Professional Documents
Culture Documents
تفسير السعدي 2
تفسير السعدي 2
ك َياضَنا بِ ِس ْح ِر َ
َج ْئتََنا ِلتُ ْخ ِرجَنا ِم ْن أَر ِ
ْ َ ب وأََبى * قَا َل أ ِ َّ ِ َّ
{ َ { } 61 - 56ولَقَ ْد أ ََر ْيَناهُ َآياتَنا ُكلهَا فَ َكذ َ َ
ت َم َك ًانا ُس ًوى * قَا َل ك َم ْو ِع ًدا ال ُن ْخِلفُهُ َن ْح ُن َوال أ َْن َ ك بِ ِس ْح ٍر ِم ْثِل ِه فَ ْ
اج َع ْل َب ْيَنَنا َوَب ْيَن َ وسى * َفلََنأْتَِيَّن َ ُم َ
ض ًحى * فَتََولَّى ِف ْر َع ْو ُن فَ َج َم َع َك ْي َدهُ ثَُّم أَتَى * قَ َ
ال لَهُ ْم اس ُ َن ُي ْح َش َر َّ
الن ُ الز َين ِة َوأ ْ
َم ْو ِع ُد ُك ْم َي ْو ُم ِّ
اب َم ِن ا ْفتََرى } . وسى وْيلَ ُكم ال تَ ْفتَروا َعلَى اللَّ ِه َك ِذًبا فَُي ْس ِحتَ ُكم بِ َع َذ ٍ
اب َوقَ ْد َخ َ ْ ُ ُم َ َ ْ
يخبر تعالى ،أنه أرى فرعون من اآليات والعبر والقواطع ،جميع أنواعها العيانية ،واألفقية
والنفسية ،فما استقام وال ارعوى ،وإ نما كذب وتولى ،كذب الخبر ،وتولى عن األمر والنهي،
َج ْئتََنا ِلتُ ْخ ِرجَنا ِم ْن أَر ِ
ضَنا وجعل الحق باطال والباطل حقا ،وجادل بالباطل ليضل الناس ،فقال { :أ ِ
ْ َ
ك } زعم أن هذه اآليات التي أراه إياها موسى ،سحر وتمويه ،المقصود منها إخراجهم من بِ ِس ْح ِر َ
أرضهم ،واالستيالء عليها ،ليكون كالمه مؤثرا في قلوب قومه ،فإن الطباع تميل إلى أوطانها،
ويصعب عليها الخروج منها ومفارقتها.
فأخبرهم أن موسى هذا قصده ،ليبغضوه ،ويسعوا في محاربته ،فلنأتينك بسحر مثل سحرك
فأمهلنا ،واجعل لنا { َم ْو ِع ًدا ال ُن ْخِلفُهُ َن ْح ُن َوال أ َْن َ
ت َم َك ًانا ُس ًوى } أي :مستو علمنا وعلمك به ،أو
مكانا مستويا معتدال ليتمكن من رؤية ما فيه.
الز َين ِة } وهو عيدهم ،الذي يتفرغون فيه ويقطعون شواغلهمَ { ،وأ ْ
َن فقال موسىَ { :م ْو ِع ُد ُك ْم َي ْو ُم ِّ
ض ًحى } أي :يجمعون كلهم في وقت الضحى ،وإ نما سأل موسى ذلك ،ألن يوم اس ُ ُي ْح َش َر َّ
الن ُ
الزينة ووقت الضحى فيه يحصل فيه من كثرة االجتماع ،ورؤية األشياء على حقائقها ،ما ال
يحصل في غيره { ،فَتََولَّى ِف ْر َع ْو ُن فَ َج َم َع َك ْي َدهُ } أي :جميع ما يقدر عليه ،مما يكيد به موسى،
فأرسل في مدائنه من يحشر السحرة الماهرين في سحرهم ،وكان السحر إذ ذاك ،متوفرا ،وعلمه
علما مرغوبا فيه ،فجمع خلقا كثيرا من السحرة ،ثم أتى كل منهما للموعد ،واجتمع الناس للموعد.
فكان الجمع حافال حضره الرجال والنساء ،والمأل واألشراف ،والعوام ،والصغار ،والكبار،
َّح َرةَ ِإ ْن َك ُانوا َّ ِ
ون * لَ َعلَنا َنتَّبِعُ الس َ
وحضوا الناس على االجتماع ،وقالوا للناسَ { :ه ْل أ َْنتُ ْم ُم ْجتَم ُع َ
ِ
ين } فحين اجتمعوا من جميع البلدان ،وعظهم موسى عليه السالم ،وأقام عليهم الحجة، ُه ُم اْل َغالبِ َ
اب } أي :ال تنصروا ما أنتم عليه من وقال لهم { :وْيلَ ُكم ال تَ ْفتَروا َعلَى اللَّ ِه َك ِذًبا فَُي ْس ِحتَ ُكم بِ َع َذ ٍ
ْ ُ َ ْ
الباطل بسحركم وتغالبون الحق ،وتفترون على اهلل الكذب ،فيستأصلكم بعذاب من عنده ،ويخيب
سعيكم وافتراؤكم ،فال تدركون ما تطلبون من النصر والجاه عند فرعون ومالئه ،وال تسلمون من
عذاب اهلل ،وكالم الحق ال بد أن يؤثر في القلوب.
ال جرم ارتفع الخصام والنزاع بين السحرة لما سمعوا كالم موسى ،وارتبكوا ،ولعل من جملة
نزاعهم ،االشتباه في موسى ،هل هو على الحق أم ال؟ ولكن هم إلى اآلن ،ما تم أمرهم ،ليقضي
ك َع ْن َبيَِّن ٍة َوَي ْحَيا َم ْن َح َّي َع ْن َبيَِّن ٍة } فحينئذ أسروا فيما بينهم اهلل أمرا كان مفعوال { ِلَي ْهِل َ
ك َم ْن َهلَ َ
النجوى ،وأنهم يتفقون على مقالة واحدة ،لينجحوا في مقالهم وفعالهم ،وليتمسك الناس بدينهم،
َن ي ْخ ِرجا ُكم ِم ْن أَر ِ ان لَس ِ
ض ُك ْم ْ ان أ ْ ُ َ ْ يد ِ
ان ُي ِر َ
اح َر ِ والنجوى التي أسروها فسرها بقوله { :قَالُوا ِإ ْن َه َذ ِ َ
ط ِريقَتِ ُك ُم اْل ُمثْلَى } كمقالة فرعون السابقة ،فإما أن يكون ذلك توافقا من فرعون بِ ِس ْح ِر ِه َما َوَي ْذ َهَبا بِ َ
والسحرة على هذه المقالة من غير قصد ،وإ ما أن يكون تلقينا منه لهم مقالته ،التي صمم عليها
ط ِريقَتِ ُك ُم اْل ُمثْلَى } أي :طريقة
وأظهرها للناس ،وزادوا على قول فرعون أن قالواَ { :وَي ْذ َهَبا بِ َ
السحر حسدكم عليها ،وأراد أن يظهر عليكم ،ليكون له الفخر والصيت والشهرة ،ويكون هو
المقصود بهذا العلم ،الذي أشغلتم زمانكم فيه ،ويذهب عنكم ما كنتم تأكلون بسببه ،وما يتبع ذلك
من الرياسة ،وهذا حض من بعضهم على بعض على االجتهاد في مغالبته ،ولهذا قالوا:
َج ِم ُعوا َك ْي َد ُك ْم } أي :أظهروه دفعة واحدة متظاهرين متساعدين فيه ،متناصرين ،متفقا رأيكم
{ فَأ ْ
صفًّا } ليكون أمكن لعملكم ،وأهيب لكم في القلوب ،ولئال يترك بعضكم بعض
وكلمتكم { ،ثَُّم ا ْئتُوا َ
مقدوره من العمل ،واعلموا أن من أفلح اليوم ونجح وغلب غيره ،فإنه المفلح الفائز ،فهذا يوم له
ما بعده من األيام
( )1/508
فلله درهم ما أصلبهم في باطلهم ،وأشدهم فيه ،حيث أتوا بكل سبب ،ووسيلة وممكن ،ومكيدة
يكيدون بها الحق ،ويأبى اهلل إال أن يتم نوره ،ويظهر الحق على الباطل.،فلما تمت مكيدتهم،
ون أ ََّو َل َن تُْل ِق َي } عصاك { َوإِ َّما أ ْ
َن َن ُك َ وسى ِإ َّما أ ْوانحصر مقصدهم ،ولم يبق إال العمل { قَالُوا َيا ُم َ
َم ْن أَْلقَى } خيروه ،موهمين أنهم على جزم من ظهورهم عليه بأي :حالة كانت ،فقال لهم موسى:
صيُّهُ ْم ُي َخَّي ُل ِإلَْي ِه } أي :إلى موسى { ِم ْن { ب ْل أَْلقُوا } فألقوا حبالهم وعصيهم { ،فَِإ َذا ِحبالُهم و ِع ِ
َ ُْ َ َ
ِس ْح ِر ِه ْم } البليغ { أََّنهَا تَ ْس َعى } أي :أنها حيات تسعى فلما خيل إلى موسى ذلك.
وسى } كما هو مقتضى الطبيعة البشرية ،وإ ال فهو جازم بوعد اهلل ِِ ِ ِ
{ أ َْو َج َس في َن ْفسه خيفَةً ُم َ
ونصره.
األعلَى } عليهم ،أي :ستعلو عليهم وتقهرهم، ت ْ ف ِإَّن َ
ك أ َْن َ { ُقْلَنا } له تثبيتا وتطمينا { :ال تَ َخ ْ
ويذلوا [ ص ] 509لك ويخضعوا.
اح ٍر وال ي ْفِلح الس ِ
َّاح ُر ف ما صَنعوا ِإَّنما صَنعوا َك ْي ُد س ِ ق َما ِفي َي ِمينِ َ
{ وأَْل ِ
َ ُ ُ َ ك } أي :عصاك { تَْلقَ ْ َ َ ُ َ َ ُ َ
ث أَتَى } أي :كيدهم ومكرهم ،ليس بمثمر لهم وال ناجح ،فإنه من كيد السحرة ،الذين يموهون َح ْي ُ
على الناس ،ويلبسون الباطل ،ويخيلون أنهم على الحق ،فألقى موسى عصاه ،فتلقفت ما صنعوا
كله وأكلته ،والناس ينظرون لذلك الصنيع ،فعلم السحرة علما يقينا أن هذا ليس بسحر ،وأنه من
اهلل ،فبادروا لإليمان.
ون } فوقع الحق وظهر ين َر ِّ ِ آمَّنا بَِر ِّ ِ
وسى َو َه ُار َ
ب ُم َ ب اْل َعالَم َ َّح َرةُ ساجدين * قَالُوا َ
{ فَأُْلق َي الس َ
وسطع وبطل السحر والمكر والكيد في ذلك المجمع العظيم
َن
آم ْنتُ ْم لَهُ قَْب َل أ ْ
ال } فرعون للسحرة { َ
فصارت بينة ورحمة للمؤمنين وحجة على المعاندين فـ { قَ َ
آ َذ َن لَ ُك ْم } أي كيف أقدمتم على اإليمان من دون مراجعة مني وال إذن؟
استغرب ذلك منهم ألدبهم معه وذلهم وانقيادهم له في كل أمر من أمورهم وجعل هذا من ذاك
ثم استلج فرعون في كفره وطغيانه بعد هذا البرهان واستخف عقول قومه وأظهر لهم أن هذه
الغلبة من موسى للسحرة ليس ألن الذي معه الحق بل ألنه تماأل هو والسحرة ومكروا ودبروا أن
استَ َخ َّ
ف قَ ْو َمهُ يخرجوا فرعون وقومه من بالدهم فقبل قومه هذا المكر منه وظنوه صدقا { فَ ْ
ِِ
ين } مع أن هذه المقالة التي قالها ال تدخل عقل من له أدنى مسكة اعوهُ ِإَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو ًما فَاسق َ
ط ُفَأَ َ
من عقل ومعرفة بالواقع فإن موسى أتى من مدين وحيدا وحين أتى لم يجتمع بأحد من السحرة
وال غيرهم بل بادر إلى دعوة فرعون وقومه وأراهم اآليات فأراد فرعون أن يعارض ما جاء به
موسى فسعى ما أمكنه وأرسل في مدائنه من يجمع له كل ساحر عليم
فجاءوا إليه ووعدهم األجر والمنزلة عند الغلبة وهم حرصوا غاية الحرص وكادوا أشد الكيد على
غلبتهم لموسى وكان منهم ما كان فهل يمكن أن يتصور مع هذا أن يكونوا دبروا هم وموسى
واتفقوا على ما صدر؟ هذا من أمحل المحال ثم توعد فرعون السحرة فقال { فألقَطِّ َع َّن أ َْي ِدَي ُك ْم
وأَرجلَ ُكم ِم ْن ِخ ٍ
الف } َ ْ ُ ْ
ألصلَِّبَّن ُك ْم ِفي ُج ُذ ِ
وع كما يفعل بالمحارب الساعي بالفساد يقطع يده اليمنى ورجله اليسرى { َو َ
الن ْخ ِل } أي ألجل أن تشتهروا وتختزوا { َولَتَ ْعلَ ُم َّن أَيَُّنا أَ َش ُّد َع َذ ًابا َوأ َْبقَى } يعني بزعمه هو أو اهلل
َّ
وأنه أشد عذابا من اهلل وأبقى قلبا للحقائق وترهيبا لمن ال عقل له
ولهذا لما عرف السحرة الحق ورزقهم اهلل من العقل ما يدركون به الحقائق أجابوه بقولهم
ك علَى ما جاءَنا ِمن اْلبيَِّن ِ
ات } أي لن نختارك وما وعدتنا به من األجر والتقريب على { لَ ْن ُن ْؤثَِر َ َ َ َ َ َ َ
ما أرانا اهلل من اآليات البينات الداالت على أن اهلل هو الرب المعبود وحده المعظم المبجل وحده
ت قَ ٍ
اض } مما وأن ما سواه باطل ونؤثرك على الذي فطرنا وخلقنا هذا ال يكون { فَا ْق ِ
ض َما أ َْن َ
أوعدتنا به من القطع والصلب والعذاب
ضي َه ِذ ِه اْل َحَياةَ ُّ
الد ْنَيا } أي إنما توعدنا به غاية ما يكون في هذه الحياة الدنيا ينقضي { ِإَّنما تَ ْق ِ
َ
ويزول وال يضرنا بخالف عذاب اهلل لمن استمر على كفره فإنه دائم عظيم
وهذا كأنه جواب منهم لقوله { َولَتَ ْعلَ ُم َّن أَيَُّنا أَ َش ُّد َع َذ ًابا َوأ َْبقَى } وفي هذا الكالم من السحرة دليل
على أنه ينبغي للعاقل أن يوازن بين لذات الدنيا ولذات اآلخرة وبين عذاب الدنيا وعذاب اآلخرة
ط َاي َانا } أي كفرنا ومعاصينا فإن اإليمان مكفر للسيئات والتوبة تجب ما آمَّنا بَِربَِّنا ِلَي ْغ ِف َر لََنا َخ َ ِ
{ إَّنا َ
ِّح ِر } الذي عارضنا به الحق هذا دليل على أنهم غير قبلها وقولهم { َو َما أَ ْك َر ْهتََنا َعلَْي ِه ِم َن الس ْ
مختارين في عملهم المتقدم وإ نما أكرههم فرعون إكراها
والظاهر -واهلل أعلم -أن موسى لما وعظهم كما تقدم في قوله { َوْيلَ ُك ْم ال تَ ْفتَُروا َعلَى اللَّ ِه َك ِذًبا
اب } أثر معهم ووقع منهم موقعا كبيرا ولهذا تنازعوا بعد هذا الكالم والموعظة ثم إن فَُي ْس ِحتَ ُكم بِ َع َذ ٍ
ْ
فرعون ألزمهم ذلك وأكرههم على المكر الذي أجروه ولهذا تكلموا بكالمه السابق قبل إتيانهم
ض ُك ْم بِ ِس ْح ِر ِه َما } فجروا على ما سنه
َن ي ْخ ِرجا ُكم ِم ْن أَر ِ
ْ ان أ ْ ُ َ ْ يد ِ
ان ُي ِر َ ان لَس ِ
اح َر ِ حيث قالوا { ِإ ْن َه َذ ِ َ
لهم وأكرههم عليه ولعل هذه النكتة التي قامت بقلوبهم من كراهتهم لمعارضة الحق بالباطل
وفعلهم ما فعلوا على وجه اإلغماض هي التي أثرت معهم ورحمهم اهلل بسببها ووفقهم لإليمان
والتوبة { واهلل خير } مما وعدتنا من األجر والمنزلة والجاه وأبقى ثوابا وإ حسانا ال ما يقول
فرعون { َولَتَ ْعلَ ُم َّن أَيَُّنا أَ َش ُّد َع َذ ًابا َوأ َْبقَى } يريد أنه أشد عذابا وأبقى وجميع ما أتى من قصص
موسى مع فرعون يذكر اهلل فيه إذا أتى على قصة السحرة أن فرعون توعدهم بالقطع والصلب
ولم يذكر أنه فعل ذلك ولم يأت في ذلك حديث صحيح والجزم بوقوعه أو عدمه يتوقف على
الدليل واهلل أعلم بذلك وغيره ولكن توعده إياهم بذلك مع اقتداره دليل على وقوعه وألنه لو لم يقع
لذكره اهلل والتفاق الناقلين على ذلك
( )1/508
( )1/509
( )1/510
ب الطُّ ِ
ور اأْل َْي َم َن َوَن َّزْلَنا َعلَْي ُك ُم اْل َم َّن ِ
اع ْدَنا ُك ْم َجان َ
ِ ِ ِ
َيا َبني ِإ ْس َرائي َل قَ ْد أ َْن َج ْيَنا ُك ْم م ْن َع ُد ِّو ُك ْم َو َو َ
ضبِي َو َم ْن َي ْحِل ْل َعلَْي ِه ات ما ر َز ْقَنا ُكم واَل تَ ْ ِ ِ ِ
ط َغ ْوا فيه فََيح َّل َعلَْي ُك ْم َغ َ َْ طيَِّب َ َ
السْلوى (ُ )80كلُوا ِم ْن َ ِ
َو َّ َ
اهتَ َدى ()82 ص ِال ًحا ثَُّم ْ ِ
َم َن َو َعم َل َ
اب َوآ َ
ِ
ضبِي فَقَ ْد َه َوى (َ )81وإِ ِّني لَ َغفَّ ٌار ل َم ْن تَ َ َغ َ
( )1/510
( )1/511
ك أَْلقَى الس ِ
اها فَ َك َذِل َ
َّام ِر ُّ
ي( ك بِ َمْل ِكَنا َولَ ِكَّنا ُح ِّمْلَنا أ َْو َز ًارا ِم ْن ِز َين ِة اْلقَ ْوِم فَقَ َذ ْفَن َ
َخلَ ْفَنا َم ْو ِع َد َ
قَالُوا َما أ ْ
)87
اها فَ َك َذِل َ
ك ك بِ َمْل ِكَنا َولَ ِكَّنا ُح ِّمْلَنا أ َْو َز ًارا ِم ْن ِز َين ِة اْلقَ ْوِم فَقَ َذ ْفَن َ
َخلَ ْفَنا َم ْو ِع َد َ
{ { } 89 - 87قَالُوا َما أ ْ
ي}. أَْلقَى الس ِ
َّام ِر ُّ
أي :قالوا له :ما فعلنا الذي فعلنا عن تعمد منا ،وملك منا ألنفسنا ،ولكن السبب الداعي لذلك ،أننا
تأثمنا من زينة القوم التي عندنا ،وكانوا فيما يذكرون استعاروا حليا كثيرا من القبط ،فخرجوا
وهو معهم وألقوه ،وجمعوه حين ذهب موسى ليراجعوه فيه إذا رجع.
وكان السامري قد بصر يوم الغرق بأثر الرسول ،فسولت له نفسه أن يأخذ قبضة من أثره ،وأنه
إذا ألقاها على شيء حيي ،فتنة وامتحانا ،فألقاها على ذلك العجل الذي صاغه بصورة عجل،
فتحرك العجل ،وصار له خوار وصوت ،وقالوا :إن موسى ذهب يطلب ربه ،وهو هاهنا فنسيه.
( )1/511
اَّل ِ ِ ِ
َخ َر َج لَهُ ْم ع ْجاًل َج َس ًدا لَهُ ُخ َو ٌار فَقَالُوا َه َذا ِإلَهُ ُك ْم َوإِلَهُ ُم َ
وسى فََنس َي ( )88أَفَاَل َي َر ْو َن أَ َي ْرجعُ فَأ ْ
ض ًّرا َواَل َن ْف ًعا ()89 ك لَهُ ْم َ ِإلَْي ِه ْم قَ ْواًل َواَل َي ْمِل ُ
( )1/511
ِ ون ِم ْن قَْب ُل َيا قَ ْوِم ِإَّن َما فُتِْنتُ ْم بِ ِه َوإِ َّن َرَّب ُك ُم َّ
يعوا أ َْم ِري ()90 الر ْح َم ُن فَاتَّبِ ُعونِي َوأَط ُ َولَقَ ْد قَا َل لَهُ ْم َه ُار ُ
ضلُّوا
ك ِإ ْذ َرأ َْيتَهُ ْم َ
ون َما َمَن َع َ
ال َيا َه ُار ُوسى ( )91قَ َ ين َحتَّى َي ْر ِج َع ِإلَْيَنا ُم َ
ِ ِِ
قَالُوا لَ ْن َن ْب َر َح َعلَْيه َعاكف َ
َن ْسي ِإِّني َخ ِش ُ
يت أ ْ ْخ ْذ بِِل ْحيتِي واَل بِرأ ِ
َ َ َ ت أ َْم ِري ( )93قَا َل َيا ْاب َن أ َُّم اَل تَأ ُ ص ْي َ اَّل
( )92أَ تَتَّبِ َع ِن أَفَ َع َ
ب قَ ْوِلي ()94 ت َب ْي َن َبنِي ِإ ْس َرائِي َل َولَ ْم تَْرقُ ْ ول فََّر ْق َ
تَقُ َ
ون ِم ْن قَْب ُل َيا قَ ْوِم ِإَّن َما فُتِْنتُ ْم بِ ِه َوإِ َّن َرَّب ُك ُم َّ
الر ْح َم ُن فَاتَّبِ ُعونِي { َ { } 94 - 90ولَقَ ْد قَا َل لَهُ ْم َه ُار ُ
ِ ِِ ِ
ك ِإ ْذ
ون َما َمَن َع َوسى * قَا َل َيا َه ُار ُ ين َحتَّى َي ْر ِج َع ِإلَْيَنا ُم َ يعوا أ َْم ِري * قَالُوا لَ ْن َن ْب َر َح َعلَْيه َعاكف َ َوأَط ُ
ْسي ِإِّني َخ ِش ُ
يت ْخ ْذ بِِل ْحيتِي وال بِرأ ِ
َ َ َ ت أ َْم ِري * قَا َل َيا ْاب َن أ َُّم ال تَأ ُ ص ْي َضلوا * أَال تَتَّبِ َع ِن أَفَ َع َ
رأ َْيتَهم ُّ
َ ُْ َ
ب قَ ْوِلي } . يل َولَ ْم تَْرقُ ْت َب ْي َن َبنِي ِإ ْس َرائِ َ ول فََّر ْق َ
َن تَقُ َ
أْ
أي :إن اتخاذهم العجل ،ليسوا معذورين فيه ،فإنه وإ ن كانت عرضت لهم الشبهة في أصل
عبادته ،فإن هارون قد نهاهم عنه ،وأخبرهم أنه فتنة ،وأن ربهم الرحمن ،الذي منه النعم الظاهرة
والباطنة ،الدافع للنقم وأنه أمرهم أن يتبعوه ،ويعتزلوا العجل ،فأبوا وقالوا { :لَ ْن َن ْب َر َح َعلَْي ِه
ِِ
ين َحتَّى َي ْر ِج َع ِإلَْيَنا ُم َ
وسى } َعاكف َ
ضلُّوا * أَال تَتَّبِ َع ِن }ك ِإ ْذ َرأ َْيتَهُ ْم َ
ون َما َمَن َع َ
فأقبل موسى على أخيه الئما له ،وقالَ { :يا َه ُار ُ
َصِل ْح َوال تَتَّبِ ْع ت أَم ِري } في قولي { ْ ِ ِ
اخلُ ْفني في قَ ْو ِمي َوأ ْ ص ْي َ ْ
فتخبرني ألبادر للرجوع إليهم؟ { أَفَ َع َ
ِِ
َسبِي َل اْل ُم ْفسد َ
ين }
فأخذ موسى برأس هارون ولحيته يجره من الغضب والعتب عليه فقال هارون { َيا ْاب َن أ َُّم }
ت َب ْي َن َبنِي َن تَقُو َل فََّر ْق َ ْسي ِإِّني َخ ِش ُ
يت أ ْ ْخ ْذ بِِل ْحيتِي وال بِرأ ِ
َ َ َ ترقيق له وإ ال فهو شقيقه { ال تَأ ُ
ب قَ ْوِلي } فإنك أمرتني أن أخلفك فيهم فلو تبعتك لتركت ما أمرتني بلزومه ِإ ْس َرائِي َل َولَ ْم تَْرقُ ْ
ت َب ْي َن َبنِي ِإ ْس َرائِي َل } حيث تركتهم وليس عندهم راع وال خليفة َن تَقُو َل فََّر ْق َ
وخشيت الئمتك و { أ ْ
فإن هذا يفرقهم ويشتت شملهم فال تجعلني مع القوم الظالمين وال تشمت فينا األعداء فندم موسى
كألخي َوأ َْد ِخْلَنا ِفي َر ْح َمتِ َ
اغ ِفر ِلي و ِ
َ ب ْ ْ على ما صنع بأخيه وهو غير مستحق لذلك فـ { قَا َل َر ِّ
ين } ت أَرحم َّ ِ ِ
الراحم َ َوأ َْن َ ْ َ ُ
ثم أقبل على السامري
( )1/512
( )1/512
ِإَّن َما ِإلَهُ ُك ُم اللَّهُ الَِّذي اَل ِإلَهَ ِإاَّل ُه َو َو ِس َع ُك َّل َش ْي ٍء ِعْل ًما ()98
( )1/512
( )1/512
ون َب ْيَنهُ ْم ِإ ْن لَبِثْتُ ْم ِإاَّل َع ْش ًرا ( ٍِ َي ْو َم ُي ْنفَ ُخ ِفي الص ِ
ين َي ْو َمئذ ُز ْرقًا (َ )102يتَ َخافَتُ َ ُّور َوَن ْح ُش ُر اْل ُم ْج ِر ِم َ
ط ِريقَةً ِإ ْن لَبِثْتُ ْم ِإاَّل َي ْو ًما ()104
ون ِإ ْذ َيقُو ُل أ َْمثَلُهُ ْم َ
َعلَ ُم بِ َما َيقُولُ َ
َ )103ن ْح ُن أ ْ
( )1/513
صفًا ( )106اَل تََرى ِفيهَا ص ْف َاعا َ
ِ ك َع ِن اْل ِجَب ِ
ال فَ ُق ْل َي ْنسفُهَا َربِّي َن ْسفًا ( )105فََي َذ ُر َها قَ ً ون َ
َوَي ْسأَلُ َ
ات ِل َّلر ْحم ِن فَاَل تَسمع ِإاَّل َص َو ُ ِ ِ ِعوجا واَل أَمتًا ( )107يومئٍِذ يتَّبِعون َّ ِ
َْ ُ َ الداع َي اَل ع َو َج لَهُ َو َخ َش َعت اأْل ْ َْ َ َ ُ َ َ ً َ ْ
الر ْحمن ور ِ ِ َهم ًسا (َ )108يومئٍِذ اَل تَْنفَع َّ
الشفَ َ اَّل
ض َي لَهُ قَ ْواًل (َ )109ي ْعلَ ُم َما َب ْي َن اعةُ ِإ َم ْن أَذ َن لَهُ َّ َ ُ َ َ ُ َْ ْ
اب َم ْن َح َم َل ون بِ ِه ِعْل ًما ( )110و َعَن ِت اْلو ُجوهُ ِلْل َح ِّي اْلقَي ِ
ُّوم َوقَ ْد َخ َ
ِ ِ
أ َْيدي ِه ْم َو َما َخْلفَهُ ْم َواَل ُيحيطُ َ
ُ َ
ض ًما ()112 اف ظُْل ًما َواَل َه ْ َّالح ِ
ات َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن فَاَل َي َخ ُ ِ ِ
ظُْل ًما (َ )111و َم ْن َي ْع َم ْل م َن الص َ
( )1/514
( )1/514
( )1/514
ك َوِل َز ْو ِج َ
َد ُم ِإ َّن َه َذا َع ُد ٌّو لَ َ اَّل ِ آِل ِ ِ ِ
ك يس أََبى ( )116فَ ُقْلَنا َيا آ َ اس ُج ُدوا َ َد َم فَ َس َج ُدوا ِإ ِإْبل َ
َوإِ ْذ ُقْلَنا لْل َماَل ئ َكة ْ
ظ َمأُ ِفيهَا
ك اَل تَ ْ وع ِفيهَا َواَل تَ ْع َرى (َ )118وأََّن َ ك أَاَّل تَ ُج َ فَاَل ُي ْخ ِر َجَّن ُك َما ِم َن اْل َجَّن ِة فَتَ ْشقَى (ِ )117إ َّن لَ َ
ك َعلَى َش َج َر ِة اْل ُخْل ِد َو ُمْل ٍك اَل َيْبلَى ( َد ُم َه ْل أ َُدلُّ َ
ان قَا َل َيا آ َط ُ ض َحى ( )119فَو ْسو َس ِإلَْي ِه َّ
الش ْي َ َ َ َواَل تَ ْ
ِ ان َعلَْي ِه َما ِم ْن و َر ِ ط ِفقَا ي ْخ ِ
صفَ ِ )120فَأَكَاَل ِم ْنهَا فََب َد ْ
َد ُم َربَّهُ ق اْل َجَّنة َو َع َ
صى آ َ َ ت لَهُ َما َس ْوآَتُهُ َما َو َ َ
اب َعلَْي ِه َو َه َدى ()122
اجتََباهُ َربُّهُ فَتَ َ
فَ َغ َوى ( )121ثَُّم ْ
( )1/514
ض ع ُد ٌّو فَِإ َّما يأْتِيَّن ُكم ِمِّني ُه ًدى فَم ِن اتَّبع ُه َداي فَاَل ي ِ
ض ُّل َواَل ِ ِ اهبِ َ ِ
َ َ َ ََ َ َ ْ ض ُك ْم لَب ْع ٍ َ يعا َب ْع ُ
طا م ْنهَا َجم ً ال ْ
قَ َ
َع َمى ()124 ام ِة أ ْ ِ ِ ِ
ض َع ْن ذ ْك ِري فَِإ َّن لَهُ َمعي َشةً َ
ض ْن ًكا َوَن ْح ُش ُرهُ َي ْو َم اْلقَي َ َع َر َ
َي ْشقَى (َ )123و َم ْن أ ْ
ص ًيرا ()125 تب ِ ب ِل َم َح َش ْرتَنِي أ ْ
ال َر ِّ
َع َمى َوقَ ْد ُك ْن ُ َ قَ َ
( )1/515
( )1/516
ك آَل َي ٍ
ات أِل ُوِلي ُّ ِ ِ ِِ ون يم ُش ِ ِ أَ َفلَ ْم َي ْه ِد لَهُ ْم َك ْم أ ْ
النهَى ( ون في َم َساكن ِه ْم ِإ َّن في َذل َ َ
َهلَ ْكَنا قَْبلَهُ ْم م َن اْلقُُر ِ َ ْ َ
)128
ك آلي ٍ
ات ألوِلي ِ ِ ِِ ون يم ُش ِ ِ { { } 128أَ َفلَ ْم َي ْه ِد لَهُ ْم َك ْم أ ْ
ون في َم َساكن ِه ْم ِإ َّن في َذل َ َ
َهلَ ْكَنا قَْبلَهُ ْم م َن اْلقُُر ِ َ ْ َ
ُّ
النهَى } .
أي :أفلم يهد هؤالء المكذبين المعرضين ،ويدلهم على سلوك طريق الرشاد ،وتجنب طريق الغي
والفساد ،ما أحل اهلل بالمكذبين قبلهم ،من القرون الخالية ،واألمم المتتابعة ،الذين يعرفون
قصصهم ،ويتناقلون أسمارهم ،وينظرون بأعينهم ،مساكنهم من بعدهم ،كقوم هود وصالح ولوط
وغيرهم ،وأنهم لما كذبوا رسلنا ،وأعرضوا عن كتبنا ،أصبناهم بالعذاب األليم؟
فما الذي يؤمن هؤالء ،أن يحل بهم ،ما حل بأولئك؟ { أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في
الزبر * أم يقولون نحن جميع منتصر } ال شيء من هذا كله فليس هؤالء الكفار خيرا من أولئك
حتى يدفع عنهم العذاب بخيرهم بل هم شر منهم ألنهم كفروا بأشرف الرسل وخير الكتب وليس
لهم براءة مزبورة وعهد عند اهلل وليسوا كما يقولون أن جمعهم ينفعهم ويدفع عنهم بل هم أذل
وأحقر من ذلك فإهالك القرون الماضية بذنوبهم من أسباب الهداية لكونها من اآليات الدالة على
صحة رسالة الرسل الذين جاءوهم وبطالن ما هم عليه ولكن ما كل أحد ينتفع باآليات إنما ينتفع
بها أولو النهى أي العقول السليمة والفطر المستقيمة واأللباب التي تزجر أصحابها عما ال ينبغي
( )1/516
( )1/516
( )1/517
( )1/517
( )1/518
ضون ( )1ما َيأْتِي ِهم ِم ْن ِذ ْك ٍر ِم ْن رِّب ِهم م ْح َد ٍث ِإاَّل ٍ ِ ا ْقتَرب ِل َّلن ِ ِ
َ ْ ُ ْ َ اس ح َس ُابهُ ْم َو ُه ْم في َغ ْفلَة ُم ْع ِر ُ َ َ َ
ظلَ ُموا َه ْل َه َذا ِإاَّل َب َشٌر ِم ْثلُ ُك ْم
ين َ َِّ
الن ْج َوى الذ ََس ُّروا َّ
وبهُ ْم َوأ َ
ِ
ون ( )2اَل هَيةً ُقلُ ُ
استَ َم ُعوهُ َو ُه ْم َيْل َعُب َ
ْ
يم ( ِ ِ اء واأْل َْر ِ صرون ( )3قَا َل ربِّي يعلَم اْلقَو َل ِفي الس ِ ِ
ض َو ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ َّم َ َ َ َْ ُ ْ ِّح َر َوأ َْنتُ ْم تُْب ُ َ
ون الس ْأَفَتَأْتُ َ
)4
( )1/518
( )1/518
ك ِإاَّل ِرجااًل ُن ِ
وحي ِإلَْي ِهم فَاسأَلُوا أ ْ ِّ
اه ْم
ون (َ )7و َما َج َعْلَن ُ َه َل الذ ْك ِر ِإ ْن ُك ْنتُ ْم اَل تَ ْعلَ ُم َ ْ ْ َ َو َما أ َْر َسْلَنا قَْبلَ َ
ِِ َّ
َهلَ ْكَنا
اء َوأ ْ
اه ْم َو َم ْن َن َش ُ
اه ُم اْل َو ْع َد فَأ َْن َج ْيَن ُ
ص َد ْقَن ُ
ين ( )8ثَُّم َ َج َس ًدا اَل َي ْأ ُكلُ َ
ون الط َع َام َو َما َك ُانوا َخالد َ
ين ()9 اْل ُم ْس ِر ِف َ
( )1/519
ِ ِ ِِِ
لَقَ ْد أ َْن َزْلَنا ِإلَْي ُك ْم كتَ ًابا فيه ذ ْك ُر ُك ْم أَفَاَل تَ ْعقلُ َ
ون ()10
ِ ِ ِِِ
{ { } 10لَقَ ْد أ َْن َزْلَنا ِإلَْي ُك ْم كتَ ًابا فيه ذ ْك ُر ُك ْم أَفَال تَ ْعقلُ َ
ون } .
لقد أنزلنا إليكم -أيها المرسل إليهم ،محمد بن عبد اهلل بن عبد المطلب -كتابا جليال وقرآنا مبينا
يه ِذ ْك ُر ُك ْم } أي :شرفكم وفخركم وارتفاعكم ،إن تذكرتم به ما فيه من األخبار الصادقة { ِف ِ
فاعتقدتموها ،وامتثلتم ما فيه من األوامر ،واجتنبتم ما فيه من النواهي ،ارتفع قدركم ،وعظم
ون } ما ينفعكم وما يضركم؟ كيف ال ترضون وال تعملون على ما فيه ذكركم ِ
أمركم { ،أَفَال تَ ْعقلُ َ
وشرفكم في الدنيا واآلخرة ،فلو كان لكم عقل ،لسلكتم هذا [ ص ] 520السبيل ،فلما لم تسلكوه،
وسلكتم غيره من الطرق ،التي فيها ضعتكم وخستكم في الدنيا واآلخرة وشقاوتكم فيهما ،علم أنه
ليس لكم معقول صحيح ،وال رأي رجيح.
وهذه اآلية ،مصداقها ما وقع ،فإن المؤمنين بالرسول ،الذين تذكروا بالقرآن ،من الصحابة ،فمن
بعدهم ،حصل لهم من الرفعة والعلو الباهر ،والصيت العظيم ،والشرف على الملوك ،ما هو أمر
معلوم لكل أحد ،كما أنه معلوم ما حصل ،لمن لم يرفع بهذا القرآن رأسا ،ولم يهتد به ويتزك به،
من المقت والضعة ،والتدسية ،والشقاوة ،فال سبيل إلى سعادة الدنيا واآلخرة إال بالتذكر بهذا
الكتاب.
( )1/519
َحسُّوا ين * َفلَ َّما أ َ ظ ِال َمةً َوأ َْن َشأَْنا َب ْع َد َها قَ ْو ًما َ
آخ ِر َ ص ْمَنا ِم ْن قَ ْرَي ٍة َك َان ْ
ت َ { َ { } 15 - 11و َك ْم قَ َ
َّ ِِ ِِ ِ
ضوا َو ْار ِج ُعوا ِإلَى َما أُتْ ِر ْفتُ ْم فيه َو َم َساكن ُك ْم لَ َعل ُك ْم تُ ْسأَلُ َ
ون * ون * ال تَْر ُك ُ ض َ ْسَنا ِإ َذا ُه ْم م ْنهَا َي ْر ُك ُ
َبأ َ
ص ً ِِ اهم ح ِ ت تِْل َ قَالُوا يا وْيلََنا ِإَّنا ُكَّنا َ ِ ِ
ين } . يدا َخامد َ اه ْم َحتَّى َج َعْلَن ُ ْ َ ك َد ْع َو ُ ين * فَ َما َزالَ ْ ظالم َ َ َ
يقول تعالى -محذرا لهؤالء الظالمين ،المكذبين للرسول ،بما فعل باألمم المكذبة لغيره من
ص ْمَنا } أي :أهلكنا بعذاب مستأصل { ِم ْن قَ ْرَي ٍة } تلفت عن آخرها { َوأ َْن َشأَْنا الرسل َ { -و َك ْم قَ َ
ين } وأن هؤالء المهلكين ،لما أحسوا بعذاب اهلل وعقابه ،وباشرهم نزوله ،لم آخ ِر ََب ْع َد َها قَ ْو ًما َ
يمكن لهم الرجوع وال طريق لهم إلى النزوع وإ نما ضربوا األرض بأرجلهم ،ندما وقلقا ،وتحسرا
ضوا َو ْار ِج ُعوا ِإلَى َما
على ما فعلوا وهروبا من وقوعه ،فقيل لهم على وجه التهكم بهم { :ال تَْر ُك ُ
َّ ِِ ِِ
ون } أي :ال يفيدكم الركوض والندم ،ولكن إن كان لكم اقتدار، أُتْ ِر ْفتُ ْم فيه َو َم َساكن ُك ْم لَ َعل ُك ْم تُ ْسأَلُ َ
فارجعوا إلى ما أترفتم فيه ،من اللذات ،والمشتهيات ،ومساكنكم المزخرفات ،ودنياكم التي غرتكم
وألهتكم ،حتى جاءكم أمر اهلل .فكونوا فيها متمكنين ،وللذاتها جانين ،وفي منازلكم مطمئنين
معظمين ،لعلكم أن تكونوا مقصودين في أموركم ،كما كنتم سابقا ،مسئولين من مطالب الدنيا،
كحالتكم األولى ،وهيهات ،أين الوصول إلى هذا؟ وقد فات الوقت ،وحل بهم العقاب والمقت،
وذهب عنهم عزهم ،وشرفهم ودنياهم ،وحضرهم ندمهم وتحسرهم؟.
اه ْم } ت تِْل َ
ك َد ْع َو ُ ين * فَ َما َزالَ ْ ولهذا { قَالُوا يا وْيلََنا ِإَّنا ُكَّنا َ ِ ِ
ظالم َ َ َ
أي الدعاء بالويل والثبور والندم واإلقرار على أنفسهم بالظلم وأن اهلل عادل فيما أحل بهم { َحتَّى
ين } أي بمنزلة النبات الذي قد حصد وأنيم قد خمدت منهم الحركات ص ً ِِ اهم ح ِ
يدا َخامد َ َج َعْلَن ُ ْ َ
وسكنت منهم األصوات فاحذروا -أيها المخاطبون -أن تستمروا على تكذيب أشرف الرسل
فيحل بكم كما حل بأولئك
( )1/520
( )1/520
ون (َ )18ولَهُ َم ْن ِفي ِ ِ
ق َولَ ُك ُم اْل َوْي ُل م َّما تَصفُ َ
اط ِل فَي ْدم ُغه فَِإ َذا ُهو َز ِ
اه ٌ َ َ َ ُ
ق علَى اْلب ِ
َ ف بِاْل َح ِّ ََب ْل َن ْق ِذ ُ
ون اللَّْي َل
ِّح َ
ون (ُ )19ي َسب ُ
ِ ض وم ْن ِع ْن َده اَل يستَ ْكبِرون ع ْن ِعب َ ِ ِ
ادته َواَل َي ْستَ ْحس ُر َ ُ َْ ُ َ َ َ
ِ
َّم َاوات َواأْل َْر ِ َ َ الس َ
ون ()20 النهَ َار اَل َي ْفتُُر ََو َّ
( )1/520
ان اللَّ ِه َر ِّ
ب ِ اَّل َّ
ان في ِه َما آَلهَةٌ ِإ اللهُ لَفَ َس َدتَا فَ ُس ْب َح َ
ض ُهم ي ْن ِشرون ( )21لَو َك ِ
ْ َ
ِ ِ
أَم اتَّ َخ ُذوا آَلهَةً م َن اأْل َْر ِ ْ ُ ُ َ
ِ
ون ( )23أَِم اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُدونِ ِه آَِلهَةً ُق ْل ون ( )22اَل ُي ْسأَ ُل َع َّما َي ْف َع ُل َو ُه ْم ُي ْسأَلُ َ
ِ
ش َع َّما َيصفُ َ اْل َع ْر ِ
ِ ِ ِ
ون ()24 ض َ ق فَهُ ْم ُم ْع ِر ُ َهاتُوا ُب ْر َه َان ُك ْم َه َذا ذ ْك ُر َم ْن َمع َي َو ِذ ْك ُر َم ْن قَْبلي َب ْل أَ ْكثَُر ُه ْم اَل َي ْعلَ ُم َ
ون اْل َح َّ
( )1/521
ولما حول تعالى على ذكر المتقدمين ،وأمر بالرجوع إليهم في بيان هذه المسألة ،بيَّنها أتم تبيين
ون } فكل الرسل وحي ِإلَْي ِه أََّنهُ ال ِإلَهَ ِإال أََنا فَ ْ
اعُب ُد ِ ول ِإال ُن ِ
ك ِم ْن رس ٍ
َ ُ في قولهَ { :و َما أ َْر َسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ
الذين من قبلك مع كتبهم ،زبدة رسالتهم وأصلها ،األمر بعبادة اهلل وحده ال شريك له ،وبيان أنه
اإلله الحق المعبود ،وأن عبادة ما سواه باطلة.
[ ص ] 522
ونهُ بِاْلقَ ْو ِل َو ُه ْم
ون * ال َي ْسبِقُ َ اد ُم ْك َر ُم َ الر ْح َم ُن َولَ ًدا ُس ْب َح َانهُ َب ْل ِعَب ٌ
{ َ { } 29 - 26وقَالُوا اتَّ َخ َذ َّ
ضى َو ُه ْم ِم ْن َخ ْشَيتِ ِه ِ
ون ِإال ل َم ِن ْارتَ َ
ِ
ون * َي ْعلَ ُم َما َب ْي َن أ َْيدي ِه ْم َو َما َخْلفَهُ ْم َوال َي ْشفَ ُع َ بِأ َْم ِر ِه َي ْع َملُ َ
َّ ِ ِ يه َجهََّن َم َك َذِل َك َن ْج ِز ِ ون * َو َم ْن َي ُق ْل ِم ْنهُ ْم ِإِّني ِإلَهٌ ِم ْن ُدونِ ِه فَ َذِل َ ِ
ين } .ك َن ْج ِزي الظالم َ ُم ْشفقُ َ
يخبر تعالى عن سفاهة المشركين المكذبين للرسول ،وأنهم زعموا -قبحهم اهلل -أن اهلل اتخذ
ولدا فقالوا :المالئكة بنات اهلل ،تعالى اهلل عن قولهم ،وأخبر عن وصف المالئكة ،بأنهم ( )1عبيد
مربوبون مدبرون ،ليس لهم من األمر شيء ،وإ نما هم مكرمون عند اهلل ،قد أكرمهم اهلل،
وصيرهم من عبيد كرامته ورحمته ،وذلك لما خصهم به من الفضائل والتطهير عن الرذائل،
وأنهم في غاية األدب مع اهلل ،واالمتثال ألوامره.
ونهُ بِاْلقَ ْو ِل } أي :ال يقولون قوال مما يتعلق بتدبير المملكة ،حتى يقول اهلل ،لكمال
فـ { ال َي ْسبِقُ َ
أدبهم ،وعلمهم بكمال حكمته وعلمه.
ون } أي :مهما أمرهم ،امتثلوا ألمره ،ومهما دبرهم عليه ،فعلوه ،فال يعصونه { َو ُه ْم بِأ َْم ِر ِه َي ْع َملُ َ
طرفة عين ،وال يكون لهم عمل بأهواء أنفسهم من دون أمر اهلل ،ومع هذا ،فاهلل قد أحاط بهم
علمه ،فعلم { َما َب ْي َن أ َْي ِدي ِه ْم َو َما َخْلفَهُ ْم } أي :أمورهم الماضية والمستقبلة ،فال خروج لهم عن
علمه ،كما ال خروج لهم عن أمره وتدبيره.
ومن جزئيات وصفهم ،بأنهم ال يسبقونه بالقول ،أنهم ال يشفعون ألحد بدون إذنه ورضاه ،فإذا أذن
لهم ،وارتضى من يشفعون فيه ،شفعوا فيه ،ولكنه تعالى ال يرضى من القول والعمل ،إال ما كان
خالصا لوجهه ،متبعا فيه الرسول ،وهذه اآلية من أدلة إثبات الشفاعة ،وأن المالئكة يشفعون.
ون } أي :خائفون وجلون ،قد خضعوا لجالله ،وعنت وجوههم لعزه ِِ ِ ِ
{ َو ُه ْم م ْن َخ ْشَيته ُم ْشفقُ َ
وجماله.
فلما بين أنه ال حق لهم في األلوهية ،وال يستحقون شيئا من العبودية بما وصفهم به من الصفات
المقتضية لذلك ،ذكر أيضا أنه ال حظ لهم ،وال بمجرد الدعوى ،وأن من قال منهمِ { :إِّني ِإلَهٌ ِم ْن
َّ ِ ِ يه َجهََّن َم َك َذِل َ
ك َن ْج ِز ِ
ُدونِ ِه } على سبيل الفرض والتنزل { فَ َذِل َ
ك َن ْج ِزي الظالم َ
ين } وأي ظلم أعظم
من ادعاء المخلوق الناقص ،الفقير إلى اهلل من جميع الوجوه مشاركة اهلل في خصائص اإللهية
والربوبية؟"
__________
( )1في النسختين :بأنه.
( )1/521
( )1/522
َّ ِ ِ َن تَ ِم َ ض رو ِ ِ
ون (َ )31و َج َعْلَنا يد بِ ِه ْم َو َج َعْلَنا فيهَا ف َج ً
اجا ُسُباًل لَ َعلهُ ْم َي ْهتَ ُد َ اس َي أ ْ ِ
َو َج َعْلَنا في اأْل َْر َ َ
النهار و َّ ظا و ُهم ع ْن آَياتِها مع ِرضون ( )32و ُهو الَِّذي َخلَ َ َّ
الش ْم َس ق اللْي َل َو َّ َ َ َ َ َ اء َس ْقفًا َم ْحفُو ً َ ْ َ َ َ ُ ْ ُ َ َّم َالس َ
ٍ ِ
ون ()33 َواْلقَ َم َر ُك ٌّل في َفلَك َي ْسَب ُح َ
( )1/523
ِ َه َذا الَِّذي َي ْذ ُك ُر آَِلهَتَ ُك ْم َو ُه ْم بِِذ ْك ِر َّ ين َكفَ ُروا ِإ ْن َيتَّ ِخ ُذ َ وإِ َذا رَآ َ َِّ
الر ْح َم ِن ُه ْم َكاف ُر َ
ون ك ِإاَّل ُه ُز ًوا أ َ
ون َ ك الذ َ َ َ
ون َمتَى َه َذا اْل َو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ون (َ )37وَيقُولُ َ ان ِم ْن َع َج ٍل َسأ ُِري ُك ْم آََياتِي فَاَل تَ ْستَ ْع ِجلُ ِ ق اإْلِ ْن َس ُ(ُ )36خِل َ
ِ َِّ ِِ
ور ِه ْم َواَل ُه ْم
الن َار َواَل َع ْن ظُهُ ِ ون َع ْن ُو ُجو ِه ِه ُم َّ ين اَل َي ُكفُّ َين َكفَ ُروا ح َ ين ( )38لَ ْو َي ْعلَ ُم الذ َ صادق ََ
ِ ِ ِ
استُ ْه ِزئَ ون (َ )40ولَقَد ْ ظ ُر َ ون َر َّد َها َواَل ُه ْم ُي ْن َ يع َ ون (َ )39ب ْل تَأْتي ِه ْم َب ْغتَةً فَتَْبهَتُهُ ْم فَاَل َي ْستَط ُ ص ُر َُي ْن َ
ِ ِ ِ ك فَح َ َِّ ِ ِ
ون ()41 ين َسخ ُروا م ْنهُ ْم َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ اق بِالذ َ بِ ُر ُس ٍل م ْن قَْبل َ َ
َه َذا الَِّذي َي ْذ ُك ُر ِآلهَتَ ُك ْم َو ُه ْم بِِذ ْك ِر
ك ِإال ُه ُز ًوا أ َ ين َكفَ ُروا ِإ ْن َيتَّ ِخ ُذ َ
ون َ { { } 41 - 36وإِ َذا رآ َ َِّ
ك الذ َ َ َ
ون َمتَى َه َذا ون * َوَيقُولُ َ ان ِم ْن َع َج ٍل َسأ ُِري ُك ْم َآياتِي فَال تَ ْستَ ْع ِجلُ ِ اإلن َس ُ
ق ْ ون * ُخِل َ ِ
الر ْح َم ِن ُه ْم َكاف ُر َ
َّ
ِ َِّ اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ
ور ِه ْمالن َار َوال َع ْن ظُهُ ِ ون َع ْن ُو ُجو ِه ِه ُم َّ ين ال َي ُكفُّ َين َكفَ ُروا ح َ ين * لَ ْو َي ْعلَ ُم الذ َ صادق َ ْ َ َ
ِ ِ ِ
استُ ْه ِزئَ ون * َولَقَد ْ ظ ُر َ ون َر َّد َها َوال ُه ْم ُي ْن َيع َ ون * َب ْل تَأْتي ِه ْم َب ْغتَةً فَتَْبهَتُهُ ْم فَال َي ْستَط ُص ُر ََوال ُه ْم ُي ْن َ
ِ ِ ِ ك فَح َ َِّ ِ ِ
ون } . ين َسخ ُروا م ْنهُ ْم َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ اق بِالذ َ بِ ُر ُس ٍل م ْن قَْبل َ َ
وهذا من شدة كفرهم ،فإن المشركين إذا رأوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،استهزأوا به
َه َذا الَِّذي َي ْذ ُك ُر ِآلهَتَ ُك ْم } أي :هذا المحتقر بزعمهم ،الذي يسب آلهتكم ويذمها ،ويقع وقالوا { :أ َ
فيها ،أي :فال تبالوا به ،وال تحتفلوا به.
هذا استهزاؤهم واحتقارهم له ،بما هو من كماله ،فإنه األكمل األفضل الذي من فضائله ومكارمه،
إخالص العبادة هلل ،وذم كل ما يعبد من دونه وتنقصه ،وذكر محله ومكانته ،ولكن محل االزدراء
واالستهزاء ،هؤالء الكفار ،الذين جمعوا كل خلق ذميم ،ولو لم يكن إال كفرهم بالرب وجحدهم
لرسله فصاروا بذلك ،من أخس الخلق وأرذلهم ،ومع هذا ،فذكرهم للرحمن ،الذي هو أعلى
حاالتهم ،كافرون بها ،ألنهم ال يذكرونه وال يؤمنون به إال وهم مشركون فذكرهم كفر وشرك،
الر ْح َم ِن ِ فكيف بأحوالهم بعد ذلك؟ ولهذا قالَ { :و ُه ْم بِِذ ْك ِر َّ
ون } وفي ذكر اسمه { َّ الر ْح َم ِن ُه ْم َكاف ُر َ
} هنا ،بيان لقباحة حالهم ،وأنهم كيف قابلوا الرحمن -مسدي النعم كلها ،ودافع النقم الذي ما
بالعباد من نعمة إال منه ،وال يدفع السوء إال إياه -بالكفر والشرك.
ان ِم ْن َع َج ٍل } أي :خلق عجوال يبادر األشياء ،ويستعجل بوقوعها ،فالمؤمنون، اإلن َس ُ
ق ْ { ُخِل َ
يستعجلون عقوبة اهلل للكافرين ،ويتباطئونها ،والكافرون يتولون ( )1ويستعجلون بالعذاب ،تكذيبا
ين } واهلل تعالى ،يمهل وال يهمل ويحلم، وعنادا ،ويقولون { :متَى َه َذا اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ
صادق َ ْ َ َ َ
ِ ِ
ون } ولهذا قالَ { :سأ ُِري ُك ْم
اعةً َوال َي ْستَ ْقد ُم َ ون َس َ َجلُهُ ْم ال َي ْستَأْخ ُر َ ويجعل لهم أجال مؤقتا { ِإ َذا َج َ
اء أ َ
ون } ذلك ،وكذلك الذين كفروا َآياتِي } أي :في انتقامي ممن كفر بي وعصاني { فَال تَ ْستَ ْع ِجلُ ِ
ين } قالوا هذا القول ،اغترارا ،ولما يحق عليهم [ ص يقولون { :متَى َه َذا اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ
صادق َ ْ َ َ َ
] 524العقاب ،وينزل بهم العذاب.
ين َكفَ ُروا } حالهم الشنيعة حين ال يكفون عن وجوههم النار وال عن ظهورهم ،إذ َِّ
فـ { لَ ْو َي ْعلَ ُم الذ َ
ون } أي :ال ينصرهم غيرهم، ص ُر َ قد أحاط بهم من كل جانب وغشيهم من كل مكان { َوال ُه ْم ُي ْن َ
فال نصروا وال انتصروا.
{ َب ْل تَأْتِي ِه ْم } النار { َب ْغتَةً فَتَْبهَتُهُ ْم } من االنزعاج والذعر والخوف العظيم.
ون َر َّد َها } إذ هم أذل وأضعف من ذلك. ِ
يع َ{ فَال َي ْستَط ُ
ون } أي :يمهلون ،فيؤخر عنهم العذاب .فلو علموا هذه الحالة حق المعرفة ،لما ظ ُر َ
{ َوال ُه ْم ُي ْن َ
استعجلوا بالعذاب ،ولخافوه أشد الخوف ،ولكن لما ترحل عنهم هذا العلم ،قالوا ما قالوا ،ولما ذكر
َه َذا الَِّذي َي ْذ ُك ُر ِآلهَتَ ُك ْم } ساله بأن هذا دأب األمم السالفة مع رسلهماستهزاءهم برسوله بقولهم { :أ َ
ين َس ِخ ُروا ِم ْنهُ ْم } أي :نزل بهم { َما َك ُانوا بِ ِه ك فَح َ َِّ
اق بِالذ َ
ِ ِ
استُ ْه ِزئَ بِ ُر ُس ٍل م ْن قَْبل َ َ
ِ
فقالَ { :ولَقَد ْ
ون } أي :نزل بهم العذاب ،وتقطعت عنهم األسباب ،فليحذر هؤالء ،أن يصيبهم ما أصاب َي ْستَ ْه ِزُئ َ
أولئك المكذبين.
__________
( )1في أ الكلمة أقرب إلى أن تكون يقولون وفي ب غير واضحة وكلمة (يتولون) أقرب مناسبة
للسياق.
( )1/523
( )1/524
َّة ِم ْن َخ ْر َد ٍل
ظلَم َن ْفس َش ْيًئا وإِ ْن َكان ِمثْقَا َل حب ٍ
َ َ َ
ط ِليوِم اْل ِقي ِ
امة فَال تُ ْ ُ ٌ
{ { } 47وَنضع اْلمو ِاز ِ
ين اْلق ْس َ َ ْ َ َ َ َ ُ ََ َ
ِ
أَتَْيَنا بِهَا َو َكفَى بَِنا َحاسبِ َ
ين } .
يخبر تعالى عن حكمه العدل ،وقضائه القسط بين عباده إذا جمعهم في يوم القيامة ،وأنه يضع لهم
الموازين العادلة ،التي يبين فيها مثاقيل الذر ،الذي توزن بها الحسنات [ ص ] 525والسيئات{ ،
ظلَ ُم َن ْف ٌس } مسلمة أو كافرة { َش ْيًئا } بأن تنقص من حسناتها ،أو يزاد في سيئاتها. فَال تُ ْ
َّة ِم ْن َخ ْر َد ٍل } التي هي أصغر األشياء وأحقرها ،من خير أو شر { أَتَْيَنا بِهَا } ال حب ٍ { وإِ ْن َك ِ
ان مثْقَ َ َ َ َ
ِ
ال َذ َّر ٍة َخ ْي ًرا َي َرهُ * َو َم ْن َي ْع َم ْل مثْقَ َ
ال ِ
وأحضرناها ،ليجازى بها صاحبها ،كقوله { :فَ َم ْن َي ْع َم ْل مثْقَ َ
َذ َّر ٍة َش ًّرا َي َرهُ }
اها َو َو َج ُدوا َما َع ِملُواص َ َح َص ِغ َيرةً َوال َكبِ َيرةً ِإال أ ْ ِ ال َه َذا اْل ِكتَ ِ
اب ال ُي َغاد ُر َ
وقالوا { َيا وْيلَتََنا م ِ
َ َ
اض ًرا }ح ِ
َ
ِ
ين } يعني بذلك نفسه الكريمة فكفى به حاسبا أي عالما بأعمال العباد حافظا لها { َو َكفَى بَِنا َحاسبِ َ
مثبتا لها في الكتاب عالما بمقاديرها ومقادير ثوابها وعقابها واستحقاقها موصال للعمال جزاءها
( )1/524
َِّ ِ ِ ِ
ين َي ْخ َش ْو َن َربَّهُ ْم
ين * الذ َاء َو ِذ ْك ًرا لْل ُمتَّق َ ان َوضَي ً ون اْلفُْرقَ َوسى َو َه ُار َ { َ { } 50 - 48ولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ
ون } . ِ ون * َو َه َذا ِذ ْكٌر ُمَب َار ٌ بِاْل َغ ْي ِب و ُهم ِمن الس ِ ِ
ك أ َْن َزْلَناهُ أَفَأ َْنتُ ْم لَهُ ُم ْنك ُر َ َّاعة ُم ْشفقُ َ
َ َ ْ َ
كثيرا ما يجمع تعالى ،بين هذين الكتابين الجليلين ،اللذين لم يطرق العالم أفضل منهما ،وال أعظم
ذكرا ،وال أبرك ،وال أعظم هدى وبيانا[ ،وهما التوراة والقرآن] ( )1فأخبر أنه آتى موسى أصال
ان } وهي التوراة الفارقة بين الحق والباطل ،والهدى والضالل ،وأنها
وهارون تبعا { اْلفُْرقَ َ
اء } أي :نور يهتدي به المهتدون ،ويأتم به السالكون ،وتعرف به األحكام ،ويميز به بين ِ
{ ضَي ً
ِ ِ
ين } يتذكرون به ،ماالحالل والحرام ،وينير في ظلمة الجهل والبدع والغوايةَ { ،و ِذ ْك ًرا لْل ُمتَّق َ
ينفعهم ،وما يضرهم ،ويتذكر به الخير والشر ،وخص { المتقين } بالذكر ،ألنهم المنتفعون بذلك،
علما وعمال.
ين َي ْخ َش ْو َن َربَّهُ ْم بِاْل َغ ْي ِب } أي :يخشونه في حال غيبتهم ،وعدم مشاهدة َِّ
ثم فسر المتقين فقال { :الذ َ
َّاع ِة ِ
الناس لهم ،فمع المشاهدة أولى ،فيتورعون عما حرم ،ويقومون بما ألزمَ { ،و ُه ْم م َن الس َ
ون } أي :خائفون وجلون ،لكمال معرفتهم بربهم ،فجمعوا بين اإلحسان والخوف ،والعطف ِ
ُم ْشفقُ َ
هنا من باب عطف الصفات المتغايرات ،الواردة على شيء واحد وموصوف واحد.
ك أَنزْلَناهُ } فوصفه بوصفين جليلين ،كونه ذكرا يتذكر به جميع { َو َه َذا } أي :القرآن { ِذ ْكٌر ُمَب َار ٌ
المطالب ،من معرفة اهلل بأسمائه وصفاته وأفعاله ،ومن صفات الرسل واألولياء وأحوالهم ،ومن
أحكام الشرع من العبادات والمعامالت وغيرها ،ومن أحكام الجزاء والجنة والنار ،فيتذكر به
المسائل والدالئل العقلية والنقلية ،وسماه ذكرا ،ألنه يذكر ما ركزه اهلل في العقول والفطر ،من
التصديق باألخبار الصادقة ،واألمر بالحسن عقال والنهي عن القبيح عقال وكونه { مباركا }
يقتضي كثرة خيراته ( )2ونمائها وزيادتها ،وال شيء أعظم بركة من هذا القرآن ،فإن كل خير
ونعمة ،وزيادة دينية أو دنيوية ،أو أخروية ،فإنها بسببه ،وأثر عن العمل به ،فإذا كان ذكرا
مباركا ،وجب تلقيه بالقبول واالنقياد ،والتسليم ،وشكر اهلل على هذه المنحة الجليلة ،والقيام بها،
واستخراج بركته ،بتعلم ألفاظه ومعانيه ،وأما مقابلته بضد هذه الحالة ،من اإلعراض عنه،
واإلضراب عنه ،صفحا وإ نكاره ،وعدم اإليمان به فهذا من أعظم الكفر وأشد الجهل والظلم،
ون } ِ
ولهذا أنكر تعالى على من أنكره فقال { :أَفَأ َْنتُ ْم لَهُ ُم ْنك ُر َ
__________
( )1زيادة من هامش ب.
( )2في النسختين خيره ،وغيرت الكلمة لتتوافق مع الضمائر التي بعدها.
( )1/525
يه َوقَ ْو ِم ِه َما َه ِذ ِه التَّ َماثِي ُل الَّتِي أ َْنتُ ْم ال أِل َبِ ِ ين (ِ )51إ ْذ قَ َ ِ ِِ ِ
يم ُر ْش َدهُ م ْن قَْب ُل َو ُكَّنا بِه َعالم َ
ِ ِ
َولَقَ ْد آَتَْيَنا إ ْب َراه َ
ضاَل ٍل ُمبِ ٍ ِ ِ ِ
ين ( اؤ ُك ْم في َ ين ( )53قَا َل لَقَ ْد ُك ْنتُ ْم أ َْنتُ ْم َوآََب ُ اءَنا لَهَا َعابِد َ
ون ( )52قَالُوا َو َج ْدَنا آََب َ لَهَا َعاكفُ َ
ض الَِّذي ات واأْل َْر ِ ِ
َّم َاو َ ب الس َ ال َب ْل َرُّب ُك ْم َر ُّ ين ( )55قَ َ ق أَم أ َْن َ ِ اَّل ِ
ت م َن ال عبِ َ ِ
)54قَالُوا أَج ْئتََنا بِاْل َح ِّ ْ
يد َّن أَصَنام ُكم بع َد أ ْ ُّ اه ِدين ( )56وتَاللَّ ِه أَل ِ طر ُه َّن وأََنا علَى َذِل ُكم ِمن َّ ِ
ين ()57 َن تَُولوا ُم ْدبِ ِر َ ْ َ ْ َْ َك َ َ الش َ ْ َ َ َ فَ َ َ
َّ ِ ِ ِ ِ ِ ِ َّ اَّل
ين (ون ( )58قَالُوا َم ْن فَ َع َل َه َذا بِآَلهَتَنا ِإَّنهُ لَم َن الظالم َ فَ َج َعلَهُ ْم ُج َذا ًذا ِإ َكبِ ًيرا لَهُ ْم لَ َعلهُ ْم ِإلَْيه َي ْر ِج ُع َ
ون الن ِ َّ يم ( )60قَالُوا فَأْتُوا بِ ِه َعلَى أ ْ
َعُي ِن َّ ِ ِ ِ
اس لَ َعلهُ ْم َي ْشهَ ُد َ )59قَالُوا َسم ْعَنا فَتًى َي ْذ ُك ُر ُه ْم ُيقَا ُل لَهُ إ ْب َراه ُ
وه ْم ِإ ْن َك ُانوا ِِ ِ ِ ِ
اسأَلُ ُ ال َب ْل فَ َعلَهُ َكبِ ُير ُه ْم َه َذا فَ ْ
يم ( )62قَ َ ت َه َذا بآَلهَتَنا َيا إ ْب َراه ُ ت فَ َعْل َ( )61قَالُوا أَأ َْن َ
ي ْن ِطقُون ( )63فَرجعوا ِإلَى أ َْنفُ ِس ِهم فَقَالُوا ِإَّن ُكم أ َْنتُم الظَّ ِالمون ( )64ثَُّم ُن ِكسوا علَى رء ِ
وس ِه ْم لَقَ ْد ُ َ ُ ُ ُ َ ْ ُ ْ َ َُ َ َ
ض ُّر ُك ْم ()66 ت ما َهؤاَل ِء ي ْن ِطقُون ( )65قَا َل أَفَتَعب ُدون ِم ْن ُد ِ َّ ِ ِ
ون الله َما اَل َي ْنفَ ُع ُك ْم َش ْيًئا َواَل َي ُ ُْ َ َ َعل ْم َ َ ُ َ
ِِ ِ ِ ُف لَ ُكم وِلما تَعب ُدون ِم ْن ُد ِ َّ ِ
ينص ُروا آَلهَتَ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنتُ ْم فَاعل َ ون ( )67قَالُوا َحِّرقُوهُ َو ْان ُ ون الله أَفَاَل تَ ْعقلُ َ أ ٍّ ْ َ َ ْ ُ َ
ادوا بِ ِه َك ْي ًدا فَ َج َعْلَن ُ ِ ِ ِ
ين ( َخ َس ِر َ اه ُم اأْل ْ يم (َ )69وأ ََر ُ (ُ )68قْلَنا َيا َن ُار ُكوني َب ْر ًدا َو َساَل ًما َعلَى إ ْب َراه َ
وب َن ِافلَةً اق َوَي ْعقُ َ ين (َ )71و َو َه ْبَنا لَهُ ِإ ْس َح َ ِ ِ ِ طا ِإلَى اأْل َر ِ َّ ِ
ض التي َب َار ْكَنا فيهَا لْل َعالَم َ ْ َّيَناهُ َولُو ً َ )70وَنج ْ
الصاَل ِةات َوإِقَ َام َّ اهم أَئِ َّمةً يه ُدون بِأَم ِرَنا وأَوح ْيَنا ِإلَْي ِهم ِفع َل اْل َخ ْير ِ
َ ْ ْ َْ َ ْ َ ْ َ ين (َ )72و َج َعْلَن ُ ْ
و ُكاًّل جعْلَنا ِ ِ
صالح َ َ ََ َ
ين ()73 ِ ِ ِ اء َّ
الز َكاة َو َك ُانوا لََنا َعابد َ َوإِيتَ َ
ِ ِِ ِ ِ ِ
ين } إلى آخر هذه القصة. يم ُر ْش َدهُ م ْن قَْب ُل َو ُكَّنا بِه َعالم َ
{ َ { } 73 - 51ولَقَ ْد آتَْيَنا إ ْب َراه َ
وهو قوله { :وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإ قام الصالة وإ يتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين } لما ذكر
يم ُر ْش َدهُ ِم ْن قَْب ُل } ِ ِ
تعالى موسى ومحمدا صلى اهلل عليهما وسلم ،وكتابيهما قالَ { :ولَقَ ْد آتَْيَنا إ ْب َراه َ
أي :من قبل إرسال موسى ومحمد ونزول كتابيهما ،فأراه اهلل ملكوت السماوات واألرض،
وأعطاه من الرشد ،الذي كمل به نفسه ،ودعا الناس إليه ،ما لم يؤته أحدا من العالمين ،غير
محمد ،وأضاف الرشد إليه ،لكونه رشدا ،بحسب حاله ،وعلو مرتبته ،وإ ال فكل مؤمن ،له من
ِ ِِ
ين } أي :أعطيناه رشده ،واختصصناه الرشد ،بحسب ما معه من اإليمانَ { .و ُكَّنا بِه َعالم َ
بالرسالة والخلة ،واصطفيناه في الدنيا واآلخرة ،لعلمنا أنه أهل لذلك ،وكفء له ،لزكائه وذكائه،
ولهذا ذكر محاجته لقومه ،ونهيهم عن الشرك ،وتكسير األصنام ،وإ لزامهم بالحجة ،فقالِ { :إ ْذ
يه َوقَ ْو ِم ِه َما َه ِذ ِه التَّ َماثِي ُل } التي مثلتموها ،ونحتموها بأيديكم ،على صور بعض المخلوقات
ال ألبِ ِقَ َ
ون } مقيمون على عبادتها ،مالزمون لذلك ،فما هي؟ وأي فضيلة ثبتت لها؟ ِ َّ ِ
{ التي أ َْنتُ ْم لَهَا َعاكفُ َ
وأين عقولكم ،التي ذهبت حتى أفنيتم أوقاتكم بعبادتها؟ والحال أنكم مثلتموها ،ونحتموها بأيديكم،
فهذا من أكبر العجائب ،تعبدون ما تنحتون.
[ ص ] 526
اءَنا } كذلك
فأجابوا بغير حجة ،جواب العاجز ،الذي ليس بيده أدنى شبهة فقالواَ { :و َج ْدَنا َآب َ
يفعلون ،فسلكنا سبيلهم ،وتبعناهم على عبادتها ،ومن المعلوم أن فعل أحد من الخلق سوى الرسل
ليس بحجة ،وال تجوز به القدوة ،خصوصا ،في أصل الدين ،وتوحيد رب العالمين ،ولهذا قال لهم
ين } أي :ضالل بين واضح ،وأي ض ٍ
الل ُمبِ ٍ ِ
اؤ ُك ْم في َ
إبراهيم مضلال للجميع { :لَقَ ْد ُك ْنتُ ْم أ َْنتُ ْم َو َآب ُ
ضالل ،أبلغ من ضاللهم في الشرك ،وترك التوحيد؟" أي :فليس ما قلتم ،يصلح للتمسك به ،وقد
اشتركتم وإ ياهم في الضالل الواضح ،البين لكل أحد.
{ قَالُوا } على وجه االستغراب لقوله ،واالستعظام لما قال ،وكيف بادأهم بتسفيههم ،وتسفيه
ِ ق أَم أ َْن َ ِ ِ
ت م َن الالعبِ َ
ين } أي :هذا القول الذي قلته ،والذي جئتنا به ،هل هو آبائهم { :أَج ْئتََنا بِاْل َح ِّ ْ
حق وجد؟ أم كالمك لنا ،كالم العب مستهزئ ،ال يدري ما يقول؟ وهذا الذي أرادوا ،وإ نما رددوا
الكالم بين األمرين ،ألنهم نزلوه منزلة المتقرر المعلوم عند كل أحد ،أن الكالم الذي جاء به
إبراهيم ،كالم سفيه ال يعقل ما يقول ،فرد عليهم إبراهيم ردا بين به وجه سفههم ،وقلة عقولهم
ين } فجمع لهم طر ُه َّن وأََنا علَى َذِل ُكم ِمن َّ ِ ِ ات واألر ِ َِّ
ِ فقالَ { :بل َرُّب ُك ْم َر ُّ
الشاهد َ ْ َ َ َ ض الذي فَ َ َ َّم َاو َ ْ
ب الس َ
بين الدليل العقلي ،والدليل السمعي.
أما الدليل العقلي ،فإنه قد علم كل أحد حتى هؤالء الذين جادلهم إبراهيم ،أن اهلل وحده ،الخالق
لجميع المخلوقات ،من بني آدم ،والمالئكة ،والجن ،والبهائم ،والسماوات ،واألرض ،المدبر لهن،
بجميع أنواع التدبير ،فيكون كل مخلوق مفطورا مدبرا متصرفا فيه ،ودخل في ذلك ،جميع ما عبد
من دون اهلل.
أفيليق عند من له أدنى مسكة من عقل وتمييز ،أن يعبد مخلوقا متصرفا فيه ،ال يملك نفعا ،وال
ضرا ،وال موتا ،وال حياة ،وال نشورا ،ويدع عبادة الخالق الرازق المدبر؟
أما الدليل السمعي :فهو المنقول عن الرسل عليهم الصالة والسالم ،فإن ما جاءوا به معصوم ال
يغلط وال يخبر بغير الحق ،ومن أنواع هذا القسم شهادة أحد من الرسل على ذلك فلهذا قال
ين } إبراهيم { :وأََنا علَى َذِل ُكم } أي :أن اهلل وحده المعبود وأن عبادة ما سواه باطل { ِمن َّ ِ ِ
الشاهد َ َ ْ َ َ
وأي شهادة بعد شهادة اهلل أعلى من شهادة الرسل؟ خصوصا أولي العزم منهم خصوصا خليل
الرحمن.
ولما بين أن أصنامهم ليس لها من التدبير شيء أراد أن يريهم بالفعل عجزها وعدم انتصارها
وليكيد كيدا يحصل به إقرارهم بذلك فلهذا قال { :وتَاللَّ ِه ِ
ام ُك ْم } أي أكسرها على وجه يد َّن أ ْ
َصَن َ ألك َ َ
الكيد { بع َد أ ْ ُّ
ين } عنها إلى عيد من أعيادهم ،فلما تولوا مدبرين ،ذهب إليها بخفية. َن تَُولوا ُم ْدبِ ِر َ َْ
( )1/525
{ فَ َج َعلَهُ ْم ُج َذا ًذا } أي كسرا وقطعا ،وكانت مجموعة في بيت واحد ،فكسرها كلهاِ { ،إال َكبِ ًيرا لَهُ ْم
} أي إال صنمهم الكبير ،فإنه تركه لمقصد سيبينه ،وتأمل هذا االحتراز العجيب ،فإن كل ممقوت
عند اهلل ،ال يطلق عليه ألفاظ التعظيم ،إال على وجه إضافته ألصحابه ،كما كان النبي صلى اهلل
عليه وسلم إذا كتب إلى ملوك األرض المشركين يقول " :إلى عظيم الفرس " " إلى عظيم الروم "
ونحو ذلك ،ولم يقل " إلى العظيم " وهنا قال تعالىِ { :إال َكبِ ًيرا لَهُ ْم } ولم يقل " كبيرا من
أصنامهم " فهذا ينبغي التنبيه له ،واالحتراز من تعظيم ما حقره اهلل ،إال إذا أضيف إلى من
عظمه.
ِ َّ
ون } أي ترك إبراهيم تكسير صنمهم هذا ألجل أن يرجعوا إليه، وقوله { :لَ َعلهُ ْم ِإلَْيه َي ْر ِج ُع َ
ويستملوا حجته ،ويلتفتوا إليها ،وال يعرضوا عنها ولهذا قال في آخرها { :فََر َج ُعوا ِإلَى أ َْنفُ ِس ِه ْم }
َّ ِ ِ ِ ِ ِ
ين } فحين رأوا ما حل بأصنامهم من اإلهانة والخزي { قَالُوا َم ْن فَ َع َل َه َذا بِآلهَتَنا ِإَّنهُ لَم َن الظالم َ
فرموا إبراهيم بالظلم الذي هم أولى به حيث كسرها ولم يدروا أن تكسيره لها من أفضل مناقبه
ومن عدله وتوحيده ،وإ نما الظالم من اتخذها آلهة ،وقد رأى ما يفعل بها { قَالُوا َس ِم ْعَنا فَتًى
َي ْذ ُك ُر ُه ْم } أي :يعيبهم ويذمهم ،ومن هذا شأنه ال بد أن يكون هو الذي كسرها أو أن بعضهم سمعه
يم } فلما تحققوا أنه إبراهيم { قَالُوا فَأْتُوا بِ ِه } أي :بإبراهيم ِ ِ
يذكر أنه سيكيدها { ُيقَا ُل لَهُ إ ْب َراه ُ
ون } أي :يحضرون ما يصنع بمن َّ الن َِعُي ِن َّ
اس } أي بمرأى منهم ومسمع { لَ َعلهُ ْم َي ْشهَ ُد َ { َعلَى أ ْ
كسر آلهتهم ،وهذا الذي أراد إبراهيم وقصد أن يكون بيان الحق بمشهد من الناس ليشاهدوا الحق
اس َن ُي ْح َش َر َّ
الن ُ الز َين ِة َوأ ْ
وتقوم عليهم الحجة ،كما قال موسى حين واعد فرعونَ { :م ْو ِع ُد ُك ْم َي ْو ُم ِّ
ض ًحى }ُ
يم ِِ ِ ِ ِ
ت َه َذا } أي :التكسير { بآلهَتَنا َيا إ ْب َراه ُ ت فَ َعْل َفحين حضر الناس وأحضر إبراهيم قالوا له { :أَأ َْن َ
} ؟ وهذا استفهام تقرير ،أي :فما الذي جرأك ،وما الذي أوجب لك اإلقدام على هذا األمر؟.
فقال إبراهيم والناس شاهدونَ { :ب ْل فَ َعلَهُ َكبِ ُير ُه ْم َه َذا } أي :كسرها غضبا عليها ،لما عبدت معه،
وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده ،وهذا الكالم من إبراهيم ،المقصد منه إلزام
ِ
وه ْم ِإ ْن َك ُانوا َي ْنطقُ َ
ون } وأراد األصنام المكسرة اسأَلُ ُ
الخصم وإ قامة الحجة عليه ،ولهذا قال { :فَ ْ
اسألوها لم كسرت؟ والصنم الذي لم يكسر ،اسألوه ألي شيء كسرها ،إن كان عندهم نطق،
فسيجيبونكم إلى ذلك ،وأنا وأنتم ،وكل أحد يدري أنها ال تنطق وال تتكلم ،وال تنفع وال تضر ،بل
وال تنصر نفسها ممن يريدها بأذى.
{ فََر َج ُعوا ِإلَى أ َْنفُ ِس ِه ْم } أي :ثابت عليهم عقولهم ،ورجعت إليهم أحالمهم ،وعلموا أنهم ضالون
َّ ِ
ون } فحصل بذلكفي عبادتها ،وأقروا على أنفسهم بالظلم والشرك { ،فَقَالُوا ِإَّن ُك ْم أ َْنتُُم الظال ُم َ
المقصود ،ولزمتهم [ ص ] 527الحجة بإقرارهم أن ما هم عليه باطل وأن فعلهم كفر وظلم،
وس ِه ْم } أي :انقلب األمر عليهم، ولكن لم يستمروا على هذه الحالة ،ولكن { ُن ِكسوا علَى رء ِ
ُ َ ُ ُ
ون } فكيف تهكم ِ ِ وانتكست عقولهم وضلت أحالمهم ،فقالوا إلبراهيم { :لَقَ ْد َعِل ْم َ
ت َما َه ُؤالء َي ْنطقُ َ
بنا وتستهزئ بنا وتأمرنا أن نسألها وأنت تعلم أنها ال تنطق؟ .
فقال إبراهيم -موبخا لهم ومعلنا بشركهم على رءوس األشهاد ،ومبينا عدم استحقاق آلهتهم
ض ُّر ُك ْم } فال نفع وال دفع. للعبادة { :-أَفَتَعب ُدون ِم ْن ُد ِ َّ ِ
ون الله َما ال َي ْنفَ ُع ُك ْم َش ْيًئا َوال َي ُ ُْ َ
ون اللَّ ِه } أي :ما أضلكم وأخسر صفقتكم ،وما أخسكم ،أنتم وما
ون ِم ْن ُد ِ
ُف لَ ُك ْم َوِل َما تَ ْعُب ُد َ
{ أ ٍّ
عبدتم من دون اهلل ،إن كنتم تعقلون عرفتم هذه الحال ،فلما عدمتم العقل ،وارتكبتم الجهل
والضالل على بصيرة ،صارت البهائم ،أحسن حاال منكم.
ص ُروا ِآلهَتَ ُك ْم
فحينئذ لما أفحمهم ،ولم يبينوا حجة ،استعملوا قوتهم في معاقبته ،فـ { قَالُوا َحِّرقُوهُ َو ْان ُ
ِِ
ين } أي :اقتلوه أشنع القتالت ،باإلحراق ،غضبا آللهتكم ،ونصرة لها .فتعسا لهم ِإ ْن ُك ْنتُ ْم فَاعل َ
تعسا ،حيث عبدوا من أقروا أنه يحتاج إلى نصرهم ،واتخذوه إلها ،فانتصر اهلل لخليله لما ألقوه في
يم } فكانت عليه بردا وسالما ،لم ينله فيها أذى، ِ ِ ِ
الما َعلَى إ ْب َراه َ
النار وقال لهاُ { :كوني َب ْر ًدا َو َس ً
وال أحس بمكروه.
ين } أي :في الدنيا واآلخرة، األخ َس ِر َ ادوا بِ ِه َك ْي ًدا } حيث عزموا على إحراقه { ،فَ َج َعْلَن ُ
اه ُم ْ { َوأ ََر ُ
كما جعل اهلل خليله وأتباعه ،هم الرابحين المفلحين.
طا } وذلك أنه لم يؤمن به من قومه إال لوط عليه السالم قيل :إنه ابن أخيه ،فنجاه َّيَناهُ َولُو ً
{ َوَنج ْ
ين } أي :الشام ،فغادر قومه في " بابل " من ِ ِ ِ اهلل ،وهاجر { ِإلَى األر ِ َّ ِ
ض التي َب َار ْكَنا فيهَا لْل َعالَم َ ْ
ِ ِ ِ ِ أرض العراق { ،وقَ َ ِ
يم } ومن بركة الشام ،أن كثيراال إِّني ُمهَاجٌر إلَى َربِّي إَّنهُ ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ َ
من األنبياء كانوا فيها ،وأن اهلل اختارها ،مهاجرا لخليله ،وفيها أحد بيوته الثالثة المقدسة ،وهو
بيت المقدس.
وب } ابن إسحاق { َن ِافلَةً } بعدما كبر ،وكانت { َو َو َه ْبَنا لَهُ } حين اعتزل قومه { ِإ ْس َح َ
اق َوَي ْعقُ َ
وب } ويعقوب ،هو إسرائيل، زوجته عاقرا ،فبشرته المالئكة بإسحاق { ،و ِم ْن ور ِ
اء ِإ ْس َح َ
اق َي ْعقُ َ َ ََ
الذي كانت منه األمة العظيمة ،وإ سماعيل بن إبراهيم ،الذي كانت منه األمة الفاضلة العربية،
ين } ومن ذريته ،سيد األولين واآلخرين { .و ُكال } من إبراهيم وإ سحاق ويعقوب { جعْلَنا ِ ِ
صالح ََ ََ َ
أي :قائمين بحقوقه ،وحقوق عباده ،ومن صالحهم ،أنه جعلهم أئمة يهدون بأمره ،وهذا من أكبر
نعم اهلل على عبده أن يكون إماما يهتدي به المهتدون ،ويمشي خلفه السالكون ،وذلك لما صبروا،
وكانوا بآيات اهلل يوقنون.
( )1/526
ون بِأ َْم ِرَنا } أي :يهدون الناس بديننا ،ال يأمرون بأهواء أنفسهم ،بل بأمر اهلل ودينه،
وقولهَ { :ي ْه ُد َ
واتباع مرضاته ،وال يكون العبد إماما حتى يدعو إلى أمر اهلل.
ات } يفعلونها ويدعون الناس إليها ،وهذا شامل لجميع الخيرات كلها، { وأَوح ْيَنا ِإلَْي ِهم ِفع َل اْل َخ ْير ِ
َ ْ ْ َ ْ َ
من حقوق اهلل ،وحقوق العباد.
الز َك ِاة } هذا من باب عطف الخاص على العام ،لشرف هاتين العبادتين
اء َّ ِ
{ َوإِقَ َام الصَّالة َوإِيتَ َ
وفضلهما ،وألن من كملهما كما أمر ،كان قائما بدينه ،ومن ضيعهما ،كان لما سواهما أضيع،
وألن الصالة أفضل األعمال ،التي فيها حقه ،والزكاة أفضل األعمال ،التي فيها اإلحسان لخلقه.
ِ
{ َو َك ُانوا لََنا } أي :ال لغيرنا { َعابِد َ
ين } أي :مديمين على العبادات القلبية والقولية والبدنية في
أكثر أوقاتهم ،فاستحقوا أن تكون العبادة وصفهم ،فاتصفوا بما أمر اهلل به الخلق ،وخلقهم ألجله.
( )1/527
ت تَ ْع َم ُل اْل َخَبائِ َ
ث ِإَّنهُ ْم َك ُانوا َّيَناهُ ِم َن اْلقَ ْرَي ِة الَّتِي َك َان ْ
طا آتَْيَناهُ ُح ْك ًما َو ِعْل ًما َوَنج ْ
{ َ { } 75 - 74ولُو ً
ِِ ِ ِ ِ ِِ
ين } . ين * َوأ َْد َخْلَناهُ في َر ْح َمتَنا ِإَّنهُ م َن الصَّالح َ قَ ْو َم َس ْو ٍء فَاسق َ
هذا ثناء من اهلل على رسوله (لوط) عليه السالم بالعلم الشرعي ،والحكم بين الناس ،بالصواب
والسداد ،وأن اهلل أرسله إلى قومه ،يدعوهم إلى عبادة اهلل ،وينهاهم عما هم عليه من الفواحش،
فلبث يدعوهم ،فلم يستجيبوا له ،فقلب اهلل عليهم ديارهم وعذبهم عن آخرهم ألنهم { قَ ْو َم َس ْو ٍء
ين } كذبوا الداعي ،وتوعدوه باإلخراج ،ونجى اهلل لوطا وأهله ،فأمره أن يسري بهم ليال ِِ
فَاسق َ
ليبعدوا عن القرية ،فسروا ونجوا ،من فضل اهلل عليهم ومنته.
{ َوأ َْد َخْلَناهُ ِفي َر ْح َمتَِنا } التي من دخلها ،كان من اآلمنين ،من جميع المخاوف ،النائلين كل خير
وسعادة ،وبر ،وسرور ،وثناء ،وذلك ألنه من الصالحين ،الذين صلحت أعمالهم وزكت أحوالهم،
وأصلح اهلل فاسدهم ،والصالح هو السبب لدخول العبد برحمة اهلل ،كما أن الفساد ،سبب لحرمانه
الرحمة والخير ،وأعظم الناس صالحا ،األنبياء عليهم السالم ولهذا يصفهم بالصالح ،وقال
ين } ِِ ك ِفي ِعَب ِاد َ
سليمان عليه السالمَ { :وأ َْد ِخْلنِي بَِر ْح َمتِ َ
ك الصَّالح َ
( )1/527
( )1/527
يه َغَن ُم اْلقَ ْوِم َو ُكَّنا ِل ُح ْك ِم ِه ْمت ِف ِ ان ِفي اْل َح ْر ِث ِإ ْذ َنفَ َش ْ ان ِإ ْذ َي ْح ُك َم ِ
{ َ { } 82 - 78و َد ُاو َد َو ُسلَْي َم َ
ِّح َن َوالطَّ ْي َر َو ُكَّنا ال ُي َسب ْ ان َو ُكال آتَْيَنا ُح ْك ًما َو ِعْل ًما َو َس َّخ ْرَنا َم َع َد ُاو َد اْل ِجَب َ اها ُسلَْي َم َين * فَفَهَّ ْمَن َ ِِ
َشاهد َ
ِ ِ ِ ِ ِ َّ ِِ
يح
الر َ ان ِّ ون * َوِل ُسلَْي َم َ وس لَ ُك ْم لتُ ْحصَن ُك ْم م ْن َبأْس ُك ْم فَهَ ْل أ َْنتُ ْم َشاك ُر َ ص ْن َعةَ لَُب ٍ ين * َو َعل ْمَناهُ َ فَاعل َ
ٍ ِِ ِ اصفَةً تَ ْج ِري بِأَم ِر ِه ِإلَى األر ِ َّ ِ ع ِ
ين } . ض التي َب َار ْكَنا فيهَا َو ُكَّنا بِ ُك ِّل َش ْيء َعالم َ ْ ْ َ
أي :واذكر هذين النبيين الكريمين { داود } و { سليمان } مثنيا مبجال إذ آتاهما اهلل العلم الواسع
ت ِف ِ
يه َغَن ُم اْلقَ ْوِم } أي :إذ تحاكم ان ِفي اْل َح ْر ِث ِإ ْذ َنفَ َش ْ
والحكم بين العباد ،بدليل قولهِ { :إ ْذ َي ْح ُك َم ِ
إليهما صاحب حرث ،نفشت فيه غنم القوم اآلخرين ،أي :رعت ليال فأكلت ما في أشجاره،
ورعت زرعه ،فقضى فيه داود عليه السالم ،بأن الغنم تكون لصاحب الحرث ،نظرا إلى تفريط
أصحابها ،فعاقبهم بهذه العقوبة ،وحكم فيها سليمان بحكم موافق للصواب ،بأن أصحاب الغنم
يدفعون غنمهم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرها وصوفها ويقومون على بستان صاحب الحرث،
حتى يعود إلى حاله األولى ،فإذا عاد إلى حاله ،ترادا ورجع كل منهما بما له ،وكان هذا من كمال
ان } أي :فهمناه هذه القضية ،وال يدل ذلك،اها ُسلَْي َم َ
فهمه وفطنته عليه السالم ولهذا قال { :فَفَهَّ ْمَن َ
أن داود لم يفهمه اهلل في غيرها ،ولهذا خصها بالذكر بدليل قولهَ { :و ُكال } من داود وسليمان
{ آتَْيَنا ُح ْك ًما َو ِعْل ًما } وهذا دليل على أن الحاكم قد يصيب الحق والصواب وقد يخطئ ذلك ،وليس
بمعلوم إذا أخطأ مع بذل اجتهاده.
ِّح َن َوالطَّ ْي َر } وذلك أنه كان ثم ذكر ما خص به كال منهما فقالَ { :و َس َّخ ْرَنا َم َع َد ُاو َد اْل ِجَب َ
ال ُي َسب ْ
من أعبد الناس وأكثرهم هلل ذكرا وتسبيحا وتمجيدا ،وكان قد أعطاه [اهلل] من حسن الصوت ورقته
ورخامته ،ما لم يؤته أحدا من الخلق ،فكان إذا سبح وأثنى على اهلل ،جاوبته الجبال الصم والطيور
ِِ
ين } . البهم ،وهذا فضل اهلل عليه وإ حسانه فلهذا قالَ { :و ُكَّنا فَاعل َ
وس لَ ُك ْم } أي :علم اهلل داود عليه السالم ،صنعة الدروع ،فهو أول من صنعها ص ْن َعةَ لَُب ٍ َّ
{ َو َعل ْمَناهُ َ
وعلمها وسرت صناعته إلى من بعده ،فأالن اهلل له الحديد ،وعلمه كيف يسردها والفائدة فيها
ْس ُك ْم } أي :هي وقاية لكم ،وحفظ عند الحرب ،واشتداد البأس. صَن ُكم ِم ْن بأ ِ
كبيرةِ { ،لتُ ْح ِ
َ ْ
ون } نعمة اهلل عليكم ،حيث أجراها على يد عبده داود ،كما قال تعالىَ { :و َج َع َل ِ
{ فَهَ ْل أ َْنتُ ْم َشاك ُر َ
ون } ِ َّ يل تَِقي ُكم اْلح َّر وسرابِي َل تَِقي ُكم بأْس ُكم َك َذِل َ ِ ِلَ ُك ْم َس َرابِ َ
ك ُيت ُّم ن ْع َمتَهُ َعلَْي ُك ْم لَ َعل ُك ْم تُ ْسل ُم َ َْ َ ْ ُ َ َ ََ
يحتمل أن تعليم اهلل لداود صنعة الدروع وإ النتها أمر خارق للعادة ،وأن يكون -كما قاله
المفسرون :-إن اهلل أالن له الحديد ،حتى كان يعمله كالعجين والطين ،من دون إذابة له على
النار ،ويحتمل أن تعليم اهلل له ،على جاري العادة ،وأن إالنة الحديد له ،بما علمه اهلل من األسباب
المعروفة اآلن ،إلذابتها ،وهذا هو الظاهر ،ألن اهلل امتن بذلك على العباد وأمرهم بشكرها ،ولوال
أن صنعته من األمور التي جعلها اهلل مقدورة للعباد ،لم يمتن عليهم بذلك ،ويذكر فائدتها ،ألن
الدروع التي صنع داود عليه السالم ،متعذر أن يكون المراد أعيانها ،وإ نما المنة بالجنس،
يد } وليس فيه أن اإلالنة واالحتمال الذي ذكره المفسرون ،ال دليل عليه إال قولهَ { :وأَلََّنا لَهُ اْل َح ِد َ
من دون سبب ،واهلل أعلم بذلك.
اصفَةً } أي :سريعة في مرورها { ،تَ ْج ِري بِأ َْم ِر ِه } حيث الريح } أي :سخرناها { ع ِ
َ { َوِل ُسلَْي َم َ
ان ِّ َ
ض الَّتِي َب َار ْكَنا ِفيهَا } وهي أرض األر ِ دبرت امتثلت أمره ،غدوها شهر ورواحها شهر { ِإلَى ْ
الشام ،حيث كان مقره ،فيذهب على الريح شرقا وغربا ،ويكون مأواها ورجوعها إلى األرض
ٍ ِِ
المباركةَ { ،و ُكَّنا بِ ُك ِّل َش ْيء َعالم َ
ين } قد أحاط علمنا بجميع األشياء ،وعلمنا من داود وسليمان ،ما
أوصلناهما به إلى ما ذكرنا.
( )1/528
( )1/528
ِِ
{ َو ُكَّنا لَهُ ْم َحافظ َ
ين } أي :ال يقدرون على االمتناع منه وعصيانه ،بل حفظهم اهلل له ،بقوته
وعزته ،وسلطانه.
[ ص ] 529
ت أَرحم َّ ِ ِ ادى َربَّهُ أَِّني َمسَّنِ َي الض ُّ ُّوب ِإ ْذ َن َ
استَ َج ْبَنا لَهُ
ين * فَ ْالراحم َ ُّر َوأ َْن َ ْ َ ُ { َ { } 84 - 83وأَي َ
ِ ِ ِ ِِ ِ ِ
ين } .َهلَهُ َو ِمثْلَهُ ْم َم َعهُ ْم َر ْح َمةً م ْن ع ْندَنا َو ِذ ْك َرى لْل َعابِد َ فَ َك َش ْفَنا َما بِه م ْن ُ
ضٍّر َوآتَْيَناهُ أ ْ
أي :واذكر عبدنا ورسولنا ،أيوب -مثنيا معظما له ،رافعا لقدره -حين ابتاله ،ببالء شديد،
فوجده صابرا راضيا عنه ،وذلك أن الشيطان سلط على جسده ،ابتالء من اهلل ،وامتحانا فنفخ في
جسده ،فتقرح قروحا عظيمة ومكث مدة طويلة ،واشتد به البالء ،ومات أهله ،وذهب ماله ،فنادى
ين } فتوسل إلى اهلل باإلخبار عن حال نفسه، ت أَرحم َّ ِ ِ ربه :رب { أَِّني َمسَّنِ َي الض ُّ
الراحم َ ُّر َوأ َْن َ ْ َ ُ
ض وأنه بلغ الضر منه كل مبلغ ،وبرحمة ربه الواسعة العامة فاستجاب اهلل له ،وقال لهْ { :ار ُك ْ
اب } فركض برجله فخرجت من ركضته عين ماء باردة فاغتسل بِ ِر ْجِل َ
ك َه َذا ُم ْغتَ َس ٌل َب ِار ٌد َو َش َر ٌ
َهلَهُ } أي :رددنا عليه أهله وماله. منها وشرب ،فأذهب اهلل عنه ما به من األذىَ { ،وآتَْيَناهُ أ ْ
{ َو ِمثْلَهُ ْم َم َعهُ ْم } بأن منحه اهلل العافية من األهل والمال شيئا كثيراَ { ،ر ْح َمةً ِم ْن ِع ْن ِدَنا } به ،حيث
صبر ورضي ،فأثابه اهلل ثوابا عاجال قبل ثواب اآلخرة.
ِ ِ
ين } أي :جعلناه عبرة للعابدين ،الذين ينتفعون بالعبر ،فإذا رأوا ما أصابه من { َو ِذ ْك َرى لْل َعابِد َ
البالء ،ثم ما أثابه اهلل بعد زواله ،ونظروا السبب ،وجدوه الصبر ،ولهذا أثنى اهلل عليه به في قوله:
اب } فجعلوه أسوة وقدوة عندما يصيبهم الضر. صابًِرا نِ ْع َم اْل َع ْب ُد ِإَّنهُ أ ََّو ٌ
{ ِإَّنا َو َج ْدَناهُ َ
( )1/528
ِِ ِ ِ اعي َل وإِ ْد ِريس و َذا اْل ِك ْف ِل ُك ٌّل ِمن الصَّابِ ِرين ( )85وأ َْد َخْلَن ُ ِ
وإِسم ِ
اه ْم في َر ْح َمتَنا ِإَّنهُ ْم م َن الصَّالح َ
ين ( َ َ َ َ َ َ َ َْ
)86
( )1/529
َن اَل ِإلَهَ ِإاَّل أ َْن َ ادى ِفي الظُّلُم ِ َن لَ ْن َن ْق ِد َر َعلَْي ِه فََن َ ون ِإ ْذ َذ َهب م َغ ِ
الن ِ
َو َذا ُّ
ك
ت ُس ْب َح َان َ ات أ ْ َ ظ َّن أ ْ
اضًبا فَ َ َ ُ
ِ َّيَناهُ ِم َن اْل َغ ِّم َو َك َذِل َ َّ ِ ِ ِإِّني ُك ْن ُ ِ
ين ()88 ك ُن ْن ِجي اْل ُم ْؤ ِمن َ استَ َج ْبَنا لَهُ َوَنج ْ
ين ( )87فَ ْ ت م َن الظالم َ
( )1/529
( )1/530
( )1/530
اها أََّنهُ ْم ال َي ْر ِج ُع َ
ون } . { َ { } 95و َح َر ٌام َعلَى قَ ْرَي ٍة أ ْ
َهلَ ْكَن َ
أي :يمتنع على القرى المهلكة المعذبة ،الرجوع إلى الدنيا ،ليستدركوا ما فرطوا فيه فال سبيل إلى
الرجوع لمن أهلك وعذب ،فليحذر المخاطبون ،أن يستمروا على ما يوجب اإلهالك فيقع بهم ،فال
يمكن رفعه ،وليقلعوا وقت اإلمكان واإلدراك.
( )1/531
( )1/531
ون اللَّ ِه حصب جهَّنم أ َْنتُم لَها و ِار ُدون * لَو َكان َهؤ ِ ون ِم ْن ُد ِ
الء ْ َ ُ َ َ َ ُ َََ ْ َ َ { ِ { } 103 - 98إَّن ُك ْم َو َما تَ ْعُب ُد َ
َِّ ِ ِ ِ ِ
ت لَهُ ْم ون * ِإ َّن الذ َ
ين َسَبقَ ْ وها َو ُك ٌّل فيهَا َخال ُد َ
ون * لَهُ ْم فيهَا َز ِف ٌير َو ُه ْم فيهَا ال َي ْس َم ُع َ ِآلهَةً َما َو َر ُد َ
ون } . ك َع ْنهَا ُم ْب َع ُد َ ِمَّنا اْل ُح ْسَنى أُولَئِ َ
ب َجهََّن َم } أي :وقودها وحطبها { أ َْنتُ ْم لَهَا صُ أي :إنكم أيها العابدون مع اهلل آلهة غيره { َح َ
ون } وأصنامكم. َو ِار ُد َ
والحكمة في دخول األصنام النار ،وهي جماد ،ال تعقل ،وليس عليها ذنب ،بيان كذب من اتخذها
ِ الء ِآلهَةً َما َو َر ُد َ
ِّن آلهة ،وليزداد عذابهم ،فلهذا قال { :لَو َكان َهؤ ِ
وها } وهذا كقوله تعالى { :لُيَبي َ ْ َ ُ
ِ َِّ لَهم الَِّذي ي ْختَِلفُ ِ ِ
ين } وكل من العابدين والمعبودين فيها، ين َكفَ ُروا أََّنهُ ْم َك ُانوا َكاذبِ َ
ون فيه َوِلَي ْعلَ َم الذ َ
َ َ ُُ
خالدون ،ال يخرجون منها ،وال ينتقلون عنها.
ِ ِ
ون } صم بكم عمي ،أوال يسمعون من { لَهُ ْم فيهَا َز ِف ٌير } من شدة العذاب { َو ُه ْم فيهَا ال َي ْس َم ُع َ
األصوات غير صوتها ،لشدة غليانها ،واشتداد زفيرها وتغيظها.
ودخول آلهة المشركين النار ،إنما هو األصنام ،أو من عبد ،وهو راض بعبادته.
وأما المسيح ،وعزير ،والمالئكة ونحوهم ،ممن عبد من األولياء ،فإنهم ال يعذبون فيها ،ويدخلون
ت لَهُ ْم ِمَّنا اْل ُح ْسَنى } أي :سبقت لهم سابقة السعادة في علم اهلل ،وفي َِّ
في قولهِ { :إ َّن الذ َ
ين َسَبقَ ْ
اللوح المحفوظ وفي تيسيرهم في الدنيا لليسرى واألعمال الصالحة.
ون } فال يدخلونها ،وال يكونون قريبا منها ،بل يبعدون { أُولَئِ َ
ك َع ْنهَا } أي :عن النار { ُم ْب َع ُد َ
عنها ،غاية البعد ،حتى ال يسمعوا حسيسها ،وال يروا شخصها.
( )1/531
( )1/531
ِِ ق ُن ِع ُ
ِّج ِّل ِلْل ُكتُ ِب َك َما َب َدأَْنا أ ََّو َل َخْل ٍ
ط ِّي الس ِ
يدهُ َو ْع ًدا َعلَْيَنا ِإَّنا ُكَّنا فَاعل َ
ين ()104 اء َك َ ط ِوي الس َ
َّم َ َي ْو َم َن ْ
ِ ِ ِ ور ِم ْن َبع ِد ِّ ولَقَ ْد َكتَْبَنا ِفي َّ
ون ()105 ي الصَّال ُح َ ض َي ِرثُهَا عَباد َ َن اأْل َْر َ الذ ْك ِر أ َّ ْ الزُب ِ َ
ق ُن ِع ُ
يدهُ َو ْع ًدا َعلَْيَنا الس ِج ِّل ِلْل ُكتُ ِب َك َما َب َدأَْنا أ ََّو َل َخْل ٍ
ط ِّي ِّ اء َك َ ط ِوي الس َ
َّم َ { َ { } 105 - 104ي ْو َم َن ْ
ِ ِ ِ ور ِم ْن َبع ِد ِّ ين * ولَقَ ْد َكتَْبَنا ِفي َّ ِِ ِ
ون } . ي الصَّال ُح َ ض َي ِرثُهَا عَباد َ األر َ
َن ْ الذ ْك ِر أ َّ ْ الزُب ِ إَّنا ُكَّنا فَاعل َ َ
يخبر تعالى أنه يوم القيامة يطوي السماوات -على عظمها واتساعها -كما يطوي الكاتب
للسجل أي :الورقة المكتوب فيها ،فتنثر نجومها ،ويكور شمسها وقمرها ،وتزول عن أماكنها
ق ُن ِع ُ
يدهُ } أي :إعادتنا للخلق ،مثل ابتدائنا لخلقهم ،فكما ابتدأنا خلقهم ،ولم { َك َما َب َدأَْنا أ ََّو َل َخْل ٍ
يكونوا شيئا ،كذلك نعيدهم بعد موتهم.
ِِ
{ َو ْع ًدا َعلَْيَنا ِإَّنا ُكَّنا فَاعل َ
ين } ننفذ ما وعدنا ،لكمال قدرته ،وأنه ال تمتنع منه األشياء.
ور } وهو الكتاب المزبور ،والمراد :الكتب المنزلة ،كالتوراة ونحوها { ِم ْن { ولَقَ ْد َكتَْبَنا ِفي َّ
الزُب ِ َ
َب ْعد الذ ْك ِر } [ ص ] 532أي :كتبناه في الكتب المنزلة ،بعد ما كتبنا في الكتاب السابق ،الذي هو ِّ ِ
اللوح المحفوظ ،وأم الكتاب الذي توافقه جميع التقادير المتأخرة عنه والمكتوب في ذلك { :أ َّ
َن
ِ ِ ِ
ون } الذين قاموا بالمأمورات ،واجتنبوا ي الصَّال ُح َ ض } أي :أرض الجنة { َي ِرثُهَا عَباد َ األر َ
ْ
ص َدقََنا َو ْع َدهُ َوأ َْو َرثََنا َِّ ِ َِّ
المنهيات ،فهم الذين يورثهم اهلل الجنات ،كقول أهل الجنة { :اْل َح ْم ُد لله الذي َ
اء }ث َن َش ُض َنتََب َّوأُ ِم َن اْل َجَّن ِة َح ْي ُ
األر َ
ْ
ويحتمل أن المراد :االستخالف في األرض ،وأن الصالحين يمكن اهلل لهم في األرض ،ويوليهم
األر ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ َّ َِّ
ض َك َما آمُنوا م ْن ُك ْم َو َعملُوا الصَّال َحات لََي ْستَ ْخلفََّنهُ ْم في ْ
ين َعليها كقوله تعالىَ { :و َع َد اللهُ الذ َ
ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم } اآلية. استَ ْخلَ َ َِّ
ف الذ َ ْ
( )1/531
وحى ِإلَ َّي ِ ِ ِإ َّن ِفي َه َذا لََباَل ًغا ِلقَوٍم َعابِِدين ( )106وما أَرسْلَنا َ اَّل
ين (ُ )107ق ْل ِإَّن َما ُي َك ِإ َر ْح َمةً لْل َعالَم َ ََ ْ َ َ ْ
اح ٌد فَه ْل أ َْنتُم مسِلمون ( )108فَِإ ْن تَولَّوا فَ ُق ْل َآ َذ ْنتُ ُكم علَى سو ٍ
اء َوإِ ْن أ َْد ِري أَقَ ِر ٌ
يب أََّنما ِإلَه ُكم ِإلَهٌ و ِ
ْ َ ََ َ ْ ْ ُْ ُ َ َ َ ُ ْ َ
َّ ِ أ َْم َب ِع ٌ
ون (َ )110وإِ ْن أ َْد ِري لَ َعلهُ ون (ِ )109إَّنهُ َي ْعلَ ُم اْل َج ْه َر م َن اْلقَ ْو ِل َوَي ْعلَ ُم َما تَ ْكتُ ُم َ
وع ُد َيد َما تُ َ
ون ( ِ اح ُك ْم بِاْل َح ِّ ين ( )111قَا َل َر ِّ ِفتَْنةٌ لَ ُك ْم َو َمتَاعٌ ِإلَى ِح ٍ
ان َعلَى َما تَصفُ َ الر ْح َم ُن اْل ُم ْستَ َع ُ
ق َو َربَُّنا َّ ب ْ
)112
ين * ُق ْل ِإَّن َما ِ ِ ِ { ِ { } 112 - 106إ َّن ِفي َه َذا لَب ً ِ
اك ِإال َر ْح َمةً لْل َعالَم َ
ين * َو َما أ َْر َسْلَن َ الغا لقَ ْوٍم َعابِد َ َ
اء َوإِ ْن أ َْد ِري اح ٌد فَه ْل أ َْنتُم مسِلمون * فَِإ ْن تَولَّوا فَ ُق ْل آ َذ ْنتُ ُكم علَى سو ٍ يوحى ِإلَ َّي أََّنما ِإلَه ُكم ِإلَهٌ و ِ
ْ َ ََ َ ْ ْ ُْ ُ َ َ َ ُ ْ َ ُ َ
ون * َوإِ ْن أ َْد ِري لَ َعلَّهُ ِفتَْنةٌ ِ
ون * ِإَّنهُ َي ْعلَ ُم اْل َج ْه َر م َن اْلقَ ْو ِل َوَي ْعلَ ُم َما تَ ْكتُ ُم َ
وع ُد َيد َما تُ َ يب أ َْم َب ِع ٌأَقَ ِر ٌ
ون } . ِ اح ُك ْم بِاْل َح ِّ ال َر ِّ لَ ُك ْم َو َمتَاعٌ ِإلَى ِح ٍ
ان َعلَى َما تَصفُ َ الر ْح َم ُن اْل ُم ْستَ َع ُ
ق َو َربَُّنا َّ ب ْ ين * قَ َ
يثني اهلل تعالى على كتابه العزيز " القرآن " ويبين كفايته التامة عن كل شيء ،وأنه ال يستغنى
ِ عنه فقالِ { :إ َّن ِفي َه َذا لَب ً ِ
ين } أي :يتبلغون به في الوصول إلى ربهم ،وإ لى دارالغا لقَ ْوٍم َعابِد َ َ
كرامته ،فوصلهم إلى أجل المطالب ،وأفضل الرغائب .وليس للعابدين ،الذين هم أشرف الخلق،
وراءه غاية ،ألنه الكفيل بمعرفة ربهم ،بأسمائه ،وصفاته ،وأفعاله ،وباإلخبار بالغيوب الصادقة،
وبالدعوة لحقائق اإليمان ،وشواهد اإليقان ،المبين للمأمورات كلها ،والمنهيات جميعا ،المعرف
بعيوب النفس والعمل ،والطرق التي ينبغي سلوكها في دقيق الدين وجليله ،والتحذير من طرق
الشيطان ،وبيان مداخله على اإلنسان ،فمن لم يغنه القرآن ،فال أغناه اهلل ،ومن ال يكفيه ،فال كفاه
اهلل.
ِ ِ
اك ِإال َر ْح َمةً لْل َعالَم َ
ين } فهو رحمته ثم أثنى على رسوله ،الذي جاء بالقرآن فقالَ { :و َما أ َْر َسْلَن َ
المهداة لعباده ،فالمؤمنون به ،قبلوا هذه الرحمة ،وشكروها ،وقاموا بها ،وغيرهم كفرها ،وبدلوا
نعمة اهلل كفرا ،وأبوا رحمة اهلل ونعمته.
{ ُق ْل } يا محمد { ِإَّنما يوحى ِإلَ َّي أََّنما ِإلَه ُكم ِإلَهٌ و ِ
اح ٌد } الذي ال يستحق العبادة إال هو ،ولهذا قال: َ ُ ْ َ َ ُ َ
ون } أي :منقادون لعبوديته مستسلمون أللوهيته ،فإن فعلوا فليحمدوا ربهم على ِ
{ فَهَ ْل أ َْنتُ ْم ُم ْسل ُم َ
من عليهم بهذه النعمة التي فاقت المنن. ما َّ
{ فَِإ ْن تََولَّ ْوا } عن االنقياد لعبودية ربهم ،فحذرهم حلول المثالت ،ونزول العقوبة.
اء } أي علمي وعلمكم بذلك مستو ،فال تقولوا -{ فَ ُق ْل آ َذ ْنتُ ُكم } أي :أعلمتكم بالعقوبة { علَى سو ٍ
َ ََ ْ
ير } بل اآلن ،استوى علمي وعلمكم ،لما ير َوال َن ِذ ٍ
اءَنا ِم ْن َب ِش ٍ
إذا أنزل بكم العذابَ { :ما َج َ
أنذرتكم ،وحذرتكم ،وأعلمتكم بمآل الكفر ،ولم أكتم عنكم شيئا.
ون } أي :من العذاب ألن علمه عند اهلل ،وهو بيده ،ليس لي وع ُد َ
يد َما تُ َ يب أ َْم َب ِع ٌ{ َوإِ ْن أ َْد ِري أَقَ ِر ٌ
من األمر شيء.
ين } أي :لعل تأخير العذاب الذي استعجلتموه شر لكم، { َوإِ ْن أ َْد ِري لَ َعلَّهُ ِفتَْنةٌ لَ ُك ْم َو َمتَاعٌ ِإلَى ِح ٍ
وأن تتمتعوا في الدنيا إلى حين ،ثم يكون أعظم لعقوبتكم.
ق } أي :بيننا وبين القوم الكافرين ،فاستجاب اهلل هذا الدعاء ،وحكم بينهم في اح ُك ْم بِاْل َح ِّ
ب ْ { قَا َل َر ِّ
الدنيا قبل اآلخرة ،بما عاقب اهلل به الكافرين من وقعة " بدر " وغيرها.
ون } أي :نسأل ربنا الرحمن ،ونستعين به على ما ِ
ان َعلَى َما تَصفُ َ
الر ْح َم ُن اْل ُم ْستَ َع ُ
{ َو َربَُّنا َّ
تصفون ،من قولكم سنظهر عليكم ،وسيضمحل دينكم ،فنحن في هذا ،ال نعجب بأنفسنا ،وال نتكل
على حولنا وقوتنا ،وإ نما نستعين بالرحمن ،الذي ناصية كل مخلوق بيده ،ونرجوه أن يتم ما
استعناه به من رحمته ،وقد فعل ،وهلل الحمد.
( )1/532
ض َع ٍة َع َّما
الناس اتَّقُوا رَّب ُكم ِإ َّن َزْل َزلَةَ السَّاع ِة َشيء ع ِظيم ( )1يوم تَروَنها تَ ْذ َه ُل ُك ُّل مر ِ
ُْ َْ َ َ ْ َ ٌْ َ ٌ َ َ ْ َيا أَيُّهَا َّ ُ
اب اللَّ ِه ِ
اس ُس َك َارى َو َما ُه ْم بِ ُس َك َارى َولَك َّن َع َذ َ
الن َ
ت وتَضع ُك ُّل َذ ِ
ات َح ْم ٍل َح ْملَهَا َوتََرى َّ ض َع ْ َ َ ُ
أ َْر َ
َش ِد ٌ
يد ()2
ِ الناس اتَّقُوا رَّب ُكم ِإ َّن َزْل َزلَةَ الس ِ الر ْحم ِن َّ ِ ِ ِ ِ َّ ِ
يم *
َّاعة َش ْي ٌء َعظ ٌ
َ َ ْ الرحيم َيا أَيُّهَا َّ ُ { { } 2 - 1ب ْسم الله َّ َ
ت وتَضع ُك ُّل َذ ِ ِ ٍ
اس ُس َك َارى ات َح ْم ٍل َح ْملَهَا َوتََرى َّ
الن َ ض َع ْ َ َ ُ َي ْو َم تََر ْوَنهَا تَ ْذ َه ُل ُك ُّل ُم ْرض َعة َع َّما أ َْر َ
يد } . اب اللَّ ِه َش ِد ٌ ِ
َو َما ُه ْم بِ ُس َك َارى َولَك َّن َع َذ َ
يخاطب اهلل الناس كافة ،بأن يتقوا ربهم ،الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة ،فحقيق بهم أن
يتقوه ،بترك الشرك والفسوق والعصيان ،ويمتثلوا أوامره ،مهما استطاعوا.
ثم ذكر ما يعينهم على التقوى ،ويحذرهم من تركها ،وهو اإلخبار بأهوال القيامة ،فقال:
يم } ال يقدر قدره ،وال يبلغ كنهه ،ذلك بأنها إذا وقعت الساعة، ِ { ِإ َّن َزْل َزلَةَ الس ِ
َّاعة َش ْي ٌء َعظ ٌ
َ
رجفت األرض وارتجت ،وزلزلت زلزالها [ ،ص ] 533وتصدعت الجبال ،واندكت ،وكانت
كثيبا مهيال ثم كانت هباء منبثا ،ثم انقسم الناس ثالثة أزواج.
فهناك تنفطر السماء ،وتكور الشمس والقمر ،وتنتثر النجوم ،ويكون من القالقل والبالبل ما
تنصدع له القلوب ،وتجل منه األفئدة ،وتشيب منه الولدان ،وتذوب له الصم الصالب ،ولهذا قال:
ِ ٍ
ت } مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها، { َي ْو َم تََر ْوَنهَا تَ ْذ َه ُل ُك ُّل ُم ْرض َعة َع َّما أ َْر َ
ض َع ْ
خصوصا في هذه الحال ،التي ال يعيش إال بها.
اس ُس َك َارى َو َما ُه ْم بِ ُس َك َارى ات َح ْم ٍل َح ْملَهَا } من شدة الفزع والهولَ { ،وتََرى َّ { وتَضع ُك ُّل َذ ِ
الن َ َ َُ
} أي :تحسبهم -أيها الرائي لهم -سكارى من الخمر ،وليسوا سكارى.
يد } فلذلك أذهب عقولهم ،وفرغ قلوبهم ،ومألها من الفزع ،وبلغت القلوب اب اللَّ ِه َش ِد ٌ ِ
{ َولَك َّن َع َذ َ
الحناجر ،وشخصت األبصار ،وفي ذلك اليوم ،ال يجزي والد عن ولده ،وال مولود هو جاز عن
والده شيئا.
ئ ِم ْنهُ ْم َي ْو َمئٍِذ َشأ ٌ
ْن ام ِر ٍ يه * و َ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِّ
صاحَبته َوَبنيه * ل ُكل ْ َ
ُم ِه وأَبِ ِ ِ ِ ِ ِ
ويومئذ { َيف ُّر اْل َم ْر ُء م ْن أَخيه * َوأ ِّ َ
ي ْغنِ ِ
يه } . ُ
وهناك { يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيال يا ويلتى ليتني لم أتخذ
فالنا خليال } وتسود حينئذ وجوه وتبيض وجوه وتنصب الموازين التي يوزن بها مثاقيل الذر من
الخير والشر وتنشر صحائف األعمال وما فيها من جميع األعمال واألقوال والنيات من صغير
وكبير وينصب الصراط على متن جهنم وتزلف الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين { إذا رأتهم
من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا * وإ ذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا }
ورا َكثِ ًيرا } وإ ذا نادوا ربهم ليخرجهم منها قال { ِ
ورا َواح ًدا َو ْاد ُعوا ثُُب ً
ويقال لهم { ال تَ ْد ُعوا اْلَي ْو َم ثُُب ً
ون } قد غضب عليهم الرب الرحيم وحضرهم العذاب األليم وأيسوا من كل اخ َسُئوا ِفيهَا َوال تُ َكلِّ ُم ِ
ْ
خير ووجدوا أعمالهم كلها لم يفقدوا منها نقيرا وال قطميرا
هذا والمتقون في روضات الجنات يحبرون وفي أنواع اللذات يتفكهون وفيما اشتهت أنفسهم
خالدون فحقيق بالعاقل الذي يعرف أن كل هذا أمامه أن يعد له عدته وأن ال يلهيه األمل فيترك
العمل وأن تكون تقوى اهلل شعاره وخوفه دثاره ومحبة اهلل وذكره روح أعماله
( )1/532
ِ ِ ٍ اس َم ْن ُي َج ِاد ُل ِفي اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم َوَيتَّبِعُ ُك َّل َش ْي َ
ب َعلَْيه أََّنهُ َم ْن تََواَّل هُ فَأََّنهُ
ان َم ِريد (ُ )3كت َ
طٍ الن ِ َو ِم َن َّ
ير ()4 اب الس ِ
َّع ِ يه ِإلَى َع َذ ِ ضلُّه ويه ِد ِ ِ
ُي ُ َ َ ْ
ِ ِ ٍ اس َم ْن ُي َج ِاد ُل ِفي اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم َوَيتَّبِعُ ُك َّل َش ْي َ
الن ِ { َ { } 4 - 3و ِم َن َّ
ان َم ِريد * ُكت َ
ب َعلَْيه أََّنهُ طٍ
اب الس ِ
َّع ِ يه ِإلَى َع َذ ِ ضلُّه ويه ِد ِ ِ
ير } . َم ْن تََوالهُ فَأََّنهُ ُي ُ َ َ ْ
أي :ومن الناس طائفة وفرقة ،سلكوا طريق الضالل ،وجعلوا يجادلون بالباطل الحق ،يريدون
إحقاق الباطل وإ بطال الحق ،والحال أنهم في غاية الجهل ما عندهم من العلم شيء ،وغاية ما
عندهم ،تقليد أئمة الضالل ،من كل شيطان مريد ،متمرد على اهلل وعلى رسله ،معاند لهم ،قد شاق
اهلل ورسوله ،وصار من األئمة الذين يدعون إلى النار.
ضلُّهُ } عن
{ ُكتِب علَْي ِه } أي :قدر على هذا الشيطان المريد { أََّنه م ْن تَواله } أي :اتبعه { فَأََّنه ي ِ
ُُ َُ َ ُ َ َ
ير } وهذا نائب إبليس حقا ،فإن اهلل قال اب الس ِ
َّع ِ الحق ،ويجنبه الصراط المستقيم { ويه ِد ِ
يه ِإلَى َع َذ ِ ََْ
ير } فهذا الذي يجادل في اهلل ،قد جمع بين اب الس ِ
َّع ِ َص َح ِ عنه { ِإَّنما ي ْدعو ِح ْزبه ِلي ُك ُ ِ
ونوا م ْن أ ْ َُ َ َ َ ُ
ضالله بنفسه ،وتصديه إلى إضالل الناس ،وهو متبع ،ومقلد لكل شيطان مريد ،ظلمات بعضها
فوق بعض ،ويدخل في هذا ،جمهور أهل الكفر والبدع ،فإن أكثرهم مقلدة ،يجادلون بغير علم.
( )1/533
طفَ ٍة ثَُّم ِم ْن َعلَقَ ٍة ثَُّم ِم ْناب ثَُّم ِم ْن ُن ْ اس ِإ ْن ُك ْنتُم ِفي ر ْي ٍب ِم َن اْلَب ْع ِث فَِإَّنا َخلَ ْقَنا ُكم ِم ْن تُر ٍ
َ ْ ْ َ َيا أَيُّهَا َّ
الن ُ
َج ٍل ُم َس ًّمى ثَُّم ُن ْخ ِر ُج ُك ْم ِطفْاًل اء ِإلَى أ َ ِ ِ ِ
ِّن لَ ُك ْم َوُنق ُّر في اأْل َْر َحام َما َن َش ُ
َّ ٍ ِ م ْ ٍ َّ ٍ
ض َغة ُم َخلقَة َو َغ ْي ِر ُم َخلقَة لُنَبي َ ُ
ثَُّم ِلتَْبلُ ُغوا أَ ُش َّد ُك ْم َو ِم ْن ُك ْم َم ْن ُيتََوفَّى َو ِم ْن ُك ْم َم ْن ُي َر ُّد ِإلَى أ َْر َذ ِل اْل ُع ُم ِر ِل َك ْياَل َي ْعلَ َم ِم ْن َب ْع ِد ِعْلٍم َش ْيًئا
يج ()5 ت ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج َب ِه ٍ ت َوأ َْنَبتَ ْت َو َرَب ْ اهتََّز ْاء ْ ِ
ض َهام َدةً فَِإ َذا أ َْن َزْلَنا َعلَْيهَا اْل َم َ َوتََرى اأْل َْر َ
( )1/533
ب ِ ق َوأََّنهُ ُي ْحيِي اْل َم ْوتَى َوأََّنهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير (َ )6وأ َّ
َن اللَّهَ ُهو اْل َح ُّ َذِل َ
ك بِأ َّ
َّاعةَ آَتَيةٌ اَل َر ْي َ
َن الس َ َ
ور ()7 ث َم ْن ِفي اْلقُُب ِ َن اللَّهَ َي ْب َع ُ
ِفيهَا َوأ َّ
ب ِ ق َوأََّنهُ ُي ْحيِي اْل َم ْوتَى َوأََّنهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير * َوأ ََّن اللَّهَ ُهو اْل َح ُّ ك بِأ َّ{ َذِل َ
َّاعةَ آتَيةٌ ال َر ْي ََن الس َ َ
ور } .ث َم ْن ِفي اْلقُُب ِ َن اللَّهَ َي ْب َع ُِفيهَا َوأ َّ
ق} َن اللَّهَ ُهو اْل َح ُّ
ك } الذي أنشأ اآلدمي من ما وصف لكم ،وأحيا األرض بعد موتها { ،بِأ َّ { َذِل َ
َ
أي :الرب المعبود ،الذي ال تنبغي العبادة إال له ،وعبادته هي الحق ،وعبادة غيره باطلةَ { ،وأََّنهُ
ُي ْحيِي اْل َم ْوتَى } كما ابتدأ الخلق ،وكما أحيا األرض بعد موتهاَ { ،وأََّنهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير } كما
أشهدكم من بديع قدرته وعظيم صنعته ما أشهدكم.
ور } فيجازيكم ث َم ْن ِفي اْلقُُب ِ َن اللَّهَ َي ْب َع ُ
ب ِفيهَا } فال وجه الستبعادهاَ { ،وأ َّ ِ
َّاعةَ آتَيةٌ ال َر ْي َ َن الس َ { َوأ َّ
بأعمالكم حسنها وسيئها.
( )1/534
ط ِف ِه
ير * ثَانِ َي ِع ْ
اب ُمنِ ٍ
اس م ْن ُي َج ِاد ُل ِفي اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم وال ُه ًدى وال ِكتَ ٍ
َ َ { َ { } 9 - 8و ِم َن َّ
الن ِ َ
اب اْل َح ِري ِ الد ْنيا ِخ ْزي وُن ِذيقُه يوم اْل ِقي ِ ض َّل ع ْن سبِ ِ َّ ِ ِِلي ِ
ق}. امة َع َذ َ
ٌ َ ُ َْ َ َ َ يل الله لَهُ في ُّ َ َ َ ُ
المجادلة المتقدمة للمقلد ،وهذه المجادلة للشيطان المريد ،الداعي إلى البدع ،فأخبر أنه { ُي َج ِاد ُل ِفي
اللَّ ِه } أي :يجادل رسل اهلل وأتباعهم بالباطل ليدحض به الحق { ،بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم } صحيح { َوال ُه ًدى
ير } اب ُمنِ ٍ
} أي :غير متبع في جداله هذا من يهديه ،ال عقل مرشد ،وال متبوع مهتد { ،وال ِكتَ ٍ
َ
أي :واضح بين ،أي :فال له حجة عقلية وال نقلية ،إن هي إال شبهات ،يوحيها إليه الشيطان
ط ِف ِه } أي :الوي جانبه ون ِإلَى أ َْوِلَيائِ ِه ْم ِلُي َج ِادلُو ُك ْم } ومع هذا { ثَانِ َي ِع ْ
وح َ
ين لَُي ُ
{ وإِ َّن َّ ِ
الشَياط َ َ
وعنقه ،وهذا كناية عن كبره عن الحق ،واحتقاره للخلق ،فقد فرح بما معه من العلم غير النافع،
ض َّل } الناس ،أي :ليكون من دعاة الضالل ،ويدخل واحتقر أهل الحق وما معهم من الحقِ { ،لي ِ
ُ
تحت هذا جميع أئمة الكفر والضالل ،ثم ذكر عقوبتهم الدنيوية واألخروية فقال { :لَهُ ِفي ُّ
الد ْنَيا
ي } أي :يفتضح هذا في الدنيا قبل اآلخرة ،وهذا من آيات اهلل العجيبة ،فإنك ال تجد داعيا من ِ
خ ْز ٌ
دعاة الكفر والضالل ،إال وله من المقت بين العالمين ،واللعنة ،والبغض ،والذم ،ما هو حقيق به،
وكل بحسب حاله.
اب اْل َح ِري ِ
ق } أي :نذيقه حرها الشديد ،وسعيرها البليغ ،وذلك بما قدمت { وُن ِذيقُه يوم اْل ِقي ِ
امة َع َذ َ
َ ُ َْ َ َ َ
الم ِلْل َعبِ ِيد }
ظ ٍ يداهَ { ،وأَّن اللَّهَ لَْي َس بِ َ
( )1/534
( )1/534
( )1/535
اء ثَُّم ِلَي ْق َ
ط ْع َفْلَي ْنظُ ْر َه ْل الد ْنيا واآْل َ ِخر ِة َفْليم ُد ْد بِسب ٍب ِإلَى السَّم ِ
َ ََ ص َرهُ اللهُ في ُّ َ َ َ َ ْ
َّ ِ ان َيظُ ُّن أ ْ
َن لَ ْن َي ْن ُ َم ْن َك َ
ُي ْذ ِهَب َّن َك ْي ُدهُ َما َي ِغيظُ ()15
( )1/535
( )1/535
النصارى واْلمجوس والَِّذين أَ ْشر ُكوا ِإ َّن اللَّه ي ْف ِ ِ َِّ َِّ
ص ُل َب ْيَنهُ ْم ََ ين َو َّ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ ادوا َوالصَّابِئ َ ين َه ُ َمُنوا َوالذ َ ين آ َ ِإ َّن الذ َ
ات َو َم ْن ِفي َن اللَّه يسج ُد لَه م ْن ِفي السَّماو ِ
ََ يد ( )17أَلَ ْم تََر أ َّ َ َ ْ ُ ُ َ ام ِة ِإ َّن اللَّهَ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه ٌ ِ
َي ْو َم اْلقَي َ
ق َعلَْي ِه اس و َكثِ ٌير َح َّ اب و َكثِ ٌير ِم َن َّ ِ
الن َ
َّ َّ
وم َواْلجَبا ُل َوالش َج ُر َوالد َو ُّ َ
ِ ض و َّ
الش ْم ُس َواْلقَ َم ُر َو ُّ
الن ُج ُ ِ
اأْل َْر َ
ص ُموا ِفي اختَ َ
ان ْ ص َم ِ ان َخ ْ اء (َ )18ه َذ ِ َّ ِ َّ
اب َو َم ْن ُي ِه ِن اللهُ فَ َما لَهُ م ْن ُم ْك ِرٍم ِإ َّن اللهَ َي ْف َع ُل َما َي َش ُ اْل َع َذ ُ
صهَ ُر بِ ِه َما ِ ِِ ب ِم ْن فَ ْو ِ ت لَهم ثِي ٌ ِ ِّ َِّ
يم (ُ )19ي ْ ق ُر ُءوسه ُم اْل َحم ُ ص ُّ اب م ْن َن ٍار ُي َ ين َكفَ ُروا قُط َع ْ ُ ْ َ َرِّب ِه ْم فَالذ َ
َن َي ْخ ُر ُجوا ِم ْنهَا ِم ْن َغ ٍّم ادوا أ ْامعُ ِم ْن َح ِد ٍيد (ُ )21كلَّ َما أ ََر ُ ود ( )20ولَهم مقَ ِ
َ ُْ َ ِفي ُبطُونِ ِه ْم َواْل ُجلُ ُ
ات جَّن ٍ ِ ِ ِ َّ ِ َِّ ُع ُ ِ أِ
ات َمُنوا َو َعملُوا الصَّال َح َ ين آ َ ق (ِ )22إ َّن اللهَ ُي ْدخ ُل الذ َ اب اْل َح ِري ِ
يدوا فيهَا َو ُذوقُوا َع َذ َ
اسهُ ْم ِفيهَا َح ِر ٌير (َ )23و ُه ُدوا ِ
َس ِاو َر م ْن َذ َه ٍب َولُ ْؤلُ ًؤا َوِلَب ُ
َّ ِ ِ ِ ِ
تَ ْج ِري م ْن تَ ْحتهَا اأْل َْنهَ ُار ُي َحل ْو َن فيهَا م ْن أ َ
اط اْل َح ِم ِيد ()24 صر ِ ِ ِ َّ ِ ِ
ِإلَى الطيِّب م َن اْلقَ ْول َو ُه ُدوا ِإلَى َ
( )1/535
ِّب ِم َن اْلقَ ْو ِل } الذي أفضله وأطيبه كلمة اإلخالص ،ثم سائر وذلك بسبب أنهم { ُه ُدوا ِإلَى الطَّي ِ
اط اْل َح ِم ِيد } أي:
صر ِِ
األقوال الطيبة التي فيها ذكر اهلل ،أو إحسان إلى عباد اهللَ { ،و ُه ُدوا ِإلَى َ
الصراط المحمود ،وذلك ،ألن جميع الشرع كله محتو على الحكمة والحمد ،وحسن المأمور به،
وقبح المنهي عنه ،وهو الدين الذي ال إفراط فيه وال تفريط ،المشتمل على العلم النافع والعمل
الصالح .أو :وهدوا إلى صراط اهلل الحميد ،ألن اهلل كثيرا ما يضيف الصراط إليه ،ألنه يوصل
صاحبه إلى اهلل ،وفي ذكر { الحميد } هنا ،ليبين أنهم نالوا الهداية بحمد ربهم ومنته عليهم ،ولهذا
َن َه َد َانا اللَّهُ } واعترض تعالى ِ ِ ِ َِّ ِ َِّ
يقولون في الجنة { :اْل َح ْم ُد لله الذي َه َد َانا لهَ َذا َو َما ُكَّنا لَن ْهتَد َ
ي لَ ْوال أ ْ
بين هذه اآليات بذكر سجود المخلوقات له ،جميع من في السماوات واألرض ،والشمس ،والقمر،
والنجوم ،والجبال ،والشجر ،والدواب ،الذي يشمل الحيوانات كلها ،وكثير من الناس ،وهم
اب } أي :وجب وكتب ،لكفره وعدم إيمانه ،فلم يوفقه لإليمان، المؤمنون { ،و َكثِير ح َّ ِ
ق َعلَْيه اْل َع َذ ُ َ ٌ َ
ألن اهلل أهانهَ { ،و َم ْن ُي ِه ِن اللَّهُ فَ َما لَهُ ِم ْن ُم ْك ِرٍم } وال راد لما أراد ،وال معارض لمشيئته ،فإذا
كانت المخلوقات كلها ساجدة لربها ،خاضعة لعظمته ،مستكينة لعزته ،عانية لسلطانه ،دل على
أنه وحده ،الرب المعبود ،والملك المحمود ،وأن من عدل عنه إلى عبادة سواه ،فقد ضل ضالال
بعيدا ،وخسر خسرانا مبينا.
( )1/536
ف ِف ِ اس سواء اْلع ِ ِ ِ َِّ ِ ِ َّ ِ َِّ
يه اك ُ ون َع ْن َسبِيل الله َواْل َم ْس ِجد اْل َح َرام الذي َج َعْلَناهُ ل َّلن ِ َ َ ً َ ص ُّد َ ين َكفَ ُروا َوَي ُ ِإ َّن الذ َ
اب أَِل ٍيم ()25 يه بِِإْل َح ٍاد بِظُْلٍم ُن ِذ ْقهُ ِم ْن َع َذ ٍ
واْلب ِاد وم ْن ي ِر ْد ِف ِ
َ َ ََ ُ
( )1/536
وفي هذه اآلية الكريمة ،وجوب احترام الحرم ،وشدة تعظيمه ،والتحذير من إرادة المعاصي فيه
وفعلها.
[ ص ] 537
ِ ِ َّ ِِ ان اْلَب ْي ِت أ ْ
ين َن ال تُ ْش ِر ْك بِي َش ْيًئا َو َ { { } 29 - 26وإِ ْذ ب َّوأَْنا ْ ِ
طهِّ ْر َب ْيت َي للطائف َ يم َم َك َ
إلب َراه َ َ َ
ين ِم ْن ُك ِّل ك ِرجاال وعلَى ُك ِّل ِ ِ
ضام ٍر َيأْت َ َ اس بِاْل َح ِّج َيأْتُو َ َ َ َ ُّجو ِد * َوأ َِّذ ْن ِفي َّ
الن ِ الر َّك ِع الس ُ
ين َو ُّ ِِ
َواْلقَائم َ
يم ِة ِ ِ
ومات َعلَى َما َر َزقَهُ ْم م ْن َبه َ
َّام معلُ ٍ ٍ َّ ِ ِ
اس َم الله في أَي َ ْ َ
ِ فَ ٍّج ع ِمي ٍ ِ
ق * لَي ْشهَ ُدوا َمَناف َع لَهُ ْم َوَي ْذ ُك ُروا ْ َ
ور ُه ْم َوْلَيطَّ َّوفُوا بِاْلَب ْي ِت
ضوا تَفَثَهُ ْم َوْلُيوفُوا ُن ُذ َ
ِ ِ
طع ُموا اْلَبائ َس اْلفَق َير * ثَُّم ْلَي ْق ُ
األنع ِام فَ ُكلُوا ِم ْنها وأَ ْ ِ
َ َ َْ
ق}. اْل َعتِي ِ
يذكر تعالى عظمة البيت الحرام وجاللته وعظمة بانيه ،وهو خليل الرحمن ،فقالَ { :وإِ ْذ َب َّوأَْنا
ان اْلَب ْي ِت } أي :هيأناه له ،وأنزلناه إياه ،وجعل قسما من ذريته من سكانه ،وأمره اهلليم َم َك َ
ْ ِ
إلب َراه َ
ببنيانه ،فبناه على تقوى اهلل ،وأسسه على طاعة اهلل ،وبناه هو وابنه إسماعيل ،وأمره أن ال يشرك
به شيئا ،بأن يخلص هلل أعماله ،ويبنيه على اسم اهلل.
طهِّ ْر َب ْيتِ َي } أي :من الشرك والمعاصي ،ومن األنجاس واألدناس وأضافه الرحمن إلى نفسه،
{ َو َ
لشرفه ،وفضله ،ولتعظم محبته في القلوب ،وتنصب إليه األفئدة من كل جانب ،وليكون أعظم
لتطهيره وتعظيمه ،لكونه بيت الرب للطائفين به والعاكفين عنده ،المقيمين لعبادة من العبادات من
ود } أي: الر َّك ِع الس ُ
ُّج ِ ذكر ،وقراءة ،وتعلم علم وتعليمه ،وغير ذلك من أنواع القربَ { ،و ُّ
المصلين ،أي :طهره لهؤالء الفضالء ،الذين همهم طاعة موالهم وخدمته ،والتقرب إليه عند
بيته ،فهؤالء لهم الحق ،ولهم اإلكرام ،ومن إكرامهم تطهير البيت ألجلهم ،ويدخل في تطهيره،
تطهيره من األصوات الالغية والمرتفعة التي تشوش المتعبدين ،بالصالة والطواف ،وقدم
الطواف على االعتكاف والصالة ،الختصاصه بهذا البيت ،ثم االعتكاف ،الختصاصه بجنس
المساجد.
