You are on page 1of 211

‫مممممم‬

‫ممممممم ممممممم مممم‬


‫ممممم‬
‫مسكين إنسان هذا العصر‪ -‬عصر القلق‪ -‬فقد‬
‫عصفت به التغيرات الجتماعية والتكنولوجية السريعة‬
‫والمتلحقة‪ ،‬وتلطمته الحداث والمختراعات‪ ،‬فجعلته‬
‫يعيش خائفا ً مرتعبا ً فى يومه‪ ،‬قلقا ً على غده‪ ،‬متشائما ً‬
‫من مستقبله‪ ،‬فسرعة إيقاع الحياة والتدفق السريع‬
‫والمتلحق للمعلومات والكتشافات‪ ..‬جعلته يلهث وراء‬
‫الماديات واقتناء كل ما هو جديد إلى الحد الذى أنساه‬
‫أنه إنسان!!‬
‫ل‪ ،‬عندما‬ ‫فإنسان العصر الحالى مجروح من نفسه أو ً‬
‫يتخلى عن إنسانيته‪ ،‬ويسعى وراء شهوات جسده‪ :‬وراء‬
‫السلطة والجاه والمال وإشباع غرائز الجسد‪ ..‬فيصير‬
‫مثل ترس فى آلة قد ل يستطيع الفكاك منها وهى تدور‬
‫به فى دوائر مفرغة ل يستطيع كسرها والخروج منها‪،‬‬
‫ويصبح مستعبدا ً من نفسه‪ ،‬فيعيش قلقا ً ومهمومًا‪ ،‬خائفا ً‬
‫ونهمًا‪ ،‬بل يقع فريسة لكثير من المراض النفسية‬
‫والجسدية والعقلية‪..‬‬
‫وهو مجروح من الخرين عندما يعانى من آفة الفقر‬
‫كنه من إشباع احتياجاته واحتياجات ُأسرته‪،‬‬ ‫وعدم تم ّ‬
‫مجروح عندما يعيش فى مناخ يسوده الظلم والستبداد‪،‬‬
‫أو عندما يسود مجتمعه الطبقية التى تصّنف الناس ل‬
‫على أساس إنسانيتهم وما يملكون من مهارات وقدرات‬
‫‪5‬‬
‫وأخلقيات‪ ،‬بل على أساس ما يملكون وما ل يملكون‬
‫من ثروات وأموال وهو مجروح عندما يضطهد من أجل‬
‫عقيدة أو مبدأ أو فكر أو من أجل دين أو عندما ُيجبر‬
‫على فعل ما ل يجب أن يفعل‪ ..‬إنه مجروح من ظلم‬
‫النسان لخيه النسان!!‬
‫وُيجرح النسان عندما يفقد حريته بإرادته‪ ،‬وذلك‬
‫عندما تقيده الخطية وتقوده فتصّيره عبد لها‪ ،‬ويصبح‬
‫أسيرا ً لشهواته وأهوائه‪ ،‬فيتمركز حول ذاته‪ ،‬ل يرى فى‬
‫الدنيا سوى صورته‪ ،‬فتقتله أنانيته‪ ،‬وتقوده أهوائه إلى‬
‫الهلك‪ ،‬أو عندما يفقد حريته بغير إرادته‪ ،‬عندما يحرمه‬
‫الخرون من حقه فى الختيار واتخاذ القرار‪ ،‬أو‬
‫يسيطرون على إرادته وعلى ذاته‪ ،‬ويوجهونها كما‬
‫يريدون من خلل استبداد رأس المال والستعباد‬
‫النسانى والظلم الجتماعى والجهل الدينى والتطرف‬
‫الفكرى‪..‬‬
‫والتساؤل الذى يفرض نفسه الن هو‪ :‬كيف يتخلص‬
‫النسان من جروحه والنتصار على جارحيه من‬
‫الداخل والخارج ؟ ما هو الحل لخلص إنسان هذا‬
‫العصر وفكاكه من هذه الجروح ؟ خاصة أن النسان هو‬
‫خلق على صورة الله ومثاله‪ ،‬وهو‬ ‫الكائن الوحيد الذى ُ‬
‫يملك العقل الذى يسيطر على العاطفة‪ ،‬فيستطيع أن‬
‫يغّير واقعه ويتوافق مع كل ما يحيط به‪ ..‬الحل هو فى‬
‫المسيح يسوع‪ ،‬فالمسيح دعوة للحرية‪ ،‬وأقواله‬
‫وتعاليمه ونقاوة سيرته‪ ..‬هى خير ضمان لحرية النسان‬
‫بعواملها الداخلية والخارجية‪..‬‬

‫‪6‬‬
‫هذه هى الرسالة التى يحاول الكتاب الهام‬
‫والقّيم‪ ،‬أن يرسلها لكل إنسان جارح أو‬
‫مجروح‪ ،‬حتى تستعيد النسانية إنسانيتها‪،‬‬
‫ويعود النسان إلى طبيعته الولى كما خلقه‬
‫الله من البدء‪.‬‬
‫فالكتاب الذى بين يديك أيها القارئ الكريم هو‬
‫محاولة لتضميد جراح البشر من خلل امتلكهم‬
‫لحريتهم الحقيقية‪ ،‬وهو يحتوى على أربعة أبواب‬
‫ضمت ثلثة عشر فصل ً‪ ،‬بجانب مقدمة تمهيدية‪،‬‬
‫وأوضح فى الباب الول عصر القلق‪ ،‬سمات عصرنا‬
‫وكيف نحيا فيه وموقع الله فينا من هذا العصر القلق‪،‬‬
‫وعرض الباب الثانى أسياد وعبيد‪ ،‬أغنياء وفقراء‬
‫لبعض صور جراحات النسان وصور استعباده‬
‫لخيه النسان‪ ،‬وعرض الباب الثالث لجذور‬
‫الستبداد‪ ،‬والتى تبدء من اللذة المرضية إلى عائلة‬
‫الستبداد والستعباد وأعوانهم‪ ،‬والباب الرابع عرض‬
‫للدكتاتور والدكتاتورية‪ ،‬والعوامل التى أدت إلى‬
‫الدكتاتورية وظهور الدكتاتور وأساليب حكمه‪ ،‬وأخيرا ً‬
‫وضع الكتاب الحل لنهاية جروح إنسان هذا العصر‪،‬‬
‫والحل هو المسيح يسوع‪ ،‬فقد ختم المؤلف كتابه‬
‫بمقال عنوانه‪ :‬المسيح دعوة إلى الحرية‪.‬‬
‫أما مؤلف هذا الكتاب الراهب كاراس المحرقى‪ ،‬فهو‬
‫ليس فقط رجل دين بل أديب وباحث فى آن واحد‪ ،‬فمن‬
‫خلل عرضه لفصول الكتاب تشعر أنك أمام أديب‬
‫كن من لغته وأسلوبه وأدواته‪ ،‬فتلحظ جمال اللفاظ‬ ‫متم ّ‬
‫والعبارات وبلغة الفكار والمقاطع‪ ،‬وفى نفس الوقت‬
‫‪7‬‬
‫تشعر أنك أمام باحث مدقق رجع إلى الكثير من‬
‫المراجع الدينية والعلمية‪ ،‬وقام بالتحقيق الدقيق‬
‫للمعلومات والراء‪ ،‬وهو غزير فى إنتاجه‪ ،‬فله أكثر من )‬
‫‪ 34‬مؤلفا ً( الرب يحفظ حياته ويمنحه نعمة وبركة‬
‫لننتفع بصلواته‪ ،‬ويقدم لنا كل ما يفرح قلوبنا ويغذى‬
‫عقولنا وأرواحنا من كلم نافع مفيد‪.‬‬
‫نسأل الله أن يكون هذا العمل لمجد اسمه القدوس‬
‫وبركة لكل من يقرأه‪ ،‬بشفاعة أمنا القديسة‬
‫الطاهرة العذراء مريم‪ ،‬وجميع مصاف القديسين‪،‬‬
‫وبصلوات أبينا القديس النبا شنوده الثالث وشريكه فى‬
‫الخدمة الرسولية نيافة الحبر الجليل النبا ساويرس‬
‫أسقف ورئيس دير المحرق العامر‪ ..‬وللهنا كل مجد‬
‫وكرامة إلى البد آمين‪.‬‬

‫م‪ .‬م‪ /‬مممم ممممم‬

‫‪8‬‬
‫مممممم‬
‫إن كل من ينظر إلى بنى جنسه‪ ،‬يقر ويعترف بأن‬
‫النسان مجروح ويوما ً بعد يوم تزداد جروحه! الخليقة‬
‫كلها " تئن وتتمخض معا ً " كما يقول معلمنا بولس‬
‫الرسول )رو ‪!(22 :8‬‬
‫لقد زادت جروح النسان فاستنزفت دماؤه‪ ،‬وما‬
‫كتابى إل محاولة لتضميد جروح البشر‪ ،‬محاولة‬
‫بسيطة وضعيفة‪ ،‬تبحث عن حق من حقوق النسان‬
‫سلبه منه الغاصبون‪ ،‬وهذا الحق إنما هو الحرية!‬
‫إنه صرخة تبحث عن معنى الحياة‪ ،‬صرخة ليس لها‬
‫هدف إل أن تدفع عن النسان‪ -‬صورة الله‪ -‬الحجار‬
‫الثقيلة التى تُلقى عليه كل يوم‪ ،‬حتى يقدر أن يعيش‪،‬‬
‫يتعبد‪ ،‬يفكر‪ ،‬يكتب‪ ،‬يعّبر عن رأيه بل خوف أو تردد‪ ،‬وهذا‬
‫ليس ثورة ول يهدف إلى ثورة‪ ،‬ولكنه فكر إنسان حر‬
‫يؤمن بالله وشرائعه التى تدعو إلى الحرية‪ ،‬فكل إنسان‬
‫له حق الحياة‪ ،‬وهذه الحياة تصير بل معنى‪ ،‬إذا كان‬
‫النسان ل يملك حريته التى هى عطية من الله‪ ،‬وليست‬
‫منحة من إنسان كما يتوهم البعض!‬
‫كل المجتمعات التى احترمت حرية النسان‪ ،‬ووفرت‬
‫له المن والسلم‪ ..‬تقدمت‪ ،‬أما الذين داسوا على كرامة‬
‫النسان واحتقروا آدميته وقتلوا مواهبه‪ ،‬وسجنوا حريته‪..‬‬
‫عاشوا فى ظلم ل يعرفون شيئا ً فى الحياة سوى‬
‫لذاتهم‪ ،‬واللذة عندهم هى إشباع شهوات الجسد!‬
‫أؤمن أن كثيرين سوف يسيئون فهم هذا الكتاب‪،‬‬
‫خاصة السطحيين‪ ،‬والناقدين المغرضين غير المتعمقين‪،‬‬
‫خوفا من ثورة أرواحهم! ولكن‬‫ً‬ ‫وغيرهم سيسدون آذانهم‬
‫‪9‬‬

‫‪-6 -‬‬
‫من أجل الحرية التى نحن بصدد الحديث عنها يجب أن‬
‫نكتب‪ ،‬ومن أجل العدل يجب أن ُننقد‪ ،‬ومن أجل الحق‬
‫يجب أن ننظر إلى النقد ونعالج الخطاء إن وجدت!‬
‫لقد بدأت كتابى بمقدمة بسيطة‪ ،‬تتحدث عن‬
‫جروح العصر‪ ،‬ثم جاء الباب الول يحمل اسم‬
‫"عصر القلق" وفيه أصف عصرنا الغريب بكل‬
‫مشاكله‪ ،‬موضحا ً أن إنسان القرن العشرين على الرغم‬
‫من اختراعاته المذهلة‪ ،‬التى جعلته يسبح فى الفضاء‪،‬‬
‫سمى النسان‬ ‫ويغوص فى أعماق البحار‪ ..‬إل أنه قـلق‪ُ ،‬‬
‫سمى العصر بعصر القلق!‬ ‫القـلق‪ ،‬و ُ‬
‫ِ‬ ‫بالنسان‬
‫ثم تحدثت فى الباب الثانى عن الطبقية تحت‬
‫عنوان " أسياد وعبيد‪ ،‬أكواخ وقصور" فالطبقية‬
‫كانت ول تزال ‪ -‬وإن اختلف الشكل ‪ -‬من السباب التى‬
‫زادت من جروح النسان!‬
‫وبينما كنت أقرأ قصة خروج بنى إسرائيل من أرض‬
‫مصر‪ ،‬خطر لى أن أتحدث عن القسوة والستبداد‬
‫م ل ؟! ألم يتحدث‬ ‫كأحد العوامل التى تجرح النسان ول ِ َ‬
‫الكتاب المقدس عن استبداد فرعون وإذلله لبنى‬
‫إسرائيل! ألم يأمر هيرودس الملك بقطع رأس‬
‫المعمدان أعظم مواليد النساء! ألم يحدثنا الكتاب‬
‫المقدس عن ملوك كثيرين أذلوا البشر واستعبدوهم‪،‬‬
‫وأمروهم أن يقدموا لهم فروض العبادة والسجود!‬
‫ثم خطر ببالى إن كثيرين سيفسرون كتابى على أنه‬
‫" كتاب سياسى" والكتب السياسية محظور كتابتها على‬
‫رجال الدين‪ ،‬عندئذ كنت قد تشبعت بفكرة‪ :‬إن كل ما‬
‫جاء فى الكتاب المقدس من حق رجل الدين أن‬
‫‪10‬‬
‫يكتب فيه‪ ،‬لن هذا هو الكتاب العظم الذى يؤمن به‬
‫ومن حقه أن يفسركل ما جاء فيه‪ ..‬فلو أننى كنت أعظ‬
‫طلب منى إعطاء وصف دقيق لشخصية فرعون أو‬ ‫و ُ‬
‫سئلت‬‫هيرودس‪ ،‬هل أكون مخطئا ً لو قلت‪ :‬مستبد‪ ،‬ولو ُ‬
‫عن معنى الستبداد‪ ،‬هل أكون سياسيا ً لو عّرفته موضحا ً‬
‫الفرق بينه وبين الدكتاتورية والطغيان‪ ،‬إن الخطأ من‬
‫وجهة نظرى هو التحدث عن أشخاص‪ ،‬أما التحدث عن‬
‫أنظمة وقوانين دون المساس بالخرين فهذا حق لكل‬
‫كاتب‪ ،‬خاصة إذا كان كلمه مدعما ً بآراء وأقوال فلسفة‬
‫وعلماء وقديسين وآيات من الكتاب المقدس!‬
‫أما الباب الرابع فقد جاء يحمل اسم " الدكتاتور"‬
‫وفيه نتحدث عن شخصية‪ -‬وليس شخصًا‪ -‬أذلت البشر‬
‫وأسالت دماء كثيرين‪ ،‬والحق إننى تعجبت عندما عرفت‬
‫أن هذه الشخصية التى مجرد ذكرها يُذيب القلوب‪،‬‬
‫كانت فى يوم لفظة سامية ل ُتعطى لكل إنسان! فكيف‬
‫فرة‪ ،‬هذا ما سـوف نعرفه فى‬ ‫تحولت إلى لفظـة من ّ‬
‫الجزء الخاص بالدكتاتور‪ ،‬أما خاتمـة الكتاب فجاءت‬
‫بسيطة مثل المقدمة وتحمل اسم " المسيح‪ :‬دعوة‬
‫للحرية "‪.‬‬
‫هذا هو كتابي‪..‬‬
‫ً‬
‫وهذا ما أردت أن أقوله‪ ،‬مترنما أمام السماء والرض‪،‬‬
‫وإن جاء المــوت الن واختطفنــي‪ ،‬ووقفــت أمــام عــرش‬
‫الديان العادل‪ ،‬لقلت ما هو أكثر بكل فرح‪ ،‬لني لــم أتبــع‬
‫ســوى نــداء الحــق‪ ،‬ولكــن مــاذا نقــول ل ُنــاس وضــعوا‬
‫لرواحهم شرائع عالمية‪ ،‬فإذا انفرد عن شرائعهم إنسان‬
‫قالوا‪ :‬إنه متمرد شرير‪ ،‬وساقط دنس يســتحق المــوت‪..‬‬
‫‪11‬‬

‫‪451‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ويبقى السؤال‪ :‬هل يظل النسان عبــدا ً لشــرائع فاســدة‬
‫إلى انقضاء الدهر‪ ،‬أم يسعى ليتحرر ليحيا بالروح وللروح‬
‫؟! أيبقى النسان محدقا ً بــالتراب‪ ،‬أم يح ـ ُ‬
‫ول عينيــه نحــو‬
‫السماء كيل يرى جسده بين الشواك والجماجم ؟!‬
‫أخيرا ً ُأقدم محبتى وشكرى وتقديرى‪ ،‬للعالم الجليل‬
‫والخادم المين‪ ،‬الستاذ الدكتور جمال شحاتة‪ ،‬الذى‬
‫تفضل مشكورًا‪ ،‬بمراجعة الكتاب والتقديم له‪ ..‬الرب‬
‫يعوضه على تعب محبته‪ ،‬واهتمامه‪ ،‬وتشجيعه‪ ...‬وللهنا‬
‫المجد الدائم إلى البد آمين‪.‬‬

‫ممممممم‬
‫ممممم ممممممم‬

‫‪12‬‬
‫مممممممم مممممممم‬
‫لشك أن النسان يطرق باب الحياة‪ ،‬ويرحل منها فى‬
‫غير موعد أو استئذان‪ ،‬ولكن بين الميلد والرحيل هناك‬
‫رحلة عابرة‪ ،‬لها جاذبيتها وجمالها‪ ،‬ول زالت رحلة الحياة‬
‫هى قمة القضايا النسانية التى تسعى كل الجماعات أن‬
‫تجعلها أكثر جمال ً‪ ،‬فكل القوانين التى وضعها النسان‪،‬‬
‫هدفها أن تصون الحياة وتوفر لها المن والسلم‪،‬‬
‫والنبياء عندما جاءوا أرادوا أن يزرعوا زرعا ً إلهيا ً‪ ،‬ترتبط‬
‫جذوره فى الرض بجذور روحية تمتد إلى السماء‪.‬‬
‫ولكن على الرغم من هذا‪ ،‬إل أن اللم ل يزال‬
‫موجودًا‪ ،‬لقد زرعوا جذورا ً روحية‪ ،‬ولكنهم لم ينزعوا‬
‫جذور اللم‪ ،‬التى تأصلت فى كيان النسان‪ ،‬وأصبحت‬
‫من المستحيل أن ت ُنتزع منه‪ ..‬وإن كان لكل إنسان‬
‫ميزات تميزه عن الخر‪ ،‬إل أن الجميع عند الدموع‬
‫يلتقون وفى البكاء من اللم يتساوون " فكل الخليقة‬
‫تئن وتتمخض معا ً " كقول معلمنا بولس الرسول )رو‬
‫‪.(22 :8‬‬
‫ُانظروا لتاريخ البشر‪ ،‬لتروا أنهم بدأوا جماعة صغيرة‬
‫ثم ازدادوا‪ ،‬عاشوا موزعون على الرض‪ ،‬عزلتهم‬
‫الجغرافيا بجبالها وصحاريها وبحورها‪ ،‬ولكن بقى عنصر‬
‫النسانية يربط البشرية المتفرقة‪ ،‬واللم الذى يئن‬
‫تحت جبروته كل البشر‪.‬‬
‫فى كــل بلد العــالم صــراخ يمــزق القلــب‪ ،‬مــن شــدة‬
‫مظالم ل ُتحصى‪ ،‬منها التشرد والجوع والحرمــان‪ ،‬ومنهــا‬
‫خلقى‪ ..‬هــذا غيــر الســتبداد‬ ‫الدمان والفساد والنحلل ال ُ‬
‫‪13‬‬

‫‪-8 -‬‬
‫والحروب والقتل والســرقة‪ ..‬ومــا هــذا إل إعلن واضــح‪،‬‬
‫على أن العـالم يتـأوه والنسـان مجـروح‪ ،‬البشـرية كلهـا‬
‫صارت خاضعة تحت نير اللم الثقيل‪.‬‬
‫النسان مجروح جرحا ً عميقا‪ ،‬جرح الفقر المُميت‬
‫الذى صار يذبح الناس ذبحًا‪ ،‬فمعظم البشر‬
‫يحصدهم الموت حصدا ً‪ ،‬بسبب القحط الذى عم كثيرا ً‬
‫من بلد العالم‪ ..‬فأصبحت الغالبية العظمى تئن صباحا ً‬
‫ومساء من قسوة وألم الجوع‪ ،‬وأقلية يتنعمون‬
‫ً‬
‫ً‬
‫ويتلذذون‪ ،‬إل أنهم هم أيضا يئنون‪ ،‬ولكن بسبب الثراء‬
‫الفاحش وما ينتج عنه من شر وفساد‪ ،‬وبين الثرياء‬
‫والمعدمين قلة ل قيمة لها‪ ،‬أو قل ل ذكر لهم فى‬
‫التاريخ‪ ،‬الذى ل يشغل صفحاته بهؤلء وغيرهم من‬
‫المعذبين المهملين‪ ...‬يكفيه أخبار العظماء والثرياء‬
‫والمشهورين‪.‬‬
‫يقولون‪ :‬إن مليين من البشر يموتون كل عام جوعًا‪،‬‬
‫والبشرية فى مناطق كثيرة تئن ثراًء وشبعا ً وتخمة‪ ،‬ففى‬
‫إحدى الجرائد قرأت خبرا ً يكاد ل يُصدق تحت عنوان‬
‫) زفاف ُأسطورى ( يصف لنا احتفال ملك بروناى‬
‫بزفاف إبنته‪ ،‬يقول الخبر‪:‬‬
‫كان بريق الذهب والماس‪ ،‬أشد من سطوع أشعة‬
‫صنعت‬‫الشمس فى سماء السلطنة‪ ،‬فمن الذهب ُ‬
‫المقاعد والطباق وأدوات المائدة‪ ،‬وبالمجوهرات الثمينة‬
‫ُزينت الملبس والحزمة والساعات وحضر الحفل )‪6‬‬
‫آلف( مدعو‪ ،‬أقاموا فى قصر يبلغ عدد حجراته )‪(1778‬‬
‫حجرة‪ ،‬أما عن الهدايا فأثمنها عربة رولزرويس‪ ،‬تم‬
‫تحويلها بمعرفة صنّاع بروناى‪ ،‬وبكميات من الذهب‪،‬‬
‫‪14‬‬

‫‪01‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫وأمتار من الحرير‪ ..‬إلى ما ُيشبه عربة الزفاف الملكية‪،‬‬
‫وخلف زجاج العربة جلست الميرة تحمل باقة الورود‪:‬‬
‫الفرع من الذهب والوراق من الماس ‪.‬‬
‫صنعت كراسى )‪ 6‬آلف( مدعو من الذهب ! فى‬ ‫لقد ُ‬
‫الوقت الذى ينام مليين البشر على الرصفة فى‬
‫الشوارع! وعلى الرض فى المنازل! فأى عالم هذا‬
‫الذى نعيش فيه وأية أرض تلك التى تحملنا !!‬
‫إنسان يموت جوعا ً وإنسان يموت شبعا ً !!‬
‫مليين الدولرات تُنفق على دعايات مشاهير‬
‫العظماء! ومليين البشر يعانون من التشرد والجوع! لقد‬
‫خان أغنياء كثيرين عهد الله‪ ،‬فأغمدوا السيوف التى‬
‫وضعها الله فى أيديهم لقامة عمل الرحمة‪ ،‬وتقلدوا‬
‫سيوفا ً غيرها‪ ،‬لهى إلى الشريعة ول إلى الطبيعة‪،‬‬
‫ومشوا بها يفتتحون لنفسهم طريق شهواتهم ولذاتهم‪،‬‬
‫حتى ينالوا منها ما يريدون‪ ،‬فأصبحنا نرى الفقراء‬
‫يموتون جوعا ً فل يجدون من ُيحسن إليهم‪ ،‬وما أسهل أن‬
‫يخوض النسان بحرا ً من الدماء‪ ،‬إذا رأى على شاطئه‬
‫الخر جنيه‪ ،‬ولكن ما أصعب أن ينفق ولو مليما ً منه‪،‬‬
‫على مريض فى حاجة إلى أدوية‪ ،‬أو جائع فى حاجة إلى‬
‫أطعمة‪!!..‬‬
‫نعترف بأن الله لم يخلق النسان ليقتر عليه رزقه‪،‬‬
‫ولم يقذف به فى المجتمع ليموت جوعًا‪ ،‬بل أرادت‬
‫حكمته أن يخلقه ويخلق له فوق بساط الرض‪ ،‬وتحت‬
‫ظلل السماء‪ ،‬ما يكفيه من مؤونته ويسد حاجته‪ ،‬ولكن‬
‫قام القوى على الضعيف وغدر به وسلب رزقه‪،‬‬
‫فصارت لحوم الفقراء تنحدر فى بطون الغنياء‬
‫‪15‬‬
‫انحدارًا‪ ،‬فتغير نظام القسمة العادلة‪ ،‬وتشوه وجهها‬
‫الجميل‪.‬‬
‫قال روكفلر الملياردير المريكى‪ " :‬ما أعجب هذه‬
‫الحياة‪ ،‬إن كل ممتع فيها مضر" ! ثم شرح وجهة نظره‬
‫فقال‪ :‬الطعام الدسم مضر بصحة النسان‪ ،‬والمال‬
‫الكثير مثير للعصاب‪ ،‬مقلق للراحة‪ ،‬باعث على الخوف‬
‫من ضياعه‪ ،‬وحب إمرأة جميلة يمكن أن يدمر النسان‪،‬‬
‫وذلك إذا تفرغ لها واستعبده جمالها‪ ،‬والحرص على‬
‫الستجابة لكل مطالبها‪.‬‬
‫هذه خبرة إنسان‪ ،‬لم يكن ينقصه المال ول القوة ول‬
‫النجاح بمفهوم البشر‪ ،‬إنما كان ينقصه شئ واحد أل‬
‫وهو‪ :‬حب الناس له‪ ،‬ولهذا عندما أراد أن يعرف شعور‬
‫الناس نحوه‪ ،‬عمل استفتاء فى إحدى المجلت‪ ،‬التى‬
‫كان يملكها عن أكثر الرجال المكروهين فى أمريكا‪،‬‬
‫فكانت النتيجة‪ :‬إن روكفلر أكثر رجل مكروه فى‬
‫أمريكا كلها وبل منافس!‬
‫وعندما أراد أن يكسب حب الناس وعطفهم بنى‬
‫كنيسة‪ ،‬وكان يلقى فيها عظة الحد بنفسه‪ ،‬ومع ذلك ما‬
‫كان أحد يحضر إل أتباعه! ول تتعجبوا إن قلت لكم‪ :‬إن‬
‫الناس كانوا ل يمرون من أمام الكنيسة‪ ،‬بل عندما‬
‫كانوا يقتربون منها‪ ،‬كانوا يمرون من طريق آخر‪ ،‬وقد‬
‫وصلت كراهية الناس‪ ،‬أن أحد أقربائه طلب منه أن يأخذ‬
‫جثة ابنه الميت ليدفنها فى مكان آخر‪ ،‬لنه ل يقبل أن‬
‫يدفن إبنه فى المدافن التى بناها روكفلر‪ ،‬الذى تلوثت‬
‫يده بالقتل والنهب‪..‬‬

‫‪16‬‬
‫ممم ممممممم مم مممم ممممم مممم م‬
‫مممممممممم ممم مممم م مممممم ممممممم‬
‫مممممممم ممممم مممممم ممم مممممم م!‬
‫فيا ليت يد الغنياء تمتد لتمنع انحدار دموع المساكين‪،‬‬
‫فاليد التى تمنع دموع الفقراء أفضل من اليد التى تُريق‬
‫تفرح القلوب أشرف من التى تُبقر‬
‫ّ‬ ‫الدماء‪ ،‬والتى‬
‫البطون‪ ،‬فالمحسن هـو أفضل من القائد وأشرف من‬
‫المجاهد‪ ،‬وكم هناك فرقا ً‪ :‬بين من يحيى الموات ومن‬
‫يميت الحياء!‬
‫خلقى‪ ،‬الذى اشتعلت‬ ‫ول شك فى أن النحلل ال ُ‬
‫نيرانه وغزا نواحى كثيرة من حياتنا‪ ،‬أضاف إلى جروح‬
‫النسان جرحا ً ما أشد ألمه! لقد صار الجنس إله هذا‬
‫العصر‪ ،‬وما أكثر الذين سجدوا له وسقطوا تحت‬
‫أوهامه‪ ،‬فمعظم المطبوعات اليوم‪ ،‬الفلم هى عن‬
‫الجنس‪ ،‬حتى وسائل الدعاية أصبحت هى ال ُخرى تعتمد‬
‫على الجنس‪ ،‬وما هذا إل إعلن أن الناس فقدوا هدفهم‬
‫فى الحياة‪ ،‬بل إرادتهم وإيمانهم‪ ،‬وأصبحوا يتحركون فى‬
‫دائرة بل مركز أو محيط ثابت‪ ..‬فالسعى وراء الجنس‬
‫هو بداية النهاية‪ ،‬ولهذا قال أحد مؤرخى الغرب‪ :‬إن‬
‫خلقى سيدمرنا لو لم يدمرنا‬ ‫النحلل ال ُ‬
‫الشيوعيون‪.‬‬
‫لقد تورط المجتمع الغربى فى الجنس وامتل به‪،‬‬
‫بحيث أصبح يسيل من مسام حياته‪ ،‬فأصبحت اللذة‬
‫هى الهدف الوحيد الذى ينشده مليين البشر‪ ،‬وأصبح‬
‫المذهب المسيطر الن هو مذهب المتعة‪ ،‬فكثرت‬
‫الكتابات المنحرفة‪ ،‬والفلم المثيرة‪ ..‬ويبقى السؤال‬
‫‪17‬‬

‫‪21‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫الحائر‪ :‬هل الحرية أن يعيش الناس فى الفساد ؟! ثم ما‬
‫هى نهاية النغماس فى الجنس ؟! ألم يؤكد معلمنا‬
‫القديس بطرس الرسول‪ ،‬إن الحرية ل يجب أن تكون‬
‫سترة للشر )‪1‬بط ‪ ! (16 :2‬قد نكون على صواب لو‬
‫قلنا‪ :‬إن الحريـة الحقيقية هى‪ :‬أن أفعل ما يجب ل‬
‫ما أريد‪.‬‬
‫إن النغماس فى الجنس ل يولد سعادة كما يظن‬
‫البعض‪ ،‬بل عذابا ً نتيجة الشعور بالذنب والصراع الداخلى‬
‫المرير‪ ،‬وبعد قليل يجد الخاطئ نفسه مصابا ً بأمراض‬
‫نفسية وجسدية‪ ..‬وشخصيته قد تعطلت وُاحبطت‬
‫مساعيها فى البحث والنمو‪ ،‬وتصبح شهواته شهوات‬
‫انفلت زمامها‪ ،‬ومن المستحيل السيطرة عليها‪ ،‬ول‬
‫عجب فى هذا‪ ،‬لن من يتحدى قانون الطهارة‬
‫اللهى يعيش فى توتر دائم‪ ،‬ومن يبحث عن‬
‫نشوات جديدة واختبارات مثيرة‪ ،‬يكون دائما ً فى قبضة‬
‫الخوف والشك والقلق‪ ..‬وينظر للخرين كما لو كانوا‬
‫موائد شهية‪ ،‬يقترب منهم عندما يشـعر بحاجته للطعام‪،‬‬
‫أما النفوس فتظل بعيدة كخدام أذلء‪.‬‬
‫خلقى‪ ،‬وإنما‬ ‫وليس الجنس وحده هو ثمرة النحلل ال ُ‬
‫انهيار العلقات الزوجية‪ ،‬ورفض القوانين والمبادى‬
‫الخلقية‪ ،‬وتلف عقول المليين بسبب إدمان المخدرات‬
‫وتعاطى المسكرات‪ ،‬وتمرد الولد على والديهم‪ ،‬كل‬
‫هذه مظاهر للنحلل الخلقى‪ ،‬وقد زادت من جروح‬
‫البشر وأكثرت من نزيفه‪.‬‬
‫أيضا ً الحروب جرحا ً كان ول زال يؤلم البشر‬
‫فالحروب التى مضت ل زالت تؤرق حياتهم‪ ،‬والحروب‬
‫‪18‬‬
‫القائمة تُقلق ضميرهم‪ ،‬فرائحة الهواء حتى الن‬
‫مفعمة بالحقد التاريخى وصراعات الشعوب‪ ،‬ول‬
‫زالت قصص المذابح والحروب‪ ..‬التى تنشرها الصحافة‬
‫تثير الرعب والفزع فى قلوب الكثيرين‪.‬‬
‫إن الحرب ما هى إل مظهر من مظاهر العنف بل‬
‫قمة أعمال العنف التى تجرح النسان وتمزق الروابط‬
‫بين البشر‪ ،‬وُتدخل الحقد والكراهية فى قلوب‬
‫الجماعات‪ ،‬يكفى أنها تفقد النسان سلمه‪ ،‬وهل يمكن‬
‫لنسان أن يحيا بل سلم! لقد قامت حروب كثيرة‪،‬‬
‫وحتى الن لم تتمكن منظمة دولية أو هيئة دينية فى‬
‫وضع حد لها‪ ،‬ولعل السبب هو عداوة النسان لخيه‬
‫النسان‪ ،‬فالنسان منذ أن سقط امتل قلبه بالحقد‬
‫والكراهية والغيرة‪ ..‬وإل لماذا قتل قايين أخاه هابيل ؟!‬
‫كما أن للطمع دورا ً خطيرا ً فى انتشار الحروب‪،‬‬
‫فالنسان شره للمال وكلما اغتنى طلب المزيد‪ ،‬فمن‬
‫المعروف أن سلم الطمع ل نهاية له‪ ،‬فكلما ارتقى‬
‫النسان درجة نظر الى البعد‪ ،‬أما الدرجة العلى فى‬
‫سلم الطمع ليست إل سرابا ً خادعا ً أو وهما ً كاذبا ً !‬
‫هذا عن الحروب الدموية‪ ،‬أما الحروب العلمية‬
‫والدينية فلها أيضا ً جروح‪ ،‬فالعلم الذى جعل النسان‬
‫يسبح فى الفضاء ويغوص فى أعماق البحار‪ ،‬وأعطى له‬
‫الطائرة والسيارة والكمبيوتر‪ ..‬هو أيضا ً الذى أعطاه‬
‫القنبلة الذرية‪ ،‬التى أنزلت الموت واللم على‬
‫هيروشيما‪.‬‬
‫وهناك وثائق تؤكد أن الحرب الجرثومية‬
‫والكيميائية ستتحكم فى مصير كوكبنا قبل نهاية‬
‫‪19‬‬

‫‪41‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫القرن الحالى‪ ،‬فما أكثر الجراثيم التى يمكن أن تقضى‬
‫على أمة بأسرها‪ ،‬وما أكثر الفيروسات التى لها قدرة‬
‫على إحداث انهيار صحى شامل فى قارة بأكملها !‬
‫أما الديان فلزالت حروب تُقام ودماء تُسال‬
‫باسمها‪ ،‬وها نحن نتساءل‪ :‬هل يرضى الله القدوس‬
‫بأنهار الدماء التى تُسال من أجـله وباسم الدين ؟!‬
‫وكأن مهمة الله أن يحيى الموات‪ ،‬ومهمة‬
‫النسان أن يميت الحياء!‬
‫وهل ينكر أحد أن الخوف مزق كيان البشر‪ ،‬فالخوف‬
‫جرح له جذور منذ القدم‪ ،‬وعلى الرغــم مــن أن المســيح‬
‫ســعى ليحــرر النســان مــن قيــدين همــا‪ :‬الخوف مــن‬
‫الســماء والخــوف مــن الرض‪ ،‬إل أنــه ل زال يحيــا‬
‫خائفًا‪ ،‬ويبقى السؤال الحائر‪ :‬كيف ينمــو مجتمــع ويتقــدم‬
‫حضاريا ً‪ ،‬وقد مل الخوف قلوب شعبه؟!‬
‫فالخوف سم قاتل للحياة والتقدم‪ ،‬والنســان الخــائف‬
‫ل يمكن أن ُيبدع‪ ،‬أو ُيطلق ما فى وجدانه من أحاســيس‪،‬‬
‫سيصــيبه الشــلل‪ ،‬وينطفــئ‬ ‫والعقل الخائف المتردد حتما ً ُ‬
‫فيه نور الحكمة والمعرفة‪..‬‬
‫سمه فى كيان‬ ‫أما الخوف من السماء‪ ،‬فقد تسرب ُ‬
‫الجنس البشرى عن طريق كهنة المم‪ ،‬الــذين صــوّروا‬
‫الله جبارا ً قاسيا ً منتقمًا‪ ،‬إذ كانت فكرتهــم عــن اللــه أنــه‬
‫أعظم مخيـف‪ ،‬والنسـان مـا هـو إل عبـد ذليـل‪ ،‬مخلـوق‬
‫ضعيف‪ ،‬ولهذا سـجن الكهنة القدماء النســان فــى دائرة‬
‫محرمات‪ ،‬وأرعبوه بفكــرة جهنــم والنــار الكلــة‪ ،‬فتحــول‬
‫الله فــى نظــر القــدمين إلــى أ ُســطورة‪ ،‬كمــا لــو كــانت‬
‫خيالية ولكنها تبث الرعب فى النفوس‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫نعم لقد أزلت طبقة الكهنوت الناس بتخويفهم من‬
‫الله والسماء‪ ،‬بعد أن ظنوا أنهم أمسكوا بمفاتيح‬
‫الجنة والنار‪ُ ،‬يدخلون وُيخرجون من يشاؤون! أما‬
‫نتائج هذا الذلل فكان امتصاص أرزاق البسطاء وعامة‬
‫الشعب‪ ،‬تحت ستار بناء الهياكل والمعابد‪ ،‬وما كان هذا‬
‫التسخير إل لبناء أنفسهم ل لبناء المعابد كما كانوا‬
‫يدعون!‬
‫فى أوقات السلم كان على الشعب أن يعطوا الكهنة‬
‫نصيبهم‪ ،‬وفى أوقات الكوارث يدفع الشعب الموال‬
‫لتقام الصلوات‪ ،‬حتى تكف اللهة عن الغضب والنتقام‪،‬‬
‫فتحول النسان إلى عبد مطحون فى دنياه‪ ،‬خائف ذليل‬
‫أمام آخرته‪ ،‬وتحولت فكرة الله إلى شبح مجهول ل‬
‫ُيرضيه إل الذبائح والتقدمات‪ ،‬وانتشرت الساطير‬
‫والخرافات وقصص الجن‪ ،‬وساد نفوذ السحرة‬
‫والمنجمين‪ ،‬وُاقيمت حواجز وسدود بين النسان والله‪،‬‬
‫إلى أن جاء السيد المسيح وحرر النسان من خوف‬
‫السماء‪ ،‬الذى قيده به رجال الدين‪ ،‬وفتح أبواب السماء‬
‫على مصراعيها‪ ،‬ونادى بأن كل مؤمن هو ابن الله‪ ،‬كما‬
‫عّلمه طريق التحاد بالله‪ ،‬وأعلن له أن ملكوت الله فى‬
‫داخله " ها ملكوت الله داخلكم " )لو ‪.(21:17‬‬
‫هذا عن خوف النسان من السماء‪ ،‬أما خوفه من‬
‫الرض فله أيضا ً جذور‪ ،‬فقد مرت على البشرية فترات‬
‫حاول فيها بعض البشر تأليه أنفسهم‪ ،‬والويل لمن ل‬
‫يسجد لهم أو لمعبوداتهم‪ ،‬فمن طبيعة البشر فرض‬
‫النفوذ‪ ،‬ومن طبيعتهم أيضا ً الخوف من القوة‪ ،‬فهذه آفة‬

‫‪21‬‬
‫ورثها النسان عن مجتمع الغابة وعصور الجهل والظلم‬
‫!!‬
‫لكن المسيح كما حرر النسان من خوف السماء‪،‬‬
‫حرره أيضا ً من استبداد البشر‪ ،‬عندما نعت هيرودس‬
‫الملك بالثعلب‪ ،‬وسمى الفريسيين بالحيات أولد‬
‫الفاعى‪ ،‬وشحذ فكر رؤساء الكهنة والكتبة حّراس‬
‫شريعة موسى‪ ،‬وأمسك سوطا ً وهو إنسان فقير يحيا‬
‫فى أسرة فقيرة‪ ،‬ل يحمل سلطة ول يؤيده قانون‬
‫وضرب باعة الحمام وقلب موائد الصيارفة‪ ..‬السوط‬
‫الذى أرعب البشرية يمسكه المسيح ل ليجلد البشر‬
‫بل روح الوثنية وشبح المادية‪ ،‬ويطرد روح الشر من‬
‫هيكل الله‪ ..‬وهكذا زلزل ابن البشر فى ثورته العارمة‬
‫كل أركان المة اليهودية فتلعثمت قلوبهم‪ ،‬واضطربت‬
‫سيوفهم‪ ،‬وخجل قوادهم وعلماؤهم‪ ،‬وهرب التجار‬
‫والعبيد والحراس‪ ..‬ولم يجسر أحد أن يتصدى له أو يرد‬
‫عليه أو يدنو منه‪.‬‬
‫لن من يجعل كتب السماء شبكة‪ ،‬يصطاد بها أموال‬
‫البشر هو خائن لشريعة السماء‪ ،‬ومن يقلده المؤمنين‬
‫سلطة فيمتشقها سيفا ً ويرفعه فوق رؤوسهم مراِءٍٍ‪،‬‬
‫ومن يسلمه الضعفاء أعناقهم فيربطها بالحبال‪ ،‬ويقبض‬
‫عليها بيد من حديد وأخرى من نار‪ ..‬ول يتركها حتى‬
‫تنسحق وتتبدد كالرماد ظالم‪ ،‬هو ذئب كاسر! يدخل‬
‫الحظيرة فيظنه الراعى خروفا ً وينام مطمئنًا‪ ،‬وعند‬
‫مجئ الظلم يثب على النعاج ويخنقها‪ ،‬وهو نهم يحترم‬
‫موائد الطعام أكثر من مذابح الهيكل‪ ،‬محتال يدخل من‬
‫شقوق الجدران ول يخرج إل بسقوط البيت‪ ،‬ولص‬
‫‪22‬‬

‫‪61‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫صخرى القلب‪ ،‬ينتزع الدرهم من الرملة والفلس من‬
‫اليتيم ‍!‬
‫النسان مجروح أيها الحباء‪ ،‬لنه عطشان إلى شئ‬
‫عظيم اسمه الحرية! التى أصبحت مجرد كلمة نسمعها‬
‫كلنا نرى‬
‫ونقرأ عنها‪ ،‬ولكن ل يعيشها الكثيرون‪ُ ..‬‬
‫العصافير فوق أغصان الشجر‪ ،‬وهى تتراقص فوق‬
‫الوراق‪ ،‬فى سعادة غامرة ل تبالى بما يحيط بها‪ ،‬ولكنها‬
‫تقفز فى غير خوف أو قلق‪ ،‬لست أعرف عنها شيئا ً‬
‫لكنى أ ُدرك أن الحياة تسرى فى كيانها‪ ،‬وأن حيوية‬
‫غامرة تتدفق فى هذه الكائنات الصغيرة الضعيفة وأن‬
‫قوة تمدها بهذه الحياة‪ ،‬وأدرك أيضا ً أن كل هذا إنما‬
‫ثمرة من ثمار الحرية‪ ...‬ل ننكر أن فلسفة جديدة شقت‬
‫طريقها فى عصرنا‪ ،‬تدعو إلى استقلل الفرد ذاتيًا‪،‬‬
‫فالنضج الروحى ينمو فى كل مكان‪ ،‬نضج يتفهم أهمية‬
‫العدل والمساواة والحرية‪ ..‬فقد أصبح الن واضحا ً أن‬
‫الحياة ل تزدهر إل فى النسان الحر‪ ،‬الذى يملك‬
‫فكره‪ ،‬ويسيطر على ذاته‪ ،‬ويقود خُطواته‪ ..‬ولكن حتى‬
‫الن لم تزل شعوب ترزح تحت قيود الذل والعبودية‪..‬‬
‫فبعد تحررها من عبودية الستعمار ‪ ،‬رزحت تحت عبودية‬
‫الفقر والجهل والتعصب‪ ..‬تحررت الشعوب من قيود‬
‫المم القوية الغنية ورزحت تحت أغلل السخرة‬
‫الجتماعية والنفسية‪ ..‬وهى بل شك قيود ما أصعب‬
‫فكها! وجروح ليس من السهل تضميدها!‬
‫لقد حصلت شعوب كثيرة على الحرية‪ ،‬لكنها للسف‬
‫الشديد لم تحصل على عالم أفضل كما كانت ترجو! وما‬
‫تزال الصحف تنقل إلينا صورا ً أكثر عن الظلم‬
‫‪23‬‬
‫والستغلل والرياء‪ ..‬بصورة تضاهى بل تفوق أحيانا ً ما‬
‫كان يجرى فى أيام الملوك المستبدين‪ ،‬وهاهى تحيا فى‬
‫نكسات سياسية واقتصادية واجتماعية‪ ..‬إن احترام‬
‫المجتمع لحرية الفرد‪ ،‬قانون إلهى وليس منحة أو هبة‬
‫يمنحها إنسان لخر والعدالة كما يقول سقراط‬
‫الفيلسوف ‪ :‬ليست منحة من القاضى وإنما هى‬
‫حق للمتقاضين عليه أن يوفرها لهم‪ ،‬أما حياة‬
‫النسان فهى دعوة إلهية خاصة به‪ ،‬ول معنى للدعوة‬
‫اللهية إذا سلبناها الحرية‪ ،‬والويل لمن يحتقر إنسانا ً‬
‫ويحاول أن يذله ويسلب حريته أو يكبح النار اللهية‬
‫المقدسة المشتعلة فى وجدانه‪.‬‬
‫كل المجتمعات التى احترمت حرية النسان‪ ،‬ورفعت‬
‫من شأنه‪ ،‬تقدمت وازدهرت حضارتها‪ ،‬وأبدع ُأدباؤها‬
‫وفنانوها ومفكريها‪ ..‬أما الذين داسوا على كرامة‬
‫النسان واحتقروا آدميته‪ ،‬وقتلوا حريته‪ ،‬عاشوا فى ظلم‬
‫ليعرفون شيئا ً فى الحياة‪ ،‬سوى إشباع رغباتهم‬
‫المشتعلة وعواطفهم المضطربة! ويبقى السؤال‪ :‬كيف‬
‫يمكن لمجتمع أن ينمو ويتقدم‪ ،‬وقد تحول‬
‫سبل التفكير‪،‬‬ ‫قطعت عنه ُ‬ ‫شعبه إلى قطيع‪ُ ،‬‬
‫وُالغيت شخصيته‪ ،‬وكل النظرات توجه إليه على‬
‫أنه عبد ذليل!!‬
‫أما الجرح العظم فى حياة النسان‪ ،‬هو عدم معرفته‬
‫لله معرفة حقيقية‪ ،‬فرغم انتشار الثقافة‪ ،‬واتساع‬
‫الكرازة‪ ،‬ونمو الوعى الدينى‪ ،‬إل أن كثيرين لم يخلصوا‬
‫فى علقتهم بالله! يجب أن نعرف أن الله خلق النسان‬
‫ونه‪ ،‬بحيث أنه ل يقدر أن يعيش بدونه‪ ،‬فنحن كما قال‬ ‫وك ّ‬
‫‪24‬‬

‫‪81‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫القديس ُأغسطينوس‪ " :‬خرجنا من عند الله‪،‬‬
‫وستظل أرواحنا هائمة إلى أن تلتقى بالله "‪ ..‬ولهذا‬
‫مهما امتلك وتمتع‪ ..‬فل بد له من الله‪.‬‬
‫قال أحد الدباء‬
‫" إن السماء تبكى بدموع الغمام ‪ ..‬ويخفق قلبها‬
‫بلمعان البرق ‪ ..‬وتصرخ بهدير الرعد‪ ،‬وإن الرض تئن‬
‫بحفيف الرياح ‪ ..‬وتضج بأمواج البحر‪ ،‬وما بكاء السماء‬
‫ول أنين الرض إل رحمة بالنسان "‪.‬‬
‫فياليتك تبكى كلما وقع نظرك على سخص متألم أو‬
‫إنسان مجروح ‪ ،‬فتبتسم سرورا ً ببكائك‪ ..‬واغتباطا ً‬
‫بدموعك‪ ..‬لن الدموع التى تنحدرعلى خديك فى مثل‬
‫هذا الموقف هى حبات لؤلؤ أو قل‪ :‬سطور من نور‪..‬‬
‫تسجل لك فى صحيفة الحياة البيضاء‪ " :‬إنـك إنسـان "‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫ى أفلطون ‪ -‬سيدرك مدى الحماقة التي ارتكبها‪ ،‬حين‬
‫أنجب مثل هذا المخلـوق وربــاه‪ ،‬حــتى أصـبح أقــوى مــن‬
‫الشعب‪ ،‬فأسوار حماية الدكتاتورعالية‪ ،‬يعجز الناس عــن‬
‫تســلقها ليتخلصــوا منــه‪ ،‬وهكــذا يظــل الشــعب لســنوات‬
‫كثيرة خائفًا‪ ،‬مرتعبًا‪ ،‬ذلي ً‬
‫ل‪.‬‬
‫ممممم مم مم مممممممم مممممم مممم‬
‫مممممم ممم ممممممم ممم ممممممممم !!‬

‫‪26‬‬
27
‫الباب الول‬
‫عصـــر القلــق‬
‫الفصل الول‬
‫ممممم ممممممم‬
‫الفصل الثاني‬
‫مممم مممم مممممم‬
‫الفصل الثالث‬
‫ممم مممم مم ممم ممممم !‬
‫الفصل الرابع‬
‫ممم مممم مممممم‬
‫مم ممم مممممم م‬

‫‪28‬‬

‫‪02‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ممممم ممممم‬
‫ممممم ممممممم‬
‫إنسان اليوم يمكن وصفه بصفات كثيرة أهمها‬
‫القلق‪ ،‬فهو قِلق وهمومه كثيرة‪ ،‬وكثيرا ً ما يتساءل عن‬
‫مصيره وعائلته وأمواله‪ ..‬في عصر سادت فيه السرقة‬
‫والنهب‪ ،‬بل ساد الظلم والرهاب‪ !!..‬مليين من البشر‬
‫في أنحاء العام يتألمون من شدة الكبت‪ ،‬ومن كثرة‬
‫مظالم ل ُتحصى ولبد لهم أن يتساءلوا‪:‬‬
‫لماذا الظلم والطغيان ؟! لماذا الضغوط‬
‫والصراعات ؟! لماذا الذل والقيود‪ ..‬إن كان الله خلقنا‬
‫لنعيش أحرارا ً ؟! وثمة ألوف من البيوت المحطمة‬
‫والمزعزعة‪ ،‬التي خلت جدرانها من الفرح‪ ،‬وقد صارت‬
‫أشبه بمستشفى كبير للمراض النفسية والعصبية‬
‫يتساءلون‪ :‬أين سطور الفرح في كتاب حياتنا ؟! هل‬
‫تظل أنفسنا بين جدران مظلمة تتنفس هواًء مفعما ً‬
‫بالكراهية ؟! إلى متى نرتدي ثياب الفقر المبطنة‬
‫بأنفاس الموت ؟!‬
‫إننا نحيا في عصر يتألم فيه البرار والخطاة على‬
‫السواء‪..‬عصر يذبح الشر الخير بسيف حاد علنا ً‬
‫وعلى مرأى من جميع الناس‪ ..‬وهذا دفع البعض أن‬
‫يتساءلوا‪ :‬هل رسالة النسان في الحياة أن يحيا بوجه‬
‫حزين‪ ،‬مكتئب رغم ما في الحياة من متع‪ ،‬وما في‬
‫الطبيعة من جمال‪ ،‬ورغم ما في النسان من رغبة في‬
‫التمتع بكل ما في الطبيعة من جمال ؟! أين بذور‬
‫‪29‬‬
‫طرحت‬ ‫السعادة التى وضعها الله في قلوبنا ؟! لماذا ُ‬
‫على الصخر لتلتقطها الغربان وتذريها الرياح ؟!‬
‫وفي ظل المشاكل القتصادية المعقدة‪ ،‬نرى‬
‫مليين البشر يذبحهم الجوع ذبحا ً‪ ،‬والبشرية في أماكن‬
‫كثيرة تئن ثراًء وشبعا ً وتخمة‪ ،‬مليين يموتون جوعًا‪،‬‬

‫!‬
‫ومليين غيرهم يموتون تعذيبا ً واضطهادًا‪ ،‬لن الزعماء‬
‫في أماكن كثيرة يسجنون الحرية ويقيدون‬
‫الفكر ويقتلون البداع‪ ،‬وكل هذا يجعلنا نتساءل‪ :‬أى‬
‫عالم هذا الذي نعيش فيه ؟! إنسان يموت جوعا ً وإنسان‬
‫يمـوت شبعًا! إنسان يموت بالحرية وإنسان يموت‬
‫بالعبودية !! أسئلة كثيرة يطرحها المتألمين‪ ،‬وما أكثر‬
‫البلدان التي تنتابها ويلت الحروب وفيها مؤمنون أتقياء‬
‫يتساءلون‪ :‬لماذا صارت الرض كأنهار من الدماء ؟!‬
‫لماذا يستبد الغنى بالفقير‪ ،‬والقوي بالضعيف ويريد أن‬
‫يقضي عليه وينهب خيراته ؟!‬

‫؟‬ ‫ممممم مممممم‬


‫مممممممم‪:‬‬
‫ممممم‪...‬‬
‫ممممم‪...‬‬
‫ممممم‪...‬‬
‫قال شاب‪ :‬أ ُريد أن أحيا حياة مسيحية مثالية‪ ،‬أواظب‬
‫على الكنيسة‪ ،‬أُصلى‪ ،‬أخدم‪ ..‬ولكن كيف يتحقق هذا ؟!‬
‫كيف أستقر روحيا ً وأنا غير مستقر ل فكريا ً ول نفسيا ً ول‬
‫جسديا ً ؟! فمنذ أن تخرجت وحصلت على شهادتي‬
‫الجامعية‪ ،‬وأنا دائم البحث عن عمل‪ ،‬أى عمل حتى ولو‬

‫‪30‬‬

‫‪22‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫كان ل يناسبني‪ ،‬وكثيرا ً ما أتساءل‪ :‬أليس من حقي أن‬
‫أعمل ! أليس من حقي أن أتزوج ! أليس من حقي أن‬
‫أتمتع بالحياة ! أليس من حقي أن أعبد ربي‪ !!..‬إن‬
‫تفكيري في مشاكل العصر قتل صلواتي‬
‫وسلب تأملتي وأضعف روحياتي وقضى على‬
‫خدماتي !!‬
‫هنا فقط أدركت خطورة كلمة )ل أعمل(‪ ،‬التي‬
‫صارت مصدر قلق للكثيرين‪ ،‬قد ل تظنها مشكلة‪ ،‬ولكن‬
‫علماء النفس والجتماع بدأوا يدركون خطورتها‪ ،‬وما ينتج‬
‫عنها من قلق وعدم استقرار‪ ،‬وأيضا ً من شر وفساد‪..‬‬
‫حدة وقسوة الفراغ‪ ،‬وهنا أصبح‬ ‫فانتشار البطالة زاد من ِ‬
‫ً‬
‫الملل مشكلة جديدة وأيضا كبيرة‪ ،‬فعندما تزداد نسبة‬
‫البطالة‪ ،‬وعندما يوجد وقت فراغ أكثر‪ ،‬تكثر أبعاد‬
‫مشكلة ) ماذا نفعل ؟ (‪ ،‬ماذا نفعل لنواجه متطلبات‬
‫الحياة وتحديات العصر؟! ماذا نفعل لنشغل الفراغ‬
‫ونقتل الوقت ؟! ماذا نفعل لنثبت وجودنا بين الناس ؟!‬
‫فحيث البطالة هناك الفراغ والملل والفساد‪ ،‬فما من‬
‫خطية إل سببها الفراغ‪ ،‬وحيث البطالة هناك أيضا ً‬
‫تدهور في مستوى التعليم‪ ،‬وانحطاط قيمة الدارسين!‬
‫فبسبب اللهث الجنوني وراء لقمة العيش‪ ،‬صار أصحاب‬
‫الحرف ملوكا ً جالسين على عروش تحملها ثرواتهم‪ ،‬أما‬
‫أصحاب الفكر والمعرفة فصاروا ُأجراء تحت قبضتهم‪،‬‬
‫يتحكمون في مصيرهم كما يشاؤون‪ ،‬فتحقق قول‬
‫سليمان الحكيم‪ " :‬الجهالة جُعلت في معالي كثيرة‬
‫والغنياء يجلسون في السافل‪ ،‬قد رأيت عبيدا ً على‬

