Professional Documents
Culture Documents
هناك كارما فردي ،وهناك كارما جماعي ،وهناك كارما وطني ،وهناك كارما خاص بجنس
بشري معيَّن .فالكارما الفردي أو الجماعي هو نتاج أفعال ،واعية أو غير واعية ،لفرد أو
كر الزمن وظهرت للوجود في ظروف مجموعة من األفراد؛ وقد تراكمت هذه األفعال على ِّ
مؤاتية ،بما يؤدي إلى نتائج مرئية ،سواء في هذه الحياة أو في الحيوات اآلتيات .41فهناك
الكارما الذي جلبناه معنا من حياة سابقة ،ونحن اآلن نقوم باستنفاده ،أو على األقل استنفاد
جزء منه؛ وهناك الكارما الذي نخلقه في هذه الحياة وندفع ثمنه أو نكافأ عليه في هذه الحياة
نفسها؛ وهناك الكارما الذي ينتظر الظروف المؤاتية للظهور في مستقبل قريب أو بعيد قد يمتد
لعدة حيوات مستقبلية .وفي األدبيات الثيوصوفية هناك الكارما الصالح والكارما السيئ .ونقرأ
في كتاب نور على الدرب 52العبارة التالية" :أيها الراغب في فهم قوانين كارما ،حا ِّول قبل كل
شيء أن تتحرر منها .ولن تستطيع فعل ذلك إال بتركيز انتباهك على ما ال يستطيع كارما أن
يؤثر به".
وكارما له حساباته الدقيقة .فالكارما الفردي هو محصلة أو نتائج أفعال اإلنسان الواعية وغير
غيه
الواعية .وبمقدار وعينا ألعمالنا تكون النتائج أثقل أو أخف .وكلما أمعن اإلنسان في ِّ
وجبت عليه الحياة مدة "أطول" ليستنفد جزءا ً من هذا الكارما الفردي المتراكم .وبعكس ما
تقوله لنا التوراة فإن "طول العمر" ليس نعمة إلهية ،وإنما هو عبء على الروح؛ فكلما كان
ص َرت مدة الحياة على األرض .قد نندهش لذلك ،ولكنه الحقيقة بذاتها. الكارما الفردي صالحا ً قَ ُ
سد فوراً ،بعكس اإلنسان العادي ،ألن الطفل ال تكتمل فاألطفال الذين يموتون مبكرا ً يعودون للتج ُّ
لديه الفردية individualityقبل بلوغه سن السابعة من العمر؛ فقبل هذه السن ال يتحمل أية
مسؤولية أخالقية ،وبالتالي ينتفي وجود كارما لديه ،على األقل في آخر حياة عاشها على
كوكبنا األرضي .وفي دراساتنا هذه سنبحث عن "أوضاع" الموتى من األطفال والمقتولين
والمنتحرين ،لنبيِّن أن القوانين التي يخضعون لها تختلف عن القوانين التي يخضع لها اإلنسان
البالغ الذي يموت ميتة طبيعية .وسنبحث ذلك في الفصل المتعلق بالموت وديفاخان ،Devakhan
أو ما تطلق عليه الديانات اسم "السماء".
والكارما الجماعي هو محصلة أفكار وأعمال مجموعة كبيرة من البشر قد تمتد لتصير كارما
وطنياً ،حيث يعاني أصحابه من الحروب والمجاعات واآلالم ،ألنهم في حياتهم السابقة أوسعوا
الشعوب األخرى شرورا ً واضطهادا ً عنصريا ً وقوميا ً استعمارياً.
قد يتساءل بعضهم عن "الصدفة" أو "الحظ" بنجاة أحدهم من سقوط طائرة ،بينما يُقت َل جميع
ركابها .والحقيقة أن أفعال األفراد أو المجموعة الموجودة أثناء هذه الكارثة قد تراكمت على ك ِّر
السنين لتتركز من جديد وتجذب إليها بطريقة "كارمية" تلك المجموعة من البشر لتعاني هذه
الكارثة .ومن كان لديه كارما صالح من بينهم سيعزو نجاته إلى "عناية هللا"؛ ولكن األمر
مختلف تماماً .إذ إن نواياه وأعماله الصالحة في حياته السابقة أدَّت إلى مساعدته "مالئكياً"،
إذا جاز المصطلح ،ليبقى على قيد الحياة .والمثال الذي يتبادر إلى أذهاننا فورا ً هو كارثة
السفينة تيتانيك.
