فــانظري إلينــا
أيتها الحرية واسمعينا..
فــي المــدارس والجامعــات يناجيــك الشــباب المحبــط
اليائس ،وفي المحاكم والمجالس تستغيث بك الشــريعة
المهملة ،وفــي الحقــول يصــرخ إليــك الفلح الـذي يحفــر
الرض بأظافره ،ويزرعها حبات قلبــه ،ويســقيها دمــوعه،
ول يحصــد فــي النهايــة ســوى الشــواك ،فتكلمــي أيتهــا
الحرية وعلمينا..
من سنوات مضــت وظلم الليــل يخيــم علــى أرواحنــا،
فمتى يجيء الفجر لنبتهج بشعاعه ؟ ومن قيود إلى قيود
تنتقــل أجســادنا والجيــال تمــر بنــا ســاخرة ،فــإلى مــتى
نحتمل سخريتهم ؟ ومن نير ثقيل إلــى نيــر أثقــل تــذهب
أعناقنا وأمم الرض تنظر إلينا ضاحكة فــإلى مــتى نصــبر
على ضحكهم ؟
204
من قساوة الفرس إلى استبداد اليونانيين إلى مظــالم
الــروم إلــى مطــامع الفرنــج ،فــإلى أيــن نحــن ســائرون
الن ؟ مــن مخــالب نبوخـذ نصــر ،إلــى أظـافر السـكندر
الكبر ،إلى أســياف هيــرودس ،إلــى براثــن نيــرون ،إلــى
أنياب الشيطان ،فإلى يد من نحن ذاهبــون لنتقيــد الن ؟
ومتى نبلغ قبضة الموت فنرتاح من سكينة العدم ؟
بعزم سواعدنا رفعنا القصور ،وعلى ظهورنا قــد نقلــوا
الحجارة والطين ،فحتى مــتى نبنــي القصــور ،ول نســكن
غير الكواخ والكهوف ؟ ونمل الخزائن والجران ول نأكل
ســوى الثــوم والكــرات ؟ ونحــوك الحريــر والصــوف ول
نلبس سوى المسوح ؟!!
أصغي أيتهــا الحريــة واســمعينا ،التفــتي يــا أم ســاكني
الرض وانظرينا ،تكلمــي بلســان فــرد واحــد منــا ،فمــن
شرارة يشتعل القش اليابس ،بددي بعزمك هــذه الغيـوم
الســوداء ،وانزلــي كالصــعقة واهــدمي عــروش الطغــاة،
أيقظــي بحفيــف جناحيــك أرواحنــا لنقــول ل للظلــم ،ل
للستبداد..
أنقذينا أيتها الحرية ،خلصينا يا رفيقة موسى ،علمينا يا
عروس المسيح ،قوي قلوبنا لنحيا بالحق وللحق ،لكــي ل
نتبدد كالرماد أمام زوبعة الشرار ،فأمــام عرشــك تفــرح
الشــجار بمداعبــة النســيم ،وعلــى مســمعك تتنــاجى
العصافير ،وفي فضائك تسكب الزهور عطر أنفاسها..