‫‪31‬‬
‫الخيل‪ ،‬ورؤساء ماشين على الرض كالعبيد " )جا ‪:10‬‬
‫‪.(6،7‬‬
‫مم مممم ممممم مممم مم مممم ممم مممممم‬
‫مممم ممممم‬
‫ممممممممممممممم مممم ممم مممممم‬
‫مممممممم ممممم‬
‫مممممم مممممم ممم‪ :‬مم مم ممممم ممممم‬
‫ممممممم م!‬
‫منذ سنوات مضت كانت نسبة النحراف قليلة لو‬
‫قورنت بهذه اليام‪ ،‬فالزواج في سن مبكرة كان متاحا ً‬
‫للجميع‪ ،‬أما الن فلم تعد المورهكذا‪ ،‬فحيث ل عمل ل‬
‫مال‪ ،‬وحيث ل يوجد مال ل يكون أيضا ً زواج‪ ،‬وهذه آفة‬
‫ما أشر ضررها على السرة والمجتمع‪ ،‬فالبتولية‬
‫الجبارية‪ ،‬أعنى العزوبية‪ ،‬غالبا ً ما تقود النسان إلى‬
‫النحراف‪..‬‬
‫وهل ننكر أننا نحيا في عصر وصل فيه النحراف إلى‬
‫قمته! فشباب اليوم أكثر قلقا ً وانحرافا ً من أمس‪،‬‬
‫والشابات أصبحن أشد قلقا ً وانحرافا ً منهم‪ ،‬فما أكثر‬
‫القصص التي ُتحكى هذه اليام عن الشذوذ والخيانات‬
‫والدمان‪ ..‬قصص لم نكن نسمعها أو نقرأ عنها من‬
‫قبل !!‬

‫مممم‬
‫هل تصدق أن طالبة في العدادية تصبح مدمنة !! ل‬
‫تتعجب فقد نشأت الفتاة في أسرة ممزقة‪ ،‬وهذا سر‬
‫‪32‬‬
‫مطّلقة‪ ،‬التي‬ ‫ضياعها‪ ،‬فالفتاة كانت ُتقيم مع والدتها ال ُ‬
‫عادة ما تسافر للخارج تاركة لها سيارتها الفاخرة‬
‫تتحرك بها أينما تشاء‪ ،‬وأموال ً كثيرة لتشتري ما يحلو‬
‫لها من مأكولت وملبوسات‪ ،‬وشقة فاخرة تدعو إليها‬
‫حب من صديقات وأصدقاء‪ ،‬لقد عاشت الفتاة في‬ ‫ما تُ ِ‬
‫حرية كاذبة‪ ،‬دون أن تفهم معنى الحرية‪ ،‬أو تملك‬
‫مقومات الحفاظ عليها‪ ،‬فحدث في أحد اليام أن تعرفت‬
‫في النادي على )شلة( وأصبحت هذه )الشلة( ل تنفصل‪،‬‬
‫في الصباح يلتقون في النادي‪ ،‬وفي المساء في أحدى‬
‫صالت الديسكو‪ ،‬لكن يبدو أن )الشلة( قد مّلت‬
‫اللتقاء في الماكن العامة‪ ،‬فانتهزوا فرصة سفر والدة‬
‫الفتاة للخارج وطلبوا أن يسهروا في شقتها‪ ،‬وبسهولة‬
‫استجابت الفتاة وبدأت سهرتهم المشحونة بالفساد‪،‬‬
‫سمع صوت طرق شديد‬ ‫وفجأة في منتصف الليل ُ‬
‫ً‬
‫على الباب‪ ،‬ففتح شاب فوجد ضابطا ومعه حملة للقبض‬
‫عليهم !!‬
‫لقد كانت )الشلة( تحت المراقبة منذ ظهورهم‬
‫بشكل مريب في صالت الديسكو‪ ،‬وكم كان المشهد‬
‫مذهل ً ومؤسفًا‪ ،‬إذ وجدوا شابا ً يمسك بيد الفتاة يعطيها‬
‫حقنة هيروين‪ ،‬وبعض أفراد )الشلة( يشاهدون فيلما ً‬
‫جنسيًا‪ ،‬والبعض الخر في أوضاع مخلة‪ ،‬فتم القبض‬
‫عليهم وأودعت الفتاة في مؤسسة الحداث‪.‬‬
‫والن من الجاني ومن الضحية في هذه‬
‫الكارثة ؟!‬

‫‪33‬‬
‫‪ ++‬إن الجاني هو أول ً ‪ :‬التمزق السري الذي أدى‬
‫إلى انفصال الب عن الم‪ ،‬وإهتمام الم بنفسها تاركة‬
‫ابنتها دون أية رعاية أو رقابة‪ ،‬فالمال ل يعوض البناء‬
‫عطف وحنان والديهم‪ ،‬وغالبا ً ما يقود إلى النحراف‬
‫خاصة في مرحلة المراهقة‪.‬‬
‫‪ ++‬وهو ثانيا ً ‪ :‬ضعف الرقابة في الندية على‬
‫ممارسات الشباب داخلها‪ ،‬فقد أعلنت الفتاة أن بعض‬
‫المسئولين عن الرقابة في هذه الندية يبيعون السم‬
‫لمن يريده من الشباب داخل الندية‪.‬‬
‫‪ ++‬وهو أول ً وثانيا ً وثالثا ً ‪ :‬غياب دور الدين والقيم‬
‫في حياة هؤلء المخدوعين بوهم المخدر‪ ،‬فلو كانت‬
‫الفتاة متدينة لكان الدين كفيل ً بحمايتها‪ ،‬وحماية غيرها‬
‫من السقوط في بئر الدمان‪.‬‬
‫لقد أصبح القلق سمة من سمات عصر ضاعت فيه‬
‫القيم والمبادئ‪،‬‬
‫وكثرت فيه المتناقضات‪ ،‬فبينما نرى العلم اليوم وقد‬
‫فجر لنا ينابيع الخير‪ ،‬وفتح لنا أبواب المل‪ ،‬فجعل‬
‫الصحراء تفتح صدورها للخضرة‪ ،‬والبحار تفيض بما فيها‬
‫من ثروات‪ ،‬إذ بمعظم سكان الرض يقاسي الجوع‬
‫والحرمان أكثر من أى عصر مضى‪ ،‬لقد زاد ثراء‬
‫البشر‪ ،‬بعض البشر‪ ،‬وتعمق الفقر أكثر عند الغلبية !!‬
‫وفى الوقت الذى نرى النسان يغزو بعلمه الفضاء‪،‬‬
‫ويكتشف ما في الفلك من أسرار‪ ،‬نراه أيضا ً عاجزا ً عن‬
‫حل مشاكله على سطح الرض التي يعيش عليها !! وإن‬
‫كنا نقرأ عن تصريحات لعلماء الطب يعدوننا‬

‫‪34‬‬

‫‪42‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫بشخصية كاملة ل يؤلمها المرض‪ ،‬إل أننا نرى أمام‬
‫أعيننا انهيارات عصبية وأمراضا ً عقلية وجسدية أكثر من‬
‫أى عصر مضى !!‬
‫كل هذا جعل إنسان العصر فريسة لضغوط نفسية‬
‫عديدة‪ ،‬وجعل الحياة كما لو كانت حلبة مصارعة‪،‬‬
‫فأصبحت الحياة الن صراعا ً ُيقلق البشر‪ ،‬ويبعث اللم‬
‫حدة الصراع ولكن صراع‬ ‫في نفوسهم‪ ،‬نعم لقد زادت ِ‬
‫حول ماذا ؟! إن كان حول المال والسلطة والقوة‪ ،‬قلنا‪:‬‬
‫هل الذين يمتلكون تلك الشياء شبعوا وأعلنوا رضاهم‬
‫بحياتهم‪ ،‬وكفوا عن الحيرة والخوف والقلق ؟!‬
‫يجب أن نعترف بأن الفقر ليس سببا ً كافيا ً للقلق‪ ،‬لن‬
‫اليمان يُغطي كل هذه الثغرات‪ ،‬ويجعلها حلقات ذات‬
‫معنى في قصة كفاح جميلة‪ ،‬فسر قلقنا أننا ابتعدنا عن‬
‫المبادئ اللهية السامية عن الوصايا النجيلية‪ ،‬ول بديل‬
‫إل أن نجاهد‪ ،‬حتى يصاحب التفوق المادي والعلمي‬
‫تفوق روحي مماثل ! وهل ينكر أحد أن النسان الذي‬
‫أصبح عملقا في الختراعات‪ ،‬وصار يملك القمر‬
‫الصناعي والصاروخ والكمبيوتر‪ ...‬صار قزما ً في‬
‫الروحيات !! أل ترى زوجات كثيرات يملكن العربات‬
‫والمجوهرات‪ ...‬ومع هذا يصرخن من الفقر والعيشة‬
‫الضيقة !! فأي فقر هذا ؟! لبد أنه فقر روحي وهذا‬
‫سر تعبهن وقلقهن‪ ،‬ولهذا يجب أن نسأل أنفسنا بين‬
‫الحين والخر‪ :‬هذه الحياة ما معناها ؟ هذه الرحلة أين‬
‫خلقنا ؟‬ ‫تمضي ؟ هـذا الوجود ما هدفه ؟ لماذا ُ‬
‫في كل القطاعات نشعر بأزمة النسان هذه‪ ،‬سواء‬
‫في المجال الديني أو الجتماعي‪ ،‬فالنسان قلق وهائج‬
‫‪35‬‬
‫وكثير الشك والنتقاد‪ ،‬وتشعر بهذه الزمة كل فئات‬
‫المجتمع‪ :‬الغنية والفقيرة‪ ،‬المؤمنة والملحدة‪ ،‬المثقفة‬
‫والجاهلة‪ ..‬الجميع يعترفون بأن النسان غير مستقر‪،‬‬
‫نستطيع أن نقول‪ :‬إن إنسان القرن العشرين على‬
‫الرغم من علومه الواسعة واختراعاته المبهرة‪ ،‬التي‬
‫جعلته يسبح في الفضاء‪ ،‬ويغوص في أعماق البحار‪ ،‬إل‬
‫أنه إنسان قِلق‪ ،‬وأصبح عصرنا عصر القلق ‪.‬‬
‫مممممم م‬
‫ممم مممممم مممم م م‬
‫م‬
‫مم‪.‬‬
‫ممم ممممممم مممممممم ممممم‬
‫م م‬
‫مما ل شك فيه أننا نحيا في مجتمع‪ ،‬نرث منه الكثير‬
‫من العادات والتقاليد‪ ،‬منها ما نقبله بإرادتنا ومنها ما‬
‫نقبله مجبرين‪ ،‬فمن سمة المجتمع توريث التراث‪،‬‬
‫والتراث فيه كثير من القيود‪ ،‬بل كثير من عوامل‬
‫التخويف والتهويل التي تقلق النسان‪ ،‬يكفي أننا نخاف‬
‫من لعنة الفراعنة‪ ،‬والفراعنة أين هم ؟ ألم يموتوا !!‬
‫ولكننا توارثنا الخوف من هتك حرمات قبورهم خوفا ً من‬
‫أن تلحق بنا لعنتهم !‬
‫ومما يزيد من قلق الناس في عصرنا الحالي‪ ،‬أن‬
‫كرهم به‬ ‫المجتمع ل يدعهم ينسون الماضي‪ ،‬بل دائما ً يذ ّ‬
‫وفي نفس الوقت ينبئهم بما سيأتي عليهم في‬
‫المستقبل‪ ،‬وهذا يجعل النسان قلقا ً في حاضره إذا ما‬
‫قاسه بالمستقبل‪ ،‬فالدراسات الحالية معظمها تميل إلى‬
‫التشاؤم‪ ،‬وكلها تشير إلى خطورة النفجار السكاني‬
‫وارتفاع مستوى المعيشة‪ ،‬وتلوث البيئة‪ ..‬فالتراب‬
‫ملوث‪ ،‬والهواء ملوث‪ ،‬والطعام ملوث‪ ،‬أقول‪ :‬والضمير‬
‫أيضا ً قد صار ملوثًا‪.‬‬
‫‪36‬‬

‫‪62‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫وتشير الدراسات أيضا ً‪ ،‬إلى أنه لو قامت حرب‬
‫عالمية فسوف تقضي على معظم سكان العالم تقريبا‪ً،‬‬
‫والويل لمن يستمرعلى قيد الحياة بعدها‪ ،‬لن‬
‫التشوهات الجسدية التي ستُصيب الحياء‪ ،‬والقحط‬
‫الذي سيعم الرض‪ ،‬والنقراض الذي سيهدد كثيرا ً من‬
‫الكائنات التي يعتمد عليها النسان في غذائه‪ ،‬والمياه‬
‫التي ستُصاب بالتلوثات الشعاعية‪ ...‬سيكون لها أبشع‬
‫الثر في حياة النسان الذي لم تفتك به الحرب بالفعل‪.‬‬
‫ل ننكر أن هناك تقدما ً حضاريا ً ملموسًا‪ ،‬ولكن على‬
‫الرغم من هذا التقدم‪ ،‬إل أن إنسان العصر ل زال‬
‫خائفا ً وقلقا ً والسبب‪ :‬إنه عاجز عن التعبير بما يحس‬
‫به من مخاوف تمل قلبه‪ ،‬وهو بحاجة إلى طبيب‬
‫نفساني‪ ،‬يساعده على إخراج المختزن في أعماقه‪،‬‬
‫حتى تهدأ روحه وتستقر نفسه‪ ،‬فمجرد رأي أو نقد بّناء‪،‬‬
‫يعتبر اليوم مهاجمة وتمردا ً وعصيانًا‪..‬‬
‫ولست أدري كيف ينمو مجتمع ويتقدم حضاريا ً‪ ،‬وقد‬
‫مل الخوف قلوب شعبه‪ ،‬فأطفأ فيهم شعلة النطلق‬
‫والبداع !! فمن طبيعة البشر الخوف من القوة‪ ،‬تلك‬
‫آفة ورثها النسان عن مجتمع الغابة‪ ،‬وقلئل هم الذين‬
‫استمدوا من أعماقهم قوة صمدوا بها ضد الظلم‬
‫والطغيان‪ ..‬وشقوا بها كهوف الرهبة وظلم الخوف‪..‬‬
‫مممم ممممم مممم مممم ممممممم !‬
‫كل المم التي تزرع المن في قلوب أطفالها‬
‫وشبابها وشيوخها‪ ..‬تشعل فيهم نور العبقريات‪،‬‬
‫فتتقدم حضاريا ً واقتصاديًا‪ ..‬وتنجب مبدعين في كل‬
‫‪37‬‬
‫المجالت‪ ،‬أما المم التي ترهب شعبها وتمل بالخوف‬
‫قلوبهم‪ ،‬تُطفئ فيهم شعلة البداع‪ ،‬فتتقهقر وتعود‬
‫إلى الوراء‪ ،‬إلى عصور الجهل والظلم‪ ،‬فهل لنا أن‬
‫نقول‪ :‬إن الخوف هو سم قاتل للحياة والتقدم !‬
‫يجب أن نعرف أن النسان الخائف‪ ،‬ل يمكن أن يُبدع‬
‫وأن يُطلق ما في عقله من أفكار‪ ،‬والعقل المرتعب‬
‫المتردد‪ ،‬حتما ً سيُصيبه الشلل وينطفئ فيه نور الحكمة‬
‫والمعرفة‪ ،‬وإذا انطفأ نور المعرفة تلشت الفضيلة‪ ،‬فقد‬
‫قال أحد الباء‪ :‬كما أنه بدون طين ل يُبنى برج‪،‬‬
‫كذلك بدون معرفة ل ُتبنى فضيله‪.‬‬
‫ولهذا ليست مبالغة مني ‪ ،‬أو تهكم إن قلت لكم ‪ :‬إن‬
‫إنسان اليوم في ظني ‪ ،‬لم يكتشف بعد أنه إنسان‪،‬‬
‫خاصة في الدول النامية ‪ ،‬وأفضل لقب يمكن أن يُطلق‬
‫عليه هو‪:‬‬
‫ممممممم مممممم مم ممممممم ممممممم!‬
‫نعم‪ ،‬فإنسان العالم الثالث هو إنسان جائع‪ ،‬يحيا في‬
‫بلد جائعة‪ ،‬جائع للبر‪ ،‬السلم ‪ ،‬العلم ‪ ،‬الحرية‪،‬‬
‫الديموقراطية‪ ..‬ومطحون من الفقر‪ ،‬الخوف‪ ،‬أسياد‬
‫الرض‪ ..‬لقد ورث الخوف فرضي به‪ ،‬ورث القيود‬
‫فتعايش معها‪ ،‬ورث الجوع ‪ ،‬الذل‪ ،‬الكبت‪ ،‬الجهل‪..‬‬
‫فقبلها أمراضا ً حتى نهاية حياته‪.‬‬
‫ولهذا فقد طعم الحياة‪ ،‬وصار مقيدا ً بقيود ما أكثرها‪،‬‬
‫ولكي يحيا حياة حقيقية لبد من تحطيم هذه القيود‪ ،‬لبد‬
‫أن يقذف بحجارة المطالب المادية‪ ،‬والشهوات العالمية‪،‬‬
‫والثروات التافهة‪ ،‬والهموم المزيفة‪ ..‬التي ل تكف عن‬

‫‪38‬‬

‫‪82‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫الصراخ‪ ،‬لبد أن تحكمه قوانين الرحمة والمحبة ل‬
‫قوانين أهل الغابة‪ ،‬عندئذ يدرك أن يجلس مع ذاته‪،‬‬
‫ويكتشف صور الجمال في أعماقه وفي الطبيعة ومن‬
‫حوله‪.‬‬
‫ليس النسان أيها الحباء لقيطا ً في الفضاء‪ ،‬إنما‬
‫النسان هو عريس الوجود‪ ،‬بل أجمل ما في الوجود‪،‬‬
‫هو لمسة من الله الحي‪ ،‬والويل لمن حاول أو يحاول‬
‫أن يذله أو يستعبده‪ ،‬فإذا التقت إرادة من بيدهم‬
‫الصولجان بإرادة الشعب‪ ،‬انطلقت الحضارة وزاد التقدم‬
‫قِ فهناك التقهقر‪ ،‬بل الفناء‬
‫والرقي‪ ،‬وإذا لم تلت ِ‬
‫والضمحلل !‬
‫وأنا أرى‪:‬‬
‫إن الذين يؤمنون بالله‪ ،‬يؤمنون بقيمة النسان أيضا ً‪،‬‬
‫ويؤمنون بقداسة الحياة ويعرفون أن كل كنوز الدنيا‪ ،‬ل‬
‫تساوي قيمة نفس واحدة عند الله‬
‫من الكيد أن القلق يقود النسان‪ :‬إما إلى التعمق‬
‫والبحث والكتشاف والرجوع إلى الله‪ ..‬وإما إلى‬
‫اللمبالة والرفض والثورة والخوف والبعد عن الله‪ ..‬إننا‬
‫نحصد اليوم ثمار الرفض والثورة والخوف‪ ..‬وها نحن‬
‫نتساءل‪:‬‬
‫ما هو سبب اللحاد المعاصر‪ ،‬والبعد عن مبادئ الدين‬
‫السامية ؟! ما سبب الخوف والنطوائية‪ ،‬التي ل تصنع‬
‫شرا ً ول تسهم في صنع خير؟! ما سبب اليأس الذي‬
‫يتلقى صدمات الحياة في استسلم خانع‪..‬؟! إن السبب‬
‫في كل هذا هو‪:‬‬

‫‪39‬‬
‫مم ممممم ممم مممم مم ممم مممم‬
‫مم ممممممممم ممم ممممم‪.‬‬
‫مممم م‬

‫‪40‬‬
‫ممممم مممممم‬
‫ممممم مممم مممممم‬
‫لكل عصر إيجابياته وأيضا ً سلبياته‪ ،‬وغالبا ً ما تكون‬
‫السلبيات أكثر من اليجابيات‪ ،‬فطبيعة البشر بعد‬
‫السقوط أصبحت تميل إلى الشر أكثر منه إلى الخير‪،‬‬
‫ولهذا رأيت استكمال ً لموضوعنا أن أتحدث عن بعض‬
‫سمات عصرنا‪ ،‬ل اليجابية إنما السلبية آمل ً أن تكون‬
‫هناك حلول ً‪ ،‬ولعل أهم هذه السمات هى التى‪:‬‬

‫مممممم مممم ممممم‬


‫لعل أبرز سمات عصرنا‪ ،‬هو ازدياد موجة العنف‪،‬‬
‫التي تقوم بها جماعات ضلت الطريق‪ ،‬وفقدت هدفها‬
‫في الحياة‪ ،‬فقد أصبح النسان أينما وجد يخشى إصابة‬
‫رصاصة‪ ،‬أو انفجار قنبلة سواء في السيارة أو الشارع‪..‬‬
‫حتى وهو في الحدائق يرفه عن نفسه وأسرته‪ ..‬صار‬
‫يخشى الموت‪ ،‬فالموت الن أصبح أقرب شيء‬
‫للنسان !‬
‫أما الحرب التي هي قمة أعمال العنف‪ ،‬فقد صارت‬
‫المعضلة الكبرى التي تقلق النسان‪ ،‬لن الحرب كانت‬
‫ول زالت ملزمة لكل الجيال‪ ،‬لن الناس كانوا ول‬
‫يزالون أخصاما ً يفتشون عن العداوة‪ ،‬أنانيين يبحثون‬
‫عن حق يغتصبونه‪ ،‬القوي يتعدى على الضعيف‪،‬‬
‫والضعيف على الضعف كما لو كنا نحيا في غابة ! ولهذا‬

‫‪41‬‬
‫فقد النسان سلمه‪ ،‬وأصبحت الحياة بل معنى‪ ،‬لن‬
‫الحياة تفقد قيمتها عندما تتحول إلى ميدان للقتال‪ ،‬أو‬
‫حلبة يتصارع داخلها الوحوش‪.‬‬
‫إن السبب الرئيسي لكل هذا هو‪ :‬الطمع والرغبة‬
‫في الستكثار‪ ،‬فالنسان غير مكتفِ‪ ،‬بما عنده ولهذا‬
‫يطلب دائما ُ المزيد‪ ،‬حتى وإن كان ليس في حاجة إليه‪..‬‬
‫وكذلك الدول كلما زادت ثروتها كلما طلبت المزيد‪،‬‬
‫وسعت إلى تحصيله بكل الوسائل‪ ،‬ولو كانت هذه‬
‫الوسائل هي الحروب‪ ..‬كما أن النمو المتزايد لوقات‬
‫الفراغ ومشاكل العصر‪ ..‬له دور فعّال في زيادة نسبة‬
‫الجرائم‪ ،‬وعدد البيوت المحطمة‪ ،‬وها نحن نرى هذه‬
‫الطاقة الجرامية قد بدأت تظهر بيننا بصورة همجية‪،‬‬
‫فيما يقوم به الشباب المتعطل من تخريب وتدمير لثار‬
‫غالية هم ل يدركون قيمتها ول أهميتها ول معناها‪!...‬‬
‫)ل للعنف( عبارة أجمع كل الحكماء على أهميتها‬
‫وضرورة تطبيقها‪ ،‬وكل من يقرأ في تاريخ الشعوب‬
‫يعرف جيدا ً‪ ،‬أن أية نهضة ل يمكن أن تشتعل في وجدان‬
‫شعبها‪ ،‬إل إذا كان هناك شبه إجماع على أهميتها‬
‫وضرورتها‪ ،‬ولهذا فإن كل ثورات التاريخ لم تستطع أن‬
‫ُتحدث تغييرا ً جذريا ً‪ ،‬إل بعد أن اقتنعت الغلبية بمبادئها‬
‫مُثلها وهضمت أفكارها‪ ،‬أما التغيير بالعنف فله عواقب‬ ‫و ُ‬
‫وخيمة ونتائج سيئة للغاية‪.‬‬
‫عندما حاول أخناتون توحيد ديانات مصر القديمة‪،‬‬
‫وقام بثورة التوحيد اللهي‪ ،‬فشل وقام ضده الكهنة‪،‬‬
‫رجال الدين أنفسهم هم الذين حاولوا قتله‪ ،‬والسبب‪ :‬إن‬
‫وسائل القناع بتوحيد الديانات لم تكن كافية‪.‬‬
‫‪42‬‬

‫‪03‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫والسكندر الكبر عندما حاول أن يوحد الجنس‬
‫البشري‪ ،‬وأقام حفلت زواج‪ -‬سبعة آلف أو أكثر حفلة‬
‫زواج كل يوم‪ -‬بين مختلف الجنسيات‪ ،‬إنهارت تجربته‪.‬‬
‫والصين عندما حاولت أن تفرض على شعبها تنظيم‬
‫لخرى في هذا التعسف‪.‬‬ ‫السرة بالقوة‪ ،‬فشلت هي ا ُ‬
‫واليونانييون لما حاولوا بسط نفوذهم بالقوة‪ ،‬على‬
‫البلد التي استعمروها‪ ،‬فشلوا هم أيضا ً فشل ً ذريعًا‪.‬‬
‫وفي عصرنا الحديث عجزت كل وسائل التعذيب‬
‫حد بين البشر‪ ،‬وتجعلهم خاضعين لفكر‬ ‫والرهاب‪ ...‬أن تو ّ‬
‫واحد‪ ،‬ولعل تجربة النازية ماثلة حتى الن أمام أعيننا‪،‬‬
‫وتجربة الشيوعية والمادية‪ ،‬ل تزال هذه أو تلك في‬
‫تقهقـر سريع‪ ،‬وسـقوط مريع‪.‬‬
‫إذا ً القضية ليست مجرد نظرية فلسفية أو شريعة‬
‫بشرية‪ ..‬يحاول البعض فرضها على الناس ولو بالقوة‪،‬‬
‫إنما القضية هي قضية النسان والدخول إلى أعماق‬
‫النسان‪ ،‬ل يتم بالعنف أو الرهاب أو القتل‪ ..‬لبد من‬
‫طريق آخر للدخول إلى قلب النسان‪ ،‬لبد من إقناعه‬
‫واحترام عقله وحريته‪.‬‬
‫إن الحاجة اليوم تقتضي القيام بحملة تثقيف‬
‫واسعة‪ ،‬حتى يتعلم النسان أن الحياة ليست ميدان‬
‫خلقوا لُيحِبوا بعضهم بعضًا‪ ،‬ولكى‬ ‫حرب‪ ،‬وأن البشر ُ‬
‫ً‬
‫يساعدوا بعضهم بعضا ‪ ،‬على تحقيق الغاية التي من‬
‫أجلها وجدوا‪ ،‬وإن كان ولبد من حرب‪ ،‬فلنحارب‬
‫الجهل‪ ،‬الفقر‪،‬الفساد‪ ،‬العبودية‪ ،‬قاتلي الفكر والبداع‪،‬‬
‫نقاتل الذين يسلبون الضعفاء‪ ،‬ونقف ضد الذين‬
‫صبوا أنفسهم آلهة‪ ،‬ليسجد البشر أمام‬ ‫يريدون أن ين ّ‬
‫‪43‬‬
‫رأيهم‪ ،‬فهؤلء هم الذين يجب أن نقاومهم ونقف ضدهم‬
‫ونحارب فكرهم‪..‬‬
‫أعتقد لو أننا حاربنا الشر‪ ،‬لصرنا إنسانية جديدة‪ ،‬ولو‬
‫تحولت كل رصاصة إلى حبة قمح‪ ،‬وكل دانة مدفع إلى‬
‫شجرة مثمرة‪ ،‬لصبحنا خليقة تنتسب إلى الله ‪.‬‬

‫مممممم مممممممم مممممم‬


‫مع كثرة الضغوط النفسية ومشاكل العصر‪ ،‬التي‬
‫زادت بوضوح في هذه اليام‪ ،‬يبحث النسان عن لذة‬
‫ليعوض به كبته‪ ،‬ولهذا يتجه البعض إلى التدخين‬
‫والمسكرات وتعاطي المخدرات‪ ..‬لشباع عواطفهم‬
‫المضطربة ونفوسهم غير المستقرة ونسيان الواقع‬
‫المؤلم‪ ..‬غير أن البعض‪ -‬وهم الغلبية من الشباب‪-‬‬
‫يلتجئون إلى ممارسة الجنس ليعيشوا فترة من التلذذ‬
‫الوقتى‪ ،‬كبديل للحب الضائع والعطف المفقود‪ ..‬وليست‬
‫مبالغة إن قلت‪ :‬إننا أصبحنا الن نحيا في عالم‬
‫يؤله الجنس كما يؤله المال أيضا ً‪ ،‬ولهذا أصبح‬
‫الحب بل معنى‪ ،‬لن مفهوم الحب قد فسد عند الكثيرين‬
‫وصار مرتبطا ً هو الخر بالجنس‪ ،‬وغاب عن الحب معنى‬
‫التعاطف والبذل‪ ..‬وهذا أدى إلى انحطاط قيمة المرأة‬
‫عند الكثيرين لنها أصبحت في مفهوم البعض مجرد لعبة‬
‫ومتعة‪ ،‬مجرد جسد بل روح‪ ،‬ل قيمة لها إل إشباع‬
‫عواطف الرجل‪ ،‬ألم يصف سارتر الفيلسوف الفرنسي‬
‫عن المرأة بأنها " وعاء " ! فماذا تعني هذه الكلمة ؟‬
‫لقد صار الثم يطفح في كل مكان‪ ،‬فأصبح ل‬
‫لتزنِ( فصارت‬
‫ِ‬ ‫ما وصية )‬
‫جغرافيا ول جنسية له أ ّ‬
‫‪44‬‬

‫‪23‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫عند الكثيرين ليست صعبة‪ ،‬بل مستحيلة التنفيذ في‬
‫عالم مزقه القلق وأشقاه الغنى كما أشقاه الفقر تماما‪ً،‬‬
‫فالنسان المطحون بهموم الدنيا صار حائرا ً في متاهات‬
‫اللذات‪ ،‬باحثا ً عن دواء للهموم والثقال‪ ،‬ولكن أى دواء‬
‫يبحث عنه النسان في النشوات المملؤة باللم‬
‫والحزان !!‬
‫للعوامل القتصادية والفراغ وضعف الروحيات والقلق‬
‫والعواطف المضطربة‪ ...‬دور أساسي في انتشار‬
‫الباحية‪ ،‬ومما ساعد على هذا منجزات العصر الحديث‪،‬‬
‫كالشرطة السينمائية وأجهزة الفيديو‪ ،‬التي تنقل لنا‬
‫تطورات المجتمع الغربي‪ ،‬العابثة بالقيم والمبادئ‬
‫الخلقية‪ ،‬وانتشار الكتب والمجلت الجنسية المثيرة‪،‬‬
‫التي تصادف هوى في نفوس شبابنا المكبوت‪ ،‬وذيوع‬
‫الموسيقى والغاني الصاخبة الداعية للضطراب‪ ..‬فكل‬
‫هذا يهيج العصاب ويثير القلق ويدعو إلى الثورة‪.‬‬
‫القلق وعدم الستقرار ومشاكل العصر زادت من‬
‫نسبة النحراف‪ ،‬والنحراف جعل النسان أكثر قلقًا‪ ،‬لن‬
‫خطية واحدة إذا تسربت إلى قلب إنسان لنزعت منه‬
‫سلمه‪ ،‬وحيث ل سلم يمل القلب ل يكون طعم للحياة‪،‬‬
‫وهل يمكن لنسان أن يحيا بل سلم ! ولهذا ل تتعجبوا‬
‫إن قلت لكم‪ :‬في أحيان كثيرة تخون الزوجة زوجها ل‬
‫رغبة في الخيانة‪ ،‬فلو تزوجت أحد عشاقها لخانته مع‬
‫زوجها‪ ،‬ولكن لنها قلقة فقدت طعم الحياة ومعناها‪،‬‬
‫كما فقدت الهدف والوسيلة والمبدأ‪ ،‬وأصبحت ل تدين‬
‫بالوفاء لحد‪ ،‬وكل هذا جعل من حياتها سلسلة مفككة‪،‬‬
‫أما عطاؤها لعشيقها فل يزيد عن لحظة جنس لنها ل‬
‫‪45‬‬
‫تملك أكثر من هذا !! وربما تبكي بعد كل سقطة‪،‬‬
‫وصدقوها إن قالت إنها تخطئ بدون قصد‪ ،‬لنها بالفعل‬
‫أصبحت ل تعرف ماذا تريد بالضبط !‬
‫إن النسان القلق كثيرا ً ما يسقط في الخطية بدون‬
‫قصد‪ ،‬ليس رغبة في الشر ول حبا ً في الخطية يسقط !‬
‫ولكن سقوطه نابع من أنه صار ل يملك القدرة على أن‬
‫يخطط ويعمل عمل ً منظمًا‪ ،‬لنه فقد هدفه وأصبح ل‬
‫يعرف ماذا يريد من الحياة ! ففي أحيان كثيرة يخرج‬
‫إنسان من منزله‪ ،‬وهو ل يعلم إلى أين يذهب بالضبط ‪،‬‬
‫فإذا قابله زميل ذاهب للسينما ذهب معه‪ ،‬وربما وهو‬
‫في الطريق يتركه ويذهب مع آخر إلى المقهى‪ ،‬حتى‬
‫يأتي شخص قد ل يعرفه‪ ،‬ويأخذه تحت ذراعيه كحمامة‬
‫قليلة الحيلة‪ ،‬ليجد نفسه وسط مجموعة تلعب‬
‫القمار فيلعب ويخسر‪ ،‬وإذا عاد إلى بيته ووجد قريبا ً‬
‫له يتعاطى الخمور‪ ،‬يشرب حتى يسكر ثم ينام بعد يوم‬
‫كامل بل معنى‪ ،‬يوم ل يدري ماذا يريد فيه بالضبط !‬
‫يكفي لثبات كلمي هذا ما قاله أحد الشباب‪ ،‬عندما‬
‫أراد أن يصف حالته بعد كل مرة يسقط في الخطية إذ‬
‫قال‪ :‬بعد كل مرة أُمارس فيها الجنس أشعر بعدم‬
‫ي‪،‬‬
‫شبع جنسي‪ ،‬وأن شهواتي تزداد وتتضاعف ف ّ‬
‫وهذا أفقدني راحتي وسلمي‪ ،‬وجعلني أسعى بعد‬
‫قليل لتحقيق لذتي من جديد‪ ،‬وكثيرا ً ما كنت أستغرق‬
‫في ملذاتي ليس رغبة في الجنس‪ ،‬ولكن لكي أهرب‬
‫من الخوف الذي كان يعذبانني عندما أكون وحدي !‬

‫مممم ممممممم‬
‫‪46‬‬

‫‪43‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫أجمع كثيرون من علماء النفس وكبار الطباء‪ ،‬بعد‬
‫إجراء عدة تجارب على مرضى كثيرين أن النفس‬
‫المضطربة الهائجة‪ ،‬أو النسان القلق كثيرا ً ما يقع‬
‫فريسة للعديد من المراض النفسية والجسدية‪،‬‬
‫فالقلق يضعف المعدة ويؤثر على عملية الهضم‪ ،‬كما أنه‬
‫أهم أسباب الصابة بالمراض الروماتزمية والتهابات‬
‫المفاصل والعصاب وأمراض القلب والجهاز التنفسي‪،‬‬
‫فقد قام طبيب بفحص مريض استولى عليه القلق‬
‫عقب وفاة أحد زملئه‪ ،‬واستقر في ذهنه أن مصيره‬
‫سيكون مثله وهو الموت بالسكتة القلبية‪ ،‬فكانت النتيجة‬
‫إصابته بقرحة في المعدة‪.‬‬
‫ً‬
‫وكان أحد الطباء يعالج مريضا بالربو‪ ،‬وبعد أن‬
‫شفي تقرر خروجه من المستشفى صباح يوم الثنين‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ولكنه فوجئ في صباح اليوم المحدد لخروجه‪ ،‬بعودة‬
‫أعراض المرض إليه وترتب على ذلك بقاؤه في‬
‫المستشفى مدة ُأخرى لعلجه‪ ،‬ولكن حدث بعد علجه‬
‫الذي استغرق عدة أسابيع أن حالته تحسنت فتقرر‬
‫خروجه‪ ،‬إل أن أعراض المرض عادت إليه مرة ثانية في‬
‫صباح اليوم المحدد لخروجه‪ ،‬مما لفت نظر الطباء‬
‫لبحث هذه الظاهرة الغريبة ! فتبين لهم بعد إجراء عدة‬
‫تجارب أن المريض يعمل مدرسا ً‪ ،‬وقد اشتبك في‬
‫مشاجرة هددته بالطرد من المدرسة‪ ،‬وقد‬
‫استبد به القلق الذي سيطر عليه للدرجة‪ ،‬التي‬
‫كانت سببا ً في معاودة المرض إليه في صباح‬
‫اليوم المحدد لخروجه‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫كما تبين لحد الطباء‪ ،‬أن مريضا ً مصابا ً بمرض‬
‫جلدي كان يشتد طفحه كل يوم إثنين‪ ،‬وبعد دراسة‬
‫حالته‪ ،‬تبين أنه أحب فتاة وتقدم إليها وخطبها‪ ،‬إل أن‬
‫الفتاة كانت تؤجل موعد الزواج عند زيارته لها أيام‬
‫الحاد‪ ،‬فكانت في كل مرة تؤجل تحديد الموعد يشتد‬
‫عليه المرض‪ ،‬ويظهر عليه الطفح في اليوم التالي وهو‬
‫يوم الثنين‪ ،‬عندما كان يجلس مع نفسه ويفكر في‬
‫مشكلته‪.‬‬
‫ولهذا عندما أراد أحد الطباء‪ ،‬وقد كان مريضا ً‬
‫بالقلب أن يوضح تأثير القلق والضطراب على القلب‬
‫قال‪ " :‬إن حياتي في يد مجرم يثير غضبي ويحرك‬
‫انفعالتي النفسية "‪.‬‬

‫ممممممم ممممممم‬
‫من الظواهر المقلقة في هذا العصر هروب الناس‬
‫دي‪ ،‬سواء في مرحلة الدراسة أو في‬ ‫من العمل الج ّ‬
‫ميدان العمل‪ ،‬ومع هذا يرغبون في الوصول إلى أسمى‬
‫المراكز‪ ،‬فكيف يتحقق النجاح بدون جهد ُيبذل سواء في‬
‫فتحت جامعة‬ ‫الدراسة أو في العمل ؟! صدقوني لو ُ‬
‫الن لتهافت الجهلء على إدارتها‪ ،‬ل تتعجبوا !!‬
‫فالهدف لم يعد العلم إنما الهدف أصبح المركز‪ ،‬المال‪،‬‬
‫الشهرة‪ ...‬إنها عربدة بالقيم والمبادئ‪ ...‬سرقة‬
‫واغتصاب لحقوق المتعلمين والمثقفين‪ ...‬وإهمال لقيمة‬
‫الدارسين والباحثين‪...‬‬
‫وبينما نرى انكباب الشباب على المعرفة في البلد‬
‫المتحضرة‪ ،‬نجد شبابنا قانعين بالحلول المتوسطة إن لم‬
‫‪48‬‬

‫‪63‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫نقل خاملين‪ ،‬يشكون من الفراغ الموحش في مختلف‬
‫بيئاتهم‪ ،‬فيلجأون إلى التسلية العقيمة لملء أوقات‬
‫فراغهم‪ ،‬فها نحن نراه في الشوارع والمقاهي والنوادي‬
‫يقضي ساعات فراغه المملة دون أن يجني منها أى‬
‫ثمر‪ ،‬ومن هنا زادت الدانة والنميمة وانتشرت‬
‫الشائعات‪ ..‬وهذه علمات على هروب النسان من‬
‫ذاته‪ ،‬والهروب من النفس دليل فقرها‪ ،‬إذ لول عقم‬
‫الفكر وجفاف الروح لما انقاد أبناء جيلنا إلى هذه‬
‫القوقعة وهذه السلبية‪ ،‬فإن من يخشى مواجهة نفسه‪،‬‬
‫يخشى مواجهة الموت والحياة على حد سواء ولكن‬
‫إنصافا ً للشباب نسأل‪ :‬كيف للجائع أن يفكر في شراء‬
‫كتاب يقرؤه؟! وكيف للمعوز أن يكون له اشتياق لبحث‬
‫يدرسه ؟!‬
‫ل أظن أن للمطحون تحت أقدام الحياة القاسية‬
‫قدرة أن يحلل أمور الحياة ويغربلها‪ ،‬أو وقتا ً للقراءة‬
‫والتفكير وهم الذين يسعون من طلوع الشمس إلى‬
‫غروبها بحثا ً عن رزقهم‪..‬‬
‫ألقِ نظرة على المناطق البائسة‪ ،‬هل يحيا النسان‬
‫حياة إنسانية تقوده إلى إبداع فني أو اكتشاف علمي ؟!‬
‫إننا للسف الشديد ل نغذي العقول بل نسجنها‪ ،‬ونقيد‬
‫حركتها ونرسم لها طريقا ً واحدًا‪ :‬أن تكون عقول ً‬
‫تابعة‪ ،‬أسيرة‪ ..‬ل عقول ً مفكرة‪ ،‬ناضجة‪،‬‬
‫مبدعة !!‬
‫كيف يزدهر العقل‪ ،‬كيف يقوى دون غذاء ؟! كيف‬
‫تطلب منه أن يفكر‪ ،‬وأنت تمده بغذاء سام يقتل فيه‬
‫حركة الفكر‪ ،‬عن طريق ما ُتلقيه وسائل الدعاية وأجهزة‬
‫‪49‬‬
‫العلم والكتب غير الرصينة‪ ،‬التي تعتمد على الثارة‬
‫قبل كل شيء ؟! إن ما يناله الولد من تعليم ل يدخل‬
‫قلبهم‪ ،‬ولهذا ل يذهبون إلى المدارس إل باشمئزاز‪،‬‬
‫وبدون رغبة في التعلم‪ ،‬ول غرابة أبدا ً في ذلك‪ ،‬لن‬
‫مدارس كثيرة أصبحت شركة ضخمة للتسمم العقلي‬
‫الجماعي‪ ،‬والفوضى الخلقية‪ ،‬وشلل حركة الذهن‪،‬‬
‫والجفاف العقلي‪ ،‬فكلمة درس أصبحت تعبيرا ً عن حشو‬
‫معلومات في الذاكرة بل تنسيق أو استيعاب ! ولهذا‬
‫أصبحت المعلومات تؤذي الطلب أكثر مما تفيد‪ ،‬لنها‬
‫أصبحت إرهاقا ً للذهن بالرقام والتواريخ والسماء‪ ..‬التي‬
‫سرعان ما تُنسى بعد أداء المتحان مباشرة !!‬
‫إن المعرفة تصير جزءا ً من ذات النسان عندما‬
‫يتذوقها‪ ،‬هنا تبدو الثقافة شجرة تنمو‪ ،‬ينبوع مياه جارية‬
‫ل مستنقعا ً ساكنا ً‪ ،‬فإن أردنا نهضة فكرية وعلمية‬
‫حقيقية‪ ،‬يجب أن نعلم أطفالنا منذ الصغر كيف وماذا‬
‫يقرأون‪ ،‬نعلمهم كيف ينقدون بدون تجريح‪ ،‬كيف‬
‫يعارضون في موضوعية‪ ،‬كيف يرفضون‬
‫ويحترمون ما يرفضونه‪ ،‬كيف يقيمون حوارا ً‬
‫بدون صخب أو قهر‪ ،‬ويجب أيضا ً أن نوفر لهم‬
‫الستقرار والسلم‪ ..‬وما يحتاجونه من مستلزمات‬
‫الحياة‪..‬‬

‫ممم ممم مممممممم‬


‫يحتاج النسان إلى وطن وإلى أسرة وإلى ديانة‪ ،‬فإذا‬
‫لم يحقق هذا النتماء سيفقد الكثير من خصائص كيانه‬
‫الجتماعي‪ ،‬وليس النتماء إلى جماعة هدفا ً لتبادل‬
‫‪50‬‬

‫‪83‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫المنافع والخدمات أو تلبية حاجات‪ ،‬إنما النتماء يهدف‬
‫أول ً وقبل كل شيء‪ ،‬أن يحقق هدفا ً مشتركا ً يوحد بين‬
‫الجماعة‪ ،‬وهنا نتذكر الجماعة المسيحية الولى‬
‫حد‬‫حد بينها الرجاء والصبر واللم‪ ،‬كما و ّ‬
‫التي آمنت‪ ،‬وو ّ‬
‫بينها هدف جوهري وهو تغيير العالم إلى الفضل‪ ،‬وزرع‬
‫القيم الروحية السامية وتعاليم المسيح بين الناس‪...‬‬
‫إذا وجدت روح النتماء بين الجماعة كان التقدم‬
‫والزدهار‪ ..‬أما إذا ضعفت روح النتماء‪ ،‬ساد الستهتار‬
‫واللمبالة وعمت الفوضى بين الناس‪ ...‬فالنسان الذي‬
‫يفقد انتماءه‪ ،‬هو مثل اللجئ سـيظل يشـعر بالغربة‬
‫حتى نهاية حياته‪ ،‬والغريب ل تهمه إل مصلحته‬
‫الشخصية‪.‬‬
‫لعل الشعور بالغربة وعدم توافر أساليب الخدمة‬
‫والرعاية‪ ..‬من أهم أسباب ضعف روح النتماء‪ ،‬سواء‬
‫في البيت أو الوطن أو الكنيسة‪ ،‬فماذا يحدث لو عاش‬
‫إنسان في مكان ليس أحد يفتقده أو يحل مشاكله أو‬
‫يسأل عنه ؟ سيشعر بغربة تجعله يفقد روح النتماء‬
‫لهذا المكان‪.‬‬
‫إن نكبة اللمبالة وعدم النتماء‪ ،‬ترجع إلى أن الناس‬
‫ل يشعرون أن المسئولين عن رعايتهم وتوفير‬
‫احتياجاتهم‪ ،‬يهتمون بهم أو صادقون في خدمتهم ‪ ،‬إنما‬
‫والحق يقال )يخدمون أنفسهم( من هنا تتولد الحيرة‬
‫واليأس ويفقدون طريقهم‪ ،‬وما دام الناس فقدوا‬
‫الطريق فلبد لهم أن يعيشوا بل مبادئ أو أهداف‬
‫يسعون لتحقيقها‪ ،‬ومعظم الذين فقدوا هدفهم في‬
‫الحياة انتهى بهم المر إلى اليأس‪ ،‬ولكن بعضهم يندفع‬

‫‪51‬‬
‫إلى اتجاهات خطيرة قد تؤدي إلى الهلك‪ ،‬وهذا هو ما‬
‫نراه اليوم بأكثر وضوح!‬

‫‪52‬‬
‫ممممم مممممم‬
‫ممم مممم مم ممم ممممم !‬
‫أيــن اللــه‪..‬؟ ســؤال كــثيرا ً مــا يــتردد علــى ألســنة‬
‫المتألمين الذين أضعفت التجارب إيمــانهم‪ ..‬فمــا أكــثر‬
‫القلوب الجريحــة المضــطربة‪ ،‬الــتي تريــد أن تقــذف مــا‬
‫بداخلها من ثورة وبركان‪ ،‬فتأتي ثورتها ضد اللــه كمــا لــو‬
‫كان الله هو مصدر البليا والشرور!‬
‫اللــه موجــود‪ ،‬هــذه حقيقــة ل ينكرهــا إل الملحــدون‪،‬‬
‫وليس في الكون نقطة واحدة إل الله موجود فيهــا‪ ،‬فهــو‬
‫الــذي " مجــده ملــء كــل الرض " )إش ‪ (3: 6‬هــو‬
‫الداخل في كل شئ والخارج عن كل شــئ‪ ،‬وهــو أقــرب‬
‫إليــك حــتى مــن نفســك‪ ،‬إنــه يخاطبــك لكنــك ل تســمعه‬
‫بسبب ضجيج أفكارك ورغباتك الهائجة‪ ،‬ولو كان لك عين‬
‫روحية‪ ،‬لستطعت أن تراه في لمعان النجوم!‬
‫أما آلم هذا الدهر فليست من صنع الله‪ ،‬كـل مشـاكل‬
‫الحياة أوجدها النسان‪ ،‬فالله لم يخلق الشــر إنمــا الشــر‬
‫وجد عندما ابتعد النسان عن الخير‪ ،‬فمنذ أن ســقط آدم‬
‫انفتح باب الجحيم‪ ،‬وانبثق شــعاع اللــم‪ ،‬ليرســم صــورته‬
‫الحزينة على وجوه البشر‪ ،‬أما جرثومــة الثــم فانتشــرت‬
‫في كيان النسـان حتى إن الجميع بل استثناء " أخطأوا‬
‫وفسدوا وأعوزهم مجد الله " )رو ‪. (3: 3‬‬

‫‪53‬‬
‫لكن رغم تمرد آدم وعصيانه‪ ،‬إل أن الله هو الذي بــادر‬
‫لحل المشكلة ووعد آدم بأنه سيرسل ابنــه الحــبيب إلــى‬
‫العالم‪ ،‬ليسحق رأس الحية التي أغــوته‪ ،‬ويعالــج مشــكلة‬
‫السقوط العظيم‪ ،‬وقد أوفى بوعده في المسيح يســوع‪..‬‬
‫وهذا إنما يدل على حب الله‪ ،‬فإن كان الله قد أحبك منذ‬
‫الزل‪ ،‬فواضح أن محبته سوف تدوم إلى البد‪ ،‬ألــم يقــل‬
‫الله بفم إرميــا النــبى‪ " :‬محبة أبديــة أحببتــك مــن‬
‫أجل ذلك أدمت لك الرحمة " )إر ‪.( 3:3‬‬
‫ممكــن وبســهولة أن يمحو اللــه الشــر‪ ،‬ويقضــي‬
‫على الشرار ليعيش النــاس فــي ســلم‪ ،‬كمــا يــتراءى‬
‫للبعض‪ ،‬وقد حدث ذلك مرة أيــام نــوح‪ ،‬عنــدما كــثر شــر‬
‫النســان وتلــوثت الرض بالفســاد ‪ ،‬فــأنزل عليهــا مــاء‬
‫الطوفان لينظفها‪ ،‬وبالفعل هلك الشــرار وتنقــت الرض‬
‫واغتسلت من قذارتها‪ ،‬ولكنها عادت وتلوثت من جديد‪.‬‬
‫فالمشكلة إذن في أعمــاق النســان‪ ،‬والنســان " كــل‬
‫تصور أفكار قلبه إنما هــو شـرير كــل يــوم " )تــك ‪(5: 6‬‬
‫ولهذا في مثل الزوان عنــدما طلــب العبيــد أن يــذهبوا‬
‫ويجمعوا الزوان من بين الحنطة‪ ،‬رفض السيد مــن أجــل‬
‫نمو الحنطة‪ ،‬فإذا قلعوا الزوان ربما قلعــوا الحنطــة معــه‬
‫)مت ‪ (30 :13‬كما أن وجود الحنطة بين الزوان له‬
‫فوائده‪ ،‬وإن لــم يوجــد بيــن الحنطــة زوان فصــدقوني‬
‫سوف يخرج من القمح زوان‪ ،‬فهل كــان فــي الفــردوس‬
‫زوان ؟! ألم يخرج الزوان من آدم !‬

‫‪54‬‬

‫‪04‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫فل يزعجنك وجود الخطاة في العــالم‪ ،‬وتحكمهــم فــي‬
‫المؤمنين‪ ،‬فليس الشرارالذين يقلقوننا ويعبثون بحياتنــا‪،‬‬
‫ســـوى كومــة مــن التبــن كمـــا يقـــول القــديس‬
‫ُأغسطينوس‪ ،‬أمـا أنـت فحبـة حنطـة فـإن كـان التبــن‬
‫يغطيك ويخفي ملمحــك ويكتــم علــى أنفاســك‪ ،‬فثــق أن‬
‫يوم التذرية قريب‪ ،‬سـيأتي يـوم الدينونـة الرهيـب‪ ،‬حينئذ‬
‫ســيرفع التبــن عــن القمــح وُيحــرق بالنــار‪ ..‬فتحمــل أيهــا‬
‫ُ‬
‫الحبيب ضغط التبن عليك‪ ،‬ول تبتعد عن البيدر الــذي هــو‬
‫الكنيسة‪ ،‬لنك إن كنت حنطة خارجا ً عن البيــدر فســوف‬
‫تأكلك الطيور‪.‬‬
‫ربما تهيج وتضطرب في كل مرة ترى فيها الشرار‬
‫يتنعمون بالخيرات والبرار يرزحون تحت ثقل المصائب‬
‫والضيقات‪ ،‬وتقول في نفسك ‪ :‬أهذا عدلك يا رب أن‬
‫يسعد الشرار ويشقى البرار؟ فيجيبك الله‪ :‬وأنت أهذا‬
‫إيمانك ؟ هل وعدتك بهذه الشياء ؟ هل صرت مسيحيا ً‬
‫لكي تتنعم في حياتك ؟ ألم أقل في العالم سيكون لكم‬
‫ضيق ؟ ألم تقرأ كلمي عن الباب الضيق ؟ فل تنظر إلى‬
‫ما يسمح به الله للشرار‪ ،‬بل ُأنظر دائما ً إلى ما يحتفظ‬
‫به للبرار‪.‬‬
‫هل سمعت عن أيوب ؟ ل أظن إنسانا ً أصابته بليا‬
‫مثل هذا الرجل! لقد حدث انهيار كلي حوله‪ ،‬مقتنياته‬
‫كلها ُأبيدت‪ ،‬أبناؤه السبعة وبناته الثلثة ماتوا جميعًا‪ ،‬ولم‬
‫تقف التجربة عند حد المقتنيات والبنين بل امتدت إليه ‪،‬‬
‫ضرب بالقروح الرديئة من باطن قدمه حتى هامته ‪..‬‬ ‫ف ُ‬
‫ً‬
‫لقد صار الغني فقيرا‪ ،‬والسيد ها هو أقل من أدنى العبيد‬
‫‪ ،‬ويبقى السؤال ‪ :‬ماذا فعل أيوب حتى تصيبه هذه‬
‫‪55‬‬
‫البليا ؟ مكتوب عنه إنه " كان رجل ً كامل ً ومستقيما ً‬
‫يتقي الله ويحيد عن الشر" )أى ‪! (1: 1‬‬
‫لقد تألم أيوب! لكن الله لم يتركه‪ ،‬أثناء التجربة كان‬
‫التخلى يبدو واضحًا‪ ..‬لكن من يقرأ خاتمة سفر أيوب‬
‫يرى أن الله بارك آخرة أيوب أكثر من أوله‪،‬‬
‫وأعطاه نفس الولد الذين فقدهم في التجربة‪ ،‬سبعة‬
‫بنين وثلث بنات‪) ...‬أى ‪.(42‬‬
‫والن لنسمع ما يقوله أيوب عندما تكثر مصائبك‪" :‬‬
‫طوبى لرجل يؤدبه الرب‪ ،‬فل ترفض تأديب القدير لنه‬
‫هو يجرح ويعصب يسحق ويداه تشفيان في ست‬
‫شدائد ينجيك وفي سبع ل يمسك سوء في الجوع يفديك‬
‫من الموت وفي الحرب من حد السيف " )أى ‪-17 :5‬‬
‫‪.(21‬‬
‫قد ل نفهم الله أثناء التجربة‪ ،‬بل قد نعترض على‬
‫سياسته وأحكامه لن ظلم اللم يحجب كل شيء عنا‪،‬‬
‫لكن ما أن تمر الضيقة تتجلى أمامنا الحقيقة بكل‬
‫وضوح‪ ،‬عندئذ ل يحق لنا إل أن نقول‪ " :‬ما أبعد‬
‫أحكامه عن الفحص وطرقه عن الستقصاء "‬
‫)رو ‪.(33: 11‬‬
‫أليس النحات لكي يصنع تمثال ً جميل ً ‪ ،‬يكسر ويثقب‬
‫في المرمر بالمطارق والزاميل ؟ أل يستخدم الرسام‬
‫اللون السود‪ ،‬بل ويضيفه إلى اللوان الخرى الهادئة‬
‫الجميلة لتخرج أيقونته كما يريد ؟ هكذا الله أيضا ً كثيرا ً‬
‫ما يستخدم آزاميل التجارب وسواد الشرار حتى تظهر‬
‫صورة البرار في أروع منظر لها‪ ،‬فل تقل أين الله عندما‬
‫أتألم ؟ لن الله معنا‪ ،‬موجود في وسطنا‪ ،‬ويعرف كل‬
‫‪56‬‬