اس بِاْل َح ِّج } أي :أعلمهم به ،وادعهم إليه ،وبلغ دانيهم وقاصيهم ،فرضه وفضيلته، الن ِ{ َوأ َِّذ ْن ِفي َّ
فإنك إذا دعوتهم ،أتوك حجاجا وعمارا ،رجاال أي :مشاة على أرجلهم من الشوقَ { ،و َعلَى ُك ِّل
ام ٍر } أي :ناقة ضامر ،تقطع المهامه والمفاوز ،وتواصل السير ،حتى تأتي إلى أشرف ضِ
َ
ق } أي :من كل بلد بعيد ،وقد فعل الخليل عليه السالم ،ثم من بعده ابنهاألماكنِ { ،م ْن ُك ِّل فَ ٍّج َع ِمي ٍ
محمد صلى اهلل عليه وسلم ،فدعيا الناس إلى حج هذا البيت ،وأبديا في ذلك وأعادا ،وقد حصل ما
وعد اهلل به ،أتاه الناس رجاال وركبانا من مشارق األرض ومغاربها ،ثم ذكر فوائد زيارة بيت اهلل
الحرام ،مرغبا فيه فقالِ { :لَي ْشهَ ُدوا َمَن ِاف َع لَهُ ْم } أي :لينالوا ببيت اهلل منافع دينية ،من العبادات
الفاضلة ،والعبادات التي ال تكون إال فيه ،ومنافع دنيوية ،من التكسب ،وحصول األرباح الدنيوية،
يم ِة ِ ِ َّام معلُ ٍ
ومات َعلَى َما َر َزقَهُ ْم م ْن َبه َ
ٍ َّ ِ ِ
اس َم الله في أَي َ ْ َ وكل هذا أمر مشاهد كل يعرفهَ { ،وَي ْذ ُك ُروا ْ
األن َع ِام } وهذا من المنافع الدينية والدنيوية ،أي :ليذكروا اسم اهلل عند ذبح الهدايا ،شكرا هلل على ْ
ط ِع ُموا اْلَبائِ َس اْلفَِق َير } أي :شديد الفقر
ما رزقهم منها ،ويسرها لهم ،فإذا ذبحتموها { فَ ُكلُوا ِم ْنهَا َوأَ ْ
ضوا تَفَثَهُ ْم } أي :يقضوا نسكهم ،ويزيلوا الوسخ واألذى ،الذي لحقهم في حال اإلحرام، { ،ثَُّم ْلَي ْق ُ
ور ُه ْم } التي أوجبوها على أنفسهم ،من الحج ،والعمرة والهداياَ { ،وْلَيطَّ َّوفُوا بِاْلَب ْي ِت
{ َوْلُيوفُوا ُن ُذ َ
ق } أي :القديم ،أفضل المساجد على اإلطالق ،المعتق :من تسلط الجبابرة عليه .وهذا أمر اْل َعتِي ِ
بالطواف ،خصوصا بعد األمر بالمناسك عموما ،لفضله ،وشرفه ،ولكونه المقصود ،وما قبله
وسائل إليه.
ولعله -واهلل أعلم أيضا -لفائدة أخرى ،وهو :أن الطواف مشروع كل وقت ،وسواء كان تابعا
لنسك ،أم مستقال بنفسه.
( )1/536
اجتَنُِبوا ُحلَّ ْ
ِّه وأ ِ
ِ ِ ِ َّ ِ ِّ َذِل َ
ام ِإاَّل َما ُي ْتلَى َعلَْي ُك ْم فَ ْ
ت لَ ُك ُم اأْل َْن َع ُ ك َو َم ْن ُي َعظ ْم ُح ُر َمات الله فَهَُو َخ ْيٌر لَهُ عْن َد َرب َ
ور ()30 الز ِاجتَنُِبوا قَ ْو َل ُّ الر ْج َس ِم َن اأْل َْوثَ ِ
ان َو ْ ِّ
( )1/537
طفُهُ الطَّ ْي ُر أ َْو تَ ْه ِوي بِ ِه حَنفَاء ِللَّ ِه َغ ْير م ْش ِر ِكين بِ ِه وم ْن ي ْش ِر ْك بِاللَّ ِه فَ َكأََّنما َخ َّر ِمن السَّم ِ
اء فَتَ ْخ َ َ َ َ َ ََ ُ َ ُ ُ َ
ق ()31 ان َس ِحي ٍيح ِفي َم َك ٍ الر ُِّ
طفُهُ الطَّ ْي ُر أ َْو تَ ْه ِوي بِ ِه { حَنفَاء ِللَّ ِه َغْير م ْش ِر ِكين بِ ِه وم ْن ي ْش ِر ْك بِاللَّ ِه فَ َكأََّنما َخ َّر ِمن السَّم ِ
اء فَتَ ْخ َ َ َ َ َ ََ ُ َ ُ ُ َ
ق}. ان َس ِحي ٍ
يح ِفي َم َك ٍ الر ُ
ِّ
اء ِللَّ ِه } أي :مقبلين عليه وعلى عبادته ،معرضين عما سواه. أمرهم أن يكونوا { ُحَنفَ َ
{ َغ ْير م ْش ِر ِكين بِ ِه وم ْن ي ْش ِر ْك بِاللَّ ِه } فمثله { فَ َكأََّنما َخ َّر ِمن السَّم ِ
طفُهُ اء } أي :سقط منها { فَتَ ْخ َ َ َ َ َ ََ ُ َ ُ
ق } أي :بعيد ،كذلك المشرك ،فاإليمان بمنزلة ِ
ان َسحي ٍ يح في َم َك ٍ ِ الطَّ ْي ُر } بسرعة { أ َْو تَ ْه ِوي بِه ِّ
الر ُ
ِ
السماء ،محفوظة مرفوعة.
ومن ترك اإليمان ،بمنزلة الساقط من السماء ،عرضة لآلفات والبليات ،فإما أن تخطفه الطير
فتقطعه أعضاء ،كذلك المشرك إذا ترك االعتصام باإليمان تخطفته الشياطين من كل جانب،
ومزقوه ،وأذهبوا عليه دينه ودنياه.
( )1/538
َج ٍل ُم َس ًّمى ثَُّم َم ِحلُّهَا ِ ِ ك وم ْن ُي َعظِّم َش َعائِر اللَّ ِه فَِإَّنها ِم ْن تَ ْقوى اْل ُقلُ ِ
وب ( )32لَ ُك ْم فيهَا َمَنافعُ ِإلَى أ َ
ِ
َ َ َ ْ َذل َ َ َ
ق ()33 ِإلَى اْلَب ْي ِت اْل َعتِي ِ
َج ٍل ِ ِ ك وم ْن ُي َعظِّم َش َعائِر اللَّ ِه فَِإَّنها ِم ْن تَ ْقوى اْل ُقلُ ِ
وب * لَ ُك ْم فيهَا َمَنافعُ ِإلَى أ َ
ِ
َ َ َ ْ { َ { } 33 - 32ذل َ َ َ
ق}. ُم َس ًّمى ثَُّم َم ِحلُّهَا ِإلَى اْلَب ْي ِت اْل َعتِي ِ
أي :ذلك الذي ذكرنا لكم من تعظيم حرماته وشعائره ،والمراد بالشعائر :أعالم الدين الظاهرة،
ومنها المناسك كلها ،كما قال تعالىِ { :إ َّن الصَّفَا َواْل َم ْر َوةَ ِم ْن َش َعائِ ِر اللَّ ِه } ومنها الهدايا والقربان
للبيت ،وتقدم أن معنى تعظيمها ،إجاللها ،والقيام بها ،وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد،
ومنها الهدايا ،فتعظيمها ،باستحسانها واستسمانها ،وأن تكون مكملة من كل وجه ،فتعظيم شعائر
اهلل صادر من تقوى القلوب ،فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه ،ألن تعظيمها ،تابع
لتعظيم اهلل وإ جالله.
َج ٍل ُم َس ًّمى } هذا في الهدايا المسوقة ،من البدن ِ ِ
{ لَ ُك ْم فيهَا } أي[ :في] الهدايا { َمَنافعُ ِإلَى أ َ
َج ٍل ُم َس ًّمى }
ونحوها ،ينتفع بها أربابها ،بالركوب ،والحلب ونحو ذلك ،مما ال يضرها { ِإلَى أ َ
ق ،أي :الحرم كله " منى " وغيرها، مقدر ،موقت وهو ذبحها إذا وصلت َم ِحلُّهَا وهو اْلَب ْي ِت اْل َعتِي ِ
فإذا ذبحت ،أكلوا منها وأهدوا ،وأطعموا البائس الفقير.
( )1/538
ِ ُم ٍة جعْلَنا م ْنس ًكا ِلي ْذ ُكروا اسم اللَّ ِه علَى ما ر َزقَهم ِم ْن ب ِه ِ
يمة اأْل َْن َع ِام فَِإلَهُ ُك ْم ِإلَهٌ َواح ٌد َفلَهُ
َ َ َ َ َ ُْ َْ َوِل ُكل أ َّ َ َ َ َ َ ُ
ِّ
َص َابهُ ْم
ين َعلَى َما أ َ وبهُ ْم َوالصَّابِ ِر َت ُقلُ ُين ِإ َذا ُذ ِك َر اللَّهُ َو ِجلَ ْ َِّ
ين ( )34الذ َ
ِ أ ِ
َسل ُموا َوَب ِّش ِر اْل ُم ْخبِت َ
ْ
ون ()35 الصاَل ِة و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ ِِ
اه ْم ُي ْنفقُ َ َواْل ُمقيمي َّ َ َ
يم ِة ْ
األن َع ِام فَِإلَهُ ُك ْم ِ ِ َّ ِ
اس َم الله َعلَى َما َر َزقَهُ ْم م ْن َبه َ
ِ { { } 35 - 34وِل ُك ِّل أ َّ ٍ
ُمة َج َعْلَنا َم ْن َس ًكا لَي ْذ ُك ُروا ْ َ
ِ َّ ِ ِ َّ ِ ِّ اح ٌد َفلَه أ ِ
ِإلَهٌ و ِ
ين َعلَى َما وبهُ ْم َوالصَّابِ ِر َ ين ِإ َذا ُذك َر اللهُ َوجلَ ْ
ت ُقلُ ُ ين * الذ َ َسل ُموا َوَبش ِر اْل ُم ْخبِت َ ُ ْ َ
ون } . َّالة و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ ِ ِِ
اه ْم ُي ْنفقُ َ َص َابهُ ْم َواْل ُمقيمي الص َ َ أ َ
أي :ولكل أمة من األمم السالفة جعلنا منسكا ،أي :فاستبقوا إلى الخيرات وتسارعوا إليها ،ولننظر
أيكم أحسن عمال والحكمة في جعل اهلل لكل أمة منسكا ،إلقامة ذكره ،وااللتفات لشكره ،ولهذا
اح ٌد } وإ ن اختلفت أجناس األنع ِام فَِإلَه ُكم ِإلَهٌ و ِ قالِ { :لي ْذ ُكروا اسم اللَّ ِه علَى ما ر َزقَهم ِم ْن ب ِه ِ
ُ ْ َ يمة ْ َ َ َ َ َ َ ُْ َْ َ ُ
الشرائع ،فكلها متفقة على هذا األصل ،وهو ألوهية اهلل ،وإ فراده بالعبودية ،وترك الشرك به ولهذا
َسِل ُموا } أي :انقادوا واستسلموا له ال لغيره ،فإن اإلسالم له طريق إلى الوصول إلى قالَ { :فلَهُ أ ْ
ِ
ين } بخير الدنيا واآلخرة ،والمخبت :الخاضع لربه ،المستسلم ألمره، دار السالمَ { .وَب ِّش ِر اْل ُم ْخبِت َ
وبهُ ْم } أي :خوفا ين ِإ َذا ُذ ِك َر اللَّهُ َو ِجلَ ْ
ت ُقلُ ُ
َِّ
المتواضع لعباده ،ثم ذكر صفات المخبتين فقال { :الذ َ
َص َابهُ ْم }
ين َعلَى َما أ َ وتعظيما ،فتركوا لذلك المحرمات ،لخوفهم ووجلهم من اهلل وحدهَ { ،والصَّابِ ِر َ
من البأساء والضراء ،وأنواع األذى ،فال يجري منهم التسخط لشيء من ذلك ،بل صبروا ابتغاء
َّالة } أي :الذين جعلوها قائمة يمي الص ِ وجه ربهم ،محتسبين ثوابه ،مرتقبين أجره { ،واْلم ِق ِ
َ ُ
مستقيمة كاملة ،بأن أدوا الالزم فيها والمستحب ،وعبوديتها الظاهرة والباطنةَ { ،و ِم َّما َر َز ْقَن ُ
اه ْم
ون } وهذا يشمل جميع النفقات الواجبة ،كالزكاة ،والكفارة ،والنفقة على الزوجات والمماليك، ِ
ُي ْنفقُ َ
واألقارب ،والنفقات المستحبة ،كالصدقات بجميع وجوهها ،وأتي بـ { من } المفيدة للتبعيض ،ليعلم
سهولة ما أمر اهلل به ورغب فيه ،وأنه جزء يسير مما رزق اهلل ،ليس للعبد في تحصيله قدرة،
لوال تيسير اهلل له ورزقه إياه .فيا أيها المرزوق من فضل اهلل ،أنفق مما رزقك اهلل ،ينفق اهلل
عليك ،ويزدك من فضله.
( )1/538
اف فَِإ َذا َو َجَب ْ صو َّ َّ ِ ِ ِ َّ ِ ِ
وبهَا
ت ُجُن ُ اها لَ ُك ْم م ْن َش َعائ ِر الله لَ ُك ْم فيهَا َخ ْيٌر فَا ْذ ُك ُروا ْ
اس َم الله َعلَْيهَا َ َ َواْلُب ْد َن َج َعْلَن َ
اها لَ ُكم لَعلَّ ُكم تَ ْش ُكرون ( )36لَ ْن يَن َ َّ ط ِع ُموا اْلقَانِ َع َواْل ُم ْعتََّر َك َذِل َفَ ُكلُوا ِم ْنهَا َوأَ ْ
ومهَا
ال اللهَ لُ ُح ُ َ ُ َ ك َس َّخ ْرَن َ ْ َ ْ
ِِ َّ ِ اؤ َها َولَ ِك ْن َيَنالُهُ التَّ ْق َوى ِم ْن ُك ْم َك َذِل َ ِ
ك َس َّخ َر َها لَ ُك ْم لتُ َكب ُِّروا اللهَ َعلَى َما َه َدا ُك ْم َوَب ِّش ِر اْل ُم ْحسن َ
ين َواَل د َم ُ
()37
( )1/538
ان َكفُ ٍ
ور ()38 َمُنوا ِإ َّن اللَّهَ اَل ُي ِح ُّ
ب ُك َّل َخ َّو ٍ َِّ َّ ِ
ِإ َّن اللهَ ُي َدافعُ َع ِن الذ َ
ين آ َ
ان َكفُ ٍ
ور } . آمُنوا ِإ َّن اللَّهَ ال ُي ِح ُّ
ب ُك َّل َخ َّو ٍ َِّ َّ ِ
{ ِ { } 38إ َّن اللهَ ُي َدافعُ َع ِن الذ َ
ين َ
هذا إخبار ووعد وبشارة من اهلل ،للذين آمنوا ،أن اهلل يدافع عنهم كل مكروه ،ويدفع عنهم كل شر
-بسبب إيمانهم -من شر الكفار ،وشر وسوسة الشيطان ،وشرور أنفسهم ،وسيئات أعمالهم،
ويحمل عنهم عند نزول المكاره ،ما ال يتحملون ،فيخفف عنهم غاية التخفيف .كل مؤمن له من
هذه المدافعة والفضيلة بحسب إيمانه ،فمستقل ومستكثر.
{ ِإ َّن اللَّهَ ال ُي ِح ُّ
ب ُك َّل َخ َّو ٍ
ان } أي :خائن في أمانته التي حمله اهلل إياها ،فيبخس حقوق اهلل عليه،
ويخونها ،ويخون الخلق.
ور } لنعم اهلل ،يوالي عليه اإلحسان ،ويتوالى منه الكفر والعصيان ،فهذا ال يحبه اهلل ،بل
{ َكفُ ٌ
يبغضه ويمقته ،وسيجازيه على كفره وخيانته ،ومفهوم اآلية ،أن اهلل يحب كل أمين قائم بأمانته،
شكور لمواله.
( )1/539
( )1/539
اهيم وقَوم لُ ٍ
وط * ِ ِ ك فَقَ ْد َك َّذَب ْ
{ َ { } 46 - 42وإِ ْن ُي َك ِّذُبو َ
ود * َوقَ ْو ُم إ ْب َر َ َ ْ ُ اد َوثَ ُم ُ
وح َو َع ٌ ت قَْبلَهُ ْم قَ ْو ُم ُن ٍ
ِّن ِم ْن قَ ْرَي ٍة
ير * فَ َكأَي ْ ان َن ِك ِ
ف َك َ َخ ْذتُهُ ْم فَ َك ْي َ
ين ثَُّم أ َ وأَصحاب م ْدين و ُك ِّذب موسى فَأَملَْي ُ ِ ِ
ت لْل َكاف ِر َ ْ َ ْ َ ُ َ ََ َ َ ُ َ
ص ٍر َم ِش ٍيد * أَ َفلَ ْم َي ِس ُيروا ِفي َّ ٍ ِ اها و ِهي َ ِ
ظال َمةٌ فَ ِه َي َخ ِاوَيةٌ َعلَى ُع ُروشهَا َوبِْئ ٍر ُم َعطلَة َوقَ ْ َهلَ ْكَن َ َ َأْ
ص ُار َولَ ِك ْن تَ ْع َمى ون بِهَا فَِإَّنهَا ال تَ ْع َمى ْ
األب َ ان َي ْس َم ُع َ ون بِهَا أ َْو آ َذ ٌ ض فَتَ ُكون لَهم ُقلُ ٌ ِ
وب َي ْعقلُ َ َ ُْ األر ِْ
ور } . ُّد ِوب الَّتِي ِفي الص ُاْل ُقلُ ُ
يقول تعالى لنبيه محمد صلى اهلل عليه وسلم :وإ ن يكذبك هؤالء المشركون فلست بأول رسول
يم ِ ِ كذب ،وليسوا بأول أمة كذبت رسولها { فَقَ ْد َك َّذَب ْ
ود * َوقَ ْو ُم إ ْب َراه َ اد َوثَ ُم ُ
وح َو َع ٌ
ت قَْبلَهُ ْم قَ ْو ُم ُن ٍ
اب َم ْدَي َن } أي :قوم شعيب. ٍ
َص َح ُ َوقَ ْو ُم لُوط * َوأ ْ
{ و ُك ِّذب موسى فَأَملَْي ُ ِ ِ
ين } المكذبين ،فلم أعاجلهم بالعقوبة ،بل أمهلتهم ،حتى استمروا في ت لْل َكاف ِر َ ْ َ َ ُ َ
َخ ْذتُهُ ْم } بالعذاب أخذ عزيز
طغيانهم يعمهون ،وفي كفرهم [ ص ] 541وشرهم يزدادون { ،ثَُّم أ َ
ير } أي :إنكاري عليهم كفرهم ،وتكذيبهم كيف حاله ،كان أشد العقوبات، ان َن ِك ِ
ف َك َ
مقتدر { فَ َك ْي َ
وأفظع المثالت ،فمنهم من أغرقه ،ومنهم من أخذته الصيحة ،ومنهم من أهلك بالريح العقيم،
ومنهم من خسف به األرض ،ومنهم من أرسل عليه عذاب يوم الظلة ،فليعتبر بهم هؤالء
المكذبون ،أن يصيبهم ما أصابهم ،فإنهم ليسوا خيرا منهم ،وال كتب لهم براءة في الكتب المنزلة
ِّن ِم ْن قَ ْرَي ٍة } أي :وكم
من اهلل ،وكم من المعذبين المهلكين أمثال هؤالء كثير ،ولهذا قال { :فَ َكأَي ْ
ظ ِال َمةٌ } بكفرها باهلل وتكذيبها اها } بالعذاب الشديد ،والخزي الدنيويَ { ،و ِه َي َ َهلَ ْكَن َ
من قرية { أ ْ
وشهَا } أي :فديارهم متهدمة، لرسله ،لم يكن عقوبتنا لها ظلما منا { ،فَ ِهي َخ ِاويةٌ علَى عر ِ
َ َ ُُ َ
قصورها ،وجدرانها ،قد سقطت عروشها ،فأصبحت خرابا بعد أن كانت عامرة ،وموحشة بعد أن
ص ٍر َم ِش ٍيد } أي :وكم من بئر ،قد كان يزدحم عليه َّ ٍ
كانت آهلة بأهلها آنسةَ { ،وبِْئ ٍر ُم َعطلَة َوقَ ْ
الخلق ،لشربهم ،وشرب مواشيهم ،ففقد أهله ،وعدم منه الوارد والصادر ،وكم من قصر ،تعب
عليه أهله ،فشيدوه ،ورفعوه ،وحصنوه ،وزخرفوه ،فحين جاءهم أمر اهلل ،لم يغن عنهم شيئا،
وأصبح خاليا من أهله ،قد صاروا عبرة لمن اعتبر ،ومثاال لمن فكر ونظر.
األر ِ
ض} ِ ِ
ولهذا دعا اهلل عباده إلى السير في األرض ،لينظروا ،ويعتبروا فقال { :أَ َفلَ ْم َيس ُيروا في ْ
ون بِهَا } آيات اهلل ويتأملون بها مواقع عبره { ،أ َْو آ َذ ٌ
ان بأبدانهم وقلوبهم { فَتَ ُكون لَهم ُقلُ ٌ ِ
وب َي ْعقلُ َ َ ُْ
ون بِهَا } أخبار األمم الماضين ،وأنباء القرون المعذبين ،وإ ال فمجرد نظر العين ،وسماع َي ْس َم ُع َ
األذن ،وسير البدن الخالي من التفكر واالعتبار ،غير مفيد ،وال موصل إلى المطلوب ،ولهذا قال:
وب الَّتِي ِفي الص ُ
ُّد ِ
ور } أي :هذا العمى الضار في الدين، ِ
ص ُار َولَك ْن تَ ْع َمى اْل ُقلُ ُ { فَِإَّنهَا ال تَ ْع َمى ْ
األب َ
عمى القلب عن الحق ،حتى ال يشاهده كما ال يشاهد األعمى المرئيات ،وأما عمى البصر ،فغايته
بلغة ،ومنفعة دنيوية.
( )1/540
ف َسَن ٍة ِم َّما
ِّك َكأَْل ِ
ف اللَّهُ َو ْع َدهُ َوإِ َّن َي ْو ًما ِع ْن َد َرب َ
اب َولَ ْن ُي ْخِل َ
ك بِاْل َع َذ ِ { َ { } 48 - 47وَي ْستَ ْع ِجلُ َ
ون َ
ص ُير } . َخ ْذتُها وإِلَ َّي اْلم ِ ت لَها و ِهي َ ِ ٍ تَع ُّدون * و َكأَي ْ ِ
َ ظال َمةٌ ثَُّم أ َ َ َ ِّن م ْن قَ ْرَية أ َْملَْي ُ َ َ َ ُ َ َ
أي :يستعجلك هؤالء المكذبون بالعذاب ،لجهلهم ،وظلمهم ،وعنادهم ،وتعجيزا هلل ،وتكذيبا لرسله،
ولن يخلف اهلل وعده ،فما وعدهم به من العذاب ،ال بد من وقوعه ،وال يمنعهم منه مانع ،وأما
عجلته ،والمبادرة فيه ،فليس ذلك إليك يا محمد ،وال يستفزنك عجلتهم وتعجيزهم إيانا .فإن أمامهم
يوم القيامة ،الذي يجمع فيه أولهم وآخرهم ،ويجازون بأعمالهم ،ويقع بهم العذاب الدائم األليم،
ِ ٍ ِ ولهذا قالَ { :وإِ َّن َي ْو ًما ِع ْن َد َرِّب َ
ون } من طوله ،وشدته ،وهو له ،فسواء ك َكأَْلف َسَنة م َّما تَ ُع ُّد َ
أصابهم عذاب في الدنيا ،أم تأخر عنهم العذاب ،فإن هذا اليوم ،ال بد أن يدركهم.
ويحتمل أن المراد :أن اهلل حليم ،ولو استعجلوا العذاب ،فإن يوما عنده كألف سنة مما تعدون،
فالمدة ،وإ ن تطاولتموها ،واستبطأتم فيها نزول العذاب ،فإن اهلل يمهل المدد الطويلة وال يهمل،
حتى إذا أخذ الظالمين بعذابه لم يفلتهم.
ظ ِال َمةٌ } أي :مع ظلمهم ،فلم يكن ت لَهَا } أي :أمهلتها مدة طويلة { َو ِه َي َ ِّن ِم ْن قَ ْرَي ٍة أ َْملَْي ُ
{ َو َكأَي ْ
َخ ْذتُها } بالعذاب { وإِلَ َّي اْلم ِ
ص ُير } أي :مع َ َ مبادرتهم بالظلم ،موجبا لمبادرتنا بالعقوبة { ،ثَُّم أ َ َ
عذابها في الدنيا ،سترجع إلى اهلل ،فيعذبها بذنوبها ،فليحذر هؤالء الظالمون من حلول عقاب اهلل،
وال يغتروا باإلمهال.
( )1/541
َّالح ِ
ات لَهُ ْم ِ ِ َِّ اس ِإَّن َما أََنا لَ ُك ْم َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ { ُ { } 51 - 49ق ْل َيا أَيُّهَا َّ
آمُنوا َو َعملُوا الص َ ين َين * فَالذ َ الن ُ
اب اْل َج ِح ِيم } (. )1
َص َح ُ
كأ ْ ين أُولَئِ َ ين َس َعوا ِفي َآياتَِنا م َع ِ
اج ِز َ ُ
َِّ
يم * َوالذ َ ْ َم ْغ ِف َرةٌ َو ِر ْز ٌ
ق َك ِر ٌ
يأمر تعالى عبده ورسوله محمدا صلى اهلل عليه وسلم أن يخاطب الناس جميعا ،بأنه رسول اهلل
حقا ،مبشرا للمؤمنين بثواب اهلل ،منذرا للكافرين والظالمين من عقابه ،وقولهُ { :مبِ ٌ
ين } أي :بين
اإلنذار ،وهو التخويف مع اإلعالم بالمخوف ،وذلك ألنه أقام البراهين الساطعة على صدق ما
آمُنوا } بقلوبهم إيمانا صحيحا صادقا { َِّ
ين َ
أنذرهم به ،ثم ذكر تفصيل النذارة والبشارة فقال { :فَالذ َ
ات } بجوارحهم { في جنات النعيم } أي :الجنات التي يتنعم بها بأنواع النعيم من َّالح ِ
ِ ِ
َو َعملُوا الص َ
المآكل والمشارب والمناكح والصور واألصوات والتنعم برؤية الرب الكريم وسماع [ ص
] 542كالمه { والذين كفروا } أي :جحدوا نعمة ربهم وكذبوا رسله وآياته فأولئك أصحاب
الجحيم أي :المالزمون لها ،المصاحبون لها في كل أوقاتهم ،فال يخفف عنهم من عذابها وال يفتر
عنهم لحظة من عقابها.
__________
( )1سبق قلم الشيخ -رحمه اهلل -إلى اآلية رقم ( )56من هذه السورة فجمع بينها وبين هذه اآلية
فكتب (فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك
أصحاب الجحيم) ثم فسرها بما يوافق الذي كتب ،فعدلت اآلية وصوبتها ،وأبقيت التفسير كما هو.
( )1/541
ان ِفي أ ُْمنِيَّتِ ِه فََي ْن َس ُخ اللَّهُ َما ُيْل ِقيط ُ ول واَل َنبِ ٍّي ِإاَّل ِإ َذا تَمَّنى أَْلقَى َّ
الش ْي َ َ
ٍ
ك م ْن َر ُس َ
وما أَرسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ ِ
ََ ْ َ
ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم ط ِ َِِّ
ان فتَْنةً للذ َ ان ثَُّم ُي ْح ِكم اللَّهُ آََياتِ ِه واللَّهُ َعِليم َح ِكيم (ِ )52لَي ْج َع َل ما ُيْل ِقي َّ
الش ْي َ ُ َ ٌ ٌ َ ُ ط ُ َّ
الش ْي َ
ق ِم ْن ين أُوتُوا اْل ِعْل َم أََّنهُ اْل َح ُّ َِّ اسي ِة ُقلُوبهم وإِ َّن الظَّ ِال ِمين لَِفي ِشقَا ٍ ِ ٍ ِ
ق َبعيد (َ )53وِلَي ْعلَ َم الذ َ َ ُ ُْ َ ض َواْلقَ َ َم َر ٌ
اط ُم ْستَِق ٍيم ()54 صر ٍ ِ
َمُنوا ِإلَى َ ين آ َ
َّ ِ َِّ
وبهُ ْم َوإِ َّن اللهَ لَهَاد الذ َ ك فَُي ْؤ ِمُنوا بِ ِه فَتُ ْخبِ َ
ت لَهُ ُقلُ ُ َرِّب َ
ان ِفي أ ُْمنِيَّتِ ِهط ُ ول وال َنبِ ٍّي ِإال ِإ َذا تَمَّنى أَْلقَى َّ
الش ْي َ َ
ٍ
ك م ْن َر ُس َ
{ { } 57 - 52وما أَرسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ ِ
ََ ْ َ
ان ِفتَْنةً ط ُ ان ثَُّم ُي ْح ِكم اللَّهُ َآياتِ ِه واللَّهُ َعِليم َح ِكيم * ِلَي ْج َع َل ما ُيْل ِقي َّ
الش ْي َ َ ٌ ٌ َ ُ ط ُ فََي ْن َس ُخ اللَّهُ ما ُيْل ِقي َّ
الش ْي َ َ
ين أُوتُوا اْل ِعْل َم َِّ َّ
اسي ِة ُقلُوبهم وإِ َّن الظ ِال ِمين لَِفي ِشقَا ٍ ِ ٍ ِ
ق َبعيد * َوِلَي ْعلَ َم الذ َ َ ُ ُْ َ ض َواْلقَ َ ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ َِِّ
للذ َ
اط ُم ْستَِق ٍيم * صر ٍ ِ
آمُنوا ِإلَى َ ين َ
َّ ِ َِّ
وبهُ ْم َوإِ َّن اللهَ لَهَادي الذ َ ت لَهُ ُقلُ ُِّك فَُي ْؤ ِمُنوا بِ ِه فَتُ ْخبِ َ
ق ِم ْن َرب َأََّنهُ اْل َح ُّ
اب َي ْوٍم َع ِق ٍيم } . ِ ِ ِ ِ ٍ ِ
ين َكفَ ُروا في م ْرَية م ْنهُ َحتَّى تَأْتَيهُ ُم الس َ
َّاعةُ َب ْغتَةً أ َْو َيأْتَيهُ ْم َع َذ ُ
َِّ
َوال َي َزا ُل الذ َ
ول َوال َنبِ ٍّي ِإال يخبر تعالى بحكمته البالغة ،واختياره لعباده ،وأن اهلل ما أرسل قبل محمد { ِم ْن رس ٍ
َ ُ
ان ِفي أ ُْمنِيَّتِ ِه } ط ُ ِإ َذا تَمَّنى } أي :قرأ قراءته ،التي يذكر بها الناس ،ويأمرهم وينهاهم { ،أَْلقَى َّ
الش ْي َ َ
أي :في قراءته ،من طرقه ومكايده ،ما هو مناقض لتلك القراءة ،مع أن اهلل تعالى قد عصم الرسل
بما يبلغون عن اهلل ،وحفظ وحيه أن يشتبه ،أو يختلط بغيره .ولكن هذا اإللقاء من الشيطان ،غير
مستقر وال مستمر ،وإ نما هو عارض يعرض ،ثم يزول ،وللعوارض أحكام ،ولهذا قال { :فََي ْن َس ُخ
ان } أي :يزيله ويذهبه ويبطله ،ويبين أنه ليس من آياته ،و { ُي ْح ِك ُم اللَّهُ َآياتِ ِه }
ط ُ اللَّهُ ما ُيْل ِقي َّ
الش ْي َ َ
أي :يتقنها ،ويحررها ،ويحفظها ،فتبقى خالصة من مخالطة إلقاء الشيطانَ { ،واللَّهُ َع ِز ٌيز } أي:
يم } يضع ِ
كامل القوة واالقتدار ،فبكمال قوته ،يحفظ وحيه ،ويزيل ما تلقيه الشياطينَ { ،حك ٌ
األشياء مواضعها ،فمن كمال حكمته ،مكن الشياطين من اإللقاء المذكور ،ليحصل ما ذكره بقوله:
ان ِفتَْنةً } لطائفتين من الناس ،ال يبالي اهلل بهم ،وهم الذين { ِفي ُقلُوبِ ِه ْم
ط ُ { ِلَي ْج َع َل ما ُيْل ِقي َّ
الش ْي َ َ
ض } أي :ضعف وعدم إيمان تام وتصديق جازم ،فيؤثر في قلوبهم أدنى شبهة تطرأ عليها، َم َر ٌ
فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان ،داخلهم الريب والشك ،فصار فتنة لهم.
وبهُ ْم } أي :الغليظة ،التي ال يؤثر فيها زجر وال تذكير ،وال تفهم عن اهلل وعن ِ ِ
{ َواْلقَاسَية ُقلُ ُ
رسوله لقسوتها ،فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان ،جعلوه حجة لهم على باطلهم ،وجادلوا به وشاقوا
ق َب ِع ٍيد } أي :مشاقة هلل ،ومعاندة للحق ،ومخالفة
ين لَِفي ِشقَا ٍ َّ ِ ِ
اهلل ورسوله ،ولهذا قالَ { :وإِ َّن الظالم َ
له ،بعيد من الصواب ،فما يلقيه الشيطان ،يكون فتنة لهؤالء الطائفتين ،فيظهر به ما في قلوبهم،
من الخبث الكامن فيها ،وأما الطائفة الثالثة ،فإنه يكون رحمة في حقها ،وهم المذكورون بقوله{ :
ق ِم ْن َرِّب َ
ك } ألن اهلل منحهم من العلم ،ما به يعرفون الحق من ين أُوتُوا اْل ِعْل َم أََّنهُ اْل َح ُّ َِّ
َوِلَي ْعلَ َم الذ َ
الباطل ،والرشد من الغي ،فيميزون بين األمرين ،الحق المستقر ،الذي يحكمه اهلل ،والباطل
العارض الذي ينسخه اهلل ،بما على كل منهما من الشواهد ،وليعلموا أن اهلل حكيم ،يقيض بعض
أنواع االبتالء ،ليظهر بذلك كمائن النفوس الخيرة والشريرة { ،فَُي ْؤ ِمُنوا بِ ِه } بسبب ذلك ،ويزداد
إيمانهم عند دفع المعارض والشبه.
وبهُ ْم } أي :تخشع وتخضع ،وتسلم لحكمته ،وهذا من هدايته إياهمَ { ،وإِ َّن اللَّهَ لَهَ ِاد { فَتُ ْخبِ َ
ت لَهُ ُقلُ ُ
اط ُم ْستَِق ٍيم } علم بالحق ،وعمل بمقتضاه ،فيثبت اهلل الذين صر ٍِ
آمُنوا } بسبب إيمانهم { ِإلَى َ ين َ الذ َ
َِّ
آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي اآلخرة ،وهذا النوع من تثبيت اهلل لعبده.
وهذه اآليات ،فيها بيان أن للرسول صلى اهلل عليه وسلم أسوة بإخوانه المرسلين ،لما وقع منه عند
الالت َواْل ُع َّزىَ .و َمَناةَ الثَّ ِالثَةَ ْ
األخ َرى } َ قراءته صلى اهلل عليه وسلم { :والنجم } فلما بلغ { أَفََرأ َْيتُُم
ألقى الشيطان في قراءته " :تلك الغرانيق العلى ،وإ ن شفاعتهن ( )1لترتجى " فحصل بذلك
للرسول حزن وللناس فتنة ،كما ذكر اهلل ،فأنزل اهلل هذه اآليات.
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :شفاعتهم.
( )1/542
( )1/542
( )1/543
يل اللَّ ِه ثَُّم قُتِلُوا أ َْو َماتُوا لََي ْر ُزقََّنهُ ُم اللَّهُ ِر ْزقًا َح َسًنا َوإِ َّن اللَّهَ لَهَُو َخ ْي ُر
اجروا ِفي سبِ ِ
َ ين َه َ ُ
َِّ
َوالذ َ
يم ()59 الر ِاز ِقين ( )58لَي ْد ِخلََّنهم م ْد َخاًل يرضوَنه وإِ َّن اللَّه لَعِل ِ
يم َحل ٌ َ َ ٌ َْ َ ْ ُ َ ُْ ُ ُ َ َّ
( )1/543
( )1/543
ك بِأ َّ َّ
ص ٌير (َ )61ذِل َ
َن اللَّه س ِميع ب ِ النه ِار ويوِلج َّ ِ َّ َّ ِ ك بِأ َّ َّ َذِل َ
َن اللهَ النهَ َار في اللْي ِل َوأ َّ َ َ ٌ َ َن اللهَ ُيوِل ُج اللْي َل في َّ َ َ ُ ُ
َن اللَّهَ ُه َو اْل َعِل ُّي اْل َكبِ ُير ()62 َن ما ي ْدعون ِم ْن ُدونِ ِه ُهو اْلب ِ
اط ُل َوأ َّ َ َ ق َوأ َّ َ َ ُ َُهو اْل َح ُّ
َ
َن اللَّه س ِميع ب ِ النه ِار ويوِلج َّ ِ َّ َّ ِ ك بِأ َّ َّ{ َ { } 62 - 61ذِل َ
ص ٌير النهَ َار في اللْي ِل َوأ َّ َ َ ٌ َ َن اللهَ ُيوِل ُج اللْي َل في َّ َ َ ُ ُ
َن اللَّهَ ُه َو اْل َعِل ُّي اْل َكبِ ُير } . َن ما ي ْدعون ِم ْن ُدونِ ِه ُهو اْلب ِ
اط ُل َوأ َّ َ َ ق َوأ َّ َ َ ُ َ َن اللَّهَ ُهو اْل َح ُّ
َ * َذِل َ
ك بِأ َّ
ذلك الذي شرع لكم تلك األحكام الحسنة العادلة ،هو حسن التصرف ،في تقديره وتدبيره ،الذي
{ ُيوِل ُج اللَّْي َل ِفي َّ
النهَ ِار } أي :يدخل هذا على هذا ،وهذا على هذا ،فيأتي بالليل بعد النهار،
وبالنهار بعد الليل ،ويزيد في أحدهما ما ينقصه في اآلخر ،ثم بالعكس ،فيترتب على ذلك ،قيام
الفصول ،ومصالح الليل والنهار ،والشمس والقمر ،التي هي من أجل نعمه على العباد ،وهي من
َن اللَّهَ َس ِميعٌ } يسمع ضجيج األصوات ،باختالف ،اللغات ،على تفنن الضروريات لهمَ { .وأ َّ
اء ِ
الحاجاتَ { ،بص ٌير } يرى دبيب النملة السوداء ،تحت الصخرة الصماء ،في الليلة الظلماء { َس َو ٌ
النهَ ِار } ف بِاللَّْي ِل َو َس ِار ٌ
ب بِ َّ ِم ْن ُكم م ْن أَس َّر اْلقَو َل وم ْن جهر بِ ِه وم ْن ُهو مستَ ْخ ٍ
ْ َ َ َ ََ َ َ َ ُ ْ ْ َ َ
[ ص ] 544
ق } أي :الثابت ،الذي ال يزال وال يزول، َن اللَّهَ ُهو اْل َح ُّ
ك } صاحب الحكم واألحكام { بِأ َّ { َذِل َ
َ
األول الذي ليس قبله شيء ،اآلخر الذي ليس بعده شيء ،كامل األسماء والصفات ،صادق الوعد،
الذي وعده حق ولقاؤه حق ،ودينه حق ،وعبادته هي الحق ،النافعة الباقية على الدوام.
َن ما ي ْدعون ِم ْن ُدونِ ِه } من األصنام واألنداد ،من الحيوانات والجماداتُ { ،هو اْلب ِ
اط ُل } َ َ { َوأ َّ َ َ ُ َ
الذي ،هو باطل في نفسه ،وعبادته باطلة ،ألنها متعلقة بمضمحل فان ،فتبطل تبعا لغايتها
َن اللَّهَ ُه َو اْل َعِل ُّي اْل َكبِ ُير } العلي في ذاته ،فهو عال على جميع المخلوقات وفي
ومقصودهاَ { ،وأ َّ
قدره ،فهو كامل الصفات ،وفي قهره لجميع المخلوقات ،الكبير في ذاته ،وفي أسمائه ،وفي
صفاته ،الذي من عظمته وكبريائه ،أن األرض قبضته يوم القيامة ،والسماوات مطويات بيمينه،
ومن كبريائه ،أن كرسيه وسع السماوات واألرض ،ومن عظمته وكبريائه ،أن نواصي العباد
بيده ،فال يتصرفون إال بمشيئته ،وال يتحركون ويسكنون إال بإرادته.
وحقيقة الكبرياء التي ال يعلمها إال هو ،ال ملك مقرب ،وال نبي مرسل ،أنها كل صفة كمال وجالل
وكبرياء وعظمة ،فهي ثابتة له ،وله من تلك الصفة أجلها وأكملها ،ومن كبريائه ،أن العبادات
كلها ،الصادرة من أهل السماوات واألرض ،كلها المقصود منها ،تكبيره وتعظيمه ،وإ جالله
وإ كرامه ،ولهذا كان التكبير شعارا للعبادات الكبار ،كالصالة وغيرها.
( )1/543
( )1/544
َن تَقَ َع َعلَى اء أ َّْم َك الس َ ك تَ ْج ِري ِفي اْلَب ْح ِر بِأ َْم ِر ِه َوُي ْم ِس ُ َن اللَّهَ َس َّخ َر لَ ُك ْم َما ِفي اأْل َْر ِ
ض َواْل ُفْل َ أَلَ ْم تََر أ َّ
َحَيا ُك ْم ثَُّم ُي ِميتُ ُك ْم ثَُّم ُي ْحيِي ُك ْم ِإ َّن
يم (َ )65و ُه َو الَِّذي أ ْ اس لَرء ٌ ِ
وف َرح ٌ الن ِ َ ُ ض ِإاَّل بِِإ ْذنِ ِه ِإ َّن اللَّهَ بِ َّ اأْل َْر ِ
ور ()66 ان لَ َكفُ ٌ اإْلِ ْن َس َ
( )1/544
ك لَ َعلَى ُه ًدى ُم ْستَِق ٍيم ( ك ِفي اأْل َْم ِر َو ْادعُ ِإلَى َرِّب َ
ك ِإَّن َ ُم ٍة جعْلَنا م ْنس ًكا ُهم َن ِ
اس ُكوهُ فَاَل ُيَن ِاز ُعَّن َ ل ُكل أ َّ َ َ َ َ ْ
ِ ِّ
َعلَم بِما تَعملُون ( )68اللَّه ي ْح ُكم ب ْيَن ُكم يوم اْل ِقيام ِة ِفيما ُك ْنتُم ِف ِ َّ
يه ْ ُ َ ُ َ ْ َْ َ َ َ َ وك فَ ُق ِل اللهُ أ ْ ُ َ ْ َ َ ادلُ َ َ )67وإِ ْن َج َ
ك َعلَى اللَّ ِه اب ِإ َّن َذِل َ
ك ِفي ِكتَ ٍ ض ِإ َّن َذِل َ
اء واأْل َْر ِ َن اللَّه يعلَم ما ِفي الس ِ
َّم ََ ون ( )69أَلَ ْم تَ ْعلَ ْم أ َّ َ َ ْ ُ َ
ِ
تَ ْختَلفُ َ
َي ِس ٌير ()70
ك لَ َعلَىك ِإَّن َ
األم ِر َو ْادعُ ِإلَى َرِّب َ اس ُكوه فَال يَن ِازعَّن َ ِ
ُم ٍة جعْلَنا م ْنس ًكا ُهم َن ِ ِ ِّ
ك في ْ ُ ُ ُ { { } 70 - 67ل ُكل أ َّ َ َ َ َ ْ
َعلَم بِما تَعملُون * اللَّه ي ْح ُكم ب ْيَن ُكم يوم اْل ِقيام ِة ِفيما ُك ْنتُم ِف ِ َّ ُه ًدى ُم ْستَِق ٍيم * َوإِ ْن َج َ
يه ْ ُ َ ُ َ ْ َْ َ َ َ َ ك فَ ُق ِل اللهُ أ ْ ُ َ ْ َ َ ادلُو َ
ك َعلَى اللَّ ِه َي ِس ٌير } اب ِإ َّن َذِل َ
ك ِفي ِكتَ ٍض ِإ َّن َذِل َ
األر ِ َن اللَّه يعلَم ما ِفي الس ِ
َّماء َو ْ
َ ون * أَلَ ْم تَ ْعلَ ْم أ َّ َ َ ْ ُ َ
ِ
تَ ْختَلفُ َ
.
يخبر تعالى أنه جعل لكل أمة { َم ْن َس ًكا } أي :معبدا وعبادة ،قد تختلف في بعض األمور ،مع
اتفاقها على العدل والحكمة ،كما قال تعالىِ { :ل ُك ٍّل جعْلَنا ِم ْن ُكم ِشرعةً و ِم ْنهاجا ولَو َش َّ
اء اللهُ
ْ ْ َ َ َ ً َ ْ َ ََ
اس ُكوهُ } أي :عاملون عليه ،بحسب اح َدةً ولَ ِك ْن ِليْبلُو ُكم ِفي ما آتَا ُكم } اآليةُ { ،هم َن ِ
ُمةً و ِ
ْ ْ َ َ َ ْ َ لَ َج َعلَ ُك ْم أ َّ َ
أحوالهم ،فال اعتراض على شريعة من الشرائع ،خصوصا من األميين ،أهل الشرك والجهل
المبين ،فإنه إذا ثبتت رسالة الرسول بأدلتها ،وجب أن يتلقى جميع ما جاء به بالقبول والتسليم،
األم ِر } أي :ال ينازعك المكذبون لك، وترك االعتراض ،ولهذا قال { :فَال يَن ِازعَّن َ ِ
ك في ْ ُ ُ
ويعترضون على بعض ما جئتهم به ،بعقولهم الفاسدة ،مثل منازعتهم في حل الميتة ،بقياسهم
الفاسد ،يقولون " :تأكلون ما قتلتم ،وال تأكلون ما قتل اهلل " وكقولهم { ِإَّن َما اْلَب ْيعُ ِمثْ ُل ِّ
الرَبا } ونحو
ذلك من اعتراضاتهم ،التي ال يلزم الجواب عن أعيانها ،وهم منكرون ألصل الرسالة ،وليس فيها
مجادلة ومحاجة بانفرادها ،بل لكل مقام مقال ،فصاحب هذا االعتراض ،المنكر لرسالة الرسول،
إذا زعم أنه يجادل ليسترشد ،يقال له :الكالم معك في إثبات الرسالة وعدمها ،وإ ال فاالقتصار
على هذه ،دليل أن مقصوده التعنت والتعجيز ،ولهذا أمر اهلل رسوله أن يدعو إلى ربه بالحكمة
والموعظة الحسنة ،ويمضي على ذلك ،سواء اعترض المعترضون أم ال وأنه ال ينبغي أن يثنيك
عن الدعوة شيء ،ألنك { على ُه ًدى ُم ْستَِق ٍيم } أي :معتدل موصل للمقصود ،متضمن علم الحق
والعمل به ،فأنت على ثقة من أمرك ،ويقين من دينك ،فيوجب ذلك لك الصالبة والمضي لما
أمرك به ربك ،ولست على أمر مشكوك فيه ،أو حديث مفترى ،فتقف مع الناس ومع أهوائهم،
ق اْل ُمبِ ِ
ين } وآرائهم ،ويوقفك اعتراضهم ،ونظير هذا قوله تعالى { :فَتََو َّك ْل َعلَى اللَّ ِه ِإَّن َ
ك َعلَى اْل َح ِّ
ك لَ َعلَى ُه ًدى ُم ْستَِق ٍيم } إرشاد ألجوبة المعترضين على جزئيات الشرع، مع أن في قولهِ { :إَّن َ
بالعقل الصحيح ،فإن الهدى وصف لكل ما جاء به الرسول ،والهدى :ما تحصل به الهداية ،من
مسائل األصول والفروع ،وهي المسائل التي يعرف حسنها وعدلها وحكمتها بالعقل والفطرة
السليمة ،وهذا يعرف بتدبر تفاصيل المأمورات والمنهيات.
ون وك فَ ُق ِل اللَّهُ أ ْ
َعلَ ُم بِ َما تَ ْع َملُ َ ادلُ َ
ولهذا أمره اهلل بالعدول عن جدالهم في هذه الحالة ،فقالَ { :وإِ ْن َج َ
} أي :هو عالم بمقاصدكم ونياتكم ،فمجازيكم عليها في يوم القيامة الذي يحكم اهلل بينكم فيما كنتم
فيه تختلفون ،فمن وافق الصراط المستقيم ،فهو من أهل النعيم ،ومن زاغ عنه ،فهو من أهل
الجحيم ،ومن تمام حكمه ،أن يكون حكما بعلم ،فلذلك ذكر إحاطة علمه ،وإ حاطة كتابه فقال { :أَلَ ْم
األر ِ َن اللَّه يعلَم ما ِفي الس ِ
ض } ال يخفى عليه منها خافية ،من ظواهر األمور َّماء َو ْ
َ تَ ْعلَ ْم أ َّ َ َ ْ ُ َ
وبواطنها ،خفيها وجليها ،متقدمها ومتأخرها ،أن ذلك العلم المحيط بما في السماء واألرض قد
أثبته اهلل في كتاب ،وهو اللوح المحفوظ ،حين خلق اهلل القلم ،قال له " :اكتب " قال :ما أكتب؟
قال " :اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة
ك َعلَى اللَّ ِه َي ِس ٌير } وإ ن كان تصوره عندكم ال يحاط به ،فاهلل تعالى يسير عليه أن يحيط
{ ِإ َّن َذِل َ
علما بجميع األشياء ،وأن يكتب ذلك في كتاب مطابق للواقع.
( )1/545
ط ًانا وما لَْيس لَهم بِ ِه ِعْلم وما ِللظَّ ِال ِمين ِم ْن َن ِ ِ ويعب ُدون ِم ْن ُد ِ َّ ِ
ير ()71 صٍ َ ٌََ ون الله َما لَ ْم ُيَنِّز ْل بِه ُسْل َ َ َ َ ُ ْ َ َ ُْ َ
َِّ َِّ ات تَع ِر ُ ِ وإِ َذا تُْتلَى علَْي ِهم آَياتَُنا بيَِّن ٍ
ون ون بِالذ َ
ين َي ْتلُ َ ون َي ْسطُ َ اد َ ف في ُو ُجو ِه الذ َ
ين َكفَ ُروا اْل ُم ْن َك َر َي َك ُ ْ َ ْ َ َ َ
ِ
ين َكفَ ُروا َوبِْئ َس اْل َمص ُير ()72 ِ َّ َّ ِ ِ ِ
َعلَْي ِه ْم آََياتَنا ُق ْل أَفَأَُنبُِّئ ُك ْم بِ َشٍّر م ْن َذل ُك ُم َّ
الن ُار َو َع َد َها اللهُ الذ َ
ِ َّ ِ ِ ِ ِ ون اللَّ ِه َما لَ ْم ُيَنِّز ْل بِ ِه ُسْل َ
ون ِم ْن ُد ِ
ط ًانا َو َما لَْي َس لَهُ ْم بِه عْل ٌم َو َما للظالم َ
ين { َ { } 72 - 71وَي ْعُب ُد َ
َِّ ات تَع ِر ُ ِ ير * وإِ َذا تُْتلَى علَْي ِهم آياتَُنا بيَِّن ٍ ِ ِ
ون
ون َي ْسطُ َ اد َ ف في ُو ُجو ِه الذ َ
ين َكفَ ُروا اْل ُم ْن َك َر َي َك ُ ْ َ ْ َ َ م ْن َنص ٍ َ
النار وع َد َها اللَّه الَِّذين َكفَروا وبِْئس اْلم ِ ِ ِ ِ َِّ
ص ُير ُ َ ُ َ َ َ ون َعلَْي ِه ْم َآياتَنا ُق ْل أَفَأَُنبُِّئ ُك ْم بِ َشٍّر م ْن َذل ُك ُم َّ ُ َ َ بِالذ َ
ين َي ْتلُ َ
}.
يذكر تعالى حالة المشركين به ،العادلين به غيره ،وأن حالهم أقبح الحاالت ،وأنه ال مستند لهم
على ما فعلوه ،فليس لهم به علم ،وإ نما هو تقليد تلقوه عن آبائهم الضالين ،وقد يكون اإلنسان ال
علم عنده بما فعله ،وهو -في نفس األمر -له حجة ما علمها ،فأخبر هنا ،أن اهلل لم ينزل في ذلك
سلطانا ،أي :حجة تدل علي وتجوزه ،بل قد أنزل البراهين القاطعة على فساده وبطالنه ،ثم توعد
صٍ
ير } ينصرهم من عذاب اهلل إذا نزل الظالمين منهم المعاندين للحق فقال { :وما ِللظَّ ِال ِمين ِم ْن َن ِ
َ ََ
بهم وحل .وهل لهؤالء الذين ال علم لهم بما هم عليه قصد في اتباع [ ص ] 546اآليات والهدى
إذا جاءهم؟ أم هم راضون بما هم عليه من الباطل؟ ذكر ذلك بقولهَ { :وإِ َذا تُْتلَى َعلَْي ِه ْم َآياتَُنا }
التي هي آيات اهلل الجليلة ،المستلزمة لبيان الحق من الباطل ،لم يلتفتوا إليها ،ولم يرفعوا بها
َِّ رأسا ،بل { تَع ِر ُ ِ
ين َكفَ ُروا اْل ُم ْن َك َر } من بغضها وكراهتها ،ترى وجوههم معبسة، ف في ُو ُجو ِه الذ َ ْ
ون َعلَْي ِه ْم َآياتَِنا } أي :يكادون يوقعون بهم القتل
ين َي ْتلُ َ
َِّ
ون بِالذ َ
ون َي ْسطُ َ
اد َوأبشارهم مكفهرةَ { ،ي َك ُ
والضرب البليغ ،من شدة بغضهم وبغض الحق وعداوته ،فهذه الحالة من الكفار بئس الحالة،
وشرها بئس الشر ،ولكن ثم ما هو شر منها ،حالتهم التي يؤولون إليها ،فلهذا قالُ { :ق ْل أَفَأَُنبُِّئ ُك ْم
النار وع َد َها اللَّه الَِّذين َكفَروا وبِْئس اْلم ِ ِ ِ
ص ُير } فهذه شرها طويل عريض، ُ َ ُ َ َ َ بِ َشٍّر م ْن َذل ُك ُم َّ ُ َ َ
ومكروهها وآالمها تزداد على الدوام.
( )1/545
( )1/546
( )1/546
َّ ِ َِّ
اعُب ُدوا َرَّب ُك ْم َوا ْف َعلُوا اْل َخ ْي َر لَ َعل ُك ْم تُْفل ُح َ
ون اس ُج ُدوا َو ْ آمُنوا ْار َك ُعوا َو ْ ين َ { َ { } 78 - 77يا أَيُّهَا الذ َ
يم ِ َّ ِ ِ ِ الد ِ ِ اجتََبا ُك ْم َو َما َج َع َل َعلَْي ُك ْم ِفي ِّ ق ِجهَ ِاد ِه ُه َو ْ اه ُدوا ِفي اللَّ ِه َح َّ
* وج ِ
ين م ْن َح َر ٍج ملةَ أَبي ُك ْم إ ْب َراه َ َ َ
الر ُسو ُل َش ِه ً ِ ُهو س َّما ُكم اْلمسِل ِم ِ
الن ِ
اس اء َعلَى َّ ونوا ُشهَ َد َ يدا َعلَْي ُك ْم َوتَ ُك ُ ون َّ ين م ْن قَْب ُل َو ِفي َه َذا لَي ُك َ َ َ ُ ُْ َ
ص ُير } . الن ِ
ص ُموا بِاللَّ ِه ُه َو َم ْوال ُك ْم فَنِ ْع َم اْل َم ْولَى َونِ ْع َم َّ
اعتَ ِ
الز َكاةَ َو ْيموا الصَّالةَ وآتُوا َّ ِ
َ فَأَق ُ
يأمر تعالى ،عباده المؤمنين بالصالة ،وخص منها الركوع [ ص ] 547والسجود ،لفضلهما
وركنيتهما ،وعبادته التي هي قرة العيون ،وسلوة القلب المحزون ،وأن ربوبيته وإ حسانه على
العباد ،يقتضي منهم أن يخلصوا له العبادة ،ويأمرهم بفعل الخير عموما.
ون } أي :تفوزون بالمطلوب المرغوب، َّ ِ
وعلق تعالى الفالح على هذه األمور فقال { :لَ َعل ُك ْم تُْفل ُح َ
وتنجون من المكروه المرهوب ،فال طريق للفالح سوى اإلخالص في عبادة الخالق ،والسعي في
نفع عبيده ،فمن وفق لذلك ،فله القدح المعلى ،من السعادة والنجاح والفالح.
ق ِجهَ ِاد ِه } والجهاد بذل الوسع في حصول الغرض المطلوب ،فالجهاد في
اه ُدوا ِفي اللَّ ِه َح َّ
{ وج ِ
َ َ
اهلل حق جهاده ،هو القيام التام بأمر اهلل ،ودعوة الخلق إلى سبيله بكل طريق موصل إلى ذلك ،من
نصيحة وتعليم وقتال وأدب وزجر ووعظ ،وغير ذلك.
اجتََبا ُك ْم } أي :اختاركم -يا معشر المسلمين -من بين الناس ،واختار لكم الدين ،ورضيه { ُه َو ْ
لكم ،واختار لكم أفضل الكتب وأفضل الرسل ،فقابلوا هذه المنحة العظيمة ،بالقيام بالجهاد فيه حق
ق ِجهَ ِاد ِه } ربما توهم متوهم أن هذا من باب تكليف اه ُدوا ِفي اللَّ ِه َح َّ
القيام ،ولما كان قوله { :وج ِ
َ َ
ين ِم ْن َح َر ٍج } أي: ما ال يطاق ،أو تكليف ما يشق ،احترز منه بقولهَ { :و َما َج َع َل َعلَْي ُك ْم ِفي ِّ
الد ِ
مشقة وعسر ،بل يسره غاية التيسير ،وسهله بغاية السهولة ،فأوال ما أمر وألزم إال بما هو سهل
على النفوس ،ال يثقلها وال يؤودها ،ثم إذا عرض بعض األسباب الموجبة للتخفيف ،خفف ما أمر
به ،إما بإسقاطه ،أو إسقاط بعضه .ويؤخذ من هذه اآلية ،قاعدة شرعية وهي أن " المشقة تجلب
التيسير " و " الضرورات تبيح المحظورات " فيدخل في ذلك من األحكام الفرعية ،شيء كثير
معروف في كتب األحكام.
يم } أي :هذه الملة المذكورة ،واألوامر المزبورة ،ملة أبيكم إبراهيم ،التي ما ِ َّ ِ ِ ِ
{ ملةَ أَبي ُك ْم إ ْب َراه َ
زال عليها ،فالزموها واستمسكوا بها.
ين ِم ْن قَْب ُل } أي :في الكتب السابقة ،مذكورون ومشهورونَ { ،و ِفي َه َذا } ِِ
{ ُه َو َس َّما ُك ُم اْل ُم ْسلم َ
الر ُسو ُل َش ِه ً
يدا ون َّ ِ
أي :هذا الكتاب ،وهذا الشرع .أي :ما زال هذا االسم لكم قديما وحديثا { ،لَي ُك َ
اس } لكونكم خير أمة أخرجت للناس، الن ِ
اء َعلَى َّ
ونوا ُشهَ َد َ
َعلَْي ُك ْم } بأعمالكم خيرها وشرها { َوتَ ُك ُ
أمة وسطا عدال خيارا ،تشهدون للرسل أنهم بلغوا أممهم ،وتشهدون على األمم أن رسلهم بلغتهم
يموا الصَّالةَ } بأركانها وشروطها وحدودها ،وجميع لوازمها{ ، ِ
بما أخبركم اهلل به في كتابه { ،فَأَق ُ
ص ُموا بِاللَّ ِه } أي :امتنعوااعتَ َ الز َكاةَ } المفروضة لمستحقيها شكرا هلل على ما أوالكمَ { ،و ْ وآتُوا َّ
َ
به وتوكلوا عليه في ذلك ،وال تتكلوا على حولكم وقوتكمُ { ،ه َو َم ْوال ُك ْم } الذي يتولى أموركم،
ص ُير } أي :نعم الن ِ
فيدبركم بحسن تدبيره ،ويصرفكم على أحسن تقديره { ،فَنِ ْع َم اْل َم ْولَى َونِ ْع َم َّ
ص ُير } لمن استنصره فدفع عنه المكروه .تم الن ِ
المولى لمن تواله ،فحصل له مطلوبه { َونِ ْع َم َّ
تفسير سورة الحج ،والحمد هلل رب العالمين.
( )1/546
ين * ثَُّمطفَةً ِفي قََر ٍار َم ِك ٍ ين * ثَُّم َج َعْلَناهُ ُن ْ ان ِم ْن ُساللَ ٍة ِم ْن ِط ٍ اإلن َس َ
{ َ { } 16 - 12ولَقَ ْد َخلَ ْقَنا ْ
اما فَ َك َس ْوَنا اْل ِع َ
ظ َام لَ ْح ًما ثَُّم أ َْن َشأَْناهُ َخْلقًا ظً ض َغةَ ِع َ
ض َغةً فَ َخلَ ْقَنا اْل ُم ْ
طفَةَ َعلَقَةً فَ َخلَ ْقَنا اْل َعلَقَةَ ُم ْ َخلَ ْقَنا ُّ
الن ْ
ك لَميِّتُون * ثَُّم ِإَّن ُكم يوم اْل ِقي ِ ِ ِِ ك اللَّهُ أ ْ
ون } . امة تُْب َعثُ َ ْ َْ َ َ َ ين * ثَُّم ِإَّن ُك ْم َب ْع َد َذل َ َ َ َح َس ُن اْل َخالق َ آخ َر فَتََب َار َ
َ
ذكر اهلل في هذه اآليات أطوار اآلدمي وتنقالته ،من ابتداء خلقه إلى آخر ما يصير إليه ،فذكر
ين } أي :قد سلت، ابتداء خلق أبي النوع البشري آدم عليه السالم ،وأنه { ِم ْن ُساللَ ٍة ِم ْن ِط ٍ
وأخذت من جميع األرض ،ولذلك جاء بنوه على قدر األرض ،منهم الطيب والخبيث ،وبين ذلك،
والسهل والحزن ،وبين ذلك.
طفَةً } تخرج من بين الصلب والترائب ،فتستقر { ِفي قََر ٍار
{ ثَُّم َج َعْلَناهُ } أي :جنس اآلدميين { ُن ْ
ين } وهو الرحم ،محفوظة من الفساد والريح وغير ذلك. َم ِك ٍ
طفَةَ } التي قد استقرت قبل { َعلَقَةً } أي :دما أحمر [ ،ص ] 549بعد مضي { ثَُّم َخلَ ْقَنا ُّ
الن ْ
ض َغةً } أي :قطعة لحم صغيرة،
فخلَ ْقَنا اْل َعلَقَةَ } بعد أربعين يوما { ُم ْ
أربعين يوما من النطفةَ { ،
بقدر ما يمضغ من صغرها.
اما } صلبة ،قد تخللت اللحم ،بحسب حاجة البدن إليها { ،فَ َك َس ْوَنا
ظً ض َغةَ } اللينة { ِع َ
{ فَ َخلَ ْقَنا اْل ُم ْ
ظ َام لَ ْح ًما } أي :جعلنا اللحم ،كسوة للعظام ،كما جعلنا العظام ،عمادا للحم ،وذلك في األربعين اْل ِع َ
آخ َر } نفخ فيه الروح ،فانتقل من كونه جمادا ،إلى أن صار حيوانا، الثالثة { ،ثَُّم أ َْن َشأَْناهُ َخْلقًا َ
ين } { الذي أحسن كل شيء خلقه ِِ ك اللَّهُ } أي :تعالى وتعاظم وكثر خيره { أ ْ
َح َس ُن اْل َخالق َ { فَتََب َار َ
وبدأ خلق اإلنسان من طين ثم جعل نسله من ساللة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه
وجعل لكم السمع واألبصار واألفئدة قليال ما تشكرون } فخلقه كله حسن ،واإلنسان من أحسن
َح َس ِن تَ ْق ِو ٍيم } ان ِفي أ ْ
اإلن َس َ
مخلوقاته ،بل هو أحسنها على اإلطالق ،كما قال تعالى { :لَقَ ْد َخلَ ْقَنا ْ
ولهذا كان خواصه أفضل المخلوقات وأكملها.
ون } في أحد أطواركم وتنقالتكم { ثَُّم ِإَّن ُك ْم َي ْو َم { ثَُّم ِإَّن ُك ْم َب ْع َد َذِل َ
ك } الخلق ،ونفخ الروح { لَ َميِّتُ َ
ك ُس ًدى َن ُيتَْر َ اْل ِقي ِ
ان أ ْ اإلن َس ُ
ب ْ ون } فتجازون بأعمالكم ،حسنها وسيئها .قال تعالى { :أََي ْح َس ُ امة تُْب َعثُ َ ََ
الزوج ْي ِن َّ ِ ك ُن ْ ِ ِ
األنثَى *
الذ َك َر َو ْ ق فَ َس َّوى * فَ َج َع َل م ْنهُ َّ ْ َ
ان َعلَقَةً فَ َخلَ َ
طفَةً م ْن َمن ٍّي ُي ْمَنى * ثَُّم َك َ * أَلَ ْم َي ُ
ك بِقَ ِاد ٍر َعلَى أ ْ
َن ُي ْحيِ َي اْل َم ْوتَى } أَلَْي َس َذِل َ
( )1/548
ين ()17 ق وما ُكَّنا ع ِن اْل َخْل ِ ِِ ولَقَ ْد َخلَ ْقَنا فَوقَ ُكم س ْبع َ ِ
ق َغافل َ َ ط َرائ َ َ َ ْ ْ َ َ َ
ين } . ق وما ُكَّنا ع ِن اْل َخْل ِ ِِ { { } 20 - 17ولَقَ ْد َخلَ ْقَنا فَوقَ ُكم س ْبع َ ِ
ق َغافل َ َ ط َرائ َ َ َ ْ ْ َ َ َ
لما ذكر تعالى خلق اآلدمي ،ذكر سكنه ،وتوفر النعم عليه من كل وجه فقالَ { :ولَقَ ْد َخلَ ْقَنا فَ ْوقَ ُك ْم }
ق } أي :سبع سماوات طباقا ،كل طبقة فوق األخرى ،قد ط َرائِ َ
سقفا للبالد ،ومصلحة للعباد { َس ْب َع َ
زينت بالنجوم والشمس والقمر ،وأودع فيها من مصالح الخلق ما أودع { ،و َما ُكَّنا َع ِن اْل َخْل ِ
ق َ
ين } فكما أن خلقنا عام لكل مخلوق ،فعلمنا أيضا محيط بما خلقنا ،فال نغفل مخلوقا وال ننساه، ِِ
َغافل َ
وال نخلق خلقا فنضيعه ،وال نغفل عن السماء فتقع على األرض ،وال ننسى ذرة في لجج البحار
ض ِإال َعلَى اللَّ ِه ِر ْزقُهَا
األر ِ ٍِ ِ
وجوانب الفلوات ،وال دابة إال سقنا إليها رزقها { َو َما م ْن َدابَّة في ْ
ق
َوَي ْعلَ ُم ُم ْستَقََّر َها َو ُم ْستَ ْو َد َعهَا } وكثيرا ما يقرن تعالى بين خلقه وعلمه كقوله { :أَال َي ْعلَ ُم َم ْن َخلَ َ
يم } ألن خلق المخلوقات ،من أقوى األدلة العقلية، يف اْل َخبِير } { بلَى و ُهو اْل َخ ُ ِ
َو ُه َو اللَّ ِط ُ
الق اْل َعل ُ َ َ َ ُ
على علم خالقها وحكمته.
( )1/549
( )1/549
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َوإِ َّن لَ ُك ْم في اأْل َْن َعام لَع ْب َرةً ُن ْسقي ُك ْم م َّما في ُبطُونِهَا َولَ ُك ْم فيهَا َمَنافعُ َكث َيرةٌ َو ِم ْنهَا تَْأ ُكلُ َ
ون ()21
ون ()22 ِ
َو َعلَْيهَا َو َعلَى اْل ُفْلك تُ ْح َملُ َ
األن َع ِام لَ ِع ْب َرةً ُن ْس ِقي ُك ْم ِم َّما ِفي ُبطُونِهَا َولَ ُك ْم ِفيهَا َمَن ِافعُ َكثِ َيرةٌ َو ِم ْنهَا
{ َ { } 22 - 21وإِ َّن لَ ُك ْم ِفي ْ
ِ
ون } . تَْأ ُكلُ َ
ون * َو َعلَْيهَا َو َعلَى اْل ُفْلك تُ ْح َملُ َ
أي :ومن نعمه عليكم ،أن سخر لكم األنعام ،اإلبل والبقر ،والغنم ،فيها عبرة للمعتبرين ،ومنافع
للمنتفعين { ُن ْس ِقي ُك ْم ِم َّما ِفي ُبطُونِهَا } من لبن ،يخرج من بين فرث ودم ،خالص سائغ للشاربين{ ،
َولَ ُك ْم ِفيهَا َمَن ِافعُ َكثِ َيرةٌ } من أصوافها ،وأوبارها ،وأشعارها ،وجعل لكم من [ ص ] 550جلود
األنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم { َو ِم ْنهَا تَْأ ُكلُ َ
ون } أفضل المآكل من لحم وشحم.
ون } أي :جعلها سفنا لكم في البر ،تحملون عليها أثقالكم إلى بلد لم ِ
{ َو َعلَْيهَا َو َعلَى اْل ُفْلك تُ ْح َملُ َ
تكونوا بالغيه إال بشق األنفس ،كما جعل لكم السفن في البحر تحملكم ،وتحمل متاعكم ،قليال [كان]
أو كثيرا ،فالذي أنعم بهذه النعم ،وصنف أنواع اإلحسان ،وأدر علينا من خيره المدرار ،هو الذي
يستحق كمال الشكر ،وكمال الثناء ،واالجتهاد في عبوديته ،وأن ال يستعان بنعمه على معاصيه.
( )1/549
اعُب ُدوا اللَّهَ َما لَ ُك ْم ِم ْن ِإلَ ٍه َغ ْي ُرهُ أَفَال وحا ِإلَى قَ ْو ِم ِه فَقَ َ
ال َيا قَ ْوِم ْ { َ { } 30 - 23ولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُن ً
ون } إلى آخر القصة . تَتَّقُ َ
وهي قوله { إن في ذلك آليات وإ ن كنا لمبتلين } يذكر تعالى رسالة عبده ورسوله نوح عليه
السالم ،أول رسول أرسله ألهل األرض ،فأرسله إلى قومه ،وهم يعبدون األصنام ،فأمرهم بعبادة
اعُب ُدوا اللَّهَ } أي :أخلصوا له العبادة ،ألن العبادة ال تصح إال اهلل وحده ،فقالَ { :يا قَ ْوِم ْ
بإخالصهاَ { .ما لَ ُك ْم ِم ْن ِإلَ ٍه َغ ْي ُرهُ } فيه إبطال ألوهية غير اهلل ،وإ ثبات اإللهية هلل تعالى ،ألنه
الخالق الرازق ،الذي له الكمال كله ،وغيره بخالف ذلك { .أَفَال تَتَّقُ َ
ون } ما أنتم عليه من عبادة
األوثان واألصنام ،التي صورت على صور قوم صالحين ،فعبدوها مع اهلل ،فاستمر على ذلك،
يدعوهم سرا وجهارا ،وليال ونهارا ،ألف سنة إال خمسين عاما ،وهم ال يزدادون إال عتوا ونفورا.
{ فَقَا َل اْل َمأل } من قومه األشراف والسادة المتبوعون -على وجه المعارضة لنبيهم نوح،
َن َيتَفَ َّ
ض َل َعلَْي ُك ْم } أي :ما هذا إال بشر والتحذير من اتباعه َ { :-ما َه َذا ِإال َب َشٌر ِمثْلُ ُك ْم ُي ِر ُ
يد أ ْ
مثلكم ،قصده حين ادعى النبوة أن يزيد عليكم فضيلة ،ليكون متبوعا ،وإ ال فما الذي يفضله عليكم،
وهو من جنسكم؟ وهذه المعارضة ال زالت موجودة في مكذبي الرسل ،وقد أجاب اهلل عنها
بجواب شاف ،على ألسنة رسله كما في قوله { :قالوا } أي :لرسلهم { ِإ ْن أ َْنتُ ْم ِإال َب َشٌر ِمثْلَُنا
ت لَهُ ْم ُر ُسلُهُ ْم ِإ ْن َن ْح ُن ِإال َب َشٌر ان ُمبِ ٍ
ين * قَالَ ْ طٍ ونا بِ ُسْل َ
اؤَنا فَأْتُ َ
ان َي ْعُب ُد َآب ُ ص ُّد َ
ونا َع َّما َك َ َن تَ ُون أ ْ
يد َ تُِر ُ
اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه } فأخبروا أن هذا فضل اهلل ومنته فليس لكم أن ِ َّ ِ
م ْثلُ ُك ْم َولَك َّن اللهَ َي ُم ُّن َعلَى َم ْن َي َش ُ
تحجروا على اهلل وتمنعوه من إيصال فضله علينا
وقالوا هنا { ولو شاء اهلل ألنزل مالئكة } وهذه أيضا معارضة بالمشيئة باطلة فإنه وإ ن كان لو
شاء ألنزل مالئكة فإنه حكيم رحيم حكمته ورحمته تقتضي أن يكون الرسول من جنس اآلدميين
ألن الملك ال قدرة لهم على مخاطبته وال يمكن أن يكون إال بصورة رجل ثم يعود اللبس عليهم
كما كان
ين } وأي حجة في عدم سماعهم وقولهم { َما َس ِم ْعَنا بِهَ َذا } أي بإرسال الرسول { ِفي َآبائَِنا َّ
األوِل َ
إرسال رسول في آبائهم األولين؟ ألنهم لم يحيطوا علما بما تقدم فال يجعلوا جهلهم حجة لهم وعلى
تقدير أنه لم يرسل فيهم رسوال فإما أن يكونوا على الهدى فال حاجة إلرسال الرسول إذ ذاك وإ ما
أن يكونوا على غيره فليحمدوا ربهم ويشكروه أن خصهم بنعمة لم تأت آباءهم وال شعروا بها وال
يجعلوا عدم اإلحسان على غيرهم سببا لكفرهم لإلحسان إليهم
َّصوا بِ ِه } أي انتظروا به { َحتَّى ِح ٍ
ين } إلى أن يأتيه ِ
{ ِإ ْن ُه َو ِإال َر ُج ٌل بِه ِجَّنةٌ } أي مجنون { فَتََرب ُ
الموت
وهذه الشبه التي أوردوها معارضة لنبوة نبيهم دالة على شدة كفرهم وعنادهم وعلى أنهم في غاية
الجهل والضالل فإنها ال تصلح للمعارضة بوجه من الوجوه كما ذكرنا بل هي في نفسها متناقضة
َّل َعلَْي ُك ْم } أثبتوا أن له عقال يكيدهم به
َن َيتَفَض َ متعارضة فقوله { َما َه َذا ِإال َب َشٌر ِم ْثلُ ُك ْم ُي ِر ُ
يد أ ْ
ليعلوهم ويسودهم ويحتاج -مع هذا -أن يحذر منه لئال يغتر به فكيف يلتئم مع قولهم { ِإ ْن ُه َو ِإال
َر ُج ٌل بِ ِه ِجَّنةٌ } وهل هذا إال من مشبه ضال منقلب عليه األمر قصده الدفع بأي طريق اتفق له
غير عالم بما يقول؟"
ويأبى اهلل إال أن يظهر خزي من عاداه وعادى رسله
ون } فاستنصر ربه ص ْرنِي بِ َما َك َّذُب ِ ال َر ِّ
ب ْان ُ فلما رأى نوح أنه ال يفيدهم دعاؤه إال فرارا { قَ َ
ِ ب ال تَ َذر علَى األر ِ ِ
ض م َن اْل َكاف ِر َ
ين ْ ْ َ عليهم غضبا هلل حيث ضيعوا أمره وكذبوا رسوله وقال { َر ِّ
وح
اد َانا ُن ٌ ك َوال َيِل ُدوا ِإال فَا ِج ًرا َكفَّ ًارا } قال تعالىَ { :ولَقَ ْد َن َ ضلُّوا ِعَب َ
اد َ ك ِإ ْن تَ َذر ُهم ي ِ
ْ ُْ َّارا * ِإَّن َ َدي ً
ِ
ون }َفلَن ْع َم اْل ُم ِج ُيب َ
ك } أي: اصَن ِع اْل ُفْل َ
َن ْ { فَأ َْو َح ْيَنا ِإلَْي ِه } عند استجابتنا له ،سببا ووسيلة للنجاة ،قبل وقوع أسبابه { ،أ ِ
َعُينَِنا َو َو ْحيَِنا } أي :بأمرنا لك ومعونتنا ،وأنت في حفظنا وكالءتنا بحيث نراك السفينة { بِأ ْ
ونسمعك.
اء أ َْم ُرَنا } بإرسال الطوفان الذي عذبوا به { َوفَ َار التَُّّن ُ
ور } أي :فارت األرض ،وتفجرت { فَِإ َذا َج َ
اسلُ ْك ِفيهَا ِم ْن ُك ٍّل َز ْو َج ْي ِن
عيونا ،حتى محل النار ،الذي لم تجر العادة إال ببعده عن الماء { ،فَ ْ
اثَْن ْي ِن } أي :أدخل في الفلك من كل جنس من الحيوانات ،ذكرا وأنثى ،تبقى مادة النسل لسائر
ك } أي :أدخلهم { ِإال َم ْن
َهلَ َ
الحيوانات ،التي اقتضت الحكمة الربانية إيجادها في األرضَ { ،وأ ْ
ظلَ ُموا } أي :ال تدعني أن أنجيهم ،فإن القضاء ين َ ِ ِ ِ َِّ سب َ ِ
ق َعلَْيه اْلقَ ْو ُل } كابنهَ { ،وال تُ َخاط ْبني في الذ َ ََ
والقدر ،قد حتم أنهم مغرقون.
( )1/550
[ ص ] 551
ك َعلَى اْل ُفْل ِك } أي :علوتم عليها ،واستقلت بكم في تيار األمواج،
ت َو َم ْن َم َع َ
ت أ َْن َ { فَِإ َذا ْ
استََو ْي َ
ولجج اليم ،فاحمدوا اهلل على النجاة والسالمة .فقل الحمد هلل الذي نجانا من القوم الظالمين ،وهذا
تعليم منه له ولمن معه ،أن يقولوا هذا شكرا له وحمدا على نجاتهم من القوم الظالمين في عملهم
وعذابهم.
ين } أي :وبقيت عليكم نعمة أخرى ،فادعوا اهلل ب أَنزْلنِي ُمنزال ُمَب َار ًكا َوأ َْن َ
ت َخ ْي ُر اْل ُمنزِل َ { َو ُق ْل َر ِّ
تاستََو ْ ِ
األم ُر َو ْ
فيها ،وهي أن ييسر اهلل لكم منزال مباركا ،فاستجاب اهلل دعاءه ،قال اهللَ { :وقُض َي ْ
الم ِمَّنا وبر َك ٍ
ط بِس ٍ ين } إلى أن قالِ { :ق َ َّ ِ ِ ِ
ك
ات َعلَْي َ َ ََ اهبِ ْ َ
وح ْ
يل َيا ُن ُ ي َو ِق َ
يل ُب ْع ًدا لْلقَ ْوِم الظالم َ َعلَى اْل ُجو ِد ِّ
ك } اآلية. ُمٍم ِم َّم ْن َم َع َ
َو َعلَى أ َ
ات } تدل على أن اهلل وحده المعبود ،وعلى أن رسوله ك } أي :في هذه القصة { آلي ٍ { ِإ َّن ِفي َذِل َ
َ
نوحا صادق ،وأن قومه كاذبون ،وعلى رحمة اهلل بعباده ،حيث حملهم في صلب أبيهم نوح ،في
الفلك لما غرق أهل األرض.
اها َآيةً فَهَ ْل ِم ْن ُم َّد ِك ٍر } ولهذا جمعها هنا ألنها
والفلك أيضا من آيات اهلل ،قال تعالىَ { :ولَقَ ْد تََر ْكَن َ
ِ
ين }تدل على عدة آيات ومطالبَ { .وإِ ْن ُكَّنا لَ ُم ْبتَل َ
( )1/551
اعُب ُدوا اللَّهَ َما لَ ُك ْم ِم ْن ِإلَ ٍه َن ْ ين ( )31فَأ َْر َسْلَنا ِفي ِه ْم َر ُسواًل ِم ْنهُ ْم أ ِ ثَُّم أ َْن َشأَْنا ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم قَ ْرًنا آ َ
َخ ِر َ
اه ْم ِفي اْل َحَي ِاة اء اآْل َ ِخ َر ِة َوأَتَْر ْفَن ُ
َغْيره أَفَاَل تَتَّقُون ( )32وقَا َل اْلمأَل ُ ِم ْن قَو ِم ِه الَِّذين َكفَروا و َك َّذبوا بِِلقَ ِ
َ ُ َ ُ ْ َ َ َ ُُ
ون (َ )33ولَئِ ْن أَ َ
ط ْعتُ ْم َب َش ًرا الد ْنيا ما َه َذا ِإاَّل ب َشر ِمثْلُ ُكم ي ْأ ُك ُل ِم َّما تَْأ ُكلُون ِم ْنه وي ْشر ِ
ب م َّما تَ ْش َرُب َ َ ُ ََ َ ُ َْ َ ٌ ُّ َ َ
ون ()35 اما أََّن ُك ْم ُم ْخ َر ُج َظً ون ( )34أََي ِع ُد ُك ْم أََّن ُك ْم ِإ َذا ِمتُّ ْم َو ُك ْنتُ ْم تَُر ًابا َو ِع َ ِ ِ
مثْلَ ُك ْم ِإَّن ُك ْم ِإ ًذا لَ َخاس ُر َ
ين ()37 وت َوَن ْحَيا َو َما َن ْح ُن بِ َم ْب ُعوثِ َ ون (ِ )36إ ْن ِهي ِإاَّل َحَياتَُنا ُّ
الد ْنَيا َن ُم ُ وع ُد َ
ات َه ْيه َ ِ
ات ل َما تُ َ َه ْيهَ َ َ
َ
ص ْرنِي بِ َما َك َّذُب ِ
ون ( ب ْان ُ ال َر ِّ ين ( )38قَ َ ِ َّ ِ ِ
ِإ ْن ُه َو ِإ َر ُج ٌل ا ْفتََرى َعلَى الله َكذًبا َو َما َن ْح ُن لَهُ بِ ُم ْؤ ِمن َ
اَّل
اء فَُب ْع ًدا ِلْلقَ ْوِم
اه ْم ُغثَ ً َّي َحةُ بِاْل َح ِّ
ق فَ َج َعْلَن ُ َخ َذتْهُ ُم الص ْ ين ( )40فَأ َ ِِ
صبِ ُح َّن َنادم َ
يل لَُي ْ )39قَا َل َع َّما َقِل ٍ
ين ()41 َّ ِ ِ
الظالم َ
اعُب ُدوا اللَّهَ َماَن ْ ين * فَأ َْر َسْلَنا ِفي ِه ْم َر ُسوال ِم ْنهُ ْم أ ِ آخ ِر َ { { } 41 - 31ثَُّم أ َْن َشأَْنا ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم قَ ْرًنا َ
اه ْم ِفي اء ِ
اآلخ َر ِة َوأَتَْر ْفَن ُ لَ ُكم ِم ْن ِإلَ ٍه َغْيره أَفَال تَتَّقُون * وقَا َل اْلمأل ِم ْن قَو ِم ِه الَِّذين َكفَروا و َك َّذبوا بِِلقَ ِ
َ ُ َ ُ ْ َ َ َ ُُ ْ
ون * َولَئِ ْن أَ َ
ط ْعتُ ْم َب َش ًرا الد ْنيا ما َه َذا ِإال ب َشر ِمثْلُ ُكم ي ْأ ُك ُل ِم َّما تَْأ ُكلُون ِم ْنه وي ْشر ِ
ب م َّما تَ ْش َرُب َ َ ُ ََ َ ُ َْ َ ٌ اْل َحَياة ُّ َ َ
ِ
ات
ون * َه ْيهَ َ اما أََّن ُك ْم ُم ْخ َر ُج َظً ون * أََي ِع ُد ُك ْم أََّن ُك ْم ِإ َذا ِمتُّ ْم َو ُك ْنتُ ْم تَُر ًابا َو ِع َ ِ ِ
مثْلَ ُك ْم ِإَّن ُك ْم ِإ ًذا لَ َخاس ُر َ
ين (ِ )1إ ْن ُه َو ِإال وت َوَن ْحَيا َو َما َن ْح ُن بِ َم ْب ُعوثِ َالد ْنَيا َن ُم ُ ون * ِإ ْن ِهي ِإال َحَياتَُنا ُّ وع ُد َ
َه ْيه َ ِ
ات ل َما تُ َ َ
َ
ِ
ون * قَا َل َع َّما َقل ٍ َّ
ص ْرنِي بِ َما َكذُب ِ ِ ِ ِ َّ
يل ب ْان ُ ال َر ِّين * قَ َ َر ُج ٌل ا ْفتََرى َعلَى الله َكذًبا َو َما َن ْح ُن لَهُ بِ ُم ْؤ ِمن َ
َّ ِ ِ ِ َّي َحةُ بِاْل َح ِّ ِِ
ين } . اء فَُب ْع ًدا لْلقَ ْوِم الظالم َ اه ْم ُغثَ ً
ق فَ َج َعْلَن ُ َخ َذتْهُ ُم الص ْ ين * فَأ َ صبِ ُح َّن َنادم َ لَُي ْ
ين } الظاهر أنهم " ثمود لما ذكر نوحا وقومه ،وكيف أهلكهم قال { :ثَُّم أ َْن َشأَْنا ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم قَ ْرًنا َ
آخ ِر َ
" قوم صالح عليه السالم ،ألن هذه القصة تشبه قصتهم.
{ فَأ َْر َسْلَنا ِفي ِه ْم َر ُسوال ِم ْنهُ ْم } من جنسهم ،يعرفون نسبه وحسبه وصدقه ،ليكون ذلك أسرع
اعُب ُدواَن ْ النقيادهم ،إذا كان منهم ،وأبعد عن اشمئزازهم ،فدعا إلى ما دعت إليه الرسل أممهم { أ ِ
اللَّهَ َما لَ ُك ْم ِم ْن ِإلَ ٍه َغ ْي ُرهُ } فكلهم اتفقوا على هذه الدعوة ،وهي أول دعوة يدعون بها أممهم ،األمر
بعبادة اهلل ،واإلخبار أنه المستحق لذلك ،والنهي عن عبادة ما سواه ،واإلخبار ببطالن ذلك
ون } ربكم ،فتجتنبوا هذه األوثان واألصنام. وفساده ،ولهذا قال { :أَفَال تَتَّقُ َ
الد ْنَيا } أي :قال اه ْم ِفي اْل َحَي ِاة ُّ اء ِ
اآلخ َر ِة َوأَتَْر ْفَن ُ { وقَا َل اْلمأل ِم ْن قَو ِم ِه الَِّذين َكفَروا و َك َّذبوا بِِلقَ ِ
َ ُ َ ُ ْ َ َ
الرؤساء الذين جمعوا بين الكفر والمعاندة ،وأطغاهم ترفهم في الحياة الدنيا ،معارضة لنبيهم،
ب وتكذيبا وتحذيرا منه { :ما َه َذا ِإال ب َشر ِمثْلُ ُكم } أي :من جنسكم { ي ْأ ُك ُل ِم َّما تَْأ ُكلُ ِ
ون م ْنهُ َوَي ْش َر ُ
َ َ ْ َ ٌ َ
ون } فما الذي يفضله عليكم؟ فهال كان ملكا ال يأكل الطعام ،وال يشرب الشراب ، ِ
م َّما تَ ْش َرُب َ
ِ ِ { َولَئِ ْن أَ َ
ون } أي :إن تبعتموه وجعلتموه لكم رئيسا ،وهو مثلكم ط ْعتُ ْم َب َش ًرا مثْلَ ُك ْم ِإَّن ُك ْم ِإ ًذا لَ َخاس ُر َ
إنكم لمسلوبو العقل ،نادمون على ما فعلتم .وهذا من العجب ،فإن الخسارة والندامة حقيقة لمن لم
يتابعه ولم ينقد له .والجهل والسفه العظيم لمن تكبر عن االنقياد لبشر ،خصه اهلل بوحيه ،وفضله
برسالته ،وابتلي بعبادة الشجر والحجر.
الذ ْك ُر َعلَْي ِه ِم ْن
الل وسع ٍر أَؤْل ِقي ِّ
اح ًدا َنتَّبِعهُ ِإَّنا ِإ ًذا لَِفي َ ٍ
وهذا نظير قولهم { :قَالُوا أَب َشرا ِمَّنا و ِ
ض َ ُُ ُ َ ُ َ َ ً
َشٌر } فلما أنكروا رسالته وردوها ،أنكروا ما جاء به من البعث بعد الموت، اب أ ِ
َب ْينَِنا َب ْل ُه َو َك َّذ ٌ
اما أََّن ُك ْم ُم ْخ َر ُج َ
ون * ظً والمجازاة على األعمال فقالوا { :أََي ِع ُد ُك ْم أََّن ُك ْم ِإ َذا ِمتُّ ْم َو ُك ْنتُ ْم تَُر ًابا َو ِع َ
ون } أي بعيد بعيد ما يعدكم به من البعث بعد أن تمزقتم وكنتم ترابا ات َه ْيه َ ِ
وع ُد َ
ات ل َما تُ ََه ْيهَ َ َ
وعظاما فنظروا نظرا قاصرا ورأوا هذا بالنسبة إلى قدرهم غير ممكن فقاسوا قدرة الخالق
بقدرهم تعالى اهلل فأنكروا قدرته على إحياء الموتى وعجزوه غاية التعجيز ونسوا خلقهم أول مرة
وأن الذي أنشأهم من العدم فإعادته لهم بعد البلى أهون عليه وكالهما هين لديه فلم ال ينكرون أول
خلقهم ويكابرون المحسوسات ويقولون إننا لم نزل موجودين حتى يسلم لهم إنكارهم للبعث
وينتقلوا معهم إلى االحتجاج على إثبات وجود الخالق العظيم؟
وهنا دليل آخر وهو أن الذي أحيا األرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى إنه على كل شيء
اء ُه ْم ُم ْن ِذٌر ِم ْنهُ ْم
َن َج َ قدير وثم دليل آخر وهو ما أجاب به المنكرين للبعث في قوله { َب ْل َع ِجُبوا أ ْ
يد } فقال في جوابهم { قَ ْد َعِل ْمَنا ك َر ْجعٌ َب ِع ٌ يب أَئِ َذا ِمتَْنا َو ُكَّنا تَُر ًابا َذِل َ
ون َه َذا َش ْي ٌء َع ِج ٌ فَقَ َ ِ
ال اْل َكاف ُر َ
اب َح ِفيظٌ } ض ِم ْنهُ ْم } أي في البلى { َو ِع ْن َدَنا ِكتَ ٌ األر ُص ْ َما تَْنقُ ُ
ين }وت َوَن ْحَيا } أي يموت أناس ويحيا أناس { َو َما َن ْح ُن بِ َم ْب ُعوثِ َ { ِإ ْن ِهي ِإال َحَياتَُنا ُّ
الد ْنَيا َن ُم ُ َ
{ ِإ ْن ُه َو ِإال َر ُج ٌل بِ ِه ِجَّنةٌ } فلهذا أتى بما أتى به من توحيد اهلل [ ص ] 552وإ ثبات المعاد
ين } أي ارفعوا عنه العقوبة بالقتل وغيره احتراما له وألنه مجنون غير َّصوا بِ ِه َحتَّى ِح ٍ { فَتََرب ُ
مؤاخذ بما يتكلم به أي فلم يبق بزعمهم الباطل مجادلة معه لصحة ما جاء به فإنهم قد عرفوا
بطالنه وإ نما بقي الكالم هل يوقعون به أم ال؟ فبزعمهم أن عقولهم الرزينة اقتضت اإلبقاء عليه
وترك اإليقاع به مع قيام الموجب فهل فوق هذا العناد والكفر غاية؟" ولهذا لما اشتد كفرهم ولم
ون } أي بإهالكهم وخزيهم الدنيوي ص ْرنِي بِ َما َك َّذُب ِ
ب ْان ُ ينفع فيهم اإلنذار دعا عليهم نبيهم فقال { َر ِّ
َّي َحةُ بِاْل َح ِّ ِِ قبل اآلخرة { قَا َل } اهلل مجيبا لدعوته { َع َّما َقِل ٍ
ق } ال َخ َذتْهُ ُم الص ْ صبِ ُح َّن َنادم َ
ين فَأ َ يل لَُي ْ
بالظلم والجور بل بالعدل وظلمهم أخذتهم الصيحة فأهلكتهم عن آخرهم
اء } أي هشيما يبسا بمنزلة غثاء السيل الملقى في جنبات الوادي وقال في اآلية اه ْم ُغثَ ً
{ فَ َج َعْلَن ُ
اح َدةً فَ َك ُانوا َكهَ ِش ِيم اْل ُم ْحتَ ِظ ِر }
األخرى { ِإَّنا أَرسْلَنا علَْي ِهم ص ْيحةً و ِ
ْ َ َ ْ َ َ َ
ت َعلَْي ِه ُم َّ ِ ِ ِ
ين } أي أتبعوا مع عذابهم البعد واللعنة والذم من العالمين { فَ َما َب َك ْ { فَُب ْع ًدا لْلقَ ْوِم الظالم َ
ظ ِر َ
ين } ض َو َما َك ُانوا ُم ْن َ األر ُ
اء َو ْ َّم ُالس َ
__________
( )1كتب الشيخ هذه اآلية فقال( :إن هو إال رجل به جنة فتربصوا به حتى حين) وهذا سبق قلم
منه -رحمه اهلل ، -وسيفسرها فيما يلي على نحو مما أثبت .وقد تركت تفسيره لآليات كما هو.
( )1/551
َخ ِر َ
ين ()42 ثَُّم أ َْن َشأَْنا ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم قُُر ً
ونا آ َ
آخ ِر َ
ين } . { { } 44 - 42ثَُّم أ َْن َشأَْنا ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم قُُر ً
ونا َ
أي :ثم أنشأنا من بعد هؤالء المكذبين المعاندين قرونا آخرين.
( )1/552
( )1/552
ين * ِإلَى ِف ْر َع ْو َن َو َملَئِ ِهان ُمبِ ٍ طٍ ون بِ َآياتَِنا َو ُسْل ََخاهُ َه ُار َ وسى َوأ َ { { } 49 - 45ثَُّم أ َْر َسْلَنا ُم َ
ون * فَ َك َّذُب ُ ِِ ِ ِ
وه َما ين * فَقَالُوا أَُن ْؤ ِم ُن لَب َش َر ْي ِن مثْلَنا َوقَ ْو ُمهُ َما لََنا َعابِ ُد َاستَ ْكَب ُروا َو َك ُانوا قَ ْو ًما َعال َ
فَ ْ
ون } . َّ ِ ِ ِ
اب لَ َعلهُ ْم َي ْهتَ ُد َ
وسى اْلكتَ َ
ين * َولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ
فَ َك ُانوا م َن اْل ُم ْهلَك َ
علي منذ زمان طويل كالم لبعض العلماء ال يحضرني اآلن اسمه ،وهو أنه بعد بعث موسى مر َّ
ونزول التوراة ،رفع اهلل العذاب عن األمم ،أي :عذاب االستئصال ،وشرع للمكذبين المعاندين
الجهاد ،ولم أدر من أين أخذه ،فلما تدبرت هذه اآليات ،مع اآليات التي في سورة القصص ،تبين
لي وجهه ،أما هذه اآليات ،فألن اهلل ذكر األمم المهلكة المتتابعة على الهالك ،ثم أخبر أنه أرسل
موسى بعدهم ،وأنزل عليه التوراة فيها الهداية للناس ،وال يرد على هذا ،إهالك فرعون ،فإنه قبل
نزول التوراة ،وأما اآليات التي في سورة القصص ،فهي صريحة جدا ،فإنه لما ذكر هالك
صائَِر ِل َّلن ِ
اس َو ُه ًدى ون األولَى َب َ اب ِم ْن َب ْع ِد َما أ ْ
َهلَ ْكَنا اْلقُُر َ
ِ
وسى اْلكتَ َ
فرعون قالَ { :ولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ
َّ
ون } فهذا صريح أنه آتاه الكتاب بعد هالك األمم الباغية ،وأخبر أنه أنزله َو َر ْح َمةً لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ
بصائر للناس وهدى ورحمة ،ولعل من هذا ،ما ذكر اهلل في سورة " يونس " من قولة { :ثم بعثنا
من بعده } أي :من بعد نوح { رسال إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به
من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين * ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون } اآليات واهلل أعلم
ون } حين سأل ربه أن يشركه َخاهُ َه ُار َ وسى } بن عمران كليم الرحمن { َوأ َ فقوله { ثَُّم أ َْر َسْلَنا ُم َ
في أمره فأجاب سؤله
ين } أي حجة بينة من قوتها أن ان ُمبِ ٍ طٍ { بِ َآياتَِنا } الدالة على صدقهما وصحة ما جاءا به { َو ُسْل َ
تقهر القلوب وتتسلط عليها لقوتها فتنقاد لها قلوب المؤمنين وتقوم الحجة البينة على المعاندين
ات } ولهذا رئيس المعاندين عرف الحق وعاند ات بيَِّن ٍٍ ِ
وسى ت ْس َع َآي َ وهذا كقوله { َولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ
وسىك َيا ُم َ ال له ِف ْر َع ْو ُن ِإِّني ألظُُّن َ اء ُه ْم } أي بتلك اآليات البينات { فَقَ َ ِ { فَاسأ ْ ِ
َل َبني ِإ ْس َرائي َل ِإ ْذ َج َ ْ
صائَِر
ض َب َ األر ِ ِ
َّم َاوات َو ْ ب الس َ الء ِإال َر ُّت ما أَنز َل َهؤ ِ
ُ
ِ
ورا } فـ { قال } موسى { قَا َل لَقَ ْد َعل ْم َ َ َم ْس ُح ً
وإِ ِّني ألظُُّن َ ِ
ورا } وقال تعالى { َو َج َح ُدوا بِهَا َو ْ
استَْيقََنتْهَا أ َْنفُ ُسهُ ْم ظُْل ًما َو ُعلًُّوا } وقال ك َيا ف ْر َع ْو ُن َمثُْب ً َ
ين * ِإلَى ِف ْر َع ْو َن َو َملَئِ ِه } كـ ان ُمبِ ٍ طٍ ون بِ َآياتَِنا َو ُسْل َ
َخاهُ َه ُار َوسى [ ص َ ] 553وأ َ هنا { ثَُّم أ َْر َسْلَنا ُم َ
استَ ْكَب ُروا } أي تكبروا عن اإليمان باهلل واستكبروا على أنبيائه " هامان " وغيره من رؤسائهم { فَ ْ
ين } أي وصفهم العلو والقهر والفساد في األرض فلهذا صدر منهم االستكبار ِ
{ َو َك ُانوا قَ ْو ًما َعال َ
ذلك غير مستكثر منهم
{ فَقَالُوا } كبرا وتيها وتحذيرا لضعفاء العقول وتمويها { أَُن ْؤ ِم ُن ِلَب َش َر ْي ِن ِمثِْلَنا } كما قاله من قبلهم
سواء بسواء تشابهت قلوبهم في الكفر فتشابهت أقوالهم وأفعالهم وجحدوا منة اهلل عليهما بالرسالة
ون } أي معبدون باألعمال واألشغال الشاقة كما قال تعالى { َوقَ ْو ُمهُ َما } أي بنو إسرائيل { لََنا َعابِ ُد َ
اب ي َذبِّحون أ َْبَناء ُكم ويستَ ْحي ِ ِ ِ ِ
اء ُك ْم َو ِفي
ون ن َس َ
َ ْ ََ ْ ُ َ وء اْل َع َذ ِ ُ ُ َ
ون ُك ْم ُس َ
وم َ
َّيَنا ُك ْم م ْن آل ف ْر َع ْو َن َي ُس ُ
{ َوإِ ْذ َنج ْ
ِ َذِل ُكم ب ِ
يم } الء م ْن َرِّب ُك ْم َعظ ٌ
َْ ٌ
فكيف نكون تابعين بعد أن كنا متبوعين؟" وكيف يكون هؤالء رؤساء علينا؟" ونظير قولهم قول
ِ ِ َِّ
ْي } منالرأ ِ
ي َّ ك ِإال الذ َ
ين ُه ْم أ ََراذلَُنا َباد َ ك اتََّب َع َ
ون } { َو َما َن َرا َ
األر َذلُ َك ْ ك َواتََّب َع َقوم نوح { أَُن ْؤ ِم ُن لَ َ
المعلوم أن هذا ال يصلح لدفع الحق وأنه تكذيب ومعاندة
ِ ِ
ين } في الغرق في البحر وبنو إسرائيل ينظرون ولهذا قال { فَ َك َّذُب ُ
وه َما فَ َك ُانوا م َن اْل ُم ْهلَك َ
وسى } بعدما أهلك اهلل فرعون وخلص الشعب اإلسرائيلي مع موسى وتمكن حينئذ { َولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ
من إقامة أمر اهلل فيهم وإ ظهار شعائره وعده اهلل أن ينزل عليه التوراة أربعين ليلة فذهب لميقات
صيال ِل ُك ِّل َش ْي ٍء } ولهذا قال ظةً وتَ ْف ِ ٍ ِ ربه قال اهلل تعالى { و َكتَْبَنا لَهُ ِفي األْلو ِ ِ ِّ
اح م ْن ُكل َش ْيء َم ْوع َ َ َ َ
ون } أي بمعرفة تفاصيل األمر والنهي والثواب والعقاب ويعرفون ربهم بأسمائه َّ
هنا { لَ َعلهُ ْم َي ْهتَ ُد َ
وصفاته
( )1/552
( )1/553
( )1/553
ين ُه ْم بَِرِّب ِه ْم َِّ ِ َِّ ِ ِ ِ َِّ
ين ُه ْم بِآََيات َرِّب ِه ْم ُي ْؤ ِمُن َ
ون (َ )58والذ َ ين ُه ْم م ْن َخ ْشَية َرِّب ِه ْم ُم ْشفقُ َ
ون (َ )57والذ َ ِإ َّن الذ َ
ون ()59 اَل ُي ْش ِر ُك َ
( )1/554
ون (َ )63حتَّى ِإ َذا أ َ
َخ ْذَنا ِ ون َذِل ََع َما ٌل ِم ْن ُد ِ وبهُ ْم ِفي َغ ْم َر ٍة ِم ْن َه َذا َولَهُ ْم أ ْ
ك ُه ْم لَهَا َعاملُ َ َب ْل ُقلُ ُ
ت آََياتِي ون ( )65قَ ْد َك َان ْ ص ُر َ
ِ
ون ( )64اَل تَ ْجأ َُروا اْلَي ْو َم ِإَّن ُك ْم مَّنا اَل تُْن َ اب ِإ َذا ُه ْم َي ْجأ َُر َمتْر ِفي ِهم بِاْل َع َذ ِ
َُ ْ
َعقَابِ ُكم تَْن ِكصون ( )66مستَ ْكبِ ِر ِ ِ
ون ( )67أَ َفلَ ْم َي َّدب َُّروا ين بِه َسام ًرا تَ ْه ُج ُر َ َ ُْ ُ َ تُْتلَى َعلَْي ُك ْم فَ ُك ْنتُ ْم َعلَى أ ْ ْ
ِ ِ
ون ( )69أ َْم ين ( )68أ َْم لَ ْم َي ْع ِرفُوا َر ُسولَهُ ْم فَهُ ْم لَهُ ُم ْنك ُر َ اء ُه ُم اأْل ََّوِل َ
اء ُه ْم َما لَ ْم َيأْت آََب َاْلقَ ْو َل أ َْم َج َ
اء ُه ْم لَفَ َس َد ِت َه َو َ
قأْ ون ( )70ولَ ِو اتََّب َع اْل َح ُّ
َ ق َك ِار ُه َ ق َوأَ ْكثَُر ُه ْم ِلْل َح ِّاء ُه ْم بِاْل َح ِّ ِ
ون بِه ِجَّنةٌ َب ْل َج َ َيقُولُ َ
ِ ات واأْل َرض وم ْن ِفي ِه َّن ب ْل أَتَْيَن ُ ِ
ون ()71 ض َ اه ْم بِذ ْك ِر ِه ْم فَهُ ْم َع ْن ذ ْك ِر ِه ْم ُم ْع ِر ُ َ َّم َو ُ َ ْ ُ َ َ الس َ
( )1/554
الر ِاز ِق َ
ين ()72 ِّك َخ ْيٌر َو ُه َو َخ ْي ُر َّ
اج َرب َ
أ َْم تَ ْسأَلُهُ ْم َخ ْر ًجا فَ َخ َر ُ
الر ِاز ِق َ
ين } . اج َرِّب َ
ك َخ ْيٌر َو ُه َو َخ ْي ُر َّ { { } 72أ َْم تَ ْسأَلُهُ ْم َخ ْر ًجا فَ َخ َر ُ
ِ
أي :أو منعهم من اتباعك يا محمد ،أنك تسألهم على اإلجابة أجرا } فَهُ ْم م ْن َم ْغ َرٍم ُمثَْقلُ َ
ون
اج َرِّب َ
ك { يتكلفون من اتباعك ،بسبب ما تأخذ منهم من األجر والخراج ،ليس األمر كذلك } فَ َخ َر ُ
ين { وهذا كما قال األنبياء ألممهم } :يا قوم ال أسألكم عليه أجرا إن أجريالر ِاز ِق َ
َخ ْيٌر َو ُه َو َخ ْي ُر َّ
إال على اهلل { أي :ليسوا يدعون الخلق طمعا فيما يصيبهم منهم من األموال ،وإ نما يدعون نصحا
لهم ،وتحصيال لمصالحهم ،بل كان الرسل أنصح للخلق من أنفسهم ،فجزاهم اهلل عن أممهم خير
الجزاء ،ورزقنا االقتداء بهم في جميع األحوال.
( )1/556
اط مستَِق ٍيم ( )73وإِ َّن الَِّذين اَل يؤ ِمُنون بِاآْل َ ِخر ِة ع ِن الص ِ ِ
ِ ٍ
ون (
ِّراط لََناكُب َ
َ َ َ َ ُْ َ َ وه ْم ِإلَى ص َر ُ ْ َوإِ َّن َ
ك لَتَ ْد ُع ُ
)74
اآلخر ِة ع ِن الصِّر ِ
ِ َِّ ٍِ ِ ٍ
اط َ ون بِ َ َ ين ال ُي ْؤ ِمُن َ
وه ْم ِإلَى ص َراط ُم ْستَقيم * َوإِ َّن الذ َ { َ { } 74 - 73وإِ َّن َ
ك لَتَ ْد ُع ُ
ون } . ِ
لََناكُب َ
ذكر اهلل تعالى في هذه اآليات الكريمات ،كل سبب موجب لإليمان ،وذكر الموانع ،وبين فسادها،
واحدا بعد واحد ،فذكر من الموانع أن قلوبهم في غمرة ،وأنهم لم يدبروا القول ،وأنهم اقتدوا
بآبائهم ،وأنهم قالوا :برسولهم جنة ،كما تقدم الكالم عليها ،وذكر من األمور الموجبة إليمانهم،
تدبر القرآن ،وتلقي نعمة اهلل بالقبول ،ومعرفة حال الرسول محمد صلى اهلل عليه وسلم ،وكمال
صدقه وأمانته ،وأنه ال يسألهم عليه أجرا ،وإ نما سعيه لنفعهم ومصلحتهم ،وأن الذي يدعوهم إليه
صراط مستقيم ،سهل على العاملين الستقامته ،موصل إلى المقصود ،من قرب حنيفية سمحة،
حنيفية في التوحيد ،سمحة في العمل ،فدعوتك إياهم إلى الصراط المستقيم ،موجب لمن يريد
الحق أن يتبعك ،ألنه مما تشهد العقول والفطر بحسنه ،وموافقته للمصالح ،فأين يذهبون إن لم
ون } يتابعوك؟ فإنهم ليس عندهم ما يغنيهم ويكفيهم عن متابعتك ،ألنهم { ع ِن الص ِ ِ
ِّراط لََناكُب َ
َ َ
متجنبون منحرفون ،عن الطريق الموصل إلى اهلل ،وإ لى دار كرامته ،ليس في أيديهم إال ضالالت
وجهاالت.
وهكذا كل من خالف الحق ،ال بد أن يكون منحرفا في جميع أموره ،قال تعالى { :فَِإ ْن لَ ْم َي ْستَ ِج ُيبوا
َض ُّل ِم َّم َن اتََّب َع َه َواهُ بِ َغ ْي ِر ُه ًدى ِم َن اللَّ ِه } .
اء ُه ْم َو َم ْن أ َ
َه َو َ اعلَ ْم أََّن َما َيتَّبِ ُع َ
ون أ ْ ك فَ ْ
لَ َ
( )1/556
( )1/556
ون * َو ُه َو الَِّذي ِ ِ
ص َار َواأل ْفئ َدةَ َقليال َما تَ ْش ُك ُر َ
األب َ
َّم َع َو ْ َِّ
{ َ { } 80 - 78و ُه َو الذي أ َْن َشأَ لَ ُك ُم الس ْ
الف اللَّْي ِل َو َّ
النهَ ِار أَفَال اختِ ُ يت َولَهُ ْ ون * َو ُه َو الَِّذي ُي ْحيِي َوُي ِم ُ ِ
ض َوإِلَْيه تُ ْح َش ُر َاألر ِ ِ
َذ َرأَ ُك ْم في ْ
ون } . ِ
تَ ْعقلُ َ
يخبر تعالى بمننه على عباده الداعية ( )1لهم إلى شكره ،والقيام بحقه فقالَ { :و ُه َو الَِّذي أ َْن َشأَ لَ ُك ُم
ص َار }
األب َ
َّم َع } [ ص ] 557لتدركوا به المسموعات ،فتنتفعوا في دينكم ودنياكمَ { ،و ْ الس ْ
لتدركوا بها المبصرات ،فتنتفعوا بها ( )2في مصالحكم.
{ َواأل ْفئِ َدةَ } أي :العقول التي تدركون بها األشياء ،وتتميزون بها عن البهائم ،فلو عدمتم السمع،
واألبصار ،والعقول ،بأن كنتم صما عميا بكما ماذا تكون حالكم؟ وماذا تفقدون من ضرورياتكم
وكمالكم؟ أفال تشكرون الذي من عليكم بهذه النعم ،فتقومون بتوحيده وطاعته؟ .ولكنكم ،قليل
شكركم ،مع توالي النعم عليكم.
ض } أي :بثكم في أقطارها ،وجهاتها ،وسلطكم على األر ِ ِ َِّ
{ َو ُه َو } تعالى { الذي َذ َرأَ ُك ْم في ْ
ون } بعد موتكم، ِ
استخراج مصالحها ومنافعها ،وجعلها كافية لمعايشكم ومساكنكمَ { ،وإِلَْيه تُ ْح َش ُر َ
فيجازيكم بما عملتم في األرض ،من خير وشر ،وتحدث األرض التي كنتم فيها بأخبارها { َو ُه َو }
تعالى وحده { الَِّذي ُي ْحيِي َوُي ِم ُ
يت } أي :المتصرف في الحياة والموت ،هو اهلل وحدهَ { ،ولَهُ
الف اللَّْي ِل َو َّ
النهَ ِار } أي :تعاقبهما وتناوبهما ،فلو شاء أن يجعل النهار سرمدا ،من إله غير اهلل اختِ ُ
ْ
يأتيكم بليل تسكنون فيه؟ ولو شاء أن يجعل الليل سرمدا ،من إله غير اهلل يأتيكم بضياء أفال
تبصرون؟( .ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم
تشكرون).
ون } فتعرفون أن الذي وهب لكم من النعم ،السمع ،واألبصار، ِ
ولهذا قال هنا { :أَفَال تَ ْعقلُ َ
واألفئدة ،والذي نشركم في األرض وحده ،والذي يحيي ويميت وحده ،والذي يتصرف بالليل
والنهار وحده ،أن ذلك موجب لكم ،أن تخلصوا له العبادة وحده ال شريك له ،وتتركوا عبادة من ال
ينفع وال يضر ،وال يتصرف بشيء ،بل هو عاجز من كل وجه ،فلو كان لكم عقل لم تفعلوا ذلك.
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :الداعي.
( )2كذا في ب ،وفي أ :لتدركوا به المبصرات ،فتنتفعون به.
( )1/556
ظ ِ ِ ِ ِ ِ
اما أَئَّنا لَ َم ْب ُعوثُ َ
ون ( )82لَقَ ْد ون ( )81قَالُوا أَئ َذا متَْنا َو ُكَّنا تَُر ًابا َوع َ ً َب ْل قَالُوا مثْ َل َما قَا َل اأْل ََّولُ َ
و ِع ْدَنا َن ْحن وآَباؤَنا َه َذا ِم ْن قَْب ُل ِإ ْن َه َذا ِإاَّل أ ِ
ين ()83 َساط ُير اأْل ََّوِل ََ ُ َ َُ ُ
( )1/557
ُق ْل ِلم ِن اأْل َرض وم ْن ِفيها ِإ ْن ُك ْنتُم تَعلَمون ( )84سيقُولُ َِّ ِ
بون (ُ )85ق ْل َم ْن َر ُّ ون لله ُق ْل أَفَاَل تَ َذ َّك ُر َ َ ََ ْ ْ ُ َ َ ْ ُ ََ َ
ون (ُ )87ق ْل َم ْن بَِي ِد ِه َملَ ُك ُ
وت ش اْلع ِظ ِيم ( )86سيقُولُ َِّ ِ
ون لله ُق ْل أَفَاَل تَتَّقُ َ َ ََ ب اْل َع ْر ِ َ
السَّماو ِ
ات الس َّْب ِع َو َر ُّ ََ
ُك ِّل َشي ٍء و ُهو ي ِجير واَل يجار علَْي ِه ِإ ْن ُك ْنتُم تَعلَمون ( )88سيقُولُ َِّ ِ
ون ()89 ون لله ُق ْل فَأََّنى تُ ْس َح ُر َ َ ََ ْ ْ ُ َ ْ َ َ ُ ُ َ َُ ُ َ
( )1/557
( )1/558
َّ ِ ِ ِ ِ
َن ُن ِرَي َ
ك ب فَاَل تَ ْج َعْلني في اْلقَ ْوِم الظالم َ
ين (َ )94وإِ َّنا َعلَى أ ْ ون (َ )93ر ِّ ب ِإ َّما تُِرَيِّني َما ُي َ
وع ُد َ ُق ْل َر ِّ
ون ()95 ِ ِ
َما َنع ُد ُه ْم لَقَاد ُر َ
َّ ِ ِ ِ ِ
ب فَال تَ ْج َعْلني في اْلقَ ْوِم الظالم َ
ين * َوإِ َّنا ون * َر ِّ ب ِإ َّما تُِرَيِّني َما ُي َ
وع ُد َ { ُ { } 95 - 93ق ْل َر ِّ
ون } . ِ ِ َن ُن ِرَي َ
ك َما َنع ُد ُه ْم لَقَاد ُر َ َعلَى أ ْ
لما أقام تعالى على المكذبين أدلته العظيمة ،فلم يلتفتوا لها ،ولم يذعنوا لها ،حق عليهم العذاب،
ون } أي :أي وقت ب ِإ َّما تُِرَيِّني َما ُي َ
وع ُد َ ووعدوا بنزوله ،وأرشد اهلل رسوله أن يقولُ { :ق ْل َر ِّ
َّ ِ ِ ِ ِ
ين } أي :اعصمني ب فَال تَ ْج َعْلني في اْلقَ ْوِم الظالم َ أريتني عذابهم ،وأحضرتني ذلك { َر ِّ
وارحمني ،مما ابتليتهم به من الذنوب الموجبة للنقم ،واحمني أيضا من العذاب الذي ينزل بهم،
ألن العقوبة العامة تعم -عند نزولها -العاصي وغيره ،قال اهلل في تقريب عذابهمَ { :وإِ َّنا َعلَى
ون } ولكن إن أخرناه فلحكمة ،وإ ال فقدرتنا صالحة إليقاعه فيهم. ِ ِ َن ُن ِرَي َ
ك َما َنع ُد ُه ْم لَقَاد ُر َ أْ
( )1/558
َج ُرهُ
َصلَ َح فَأ ْ
ويقهر بذلك عدوه الشيطان ،وليستوجب الثواب من الرب ،قال تعالى { :فَ َم ْن َعفَا َوأ ْ
ِ َح َس ُن فَِإ َذا الَِّذي َب ْيَن َ
َعلَى اللَّ ِه } وقال تعالىْ { :ادفَ ْع بِالَّتِي ِه َي أ ْ
يم *ك َوَب ْيَنهُ َع َد َاوةٌ َكأََّنهُ َوِل ٌّي َحم ٌ
وما يلَقَّاها } أي ما يوفق لهذا الخلق الجميل { ِإال الَِّذين صبروا وما يلَقَّاها ِإال ُذو ح ٍّ
ظ َع ِظ ٍيم } َ َ َ َُ َ َ ُ َ ََ ُ َ
[ ص ] 559
ِ
َعلَ ُم بِ َما َيصفُ َ
ون } أي بما يقولون من األقوال المتضمنة للكفر والتكذيب بالحق قد وقوله { َن ْح ُن أ ْ
أحاط علمنا بذلك وقد حلمنا عنهم وأمهلناهم وصبرنا عليهم والحق لنا وتكذيبهم لنا فأنت -يا
محمد -ينبغي لك أن تصبر على ما يقولون وتقابلهم باإلحسان هذه وظيفة العبد في مقابلة المسيء
من البشر وأما المسيء من الشياطين فإنه ال يفيد فيه اإلحسان وال يدعو حزبه إال ليكونوا من
َعو ُذ
بأُ أصحاب السعير فالوظيفة في مقابلته أن يسترشد بما أرشد اهلل إليه رسوله فقال { َو ُق ْل َر ِّ
الشي ِ ِ ِ
َعو ُذ بِ َ
ك ين * َوأ ُ اط ِ ك } أي اعتصم بحولك وقوتك متبرئا من حولي وقوتي { م ْن َه َم َزات َّ َ بِ َ
ون } أي أعوذ بك من الشر الذي يصيبني بسبب مباشرتهم وهمزهم ومسهم ومن ض ُر ِ
َن َي ْح ُ َر ِّ
ب أْ
الشر الذي بسبب حضورهم ووسوستهم وهذه استعاذة من مادة الشر كله وأصله ويدخل فيها
االستعاذة من جميع نزغات الشيطان ومن مسه ووسوسته فإذا أعاذ اهلل عبده من هذا الشر وأجاب
دعاءه سلم من كل شر ووفق لكل خير
( )1/558
( )1/559
ت
ون * فَ َم ْن ثَُقلَ ْ ٍِ { { } 114 - 101فَِإ َذا ُن ِف َخ ِفي الص ِ
اءلُ َ اب َب ْيَنهُ ْم َي ْو َمئذ َوال َيتَ َس َ
ُّور فَال أ َْن َس َ
ِ ِ ِ ت مو ِاز ُينه فَأُولَئِ َ َِّ َّ ِ َم َو ِاز ُينهُ فَأُولَئِ َ
ين َخس ُروا أ َْنفُ َسهُ ْم في َجهََّن َم َخال ُد َ
ون ك الذ َ ُ ون * َو َم ْن َخف ْ َ َك ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ
ون } . ِ ِ وههُ ُم َّ
الن ُار َو ُه ْم فيهَا َكال ُح َ * تَْلفَ ُح ُو ُج َ
يخبر تعالى عن هول يوم القيامة ،وما في ذلك اليوم ،من المزعجات والمقلقات ،وأنه إذا نفخ في
الصور نفخة البعث ،فحشر الناس أجمعون ،لميقات يوم معلوم ،أنه يصيبهم من الهول ما ينسيهم
أنسابهم ،التي هي أقوى األسباب ،فغير األنساب من باب أولى ،وأنه ال يسأل أحد أحدا عن حاله،
الشتغاله بنفسه ،فال يدري هل ينجو نجاة ال شقاوة بعدها؟ أو يشقى شقاوة ال سعادة بعدها؟ قال
ئ ِم ْنهُ ْم َي ْو َمئٍِذ َشأ ٌ
ْن ام ِر ٍ يه * و َ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِّ
صاحَبته َوَبنيه * ل ُكل ْ َ
ُم ِه وأَبِ ِ ِ ِ ِ ِ
تعالىَ { :ي ْو َم َيف ُّر اْل َم ْر ُء م ْن أَخيه * َوأ ِّ َ
يه } (. )1 ي ْغنِ ِ
ُ
وفي القيامة مواضع ،يشتد كربها ،ويعظم وقعها ،كالميزان الذي يميز به أعمال العبد ،وينظر فيه
ت َم َو ِاز ُينهُ } بأن
بالعدل ما له وما عليه ،وتبين فيه مثاقيل الذر ،من الخير والشر { ،فَ َم ْن ثَُقلَ ْ
ون } لنجاتهم من النار ،واستحقاقهم الجنة، ِ رجحت حسناته على سيئاته { فَأُولَئِ َ
ك ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ
وفوزهم بالثناء الجميل َ { ،و َم ْن َخفَّ ْ
ت َم َو ِاز ُينهُ } بأن رجحت سيئاته على حسناته ،وأحاطت بها
ين َخ ِس ُروا أ َْنفُ َسهُ ْم } كل خسارة ،غير هذه الخسارة ،فإنها -بالنسبة إليها- خطيئاته { فَأُولَئِ َ َِّ
ك الذ َ
سهلة ،ولكن هذه خسارة صعبة ،ال يجبر مصابها ،وال يستدرك فائتها ،خسارة أبدية ،وشقاوة
سرمدية ،قد خسر نفسه الشريفة ،التي يتمكن بها من السعادة األبدية ففوتها هذا النعيم المقيم ،في
جوار الرب الكريم.
ِ ِ
{ في َجهََّن َم َخال ُد َ
ون } ال يخرجون منها أبد اآلبدين ،وهذا الوعيد ،إنما هو كما ذكرنا ،لمن أحاطت
خطيئاته بحسناته ،وال يكون ذلك إال كافرا ،فعلى هذا ،ال يحاسب محاسبة من توزن حسناته
وسيئاته ،فإنهم ال حسنات لهم ،ولكن تعد أعمالهم وتحصى ،فيوقفون عليها ،ويقررون بها،
ويخزون بها ،وأما من معه أصل اإليمان ،ولكن عظمت سيئاته ،فرجحت على حسناته ،فإنه وإ ن
دخل النار ،ال يخلد فيها ،كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.
الن ُار } أي :تغشاهم من وههُ ُم َّ
ثم ذكر تعالى ،سوء مصير الكافرين [ ص ] 560فقال { :تَْلفَ ُح ُو ُج َ
ون ِ ِ
جميع جوانبهم ،حتى تصيب أعضاءهم الشريفة ،ويتقطع لهبها عن وجوههمَ { ،و ُه ْم فيهَا َكال ُح َ
} قد عبست وجوههم ،وقلصت شفاههم ،من شدة ما هم فيه ،وعظيم ما يلقونه.
__________
( )1في النسختين وقع تداخل بين آيات سورة عبس وآيات سورة المعارج فكانت أقرب إلى آيات
سورة عبس فأثبتها منها
( )1/559
( )1/560
( )1/560
ِ ِ ِ ِ ِ ِ َو َم ْن َي ْدعُ َم َع اللَّ ِه ِإلَهًا آ َ
ان لَهُ بِه فَِإَّن َما ح َس ُابهُ ع ْن َد َربِّه ِإَّنهُ اَل ُي ْفل ُح اْل َكاف ُر َ
ون (َ )117و ُق ْل َخ َر اَل ُب ْر َه َ
ين ()118 ت َخ ْير َّ ِ ِ ب ِْ َر ِّ
الراحم َ اغف ْر َو ْار َح ْم َوأ َْن َ ُ
( )1/560
( )1/561
( )1/561
( )1/561
ِ اجِل ُد ُ ِ ِ َِّ
ادةً
ين َجْل َدةً َواَل تَ ْقَبلُوا لَهُ ْم َشهَ َ
وه ْم ثَ َمان َ اء فَ ْصَنات ثَُّم لَ ْم َيأْتُوا بِأ َْرَب َعة ُشهَ َد َ
ون اْل ُم ْح َ
ين َي ْر ُم َ
َوالذ َ
ِ َّ ين تَ ُابوا ِم ْن َب ْع ِد َذِل َ اَّل َِّ ِ أََب ًدا َوأُولَئِ َ
يم ()5 ور َرح ٌ َصلَ ُحوا فَِإ َّن اللهَ َغفُ ٌ ك َوأ ْ ون (ِ )4إ الذ َ ك ُه ُم اْلفَاسقُ َ
( )1/561
ات بِاللَّ ِه ِإَّنهُ لَ ِم َن
اد ٍ
َح ِد ِه ْم أ َْرَبعُ َشهَ َ اء ِإاَّل أ َْنفُ ُسهُ ْم فَ َشهَ َ
ادةُ أ َ اجهُ ْم َولَ ْم َي ُك ْن لَهُ ْم ُشهَ َد ُون أ َْز َو َ
ين َي ْر ُم َ
َِّ
َوالذ َ
ِ َن لَعَنةَ اللَّ ِه علَْي ِه ِإ ْن َك ِ ِ ِِ
َن تَ ْشهَ َداب أ ْ ين (َ )7وَي ْد َرأُ َع ْنهَا اْل َع َذ َ ان م َن اْل َكاذبِ َ َ َ ين (َ )6واْل َخام َسةُ أ َّ ْ الصَّادق َ
ِِ َن َغضب اللَّ ِه علَْيها ِإ ْن َك ِ ِ ِ ِ أَربع َشه َ ٍ َّ ِ
ين ( ان م َن الصَّادق َ َ َ َ ين (َ )8واْل َخام َسةَ أ َّ َ َ ادات بِالله ِإَّنهُ لَم َن اْل َكاذبِ َ ََْ َ
َن اللَّه تََّو ٌ ِ )9ولَواَل فَ ْ َّ ِ
يم ()10 اب َحك ٌ ض ُل الله َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُهُ َوأ َّ َ َ ْ
ادةُ أ ِ ِ َِّ
َحده ْم أ َْرَبعُاء ِإال أ َْنفُ ُسهُ ْم فَ َشهَ َ َ
اجهُ ْم َولَ ْم َي ُك ْن لَهُ ْم ُشهَ َد ُ
ون أ َْز َو َ
ين َي ْر ُم َ
{ َ { } 10 - 6والذ َ
ِ َن لَعَنةَ اللَّ ِه علَْي ِه ِإ ْن َك ِ ِ ِِ ِ َشه َ ٍ َّ ِ
ين * َوَي ْد َرأُ َعْنهَا ان م َن اْل َكاذبِ ََ َ ين * َواْل َخام َسةُ أ َّ ْ ادات بِالله ِإَّنهُ لَم َن الصَّادق َ َ
َن َغض َّ ِ ِ ِ ِ َن تَ ْشه َد أَربع َشه َ ٍ َّ ِ
ب الله َعلَْيهَا ِإ ْن َك َ
ان ين * َواْل َخام َسةَ أ َّ َ َ ادات بِالله ِإَّنهُ لَم َن اْل َكاذبِ َ اب أ ْ َ ْ َ َ َ اْل َع َذ َ
َن اللَّه تََّو ٌ ِ َّاد ِقين * ولَوال فَ ْ َّ ِ ِ ِ
يم } . اب َحك ٌ ض ُل الله َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُهُ َوأ َّ َ م َن الص َ َ ْ
وإ نما كانت شهادات الزوج على زوجته ،دارئة عنه الحد ،ألن الغالب ،أن الزوج ال يقدم على
رمي زوجته ،التي يدنسه ما يدنسها إال إذا كان صادقا ،وألن له في ذلك حقا ،وخوفا من إلحاق
اجهُ ْم } َِّ
ون أ َْز َو َين َي ْر ُم َأوالد ليسوا منه به ،ولغير ذلك من الحكم المفقودة في غيره فقالَ { :والذ َ
أي :الحرائر ( )1ال المملوكات.
اء ِإال أ َْنفُ ُسهُ ْم } بأن لم يقيموا شهداء ،على ما رموهم به {
{ َولَ ْم َي ُك ْن لَهُ ْم } على رميهم بذلك { ُشهَ َد ُ
ِِ ِ ادةُ أَح ِد ِهم أَربع َشه َ ٍ َّ ِ
ين } سماها شهادة ،ألنها نائبة مناب الشهود ،بأنادات بِالله ِإَّنهُ لَم َن الصَّادق َفَ َشهَ َ َ ْ ْ َ ُ َ
يقول " :أشهد باهلل إني لمن الصادقين فيما رميتها به ".
ِ َن لَعَنةَ اللَّ ِه علَْي ِه ِإ ْن َك ِ ِ
ين } أي :يزيد في الخامسة مع الشهادة المذكورة، ان م َن اْل َكاذبِ َ
َ َ { َواْل َخام َسةُ أ َّ ْ
مؤكدا تلك الشهادات ،بأن يدعو على نفسه ،باللعنة إن كان كاذبا ،فإذا تم لعانه ،سقط عنه حد
القذف ،ظاهر اآليات ،ولو سمى الرجل الذي رماها به ،فإنه يسقط حقه تبعا لها .وهل يقام عليها
الحد ،بمجرد لعان الرجل ونكولها أم تحبس؟ فيه قوالن للعلماء ،الذي يدل عليه الدليل ،أنه يقام
َن تَ ْشهَ َد } إلى آخره ،فلوال أن العذاب وهو الحد قد
اب أ ْ
عليها الحد ،بدليل قولهَ { :وَي ْد َرأُ َع ْنهَا اْل َع َذ َ
وجب بلعانه ،لم يكن لعانها دارئا له.
ويدرأ عنها ،أي :يدفع عنها العذاب ،إذ قابلت شهادات الزوج ،بشهادات من جنسها.
ِ ِ َن تَ ْشه َد أَربع َشه َ ٍ َّ ِ
ين } وتزيد في الخامسة ،مؤكدة لذلك ،أن تدعو على ادات بِالله ِإَّنهُ لَم َن اْل َكاذبِ َ{ أْ َ ْ َ َ َ
نفسها بالغضب ،فإذا تم اللعان بينهما ،فرق بينهما إلى األبد ،وانتفى الولد المالعن عليه ،وظاهر
اآليات يدل على اشتراط هذه األلفاظ عند اللعان ،منه ومنها ،واشتراط الترتيب فيها ،وأن ال
ينقص منها شيء ،وال يبدل شيء بشيء ،وأن اللعان مختص بالزوج إذا رمى امرأته ،ال بالعكس،
وأن الشبه في الولد مع اللعان ال عبرة به ،كما ال يعتبر مع الفراش ،وإ نما يعتبر الشبه حيث ال
مرجح إال هو.
َن اللَّه تََّو ٌ ِ { ولَوال فَ ْ َّ ِ
يم } وجواب الشرط محذوف ،يدل عليه سياق
اب َحك ٌ ض ُل الله َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُهُ َوأ َّ َ َ ْ
الكالم أي :ألحل بأحد المتالعنين الكاذب منهما ،ما دعا به على نفسه ،ومن رحمته وفضله،
ثبوت هذا الحكم الخاص بالزوجين ،لشدة الحاجة إليه ،وأن بين [ ص ] 563لكم شدة الزنا
وفظاعته ،وفظاعة القذف به ،وأن شرع التوبة من هذه الكبائر وغيرها.
__________
( )1في النسختين :األحرار ولعل الصواب ما أثبت
( )1/562
ب ِإ َّن الَِّذين جاءوا بِاإْلِ ْف ِك عصبةٌ ِم ْن ُكم اَل تَ ْحسبوه َش ًّرا لَ ُكم ب ْل ُهو َخ ْير لَ ُكم ِل ُك ِّل ام ِر ٍ ِ
ئ م ْنهُ ْم َما ا ْكتَ َس َ ْ َْ َ ٌ ْ َُ ُ ْ ُ َْ َ َ ُ
ون َواْل ُم ْؤ ِمَن ُ
ات ظ َّن اْل ُم ْؤ ِمُن َ يم ( )11لَ ْواَل ِإ ْذ َس ِم ْعتُ ُموهُ َ ِمن اإْلِ ثِْم والَِّذي تَولَّى ِك ْبره ِم ْنهم لَه ع َذ ٌ ِ
اب َعظ ٌ َ ُ ُْ ُ َ َ َ َ
الشه َد ِ ُّ ِ ِ بِأ َْنفُ ِس ِه ْم َخ ْي ًرا َوقَالُوا َه َذا ِإ ْف ٌ
اء اء فَِإ ْذ لَ ْم َيأْتُوا بِ َ اءوا َعلَْيه بِأ َْرَب َعة ُشهَ َد َ ين ( )12لَ ْواَل َج ُ ك ُمبِ ٌ
الد ْنَيا َواآْل َ ِخ َر ِة لَ َم َّس ُك ْم ِفي
ض ُل اللَّ ِه َعلَْي ُك ْم و َر ْح َمتُهُ ِفي ُّ
َ ون (َ )13ولَ ْواَل فَ ْ ِ فَأُولَئِ َ ِ َّ ِ
ك ع ْن َد الله ُه ُم اْل َكاذُب َ
اه ُك ْم َما لَْي َس لَ ُك ْم بِ ِه ِعْل ٌم اب ع ِظيم (ِ )14إ ْذ تَلَقَّوَنه بِأَْل ِسَنتِ ُكم وتَقُولُون بِأَ ْفو ِ
َ َ ْ َ ْ ُ ضتُ ْم فيه َع َذ ٌ َ ٌ
ما أَفَ ْ ِ ِ
َ
َن َنتَ َكلَّ َم بِهَ َذا ِ
يم (َ )15ولَ ْواَل ِإ ْذ َسم ْعتُ ُموهُ ُقْلتُ ْم َما َي ُك ُ
ون لََنا أ ْ ِ َّ ِ ِ
ونهُ َهيًِّنا َو ُه َو عْن َد الله َعظ ٌ َوتَ ْح َسُب َ
ودوا ِل ِم ْثِل ِه أَب ًدا ِإ ْن ُك ْنتُم مؤ ِمنِين ( )17ويبي َّ يم (َ )16ي ِعظُ ُك َم اللَّهُ أ ْ ك َه َذا بهتَ ٌ ِ
ِّن اللهُ َ َُ ُ ْ ُْ َ َ َن تَ ُع ُ ان َعظ ٌ ُْ ُس ْب َح َان َ
يم اح َشةُ ِفي الَِّذين آَمُنوا لَهم ع َذ ٌ ِ َن تَ ِشيع اْلفَ ِ ات واللَّه عِليم ح ِكيم (ِ )18إ َّن الَِّذ ِ ِ
اب أَل ٌ ُْ َ َ َ َ ُّون أ ْ
ين ُيحب َ َ لَ ُك ُم اآْل ََي َ ُ َ ٌ َ ٌ
ض ُل اللَّ ِه علَْي ُكم ور ْحمتُه وأ َّ َّ َّ ِ ِفي ُّ
َن اللهَ َ ْ ََ َ ُ َ ون (َ )19ولَ ْواَل فَ ْ الد ْنَيا َواآْل َخ َر ِة َواللهُ َي ْعلَ ُم َوأ َْنتُ ْم اَل تَ ْعلَ ُم َ
طِ ات َّ ان وم ْن يتَّبِع ُخطُو ِ ات َّ وف ر ِحيم ( )20يا أَيُّها الَِّذين آَمُنوا اَل تَتَّبِعوا ُخطُو ِ
ان الش ْي َ طِ ََ َ ْ َ الش ْي َ َ ُ َ َ َ َ َر ُء ٌ َ ٌ
ِ َّ ض ُل اللَّ ِه علَْي ُكم ور ْحمتُه ما َز َكا ِم ْن ُكم ِم ْن أ ٍ اء َواْل ُم ْن َك ِر َولَ ْواَل فَ ْ فَِإَّنه يأْمر بِاْلفَ ْح َش ِ
َحد أََب ًدا َولَك َّن اللهَ َ ْ َ ْ ََ َ ُ َ ُ َ ُُ
َّع ِة أ ْ
َن ُي ْؤتُوا أُوِلي اْلقُْرَبى ي َز ِّكي م ْن ي َشاء واللَّه س ِميع عِليم ( )21واَل يأْتَ ِل أُولُو اْلفَ ْ ِ ِ
ضل م ْن ُك ْم َوالس َ َ َ َ َ َُ ُ َ ٌ َ ٌ ُ
َّ يل اللَّ ِه وْليعفُوا وْليصفَحوا أَاَل تُ ِحبُّون أ ْ ِ َّ ين ِفي سبِ ِ ين واْلمه ِ ِ
ور
َن َي ْغف َر اللهُ لَ ُك ْم َواللهُ َغفُ ٌ َ َ َْ َ َ ْ ُ َ اج ِر َ َواْل َم َساك َ َ ُ َ
الد ْنَيا َواآْل َ ِخ َر ِة َولَهُ ْم َع َذ ٌ
اب ات لُ ِعُنوا ِفي ُّ ات اْل َغ ِافاَل ِت اْلمؤ ِمَن ِ
ُْ
ر ِحيم (ِ )22إ َّن الَِّذين يرمون اْلم ْحصَن ِ
َ َْ ُ َ ُ َ َ ٌ
َّ ٍِ ِ ِ ِ
ون (َ )24ي ْو َمئذ ُي َوفِّي ِه ُم اللهُ يم (َ )23ي ْو َم تَ ْشهَ ُد َعلَْي ِه ْم أَْلسَنتُهُ ْم َوأ َْيدي ِه ْم َوأ َْر ُجلُهُ ْم بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ َعظ ٌ
ات ِلْل َخبِيثِين واْل َخبِيثُون ِلْل َخبِيثَ ِ ين ( )25اْل َخبِيثَ ُ َن اللَّهَ ُهو اْل َح ُّ ِد َينهُ ُم اْل َح َّ
ات َ َ َ ق اْل ُمبِ ُ َ ون أ َّق َوَي ْعلَ ُم َ
ون لَهُ ْم َم ْغ ِف َرةٌ َو ِر ْز ٌ ك مب َّرء ِ ات ِللطَِّّيبِين والطَّيِّب ِ َّ ِ ِ َّ
يم ()26 ق َك ِر ٌ ون م َّما َيقُولُ َ ون للطيَِّبات أُولَئ َ ُ َ ُ َ َ َ ُ َ َوالطيَِّب ُ
صَبةٌ ِم ْن ُك ْم ال تَ ْح َسُبوهُ َش ًّرا لَ ُك ْم َب ْل ُه َو َخ ْيٌر لَ ُك ْم } .إلى ِ
اءوا بِاإل ْفك ُع ْ
ين َج ُ
َِّ
{ ِ { } 26 - 11إ َّن الذ َ
آخر اآليات
يم } لما ذكر فيما تقدم ،تعظيم الرمي بالزنا عموما ،صار ذلك وهو قوله { :لَهُ ْم َم ْغ ِف َرةٌ َو ِر ْز ٌ
ق َك ِر ٌ
كأنه مقدمة لهذه القصة ،التي وقعت على أشرف النساء ،أم المؤمنين رضي اهلل عنها ،وهذه
اآليات ،نزلت في قصة اإلفك المشهورة ،الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد.