*
إن عودة اإلنسان للتجسد عودة اختيارية نوعا ً ما ،ولكنها مشروطة بدائرة معينة من الكارما.
لذلك يولد اإلنسان في بيئة ووطن وشروط تتعلق بالحياة السابقة التي عاشها ،من خالل
األشخاص الذين "كانوا" يحيطون به؛ وعاجالً أم آجالً ،سيجد اإلنسان نفسه ،بدون إرادة منه
ومعرفة ،وسط مجموعة من الناس ،ذوي وجوه جديدة ،كان لها ارتباط معه في حيوات
سابقات ،لتقتسم وإياه المصير المنتظر.
واألديان ال تشذ عن هذه القاعدة .وعندما يقوم أصحاب دين باضطهاد مجموعة من الناس من
دين آخر فإن المستقبل "يخبِّئ" لهم اضطهادا ً مساويا ً لما قاموا به؛ وهكذا دواليك ،إلى أن
يتعلم اإلنسان أن األديان كلَّها منبثقة من جوهر واحد ،وإله واحد ،ولكن بظروف وأشكال
مختلفة .ولهذا ما إن ندرك أن "اآلخر" جزء منَّا حتى نصبح أحرارا ً من كارما ،ونستيقن أن
الوالدة ضمن دين معين ليست إال الكتساب مزيد من الخبرة والروحانية المتض َّمنة في هذا
الدين .وعاجالً أو آجالً ،سنولد ضمن مجموعة تعتنق دينا ً مغايرا ً للدين الذي كنا نؤمن به في
حياة ماضية.
***
العود للتجسد
ال يمكن البحث في كارما بدون التحدث عن التقمص ،الذي هو مختلف تماما ً عن تناسخ األرواح
metempsychosisفي أجسام حيوانية ،ألن التطور في الكون تطور تصاعدي .فالروح اإلنسانية،
أو باألصح الثالوث العلوي (الذي يضم آتما ،atmaوالجسم اإلشراقي بودهي ،buddhiوالعقل
سد من حياة إلى حياة في المملكة اإلنسانية .فالروح ماناس ،manasكما بينَّا) هو الذي يتج َّ
اإلنسانية تعود للتقمص في َم ْر َكبات ( vehiclesأجسام) إنسانية ،ال حيوانية؛ إذ إن الوعي والتطور
فالتجلي له مخطط؛ وهذا المخطط ِّ يسيران لألمام وليس للوراء ،في عملية انفتاح ،وليس انغالق.
هو التطور؛ وكارما هو القانون الذي يسهر على تحقيق هذا المخطط؛ والتقمص هو وسيلة عمل
كلها ،بما فيها المستوى األخالقي. كارما في المملكة اإلنسانية ،على المستويات ِّ
*
والتقمص هو بالحقيقة عقيدة تتضمنها المسيحية .وقد ل َّمح لها السيد المسيح في كالمه عن النبي
إيليا في عودته (تق ُّمصه) بجسم جديد دُ ِّعي يوحنا المعمدان .وحسبنا التأمل في كالم المسيح
لنيقوديموس" :إن لم تولدوا من جديد لن تدخلوا ملكوت هللا" ،لكي نقرأ في هذا القول ،على أحد
مستويات تأويله ،إشارة إلى التقمص .فلقد كانت عقيدة التقمص منتشرة في العالم المسيحي،
اليوناني والروماني .وقبلئ ٍذ تكلم عليها أفالطون وفيثاغوراس وسقراط وعدد من آباء الكنيسة
المتهودين"
ِّ الذين اض ُ
ط ِّهدوا نتيجة التأثير اليهودي ،أو تأثير َمن يُطلَق عليهم اسم "المسيحيين
الذين رفضوا عقيدة التقمص ،التي هي من أسمى ما ُو ِّجد في العقائد المسيحية األولى.