‫‪24‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫احتياجاتنا‪ ،‬ألم يقل رب المجد‪ " :‬ها أنا معكم كل اليام‬
‫وإلى انقضاء الدهر" )مت ‪ ،(20:28‬إنه معنا في أحزاننا‬
‫كما هو معنا في أفراحنا‪ ،‬قد ل يبعد عنا الضيقات‪ ،‬ولكنه‬
‫يعطينا القوة حتى نجتازها‪ ،‬وإن كان في بعض الوقات‬
‫يبدو ساكتاً‪ ،‬إل أنه كما قال الكتاب‪ " :‬يسكت في‬
‫محبته " )صفنيا ‪.(17:3‬‬
‫مم ممممم مممم مممم ممم مممم مممم مممممم‬
‫ممممم مم‬
‫مم مممم ممممم مممم‬
‫مممممم مم مممممم ممم م‬
‫ممم مممممم‬
‫" مممم ممم مممم مممم ممم ممممم " ) مم‬
‫‪ ( 31:8‬م!‬
‫يحدثنا الكتاب عن الرض في بداية خلقتها فيقول‪" :‬‬
‫كانت الرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة "‪ ،‬ل‬
‫ننكر أنها صورة كئيبة تصور لنا حال الكون في بداية‬
‫تكوينه‪ ،‬لكن الله رفض الخراب والظلم فماذا فعل ؟‬
‫خلق أول ً النور ليكون شعاعا ً يسقط على الرض‬
‫ل‪ ،‬ثم بدأ يخلق الشجار والزهور والبحار‪..‬‬ ‫فيعطيها جما ً‬
‫لكى تتحول الرض الموحشة إلى أيقونة جميلة‪ُ ،‬تعلن لنا‬
‫عن عظمة وإبداع الخالق‪.‬‬
‫ونحن بل شك نمر بأوقات‪ ،‬نشعر فيها بأن حياتنا خربة‬
‫وخالية ومظلمة‪ ،‬لكن يجب أل ننسى أن روح الله كان‬
‫يمل الرض " وروح الله يرف على وجه الغمر " )تك‬
‫‪ (2 :1‬كما أن الظلم لم يدم كثيرا ً " وقال الله ليكن نور‬
‫فكان نور" )تك ‪ (3 :1‬فالله قادر أن يحول ظلم حياتك‬
‫إلى نور‪ ،‬والخراب إلى حياة جميلة مليئة بالثمار‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫لبد من ظلم التجارب والضيقات‪ ،‬من ضباب‬
‫الفشل‪ ،‬المرض‪ ،‬الفقر‪ ،‬لبد أن تصدم أمواج الشـر‬
‫سفينة حياتنا‪ ،‬فقد قـال رب المجد ‪ " :‬في العالم‬
‫سيكون لكم ضيق " ‪ ،‬ولكن ما أجملها عبارة تلك التي‬
‫قالها بعدها‪ " :‬ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم " )يو ‪: 16‬‬
‫‪ (33‬وهذا إنما يعطينا قوة أن نقاوم أمواج الشر في بحر‬
‫هذا العالم‪.‬‬
‫ً‬
‫وإن كنا ل نملك درعا سحرية‪ ،‬تحمينا من التجارب‬
‫والضيقات‪ ..‬إل أننا نملك إيمانا ً قويا ً ‪ :‬إنه ل شدة ول‬
‫ضيق ول اضطهاد ول جوع ول عري ول خطر ول سيف‬
‫يمكن أن يفصلنا عن محبة المسيح‪ ،‬لننا في هذه جميعها‬
‫يعظم انتصارنا بالذي أحبنا " )رو ‪.(37 -35 :8‬‬
‫ماذا رأى القديس يوحنا في جزيرة بطمس ؟ بابا ً‬
‫مفتوحا ً في السماء وعرش الله موضوعا ً فيها‬
‫)رؤ ‪ (28 : 4‬وما هذا إل إعلن أن الله موجود وباب‬
‫السماء قد ُفتح‪ ،‬فإذا ُأغلقت أبواب الحياة فى وجهك‪،‬‬
‫فارفع عينيك إلى السماء فستجد بابا ً مفتوحًا‪ ،‬وإلها ً‬
‫جالسا ً على عرشه‪ ،‬فاتحا ً ذراعيه لستقبالك‪ ،‬فل تهتز ول‬
‫تفقد ثقتك في إلهك‪ ،‬فالله هو أمس واليوم وإلى البد‪.‬‬
‫هل تأملتم مرة في إله الكون‪ ،‬وهو ينزل إلى‬
‫هضاب ووديان حياتنا ليرعانا ! إنه راعينا الحنون‬
‫رب المجد يسوع‪ ،‬الذي يقوينا بنعمته ويرشدنا بتعاليمه‬
‫إلى طريق خلصنا‪ ،‬إن سرنا في الوادي المظلم فهو‬
‫معنا‪ ،‬وإن نمنا في العراء نـام معنا‪ ،‬إنه " راع يرعى‬
‫قطيعه‪ ،‬بذراعه يجمع الحـملن وفي حضنه يحملها "‬
‫)إش ‪ (11 : 40‬هل تشك أن راعينا يحرس خرافه ؟ هل‬
‫‪58‬‬

‫‪44‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫تشك أنه واقف بالمرصاد لذئاب العالم حتى ل تخطفها ؟‬
‫ألم يضع المسيح راعينا نفسه من أجل خرافه ؟ فكيف‬
‫إذا ً تشك في عناية الله ورعايته !!‬
‫ممممم مممم ممم ممممم ممم مممممم م مممم‬
‫مممم‬
‫مم مممم ممم مممم ممممممم ممم ممممم ممم‪.‬‬

‫مممم‬
‫قرأت قصة عن رجل نجا وحده من حطام سفينة‬
‫غارقة‪ ،‬ووجد نفسه في جزيرة مهجورة‪ ،‬هناك تمكن من‬
‫بناء كوخ وضع فيه كل ما أمكن إنقاذه من الحطام‪،‬‬
‫وكان يصلي لله لكي يرسل إليه نجدة لنقاذه‪ ،‬وطوال‬
‫اليوم كان يتطلع إلى الفق لعله يلمح سفينة عابرة‪،‬‬
‫فلما لم يجد عاد إلى كوخه‪ ،‬فرآه وقد اشتعلت فيه‬
‫النيران بسبب شعلة كان قد أشعلها !! ونسي أن‬
‫يطفئها فسقطت وأشعلت النيران في الكوخ وأفنت كل‬
‫مقتنياته ل شك أنها كارثة أحزنت قلب الرجل‪ ،‬وجعلته‬
‫ييأس من الحياة‪ ،‬فل مفر من الموت إذًا‪ ،‬وبالفعل جلس‬
‫الرجل منتظرا ً لحظات موته بين الحين والخر‪ ،‬وفجأة‬
‫بعد وقت قصير من إشعال الكوخ‪ ،‬وعلى غير المتوقع‬
‫وصلت سفينة ورست قرب الكوخ ! ماذا حدث ؟‬
‫عندما اشتعلت النيران لمح قبطان السفينة‬
‫منظرها فأسرع إلى مكانها‪ ،‬إذ ظن أنها علمة‬
‫يريد أحد أن يستنجد بها‪ ،‬هذا ما رواه القبطان‬
‫للرجل عندما تحدث إليه ! فسجد الرجل على الرض‬
‫‪59‬‬
‫وقدم الشكر لله من أجل النار التي كانت سببا ً في‬
‫نجاته‪ ،‬فلول حريق الكوخ ماجاءت سفينة النجاة لتنقذ‬
‫حياة الرجل‪.‬‬
‫ممم مم مممم مممم مممممممم مممم‬
‫مممممممم م‬
‫ممم ممممم ممممم مممممم ممم ممممممم‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫ممممم مممممم‬
‫ممم مممم مم ممم ممممم م‬
‫ما من إنسان إل وعانى من القلق‪ ،‬ربما لحادث‬
‫مؤلم تعّرض له‪ ،‬أو تعّرض له أحد أقربائه‪ ،‬وربما عقب‬
‫فشل دراسي أو زيجي‪ ..‬فإن واجهتك مشكلة‪ ،‬ل تقابلها‬
‫بالنطواء أو الكبت أو بالنتقام من نفسك ‪ ..‬لن‬
‫النطواء يزيد الحساس بالمشكلة‪ ،‬والكبت ما هو إل‬
‫وسيلة هروبية ل تحل مشاكلنا‪ ،‬وغالبا ً ما ينتج عنه‬
‫أمراض نفسية وجسدية‪ ..‬أما النتقام من النفس فيفقد‬
‫النسان احترامه‪ ..‬إنه يدمر النسان خاصة إن كانت‬
‫وسائل النتقام كالسكر أو المخدرات إن مثل هذه‬
‫الوسائل ليست مجدية لمواجهة تحديات العصر‪ ،‬ولها‬
‫كثير من النتائج السلبية‪ ،‬ولهذا فإن أفضل وسائل‬
‫النتصار على القلق هي التي ‪:‬‬

‫مممممم ممممم‬
‫إذا وجدت نفسك خائفًا‪ ..‬فاسأل نفسك لماذا أنت‬
‫قل ِق ؟ ربما يكون قلقك ناتجا ً عن سقوطك في‬
‫خطية‪ ،‬فواجه نفسك وحدد أسباب السقوط ‪ ،‬هل كان‬
‫بسبب ضعف الروحيات والبعد عن الله ؟ أم بسبب‬
‫أصدقاء السوء ؟ أم أن سقوطك نتج لكثرة اختلطك‬
‫بالشابات وعدم الحتراس في معاملتهن ؟ أم أنك‬
‫سقطت لتختبر لذة الخطية ؟ أم سقطت بجهل مثلما‬
‫يقول البعض ضحكوا علينا ؟‬

‫‪61‬‬
‫عندما واجه البن الضال نفسه وفكر في حالته‪ ،‬وما‬
‫وصل إليه من انحطاط شعر بأمور عظيمة‪ ،‬فتمثلت‬
‫أمام عينيه حالة الفقر والجوع التي وصل إليها‪ ،‬ثم عادت‬
‫إلى مخيلته صورة المجد والغنى الوافر في بيت أبيه‪،‬‬
‫ولهذا قال ‪ " :‬كم من أجير عند أبي يفضل عنه الخبز‬
‫وأنا أهلك جوعا ً " )لو ‪ ،(7: 15‬كذلك شعر بجرمه الذى‬
‫ارتكبه عندما ترك بيت أبيه‪ ،‬وهذا دفعه إلى القول ‪" :‬‬
‫أقوم وأذهب إلى بيت أبي وأقول له أخطأت يا أبتاه‪،"..‬‬
‫ويقينا ً لو لم يجلس البن الضال مع نفسه ما واجه‬
‫مشكلته‪ ،‬وبالتالى ما كان قد وصل إلى حياة التوبة‪ ،‬ول‬
‫رجع إلى أبيه‪ ،‬ول خرج من قبضة الشيطان إلى حيث‬
‫لبس الحلة والخاتم‪..‬‬
‫إن تحديد أسباب المشكلة‪ ،‬من أهم عوامل التغلب‬
‫عليها‪ ،‬فحاول أن تحدد أسباب قلقك‪ ،‬ثم ضع حل ً لكل‬
‫سبب على حدة‪ ،‬وفي نفس الوقت ل تكبت‬
‫مشاعرك‪ ،‬بل اكتشف الوسائل التي تساعدك على‬
‫التعبير عن أحاسيسك الداخلية‪ ،‬بممارسة هوايات‬
‫كثيرة‪ :‬كالرسم أو الرياضة أو الموسيقى أو القراءة‪..‬‬
‫فمعظم أعمال الفنانين جاءت تنفيثا ً عما في أعماقهم‪،‬‬
‫من أشياء مختزنة وكانوا غير قادرين على إعلنها‪..‬‬
‫إن هذه الهوايات أشبه بالقارب الصغير‪ ،‬الذي كان‬
‫ُيلقيه البحّارة في البحر لينجوا من افتراس الحوت‪،‬‬
‫فمن تقاليد البحارة قديما ً أن يلقوا بقارب إذا صادفوا‬
‫حوتا ً في البحر ليشغلوه عن مهاجمتهم‪ ،‬ثم يحاولون‬
‫صيد الحوت وهو منشغل بمناطحة القارب‪ ..‬وهذا ما‬
‫ينصحك به علماء النفس‪ :‬أن تلقي لحوت همومك قاربا ً‬
‫‪62‬‬

‫‪64‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫فارغا ً يشغلها عنك ويشغلك عنها‪ ،‬إلى أن تنجح في‬
‫اصطيادها والقضاء على أسبابها‪ ،‬وأقصر الطرق هو‬
‫الثقة بالنفس‪ ،‬ونسيان التجارب الليمة‪ ،‬والمشاركة في‬
‫النشطة الجتماعية‪ ،‬والهوايات المختلفة والخدمات‬
‫الكنسية‪..‬‬
‫يقول الكاتب الشهير برناردوشو‪ " :‬إن سر‬
‫الحساس بالتعاسة هو أن يتوفر لك الوقت لتتساءل هل‬
‫أنت شقي أم سعيد ؟ " ! وقد وضع المريكي‬
‫كارنيجي روشتة للتغلب على القلق والحزان والهموم‬
‫فيقول‪ " :‬انشغل وابق منشغل ً دائما ً‪ ..‬ل تحزن على ما‬
‫فات‪ ..‬ل تبالغ في الخوف والهتمام بما سيأتي " !‬
‫ويؤكد منهجه هذا قائل ً ‪ " :‬إن الطبيعة ضد الفراغ ‪ ،‬فلو‬
‫أنك ثقبت مصباحا ً كهربائيا ً مفرغا ً من الهواء‪ ،‬فإن الهواء‬
‫يتسلل إليه فورا ً ويمل كل فراغه‪ ،‬وكذلك عقل النسان‬
‫إذا خل مما يشغله تسللت إليه الهموم وتمكنت منه "‪،‬‬
‫وفي كتاب اسمه فن نسيان الشقاء‪ ،‬للمؤلف‬
‫المريكي جون كوبر بويز‪ ،‬يؤكد أنه عندما يستغرق‬
‫النسان في العمل‪ ،‬يتسلل إليه الحساس بالطمئنان‬
‫والسلم النفسي وينسى مؤقتـا ً مشاكله وأحزانه‪.‬‬
‫وبجانب شغل فراغك بالعمل المجدى والهوايات‬
‫النافعة‪ ،‬يفيدك أيضا ً شئ هام أل وهو‪ :‬التعبير عن‬
‫أحاسيسك ومشاعرك الداخلية‪ ،‬مع صديق حميم تثق‬
‫فيه أو أحد المرشدين‪..‬‬
‫ضع في اعتبارك أن الحياة انتصارات وهزائم‪..‬‬
‫مكاسب وخسائر‪ ..‬أفراح وأحزان‪ ..‬والعاقل هو من ل‬
‫يسمح لهزائمه الصغيرة أن تزلزل حياته وهذا ما أكده‬
‫‪63‬‬
‫عطيل‬ ‫الكاتب العظيم شكسبير في مسرحيته الرائعة ُ‬
‫عندما قال‪ " :‬إن الرجل الذي يسرقه لص فيبتسم ترفعا ً‬
‫يسترد من السارق بعض غنيمته‪ ،‬أما من يحزن بل طائل‬
‫فإنه يسرق نفسه مرة أُخرى بعد أن سرقها اللص‪ ،‬لنه‬
‫يضيف إلى خسارته المادية خسارة معنوية جديدة ل‬
‫در بثمن" !‬
‫تق ّ‬
‫والحياة أيضا ً مد وجزر‪ ،‬أمواج متصاعدة تقتحم‬
‫شاطئها‪ ،‬تتبعها أمواج متراجعة إلى عمق البحر‪،‬‬
‫والنسان الناضج هو من يتفهم فلسفة الحياة‪ ،‬فل يتكبر‬
‫عند المد ول ينهار عند الجزر‪ ،‬بل تكون حياته واقعية‪،‬‬
‫ملتزمة‪ ،‬إيجابية على الدوام‪ ،‬فإذا خسرت فابدأ من‬
‫جديد ولكني أنصحك أن تبدأ باللف وليس بالياء‪ ،‬أول ً )أ(‬
‫ثم )ب( ثم )ت( ‪ ..‬وتأكد أنك في يوم ما ستصل إلى‬
‫آخر حرف وهو حرف الياء‪.‬‬

‫مم مممم مممممم‬


‫ماذا لو انقطع التيار فجأة ووجدت نفسك داخل حجرة‬
‫مظلمة ؟ لبد أنك ستضئ شمعة حتى يتلشى الظلم‪،‬‬
‫أما الشمعة التي يمكنك أن تبدد بها ظلم القلق فهي‬
‫اليمان‪ ،‬فكل عادة ذميمة يمكنك التخلص منها وكل‬
‫مشكلة عسيرة يمكنك أن تحلها‪ ..‬إذا كان لديك إيمان‪،‬‬
‫أى تؤمن أنك قادر أن تحطم كل حجر ضخم يسد باب‬
‫الرجاء قدامك‪ ،‬فكل ما تؤمن بأنك قادر على تحطيمه‪،‬‬
‫فإنك سوف تحطمه‪ ،‬ألم يقل الكتاب المقدس‪ " :‬كل‬
‫شئ مستطاع للمؤمن " )مر ‪! (23 :9‬‬

‫‪64‬‬

‫‪84‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ول نسيج الجسد‪ ،‬من مادة مؤقتة‬ ‫إن اليمان يح ّ‬
‫ول واقع النسان‬ ‫تشيخ إلى معنى روحي خالد‪ ..‬ويح ّ‬
‫الليم‪ ،‬الذي يمتزج فيه الحزن بالفرح‪ ،‬والشقاء باللذة‪،‬‬
‫والنور بالظلم‪ ،‬والجمال بالقبح‪ ،‬إلى معنى ل يموت‪،‬‬
‫وإلى سمو وارتقاء ل يفنيان‪.‬‬
‫باليمان يصبح العالم غير مائت‪ ،‬ويصبح النسان في‬
‫حماس دائم للحياة‪ ،‬وكأن الحياة تتحول باليمان إلى‬
‫لحظات من النغم المتصلة والسعادة الدائمة‪.‬‬
‫ول اللم‪ ،‬إلى رغبة‬ ‫وهل ينكر أحد أن اليمان يح ّ‬
‫وشوق في معرفة المزيد من أسرار الذي تألم وهو‬
‫بار!! يسوع المسيح الذي بآلمه قدس اللم وأعطاه‬
‫معنى جديدًا‪.‬‬
‫والموت‪ ،‬أليس اليمان يحوله إلى رحلة لكتشاف‬
‫عالم جديد‪ ،‬عالم الخلود الخالي من الغش والرياء !! إن‬
‫اليمان يجعل كل العلوم التي نعرفها ونكتشفها‬
‫ونسعى إلى إدراك أسرارها‪ ،‬مقدمات لشرح السر‬
‫العظم ‪ ،‬سر الحياة بعد الحياة‪.‬‬

‫مممم‬
‫على ظهر مركب جلست سيدة وقورة‪ ،‬كانت‬
‫مسافرة لزيارة إبنتها‪ ،‬لكن في منتصف الطريق‪ ،‬حدث‬
‫فجأة أن هاجت المواج وقامت عاصفة شديدة‪ ،‬اهتزت‬
‫لها السفينة حتى كادت أن تنقلب‪ ،‬فتجمع الركاب وعل‬
‫صراخهم‪ ،‬وأخذهم الفزع‪ ،‬ومنهم من أخذ يسب الظروف‬
‫ويلعن حظه‪ ..‬أما السيدة فظلت جالسة في مكانها‬
‫ساكنة خاشعة‪ ،‬يرتسم على وجهها ابتسامة هادئة‪ ،‬بينما‬
‫‪65‬‬
‫تردد شفاهها كلمات صلة هامسة‪ ،‬فاستجاب الله‬
‫لصلتها وهدأت الرياح‪ ،‬ولما استقر القارب وهدأت‬
‫النفوس‪ ،‬إتجه الركاب إلى السيدة الهادئة وقالوا لها‪:‬‬
‫كيف احتفظت بهدوئك ونحن نواجه موتا ً محققا ً ! فقالت‬
‫السيدة في إيمان شديد‪ :‬الواقع أن الموت كان‬
‫سيغير البرنامج قليل ً‪ ،‬لكنه لم يكن سيعطل خطتي‪،‬‬
‫فأنا كنت ذاهبة إلى إبنتي المتزوجة في زيارة قصيرة‪،‬‬
‫ولكن لي إبنة أ ُخرى توفيت منذ سنوات‪ ،‬فلو أن‬
‫القارب انقلب بي لكنت الن أزور إبنتي الثانية‪،‬‬
‫التي هي الن وديعة في يد الله بدل ً من إبنتي‬
‫الحية على الرض‪.‬‬
‫إنه اليمان بأن الله قادر أن ينقذنا من كل ما يتعبنا‪،‬‬
‫حتى وإذا تركنا فيما ل نريده‪ ،‬فهو يعطينا القدرة على‬
‫الصبر والحتمال‪ ،‬بل ويعطينا النعمة لتتحول الضيقات‬
‫إلى بركات والحزان إلى أفراح‪.‬‬
‫ُ‬
‫ألم يحفظ اليمان دانيال عندما ألقى في جب‬
‫السود ! والثلثة فتية ألم يحفظهم اليمان من لهيب‬
‫النار‪ ،‬عندما ألقوا في التون فلم يصبهم ضرر!‬
‫ويوسف الصديق‪ ،‬أليس بسبب إيمانه حفظه الله في‬
‫السجن‪ ،‬وخرج منه ليصير ثانى رجل في مملكة مصر‬
‫بعد فرعون!‬
‫ضع في اعتبارك‪ ،‬أن الله الذى أعطاك الحياة‪ ،‬هو‬
‫الذى سيعطيك الطعام‪ ،‬الذى تحيا به فى هذه الحياة‪،‬‬
‫وإذا كان الله أعطانا الجسد فلبد أنه سيعطينا ما‬
‫نلبسه فوق الجسد‪ ،‬ويعطينا أيضا صحة الجسد ‪ ،‬ولكن‬
‫هذا ل يلغي المشاكل والحزان والتجارب والضيقات‪...‬‬
‫‪66‬‬

‫‪05‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫فالسيد المسيح لم يقدم لنا طريقا ً ممهدا ً مليئا ً بالورود‪،‬‬
‫لكنه قدم لنا أصعب طريق أل وهو طريق الصليب !!‬
‫وكل من يريد أن يتبعه عليه أن " يحمل صليبه ويتبعه "‬
‫)مت ‪.(24 : 16‬‬
‫ولهذا فإن المسيحية ل تقول للفقير‪ :‬ليكن لك‬
‫إيمان أن الله سيغنيك‪ ،‬ولكنها تقول‪ :‬إن الله قد يُغنيك‬
‫إذا كان هذا لخيرك‪ ،‬ولكن لنفترض أن الله لم يُرسل لك‬
‫مال ً‪ ،‬فما الذي يُقلقك مادامت عنايته تشملك ! وتقول‬
‫للخائف من المرض والموت‪ :‬قد تمرض وتموت‪ ،‬ولكن‬
‫ما الذي يُخيفك من هذا ما دامت لك الحياة البدية !‬
‫ثق أنك بحصاة داود الفتى الصغير تستطيع أن‬
‫تنتصر على الجبابرة والشرار‪ ،‬فل تهتز أمام التجارب‪،‬‬
‫ول تخر أمام الضيقات‪ ،‬إنما كن كالبيت المتين المبنى‬
‫على الصخر‪ ،‬حيث ل تقوى عليه المطار والرياح )مت‬
‫‪.(25:28‬‬

‫مممم ممممم مممممم ممممممم‬


‫ماذا تفعل لو أردت قطع شجرة كبيرة ؟ لبد أول ً أن‬
‫تقطع الغصان الصغيرة ثم الكبر وبعد ذلك الجزء‬
‫العلى وأخيرا ً الجذع‪ ،‬أما إذا قطعت الجذع قبل‬
‫الغصان فسوف تسقط الشجرة‪ ،‬وربما تسقط على‬
‫أشجار ُأخرى مجاورة لها فتحطمها‪ ،‬أو على إنسان‬
‫فتميته‪..‬‬
‫أيضا ً شجرة القلق الضخمة‪ ،‬التي ترعرعت داخل‬
‫عقلك على مر سنين كثيرة‪ ،‬يمكن معالجتها بقطع‬
‫أغصانها أول ً إلى أن تصل للجذع‪ ،‬فمثل ً‪ :‬تجنب‬
‫‪67‬‬
‫التعبيرات الدالة على القلق‪ ،‬وقلل من الكلمات التي‬
‫تشير إلى الخوف‪ ..‬في أحاديثك‪ ،‬بل ل تشترك في أى‬
‫حديث عن القلق‪ ،‬إنما ليتخلل الكلم عن اليمان‬
‫والرجاء كل أحاديثك‪.‬‬
‫إحفظ بعض اليات التي تعزيك وتقوي إيمانك‪ ،‬كقول‬
‫السيد المسيح ‪ " :‬ل تخافوا من الذين يقتلون الجسد‬
‫ولكن النفس ل يقدرون أن يقتلوها " )مت ‪ ..(28 :10‬أو‬
‫قول معلمنا داود النبى ‪ " :‬إن سرت في وادي ظل‬
‫الموت ل أخاف شرا ً لنك أنت معي" )مز ‪ " ،(4: 23‬إن‬
‫يحاربني جيش فلن يخاف قلبي‪ ،‬وإن قام على قتال‬
‫ففي هذا أنا مطمئن " )مز ‪ (3 :27‬فبهذه الطريقة‬
‫سيمتل عقلك بأفكار اليمان والرجاء والشجاعة‪..‬‬
‫إن عملية طرد أفكار القلق لها أهميتها‪ ،‬وإن لم‬
‫تطردها فسوف تسد عقلك وتعطل فيض القوة العقلية‬
‫والروحية داخلك‪ ،‬لن أى فكر إذا ظل مدة طويلة في‬
‫عقلك‪ ،‬فمن السهل أن تنفذه وتعمل به‪ ،‬وقد أكد‬
‫الكتاب المقدس هذه الحقيقة بقول أيوب الصديق‪" :‬‬
‫ي " )أى‬‫ارتعابا ً ارتعبت فأتاني والذي فزعت منه جاء عل ّ‬
‫‪.(25 :3‬‬
‫ً‬
‫كما يجب أن تكون إيجابيا مــع أفكــارك‪ ،‬فــإذا عُ ـرض‬
‫عليك عمل ما ل تقل‪ " :‬لن أستطيع إنجازه " ‪ ،‬بل قل ‪" :‬‬
‫أستطيع كل شيء في المسيح الــذي يقــويني"‪،‬‬
‫وإذا جــاءك فكــر يقــول لــك‪ " :‬غــدا ّ ســيكون لــك يــوم‬
‫مشئوم! قل ‪ :‬ل‪ ،‬بل سيكون هذا اليوم أفضل من أمــس‬
‫وما قبل أمس‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫مممم‬
‫أراد رجل أن يبني شاليه‪ ،‬فأحضر عمال ً وقد بدأوا‬
‫بالفعل في وضع الساس لبناء الشاليه‪ ،‬لكن حدث أن‬
‫هبت الرياح وهاجت المواج فتغطى الساس بالوحل لنه‬
‫كان قريبا ً من الشاطئ‪ ،‬فلما رأى العمال هذا المنظر‬
‫ُأصيبوا باليأس وتألموا على الخسائر‪ ،‬واعتقدوا أن هذا‬
‫اليوم مشئوم ول يجب العمل فيه ! أما صاحب الشاليه‬
‫لما نظر حزنهم إلتفت إليهم وقال ‪ :‬أنا أرى الوحل قد‬
‫غطى كل الساس وهذا ما أنتم ترونه أيضا ً‪ ،‬ولكني أرى‬
‫شيئا ً آخر لم تنظروه ولم تلتفتوا إليه‪ ،‬إنها الشمس‬
‫الموجودة فوق في السماء‪ ،‬والتى سوف تسطع بأشعتها‬
‫بعد قليل وتجفف الوحل‪ ..‬فلنستعد من الن لنبدأ‬
‫العمل من جديد !!‬

‫ممممم مممممم ممممممممم‬


‫كلنا نعرف سلبيات القلق‪ ،‬التي تصل إلى درجة‬ ‫ُ‬
‫الصابة بالكثير من المراض النفسية والجسدية‪ ،‬ولكن‬
‫هل فكرت مرة‪ ،‬في اتخاذ موقف إيجابي من‬
‫المواقف التي تضايقك لكى تتخلص من القلق ؟‬
‫الموقف اليجابي باختصار هو‪ :‬تحويل كل ما يتعبك‬
‫وم‬‫ويجعل القلق يتسرب إلى حياتك‪ ،‬إلى وسيلة بّناءة تق ّ‬
‫من بها مستقبلك‪ ،‬فالطالب قبل‬ ‫بها نفسك وتؤ ّ‬
‫المتحان كثيرا ً ما يقلق خوفا ً من الرسوب‪ ،‬فإذا استسلم‬
‫للقلق لرسب‪ ،‬أما إذا اتخذ من القلق وسيلة لمضاعفة‬
‫جهده حتى يحصل على نتيجة أفضل‪ ،‬فلبد أنه سينجح !‬

‫‪69‬‬

‫‪25‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫وربما ُتكّلف بأعمال تخشى إنجازها لكنك لو إتخذت‬
‫من القلق وسيلة إيجابية‪ ،‬تجعلك تلتزم بمواعيد‪ ،‬وتنهي‬
‫المهام الموكولة إليك في ميعادها المحدد‪ ،‬لنجزت‪ ،‬بل‬
‫وأبدعت في كل ما يوكل إليك أو ُتكّلف به‪.‬‬
‫حاول أن تتخذ من القلق وسيلة إيجابية‪ ،‬تحثك على‬
‫البحث عن أفضل الوسائل لمواجهة أزماتك‪ ،‬فداود‬
‫عندما وقف أمام جليات الجبار ليحاربه بكل تأكيد كان‬
‫قِلقًا‪ ،‬ليس خوفا ً منه‪ ،‬ولكن من أجل كثرة التفكير في‬
‫معرفة أفضل الوسائل‪ ،‬التي يمكن أن ينتصر بها على‬
‫عدوه الشرس فغالبا ً ما تسأل قائل ً ‪:‬‬
‫ممم ممممم ممم ممم ممممم م‬
‫مم ممم مم ممم مممم ممممم م‬
‫ممم مممم ممممم ممم مممممم م‬
‫وبعد تفكير اهتدى إلى أن الدخول في مبارزة بالسيف‬
‫والرمح مع هذا الجبار وسيلة مصيرها الفشل‪ ،‬لبد إذا ً‬
‫من استخدام وسيلة لم تخطر على باله من قبل‪،‬‬
‫والمقلع والحجارة فكرة بسيطة ولكنها جديرة‬
‫بالتنفيذ‪ ،‬وأفضل مكان تصوب إليه‪ ،‬هو جبهة ذلك‬
‫الفلسطيني الغلف‪ ،‬فهي الجزء الوحيد غير المحصن‪،‬‬
‫والذي إذا ُأصيب كانت الصابة في مقتل‪ ،‬فلو كان قلق‬
‫داود قاده إلى التردد والهرب‪ ،‬لقتله جليات قبل أن‬
‫يهرب منه‪.‬‬

‫مممم ممممممممم ممممممم‬


‫ولعل أعظم العظماء الذين عاشوا على الرض هو‬
‫رب المجد يسوع‪ ،‬أُنظر إليه وتأمل حياته‪ ..‬كيف‬
‫‪70‬‬
‫عاش‪ ..‬كيف واجه الحياة بكل مشاكلها‪ ..‬ماذا فعل‬
‫صلب ؟ وهناك أيضا ً عظماء من‬ ‫ضرب أو ُ‬ ‫شتم أو ُ‬ ‫عندما ُ‬
‫نفس طبيعتنا البشرية‪ ،‬قهروا اليأس وانتصروا على‬
‫تحديات العصر‪ُ ،‬أنظر إلى سيرتهم وتعّلم من أسلوب‬
‫جهادهم‪..‬‬
‫هل سمعت عن ) هيلين كيلر ( معجزة الرادة فى‬
‫القرن العشرين ! لقد ولدت طفلة جميلة‪ ،‬تتحرك‬
‫وتضرب بيديها وقدميها وتصرخ كسائر الطفال‪ ..‬وتحكي‬
‫لنا أمها أنها أيضا ً كانت ذكية‪ ،‬بل كانت أكثر ذكاًء من‬
‫باقي الشقاء‪ ،‬لكن الطفلة الجميلة تمرض في شهرها‬
‫التاسع وتفقد مرة واحدة البصر والسمع والنطق !‬
‫ل ننكر أن الطفلة صارت موضع حب وعطف الجميع‪،‬‬
‫لكنها في نفس الوقت صارت موضع تساؤلهم‪ ،‬ما هو‬
‫مصيرها في الحياة ؟! كيف ستواجه المجتمع وهي تعاني‬
‫من ثلث عاهات‪ ..‬؟!‬
‫ولكن ل يأس مع الحياة ‪ ،‬فاليمان والرادة‪ ،‬يغطيان‬
‫كل ثغرات حياتنا‪ ،‬ويحولن النقاط السوداء في حياتنا‪،‬‬
‫إلى ظلل تُعطي المساحات البيضاء جمال ً‪ ،‬في أعظم‬
‫أيقونة وهي أيقونة الحياة‪ ،‬فالطفلة الصغيرة بدأت‬
‫تتعلم القراءة والكتابة عن طريق يديها ! ثم‬
‫واصلت مسيرة العلم حتى حصلت على الدكتوراة في‬
‫القانون‪ ،‬ثم نالت الدكتوراة الثانية في الدب النساني‪،‬‬
‫وفي مجال التأليف كتبت ‪ 10‬كتب‪ ،‬وزارت معظم بلد‬
‫العالم‪ ،‬وعاشت رغم عاهاتها حياة عادية‪ ،‬بل أكثر من‬
‫عادية‪ ،‬فقد كانت تتمتع بالحياة وتمارس عدة هوايات‬
‫مثل ‪ :‬ركوب الخيل والمشي والسباحة والتجديف‪..‬‬

‫‪71‬‬

‫‪45‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫وكانت دائما ً تقول‪ :‬أنا عمياء ولكنى أبصر أنا صماء‬
‫ولكنى أسمع أنا خرساء ولكنى أتكلم !‬
‫ورحلت ) هيلين كيلر ( عن عالمنا عام ‪1968‬م‪ ،‬بعد‬
‫حياة حافلة طالت ‪ 88‬سنة‪ ،‬استطاعت خللها أن تهزم‬
‫اليأس‪ ،‬وتنتصرعلى قسوة الحياة‪ ،‬وحققت المعجزة‬
‫وعاشت على أصابعها‪.‬‬
‫ممم مممم مممممممم ممممممم ممممم‬
‫مممممممم مممممم ممممممممم مممممم !‬
‫ويعد )إديسون( من العباقرة‪ ،‬الذين هزموا اليأس‬
‫المادى والنفسى‪ ،‬فقد فشل فى دراسته المدرسية‪،‬‬
‫وضها بالدراسة على يد ُأمه الفاضلة‪ ،‬التى عندما‬ ‫ولكنه ع ّ‬
‫واجهها ناظر المدرسة بخبر فصل ابنها قالت له‪ :‬إن ابنى‬
‫يحمل فوق كتفه رأسا ً فيه من الذكاء أكثر مما فى‬
‫رأسك ورؤوس زملئك المدرسين ! كما أنه ُأصيب‬
‫بصمم ولكنه لم يهتم بل قال عبارته المأثورة ‪ :‬إن‬
‫الصمم نعمة وليس نقمة‪ ،‬فهو يريح النسان‬
‫من ثرثرة الناس وكلمهم الفارغ‪ ،‬ويشجعه‬
‫على التركيز فى عمله!‬
‫وبعد أن قدم اختراعاته التى تزيد عن اللف‪ ،‬اشتعلت‬
‫النيران فى كل معامله‪ ،‬وحولتها رمادًا! فخسر ما يقرب‬
‫من المليونى دولر‪ ،‬إل أنه لم ييأس‪ ،‬وبدأ العمل من‬
‫جديد بعد أن نطق عبارته المعزية‪ :‬هذه حقا ً كارثة إل‬
‫أنها لم تخلو من نفع‪ ..‬فقد التهم الحريق جهدى ومالى‪،‬‬
‫ولكنه خلصنى أيضا ً من أخطائى‪ ،‬فشكرا ً لله‪ ،‬فنحن‬
‫نستطيع أن نبدأ من جديد ولكن بل أخطاء !!‬

‫‪72‬‬
‫ممم مم مممممم مممم مم مممم ممممم مممم‬
‫مممممم مم مممم مممم مممم مممممممم ممم !!‬
‫ويرحل إديسون عام ‪1931‬م‪ ،‬بعد أن أهدى العالم‬
‫النور‪ ،‬الذى نقل النسان إلى عصر الكهرباء‪ ،‬فإديسون‬
‫هو الذى اخترع المصباح الكهربائى والتسجيل‪...‬‬

‫مممممم ممممممم ممممممم‬


‫الوسائط الروحية أو وسائط النعمة‪ ،‬هي بمثابة‬
‫السلك التي توصل إلينا تيارالروح القدس‪ ،‬أو‬
‫المجرى الحي الذي منه نشرب حليب النعمة اللهية‪،‬‬
‫فيتقوى إيماننا‪ ،‬ويثبت رجاؤنا‪ ،‬وتشتعل محبتنا لله‪ ،‬وننمو‬
‫في كل شئ‪ ،‬هي التي تعطي النسان قوة ومعونة‬
‫حتى يستطيع أن يصمد ضد التجارب التي تأتي عليه‪..‬‬
‫كما أنها تجعل النسان دائما ً في حضرة الله‪ ،‬وفي هذا‬
‫الحضور ل يجرؤ الشيطان أن يقترب إليه‪ ،‬ول يمكن‬
‫للقلق أن يتسرب قلبه‪ ،‬أما إذا أهمل ممارستها فإن‬
‫حرارته الروحية تفتر ويعرض نفسه لمحاربات خطيرة‬
‫وسقطات كثيرة‪ ،‬وفي وسط هذه التجارب يتسرب إليه‬
‫القلق ويسيطر على عقله ‪.‬‬
‫من أهم الوسائط الروحية‪ :‬العتراف‪ ،‬التناول‪،‬‬
‫الصوم‪ ،‬الصلة‪ ،‬القراءة في الكتاب المقدس وكتب‬
‫الباء‪ ..‬فإذا اعترفت كن صادقا ً مع نفسك ومع أب‬
‫اعترافك‪ ،‬وإذا تناولت فكن مستعدا ً ومؤمنا ً أنك ل تأكل‬
‫خبزا ً وتشرب خمرًا‪ ،‬بل جسد الرب ودمه‪ ..‬أما صومك‬
‫فيجب أل يكون امتناعا ً عن الطعام الحيواني والكتفاء‬
‫بما هو نباتي‪ ،‬لن هذا ل يقدم النسان إلى الله‪...‬‬
‫‪73‬‬
‫هناك حقيقة هامة يجب أن تعرفها أل وهي‪ :‬إن القلق‬
‫لجل الماضي والمستقبل لن يفيدنا شيئا ً ! فالقلق ل‬
‫يؤثر في الماضي لنه قد مضى‪ ،‬والقلق لجل المستقبل‬
‫هو مجهود ضائع‪.‬‬
‫أل ترى كثيرين ل يتمتعون بالحاضر لنهم مشغولين‬
‫بالغد ؟! فل هم تمتعوا في حاضرهم ول نالوا سعادة في‬
‫المستقبل ! فالفضل أن تنسى همومك وتتقدم إلى‬
‫المام‪ ،‬حارقا ً جسور القلق خلفك حتى تمضى إلى غير‬
‫رجعة ‪.‬‬

‫‪74‬‬
75
‫الباب الثاني‬

‫أســياد وعبيـد‬
‫أكــواح وقصـور‬
‫زز‬
‫‪.‬‬
‫الفصل الول‬
‫ممممممم مممممم‬
‫الفصل الثاني‬
‫ممممممم مممممم‬
‫الفصل الثالث‬
‫ممممممم‬
‫مممممم‬
‫‪76‬‬
77
‫ممممم ممممم‬
‫ممممممم م مممممم‬
‫من طبيعة البشر الميل إلى السلطة وفرض النفوذ‪،‬‬
‫فحب السيادة مرض أصاب البشرية منذ القدم‪ ،‬منذ أن‬
‫ول البشر إلى طبقات‪ :‬أسياد وعبيد‪ ،‬لكن‬ ‫سقطت‪ ،‬فح ّ‬
‫هذا المرض لم يصب إل ضعاف النفوس‪ ،‬الشخصيات‬
‫الضعيفة‪ ،‬التى ل تملك ما ُيشبع الرواح وُيغزى العقول‪،‬‬
‫ولهذا إذا سادوا يجنحون إلى الستبداد والقوة وإذلل‬
‫البشر‪ ،‬والويل لمن يطفو ويلمع اسمه‪ ،‬ويجد عند الناس‬
‫احتراما ً وقبو ً‬
‫ل‪ ،‬ويجد الناس عنده حل ً أو مشورة ‪.‬‬
‫ل‪..‬؟! أيرضى‬ ‫ُترى هل يرضى الله أن يحيا النسان ذلي ً‬
‫القدوس بنهر الدموع الجارف‪ ،‬دموع العبيد المظلومين‬
‫والجائعين المهملين‪..‬؟! أغلب الظن إننا حتى الن لم‬
‫نفهم الله‪ ،‬ول نعرف شيئا ً عن شرائعه التى تدعو إلى‬
‫الرحمة والمحبة‪ ،‬وتحث الناس على فعل الخير‪ ،‬بل على‬
‫بذل النفس من أجل الخرين‪.‬‬
‫ليست مشيئة الله أن يكون الناس طبقات‪،‬‬
‫بعضهم فى ثراء فاحش‪ ،‬وبعضهم فى فقر مدقع‪ ،‬بعضهم‬
‫أسياد يأمرون وينهون‪ ،‬وبعضهم عبيد ل حق لهم إل‬
‫الطاعة والخضوع‪ ،‬إنما إرادة الله أن تكون النسانية كلها‬
‫وحدة واحدة‪ ،‬لها رأى واحد‪ ،‬وفكر واحد‪ ،‬وتحيا حياة‬
‫مشتركة يسودها الحب ويغمرها السلم بهذا الفكر‬
‫عاشت الجماعة المسيحية الولى‪ ،‬فقد ذكر النجيل إن‪:‬‬
‫" جميع الذين آمنوا كانوا معا ً وكان عندهم كل شئ‬
‫‪78‬‬

‫‪65‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫مشتركا ً والملك كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع"‬
‫)أع ‪.(2‬‬
‫ولكن فئة ممن أحبوا الجاه والشهرة والمراكز‬
‫الرفيعة وتعظم المعيشة‪ ..‬قد تجاهلوا مشيئة الله‪،‬‬
‫وسعوا لتقسيم النسانية‪ ،‬لن وحدة البشرية تعوق‬
‫رغباتهم‪ ،‬وتقف ضد شهواتهم‪ ،‬وتهدد حياتهم‪ ..‬فقضوا‬
‫حياتهم محاطين بكل مظاهر العظمة‪ ،‬إل أنهم عاشوا‬
‫يئنون تحت عبء السلطة‪ ،‬وجسامة المسئولية وقد‬
‫انطبق عليهم قول شكسبير‪ " :‬ل راحة لرأس تحت تاج‬
‫"!‬
‫مممم مممم مممممم ممممممم مممم مممممم‬
‫مممممم ممممممم ممممم مممممم مم ممم‬
‫مممم‬
‫مممممم ممم ممممم ممممم ممممم مم ممممم‬
‫!!‬
‫سم ملوك وأباطرة شعوبهم إلى طبقات‪ ،‬أنــاس‬ ‫لقد ق ّ‬
‫يمتلكون كل شئ ولهم كل الحقوق‪ ،‬وأنــاس ل يمتلكــون‬
‫حتى أجسادهم‪ ،‬وليس لهـم الحـق فـى أى شـئ ‪ُ ،‬أنـاس‬
‫ســادة يــدعون أن دمــاًء مقدســة تجــرى فــى عروقهــم‪،‬‬
‫وأ ُناس عبيد تجرى فى عروقهم دماء نجسة كما يظنون‪،‬‬
‫ف المنافقون والضعفاء‪،‬‬ ‫وحول هؤلء العظماء وأولئك إلت َ‬
‫وتحــت أرجلهــم ارتمــى المرضــى والمهوســون بحــب‬
‫الرياسة والسلطة‪.‬‬
‫ً‬
‫من هنا نفهم‪ ،‬لماذا‪ -‬غالبا‪ -‬ما يُصاب العظماء والملوك‬
‫والبــاطرة‪ ..‬بالكبريــاء‪ ،‬وأحيــان تنتهــى حيــاتهم بــالجنون‪،‬‬
‫ليس لنهــم متميــزون فــى المــواهب‪ ،‬بــل لن كــل مــن‬
‫‪79‬‬
‫يحيط بهــم ل يفكــر‪ ،‬فهــم غالبـا ً مــا يُحــاطون بــالمرائين‪،‬‬
‫ماسحى الجوخ ‪ ،‬عــديمى المــواهب ‪ ،‬ضــعاف الشخصــية‬
‫الــذين رفضــوا الحريــة‪ ،‬وكــثيرا ً مــا يجــدون متعتهــم فــى‬
‫الرتماء فى حضن المذلة والتبعية‪ ،‬فهذا يــوفر للعــاجزين‬
‫والفاشلين راحة نفسية !‬
‫إن مبدأ السيادة والعبودية يرجــع إلــى أقــدم العصــور‪،‬‬
‫فالعبودية كانت جزءا ً ل يتجزأ من العــالم القــديم‪ ،‬وكــان‬
‫الفيلسوف أرسطو يعتنق مبدأ الطبقات‪ ،‬ففى رأيــه أن‬
‫طبيعــة المــور يتطلــب وجـــود بعــض العبيــد‪ ،‬وبعــض‬
‫النجــارين‪ ،‬وبعــض الســقائين‪ ..‬وذلــك لخدمــة الطبقــات‬
‫العلى من الناس‪.‬‬
‫أما العبد فلم يكن له اعتبار فى القانون‪ ،‬فهو آلــه فــى‬
‫يد سيده‪ ،‬الذى كان له حق الحياة والموت علــى عبيــده‪،‬‬
‫يستطيع أن يضربهم‪ ،‬يفرك آذانهم‪ ،‬يلقيهم فــى الســجن‪،‬‬
‫يقتلهم لتفــه الســباب‪ ،‬ففــى إحــدى المــرات أمــر ســيد‬
‫بإلقــاء أحــد عبيــده فــى بركــة الســمك‪ ،‬حــتى فتكــت بــه‬
‫السماك ومزقته‪ ،‬لنه كـان يحمـل صـينية عليهـا كـؤوس‬
‫من الكريستال إلى ساحة المحكمــة فســقط منــه كــأس‬
‫وانكســر!! وهنــاك مــن الســياد مــن كــان يتمتــع بصــوت‬
‫الضرب القاسى ‪ -‬ضرب عبيده ‪ -‬معتبرا ً أنــه أعــذب مــن‬
‫صوت الطرب والغناء فى ُأذنه‪.‬‬
‫حدث مرة أن مر الكاتب الروسى تلستوى‪ ،‬على‬
‫متسول أثناء سيره‪ ،‬فوضع تلستوى يده فى جيبه وفتش‪،‬‬
‫عسى أن يجد نقودا ً يُعطيها له‪ ،‬فلما لم يجد إلتفت إلى‬
‫الرجل وقال له‪ :‬إنى آسف يا أخى فليس عندى نقود‬
‫أعطيها لك‪ ،‬عندئذ أشرق وجه المتسول وقـال له‪ :‬لقـد‬

‫‪80‬‬

‫‪85‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫أعطيتنى أكثر مما طلبت‪ ،‬لقد ناديتنى قائل ً ‪ " :‬يا أخى‬
‫"!‬
‫والقديس فرنسيس السيزى‪ ،‬خرج يوما ً راكبا ً‬
‫جواده‪ ،‬فصادف فى طريقه رجل ً أبرص‪ ،‬كريه المنظر‪،‬‬
‫فنزل عن جواده ودنا من البرص‪ ،‬وألقى بنفسه عليه‪،‬‬
‫وعانقه فى حرارة‪ ،‬وقبـله كما يقّبل الخ أخاه‪ ،‬ثم أخرج‬
‫كيس نقوده وأعطاه صدقة‪ ،‬وكم كانت فرحته لنتصاره‬
‫على نفسه‪ ،‬وما أشد دهشته حين التفت إلى ورائه‬
‫ليلقى نظرة أخيرة على البرص‪ ،‬فإذا البرص قد اختفى‬
‫تماما ً !!‬
‫ممم ممممممم‬ ‫ممم ممم مممممم مممم م م‬
‫مممممم‬
‫مممم ممممممم ممم ممم مم مممم مممممم‬
‫مممممم‬
‫ممم ممممم مممم مممم ممممممم ممممم‬
‫ممممم‪.‬‬
‫ولكن قبل أن يدعو تولستوى الشحاذ أخًا‪ ،‬وقبل أن‬
‫يحتضن القديس فرنسيس البرص ويُقّبله‪ ،‬سبق أن دعا‬
‫السيد المسيح المرأة النازفة إبنته " يا إبنة إيمانك‬
‫قد شفاك " )مر ‪ ،(34 :5‬المرة الوحيدة التى دعى فيها‬
‫يسوع إمرأة ابنته كانت لمرأة نجسة‪ ،‬وكل شئ تلمسه‬
‫يعتبر نجسًا‪ ،‬وهذا يعنى‪ :‬إنها ل تستطيع أن تلمس زوجها‬
‫حتى ل تنجسه وبالتالى ل يمكن أن يكون لها أولد‪ ،‬ومثل‬
‫هذه لم يكن مسموحا ً لها حسب الشريعة أن تدخل‬
‫الهيكل‪ ..‬لنتخيل إنسانة تجمع كل هذه الصفات‪ :‬منبوذة‬
‫اجتماعيا ً وممزقة نفسيًا‪ ،‬ومع هذا يدعوها رب المجد‬
‫‪81‬‬
‫يسوع إبنته‪ ،‬أليس فى هذا تعليم لنا‪ ،‬لنعرف كيف نعامل‬
‫الخطاة والمنبوذين‪..‬‬
‫لقد دعا السـيد المسـيح إمـرأة نجسـة إبنتـه‪ ،‬وهـا هـو‬
‫يرفـض أن يــدعو تلميــذه عبيــدا ً إذ قــال لهــم‪ " :‬ل‬
‫أعود أسميكم عبيــدا ً لن العبــد ل يعلــم مــا يعمــل ســيده‬
‫لكنى قد سميتكم أحـباء لنى أعلمتكم بكــل مــا ســمعته‬
‫من أبى" )يو ‪(15 :15‬‬
‫من هنا عرفت معنى السيادة الذى يريده المسيح‪ ،‬إنها‬
‫ليست قصرا ً وتاجا ً وصــولجانا ً‪ ..‬أو أمــرا ً ونهيـا ً وســلطة‪..‬‬
‫إنما السيادة الحقيقية هى حب وبــذل وعطــاء‪ ..‬وتعضــيد‬
‫للضــعفاء‪ ..‬وعطــف علــى المســاكين والفقــراء‪ ..‬فكــل‬
‫ول‬‫إنسان يسود إن لم يمتلئ قلبــه بــالحب والحنــان‪ ،‬تحـ ّ‬
‫إلى عدو كاسر‪ ،‬أوسيد ظالم‪...‬‬
‫ولهذا ففى الوقت الذى كان أبــاطرة رومــا‪ ،‬يعشــقون‬
‫فن تعــذيب وإذلل الشــعوب‪ ،‬وفــى عصــر كــان الملــوك‬
‫يجلسون فى قصورهم‪ ،‬يتلــذذون ويتنعمــون ويســتعبدون‬
‫البشــر‪ ،‬كــان ابــن البشــر‪ ،‬ملــك الملــوك ورب الربــاب‪،‬‬
‫يجالس الفقراء والخطـاة والعبيـد‪ ،‬ليأخـذ بيـدهم‪ ،‬ويرفـع‬
‫من شأنهم‪ ،‬ويزرع الرجاء فى قلوبهم !‬
‫وما هذا إل إعلن إن السيد المسيح بتجسده رفع‬
‫كرامة النسان‪ ،‬وأظهــر قيمــة النفــس البشــرية عنــد‬
‫الله‪ ،‬وكل الذين يقولون‪ :‬إن اللــه ليــس فــى حاجــة إلــى‬
‫النسان‪ ،‬هم أصــحاب نظريــات وفلســفات جوفــاء‪ ،‬مثــل‬
‫مــن يقولــون‪ :‬إن الفنــان المبــدع ليــس فــى حاجــة إلــى‬
‫اللوحة‪ ،‬التى سكب فيها روحه وفنه‪.‬‬