وحاصلها أن النبي صلى اهلل عليه وسلم ،في بعض غزواته ،ومعه زوجته عائشة الصديقة بنت
الصديق ،فانقطع عقدها فانحبست في طلبه ورحلوا جملها وهودجها ،فلم يفقدوها ،ثم استقل
الجيش راحال وجاءت مكانهم ،وعلمت أنهم إذا فقدوها ،رجعوا إليها فاستمروا في مسيرهم ،وكان
صفوان بن المعطل السلمي ،من أفاضل الصحابة رضي اهلل عنه ،قد عرس في أخريات القوم
ونام ،فرأى عائشة رضي اهلل عنها فعرفها ،فأناخ راحلته ،فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه،
ثم جاء يقود بها بعد ما نزل الجيش في الظهيرة ،فلما رأى بعض المنافقين الذين في صحبة النبي
صلى اهلل عليه وسلم ،في ذلك السفر مجيء صفوان بها في هذه الحال ،أشاع ما أشاع ،ووشى
الحديث ،وتلقفته األلسن ،حتى اغتر بذلك بعض المؤمنين ،وصاروا يتناقلون هذا الكالم ،وانحبس
الوحي مدة طويلة عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم .وبلغ الخبر عائشة بعد ذلك بمدة ،فحزنت
حزنا شديدا ،فأنزل اهلل تعالى براءتها في هذه اآليات ،ووعظ اهلل المؤمنين ،وأعظم ذلك ،ووصاهم
اءوا بِاإل ْف ِك } أي :الكذب الشنيع ،وهو رمي أم َِّ
بالوصايا النافعة .فقوله تعالىِ { :إ َّن الذ َ
ين َج ُ
صَبةٌ ِم ْن ُك ْم } أي :جماعة منتسبون إليكم يا معشر المؤمنين ،منهم المؤمن الصادق المؤمنين { ُع ْ
[في إيمانه ولكنه اغتر بترويج المنافقين] ( )1ومنهم المنافق.
{ ال تَ ْح َسُبوهُ َش ًّرا لَ ُك ْم َب ْل ُه َو َخ ْيٌر لَ ُك ْم } لما تضمن ذلك تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها ،والتنويه
بذكرها ،حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي صلى اهلل عليه وسلم ،ولما تضمن من بيان
اآليات المضطر إليها العباد ،التي ما زال العمل بها إلى يوم القيامة ،فكل هذا خير عظيم ،لوال
مقالة أهل اإلفك لم يحصل ذلك ،وإ ذا أراد اهلل أمرا جعل له سببا ،ولذلك جعل الخطاب عاما مع
المؤمنين كلهم ،وأخبر أن قدح بعضهم ببعض كقدح في أنفسهم ،ففيه أن المؤمنين في توادهم
وتراحمهم وتعاطفهم ،واجتماعهم على مصالحهم ،كالجسد الواحد ،والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد
بعضه بعضا ،فكما أنه يكره أن يقدح أحد في عرضه ،فليكره من كل أحد ،أن يقدح في أخيه
المؤمن ،الذي بمنزلة نفسه ،وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة ،فإنه من نقص إيمانه وعدم نصحه.
ب ِم َن اإلثِْم } وهذا وعيد للذين جاءوا باإلفك ،وأنهم سيعاقبون على ما { ِل ُك ِّل ام ِر ٍ ِ
ئ م ْنهُ ْم َما ا ْكتَ َس َ ْ
قالوا من ذلك ،وقد حد النبي صلى اهلل عليه وسلم منهم جماعةَ { ،والَِّذي تََولَّى ِك ْب َرهُ } أي :معظم
يم } أال وهو اإلفك ،وهو المنافق الخبيث ،عبد اهلل بن أبي بن سلول -لعنه اهلل { -لَه ع َذ ٌ ِ
اب َعظ ٌ ُ َ
الخلود في الدرك األسفل من النار.
ون َواْل ُم ْؤ ِمَن ُ
ات ثم أرشد اهلل عباده عند سماع مثل هذا الكالم فقال { :لَ ْوال ِإ ْذ َس ِم ْعتُ ُموهُ َ
ظ َّن اْل ُم ْؤ ِمُن َ
بِأ َْنفُ ِس ِه ْم َخ ْي ًرا } أي :ظن المؤمنون بعضهم ببعض خيرا ،وهو السالمة مما رموا به ،وأن ما معهم
ك}
من اإليمان المعلوم ،يدفع ما قيل فيهم من اإلفك الباطلَ { ،وقَالُوا } بسبب ذلك الظن { ُس ْب َح َان َ
ين } أي: ك ُمبِ ٌ
أي :تنزيها لك من كل سوء ،وعن أن تبتلي أصفياءك باألمور الشنيعةَ { ،ه َذا ِإ ْف ٌ
كذب وبهت ،من أعظم األشياء ،وأبينها .فهذا من الظن الواجب ،حين سماع المؤمن عن أخيه
المؤمن ،مثل هذا الكالم ،أن يبرئه بلسانه ،ويكذب القائل لذلك.
ِ ِ
اء } أي :هال جاء الرامون على ما رموا به ،بأربعة شهداء أي: اءوا َعلَْيه بِأ َْرَب َعة ُشهَ َد َ { لَ ْوال َج ُ
ِ اء فَأُولَئِ َ ِ َّ ِ الشه َد ِ
ُّ
ون } وإ ن كانوا في أنفسهم قد
ك عْن َد الله ُه ُم اْل َكاذُب َ عدول مرضيين { .فَِإ ْذ لَ ْم َيأْتُوا بِ َ
تيقنوا ذلك ،فإنهم كاذبون في حكم اهلل ،ألن اهلل حرم عليهم التكلم بذلك ،من دون أربعة شهود،
ون } ولم يقل " فأولئك هم الكاذبون " وهذا كله ،من تعظيم ِ ولهذا قال { :فَأُولَئِ َ ِ َّ ِ
ك ع ْن َد الله ُه ُم اْل َكاذُب َ
حرمة عرض المسلم ،بحيث ال يجوز اإلقدام على رميه ،من دون نصاب الشهادة بالصدق.
اآلخ َر ِة } بحيث شملكم إحسانه فيهما ،في أمر دينكم الد ْنيا و ِ
ِ ُّ { ولَوال فَ ْ َّ ِ
ض ُل الله َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُهُ في َ َ َ ْ
يم } الستحقاقكم يه } من شأن اإلفك { ع َذ ٌ ِ ضتُم } أي :خضتم { ِف ِ ِ
اب َعظ ٌ َ يما أَفَ ْ ْ ودنياكم { ،لَ َم َّس ُك ْم ف َ
ذلك بما قلتم ،ولكن من فضل اهلل عليكم ورحمته ،أن [ ص ] 564شرع لكم التوبة ،وجعل
العقوبة مطهرة للذنوب.
{ ِإ ْذ تَلَقَّ ْوَنهُ بِأَْل ِسَنتِ ُك ْم } أي :تلقفونه ،ويلقيه بعضكم إلى بعض ،وتستوشون حديثه ،وهو قول
اه ُك ْم َما لَْي َس لَ ُك ْم بِ ِه ِعْل ٌم } واألمران محظوران ،التكلم بالباطل ،والقول بال
باطل { .وتَقُولُون بِأَ ْفو ِ
َ َ َ
ونهُ َهيًِّنا } فلذلك أقدم عليه من أقدم من المؤمنين الذين تابوا منه ،وتطهروا بعد علمَ { ،وتَ ْح َسُب َ
يم } وهذا فيه الزجر البليغ ،عن تعاطي بعض الذنوب على وجه التهاون ِ َّ ِ ِ
ذلكَ { ،و ُه َو ع ْن َد الله َعظ ٌ
بها ،فإن العبد ال يفيده حسبانه شيئا ،وال يخفف من عقوبة الذنب ،بل يضاعف الذنب ،ويسهل
عليه مواقعته مرة أخرى.
{ ولَ ْوال ِإ ْذ َس ِم ْعتُ ُموهُ } أي :وهال إذ سمعتم -أيها المؤمنون -كالم أهل اإلفك { ُقْلتُ ْم } منكرين
َن َنتَ َكلَّ َم بِهَ َذا } أي :ما ينبغي لنا ،وما يليق بنا الكالم ،بهذا
ون لََنا أ ْ
لذلك ،معظمين ألمرهَ { :ما َي ُك ُ
ان } أي :كذب عظيم. اإلفك المبين ،ألن المؤمن يمنعه إيمانه من ارتكاب القبائح { َه َذا ُب ْهتَ ٌ
ودوا ِل ِمثِْل ِه } أي :لنظيره ،من رمي المؤمنين بالفجور ،فاهلل يعظكم وينصحكم { َي ِعظُ ُك ُم اللَّهُ أ ْ
َن تَ ُع ُ
عن ذلك ،ونعم المواعظ والنصائح من ربنا فيجب علينا مقابلتها بالقبول واإلذعان ،والتسليم
ِ ِ َّ ِ ِ ِ
ين } دل ذلك على أن والشكر له ،على ما بين لنا { ِإ َّن اللهَ نع َّما َيعظُ ُك ْم بِه } { ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ُم ْؤ ِمن َ
اإليمان الصادق ،يمنع صاحبه من اإلقدام على المحرمات { .ويبيِّن اللَّه لَ ُكم اآلي ِ
ات } المشتملة َ َُ ُ ُ ُ َ
على بيان األحكام ،والوعظ ،والزجر ،والترغيب ،والترهيب ،يوضحها لكم توضيحا جليا.
يم } أي :كامل العلم عام الحكمة ،فمن علمه وحكمته ،أن علمكم من علمه ،وإ ن كان َّ ِ
{ َواللهُ َعل ٌ
ذلك راجعا لمصالحكم في كل وقت.
َن تَ ِشيع اْلفَ ِ
اح َشةُ } أي :األمور الشنيعة المستقبحة المستعظمة ،فيحبون أن { ِإ َّن الَِّذ ِ
َ ُّون أ ْ
ين ُيحب َ
َ
يم } أي :موجع للقلب والبدن ،وذلك لغشه إلخوانه تشتهر الفاحشة { ِفي الَِّذين آمُنوا لَهم ع َذ ٌ ِ
اب أَل ٌ ُْ َ َ َ
المسلمين ،ومحبة الشر لهم ،وجراءته على أعراضهم ،فإذا كان هذا الوعيد ،لمجرد محبة أن
تشيع الفاحشة ،واستحالء ذلك بالقلب ،فكيف بما هو أعظم من ذلك ،من إظهاره ،ونقله؟" وسواء
كانت الفاحشة ،صادرة أو غير صادرة.
وكل هذا من رحمة اهلل بعباده المؤمنين ،وصيانة أعراضهم ،كما صان دماءهم وأموالهم ،وأمرهم
َّ
بما يقتضي المصافاة ،وأن يحب أحدهم ألخيه ما يحب لنفسه ،ويكره له ما يكره لنفسهَ { .واللهُ
ون } فلذلك علمكم ،وبين لكم ما تجهلونه. َي ْعلَ ُم َوأ َْنتُ ْم ال تَ ْعلَ ُم َ
َن اللَّه رء ٌ ِ { ولَوال فَ ْ َّ ِ
يم
وف َرح ٌ ض ُل الله َعلَْي ُك ْم } قد أحاط بكم من كل جانب { َو َر ْح َمتُهُ } عليكم { َوأ َّ َ َ ُ َ ْ
} لما بين لكم هذه األحكام والمواعظ ،والحكم الجليلة ،ولما أمهل من خالف أمره ،ولكن فضله
ورحمته ،وأن ذلك وصفه الالزم آثر لكم من الخير الدنيوي واألخروي ،ما لن تحصوه ،أو
تعدوه.
آمُنوا ال تَتَّبِ ُعوا َِّ
ين َ
ولما نهى عن هذا الذنب بخصوصه ،نهى عن الذنوب عموما فقالَ { :يا أَيُّهَا الذ َ
طِ
ان } أي :طرقه ووساوسه. الش ْي َ ُخطُو ِ
ات َّ
َ
وخطوات الشيطان ،يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب ،واللسان والبدن .ومن حكمته
تعالى ،أن بين الحكم ،وهو :النهي عن اتباع خطوات الشيطان .والحكمة وهو بيان ما في المنهي
ان فَِإَّنهُ } أي :الشيطان
طِ الش ْي َ عنه ،من الشر المقتضي ،والداعي لتركه فقال { :وم ْن يتَّبِع ُخطُو ِ
ات َّ
ََ َ ْ َ
اء } أي :ما تستفحشه العقول والشرائع ،من الذنوب العظيمة ،مع ميل بعض { يأْمر بِاْلفَ ْح َش ِ
َ ُُ
النفوس إليهَ { .واْل ُم ْن َك ِر } وهو ما تنكره العقول وال تعرفه .فالمعاصي التي هي خطوات
الشيطان ،ال تخرج عن ذلك ،فنهي اهلل عنها للعباد ،نعمة منه عليهم أن يشكروه ويذكروه ،ألن
ذلك صيانة لهم عن التدنس بالرذائل والقبائح ،فمن إحسانه عليهم ،أن نهاهم عنها ،كما نهاهم عن
َح ٍد أََب ًدا } أي :ما ِ ِ أكل السموم القاتلة ونحوها { ،ولَوال فَ ْ َّ ِ
ض ُل الله َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُهُ َما َز َكى م ْن ُك ْم م ْن أ َ َ ْ
تطهر من اتباع خطوات الشيطان ،ألن الشيطان يسعى ،هو وجنده ،في الدعوة إليها وتحسينها،
والنفس ميالة إلى السوء أمارة به ،والنقص مستول على العبد من جميع جهاته ،واإليمان غير
قوي ،فلو خلي وهذه الدواعي ،ما زكى أحد بالتطهر من الذنوب والسيئات والنماء بفعل
الحسنات ،فإن الزكاء يتضمن الطهارة والنماء ،ولكن فضله ورحمته أوجبا أن يتزكى منكم من
تزكى.
وكان من دعاء النبي صلى اهلل عليه وسلم " :اللهم آت نفسي تقواها ،وزكها أنت خير من زكاها،
ِ َّ ِّ
أنت وليها وموالها " ولهذا قالَ { :ولَك َّن اللهَ ُي َزكي َم ْن َي َش ُ
اء } من يعلم منه أن يزكى بالتزكية،
يم }. ِ َّ ِ
ولهذا قالَ { :واللهُ َسميعٌ َعل ٌ
ِ َّع ِة أ ْ { وال يأْتَ ِل } أي :ال يحلف { أُولُو اْلفَ ْ ِ ِ
َن ُي ْؤتُوا أُوِلي اْلقُْرَبى َواْل َم َساك َ
ين ضل م ْن ُك ْم َوالس َ َ َ
صفَ ُحوا } كان من جملة الخائضين في اإلفك " مسطح بن واْلمها ِج ِرين ِفي سبِ ِ َّ ِ
يل الله َوْلَي ْعفُوا َوْلَي ْ َ َ َ َُ
أثاثة " وهو قريب ألبي بكر الصديق رضي اهلل عنه ،وكان مسطح فقيرا من المهاجرين في سبيل
اهلل ،فحلف أبو بكر أن ال ينفق عليه ،لقوله الذي قال.
فنزلت هذه اآلية ،ينهاهم ( )2عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه ،ويحثه على العفو
َّ والصفح ،ويعده بمغفرة اهلل إن غفر له ،فقال [ :ص { ] 565أَال تُ ِحبُّون أ ْ ِ َّ
َن َي ْغف َر اللهُ لَ ُك ْم َواللهُ َ
يم } إذا عاملتم عبيده ،بالعفو والصفح ،عاملكم بذلك ،فقال أبو بكر -لما سمع هذه ِ
ور َرح ٌ
َغفُ ٌ
اآلية :-بلى ،واهلل إني ألحب أن يغفر اهلل لي ،فرجع النفقة إلى مسطح ،وفي هذه اآلية دليل على
النفقة على القريب ،وأنه ال تترك النفقة واإلحسان بمعصية اإلنسان ،والحث على العفو والصفح،
ولو جرى عليه ما جرى من أهل الجرائم.
ات } أي :العفائف ثم ذكر الوعيد الشديد على رمي المحصنات فقالِ { :إ َّن الَِّذين يرمون اْلم ْحصَن ِ
َ َْ ُ َ ُ َ
الد ْنيا و ِ
اآلخ َر ِة } ِ ِ ِ ِ ُّ ِ ِ
عن الفجور { اْل َغافالت } التي لم يخطر ذلك بقلوبهن { اْل ُم ْؤمَنات لُعُنوا في َ َ
واللعنة ال تكون إال على ذنب كبير.
يم } وهذا زيادة على اللعنة، وأكد اللعنة بأنها متواصلة عليهم في الدارين { ولَهم ع َذ ٌ ِ
اب َعظ ٌ َ ُْ َ
أبعدهم عن رحمته ،وأحل بهم شدة نقمته.
ِ ِ
ون } فكل وذلك العذاب يوم القيامة { َي ْو َم تَ ْشهَ ُد َعلَْي ِه ْم أَْلسَنتُهُ ْم َوأ َْيدي ِه ْم َوأ َْر ُجلُهُ ْم بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ
جارحة تشهد عليهم بما عملته ،ينطقها الذي أنطق كل شيء ،فال يمكنه اإلنكار ،ولقد عدل في
ق } أي :جزاءهم على العباد ،من جعل شهودهم من أنفسهمَ { ،ي ْو َمئٍِذ ُيوفِّي ِه ُم اللَّهُ ِد َينهُ ُم اْل َح َّ
َ
أعمالهم ،الجزاء الحق ،الذي بالعدل والقسط ،يجدون جزاءها موفرا ،لم يفقدوا منها شيئا،
اها َو َو َج ُدوا َما َع ِملُوا ص ََح َ ص ِغ َيرةً َوال َكبِ َيرةً ِإال أ ْ ِ
اب ال ُي َغاد ُر َ ال َه َذا اْل ِكتَ ِون َيا وْيلَتََنا م ِ
َ { َوَيقُولُ َ َ
َح ًدا } ويعلمون في ذلك الموقف العظيم ،أن اهلل هو الحق المبين ،فيعلمون ظِل ُم َرب َ
ُّك أ َ
ح ِ
اض ًرا َوال َي ْ َ
انحصار الحق المبين في اهلل تعالى.
فأوصافه العظيمة حق ،وأفعاله هي الحق ،وعبادته هي الحق ،ولقاؤه حق ،ووعده ووعيده،
وحكمه الديني والجزائي حق ،ورسله حق ،فال ثم حق ،إال في اهلل وما من اهلل.
ات } أي :كل خبيث من الرجال والنساء ،والكلمات ات ِلْل َخبِيثِين واْل َخبِيثُون ِلْل َخبِيثَ ِ
{ اْل َخبِيثَ ُ
َ َ َ
واألفعال ،مناسب للخبيث ،وموافق له ،ومقترن به ،ومشاكل له ،وكل طيب من الرجال والنساء،
والكلمات واألفعال ،مناسب للطيب ،وموافق له ،ومقترن به ،ومشاكل له ،فهذه كلمة عامة
وحصر ،ال يخرج منه شيء ،من أعظم مفرداته ،أن األنبياء -خصوصا أولي العزم منهم،
خصوصا سيدهم محمد صلى اهلل عليه وسلم ،الذي هو أفضل الطيبين من الخلق على اإلطالق ال
يناسبهم إال كل طيب من النساء ،فالقدح في عائشة رضي اهلل عنها بهذا األمر قدح في النبي صلى
اهلل عليه وسلم ،وهو المقصود بهذا اإلفك ،من قصد المنافقين ،فمجرد كونها زوجة للرسول صلى
اهلل عليه وسلم ،يعلم أنها ال تكون إال طيبة طاهرة من هذا األمر القبيح.
فكيف وهي هي؟" صديقة النساء وأفضلهن وأعلمهن وأطيبهن ،حبيبة رسول رب العالمين ،التي
لم ينزل الوحي عليه وهو في لحاف زوجة من زوجاته غيرها ،ثم صرح بذلك ،بحيث ال يبقى
ون } واإلشارة إلى عائشة ك مب َّرء ِ ِ
ون م َّما َيقُولُ َ لمبطل مقاال وال لشك وشبهة مجاال فقال { :أُولَئ َ ُ َ ُ َ
رضي اهلل عنها أصال وللمؤمنات المحصنات الغافالت تبعا { لَهُ ْم َم ْغ ِف َرةٌ } تستغرق الذنوب
يم } في الجنة صادر من الرب الكريم. ق َك ِر ٌ
{ َو ِر ْز ٌ
__________
( )1زيادة من هامش :ب.
( )2كذا في النسختين
( )1/563
َهِلهَا
آمُنوا ال تَ ْد ُخلُوا ُبُيوتًا َغْي َر ُبُيوتِ ُك ْم َحتَّى تَ ْستَأْنِ ُسوا َوتُ َسلِّ ُموا َعلَى أ ْ
ين َ
َِّ
{ َ { } 29 - 27يا أَيُّهَا الذ َ
َّ ِ
ون * } .َذل ُك ْم َخ ْيٌر لَ ُك ْم لَ َعل ُك ْم تَ َذ َّك ُر َ
يرشد الباري عباده المؤمنين ،أن ال يدخلوا بيوتا غير بيوتهم بغير استئذان ،فإن في ذلك عدة
مفاسد :منها ما ذكره الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،حيث قال " إنما جعل االستئذان من أجل
البصر " فبسبب اإلخالل به ،يقع البصر على العورات التي داخل البيوت ،فإن البيت لإلنسان في
ستر عورة ما وراءه ،بمنزلة الثوب في ستر عورة جسده.
ومنها :أن ذلك يوجب الريبة من الداخل ،ويتهم بالشر سرقة أو غيرها ،ألن الدخول خفية ،يدل
على الشر ،ومنع اهلل المؤمنين من دخول غير بيوتهم َحتَّى َي ْستَأْنِ ُسوا أي :يستأذنوا .سمي
َهِلهَا }
االستئذان استئناسا ،ألن به يحصل االستئناس ،وبعدمه تحصل الوحشةَ { ،وتُ َسلِّ ُموا َعلَى أ ْ
وصفة ذلك ،ما جاء في الحديث " :السالم عليكم ،أأدخل "؟
َّ ِ
{ َذل ُك ْم } أي :االستئذان المذكور { َخ ْيٌر لَ ُك ْم لَ َعل ُك ْم تَ َذ َّك ُر َ
ون } الشتماله على عدة مصالح ،وهو من
مكارم األخالق الواجبة ،فإن أذن ،دخل المستأذن.
( )1/565
وها َحتَّى ُي ْؤ َذ َن لَ ُك ْم َوإِ ْن ِقي َل لَ ُك ُم ْار ِج ُعوا فَ ْار ِج ُعوا ُه َو أ َْز َكى لَ ُك ْم ِ
فَِإ ْن لَ ْم تَ ِج ُدوا فيهَا أ َ
َح ًدا فَاَل تَ ْد ُخلُ َ
َّ َن تَ ْد ُخلُوا بيوتًا َغ ْير مس ُك َ ٍ ِ ِ َّ
ونة فيهَا َمتَاعٌ لَ ُك ْم َواللهُ َ َْ ُُ اح أ ْيم ( )28لَْي َس َعلَْي ُك ْم ُجَن ٌ ون َعل ٌ َواللهُ بِ َما تَ ْع َملُ َ
ون ()29 ون َو َما تَ ْكتُ ُم َ
َي ْعلَ ُم َما تُْب ُد َ
يل لَ ُك ُم ْار ِج ُعوا فَ ْار ِج ُعوا ُه َو أ َْز َكى لَ ُك ْم وها َحتَّى ُي ْؤ َذ َن لَ ُك ْم َوإِ ْن ِق َ ِ
{ فَِإ ْن لَ ْم تَ ِج ُدوا فيهَا أ َ
َح ًدا فَال تَ ْد ُخلُ َ
ون ٍة ِفيهَا َمتَاعٌ لَ ُك ْم َواللَّهُ َي ْعلَ ُم
َن تَ ْد ُخلُوا ُبُيوتًا َغ ْي َر َم ْس ُك َ اح أ ْ
يم * لَْي َس َعلَْي ُك ْم ُجَن ٌ ِ
ون َعل ٌ
َّ
َواللهُ بِ َما تَ ْع َملُ َ
ون } .
ون َو َما تَ ْكتُ ُم َ
َما تُْب ُد َ
يل لَ ُك ُم ْار ِج ُعوا فَ ْار ِج ُعوا } أي :فال وها َحتَّى ُي ْؤ َذ َن لَ ُك ْم َوإِ ْن ِق َ ِ
{ فَِإ ْن لَ ْم تَ ِج ُدوا فيهَا أ َ
َح ًدا فَال تَ ْد ُخلُ َ
تمتنعوا من الرجوع ،وال تغضبوا منه ،فإن صاحب المنزل ،لم يمنعكم حقا واجبا لكم ،وإ نما هو
متبرع ،فإن شاء أذن أو منع ،فأنتم ال يأخذ أحدكم الكبر واالشمئزاز من هذه الحالُ { ،ه َو أ َْز َكى
ِ َّ
يم } فيجازي ون َعل ٌ لَ ُك ْم } أي :أشد لتطهيركم من السيئات ،وتنميتكم بالحسناتَ { .واللهُ بِ َما تَ ْع َملُ َ
كل عامل بعمله ،من كثرة وقلة ،وحسن وعدمه ،هذا الحكم في البيوت المسكونة ،سواء كان فيها
متاع لإلنسان أم ال وفي البيوت غير المسكونة ،التي ال متاع فيها لإلنسان ،وأما البيوت التي ليس
فيها أهلها ،وفيها متاع اإلنسان المحتاج للدخول إليه ،وليس فيها أحد يتمكن من استئذانه ،وذلك
كبيوت الكراء وغيرها ،فقد ذكرها بقوله:
اح } أي :حرج وإ ثم ،دل على أن الدخول من غير استئذان في البيوت السابقة، { لَْي َس َعلَْي ُك ْم ُجَن ٌ
ون ٍة ِفيهَا َمتَاعٌ لَ ُك ْم } وهذا من
َن تَ ْد ُخلُوا ُبُيوتًا َغ ْي َر َم ْس ُك َ
أنه محرم [ ،ص ] 566وفيه حرج { أ ْ
احترازات القرآن العجيبة ،فإن قوله { :ال تَ ْد ُخلُوا ُبُيوتًا َغ ْي َر ُبُيوتِ ُك ْم } لفظ عام في كل بيت ليس
ملكا لإلنسان ،أخرج منه تعالى البيوت التي ليست ملكه ،وفيها متاعه ،وليس فيها ساكن ،فأسقط
ون } أحوالكم الظاهرة والخفية ،وعلم َّ
ون َو َما تَ ْكتُ ُم َ
الحرج في الدخول إليهاَ { ،واللهُ َي ْعلَ ُم َما تُْب ُد َ
مصالحكم ،فلذلك شرع لكم ما تحتاجون إليه وتضطرون ،من األحكام الشرعية.
( )1/565
( )1/566
( )1/566
ونوا فُقَراء ي ْغنِ ِهم اللَّه ِم ْن فَ ْ ِ ِ َّ ِ َّال ِح ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ضله َواللهُ ين م ْن عَباد ُك ْم َوإِ َمائ ُك ْم ِإ ْن َي ُك ُ َ َ ُ ُ ُ امى م ْن ُك ْم َوالص َ َوأ َْنك ُحوا اأْل ََي َ
ون ف الَِّذين اَل ي ِج ُدون نِ َكاحا حتَّى ي ْغنِيهم اللَّه ِم ْن فَ ْ ِ ِ َِّ اسع عِليم ( )32وْليستَع ِف ِ ِ
ين َي ْبتَ ُغ َ ضله َوالذ َ َ َ َ ً َ ُ َ ُُ ُ َ َْ ْ َو ٌ َ ٌ
ال اللَّ ِه الَِّذي آَتَا ُك ْم َواَلوهم ِم ْن م ِ
َ
ِ ِ ت أ َْي َم ُان ُك ْم فَ َكاتُِب ُ
وه ْم ِإ ْن َعل ْمتُ ْم في ِه ْم َخ ْي ًرا َوآَتُ ُ ْ اب ِم َّما َملَ َك ْ ِ
اْلكتَ َ
الد ْنَيا َو َم ْن ُي ْك ِر ُّه َّن فَِإ َّن اللَّهَ ِم ْن
ض اْل َحَي ِاة ُّ اء ِإ ْن أَر ْدن تَحصً ِ
ُّنا لتَْبتَ ُغوا َع َر َ َ َ َ
تُ ْك ِر ُهوا فَتَياتِ ُكم علَى اْلبِ َغ ِ
َ ْ َ
ِ ِ ِ
يم ()33 ور َرح ٌ َب ْعد ِإ ْك َراه ِه َّن َغفُ ٌ
( )1/567
( )1/568
اجةُ َكأََّنهَا
الز َج َ اج ٍة ُّ اح اْل ِمصب ِ
اح في ُز َج ََْ ُ صَب ٌ ض مثَ ُل ُن ِ ِ ٍ ِ ِ
ور ِه َكم ْش َكاة فيهَا م ْ
ِ
َّم َاوات َواأْل َْر ِ َ ور الس َ
َّ
اللهُ ُن ُ
ِ َّة واَل َغربِي ٍ ٍِ ي يوقَ ُد ِم ْن َشجر ٍة مبار َك ٍة َز ْيتُ َ ٍ
يء َولَ ْو لَ ْم تَ ْم َس ْسهُ
اد َز ْيتُهَا ُيض ُ
َّة َي َك ُ ْ ونة اَل َش ْرقي َ َ َ َُ َ ب ُدِّر ٌّ ُ
َك ْو َك ٌ
ٍ ِ ال ِل َّلن ِ َّ ِّ ب اللَّهُ اأْل َْمثَ َ ور َي ْه ِدي اللَّهُ ِلُن ِ
يم ( اس َواللهُ بِ ُكل َش ْيء َعل ٌ ض ِر ُ ور ِه َم ْن َي َش ُ
اء َوَي ْ ور َعلَى ُن ٍ َن ٌار ُن ٌ
)35
اج ٍة
اح في ُز َج َ
اح اْل ِمصب ِ
َْ ُ صَب ٌ ض مثَ ُل ُن ِ ِ ٍ ِ ِ
ور ِه َكم ْش َكاة فيهَا م ْ األر ِ َ
ِ
َّم َاوات َو ْ ور الس َ
َّ
{ { } 35اللهُ ُن ُ
يء ِ َّة وال َغربِي ٍ
ٍِ ي يوقَ ُد ِم ْن َشجر ٍة مبار َك ٍة َز ْيتُ َ ٍ اجةُ َكأََّنهَا َك ْو َك ٌ ُّ
اد َز ْيتُهَا ُيض ُ َّة َي َك ُ ْ ونة ال َش ْرقي َ َ َ َُ َ ب ُدِّر ٌّ ُ الز َج َ
اس َواللَّهُ بِ ُك ِّل
ال ِل َّلن ِ
األمثَ َ ض ِر َّ
ب اللهُ ْ اء َوَي ْ ُور ِه َم ْن َي َش ُور َي ْه ِدي اللَّهُ ِلُن ِ
ور َعلَى ُن ٍ َولَ ْو لَ ْم تَ ْم َس ْسهُ َن ٌار ُن ٌ
يم } . ٍ ِ
َش ْيء َعل ٌ
ض } الحسي والمعنوي ،وذلك أنه تعالى بذاته نور ،وحجابه -الذي األر ِ ِ َّ
َّم َاوات َو ْ ور الس َ { اللهُ ُن ُ
لوال لطفه ،ألحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه -نور ،وبه استنار العرش،
والكرسي ،والشمس ،والقمر ،والنور ،وبه استنارت الجنة .وكذلك النور المعنوي يرجع إلى اهلل،
فكتابه نور ،وشرعه نور ،واإليمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور .فلوال نوره
ور ِه } الذي
تعالى ،لتراكمت الظلمات ،ولهذا :كل محل ،يفقد نوره فثم الظلمة والحصرَ { ،مثَ ُل ُن ِ
اح }
صَب ٌ ِ ِ ِ ٍ
يهدي إليه ،وهو نور اإليمان والقرآن في قلوب المؤمنينَ { ،كم ْش َكاة } أي :كوة { فيهَا م ْ
اجةُ } من صفائها اج ٍة ُّ
الز َج َ
ألن الكوة تجمع نور المصباح بحيث ال يتفرق ذلك { اْل ِمصب ِ
اح في ُز َج َ
َْ ُ
ي } أي :مضيء إضاءة الدرُ { .يوقَ ُد } ذلك المصباح ،الذي في تلك ب ُدِّر ٌّوبهائها { َكأََّنهَا َك ْو َك ٌ
ون ٍة } أي :يوقد من زيت الزيتون الذي ناره من أنور ما الزجاجة الدرية { ِم ْن َش َج َر ٍة ُمَب َار َك ٍة َز ْيتُ َ
َّة } فقط ،فال تصيبها الشمس آخر النهار { ،وال َغربِي ٍ
َّة } فقط ،فال تصيبها يكون { ،ال َشر ِقي ٍ
ْ َ ْ
الشمس [أول] ( )1النهار ،وإ ذا انتفى عنها األمران ،كانت متوسطة من األرض ،كزيتون الشام[ ،
ص ] 569تصيبها الشمس أول النهار وآخره ،فتحسن وتطيب ،ويكون أصفى لزيتها ،ولهذا
يء َولَ ْو لَ ْم تَ ْم َس ْسهُ َن ٌار } فإذا مسته النار ،أضاء إضاءة بليغة ِ
اد َز ْيتُهَا } من صفائه { ُيض ُ
قالَ { :ي َك ُ
ور } أي :نور النار ،ونور الزيت. ور َعلَى ُن ٍ { ُن ٌ
ووجه هذا المثل الذي ضربه اهلل ،وتطبيقه على حالة المؤمن ،ونور اهلل في قلبه ،أن فطرته التي
فطر عليها ،بمنزلة الزيت الصافي ،ففطرته صافية ،مستعدة للتعاليم اإللهية ،والعمل المشروع،
فإذا وصل إليه العلم واإليمان ،اشتعل ذلك النور في قلبه ،بمنزلة اشتعال النار في فتيلة ذلك
المصباح ،وهو صافي القلب من سوء القصد ،وسوء الفهم عن اهلل ،إذا وصل إليه اإليمان ،أضاء
إضاءة عظيمة ،لصفائه من الكدورات ،وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية ،فيجتمع له نور
الفطرة ،ونور اإليمان ،ونور العلم ،وصفاء المعرفة ،نور على نوره.
ولما كان هذا من نور اهلل تعالى ،وليس كل أحد يصلح له ذلك ،قالَ { :ي ْه ِدي اللَّهُ ِلُن ِ
ور ِه َم ْن َي َش ُ
اء }
اس } ليعقلوا عنه ال ِل َّلن ِ
األمثَ َ ض ِر َّ
ب اللهُ ْممن يعلم زكاءه وطهارته ،وأنه يزكي معه وينموَ { .وَي ْ ُ
ويفهموا ،لطفا منه بهم ،وإ حسانا إليهم ،وليتضح الحق من الباطل ،فإن األمثال تقرب المعاني
ٍ ِ َّ ِّ
يم } فعلمه محيط المعقولة من المحسوسة ،فيعلمها العباد علما واضحاَ { ،واللهُ بِ ُكل َش ْيء َعل ٌ
بجميع األشياء ،فلتعلموا أن ضربه األمثال ،ضرب من يعلم حقائق األشياء وتفاصيلها ،وأنها
مصلحة للعباد ،فليكن اشتغالكم بتدبرها وتعقلها ،ال باالعتراض عليها ،وال بمعارضتها ،فإنه يعلم
وأنتم ال تعلمون.
ولما كان نور اإليمان والقرآن أكثر وقوع أسبابه في المساجد ،ذكرها منوها بها فقال:
__________
( )1في النسختين آخر النهار ،ولعل الصواب ما أثبته ،ثم إن الكلمة معدلة من آخر إلى أول في
ب ،بقلم مغاير لما كتبت به النسخة.
( )1/568
( )1/569
الز َك ِاة ي َخافُون يوما تَتََقلَّب ِف ِ ِ ِرجا ٌل اَل تُْل ِهي ِهم تِجارةٌ واَل ب ْيع ع ْن ِذ ْك ِر اللَّ ِه وإِقَ ِام َّ ِ
يه ُ َ َْ ً الصاَل ة َوإِيتَاء َّ َ َ ْ ََ َ َ ٌ َ َ
اء
ق َم ْن َي َش ُضِل ِه َواللَّهُ َي ْر ُز ُ
يد ُه ْم ِم ْن فَ ْ
َح َس َن َما َع ِملُوا َوَي ِز َ
ص ُار (ِ )37لَي ْج ِزَيهُ ُم اللَّهُ أ ْ
وب َواأْل َْب َ
اْل ُقلُ ُ
اب ()38 بِ َغ ْي ِر ِح َس ٍ
الز َك ِاة ي َخافُون يوما تَتََقلَّب ِف ِ ِ ِ َّ ِ ِ ِ
يه ُ َ َْ ً { ِر َجا ٌل ال تُْل ِهي ِه ْم ت َج َارةٌ َوال َب ْيعٌ َع ْن ذ ْك ِر الله َوإِقَ ِام الصَّالة َوإِيتَاء َّ َ
اء بِ َغ ْي ِر ضِل ِه َواللَّهُ َي ْر ُز ُ
ق َم ْن َي َش ُ يد ُه ْم ِم ْن فَ ْ
َح َس َن َما َع ِملُوا َوَي ِز َ
ص ُار * ِلَي ْج ِزَيهُ ُم اللَّهُ أ ْ
األب َ
وب َو ْ
اْل ُقلُ ُ
ِح َس ٍ
اب } .
{ ِر َجا ٌل } خص هذين الوقتين لشرفهما ولتيسر السير فيهما إلى اهلل وسهولته .ويدخل في ذلك،
التسبيح في الصالة وغيرها ،ولهذا شرعت أذكار الصباح والمساء وأورادهما عند الصباح
والمساء .أي :يسبح فيها اهلل ،رجال ،وأي :رجال ،ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا ،ذات لذات،
وال تجارة ومكاسب ،مشغلة عنه { ،ال تُْل ِهي ِه ْم تِ َج َارةٌ } وهذا يشمل كل تكسب يقصد به العوض،
فيكون قولهَ { :وال َب ْيعٌ } من باب عطف الخاص على العام ،لكثرة االشتغال بالبيع على غيره،
فهؤالء الرجال ،وإ ن اتجروا ،وباعوا ،واشتروا ،فإن ذلك ،ال محذور فيه .لكنه ال تلهيهم تلك ،بأن
الز َك ِاة } بل جعلوا طاعة اهلل وعبادته غاية َّالة وإِيتَ ِ
اء َّ ِ َّ ِ ِ ِ
يقدموها ويؤثروها على { ذ ْك ِر الله َوإِقَام الص َ
مرادهم ،ونهاية مقصدهم ،فما حال بينهم وبينها رفضوه.
ولما كان ترك الدنيا شديدا على أكثر النفوس ،وحب المكاسب بأنواع التجارات محبوبا لها ،ويشق
عليها تركه في الغالب ،وتتكلف من تقديم حق اهلل على ذلك ،ذكر ما يدعوها إلى ذلك -ترغيبا
ص ُار } من شدة هوله وإ زعاجه للقلوب وترهيبا -فقال { :ي َخافُون يوما تَتََقلَّ ِ ِ
األب َ
وب َو ْ ب فيه اْل ُقلُ ُ ُ َ َْ ً َ
َح َس َنواألبدان ،فلذلك خافوا ذلك اليوم ،فسهل عليهم العمل ،وترك ما يشغل عنهِ { ،لَي ْج ِزَيهُ ُم اللَّهُ أ ْ
َما َع ِملُوا } والمراد بأحسن ما عملوا :أعمالهم الحسنة الصالحة ،ألنها أحسن ما عملوا ،ألنهم
َّ ِ
يعملون المباحات وغيرها ،فالثواب ال يكون إال على العمل الحسن ،كقوله تعالى { :لُي َكفَِّر اللهُ
ضِل ِه } زيادة يد ُه ْم ِم ْن فَ ْون } { َوَي ِز ُ
َح َس ِن ما َك ُانوا َي ْع َملُ َ َس َوأَ الَِّذي َع ِملُوا َوَي ْج ِزَيهُ ْم أ ْ
َج َر ُه ْم بِأ ْ َعْنهُ ْم أ ْ
اب } بل يعطيه من األجر ما اء بِ َغ ْي ِر ِح َس ٍ كثيرة عن الجزاء المقابل ألعمالهمَ { ،واللَّهُ َي ْر ُز ُ
ق َم ْن َي َش ُ
ال يبلغه عمله ،بل وال تبلغه أمنيته ،ويعطيه من األجر بال عد وال كيل ،وهذا كناية عن كثرته
جدا.
( )1/569
( )1/569
ات ُك ٌّل قَ ْد َعِل َمض والطَّ ْير صافَّ ٍ ِ ِ { { } 42 - 41أَلَم تَر أ َّ َّ
األر ِ َ ُ َ َّم َاوات َو ْ
ِّح لَهُ َم ْن في الس َ َن اللهَ ُي َسب ُ ْ َ
ض وإِلَى اللَّ ِه اْلم ِ ِ ون * َوِللَّ ِه ُمْل ُ َّ ِ
ص ُير } . َ ات و ْ ِ
األر َ َّم َاو َك الس َ يم بِ َما َي ْف َعلُ َ
يحهُ َواللهُ َعل ٌصالتَهُ َوتَ ْسبِ َ
َ
نبه تعالى عباده على عظمته ،وكمال سلطانه ،وافتقار جميع المخلوقات له في ربوبيتها ،وعبادتها
اتض } من حيوان وجماد { والطَّ ْير صافَّ ٍ األر ِ ِ ِ فقال { :أَلَم تَر أ َّ َّ
َ ُ َ َّم َاوات َو ْ ِّح لَهُ َم ْن في الس َ َن اللهَ ُي َسب ُ ْ َ
ِ ٌّ
صالتَهُ } أي :صافات أجنحتها ،في جو السماء ،تسبح ربهاُ { .كل } من هذه المخلوقات { قَ ْد َعل َم َ
َوتَ ْسبِ َ
يحهُ } أي :كل له صالة وعبادة بحسب حاله الالئقة به ،وقد ألهمه اهلل تلك الصالة والتسبيح،
إما بواسطة الرسل ،كالجن واإلنس والمالئكة ،وإ ما بإلهام منه تعالى ،كسائر المخلوقات غير
َّ ِ
يم بِ َما َي ْف َعلُ َ
ون } أي :علم جميع أفعالها ،فلم ذلك ،وهذا االحتمال أرجح ،بدليل قولهَ { :واللهُ َعل ٌ
يخف عليه منها ( )1شيء ،وسيجازيهم بذلك ،فيكون على هذا ،قد جمع بين علمه ( )2بأعمالها،
وذلك بتعليمه ،وبين علمه بأعمالهم المتضمن للجزاء.
ِ
يحهُ } يعود إلى اهلل ،وأن اهلل تعالى قد علم صالتَهُ َوتَ ْسبِ َويحتمل أن الضمير في قوله { :قَ ْد َعل َم َ
عباداتهم ،وإ ن لم تعلموا -أيها العباد -منها ،إال ما أطلعكم اهلل عليه .وهذه اآلية كقوله تعالى:
ِِ ِ ٍ ِ ِ
ِّح بِ َح ْمده َولَك ْن ال تَ ْفقَهُ َ
ون ض َو َم ْن في ِه َّن َوإِ ْن م ْن َش ْيء ِإال ُي َسب ُ األر ُات الس َّْبعُ َو ْ
َّم َاو ُ
ِّح لَهُ الس َ { تُ َسب ُ
ِ
ورا } فلما بين عبوديتهم وافتقارهم إليه -من جهة العبادة والتوحيد- يما َغفُ ً يحهُ ْم ِإَّنهُ َك َ
ان َحل ً تَ ْسبِ َ
ض } خالقهما ( األر ِ ِ بين افتقارهم ،من جهة الملك والتربية والتدبير فقالَ { :وِللَّ ِه ُمْل ُ
َّم َاوات َو ْ ك الس َ
)3ورازقهما ،والمتصرف فيهما ،في حكمه الشرعي [والقدري] ( )4في هذه الدار ،وفي حكمه
الجزائي ،بدار القرار ،بدليل قوله { :وإِلَى اللَّ ِه اْلم ِ
ص ُير } أي :مرجع الخلق ومآلهم ،ليجازيهم َ َ
بأعمالهم.
__________
( )1في النسختين (منه).
( )2كذا في ب ،وفي أ :علمها.
( )3في النسختين :خالقها ،ولعل الصواب ما أثبته.
( )4زيادة من هامش :ب.
( )1/570
ق َي ْخ ُر ُج ِم ْن
اما فَتََرى اْل َو ْد َ َن اللَّهَ ُي ْز ِجي َس َح ًابا ثَُّم ُي َؤلِّ ُ
ف َب ْيَنهُ ثَُّم َي ْج َعلُهُ ُر َك ً { { } 44 - 43أَلَ ْم تََر أ َّ
ِ ِ اء ِم ْن ِجب ٍ ِ ِ الل ِه ويَنِّز ُل ِمن السَّم ِ ِ ِ
اد ص ِرفُهُ َع ْن َم ْن َي َش ُ
اء َي َك ُ يب بِه َم ْن َي َش ُ
اء َوَي ْ ال فيهَا م ْن َب َر ٍد فَُيص ُ َ َ َ خ َُ
ب بِ ْ ِ
ص ِار }األب َ َسَنا َب ْر ِقه َي ْذ َه ُ
[ ص ] 571
أي :ألم تشاهد ببصرك ،عظيم قدرة اهلل ،وكيف { ُي ْز ِجي } أي :يسوق { َس َح ًابا } قطعا متفرقة
ف } بين تلك القطع ،فيجعله سحابا متراكما ،مثل الجبال. { ثَُّم ُي َؤلِّ ُ
ق } أي :الوابل والمطر ،يخرج من خالل السحاب ،نقطا متفرقة ،ليحصل بها { فَتََرى اْل َو ْد َ
االنتفاع من دون ضرر ،فتمتلئ بذلك الغدران ،وتتدفق الخلجان ،وتسيل األودية ،وتنبت األرض
من كل زوج كريم ،وتارة ينزل اهلل من ذلك السحاب بردا يتلف ما يصيبه.
ِ ِ
اء } بحسب ما اقتضاه حكمه القدري ،وحكمته التي ص ِرفُهُ َع ْن َم ْن َي َش ُ يب بِه َم ْن َي َش ُ
اء َوَي ْ { فَُيص ُ
ب بِ ْ ِ
ص ِار }
األب َ اد َسَنا َب ْر ِقه } أي :يكاد ضوء برق ذلك السحاب ،من شدته { َي ْذ َه ُ يحمد عليهاَ { ،ي َك ُ
أليس الذي أنشأها وساقها لعباده المفتقرين ،وأنزلها على وجه يحصل به النفع وينتفي به الضرر،
كامل القدرة ،نافذ المشيئة ،واسع الرحمة؟.
( )1/570
( )1/571
( )1/571
( )1/571
ِ ك َو َما أُولَئِ َيق ِم ْنهُ ْم ِم ْن َب ْع ِد َذِل َ
ط ْعَنا ثَُّم َيتََولَّى فَ ِر ٌ الرس ِ َّ ِ
ين ()47 ك بِاْل ُم ْؤ ِمن َ ول َوأَ َ َمَّنا بِالله َوبِ َّ ُ
ون آ َ
َوَيقُولُ َ
ون ( )48وإِ ْن َي ُك ْن لَهُ ُم اْل َح ُّ وإِ َذا ُدعوا ِإلَى اللَّ ِه ورسوِل ِه ِلي ْح ُكم ب ْيَنهم ِإ َذا فَ ِر ٌ ِ
ق َيأْتُوا َ ض َ يق م ْنهُ ْم ُم ْع ِر ُ َ َ َ ُْ ََ ُ ُ َ
يف اللَّهُ َعلَْي ِه ْم َو َر ُسولُهُ َب ْل أُولَئِ َ
ك َن َي ِح َ ون أ ْ ِإلَْي ِه م ْذ ِعنِين ( )49أ َِفي ُقلُوبِ ِهم مر ٌ ِ
ض أَم ْارتَ ُابوا أ َْم َي َخافُ َ ْ ََ َ ُ
ون ()50 ِ َّ
ُه ُم الظال ُم َ
( )1/571
ط ْعَنا َوأُولَئِ َ
ك ُه ُم َن َيقُولُوا َس ِم ْعَنا َوأَ َ
ين ِإ َذا ُد ُعوا ِإلَى اللَّ ِه َو َر ُسوِل ِه ِلَي ْح ُك َم َب ْيَنهُ ْم أ ِْ
ان قَ ْو َل اْل ُم ْؤ ِمن َ
ِإَّن َما َك َ
ون ()52 ِ ون (َ )51و َم ْن ُي ِط ِع اللَّهَ َو َر ُسولَهُ َوَي ْخ َش اللَّهَ َوَيتَّ ْق ِه فَأُولَئِ َ ِ
ك ُه ُم اْلفَائ ُز َ اْل ُم ْفل ُح َ
َن َيقُولُوا َس ِم ْعَنا ين ِإ َذا ُد ُعوا ِإلَى اللَّ ِه َو َر ُسوِل ِه ِلَي ْح ُك َم َب ْيَنهُ ْم أ ِْ
ان قَ ْو َل اْل ُم ْؤ ِمن َ
{ ِ { } 52 - 51إَّن َما َك َ
ون } . ِ ون * َو َم ْن ُي ِط ِع اللَّهَ َو َر ُسولَهُ َوَي ْخ َش اللَّهَ َوَيتَّ ْق ِه فَأُولَئِ َ ِ ط ْعَنا َوأُولَئِ َ
ك ُه ُم اْلفَائ ُز َ ك ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ َوأَ َ
ِ
ين } حقيقة ،الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم حين يدعون إلى اهلل ان قَ ْو َل اْل ُم ْؤ ِمن َ
أيِ { :إَّن َما َك َ
ط ْعَنا } أي :سمعنا َن َيقُولُوا َس ِم ْعَنا َوأَ َ ورسوله ليحكم بينهم ،سواء وافق أهواءهم أو خالفها { ،أ ْ
حكم اهلل ورسوله ،وأجبنا من دعانا إليه ،وأطعنا طاعة تامة ،سالمة من الحرج.
ون } حصر الفالح فيهم ،ألن الفالح :الفوز بالمطلوب ،والنجاة من المكروه، ِ { َوأُولَئِ َ
ك ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ
وال يفلح إال من حكم اهلل ورسوله ،وأطاع اهلل ورسوله .ولما ذكر فضل الطاعة في الحكم
خصوصا ،ذكر فضلها عموما ،في جميع األحوال ،فقالَ { :و َم ْن ُي ِط ِع اللَّهَ َو َر ُسولَهُ } فيصدق
خبرهما ويمتثل أمرهماَ { ،وَي ْخ َش اللَّهَ } أي :يخافه خوفا مقرونا بمعرفة ،فيترك ما نهى عنه،
ويكف نفسه عما تهوى ،ولهذا قالَ { :وَيتَّ ْق ِه } بترك المحظور ،ألن التقوى -عند اإلطالق -يدخل
فيها ،فعل المأمور ،وترك المنهي عنه ،وعند اقترانها بالبر أو الطاعة -كما في هذا الموضع -
ك } الذين جمعوا بين طاعة اهلل وطاعة رسوله،تفسر بتوقي عذاب اهلل ،بترك معاصيه { ،فَأُولَئِ َ
ون } بنجاتهم من العذاب ،لتركهم أسبابه ،ووصولهم إلى الثواب، ِ
وخشية اهلل وتقواهُ { ،ه ُم اْلفَائ ُز َ
لفعلهم أسبابه ،فالفوز محصور فيهم ،وأما من لم يتصف بوصفهم ،فإنه يفوته من الفوز بحسب ما
قصر عنه من هذه األوصاف الحميدة ،واشتملت هذه اآلية ،على الحق المشترك بين اهلل وبين
رسوله ،وهو :الطاعة المستلزمة لإليمان ،والحق المختص باهلل ،وهو :الخشية والتقوى ،وبقي
الحق الثالث المختص بالرسول ،وهو التعزير والتوقير ،كما جمع بين الحقوق الثالثة في سورة
الفتح في قولهِ { :لتُؤ ِمُنوا بِاللَّ ِه ورسوِل ِه وتُعِّزروه وتُوقِّروه وتُسبِّحوه ب ْكرةً وأ ِ
َصيال } ََ ُ َ َ ُ ُ َ َ ُ ُ َ َ ُ ُ ُ َ َ ْ
( )1/572
( )1/572
( )1/572
( )1/573
ون * ال تَ ْح َسَب َّن َّ ِ يموا الصَّالةَ وآتُوا َّ ِ
الر ُسو َل لَ َعل ُك ْم تُْر َح ُم َ
يعوا َّ
الز َكاةَ َوأَط ُ َ { َ { } 57 - 56وأَق ُ
النار ولَبِْئس اْلم ِ األر ِ الَِّذين َكفَروا مع ِج ِز ِ
ص ُير } . اه ُم َّ ُ َ َ َ ض َو َمأ َْو ُ ين في َْ ُ ُْ َ
يأمر تعالى بإقامة الصالة ،بأركانها وشروطها وآدابها ،ظاهرا وباطنا ،وبإيتاء الزكاة من األموال
التي استخلف اهلل عليها العباد ،وأعطاهم إياها ،بأن يؤتوها الفقراء وغيرهم ،ممن ذكرهم اهلل
لمصرف الزكاة ،فهذان أكبر الطاعات وأجلهما ،جامعتان لحقه وحق خلقه ،لإلخالص للمعبود،
ول } وذلك بامتثال
الر ُس َ
يعوا َّ ِ
ولإلحسان إلى العبيد ،ثم عطف عليهما األمر العام ،فقالَ { :وأَط ُ
اع اللَّهَ } { لَ َعلَّ ُك ْم } حين تقومون بذلك
ط َ أوامره واجتناب نواهيه { َم ْن ُي ِط ِع َّ
الر ُسو َل فَقَ ْد أَ َ
ون } فمن أراد الرحمة ،فهذا طريقها ،ومن رجاها من دون إقامة الصالة ،وإ يتاء الزكاة، { تُْر َح ُم َ
وإ طاعة الرسول ،فهو متمن كاذب ،وقد منته نفسه األماني الكاذبة.
ض } فال يغررك ما متعوا به في الحياة الدنيا ،فإن اهلل، األر ِ { ال تَ ْحسب َّن الَِّذين َكفَروا مع ِج ِز ِ
ين في ْ َ ُ ُْ َ ََ
اب َغِل ٍ
يظ }. ط ُّر ُهم ِإلَى َع َذ ٍ وإ ن أمهلهم فإنه ال يهملهم { ُن َمتِّ ُعهُ ْم َقِليال ثَُّم َن ْ
ضَ ْ
النار ولَبِْئس اْلم ِ
ص ُير } أي :بئس المآل ،مآل الكافرين ،مآل الشر اه ُم َّ ُ َ َ َ ولهذا قال هناَ { :و َمأ َْو ُ
والحسرة والعقوبة األبدية.
( )1/573
( )1/573
ِ ِ َّ ك يبي َّ ِ طفَا ُل ِم ْن ُكم اْلحلُم َفْليستَأ ِْذُنوا َكما استَْأ َذن الَِّذ ِ ِ
ين م ْن قَْبل ِه ْم َك َذل َ َُ ُ
ِّن اللهُ لَ ُك ْم آََياته َواللهُ َ َ ْ َ ُ َُ َْ َوإِ َذا َبلَ َغ اأْل َ ْ
يم ()59 ِ ِ
يم َحك ٌ َعل ٌ
( )1/574
َن يضعن ثِيابه َّن َغ ْير متَبِّرج ٍ احا َفلَْي َس َعلَْي ِه َّن ُجَن ٌ اء الاَّل تِي اَل يرج ِ النس ِ ِ ِ
ات َ َُ َ اح أ ْ َ َ ْ َ َ َ ُ ون ن َك ً
َْ ُ َ َواْلقَ َواع ُد م َن ِّ َ
ِ َّ ِ ِ
يم ()60 بِ ِز َين ٍة َوأ ْ
َن َي ْستَ ْعف ْف َن َخ ْيٌر لَهُ َّن َواللهُ َسميعٌ َعل ٌ
( )1/574
يض َح َر ٌج َوال َعلَى األع َر ِج َح َر ٌج وال َعلَى اْل َم ِر ِ األع َمى َح َر ٌج َوال َعلَى ْ { { } 61لَْي َس َعلَى ْ
َ
َخ َواتِ ُك ْموت أ َوت ِإ ْخوانِ ُكم أَو بي ِ
َ ْ ْ ُُ
ُمهاتِ ُكم أَو بي ِ ِ ِ ِ ِ
َن تَْأ ُكلُوا م ْن ُبُيوتِ ُك ْم أ َْو ُبُيوت َآبائ ُك ْم أ َْو ُبُيوت أ َّ َ ْ ْ ُ ُ أ َْنفُ ِس ُك ْم أ ْ
وت َخاالتِ ُك ْم أ َْو َما َملَ ْكتُ ْم َمفَاتِ َحهُ أ َْو
َخو ِال ُكم أَو بي ِ ِ ِ ِ
َع َمام ُك ْم أ َْو ُبُيوت َع َّمات ُك ْم أ َْو ُبُيوت أ ْ َ ْ ْ ُ ُ
وت أ ْ ِ أَو بي ِ
ْ ُُ
يعا أ َْو أَ ْشتَاتًا فَِإ َذا َد َخْلتُ ْم ُبُيوتًا فَ َسلِّ ُموا َعلَى أ َْنفُ ِس ُك ْم تَ ِحَّيةً ِم ْن ِ
َن تَْأ ُكلُوا َجم ً ص ِد ِيق ُك ْم لَْي َس َعلَْي ُك ْم ُجَن ٌ
اح أ ْ َ
ون } . ِ ِ َّ ك يبي َّ ِ ِعْن ِد اللَّ ِه ُمَب َار َكةً َ
اآليات لَ َعل ُك ْم تَ ْعقلُ َ
ِّن اللهُ لَ ُك ُم َ
طيَِّبةً َك َذل َ َُ ُ
يخبر تعالى عن منته على عباده ،وأنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج بل يسره غاية التيسير،
األع َر ِج َح َر ٌج وال َعلَى اْل َم ِر ِ
يض َح َر ٌج } أي :ليس على األع َمى َح َر ٌج َوال َعلَى ْ
فقال { :لَْي َس َعلَى ْ
َ
هؤالء جناح ،في ترك األمور الواجبة ،التي تتوقف على واحد منها ،وذلك كالجهاد ونحوه ،مما
يتوقف على بصر األعمى ،أو سالمة األعرج ،أو صحة للمريض ،ولهذا المعنى العام الذي
ذكرناه ،أطلق الكالم في ذلك ،ولم يقيد ،كما قيد قولهَ { :وال َعلَى أ َْنفُ ِس ُك ْم } أي :حرج { أ ْ
َن تَْأ ُكلُوا
ِم ْن ُبُيوتِ ُك ْم } أي :بيوت أوالدكم ،وهذا موافق للحديث الثابت " :أنت ومالك ألبيك " والحديث
اآلخر " :إن أطيب ما أكلتم من كسبكم ،وإ ن أوالدكم من كسبكم " وليس المراد من قولهِ { :م ْن
ُبُيوتِ ُك ْم } بيت اإلنسان نفسه ،فإن هذا من باب تحصيل الحاصل ،الذي ينزه عنه كالم اهلل ،وألنه
نفى الحرج عما يظن أو يتوهم فيه اإلثم من هؤالء المذكورين ،وأما بيت اإلنسان نفسه فليس فيه
أدنى توهم.
ام ُكم أَو بي ِ
وت أ ْ ِ َخواتِ ُكم أَو بي ِ ِ ِ ِ وت أ َّ ِوت آبائِ ُكم أَو بي ِ
{ أَو بي ِ
وت َع َم ْ ْ ُ ُ ُمهَات ُك ْم أ َْو ُبُيوت ِإ ْخ َوان ُك ْم أ َْو ُبُيوت أ َ َ ْ ْ ُ ُ َ ْ ْ ُُ ْ ُُ
وت َخاالتِ ُك ْم } وهؤالء معروفون { ،أ َْو َما َملَ ْكتُ ْم َمفَاتِ َحهُ } أي: َخو ِال ُكم أَو بي ِ ِ ِ
َع َّمات ُك ْم أ َْو ُبُيوت أ ْ َ ْ ْ ُ ُ
البيوت التي أنتم متصرفون فيها بوكالة ،أو والية ونحو ذلك ،وأما تفسيرها بالمملوك ،فليس
بوجيه ،لوجهين :أحدهما :أن المملوك ال يقال فيه " ملكت مفاتحه " بل يقال " :ما ملكتموه " أو "
ما ملكت أيمانكم " ألنهم مالكون له جملة ،ال لمفاتحه فقط.
والثاني :أن بيوت المماليك ،غير خارجة عن بيت اإلنسان نفسه ،ألن المملوك وما ملكه لسيده،
فال وجه لنفي الحرج عنه.
ص ِد ِيق ُك ْم } وهذا الحرج المنفي عن األكل ( )1من هذه البيوت كل ذلك ،إذا كان بدون إذن،
{ أ َْو َ
والحكمة فيه معلومة من السياق ،فإن هؤالء المسمين ( )2قد جرت العادة والعرف ،بالمسامحة
في األكل منها ،ألجل القرابة القريبة ،أو التصرف التام ،أو الصداقة ،فلو قدر في أحد من هؤالء
عدم المسامحة والشح في األكل المذكور ،لم يجز األكل ،ولم يرتفع الحرج ،نظرا للحكمة
والمعنى.
ِ
َن تَْأ ُكلُوا َجم ً
يعا أ َْو أَ ْشتَاتًا } فكل ذلك جائز ،أكل أهل البيت الواحد اح أ ْ
وقوله { :لَْي َس َعلَْي ُك ْم ُجَن ٌ
جميعا ،أو أكل كل واحد منهم وحده ،وهذا نفي للحرج ،ال نفي للفضيلة وإ ال فاألفضل االجتماع
على الطعام.
{ فَِإ َذا َد َخْلتُ ْم ُبُيوتًا } نكرة في سياق الشرط ،يشمل بيت اإلنسان وبيت غيره ،سواء كان في البيت
ساكن أم ال فإذا دخلها اإلنسان { فَ َسلِّ ُموا َعلَى أ َْنفُ ِس ُك ْم } أي :فليسلم بعضكم على بعض ،ألن
المسلمين كأنهم شخص واحد ،من تواددهم ،وتراحمهم ،وتعاطفهم ،فالسالم مشروع لدخول سائر
البيوت ،من غير فرق بين بيت وبيت ،واالستئذان تقدم أن فيه تفصيال في أحكامه ،ثم مدح هذا
طيَِّبةً } [ ص ] 576أي :سالمكم بقولكم " :السالم السالم فقال { :تَ ِحَّيةً ِم ْن ِع ْن ِد اللَّ ِه ُمَب َار َكةً َ
عليكم ورحمة اهلل وبركاته " أو " السالم علينا وعلى عباد اهلل الصالحين " إذ تدخلون البيوت،
{ تَ ِحَّيةً ِم ْن ِعْن ِد اللَّ ِه } أي :قد شرعها لكم ،وجعلها تحيتكمُ { ،مَب َار َكةً } الشتمالها على السالمة من
طيَِّبةً } ألنها من الكلم الطيب المحبوب النقص ،وحصول الرحمة والبركة والنماء والزيادةَ { ،
عند اهلل ،الذي فيه طيب نفس للمحيا ،ومحبة وجلب مودة.
لما بين لنا هذه األحكام الجليلة قال:
ون } عنه ِ َّ ِ ك يبي َّ ِ
اآليات } الداالت على أحكامه الشرعية وحكمها { ،لَ َعل ُك ْم تَ ْعقلُ َ
ِّن اللهُ لَ ُك ْم َ
{ َك َذل َ َُ ُ
فتفهمونها ،وتعقلونها بقلوبكم ،ولتكونوا من أهل العقول واأللباب الرزينة ،فإن معرفة أحكامه
الشرعية على وجهها ،يزيد في العقل ،وينمو به اللب ،لكون معانيها أجل المعاني ،وآدابها أجل
اآلداب ،وألن الجزاء من جنس العمل ،فكما استعمل عقله للعقل عن ربه ،وللتفكر في آياته التي
دعاه إليها ،زاده من ذلك.
وفي هذه اآليات دليل على قاعدة عامة كلية وهي :أن " العرف والعادة مخصص لأللفاظ،
كتخصيص اللفظ للفظ " فإن األصل ،أن اإلنسان ممنوع من تناول طعام غيره ،مع أن اهلل أباح
األكل من بيوت هؤالء ،للعرف والعادة ،فكل مسألة تتوقف على اإلذن من مالك الشيء ،إذا علم
إذنه بالقول أو العرف ،جاز اإلقدام عليه.
وفيها دليل على أن األب يجوز له أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما ال يضره ،ألن اهلل سمى بيته
بيتا لإلنسان.
وفيها دليل على أن المتصرف في بيت اإلنسان ،كزوجته ،وأخته ونحوهما ،يجوز لهما األكل
عادة ،وإ طعام السائل المعتاد.
وفيها دليل ،على جواز المشاركة في الطعام ،سواء أكلوا مجتمعين ،أو متفرقين ،ولو أفضى ذلك
إلى أن يأكل بعضهم أكثر من بعض.
__________
( )1في ب :من.
( )2مراد الشيخ -رحمه اهلل -فإن بيوت هؤالء المسمين ،كما يبدو -واهلل أعلم.-
( )1/575
{ ِ { } 64 - 62إَّنما اْلمؤ ِمُنون الَِّذين آمُنوا بِاللَّ ِه ورسوِل ِه وإِ َذا َك ُانوا معه علَى أَم ٍر ج ِ
ام ٍع لَ ْم ََُ َ ْ َ ََ ُ َ َ َ َ ُْ َ
ك ِلَب ْع ِ
ض ِ َّ ِ
ون بِالله َو َر ُسوِله فَِإ َذا ْ
استَْأ َذُنو َ ين ُي ْؤ ِمُن َ
ك أُولَئِ َ َِّ
ك الذ َ ين َي ْستَأ ِْذُن َ
ون َ َِّ ِ
َي ْذ َهُبوا َحتَّى َي ْستَأْذُنوهُ ِإ َّن الذ َ
الرس ِ ِ َّ َّ ت ِم ْنهم و ِ ِ ِ ِ
ول َب ْيَن ُك ْم اء َّ ُ يم * ال تَ ْج َعلُوا ُد َع َ ور َرح ٌ استَ ْغف ْر لَهُ ُماللهَ ِإ َّن اللهَ َغفُ ٌ َشأْن ِه ْم فَ ْأ َذ ْن ل َم ْن ش ْئ َ ُ ْ َ ْ
ِ َِّ ض ُكم بعضا قَ ْد يعلَم اللَّه الَِّذين يتَسلَّلُ ِ ِ ِ ِ
َنون َع ْن أ َْم ِر ِه أ ْ ين ُي َخالفُ َ ون م ْن ُك ْم ل َوا ًذا َفْلَي ْح َذ ِر الذ َ
َك ُد َعاء َب ْع ْ َ ْ ً َ ْ ُ ُ َ َ َ َ
ض قَ ْد َي ْعلَ ُم َما أ َْنتُ ْم َعلَْي ِهاألر ِ ِ
َّم َاوات َو ْ
ِ َِّ ِ ِ
يم * أَال إ َّن لله َما في الس َ
صيبهم ع َذ ٌ ِ
اب أَل ٌ
ِ ِ
تُص َيبهُ ْم فتَْنةٌ أ َْو ُي َ ُ ْ َ
ِ
ٍ ِ َّ ِّ ِ ِ
يم } . ون ِإلَْيه فَُيَنبُِّئهُ ْم بِ َما َعملُوا َواللهُ بِ ُكل َش ْيء َعل ٌ َوَي ْو َم ُي ْر َج ُع َ
هذا إرشاد من اهلل لعباده المؤمنين ،أنهم إذا كانوا مع الرسول صلى اهلل عليه وسلم على أمر
جامع ،أي :من ضرورته أو من مصلحته ،أن يكونوا فيه جميعا ،كالجهاد ،والمشاورة ،ونحو ذلك
من األمور التي يشترك فيها المؤمنون ،فإن المصلحة تقتضي اجتماعهم عليه وعدم تفرقهم،
فالمؤمن باهلل ورسوله حقا ،ال يذهب ألمر من األمور ،ال يرجع ألهله ،وال يذهب لبعض الحوائج
التي يشذ بها عنهم ،إال بإذن من الرسول أو نائبه من بعده ،فجعل موجب اإليمان ،عدم الذهاب إال
ك ين َي ْستَأ ِْذُن َ
ون َ َِّ
بإذن ،ومدحهم على فعلهم هذا وأدبهم مع رسوله وولي األمر منهم ،فقالِ { :إ َّن الذ َ
ون بِاللَّ ِه َو َر ُسوِل ِه } ولكن هل يأذن لهم أم ال؟ ذكر إلذنه لهم شرطين:
ين ُي ْؤ ِمُن َ
أُولَئِ َ َِّ
ك الذ َ
أحدهما :أن يكون لشأن من شئونهم ،وشغل من أشغالهم ،فأما من يستأذن من غير عذر ،فال يؤذن
له.
ك ِلَب ْع ِ
ض والثاني :أن يشاء اإلذن فتقتضيه المصلحة ،من دون مضرة باآلذن ،قال { :فَِإ َذا ْ
استَْأ َذُنو َ
ت ِم ْنهُ ْم } فإذا كان له عذر واستأذن ،فإن كان في قعوده وعدم ذهابه مصلحة َشأْنِ ِه ْم فَ ْأ َذ ْن ِل َم ْن ِش ْئ َ
برأيه ،أو شجاعته ،ونحو ذلك ،لم يأذن له ،ومع هذا إذا استأذن ،وأذن له بشرطيه ،أمر اهلل رسوله
َّ َّ أن يستغفر له ،لما عسى أن يكون مقصرا في االستئذان ،ولهذا قال { :و ِ
استَ ْغف ْر لَهُم اللهَ ِإ َّن اللهَ
َ ْ
يم } يغفر لهم الذنوب ويرحمهم ،بأن جوز لهم االستئذان مع العذر. ِ
ور َرح ٌ َغفُ ٌ
ضا } أي :ال تجعلوا دعاء الرسول إياكم ِ ِ الرس ِ
ول َب ْيَن ُك ْم َك ُد َعاء َب ْعض ُك ْم َب ْع ً اء َّ ُ { ال تَ ْج َعلُوا ُد َع َ
ودعائكم للرسول كدعاء بعضكم بعضا ،فإذا دعاكم فأجيبوه وجوبا ،حتى إنه تجب إجابة الرسول
صلى اهلل عليه وسلم في حال الصالة ،وليس أحد إذا قال قوال يجب على األمة قبول قوله والعمل
استَ ِج ُيبوا ِللَّ ِه
آمُنوا ْ
ين َ
َِّ
به ،إال الرسول ،لعصمته ،وكوننا مخاطبين باتباعه ،قال تعالىَ { :يا أَيُّهَا الذ َ
ول ِإ َذا َد َعا ُك ْم ِل َما ُي ْحيِي ُك ْم } وكذلك ال تجعلوا دعاءكم للرسول كدعاء بعضكم بعضا ،فال
وِل َّلرس ِ
َ ُ
تقولوا " :يا محمد " عند ندائكم ،أو " يا محمد بن عبد اهلل " كما يقول ذلك بعضكم لبعض ،بل من
شرفه وفضله وتميزه صلى اهلل عليه وسلم عن غيره ،أن يقال :يا رسول اهلل ،يا نبي اهلل.
ون ِم ْن ُك ْم ِل َوا ًذا } لما مدح المؤمنين باهلل ورسوله ،الذين إذا كانوا معه على َّ
ين َيتَ َسللُ َ
َّ َِّ
{ قَ ْد َي ْعلَ ُم اللهُ الذ َ
أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ،توعد من لم [ ص ] 577يفعل ذلك وذهب من غير استئذان،
ون ِم ْن ُك ْم ِل َوا ًذا } أي: َّ
فهو وإ ن خفي عليكم بذهابه على وجه خفي ،وهو المراد بقولهَ { :يتَ َسللُ َ
يلوذون وقت تسللهم وانطالقهم بشيء يحجبهم عن العيون ،فاهلل يعلمهم ،وسيجازيهم على ذلك أتم
ون َع ْن أ َْم ِر ِه } أي :يذهبون إلى بعض شئونهم ِ َِّ
الجزاء ،ولهذا توعدهم بقولهَ { :فْلَي ْح َذ ِر الذ َ
ين ُي َخالفُ َ
عن أمر اهلل ورسوله ،فكيف بمن لم يذهب إلى شأن من شئونه؟" وإ نما ترك أمر اهلل من دون شغل
يم }. صيبهم ع َذ ٌ ِ ِ ِ له { .أ ْ ِ
اب أَل ٌ َن تُص َيبهُ ْم فتَْنةٌ } أي :شرك وشر { أ َْو ُي َ ُ ْ َ
األر ِ ِ ِ َِّ ِ ِ
ض } ملكا وعبيدا ،يتصرف فيهم بحكمه القدري ،وحكمه َّم َاوات َو ْ { أَال إ َّن لله َما في الس َ
الشرعي { .قَ ْد َي ْعلَ ُم َما أ َْنتُ ْم َعلَْي ِه } أي :قد أحاط علمه بما أنتم عليه ،من خير وشر ،وعلم جميع
أعمالكم ،أحصاها علمه ،وجرى بها قلمه ،وكتبتها عليكم الحفظة الكرام الكاتبون.
ون ِإلَْي ِه } في يوم القيامة { فَُيَنبُِّئهُ ْم بِ َما َع ِملُوا } يخبرهم بجميع أعمالهم ،دقيقها { َوَي ْو َم ُي ْر َج ُع َ
وجليلها ،إخبارا مطابقا لما وقع منهم ،ويستشهد عليهم أعضاءهم ،فال يعدمون منه فضال أو عدال.
ٍ ِ َّ ِّ
ولما قيد علمه بأعمالهم ،ذكر العموم بعد الخصوص ،فقالَ { :واللهُ بِ ُكل َش ْيء َعل ٌ
يم }.
تفسير سورة الفرقان
وهي مكية عند الجمهور
( )1/576
ِ
ات واأْل َْر ِ
ض ين َن ِذ ًيرا ( )1الَِّذي لَهُ ُمْل ُ ك الَِّذي َن َّز َل اْلفُرقَان علَى ع ْب ِد ِه ِلي ُك ِ ِ
َّم َاو َ
ك الس َ ون لْل َعالَم َ
ْ َ َ َ َ َ تََب َار َ
ق ُك َّل َش ْي ٍء فَقَ َّد َرهُ تَ ْق ِد ًيرا ()2
ك ِفي اْل ُمْل ِك َو َخلَ َ
َولَ ْم َيتَّ ِخ ْذ َولَ ًدا َولَ ْم َي ُك ْن لَهُ َش ِري ٌ
( )1/577
{ { } 3واتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُدونِ ِه ِآلهةً ال ي ْخلُقُون َش ْيًئا و ُهم ي ْخلَقُون وال يمِل ُكون ْ ِ
ألنفُس ِه ْم َ
ض ًّرا َوال َن ْف ًعا َ َ َْ َ َ ُْ َ َ َ َ
ورا } . ِ
ون َم ْوتًا َوال َحَياةً َوال ُن ُش ً َوال َي ْمل ُك َ
أي :من أعجب العجائب وأدل الدليل على سفههم ونقص عقولهم ،بل أدل على ظلمهم وجراءتهم
على ربهم أن اتخذوا آلهة بهذه الصفة ،في كمال العجز أنها ال تقدر على خلق شيء بل هم
مخلوقون ،بل بعضهم مما عملته أيديهم { .وال يمِل ُكون ْ ِ
ألنفُس ِه ْم َ
ض ًّرا َوال َن ْف ًعا } أي :ال قليال وال َ َْ َ
كثيرا ،ألنه نكرة في سياق النفي.
ورا } أي :بعثا بعد الموت ،فأعظم أحكام العقل بطالن إلهيتها ِ
ون َم ْوتًا َوال َحَياةً َوال ُن ُش ً
{ َوال َي ْمل ُك َ
وفسادها وفساد عقل من اتخذها آلهة وشركاء [ ص ] 578للخالق لسائر المخلوقات من غير
مشاركة له في ذلك ،الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع الذي يحيي ويميت ويبعث من في
القبور ويجمعهم ليوم النشور ،وقد جعل لهم دارين دار الشقاء والخزي والنكال لمن اتخذ معه آلهة
أخرى ،ودار الفوز والسعادة والنعيم المقيم لمن اتخذه وحده معبودا.
ولما قرر بالدليل القاطع الواضح صحة التوحيد وبطالن ضده قرر صحة الرسالة وبطالن قول
من عارضها واعترضها فقال:
( )1/577
ورا ()4 اءوا ظُْل ًما َو ُز ً ون فَقَ ْد َج ُ َع َانهُ َعلَْي ِه قَ ْو ٌم آ َ
َخ ُر َ ك ا ْفتََراهُ َوأ َين َكفَ ُروا ِإ ْن َه َذا ِإاَّل ِإ ْف ٌ وقَ َ َِّ
ال الذ َ َ
ِّر ِفي
َصياًل (ُ )5ق ْل أ َْن َزلَهُ الَِّذي َي ْعلَ ُم الس َّ
اطير اأْل ََّوِلين ا ْكتَتَبها فَ ِهي تُملَى علَْي ِه ب ْكرةً وأ ِ
ََ َ ْ َ ُ َ َ َ
وقَالُوا أ ِ
َس ُ َ َ
ِ ِ
يما ()6 ورا َرح ً ان َغفُ ً ض ِإَّنهُ َك َ ات واأْل َْر ِ
َّم َاو َ
الس َ
اءوا ظُْل ًما ون فَقَ ْد َج ُآخ ُر َ َع َانهُ َعلَْي ِه قَ ْو ٌم َ ين َكفَ ُروا ِإ ْن َه َذا ِإال ِإ ْف ٌ
ك ا ْفتََراهُ َوأ َ
َِّ
{ َ { } 6 - 4وقَا َل الذ َ
َصيال * ُق ْل أ َْن َزلَهُ الَِّذي َي ْعلَ ُم الس َّ
ِّر األوِلين ا ْكتَتَبها فَ ِهي تُملَى علَْي ِه ب ْكرةً وأ ِ
ََ َ ْ َ ُ َ َ َساط ُير َّ َ
و ُزورا * وقَالُوا أ ِ
َ َ َ ً
ِ ِ ِ
يما } . ورا َرح ً ان َغفُ ًض ِإَّنهُ َك َ
األر َِّم َاوات َو ْ
في الس َ
أي :وقال الكافرون باهلل الذي أوجب لهم كفرهم أن قالوا في القرآن والرسول :إن هذا القرآن
كذب كذبه محمد وإ فك افتراه على اهلل وأعانه على ذلك قوم آخرون.
فرد اهلل عليهم ذلك بأن هذا مكابرة منهم وإ قدام على الظلم والزور ،الذي ال يمكن أن يدخل عقل
أحد وهم أشد الناس معرفة بحالة الرسول صلى اهلل عليه وسلم وكمال صدقه وأمانته وبره التام
وأنه ال يمكنه ،ال هو وال سائر الخلق أن يأتوا بهذا القرآن الذي هو أجل الكالم وأعاله وأنه لم
يجتمع بأحد يعينه على ذلك فقد جاءوا بهذا القول ظلما وزورا.
ومن جملة أقاويلهم فيه أن قالوا :هذا الذي جاء به محمد { أَس ِ
األوِل َ
ين ا ْكتَتََبهَا } أي :هذا اط ُير َّ َ
قصص األولين وأساطيرهم التي تتلقاها األفواه وينقلها كل أحد استنسخها محمد { فَ ِه َي تُ ْملَى َعلَْي ِه
َصيال } وهذا القول منهم فيه عدة عظائم: ب ْكرةً وأ ِ
ُ َ َ
منها :رميهم الرسول الذي هو أبر الناس وأصدقهم بالكذب والجرأة العظيمة.
ومنها :إخبارهم عن هذا القرآن الذي هو أصدق الكالم وأعظمه وأجله -بأنه كذب وافتراء.
ومنها :أن في ضمن ذلك أنهم قادرون أن يأتوا بمثله وأن يضاهي المخلوق الناقص من كل وجه
للخالق الكامل من كل وجه بصفة من صفاته ،وهي الكالم.
ومنها :أن الرسول قد علمت حالته وهم أشد الناس علما بها ،أنه ال يكتب وال يجتمع بمن يكتب له
وقد زعموا ذلك.
األر ِ
ض } أي :أنزله من ِ فلذلك رد عليهم ذلك بقولهُ { :ق ْل أَنزلَه الَِّذي يعلَم الس َّ ِ
َّم َاوات َو ْ
ِّر في الس َ َْ ُ ُ
أحاط علمه بما في السماوات وما في األرض ،من الغيب والشهادة والجهر والسر كقولهَ { :وإِ َّنهُ
ِ ك ِلتَ ُك ِ
ين َعلَى َقْلبِ َ ِ نزل بِ ِه ُّ ِ
ون م َن اْل ُم ْنذ ِر َ
ين } َ وح األم ُ
الر ُ ين َ لَتَنزي ُل َر ِّ
ب اْل َعالَم َ
ووجه إقامة الحجة عليهم أن الذي أنزله ،هو المحيط علمه بكل شيء ،فيستحيل ويمتنع أن يقول
مخلوق ويتقول عليه هذا القرآن ،ويقول :هو من عند اهلل وما هو من عنده ويستحل دماء من
خالفه وأموالهم ،ويزعم أن اهلل قال له ذلك ،واهلل يعلم كل شيء ومع ذلك فهو يؤيده وينصره على
أعدائه ،ويمكنه من رقابهم وبالدهم فال يمكن أحدا أن ينكر هذا القرآن ،إال بعد إنكار علم اهلل،
وهذا ال تقول به طائفة من بني آدم سوى الفالسفة الدهرية.
وأيضا فإن ذكر علمه تعالى العام ينبههم :ويحضهم على تدبر القرآن ،وأنهم لو تدبروا لرأوا فيه
من علمه وأحكامه ما يدل داللة قاطعة على أنه ال يكون إال من عالم الغيب والشهادة ،ومع
إنكارهم للتوحيد والرسالة من لطف اهلل بهم ،أنه لم يدعهم وظلمهم بل دعاهم إلى التوبة واإلنابة
ورا } أي :وصفه إليه ووعدهم بالمغفرة والرحمة ،إن هم تابوا ورجعوا فقالِ { :إَّنهُ َك َ
ان َغفُ ً
المغفرة ألهل الجرائم والذنوب ،إذا فعلوا أسباب المغفرة وهي الرجوع عن معاصيه والتوبة منها.
يما } بهم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة وقد فعلوا مقتضاها ،وحيث قبل توبتهم بعد المعاصي ِ
{ َرح ً
وحيث محا ما سلف من سيئاتهم وحيث قبل حسناتهم وحيث أعاد الراجع إليه بعد شروده والمقبل
عليه بعد إعراضه إلى حالة المطيعين المنيبين إليه.
( )1/578
( )1/578
ِ ان َب ِع ٍيد َس ِم ُعوا لَهَا تَ َغُّي ً
ِإ َذا َرأَتْهُ ْم ِم ْن َم َك ٍ
ضيِّقًا ُمقََّرنِ َ
ين َد َع ْوا ظا َو َز ِف ًيرا (َ )12وإِ َذا أُْلقُوا م ْنهَا َم َك ًانا َ
ورا َكثِ ًيرا ()14 ِ
ورا َواح ًدا َو ْاد ُعوا ثُُب ً
ورا ( )13اَل تَ ْد ُعوا اْلَي ْو َم ثُُب ً ك ثُُب ً ُهَن ِال َ
( )1/579
( )1/579
ضلُّوا َّ
السبِي َل ( ِ ِ ِ
َضلَْلتُ ْم عَبادي َه ُؤاَل ء أ َْم ُه ْم َ ون اللَّ ِه فََيقُو ُل أَأ َْنتُ ْم أ ْون ِم ْن ُد ِ َوَي ْو َم َي ْح ُش ُر ُه ْم َو َما َي ْعُب ُد َ
ِ َن َنتَّ ِخ َذ ِم ْن ُدونِ َ ِ
اء ُه ْم َحتَّى َن ُسوا
اء َولَك ْن َمتَّ ْعتَهُ ْم َوآََب َ ك م ْن أ َْوِلَي َ ان َي ْنَب ِغي لََنا أ ْك َما َك َ )17قَالُوا ُس ْب َح َان َ
ظِل ْم
ص ًرا َو َم ْن َي ْ
ص ْرفًا َواَل َن ْ ون َ يع َ
ِ
ون فَ َما تَ ْستَط ُ
َّ
ورا ( )18فَقَ ْد َكذُبو ُك ْم بِ َما تَقُولُ َ الذ ْك َر َو َك ُانوا قَ ْو ًما ُب ً
ِّ
ون ِفي َّ ك ِمن اْلمرسِل اَّل ِ ِ
ون الط َع َام َوَي ْم ُش َ ين ِإ ِإَّنهُ ْم لََي ْأ ُكلُ َ م ْن ُك ْم ُنذ ْقهُ َع َذ ًابا َكبِ ًيرا (َ )19و َما أ َْر َسْلَنا قَْبلَ َ َ ُ ْ َ َ
كب ِ ق وجعْلَنا بعض ُكم ِلبع ٍ ِ
ص ًيرا ()20 ان َرُّب َ َ
ون َو َك َ صبِ ُر َ ض فتَْنةً أَتَ ْ َس َوا ِ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ اأْل ْ
( )1/580
( )1/581
ق ِل َّلر ْح َم ِن
ك َي ْو َمئٍِذ اْل َح ُّ
اء بِاْل َغ َم ِام َوُنِّز َل اْل َمالئِ َكةُ تَْن ِزيال * اْل ُمْل ُ
َّم ُ { َ { } 29 - 25وَي ْو َم تَ َشقَّ ُ
ق الس َ
و َكان يوما علَى اْل َك ِاف ِرين ع ِسيرا * ويوم يع ُّ َّ
الرس ِ
ول ت َم َع َّ ُ ض الظ ِال ُم َعلَى َي َد ْي ِه َيقُو ُل َيا لَْيتَنِي اتَّ َخ ْذ ُ َ َْ َ َ َ َ َ ً َ َ َْ ً َ
ان ان َّ الذ ْك ِر بع َد ِإ ْذ ج َِضلَّنِي َع ِن ِّ سبِيال * يا وْيلَتَى لَْيتَنِي لَم أَتَّ ِخ ْذ فُ ً ِ
ط ُ الش ْي َ اءني َو َك َ َ َ َْ النا َخليال * لَقَ ْد أ َ ْ َ َ َ
ِل ْ
إلن َس ِ
ان َخ ُذوال } .
يخبر تعالى عن عظمة يوم القيامة وما فيه من الشدة والكروب ،ومزعجات القلوب فقالَ { :وَي ْو َم
اء بِاْل َغ َم ِام } وذلك الغمام الذي ينزل اهلل فيه ،ينزل من فوق السماوات فتنفطر له َّم ُ تَ َشقَّ ُ
ق الس َ
السماوات وتشقق وتنزل مالئكة كل سماء فيقفون صفا صفا ،إما صفا واحدا محيطا بالخالئق،
وإ ما كل سماء يكونون صفا ثم السماء التي تليها صفا وهكذا.
القصد أن المالئكة -على كثرتهم وقوتهم -ينزلون محيطين بالخلق مذعنين ألمر ربهم ال يتكلم
منهم أحد إال بإذن من اهلل ،فما ظنك باآلدمي الضعيف خصوصا الذي بارز مالكه بالعظائم ،وأقدم
على مساخطه ثم قدم عليه بذنوب وخطايا لم يتب منها ،فيحكم فيه الملك الحق بالحكم الذي ال
ين َع ِس ًيرا } لصعوبته الشديدة ِ
ان َي ْو ًما َعلَى اْل َكاف ِر َ يجور وال يظلم مثقال ذرة ولهذا قالَ { :و َك َ
وتعسر أموره عليه ،بخالف المؤمن فإنه يسير عليه خفيف الحمل.
ين ِإلَى َجهََّن َم ِو ْر ًدا }. ِ
وق اْل ُم ْج ِر ِم َ ين ِإلَى َّ
الر ْح َم ِن َو ْف ًدا َوَن ُس ُ { َي ْو َم َن ْح ُش ُر اْل ُمتَّق َ
ق ِل َّلر ْح َم ِن } ال يبقى ألحد من المخلوقين ملك وال ك َي ْو َمئٍِذ } أي :يوم القيامة { اْل َح ُّ وقوله { :اْل ُمْل ُ
صورة ملك ،كما كانوا في الدنيا ،بل قد تساوت الملوك ورعاياهم واألحرار والعبيد واألشراف
وغيرهم ،ومما يرتاح له القلب ،وتطمئن به النفس وينشرح له [ ص ] 582الصدر أن أضاف
الملك في يوم القيامة السمه " الرحمن " الذي وسعت رحمته كل شيء وعمت كل حي ومألت
الكائنات وعمرت بها الدنيا واآلخرة ،وتم بها كل ناقص وزال بها كل نقص ،وغلبت األسماء
الدالة عليه األسماء الدالة على الغضب وسبقت رحمته غضبه وغلبته ،فلها السبق والغلبة ،وخلق
هذا اآلدمي الضعيف وشرفه وكرمه ليتم عليه نعمته ،وليتغمده برحمته ،وقد حضروا في موقف
الذل والخضوع واالستكانة بين يديه ينتظرون ما يحكم فيهم وما يجري عليهم وهو أرحم بهم من
أنفسهم ووالديهم فما ظنك بما يعاملهم به ،وال يهلك على اهلل إال هالك وال يخرج من رحمته إال من
غلبت عليه الشقاوة وحقت عليه كلمة العذاب.
ض الظَّ ِال ُم } بشركه وكفره وتكذيبه للرسل { َعلَى َي َد ْي ِه } تأسفا وتحسرا وحزنا وأسفا{ . { َوَي ْو َم َي َع ُّ
ول َسبِيال } أي طريقا باإليمان به وتصديقه واتباعه. الرس ِ
ت َم َع َّ ُ َيقُو ُل َيا لَْيتَنِي اتَّ َخ ْذ ُ
النا } وهو الشيطان اإلنسي أو الجنيَ { ،خِليال } أي :حبيبا مصافيا { َيا َوْيلَتَى لَْيتَنِي لَ ْم أَتَّ ِخ ْذ فُ ً
عاديت أنصح الناس لي ،وأبرهم بي وأرفقهم بي ،وواليت أعدى عدو لي الذي لم تفدني واليته إال
الشقاء والخسار والخزي والبوار.
اءنِي } حيث زين له ما هو عليه من الضالل بخدعه وتسويله. ِّ
َضلني َع ِن الذ ْك ِر َب ْع َد ِإ ْذ َج َ
{ لَقَ ْد أ َّ ِ
َ
ان َخ ُذوال } يزين له الباطل ويقبح له الحق ،ويعده األماني ثم يتخلى عنه ان ِل ْ
إلن َس ِ ط ُ ان َّ
الش ْي َ { َو َك َ
ان
ط ُ ال َّ
الش ْي َ ويتبرأ منه كما قال لجميع أتباعه حين قضي األمر ،وفرغ اهلل من حساب الخلق { َوقَ َ
ان ِإال أ ْ
َن ان ِلي َعلَْي ُك ْم ِم ْن ُسْل َ
طٍ َخلَ ْفتُ ُك ْم َو َما َك َ األم ُر ِإ َّن اللَّهَ َو َع َد ُك ْم َو ْع َد اْل َح ِّ
ق َو َو َع ْدتُ ُك ْم فَأ ْ ِ
لَ َّما قُض َي ْ
ص ِر ِخ َّي ِإِّني َكفَ ْر ُ
ت ِ
ص ِرخ ُك ْم َو َما أ َْنتُ ْم بِ ُم ْ
وموا أ َْنفُ َس ُك ْم َما أََنا بِ ُم ْ وموني َولُ ُ
استَ َج ْبتُ ْم ِلي فَال تَلُ ِ
ُ َد َع ْوتُ ُك ْم فَ ْ
ون ِم ْن قَْب ُل } اآلية .فلينظر العبد لنفسه وقت اإلمكان وليتدارك الممكن قبل أن ال بِ َما أَ ْش َر ْكتُ ُم ِ
يمكن ،وليوال من واليته فيها سعادته وليعاد من تنفعه عداوته وتضره صداقته .واهلل الموفق.
( )1/581
ك َج َعْلَنا ِل ُك ِّل
ورا * َو َك َذِل َ ب ِإ َّن قَ ْو ِمي اتَّ َخ ُذوا َه َذا اْلقُْر َ
آن َم ْه ُج ً الر ُسو ُل َيا َر ِّ
ال َّ{ َ { } 31 - 30وقَ َ
ك َه ِاديا وَن ِ ِ ِ
ص ًيرا } . ين َو َكفَى ب َرِّب َ ً َ َنبِ ٍّي َع ُد ًّوا م َن اْل ُم ْج ِر ِم َ
الر ُسو ُل } مناديا لربه وشاكيا له إعراض قومه عما جاء به ،ومتأسفا على ذلك منهمَ { :يا { َوقَا َل َّ
ورا } أي :قد ب ِإ َّن قَ ْو ِمي } الذي أرسلتني لهدايتهم وتبليغهم { ،اتَّ َخ ُذوا َه َذا اْلقُْر َ
آن َم ْه ُج ً َر ِّ
أعرضوا عنه وهجروه وتركوه مع أن الواجب عليهم االنقياد لحكمه واإلقبال على أحكامه،
والمشي خلفه ،قال اهلل مسليا لرسوله ومخبرا أن هؤالء الخلق لهم سلف صنعوا كصنيعهم فقال{ :
ِ ِ َو َك َذِل َ
ك َج َعْلَنا ل ُك ِّل َنبِ ٍّي َع ُد ًّوا م َن اْل ُم ْج ِر ِم َ
ين } أي :من الذين ال يصلحون للخير وال يزكون عليه
يعارضونهم ويردون عليهم ويجادلونهم بالباطل.
من بعض فوائد ذلك أن يعلو الحق على الباطل وأن يتبين الحق ويتضح اتضاحا عظيما ألن
معارضة الباطل للحق مما تزيده وضوحا وبيانا وكمال استدالل وأن يتبين ما يفعل اهلل بأهل الحق
من الكرامة وبأهل الباطل من العقوبة ،فال تحزن عليهم وال تذهب نفسك عليهم حسرات { َو َكفَى
ِّك َه ِاديا } يهديك فيحصل لك المطلوب ومصالح دينك ودنياك { .وَن ِ
ص ًيرا } ينصرك على َ بَِرب َ ً
أعدائك ويدفع عنك كل مكروه في أمر الدين والدنيا فاكتف به وتوكل عليه.
( )1/582
ِّت بِ ِه فُ َؤ َاد َ
ك َو َرتَّْلَناهُ تَْرتِياًل ()32 ك ِلُنثَب َ
اح َدةً َك َذِل َ
ال الَِّذين َكفَروا لَواَل ُنِّز َل علَْي ِه اْلقُرآَن جملَةً و ِ
ْ ُ ُْ َ َ َ ُ ْ َوقَ َ
كِّت بِ ِه فُ َؤ َاد َ
ك ِلُنثَب َ
اح َدةً َك َذِل َ
ال الَِّذين َكفَروا لَوال ُنِّز َل علَْي ِه اْلقُرآن جملَةً و ِ
ْ ُ ُْ َ َ َ ُ ْ { َ { } 33 - 32وقَ َ
َو َرتَّْلَناهُ تَْرتِيال } .
آن ُج ْملَةً ِ
هذا من جملة مقترحات الكفار الذي توحيه إليهم أنفسهم فقالوا { :لَ ْوال نز َل َعلَْيه اْلقُْر ُ
اح َدةً } أي :كما أنزلت الكتب قبله ،وأي محذور من نزوله على هذا الوجه؟ بل نزوله على هذا و ِ
َ
ك } ألنه كلما نزل عليه ِّت بِ ِه فُ َؤ َاد َ
ك } أنزلناه متفرقا { ِلُنثَب َ الوجه أكمل وأحسن ،ولهذا قالَ { :ك َذِل َ
شيء من القرآن ازداد طمأنينة وثباتا وخصوصا عند ورود أسباب القلق فإن نزول القرآن عند
حدوث السبب يكون له موقع عظيم وتثبيت كثير أبلغ مما لو كان نازال قبل ذلك ثم تذكره عند
حلول سببه.
{ َو َرتَّْلَناهُ تَْرتِيال } أي :مهلناه ودرجناك فيه تدريجا .وهذا كله يدل على اعتناء اهلل بكتابه القرآن
وبرسوله محمد صلى اهلل عليه وسلم حيث جعل إنزال كتابه جاريا على أحوال الرسول ومصالحه
الدينية.
( )1/582
( )1/582
َض ُّل َسبِياًل ()34 ون َعلَى ُو ُجو ِه ِه ْم ِإلَى َجهََّن َم أُولَئِ َ
ك َشٌّر َم َك ًانا َوأ َ ين ُي ْح َش ُر َ
َِّ
الذ َ
َض ُّل َسبِيال } . ون َعلَى ُو ُجو ِه ِه ْم ِإلَى َجهََّن َم أُولَئِ َ
ك َشٌّر َم َك ًانا َوأ َ ين ُي ْح َش ُر َ
َِّ
{ { } 34الذ َ
ون َعلَى ُو ُجو ِه ِه ْم
يخبر تعالى عن حال المشركين الذين كذبوا رسوله وسوء مآلهم ،وأنهم { ُي ْح َش ُر َ
} أشنع مرأى ،وأفظع منظر تسحبهم مالئكة العذاب ويجرونهم { ِإلَى َجهََّن َم } الجامعة لكل عذاب
َض ُّل َسبِيال } وعقوبة { .أُولَئِ َ
ك } الذين بهذه الحالة { َشٌّر َم َك ًانا } ممن آمن باهلل وصدق رسلهَ { ،وأ َ
وهذا من باب استعمال أفضل التفضيل فيما ليس في الطرف اآلخر منه شيء فإن المؤمنين حسن
مكانهم ومستقرهم ،واهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم وفي اآلخرة إلى الوصول إلى جنات
النعيم.
( )1/583
( )1/583
ضلَُّنا
اد لَي ِ
ث اللهُ َر ُسوال * ِإ ْن َك َ ُ
َه َذا الَِّذي بع َ َّ
ََ ك ِإال ُه ُز ًوا أ َ ك ِإ ْن َيتَّ ِخ ُذ َ
ون َ { َ { } 44 - 41وإِ َذا َرأ َْو َ
ف يعلَم ِ
ت َم ِن َض ُّل َسبِيال * أ ََرأ َْي َ
اب َم ْن أ َ
ين َي َر ْو َن اْل َع َذ َ
ون ح َ صَب ْرَنا َعلَْيهَا َو َس ْو َ َ ْ ُ َ َن َ َع ْن ِآلهَتَِنا لَ ْوال أ ْ
ون َعلَْي ِه َو ِكيال } . ت تَ ُك ُ اتَّ َخ َذ ِإلَهَهُ َه َواهُ أَفَأ َْن َ
أي :وإ ذا رآك يا محمد هؤالء المكذبون لك المعاندون آليات [اهلل] ( )1المستكبرون في األرض
ث اللَّهُ َر ُسوال
َه َذا الَِّذي َب َع َ
استهزءوا بك واحتقروك وقالوا -على وجه االحتقار واالستصغار { -أ َ
} أي :غير مناسب وال الئق أن يبعث اهلل هذا الرجل ،وهذا من شدة ظلمهم وعنادهم وقلبهم
الحقائق فإن كالمهم هذا يفهم أن الرسول -حاشاه -في غاية الخسة والحقارة وأنه لو كانت
الرسالة لغيره لكان أنسب.
آن َعلَى َر ُج ٍل ِم َن اْلقَ ْرَيتَْي ِن َع ِظ ٍيم } فهذا الكالم ال يصدر إال من أجهل
{ َوقَالُوا لَ ْوال نز َل َه َذا اْلقُْر ُ
الناس وأضلهم ،أو من أعظمهم عنادا وهو متجاهل ،قصده ترويج ما معه من الباطل بالقدح
بالحق وبمن جاء به ،وإ ال فمن تدبر أحوال محمد بن عبد اهلل صلى اهلل عليه وسلم وجده رجل
العالم وهمامهم ومقدمهم في العقل والعلم واللب والرزانة ،ومكارم األخالق ومحاسن الشيم والعفة
والشجاعة والكرم وكل خلق فاضل ،وأن المحتقر له والشانئ له قد جمع من السفه والجهل
والضالل والتناقض والظلم والعدوان ما ال يجمعه غيره ،وحسبه جهال وضالال أن يقدح بهذا
الرسول العظيم والهمام الكريم.
والقصد من قدحهم فيه واستهزائهم به تصلبهم على باطلهم وغرورا لضعفاء العقول ( )2ولهذا
ضلَُّنا َع ْن ِآلهَتَِنا } بأن يجعل اآللهة إلها واحدا { لَ ْوال أ ْ
صَب ْرَنا اد } هذا الرجل { لَي ِ
قالواِ { :إ ْن َك َ
َن َ ُ
َعلَْيهَا } ألضلنا زعموا -قبحهم اهلل -أن الضالل هو التوحيد وأن الهدى ما هم عليه من الشرك
اصبِ ُروا َعلَى ِآلهَتِ ُك ْم }.
ام ُشوا َو ْ ق اْل َمأل ِم ْنهُ ْم أ ِ
َن ْ طلَ َ
فلهذا تواصوا بالصبر عليهَ { .و ْان َ
[ ص ] 584
صَب ْرَنا َعلَْيهَا } والصبر يحمد في المواضع كلها ،إال في هذا الموضع فإنه
َن َ
وهنا قالوا { :لَ ْوال أ ْ
صبر على أسباب الغضب وعلى االستكثار من حطب جهنم .وأما المؤمنون فهم كما قال اهلل
َّب ِر } ولما كان هذا حكما منهم بأنهم المهتدون والرسول اص ْوا بِالص ْ اص ْوا بِاْل َح ِّ
ق َوتََو َ عنهمَ { :وتََو َ
ين َي َر ْو َن ِ
ضال وقد تقرر أنهم ال حيلة فيهم توعدهم بالعذاب وأخبر أنهم في ذلك الوقت { ح َ
ض الظَّ ِال ُم َعلَى َي َد ْي ِه َيقُو ُل َيا
َض ُّل َسبِيال } { َوَي ْو َم َي َع ُّ
اب } يعلمون علما حقيقيا { َم ْن } هو { أ َ اْل َع َذ َ
ول َسبِيال } اآليات. الرس ِ
ت َم َع َّ ُ لَْيتَنِي اتَّ َخ ْذ ُ
ت َم ِن اتَّ َخ َذ وهل فوق ضالل من جعل إلهه معبوده [هواه] ( )3فما هويه فعله فلهذا قال { :أ ََرأ َْي َ
ِإلَهَهُ َه َواهُ } أال تعجب من حاله وتنظر ما هو فيه من الضالل؟ وهو يحكم لنفسه بالمنازل
الرفيعة؟
ون َعلَْي ِه َو ِكيال } أي :لست عليه بمسيطر مسلط بل إنما أنت منذر ،وقد قمت بوظيفتك
ت تَ ُك ُ
{ أَفَأ َْن َ
وحسابه على اهلل.
__________
( )1زيادة مني يقتضيها السياق.
( )2المراد( :وتغريرا بضعفاء العقول).
( )3زيادة مني يقتضيها السياق مع العلم أن كلمة هواه كتبت في ب بدال عن معبوده ثم شطبت.
( )1/583
ِ
ون ِإ ْن ُه ْم ِإاَّل َكاأْل َْن َع ِام َب ْل ُه ْم أ َ
َض ُّل َسبِياًل ()44 ون أ َْو َي ْعقلُ َ ب أ َّ
َن أَ ْكثََر ُه ْم َي ْس َم ُع َ أ َْم تَ ْح َس ُ
ِ
األن َع ِام َب ْل ُه ْم أ َ
َض ُّل َسبِيال } . ون ِإ ْن ُه ْم ِإال َك ْ
ون أ َْو َي ْعقلُ َ ب أ َّ
َن أَ ْكثََر ُه ْم َي ْس َم ُع َ { أ َْم تَ ْح َس ُ
ثم سجل تعالى على ضاللهم البليغ بأن سلبهم العقول واألسماع وشبههم في ضاللهم باألنعام
السائمة التي ال تسمع إال دعاء ونداء ،صم بكم عمي فهم ال يعقلون بل هم أضل من األنعام ألن
األنعام يهديها راعيها فتهتدي وتعرف طريق هالكها فتجتنبه وهي أيضا أسلم عاقبة من هؤالء،
فتبين بهذا أن الرامي للرسول بالضالل أحق بهذا الوصف وأن كل حيوان بهيم فهو أهدى منه.
( )1/584
الش ْم َس َعلَْي ِه َدِلياًل ( )45ثَُّم قََب ْ ف م َّد الظِّ َّل ولَو َشاء لَجعلَه س ِ
اكًنا ثَُّم َج َعْلَنا َّ أَلَ ْم تََر ِإلَى َرب َ
ضَناهُ َ ْ َ ََ ُ َ ِّك َك ْي َ َ
ضا َي ِس ًيرا ()46
ِإلَْيَنا قَْب ً
( )1/584
( )1/584
ورا (ِ )48لُن ْحيِ َي بِ ِه َبْل َدةً طهُ ً اء َ الرياح ب ْشرا ب ْين ي َدي ر ْحمتِ ِه وأ َْن َزْلَنا ِمن الس ِ
َّماء َم ً َ َ َو ُه َو الذي أ َْر َس َل ِّ َ َ ُ ً َ َ َ ْ َ َ َ
َِّ
اس ِإاَّل
الن ِ ص َّر ْفَناهُ َب ْيَنهُ ْم ِلَي َّذ َّك ُروا فَأََبى أَ ْكثَُر َّ ِ ِ
اما َوأََناس َّي َكث ًيرا (َ )49ولَقَ ْد َ
ِ ِ
َم ْيتًا َوُن ْسقَيهُ م َّما َخلَ ْقَنا أ َْن َع ً
ورا ()50
ُكفُ ً
ورا * الرياح ب ْشرا ب ْين ي َدي ر ْحمتِ ِه وأ َْن َزْلَنا ِمن الس ِ َِّ
طهُ ً
اء َ َّماء َم ً َ َ { َ { } 50 - 48و ُه َو الذي أ َْر َس َل ِّ َ َ ُ ً َ َ َ ْ َ َ َ
ص َّر ْفَناهُ َب ْيَنهُ ْم ِلَي َّذ َّك ُروا فَأََبى أَ ْكثَُر ِ ِ
اما َوأََناس َّي َكث ًيرا * َولَقَ ْد َ
ِ ِ ِ ِ ِِ
لُن ْحي َي به َبْل َدةً َم ْيتًا َوُن ْسقَيهُ م َّما َخلَ ْقَنا أ َْن َع ً
ورا } . اس ِإال ُكفُ ً الن ِ
َّ
أي :هو وحده الذي رحم عباده وأدر عليهم رزقه بأن أرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته
وهو المطر فثار بها السحاب وتألف وصار كسفا وألقحته وأدرته بإذن آمرها والمتصرف فيها
ليقع استبشار العباد بالمطر قبل نزوله وليستعدوا له قبل أن يفاجئهم دفعة واحدة.
ورا } يطهر من الحدث والخبث ويطهر من الغش واألدناس ،وفيه { وأَنزْلَنا ِمن الس ِ
طهُ ً اء َ
َّماء َم ً
َ َ َ
بركة من بركته أنه أنزله ليحيي به بلدة ميتا فتختلف أصناف النوابت واألشجار فيها مما يأكل
اس َّي َكثِ ًيرا } أي :نسقيكموه أنتم وأنعامكم ،أليس
الناس واألنعام { .وُنس ِقيه ِم َّما َخلَ ْقَنا أ َْنعاما وأََن ِ
ًَ َ َ ْ َُ
الذي أرسل الرياح المبشرات وجعلها في عملها متنوعات ،وأنزل من السماء ماء طهورا مباركا
فيه رزق العباد ورزق بهائمهم ،هو الذي يستحق أن يعبد وحده وال يشرك معه غيره؟
ولما ذكر تعالى هذه اآليات العيانية المشاهدة وصرفها للعباد ليعرفوه ويشكروه ويذكروه مع ذلك
أبي أكثر الخلق إال كفورا ،لفساد أخالقهم وطبائعهم.
( )1/584
اه ْد ُه ْم بِ ِه ِجهَ ً
ادا َكبِ ًيرا ()52 ولَو ِش ْئَنا لَبعثَْنا ِفي ُك ِّل قَري ٍة َن ِذيرا ( )51فَاَل تُ ِط ِع اْل َك ِاف ِرين وج ِ
َ َ َ ً َْ ََ َ ْ
اه ْد ُه ْم بِ ِه ِجهَ ً
ادا َكبِ ًيرا { { } 52 - 51ولَو ِش ْئَنا لَبعثَْنا ِفي ُك ِّل قَري ٍة َن ِذيرا * فَال تُ ِط ِع اْل َك ِاف ِرين وج ِ
َ َ َ ً َْ ََ َ ْ
}.
يخبر تعالى عن نفوذ مشيئته وأنه لو شاء لبعث في كل قرية نذيرا ،أي :رسوال ينذرهم ويحذرهم
فمشيئته غير قاصرة عن ذلك ،ولكن اقتضت حكمته ورحمته بك وبالعباد -يا محمد -أن أرسلك
إلى جميعهم أحمرهم وأسودهم عربيهم وعجميهم إنسهم وجنهم.
ِ ِ
ين } في ترك شيء مما أرسلت [ ص ] 585به بل ابذل جهدك في تبليغ ما { فَال تُط ِع اْل َكاف ِر َ
أرسلت به { .وج ِ
اه ْد ُه ْم } بالقرآن { ِجهَ ً
ادا َكبِ ًيرا } أي :ال تبق من مجهودك في نصر الحق وقمع َ َ
الباطل إال بذلته ولو رأيت منهم من التكذيب والجراءة ما رأيت فابذل جهدك واستفرغ وسعك،
وال تيأس من هدايتهم وال تترك إبالغهم ألهوائهم.
( )1/584
( )1/585
( )1/585
ظ ِه ًيرا ()55 ون اللَّ ِه ما اَل ي ْنفَعهم واَل يض ُّر ُهم و َكان اْل َك ِافر علَى رب ِ
ِّه َ ون ِم ْن ُد ِ
ُ َ َ َ َ ُ ُْ َ َ ُ ْ َ َ َوَي ْعُب ُد َ
ظ ِه ًيرا } . ون اللَّ ِه ما ال ي ْنفَعهم وال يض ُّر ُهم و َكان اْل َك ِافر علَى رب ِ
ِّه َ ون ِم ْن ُد ِ
ُ َ َ َ َ ُ ُْ َ َ ُ ْ َ َ { َ { } 55وَي ْعُب ُد َ
أي :يعبدون أصناما وأمواتا ال تضر وال تنفع ويجعلونها أندادا لمالك النفع والضرر والعطاء
والمنع مع أن الواجب عليهم أن يكونوا مقتدين بإرشادات ربهم ذابين عن دينه ،ولكنهم عكسوا
القضية.
ظ ِه ًيرا } فالباطل الذي هو األوثان واألنداد أعداء هلل ،فالكافر عاونها { و َكان اْل َك ِافر علَى رب ِ
ِّه َ ُ َ َ َ َ
وظاهرها على ربها وصار عدوا لربه مبارزا له في العداوة والحرب ،هذا وهو الذي خلقه
ورزقه وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة ،وليس يخرج عن ملكه وسلطانه وقبضته واهلل لم
يقطع عنه إحسانه وبره وهو -بجهله -مستمر على هذه المعاداة والمبارزة.
( )1/585
َن يتَّ ِخ َذ ِإلَى رب ِ ك ِإاَّل مَب ِّشرا وَن ِذيرا (ُ )56ق ْل ما أَسأَلُ ُكم َعلَْي ِه ِم ْن أ ْ اَّل
ِّه َ اء أ ْ ََج ٍر ِإ َم ْن َش َ َ ْ ْ َو َما أ َْر َسْلَنا َ ُ ً َ ً
وب ِعَب ِاد ِه َخبِ ًيرا ()58 ِّح بِ َحم ِد ِه و َكفَى بِ ِه بِ ُذُن ِ
وت َو َسب ْ ْ َ َسبِياًل (َ )57وتََو َّك ْل َعلَى اْل َح ِّي الَِّذي اَل َي ُم ُ
َل بِ ِه
اسأ ْ
الر ْح َم ُن فَ ْش َّ استَوى َعلَى اْل َع ْر ِ ِ ِ َّ ِ ٍ
ض َو َما َب ْيَنهُ َما في ستة أَيَّام ثَُّم ْ َ
ِ
َّم َاوات َواأْل َْر َ الَِّذي َخلَ َ
ق الس َ
ِ اس ُج ُدوا ِل َّلر ْح َم ِن قَالُوا َو َما َّ ِ
ورا ( ْم ُرَنا َو َز َاد ُه ْم ُنفُ ً
الر ْح َم ُن أََن ْس ُج ُد ل َما تَأ ُ َخبِ ًيرا (َ )59وإِ َذا قي َل لَهُ ُم ْ
)60
( )1/585
اجا َوقَ َم ًرا ُمنِ ًيرا (َ )61و ُه َو الَِّذي َج َع َل اللَّْي َل ِ ِ
وجا َو َج َع َل فيهَا س َر ًَّماء ُب ُر ً
ك الَِّذي جع َل ِفي الس ِ
َ ََ تََب َار َ
النهار ِخْلفَةً ِلم ْن أَر َاد أ ْ َّ َّ
ورا ()62 َن َيذك َر أ َْو أ ََر َاد ُش ُك ً َ َ َو َّ َ َ
( )1/586
( )1/586
[ ص ] 587
آخ َر } بل يعبدونه وحده مخلصين له الدين حنفاء مقبلين عليه ون َم َع اللَّ ِه ِإلَهًا َ
ين ال َي ْد ُع َ
َِّ
{ َوالذ َ
معرضين عما سواه.
ق } كقتل النفس الن ْف َس الَّتِي َح َّر َم اللَّهُ } وهي نفس المسلم والكافر المعاهدِ { ،إال بِاْل َح ِّ ون َّ { َوال َي ْقتُلُ َ
بالنفس وقتل الزاني المحصن والكافر الذي يحل قتله.
ت أ َْي َم ُانهُ ْم } { َو َم ْن َي ْف َع ْل َذِل َ
ك} ون } بل يحفظون فروجهم { ِإال َعلَى أ َْز َوا ِج ِه ْم ْأو َما َملَ َك ْ { َوال َي ْزُن َ
اما } ثم فسره ق أَثَ ً
أي :الشرك باهلل أو قتل النفس التي حرم اهلل بغير حق أو الزنا فسوف { َيْل َ
يه } أي :في العذاب { ُمهَ ًانا } فالوعيد بالخلود ف لَه اْلع َذاب يوم اْل ِقيام ِة وي ْخلُ ْد ِف ِ
اع ْ ُ َ ُ َ ْ َ َ َ َ َ ض َ بقولهُ { :ي َ
لمن فعلها كلها ثابت ال شك فيه وكذا لمن أشرك باهلل ،وكذلك الوعيد بالعذاب الشديد على كل
واحد من هذه الثالثة لكونها إما شرك وإ ما من أكبر الكبائر.
وأما خلود القاتل والزاني في العذاب فإنه ال يتناوله الخلود ألنه قد دلت النصوص القرآنية والسنة
النبوية أن جميع المؤمنين سيخرجون من النار وال يخلد فيها مؤمن ولو فعل من المعاصي ما
فعل ،ونص تعالى على هذه الثالثة ألنها من أكبر الكبائر :فالشرك فيه فساد األديان ،والقتل فيه
فساد األبدان والزنا فيه فساد األعراض.
اب } عن هذه المعاصي وغيرها بأن أقلع عنها في الحال وندم على ما مضى له من { ِإال َم ْن تَ َ
آم َن } باهلل إيمانا صحيحا يقتضي ترك المعاصي وفعلفعلها وعزم عزما جازما أن ال يعودَ { ،و َ
ص ِال ًحا } مما أمر به الشارع إذا قصد به وجه اهلل. ِ
الطاعات { َو َعم َل َع َمال َ
ك يب ِّد ُل اللَّه سيَِّئاتِ ِهم حسَن ٍ
ات } أي :تتبدل أفعالهم وأقوالهم التي كانت مستعدة لعمل السيئات ِ
ُ َ ْ ََ { فَأُولَئ َ َُ
تتبدل حسنات ،فيتبدل شركهم إيمانا ومعصيتهم طاعة وتتبدل نفس السيئات التي عملوها ثم
أحدثوا عن كل ذنب منها توبة وإ نابة وطاعة تبدل حسنات كما هو ظاهر اآلية.
وورد في ذلك حديث الرجل الذي حاسبه اهلل ببعض ذنوبه فعددها عليه ثم أبدل مكان كل سيئة
حسنة فقال : :يا رب إن لي سيئات ال أراها هاهنا " واهلل أعلم.
يما } بعباده حيث دعاهم إلى التوبة بعد ِ { و َك َّ
ورا } لمن تاب يغفر الذنوب العظيمة { َرح ً ان اللهُ َغفُ ً
َ َ
مبارزته بالعظائم ثم وفقهم لها ثم قبلها منهم.
وب ِإلَى اللَّ ِه َمتَ ًابا } أي :فليعلم أن توبته في غاية الكمال ألنها { وم ْن تَاب وع ِم َل ِ
صال ًحا فَِإَّنهُ َيتُ ُ
َ َ َ َ ََ
رجوع إلى الطريق الموصل إلى اهلل الذي هو عين سعادة العبد وفالحه فليخلص فيها وليخلصها
من شوائب األغراض الفاسدة ،فالمقصود من هذا الحث على تكميل التوبة وإ يقاعها على أفضل
الوجوه وأجلها ليقدم على من تاب إليه فيوفيه ( )1أجره بحسب كمالها.
ور } أي :ال يحضرون الزور أي :القول والفعل المحرم ،فيجتنبون جميع ون ُّ َِّ
الز َ ين ال َي ْشهَ ُد َ
{ َوالذ َ
المجالس المشتملة على األقوال المحرمة أو األفعال المحرمة ،كالخوض في آيات اهلل والجدال
الباطل والغيبة والنميمة والسب والقذف واالستهزاء والغناء المحرم وشرب الخمر وفرش
الحرير ،والصور ونحو ذلك ،وإ ذا كانوا ال يشهدون الزور فمن باب أولى وأحرى أن ال يقولوه
ويفعلوه.
وشهادة الزور داخلة في قول الزور تدخل في هذه اآلية باألولويةَ { ،وإِ َذا َم ُّروا بِاللَّ ْغ ِو } وهو
اما } أي: ِ
الكالم الذي ال خير فيه وال فيه فائدة دينية وال دنيوية ككالم السفهاء ونحوهم { َم ُّروا ك َر ً
نزهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه ورأوا أن الخوض فيه وإ ن كان ال إثم فيه فإنه سفه
ونقص لإلنسانية والمروءة فربأوا بأنفسهم عنه.
وفي قولهَ { :وإِ َذا َم ُّروا بِاللَّ ْغ ِو } إشارة إلى أنهم ال يقصدون حضوره وال سماعه ،ولكن عند
المصادفة التي من غير قصد يكرمون أنفسهم عنه.
ِ ِ ِّ َِّ
ين ِإ َذا ُذك ُروا بِ َآيات َرِّب ِه ْم } التي أمرهم باستماعها واالهتداء بها { ،لَ ْم َيخ ُّروا َعلَْيهَا ُ
ص ًّما { َوالذ َ
َو ُع ْمَي ًانا } أي لم يقابلوها باإلعراض عنها والصمم عن سماعها وصرف النظر والقلوب عنها كما
يفعله من لم يؤمن بها ولم يصدق ،وإ نما حالهم فيها وعند سماعها كما قال تعالىِ { :إَّن َما ُي ْؤ ِم ُن
ِ ين ِإ َذا ُذ ِّك ُروا بِهَا َخ ُّروا ُسج ً ِ َِّ
ون } يقابلونها بالقبول َّحوا بِ َح ْمد َرِّب ِه ْم َو ُه ْم ال َي ْستَ ْكبِ ُر َ
َّدا َو َسب ُ بِ َآياتَنا الذ َ
واالفتقار إليها واالنقياد والتسليم لها ،وتجد عندهم آذانا سامعة وقلوبا واعية فيزداد بها إيمانهم
ويتم بها إيقانهم وتحدث لهم نشاطا ويفرحون بها سرورا واغتباطا.
ب لََنا ِم ْن أ َْز َوا ِجَنا } أي :قرنائنا من أصحاب وأقران وزوجات،
ون َربََّنا َه ْ
ين َيقُولُ َ
َِّ
{ َوالذ َ
َعُي ٍن } أي :تقر بهم أعيننا. { َو ُذِّريَّاتَِنا قَُّرةَ أ ْ
وإ ذا استقرأنا حالهم وصفاتهم عرفنا من هممهم وعلو مرتبتهم أنهم ال تقر أعينهم حتى يروهم
مطيعين لربهم عالمين عاملين وهذا كما أنه دعاء ألزواجهم وذرياتهم في صالحهم فإنه دعاء
ب لََنا } بل دعاؤهم يعود إلى
ألنفسهم ألن نفعه يعود عليهم ولهذا جعلوا ذلك هبة لهم فقالواَ { :ه ْ
نفع عموم المسلمين ألن بصالح من ذكر يكون سببا لصالح كثير ممن يتعلق بهم وينتفع بهم.
[ ص ] 588
اما } أي :أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية ،درجة الصديقين والكمل اج َعْلَنا ِلْلمتَِّق َ ِ
ين إ َم ً ُ { َو ْ
من عباد اهلل الصالحين وهي درجة اإلمامة في الدين وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم
يقتدى بأفعالهم ،ويطمئن ألقوالهم ويسير أهل الخير خلفهم فيهدون ويهتدون.
ومن المعلوم أن الدعاء ببلوغ شيء دعاء بما ال يتم إال به ،وهذه الدرجة -درجة اإلمامة في
ِ
ون بِأ َْم ِرَنا لَ َّما َ
صَب ُروا الدين -ال تتم إال بالصبر واليقين كما قال تعالىَ { :و َج َعْلَناهم أَئ َّمةً َي ْه ُد َ
ِ
ون } فهذا الدعاء يستلزم من األعمال والصبر على طاعة اهلل وعن معصيته َو َك ُانوا بِ َآياتَنا ُيو ِقُن َ
وأقداره المؤلمة ومن العلم التام الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين ،خيرا كثيرا وعطاء جزيال
وأن يكونوا في أعلى ما يمكن من درجات الخلق بعد الرسل.
ولهذا ،لما كانت هممهم ومطالبهم عالية كان الجزاء من جنس العمل فجازاهم بالمنازل العاليات
صَب ُروا } أي :المنازل الرفيعة والمساكن األنيقة الجامعة لكل ما فقال { :أُولَئِ َ
ك ُي ْج َز ْو َن اْل ُغ ْرفَةَ بِ َما َ
ون َعلَْي ِه ْم ِ
يشتهى وتلذه األعين وذلك بسبب صبرهم نالوا ما نالوا كما قال تعالىَ { :واْل َمالئ َكةُ َي ْد ُخلُ َ
ِ َّ ِ صَب ْرتُ ْم فَنِ ْع َم ُع ْقَبى َّ ِ ِّ ٍ
الما } الد ِار } ولهذا قال هنا { َوُيلَق ْو َن فيهَا تَحَّيةً َو َس ً الم َعلَْي ُك ْم بِ َما َ
م ْن ُكل َباب َس ٌ
من ربهم ومن مالئكته الكرام ومن بعض على بعض ويسلمون من جميع المنغصات والمكدرات.
والحاصل :أن اهلل وصفهم بالوقار والسكينة والتواضع له ولعباده وحسن األدب والحلم وسعة
الخلق والعفو عن الجاهلين واإلعراض عنهم ومقابلة إساءتهم باإلحسان وقيام الليل واإلخالص
فيه ،والخوف من النار والتضرع لربهم أن ينجيهم منها وإ خراج الواجب والمستحب في النفقات
واالقتصاد في ذلك -وإ ذا كانوا مقتصدين في اإلنفاق الذي جرت العادة بالتفريط فيه أو اإلفراط،
فاقتصادهم وتوسطهم في غيره من باب أولى -والسالمة من كبائر الذنوب واالتصاف باإلخالص
هلل في عبادته والعفة عن الدماء واألعراض والتوبة عند صدور شيء من ذلك ،وأنهم ال
يحضرون مجالس المنكر والفسوق القولية والفعلية وال يفعلونها بأنفسهم وأنهم يتنزهون من اللغو
واألفعال الردية التي ال خير فيها ،وذلك يستلزم مروءتهم وإ نسانيتهم وكمالهم ورفعة أنفسهم عن
كل خسيس قولي وفعلي ،وأنهم يقابلون آيات اهلل بالقبول لها والتفهم لمعانيها والعمل بها،
واالجتهاد في تنفيذ أحكامها ،وأنهم يدعون اهلل تعالى بأكمل الدعاء ،في الدعاء الذي ينتفعون به،
وينتفع به من يتعلق بهم وينتفع به المسلمون من صالح أزواجهم وذريتهم ،ومن لوازم ذلك سعيهم
في تعليمهم ووعظهم ونصحهم ألن من حرص على شيء ودعا اهلل فيه ال بد أن يكون متسببا فيه،
وأنهم دعوا اهلل ببلوغ أعلى الدرجات الممكنة لهم وهي درجة اإلمامة والصديقية.
فلله ما أعلى هذه الصفات وأرفع هذه الهمم وأجل هذه المطالب ،وأزكى تلك النفوس وأطهر تلك
القلوب وأصفى هؤالء الصفوة وأتقى هؤالء السادة"
وهلل ،فضل اهلل عليهم ونعمته ورحمته التي جللتهم ،ولطفه الذي أوصلهم إلى هذه المنازل.
وهلل ،منة اهلل على عباده أن بين لهم أوصافهم ،ونعت لهم هيئاتهم وبين لهم هممهم ،وأوضح لهم
أجورهم ،ليشتاقوا إلى االتصاف بأوصافهم ،ويبذلوا جهدهم في ذلك ،ويسألوا الذي من عليهم
وأكرمهم الذي فضله في كل زمان ومكان ،وفي كل وقت وأوان ،أن يهديهم كما هداهم ويتوالهم
بتربيته الخاصة كما توالهم.
فاللهم لك الحمد وإ ليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث ،وال حول وال قوة إال بك ،ال نملك
ألنفسنا نفعا وال ضرا وال نقدر على مثقال ذرة من الخير إن لم تيسر ذلك لنا ،فإنا ضعفاء
عاجزون من كل وجه.
نشهد أنك إن وكلتنا إلى أنفسنا طرفة عين وكلتنا إلى ضعف وعجز وخطيئة ،فال نثق يا ربنا إال
برحمتك التي بها خلقتنا ورزقتنا وأنعمت علينا بما أنعمت من النعم الظاهرة والباطنة وصرفت
عنا من النقم ،فارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك فال خاب من سألك ورجاك.
ولما كان اهلل تعالى قد أضاف هؤالء العباد إلى رحمته واختصهم بعبوديته لشرفهم وفضلهم ربما
توهم متوهم أنه وأيضا غيرهم فلم ال يدخل في العبودية؟
فأخبر تعالى أنه ال يبالي وال يعبأ بغير هؤالء وأنه لوال دعاؤكم إياه دعاء العبادة ودعاء المسألة ما
ف ي ُك ِ َّ
اما } أي:
ون ل َز ً عبأ بكم وال أحبكم فقالُ { :ق ْل َما َي ْعَبأُ بِ ُك ْم َربِّي لَ ْوال ُد َع ُ
اؤ ُك ْم فَقَ ْد َكذ ْبتُ ْم فَ َس ْو َ َ ُ
عذابا يلزمكم لزوم الغريم لغريمه وسوف يحكم اهلل بينكم وبين عباده المؤمنين .تم تفسير سورة
الفرقان،
فلله الحمد والثناء والشكر أبدا.
__________
( )1في ب :فيوفيهم.
( )1/587
[ ص ] 589
تفسير سورة الشعراء
وهي مكية عند الجمهور
( )1/589
ين (ِ )3إ ْن َن َش ْأ ُنَنِّز ْل ِ ك أَاَّل َي ُك ُ كب ِ َّ ات اْل ِكتَ ِ طسم ( )1تِْل َ
ونوا ُم ْؤ ِمن َ اخعٌ َن ْف َس َ ين ( )2لَ َعل َ َ اب اْل ُمبِ ِ ك آََي ُ
الر ْحم ِن م ْح َد ٍث ِإاَّل ِِ ِ ِ ِ ِِ ظلَّ ْ علَْي ِهم ِمن السَّم ِ
ين (َ )4و َما َيأْتيه ْم م ْن ذ ْك ٍر م َن َّ َ ُ َعَناقُهُ ْم لَهَا َخاضع َ تأْ اء آََيةً فَ َ َ ْ َ َ
ون ( )6أ ََولَ ْم َي َر ْوا ِإلَى ِ ِ َّ ِ
اء َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ ين ( )5فَقَ ْد َكذُبوا فَ َسَيأْتي ِه ْم أ َْنَب ُ َك ُانوا َعْنهُ ُم ْع ِرض َ
ِ ض َك ْم أ َْنَبتَْنا ِفيهَا ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج َك ِر ٍيم (ِ )7إ َّن ِفي َذِل َ
ين (َ )8وإِ َّن ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ
ك آَل ََيةً َو َما َك َ اأْل َْر ِ
ك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ
يم ()9 الرح ُ َرَّب َ َُ َ
ك أَالاخعٌ َن ْف َس َ كب ِ َّ اب اْل ُمبِ ِ ات اْل ِكتَ ِ الر ِح ِيم * طسم * تِْل َ الر ْح َم ِن َّ { { } 9 - 1بِ ْسِم اللَّ ِه َّ
ين * لَ َعل َ َ ك َآي ُ
ين * َو َما َيأْتِي ِه ْم ِم ْن ِِ
َعَناقُهُ ْم لَهَا َخاضع َ تأْ ظلَّ ْ ونوا مؤ ِمنِين * ِإ ْن َن َش ْأ ُنَنِّز ْل علَْي ِهم ِمن السَّم ِ
اء َآيةً فَ َ َ ْ َ َ َي ُك ُ ُ ْ َ
ِ ِ َّ ِ ٍ ِذ ْك ٍر ِم َن َّ
اء َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ
ون ين * فَقَ ْد َكذُبوا فَ َسَيأْتي ِه ْم أ َْنَب ُ الر ْح َم ِن ُم ْح َدث ِإال َك ُانوا َعْنهُ ُم ْع ِرض َ
ان أَ ْكثَُر ُه ْم
آليةً َو َما َك َ
ك َ ض َك ْم أ َْنَبتَْنا ِفيهَا ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج َك ِر ٍيم * ِإ َّن ِفي َذِل َ األر ِ * أ ََولَ ْم َي َر ْوا ِإلَى ْ
َّك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ ِ
يم } .الرح ُ ين * َوإِ َّن َرب َ َُ َ ُم ْؤ ِمن َ
يشير الباري تعالى إشارة ،تدل على التعظيم آليات الكتاب المبين البين الواضح ،الدال على جميع
المطالب اإللهية ،والمقاصد الشرعية ،بحيث ال يبقى عند الناظر فيه ،شك وال شبهة فيما أخبر به،
أو حكم به ،لوضوحه ،وداللته على أشرف المعاني ،وارتباط األحكام بحكمها ،وتعليقها بمناسبها،
فكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ينذر به الناس ،ويهدي به الصراط المستقيم ،فيهتدي بذلك
عباد اهلل المتقون ،ويعرض عنه من كتب عليه الشقاء ،فكان يحزن حزنا شديدا ،على عدم
إيمانهم ،حرصا منه على الخير ،ونصحا لهم.
ِ كب ِ َّ
ونوا ُم ْؤ ِمن َ
ين } أي: ك } أي :مهلكها وشاق عليها { ،أَال َي ُك ُاخعٌ َن ْف َس َ فلهذا قال تعالى عنه { :لَ َعل َ َ
فال تفعل ،وال تذهب نفسك عليهم حسرات ،فإن الهداية بيد اهلل ،وقد أديت ما عليك من التبليغ،
وليس فوق هذا القرآن المبين آية ،حتى ننزلها ،ليؤمنوا [بها] ،فإنه كاف شاف ،لمن يريد الهداية،
نزل علَْي ِهم ِمن السَّم ِ ِ
اء َآيةً }. ولهذا قال { :إ ْن َن َش ْأ ُن ْ َ ْ َ َ
ين } ولكن ال حاجة ِِ ظلَّ ْ
َعَناقُهُ ْم } أي :أعناق المكذبين { لَهَا َخاضع َ تأْ أي :من آيات االقتراح { ،فَ َ
إلى ذلك ،وال مصلحة فيه ،فإنه إذ ذاك الوقت ،يكون اإليمان غير نافع ،وإ نما اإليمان النافع،
ِ َن تَأْتَِيهُ ُم اْل َمالئِ َكةُ أ َْو َيأْتِ َي َرب َ
ضُّك أ َْو َيأْت َي َب ْع ُ ون ِإال أ ْاإليمان بالغيب ،كما قال تعالىَ { :ه ْل َي ْنظُ ُر َ
يم ُانهَا } اآلية. ِ ات َرِّب َِّك يوم يأْتِي بعض آي ِ ِ
ك ال َي ْنفَعُ َن ْف ًسا إ َ َآيات َرب َ َ ْ َ َ َ ْ ُ َ
الر ْح َم ِن ُم ْح َد ٍث } يأمرهم وينهاهم ،ويذكرهم ما ينفعهم ويضرهمِ { .إال { َو َما َيأْتِي ِه ْم ِم ْن ِذ ْك ٍر ِم َن َّ
ِ
ين } بقلوبهم وأبدانهم ،هذا إعراضهم عن الذكر المحدث ،الذي جرت العادة ،أنه َك ُانوا َعْنهُ ُم ْع ِرض َ
يكون موقعه أبلغ من غيره ،فكيف بإعراضهم عن غيره ،وهذا ألنهم ال خير فيهم ،وال تنجع فيهم
المواعظ ،ولهذا قال { :فَقَ ْد َك َّذُبوا }.
اء َما َك ُانوا بِ ِه ِ
أي :بالحق ،وصار التكذيب لهم سجية ،ال تتغير وال تتبدل { ،فَ َسَيأْتي ِه ْم أ َْنَب ُ
ون } أي :سيقع بهم العذاب ،ويحل بهم ما كذبوا به ،فإنهم قد حقت عليهم ،كلمة العذاب. َي ْستَ ْه ِزُئ َ
ض َك ْم أ َْنَبتَْنا ِفيهَا ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج
األر ِ قال اهلل منبها على التفكر الذي ينفع صاحبه { :أ ََولَ ْم َي َر ْوا ِإلَى ْ
َك ِر ٍيم } من جميع أصناف النباتات ،حسنة المنظر ،كريمة في نفعها.
ان
آليةً } على إحياء اهلل الموتى بعد موتهم ،كما أحيا األرض بعد موتها { َو َما َك َ ك َ { ِإ َّن ِفي َذِل َ
ِ ِ
ين }. ت بِ ُم ْؤ ِمن َ
صَ الن ِ
اس َولَ ْو َح َر ْ أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ
ين } كما قال تعالىَ { :و َما أَ ْكثَُر َّ
الر ِح ِيم }ك لَهَُو اْل َع ِز ُيز } الذي قد قهر كل مخلوق ،ودان له العالم العلوي والسفليَّ { ، { َوإِ َّن َرَّب َ
الذي وسعت رحمته كل شيء ،ووصل جوده إلى كل حي ،العزيز الذي أهلك األشقياء بأنواع
العقوبات ،الرحيم بالسعداء ،حيث أنجاهم من كل شر وبالء.
( )1/589
ين } إلى آخر القصة قولهِ { :إ َّن في َّ ِ ِ ك موسى أ ِ ِ
َن ا ْئت اْلقَ ْو َم الظالم َ ادى َرُّب َ ُ َ { َ { } 68 - 10وإِ ْذ َن َ
َّك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ ِ َذِل َ
يم }
الرح ُ ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُمؤ ِمن َ
ين َوإِ َّن َرب َ َُ َ آليةً َو َما َك َ
ك َ
أعاد الباري تعالى ،قصة موسى وثناها في القرآن ،ما لم يثن غيرها ،لكونها مشتملة على حكم
عظيمة ،وعبر وفيها نبأه مع الظالمين والمؤمنين ،وهو صاحب الشريعة الكبرى ،وصاحب
التوراة أفضل الكتب بعد القرآن فقال :واذكر حالة موسى الفاضلة ،وقت نداء اهلل إياه ،حين كلمه
ين } الذين تكبروا في األرض ،وعلوا على أهلها َّ ِ ِ ونبأه وأرسله فقال { :أ ِ ِ
َن ا ْئت اْلقَ ْو َم الظالم َ
وادعى كبيرهم الربوبية.
ِ
ون } أي :قل لهم ،بلين قول ،ولطف عبارة { أَال تَتَّقُ َ
ون } اهلل الذي خلقكم { قَ ْو َم ف ْر َع ْو َن أَال َيتَّقُ َ
ورزقكم ،فتتركون ما أنتم عليه من الكفر.
فقال موسى عليه السالم ،معتذرا من ربه ،ومبينا لعذره ،وسائال له المعونة على هذا الحمل
ق ِل َسانِي }.طِل ُص ْد ِري َوال َي ْن َ يق َ ض ُون وي ِ
َن ُي َك ِّذُب ِ َ َ
اف أ ْ ب ِإِّني أ َ
َخ ُ الثقيل { :قَا َل َر ِّ
احلُ ْل ُع ْق َدةً ِم ْن ِل َسانِي * َي ْفقَهُوا قَ ْوِلي *
ص ْد ِري * َوَيس ِّْر ِلي أ َْم ِري * َو ْ ِ
ب ا ْش َر ْح لي َ فقالَ { :ر ِّ
ِ ِ اجع ْل ِلي و ِزيرا ِم ْن أ ْ ِ
ون } فأجاب اهلل طلبته ونبأ أخاه ون أَخي } { فَأ َْرس ْل ِإلَى َه ُار َ َهلي * َه ُار َ َ ً َو ْ َ
هارون كما نبأه { فَأ َْر ِسْلهُ َم ِع َي ِر ْد ًءا } أي معاونا لي على أمري أن يصدقوني
ون } َن َي ْقتُلُ ِ
اف أ ْ
َخ ُ
ب } أي في قتل القبطي { فَأ َ { َولَهُ ْم َعلَ َّي َذ ْن ٌ
{ قَا َل َكال } أي ال يتمكنون من قتلك فإنا سنجعل لكما سلطانا فال يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن
اتبعكما الغالبون ولهذا لم يتمكن فرعون من قتل موسى مع منابذته له غاية المنابذة وتسفيه رأيه
وتضليله وقومه { فَا ْذ َهَبا بِ َآياتَِنا } الدالة على [ ص ] 590صدقكما وصحة ما جئتما به { ِإَّنا
ون } أحفظكما وأكلؤكما ِ
َم َع ُك ْم ُم ْستَم ُع َ
ين } أي أرسلنا إليك لتؤمن به وبنا وتنقاد لعبادته وتذعن ِ { فَأْتَِيا ِف ْر َع ْو َن فَقُوال ِإَّنا َر ُسو ُل َر ِّ
ب اْل َعالَم َ
لتوحيده
َن أ َْر ِس ْل َم َعَنا َبنِي ِإ ْس َرائِي َل } فكف عنهم عذابك وارفع عنهم يدك ليعبدوا ربهم ويقيموا أمر { أْ
دينهم
ال
فلما جاءا فرعون وقاال له ما قال اهلل لهما لم يؤمن فرعون ولم يلن وجعل يعارض موسى فـ { قَ َ
يدا } أي ألم ننعم عليك ونقم بتربيتك منذ كنت وليدا في مهدك ولم تزل كذلك ك ِف َينا َوِل ً
أَلَ ْم ُن َرِّب َ
ت } وهي قتل موسى للقبطي ،حين ك الَّتِي فَ َعْل َ
ت فَ ْعلَتَ َ
ين * َوفَ َعْل َت ِف َينا ِم ْن عم ِر َ ِ ِ
ك سن َ ُُ { َولَبِثْ َ
ضى َعلَْي ِه } اآلية.