205
651
- -
206
ممم ممممم مممممم
دار الكتاب • الكتاب المقدس بعهديه
المقدس • فهرس الموضوعات الكتابية
دار الكتاب • خواطر فيلسوف فى الحياة
المقدس الروحية
القديس • ل تقتل
أُغسطينوس • الوسائط الروحية
قداسة البابا • مقالت ُنشرت بجريدة
شنوده الجمهورية
قداسة البابا • جمهورية أفلطون
شنوده • المدينة الفاضلة عبر التاريخ
قداسة البابا • المفكرون من سقراط إلى
شنوده سارتر
تعريب /حنا • تاريخ الرومان
خباز • قصة الحضارة جـ 9
ماريا لويزا • المحبة والعدل والعنف
عثمان نويه • المسيح دعوة للحرية
د /نصر إبراهيم • النسان هو القضية،النسان هو
ول ديورانت الحل
كوستى بندلى • قوة التفكير اليجابى
كمال قلته • العالم يحترق
كمال قلته • سلم مع الله
نورمان فنسينت • علم النفس فى خدمة الروح
بيلى جراهام • المسيحية والصحة النفسية
بيلى جراهام
207
851
- -
أبادير حكيم • مشكلت نفسية جـ 1
د /فايز فارس • مشكلت نفسية جـ 2
د /عادل صادق • الطاغية
د /عادل صادق • مشكلة النسان
د /إمام عبد • مشكلة الحب
الفتاح • دع القلق وابدأ الحياة
د /زكريا إبراهيم • يمكنك أن تخدم القلق
د /زكريا إبراهيم • قصة حياتى العجيبة
ديل كارنيجى • نوادر الحكام
د /مجدي • عباقرة ومجانين
إسحق • سيكولوجية الخوف
هيلين كيلر • عباقرة هزموا اليأس
مجدى كامل • سنة أولى سجن
رجاء النقاش • باشوات وسوبر باشوات
يوسف ميخائيل • المجموعة الكاملة
فايز فرح • الرواح المتمردة
مصطفى أمين • دائرة معارف البستانى المجلد
د /حسين 6
مؤنس • دائرة معارف البستانى المجلد
المنفلوطى 11
جبران خليل
جبران
208
209
الفهـرس
تقديم للدكتور جمال شحاته5--------------------
مقدمة8---------------------------------
النسان المجروح 11-------------------------
الباب الول
ممممم ممممممم
الفصل الول )عصرالقلق(22--------------------
الفصل الثانى )سمات عصرالقلق( 31---------------
الفصل الثالث )أين الله في عصر القلق!( -----------
40
الفصل الرابع )كيف تحيا فى عصرالقلق؟( ----------
46
الباب الثانى
ممممم ممممم م ممممم
ممممم
الفصل الول )أسياد وعبيد(58------------------
الفصل الثانى )أغنياء وفقراء( 69----------------
الفصل الثالث )أكواخ وقصور(77----------------
الباب الثالث
210
061
- -
ممممممم مممممم
الفصل الول )اللذة المرضية( 86----------------
الفصل الثانى )جذورالستبداد( 95---------------
الفصل الثالث )عائلة الستبداد وأعوان
المستبد(105------
الباب الرابع
ممممممممممممممم
الفصل الول )الدكتاتورية الدكتاتور( ------------
114
الفصل الثانى )عوامل ساعدت على
ظهورالدكتاتور( 125---
الفصل الثالث )صفات الدكتاتور وأساليب
حكمه(135------
المسيح :دعوه للحرية149---------------------
المراجع 154----------------------------
الفهرس156------------------------------
قائمة المراجع
211
212
كتب صدرت
للمؤلف
الخر فى حياتى
-3 4- رسالة تعزية )طبعة ثانية(
الحب اللهى
6-اللذة الوهمية -5 عيد الميلد
() طبعة ثانية
8-عيد القيامة -7 عيد الغطاس
()طبعة ثانية
رحلة اللم )طبعة ثانية( -9 01-
(الشهوة )طبعة رابعة
-11 :عـادات شعبية
أكل البيض والبصل والفسيخ فى )
(شم النسيم
-21 أزمة31- العاطفة )طبعة ثانية(
(حب)طبعة ثانية
-41 أين هو
51- هكذا أحبنا
الطريق؟
المدخل إلى الحياة الروحية)طبعة -61
الذات71- ثانية(
-91 جذور الشهوة والحب 81-
الشهوة
-02 12- سلطان وسحر الشهوة
أسياد وعبيد
النسـان
-22 يمكنك أن تقمع الشهوة
مشكلة الشر 32-
المجـروح
62-
92-
مظاهر الشهوة فى حياتنا
213
جامعتى حلوان والفيوم ومعهد
الدراسات القبطية
مممممم
ممممم
ممممممم
الطبعة الثانية
214
اسم الكتاب :النسان المجروح
تأليف :الراهب كاراس المحرقى
مراجعة وتقديم :أ.د /جمال شحاتة
الجمع :سوتير للكمبيوتر
تصميم الغلف :الستاذ عادل لبيب
المطبعة :شركة الطباعة المصرية
6100589 -6102095
ممم ممممممم9751/2002 :
215