‫‪82‬‬

‫‪06‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫فليس بين الفنان ولوحته‪ ،‬أو بين الشاعر وقصيدته أية‬
‫مصالح مادية‪ ،‬وليس بين الموسيقار وألحانه أى نوع مــن‬
‫الســيادة والعبوديــة‪ ،‬وإنمــا بيــن ذلــك كلــه علقــة الحــب‬
‫والبداع‪ ،‬فالرسام أبدع لوحته حبا ً ل كرهًا‪ ،‬والنحات أقام‬
‫تمثاله عشقا ً وإشباعا ً لرغبة العطاء العارمة فى وجــدانه‪،‬‬
‫والشــاعر أنشــأ قصــيدته لنهــا بعــض ملمحــه وأحلمــه‬
‫وأفراحه وآلمه‪.‬‬
‫مممم ممممممم ممم مممم‬
‫ممممم ممممممممم مم م‬
‫مم مممم مم مممم مم ممم ممممممم‬
‫مممم م‬
‫ممممم مممم مم مممم ممممممم ممممممم !‬
‫فالنسان أيها السياد ليس لقيطا ً فى الفضاء‪ ،‬إنما‬
‫النسان أيقونة الله الجميلة‪ ،‬هو عريس الوجود بل‬
‫أجمل ما فى الوجود‪ ،‬هو نفخـة من الله‪ ،‬لمسة من‬
‫الحى‪ ،‬بعض من ملمحه الروحية‪ ،‬والويل لمن يحاول‬
‫إذلله أو استعباده‪.‬‬
‫إن أحد أسرار النكبات والكوارث التى تلم‬
‫بالمجتمعات‪ ،‬وتسبب انهيار الشعوب والحضارات‪ ،‬إنها‬
‫تحاول أن تهدر كرامة الفرد بالعبودية‪ ،‬أو بالسخرة‪ ،‬أو‬
‫بالتميز الطبقى أو العنصرى‪ ..‬كل ألوان الحكم التى‬
‫حاولت أن تغتصب إرادة النسان‪ ،‬وأن تمزق كيانه‪،‬‬
‫انتهت إلى فناء وإلى دمار‪ ،‬فحرية النسان ليست منحة‬
‫تجود بها سلطة بشرية عليه‪ ،‬وإنما هى عطية من الله‬
‫الخالق الحر ‪.‬‬
‫إقرأوا فى تاريخ البشرية وقّلبوا صفحاته الذهبية‪،‬‬
‫لتعرفوا أن كل العصور التى عاش فيها النسان عبدا ً‬

‫‪83‬‬
‫ذليل ً‪ ،‬تحت سيادة إنسان آخر‪ ،‬يفرض عليه لون عقيدته‬
‫وفكره‪ ..‬فى تلك الحقبات تحولت المجتمعات إلى غابات‬
‫بشرية‪ ،‬فالتاريخ يحكى عن طغاة‪ ،‬أذلوا البشر وحاربوا‬
‫الثقافة والرأى الحر‪ ،‬لن النسان المثقف الحر‪ -‬كما‬
‫يرون‪ -‬قادر على التمييز بين الصواب والخطأ‪،‬‬
‫والمعارضة والنقد‪ ..‬والطغاة ل يطيقون شيئا ً من هذا‪..‬‬
‫فها " نيرون " حاكم روما المستبد المجنون )‪- 54‬‬
‫‪68‬م( يقتل أ ُمه وزوجته وأستاذه الفيلسوف‬
‫سنيكا لنهم عارضوه! وظهر له فى نشوة الطغيان‬
‫والجنون‪ ،‬إن مدينة روما ليست جميلة ول بد أن تزول‪،‬‬
‫فأشعل النار فى روما‪ ،‬وبدأ فى بنائها من جديد ليجعلها‬
‫على الصورة التى كان يحلم بها‪ ..‬وأخيرا ً مات الطاغية‬
‫وهو يرتعد من الخوف‪ ،‬مختبئا ً فى عشة حقيرة‪ ،‬كان‬
‫يحاول أن يخفى نفسه فيها من أعدائه‪.‬‬
‫وفى العصر الحديث ظهر أعظم الطغاة المستبدين‪،‬‬
‫وهو " هتلر" النازى اللمانى الشهير‪ ،‬الذى كان يكره‬
‫العقل الحر‪ ،‬والفكر المستنير‪ ،‬فقد كان يدعو اللمان أن‬
‫يفكروا بطريقة واحدة ل اختلف فيها ول تنوع‪ ،‬أما‬
‫المصدر الساسى للفكر والرأى فهو عقل الزعيم لنه‬
‫يفكر بالنيابة عن الجميع ! ولهذا أشعل أتباعه النازيون‬
‫النار فى الكتب‪ ،‬ففى أحد المرات أشعلوا النيران فى)‬
‫‪ (20‬ألف كتاب !!‬
‫ممم ممم ممم مممممم ممم ممممممممممممم‬
‫ممممممم مممممممم مممممممممم مممممم ممم‬
‫مممممم مم ممم مممم مم مممم مممممم!‬

‫‪84‬‬
‫وأخيرا ً أطلق هتلر الرصاص على نفسه‪ ،‬فمات منتحرا ً‬
‫بعد أن وصل عدد ضحاياه إلى ما يقرب من الثلثين‬
‫مليونا ً !! وانتهت النـازية الفاشـلة إلى ) سلة مهملت‬
‫( التاريخ‪ ،‬وبقيت الحقيقة الناصعة وهى‪ :‬إن الفكر الحر‬
‫والثقافة الرفيعة أقوى من كل الطغاة والمستبدين‪..‬‬
‫كما أن حريق الثقافة الذى أشعله النازيون فى آلف‬
‫الكتب !! لم ُيطفئ أسماء العلماء أو المفكرين‬
‫العظام‪ ..‬فقد ظلوا يؤثرون بكتاباتهم فى حركة الثقافة‬
‫النسانية ! رغم ما نالهم من اضطهادات ومطاردات‪..‬‬
‫وكان حريق الثقافة عارا ً على أصحابه الفاشلين‪ ،‬ونورا ً‬
‫أمام العقل النسانى الحر‪ ،‬الذى ل يمكن القضاء عليه‬
‫بهذه الساليب العدوانية!‬
‫كل البشرية من طينة واحدة‪ ،‬هذه حقيقة‪ ،‬لننا جميع ـا ً‬
‫خلــق‪ ،‬فــإن كنــا كلُنــا‬
‫مــن نســل آدم‪ ،‬وآدم مــن الــتراب ُ‬
‫ترابيين‪ ،‬فلماذا يتعالى البعض على بعض هم بشر مثلهم‪،‬‬
‫ربما تكون لديهم مواهب أعظم من مواهبهم‪ ،‬ويمتلكــون‬
‫؟!‬‫قدرات تفوق قدراتهم ‍‬
‫فكــم مــن قــادة بل مــواهب‪ ،‬ولكــن ظروف ـا ً ل نعــرف‬
‫مغزاها جعلتهم يعتلون العرش‪ ،‬فصاروا يحكمون من هم‬
‫خلقا ً ودينًا‪ ..‬وإن كنا ل نملــك تفســيرا ً‬
‫أفضل منهم علما ً و ُ‬
‫لكــل هــذا‪ ،‬إل أننــا نملــك قــول ً إنجيلي ـا ً للقــديس بــولس‬
‫الرســول يقــول‪ " :‬مــا أبعــد أحكــامه عــن الفحــص‬
‫وطرقه عن الستقصاء " )رو ‪. (33 :11‬‬
‫ربما يرفع المال أو المنصب صاحبه إلى فوق‪ ،‬ولكن‬
‫هذه المكانة ل تدوم‪ ،‬فل بد وأن يأتى عليه يوم ويعود‬
‫إلى أرضه الحقيقية‪ ،‬إلى ترابه الذى ُأخذ منه‪ ،‬فعند‬
‫‪85‬‬

‫‪26‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫الموت يتساوى جميع البشر‪ ،‬كما قال معلمنا داود النبى‪:‬‬
‫ل ودون أغنياء وفقراء سواء " )مز ‪،(2:49‬‬ ‫" عا ٍٍ‬
‫وهكذا كما يرفع المال أو المنصب‪ ...‬البشر‪ ،‬ترفع النار‬
‫الماء إلى فوق‪ ،‬ولكنها سرعان ما تعود إلى الرض‬
‫مطرًا‪.‬‬

‫مممم‬
‫هنا أتذكر قصة ) المـاء ( الطريفة للعالم والفنان‬
‫والديب اليطالى " ليونارد دافنشى " أما القصة‬
‫فتقول‪:‬‬
‫" أرادت المياه يوما ً أن تتخلص من وجودها فى البحر‬
‫وتصعد إلى السماء‪ ،‬فماذا فعلت ؟ توددت إلى عنصر‬
‫النار حتى تساعدها على ذلك‪ ،‬ووافقت النار وساعدتها‪،‬‬
‫فأصبحت بفضل حرارتها أكثر خفة من الهواء وتحولت‬
‫إلى بخار‪ ،‬سرعان ما ارتفع إلى السماء عاليا ً حتى‬
‫طبقات الهواء الكثر برودة‪..‬‬
‫ولم تستطع النار مساعدة المياه أكثر من ذلك‪،‬‬
‫وأصبحت قطرات الماء أكثر ثقل ً من الهواء‪ ،‬ثم سقطت‬
‫إلى أسفل فى صورة مطر‪ ،‬بل إنها لم تسقط وإنما‬
‫اندفعت هاوية إلى الرض‪ ،‬لقد صعدت إلى فوق وهى‬
‫مليئة بالفخر والعتزاز‪ ،‬ولكنها فى النهاية عادت إلى‬
‫أصلها دون رغبتها‪ ،‬وامتصتها الرض الجافة‪ ،‬وظلت وقتا ً‬
‫حبيسة الرض"‪.‬‬
‫أريد من وراء كلمى هذا‪ :‬أل ّ يتعالى أصحاب‬
‫المراكزعلى من هم أقل منهم ويخضعون‬
‫‪86‬‬
‫لسلطتهم‪ ،‬ول ينظروا إلى غيرهم ممن تفوقوا عليهم‬
‫بمركز أو بشهادة أو بثروة‪ ،‬كأنهم من سللة تختلف عن‬
‫سللتهم‪ ..‬كما يجب على البسطاء أل يقللوا من شأنهم‪،‬‬
‫وينظروا لهؤلء كما لو كانوا من طينة تختلف عن‬
‫طينتهم‪ ،‬فكل العظماء الذين أصابهم كبرياء السلطة‬
‫وغرور الحكم‪ ،‬وأيضا ً شهوة التسلط وفرض الرأى‪ ،‬هم‬
‫فى الحقيقة بشر مثلهم ومثلنا تمامًا‪ ،‬ونادرا ً ما تخلو‬
‫حياتهم من مشاكل وضعفات وعثرات‪...‬‬
‫إنهم عظماء‪ ،‬وربما نهضوا ببلدهم‪ ،‬وارتقوا بشعوبهم‪،‬‬
‫ومنهم من غّير مجرى التاريخ‪ ،‬إل أنهم لم يغيروا‬
‫صفاتهم البشرية وغرائزهم النسانية‪ ،‬فالتاريخ‬
‫يحكى عن كبار الفلسفة الذين قدموا لنا أسمى الفكار‪،‬‬
‫كيف كانوا يعيشون فى إسراف شديد‪ ،‬ومنهم من كان‬
‫نهما ً للجنس‪ ،‬وشرها ً للمال‪ ،‬وغارقا ً فى الغرور‪..‬‬
‫وكذا العلماء الذين قدموا لنا أروع النظريات فى كل‬
‫ميادين العلم‪ ،‬لم يكونوا ملئكة أو شياطين‪ ،‬وإنما كانوا‬
‫بشرا ً لهم غرائزهم‪ ،‬ولهم سقطاتهم ‪ ،‬أما الكمال فهو‬
‫من صفات الله وحده‪.‬‬
‫ل زلت أقوال‪ :‬يجب أن تتساوى كرامات البشرل‬
‫وظائفهم‪ ،‬فكل إنسان ولو كان طفل ً له كرامة‪ ،‬وهذه‬
‫الكرامة هى حقه فى الحياة‪ ،‬فالفلح ربما ل ينال احترام‬
‫كل الناس‪ ،‬لكن لول الفلح فى حقله لمات الوزير‬
‫على عرشه‪ ،‬فل تقلل من شأنك أو تحط من قدرك‪،‬‬
‫فأنت لك قيمة‪ ،‬إن لم تكن عند الناس‪ ،‬فهى غالية عند‬
‫الله ‪ ،‬فل تهتز أو ُتصاب بصغر نفس أمام أى إنسان‪.‬‬

‫‪87‬‬

‫‪46‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫كان " ديوجين " فقيرا ً ل يتعدى مسكنه سوى برميل‬
‫حقير يرقد فيه‪ ،‬لكنه كان فيلسوفًا‪ ،‬وهذا كان سر من‬
‫أسرارعظمته‪ ،‬ففى إحدى المرات ذهب الملك العظيم "‬
‫السكندر الكبر" لرؤيته‪ ،‬فى وقت كان يُصلح فيه‬
‫برميله‪ ،‬فوقف أمامه الملك بعظمة قائ ً‬
‫ل‪ :‬أنا الملك‬
‫إسكندر! فالتفت إليه ديوجين وقال له‪ :‬وأنا الكلب‬
‫ديوجين !! وبعد محادثة طويلة قال الملك للفيلسوف‪:‬‬
‫إنى أراك محتاجا ً لمور كثيرة‪ ..‬وإنى أريد مساعدتك‬
‫ول عنى‬ ‫فسلنى ما تريده‪ ،‬فأجابه ديوجين قائ ً‬
‫ل‪ :‬تح ّ‬
‫فقد منعت عنى الشمس وقطعت لذتى بها !!‬
‫حدث كل ذلك ورجال الملك واقفون حوله متعجبون مما‬
‫يحدث‪ ،‬وملطفة الملك العظيم لديوجين‪ ،‬فلما رأى‬
‫الملك دهشتهم إلتفت إليهم وقال‪:‬‬
‫مم مم ممم ممممم ممممممم‬
‫مممممم مم مممم مممممم !‬
‫أولئك وكثيرون غيرهم‪ ..‬كانوا فقراء فى نظر‬
‫المجتمع‪ ،‬ولكنهم لم يفقدوا كرامتهم أو شخصياتهم أو‬
‫قيمهم أومبادئهم‪ ...‬ولهذا عاشوا أقوياء حتى نهاية‬
‫حياتهم‪ ،‬وكان الجميع يوقرونهم ويهابونهم حتى الملوك‬
‫أنفسهم ‪.‬‬
‫للنسان قيمة عظيمة‪ ،‬نعـم‪ ،‬وهذه القيمة تبدو واضحة‬
‫بين المستنيرين فإذا نظرت إلى الغرب ستجد حضارة‬
‫وحياة‪ ،‬يحافظون عليها ويحيطونها بهالة كبير من‬
‫القداسة‪ ،‬وأجمل ما فى الحياة عندهم هو النسان الذى‬
‫أنشأ الحضارة‪ ،‬وفى الشرق أيضا ً حضارة تفوق حضارة‬
‫الغرب‪ ،‬ولكن ما أقل قيمة النسان !!‬
‫‪88‬‬
‫ممكن فى الغرب تدمير فندق‪ ،‬بل مدن بأكملها من‬
‫أجل إنقاذ حياة فرد‪ ،‬أيا ً كان هذا الفرد‪ ،‬أما فلسفتهم‬
‫الجميلة فهى‪ :‬إن النسان هو الذى يبنى الفندق وليس‬
‫الفندق هو الذى يبنى النسان‪ ،‬فإذا أنقذنا إنسانا ً واحدًا‪،‬‬
‫ربما هذا الواحد يبنى عشرات الفنادق‪ ،‬أما أُلوف الفنادق‬
‫فتعجز عن أن تخلق إنسانا ً !‬
‫أقول هذا لهدف ‪:‬‬
‫إن الغرب بكل نقائصه الروحية‪ ،‬وما وصـل إليه من‬
‫انحلل خُلقى وفساد‪ ،‬أعطى للحياة قيمتها‪ ،‬وللنسان‬
‫مثل والقيم‬ ‫كرامته‪ ،‬والعالم الثالث الذى يدّعى ال ُ‬
‫والتدين‪ ...‬يسجن الحرية ويقيد الفكر ويقتل البداع‪،‬‬
‫وليزال الناس يعيشون فيه طبقات ‪ :‬أسيادا ً وعبيدا ً !‬
‫فياليتنا نتعلم من الغرب ما ينفعنا‪ ،‬وأول ما ينفعنا هو‬
‫معرفة قيمة النسان‪ ،‬واحترام حريته‪ ،‬وفتح نوافذ الفكر‬
‫الحر والبداع‪ ...‬أمامه‪.‬‬
‫ل ُانكر أننا ُنكرم الموتى أشد الكرام‪ ،‬وننعتهم يوم‬
‫دفنهم بأحسن الصفات‪ ،‬ولكن أين الحياء من هذا‬
‫الكرام ؟! لماذا ل ينالون ولو قسطا ً من هذا الحترام ؟!‬
‫نقــول إننــا نــؤمن بــالله فــى عــالم ســاد فيــه الكفــر‬
‫واللحاد‪ ،‬وها نحن بهدوء نتساءل ‪ :‬ما هى قيمــة اليمــان‬
‫إن أهمل النسان أخــاه ‪ ،‬إن أذله واســتعبده‪ ،‬أو أراد أن‬
‫يقضــى علــى مــواهبه الســامية الــتى غرســها اللــه فــى‬
‫وجدانه ؟!‬
‫إن الله الذى نؤمن به لم يطلب من النسان أن يقــدم‬
‫له الصــلوات‪ ،‬أو يرفــع البخــور‪ ،‬أو يفــى النــذور‪ ..‬إل مــن‬
‫‪89‬‬

‫‪66‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫أجل أن تصبح لحياته معنــى‪ ،‬وأن تســتقيم علقتــه بــأخيه‬
‫النسان‪ ،‬لن مــا أســهل أن يصــلى النســان أو يصــوم أو‬
‫وم‬ ‫يحــرق البخــور‪ ،‬ولكــن مــا أصــعب أن يصــفح أو يصــ ّ‬
‫حواسه عن الشر‪ ،‬ويحرق الظلــم والغــش والريــاء‪ ،‬ومــا‬
‫أسهل أن يبنى أماكن للعبادة‪ ،‬ولكن مـا أصـعب أن يبنـى‬
‫ذاته على العدل والحب واحترام حرية وآراء الخرين‪.‬‬
‫ما أجمل المعابد‪ ،‬ولكن هل يرضى الله أن تبنى بيوت‬
‫لعبادته والبشر يسكنون الخيام ! أليس من أجل هؤلء‬
‫البؤساء تجسد ابن الله‪ ،‬وعاش على الرض فقيرا ً ليس‬
‫له مكان يسند فيه رأسه !! وما أجمل الصلة‪ ،‬ولكن هل‬
‫يبارك الله صلة من يحتقر أخاه ويستعبده ! أترى الله‬
‫يرضى بذبيحة من يسرق مال الخرين !‬
‫ممم مم مممممم مممممم‬
‫ممممم ممم‬
‫ممممممم مممم مممم مممممممم !!‬
‫يجب أن نعرف أيها الحباء‪ ،‬إن كل إنسان يولد هو من‬
‫إبداع الخالق‪ ،‬هو رسالة حية أرسلها الله وكأنه لم ييأس‬
‫بعد من خلق البشر‪ ،‬ما من إنسان إل ويولد صفحة‬
‫بيضاء ل يدرى ما هو الخير وما هو الشر‪ ،‬وإنما يولد وفى‬
‫أعماقه نبض يحس بالجمال وينفر من القبح‪ ،‬نبض‬
‫يسعده النور ويخيفه الظلم‪ ،‬يرتاح للعدل ويشقى‬
‫بالظلم‪ ،‬نبض ل فضل فيه لنسان على إنسان‪ ،‬فالنسان‬
‫يولد واللمسة اللهية واضحة فى كيانه‪ ،‬فالحب يدفئه‪،‬‬
‫والحنان يمل قلبه‪ ..‬فإن كان المر هكذا فلماذا نقتل‬
‫النبض اللهي فى النسان ؟!‬
‫ممممم ممممممم ممم مممم ممممممم مممم م!‬
‫‪90‬‬
‫ممممم مممم مممممم مم ممممم مممممم م!‬
‫ممممم مممم ممممم مممم م ممم مممممم م!‬

‫‪91‬‬
‫ممممم مممممم‬
‫ممممممم ممممممم‬
‫مرت عصور كثيرة على الجنس البشــرى‪ ،‬عــاش فيهــا‬
‫النسان متنعما ً بما يملك من خيرات‪ ،‬إل أنه لم يكن ثريا ً‬
‫فى عصر من العصور بقدر ما هــو عليــه اليــوم‪ ..‬فــالعلم‬
‫فجــر لـه ينـابيع الخيـر‪ ،‬وجعــل الصـحارى تفتـح صـدورها‬
‫للخضــرة والنمــاء‪ ،‬والبحــار تتــدفق فيهــا الحيــاة‪ ،‬ولعــل‬
‫الفضــاء ذات يــوم يفيــض هــو أيضـا ً علــى البشــر بــألوان‬
‫جديدة من الثروات‪.‬‬
‫ولكن رغم كل هذا لم تــزل غالبيــة ســكان الرض فــى‬
‫جوع واحتياج!! ول زالت مجزرة قتل البرياء التى‬
‫ارتكبها هيرودس تتكرر اليوم‪ ،‬ل على مستوى أمــة‬
‫فقط‪ ،‬بل علـى مسـتوى أمـم وشــعوب‪ ،‬لن الجــوع ومـا‬
‫ينتج عنه من أمراض يحصد مليين الطفال البرياء‪.‬‬
‫لقد زاد ثراء البشر‪ ،‬بعض البشر‪ ،‬لكن الفقر تعمق‬
‫أكثر فأكثر عند الغالبية‪ ،‬فصارت حياة البشر‪ :‬إما هروبا ً‬
‫من الفقر وأوهامه‪ ،‬وإما هروبا ً من الثراء وآلمه‪ ،‬وأصبح‬
‫الن قليلون هم الذين يأخذون الحياة‪ ،‬كأنها رحلة جميلة‬
‫متوهجة بالحب والفرح والسلم‪..‬‬
‫ق نظرة على سطح الكرة الرضية‪ ،‬وتأمل المناطق‬ ‫أل ِِ‬
‫البائسة‪ ،‬التى نطلق عليها العالم النامى أو العالم الجائع‪،‬‬
‫هل يحيا النسان حياة إنسانية‪ ،‬أم أنه سارح فى أوهام‬
‫الجنات الزائفة‪ ،‬وما فيها من متع ولذات من شدة ما‬
‫يعانيه من قسوة وحرمان ؟!‬
‫‪92‬‬

‫‪86‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫مليين البشر يعيشون السعادة الوهمية من شدة‬
‫الفقر والجوع‪ ،‬ففى الوهم والخيال ينالون ما يسعدهم‬
‫وُيدخل الفرح إلى قلوبهم‪ ،‬ولكن كما أن الماء الذى‬
‫يرسم به الفنان على الجدران ل يروى عطشه‪ ،‬والحلم‬
‫التى يشاهدها النائم ل تستطيع إشباعه‪ ،‬كذلك من يحيا‬
‫فى أحلم اليقظة ويسرح فى الجنات الزائفة‪ ،‬فالوهم ل‬
‫ُيشبع الجائع ول يروى العطشان!‬
‫ل أظن أن الرض فقيرة حتى يسودها الفقر هكذا‪،‬‬
‫وتصير قلة ثرية‪ ،‬ومعظم البشر ليس لهم ما يسد‬
‫الرمق‪ ،‬فالرض ليست فقيرة إنما النسان النانى هو‬
‫الذى أفقرها‪ ،‬لن الرض منذ أن خلقت وحتى الن وهى‬
‫تفيض بالخير ورحمها لم يفرغ‪.‬‬
‫مممممم مممممم مممم ممم ممممم‬
‫ممممممم مممممم ممم ممممم ممممممم‬
‫مممم مممم ممممم ممممم ممممممممم !‬
‫قرأت عن رجل‪ :‬إنه خسر ستة مليين دولر على‬
‫مائدة القمار‪ ،‬فسألت نفسى‪ :‬إنسان يخسر مبلغا ً هكذا‬
‫كم إذن تكون ثروته ؟!‬
‫وسمعت عن نجمة سينمائية‪ :‬إنها تبذر على ملبسها‬
‫فقط‪ ،‬أكثر من نصف مليون دولر سنويًا‪ ،‬وأُخرى تملك‬
‫عربة فاخرة ثمنها خمسة مليين دولر ؟!‬
‫ولكن هذه الرقام لم تثر دهشتى‪ ،‬بعد أن عرفت أن‬
‫ممثلة قد وصل أجرها ‪ 12‬مليون دولر نظير دور‬
‫ستمثله فى فيلم واحد ؟!‬

‫‪93‬‬
‫وملكم سوف يأخذ مبلغ قدره ‪ 20‬مليون دولر‪ ،‬إذا‬
‫استطاع أن يحرز بطولة العالم ؟!‬
‫وماذا عن لعبى الكرة والتنس والمصارعة‪ ...‬الذين‬
‫يحصلون فى دقائق على مليين الدولرات هذا غير‬
‫الشهرة والتصفيق ؟!‬
‫مممم مممممم ممم مممممم ممم ممممممم !!‬
‫كل إذن اتهاما ً‬ ‫إن مأساة الجوع فــى العــالم ل تشــ ّ‬
‫للــه ول الرض بأنهــا افتقــرت‪ ،‬بــل اتهامـا ً للنســان‬
‫الذى أفقرها واستأثر خيراتها ! وُينتظــر مــن المســيحيين‬
‫إذا شــاؤوا أن يحققــوا دورهــم الحقيقــى كـــ " ملــح‬
‫الرض " و " نور العــالم " )مــت ‪ (14 :5‬أن يكونــوا‬
‫قول ً وعمل ً حتى تخف حِدة مأســاة البشــرية‪ ،‬ويتعمــق‬
‫مفهــوم النســانية عنــد الغالبيــة‪ ،‬لن مفهــوم النســانية‬
‫يتعطــل فــى جمهــور البائســين والمقهــورين والجــائعين‪،‬‬
‫الــذين يعــانون مــن المــرض والجهــل والــذل‪ ..‬كمــا أن‬
‫طاقتهم تتعطل ويُحكم على مواهبهم بالموت البطئ ‪.‬‬
‫ولبــد لكــل مــن يــؤمن أن يــرى فــى إنســانيتهم الــتى‬
‫شــوهها البــؤس والجــوع‪ ..‬تشــويها ً لــوجه الســيد‬
‫حد ذاته بهــم عنــدما قــال‪ " :‬الحــق‬ ‫المسيح الذى و ّ‬
‫أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد أُخوتى هــؤلء‬
‫الصاغر فبى فعلتم " )مت ‪. (40 :25‬‬
‫ُانظروا إلى العالم اليوم‪ ،‬ستجدون ثرواته كلها فى‬
‫أيدى قلة‪ ،‬وتملكها أُناس ملكهم الجشع‪ ،‬وبينما نسمع‬
‫الناس فى كل مكان ينادون مطالبين بالعدالة‬

‫‪94‬‬

‫‪07‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫الجتماعية‪ ،‬نرى الغنياء يزدادون غنى والفقراء فقرًا‪،‬‬
‫المر الذى ينطبق على المم كما ينطبق على الفراد‪.‬‬
‫ولهذا نجد العالم اليوم قد انقسم إلى أمم قليلة غنية‬
‫وغناها أكسبها قوة‪ ،‬وهذه المم هى ما نُطلق عليها‬
‫العالم الول‪ ،‬وأمم مستورة تكفى بالكاد حاجتها‪ ،‬وأمم‬
‫ُأطلق عليها العالم الثالث أو الجائع‪ ،‬يموت فيها مليين‬
‫البشر كبارا ً وصغارا ً جوعا ً وحرمانًا‪..‬‬
‫ولست أدرى إن كان القرن القادم سيعرف‬
‫أمما ً يُطلق عليها العالم الرابع أو الخامس أو‬
‫السادس‪ ..‬وكم من البشر سيموتون فيها بوباء‬
‫الفقر وأنيميا الجوع !!‬
‫أية إنسانية هذه التى نعيشها !! وأية كرة أرضية تلك‬
‫التى تحملنا !! وكيف نلقى بالمسئولية على السماء‬
‫ونقول‪ :‬إن الله هو الذى وزع الرزاق كما وزع على‬
‫البشر الصحة والعقول !!‬
‫ل‪ ..‬ل‪ ..‬إن ما يحدث ليس حكم الله‪ ،‬إنما ظلم‬
‫النسان لخيه‪ ،‬وأنانية المم‪ ،‬وكبرياء النجاح‪ ،‬وغرور‬
‫التقدم‪ ،‬إنه الطمع الذى وصفه بولس الرسول بـ "‬
‫عبادة الوثان " )كو ‪.(5 :3‬‬
‫لن كل من يطلب الثراء وتسيطر عليه فكرة جمع‬
‫المال‪ ،‬وتحصيله بدون هدف‪ ،‬يكون قد وضع الشياء‬
‫مكان الله‪ ،‬وهو فى الواقع يعبد الشياء ل الله‪ ،‬وهذه‬
‫هى عبادة الوثان فى أدق معانيها‪.‬‬

‫مممم‬

‫‪95‬‬
‫حكى قداسة البابا شنوده‪ ،‬عن إنسان كان فى‬
‫حياته يجمع مال ً ويكنزه‪ ،‬دون أن يعرف أحدا ً أين يخبئه‪،‬‬
‫ثم مرض ولزم الفراش وفى أثناء مرضه لحظوا عليه‪،‬‬
‫أنه كان يمسك فى حرص بالوسادة التى يضع عليها‬
‫رأسه‪ ،‬وفى ساعة موته كان يحتضن الوسادة‪ ،‬يحتضنها‬
‫فى عنف كأنه يخشى أن يأخذها أحد منه‪ ،‬فتعجبوا !‬
‫وبعد موته فحصوا الوسادة وفتحوها‪ ،‬فوجدوا داخلها‬
‫ُرزمة من الوراق المالية‪ ،‬هى إله ذلك المسكين‪ ،‬الله‬
‫الذى ظل يعبده حتى الموت!!‬
‫" إن جوع الخرين يدين حضارة الذين ل‬
‫يجوعون " ‪ ،‬هذه عبارة قالها أحد المدافعين عن العالم‬
‫ذى تهافت‬ ‫الثالث لن نهب خيرات العالم النامى‪ ،‬يُغ ّ‬
‫مجتمعات البلد الغنية على البذخ‪ ،‬ولكن هذا التهافت‬
‫المبنى على تجاهل وجود الخرين وحاجاتهم‪ ..‬ل يمنح‬
‫السعادة‪ ،‬بل يُنشئ أمراض التخمة ويزيد من النحلل‬
‫خلقى وإدمان المخدرات والمسكرات‪ ،‬ويتسبب فى‬ ‫ال ُ‬
‫انتشار البطالة‪ ..‬وهذا ما نراه اليوم واضحا!ً‬
‫ربما تنتقدونى لو قلت لكم‪ :‬إن المال مصدر الثراء إذا‬
‫زاد عن حده‪ ،‬يكون هو السبب المباشر لموت النسان‪،‬‬
‫وفى أحيان كثيرة يكون سبب فقره وتعاسته !! فكم من‬
‫ُأناس امتلكوا اللوف ومع ذلك عاشوا فى فقر مدقع‪،‬‬
‫لنهم أرادوا أن تكون اللوف مليين‪ ...‬وفى هذا يقول‬
‫سليمان الحكيم‪ " :‬يوجد من يفرق فيزداد أيضا ً ومن‬
‫يمسك أكثر من اللئق وإنما إلى الفقر" )أم ‪.(24 :11‬‬

‫مممم‬
‫‪96‬‬
‫هذا وقد جاء فى الساطير القديمة‪ :‬إن ملكا ً سأل‬
‫ول له كل ما يلمسه ذهبا ً فأجيب‬‫أحد اللهة أن يح ّ‬
‫سؤاله‪ ،‬واستحال خبزه ذهبًا‪ ،‬وماؤه صار هو الخر ذهبا‪ً،‬‬
‫وبالفعل صار الملك أغنى إنسان على الرض كلها‪،‬‬
‫لكنه صار فى نفس الوقت أفقر الفقراء‪ ،‬لنه لما‬
‫اشتهى أن يأكل لم يجد رغيف الخبز‪ ،‬الذى كان يملكه‬
‫در!‬‫العبيد وأدنياء البشر! فالملك الذى صار ذهبه ل يق ّ‬
‫كاد أن يهلك جوعا ً لو لم يندم على ما فرط منه‪ ،‬وسأل‬
‫اللهة أن تحرمه هذه الميزة التى اشتهاها!‬
‫ممممم مممممم مم مممممم ممممم مممم مممممم‬
‫مم مممم ممممم ! مممم مم مممم ممم ممممم !‬
‫ليس المال أيها الحباء إل ينبوعا ً من الينابيع الجافة‬
‫الكثيرة‪ ،‬التى اخترعها النسان منذ أن سقط للهو‬
‫والمسرات‪ ،‬وكل من يركض نحوه كمن يركض وراء‬
‫سراب خادع‪ ،‬سيجرى ويتعب ثم يعود وهو يحمـل مرارة‬
‫الختبار القائل‪ " :‬باطل الباطيل الكل باطل‬
‫وقبض الريح "‪.‬‬
‫أما خداعه فيستند على عبارة تأمين الحياة‪ ،‬وها نحن‬
‫نتساءل‪ :‬هل يستطيع المال أن يشترى الصحة ؟ هل‬
‫يقدر أن يشترى الحب ؟ هل يمكن أن يمنع عنا الحزن‬
‫أو الموت ؟ والفضيلة التى يصفها " سقراط " بأنها‬
‫المعين الذى يتدفق منه المال‪ ،‬هل يجرؤ أحد ويقول إنها‬
‫ُتشترى بالمال ؟ نستطيع أن نقول‬
‫مم ممممممم مممممم مممم مممممممم م ممممم‬

‫‪97‬‬
‫مممم مممممم ممممممم مممم مممم ممم‬
‫مممممم !‬
‫أن يسعى النسان ليكون لديه بيتا ً هادئا ً مستقرًا‪ ،‬وأن‬
‫يكون قادرا ً على الوفاء بالتزاماته نحو السرة‬
‫والمجتمع‪ ..‬فهذا واجب مسيحى‪ ،‬ولكن أن يقّيم كل‬
‫الشياء بالمال‪ ،‬وتصبح محبته للمال‪ ،‬هى القوة الدافعة‬
‫للحياة فهذا شر‪ ،‬وكل الذين عاشوا بهذا الفكر فشلوا‬
‫وعجزوا عن تحقيق السعادة فى حياتهم‪ ،‬فالمال وإن‬
‫كانت تراه العين وتلمسه اليد‪ ،‬إل أنه عاجز أن يهب‬
‫النسان سعادته‪ ،‬لنه ل يستطيع أن يلمس القلب من‬
‫الداخل حيث مركز السلم الحقيقي‪ ..‬فحياتنا إذا ً‬
‫ليست فى امتلء خزائنا ً بالموال‪ ،‬بل بامتلء‬
‫قلوبنا بالسلم الذى يفوق كل عقل‪ ،‬وهذا السلم‬
‫الروحانى ل ُيشترى بالمال !!‬

‫‪98‬‬
‫مممم‬
‫جاء فى الدب الفرنسي‪ :‬إن رجل ً اشتهى أن يصير‬
‫غنيًا‪ ،‬فأفنى حياته فى جمع المال‪ ،‬وكان كلما زاد ماله‬
‫ازداد بخله‪ ،‬ولهذا أراد أن يزوّج ابنته من رجل غنى‬
‫حتى تتسع ثروته‪ ،‬وزوجته عندما اشتد عليها المرض‪،‬‬
‫كان يتهرب من استدعاء الطبيب لها توفيرا ً لجره‪ ،‬وعند‬
‫الكل كان يضع الخبز بالعدد حتى ل تتبقى ك ِسر‪ ،‬أما‬
‫ملبسه فما كان يغيرها إن لم تبلَ تمامًا‪ ،‬فلما اقتربت‬
‫ساعة موته‪ ،‬جمع كل أمواله ومقتنياته من الذهب‬
‫والمعادن ال ُخرى‪ ..‬ووضعها فى خزانة أمامه‪ ،‬وكان‬
‫دائم النظر إليها ليل ً ونهارا ً !‬
‫ولكن حدث فى أيامه الخيرة عندما مرض‪ ،‬كما لو أن‬
‫روحه تريد أن تخرج من جسده ولكنها متعلقة بشئ !‬
‫فالرجل كان ينظر لمواله بصورة غريبة كأنه يريد أن‬
‫يأخذها معه‪ ،‬فلما استمر الحال عدة أيام استدعوا كاهن‬
‫الكنيسة وقصوا عليه قصة الرجل‪ ،‬فصلى على رأسه‬
‫ولما وضع الصليب على فمه‪ ..‬قّبله وقبض عليه بشدة‬
‫تعلقا ً به محاول ً أخذه‪ ،‬لنه كان من معدن نفيس !!‬
‫ربما يظن البعض أننا ضد المال أو نهاجم‬
‫الغنياء‪ ،‬لكننا فى الحقيقة ل نُهاجم إل الستخدام‬
‫الخاطئ للمال‪ ،‬ونقف ضد سلطان وغرور وكبرياء‬
‫الغنياء‪ ،‬فالمال فى حد ذاته ليس جيدا ً أو رديئًا‪ ،‬خيرا أو‬
‫ً‬
‫شرا‪ ،‬ولكن فيه خطورة إذا أحبه النسان‪ ،‬ألم يقل‬
‫معلمنا بولس الرسول‪ " :‬محبة المال أصل لكل‬
‫الشرور إذا ابتغاه قوم ضلوا عن اليمان" )‪1‬تي ‪(10 :6‬‬

‫‪99‬‬
‫لو أن المال استُخدم بطريقة إيجابية لحل مشاكل‬
‫كثيرين‪ ،‬والكتاب المقدس قد ذكر لنا أغنياء كثيرين مثل‪:‬‬
‫إبراهيم وإسحق ويعقوب وأيوب‪ ..‬ومع ذكر غناهم ذكر‬
‫أيضا ً فضائلهم ومحبتهم لله‪ ،‬يكفى ما ذكره الوحى عن‬
‫أيوب الصديق إنه كان " أبـا ً للفقراء " )أى ‪(16 :29‬‬
‫والذين كفنوا المسيح ألم يكونوا أغنياء !‬
‫فالمال ليس شرا ً ولكنه مسئولية‪ ،‬لنه يُعطى‬
‫النسان مكانة وقوة‪ ،‬والقوة سلح ذو حدين‪ ،‬لنها قد‬
‫تكون قوة فى الخير والشر! بالمال يستطيع إنسان أن‬
‫يخدم بأنانية رغباته الجامحة‪ ،‬وبالمال يستطيع أن‬
‫يستجيب بكرم لصراخ جاره المحتاج‪ ،‬به يستطيع إنسان‬
‫أن يسير فى طريق الخطية‪ ،‬وبه يستطيع آخر أن ينتشل‬
‫نفوسا سقطت فى آبار الخطية‪..‬‬
‫إن فى حياة السيد المسيح أيها الحباء‪ ،‬أعظم‬
‫عزاء لكل فقير على الرض‪ ،‬لقد أعلن لنا فى حياته‬
‫البسيطة‪ ،‬أن السعادة ل تكمن فى المال ول القصور‪،‬‬
‫لنه عاش كل أيام حياته لم يكن له بيت يسكن فيه أو‬
‫حجر يسند إليه رأسه‪..‬إل أنه عاش فرحا ً لنه أحب‬
‫الحياة وقبلها دعوة مقدسة ورسالة من الخالق‪ ،‬فكان‬
‫يفرح ليس لنه امتلك أو ربح شيئا ً‪ ،‬إنما لن الخرين‬
‫كانوا يفرحون‪ ،‬وإذا فقد شيئا ً لم يكن يحزن‪ ،‬لن حزنه‬
‫العظم كان على الساقطين والضالين‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫لقد عاش السـيد المسح الحياة بعد أن حررها من‬
‫آلم الغنى‪ ،‬فكانت حياته بسيطة ل يشوبها الطمع أو‬
‫يرهقها الجشع أو تمزقها النانية‪ ،‬عاش على الكفاف‬
‫شبعانا ً قنوعًا‪ ،‬وقد رضي بالقليل لنه امتلك غنى‬
‫النفس‪.‬‬
‫ولهذا تمتع بالحياة كأنه يملكها كلها‪ ،‬فاستنشق الهواء‬
‫الصافي بين الحقول‪ ،‬وقضى وقتا ً فى البساتين يتأمل‬
‫جمال منظرها ويتمتع بعبير رائحتها‪ ،‬وكم جلس تحت‬
‫كروم العنب يتأمل فى ذاته الكرمة الحقيقية‪ ،‬وطالما‬
‫جلس على شواطئ صور وصيدا‪ ..‬تلتقى عيناه بالنجوم‬
‫وهى تسبح فى مياه البحر‪ ،‬وما كان أحب إليه من‬
‫الجلوس بين السماء والرض‪ ،‬على قمم الجبال كأنه‬
‫حلقة الوصل بينهما‪.‬‬
‫مممممم‬
‫إن الحياة أيها الحباء تتحول إلى سجن كبير إذا‬
‫غّلف المال جدران بيوتنا‪ ،‬عندئذ يكون المال هو‬
‫السلسلة‪ ،‬التى تربطنا فتحرمنا من الخروج من بيوتنا‬
‫والتمتع بجمال الحياة‪ ،‬خوفا ً من أن يأتي لصوص‬
‫ويسرقوا أموالنا‪..‬‬
‫حياتنا على الرض رغم قصرها‪ ،‬إل أنها نقطة البداية‬
‫للحياة البدية‪ ،‬والمال ليس هو النبع الذى منه ينطلق‬
‫النهر بين الجبال والصخور حيث يصب فى بحر البدية‪..‬‬
‫إنما القداسة هى النبع الصافى الذى منه تنطلق المياه‬
‫ولتكف عن الجريان حتى تصب في بحر البدية‬
‫ممممممم ممممممم ممم ممممممم مممم‬

‫‪101‬‬

‫‪47‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ممممم مم ممممم ممممم مم ممم مممممممم‬
‫ممممم ممممممم مم مممم ممم مم‬
‫ممم مممم‬

‫‪102‬‬
‫ممممم مممممم‬
‫ممممممم‬ ‫ممممممم‬
‫من مآسي البشرية وجود طبقات‪ ،‬أسياد وعبيد‪،‬‬
‫ملوك ورعاع‪ ،‬أغنياء وفقراء‪ ،‬أقوياء وضعفاء‪ ..‬هؤلء‬
‫يسكنون القصور‪ ،‬وأولئك يعيشون فى أكواخ أو قل فى‬
‫جحور!‬
‫مشهد تراه فى بلد كثيرة‪ ،‬قصور شامخة‪ ،‬تطغى‬
‫بضخامتها وفخامتها على كل ما هو حولها‪ ،‬وحول‬
‫القصور بيوت حقيرة‪ ،‬مظلمة‪ ،‬كئيبة‪ ،‬أقرب فى شكلها‬
‫إلى القبور‪.‬‬
‫ً‬
‫أما القصور فغالبا ما تبعد عن الكواخ ولو قلي ً‬
‫ل‪ ،‬إما‬
‫بواسطة ما ُيحيط بها من مزارع وحدائق وأشجار‪ ،‬أو‬
‫بانتصابها فى أطراف المدن والقرى‪ ،‬كما لو كانت‬
‫ل‪ ،‬أو تهرب خوفا ً من قاع المدينة‪ ،‬أو رغبة‬‫تتوارى خج ً‬
‫فى أن تبتعد‪ ،‬ليخلو لسكانها أن تعيشوا على هواهم أو‬
‫كبرياًء‪ ،‬فطبقة القصور كما يظنون تجرى فى عروقهم‬
‫دماء مقدسة‪ ،‬ل ينبغى أن تنجسها دماء طبقة العبيد‪،‬‬
‫ولكن ما المنفعة أن يحيا إنسان فى قصر‪ ،‬ينظر إليه‬
‫نظرة السير إلى جدار سجنه السوداء‪ ،‬منفردا ً‬
‫بذاته أو أفكاره انفراد الطائر الجريح عن سربه !‬

‫‪103‬‬
‫عاش فى القصور ملوك وأمراء‪ ،‬انتقل إليهم التاج‬
‫ممن سبقوهم‪ ،‬لكن نقل التاج إلى رؤوس جديدة‪ ،‬يحمل‬
‫معه كل مظاهر العظمة الكاذبة‪ ،‬والمجد الباطل‪،‬‬
‫والكبرياء‪ ،‬والغطرسة‪ ،‬فهذه سمات التاج يحملها‬
‫إلى من ‪ ،‬كما يحمل أيضا ً صفات المتعة والثراء ‪...‬‬
‫وكم عاش فى قصور أسـياد وأسياد‪ ،‬يتلذذون بعشق‬
‫النساء الجميلت‪ ،‬ويقتنون الجواهر والمال‪ ،‬لم ترهبهم‬
‫الكوارث‪ ،‬ولم تزدهم الحداث إل شهوة على شهوة‪،‬‬
‫واستبدادا ً على استبداد‪ ،‬وظلما ً على ظلم‪ ،‬ومن هم‬
‫المظلومون ؟ طبقة الفقراء والعبيد !!‬
‫هكذا قالت ‪ :‬ا ُنظروا إلى هذه القصور الفخمة‪ ،‬فبين‬
‫جدرانها المكسوة بالحرير تقطن الخيانة بجانب الرياء !‬
‫وتحت سقوفها المطلية بالذهب يُقيم الكذب بقرب‬
‫الكبرياء ! تأملوا جيدا ً هذه التحف المعمارية التى تمثل‬
‫المجد والسعادة‪ ،‬هى مغائر يختبئ فيها الذل والشقاء‬
‫والملل‪ ..‬هى قبور مكلسة يتوارى فيها مكر المرأة‬
‫الضعيفة‪ ،‬وراء كحل العينين ومكياج الوجه‪ ،‬وتنحجب فى‬
‫زواياها أنانية الرجل وحيوانيته بلمعان الذهب والفضة‪،‬‬
‫هى قصور تتشامخ جدرانها افتخارا ً وكبرياًء نحو العلء‪،‬‬
‫ولو أنها شعرت بأنفاس الغش السائلة عليها‪ ،‬لتشققت‬
‫وتبعثرت وهبطت إلى الحضيض‪ ،‬إنها قصور ينظر إليها‬
‫الفقير بأعين دامعة متمنيا ً أن يلمسها‪ ،‬ولكنه لو علم بأنه‬
‫ل يوجد فى قلوب سكانها ذرة من المحبة الخالصة‬
‫لبتسم مستهزئا ً وعاد إلى كوخه مشفقا ً على سكانها!‬

‫‪104‬‬

‫‪67‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ثم أمسكت بيده وقادته إلى جانب النافذة‪،‬‬
‫وقالت‪ُ:‬انظر إلي ذلك القصر ذى العمدة الرخامية‬
‫والنوافذ البلورية‪ ،‬ففيه تزوج رجل من إمرأة ثرية‪ ،‬ولم‬
‫تنقضِ أيام حتى مّلها وعاد إلى فساده‪ ،‬وتركها فى هذا‬
‫كير جرة خمر فارغة‪ ،‬وهى‬ ‫القصر مثلما يترك الس ّ‬
‫الن مشغولة بحب فتى جميل تسكب فى يديه عواطف‬
‫قلبها‪ ،‬وتمل جيوبه من ذهب زوجها!‬
‫ثم قالت‪ :‬أ ُنظر ذلك المنزل الكبير‪ ،‬المزين بالنقوش‬
‫والتماثيل‪ ،‬فهو منزل إمرأة خبيثة لكنها جميلة الوجه‪،‬‬
‫مات زوجها فورثت أملكه ثم تزوجت رجل ً ضعيف‬
‫الجسم والرادة‪ ،‬لتحتمى باسمه من ألسنة الناس‪ ،‬وهى‬
‫الن بين مريديها كالنحلة‪ ،‬تمتص من الزهور ما كان حلوا ً‬
‫ولذيذًا‪..‬‬
‫أما فى تلك الدار البديعة تسكن سيدة‪ ،‬جنى عليها‬
‫والداها عندما وضعا عنقها‪ ،‬تحت نير زيجة فاشلة وهى‬
‫الن تذوب كالشمع بحرارة عواطفها المقيدة‪ ،‬وتضمحل‬
‫على مهل كالرائحة الزكية أمام العاصفة‪ ،‬وتفنى حبا ً‬
‫بفتى جميل تشعر به ول تراه‪ ،‬وتتمنى أن تعانق الموت‬
‫لكى تتخلص من حياتها الجامدة‪ ،‬وتتحرر من عبودية‬
‫رجل بخيل فى عواطفه وأمواله‪...‬‬

‫‪105‬‬
‫هذه هى القصور التى يرفض كثيرون أن يكونوا‬
‫من سكانها‪ ،‬لكى ل ُيدفنوا أحياء فى قبورهم‪،‬‬
‫هؤلء نوعية من المتزوجين يقترنون بالجساد ويتنافرون‬
‫بالروح‪ ،‬أنا ل أدينهم بل أُشفق على منهجهم الفاشل فى‬
‫الحياة وأسلوبهم العقيم اللهث وراء المتع والشهوات‪،‬‬
‫ول أكرههم‪ ،‬بل أكره استسلمهم إلى الرياء والكذب‬
‫والخباثة والخيانة‪...‬‬
‫ً‬
‫من المور التى تبدو عجيبة حقا ‪ ،‬إن السياد يتشابهون‬
‫فى كل عصر وفى كل أمة‪ ،‬فحياتهم سباق مع اللذة‬
‫والعنف واقتناء الجواهر وعشق النساء وإدمان‬
‫المخدرات وإذلل البشر‪ ...‬ولهذا ل نجد فرقا ً بين‬
‫ملوك المدن المقدسة والمدن الفاسدة‪ ،‬بين‬
‫ُأمراء القرى فى سهول أسيا وغابات إفريقيا‪،‬‬
‫فحياة هيرودس الملك الذى حكم أورشليم مدينة النبياء‬
‫تشبه إلى حد ما حياة دقلديانوس ونيرون‪ ..‬ول تختلف‬
‫كثيرا ً عن حياة بوكاسا وعيدي أمين‪ ..‬إنهم ملوك لهم‬
‫فرعنها البؤساء‪ ،‬ولذاتهم يدفع ثمنها‬ ‫خطاياهم يك ّ‬
‫الكادحون من العبيد‪ ،‬والعجيب أن التاريخ يكتب أسماء‬
‫هؤلء وينسى أسماء البؤساء والعبيد !‬
‫هلت القصور أصحابها أن ينالوا قسطا ً من‬ ‫ربما أ ّ‬
‫التعليم‪ ،‬فمنهم من درس الدب والتاريخ‪ ،‬ومنهم من‬
‫تعلم المحاماة‪ ،‬هؤلء غير الذين عشقوا السياسة‪ ،‬كما‬
‫أجادوا عدة لغات‪ ..‬ولكنهم أجادوا أيضا ً ركوب الخيل‬
‫وفنون الحياة كالموسيقى والرقص والحفلت الصاخبة‪،‬‬
‫فصوت الموسيقى ورنين الكؤوس له معنى خاص عند‬
‫أصحاب القصور‪..‬‬
‫‪106‬‬
‫أما ساكنوا الكواخ فتعملوا هم أيضًا‪ ،‬ففى مدرسة‬
‫الحياة تلقنوا دروسا ً ألحقتهم بمصاف الحكماء‪ ،‬قام‬
‫بتهذيبهم فيها أساتذة اليام والليالي‪ ،‬فعلمهم الجوع‬
‫السكون والصبر والحتمال‪ ،‬وأرشدهم قرع العصا إلى‬
‫الستقامة‪ ،‬وانتزعت الرض التى ينامون عليها وحرارة‬
‫الشمس التى يكدون تحت لهيبها انتزعت من أنفسهم‬
‫كل طمع‪..‬‬
‫ً‬
‫ل ننكر أن هناك تشابها بين الكواخ والقصور‪ ،‬ولكن‬
‫أى تشابه ؟! إنه تشابه الكرامة الضائعة التى فقدها‬
‫هدرت كرامة النسان تحت ثقل‬ ‫النسان‪ ،‬ففى الكواخ ُ‬
‫الهموم والحزان‪ ،‬ففيها ول يزال يرقد الفقر واللم جنبا ً‬
‫إلى جنب‪ ،‬فساكنوا الجحورل يعرفون طعم الفرح إل عند‬
‫ميلد طفل‪ ،‬أو نجاح ابن‪ ،‬أو زواج إبنة‪ ،‬ففى مثل هذه‬
‫المناسبات فقط يُفرغون كل طاقاتهم‪ ،‬إذ ل يثقون في‬
‫تكرارها أو عودتها من جديد‪.‬‬
‫هدرت أيضا ً كرامة النسان‪ ،‬ولكن تحت‬ ‫وفى القصور ُ‬
‫ضربات النانية الجامحة الشرهة‪ ،‬فإنسان القصور يعيش‬
‫إلها ً مزيفا ً‪ ،‬وحين يظن النسان أنه أصبح إلها ً أو شبيها ً‬
‫بالله‪ ،‬يتحول إلى مخلوق كريه‪ ،‬قبيح‪ ،‬وكم عرف التاريخ‬
‫فأصيبوا بمس من الجنون وانتهت‬ ‫ُأناسا ً أّلهوا أنفسهم‪ُ ،‬‬
‫حياتهم بالموت‪ ،‬مقتولين أو منتحرين!!‬