وسى فَقَ َ
استغاثه الذي من شيعته ،على الذي من عدوه { فَ َو َك َزهُ ُم َ
ِ { وأ َْن َ ِ
ين } أي :وأنت إذ ذاك طريقك طريقنا ،وسبيلك سبيلنا ،في الكفر ،فأقر على ت م َن اْل َكاف ِر َ َ
نفسه بالكفر ،من حيث ال يدري.
( )1/589
ِّ ِ
ين } أي :عن غير كفر ،وإ نما كان عن ضالل وسفه، فقال موسى { :فَ َعْلتُهَا ِإ ًذا َوأََنا م َن الضَّال َ
فاستغفرت ربي فغفر لي.
ت ِم ْن ُك ْم لَ َّما ِخ ْفتُ ُك ْم } حين تراجعتم بقتلي ،فهربت إلى مدين ،ومكثت سنين ،ثم جئتكم.{ فَفََر ْر ُ
ين }. ِ ِ ِ { فَو َه ِ
ب لي َربِّي ُح ْك ًما َو َج َعلَني م َن اْل ُم ْر َسل َ
َ َ
فالحاصل أن اعتراض فرعون على موسى ،اعتراض جاهل أو متجاهل ،فإنه جعل المانع من
كونه رسوال أن جرى منه القتل ،فبين له موسى ،أن قتله كان على وجه الضالل والخطأ ،الذي لم
يقصد نفس القتل ،وأن فضل اهلل تعالى غير ممنوع منه أحد ،فلم منعتم ما منحني اهلل ،من الحكم
يدا } وعند التحقيق ،يتبين أن ال ِّك ِف َينا َوِل ً
والرسالة؟ بقي عليك يا فرعون إدالؤك بقولك { :أَلَ ْم ُن َرب َ
ت َبنِي ِإ ْس َرائِ َ
يل }. ك نِ ْع َمةٌ تَ ُمُّنهَا َعلَ َّي أ ْ
َن َعب َّْد َ منة لك فيها ،ولهذا قال موسىَ { :وتِْل َ
أي :تدلي علي بهذه المنة ألنك سخرت بني إسرائيل ،وجعلتهم لك بمنزلة العبيد ،وأنا قد أسلمتني
من تعبيدك وتسخيرك ،وجعلتها علي نعمة ،فعند التصور ،يتبين أن الحقيقة ،أنك ظلمت هذا
الشعب الفاضل ،وعذبتهم وسخرتهم بأعمالك ،وأنا قد سلمني اهلل من أذاك ،مع وصول أذاك
لقومي ،فما هذه المنة التي تبت بها وتدلي بها؟.
ين } وهذا إنكار منه لربه ،ظلما وعلوا ،مع تيقن صحة ما دعاه إليه ِ { قَا َل ِف ْر َع ْو ُن َو َما َر ُّ
ب اْل َعالَم َ
األر ِ
ض َو َما َب ْيَنهُ َما }. ِ موسى ،قالَ { :ر ُّ
َّم َاوات َو ْب الس َ
أي :الذي خلق العالم العلوي والسفلي ،ودبره بأنواع التدبير ،ورباه بأنواع التربية .ومن جملة
ذلك ،أنتم أيها المخاطبون ،فكيف تنكرون خالق المخلوقات ،وفاطر األرض والسماوات { ِإ ْن ُك ْنتُ ْم
ِ ِ
ون } ما يقول هذا الرجل ،فقال ين } فقال فرعون متجرهما ،ومعجبا لقومه { :أَال تَ ْستَم ُع َ ُمو ِقن َ
ين } تعجبتم أم ال استكبرتم ،أم أذعنتم. ب َآبائِ ُك ُم َّ
األوِل َ موسىَ { :رُّب ُك ْم َو َر ُّ
ون } حيث قال فقال فرعون معاندا للحق ،قادحا بمن جاء بهِ { :إ َّن َر ُسولَ ُك ُم الَِّذي أ ُْر ِس َل ِإلَْي ُك ْم لَ َم ْجُن ٌ
خالف ما نحن عليه ،وخالفنا فيما ذهبنا إليه ،فالعقل عنده وأهل العقل ،من زعموا أنهم لم يخلقوا،
أو أن السماوات واألرض ،ما زالتا موجودتين من غير موجد وأنهم ،بأنفسهم ،خلقوا من غير
خالق ،والعقل عنده ،أن يعبد المخلوق الناقص ،من جميع الوجوه ،والجنون عنده ،أن يثبت الرب
الخالق للعالم العلوي والسفلي ،والمنعم بالنعم الظاهرة والباطنة ،ويدعو إلى عبادته ،وزين لقومه
اعوهُ ِإَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو ًما
ط ُ استَ َخ َّ
ف قَ ْو َمهُ فَأَ َ هذا القول ،وكانوا سفهاء األحالم ،خفيفي العقول { فَ ْ
ب اْل َم ْش ِر ِ
ق ين } فقال موسى عليه السالم ،مجيبا إلنكار فرعون وتعطيله لرب العالمينَ { :ر ُّ ِِ
فَاسق َ
َواْل َم ْغ ِر ِب َو َما َب ْيَنهُ َما }.
ِ
ون } فقد أديت لكم من البيان والتبيين ،ما يفهمه كل من له من سائر المخلوقات { ِإ ْن ُك ْنتُ ْم تَ ْعقلُ َ
أدنى مسكة من عقل ،فما بالكم تتجاهلون فيما أخاطبكم به؟ وفيه إيماء وتنبيه إلى أن الذي رميتم
به موسى من الجنون ،أنه داؤكم فرميتم أزكى الخلق عقال وأكملهم علما ،بالجنون ،والحال أنكم
أنتم المجانين ،حيث ذهبت عقولكم إلنكار أظهر الموجودات ،خالق األرض والسماوات وما
بينهما ،فإذا جحدتموه ،فأي شيء تثبتون؟ وإ ذا جهلتموه ،فأي شيء تعلمون؟ وإ ذا لم تؤمنوا به
وبآياته ،فبأي شيء -بعد اهلل وآياته -تؤمنون؟ تاهلل ،إن المجانين الذين بمنزلة البهائم ،أعقل
منكم ،وإ ن األنعام السارحة ،أهدى منكم.
ال } متوعدا لموسى بسلطانه
فلما خنقت فرعون الحجة ،وعجزت قدرته وبيانه عن المعارضة { قَ َ
ألجعلََّن َ ِ { لَئِ ِن اتَّ َخ ْذ َ
ك م َن اْل َم ْس ُجونِ َ
ين } زعم -قبحه اهلل -أنه قد طمع في إضالل ت ِإلَهًا َغ ْي ِري ْ َ
موسى ،وأن ال يتخذ إلها غيره ،وإ ال فقد تقرر أنه هو ومن معه ،على بصيرة من أمرهم.
ين } أي :آية ظاهرة جلية ،على صحة ما جئت به ،من ك بِ َشي ٍء ُمبِ ٍ ِ
فقال له موسى { :أ ََولَ ْو ج ْئتُ َ ْ
خوارق العادات.
[ ص ] 591
ان } أي :ذكر الحياتُ { ،مبِ ٌ
ين } صاهُ فَِإ َذا ِه َي ثُ ْعَب ٌ
ين فَأَْلقَى َع َ
ِِ ْت بِ ِه ِإ ْن ُك ْن َ ِ
ت م َن الصَّادق َ
{ قَا َل فَأ ِ
ظاهر لكل أحد ،ال خيال ،وال تشبيه.
نزع ي َده } من جيبه { فَِإ َذا ِهي ب ْيض ِ ِ
ين } أي :لها نور عظيم ،ال نقص فيه لمن نظر اء ل َّلناظ ِر َ
ََ َ ُ { َو َ َ ُ
إليها.
ِ ِ ِ
َن
يد أ ْ { قَا َل } فرعون { لْل َمإل َح ْولَهُ } معارضا للحق ،ومن جاء بهِ { :إ َّن َه َذا لَ َساحٌر َعل ٌ
يم ُي ِر ُ
موه عليهم لعلمه بضعف عقولهم ،أن هذا من جنس ما يأتي به السحرة، ض ُك ْم } َّي ْخ ِرج ُكم ِم ْن أَر ِ
ْ ُ َ ْ
وخوفهم أن
ألنه من المتقرر عندهم ،أن السحرة يأتون من العجائب ،بما ال يقدر عليه الناسَّ ،
قصده بهذا السحر ،التوصل إلى إخراجهم من وطنهم ،ليجدوا ويجتهدوا في معاداة من يريد
ون } أن نفعل به؟. ْم ُر َ
إجالءهم عن أوالدهم وديارهم { ،فَ َما َذا تَأ ُ
ِ ِ َخاه } أي :أخرهما { و ْابع ْ ِ
ث في اْل َم َدائ ِن َحاش ِر َ
ين } جامعين للناس. َ َ { قَالُوا أ َْر ِج ْه َوأ َ ُ
َّار َعِل ٍيم } أي :ابعث في جميع مدنك ،التي هي مقر العلم، وك } أولئك الحاشرون { بِ ُك ِّل َسح ٍ { َيأْتُ َ
ومعدن السحر ،من يجمع لك كل ساحر ماهر ،عليم في سحره فإن الساحر يقابل بسحر من جنس
سحره.
وهذا من لطف اهلل أن يري العباد ،بطالن ما موه به فرعون الجاهل الضال ،المضل أن ما جاء به
موسى سحر ،قيضهم أن جمعوا أهل المهارة بالسحر ،لينعقد المجلس عن حضرة الخلق العظيم،
فيظهر الحق على الباطل ،ويقر أهل العلم وأهل الصناعة ،بصحة ما جاء به موسى ،وأنه ليس
بسحر ،فعمل فرعون برأيهم ،فأرسل في المدائن ،من يجمع السحرة ،واجتهد في ذلك ،وجد.
{ فَج ِمع السَّحرةُ ِل ِميقَ ِ
ات َي ْوٍم َم ْعلُ ٍ
وم } قد واعدهم إياه موسى ،وهو يوم الزينة ،الذي يتفرغون فيه ُ َ ََ
من أشغالهم.
ون } أي :نودي بعموم الناس باالجتماع في ذلك اليوم الموعود. ِ { و ِقي َل ِل َّلن ِ
اس َه ْل أ َْنتُ ْم ُم ْجتَم ُع َ َ
( )1/590
ِ َّ
َّح َرةَ ِإ ْن َك ُانوا ُه ُم اْل َغالبِ َ
ين } أي :قالوا للناس :اجتمعوا لتنظروا غلبة السحرة { لَ َعلَنا َنتَّبِعُ الس َ
لموسى ،وأنهم ماهرون في صناعتهم ،فنتبعهم ،ونعظمهم ،ونعرف فضيلة علم السحر ،فلو وفقوا
للحق ،لقالوا :لعلنا نتبع المحق منهم ،ولنعرف الصواب ،فلذلك ما أفاد فيهم ذلك ،إال قيام الحجة
عليهم.
ِ َّح َرةُ } ووصلوا لفرعون قالوا له { :أَئِ َّن لََنا ْ
ين } لموسى؟ألج ًرا ِإ ْن ُكَّنا َن ْح ُن اْل َغالبِ َ اء الس َ
{ َفلَ َّما َج َ
ِ
ين } عندي ،وعدهم األجر والقربة منه ،ليزداد { قَا َل َن َع ْم } لكم أجر وثواب { َوإِ َّن ُك ْم ِإ ًذا لَم َن اْل ُمقََّربِ َ
نشاطهم ،ويأتوا بكل مقدورهم في معارضة ما جاء به موسى.
فلما اجتمعوا للموعد ،هم وموسى ،وأهل مصر ،وعظهم موسى وذكرهم وقالَ { :وْيلَ ُك ْم ال تَ ْفتَُروا
اب َم ِن ا ْفتََرى } فتنازعوا وتخاصموا ثم شجعهم فرعون، َعلَى اللَّ ِه َك ِذًبا فَُي ْس ِحتَ ُكم بِ َع َذ ٍ
اب َوقَ ْد َخ َ ْ
وشجع بعضهم بعضا.
ون } أي :ألقوا كل ما في خواطركم إلقاؤه ،ولم يقيده بشيء وسى أَْلقُوا َما أ َْنتُ ْم ُمْلقُ َال لَهُ ْم ُم َ فـ { قَ َ
دون شيء ،لجزمه ببطالن ما جاءوا به من معارضة الحق.
صيَّهُ ْم } فإذا هي حيات تسعى ،وسحروا بذلك أعين الناسَ { ،وقَالُوا بِ ِع َّز ِة { فَأَْلقَوا ِحبالَهم و ِع ِ
ْ َ ُْ َ
ِ ِ
ون } فاستعانوا بعزة عبد ضعيف ،عاجز من كل وجه ،إال أنه قد تجبر، ف ْر َع ْو َن ِإَّنا لََن ْح ُن اْل َغالُب َ
وحصل له صورة ملك وجنود ،فغرتهم تلك األبهة ،ولم تنفذ بصائرهم إلى حقيقة األمر ،أو أن هذا
قسم منهم بعزة فرعون والمقسم عليه ،أنهم غالبون.
ون } فالتفت جميع ما ألقوا من الحبال ِ صاهُ فَِإ َذا ِه َي تَْلقَ ُ
ف } تبتلع وتأخذ { َما َيأْف ُك َ وسى َع َ
{ فَأَْلقَى ُم َ
والعصي ،ألنها إفك ،وكذب ،وزور وذلك كله باطل ال يقوم للحق ،وال يقاومه.
فلما رأى السحرة هذه اآلية العظيمة ،تيقنوا -لعلمهم -أن هذا ليس بسحر ،وإ نما هو آية من
آيات اهلل ،ومعجزة تنبئ بصدق موسى ،وصحة ما جاء به.
ِ ِ
ين } لربهم.َّح َرةُ َسا ِجد َ{ فَأُْلق َي الس َ
ون } وانقمع الباطل ،في ذلك المجمع ،وأقر رؤساؤه، ين َر ِّ ِ آمَّنا بَِر ِّ
وسى َو َه ُار َ
ب ُم َ ب اْل َعالَم َ { قَالُوا َ
ببطالنه ،ووضح الحق ،وظهر حتى رأى ذلك الناظرون بأبصارهم ،ولكن أبى فرعون ،إال عتوا
َن آ َذ َن لَ ُك ْم }.
آم ْنتُ ْم لَهُ قَْب َل أ ْ
وضالال وتماديا في غيه وعنادا ،فقال للسحرةَ { :
يتعجب ويعجب قومه من جراءتهم عليه ،وإ قدامهم على اإليمان من غير إذنه ومؤامرته.
{ ِإَّنهُ لَ َكبِ ُير ُك ُم الَِّذي َعلَّ َم ُك ُم الس ْ
ِّح َر } هذا ،وهو الذي جمع السحرة ،ومأله ،الذين أشاروا عليه
بجمعهم من مدائنهم ،وقد علموا أنهم ما اجتمعوا بموسى ،وال رأوه قبل ذلك ،وأنهم جاءوا من
السحر ،بما يحير الناظرين ويهيلهم ،ومع ذلك ،فراج عليهم هذا القول ،الذي هم بأنفسهم ،وقفوا
على بطالنه ،فال يستنكر على أهل هذه العقول ،أن ال يؤمنوا بالحق الواضح ،واآليات الباهرة،
ألنهم لو قال لهم فرعون عن أي شيء كان ،إنه على خالف حقيقته ،صدقوه.
الف } أي :اليد اليمنى ،والرجل اليسرى، ثم توعد السحرة فقال { :ألقَطِّع َّن أ َْي ِدي ُكم وأَرجلَ ُكم ِم ْن ِخ ٍ
َ َْ ْ ُ ْ َ
ين } لتختزوا ،وتذلوا .فقال كما يفعل بالمفسد في األرض [ ،ص { ] 592وألصلِّبَّن ُكم أ ْ ِ
َج َمع َ َ ََ ْ
ض ْي َر } أي :ال نبالي بما توعدتنا به
السحرة -حين وجدوا حالوة اإليمان وذاقوا لذته { :-ال َ
َن ُكَّنا
ط َاي َانا } من الكفر والسحر ،وغيرهما { أ ْ َن َي ْغ ِف َر لََنا َربَُّنا َخ َ ون ِإَّنا َن ْ
ط َمعُ أ ْ ِ
{ ِإَّنا ِإلَى َربَِّنا ُم ْن َقلُب َ
ِ
ين } بموسى ،من هؤالء الجنود ،فثبتهم اهلل وصبرهم. أ ََّو َل اْل ُم ْؤ ِمن َ
فيحتمل أن فرعون فعل بهم ما توعدهم به ،لسلطانه ،واقتداره إذ ذاك ويحتمل ،أن اهلل منعه منهم،
ثم لم يزل فرعون وقومه ،مستمرين على كفرهم ،يأتيهم موسى باآليات البينات ،وكلما جاءتهم
آية ،وبلغت منهم كل مبلغ ،وعدوا موسى ،وعاهدوه لئن كشف اهلل عنهم ،ليؤمنن به ،وليرسلن
معه بني إسرائيل ،فيكشفه اهلل ،ثم ينكثون ،فلما يئس موسى من إيمانهم ،وحقت عليهم كلمة
العذاب ،وآن لبني إسرائيل أن ينجيهم من أسرهم ،ويمكن لهم في األرض ،أوحى اهلل إلى موسى:
َس ِر بِ ِعَب ِادي }.
َن أ ْ
{ أْ
أي :اخرج ببني إسرائيل أول الليل ،ليتمادوا ويتمهلوا في ذهابهمِ { .إَّن ُك ْم ُمتََّب ُع َ
ون } أي :سيتبعكم
فرعون وجنوده.
ووقع كما أخبر ،فإنهم لما أصبحوا ،وإ ذا بنو إسرائيل قد سروا كلهم مع موسى.
ِ ِ ِ ِ
ين } يجمعون الناس ،ليوقع ببني إسرائيل ،ويقول مشجعا { فَأ َْر َس َل ف ْر َع ْو ُن في اْل َم َدائ ِن َحاش ِر َ
ِ ِ ِ ِ
لقومهِ { :إ َّن َه ُؤالء } أي :بني إسرائيل { لَش ْر ِذ َمةٌ َقليلُ َ
ون َوإِ َّنهُ ْم لََنا لَ َغائظُ َ
ون } ونريد أن ننفذ
غيظنا في هؤالء العبيد ،الذين أبِقُوا منا.
ِ ِ
ون } أي :الحذر على الجميع منهم ،وهم أعداء للجميع ،والمصلحة مشتركة، { َوإِ َّنا لَ َجميعٌ َحاذ ُر َ
فخرج فرعون وجنوده ،في جيش عظيم ،ونفير عام ،لم يتخلف منهم سوى أهل األعذار ،الذين
منعهم العجز.
اهم ِم ْن جَّن ٍ
ات َو ُعُي ٍ
ون } أي :بساتين مصر وجناتها الفائقة ،وعيونها َ َخ َر ْجَن ُ ْ
قال اهلل تعالى { :فَأ ْ
المتدفقة ،وزروع قد مألت أراضيهم ،وعمرت بها حاضرتهم وبواديهم.
{ َو َمقَ ٍام َك ِر ٍيم } يعجب الناظرين ،ويلهي المتأملين ،تمتعوا به دهرا طويال وقضوا بلذته وشهواته،
عمرا مديدا ،على الكفر والفساد ،والتكبر على العباد والتيه العظيم.
اها } أي :هذه البساتين والعيون ،والزروع ،والمقام الكريمَ { ،بنِي ِإ ْس َرائِي َل } الذين { َك َذِل َ
ك َوأ َْو َرثَْن َ
جعلوهم من قبل عبيدهم ،وسخروا في أعمالهم الشاقة ،فسبحان من يؤتي الملك من يشاء ،وينزعه
ممن يشاء ،ويعز من يشاء بطاعته ،ويذل من يشاء بمعصيته.
وه ْم ُم ْش ِر ِق َ
ين } أي :اتبع قوم فرعون قوم موسى ،وقت شروق الشمس ،وساقوا خلفهم { فَأَتَْب ُع ُ
محثين ،على غيظ وحنق قادرين.
( )1/591
( )1/592
ِ ِ ِ ِ
يم * ِإ ْذ قَا َل ألبِيه َوقَ ْو ِمه َما تَ ْعُب ُد َ
ون } ِ
{ َ { } 104 - 69و ْات ُل َعلَْيه ْم َنَبأَ إ ْب َراه َ
إلى آخر هذه القصة { وإ ن ربك لهو العزيز الرحيم }
أي :واتل يا محمد على الناس ،نبأ إبراهيم الخليل ،وخبره الجليل ،في هذه الحالة بخصوصها،
وإ ال فله أنباء كثيرة ،ولكن من أعجب أنبائه ،وأفضلها ،هذا النبأ المتضمن لرسالته ،ودعوته
يه َوقَ ْو ِم ِه َما
ال ألبِ ِقومه ،ومحاجته إياهم ،وإ بطاله ما هم عليه ،ولذلك قيده بالظرف فقالِ { :إ ْذ قَ َ
ِِ
ظ ُّل لَهَا َعاكف َ
ين اما } ننحتها ونعملها بأيدينا { .فََن ََصَن ً
ون * قَالُوا } متبجحين بعبادتهمَ { :ن ْعُب ُد أ ْ
تَ ْعُب ُد َ
} أي مقيمين على عبادتها في كثير من أوقاتنا ،فقال لهم إبراهيم ،مبينا لعدم استحقاقها للعبادة:
ون } فيستجيبون دعاءكم ،ويفرجون كربكم ،ويزيلون عنكم كل مكروه؟. ون ُك ْم ِإ ْذ تَ ْد ُع َ
{ َه ْل َي ْس َم ُع َ
ون } فأقروا أن ذلك كله ،غير موجود فيها ،فال تسمع دعاء ،وال تنفع ،وال ض ُّر َ
ون ُك ْم أ َْو َي ُ{ أ َْو َي ْنفَ ُع َ
ِ
وه ْم ِإ ْن َك ُانوا َي ْنطقُ َ
ون } قالوا له { :لَقَ ْد تضر ،ولهذا لما كسرها وقالَ { :ب ْل فَ َعلَهُ َكبِ ُير ُه ْم َه َذا فَ ْ
اسأَلُ ُ
ون } [ ص ] 593أي :هذا أمر متقرر من حالها ،ال يقبل اإلشكال والشك. ِ ِ َعِل ْم َ
ت َما َه ُؤالء َي ْنطقُ َ
ون } فتبعناهم على ذلك، اءَنا َك َذِل َ
ك َي ْف َعلُ َ فلجأوا إلى تقليد آبائهم الضالين ،فقالواَ { :ب ْل َو َج ْدَنا َآب َ
وسلكنا سبيلهم ،وحافظنا على عاداتهم ،فقال لهم إبراهيم :أنتم وآباءكم ،كلكم خصوم في األمر،
والكالم مع الجميع واحد.
ون فَِإَّنهُ ْم َع ُد ٌّو ِلي } فليضروني بأدنى شيء من
اؤ ُك ُم األ ْق َد ُم َ
ون أ َْنتُ ْم َو َآب ُ
{ أَفََرأ َْيتُ ْم َما ُك ْنتُ ْم تَ ْعُب ُد َ
الضرر ،وليكيدوني ،فال يقدرون.
ين } هو المنفرد بنعمة الخلق ،ونعمة الهداية للمصالح ين الَِّذي َخلَقَنِي فَهَُو َي ْه ِد ِ ِ
ب اْل َعالَم َ{ ِإال َر َّ
الدينية والدنيوية.
ت فَهَُو َي ْش ِف ِ
ين ضُ ط ِع ُمنِي َوَي ْس ِق ِ
ين َوإِ َذا َم ِر ْ ثم خصص منها بعض الضروريات فقالَ { :والَِّذي ُه َو ُي ْ
ين } فهذا هو وحده المنفرد بذلك، َن َي ْغ ِف َر ِلي َخ ِط َيئتِي َي ْو َم ِّ
الد ِ ط َمعُ أ ْ ين َوالَِّذي أَ ْ
َوالَِّذي ُي ِميتُنِي ثَُّم ُي ْحيِ ِ
فيجب أن يفرد بالعبادة والطاعة ،وتترك هذه األصنام ،التي ال تخلق ،وال تهدي ،وال تمرض ،وال
تشفي ،وال تطعم وال تسقي ،وال تميت ،وال تحيي ،وال تنفع عابديها ،بكشف الكروب ،وال مغفرة
الذنوب.
فهذا دليل قاطع ،وحجة باهرة ،ال تقدرون أنتم وآباؤكم على معارضتها ،فدل على اشتراككم في
ُّوني ِفي اللَّ ِه
ال أَتُ َحاج ِّ
الضالل ،وترككم طريق الهدى والرشد .قال اهلل تعالىَ { :و َحاجَّهُ قَ ْو ُمهُ قَ َ
َوقَ ْد َه َد ِ
ان } اآليات.
ب ِلي ُح ْك ًما } أي :علما كثيرا ،أعرف به األحكام، ثم دعا عليه السالم ربه فقالَ { :ر ِّ
ب َه ْ
ِِ ِ ِ
والحالل والحرام ،وأحكم به بين األنامَ { ،وأَْلح ْقني بِالصَّالح َ
ين } من إخوانه األنبياء والمرسلين.
( )1/592
ِ ص ْد ٍ ِ
اجع ْل ِلي ِلسان ِ
ين } أي :اجعل لي ثناء صدق ،مستمر إلى آخر الدهر. ق في اآلخ ِر َ َ َ { َو ْ َ
فاستجاب اهلل دعاءه ،فوهب له من العلم والحكم ،ما كان به من أفضل المرسلين ،وألحقه بإخوانه
مثنى عليه ،في جميع الملل ،في كل األوقات. المرسلين ،وجعله محبوبا مقبوال معظما ً
ين ِإَّنهُ ِم ْن ِعَب ِادَناِِ يم َك َذِل َ
ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ
ِ ِ
الم َعلَى إ ْب َراه َ
ِ ِِ
قال تعالىَ { :وتََر ْكَنا َعلَْيه في اآلخ ِر َ
ين َس ٌ
ِ
اْل ُم ْؤ ِمن َ
ين }.
الن ِع ِيم } أي :من أهل الجنة ،التي يورثهم اهلل إياها ،فأجاب اهلل دعاءه، اج َعْلنِي ِم ْن َو َرثَ ِة َجَّن ِة َّ
{ َو ْ
فرفع منزلته في جنات النعيم.
َستَ ْغ ِف ُر لَ َ
ك ين } وهذا الدعاء ،بسبب الوعد الذي قال ألبيهَ { :سأ ْ
ِّ
ان م َن الضَّال َ
اغ ِفر ألبِي ِإَّنه َك ِ
ُ َ { َو ْ ْ
ٍ ِ ِ ِ ربِّي ِإَّنه َكان بِي ح ِفيًّا } قال تعالى { :وما َكان ِ
يم ألبِيه ِإال َع ْن َم ْو ِع َدة َو َع َد َها ِإيَّاهُ
است ْغفَ ُار إ ْب َراه َ
ََ َ ْ َ ُ َ َ
اهيم َّ ِ ِ ِ ِ ِ َِّ ِ
يم }. ألواهٌ َحل ٌ َّن لَهُ أََّنهُ َع ُد ٌّو لله تََب َّرأَ م ْنهُ إ َّن إ ْب َر َ
َفلَ َّما تََبي َ
ون } أي :بالتوبيخ على بعض الذنوب ،والعقوبة عليها والفضيحة ،بل { َوال تُ ْخ ِزنِي َي ْو َم ُي ْب َعثُ َ
ون * ِإال َم ْن أَتَى اللَّهَ بِ َقْل ٍب َسِل ٍيم } فهذا أسعدني في ذلك اليوم الذي { ال َي ْنفَعُ } فيه { َما ٌل َوال َبُن َ
الذي ينفعه عندك وهذا الذي ينجو به من العقاب ويستحق جزيل الثواب
والقلب السليم معناه الذي سلم من الشرك والشك ومحبة الشر واإلصرار على البدعة والذنوب
ويلزم من سالمته مما ذكر اتصافه بأضدادها من اإلخالص والعلم واليقين ومحبة الخير وتزيينه
في قلبه وأن تكون إرادته ومحبته تابعة لمحبة اهلل وهواه تابعا لما جاء عن اهلل
ثم ذكر من صفات ذلك اليوم العظيم وما فيه من الثواب والعقاب فقال { َوأ ُْزِلفَ ِت اْل َجَّنةُ } أي قربت
ِ ِ
ين } ربهم الذين امتثلوا أوامره واجتنبوا زواجره واتقوا سخطه وعقابه { لْل ُمتَّق َ
ِ ِ ِ
ين } الذين أوضعوا في يم } أي برزت واستعدت بجميع ما فيها من العذاب { لْل َغ ِاو َ { َوُبِّر َزت اْل َجح ُ
معاصي اهلل وتجرأوا على محارمه وكذبوا رسله وردوا ما جاءوهم به من الحق { َو ِق َ
يل لَهُ ْم أ َْي َن
ون } بأنفسهم أي فلم يكن من ذلك من ِ ما ُك ْنتُم تَعب ُدون * ِم ْن ُد ِ َّ ِ
ون ُك ْم أ َْو َي ْنتَص ُر َ
ص ُر َ
ون الله َه ْل َي ْن ُ ْ ُْ َ َ
شيء وظهر كذبهم وخزيهم والحت خسارتهم وفضيحتهم وبان ندمهم وضل سعيهم
ون } العابدون لها ِ ِ
{ فَ ُك ْبكُبوا فيهَا } أي ألقوا في النار { ُه ْم } أي ما كانوا يعبدون { َواْل َغ ُاو َ
{ وجُن ُ ِ
ون } من اإلنس والجن الذين َّأزهم إلى المعاصي ًّأزا وتسلط عليهم بشركهم
َج َم ُع َ ود ِإْبل َ
يس أ ْ َ ُ
وعدم إيمانهم فصاروا من دعاته والساعين في مرضاته وهم ما بين داع لطاعته ومجيب لهم
ومقلد لهم على شركهم
ض ٍ
الل ُمبِ ٍ ِ َّ ِ
ين { قَالُوا } أي جنود إبليس الغاوون ألصنامهم وأوثانهم التي عبدوها { تَالله ِإ ْن ُكَّنا لَفي َ
ين } في العبادة والمحبة والخوف والرجاء وندعوكم كما ندعوه فتبين لهم ِ ِإ ْذ ُن َس ِّوي ُك ْم بَِر ِّ
ب اْل َعالَم َ
حينئذ ضاللهم وأقروا بعدل اهلل في عقوبتهم وأنها في محلها وهم لم يسووهم برب العالمين إال في
العبادة ال في الخلق بدليل قولهم { برب العالمين } إنهم مقرون أن اهلل رب العالمين كلهم الذين من
جملتهم أصنامهم وأوثانهم
َضلََّنا } عن طريق الهدى والرشد ودعانا إلى طريق الغي [ ص ] 594والفسق { ِإال { َو َما أ َ
ون } وهم األئمة الذين يدعون إلى النار اْل ُم ْج ِر ُم َ
ين } يشفعون لنا لينقذونا من عذابه ِِ ِ
{ فَ َما لََنا } حينئذ { م ْن َشافع َ
ق َح ِم ٍيم } أي قريب مصاف ينفعنا بأدنى نفع كما جرت العادة بذلك في الدنيا فأيسوا ص ِدي ٍ
{ َوال َ
من كل خير وأبلسوا بما كسبوا وتمنوا العودة إلى الدنيا ليعملوا صالحا
ِ َن لََنا َك َّرةً } أي رجعة إلى الدنيا وإ عادة إليها { فََن ُك ِ
ين } لنسلم من العقاب ون م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ
َ { َفلَ ْو أ َّ
ونستحق الثواب هيهات هيهات قد حيل بينهم وبين ما يشتهون وقد غلقت منهم الرهون
ِ { ِإ َّن ِفي َذِل َ
ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ
ين } مع نزول آليةً } لكم { َو َما َك َ
ك } الذي ذكرنا لكم ووصفنا { َ
ك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ
يم }
الرح ُ {وإِ َّن َرَّب َ َُ َ
اآليات َ
( )1/593
ين (ِ )105إ ْذ قَ َ ِ يم (َ )104ك َّذَب ْ ك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ
وح أَاَل
وه ْم ُن ٌ َخ ُ ال لَهُ ْم أ ُ وح اْل ُم ْر َسل َ ت قَ ْو ُم ُن ٍ الرح ُ َوإِ َّن َرَّب َ َُ َ
َج ٍرَسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه ِم ْن أ ْ
ون (َ )108و َما أ ْ يع ِ َّ ِ
ين ( )107فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ َم ٌتَتَّقُون (ِ )106إِّني لَ ُكم رسو ٌل أ ِ
َْ ُ َ
ك َواتََّب َع َ ون ( )110قَالُوا أَُن ْؤ ِم ُن لَ َ َّ ِ ِ ي ِإاَّل َعلَى َر ِّ
ك يع ِ ين ( )109فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ ب اْل َعالَم َ ِإ ْن أ ْ
َج ِر َ
اَّل ِ ِ ِ
ون ( ون (ِ )112إ ْن ح َس ُابهُ ْم ِإ َعلَى َربِّي لَ ْو تَ ْش ُع ُر َ ون ( )111قَا َل َو َما عْلمي بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ اأْل َْر َذلُ َ
ِ ِ ين (ِ )114إ ْن أََنا ِإاَّل َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ ِ
وح
ين ( )115قَالُوا لَئ ْن لَ ْم تَْنتَه َيا ُن ُ ط ِار ِد اْل ُم ْؤ ِمن َ
َ )113و َما أََنا بِ َ
ون ( )117فَا ْفتَ ْح َب ْينِي َوَب ْيَنهُ ْم فَتْ ًحا َوَنجِّنِي ب ِإ َّن قَ ْو ِمي َك َّذُب ِ ين ( )116قَا َل َر ِّ لَتَ ُك َ ِ
ون َّن م َن اْل َم ْر ُجو ِم َ
َغ َر ْقَنا َب ْع ُد
ون ( )119ثَُّم أ ْ ين ( )118فَأ َْن َج ْيَناهُ َو َم ْن َم َعهُ ِفي اْل ُفْل ِك اْل َم ْش ُح ِ ِ ِ ِ
َو َم ْن َمع َي م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ
َّك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ ِ ين (ِ )120إ َّن ِفي َذِل َ ِ
يم (الرح ُ ين (َ )121وإِ َّن َرب َ َُ َ ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َك آَل ََيةً َو َما َك َ اْلَباق َ
)122
ين } إلى آخر القصة. ِ { َ { } 122 - 105ك َّذَب ْ
وح اْل ُم ْر َسل َ
ت قَ ْو ُم ُن ٍ
يذكر تعالى ،تكذيب قوم نوح لرسولهم نوح ،وما رد عليهم وردوا عليه ،وعاقبة الجميع فقال:
ين } جميعهم ،وجعل تكذيب نوح ،كتكذيب جميع المرسلين ،ألنهم كلهم، ِ { َك َّذَب ْ
وح اْل ُم ْر َسل َ
ت قَ ْو ُم ُن ٍ
اتفقوا على دعوة واحدة ،وأخبار واحدة ،فتكذيب أحدهم ،تكذيب ،بجميع ما جاءوا به من الحق.
وح } وإ نما ابتعث اهلل الرسل ،من نسب من أرسل
وه ْم } في النسب { ُن ٌ
َخ ُ ك ّذبوه { ِإ ْذ قَ َ
ال لَهُ ْم أ ُ
إليهم ،لئال يشمئزوا من االنقياد له ،وألنهم يعرفون حقيقته ،فال يحتاجون أن يبحثوا عنه ،فقال لهم
مخاطبا بألطف خطاب -كما هي طريقة الرسل ،صلوات اهلل وسالمه عليهم { : -أَال تَتَّقُ َ
ون }
اهلل ،تعالى ،فتتركون ما أنتم مقيمون عليه ،من عبادة األوثان ،وتخلصون العبادة هلل وحده.
ين } فكونه رسوال إليهم بالخصوص ،يوجب لهم تلقي ما أرسل به إليهم، { ِإِّني لَ ُكم رسو ٌل أ ِ
َم ٌ َْ ُ
واإليمان به ،وأن يشكروا اهلل تعالى ،على أن خصهم بهذا الرسول الكريم ،وكونه أمينا يقتضي أنه
ال يتقول على اهلل ،وال يزيد في وحيه ،وال ينقص ،وهذا يوجب لهم التصديق بخبره والطاعة
ألمره.
َّ ِ
{ فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ
يع ِ
ون } فيما آمركم به ،وأنهاكم عنه ،فإن هذا هو الذي يترتب على كونه رسوال
إليهم ،أمينا ،فلذلك رتبه بالفاء الدالة على السبب ،فذكر السبب الموجب ،ثم ذكر انتفاء المانع فقال:
َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه ِم ْن أ ْ
َج ٍر }. { َو َما أ ْ
ِ ي ِإال َعلَى َر ِّ فتتكلفون من المغرم الثقيلِ { ،إ ْن أ ْ
ين } أرجو بذلك القرب منه ،والثواب ب اْل َعالَم َ َج ِر َ
الجزيل ،وأما أنتم فمنيتي ،ومنتهى إرادتي منكم ،النصح لكم ،وسلوككم الصراط المستقيم.
َّ ِ
ون } كرر ذلك عليه السالم ،لتكريره دعوة قومه ،وطول مكثه في ذلك ،كما يع ِ { فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ
ت قَ ْو ِمي لَْيال َوَنهَ ًارا َفلَ ْم
ب ِإِّني َد َع ْو ُ ِ ث ِفي ِهم أَْل َ ٍ
اما } وقالَ { :ر ِّ ف َسَنة ِإال َخ ْمس َ
ين َع ً قال تعالى { َفلَبِ َ ْ
َي ِز ْد ُه ْم ُد َعائِي ِإال ِف َر ًارا } اآليات.
ون } أي:
األر َذلُ َ
ك ْ ك َواتََّب َع َ
فقالوا ردا لدعوته ،ومعارضة له بما ليس يصلح للمعارضة { :أَُن ْؤ ِم ُن لَ َ
كيف نتبعك ونحن ال نرى أتباعك إال أسافل الناس ،وأراذلهم ،وسقطهم .بهذا يعرف تكبرهم عن
الحق ،وجهلهم بالحقائق ،فإنهم لو كان قصدهم الحق ،لقالوا -إن كان عندهم إشكال وشك في
دعوته ّ -بين لنا صحة ما جئت به بالطرق الموصلة إلى ذلك ،ولو تأملوا حق التأمل ،لعلموا أن
أتباعه ،هم األعلون ،خيار الخلق ،أهل العقول الرزينة ،واألخالق الفاضلة ،وأن األرذل ،من
سلب خاصية عقله ،فاستحسن عبادة األحجار ،ورضي أن يسجد لها ،ويدعوها ،وأبى االنقياد
لدعوة الرسل الكمل .وبمجرد ما يتكلم أحد الخصمين في الكالم الباطل ،يعرف فساد ما عنده
بقطع النظر عن صحة دعوى خصمه ،فقوم نوح ،لما سمعنا عنهم ،أنهم قالوا في ردهم دعوة
ون } فبنوا على هذا األصل ،الذي كل أحد يعرف فساده ،رد
األر َذلُ َ
ك ْ ك َواتََّب َع َ
نوح { :أَُن ْؤ ِم ُن لَ َ
دعوته -عرفنا أنهم ضالون مخطئون ،ولو لم نشاهد من آيات نوح ودعوته العظيمة ،ما يفيد
الجزم واليقين ،بصدقه وصحة ما جاء به.
( )1/594
ِ ِ ِ
ون * ِإ ْن ح َس ُابهُ ْم ِإال َعلَى َربِّي لَ ْو تَ ْش ُع ُر َ
ون } فقال نوح عليه السالمَ { :و َما عْلمي بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ
أي أعمالهم وحسابهم على اهلل إنما علي التبليغ وأنتم دعوهم عنكم إن كان ما جئتكم به الحق
فانقادوا له وكل له عمله
ِ
ين } كأنهم -قبحهم اهلل -طلبوا منه أن يطردهم عنه تكبرا وتجبرا ط ِار ِد اْل ُم ْؤ ِمن َ
{ َو َما أََنا بِ َ
ِ
ين } فإنهم ال يستحقون الطرد واإلهانة وإ نما يستحقون ط ِار ِد اْل ُم ْؤ ِمن َ
ليؤمنوا فقال { َو َما أََنا بِ َ
ِ اإلكرام القولي والفعلي كما قال تعالى { وإِ َذا جاء َ َِّ
ب ون بِ َآياتَنا فَ ُق ْل َس ٌ
الم َعلَْي ُك ْم َكتَ َ ين ُي ْؤ ِمُن َ
ك الذ َ َ َ َ
َرُّب ُك ْم َعلَى َن ْف ِس ِه َّ
الر ْح َمةَ }
ين } أي ما أنا إال منذر ومبلغ عن اهلل ومجتهد في نصح العباد وليس لي من { ِإ ْن أََنا ِإال َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ
األمر شيء إن األمر إال هلل .
[ ص ] 595
فاستمر نوح عليه الصالة والسالم على دعوتهم ليال ونهارا سرا وجهارا فلم يزدادوا إال نفورا و {
قَالُوا لَئِ ْن لَم تَْنتَ ِه يا ُنوح } من دعوتك إيانا إلى اهلل وحده { لَتَ ُك َ ِ
ين } أي لنقتلك شر ون َّن م َن اْل َم ْر ُجو ِم َ َ ُ ْ
قتلة بالرمي بالحجارة كما يقتل الكلب فتبا لهم ما أقبح هذه المقابلة يقابلون الناصح األمين الذي هو
أشفق عليهم من أنفسهم بشر مقابلة ال جرم لما انتهى ظلمهم واشتد كفرهم دعا عليهم نبيهم بدعوة
ِ ب ال تَ َذر علَى األر ِ ِ
َّارا } اآليات ض م َن اْل َكاف ِر َ
ين َدي ً ْ ْ َ أحاطت بهم فقال { َر ِّ
ون * فَا ْفتَ ْح َب ْينِي َوَب ْيَنهُ ْم فَتْ ًحا } أي أهلك الباغي منا وهو يعلم أنهم
ب ِإ َّن قَ ْو ِمي َك َّذُب ِ
وهنا { قَا َل َر ِّ
ِ ِ ِ ِ
البغاة الظلمة ولهذا قال { َوَنجِّني َو َم ْن َمع َي م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ
ين }
ون } من الخلق والحيوانات { فَأ َْن َج ْيَناهُ َو َم ْن َم َعهُ ِفي اْل ُفْل ِك } أي السفينة { اْل َم ْش ُح ِ
ين } أي جميع قومه ِ
َغ َر ْقَنا َب ْع ُد } أي بعد نوح ومن معه من المؤمنين { اْلَباق َ { ثَُّم أ ْ
آليةً } دالة على صدق رسلنا وصحة ما ك } أي نجاة نوح وأتباعه وإ هالك من كذبه { َ { ِإ َّن ِفي َذِل َ
جاءوا به وبطالن ما عليه أعداؤهم المكذبون بهم
ك لَهو اْلع ِز ُيز } الذي قهر بعزه أعداءه فأغرقهم بالطوفان { َّ ِ
يم } بأوليائه حيث نجى
الرح ُ { َوإِ َّن َرَّب َ َُ َ
نوحا ومن معه من أهل اإليمان
( )1/594
ين (َم ٌود أَاَل تَتَّقُون (ِ )124إِّني لَ ُكم رسو ٌل أ ِ وه ْم ُه ٌ ين (ِ )123إ ْذ قَا َل لَهُ ْم أ ُ ِ َك َّذَب ْ
َْ ُ َ َخ ُ اد اْل ُم ْر َسل َ ت َع ٌ
ِ ي ِإاَّل َعلَى َر ِّ َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه ِم ْن أ ْ
َج ٍر ِإ ْن أ ْ َّ ِ
ين ( ب اْل َعالَم َ َج ِر َ ون (َ )126و َما أ ْ يع ِ )125فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ
يع آَيةً تَعبثُون ( )128وتَتَّ ِخ ُذون م ِ َّ
ط ْشتُ ْمون (َ )129وإِ َذا َب َ صان َع لَ َعل ُك ْم تَ ْخلُ ُد َ َ َ َ َ ون بِ ُك ِّل ِر ٍ َ ْ َ َ )127أَتَْبُن َ
َّ َِّ َّ ِ
َم َّد ُك ْم
ون ( )132أ َ َم َّد ُك ْم بِ َما تَ ْعلَ ُم َ
ون (َ )131واتقُوا الذي أ َ ين ( )130فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ
يع ِ َّار َط ْشتُ ْم َجب ِ َب َ
اب َي ْوٍم َع ِظ ٍيم ( )135قَالُوا اف َعلَْي ُك ْم َع َذ ََخ ُ ون (ِ )134إِّني أ َ ات َو ُعُي ٍ بِأ َْنع ٍام وبنِين ( )133وجَّن ٍ
َ َ َ ََ َ
ين (ِ )136إ ْن َه َذا ِإاَّل ُخلُ ُ ِِ ِ
ين (َ )137و َما َن ْح ُن ق اأْل ََّوِل َ ت أ َْم لَ ْم تَ ُك ْن م َن اْل َواعظ َ ظَ اء َعلَْيَنا أ ََو َع ْ
َس َو ٌ
ِ اه ْم ِإ َّن ِفي َذِل َ ين ( )138فَ َك َّذُبوهُ فَأ ْ َّ
ين ()139 ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ ك آَل ََيةً َو َما َك َ َهلَ ْكَن ُ بِ ُم َعذبِ َ
( )1/595
األوِل َ
ين }. ق َّ { ِإ ْن َه َذا ِإال ُخلُ ُ
أي :هذه األحوال والنعم ،ونحو ذلك ،عادة األولين ،تارة يستغنون ،وتارة يفتقرون ،وهذه أحوال
الدهر ،ال أن هذه محن ومنح من اهلل تعالى ،وابتالء لعباده.
َّ
ين } وهذا إنكار منهم للبعث ،أو تنزل مع نبيهم وتهكم به ،إننا على فرض أننا { َو َما َن ْح ُن بِ ُم َعذبِ َ
أدرت علينا النعم في الدنيا ،كذلك ال تزال مستمرة علينا إذا بعثنا. نبعث ،فإننا كما َّ
يحاه ْم } { بِ ِر ٍ { فَ َك َّذُبوهُ } أي :صار التكذيب سجية لهم وخلقا ،ال يردعهم عنه رادع { ،فَأ ْ
َهلَ ْكَن ُ
ِ ٍ ِ ٍ ِ ٍِ
ص ْر َعى َكأََّنهُ ْم ص ٍر َعاتَية * َس َّخ َر َها َعلَْيه ْم َس ْب َع لََيال َوثَ َمانَيةَ أَيَّام ُح ُس ً
وما فَتََرى اْلقَ ْو َم فيهَا َ ص ْر َ َ
ٍ
َع َج ُاز َن ْخ ٍل َخ ِاوَية } أْ
آليةً } على صدق نبينا هود عليه السالم وصحة ما جاء به وبطالن ما عليه قومه ك َ{ ِإ َّن ِفي َذِل َ
ِ
ين } [ ص ] 596مع وجود اآليات المقتضيةان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ
من الشرك والجبروت { َو َما َك َ
لإليمان
ك لَهَُو اْل َع ِز ُيز } الذي أهلك بقوته قوم هود على قوتهم وبطشهم
{ َوإِ َّن َرَّب َ
يم } بنبيه هود حيث نجاه ومن معه من المؤمنين { َّ ِ
الرح ُ
( )1/595
ص ِال ٌح أَاَل
وه ْم َ
َخ ُ ين (ِ )141إ ْذ قَ َ
ال لَهُ ْم أ ُ ِ
ود اْل ُم ْر َسل َ
ت ثَ ُم ُيم (َ )140ك َّذَب ْ ك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ
الرح ُ َوإِ َّن َرَّب َ َُ َ
َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه ِم ْن أ ْ
َج ٍر ون (َ )144و َما أ ْ يع ِ َّ ِ
ين ( )143فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ َم ٌ تَتَّقُون (ِ )142إِّني لَ ُكم رسو ٌل أ ِ
َْ ُ َ
َمنِين (ِ )146في جَّن ٍ ب اْلعالَ ِمين ( )145أَتُتْر ُكون ِفي ما َه ُ ِ َج ِر اَّل
ون ( ات َو ُعُي ٍ َ اهَنا آ َ َ َ َ ي ِإ َعلَى َر ِّ َ َ ِإ ْن أ ْ َ
َّ ون ِم َن اْل ِجَب ِ ِ ِ وع َوَن ْخ ٍل َ
ين ( )149فَاتَّقُوا اللهَ ال ُبُيوتًا فَ ِار ِه َ يم (َ )148وتَْنحتُ َ طْل ُعهَا َهض ٌ َ )147و ُز ُر ٍ
ض واَل ي ِ ون ( )150واَل تُ ِطيعوا أَمر اْلمس ِر ِفين ( )151الَِّذين ي ْف ِس ُد ِ ِ
ون ( صل ُح َ ون في اأْل َْر ِ َ ُ ْ َ َ ُ ُ َْ ُ ْ َ َ يع ِ
َوأَط ُ
ِِ ْت بِآَي ٍة ِإ ْن ُك ْن َ ِ ِ ِ ت ِم َن اْل ُم َسح ِ
ين
ت م َن الصَّادق َ ت ِإاَّل َب َشٌر مثْلَُنا فَأ َ ين (َ )153ما أ َْن َ َّر َ )152قَالُوا ِإَّن َما أ َْن َ
اب ُّوها بِ ُسو ٍء فََيأ ُ ب َي ْوٍم َم ْعلُ ٍ ِ ال َه ِذ ِه َناقَةٌ لَهَا ِش ْر ٌ
ْخ َذ ُك ْم َع َذ ُ وم (َ )155واَل تَ َمس َ ب َولَ ُك ْم ش ْر ُ ( )154قَ َ
انك آَل ََيةً َو َما َك َاب ِإ َّن ِفي َذِل ََخ َذ ُه ُم اْل َع َذ ُ
ين ( )157فَأ َ ِِ
َصَب ُحوا َنادم َ وها فَأ ْ َي ْوٍم َع ِظ ٍيم ( )156فَ َعقَ ُر َ
ك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ ِ
يم ()159 الرح ُ ين (َ )158وإِ َّن َرَّب َ َُ َ أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ
( )1/596
ين (
َم ٌ وهم لُوطٌ أَاَل تَتَّقُون (ِ )161إِّني لَ ُكم رسو ٌل أ ِ ين (ِ )160إ ْذ قَ َ ِ ٍ َك َّذَب ْ
َْ ُ َ َخ ُ ْ ال لَهُ ْم أ ُ ت قَ ْو ُم لُوط اْل ُم ْر َسل َ
ِ ي ِإاَّل َعلَى َر ِّ َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه ِم ْن أ ْ
َج ٍر ِإ ْن أ ْ َّ ِ
ين ( ب اْل َعالَم َ َج ِر َ ون (َ )163و َما أ ْ يع ِ )162فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ
اج ُك ْم َب ْل أ َْنتُ ْم قَ ْو ٌمق لَ ُكم رُّب ُكم ِم ْن أ َْزو ِ ِ الذ ْكر ِ ُّ
َ ون َما َخلَ َ ْ َ ْ ين (َ )165وتَ َذ ُر َ ان م َن اْل َعالَم َ ون َ َ )164أَتَأْتُ َ
ِ ِ ِ ِ ادون ( )166قَالُوا لَئِ ْن لَم تَْنتَ ِه يا لُوطُ لَتَ ُك َ ِ
ال ِإِّني ل َع َمل ُك ْم م َن اْلقَال َ
ين ين ( )167قَ َ ون َّن م َن اْل ُم ْخ َر ِج َ َ ْ َع ُ َ
وزا ِفي ين (ِ )170إاَّل َع ُج ً َهلَه أ ْ ِ
َج َمع َ َّيَناهُ َوأ ْ ُون ( )169فََنج ْ ب َنجِّنِي وأ ْ ِ ِ
َهلي م َّما َي ْع َملُ َ َ (َ )168ر ِّ
ين ()173 ط ُر اْل ُم ْن َذ ِر َ
اء َم َ ط ْرَنا َعلَْي ِه ْم َم َ
ط ًرا فَ َس َ ين (َ )172وأ َْم َ ين ( )171ثَُّم َد َّم ْرَنا اآْل َ َخ ِر َ اْل َغابِ ِر َ
ِ ِإ َّن ِفي َذِل َ
ين ()174 ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ
ك آَل ََيةً َو َما َك َ
( )1/596
( )1/596
ين } أي :الخليقة األولين ،فكما انفرد بخلقكم ،وخلق من قبلكم { َواتَّقُوا الَِّذي َخلَقَ ُك ْم َواْل ِجبِلَّةَ َّ
األوِل َ
من غير مشارك له في ذلك ،فأفردوه بالعبادة والتوحيد ،وكما أنعم عليكم باإليجاد واإلمداد بالنعم،
فقابلوه بشكره.
ين } فأنت تهذي وتتكلم كالم المسحور، ت ِم َن اْل ُم َسح ِ
َّر َ قالوا له ،مكذبين له ،رادين لقولهِ { :إَّن َما أ َْن َ
الذي غايته أن ال يؤاخذ به.
ت ِإال َب َشٌر ِم ْثلَُنا } فليس فيك فضيلة ،اختصصت بها علينا ،حتى تدعونا إلى اتباعك ،وهذا { َو َما أ َْن َ
مثل قول من قبلهم ومن بعدهم ،ممن عارضوا الرسل بهذه الشبهة ،التي لم يزالوا ،يدلون بها
ويصولون ،ويتفقون عليها ،التفاقهم على الكفر ،وتشابه قلوبهم.
وقد أجابت عنها الرسل بقولهم { :إن نحن إال بشر مثلكم ولكن اهلل يمن على من يشاء من عباده
}.
ِ { وإِ ْن َنظُُّن َ ِ
ين } وهذا جراءة منهم وظلم ،وقول زور ،قد انطووا على خالفه ،فإنه ما ك لَم َن اْل َكاذبِ َ َ
من رسول من الرسل ،واجه قومه ودعاهم ،وجادلهم وجادلوه ،إال وقد أظهر اهلل على يديه من
اآليات ،ما به يتيقنون صدقه وأمانته ،خصوصا شعيبا عليه السالم ،الذي يسمى خطيب األنبياء،
لحسن مراجعته قومه ،ومجادلتهم بالتي هي أحسن ،فإن قومه قد تيقنوا صدقه ،وأن ما جاء به
حق ،ولكن إخبارهم عن ظن كذبه ،كذب منهم.
ين } كقول ِِ اء } أي :قطع عذاب تستأصلناِ { .إ ْن ُك ْن َ ِ ط علَْيَنا ِكسفًا ِمن السَّم ِ { فَأ ِ
ت م َن الصَّادق َ َ َ َ َسق ْ َ
ْ
اء أ َِو ا ْئتَِنا
ك فَأَم ِطر علَْيَنا ِحجارةً ِمن السَّم ِ
ََ َ َ
إخوانهم { وإِ ْذ قَالُوا اللَّه َّم ِإ ْن َكان َه َذا ُهو اْلح َّ ِ ِ ِ
ق م ْن ع ْند َ ْ ْ َ َ َ َ ُ َ
اب أَِل ٍيم } أو أنهم طلبوا بعض آيات االقتراح ،التي ال يلزم تتميم مطلوب من سألها. بِ َع َذ ٍ
( )1/597
ِ ك ِلتَ ُك ِ ين (َ )193علَى َقْلبِ َ ِ ين (َ )192ن َز َل بِ ِه ُّ ِ
ين ( ون م َن اْل ُم ْنذ ِر َ َ وح اأْل َم ُ الر ُ ب اْل َعالَم ََوإِ َّنهُ لَتَْن ِزي ُل َر ِّ
ِ )194بِِل َس ٍ
اء
َن َي ْعلَ َمهُ ُعلَ َم ُ
ين ( )196أ ََولَ ْم َي ُك ْن لَهُ ْم آََيةً أ ْ ين (َ )195وإِ َّنهُ لَفي ُزُب ِر اأْل ََّوِل َ ان َع َربِ ٍّي ُمبِ ٍ
ِ ِ ض اأْل ْ ِ َبنِي ِإ ْس َرائِ َ
ين ( ين ( )198فَقََرأَهُ َعلَْي ِه ْم َما َك ُانوا بِه ُم ْؤ ِمن َ َع َجم َ يل ( )197ولَ ْو َن َّزْلَناهُ َعلَى َب ْع ِ
َ
ِ ِ ك َسلَ ْكَناهُ ِفي ُقلُ ِ َ )199ك َذِل َ
يم ()201 ون بِه َحتَّى َي َر ُوا اْل َع َذ َ
اب اأْل َل َ ين ( )200اَل ُي ْؤ ِمُن َ وب اْل ُم ْج ِر ِم َ
ون ()203 ِ
ظ ُر َ
ون ( )202فََيقُولُوا َه ْل َن ْح ُن ُم ْن َ فََيأْتَيهُ ْم َب ْغتَةً َو ُه ْم اَل َي ْش ُع ُر َ
السلك في اإلبرة ،فتشربته ،وصار وصفا لها ،وذلك بسبب ظلمهم وجرمهم ،فلذلك { :ال ُي ْؤ ِمُن َ
ون
ِ ِ
يم } على تكذيبهم.اب األل َ بِه َحتَّى َي َر ْوا اْل َع َذ َ
ون } أي :يأتيهم على حين غفلة ،وعدم إحساس منهم ،وال استشعار ِ
{ فََيأْتَيهُ ْم َب ْغتَةً َو ُه ْم ال َي ْش ُع ُر َ
بنزوله ،ليكون أبلغ في عقوبتهم والنكال بهم.
ون } أي :يطلبون أن ينظروا ويمهلوا ،والحال إنه قد فات
ظ ُر َ
{ فََيقُولُوا } إذ ذاكَ { :ه ْل َن ْح ُن ُم ْن َ
الوقت ،وحل بهم العذاب الذي ال يرفع عنهم ،وال يفتر ساعة.
__________
( )1زيادة يقتضيها السياق.
( )1/597
ت ِإ ْن متَّعَن ُ ِ ِ
ون ()206
وع ُد َ
اء ُه ْم َما َك ُانوا ُي َ
ين ( )205ثَُّم َج َ
اه ْم سن َ َ ْ أَفَبِ َع َذابَِنا َي ْستَ ْع ِجلُ َ
ون ( )204أَفََرأ َْي َ
َغَنى َع ْنهُ ْم َما َك ُانوا ُي َمتَّ ُع َ
ون ()207 َما أ ْ
ت ِإن متَّعَن ِ ِ
اء ُه ْم َما َك ُانوا
ين * ثَُّم َج َ
اه ْم سن َ { { } 207 - 204أَفَبِ َع َذابَِنا َي ْستَ ْع ِجلُ َ
ون * أَفََرأ َْي َ ْ َ ْ ُ
ون } .َغَنى َعْنهُ ْم َما َك ُانوا ُي َمتَّ ُع َون * َما أ ْ
وع ُد َ
ُي َ
يقول تعالى { :أَفَبِ َع َذابَِنا } الذي هو العذاب األليم العظيم ،الذي ال يستهان به ،وال يحتقر،
ون } فما الذي غرهم؟ هل فيهم قوة وطاقة ،للصبر عليه؟ أم عندهم قوة يقدرون على { َي ْستَ ْع ِجلُ َ
دفعه أو رفعه إذا نزل؟ أم يعجزوننا ،ويظنون أننا ال نقدر على ذلك؟.
ين } أي :أفرأيت إذا لم نستعجل عليهم ،بإنزال العذاب ،وأمهلناهم عدة ت ِإ ْن متَّعَن ُ ِ ِ
اه ْم سن َ َ ْ { أَفََرأ َْي َ
ون } من العذاب.
وع ُد َ
اء ُه ْم َما َك ُانوا ُي َ
سنين ،يتمتعون في الدنيا { ثَُّم َج َ
( )1/598
( )1/598
ت بِ ِه
ين (َ )209و َما تََن َّزلَ ْ َهلَ ْكَنا ِم ْن قَري ٍة ِإاَّل لَها م ْن ِذرون (ِ )208ذ ْكرى وما ُكَّنا َ ِ ِ
ظالم َ َ ََ َ ُ ُ َ َْ َو َما أ ْ
ِ ِ َّ ِ
ون ()212 ون (ِ )211إَّنهُ ْم َع ِن الس ْ
َّم ِع لَ َم ْع ُزولُ َ يع َ
ين (َ )210و َما َي ْنَبغي لَهُ ْم َو َما َي ْستَط ُ
الشَياط ُ
( )1/598
اخ ِف ْ
ض ين (َ )213وأ َْن ِذ ْر َع ِش َيرتَ َ
ك اأْل َ ْق َربِ َ
ين (َ )214و ْ َّ َخر فَتَ ُك ِ
ون م َن اْل ُم َعذبِ َ
َ
َّ ِ
فَاَل تَ ْدعُ َم َع الله ِإلَهًا آ َ َ
ك فَ ُق ْل ِإِّني ب ِر ِ ِ ك ِلم ِن اتَّبع َ ِ
ون ()216
يء م َّما تَ ْع َملُ َ
َ ٌ ين ( )215فَِإ ْن َع َ
ص ْو َ ك م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ اح َ َ َ َ َجَن َ
ين * ك األ ْق َربِ َ ين * َوأ َْن ِذ ْر َع ِش َيرتَ َ َّ آخر فَتَ ُك ِ
ون م َن اْل ُم َعذبِ َ
َ
َّ ِ
{ { } 216 - 213فَال تَ ْدعُ َم َع الله ِإلَهًا َ َ
ك فَ ُق ْل ِإِّني ب ِر ِ ِ ك ِلم ِن اتَّبع َ ِ اخ ِف ْ
ون } . يء م َّما تَ ْع َملُ ََ ٌ ين * فَِإ ْن َع َ
ص ْو َ ك م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ اح َ َ َ َ ض َجَن َ َو ْ
ينهى تعالى رسوله أصال وأمته أسوة له في ذلك ،عن دعاء غير اهلل ،من جميع المخلوقين ،وأن
ذلك موجب للعذاب الدائم ،والعقاب السرمدي ،لكونه [ ص ] 599شركاَ { ،و َم ْن ُي ْش ِر ْك بِاللَّ ِه فَقَ ْد
الن ُار } والنهي عن الشيء ،أمر بضده ،فالنهي عن الشرك ،أمر َح َّر َم اللَّهُ َعلَْي ِه اْل َجَّنةَ َو َمأ َْواهُ َّ
بإخالص العبادة هلل وحده ال شريك له ،محبة ،وخوفا ،ورجاء ،وذال وإ نابة إليه في جميع األوقات.
ولما أمره بما فيه كمال نفسه ،أمره بتكميل غيره فقالَ { :وأ َْن ِذ ْر َع ِش َيرتَ َ
ك األ ْق َربِ َ
ين }.
الذين هم أقرب الناس إليك ،وأحقهم بإحسانك الديني والدنيوي ،وهذا ال ينافي أمره بإنذار جميع
الناس ،كما إذا أمر اإلنسان بعموم اإلحسان ،ثم قيل له " أحسن إلى قرابتك " فيكون هذا خصوصا
( )1داال على التأكيد ،وزيادة الحق ،فامتثل صلى اهلل عليه وسلم ،هذا األمر اإللهي ،فدعا سائر
بطون قريش ،فعمم وخصص ،وذكرهم ووعظهم ،ولم ُي ْبق صلى اهلل عليه وسلم من مقدوره شيئا،
من نصحهم ،وهدايتهم ،إال فعله ،فاهتدى من اهتدى ،وأعرض من أعرض.
ِ ك ِلم ِن اتَّبع َ ِ اخ ِف ْ
ين } بلين جانبك ،ولطف خطابك لهم ،وتوددك ،وتحببك ك م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ اح َ َ َ َ ض َجَن َ { َو ْ
إليهم ،وحسن خلقك واإلحسان التام بهم ،وقد فعل صلى اهلل عليه وسلم ،ذلك كما قال تعالى:
استَ ْغ ِف ْر
ف َعْنهُ ْم َو ْ
اع ُ النفَضُّوا ِم ْن َح ْوِل َ
ك فَ ْ ت فَظًّا َغِلي َ
ظ اْل َقْل ِب ْ { فَبِ َما َر ْح َم ٍة ِم َن اللَّ ِه ِل ْن َ
ت لَهُ ْم َولَ ْو ُك ْن َ
ِ
األم ِر } فهذه أخالقه صلى اهلل عليه وسلم ،أكمل األخالق ،التي يحصل بها من لَهُ ْم َو َش ِاو ْر ُه ْم في ْ
المصالح العظيمة ،ودفع المضار ،ما هو مشاهد ،فهل يليق بمؤمن باهلل ورسوله ،ويدعي اتباعه
واالقتداء به ،أن يكون كال على المسلمين ،شرس األخالق ،شديد الشكيمة عليهم ،غليظ القلب،
فظ القول ،فظيعه؟ [و] إن رأى منهم معصية ،أو سوء أدب ،هجرهم ،ومقتهم ،وأبغضهم ،ال لين
عنده ،وال أدب لديه ،وال توفيق ،قد حصل من هذه المعاملة ،من المفاسد ،وتعطيل المصالح ما
حصل ،ومع ذلك تجده محتقرا لمن اتصف بصفات الرسول الكريم ،وقد رماه بالنفاق والمداهنة،
كمل نفسه ورفعها ،وأعجب بعمله ،فهل هذا إال من جهله ،وتزيين الشيطان وخدعه له ،ولهذا
وقد َّ
ك } في أمر من األمور ،فال تتبرأ منهم ،وال تترك معاملتهم، قال اهلل لرسوله { :فَِإ ْن َع َ
ص ْو َ
بخفض الجناح ،ولين الجانب ،بل تبرأ من عملهم ،فعظهم عليه وانصحهم ،وابذل قدرتك في ردهم
ك } للمؤمنين،
اح َ
ض َجَن َاخ ِف ْ
عنه ،وتوبتهم منه ،وهذا لدفع احتراز وهم من يتوهم ،أن قوله { َو ْ
يقتضي الرضاء بجميع ما يصدر منهم ،ما داموا مؤمنين ،فدفع هذا بهذا واهلل أعلم.
__________
( )1وفي ب :الخصوص.
( )1/598
( )1/599
( )1/599
( )1/600
ين (ُ )1ه ًدى وب ْشرى ِلْلمؤ ِمنِين ( )2الَِّذ ِ َن و ِكتَ ٍ
اب ُمبِ ٍ طس تِْل َ
الصاَل ةَ
ون َّ يم َ ين ُيق ُ
َ ُْ َ َُ َ ات اْلقُْرآ ِ َك آََي ُ
ون بِاآْل َ ِخ َر ِة َزيََّّنا لَهُ ْم أ ْ
َع َمالَهُ ْم فَهُ ْم ين اَل ُي ْؤ ِمُن َ
َِّ
ون (ِ )3إ َّن الذ َ
ِ
الز َكاةَ َو ُه ْم بِاآْل َخ َر ِة ُه ْم ُيو ِقُن َون َّ َوُي ْؤتُ َ
ك لَتُلَقَّى اْلقُْرآ َ
َن ون (َ )5وإِ َّن َ َخ َس ُر َ اب َو ُه ْم ِفي اآْل َ ِخ َر ِة ُه ُم اأْل ْ وء اْل َع َذ ِ
ين لَهُ ْم ُس ُ
يعمهون ( )4أُولَئِ َ َِّ
ك الذ َ ََْ ُ َ
ت َنارا َسآَتِي ُكم ِم ْنها بِ َخَب ٍر أَو آَتِي ُكم بِ ِشه ٍ ِم ْن لَ ُد ْن ح ِك ٍيم عِل ٍيم (ِ )6إ ْذ قَا َل موسى أِل ْ ِ ِ
اب ْ َ ْ ْ َ َهله ِإِّني آََن ْس ُ ً ُ َ َ َ
ان اللَّ ِه َر ِّ
ب الن ِار َو َم ْن َح ْولَهَا َو ُس ْب َح َ ك َم ْن ِفي َّ ور َ َن ُب ِي أْ اء َها ُنو ِد َون (َ )7فلَ َّما َج َ طلُ َ صَ قَب ٍ َّ
س لَ َعل ُك ْم تَ ْ َ
ان َولَّى َها تَ ْهتَُّز َكأََّنهَا َج ٌّ اك َفلَ َّما َرآ َ ص َ ق َع َ يم ( )9وأَْل ِ
َ
ِ َّ ين (َ )8يا م َ ِ
وسى إَّنهُ أََنا اللهُ اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ ُ
ِ
اْل َعالَم َ
ظلَ َم ثَُّم َب َّد َل ُح ْسًناون (ِ )10إاَّل َم ْن َ ي اْل ُم ْر َسلُ َ ف ِإِّني اَل َي َخ ُ
اف لَ َد َّ وسى اَل تَ َخ ْ ب َيا ُم َ ُم ْدبًِرا َولَ ْم ُي َعقِّ ْ
ك تَ ْخر ْج ب ْيضاء ِم ْن َغ ْي ِر سو ٍء ِفي تِس ِع آَي ٍ بع َد سو ٍء فَِإِّني َغفُور ر ِحيم ( )11وأ َْد ِخ ْل ي َد َ ِ
ات ْ َ ُ ك في َج ْيبِ َ ُ َ َ َ َ َ ٌ َ ٌ َْ ُ
ين (ص َرةً قَالُوا َه َذا ِس ْحٌر ُمبِ ٌ اس ِقين (َ )12فلَ َّما جاءتْهم آَياتَُنا م ْب ِ
َ َ ُْ َ ُ
ِ ِ
ِإلَى ف ْر َع ْو َن َوقَ ْو ِمه ِإَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو ًما فَ َ
ِ
)13
اب ُمبِ ٍآن و ِكتَ ٍ الر ِح ِيم طس تِْل َ { { } 6 - 1بِ ْسِم اللَّ ِه َّ
ين * ُه ًدى َوُب ْش َرى ات اْلقُْر ِ َ
ك َآي ُ الر ْح َم ِن َّ
َِّ ِ ِلْلمؤ ِمنِين * الَِّذ ِ
ين ال ُي ْؤ ِمُن َ
ون ون * ِإ َّن الذ َ
الز َكاةَ َو ُه ْم بِاآلخ َر ِة ُه ْم ُيو ِقُن َ
ون َّ
ون الصَّالةَ َوُي ْؤتُ َ يم َين ُيق ُ َ ُْ َ
اب و ُهم ِفي ِ
اآلخ َر ِة ُه ُم ِ َعمالَهم فَهم يعمهون * أُولَئِ َ َِّ ِ
وء اْل َع َذ َ ْ ين لَهُ ْم ُس ُك الذ َ بِاآلخ َر ِة َزيََّّنا لَهُ ْم أ ْ َ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ َ
آن ِم ْن لَ ُد ْن َح ِك ٍيم َعِل ٍيم } .
ك لَتُلَقَّى اْلقُْر َ
ون * َوإِ َّن َ
األخ َس ُر َ
ْ
ات اْلقُْر ِ
آن ينبه تعالى عباده على عظمة القرآن ويشير إليه إشارة دالة على التعظيم فقال { :تِْل َ
ك َآي ُ
ين } أي :هي أعلى اآليات وأقوى البينات وأوضح الدالالت وأبينها على أجل المطالب و ِكتَ ٍ
اب ُمبِ ٍ َ
وأفضل المقاصد ،وخير األعمال وأزكى األخالق ،آيات تدل على األخبار الصادقة واألوامر
الحسنة والنهي عن كل عمل وخيم وخلق ذميم ،آيات بلغت في وضوحها وبيانها للبصائر النيرة
مبلغ الشمس لألبصار ،آيات دلت على اإليمان ودعت للوصول إلى اإليقان ،وأخبرت عن الغيوب
الماضية والمستقبلة ،على طبق ما كان ويكون .آيات دعت إلى معرفة الرب العظيم بأسمائه
الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الكاملة ،آيات عرفتنا برسله وأوليائه ووصفتهم حتى كأننا ننظر
إليهم بأبصارنا ،ولكن مع هذا لم ينتفع بها كثير من العالمين ولم يهتد بها جميع المعاندين صونا
لها عن من ال خير فيه وال صالح وال زكاء في قلبه ،وإ نما اهتدى بها من خصهم اهلل باإليمان
واستنارت بذلك قلوبهم وصفت سرائرهم.
ِ ِ
ين } أي :تهديهم إلى سلوك الصراط المستقيم وتبين لهم مافلهذا قالُ { :ه ًدى َوُب ْش َرى لْل ُم ْؤ ِمن َ
ينبغي أن يسلكوه أو يتركوه ،وتبشرهم بثواب اهلل المرتب على الهداية لهذا الطريق.
ربما قيل :لعله يكثر مدعو اإليمان فهل يقبل من كل أحد ادعى [ ص ] 601أنه مؤمن ذلك؟ أم
ون الصَّالةَ } ال بد لذلك من دليل؟ وهو الحق فلذلك بين تعالى صفة المؤمنين فقال { :الَِّذ ِ
يم َ
ين ُيق ُ
َ
فرضها ونفلها فيأتون بأفعالها الظاهرة ،من أركانها وشروطها وواجباتها بل ومستحباتها،
وأفعالها الباطنة وهو الخشوع الذي روحها ولبها باستحضار قرب اهلل وتدبر ما يقول المصلي
ويفعله.
ِ
الز َكاةَ } المفروضة لمستحقيهاَ { .و ُه ْم بِاآلخ َر ِة ُه ْم ُيو ِقُن َ
ون } أي :قد بلغ معهم اإليمان ون َّ
{ َوُي ْؤتُ َ
إلى أن وصل إلى درجة اليقين وهو العلم التام الواصل إلى القلب الداعي إلى العمل .ويقينهم
باآلخرة يقتضي كمال سعيهم لها ،وحذرهم من أسباب العذاب وموجبات العقاب وهذا أصل كل
خير.
{ ِإ َّن الَِّذين ال يؤ ِمُنون بِ ِ
اآلخ َر ِة } ويكذبون بها ويكذبون من جاء بإثباتهاَ { ،زيََّّنا لَهُ ْم أ ْ
َع َمالَهُ ْم فَهُ ْم َ ُْ َ
ون } حائرين مترددين مؤثرين سخط اهلل على رضاه ،قد انقلبت عليهم الحقائق فرأوا الباطل َي ْع َمهُ َ
حقا والحق باطال.
ون } اب } أي :أشده وأسوأه وأعظمه { ،و ُهم ِفي ِ
اآلخ َر ِة ُه ُم ْ وء اْل َع َذ ِ { أُولَئِ َ َِّ
األخ َس ُر َ َ ْ ين لَهُ ْم ُس ُ
ك الذ َ
حصر الخسار فيهم لكونهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وخسروا اإليمان الذي دعتهم إليه
الرسل.
آن ِم ْن لَ ُد ْن َح ِك ٍيم َعِل ٍيم } أي :وإ ن هذا القرآن الذي ينزل عليك وتتلقفه وتتلقنه
ك لَتُلَقَّى اْلقُْر َ
{ َوإِ َّن َ
ينزل من عند { َح ِك ٍيم } يضع األشياء مواضعها ،وينزلها منازلهاَ { .عِل ٍيم } بأسرار األمور ()1
وبواطنها ،كظواهرها .وإ ذا كان من عند { َح ِك ٍيم َعِل ٍيم } ( )2علم أنه كله حكمة ومصالح للعباد،
من الذي [هو] أعلم بمصالحهم منهم؟
ت َن ًارا } إلى آخر قصته ،يعني :اذكر هذه الحالة الفاضلة الشريفةألهِل ِه ِإِّني َآن ْس ُ { ِإ ْذ قَا َل ُم َ
وسى ْ
من أحوال موسى بن عمران ،ابتداء الوحي إليه واصطفائه برسالته وتكليم اهلل إياه ،وذلك أنه لما
مكث في مدين عدة سنين وسار بأهله من مدين متوجها إلى مصر ،فلما كان في أثناء الطريق
ت َن ًارا } أي :أبصرت نارا من بعيد ضل وكان في ليلة مظلمة باردة فقال لهمِ { :إِّني َآن ْس ُ
اب قَب ٍ َّ ِ ِ ِ ِ
ون } أي :تستدفئون، طلُ َ صَ س لَ َعل ُك ْم تَ ْ { َسآتي ُك ْم م ْنهَا بِ َخَب ٍر } عن الطريق { ،أ َْو آتي ُك ْم بِشهَ ٍ َ
وهذا دليل على أنه تائه ومشتد برده هو وأهله.
الن ِار َو َم ْن َح ْولَهَا } أي :ناداه اهلل تعالى وأخبره أن هذا محل ك َم ْن ِفي َّ َن ُب ِ
ور َ ي أْ اء َها ُنو ِد َ{ َفلَ َّما َج َ
مقدس مبارك ،ومن بركته أن جعله اهلل موضعا لتكليم اهلل لموسى وندائه وإ رساله.
ين } عن أن يظن به نقص أو سوء بل هو الكامل في وصفه وفعله. ِ ان اللَّ ِه َر ِّ
ب اْل َعالَم َ { َو ُس ْب َح َ
ِ َّ { َيا م َ ِ
يم } أي :أخبره اهلل أنه اهلل المستحق للعبادة وحده ال شريك له وسى إَّنهُ أََنا اللهُ اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ ُ
اعُب ْدنِي َوأ َِقِم الصَّالةَ ِل ِذ ْك ِري } { اْل َع ِز ُيز } الذي
كما في اآلية األخرى { ِإَّننِي أََنا اللَّهُ ال ِإلَهَ ِإال أََنا فَ ْ
يم } في أمره وخلقه .ومن حكمته أن أرسل ِ
قهر جميع األشياء وأذعنت له كل المخلوقات { ،اْل َحك ُ
عبده موسى بن عمران الذي علم اهلل منه أنه أهل لرسالته ووحيه وتكليمه .ومن عزته أن تعتمد
عليه وال تستوحش من انفرادك وكثرة أعدائك وجبروتهم ،فإن نواصيهم بيد اهلل وحركاتهم
وسكونهم بتدبيره.
ان } وهو ذكر الحيات سريع الحركةَ { ،ولَّى
آها تَ ْهتَُّز َكأََّنهَا َج ٌّ
اك } فألقاها { َفلَ َّما َر َ
ص َ { وأَْل ِ
ق َع َ َ
ب } ذعرا من الحية التي رأى على مقتضى الطبائع البشرية ،فقال اهلل لهَ { :يا ُم ْدبًِرا َولَ ْم ُي َعقِّ ْ
ي ين } { ِإِّني ال َي َخ ُ
اف لَ َد َّ ِِ ف ِإَّن َ ِ
ف } وقال في اآلية األخرى { :أَ ْقبِ ْل َوال تَ َخ ْ
ك م َن اآلمن َ وسى ال تَ َخ ْ ُم َ
ون } ألن جميع المخاوف مندرجة في قضائه وقدره وتصريفه وأمره ،فالذين اختصهم اهلل اْل ُم ْر َسلُ َ
برسالته واصطفاهم لوحيه ال ينبغي لهم أن يخافوا غير اهلل خصوصا عند زيادة القرب منه
والحظوة بتكليمه.
ظلَ َم ثَُّم َب َّد َل ُح ْسًنا َب ْع َد ُسو ٍء } أي :فهذا الذي هو محل الخوف والوحشة بسبب ما أسدى
{ ِإال َم ْن َ
من الظلم وما تقدم له من الجرم ،وأما المرسلون فما لهم وللوحشة والخوف؟ ومع هذا من ظلم
نفسه بمعاصي اهلل ،ثم تاب وأناب فبدل سيئاته حسنات ومعاصيه طاعات فإن اهلل غفور رحيم ،فال
ييأس أحد من رحمته ومغفرته فإنه يغفر الذنوب جميعا وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
اء ِم ْن َغْي ِر ُسو ٍء } ال برص وال نقص ،بل بياض يبهر ض َ ك ِفي َج ْيبِ َ
ك تَ ْخ ُر ْج َب ْي َ { َوأ َْد ِخ ْل َي َد َ
ات ِإلَى ِف ْر َع ْو َن َوقَ ْو ِم ِه } أي :هاتان اآليتان انقالب العصا حية
الناظرين شعاعهِ { .في تِس ِع آي ٍ
ْ َ
تسعى وإ خراج اليد من [ ص ] 602الجيب فتخرج بيضاء في جملة تسع آيات تذهب بها وتدعو
ِِ
ين } فسقوا بشركهم وعتوهم وعلوهم على عباد اهلل فرعون وقومهِ { ،إَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو ًما فَاسق َ
واستكبارهم في األرض بغير الحق.
فذهب موسى عليه السالم إلى فرعون وملئه ودعاهم إلى اهلل تعالى وأراهم اآليات.
ص َرةً } مضيئة تدل على الحق ويبصر بها كما تبصر األبصار بالشمس{ . { َفلَ َّما جاءتْهم آياتَُنا م ْب ِ
َ َ ُْ َ ُ
ين } لم يكفهم مجرد القول بأنه سحر بل قالواُ { :مبِ ٌ
ين } ظاهر لكل أحد .وهذا قَالُوا َه َذا ِس ْحٌر ُمبِ ٌ
من أعجب العجائب اآليات المبصرات واألنوار الساطعات ،تجعل من بين الخزعبالت وأظهر
السحر! هل هذا إال من أعظم المكابرة وأوقح السفسطة.
__________
( )1في ب :األحوال.
( )2سبق قلم الشيخ -رحمه اهلل -فكتب( :حكيم خبير) فصححتها ،وأبقيت التفسير كما هو.
( )1/600
ِِ ِ
ين ()14
ان َعاقَبةُ اْل ُم ْفسد َ
ف َك َ َو َج َح ُدوا بِهَا َو ْ
استَْيقََنتْهَا أ َْنفُ ُسهُ ْم ظُْل ًما َو ُعلًُّوا فَ ْانظُ ْر َك ْي َ
( )1/602
ِ ضلََنا علَى َكثِ ٍ ِ ِ ِ ِ َِّ ِ َِّ ود وسلَْيم ِ
ين ()15 ير م ْن عَباده اْل ُم ْؤ ِمن َ ان عْل ًما َوقَااَل اْل َح ْم ُد لله الذي فَ َّ َ َولَقَ ْد آَتَْيَنا َد ُاو َ َ ُ َ َ
الط ْي ِر َوأُوتِ َينا ِم ْن ُك ِّل َش ْي ٍء ِإ َّن َه َذا لَهَُوق َّ اس ُعلِّ ْمَنا َم ْن ِط َ ود َوقَا َل َيا أَيُّهَا َّ َو َو ِر َ
الن ُ ان َد ُاو َ ث ُسلَْي َم ُ
ون (َ )17حتَّى ِإ َذا وز ُع َ س َوالطَّ ْي ِر فَهُ ْم ُي َودهُ ِم َن اْل ِج ِّن واإْلِ ْن ِ
َ ان ُجُن ُ ِ ِ
ين (َ )16و ُحش َر ل ُسلَْي َم َ ض ُل اْل ُمبِ ُ
اْلفَ ْ
ِ ِ أَتَ ْوا َعلَى َو ِاد َّ
الن ْم ِل قَالَ ْ
ودهُ َو ُه ْم اَل
ان َو ُجُن ُ الن ْم ُل ْاد ُخلُوا َم َساكَن ُك ْم اَل َي ْحط َمَّن ُك ْم ُسلَْي َم ُ ت َن ْملَةٌ َيا أَيُّهَا َّ
ت َعلَ َّي ك الَّتِي أ َْن َع ْم َ َن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ َ ب أ َْو ِز ْعنِي أ ْ ال َر ِّاح ًكا ِم ْن قَ ْوِلهَا َوقَ َ ي ْشعرون ( )18فَتَبسَّم ض ِ
َ َ َ َ ُُ َ
ين (َ )19وتَفَقَّ َد الطَّ ْي َر ِِ
ك الصَّالح َ ك ِفي ِعَب ِاد َ ضاهُ َوأ َْد ِخْلنِي بَِر ْح َمتِ َ صال ًحا تَْر َ
َعم َل ِ
َن أ ْ َ َ ي َوأ ْ َو َعلَى َو ِال َد َّ
يدا أ َْو أَل َ ْذَب َحَّنهُ أ َْو لََيأْتَِيِّني ُع ِّذَبَّنهُ َع َذ ًابا َش ِد ً ين ( )20أَل َ
ِ
ان م َن اْل َغائبِ َ
ال ما ِلي اَل أَرى اْله ْد ُه َد أَم َك ِ
ْ َ ُ فَقَ َ َ َ َ
ين ()22 ك ِم ْن َسَبٍإ بَِنَبٍإ َي ِق ٍ ط بِ ِه َو ِج ْئتُ َطت بِ َما لَ ْم تُ ِح ْ َح ُ ٍِ
ث َغْي َر َبعيد فَقَا َل أ َ ين ( )21فَ َم َك َ ان ُمبِ ٍ طٍ بِ ُسْل َ
ون ت ِم ْن ُك ِّل َشي ٍء ولَها عر ٌ ِ ام َرأَةً تَ ْمِل ُكهُ ْم َوأُوتَِي ْ ِإِّني َو َج ْد ُ
يم (َ )23و َج ْدتُهَا َوقَ ْو َمهَا َي ْس ُج ُد َ ش َعظ ٌ ْ َ َ َْ ت ْ
يل فَهم اَل َيهتَ ُدون ( )24أَاَّل َعمالَهم فَص َّد ُهم َع ِن َّ ِ َّن لَهم َّ س ِم ْن ُد ِ َّ ِ ِل َّ
ْ َ السبِ ُ ْ ان أ ْ َ ُ ْ َ ْ ط ُ الش ْي َ ون الله َو َزي َ ُ ُ لش ْم ِ
ون ( )25اللَّهُ اَل ِ
ون َو َما تُ ْعلُن َ ض َوَي ْعلَ ُم َما تُ ْخفُ َ ات واأْل َْر ِ ِ
َّم َاو َ ب َء في الس َ
يسج ُدوا ِللَّ ِه الَِّذي ي ْخ ِرج اْل َخ ْ ِ
ُ ُ َُْ
ب بِ ِكتَابِي ين ( )27ا ْذ َه ْ ِ
ت م َن اْل َكاذبِ َ
ت أَم ُك ْن َ ِ
َص َد ْق َ ْش اْل َعظيم ( )26قَا َل َسَن ْنظُ ُر أ َ
ب اْلعر ِ ِ ِ
ِإلَهَ ِإ ُه َو َر ُّ َ ْ
اَّل
اب َك ِر ٌ
يم ت َيا أَيُّهَا اْل َمأَل ُ ِإِّني أُْل ِق َي ِإلَ َّي ِكتَ ٌ ون ( )28قَالَ ْ ِِ
َه َذا فَأَْلقه ِإلَْي ِه ْم ثَُّم تََو َّل َعْنهُ ْم فَ ْانظُ ْر َما َذا َي ْر ِج ُع َ
ِِ اَّل الر ْحم ِن َّ ِ ِ ِ ِ َّ ِ ِ
ين ()31 الرحيم ( )30أَ تَ ْعلُوا َعلَ َّي َوأْتُونِي ُم ْسلم َ ان َوإِ َّنهُ ب ْسم الله َّ َ (ِ )29إَّنهُ م ْن ُسلَْي َم َ
ون ( )32قَالُوا َن ْح ُن أُولُو قَُّو ٍة اط َعةً أ َْم ًرا َحتَّى تَ ْشهَ ُد ِ ت قَ ِ ت َيا أَيُّهَا اْل َمأَل ُ أَ ْفتُونِي ِفي أ َْم ِري َما ُك ْن ُ قَالَ ْ
ِ ِ وأُولُو بأ ٍ ِ ٍ
وك ِإ َذا َد َخلُوا قَ ْرَيةً أَ ْف َس ُد َ
وها ت ِإ َّن اْل ُملُ َ ين ( )33قَالَ ْ ْم ِر َ
ْس َشديد َواأْل َْم ُر إلَْيك فَ ْانظُ ِري َما َذا تَأ ُ َ َ
ِ ٍ ِ ِ َهِلهَا أ َِذلَّةً َو َك َذِل َ وجعلُوا أ ِ
ون (َ )34وإِ ِّني ُم ْرسلَةٌ ِإلَْي ِه ْم بِهَديَّة فََناظ َرةٌ بِ َم َي ْر ِجعُ اْل ُم ْر َسلُ َ
ون ك َي ْف َعلُ َ َع َّزةَ أ ْ َ ََ
ِِ ِ ِ َّ ون ِن بِم ٍ (َ )35فلَ َّما جاء سلَْيمان قَ َ ِ
ون ( ال فَ َما آَتَان َي اللهُ َخ ْيٌر م َّما آَتَا ُك ْم َب ْل أ َْنتُ ْم بِهَديَّت ُك ْم تَ ْف َر ُح َ ال أَتُم ُّد َ َ َ َ ُ َ َ
ِ ِ ِ َّ )36ار ِجع ِإلَْي ِهم َفلََنأْتِيَّنهم بِجُن ٍ ِ
ال َيا ون ( )37قَ َ صاغ ُر َ ود اَل قَب َل لَهُ ْم بِهَا َولَُن ْخ ِر َجَّنهُ ْم م ْنهَا أَذلةً َو ُه ْم َ َ ُْ ُ ْ ْ ْ
يك بِ ِه قَْب َل ريت ِم َن اْل ِج ِّن أََنا آَتِ َ ين ( )38قَا َل ِع ْف ٌ ِِ
َن َيأْتُونِي ُم ْسلم َ أَيُّهَا اْل َمأَل ُ أَُّي ُك ْم َيأْتِينِي بِ َع ْر ِشهَا قَْب َل أ ْ
يك بِ ِه قَْب َل أ ْ اب أََنا آَتِ َ ين ( )39قَا َل الَِّذي ِع ْن َدهُ ِعْلم ِم َن اْل ِكتَ ِ
َن َم ٌ ي أِ ك َوإِ ِّني َعلَْي ِه لَقَ ِو ٌّ ام ََن تَقُوم ِم ْن مقَ ِ
ٌ َ أْ َ
ض ِل َربِّي ِلَيْبلَُونِي أَأَ ْش ُك ُر أ َْم أَ ْكفُُر َو َم ْن َش َك َر ك َفلَ َّما َرآَهُ ُم ْستَِق ًّرا ِع ْن َدهُ قَا َل َه َذا ِم ْن فَ ْ ط ْرفُ َك َ َي ْرتَ َّد ِإلَْي َ
يم ( )40قَا َل َن ِّك ُروا لَهَا َع ْر َشهَا َن ْنظُ ْر أَتَ ْهتَِدي أ َْم ِ ِ ِِ
فَِإَّن َما َي ْش ُك ُر لَن ْفسه َو َم ْن َكفََر فَِإ َّن َربِّي َغن ٌّي َك ِر ٌ
ت َكأََّنهُ ُه َو َوأُوتِ َينا اْل ِعْل َم ِم ْن َه َك َذا َع ْر ُش ِك قَالَ ْ يل أ َت ِق َ اء ْون (َ )41فلَ َّما َج َ ين اَل َي ْهتَ ُد َ
تَ ُك ِ َِّ
ون م َن الذ َ ُ
ين (ِ )43ق َ
يل ِ
ت م ْن قَ ْوٍم َكاف ِر َ
ون اللَّ ِه ِإَّنها َك َان ْ ِ
َ ت تَ ْعُب ُد ِم ْن ُد ِ ص َّد َها َما َك َان ْ ين (َ )42و َ
ِِ
قَْبلهَا َو ُكَّنا ُم ْسلم َ
ِ
تص ْر ٌح ُم َم َّر ٌد ِم ْن قَ َو ِار َير قَالَ ْ ت َع ْن َساقَْيهَا قَا َل ِإَّنهُ َ َّر َح َفلَ َّما َرأَتْهُ َح ِسَبتْهُ لُ َّجةً َو َك َشفَ ْ ِ
لَهَا ْاد ُخلي الص ْ
ِ ان ِللَّ ِه َر ِّ ظلَم ُ ِ
ين ()44 ب اْل َعالَم َ ت َم َع ُسلَْي َم َ َسلَ ْم ُت َن ْفسي َوأ ْ ب ِإِّني َ ْ َر ِّ
ت ِم ْن ام َرأَةً تَ ْمِل ُكهُ ْم } أي :تملك قبيلة سبأ وهي امرأة { َوأُوتَِي ْ
ت ْ ثم فسر هذا النبأ فقالِ { :إِّني َو َج ْد ُ
ُك ِّل َش ْي ٍء } يؤتاه الملوك من األموال والسالح والجنود والحصون والقالع ونحو ذلكَ { .ولَهَا
يم } أي :كرسي ملكها الذي تجلس عليه عرش هائل ،وعظم العروش تدل على عظمة عر ٌ ِ
ش َعظ ٌ َْ
المملكة وقوة السلطان وكثرة رجال الشورى.
َّن لَهُ ُم س ِم ْن ُد ِ َّ ِ
لش ْم ِون ِل َّ
ون الله } أي :هم مشركون يعبدون الشمسَ { .و َزي َ { َو َج ْدتُهَا َوقَ ْو َمهَا َي ْس ُج ُد َ
ون } ألن الذي يرى أن الذي عليه حق َع َمالَهُ ْم } فرأوا ما عليه هو الحق { ،فَهُ ْم ال َي ْهتَ ُد َ ان أ ْ
ط ُ َّ
الش ْي َ
ال مطمع في هدايته حتى تتغير عقيدته.
ض } أي :يعلماألر ِ ِ ثم قال { :أَال } أي :هال { يسج ُدوا ِللَّ ِه الَِّذي ي ْخ ِرج اْل َخ ْ ِ
َّم َاوات َو ْ
ب َء في الس َ ُ ُ َُْ
الخفي الخبيء في أقطار السماوات وأنحاء األرض ،من صغار المخلوقات وبذور النباتات وخفايا
الصدور ،ويخرج خبء األرض والسماء بإنزال المطر وإ نبات النباتات ،ويخرج خبء األرض
ون َو َما
عند النفخ في الصور وإ خراج األموات من األرض ليجازيهم بأعمالهم { َوَي ْعلَ ُم َما تُ ْخفُ َ
ون }. ِ
تُ ْعلُن َ
{ اللَّهُ ال ِإلَهَ ِإال ُه َو } أي :ال تنبغي العبادة واإلنابة والذل والحب إال له ألنه المألوه لما له من
ش اْل َع ِظ ِيم } الذي هو سقف المخلوقات ووسع ب اْل َع ْر ِ
الصفات الكاملة والنعم الموجبة لذلكَ { .ر ُّ
األرض والسماوات ،فهذا الملك عظيم السلطان كبير الشأن هو الذي يذل له ويخضع ويسجد له
ويركع ،فسلم الهدهد حين ألقى إليه هذا النبأ العظيم وتعجب سليمان كيف خفي عليه.
ب بِ ِكتَابِي َه َذا }
ين * ا ْذ َه ْ ِ ت أَم ُك ْن َ ِ
ت م َن اْل َكاذبِ َ َص َد ْق َ ْ
وقال مثبتا لكمال عقله ورزانته { َسَن ْنظُ ُر أ َ
ِِ
ون } إليك وما وسيأتي نصه { فَأَْلقه ِإلَْي ِه ْم ثَُّم تََو َّل َع ْنهُ ْم } أي استأخر غير بعيد { فَ ْانظُ ْر َما َذا َي ْر ِج ُع َ
يتراجعون به
يم } أي جليل المقدار من أكبر ملوك فذهب به فألقاه عليها فقالت لقومها { ِإِّني أُْل ِق َي ِإلَ َّي ِكتَ ٌ
اب َك ِر ٌ
األرض
الر ِح ِيم * أَال تَ ْعلُوا َعلَ َّي َوأْتُونِي ان َوإِ َّنهُ بِ ْسِم اللَّ ِه َّ
الر ْح َم ِن َّ ِ
ثم بينت مضمونه فقالت { ِإَّنهُ م ْن ُسلَْي َم َ
ين } أي :ال تكونوا فوقي بل اخضعوا تحت سلطاني ،وانقادوا ألوامري وأقبلوا إلي ِِ
ُم ْسلم َ
مسلمين.
وهذا في غاية الوجازة مع البيان التام فإنه تضمن نهيهم عن العلو عليه ،والبقاء على حالهم التي
هم عليها واالنقياد ألمره والدخول تحت طاعته ،ومجيئهم إليه ودعوتهم إلى اإلسالم ،وفيه
استحباب ابتداء الكتب بالبسملة كاملة وتقديم االسم في أول عنوان الكتاب ،فمن حزمها وعقلها أن
جمعت كبار دولتها ورجال مملكتها وقالتَ { :يا أَيُّهَا اْل َمأل أَ ْفتُونِي ِفي أ َْم ِري }.
ت قَ ِ
اط َعةً أ َْم ًرا أي :أخبروني ماذا نجيبه به؟ وهل ندخل تحت طاعته وننقاد؟ أم ماذا نفعل؟ { َما ُك ْن ُ
ون } أي :ما كنت مستبدة بأمر دون رأيكم ومشورتكم. َحتَّى تَ ْشهَ ُد ِ
ْس َش ِد ٍيد } أي :إن رددت عليه قوله ولم تدخلي في طاعته فإنا { قَالُوا َن ْح ُن أُولُو قَُّو ٍة وأُولُو َبأ ٍ
َ
أقوياء على القتال ،فكأنهم مالوا إلى هذا الرأي الذي لو تم لكان فيه دمارهم ،ولكنهم أيضا لم
ك } أي :الرأي ما رأيت لعلمهم بعقلها وحزمها ونصحها لهم األم ُر ِإلَْي َ
يستقروا عليه بل قالواَ { :و ْ
ْم ِر َ
ين }. { فَ ْانظُ ِري } نظر فكر وتدبر { َما َذا تَأ ُ
وك ِإ َذا َد َخلُوا قَ ْرَيةً أَ ْف َس ُد َ
وها } فقالت لهم -مقنعة لهم عن رأيهم ومبينة سوء مغبة القتالِ { -إ َّن اْل ُملُ َ
َهِلهَا أ َِذلَّةً } أي :جعلوا الرؤساء قتال وأسرا ونهبا ألموالها ،وتخريبا لديارها { ،وجعلُوا أ ِ
َع َّزةَ أ ْ َ ََ
السادة أشراف الناس من األذلين ،أي :فهذا رأي غير سديد ،وأيضا فلست بمطيعة له قبل االختبار
وإ رسال من يكشف عن أحواله ويتدبرها ،وحينئذ نكون على بصيرة من أمرنا.
ِ ٍ ِ ِ
فقالتَ { :وإِ ِّني ُم ْرسلَةٌ ِإلَْي ِه ْم بِهَديَّة فََناظ َرةٌ بِ َم َي ْر ِجعُ اْل ُم ْر َسلُ َ
ون } منه .هل يستمر على رأيه [ ص
] 605وقوله؟ أم تخدعه الهدية وتتبدل فكرته وكيف أحواله وجنوده؟ فأرسلت له هدية مع رسل
من عقالء قومها وذوي الرأي :منهم
( )1/604
ان } أي :جاءه الرسل بالهدية { قَا َل } منكرا عليهم ومتغيظا على عدم إجابتهم{ : اء ُسلَْي َم َ
{ َفلَ َّما َج َ
ال فَ َما آتَانِ َي اللَّهُ َخ ْيٌر ِم َّما آتَا ُك ْم } فليست تقع عندي موقعا وال أفرح بها قد أغناني اهلل ون ِن بِم ٍ
أَتُم ُّد َ َ
ِ
ِِ
عنها وأكثر علي النعمَ { ،ب ْل أ َْنتُ ْم بِهَديَّت ُك ْم تَ ْف َر ُح َ
ون } لحبكم للدنيا وقلة ما بأيديكم بالنسبة لما
أعطاني اهلل.
ثم أوصى الرسول من غير كتاب لما رأى من عقله وأنه سينقل كالمه على وجهه فقالْ { :ار ِج ْع
ِإلَْي ِه ْم } أي :بهديتك { َفلََنأْتَِيَّنهُ ْم بِ ُجُنو ٍد ال ِقَب َل لَهُ ْم } أي :ال طاقة لهم { بِهَا َولَُن ْخ ِر َجَّنهُ ْم ِم ْنهَا أ َِذلَّةً
ون } فرجع إليهم وأبلغهم ما قال سليمان وتجهزوا للمسير إلى سليمان ،وعلم سليمان ِ
صاغ ُر َ
َو ُه ْم َ
َن َيأْتُونِي أنهم ال بد أن يسيروا إليه فقال لمن حضره من الجن واإلنس { :أَُّي ُك ْم َيأْتِينِي بِ َع ْر ِشهَا قَْب َل أ ْ
ريت ِم َن ال ِع ْف ٌ ين } أي :ألجل أن نتصرف فيه قبل أن يسلموا فتكون أموالهم محترمة { ،قَ َ ِِ
ُم ْسلم َ
يك َوإِ ِّني َعلَْي ِه لَقَ ِو ٌّ ام ََن تَقُوم ِم ْن مقَ ِ
َ
اْل ِج ِّن } والعفريت :هو القوي النشيط جدا { :أََنا آتِي َ ِ ِ
ك به قَْب َل أ ْ َ
ين } والظاهر أن سليمان إذ ذاك في الشام فيكون بينه وبين سبأ نحو مسيرة أربعة أشهر شهران َم ٌ أِ
ذهابا وشهران إيابا ،ومع ذلك يقول هذا العفريت :أنا التزم بالمجيء به على كبره وثقله ،وبعده
قبل أن تقوم من مجلسك الذي أنت فيه .والمعتاد من المجالس الطويلة أن تكون معظم الضحى
نحو ثلث يوم هذا نهاية المعتاد ،وقد يكون دون ذلك أو أكثر ،وهذا الملك العظيم الذي عند آحاد
اب } قال المفسرون :هو ال الَِّذي ِع ْن َدهُ ِعْلم ِم َن اْل ِكتَ ِ
رعيته هذه القوة والقدرة وأبلغ من ذلك أن { قَ َ
ٌ
رجل عالم صالح عند سليمان يقال له " :آصف بن برخيا " كان يعرف اسم اهلل األعظم الذي إذا
دعا اهلل به أجاب وإ ذا سأل به أعطى.
ك } بأن يدعو اهلل بذلك االسم فيحضر حاال وأنه دعا اهلل
ط ْرفُ َ
ك َ ك بِ ِه قَْب َل أ ْ
َن َي ْرتَ َّد ِإلَْي َ { أََنا آتِي َ
فحضر .فاهلل أعلم [هل هذا المراد أم أن عنده علما من الكتاب يقتدر به على جلب البعيد وتحصيل
الشديد] ()1
{ َفلَ َّما َرآهُ } سليمان { ُم ْستَِق ًّرا ِع ْن َدهُ } حمد اهلل تعالى على إقداره وملكه وتيسير األمور له و { قَا َل
ض ِل َربِّي ِلَيْبلَُونِي أَأَ ْش ُك ُر أ َْم أَ ْكفُُر } أي :ليختبرني بذلك .فلم يغتر عليه السالم بملكه
َه َذا ِم ْن فَ ْ
وسلطانه وقدرته كما هو دأب الملوك الجاهلين ،بل علم أن ذلك اختبار من ربه فخاف أن ال يقوم
بشكر هذه النعمة ،ثم بين أن هذا الشكر ال ينتفع اهلل به وإ نما يرجع نفعه إلى صاحبه فقالَ { :و َم ْن
ِ ِ ِِ
يم } غني عن أعماله كريم كثير الخير يعم به َش َك َر فَِإَّن َما َي ْش ُك ُر لَن ْفسه َو َم ْن َكفََر فَِإ َّن َربِّي َغن ٌّي َك ِر ٌ
الشاكر والكافر ،إال أن شكر نعمه داع للمزيد منها وكفرها داع لزوالها ،ثم قال لمن عنده:
{ َن ِّك ُروا لَهَا َع ْر َشهَا } أي :غيروه بزيادة ونقص ،ونحو ذلك { َن ْنظُ ْر } مختبرين لعقلها { أَتَ ْهتَِدي }
ون }. للصواب ويكون عندها ذكاء وفطنة تليق بملكها { أَم تَ ُك ِ َِّ
ين ال َي ْهتَ ُد َ
ون م َن الذ َ
ُ ْ
ت } قادمة على سليمان عرض عليها عرشها وكان عهدها به قد خلفته في بلدها ،و اء ْ
{ َفلَ َّما َج َ
َه َك َذا َع ْر ُش ِك } أي :أنه استقر عندنا أن لك عرشا عظيما فهل هو كهذا العرش الذي { ِقي َل } لها { أ َ
ت َكأََّنهُ ُه َو } وهذا من ذكائها وفطنتها لم تقل " هو " لوجود التغيير فيه أحضرناه لك؟ { قَالَ ْ
والتنكير ولم تنف أنه هو ،ألنها عرفته ،فأتت بلفظ محتمل لألمرين صادق على الحالين ،فقال
سليمان متعجبا من هدايتها وعقلها وشاكرا هلل أن أعطاه أعظم منهاَ { :وأُوتِ َينا اْل ِعْل َم ِم ْن قَْبِلهَا }
ِِ
ين } وهي الهداية النافعة األصلية. أي :الهداية والعقل والحزم من قبل هذه الملكةَ { ،و ُكَّنا ُم ْسلم َ
ويحتمل أن هذا من قول ملكة سبأ " :وأوتينا العلم عن ملك سليمان وسلطانه وزيادة اقتداره من
قبل هذه الحالة التي رأينا فيها قدرته على إحضار العرش من المسافة البعيدة فأذعنا له وجئنا
مسلمين له خاضعين لسلطانه "
ون اللَّ ِه } أي :عن اإلسالم ،وإ ال فلها من الذكاء
ت تَ ْعُب ُد ِم ْن ُد ِ
ص َّد َها َما َك َان ْ
قال اهلل تعالىَ { :و َ
ت ِم ْن
والفطنة ما به تعرف الحق من الباطل ولكن العقائد الباطلة تذهب بصيرة القلب { ِإَّنهَا َك َان ْ
ِ
ين } فاستمرت على دينهم ،وانفراد الواحد عن أهل الدين والعادة المستمرة بأمر يراه قَ ْوٍم َكاف ِر َ
بعقله من ضاللهم وخطئهم من أندر ما يكون فلهذا ال يستغرب بقاؤها على الكفر ،ثم إن سليمان
أراد أن ترى من سلطانه ما يبهر العقول فأمرها أن تدخل الصرح وهي المجلس المرتفع المتسع
وكان مجلسا من قوارير تجري تحته األنهار.
َّر َح َفلَ َّما َرأَتْهُ َح ِسَبتْهُ لُ َّجةً } ماء ألن القوارير شفافة [ ،ص ] 606يرى ِ فـ { ِق َ
يل لَهَا ْاد ُخلي الص ْ
ت َع ْن َساقَْيهَا } للخياضة وهذا أيضا
الماء الذي تحتها كأنه بذاته يجري ليس دونه شيءَ { ،و َك َشفَ ْ
من عقلها وأدبها ،فإنها لم تمتنع من الدخول للمحل الذي أمرت بدخوله لعلمها أنها لم تستدع إال
لإلكرام وأن ملك سليمان وتنظيمه قد بناه على الحكمة ولم يكن في قلبها أدنى شك من حالة السوء
بعد ما رأت ما رأت.
ص ْر ٌح ُم َم َّر ٌد } أي :مملس { ِم ْن قَ َو ِار َير } فال حاجة منك فلما استعدت للخوض قيل لهاِ { :إَّنهُ َ
لكشف الساقين .فحينئذ لما وصلت إلى سليمان وشاهدت ما شاهدت وعلمت نبوته ورسالته تابت
ِ ان ِللَّ ِه َر ِّ ظلَم ُ ِ
ين }.
ب اْل َعالَم َ ت َم َع ُسلَْي َم َ
َسلَ ْم ُ
ت َن ْفسي َوأ ْ ب ِإِّني َ ْ ت َر ِّ
ورجعت عن كفرها و { قَالَ ْ
فهذا ما قصه اهلل علينا من قصة ملكة سبأ وما جرى لها مع سليمان ،وما عدا ذلك من الفروع
المولدة والقصص اإلسرائيلية فإنه ال يتعلق بالتفسير لكالم اهلل وهو من األمور التي يقف الجزم
بها ،على الدليل المعلوم عن المعصوم ،والمنقوالت في هذا الباب كلها أو أكثرها ليس كذلك،
فالحزم كل الحزم ،اإلعراض عنها وعدم إدخالها في التفاسير .واهلل أعلم.
__________
( )1زيادة من هامش ب.
( )1/605
( )1/606
اب قَ ْو ِم ِه } قبول وال انزجار وال تذكر وادكار ،إنما كان جوابهم المعارضة
ان َج َو َ
{ فَ َما َك َ
والمناقضة والتوعد لنبيهم الناصح ورسولهم األمين باإلجالء عن وطنه والتشريد عن بلده .فما
وط ِم ْن قَ ْرَيتِ ُك ْم }.
َخ ِرجوا آ َل لُ ٍ كان جواب قومه { ِإال أ ْ
َن قَالُوا أ ْ ُ
ون }
طهَُّر َ فكأنه قيل :ما نقمتم منهم وما ذنبهم الذي أوجب لهم اإلخراج ،فقالواِ { :إَّنهُ ْم أَُن ٌ
اس َيتَ َ
أي :يتنزهون عن اللواط وأدبار الذكور .فقبحهم اهلل جعلوا أفضل الحسنات بمنزلة أقبح السيئات،
ولم يكتفوا بمعصيتهم لنبيهم فيما وعظهم به حتى وصلوا إلى إخراجه ،والبالء موكل بالمنطق فهم
ِ َخ ِرج ُ ِ
ون }.
طهَُّر َ وه ْم م ْن قَ ْرَيت ُك ْم ِإَّنهُ ْم أَُن ٌ
اس َيتَ َ قالوا { :أ ْ ُ
ومفهوم هذا الكالم " :وأنتم متلوثون بالخبث والقذارة المقتضي لنزول العقوبة بقريتكم ونجاة من
خرج منها "
َهلَه ِإال امرأَتَه قَ َّدرَن َ ِ
اها م َن اْل َغابِ ِر َ
ين } وذلك لما جاءته المالئكة في َْ ُ ْ ولهذا قال تعالى { :فَأ َْن َج ْيَناهُ َوأ ْ ُ
صورة أضياف وسمع بهم قومه فجاءوا إليه يريدونهم بالشر وأغلق الباب دونهم واشتد األمر
عليه ،ثم أخبرته المالئكة عن جلية الحال وأنهم جاءوا الستنقاذه وإ خراجه من بين أظهرهم وأنهم
يريدون إهالكهم وأن موعدهم الصبح ،وأمروه أن يسري بأهله ليال إال امرأته فإنه سيصيبها ما
أصابهم فخرج بأهله ليال فنجوا وصبحهم العذاب ،فقلب اهلل عليهم ديارهم وجعل أعالها أسفلها
وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك.
ين } أي :بئس المطر مطرهم وبئس ط ُر اْل ُم ْن َذ ِر َ
اء َم َ ط ْرَنا َعلَْي ِه ْم َم َ
ط ًرا فَ َس َ ولهذا قال هناَ { :وأ َْم َ
العذاب عذابهم ألنهم أنذروا وخوفوا فلم ينزجروا ولم يرتدعوا فأحل اهلل بهم عقابه الشديد.
( )1/607
( )1/607
ان لَ ُك ْم ٍ اء فَأ َْنَبتَْنا بِ ِه َح َدائِ َ ات واأْل َرض وأ َْن َز َل لَ ُكم ِمن الس ِ ِ
ات َب ْه َجة َما َك َ
ق َذ َ َّماء َم ً
ْ َ َ َّم َاو َ ْ َ َ ق الس َ أ َْم َم ْن َخلَ َ
ِ َّ ِ ِ
َن تُْنبِتُوا َش َج َر َها أَئلَهٌ َم َع الله َب ْل ُه ْم قَ ْو ٌم َي ْعدلُ َ
ون ()60 أْ
ثم ذكر تفاصيل ما به يعرف ويتعين أنه اإلله المعبود وأن عبادته هي الحق وعبادة [ما] سواه هي
اء فَأ َْنَبتَْنا بِ ِه َح َدائِ َ
ق ات واألرض وأ َْن َز َل لَ ُكم ِمن الس ِ
َّماء َم ً
ْ َ َ
ِ
َّم َاو َ ْ َ َ
ق الس َ
َم ْن َخلَ َ
الباطل فقال { } 60 { :أ َّ
ِ َّ ِ ٍ
َن تُْنبِتُوا َش َج َر َها أَِإلَهٌ َم َع الله َب ْل ُه ْم قَ ْو ٌم َي ْعدلُ َ
ون } ان لَ ُك ْم أ ْ
ات َب ْه َجة َما َك َ
َذ َ
أي :أمن خلق السماوات وما فيها من الشمس والقمر والنجوم والمالئكة واألرض وما فيها من
جبال وبحار وأنهار وأشجار وغير ذلك.
( )1/607
ات َب ْه َج ٍة } أي:
ق } أي :بساتين { َذ َ اء فَأ َْنَبتَْنا بِ ِه َح َدائِ َ { وأَنز َل لَ ُكم } أي :ألجلكم { ِمن الس ِ
َّماء َم ً
َ َ ْ َ
َن تُْنبِتُوا َش َج َر َها } لوال منة
ان لَ ُك ْم أ ْ
حسن منظر من كثرة أشجارها وتنوعها وحسن ثمارهاَ { ،ما َك َ
اهلل عليكم بإنزال المطر { .أَِإلَهٌ َم َع اللَّ ِه } فعل هذه األفعال حتى يعبد معه ويشرك به؟ { َب ْل ُه ْم
ون } به غيره ويسوون به سواه مع علمهم أنه وحده خالق العالم العلوي والسفلي ومنزل ِ
قَ ْو ٌم َي ْعدلُ َ
الرزق.
[ ص ] 608
َم ْن جع َل األرض قَرارا وجع َل ِخاللَها أ َْنهارا وجع َل لَها رو ِ
اس َي َو َج َع َل َب ْي َن اْلَب ْح َر ْي ِن َ ًَ َ ََ َ ََ ْ َ َ ً َ ََ { { } 61أ َّ َ َ
َّ ِ َح ِ
ون } .اج ًزا أَِإلَهٌ َم َع الله َب ْل أَ ْكثَُر ُه ْم ال َي ْعلَ ُم َ
أي :هل األصنام واألوثان الناقصة من كل وجه التي ال فعل منها وال رزق وال نفع خير؟ أم اهلل
ض قََر ًارا } يستقر عليها العباد ويتمكنون من السكنى والحرث والبناء والذهاب األر َ
الذي { َج َع َل ْ
واإليابَ { .و َج َع َل ِخاللَهَا أ َْنهَ ًارا } أي :جعل في خالل األرض أنهارا ينتفع بها العباد في
زروعهم وأشجارهم ،وشربهم وشرب مواشيهم.
اس َي } أي :جباال ترسيها وتثبتها لئال تميد وتكون أوتادا لها لئال تضطرب. { وجع َل لَها رو ِ
َ ََ َ ََ
اج ًزا } يمنع من اختالطهما فتفوت المنفعة { و َج َع َل َب ْي َن اْلَب ْحر ْي ِن } البحر المالح والبحر العذب { َح ِ
َ َ
المقصودة من كل منهما بل جعل بينهما حاجزا من األرض ،جعل مجرى األنهار في األرض
مبعدة عن البحار فيحصل منها مقاصدها ومصالحها { ،أَِإلَهٌ َم َع اللَّ ِه } فعل ذلك حتى يعدل به اهلل
ون } فيشركون باهلل تقليدا لرؤسائهم وإ ال فلو علموا حق ويشرك به معهَ { .ب ْل أَ ْكثَُر ُه ْم ال َي ْعلَ ُم َ
العلم لم يشركوا به شيئا.
( )1/607
ض أَئِلَهٌ َم َع اللَّ ِه َقِلياًل َما
اء اأْل َْر ِ
ُّوء َوَي ْج َعلُ ُك ْم ُخلَفَ َ ط َّر ِإ َذا َد َعاهُ َوَي ْك ِش ُ
ف الس َ ضَ أ َْم َم ْن ُي ِج ُ
يب اْل ُم ْ
ون ()62 تَ َذ َّك ُر َ
( )1/608
ض أَئِلَهٌ َم َع اللَّ ِه ُق ْل َهاتُوا ُب ْر َه َان ُك ْم ِإ ْن يده وم ْن ير ُزقُ ُكم ِمن الس ِ
اء واأْل َْر ِ
َّم َْ َ َ
أَم م ْن ي ْب َدأُ اْل َخْل َ ِ
ق ثَُّم ُيع ُ ُ َ َ َ ْ ْ َ َ
ين ()64 ُك ْنتُم ِ ِ
صادق َ ْ َ
( )1/608
( )1/608
ق ِم َّما يم ُكرون ( )70ويقُولُون متَى َه َذا اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ ِ
ين
صادق َْ َ َ َ َ ََ َْ ُ َ ض ْي ٍ َواَل تَ ْح َز ْن َعلَْي ِه ْم َواَل تَ ُك ْن في َ
َِّ
ون ()72 ض الذي تَ ْستَ ْع ِجلُ َ ون َر ِد َ
ف لَ ُك ْم َب ْع ُ َن َي ُك َ
(ُ )71ق ْل َع َسى أ ْ
( )1/609
ِ ون (َ )73وإِ َّن َرَّب َ الن ِ ِ ض ٍل َعلَى َّ َوإِ َّن َرَّب َ
ور ُه ْم ك لََي ْعلَ ُم َما تُك ُّن ُ
ص ُد ُ اس َولَك َّن أَ ْكثََر ُه ْم اَل َي ْش ُك ُر َ ك لَ ُذو فَ ْ
ين ()75 اب ُمبِ ٍ ض ِإاَّل ِفي ِكتَ ٍ
اء واأْل َْر ِ وما يعِلُنون ( )74وما ِم ْن َغائِب ٍة ِفي الس ِ
َّم َ َ َ ََ َ َ ُْ َ
( )1/609
ِِ ِ َِّ ِ ِ
ص َعلَى َبني ِإ ْس َرائي َل أَ ْكثََر الذي ُه ْم فيه َي ْختَلفُ َ
ون ()76 ِإ َّن َه َذا اْلقُْرآ َ
َن َيقُ ُّ
( )1/609
ِ ِ
َوإِ َّنهُ لَهُ ًدى َو َر ْح َمةٌ لْل ُم ْؤ ِمن َ
ين ()77
ِ ِ
{ َوإِ َّنهُ لَهُ ًدى َو َر ْح َمةٌ لْل ُم ْؤ ِمن َ
ين } .
{ َوإِ َّنهُ لَهُ ًدى }.
من الضاللة والغي والشبه { َو َر ْح َمةٌ } تنثلج له صدورهم وتستقيم به أمورهم الدينية والدنيوية
ِ ِ
ين } به المصدقين له المتلقين له بالقبول المقبلين على تدبره المتفكرين في معانيه ،فهؤالء { لْل ُم ْؤ ِمن َ
تحصل لهم به الهداية إلى الصراط المستقيم والرحمة المتضمنة للسعادة والفوز والفالح.
( )1/609
( )1/609
( )1/609
( )1/610
ال أَ َك َّذ ْبتُ ْماءوا قَ َون (َ )83حتَّى ِإ َذا َج ُ وز ُع َ ب بِآََياتَِنا فَهُ ْم ُي َ ِ ويوم َن ْح ُشر ِم ْن ُك ِّل أ َّ ٍ
ُمة فَ ْو ًجا م َّم ْن ُي َك ِّذ ُ ُ َ َْ َ
ون (َ )84و َوقَ َع اْلقَ ْو ُل َعلَْي ِه ْم بِ َما َ ِ ِ ِ
ظلَ ُموا فَهُ ْم اَل بِآََياتي َولَ ْم تُحيطُوا بِهَا عْل ًما أ َْم َما َذا ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ
ون ()85 ِ
َي ْنطقُ َ
( )1/610
( )1/610
ض ِإال م ْن َش َّ األر ِ ِ ِ ُّور فَفَ ِز َ ِ { َ { } 90 - 87وَي ْو َم ُي ْنفَ ُخ ِفي الص ِ
اء اللهُ َ َ َّم َاوات َو َم ْن في ْ ع َم ْن في الس َ
ص ْن َع اللَّ ِه الَِّذي أَتْقَ َن ُك َّل
اب َُّح ِ ِ
ين * َوتََرى اْل ِجَبا َل تَ ْح َسُبهَا َجام َدةً َو ِه َي تَ ُم ُّر َم َّر الس َ
ِ
َو ُك ٌّل أَتَ ْوهُ َداخ ِر َ
ٍ
َش ْيء ِإَّنهُ َخبِ ٌير بِ َما تَ ْف َعلُ َ
ون } .
يخوف تعالى عباده ما أمامهم من يوم القيامة وما فيه من المحن والكروب ،ومزعجات القلوب
ض} األر ِ ِ ِ ِ فقالَ { :وَي ْو َم ُي ْنفَ ُخ ِفي الص ِ
ُّور فَفَ ِز َ
َّم َاوات َو َم ْن في ْ ع } بسبب النفخ فيه { َم ْن في الس َ
اء اللَّهُ } ممن أي :انزعجوا وارتاعوا وماج بعضهم ببعض خوفا مما هو مقدمة لهِ { .إال َم ْن َش َ
ِ
أكرمه اهلل وثبته وحفظه من الفزعَ { .و ُك ٌّل } من الخلق عند النفخ في الصور { أَتَ ْوهُ َداخ ِر َ
ين }
ض ِإال آتِي َّ
الر ْح َم ِن َع ْب ًدا } األر ِ ِ
َّم َاوات َو ْ
ِ ِ ُّ
صاغرين ذليلين ،كما قال تعالى { :إ ْن ُكل َم ْن في الس َ
ففي ذلك اليوم يتساوى الرؤساء والمرءوسون في الذل والخضوع لمالك الملك.
ال تَ ْحسبها ج ِ
ام َدةً } ال تفقد [شيئا] منها وتظنها باقية على الحال ومن هوله أنك { ترى اْل ِجَب َ َ ُ َ َ
المعهودة وهي قد بلغت منها الشدائد واألهوال كل مبلغ وقد تفتت ثم تضمحل وتكون هباء منبثا.
ص ْن َع اللَّ ِه الَِّذي أَتْقَ َن
اب } من خفتها وشدة ذلك الخوف وذلك { َُّح ِ
ولهذا قالَ { :و ِه َي تَ ُم ُّر َم َّر الس َ
ٍ
ُك َّل َش ْيء ِإَّنهُ َخبِ ٌير بِ َما تَ ْف َعلُ َ
ون } فيجازيكم بأعمالكم.
( )1/610
( )1/610
ين ( ِِ َن أَ ُك ِ ب َه ِذ ِه اْلبْل َد ِة الَِّذي ح َّرمها ولَه ُك ُّل َشي ٍء وأ ِ َعُب َد َر َّ ِإَّنما أ ِ
ون م َن اْل ُم ْسلم َ َ ت أْ ُم ْر ُ ْ َ َ ََ َ ُ َ َن أ ْ
ت أْ ُم ْر ُ َ
ِ ِ َّ ِ ِ ِ ِ
ين ()92 ضل فَ ُق ْل ِإَّن َما أََنا م َن اْل ُم ْنذ ِر َ اهتَ َدى فَِإَّن َما َي ْهتَدي لَن ْفسه َو َم ْن َ
َن فَ َم ِن ْ
َن أ َْتلَُو اْلقُْرآ َ
َ )91وأ ْ
ونها وما رب َ ِ ِِ َِّ ِ
ون ()93 ُّك بِ َغاف ٍل َع َّما تَ ْع َملُ َ ِ
َو ُقل اْل َح ْم ُد لله َسُي ِري ُك ْم آََياته فَتَ ْع ِرفُ َ َ َ َ َ
ون ِم َن
َن أَ ُك َ ت أْ ب َه ِذ ِه اْلبْل َد ِة الَِّذي ح َّرمها ولَه ُك ُّل َشي ٍء وأ ِ
ُم ْر ُ ْ َ َ ََ َ ُ َ َعُب َد َر َّ
َن أ ْ
ت أْ
ُم ْر ُ{ ِ { } 91-93إَّنما أ ِ
َ
ِ ِ ِ ِ ِِ ِِ
ين *ض َّل فَ ُق ْل ِإَّن َما أََنا م َن اْل ُم ْنذ ِر َ
اهتَ َدى فَِإَّن َما َي ْهتَدي لَن ْفسه َو َم ْن َ
آن فَ َم ِن ْ
َن أ َْتلَُو اْلقُْر َ
ين * َوأ ْ
اْل ُم ْسلم َ
ونها وما رب َ ِ ِِ َِّ ِ
ُّك بِ َغاف ٍل َع َّما تَ ْع َملُ َ
ون } . ِ
َو ُقل اْل َح ْم ُد لله َسُي ِري ُك ْم َآياته فَتَ ْع ِرفُ َ َ َ َ َ
ب َه ِذ ِه اْلَبْل َد ِة } أي :مكة المكرمة التي حرمها وأنعم َعُب َد َر َّ
َن أ ْ
ت أْ أي :قل لهم يا محمد { ِإَّنما أ ِ
ُم ْر ُ َ
على أهلها فيجب أن يقابلوا ذلك بالشكر والقبولَ { .ولَهُ ُك ُّل َش ْي ٍء } من العلويات والسفليات أتى
ين } ( )1أي :أبادر ِِ َن أَ ُك ِ به لئال يتوهم اختصاص ربوبيته بالبيت وحده { .وأ ِ
ون م َن اْل ُم ْسلم َ
َ ت أْ ُم ْر ُ َ
إلى اإلسالم ،وقد فعل صلى اهلل عليه وسلم فإنه أول هذه األمة إسالما وأعظمها استسالما.
آن } لتهتدوا به وتقتدوا وتعلموا ألفاظه ومعانيه فهذا { و } أمرت أيضا { أن أ َْتلَُو } عليكم { اْلقُْر ُ
اهتَ َدى فَِإَّن َما َي ْهتَِدي ِلَن ْف ِس ِه } نفعه يعود عليه وثمرته عائدة إليه { َو َم ْن
الذي علي وقد أديته { ،فَ َم ِن ْ
ِ ِ
ين } وليس بيدي من الهداية شيء. ض َّل فَ ُق ْل ِإَّن َما أََنا م َن اْل ُم ْنذ ِر َ
َ
{ َو ُق ِل اْل َح ْم ُد ِللَّ ِه } الذي له الحمد في األولى واآلخرة ومن جميع الخلق ،خصوصا أهل
االختصاص والصفوة من عباده ،فإن الذي ينبغي أن يقع منهم من الحمد والثناء على ربهم أعظم
مما يقع من غيرهم لرفعة درجاتهم وكمال قربهم منه وكثرة خيراته عليهم.
ونهَا } معرفة تدلكم على الحق والباطل ،فال بد أن يريكم من آياته ما { َسُي ِري ُك ْم آياتِ ِه فَتَ ْع ِرفُ َ
ك َع ْن َبيَِّن ٍة َوَي ْحَيا َم ْن َح َّي َع ْن َبيَِّن ٍة } تستنيرون به في الظلماتِ { .لَي ْهِل َ
ك َم ْن َهلَ َ
{ وما رُّب َ ِ
ون } بل قد علم ما أنتم عليه من األعمال واألحوال وعلم مقدار جزاء ك بِ َغاف ٍل َع َّما تَ ْع َملُ َ ََ َ
تلك األعمال وسيحكم بينكم حكما تحمدونه عليه وال يكون لكم حجة بوجه من الوجوه عليه.
تم تفسير سورة النمل بفضل اهلل وإ عانته وتيسيره.
ونسأله تعالى أن ال تزال ألطافه ومعونته مستمرة علينا وواصلة منه إلينا ،فهو أكرم األكرمين
وخير الراحمين وموصل المنقطعين ومجيب السائلين.
ميسر األمور العسيرة وفاتح أبواب بركاته والمجزل في جميع األوقات هباته ،ميسر القرآن
للمتذكرين ومسهل طرقه وأبوابه للمقبلين وممد مائدة خيراته ومبراته للمتفكرين والحمد هلل رب
العالمين .وصلى اهلل على محمد وآله وصحبه وسلم.
على يد جامعه وممليه عبد الرحمن بن ناصر بن عبد اهلل السعدي غفر اهلل له ولوالديه ولجميع
المسلمين ،وذلك في 22رمضان سنة .1343
المجلد السادس من تفسير الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان ،من منن اهلل على الفقير إلى
المعيد المبدي :عبده وابن عبده وابن أمته :عبد الرحمن بن ناصر بن عبد اهلل بن سعدي غفر اهلل
له آمين.
تفسير سورة القصص
وهي مكية
__________
( )1سبق قلم الشيخ -رحمه اهلل -فكتب( :وأمرت أن اكون أول المسلمين) وعلى هذا فسر اآلية.
( )1/611
ك ِم ْن َنَبِإ
ين * َن ْتلُوا َعلَْي َ ات اْل ِكتَ ِ
اب اْل ُمبِ ِ الر ِح ِيم طسم * تِْل َ
ك َآي ُ الر ْح َم ِن َّ { { } 1-51بِ ْسِم اللَّ ِه َّ
موسى و ِفرعون بِاْلح ِّ ِ
ون } ق لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ ُ َ َ ْ َْ َ َ
ين } لكل أمر ات اْل ِكتَ ِ
اب اْل ُمبِ ِ ك } اآليات المستحقة للتعظيم والتفخيم { َآي ُ إلى آخر القصة { .تِْل َ
يحتاج إليه العباد ،من معرفة ربهم ،ومعرفة حقوقه ،ومعرفة أوليائه وأعدائه ،ومعرفة وقائعه
وأيامه ،ومعرفة ثواب األعمال ،وجزاء العمال ،فهذا القرآن قد بينها غاية التبيين ،وجالها للعباد،
ووضحها.
ومن جملة ما أبان ،قصة موسى وفرعون ،فإنه أبداها ،وأعادها في عدة مواضع ،وبسطها في هذا
وسى َو ِف ْر َع ْو َن بِاْل َح ِّ الموضع فقالَ { :ن ْتلُوا علَْي َ ِ
ق } فإن نبأهما غريب ،وخبرهما ك م ْن َنَبِإ ُم َ َ
عجيب.
ِ
ون } فإليهم يساق الخطاب ،ويوجه الكالم ،حيث إن معهم من اإليمان ،ما يقبلون به { لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ
على تدبُّر ذلك ،وتلقِّيه بالقبول واالهتداء بمواقع العبر ،ويزدادون به إيمانا ويقينا ،وخيرا إلى
خيرهم ،وأما من عداهم ،فال يستفيدون منه إال إقامة الحجة عليهم ،وصانه اللّه عنهم ،وجعل بينهم
وبينه حجابا أن يفقهوه.
ِ ِ
فأول هذه القصة { ِإ َّن ف ْر َع ْو َن َعال في ْ
األر ِ
ض } في ملكه وسلطانه وجنوده وجبروته ،فصار من
أهل العلو فيها ،ال من األعلين فيها.
[ ص ] 612
َهلَهَا ِشَي ًعا } أي :طوائف متفرقة ،يتصرف فيهم بشهوته ،وينفذ فيهم ما أراد من قهره، { َو َج َع َل أ ْ
وسطوته.
طائِفَةً ِم ْنهُ ْم } وتلك الطائفة ،هم بنو إسرائيل ،الذين فضلهم اللّه على العالمين ،الذين ض ِع ُ
ف َ { َي ْستَ ْ
ينبغي له أن يكرمهم ويجلهم ،ولكنه استضعفهم ،بحيث إنه رأى أنهم ال منعة لهم تمنعهم مما أراده
اء ُه ْم َوَي ْستَ ْحيِي
ِّح أ َْبَن َ
فيهم ،فصار ال يبالي بهم ،وال يهتم بشأنهم ،وبلغت به الحال إلى أنه { ُي َذب ُ
اء ُه ْم } خوفا من أن يكثروا ،فيغمروه في بالده ،ويصير لهم الملك. ِ
ن َس َ
ين } الذين ال قصد لهم في إصالح الدين ،وال إصالح الدنيا ،وهذا من إفساده ِِ { ِإَّنه َك ِ
ان م َن اْل ُم ْفسد َ
ُ َ
في األرض.
ض } بأن نزيل عنهم مواد االستضعاف ،ونهلك األر ِ َن َنم َّن علَى الَِّذين استُ ْ ِ ِ { َوُن ِر ُ
ضعفُوا في ْ َ ْ يد أ ْ ُ َ
من قاومهم ،ونخذل من ناوأهمَ { .وَن ْج َعلَهُ ْم أَئِ َّمةً } في الدين ،وذلك ال يحصل مع استضعاف ،بل
ال بد من تمكين في األرض ،وقدرة تامةَ { ،وَن ْج َعلَهُ ُم اْل َو ِارثِ َ
ين } لألرض ،الذين لهم العاقبة في
الدنيا قبل اآلخرة.
( )1/611
ين (َ )5وُن َم ِّك َن لَهُ ْم ِ ض ِعفُوا ِفي اأْل َْر ِ َِّ
ض َوَن ْج َعلَهُ ْم أَئ َّمةً َوَن ْج َعلَهُ ُم اْل َو ِارثِ َ استُ ْين ْ َن َن ُم َّن َعلَى الذ َ َوُن ِر ُ
يد أ ْ
ِ ض وُن ِر ِ ِ
وسى ون (َ )6وأ َْو َح ْيَنا ِإلَى أ ُِّم ُم َ ود ُه َما م ْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْح َذ ُر َ ان َو ُجُن َ ام َ
ي ف ْر َع ْو َن َو َه َ في اأْل َْر ِ َ َ
اعلُوهُ ِم َن ادوه ِإلَْي ِك وج ِ
َ َ
ِ ِ ِِِ ِ ِ
َن أ َْرضعيه فَِإ َذا خ ْفت َعلَْيه فَأَْلقيه في اْلَي ِّم َواَل تَ َخافي َواَل تَ ْح َزنِي ِإَّنا َر ُّ ُ
ِِ ِ أْ
ِ ِ ِ ِ ِ
ود ُه َما َك ُانوا
ان َو ُجُن َ ام َ ون لَهُ ْم َع ُد ًّوا َو َح َزًنا إ َّن ف ْر َع ْو َن َو َه َ طهُ َآ ُل ف ْر َع ْو َن لَي ُك َ ين ( )7فَاْلتَقَ َ
اْل ُم ْر َسل َ
َن َي ْنفَ َعَنا أ َْو َنتَّ ِخ َذهُ َولَ ًدا َو ُه ْم
ك اَل تَ ْقتُلُوهُ َع َسى أ ْ ام َرأَةُ ِف ْر َع ْو َن قَُّرةُ َعْي ٍن ِلي َولَ َ ِ
ين (َ )8وقَالَت ْ
ِِ
َخاطئ َ
ِ
طَنا َعلَى َقْلبِهَا لتَ ُك َ
ون َن َرَب ْ ت لَتُْب ِدي بِ ِه لَ ْواَل أ ْ وسى فَ ِار ًغا ِإ ْن َك َ
اد ْ اد أ ُِّم ُم ََصَب َح فُ َؤ ُ
ون (َ )9وأ ْ اَل َي ْش ُع ُر َ
ِّيه فَبصر ْ ِ ِ ت أِل ْ ِ ِ ِ ِ
ون (َ )11و َح َّر ْمَنات بِه َع ْن ُجُن ٍب َو ُه ْم اَل َي ْش ُع ُر َ ُخته قُص َ ُ َ ين (َ )10وقَالَ ْ م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ
ِ َه ِل َب ْي ٍت َي ْك ُفلُ َ
ت َه ْل أ َُدلُّ ُك ْم َعلَى أ ْ اض َع ِم ْن قَْب ُل فَقَالَ ْ
علَْي ِه اْلمر ِ
ون ( )12فََر َد ْدَناهُ ونهُ لَ ُك ْم َو ُه ْم لَهُ َناص ُح َ ََ َ
َن و ْع َد اللَّ ِه ح ٌّ ِ ِ ِإلَى أ ِّ ِ
ون ()13ق َولَك َّن أَ ْكثََر ُه ْم اَل َي ْعلَ ُم َ َ ُمه َك ْي تَقََّر َعْيُنهَا َواَل تَ ْح َز َن َولتَ ْعلَ َم أ َّ َ
ض } فهذه األمور كلها ،قد تعلقت بها إرادة اللّه ،وجرت بها مشيئته { ،و } األر ِ ِ ِّ
{ َوُن َمك َن لَهُ ْم في ْ
ود ُه َما } التي بها صالوا وجالوا ،وعلوا ان } وزيره { َو ُجُن َ كذلك نريد أن { ُن ِر ِ
ام َ
ي ف ْر َع ْو َن َو َه َ
َ
ون } من إخراجهم من ديارهم، ِ
وبغوا { م ْنهُ ْم } أي :من هذه الطائفة المستضعفةَ { .ما َك ُانوا َي ْح َذ ُر َ
ولذلك كانوا يسعون في قمعهم ،وكسر شوكتهم ،وتقتيل أبنائهم ،الذين هم محل ذلك ،فكل هذا قد
أراده اللّه ،وإ ذا أراد أمرا سهل أسبابه ،ونهج طرقه ،وهذا األمر كذلك ،فإنه قدر وأجرى من
األسباب -التي لم يشعر بها ال أولياؤه وال أعداؤه -ما هو سبب موصل إلى هذا المقصود.
فأول ذلك ،لما أوجد اللّه رسوله موسى ،الذي جعل استنقاذ هذا الشعب اإلسرائيلي على يديه
وبسببه ،وكان في وقت تلك المخافة العظيمة ،التي يذبحون بها األبناء ،أوحى إلى أمه أن
ترضعه ،ويمكث عندها.
يه ِفي اْلَي ِّم } أي نيل { فَِإ َذا ِخ ْف ِت علَْي ِه } بأن أحسست أحدا تخافين عليه منه أن يوصله إليهم { ،فَأَْل ِق ِ
َ
ِ ِ ِ ِ مصر ،في وسط تابوت مغلق { ،وال تَ َخ ِافي وال تَ ْح َزنِي ِإَّنا َر ُّ
ادوهُ ِإلَْيك َو َجاعلُوهُ م َن اْل ُم ْر َسل َ
ين } َ َ
فبشرها بأنه سيرده عليها ،وأنه سيكبر ويسلم من كيدهم ،ويجعله اللّه رسوال.
وهذا من أعظم البشائر الجليلة ،وتقديم هذه البشارة ألم موسى ،ليطمئن قلبها ،ويسكن روعها،
فإنها خافت عليه ،وفعلت ما أمرت به ،ألقته في اليم ،فساقه اللّه تعالى.
ون لَهُ ْم َع ُد ًّوا َو َح َزًنا } ِ ِ
طهُ آ ُل ف ْر َع ْو َن } فصار من لقطهم ،وهم الذين باشروا وجدانه { ،لَي ُك َ
{ فَاْلتَقَ َ
أي :لتكون العاقبة والمآل من هذا االلتقاط ،أن يكون عدوا لهم وحزنا يحزنهم ،بسبب أن الحذر ال
ينفع من القدر ،وأن الذي خافوا منه من بني إسرائيل ،قيض اللّه أن يكون زعيمهم ،يتربى تحت
أيديهم ،وعلى نظرهم ،وبكفالتهم.
وعند التدبر والتأمل ،تجد في طي ذلك من المصالح لبني إسرائيل ،ودفع كثير من األمور الفادحة
بهم ،ومنع كثير من التعديات قبل رسالته ،بحيث إنه صار من كبار المملكة.
وبالطبع ،إنه ال بد أن يحصل منه مدافعة عن حقوق شعبه هذا ،وهو هو ذو الهمة العالية والغيرة
المتوقدة ،ولهذا وصلت الحال بذلك الشعب المستضعف -الذي بلغ بهم الذل واإلهانة إلى ما قص
اللّه علينا بعضه -أن صار بعض أفراده ،ينازع ذلك الشعب القاهر العالي في األرض ،كما
سيأتي بيانه.
وهذا مقدمة للظهور ،فإن اللّه تعالى من سنته الجارية ،أن جعل األمور تمشي على التدريج شيئا
فشيئا ،وال تأتي دفعة واحدة.