*
سداتالتطور اإلنساني للوصول إلى الكمال ال يتم بين ليلة وضحاها .لذا فإن الروح تحتاج إلى تج ُّ
عديدة لتنقية الشوائب العالقة بها ،وتعلُّم الدروس التي رفضتها سابقاً ،وإصالح أخطائها بحق
الذين أساءت إليهم في حيوات سابقات .وفي المآل ،أليس من العدل والرحمة إتاحة الفرصة مرات
َّ
ننسين أننا ندرك أنه، عديدة أمام النفس للتوبة وإصالح العيوب ،بدالً من إلقائها في نار أبدية؟ وال
في أغلب األحيان ،توجد ظروف اجتماعية أو غيرها تسبب لإلنسان أخطاء وهفوات قد ال
يرتكبها لو ُو ِّلد في بيئة مختلفة أو في بلد آخر؟ أليس أكثر رحمة وعدالً أن نتيح للتلميذ فرصة
إعادة الصف الذي رسب فيه ،بدالً من طرده من المدرسة وحرمانه من العلم الذي يعني المعرفة؟
ومن جهة ثانية ،فالقوانين الكونية تقول لنا إن المحدود ال ينتج عنه شيء غير محدود أو أبدي.
بمعنى آخر ،فإن حياة واحدة تقدَّر بمائة سنة مدة ٌ محدودة ال تسبِّب البقاء في جهنم مدة غير
محدودة وأبدية.
*
المطلع على األبحاث التي تعالج موضوع التقمص قد قرأ أو سمع بكتاب َّ الشك أن القارئ
عشرون حالة توحي بالتقمص للباحث إيان ستيفنسون .[6]3ففي هذا الكتاب يبحث ستيفنسون في
عشرين قصة تق ُّمص ثبتت صحتها (بحسب رأي الكاتب) من أصل مئات القصص التي راجعها
كله .ولكن لنا ،لألسف الشديد ،اعتراض كبير على صاها شخصيا ً من بلد آلخر في العالم ِّ وتق َّ
ُ
تحليالت هذه القصص والتفسيرات التي قدِّمت في هذا الكتاب إلثبات صحة الوقائع الواردة فيه
والتي كان يُفترض أن تُم َّحص ويُدقَّق فيها جيدا ً قبل البت في أمرها.
إن معظم حاالت "النطق" ليست دليالً على صحة التقمص؛ إذ توجد في الكون أسرار خافية عن
الناس العاديين ،بمن فيهم إيان ستيفنسون (مع احترامنا الكبير للمجهود الذي بذله في دراسة
حاالت التقمص التي وردت في كتابه) .لكننا نستطيع أن نوجز بعض التفسيرات والشروح لبعض
القصص "التق ُّمصية" الواردة في الكتاب اعتمادا ً على الدراسات الثيوصوفية التي أوردها الباحث
الثيوصوفي جان لويس سييمونس القدير في كتابه شهادات وبراهين على التقمص.[7]4
أ .التفسير البديهي" :النطق" هو استعادة ذكريات الطفولة المنسية إلى السطح في ظروف وأحداث
معينة ،مما يوحي لإلنسان بأنه عاش حياة سابقة .لكن هذه الذكريات في الحقيقة ليست سوى
الماضي الكامن لإلنسان نفسه.
ب .التفسير النفساني :وهو طرح الشخصية الحقيقية لشخصية وهمية في الحلم نتيجة الضغط
النفسي الذي يعانيه اإلنسان نفسه ،مما يوحي له ،وهماً ،بأنه عاش شخصية مختلفة في حياة
ماضية.
ج .التفسير العلمي :حسب جان شارون ،الفيزيائي الفرنسي الكبير ،هناك ذاكرة كونية ،هي عبارة
عن سلسلة متواصلة من األحداث والترابطات بين أفراد البشرية قاطبة ،أو هي نوع من الالوعي
الجمعي ،حسب كارل غوستاف يونغ .أي أن الخافية الجمعية collective unconsciousتظهر
بمثابة محصلة للترسبات المتراكمة للبشرية .فقد يحدث أحيانا ً أن شخصا ً ما لديه حساسية مرهفة
يتلقى ،عن غير وعي منه ،اإلسقاطات النفسية والفكرية إلنسان مات منذ زمن بعيد عن طريق
النور الكوكبي المحيط بكوكب األرض( .هذا النور هو المستودع لكل أحداث كوكبنا األرضي،
بما فيها أحداث حياة جميع من وطئ هذه األرض منذ بدء الخليقة ).وهذه اإلسقاطات توحي بأنها
ماض.