‫‪107‬‬

‫‪87‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫وما الطاعة العمياء‪ ،‬وفرض الرأي بالقوة‪ ،‬ورفض‬
‫آراء الخرين‪ ..‬إل لون من ألوان ال ُلوهية الكاذبة‪ ،‬فيا‬
‫للعجب! ففى الوقت الذى نرى الله قبل من أبينا‬
‫إبراهيـم قوله‪ " :‬أديان الرض كلها ل يصنع عدل ً "‬
‫)تك ‪ ،(25 :18‬ومن عبده موسى قوله‪ " :‬أرجع عن حمو‬
‫غضبك‪ ،‬إندم على الشر" )خر ‪ ،(12،14 :32‬نرى البشر‬
‫ل يقبلون من بعضهم نقدا ً أو نصحا ً أو إرشادا ً ! الله‬
‫نفسه لم يعامل النسان هكذا مع كونه إلهًا‪ ،‬بل كثيرا ً ما‬
‫دخل مع البشر فى مناقشات وحوارات‪ ،‬فكيف إذا ً‬
‫يطلب البشر لنفسهم هذا الوضع‪ ،‬أو من أعطاهم هذا‬
‫الحق ؟! أليس فى هذا محاولة يسعى البشر من‬
‫خللها لتأليه أنفسهم !‬
‫لقد أساء البعض فهم الطاعة والبوة الروحية‬
‫والقيادة‪ ،‬وأفضل نصح لهؤلء قول قداسة البابا‬
‫شنوده‪ " :‬أما إذا كان أبوك الروحى يطالبك بطاعة‬
‫عمياء بل فهم‪ ،‬ول يريح ضميرك من جهة إرشاداته أو‬
‫أوامره‪ ،‬فإنه فى هذه الحالة يكون قد تأله‪ ،‬ويكون أيضا ً‬
‫قد احتقر إنسانيتك ولهذا أكرر ما قلته قبل ً ‪ :‬أطيعوا‬
‫آباءكم‪ ،‬ولكن ل تؤلهوا آباءكم‪ ،‬ول تعبدوهم‪ ،‬ول تفضلوا‬
‫طاعتهم على طاعة الله "‪.‬‬
‫فإن كان النسان يفقد إنسانيته ويتحطم‪ ،‬حين يظن‬
‫أنه قد صار إلهًا‪ ،‬أو شبه إله‪ ،‬أو إمبراطورا ً طاغية‪ ،‬كذلك‬
‫يفقد النسان إنسانيته‪ ،‬ويتحطم كيانه‪ ،‬حين يصير عبدا ً‬
‫ل‪ ،‬جسدا ً منهكًا‪ ،‬روحا ً محطمة‪ ،‬حين يصبح بل أحلم‬‫ذلي ً‬
‫أوآمال‪ ،‬ليس له هدف فى الحياة سوى ملء بطنه من‬
‫أجل بقائه على قيد الحياة‪...‬‬
‫‪108‬‬
‫فى القصور يئن النسان تحت وقع أصوات اللذة‪ ،‬ونار‬
‫الرغبات القاسية‪ ،‬التى ل ينطفئ لهيبها‪ ،‬فيها يخلع البشر‬
‫أثواب الحياء‪ ،‬يتعرون من القيم‪ ،‬يدوسون على كل‬
‫القوانين‪ُ ،‬يقيمون الصلة للهم أعنى الجسد‪ ،‬يغنون‬
‫للزمن‪ ،‬يعيشون الوهم الكاذب‪ ،‬يسكرون بأصوات‬
‫الطبول‪ ،‬ويتمايلون كالغصان اللينة عند هبوب النسيم‪،‬‬
‫عندما يسمعون همس أوتار العود والدفوف‪ ،‬ومع رنات‬
‫الكؤوس تنمو الحركة‪ ،‬وتعلو الصوات‪ ،‬وتتوارى الرزانة‪،‬‬
‫وتلتهب النفوس‪ ،‬وتضطرب القلوب‪ ،‬ويصبح ذلك القصر‬
‫بكل ما فيه‪ ،‬كقيثارة مقطعة الوتار فى يد‬
‫شيطان غير منظور يضرب عليها بعنف‪ ،‬ليوّلد‬
‫نغمة شاذة تُثير القلق فى النفوس ‪.‬‬
‫وكم من المؤامرات حدثت فى القصور‪ ،‬وكم تصارع‬
‫البناء من أجل اعتلء العروش‪ ،‬فعاشوا حياتهم قانعين‬
‫بتلك اللذة الوحشية – لذة القتل وسفك الدماء – حتى‬
‫يرى الناس جباههم اللمعة يتلل فوقها تاج المُلك‬
‫المرصع بالذهب والجواهر‪ ،‬ففى القصور ذهب وفضة‪،‬‬
‫تيجان وصولجانات تستحق المنافسة‪ ،‬وفيها أوامر‬
‫وسيوف مسلطة نحو العبيد‪ ،‬ويا لهم من عبيد‪ ،‬يعدون‬
‫لسيادهم كل وسائل الترفيه‪ ،‬يناولونهم بأيديهم كؤوس‬
‫الخمور‪ ،‬ويطفئون لهم النوار عندما ُيمارسون الشرور‪،‬‬
‫وكم جلسوا تحت أقدام أسيادهم ل يتحدثون حتى‬
‫يحدثهم مولهم ول يرفعون أنظارهم حتى يناديهم ‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫ولكن من هم هؤلء العبيد ؟ أليسوا هم الذين بنوا‬
‫القصور!! نعم لقد عاش أصحاب الكواخ ول زالوا‬
‫يعيشون عبيدا ً لصحاب القصور‪ ،‬يستنزفون دماءهم‬
‫ويأكلون لحومهم‪ ،‬عرقا ً ودموعا ً ودماءً‪ ..‬تعبا ً وآلما ً‬
‫وشقاءً‪ ..‬دفعها هؤلء العبيد ليبنوا لسيادهم القصور‪،‬‬
‫بنوها تحت وقع السياط‪ ،‬وما أبشع فن الجلد الذى عرفه‬
‫الرومان وعلموه لحكام المدن التى احتلوها ! ل أظن‬
‫ل‪ ،‬وإنما لقمة تمنع الموت من‬ ‫أنهم نالوا أجرا ً عاد ً‬
‫القضاء على هذه الكائنات‪ ،‬ولعل عار تسخير البشر‬
‫واستغللهم لم يزل يلطخ الجبين بالخزى‪ ،‬حتى فى‬
‫حضارة النور ولكنه يتخذ ثوبا ً غير الثوب وصورة غير‬
‫الصورة‪ ،‬فما الفرق بين من يُقيم قصرا ً بل أجر وبين من‬
‫يقيمه بأجر ل ُيذكر؟! بل لعل سخرة عصرنا أشد إيلما ً‬
‫ومرارة‪ ،‬إذ تلفها كلمات العدل والمساواة‪ ،‬فترن‬
‫ً‬
‫الكلمات فى آذان عبيد العصر‪ ،‬كما لو كانت لحنا من‬
‫ألحان الوهم أو أغنية من أغاني الرياء!‬
‫ومما يُلفت النظر هو أن القصور بُنيت ول زالت تُبني‪،‬‬
‫وليس على واجهتها أى نقش من أقوال الله أو رسوم‬
‫النبياء والملئكة‪ ..‬إنما زُينت بالمناظر الطبيعية التى‬
‫عشق سكانها لذتها‪ ،‬أما التماثيل فقد انتصبت فى‬
‫أروقتها ومداخلها‪ ،‬تماثيل النساء والطيور والحيوانات‪،‬‬
‫شيدت باسم‬ ‫وما هذا إل إعلن واضح‪ :‬إن غالبية القصور ُ‬
‫الرض والجسد‪ ،‬وليس باسم السماء والروح !‬

‫‪110‬‬

‫‪08‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ل ننكر أن قصورا ً كثيرة شابهت المعابد‪ ،‬سواء فى‬
‫منظرها أو فخامتها‪ ،‬فمن الخارج ل نستطيع أن نميز بين‬
‫هذا وذاك‪ ،‬أما الداخل فشتان بين جدران ترن بينها‬
‫أصداء الناشيد الدينية‪ ،‬وجدران ترن بينها أصوات‬
‫الموسيقى الصاخبة والغاني الخليعة وقرع الكؤوس ‪..‬‬
‫فى المعابد نري البخور وقد عّبق كل أركانها‪ ،‬أرواح‬
‫البشر تذوب فيها حبا ً فى خالقها‪ ،‬فيها يشرب النسان‬
‫من خمر السكينة والسلم ‪ ،‬فالصلوات هى سمة المعابد‬
‫الولى‪ ،‬أما فى القصور فنرى دخان الشهوات وقد مل‬
‫كل أركانها برائحتة النجسة‪ ،‬وأرواح البشر قد انتشت‬
‫بالكلمات البذيئة‪ ،‬وأجسادهم مطروحة على الرض وقد‬
‫أسكرها خمر الكروم والمشروبات الدنيئة‪ ..‬فما المنفعة‬
‫أن يقضى إنسانا ً حياته متمرغا ً فى الشهوات ؟ ألم نقل‪:‬‬
‫إن الشهوة ل تشبع ول ُتشبع‪ ،‬آلما ً تسبقها وآلما ً‬
‫تلحقها !‬

‫‪111‬‬
‫فى أعظم القصور كان يسكن أمير الحكمة‪،‬‬
‫سليمان بن داود أعظم الملوك‪ ،‬وكانت تسكن معه‬
‫أميرة المراء إبنة فرعون‪ ،‬التى ُزفت إليه من مصر إلى‬
‫فلسطين فى موكب ليس له مثيل‪ ،‬فقد كان يسير من‬
‫حولهما ُألوف العبيد‪ُ ،‬يغنون ويرقصون ويُضيئون الشموع‬
‫ويذبحون العجول ‪ ..‬لكن يبدو أن القصر كان أعظم‬
‫وأكبر من أن تسكنه إمرأة واحدة‪ ،‬حتى لو كانت إبنة‬
‫فرعون‪ ،‬فسعى سليمان المتعطش إلى اللذات إلى‬
‫إتخاذ نساء غريبات‪ ،‬تزوجهن رغم تحذير السماء‪ ،‬فعاش‬
‫يتمرغ فى لذات ونعيم القصور‪ ،‬ولم تطفئ نار شهوته‬
‫صلة ولم يطهر أعماقه حوار إلهي‪ ،‬ولم يكسر حِدة‬
‫نزواته منظر الهيكل الشامخ الذى بناه !‬
‫مممم مممممم ممم مممم ممم ممم مممم ممممم‪:‬م‬
‫ممم‬
‫مممم مممممم ممم مممممم‬
‫ممممم ممم م‬
‫مممممم!!‬

‫‪112‬‬
‫ومضت آلف السنين على موت الملك العظيم‪ ،‬إل أن‬
‫نهر التاريخ ل يتجمد‪ ،‬بل سيظل هكذا منطلقا ً ل تعطله‬
‫جسامة الحداث ول يعيق اندفاعه عقبات‪ ،‬فالزمن‬
‫يكنس أمامه الملوك شأنهم شأن الصعاليك‪ ،‬مرت‬
‫القرون تِلو القرون والوضع كما هو القصر والكوخ‬
‫قائمان‪ ،‬وأيضا ً الظلم والبؤس قائمان‪ ..‬وعلى الرغم من‬
‫أن الشريعة قد ُأعطيت للنسان لتقل الفوارق بين‬
‫الناس إل أن البشر لزالوا طبقات‪ ،‬أغنياء وفقراء‪،‬‬
‫أسيادا ً وعبيدًا‪ ،‬كأنه سر من أسرار الوجود ُأغلق‬
‫عليه باب الفهم ! فمنذ آدم حتى الن لم يزل تيار‬
‫البؤس والحرمان‪ ،‬وموكب المعذبين والجائعين متصل ‪ً،‬‬
‫لزالت الحياة كما هى‪ :‬قلة حكمت الكثرة وكثرة‬
‫شقيت لتنعم القلة !!‬
‫لكن على الرغم من كل ذلك‪ ،‬إل أننى أرى المستقبل‬
‫يحمل فى حناياه رؤى مبهجة‪ ،‬وعلى الرغم الظلم‬
‫الكثيف الذى يحيط به‪ ،‬وبرغم شراسة الشر وقبح‬
‫الجوع‪ ،‬فإن نهر الدم والدموع سيجف يومًا‪ ،‬لن تتحول‬
‫الرض إلى فردوس أو أن الحياة ستخلو من المآسى‪،‬‬
‫فإن أعظم المآسى ربما يكون فكر مريض تمّلك‬
‫النسان‪ ،‬والنسان لن يُمحى‪ ،‬بل سيظل هكذا بكل ما‬
‫فيه‪ ،‬من نور وظلم‪ ،‬ولكن ستنمو النسانية فى مجالت‬
‫العلقات بين البشر‪ ،‬ستغزو أنوار الحرية أكثر وأكثر‬
‫المناطق المظلمة المقهورة‪ ،‬ستنبثق أشعة الثقافة‪،‬‬
‫سيتخطى البشر حواجر التفرقة ستجف وطأة الظلم‪..‬‬

‫‪113‬‬
‫هذه رؤيتى وإن بدت مثالية أو بعيدة التحقيق‪ ،‬غير‬
‫أن النظرة إلى الوراء‪ ،‬إلى أعماق الزمن السحيق‪،‬‬
‫تكشف لنا عما حققته إنسانيتنا من تقدم‪ ،‬فأين أسواق‬
‫؟! أين‬‫الجوارى والرقيق‪ ..‬التى كان النسان فيها ُيباع ‍‬
‫صبوا أنفسهم آلهة ؟! أين عصور‬ ‫عصور الحكام الذين ن ّ‬
‫الخرافات والساطير بعد انتشار المعرفة فى معظم‬
‫المجتمعات ؟!‬
‫مممم ممم مممممم مم مممم ممم ممممممم !‬
‫ممم مممم ممم مم مممم مممم مم‬
‫ممممممم !‬

‫‪114‬‬

‫‪28‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫الباب الثالث‬
‫مركـــبة فرعـــون‬
‫الفصل الول‬
‫مممممم ممممممم‬
‫الفصل الثاني‬
‫مممم ممممممممم‬
‫الفصل الثالث‬
‫ممممم ممممممممد‬
‫مممممم ممممممم‬

‫‪115‬‬
116
‫ممممم ممممم‬
‫ممممممم ممممممممم‬
‫ترجـع كلمة اسـتبداد ديسبوتزم ‪Despotism‬‬
‫والمسـتبد ديسبوت ‪ ،Despot‬إلى الكلمة اليونانية‬
‫لسرة أو‬ ‫ديسبوتيس ‪ Despotes‬التى تعنى ‪ :‬رب ا ُ‬
‫لسري‪،‬‬ ‫سيد المنزل‪ ،‬ثم خرجت الكلمة من النظام ا ُ‬
‫وصارت تُطلق على نمط من أنماط الحكم الملكي‪،‬‬
‫الذي تكون فيه سلطة الملك على رعاياه‪ ،‬ممثلة‬
‫لسلطة الب على أبنائه في ا ُ‬
‫لسرة‪.‬‬
‫لسرة التي‬ ‫لكن هذا الخلط بين وظيفة الب في ا ُ‬
‫هي مفهوم أخلقي‪ ،‬ووظيفة الملك التي هي مركز‬
‫سياسي‪ ،‬يؤدي بالطبع إلى الستبداد‪ ..‬ولهذا يستخدمه‬
‫كثيرين خاصة في الدول النامية‪ ،‬غير المتحضرة‪،‬‬
‫للسيطرة على البسطاء‪ ،‬أو بمعنى أدق للضحك على‬
‫السذج وغيرهم من الجهلء والضعفاء‪ ..‬مدّعين أنهم آباء‬
‫للجميع !! وهذا يعني من وجهة نظرهم‪:‬‬
‫إن من حقهم أن يحكموا حكما ً استبداديا‪ ،‬لن الب‬
‫ً‬
‫ل فوق الجميع‪ ،‬وبالتالي ل تجوز معارضته‬ ‫كما يرون عا ٍٍ‬
‫أو مناقشة أمره ! فقراره مطاع بل أدنى معارضة‪،‬‬
‫واحترامه واجب مفروض على الجميع ! وهذا يعني‪ :‬إن‬
‫أى انتقاد لمن يظن أنه أب للجميع ُيعد عيبا ً فهناك إذن‬
‫كبت للرأي ! والسؤال هنا‪ :‬كيف سيتحقق التقدم‪ ،‬إن لم‬
‫نقل هذا خطأ وذاك صواب‪ ،‬هذا يجوز وذاك ل يجوز!‬

‫‪117‬‬

‫‪48‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫يجب أن نعرف أن سلطة الب تشترط العناية‬
‫بأولده‪ ،‬والهتمام بهم‪ ،‬وإل فقد سلطانه‬
‫عليهم‪ ،‬فهي إذن تقترن بإطعامهم وتربيتهم ورعايتهم‪..‬‬
‫فإذا وصلوا إلى سن الرشد انتهت سلطته عليهم‪ ،‬وهكذا‬
‫يبدأ البن في الستقلل ليبدأ حياته الجديدة‪ ،‬غير أن هذا‬
‫الستقلل ل يعفي البن من إكرام والده‪ ،‬المر الذي‬
‫تحُتمه الخلق وتفرضه الديان‪ ،‬ففي الوصية الخامسة‬
‫من الوصايا العشر نجد أمرا ً صريحا ً يقول‪ ":‬أكرم أباك‬
‫وأمك لكي تطول أيامك على الرض التي‬
‫ُيعطيك الرب إلهك " )خر ‪.(12 :20‬‬
‫فإن كان المستبد يرغب أن تكون أوامره مطاعة‪،‬‬
‫مثل طاعة البن لقرارات أبيه‪ ،‬عليه أن يقوم برعاية‬
‫شعبه كما يرعى الب عائلته‪ ،‬ويجاهد ويسهر من أجل‬
‫سلمها‪ ،‬ول ينظر إلى امتيازات المركز‪ ،‬فالسلطة إن‬
‫كانت لها بعض المتيازات‪ ،‬فلها أيضا ً كثير من‬
‫اللتزامات‪ ،‬فالبوة الحقيقية تتطلب الرعاية‪ ،‬والرعاية‬
‫هي الخرى تتطلب البذل من أجل الخرين‪ ،‬ولدينا‬
‫السيد المسيح الذي كان يجول في كل مكان يصنع‬
‫خيرًا‪ ،‬أعظم مثال في القيادة المخلصة‪ ،‬والرعاية‬
‫الصادقة‪ ،‬والمحبة الصافية‪ ،‬الخالية من الغش‪ ،‬فقد‬
‫وصل به الحب أن مات لكي تحيا الخليقة المائتة‬
‫بموته!!‬
‫لقد ظهر مصطلح الستبداد لول مرة في )ق ‪(5‬‬
‫قبل الميلد‪ ،‬وكان الفيلسوف " أرسـطو " هو الذي‬
‫طوره‪ ،‬وقابل بينه وبين الطغيـان‪ ،‬وقال‪ " :‬إنهما‬‫ّ‬
‫نوعان من الحكم يعاملن رعاياهم على أنهم‬
‫‪118‬‬
‫عبيد " !! ومع ذلك ظل مصطلح الطغيان طوال‬
‫العصور الوسطى‪ ،‬الكثر استخداما ً والوسع انتشارا‪ً،‬‬
‫لوصف الحاكم المستبد أو المغتصب الشرير‪ ..‬ثم بدأ‬
‫مصطلح الستبداد يظهر‪ ،‬نتيجة لترجمات مؤلفات‬
‫أرسطو ول سيما كتاب السياسة‪.‬‬
‫وكان " مكيافيللي " في ) ق ‪ (16‬هو أول من قارن‬
‫بين الستبداد والطغيان‪ ،‬عندما قابل بين النظام الملكي‬
‫في أوربا‪ ،‬والطغيان الشرقي في الدولة العثمانية‪ ،‬في‬
‫كتابه المشهور" المير"‪.‬‬
‫لكن ظهور مصطلح الستبداد في )ق ‪ (18‬يرجع إلى‬
‫" مونتسيكيو" المفكر الفرنسي‪ ،‬الذي جعل الستبداد‬
‫أحد الشكال الثلثة للحكم وهي‪ :‬الجمهوري‪،‬‬
‫الملكي‪ ،‬الستبدادي‪ ،‬وعلى الرغم من أنه أدان‬
‫الستعباد بكل أشكاله‪ ،‬إل أنه انتهى إلى أن الستبداد‬
‫نظام طبيعي بالنسبة للشرق! ولكنه غريب وخطر على‬
‫الغرب ! وهي نفسها فكرة أرسطو الذي قسم العالم‬
‫قسمين‪ :‬شرق وغرب‪ ،‬للشرق أنظمة خاصة ل تصلح‬
‫إل له‪ ،‬وهي بطبيعتها استبدادية ‪ ،‬يُعامل فيها الحاكم‬
‫رعاياه كالحيوانات أوالعبيد‪ !...‬وللغرب أنظمة سياسية‬
‫خاصة‪ ،‬ترفض تطبيق الستبداد لنه يهدد النظام الملكي‪.‬‬
‫ومع التقدم ظهر مفكرون كثيرون‪ ،‬أخذوا ينادون بأن‬
‫الستبداد والطغيان نظامان باليان‪ ،‬ل يجوز تطبيقهما‬
‫إل على النظم السياسية القديمة‪ ،‬أما المجتمع الجديد‬
‫الذي يدعو إلى الديمقراطية والمساواة والحرية‪ ،‬فل‬
‫يمكن بأي حال من الحوال أن يقبل مثل هذه النظمة‪،‬‬
‫أو يتسلط عليه دكتاتور أو مستبد‪ ..‬لن الشعب الذي‬
‫‪119‬‬

‫‪68‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫يتسلط عليه مستبد‪ ،‬ل يمكن أن يكون حرا ً بأي شكل‬
‫من الشكال‪ ،‬إنما هو مستعبد لقصى درجة‪ ،‬ففي ظل‬
‫النظام الستبدادي ‪ ،‬ل رأي أو مشورة أو حوار‪ ..‬وبالتالي‬
‫ل تقدم أو نمو أو ازدهار‪ ..‬إنما يعم القحط والذل‪ ..‬سائر‬
‫البلد ولكننا نتساءل‪:‬‬
‫هل الشعب هو وحده الذي يعيش في ذل واستعباد ؟‬
‫ل تتعجبوا إن قلت لكم إنه في ظل الستبداد يكون‬
‫المستبد‪ ،‬الذي يأمر وينهي وينهب ويقتل ويتنعم ويلهو‪،‬‬
‫أكبر المستعبدين لخطر المستبدين أعني‬
‫الخطية! لنه بانغماسه في الملذات الفاسدة‬
‫والشهوات الفانية‪ ،‬وتلوث يديه بدماء البرياء‪ ..‬قد صار‬
‫عبدا ً للخطية‪ ،‬والكتاب المقدس يقول‪ " :‬إن من يعمل‬
‫الخطية هو عبد للخطية " )يو ‪ (34 :8‬وهل هناك أقسى‬
‫من عبودية الخطية ؟!‬
‫يقول القديس ُأغسطينوس‬
‫" يا له من استعباد مذل هو استعباد الخطية‪ ،‬فإن‬
‫معظم الذين يتألمون من استبداد أسياد ظالمين‪ ،‬يتمنون‬
‫لو يباعون ليغيروا على القل مواليهم‪ ،‬ولكن ماذا‬
‫يستطيع أن يعمل عبد الخطية ؟ وبمن يستجير؟ وممن‬
‫ُيباع ؟ وأخيرا ً نرى العبد وقد مل مطلب سيده‪ ،‬يرغب‬
‫أن يتخلص منه‪ ،‬ولكن إلى أين يهرب عبد الخطية ؟! إن‬
‫هرب جّر وراءه الخطية " !‬
‫والحق إن النفس المستبدة تحيا دائما ً في حالة‬
‫عبودية‪ ،‬عبودية الشر‪ ،‬الذى من ثماره الخوف والشك‬
‫والقلق وعذاب الضمير‪ ..‬فهي تتوقع على الدوام أن‬

‫‪120‬‬
‫تموت مقتولة‪ ،‬ولهذا ل يثق المستبدون في أحد حتى‬
‫أقرب الناس إليهم‪ ،‬كما أنهم يعيشون في تذمر وشكوى‬
‫وآلم ل حصر لها‪ ،‬وهذا كله ل يقارن بآلم الشعور‬
‫بالنقص تجاه المثقفين وأصحاب المواهب السامية!!‬
‫هل سألت نفسك مرة‪ :‬لماذا يذل المستبدون‬
‫المتعلمين ويحاولون التخلص من أصحاب‬
‫المواهب‪ ..‬؟! أل تعلم أن جوهر القضية يكمن في‬
‫قلقهم وشعورهم بالنقص تجاه هؤلء المثقفين ! يجب‬
‫أن نعرف أن النفس المستبدة هي نفس فقيرة‪ ،‬كلما‬
‫تنظر داخلها ل تجد سوى فراغ‪ ،‬فتبحث خارجها لتقتني‬
‫ما يمل فراغها‪ ،‬فماذا تقتني ؟! تتصيد أخطاء الخرين‬
‫أصحاب النفوس الكريمة والمواهب السامية‪ ،‬لكي‬
‫تخضعهم لسلطانها‪ ،‬وتجعلهم تحت قبضتها‪ ،‬فمثل هذا‬
‫السلوك يعطيها إحساسا ً بأنها أقوى وأفضل منهم!!‬
‫إذن فالمستبد هو عبد بالمعنى الصــحيح‪ ،‬بــل هــو‬
‫شخص قد بلغ أقصى درجات العبودية‪ ،‬طالما أن دوافعــه‬
‫الحيوانية‪ ،‬هي التي تســيطر عليــه وتــدفعه إلــى ارتكــاب‬
‫الفحشاء‪ ..‬أما شروره التي يرتكبها فهي التي تجعله غير‬
‫قادر على التحكم في نفسه‪ ،‬فيصبح أكثر النــاس بؤسـا ً ‪،‬‬
‫وباســتمراره فــي الحيــاة تــزداد مســاوئه‪ ،‬فيصــير أشــهر‬
‫الناس حسدا ً وغدرا ً وفجـورا ً وظلمًا… وهذه كلها خطايــا‬
‫تجعله أشقى الناس وأتعسهم! وها نحن نتســـاءل‪ :‬كيف‬
‫يأخــذ إنســان علــى عــاتقه حكــم الخريــن وهــو‬
‫نفســه عـاجز عــن حكـم نفســه ! كيـف لمريــض‬
‫عاجز عن مغادرة فراشه يــذهب ليفتقــد النــاس‬
‫ويحل مشاكلهم ! أليس هذا تخلفا ً ! ألم يقل سليمان‬
‫‪121‬‬
‫الحكيم‪ " :‬مالك روحه خير ممن يأخــذ مدينــة " )أم‬
‫‪!! (32 :16‬‬
‫لعـــل أبـــرز هـــذه الشخصـــيات فـــي الكتـــاب‬
‫المقــدس‪ :‬هـو فرعــون ملــك مصـر‪ ،‬الـذي صـار‬
‫اسمه يُطلــق كلقــب كراهيــة علــى المســتبدين‪،‬‬
‫فما هي قصــته ؟ كــان فرعــون ملك ـًا‪ ،‬لكنــه مســتبد‪،‬‬
‫ولذلك أذل شــعب إســرائيل واســتعبدهم أشــد اســتعباد!‬
‫ولنه كان شريرا ً " أسلمه الله إلى شــهوات قلبــه"‬
‫)رو ‪ (24 :1‬فتركه لقساوة قلبه حتى إنه لم ينثنِ‪ ،‬ولم‬
‫يلن عن عناده رغم كل مــا حــل بــه مــن ضــربات‪ ،‬فكلنــا‬
‫نعرف الضربات العشر‪ ،‬التي أصــابته وكــل شــعبه عقابـا ً‬
‫على خطاياه وقســاوة قلبــه )خــر ‪ (7‬فلمــا جــاء الــوقت‬
‫المحدد من قبل الله لخروج شعب إســرائيل مــن مصــر‪،‬‬
‫شــعر فرعــون أن مئات اللــوف الــذين يســتعبدهم فــي‬
‫طريقهم للحرية والخــروج مــن ســجن العبوديــة‪ ،‬فماذا‬
‫ل يجري وراءهم ومعه ستمائة مركبــة ليلحــق‬ ‫فعل ؟ ظ ّ‬
‫بهم‪ ،‬فإلى أى مكان قادته مركباته وفرسانه ؟ إلى عمق‬
‫البحر الحمر ليمت هو وجنوده وفرسانه عقابا ً لهم علــى‬
‫قسوتهم وإذللهم للبشر )خر ‪! (14‬‬
‫ممممم مم ممممم مم ممم ممممم ممممم ممممم‬
‫مممم مم‬
‫ممممم م مممم ممم مممم ممممم ممممممم‬
‫ممممممم مممم‬
‫مممممم مممممم ممممممممم ممم ممم مممم‬
‫ممممم ممممممممم‬

‫‪122‬‬

‫‪88‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫مممم مممم مممممم ممم ممم ممممم ممم‬
‫ممممم ممممممم !‬
‫ولعل أسوء ما كان في فرعون‪ ،‬ليس اســتبداده ببنــي‬
‫إسرائيل فقط‪ ،‬بــل محــاولته تأليه نفســه ! الــتي هــي‬
‫صورة من صور الستبداد‪ ،‬بل أسوأ صوره ! فهــل هنــاك‬
‫أشد ظلما ً وقسـوة مـن إجبـار البشـرعلى تــرك خـالقهم‬
‫ليعبــدوا إنســانا ً ضــعيفا ً مثلهــم مصــيره الفنــاء ! فمــن‬
‫المعروف أن عبادة الحاكم مصــدرها الشــرق‪ ،‬فقــد‬
‫انتشــرت فــي مصــر وبابــل وإيــران‪ ،‬حــتى إن الســكندر‬
‫الكبر عندما جاء إلى مصــر عبــدوه كــإله‪ ،‬ولهــذا بعــد أن‬
‫غزا الشرق طلب من اليونانيين أن يسجدوا له كما سجد‬
‫ج ـرح فــى‬‫له الفرس ! ومن العجيب أن السكندر عندما ُ‬
‫يده تعجب أن دمه ينزف مثل باقى البشــر! ومــن‬
‫هنــا وبمــرور الزمــن أصــبح النــاس يعتقــدون أن طبيعــة‬
‫الملوك غير طبيعتهم! هكذا تصور القــدماء الحــاكم كــأنه‬
‫من طبيعة إلهية! أو أيــة طبيعــة ُأخرىولكنهــا ليســت بــأي‬
‫شكل من الشكال طبيعة بشرية! فهو علــى الرض إمــا‬
‫إله أو ابن إلــه ! أو يحكــم بتفــويض مباشــر مــن‬
‫أحد اللهة ! فهــو إذن يســمو علــى الطبيعــة البشــرية‪،‬‬
‫وبالتــالي تســمو إرادتــه علــى إرادة الشــعب ! ول بــديل‬
‫لرضائه إل بالطاعة المطلقة‪ ،‬أعنى" الطاعة العميــاء‬
‫" وهــي بحــق عميــاء ل تــرى‪ ،‬لنهــا لــو كــانت تــرى‬
‫لستطاعت أن تميز بين البشــر الضــعفاء واللــه الــذي ل‬
‫يضعف أو يموت !!‬
‫هــا هــو أفلطــون الفيلســوف يحــاول فــي كتــاب‬
‫المشـــهور " الجمهوريــة " ومـــن خلل ُأســـطورة أو‬
‫‪123‬‬
‫ُأكذوبة كما يسميها ! إقنــاع الحكــام بــأنهم ينتمــون‬
‫لطبقة أســمى مــن طبقــة الشــعب‪ ،‬وأنهــم ولــدوا‬
‫ليكونوا حكامًا‪ ،‬والهم من ذلك أن يقنع باقي المــواطنين‬
‫بأنهم ولدوا ليكونوا محكومين‪ ،‬وأن هذه الفروق الطبقية‬
‫جــزء مــن نظام إلهــي‪ ،‬وبشــيء مــن الخجــل يــتراجع‬
‫أفلطــون لخــوفه مــن عــدم تصــديق ُأكــذوبته‪ ،‬فيعــرض‬
‫سقراط ُأسطورته البارعة فيقــول‪ :‬ســأقول لهــم إنكــم‬
‫جميعا ً ُأخوة‪ ،‬غير أن الله الذي خلقكم‪ ،‬قــد مــزج تركيــب‬
‫أولئك الذين يستطيعون الحكم منكم بالذهب‪ ،‬لهــذا كــان‬
‫هــؤلء أنفســكم‪ ،‬ثــم مــزج تركيــب الحــراس بالفضــة‪،‬‬
‫وتركيب الفلحين والصناع بالحديــد والنحــاس‪ ..‬إن هنــاك‬
‫نبوة تقول‪:‬‬
‫مم مممممم مممم مم ممممم مممممم ممممممم!!‬
‫هذه الفكرة لعبت دورا ً هاما ً في التاريخ‪ ،‬وقامت عليها‬
‫السلطة في معظم الحضارات القديمة ! فالحــاكم يتخــذ‬
‫لنفســه صــفات قدســية يشــارك بهــا اللــه ! وهــي نفــس‬
‫الصــفات الــتي يتخــذها المســتبدون ليُرهبــوا النــاس‪،‬‬
‫ويجبروهم على الخضوع ! ولكن هذه الصفات قــد تكــون‬
‫واضــحة يعلنهــا الحــاكم‪ ،‬وقــد تكــون مســتترة‪ ،‬وإن كــان‬
‫مضمونها ظاهرا ً من خلل سلوكه فهو على أقل تقــدير‪:‬‬
‫يتعــالى علــى الجميــع‪ ،‬يعتــد برأيــه‪ ،‬ل ينصــت ول يســتمع‬
‫لمشورة أحد‪ ،‬أوامره ل تُناقش‪ ،‬يرغــب أن يُطــاع طاعــة‬
‫عمياء‪...‬‬
‫حـب أحــدًا‪ ،‬وهــل‬ ‫ومما ل شك فيه أن المســتبد ل يُ ِ‬
‫يمكن لمن يكره نفسه أن يحب الخرين ؟! ولعل‬

‫‪124‬‬

‫‪09-‬‬ ‫‪-‬‬
‫حــب أحــدا ً ل‬
‫أعظم دليل على هذا هــو قســوته‪ ،‬فالــذي يُ ِ‬
‫يقسو عليه أو يستعبده‪..‬‬
‫ويتحدث أرســطو عــن هــذه الســمة فيؤكــد‪ ،‬إن مــن ل‬
‫ُيحِب ذاته ل يمكن له أن يُحِب أو يُصادق أحدا ً‪ ،‬فالشــرير‬
‫ل يجد في نفســه أى شـيء صـالح‪ ،‬يمكــن أن يــثير لـديه‬
‫عاطفة الصداقة أو المحبة ! أما البار الــذي تــدرب علــى‬
‫حــب‪ ،‬ل القربــاء فقــط بــل‬ ‫حب نفسه فإنه يعرف كيف ي ُ ِ‬
‫والعــداء أيضــا ً ! ويبقــى الســؤال‪ :‬مــاهو المفهــوم‬
‫الحقيقــي لحــب الــذات ؟ هــل تلبيــة شــهواتها‬
‫وتحقيق رغباتها حتى وإن كانت غير صالحة؟!‬
‫إن حب الذات الحقيقي هو إشباع النفس بالفضيلة‪ ،‬أو‬
‫بمعنــى آخـر هــو إشــباع الجــانب الروحــي فـى النسـان‪،‬‬
‫وليس الجسدي كما يعتقد البعض ! وكل من يُحِب نفسه‬
‫بهذا المفهوم‪ُ ،‬يقدم على أعمال المحبة بكل فــرح‪ ،‬وهــو‬
‫بــذلك يقــود نفســه إلــى الســتقرار النفســي والســلم‬
‫الروحي‪..‬‬
‫ويرى أرسطو إن النسان المُحِِب لذاته هو من يخضــع‬
‫لعقله ويضبط نفسه‪ ،‬ويتحكم فــي أهــوائه‪ ،‬أما المحبــة‬
‫الخــــاطئة للنفــــس فهــــي تلبيــــة شــــهواتها‬
‫والسـتجابة لنـداء لـذاتها‪ ،‬وهــذا المفهــوم الخــاطئ‬
‫رفضه السيد المسيح عندما قــال‪ " :‬مــن يُحِـب نفســه‬
‫ُيهلكها ومن يُبغض نفســه فــي هــذا العــالم يحفظهــا إلــى‬
‫حياة أبدية " )يو ‪ (25 :12‬فماذا كان يقصد بهلك النفس‬
‫؟ أعتقد مقاومة رغباتها وقمع شهواتها التي تفصلها عــن‬
‫خالقها‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫مم ممم ممم ممممممم مممممممم ممممم ممممم‬
‫ممممممم‬
‫مممم م ممم ممم مم ممممم مممممم ممم مم‬
‫ممم مم‬ ‫م‬
‫مممم ممممم مم مممم مممممم ممممممم‬ ‫مممم م‬
‫ممممممم م!‬
‫يجــــب أول ً أن نفــــرق بيــــن الشــــخص الســـادي‬
‫والبلطجي‪ ،‬الذي يفرض سيطرته على الناس من أجل‬
‫ابتزازهم‪ ،‬فهدف البلطجي هو البتزاز‪ ،‬والعنف ما هــو إل‬
‫وســيلة لتخويــف النــاس حــتى يــدفعوا لــه‪ ،‬أى أن هــدفه‬
‫النهــائي هــو الحصــول علــى المــال والممتلكــات‪ ..‬أمــا‬
‫السـادي فـالمر مختلــف فهــو يحتــاج نفســيا ً إلـى علقـة‬
‫يكــون هــو فيهــا الجــانب القــوى‪ ،‬المســيطر‪ ،‬المــر وأن‬
‫يكون الطرف الخر هو الضعيف الذليل‪ ،‬الخاضــع‪ ..‬وهــذا‬
‫لن يتحقق إل بالتهديد والعتداء على الخريــن‪ ..‬فالهــدف‬
‫الساسي للسـادي‪ ،‬هـو تحقيــق سـيطرته المطلقـة بأيــة‬
‫وسيلة حتى يخضع له الخرون‪ ،‬ولهذا يحرص في علقتــه‬
‫أن يكــون النــاس فــي حاجــة مســتمرة لــه‪ ،‬كــأن يكــون‬
‫مصــدر رزقهــم‪ ،‬أو يعــرف أشــياء عنهــم‪ ..‬لــو أعلنهــا‬
‫تفضحهم‪ ،‬وتقضي عليهم وعلى سمعتهم !‬
‫وهــو دائم ـا ً يعامــل بقسوة متناهيــة مــن يقعــون‬
‫تحت سلطانه‪ ،‬ويتحين الفرصة لهانتهم والتقليــل مــن‬
‫شأنهم‪ ،‬ولهذا كثيرا ً ما يتعمد إهانة شــخص ضــعيف أمــام‬
‫مجموعة من الناس‪ ،‬ويكون متأكدا ً أن هذا الشــخص لــن‬
‫يتمكن من الدفاع عن نفسه‪ ،‬لعجزه أو لحتياجه الشــديد‬
‫إليه ! فالطبيب إذا كان ساديا ً فإنه يتلــذذ بالقســوة علــى‬
‫‪126‬‬
‫مريضه ! وكذلك يفعل المدرس مع تلميذه‪ ،‬والسجان مع‬
‫سجينه‪ !..‬إنها القسوة المتعمدة واليذاء بدون وجه حــق‪،‬‬
‫لنسان فى موقف ضعف أو عجز أو احتياج !‬
‫ويتلـــذذ الســـادى بمشـــاهدة الخريـــن وهـــم‬
‫يتألمون‪ ،‬سواء جسديا ً أو معنويا ً ! فهــذا يحقــق لــه‬
‫قــدرا ً مــن المتعــة والراحــة النفســية بمــا فــى ذلــك ألــم‬
‫الحيوانات‪ ،‬فهو ينتشى إذا رأى طيرا ً ُيذبح أو وحشا ً ُيقتل‬
‫! كما أنه يلجأ الى الكــذب ونشــر الشــاعات‪ ..‬مــن أجــل‬
‫إيذاء الناس واليقاع بهم ! وهــو يطلــب مــن الخريــن أن‬
‫يطيعوه طاعة عمياء‪ ،‬ووسيلته فى هذا إرهابهم‪ ،‬ويرفض‬
‫أية معارضة أو رأى مخــالف‪ ،‬ويستشــيط غضــبا ً إلــى حــد‬
‫العنف غير المحدود للطاحة بمن يختلف معهم‪.‬‬
‫كما أنه يتلذذ بتقييد حريــة الخريــن والتحكــم المطلــق‬
‫فى كل تحركاتهم بــل ومصــائرهم‪ ،‬ســواء كــان الخــرون‬
‫أبنــاءه‪ ،‬أو زوجتــه‪ ،‬أو المرؤوســين الــذين يعملــون تحــت‬
‫إدارته‪ ،‬ويتلذذ بالكثر وهو يراهم يتألمون لحرمــانهم مــن‬
‫حقوقهم‪ ،‬ويتسرب السرور إلى قلبه حين يسمع بمعانات‬
‫الناس من ظلم‪ ،‬أو مجاعة‪ ..‬أمــا قســوة وعــداوة وعنــف‬
‫الشخص السادى‪ ،‬فهى تتشكل حسب درجــة تعلمــه‬
‫وثقافته ونشأته‪ ،‬فالستاذ الجامعى ل يبطش بتلميذه‬
‫عن طريق الضرب‪ ،‬كما يفعل الحرفيين بصبيانهم‪ ،‬ولكن‬
‫بــأن يجعــل الدراســة صــعبة‪ ،‬وتكــون سـعادته فــى رهبــة‬
‫التلميذ منه‪ ،‬ونظرات الخوف فى عيونهم‪ ،‬والبــؤس فــى‬
‫وجــوههم وهــم يرســبون فــى المتحانــات! والمــدير ل‬
‫يستطيع هو الخر ضرب مــوظفيه‪ ،‬ولكنــه يجعلهــم تحــت‬
‫التهديد المستمر بفقدان الوظيفة‪ ،‬أو بكتابة تقرير ســيئ‬
‫‪127‬‬

‫‪29‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫يؤدى الى عقابهم أو فصلهم من العمل‪ !..‬وهو بهــذا ُيعــد‬
‫مصــدر متــاعب للخريــن‪ ،‬علــى الرغــم مــن أن داخلــه‬
‫ضعيف‪ ،‬خائف‪ ،‬فاشل‪ ،‬عاجز‪ ..‬ولكن ماذا نقول لو تــولى‬
‫مثل هذا سلطة ؟! إن مبدأ السادي يتلخص في التــي‬
‫‪:‬‬
‫‪ +‬طالما استطعت أن أضرب فلن‬
‫يضربني أحد‪.‬‬
‫‪ +‬طالما جعلتك تفشل في الحياة فلن‬
‫أفشل أنا ‪.‬‬
‫‪ +‬طالما فصلتك من عملك فلن أفقد‬
‫عملي أنا ‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫ممممم مممممم‬
‫مممممم مممممممممم‬
‫ما من أحد قرأ في تاريخ البشرية‪ ،‬إل ووجد صفحات‬
‫كثيرة مليئة بالظلم‪ ،‬يصل بعضها إلى حد عدم‬
‫التصديق‪ ،‬فصفحات تاريخ البشر مكتوبة بدماء الذل‬
‫والعبودية‪ ،‬دماء الستبداد والطغيان والدكتاتورية‪ ،‬فمنذ‬
‫آلف السنين‪ ،‬بل منذ أن وجد النسان على الرض وهو‬
‫يعاني من ظلم أخيه ! وقد ظهرت هذه الصورة البشعة‬
‫في بداية تكوين الجنس البشري‪ ،‬عندما قام قايين‬
‫على أخيه البار هابيل وقتله غـدرا ً وحسدا ً )تك ‪(8 :4‬‬
‫ومنذ ذلك الوقت أصبحت حياة البشر‪ ،‬كما لو كانت‬
‫سلسلة حلقاتها من الكبت واللم والذل والعبودية‪...‬‬
‫منذ القدم والنسان يعاني‪ ،‬ومنذ القدم وهو يقاوم‬
‫قدر المستطاع المستبدين‪ ،‬محاول ً النتصار لكي تصبح‬
‫لحياته معنى ولوجوده هدف‪ ،‬حتى يتعبد‪ ،‬يقرأ‪ ،‬يكتب‪،‬‬
‫يقول كلمة الحق بل خوف أو تردد‪ ..‬فالحياة ل تستقيم‬
‫في عبد ذليل مكبوت‪ ،‬جسده منهك على الدوام‪ ،‬وعقله‬
‫غير قادر أن يميز الخطأ من الصواب !‬
‫وعلى الرغم من أن النبياء قد جاءوا يحملون رسالة‪،‬‬
‫تدعوا إلى المحبة والعطاء وبذل النفس‪ ..‬لقد جالوا في‬
‫الرض مبشرين‪ ،‬ليزرعوا العدل والمساواة والحرية‪ ،‬بين‬
‫الناس لكن كثيرين أهملوا البذار المقدسة ولكن هل‬
‫ماتت الكلمة ؟ بالطبع ل‪ ،‬بل مات الخطاة وظلت كلمة‬
‫الله حية‪ ،‬إلى أن جاء ملء الزمان وخرج الزارع‬
‫‪129‬‬

‫‪49‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫الحقيقي رب المجد يسوع‪ ،‬تاركا ً مجده‪ ،‬آخذا ً صورة‬
‫عبد‪ ،‬ليلقي بذاره‪ ،‬أى تعاليمه المقدسة على قلوب‬
‫البشر من جديد‪ ،‬لعلهم يرونها بماء التوبة ويسمدونها‬
‫بأعمالهم الحسنة‪ ،‬لتأتي بثمار‪ ..‬ولكن كما حدث مع‬
‫النبياء‪ ،‬هكذا أيضا ً حدث مع المسيح‪ ،‬قلة قبلوا الكلمة‪،‬‬
‫وكثرة هم من رفضوها‪ ..‬ليبقَ الظلم رغم كل ما عمله‬
‫الله قائمًا‪ ،‬كأنه سر من أسرار الوجود قد ُأغلق عليه‬
‫باب الفهم والتفسير !! ول زالت الدكتاتورية قائمة‪،‬‬
‫والستبداد كما هو موجود‪ ،‬وإن اختلفت الشكال‬
‫والساليب‪ ،‬وإل فلماذا انتشرت أمراض العصر‪ :‬كالخوف‬
‫والكبت والقلق‪ ...‬بين المليين ؟! أليس لنهم غير‬
‫قادرين على النقد والمطالبة بحقوقهم ! أليس لنهم‬
‫خائفون بل مرتعبون‪ ،‬من قسوة وبطش وظلم أسياد‬
‫الرض عاجزون التعبير عن أنفسهم !!‬
‫نعترف بأن الصفحات الدامية‪ ،‬القائمة على القسوة‬
‫والعنف والنهب‪ ..‬في تاريخ النسان‪ ،‬أكثر من الصفحات‬
‫المشرقة‪ ،‬القائمة على العدل والمساوة والحرية‪..‬‬
‫وليزال النسان حتى يومنا هذا يكافح‪ ،‬حتى يتخلص من‬
‫الظلم الذي ينشر ظلله في شتى بقاع الرض‪ ،‬ويمل‬
‫القلب النساني بالحزان في كل مكان‪ ،‬ولكن كلمة حق‬
‫يجب أن نقولها من أجل العدل الذي نتحدث عنه أل‬
‫وهي ‪:‬‬
‫إن كان العالم كله قد ساده الستبداد في فترة من‬
‫الفترات‪ ،‬إل أن نصيب الشرق من الستبداد‪ ،‬كـان‬
‫أكـبر وأطول من أية بقعة ُأخرى على الرض‪ ،‬حتى‬
‫أصبحت لفظتا الشرق والستبداد‪ ،‬متجاورتين في‬
‫‪130‬‬
‫معظم الكتب التي تناولت موضوع الستبداد‪،‬‬
‫وقد أكد هذا أرسطو عندما وصف الشرقيين بأنهم‬
‫ولدوا بطبيعتهم عبيدا ً‪ ،‬وها هو " هيجل "‬
‫الفيلسوف اللماني‪ ،‬يصف الصينين بأنهم قد‬
‫خلقوا ليجروا عربة المبراطور!‬ ‫ُ‬
‫صحيح أن أمما ً كثيرة حكمها طغاة ومستبدون منذ‬
‫أقدم العصور‪ ،‬كما هو الحال في اليونان القديمة‪ ،‬حتى‬
‫صار هناك عصر أطلق عليه المؤرخون اسم " عصر‬
‫طغاة اليونان " ويؤرخون له منذ اعتلء كبسيليوس‬
‫‪ Kypselus‬طـاغية كورنثه الشهير عام )‪ 650‬ق‪ .‬م (‬
‫وينتهي بطرد أبناء الطاغية بيزستراتوس ‪Pesistratus‬‬
‫من أثينا عام )‪ 510‬ق‪ .‬م ( أى ما يقرب من نصف قرن‪،‬‬
‫وقعت فيها المدن اليونانية تحت سيطرة مجموعة من‬
‫الطغاة‪ ،‬غير أن من يدقق في التاريخ‪ ،‬يجد أن نظام‬
‫الحكم المطلق في الشرق‪ :‬أطول سنينًا‪ ،‬وأكثر شمو ً‬
‫ل‪،‬‬
‫وأشد ظلما ً‪ ...‬من نظيره في الغرب !‬
‫هذه الظاهرة الشاذة‪ ،‬المؤلمة والمدمرة‪ ،‬أدت إلى‬
‫ظهور مجموعة متنوعة من النظريات والراء‪ ..‬التي‬
‫تفسر لنا ظاهرة الطغيان أو الستبداد بصفة عامة‪،‬‬
‫والطغيان الشرقي بصفة خاصة‪ ،‬من منظور فلسفي‬
‫كما هو الحال في نظرية أرسطو‪ ،‬وبعضها من‬
‫ً‬
‫منظوراقتصادي كما اعتقد فيتفوجل‪ ،‬وأخيرا كانت‬
‫نظرية التحليل النفسي‪ ،‬التي ردت الطغيان إلى تلك‬
‫العلقة السادومازوخية‪.‬‬
‫ممممممم ممم مممممممم مممممم ممممممم ‪:‬‬

‫‪131‬‬
‫ممممم ممممم‬
‫أما أقدم نظرية تفسر لنا السباب التي جعلت بعض‬
‫الحكام في الشرق‪ ،‬يبتلعون كل شيء دون أدنى مقاومة‬
‫من أحد‪ ،‬بل استسلم عجيب من الجميع هي نظرية‬
‫أرسطو‪ ،‬التى ترجع إلى القرن الثالث قبل الميلد‪.‬‬
‫فقد اعتقد فيلسوف اليونان‪ ،‬إن هناك أُناسا ً‬
‫خلقوا‬‫مهيئين بطبيعتهم لن يكونوا عبيدا ً‪ ،‬فقد ُ‬
‫لخدمة غيرهم‪ ،‬فالتفرقة بين الدنى والعلى موجودة‬
‫في الطبيعة وفي جميع الشياء‪ ،‬ومن الفضل ‪ -‬كما يرى‬
‫‪ -‬أرسطو أن يحكم الجانب العلى ويخضع الدنى‪ ،‬ومن‬
‫هنا فإننا نجد أن بعض الناس هم بطبيعتهم سادة‬
‫وبعضهم عبيد‪ ،‬فالستعباد بالنسبة لهؤلء نافع بقدر ما‬
‫هو عادل‪!!..‬‬
‫وينتهي أرسطو من ذلك إلى الحكم‪ ،‬على بعض‬
‫الجناس بأنهم عبيد‪ ،‬والبعض الخر أحرار بالطبع‪ ،‬وقد‬
‫جعل من اليونانيين السادة الحرار‪ ،‬فهم ل يجوز‬
‫استعبادهم‪ ،‬لنهم ورثوا الروح العالية والشجاعة‪ ،‬أما‬
‫الشرقيون فهم بطبيعتهم عبيد‪ ،‬من هنا نجد أرسطو‬
‫ينصح تلميذه السكندر الكبر في أحد رسائله‪ ،‬بمعاملة‬
‫اليونانيين معاملة القائد‪ ،‬أما الشرقيون فيعاملهم معاملة‬
‫السيد لعبيده !!‬
‫يقول أرسطو‬
‫" يتمثل الطغيان بمعناه الدقيق في الطغيان‬
‫الشرقي‪ ،‬حيث نجد لدى الشعوب السيوية‪ ،‬على خلف‬

‫‪132‬‬

‫‪69‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫الشعوب الوربية‪ ،‬طبيعة العبيد‪ ،‬وهي لهذا تحتمل حكم‬
‫الطغاة بغير شكوى أو تذمر" !‬
‫أما أرسطو فقد كانت نظريته عنصرية‪ ،‬لن نظرية‬
‫الستعلء كانت جزءا ً من التفكير الفلسفي عند اليونان‪،‬‬
‫فهم وحدهم القادرون على خلق الحضارة والستمتاع‬
‫بالحرية‪ ،‬والحريصون على القيم النسانية والمُثل العليا‪،‬‬
‫وهم السادة وبقية الشعوب برابرة وهمج وعبيد‪!..‬‬
‫ونحن ل ننكر أنه من الضروري لبقاء المجتمع‪ ،‬وجود‬
‫درجات متفاوتة في المراكز والثروات والذكاء‬
‫والقدرات‪ ..‬فطبيعة المور تتطلب وجود بعض الخدم‬
‫والحرفيين والمزارعين‪ ..‬لخدمة الطبقات العلى‪ ،‬كما‬
‫أن الحياة الجتماعية يتوقف بقاؤها على اختلط الناس‬
‫بعضهم ببعض‪ ،‬وهذا الختلط أو هذا المتزاج ينمو ويزداد‬
‫بالعتماد المتبادل من الواحد على الخر‪ ،‬فالغني يعتمد‬
‫على الفقير من أجل العمل‪ ،‬والفقير يعتمد على الغني‬
‫لنيل معاشه‪ ،‬فلو أصبح كل الناس أغنياء لمات الجميع‬
‫من الجوع‪ ،‬لنهم ل يجدون من يحرث ويزرع ويحصد‬
‫الرض‪ ..‬نستطيع أن نقول‪:‬‬
‫مم ممممممم مم ممممم مممم مممممم‬
‫ممممم !‬
‫ولكن هل الختلف في المواهب والمراكز يتنافى مع‬
‫البساطة ؟! هل التفاوت في الغنى يتنافى مع العدل‬
‫والحترام والمحبة والرحمة ؟! هل التفاوت يشترط‬
‫وجود أسياد وعبيد‪ ،‬أُناس يملكون كل شيء ولهم الحق‬
‫في كل شيء‪ ،‬وأُناس ل يملكون مواهبهم ؟! إن كل ما‬

‫‪133‬‬
‫نأمله هو‪ :‬تساوي الكرامات ل الوظائف‬
‫والمواهب والقدرات‪! ...‬‬
‫ولم تبعد نظرية مونتسيكيو )‪1755 -1689‬م( عن‬
‫ذلك كثيرًا‪ ،‬فقد نادى المفكر الفرنسي‪ ،‬بأن الستبداد‬
‫نظام طبيعي بالنسبة للشرق‪ ،‬ولكنه غريب وخطر على‬
‫الغرب !‬
‫أما الفيلسوف اللماني هيجل )‪1831 -1770‬م(‬
‫فيعتقد أن الطغيان في الشرق‪ ،‬يرجع إلى أن الشرقيين‬
‫لم يتوصلوا بعد إلى معرفة أن النسان حر‪ ،‬وكل ما‬
‫عرفوه أن شخصا ً معينا ً حر أل وهو‪ :‬الحاكم الطاغية !‬
‫أما بقية الشعب عبيد له‪ ،‬فالعبودية في الشرق ترجع‬
‫إلى انعدام الوعي الذاتي‪ ..‬يقول هيجل ‪:‬‬
‫" إن الشعب في الصين ليس لديه عن نفسه إل أسوأ‬
‫المشاعر‪ ،‬فهو لم يُخلق إل ليجر عربة المبراطور‪ ،‬وهذا‬
‫هو قدره المحتوم‪ ،‬وسلوكهم اليومي يدل على ضآلة‬
‫الحترام الذي يكنونه لنفسهم كأفراد وبشر" !‬

‫ممممم ممممممم‬
‫عكف المفكر المريكي الجنسية ‪ ،‬اللماني الصل ‪،‬‬
‫كارل فيتفوجل ‪Karl Wittfogel ( 1896- 1988‬م ( على‬
‫دراسة بلدان الشرق ونظمها السياسية والقتصادية‪،‬‬
‫وفي عام )‪1957‬م( أصدر كتابا ً ضخما ً في مجلدين‪،‬‬
‫قضى في إعداده نحو ما يقرب من ثلثين عامًا‪ ،‬وعنوان‬
‫الكتاب " الستبداد الشرقي‪ :‬دراسة مقارنة‬
‫للسلطة المطلقة "‪ ،‬فيه يُبرز دور العوامل‬
‫القتصادية في نشأة الطغيان‪.‬‬
‫‪134‬‬