ِِ ِ ِ
ين } أي :فأردنا أن نعاقبهم على خطئهم ()1
ود ُه َما َك ُانوا َخاطئ َ
ان َو ُجُن َ وقوله { :إ َّن ف ْر َع ْو َن َو َه َ
ام َ
ونكيد هم ،جزاء على مكرهم وكيدهم.
حنن اللّه عليه امرأة فرعون الفاضلة الجليلة المؤمنة " آسية " بنت مزاحم فلما التقطه آل فرعونَّ ،
ك ال تَ ْقتُلُوهُ } أي :أبقه لناِ ،ل َّ
تقر به أعيننا ،ونستر به في " َوقَالَ ِت " هذا الولد { قَُّرةُ َعْي ٍن ِلي َولَ َ
حياتنا.
َن َي ْنفَ َعَنا أ َْو َنتَّ ِخ َذهُ َولَ ًدا } أي :ال يخلو ،إما أن يكون بمنزلة الخدم ،الذين يسعون في نفعنا
{ َع َسى أ ْ
وخدمتنا ،أو نرقيه منزلة أعلى من ذلك ،نجعله ولدا لنا ،ونكرمه ،ونجله.
َّ
فقدر اللّه تعالى ،أنه نفع امرأة فرعون ،التي قالت تلك المقالة ،فإنه لما صار قرة عين لها ،وأحبته
حبا شديدا ،فلم يزل لها بمنزلة الولد الشفيق حتى كبر ونبأه اللّه وأرسله ،فبادرت إلى اإلسالم
واإليمان به ،رضي اللّه عنها وأرضاها.
ون }
قال اللّه تعالى هذه المراجعات [ ص [ ] 613والمقاوالت] في شأن موسىَ { :و ُه ْم ال َي ْش ُع ُر َ
ما جرى به القلم ،ومضى به القدر ،من وصوله إلى ما وصل إليه ،وهذا من لطفه تعالى ،فإنهم لو
شعروا ،لكان لهم وله ،شأن آخر.
ولما فقدت موسى أمه ،حزنت حزنا شديدا ،وأصبح فؤادها فارغا من القلق الذي أزعجها ،على
مقتضى الحالة البشرية ،مع أن اللّه تعالى نهاها عن الحزن والخوف ،ووعدها برده.
طَنا َعلَى َقْلبِهَا } فثبتناها ،فصبرت ،ولم تبد ت لَتُْب ِدي بِ ِه } أي :بما في قلبها { لَ ْوال أ ْ
َن َرَب ْ { ِإ ْن َك َ
اد ْ
ِ ِ ِ
ين } فإن العبد إذا أصابته مصيبة فصبر وثبت، ون } بذلك الصبر والثبات { م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ به { .لتَ ُك َ
ازداد بذلك إيمانه ،ودل ذلك ،على أن استمرار الجزع مع العبد ،دليل على ضعف إيمانه.
ِّيه } أي :اذهبي [فقصي األثر عن أخيك وابحثي عنه من غير ألختِ ِه قُص ِ
{ َوقَالَ ِت } أم موسى { ْ
أن يحس بك أحد أو يشعروا بمقصودك فذهبت تقصه] { فَبصر ْ ِ
ت بِه َع ْن ُجُن ٍب َو ُه ْم ال َي ْش ُع ُر َ
ون } َ َُ
أي :أبصرته على وجه ،كأنها مارة ال قصد لها فيه.
وهذا من تمام الحزم والحذر ،فإنها لو أبصرته ،وجاءت إليهم قاصدة ،لظنوا بها أنها هي التي
ألقته ،فربما عزموا على ذبحه ،عقوبة ألهله.
ومن لطف اللّه بموسى وأمه ،أن منعه من قبول ثدي امرأة ،فأخرجوه إلى السوق رحمة به ،ولعل
َه ِل َب ْي ٍت َي ْك ُفلُ َ
ونهُ لَ ُك ْم َو ُه ْم لَهُ ت َه ْل أ َُدلُّ ُك ْم َعلَى أ ْ
أحدا يطلبه ،فجاءت أخته ،وهو بتلك الحال { فَقَالَ ْ
ون }. ِ
َناص ُح َ
وهذا ُج ُّل غرضهم ،فإنهم أحبوه حبا شديدا ،وقد منعه اللّه من المراضع فخافوا أن يموت ،فلما
قالت لهم أخته تلك المقالة ،المشتملة على الترغيب ،في أهل هذا البيت ،بتمام حفظه وكفالته
والنصح له ،بادروا إلى إجابتها ،فأعلمتهم ودلتهم على أهل هذا البيت.
ُم ِه } كما وعدناها بذلك { َك ْي تَقََّر َع ْيُنهَا َوال تَ ْح َز َن } بحيث إنه تربى عندها على
{ فََر َد ْدَناهُ ِإلَى أ ِّ
َن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ ِ
ق وجه تكون فيه آمنة مطمئنة ،تفرح به ،وتأخذ األجرة الكثيرة على ذلكَ { ،ولتَ ْعلَ َم أ َّ َ
} فأريناها بعض ما وعدناها به عيانا ،ليطمئن بذلك قلبها ،ويزداد إيمانها ،ولتعلم أنه سيحصل
ِ
ون } فإذا رأوا السبب متشوشا ،شوش ذلك وعد اللّه في حفظه ورسالتهَ { ،ولَك َّن أَ ْكثََر ُه ْم ال َي ْعلَ ُم َ
إيمانهم ،لعدم علمهم الكامل ،أن اللّه تعالى يجعل المحن الشاقة والعقبات الشاقة ،بين يدي األمور
العالية والمطالب الفاضلة ،فاستمر موسى عليه الصالة والسالم عند آل فرعون ،يتربى في
سلطانهم ،ويركب مراكبهم ،ويلبس مالبسهم ،وأمه بذلك مطمئنة ،قد استقر أنها أمه من الرضاع،
ولم يستنكر مالزمته إياها وحنوها عليها.
وتأمل هذا اللطف ،وصيانة نبيه موسى من الكذب في منطقه ،وتيسير األمر ،الذي صار به التعلق
ُما ،فكان الكالم الكثير منه ومن
بينه وبينها ،الذي بان للناس أنه هو الرضاع ،الذي بسببه يسميها أ َّ
غيره في ذلك كله ،صدقا وحقا.
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :نعاقبهما على خطئهما.
( )1/612
ين (َ )14و َد َخ َل اْل َم ِد َينةَ َعلَى ِح ِ
ين ِِ
ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ استََوى آَتَْيَناهُ ُح ْك ًما َو ِعْل ًما َو َك َذِل ََولَ َّما َبلَ َغ أَ ُش َّدهُ َو ْ
يعتِ ِه َِّ ِ ِ
استَ َغاثَهُ الذي م ْن ش َ
ِ َهِلها فَوج َد ِفيها رجلَْي ِن ي ْقتَتِاَل ِن َه َذا ِم ْن ِش ِ ِ
يعته َو َه َذا م ْن َع ُد ِّو ِه فَ ْ َ َغ ْفلَة م ْن أ ْ َ َ َ َ َ ُ َ
ٍ ِ
ض ٌّل ُمبِ ٌان ِإَّنه ع ُد ٌّو م ِ ضى َعلَْي ِه قَا َل َه َذا ِم ْن َعم ِل َّ َِّ ِ
ين ( طِ ُ َ ُ الش ْي َ َ وسى فَقَ َ َعلَى الذي م ْن َع ُد ِّو ِه فَ َو َك َزهُ ُم َ
ب بِ َما اغ ِفر ِلي فَ َغفَر لَه ِإَّنه ُهو اْل َغفُور َّ ِ ظلَم ُ ِ
ال َر ِّيم ( )16قَ َ الرح ُ ُ َ ُ ُ َ ت َن ْفسي فَ ْ ْ ب ِإِّني َ ْ )15قَا َل َر ِّ
ب فَِإ َذا الَِّذي ِ ِ ِ ِ
َصَب َح في اْل َمد َينة َخائفًا َيتََرقَّ ُ ين ( )17فَأ ْ
ِ
ظ ِه ًيرا لْل ُم ْج ِر ِم َ
ون َ ت َعلَ َّي َفلَ ْن أَ ُك َ أ َْن َع ْم َ
َن َي ْب ِط َش بِالَِّذي َن أ ََر َاد أ ْ ين (َ )18فلَ َّما أ ْ ي ُمبِ ٌ ك لَ َغ ِو ٌّ وسى ِإَّن َ ال لَهُ ُم َ ص ِر ُخهُ قَ َ س َي ْستَ ْ ص َرهُ بِاأْل َْم ِ استَْن َْ
َّارا ِفي ون َجب ً َن تَ ُك َ يد ِإاَّل أ ْ
س ِإ ْن تُِر ُ ت َن ْف ًسا بِاأْل َْم ِ َن تَ ْقتُلَنِي َك َما قَتَْل َ وسى أَتُِر ُ
يد أ ْ ال َيا ُم َ ُه َو َع ُد ٌّو لَهُ َما قَ َ
صى اْل َم ِد َين ِة َي ْس َعى قَا َل َيا ِ
اء َر ُج ٌل م ْن أَ ْق َ ين (َ )19و َج َ صلح َ
َن تَ ُكون ِمن اْلم ِ ِ
َ َ ُ ْ يد أ ْ ض َو َما تُِر ُ اأْل َْر ِ
ِ ِ ك ِمن َّ ِ ِ ك ِلَي ْقتُلُ َ ِ
ين ( )20فَ َخ َر َج م ْنهَا َخائفًا َيتََرقَّ ُ
ب الناصح َ اخ ُر ْج ِإِّني لَ َ َ وك فَ ْ ون بِ َ وسى ِإ َّن اْل َمأَل َ َيأْتَم ُر َ ُم َ
َّ ِ ِ ال ر ِّ ِ ِ
ين ()21 ب َنجِّني م َن اْلقَ ْوِم الظالم َ قَ َ َ
{ َولَ َّما َبلَ َغ أَ ُش َّدهُ } من القوة والعقل واللب ،وذلك نحو أربعين سنة في الغالبَ { ،و ْ
استََوى } كملت
فيه تلك األمور { آتَْيَناهُ ُح ْك ًما َو ِعْل ًما } أي :حكما يعرف به األحكام الشرعية ،ويحكم به بين
الناس ،وعلما كثيرا.
ِِ { َو َك َذِل َ
ين } في عبادة اللّه المحسنين لخلق اللّه ،نعطيهم علما وحكما بحسب ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ
إحسانهم ،ودل هذا على كمال إحسان موسى عليه السالم.
َهِلهَا } إما وقت القائلة ،أو غير ذلك من األوقات التي بها ين َغ ْفلَ ٍة ِم ْن أ ْ
{ َو َد َخ َل اْل َم ِد َينةَ َعلَى ِح ِ
يعتِ ِه ِ ِ يغفلون عن االنتشار { .فَ َو َج َد ِفيهَا َر ُجلَْي ِن َي ْقتَتِ ِ
الن } أي :يتخاصمان ويتضاربان { َه َذا م ْن ش َ
} أي :من بني إسرائيل { َو َه َذا ِم ْن َع ُد ِّو ِه } القبط.
يعتِ ِه َعلَى الَِّذي ِم ْن َع ُد ِّو ِه } ألنه قد اشتهر ،وعلم الناس أنه من بني َِّ ِ ِ
استَ َغاثَهُ الذي م ْن ش َ { فَ ْ
إسرائيل ،واستغاثته لموسى ،دليل على أنه بلغ موسى عليه السالم مبلغا يخاف منه ،ويرجى من
بيت المملكة والسلطان.
ضى َعلَْي ِه } أي:
وسى } أي :وكز الذي من عدوه ،استجابة الستغاثة اإلسرائيلي { ،فَقَ َ { فَ َو َك َزهُ ُم َ
أماته من تلك الوكزة ،لشدتها وقوة موسى.
ان } أي :من تزيينه طِ ال َه َذا ِم ْن َعم ِل َّ
الش ْي َ فندم موسى عليه السالم على ما جرى منه ،و { قَ َ
َ
ين } فلذلك أجريت ما أجريت بسبب عداوته البينة ،وحرصه على ووسوستهِ { ،إَّنه ع ُد ٌّو م ِ
ض ٌّل ُمبِ ٌ ُ َ ُ
اإلضالل.
اغ ِفر ِلي فَ َغفَر لَه ِإَّنه ُهو اْل َغفُور َّ ِ ظلَم ُ ِ
يم } خصوصا
الرح ُ ُ َ ُ ُ َ ت َن ْفسي فَ ْ ْ ب ِإِّني َ ْ
ال َر ِّ
ثم استغفر ربه { قَ َ
للمخبتين ،المبادرين لإلنابة والتوبة ،كما جرى من موسى عليه السالم.
ظ ِه ًيرا }
ون َ ب بِ َما أ َْن َع ْم َ
ت َعلَ َّي } بالتوبة والمغفرة ،والنعم الكثيرةَ { ،فلَ ْن أَ ُك َ ال } موسى { َر ِّ
فـ { قَ َ
ِ
ين } أي :ال أعين أحدا على معصية ،وهذا وعد من موسى عليه أي :معينا ومساعدا { لْل ُم ْج ِر ِم َ
السالم ،بسبب منة اللّه عليه ،أن ال يعين مجرما ،كما فعل في قتل القبطي .وهذا يفيد أن النعم
تقتضي من العبد فعل الخير ،وترك الشر.
ِ ِ ِ ِ
ب } [ ص ] 614هل َصَب َح في اْل َمد َينة َخائفًا َيتََرقَّ ُ
{ فـ } لما جرى منه قتل الذي هو من عدوه { أ ْ
يشعر به آل فرعون ،أم ال؟ وإ نما خاف ،ألنه قد علم ،أنه ال يتجرأ أحد على مثل هذه الحال سوى
موسى من بني إسرائيل.
َِّ
ص ِر ُخهُ } على قبطي
س } على عدوه { َي ْستَ ْ ص َرهُ بِ ْ
األم ِ فبينما هو على تلك الحال { فَِإ َذا الذي ْ
استَْن َ
ين } أي :بين الغواية ،ظاهر ي ُمبِ ٌ وسى } موبخا له على حاله { ِإَّن َ
ك لَ َغ ِو ٌّ آخر { .قَا َل لَهُ ُم َ
الجراءة.
َن َي ْب ِط َش } موسى { بِالَِّذي ُه َو َع ُد ٌّو لَهُ َما } أي :له وللمخاصم المستصرخ ،أي :لم َن أ ََر َاد أ ْ
{ َفلَ َّما أ ْ
يزل اللجاج بين القبطي واإلسرائيلي ،وهو يستغيث بموسى ،فأخذته الحمية ،حتى هم أن يبطش
س ِإ ْن تُِر ُ
يد َن تَ ْقتُلَنِي َك َما قَتَْل َ
ت َن ْف ًسا بِ ْ
األم ِ ال } له القبطي زاجرا له عن قتله { :أَتُِر ُ
يد أ ْ بالقبطي { ،قَ َ
َن تَ ُكون جب ِ
ض } ألن من أعظم آثار الجبار في األرض ،قتل النفس بغير حق. األر ِ
َّارا في َْ َ ً ِإال أ ْ
ين } وإ ال فلو أردت اإلصالح لحلت بيني وبينه من غير قتل َن تَ ُكون ِمن اْلم ِ ِ { َو َما تُِر ُ
صلح ََ َ ُ ْ يد أ ْ
أحد ،فانكف موسى عن قتله ،وارعوى لوعظه وزجره ،وشاع الخبر بما جرى من موسى في
هاتين القضيتين ،حتى تراود مأل فرعون ،وفرعون على قتله ،وتشاوروا على ذلك.
ْي ملئهم .فقال: وقيض اللّه ذلك الرجل الناصح ،وبادرهم إلى اإلخبار لموسى بما اجتمع عليه َرأ ُ
صى اْل َم ِد َين ِة َي ْس َعى } أي :ركضا على قدميه من نصحه لموسى ،وخوفه أن ِ
اء َر ُج ٌل م ْن أَ ْق َ
{ َو َج َ
وسى ِإ َّن اْل َمأل َيأْتَ ِم ُرون } أي :يتشاورون فيك { ِلَي ْقتُلُ َ
وك يوقعوا به ،قبل أن يشعر ،فـ { قَا َل َيا ُم َ
ك ِمن َّ ِ ِ
ين } فامتثل نصحه. الناصح َ اخ ُر ْج } عن المدينة { ِإِّني لَ َ َ فَ ْ
َّ ِ ِ { فَ َخرج ِم ْنها َخائِفًا يتَرقَّب } أن يوقع به القتل ،ودعا اللّه ،و { قَا َل ر ِّ ِ ِ
ب َنجِّني م َن اْلقَ ْوِم الظالم َ
ين } َ ََ ُ َ َ َ
ُّد ُه ْم له ظلم منهم وجراءة.فإنه قد تاب من ذنبه وفعله غضبا من غير قصد منه للقتل ،فَتَوع ُ
( )1/613
اء َم ْدَي َن } أي :قاصدا بوجهه مدين ،وهو جنوبي فلسطين ،حيث ال ملك لفرعون، ِ
{ َولَ َّما تََوجَّهَ تْلقَ َ
يل } أي :وسط الطريق المختصر ،الموصل إليها بسهولة السبِ ِ
اء َّ { قَا َل عسى ربِّي أ ْ ِ ِ
َن َي ْهدَيني َس َو َ ََ َ
ورفق ،فهداه اللّه سواء السبيل ،فوصل إلى مدين.
ون } مواشيهم ،وكانوا أهل ماشية كثيرة
اس َي ْسقُ َ ُمةً ِم َن َّ
الن ِ اء َم ْدَي َن َو َج َد َعلَْي ِه أ َّ
{ َولَ َّما َو َر َد َم َ
ِ
ان } غنمهما عن حياض الناس، ود ِ { َو َو َج َد م ْن ُدونِ ِه ُم } أي :دون تلك األمة { ْ
ام َرأتَْي ِن تَ ُذ َ
لعجزهما عن مزاحمة الرجال وبخلهم ،وعدم مروءتهم عن السقي لهما.
ص ِد َر ِ
طُب ُك َما } أي :ما شأنكما بهذه الحالة { ،قَالَتَا ال َن ْسقي َحتَّى ُي ْ { قَا َل } لهما موسى { َما َخ ْ
اء } أي :قد جرت العادة أنه ال يحصل لنا سقي حتى يصدر الرعاء مواشيهم ،فإذا خال لنا الر َع ُ ِّ
ونا َش ْي ٌخ َكبِ ٌير } أي :ال قوة له على السقي ،فليس فينا قوة ،نقتدر بها ،وال لنا الجو سقيناَ { ،وأَُب َ
رجال يزاحمون الرعاء.
فرق لهما موسى عليه السالم ورحمهما { فَ َسقَى لَهُ َما } غير طالب منهما األجرة ،وال له قصد
غير وجه اللّه تعالى ،فلما سقى لهما ،وكان ذلك وقت شدة حر ،وسط النهار ،بدليل قوله { :ثَُّم
الظ ِّل } مستريحا لذلك الظالل بعد التعب. تَولَّى ِإلَى ِّ
َ
ِ ِ
ت ِإلَ َّي م ْن َخ ْي ٍر فَق ٌير } أي :إني مفتقر ِ
ب ِإِّني ل َما أَنزْل َ
{ فَقَا َل } في تلك الحالة ،مسترزقا ربه { َر ِّ
إلي وتيسره لي .وهذا سؤال منه بحاله ،والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان للخير الذي تسوقه َّ
المقال ،فلم يزل في هذه الحالة داعيا ربه متملقا .وأما المرأتان ،فذهبتا إلى أبيهما ،وأخبرتاه بما
جرى.
فأرسل أبوهما إحداهما إلى موسى ،فجاءته { تَم ِشي علَى استِ ْحي ٍ
اء } وهذا يدل على كرم ْ َ َ ْ
عنصرها ،وخلقها الحسن ،فإن الحياء من األخالق الفاضلة ،وخصوصا في النساء.
ويدل على أن موسى عليه السالم ،لم يكن فيما فعله من السقي بمنزلة األجير والخادم الذي ال
يستحى منه عادة ،وإ نما هو عزيز النفس ،رأت من حسن خلقه ومكارم أخالقه ،ما أوجب لها
يم َّن عليك ،بل ِ ك ِلَي ْج ِزَي َ
ت } لهِ { :إ َّن أَبِي َي ْد ُعو َ
ت لََنا } أي :ال ل ُ
َج َر َما َسقَْي َ
كأْ الحياء منه ،فـ { قَالَ ْ
أنت الذي ابتدأتنا باإلحسان ،وإ نما قصده أن يكافئك على إحسانك ،فأجابها موسى.
ال }
ص } من ابتداء السبب الموجب لهربه ،إلى أن وصل إليه { قَ َ ِ
ص َص َعلَْيه اْلقَ َ
اءهُ َوقَ َّ
{ َفلَ َّما َج َ
َّ ِ ِ ف َنجو َ ِ
ين } أي :ليذهب خوفك وروعك، ت م َن اْلقَ ْوِم الظالم َ مسكنا روعه ،جابرا قلبه { :ال تَ َخ ْ َ ْ
فإن اللّه نجاك منهم ،حيث وصلت إلى هذا المحل ،الذي ليس لهم عليه سلطان.
استَْأ ِج ْرهُ } أي :اجعله أجيرا عندك ،يرعى الغنم ِ
اه َما } أي :إحدى ابنتيه { َيا أََبت ْ ت ِإ ْح َد ُ
{ قَالَ ْ
ت اْلقَ ِو ُّ ِ
ين } أي :إن موسى أولى من استؤجر ،فإنه جمع ي األم ُ ْج ْر َ ويسقيهاِ { ،إ َّن َخ ْي َر َم ِن ْ
استَأ َ
القوة واألمانة ،وخير أجير استؤجر ،من جمعهما ،أي :القوة والقدرة على ما استؤجر عليه،
واألمانة فيه بعدم الخيانة ،وهذان الوصفان ،ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى لإلنسان عمال
بإجارة أو غيرها.
فإن الخلل ال يكون إال بفقدهما أو فقد إحداهما ،وأما باجتماعهما ،فإن العمل يتم ويكمل ،وإ نما
قالت ذلك ،ألنها شاهدت من قوة موسى عند [ ص ] 615السقي لهما ونشاطه ،ما عرفت به
قوته ،وشاهدت من أمانته وديانته ،وأنه رحمهما في حالة ال يرجى نفعهما ،وإ نما قصده [بذلك]
وجه اللّه تعالى.
ْج َرنِي } أي ك ِإ ْح َدى ْابَنتَ َّي َهاتَْي ِن َعلَى أ ْ
َن تَأ ُ َن أ ُْن ِك َح َ { قَا َل } صاحب مدين لموسى { ِإِّني أ ُِر ُ
يد أ ْ
ك } تبرع ت َع ْش ًرا فَ ِم ْن ِعْن ِد َ تصير أجيرا عندي { ثَ َمانِ َي ِح َج ٍج } أي :ثماني سنين { .فَِإ ْن أَتْ َم ْم َ
ك } فأحتم عشر السنين ،أو ما أريد أن ق َعلَْي ََن أَ ُش َّ منك ،ال شيء واجب عليكَ { .و َما أ ُِر ُ
يد أ ْ
ِ
أستأجرك ألكلفك أعماال شاقة ،وإ نما استأجرك لعمل سهل يسير ال مشقة فيه { َستَ ِج ُدني ِإ ْن َش َ
اء
ين } فرغبه في سهولة العمل ،وفي حسن المعاملة ،وهذا يدل على أن الرجل ِِ َّ ِ
اللهُ م َن الصَّالح َ
الصالح ،ينبغي له أن يحسن خلقه مهما أمكنه ،وأن الذي يطلب منه ،أبلغ من غيره.
ك } أي :هذا الشرط، ك َب ْينِي َوَب ْيَن َ
ال } موسى عليه السالم -مجيبا له فيما طلبه منهَ { :-ذِل َ فـ { قَ َ
ان َعلَ َّي }
ت فَال ُع ْد َو َ األجلَْي ِن قَ َ
ض ْي ُ َّما َ الذي أنت ذكرت ،رضيت به ،وقد تم فيما بيني وبينك { .أَي َ
سواء قضيت الثماني الواجبة ،أم تبرعت بالزائد عليها { َواللَّهُ َعلَى َما َنقُو ُل َو ِكي ٌل } حافظ يراقبنا،
ويعلم ما تعاقدنا عليه.
وهذا الرجل ،أبو المرأتين ،صاحب مدين ،ليس بشعيب النبي المعروف ،كما اشتهر عند كثير من
الناس ،فإن هذا ،قول لم يدل عليه دليل ،وغاية ما يكون ،أن شعيبا عليه السالم ،قد كانت بلده
مدين ،وهذه القضية جرت في مدين ،فأين المالزمة بين األمرين؟
وأيضا ،فإنه غير معلوم أن موسى أدرك زمان شعيب ،فكيف بشخصه؟" ولو كان ذلك الرجل
شعيبا ،لذكره اللّه تعالى ،ولسمته المرأتان ،وأيضا فإن شعيبا عليه الصالة والسالم ،قد أهلك اللّه
قومه بتكذيبهم إياه ،ولم يبق إال من آمن به ،وقد أعاذ اللّه المؤمنين أن يرضوا لبنتي نبيهم،
بمنعهما عن الماء ،وصد ماشيتهما ،حتى يأتيهما رجل غريب ،فيحسن إليهما ،ويسقي ماشيتهما،
وما كان شعيب ،ليرضى أن يرعى موسى عنده ويكون خادما له ،وهو أفضل منه وأعلى درجة،
واهلل أعلم[ ،إال أن يقال :هذا قبل نبوة موسى فال منافاة وعلى كل حال ال يعتمد على أنه شعيب
النبي بغير نقل صحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم] ()1
__________
( )1زيادة من هامش :ب.
( )1/614
األج َل } يحتمل أنه قضى األجل الواجب ،أو الزائد عليه ،كما هو الظن وسى َ ضى ُم َ { َفلَ َّما قَ َ
بموسى ووفائه ،اشتاق إلى الوصول إلى أهله ووالدته وعشيرته ،ووطنه ،وعلم من طول المدة،
َهِل ِه } قاصدا مصرَ { ،آن َس } أي :أبصر { ِم ْن َجانِ ِب أنهم قد تناسوا ما صدر منهَ { .س َار بِأ ْ
الن ِار لَ َعلَّ ُك ْم
ت َن ًارا لَ َعلِّي آتِي ُك ْم ِم ْنهَا بِ َخَب ٍر أ َْو َج ْذ َو ٍة ِم َن َّ ور َنارا قَا َل ْ ِ ِ ُّ
ام ُكثُوا ِإِّني َآن ْس ُ
ألهله ْ الط ِ ً
ون } وكان قد أصابهم البرد ،وتاهوا الطريق. طلُ َ
صَتَ ْ
ين } فأخبر بألوهيته وربوبيته ،ويلزم ِ وسى ِإِّني أََنا اللَّهُ َر ُّ
ب اْل َعالَم َ { } 30فلما أتاها نودي { َيا ُم َ
اعُب ْدنِي َوأ َِقِم الصَّالةَ
من ذلك ،أن يأمره بعبادته ،وتألهه ،كما صرح به في اآلية األخرى { فَ ْ
ِل ِذ ْك ِري }.
آها تَ ْهتَُّز } تسعى سعيا شديدا ،ولها سورة ُم ِهيلة { َكأََّنهَا َج ٌّ
ان ك } فألقاها { َفلَ َّما َر َ صا َ َن أَْل ِ
ق َع َ { َوأ ْ
ب } أي :يرجع ،الستيالء الروع على قلبه ،فقال اللّه } َذ َك ُر الحيات العظيمَ { ،ولَّى ُم ْدبًِرا َولَ ْم ُي َعقِّ ْ
ين } وهذا أبلغ ما يكون في التأمين ،وعدم الخوف. ِِ ف ِإَّن َ ِوسى أَ ْقبِ ْل َوال تَ َخ ْ
ك م َن اآلمن َ لهَ { :يا ُم َ
فإن قوله { :أَ ْقبِ ْل } يقتضي األمر بإقباله ،ويجب عليه االمتثال ،ولكن قد يكون إقباله ،وهو لم يزل
ف } أمر له بشيئين ،إقباله ،وأن ال يكون في قلبه خوف ،ولكن في األمر المخوف ،فقالَ { :وال تَ َخ ْ
يبقى احتمال ،وهو أنه قد يقبل وهو غير خائف ،ولكن ال تحصل له الوقاية واألمن من المكروه،
ين } فحينئذ اندفع المحذور من جميع الوجوه ،فأقبل موسى عليه السالم غير ِِ فقال ِ { :إَّن َ ِ
ك م َن اآلمن َ
خائف وال مرعوب ،بل مطمئنا ،واثقا بخبر ربه ،قد ازداد إيمانه ،وتم يقينه ،فهذه آية ،أراه اللّه
إياها قبل ذهابه إلى فرعون ،ليكون على يقين تام ،فيكون ( )1أجرأ له ،وأقوى وأصلب.
اء ِم ْن َغ ْي ِر ُسو ٍء } ض َ ك } أي :أدخلها { ِفي َج ْيبِ َ
ك تَ ْخ ُر ْج َب ْي َ اسلُ ْك َي َد َ
ثم أراه اآلية األخرى فقالْ { :
فسلكها وأخرجها ،كما ذكر اللّه تعالى.
الر ْه ِب } أي ضم جناحك وهو عضدك إلى جنبك يزول عنك الرهب ك ِم َن َّ
اح َ
ك َجَن َ اض ُم ْم ِإلَْي َ
{ َو ْ
ان ِم ْن َرِّب َ
ك} ك } انقالب العصا حية ،وخروج اليد بيضاء من غير سوء { ُب ْر َه َان ِ والخوف { .فَ َذانِ َ
ِِ ِِ ِ
ين } فال يكفيهم مجرد أي :حجتان قاطعتان من اللّهِ { ،إلَى ف ْر َع ْو َن َو َملَئه ِإَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو ًما فَاسق َ
اإلنذار وأمر الرسول إياهم ،بل ال بد من اآليات الباهرة ،إن نفعت.
ال } موسى عليه السالم.
فـ { قَ َ
[ ص ] 616
معتذرا من ربه ،وسائال له المعونة على ما حمله ،وذاكرا له الموانع التي فيه ،ليزيل ربه ما
ص ُح ِ َن َي ْقتُلُ ِ ت ِم ْنهُ ْم َن ْف ًسا } أي { :فَأ َ
ب ِإِّني قَتَْل ُ
يحذره منهاَ { .ر ِّ
ون ُه َو أَ ْف َ
ون * َوأَخي َه ُار ُ اف أ ْ
َخ ُ
ص ِّدقُنِي } فإنه مع تضافر األخبار يقوى ِ ِ
مِّني ل َس ًانا فَأ َْرسْلهُ َمعي ِر ْد ًءا } أي :معاونا ومساعدا { ُي َ
ِ ِ
ك بِأ ِ
ك } أي :نعاونك به ونقويك. َخي َ الحق فأجابه اللّه إلى سؤاله فقالَ { :سَن ُش ُّد َع ُ
ض َد َ
ط ًانا } أي :تسلطا ،وتمكنا من الدعوة، ثم أزال عنه محذور القتل ،فقالَ { :وَن ْج َع ُل لَ ُك َما ُسْل َ
ون ِإلَْي ُك َما } وذلك بسبب آياتنا ،وما دلت عليه ِ
بالحجة ،والهيبة اإللهية من عدوهما لهما { ،فَال َيصلُ َ
من الحق ،وما أزعجت به من باشرها ونظر إليها ،فهي التي بها حصل لكما السلطان ،واندفع بها
عنكم ،كيد عدوكم ( )2وصارت لكم أبلغ من الجنود ،أولي اْل َع َد ِد واْل ُع َد ِد.
ِ
ون } وهذا وعد لموسى في ذلك الوقت ،وهو وحده فريد ،وقد رجع إلى { أ َْنتُ َما َو َم ِن اتََّب َع ُك َما اْل َغالُب َ
بلده ،بعد ما كان شريدا ،فلم تزل األحوال تتطور ،واألمور تنتقل ،حتى أنجز اهلل له موعوده،
ومكنه من العباد والبالد ،وصار له وألتباعه ،الغلبة والظهور.
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :ليكون.
( )2كذا في ب ،وفي أ :عنكم كيد عدوهم.
( )1/615
ِ ِ ِ اَّل ِ ٍ ِ
ين ( وسى بِآََياتَنا َبيَِّنات قَالُوا َما َه َذا ِإ س ْحٌر ُم ْفتًَرى َو َما َسم ْعَنا بِهَ َذا في آََبائَنا اأْل ََّوِل َ اء ُه ْم ُم َ
َفلَ َّما َج َ
الد ِار ِإَّنهُ اَل ُي ْفِل ُح
ون لَهُ َع ِاقَبةُ َّ ِ ِ ِِ
اء بِاْلهُ َدى م ْن ع ْنده َو َم ْن تَ ُك ُ َعلَ ُم بِ َم ْن َج َ وسى َربِّي أ ْ َ )36وقَا َل ُم َ
ِ ِ ِ ٍِ ون (َ )37وقَا َل ِف ْر َع ْو ُن َيا أَيُّهَا اْل َمأَل ُ َما َعِل ْم ُ َّ ِ
ان َعلَى ام ُت لَ ُك ْم م ْن إلَه َغْي ِري فَأ َْوق ْد لي َيا َه َ الظال ُم َ
ِ ِ ِ ِّ َِّ ين فَ ْ ِ ِّ
استَ ْكَب َر ُه َو ين (َ )38و ْ وسى َوإِ ِّني أَل َظُُّنهُ م َن اْل َكاذبِ َ ص ْر ًحا لَ َعلي أَطلعُ ِإلَى ِإلَه ُم َ اج َع ْل لي َ الط ِ
اه ْم ِفي ودهُ فََنَب ْذَن ُ َخ ْذَناهُ َو ُجُن َون ( )39فَأ َ ظُّنوا أََّنهُ ْم ِإلَْيَنا اَل ُي ْر َج ُع َ
ق َو َ ض بِ َغ ْي ِر اْل َح ِّودهُ ِفي اأْل َْر ِ
َو ُجُن ُ
ام ِة اَل ِ ون ِإلَى َّ ف َكان ع ِاقبةُ الظَّ ِال ِمين ( )40وجعْلَن ُ ِ
الن ِار َوَي ْو َم اْلقَي َ اه ْم أَئ َّمةً َي ْد ُع َ َ ََ َ اْلَي ِّم فَ ْانظُ ْر َك ْي َ َ َ َ
ِ الد ْنيا لَعَنةً ويوم اْل ِقي ِ ِ ي ْنصرون ( )41وأَتْبعَن ُ ِ ِ ِ
ين (َ )42ولَقَ ْد آَتَْيَنا امة ُه ْم م َن اْل َم ْقُبوح َ اه ْم في َهذه ُّ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َْ ُ َُ َ
َّ صائَِر ِل َّلن ِ اب ِم ْن َب ْع ِد َما أ ْ ِ
ون ()43 اس َو ُه ًدى َو َر ْح َمةً لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ ون اأْل ُولَى َب َ َهلَ ْكَنا اْلقُُر َ وسى اْلكتَ َ ُم َ
ات } واضحات الداللة على ما قال لهم، فذهب موسى برسالة ربه { َفلَ َّما جاء ُهم موسى بِآياتَِنا بيَِّن ٍ
َ َ ْ ُ َ َ َ
ليس فيها قصور وال خفاء { .قَالُوا } على وجه الظلم والعلو والعناد { َما َه َذا ِإال ِس ْحٌر ُم ْفتًَرى }
كما قال فرعون في تلك الحالة التي ظهر فيها الحق ،واستعل على الباطل ،واضمحل الباطل،
ِّح َر } هذا ،وهو الذكي وخضع له الرؤساء العارفون حقائق األمور { ِإَّنهُ لَ َكبِ ُير ُك ُم الَِّذي َعلَّ َم ُك ُم الس ْ
َنزل َهؤ ِ
الء ِإال غير الزكي الذي بلغ من المكر والخداع والكيد ما قصه اللّه علينا وقد علم { َما أ َ ُ
ض } ولكن الشقاء غالب. األر ِ ِ َر ُّ
َّم َاوات َو ْ ب الس َ
ين } وقد كذبوا في ذلك ،فإن اللّه أرسل يوسف عليه السالم قبل { َو َما َس ِم ْعَنا بِهَ َذا ِفي َآبائَِنا َّ
األوِل َ
اء ُك ْم بِ ِه َحتَّى ات فَما ِزْلتُم ِفي َش ٍّ ِ
ك م َّما َج َ ْ َ
ف ِم ْن قَْب ُل بِاْلبيَِّن ِ
َ وس ُ
اء ُك ْم ُي ُ
موسى ،كما قال تعالى { َولَقَ ْد َج َ
اب }.
ف ُم ْرتَ ٌ ض ُّل اللَّهُ َم ْن ُه َو ُم ْس ِر ٌ كي ِ ِ ِِ ك ُقْلتُم لَ ْن ي ْبع َ َّ ِ
ث اللهُ م ْن َب ْعده َر ُسوال َك َذل َ ُ ِإ َذا َهلَ َ ْ َ َ
وسى } حين زعموا أن الذي جاءهم به سحر وضالل ،وأن ما هم عليه هو الهدى: { َوقَا َل ُم َ
الد ِار } أي :إذا لم تفد المقابلة معكم، ون لَهُ َع ِاقَبةُ َّ ِ ِ ِِ
اء بِاْلهُ َدى م ْن ع ْنده َو َم ْن تَ ُك ُ
َعلَ ُم بِ َم ْن َج َ
{ َربِّي أ ْ
وتبيين اآليات البينات ،وأبيتم إال التمادي في غيكم واللجاج على كفركم ،فاللّه تعالى العالم
َّ ِ ِ
ون } فصار عاقبة بالمهتدي وغيره ،ومن تكون له عاقبة الدار ،نحن أم أنتم { ِإَّنهُ ال ُي ْفل ُح الظال ُم َ
الدار لموسى وأتباعه ،والفالح والفوز ،وصار ألولئك ،الخسار وسوء العاقبة والهالك.
{ َوقَا َل ِف ْر َع ْو ُن } متجرئا على ربه ،ومموها على قومه السفهاء ،أخفاء العقولَ { :يا أَيُّهَا اْل َمأل َما
ت لَ ُك ْم ِم ْن ِإلَ ٍه َغ ْي ِري } أي :أنا وحدي ،إلهكم ومعبودكم ،ولو كان ثََّم إله غيري ،لعلمته، َعِل ْم ُ
فانظر إلى هذا الورع التام من فرعون! ،حيث لم يقل " ما لكم من إله غيري " بل تورع وقال:
ت لَ ُك ْم ِم ْن ِإلَ ٍه َغ ْي ِري } وهذا ،ألنه عندهم ،العالم الفاضل ،الذي مهما قال فهو الحق، { َما َعِل ْم ُ
ومهما أمر أطاعوه.
فلما قال هذه المقالة ،التي قد تحتمل أن ثََّم إلها غيره ،أراد أن يحقق النفي ،الذي جعل فيه ذلك
اج َع ْل االحتمال ،فقال لـ " هامان " { فَأَو ِق ْد ِلي يا هامان علَى ِّ
الط ِ
ين } ليجعل له لبنا من فخار { .فَ ْ َ ََ ُ َ ْ
ِ ِ ِ َِّ ِّ ِ
ين } ولكن سنحقق هذا وسى َوإِ ِّني ألظُُّنهُ م َن اْل َكاذبِ َ
ص ْر ًحا } أي :بناء { لَ َعلي أَطلعُ ِإلَى ِإلَه ُم َ
لي َ
الظن ،ونريكم كذب موسى .فانظر هذه الجراءة العظيمة على اللّه ،التي ما بلغها آدمي ،كذب
موسىَّ ،
وادعى أنه إله ،ونفى أن يكون له علم باإلله الحق ،وفعل األسباب ،ليتوصل إلى إله
موسى ،وكل هذا ترويج ،ولكن العجب من هؤالء المأل الذين يزعمون أنهم كبار المملكة،
المدبرون لشئونها ،كيف لعب هذا الرجل بعقولهم ،واستخف أحالمهم ،وهذا لفسقهم الذي صار
صفة راسخة فيهم.
فسد دينهم ،ثم تبع ذلك فساد عقولهم ،فنسألك اللهم الثبات على اإليمان ،وأن ال تزيغ قلوبنا بعد إذ
هديتنا ،وتهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
ض بِ َغ ْي ِر اْل َح ِّ
ق } استكبروا على عباد اللّه ،وساموهم األر ِ قال تعالى { :واستَ ْكبر ُهو وجُن ُ ِ
ودهُ في ْ َ ْ ََ َ َ ُ
سوء العذاب ،واستكبروا على رسل اللّه ،وما جاءوهم به من اآليات ،فكذبوها ،وزعموا أن ما هم
عليه أعلى منها وأفضل.
ون } فلذلك ( )1تجرأوا ،وإ ال فلو علموا ،أو ظنوا أنهم يرجعون إلى ظُّنوا أََّنهُ ْم ِإلَْيَنا ال ُي ْر َج ُع َ
{ َو َ
اللّه ،لما كان منهم ما كان.
ان َع ِاقَبةُ اه ْم ِفي اْلَي ِّم فَ ْانظُ ْر َك ْي َ
ف َك َ ودهُ } عندما استمر عنادهم وبغيهم { فََنَب ْذَن ُ َخ ْذَناهُ َو ُجُن َ { فَأ َ
ين } [ ص ] 617كانت شر العواقب وأخسرها عاقبة أعقبتها العقوبة الدنيوية المستمرة، َّ ِ ِ
الظالم َ
المتصلة بالعقوبة األخروية.
الن ِار } أي جعلنا فرعون ومأله من األئمة الذين يقتدي بهم ويمشي ون ِإلَى َّ { وجعْلَن ُ ِ
اه ْم أَئ َّمةً َي ْد ُع َ َ ََ
ون } من عذاب اللّه ،فهم أضعف شيء، خلفهم إلى دار الخزي والشقاء { .ويوم اْل ِقي ِ
ص ُر َ
امة ال ُي ْن َ
َ َْ َ َ َ
عن دفعه عن أنفسهم ،وليس لهم من دون اللّه ،من ولي وال نصير.
الد ْنَيا لَ ْعَنةً } أي :وأتبعناهم ،زيادة في عقوبتهم وخزيهم ،في الدنيا لعنة، اه ْم ِفي َه ِذ ِه ُّ
{ َوأَتَْب ْعَن ُ
يلعنون ،ولهم عند الخلق الثناء القبيح والمقت والذم ،وهذا أمر مشاهد ،فهم أئمة الملعونين في
ين } المبعدين ،المستقذرة أفعالهم .الذين اجتمع ِ الدنيا ومقدمتهم { ،ويوم اْل ِقي ِ ِ
امة ُه ْم م َن اْل َم ْقُبوح َ
َ َْ َ َ َ
عليهم مقت اللّه ،ومقت خلقه ،ومقت أنفسهم.
ون األولَى } الذين كان خاتمتهم اب } وهو التوراة { ِم ْن َب ْع ِد َما أ ْ
َهلَ ْكَنا اْلقُُر َ
ِ
وسى اْلكتَ َ { َولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ
في اإلهالك العام ،فرعون وجنوده .وهذا دليل على أنه بعد نزول التوراة ،انقطع الهالك العام،
وشرع جهاد الكفار بالسيف.
صائَِر ِل َّلن ِ
اس } أي :كتاب اللّه ،الذي أنزله على موسى ،فيه بصائر للناس ،أي :أمور يبصرون { َب َ
بها ما ينفعهم ،وما يضرهم ،فتقوم الحجة على العاصي ،وينتفع بها المؤمن ،فتكون رحمة في
َّ
حقه ،وهداية له إلى الصراط المستقيم ،ولهذا قالَ { :و ُه ًدى َو َر ْح َمةً لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ
ون }.
ولما قص اللّه على رسوله ما قص من هذه األخبار الغيبية ،نبه العباد على أن هذا خبر إلهي
محض ،ليس للرسول ،طريق إلى علمه إال من جهة الوحي ،ولهذا قال:
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :فكذلك.
( )1/616
ت بِ َجانِ ِب اْل َغ ْربِ ِّي } .أي :بجانب الطور الغربي وقت قضائنا لموسى األمر { َو َما ُك ْن َ
ت { َو َما ُك ْن َ
ين } على ذلك ،حتى يقال :إنه وصل إليك من هذا الطريق. ِمن َّ ِ ِ
الشاهد َ َ
ط َاو َل َعلَْي ِه ُم اْل ُع ُم ُر } فاندرس العلم ،ونسيت آياته ،فبعثناك في وقت اشتدت { َولَ ِكَّنا أ َْن َشأَْنا قُُر ً
ونا فَتَ َ
ت ثَ ِاوًيا } أي :مقيما { ِفي أ ْ
َه ِل َم ْدَي َن تَ ْتلُو الحاجة إليك وإ لى ما علمناك وأوحينا إليكَ { .و َما ُك ْن َ
َعلَْي ِه ْم َآياتَِنا } أي :تعلمهم وتتعلم منهم ،حتى أخبرت بما أخبرت من شأن موسى في مدين،
ِِ ِ
ين } أي :ولكن ذلك الخبر الذي جئت به عن موسى ،أثر من آثار إرسالنا إياك، { َولَكَّنا ُكَّنا ُم ْرسل َ
ي ال سبيل لك إلى علمه ،بدون إرسالنا. َو َو ْح ٌ
اد ْيَنا } موسىَ ،وأمرناه أن يأتي القوم الظالمين ،ويبلغهم رسالتنا، ت بِ َجانِ ِب الطُّ ِ
ور ِإ ْذ َن َ { َو َما ُك ْن َ
ويريهم من آياتنا وعجائبنا ما قصصنا عليك .والمقصود :أن الماجريات ،التي جرت لموسى
عليه الصالة والسالم في هذه األماكن ،فقصصتها كما هي ،من غير زيادة وال نقص ،ال يخلو من
أحد أمرين.
إما أن تكون حضرتها وشاهدتها ،أو ذهبت إلى محالِّها فتعلمتها من أهلها ،فحينئذ قد ال يدل ذلك
على أنك رسول اللّه ،إذ األمور التي يخبر بها عن شهادة ودراسة ،من األمور المشتركة غير
المختصة باألنبياء ،ولكن هذا قد ُعِل َم وتُُيقِّن أنه ما كان وما صار ،فأولياؤك وأعداؤك يعلمون عدم
ذلك.
فتعين األمر الثاني ،وهو :أن هذا جاءك من ِقَب ِل اللّه ووحيه وإ رساله ،فثبت بالدليل القطعي،
اه ْم ِم ْن
ِّك ِلتُْن ِذ َر قَ ْو ًما َما أَتَ ُ
صحة رسالتك ،ورحمة اللّه بك للعباد ،ولهذا قالَ { :ولَ ِك ْن َر ْح َمةً ِم ْن َرب َ
ك } أي :العرب ،وقريش ،فإن الرسالة [عندهم] ال تعرف وقت إرسال الرسول وقبله ير ِم ْن قَْبِل َ
َن ِذ ٍ
َّ
بأزمان متطاولة { ،لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ
ون } تفصيل الخير فيفعلونه ،والشر فيتركونه ،فإذا كنت بهذه
المنزلة ،كان الواجب عليهم ،المبادرة إلى اإليمان بك ،وشكر هذه النعمة ،التي ال يقادر قدرها،
وال يدرك شكرها.
وإ نذاره للعرب ال ينفي أن يكون مرسال لغيرهم ،فإنه عربي ،والقرآن الذي أنزل عليه عربي،
ان
وأول من باشر بدعوته العرب ،فكانت رسالته إليهم أصال ولغيرهم تبعا ،كما قال تعالى { أَ َك َ
اس ِإِّني َر ُسو ُل اللَّ ِه ِإلَْي ُك ْم اس } { ُق ْل َيا أَيُّهَا َّ
الن ُ الن ََن أ َْن ِذ ِر َّ
َن أ َْو َح ْيَنا ِإلَى َر ُج ٍل ِم ْنهُ ْم أ ْ ِل َّلن ِ
اس َع َجًبا أ ْ
يعا }. ِ
َجم ً
تت أ َْي ِدي ِه ْم } من الكفر والمعاصي { فََيقُولُوا َربََّنا لَ ْوال أ َْر َسْل َ صيبهم م ِ
ص َيبةٌ بِ َما قَ َّد َم ْ َن تُ َ ُ ْ ُ
{ ولَوال أ ْ ِ
َ ْ
ِ ك وَن ُك ِ ِ
ين } أي :فأرسلناك يا محمد ،لدفع حجتهم ،وقطع ون م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ ِإلَْيَنا َر ُسوال فََنتَّبِ َع َآيات َ َ َ
مقالتهم.
ق } الذي ال شك فيه { ِم ْن ِع ْن ِدَنا } وهو القرآن ،الذي أوحيناه إليك { قَالُوا } اء ُه ُم اْل َح ُّ
{ َفلَ َّما َج َ
ِ
وسى } أي :أنزل عليه مكذبين له ،ومعترضين بما ليس يعترض به { :لَ ْوال أُوتِ َي مثْ َل َما أُوتِ َي ُم َ
كتاب من السماء جملة واحدة .أي :فأما ما دام ينزل متفرقا ،فإنه ليس من عند اللّه .وأي :دليل
في هذا؟ وأي :شبهة أنه ليس من عند اللّه ،حين نزل مفرقا؟
بل من كمال هذا القرآن ،واعتناء اللّه بمن أنزل عليه ،أن نزل متفرقا ،ليثبت اللّه به فؤاد رسوله،
َح َس َن تَ ْف ِس ًيرا } وأيضا،
ق َوأ ْ ك بِ َمثَ ٍل ِإال ِج ْئَن َ
اك بِاْل َح ِّ ون َ
ويحصل زيادة اإليمان للمؤمنين { َوال َيأْتُ َ
فإن قياسهم على كتاب موسى ،قياس قد نقضوه [ ،ص ] 618فكيف يقيسونه على كتاب كفروا
اه َرا } أي:
ظ َان تَ َوسى ِم ْن قَْب ُل قَالُوا ِس ْح َر ِ به ولم يؤمنوا؟ ولهذا قال { أ ََولَ ْم َي ْكفُُروا بِ َما أُوتِ َي ُم َ
ِ
ون } فثبت بهذا أن القرآن والتوراة ،تعاونا في سحرهما ،وإ ضالل الناس { َوقَالُوا ِإَّنا بِ ُك ٍّل َكاف ُر َ
القوم يريدون إبطال الحق بما ليس ببرهان ،وينقضونه بما ال ينقض ،ويقولون األقوال المتناقضة
المختلفة ،وهذا شأن كل كافر .ولهذا صرح أنهم كفروا بالكتابين والرسولين ،ولكن هل كفرهم
بهما كان طلبا للحق ،واتباعا ألمر عندهم خير منهما ،أم مجرد هوى؟.
َه َدى ِم ْنهُ َما } أي :من التوراة والقرآن
اب ِم ْن ِعْن ِد اللَّ ِه ُه َو أ ْ
قال تعالى ملزما لهم بذلك { :فَأْتُوا بِ ِكتَ ٍ
ين } وال سبيل لهم وال لغيرهم أن يأتوا بمثلهما ،فإنه ما طرق العالم منذ { أَتَّبِعه ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ
صادق َْ َ ُْ
خلقه اللّه ،مثل هذين الكتابين ،علما وهدى ،وبيانا ،ورحمة للخلق ،وهذا من كمال اإلنصاف من
الداعي أن قال :أنا مقصودي الحق والهدى والرشد ،وقد جئتكم بهذا الكتاب المشتمل على ذلك،
الموافق لكتاب موسى ،فيجب علينا جميعا اإلذعان لهما واتباعهما ،من حيث كونهما هدى وحقا،
فإن جئتموني بكتاب من عند اللّه هو أهدى منهما اتبعته ،وإ ال فال أترك هدى وحقا قد علمته لغير
هدى وحق ()1
اء ُه ْم } أي :فاعلم أن
َه َو َ اعلَ ْم أََّن َما َيتَّبِ ُع َ
ون أ ْ { فَِإ ْن لَ ْم َي ْستَ ِج ُيبوا لَ َ
ك } فلم يأتوا بكتاب أهدى منهما { فَ ْ
تركهم اتباعك ،ليسوا ذاهبين إلى حق يعرفونه ،وال إلى هدى ،وإ نما ذلك مجرد اتباع ألهوائهم{ .
َض ُّل ِم َّم َن اتََّب َع َه َواهُ بِ َغ ْي ِر ُه ًدى ِم َن اللَّ ِه } فهذا من أضل الناس ،حيث عرض عليه الهدى، َو َم ْن أ َ
والصراط المستقيم ،الموصل إلى اللّه وإ لى دار كرامته ،فلم يلتفت إليه ولم يقبل عليه ،ودعاه هواه
إلى سلوك الطرق الموصلة إلى الهالك والشقاء ( )2فاتبعه وترك الهدى ،فهل أحد أضل ممن هذا
وصفه؟" ولكن ظلمه وعدوانه ،وعدم محبته للحق ،هو الذي أوجب له :أن يبقى على ضالله وال
َّ ِ ِ ِ َّ
ين } أي :الذين صار الظلم لهم وصفا والعناديهديه اللّه ،فلهذا قالِ { :إ َّن اللهَ ال َي ْهدي اْلقَ ْو َم الظالم َ
لهم نعتا ،جاءهم الهدى فرفضوه ،وعرض لهم الهوى ،فتبعوه ،سدوا على أنفسهم أبواب الهداية
وطرقها ،وفتحوا عليهم أبواب الغواية وسبلها ،فهم في غيهم وظلمهم يعمهون ،وفي شقائهم
وهالكهم يترددون.
اء ُه ْم } دليل على أن كل من لم يستجب
َه َو َ اعلَ ْم أََّن َما َيتَّبِ ُع َ
ون أ ْ وفي قوله { :فَِإ ْن لَ ْم َي ْستَ ِج ُيبوا لَ َ
ك فَ ْ
للرسول ،وذهب إلى قول مخالف لقول الرسول ،فإنه لم يذهب إلى هدى ،وإ نما ذهب إلى هوى.
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :لغيره حق.
( )2كذا في ب ،وفي أ :الشقاق.
( )1/617
َّ
صْلَنا لَهُ ُم اْلقَ ْو َل لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ
ون ()51 َولَقَ ْد َو َّ
صْلَنا لَهُ ُم اْلقَ ْو َل } أي :تابعناه وواصلناه ،وأنزلناه شيئا فشيئا ،رحمة بهم ولطفا { لَ َعلَّهُ ْم
{ َولَقَ ْد َو َّ
ون } حين تتكرر عليهم آياته ،وتنزل عليهم بيناته وقت الحاجة إليها .فصار نزوله متفرقا َيتَ َذ َّك ُر َ
رحمة بهم ،فلم اعترضوا على ما هو من مصالحهم؟ فصل في ذكر بعض الفوائد والعبر في هذه
القصة العجيبة
فمنها أن آيات اللّه تعالى وعبره ،وأيامه في األمم السابقة ،إنما يستفيد بها ويستنير المؤمنون،
فعلى حسب إيمان العبد تكون عبرته ،وإ ن اللّه تعالى إنما يسوق القصص ،ألجلهم ،وأما غيرهم،
فال يعبأ اللّه بهم ،وليس لهم منها نور وهدى.
ومنها :أن اللّه تعالى إذا أراد أمرا هيأ أسبابه ،وأتى بها شيئا فشيئا بالتدريج ،ال دفعة واحدة.
ومنها :أن األمة المستضعفة ،ولو بلغت في الضعف ما بلغت ،ال ينبغي لها أن يستولي عليها
الكسل عن طلب حقها ،وال اإلياس من ارتقائها إلى أعلى األمور ،خصوصا إذا كانوا مظلومين،
كما استنقذ اللّه أمة بني إسرائيل ،األمة الضعيفة ،من أسر فرعون وملئه ،ومكنهم في األرض،
وملكهم بالدهم.
ومنها :أن األمة ما دامت ذليلة مقهورة ال تأخذ حقها وال تتكلم به ،ال يقوم لها أمر دينها [وال
دنياها] ( )1وال يكون لها إمامة فيه.
ومنها :لطف اللّه بأم موسى ،وتهوينه عليها المصيبة بالبشارة ،بأن اللّه سيرد إليها ابنها ،ويجعله
من المرسلين.
ومنها :أن اللّه يقدر على عبده بعض المشاق ،لينيله سرورا أعظم من ذلك ،أو يدفع عنه شرا
أكثر منه ،كما قدر على أم موسى ذلك الحزن الشديد ،والهم البليغ ،الذي هو وسيلة إلى أن يصل
إليها ابنها ،على وجه تطمئن به نفسها ،وتقر به عينها ،وتزداد به غبطة وسرورا.
ومنها :أن الخوف الطبيعي من الخلق ،ال ينافي اإليمان وال يزيله ،كما جرى ألم موسى ولموسى
من تلك المخاوف.
ومنها :أن اإليمان يزيد وينقص .وأن من أعظم ما يزيد به اإليمان ،ويتم به اليقين ،الصبر عند
ِ
طَنا َعلَى َقْلبِهَا لتَ ُك َ
ون َن َرَب ْ
المزعجات ،والتثبيت من اللّه ،عند المقلقات ،كما قال تعالى { .لَ ْوال أ ْ
ِ ِ
ين } أي :ليزداد إيمانها بذلك ويطمئن قلبها.م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ
ومنها :أن من أعظم نعم اللّه على عبده ،و [أعظم] معونة للعبد على أموره ،تثبيت اللّه إياه،
وربط جأشه وقلبه عند المخاوف ،وعند األمور المذهلة ،فإنه بذلك يتمكن من القول الصواب،
والفعل الصواب ،بخالف من استمر قلقه وروعه ،وانزعاجه ،فإنه يضيع فكره ،ويذهل عقله ،فال
ينتفع بنفسه في تلك الحال.
ومنها :أن العبد -ولو عرف أن القضاء والقدر ووعد اللّه نافذ ال بد منه -فإنه ال يهمل فعل
األسباب التي [ ص ] 619أمر بها ،وال يكون ذلك منافيا إليمانه بخبر اللّه ،فإن اللّه قد وعد أم
موسى أن يرده عليها ،ومع ذلك ،اجتهدت على رده ،وأرسلت أخته لتقصه وتطلبه.
ومنها :جواز خروج المرأة في حوائجها ،وتكليمها للرجال ،من غير محذور ،كما جرى ألخت
موسى وابنتي صاحب مدين.
ومنها :جواز أخذ األجرة على الكفالة والرضاع ،والداللة على من يفعل ذلك.
ومنها :أن اللّه من رحمته بعبده الضعيف الذي يريد إكرامه ،أن يريه من آياته ،ويشهده من
بيناته ،ما يزيد به إيمانه ،كما رد اهلل موسى على أمه ،لتعلم أن وعد اللّه حق.
ومنها :أن قتل الكافر الذي له عهد بعقد أو عرف ،ال يجوز ،فإن موسى عليه السالم َّ
عد قتله
القبطي الكافر ذنبا ،واستغفر اللّه منه.
ومنها :أن الذي يقتل النفوس بغير حق يعد من الجبارين الذين يفسدون في األرض.
ومنها :أن من قتل النفوس بغير حق ،وزعم أنه يريد اإلصالح في األرض ،وتهييب أهل
َّارا
ون َجب ً يد ِإال أ ْ
َن تَ ُك َ المعاصي ،فإنه كاذب في ذلك ،وهو مفسد كما حكى اللّه قول القبطي { ِإ ْن تُِر ُ
ين } على وجه التقرير له ،ال اإلنكار. َن تَ ُكون ِمن اْلم ِ ِ األر ِ
ض َو َما تُِر ُ ِ
صلح ََ َ ُ ْ يد أ ْ في ْ
ومنها :أن إخبار الرجل غيره بما قيل فيه ،على وجه التحذير له من شر يقع فيه ،ال يكون ذلك
نميمة -بل قد يكون واجبا -كما أخبر ذلك الرجل لموسى ،ناصحا له ومحذرا.
ومنها :أنه إذا خاف القتل والتلف في اإلقامة ،فإنه ال يلقي بيده إلى التهلكة ،وال يستسلم لذلك ،بل
يذهب عنه ،كما فعل موسى.
ومنها :أنه عند تزاحم المفسدتين ،إذا كان ال بد من ارتكاب إحداهما أنه يرتكب األخف منهما
واألسلم ،كما أن موسى ،لما دار األمر بين بقائه في مصر ولكنه يقتل ،أو يذهب ( )2إلى بعض
البلدان البعيدة ،التي ال يعرف الطريق إليها ،وليس معه دليل [يد] له غير ربه ،ولكن هذه الحالة
أقرب للسالمة من األولى ،فتبعها موسى.
ومنها :أن الناظر في العلم عند الحاجة إلى التكلم فيه ،إذا لم يترجح عنده أحد القولين ،فإنه
يستهدي ربه ،ويسأله أن يهديه الصواب من القولين ،بعد أن يقصد بقلبه الحق ويبحث عنه ،فإن
اء اللّه ال يخيب م ْن هذه حاله .كما خرج موسى تلقاء مدين فقال { :عسى ربِّي أ ْ ِ ِ
َن َي ْهدَيني َس َو َ ََ َ َ
السبِ ِ
يل }. َّ
ومنها :أن الرحمة بالخلق ،واإلحسان على من يعرف ومن ال يعرف ،من أخالق :األنبياء ،وأن
من اإلحسان سقي الماشية الماء ،وإ عانة العاجز.
ومنها استحباب الدعاء بتبيين الحال وشرحها ،ولو كان اللّه عالما لها ،ألنه تعالى ،يحب تضرع
ت ِإلَ َّي ِم ْن َخ ْي ٍر فَِق ٌير }.
ب ِإِّني ِل َما أَنزْل َ
عبده وإ ظهار ذله ومسكنته ،كما قال موسىَ { :ر ِّ
ومنها أن الحياء -خصوصا من الكرام -من األخالق الممدوحة.
ومنها :المكافأة على اإلحسان لم يزل دأب األمم السابقين.
ومنها :أن العبد إذا فعل العمل للّه تعالى ،ثم حصل له مكافأة عليه من غير قصد بالقصد األول،
أنه ال يالم على ذلك ،كما قبل موسى مجازاة صاحب مدين عن معروفه الذي لم يبتغ له ،ولم
يستشرف بقلبه على عوض.
ومنها :مشروعية اإلجارة ،وأنها تجوز على رعاية الغنم ونحوها ،مما ال يقدر العمل ،وإ نما
مرده ،العرف.
ومنها أنه تجوز اإلجارة بالمنفعة ،ولو كانت المنفعة بضعا.
ومنها أن خطبة الرجل البنته الرجل الذي يتخيره ،ال يالم عليه.
ومنها :أن خير أجير وعامل [يعمل] لإلنسان ،أن يكون قويا أمينا.
ومنها :أن من مكارم األخالق ،أن ُي َحسِّن خلقه ألجيره ،وخادمه ،وال يشق عليه بالعمل ،لقوله:
ين }. ِِ ك ستَ ِج ُدنِي ِإ ْن َش َّ ِ َن أَ ُش َّ { َو َما أ ُِر ُ
اء اللهُ م َن الصَّالح َ
َ ق َعلَْي َ َ يد أ ْ
ومنها :جواز عقد اإلجارة وغيرها من العقود من دون إشهاد لقولهَ { :واللَّهُ َعلَى َما َنقُو ُل َو ِكي ٌل
}.
ومنها :ما أجرى اللّه على يد موسى من اآليات البينات ،والمعجزات الظاهرة ،من الحية،
وانقالب يده بيضاء من غير سوء ،ومن عصمة اللّه لموسى وهارون ،من فرعون ،ومن الغرق.
ومنها :أن من أعظم العقوبات أن يكون اإلنسان إماما في الشر ،وذلك بحسب معارضته آليات
اللّه وبيناته ،كما أن من أعظم نعمة أنعم اللّه بها على عبده ،أن يجعله إماما في الخير هاديا مهديا.
ومنها :ما فيها من الداللة على رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم ،حيث أخبر بذلك تفصيال
مطابقا ،وتأصيال موافقا ،قصه قصا ،صدق به المرسلين ،وأيد به الحق المبين ،من غير حضور
شيء من تلك الوقائع ،وال مشاهدة لموضع واحد من تلك المواضع ،وال تالوة درس فيها شيئا من
هذه األمور ،وال مجالسة أحد من أهل العلم ،إن هو إال رسالة الرحمن الرحيم ،ووحي أنزله عليه
الكريم المنان ،لينذر به قوما جاهلين ،وعن النذر والرسل غافلين.
فصلوات اللّه وسالمه ،على من مجرد خبره ينبئ أنه رسول اللّه ،ومجرد أمره ونهيه ينبه العقول
النيرة ،أنه من عند اللّه ،كيف وقد تطابق على صحة ما جاء به ،وصدقه خبر األولين واآلخرين،
والشرع الذي جاء به من رب العالمين ،وما جبل عليه من األخالق الفاضلة ،التي ال تناسب ،وال
تصلح إال ألعلى الخلق درجة ،والنصر المبين لدينه وأمته ،حتى بلغ دينه مبلغ [ ص ] 620الليل
والنهار ،وفتحت أمته معظم بلدان األمصار ،بالسيف والسنان ،وقلوبهم بالعلم واإليمان.
ولم تزل األمم المعاندة ،والملوك الكفرة المتعاضدة ،ترميه بقوس واحدة ،وتكيد له المكايد ،وتمكر
إلطفائه وإ خفائه ،وإ خماده من األرض ،وهو قد بهرها وعالها ،ال يزداد إال نموا ،وال آياته
ين ،وهداية ِ ِ
وبراهينه إال ظهورا ،وكل وقت من األوقات ،يظهر من آياته ما هو عبرة لْل َعالَم َ
ين ،ونور وبصيرة للمتوسمين .والحمد للّه وحده. ِ ِ
لْل َعالم َ
__________
( )1زيادة من هامش :ب.
( )2كذا في ب ،وفي أ :ويذهب
( )1/618
( )1/620
( )1/620
ات ُك ِّلَمًنا ُي ْجَبى ِإلَْي ِه ثَ َم َر ُ
ضَنا أَولَم ُنم ِّك ْن لَهم حرما آ ِ
ُْ َ َ ً َ ْ َ
ف ِم ْن أَر ِ
ْ ك ُنتَ َخطَّ ْ َوقَالُوا ِإ ْن َنتَّبِ ِع اْلهُ َدى َم َع َ
ت َم ِعي َشتَهَا فَتِْل َ
ك َهلَ ْكَنا ِم ْن قَ ْرَي ٍة َب ِط َر ْ
ون (َ )57و َك ْم أ ْ ِ ِ ٍ
َش ْيء ِر ْزقًا م ْن لَ ُدَّنا َولَك َّن أَ ْكثََر ُه ْم اَل َي ْعلَ ُم َ
ك اْلقَُرى َحتَّى ك ُم ْهِل َ
ان َرُّب َ
ين (َ )58و َما َك َ
ِ ِ اَّل ِ ِ ِ
َم َساكُنهُ ْم لَ ْم تُ ْس َك ْن م ْن َب ْعده ْم ِإ َقلياًل َو ُكَّنا َن ْح ُن اْل َو ِارثِ َ
َهلُها َ ِ اَّل ِِ ِ ث ِفي أ ِّ
ون ()59 ظال ُم َ ُمهَا َر ُسواًل َي ْتلُو َعلَْي ِه ْم آََياتَنا َو َما ُكَّنا ُم ْهلكي اْلقَُرى ِإ َوأ ْ َ َي ْب َع َ
ولهذا ،لو كان قادرا عليها ،لهدى من وصل إليه إحسانه ،ونصره ومنعه من قومه ،عمه أبا
طالب ،ولكنه أوصل إليه من اإلحسان بالدعوة للدين والنصح التام ،ما هو أعظم مما فعله معه
عمه ،ولكن الهداية بيد اللّه تعالى.
[ ص ] 621
آمًنا ُي ْجَبى ِإلَْي ِهضَنا أَولَم ُنم ِّك ْن لَهم حرما ِ
ُْ َ َ ً َ ْ َ
ف ِم ْن أَر ِ
ْ ك ُنتَ َخطَّ ْ { َ { } 57-59وقَالُوا ِإ ْن َنتَّبِ ِع اْلهُ َدى َم َع َ
ت َم ِعي َشتَهَاَهلَ ْكَنا ِم ْن قَ ْرَي ٍة َب ِط َر ْ
ون * َو َك ْم أ ْ ِ ِ ٍ
ات ُك ِّل َش ْيء ِر ْزقًا م ْن لَ ُدَّنا َولَك َّن أَ ْكثََر ُه ْم ال َي ْعلَ ُم َ ثَ َم َر ُ
ك اْلقَُرى َحتَّى ُّك ُم ْهِل َ
ان َرب َ ين * َو َما َك َ
ِ ِِ ِ ِ
ك َم َساكُنهُ ْم لَ ْم تُ ْس َك ْن م ْن َب ْعده ْم ِإال َقليال َو ُكَّنا َن ْح ُن اْل َو ِارثِ َفَتِْل َ
َهلُها َ ِ ِِ ِ ث ِفي أ ِّ
ون } . ظال ُم َ ُمهَا َر ُسوال َي ْتلُو َعلَْي ِه ْم َآياتَنا َو َما ُكَّنا ُم ْهلكي اْلقَُرى ِإال َوأ ْ َ َي ْب َع َ
يخبر تعالى أن المكذبين من قريش وأهل مكة ،يقولون للرسول صلى اللّه عليه وسلمِ { :إ ْن َنتَّبِ ِع
ضَنا } بالقتل واألسر ونهب األموال ،فإن الناس قد عادوك وخالفوك، ْ ك ُنتَ َخطَّ ْ
ف ِم ْن أَر ِ اْلهُ َدى َم َع َ
فلو تابعناك لتعرضنا لمعاداة الناس كلهم ،ولم يكن لنا بهم طاقة.
وهذا الكالم منهم ،يدل على سوء الظن باللّه تعالى ،وأنه ال ينصر دينه ،وال يعلي كلمته ،بل يمكن
الناس من أهل دينه ،فيسومونهم سوء العذاب ،وظنوا أن الباطل سيعلو على الحق.
قال اللّه مبينا لهم حالة هم بها دون الناس وأن اللّه اختصهم بها ،فقال { :أَولَم ُنم ِّك ْن لَهم حرما ِ
آمًنا ُْ َ َ ً َ ْ َ
ات ُك ِّل َش ْي ٍء ِر ْزقًا ِم ْن لَ ُدَّنا } أي :أولم نجعلهم متمكنين [ممكنين] في حرم يكثره
ُي ْجَبى ِإلَْي ِه ثَ َم َر ُ
المنتابون ويقصده الزائرون ،قد احترمه البعيد والقريب ،فال يهاج أهله ،وال ينتقصون بقليل [وال
كثير].
والحال أن كل ما حولهم من األماكن ،قد حف بها الخوف من كل جانب ،وأهلها غير آمنين وال
مطمئنينَ ،فْلَي ْح َم ُدوا ربهم على هذا األمن التام ،الذي ليس فيه غيرهم ،وعلى الرزق الكثير ،الذي
يجيء إليهم من كل مكان ،من الثمرات واألطعمة والبضائع ،ما به يرتزقون ويتوسعون .وْلَيتَّبِ ُعوا
هذا الرسول الكريم ،ليتم لهم األمن والرغد.
وإ ياهم وتكذيبه ،والبطر بنعمة اهلل ،فيبدلوا من بعد أمنهم خوفا ،وبعد عزهم ذال وبعد غناهم فقرا،
ولهذا توعدهم بما فعل باألمم قبلهم ،فقال:
ت َم ِعي َشتَهَا } أي :فخرت بها ،وألهتها ،واشتغلت بها عن اإليمان َهلَ ْكَنا ِم ْن قَ ْرَي ٍة َب ِط َر ْ
{ َو َك ْم أ ْ
اكُنهُ ْم لَ ْم تُ ْس َك ْن ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم
ك مس ِ ِ
بالرسل ،فأهلكهم اللّه ،وأزال عنهم النعمة ،وأحل بهم النقمة { .فَتْل َ َ َ
ِإال َقِليال } لتوالي الهالك والتلف عليهم ،وإ يحاشها من بعدهم.
{ َو ُكَّنا َن ْح ُن اْل َو ِارثِ َ
ين } للعباد ،نميتهم ،ثم يرجع إلينا جميع ما متعناهم به من النعم ،ثم نعيدهم ()1
إلينا ،فنجازيهم بأعمالهم.
ومن حكمته ورحمته أن ال يعذب األمم بمجرد كفرهم قبل إقامة الحجة عليهم ،بإرسال الرسل
ث ِفي أ ِّ
ُمهَا } ُّك ُم ْهِل َ
ك اْلقَُرى } أي :بكفرهم وظلمهم { َحتَّى َي ْب َع َ ان َرب َ
إليهم ،ولهذا قالَ { :و َما َك َ
أي :في القرية والمدينة التي إليها يرجعون ،ونحوها يترددون ،وكل ما حولها ينتجعها ،وال تخفى
عليه أخبارها.
{ َر ُسوال َي ْتلُو َعلَْي ِه ْم َآياتَِنا } الدالة على صحة ما جاء به ،وصدق ما دعاهم إليه ،فيبلغ قوله
قاصيهم ودانيهم ،بخالف بعث الرسل في القرى البعيدة ،واألطراف النائية ،فإن ذلك مظنة الخفاء
والجفاء ،والمدن األمهات مظنة الظهور واالنتشار ،وفي الغالب أنهم أقل جفاء من غيرهم.
َهلُها َ ِ ِِ
ون } بالكفر والمعاصي ،مستحقون للعقوبة .والحاصل:ظال ُم َ { َو َما ُكَّنا ُم ْهلكي اْلقَُرى ِإال َوأ ْ َ
أن اللّه ال يعذب أحدا إال بظلمه ،وإ قامة الحجة عليه.
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :ثم تفيدهم إلينا ،فنجازيهم ،وهو خطأ ظاهر من الناسخ.
( )1/620
( )1/621
( )1/622
( )1/622
ضي ٍ ِ َّ ِ ِ ُق ْل أَرأ َْيتُم ِإ ْن جع َل اللَّه علَْي ُكم اللَّْي َل سرم ًدا ِإلَى يوِم اْل ِقي ِ
اء أَفَاَل امة َم ْن ِإلَهٌ َغ ْي ُر الله َيأْتي ُك ْم بِ َ َْ َ َ َْ َ ُ َ ُ ََ َ ْ
ام ِة َم ْن ِإلَهٌ َغْي ُر اللَّ ِه َيأْتِي ُك ْم ِ ِ ون (ُ )71ق ْل أ ََرأ َْيتُ ْم ِإ ْن َج َع َل اللَّهُ َعلَْي ُك ُم َّ
النهَ َار َس ْر َم ًدا إلَى َي ْوِم اْلقَي َ تَ ْس َم ُع َ
يه َوِلتَْبتَ ُغوا ِم ْن النهار ِلتَس ُكُنوا ِف ِ َّ ِِ
ون (َ )72و ِم ْن َر ْح َمته َج َع َل لَ ُك ُم اللْي َل َو َّ َ َ ْ
ِ
ون فيه أَفَاَل تُْبص ُر َ
بِلَْي ٍل تَس ُكُن ِ ِ
ْ َ
ون ()73 فَ ْ ِ ِ َّ
ضله َولَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ
ام ِة َم ْن ِإلَهٌ َغ ْي ُر اللَّ ِه َيأْتِي ُك ْم ِ ِ َّ َّ ِ
{ ُ { } 71-73ق ْل أ ََرأ َْيتُ ْم إ ْن َج َع َل اللهُ َعلَْي ُك ُم اللْي َل َس ْر َم ًدا إلَى َي ْوِم اْلقَي َ
ام ِة َم ْن ِإلَهٌ َغْي ُر ِ ِ ون * ُق ْل أ ََرأ َْيتُ ْم ِإ ْن َج َع َل اللَّهُ َعلَْي ُك ُم َّ
النهَ َار َس ْر َم ًدا إلَى َي ْوِم اْلقَي َ
ِ ٍ
بِضَياء أَفَال تَ ْس َم ُع َ
النهار ِلتَس ُكُنوا ِف ِ َّ ِِ ِ اللَّ ِه يأْتِي ُكم بِلَْي ٍل تَس ُكُن ِ ِ
يه ون * َو ِم ْن َر ْح َمته َج َع َل لَ ُك ُم اللْي َل َو َّ َ َ ْ ون فيه أَفَال تُْبص ُر َ ْ َ َ ْ
ون } . وِلتَْبتَ ُغوا ِم ْن فَ ْ ِ ِ َّ
ضله َولَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ َ
هذا امتنان من اللّه على عباده ،يدعوهم به إلى شكره ،والقيام بعبوديته وحقه ،أنه جعل لهم من
رحمته النهار ليبتغوا من فضل اللّه ،وينتشروا لطلب أرزاقهم ومعايشهم في ضيائه ،والليل
ليهدأوا فيه ويسكنوا ،وتستريح أبدانهم وأنفسهم من تعب التصرف في النهار ،فهذا من فضله
ورحمته بعباده.
ام ِة َم ْن ِإلَهٌ َغْي ُر اللَّ ِه ِ ِ َّ
فهل أحد يقدر على شيء من ذلك؟ فلو جعل { َعلَْي ُك ُم اللْي َل َس ْر َم ًدا إلَى َي ْوِم اْلقَي َ
ِ ٍ ِ
ون } مواعظ اللّه وآياته سماع فهم وقبول وانقياد ،ولو جعل { َعلَْي ُك ُم َيأْتي ُك ْم بِضَياء أَفَال تَ ْس َم ُع َ
ِ النهار سرم ًدا ِإلَى يوِم اْل ِقيام ِة م ْن ِإلَهٌ َغْير اللَّ ِه يأْتِي ُكم بِلَْي ٍل تَس ُكُن ِ ِ
ون } مواقع ون فيه أَفَال تُْبص ُر َ ْ َ َ ْ ُ َْ َ َ َ َّ َ َ َ ْ َ
العبر ،ومواضع اآليات ،فتستنير بصائركم ،وتسلكوا الطريق المستقيم.
ون } ألن سلطان السمع أبلغ في الليل من ِ
ون } وفي النهار { أَفَال تُْبص ُر َ
وقال في الليل { أَفَال تَ ْس َم ُع َ
سلطان البصر ،وعكسه النهار .وفي هذه اآليات ،تنبيه إلى أن العبد ينبغي له أن يتدبر نعم اللّه
عليه ،ويستبصر فيها ،ويقيسها بحال عدمها ،فإنه إذا وازن بين حالة وجودها ،وبين حالة عدمها،
تنبه عقله لموضع المنة ،بخالف من جرى مع العوائد ،ورأى أن هذا أمر لم يزل مستمرا ،وال
يزال .وعمي قلبه عن الثناء على اللّه ،بنعمه ،ورؤية افتقاره إليها في كل وقت ،فإن هذا ال يحدث
له فكرة شكر وال ذكر.
( )1/623
ُم ٍة َش ِه ً
يدا فَ ُقْلَنا َهاتُوا ون (َ )74وَن َز ْعَنا ِم ْن ُك ِّل أ َّ ين ُك ْنتُ ْم تَْز ُع ُم َ
ِ َِّ ِ
َوَي ْو َم ُيَنادي ِه ْم فََيقُو ُل أ َْي َن ُش َر َكائ َي الذ َ
َن اْلح َّ َِّ ِ ِ
ون ()75 ض َّل َع ْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْفتَُر َ
ق لله َو َ ُب ْر َه َان ُك ْم فَ َعل ُموا أ َّ َ
ُم ٍة َش ِه ً
يدا ون * َوَن َز ْعَنا ِم ْن ُك ِّل أ َّ
ين ُك ْنتُ ْم تَْز ُع ُم َ
ِ َِّ ِ
{ َ { } 74-75وَي ْو َم ُيَنادي ِه ْم فََيقُو ُل أ َْي َن ُش َر َكائ َي الذ َ
َن اْلح َّ َِّ ِ ِ
ض َّل َعْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْفتَُر َ
ون } . ق لله َو َ فَ ُقْلَنا َهاتُوا ُب ْر َه َان ُك ْم فَ َعل ُموا أ َّ َ
أي :ويوم ينادي اللّه المشركين به ،العادلين به غيره ،الذين يزعمون أن له شركاء ،يستحقون أن
يعبدوا ،وينفعون ويضرون ،فإذا كان يوم القيامة ،أراد اللّه أن يظهر جراءتهم وكذبهم في زعمهم
ِ َِّ ِ
ون } أي :بزعمهم ،ال ين ُك ْنتُ ْم تَْز ُع ُم َوتكذيبهم ( )1ألنفسهم فـ { ُيَنادي ِه ْم فََيقُو ُل أ َْي َن ُش َر َكائ َي الذ َ
ون ِإال الظَّ َّن وإ ن هم
اء ِإ ْن َيتَّبِ ُع َ
بنفس األمر ،كما قال { :وما يتَّبِع الَِّذين ي ْدعون ِم ْن ُد ِ َّ ِ
ون الله ُش َر َك َ ََ َ ُ َ َ ُ َ
إال يخرصون }
ُم ٍة } من األمم المكذبة { َش ِه ً
يدا } يشهد على ما جرى في فإذا حضروا وإ ياهم ،نزع { ِم ْن ُك ِّل أ َّ
الدنيا ،من شركهم واعتقادهم ،وهؤالء بمنزلة المنتخبين.
أي :انتخبنا من رؤساء المكذبين من يتصدى للخصومة عنهم ،والمجادلة عن إخوانهم ،ومن هم
وإ ياهم على طريق واحد ،فإذا برزوا للمحاكمة { فَ ُقْلَنا َهاتُوا ُب ْر َه َان ُك ْم } حجتكم ودليلكم على صحة
شرككم ،هل أمرناكم بذلك؟ هل أمرتكم رسلي؟ هل وجدتم ذلك في شيء من كتبي؟ هل فيهم أحد
يستحق شيئا من اإللهية؟ هل ينفعونكم ،أو يدفعون عنكم من عذاب اللّه أو يغنون عنكم؟ فليفعلوا
إذا [إن] كان فيهم أهلية ( )2وليروكم إن كان لهم قدرة { ،فَ َعِل ُموا } حينئذ بطالن قولهم وفساده ،و
ق ِللَّ ِه } تعالى ،قد توجهت عليهم الخصومة ،وانقطعت حجتهم ،وأفلجت حجة اللّه، َن اْل َح َّ
{ أ َّ
ون } من الكذب واإلفك ،واضمحل وتالشى وعدم ،وعلموا أن اللّه قد ض َّل َع ْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْفتَُر َ { َو َ
عدل فيهم ،حيث لم يضع العقوبة إال بمن استحقها واستأهلها.
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :وتكذيب.
( )2كذا في ب ،وفي أ :فيهم إلهية.
( )1/623
صَب ِة أُوِلي وء بِاْل ُع ْ
ِ
وز َما ِإ َّن َمفَات َحهُ لَتَُن ُ وسى فََب َغى َعلَْي ِه ْم َوآَتَْيَناهُ ِم َن اْل ُكُن ِ ان م ْن قَ ْوِم ُم َ
ِإ َّن قَارون َك ِ
ُ َ َ
الد َار اآْل َ ِخ َرةَ َواَلك اللَّهُ َّ يما آَتَا َ ِ
ين (َ )76و ْابتَ ِغ ف َ
ِ
ب اْلفَ ِرح َ ال لَهُ قَ ْو ُمهُ اَل تَ ْف َر ْح ِإ َّن اللَّهَ اَل ُي ِح ُّ
اْلقَُّو ِة ِإ ْذ قَ َ
ض ِإ َّن اللَّهَ اَل ُي ِح ُّ
ب اد ِفي اأْل َْر ِ ك َواَل تَْب ِغ اْلفَ َس َ َح َس َن اللَّهُ ِإلَْي ََح ِس ْن َك َما أ ْ ك ِم َن ُّ
الد ْنَيا َوأ ْ ص َيب َ تَْنس َن ِ
َ
ون َم ْن ك ِم ْن قَْبِل ِه ِم َن اْلقُُر ِ َن اللَّهَ قَ ْد أ ْ
َهلَ َ ال ِإَّن َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِعْلٍم ِع ْن ِدي أ ََولَ ْم َي ْعلَ ْم أ َّ ين ( )77قَ َ ِِ
اْل ُم ْفسد َ
ون ( )78فَ َخ َر َج َعلَى قَ ْو ِم ِه ِفي ِز َينتِ ِه ِ
ُه َو أَ َش ُّد م ْنهُ قَُّوةً َوأَ ْكثَُر َج ْم ًعا َواَل ُي ْسأَ ُل َع ْن ُذُنوبِ ِه ُم اْل ُم ْج ِر ُم َ
ظ ع ِظ ٍيم ( )79وقَ َ َِّ ٍّ الد ْنيا يا لَْي َ ِ قَ َ َِّ
ين
ال الذ َ َ ون ِإَّنهُ لَ ُذو َح َ ت لََنا مثْ َل َما أُوتِ َي قَ ُار ُ ون اْل َحَياةَ ُّ َ َ يد َ ين ُي ِر ُ ال الذ َ
ون ( )80فَ َخ َس ْفَنا بِ ِه اها ِإ الصَّابِ ُر َ
اب اللَّ ِه َخ ْير ِلم ْن آَمن و َع ِم َل ص ِال ًحا واَل ُيلَقَّ َ اَّل
َ َ ٌ َ ََ َ
ِ
أُوتُوا اْلعْل َم َوْيلَ ُك ْم ثََو ُ
ِ ون اللَّ ِه وما َك ِ ونهُ ِم ْن ُد ِ ِ ٍِ
َصَب َح ين (َ )81وأ ْ ان م َن اْل ُم ْنتَص ِر َ ََ َ ص ُر َ ان لَهُ م ْن فَئة َي ْن ُ ض فَ َما َك َ َوبِ َد ِار ِه اأْل َْر َ
اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه َوَي ْق ِد ُر لَ ْواَل أ ْ
َن َم َّن الر ْز َ ِ َن اللَّهَ َي ْب ُسطُ ِّ ون َو ْي َكأ َّ ين تَ َمَّن ْوا َم َك َانهُ بِاأْل َْم ِ َِّ
ق ل َم ْن َي َش ُ س َيقُولُ َ الذ َ
ِ ِ اللَّهُ َعلَْيَنا لَ َخ َس َ
ون ()82 ف بَِنا َو ْي َكأََّنهُ اَل ُي ْفل ُح اْل َكاف ُر َ
وسى فََب َغى َعلَْي ِه ْم } .إلى آخر القصة { ِ { } 76-82إ َّن قَارون َك ِ
ان م ْن قَ ْوِم ُم َ
ُ َ َ
ان ِم ْن قَ ْوِم ظ ،فقالِ { :إ َّن قَ ُار َ
ون َك َ وو ِع َ يخبر تعالى عن حالة قارون وما [فعل] وفُ ِع َل به ُ ِ
ونص َح ُ
وسى } أي :من بني إسرائيل ،الذين فُضِّلوا على العالمين ،وفاقوهم في زمانهم ،وامتن اللّه ُم َ
عليهم بما امتن به ،فكانت حالهم مناسبة لالستقامة ،ولكن قارون هذا ،بغى على قومه وطغى ،بما
وز } أي :كنوز األموال شيئا كثيراَ { ،ما ِإ َّن أوتيه من األموال العظيمة المطغية { َوآتَْيَناهُ ِم َن اْل ُكُن ِ
صَب ِة [أُوِلي اْلقَُّو ِة } والعصبة] ،من العشرة إلى التسعة إلى السبعة ،ونحو ذلك. وء بِاْل ُع ْ
ِ
َمفَات َحهُ لَتَُن ُ
أي :حتى أن مفاتح خزائن أمواله لتثقل الجماعة القوية عن حملها ،هذه المفاتيح ،فما ظنك
ببالخزائن؟ { ِإ ْذ قَا َل لَهُ قَ ْو ُمهُ } ناصحين له محذرين له عن الطغيان { :ال تَ ْف َر ْح ِإ َّن اللَّهَ ال ُي ِح ُّ
ِ
ين } أي :ال تفرح بهذه الدنيا العظيمة ،وتفتخر بها ،وتلهيك عن اآلخرة ،فإن اللّه ال يحب اْلفَ ِرح َ
الفرحين بها ،المنكبين على محبتها.
الدار ِ { و ْابتَ ِغ ِفيما آتَ َ َّ
اآلخ َرةَ } أي :قد حصل عندك من وسائل اآلخرة ما ليس عند غيرك اك اللهُ َّ َ َ َ
من األموال ،فابتغ بها ما عند اللّه ،وتصدق وال تقتصر على مجرد نيل الشهوات ،وتحصيل
الد ْنَيا } أي :ال نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعا ،بل ك ِم َن ُّ
ص َيب َاللذات { ،وال تَْنس َن ِ
َ َ
ِ
َحس ْن } إلى عباد
أنفق آلخرتك ،واستمتع بدنياك استمتاعا ال يثلم دينك ،وال يضر بآخرتكَ { ،وأ ْ
ض } بالتكبر والعمل األر ِ ك } بهذه األموال { ،وال تَْب ِغ اْلفَس َ ِ َح َس َن اللَّهُ ِإلَْي َ
اد في ْ َ َ اللّه { َك َما أ ْ
ين } بل يعاقبهم على ذلك، ِِ بمعاصي اللّه واالشتغال بالنعم عن المنعمِ { ،إ َّن اللَّهَ ال ُي ِح ُّ
ب اْل ُم ْفسد َ
أشد العقوبة.
( )1/623
ال } قارون -رادا لنصيحتهم ،كافرا بنعمة ربهِ { :-إَّن َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِعْلٍم ِعْن ِدي }.
فـ { قَ َ
[ ص ] 624
أي :إنما أدركت هذه األموال بكسبي ومعرفتي بوجوه المكاسب ،وحذقي ،أو على علم من اللّه
بحالي ،يعلم أني أهل لذلك ،فلم تنصحوني على ما أعطاني اللّه تعالى؟ قال تعالى مبينا أن عطاءه،
ك ِم ْن قَْبِل ِه ِم َن اْلقُُر ِ
ون َم ْن ُه َو أَ َش ُّد َن اللَّهَ قَ ْد أ ْ
َهلَ َ ليس دليال على حسن حالة المعطي { :أ ََولَ ْم َي ْعلَ ْم أ َّ
ض ِّي عادتنا وسنتنا بإهالك من هو مثله ِم ْنه قَُّوةً وأَ ْكثَر جمعا } فما المانع من إهالك قارون ،مع م ِ
ُ َ ُ ًَْ ُ
وأعظم ،إذ فعل ما يوجب الهالك؟.
{ َوال ُي ْسأَ ُل َع ْن ُذُنوبِ ِه ُم اْل ُم ْج ِر ُم َ
ون } بل يعاقبهم اللّه ،ويعذبهم على ما يعلمه منهم ،فهم ،وإ ن أثبتوا
ألنفسهم حالة حسنة ،وشهدوا لها بالنجاة ،فليس قولهم مقبوال وليس ذلك دافعا عنهم من العذاب
شيئا ،ألن ذنوبهم غير خفية ،فإنكارهم ال محل له ،فلم يزل قارون مستمرا على عناده وبغيه،
وعدم قبول نصيحة قومه ،فرحا بطرا قد أعجبته نفسه ،وغره ما أوتيه من األموال.
{ فَ َخ َر َج } ذات يوم { ِفي ِز َينتِ ِه } أي :بحالة أرفع ما يكون من أحوال دنياه ،قد كان له من
األموال ما كان ،وقد استعد وتجمل بأعظم ما يمكنه ،وتلك الزينة في العادة من مثله تكون هائلة،
جمعت زينة الدنيا وزهرتها وبهجتها وغضارتها وفخرها ،فرمقته في تلك الحالة العيون ،ومألت
بَِّزتُهُ القلوب ،واختلبت زينته النفوس ،فانقسم فيه الناظرون قسمين ،كل تكلم بحسب ما عنده من
الهمة والرغبة.
الد ْنَيا } أي :الذين تعلقت إرادتهم فيها ،وصارت منتهى رغبتهم، ون اْل َحَياةَ ُّ ين ُي ِر ُ فـ { قَ َ َِّ
يد َ ال الذ َ
ليس لهم إرادة في سواها { ،يا لَْي َ ِ
ون } من الدنيا ومتاعها وزهرتها { ِإَّنهُ
ت لََنا مثْ َل َما أُوتِ َي قَ ُار ُ َ
ظ َع ِظ ٍيم } وصدقوا إنه لذو حظ عظيم ،لو كان األمر منتهيا إلى رغباتهم ،وأنه ليس وراء لَ ُذو ح ٍّ
َ
الدنيا ،دار أخرى ،فإنه قد أعطي منها ما به غاية التنعم ( )1بنعيم الدنيا ،واقتدر بذلك على جميع
مطالبه ،فصار هذا الحظ العظيم ،بحسب همتهم ،وإ ن همة جعلت هذا غاية مرادها ومنتهى
مطلبها ،لَ ِم ْن أدنى الهمم وأسفلها وأدناها ،وليس لها أدنى صعود إلى المرادات العالية والمطالب
الغالية.
ين أُوتُوا اْل ِعْل َم } الذين عرفوا حقائق األشياء ،ونظروا إلى باطن الدنيا ،حين نظر ()2 َِّ
{ َوقَا َل الذ َ
أولئك إلى ظاهرهاَ { :وْيلَ ُك ْم } متوجعين مما تمنوا ألنفسهم ،راثين لحالهم ،منكرين لمقالهم:
اب اللَّ ِه } العاجل ،من لذة العبادة ومحبته ،واإلنابة إليه ،واإلقبال عليه .واآلجل من الجنة وما{ ثََو ُ
فيها ،مما تشتهيه األنفس وتلذ األعين { َخ ْيٌر } من هذا الذي تمنيتم ورغبتم فيه ،فهذه حقيقة األمر،
ولكن ما كل من يعلم ذلك يؤثر األعلى على األدنى ،فما ُيلَقَّى ذلك ويوفق له { ِإال الصَّابِ ُر َ
ون }
الذين حبسوا أنفسهم على طاعة اللّه ،وعن معصيته ،وعلى أقداره المؤلمة ،وصبروا على جواذب
الدنيا وشهواتها ،أن تشغلهم عن ربهم ،وأن تحول بينهم وبين ما خلقوا له ،فهؤالء الذين يؤثرون
ثواب اللّه على الدنيا الفانية.
وازيََّنت الدنيا عنده ،وكثر بها إعجابه ،بغته العذاب فلما انتهت بقارون حالة البغي والفخرَّ ،
ِ
ض } جزاء من جنس عمله ،فكما رفع نفسه على عباد اللّه ،أنزله اللّه األر َ { فَ َخ َس ْفَنا بِه َوبِ َد ِار ِه ْ
أسفل سافلين ،هو وما اغتر به ،من داره وأثاثه ،ومتاعه.
ان ونه ِم ْن ُد ِ َّ ِ ِ ٍِ
ون الله َو َما َك َ ص ُر َ ُ ان لَهُ م ْن فَئة } أي :جماعة ،وعصبة ،وخدم ،وجنود { َي ْن ُ { فَ َما َك َ
ِ ِ
ين } أي :جاءه العذاب ،فما نصر وال انتصر. م َن اْل ُم ْنتَص ِر َ
َِّ
ت لََنا س } أي :الذين يريدون الحياة الدنيا ،الذين قالواَ { :يا لَْي َ ين تَ َمَّن ْوا َم َك َانهُ بِ ْ
األم ِ َصَب َح الذ َ{ َوأ ْ
ِ
ون } متوجعين ومعتبرين ،وخائفين من وقوع العذاب بهمَ { :و ْي َكأ َّ
َن ون } { َيقُولُ َ م ْث َل َما أُوتِ َي قَ ُار ُ
اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه َوَي ْق ِد ُر } أي :يضيق الرزق على من يشاء ،فعلمنا حينئذ أن ق ل َم ْن َي َش ُ
الر ْز َ ِ
اللَّهَ َي ْب ُسطُ ِّ
ظ َع ِظ ٍيم } و { لَ ْوال بسطه لقارون ،ليس دليال على خير فيه ،وأننا غالطون في قولناِ { :إَّنه لَ ُذو ح ٍّ
َ ُ
ف بَِنا } فصار هالك قارون َن َم َّن اللَّهُ َعلَْيَنا } فلم يعاقبنا على ما قلنا ،فلوال فضله ومنته { لَ َخ َس َ أْ
عقوبة له ،وعبرة وموعظة لغيره ،حتى إن الذين غبطوه ،سمعت كيف ندموا ،وتغير فكرهم
األول.
ِ ِ
{ َو ْي َكأََّنهُ ال ُي ْفل ُح اْل َكاف ُر َ
ون } أي :ال في الدنيا وال في اآلخرة.
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :التنعيم.
( )2كذا في ب ،وفي أ :نظروا.
( )1/623
( )1/624
م ْن جاء بِاْلحسَن ِة َفلَه َخ ْير ِم ْنها وم ْن جاء بِالسَّيَِّئ ِة فَاَل ي ْج َزى الَِّذين ع ِملُوا السَّيَِّئ ِ
ات ِإاَّل َما َك ُانوا َ َ ُ ُ ٌ َ ََ َ َ َ َ َ ََ
ون ()84 َي ْع َملُ َ
{ { } 84م ْن جاء بِاْلحسَن ِة َفلَه َخ ْير ِم ْنها وم ْن جاء بِالسَّيَِّئ ِة فَال ي ْج َزى الَِّذين ع ِملُوا السَّيَِّئ ِ
ات ِإال َما َ َ ُ ُ ٌ َ ََ َ َ َ َ َ ََ
ون } .
َك ُانوا َي ْع َملُ َ
اء بِاْل َح َسَن ِة } شرط فيها أن يأتي بها
يخبر تعالى عن مضاعفة فضله ،وتمام عدله فقالَ { :م ْن َج َ
العامل ،ألنه قد يعملها ،ولكن يقترن بها ما ال تقبل منه أو يبطلها ،فهذا لم يجيء بالحسنة،
والحسنة :اسم جنس يشمل جميع ما أمر اللّه به ورسوله ،من األقوال واألعمال الظاهرة
والباطنة ،المتعلقة بحق اهلل تعالى وحق ( )1عبادهَ { ،فلَهُ َخ ْيٌر ِم ْنهَا } [أي :أعظم وأجل ،وفي
اآلية األخرى { َفلَهُ َع ْش ُر أ َْمثَ ِالهَا } ] ()2
هذا التضعيف للحسنة ،ال بد منه ،وقد يقترن بذلك من األسباب ما تزيد به المضاعفة ،كما قال
يم } بحسب حال العامل وعمله ،ونفعه ومحله َّ ِ ِ اع ُ ِ تعالى { :واللَّه يض ِ
اء َواللهُ َواسعٌ َعل ٌ
ف ل َم ْن َي َش ُ َ ُُ َ
َِّ ِ
اء بِالسَّيَِّئة } وهي كل ما نهى الشارع عنهَ ،ن ْه َي تحريم { .فَال ُي ْج َزى الذ َ
ين ومكانهَ { ،و َم ْن َج َ
ِ ِ ِ ِ
اء بِاْل َح َسَنة َفلَهُ َع ْش ُر أ َْمثَالهَا َو َم ْن َج َ
اء ون } كقوله تعالىَ { :م ْن َج َ َعملُوا السَّيَِّئات ِإال َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ
ون }. بِالسَّيَِّئ ِة فَال ُي ْج َزى ِإال ِم ْثلَهَا َو ُه ْم ال ُي ْ
ظلَ ُم َ
__________
( )1في ب :وحقوق العباد.
( )2زيادة من هامش :ب.
( )1/625
( )1/625
( )1/626
( )1/626
اه ُد ِلَن ْف ِس ِه ِإ َّن
اه َد فَِإَّنما يج ِ
يم (َ )5و َم ْن َج َ َ ُ َ
ِ ِ َّ ِ ٍ م ْن َكان يرجو ِلقَ َّ ِ
اء الله فَِإ َّن أ َ
َج َل الله آَل َت َو ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ َ َ َْ ُ َ
ِ َّ ِ
ين ()6 اللهَ لَ َغن ٌّي َع ِن اْل َعالَم َ
اه َد فَِإَّن َما ِ ِ َّ ِ ٍ { { } 5-6م ْن َكان يرجو ِلقَ َّ ِ
يم * َو َم ْن َج َ اء الله فَِإ َّن أ َ
َج َل الله آلت َو ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ َ َ َْ ُ َ
ِ َّ ِ ِ ِ ِِ
ين } . ُي َجاه ُد لَن ْفسه ِإ َّن اللهَ لَ َغن ٌّي َع ِن اْل َعالَم َ
يعني :يا أيها المحب لربه ،المشتاق لقربه ولقائه ،المسارع في مرضاته ،أبشر بقرب لقاء
الحبيب ،فإنه آت ،وكل آت إنما هو قريب ،فتزود للقائه ،وسر نحوه ،مستصحبا الرجاء ،مؤمال
الوصول إليه ،ولكن ،ما كل من َي َّد ِعي ُي ْع َ
طى بدعواه ،وال كل من تمنى يعطى ما تمناه ،فإن اللّه
سميع لألصوات ،عليم بالنيات ،فمن كان صادقا في ذلك أناله ما يرجو ،ومن كان كاذبا لم تنفعه
دعواه ،وهو العليم بمن يصلح لحبه ومن ال يصلح.
اه ُد ِلَن ْف ِس ِه } ألن نفعه راجع إليه ،وثمرته
اه َد } نفسه وشيطانه ،وعدوه الكافر { ،فَِإَّنما يج ِ
َ َُ { َو َم ْن َج َ
عائدة إليه ،واهلل غني عن العالمين ،لم يأمرهم بما أمرهم به لينتفع به ،وال نهاهم عما نهاهم عنه
ُب ْخال عليهم.
وقد علم أن األوامر والنواهي يحتاج المكلف فيها إلى جهاد ،ألن نفسه تتثاقل بطبعها عن الخير،
وشيطانه ينهاه عنه ،وعدوه الكافر يمنعه من إقامة دينه ،كما ينبغي ،وكل هذا معارضات تحتاج
إلى مجاهدات وسعي شديد.
( )1/626
ون ()7 َِّ ات لَُن َكفَِّر َّن َعْنهُ ْم َسيَِّئاتِ ِه ْم َولََن ْج ِزَيَّنهُ ْم أ ْ
َّالح ِ
ِ ِ َِّ
َح َس َن الذي َك ُانوا َي ْع َملُ َ َمُنوا َو َعملُوا الص َ
ين آ َ
َوالذ َ
( )1/626
ك بِ ِه ِعْل ٌم فَاَل تُ ِط ْعهُ َما ِإلَ َّي ك ِلتُ ْش ِر َ
ك بِي َما لَْي َس لَ َ ان بِ َو ِال َد ْي ِه ُح ْسًنا َوإِ ْن َج َ
اه َدا َ َّيَنا اإْلِ ْن َس َ َو َوص ْ
ون ()8 َم ْر ِج ُع ُك ْم فَأَُنبُِّئ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ
( )1/627
( )1/627
صٌر ِم ْناء َن ْ
اس َكع َذ ِ َّ ِ ِ
اب الله َولَئ ْن َج َ الن ِ َ ي ِفي اللَّ ِه َج َع َل ِفتَْنةَ َّ َّ ِ
َمَّنا بِالله فَِإ َذا أُو ِذ َ
اس َم ْن َيقُو ُل آ َ الن ِ َو ِم َن َّ
َّ َِّ ِ ِ ك لََيقُولُ َّن ِإَّنا ُكَّنا َم َع ُك ْم أ ََولَْي َس اللَّهُ بِأ ْ
َمُنوا ين (َ )10ولََي ْعلَ َم َّن اللهُ الذ َ
ين آ َ ص ُد ِ
ور اْل َعالَم َ َعلَ َم بِ َما في ُ َرِّب َ
ِِ
ين ()11 َولََي ْعلَ َم َّن اْل ُمَنافق َ
اب اللَّ ِه َولَئِ ْناس َك َع َذ ِ ي ِفي اللَّ ِه َج َع َل ِفتَْنةَ َّ
الن ِ َّ ِ
آمَّنا بِالله فَِإ َذا أُو ِذ َاس َم ْن َيقُو ُل َ الن ِ { َ { } 10-11و ِم َن َّ
َّ ِ ِ ِّك لََيقُولُ َّن ِإَّنا ُكَّنا َم َع ُك ْم أ ََولَْي َس اللَّهُ بِأ ْ
صٌر ِم ْن َرب َ
ين * َولََي ْعلَ َم َّن اللهُ ص ُد ِ
ور اْل َعالَم َ َعلَ َم بِ َما في ُ اء َن ْ
َج َ
ِِ َِّ
ين } . آمُنوا َولََي ْعلَ َم َّن اْل ُمَنافق َ
ين َالذ َ
ادعى اإليمان ،ليظهر الصادق من الكاذب ،بيَّن تعالى أن لما ذكر تعالى أنه ال بد أن يمتحن من َّ
من الناس فريقا ال صبر لهم على المحن ،وال ثبات لهم على بعض الزالزل فقالَ { :و ِم َن َّ
الن ِ
اس
ي ِفي اللَّ ِه } بضرب ،أو أخذ مال ،أو تعيير ،ليرتد عن دينه ،وليراجع م ْن َيقُو ُل آمَّنا بِاللَّ ِه فَِإ َذا أ ِ
ُوذ َ َ َ
صادة له عن اإليمان والثبات عليه ،كما أن اب اللَّ ِه } أي :يجعلها َّ اس َك َع َذ ِ الن ِ الباطلَ { ،ج َع َل ِفتَْنةَ َّ
صاد عما هو سببه. العذاب ٌّ
ك لََيقُولُ َّن ِإَّنا ُكَّنا َم َع ُك ْم } ألنه موافق للهوى ،فهذا الصنف من الناس من صٌر ِم ْن َرِّب َ اء َن ْ
ِ
{ َولَئ ْن َج َ
طمأ َّ ِ ٍ َّ
َن بِه َوإِ ْن أ َ
َص َابتْهُ اس َم ْن َي ْعُب ُد اللهَ َعلَى َح ْرف فَِإ ْن أ َ
َص َابهُ َخ ْيٌر ا ْ َ الن ِ الذين قال اللّه فيهمَ { :و ِم َن َّ
ين }. ان اْل ُمبِ ُ اآلخ َرةَ َذِل َ
ك ُه َو اْل ُخ ْس َر ُ
الد ْنيا و ِ ِ ِ ِ ُّ
ب َعلَى َو ْجهه َخس َر َ َ
ِ
فتَْنةٌ ْان َقلَ َ
ِ ِ { أ ََولَْي َس اللَّهُ بِأ ْ
ين } حيث أخبركم بهذا الفريق ،الذي حاله كما وصف ور اْل َعالَم َص ُد ِ َعلَ َم بِ َما في ُ
لكم ،فتعرفون بذلك كمال علمه وسعة حكمته.
ين } أي :فلذلك قَ َّد َر ِم َحًنا وابتالء ،ليظهر علمه فيهم، ِِ
آمُنوا َولََي ْعلَ َم َّن اْل ُمَنافق َ ين َ
َّ َِّ
{ َولََي ْعلَ َم َّن اللهُ الذ َ
فيجازيهم بما ظهر منهم ،ال بما يعلمه بمجرده ،ألنهم قد يحتجون على اللّه ،أنهم لو ابتُلُوا لَثََبتُوا.
( )1/627
اه ْم ِم ْن
ط َاي ُين ِم ْن َخ َ ِِ َمُنوا اتَّبِ ُعوا َسبِيلََنا َوْلَن ْح ِم ْل َخ َ
ط َايا ُك ْم َو َما ُه ْم بِ َحامل َ ين آ َ
َِِّ
ين َكفَ ُروا للذ َ
وقَ َ َِّ
ال الذ َ َ
ون َشي ٍء ِإَّنهم لَ َك ِاذبون ( )12ولَي ْح ِملُ َّن أَثْقَالَهم وأَثْقَااًل مع أَثْقَ ِال ِهم ولَيسأَلُ َّن يوم اْل ِقي ِ
امة َع َّما َك ُانوا َي ْفتَُر َ
ْ َ ُ ْ َْ َ َ َ ََ ُْ َ َ َ ُ َ ْ ُْ
()13
( )1/627
َخ َذ ُهم الطُّوفَان و ُهم َ ِ ِ ث ِفي ِهم أَْل َ ٍ اَّل ِ
ون (
ظال ُم َ ُ َ ْ اما فَأ َ ُ ف َسَنة ِإ َخ ْمس َ
ين َع ً وحا ِإلَى قَ ْو ِمه َفلَبِ َ ْ
َولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُن ً
)14
( )1/627
ِ ِ
ين ()15 اب الس َِّف َين ِة َو َج َعْلَن َ
اها آََيةً لْل َعالَم َ َص َح َ
فَأ َْن َج ْيَناهُ َوأ ْ
ِ ِ
ين } . اب الس َِّف َين ِة َو َج َعْلَن َ
اها َآيةً لْل َعالَم َ َص َح َ { فَأ َْن َج ْيَناهُ َوأ ْ
اب الس َِّف َين ِة } الذين ركبوا معه ،أهله ومن آمن بهَ { .و َج َعْلَن َ
اها } أي :السفينة ،أو َص َح َ { فَأ َْن َج ْيَناهُ َوأ ْ
ين } يعتبرون بها ،على أن من كذب الرسل ،آخر أمره الهالك ،وأن ِ ِ
قصة نوح { َآيةً لْل َعالَم َ
المؤمنين سيجعل اللّه لهم من كل هم فرجا ،ومن كل ضيق مخرجا.
وجعل اللّه أيضا السفينة ،أي :جنسها آية للعالمين ،يعتبرون بها رحمة ربهم ،الذي قيض لهم
طر إلى قُ ٍ
طر. أسبابها ،ويسر لهم أمرها ،وجعلها تحملهم وتحمل متاعهم من محل إلى محل ومن قُ ٍ
( )1/628
( )1/628
يم ()23 ك لَهم ع َذ ٌ ِِ ِ ِ ات اللَّ ِه وِلقَائِ ِه أُولَئِ َ ِ
والَِّذين َكفَروا بِآَي ِ
اب أَل ٌ ك َيئ ُسوا م ْن َر ْح َمتي َوأُولَئ َ ُ ْ َ َ َ َ َ ُ
يم } . ك لَهم ع َذ ٌ ِِ ِ ِ ات اللَّ ِه وِلقَائِ ِه أُولَئِ َ ِ
{ { } 23والَِّذين َكفَروا بِآي ِ
اب أَل ٌ ك َيئ ُسوا م ْن َر ْح َمتي َوأُولَئ َ ُ ْ َ َ َ َ َ ُ
يخبر تعالى من هم الذين زال عنهم الخير ،وحصل لهم الشر ،وأنهم الذين كفروا به وبرسله ،وبما
جاءوهم به ،وكذبوا بلقاء اللّه ،فليس عندهم إال الدنيا ،فلذلك قدموا على ما أقدموا عليه من الشرك
ك َيئِ ُسوا ِم ْن
والمعاصي ،ألنه ليس في قلوبهم ما يخوفهم من عاقبة ذلك ،ولهذا قال تعالى { :أُولَئِ َ
َر ْح َمتِي } أي :فلذلك لم يعلموا سببا واحدا يحصلون به الرحمة ،وإ ال لو طمعوا في رحمته ،لعملوا
لذلك أعماال واإلياس من رحمة اللّه من أعظم المحاذير ،وهو نوعان :إياس الكفار منها ،وتركهم
جميع سبب يقربهم منها ،وإ ياس العصاة ،بسبب كثرة جناياتهم أوحشتهم ،فملكت قلوبهم ،فأحدث
يم } أي :مؤلم موجع .وكأن هذه اآليات معترضات بين كالم ك لَهم ع َذ ٌ ِِ
اب أَل ٌ لها اإلياسَ { ،وأُولَئ َ ُ ْ َ
إبراهيم عليه السالم لقومه ،وردهم عليه ،واللّه أعلم بذلك.
( )1/629
( )1/629
يم (َ )26و َو َه ْبَنا لَهُ ِإ ْس َح َ ِ ِ ِ ِ ِ
وب
اق َوَي ْعقُ َ َم َن لَهُ لُوطٌ َوقَا َل إِّني ُمهَاجٌر إلَى َربِّي إَّنهُ ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ فَآ َ
ِِ ِ ِ ِ َج َرهُ ِفي ُّ ِ َو َج َعْلَنا ِفي ُذِّريَّتِ ِه ُّ
ين ()27 الد ْنَيا َوإِ َّنهُ في اآْل َخ َر ِة لَم َن الصَّالح َ اب َوآَتَْيَناهُ أ ْ
النُب َّوةَ َواْلكتَ َ
( )1/629
ِ ِ اح َشةَ ما سبقَ ُكم بِها ِم ْن أ ٍ ِ ال ِلقَو ِم ِه ِإَّن ُكم لَتَأْتُون اْلفَ ِ ولُو ً ِ
ين ( )28أَئَّن ُك ْم لَتَأْتُ َ
ون َحد م َن اْل َعالَم َ َ َ ََ ْ َ َ ْ طا إ ْذ قَ َ ْ َ
ِ
َن قَالُوا ا ْئتَنا بِ َع َذ ِ اَّل ِ ِ ِ
اب اب قَ ْو ِمه ِإ أ ْان َج َو َ ون في َنادي ُك ُم اْل ُم ْن َك َر فَ َما َك َ يل َوتَأْتُ َ السبِ َ
ون َّ ط ُع َالر َجا َل َوتَ ْق َِّ
ِِ ِِ اللَّ ِه ِإ ْن ُك ْن َ ِ
ت ُر ُسلَُنا اء ْ
ين (َ )30ولَ َّما َج َ ص ْرنِي َعلَى اْلقَ ْوِم اْل ُم ْفسد َ ب ْان ُ ال َر ِّين ( )29قَ َ ت م َن الصَّادق َ
طاين ( )31قَا َل ِإ َّن ِفيهَا لُو ً َهلَها َك ُانوا َ ِ ِ
ظالم َ
ِ اهيم بِاْلب ْشرى قَالُوا ِإَّنا مهِل ُكو أ ْ ِ ِ ِ
َهل َهذه اْلقَ ْرَية ِإ َّن أ ْ َ ُْ ِإ ْب َر َ ُ َ
ِ
َهلَه ِإاَّل امرأَتَه َك َان ْ ِ ِ
ت ُر ُسلَُنا اء ْ
َن َج َ ين (َ )32ولَ َّما أ ْ ت م َن اْل َغابِ ِر َ َْ ُ َعلَ ُم بِ َم ْن فيهَا لَُنَنجَ
ِّيَّنهُ َوأ ْ ُ قَالُوا َن ْح ُن أ ْ
َهلَ َ اَّل لُو ً ِ
تك َك َان ْ ام َرأَتَ َك ِإ ْ ف َواَل تَ ْح َز ْن ِإَّنا ُمَنج َ
ُّوك َوأ ْ اق بِ ِه ْم َذ ْر ًعا َوقَالُوا اَل تَ َخ ْ ض َ يء بِ ِه ْم َو َطا س َ
َه ِل َه ِذ ِه اْلقَري ِة ِر ْج ًزا ِمن الس ِ ِ
ون ()34 َّماء بِ َما َك ُانوا َي ْف ُسقُ َ َ َ َْ ون َعلَى أ ْ ين (ِ )33إَّنا ُم ْن ِزلُ َ م َن اْل َغابِ ِر َ
ِ ِ ِ
ون ()35 َولَقَ ْد تََر ْكَنا م ْنهَا آََيةً َبيَِّنةً لقَ ْوٍم َي ْعقلُ َ
ين * ِ اح َشةَ ما سبقَ ُكم بِها ِم ْن أ ٍ ِ ال ِلقَو ِم ِه ِإَّن ُكم لَتَأْتُون اْلفَ ِ { { } 28-35ولُو ً ِ
َحد م َن اْل َعالَم ََ َ ََ ْ َ َ ْ طا إ ْذ قَ َ ْ َ
ِ ِ ِ ِ
اب قَ ْو ِمه ِإال أ ْ
َن قَالُوا ان َج َو َ ون في َنادي ُك ُم اْل ُم ْن َك َر فَ َما َك َ يل َوتَأْتُ َ السبِ َون َّ ط ُع َ
ال َوتَ ْق َ
الر َج َ
ون ِّ أَئَّن ُك ْم لَتَأْتُ َ
ِِ ِِ اب اللَّ ِه ِإ ْن ُك ْن َ ِ
ا ْئتَِنا بِ َع َذ ِ
ين } إلى آخر القصة ص ْرنِي َعلَى اْلقَ ْوِم اْل ُم ْفسد َ ب ْان ُ ين * قَا َل َر ِّ ت م َن الصَّادق َ
.
تقدم أن لوطا عليه السالم آمن إلبراهيم ،وصار من المهتدين به ،وقد ذكروا أنه ليس من ذرية
إبراهيم ،وإ نما هو ابن أخي إبراهيم.
اب } وإ ن كان عاما ،فال يناقض كون لوط نبيا ِ فقوله تعالىَ { :و َج َعْلَنا ِفي ُذِّريَّتِ ِه ُّ
النُب َّوةَ َواْلكتَ َ
رسوال وهو ليس من ذريته ،ألن اآلية جيء بها لسياق المدح والثناء على الخليل ،وقد أخبر أن
لوطا اهتدى على يديه ،ومن اهتدى على يديه أكمل ممن اهتدى من ذريته بالنسبة إلى فضيلة
الهادي ،واللّه أعلم.
فأرسل اللّه لوطا إلى قومه ،وكانوا مع شركهم ،قد جمعوا بين فعل الفاحشة في الذكور ،وتقطيع
السبيل ،وفشو المنكرات في مجالسهم ،فنصحهم لوط عن هذه األمور ،وبيَّن لهم قبائحها في
اب قَ ْو ِم ِه ِإال أ ْ
َن ان َج َو َ
نفسها ،وما تئول إليه من العقوبة البليغة ،فلم يرعووا ولم يذكروا { .فَ َما َك َ
ين } ِِ اب اللَّ ِه ِإ ْن ُك ْن َ ِ
قَالُوا ا ْئتَِنا بِ َع َذ ِ
ت م َن الصَّادق َ
فأيس منهم نبيهم ،وعلم استحقاقهم العذاب ،وجزع من شدة تكذيبهم له ،فدعا عليهم و { قَا َل َر ِّ
ب
ِِ
ص ْرنِي َعلَى اْلقَ ْوِم اْل ُم ْفسد َ
ين } فاستجاب اللّه دعاءه ،فأرسل المالئكة إلهالكهم. ْان ُ
( )1/630
فمروا بإبراهيم قبل ،وبشروه بإسحاق ،ومن وراء إسحاق يعقوب ،ثم سألهم إبراهيم أين يريدون؟
فأخبروه أنهم يريدون إهالك قوم لوط ،فجعل يراجعهم ويقولِ { :إ َّن ِفيهَا لُو ً
طا } فقالوا له:
َهلَه ِإال امرأَتَه َك َان ْ ِ
ين } ثم مضوا حتى أتوا لوطا ،فساءه مجيئهم ،وضاق ت م َن اْل َغابِ ِر َ َْ ُ ِّيَّنهُ َوأ ْ ُ
{ لَُنَنجَ
بهم ذرعا ،بحيث إنه لم يعرفهم ،وظن أنهم من جملة أبناء السبيل الضيوف ،فخاف عليهم من
ف َوال تَ ْح َز ْن } وأخبروه أنهم رسل اللّه. قومه ،فقالوا له { :ال تَ َخ ْ
َه ِل َه ِذ ِه اْلقَ ْرَي ِة ِر ْج ًزا } أي: ين ِإَّنا ُمنزلُ َ
ون َعلَى أ ْ ك َك َان ْ ِ
ت م َن اْل َغابِ ِر َ ك ِإال ْ
ام َرأَتَ َ َهلَ َ
ك َوأ ْ{ ِإَّنا ُمَنجُّو َ
عذابا { ِمن الس ِ
ون } فأمروه أن يسري بأهله ليال فلما أصبحوا ،قلب اللّه عليهم َّماء بِ َما َك ُانوا َي ْف ُسقُ َ َ َ
ديارهم ،فجعل عاليها سافلها ،وأمطر عليهم حجارة من سجيل متتابعة حتى أبادتهم وأهلكتهم،
العبر. فصاروا سمرا من األسمار ،وعبرة من ِ
َ ًَ
ِ ِ ِ
ون } أي :تركنا من ديار قوم لوط ،آثارا بينة لقوم يعقلون { َولَقَ ْد تََر ْكَنا م ْنهَا َآيةً َبيَِّنةً لقَ ْوٍم َي ْعقلُ َ
ين َوبِاللَّْي ِل أَفَال العبر بقلوبهم[ ،فينتفعون بها] ،كما قال تعالى { :وإِ َّن ُكم لَتَم ُّرون علَْي ِهم م ِ
صبِح َ َ ْ ُ َ َ ْ ُ ْ
ِ
ون } ِ
تَ ْعقلُ َ
( )1/630
اعب ُدوا اللَّه وارجوا اْليوم اآْل َ ِخر واَل تَعثَوا ِفي اأْل َر ِ ِ ِ
ين
ض ُم ْفسد َ ْ َ َ ْْ َ َ ْ ُ َْ َ اه ْم ُش َع ْيًبا فَقَا َل َيا قَ ْوِم ْ ُ
َخ ُ
َوإِلَى َم ْدَي َن أ َ
ِِ ِ ( )36فَ َك َّذُبوهُ فَأ َ
ين ()37 َصَب ُحوا في َد ِار ِه ْم َجاثم َ
الر ْجفَةُ فَأ َْخ َذتْهُ ُم َّ
( )1/630
السبِ ِ
يل َو َك ُانوا ص َّد ُه ْم َع ِن َّ
َع َمالَهُ ْم فَ َ
ان أ ْ
ط ُ َّن لَهم َّ
الش ْي َ ِِِ ِ
َّن لَ ُك ْم م ْن َم َساكنه ْم َو َزي َ ُ ُ
ود َوقَ ْد تََبي َ
ادا َوثَ ُم َ
َو َع ً
ِ
ين ()38 ُم ْستَْبص ِر َ
أي { و } أرسلنا { ِإلَى َم ْدَي َن } القبيلة المعروفة المشهورة { ُش َع ْيًبا } فأمرهم بعبادة اللّه وحده ال
شريك له ،واإليمان بالبعث ورجائه ،والعمل له ،ونهاهم عن اإلفساد في األرض ،ببخس المكاييل
ِِ ِ
ين } { َصَب ُحوا في َد ِار ِه ْم َجاثم َ والموازين ،والسعي بقطع الطرق ،فكذبوه فأخذهم عذاب اللّه { فَأ ْ
ص َّد ُه ْم َع ِن
َع َمالَهُ ْم فَ َ
ان أ ْ
ط ُ َّن لَهم َّ
الش ْي َ ِِِ ِ
َّن لَ ُك ْم م ْن َم َساكنه ْم َو َزي َ ُ ُ
ود َوقَ ْد تََبي َ
ادا َوثَ ُم َ
َ { } 40-38و َع ً
ِ السبِ ِ
ين } . يل َو َك ُانوا ُم ْستَْبص ِر َ َّ
أي :وكذلك ما فعلنا بعاد وثمود ،وقد علمتم قصصهم ،وتبين لكم بشيء [ ص ] 631تشاهدونه
بأبصاركم من مساكنهم وآثارهم التي بانوا عنها ،وقد جاءتهم رسلهم باآليات البينات ،المفيدة
َع َمالَهُ ْم } حتى ظنوا أنها أفضل مما جاءتهم
ان أ ْ
ط ُ َّن لَهم َّ
الش ْي َ للبصيرة ،فكذبوهم وجادلوهمَ { .و َزي َ ُ ُ
به الرسل.
( )1/630
( )1/631
ت ب ْيتًا وإِ َّن أَو َهن اْلبي ِ ِ مثَ ُل الَِّذين اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ َّ ِ
ت
وت لََب ْي ُ اء َك َمثَ ِل اْل َع ْن َكُبوت اتَّ َخ َذ ْ َ َ ْ َ ُ ُ ون الله أ َْوِلَي َ َ َ
ِ ٍ ِِ ِ وت لَو َك ُانوا يعلَمون (ِ )41إ َّن اللَّه يعلَم ما ي ْدع ِ اْلع ْن َكب ِ
ون م ْن ُدونه م ْن َش ْيء َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ
يم ( َ َْ ُ َ َ ُ َ َْ ُ َ ْ َ ُ
ِ ِ اَّل ض ِرُبهَا ِل َّلن ِ
ون ()43 اس َو َما َي ْعقلُهَا ِإ اْل َعال ُم َ ك اأْل َْمثَا ُل َن َْ )42وتِْل َ
( )1/631
( )1/631
( )1/632
( )1/632
( )1/633
( )1/633
ين ( )50أ ََولَ ْم َي ْك ِف ِه ْم ات ِع ْن َد اللَّ ِه َوإِ َّن َما أََنا َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ ات ِم ْن رب ِ
ِّه ُق ْل ِإَّن َما اآْل ََي ُ َ َوقَالُوا لَ ْواَل أ ُْن ِز َل َعلَْي ِه آََي ٌ
ون (ُ )51ق ْل َكفَى بِاللَّ ِه ِ
ك لََر ْح َمةً َو ِذ ْك َرى لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ اب ُي ْتلَى َعلَْي ِه ْم ِإ َّن ِفي َذِل َ أََّنا أ َْن َزْلَنا علَْي َ ِ
ك اْلكتَ َ َ
ك ُه ُم اط ِل َو َكفَ ُروا بِاللَّ ِه أُولَئِ َ
ض والَِّذين آَمُنوا بِاْلب ِ
َ َّم َاوات َواأْل َْر ِ َ َ َ
ِ ِ
يدا َي ْعلَ ُم َما في الس َ َب ْينِي َوَب ْيَن ُك ْم َش ِه ً
ون ()52 ِ
اْل َخاس ُر َ
ات ِعْن َد اللَّ ِه َوإِ َّن َما أََنا َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ
ين اآلي ُ ِ { { } 52 - 50وقَالُوا لَوال أ ُْن ِز َل علَْي ِه آي ٌ ِ
ات م ْن َربِّه ُق ْل ِإَّن َما َ َ َ ْ َ
ِ اب ُي ْتلَى َعلَْي ِه ْم ِإ َّن ِفي َذِل َ * أَولَم ي ْك ِف ِهم أََّنا أ َْن َزْلَنا علَْي َ ِ
ون * ُق ْل ك لََر ْح َمةً َو ِذ ْك َرى لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ ك اْلكتَ َ َ َ َْ ْ
اط ِل َو َكفَ ُروا بِاللَّ ِه ض والَِّذين آمُنوا بِاْلب ِ
َ األر ِ َ َ َ
ِ
َّم َاوات َو ْ
ِ
يدا َي ْعلَ ُم َما في الس َ َكفَى بِاللَّ ِه َب ْينِي َوَب ْيَن ُك ْم َش ِه ً
ون } . ِ أُولَئِ َ
ك ُه ُم اْل َخاس ُر َ
أي :واعترض هؤالء الظالمون المكذبون للرسول ولما جاء به ،واقترحوا عليه نزول آيات
ِ
وعا } اآليات .فتعيين اآليات ض َي ْنُب ً ك َحتَّى تَ ْف ُج َر لََنا م َن ْ
األر ِ عينوها ،كقولهمَ { :وقَالُوا لَ ْن ُن ْؤ ِم َن لَ َ
ليس عندهم ،وال عند الرسول صلى اللّه عليه وسلم ،فإن في ذلك تدبيرا مع اللّه ،وأنه لو كان
كذلك ،وينبغي ( )1أن يكون كذلك ،وليس ألحد من األمر شيء.
ات ِع ْن َد اللَّ ِه } إن شاء أنزلها أو منعها { َوإِ َّن َما أََنا َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ
ين } وليس لي ولهذا قالُ { :ق ْل ِإَّن َما َ
اآلي ُ
مرتبة فوق هذه المرتبة.
وإ ذا كان القصد بيان الحق من الباطل ،فإذا حصل المقصود -بأي :طريق -كان اقتراح اآليات
المعينات على ذلك ظلما وجورا ،وتكبرا على اللّه وعلى الحق.
بل لو قدر أن تنزل تلك اآليات ،ويكون في قلوبهم أنهم ال يؤمنون بالحق إال بها ،كان ذلك ليس
بإيمان ،وإ نما ذلك شيء وافق أهواءهم ،فآمنوا ،ال ألنه حق ،بل لتلك اآليات .فأي فائدة حصلت
في إنزالها على التقدير الفرضي؟
ولما كان المقصود بيان الحق ،ذكر تعالى طريقه ،فقال { :أ ََولَ ْم َي ْك ِف ِه ْم } في علمهم بصدقك
اب ُي ْتلَى َعلَْي ِه ْم } وهذا كالم مختصر جامع ،فيه من وصدق ما جئت به { أََّنا أَنزْلَنا علَْي َ ِ
ك اْلكتَ َ َ
اآليات البينات ،والدالالت الباهرات ،شيء كثير ،فإنه كما تقدم إتيان الرسول به بمجرده وهو
أمي ،من أكبر اآليات على صدقه.
[ ص ] 634
ثم عجزهم عن معارضته ،وتحديه إياهم ( )2آية أخرى ،ثم ظهوره ،وبروزه جهرا عالنية ،يتلى
عليهم ،ويقال :هو من عند اللّه ،قد أظهره الرسول ،وهو في وقت َّ
قل فيه أنصاره ،وكثر مخالفوه
وأعداؤه ،فلم يخفه ،ولم يثن ذلك عزمه ،بل صرح به على رءوس األشهاد ،ونادى به بين
الحاضر والباد ،بأن هذا كالم ربي ،فهل أحد يقدر على معارضته ،أو ينطق بمباراته أو يستطيع
مجاراته؟.
ثم إخباره عن قصص األولين ،وأنباء السابقين ( )3والغيوب المتقدمة والمتأخرة ،مع مطابقته
للواقع.
ي ما أدخل فيها من التحريف والتبديل،
ون ْف ُ
ثم هيمنته على الكتب المتقدمة ،وتصحيحه للصحيحَ ،
ثم هدايته لسواء السبيل ،في أمره ونهيه ،فما أمر بشيء فقال العقل "ليته لم يأمر به" وال نهى عن
شيء فقال العقل" :ليته لم ينه عنه" بل هو مطابق للعدل والميزان ،والحكمة المعقولة لذوي
البصائر والعقول [ثم مسايرة إرشاداته وهدايته وأحكامه لكل حال وكل زمان بحيث ال تصلح
األمور إال به] (. )4
فجميع ذلك يكفي من أراد تصديق الحق ،وعمل على طلب الحق ،فال كفى اللّه من لم يكفه
القرآن ،وال شفى اللّه من لم يشفه الفرقان ،ومن اهتدى به واكتفى ،فإنه خير له ( )5فلذلك قال:
ِ { ِإ َّن ِفي َذِل َ
ون } وذلك لما يحصلون فيه من العلم الكثير ،والخير ك لََر ْح َمةً َو ِذ ْك َرى لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ
الغزير ،وتزكية القلوب واألرواح ،وتطهير العقائد ،وتكميل األخالق ،والفتوحات اإللهية،
واألسرار الربانية.
َح َّل بي ما به تعتبرون، { ُق ْل َكفَى بِاللَّ ِه َب ْينِي َوَب ْيَن ُك ْم َش ِه ً
يدا } فأنا قد استشهدته ،فإن كنت كاذبا ،أ َ
وإ ن كان إنما يؤيدني وينصرني وييسر لي األمور ،فلتكفكم هذه الشهادة الجليلة من اللّه ،فإن وقع
في قلوبكم أن شهادته -وأنتم لم تسمعوه ولم تروه -ال تكفي دليال فإنه { يعلَم ما ِفي السَّماو ِ
ات ََ َْ ُ َ
ض}األر َِو ْ
ومن جملة معلوماته حالي وحالكم ،ومقالي لكم ( )6فلو كنت متقوال عليه ،مع علمه بذلك ،وقدرته
ضعلى عقوبتي ،لكان [قدحا في علمه وقدرته وحكمته] كما قال تعالىَ { :ولَ ْو تَقَ َّو َل َعلَْيَنا َب ْع َ
ين ثَُّم لَقَ َ ِ ألخ ْذَنا ِم ْنهُ بِاْلَي ِم ِ األقَ ِاو ِ
ين }ط ْعَنا م ْنهُ اْل َوتِ َ يل َ
ون } حيث هم خسروا اإليمان باللّه ِ اط ِل َو َكفَ ُروا بِاللَّ ِه أُولَئِ َ { والَِّذين آمُنوا بِاْلب ِ
ك ُه ُم اْل َخاس ُر َ َ َ َ َ
ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر ،وحيث فاتهم النعيم المقيم ،وحيث حصل لهم في مقابلة
الحق الصحيح كل باطل قبيح ،وفي مقابلة النعيم كل عذاب أليم ،فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم
القيامة.
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :وينفي.
( )2في ب :وتحديهم إياه.
( )3في ب :السالفين.
( )4زيادة من هامش :ب.
( )5في ب :فإنه رحمة له وخير.
( )6كذا في ب ،وفي أ :ومقالكم.
( )1/633
ِ ك بِاْل َع َذ ِ َوَي ْستَ ْع ِجلُ َ
ون ()53 اب َولََيأْتَيَّنهُ ْم َب ْغتَةً َو ُه ْم اَل َي ْش ُع ُر َ
اء ُه ُم اْل َع َذ ُ
َج ٌل ُم َس ًّمى لَ َج َ
اب َولَ ْواَل أ َ ون َ
اب ِم ْن فَ ْو ِق ِه ْم َو ِم ْن تَ ْح ِت
اه ُم اْل َع َذ ُ
ين (َ )54ي ْو َم َي ْغ َش ُ ِ اب َوإِ َّن َجهََّن َم لَ ُم ِحي َ
طةٌ بِاْل َكاف ِر َ ك بِاْل َع َذ ِ َي ْستَ ْع ِجلُ َ
ون َ
ِ
ون ()55 أ َْر ُجل ِه ْم َوَيقُو ُل ُذوقُوا َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ
( )1/634
س َذائِقَةُ اْل َم ْو ِت ثَُّم ِإلَْيَناون (ُ )56ك ُّل َن ْف ٍ اعُب ُد ِ ِ ِ
َمُنوا ِإ َّن أ َْرضي َواس َعةٌ فَِإي َ
َّاي فَ ْ ين آ َ
يا ِعب ِاد َِّ
ي الذ َ َ َ َ
ات لَُنَب ِّوَئَّنهُ ْم ِم َن اْل َجَّن ِة ُغَرفًا تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِهَا اأْل َْنهَ ُار َّالح ِ
ِ ِ
َمُنوا َو َعملُوا الص َين آ َ
َِّ
ون (َ )57والذ َ تُْر َج ُع َ
َِّ ِِ ين ِفيهَا نِ ْع َم أ ْ ِِ
ون ()59 صَب ُروا َو َعلَى َرِّب ِه ْم َيتََو َّكلُ َ
ين َين ( )58الذ َ َج ُر اْل َعامل َ َخالد َ
( )1/634
( )1/635
( )1/635
ون ( )64فَِإ َذا ِ ِ ُّ ِاَّل ِِ
ان لَ ْو َك ُانوا َي ْعلَ ُم َالد َار اآْل َخ َرةَ لَ ِه َي اْل َحَي َو ُ
ب وإِ َّن َّ
َو َما َهذه اْل َحَياةُ الد ْنَيا إ لَ ْهٌو َولَع ٌ َ
ون (ِ )65لَي ْكفُُروا َّاه ْم ِإلَى اْلَبِّر ِإ َذا ُه ْم ُي ْش ِر ُك َ
ين َفلَ َّما َنج ُ ين لَهُ ِّ
الد َ
ِ ِ َّ ِ ِ ِ
َركُبوا في اْل ُفْلك َد َع ُوا اللهَ ُم ْخلص َ
اس ِم ْن ف َّ
الن ُ َمًنا َوُيتَ َخطَّ ُ ف يعلَمون ( )66أَولَم يروا أََّنا جعْلَنا حرما آ ِ
َ َ ََ ً َ ْ ََ ْ اه ْم َوِلَيتَ َمتَّ ُعوا فَ َس ْو َ َ ْ ُ َ
بِ َما آَتَْيَن ُ
َّ َّ ِ ِ اط ِل يؤ ِمُنون وبِنِعم ِة اللَّ ِه ي ْكفُرون ( )67وم ْن أَ ْ ِ حوِل ِهم أَفَبِاْلب ِ
ظلَ ُم م َّم ِن ا ْفتََرى َعلَى الله َكذًبا أ َْو َكذ َ
ب ََ َ ُ َ ُْ َ َ ْ َ َ َْ ْ
َّ ِ ق لَ َّما جاءه أَلَْيس ِفي جهَّنم مثْوى ِلْل َك ِاف ِرين ( )68والَِّذين ج َ ِ بِاْل َح ِّ
اه ُدوا ف َينا لََن ْهدَيَّنهُ ْم ُسُبلََنا َوإِ َّن اللهَ َ َ َ َ َََ ًَ َ َُ َ
ين ()69 ِِ
لَ َم َع اْل ُم ْحسن َ
ض َو ُه ْم ِم ْن
األر ِ
وم * في أ َْدَنى ْ
ِ
الر ُ الر ِح ِيم الم * ُغِلَب ِت ُّ وهي مكية { { } 7 - 1بِ ْسِم اللَّ ِه َّ
الر ْح َم ِن َّ
ٍِ ِ ض ِع ِسنِ َِّ ِ ون * ِفي بِ ْ ِ ِ
ص ِرون * بَِن ْ األم ُر م ْن قَْب ُل َو ِم ْن َب ْع ُد َوَي ْو َمئذ َي ْف َر ُح اْل ُم ْؤ ِمُن َ
ين لله ْ َ َب ْعد َغلَبِ ِه ْم َسَي ْغلُب َ
يم } . اللَّ ِه ي ْنصر م ْن ي َشاء و ُهو اْلع ِز ُيز َّ ِ
الرح ُ َ ُُ َ َ ُ َ َ َ
كانت الفرس والروم في ذلك الوقت من أقوى دول األرض ،وكان يكون بينهما من الحروب
والقتال ما يكون بين الدول المتوازنة.
وكانت الفرس مشركين يعبدون النار ،وكانت الروم أهل كتاب ينتسبون إلى التوراة واإلنجيل وهم
أقرب إلى المسلمين من الفرس فكان المؤمنون يحبون غلبتهم وظهورهم على الفرس ،وكان
المشركون -الشتراكهم والفرس في الشرك -يحبون ظهور الفرس على الروم.
فظهر الفرس على الروم فغلبوهم غلبا لم يحط بملكهم بل بأدنى أرضهم ،ففرح بذلك مشركو مكة
وحزن المسلمون ،فأخبرهم اللّه ووعدهم ( )1أن الروم ستغلب الفرس.
ين } تسع أو ثمان ونحو ذلك مما ال يزيد على العشر ،وال ينقص عن الثالث ،وأن { ِفي بِ ْ ِ ِ
ض ِع سن َ
األم ُر ِم ْن قَْب ُل َِّ ِ
غلبة الفرس للروم ثم غلبة الروم للفرس كل ذلك بمشيئته وقدره ولهذا قال { :لله ْ
َو ِم ْن َب ْع ُد } فليس الغلبة والنصر لمجرد وجود األسباب ،وإ نما هي ال بد أن يقترن بها القضاء
والقدر.
َّ ِ ٍِ
اء ون بَِن ْ
ص ِر الله َي ْن ُ
ص ُر َم ْن َي َش ُ { َوَي ْو َمئذ } أي :يوم يغلب الروم الفرس ويقهرونهم { َي ْف َر ُح اْل ُم ْؤ ِمُن َ
} أي :يفرحون بانتصارهم على الفرس وإ ن كان الجميع كفارا ولكن بعض الشر أهون من بعض
ويحزن يومئذ المشركون.
{ َو ُه َو اْل َع ِز ُيز } الذي له العزة التي قهر بها الخالئق أجمعين يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك
الرحيم } بعباده المؤمنين حيث قيض لهم من
ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاءَّ { .
األسباب التي تسعدهم وتنصرهم ما ال يدخل في الحساب.