ٍ زمن
ٍ ذكريات للشخص نفسه الذي يعتقد أنه كان شخصا ً آخر في
ُعرف باسم "اإلدراك الحواسي الفائق" ESP؛ وهي قدرة د .التفسير البارابسيكولوجي :وهو ما ي َ
اإلنسان ،بواسطة أحاسيسه المرهفة الفوقطبيعية ،على التقاط أحداث تاريخية حقيقية جرت
ألشخاص عاشوا على كوكب األرض في أزمنة تاريخية مختلفة ،وبالتالي ،اعتقاده أنها أحداث
ت أوصه هو بالذات وعاشها في حياة سابقة .ومن المعروف علميا ً استحالة اندثار أية ذرا ٍ تخ ُّ
أصوات أو أشعة في الكون ،مهما امتد الزمان بها .فأية فكرة تخطر في أذهاننا تنتج عنها
اهتزازات تبقى إلى األبد محيطة بكوكب األرض؛ وبالتالي فإن اإلنسان الذي يتمتع بقدرة إحساس
صه ه وفوقطبيعية يستطيع التقاطها وتجسيمها عن غير وعي في أحالمه واإليمان "يقيناً" بأنها تخ ُّ
بالذات.
هـ .التفسير التليباثي (التخاطري) :وهو التقاط أفكار أشخاص معينين واعتناقها ،وكأنها أحداث
ماضية لحياة سابقة .ويدخل ضمن هذه األمور أيضا ً قدرة االستبصار clairvoyanceوالتنويم
المغناطيسي ،hypnosisحيث يدَّعي المرء ،تحت تأثير التنويم المغناطيسي ،بأنه كان شخصا ً آخر
المنوم ،في هذه
َّ في حياة سابقة .لكن األمر يختلف تماما ً عما يحصل في الواقع؛ إذ إن الشخص
الحالة ،يتلقى الواعيا ً أفكار الوسيط ،أو أحد المحيطين به ،ويقوم الذهن ،بالتالي ،بـ"فبركة" قصة
وهمية تستند إلى بعض المعطيات الحقيقية التي تسبب تو ُّهم التقمص.
و .التفسير األرواحي :spiritualistورائد األرواحيين في هذا المجال هو أالن كاردك الذي ادَّعى
إمكانية إجراء اتصاالت روحية مع الموتى .لكن هذه النظرية مستحيلة – إال في حاالت استثنائية
جدا ً – ألن االتصال الروحي للوسيط مع الميت سيسبب قراءته (الواعياً) أحداث حياة هذا الميت،
وبالتالي إسقاط هذه األحداث عليه وانتحاله شخصيته ،وكأنها ذكريات لحياة ماضية توحي بأنها
دليل على التقمص.
ً
ز .التفسير الثيوصوفي :سنتوسع في هذا الموضوع مطوال في الجزء المتعلق بالموت
وصيرورته ،وسنوضح كيفية تالشي األجسام ،والمراحل التي تمر بها الروح ،منذ انطالقها من
ُعرف بالسماء .ولكننا نستطيع حاليا ً أن نقول إنالجسم المادي حتى دخولها إلى ديفاخان ،أو ما ي َ
مؤسسة الجمعية الثيوصوفية ،تعتبر أن االدعاء بأن شخصا ً ما هو تقمص أو ِّ السيدة بالفاتسكي،
تجسد لنابليون ،مثالً ،ادِّعاء باطل ،لسبب وجيه جداً ،أال وهو أن المدة التي تمتد بين الموت
والتقمص ،أو العود للتجسد من جديد ،طويلة جدا ً بالنسبة لإلنسان العادي؛ إذ هي تتراوح بين
1000و 1500عام تقريباً .وفي حالتنا هذه فإن موت نابليون لم يمر عليه زمن كافٍ لكي يدَّعي
أحدهم بأنه "كان" نابليون في حياته السابقة ،وقد عاد للتقمص من جديد .ونورد مالحظة أيضا ً
سدون من جديد فور وفاتهم ،سواء بأنه يوجد استثناء بهذا الصدد ،وهو أن األطفال الصغار يتج َّ
بعد أيام أو أسابيع أو أشهر ،ويمتلكون الجسم النوراني نفسه الذي كان بحوزتهم في حياتهم
السابقة( .سوف نعود الحقا ً لهذه النقطة ،وسنعرض كذلك بعض العالمات أو الدالئل التي تترافق
مع حاالت تق ُّمصية في الدراسات القادمة).
***