‫‪89‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫يرى فيتفوجل أن هناك علقة قوية بين‬
‫الستبداد الشرقي ووجود النهر‪ ،‬ففي المجتمعات‬
‫الشرقية التي تعتمد على النهر في الزراعة‪ ،‬تكون‬
‫الحكومة هي أعظم مالك للرض‪ ،‬ولهذا فهي تحتاج إلى‬
‫قيام سلطة مركزية استبدادية‪ ،‬وذلك لشق الترع‬
‫والقنوات وإقامة السدود‪ ..‬وهذه المهام كلها ل تتحقق‬
‫بالجهد الفردي‪ ،‬بينما ل غنى عنها للنتاج الزراعي‪ ،‬ومن‬
‫ثم لبد من وجود عمل جماعي تحكمه قوة استبدادية‪،‬‬
‫تحولت إلى ما نسميه " الطغيان الشرقي "‪.‬‬
‫ويعتقد فيتفوجل أن السلطة المطلقة التي‬
‫يمارسها الحاكم على رعاياه مكنت حكام بابل‬
‫والعراق ومصر‪ ،‬من بناء مقابر ومعابد وقصور ضخمة‬
‫وآثار هائلة ل تزال باقية حتى الن‪ ،‬وهي لم يكن ممكنا ً‬
‫إقامتها إل بالسخرة والسيطرة التامة‪ ،‬على أعداد هائلة‬
‫من اليدي العاملة‪ ،‬كما أن هذه السلطة المطلقة‪ ،‬هي‬
‫التي مكنت الحاكم من أن يكون إلها ً على الرض‪ ،‬فكلنا‬
‫نعرف أن الفرعون كان ُيعبد كإله في مصر‪ ،‬وعندما جاء‬
‫السكندر الكبر إلى مصر عبدوه كإله !‬
‫لكن ما الذي يحدث للفرد إذا تطلع إلى الستقلل‬
‫الذاتي في ظل هذه السلطة المطلقة ؟ يجيب‬
‫فيتفوجل‪ :‬بأن السلطة المطلقة التي يمارسها‬
‫الطغيان الشرقي‪ ،‬ل تتحمل وجود قوى أخرى بجوارها‪،‬‬
‫كما أنها تنجح على المستوى السيكولوجي في إحباط‬
‫رغبة الفرد في العمل السياسي المستقل‪.‬‬
‫كما أن الحكومات في المجتمعات الشرقية تعتمد‬
‫على مبدأ التخويف‪ ،‬ومن هنا فإن الطغيان الشرقي‬
‫‪135‬‬
‫اضطرأن يحكم معتمدا ً على العقاب تحت ستار" إن‬
‫البرياء من البشر قلة " ! ولهذا نظرت المجتمعات‬
‫الشرقية إلى العقاب‪ ،‬على أنه الوسيلة الجوهرية‬
‫الوحيدة لنجاح الدولة في إدارة شئونها‪.‬‬
‫وهكذا نجد أن شريعة " مانـو" الهندوسية تقر‬
‫العقاب وبث الرعب‪ ،‬باعتبارهما الساس للسلم‬
‫والنظام الداخلي ! ويبقى السؤال الحائر بل إجابة‪ :‬لماذا‬
‫ل‪ ،‬قد يكون مريضا ً‬‫ُيعاقب إنسان لجرم مجرما ً فاش ً‬
‫جسديا ً أو ممزقا نفسيا ً ؟! كيف يُعاقب البرار من أجل‬
‫الشرار‪ ،‬أو الطهار من أجل الزناة ؟!‬
‫وينتقل فيتفوجل إلى الحديث عن السلطة المقدسة‪،‬‬
‫التي أضفاها طغاة الشرق على أنفسهم حتى ل يخضعوا‬
‫لمساءلة الناس‪ ،‬وفي نفس الوقت يكون لهم القدرة‬
‫على معاقبتهم‪..‬غير أن هذه العقوبات لم تكن أدبية أو‬
‫أخلقية‪ ،‬تخاطب ضمير الفرد‪ ،‬بل كانت جسدية مثل‪:‬‬
‫الجلد والضرب بالسياط أو العصي‪ ..‬ففي مصر القديمة‬
‫ُتظهر السجلت أن الموكلين للشراف على‬
‫المشروعات العامة‪ ،‬كانوا يسيرون والعصي في أيديهم‪،‬‬
‫ومن ل يدفع الضرائب كان ُيضرب ويُقيد ويُلقى في‬
‫القناة‪.‬‬
‫ومن الطبيعي أن تؤدي الخصائص السابقة بالفرد إلى‬
‫العزلة‪ ،‬وهي عزلة فردية يخلقها الخوف والرعب اللذين‬
‫يعيش فيهما‪ ،‬ففي ظل الستبداد ل يجد الفرد أمامه‪،‬‬
‫سوى الخضوع المطلق كرد فعل حذر ووحيد ‪ ،‬وذلك‬
‫بالطبع يؤدي إلى كارثة أخلقية‪ ،‬حيث تنتشر مجموعات‬

‫‪136‬‬

‫‪001‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫يصعب‬
‫ُ‬ ‫كبيرة من الرذائل‪ ..‬والمراض النفسية التي قد‬
‫علجها !‬
‫تلك هي بعض السمات العامة لنظرية فيتفوجل عن‬
‫جع أسبابه إلى التحكم في‬ ‫الطغيان الشرقي‪ ،‬والتي تُر ّ‬
‫مياه النهر‪ ،‬وما يستتبعه من أعمال جماعية تتطلب وجود‬
‫سخرة‪ ،‬والسخرة بدورها تتطلب بث الرعب والذعر بين‬
‫الناس‪ ،‬لرغامهم على الطاعة المطلقة ومعاقبة العصاة‬
‫ملح لمن يقرأ هذه النظرية‪:‬‬ ‫منهم‪ ،‬إل أن السؤال ال ُ‬
‫لماذا تكون الحكومة المركزية استبدادية‬
‫بالضرورة ؟!‬
‫أل يمكن أن تكون هناك حكومة مركزية ديمقراطية‪،‬‬
‫تتحكم في النهر وتقوم بجميع المهام المطلوبة‪ ،‬عن‬
‫طريق التعاون ل السخرة ؟ وهل صحيح أن جميع النهار‬
‫في العالم‪ ،‬التي تعتمد عليها زراعة الرض في الدول‬
‫الزراعية‪ ،‬أدت إلى ظهور حكومات طاغية ؟!‬

‫ممممممم ممممممممممممم‬
‫يُعبر هذا المصطلح عن العلقة الوثيقة‪ ،‬التي تربط‬
‫بين الشخصية السادية أى المسيطرة أو المتحكمة‪،‬‬
‫لخرى‬ ‫التي تتلذذ بأن توقع اللم بالخرين! وا ُ‬
‫المازوخية‪ ،‬التي هي عكسها تتقّبل اللم بل وتستمتع‬
‫به!‬
‫وينسب مصطلح السادية ‪ Sadism‬إلى المركيز‬
‫الفرنسي دي ساد ‪Desade (1740 - 1814‬م( الذي‬
‫ظهرت نزعته السادية في سلوكه الشاذ‪ ،‬وتجلت بشكل‬
‫صارم في كتاباته المنحرفة‪ ،‬وهذا إنما يعود إلى‬
‫‪137‬‬
‫لمه‪ ،‬فهي التي دفعت به إلى‬ ‫كراهيته الشديدة ُ‬
‫لنثى بصفة عامة‪ ،‬ومهما تكن خلفية‬ ‫النتقام من ا ُ‬
‫طفولته‪ ،‬فلشك أنه كان يتمتع باضطراب وعدم اتزان‪،‬‬
‫كما كان مشهورا ً بشذوذه وجرائمه الجنسية‪ ،‬فقد ألف‬
‫كتابا ً أسماه " الفلسفة في المخدع " صب فيه‬
‫لعناته الصارخة المدمرة على الدين والخلق القديمة‪،‬‬
‫بحجة أنهما يتعارضان مع مجتمع الحرية‪ ،‬ودعا إلى هدم‬
‫الزواج وتحطيم قيوده‪ ،‬وحّرض الرجال والنساء على‬
‫الحرية المطلقة في المتعة الجسدية‪ ،‬ولكن هذا ليس‬
‫بغريب على رجل قضى معظم حياته في سجون باريس‬
‫ودفعت به اضطراباته النفسية إلى دخول مستشفى‬
‫المراض العقلية‪ ،‬حيث أمضى بقية حياته فيها ‪.‬‬
‫أما مصطلح الماشوسية أو المازوخية ‪Masoshism‬‬
‫فهو القطب المضاد للسادية‪ ،‬إذ يعبّر عن حاله الفرد‬
‫الذي يتقبل كل ما يقع عليه من آلم نفسية وجسدية‪،‬‬
‫من شخص آخر دون أى تذمر‪ ،‬بل بالعكس يقبلها فرحا ً‬
‫ومستمتعا ً !!‬
‫ويُنسب هـذا المصطلح إلى الكاتب النمساوي ليبولد‬
‫زاخر مازوخ ‪Lepold Zacher Masoch (1836- 1895‬م(‬
‫الذي كان يعيش مع عمته التي كانت لها علقة برجل‬
‫آخر‪ ،‬فبدافع حب الستطلع اختفى مازوخ وهو ل يزال‬
‫صغيرًا‪ ،‬في دولب الملبس ليشاهد ما يحدث من مناظر‬
‫جنسية‪ ،‬فلما اكُتشف أمره عاقبته عمته بضرب مؤلم‪،‬‬
‫وهكذا يفسر المحللون النفسانيون‪:‬‬
‫مممم مممممم ممم ممممم مممم ممم مممم‬
‫مممم‬
‫‪138‬‬
‫ممم ممممممم ممممممم مممم ممم مممممم‬
‫ممم!‬
‫والحق إن الشخصية المازوخية تُعد لغزا ً ! إذ كيف‬
‫ُيفهم أن هناك ُأناسا ً ل يكتفون بالتقليل من شأن‬
‫أنفسهم أو إضعافها أو إيذائها‪ ..‬وإنما يستمتعون بذلك‬
‫أيضا ً !! من هنا ذهب علماء النفس إلى القول بأنه‪ :‬إذا‬
‫كان هناك ُأناس يسعون إلى الخضوع والستسلم‬
‫والمعاناة‪ ،‬فلبد أن يكون هناك شيء آخر يسعون‬
‫لتحقيقه‪ ،‬أو نقص يحاولون تكميله أو ضعف يريدون‬
‫إشباعه ‪ ،‬فما هو الهدف إذن ؟ هو باختصار‪ :‬الحتماء‬
‫في ظل شخص آخر أقوى حتى تعيش تلك النفس في‬
‫أمان ! أو في ظل سلطة أخرى تغمرها بقوتها ! أو في‬
‫ظل إنسان تنتفع من ورائه بشيء قد يكون ماديا ً أو‬
‫معنويًا‪!..‬‬
‫تلك هي الخصائص العامة للشخصية المازوخية‪ ،‬التي‬
‫ل تجد لنفسها قيمة ول لحياتها معنى‪ ،‬إل من خلل‬
‫شخصية ُأخرى أقوى ُتحيط بها‪ ،‬وتُشعرها بالمان‪ ،‬وتقوم‬
‫نيابة عنها بالمسئولية‪ ،‬فما هي خصائص هذه الشخصية‬
‫القوى‪ ،‬أعني الشخصية السادية أوالمسيطرة ؟‬
‫جميع الشكال السادية التي يمكن أن نلحظها ترجع‬
‫في نهاية المر إلى دافع أساسي أل وهو‪ :‬السيطرة‬
‫الكاملة على الشخص الخر‪ ،‬بأن تجعله عاجزا ً تحت‬
‫مطلق عليه‪ ،‬وتتصرف فيه‬ ‫إرادتها وتُصبح هي الحاكم ال ُ‬
‫كما تشاء‪ ،‬فتذله وتستعبده‪...‬‬

‫‪139‬‬

‫‪201‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ولكن الشيء العجيب هو إن الشخصية السادية‬
‫على الرغم من قوتها وسلطتها‪ ،‬إل أنها تكون دائما ً‬
‫وبصفة مستمرة‪ ،‬في حاجة إلى الشخصية المازوخية‬
‫الضعيفة المستسلمة‪ ،‬التي يمكن أن تجرحها وتهينها‬
‫أمام الخرين‪ ،‬لتشعر أو لُتشعر الخرين بقوتها‬
‫وسلطانها‪ ،‬فهي تعلم جيدا ً أن الشخص المازوخي‪ ،‬ل‬
‫يمكن أن يدافع عن نفسه أو يعترض أو يتفوه بكلمة‬
‫طالما سيده هو المتكلم !! وهكذا يحتاج الشخص‬
‫السادي‪ ،‬الذى هو القوى‪ ،‬إلى الشخص المازوخي‬
‫الضعف بقدر ما يحتاج المازوخي إلى السادي ! والفارق‬
‫بينهما‪ :‬إن أحدهما يبحث عن أمان في شخص يبتلعه‪،‬‬
‫والخر يسعى إلى المان عن طريق ابتلع شخص آخر‪،‬‬
‫لكن في الحالتين يضيع استقلل الذات !!‬
‫تلك كانت مجموعة متنوعة من النظريات‪ ،‬التي‬
‫تفسر لنا الستبداد بصفة عامة‪ ،‬والستبداد الشرقي‬
‫بصفة خاصة‪ :‬بعضها من منظور فلسفي‪ ،‬وآخر من‬
‫منظور اقتصادي‪ ،‬وثالث من منظور نفسى‪ ،‬وقد يجوز‬
‫لنا أن نستبعد نظرية أرسطو التي تقول‪ :‬إن‬
‫الشرقيين ولدوا عبيدًا‪ ،‬ولهذا السبب يتحملون الستبداد‬
‫بغير شكوى أو تذمر! أما نظرية فيتفوجل فقد تكون‬
‫هناك اعتراضات كثيرة عليها‪ ،‬لكن فيها جانبا ً من‬
‫الصواب‪ ،‬إل أن قيمتها وهو الجانب المهم‪ ،‬أنها تبرز‬
‫العوامل القتصادية في نشأة الستبداد‪ ،‬وإن كان ذلك ل‬
‫يمنع بالطبع تضافر العوامل السيكولوجية معها‪ ،‬بحيث‬
‫تتحول العلقة بين الحاكم وشعبه‪ ،‬إلى علقة‬
‫سادومازوخية‪ ،‬فالحاكم يريد ابتلع الشعب والسيطرة‬

‫‪140‬‬
‫عليه والتحكم فيه‪ ،‬والشعب الضعيف‪ ،‬المستسلم ‪،‬‬
‫الخائف‪ ،‬يريد أن يذوب في شخصية الحاكم حتى يحميه‬
‫ويشعره بالمان‪!!..‬‬
‫نستطيع أن نقول ‪ :‬ليس هناك شعوب تعشق‬
‫الحرية‪ ،‬وُأخرى تسعى إلى العبودية‪ ،‬لكن الشرقيين قد‬
‫ألفوا الستبداد من طول معاشرتهم له‪ ،‬حتى أصبح‬
‫لديهم الستعداد‪ ،‬لقبول هذا اللون القاتم من الحكم‬
‫على أنه أمر طبيعي‪ ،‬أو أنه شر مفروض عليهم ل‬
‫يستطيعون التخلص منه !!‬

‫‪141‬‬
‫ممممم مممممم‬
‫ممممم ممممممممم ‪..‬‬
‫مممممم ممممممم‬
‫ل شك أن للمستبد أعوانا ً‪ ،‬ينفّذون أفكاره الشريرة‬
‫وخططه الجهنمية‪ ،‬لكنهم من المرتزقة الشرار‪ ،‬الذين‬
‫بل قيم أو أو سلوكيات حسنة‪ ،‬كما أن للستبداد عائلة‬
‫ذات جذور قديمة‪ ،‬ولها تاريخ يرجع للف السنين‪ ،‬إل أنها‬
‫غير شريفة‪ ،‬ل تعرف سوى القسوة والظلم والذلل‪،‬‬
‫ومنذ أن تكونت عائلة الستبداد‪ ،‬وهي دائما ً وستظل إلى‬
‫البد‪ ،‬موضعا ً للكراهية والخوف لموضعا ً للحب‬
‫والعجاب‪.‬‬
‫أما أفراد عائلة الستبداد فهى كثيرة أبرزها‪:‬‬
‫الطغيان‪ ،‬الدكتاتورية‪ ،‬السلطة المطلقة‪،‬‬
‫ال ُتوقراطية )حكم الفرد الذي يجمع كل شيء في‬
‫يده‪ ،‬بصورة غير مباشرة عن طريق ُأناس تحت‬
‫سلطانه‪ ،‬ول يعملون إل ما يأمرهم به(‪،‬‬
‫والثيئوقراطية )الحكم تحت شعار الدين(‪ ،‬وسوف‬
‫يقتصر حديثنا هنا عن الطغيان‪ ،‬الذي يعد أخطرأفراد‬
‫عائلة الستبداد‪ ،‬أما الدكتاتورية فسوف يأتي الحديث‬
‫عنها في الباب الخاص بالدكتاتور والستبداد قد عّرفناه‬
‫في الفصل الول من هذا الباب‪.‬‬
‫مممممم ممممممم مم ممممممم‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫يعّرف أرسطو الطغيان على أنه‪ :‬اغتصاب‬
‫السلطة‪ ،‬وهي عملية يقوم بها فرد يستخدم الخداع أو‬
‫القوة لكي يقفز إلى الحكم‪ ،‬وكثيرا ً ما يحدث ذلك عن‬
‫طريق استخدام مجموعة من الجنود المرتزقة‪ ،‬ويعتقد‬
‫أرسطو أن حكم الطغاة غير مستقر‪ ،‬وذلك بسبب‬
‫كراهية الشعب الشديدة للحكم التعسفي‪.‬‬
‫والحق إن القسوة التي يستخدمها الطاغية بل مبرر‪،‬‬
‫هي مصدر كراهية الناس له‪ ،‬فكل إنسان في حاجة إلى‬
‫أن يشعر بالمان‪ ،‬وإن قلنا إن العدالة بدون القوة‬
‫عاجزة‪ ،‬فالقوة هي أيضا ً بدون عدالة طاغية‪،‬‬
‫فلبد إذن من وضع العدالة والقوة جنبا ً إلى جنب‪ ،‬بحيث‬
‫نعمل على جعل العادل قويًا‪ ،‬وجعل القوي عاد ً‬
‫ل‪ ،‬كما أن‬
‫السوط يخيف البشر ولكنه ل يغير صفاتهم‪ ،‬وهكذا تظل‬
‫النار مختبئة تحت الرماد حتى تأتي الفرصة لتظهرعلى‬
‫السطح من جديد ‪.‬‬
‫يقول أفلطـون‬
‫" إنك لن تحيل حصانا ً جموحا ً إلى حصان وادع بأن‬
‫تلهب جسمه بالسوط ‪ ،‬ولن تحيل الهمجي إنسانا ً دمثا ً‬
‫بنبذه من المجتمع‪ ،‬فإن يكن المجرم مجنونا ً وجب أن‬
‫ُيعالج من جنونه‪ ،‬وإن يكن جاهل ً وجب أن يعلم‪ ،‬فاقتلع‬
‫الجريمة بالحكمة‪ ،‬لكن حذار أن تصب على المجرم‬
‫سوط عذاب "‪.‬‬
‫وكان أول من استخدم كلمة طاغية تيرانوس‬
‫‪ Tyrannos‬هو الشاعر اليوناني أرخيلوس‪ ،‬الذي عاش‬

‫‪143‬‬

‫‪401‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫في منتصف القرن السابع قبل الميلد‪ ،‬عندما أطلقها‬
‫على الملك جيجز ملك ليديا الذي أطاح بملكها السابق‪.‬‬
‫يقول الشاعر‪:‬‬
‫" أنا ل أهتم بثروة جيجز‪ ،‬وأنا ل أحسده كما أنني ل‬
‫أغار من اللهة ول أرغب في أن أكون طاغية "‪.‬‬
‫فهل كان أرخيلوس يقصد بكلمة طاغية هنا‬
‫المغتصب‪ ،‬على اعتبار أن جيجز اغتصب عرش مملكة‬
‫ليديا ؟ ليست هناك إجابة حاسمة!‬
‫إل أن هناك من يرى أن الكلمة اليونانية تيرانوس‬
‫‪ Tyrannos‬ومنها النجليزية تيرانت ‪ Tyrant‬لها علقة‬
‫بكلمة ليديا‪ ،‬فهي مشتقة من كلمة تـرها المدينة‬
‫الليدية‪ ،‬ومعنى اللفظ هو قلعة‪.‬‬
‫إل أن هناك رأيا ً آخر‪ ،‬يؤكد وجود علقة بين كلمة‬
‫طاغية تيرانوس وبين القبائل التركية‪ ،‬التي كانت تعيش‬
‫مون هذه‬ ‫متفرقة في أسيا العليا‪ ،‬فالفرس كانوا يُس ّ‬
‫البلد توران‪ ،‬وبمرور الزمن تطورت الكلمة‪ ،‬حتى‬
‫أصبحت تُلفظ عند اليونان تيران ومعناها طاغية‪..‬‬
‫هذا وقد جاء في دائرة معارف البستاني ما يفيد‬
‫بأن‪ :‬الطاغية هو لقب ملك الروم‪ ،‬وقد وردت بهذا‬
‫المعنى في تواريخ العرب‪ ،‬ولعلهم أرادوا بها معنى يفيد‬
‫معنى اللفظة اليونانية تيرانوس‪ ،‬وأصل معناها عندهم‬
‫ملك أو أمير‪ ..‬فلما أقامت الملوك على الستبداد‬
‫برعيتها‪ ،‬لن سلطتها ل تعرف حدا ً‪ ،‬ول تقف عند رحمة‬
‫أو عدل‪ ،‬ذهب اسمها مرادفا ً للطاغية ‪.‬‬

‫‪144‬‬

‫‪601‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ويواصل البستاني حديثه موضحا ً الفرق بين‬
‫الطاغية والمسـتبد فيقول‪ :‬وربما يخلط البعض بين‬
‫الطاغية والمستبد من الحكام فالختلف بينهما واضح‪،‬‬
‫فالمستبد من تفّرد برأيه واستقل به‪ ،‬فقد يكون مصلحا ً‬
‫يريد الخير ويأتيه‪ ،‬أما الطاغية فيستبد طبعًا‪ ،‬مسرفا ً في‬
‫المعاصي والظلم‪ ،‬وقد يلجأ في طغيه إلى اتخاذ‬
‫القوانين والشرائع سترا ً يتستر به‪ ،‬فيتمكن مما يطمح‬
‫إليه من الجور والظلم والفتك برعيته وهضم حقوقها‪،‬‬
‫وقد يكيف فظائعه بقالب العدل‪ ،‬فيكون أشر الطغاة‪،‬‬
‫وأشدهم بطشا ً بمن تناولته سلطتهم ‪.‬‬
‫ويختم البستاني حديثه عن الطاغية بطرح المشكلة‪،‬‬
‫التي كثيرا ً ما أُثيرت في تاريخ الطغاة وأعني بها‬
‫السؤال‪ :‬هل يجوز قتل الطاغية ؟ فالمسيحية ل‬
‫ُتبيح القتل كما جاء فى الوصايا العشر‪ ،‬أما العلماء‬
‫والمشرعين وكثيرين غيرهم‪ ..‬فقد أباحوا قتل‬
‫الطغاة‪ ،‬ولم يعتبروا من قتل طاغية إنسان مجرم‪ ،‬بل‬
‫أوجبت له بعض القوانين المكافأة !! وها هو شيشرون‬
‫عندما تحدث عن قوانين اليونان‪ ،‬أوضح أنها تقضي بمنح‬
‫من قتل طاغية الجائزة الوليمبية‪ ،‬وله أن يسأل‬
‫القاضي ما يتمنى‪ ،‬وعلى القاضي إجابة سؤله!!‬
‫والواقع أن كلمة طاغية لم تكن تعني في بداية‬
‫استخدامها حاكما ً شريرا ً‪ ،‬ففي العصور اليونانية‬
‫القديمة‪ ،‬وعلى وجه التحديد في القرنين السابع‬
‫والسادس قبل الميلد‪ ،‬كانت تعني في بعض استخدامها‬
‫ملك أوحاكم‪ ،‬بل قد يُسمى الملك بالطاغية في‬
‫سياق المجاملة أو المديح‪ ،‬ثم بدأت الكلمة تحمل‬
‫‪145‬‬
‫معنى كريها ً ول تزال تحمله حتى اليوم ! وذلك لن‬
‫كلمة طاغية أصبحت مرتبطة بالقتل والنهب‬
‫والفساد والستمتاع باللذات الحسية… ومن هـنا‬
‫كان أفلطون بارعا ً عندما جعل غاية هذا الحكم إشباع‬
‫الحيوان الكبر‪ ،‬والحيوان الكبر عند أفلطون هو‬
‫الطاغية الجاهل الذي يُرضي شهواته ول يخضع لحكم‬
‫العقل‪ ،‬فالطاغية على حد تعبير أفلطون‪:‬‬
‫ممم ممم مممم مم مممم مممممم !‬
‫أما من الناحية القانونية‪ ،‬فالطاغية كان ول يزال‬
‫المحور الساسي لكل القوانين التى ُتمارس‪ ،‬فل قانون‬
‫إل ما يأمر به‪ ،‬حتى لو خالفت أوامره القوانين القديمة‪،‬‬
‫بل إنه قد يصدر قانونا ً جديدا ً يخالف ما أصدره من‬
‫قبل !‬
‫ولهذا فليس ثمة غرابة‪ ،‬إذا ما وجدنا هذا التناقض‬
‫شائعا ً في حكم الطغاة‪ ،‬فما أكثر القوانين والقرارات‬
‫التي يصدرها الطاغية تحت تأثيرالنفعالت‪ ،‬التى هى‬
‫بطبيعتها وقتية ومتقلبة‪ ،‬وهو بالطبع ل يدري خطورة‬
‫قراره الذي يمس حياة النسان !‬
‫مثل هذه التصرفات تجعل الناس تحيا فى قلق‪ ،‬فمن‬
‫المعروف أن الرعية أثناء حكم الطاغية تكون في حالة‬
‫شديدة من الرعب‪ ،‬فالنسان بطبيعته يخشى أصحاب‬
‫النفوذ ويتهيب أصحاب السلطة‪ ،‬وقليلون هم الذين‬
‫تحرروا من هذا الخوف ‪.‬‬
‫مممم ممممم مممم مممم ممممممم!‬

‫‪146‬‬

‫‪801‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ففي التاريخ كما يقول البعض ما يشير إلى أن الرعية‪،‬‬
‫قد تصمت ول تبالغ في الشكوى إذا تسلط عليها طاغية‪،‬‬
‫كأن الجبن يأخذ منها كل مأخذ‪ ،‬فيخمد أنفاسها‪ ،‬وترضخ‬
‫صاغرة‪ ،‬كأنها تتقي شر نقمته‪ ،‬خلفا ً بما لو اعتدلت‬
‫السلطة فتجاهر الرعية بمطلبها‪ ،‬حينئذ ينطبق عليهم‬
‫قول الشاعرالكبير نزار قباني‪ " :‬يصير الناس في‬
‫مدينة ضفادع مفقوءة العيون‪ ،‬فل يثورون ول يشكون ول‬
‫يغنون ول يبكون‪ ..‬تحترق الغابات والطفال والزهار‪،‬‬
‫تحترق الثمار ويصبح النسان في موطنه أذل من‬
‫الصرصار" !!‬
‫أما أعوان المستبد فهم رفاق السوء‪ ،‬الممزقين‬
‫نفسيا ً وروحيًا‪ ،‬فمثل هذه الشخصية البُهيمية كما يُسميها‬
‫أفلطون‪ ،‬لن تقّرب إليها إل الشـرار‪ ،‬عديمو المواهب‪،‬‬
‫الممزقون نفسيا ً واجتماعيًا‪ ،‬الذين احترفوا السرقة‬
‫والنهب‪ ،‬وأجادوا الوشاية والشهادة الزور مقابل رشوة‬
‫أو اعتلء منصب أو إرضاء زعيم‪ ،‬فالمستبد في حاجة‬
‫إلى أن تكون له أيد ٍ يمارس بها الظلم والطغيان‪.‬‬
‫والواقع أنه يستحيل على هذه اليدي التى تلوثت أن‬
‫لخرى الظلم‪ ،‬وتعمل‬ ‫تنسى نفسها‪ ،‬فتمارس هي ا ُ‬
‫لحسابها الخاص‪ ،‬وتغرف بدورها من أموال الخرين التي‬
‫هي أموال الشعب‪.‬‬
‫مممم مم مم مممم ممممم ممممممم مم ممممم‬
‫ممممم‬
‫ممممم م ممم مم مممممم مم ممممم ممممممم م‬
‫ممم ممممم مممم ممم ممممم ممممم‬
‫ممممممم‪!! ..‬‬
‫‪147‬‬
‫من المؤكد أن أعوان المستبد‪ ،‬قبل أن يستولي على‬
‫السلطة وينفرد بزمام الحكم‪ ،‬كانوا من المنافقين‬
‫الشرار‪ ،‬ولهذا عندما استولى وتملك على الحكم صاروا‬
‫هم معاونيه ومستشاريه‪ ،‬فمثال هؤلء على أتم‬
‫الستعداد لعمل أى شيء من أجل الوصول !‬
‫إل أنهم مهما وصلوا إلى أعلى المراكز فهم ليسوا‬
‫أحرارا ً كما يتوهم البعض بل هم عبيد ! وليسوا سعداء‬
‫قون على مراكزهم‪ ،‬خائفون‬ ‫بل أشقياء ! فهم دائما ً قل ِ‬
‫على أموالهم‪ ،‬ولنهم يعلمون جيدا ً أن القتل غالبا ً ما‬
‫يكون هو نهايتهم لكثرة ما ارتكبه من شرور‪ ،‬فهم لذلك‬
‫يعيشون في رعب‪ ،‬ولهذا ل يتحركون إل وسط الحاشية‬
‫أو الحرس الخاص‪!..‬‬
‫كما أنهم يعيشون في شك دائم من كل المحيطين‬
‫بهم‪ ،‬فالمستبد ل يثق في أحد من أعوانه أو أقاربه‪ ..‬بل‬
‫ل يثق حتى في نفسه! والعوان يتوقعون في أية لحظة‬
‫أن يغدر بهم الزعيم المستبد‪ ،‬لمجرد وشاية‪ ،‬أو كلمة‬
‫يسمعها‪ ،‬أو فكرة شريرة تخطرعلى باله‪ ،‬فشعار‬
‫المستبد أو الدكتاتور أو الطاغية ‪:‬‬
‫مم ممم مم ممممم مم ممم ممم ممممممم !‬
‫ولهذا فحياة الرجل الذي يكون في خدمته‪ ،‬يمكن‬
‫تشبيهها بحياة من يعيش وسط النيران ! بل إن الحياة‬
‫وسط النيران أخف وطأة من خدمة المستبد‪ ،‬أو العيش‬
‫وسط حاشيته أو وسط العاملين معه‪ ،‬لن النيران قد‬
‫تحرق جزءا ً من الجسم أو الجسم كله في أشد الحوال‪،‬‬
‫أما نار المستبد فتمتد ل إلى الشخص ‪ ،‬بل إلى ُأسرته‬
‫وأقاربه وأصدقائه‪ ...‬قد نكون على صواب إن قلنا ‪:‬‬
‫‪148‬‬
‫مم ممممم مم ممممم‬
‫مم ممممممم ممم مم م‬
‫ممممم مممممم مم مممم ممممم مممممم!‬
‫ولن المستبد ل يثق في إنسان‪ ،‬فهو إذن ل يفصح‬
‫لحد بأفكاره الداخلية خاصة العميقة‪ ،‬وهذا ما تؤكده‬
‫الوثائق منذ أقدم العصور‪ ،‬فقد جاء في إحدى أوراق‬
‫البردي المخطوطة‪ ،‬نصيحة كتبها ملك لبنه يقول فيها ‪:‬‬
‫" ابتعد وأعزل نفسك عن الرعايا الذين يخضعون لك‪ ،‬ل‬
‫تقترب منهم وأنت وحيد‪ ،‬ول تشغل نفسك‪ ،‬ول تمل‬
‫فراغك بأخ‪ ،‬ول تعرف صديقًا‪ ،‬وحتى إذا نمت فعليك أن‬
‫تراقب بنفسك قلوبهم لن النسان ليس له أعوان وقت‬
‫الشدة " !‬
‫كما أن التراث الهندي‪ ،‬يحدد الخطار الكثيرة التي‬
‫ُتحيط بالحاكم‪ ،‬ويناقش الوسائل التي يمكن بواسطتها‬
‫أن تنقلب عليه الحاشية‪ ،‬ولهذا لبد أن يحترس في‬
‫قصره بحيث تكون إقامته آمنة‪ ،‬وأن يتخذ كافة‬
‫الحتياطات اللزمة‪ ،‬حتى ل ُيدس له أحد السم‪ ،‬ولبد أن‬
‫يراقب جميع أفراد الحاشية وأن يسيطر عليهم‪ ،‬كما لبد‬
‫للملك أن يتجسس على رئيس وزرائه‪ ،‬وأن يكون حذرا ً‬
‫من أصدقائه المقربين إليه‪ ،‬وأيضا ً من زوجاته‪ ،‬ومن‬
‫أخوته‪ ،‬وبصفة عامة من وريثه‪ ،‬وهناك عبارة تتردد كثيرا ً‬
‫عن طغاة الهنود تقول‪:‬‬
‫ممممممم مممممممم ممممم ممم‬
‫ممم مممممم ممممممم ممممم !‬
‫وهكذا تنتشر جميع الرذائل الخلقية‪ ،‬ل وسط الشعب‬
‫فقط بل وسط الحاشية أيضًا‪ ،‬فينتشر المكر والغش‬
‫‪149‬‬
‫والرياء والتملق‪ ...‬وُتحاك المؤامرات والدسائس‪ ،‬إذ أن‬
‫كل فرد يسعى لتحقيق مصالحه الذاتية وأغراضه‬
‫الشخصية بشتى الطرق‪ ،‬ويتهم كل فريق غيره بالتآمر‬
‫لكى يبعده عن مكانه‪ ،‬والنتيجة هى هجرة الناس إلى‬
‫لخرى واعتزال أصحاب المواهب الحياة‬ ‫البلد ا ُ‬
‫السياسية‪ ،‬لكى يتفرغوا لتنمية مواهبهم‪ ..‬ويبقى السؤال‬
‫الحائر بل إجابة شافية‪:‬‬
‫ممم مممم مممممم مم ممممم مممممم م‬
‫ممم مم مممم ممممممم ممممممم مممممممم!‬
‫هذا الوسط الشاذ الغريب‪ ،‬يحتاج في الحقيقة إلى‬
‫دراسة عميقة‪ ،‬فالمستبد رغم سطوته وجبروته‪ ،‬ل يحيا‬
‫بين القوياء اجتماعيا ً والمثقفين علميا ً‪ ...‬إنما بين‬
‫الضعفاء وعديمي المواهب وماسحى الجوخ‪ ..‬يجد‬
‫المستبد شخصيته! وهؤلء بدورهم يجدون سعادتهم في‬
‫من يتحكم فيهم‪ ،‬ويفرض سيطرته عليهم!‬
‫فـي الظاهر يبدو لنا أن هناك تناقضًا‪ ،‬ولكن لو تعمقنا‬
‫ل‪ ،‬لوجدنا أن ثمة أسبابا ً نفسية تحتم وجود هـذه‬ ‫قلي ً‬
‫العلقة الغريبة‪ ،‬التي تبـدو غـير طبيعية !! من هنا نفهم‪،‬‬
‫لماذا يُحاط الباطرة والمستبدون دائما ً بالشخصيات‬
‫التافهة الضعيفة ؟! الجابة باختصار‪ :‬إنهم ُيشبعون‬
‫كبرياءهم وتسلطهم‪ ،‬هذا من جهة المستبدين‪ ،‬أما‬
‫الضعفاء فإنهم يجدون راحتهم في الرتماء في أحضان‬
‫التبعية والمذلة‪ ،‬فهذا يوفر لهم راحة نفسية‪ ،‬ويعوضهم‬
‫عن شعورهم المريربالنقص‪ ،‬أو ما عانوه من حرمان‬
‫خاصة فى طفولتهم المبكرة‪..‬‬

‫‪150‬‬

‫‪011‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫والحق إننا لم نقرأ أن أحدا ً من العباقرة أو المفكرين‬
‫أو العلماء‪ ..‬قبِل في يوم ما أن تكون رأسه في مستوى‬
‫أرجل أصحاب العروش‪ ،‬وهم جالسون على كراسي من‬
‫ذهب في أبراج من فضة‪ ،‬يتنعمون ويتلذذون والناس‬
‫تحت أرجلهم يئنون ويصرخون من قسوة اللم‬
‫والجوع…!! وإن وجد البعض فهؤلء قلة ول نأخذ بهم‬
‫فى هذا المر الشاذ الغريب!‬

‫‪151‬‬
‫الباب الرابع‬
‫الدكتـاتــور‬
‫الفصل الول‬
‫ممممممممممم مممممممممم‬
‫الفصل الثاني‬
‫ممممم مممم ممممممممم‬
‫الفصل الثالث‬
‫ممممم مممممممممم‬
‫مممممممم ممممم‬

‫‪152‬‬

‫‪211‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ممممم ممممم‬
‫ممممممممممم م‬
‫ممممممممم‬
‫كان النظام الملكي هو السائد في أوربا قبل‬
‫الميلد‪ ،‬لكنهم استبدلوه بالنظام الجمهوري دون أن‬
‫يلغوا سلطة الملك‪ ،‬فماذا فعلوا ؟ وضعوا من الضوابط‬
‫ما اعتقدوا أنه كفيل بأن يمنع الستبداد‪ ،‬فأسندوا‬
‫عرفا باسم القنصلين ‪Consules‬‬ ‫السلطة إلى شخصين ُ‬
‫أي الزميلين‪ ،‬وبانتقال سلطة الملك إلى القناصل‪ ،‬أصبح‬
‫هؤلء الحكام هم الذين يرعون المن والنظام في‬
‫الدولة‪.‬‬
‫أما في أوقات الطوارئ كحالت الحرب أو غير‬
‫ذلك‪ ،‬فكانا القنصلن بناءً على مشورة مجلس‬
‫الشيوخ يعينان حاكما ً مطلقا ً‪ ،‬يمارس سلطتهما‬
‫بمفرده لمدة أقصاها ستة أشهر على أكثر تقدير‪ ،‬وكان‬
‫هذا الحاكم المطلق يُدعى في أول المر حاكم‬
‫الشعب‪ ،‬ثم أصبح لقبه الدكتاتور ‪.Dictator‬‬
‫وكان هذا الحاكم المطلق يتخذ له مساعدًا‪ ،‬شخصا ً‬
‫ُيدعى قائد الفرسان‪ ،‬وأكثر الذين تولوا منصب‬
‫الدكتاتور‪ ،‬ينتمون إلى القرنين الرابع أو الخامس قبل‬
‫الميلد‪.‬‬
‫إذن فكلمة دكتاتور ‪ ، Dictator‬ومنها الدكتاتورية‬
‫‪ Dictatorship‬رومانية الصل‪ ،‬اسُتخدمت في العصور‬
‫‪153‬‬
‫القديمة كمنصب لحاكم يرشحه القنصلن أو أحدهما‪،‬‬
‫بتزكية من مجلس الشيوخ ويتمتع هذا الحاكم بسلطات‬
‫استثنائية‪ ،‬وتخضع له الدولة كلها والجيش بكامله في‬
‫أوقات الزمات المدنية أو العسكرية‪ ،‬ولفترة محددة‪،‬‬
‫فطبيعة نظام الدولة الرومانية كانت تقتضي اتخاذ هذه‬
‫التدابير الستثنائية ‪ :‬فالسلطة موزعة بين قنصلين‬
‫متساويين‪ ،‬ومجموعة من الموظفين‪ ،‬ومجلس الشيوخ‪..‬‬
‫ولذلك نص الدستور منذ أن وضع‪ ،‬على أن يكون‬
‫للحكومة الحق في أوقات الطوارئ‪ ،‬أن توقف كل‬
‫سلطات أولئك الحكام وتسلم الحكم لشخص واحد‪ ،‬وقد‬
‫جرت العادة أن يكون قائدا ً عسكريًا‪ ،‬وفى الغالب من‬
‫طبقة الشراف‪ ..‬فيصبح هذا الشخص هو الدكتاتور‪،‬‬
‫وتنتهي سلطته الستثنائية بانتهاء الزمة‪ ،‬ويؤدي بعد ذلك‬
‫الحساب عما قام به من أعمال ‪.‬‬
‫ولعل أقرب شخص عندنا الن يقربنا من وظيفة‬
‫الدكتاتور هو القائد العسكري‪ ،‬الذي ُيعين في أوقات‬
‫عصيبة تمر بها البلد لتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة‬
‫ولفترة محددة‪ ..‬وإن كانت سلطته إلى حد ما ل تكون‬
‫مطلقة كسلطة الدكتاتور قديمًا‪.‬‬
‫وقد يتقيد الدكتاتور الروماني بالمدة التى ُتحدد لـه‬
‫من ِقبل المسئولين مثل " سنسناتس ‪" Cincinatus‬‬
‫عين دكتاتورا ً نحو عام )‬
‫وهو قائد عسـكري ورجل دولة‪ُ ،‬‬
‫‪ 458‬ق‪ .‬م(‪ ،‬عندما كان الجيش الروماني يمر في ذلك‬
‫الوقت بأزمات خطرة‪ ..‬فلما تم تعينه استجاب في‬
‫الحال‪ ،‬فترك مزرعته وجمع فرقا ً من الجنود‪ ،‬وقام‬
‫بمساعدة الجيش‪ ،‬حتى انتصر ثم تقاعد بعد ذلك‪ ،‬وذلك‬
‫‪154‬‬
‫كله حدث في ستة عشر يومًا‪ ،‬ثم اسًتدعي مرة ُأخرى‬
‫وعين دكتاتورا ً عام )‪ 439‬ق‪ .‬م(‪ ،‬وقد أدى مهمته على‬
‫أكمل وجه ثم عاد بعدها إلى مزرعته‪.‬‬
‫أما الستثناء من ذلك فهو " سل ّ ‪ " Sulla‬الـذي قد‬
‫تم تعيينه عـام )‪ 82‬ق‪.‬م( دكتاتورا ً لمدة غير محددة‪،‬‬
‫وظل في منصبه حوالى ثلث سنوات‪.‬‬
‫والثاني هو " يوليوس قيصر "‪ ،‬الذي اتخذ لنفسه‬
‫سلطات دكتاتورية لمدة عشر سنوات‪ ،‬عام )‪ 46‬ق‪ .‬م(‪،‬‬
‫ثم ُأعطيت له هذه السلطات مدى الحياة‪ ،‬وقد كان ذلك‬
‫قبل اغتياله بقليل على يد " بروتس " الذي طعنه‬
‫بالخنجر! أتذكرون العبارة الشهيرة‪ " :‬حتى أنت‬
‫يابروتس " !! إنها آخر كلمات نطق بها يوليوس قيصر‬
‫قبل اغتياله‪.‬‬
‫هذا عن الدكتاتور قديمًا‪ ،‬أما في الستخدام الحديث‬
‫فإن الدكتاتور أو الدكتاتورية بصفة عامة‪ ،‬هى مصطلح‬
‫يعني‪ :‬النظام الذي يتولى فيه شخص واحد جميع‬
‫السلطات‪ ،‬في الغالب تكون بطريقة غير مباشرة‪ ،‬عن‬
‫طريق ُأناس هم أدوات فى قبضة يده ! ويفرض أوامره‬
‫وقراراته بالقوة‪ ،‬ول يكون أمام المواطنين سوى الطاعة‬
‫والخضوع‪.‬‬
‫أو هو نظام الفرد الواحد‪ ،‬الذي يحكم وفقا ً لهوائه‬
‫ورغباته الخاصة‪ ،‬دون أن يتقيد بقواعد أو قوانين!‬
‫فهو ل يسترشد إل بأفكاره‪ ،‬ول يتوجه إل بإرادته!‬
‫ويرى الفيلسوف أرسطو‪ :‬إن الدكتاتورية أشر أنواع‬
‫الحكم‪ ،‬لنها تسخّر مصلحة الكل‪ ،‬أي كل الشعب‪،‬‬
‫‪155‬‬

‫‪411‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫لتحقيق مصالح فرد أو مطامع شخص واحد هو بل شك‬
‫الدكتاتور!‬
‫فالحكم الفضل عند أرسطو هو الذي يجعل كل فرد‬
‫يستغل مواهبه‪ ،‬ويستمتع بأيامه‪ ،‬وهذا الطراز من الحكم‬
‫هو حكم دستوري‪ ،‬أما الحكم غير الدستوري فهو حكم‬
‫الستبداد‪ ،‬سواء كان فردا ً واحدًا‪ ،‬أو قلة‪ ،‬أو كثرة‪ ،‬ويرى‬
‫أرسطو إن السلطة المطلقة‪ ،‬هى سلطة ل ضابط لها‬
‫سواء مارسها فرد أو مارستها جماعة‪ ،‬وكما قال‬
‫المفكرالنجليزى جون لوك‪ ،‬فى كتابه الشهير" روح‬
‫القوانين " ‪:‬‬

‫مممممم ممممممم مممم ممم مممم مممم‪.‬‬


‫يقول أرسطو‬
‫" إن الحكومة الطاغية ترفع الحرارة المكروهة في‬
‫الصدور إلى درجة النفجار‪ ،‬وهي مؤدية إلى النفجار بل‬
‫شك‪ ،‬لتبدأ الديمقراطية التي تقوم على العدل‪ ،‬فهي‬
‫أسلم أنواع الحكم "‪.‬‬
‫ويرى المفكر الفرنسي مونتسيكيو‪ :‬إن مثل هذا‬
‫الحكم يخلو من كل فضيلة والسبب‪ :‬إنه نظام يقوم‬
‫على تخويف المواطنين وإرعابهم من السيد الحاكم‪،‬‬
‫واستخدام كل وسائل العنف والتعسف لخضوع الرعايا‬
‫للسيد الدكتاتور‪ ،‬إنه نظام يلقي بالناس في هوة المذلة‬
‫والمهانة !‬
‫والحق إن قلنا إن الدكتاتورية مرض‪ ،‬فهي من أخبث‬
‫وأشر المراض التي أصابت الطبيعة البشرية‪ ،‬وتكمن‬

‫‪156‬‬
‫خطورة هذا المرض اللعين‪ ،‬في أنه مرض معدٍٍ‪ ،‬فإذا‬
‫ظهر في مكان سهل انتشاره في بقية الماكن ا ُ‬
‫لخرى‪.‬‬
‫فمن المعروف إن الدكتاتوريين يقلدون بعضهم‪،‬‬
‫ويستفيدون من بعضهم البعض‪ ،‬وذلك فيما يلجأون إليه‬
‫من طرق وأساليب لقمع وإذلل الشعب‪ ،‬ومن هنا كانت‬
‫العدوى واردة‪ ،‬وكما قلنا من قبل ‪ :‬إنه ل فرق بين‬
‫دكتاتور أبيض ودكتاتور أسود‪ ،‬أو دكتاتور من أسيا وآخر‬
‫من إفريقيا أو أوربا‪ ...‬فللجميع فكر واحد وأسلوب‬
‫واحد‪ ،‬كما لو كانوا قد تربـوا معًا‪ ،‬أو تعلموا في مدرسة‬
‫واحدة !!‬
‫والحق إن الدكتاتور هو شخص غريب‪ ،‬ولو سارت‬
‫المور طبيعيا ً ما كان ممكنا ً أن يصل إلى مركزه‪ ،‬بحكم‬
‫إمكاناته المحدودة ومواهبه المعدومة ‪ ،‬لكنه قفز إلى‬
‫منصبه عن طريق غير شرعي‪ ،‬ولهذا نجده يتحكم في‬
‫شئون الناس بإرادته ل بإرادتهم‪ ،‬ويُحاكمهم بهواه ل‬
‫بشريعتهم…‬
‫ولخوفه الشديد على مركزه‪ ،‬الذي يعلم جيدا ً أنه ل‬
‫يستحقه‪ ،‬وسوف ُيغصب منه كما اغتصبه من سابقه‪،‬‬
‫يكمم أفواه البشر لسدها عن النطق بالحق‪ ،‬والمطالبة‬
‫بالشرع والقانون‪ ...‬فهو ل يعرف ول يعترف بقانون‪ ،‬لن‬
‫إرادته هي القانون‪ ،‬وكل ما يقوله أمر واجب التنفيذ‬
‫حتى ولو كان خطأ !! وما على المواطنين سوى الطاعة‬
‫والخضوع‪ ،‬أعنى الخنوع!‬
‫إن حكم الدكتاتور هو حكم مطلق‪ ،‬بل رقيب ول‬
‫حسيب‪ ،‬ول مسئولية من أي نوع‪ ،‬إنه السيد الوحد الذي‬
‫‪157‬‬

‫‪611‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫يحكم لمصلحته الشخصية وأهدافه الخاصة‪ ،‬فالدكتاتور‬
‫له مصالح وأهداف غير مصالح الشعب‪ ،‬فهو ل يهتم‬
‫بالناس ول باحتياجاتهم‪ ،‬إنما اهتمامه ينصب على ذاته‪،‬‬
‫وتنفيذ رغباته‪...‬‬
‫وهذا ليس بغريب على من اغتصب السلطة‪ ،‬سواء‬
‫بالقوة أو عن طريق العصابات أو الخونة… أو من نشأوا‬
‫في البيئات الوضيعة‪ ،‬فمعظم الدكتاتوريين خرجوا من‬
‫ُأسر ممزقة اجتماعيا ً ونفسيا ً وثقافيا ً وأيضا ً ماديا ً …‬
‫وهكذا عاشوا في السلطة يعوضون النقص الذي عانوا‬
‫منه في طفولتهم وشبابهم‪ ،‬ويا ليتهم عرفوا كيف‬
‫يسدون الثغرات الكبيرة في حياتهم‪ ،‬لكنهم للسف‬
‫الشديد زادوا من الثغرات‪ ،‬لنهم صاروا يملكون كل‬
‫شيء‪ ،‬المال‪ ،‬القرار‪ ،‬المجد… لكنهم لم يملكوا وسائل‬
‫العلج ! فمثل هذه الشياء وإن كانت تراها العين‬
‫وتلمسها اليد‪ ،‬إل أنها عاجزة عن أن تصل إلى أعماق‬
‫القلب حيث مركز السلم الحقيقي‪ ،‬والستقرار النفسي‬
‫!‬
‫ولهذا فهم غالبا ً ما ينتقمون من أصحاب الجاه‬
‫والمتعلمين والغنياء‪ ،‬إنهم أعداء لصحاب المراكز‬
‫والمواهب ! وهذا ليس بغريب على أناس بل مواهب‪،‬‬
‫إنما المكر والعنف والفساد…هي كل مواهبهم!!‬
‫خر الدكتاتور كل موارد رعاياه‪ ،‬لشباع‬ ‫وغالبا ً ما يس ّ‬
‫رغباته أو ملذاته أو متعه الخاصة… فعلى شهواته‬
‫وحاشيته ينفق الدكتاتور بل رقيب‪ ،‬ولجل تحصيل المال‬
‫لينفق‪ ،‬يفرض الضرائب ويسرق ويغتصب حقوق‬
‫الخرين…‬
‫‪158‬‬
‫فقد قيل عن ديونيسيوس الول ) ق ‪ 4‬ق‪.‬م (‬
‫دكتاتور سيراقوصه بصقلية‪ :‬إنه جمع حُلي النساء‬
‫وباعها‪ ،‬كما سرق الرداء الذهبي الذي كان يغطي الله‬
‫زيوس ! زاعما ً أن الجو في الشتاء يكون باردا ً على نحو‬
‫ل ُيطاق‪ ،‬وفي الصيف يكون حارا ً على نحو ل ُيطاق‬
‫أيضًا‪ ،‬وفي كلتا الحالتين يكون الرداء عديم النفع بالنسبة‬
‫للله !!‬
‫أما متع الدكتاتور فقد تكون حسية كالكل والسكر‬
‫والجنس… وقد كانت كذلك بالفعل عند الدكتاتوريين‬
‫القدماء‪ ،‬وقد تكون متعته في طموحاته التي تهدف‬
‫لتوسيع مملكته‪ ،‬وفرض نفوذه‪ ،‬فضم البلد المجاورة‬
‫والغارة عليها من أجل تدعيم الثروة‪ ،‬أو إقامة‬
‫إمبراطورية كانت شهوة كثيرين‪.‬‬
‫ولعل أعظم مثال لنا على ذلك هو السكندر الكبر‪،‬‬
‫الذي سيطرت عليه فكرة أن يخضع العالم كله لمملكته‪،‬‬
‫فتتسع المبراطوريه اليونانية‪ ،‬وبالتالي يمتد نفوذه‬
‫وسلطانه إلى كل العالم‪ ،‬وعندما لم يجد بلدا ً يفتتحها‪،‬‬
‫قيل إنه بكى !!‬
‫ولن الدكتاتور يسعى لشباع شهواته وتنفيذ أفكاره‬
‫الخاصة‪ ،‬بكافة الوسائل حتى وإن كانت خاطئة‪ ،‬فهو لهذا‬
‫يرفض أن يخضع للمساءلة أو المحاسبة‪ ،‬ولهذا لنندهش‬
‫عندما نقرأ أن الوليـد بن عبد الملك استفسر ذات‬
‫مرة قائل ً ‪ :‬أيمكن للخليفة أن ُيحاسب ؟! والسؤال‬
‫هنا عن الحساب من الله‪ ،‬وها نحن نتساءل‪:‬‬
‫ممممم مم مممم‬
‫مم مم ممم ممم مم م‬

‫‪159‬‬
‫مممم مم مممم مممممم مم مممممم!‬
‫ول تتعجب إذا قرأت أو سمعت عن عبد الملك بن‬
‫مروان‪ ،‬إنه عندما تولى الخلفة صعد على المنبر ليلقي‬
‫الخطبة الدستورية فقال‪ :‬والله لو أمرني أحد‬
‫بتقوى الله بعد مقامي هذا إل وضربت عنقه !!‬
‫قال هذا ثم نزل !!‬
‫وعندما تولى ابنه يزيـد الخلفة‪ ،‬أتى بأربعين شيخا ً‬
‫فشهدوا له ما على الخلفاء حساب ول عذاب !!‬
‫وعندما أرسل ابن المقفع للمنصور‪ ،‬ينصحه بحسن‬
‫اختيار معاونيه‪ ،‬وحسن سياسة الرعية عوقب عقابا ً‬
‫مبرحا ً‪ ،‬لنه تجرأ على النصح والرشاد وليس المديح‬
‫بتقطيع أطرافه قطعة قطعة‪ ،‬وأُحمي له تنّور‬
‫طعه إربا ً إربا ً ويُلقيه في ذلك التنور حتى حرقة‬
‫وجعل ُيق ّ‬
‫ّ‬
‫كله وهو ينظر إلى أطرافه كيف تقطع ثم ُتحرق !!‬
‫حتى لو قيل إن هذه القصص غير حقيقية أو مبالغ‬
‫فيها‪ ،‬فالتاريخ يحكي عن أباطرة فعلوا أكثر مما فعل‬
‫أولئك !!‬
‫في ظل هذا الجو المرعب‪ ،‬ل يكون أمام الشعب‬
‫سوى طريق أوحد ل غير أل وهو‪ :‬تنفيذ كل الوامر‬
‫بل مناقشة! سواء كانت ضارة أو نافعة‪ ،‬في صالحه أو‬
‫ضده‪ ،‬إذا أرادوا الحياة ! ومن هنا أصبحت الطاعة‬
‫العمياء هى سمة المواطن الصالح‪.‬‬
‫والحق إنها ليست طاعة بالمفهوم الصحيح لهذه‬
‫الكلمة‪ ،‬بل هى إن أردنا الدقة خنوعًا‪ ،‬ولكي يتعلم‬
‫الجميع الطاعة‪ ،‬أصبحت التربية منذ الصغر‪ ،‬تعد‬
‫‪160‬‬

‫‪811‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫المواطن للخضوع التام‪ ،‬والطاعة العمياء‪ ،‬فالتلميذ الجيد‬
‫هو البن المطيع !!‬
‫وهكذا يقترب الدكتاتور من التأله‪ ،‬بل صار في قرارة‬
‫نفسه إلهًا‪ ،‬يرهب الناس‪ ،‬ويتعالى عليهم‪ ،‬ويذلهم‬
‫بسلطته‪ ،‬ويسلب أموالهم حتى ل يجدوا ملجأ إل‬
‫الخضوع والتملق له‪ ..‬ولهذا كثيرا ً ما يطلق الدكتاتور‬
‫على نفسه صفات أو ألقاب الله‪ :‬التى تعبر عن قدراته‬
‫اللنهائية مثل‪ :‬القاهر‪ ،‬الجبار‪ ،‬المقتدر‪ ،‬ولي النعم‪،‬‬
‫المالك أرواح البشر‪..‬‬
‫في حين أن الله ل ُيرهب البشر ول يذلهم‪ ،‬حتى إذا‬
‫ضلوا الطريق أو انحرفوا‪ ..‬فإن الله كثيرا ً ما يتمهل‬
‫عليهم‪ ،‬ول يُعاقبهم في الحال‪ ،‬أو على كل خطية "‬
‫فالله يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى‬
‫معرفة الحق ُيقبلون " )‪1‬تي ‪ ( 4 :2‬أتذكرون قول‬
‫داود النبى‪ " :‬إن كنت للثام راصدا ً يارب من يثبت‬
‫لن من عندك المغفرة " ‪.‬‬
‫ولكن عندما يتوهم الدكتاتور أنه قد صار إلها ً أو شبيها ً‬
‫بالله‪ ،‬ويتخذ لنفسه سلطات مطلقة! فإنه ل يفقد‬
‫كرامته فقط‪ ،‬بل وإنسانيته أيضًا‪ ،‬فيتحول إلى شخص‬
‫فر‪ ،‬ومهما امتلك من القوة والسلطان‪ ...‬فإن‬ ‫مكروه‪ ،‬من ّ‬
‫مصيره حتما ً الموت‪ ،‬وإن لم يكن من الناس فمن الله‪،‬‬
‫والكتاب المقدس يقدم لنا دليل ً في شخص هيرودس‬
‫الملك‪ ،‬فعندما ظن هيرودس أنه صار إلها ً ضربه الله‬
‫فمات‪ ،‬فما هي قصة ذلك الدكتاتور ؟‬