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :بوعده.
( )1/636
( )1/636
َج ٍل ُم َس ًّمى َوإِ َّن ض َو َما َب ْيَنهُ َما ِإاَّل بِاْل َح ِّ ِ أَولَم يتَفَ َّكروا ِفي أ َْنفُ ِس ِهم ما َخلَ َ َّ
ق َوأ َ َّم َاوات َواأْل َْر َ
ق اللهُ الس َ ْ َ َ َْ ُ
ِ َِّ ون ( )8أَولَ ْم َي ِس ُيروا ِفي اأْل َْر ِ ِ الن ِ ِ ِ َكثِ ًيرا ِم َن َّ
ين
ان َعاقَبةُ الذ َ ف َك َ ض فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ َ اس بِلقَاء َرِّب ِه ْم لَ َكاف ُر َ
وها أَ ْكثََر ِم َّما َع َم ُر َ ِ ِ ِ
اءتْهُ ْم ُر ُسلُهُ ْم
وها َو َج َ ض َو َع َم ُر َ م ْن قَْبل ِه ْم َك ُانوا أَ َش َّد م ْنهُ ْم قَُّوةً َوأَثَ ُاروا اأْل َْر َ
اءوا السُّوأَى ِ َِّ ظِلمهم ولَ ِك ْن َك ُانوا أ َْنفُسهم ي ِْ ات فَما َك َّ ِ بِاْلبيَِّن ِ
َس ُ
ين أ َ ان َعاقَبةَ الذ َ ون ( )9ثَُّم َك َ ظل ُم َ َ ُْ َ ان اللهُ لَي ْ َ ُ ْ َ َ َ َ
ِ َّ ِ أ ْ َّ
ون ()10 َن َكذُبوا بِآََيات الله َو َك ُانوا بِهَا َي ْستَ ْه ِزُئ َ
قض َو َما َب ْيَنهُ َما ِإال بِاْل َح ِّ ِ { { } 10 - 8أَولَم يتَفَ َّكروا ِفي أ َْنفُ ِس ِهم ما َخلَ َ َّ
األر َ
َّم َاوات َو ْ ق اللهُ الس َ ْ َ َ َْ ُ
ِ ِ ِ الن ِ ِ ِ َج ٍل ُم َس ًّمى َوإِ َّن َكثِ ًيرا ِم َن َّ
فض فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ األر ِ ون * أ ََولَ ْم َيس ُيروا في ْ اس بِلقَاء َرِّب ِه ْم لَ َكاف ُر َ َوأ َ
وها أَ ْكثََر ِم َّما َع َم ُر َ ِ َكان ع ِاقبةُ الَِّذ ِ ِ
وها ض َو َع َم ُر َ ين م ْن قَْبل ِه ْم َك ُانوا أَ َش َّد م ْنهُ ْم قَُّوةً َوأَثَ ُاروا ْ
األر َ َ َ َ َ
ين ِ َِّ ظِلمهم ولَ ِك ْن َك ُانوا أ َْنفُسهم ي ِْ ات فَما َك َّ ِ وجاءتْهم رسلُهم بِاْلبيَِّن ِ
ان َعاقَبةَ الذ َ ون * ثَُّم َك َ ظل ُم َ َ ُْ َ ان اللهُ لَي ْ َ ُ ْ َ َ َ َ َ َ ُْ ُ ُ ُْ َ
ِ َّ ِ أَساءوا السُّوءى أ ْ َّ
ون } . َن َكذُبوا بِ َآيات الله َو َك ُانوا بِهَا َي ْستَ ْه ِزُئ َ َ َ ُ
أي :أفلم يتفكر هؤالء المكذبون لرسل اللّه ولقائه { ِفي أ َْنفُ ِس ِه ْم } فإن في أنفسهم آيات يعرفون ()1
بها أن الذي أوجدهم من العدم سيعيدهم بعد ذلك وأن الذي نقلهم أطوارا من نطفة إلى علقة إلى
مضغة إلى آدمي قد نفخ فيه الروح إلى طفل إلى شاب إلى شيخ إلى هرم ،غير الئق أن يتركهم
ض ِ سدى مهملين ال ينهون وال يؤمرون وال يثابون وال يعاقبون { .ما َخلَ َ َّ
األر َ
َّم َاوات َو ْ
ق اللهُ الس َ َ
َج ٍل ُم َس ًّمى } أي :مؤقت بقاؤهما إلى َو َما َب ْيَنهُ َما ِإال بِاْل َح ِّ
ق } [أي] ليبلوكم أيكم أحسن عمالَ { .وأ َ
أجل تنقضي به الدنيا وتجيء به القيامة وتبدل األرض غير األرض والسماوات.
ِ الن ِ ِ ِ { َوإِ َّن َكثِ ًيرا ِم َن َّ
اس بِلقَاء َرِّب ِه ْم لَ َكاف ُر َ
ون } فلذلك لم يستعدوا للقائه ولم يصدقوا رسله التي
أخبرت به وهذا الكفر عن غير دليل ،بل األدلة القاطعة قد دلت على البعث والجزاء [ ،ص 638
] ولهذا نبههم على السير في األرض والنظر في عاقبة الذين كذبوا رسلهم وخالفوا أمرهم ممن
هم أشد من هؤالء قوة وأكثر آثارا في األرض من بناء قصور ومصانع ومن غرس أشجار ومن
زرع وإ جراء أنهار ،فلم تغن عنهم قوتهم وال نفعتهم آثارهم حين كذبوا رسلهم الذين جاءوهم
بالبينات الداالت على الحق وصحة ما جاءوهم به ،فإنهم حين ينظرون في آثار أولئك لم يجدوا إال
أمما بائدة وخلقا مهلكين ومنازل بعدهم موحشة وذم من الخلق عليهم متتابع .وهذا جزاء معجل
نموذج للجزاء األخروي ومبتدأ له.
وكل هذه األمم المهلكة لم يظلمهم اللّه بذلك اإلهالك وإ نما ظلموا أنفسهم وتسببوا في هالكها.
اءوا السوأى } أي :الحالة السيئة الشنيعة ،وصار ذلك داعيا لهم ألن ِ َِّ
َس ُ
ين أ َ ان َعاقَبةَ الذ َ
{ ثَُّم َك َ
ِ َّ ِ َّ
ون } فهذا عقوبة لسوئهم وذنوبهم.{ َكذُبوا بِ َآيات الله َو َك ُانوا بِهَا َي ْستَ ْه ِزُئ َ
ثم ذلك االستهزاء والتكذيب يكون سببا ألعظم العقوبات وأعضل المثالت.
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :يعرف.
( )1/637
( )1/638
ون ()16
ض ُر َ ك ِفي اْل َع َذ ِ
اب ُم ْح َ اء اآْل َ ِخ َر ِة فَأُولَئِ َ
َما الَِّذين َكفَروا و َك َّذبوا بِآَياتَِنا وِلقَ ِ
َوأ َّ
َ ُ َ ُ َ َ
ون } .
ض ُر َ اب ُم ْح َ ك ِفي اْل َع َذ ِ
اآلخ َر ِة فَأُولَئِ َ
اء ِ َما الَِّذين َكفَروا و َك َّذبوا بِآياتَِنا وِلقَ ِ
{ َوأ َّ
َ ُ َ ُ َ َ
ين َكفَ ُروا } وجحدوا نعمه وقابلوها بالكفر { َو َك َّذُبوا بِ َآياتَِنا } التي جاءتهم بها { { } 16وأ َّ َِّ
َما الذ َ َ
َّ
ون } فيه ،قد أحاطت بهم جهنم من جميع جهاتهم واطلع ِ
ك في اْل َع َذ ِ ِ
ض ُر َ اب ُم ْح َ رسلنا { فَأُولَئ َ
العذاب األليم على أفئدتهم وشوى الحميم وجوههم وقطَّع أمعاءهم ،فأين الفرق بين الفريقين وأين
التساوي بين المنعمين والمعذبين؟"
( )1/638
ِ ِ ِ ِ ِ فَس ْبح َّ ِ ِ
ين
ض َو َعشيًّا َوح َ ات واأْل َْر ِ
َّم َاو َ ون (َ )17ولَهُ اْل َح ْم ُد في الس َ صبِ ُح َ
ين تُ ْ
ون َوح َ
ين تُ ْم ُس َان الله ح َ
ُ َ َ
ض َب ْع َد َم ْوتِهَا َو َك َذِل َ
ك ِّت وي ْخ ِرج اْلمي َ ِ
ِّت م َن اْل َح ِّي َوُي ْحيِي اأْل َْر َ
ِ ِ
ون (ُ )18ي ْخ ِر ُج اْل َح َّي م َن اْل َمي َ ُ ُ َظ ِه ُر َ
تُ ْ
ون ()19تُ ْخ َر ُج َ
( )1/638
ق لَ ُك ْم ِم ْن أ َْنفُ ِس ُك ْم ون (َ )20و ِم ْن آََياتِ ِه أ ْ
َن َخلَ َ ِ
اب ثَُّم ِإ َذا أ َْنتُ ْم َب َشٌر تَْنتَش ُر َ َن َخلَقَ ُكم ِم ْن تُر ٍ
َ ْ َو ِم ْن آََياتِ ِه أ ْ
ٍ ِ اجا ِلتَ ْس ُكُنوا ِإلَْيهَا َو َج َع َل َب ْيَن ُك ْم َم َو َّدةً َو َر ْح َمةً ِإ َّن ِفي َذِل َ
ون ()21 ك آَل ََيات لقَ ْوٍم َيتَفَ َّك ُر َ أ َْز َو ً
( )1/639
ين ()22 ٍ ِ ِِ ف أَْل ِسَنتِ ُك ْم َوأَْل َوانِ ُك ْم ِإ َّن ِفي َذِل َ
اختِاَل ُ ِ
ات واأْل َْر ِ َو ِم ْن آََياتِ ِه َخْل ُ
ك آَل ََيات لْل َعالم َ ض َو ْ َّم َاو َ
ق الس َ
( )1/639
( )1/639
( )1/639
ون ()25 ض ِإ َذا أ َْنتُ ْم تَ ْخ ُر ُج َض بِأ َْم ِر ِه ثَُّم ِإ َذا َد َعا ُك ْم َد ْعوةً ِم َن اأْل َْر ِ اء َواأْل َْر ُ
َّم ُ
وم الس َ َو ِم ْن آََياتِ ِه أ ْ
َ َن تَقُ َ
َه َو ُن ق ثَُّم ُي ِع ُ
يدهُ َو ُه َو أ ْ ون (َ )26و ُه َو الَِّذي َي ْب َدأُ اْل َخْل َ ِ
ض ُك ٌّل لَهُ قَانتُ َ ات واأْل َْر ِ ِ
َّم َاو َ
ِ
َولَهُ َم ْن في الس َ
ِ ات واأْل َْر ِ ِ علَْي ِه ولَه اْلمثَ ُل اأْل ْ ِ
يم ()27 ض َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ َّم َاو ََعلَى في الس َ َ َ ُ َ
ِ
ض ِإ َذا
األر ِ ض بِأ َْم ِر ِه ثَُّم ِإ َذا َد َعا ُك ْم َد ْع َوةً م َن ْاألر ُ اء َو ْ
َّم ُ
وم الس َ { َ { } 27 - 25و ِم ْن َآياتِ ِه أ ْ
َن تَقُ َ
ق ثَُّم ُي ِع ُ
يدهُ ون * َو ُه َو الَِّذي َي ْب َدأُ اْل َخْل َ ِ
ض ُك ٌّل لَهُ قَانتُ َاألر ِ ِ
َّم َاوات َو ْ
ِ
ون * َولَهُ َم ْن في الس َ أ َْنتُ ْم تَ ْخ ُر ُج َ
ِ األر ِ ِ َهون علَْي ِه ولَه اْلمثَ ُل ْ ِ
يم } . ض َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ َّم َاوات َو ْ األعلَى في الس َ َو ُه َو أ ْ َ ُ َ َ ُ َ
أي :ومن آياته العظيمة أن قامت السماوات واألرض واستقرتا وثبتتا بأمره فلم تتزلزال ولم تسقط
السماء على األرض ،فقدرته العظيمة التي بها أمسك السماوات واألرض أن تزوال يقدر بها أنه
الن ِ
اس ق َّض أَ ْكَب ُر ِم ْن َخْل ِ
األر ِ ِ
َّم َاوات َو ْ
ق الس َ
إذا دعا الخلق دعوة من األرض إذا هم يخرجون { لَ َخْل ُ
}
ض } الكل خلقه ومماليكه المتصرف فيهم من غير منازع وال األر ِ ِ ِ
َّم َاوات َو ْ
{ َولَهُ َم ْن في الس َ
معاون وال معارض وكلهم قانتون لجالله خاضعون لكماله.
َه َو ُن َعلَْي ِه } من ابتداء ق ثَُّم ُي ِع ُ
يدهُ َو ُه َو } أي :اإلعادة للخلق بعد موتهم { أ ْ { َو ُه َو الَِّذي َي ْب َدأُ اْل َخْل َ
خلقهم وهذا بالنسبة إلى األذهان والعقول ،فإذا كان قادرا على االبتداء الذي تقرون به كانت ()1
قدرته على اإلعادة التي أهون أولى وأولى.
ولما ذكر من اآليات العظيمة ما به يعتبر المعتبرون ويتذكر المؤمنون ويتبصر المهتدون ذكر
ض } وهو كل صفة األر ِ ِ األمر العظيم والمطلب الكبير فقال { :ولَه اْلمثَ ُل ْ ِ
َّم َاوات َو ْ
األعلَى في الس َ َ ُ َ
كمال ،والكمال من تلك الصفة والمحبة واإلنابة التامة الكاملة في قلوب عباده المخلصين والذكر
الجليل والعبادة منهم .فالمثل األعلى هو وصفه األعلى وما ترتب عليه.
ولهذا كان أهل العلم يستعملون في حق الباري قياس األولى ،فيقولون :كل صفة كمال في
المخلوقات فخالقها أحق باالتصاف بها على وجه ال يشاركه فيها أحد ،وكل نقص في المخلوق
ينزه عنه فتنزيه الخالق عنه من باب أولى وأحرى.
{ َو ُه َو اْل َع ِز ُيز الحكيم } أي :له العزة الكاملة والحكمة الواسعة ،فعزته أوجد بها المخلوقات
وأظهر المأمورات ،وحكمته أتقن بها ما صنعه وأحسن فيها ما شرعه.
__________
( )1في النسختين :كان.
( )1/640
( )1/640
ِ ِ
{ َو َما لَهُ ْم م ْن َناص ِر َ
ين } ينصرونهم حين تحق عليهم كلمة العذاب ،وتنقطع بهم الوصل
واألسباب.
[ ص ] 641
ق اللَّ ِه َذِل َ
ك يل ِل َخْل ِ
اس َعلَْيهَا ال تَْب ِد َ ط َر َّ
الن َ ط َرةَ اللَّ ِه الَّتِي فَ َ
ين َحنِيفًا ِف ْ
ك ِل ِّلد ِ
{ { } 32 - 30فَأ َِق ْم َو ْجهَ َ
ونوا ِم َن يموا الصَّالةَ َوال تَ ُك ُ ِ ون * منِيبِ َ ِ ِ َّ
ين إلَْيه َواتقُوهُ َوأَق ُ اس ال َي ْعلَ ُم َ ُ الن ِِّم َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ
ين اْلقَي ُ ِّ
الد ُ
ِ ِ ِ ِ َِّ ِ
ون } . ين فََّرقُوا د َينهُ ْم َو َك ُانوا شَي ًعا ُك ُّل ح ْز ٍب بِ َما لَ َد ْي ِه ْم فَ ِر ُح َين * م َن الذ َ اْل ُم ْش ِرك َ
ك } أي :انصبه ووجهه يأمر تعالى باإلخالص له في جميع األحوال وإ قامة دينه فقال { :فَأ َِق ْم َو ْجهَ َ
إلى الدين الذي هو اإلسالم واإليمان واإلحسان بأن تتوجه بقلبك وقصدك وبدنك إلى ( )1إقامة
شرائع الدين الظاهرة كالصالة والزكاة والصوم والحج ونحوها .وشرائعه الباطنة كالمحبة
والخوف والرجاء واإلنابة ،واإلحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة بأن تعبد اللّه فيها كأنك تراه
فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ي البدن ولهذا
وخص اللّه إقامة الوجه ألن إقبال الوجه تبع إلقبال القلب ويترتب على األمرين َس ْع ُ
قالَ { :حنِيفًا } أي :مقبال على اللّه في ذلك معرضا عما سواه.
اس َعلَْيهَا } ووضع في عقولهم حسنها ط َرةَ اللَّ ِه الَّتِي فَ َ
ط َر َّ
الن َ وهذا األمر الذي أمرناك به هو { ِف ْ
واستقباح غيرها ،فإن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع اللّه في قلوب الخلق كلهم،
الميل إليها ،فوضع في قلوبهم محبة الحق وإ يثار الحق وهذا حقيقة الفطرة.
ومن خرج عن هذا األصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم:
"كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"
ق اللَّ ِه } أي :ال أحد يبدل خلق اللّه فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه
{ ال تَْب ِدي َل ِل َخْل ِ
ِّم } أي :الطريق المستقيم الموصل إلى اللّه وإ لى كرامته، ين اْلقَي ُ ك } الذي أمرنا به { ِّ
الد ُ اللّهَ { ،ذِل َ
فإن من أقام وجهه للدين حنيفا فإنه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعه وطرقهَ { ،ولَ ِك َّن
ون } فال يتعرفون الدين القيم وإ ن عرفوه لم يسلكوه. الن ِ
اس ال َي ْعلَ ُم َ أَ ْكثََر َّ
ين ِإلَْي ِه َواتَّقُوهُ } وهذا تفسير إلقامة الوجه للدين ،فإن اإلنابة إنابة القلب وانجذاب دواعيه ِ
{ ُمنيبِ َ
لمراضي اللّه تعالى.
ويلزم من ذلك حمل ( )2البدن بمقتضى ما في القلب فشمل ذلك العبادات الظاهرة والباطنة ،وال
يتم ذلك إال بترك المعاصي الظاهرة والباطنة فلذلك قالَ { :واتَّقُوهُ } فهذا يشمل فعل المأمورات
وترك المنهيات.
وخص من المأمورات الصالة لكونها تدعو إلى اإلنابة والتقوى لقوله تعالىَ { :وأ َِقِم الصَّالةَ ِإ َّن
الصَّالةَ تَْنهى ع ِن اْلفَ ْح َش ِ
اء َواْل ُم ْن َك ِر } فهذا إعانتها على التقوى. َ َ
ثم قالَ { :ولَِذ ْك ُر اللَّ ِه أَ ْكَب ُر } فهذا حثها على اإلنابة .وخص من المنهيات أصلها والذي ال يقبل
ِ معه عمل وهو الشرك فقال { :وال تَ ُك ُ ِ
ين } لكون الشرك مضادا لإلنابة التي ونوا م َن اْل ُم ْش ِرك َ َ
روحها اإلخالص من كل وجه.
ين فََّرقُوا ِد َينهُ ْم } مع أن الدين واحد وهو ِ َِّ
ثم ذكر حالة المشركين مهجنا لها ومقبحا فقال { :م َن الذ َ
إخالص العبادة للّه وحده وهؤالء المشركون فرقوه ،منهم من يعبد األوثان واألصنام .ومنهم من
يعبد الشمس والقمر ،ومنهم من يعبد األولياء والصالحين ومنهم يهود ومنهم نصارى.
ولهذا قالَ { :و َك ُانوا ِشَي ًعا } أي :كل فرقة من فرق الشرك تألفت وتعصبت على نصر ما معها
من الباطل ومنابذة غيرهم ومحاربتهم.
ِ
{ ُك ُّل ح ْز ٍب بِ َما لَ َد ْي ِه ْم } من العلوم المخالفة لعلوم الرسل { فَ ِر ُح َ
ون } به يحكمون ألنفسهم بأنه
الحق وأن غيرهم على باطل ،وفي هذا تحذير للمسلمين من تشتتهم وتفرقهم فرقا كل فريق
يتعصب لما معه من حق وباطل ،فيكونون مشابهين بذلك للمشركين في التفرق بل الدين واحد
والرسول واحد واإلله واحد.
وأكثر األمور الدينية وقع فيها اإلجماع بين العلماء واألئمة ،واألخوة اإليمانية قد عقدها اللّه
وي ْبَنى التفرق والشقاق بين المسلمين على مسائل خفية أو
وربطها أتم ربط ،فما بال ذلك كله ُيْل َغى ُ
فروع خالفية يضلل بها بعضهم بعضا ،ويتميز بها بعضهم عن بعض؟
فهل هذا إال من أكبر نزغات الشيطان وأعظم مقاصده التي كاد بها للمسلمين؟
وهل السعي في جمع كلمتهم وإ زالة ما بينهم من الشقاق المبني على ذلك األصل الباطل ،إال من
أفضل الجهاد في سبيل اللّه وأفضل األعمال المقربة إلى اللّه؟
ولما أمر تعالى باإلنابة إليه -وكان المأمور بها هي اإلنابة االختيارية ،التي تكون في َحالَي العسر
واليسر والسعة والضيق -ذكر اإلنابة االضطرارية التي ال تكون مع اإلنسان إال عند ضيقه
وكربه ،فإذا زال عنه الضيق نبذها وراء ظهره وهذه غير نافعة فقال:
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :على.
( )2في ب :عمل
( )1/640
الناس ضٌّر َدعوا ربَّهم منِيبِين ِإلَْي ِه ثَُّم ِإ َذا أَ َذاقَهم ِم ْنه ر ْحمةً ِإ َذا فَ ِر ٌ ِ
يق م ْنهُ ْم بَِرِّب ِه ْم ُي ْش ِر ُك َ
ون ُْ ُ َ َ َوإِ َذا َم َّس َّ َ ُ َ ْ َ ُ ْ ُ َ
ط ًانا فَهَُو َيتَ َكلَّ ُم بِ َما َك ُانوا
ون ( )34أ َْم أ َْن َزْلَنا َعلَْي ِه ْم ُسْل َ
ف تَ ْعلَ ُم َ (ِ )33لَي ْكفُُروا بِ َما آَتَْيَن ُ
اه ْم فَتَ َمتَّ ُعوا فَ َس ْو َ
ِ
ون ()35 بِه ُي ْش ِر ُك َ
ين ِإلَْي ِه ثَُّم ِإ َذا أَ َذاقَهُ ْم ِم ْنهُ َر ْح َمةً ِإ َذا فَ ِر ٌ
يق ِ
ضٌّر َد َع ْوا َربَّهُ ْم ُمنيبِ َ اس ُ { َ { } 35 - 33وإِ َذا َم َّس َّ
الن َ
ون * ِلَي ْكفُُروا بِ َما آتَْيَن ُ
ون * أ َْم أ َْن َزْلَنا َعلَْي ِه ْم ُسْل َ اه ْم فَتَ َمتَّ ُعوا فَ َس ْو َ ِ
ط ًانا فَهَُو ف تَ ْعلَ ُم َ م ْنهُ ْم بَِرِّب ِه ْم ُي ْش ِر ُك َ
ِ َّ
ون } . َيتَ َكل ُم بِ َما َك ُانوا بِه ُي ْش ِر ُك َ
ين ِإلَْي ِه } ونسوا ما ِ
ضٌّر } مرض أو خوف من هالك ونحوهَ { .د َع ْوا َربَّهُ ْم ُمنيبِ َ اس ُ { َوإِ َذا َم َّس َّ
الن َ
كانوا به يشركون في تلك الحال لعلمهم أنه ال يكشف الضر إال اللّه.
يق ِم ْنهُ ْم } ينقضون { ثَُّم ِإ َذا أَ َذاقَهُ ْم ِم ْنهُ َر ْح َمةً } شفاهم من مرضهم وآمنهم من خوفهمِ { ،إ َذا فَ ِر ٌ
تلك اإلنابة [ ص ] 642التي صدرت منهم ويشركون به من ال دفع عنهم وال أغنى ،وال أفقر
وم َّن به عليهم حيث أنجاهم ،وأنقذهم من الشدة وأزال عنهم
وال أغنى ،وكل هذا كفر بما آتاهم اللّه َ
المشقة ،فهال قابلوا هذه النعمة الجليلة بالشكر والدوام على اإلخالص له في جميع األحوال؟.
ط ًانا } أي :حجة ظاهرة { فَهَُو } أي :ذلك السلطانَ { ،يتَ َكلَّ ُم بِ َما َك ُانوا بِ ِه
{ أ َْم أَنزْلَنا َعلَْي ِه ْم ُسْل َ
ون } ويقول لهم :اثبتوا على شرككم واستمروا على شككم فإن ما أنتم عليه هو الحق وما ُي ْش ِر ُك َ
دعتكم الرسل إليه باطل.
فهل ذلك السلطان موجود عندهم حتى يوجب لهم شدة التمسك بالشرك؟ أم البراهين العقلية
والسمعية والكتب السماوية والرسل الكرام وسادات األنام ،قد نهوا أشد النهي عن ذلك وحذروا
من سلوك طرقه الموصلة إليه وحكموا بفساد عقل ودين من ارتكبه؟.
فشرك هؤالء بغير حجة وال برهان وإ نما هو أهواء النفوس ،ونزغات الشيطان.
( )1/641
( )1/642
ِ ون َو ْجهَ اللَّ ِه َوأُولَئِ َ َِِّ يل َذِل َالسبِ ِ ِ ِ ِ
ون
ك ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ يد َ ين ُي ِر ُ ك َخ ْيٌر للذ َ فَآَت َذا اْلقُْرَبى َحقَّهُ َواْلم ْسك َ
ين َو ْاب َن َّ
ون َو ْجهَ
يد َ اس فَاَل َي ْرُبو ِع ْن َد اللَّ ِه َو َما آَتَْيتُ ْم ِم ْن َز َك ٍاة تُِر ُ
الن ِ ال َّ ( )38وما آَتَْيتُم ِم ْن ِرًبا ِلَيرُبو ِفي أَمو ِ
َْ ْ َ ْ ََ
ون ()39 ك ُهم اْلم ْ ِ ِ َّ ِ
ضعفُ َ الله فَأُولَئ َ ُ ُ
( )1/642
اللَّهُ الَِّذي َخلَقَ ُك ْم ثَُّم َر َزقَ ُك ْم ثَُّم ُي ِميتُ ُك ْم ثَُّم ُي ْحيِي ُك ْم َه ْل ِم ْن ُش َر َكائِ ُك ْم َم ْن َي ْف َع ُل ِم ْن َذِل ُك ْم ِم ْن َش ْي ٍء
ُس ْب َح َانهُ َوتَ َعالَى َع َّما ُي ْش ِر ُك َ
ون ()40
{ { } 40اللَّهُ الَِّذي َخلَقَ ُك ْم ثَُّم َر َزقَ ُك ْم ثَُّم ُي ِميتُ ُك ْم ثَُّم ُي ْحيِي ُك ْم َه ْل ِم ْن ُش َر َكائِ ُك ْم َم ْن َي ْف َع ُل ِم ْن َذِل ُك ْم ِم ْن
ٍ
ون } . َش ْيء ُس ْب َح َانهُ َوتَ َعالَى َع َّما ُي ْش ِر ُك َ
يخبر تعالى أنه وحده المنفرد بخلقكم ورزقكم وإ ماتتكم وإ حيائكم ،وأنه ليس أحد من الشركاء التي
يدعوهم المشركون من يشارك اللّه في شيء من هذه األشياء.
فكيف يشركون بمن انفرد بهذه األمور من ليس له تصرف فيها بوجه من الوجوه؟!
فسبحانه وتعالى وتقدس وتنزه وعال عن شركهم ،فال يضره ذلك وإ نما وبالهم ( )1عليهم.
__________
( )1في ب :وباله.
( )1/643
َّ ِ َِّ الن ِ ِ ِ
ت أ َْي ِدي َّ
اد ِفي اْلَبِّر َواْلَب ْح ِر بِ َما َك َسَب ْ
ض الذي َعملُوا لَ َعلهُ ْم َي ْر ِج ُع َ
ون ( اس لُيذيقَهُ ْم َب ْع َ ظهََر اْلفَ َس ُ
َ
)41
( )1/643
( )1/643
ون (َ )43م ْن َكفََر َن َيأْتِي َي ْو ٌم اَل َم َر َّد لَهُ ِم َن اللَّ ِه َي ْو َمئٍِذ َيص َّ
َّد ُع َ فَأ َِقم و ْجه َ ِ ِّ ِ ِ ِ ِ
ك للدين اْلقَيِّم م ْن قَْبل أ ْ َْ َ َ
ات ِم ْن
َّالح ِ
ِ ِ
َمُنوا َو َعملُوا الص َ
ين آ َ
فَعلَْي ِه ُك ْفره وم ْن ع ِم َل ص ِالحا فَأِل َْنفُ ِس ِهم يمه ُدون (ِ )44لي ْج ِز َِّ
ي الذ َ َ َ ْ َْ َ َ َ ً ََُُ َ َ
ضِل ِه ِإَّنه اَل ي ِح ُّ ِ
ب اْل َكاف ِر َ
ين ()45 ُ ُ فَ ْ
ون *َّد ُع َ َن َيأْتِي َي ْو ٌم ال َم َر َّد لَهُ ِم َن اللَّ ِه َي ْو َمئٍِذ َيص َّ { { } 45 - 43فَأ َِقم و ْجه َ ِ ِّ ِ ِ ِ ِ
ك للدين اْلقَيِّم م ْن قَْبل أ ْ َ ْ َ َ
اتَّالح ِِ ِ ألنفُ ِس ِهم يمه ُدون * ِلي ْج ِز َِّ م ْن َكفَر فَعلَْي ِه ُك ْفره وم ْن ع ِم َل ِ
آمُنوا َو َعملُوا الص َ ين َ ي الذ َ صال ًحا فَ ْ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ََُُ َ َ َ َ
ِ ِ ِ ِ
ضله ِإَّنهُ ال ُيح ُّ ِم ْن فَ ْ
ين } .ب اْل َكاف ِر َ
أي :أقبل بقلبك وتوجه بوجهك واسع ببدنك إلقامة الدين القيم المستقيم ،فنفذ أوامره ونواهيه بجد
َن َيأْتِ َي َي ْو ٌم ال
واجتهاد وقم بوظائفه الظاهرة والباطنة .وبادر زمانك وحياتك وشبابكِ { ،م ْن قَْب ِل أ ْ
َم َر َّد لَهُ ِم َن اللَّ ِه } وهو يوم القيامة الذي إذا جاء ال يمكن رده وال يرجأ العاملون أن يستأنفوا ()1
ون } أي :يتفرقون عن ذلك َّد ُع َ العمل بل فرغ من األعمال لم يبق إال جزاء العمالَ { .ي ْو َمئٍِذ َيص َّ
اليوم ويصدرون أشتاتا متفاوتين ِلُي َر ْوا أعمالهم.
{ َم ْن َكفََر } منهم { فَ َعلَْي ِه ُك ْف ُرهُ } ويعاقب هو بنفسه ال تزر وازرة وزر أخرىَ { ،و َم ْن َع ِم َل
ألنفُ ِس ِه ْم } ال لغيرهم ص ِال ًحا } من الحقوق التي للّه أو التي للعباد الواجبة والمستحبة { ،فَ ْ َ
ون } أي :يهيئون وألنفسهم يعمرون آخرتهم ويستعدون للفوز بمنازلها وغرفاتها ،ومع
{ َي ْمهَ ُد َ
ذلك جزاؤهم ليس مقصورا على أعمالهم بل يجزيهم اللّه من فضله الممدود وكرمه غير المحدود
ما ال تبلغه أعمالهم .وذلك ألنه أحبهم وإ ذا أحب اللّه عبدا صب عليه اإلحسان صبا ،وأجزل له
العطايا الفاخرة وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة.
وهذا بخالف الكافرين فإن اللّه لما أبغضهم ومقتهم عاقبهم وعذبهم ولم يزدهم كما زاد من قبلهم
فلهذا قالِ { :إَّنه ال ي ِح ُّ ِ
ب اْل َكاف ِر َ
ين } ُ ُ
__________
( )1في ب :ليستأنفوا.
( )1/643
ضِل ِه
ك بِأ َْم ِر ِه َوِلتَْبتَ ُغوا ِم ْن فَ ْ ِِ ِ ٍ ِ
اح ُمَب ِّش َرات َوِلُيذيقَ ُك ْم م ْن َر ْح َمته َوِلتَ ْج ِر َ
ي اْل ُفْل ُ َن ُي ْر ِس َل ِّ
الرَي َ َو ِم ْن آََياتِ ِه أ ْ
ون ()46 َّ
َولَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ
( )1/643
( )1/644
قاء َوَي ْج َعلُهُ ِك َسفًا فَتََرى اْل َو ْد َ
ف َي َش ُ اء َك ْي َ الرياح فَتُثِير سحابا فَي ْبسطُه ِفي السَّم ِ
َ اللهُ الذي ُي ْرس ُل ِّ َ َ ُ َ َ ً َ ُ ُ
ِ َّ َِّ
ون (َ )48وإِ ْن َك ُانوا ِم ْن قَْب ِل أ ْ ِ ي ْخرج ِم ْن ِخاَل ِل ِه فَِإ َذا أَصاب بِ ِه م ْن ي َش ِ ِ ِ ِ
َن اء م ْن عَباده ِإ َذا ُه ْم َي ْستَْبش ُر َ َ َ َ َ ُ َ ُ ُ
ض َب ْع َد َم ْوتِهَا ِإ َّن
ف ُي ْحيِي اأْل َْر َ ين ( )49فَ ْانظُ ْر ِإلَى َآثَ ِار َر ْح َم ِة اللَّ ِه َك ْي َ ِ ِِ ِ ِ
ُيَن َّز َل َعلَْي ِه ْم م ْن قَْبله لَ ُمْبلس َ
ك لَ ُم ْحيِي اْل َم ْوتَى َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير ()50َذِل َ
( )1/644
ِ ِ ون ( )51فَِإَّن َ ِِ ولَئِ ْن أَرسْلَنا ِريحا فَرأَوه مصفًَّرا لَ َُّ ِ
ك اَل تُ ْسمعُ اْل َم ْوتَى َواَل تُ ْسمعُ ظلوا م ْن َب ْعده َي ْكفُُر َ ً َ ُُْ ْ ْ َ َ
ضاَل لَتِ ِه ْم ِإ ْن تُ ْس ِمعُ ِإاَّل َم ْن ُي ْؤ ِم ُن الدعاء ِإ َذا ولَّوا م ْدبِ ِرين ( )52وما أ َْن َ ِ
ت بِهَادي اْل ُع ْم ِي َع ْن َ ََ َ ُّم ُّ َ َ َ ْ ُ الص َّ
ِ ِ
ون ()53 بِآََياتَنا فَهُ ْم ُم ْسل ُم َ
ِ ون * فَِإَّن َ ِِ { { } 53 - 51ولَئِ ْن أَرسْلَنا ِريحا فَرأَوه مصفًَّرا لَ َُّ ِ
ك ال تُ ْسمعُ ظلوا م ْن َب ْعده َي ْكفُُر َ ً َ ُُْ ْ ْ َ َ
ِ ت بِهَ ِادي اْل ُع ْم ِي َع ْن َ ِ ِ ِ َّ اْل َم ْوتَى َوال تُ ْس ِمعُ الص َّ
ضاللَته ْم إ ْن تُ ْسمعُ اء ِإ َذا َول ْوا ُم ْدبِ ِر َ
ين * َو َما أ َْن َ ُّم ُّ
الد َع َ
ِ ِ
ون } . ِإال َم ْن ُي ْؤ ِم ُن بِ َآياتَنا فَهُ ْم ُم ْسل ُم َ
يخبر تعالى عن حالة الخلق وأنهم مع هذه النعم عليهم بإحياء األرض بعد موتها ونشر رحمة اللّه
تعالى لو أرسلنا على هذا النبات الناشئ عن المطر وعلى زروعهم ريحا مضرة متلفة أو منقصة،
ون } فينسون النعم الماضية ِِ { فَرأَوه مصفًَّرا } قد تداعى إلى التلف { لَ َُّ ِ
ظلوا م ْن َب ْعده َي ْكفُُر َ َ ُُْ ْ
ويبادرون إلى الكفر.
اء } وباألولى ك ال تُ ْس ِمعُ اْل َم ْوتَى َوال تُ ْس ِمعُ الص َّ
ُّم ُّ
الد َع َ وهؤالء ال ينفع فيهم وعظ وال زجر { فَِإَّن َ
َّ
ين } فإن الموانع قد توفرت فيهم عن االنقياد والسماع النافع كتوفر هذه الموانع { ِإ َذا َول ْوا ُم ْدبِ ِر َ
المذكورة عن سماع الصوت الحسي.
ضاللَتِ ِه ْم } ألنهم ال يقبلون اإلبصار بسبب عماهم فليس منهم ()1 ت بِهَادي اْل ُع ْم ِي َع ْن َ
{ وما أ َْن َ ِ
ََ
قابلية له.
ِ ِ ِ
ون } فهؤالء الذين ينفع فيهم إسماع الهدى المؤمنون { ِإ ْن تُ ْسمعُ ِإال َم ْن ُي ْؤ ِم ُن بِ َآياتَنا فَهُ ْم ُم ْسل ُم َ
بآياتنا بقلوبهم المنقادون ألوامرنا المسلمون لنا ،ألن معهم الداعي القوي لقبول النصائح والمواعظ
وهو استعدادهم لإليمان بكل آية من آيات اللّه واستعدادهم لتنفيذ ما يقدرون عليه من أوامر اللّه
ونواهيه.
__________
( )1في ب :فيهم.
( )1/644
( )1/644
( )1/645
َن ِم ْن ُك ِّل مثَ ٍل ولَئِ ْن ِج ْئتَهم بِآََي ٍة لََيقُولَ َّن الَِّذين َكفَروا ِإ ْن أ َْنتُم ِإاَّل
اس ِفي َه َذا اْلقُْرآ ِ ض َر ْبَنا ِل َّلن ِ
َولَقَ ْد َ
ْ َ ُ ُْ َ َ
ق َواَل اصبِ ْر ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ
ون ( )59فَ ْ ين اَل َي ْعلَ ُم َ
طبع اللَّه علَى ُقلُ ِ َِّ
وب الذ َ ك َي ْ َ ُ ُ َ ون (َ )58ك َذِل َ ِ
ُم ْبطلُ َ
َ
يستَ ِخفََّّن َ َِّ
ون ()60 ين اَل ُيو ِقُن َك الذ َ َْ
( )1/645
( )1/646
اب اْلح ِك ِيم (ُ )2ه ًدى ور ْحمةً ِلْلم ْح ِسنِين ( )3الَِّذ ِ ك آَي ُ ِ ِ
ون
الصاَل ةَ َوُي ْؤتُ َ
ون َّ يم َ ين ُيق ُ َ َ ََ َ ُ ات اْلكتَ ِ َ الم ( )1تْل َ َ
ِ ك َعلَى ُه ًدى ِم ْن َرِّب ِه ْم َوأُولَئِ َ
ون ( )4أُولَئِ َ ِ
ون ()5 ك ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ الز َكاةَ َو ُه ْم بِاآْل َخ َر ِة ُه ْم ُيو ِقُن َ
َّ
ينِ ِِ ِِ ات اْل ِكتَ ِ الر ِح ِيم الم * تِْل َ { { } 5 - 1بِ ْسِم اللَّ ِه َّ
الر ْح َم ِن َّ
اب اْل َحكيم * ُه ًدى َو َر ْح َمةً لْل ُم ْحسن َ ك َآي ُ
ك َعلَى ُه ًدى ِم ْن َرِّب ِه ْم
ون * أُولَئِ َ ِ
الز َكاةَ َو ُه ْم بِاآلخ َر ِة ُه ْم ُيو ِقُن َ
ون َّون الصَّالةَ َوُي ْؤتُ َ يم َ
* الَِّذ ِ
ين ُيق ُ
َ
ون } . ِ َوأُولَئِ َ
ك ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ
اب اْل َح ِك ِيم } أي :آياته محكمة ،صدرت من
ات اْل ِكتَ ِ
يشير تعالى إشارة دالة على التعظيم إلى { َآي ُ
حكيم خبير.
من إحكامها ،أنها جاءت بأجل األلفاظ وأفصحها ،وأبينها ،الدالة على أجل المعاني وأحسنها.
ومن إحكامها ،أنها محفوظة من التغيير والتبديل ،والزيادة والنقص ،والتحريف.
ومن إحكامها :أن جميع ما فيها من األخبار ( )1السابقة والالحقة ،واألمور الغيبية كلها ،مطابقة
للواقع ،مطابق لها الواقع ،لم يخالفها كتاب من الكتب اإللهية ،ولم يخبر بخالفها ،نبي من األنبياء،
[ولم يأت ولن يأتي علم محسوس وال معقول صحيح ،يناقض ما دلت عليه] (. )2
ومن إحكامها :أنها ما أمرت بشيء ،إال وهو خالص المصلحة ،أو راجحها ،وال نهت عن شيء،
إال وهو خالص المفسدة أو راجحها ،وكثيرا ما يجمع بين األمر بالشيء ،مع ذكر [حكمته] ()3
فائدته ،والنهي عن الشيء ،مع ذكر مضرته.
ومن إحكامها :أنها جمعت بين الترغيب والترهيب ،والوعظ البليغ ،الذي تعتدل به النفوس
الخيرة ،وتحتكم ،فتعمل بالحزم.
ومن إحكامها :أنك تجد آياته المتكررة ،كالقصص ،واألحكام ونحوها ،قد اتفقت كلها وتواطأت،
فليس فيها تناقض ،وال اختالف .فكلما ازداد بها البصير تدبرا ،وأعمل فيها العقل تفكرا ،انبهر
عقله ،وذهل لبه من التوافق والتواطؤ ،وجزم جزما ال يمترى فيه ،أنه تنزيل من حكيم حميد.
ولكن -مع أنه حكيم -يدعو إلى كل خلق كريم ،وينهى عن كل خلق لئيم ،أكثر الناس
محرومون االهتداء به ،معرضون عن اإليمان والعمل به ،إال من وفقه اللّه تعالى وعصمه ،وهم
المحسنون في عبادة ربهم والمحسنون إلى الخلق.
فإنه { ُه ًدى } لهم ،يهديهم إلى الصراط المستقيم ،ويحذرهم من طرق الجحيمَ { ،و َر ْح َمة } لهم،
تحصل لهم به السعادة في الدنيا واآلخرة ،والخير الكثير ،والثواب الجزيل ،والفرح والسرور،
ويندفع عنهم الضالل والشقاء.
ثم وصف المحسنين بالعلم التام ،وهو اليقين الموجب للعمل والخوف من عقاب اللّه ،فيتركون
معاصيه ،ووصفهم بالعمل ،وخص من العمل ،عملين فاضلين :الصالة المشتملة على اإلخالص،
ومناجاة اللّه تعالى ،والتعبد العام للقلب واللسان ،والجوارح المعينة ،على سائر األعمال ،والزكاة
التي تزكي صاحبها من الصفات الرذيلة ،وتنفع أخاه المسلم ،وتسد حاجته ،ويبين بها أن العبد
يؤثر محبة اللّه على محبته للمال ،فيخرجه محبوبه من المال ،لما هو أحب إليه ،وهو طلب
مرضاة اللّه.
ك } هم المحسنون الجامعون بين العلم التام ،والعمل { َعلَى ُه ًدى } أي :عظيم كما يفيده فـ { أُولَئِ َ
التنكير ،وذلك الهدى حاصل لهم ،وواصل إليهم { ِم ْن َرِّب ِه ْم } الذي لم يزل يربيهم بالنعم; ويدفع
عنهم النقم.
وهذا الهدى الذي أوصله إليهم ،من تربيته الخاصة بأوليائه ،وهو أفضل أنواع التربيةَ { .وأُولَئِ َ
ك
ون } الذين أدركوا رضا ربهم ،وثوابه الدنيوي واألخروي ،وسلموا من سخطه وعقابه، ِ
ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ
وذلك لسلوكهم طريق الفالح ،الذي ال طريق له غيرها.
__________
( )1في أ :األحكام والتصويب من :ب.
( )2زيادة من ب.
( )3زيادة من ب.
( )1/646
ولما ذكر تعالى المهتدين بالقرآن ،المقبلين عليه ،ذكر من أعرض عنه ،ولم يرفع به رأسا ،وأنه
عوقب على ذلك ،بأن تعوض عنه كل باطل من القول ،فترك أعلى األقوال ،وأحسن الحديث،
واستبدل به أسفل قول وأقبحه ،فلذلك قال:
[ ص ] 647
يل اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم َوَيتَّ ِخ َذ َها ُه ُز ًوا
ض َّل َع ْن سبِ ِ
َ
يث ِلي ِِ ِ
اس َم ْن َي ْشتَ ِري لَ ْه َو اْل َحد ُ { َ { } 9 - 6و ِم َن َّ
الن ِ
َن ِفي أُ ُذَن ْي ِه َو ْق ًرا
َن لَ ْم َي ْس َم ْعهَا َكأ َّين * َوإِ َذا تُْتلَى َعلَْي ِه َآياتَُنا َولَّى ُم ْستَ ْكبًِرا َكأ ْ اب ُم ِه ٌ
ك لَهُ ْم َع َذ ٌ أُولَئِ َ
ين ِفيهَا َو ْع َد اللَّ ِه ِِ
النعيم * َخالد َ
ات َّ ِ ِ ات لَهُ ْم َجَّن ُ َّالح ِ
ِ ِ
آمُنوا َو َعملُوا الص َ ين َ
َِّ فََب ِّشره بِع َذ ٍ ِ ٍ
اب أَليم * ِإ َّن الذ َ ُْ َ
ِ ًّ
يم } . َحقا َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ
اس َم ْن } هو محروم مخذول { َي ْشتَ ِري } أي :يختار ويرغب رغبة من يبذل الثمن أيَ { :و ِم َن َّ
الن ِ
أجل مطلوب .فدخل الصادة لها عن ِّ َّ يث } أي :األحاديث الملهية للقلوب، في الشيء { .لَهو اْلح ِد ِ
َْ َ
في هذا كل كالم محرم ،وكل لغو ،وباطل ،وهذيان من األقوال المرغبة في الكفر ،والفسوق،
والعصيان ،ومن أقوال الرادين على الحق ،المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق ،ومن غيبة،
ونميمة ،وكذب ،وشتم ،وسب ،ومن غناء ومزامير شيطان ،ومن الماجريات الملهية ،التي ال نفع
فيها في دين وال دنيا.
ض َّل } الناس { بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم }
فهذا الصنف من الناس ،يشتري لهو الحديث ،عن هدي الحديث { ِلي ِ
ُ
أي :بعدما ضل بفعله ،أضل غيره ،ألن اإلضالل ،ناشئ عن الضالل.
وإ ضالله في هذا الحديث; صده عن الحديث النافع ،والعمل النافع ،والحق المبين ،والصراط
المستقيم.
وال يتم له هذا ،حتى يقدح في الهدى والحق ،ويتخذ آيات اللّه هزوا ويسخر بها ،وبمن جاء بها،
فإذا جمع بين مدح الباطل والترغيب فيه ،والقدح في الحق ،واالستهزاء به وبأهله ،أضل من ال
علم عنده وخدعه بما يوحيه إليه ،من القول الذي ال يميزه ذلك الضال ،وال يعرف حقيقته.
ين } بما ضلوا وأضلوا ،واستهزءوا [بآيات اللّه] ( )1وكذبوا الحق اب ُم ِه ٌ { أُولَئِ َ
ك لَهُ ْم َع َذ ٌ
الواضح.
ولهذا قال { َوإِ َذا تُْتلَى َعلَْي ِه َآياتَُنا } ليؤمن بها وينقاد لهاَ { ،ولَّى ُم ْستَ ْكبًِرا } أي :أدبر إدبار
َن لَ ْم َي ْس َم ْعهَا } بل { َكأ َّ
َن راد لها ،ولم تدخل قلبه وال أثرت فيه ،بل أدبر عنها { َكأ ْ مستكبر عنهاٍّ ،
ِفي أُ ُذَن ْي ِه َو ْق ًرا } أي :صمما ال تصل إليه األصوات; فهذا ال حيلة في هدايته.
اب أَِل ٍيم }
{ فََب ِّش ْرهُ } بشارة تؤثر في قلبه الحزن والغم; وفي بشرته السوء والظلمة والغبرة { .بِ َع َذ ٍ
مؤلم لقلبه; ولبدنه; ال يقادر قدره; وال يدرى بعظيم أمره ،وهذه بشارة أهل الشر ،فال نِ ْع َم ِت
البشارة.
َّالح ِ
ِ ِ َِّ
ات } جمعوا بين عبادة الباطن آمُنوا َو َعملُوا الص َ وأما بشارة أهل الخير فقالِ { :إ َّن الذ َ
ين َ
باإليمان ،والظاهر باإلسالم ،والعمل الصالح.
ين ِفيهَا } أي :في جنات ِِ
النعيم } بشارة لهم بما قدموه ،وقرى لهم بما أسلفوهَ { .خالد َ
ات َّ ِ ِ{ لَهُ ْم َجَّن ُ
النعيم ،نعيم القلب والروح ،والبدن.
ِ َّ ِ ًّ
{ َو ْع َد الله َحقا } ال يمكن أن يخلف ،وال يغير ،وال يتبدلَ { .و ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ
يم } كامل العزة،
كامل الحكمة ،من عزته وحكمته ،وفق من وفق ،وخذل من خذل ،بحسب ما اقتضاه علمه فيهم
وحكمته.
__________
( )1زيادة من ب.
( )1/646
ث ِفيها ِم ْن ُك ِّل َداب ٍ
َّة يد بِ ُكم وَب َّ اسي أ ْ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ٍ
َ َن تَم َ ْ َ َّم َاوات ب َغ ْير َع َمد تََر ْوَنهَا َوأَْلقَى في اأْل َْرض َر َو َ ق الس َ َخلَ َ
ين ق اللَّ ِه فَأَرونِي ما َذا َخلَ َ َِّاء فَأ َْنَبتَْنا ِفيهَا ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج َك ِر ٍيم (َ )10ه َذا َخْل ُ وأ َْن َزْلَنا ِمن الس ِ
ق الذ َ َ ُ َّماء َم ً
َ َ َ
ين ()11 ضاَل ٍل ُمبِ ٍ َّ
ِم ْن ُدونِ ِه ب ِل الظ ِالم ِ
ون في َ ُ َ َ
( )1/647
يد (َن ا ْش ُك ْر ِللَّ ِه َو َم ْن َي ْش ُك ْر فَِإَّن َما َي ْش ُك ُر ِلَن ْف ِس ِه َو َم ْن َكفََر فَِإ َّن اللَّهَ َغنِ ٌّي َح ِم ٌ ان اْل ِح ْك َمةَ أ ِ َولَقَ ْد آَتَْيَنا لُ ْق َم َ
َّيَنا
يم (َ )13و َوص ْ ِ ان اِل ْبنِ ِه و ُهو َي ِعظُهُ َيا ُبَن َّي اَل تُ ْش ِر ْك بِاللَّ ِه ِإ َّن ِّ
ك لَظُْل ٌم َعظ ٌ الش ْر َ َ َ َ )12وإِ ْذ قَا َل لُ ْق َم ُ
ك ِإلَ َّي اْلم ِ َن ا ْش ُك ْر ِلي َوِل َو ِال َد ْي َ ِ ان بِ َو ِال َد ْي ِه َح َملَتْهُ أ ُّ
ص ُير َ ام ْي ِن أ ِ
صالُهُ في َع َ ُمهُ َو ْهًنا َعلَى َو ْه ٍن َو ِف َ اإْلِ ْن َس َ
اح ْبهُ َما ِفي ُّ
الد ْنَيا َم ْع ُروفًا ك بِ ِه ِعْلم فَاَل تُ ِطعهما وص ِ
ْ َُ َ َ ٌ ك بِي َما لَْي َس لَ َ َن تُ ْش ِر َ ك َعلَى أ ْ اه َدا َ
(َ )14وإِ ْن َج َ
ك ِمثْقَ َ
ال ون (َ )15يا ُبَن َّي ِإَّنهَا ِإ ْن تَ ُ اب ِإلَ َّي ثَُّم ِإلَ َّي َم ْر ِج ُع ُك ْم فَأَُنبُِّئ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ ََواتَّبِ ْع َسبِي َل َم ْن أََن َ
يف َخبِ ٌير ْت بِهَا اللَّهُ ِإ َّن اللَّهَ لَ ِط ٌ ض يأ ِ ِ ِ
َّم َاوات أ َْو في اأْل َْر ِ َ
ٍ ِ
ص ْخ َرة أ َْو في الس َ
ِ ٍ
َحبَّة م ْن َخ ْر َدل فَتَ ُك ْن في َ
ٍ ِ
ك ِم ْنك ِإ َّن َذِل ََص َاب َ اصبِ ْر َعلَى َما أ َ
ِ
ْم ْر بِاْل َم ْع ُروف َو ْانهَ َع ِن اْل ُم ْن َك ِر َو ْ الصاَل ةَ َوأ ُ (َ )16يا ُبَن َّي أ َِقِم َّ
الب ُك َّل م ْختَ ٍ
ُ ض َم َر ًحا ِإ َّن اللَّهَ اَل ُي ِح ُّ ش ِفي اأْل َْر ِ اس واَل تَ ْم ِ صع ِّْر َخ َّد َ ِ ِ
ك ل َّلن َ ور (َ )17واَل تُ َ ُم ِ َع ْزِم اأْل ُ
ير ()19 ت اْل َح ِم ِ ص ْو ُ ِ
َص َوات لَ َ ك ِإ َّن أ َْن َك َر اأْل ْ ص ْوتِ َ
ض م ْن َ
اغض ْ ِ
ك َو ْ ُ ص ْد ِفي َم ْشيِ َ ور ( )18وا ْق ِ
َ فَ ُخ ٍ
( )1/648
اهرةً وب ِ ض وأَسب َغ علَْي ُكم نِعمه َ ِ ِ ِ ِ أَلَم تَروا أ َّ َّ
اطَنةً ظ َ ََ َّم َاوات َو َما في اأْل َْر ِ َ ْ َ َ ْ َ َ ُ َن اللهَ َس َّخ َر لَ ُك ْم َما في الس َ ْ َْ
ير (َ )20وإِ َذا ِق َ
يل لَهُ ُم اتَّبِ ُعوا َما اب ُمنِ ٍ
اس م ْن ُي َج ِاد ُل ِفي اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم واَل ُه ًدى واَل ِكتَ ٍ
َ َ الن ِ َ َو ِم َن َّ
اب الس ِ وهم ِإلَى َع َذ ِ ان َّ ِ َّ
ير ()21 َّع ِ ان َي ْد ُع ُ ْ
ط ُالش ْي َ أ َْن َز َل اللهُ قَالُوا َب ْل َنتَّبِعُ َما َو َج ْدَنا َعلَْيه آََب َ
اءَنا أ ََولَ ْو َك َ
( )1/649
َّ ِ ِ ِ استَ ْم َس َ ِ ِ ِ َّ ِ ِ
ُم ِ
ور ()22 ك باْل ُع ْر َوة اْل ُوثْقَى َوإِلَى الله َعاقَبةُ اأْل ُ َو َم ْن ُي ْسل ْم َو ْجهَهُ ِإلَى الله َو ُه َو ُم ْحس ٌن فَقَد ْ
ور ()23ُّد ِ
ات الص ُ ك ُك ْفره ِإلَْيَنا مر ِجعهم فَُنَنبُِّئهم بِما ع ِملُوا ِإ َّن اللَّه عِليم بِ َذ ِ
َ َ ٌ ُْ َ َ َ ْ ُ ُْ َو َم ْن َكفََر فَاَل َي ْح ُز ْن َ ُ ُ
يظ ()24 اب َغِل ٍ
ط ُّر ُهم ِإلَى َع َذ ٍ ُن َمتِّ ُعهُ ْم َقِلياًل ثَُّم َن ْ
ضَ ْ
( )1/650
النهار ِفي اللَّْي ِل و َس َّخر َّ َن اللَّهَ ُيوِل ُج اللَّْي َل ِفي َّ
الش ْم َس َواْلقَ َم َر َ َ النهَ ِار َوُيوِل ُج َّ َ َ { { } 30 - 29أَلَ ْم تََر أ َّ
ون ِم ْن َن اللَّهَ ُهو اْل َح ُّ
ق َوأ َّ
َن َما َي ْد ُع َ َ ون َخبِ ٌير * َذِل َ
ك بِأ َّ ُك ٌّل ي ْج ِري ِإلَى أَج ٍل مس ًّمى وأ َّ َّ
َن اللهَ بِ َما تَ ْع َملُ َ َ َُ َ َ
َن اللَّهَ ُه َو اْل َعِل ُّي اْل َكبِ ُير } . ُدونِ ِه اْلب ِ
اط ُل َوأ َّ َ
وهذا فيه أيضا ،انفراده بالتصرف والتدبير ،وسعة تصرفه بإيالج الليل في النهار ،وإ يالج النهار
في الليل ،أي :إدخال أحدهما على اآلخر ،فإذا دخل أحدهما ،ذهب اآلخر.
وتسخيره للشمس والقمر ،يجريان بتدبير ونظام ،لم يختل منذ خلقهما [ ،ص ] 652ليقيم بذلك
من مصالح العباد ومنافعهم ،في دينهم ودنياهم ،ما به يعتبرون وينتفعون.
َج ٍل ُم َس ًّمى } إذا جاء ذلك األجل ،انقطع جريانهما ،وتعطل
و { ُك ّل } منهما { َي ْج ِري ِإلَى أ َ
سلطانهما ،وذلك في يوم القيامة ،حين تكور الشمس ،ويخسف القمر ،وتنتهي دار الدنيا ،وتبتدئ
الدار اآلخرة.
ون } من خير وشر { َخبِ ٌير } ال يخفى عليه شيء من ذلك ،وسيجازيكم على { وأ َّ َّ
َن اللهَ بِ َما تَ ْع َملُ َ َ
تلك األعمال ،بالثواب للمطيعين ،والعقاب للعاصين.
ق } في ذاته وفي صفاته، َن اللَّهَ ُهو اْل َح ُّ
ك } الذي بين لكم من عظمته وصفاته ،ما بيَّن { بِأ َّ و { َذِل َ
َ
ودينه حق ،ورسله حق ،ووعده حق ،ووعيده حق ،وعبادته هي الحق.
َن ما ي ْدعون ِم ْن ُدونِ ِه اْلب ِ
اط ُل } في ذاته وصفاته ،فلوال إيجاد اللّه له لما وجد ،ولوال إمداده لَ َما َ { َوأ َّ َ َ ُ َ
َب ِق َي ،فإذا كان باطال كانت عبادته أبطل وأبطل.
َن اللَّهَ ُه َو اْل َعِل ُّي } بذاته ،فوق جميع مخلوقاته ،الذي علت صفاته ،أن يقاس بها صفات أحد { َوأ َّ
من الخلق ،وعال على الخلق فقهرهم { اْل َكبِ ُير } الذي له الكبرياء في ذاته وصفاته ،وله الكبرياء
في قلوب أهل السماء واألرض.
( )1/651
ٍ ِ ك تَ ْج ِري ِفي اْلَب ْح ِر بِنِ ْع َم ِة اللَّ ِه ِلُي ِرَي ُك ْم ِم ْن آََياتِ ِه ِإ َّن ِفي َذِل َ
ور ( َّار َش ُك ٍ ك آَل ََيات ل ُك ِّل َ
صب ٍ َن اْل ُفْل َأَلَ ْم تََر أ َّ
َّاهم ِإلَى اْلبِّر فَ ِم ْنهم م ْقتَ ِ ِ ِ َّ ُّ ِ
ص ٌد َو َما ُْ ُ َ ين َفلَ َّما َنج ُ ْ
الد َين لَهُ ِّ َ )31وإِ َذا َغشَيهُ ْم َم ْو ٌج َكالظلَ ِل َد َع ُوا اللهَ ُم ْخلص َ
ور ()32 َي ْج َح ُد بِآََياتَِنا ِإاَّل ُك ُّل َختَّ ٍار َكفُ ٍ
( )1/652
ود ُه َو َج ٍاز َع ْن َو ِال ِد ِه َش ْيًئا
اخ َش ْوا َي ْو ًما اَل َي ْج ِزي َو ِال ٌد َع ْن َولَِد ِه َواَل َم ْولُ ٌاس اتَّقُوا َرَّب ُك ْم َو ْ الن ُ َيا أَيُّهَا َّ
َّ ِ ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ
ور ()33 الد ْنَيا َواَل َي ُغ َّرَّن ُك ْم بِالله اْل َغ ُر ُ
ق فَاَل تَ ُغ َّرَّن ُك ُم اْل َحَياةُ ُّ
َ
( )1/652
( )1/653
( )1/653
ق ِم ْن َرب َ
ِّك ون ا ْفتََراهُ َب ْل ُهو اْل َح ُّ
َ ين ( )2أ َْم َيقُولُ َ
ِ
ب اْل َعالَم َ يه ِم ْن َر ِّ
اب اَل ر ْيب ِف ِ ِ
الم ( )1تَْن ِزي ُل اْلكتَ ِ َ َ
ير ِم ْن قَْبِل َ َّ
اه ْم ِم ْن َن ِذ ٍ
ون ()3
ك لَ َعلهُ ْم َي ْهتَ ُد َ ِلتُْن ِذ َر قَ ْو ًما َما أَتَ ُ
ِ يه ِم ْن َر ِّ
اب ال ر ْيب ِف ِ ِ الر ْحم ِن َّ ِ ِ ِ َّ ِ
ين * أ َْم
ب اْل َعالَم َ الرح ِيم الم * تَْن ِزي ُل اْلكتَ ِ َ َ { { } 3 - 1ب ْسم الله َّ َ
ير ِم ْن قَْبِل َ َّ
اه ْم ِم ْن َن ِذ ٍ
ون } .
ك لَ َعلهُ ْم َي ْهتَ ُد َ ك ِلتُْن ِذ َر قَ ْو ًما َما أَتَ ُ
ق ِم ْن َرِّب َ
ون ا ْفتََراهُ َب ْل ُهو اْل َح ُّ
َ َيقُولُ َ
يخبر تعالى أن هذا الكتاب الكريم ،أنه تنزيل من رب العالمين ،الذي رباهم بنعمته.
ومن أعظم ما رباهم به ،هذا الكتاب ،الذي فيه كل ما يصلح أحوالهم ،ويتمم أخالقهم ،وأنه ال
ريب فيه ،وال شك ،وال امتراء ،ومع ذلك قال المكذبون للرسول الظالمون في ذلك :افتراه محمد،
واختلقه من عند نفسه ،وهذا من أكبر الجراءة على إنكار كالم اللّه ،ورمي محمد صلى اللّه عليه
وسلم ،بأعظم الكذب ،وقدرة الخلق على كالم مثل كالم الخالق.
رادا على من قال :افتراه-: وكل واحد من هذه من األمور العظائم ،قال اللّه ً -
ق } الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه ،وال من خلفه ،تنزيل من حكيم حميدِ { .م ْن { َب ْل ُهو اْل َح ُّ
َ
ك } أي :في حالة ضرورة وفاقة ِ ِ ِ ِ
اه ْم م ْن َنذ ٍ
ير م ْن قَْبل َ ِ ِ َرِّب َ
ك } أنزله رحمة للعباد { لتُْنذ َر قَ ْو ًما َما أَتَ ُ
إلرسال الرسول ،وإ نزال الكتاب ،لعدم النذير ،بل هم في جهلهم يعمهون ،وفي ظلمة ضاللهم
ون } من ضاللهم ،فيعرفون الحق فيؤثرونه. َّ
يترددون ،فأنزلنا الكتاب عليك { لَ َعلهُ ْم َي ْهتَ ُد َ
وهذه األشياء التي ذكرها اللّه كلها ،مناقضة لتكذيبهم له :وإ نها تقتضي منهم اإليمان والتصديق
ق } والحق مقبول على كل حال ،وأنه { ال ين } وأنه { اْل َح ُّ ِ التام به ،وهو كونه { ِم ْن َر ِّ
ب اْل َعالَم َ
ر ْيب ِف ِ
يه } بوجه من الوجوه ،فليس فيه ،ما يوجب الريبة ،ال بخبر ال يطابق للواقع ( )1وال بخفاء َ َ
واشتباه معانيه ،وأنهم في ضرورة وحاجة إلى الرسالة ،وأن فيه الهداية لكل خير وإ حسان.
__________
( )1في ب :بخبر غير مطابق للواقع.
( )1/653
ون (ُ )10ق ْل َيتََوفَّا ُك ْم َملَ ُ ِ ِ ِ ض أَئَِّنا لَِفي َخْل ٍ ِ ٍ ضلَْلَنا ِفي اأْل َْر ِ ِ
ك ق َجديد َب ْل ُه ْم بِلقَاء َرِّب ِه ْم َكاف ُر َ َوقَالُوا أَئ َذا َ
ِ َِّ
ون ()11 اْل َم ْوت الذي ُو ِّك َل بِ ُك ْم ثَُّم ِإلَى َرِّب ُك ْم تُْر َج ُع َ
( )1/654
( )1/654
ِ ين ِإ َذا ُذ ِّك ُروا بِهَا َخ ُّروا ُسج ً ِ َِّ
ون ()15 َّحوا بِ َح ْمد َرِّب ِه ْم َو ُه ْم اَل َي ْستَ ْكبِ ُر َ
َّدا َو َسب ُ ِإَّن َما ُي ْؤ ِم ُن بِآََياتَنا الذ َ
طمعا و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ
ون ( )16فَاَل تَ ْعلَ ُم اه ْم ُي ْنفقُ َ ون َربَّهُ ْم َخ ْوفًا َو َ َ ً َ َ ضا ِج ِع َي ْد ُع َ
وبهُ ْم َع ِن اْل َم َ تَتَ َجافَى ُجُن ُ
ون ()17 اء بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ ُخ ِف َي لَهُ ْم ِم ْن قَُّر ِة أ ْ
َعُي ٍن َج َز ً َن ْف ٌس َما أ ْ
َّحوا بِ َح ْم ِد َرِّب ِه ْم َو ُه ْم ال ين ِإ َذا ُذ ِّك ُروا بِهَا َخ ُّروا ُسج ً
َّدا َو َسب ُ
ِ َِّ
{ ِ { } 17 - 15إَّن َما ُي ْؤ ِم ُن بِ َآياتَنا الذ َ
طمعا و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ ض ِ
ون *
اه ْم ُي ْنفقُ َ ون َربَّهُ ْم َخ ْوفًا َو َ َ ً َ َ اج ِع َي ْد ُع َ وبهُ ْم َع ِن اْل َم َون * تَتَ َجافَى ُجُن ُ َي ْستَ ْكبِ ُر َ
ون } .اء بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ ُخ ِف َي لَهُ ْم ِم ْن قَُّر ِة أ ْ
َعُي ٍن َج َز ً فَال تَ ْعلَ ُم َن ْف ٌس َما أ ْ
لما ذكر تعالى الكافرين بآياته ،وما أعد لهم من العذاب ،ذكر المؤمنين بها ،ووصفهم ،وما أعد
حقيقيا ،من يوجد منه شواهد اإليمان،
ً لهم من الثواب ،فقالِ { :إَّن َما ُي ْؤ ِم ُن بِ َآياتَِنا } [أي] (ً )1
إيمانا
ين ِإ َذا ُذ ِّك ُروا } بآيات ربهم فتليت عليهم آيات القرآن ،وأتتهم النصائح على أيدي رسل َِّ
وهم { :الذ َ
َّدا } أي :خاضعين لها ،خضوع ود ُعوا إلى التذكر ،سمعوها فقبلوها ،وانقادوا ،و { َخ ُّروا ُسج ً اللّهُ ،
ذكر للّه ،وفرح بمعرفته.
ِ
ون } ال بقلوبهم ،وال بأبدانهم ،فيمتنعون من االنقياد لها ،بل َّحوا بِ َح ْمد َرِّب ِه ْم َو ُه ْم ال َي ْستَ ْكبِ ُر َ
{ َو َسب ُ
متواضعون لها ،قد تلقوها بالقبول ،والتسليم ،وقابلوها باالنشراح والتسليم ،وتوصلوا بها إلى
مرضاة الرب الرحيم ،واهتدوا بها إلى الصراط المستقيم.
ضا ِج ِع } أي :ترتفع جنوبهم ،وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة ،إلى ما هو
وبهُ ْم َع ِن اْل َم َ
{ تَتَ َجافَى ُجُن ُ
ألذ عندهم منه وأحب إليهم ،وهو الصالة في الليل ،ومناجاة اللّه تعالى.
ون َربَّهُ ْم } أي :في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية ،ودفع مضارهماَ { .خ ْوفًا
ولهذا قالَ { :ي ْد ُع َ
وطمعا في قبولها ،خوفًا من عذاب
ً ط َم ًعا } أي :جامعين بين الوصفين ،خوفًا أن ترد أعمالهم، َو َ
وطمعا في ثوابه.
ً اللّه،
ِ
ون } ولم يذكر قيد النفقة ،وال المنفق
كثيرا { ُي ْنفقُ َ { َو ِم َّما َر َز ْقَن ُ
اه ْم } من الرزق ،قليال كان أو ً
عليه ،ليدل على العموم ،فإنه يدخل فيه ،النفقة الواجبة ،كالزكوات ،والكفارات ،ونفقة الزوجات
واألقارب ،والنفقة المستحبة في وجوه الخير ،والنفقة واإلحسان المالي ،خير مطلقًا ،سواء وافق
بعيدا ،ولكن األجر يتفاوت ،بتفاوت النفع ،فهذا عملهم.
قريبا أو ً
فقيراً ،
غنيا أو ً
ً
وأما جزاؤهم ،فقال { :فَال تَ ْعلَ ُم َن ْف ٌس } يدخل فيه جميع نفوس الخلق ،لكونها نكرة في سياق النفي.
ُخ ِف َي لَهُ ْم ِم ْن قَُّر ِة أ ْ
َعُي ٍن } من الخير الكثير ،والنعيم الغزير ،والفرح أي :فال يعلم أحد { َما أ ْ
والسرور ،واللذة والحبور ،كما قال تعالى على لسان رسوله" :أعددت لعبادي الصالحين ،ما ال
عين رأت ،وال أذن سمعت ،وال خطر على قلب بشر"
فكما صلوا في الليل ،ودعوا ،وأخفوا العمل ،جازاهم من جنس عملهم ،فأخفى أجرهم ،ولهذا قال:
اء بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ
ون } { َج َز ً
__________
( )1زيادة من :ب.
( )1/655
َّالح ِ
ات َفلَهُ ْم َجَّن ُ
ات ِ ِ اسقًا اَل يستَوون ( )18أ َّ َِّ أَفَم ْن َكان مؤ ِمًنا َكم ْن َكان فَ ِ
َمُنوا َو َعملُوا الص َ ين آ َ
َما الذ َ َُْ َ َ َ َ ُْ َ
َن َي ْخ ُر ُجوا ِم ْنهَا الن ُار ُكلَّ َما أ ََر ُ
ادوا أ ْ اه ُم َّ
ين فَ َسقُوا فَ َمأ َْو ُ اْلمأْوى ُن ُزاًل بِما َك ُانوا يعملُون ( )19وأ َّ َِّ
َما الذ َ َ ََْ َ َ ََ
ِ ِّ يل لَهم ُذوقُوا ع َذاب َّ َِّ ُع ُ ِأِ
ون ()20 الن ِار الذي ُك ْنتُ ْم بِه تُ َكذُب َ َ َ يدوا فيهَا َو ِق َ ُ ْ
( )1/655
( )1/656
( )1/656
اب فَاَل تَ ُك ْن ِفي ِم ْرَي ٍة ِم ْن ِلقَائِ ِه َو َج َعْلَناهُ ُه ًدى ِلَبنِي ِإ ْس َرائِي َل (َ )23و َج َعْلَنا ِ
وسى اْلكتَ َ َولَقَ ْد آَتَْيَنا ُم َ
َّك ُهو ي ْف ِ ِ ِ ِ
ص ُل َب ْيَنهُ ْم َي ْو َم ون (ِ )24إ َّن َرب َ َ َ صَب ُروا َو َك ُانوا بِآََياتَنا ُيو ِقُن َ ون بِأ َْم ِرَنا لَ َّما َ
م ْنهُ ْم أَئ َّمةً َي ْه ُد َ
ون ()25 ِِ ِ اْل ِقي ِ ِ
يما َك ُانوا فيه َي ْختَلفُ َ امة ف َ ََ
اب فَال تَ ُك ْن ِفي ِم ْرَي ٍة ِم ْن ِلقَائِ ِه َو َج َعْلَناهُ ُه ًدى ِلَبنِي ِإ ْس َرائِي َل ِ
وسى اْلكتَ َ { َ { } 25 - 23ولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ
َّك ُهو ي ْف ِ ِ ِ ِ
ص ُل َب ْيَنهُ ْم ون * ِإ َّن َرب َ َ َ صَب ُروا َو َك ُانوا بِ َآياتَنا ُيو ِقُن َون بِأ َْم ِرَنا لَ َّما َ
* َو َج َعْلَنا م ْنهُ ْم أَئ َّمةً َي ْه ُد َ
ون } . ِِ ِ يوم اْل ِقي ِ ِ
يما َك ُانوا فيه َي ْختَلفُ َ امة ف َ َْ َ َ َ
لما ذكر تعالى ،آياته التي ذكر بها عباده ،وهو :القرآن ،الذي أنزله على محمد صلى اللّه عليه
وسلم ،ذكر أنه ليس ببدع من الكتب ،وال من جاء به ،بغريب من الرسل ،فقد آتى اهلل موسى
الكتاب الذي هو التوراة المصدقة للقرآن ،التي قد صدقها القرآن ،فتطابق حقهما ،وثبت برهانهما،
{ فَال تَ ُك ْن ِفي ِم ْرَي ٍة ِم ْن ِلقَائِ ِه } ألنه قد تواردت أدلة الحق وبيناته ،فلم يبق للشك والمرية ،محل.
{ َو َج َعْلَناهُ } أي :الكتاب الذي آتيناه موسى { ُه ًدى ِلَبنِي ِإ ْس َرائِ َ
يل } يهتدون به في أصول دينهم،
وفروعه ( )1وشرائعه موافقة لذلك الزمان ،في بني إسرائيل.
وأما هذا القرآن الكريم ،فجعله اللّه هداية للناس كلهم ،ألنه هداية للخلق ،في أمر دينهم ودنياهم،
ِ ِ ِ ِ ِ
إلى يوم القيامة ،وذلك لكماله وعلوه { َوإِ َّنهُ في أ ُِّم اْلكتَاب لَ َد ْيَنا لَ َعل ٌّي َحك ٌ
يم }
ون بِأ َْم ِرَنا } أي :علماء بالشرع ،وطرق ِ ِ
{ َو َج َعْلَنا م ْنهُ ْم } أي :من بني إسرائيل { أَئ َّمةً َي ْه ُد َ
الهداية ،مهتدين في أنفسهم ،يهدون غيرهم بذلك الهدى ،فالكتاب الذي أنزل إليهم ،هدى،
والمؤمنون به منهم ،على قسمين :أئمة يهدون بأمر اللّه ،وأتباع مهتدون بهم.
والقسم األول أرفع الدرجات بعد درجة النبوة والرسالة ،وهي درجة الصديقين ،وإ نما نالوا هذه
الدرجة العالية بالصبر على التعلم والتعليم ،والدعوة إلى اللّه ،واألذى في سبيله ،وكفوا أنفسهم
عن جماحها في المعاصي ،واسترسالها في الشهوات.
ِ
{ َو َك ُانوا بِ َآياتَنا ُيو ِقُن َ
ون } أي :وصلوا في اإليمان بآيات اللّه ،إلى درجة اليقين ،وهو العلم التام،
صحيحا ،وأخذوا المسائل عن
ً تعلما
الموجب للعمل ،وإ نما وصلوا إلى درجة اليقين ،ألنهم تعلموا ً
أدلتها المفيدة لليقين.
فما زالوا يتعلمون المسائل ،ويستدلون عليها بكثرة الدالئل ،حتى وصلوا لذاك ،فبالصبر واليقين،
تَُنا ُل اإلمامة في الدين.
عمدا،
وثََّم مسائل اختلف فيها بنو إسرائيل ،منهم من أصاب فيها الحق ،ومنهم من أخطأه خطأ ،أو ً
ون } [ ص ] 657وهذا القرآن يقص ِِ ِ ص ُل ب ْيَنهم يوم اْل ِقي ِ ِ
واللّه تعالى { ي ْف ِ
يما َك ُانوا فيه َي ْختَلفُ َ
امة ف َ
َ ُْ َ ْ َ َ َ َ
على بني إسرائيل ،بعض الذي يختلفون فيه ،فكل خالف وقع بينهم ،ووجد في القرآن تصديق
ألحد القولين ،فهو الحق ،وما عداه مما خالفه ،باطل.
__________
( )1في النسختين :وفروعهم ،لعل الصواب -واهلل أعلم -ما أثبت.
( )1/656
( )1/657
يم ُانهُ ْم َواَل ُه ْم ِ َِّ ويقُولُون متَى َه َذا اْلفَتْح ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ
ين َكفَ ُروا إ َ
ين (ُ )28ق ْل َي ْو َم اْلفَتْ ِح اَل َي ْنفَعُ الذ َ صادق َ ْ َ ُ َ َ ََ
ِ ِ
ون ()30 ض َع ْنهُ ْم َو ْانتَظ ْر ِإَّنهُ ْم ُم ْنتَظ ُر َ
َع ِر ْ
ون ( )29فَأ ْ
ظ ُر َ
ُي ْن َ
( )1/657
( )1/657
ِ ِ َّ ِِ ِ ِ النبِ ُّي اتَّ ِ َّ
يما (َ )1واتَّبِ ْع َما ُي َ
وحى يما َحك ً ان َعل ً ين ِإ َّن اللهَ َك َ ق اللهَ َواَل تُط ِع اْل َكاف ِر َ
ين َواْل ُمَنافق َ َيا أَيُّهَا َّ
ون َخبِ ًيرا (َ )2وتََو َّك ْل َعلَى اللَّ ِه َو َكفَى بِاللَّ ِه َو ِكياًل ()3 ان بِ َما تَ ْع َملُ َ
َّ ك ِم ْن َرب َ
ِّك ِإ َّن اللهَ َك َ ِإلَْي َ
( )1/657
ُمهَاتِ ُك ْم َو َما
ون ِم ْنهُ َّن أ َّ ما جع َل اللَّه ِلرج ٍل ِم ْن َقْلب ْي ِن ِفي جو ِف ِه وما جع َل أ َْزواج ُكم الاَّل ئِي تُ َ ِ
ظاه ُر َ َ َ ُ َْ َ َ َ َ َ ُ َ ُ َ ََ
وه ْم
يل (ْ )4اد ُع ُ ق َو ُه َو َي ْه ِدي َّ
السبِ َ اه ُك ْم واللَّهُ َيقُو ُل اْل َح َّ
َ
جع َل أ َْد ِعياء ُكم أ َْبَناء ُكم َذِل ُكم قَولُ ُكم بِأَ ْفو ِ
َ َ ْ َ ْ ْ ْ ْ َ ََ
ين َو َم َو ِالي ُك ْم َولَْي َس َعلَْي ُك ْم ُجَن ٌ
اح اء ُه ْم فَِإ ْخ َو ُان ُك ْم ِفي ِّ
الد ِ ِ َّ ِ آِل ِ
ََبائ ِه ْم ُه َو أَ ْق َسطُ عْن َد الله فَِإ ْن لَ ْم تَ ْعلَ ُموا آََب َ
ِ ت ُقلُوب ُكم و َك َّ َخ َ ِ ِ ِ
يما ()5 ورا َرح ً ان اللهُ َغفُ ً طأْتُ ْم بِه َولَك ْن َما تَ َع َّم َد ْ ُ ْ َ َ يما أ ْ فَ
ون ِم ْنهُ َّن { { } 5 - 4ما جع َل اللَّه ِلرج ٍل ِم ْن َقْلب ْي ِن ِفي جو ِف ِه وما جع َل أ َْزواج ُكم الالئِي تُ َ ِ
ظاه ُر َ َ َ ُ َْ َ َ َ َ َ ُ َ ُ َ ََ
يل * ق َو ُه َو َي ْه ِدي َّ
السبِ َ اه ُك ْم واللَّهُ َيقُو ُل اْل َح َّ
َ
ُمهاتِ ُكم وما جع َل أ َْد ِعياء ُكم أ َْبَناء ُكم َذِل ُكم قَولُ ُكم بِأَ ْفو ِ
َ َ ْ َ ْ ْ ْ ْ َ أ َّ َ ْ َ َ َ َ
ين َو َم َو ِالي ُك ْم َولَْي َس َعلَْي ُك ْم اء ُه ْم فَِإ ْخ َو ُان ُك ْم ِفي ِّ
الد ِ ِ َّ ِ وهم ِ
آلبائ ِه ْم ُه َو أَ ْق َسطُ ع ْن َد الله فَِإ ْن لَ ْم تَ ْعلَ ُموا َآب َ
ْاد ُع ُ ْ َ
ِ ت ُقلُوب ُكم و َك َّ َخ َ ِ ِ جَن ٌ ِ
يما } . ورا َرح ً ان اللهُ َغفُ ً طأْتُ ْم بِه َولَك ْن َما تَ َع َّم َد ْ ُ ْ َ َ يما أ ْ
اح ف َ ُ
يعاتب تعالى [عباده] ( )1عن التكلم بما ادعوهم آلبائهم هو أقسط عند اهلل فإن لم تعلموا آباءهم
فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان اهلل
رحيما ال حقيقة له من األقوال ،ولم يجعله اهلل تعالى كما قالوا،فإن ذلك القول منكم كذب
ً غفورا
ً
وزور ،يترتب عليه منكرات من الشرع .وهذه قاعدة عامة في التكلم في كل شيء ،واإلخبار
بوقوع ووجود ،ما لم يجعله اللّه تعالى.
ولكن خص هذه األشياء المذكورة ،لوقوعها ،وشدة الحاجة إلى بيانها ،فقالَ { :ما َج َع َل اللَّهُ ِل َر ُج ٍل
ِم ْن َقْلَب ْي ِن ِفي َج ْو ِف ِه } هذا ال يوجد ،فإياكم أن تقولوا عن أحد :إن له قلبين في جوفه ،فتكونوا
كاذبين على الخلقة اإللهية.
لي كظهر أمي أو ون ِم ْنهُ َّن } بأن يقول أحدكم لزوجته" :أنت َع َّ ظاه ُر َ
{ وما جع َل أ َْزواج ُكم الالئِي تُ َ ِ
َ َ ُ ََ ََ
وتحريما،
ً ُمهَاتِ ُك ْم } أمك من ولدتك ،وصارت أعظم النساء عليك ،حرمة كأمي" فما جعلهن اللّه { أ َّ
وزوجتك أحل النساء لك ،فكيف تشبه أحد المتناقضين باآلخر؟
ُمهَاتِ ِه ْم ِإ ْن أ َّ
ُمهَاتُهُ ْم ون ِم ْن ُك ْم ِم ْن نِ َسائِ ِه ْم َما ُه َّن أ َّ هذا أمر ال يجوز ،كما قال تعالى { :الَِّذين ي َ ِ
ظاه ُر َ َ ُ
ِ ِ ِ
ورا } ِإال الالئي َولَ ْدَنهُ ْم َوإِ َّنهُ ْم لََيقُولُ َ
ون ُم ْن َك ًرا م َن اْلقَ ْول َو ُز ً
اء ُك ْم } واألدعياء ،الولد الذي كان الرجل يدعيه ،وهو ليس له ،أو ُي ْد َعى ِ
اء ُك ْم أ َْبَن َ
{ َو َما َج َع َل أ َْدعَي َ
إليه ،بسبب تبنيه إياه ،كما كان األمر بالجاهلية ،وأول اإلسالم.
فأراد اللّه تعالى أن يبطله ويزيله ،فقدم بين يدي ذلك بيان قبحه ،وأنه باطل وكذب ،وكل باطل
وكذب ،ال يوجد في شرع اللّه ،وال يتصف به عباد اللّه.
يقول تعالى :فاللّه لم يجعل األدعياء الذين تدعونهم ،أو يدعون إليكم ،أبناءكم ،فإن أبناءكم في
الحقيقة ،من ولدتموهم ،وكانوا منكم ،وأما هؤالء األدعياء من غيركم ،فال جعل اللّه هذا كهذا.
{ َذِل ُك ْم } القول ،الذي تقولون في الدعي :إنه ابن فالن ،الذي ادعاه ،أو والده فالن { قَ ْولُ ُك ْم
اه ُك ْم } أي :قول ال حقيقة له وال معنى له. بِأَ ْفو ِ
َ
ق } أي :اليقين والصدق ،فلذلك أمركم باتباعه ،على قوله وشرعه ،فقوله ،حق، { واللَّهُ َيقُو ُل اْل َح َّ
َ
وشرعه حق ،واألقوال واألفعال الباطلة ،ال تنسب إليه بوجه من الوجوه ،وليست من هدايته ،ألنه
ال يهدي إال إلى السبيل المستقيمة ،والطرق الصادقة.
واقعا بمشيئته ،فمشيئته عامة ،لكل ما وجد من خير وشر.
وإ ن كان ذلك ً
وه ْم } أي :األدعياء
ثم صرح لهم بترك الحالة األولى ،المتضمنة للقول الباطل فقالْ { :اد ُع ُ
آلبائِ ِه ْم } الذين ولدوهم { ُه َو أَ ْق َسطُ ِعْن َد اللَّ ِه } أي :أعدل ،وأقوم ،وأهدى. { َ
ين َو َم َو ِالي ُك ْم } أي :إخوتكم في دين اللّه، اء ُه ْم } الحقيقيين { فَِإ ْخ َو ُان ُك ْم ِفي ِّ
الد ِ { فَِإ ْن لَ ْم تَ ْعلَ ُموا َآب َ
ومواليكم في ذلك ،فادعوهم باألخوة اإليمانية الصادقة ،والمواالة على ذلك ،فترك الدعوة إلى من
تبناهم حتم ،ال يجوز فعلها.
وأما دعاؤهم آلبائهم ،فإن علموا ،دعوا إليهم ،وإ ن لم يعلموا ،اقتصر على ما يعلم منهم ،وهو
أخوة [الدين] ( )2والمواالة ،فال تظنوا أن حالة عدم علمكم بآبائهم ،عذر في دعوتهم إلى من
تبناهم ،ألن المحذور ال يزول بذلك.
طأْتُ ْم بِ ِه } بأن سبق على لسان أحدكم ،دعوته إلى من تبناه ،فهذا غير َخ َ
يما أ ْ { ولَْيس علَْي ُكم جَن ٌ ِ
اح ف َ َ َ َ ْ ُ
ظاهرا[ ،فدعوتموه إليه] ( )3وهو في الباطن ،غير أبيه ،فليس ( )4عليكم ً مؤاخذ به ،أو علم أبوه
وب ُك ْم } من الكالم، في ذلك حرج ،إذا كان خطأ [ ،ص َ { ] 659ولَ ِك ْن } يؤاخذكم بـ { َما تَ َع َّم َد ْ
ت ُقلُ ُ
يما } غفر لكم ورحمكم ،حيث لم يعاقبكم بما سلف ،وسمح ِ بما ال يجوز { .و َك َّ
ورا َرح ً
ان اللهُ َغفُ ً
َ َ
لكم بما أخطأتم به ،ورحمكم حيث بيَّن لكم أحكامه التي تصلح دينكم ودنياكم ،فله الحمد تعالى.
__________
( )1زيادة من :ب.
( )2زيادة من :ب.
( )3زيادة من :ب.
( )4في (أ) وقعت هنا زيادة حرف (في) وال محل له.
( )1/658
( )1/659
( )1/659
( )1/659
( )1/660
ون ِإاَّل َقِلياًل (ُ )16ق ْل َم ْن َذا الَِّذي ِ ِ ِ
ُق ْل لَ ْن َي ْنفَ َع ُك ُم اْلف َر ُار ِإ ْن فََر ْرتُ ْم م َن اْل َم ْوت أ َِو اْلقَ ْت ِل َوإِ ًذا اَل تُ َمتَّ ُع َ
ون اللَّ ِه َوِليًّا َواَل
ون لَهُ ْم ِم ْن ُد ِ وءا أ َْو أ ََر َاد بِ ُك ْم َر ْح َمةً َواَل َي ِج ُد َ
ِ َّ ِ ِ
َي ْعص ُم ُك ْم م َن الله ِإ ْن أ ََر َاد بِ ُك ْم ُس ً
ْس ِإاَّل َقِلياًل ( ون اْلَبأ َ
ِ صيرا ( )17قَ ْد َيعلَم اللَّهُ اْلمع ِّو ِقين ِم ْن ُكم واْلقَائِِل إِل
ين ِ ْخ َوان ِه ْم َهلُ َّم ِإلَْيَنا َواَل َيأْتُ َ َ َْ َُ َ ُْ َن ً
ِ
َعُيُنهُ ْم َكالَِّذي ُي ْغ َشى َعلَْي ِه ِم َن ور أ ْ ك تَ ُد ُون ِإلَْي َ ف َرأ َْيتَهُ ْم َي ْنظُ ُر َ اء اْل َخ ْو ُ ِ
)18أَش َّحةً َعلَْي ُك ْم فَِإ َذا َج َ
َحب َ َّ َش َّحةً َعلَى اْل َخ ْي ِر أُولَئِ َ ف سلَقُو ُكم بِأَْل ِسَن ٍة ِح َد ٍاد أ ِ ِ
ط اللهُ ك لَ ْم ُي ْؤ ِمُنوا فَأ ْ َ ب اْل َخ ْو ُ َ ْ اْل َم ْوت فَِإ َذا َذ َه َ
اب َي َو ُّدوا لَ ْو َح َزاب لَم ي ْذ َهبوا وإِ ْن يأ ِ َّ ِ ِ ان َذِل َ
َح َز ُ ْت اأْل ْ ون اأْل ْ َ ْ َ ُ َ َ ك َعلَى الله َيس ًيرا (َ )19ي ْح َسُب َ َع َمالَهُ ْم َو َك َ
أْ
اَّل ِ ِ ِ َعر ِ اد ِ
ون َع ْن أ َْنَبائ ُك ْم َولَ ْو َك ُانوا في ُك ْم َما قَاتَلُوا ِإ َقلياًل ( )20لَقَ ْد َك َ
ان لَ ُك ْم اب َي ْسأَلُ َ ون في اأْل ْ َ أََّنهُ ْم َب ُ َ
ان َي ْر ُجو اللَّهَ َواْلَي ْو َم اآْل َ ِخ َر َو َذ َك َر اللَّهَ َكثِ ًيرا (َ )21ولَ َّما َرأَى ِ
ُس َوةٌ َح َسَنةٌ ل َم ْن َك َ
ِفي رس ِ َّ ِ
ول الله أ ْ َ ُ
ِاَّل ِ َح َزاب قَالُوا َه َذا ما وع َدَنا اللَّه ورسولُه وص َد َ َّ
يم ًانا
ق اللهُ َو َر ُسولُهُ َو َما َز َاد ُه ْم إ إ َ ُ ََ ُ ُ َ َ َ َ َ ون اأْل ْ َ اْل ُم ْؤ ِمُن َ
ضى َن ْحَبهُ َو ِم ْنهُ ْم َم ْن ِ ِ َّ ِ ِ ِ
اه ُدوا اللهَ َعلَْيه فَم ْنهُ ْم َم ْن قَ َ ص َدقُوا َما َع َ ين ِر َجا ٌل َ يما ( )22م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ َوتَ ْسل ً
ِِ ِ ِ ِِ ي ْنتَ ِظر وما ب َّدلُوا تَْب ِدياًل (ِ )23لي ْج ِز َّ
وب
اء أ َْو َيتُ َ ين ِإ ْن َش َ ب اْل ُمَنافق َين بِص ْدق ِه ْم َوُي َع ِّذ َي اللهُ الصَّادق َ َ َ َ ُ ََ َ
َّ ِ َّ َِّ ِ َّ
ين َكفَ ُروا بِ َغ ْيظ ِه ْم لَ ْم َيَنالُوا َخ ْي ًرا َو َكفَى اللهُ يما (َ )24و َر َّد اللهُ الذ َ ورا َرح ً ان َغفُ ً َعلَْي ِه ْم ِإ َّن اللهَ َك َ
اب ِم ْنَه ِل اْل ِكتَ ِ
وه ْم ِم ْن أ ْ
اه ُر ُ ظ َ
ين َ َِّ اْلمؤ ِمنِين اْل ِقتَا َل و َك َّ
ان اللهُ قَ ِويًّا َع ِز ًيزا (َ )25وأ َْن َز َل الذ َ َ َ ُْ َ
ِ ف ِفي ُقلُوبِ ِه ُم ُّ اصي ِه ْم َوقَ َذ َ صي ِ
ون فَ ِريقًا (َ )26وأ َْو َرثَ ُك ْم أ َْر َ
ضهُ ْم ون َوتَأْس ُر َب فَ ِريقًا تَ ْقتُلُ َالر ْع َ ََ
ان اللَّهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ًيرا ()27وها َو َك َطُئ َ َو ِدَي َار ُه ْم َوأ َْم َوالَهُ ْم َوأ َْر ً
ضا لَ ْم تَ َ
{ ُ { } 16ق ْل } .
شيئا { لَ ْن َي ْنفَ َع ُك ُم اْل ِف َر ُار ِإ ْن فََر ْرتُ ْم ِم َن
ومخبرا أنهم ال يفيدهم ذلك ً
ً الئما على فرارهم،
{ ُق ْل } لهمً ،
اْل َم ْو ِت أ َِو اْلقَ ْت ِل } فلو كنتم في بيوتكم ،لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعكم.
واألسباب تنفع ،إذا لم يعارضها القضاء والقدر ،فإذا جاء القضاء والقدر ،تالشى كل سبب،
وبطلت ( )1كل وسيلة ،ظنها اإلنسان تنجيه.
ون ِإال َقِليال }
{ َوإِ ًذا } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل ،ولتنعموا في الدنيا فإنكم { ال تُ َمتَّ ُع َ
متاعا ،ال يسوى فراركم ،وترككم أمر اللّه ،وتفويتكم على أنفسكم ،التمتع األبدي ،في النعيم ً
السرمدي.
شيئا إذا أراده اللّه بسوء ،فقالُ { :ق ْل َم ْن َذا الَِّذي ثم بين أن األسباب كلها ال تغني عن العبد ً
شرا { ،أ َْو أ ََر َاد بِ ُك ْم َر ْح َمةً } فإنه هو َّ ِ ِ
وءا } أيً : َي ْعص ُم ُك ْم } أي :يمنعكم { من الله ِإ ْن أ ََر َاد بِ ُك ْم ُس ً
المعطي المانع ،الضار النافع ،الذي ال يأتي بالخير إال هو ،وال يدفع السوء إال هو.
ون اللَّ ِه وِليًّا } يتوالهم ،فيجلب لهم النفع ( { )2وال َن ِ ون لَهُ ْم ِم ْن ُد ِ
ص ًيرا } أي ينصرهم، َ َ { َوال َي ِج ُد َ
فيدفع عنهم المضار.
َفْلَي ْمتَثِلُوا طاعة المنفرد باألمور كلها ،الذي نفذت مشيئته ،ومضى قدره ،ولم ينفع مع ترك واليته
ونصرتهَ ،وِل ٌّي وال ناصر.
ين ِم ْن ُك ْم } عن الخروج، َّ
توعد تعالى المخذلين المعوقين ،وتهددهم فقال { :قَ ْد َي ْعلَ ُم اللهُ اْل ُم َع ِّو ِق َ ثم َّ
إلخ َوانِ ِه ْم } الذين خرجوا [ :ص َ { ] 661هلُ َّم ِإلَْيَنا } أي: ين ْ ِِ
لمن [لم] ( )3يخرجوا { َواْلقَائل َ
ب ال ُمقَ َام لَ ُك ْم فَ ْار ِج ُعوا }
َه َل َيثْ ِر َ
ارجعوا ،كما تقدم من قولهمَ { :يا أ ْ
ْس } أي :القتال والجهاد بأنفسهم { ِإال َقِليال } فهم أشد
ون اْلَبأ َ
وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { َوال َيأْتُ َ
حرصا على التخلف ،لعدم الداعي لذلك ،من اإليمان والصبر ،ووجود المقتضى للجبن ،من ً الناس
النفاق ،وعدم اإليمان.
َش َّحةً َعلَْي ُك ْم } بأبدانهم عند القتال ،وبأموالهم عند النفقة فيه ،فال يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. { أِ
ك } نظر المغشى عليه { ِم َن اْل َم ْو ِت } من شدة الجبن ،الذي
ون ِإلَْي َ
ف َرأ َْيتَهُ ْم َي ْنظُ ُر َ { فَِإ َذا َج َ
اء اْل َخ ْو ُ
خلع قلوبهم ،والقلق الذي أذهلهم ،وخوفًا من إجبارهم على ما يكرهون ،من القتال.
ف } وصاروا في حال األمن والطمأنينةَ { ،سلَقُو ُك ْم بِأَْل ِسَنة } أي :خاطبوكم، { فَِإ َذا َذ َه َ
ب اْل َخ ْو ُ
وتكلموا معكم ،بكالم حديد ،ودعاوى غير صحيحة.
َش َّحةً َعلَى اْل َخ ْي ِر } الذي يراد منهم ،وهذا شر ماوحين تسمعهم ،تظنهم أهل الشجاعة واإلقدام { ،أ ِ
شحيحا في بدنه أن
ً شحيحا بماله أن ينفقه في وجهه،
ً شحيحا بما أمر به،
ً في اإلنسان ،أن يكون
شحيحا بعلمه ،ونصيحته ورأيه. ً شحيحا بجاهه،
ً يجاهد أعداء اللّه ،أو يدعو إلى سبيل اللّه،
ان َذِل َ
ك ك } الذين بتلك الحالة { لَ ْم ُي ْؤ ِمُنوا } بسبب عدم إيمانهم ،أحبط اهلل أعمالهمَ { ،و َك َ { أُولَئِ َ
َعلَى اللَّ ِه َي ِس ًيرا }
وأما المؤمنون ،فقد وقاهم اللّه ،شح أنفسهم ،ووفقهم لبذل ما أمروا به ،من بذل ألبدانهم في القتال
في سبيله ،وإ عالء كلمته ،وأموالهم ،للنفقة في طرق الخير ،وجاههم وعلمهم.
اب لَ ْم َي ْذ َهُبوا } أي :يظنون أن هؤالء األحزاب ،الذين تحزبوا على حرب
األح َز َ
ون ْ { َي ْح َسُب َ
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،وأصحابه ،لم يذهبوا حتى يستأصلوهم ،فخاب ظنهم ،وبطل
حسبانهم.
ون َع ْن أ َْنَبائِ ُك ْم } أي: األعر ِ
اب َي ْسأَلُ َ
اد ِ
اب } مرة أخرى { َي َو ُّدوا لَ ْو أََّنهُ ْم َب ُ َ
ون في ْ َ األح َز ُ
ْت ْ { وإِ ْن يأ ِ
َ َ
ود هؤالء المنافقون ،أنهم ليسوا في المدينة ،وال في لو أتى األحزاب مرة ثانية مثل هذه المرةَّ ،
القرب منها ،وأنهم مع األعراب في البادية ،يستخبرون عن أخباركم ،ويسألون عن أنبائكم ،ماذا
حصل عليكم؟
وبعدا ،فليسوا ممن يبالى ( )4بحضورهم { َولَ ْو َك ُانوا ِفي ُك ْم َما قَاتَلُوا ِإال َقِليال } فال
فتبا لهمً ،
ً
تبالوهم ،وال تأسوا عليهم.
ُس َوةٌ َح َسَنةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة ،وباشر موقف { لَقَ ْد َكان لَ ُكم ِفي رس ِ َّ ِ
ول الله أ ْ َ ْ َ ُ
الحرب ،وهو الشريف الكامل ،والبطل الباسل ،فكيف تشحون بأنفسكم ،عن أمر جاد رسول اللّه
صلى اللّه عليه وسلم ،بنفسه فيه؟"
فَتأَس َّْوا به في هذا األمر وغيره.
واستدل األصوليون في هذه اآلية ،على االحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم ،وأن
األصل ،أن أمته أسوته في األحكام ،إال ما دل الدليل الشرعي على االختصاص به.
فاألسوة نوعان :أسوة حسنة ،وأسوة سيئة.
فاألسوة الحسنة ،في الرسول صلى اللّه عليه وسلم ،فإن المتأسِّي به ،سالك الطريق الموصل إلى
كرامة اللّه ،وهو الصراط المستقيم.
وأما األسوة بغيره ،إذا خالفه ،فهو األسوة السيئة ،كقول الكفار ( )5حين دعتهم الرسل للتأسِّي ]
بهم[ (ِ { )6إَّنا وج ْدَنا آباءَنا علَى أ َّ ٍ
ون }ُمة َوإِ َّنا َعلَى آثَ ِار ِه ْم ُم ْهتَ ُد َ َ َ َ َ َ
وهذه األسوة الحسنة ،إنما يسلكها ويوفق لها ،من كان يرجو اللّه ،واليوم اآلخر ،فإن ما معه ()7
من اإليمان ،وخوف اللّه ،ورجاء ثوابه ،وخوف عقابه ،يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه
عليه وسلم.
اب }
األح َز َ
ون ْ لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف ،ذكر حال المؤمنين فقالَ { :ولَ َّما َرأَى اْل ُم ْؤ ِمُن َ
الذين تحزبوا ،ونزلوا منازلهم ،وانتهى الخوف { ،قَالُوا َه َذا َما َو َع َدَنا اللَّهُ َو َر ُسولُهُ } في قوله:
ِ ِ َِّ ِ
اء َو ُزْل ِزلُوا
َّر ُ
اء َوالض َّ
ْس ُ
ين َخلَ ْوا م ْن قَْبل ُك ْم َمسَّتْهُ ُم اْلَبأ َ { أ َْم َح ِس ْبتُ ْم أ ْ
َن تَ ْد ُخلُوا اْل َجَّنةَ َولَ َّما َيأْت ُك ْم َمثَ ُل الذ َ
ص َر اللَّ ِه قَ ِر ٌ
يب } َّ ِ
ص ُر الله أَال ِإ َّن َن ْ آمُنوا َم َعهُ َمتَى َن ْ ين َ
َِّ
الر ُسو ُل َوالذ َ َحتَّى َيقُو َل َّ
يم ًانا } في ِ ِ { وص َد َ َّ
ق اللهُ َو َر ُسولُهُ } فإنا رأينا ،ما أخبرنا به { َو َما َز َاد ُه ْم } ذلك األمر { إال إ َ َ َ
وانقيادا ألمر اللّه. يما } في جوارحهم، ِ
ً قلوبهم { َوتَ ْسل ً
ولما ذكر أن المنافقين ،عاهدوا اللّه ،ال يولون األدبار ،ونقضوا ذلك العهد ،ذكر وفاء المؤمنين
اه ُدوا اللَّهَ } أي :وفوا به ،وأتموه ،وأكملوه ،فبذلوا ين ِر َجا ٌل َ
ص َدقُوا َما َع َ ِ ِ
به ،فقال { :م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ
مهجهم في مرضاته ،وسبَّلوا أنفسهم في طاعته.
ضى َن ْحَبهُ } أي :إرادته ومطلوبه ،وما عليه من الحق ،فقتل في سبيل اللّه ،أو مات ِ
{ فَم ْنهُ ْم َم ْن قَ َ
شيُئًُا.
مؤديا لحقه ،لم ينقصه ً ً
{ َو ِم ْنهُ ْم َم ْن َي ْنتَ ِظ ُر } تكميل ما عليه ،فهو شارع في قضاء ما عليه ،ووفاء نحبه ولما يكمله ،وهو
في رجاء تكميله ،ساع في ذلك ،مجد.
{ َو َما َب َّدلُوا تَْب ِديال } كما بدل غيرهم ،بل لم يزالوا على العهد ،ال يلوون ،وال يتغيرون ،فهؤالء،
الرجال على الحقيقة ،ومن ( )8عداهم ،فصورهم صور رجال ،وأما الصفات ،فقد قصرت عن
صفات الرجال.
ص ْد ِق ِه ْم } أي :بسبب صدقهم ،في أقوالهم ،وأحوالهم ،ومعاملتهم مع اللّه، َّاد ِقين بِ ِِ
ي اللهُ الص َ
{ ِلي ْج ِز َّ
َ َ
َّاد ِقين [ ص ِ ] 662
ص ْدقُهُ ْم لَهُ ْم ِ
واستواء ظاهرهم وباطنهم ،قال اللّه تعالىَ { :ه َذا َي ْو ُم َي ْنفَعُ الص َ
ين ِفيهَا أََب ًدا } اآلية. ِِ ات تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِهَا ْ
األنهَ ُار َخالد َ َجَّن ٌ
أي :قدرنا ما قدرنا ،من هذه الفتن والمحن ،والزالزل ،ليتبين الصادق من الكاذب ،فيجزي
ِِ
ين } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم ،عند حلول الفتن ،ولم يفوا الصادقين بصدقهم { َوُي َع ِّذ َ
ب اْل ُمَنافق َ
بما عاهدوا اللّه عليه.
اء } تعذيبهم ،بأن لم يشأ هدايتهم ،بل علم أنهم ال خير فيهم ،فلم يوفقهم. { ِإ ْن َش َ
وب َعلَْي ِه ْم } بأن يوفقهم للتوبة واإلنابة ،وهذا هو الغالب ،على كرم الكريم ،ولهذا ختم اآلية
{ أ َْو َيتُ َ
َّ
غفورا
ً رحيما }
ً ورا باسمين دالين على المغفرة ،والفضل ،واإلحسان فقالِ { :إ َّن اللهَ َك َ
ان َغفُ ً
يما } بهم ،حيث ِ
لذنوب المسرفين على أنفسهم ،ولو أكثروا من العصيان ،إذا أتوا بالمتابَ { .رح ً
وفقهم للتوبة ،ثم قبلها منهم ،وستر عليهم ما اجترحوه.
ين َكفَ ُروا بِ َغ ْي ِظ ِه ْم لَ ْم َيَنالُوا َخ ْي ًرا } أي :ردهم خائبين ،لم يحصل لهم األمر الذي َّ َِّ
{ َو َر َّد اللهُ الذ َ
كانوا حنقين عليه ،مغتاظين قادرين ]عليه[ ( )9جازمين ،بأن لهم الدائرة ،قد غرتهم جموعهم،
وع َد ِد ِه ْم.
هم ُ
ِ
وأعجبوا بتحزبهم ،وفرحوا بِ َع َدد ْ
وقوضتريحا عظيمة ،وهي ( )10ريح الصبا ،فزعزعت مراكزهمَّ ، فأرسل اللّه عليهمً ،
خيامهم ،وكفأت قدورهم وأزعجتهم ،وضربهم اللّه بالرعب ،فانصرفوا بغيظهم ،وهذا من نصر
اللّه لعباده المؤمنين.
ان اللَّهُ قَ ِويًّا
ال } بما صنع لهم من األسباب العادية والقدريةَ { ،و َك َ ين اْل ِقتَ َ ِ َّ
{ َو َكفَى اللهُ اْل ُم ْؤ ِمن َ
ِ
ب ،وال يعجزه أمر أراده ،وال ينفع أهل ب ،وال يستنصره أحد إال َغلَ َ َع ِز ًيزا } ال يغالبه أحد إال ُغل َ
القوة والعزة ،قوتهم وعزتهم ،إن لم يعنهم بقوته وعزته.
اصي ِه ْم } أي: اب } أي :اليهود { ِم ْن صي ِ َه ِل اْل ِكتَ ِ
وه ْم } أي عاونوهم { ِم ْن أ ْ َِّ
ََ اه ُر ُظ َ ين َ { َوأَنز َل الذ َ
مظفورا بهم ،مجعولين تحت حكم اإلسالم. ً أنزلهم من حصونهم ،نزوال
ب } فلم يقووا على القتال ،بل استسلموا وخضعوا وذلوا { .فَ ِريقًا تَ ْقتُلُ َ
ون الر ْع َف ِفي ُقلُوبِ ِه ُم ُّ { َوقَ َذ َ
ون فَ ِريقًا } َم ْن عداهم من النساء والصبيان. ِ
} وهم الرجال المقاتلون { َوتَأْس ُر َ
وها } أي :أرضا كانت من طُئ َ ضهُ ْم َو ِدَي َار ُه ْم َوأ َْم َوالَهُ ْم َوأ َْر ً
ضا لَ ْم تَ َ غنمكم { أ َْر َ { َوأ َْو َرثَ ُك ْم } أيَّ :
قبل ،من شرفها وعزتها عند أهلها ،ال تتمكنون من وطئها ،فمكنكم اللّه وخذلهم ،وغنمتم أموالهم،
وقتلتموهم ،وأسرتموهم.
ان اللَّهُ َعلَى ُك ِّل َشي ٍء قَِد ًيرا } ال يعجزه شيء ،ومن قدرتهَّ ،
قدر لكم ما قدر. { َو َك َ
ْ
وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب ،هم بنو قريظة من اليهود ،في قرية خارج المدينة ،غير
بعيدة ،وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم[ ،حين] ( )11هاجر إلى المدينة ،وادعهم ،وهادنهم ،فلم
شيئا.
يقاتلهم ولم يقاتلوه ،وهم باقون على دينهم ،لم يغير عليهم ً
فلما رأوا يوم الخندق ،األحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم ،وقلة المسلمين ،وظنوا
أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين ،وساعد على ذلك[ ،تدجيل] ( )12بعض رؤسائهم عليهم،
فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،ومالؤوا المشركين على قتاله.
فلما خذل اللّه المشركين ،تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،لقتالهم ،فحاصرهم في حصنهم،
فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه ،فحكم فيهم ،أن تقتل مقاتلتهم ،وتسبى ذراريهم،
وتغنم أموالهم.
فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين ،المنة ،وأسبغ عليهم النعمة ،وأَقََّر أعينهم ،بخذالن من انخذل من
مستمرا.
ً أعدائهم ،وقتل من قتلوا ،وأسر من أسروا ،ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :بطل.
( )2في ب :المنافع.
( )3زيادة من :ب.
( )4في ب :يغالى.
( )5في ب :المشركين.
( )6زيادة من :ب.
( )7في ب :فإن ذلك ما معه.
( )8في أ :وما وعداهم ،ولعل الصواب ما أثبته.
( )9زيادة من :ب.
( )10زيادة من :ب .في أ :وهو ولعل الصواب ما أثبته
( )11زيادة من :ب.
( )12زيادة من :ب.
( )1/660
ُسِّر ْح ُك َّن َس َر ً
احا ُمتِّ ْع ُك َّن َوأ َ
الد ْنَيا َو ِز َينتَهَا فَتَ َعالَْي َن أ َ النبِ ُّي ُق ْل أِل َْز َوا ِج َ
ك ِإ ْن ُك ْنتُ َّن تُِر ْد َن اْل َحَياةَ ُّ َيا أَيُّهَا َّ
ات ِم ْن ُك َّن أ ْ
َج ًرا الدار اآْل َ ِخرةَ فَِإ َّن اللَّه أَع َّد ِلْلم ْح ِسَن ِ
َ َ ُ َ
َّ
َجمياًل (َ )28وإِ ْن ُك ْنتُ َّن تُِر ْد َن اللهَ َو َر ُسولَهُ َو َّ َ
ِ
يما ()29 ِ
َعظ ً
ُمتِّ ْع ُك َّن ك ِإ ْن ُك ْنتُ َّن تُِر ْد َن اْل َحَياةَ ُّ ألزو ِ { َ { } 29 - 28يا أَيُّهَا َّ ِ
الد ْنَيا َو ِز َينتَهَا فَتَ َعالَْي َن أ َ اج َ النب ُّي ُق ْل ْ َ
اآلخرةَ فَِإ َّن اللَّه أَع َّد ِلْلم ْح ِسَن ِ الدار ِ َّ ِ
ات َ َ ُ َ احا َجميال * َوإِ ْن ُك ْنتُ َّن تُِر ْد َن اللهَ َو َر ُسولَهُ َو َّ َ ُسِّر ْح ُك َّن َس َر ً
َوأ َ
يما } . ِ ِم ْن ُك َّن أ ْ
َج ًرا َعظ ً
لما اجتمع نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الغيرة ،وطلبن منه النفقة والكسوة ،طلبن منه
أمرا ال يقدر عليه في كل وقت ،ولم يزلن في طلبهن متفقات ،في مرادهن متعنتاتَ ،ش َّ
ق ذلك على ً
شهرا.
الرسول ،حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن ً
ب عنهن كل أمر ينقص فأراد اللّه أن يسهل األمر على رسوله ،وأن يرفع درجة زوجاتهِ ،
وي ْذه َ
ُ
ك ِإ ْن ُك ْنتُ َّن تُِر ْد َن اْل َحَياةَ ألزو ِ
اج َ أجرهن ،فأمر رسوله أن يخيرهن ( )1فقالَ { :يا أَيُّهَا َّ ِ
النب ُّي ُق ْل ْ َ
الد ْنَيا } أي :ليس لكن في غيرها مطلب ،وصرتن ترضين لوجودها [ ،ص ] 663وتغضبن ُّ
لفقدها ،فليس لي فيكن أرب وحاجة ،وأنتن بهذه الحال.
احا َج ِميال } من ُسِّر ْح ُك َّن } أي :أفارقكن { َس َر ً ُمتِّ ْع ُك َّن } شيئا مما عندي ،من الدنيا { َوأ َ { فَتَ َعالَْي َن أ َ
دون مغاضبة وال مشاتمة ،بل بسعة صدر ،وانشراح بال ،قبل أن تبلغ الحال إلى ما ال ينبغي.
الدار ِ َّ
اآلخ َرةَ } أي :هذه األشياء مرادكن ،وغاية مقصودكن، { َوإِ ْن ُك ْنتُ َّن تُِر ْد َن اللهَ َو َر ُسولَهُ َو َّ َ
وإ ذا حصل لَ ُك َّن اللّه ورسوله والجنة ،لم تبالين بسعة الدنيا وضيقها ،ويسرها وعسرها ،وقنعتن
ات ِم ْن ُك َّن أ ْ
َج ًرا من رسول اللّه بما تيسر ،ولم تطلبن منه ما يشق عليه { ،فَِإ َّن اللَّه أَع َّد ِلْلم ْح ِسَن ِ
َ َ ُ
يما } رتب األجر على وصفهن باإلحسان ،ألنه السبب الموجب لذلك ،ال لكونهن زوجات ِ
َعظ ً
شيئا ،مع عدم اإلحسان ،فخيَّرهن رسول اللّه صلى
للرسول فإن مجرد ذلك ،ال يكفي ،بل ال يفيد ً
اللّه عليه وسلم في ذلك ،فاخترن اللّه ورسوله ،والدار اآلخرة ،كلهن ،ولم يتخلف منهن واحدة،
رضي اللّه عنهن.
وفي هذا التخيير فوائد عديدة:
منها :االعتناء برسوله ،وغيرته عليه ،أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية.
ومنها :سالمته صلى اللّه عليه وسلم ،بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات ،وأنه يبقى في حرية
ض اللَّهُ لَهُ }
يما فََر َ
ِ نفسه ،إن شاء أعطى ،وإ ن شاء منع { ما َكان علَى َّ ِ ِ
النب ِّي م ْن َح َر ٍج ف َ َ َ َ
ومنها :تنزيهه عما لو كان فيهن ،من تؤثر الدنيا على اللّه ورسوله ،والدار اآلخرة ،وعن
مقارنتها.
ومنها :سالمة زوجاته ،رضي اللّه عنهن ،عن اإلثم ،والتعرض لسخط اللّه ورسوله.
فحسم اللّه بهذا التخيير عنهن ،التسخط على الرسول ،الموجب لسخطه ،المسخط لربه ،الموجب
لعقابه.
ومنها :إظهار رفعتهن ،وعلو درجتهن ،وبيان علو هممهن ،أن كان اللّه ورسوله والدار اآلخرة،
مرادهن ومقصودهن ،دون الدنيا وحطامها.
ومنها :استعدادهن بهذا االختيار ،لألمر الخيار للوصول إلى خيار درجات الجنة ،وأن َي ُك َّن
زوجاته في الدنيا واآلخرة.
ومنها :ظهور المناسبة بينه وبينهن ،فإنه أكمل الخلق ،وأراد اللّه أن تكون نساؤه ( )2كامالت
ات ِللطَِّّيبِين والطَّيِّبون ِللطَّيِّب ِ
ات } َّ
مكمالت ،طيبات مطيبات { َوالطيَِّب ُ
َ َ َ ُ َ
ومنها :أن هذا التخيير داع ،وموجب للقناعة ،التي يطمئن لها القلب ،وينشرح لها الصدر ،ويزول
عنهن جشع الحرص ،وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه ،وهمه وغمه.
سببا لزيادة أجرهن ومضاعفته ،وأن َي ُك َّن بمرتبة ،ليس فيها أحد
ومنها :أن يكون اختيارهن هذاً ،
من النساء ،ولهذا قال:
__________
( )1في أ :يخبرهن.
( )2في أ :نساء.
( )1/662
ك َعلَى اللَّ ِه َي ِس ًيرا
ان َذِل َ ِ
اب ض ْعفَْي ِن َو َك َ
ف لَهَا اْل َع َذ ُ
اع ْ
ض َ
ٍ ِ ٍ ِ ِ
النبِ ِّي َم ْن َيأْت م ْن ُك َّن بِفَاح َشة ُمَبيَِّنة ُي َ
اء َّ ِ
َيا ن َس َ
()30
( )1/663
( )1/663
ض ط َم َع الَِّذي ِفي َقْلبِ ِه َم َر ٌ ض ْع َن بِاْلقَ ْو ِل فََي ْ النبِ ِّي لَستُ َّن َكأَح ٍد ِمن ِّ ِ
الن َساء ِإ ِن اتَّقَْيتُ َّن فَاَل تَ ْخ َ َ َ ْ اء َّ ِ
َيا ن َس َ
ين ِ َّة اأْل ُولَى َوأ َِق ْم َن َّ اهِلي ِ
و ُقْلن قَواًل معروفًا ( )32وقَرن ِفي بيوتِ ُك َّن واَل تَب َّر ْجن تَب ُّرج اْلج ِ
الصاَل ةَ َوآَت َ َ َ َ َ َ َ ُُ َ ْ َ َ َ ْ َ ُْ
ط ِه ًيرا ()33 َه َل اْلَب ْي ِت َوُي َ
طهَِّر ُك ْم تَ ْ الر ْج َس أ ْ ب َعْن ُك ُم ِّ َطعن اللَّه ورسولَه ِإَّنما ي ِر ُ َّ ِ ِ
يد اللهُ لُي ْذه َ الز َكاةَ َوأ ْ َ َ َ َ ُ ُ َ ُ
ِ َّ
ان لَ ِطيفًا َخبِ ًيرا ()34 َّ ِ َّ ِ ِ ِ ِ ِ
َوا ْذ ُك ْر َن َما ُي ْتلَى في ُبُيوتِ ُك َّن م ْن آََيات الله َواْلح ْك َمة ِإ َّن اللهَ َك َ
( )1/663
ومن معاني { اللطيف } الذي يسوق عبده إلى الخير ،ويعصمه من الشر ،بطرق خفية ال يشعر
بها ،ويسوق إليه من الرزق ،ما ال يدريه ،ويريه من األسباب ،التي تكرهها النفوس ما يكون ذلك
طريقا [له] ( )1إلى أعلى الدرجات ،وأرفع المنازل.
[ ص ] 665
ِِ ِ ِ ِِ ِ ِ ِ ِ ِِ
ين
ين َواْلقَانتَات َوالصَّادق َين َواْل ُم ْؤ ِمَنات َواْلقَانت َ
ين َواْل ُم ْسل َمات َواْل ُم ْؤ ِمن َ
{ ِ { } 35إ َّن اْل ُم ْسلم َ
ات واْلمتَص ِّد ِقين واْلمتَص ِّدقَ ِِ ِ ِِ ِ ِ ِ
ات ين َواْل َخاش َع َ ُ َ َ َ ُ َ ين َوالصَّابِ َرات َواْل َخاشع َ َوالصَّادقَات َوالصَّابِ ِر َ
َّ َّ ِ ِ اك ِر َّ ِ الذ ِ
ات و َّ ات واْلح ِاف ِظين فُروجهم واْلح ِاف َ ِ ِ ِ ِِ
َع َّد اللهُ
ين اللهَ َكث ًيرا َوالذاك َرات أ َ
َ ظ َ َ ُ َ ُْ َ َ ين َوالصَّائ َم َ َ َوالصَّائم َ
يما } . ِ لَهُ ْم َم ْغ ِف َرةً َوأ ْ
َج ًرا َعظ ً
لما ذكر تعالى ثواب زوجات الرسول صلى اللّه عليه وسلم ،وعقابهن [لو قدر عدم االمتثال] ()2
وأنه ليس مثلهن أحد من النساء ،ذكر بقية النساء غيرهن.
ات } وهذا واحدا ،جعل الحكم مشتر ًكا ،فقالِ { :إ َّن اْلمسِل ِمين واْلمسِلم ِ ولما كان حكمهن والرجال ً
ُْ َ َ ُْ َ
ات } وهذا في األمور الباطنة، في الشرائع الظاهرة ،إذا كانوا قائمين بها { .واْلمؤ ِمنِين واْلمؤ ِمَن ِ
َ ُْ َ َ ُْ
من عقائد القلب وأعماله.
ين } في مقالهم وفعالهم ِِ ِ ِ ِِ
ين } أي :المطيعين للّه ولرسوله { َواْلقَانتَات َوالصَّادق َ { َواْلقَانت َ
ِِ ِ ِ ِ
ين } في جميع ين } على الشدائد والمصائب { َوالصَّابِ َرات َواْل َخاشع َ { َوالصَّادقَات } { َوالصَّابِ ِر َ
ات } { واْلمتَ ِ اشع ِ ِ
فرضاً ين }ص ِّدق َ
َ ُ َ خصوصا في صلواتهمَ { ،واْل َخ َ ً أحوالهم،خصوصا في عباداتهم،
ً
ِِ ِ ِ ِِ ِ
وجهُ ْمين فُُر َ
ين َوالصَّائ َمات } شمل ذلك ،الفرض والنفلَ { .واْل َحافظ َ ص ِّدقَات َوالصَّائم َ ونفال { َواْل ُمتَ َ
ين اللَّهَ [ َكثِ ًيرا } أي )3( ]:في أكثر األوقات، َّ ِ } عن الزنا ومقدماته { ،واْلح ِاف َ ِ
ظات } { َوالذاك ِر َ َ َ
ات }اكر َِّ ِ
خصوصا أوقات األوراد المقيدة ،كالصباح والمساء ،وأدبار الصلوات المكتوبات { َوالذ َ ً
َع َّد اللَّهُ لَهُ ْم } أي :لهؤالء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة ،والمناقب الجليلة ،التي هي ،ما {أَ
بين اعتقادات ،وأعمال قلوب ،وأعمال جوارح ،وأقوال لسان ،ونفع متعد وقاصر ،وما بين أفعال
الخير ،وترك الشر ،الذي من قام بهن ،فقد قام بالدين كله ،ظاهره وباطنه ،باإلسالم واإليمان
واإلحسان.
يما } ال ِ فجازاهم على عملهم " بِاْل َم ْغ ِف َر ِة " لذنوبهم ،ألن الحسنات يذهبن السيئاتَ { .وأ ْ
َج ًرا َعظ ً
يقدر قدره ،إال الذي أعطاه ،مما ال عين رأت ،وال أذن سمعت ،وال خطر على قلب بشر ،نسأل
اللّه أن يجعلنا منهم.
__________
( )1زيادة من :ب.
( )2زيادة من :ب.
( )3زيادة من :ب.
( )1/664
ون لَهُ ُم اْل ِخَي َرةُ ِم ْن أ َْم ِر ِه ْم و َم ْن َي ْع ِ
ص ضى اللَّهُ َو َر ُسولُهُ أ َْم ًرا أ ْ
َن َي ُك َ
ٍ وما َك ِ
ان ل ُم ْؤ ِم ٍن َواَل ُم ْؤ ِمَنة ِإ َذا قَ َ
ََ َ
َ
َّ
ضاَل اًل ُمبِ ًينا ()36 ض َّل َ اللهَ َو َر ُسولَهُ فَقَ ْد َ
ون لَهُ ُم اْل ِخَي َرةُ ِم ْن أ َْم ِر ِه ْم ضى اللَّهُ َو َر ُسولُهُ أ َْم ًرا أ ْ
َن َي ُك َ
ٍ { { } 36وما َك ِ
ان ل ُم ْؤ ِم ٍن َوال ُم ْؤ ِمَنة ِإ َذا قَ َ
ََ َ
وم ْن يع ِ َّ
ضالال ُمبِ ًينا } . ض َّل َ ص اللهَ َو َر ُسولَهُ فَقَ ْد َ َ َ َْ
أي :ال ينبغي وال يليق ،ممن اتصف باإليمان ،إال اإلسراع في مرضاة اللّه ورسوله ،والهرب من
َّ
ضى اللهُ سخط اللّه ورسوله ،وامتثال أمرهما ،واجتناب نهيهما ،فال يليق بمؤمن وال مؤمنة { ِإ َذا قَ َ
ون لَهُ ُم اْل ِخَي َرةُ ِم ْن أ َْم ِر ِه ْم } أي :الخيار، َن َي ُك ََو َر ُسولُهُ أ َْم ًرا } من األمور ،وحتَّما به وألزما به { أ ْ
هل يفعلونه أم ال؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة ،أن الرسول أولى به من نفسه ،فال يجعل بعض
حجابا بينه وبين أمر اللّه ورسوله. ً أهواء نفسه
{ وم ْن يع ِ َّ
ض َّل َ
ضالال ُمبِ ًينا } أيَ :بيًِّنا ،ألنه ترك الصراط المستقيم الموصلة ص اللهَ َو َر ُسولَهُ فَقَ ْد َ َ َ َْ
إلى كرامة اللّه ،إلى غيرها ،من الطرق الموصلة للعذاب األليم ،فذكر أوال السبب الموجب لعدم
معارضته أمر اللّه ورسوله ،وهو اإليمان ،ثم ذكر المانع من ذلك ،وهو التخويف بالضالل ،الدال
على العقوبة والنكال.
( )1/665
( )1/665
( )1/666
يما ()40 ٍ ِ ِّين و َك َ َّ ِ ِّ َح ٍد ِم ْن ِر َج ِال ُك ْم ولَ ِك ْن َر ُسو َل اللَّ ِه و َخاتَم َّ ِ
ان اللهُ ب ُكل َش ْيء َعل ً النبي َ َ َ َ َ ان ُم َح َّم ٌد أََبا أ َ
َما َك َ
( )1/666
يا أَيُّها الَِّذين آَمُنوا ا ْذ ُكروا اللَّه ِذ ْكرا َكثِيرا ( )41وسبِّحوه ب ْكرةً وأ ِ
َصياًل ()42 َ َ ُ ُُ َ َ ً َ ً ُ َ َ َ َ
َصيال * ُه َو الَِّذي
{ { } 44 - 41يا أَُّيها الَِّذين آمُنوا ا ْذ ُكروا اللَّه ِذ ْكرا َكثِيرا * وسبِّحوه ب ْكرةً وأ ِ
َ َ ُ ُُ َ َ ً َ ً ُ َ َ َ َ
ِ ِ يصلِّي علَْي ُكم ومالئِ َكتُه ِلي ْخ ِرج ُكم ِمن الظُّلُم ِ
يما } .
ين َرح ً ان بِاْل ُم ْؤ ِمن َ
ور َو َك َ ات ِإلَى ُّ
الن ِ َ ُ ُ َ ْ َ ُ َ َ ْ ََ
كثيرا ،من تهليل ،وتحميد ،وتسبيح ،وتكبير وغير ذلك ،من كل يأمر تعالى المؤمنين ،بذكره ذكرا ً
قول فيه قربة إلى اللّه ،وأقل ذلك ،أن يالزم اإلنسان ،أوراد الصباح ،والمساء ،وأدبار الصلوات
الخمس ،وعند العوارض واألسباب.
وينبغي مداومة ذلك ،في جميع األوقات ،على جميع األحوال ،فإن ذلك عبادة يسبق بها العامل،
وهو مستريح ،وداع إلى محبة اللّه ومعرفته ،وعون على الخير ،وكف اللسان عن الكالم القبيح.
{ وسبِّحوه ب ْكرةً وأ ِ
َصيال } أي :أول النهار وآخره ،لفضلها ،وشرفها ،وسهولة العمل فيها. َ َ ُ ُُ َ َ
( )1/667
ِ ِ ُهو الَِّذي يصلِّي علَْي ُكم وماَل ئِ َكتُه ِلي ْخ ِرج ُكم ِمن الظُّلُم ِ
يما ()43 ان بِاْل ُم ْؤ ِمن َ
ين َرح ً ور َو َك َ ات ِإلَى ُّ
الن ِ َ ُ ُ َ ْ َ ُ َ َ ْ ََ َ
ِ ِ { ُهو الَِّذي يصلِّي علَْي ُكم ومالئِ َكتُه ِلي ْخ ِرج ُكم ِمن الظُّلُم ِ
يما } ان بِاْل ُم ْؤ ِمن َ
ين َرح ً ور َو َك َ ات ِإلَى ُّ
الن ِ َ ُ ُ َ ْ َ ُ َ َ ْ ََ َ
أي :من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم ،أن جعل من صالته عليهم ،وثنائه ،وصالة مالئكته
ودعائهم ،ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل ،إلى نور اإليمان ،والتوفيق ،والعلم ،والعمل،
فهذه أعظم نعمة ،أنعم بها على العباد الطائعين ،تستدعي منهم شكرها ،واإلكثار من ذكر اللّه،
الذي لطف بهم ورحمهم ،وجعل حملة عرشه ،أفضل المالئكة ،ومن حوله ،يسبحون بحمد ربهم
ين تَ ُابوا َواتََّب ُعوا ت ُك َّل َشي ٍء ر ْحمةً و ِعْلما فَ ْ ِ َِِّ
ويستغفرون للذين آمنوا فيقولونَ { :ربََّنا َو ِس ْع َ
اغف ْر للذ َ ْ َ َ َ ً
صلَ َح ِم ْن َآبائِ ِهم وأ َْزو ِ
اج ِه ْم َّ ِ ِ ِ ِِ
اب اْل َجحيم َربََّنا َوأ َْدخْلهُ ْم َجَّنات َع ْد ٍن التي َو َع ْدتَهُم َو َم ْن َك َو ِق ِه ْم َع َذ َ َسبِيلَ َ
َْ َ
ات َي ْو َمئٍِذ فَقَ ْد َر ِح ْمتَهُ َو َذِل َ
ك ُه َو ات وم ْن تَِقي السَّيَِّئ ِ
ِ ت اْل َع ِز ُيز اْل َح ِك ِ ِ
يم َوقه ْم السَّيَِّئ َ َ
ُ َو ُذِّريَّاتِ ِه ْم ِإَّن َ
ك أ َْن َ
يم } ِ
اْلفَ ْو ُز اْل َعظ ُ
فهذه رحمته ونعمته عليهم في الدنيا.
( )1/667
( )1/667
اجا ُمنِ ًيرا ()46 َّ ِ ِ ِ ِ ِ ِ النبِ ُّي ِإَّنا أَرسْلَنا َ ِ
ك َشاه ًدا َو ُمَب ِّش ًرا َوَنذ ًيرا (َ )45و َداعًيا ِإلَى الله بِِإ ْذنه َوس َر ً ْ َ َيا أَيُّهَا َّ
ِِ ِ ِ َن لَهُ ْم ِم َن اللَّ ِه فَ ْ ِ
اه ْم
ع أَ َذ ُ
ين َو َد ْ ضاًل َكبِ ًيرا (َ )47واَل تُط ِع اْل َكاف ِر َ
ين َواْل ُمَنافق َ َوَب ِّش ِر اْل ُم ْؤ ِمن َ
ين بِأ َّ
َوتََو َّك ْل َعلَى اللَّ ِه َو َكفَى بِاللَّ ِه َو ِكياًل ()48
( )1/667
ُّوه َّن فَ َما لَ ُك ْم َعلَْي ِه َّن ِم ْن ِع َّد ٍة وه َّن ِم ْن قَْب ِل أ ْ
َن تَ َمس ُ طلَّ ْقتُ ُم ُ يا أَيُّها الَِّذين آَمُنوا ِإ َذا َن َك ْحتُم اْلمؤ ِمَن ِ
ات ثَُّم َ ُ ُْ َ َ َ َ
احا َج ِمياًل ()49 وه َّن َس َر ً
وه َّن َو َسِّر ُح ُونهَا فَ َمتِّ ُع ُ
تَ ْعتَ ُّد َ
( )1/668
( )1/669
ك َذِل َ
ك أ َْدَنى اح َعلَْي َ ت ِم َّم ْن َع َزْل َ
ت فَاَل ُجَن َ اء َو َم ِن ْابتَ َغ ْي َ اء ِم ْنهُ َّن َوتُ ْؤ ِوي ِإلَْي َ
ك َم ْن تَ َش ُ تُْر ِجي َم ْن تَ َش ُ
يما َعيُنه َّن واَل ي ْح َز َّن ويرض ْين بِما آَتَْيتَه َّن ُكلُّه َّن واللَّه يعلَم ما ِفي ُقلُوبِ ُكم و َك َّ ِ
ان اللهُ َعل ً َْ َ ُ َ ُ َْ ُ َ ُ َ َْ َ َ َ َن تَقََّر أ ْ ُ ُ َ َ أْ
يما ()51 ِ
َحل ً
( )1/669
ت َي ِم ُين َ
ك ك ُح ْسُنهُ َّن ِإاَّل َما َملَ َك ْ
َع َجَب َ َن تََب َّد َل بِ ِه َّن ِم ْن أ َْز َو ٍ
اج َولَ ْو أ ْ اء ِم ْن َب ْع ُد َواَل أ ْ ك ِّ
الن َس ُ اَل َي ِح ُّل لَ َ
ان اللَّهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َر ِق ًيبا ()52 َو َك َ
( )1/670
ين ِإَناهُ َولَ ِك ْن ِإ َذا ِ َن ُيؤ َذن لَ ُكم ِإلَى َ ٍ
ط َعام َغ ْي َر َناظ ِر َ
وت َّ اَّل
النبِ ِّي ِإ أ ْ ْ َ ْ َمُنوا اَل تَ ْد ُخلُوا ُبُي َ
ين آ َ
َِّ
َيا أَيُّهَا الذ َ
النبِ َّي فََي ْستَ ْحيِي ِم ْن ُك ْمان ُي ْؤ ِذي َّ ِ ط ِعمتُم فَ ْانتَ ِشروا واَل مستَأْنِ ِس ِ ِ ٍ
ين ل َحديث ِإ َّن َذل ُك ْم َك َ
َ ُ َ ُْ
ِ
ُدعيتُ ْم فَ ْاد ُخلُوا فَِإ َذا َ ْ ْ
طهَ ُر ِل ُقلُوبِ ُك ْماب َذِل ُك ْم أَ ْ
اء ِح َج ٍ وه َّن ِم ْن ور ِ
ََ اسأَلُ ُ وه َّن َمتَ ً
اعا فَ ْ َواللَّهُ اَل َي ْستَ ْحيِي ِم َن اْل َح ِّ
ق َوإِ َذا َسأَْلتُ ُم ُ
ان ِعْن َد ِ ِِ َن تَْن ِكحوا أ َْزو ِ
اجهُ م ْن َب ْعده أََب ًدا ِإ َّن َذل ُك ْم َك َ
َ َ ُ َن تُ ْؤ ُذوا َر ُسو َل اللَّ ِه َواَل أ ْ َو ُقلُوبِ ِه َّن َو َما َك َ
ان لَ ُك ْم أ ْ
يما ()54 ٍ ِ اللَّ ِه َع ِظيما (ِ )53إ ْن تُْب ُدوا َش ْيًئا أَو تُ ْخفُوهُ فَِإ َّن اللَّهَ َك َ ِ ِّ
ان ب ُكل َش ْيء َعل ً ْ ً
( )1/670
( )1/671
ِ ِ ِّ النبِ ِّي يا أَيُّها الَِّذين آَمُنوا ُّ ِإ َّن اللَّه وماَل ئِ َكتَه ي ُّ
يما ()56
صلوا َعلَْيه َو َسل ُموا تَ ْسل ًَ َ َ ون َعلَى َّ َ َ صل َُُ َ َََ
ِ ِ ِّ النبِ ِّي يا أَيُّها الَِّذين آمُنوا ُّ { ِ { } 56إ َّن اللَّه ومالئِ َكتَه ي ُّ
يما } .صلوا َعلَْيه َو َسل ُموا تَ ْسل ًَ َ َ ون َعلَى َّ َ َ صل َُُ َ َََ
وهذا فيه تنبيه على كمال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،ورفعة درجته ،وعلو منزلته عند اللّه
ون } عليه ،أي :يثني اللّه عليه بين وعند خلقه ،ورفع ذكره .و { ِإ َّن اللَّه } تعالى { ومالئِ َكتَه ي ُّ
صل َ ُُ َ ََ َ
المالئكة ،وفي المأل األعلى ،لمحبته تعالى له ،وتثني عليه المالئكة المقربون ،ويدعون له
ويتضرعون.
يما } اقتداء باللّه ومالئكته ،وجزاء له على بعض ِ ِ ِّ { يا أَيُّها الَِّذين آمُنوا ُّ
صلوا َعلَْيه َو َسل ُموا تَ ْسل ًَ َ َ َ َ
كراما ،وزيادة في
وتعظيما له صلى اللّه عليه وسلم ،ومحبة وإ ً
ً حقوقه عليكم ،وتكميال إليمانكم،
وتكفيرا من سيئاتكم وأفضل هيئات الصالة عليه عليه الصالة والسالم ،ما علم به
ً حسناتكم،
أصحابه" :اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد،
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وهذا األمر
بالصالة والسالم عليه مشروع في جميع األوقات ،وأوجبه كثير من العلماء في الصالة
( )1/671
َِّ ِ ون اللَّهَ و َر ُسولَهُ لَ َعَنهُ ُم اللَّهُ ِفي ُّ َِّ
َع َّد لَهُ ْم َع َذ ًابا ُم ِه ًينا (َ )57والذ َ
ين الد ْنَيا َواآْل َخ َر ِة َوأ َ َ ِإ َّن الذ َ
ين ُي ْؤ ُذ َ
احتَ َملُوا ُب ْهتَ ًانا َوإِثْ ًما ُمبِ ًينا ()58 ات بِ َغ ْي ِر َما ا ْكتَ َسُبوا فَقَِد ْيؤ ُذون اْلمؤ ِمنِين واْلمؤ ِمَن ِ
ُْ َ ُ ْ َ َ ُ ْ
َع َّد لَهُ ْم َع َذ ًابا ُم ِه ًينا ِ ون اللَّهَ و َر ُسولَهُ لَ َعَنهُ ُم اللَّهُ ِفي ُّ َِّ
الد ْنَيا َواآلخ َر ِة َوأ َ َ ين ُي ْؤ ُذ َ { ِ { } 58 - 57إ َّن الذ َ
ات بِ َغ ْي ِر َما ا ْكتَ َسُبوا فَقَِد ْ
احتَ َملُوا ُب ْهتَ ًانا َوإِثْ ًما ُمبِ ًينا } . * والَِّذين يؤ ُذون اْلمؤ ِمنِين واْلمؤ ِمَن ِ
َ َ ُْ َ ُ ْ َ َ ُ ْ
لما أمر تعالى بتعظيم رسوله صلى اللّه عليه وسلم ،والصالة والسالم عليه ،نهى عن أذيته،
ون اللَّهَ َو َر ُسولَهُ } وهذا يشمل كل أذية ،قولية أو فعلية ،من َِّ
وتوعد عليها فقالِ { :إ َّن الذ َ
ين ُي ْؤ ُذ َ
الد ْنَيا } أي :أبعدهم سب وشتم ،أو تنقص له ،أو لدينه ،أو ما يعود إليه باألذى { .لَ َعَنهُ ُم اللَّهُ ِفي ُّ
وطردهم ،ومن لعنهم [في الدنيا] ( )1أنه يحتم ( )2قتل من شتم الرسول ،وآذاه.