‫‪161‬‬
‫كان هيرودس ملكا ً على اليهودية‪ ،‬لكنه كان دكتاتورًا‪،‬‬
‫فهو الذي ذبح يعقوب أخا يوحنا بالسيف ) أع ‪( 1،2 :12‬‬
‫) أع ‪.( 19-12:3‬‬ ‫وسجن بطرس الرسول‬
‫وكعادة الدكتاتوريين‪ ،‬إذلل الشعب وإفقاره‪ ،‬وذلك‬
‫لكى يلجأوا إليه‪ ،‬فلما ازداد الشعب القديم إنحدارا ً‬
‫وبؤسًا‪ ..‬ذهبوا إلى الملك ليستحسنوه‪ ،‬ومن أجل‬
‫إطعامهم جعلوه إلها ً إذ قالوا‪ " :‬هذا صوت إله ل‬
‫صوت إنسان "!! فلما قَِبل الملك أن المدح المغلف‬
‫عط المجد لله‪ ،‬ضربه ملك الرب‬ ‫بالرياء والمكـر‪ ،‬ولم يُ ِ‬
‫)أع ‪:12‬‬ ‫فصار يأكله الدود ومات في الحال‬
‫‪.(23 -20‬‬
‫ولن الدكتاتور يعلم أنه معّرض للموت في أية لحظة‪،‬‬
‫والغتيال هو نهايته‪ ،‬يُحيط نفسه بحراسة مشددة‬
‫لحمايته من ناحية‪ ،‬وللقبض على معارضيه وعقابهم من‬
‫ناحية ُأخرى‪ ،‬وفي حراسته يعتمد على المرتزقة وأدنياء‬
‫البشر‪ ،‬وغالبا ً ما ُيرشيهم ويعطيهم مناصب لم يكونوا‬
‫يحلمون بها‪ ،‬ولو سارت المور على طبيعتها ما كان‬
‫ممكنا ً أن يصلوا إليها‪ ،‬لنهم ذوو مواهب وإمكانات‬
‫لخرى‪ ..‬فهو كما يقول‬‫محدودة‪ ،‬هذا غير التسهيلت ا ُ‬
‫الفيلسوف أرسطو‪:‬‬
‫" مممم ممم مممم مممم "‪.‬‬
‫ربما يدافع البعض عن أسلوب الدكتاتور قائلين ‪ :‬إن‬
‫هدفه خير المة تحت أي أسلوب‪ ..‬فالدكتاتور كما‬
‫يظن البعض له إيجابيات‪ ،‬لكننا بهدوء نتساءل‪ :‬ما هي‬
‫قيمة اليجابيات إذا كان المقابل تدمير النسان وتحطيم‬
‫‪162‬‬

‫‪021‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫قيمه ومبادئه ؟! ما قيمة اليجابيات إذا كان ثمنها تحويل‬
‫الشعب إلى جماجم عظمية تسير منزوعة المخاخ !‬
‫شخصيات تافهة تطعنها مشاعر الخوف والعجز وعدم‬
‫سبل الحق‪،‬‬ ‫القدرة على إبداء الرأي ! قطيع ُقطعت عنه ُ‬
‫فلم يعد يرى الحق وفي نفس الوقت عاجز عن‬
‫ممارسته !‬
‫ليس للدكتاتور أية إيجابيات‪ ،‬هذه حقيقة‪ ،‬بل حياته‪،‬‬
‫أفكاره‪ ،‬تصرفاته‪ ،‬قوانينه‪ ..‬كلها سلبيات والنتيجة‬
‫واضحة‪ :‬التخلف في كل المجالت العلمية والثقافية‬
‫والقتصادية… فالدكتاتور هو المصدر الرئيسي للجهل‬
‫والفساد وكل الرذائل التي تعم البلد‪ ،‬لنه يسعى بكل‬
‫إمكاناته لن يلغي فكر النسان وتحطم شخصيته‪ ،‬وإذا‬
‫صار النسان مثل حيوان ل تتعدى حريته الحظيرة‪،‬‬
‫ضاعت آدميته‪ ،‬ومات فيه البداع‪ ،‬وانعدام البتكار‪.‬‬
‫مم مممم مممممم ممممممممممممممم ممممم!‬
‫إن موقف الدكتاتور هو موقف من يقطع شجرة‬
‫ليقطف ثمرة منها ! فى حين لو تُركت الشجرة لخرجت‬
‫أثمارا ً وأثمارا ً‪ ،‬ولكن هكذا الدكتاتوريون ل يقنعون إل‬
‫بأفكارهم‪ ،‬فل إيجابيات للدكتاتور‪ ،‬وليس هناك ما يُعرف‬
‫بالدكتاتور العادل‪ ،‬فهذا مصطلح يخدم أغراضا ً خاصة!‬
‫لن الدكتاتورية هي أسوأ أنواع الحكم‪ ،‬لنها نظام‬
‫يستخدم السلطة استخداما ً فاسدا ‪ ،‬كما يتخذ العنف‬
‫سلحا ً ضد الكائنات البشرية ‪..‬‬
‫ولهذا كما يرى أرسطو ل يستطيع رجل حر‪ ،‬أن‬
‫يتحمل هذا النوع من الحكم‪ ،‬وإذا كان في استطاعته‬
‫‪163‬‬
‫الهروب لهرب‪ ،‬فالنسان الحر ل يتحمل مثل هذه‬
‫الشكال التعسفية من الحكم إل مرغمًا‪ ،‬وكل الذين‬
‫يعشقون الحرية‪ ،‬ويمقتون العبودية‪ ،‬ينظرون إلى‬
‫الدكتاتورية على أنها تدمير للنسان‪ ،‬لنها نظام يحيل‬
‫البشر إلى عظام نخرة‪ ،‬فليس أضعف من الدكتاتورية‬
‫نظاما ً للحكم !‬
‫ولهذا ل يمكن أن تذكر الدكتاتورية بطريقة فيها مدح‪،‬‬
‫وهكذا تبدو عبارة الدكتاتور العادل بالغة الغرابة! والواقع‬
‫أنها ليست دقيقة وتناقض اللفاظ ! إن كانت كلمة‬
‫دكتاتور تشير إلى الحاكم الظالم أو القاسي‪ ،‬أو‬
‫الشرير‪..‬‬
‫وإذا كان الدكتاتوريون في نظر البعض وحوشا ً بشرية‪،‬‬
‫ظهرت في التاريخ لتحكم شعوبها بالنار والحديد‪ ،‬وإذا‬
‫كان البعض الخر يذهب إلى أنهم ليسوا مرضى نفسيين‬
‫فقط ‪ ،‬بل هم أمراض وأوبئة‪ ..‬يسعون أن تكون الرعية‬
‫كالغنام في طاعتها‪ ،‬وكالكلب في تذللها وتملقها !‬
‫الواقع أن هذه التعبيرات أقرب إلى تعبير‪:‬‬
‫ممممممم ممممممم مم مممممم مممممم !‬
‫ل شك أن الدكتاتورية تهدم إنسانية النسان‪،‬‬
‫والطغيان يحول البشر إلى عبيد‪ ،‬يكفي أن المجتمع في‬
‫عهد الدكتاتورية يتحول إلى عيون وجواسيس يراقب‬
‫بعضها البعض‪ ،‬ولهذا ل تتعجب إذا رأيت أخا ً يرشد عن‬
‫أخيه‪ ،‬وجارا ً يكتب تقارير عن جاره‪ ،‬ومرؤوسا ً يكتب‬
‫حقائق مزيفة عن رئيسه ! فعندما تُسجن الحرية تكثر‬
‫الوشاية‪ ،‬وتحاك الدسائس والمؤامرات‪.‬‬
‫‪164‬‬
‫حتى الدكتاتور نفسه يعيش في شك من كل‬
‫المحيطين به‪ ،‬فيبث عيونه في كل مكان‪ ،‬لكي تنقل له‬
‫تحركات الناس وأفعالهم وأقوالهم‪ ..‬ولن الدكتاتور‬
‫إنسان بل قيم‪ ،‬وليس له أصدقاء‪ ،‬ول يفي بوعد أو كلمة‬
‫شرف‪ ،‬فهو لذلك يفرض جواسيس على جواسيسه‪،‬‬
‫فتتحول الحياة إلى دائرة من الخوف والرعب‬
‫والشك‪!...‬‬
‫لم نسمع فى يوم ما عن دكتاتور‪ ،‬إنه كان موضع حب‬
‫وإعجاب الناس‪ ،‬إنما التاريخ يشهد إن كل الدكتاتوريين‬
‫كانوا محل ً للكراهية‪ ،‬بدائيين من الناحية ‪ ،‬قليلي‬
‫المواهب‪ ،‬بل أخلق أو مبادئ أو قيم‪ ..‬ومهما أنجزوا‬
‫فستظل أعمالهم بل قيمة‪ ،‬إذ يكفيهم تدمير النسان !‬
‫يعوض عنه بشيء ! ولهذا إذا‬‫ّ‬ ‫ومعروف أن النسان ل‬
‫مات الدكتاتور ل يبكي عليه أحد من البشر !! أتعرفون‬
‫السبب ‪:‬‬
‫مممم مممممم مممم ممممم ممممم ممممم م‬
‫مممم مممم مم ممم ممم مممم مممممم مممم!‬
‫ما معنى أن يفرض دكتاتور آراءه وأفكاره على‬
‫الخرين‪ ،‬دون أن يناقشهم أو يأخذ بآرائهم ؟! إن مثل‬
‫هذا السلوك حتى وإن كان في صالحهم‪ ،‬إل أنه ل يصلح‬
‫القصر‪ ،‬الذين لم يصلوا بعد إلى سن‬
‫إل مع الطفال ِ‬
‫الرشد‪ ،‬أما الكبار وإن كانوا بسطاء الفكر فلهم أساليب‬
‫ُأخرى لقناعهم‪ ،‬ولعل أفضل هذه الساليب هو الحوار‪،‬‬
‫الذي ُيشعر النسان بإنسانيته… أقول ‪:‬‬
‫مم ممممممم مممم مم مممم مممم ممم ممممم‬
‫‪165‬‬

‫‪221‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫مم ممممممم ممم مممممم مم مممممممم‬
‫ممممممم !‬
‫نستطيع أن نقول مع أفلطون‪ :‬إن أسوء ما يوجد‬
‫على الرض هو الدكتاتور‪ ،‬ونتحد مع أفلطون في تعريف‬
‫الدكتاتور بأنه‪ :‬مثل كل شر‪ ،‬أو قل حيوانا ً شرسا ً ليس‬
‫له هدف‪ ،‬إل أن يفتك بالخرين ويلتهم البشر‪ ،‬وها نحن‬
‫نتساءل‪:‬‬
‫ماذا لو ملك هذا الحيوان المتوحش وصار هو المهيمن‬
‫الوحيد ؟ ماذا نقول إذا طالت مدة رئاسته ؟ فمن‬
‫المعروف أن الدكتاتورل يتقاعد أبدا ً إذ ليس له سن فيها‬
‫يحال إلى المعاش‪ ،‬فهو إما أن ُيقتل أو يطيح به شخص‬
‫آخر ! " لن كل الذين يأخذون بالسيف بالسيف‬
‫يهلكون" )مت ‪" (52 :26‬بالسيف يموت كل‬
‫خاطئ" )عا ‪.(10 :9‬‬
‫ولو أمكن التعميم فيما يخص طبيعة عنف‬
‫الدكتاتوريين نقول‪ :‬إنهم ُأناس لديهم اضطراب في‬
‫المشاعر تجاه الخرين‪ ،‬وكثيرا ً ما يتوفر لديهم الميل‬
‫إلى تجسيم المشكلت خارج أنفسهم‪ ،‬وإسقاط‬
‫أوجه نقصهم على الخرين‪ ،‬كما أن كل إنسان‬
‫تستهويه العمال الدموية‪ ،‬والساليب التعسفية‪،‬‬
‫واستعباد البشر وإذللهم‪ ،‬ويكون كل تركيزه على ذاته‬
‫وشهواته دون أن يبالي باحتياجات ومشاعر الخرين‪،‬‬
‫ويحاول النتقام من البارزين الذين هم أفضل منه علما ً‬
‫خلقا ً ودينًا‪ ،‬هو إنسان مريض نفسي مهما حاول البعض‬ ‫و ُ‬

‫‪166‬‬
‫تبرير سلوكه‪ ،‬إذ كيف ل ُناس أسوياء ظاهريا ً اقتراف‬
‫مثل هذه الفعال الدموية والتعسفية !!‬
‫مممم ممممم ممممم ممممم!!‬
‫مم مم ممم ممم ممممم!!‬

‫‪167‬‬
‫ممممم مممممم‬
‫ممممم مممم ممممممممم‬
‫لكن كيف يظهر الدكتاتور؟ وما هي مبررات وجــوده‬
‫في الحكم ؟ وما هــي الدعائم الــتي يســتند عليهــا فــي‬
‫حكمه ؟ ثم كيف يحتفظ بعرشه الــذي ل يفصــله عنــه‬
‫إل الموت ؟ أسئلة ل حصر لها تُطرح حــول هــذا الثعبــان‬
‫البشري‪ ،‬ول توجــد إجابــة واحــد ة تحــل لغــز هــذه الفــة‬
‫البشرية‪ ،‬إذ أن عوامل كــثيرة‪ ،‬منهــا تاريخيــة وجغرافيــة‪،‬‬
‫واجتماعية واقتصادية‪ ..‬أدت إلى ظهور الدكتاتور‪.‬‬
‫كمــا أن مــبررات وجــوده فــي الســلطة عديــدة‪ ،‬لعــل‬
‫أهمهــا ‪ -‬بحســب فكــره ‪ -‬إنقــاذ الشــعب مــن الضــياع‪،‬‬
‫وإصلح ما فسد‪ ،‬أو بمعنى أدق ما أفسده السابقون‪ ،‬أما‬
‫كيف يحتفظ بعرشه‪ ،‬فأعتقد أن حرسه الخاص الذي هــو‬
‫بمثابــة حاشــية كــبيرة لــه‪ ،‬يلعــب الــدور الرئيســي فــي‬
‫حمايته‪ ،‬كمــا أن محـاربته للموهــوبين والبــارزين‪ ،‬وإفقـار‬
‫وإذلل الشعب‪ ،‬ونشر الوشاية‪ ،‬أو غير ذلك مــن وســائل‬
‫سلبية تدميرية‪ ،‬كلها أساليب لها دور في حمــايته‪ ،‬ولكــن‬
‫لفترة‪ ،‬لنه في الغالب إما أن يُقتل أو ُينفى !‬
‫ويصف الفيلسوف أفلطون في كتاب "‬
‫الجمهورية " كيفية ظهور الدكتاتور من الديمقراطية‬
‫نفسها ! فيوضح أن الديمقراطية أو الحرية تُفهم في‬
‫أحيان كثيرة فهما ً خاطئًا‪ ،‬فتكون النتيجة انتشار‬
‫الفوضى‪ ،‬التي من ثمارها انتهاك حقوق البشر‪ ،‬وغياب‬
‫القانون‪ ..‬فتظهر الجماعات من الغوغاء‪ ،‬وتكون‬
‫‪168‬‬

‫‪421‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫السيطرة الكاملة للفتوات الجهلء‪ ،‬فيقفز الدكتاتور إلى‬
‫الحكم‪ ،‬لنه غالبا ً ما يكون واحدا ً من هؤلء المرضى‪،‬‬
‫المهوسين بحب السلطة ! فالحكومة الدكتاتورية كما‬
‫يرى أفلطون‪:‬‬
‫مممم مم ممممممم ممممممممممم ممممممم‬
‫مم مممممم ممم مم مممممم ممممممم ‪..‬‬
‫وفي أحيان كثيرة يعم الفساد أنحاء البلد‪ ،‬ل بسبب‬
‫الفوضى‪ ،‬وإنما بسبب فساد الحاكم‪ ،‬ولعل أشهر‬
‫عصور الفساد هي عصور الملكية‪ ،‬فمعظم الملوك‬
‫الذين تولوا السلطة بالوراثة وتربعوا على عرش الملك‪،‬‬
‫ضلوا وحادوا عن طريق الحق ! فالنتيجة الطبيعية تسّلط‬
‫المنحلين‪ ،‬وتمّلك المنافقين‪ ،‬وتوّلي الجهلة أعلى‬
‫المناصب‪ ..‬فل يجد الشعب بديل ً ليتخلص من هذا الفساد‬
‫سوى الثورة أو النقلب‪ ،‬وغالبا ً ما يكون قائد الثورة هو‬
‫الذي يتولى الحكم‪ ،‬فيحكم بلده بالنار والحديد‪ ،‬ثم بعد‬
‫قليل يخضع لبريق السلطة‪ ،‬فيسعى بكل ما يملك من‬
‫إمكانات‪ ،‬للحفاظ على العرش والتربع على كرسي‬
‫الحكم‪ ،‬فماذا يفعل ؟ يبدأ في إصدار قوانين إرهابية‬
‫وأحكام سياسية تعسفية‪ ،‬لجبار الناس على طاعة‬
‫أوامره‪ ،‬والخضوع المطلق لقراراته‪ ،‬فيتحول دون أن‬
‫يريد إلى دكتاتور‪ ،‬شأنه شأن من كان يحكم قبله‪ ،‬وإن‬
‫اختلف الشكل أو السلوب!‬
‫لكننا نؤكد أن أهم وأخطر العوامل ‪ ،‬التي ساعدت‬
‫على انتشار الدكتاتورية‪ ،‬سواء في العصور القديمة أو‬
‫الحديثة‪ ،‬هي قلـة مواهب القادة ونشأتهم‬
‫الممزقة‪ ،‬فمعظم الذين وجدوا نشوتهم في إذلل‬
‫‪169‬‬

‫‪621‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫البشر واستعبادهم‪ ..‬نشأوا في أوساط منحطة خُلقيا ً‬
‫وماديًا‪ ..‬فعاشوا يعانون الحرمان في كل شئ ‪ :‬المال‪،‬‬
‫العلم‪ ،‬الحب‪ ..‬فما أن تملكوا حتى سعوا بكل طاقاتهم‬
‫لشباع رغباتهم الجنسية‪ ..‬وشهواتهم الحسية‪ ..‬التي‬
‫ظلت مكبوتة عدة سنوات‪.‬‬
‫ومن الطبيعي أن يبدأ هؤلء حملتهم النتقامية ضد‬
‫من كان أفضل منهم‪ ،‬ليعوضوا النقص في شخصياتهم‪،‬‬
‫وها سليمان الحكيم يؤكد هذا بقوله ‪ " :‬تحت ثلثة‬
‫تضطرب الرض وأربعة ل تستطيع احتمالها‪ ،‬تحت عبد‬
‫إذا ملك وأحمق إذا شبع خبزًا‪ ،‬تحت شنيعة إذا‬
‫تزوجت وآمة إذا ورثت سيدتها " )أم ‪! (22 ،21 :30‬‬
‫فها هو هتلر أشهر دكتاتور في العصر الحديث‪ ،‬الذي‬
‫مزق العالم تمزيقا ً‪ ،‬يولد في ُأسرة فقيرة في النمسا‪،‬‬
‫فذاق منذ نعومة أظافره كل ألوان العذاب بسبب الفقر‬
‫والحرمان‪ ،‬حتى إن ظروفه المالية أجبرته على ترك‬
‫المدرسة مبكرًا‪ ،‬ولما فشل في احتراف الرسم‪ ،‬وعجز‬
‫عن النخراط في أي عمل آخر‪ ،‬وضاقت عليه حياته في‬
‫سٍ ل يرحم فقيره‪ ،‬هاجر على ألمانيا واستقر‬ ‫مجتمع قا ٍ‬
‫في ميونخ‪ ،‬حيث عمل نقاشا ً قبل أن يلتحق بالجيش‬
‫ويشارك في الحرب العالمية الولى‪..‬‬
‫وعيدي أمين دكتاتور أوغندا‪ ،‬ذو النوادر الطريفة‪،‬‬
‫فقد طلب مرة من رئيس تنزانيا أن يلعب معه مباراة‬
‫في الملكمة‪ ،‬بدل ً من أن يدخل معا ً في حرب ويذهب‬
‫ضحاياها اللوف‪ !..‬هذا الدكتاتور لم يكن يعرف القراءة‬
‫والكتابة‪ ،‬وليس له شهادة ميلد‪ ،‬استقبل حياته في‬
‫الغابة‪ ،‬كما أنه لم يلتحق بمدرسة في حياته !!‬
‫‪170‬‬
‫أما في إفريقيا الوسطى فقد ظهر بوكاسا‪ ،‬الدكتاتور‬
‫الغريب الطوار المتقلب المزاج‪ ،‬الذي قام بعملية سطو‬
‫على قمة السلطة‪ ،‬بعد أن كان متطوعا ً في الجيش‬
‫الفرنسي برتبة رقيب‪ ،‬إل أنه بعد الستقلل ينخرط في‬
‫جيش بلده‪ ،‬ويتدرج في المراتب العسكرية‪ ،‬حتى يقوم‬
‫بانقلب عسكري‪ ،‬يعين على إثره نفسه في معظم‬
‫مناصب الدولة الهامة‪:‬‬
‫‪ -‬رئيس الجمهورية مدى الحياة‬
‫‪ -‬وزير الدفاع‬
‫‪ -‬وزير الداخلية‬
‫‪ -‬وزير الزراعة‬
‫‪ -‬حامل الختام الرسمية الملكية‬
‫فأي قرار هذا الذي اتخذه ؟! وما هي مواهبه وقدراته‬
‫حتى يشغل كل هذه المناصب وحده ؟! ثم ماذا يفهم‬
‫في الوظائف التي شغلها ؟! إنه عشق السلطان‬
‫المطلق‪ ،‬حب السياسة المركزية‪ ،‬الخوف على المركز‬
‫محاولة يائسة لتعويض حرمان الطفولة والصبا !!‬
‫فهل ُأناس مثل أولئك يستحقوا أن يحكموا بشرا أو‬
‫ً‬
‫يقودوا بلدا ً ؟! كيف ؟ كيف لمريض مشلول قدرة‬
‫أن يذهب ليفتقد المرضى ويعالج المجروحين ؟‬
‫نعم كيف ل ُناس ترجع أفعالهم إلى الخلل النفسي‪،‬‬
‫والنشأة الممزقة‪ ،‬أو التربة القذرة التي نبتوا فيها‪ ..‬أن‬
‫يتولوا رعاية أو قيادة من هم أفضل منهم علما ً وخُُلقا ً‬
‫ودينًا؟! ولكن هذه هي الحياة منذ أن وجدت‪:‬‬
‫ممم مممم مممممم ممممم مممم ممممم مممممم‬
‫مممم‬
‫‪171‬‬
‫مممم مم مممممم ممم‬
‫مممممم مم مم م م‬
‫ممممممم!‬
‫يتولى الدكتاتور الحكم كما قلنا ليُنقذ البلد من‬
‫الفوضى التي عمتها‪ ،‬أو الفساد الذي دنسها‪ ،‬فهو يظهر‬
‫على أنه المنقذ الذي سيعيد المن والنظام والستقرار‬
‫إلى البلد‪ ..‬حتى يشعر كل مواطن أنه آمن على نفسه‬
‫وأهله وأولده‪ ..‬فالمبرر لظهور الدكتاتور هو قدرته على‬
‫النهوض بالشعب‪ ،‬وحل المشاكل‪ ،‬والسيطرة على‬
‫الزمات‪ ،‬بعد أن أصبح القائد الحالي عاجزا ً عن حلها‪..‬‬
‫ولهذا يبدأ أيامه الولى من حكمه‪ ،‬متبعا ً سياسة‬
‫الرحمة والحب والمسامحة‪ ،‬فيتقرب من الناس‪ ،‬ويبتسم‬
‫لكل من يقابله‪ ،‬بل ويحييه‪ ،‬وربما ينحني أمامه ! كما أنه‬
‫يستنكر كل أساليب العنف وإذلل البشر‪ ،‬ويعفي الناس‬
‫من الديون‪ ،‬ويلغي الضرائب‪ ،‬ويوزع الراضي على‬
‫الشعب‪ ،‬ويهتم بالفقراء‪ ،‬وبصفة عامة يتصنع الود‬
‫والطيبة والكرم والحترام مع الجميع‪!..‬‬
‫إذن فسياسة المكر هي أبرز سمات سياسة‬
‫الدكتاتور في بداية حكمه‪ ،‬وإذا تساءلت لماذا ؟ ُأجيب‪:‬‬
‫ون حرسا ً خاصا ً‬ ‫لنه في البداية ل يكون قد ك ّ‬
‫يحميه من أية انقلب يقوم ضده كما أنه يريد أن يجمع‬
‫معلومات عن الشخصيات البارزة‪ ،‬ويعرف ضعفات‬
‫معاونيه لذللهم وإجبارهم على تنفيذ سياسته‪ ..‬وهذا كله‬
‫ل يتم إل بالمكر والبتسامات المصطنعة‪ ،‬فما أن يتملك‬
‫فسرعان ما يبدأ في القضاء على معارضيه‪ ،‬وكل من‬
‫يشعر فيهم القدرة على الوقوف ضده !‬

‫‪172‬‬

‫‪821‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫وإلى هنا ل تنتهي سياسته‪ ،‬فبعد أن يتخلص من أعدائه‬
‫ل يكف عن شروره‪ ،‬بل يريد أن ُيظهر قوته في حماية‬
‫شعبه‪ ،‬فماذا يفعل عميل الشيطان ؟ يشعل الحرب‬
‫داخل البلد‪ ،‬وهذه الحرب الهلية غالبا ً ما تكون فتنة‬
‫ُيثيرها ! فيشعر الشعب بحاجته الشديد إلى قائد قوى‬
‫يحتمي فيه وينقذه‪ ،‬وهل من منقذ غير القائد يستطيع‬
‫بإمكاناته أن ينقذهم ؟!‬
‫مم ممممم ممممم ممممممم ممممممم ممممم‬
‫ممممممممم‬
‫مممم ممممم ممممممم ممم مممم مممممم ممم‬
‫مممم‬
‫مممم ممممم مممم ممم مممم ممم ممم‬
‫مممممم !!‬
‫بعد أن يقضي الدكتاتورعلى أعدائه يجد نفسه سيدا ً‬
‫مطاعًا‪ ،‬فالطريق قد زالت منه اللغام والشواك‪ ،‬عندئذ‬
‫يفعل ما يريد سواء كان خطأ أم صوابًا‪ ،‬فل يجد مانعا ً‬
‫من سفك دماء أقرب الناس إلية فنيرون قتل أُمه‬
‫ومعلمه ! ول تتعجب إن قرأت أو سمعت عن تلفيق‬
‫التهم الباطلة أو المحاكمة‪ ..‬لشخاص أبرياء بدون‬
‫قانون‪ ،‬فالدكتاتور يحتقر القوانين أشد احتقار ول يعترف‬
‫فذ!‬
‫بها‪ ،‬فكلمه هو القانون الذي ينبغي أن ين ّ‬
‫ولما لم يعد هناك شئ أو شخص يستطيع أن يقف في‬
‫وجه الدكتاتور فإنه يصبح على‪ -‬حد تعبير أفلطون‪ -‬عبد‬
‫الجنون‪ ،‬وينقلب حكمه إلى كارثة‪ ،‬فالجبار الذي أمسك‬
‫بدفة الحكم ليكون مخلصا ً للشعب‪ ،‬ل يُقيم وزنا ً لدماء‬
‫البشر‪ ،‬أو أموالهم‪ ،‬أو أعراضهم‪ ،‬فيقتل البرار ظلمًا‪،‬‬
‫‪173‬‬
‫ويسفك دماء العلماء والمفكرين والبارزين غيرة‬
‫وحسدًا‪..‬‬
‫وهذه قصة دكتاتور روماني‪ ،‬تقدم لنا صفحة قاتمة‬
‫من تاريخ الظلم‪ ،‬وهي بل شك صفحة سوداء مليئة‬
‫بالقسوة والعنف‪ ،‬إنها صفحة خالية من كل معاني‬
‫الرحمة والعدل واحترام كرامة وحقوق النسان‪ ..‬إنه‬
‫كاليجول الذي حكم روما في القرن الول الميلدي !‬
‫بدأ كاليجول حكمه بأسلوب الماكرين‪ ،‬فماذا فعل ؟‬
‫أفرج عن المسجونين‪ ،‬وأعاد المنفيين‪ ،‬كما خفف‬
‫الضرائب على الشعب‪ ،‬ووزع أموال ً كثيرة على‬
‫المحتاجيـن‪ ،‬أما الديمقراطية فكانت شعاره ! فظـن‬
‫النـاس أن عصر كاليجول هو العصر الذهبي‬
‫للمبراطورية الرومانية ولكن سرعان ما خابت الظنون‬
‫! فبعد ثلثة أشهر من حكم هذا الوحش البشري انقلب‬
‫الحال‪ ،‬وظهرت المور على حقيقتها‪ ،‬فكاليجول ليس إل‬
‫وحشا ً بشريا ً‪ ،‬متعطشا ً دائما ً لسفك الدماء‪ ،‬أعصابه‬
‫متوترة‪ ،‬شره للملذات‪ ،‬نهما ً للجنس‪ ،‬ل يخضع لقانون أو‬
‫يلتزم بمبدأ‪ ..‬فهل من سبب لذلك ؟! نعم !‬
‫لقد اكتشف في بداية حكمه‪ :‬ان كلمته مطاعة‬
‫ومسموعة بصورة لم يكن يتوقعها‪ ،‬وأنه‬
‫يستطيع عمل أي شئ وفي أي وقت ومع أي‬
‫إنسان دون أدنى اعتراض‪ ،‬فتسلل سم السلطة‬
‫المطلقة إلى عقله‪ ،‬فأصبحت قراراته صادرة عن‬
‫إحساسه الجنوني بأنه يملك الرض وما عليها‪ ،‬ولنه‬
‫اقتنع تماما ً أن أحدا ً ل يقدر أن يقول له " ل " !! أرغم‬

‫‪174‬‬

‫‪031‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫أعضاء مجلس الشيوخ أن ُيقّبلوا قدميه !!‬
‫والعجيب‪:‬‬
‫ممم ممممم ممممم ممممم مممم ممممم مممممم‬
‫ممم مم مممممم ممم ممممممم ممممم ممممم!‬
‫أما سلوكه بالنسبة للنساء فقد كان شاذا ً بصورة‬
‫فرة‪ ،‬فقد أمر بطلق ُأخته ليتزوجها ! ثم‬ ‫من ّ‬
‫مقّززة و ُ‬‫ُ‬
‫ماتت فحزن عليها إل أن حزنه عليها لم يمنعه من‬
‫تطليق زوجات كثيرات ليصبحن عشيقات له ! وذات‬
‫مرة حضر زفاف إحدى النساء الشهيرات في روما‪،‬‬
‫وفي ليلة الزفاف أعجبته العروس فأخذها إلى قصره‬
‫وتزوجها !‬
‫وازدادت سلوكياته الشاذة‪ ،‬فصار ل يستحم إل‬
‫حب أن يلقي بالنقود الذهبية من شرفة‬ ‫بالعطور! وكان ي ُ ِ‬
‫قصره على الناس‪ ،‬لكى يستمتع بمنظرهم وهم‬
‫يتزاحمون على النقود التي يُلقيها جللته ! فكانت نتيجة‬
‫هذا التبذير هي الفلس ! فماذا فعل ليحصل على المال‬
‫؟ فرض الضرائب على الشعب بعد أن كان قد خففها !‬
‫وكان يقتل الغنياء ليحصل على أموالهم !‬
‫ومن أعمال هذا الدكتاتور الشاذة‪ ،‬أنه قرر يوما ً تقديم‬
‫جميع الصلع من المساجين طعاما ً للوحوش التي كان‬
‫يربيها ليستمتع بألعابها ! وقد وصل إلى قمة الجنون‬
‫عندما اختار حصانه المفضل ليجعل منه عضوا ً في‬
‫مجلس الشيوخ ! ثم اختاره لكى يكون وليا ً للعهد‪ ،‬ووارثا ً‬
‫لعرش المبراطورية !!‬
‫مممممم مم ممممم مممممم ممم ممممم مممم م‬
‫ممممم ممممم ممممممم ممممممم ممممممم !‬
‫‪175‬‬
‫ومن الصفات الدامية التي يمثلها كاليجول‪ ،‬نتعلم أن‬
‫السلطة المطلقة تقود إلى فساد مطلق‪ ،‬وتؤدي‬
‫إلى جرائم وكوارث ما أصعب علجها‪ ،‬وهي إن كانت‬
‫شرا ً يفتك بالبشر‪ ،‬فهي أيضا ً مأساة لصحابها‪ ،‬فيندر‬
‫أن يكون هناك دكتاتورقد سلم من دكتاتوريته‪ ،‬وها هو‬
‫كاليجول نفسه قد انتهى به المر أن ُيقتل على يد أحد‬
‫ضباطه !‬
‫يجب أن نعترف بأن الغاية النهائية للدكتاتور لكي‬
‫يحتفظ بعرشه‪ ،‬هي تدمير روح المواطنين‪ ،‬وزرع‬
‫الشك وانعدام الثقة فيما بينهم‪ ،‬وجعلهم عاجزين عن‬
‫عمل أي شئ ‪ ،‬كذلك تعويد الناس على العمال‬
‫الخسيسة‪ ،‬والعيش بل كرامة‪ ،‬بحيث يسهل عليهم أن‬
‫يعتادوا الذل والهوان ! فإذا دُمرت روح الشعب انتشر‬
‫الجهل وسادت الفوضى وانعدمت المواهب وأصبحت‬
‫الحياة عائمة‪ ،‬هنا يصطاد الدكتاتور في عكارة المياه‪،‬‬
‫وهكذا يميل الدكتاتور إلى هدم الدولة ذاتها‪ ،‬بهدمه لروح‬
‫المواطنين التى هى الساس لقيام الدولة !‬
‫ولهذا نشبه الدكتاتور بما كان يفعله همج لويزنانة !‬
‫فما هي لويزنانة وماذا كان الهمج يفعلون فيها ؟ هي‬
‫ولية أمريكية عاصمتها باتون روج أصبحت في عام )‬
‫‪1812‬م( الولية رقم )‪ (18‬وفي هذه الولية كان‬
‫الهمج لكي يقطفوا الثمار يقطعون الشجرة‬
‫نفسها ! فالنتيجة واضحة‪ ،‬لو استمر هذا السلوك فبعد‬
‫قليل فلن نجد شجرة واحدة‪ ،‬فتنتشر المجاعات وترتفع‬
‫نسبة الموتى‪ ،‬إلى أن تنتهي البشرية كلها !‬

‫‪176‬‬

‫‪231‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫لقد أصبح الن واضحا ً أن الحالة النفسية‪ ،‬هي حجر‬
‫الساس في البداع والنمو والزدهار‪ ..‬فالنسان الحر‬
‫المستقر نفسيا ً وبدنيا ً يستطيع أن يُنتج أكثر وبصورة‬
‫أفضل من القلِق أو المتوتر‪ ،‬وهذا ما أكده عالم القتصاد‬
‫الشـهير آدم سـميث ) ‪ 1790 –1723‬م ( عندما قال‬
‫في كتابه المشهور ) ثروات المم ( ‪ :‬إن العامل الحر‬
‫يزيد عن العبد في النتاج‪ ،‬لن القهر يحجب نشاط‬
‫النسان وذكاءه وإبداعه !‬
‫وعبودية النسان‪ ،‬كما يرى عالم القتصاد الفرنسي‬
‫سي )‪ 1848 -1787‬م(‪ ،‬تعطل مواهبه‪،‬‬ ‫الشهير رو ّ‬
‫وتقيد إرادته‪ ،‬ول يقتصر ضررها على ميدان الخلق‬
‫فحسب‪ ،‬بل يتعداه إلى الضرار بالنظام القتصادي أيضًا‪،‬‬
‫لن في ظل النظام الدكتاتوري يكاد العمل أن يتوقف‪،‬‬
‫ول يكون حديث الناس إل عن الدكتاتور وكيفية الخلص‬
‫منه‪.‬‬
‫والن نقترب من السؤال الذي يثيره البعض‪ :‬هل‬
‫يستطيع الدكتاتور أن يحفظ الود لعوانه ؟! لقد‬
‫وصل الدكتاتور إلى السلطة بواسطة أعوان‪ ،‬قد يكونون‬
‫من المرتزقة الشرار‪ ،‬أوغيرهم من أدنياء البشر‪ ،‬وكنوع‬
‫من رد الجميل‪ ،‬أعطاهم بعد توّليه الحكم إما مراكز أو‬
‫أموال ‪ ..‬فهل علقته بهؤلء يمكن أن تستمر إلى‬
‫البد ؟!‬
‫يجب أن نعترف بأن الدكتاتور بحكم تكوينه النفسي‪،‬‬
‫ل يستطيع أن يحيا مع إنسان حياة مركزها‬
‫الحب‪ ،‬فالمبادئ والقيم ل مجال لها في حياة الدكتاتور‪،‬‬
‫فهو على استعداد أن يغدر بأى إنسان إذا شك فيه‪ ،‬حتى‬
‫‪177‬‬
‫الذين ساندوه إذا أصبحوا من ذوي النفوذ‪ ،‬يعّبرون عن‬
‫آرائهم بكل صراحة‪ ،‬وينتقدون تصرفاته‪ ،‬فلبد أن يقضي‬
‫عليهم‪ ،‬وفي النهاية ل يترك شخصا ً ذا قيمة سواء بين‬
‫أصدقائه أو أعدائه إل ويقتله‪ ،‬أو على القل يحد من‬
‫نفوذه أو شهرته‪ ،‬أو يقيد مواهبه‪ ،‬ويسجن حريته‪ ،‬ولهذا‬
‫فإن سنوات حكم الدكتاتور هي سنوات غليان‪ ،‬إذ أن‬
‫البلد تكون في حالة حرب مع الجميع !‬
‫أما سبب فقدان ثقة الدكتاتور في الجميع‪ ،‬فيرجع إلى‬
‫أن الدكتاتور يعرف جيدا ً أنه مكروه‪ ،‬والجميع بعد أن‬
‫اكتشفوا سياسته الملتوية وأسلوبه الماكر يريدون‬
‫الطاحة به‪ ،‬ولكن كيف يتحقق حلمهم ؟ لبد من ثورة أو‬
‫انقلب أو استخدام أحد أعوانه المقربين إليه ليغدر به‪..‬‬
‫ولهذا السبب تنعدم ثقته حتى في أصحابه وحاشيته‪..‬‬
‫ولنه يفقد ثقته في الجميع فهو لذلك يحاول مراقبتهم‪،‬‬
‫ويسعى جاهدا ً لمعرفة أخبارهم‪ ،‬وجمع المعلومات‬
‫المخزية عنهم‪ ،‬ولهذا تكون له عشيقات كثيرات‪ ،‬لشباع‬
‫شهواته المتعطشة على الدوام‪ ،‬هذا من ناحية‪ ،‬وعلى‬
‫أمل أن يبّلغن عن أزواجهن من ناحية ُأخرى‪ ،‬ولنفس‬
‫السبب تراه يفرط في تدليل الخدام والعبيد حتى يفشوا‬
‫أسرار أسيادهم ! ولهذا السبب أيضا ً يختار الفاسدين من‬
‫أدنياء البشر في نظام حكمه‪ ،‬ليكونوا له مرافقين‬
‫ومستشارين‪ ،‬فهم عبيد التملق والنفاق‪ ،‬والدكتاتور‬
‫حب من يتملقه‪،‬‬ ‫تسره المداهنة‪ ،‬وينتشي من النفاق‪ ،‬وي ُ ِ‬
‫ولهذا ل نجد إنسانا ً شريفا ً يقدم على مثل هذا العمل‬
‫الدنيء‪ ،‬أما الرجل المنحط فليس لديه استعداد للقيام‬

‫‪178‬‬
‫بمثل هذا العمل فقط وإنما يسعى إليه بكل ما يملك من‬
‫إمكانات !‬

‫‪179‬‬
‫ممممم مممممم‬
‫مممم ممممممممم ممممممم‬
‫مممم‬
‫أما صفات الدكتاتور‪ ،‬والساليب التي يلجأ إليها لكي‬
‫يحتفظ بعرشه‪ ،‬فهي تقليدية يتوارثها الدكتاتوريون! وقد‬
‫ابتكر أغلبها بريندر ‪ Periander‬طاغية كورنثه )‪-625‬‬
‫‪ 585‬ق‪.‬م( وإن كان قد استمد الكثير منها من سمات‬
‫الحكم في بلده ! ولعل أهم هذه الصفات والساليب‬
‫هي التي ‪:‬‬

‫مممممم ممممممم‬
‫حياة الدكتاتور كما يصفها أفلطون هي سلسلة من "‬
‫أعياد اللذة " سواء كانت حسية كالكل والشرب‬
‫والسكر والجنس‪ ..‬أو نفسية كحب السيطرة والتملك‪..‬‬
‫ومن المعروف أن من يعيش للذاته تكون حياته بل‬
‫مبادئ‪ ،‬لن اللذة عندما تتملك على إنسان تجعله في‬
‫حالة عجز تام‪ ،‬عن معرفة قريبه حامل القيم السامية‪،‬‬
‫ومن أجل تحقيق لذاته هو على أتم الستعداد أن يفعل‬
‫أي شئ في أي إنسان!‬
‫كما أن اللذات تولد لذات لبد من إشباعها‪ ،‬وإشباع‬
‫اللذات المتجددة كل يوم يحتاج إلى مال‪ ،‬ولكن المال‬
‫سرعان ما ينتهي‪ ،‬فما هو الحل ؟ تبديد الميراث‬
‫والممتلكات! ومع ذلك تبقى اللذات تلح بعنف‪ ،‬وتلد‬
‫‪180‬‬

‫‪431‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫لذات ُأخرى أشد قسوة وإلحاحًا‪ ،‬فتصرخ اللذات العنيفة‬
‫وتلدغه‪ ،‬فيجري هنا وهناك كالمجنون باحثًا‪ ،‬عن من‬
‫يملك شيئا ً يأخذه منه سواء بالخديعة أو بالكراه‪ ..‬ولن‬
‫الدكتاتور ل يقيم وزنا ً للقيم أو المبادئ الخلقية‪ ..‬فهو‬
‫إذن ل يتورع عن ضرب إهانة أو قتل كل من يقاومه‪،‬‬
‫حتى لو كان هذا الشخص أباه أو أخاه أو إبنه أو‬
‫صديقه‪...‬‬
‫في روسيا ظهر" ستالين " الملقب بالدكتاتور‬
‫الحمر‪ ،‬رجل يحيا في شراهة غير طبيعية‪ ،‬لم يألفها‬
‫العالم في حاكم من قبله‪ ،‬فقد كان يلتهم كميات هائلة‬
‫من الطعام يعجز عن ابتلعها وحش كاسر‪ ،‬ضخم‬
‫الجسم‪ ،‬وشديد النهم ! وأنا هنا أكتب كما قرأت في‬
‫كتاب نوادر الحكام للستاذ مجدي كامل‪ ،‬وإن كنت‬
‫حتى الن ل ُاصدق ما أكتبه !!‬
‫فقد ذكر المؤلف ‪ -‬بحسب رواية زوجة ستالين ‪ -‬إن‬
‫‪1‬‬
‫وجبة فطور ستالين كانت تتكون من لتر فودكا يشربه‬
‫‪4‬‬
‫دفعة واحدة‪ ،‬ثم سمك الهارتك ومعه شطائر البصل‬
‫والخيار المملح والخبزالسمر‪ ،‬أما الطبق الرئيسي ـ ول‬
‫زلنا نتحدث عن وجبة الفطورـ فكان يتكون من ضلوع‬
‫الغنم أو الخنزير مع البطاطا المقلية والعجة‪ ..‬هذا‬
‫بالضافة للزبدة والمربى والحلوى مختلفة الشكال‬
‫والنواع‪...‬‬
‫أما الغذاء‪ ،‬فقد كان في الساعة الثانية ظهرًا‪ ،‬ويبدأ‬
‫كالفطور بربع لتر فودكا مع سمك الهارتك والبصل‪ ،‬ثم‬
‫ربع آخر من الفودكا‪ ،‬يليه الدجاج والنخاعات والسلطة‬
‫الروسية‪ ،‬والخضر والبيض‪ ،‬وما أن يلتهم كل ما سبق‪،‬‬
‫‪181‬‬
‫ينطلق إلى قطـع اللحم‪ ...‬ثم الحـلوى‪ ...‬وبعدها يشرب‬
‫الشاي‪ ...‬وفي الساعة الثامنة تبدأ وقائع وجبة العشاء‬
‫بحلة كبيرة من الحساء السميك‪ ،‬ثم يتبعها بالسمك‬
‫المدخن والبيض المقلي‪ ،‬ثم الدجاج أو البط المشوي‪،‬‬
‫وقطع من لحم الخنزير بعد زجاجة نبيذ كاملة‪ ،‬ثم بعض‬
‫الفاكهة والحلوى قبل أن يختتم وجبته بالقهوة‪!!! ..‬‬

‫مممممم مممممم‬
‫مطلق‪،‬‬ ‫من أهم صفات الدكتاتورعشق السلطان ال ُ‬
‫فالسياسة المركزية من ابتداع الدكتاتوريين‪ ،‬ولهذا ففــي‬
‫عصور الستبداد القديمة‪ ،‬ما كان أحـد يعـرف إل الزعيــم‬
‫ول يتكلم إل عن الزعيم‪..‬‬
‫أما فــي العصــر الحــديث‪ ،‬فتشــغل الجــرائد والمجلت‬
‫صـــفحاتها الرئيســـية بصـــورالدكتاتور وعـــائلته‪ ،‬وهكـــذا‬
‫شاشــات التليفزيــون يتخللهــا أحــاديثه ورحلتــه وأعمــاله‬
‫ومقابلته‪ ...‬بصورة مملة لنها مبالغ فيهــا ! والويــل لمــن‬
‫يطفو ويلمع اسمه !‬
‫أما النتيجــة الطبيعيــة لهــذه السياســة الفاشــلة‪ ،‬فهــي‬
‫التدهور والكبت والقتل والسرقة‪ ...‬لن إنسانا ً يملك كــل‬
‫شئ لبد أن يفهم في كل شئ ‪ ،‬وهل يوجد إنسان خــبير‬
‫بكل علوم البشر ؟!‬
‫كل الدكتاتوريون هم من عشاق السلطة المطلقة‪،‬‬
‫صع بالجواهر والحجار الكريمة‪ ،‬يتلل أمام‬ ‫فالتاج المر ّ‬
‫عيونهم‪ ،‬فيجعلهم يضحون بكل شئ‪ ،‬ولكي يضمن‬
‫الدكتاتور تنفيذ سياسته يشغل الوظائف بحاشيته‪ ،‬ومن‬

‫‪182‬‬

‫‪631‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫بأناس بل مواهب‪ ،‬أو عديمى‬ ‫ل يخشى منهم‪ ،‬أو يشغلها ُ‬
‫الخبرة‪ ،‬فهؤلء أدوات مأمونة من أدوات استبداده !!‬
‫ولكن في بعض الحيان يُعطي الدكتاتور أتباعه بعض‬
‫من السلطان والنفوذ‪ ،‬لكي ينفذوا أغراضه ثم بعد ذلك‬
‫يستبعدهم‪ ،‬ليس كراهية فيهم بالضرورة‪ ،‬بل لكي‬
‫يستعيد ما أعطاهم من سلطان‪ ،‬إذ ل يجوز من وجهة‬
‫نظر الدكتاتور‪ ،‬أن تكون ذرة من السلطان في يد إنسان‬
‫غيره‪ ..‬فعاشق السلطان يغار على سلطته أكثر‪ ،‬مما‬
‫حبها‪..‬‬
‫يغار الرجل على زوجته التي ي ُ ِ‬
‫وعندما يريد الدكتاتور أن يتخلص من رجل‪ ،‬ل يهتم‬
‫بالطريقة التي يقضي بها عليه‪ ،‬المهم أن يختفي من‬
‫على مسرح السياسة‪ ،‬ففي ظل السلطة المطلقة‪،‬‬
‫تتلشى الهداف والمثل العليا في زحمة الخوف‬
‫والرهاب‪ ..‬كما يغيب القانون وهذا هو بداية الطغيان‪،‬‬
‫أتذكرون قول المفكر النجليزي جون لوك‪ :‬عندما‬
‫ينتهي القانون يبدأ الطغيان !‬

‫مممممم ممم مممممممم‬


‫من الرجال أو النساء ‪ ،‬أصحاب العقول الناضجة‬
‫والفكر المستنير! واستئصال كل من تفوق أو رفع‬
‫رأسه‪ ،‬أو على أقل تقدير الحد من قدراته‪ ..‬وقد سبق‬
‫أن تحدث عن هذه الطريقة أفلطون ودعاها باسم‬
‫طريقة التطهير‪ ،‬فالدكتاتور‪ -‬بحسب مفهومه‬
‫الخاطئ ‪ -‬يريد أن يطهر الدولة من العظماء البارزين‪،‬‬
‫ولكن ما أعجب طرقه في التطهير! فالطباء عندما‬
‫يريدون تطهير إنسان‪ ،‬فإنهم يخّلصون جسمه مما هو‬
‫‪183‬‬

‫‪831‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ضار فيه ولكنهم يتركون ما هو نافع للجسم‪ ،‬فالشياء‬
‫النافعة ل يجب أن تستأصل‪.‬‬
‫أما الدكتاتور فيفعل العكس‪ ،‬ذلك لنه ل يستأصل إل‬
‫النافع أوالمفيد! فهو ل يقضي إل على الشرفاء‪،‬‬
‫والمفكرين‪ ،‬وأصحاب المواهب‪ ،‬والشجعان‪،‬‬
‫والمخلصين‪ ...‬الذين يرفضون نفاقه‪ ،‬ول يستجيبون‬
‫لفساده‪ ،‬ول يلبون رغباته‪..‬‬
‫فمن أبرز سمات الدكتاتور الكراهية‪ ،‬فهو ل يحب رجل ً‬
‫ذا كرامة أو شخصا ً شريفًا‪ ،‬أو إنسانا ً له شخصية‬
‫دعي أنه يحتكر لنفسه هذه الصفات‬ ‫مستقلة‪ ،‬لنه ي ّ‬
‫الحسنة‪ ،‬ومن ثم يشعر أن أي إنسان شريف‪ ،‬إنما‬
‫يزاحمه في الجلل‪ ،‬أو يحرمه من التفوق والسيادة‪،‬‬
‫فذلك كله ‪ -‬من وجهة نظره ‪ -‬اعتداء على سلطانه‬
‫وسيادته!‬
‫وقد يقضي الدكتاتور على البارزين بطريقة غير‬
‫مباشرة‪ ،‬إذ يقوم بتوزيع المناصب على القارب‬
‫والحاشية رغم قلة مواهبهم! ففي ظل الدكتاتورية ل‬
‫مجال للمتخصصين أو أصحاب المواهب‪ ،‬كما أن الهدف‬
‫ليس العلم أو التقدم‪ ،‬إنما المال والمركز‪ ،‬أما النتيجة‬
‫فنحن نعرفها‪ ،‬فالطبيب إن لم يكن ماهرا ً لمات بسببه‬
‫كثيرون‪ ،‬فما بالك بإنسان ليس طبيبا ً بالمرة وقد ُفرض‬
‫على الناس ليعالجهم ويشفيهم!‬
‫ممممم مممممم مممممم‬
‫منذ آلف السنين ونتيجة لسقوط أبوينا‪ ،‬دخل الموت‬
‫العالم‪ ،‬وعرف الناس القتل‪ ،‬بعدما قتل قايين أخاه‬
‫‪184‬‬
‫هابيل! أما مأساة قايين فل تكمن في أنه أول قاتل‬
‫فحسب‪ ،‬بل أول من أدخل هذه الطريقة البشعة‪ ،‬والتي‬
‫صارت فيما بعد أسهل الطرق للقضاء على البشر!‬
‫إن خطورة القتل‪ ،‬تلك الجريمة التي يمارسها‬
‫الدكتاتوريين دون أن تتأذى مشاعرهم‪ ،‬تكمن في أنه‬
‫بموت إنسان قد يموت اللوف‪ ،‬وربما شعوب بأكملها قد‬
‫تتشرد أو تهلك‪ ،‬هذا بالضافة إلى أن المقتول ل يمكن‬
‫وض عنه‪ ،‬فهو ليس سلعة ُتشترى أو عملة يمكن‬ ‫أن يع ّ‬
‫ُ‬
‫استبدالها بأخرى‪.‬‬
‫ل ننكر أن كثيرين يظنون أن قتل الشرار فضيلة‪ ،‬أو‬
‫أن القضاء على الخطاة وسيلة حسنة‪ ،‬وذلك لتنظيف‬
‫المجتمع من الوبئة البشرية‪ ،‬والحشرات الدمية كما‬
‫يرون‪ ،‬إل أن هذا المفهوم خاطئ‪ ،‬فليس من حق إنسان‬
‫أن يجعل من نفسه هيئة قضائية‪ ،‬يحكم على الناس‬
‫وينفذ عليهم حكمه‪ ،‬لكننا نعترف بأن قتل البرار أشنع‬
‫بكثير من قتل الشرار لسبب بسيط‪ :‬إنهم أبرياء !‬
‫والحق إن من ُيقتل اليوم لو ُترك للغد فربما يتوب‪،‬‬
‫فالتاريخ يحكى لنا عن أشرار صاروا أبرارًا‪ ،‬وزناة تحولوا‬
‫إلى بتوليين‪!!..‬‬
‫إن القتل لم يكن في يوم ما حل ً لمشاكلنا‪ ،‬أو وسيلة‬
‫بّناءة للقضاء على معارضينا أو منافسينا‪ ،‬لنه إن مات‬
‫معارض قام عوضا ً عنه ألوف‪ ،‬وإن قتل منافس وقف‬
‫ضدنا مليين‪ ،‬كما أن" كل ما أُخذ بالسيف بالسيف‬
‫يهلك " )مت ‪ (52 :26‬ومن المعروف أن كل الذين‬
‫لجأوا إلى العنف خسروا قضيتهم‪ ،‬وفي النهاية خسروا‬
‫أنفسهم !‬
‫‪185‬‬
‫عندما قامت الثورة الفرنسية عام )‪1789‬م(‬
‫ظهرت على مسرح الثورة جماعة اليعاقبة‪ ،‬التى‬
‫كانت تمثل حزبا ً بالمعنى الحديث‪ ،‬لكن زعيمها‬
‫روبسبيير تطرف في استخدام العنف وإسالة الدماء‬
‫من أجل حماية الثورة‪ ،‬حتى إنه قتل القادة البارزين‬
‫الذين كان لهم دور بارز في نجاح الثورة ! فماذا كانت‬
‫النتيجة ؟‬
‫بدأ الثوار يخافون على حياتهـم‪ ،‬بسبب هذا التجاه‬
‫المتشـدد‪ ،‬فقد أصبح واضحا إن من يختلف مع القائد‪ ،‬أو‬
‫أن الزعيم يشك فيه مصيره العدام‪ ،‬فدبروا مؤامرة‬
‫لعتقاله في )‪ 28‬يوليو ‪1794‬م(‪.‬‬
‫وفي اليوم التالي لعدامه‪ ،‬قد تم إعدام ‪ 80‬آخرين‬
‫من أنصاره في الحزب‪ ،‬وبذلك انتهت سطوة الحزب‬
‫وانتهى عصر روبسبيير الدموى الذي سمي بـ " عصر‬
‫الرهاب " !‬