َع َّد لَهُ ْم َع َذ ًابا ُم ِه ًينا } جزاء له على أذاه ،أن يؤذى بالعذاب األليم ،فأذية الرسول، ِ
{ َواآلخ َر ِة َوأ َ
ليست كأذية غيره ،ألنه -صلى اهلل عليه وسلم -ال يؤمن العبد باللّه ،حتى يؤمن برسوله صلى
اللّه عليه وسلم .وله من التعظيم ،الذي هو من لوازم اإليمان ،ما يقتضي ذلك ،أن ال يكون مثل
غيره.
ِ َِّ
ون اْل ُم ْؤ ِمن َ
ين ين ُي ْؤ ُذ َ
عظيما ،ولهذا قال فيهاَ { :والذ َ
ً وإ ن كانت أذية المؤمنين عظيمة ،وإ ثمها
احتَ َملُوا } على ظهورهم { ات بِ َغ ْي ِر َما ا ْكتَ َسُبوا } أي :بغير جناية منهم موجبة لألذى { فَقَِد ْ
واْلمؤ ِمَن ِ
َ ُْ
ُب ْهتَ ًانا } حيث آذوهم بغير سبب { َوإِثْ ًما ُمبِ ًينا } حيث تعدوا عليهم ،وانتهكوا حرمة أمر اللّه
باحترامها.
__________
( )1زيادة من :ب.
( )2في ب :يتحتم.
( )1/671
َن ُي ْع َر ْف َن
ك أ َْدَنى أ ْ ين َعلَْي ِه َّن ِم ْن َجاَل بِيبِ ِه َّن َذِل َ ِ
ين ُي ْدن َ
ِ ِ
ك َونِ َساء اْل ُم ْؤ ِمن َ ك َوَبَناتِ َ النبِ ُّي ُق ْل أِل َْز َوا ِج َ
َيا أَيُّهَا َّ
ضين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ َِّ
ون َوالذ َ
ِ ِ ِ
يما ( )59لَئ ْن لَ ْم َي ْنتَه اْل ُمَنافقُ َ
ِ
ورا َرح ً ان اللهُ َغفُ ً
فَاَل يؤ َذ ْين و َك َّ
ُْ َ َ َ
ين أ َْيَن َما ثُِقفُوا ون َ ِ اَّل ِ
ك فيهَا ِإ َقلياًل (َ )60مْل ُعونِ َ ون ِفي اْل َم ِد َين ِة لَُن ْغ ِرَيَّن َ
ك بِ ِه ْم ثَُّم اَل ُي َج ِاو ُر َ َواْل ُم ْر ِجفُ َ
ين َخلَ ْوا ِم ْن قَْب ُل َولَ ْن تَ ِج َد ِل ُسَّن ِة اللَّ ِه تَْب ِدياًل ()62 َّ ِ ِ َِّ ِ ِ
أُخ ُذوا َوقُتِّلُوا تَ ْقتياًل (ُ )61سَّنةَ الله في الذ َ
( )1/671
( )1/672
( )1/673
وب ُك ْم َو َم ْن ِ صِل ْح لَ ُك ْم أ ْ َمُنوا اتَّقُوا اللَّهَ َوقُولُوا قَ ْواًل َس ِد ً َِّ
َع َمالَ ُك ْم َوَي ْغف ْر لَ ُك ْم ُذُن َ يدا (ُ )70ي ْ ين آ َ
َيا أَيُّهَا الذ َ
يما ()71 ِ ِ َّ
ُيط ِع اللهَ َو َر ُسولَهُ فَقَ ْد فَ َاز فَ ْو ًزا َعظ ً
( )1/673
َن َي ْح ِمْلَنهَا َوأَ ْشفَ ْق َن ِم ْنهَا َو َح َملَهَا ض واْل ِجَب ِ
ال فَأََب ْي َن أ ْ ِ ِ
َّم َاوات َواأْل َْر َ
ضَنا اأْل ََم َانةَ َعلَى الس َ ِإَّنا َع َر ْ
ات واْلم ْش ِر ِكين واْلم ْش ِر َك ِ ِ ِ ِِ ظلُوما جهواًل (ِ )72ليع ِّذ َّ
ات َ َ ُ ين َواْل ُمَنافقَ َ ُ ب اللهُ اْل ُمَنافق َ َُ َ ان َ ً َ ُ ان ِإَّنهُ َك َ
اإْلِ ْن َس ُ
ِ ات و َك َّ ِ ِ َّ
يما ()73 ورا َرح ً ان اللهُ َغفُ ًين َواْل ُم ْؤ ِمَن َ َ
وب اللهُ َعلَى اْل ُم ْؤ ِمن ََوَيتُ َ
( )1/673
يم اْل َخبِ ُير ()1 ِ ِ ِ ِ ات و َما ِفي اأْل َْر ِ
ِ ِ َِّ ِ َِّ
ض َولَهُ اْل َح ْم ُد في اآْل َخ َرة َو ُه َو اْل َحك ُ َّم َاو َ
اْل َح ْم ُد لله الذي لَهُ َما في الس َ
اء وما يعرج ِفيها و ُهو َّ ِ ض وما ي ْخرج ِم ْنها وما ي ْن ِز ُل ِمن الس ِ ِ ِ
ور (
يم اْل َغفُ ُ
الرح ُ َّم َ َ َ ْ ُ ُ َ َ َ َ َ َي ْعلَ ُم َما َيل ُج في اأْل َْر ِ َ َ َ ُ ُ َ َ َ َ
)2
( )1/674
( )1/674
صر ِِ ك ُهو اْلح َّ ِ { { } 6ويرى الَِّذين أُوتُوا اْل ِعْلم الَِّذي أ ُْن ِز َل ِإلَْي َ ِ
اط اْل َع ِز ِ
يز ق َوَي ْهدي ِإلَى َ ك م ْن َرِّب َ َ َ َ َ َ ََ
اْل َح ِم ِيد } .
لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث ،وأنهم يرون ما أنزل على رسوله ليس بحق ،ذكر حالة
الموفقين من العباد ،وهم أهل العلم ،وأنهم يرون ما أنزل اللّه على رسوله من الكتاب ،وما اشتمل
عليه من األخبار ،هو الحق ،أي :الحق منحصر فيه ،وما خالفه وناقضه ،فإنه باطل ،ألنهم
وصلوا من العلم إلى درجة اليقين.
يز اْل َح ِم ِيد } وذلك أنهم جزموا صر ِ
اط اْل َع ِز ِ ِ ِ
ويرون أيضا أنه في أوامره ونواهيه { َي ْهدي ِإلَى َ
بصدق ما أخبر به من وجوه كثيرة :من جهة علمهم بصدق من أخبر به ،ومن جهة موافقته
لألمور الواقعة ،والكتب السابقة ،ومن جهة ما يشاهدون من أخبارها ،التي تقع عيانا ،ومن جهة
ما يشاهدون من اآليات العظيمة الدالة عليها في اآلفاق وفي أنفسهم ومن جهة موافقتها ،لما دلت
عليه أسماؤه تعالى وأوصافه.
ويرون في األوامر والنواهي ،أنها تهدي إلى الصراط المستقيم ،المتضمن لألمر بكل صفة تزكي
النفس ،وتنمي األجر ،وتفيد العامل وغيره ،كالصدق واإلخالص وبر الوالدين ،وصلة األرحام،
واإلحسان إلى عموم الخلق ،ونحو ذلك .وتنهى عن كل صفة قبيحة ،تدنس النفس ،وتحبط األجر،
وتوجب اإلثم والوزر ،من الشرك ،والزنا ،والربا ،والظلم في الدماء واألموال ،واألعراض.
وهذه منقبة ألهل العلم وفضيلة ،وعالمة لهم ،وأنه كلما كان العبد أعظم علما وتصديقا بأخبار ما
جاء به الرسول ،وأعظم معرفة بحكم أوامره ونواهيه ،كان من أهل العلم الذين جعلهم اللّه حجة
على ما جاء به الرسول ،احتج اللّه بهم على المكذبين المعاندين ،كما في هذه اآلية وغيرها.
( )1/675
ق َج ِد ٍيد ()7
ق ِإَّن ُك ْم لَِفي َخْل ٍ
ين َكفَ ُروا َه ْل َن ُدلُّ ُك ْم َعلَى َر ُج ٍل ُيَنبُِّئ ُك ْم ِإ َذا ُمِّز ْقتُ ْم ُك َّل ُم َم َّز ٍ وقَ َ َِّ
ال الذ َ َ
( )1/675
( )1/675
اعم ْل سابِ َغ ٍ
ات َوقَ ِّد ْر َن ْ َ َ ضاًل َيا ِجَبا ُل أ َِّوبِي َم َعهُ َوالطَّ ْي َر َوأَلََّنا لَهُ اْل َح ِد َ
يد ( )10أ ِ ود ِمَّنا فَ ْ
َولَقَ ْد آَتَْيَنا َد ُاو َ
ص ٌير ()11 اعملُوا ص ِالحا ِإِّني بِما تَعملُون ب ِ ِ ِ
َ َْ َ َ َ ً في الس َّْرد َو ْ َ
اع َم ْل ضال َيا ِجَبا ُل أ َِّوبِي َم َعهُ َوالطَّ ْي َر َوأَلََّنا لَهُ اْل َح ِد َ
يد * أ ِ
َن ْ { َ { } 11 - 10ولَقَ ْد آتَْيَنا َد ُاو َد ِمَّنا فَ ْ
اعملُوا ص ِالحا ِإِّني بِما تَعملُون ب ِ ِ ِ ِ ٍ
ص ٌير } . َ َْ َ َ َ ً َساب َغات َوقَ ِّد ْر في الس َّْرد َو ْ َ
أي :ولقد مننا على عبدنا ورسولنا ،داود عليه الصالة والسالم ،وآتيناه فضال من العلم النافع،
والعمل الصالح ،والنعم الدينية والدنيوية ،ومن نعمه عليه ،ما خصه به من أمره تعالى الجمادات،
كالجبال والحيوانات ،من الطيور ،أن تُ َؤ ِّوب معه ،وتَُر ِّجع التسبيح بحمد ربها ،مجاوبة له ،وفي
هذا من النعمة عليه ،أن كان ذلك من خصائصه التي لم تكن ألحد قبله وال بعده ،وأن ذلك يكون
منهضا له ولغيره على التسبيح إذا رأوا هذه الجمادات والحيوانات ،تتجاوب بتسبيح ربها،
وتمجيده ،وتكبيره ،وتحميده ،كان ذلك مما يهيج على ذكر اللّه تعالى.
ومنها :أن ذلك -كما قال كثير من العلماء ،أنه طرب لصوت داود ،فإن اللّه تعالى ،قد أعطاه من
حسن الصوت ،ما فاق به غيره ،وكان إذا رجَّع التسبيح والتهليل والتحميد بذلك الصوت الرخيم
الشجي المطرب ،طرب كل من سمعه ،من اإلنس ،والجن ،حتى الطيور والجبال ،وسبحت بحمد
ِّ
ربها.
ومنها :أنه لعله ليحصل له أجر تسبيحها ،ألنه سبب ذلك ،وتسبح تبعا له.
ومن فضله عليه ،أن أالن له الحديد ،ليعمل الدروع السابغات ،وعلمه تعالى كيفية صنعته ،بأن
يقدره في السرد ،أي :يقدره حلقا ،ويصنعه كذلك ،ثم يدخل بعضها ببعض.
ون } ِ ِ ِ ِ ِ ص ْن َعةَ لَُب ٍ َّ
وس لَ ُك ْم لتُ ْحصَن ُك ْم م ْن َبأْس ُك ْم فَهَ ْل أ َْنتُ ْم َشاك ُر َ قال تعالىَ { :و َعل ْمَناهُ َ
ولما ذكر ما امتن به عليه وعلى آله ،أمره بشكره ،وأن يعملوا صالحا ،ويراقبوا اللّه تعالى فيه،
بإصالحه وحفظه من المفسدات ،فإنه بصير بأعمالهم ،مطلع عليهم ،ال يخفى عليه منها شيء.
( )1/676
وأخبروهم أنهم يعلمون الغيب ،ويطلعون على المكنونات ،فأراد اللّه تعالى أن ُي ِر َ
ي العباد كذبهم
في هذه الدعوى ،فمكثوا يعملون على عملهم ،وقضى اللّه الموت على سليمان عليه السالم ،واتَّكأ
على عصاه ،وهي المنسأة ،فصاروا إذا مروا به وهو متكئ عليها ،ظنوه حيا ،وهابوه.
فغدوا على عملهم كذلك سنة كاملة على ما قيل ،حتى سلطت دابة األرض على عصاه ،فلم تزل
ترعاها ،حتى باد وسقط فسقط سليمان عليه السالم وتفرقت الشياطين وتبينت اإلنس أن الجن { لَ ْو
ين } وهو العمل الشاق عليهم ،فلو علموا الغيب، ب ما لَبِثُوا ِفي اْل َع َذ ِ
اب اْل ُم ِه ِ ون اْل َغ ْي َ َ
َك ُانوا َي ْعلَ ُم َ
لعلموا موت سليمان ،الذي هم أحرص شيء عليه ،ليسلموا مما هم فيه.
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :وأعماله.
( )1/676
( )1/677
( )1/678
ق اعةُ ِعْن َدهُ ِإاَّل ِل َم ْن أ َِذ َن لَهُ َحتَّى ِإ َذا فُِّز َ
ع َع ْن ُقلُوبِ ِه ْم قَالُوا َما َذا قَ َ
ال َرُّب ُك ْم قَالُوا اْل َح َّ واَل تَْنفَع َّ
الشفَ َ ُ َ
َو ُه َو اْل َعِل ُّي اْل َكبِ ُير ()23
( )1/678
( )1/679
ون *اس ال َي ْعلَ ُم َ اس َب ِش ًيرا َوَن ِذ ًيرا َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ
الن ِ ك ِإال َكافَّةً ِل َّلن ِ
{ َ { } 30 - 28و َما أ َْر َسْلَنا َ
ِ ِ ويقُولُون متَى َه َذا اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ
اعةً َوال اد َي ْوٍم ال تَ ْستَأْخ ُر َ
ون َع ْنهُ َس َ يع ُ
ين * ُق ْل لَ ُك ْم م َ صادق َ ْ َ َ َ َ ََ
ون } . ِ
تَ ْستَ ْقد ُم َ
يخبر تعالى أنه ما أرسل رسوله صلى اللّه عليه وسلم ،إال ليبشر جميع الناس بثواب اللّه،
ويخبرهم باألعمال الموجبة لذلك ،وينذرهم عقاب اللّه ،ويخبرهم باألعمال الموجبة له ،فليس لك
من األمر شيء ،وكل ما اقترح عليك أهل التكذيب والعناد ،فليس من وظيفتك ،إنما ذلك بيد اللّه
ون } أي :ليس لهم علم صحيح ،بل إما جهال ،أو معاندون لم اس ال َي ْعلَ ُم َ تعالىَ { ،ولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ
الن ِ
يعملوا بعلمهم ،فكأنهم ال علم لهم .ومن عدم علمهم ،جعلهم عدم اإلجابة لما اقترحوه على
الرسول ،موجبا لرد دعوته.
ون َمتَى َه َذا اْل َو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُ ْم
فمما اقترحوه ،استعجالهم العذاب ،الذي أنذرهم به فقالَ { :وَيقُولُ َ
ين } وهذا ظلم منهم .فأي مالزمة بين صدقه ،وبين اإلخبار بوقت وقوعه؟ وهل هذا إال رد ِِ
صادق ََ
للحق ،وسفه في العقل؟ أليس النذير [في أمر] في أحوال الدنيا ،لو جاء قوما ،يعلمون صدقه
وي ِع ُّد لهم فقال لهم :تركت عدوكم قد سار ،يريد اجتياحكم
ونصحه ،ولهم عدو ينتهز الفرصة منهم ُ
واستئصالكم .فلو قال بعضهم :إن كنت صادقا ،فأخبرنا بأية ساعة يصل إلينا ،وأين مكانه اآلن؟
فهل يعد هذا القائل عاقال أم يحكم بسفهه وجنونه؟
هذا ،والمخبر يمكن صدقه وكذبه ،والعدو قد يبدو له غيرهم ،وقد تنحل عزيمته ،وهم قد يكون
بهم منعة يدافعون بها عن أنفسهم ،فكيف بمن كذب أصدق الخلق ،المعصوم في خبره ،الذي ال
ينطق عن الهوى ،بالعذاب اليقين ،الذي ال مدفع له ،وال ناصر منه؟! أليس رد خبره بحجة عدم
بيانه وقت وقوعه من أسفه السفه؟"
( )1/680
ِ ِ
اعةً
ون َع ْنهُ َس َ اد َي ْوٍم ال تَ ْستَأْخ ُر َ يع ُ
{ ُق ْل } لهم -مخبرا بوقت وقوعه الذي ال شك فيه { :-لَ ُك ْم م َ
ون } فاحذروا ذلك اليوم ،وأعدوا له عدته. ِ
َوال تَ ْستَ ْقد ُم َ
[ ص ] 681
آن َوال بِالَِّذي َب ْي َن َي َد ْي ِه َولَ ْو تََرى ِإ ِذ
ين َكفَ ُروا لَ ْن ُن ْؤ ِم َن بِهَ َذا اْلقُْر ِ { { } 33 - 31وقَ َ َِّ
ال الذ َ َ
ض اْلقَو َل يقُو ُل الَِّذين استُ ْ ِ َِِّ الظَّ ِالمون موقُوفُ ِ
ين
ضعفُوا للذ َ َ ْ ضهُ ْم ِإلَى َب ْع ٍ ْ َ ون ع ْن َد َرِّب ِه ْم َي ْر ِجعُ َب ْع َُ ُ َ َْ
ِ
ين } . استَ ْكَب ُروا لَ ْوال أ َْنتُ ْم لَ ُكَّنا ُم ْؤ ِمن َ
ْ
لما ذكر تعالى أن ميعاد المستعجلين بالعذاب ،ال بد من وقوعه عند حلول أجله ،ذكر هنا حالهم في
ذلك اليوم ،وأنك لو رأيت حالهم إذا وقفوا عند ربهم ،واجتمع الرؤساء واألتباع في الكفر
والضالل ،لرأيت أمرا عظيما وهوال جسيما ،ورأيت كيف يتراجع ،ويرجع بعضهم إلى بعض
استَ ْكَب ُروا } وهم القادة { :لَ ْوال أ َْنتُ ْم لَ ُكَّنا َِِّ القول ،فـ { يقُو ُل الَِّذين استُ ْ ِ
ين ْ
ضعفُوا } وهم األتباع { للذ َ َ ْ َ
ِ
ين } ولكنكم ُحْلتُم بيننا وبين اإليمان ،وزينتم لنا الكفر[ان] ،فتبعناكم على ذلك ،ومقصودهم ُم ْؤ ِمن َ
بذلك أن يكون العذاب على الرؤساء دونهم.
( )1/680
( )1/681
( )1/681
( )1/681
ات قَالُوا َما َه َذا ِإاَّل َر ُج ٌل ُي ِر ُ وإِ َذا تُْتلَى علَْي ِهم آَياتَُنا بيَِّن ٍ
اؤ ُك ْم َوقَالُوا َما ص َّد ُك ْم َع َّما َك َ
ان َي ْعُب ُد آََب ُ َن َي ُ
يد أ ْ َ ْ َ َ َ
ِ
اه ْم م ْن ِ اَّل
اء ُه ْم ِإ ْن َه َذا ِإ س ْحٌر ُمبِ ٌ ِ
ين َكفَ ُروا لْل َح ِّ ِ َّ اَّل
َه َذا ِإ ِإ ْف ٌ
ين (َ )43و َما آَتَْيَن ُ ق لَ َّما َج َ ك ُم ْفتًَرى َوقَا َل الذ َ
ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم َو َما َبلَ ُغوا ِم ْع َش َار َما ير ( )44و َك َّذ َِّ
ب الذ َ َ َ ك ِم ْن َن ِذ ٍ ُكتُ ٍب َي ْد ُر ُس َ
ونهَا َو َما أ َْر َسْلَنا ِإلَْي ِه ْم قَْبلَ َ
ير ()45 ان َن ِك ِف َك َ اه ْم فَ َك َّذُبوا ُر ُسِلي فَ َك ْي َ
آَتَْيَن ُ
ات قَالُوا َما َه َذا ِإال َر ُج ٌل ُي ِر ُ { { } 45 - 43وإِ َذا تُْتلَى علَْي ِهم آياتَُنا بيَِّن ٍ
ص َّد ُك ْم َع َّما َك َ
ان َي ْعُب ُد َن َي ُ
يد أ ْ َ ْ َ َ َ
ين * ِ ِ ِ ِ
اء ُه ْم إ ْن َه َذا إال س ْحٌر ُمب ٌ ِ
ين َكفَ ُروا لْل َح ِّ ِ َّ ِ ِ
ق لَ َّما َج َ ك ُم ْفتًَرى َوقَا َل الذ َ اؤ ُك ْم َوقَالُوا َما َه َذا إال إ ْف ٌ َآب ُ
ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم َو َما َبلَ ُغوا ير * و َك َّذ َِّ
ب الذ َ ك م ْن َنذ ٍ َ َ
ونها وما أَرسْلَنا ِإلَْي ِهم قَْبلَ َ ِ ِ
ْ اه ْم م ْن ُكتُ ٍب َي ْد ُر ُس َ َ َ َ ْ َ
وما آتَْيَن ُ ِ
ََ
ير } . ان َن ِك ِف َك َ اه ْم فَ َك َّذُبوا ُر ُسِلي فَ َك ْي َ
ِم ْع َش َار َما آتَْيَن ُ
يخبر تعالى عن حالة المشركين ،عندما تتلى عليهم آيات اللّه البينات ،وحججه الظاهرات،
وبراهينه القاطعات ،الدالة على كل خير ،الناهية عن كل شر ،التي هي أعظم نعمة جاءتهم ،و ِمَّن ٍة
وصلت إليهم ،الموجبة لمقابلتها باإليمان والتصديق ،واالنقياد ،والتسليم ،أنهم يقابلونها بضد ما
اؤ ُك ْم ص َّد ُك ْم َع َّما َك َ
ان َي ْعُب ُد َآب ُ َن َي ُ ينبغي ،ويكذبون من جاءهم بها ويقولونَ { :ما َه َذا ِإال َر ُج ٌل ُي ِر ُ
يد أ ْ
} أي :هذا قصده ،حين يأمركم باإلخالص للّه ،لتتركوا عوائد آبائكم ،الذين تعظمون وتمشون
خلفهم ،فردوا الحق ،بقول الضالين ،ولم يوردوا ( )1برهانا ،وال شبهة.
فأي شبهة إذا أمرت الرسل بعض الضالين ،باتباع الحقَّ ،
فادعوا أن إخوانهم ،الذين على
طريقتهم ،لم يزالوا عليه؟ وهذه السفاهة ،ورد الحق ،بأقوال الضالين ،إذا تأملت كل حق رد ،فإذا
هذا مآله ال يرد إال بأقوال الضالين من المشركين ،والدهريين ،والفالسفة ،والصابئين ،والملحدين
في دين اللّه ،المارقين ،فهم أسوة كل من رد الحق إلى يوم القيامة.
ولما احتجوا بفعل آبائهم ،وجعلوها دافعة لما جاءت به الرسل ،طعنوا بعد هذا بالحقَ { ،وقَالُوا َما
ين َكفَ ُروا ِلْل َح ِّ
ق لَ َّما ك م ْفتَرى } أي :كذب افتراه هذا الرجل ،الذي جاء به { .وقَ َ َِّ
ال الذ َ َ َه َذا ِإال ِإ ْف ٌ ُ ً
ين } أي :سحر ظاهر بيِّن لكل أحد ،تكذيبا بالحق ،وترويجا على اء ُه ْم ِإ ْن َه َذا ِإال ِس ْحٌر ُمبِ ٌ
َج َ
السفهاء.
ولما بيَّن ما ردوا به الحق ،وأنها أقوال دون مرتبة الشبهة ،فضال أن تكون حجة ،ذكر أنهم وإ ن
اه ْم
أراد أحد أن يحتج لهم ،فإنهم ال مستند لهم ،وال لهم شيء يعتمدون عليه أصال فقالَ { :و َما آتَْيَن ُ
ير } حتى يكون عندهم ك ِم ْن َن ِذ ٍ ِم ْن ُكتُ ٍب َي ْد ُر ُس َ
ونهَا } حتى تكون عمدة لهم { َو َما أ َْر َسْلَنا ِإلَْي ِه ْم قَْبلَ َ
من أقواله وأحواله ،ما يدفعون به ،ما جئتهم به ،فليس عندهم علم ،وال أثارة من علم.
ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم َو َما َبلَ ُغوا } أي :ما بلغ ثم خوفهم ما فعل باألمم المكذبين [قبلهم] فقال { :و َك َّذ َِّ
ب الذ ََ َ
ان اه ْم } { فَ َك َّذُبوا } أي :األمم الذين من قبلهم { ُر ُسِلي فَ َك ْي َ
ف َك َ هؤالء المخاطبون { ِم ْع َش َار َما آتَْيَن ُ
ير } أي :إنكاري عليهم ،وعقوبتي إياهم .قد أعلمنا ما فعل بهم من النكال ،وأن منهم من َن ِك ِ
أغرقه ،ومنهم من أهلكه بالريح العقيم ،وبالصيحة ،وبالرجفة ،وبالخسف باألرض ،وبإرسال
الحاصب من السماء ،فاحذروا يا هؤالء المكذبون ،أن تدوموا على التكذيب ،فيأخذكم كما أخذ من
قبلكم ،ويصيبكم ما أصابهم.
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :ولم يردوا.
( )1/682
احبِ ُكم ِم ْن ِجَّن ٍة ِإ ْن ُهو ِإاَّل
َن تَقُوموا ِللَّ ِه مثَْنى وفُر َادى ثَُّم تَتَفَ َّكروا ما بِ ِ ِ ِ ٍ ِ ِ
َ ص ْ ُ َ َ َ َ َ ُق ْل إَّن َما أَعظُ ُك ْم ب َواح َدة أ ْ ُ
ي ِإاَّل َعلَى اللَّ ِه َو ُه َو اب َش ِد ٍيد (ُ )46ق ْل َما َسأَْلتُ ُك ْم ِم ْن أ ْ
َج ٍر فَهَُو لَ ُك ْم ِإ ْن أ ْ
َج ِر َ ي َع َذ ٍ ِ
َنذ ٌير لَ ُك ْم َب ْي َن َي َد ْ
وب ()48 ق َعاَّل م اْل ُغُي ِ
ُ ف بِاْل َح ِّ يد (ُ )47ق ْل ِإ َّن َربِّي َي ْق ِذ ُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه ٌ
احبِ ُك ْم ِم ْن
َن تَقُوموا ِللَّ ِه مثَْنى وفُر َادى ثَُّم تَتَفَ َّكروا ما بِص ِ
ُ َ َ َ َ َ
ِ ِ ٍ ِ ِ
{ ُ { } 50 - 46ق ْل إَّن َما أَعظُ ُك ْم ب َواح َدة أ ْ ُ
ي ِإال َعلَى اب َش ِد ٍيد * ُق ْل َما َسأَْلتُ ُك ْم ِم ْن أ ْ
َج ٍر فَهَُو لَ ُك ْم ِإ ْن أ ْ
َج ِر َ ي َع َذ ٍ ِ ٍ
ِجَّنة ِإ ْن ُه َو ِإال َنذ ٌير لَ ُك ْم َب ْي َن َي َد ْ
وب } . ق َعالم اْل ُغُي ِ
ُ يد * ُق ْل ِإ َّن َربِّي َي ْق ِذ ُ
ف بِاْل َح ِّ اللَّ ِه َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه ٌ
أي [ ص ُ { ] 683ق ْل } يا أيها الرسول ،لهؤالء المكذبين المعاندين ،المتصدين لرد الحق
اح َد ٍة } أي :بخصلة واحدة ،أشير عليكم بها، َعظُ ُكم بِو ِ
ْ َ
وتكذيبه ،والقدح بمن جاء بهِ { :إَّنما أ ِ
َ
وأنصح لكم في سلوكها ،وهي طريق نصف ،لست أدعوكم بها إلى اتباع قولي ،وال إلى ترك
وموا ِللَّ ِه َمثَْنى َوفَُر َادى } أي :تنهضوا بهمة ،ونشاط،
َن تَقُ ُ
قولكم ،من دون موجب لذلك ،وهي { :أ ْ
وقصد التباع الصواب ،وإ خالص للّه ،مجتمعين ،ومتباحثين في ذلك ،ومتناظرين ،وفرادى ،كل
واحد يخاطب نفسه بذلك.
فإذا قمتم للّه ،مثنى وفرادى ،استعملتم فكركم ،وأجلتموه ،وتدبرتم أحوال رسولكم ،هل هو
مجنون ،فيه صفات المجانين من كالمه ،وهيئته ،وصفته؟ أم هو نبي صادق ،منذر لكم ما
يضركم ،مما أمامكم من العذاب الشديد؟
فلو قبلوا هذه الموعظة ،واستعملوها ،لتبين لهم أكثر من غيرهم ،أن رسول اللّه صلى اللّه عليه
وسلم ،ليس بمجنون ،ألن هيئاته ( )1ليست كهيئات المجانين ،في خنقهم ،واختالجهم ،ونظرهم،
بل هيئته أحسن الهيئات ،وحركاته أجل الحركات ،وهو أكمل الخلق ،أدبا ،وسكينة ،وتواضعا،
ووقارا ،ال يكون [إال] ألرزن الرجال عقال.
ثم [إذا] تأملوا كالمه الفصيح ،ولفظه المليح ،وكلماته التي تمأل القلوب ،أمنا ،وإ يمانا ،وتزكى
النفوس ،وتطهر القلوب ،وتبعث على مكارم األخالق ،وتحث على محاسن الشيم ،وترهب ()2
عن مساوئ األخالق ورذائلها ،إذا تكلم رمقته العيون ،هيبة وإ جالال وتعظيما.
فهل هذا يشبه هذيان المجانين ،وعربدتهم ،وكالمهم الذي يشبه أحوالهم؟"
فكل من تدبر أحواله ومقصده استعالم هل هو رسول اللّه أم ال؟ سواء تفكر وحده ،أو مع غيره،
جزم بأنه رسول اللّه حقا ،ونبيه صدقا ،خصوصا المخاطبين ،الذي هو صاحبهم يعرفون أول
أمره وآخره.
وثََّم مانع للنفوس آخر عن اتباع الداعي إلى الحق ،وهو أنه يأخذ أموال من يستجيب له ،ويأخذ
أجرة على دعوته .فبين اللّه تعالى نزاهة رسوله صلى اهلل عليه وسلم عن هذا األمر فقالُ { :ق ْل
َما َسأَْلتُ ُك ْم ِم ْن أ ْ
َج ٍر } أي :على اتباعكم للحق { فَهَُو لَ ُك ْم } أي :فأشهدكم أن ذلك األجر -على
ي ِإال َعلَى اللَّ ِه َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه ٌ
يد } أي :محيط علمه بما أدعو التقدير -أنه لكمِ { ،إ ْن أ ْ
َج ِر َ
إليه ،فلو كنت كاذبا ،ألخذني بعقوبته ،وشهيد أيضا على أعمالكم ،سيحفظها عليكم ،ثم يجازيكم
بها.
ولما بين البراهين الدالة على صحة الحق ،وبطالن الباطل ،أخبر تعالى أن هذه سنته وعادته أن {
اط ِل فَي ْدم ُغه فَِإ َذا ُهو َز ِ
ق علَى اْلب ِ َي ْق ِذ ُ
ق } ألنه بين من الحق في هذا الموضع ،ورد به اه ٌ َ َ َ ُ َ ف بِاْل َح ِّ َ
أقوال المكذبين ،ما كان عبرة للمعتبرين ،وآية للمتأملين.
فإنك كما ترى ،كيف اضمحلت أقوال المكذبين ،وتبين كذبهم وعنادهم ،وظهر الحق وسطع،
وبطل الباطل وانقمع ،وذلك بسبب بيان { َعالم اْل ُغُي ِ
وب } الذي يعلم ما تنطوي عليه القلوب ،من ُ
الوساوس والشبه ،ويعلم ما يقابل ذلك ،ويدفعه من الحجج.
__________
( )1في ب :هيئته.
( )2في ب :وتزجر.
( )1/682
( )1/683
( )1/683
اع َي ِز ُ
يد ث َو ُرَب ََجنِ َح ٍة َمثَْنى َوثُاَل َ
اع ِل اْل َماَل ئِ َك ِة ُر ُساًل أُوِلي أ ْ ضج ِ ِ
َّم َاوات َواأْل َْر ِ َ
َِّ ِ ِ
اْل َح ْم ُد لله فَاط ِر الس َ
اس ِم ْن َر ْح َم ٍة فَاَل ُم ْم ِس َ
ك لَهَا اء ِإ َّن اللَّهَ َعلَى ُك ِّل َشي ٍء قَِد ٌير (َ )1ما َي ْفتَ ِح اللَّهُ ِل َّلن ِ
ْ
ِفي اْل َخْل ِ
ق َما َي َش ُ
ِ ِِ ِ ِ ِ
يم ()2 َو َما ُي ْمس ْك فَاَل ُم ْرس َل لَهُ م ْن َب ْعده َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ
( )1/684
ق َغْير اللَّ ِه ير ُزقُ ُكم ِمن السَّم ِ ِ ِ َّ ِ ِ
اء ْ َ َ َْ اس ا ْذ ُك ُروا ن ْع َمةَ الله َعلَْي ُك ْم َه ْل م ْن َخال ٍ ُ { َ { } 4 - 3يا أَيُّهَا َّ
الن ُ
ض ال ِإلَهَ ِإال ُه َو فَأََّنى تُ ْؤفَ ُك َ
ون } . األر ِ
َو ْ
يأمر تعالى ،جميع الناس أن يذكروا نعمته عليهم ،وهذا شامل لذكرها بالقلب اعترافا ،وباللسان
ثناء ،وبالجوارح انقيادا ،فإن ذكر نعمه تعالى داع لشكره ،ثم نبههم على أصول النعم ،وهي الخلق
األر ِ ق َغ ْير اللَّ ِه ير ُزقُ ُكم ِمن الس ِ ِ ِ
ض} َّماء َو ْ
َْ ْ َ َ والرزق ،فقالَ { :ه ْل م ْن َخال ٍ ُ
ولما كان من المعلوم أنه ليس أحد يخلق ويرزق إال اللّه ،نتج من ذلك ،أن كان ذلك دليال على
ون } أي :تصرفون عن عبادة الخالق ألوهيته وعبوديته ،ولهذا قال { :ال ِإلَهَ ِإال ُه َو فَأََّنى تُ ْؤفَ ُك َ
الرازق لعبادة المخلوق المرزوق.
( )1/684
( )1/684
ان
ط َ الد ْنَيا واَل َي ُغ َّرَّن ُكم بِاللَّ ِه اْل َغرور (ِ )5إ َّن َّ
الش ْي َ اس ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ
ق فَاَل تَ ُغ َّرَّن ُك ُم اْل َحَياةُ ُّ َيا أَيُّهَا َّ
ُ ُ ْ َ َ الن ُ
اب
ين َكفَ ُروا لَهُ ْم َع َذ ٌ َِّ اب الس ِ
َّع ِ َص َح ِ لَ ُكم ع ُد ٌّو فَاتَّ ِخ ُذوه ع ُد ًّوا ِإَّنما ي ْدعو ِح ْزبه ِلي ُك ُ ِ
ير ( )6الذ َ ونوا م ْن أ ْ َُ َ َ َ ُ ُ َ ْ َ
َجٌر َكبِ ٌير ()7 ات لَهُ ْم َم ْغ ِف َرةٌ َوأ ْ َّالح ِ ِ ِ
َمُنوا َو َعملُوا الص َ ين آ َ
َش ِد ٌ َِّ
يد َوالذ َ
( )1/684
( )1/685
ض َب ْع َد َم ْوتِهَا َك َذِل َ
ك ِ
َحَي ْيَنا بِه اأْل َْر َ
الرياح فَتُثِير سحابا فَس ْقَناه ِإلَى بلٍَد مي ٍ
ِّت فَأ ْ َ َ
َّ َِّ
َواللهُ الذي أ َْر َس َل ِّ َ َ ُ َ َ ً ُ ُ
ور ()9 ُّ
الن ُش ُ
ض َب ْع َد َم ْوتِهَا ِ الرياح فَتُثِير سحابا فَس ْقَناه ِإلَى بلٍَد مي ٍ َّ َِّ
َحَي ْيَنا بِه ْ
األر َ ِّت فَأ ْ َ َ { َ { } 9واللهُ الذي أ َْر َس َل ِّ َ َ ُ َ َ ً ُ ُ
ور } . ك ُّ
الن ُش ُ َك َذِل َ
الرياح فَتُثِير سحابا فَس ْقَناه ِإلَى بلٍَد مي ٍ
ِّت َ َ يخبر تعالى عن كمال اقتداره ،وسعة جوده ،وأنه { أ َْر َس َل ِّ َ َ ُ َ َ ً ُ ُ
ض َب ْع َد َم ْوتِهَا } ِ
َحَي ْيَنا بِه ْ
األر َ } فأنزله اللّه عليها { فَأ ْ
ك } الذي أحيا فحييت البالد والعباد ،وارتزقت الحيوانات ،ورتعت في تلك الخيراتَ { ،ك َذِل َ
األرض بعد موتها ،ينشر اهلل األموات من قبورهم ،بعدما مزقهم البلى ،فيسوق إليهم مطرا ،كما
ساقه إلى األرض الميتة ،فينزله عليهم فتحيا األجساد واألرواح من القبور ،ويأتون للقيام بين يدي
اهلل ليحكم بينهم ،ويفصل بحكمه العدل.
( )1/685
( )1/685
( )1/685
ِ ب فُر ٌ ِ
ط ِريًّا اج َو ِم ْن ُك ٍّل تَْأ ُكلُ َ
ون لَ ْح ًما َ ُج ٌ ات َسائغٌ َش َر ُابهُ َو َه َذا مْل ٌح أ َ َو َما َي ْستَِوي اْلَب ْح َر ِ
ان َه َذا َع ْذ ٌ َ
ون (ُ )12يوِل ُج اخر ِلتَْبتَ ُغوا ِم ْن فَ ْ ِ ِ َّ ِ ونها وتَرى اْل ُفْل َ ِ ِ وتَستَ ْخ ِرج ِ
ضله َولَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ ك فيه َم َو َ ون حْلَيةً تَْلَب ُس َ َ َ َ ُ َ َ ْ
ِ َّ النهار ِفي اللَّْي ِل و َس َّخر َّ اللَّْي َل ِفي َّ
َج ٍل ُم َس ًّمى َذل ُك ُم اللهُ الش ْم َس َواْلقَ َم َر ُك ٌّل َي ْج ِري أِل َ َ َ النهَ ِار َوُيوِل ُج َّ َ َ
اء ُك ْم ير (ِ )13إ ْن تَ ْد ُع ُ
وه ْم اَل َي ْس َم ُعوا ُد َع َ ط ِم ٍ
ون ِم ْن ِق ْ ِ ِ ك والَِّذين تَ ْدع ِ
ون م ْن ُدونِه َما َي ْمل ُك َ
َرُّب ُك ْم لَهُ اْل ُمْل ُ َ َ ُ َ
ير ()14 ك ِمثْ ُل َخبِ ٍ ون بِ ِش ْر ِك ُك ْم َواَل ُيَنبُِّئ َ ولَو س ِمعوا ما استَجابوا لَ ُكم ويوم اْل ِقي ِ
امة َي ْكفُُر َ
ْ َ َْ َ َ َ َ ْ َ ُ َ ْ َُ
اج َو ِم ْن ُك ٍّل
ُج ٌ ِ ب فُر ٌ ِ { َ { } 14 - 12و َما َي ْستَِوي اْلَب ْح َر ِ
ات َسائغٌ َش َر ُابهُ َو َه َذا مْل ٌح أ َ ان َه َذا َع ْذ ٌ َ
ضِل ِه َولَ َعلَّ ُك ْم
اخ َر ِلتَْبتَ ُغوا ِم ْن فَ ْ يه مو ِ ونها وتَرى اْل ُفْل َ ِ ِ
ك ف ََ
ط ِريًّا وتَستَ ْخ ِرج ِ
ون حْلَيةً تَْلَب ُس َ َ َ َ ُ َ ون لَ ْح ًما َ َ ْ تَْأ ُكلُ َ
الش ْم َس َواْلقَ َم َر ُك ٌّل َي ْج ِري َ
ألج ٍل النهار ِفي اللَّْي ِل و َس َّخر َّ ون * ُيوِل ُج اللَّْي َل ِفي َّ
َ َ النهَ ِار َوُيوِل ُج َّ َ َ تَ ْش ُك ُر َ
وه ْم ال ير * ِإ ْن تَ ْد ُع ُ ط ِم ٍ
ون ِم ْن ِق ْ ِ ِ ك والَِّذين تَ ْدع ِ
ون م ْن ُدونِه َما َي ْمل ُك َ
ِ َّ
ُم َس ًّمى َذل ُك ُم اللهُ َرُّب ُك ْم لَهُ اْل ُمْل ُ َ َ ُ َ
ير } . ك ِمثْ ُل َخبِ ٍ ون بِ ِش ْر ِك ُك ْم َوال ُيَنبُِّئ َ يسمعوا ُدعاء ُكم ولَو س ِمعوا ما استَجابوا لَ ُكم ويوم اْل ِقي ِ
امة َي ْكفُُر َْ َ َْ َ َ َ َ َ َْ ْ َ ُ َ ْ َُ َ َُْ
هذا إخبار عن قدرته وحكمته ورحمته ،أنه جعل البحرين لمصالح العالم األرضي كلهم ،وأنه لم
يسو بينهما ،ألن المصلحة تقتضي أن تكون األنهار عذبة فراتا ،سائغا شرابها ،لينتفع بها
ِّ
الشاربون والغارسون والزارعون ،وأن يكون البحر ملحا أجاجا ،لئال يفسد الهواء المحيط
باألرض بروائح ما يموت في البحر من الحيوانات وألنه ساكن ال يجري ،فملوحته تمنعه من
التغير ،ولتكون حيواناته أحسن وألذ ،ولهذا قالَ { :و ِم ْن ُك ٍل } من البحر الملح والعذب { تَْأ ُكلُ َ
ون
ونهَا } من لؤلؤ ون ِحْلَيةً تَْلَب ُس َ
ط ِريًّا } وهو السمك المتيسر صيده في البحرَ { ،وتَ ْستَ ْخ ِر ُج َ
لَ ْح ًما َ
ومرجان وغيرهما ،مما يوجد في البحر ،فهذه مصالح عظيمة للعباد.
ومن المصالح أيضا والمنافع في البحر ،أن سخره اللّه تعالى يحمل الفلك من السفن والمراكب،
فتراها تمخر البحر وتشقه ،فتسلك من إقليم إلى إقليم آخر ،ومن محل إلى محل ،فتحمل السائرين
وأثقالهم وتجاراتهم ،فيحصل بذلك من فضل اللّه وإ حسانه شيء كثير ،ولهذا قالَ { :وِلتَْبتَ ُغوا ِم ْن
ون } فَ ْ ِ ِ َّ
ضله َولَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ
ومن ذلك أيضا ،إيالجه تعالى الليل بالنهار والنهار بالليل ،يدخل هذا على هذا ،وهذا على هذا،
كلما أتى أحدهما ذهب اآلخر ،ويزيد أحدهما وينقص اآلخر ،ويتساويان ،فيقوم بذلك ما يقوم من
مصالح العباد في أبدانهم وحيواناتهم وأشجارهم وزروعهم.
وكذلك ما جعل اللّه في تسخير الشمس والقمر ،الضياء والنور ،والحركة والسكون ،وانتشار
العباد في طلب فضله ،وما فيهما من تنضيج الثمار وتجفيف ما يجفف ( )1وغير ذلك مما هو من
ق الناس الضرر.الضروريات ،التي لو فقدت لَلَ ِح َ
وقولهُ { :ك ٌّل َي ْج ِري َ
ألج ٍل ُم َس ًّمى } أي :كل من الشمس والقمر ،يسيران في فلكهما ما شاء اللّه أن
يسيرا ،فإذا جاء األجل ،وقرب انقضاء الدنيا ،انقطع سيرهما ،وتعطل سلطانهما ،وخسف القمر،
وكورت الشمس ،وانتثرت النجوم.
فلما بين تعالى ما بيَّن من هذه المخلوقات العظيمة ،وما فيها من العبر الدالة على كماله وإ حسانه،
ك } أي :الذي انفرد بخلق هذه المذكورات وتسخيرها ،هو الرب قالَ { :ذِل ُك ُم اللَّهُ َرُّب ُك ْم لَهُ اْل ُمْل ُ
المألوه المعبود ،الذي له الملك كله.
ط ِم ٍ
ير } أي :ال يملكون شيئا، ون ِم ْن ِق ْ ِ ِ
ون م ْن ُدونِه } من األوثان واألصنام { َما َي ْمل ُك َ
{ والَِّذين تَ ْدع ِ
َ َ ُ َ
ال قليال وال كثيرا ،حتى وال القطمير الذي هو أحقر األشياء ،وهذا من تنصيص النفي وعمومه،
فكيف ُي ْد َع ْو َن ،وهم غير مالكين لشيء من ملك السماوات واألرض؟
[ ص ] 687
وه ْم } ال يسمعوكم ألنهم ما بين جماد وأموات ومالئكة مشغولين بطاعة ربهم. ومع هذا { ِإ ْن تَ ْد ُع ُ
استَ َج ُابوا لَ ُك ْم } ألنهم ال يملكون شيئا ،وال يرضى ِ
{ َولَ ْو َسم ُعوا } على وجه الفرض والتقدير { َما ْ
ون بِ ِش ْر ِك ُك ْم } أي :يتبرأون منكم، أكثرهم بعبادة من عبده ،ولهذا قال { :ويوم اْل ِقي ِ
امة َي ْكفُُر َ
َ َْ َ َ َ
ت َوِليَُّنا ِم ْن ُدونِ ِه ْم }
ك أ َْن َ
ويقولونُ { :س ْب َح َان َ
ير } أي :ال أحد ينبئك ،أصدق من اهلل العليم الخبير ،فاجزم بأن هذا األمر، ك ِمثْ ُل َخبِ ٍ { َوال ُيَنبُِّئ َ
ْي عين ،فال تشك فيه وال تمتر .فتضمنت هذه اآليات ،األدلة والبراهين
الذي نبأ به كأنه َرأ ُ
الساطعة ،الدالة على أنه تعالى المألوه المعبود ،الذي ال يستحق شيئا من العبادة سواه ،وأن عبادة
ما سواه باطلة متعلقة بباطل ،ال تفيد عابده شيئا.
__________
( )1كذا في :ب ،وفي أ :وتخفيف ما يخفف.
( )1/686
( )1/687
( )1/688
( )1/688
( )1/688
( )1/689
ق مص ِّدقًا ِلما ب ْين ي َد ْي ِه ِإ َّن اللَّه بِ ِعب ِاد ِه لَ َخبِير ب ِ ك ِم َن اْل ِكتَ َِوالَِّذي أ َْو َح ْيَنا ِإلَْي َ
ص ٌير ( )31ثَُّم ٌ َ َ َ َ َ َ َ اب ُه َو اْل َح ُّ ُ َ
اتق بِاْل َخ ْير ِ
ص ٌد َو ِم ْنهُ ْم َسابِ ٌ ظ ِالم ِلَن ْف ِس ِه و ِم ْنهم م ْقتَ ِ أَورثَْنا اْل ِكتَاب الَِّذين اص َ ِ ِ ِ ِ
َ َ ُْ ُ طفَْيَنا م ْن عَبادَنا فَم ْنهُ ْم َ ٌ َ ْ َ َْ
ِ
َس ِاو َر م ْن َذ َه ٍب ِ ِ َّ ض ُل اْل َكبِ ُير (َ )32جَّن ُ
ات َع ْد ٍن َي ْد ُخلُ َ ِ ِ َّ
بِِإ ْذ ِن الله َذل َ
ونهَا ُي َحل ْو َن فيهَا م ْن أ َ ك ُه َو اْلفَ ْ
َِّ ِ َِّ ِ
ور ( ور َش ُك ٌ ب َعَّنا اْل َح َز َن ِإ َّن َربََّنا لَ َغفُ ٌاسهُ ْم فيهَا َح ِر ٌير (َ )33وقَالُوا اْل َح ْم ُد لله الذي أَ ْذ َه َ َولُ ْؤلُ ًؤا َوِلَب ُ
وب ()35 ب َواَل َي َمسَُّنا ِفيهَا لُ ُغ ٌ صٌ ِ )34الَِّذي أَحلََّنا َدار اْلمقَام ِة ِم ْن فَ ْ ِ ِ
ضله اَل َي َمسَُّنا فيهَا َن َ َ ُ َ َ
( )1/689
ك َن ْج ِزي ُك َّل ف َع ْنهُ ْم ِم ْن َع َذابِهَا َك َذِل َ ضى َعلَْي ِه ْم فََي ُموتُوا َواَل ُي َخفَّ ُ ين َكفَ ُروا لَهُ ْم َن ُار َجهََّن َم اَل ُي ْق َ
َِّ
َوالذ َ
ص ِال ًحا َغْي َر الَِّذي ُكَّنا َن ْع َم ُل أ ََولَ ْم ُن َع ِّم ْر ُك ْم َما ون ِفيهَا َربََّنا أ ْ
َخ ِر ْجَنا َن ْع َم ْل َ ط ِر ُخ َ صَ ور (َ )36و ُه ْم َي ْ َكفُ ٍ
صٍ الن ِذير فَ ُذوقُوا فَما ِللظَّ ِال ِمين ِم ْن َن ِ َّ َّ ِ ِ
ير ()37 َ َ اء ُك ُم َّ ُ َيتَ َذك ُر فيه َم ْن تَ َذك َر َو َج َ
ف َعْنهُ ْم ِم ْن َع َذابِهَا ضى َعلَْي ِه ْم فََي ُموتُوا َوال ُي َخفَّ ُ ين َكفَ ُروا لَهُ ْم َن ُار َجهََّن َم ال ُي ْق َ
َِّ
{ َ { } 37 - 36والذ َ
ص ِال ًحا َغْي َر الَِّذي ُكَّنا َن ْع َم ُل ون ِفيهَا َربََّنا أ ْ
َخ ِر ْجَنا َن ْع َم ْل َ ط ِر ُخ َصَ ك َن ْج ِزي ُك َّل َكفُ ٍ
ور * َو ُه ْم َي ْ َك َذِل َ
صٍ الن ِذير فَ ُذوقُوا فَما ِللظَّ ِال ِمين ِم ْن َن ِ َّ َّ ِ ِ
ير } . َ َ اء ُك ُم َّ ُأ ََولَ ْم ُن َع ِّم ْر ُك ْم َما َيتَ َذك ُر فيه َم ْن تَ َذك َر َو َج َ
ين َكفَ ُروا } أي: َِّ
لما ذكر تعالى حال أهل الجنة ونعيمهم ،ذكر حال أهل النار وعذابهم فقالَ { :والذ َ
جحدوا ما جاءتهم به رسلهم من اآليات ،وأنكروا لقاء ربهم.
ضى َعلَْي ِه ْم } بالموت { فََي ُموتُوا }
{ لَهُ ْم َن ُار َجهََّن َم } يعذبون فيها أشد العذاب ،وأبلغ العقاب { .ال ُي ْق َ
ف َع ْنهُ ْم ِم ْن َع َذابِهَا } فشدة العذاب وعظمه ،مستمر عليهم في جميع اآلنات فيستريحواَ { ،وال ُي َخفَّ ُ
واللحظات.
ون ِفيهَا } أي :يصرخون ويتصايحون ويستغيثون ط ِر ُخ َ صَور َو ُه ْم َي ْك َن ْج ِزي ُك َّل َكفُ ٍ{ َك َذِل َ
ص ِال ًحا َغْي َر الَِّذي ُكَّنا َن ْع َم ُل } فاعترفوا بذنبهم ،وعرفوا أن اللّه
َخ ِر ْجَنا َن ْع َم ْل َ
ويقولونَ { :ربََّنا أ ْ
عدل فيهم ،ولكن سألوا الرجعة في غير وقتها ،فيقال لهم { :أ ََولَ ْم ُن َع ِّم ْر ُك ْم َما } أي :دهرا وعمرا {
يه َم ْن تَ َذ َّك َر } أي :يتمكن فيه من أراد التذكر من العمل ،متعناكم في الدنيا ،وأدررنا عليكم يتَ َذ َّكر ِف ِ
َ ُ
األرزاق ،وقيضنا لكم أسباب الراحة ،ومددنا ( )1لكم في العمر ،وتابعنا عليكم اآليات ،وأوصلنا
إليكم النذر ،وابتليناكم بالسراء والضراء ،لتنيبوا إلينا وترجعوا إلينا ،فلم ينجع فيكم إنذار ،ولم تفد
فيكم موعظة ،وأخرنا عنكم العقوبة ،حتى إذا انقضت آجالكم ،وتمت أعماركم ،ورحلتم عن دار
اإلمكان ،بأشر الحاالت ،ووصلتم إلى هذه الدار دار الجزاء على األعمال ،سألتم الرجعة؟ هيهات
هيهات ،فات وقت اإلمكان ،وغضب عليكم الرحيم الرحمن ،واشتد عليكم عذاب النار ،ونسيكم
ين ِ َّ ِ ِ
أهل الجنة ،فامكثوا فيها خالدين مخلدين ،وفي العذاب مهانين ،ولهذا قال { :فَ ُذوقُوا فَ َما للظالم َ
ير } ينصرهم فيخرجهم منها ،أو يخفف عنهم من عذابها. صٍِم ْن َن ِ
__________
( )1كذا في :ب ،وفي أ :مدينا.
( )1/690
( )1/690
( )1/690
ك ِفي
ض أ َْم لَهُ ْم ِش ْر ٌ
ون اللَّ ِه أ َُرونِي َما َذا َخلَقُوا ِم َن اأْل َْر ِ
ون ِم ْن ُد ِين تَ ْد ُع َ
َِّ
اء ُك ُم الذ َ
ُق ْل أ ََرأ َْيتُ ْم ُش َر َك َ
ضهم َبع ً اَّل ِ َّ ِ ٍ ِ ات أَم آَتَْيَن ُ ِ
ِ
ضا ِإ ُغ ُر ً
ورا ()40 ون َب ْع ُ ُ ْ ْ اه ْم كتَ ًابا فَهُ ْم َعلَى َبيَِّنة م ْنهُ َب ْل ِإ ْن َيع ُد الظال ُم َ َّم َاو ْ الس َ
( )1/691
ِِ َن تَُزواَل ولَئِ ْن َزالَتَا ِإ ْن أَمس َكهما ِم ْن أ ٍ ِ ِ ِإ َّن اللَّهَ ُي ْم ِس ُ
َحد م ْن َب ْعده ِإَّنهُ َك َ
ان َ ْ َ َُ َ ض أْ
َّم َاوات َواأْل َْر َ
ك الس َ
ورا ()41 ِ
يما َغفُ ً َحل ً
( )1/691
( )1/691
ِ ف َكان ع ِاقبةُ الَِّذ ِ ِ أَولَ ْم َي ِس ُيروا ِفي اأْل َْر ِ
ين م ْن قَْبل ِه ْم َو َك ُانوا أَ َش َّد م ْنهُ ْم قَُّوةً َو َما َك َ
ان َ ض فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ َ َ َ َ
يما قَِد ًيرا ()44 ِ
ان َعل ً ات واَل ِفي اأْل َْر ِ
ض ِإَّنهُ َك َ
ِ
َّم َاو َ
ٍِ َّ ِ ِ ِ
اللهُ لُي ْعج َزهُ م ْن َش ْيء في الس َ
( )1/691
( )1/692
( )1/692
ون (ِ )13إ ْذ أ َْر َسْلَنا ِإلَْي ِه ُم اثَْن ْي ِن فَ َك َّذُب ُ ِ
وه َما اء َها اْل ُم ْر َسلُ َ اب اْلقَ ْرَية ِإ ْذ َج َ َص َح َب لَهُ ْم َمثَاًل أ ْ اض ِر َْو ْ
الر ْح َم ُن ِم ْن َش ْي ٍء ون ( )14قَالُوا َما أ َْنتُ ْم ِإاَّل َب َشٌر ِم ْثلَُنا َو َما أ َْن َز َل َّ ٍِ
فَ َع َّز ْزَنا بِثَالث فَقَالُوا ِإَّنا ِإلَْي ُك ْم ُم ْر َسلُ َ
اَّل اَّل ِ
ين ()17 ون (َ )16و َما َعلَْيَنا ِإ اْلَباَل غُ اْل ُمبِ ُ ون ( )15قَالُوا َربَُّنا َي ْعلَ ُم ِإَّنا ِإلَْي ُك ْم لَ ُم ْر َسلُ َ ِإ ْن أ َْنتُ ْم ِإ تَ ْكذُب َ
طائِ ُر ُك ْم َم َع ُك ْم أَئِ ْنيم ( )18قَالُوا َ طيَّرَنا بِ ُكم لَئِ ْن لَم تَْنتَهوا لََنرجمَّن ُكم ولَيمسََّّن ُكم ِمَّنا ع َذ ٌ ِ
اب أَل ٌ َ ْ ُ ْ ُ َ ْ َ ََ ْ ْ قَالُوا ِإَّنا تَ َ ْ
ال َيا قَ ْوِم اتَّبِ ُعوا صى اْل َم ِد َين ِة َر ُج ٌل َي ْس َعى قَ َ ُذ ِّكرتُم ب ْل أ َْنتُم قَوم مس ِرفُون ( )19وج ِ
اء م ْن أَ ْق َ َ َ َ ْ ٌْ ُ ْ َ ْ َْ
ط َرنِي َوإِلَْي ِه َعُب ُد الَِّذي فَ َ ون (َ )21و َما ِل َي اَل أ ْ َج ًرا َو ُه ْم ُم ْهتَ ُد َ ين ( )20اتَّبِ ُعوا َم ْن اَل َي ْسأَلُ ُك ْم أ ْ ِ
اْل ُم ْر َسل َ
اعتُهُ ْم َش ْيًئا َواَل ُي ْن ِق ُذ ِ
ون ضٍّر اَل تُ ْغ ِن َعِّني َشفَ َ الر ْح َم ُن بِ ُ ون ( )22أَأَتَّ ِخ ُذ ِم ْن ُدونِ ِه آَِلهَةً ِإ ْن ُي ِر ْد ِن َّ تُْر َج ُع َ
تون (ِ )25قي َل ْاد ُخ ِل اْل َجَّنةَ قَا َل َيا لَْي َ اس َم ُع ِت بَِرِّب ُك ْم فَ ْ ِ
ين ( )24إِّني آ َ
َم ْن ُ ضاَل ٍل ُمبِ ٍ ِ
(ِ )23إِّني ِإ ًذا لَفي َ
ين (َ )27و َما أ َْن َزْلَنا َعلَى قَ ْو ِم ِه ِم ْن َب ْع ِد ِه ِ ِ ِ
ون ( )26بِ َما َغفََر لي َربِّي َو َج َعلَني م َن اْل ُم ْك َر ِم َ قَ ْو ِمي َي ْعلَ ُم َ
ِ ِ اء وما ُكَّنا م ْن ِزِلين (ِ )28إ ْن َك َان ْ اَّل ِم ْن ج ْن ٍد ِمن الس ِ
ون (َ )29يا ص ْي َحةً َواح َدةً فَِإ َذا ُه ْم َخام ُد َ ت ِإ َ ُ َ َّم َ َ ُ َ َ
ِ َحسرةً َعلَى اْل ِعَب ِاد ما َيأْتِي ِهم ِم ْن رس ٍ اَّل
ون ()30 ول ِإ َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ َ ُ ْ َ َْ
ِ
ون } إلى آخر القصة. اب اْلقَ ْرَية ِإ ْذ َج َ
اء َها اْل ُم ْر َسلُ َ َص َح َ اض ِر ْ
ب لَهُ ْم َمثَال أ ْ { َ { } 30 - 13و ْ
أي :واضرب لهؤالء المكذبين برسالتك ،الرادين لدعوتك ،مثال يعتبرون به ،ويكون لهم موعظة
إن وفقوا للخير ،وذلك المثل :أصحاب القرية ،وما جرى منهم من التكذيب لرسل اللّه ،وما جرى
عليهم من عقوبته ونكاله.
وتعيين تلك القرية ،لو كان فيه فائدة ،لعينها اللّه ،فالتعرض لذلك وما أشبهه من باب التكلف
والتكلم بال علم ،ولهذا إذا تكلم أحد في مثل هذا تجد عنده من الخبط والخلط واالختالف الذي ال
يستقر له قرار ،ما تعرف به أن طريق العلم الصحيح ،الوقوف مع الحقائق ،وترك التعرض لما
ال فائدة فيه ،وبذلك تزكو النفس ،ويزيد العلم ،من حيث يظن الجاهل أن زيادته بذكر األقوال التي
ال دليل عليها ،وال حجة عليها وال يحصل منها من الفائدة إال تشويش الذهن واعتياد األمور
المشكوك فيها.
ون } [ ص ] 694من اللّه والشاهد أن هذه القرية جعلها اللّه مثال للمخاطبينِ { .إ ْذ َج َ
اء َها اْل ُم ْر َسلُ َ
تعالى يأمرونهم بعبادة اللّه وحده ،وإ خالص الدين له ،وينهونهم عن الشرك والمعاصي.
وه َما فَ َع َّز ْزَنا بِثَ ِال ٍث } أي :قويناهما بثالث ،فصاروا ثالثة رسل ،اعتناء { ِإ ْذ أ َْر َسْلَنا ِإلَْي ِه ُم اثَْن ْي ِن فَ َك َّذُب ُ
ون } فأجابوهم من اللّه بهم ،وإ قامة للحجة بتوالي الرسل إليهم { ،فَقَالُوا } لهمِ { :إَّنا ِإلَْي ُك ْم ُم ْر َسلُ َ
بالجواب الذي ما زال مشهورا عند من رد دعوة الرسل :فـ { قَالُوا َما أ َْنتُ ْم ِإال َب َشٌر ِم ْثلَُنا } أي :فما
ِ َّ ِ
الذي فضلكم علينا وخصكم من دوننا؟ قالت الرسل ألممهمِ { :إ ْن َن ْح ُن ِإال َب َشٌر مثْلُ ُك ْم َولَك َّن اللهَ
اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه } َي ُم ُّن َعلَى َم ْن َي َش ُ
الر ْح َم ُن ِم ْن َش ْي ٍء } أي :أنكروا عموم الرسالة ،ثم أنكروا أيضا المخاطبين لهم، َنزل َّ{ َو َما أ َ
ِ
فقالواِ { :إ ْن أ َْنتُ ْم ِإال تَ ْكذُب َ
ون }
فقالت هؤالء الرسل الثالثةَ { :ربَُّنا َي ْعلَ ُم ِإَّنا ِإلَْي ُك ْم لَ ُم ْر َسلُ َ
ون } فلو كنا كاذبين ،ألظهر اللّه ()1
خزينا ،ولبادرنا بالعقوبة.
ين } أي :البالغ المبين الذي يحصل به توضيح األمور المطلوب بيانها، { َو َما َعلَْيَنا ِإال اْلَبالغُ اْل ُمبِ ُ
وما عدا هذا من آيات االقتراح ،ومن سرعة العذاب ،فليس إلينا ،وإ نما وظيفتنا -التي هي البالغ
المبين -قمنا بها ،وبيناها لكم ،فإن اهتديتم ،فهو حظكم وتوفيقكم ،وإ ن ضللتم ،فليس لنا من األمر
شيء.
طي َّْرَنا بِ ُك ْم } أي :لم نر على قدومكم علينا واتصالكم بنا إال
فقال أصحاب القرية لرسلهمِ { :إَّنا تَ َ
الشر ،وهذا من أعجب العجائب ،أن يجعل من قدم عليهم بأجل نعمة ينعم اللّه بها على العباد،
وأجل كرامة يكرمهم بها ،وضرورتهم إليها فوق كل ضرورة ،قد قدم بحالة شر ،زادت على
الشر الذي هم عليه ،واستشأموا بها ،ولكن الخذالن وعدم التوفيق ،يصنع بصاحبه أعظم مما ()2
يصنع به عدوه.
ثم توعدوهم فقالوا { :لَئِ ْن لَ ْم تَْنتَهُوا لََن ْر ُج َمَّن ُك ْم } أي :نقتلنكم رجما بالحجارة أشنع القتالت
يم } { ولَيمسََّّن ُكم ِمَّنا ع َذ ٌ ِ
اب أَل ٌ َ َ ََ ْ
طائِ ُر ُك ْم َم َع ُك ْم } وهو ما معهم من الشرك والشر ،المقتضي لوقوع المكروه فقالت لهم رسلهمَ { :
والنقمة ،وارتفاع المحبوب والنعمة { .أَئِ ْن ُذ ِّك ْرتُ ْم } أي :بسبب أنا ذكرناكم ما فيه صالحكم
وحظكم ،قلتم لنا ما قلتم.
ون } متجاوزون للحد ،متجرهمون في قولكم ،فلم يزدهم [دعاؤهم] إال نفورا { َب ْل أ َْنتُ ْم قَ ْو ٌم ُم ْس ِرفُ َ
واستكبارا.
صى اْل َم ِد َين ِة َر ُج ٌل َي ْس َعى } حرصا على نصح قومه حين سمع ما دعت إليه الرسل { وج ِ
اء م ْن أَ ْق َ َ َ َ
ِ
وآمن به ،وعلم ما رد به قومه عليهم فقال [لهم]َ { :يا قَ ْوِم اتَّبِ ُعوا اْل ُم ْر َسل َ
ين } فأمرهم باتباعهم
ونصحهم على ذلك ،وشهد لهم بالرسالة ،ثم ذكر تأييدا لما شهد به ودعا إليه ،فقال { :اتَّبِ ُعوا َم ْن ال
َج ًرا } أي :اتبعوا من نصحكم نصحا يعود إليكم بالخير ،وليس [يريد منكم أموالكم وال
َي ْسأَلُ ُك ْم أ ْ
أجرا على نصحه لكم وإ رشاده إياكم ،فهذا موجب التباع من هذا وصفه.
بقي] أن يقال :فلعله يدعو وال يأخذ أجرة ،ولكنه ليس على الحق ،فدفع هذا االحتراز بقوله:
ون } ألنهم ال يدعون إال لما يشهد العقل الصحيح بحسنه ،وال ينهون إال بما يشهد
{ َو ُه ْم ُم ْهتَ ُد َ
العقل الصحيح بقبحه.
فكأن قومه لم يقبلوا نصحه ،بل عادوا الئمين له على اتباع الرسل ،وإ خالص الدين للّه وحده،
ِ َعُب ُد الَِّذي فَ َ
فقالَ { :و َما ِل َي ال أ ْ
ون } أي :وما المانع لي من عبادة من هوط َرنِي َوإِلَْيه تُْر َج ُع َ
المستحق للعبادة ،ألنه الذي فطرني ،وخلقني ،ورزقني ،وإ ليه مآل جميع الخلق ،فيجازيهم
بأعمالهم ،فالذي بيده الخلق والرزق ،والحكم بين العباد ،في الدنيا واآلخرة ،هو الذي يستحق أن
يعبد ،ويثنى عليه ويمجد ،دون من ال يملك نفعا وال ضرا ،وال عطاء وال منعا ،وال حياة وال موتا
ضٍّر ال تُ ْغ ِن َعِّني َشفَ َ
اعتُهُ ْم } ألنه وال نشورا ،ولهذا قال { :أَأَتَّ ِخ ُذ ِم ْن ُدونِ ِه ِآلهَةً ِإ ْن ُي ِر ْد ِن َّ
الر ْح َم ُن بِ ُ
ال أحد يشفع عند اهلل إال بإذنه ،فال تغني شفاعتهم عني شيئاَ ،وال ُه ْم ُي ْنقذون من الضر الذي أراده
اللّه بي.
ض ٍ
الل ُمبِ ٍ ِ
ين } فجمع في هذا الكالم ،بين { ِإِّني ِإ ًذا } أي :إن عبدت آلهة هذا وصفها { لَفي َ
نصحهم ،والشهادة للرسل بالرسالة ،واالهتداء واإلخبار بِتعيُّن ( )3عبادة اللّه وحده ،وذكر األدلة
عليها ،وأن عبادة غيره باطلة ،وذكر البراهين عليها ،واإلخبار بضالل من عبدها ،واإلعالن
ون } فقتله قومه ،لما ت بَِرِّب ُك ْم فَ ْ
اس َم ُع ِ ِ
بإيمانه جهرا ،مع خوفه الشديد من قتلهم ،فقال { :إِّني َ
آم ْن ُ
سمعوا منه وراجعهم بما راجعهم به.
يل } له في الحالْ { :اد ُخ ِل اْل َجَّنةَ } فقال مخبرا بما وصل إليه من الكرامة على توحيده فـ { ِق َ
ون بِ َما َغفََر
ت قَ ْو ِمي َي ْعلَ ُم َوإ خالصه ،وناصحا لقومه بعد وفاته ،كما نصح لهم في حياتهَ { :يا لَْي َ
ِ ِ ِ
لي َربِّي } أي :بأي :شيء غفر لي ،فأزال عني أنواع العقوباتَ { ،و َج َعلَني م َن اْل ُم ْك َر ِم َ
ين }
[ ص ] 695بأنواع المثوبات والمسرات ،أي :لو وصل علم ذلك إلى قلوبهم ،لم يقيموا على
شركهم.
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :لظهر خزينا.
( )2كذا في ب ،وفي أ :ما.
( )3كذا في ب ،وفي أ :بتعيين.
( )1/693
قال اللّه في عقوبة قومه { [ :وما أَنزْلَنا علَى قَو ِم ِه] ِم ْن بع ِد ِه ِم ْن ج ْن ٍد ِمن السَّم ِ
اء } أي :ما احتجنا ُ َ َ َْ َ ْ ََ
ين } لعدم الحاجة إلىأن نتكلف في عقوبتهم ،فننزل جندا من السماء إلتالفهمَ { ،و َما ُكَّنا ُمنزِل َ
ذلك ،وعظمة اقتدار اللّه تعالى ،وشدة ضعف بني آدم ،وأنهم أدنى شيء يصيبهم من عذاب اللّه
ت } أي :كانت عقوبتهم { ِإال ص ْيحةً و ِ
اح َدةً } أي :صوتا واحدا ،تكلم به بعض يكفيهم { ِإ ْن َك َان ْ
َ َ َ
ِ
ون } قد تقطعت قلوبهم في أجوافهم ،وانزعجوا لتلك الصيحة، مالئكة اللّه { ،فَِإ َذا ُه ْم َخام ُد َ
فأصبحوا خامدين ،ال صوت وال حركة ،وال حياة بعد ذلك العتو واالستكبار ،ومقابلة أشرف
الخلق بذلك الكالم القبيح ،وتجبرهم عليهم.
ِ قال اللّه متوجعا للعبادَ { :يا َح ْسرةً َعلَى اْل ِعَب ِاد ما َيأْتِي ِهم ِم ْن رس ٍ
ول ِإال َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ
ون } أي: َ ُ ْ َ َ
ما أعظم شقاءهم ،وأطول عناءهم ،وأشد جهلهم ،حيث كانوا بهذه الصفة القبيحة ،التي هي سبب
لكل شقاء وعذاب ونكال"
( )1/695
ون (َ )31وإِ ْن ُك ٌّل لَ َّما َج ِميعٌ لَ َد ْيَنا َهلَ ْكَنا قَْبلَهُ ْم ِم َن اْلقُُر ِ
ون أََّنهُ ْم ِإلَْي ِه ْم اَل َي ْر ِج ُع َ أَلَ ْم َي َر ْوا َك ْم أ ْ
ون ()32 ض ُر َ ُم ْح َ
( )1/695
ات ِم ْن
َخر ْجَنا ِم ْنها حبًّا فَ ِم ْنه ي ْأ ُكلُون ( )33وجعْلَنا ِفيها جَّن ٍ
َ َ َ ََ َُ َ َ َ اها َوأ ْ ََحَي ْيَن َ
ض اْل َم ْيتَةُ أ َْوآََيةٌ لَهُ ُم اأْل َْر ُ
ِ ِ ِ ِ َّرَنا ِفيهَا ِم َن اْل ُعُي ِ َعَن ٍ َن ِخ ٍ
ون ( )34لَي ْأ ُكلُوا م ْن ثَ َم ِر ِه َو َما َعملَتْهُ أ َْيدي ِه ْم أَفَاَل َي ْش ُك ُر َ
ون ( اب َوفَج ْ يل َوأ ْ
ِ اج ُكلَّهَا ِم َّما تُْنبِ ُ ان الَِّذي َخلَ َ
ون ()36 ض َو ِم ْن أ َْنفُس ِه ْم َو ِم َّما اَل َي ْعلَ ُم َ ت اأْل َْر ُ ق اأْل َْز َو َ ُ )35س ْب َح َ
( )1/695
ك تَ ْق ِد ُير
الش ْم ُس تَ ْج ِري ِل ُم ْستَقٍَّر لَهَا َذِل َ
ون ( )37و َّ
َ
النهار فَِإ َذا ُهم م ِْ
ظل ُم َ ْ ُ
ِ َّ
َوآََيةٌ لَهُ ُم اللْي ُل َن ْسلَ ُخ م ْنهُ َّ َ َ
الش ْم ُس َي ْنَب ِغي لَهَا
ون اْلقَِد ِيم ( )39اَل َّ يز اْل َعِل ِيم (َ )38واْلقَ َم َر قَ َّد ْرَناهُ َمَن ِاز َل َحتَّى َع َ
اد َكاْل ُع ْر ُج ِ اْل َع ِز ِ
ٍ ِ ك اْلقَ َم َر َواَل اللَّْي ُل َسابِ ُ
ون ()40 النهَ ِار َو ُك ٌّل في َفلَك َي ْسَب ُح َ
ق َّ َن تُ ْد ِر َ
أْ
( )1/695
ون (َ )42وإِ ْن َن َش ْأ ِ ِ ِِ َوآََيةٌ لَهُ ْم أََّنا َح َمْلَنا ُذِّريَّتَهُ ْم ِفي اْل ُفْل ِك اْل َم ْش ُح ِ
ون (َ )41و َخلَ ْقَنا لَهُ ْم م ْن مثْله َما َي ْر َكُب َ
ين (َ )44وإِ َذا ِقي َل لَهُ ُم اعا ِإلَى ِح ٍ ِ
ون (ِ )43إاَّل َر ْح َمةً مَّنا َو َمتَ ً يخ لَهُ ْم َواَل ُه ْم ُي ْنقَ ُذ َ ص ِر َُن ْغ ِر ْقهُ ْم فَاَل َ
اتَّقُوا ما ب ْين أ َْي ِدي ُكم وما َخْلفَ ُكم لَعلَّ ُكم تُرحمون ( )45وما تَأْتِي ِهم ِم ْن آَي ٍة ِم ْن آَي ِ
ات َرِّب ِه ْم ِإاَّل َك ُانوا َ َ ْ ََ ْ َ ْ ْ َُ َ ْ ََ َ َ َ
ط ِع ُم َم ْنَمُنوا أَُن ْ ين آ َ
َِِّ
ين َكفَ ُروا للذ َ
ضين ( )46وإِ َذا ِقي َل لَهم أ َْن ِفقُوا ِم َّما ر َزقَ ُكم اللَّه قَ َ َِّ
ال الذ َ َ ُ ُ ُْ َ
ِ
َعْنهَا ُم ْع ِر َ
ين ( )47ويقُولُون متَى َه َذا اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ ِ اء اللَّهُ أَ ْ
ين (صادق َ ْ َ َ َ َ ََ ضاَل ٍل ُمبِ ٍط َع َمهُ ِإ ْن أ َْنتُ ْم ِإاَّل في َ لَ ْو َي َش ُ
صَيةً َواَل ِإلَى ْخ ُذ ُهم و ُهم ي ِخصِّمون ( )49فَاَل يستَ ِطيعون تَو ِ ِ )48ما َي ْنظُر اَّل
َْ ُ َ ْ ُ َ ص ْي َحةً َواح َدةً تَأ ُ ْ َ ْ َ ون ِإ َ ُ َ َ
أ ِْ
ون ()50 َهل ِه ْم َي ْر ِج ُع َ
ون ِ ِ ِِ { َ { } 50 - 41و َآيةٌ لَهُ ْم أََّنا َح َمْلَنا ُذِّريَّتَهُ ْم ِفي اْل ُفْل ِك اْل َم ْش ُح ِ
ون * َو َخلَ ْقَنا لَهُ ْم م ْن مثْله َما َي ْر َكُب َ
ين * َوإِ َذا ِق َ
يل اعا ِإلَى ِح ٍ ِ
ون * ِإال َر ْح َمةً مَّنا َو َمتَ ً يخ لَهُ ْم َوال ُه ْم ُي ْنقَ ُذ َص ِر َ * َوإِ ْن َن َش ْأ ُن ْغ ِر ْقهُ ْم فَال َ
لَهم اتَّقُوا ما ب ْين أ َْي ِدي ُكم وما َخْلفَ ُكم لَعلَّ ُكم تُرحمون * وما تَأْتِي ِهم ِم ْن آي ٍة ِم ْن آي ِ
ات َرِّب ِه ْم ِإال َك ُانوا َ َ ْ ْ َ ْ ْ َُ َ َ َ ْ ََ َ َ َ ُُ
ط ِع ُم َم ْن لَ ْوآمُنوا أَُن ْ
ين َ
َِِّ
ين َكفَ ُروا للذ َ
َِّ َّ ِ ِ ِ
ين * َوإِ َذا قي َل لَهُ ْم أ َْنفقُوا م َّما َر َزقَ ُك ُم اللهُ قَا َل الذ َ
ِ
َعْنهَا ُم ْع ِرض َ
ين * ويقُولُون متَى َه َذا اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ ض ٍ ِ اء اللَّهُ أَ ْ
ين * َما صادق َ ْ َ َ َ َ الل ُمبِ ٍ َ َ ط َع َمهُ ِإ ْن أ َْنتُ ْم ِإال في َ َي َش ُ
َهِل ِه ْم ْخ ُذ ُهم و ُهم ي ِخصِّمون * فَال يستَ ِطيعون تَو ِ
صَيةً َوال ِإلَى أ ْ َْ ُ َ ْ ُ َ
ِ
ص ْي َحةً َواح َدةً تَأ ُ ْ َ ْ َ ون ِإال َ َي ْنظُ ُر َ
َي ْر ِج ُع َ
ون } .
أي :ودليل لهم وبرهان ،على أن اللّه وحده المعبود ،ألنه المنعم بالنعم ،الصارف للنقم ،الذي من
جملة نعمه { أََّنا َح َمْلَنا ُذِّريَّتَهُ ْم } قال كثير من المفسرين :المراد بذلك :آباؤهم.
{ َو َخلَ ْقَنا لَهُ ْم } أي :للموجودين من ( )1بعدهم { ِم ْن ِم ْثِل ِه } أي :من مثل ذلك الفلك ،أي :جنسه {
ون } به ،فذكر نعمته على اآلباء بحملهم في السفن ،ألن النعمة عليهم ،نعمة على الذرية. َما َي ْر َكُب َ
علي في التفسير ،فإن ما ذكره كثير من المفسرين ،من أن وهذا الموضع من أشكل المواضع َّ
المراد بالذرية اآلباء ،مما ال يعهد في القرآن إطالق الذرية على اآلباء ،بل فيها من اإليهام،
وإ خراج الكالم عن موضوعه ،ما يأباه كالم رب العالمين ،وإ رادته البيان والتوضيح لعباده.
وثََّم احتمال أحسن من هذا ،وهو أن المراد بالذرية الجنس ،وأنهم هم بأنفسهم ،ألنهم هم من ذرية
ون } إن أريد :وخلقنا من ِ ِ ِِ
[بني] آدم ،ولكن ينقض هذا المعنى قولهَ { :و َخلَ ْقَنا لَهُ ْم م ْن م ْثله َما َي ْر َكُب َ
مثل ذلك الفلك ،أي :لهؤالء المخاطبين ،ما يركبون من أنواع الفلك ،فيكون ذلك تكريرا للمعنى،
ون } اإلبل ،التي هي سفن ِ ِ ِِ
تأباه فصاحة القرآن .فإن أريد بقولهَ { :و َخلَ ْقَنا لَهُ ْم م ْن مثْله َما َي ْر َكُب َ
البر ،استقام المعنى واتضح ،إال أنه يبقى أيضا ،أن يكون الكالم فيه تشويش ،فإنه لو أريد هذا
ِ ِ ِِ ِ ِ
المعنى ،لقالَ :و َآيةٌ لَهُ ْم أََّنا َح َمْلَناهم في اْل ُفْلك اْل َم ْش ُحونَ ِ،و َخلَ ْقَنا لَهُ ْم م ْن م ْثله َما َي ْر َكُب َ
ون ،فأما أن
يقول في األول :وحملنا ذريتهم ،وفي الثاني :حملناهم ،فإنه ال يظهر المعنى ،إال أن يقال:
الضمير عائد إلى الذرية ،واللّه أعلم بحقيقة الحال.
فلما وصلت في الكتابة إلى هذا الموضع ،ظهر لي معنى ليس ببعيد من مراد اللّه تعالى ،وذلك أن
من عرف جاللة كتاب اللّه وبيانه التام من كل وجه ،لألمور الحاضرة والماضية والمستقبلة ،وأنه
يذكر من كل معنى أعاله وأكمل ما يكون من أحواله ،وكانت الفلك من آياته تعالى ونعمه على
عباده ،من حين أنعم عليهم بتعلمها إلى يوم القيامة ،ولم تزل موجودة في كل زمان ،إلى زمان
المواجهين بالقرآن.
فلما خاطبهم اللّه تعالى بالقرآن ،وذكر حالة الفلك ،وعلم تعالى أنه سيكون أعظم آيات الفلك في
غير وقتهم ،وفي غير زمانهم ،حين يعلمهم [صنعة] الفلك [البحرية] الشراعية منها والنارية،
والجوية السابحة في الجو ،كالطيور ونحوها[ ،والمراكب البرية] مما كانت اآلية العظمى فيه لم
توجد إال في الذرية ،نبَّه في الكتاب على أعلى نوع من أنواع آياتها فقال:
{ َو َآيةٌ لَهُ ْم أََّنا َح َمْلَنا ُذِّريَّتَهُ ْم ِفي اْل ُفْل ِك اْل َم ْش ُح ِ
ون } أي :المملوء ركبانا وأمتعة .فحملهم اللّه تعالى،
ونجاهم باألسباب التي علمهم اللّه بها ،من [ ص ] 697الغرق ،و[لهذا] نبههم على نعمته عليهم
ص ِر َ
يخ لَهُ ْم } أي :ال أحد حيث ( )2أنجاهم مع قدرته على ذلك ،فقالَ { :وإِ ْن َن َش ْأ ُن ْغ ِر ْقهُ ْم فَال َ
ون } مما هم فيه { ِإاليصرخ لهم فيعاونهم على الشدة ،وال يزيل عنهم المشقةَ { ،وال ُه ْم ُي ْنقَ ُذ َ
ين } حيث لم نغرقهم ،لطفا بهم ،وتمتيعا لهم إلى حين ،لعلهم يرجعون ،أو اعا ِإلَى ِح ٍ ِ
َر ْح َمةً مَّنا َو َمتَ ً
يستدركون ما فرط منهم.
يل لَهُ ُم اتَّقُوا َما َب ْي َن أ َْي ِدي ُك ْم َو َما َخْلفَ ُك ْم } أي :من أحوال البرزخ والقيامة ،وما في الدنيا من { َوإِ َذا ِق َ
ون } أعرضوا عن ذلك ،فلم يرفعوا به رأسا ،ولو جاءتهم كل آية ،ولهذا َّ
العقوبات { لَ َعل ُك ْم تُْر َح ُم َ
ِ ِ ِ ِ ٍ ِ
ين } وفي إضافة اآليات إلى ربهم، قالَ { :و َما تَأْتي ِه ْم م ْن َآية م ْن َآيات َرِّب ِه ْم ِإال َك ُانوا َع ْنهَا ُم ْع ِرض َ
دليل على كمالها ووضوحها ،ألنه ما أبين من آية من آيات اللّه ،وال أعظم بيانا.
وإ ن من جملة تربية اللّه لعباده ،أن أوصل إليهم اآليات التي يستدلون بها على ما ينفعهم ،في
دينهم ودنياهم.
من به اللّه عليكم ،ولو شاء لسلبكم يل لَهُ ْم أ َْن ِفقُوا ِم َّما َر َزقَ ُك ُم اللَّهُ } أي :من الرزق الذي َّ
{ َوإِ َذا ِق َ
اء ال الَِّذين َكفَروا ِللَِّذين آمُنوا } معارضين للحق ،محتجين بالمشيئة { :أَُن ْ ِ
طع ُم َم ْن لَ ْو َي َش ُ َ َ َ ُ إياه { ،قَ َ
ض ٍ
الل ُمبِ ٍ ِ اللَّهُ أَ ْ
ين } حيث تأمروننا بذلك. ط َع َمهُ ِإ ْن أ َْنتُ ْم } أيها المؤمنون { ِإال في َ
وهذا مما يدل على جهلهم العظيم ،أو تجاهلهم الوخيم ،فإن المشيئة ،ليست حجة لعاص أبدا ،فإنه
وإ ن كان ما شاء اللّه كان ،وما لم يشأ لم يكن ،فإنه تعالى َّ
مكن العباد ،وأعطاهم من القوة ما
يقدرون على فعل األمر واجتناب النهي ،فإذا تركوا ما أمروا به ،كان ذلك اختيارا منهم ،ال جبرا
لهم وال قهرا.
ين } قال اللّه تعالى: { ويقُولُون } على وجه التكذيب واالستعجال { :متَى َه َذا اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ
صادق َ
ْ َ َ َ َ ََ
ْخ ُذ ُه ْم
اح َدةً } وهي نفخة الصور { تَأ ُ ال يستبعدوا ذلك ،فإنه [عن] قريب { ما ي ْنظُرون ِإال ص ْيحةً و ِ
َ َ َ َ َ ُ َ
ون } أي :وهم ال هون عنها ،لم تخطر على قلوبهم في حال ِ
ِّم َ
} أي :تصيبهم { َو ُه ْم َيخص ُ
خصومتهم ،وتشاجرهم بينهم ،الذي ال يوجد في الغالب إال وقت الغفلة.
صَيةً } أي :ال قليلةوإ ذا أخذتهم وقت غفلتهم ،فإنهم ال ينظرون وال يمهلون { فَال يستَ ِطيعون تَو ِ
َْ ُ َ ْ
وال كثيرة { وال ِإلَى أ ْ ِ
َهل ِه ْم َي ْر ِج ُع َ
ون } َ
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :في .
( )2كذا في ب ،وفي أ :حين.
( )1/696
ون ( )51قَالُوا َيا َوْيلََنا َم ْن َب َعثََنا ِم ْن َم ْرقَِدَنا ِ ُّور فَِإ َذا ُهم ِمن اأْل ْ ِ
َج َداث ِإلَى َرِّب ِه ْم َي ْنسلُ َ ْ َ َوُن ِف َخ ِفي الص ِ
اح َدةً فَِإ َذا ُه ْم َج ِميعٌ لَ َد ْيَنا
ت ِإاَّل ص ْيحةً و ِ
َ َ َ ون (ِ )52إ ْن َك َان ْ ق اْل ُم ْر َسلُ َ
ص َد َ
الر ْح َم ُن َو ََه َذا َما َو َع َد َّ
اَّل
ون ()54 ظلَ ُم َن ْف ٌس َش ْيًئا َواَل تُ ْج َز ْو َن ِإ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ
ون ( )53فَاْلَي ْو َم اَل تُ ْ ض ُر َ ُم ْح َ
( )1/697
( )1/697
( )1/698
ون ()68 ِ و َم ْن ُن َع ِّم ْرهُ ُنَن ِّك ْسهُ ِفي اْل َخْل ِ
ق أَفَاَل َي ْعقلُ َ َ
ون } . ِ { { } 68و َم ْن ُن َع ِّم ْرهُ ُنَن ِّك ْسهُ ِفي اْل َخْل ِ
ق أَفَال َي ْعقلُ َ َ
ِ ِّ
يقول تعالى { :و َم ْن ُن َع ِّم ْرهُ } من بني آدم { ُنَنك ْسهُ في اْل َخْل ِ
ق } أي :يعود إلى الحالة التي ابتدأ َ
ون } أن اآلدمي ناقص من كل وجه، ِ
حالة الضعف ،ضعف العقل ،وضعف القوة { .أَفَال َي ْعقلُ َ
فيتداركوا قوتهم وعقولهم ،فيستعملونها في طاعة ربهم.
( )1/698
( )1/698
ون * َو َذلَّْلَن َ
اها لَهُ ْم ِ { { } 73 - 71أَولَم يروا أََّنا َخلَ ْقَنا لَهم ِم َّما ع ِملَ ْ ِ
اما فَهُ ْم لَهَا َمال ُك َ
ت أ َْيد َينا أ َْن َع ً َ ُْ َ ْ ََ ْ
ِ ِ ِ
ون } .ب أَفَال َي ْش ُك ُر َ ون * َولَهُ ْم فيهَا َمَنافعُ َو َم َش ِار ُ وبهُ ْم َو ِم ْنهَا َي ْأ ُكلُ َ
فَم ْنهَا َر ُك ُ
يأمر تعالى العباد بالنظر إلى ما سخر لهم من األنعام وذللها ،وجعلهم مالكين لها ،مطاوعة لهم في
كل أمر يريدونه منها ،وأنه جعل لهم فيها منافع كثيرة من حملهم وحمل أثقالهم ومحاملهم
وأمتعتهم من محل إلى محل ،ومن أكلهم منها ،وفيها دفء ،ومن أوبارها وأشعارها وأصوافها
ون }
أثاثا ومتاعا إلى حين ،وفيها زينة وجمال ،وغير ذلك من المنافع المشاهدة منها { ،أَفَال َي ْش ُك ُر َ
اللّه تعالى الذي أنعم بهذه النعم ،ويخلصون له العبادة وال يتمتعون بها تمتعا خاليا من العبرة
والفكرة.
( )1/699
ون ( ِ َّ واتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ َّ ِ ِ
ض ُر َ
ص َر ُه ْم َو ُه ْم لَهُ ْم ُج ْن ٌد ُم ْح َ
ون َن ْ
يع َ
ون ( )74اَل َي ْستَط ُ
ص ُر َ
ون الله آَلهَةً لَ َعلهُ ْم ُي ْن َ َ
)75
( )1/699
ِ ِ
ون ()76 ك قَ ْولُهُ ْم ِإَّنا َن ْعلَ ُم َما ُيس ُّر َ
ون َو َما ُي ْعلُن َ فَاَل َي ْح ُز ْن َ
ِ ِ
ون } . ك قَ ْولُهُ ْم ِإَّنا َن ْعلَ ُم َما ُيس ُّر َ
ون َو َما ُي ْعلُن َ { { } 76فَال َي ْح ُز ْن َ
أي :فال يحزنك يا أيها الرسول ،قول المكذبين ،والمراد بالقول :ما دل عليه السياق ،كل قول
يقدحون فيه في الرسول ،أو فيما جاء به.
ِ ِ
ون } أي :فال تشغل قلبك بالحزن عليهم { ِإَّنا َن ْعلَ ُم َما ُيس ُّر َ
ون َو َما ُي ْعلُن َ
فنجازيهم على حسب علمنا بهم ،وإ ال فقولهم ال يضرك شيئا.
( )1/699
ب لََنا َمثَاًل َوَن ِس َي َخْلقَهُ قَا َل ض َر َ ين (َ )77و َ يم ُمبِ ٌ ِ
طفَة فَِإ َذا ُه َو َخص ٌ
أَولَم ير اإْلِ ْنسان أََّنا َخلَ ْقَناه ِم ْن ُن ْ ٍ
ُ َ ُ َ ْ ََ
َها أ ََّو َل م َّر ٍة و ُهو بِ ُك ِّل َخْل ٍ ِ
يم ()79 ق َعل ٌ َ َ َ يم (ُ )78ق ْل ُي ْحيِيهَا الَِّذي أ َْن َشأ َ ظ َام َو ِه َي َر ِم ٌ َم ْن ُي ْحيِي اْل ِع َ
ق السَّماو ِ َِّ ِ الَِّذي َج َع َل لَ ُكم ِم َن َّ
ات ون ( )80أ ََولَْي َس الذي َخلَ َ َ َ ض ِر َن ًارا فَِإ َذا أ َْنتُ ْم م ْنهُ تُو ِق ُد َ الش َج ِر اأْل ْ
َخ َ ْ
ِ ِ
َن َيقُو َليم (ِ )81إَّن َما أ َْم ُرهُ ِإ َذا أ ََر َاد َش ْيًئا أ ْق اْل َعل ُ
اَّل
ق مثْلَهُ ْم َبلَى َو ُه َو اْل َخ ُ ض بِقَ ِاد ٍر َعلَى أ ْ
َن َي ْخلُ َ َواأْل َْر َ
ِ ٍ ان الَِّذي بَِي ِد ِه َملَ ُك ُ
ون ()83 وت ُك ِّل َش ْيء َوإِلَْيه تُْر َج ُع َ ون ( )82فَ ُس ْب َح َ لَهُ ُك ْن فََي ُك ُ
( )1/699
( )1/700
( )1/700
ِ
ون (َ )14وقَالُوا ون (َ )13وإِ َذا َرأ َْوا آََيةً َي ْستَ ْسخ ُر َ ون (َ )12وإِ َذا ُذ ِّك ُروا اَل َي ْذ ُك ُر َ ت َوَي ْس َخ ُر َ َب ْل َع ِج ْب َ
ظ ِ ِ ِ ِ ِإ ْن َه َذا ِإاَّل ِس ْحٌر ُمبِ ٌ
ون ( اؤَنا اأْل ََّولُ َ
ون ( )16أ ََوآََب ُ اما أَئَّنا لَ َم ْب ُعوثُ َ
ين ( )15أَئ َذا متَْنا َو ُكَّنا تَُر ًابا َوع َ ً
ِ ِ ِ
ون (َ )19وقَالُوا َيا َوْيلََنا ون ( )18فَِإَّن َما ه َي َز ْج َرةٌ َواح َدةٌ فَِإ َذا ُه ْم َي ْنظُ ُر َ ُ )17ق ْل َن َع ْم َوأ َْنتُ ْم َداخ ُر َ
ِ ِّ َِّ
ون ()21 ص ِل الذي ُك ْنتُ ْم بِه تُ َكذُب َ ين (َ )20ه َذا َي ْو ُم اْلفَ ْ َه َذا َي ْو ُم ِّ
الد ِ
ِ
ون *
ون * َوإِ َذا َرأ َْوا َآيةً َي ْستَ ْسخ ُر َ ون * َوإِ َذا ُذ ِّك ُروا ال َي ْذ ُك ُر َ ت َوَي ْس َخ ُر َ { َ { } 21 - 12ب ْل َع ِج ْب َ
ظ ِ ِ وقَالُوا ِإ ْن َه َذا ِإال ِس ْحر مبِ ٌ ِ ِ
ون * األولُ َ
اؤَنا َّ ون * أ ََو َآب ُاما أَئَّنا لَ َم ْب ُعوثُ َ
ين * أَئ َذا متَْنا َو ُكَّنا تَُر ًابا َوع َ ً ٌ ُ َ
ِ ِ ِ
ون * َوقَالُوا َيا َوْيلََنا َه َذا َي ْو ُم ِّ
الد ِ
ين ون * فَِإَّن َما ه َي َز ْج َرةٌ َواح َدةٌ فَِإ َذا ُه ْم َي ْنظُ ُر َ ُق ْل َن َع ْم َوأ َْنتُ ْم َداخ ُر َ
ِ ِّ َِّ
ون } . ص ِل الذي ُك ْنتُ ْم بِه تُ َكذُب َ * َه َذا َي ْو ُم اْلفَ ْ
ت } يا أيها الرسول وأيها اإلنسان ،من تكذيب من كذب بالبعث ،بعد أن أريتهم من { َب ْل َع ِج ْب َ
اآليات العظيمة واألدلة المستقيمة ،وهو حقيقة محل عجب واستغراب ،ألنه مما ال يقبل اإلنكار{ ،
ون } ممن جاء بالخبر عن البعث ،فلم يكفهمو } أعجب من إنكارهم وأبلغ منه ،أنهم { َي ْس َخ ُر َ
مجرد اإلنكار ،حتى زادوا السخرية بالقول الحق.
{ و } من العجب أيضا أنهم { ِإ َذا ُذ ِّك ُروا } ما يعرفون في فطرهم وعقولهم ،وفطنوا له ،وألفت
ون } ذلك ،فإن كان جهال فهو من أدل الدالئل على شدة بالدتهم العظيمة، نظرهم إليه { ال َي ْذ ُك ُر َ
حيث ذكروا ما هو مستقر في الفطر ،معلوم بالعقل ،ال يقبل اإلشكال ،وإ ن كان تجاهال وعنادا،
فهو أعجب وأغرب.
ومن العجب [أيضا] أنهم إذا أقيمت عليهم األدلة ،وذكروا اآليات التي يخضع لها فحول الرجال
وألباب األلباء ،يسخرون منها ويعجبون.
ومن العجب أيضا ،قولهم للحق لما جاءهمِ { :إ ْن َه َذا ِإال ِس ْحٌر ُمبِ ٌ
ين } فجعلوا أعلى األشياء
وأجلها ،وهو الحق ،في رتبة أخس األشياء وأحقرها.
ومن العجب أيضا ،قياسهم قدرة رب األرض والسماوات ،على قدرة اآلدمي الناقص من جميع
ظ ِ ِ ِ ِ
ون }
األولُ َ
اؤَنا َّ اما أَئَّنا لَ َم ْب ُعوثُ َ
ون أ ََو َآب ُ الوجوه ،فقالوا استبعادا وإ نكارا { :أَئ َذا متَْنا َو ُكَّنا تَُر ًابا َوع َ ً
ولما كان هذا منتهى ما عندهم ،وغاية ما لديهم ،أمر اللّه رسوله أن يجيبهم بجواب مشتمل على
ون } ذليلون ِ
ترهيبهم ( )1فقالُ { :ق ْل َن َع ْم } ستبعثون ،أنتم وآباؤكم األولون { َوأ َْنتُ ْم َداخ ُر َ
صاغرون ،ال تمتنعون ،وال تستعصون على قدرة اللّه.
اح َدةٌ } ينفخ إسرافيل فيها في الصور { فَِإ َذا ُه ْم } مبعوثون من قبورهم { فَِإَّنما ِهي َز ْجرةٌ و ِ
َ َ َ َ
ون } كما ابتدئ خلقهم ،بعثوا بجميع أجزائهم ،حفاة عراة غرال وفي تلك الحال ،يظهرون ظ ُر َ
{ َي ْن َ
الندم والخزي والخسار ،ويدعون بالويل والثبور.
{ َوقَالُوا َيا َوْيلََنا َه َذا َي ْو ُم ِّ
الد ِ
ين } فقد أقروا بما كانوا في الدنيا به يستهزءون.
ص ِل } بين العباد فيما بينهم وبين ربهم من الحقوق ،وفيما بينهم وبينفيقال لهمَ { :ه َذا َي ْو ُم اْلفَ ْ
غيرهم من الخلق.
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :تربيتهم.
( )1/701
( )1/701
( )1/702
ين ( )28قَالُوا َب ْل لَ ْم ونَنا َع ِن اْلَي ِم ِون ( )27قَالُوا ِإَّن ُك ْم ُك ْنتُ ْم تَأْتُ َ اءلُ َ
ض َيتَ َس َ ضهُ ْم َعلَى َب ْع ٍ َوأَ ْقَب َل َب ْع ُ
ان ب ْل ُك ْنتُم قَوما َ ِ ان لََنا َعلَْي ُك ْم ِم ْن ُسْل َ ِ
ق َعلَْيَنا قَ ْو ُل ين ( )30فَ َح َّ طاغ َ ْ ًْ طٍ َ ين (َ )29و َما َك َ ونوا ُم ْؤ ِمن َ تَ ُك ُ
ون (ِ )33إَّنا ين ( )32فَِإَّنهم َيومئٍِذ ِفي اْل َع َذ ِ
اب ُم ْشتَ ِر ُك َ َغ َو ْيَنا ُك ْم ِإَّنا ُكَّنا َغ ِاو َ
ون ( )31فَأ ْ ِ
َربَِّنا ِإَّنا لَ َذائقُ َ
ُْ ْ َ
ون أَئَِّنا ون (َ )35وَيقُولُ َ
اَّل َّ ِ
ين (ِ )34إَّنهُ ْم َك ُانوا ِإ َذا قي َل لَهُ ْم اَل ِإلَهَ ِإ اللهُ َي ْستَ ْكبِ ُر َ َك َذِل َ
ك َن ْف َع ُل بِاْل ُم ْج ِر ِم َ
ين (ِ )37إَّن ُكم لَ َذائِقُو اْل َع َذ ِ
اب ِ ص َّد َ
ق اْل ُم ْر َسل َ اء بِاْل َح ِّ
ق َو َ ون (َ )36ب ْل َج َ اع ٍر َم ْجُن ٍلَتَ ِار ُكوا آَِلهتَِنا ِل َش ِ
ْ َ
اَّل ِِ
ون ()39 اأْل َليم (َ )38و َما تُ ْج َز ْو َن ِإ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ
ين * قَالُوا ونَنا َع ِن اْلَي ِم ِ ون * قَالُوا ِإَّن ُك ْم ُك ْنتُ ْم تَأْتُ َ اءلُ َ ضهُ ْم َعلَى َب ْع ٍ
ض َيتَ َس َ { َ { } 39 - 27وأَ ْقَب َل َب ْع ُ
ان ب ْل ُك ْنتُم قَوما َ ِ ان لََنا َعلَْي ُك ْم ِم ْن ُسْل َ ِ
ق َعلَْيَنا قَ ْو ُل َربَِّنا ين * فَ َح َّطاغ َ ْ ًْ طٍ َ ين * َو َما َك َ ونوا ُم ْؤ ِمن ََب ْل لَ ْم تَ ُك ُ
ك َن ْف َع ُلون * ِإَّنا َك َذِل َ
اب ُم ْشتَ ِر ُك َ ين * فَِإَّنهم َيومئٍِذ ِفي اْل َع َذ ِ
ُْ ْ َ َغ َو ْيَنا ُك ْم ِإَّنا ُكَّنا َغ ِاو َ
ون * فَأ ْ ِ
ِإَّنا لَ َذائقُ َ
اع ٍربِاْلم ْج ِر ِمين * ِإَّنهم َك ُانوا ِإ َذا ِقي َل لَهم ال ِإلَه ِإال اللَّه يستَ ْكبِرون * ويقُولُون أَئَِّنا لَتَ ِار ُكو ِآلهتَِنا ِل َش ِ
َ َ ُ َ ْ ُ َ ََ َ ُْ ُْ َ ُ
ِ ِ ِ ِ
ين * ِإَّن ُك ْم لَ َذائقُو اْل َع َذاب األليم * َو َما تُ ْج َز ْو َن ِإال َما ُك ْنتُ ْم ِ ص َّد َ اء بِاْل َح ِّ َم ْجُن ٍ
ق اْل ُم ْر َسل َ ق َو َ ون * َب ْل َج َ
ون } . تَ ْع َملُ َ
لما جمعوا هم وأزواجهم وآلهتهم ،وهدوا إلى صراط الجحيم ،ووقفوا ،فسئلوا ،فلم يجيبوا ،وأقبلوا
فيما بينهم ،يلوم بعضهم بعضا على إضاللهم وضاللهم.
ونَنا َع ِن اْلَي ِم ِ
ين } أي :بالقوة والغلبة ،فتضلونا، فقال األتباع للمتبوعين الرؤساءِ { :إَّن ُك ْم ُك ْنتُ ْم تَأْتُ َ
ولوال أنتم لكنا مؤمنين.
ِ
ين } أي :ما زلتم مشركين ،كما نحن مشركون ،فأي :شيء ونوا ُم ْؤ ِمن َ { قَالُوا } لهم { َب ْل لَ ْم تَ ُك ُ
فضلكم علينا؟ وأي :شيء يوجب لومنا؟
طٍ
ان } أي :قهر لكم على اختيار الكفر { َب ْل ُك ْنتُ ْم قَ ْو ًما ان لنا عليكم ِم ْن ُسْل َ { و } الحال أنه { َما َك َ
ين } متجاوزين للحد (. )1 َ ِ
طاغ َ
ِ
ون } العذاب،أي :حق علينا قدر ربنا وقضاؤه ،أنا وإ ياكم ق َعلَْيَنا } نحن وإ ياكم { ِإَّنا لَ َذائقُ َ { فَ َح َّ
سنذوق العذاب ،ونشترك في العقاب.
ين } أي :دعوناكم إلى طريقتنا التي نحن عليها ،وهي الغواية، َغ َو ْيَنا ُك ْم ِإَّنا ُكَّنا َغ ِاو َ
{ فـ } لذلك { أ ْ
فاستجبتم لنا ،فال تلومونا ولوموا أنفسكم.
ون } وإ ن تفاوتت مقادير عذابهم اب ُم ْشتَ ِر ُك َ قال تعالى { :فَِإَّنهم َيومئٍِذ } أي :يوم القيامة { ِفي اْل َع َذ ِ
ُْ ْ َ
بحسب جرمهم.
كما اشتركوا في الدنيا على الكفر ،اشتركوا في اآلخرة بجزائه ،ولهذا قالِ { :إَّنا َك َذِل َ
ك َن ْف َع ُل
ين }بِاْل ُم ْج ِر ِم َ
يل لَهُ ْم ال ِإلَهَ ِإال اللَّهُ }ثم ذكر أن إجرامهم ،قد بلغ الغاية وجاوز النهاية فقالِ { :إَّنهُ ْم َك ُانوا ِإ َذا ِق َ
ون } عنها وعلى من جاء بها. فدعوا إليها ،وأمروا بترك إلهية ما سواه { َي ْستَ ْكبِ ُر َ
ون } معارضة لها { أَئَِّنا لَتَ ِار ُكوا ِآلهَتَِنا } التي لم نزل نعبدها نحن وآباؤنا { لـ } قول { َوَيقُولُ َ
ون } يعنون محمدا صلى اللّه عليه وسلم .فلم يكفهم -قبحهم اللّه -اإلعراض عنه، { َش ِ
اع ٍر َم ْجُن ٍ
وال مجرد تكذيبه ،حتى حكموا عليه بأظلم األحكام ،وجعلوه شاعرا مجنونا ،وهم يعلمون أنه ال
يعرف الشعر والشعراء ،وال وصفه وصفهم ،وأنه أعقل خلق اللّه ،وأعظمهم رأيا.
ق } أي :مجيئه حق ،وما جاء به مناء } محمد { بِاْل َح ِّ
ولهذا قال تعالى ،ناقضا لقولهمَ { :ب ْل َج َ
ين } [أي :ومجيئه صدق المرسلين] فلوال مجيئه وإ رساله ِ ص َّد َ
ق اْل ُم ْر َسل َ الشرع والكتاب حقَ { .و َ
لم يكن الرسل صادقين ،فهو آية ومعجزة لكل رسول قبله ،ألنهم أخبروا به وبشروا ،وأخذ اللّه
عليهم العهد والميثاق ،لئن جاءهم ،ليؤمنن به ولينصرنه ،وأخذوا ذلك على أممهم ،فلما جاء ظهر
صدق الرسل الذين قبله ،وتبين كذب من خالفهم. ،فلو قدر عدم مجيئه ،وهم قد أخبروا به ،لكان
ذلك قادحا في صدقهم.
وصدق أيضا المرسلين ،بأن جاء بما جاءوا به ،ودعا إلى ما دعوا إليه ،وآمن بهم ،وأخبر بصحة
رسالتهم ونبوتهم وشرعهم.
ِ
ون } قوال صادرا منهم ،يحتمل أن يكون صدقا أو غيره ،أخبر ولما كان قولهم السابقِ { :إَّنا لَ َذائقُ َ
تعالى بالقول الفصل الذي ال يحتمل غير الصدق واليقين ،وهو الخبر الصادر منه تعالى ،فقال:
األل ِيم } أي :المؤلم الموجع. اب ِ{ ِإَّن ُكم لَ َذائِقُوا اْل َع َذ ِ
ْ
{ َو َما تُ ْج َز ْو َن } في إذاقة العذاب األليم { ِإال َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ
ون } فلم نظلمكم ،وإ نما عدلنا فيكم؟
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :للحق.
( )1/702
ولما كان هذا الخطاب لفظه عاما ،والمراد به المشركون ،استثنى تعالى المؤمنين فقال [ :ص
] 703
ون * ِفي ِ
وم * فَ َواكهُ َو ُه ْم ُم ْك َر ُم َ ين * أُولَئِ َ
ك لَهُ ْم ِر ْز ٌ
ق َم ْعلُ ٌ
ِ { ِ { } 49 - 40إال ِعب َ َّ ِ
اد الله اْل ُم ْخلَص َ َ
اء لَ َّذ ٍة ِل َّ
لش ِاربِ َ
ين * ال ْس ِم ْن َم ِع ٍ
اف َعلَْي ِه ْم بِ َكأ ٍ ِ
النعيم * َعلَى ُس ُر ٍر ُمتَقَابِل َ
ات َّ ِ ِ جَّن ِ
ض َين * َب ْي َ ط ُين * ُي َ َ
ف ِع ٌ ات الطَّر ِ ِ ِ
ون } .ض َم ْكُن ٌ ين * َكأََّنهُ َّن َب ْي ٌ ون * َو ِع ْن َد ُه ْم قَاص َر ُ ْ فيهَا َغ ْو ٌل َوال ُه ْم َعْنهَا ُي ْن َزفُ َ
ين } فإنهم غير ذائقي العذاب األليم ،ألنهم أخلصوا للّه ِ يقول تعالىِ { :إال ِعب َ َّ ِ
اد الله اْل ُم ْخلَص َ َ
األعمال ،فأخلصهم ،واختصهم برحمته ،وجاد عليهم بلطفه.
وم } أي :غير مجهول ،وإ نما هو رزق عظيم جليل ،ال يجهل أمره ،وال ق َم ْعلُ ٌ { أُولَئِ َ
ك لَهُ ْم ِر ْز ٌ
يبلغ كنهه.
اكهُ } من جميع أنواع الفواكه التي تتفكه بها النفس ،للذتها في لونها وطعمها. فسره بقوله { :فَو ِ
َ
ون } ال مهانون محتقرون ،بل معظمون مجلون موقرون .قد أكرم بعضهم بعضا، { َو ُه ْم ُم ْك َر ُم َ
وأكرمتهم المالئكة الكرام ،وصاروا يدخلون عليهم من كل باب ،ويهنئونهم ببلوغ أهنأ الثواب،
وأكرمهم أكرم األكرمين ،وجاد عليهم بأنواع الكرامات ،من نعيم القلوب واألرواح واألبدان.
الن ِع ِيم } أي :الجنات التي النعيم وصفها ،والسرور نعتها ،وذلك لما جمعته ،مما ال { ِفي جَّن ِ
ات َّ َ
عين رأت ،وال أذن سمعت ،وال خطر على قلب بشر ،وسلمت من كل مخل بنعيمها ،من جميع
المكدرات والمنغصات.
ومن كرامتهم عند ربهم ،وإ كرام بعضهم بعضا ،أنهم على { ُس ُر ٍر } وهي المجالس المرتفعة،
المزينة بأنواع األكسية الفاخرة ،المزخرفة المجملة ،فهم متكئون عليها ،على وجه الراحة
والطمأنينة ،والفرح.
ِ
{ ُمتَقَابِل َ
ين } فيما بينهم قد صفت قلوبهم ،ومحبتهم فيما بينهم ،ونعموا باجتماع بعضهم مع بعض،
فإن مقابلة وجوههم ،تدل على تقابل قلوبهم ،وتأدب بعضهم مع بعض فلم يستدبره ،أو يجعله إلى
جانبه ،بل من كمال السرور واألدب ،ما دل عليه ذلك التقابل.
ْس ِم ْن َم ِع ٍ
ين } أي :يتردد الولدان المستعدون لخدمتهم باألشربة اللذيذة، اف َعلَْي ِه ْم بِ َكأ ٍ
ط ُ{ ُي َ
بالكاسات الجميلة المنظر ،المترعة من الرحيق المختوم بالمسك ،وهي كاسات الخمر.
اء } من أحسن األلوان ،وفي
ض َ
وتلك الخمر ،تخالف خمر الدنيا من كل وجه ،فإنها في لونها { َب ْي َ
ين } يتلذذ شاربها بها وقت شربها وبعده ،وأنها سالمة من غول العقل وذهابه، طعمها { لَ َّذ ٍة ِل َّ
لش ِاربِ َ
ونزفه ،ونزف مال صاحبها ،وليس فيها صداع وال كدر ،فلما ذكر طعامهم وشرابهم ومجالسهم،
الن ِع ِيم } وعموم النعيم وتفاصيله داخلة في قوله { :جَّن ِ
ات َّ َ
ات لكن فصل هذه األشياء لتعلم فتشتاق النفوس إليها ،ذكر أزواجهم فقال { :و ِع ْن َد ُهم قَ ِ
اص َر ُ ْ َ
ين } أي :وعند أهل دار النعيم ،في محالتهم القريبة ،حور حسان ،كامالت األوصاف، ف ِع ٌالطَّر ِ
ْ
قاصرات الطرف ،إما أنها قصرت طرفها على زوجها ،لعفتها وعدم مجاوزته لغيره ،ولجمال
زوجها وكماله ،بحيث ال تطلب في الجنة سواه ،وال ترغب إال به ،وإ ما ألنها قصرت طرف
زوجها عليها ،وذلك يدل على كمالها وجمالها الفائق ،الذي أوجب لزوجها ،أن يقصر طرفه
عليها ،وقصر الطرف أيضا ،يدل على قصر النفس والمحبة عليها ،وكال المعنيين محتمل،
وكالهما صحيح ،و [كل] هذا يدل على جمال الرجال والنساء في الجنة ،ومحبة بعضهم بعضا،
محبة ال يطمح إلى غيره ،وشدة عفتهم كلهم ،وأنه ال حسد فيها وال تباغض ،وال تشاحن ،وذلك
النتفاء أسبابه.
{ ِع ٌ
ين } أي :حسان األعين جميالتها ،مالح الحدق.
ون } أي :مستور ،وذلك من حسنهن وصفائهن وكون ألوانهن { َكأََّنهُ َّن } أي :الحور { َب ْي ٌ
ض َم ْكُن ٌ
أحسن األلوان وأبهاها ،ليس فيه كدر وال شين.
( )1/702
ان ِلي قَ ِر ٌ
ين ()51 ض يتَساءلُون ( )50قَ َ ِ ِ
ال قَائ ٌل م ْنهُ ْم ِإِّني َك َ ضهُ ْم َعلَى َب ْع ٍ َ َ َ َ
فَأَ ْقَب َل َب ْع ُ
ان ِلي قَ ِر ٌ
ين } . ض يتَساءلُون * قَ َ ِ ِ
ال قَائ ٌل م ْنهُ ْم ِإِّني َك َ ضهُ ْم َعلَى َب ْع ٍ َ َ َ َ
{ { } 61 - 50فَأَ ْقَب َل َب ْع ُ
لما ذكر تعالى نعيمهم ،وتمام سرورهم ،بالمآكل والمشارب ،واألزواج الحسان ،والمجالس
الحسنة ،ذكر تذاكرهم فيما بينهم ،ومطارحتهم لألحاديث ،عن األمور الماضية ،وأنهم ما زالوا في
ان ِلي قَ ِر ٌ
ين } في الدنيا، المحادثة والتساؤل ،حتى أفضى ذلك بهم ،إلى أن قال قائل منهمِ { :إِّني َك َ
ينكر البعث ،ويلومني على تصديقي به.
( )1/703
( )1/703
َص ِل ِ وم (ِ )62إَّنا جعْلَن َ ِ ِ َّ ِ ِ الزقُّ ِ أَ َذِل َ
ين (ِ )63إَّنهَا َش َج َرةٌ تَ ْخ ُر ُج في أ ْ اها فتَْنةً للظالم َ ََ ك َخ ْيٌر ُن ُزاًل أ َْم َش َج َرةُ َّ
ين ( )65فَِإَّنهم آَل َ ِكلُون ِم ْنها فَم ِالُئ ِ الشي ِ اْل َج ِح ِيم (َ )64
ون ()66 ون م ْنهَا اْلُبطُ َ َ َ َ َ ُْ اط ِ وس َّ َ
طْل ُعهَا َكأََّنهُ ُر ُء ُ
ين ثَُّم ِإ َّن لَهم َعلَْيها لَ َشوًبا ِم ْن َح ِم ٍيم ( )67ثَُّم ِإ َّن مر ِجعهم إَلِ لَى اْل َج ِح ِيم (ِ )68إَّنهم أَْلفَوا آََباء ُهم َ ِّ
ضال َ َ ْ ُْ ْ َ ْ َ ُْ َ ْ ُْ
ين (َ )71ولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ِفي ِه ْم ض َّل قَْبلَهُ ْم أَ ْكثَُر اأْل ََّوِل َ
ون (َ )70ولَقَ ْد َ( )69فَهُ ْم َعلَى َآثَ ِار ِه ْم ُي ْه َر ُع َ
ِ ف َكان ع ِاقبةُ اْلم ْن َذ ِرين (ِ )73إاَّل ِعب َ َّ ِ ِ
ين ()74 اد الله اْل ُم ْخلَص َ َ َ ين ( )72فَ ْانظُ ْر َك ْي َ َ َ َ ُ ُم ْنذ ِر َ
( )1/704
( )1/705
ين ()79 ِ وجعْلَنا ُذِّريَّتَه ُهم اْلب ِاقين ( )77وتَر ْكَنا علَْي ِه ِفي اآْل َ ِخ ِرين ( )78ساَل م علَى ُن ٍ ِ
وح في اْل َعالَم َ َ ٌ َ َ َ َ َ ُ ُ َ َ َ ََ
ِ ِ ِ ِ ِِ ِإَّنا َك َذِل َ
ين ()82 َغ َر ْقَنا اآْل َ َخ ِر َ ين (ِ )80إَّنهُ م ْن عَبادَنا اْل ُم ْؤ ِمن َ
ين ( )81ثَُّم أ ْ ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ
( )1/705
( )1/705
َسلَ َما } أي :إبراهيم وابنه إسماعيل ،جازما بقتل ابنه وثمرة فؤاده ،امتثاال ألمر ربه،
{ َفلَ َّما أ ْ
وخوفا من عقابه ،واالبن قد وطَّن نفسه على الصبر ،وهانت عليه في طاعة ربه ،ورضا والده{ ،
َوتَلَّهُ ِلْل َجبِ ِ
ين } أي :تل إبراهيم إسماعيل على جبينه ،ليضجعه فيذبحه ،وقد انكب لوجهه ،لئال
ينظر وقت الذبح إلى وجهه.
ت } أي :قد فعلت ص َّد ْق َ اد ْيَناه } في تلك الحال المزعجة ،واألمر المدهش { :أ ْ ِ ِ
يم قَ ْد َ
َن َيا إ ْب َراه ُ { َوَن َ ُ
ما أمرت به ،فإنك وطَّنت نفسك على ذلك ،وفعلت كل سبب ،ولم يبق إال إمرار السكين على حلقه
ِِ { ِإَّنا َك َذِل َ
ين } في عبادتنا ،المقدمين رضانا على شهوات أنفسهم. ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ
ين } أي :الواضح ،الذي تبين به الء اْل ُمبِ ُ
{ ِإ َّن َه َذا } الذي امتحنا به إبراهيم عليه السالم { لَهَُو اْلَب ُ
صفاء إبراهيم ،وكمال محبته لربه وخلته ،فإن إسماعيل عليه السالم لما وهبه اللّه إلبراهيم ،أحبه
حبا شديدا ،وهو خليل الرحمن ،والخلة أعلى أنواع المحبة ،وهو منصب ال يقبل المشاركة
ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب ،فلما تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه
إسماعيل ،أراد تعالى أن يصفي ُو َّده ويختبر خلته ،فأمره أن يذبح من زاحم حبه حب ربه ،فلما
قدم حب اللّه ،وآثره على هواه ،وعزم على ذبحه ،وزال ما في القلب من المزاحم ،بقي الذبح ال ّ
ين َوفَ َد ْيَناهُ بِِذ ْب ٍح َع ِظ ٍيم } أي :صار بدله ذبح من الغنم
الء اْل ُمبِ ُ
فائدة فيه ،فلهذا قالِ { :إ َّن َه َذا لَهَُو اْلَب ُ
عظيم ،ذبحه إبراهيم ،فكان عظيما من جهة أنه كان فداء إلسماعيل ،ومن جهة أنه من جملة
العبادات الجليلة ،ومن جهة أنه كان قربانا وسنة إلى يوم القيامة.
ِ ِ ِ ِِ
يم } أي :وأبقينا عليه ثناء صادقا في اآلخرين ،كما الم َعلَى إ ْب َراه َ
ين َس ٌ { َوتََر ْكَنا َعلَْيه في اآلخ ِر َ
كان في األولين ،فكل وقت بعد إبراهيم عليه السالم ،فإنه [فيه] محبوب معظم مثني عليه.
طفَى }
اص َ ِ ِ ِ َِّ َِّ ِ ِ ِ ِ
ين ْ الم َعلَى عَباده الذ َ يم } أي :تحيته عليه كقولهُ { :قل اْل َح ْم ُد لله َو َس ٌ الم َعلَى إ ْب َراه َ { َس ٌ
ِِ { ِإَّنا َك َذِل َ
ين } في عبادة اللّه ،ومعاملة خلقه ،أن نفرج عنهم الشدائد ،ونجعل لهم ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ
العاقبة ،والثناء الحسن.
ِ ِ ِ ِ
ين } بما أمر اللّه باإليمان به ،الذين بلغ بهم اإليمان إلى درجة اليقين ،كما { ِإَّنهُ م ْن عَبادَنا اْل ُم ْؤ ِمن َ
ِ ض وِلي ُك ِ ِ ِ ِ قال تعالىَ { :و َك َذِل َ
ون م َن اْل ُمو ِقن َ
ين } األر ِ َ َ َ َّم َاوات َو ْ وت الس َ
يم َملَ ُك َك ُن ِري إ ْب َراه َ
ِِ ِ { َوَب َّش ْرَناهُ بِِإ ْس َح َ
ين } هذه البشارة الثانية بإسحاق ،الذي من ورائه يعقوب، اق َنبِيًّا م َن الصَّالح َ
فبشر بوجوده وبقائه ،ووجود ذريته ،وكونه نبيا من الصالحين ،فهي بشارات متعددة.
( )1/706
ِِ ِ
اه ْم اه َما َوقَ ْو َمهُ َما م َن اْل َك ْر ِب اْل َعظيم (َ )115وَن َ
ص ْرَن ُ َّيَن ُون (َ )114وَنج ْ وسى َو َه ُار َ َولَقَ ْد َمَنَّنا َعلَى ُم َ
ِ فَ َك ُانوا ُهم اْل َغ ِالبِين ( )116وآَتَْيَن ُ ِ
يم ()118 ط اْل ُم ْستَق َ
ِّرا َ
اه َما الص َ ين (َ )117و َه َد ْيَن ُ اب اْل ُم ْستَبِ َ
اه َما اْلكتَ َ َ َ ُ
ِِ ون (ِ )120إَّنا َك َذِل َ ِ ِ
ينك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ وسى َو َه ُار َ
ين (َ )119ساَل ٌم َعلَى ُم َ َوتََر ْكَنا َعلَْي ِه َما في اآْل َخ ِر َ
ِ ِ ِ ِ
ين ()122 (ِ )121إَّنهُ َما م ْن عَبادَنا اْل ُم ْؤ ِمن َ
اق } أي :أنزلنا عليهما البركة ،التي هي النمو والزيادة في علمهما { َوَب َار ْكَنا َعلَْي ِه َو َعلَى ِإ ْس َح َ
وعملهما وذريتهما ،فنشر اللّه من ذريتهما ثالث أمم عظيمة :أمة العرب من ذرية إسماعيل،
ين } أي:ظ ِال ٌم ِلَن ْف ِس ِه ُمبِ ٌ
وأمة بني إسرائيل ،وأمة الروم من ذرية إسحاقَ { .و ِم ْن ُذِّريَّتِ ِه َما ُم ْح ِس ٌن َو َ
منهم الصالح والطالح ،والعادل والظالم الذي تبين ظلمه ،بكفره وشركه ،ولعل هذا من باب دفع
اإليهام ،فإنه لما قالَ { :وَب َار ْكَنا َعلَْي ِه وعلى إسحاق } اقتضى ذلك البركة في ذريتهما ،وأن من
تمام البركة ،أن تكون الذرية كلهم محسنين ،فأخبر اللّه تعالى أن منهم محسنا وظالما ،واللّه أعلم.
[ ص ] 707
ون } إلى آخر القصة. { َ { } 122 - 114ولَقَ ْد َمَنَّنا َعلَى ُم َ
وسى َو َه ُار َ
يذكر تعالى ِمَّنتهُ على عبديه ورسوليه ،موسى ،وهارون ابني عمران ،بالنبوة والرسالة ،والدعوة
إلى اللّه تعالى ،ونجاتهما وقومهما من عدوهما فرعون ،ونصرهما عليه ،حتى أغرقه اللّه وهم
ينظرون ،وإ نزال اللّه عليهما الكتاب المستبين ،وهو التوراة التي فيها األحكام والمواعظ وتفصيل
كل شيء ،وأن اللّه هداهما الصراط المستقيم ،بأن شرع لهما دينا ذا أحكام وشرائع مستقيمة
وم َّن عليهما بسلوكه.
موصلة إلى اللّهَ ،
ِ ِ
ون } أي :أبقى عليهما ثناء حسنا ،وتحية في وسى َو َه ُار َ الم َعلَى ُم َ { َوتََر ْكَنا َعلَْي ِه َما في اآلخ ِر َ
ين َس ٌ
ين ِإَّنهُ َما ِم ْن ِعَب ِادَناِِ اآلخرين ،ومن باب أولى وأحرى في األولين { ِإَّنا َك َذِل َ
ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ
ِ
اْل ُم ْؤ ِمن َ
ين }
( )1/706
ِ ِ ِ ِ
َح َس َن
ون أ ْ
ون َب ْعاًل َوتَ َذ ُر َ ين (ِ )123إ ْذ قَا َل لقَ ْو ِمه أَاَل تَتَّقُ َ
ون ( )124أَتَ ْد ُع َ َوإِ َّن ِإْلَي َ
اس لَم َن اْل ُم ْر َسل َ
اْل َخ ِال ِقين ( )125اللَّه رَّب ُكم ور َّ ِ
ين ()126 ب آََبائ ُك ُم اأْل ََّوِل َ ََ ْ ََ َ
ِ ِ ِ ِ
ون
ون َب ْعال َوتَ َذ ُر َ ين * ِإ ْذ قَا َل لقَ ْو ِمه أَال تَتَّقُ َ
ون * أَتَ ْد ُع َ اس لَم َن اْل ُم ْر َسل َ{ َ { } 132 - 123وإِ َّن ِإْلَي َ
ين } . ب َآبائِ ُك ُم َّ
األوِل َ ين * اللَّهَ َرَّب ُك ْم َو َر َّ ِِ
َح َس َن اْل َخالق َ
أْ
يمدح تعالى عبده ورسوله ،إلياس عليه الصالة والسالم ،بالنبوة والرسالة ،والدعوة إلى اللّه ،وأنه
أمر قومه بالتقوى ،وعبادة اللّه وحده ،ونهاهم عن عبادتهم ،صنما لهم يقال له "بعل" وتركهم عبادة
وأدر عليهم النعم الظاهرة
اللّه ،الذي خلق الخلق ،وأحسن خلقهم ،ورباهم فأحسن تربيتهمَّ ،
والباطنة ،وأنكم كيف تركتم عبادة من هذا شأنه ،إلى عبادة صنم ،ال يضر ،وال ينفع ،وال يخلق،
وال يرزق ،بل ال يأكل وال يتكلم؟" وهل هذا إال من أعظم الضالل والسفه والغي؟"
( )1/707
ِ ِِ ِ فَ َك َّذبوه فَِإَّنهم لَم ْحضرون (ِ )127إاَّل ِعب َ َّ ِ
ين (ين (َ )128وتََر ْكَنا َعلَْيه في اآْل َخ ِر َاد الله اْل ُم ْخلَص َ َ ُ ُ ُْ ُ َ ُ َ
ِ ِ ِ ِ ِِ ين (ِ )130إَّنا َك َذِل َ ِ
ين (ِ )131إَّنهُ م ْن عَبادَنا اْل ُم ْؤ ِمن َ
ين ( ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ َ )129ساَل ٌم َعلَى ِإ ْل َياس َ
)132
( )1/707
وزا ِفي
ين * ِإال َع ُج ً َهلَه أ ْ ِ
َج َمع َ ين * ِإ ْذ َنج ْ
َّيَناهُ َوأ ْ ُ
ِ
طا لَم َن اْل ُم ْر َسل َ
{ { } 138 - 133وإِ َّن لُو ً ِ
َ
ِ ِ َّ ِ ِ ِ ِ
ون } .
ين * َوباللْيل أَفَال تَ ْعقلُ َ
صبح َ ون َعلَْيه ْم ُم ْ اآلخ ِر َ
ين * َوإِ َّن ُك ْم لَتَ ُم ُّر َ اْل َغابِ ِر َ
ين * ثَُّم َد َّم ْرَنا َ
وهذا ثناء منه تعالى على عبده ورسوله ،لوط بالنبوة والرسالة ،ودعوته إلى اللّه قومه ،ونهيهم
عن الشرك ،وفعل الفاحشة.
فلما لم ينتهوا ،نجاه اللّه وأهله أجمعين ،فسروا ليال فنجوا.
{ ِإال عج ً ِ
ين } أي :الباقين المعذبين ،وهي زوجة لوط لم تكن على دينه. وزا في اْل َغابِ ِر َ َُ
ط ْرَنا َعلَْيهَا ِح َج َارةً ِم ْن
ين } بأن قلبنا عليهم ديارهم { فَ َج َعْلَنا َع ِالَيهَا َس ِافلَهَا َوأ َْم َ اآلخ ِر َ
{ ثَُّم َد َّم ْرَنا َ
ضو ٍد } حتى همدوا وخمدوا. ِسج ٍ
ِّيل َم ْن ُ
ين َوبِاللَّْي ِل } أي :في هذه األوقات، { وإِ َّن ُكم لَتَم ُّرون علَْي ِهم } أي :على ديار قوم لوط { م ِ
صبِح َ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ
ون } اآليات والعبر، ِ
يكثر ترددكم إليها ومروركم بها ،فلم تقبل الشك والمرية { أَفَال تَ ْعقلُ َ
وتنزجرون عما يوجب الهالك؟
( )1/707
ين ِ اهم فَ َك ِ ق ِإلَى اْل ُفْل ِك اْل َم ْش ُح ِ ين (ِ )139إ ْذ أََب َ ِ وإِ َّن ي ُ ِ
ان م َن اْل ُم ْد َحض َون ( )140فَ َس َ َ َ ون َس لَم َن اْل ُم ْر َسل َ َ ُ
طنِ ِه ِإلَى
ث ِفي َب ْين ( )143لَلَبِ َ ِ وت و ُهو مِليم (َ )142فلَواَل أََّنه َك ِ
ان م َن اْل ُم َسبِّح َ ُ َ ْ ( )141فَاْلتَقَ َمهُ اْل ُح ُ َ َ ُ ٌ
ين ()146 يم (َ )145وأ َْنَبتَْنا َعلَْي ِه َش َج َرةً ِم ْن َي ْق ِط ٍ ِ ِ
ون ( )144فََنَب ْذَناهُ بِاْل َع َراء َو ُه َو َسق ٌ َي ْوِم ُي ْب َعثُ َ
ين ()148 اه ْم ِإلَى ِح ٍ َمُنوا فَ َمتَّ ْعَن ُ
ون ( )147فَآ َ ف أ َْو َي ِز ُ
يد َ
وأَرسْلَناه ِإلَى ِمَئ ِة أَْل ٍ
َ ْ َ ُ
( )1/707
ون ( )150أَاَل ِإَّنهُ ْم ِ ِ استَ ْفتِ ِه ْم أَِل َرِّب َ
ون ( )149أ َْم َخلَ ْقَنا اْل َماَل ئ َكةَ ِإَناثًا َو ُه ْم َشاه ُد َ ات َولَهُ ُم اْلَبُن َ
ك اْلَبَن ُ فَ ْ
ِ ِ ِ َّ ِ ِ
ين ()153 طفَى اْلَبَنات َعلَى اْلَبن َ َص َون ( )152أ ْ ون (َ )151ولَ َد اللهُ َوإِ َّنهُ ْم لَ َكاذُب َ م ْن ِإ ْفك ِه ْم لََيقُولُ َ
( )1/708
( )1/708
ون ِ وجعلُوا ب ْيَنه وب ْين اْل ِجَّن ِة َنسبا ولَقَ ْد عِلم ِت اْل ِجَّنةُ ِإَّنهم لَم ْحضرون ( )158س ْبح َّ ِ
ان الله َع َّما َيصفُ َ
ُ َ َ ُْ ُ َ ُ َ ًَ َ َ َ َ ََ َ ُ ََ َ
ين ()160 ِ (ِ )159إاَّل ِعب َ َّ ِ
اد الله اْل ُم ْخلَص َ َ
ِ ِ ِ
ان
ون * ُس ْب َح َ { َ { } 160 - 158و َج َعلُوا َب ْيَنهُ َوَب ْي َن اْل ِجَّنة َن َسًبا َولَقَ ْد َعل َمت اْل ِجَّنةُ ِإَّنهُ ْم لَ ُم ْح َ
ض ُر َ
ين } . ِ صفُون * ِإال ِعب َ َّ ِ اللَّ ِه ع َّما ي ِ
اد الله اْل ُم ْخلَص َ َ َ َ َ
أي :جعل هؤالء المشركون باللّه بين اللّه وبين الجنة نسبا ،حيث زعموا أن المالئكة بنات اللّه،
وأن أمهاتهم سروات الجن ،والحال أن الجنة قد علمت أنهم محضرون بين يدي اللّه[ ،ليجازيهم]
عبادا أذالء ،فلو كان بينهم وبينه نسب ،لم يكونوا ( )1كذلك.
ان اللَّ ِه } الملك العظيم ،الكامل الحليم ،عما يصفه به المشركون من كل وصف أوجبه { ُس ْب َح َ
كفرهم وشركهم.
ين } فإنه لم ينزه نفسه عما وصفوه به ،ألنهم لم يصفوه إال بما يليق ِ { ِإال ِعب َ َّ ِ
اد الله اْل ُم ْخلَص َ َ
بجالله ،وبذلك كانوا مخلصين.
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :لم يكن.
( )1/708
( )1/708
ِ اَّل
ون ()166
ِّح َ وم (َ )164وإِ َّنا لََن ْح ُن الصَّافُّ َ
ون (َ )165وإِ َّنا لََن ْح ُن اْل ُم َسب ُ َو َما مَّنا ِإ لَهُ َمقَ ٌ
ام َم ْعلُ ٌ
ِ
ون } .
ِّح َ وم * َوإِ َّنا لََن ْح ُن الصَّافُّ َ
ون * َوإِ َّنا لََن ْح ُن اْل ُم َسب ُ { َ { } 166 - 164و َما مَّنا ِإال لَهُ َمقَ ٌ
ام َم ْعلُ ٌ
هذا [فيه] بيان براءة المالئكة عليهم السالم ،عما قاله فيهم المشركون ،وأنهم عباد اللّه ،ال
يعصونه طرفة عين ،فما منهم من أحد إال له مقام وتدبير قد أمره اللّه به ال يتعداه وال يتجاوزه،
وليس لهم من األمر شيء.
{ َوإِ َّنا لََن ْح ُن الصَّافُّ َ
ون } في طاعة اللّه وخدمته.
ون } هلل عما ال يليق به .فكيف -مع هذا -يصلحون أن يكونوا شركاء للّه؟! { َوإِ َّنا لََن ْح ُن اْل ُم َسب ُ
ِّح َ
تعالى اهلل.
( )1/708
ين ()169 ِ َن ِعْن َدَنا ِذ ْكرا ِمن اأْل ََّوِلين ( )168لَ ُكَّنا ِعب َ َّ ِ ون ( )167لَ ْو أ َّ
اد الله اْل ُم ْخلَص َ َ َ ً َ َوإِ ْن َك ُانوا لََيقُولُ َ
ين (ِ )171إَّنهُ ْم لَهُ ُم ِ ف يعلَمون ( )170ولَقَ ْد سبقَ ْ ِ ِ ِ ِ ِ
ت َكل َمتَُنا لعَبادَنا اْل ُم ْر َسل َ ََ َ فَ َكفَ ُروا بِه فَ َس ْو َ َ ْ ُ َ
ين ( )174وأ َْب ِ ون ( )173فَتََو َّل َعْنهُ ْم َحتَّى ِح ٍ ِ
ص ْر ُه ْم َ ون (َ )172وإِ َّن ُج ْن َدَنا لَهُ ُم اْل َغالُب َ ور َ ص ُاْل َم ْن ُ
صرون ( )175أَفَبِع َذابَِنا يستَع ِجلُون ( )176فَِإ َذا َن َز َل بِس ِ فَسو َ ِ
ين ( اح اْل ُم ْن َذ ِر َ صَب ُ اء َ احت ِه ْم فَ َس َ
َ َ َْ ْ َ َ ف ُي ْب ُ َ َْ
ب اْل ِع َّز ِةك َر ِّ ان َرِّب َ ون (ُ )179س ْب َح َ ف ُي ْبص ُر َ
صر فَسو َ ِ ِ
ين (َ )178وأ َْب ْ َ ْ َ )177وتََو َّل َعْنهُ ْم َحتَّى ِح ٍ
ين ()182 ِ ين (َ )181واْل َح ْم ُد ِللَّ ِه َر ِّ ِ ِ
ب اْل َعالَم َ ون (َ )180و َساَل ٌم َعلَى اْل ُم ْر َسل َ َع َّما َيصفُ َ
( )1/708
تفسير سورة ص
وهي مكية
( )1/709
ين َكفَ ُروا ِفي ِع َّز ٍة َِّ الر ِح ِيم ص واْلقُر ِ ِ ِّ
آن ذي الذ ْك ِر * َب ِل الذ َ َ ْ الر ْح َم ِن َّ { { } 11 - 1بِ ْسِم اللَّ ِه َّ
اء ُه ْم ُم ْن ِذٌر ِم ْنهُ ْم اص * َو َع ِجُبوا أ ْ
َن َج َ ين َمَن ٍ ادوا و َ ِ
الت ح َ
ق * َكم أ ْ ِ ِ ِ ِ
َهلَ ْكَنا م ْن قَْبله ْم م ْن قَ ْر ٍن فََن َ ْ َ ْ و ِشقَا ٍ
َ
ق اْل َمأل طلَ َ اب * َو ْان َ اآللهةَ ِإلَها و ِ
اح ًدا ِإ َّن َه َذا لَ َش ْي ٌء ُع َج ٌ ِ احٌر َك َّذ ٌ ال اْل َك ِافرون َه َذا س ِ
َج َع َل َ ً َ اب * أ َ َ ُ َ َوقَ َ
اآلخ َر ِة ِإ ْن َه َذا اد * ما س ِمعَنا بِه َذا ِفي اْل ِملَّ ِة ِ ِ ِ ِم ْنهُ ْم أ ِ
اصبِ ُروا َعلَى آلهَت ُك ْم ِإ َّن َه َذا لَ َش ْي ٌء ُي َر ُ َ َ ْ َ ام ُشوا َو ْ َن ْ
ك ِم ْن ِذ ْك ِري َب ْل لَ َّما َي ُذوقُوا َع َذ ِالذ ْكر ِم ْن َب ْينَِنا َب ْل ُهم ِفي َش ٍِّ ِّ اختِ ٌ ِإال ْ
اب * أ َْم ْ الق * أ َُؤ ْن ِز َل َعلَْيه ُ
األر ِ ِ يز اْلو َّه ِ ِعْن َد ُه ْم َخ َزائِ ُن َر ْح َم ِة َرب َ
ض َو َما َب ْيَنهُ َما َفْلَي ْرتَقُوا َّم َاوات َو ْ ك الس َ اب * أ َْم لَهُ ْم ُمْل ُ ِّك اْل َع ِز ِ َ
اب } . وم ِم َن ْ
األح َز ِ
ك َم ْه ُز ٌ اب * ُج ْن ٌد َما ُهَن ِال َ األسَب ِ
في ْ
ِ
هذا بيان من اللّه تعالى لحال القرآن ،وحال المكذبين به معه ومع من جاء به ،فقال { :ص
الم َذ ِّك ِر للعباد كل ما يحتاجون إليه من العلم، واْلقُر ِ ِ ِّ
آن ذي الذ ْك ِر } أي :ذي القدر العظيم والشرفُ ، َ ْ
بأسماء اللّه وصفاته وأفعاله ،ومن العلم بأحكام اللّه الشرعية ،ومن العلم بأحكام المعاد والجزاء،
فهو مذكر لهم في أصول دينهم وفروعه.