‫مم ممممم مممممم ممممم‬


‫وهذه الوسيلة القمعية السيئة‪ ،‬التي هي أبرز سمات‬
‫الدكتاتوريين‪ ،‬ترجع إلى أقدم العصور‪ ،‬فقديما ً كان‬
‫دعون أنهم أخذوا سلطتهم من اللهة‪ ،‬حتى يبثوا‬ ‫الطغاة ي ّ‬
‫الرعب في نفوس الشعب‪ ،‬ويرغمونهم على الخضوع‬
‫لهم !‬
‫فقد زعم حكام ما بين النهرين أنهم أخذوا سلطتهم‬
‫مرية‪ ،‬ويرمز‬ ‫من إنليل ‪ Enlil‬رئيس مجمع اللهة السو ْ‬
‫هذا الله المرعب إلى القوة والقهر‪ ،‬وبالتالي فعلى أية‬
‫معارضة من جانب الفراد ينبغي أن تسحق تمامًا‪ ،‬فل‬
‫‪186‬‬

‫‪041‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫يوجد طريق آخر أمام الرعية سوى الستسلم الكامل‬
‫مطلق !‬‫والخضوع ال ُ‬
‫وقد أخذ البابليون هذه الفكرة نفسها ولكنهم عدلوها‬
‫ور نفسه على أن الذي أعطاه‬ ‫ل‪ ،‬فحمورابى ص ّ‬ ‫قلي ً‬
‫اسمه هو إنليل‪ ،‬ولهذا أطلق على نفسه ابن إنليل‪.‬‬
‫كذلك كان الرعب ملزما ً للستبداد عند الفراعنة‪،‬‬
‫وهذا ما يرمز إليه بالفعى السامة أوريوس ‪ Uraeus‬التي‬
‫ترقد ملتفة حول جبهة الملك تهدد أعداءه بالدمار‪.‬‬
‫وفي الصين كان فن إدارة الحكم قديمًا‪ ،‬يعّبر‬
‫باستمرار عن حاجته للعقاب المرعب‪ ،‬حتى إن ما‬
‫نسميه الن وزارة العدل‪ ،‬كان في التراث الصيني‬
‫القديم يسمى باسم وزارة العقوبات !‬
‫والحق إن الدكتاتور هو إنسان غريب‪ ،‬ينادي بالحرية‬
‫ثم يجعلها احتكارا ً لنفسه‪ ،‬وكثيرا ً ما يقول للناس‪ :‬إرفعوا‬
‫رؤوسكم لقد مضى عصر الذل‪ ،‬لكنه يقطع كل من‬
‫يحاول رفع رأسه ! وهو بذلك يجعل سمة عصره الخوف‬
‫والذل‪ ..‬ولكن كل هذا ليس بغريب على من إتخذ المكر‬
‫والكذب والخداع‪ ...‬منهج عقيم لسياسته !!‬
‫مممم ممممممممممم ممممممم ! مممم‬
‫مممم مممممم مممم مم مم مممم !‬
‫كم من دكتاتور كان مرهقًا‪ ،‬ولكن ما أن يرى‬
‫مسرحيات التعذيب الوحشية أمام عينيه‪ ،‬حتى يبتهج‬
‫ويزداد وجهه إشراقًا‪ ،‬ومع كل سوط يهوي على جسد‬
‫أعدائه أو خصومه كانت عيناه تلمعان ببريق عجيب‪ ،‬إن‬
‫صوت الصراخ يتحول في أذنيه إلى أنغام موسيقية‪،‬‬

‫‪187‬‬
‫النين يشجيه‪ ،‬والصراخ يطربه‪ ،‬ومنظر الدم المسفوك‬
‫يملؤه بالنشوة‪ ..‬صوت السوط القاسي المؤلم يغني في‬
‫ُأذنيه‪ ،‬ومنظر الدم المتساقط يتحول أمام عينيه إلى‬
‫مجوهرات!‬
‫نعترف بأن كل الدكتاتوريين‪ ،‬الذين أذلوا البشر‬
‫واستعبدوهم وداسوا على آدميتهم‪ ،‬هم عادة من الشواذ‬
‫فكريًا‪ ،‬وشذوذهم هذا هو الذي جعلهم يحسون بالبهجة‬
‫في عذاب الخرين‪ ،‬وكلما كان العذاب أشد كانت‬
‫النشوة أكبر!!‬
‫أما ضمائرهم فل تستيقظ بعد عمليات التعذيب‪ ،‬بل‬
‫بعد أن ينتهوا من مذابحهم ينامون نوما ً عميقًا‪ ،‬كما‬
‫يحدث مع مريض كان يتألم ثم أخذ حقنة مخدرة‬
‫فاستراحت أعصابه‪ ،‬وراح على إثرها في نوم عميق‪ ،‬ألم‬
‫يقل سليمان الحكيم عن الشرار‪ " :‬ل ينامون إن لم‬
‫يفعلوا سوءا ً وُينزع نومهم إن لم ُيسقطوا أحدا ً‬
‫لنهم ُيطعَمون خبز الشر ويشربون خمر الظلم‬
‫" )أم ‪! (17 ،16 :4‬‬
‫ل تتعجب إن سمعت عن دكتاتور‪ ،‬يأمر بجلد عبيده ‪،‬‬
‫في الوقت الذي ُيقيم فيه حفلة ماجنة‪ ،‬فيرقص على‬
‫أنغام صراخ المسجونين الذين يأمر بجلدهم‪ ،‬وهكذا‬
‫يختلط صراخ المذلولين بصراخ السكارى والراقصات !‬
‫فهل ُأناس مثل هؤلء وأولئك ُيعدون أقوياء ؟! بالطبع ل‪،‬‬
‫إنهم ُأناس ضعفاء يشعرون بالنقص أمام القوياء‪ ،‬ولهذا‬
‫إذا رأوا رجل ً يتلوى أمامهم من اللم يشعرون بنشوة‪،‬‬
‫فما هي تلك النشوة ؟! إنها نشوة النتقام من رجال‬

‫‪188‬‬
‫أبرار أو مثقفين‪ ،‬ل يستطيعون أن ينافسوهم في أي‬
‫ميدان إذا فكت قيودهم !‬
‫في ظل هذا الوسط المرعب الكئيب‪ ،‬ل يجد الشعب‬
‫أمامه سوى أن يجعل سلوكه وأعماله‪ ...‬تتفق مع‬
‫مطالب الدكتاتور إذا أرادوا أن ُيكتب لهم البقاء‪ ،‬وهكذا‬
‫تصبح الطاعة العمياء‪ ،‬هي سمة المواطن الصالح في‬
‫ظل النظمة الدكتاتورية ! أما الذين ل يطيعون‬
‫فمصيرهم‪ :‬إما النفى وإما الموت !!‬

‫مممممم ممممممم‬
‫فى ظل النظمة الدكتاتورية‪ ،‬يكون الهدف الرئيسى‬
‫في التربية منذ الصغر‪ ،‬هو إعداد المواطن للخضوع‬
‫التام‪ ،‬والتلميذ الجيد هو البن المطيع‪.‬‬
‫فالتربية عند كنفوشيوس حكيم الصين‪ ،‬هي الطاعة‬
‫مطلقة للوالد والمعلم‪ ،‬وهذا هو الساس الذي تُبنى‬ ‫ال ُ‬
‫مطلقة للسادة في المجتمع‪ ،‬وبالتالي‬ ‫عليه الطاعة ال ُ‬
‫للحكام من الدكتاتوريين‪.‬‬
‫والفرد في بلد ما بين النهرين‪ ،‬كان يجلس في‬
‫المركز تحيط به مجموعة من الدوائر تمثل السلطات‬
‫المختلفة‪ ،‬التي يجب احترامها والخضوع لها‪ ،‬وتمثل‬
‫لسرة‪ :‬سلطة‬ ‫الدائرة الولى وهي القرب إليه سلطة ا ُ‬
‫لخت الكبرى‪ ،‬وتقع وراء دائرة‬ ‫لم والخ وا ُ‬ ‫الب وا ُ‬
‫السرة دوائر أُخرى‪ :‬كالدولة‪ ،‬والمجتمع‪ ..‬وتلزم لكل‬
‫منها طاعة كاملة‪ ،‬فإن لم يطعْ ُيعاقب‪.‬‬
‫كما كانت السلطة في مصر القديمة تربط بين‬
‫الطاعة في المنزل وطاعة الدولة‪ ،‬فالبن المطيع هو‬
‫‪189‬‬

‫‪241‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫الذي ستكون له مكانه طيبة في قلب الدولة‪ ،‬وسوف‬
‫يلقي حديثه قبول ً حسنا ً عند من يتحدث معه‪.‬‬
‫وهكذا نجد أن الهدف السمى في مثل هذه‬
‫الحكومات‪ ،‬هو تعليم الفرد أن يطيع بغير سؤال‪ ،‬ثم‬
‫تتطور خاصية الطاعة هذه‪ ،‬التي تتميز بها المجتمعات‬
‫الشرقية‪ ،‬إلى خاصية السجود والركوع أمام‬
‫المستبدين أو الدكتاتورين‪ ،‬فالسجود في‬
‫الحضارات القديمة يحدث تقريبا ً في كل مكان‪ ،‬وهو‬
‫مطلقة والخضوع التام للملك‪.‬‬ ‫علمة الطاعة ال ُ‬
‫ولقد مارس الصينيون القدماء السجود‪ ،‬في فترة‬
‫مبكرة من حكم أسرة تشو ‪ Chou ( 1072- 771‬ق‪.‬م (‪،‬‬
‫ثم انتشرت بعد ذلك في جميع المراحل التالية من تاريخ‬
‫الصين‪..‬‬
‫وقد كان الهنود قديما ً يحتضنون قدم الشخص‪،‬‬
‫كمظهر من مظاهر الحترام الكبير والتقديرالعظيم‪،‬‬
‫وكان القتراب من الملك يتخذ مظهر الشخص الذي‬
‫يصلي‪.‬‬
‫وتصف سجلت مصر القديمة‪ ،‬أن البلد كلها كانت‬
‫تنبطح على بطنها عندما يظهر الملك‪ ،‬أما الرعايا‬
‫المخلصون فقد كانوا يزحفون على بطونهم‪ ،‬لتقبيل‬
‫أرجل الملك أو ينتشوا عطره‪.‬‬
‫وكان السجود في بلد ما بين النهرين يؤدى لللهة‬
‫لخرى‪ ..‬كما‬ ‫والحاكم والمعلم والشخصيات المتميزة ا ُ‬
‫كان يؤدي السجود أيضا ً في بلد فارس‪..‬‬
‫وهكذا نجد أن السجود للطغاة في المجتمعات‬
‫الشرقية‪ ،‬أصبح من التعبيرات الصريحة‪ ،‬للطاعة‬
‫‪190‬‬
‫الكاملة‪ ،‬والخضوع والستسلم المطلق والحترام‬
‫والتوقير معًا‪ ،‬هنا نتوقف قليل ً لنقول‪ :‬إن الطاعة العمياء‬
‫يكفي من اسمها أنها عمياء‪ ،‬أى لترى ! فليس‬
‫هناك أفضل من أن نتبادل الراء والخبرات‪ ،‬فالرأي يثير‬
‫الرأي الخر فتتلقى الراء أو ل تتلقى‪ ،‬لكن في كلتا‬
‫الحالتين يكون الحوار‪ ،‬ومن الحوار السليم تخرج‬
‫الحقيقة السليمة‪.‬‬
‫أما عبارة كن فيكون !! فكلنا نعرف نتائجها‪ ،‬وهي إن‬
‫دلت فتدل بالكثر على شخصية الدكتاتور المتكّبرة‪،‬‬
‫وأساليب حكمه التعسفية‪ ،‬التي ل معنى لها‪ ،‬كما أنها‬
‫تدل على الساليب الكثيرة التي يسعى الدكتاتور من‬
‫خللها إلى تأليه نفسه !! قد نكون على صواب إن قلنا‪:‬‬
‫مم مم ممم مم مممممم مممم ممممم ممممم‬
‫مممم‬
‫مم ممممم ممممم م ممم ممممم ممممم‬
‫مممممم‬
‫ممممم ممممممم ممممم ‪ :‬ممم مممم ممممممم‬
‫م!‬

‫مممممم ممممممم مممم ممممم‬


‫ما من دكتــاتور إل وحــارب الثقافــة ووقــف بقــوة ضــد‬
‫المثقفيــن‪ ،‬ووضــع الخطــط الســرية والعلنيــة للقضــاء‬
‫عليهم ! أو اليقاع بهم ! لنــه يعلــم أن الثــورات ضــده ل‬
‫تخرج إل من بيــن صــفوف المســتنيرين الــذين يرفضــون‬

‫‪191‬‬

‫‪441‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫الكبت والمذلة‪ ..‬كمــا يرفضــون الجلــوس تحــت أرجلهــم‬
‫وهم جالسون على عروشهم !‬
‫نعترف بــأن العقــل الحــر المســتنير‪ ،‬لــه القــدرة علــى‬
‫المعرفــة والفهــم‪ ،‬والتمييــز بيــن الخطــأ والصــواب‪ ،‬ولــه‬
‫القــدرة أيض ـا ً علــى المعارضــة والنقــد‪ ،‬أي له القـدرة‬
‫على كشف ألعيب الطغاة‪ ،‬وإظهــار سياســتهم‬
‫الملتوية على حقيقتها‪..‬‬
‫والــدكتاتوريون ل يطيقــون مــن هــذا شــيئا ً‪ ،‬بــل هــم‬
‫يريدون أن يضعوا غمائم على عيون الناس‪ ،‬حــتى ليــروا‬
‫الحقائق وتكون أوامرهم مطاعة! ومن هنا كان التصــادم‬
‫بين الــدكتاتوريون والمثقفــون‪ ،‬والســبب‪ :‬إنهــم يحســون‬
‫بالخطر الدائم من الفكر الحر والعقل المستنير!‬

‫مممم‬
‫إن الفكــر ل يمــوت ‪ ،‬والثقافــة ل تُمحــى‪ ،‬فقــد قــرأت‬
‫ور حالة مجتمع كان قادته يحرقون الكتب خوفـا ً‬ ‫قصة تص ّ‬
‫من المثقفين‪ ،‬وما تتضمنه هذه الكتب من مبادئ وأفكــار‬
‫وقيم عن المساواة والعدل والحريــة‪ ...‬ربمــا تــؤثر علــى‬
‫الناس وتقودهم إلى ثورة‪ ..‬ولكي يجعلوا الناس في حالة‬
‫ســطحية‪ ،‬زودوا كــل بيــت بشاشــة تليفزيونيــة كــبيرة‪ ،‬ل‬
‫تعرض إل البرامج المسلية فقــط‪ ،‬وتــم إغلق المكتبــات‪،‬‬
‫وُأحرقــت الكتــب‪ ،‬ولكـن هـل تلشــى الفكــر؟ هـل‬
‫اندثر المثقفــون ؟ بــالطبع ل‪ ،‬لن المثقفيــن تــداولوا‬
‫الكتب ســرا ً وفــروا إلــى الغابــة‪ ،‬وهنــاك بــدأوا يحفظــون‬
‫الكتب حتى إذا ضبطها حارقوا الثقافة ودمروها ل تضــيع‪،‬‬
‫وقد كانت فكرة رائعة‪ ،‬لن الكتــب تحــولت إلــى كائنــات‬
‫‪192‬‬
‫بشـــرية‪ ،‬يحفظهـــا عقـــل النســـان ويرويهـــا لغيـــره‪،‬‬
‫والطريف في هذه القصة‪ :‬إن كل واحد منهم أصبح‬
‫يسمي نفسه باسم القصة أوالكتاب الــذي حفظــه‪ ،‬فهــذا‬
‫اسمه الحرب والســلم لنــه يحفــظ روايــة تولســتوي‬
‫الشــهيرة‪ ،‬وهــذا اســمه البؤســاء لنــه يحفــظ روايــة‬
‫فيكتورهوجو‪.‬‬
‫ممممم ممم مممممممم ممم مممممم مم‬
‫ممممممم‬
‫مممم ممم ممممم‪ ..‬ممم مممممم مممممم ممم‬
‫ممممممم مممممم ممممم ممممم مممممم‬
‫ممممم!‬
‫وفي مسرحية يوليوس قيصر الشــهيرة‪ ،‬يصــف لنــا‬
‫شكسبير مدى كراهية الطغاة للفكر الحر‪ ،‬وخــوفهم مــن‬
‫المفكرين النشطاء‪ ،‬فالقيصر لم يكـن يخشـى أحـدا ً فـي‬
‫المبراطورية أكثر من كاسيوس النحيل! والسبب‪ :‬إنــه‬
‫كان يقرأ كثيرًا‪ ،‬ويتأمل فى الناس والمواقف والحــداث‪،‬‬
‫ول ُيخفى عليه شئ ‪ ،‬كمــا كــان يرفــض اللهــو والعبــث‪..‬‬
‫وقد كان قيصرعلى صواب‪ ،‬فقد أصبح كاسيوس زعيمــا ً‬
‫للمعارضين الذين تآمروا على قيصر وقتلوه !‬
‫ممم مممممممم ممممممممممم‬
‫ماذا يحدث فــي الجتماعــات ؟ الحــديث عــن مشــاكل‬
‫الناس‪ ،‬والحل ـول المقترحــة لهــذه المشــاكل‪ ،‬فــإذا ســاد‬
‫النظــام الــدكتاتوري‪ ،‬حتم ـا ً ســيكون حــديث النــاس عــن‬
‫الذل‪ ،‬وكيفية التخلص من الدكتاتور الذي يــذلهم ! ولهــذا‬
‫السبب يســعى الــدكتاتور بكــل مــا يملــك ليمنــع لقــاءات‬
‫‪193‬‬
‫الناس‪ ،‬سواء فـي النـوادي أو الحفلت أو غيـر ذلـك مـن‬
‫لخرى‪ ،‬كما يسعى لحظر التعليم أو جعلــه لون ـا ً‬ ‫الماكن ا ُ‬
‫خروا‬ ‫من ألوان الدعاية له ! فمـا أكـثر الحكـام الـذين سـ ّ‬
‫جـــرائد ومجلت‪ ،‬بـــل وكّتـــاب ومفكريـــن‪ ..‬لفكـــارهم‬
‫الشخصــية وحيــاتهم الخاصــة‪ ،‬كــأن ل شــئ فــي الوجــود‬
‫سواهم !‬
‫إن الدكتاتور يعرف جيدا ً أن تعــارف المــواطنين يــؤدي‬
‫إلى ثقة متبادلة بينهم‪ ،‬وعن طريق هذه الثقــة يمكــن أن‬
‫يتحـدوا ويقفـوا ضـد الفسـاد‪ ،‬ولهـذا يعمـل علـى تفريـق‬
‫الناس‪ ،‬وفي نفس الــوقت يحجــب عــن النــاس كــل مــن‬
‫يعمل على تنوير العقــول‪ ،‬أو بــث الشــجاعة والثقــة فــي‬
‫النفوس ! لن انتشار المعرفة ستؤدى إلى الطاحــة بــه‪،‬‬
‫ولهذا فإن طريقة التعليــم فــى ظــل النظــام الــدكتاتورى‬
‫تهدف إلى شئ واحد أل وهو‪ :‬تكوين أفراد يدينون بالولء‬
‫والخلص لشخص واحد وهو‪ :‬الدكتاتور!‬

‫مممممم مممممم‬
‫وهذه وسيلة ُأخرى مــن وســائل الــدكتاتور التعســفية‪،‬‬
‫يســـعى بهـــا للحفـــاظ علـــى ســـلطته‪ ،‬حـــتى ينشـــغل‬
‫المواطنــون عنــه بــالبحث عــن قــوتهم‪ ،‬فل يجــدون مــن‬
‫الـوقت مـا يتمكنـون فيـه مـن التـآمر عليـه‪ ،‬ويكـون هـو‬
‫هاب المعطي لنهم حتما ً سيلتجئون إليه! فإذا التجــأوا‬ ‫الو ّ‬
‫إليه ربما يعطيهــم لكــن بعــد إذللهــم ! أمــا طــرق إفقــار‬
‫الشعب فكثيرة ولعل أبرزها فــرض الضــرائب‪ ،‬بالضــافة‬
‫إلــى إقامـة المشــاريع مثــل القصـور والمنشــآت‪ ..‬فهـذه‬
‫وسائل لفقار الشعب وسلب أموالهم من جهــة‪ ،‬ومــن‬
‫‪194‬‬
‫جهة ُأخــرى تشــغل فراغهــم ! ول يعــود أحــد يتكلــم عــن‬
‫الدكتاتور ونظامه وحاشيته !‬

‫م‬ ‫ممم ممم‬ ‫م مممم‬ ‫مم‬


‫ممممممممم‬
‫يعتمد الدكتاتور في حكمه على إغــراء المــواطنين‪ ،‬أن‬
‫يشي بعضهم بالبعض الخر‪ ،‬فتنعدم الثقــة بينهــم‪ ،‬ويــدب‬
‫الخلف بين الصديق وصديقه‪ ،‬وبيــن الخ وأخيــه‪ ،‬ويــدخل‬
‫الشك بين المــتزوجين‪ ،‬وبيــن الــذين يعملــون مع ـا ً وهــو‬
‫بذلك يتبع سياســة " فـرق تســد " ! دون أن يــدري أن‬
‫الشعب إذا تفرق عجز هو نفسـه عــن جمـع شـمله مـرة‬
‫ُأخرى‪ ،‬وها نحن نتسأل ‪ :‬ماذا لو حــدثت كارثــة أو قــامت‬
‫حــرب‪..‬؟ مــن ســيقف معــه ؟ بمــن ســيحارب ؟ وبمــن‬
‫سيحتمي ؟ أليست الحرية قوة للحاكم ‪.‬‬
‫كما يجتهد الدكتاتور أن تكون لديه معلومات منتظمــة‪،‬‬
‫حول كل ما يفعله رعاياه‪ ،‬أو يقولونه‪ ،‬فهو يريد أن يكون‬
‫الجميع تحت قبضته دائمًا‪ ،‬ل يناقشون ول يعترضون‪ ،‬بــل‬
‫ينفذون أوامره ! وهذا يتطلب وجود جواســيس أو عيــون‬
‫يبثها في أنحاء البلد‪ ،‬ول مــانع ان تكــون جواسيســه مــن‬
‫النساء‪ ،‬فهذا ينفع في أغلب الوقات !‬
‫بهذه الســاليب التعســفية‪ ،‬يقلــل النــاس كلمهــم عــن‬
‫ذلك الوحش البشري خوف ـا ً مــن أن يلتهمهــم‪ ،‬ويكتمــون‬
‫آراءهم السياسية بــداخلهم‪ ،‬لنهــم يخشــون الجواســيس‬
‫ويهابون العيون المنتشرة حولهم‪ ،‬فكــل إنســان يريــد أن‬
‫يعيـش‪ ،‬ل مـن أجـل ذاتـه فقـط‪ ،‬بـل ومـن أجـل أسـرته‬
‫وأولده أيضا ً !‬
‫‪195‬‬

‫‪641‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫نتيجــة هــذا الرعــب‪ ،‬يحــدث انفصــام فــي شخصــية‬
‫ل‪،‬‬‫النسان‪ ،‬لنه ل يستطيع أن ينــاقش أمــرًا‪ ،‬أو ينتقــد فع ً‬
‫أو يفكر بصوت مسموع‪ ،‬ولهذا يلجأ إلــى النفــاق والريــاء‬
‫في الظاهر‪ ،‬وليفصح عمــا بــداخله إل إذا اختلــى بصــحبة‬
‫يثق فيها وتستطيع أن تكتم سره‪ ،‬وهكــذا يعتــاد النســان‬
‫أن تكون له شخصية ظــاهرة هــي الــتي تقــول " نعم "‬
‫بصفة مستمرة‪ ،‬وشخصـية خفيـة يمكـن أن تقـول " ل "‬
‫في أوقات خاصة وهي نادرة !‬
‫أما خطورة هذا النقسام‪ ،‬فتنعكس على سلوك الفــرد‬
‫حتى في التدين‪ ،‬فتراه يهتم بالشكل دون الجوهر‪ ،‬الــذي‬
‫يتجلى في الصدق والخلص والمانة والعدل والحسان‪..‬‬
‫وفــي داخــل المجتمــع تجــده ل يهتــم إل بمصــلحته‬
‫الخاصة‪ ،‬والسبب‪ :‬إنه فقد روح النتماء !! ولكن صــفات‬
‫الدكتاتور على هذا النحو‪ ،‬تثير في نفوس مواطنيه الكثير‬
‫من الكراهية‪ ،‬فيحتاج إلى حرس أكبر عددا ً وأشد إخلصا ً‬
‫له‪ ،‬وهؤلء المخلصون هم المنافقون والمنتفعون‪ ..‬الذين‬
‫يغدق عليهم المــوال بكــثرة‪ ،‬ول شــك أنــه لــو كــان فــي‬
‫الدولة كنوز مقدسة لنهبهـا مضـافا ً إليهـا أمـوال الضـحايا‬
‫مــن المــواطنين‪ ،‬وهكــذا نجــد أن الشــعب الــذي أنجــب‬
‫الدكتاتور مضطر لطعامه هو وحاشيته ‪..‬‬
‫غير أن الشعب ‪ -‬كما يــرى أفلطــون ‪ -‬ســيدرك مــدى‬
‫الحماقة الــتي ارتكبهــا‪ ،‬حيــن أنجــب مثــل هــذا المخلــوق‬
‫ورباه‪ ،‬حــتى أصــبح أقــوى مــن الشــعب‪ ،‬فأســوار حمايــة‬
‫الدكتاتورعالية‪ ،‬يعجز الناس عن تســلقها ليتخلصــوا منــه‪،‬‬
‫وهكذا يظل الشعب لسنوات كثيرة خائفًا‪ ،‬مرتعبًا‪ ،‬ذلي ً‬
‫ل‪.‬‬

‫‪196‬‬

‫‪841‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ممممم مم مم مممممممم مممممم مممم‬
‫مممممم ممم ممممممم ممم ممممممممم !!‬

‫مممممم‪ :‬مممم مممممم‬


‫لقد جاء السيد المســيح ليســقي البشــرية العطشــانة‪،‬‬
‫من أعظم نبع فجره وغمر به الطبيعة وهــو نبــع الحريــة‪،‬‬
‫فالله خلق النسان حرا ً بل سيدا ً على الخليقة كلها‪ ،‬لكن‬
‫السيد ها هو قد صار عبدا ً ! والحــر مكبل ً بقيــود الطبقيــة‬
‫والعنصرية والسخرة الجتماعية‪..‬‬
‫وهذا إنما يرجع إلى تلك النظمة الستبدادية الفاســدة‬
‫التي وضعها‪ ،‬ل‪ ،‬بل فرضها قلــة مــن شــواذ البشــر لكــى‬
‫يسلبوا حرية غيرهم‪ ،‬ويجعلوهم مجرد قطيع من الماشية‬
‫بل فكر أو رأى‪ ...‬ول تتعدى حريتهم سوى الحظيرة !‬

‫‪197‬‬
‫إن مــن يــؤمن بالحريــة يــؤمن بالنســان‪ ،‬لن النســان‬
‫كــائن حــر‪ ،‬فــإن ســلبناه حريتــه ســلبناه معهــا إنســانيته‪،‬‬
‫والسؤال الحائر هنا‪ :‬ما قيمة إنسان بل حرية ؟ ما الفرق‬
‫لخــرى ؟ أعتقد مــن ل يــؤمن‬ ‫بينه وبين المخلوقات ا ُ‬
‫بالنسان ل يؤمن بالله أيضا ً ! لنــه لجــل النســان‬
‫صــلب ومــات‬ ‫جاء المسيح‪ ،‬وحبا ً فيه ورغبة في خلصــه‪ُ ،‬‬
‫على خشبة العار‪.‬‬
‫والحق إن كل من ل يـؤمن بالمسـيح‪ ،‬حـتى وإن ظهــر‬
‫ل‪ ،‬وســيظل‬ ‫أمام الناس حرا ً‪ ،‬إل أنه في الحقيقة عبد ًا ذلي ً‬
‫سجين أفكاره العقيمة وجهلــه وكبريــائه! وإن كــان يقي ّــد‬
‫الناس بقيود الظلم والرهــاب‪ ،‬إل أنــه لــم يــزل مربوطـا ً‬
‫بقيــود شــهواته‪ ،‬يكفــي أنــه فــي أحيــان كــثيرة يعــرف‬
‫الصواب‪ ،‬ولكنه نظرا ً لعجزه عن ضبط نفســه‪ ،‬والتحكــم‬
‫في أهوائه يندفع نحو الشر والفساد!‬
‫إننــا نــدعو اللــه فــي صــلواتنا " أبانــا " وهــذا الب‬
‫السماوي هــو الــذي يقيــم الملــوك والمــراء‪ ،‬ولكــن هــل‬
‫تعتقدون أن أباكم الذي أحبكم وعلمكم طرق الحق يريد‬
‫أن تكونوا مظلومين ومرذولين‪ ..‬من قلة ليس لها هــدف‬
‫في الحياة سوى إشباع شهواتهم الرديئة ؟! هل تعتقدون‬
‫أن اللــه الــذي ينــزل الســحاب مطــرًا‪ ،‬ويســتنبت البــذور‬
‫مي الزهور‪ ،‬يريــد أن تكونــوا جياعـا ً لكــي تبقــى قلــة‬ ‫وين ّ‬
‫بينكــم تنعــم وتتلــذذ بعــرق جــبينكم ؟! هــل تعتقــدون أن‬
‫الروح الذي يدعوكم للمحبـة‪ُ ،‬يقيــم عليكـم سـيدا ً قاسـيا ً‬
‫يظلمكم ويستعبدكم ؟! هل تظنــون أن الوصــايا اللهيــة‪،‬‬
‫التي تدعوكم إلى التمتع بنـور الحريـة تبعـث إليكـم بمـن‬
‫يقــودكم إلــى الظلم ؟! إذن كيــف يرضــى أبنــاء اللــه أن‬

‫‪198‬‬
‫يكونوا عبيدا ً للبشر؟ ألم يحرركم المسيح فكيف يجعلكم‬
‫البشر عبيدا ً للفســاد ؟ ألــم يرفــع يســوع رؤوســكم نحــو‬
‫السماء فكيف تخفضونها إلى التراب ؟ أما سكب يســوع‬
‫النور في قلوبكم وأرواحكم فكيــف تغمرونهــا بــالظلم ؟‬
‫هذا ما يقوله جبران خليل جبران‪.‬‬
‫إن الله قد بعث أرواحكــم فــي هــذه الحيــاة كشــعلت‬
‫ل‪ ،‬فكيــف‬ ‫مضــيئة تنمــو بــالحب والمعرفــة فــتزداد جمــا ً‬
‫تلحقونها بالرماد لتبيد وتنطفئ ؟ ألم يهب الله نفوســكم‬
‫أجنحة لتطير بها سابحة في فضاء الحب‪ ،‬فلماذا تجزونها‬
‫بأيــديكم وتــدبون كالحشــرات علــى وجــه الرض ؟! لقــد‬
‫وضع الله في قلوبكم بــذور الســعادة‪ ،‬فلمــاذا تنتزعونهــا‬
‫وتطرحونها على الصخر لكــى تلتقطهــا الغربــان وتــذّريها‬
‫الرياح ؟ أما رأيتــم العصـافير وهـى تـدرب فراخهـا علـى‬
‫الطيـــران‪ ،‬فكيـــف تعلمـــون صـــغاركم جـــر القيـــود‬
‫والسلســل ؟ ألســتم تنظــرون زهــور البســتان تســتودع‬
‫بذورها حرارة الشمس‪ ،‬فكيــف تســلمون أطفــالكم إلــى‬
‫الظلمة الباردة ؟!‬
‫إن عالم الله هو عالم الحرية‪ ،‬وليســت الحريــة أن‬
‫ننغمــس فــي الفســاد كمــا يظــن البعــض‪ ،‬إنمــا الحريــة‬
‫الحقيقيــة كمــا يوضــح بطــرس الرســول‪ ،‬ل يجــب أن‬
‫تكون ستارا ً للشر )‪1‬بط ‪ (16 :2‬فالله الحر قد خلــق‬
‫النسان علـى صــورته ومثـاله )تــك ‪ ،(27 :1‬ولعـل أهـم‬
‫خلق ليعيش حرًا‪ ،‬فإن‬ ‫سمات الله هي الحرية‪ ،‬فالنسان ُ‬
‫لم يحيا بكامل حريتــه‪ ،‬نكــون قــد ســلبناه إحــدى ســمات‬
‫الصورة اللهية !‬

‫‪199‬‬

‫‪051‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ل‪،‬‬‫لقد ميز الله النسان على الحيــوان بــأن خلقــه عــاق ً‬
‫ومن سمات عقل النسان أنه يفكر ‪ ،‬فإن لم يفكر‪ ،‬فمــا‬
‫هي إذن قيمته ؟! ما هي قيمة عقل عاجز عــن أن‬
‫يقول كلمته ! أليس من حق كل إنسان أن يميز‬
‫الخطــأ مــن الصــواب ! وبعــد أن يكتشــف الخطــاء‪،‬‬
‫أليــس مــن واجبــه أن يقــول‪ :‬هــذا خطــأ وذاك صــواب !‬
‫ألوف الكتب بين أيدينا الن‪ ،‬أليس من حقــي ومــن حــق‬
‫كل إنسان أن يقف ولو لحظة يتبين فيها صدق مـا قـرأ !‬
‫وهل هناك خطأ إذا أعلن عن الكتب الضارة‪ ،‬وأوضــح مــا‬
‫بها من انحرافات أو ضللت‪...‬؟!‬
‫ما هو الضرر على اليمان من إنسان يفكــر‪ ،‬أو عقــل‬
‫يتأمــل‪ ،‬أو إرادة تســعى لمزيــد مــن المعرفــة ؟! مــا هــو‬
‫الضــرر إذا غربــل النســان التقاليــد الموروثــة منــذ آلف‬
‫السنين‪ ،‬لكى يحيا في النور ويكون علــى صــواب ؟! قــل‬
‫لى‪ :‬ما هى قيمة الحياة إن لم تكن فكــرا ً وبحثــا ً‬
‫وتجديدا ً دائما ً إلى الفضل ؟!‬
‫إن اليمــان بــدون أعمــال ميــت )يــع ‪(21: 2‬‬
‫والعمال تتطلب وجود إنســان أُحبــه وأســاعده وأعطــف‬
‫عليه‪ ،‬فالنسان هو الجسر الذى تعبر عليه بأعمالك لكــى‬
‫ُتظهر للناس إيمانك‪ ،‬وها نحن نتساءل‪ :‬ما قيمــة اليمــان‬
‫إن أهملت قريبك ؟ وهل يقبل الله إيمان مــن ل يعطــف‬
‫على فقير ول يســعف مريــض‪ ،‬ويســد آذانــه عــن ســماع‬
‫صوت مستغيث ؟! هل يقبل اللــه إيمــان مــن يــذل أخــاه‬
‫ويستعبده ويقضي على مواهبه ؟!‬
‫مم ممم ممم ممممم مممممممم‬
‫ممممم مم ممممم مممممم ممم!‬
‫‪200‬‬
‫لماذا ل يتمتــع النســان بالحيــاة ؟ أليســت الحيــاة مــن‬
‫صنع الله ! ألم يجلس المسيح على شواطئ بحر طبريــة‬
‫يتأمل في ذاته ماء الحياة ! وفي جسثيماني كان يقضــي‬
‫خلواته مصــليا ً ! وعلــى الجبــال متــأمل ً ! ولمــاذا ل يتمتــع‬
‫النســان بــالله مصــدر الفــرح‪ ،‬ويرتــوى مــن نبــع الحــب‬
‫والعطــف والحنــان ؟! الســبب إن المســتبدين ســيطروا‬
‫على البشـر‪ ،‬ولنهـم يحملـون سـم الشـر فـي أعمـاقهم‬
‫فلبد إذن أن يمتد الشر إلى من حولهم‪ ،‬وإلى مجتمعهم‪،‬‬
‫وإلى كل من يسيطرون عليهم! وفي النهاية إلــى العــالم‬
‫بأسره! لن بذار الشر ل تثمر إل الشــر‪ ،‬أمــا بــذار الخيــر‬
‫فثمارها خير‪.‬‬
‫يجب أن نعترف بأن الحرية قــوة للحكــام قبــل أن‬
‫تكون قوة للشــعب‪ ،‬وهــذه الفلســفة للســف الشــديد ل‬
‫يفهمها الدكتاتوريون الــذين تشـّبع عقلهــم بفكــر الظلــم‪،‬‬
‫معتقدين أن إذلل البشر وإرهابهم‪ ،‬أفضل وسيلة لــدوام‬
‫السلطة وبقاء العرش! ولكــن لــو تعمقنــا قليل ً لثبــت لنــا‬
‫ضللة هذا الفكر‪ ،‬لمــاذا ؟ لن الحرية هــي القاعــدة‬
‫الساسية التي ل يستطيع أي شــعب أن ينهــض‬
‫بدونها‪ ،‬فبدون حرية ل نمو أو ازدهار أو إبداع أو نقـد أو‬
‫رأي أو تصحيح للخطاء !‬
‫إن أى حــاكم مهمــا كــانت إمكانــاته الماديــة وقــوته‬
‫العسكرية‪ ،‬ل يستطيع أن يصل إلى النصر‪ ،‬إذا كان شعبه‬
‫مكبل ً بالغلل‪ ،‬والشعب اللماني‪ ،‬وهــو أقــوى الشــعوب‪،‬‬
‫وأكثرها مهارات‪ ،‬خسر الحرب العالمية الثانية‪ ،‬لن هتلر‬
‫سلب هذا الشعب حريته‪ ،‬لكن هذا الذي سلب حريــة‬
‫الناس انتهت حياته منتحرًا‪ ،‬وموسوليني أيضا ً أعدمه‬
‫‪201‬‬
‫اليطــاليون أمــام الجميــع‪ ،‬أليســت الحريــة إذن قــوة‬
‫وحصنا ً للحاكم !‬
‫إن العنف ل يولد إل العنــف‪ ،‬وكــل إصــلح يقــوم علــى‬
‫العنف مصيره الفشل‪ ،‬فالحياة أثبتــت لنــا إن كــل الــذين‬
‫حاربوا الحرية ولجأوا إلى العنف‪ ،‬خسروا قضيتهم‪ ،‬وفــي‬
‫النهاية خسروا أنفسهم‪ ،‬وعلــى أصــحاب هــذه النظريــات‬
‫الجوفاء أن يلتفتوا إلى حقيقـة هامـة وهـي‪ :‬إن الهـداف‬
‫الحسنة لبد أن تتحقق بأهداف حســنة مثلهــا‪ ،‬فــإذا كــان‬
‫الهــدف نــبيل ً وكـانت وســائل تحقيقــه ســيئة ‪ ،‬اضــطربت‬
‫المور‪ ،‬وانقلبــت المــوازين‪ ،‬وتغيــرت النتــائج‪ ،‬وحــتى لــو‬
‫تحقق بعض النجاح للهداف المنشودة‪ ،‬فإن هــذا النجــاح‬
‫يكون شديد المرارة وغالي الثمن !‬
‫ولكن رغم توهم البعض أن محاربة الشــر‪ ،‬ل تكــون إل‬
‫بأسلحة مادية‪ ،‬نجد غاندي يؤكد أن محاربة الشر‪ ،‬يمكن‬
‫أن تكون بأسلحة روحية أو بمقاومــة أخلقيــة‪ ،‬وقــد يجــد‬
‫الدكتاتور نفسه عاجزا ً عن مواجهتها! ولماذا نتحدث عــن‬
‫غاندي ألم يقل السيد المسيح‪ " :‬ل تقاوموا الشر بــل‬
‫من لطمك على خدك فحــول لــه الخــر أيضـا ً " )مــت ‪:5‬‬
‫‪ (39‬ألم يأمرنا السيد المسيح ل بمحبة القريب فقط بــل‬
‫والعداء أيضا ً " أحبوا أعــداءكم بــاركوا لعنيكــم أحســنوا‬
‫إلــى مبغضــيكم وصــلوا لجــل الــذين يســيئون إليكــم‬
‫ويطردونكم‪ ) "..‬مت ‪.(44 :5‬‬
‫والحق إن محبة العداء تمثل شريعة الكمال والكمــال‬
‫ليــس لكــل إنســان ولكننــى تعلمــت أن أفضــل وســيلة‬
‫لمقاومة الرذيلة أل نقابلها بمثلها‪ ،‬بل بالفضيلة المضــادة‬
‫ذاب‬‫لها ! فقاوم اللــص بأمانتــك والزانــى بطهارتــك والكـ ّ‬
‫‪202‬‬
‫بصدقك والثرثار بصمتك… فــأنت بهــذا تجلــب جمــر نــار‬
‫على رؤوسهم‪ ،‬ألم يقل معلمنا بولس الرسول‪:‬‬
‫فإن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه‬
‫لنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه‬
‫ل يغلبنك الشر بل أغلب الشر بالخير‬

‫‪203‬‬
‫أخيرا ً والحــب يمل قلــبي أنــاجي‬
‫شهوة قلبي قائل ً ‪:‬‬
‫من العماق نناديك أيتها الحرية فاسمعينا‪ ،‬من جــوانب‬
‫الظلمة نرفع أيدينا نحوك فانظرينا‪ ،‬أمام عرشك الرهيب‬
‫نقف ساحبين القيود التي قيدت آباءنا‪ ،‬صارخين الصــراخ‬
‫الــذي جــرح حنــاجرهم‪ ،‬نــائحين النــوح الــذي مل بيــوتهم‪،‬‬
‫مصلين الصلة التي انبثقت من أوجــاع قلــوبهم‪ ،‬فاصــغي‬ ‫ُ‬
‫إلينا أيتها الحرية واسمعينا…‬
‫فـي زوايـا الكـواخ القائمــة فــي ظلل الفقـر والجهــل‬
‫والــذل‪ ،‬نقــرع أمامــك الصــدور‪ ،‬ومــن جــدران البيـــوت‬
‫الجالســة فــي ظلمــة الجهـــل‪ ،‬يتصــاعد نحــوك عويــل‬
‫النفوس‪ ،‬وفي زوايا المنازل المختفية بضــباب الســتبداد‬
‫تشتاق إليك القلوب وتحــن إليــك الرواح‪ ،‬فــانظري إلينــا‬
‫أيتها الحرية واسمعينا‪..‬‬
‫فــي المــدارس والجامعــات يناجيــك الشــباب المحبــط‬
‫اليائس‪ ،‬وفي المحاكم والمجالس تستغيث بك الشــريعة‬
‫المهملة‪ ،‬وفــي الحقــول يصــرخ إليــك الفلح الـذي يحفــر‬
‫الرض بأظافره‪ ،‬ويزرعها حبات قلبــه‪ ،‬ويســقيها دمــوعه‪،‬‬
‫ول يحصــد فــي النهايــة ســوى الشــواك‪ ،‬فتكلمــي أيتهــا‬
‫الحرية وعلمينا‪..‬‬
‫من سنوات مضــت وظلم الليــل يخيــم علــى أرواحنــا‪،‬‬
‫فمتى يجيء الفجر لنبتهج بشعاعه ؟ ومن قيود إلى قيود‬
‫تنتقــل أجســادنا والجيــال تمــر بنــا ســاخرة‪ ،‬فــإلى مــتى‬
‫نحتمل سخريتهم ؟ ومن نير ثقيل إلــى نيــر أثقــل تــذهب‬
‫أعناقنا وأمم الرض تنظر إلينا ضاحكة فــإلى مــتى نصــبر‬
‫على ضحكهم ؟‬
‫‪204‬‬
‫من قساوة الفرس إلى استبداد اليونانيين إلى مظــالم‬
‫الــروم إلــى مطــامع الفرنــج‪ ،‬فــإلى أيــن نحــن ســائرون‬
‫الن ؟ مــن مخــالب نبوخـذ نصــر‪ ،‬إلــى أظـافر السـكندر‬
‫الكبر‪ ،‬إلى أســياف هيــرودس‪ ،‬إلــى براثــن نيــرون‪ ،‬إلــى‬
‫أنياب الشيطان‪ ،‬فإلى يد من نحن ذاهبــون لنتقيــد الن ؟‬
‫ومتى نبلغ قبضة الموت فنرتاح من سكينة العدم ؟‬
‫بعزم سواعدنا رفعنا القصور‪ ،‬وعلى ظهورنا قــد نقلــوا‬
‫الحجارة والطين‪ ،‬فحتى مــتى نبنــي القصــور‪ ،‬ول نســكن‬
‫غير الكواخ والكهوف ؟ ونمل الخزائن والجران ول نأكل‬
‫ســوى الثــوم والكــرات ؟ ونحــوك الحريــر والصــوف ول‬
‫نلبس سوى المسوح ؟!!‬
‫أصغي أيتهــا الحريــة واســمعينا‪ ،‬التفــتي يــا أم ســاكني‬
‫الرض وانظرينا‪ ،‬تكلمــي بلســان فــرد واحــد منــا‪ ،‬فمــن‬
‫شرارة يشتعل القش اليابس‪ ،‬بددي بعزمك هــذه الغيـوم‬
‫الســوداء‪ ،‬وانزلــي كالصــعقة واهــدمي عــروش الطغــاة‪،‬‬
‫أيقظــي بحفيــف جناحيــك أرواحنــا لنقــول ل للظلــم‪ ،‬ل‬
‫للستبداد‪..‬‬
‫أنقذينا أيتها الحرية‪ ،‬خلصينا يا رفيقة موسى‪ ،‬علمينا يا‬
‫عروس المسيح‪ ،‬قوي قلوبنا لنحيا بالحق وللحق‪ ،‬لكــي ل‬
‫نتبدد كالرماد أمام زوبعة الشرار‪ ،‬فأمــام عرشــك تفــرح‬
‫الشــجار بمداعبــة النســيم‪ ،‬وعلــى مســمعك تتنــاجى‬
‫العصافير‪ ،‬وفي فضائك تسكب الزهور عطر أنفاسها‪..‬‬

‫‪205‬‬

‫‪651‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
206
‫ممم ممممم مممممم‬
‫دار الكتاب‬ ‫• الكتاب المقدس بعهديه‬
‫المقدس‬ ‫• فهرس الموضوعات الكتابية‬
‫دار الكتاب‬ ‫• خواطر فيلسوف فى الحياة‬
‫المقدس‬ ‫الروحية‬
‫القديس‬ ‫• ل تقتل‬
‫أُغسطينوس‬ ‫• الوسائط الروحية‬
‫قداسة البابا‬ ‫• مقالت ُنشرت بجريدة‬
‫شنوده‬ ‫الجمهورية‬
‫قداسة البابا‬ ‫• جمهورية أفلطون‬
‫شنوده‬ ‫• المدينة الفاضلة عبر التاريخ‬
‫قداسة البابا‬ ‫• المفكرون من سقراط إلى‬
‫شنوده‬ ‫سارتر‬
‫تعريب ‪ /‬حنا‬ ‫• تاريخ الرومان‬
‫خباز‬ ‫• قصة الحضارة جـ ‪9‬‬
‫ماريا لويزا‬ ‫• المحبة والعدل والعنف‬
‫عثمان نويه‬ ‫• المسيح دعوة للحرية‬
‫د ‪ /‬نصر إبراهيم‬ ‫• النسان هو القضية‪،‬النسان هو‬
‫ول ديورانت‬ ‫الحل‬
‫كوستى بندلى‬ ‫• قوة التفكير اليجابى‬
‫كمال قلته‬ ‫• العالم يحترق‬
‫كمال قلته‬ ‫• سلم مع الله‬
‫نورمان فنسينت‬ ‫• علم النفس فى خدمة الروح‬
‫بيلى جراهام‬ ‫• المسيحية والصحة النفسية‬
‫بيلى جراهام‬
‫‪207‬‬

‫‪851‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫أبادير حكيم‬ ‫• مشكلت نفسية جـ ‪1‬‬
‫د ‪ /‬فايز فارس‬ ‫• مشكلت نفسية جـ ‪2‬‬
‫د ‪ /‬عادل صادق‬ ‫• الطاغية‬
‫د ‪ /‬عادل صادق‬ ‫• مشكلة النسان‬
‫د ‪ /‬إمام عبد‬ ‫• مشكلة الحب‬
‫الفتاح‬ ‫• دع القلق وابدأ الحياة‬
‫د ‪ /‬زكريا إبراهيم‬ ‫• يمكنك أن تخدم القلق‬
‫د ‪ /‬زكريا إبراهيم‬ ‫• قصة حياتى العجيبة‬
‫ديل كارنيجى‬ ‫• نوادر الحكام‬
‫د ‪ /‬مجدي‬ ‫• عباقرة ومجانين‬
‫إسحق‬ ‫• سيكولوجية الخوف‬
‫هيلين كيلر‬ ‫• عباقرة هزموا اليأس‬
‫مجدى كامل‬ ‫• سنة أولى سجن‬
‫رجاء النقاش‬ ‫• باشوات وسوبر باشوات‬
‫يوسف ميخائيل‬ ‫• المجموعة الكاملة‬
‫فايز فرح‬ ‫• الرواح المتمردة‬
‫مصطفى أمين‬ ‫• دائرة معارف البستانى المجلد‬
‫د ‪ /‬حسين‬ ‫‪6‬‬
‫مؤنس‬ ‫• دائرة معارف البستانى المجلد‬
‫المنفلوطى‬ ‫‪11‬‬
‫جبران خليل‬
‫جبران‬

‫‪208‬‬
209
‫الفهـرس‬
‫تقديم للدكتور جمال شحاته‪5--------------------‬‬
‫مقدمة‪8---------------------------------‬‬
‫النسان المجروح ‪11-------------------------‬‬

‫الباب الول‬
‫ممممم ممممممم‬
‫الفصل الول )عصرالقلق(‪22--------------------‬‬
‫الفصل الثانى )سمات عصرالقلق( ‪31---------------‬‬
‫الفصل الثالث )أين الله في عصر القلق!( ‪-----------‬‬
‫‪40‬‬
‫الفصل الرابع )كيف تحيا فى عصرالقلق؟( ‪----------‬‬
‫‪46‬‬

‫الباب الثانى‬
‫ممممم ممممم م ممممم‬
‫ممممم‬
‫الفصل الول )أسياد وعبيد(‪58------------------‬‬
‫الفصل الثانى )أغنياء وفقراء( ‪69----------------‬‬
‫الفصل الثالث )أكواخ وقصور(‪77----------------‬‬

‫الباب الثالث‬
‫‪210‬‬

‫‪061‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ممممممم مممممم‬
‫الفصل الول )اللذة المرضية( ‪86----------------‬‬
‫الفصل الثانى )جذورالستبداد( ‪95---------------‬‬
‫الفصل الثالث )عائلة الستبداد وأعوان‬
‫المستبد(‪105------‬‬

‫الباب الرابع‬
‫ممممممممممممممم‬
‫الفصل الول )الدكتاتورية الدكتاتور( ‪------------‬‬
‫‪114‬‬
‫الفصل الثانى )عوامل ساعدت على‬
‫ظهورالدكتاتور( ‪125---‬‬
‫الفصل الثالث )صفات الدكتاتور وأساليب‬
‫حكمه(‪135------‬‬
‫المسيح‪ :‬دعوه للحرية‪149---------------------‬‬
‫المراجع ‪154----------------------------‬‬
‫الفهرس‪156------------------------------‬‬
‫قائمة المراجع‬

‫‪211‬‬
‫‪212‬‬

‫كتب صدرت‬
‫للمؤلف‬
‫الخر فى حياتى‬
‫‪-3 4-‬‬ ‫رسالة تعزية )طبعة ثانية(‬
‫الحب اللهى‬
‫‪ 6-‬اللذة الوهمية ‪-5‬‬ ‫عيد الميلد‬
‫() طبعة ثانية‬
‫‪ 8-‬عيد القيامة ‪-7‬‬ ‫عيد الغطاس‬
‫()طبعة ثانية‬
‫رحلة اللم )طبعة ثانية( ‪-9 01-‬‬
‫(الشهوة )طبعة رابعة‬
‫‪-11‬‬ ‫‪:‬عـادات شعبية‬
‫أكل البيض والبصل والفسيخ فى )‬
‫(شم النسيم‬
‫‪-21‬‬ ‫أزمة‬‫‪31-‬‬ ‫العاطفة )طبعة ثانية(‬
‫(حب)طبعة ثانية‬
‫‪-41‬‬ ‫أين هو‬
‫‪51-‬‬ ‫هكذا أحبنا‬
‫الطريق؟‬
‫المدخل إلى الحياة الروحية)طبعة ‪-61‬‬
‫الذات‬‫‪71-‬‬ ‫ثانية(‬
‫‪-91‬‬ ‫جذور الشهوة والحب‬ ‫‪81-‬‬
‫الشهوة‬
‫‪-02 12-‬‬ ‫سلطان وسحر الشهوة‬
‫أسياد وعبيد‬

‫النسـان‬
‫‪-22‬‬ ‫يمكنك أن تقمع الشهوة‬
‫مشكلة الشر‬ ‫‪32-‬‬

‫المجـروح‬
‫‪62-‬‬

‫‪92-‬‬
‫مظاهر الشهوة فى حياتنا‬

‫‪82‬إنطلق‬ ‫‪-‬‬ ‫الثعالب الصغيرة‬


‫عصر القلق )طبعة ثانية(‬
‫‪42-‬‬
‫ماضي الشهوة‬
‫‪72-‬‬
‫‪82-‬‬
‫حوار عن الله‬
‫مراجعة وتقديم‬
‫‪-03‬‬ ‫النسان المجروح)طبعة ثانية(‬
‫ذخائر الظلم‬ ‫‪13‬‬‫–‬
‫ممممممم ممممممم ‪ /‬مممم‬
‫‪-23‬‬ ‫أغصان الشر‬ ‫متألمون ولكن‪33- ..‬‬
‫‪53-‬اللذة الحقيقية‬ ‫ديانتى‬‫‪43-‬‬
‫ممممم‬ ‫()طبعة ثانية‬

‫أستاذ علـم الجتمـاع بكلية الحدمـة‬


‫‪-‬‬
‫الجتما عية‬

‫‪213‬‬
‫جامعتى حلوان والفيوم ومعهد‬
‫الدراسات القبطية‬

‫مممممم‬
‫ممممم‬
‫ممممممم‬

‫الطبعة الثانية‬

‫‪214‬‬
‫اسم الكتاب‪ :‬النسان المجروح‬
‫تأليف‪ :‬الراهب كاراس المحرقى‬
‫مراجعة وتقديم‪ :‬أ‪.‬د‪ /‬جمال شحاتة‬
‫الجمع‪ :‬سوتير للكمبيوتر‬
‫تصميم الغلف‪ :‬الستاذ عادل لبيب‬
‫المطبعة‪ :‬شركة الطباعة المصرية‬
‫‪6100589 -6102095‬‬
‫ممم ممممممم‪9751/2002 :‬‬

‫مممم مم مممممممم مممممممم‬


‫ممممم مممم ‪0125067881‬‬

‫‪215‬‬

You might also like