وهنا ال يحتاج إلى ذكر المقسم عليه ،فإن حقيقة األمر ،أن المقسم به وعليه شيء واحد ،وهو هذا
القرآن ،الموصوف بهذا الوصف الجليل ،فإذا كان القرآن بهذا الوصف ،علم ضرورة العباد إليه،
فوق كل ضرورة ،وكان الواجب عليهم تَلقِّيه باإليمان والتصديق ،واإلقبال على استخراج ما
يتذكر به منه.
ق } عزةفهدى اللّه من هدى لهذا ،وأبى الكافرون به وبمن أنزله ،وصار معهم { ِعَّز ٍة و ِشقَا ٍ
َ
وامتناع عن اإليمان به ،واستكبار وشقاق له ،أي :مشاقة ومخاصمة في رده وإ بطاله ،وفي القدح
بمن جاء به.
فتوعدهم بإهالك القرون الماضية المكذبة بالرسل ،وأنهم حين جاءهم الهالك ،نادوا واستغاثوا في
اص } أى :وليس الوقت ،وقت خالص مما وقعوا فيه، ين َمَن ٍ صرف العذاب عنهم ولكن { و َ ِ
الت ح َ َ
وال فرج لما أصابهمَ ،فْلَي ْح َذ ْر هؤالء أن يدوموا على عزتهم وشقاقهم ،فيصيبهم ما أصابهم.
[ ص ] 710
اء ُه ْم ُم ْن ِذٌر ِم ْنهُ ْم } أي :عجب هؤالء المكذبون في أمر ليس محل عجب ،أن { َو َع ِجُبوا أ ْ
َن َج َ
جاءهم منذر منهم ،ليتمكنوا من التلقي عنه ،وليعرفوه حق المعرفة ،وألنه من قومهم ،فال تأخذهم
النخوة القومية عن اتباعه ،فهذا مما يوجب الشكر عليهم ،وتمام االنقياد له.
احٌر َك َّذ ٌ
اب } ولكنهم عكسوا القضية ،فتعجبوا تعجب إنكار وقَالُوا من كفرهم وظلمهمَ { :ه َذا س ِ
َ َ
اح ًدا } أى :كيف ينهى عن اتخاذ الشركاء واألنداد، اآللهةَ ِإلَها و ِ
ِ
َج َع َل َ ً َ وذنبه -عندهم -أنه { أ َ
اب } أي :يقضي منه ويأمر بإخالص العبادة للّه وحدهِ { .إ َّن َه َذا } الذي جاء به { لَ َش ْي ٌء ُع َج ٌ
العجب لبطالنه وفساده.
ق اْل َمأل ِم ْنهُ ْم } المقبول قولهم ،محرضين قومهم على التمسك بما هم عليه من الشرك. طلَ َ
{ َو ْان َ
اصبِ ُروا َعلَى ِآلهَتِ ُك ْم } أى :استمروا عليها ،وجاهدوا نفوسكم في الصبر عليها ام ُشوا َو ْ
َن ْ { أِ
وعلى عبادتها ،وال يردكم عنها راد ،وال يصدنكم عن عبادتها ،صادِ { .إ َّن َه َذا } الذي جاء به
اد } أي :يقصد ،أي :له قصد ونية غير صالحة في ذلك،محمد ،من النهي عن عبادتها { لَ َش ْي ٌء ُي َر ُ
وهذه شبهة ال تروج إال على السفهاء ،فإن من دعا إلى قول حق أو غير حق ،ال يرد قوله بالقدح
في نيته ،فنيته وعمله له ،وإ نما يرد بمقابلته بما يبطله ويفسده ،من الحجج والبراهين ،وهم
قصدهم ،أن محمدا ،ما دعاكم إلى ما دعاكم ،إال ليرأس فيكم ،ويكون معظما عندكم ،متبوعا.
{ ما س ِمعَنا بِه َذا } القول الذي قاله ،والدين الذي دعا إليه { ِفي اْل ِملَّ ِة ِ
اآلخ َر ِة } أي :في الوقت َ َ ْ َ
األخير ،فال أدركنا عليه آباءنا ،وال آباؤنا أدركوا آباءهم عليه ،فامضوا على الذي مضى عليه
آباؤكم ،فإنه الحق ،وما هذا الذي دعا إليه محمد إال اختالق اختلقه ،وكذب افتراه ،وهذه أيضا
شبهة من جنس شبهتهم األولى ،حيث ردوا الحق بما ليس بحجة لرد أدنى قول ،وهو أنه قول
مخالف لما عليه آباؤهم الضالون ،فأين في هذا ما يدل على بطالنه؟.
الذ ْك ُر ِم ْن َب ْينَِنا } أي :ما الذي فضله علينا ،حتى ينزل الذكر عليه من دوننا،
{ أَءنز َل َعلَْي ِه ِّ
ُ
ويخصه اللّه به؟ وهذه أيضا شبهة ،أين البرهان فيها على رد ما قاله؟ وهل جميع الرسل إال بهذا
الوصفَ ،ي ُم ُّن اللّه عليهم برسالته ،ويأمرهم بدعوة الخلق إلى اللّه ،ولهذا ،لما كانت هذه األقوال
الصادرة منهم ال يصلح شيء منها لرد ما جاء به الرسول ،أخبر تعالى من أين صدرت ،وأنهم
ك ِم ْن ِذ ْك ِري } ليس عندهم علم وال بينة.
{ ِفي َش ٍّ
فلما وقعوا في الشك وارتضوا به ،وجاءهم الحق الواضح ،وكانوا جازمين بإقامتهم على شكهم،
قالوا ما قالوا من تلك األقوال لدفع الحق ،ال عن بينة من أمرهم ،وإ نما ذلك من باب االئتفاك منهم.
ومن المعلوم ،أن من هو بهذه الصفة يتكلم عن شك وعناد ،إن قوله غير مقبول ،وال قادح أدنى
قدح في الحق ،وأنه يتوجه عليه الذم واللوم بمجرد كالمه ،ولهذا توعدهم بالعذاب فقالَ { :ب ْل لَ َّما
َي ُذوقُوا َع َذ ِ
اب } أي :قالوا هذه األقوال ،وتجرأوا عليها ،حيث كانوا ممتعين في الدنيا ،لم يصبهم
من عذاب اللّه شيء ،فلو ذاقوا عذابه ،لم يتجرأوا.
اب } فيعطون منها من شاءوا ،ويمنعون منها من يز اْلو َّه ِ
ِّك اْل َع ِز ِ َ { أ َْم ِعْن َد ُه ْم َخ َزائِ ُن َر ْح َم ِة َرب َ
الذ ْك ُر ِم ْن َب ْينَِنا } أي :هذا فضله تعالى ورحمته ،وليس ذلك
شاءوا ،حيث قالوا { :أَءنز َل َعلَْي ِه ِّ
ُ
بأيديهم حتى يتحجروا على اللّه.
األر ِ
ض َو َما َب ْيَنهُ َما } بحيث يكونون قادرين على ما يريدونَ { .فْلَي ْرتَقُوا ِ
َّم َاوات َو ْ ك الس َ { أ َْم لَهُ ْم ُمْل ُ
اب } الموصلة لهم إلى السماء ،فيقطعوا الرحمة عن رسول اللّه ،فكيف يتكلمون ،وهم األسَب ِ ِ
في ْ
أعجز خلق اللّه وأضعفهم بما تكلموا به؟! أم قصدهم التحزب والتجند ،والتعاون على نصر
الباطل وخذالن الحق؟ وهو الواقع فإن هذا المقصود ال يتم لهم ،بل سعيهم خائب ،وجندهم
وم ِم َن ْ
األح َز ِ
اب } مهزوم ،ولهذا قالُ { :ج ْن ٌد َما ُهَن ِال َ
ك َم ْه ُز ٌ
( )1/709
( )1/710
( )1/711
( )1/711
( )1/711
فع ِم ْنهُ ْم قَالُوا اَل تَ َخ ْ اب (ِ )21إ ْذ َد َخلُوا َعلَى َد ُاو َ
ود فَفَ ِز َ ِ
صِم ِإ ْذ تَ َس َّو ُروا اْلم ْح َر َ
ك َنَبأُ اْل َخ ْ َو َه ْل أَتَا َ
اط ()22 اء الصِّر ِ اه ِدَنا ِإلَى سو ِط َو ْ ق َواَل تُ ْش ِط ْ اح ُك ْم َب ْيَنَنا بِاْل َح ِّ ضَنا َعلَى َب ْع ٍ
ض فَ ْ ص َم ِ
َ ََ ان َب َغى َب ْع ُ َخ ْ
ال
اب ( )23قَ َ ط ِاح َدةٌ فَقَا َل أَ ْك ِفْلنِيهَا َو َع َّزنِي ِفي اْل ِخ َ َخي لَه تِسع وتِسعون َنعجةً وِلي َنعجةٌ و ِ
ُ ٌَْ ُْ َ َْ َ َ َْ َ
ِإ َّن َه َذا أ ِ
اء لَي ْب ِغي بعضهم علَى بع ٍ اَّل َِّ اج ِه وإِ َّن َكثِيرا ِمن اْل ُخلَ َ ِ ال َن ْع َجتِ َ ِ ِ ِ ك بِسؤ ِ
ض ِإ الذ َ
ين َ ْ ُ ُْ َ َ ْ ط َ ً َ ك إلَى ن َع َ ظلَ َم َ ُ َ لَقَ ْد َ
ِ ات َو َقِلي ٌل َما ُه ْم َو َ
َّالح ِ ِ ِ
اب ()24 ود أََّن َما فَتََّناهُ فَ ْ
استَ ْغفََر َربَّهُ َو َخ َّر َراك ًعا َوأََن َ ظ َّن َد ُاو ُ َمُنوا َو َعملُوا الص َ آَ
ض اك َخِليفَةً ِفي اأْل َْر ِ ود ِإَّنا َج َعْلَن َ ك وإِ َّن لَهُ ِع ْن َدَنا لَ ُزْلفَى و ُح ْس َن مآ ٍ
َب (َ )25يا َد ُاو ُ ِ
َ َ فَ َغفَ ْرَنا لَهُ َذل َ َ
يل اللَّ ِه لَهُ ْم
ون َع ْن سبِ ِ
َ
ِ ُّ
ين َيضل َ
َِّ ك ع ْن سبِ ِ َّ ِ
يل الله ِإ َّن الذ َ
ِ َّ
ق َواَل تَتَّبِ ِع اْلهَ َوى فَُيضل َ َ َ اس بِاْل َح ِّ
الن ِ
اح ُك ْم َب ْي َن َّ
فَ ْ
اب ()26 يد بِما َن ُسوا َيوم اْل ِح َس ِ ع َذ ٌ ِ
َْ اب َشد ٌ َ َ
( )1/711
َِِّ ك َ َِّ اطال َذِل َ { { } 29 - 27وما َخلَ ْقَنا السَّماء واألرض وما ب ْيَنهما ب ِ
ين ظ ُّن الذ َ
ين َكفَ ُروا فَ َوْي ٌل للذ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ َُ َ ََ
األر ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ َّ َكفَ ُروا ِم َن َّ
ض أ َْم َن ْج َع ُل ين في ْ آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َكاْل ُم ْفسد َ ين َ الن ِار * أ َْم َن ْج َع ُل الذ َ
ك ِلَي َّدبَّروا َآياتِ ِه وِلَيتَ َذ َّكر أُولُو األْلَب ِ
اب } . َّار * ِكتَ ٌ
اب أ َْن َزْلَناهُ ِإلَْي َ ين َكاْلفُج ِ ِ
اْل ُمتَّق َ
َ َ ك ُمَب َار ٌ ُ
يخبر تعالى عن تمام حكمته في خلقه السماوات واألرض ،وأنه لم يخلقهما باطال أي :عبثا ولعبا
من غير فائدة وال مصلحة.
ين َكفَ ُروا ِم َن َّ
الن ِار } َِِّ ك َ َِّ
ظ ُّن الذ َ
ين َكفَ ُروا } بربهم ،حيث ظنوا ما ال يليق بجالله { .فَ َوْي ٌل للذ َ { َذِل َ
فإنها التي تأخذ الحق منهم ،وتبلغ منهم كل مبلغ.
وإ نما خلق اللّه السماوات واألرض بالحق وللحق ،فخلقهما ليعلم العباد كمال علمه وقدرته وسعة
سلطانه ،وأنه تعالى وحده المعبود ،دون من لم يخلق مثقال ذرة من السماوات واألرض ،وأن
البعث حق ،وسيفصل اللّه بين أهل الخير والشر.
آمُنوا َِّ
ين َ
وال يظن الجاهل بحكمة اللّه أن يسوي اللّه بينهما في حكمه ،ولهذا قال { :أ َْم َن ْج َع ُل الذ َ
ِ ات َكاْلم ْف ِس ِد َِّالح ِ ِ ِ
َّار } هذا غير الئق بحكمتنا ض أ َْم َن ْج َع ُل اْل ُمتَّق َ
ين َكاْلفُج ِ األر ِ
ين في ْ
َ ُ َو َعملُوا الص َ
وحكمنا.
ك } فيه خير كثير ،وعلم غزير ،فيه كل هدى من ضاللة ،وشفاء من ك ُمَب َار ٌ { ِكتَ ٌ
اب أَنزْلَناهُ ِإلَْي َ
داء ،ونور يستضاء به في الظلمات ،وكل حكم يحتاج إليه المكلفون ،وفيه من األدلة القطعية على
كل مطلوب ،ما كان به أجل كتاب طرق العالم منذ أنشأه اللّه.
{ ِلَي َّدب َُّروا َآياتِ ِه } أي :هذه الحكمة من إنزاله ،ليتدبر الناس آياته ،فيستخرجوا علمها ويتأملوا
أسرارها وحكمها ،فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه ،وإ عادة الفكر فيها مرة بعد مرة ،تدرك بركته
وخيره ،وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن ،وأنه من أفضل األعمال ،وأن القراءة المشتملة
على التدبر أفضل من سرعة التالوة التي ال يحصل بها هذا المقصود.
{ وِلَيتَ َذ َّكر أُولُو األْلَب ِ
اب } أي :أولو العقول الصحيحة ،يتذكرون بتدبرهم لها كل علم ومطلوب، َ َ
فدل هذا على أنه بحسب لب اإلنسان وعقله يحصل له التذكر واالنتفاع بهذا الكتاب.
( )1/712
اد ()31 ات اْل ِجَي ُ اب (ِ )30إ ْذ ع ِرض علَْي ِه بِاْلع ِش ِّي الص ِ
َّافَن ُ ان نِ ْع َم اْل َع ْب ُد ِإَّنهُ أ ََّو ٌ َو َو َه ْبَنا ِل َد ُاو َ
َ ُ َ َ ود ُسلَْي َم َ
ق َم ْس ًحا ط ِف َ
وها َعلَ َّي فَ َاب (ُ )32ر ُّد َ ت بِاْل ِح َج ِب اْل َخ ْي ِر َع ْن ِذ ْك ِر َربِّي َحتَّى تََو َار ْ ت ُح َّ ال ِإِّني أ ْ
َحَب ْب ُ فَقَ َ
اغ ِف ْر
ب ْ ال َر ِّ اب ( )34قَ َ ِ ِ
ان َوأَْلقَْيَنا َعلَى ُك ْرسيِّه َج َس ًدا ثَُّم أََن َ ق (َ )33ولَقَ ْد فَتََّنا ُسلَْي َم َ َعَنا ِ
ق َواأْل ْ بِالسُّو ِ
يح تَ ْج ِري بِأ َْم ِر ِه الر َ اب ( )35فَ َس َّخ ْرَنا لَهُ ِّ ت اْل َو َّه ُ َح ٍد ِم ْن َب ْع ِدي ِإَّن َ
ك أ َْن َ ِ
ب لي ُمْل ًكا اَل َي ْنَبغي أِل َ
ِلي و َه ْ ِ
َ
َصفَ ِاد ()38 ين في اأْل ْ
َخ ِرين مقََّرنِ ِ
اص (َ )37وآ َ َ ُ َ اء و َغ َّو ٍ َّ ٍ
ين ُكل َبَّن َ
ث أَصاب ( )36و َّ ِ
الشَياط َ َ اء َح ْي ُ َ َ ُر َخ ً
َب ()40 اب ( )39وإِ َّن لَهُ ِع ْن َدَنا لَ ُزْلفَى و ُح ْس َن مآ ٍ اؤَنا فَامُن ْن أَو أَم ِس ْك بِ َغ ْي ِر ِح َس ٍ
َ َ َ طُ ْ ْ ْ َه َذا َع َ
ات
َّافَن ُاب * ِإ ْذ ع ِرض علَْي ِه بِاْلع ِش ِّي الص ِ ان نِ ْع َم اْل َع ْب ُد ِإَّنهُ أ ََّو ٌ ِ
َ ُ َ َ { َ { } 40 - 30و َو َه ْبَنا ل َد ُاو َد ُسلَْي َم َ
ط ِف َ
ق وها َعلَ َّي فَ َاب * ُر ُّد َ ت بِاْل ِح َج ِ ب اْل َخ ْي ِر َع ْن ِذ ْك ِر َربِّي َحتَّى تََو َار ْ ت ُح َّ َحَب ْب ُاد * فَقَا َل ِإِّني أ ْاْل ِجَي ُ
اغ ِف ْر
ب ْ ال َر ِّ
اب * قَ َ ِ ِ
ان َوأَْلقَْيَنا َعلَى ُك ْرسيِّه َج َس ًدا ثَُّم أََن َ ق * َولَقَ ْد فَتََّنا ُسلَْي َم َ األعَنا ِ
ق َو ْ َم ْس ًحا بِالسُّو ِ
يح تَ ْج ِري بِأ َْم ِر ِه اب * فَ َس َّخ ْرَنا لَهُ ِّ
الر َ ت اْل َو َّه ُك أ َْن َ ألح ٍد ِم ْن َب ْع ِدي ِإَّن َ ِ
ب لي ُمْل ًكا ال َي ْنَبغي َ
ِلي و َه ْ ِ
َ
ِ ِ ِ ٍ
ين ُكل َبَّناء و َغ َّو ٍ َّ ِ َّ
األصفَاد * َه َذاْ ين في ين ُمقََّرن َآخ ِر َ
اص * َو َ َ اب * َوالشَياط َ َص َ
ثأ َ اء َح ْي ُ
ُر َخ ً
آب } . اب * وإِ َّن لَهُ ِع ْن َدَنا لَ ُزْلفَى و ُح ْس َن م ٍ اؤَنا فَامُن ْن أَو أَم ِس ْك بِ َغ ْي ِر ِح َس ٍ طُ َع َ
َ َ َ ْ ْ ْ
لما أثنى تعالى على داود ،وذكر ما جرى له ومنه ،أثنى على ابنه سليمان عليهما السالم فقال:
ان } أي :أنعمنا به عليه ،وأقررنا به عينه. ِ
{ َو َو َه ْبَنا ل َد ُاو َد ُسلَْي َم َ
{ نِ ْع َم اْل َع ْب ُد } سليمان عليه السالم ،فإنه اتصف بما يوجب المدح ،وهو { ِإَّنهُ أ ََّو ٌ
اب } أي :رجَّاع
إلى اللّه في جميع أحواله ،بالتأله واإلنابة ،والمحبة والذكر والدعاء والتضرع ،واالجتهاد في
مرضاة اللّه ،وتقديمها على كل شيء.
ولهذا ،لما عرضت عليه الخيل الجياد السبق الصافنات أي :التي من وصفها الصفون ،وهو رفع
إحدى قوائمها عند الوقوف ،وكان لها منظر رائق ،وجمال معجب ،خصوصا للمحتاج إليها
كالملوك ،فما زالت تعرض عليه حتى غابت الشمس في الحجاب ،فألهته عن صالة المساء
وذكره.
فقال ندما على ما مضى منه ،وتقربا إلى اللّه بما ألهاه عن ذكره ،وتقديما لحب اللّه على حب
ب اْل َخ ْي ِر } وضمن { أحببت } معنى { آثرت } أي :آثرت حب الخير،
ت ُح َّ غيرهِ { :إِّني أ ْ
َحَب ْب ُ
ت بِاْل ِح َج ِ
اب } الذي هو المال عموما ،وفي هذا الموضع المراد الخيل { َع ْن ِذ ْك ِر َربِّي َحتَّى تََو َار ْ
[ ص ] 713
األعَنا ِ
ق } أي :جعل يعقرها بسيفه ،في ق َو ْ ط ِف َ
ق } فيها { َم ْس ًحا بِالسُّو ِ { ُر ُّد َ
وها َعلَ َّي } فردوها { فَ َ
سوقها وأعناقها.
ان } أي :ابتليناه واختبرناه بذهاب ملكه وانفصاله عنه بسبب خلل اقتضته الطبيعة { َولَقَ ْد فَتََّنا ُسلَْي َم َ
ِّه َج َس ًدا } أي :شيطانا قضى اللّه وقدر أن يجلس على كرسي ملكه، البشرية { ،وأَْلقَْيَنا علَى ُكر ِسي ِ
ْ َ َ
اب } سليمان إلى اللّه تعالى وتاب. ويتصرف في الملك في مدة فتنة سليمان { ،ثَُّم أََن َ
ت اْل َو َّه ُ
اب } فاستجاب اللّه له ألح ٍد ِم ْن َب ْع ِدي ِإَّن َ
ك أ َْن َ ِ اغ ِفر ِلي و َه ْ ِ
ب لي ُمْل ًكا ال َي ْنَبغي َ َ ب ْ ْ ال َر ِّ
فـ { قَ َ
وغفر له ،ورد عليه ملكه ،وزاده ملكا لم يحصل ألحد من بعده ،وهو تسخير الشياطين له ،يبنون
ما يريد ،ويغوصون له في البحر ،يستخرجون الدر والحلي ،ومن عصاه منهم قرنه في األصفاد
وأوثقه.
امُن ْن } على من شئت { ،أ َْو أ َْم ِس ْك } من شئت { بِ َغ ْي ِر
اؤَنا } فَقََّر به عينا { فَ ْ
طُ وقلنا لهَ { :ه َذا َع َ
اب } أي :ال حرج عليك في ذلك وال حساب ،لعلمه تعالى بكمال عدله ،وحسن أحكامه ،وال ِح َس ٍ
تحسبن هذا لسليمان في الدنيا دون اآلخرة ،بل له في اآلخرة خير عظيم.
ولهذا قال { :وإِ َّن لَهُ ِعْن َدَنا لَ ُزْلفَى و ُح ْس َن م ٍ
آب } أي :هو من المقربين عند اللّه المكرمين بأنواع َ َ َ
الكرامات للّه.
فصل فيما تبين لنا من الفوائد والحكم في قصة داود وسليمان عليهما السالم
فمنها :أن اللّه تعالى يقص على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم أخبار من قبله ،ليثبت فؤاده
وتطمئن نفسه ،ويذكر له من عباداتهم وشدة صبرهم وإ نابتهم ،ما يشوقه إلى منافستهم ،والتقرب
إلى اللّه الذي تقربوا له ،والصبر على أذى قومه ،ولهذا -في هذا الموضع -لما ذكر اللّه ما
ذكر من أذية قومه وكالمهم فيه وفيما جاء به ،أمره بالصبر ،وأن يذكر عبده داود فيتسلى به.
ومنها :أن اللّه تعالى يمدح ويحب القوة في طاعته ،قوة القلب والبدن ،فإنه يحصل منها من آثار
الطاعة وحسنها وكثرتها ،ما ال يحصل مع الوهن وعدم القوة ،وأن العبد ينبغي له تعاطي أسبابها،
وعدم الركون إلى الكسل والبطالة المخلة بالقوى المضعفة للنفس.
ومنها :أن الرجوع إلى اللّه في جميع األمور ،من أوصاف أنبياء اللّه وخواص خلقه ،كما أثنى
ين َه َدى اللّه على داود وسليمان بذلك ،فليقتد بهما المقتدون ،وليهتد بهداهم السالكون { أُولَئِ َ َِّ
ك الذ َ
اه ُم ا ْقتَِد ِه }
اللَّهُ فَبِهُ َد ُ
ومنها :ما أكرم اللّه به نبيه داود عليه السالم ،من حسن الصوت العظيم ،الذي جعل اللّه بسببه
الجبال الصم ،والطيور البهم ،يجاوبنه إذا رجَّع صوته بالتسبيح ،ويسبحن معه بالعشي واإلشراق.
ومنها :أن من أكبر نعم اللّه على عبده ،أن يرزقه العلم النافع ،ويعرف الحكم والفصل بين الناس،
كما امتن اللّه به على عبده داود عليه السالم.
ومنها :اعتناء اللّه تعالى بأنبيائه وأصفيائه عندما يقع منهم بعض الخلل بفتنته إياهم وابتالئهم بما
به يزول عنهم المحذور ،ويعودون إلى أكمل من حالتهم األولى ،كما جرى لداود وسليمان عليهما
السالم.
ومنها :أن األنبياء صلوات اللّه وسالمه عليهم معصومون من الخطأ فيما يبلغون عن اللّه تعالى،
ألن مقصود الرسالة ال يحصل إال بذلك ،وأنه قد يجري منهم بعض مقتضيات الطبيعة من
المعاصي ،ولكن اللّه يتداركهم ويبادرهم بلطفه.
ومنها :أن داود عليه السالم[ ،كان] في أغلب أحواله مالزما محرابه لخدمة ربه ،ولهذا تسور
الخصمان عليه المحراب ،ألنه كان إذا خال في محرابه ال يأتيه أحد ،فلم يجعل كل وقته للناس،
مع كثرة ما يرد عليه من األحكام ،بل جعل له وقتا يخلو فيه بربه ،وتقر عينه بعبادته ،وتعينه على
اإلخالص في جميع أموره.
ومنها :أنه ينبغي استعمال األدب في الدخول على الحكام وغيرهم ،فإن الخصمين لما دخال على
داود في حالة غير معتادة ومن غير الباب المعهود ،فزع منهم ،واشتد عليه ذلك ،ورآه غير الئق
بالحال.
ومنها :أنه ال يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء أدب الخصم وفعله ما ال ينبغي.
ومنها :كمال حلم داود عليه السالم ،فإنه ما غضب عليهما حين جاءاه بغير استئذان ،وهو الملك،
وال انتهرهما ،وال وبخهما.
ومنها :جواز قول المظلوم لمن ظلمه "أنت ظلمتني" أو "يا ظالم" ونحو ذلك أو باغ علي لقولهما:
ضَنا َعلَى َب ْع ٍ
ض} ص َم ِ
ان َب َغى َب ْع ُ { َخ ْ
ومنها :أن الموعوظ والمنصوح ،ولو كان كبير القدر ،جليل العلم ،إذا نصحه أحد ،أو وعظه ،ال
يغضب ،وال يشمئز ،بل يبادره بالقبول والشكر ،فإن الخصمين نصحا داود فلم يشمئز ولم يغضب
ولم يثنه ذلك عن الحق ،بل حكم بالحق الصرف.
ومنها :أن المخالطة بين األقارب واألصحاب ،وكثرة التعلقات الدنيوية المالية ،موجبة للتعادي
بينهم ،وبغي بعضهم على بعض ،وأنه ال يرد عن ذلك إال استعمال تقوى اللّه ،والصبر على
األمور ،باإليمان والعمل الصالح ،وأن هذا من أقل شيء في الناس.
ومنها :أن االستغفار والعبادة ،خصوصا الصالة ،من مكفرات الذنوب ،فإن اللّه ،رتب مغفرة
ذنب داود على استغفاره وسجوده.
ومنها :إكرام اللّه لعبده داود وسليمان ،بالقرب منه ،وحسن الثواب ،وأن ال يظن أن ما جرى لهما
منقص لدرجتهما عند اللّه تعالى ،وهذا من تمام لطفه بعباده المخلصين ،أنه إذا غفر لهم وأزال
أثر ذنوبهم ،أزال اآلثار المترتبة عليه كلها ،حتى ما يقع في [ ص ] 714قلوب الخلق ،فإنهم إذا
علموا ببعض ذنوبهم ،وقع في قلوبهم نزولهم عن درجتهم األولى ،فأزال اللّه تعالى هذه اآلثار،
وما ذاك بعزيز على الكريم الغفار.
ومنها :أن الحكم بين الناس مرتبة دينية ،توالها رسل اللّه وخواص خلقه ،وأن وظيفة القائم بها
الحكم بالحق ومجانبة الهوى ،فالحكم بالحق يقتضي العلم باألمور الشرعية ،والعلم بصورة
القضية المحكوم بها ،وكيفية إدخالها في الحكم الشرعي ،فالجاهل بأحد األمرين ال يصلح للحكم،
وال يحل له اإلقدام عليه.
ومنها :أنه ينبغي للحاكم أن يحذر الهوى ،ويجعله منه على بال ،فإن النفوس ال تخلو منه ،بل
يجاهد نفسه بأن يكون الحق مقصوده ،وأن يلقي عنه وقت الحكم كل محبة أو بغض ألحد
الخصمين.
ومنها :أن سليمان عليه السالم من فضائل داود ،ومن منن اللّه عليه حيث وهبه له ،وأن من أكبر
نعم اللّه على عبده ،أن يهب له ولدا صالحا ،فإن كان عالما ،كان نورا على نور.
ومنها :ثناء اللّه تعالى على سليمان ومدحه في قوله { نِ ْع َم اْل َع ْب ُد ِإَّنهُ أ ََّو ٌ
اب }
ومنها :كثرة خير اللّه وبره بعبيده ،أن يمن عليهم بصالح األعمال ومكارم األخالق ،ثم يثني
عليهم بها ،وهو المتفضل الوهاب.
ومنها :تقديم سليمان محبة اللّه تعالى على محبة كل شيء.
ومنها :أن كل ما أشغل العبد عن اللّه ،فإنه مشئوم مذمومَ ،فْلُيفَ ِار ْقه وْلُي ْقبِ ْل على ما هو أنفع له.
ومنها :القاعدة المشهورة "من ترك شيئا هلل عوضه اللّه خيرا منه" فسليمان عليه السالم عقر
الجياد الصافنات المحبوبة للنفوس ،تقديما لمحبة اللّه ،فعوضه اللّه خيرا من ذلك ،بأن سخر له
الريح الرخاء اللينة ،التي تجري بأمره إلى حيث أراد وقصد ،غدوها شهر ،ورواحها شهر،
وسخر له الشياطين ،أهل االقتدار على األعمال التي ال يقدر عليها اآلدميون.
ومنها :أن تسخير الشياطين ال يكون ألحد بعد سليمان عليه السالم.
ومنها :أن سليمان عليه السالم ،كان ملكا نبيا ،يفعل ما أراد ،ولكنه ال يريد إال العدل ،بخالف
النبي العبد ،فإنه تكون إرادته تابعة ألمر اللّه ،فال يفعل وال يترك إال باألمر ،كحال نبينا محمد
صلى اللّه عليه وسلم ،وهذه الحال أكمل.
( )1/712
ض بِ ِر ْجِل َ
ك َه َذا ص ٍب و َع َذ ٍ
اب (ْ )41ار ُك ْ ط ُ ِ
ان بُن ْ َ
ادى ربَّهُ أَِّني مسَّنِي َّ
الش ْي َ َ َ ُّوب ِإ ْذ َن َ َ
َوا ْذ ُك ْر َع ْب َدَنا أَي َ
ُم ْغتَ َس ٌل َب ِار ٌد َو َش َر ٌ
اب ()42
ص ٍب و َع َذ ٍ ط ُ ِ ادى ربَّهُ أَِّني مسَّنِي َّ
ض
اب * ْار ُك ْ ان بُن ْ َ الش ْي َ َ َ ُّوب ِإ ْذ َن َ َ
{ َ { } 44 - 41وا ْذ ُك ْر َعْب َدَنا أَي َ
بِ ِر ْجِل َ
ك َه َذا ُم ْغتَ َس ٌل َب ِار ٌد َو َش َر ٌ
اب } .
ُّوب } بأحسن الذكر ،وأثن عليه بأحسن الثناء، أيَ { :وا ْذ ُك ْر } في هذا الكتاب ذي الذكر { َعْب َدَنا أَي َ
حين أصابه الضر ،فصبر على ضره ،فلم يشتك لغير ربه ،وال لجأ إال إليه.
ص ٍب و َع َذ ٍ
اب ط ُ ِ ادى ربَّهُ } داعيا ،وإ ليه ال إلى غيره شاكيا ،فقال :رب { أَِّني مسَّنِي َّ
ان بُن ْ َ الش ْي َ َ َ فـ { َن َ َ
} أي :بأمر مشق متعب معذب ،وكان سلط على جسده فنفخ فيه حتى تقرح ،ثم تقيح بعد ذلك
واشتد به األمر ،وكذلك هلك أهله وماله.
ك } أي :اضرب األرض بها ،لينبع لك منها عين تغتسل منها وتشرب، ض بِ ِر ْجِل َ
فقيل لهْ { :ار ُك ْ
فيذهب عنك الضر واألذى ،ففعل ذلك ،فذهب عنه الضر ،وشفاه اللّه تعالى.
( )1/714
ب بِ ِه
اض ِر ْ ك ِ
ض ْغثًا فَ ْ اب (َ )43و ُخ ْذ بَِي ِد َ
َهلَهُ و ِمثْلَهم م َعهم ر ْحمةً ِمَّنا و ِذ ْكرى أِل ُوِلي اأْل َْلَب ِ
َ َ َو َو َه ْبَنا لَهُ أ ْ َ ُ ْ َ ُ ْ َ َ
اب ()44 صابًِرا نِ ْع َم اْل َع ْب ُد ِإَّنهُ أ ََّو ٌ
ث ِإَّنا َو َج ْدَناهُ َ
َواَل تَ ْحَن ْ
ب بِ ِه
اض ِر ْ ك ِ
ض ْغثًا فَ ْ اب * َو ُخ ْذ بَِي ِد َ
َهلَهُ و ِمثْلَهم م َعهم ر ْحمةً ِمَّنا و ِذ ْكرى ألوِلي األْلَب ِ
َ َ { َو َو َه ْبَنا لَهُ أ ْ َ ُ ْ َ ُ ْ َ َ
صابًِرا نِ ْع َم اْل َع ْب ُد ِإَّنهُ أ ََّو ٌ
اب } . ث ِإَّنا َو َج ْدَناهُ َ
َوال تَ ْحَن ْ
َهلَهُ } قيل :إن اللّه تعالى أحياهم له { َو ِمثْلَهُ ْم َم َعهُ ْم } في الدنيا ،وأغناه اللّه ،وأعطاه { َو َو َه ْبَنا لَهُ أ ْ
ماال عظيما { َر ْح َمةً ِمَّنا } بعبدنا أيوب ،حيث صبر فأثبناه من رحمتنا ثوابا عاجال وآجال.
اب } أي :وليتذكر أولو العقول بحالة أيوب ويعتبروا ،فيعلموا أن من صبر { و ِذ ْكرى ألوِلي األْلَب ِ
َ َ
على الضر ،أن اللّه تعالى يثيبه ثوابا عاجال وآجال ويستجيب دعاءه إذا دعاه.
ث}ب بِ ِه َوال تَ ْحَن ْ
اض ِر ْ ك ِ
ض ْغثًا } أي حزمة شماريخ { فَ ْ { َو ُخ ْذ بَِي ِد َ
قال المفسرون :وكان في مرضه وضره ،قد غضب على زوجته في بعض األمور ،فحلف :لئن
شفاه اللّه ليضربنها مائة جلدة ،فلما شفاه اللّه ،وكانت امرأته صالحة محسنة إليه ،رحمها اللّه
ورحمه ،فأفتاه أن يضربها بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة ،فيبر في يمينه.
صابًِرا } أي :ابتليناه بالضر العظيم ،فصبر لوجه اللّه تعالى { .نِ ْع َم
{ ِإَّنا َو َج ْدَناهُ } أي :أيوب { َ
اْل َع ْب ُد } الذي كمل مراتب العبودية ،في حال السراء والضراء ،والشدة والرخاء.
اب } أي :كثير الرجوع إلى اللّه ،في مطالبه الدينية والدنيوية ،كثير الذكر لربه والدعاء،{ ِإَّنهُ أ ََّو ٌ
والمحبة والتأله.
( )1/714
ص ٍة ِ
اه ْم بِ َخال َ
صَن ُ ص ِار (ِ )45إَّنا أ ْ
َخلَ ْ
ِ
وب أُوِلي اأْل َْيدي َواأْل َْب َ
اق َوَي ْعقُ َ يم َوإِ ْس َح َ وا ْذ ُكر ِعب َ ِ ِ
ادَنا إ ْب َراه َ َ ْ َ
َخَي ِار ()47 ِ ِ ِذ ْك َرى َّ
طفَْي َن اأْل ْ
صَالد ِار (َ )46وإِ َّنهُ ْم ع ْن َدَنا لَم َن اْل ُم ْ
اه ْم
صَن ُ ص ِار * ِإَّنا أ ْ
َخلَ ْ األي ِدي َو ْ
األب َ وب أُوِلي ْ اق َوَي ْعقُ َ
يم َوإِ ْس َح َ ِ { َ { } 47 - 45وا ْذ ُك ْر ِعَب َ
ادَنا ْإب َراه َ
ِ ِ ص ٍة ِذ ْك َرى َّ ِ
األخَي ِار } .
طفَْي َن ْ صَالد ِار * َوإِ َّنهُ ْم عْن َدَنا لَم َن اْل ُم ْ بِ َخال َ
يم } الخليل { و } ابنه ِ ِ يقول تعالىَ { :وا ْذ ُك ْر ِعَب َ
ادَنا } الذين أخلصوا لنا العبادة ذكرا حسنا { ،إ ْب َراه َ
صار } أي: األي ِدي } أي :القوة على عبادة اللّه تعالى { َو ْ
األب َ وب أُوِلي ْ اق َو } ابن ابنه { َي ْعقُ َ { ِإ ْس َح َ
[ ص ] 715البصيرة في دين اللّه .فوصفهم بالعلم النافع ،والعمل الصالح الكثير.
الد ِار } جعلنا ذكرى الدار ص ٍة } عظيمة ،وخصيصة جسيمة ،وهيِ { :ذ ْك َرى َّ ِ
اه ْم بِ َخال َ
صَن ُ { ِإَّنا أ ْ
َخلَ ْ
اآلخرة في قلوبهم ،والعمل لها صفوة وقتهم ،واإلخالص والمراقبة للّه وصفهم الدائم ،وجعلناهم
ذكرى الدار يتذكر بأحوالهم المتذكر ،ويعتبر بهم المعتبر ،ويذكرون بأحسن الذكر.
األخَي ِار } الذين لهم كل ِ ِ
طفَْي َن } الذين اصطفاهم اللّه من صفوة خلقهْ { ،
صَ { َوإِ َّنهُ ْم ع ْن َدَنا لَم َن اْل ُم ْ
خلق كريم ،وعمل مستقيم.
( )1/714
( )1/715
ات ع ْد ٍن مفَتَّحةً لَهم اأْل َْبواب ( )50متَّ ِكئِ ِِ ين لَ ُح ْس َن مآ ٍ ِ ِ ِ
ون
ين فيهَا َي ْد ُع َ
ُ َ َب (َ )49جَّن َ ُ َ ُ ُ َ ُ َ َه َذا ذ ْكٌر َوإِ َّن لْل ُمتَّق َ
ون ِلَي ْوِم ات الطَّر ِ ِ اكه ٍة َكثِير ٍة و َشر ٍ ِ ِ
وع ُد َ
اب (َ )52ه َذا َما تُ َ
ف أَتَْر ٌ اب (َ )51و ِع ْن َد ُه ْم قَاص َر ُ ْ َ َ َ فيهَا بِفَ َ
اب (ِ )53إ َّن َه َذا لَ ِر ْزقَُنا َما لَهُ ِم ْن َنفَ ٍاد ()54 اْل ِح َس ِ
ين ِفيهَاِِ
اب * ُمتَّكئ َ
آب * جَّن ِ
ات َع ْد ٍن ُمفَتَّ َحةً لَهُ ُم ْ
األب َو ُ َ ين لَ ُح ْس َن م ٍ
َ
ِ ِ
{ َ { } 54 - 49وإِ َّن لْل ُمتَّق َ
ون ِلَي ْوِم ات الطَّر ِ ِ ٍ ِ ٍ ِ ي ْدع ِ
وع ُد َ
اب * َه َذا َما تُ َف أَتَْر ٌ ون فيهَا بِفَاكهَة َكث َير ٍة َو َش َراب * َو ِع ْن َد ُه ْم قَاص َر ُ ْ َ ُ َ
اب * ِإ َّن َه َذا لَ ِر ْزقَُنا َما لَهُ ِم ْن َنفَ ٍاد } . اْل ِح َس ِ
ِ ِ
ين } ربهم ،بامتثال األوامر واجتناب النواهي ،من كل مؤمن ومؤمنة { ،لَ ُح ْس َن أيَ { :وإِ َّن لْل ُمتَّق َ
آب } أي :لمآبا حسنا ،ومرجعا مستحسنا. م ٍ
َ
ات َع ْد ٍن } أي :جنات إقامة ،ال يبغي صاحبها بدال منها ،من كمالها ثم فسره وفصله فقال { :جَّن ِ
َ
وتمام نعيمها ،وليسوا بخارجين منها وال بمخرجين.
اب } أي :مفتحة ألجلهم أبواب منازلها ومساكنها ،ال يحتاجون أن يفتحوها هم ، { ُمفَتَّ َحةً لَهُ ُم ْ
األب َو ُ
بل هم مخدومون ،وهذا دليل أيضا على األمان التام ،وأنه ليس في جنات عدن ،ما يوجب أن
تغلق ألجله أبوابها.
ون ِفيهَا } أي :يأمرون
ين فيهَا } على األرائك المزينات ،والمجالس المزخرفاتَ { .ي ْد ُع َ
{ متَّ ِكئِ ِ
ُ َ
اكه ٍة َكثِير ٍة و َشر ٍ
ِ
اب } من كل ما تشتهيه نفوسهم ،وتلذه أعينهم ،وهذا يدل َ َ َ خدامهم ،أن يأتوا { بِفَ َ
على كمال النعيم ،وكمال الراحة والطمأنينة ،وتمام اللذة.
ات } طرفهن على أزواجهن ،وطرف أزواجهن { و ِع ْن َد ُهم } من أزواجهم ،الحور العين { قَ ِ
اص َر ُ ْ َ
عليهن ،لجمالهم كلهم ،ومحبة كل منهما لآلخر ،وعدم طموحه لغيره ،وأنه ال يبغي بصاحبه بدال
اب } أي :على سن واحد ،أعدل سن الشباب وأحسنه وألذه. وال عنه عوضا { .أَتَْر ٌ
اب } جزاء على أعمالكم الصالحة. ون } أيها المتقون { ِلَيوِم اْل ِح َس ِوع ُد َ
{ َه َذا َما تُ َ
ْ
{ ِإ َّن َه َذا لَ ِر ْزقَُنا } الذي أوردناه على أهل دار النعيم { َما لَهُ ِم ْن َنفَ ٍاد } أي :انقطاع ،بل هو دائم
مستقر في جميع األوقات ،متزايد في جميع اآلنات.
وليس هذا بعظيم على الرب الكريم ،الرءوف الرحيم ،البر الجواد ،الواسع الغني ،الحميد اللطيف
الرحمن ،الملك الديان ،الجليل الجميل المنان ،ذي الفضل الباهر ،والكرم المتواتر ،الذي ال
تحصى نعمه ،وال يحاط ببعض بره.
( )1/715
( )1/715
ص ُار
األب َ
ت َع ْنهُ ُم ْ اه ْم ِس ْخ ِريًّا أ َْم َز َ
اغ ْ { َوقَالُوا َما لََنا ال َن َرى ِر َجاال ُكَّنا َن ُع ُّد ُه ْم ِم َن األ ْش َر ِار * أَأَتَّ َخ ْذَن ُ
الن ِار } . َه ِل َّ
اص ُم أ ْ
ق تَ َخ ُ * ِإ َّن َذِل َ
ك لَ َح ٌّ
{ َوقَالُوا } وهم في النار { َما لََنا ال َن َرى ِر َجاال ُكَّنا َن ُع ُّد ُه ْم ِم َن األ ْش َر ِار } أي :كنا نزعم أنهم من
األشرار ،المستحقين لعذاب النار ،وهم المؤمنون ،تفقدهم أهل النار -قبحهم اللّه -هل يرونهم
في النار؟
ص ُار } أي :عدم رؤيتنا لهم دائر بين أمرين :إما أننا األب َ
ت َعْنهُ ْم ْ
اغ ْاه ْم ِس ْخ ِريًّا أ َْم َز َ
{ أَتَّ َخ ْذَن ُ
غالطون في عدنا إياهم من األشرار ،بل هم من األخيار ،وإ نما كالمنا لهم من باب السخرية
ون واالستهزاء بهم ،وهذا هو الواقع ،كما قال تعالى ألهل النارِ { :إَّنه َكان فَ ِر ٌ ِ ِ ِ
يق م ْن عَبادي َيقُولُ َ ُ َ
وه ْم ِس ْخ ِريًّا َحتَّى أ َْن َس ْو ُك ْم ِذ ْك ِري َو ُك ْنتُ ْم
ين * فَاتَّ َخ ْذتُ ُم ُ ت َخ ْير َّ ِ ِ
الراحم َ
ربََّنا آمَّنا فَ ْ ِ
اغف ْر لََنا َو ْار َح ْمَنا َوأ َْن َ ُ َ َ
ون }ض َح ُك َِم ْنهُ ْم تَ ْ
واألمر الثاني أنهم لعلهم زاغت أبصارنا عن رؤيتهم معنا في العذاب وإ ال فهم معنا معذبون ولكن
تجاوزتهم أبصارنا فيحتمل أن هذا الذي في قلوبهم فتكون العقائد التي اعتقدوها في الدنيا وكثرة ما
حكموا ألهل اإليمان بالنار تمكنت من قلوبهم وصارت صبغة لها فدخلوا النار وهم بهذه الحالة
فقالوا ما قالوا
ويحتمل أن كالمهم هذا كالم تمويه كما موهوا في الدنيا موهوا حتى في النار ولهذا يقول أهل
ين أَ ْق َس ْمتُ ْم ال َيَنالُهُ ُم اللَّهُ بَِر ْح َم ٍة ْاد ُخلُوا اْل َجَّنةَ ال َخ ْو ٌ
ف َعلَْي ُك ْم َوال األعراف ألهل النار { أ َ ِ َِّ
َه ُؤالء الذ َ
ون }أ َْنتُ ْم تَ ْح َزُن َ
ق } ما فيه شك ك } الذي ذكرت لكم { لَ َح ٌّ قال تعالى مؤكدا ما أخبر به وهو أصدق القائلين { ِإ َّن َذِل َ
َه ِل َّ
الن ِار } اص ُم أ ْ
وال مرية { تَ َخ ُ
( )1/716
ض َو َما َب ْيَنهُ َما ات واأْل َْر ِ ِ اح ُد اْلقَهَّ ُار (َ )65ر ُّ ُق ْل ِإَّنما أََنا م ْن ِذر وما ِم ْن ِإلَ ٍه ِإاَّل اللَّه اْلو ِ
َّم َاو َ ب الس َ ُ َ ُ ٌ ََ َ
ان ِلي ِم ْن ِعْلٍم بِاْلمإَل ِ يم ( )67أ َْنتُ ْم َع ْنهُ ُم ْع ِر ُ
ِ َّ
اْل َع ِز ُيز اْل َغف ُار (ُ )66ق ْل ُه َو َنَبأٌ َعظ ٌ
َ ون (َ )68ما َك َ َ ض َ
ُّك ِلْل َماَل ئِ َك ِة ِإِّني
ين (ِ )70إ ْذ قَا َل َرب َ وحى ِإلَ َّي ِإاَّل أََّن َما أََنا َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ ون (ِ )69إ ْن ُي َ
ِ
َعلَى ِإ ْذ َي ْختَص ُم َ اأْل ْ
ين ( )72فَ َس َج َد وحي فَقَعوا لَه س ِ ِ يه ِم ْن ر ِ ت ِف ِ ين ( )71فَِإ َذا َس َّو ْيتُهُ َوَنفَ ْخ ُ ق َب َش ًرا ِم ْن ِط ٍ َخ ِال ٌ
اجد َ ُ ُ َ ُ
ِ ِ َجمعون (ِ )73إاَّل ِإْبِليس استَ ْكبر و َك ِ ِ ُّ
َن
ك أْ يس َما َمَن َع َ ال َيا ِإْبل ُ ين ( )74قَ َ ان م َن اْل َكاف ِر َ َ ْ ََ َ َ اْل َماَل ئ َكةُ ُكلهُ ْم أ ْ َ ُ َ
ِ ِ ِ ِ ت أَم ُك ْن َ ِ ت بَِي َد َّ تَ ْس ُج َد ِل َما َخلَ ْق ُ
ال أََنا َخ ْيٌر م ْنهُ َخلَ ْقتَني م ْن َن ٍار َو َخلَ ْقتَهُ ين ( )75قَ َ ت م َن اْل َعال َ َستَ ْكَب ْر َ ْ
يأْ
بال َر ِّ ين ( )78قَ َ الد ِك لَ ْعَنتِي ِإلَى َي ْوِم ِّ يم (َ )77وإِ َّن َعلَْي َ اخر ْج ِم ْنها فَِإَّن َ ِ
ك َرج ٌ َ ين ( )76قَا َل فَ ْ ُ ِم ْن ِط ٍ
وم ( )81قَا َل ين (ِ )80إلَى َي ْوِم اْلو ْق ِت اْل َم ْعلُ ِ ظ ِر َك ِم َن اْل ُم ْن َ ال فَِإَّن َ
ون ( )79قَ َ ِ
فَأ َْنظ ْرنِي ِإلَى َي ْوِم ُي ْب َعثُ َ
َ
ين ()83 ِ اد َ ِ ين (ِ )82إاَّل ِعَب َ ُغ ِويَّنهم أ ْ ِ فَبِ ِع َّزتِ َ
ك م ْنهُ ُم اْل ُم ْخلَص َ َج َمع َ ك أَل ْ َ ُ ْ
األر ِ
ض ِ اح ُد اْلقَهَّ ُار * َر ُّ { ُ { } 88 - 65ق ْل ِإَّنما أََنا م ْن ِذر وما ِم ْن ِإلَ ٍه ِإال اللَّه اْلو ِ
َّم َاوات َو ْ ب الس َ ُ َ ُ ٌ ََ َ
ان ِل َي ِم ْن ِعْلٍم بِاْل َمإل ون * َما َك َ ض َ يم * أ َْنتُ ْم َعْنهُ ُم ْع ِر ُ
ِ َّ
َو َما َب ْيَنهُ َما اْل َع ِز ُيز اْل َغف ُار * ُق ْل ُه َو َنَبأٌ َعظ ٌ
ُّك ِلْل َمالئِ َك ِة ِإِّني َخ ِال ٌ
ق ين * ِإ ْذ قَا َل َرب َ وحى ِإلَ َّي ِإال أََّن َما أََنا َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ ون * ِإ ْن ُي َ
ِ
األعلَى ِإ ْذ َي ْختَص ُم َ ْ
ين * فَ َس َج َد اْل َمالئِ َكةُ ُكلُّهُ ْم وحي فَقَعوا لَه س ِ ِ
اجد َ ُ ُ َ
يه ِم ْن ر ِ
ُ
ت ِف ِ ين * فَِإ َذا َس َّو ْيتُهُ َوَنفَ ْخ ُ َب َش ًرا ِم ْن ِط ٍ
تَن تَ ْس ُج َد ِل َما َخلَ ْق ُ ك أْ يس َما َمَن َع َ ِ
ال َيا ِإْبل ُ ين * قَ َ ِ
ان م َن اْل َكاف ِر َ
َجمعون * ِإال ِإْبِليس استَ ْكبر و َك ِ
َ ْ ََ َ َ أَُْ َ
ال
ين * قَ َ ال أََنا َخ ْيٌر ِم ْنهُ َخلَ ْقتَنِي ِم ْن َن ٍار َو َخلَ ْقتَهُ ِم ْن ِط ٍ ين * قَ َ ِ ت أَم ُك ْن َ ِ
ت م َن اْل َعال َ َستَ ْكَب ْر َ ْ يأْ بَِي َد َّ
ال ر ِّ ِ ك لَ ْعَنتِي ِإلَى َي ْوِم ِّ اخر ْج ِم ْنها فَِإَّن َ ِ
ب فَأ َْنظ ْرنِي ِإلَى َي ْوِم ُي ْب َعثُ َ
ون * ين * قَ َ َ الد ِ يم * َوإِ َّن َعلَْي َ ك َرج ٌ َ فَ ْ ُ
ك ين * ِإال ِعَب َ
اد َ ألغ ِويَّنهم أ ْ ِ
َج َمع َ ك ْ َ ُْ ال فَبِ ِع َّزتِ َ
وم * قَ َ ين * ِإلَى َي ْوِم اْلو ْق ِت اْل َم ْعلُ ِ
َ ظ ِر َك ِم َن اْل ُم ْن َ
ال فَِإَّن َ قَ َ
ين } . ِ ِ
م ْنهُ ُم اْل ُم ْخلَص َ
{ ُق ْل } يا أيها الرسول لهؤالء المكذبين ،إن طلبوا منك ما ليس لك وال بيدكِ { :إَّن َما أََنا ُم ْن ِذٌر } هذا
نهاية ما عندي ،وأما األمر فلله تعالى ،ولكني آمركم ،وأنهاكم ،وأحثكم على الخير وأزجركم عن
ض َّل فَ َعلَْيهَا { َو َما ِم ْن ِإلَ ٍه ِإال اللَّهُ } أي :ما أحد يؤله ويعبد بحق إال ِ ِِ
اهتَ َدى َفلَن ْفسه َو َم ْن َ الشر فَ َم ِن ْ
اح ُد اْلقَهَّ ُار } هذا تقرير أللوهيته ،بهذا البرهان القاطع ،وهو وحدته تعالى ،وقهره لكل اللّه { اْلو ِ
َ
شيء ،فإن القهر مالزم للوحدة ،فال يكون قهارين متساويين في قهرهما أبدا.
فالذي يقهر جميع األشياء هو الواحد الذي ال نظير له ،وهو الذي يستحق أن يعبد وحده ،كما كان
األر ِ
ض َو َما َب ْيَنهُ َما } أي: ِ قاهرا وحده ،وقرر ذلك أيضا بتوحيد الربوبية فقالَ { :ر ُّ
َّم َاوات َو ْ
ب الس َ
خالقهما ،ومربيهما ،ومدبرها ( )1بجميع أنواع التدابير { .اْل َع ِز ُيز } الذي له القوة ،التي بها خلق
المخلوقات العظيمة { .اْل َغفَّ ُار } لجميع الذنوب ،صغيرها ،وكبيرها ،لمن تاب إليه وأقلع منها.
فهذا الذي يحب ويستحق أن يعبد ،دون من ال يخلق وال يرزق ،وال يضر وال ينفع ،وال يملك من
األمر شيئا ،وليس له قوة االقتدار ،وال بيده مغفرة الذنوب واألوزار.
ِ
{ ُق ْل } لهم ،مخوفا ومحذرا ،ومنهضا لهم ومنذراُ { :ه َو َنَبأٌ َعظ ٌ
يم } أي :ما أنبأتكم به من البعث
والنشور والجزاء على األعمال ،خبر عظيم ينبغي االهتمام الشديد بشأنه ،وال ينبغي إغفاله.
ون } كأنه ليس أمامكم حساب وال عقاب وال ثواب ،فإن شككتم في قولي، ولكن { أ َْنتُ ْم َع ْنهُ ُم ْع ِر ُ
ض َ
وامتريتم في خبري ،فإني أخبركم بأخبار ال علم لي بها وال درستها في كتاب ،فإخباري بها على
وجهها ،من غير زيادة وال نقص ،أكبر شاهد لصدقي ،وأدل دليل على حق ما جئتكم به ،ولهذا
ِ ان ِل َي ِم ْن ِعْلٍم بِاْل َمإل ْ
األعلَى } أي :المالئكة { ِإ ْذ َي ْختَص ُم َ
ون } لوال تعليم اللّه إياي، قالَ { :ما َك َ
ين } أي :ظاهر النذارة ،جليها ،فال وحى ِإلَ َّي ِإال أََّن َما أََنا َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ
وإ يحاؤه إلي ،ولهذا قالِ { :إ ْن ُي َ
نذير أبلغ من نذارته صلى اللّه عليه وسلم.
[ ص ] 717
ك ِلْل َمالئِ َك ِة } على وجه اإلخبار { ِإِّني َخ ِال ٌ
ق َب َش ًرا ثم ذكر اختصام المأل األعلى فقالِ { :إ ْذ قَ َ
ال َرُّب َ
ين } أي :مادته من طين.ِم ْن ِط ٍ
ين } فوطَّن ِ ِ { فَِإ َذا س َّو ْيتُه } أي :سويت جسمه وتم { ،وَنفَ ْخ ُ ِ ِ ِ
ت فيه م ْن ُروحي فَقَ ُعوا لَهُ َسا ِجد َ َ َ ُ
المالئكة الكرام أنفسهم على ذلك ،حين يتم خلقه ونفخ الروح فيه ،امتثاال لربهم ،وإ كراما آلدم عليه
السالم ،فلما تم خلقه في بدنه وروحه ،وامتحن اللّه آدم والمالئكة في العلم ،وظهر فضله عليهم،
أمرهم اللّه بالسجود.
ان ِم َن
استَ ْكَب َر } عن أمر ربه ،واستكبر على آدم { َو َك َ فسجدوا كلهم أجمعون إال إبليس لم يسجد { ْ
ِ
اْل َكاف ِر َ
ين } في علم اللّه تعالى.
ي } أي :شرفته وكرمته َن تَ ْس ُج َد ِل َما َخلَ ْق ُ
ت بَِي َد َّ ك أْ
ال } اللّه موبخا ومعاتباَ { :ما َمَن َع َ
فـ { قَ َ
واختصصته بهذه الخصيصة ،التي اختص بها عن سائر الخلق ،وذلك يقتضي عدم التكبر عليه.
ين } ِ ت } في امتناعك { أَم ُك ْن َ ِ
ت م َن اْل َعال َ ْ أستَ ْكَب ْر َ
{ ْ
{ قَا َل } إبليس معارضا لربه ومناقضا { :أََنا َخ ْيٌر ِم ْنهُ َخلَ ْقتَنِي ِم ْن َن ٍار َو َخلَ ْقتَهُ ِم ْن ِط ٍ
ين } وبزعمه
أن عنصر النار خير من عنصر الطين ،وهذا من القياس الفاسد ،فإن عنصر النار مادة الشر
والفساد ،والعلو والطيش والخفة وعنصر الطين مادة الرزانة والتواضع وإ خراج أنواع األشجار
والنباتات وهو يغلب النار ويطفئها ،والنار تحتاج إلى مادة تقوم بها ،والطين قائم بنفسه ،فهذا
قياس شيخ القوم ،الذي عارض به األمر الشفاهي من اللّه ،قد تبين غاية بطالنه وفساده ،فما بالك
بأقيسة التالميذ الذين عارضوا الحق بأقيستهم؟ فإنها كلها أعظم بطالنا وفسادا من هذا القياس.
يم } أي :مبعد اخر ْج ِم ْنها } أي :من السماء والمحل الكريم { .فَِإَّن َ ِ
ك َرج ٌ َ ال } اللّه له { :فَ ْ ُ
فـ { قَ َ
مدحور.
ين } أي :دائما أبدا. ك لَ ْعَنتِي } أي :طردي وإ بعادي { ِإلَى َي ْوِم ِّ
الد ِ { َوإِ َّن َعلَْي َ
{ قَا َل ر ِّ ِ
ون } لشدة عداوته آلدم وذريته ،ليتمكن من إغواء من قدر اللّه ب فَأ َْنظ ْرنِي ِإلَى َي ْوِم ُي ْب َعثُ َ َ
أن يغويه.
ين ِإلَى َي ْوِم اْلو ْق ِت اْل َم ْعلُ ِ
وم ك ِم َن اْل ُم ْن َ
ظ ِر َ فـ(قال) اللّه مجيبا لدعوته ،حيث اقتضت حكمته ذلك { :فَِإَّن َ
َ
} حين تستكمل الذرية ،يتم االمتحان.
كفلما علم أنه منظر ،بادى ربه ،من خبثه ،بشدة العداوة لربه وآلدم وذريته ،فقال { :فَبِ ِع َّزتِ َ
ين } يحتمل أن الباء للقسم ،وأنه أقسم بعزة اللّه ليغوينهم كلهم أجمعين. ألغ ِويَّنهم أ ْ ِ
َج َمع َ ْ َ ُْ
ين } علم أن اهلل سيحفظهم من كيده .ويحتمل أن الباء لالستعانة ،وأنه ِ اد َ ِ
{ ِإال ِعَب َ
ك م ْنهُ ُم اْل ُم ْخلَص َ
لما علم أنه عاجز من كل وجه ،وأنه ال يضل أحدا إال بمشيئة اللّه تعالى ،فاستعان بعزة اللّه على
إغواء ذرية آدم هذا ،وهو عدو اللّه حقا.
ونحن يا ربنا العاجزون المقصرون ،المقرون لك بكل نعمة ،ذرية من شرفته وكرمته ،فنستعين
بعزتك العظيمة ،وقدرتك ،ورحمتك الواسعة لكل مخلوق ،ورحمتك التي أوصلت إلينا بها ،ما
أوصلت من النعم الدينية والدنيوية ،وصرفت بها عنا ما صرفت من النقم ،أن تعيننا على محاربته
وعداوته ،والسالمة من شره وشركه ،ونحسن الظن بك أن تجيب دعاءنا ،ونؤمن بوعدك الذي
قلت لنا { :وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } فقد دعوناك كما أمرتنا ،فاستجب لنا كما وعدتنا.
{ إنك ال تخلف الميعاد } .
__________
( )1كذا في النسختين
( )1/716
( )1/717
صا لَهُ ِّ ِ ق فَ ْ ِ َّ اب بِاْل َح ِّ يز اْلح ِك ِيم (ِ )1إَّنا أ َْن َزْلَنا ِإلَْي َ ِ تَْن ِزي ُل اْل ِكتَ ِ ِ َّ ِ
ين
الد َ اعُبد اللهَ ُم ْخل ً ك اْلكتَ َ اب م َن الله اْل َع ِز ِ َ
ونا ِإلَى اللَّ ِه ُزْلفَى ِإ َّن
اء َما َن ْعُب ُد ُه ْم ِإاَّل ِلُيقَِّرُب َ ِ ِ
ين اتَّ َخ ُذوا م ْن ُدونِه أ َْوِلَي َ
َِّ
ص َوالذ َ
ِ
ين اْل َخال ُ ( )2أَاَل ِللَّ ِه ِّ
الد ُ
ب َكفَّ ٌار ()3 ون ِإ َّن اللَّهَ اَل َي ْه ِدي َم ْن ُه َو َك ِاذ ٌ ِِ ِ ِ َّ
اللهَ َي ْح ُك ُم َب ْيَنهُ ْم في َما ُه ْم فيه َي ْختَلفُ َ
كيز اْل َح ِك ِيم * ِإَّنا أ َْن َزْلَنا ِإلَْي َاب ِم َن اللَّ ِه اْل َع ِز ِ
الر ِح ِيم تَْن ِزي ُل اْل ِكتَ ِ { { } 3 - 1بِ ْسِم اللَّ ِه َّ
الر ْح َم ِن َّ
ِ ِ َِّ ِ ين * أَال ِللَّ ِه ِّ ِ ق فَ ْ ِ َّ ِ
ين اتَّ َخ ُذوا م ْن ُدونِه أ َْوِلَي َ
اء ص َوالذ َ ين اْل َخال ُ الد ُ صا لَهُ ِّ
الد َ اعُبد اللهَ ُم ْخل ً اب بِاْل َح ِّ
اْلكتَ َ
ون ِإ َّن اللَّهَ ال َي ْه ِدي َم ْن ِِ ِ ِ َّ َّ ِ
ونا ِإلَى الله ُزْلفَى ِإ َّن اللهَ َي ْح ُك ُم َب ْيَنهُ ْم في َما ُه ْم فيه َي ْختَلفُ َ َما َن ْعُب ُد ُه ْم ِإال ِلُيقَِّرُب َ
ب َكفَّ ٌار } . ُه َو َك ِاذ ٌ
يخبر تعالى عن عظمة القرآن ،وجاللة من تكلم به ونزل منه ،وأنه نزل من اللّه العزيز الحكيم،
أي :الذي وصفه األلوهية للخلق ،وذلك لعظمته وكماله ،والعزة التي قهر بها كل مخلوق ،وذل له
كل شيء ،والحكمة في خلقه وأمره.
فالقرآن نازل ممن هذا وصفه ،والكالم وصف للمتكلم ،والوصف يتبع الموصوف ،فكما أن اللّه
تعالى [ ص ] 718هو الكامل من كل وجه ،الذي ال مثيل له ،فكذلك كالمه كامل من كل وجه ال
مثيل له ،فهذا وحده كاف في وصف القرآن ،دال على مرتبته.
ولكنه -مع هذا -زاد بيانا لكماله بمن نزل عليه ،وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم ،الذي هو
أشرف الخلق فعلم أنه أشرف الكتب ،وبما نزل به ،وهو الحق ،فنزل بالحق الذي ال مرية فيه،
إلخراج الخلق من الظلمات إلى النور ،ونزل مشتمال على الحق في أخباره الصادقة ،وأحكامه
العادلة ،فكل ما دل عليه فهو أعظم أنواع الحق ،من جميع المطالب العلمية ،وما بعد الحق إال
الضالل.
ولما كان نازال من الحق ،مشتمال على الحق لهداية الخلق ،على أشرف الخلق ،عظمت فيه
صا ِ النعمة ،وجلَّت ،ووجب القيام بشكرها ،وذلك بإخالص الدين للّه ،فلهذا قال { :فَ ْ ِ َّ
اعُبد اللهَ ُم ْخل ً
ين } أي :أخلص للّه تعالى جميع دينك ،من الشرائع الظاهرة والشرائع الباطنة :اإلسالم لَهُ ِّ
الد َ
واإليمان واإلحسان ،بأن تفرد اللّه وحده بها ،وتقصد به وجهه ،ال غير ذلك من المقاصد.
ص } هذا تقرير لألمر باإلخالص ،وبيان أنه تعالى كما أنه له الكمال كله ،وله ِ { أَال ِللَّ ِه ِّ
ين اْل َخال ُ
الد ُ
التفضل على عباده من جميع الوجوه ،فكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب ،فهو
الدين الذي ارتضاه لنفسه ،وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به ،ألنه متضمن للتأله للّه في حبه
وخوفه ورجائه ،ولإلنابة إليه في عبوديته ،واإلنابة إليه في تحصيل مطالب عباده.
وذلك الذي يصلح القلوب ويزكيها ويطهرها ،دون الشرك به في شيء من العبادة .فإن اللّه بريء
منه ،وليس للّه فيه شيء ،فهو أغنى الشركاء عن الشرك ،وهو مفسد للقلوب واألرواح والدنيا
ق للنفوس غاية الشقاء ،فلذلك لما أمر بالتوحيد واإلخالص ،نهى عن الشرك به، واآلخرةُ ،م ْش ٍ
ِ ِ َِّ
اء } أي :يتولونهم بعبادتهم ودعائهم، ين اتَّ َخ ُذوا م ْن ُدونِه أ َْوِلَي َ وأخبر بذم من أشرك به فقالَ { :والذ َ
ونا ِإلَى اللَّ ِه ُزْلفَى } أي :لترفع حوائجنا
[معتذرين] ( )1عن أنفسهم وقائلينَ { :ما َن ْعُب ُد ُه ْم ِإال ِلُيقَِّرُب َ
للّه ،وتشفع لنا عنده ،وإ ال فنحن نعلم أنها ،ال تخلق ،وال ترزق ،وال تملك من األمر شيئا.
أي :فهؤالء ،قد تركوا ما أمر اللّه به من اإلخالص ،وتجرأوا على أعظم المحرمات ،وهو
الشرك ،وقاسوا الذي ليس كمثله شيء ،الملك العظيم ،بالملوك ،وزعموا بعقولهم الفاسدة ورأيهم
السقيم ،أن الملوك كما أنه ال يوصل إليهم إال بوجهاء ،وشفعاء ،ووزراء يرفعون إليهم حوائج
رعاياهم ،ويستعطفونهم عليهم ،ويمهدون لهم األمر في ذلك ،أن اللّه تعالى كذلك.
وهذا القياس من أفسد األقيسة ،وهو يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق ،مع ثبوت الفرق
العظيم ،عقال ونقال وفطرة ،فإن الملوك ،إنما احتاجوا للوساطة بينهم وبين رعاياهم ،ألنهم ال
يعلمون أحوالهم .فيحتاج من يعلمهم بأحوالهم ،وربما ال يكون في قلوبهم رحمة لصاحب الحاجة،
فيحتاج من يعطفهم عليه [ويسترحمه لهم] ( )2ويحتاجون إلى الشفعاء والوزراء ،ويخافون منهم،
فيقضون حوائج من توسطوا لهم ،مراعاة لهم ،ومداراة لخواطرهم ،وهم أيضا فقراء ،قد يمنعون
لما يخشون من الفقر.
وأما الرب تعالى ،فهو الذي أحاط علمه بظواهر األمور وبواطنها ،الذي ال يحتاج من يخبره
بأحوال رعيته وعباده ،وهو تعالى أرحم الراحمين ،وأجود األجودين ،ال يحتاج إلى أحد من خلقه
يجعله راحما لعباده ،بل هو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم ،وهو الذي يحثهم ويدعوهم إلى
األسباب التي ينالون بها رحمته ،وهو يريد من مصالحهم ما ال يريدونه ألنفسهم ،وهو الغني،
الذي له الغنى التام المطلق ،الذي لو اجتمع الخلق من أولهم وآخرهم في صعيد واحد فسألوه،
فأعطى كال منهم ما سأل وتمنى ،لم ينقصوا من غناه شيئا ،ولم ينقصوا مما عنده ،إال كما ينقص
البحر إذا غمس فيه المخيط.
وجميع الشفعاء يخافونه ،فال يشفع منهم أحد إال بإذنه ،وله الشفاعة كلها.
فبهذه الفروق يعلم جهل المشركين به ،وسفههم العظيم ،وشدة جراءتهم عليه.
ويعلم أيضا الحكمة في كون الشرك ال يغفره اللّه تعالى ،ألنه يتضمن القدح في اللّه تعالى ،ولهذا
قال حاكما بين الفريقين ،المخلصين والمشركين ،وفي ضمنه التهديد للمشركينِ { :-إ َّن اللَّهَ َي ْح ُك ُم
ون } ِِ ِ ِ
يما ُه ْم فيه َي ْختَلفُ َ
َب ْيَنهُ ْم ف َ
وقد علم أن حكمه أن المؤمنين المخلصين في جنات النعيم ،ومن [ ص ] 719يشرك باللّه فقد
حرم اللّه عليه الجنة ،ومأواه النارِ { .إ َّن اللَّهَ ال َي ْه ِدي } أي :ال يوفق للهداية إلى الصراط
ب َكفَّ ٌار } أي :وصفه الكذب أو الكفر ،بحيث تأتيه المواعظ واآليات ،وال المستقيم { َم ْن ُه َو َك ِاذ ٌ
يزول عنه ما اتصف به ،ويريه اللّه اآليات ،فيجحدها ويكفر بها ويكذب ،فهذا َّأنى له الهدى وقد
سد على نفسه الباب ،وعوقب بأن طبع اللّه على قلبه ،فهو ال يؤمن؟"
__________
( )1في أ :متعذرين.
( )2كذا في النسختين ولعل الصواب "ويسترحمهم له).
( )1/717
( )1/719
النهار َعلَى اللَّْي ِل و َس َّخر َّ ق ُي َك ِّو ُر اللَّْي َل َعلَى َّ ض بِاْل َح ِّ ِ
الش ْم َس َ َ النهَ ِار َوُي َك ِّو ُر َّ َ َ َّم َاوات َواأْل َْر َق الس َ َخلَ َ
َواْلقَ َم َر ُك ٌّل َي ْج ِري أِل َ
َج ٍل ُم َس ًّمى أَاَل ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َغفَّ ُار ()5
( )1/719
( )1/720
( )1/720
( )1/721
ين َِّ ِ ِ َّ ِ
وها َوأََن ُابوا ِإلَى الله لَهُ ُم اْلُب ْش َرى فََب ِّش ْر عَباد ( )17الذ َ
َن َي ْعُب ُد َوت أ ْ
اغ َاجتََنُبوا الطَّ ُ ين ْ َِّ
َوالذ َ
ك ُهم أُولُو اأْل َْلَب ِ ِ ك الَِّذين َه َد ُ َّ َح َسَنهُ أُولَئِ َ ِ
اب ()18 اه ُم اللهُ َوأُولَئ َ ْ َ ون اْلقَ ْو َل فََيتَّبِ ُع َ
ون أ ْ َي ْستَم ُع َ
وها َوأََن ُابوا ِإلَى اللَّ ِه لَهُ ُم اْلُب ْش َرى فََب ِّش ْر ِعَب ِاد *
َن َي ْعُب ُد َ
وت أ ْ
اغ َ اجتََنُبوا الطَّ ُ
ين ْ َِّ
{ َ { } 18 - 17والذ َ
ك ُهم أُولُو األْلَب ِ ِ ك الَِّذين َه َد ُ َّ َح َسَنهُ أُولَئِ َ ِ َِّ
اب } . اه ُم اللهُ َوأُولَئ َ ْ َ ون اْلقَ ْو َل فََيتَّبِ ُع َ
ون أ ْ ين َي ْستَم ُع َ
الذ َ
وها
َن َي ْعُب ُد َ
وت أ ْاغ َ اجتََنُبوا الطَّ ُ ين ْ َِّ
لما ذكر حال المجرمين ذكر حال المنيبين وثوابهم ،فقالَ { :والذ َ
} والمراد بالطاغوت في هذا الموضع ،عبادة غير اللّه ،فاجتنبوها في عبادتها .وهذا من أحسن
االحتراز من الحكيم العليم ،ألن المدح إنما يتناول المجتنب لها في عبادتها.
{ َوأََن ُابوا ِإلَى اللَّ ِه } بعبادته وإ خالص الدين له ،فانصرفت دواعيهم من عبادة األصنام إلى عبادة
الملك العالم ،ومن الشرك والمعاصي إلى التوحيد والطاعات { ،لَهُ ُم اْلُب ْش َرى } التي ال يقادر
قدرها ،وال يعلم وصفها ،إال من أكرمهم بها ،وهذا شامل للبشرى في الحياة الدنيا بالثناء الحسن،
والرؤيا الصالحة ،والعناية الربانية من اللّه ،التي يرون في خاللها ،أنه مريد إلكرامهم في الدنيا
واآلخرة ،ولهم البشرى في اآلخرة عند الموت ،وفي القبر ،وفي القيامة ،وخاتمة البشرى ما
يبشرهم به الرب الكريم ،من دوام رضوانه وبره وإ حسانه وحلول أمانه في الجنة.
ولما أخبر أن لهم البشرى ،أمره اللّه ببشارتهم ،وذكر الوصف الذي استحقوا به البشارة فقال:
ِ ِ ِ َِّ
ون اْلقَ ْو َل } { فََب ِّش ْر عَباد الذ َ
ين َي ْستَم ُع َ
وهذا جنس يشمل كل قول فهم يستمعون جنس القول ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره [ ص ] 722
مما ينبغي اجتنابه ،فلهذا من حزمهم وعقلهم أنهم يتبعون أحسنه ،وأحسنه على اإلطالق كالم اللّه
يث ِكتَ ًابا ُمتَ َشابِهًا } اآلية.
َحسن اْلح ِد ِ َّ
وكالم رسوله ،كما قال في هذه السورة { :اللهُ نز َل أ ْ َ َ َ
وفي هذه اآلية نكتة ،وهي :أنه لما أخبر عن هؤالء الممدوحين أنهم يستمعون القول فيتبعون
أحسنه ،كأنه قيل :هل من طريق إلى معرفة أحسنه حتى نتصف بصفات أولي األلباب ،وحتى
نعرف أن من أثره علمنا أنه من أولي األلباب؟
يث ِكتَ ًابا ُمتَ َشابِهًا } اآلية.
َحسن اْلح ِد ِ َّ
قيل :نعم ،أحسنه ما نص اللّه عليه { اللهُ نز َل أ ْ َ َ َ
اه ُم اللَّهُ } ألحسن األخالق واألعمال ين َه َد ُ َحسَنه أُولَئِ َ َِّ
ك الذ َ ون اْلقَ ْو َل فََيتَّبِ ُع َ
ون أ ْ َ ُ
ِ
ين َي ْستَم ُع َ
َِّ
{ الذ َ
اب } أي :العقول الزاكية. ك ُهم أُولُو األْلَب ِ ِ
{ َوأُولَئ َ ْ
ومن لبهم وحزمهم ،أنهم عرفوا الحسن من غيره ،وآثروا ما ينبغي إيثاره ،على ما سواه ،وهذا
عالمة العقل ،بل ال عالمة للعقل سوى ذلك ،فإن الذي ال يميز بين األقوال ،حسنها ،وقبيحها ،ليس
من أهل العقول الصحيحة ،أو الذي يميز ،لكن غلبت شهوته عقله ،فبقي عقله تابعا لشهوته فلم
يؤثر األحسن ،كان ناقص العقل.
( )1/721
ف ِم ْن
ين اتَّقَ ْوا َربَّهُ ْم لَهُ ْم ُغَر ٌ ِ َِّ
الن ِار ( )19لَك ِن الذ َت تُْن ِق ُذ َم ْن ِفي َّ ق َعلَْي ِه َكِلمةُ اْل َع َذ ِ
اب أَفَأ َْن َ َ أَفَ َم ْن َح َّ
اد ()20 يع َ ف م ْبنَِّيةٌ تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِها اأْل َْنهار و ْع َد اللَّ ِه اَل ي ْخِل ُ َّ ِ ِ
ف اللهُ اْلم َ ُ َُ َ َ فَ ْوقهَا ُغَر ٌ َ
ين اتَّقَ ْوا َربَّهُ ْم لَهُ ْم ِ َِّ ت تُْن ِق ُذ َم ْن ِفي َّ ق َعلَْي ِه َكِلمةُ اْل َع َذ ِ
{ { } 20 - 19أَفَ َم ْن َح َّ
الن ِار * لَك ِن الذ َ اب أَفَأ َْن َ َ
األنهار و ْع َد اللَّ ِه ال ي ْخِل ُ َّ ِ ِ ِ ف ِم ْن فَو ِقها ُغر ٌ ِ
اد } . يع َ
ف اللهُ اْلم َ ُ ف َم ْبنَّيةٌ تَ ْج ِري م ْن تَ ْحتهَا ْ َ ُ َ ْ َ َ ُغَر ٌ
أي :أفمن وجبت عليه كلمة العذاب باستمراره على غيه وعناده وكفره ،فإنه ال حيلة لك في
هدايته ،وال تقدر تنقذ من في النار ال محالة.
لكن الغنى كل الغنى ،والفوز كل الفوز ،للمتقين الذين أعد لهم من الكرامة وأنواع النعيم ،ما ال
يقادر قدره.
ف } أي :منازل عالية مزخرفة ،من حسنها وبهائها وصفائها ،أنه يرى ظاهرها من { لَهُ ْم ُغَر ٌ
باطنها وباطنها من ظاهرها ،ومن علوها وارتفاعها[ ،أنها] ( )1ترى كما يرى الكوكب الغابر في
ف } أي :بعضها فوق بعض { َم ْبنَِّيةٌ }
األفق الشرقي أو الغربي ،ولهذا قالِ { :م ْن فَ ْو ِقهَا ُغَر ٌ
بذهب وفضة ،ومالطها المسك األذفر.
األنهَ ُار } المتدفقة ،المسقية للبساتين الزاهرة واألشجار الطاهرة ،فتغل بأنواع { تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِهَا ْ
الثمار اللذيذة ،والفاكهة النضيجة.
اد } وقد وعد المتقين هذا الثواب ،فال بد من الوفاء به ،فليوفوا يع َ { و ْع َد اللَّ ِه ال ي ْخِل ُ َّ ِ
ف اللهُ اْلم َ ُ َ
بخصال التقوى ،ليوفيهم أجورهم.
__________
( )1كذا في ب ،وفي أ :أنه.
( )1/722
ض ثَُّم ُي ْخ ِر ُج بِ ِه َز ْر ًعا ُم ْختَِلفًا أَْل َو ُانهُ ثَُّم
يع ِفي اأْل َْر ِ ِ
اء فَ َسلَ َكهُ َيَناب َ
َن اللَّه أ َْن َز َل ِمن الس ِ
َّماء َم ً
َ َ أَلَ ْم تََر أ َّ َ
ك لَِذ ْكرى أِل ُوِلي اأْل َْلَب ِ ِ ِ
اب ()21 اما ِإ َّن في َذل َ َ طًصفًَّرا ثَُّم َي ْج َعلُهُ ُح َ َي ِه ُ
يج فَتََراهُ ُم ْ
( )1/722
ك ِفي
وبهُ ْم ِم ْن ِذ ْك ِر اللَّ ِه أُولَئِ َ ِ ِ ِ ِ أَفَم ْن َشرح اللَّه ص ْدره ِلإْل ِ ساَل ِم فَهو علَى ُن ٍ ِ
ور م ْن َربِّه فَ َوْي ٌل لْلقَاسَية ُقلُ ُ َُ َ َ َ َ ُ َ َُ ْ
ين ()22 ضاَل ٍل ُمبِ ٍ
َ
( )1/722
ِ يث ِكتَابا متَ َشابِها مثَانِي تَ ْق َش ِع ُّر ِم ْنه جلُ ُ َِّ َحسن اْلح ِد ِ َّ
ود ُه ْم
ين ُجلُ ُ
ين َي ْخ َش ْو َن َربَّهُ ْم ثَُّم تَل ُ
ود الذ َ ُ ُ ً ُ ً َ َ اللهُ َن َّز َل أ ْ َ َ َ
ضِل ِل اللَّهُ فَ َما لَهُ ِم ْن َه ٍاد ()23 َّ ِ ِ ِ
ك ُه َدى الله َي ْهدي بِه َم ْن َي َش ُ
اء َو َم ْن ُي ْ وبهُ ْم ِإلَى ِذ ْك ِر اللَّ ِه َذِل َ
َو ُقلُ ُ
يث ِكتَابا متَ َشابِها مثَانِي تَ ْق َش ِع ُّر ِم ْنه جلُ ُ ََِّحسن اْلح ِد ِ َّ
ين َي ْخ َش ْو َن َربَّهُ ْم ثَُّم
ود الذ َ ُ ُ ً ُ ً َ َ { { } 23اللهُ َن َّز َل أ ْ َ َ َ
ضِل ِل اللَّهُ فَ َما لَهُ ِم ْن َه ٍاد َّ ِ ِ ِ
ك ُه َدى الله َي ْهدي بِه َم ْن َي َش ُ
اء َو َم ْن ُي ْ وبهُ ْم ِإلَى ِذ ْك ِر اللَّ ِه َذِل َ
ود ُه ْم َو ُقلُ ُ
ين ُجلُ ُ ِ
تَل ُ
}.
َحسن اْلح ِد ِ
يث } على اإلطالق ،فأحسن الحديث كالم اللّه، يخبر تعالى عن كتابه الذي نزله أنه { أ ْ َ َ َ
وأحسن الكتب المنزلة من كالم اللّه هذا القرآن ،وإ ذا كان هو األحسن ،علم أن ألفاظه [ ص 723
] أفصح األلفاظ وأوضحها ،وأن معانيه ،أجل المعاني ،ألنه أحسن الحديث في لفظه ومعناه،
متشابها في الحسن واالئتالف وعدم االختالف ،بوجه من الوجوه .حتى إنه كلما تدبره المتدبر،
وتفكر فيه المتفكر ،رأى من اتفاقه ،حتى في معانيه الغامضة ،ما يبهر الناظرين ،ويجزم بأنه ال
يصدر إال من حكيم عليم ،هذا المراد بالتشابه في هذا الموضع.
ُخ ُر ات ُه َّن أ ُُّم اْل ِكتَ ِ
اب َوأ َ اب ِم ْنهُ َآي ٌ
ات ُم ْح َك َم ٌ َنزل علَْي َ ِ
ك اْلكتَ َ
َِّ
وأما في قوله تعالىُ { :ه َو الذي أ َ َ
ات } فالمراد بها ،التي تشتبه على فهوم كثير من الناس ،وال يزول هذا االشتباه إال بردها ُمتَ َشابِهَ ٌ
ات } فجعل التشابه ُخ ُر ُمتَ َشابِهَ ٌ ات ُه َّن أ ُُّم اْل ِكتَ ِ
اب َوأ َ إلى المحكم ،ولهذا قالِ { :م ْنهُ َآي ٌ
ات ُم ْح َك َم ٌ
يث } وهو سور وآيات، َحسن اْلح ِد ِ
لبعضه ،وهنا جعله كله متشابها ،أي :في حسنه ،ألنه قال { :أ ْ َ َ َ
والجميع يشبه بعضه بعضا كما ذكرنا.
{ َمثَانِ َي } أي :تثنى فيه القصص واألحكام ،والوعد والوعيد ،وصفات أهل الخير ،وصفات أهل
الشر ،وتثنى فيه أسماء اللّه وصفاته ،وهذا من جاللته ،وحسنه ،فإنه تعالى ،لما علم احتياج الخلق
إلى معانيه المزكية للقلوب ،المكملة لألخالق ،وأن تلك المعاني للقلوب ،بمنزلة الماء لسقي
األشجار ،فكما أن األشجار كلما بعد عهدها بسقي الماء نقصت ،بل ربما تلفت ،وكلما تكرر سقيها
حسنت وأثمرت أنواع الثمار النافعة ،فكذلك القلب يحتاج دائما إلى تكرر معاني كالم اللّه تعالى
عليه ،وأنه لو تكرر عليه المعنى مرة واحدة في جميع القرآن ،لم يقع منه موقعا ،ولم تحصل
النتيجة منه ،ولهذا سلكت في هذا التفسير هذا المسلك الكريم ،اقتداء بما هو تفسير له ،فال تجد فيه
الحوالة على موضع من المواضع ،بل كل موضع تجد تفسيره كامل المعنى ،غير مراع لما
مضى مما يشبهه ،وإ ن كان بعض المواضع يكون أبسط من بعض وأكثر فائدة ،وهكذا ينبغي
للقارئ للقرآن ،المتدبر لمعانيه ،أن ال يدع التدبر في جميع المواضع منه ،فإنه يحصل له بسبب
ذلك خير كثير ،ونفع غزير.
ولما كان القرآن العظيم بهذه الجاللة والعظمة ،أثَّر في قلوب أولي األلباب المهتدين ،فلهذا قال
ين َي ْخ َش ْو َن َربَّهُ ْم } لما فيه من التخويف والترهيب المزعج { ،ثَُّم تعالى { :تَ ْق َش ِع ُّر ِم ْنه جلُ ُ َِّ
ود الذ َ ُ ُ
وبهُ ْم ِإلَى ِذ ْك ِر اللَّ ِه } أي :عند ذكر الرجاء والترغيب ،فهو تارة يرغبهم لعمل ود ُه ْم َو ُقلُ ُ ين ُجلُ ُ ِ
تَل ُ
الخير ،وتارة يرهبهم من عمل الشر.
ك } الذي ذكره اللّه من تأثير القرآن فيهم { ُه َدى اللَّ ِه } أي :هداية منه لعباده ،وهو من جملة { َذِل َ
ِ ِ
اء } من عباده .ويحتمل أن المراد فضله وإ حسانه عليهمَ { ،ي ْهدي بِه } أي :بسبب ذلك { َم ْن َي َش ُ
ك } أي :القرآن الذي وصفناه لكم. بقولهَ { :ذِل َ
اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه } ممن حسن ِ ِ
{ ُه َدى الله } الذي ال طريق يوصل إلى اللّه إال منه { َي ْهدي بِه َم ْن َي َش ُ
َّ ِ
ضو َانهُ سُب َل الس ِ َّ ِ ِ ِ َّ
َّالم } ُ قصده ،كما قال تعالى { َي ْهدي به اللهُ َم ِن اتَب َع ِر ْ َ
ضِل ِل اللَّهُ فَ َما لَهُ ِم ْن َه ٍاد } ألنه ال طريق يوصل إليه إال توفيقه والتوفيق لإلقبال على { َو َم ْن ُي ْ
كتابه ،فإذا لم يحصل هذا ،فال سبيل إلى الهدى ،وما هو إال الضالل المبين والشقاء.
( )1/722
يل ِللظَّ ِال ِمين ُذوقُوا ما ُك ْنتُم تَ ْك ِسبون (َ )24ك َّذ َِّ ام ِة َو ِق َ ِ ِ ِ ِ
ين
ب الذ ََ ُ َ ْ َ َ أَفَ َم ْن َيتَّقي بِ َو ْج ِهه ُس َ
وء اْل َع َذاب َي ْو َم اْلقَي َ
اب ي ِفي اْل َحَي ِاة ُّ
الد ْنَيا َولَ َع َذ ُ
َّ ِ
ون ( )25فَأَ َذاقَهُ ُم اللهُ اْلخ ْز َث اَل َي ْش ُع ُر َ اب ِم ْن َح ْي ُ ِم ْن قَْبِل ِه ْم فَأَتَ ُ
اه ُم اْل َع َذ ُ
ِ
ون ()26 اآْل َخ َر ِة أَ ْكَب ُر لَ ْو َك ُانوا َي ْعلَ ُم َ
( )1/723
ون ( )27قُْرآًَنا َع َربِيًّا َغْي َر ِذي ِع َو ٍج َّ اس ِفي َه َذا اْلقُرآ ِ ِ
َن م ْن ُك ِّل َمثَ ٍل لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ ْ ض َر ْبَنا ِل َّلن ِ
َولَقَ ْد َ
ون َو َر ُجاًل َسلَ ًما ِل َر ُج ٍل َه ْل َي ْستَِوَي ِ
ان ِ
اء ُمتَ َشاك ُس َ
ِِ
ب اللهُ َمثَاًل َر ُجاًل فيه ُش َر َك ُ
لَعلَّهم يتَّقُون ( )28ضر َّ
ََ َ َ ُْ َ َ
ام ِة ِعْن َد ِ ِ
ون ( )30ثَُّم إَّن ُك ْم َي ْو َم اْلقَي َ
ِّت َوإِ َّنهُ ْم َميِّتُ َ
ك َمي ٌ ون (ِ )29إَّن َ َِّ ِ
َمثَاًل اْل َح ْم ُد لله َب ْل أَ ْكثَُر ُه ْم اَل َي ْعلَ ُم َ
ِ
ون ()31 َرِّب ُك ْم تَ ْختَص ُم َ
( )1/723
( )1/724
والقسم األخير قسم المباحات وما ال يتعلق به ثواب وال عقاب ،واألسوأ ،المعاصي كلها،
َّ ِ
واألحسن الطاعات كلها ،فبهذا التفصيل ،يتبين معنى اآلية ،وأن قوله { :لُي َكفَِّر اللهُ َعْنهُ ْم أ ْ
َس َوأَ
َح َس ِن الَِّذي الَِّذي َع ِملُوا } أي :ذنوبهم الصغار ،بسبب إحسانهم وتقواهمَ { ،وَي ْج ِزَيهُ ْم أ ْ
َج َر ُه ْم بِأ ْ
اع ْفهَا َوُي ْؤ ِتك حسَنةً يض ِ َك ُانوا يعملُون } أي :بحسناتهم كلها { ِإ َّن اللَّه ال ي ِْ ِ
ظل ُم مثْقَا َل َذ َّر ٍة َوإِ ْن تَ ُ َ َ ُ َ َ َ ََْ َ
يما } ِ ِم ْن لَ ُد ْنهُ أ ْ
َج ًرا َعظ ً
[ ص ] 725
ضِل ِل اللَّهُ فَ َما لَهُ ِم ْن َه ٍاد
ين ِم ْن ُدونِ ِه َو َم ْن ُي ْ ون َ َِّ
ك بِالذ َ اف َعْب َدهُ َوُي َخ ِّوفُ َ{ { } 37 - 36أَلَْيس اللَّه بِ َك ٍ
َ ُ
يز ِذي ْانتِقَ ٍام } .ض ٍّل أَلَْي َس اللَّهُ بِ َع ِز ٍ
* وم ْن يه ِد اللَّه فَما لَه ِم ْن م ِ
ُ ََ َْ ُ َ ُ
{ أَلَْيس اللَّه بِ َك ٍ
اف َعْب َدهُ } أي :أليس من كرمه وجوده ،وعنايته بعبده ،الذي قام بعبوديته ،وامتثل َ ُ
أمره واجتنب نهيه ،خصوصا أكمل الخلق عبودية لربه ،وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم ،فإن
اللّه تعالى سيكفيه في أمر دينه ودنياه ،ويدفع عنه من ناوأه بسوء.
ين ِم ْن ُدونِ ِه } من األصنام واألنداد أن تنالك بسوء ،وهذا من غيهم وضاللهم. ون َ َِّ
ك بِالذ َ { َوُي َخ ِّوفُ َ
ض ٍّل } ألنه تعالى الذي بيده الهداية ضِل ِل اللَّه فَما لَه ِم ْن َه ٍاد وم ْن يه ِد اللَّه فَما لَه ِم ْن م ِ
{ َو َم ْن ُي ْ
ُ ََ َْ ُ َ ُ ُ َ ُ
واإلضالل ،وهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن { .أَلَْي َس اللَّهُ بِ َع ِز ٍ
يز } له العزة الكاملة التي
قهر بها كل شيء ،وبعزته يكفي عبده ويدفع عنه مكرهمِ { .ذي ْانتِقَ ٍام } ممن عصاه ،فاحذروا
موجبات نقمته.
( )1/724
( )1/725
ت َوُي ْر ِس ُل
ضى َعلَْيهَا اْل َم ْو َ امها فَيم ِس ُ َّ ِ
ك التي قَ َ
ِ
ت في َمَن َ ُ ْ
اللَّه يتَوفَّى اأْل َْنفُس ِحين موتِها والَّتِي لَم تَم ْ ِ
ْ ُ َ َْ َ َ َ ََُ
ٍ ِ َج ٍل ُم َس ًّمى ِإ َّن ِفي َذِل َ
ون ()42 ك آَل ََيات لقَ ْوٍم َيتَفَ َّك ُر َ ُخ َرى ِإلَى أ َ
اأْل ْ
ت
ضى َعلَْيهَا اْل َم ْو َ امها فَيم ِس ُ َّ ِ
ِ األنفُس ِحين موتِها والَّتِي لَم تَم ْ ِ َّ َّ
ك التي قَ َ ت في َمَن َ ُ ْ ْ ُ َ َْ َ َ { { } 42اللهُ َيتََوفى ْ َ
ٍ ِ َج ٍل ُم َس ًّمى ِإ َّن ِفي َذِل َ َوُي ْر ِس ُل ْ
ون } .آليات لقَ ْوٍم َيتَفَ َّك ُر َ
ك َ األخ َرى ِإلَى أ َ
يخبر تعالى أنه المتفرد بالتصرف بالعباد ،في حال يقظتهم ونومهم ،وفي حال حياتهم وموتهم،
ين َم ْوتِهَا } وهذه الوفاة الكبرى ،وفاة الموت. ِ فقال { :اللَّهُ َيتََوفَّى ْ
األنفُ َس ح َ
وإ خباره أنه يتوفى األنفس وإ ضافة الفعل إلى نفسه ،ال ينافي أنه قد وكل بذلك ملك الموت
ِّ ِ َِّ وأعوانه ،كما قال تعالىُ { :ق ْل َيتََوفَّا ُك ْم َملَ ُ
ت
َح َد ُك ُم اْل َم ْو ُ ك اْل َم ْوت الذي ُوك َل بِ ُك ْم } { َحتَّى ِإ َذا َج َ
اء أ َ
ون } ألنه تعالى يضيف األشياء إلى نفسه ،باعتبار أنه الخالق المدبر، تََوفَّتْهُ ُر ُسلَُنا َو ُه ْم ال ُيفَِّرطُ َ
ويضيفها إلى أسبابها ،باعتبار أن من سننه تعالى وحكمته أن جعل لكل أمر من األمور سببا.
امهَا } وهذه الموتة الصغرى ،أي :ويمسك النفس التي لم تمت في ت ِفي مَن ِ وقولهَ { :والَّتِي لَ ْم تَ ُم ْ
َ
ت } وهي نفس [ ص ] 726 ضى َعلَْيهَا اْل َم ْو َ َّ ِ منامها { ،فَُي ْم ِس ُ
ك } من هاتين النفسين النفس { التي قَ َ
من كان مات ،أو قضي أن يموت في منامه.
كَج ٍل ُم َس ًّمى } أي :إلى استكمال رزقها وأجلهاِ { .إ َّن ِفي َذِل َ { َوُي ْر ِس ُل } النفس { ْ
األخ َرى ِإلَى أ َ
ٍ ِ
ون } على كمال اقتداره ،وإ حيائه الموتى بعد موتهم. آليات لقَ ْوٍم َيتَفَ َّك ُر َ
َ
وفي هذه اآلية دليل على أن الروح والنفس جسم قائم بنفسه ،مخالف جوهره جوهر البدن ،وأنها
مخلوقة مدبرة ،يتصرف اللّه فيها في الوفاة واإلمساك واإلرسال ،وأن أرواح األحياء واألموات
تتالقى في البرزخ ،فتجتمع ،فتتحادث ،فيرسل اللّه أرواح األحياء ،ويمسك أرواح األموات.
( )1/725
( )1/726
( )1/726
ليفتدوا به من العذاب وينجوا منه ،ما قبل منهم ،وال أغنى عنهم من عذاب اللّه شيئاَ { ،ي ْو َم ال َي ْنفَعُ
ون ِإال َم ْن أَتَى اللَّهَ بِ َقْل ٍب َسِل ٍيم } َما ٌل َوال َبُن َ
ون } أي :يظنون من السخط العظيم ،والمقت الكبير ،وقد ِ { َوَب َدا لَهُ ْم ِم َن اللَّ ِه َما لَ ْم َي ُك ُ
ونوا َي ْحتَسُب َ
كانوا [ ص ] 727يحكمون ألنفسهم بغير ذلك.
( )1/726
ِ
اق بِ ِه ْم َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ
ون ()48 ات َما َك َسُبوا َو َح َ
َوَب َدا لَهُ ْم َسيَِّئ ُ
ِ
اق بِ ِه ْم َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ
ون } . ات َما َك َسُبوا َو َح َ
{ َوَب َدا لَهُ ْم َسيَِّئ ُ
اق بِ ِه ْم َما
ات َما َك َسُبوا } أي :األمور التي تسوؤهم ،بسبب صنيعهم وكسبهمَ { .و َح َ { َوَب َدا لَهُ ْم َسيَِّئ ُ
ِ
ون } من الوعيد والعذاب الذي نزل بهم ،وما حل عليهم العقاب. َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ
( )1/727
ضٌّر َد َع َانا ثَُّم ِإ َذا َخ َّوْلَناهُ نِ ْع َمةً ِمَّنا قَا َل ِإَّن َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِعْلٍم َب ْل ِه َي ِفتَْنةٌ َولَ ِك َّن
ان ُفَِإ َذا َم َّس اإْلِ ْن َس َ
َص َابهُ ْم ِ ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم فَ َما أ ْ َِّ
ون ( )50فَأ َ َغَنى َعْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْكسُب َ ون ( )49قَ ْد قَالَهَا الذ َ أَ ْكثََر ُه ْم اَل َي ْعلَ ُم َ
ظلَموا ِم ْن َهؤاَل ِء سي ِ َِّ
ين ( )51أ ََولَ ْم ات َما َك َسُبوا َو َما ُه ْم بِ ُم ْع ِج ِز َ ص ُيبهُ ْم َسيَِّئ ُ َُ ُ ين َ ُ ات َما َك َسُبوا َوالذ َ َسيَِّئ ُ
ٍ ِ اء َوَي ْق ِد ُر ِإ َّن ِفي َذِل َ الر ْز َ ِ َن اللَّهَ َي ْب ُسطُ ِّ
ون ()52 ك آَل ََيات لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ ق ل َم ْن َي َش ُ َي ْعلَ ُموا أ َّ
ال ِإَّن َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِعْلٍم َب ْل ضٌّر َد َع َانا ثَُّم ِإ َذا َخ َّوْلَناهُ نِ ْع َمةً ِمَّنا قَ َ
ان ُ { { } 52 - 49فَِإ َذا َم َّس ْ
اإلن َس َ
ِ ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم فَ َما أ ْ َِّ ِ ِ ِ
ون * َغَنى َع ْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْكسُب َ ون * قَ ْد قَالَهَا الذ َ ه َي فتَْنةٌ َولَك َّن أَ ْكثََر ُه ْم ال َي ْعلَ ُم َ
الء سي ِ ِ ِ َِّ
ين *ات َما َك َسُبوا َو َما ُه ْم بِ ُم ْع ِج ِز َ ص ُيبهُ ْم َسيَِّئ ُ ظلَ ُموا م ْن َه ُؤ َ ُ ين َ ات َما َك َسُبوا َوالذ َ َص َابهُ ْم َسيَِّئ ُفَأ َ
ٍ ِ اء َوَي ْق ِد ُر ِإ َّن ِفي َذِل َ الر ْز َ ِ
َن اللَّهَ َي ْب ُسطُ ِّ
ون } . آليات لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ ك َ ق ل َم ْن َي َش ُ أ ََولَ ْم َي ْعلَ ُموا أ َّ
يخبر تعالى عن حالة اإلنسان وطبيعته ،أنه حين يمسه ضر ،من مرض أو شدة أو كربَ { .د َع َانا
} ملحا في تفريج ما نزل به { ثَُّم ِإ َذا َخ َّوْلَناهُ نِ ْع َمةً ِمَّنا } فكشفنا ضره وأزلنا مشقته ،عاد بربه
ال ِإَّن َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِعْلٍم } أي :علم من اللّه ،أني له أهل ،وأني كافرا ،ولمعروفه منكرا .و { قَ َ
مستحق له ،ألني كريم عليه ،أو على علم مني بطرق تحصيله.
قال تعالىَ { :ب ْل ِه َي ِفتَْنةٌ } يبتلي اللّه به عباده ،لينظر من يشكره ممن يكفرهَ { .ولَ ِك َّن أَ ْكثََر ُه ْم ال
ون } فلذلك يعدون الفتنة منحة ،ويشتبه عليهم الخير المحض ،بما قد يكون سببا للخير أو َي ْعلَ ُم َ
للشر.
ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم } أي :قولهم { ِإَّن َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِعْلٍم } فما زالت متوارثة عند َِّ
قال تعالى { :قَ ْد قَالَهَا الذ َ
المكذبين ،ال يقرون بنعمة ربهم ،وال يرون له حقا ،فلم يزل دأبهم حتى أهلكوا ،ولم يغن { َعْنهُ ْم
ون } حين جاءهم العذاب. ِ
َما َك ُانوا َي ْكسُب َ
ات َما َك َسُبوا } والسيئات في هذا الموضع :العقوبات ،ألنها تسوء اإلنسان َص َابهُ ْم َسيَِّئ ُ
{ فَأ َ
ات َما َك َسُبوا } فليسوا خيرا من أولئك ،ولم ظلَموا من هؤالء سي ِ
ص ُيبهُ ْم َسيَِّئ ُ َِّ
َُ ين َ ُ وتحزنهَ { .والذ َ
يكتب لهم براءة في الزبر.
ولما ذكر أنهم اغتروا بالمال ،وزعموا -بجهلهم -أنه يدل على حسن حال صاحبه ،أخبرهم
اء } من عباده ،سواء كان صالحا الر ْز َ ِ
ق ل َم ْن َي َش ُ تعالى ،أن رزقه ،ال يدل على ذلك ،وأنه { َي ْب ُسطُ ِّ
أو طالحا { َوَي ْق ِد ُر } الرزق ،أي :يضيقه على من يشاء ،صالحا أو طالحا ،فرزقه مشترك بين
ٍ ِ البرية ،واإليمان والعمل الصالح يخص به خير البريةِ { .إ َّن ِفي َذِل َ
آليات لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ
ون } أي: ك َ
بسط الرزق وقبضه ،لعلمهم أن مرجع ذلك ،عائد إلى الحكمة والرحمة ،وأنه أعلم بحال عبيده،
فقد يضيق عليهم الرزق لطفا بهم ،ألنه لو بسطه لبغوا في األرض ،فيكون تعالى مراعيا في ذلك
صالح دينهم الذي هو مادة سعادتهم وفالحهم ،واللّه أعلم.
( )1/727
ون ت ِمن اْلمتَِّقين ( )57أَو تَقُو َل ِحين تَرى اْلع َذاب لَو أ َّ ِ ِ ول لَو أ َّ َّ
َن لي َك َّرةً فَأَ ُك َ َ َ ْ َ َ ْ َن اللهَ َه َداني لَ ُك ْن ُ َ ُ َ أ َْو تَقُ َ ْ
ِ ت و ُك ْن َ ِ ك آََياتِي فَ َك َّذ ْب َ ِِ ِ
ين ()59 ت م َن اْل َكاف ِر َ ت بِهَا َو ْ
استَ ْكَب ْر َ َ اءتْ َ
ين (َ )58بلَى قَ ْد َج َم َن اْل ُم ْحسن َ
ول ِحين تَرى اْلع َذاب لَو أ َّ ِ ِ َن اللَّه َه َدانِي لَ ُك ْن ُ ِ
ون
َن لي َك َّرةً فَأَ ُك َ َ َ ْ ين * أ َْو تَقُ َ َ َ ت م َن اْل ُمتَّق َ { أ َْو تَقُو َل لَ ْو أ َّ َ
ِ ت و ُك ْن َ ِ ك َآياتِي فَ َك َّذ ْب َ ِِ ِ
ين } .ت م َن اْل َكاف ِر َ ت بِهَا َو ْ
استَ ْكَب ْر َ َ اءتْ َين * َبلَى قَ ْد َج َم َن اْل ُم ْحسن َ
ِ َن اللَّه َه َدانِي لَ ُك ْن ُ ِ
ين } و"لو" في هذا الموضع للتمني،أي :ليت أن اللّه ت م َن اْل ُمتَّق َ { أ َْو تَقُو َل لَ ْو أ َّ َ
هداني فأكون متقيا له ،فأسلم من العقاب وأستحق الثواب ،وليست "لو" هنا شرطية ،ألنها لو كانت
شرطية ،لكانوا محتجين بالقضاء والقدر على ضاللهم ،وهو حجة باطلة ،ويوم القيامة تضمحل
كل حجة باطلة.
َن ِلي َك َّرةً } أي :رجعة إلى الدنيا لكنت { ِم َن
اب } وتجزم بوروده { لَ ْو أ َّ
ين تََرى اْل َع َذ َ
ِ
{ أ َْو تَقُو َل ح َ
ين } قال تعالى :إن ذلك غير ممكن وال مفيد ،وإ ن هذه أماني باطلة ال حقيقة لها ،إذ ال ِِ
اْل ُم ْحسن َ
يتجدد للعبد لَ ْو ُر َّد ،بيان بعد البيان األول.
ت } عن استَ ْكَب ْر َ ك َآياتِي } الدالة داللة ال يمترى فيها .على الحق { فَ َك َّذ ْب َ
ت بِهَا َو ْ اءتْ َ
{ َبلَى قَ ْد َج َ
ت ِمن اْل َك ِاف ِرين } فسؤال الرد إلى الدنيا ،نوع عبث { ،ولَو ر ُّدوا لَع ُ ِ
ادوا ل َما ُنهُوا َع ْنهُ َ َ ْ ُ َ اتباعها { َو ُك ْن َ َ
ِ
َوإِ َّنهُ ْم لَ َكاذُب َ
ون }
( )1/728
ِ ِ ين َك َذُبوا َعلَى اللَّ ِه ُو ُج ُ َِّ ويوم اْل ِقي ِ
وههُ ْم ُم ْس َو َّدةٌ أَلَْي َس في َجهََّن َم َمثًْوى لْل ُمتَ َكب ِِّر َ
ين ()60 امة تََرى الذ َ َ َْ َ َ َ
َّ َِّ
ون ()61 ين اتَّقَ ْوا بِ َمفَ َازتِ ِه ْم اَل َي َمسُّهُ ُم الس ُ
ُّوء َواَل ُه ْم َي ْح َزُن َ َوُيَنجِّي اللهُ الذ َ
( )1/728
األر ِ
ض ِ ق ُك ِّل َش ْي ٍء َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َو ِكي ٌل * لَهُ َمقَ ِال ُ { { } 63 - 62اللَّهُ َخ ِال ُ
َّم َاوات َو ْ يد الس َ
ون } . ِ ات اللَّ ِه أُولَئِ َ
والَِّذين َكفَروا بِآي ِ
ك ُه ُم اْل َخاس ُر َ َ َ َ ُ
ق ُك ِّل َش ْي ٍء } هذه
يخبر تعالى عن عظمته وكماله ،الموجب لخسران من كفر به فقال { :اللَّهُ َخ ِال ُ
العبارة وما أشبهها ،مما هو كثير في القرآن ،تدل على أن جميع األشياء -غير اللّه -مخلوقة،
ففيها رد على كل من قال بقدم بعض المخلوقات ،كالفالسفة القائلين بقدم األرض والسماوات،
وكالقائلين بقدم األرواح ،ونحو ذلك من أقوال أهل الباطل ،المتضمنة تعطيل الخالق عن خلقه.
وليس كالم اللّه من األشياء المخلوقة ،ألن الكالم صفة المتكلم ،واللّه تعالى بأسمائه وصفاته أول
ليس قبله شيء ،فأخذ أهل االعتزال من هذه اآلية ونحوها أنه مخلوق ،من أعظم الجهل ،فإنه
تعالى لم يزل بأسمائه وصفاته ،ولم يحدث له صفة من صفاته ،ولم يكن معطال عنها بوقت من
األوقات ،والشاهد من هذا ،أن اللّه تعالى أخبر عن نفسه الكريمة أنه خالق لجميع العالم العلوي
والسفلي ،وأنه على كل شيء وكيل ،والوكالة التامة ال بد فيها من علم الوكيل ،بما كان وكيال
عليه ،وإ حاطته بتفاصيله ،ومن قدرة تامة على ما هو وكيل عليه ،ليتمكن من التصرف فيه ،ومن
حفظ لما هو وكيل عليه ،ومن حكمة ،ومعرفة بوجوه التصرفات ،ليصرفها ويدبرها على ما هو
األليق ،فال تتم الوكالة إال بذلك كله ،فما نقص من ذلك ،فهو نقص فيها.
ومن المعلوم المتقرر ،أن اللّه تعالى منزه عن كل نقص في صفة من صفاته ،فإخباره بأنه على
كل شيء وكيل ،يدل على إحاطة علمه بجميع األشياء ،وكمال قدرته على تدبيرها ،وكمال
تدبيره ،وكمال حكمته التي يضع بها األشياء مواضعها.
َّ األر ِ ِ { لَهُ َمقَ ِال ُ
ض } أي :مفاتيحها ،علما [ ص ] 729وتدبيرا ،فـ { َما َي ْفتَ ِح اللهُ َّم َاوات َو ْ يد الس َ
ِ ِِ ِ ِ ِ اس ِم ْن َر ْح َم ٍة فَال ُم ْم ِس َ ِل َّلن ِ
يم } فلما بين ك لَهَا َو َما ُي ْمس ْك فَال ُم ْرس َل لَهُ م ْن َب ْعده َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ
من عظمته ما يقتضي أن تمتلئ القلوب له إجالال وإ كراما ،ذكر حال من عكس القضية فلم يقدره
ات اللَّ ِه } الدالة على الحق اليقين والصراط المستقيم { .أُولَئِ َ
ك حق قدره ،فقال { :والَِّذين َكفَروا بِآي ِ
َ َ َ ُ
ون } خسروا ما به تصلح القلوب من التأله واإلخالص للّه ،وما به تصلح األلسن من ِ
ُه ُم اْل َخاس ُر َ
إشغالها بذكر اللّه ،وما تصلح به الجوارح من طاعة اللّه ،وتعوضوا عن ذلك كل مفسد للقلوب
واألبدان ،وخسروا جنات النعيم ،وتعوضوا عنها بالعذاب األليم.
( )1/728
ك لَئِ ْن
ين ِم ْن قَْبِل َ َِّ اهلُون ( )64ولَقَ ْد أ ِ
ُوح َي ِإلَْي َ
ك َوإِلَى الذ َ َ
ِ
َعُب ُد أَيُّهَا اْل َج َ
وني أ ْْم ُر ِّ َّ ِ
ُق ْل أَفَ َغ ْي َر الله تَأ ُ
اعب ْد و ُك ْن ِمن َّ ِ ِ َّ ِ ك ولَتَ ُك َ ِ
ين ()66 الشاك ِر َ َ ين (َ )65بل اللهَ فَ ْ ُ َ ون َّن م َن اْل َخاس ِر َ ط َّن َع َملُ َ َ
ت لََي ْحَب َ
أَ ْش َر ْك َ
( )1/729
ط ِوي ٌ
َّات ات َم ْ
َّماو ُ ق قَ ْد ِر ِه واألرض ج ِميعا قَْبضتُه يوم اْل ِقي ِ
{ { } 67و َما قَ َد ُروا اللَّهَ َح َّ
امة َوالس َ
َ ُ َْ َ َ َ َ ْ ُ َ ً َ
ِ ِِ
بَِيمينه ُس ْب َح َانهُ َوتَ َعالَى َع َّما ُي ْش ِر ُك َ
ون } .
يقول تعالى :وما قدر هؤالء المشركون ربهم حق قدره ،وال عظموه حق تعظيمه ،بل فعلوا ما
يناقض ذلك ،من إشراكهم به من هو ناقص في أوصافه وأفعاله ،فأوصافه ناقصة من كل وجه،
وأفعاله ليس عنده نفع وال ضر ،وال عطاء وال منع ،وال يملك من األمر شيئا.
فسووا هذا المخلوق الناقص بالخالق الرب العظيم ،الذي من عظمته الباهرة ،وقدرته القاهرة ،أن
جميع األرض يوم القيامة قبضة للرحمن ،وأن السماوات -على سعتها وعظمها -مطويات
سوى به غيره ،وال أظلم منه.
بيمينه ،فال عظمه حق عظمته من َّ
{ ُس ْب َح َانهُ َوتَ َعالَى َع َّما ُي ْش ِر ُك َ
ون } أي :تنزه وتعاظم عن شركهم به.
( )1/729
ُخ َرى فَِإ َذا
يه أ ْض ِإاَّل م ْن َشاء اللَّه ثَُّم ُن ِف َخ ِف ِ ات و َم ْن ِفي اأْل َْر ِ ِ ِ ص ِع َ َوُن ِف َخ ِفي الص ِ
َ ُ َ َّم َاو َ
ق َم ْن في الس َ ُّور فَ َ
الشه َد ِ
ُّ ِ ِ ِ ِ
اء ِّين َو َ النبِي َ اب َو ِج َ
يء بِ َّ ور َربِّهَا َو ُوض َع اْلكتَ ُ ض بُِن ِون (َ )68وأَ ْش َرقَت اأْل َْر ُ ام َي ْنظُ ُر َ ُه ْم قَي ٌ
ون ()70 َعلَ ُم بِ َما َي ْف َعلُ َ س َما َع ِملَ ْ
ت َو ُه َو أ ْ ت ُك ُّل َن ْف ٍ
ون (َ )69و ُوفَِّي ْ ظلَ ُم َ ضي َب ْيَنهُ ْم بِاْل َح ِّ
ق َو ُه ْم اَل ُي ْ ِ
َوقُ َ
( )1/729
( )1/730
( )1/731
اب ِذي
الذ ْن ِب وقَابِ ِل التَّو ِب َش ِد ِيد اْل ِعقَ ِ
ْ َ
يز اْلعِل ِيم (َ )2غ ِاف ِر َّ حم ( )1تَْن ِزي ُل اْل ِكتَ ِ ِ َّ ِ
اب م َن الله اْل َع ِز ِ َ
ص ُير ()3الطَّو ِل اَل ِإلَه ِإاَّل ُهو ِإلَْي ِه اْلم ِ
َ َ َ ْ
( )1/731
وح
ت قَْبلَهُ ْم قَ ْو ُم ُن ٍك تََقلُُّبهُ ْم ِفي اْلبِاَل ِد (َ )4ك َّذَب ْين َكفَ ُروا فَاَل َي ْغ ُر ْر َ ِ َّ ِ اَّل َِّ
َما ُي َجاد ُل في آََيات الله ِإ الذ َ
ِ ِ
ضوا بِ ِه اْل َح َّ
ق ِ ِ ِ
ادلُوا بِاْلَباط ِل لُي ْدح ُ ْخ ُذوهُ َو َج َ ُم ٍة بَِر ُسوِل ِه ْم ِلَيأ ُ
ت ُك ُّل أ َّ اب ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم َو َه َّم َْح َز ُ َواأْل ْ
الن ِار ()6
اب َّ َِّ ت َكِل َمةُ َرِّب َ اب (َ )5و َك َذِل َ
ك َحقَّ ْ ان ِعقَ ِ
َص َح ُ ين َكفَ ُروا أََّنهُ ْم أ ْ
ك َعلَى الذ َ ف َك َ َخ ْذتُهُ ْم فَ َك ْي َ
فَأ َ
( )1/731
َمُنوا َربََّنا الَِّذين ي ْح ِملُون اْلعر َش وم ْن حولَه يسبِّحون بِحم ِد رِّب ِهم ويؤ ِمُنون بِ ِه ويستَ ْغ ِفر َِِّ
ين آ َ
ون للذ َ َ َْ َ َ َ ْ ُ ُ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُْ َ َ َ ْ ُ َ َ َ
اب اْل َج ِح ِيم ()7
ك َو ِق ِه ْم َع َذ َ
ين تَ ُابوا َواتََّب ُعوا َسبِيلَ َ ت ُك َّل َشي ٍء ر ْحمةً و ِعْلما فَ ْ ِ َِِّ
اغف ْر للذ َ ْ َ َ َ ً َو ِس ْع َ
( )1/732
( )1/732
ِ ِ ِ ِ ِ ادون لَم ْق ُ َّ ِ َِّ
ون ()10 يم ِ
ان فَتَ ْكفُُر َ ت الله أَ ْكَب ُر م ْن َم ْقت ُك ْم أ َْنفُ َس ُك ْم إ ْذ تُ ْد َع ْو َن إلَى اإْل َ ين َكفَ ُروا ُيَن َ ْ َ َ ِإ َّن الذ َ
ِ وج ِم ْن سبِ ٍ
يل (َ )11ذل ُك ْم بِأََّنهُ َ اعتََر ْفَنا بِ ُذُنوبَِنا فَهَ ْل ِإلَى ُخ ُر ٍ َمتََّنا اثَْنتَْي ِن َوأ ْ
َحَي ْيتََنا اثَْنتَْي ِن فَ ْ قَالُوا َربََّنا أ َ
ير ()12 ِإ َذا ُد ِعي اللَّهُ َو ْح َدهُ َكفَ ْرتُ ْم َوإِ ْن ُي ْش َر ْك بِ ِه تُ ْؤ ِمُنوا فَاْل ُح ْك ُم ِللَّ ِه اْل َعِل ِّي اْل َكبِ ِ
َ
( )1/733
َّ ِ ُهو الَِّذي ي ِري ُكم آَياتِ ِه ويَنِّز ُل لَ ُكم ِمن الس ِ
يب ( )13فَ ْاد ُعوا اللهَ َّماء ِر ْزقًا َو َما َيتَ َذ َّك ُر ِإاَّل َم ْن ُين ُ
ْ َ َ ُ ْ َ َُ َ
ِ
وح م ْن أ َْم ِر ِه َعلَى ِ ِ
الد َر َجات ُذو اْل َع ْر ِ ون (َ )14ر ِفيعُ َّ ِ ين لَهُ ِّ ِ ِ
الر َ ش ُيْلقي ُّ ين َولَ ْو َك ِرهَ اْل َكاف ُر َ الد َ ُم ْخلص َ
ون اَل َي ْخفَى َعلَى اللَّ ِه ِم ْنهُ ْم َش ْي ٌء ِل َم ِنق (َ )15ي ْو َم ُه ْم َب ِار ُز َ اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه ِلُي ْن ِذ َر َي ْو َم التَّاَل ِ
َم ْن َي َش ُ
اح ِد اْلقَهَّ ِار ()16 ك اْليوم ِللَّ ِه اْلو ِ
َ اْل ُمْل ُ َ ْ َ
ِ { ُ { } 17 - 13هو الَِّذي ي ِري ُكم آياتِ ِه ويَنِّز ُل لَ ُكم ِمن الس ِ
يب *َّماء ِر ْزقًا َو َما َيتَ َذ َّك ُر ِإال َم ْن ُين ُ
ْ َ َ ُ ْ َ َُ َ
وح ِم ْن
الر َ ش ُيْل ِقي ُّ الدرج ِ
ات ُذو اْل َع ْر ِ ون * َر ِفيعُ َّ َ َ
ِ
ين َولَ ْو َك ِرهَ اْل َكاف ُر َ الد َ ين لَهُ ِّ ِ ِ َّ
فَ ْاد ُعوا اللهَ ُم ْخلص َ
ون ال َي ْخفَى َعلَى اللَّ ِه ِم ْنهُ ْم َش ْي ٌء اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه ِلُي ْن ِذ َر َي ْو َم التَّال ِ
ق * َي ْو َم ُه ْم َب ِار ُز َ أ َْم ِر ِه َعلَى َم ْن َي َش ُ
اح ِد اْلقَهَّ ِار } . ك اْليوم ِللَّ ِه اْلو ِ
َ
ِ
ل َم ِن اْل ُمْل ُ َ ْ َ
يذكر تعالى نعمه العظيمة على عباده ،بتبيين الحق من الباطل ،بما ُي ِري عباده من آياته النفسية
واآلفاقية والقرآنية ،الدالة على كل مطلوب مقصود ،الموضحة للهدى من الضالل ،بحيث ال يبقى
عند الناظر فيها والمتأمل لها أدنى شك في معرفة الحقائق ،وهذا من أكبر نعمه على عباده ،حيث
نوع الدالالت ووضح اآليات ،ليهلك من هلك عن
ملتبسا ،بل َّ
ً لم ُي ْب ِ
ق الحق مشتبهًا وال الصواب
بينة ،ويحيا من حي عن بينة وكلما كانت المسائل أجل وأكبر ،كانت الدالئل عليها أكثر وأيسر،
فانظر إلى التوحيد لما كانت مسألته من أكبر المسائل ،بل أكبرها ،كثرت األدلة عليها العقلية
والنقلية وتنوعت ،وضرب اهلل لها األمثال وأكثر لها من االستدالل ،ولهذا ذكرها في هذا
ين } ين لَهُ ِّ ِ ِ َّ
الد َ الموضع ،ونبه على جملة من أدلتها فقال { :فَ ْاد ُعوا اللهَ ُم ْخلص َ
ولما ذكر أنه ُي ِري عباده آياته ،نبه على آية عظيمة فقال { :وينزل لكم من السماء رزقا } أي:
مطرا به ترزقون وتعيشون أنتم وبهائمكم ،وذلك يدل على أن النعم كلها منه ،فمنه نعم الدين،
ً
وهي المسائل الدينية واألدلة عليها ،وما يتبع ذلك من العمل بها .والنعم الدنيوية كلها ،كالنعم
الناشئة عن الغيث ،الذي تحيا به البالد والعباد .وهذا يدل داللة قاطعة أنه وحده هو المعبود ،الذي
يتعين إخالص الدين له ،كما أنه -وحده -المنعم.
ِ
{ َو َما َيتَ َذ َّك ُر } باآليات حين يذكر بها { ِإال َم ْن ُين ُ
يب } إلى اهلل تعالى ،باإلقبال على محبته وخشيته
وطاعته والتضرع إليه ،فهذا الذي ينتفع باآليات ،وتصير رحمة في حقه ،ويزداد بها بصيرة.
ولما كانت اآليات تثمر التذكر ،والتذكر يوجب اإلخالص للّه ،رتب األمر على ذلك بالفاء الدالة
ين } وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة، ين لَهُ ِّ ِ ِ َّ
الد َ على السببية فقال { :فَ ْاد ُعوا اللهَ ُم ْخلص َ
واإلخالص معناه :تخليص القصد للّه تعالى في جميع العبادات الواجبة والمستحبة ،حقوق اهلل
وحقوق عباده .أي :أخلصوا للّه تعالى في كل ما تدينونه به وتتقربون به إليه.
ِ
ون } لذلك ،فال تبالوا بهم ،وال يثنكم ذلك عن دينكم ،وال تأخذكم باهلل لومة الئم، { َولَ ْو َك ِرهَ اْل َكاف ُر َ
ِ َّ
فإن الكافرين يكرهون اإلخالص هلل وحده غاية الكراهة ،كما قال تعالىَ { :وإِ َذا ُذك َر اللهُ َو ْح َدهُ
ِ ِ اآلخر ِة وإِ َذا ُذ ِكر الَِّذ ِ
ت ُقلُوب الَِّذين ال يؤ ِمُن ِ ِ
ون } ين م ْن ُدونِه ِإ َذا ُه ْم َي ْستَْبش ُر َ
َ َ ون ب َ َ َ ُْ َ ُ ا ْش َمأ ََّز ْ
الدرج ِ
ش } أي: ات ُذو اْل َع ْر ِ ثم ذكر من جالله وكماله ما يقتضي إخالص العبادة له فقالَ { :ر ِفيعُ َّ َ َ
ارتفاعا باين به مخلوقاته، ً العلي األعلى ،الذي استوى على العرش واختص به ،وارتفعت درجاته
وارتفع به قدره ،وجلت أوصافه ،وتعالت ذاته ،أن يتقرب إليه إال بالعمل الزكي الطاهر المطهر،
وهو اإلخالص ،الذي يرفع درجات أصحابه ويقربهم إليه ويجعلهم فوق خلقه ،ثم ذكر نعمته على
وح } أي :الوحي الذي لألرواح والقلوب بمنزلة الر َعباده بالرسالة والوحي ،فقالُ { :يْل ِقي ُّ
األرواح لألجساد ،فكما أن الجسد بدون الروح ال يحيا وال يعيش ،فالروح والقلب بدون روح
وح ِم ْن أ َْم ِر ِه } الذي فيه [ ص ] 735نفع العباد الر َ الوحي ال يصلح وال يفلح ،فهو تعالى { ُيْل ِقي ُّ
ومصلحتهم.
اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه } وهم الرسل الذين فضلهم اهلل واختصهم اهلل لوحيه ودعوة عباده. { َعلَى َم ْن َي َش ُ
والفائدة في إرسال الرسل ،هو تحصيل سعادة العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم ،وإ زالة الشقاوة
ق} عنهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم ،ولهذا قالِ { :لُي ْن ِذ َر } من ألقى اهلل إليه الوحي { َي ْو َم التَّال ِ
أي :يخوف العباد بذلك ،ويحثهم على االستعداد له باألسباب المنجية مما يكون فيه.
وسماه { يوم التالق } ألنه يلتقي فيه الخالق والمخلوق والمخلوقون بعضهم مع بعض ،والعاملون
وأعمالهم وجزاؤهم.
ون } أي :ظاهرون على األرض ،قد اجتمعوا في صعيد واحد ال عوج وال أمت { َي ْو َم ُه ْم َب ِار ُز َ
فيه ،يسمعهم الداعي وينفذهم البصر.
{ ال َي ْخفَى َعلَى اللَّ ِه ِم ْنهُ ْم َش ْي ٌء } ال من ذواتهم وال من أعمالهم ،وال من جزاء تلك األعمال.
ك اْلَي ْو َم } أي :من هو المالك لذلك اليوم العظيم الجامع لألولين واآلخرين ،أهل { ِل َم ِن اْل ُمْل ُ
السماوات وأهل األرض ،الذي انقطعت فيه الشركة في الملك ،وتقطعت األسباب ،ولم يبق إال
اح ِد اْلقَهَّ ِار } أي :المنفرد في ذاته وأسمائه وصفاته
األعمال الصالحة أو السيئة؟ الملك { ِللَّ ِه اْلو ِ
َ
وأفعاله ،فال شريك له في شيء منها بوجه من الوجوه { .اْلقَهَّ ِار } لجميع المخلوقات ،الذي دانت
خصوصا في ذلك اليوم الذي عنت فيه الوجوه للحي القيوم ،يومئذ
ً له المخلوقات وذلت وخضعت،
ال تَ َكلَّ ُم نفس إال بإذنه.
( )1/734
( )1/735
ين ِم ْن َح ِم ٍيم َوال ِ َّ ِ ِ ِِ وب لَ َدى اْل َحَن ِ { { } 20 - 18وأ َْن ِذر ُهم يوم ِ ِ ِ
ين َما للظالم َاج ِر َكاظم َ اآلزفَة ِإذ اْل ُقلُ ُ َ ْ ْ َْ َ
ون ِم ْنين َي ْد ُع َ
ضي بِاْلح ِّ َِّ
ق َوالذ َ َ
ُّدور * واللَّه ي ْق ِ ِ
األعُي ِن َو َما تُ ْخفي الص ُ ُ َ ُ َ طاعُ * َي ْعلَ ُم َخائَِنةَ ْ َش ِف ٍ
يع ُي َ
َّميع اْلب ِ ِ َّ ٍ ِ
ص ُير } . ون بِ َش ْيء ِإ َّن اللهَ ُه َو الس ُ َ ض َُدونِه ال َي ْق ُ
اآلزفَ ِة } أي :يوم القيامة التي قد يقول تعالى لنبيه محمد صلى اهلل عليه وسلمَ { :وأ َْن ِذ ْر ُه ْم َي ْو َم ِ
وب لَ َدى اْل َحَنا ِج ِر } أي :قد ِ
أزفت وقربت ،وآن الوصول إلى أهوالها وقالقلها وزالزلهاِ { ،إذ اْل ُقلُ ُ
ارتفعت وبقيت أفئدتهم هواء ،ووصلت القلوب من الروع والكرب إلى الحناجر ،شاخصة
ين } ال يتكلمون إال من أذن له الرحمن وقال صوابا وكاظمين على ما في ِِ
أبصارهمَ { .كاظم َ
قلوبهم من الروع الشديد والمزعجات الهائلة.
طاعُ } ألن الشفعاء ال يشفعون في ين ِم ْن َح ِم ٍيم } أي :قريب وال صاحبَ { ،وال َش ِف ٍ
يع ُي َ ِ َّ ِ ِ
{ َما للظالم َ
الظالم نفسه بالشرك ،ولو قدرت شفاعتهم ،فاهلل تعالى ال يرضى شفاعتهم ،فال يقبلها.
األعُي ِن } وهو النظر الذي يخفيه العبد من جليسه ومقارنه ،وهو نظر المسارقة، { َي ْعلَ ُم َخائَِنةَ ْ
ور } مما لم يبينه العبد لغيره ،فاهلل تعالى يعلم ذلك الخفي ،فغيره من األمور { َو َما تُ ْخ ِفي الص ُ
ُّد ُ
الظاهرة من باب أولى وأحرى.
ق } ألن قوله حق ،وحكمه الشرعي حق ،وحكمه الجزائي حق وهو المحيط { واللَّه ي ْق ِ
ضي بِاْل َح ِّ َ َُ
علما وكتابة وحفظا بجميع األشياء ،وهو المنزه عن الظلم والنقص وسائر العيوب ،وهو الذي ً
شيئا كان وما لم يشأ لم يكن ،وهو الذي يقضي بين عباده
يقضي قضاءه القدري ،الذي إذا شاء ً
المؤمنين والكافرين في الدنيا ،ويفصل بينهم بفتح ينصر به أولياءه وأحبابه.
ون بِ َش ْي ٍء } لعجزهم
ض َون م ْن ُدونِه } وهذا شامل لكل ما عبد من دون اهلل { ال َي ْق ُ
ِ { والَِّذين ي ْدع ِ
َ َ َ ُ َ
َّميعُ } لجميع األصوات ،باختالف وعدم إرادتهم للخير واستطاعتهم لفعلهِ { .إ َّن اللَّه ُهو الس ِ
َ َ
ص ُير } ( )1بما كان وما يكون ،وما نبصر وما ال نبصر ،وما اللغات ،على تفنن الحاجات { .اْلب ِ
َ
يعلم العباد وما ال يعلمون.
اآلزفَ ِة } ثم وصفها بهذه األوصاف المقتضية لالستعداد قال في أول هاتين اآليتين { َوأ َْن ِذ ْر ُه ْم َي ْو َم ِ
لذلك اليوم العظيم ،الشتمالها على الترغيب والترهيب.
__________
( )1في النسختين (العليم) وهو خطأ فالوارد في اآلية( :البصير).
( )1/735
( )1/735
اب ( احٌر َك َّذ ٌ ين (ِ )23إلَى ِفرعون و َهامان وقَارون فَقَالُوا س ِ
َ ْ َْ َ َ َ َ َ ُ َ ان ُمبِ ٍ طٍ وسى بِآََياتَِنا َو ُسْل َ َولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُم َ
اء ُه ْم َو َما َك ْي ُد ِ ق ِم ْن ِع ْن ِدَنا قَالُوا ا ْقتُلُوا أ َْبَن َِّ اء ُه ْم بِاْل َح ِّ
استَ ْحُيوا ن َس َ َمُنوا َم َعهُ َو ْ ين آ َ اء الذ َ َ َ )24فلَ َّما َج َ
وسى َوْلَي ْدعُ َربَّهُ ِإِّني أ َ ِ ين ِإاَّل ِفي َ ٍ ِ
َن ُيَب ِّد َل اف أ ْ َخ ُ ضاَل ل (َ )25وقَا َل ف ْر َع ْو ُن َذ ُرونِي أَ ْقتُ ْل ُم َ اْل َكاف ِر َ
ت بَِربِّي َو َرِّب ُك ْم ِم ْن ُك ِّل ُمتَ َكب ٍِّر اَل وسى ِإِّني ُع ْذ ُ اد (َ )26وقَا َل ُم َ ض اْلفَ َس َ ظ ِه َر ِفي اأْل َْر ِ َن ُي ْ ِد َين ُك ْم أ َْو أ ْ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َن َيقُو َل ون َر ُجاًل أ ْ ُي ْؤم ُن بَي ْوِم اْلح َساب (َ )27وقَا َل َر ُج ٌل ُم ْؤم ٌن م ْن آَل ف ْر َع ْو َن َي ْكتُُم إ َ
يم َانهُ أَتَ ْقتُلُ َ
ض ِ ك ِ ِ ِ ات ِم ْن رِّب ُكم وإِ ْن ي ُ ِ ربِّي اللَّه وقَ ْد جاء ُكم بِاْلبيَِّن ِ
صادقًا ُيص ْب ُك ْم َب ْع ُ ك َكاذًبا فَ َعلَْيه َكذُبهُ َوإِ ْن َي ُ َ َ َْ َ َ َ َُ َ َ ْ َ
ين ِفي ظاه ِر َ
ك اْليوم َ ِ ِ
اب (َ )28يا قَ ْوم لَ ُك ُم اْل ُمْل ُ َ ْ َ ف َك َّذ ٌ الَِّذي َي ِع ُد ُك ْم ِإ َّن اللَّهَ اَل َي ْه ِدي َم ْن ُه َو ُم ْس ِر ٌ
َه ِدي ُك ْم ِإاَّل َسبِ َ
يل اءَنا قَا َل ِف ْر َع ْو ُن َما أ ُِري ُك ْم ِإاَّل َما أ ََرى َو َما أ ْ ض فَم ْن ي ْنصرَنا ِم ْن بأ ِ َّ ِ
ْس الله ِإ ْن َج َ َ اأْل َْر ِ َ َ ُ ُ
ْب قَ ْوِم ُن ٍ
وح اب (ِ )30م ْث َل َدأ ِ َح َز ِاف َعلَْي ُك ْم ِم ْث َل َي ْوِم اأْل ْ َخ ُ َم َن َيا قَ ْوِم ِإِّني أ َ َِّ َّ ِ
الر َشاد (َ )29وقَا َل الذي آ َ
اف َعلَْي ُك ْم َي ْو َم التََّن ِاد َخ ُ يد ظُْل ًما ِلْل ِعَب ِاد (َ )31وَيا قَ ْوِم ِإِّني أ َ ين ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم َو َما اللَّهُ ُي ِر ُ وع ٍاد وثَم َ َِّ
ود َوالذ َ َ َ َ ُ
ضِل ِل اللَّهُ فَ َما لَهُ ِم ْن َه ٍاد (َ )33ولَقَ ْد اصٍم َو َم ْن ُي ْ ( )32يوم تُولُّون م ْدبِ ِرين ما لَ ُكم ِمن اللَّ ِه ِم ْن ع ِ
َ َ َ ْ َ َْ َ َ َ ُ
ث اللَّهُ ِم ْن ك ُقْلتُ ْم لَ ْن َي ْب َع َاء ُك ْم بِ ِه َحتَّى ِإ َذا َهلَ َك م َّما َج َ
ات فَما ِزْلتُم ِفي َش ٍّ ِ
ْ َ
ف ِم ْن قَْب ُل بِاْلبيَِّن ِ
َ وس ُ
اء ُك ْم ُي ُ َج َ
ات اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر اب ( )34الَِّذين يج ِادلُون ِفي آَي ِ
َ َ َُ َ ف ُم ْرتَ ٌ ض ُّل اللَّهُ َم ْن ُه َو ُم ْس ِر ٌ كي ِ ِ
َب ْعده َر ُسواًل َك َذل َ ُ
ِِ
َّار ()35 طَبعُ اللَّهُ َعلَى ُك ِّل َقْل ِب ُمتَ َكب ٍِّر َجب ٍ ك َي ْ َمُنوا َك َذِل َ ين آ َ
َِّ ِ َّ ِ
اه ْم َكُب َر َم ْقتًا ع ْن َد الله َو ِع ْن َد الذ َ ان أَتَ ُ طٍ ُسْل َ
ات فَأَطَِّل َع ِإلَى ِإلَ ِه ال ِفرعون يا َهامان ْاب ِن ِلي صرحا لَعلِّي أَْبلُغُ اأْل َسباب ( )36أَسباب السَّماو ِ
َْ َ َ َ َْ َ َْ ً َ َوقَ َ ْ َ ْ ُ َ َ ُ
يل َو َما َك ْي ُد ِف ْر َع ْو َن ِإاَّل ِفي السبِ ِ
ص َّد َع ِن َّ ِِ
وء َع َمله َو ُ ِّن لف ْر َع ْو َن ُس ُ
ك ُزي ِ ِ ِ ِ
وسى َوإِ ِّني أَل َظُُّنهُ َكاذًبا َو َك َذل َ َ ُم َ
الر َش ِاد (َ )38يا قَ ْوِم ِإَّن َما َه ِذ ِه اْل َحَياةُ ُّ
الد ْنَيا َه ِد ُك ْم َسبِي َل َّ ون أ َْم َن َيا قَ ْوِم اتَّبِ ُع ِ َِّ
تََباب (َ )37وقَا َل الذي آ َ
ٍ
ص ِال ًحا ِم ْن ِ اَّل ِ ِ
َمتَاعٌ َوإِ َّن اآْل َخ َرةَ ه َي َد ُار اْلقََر ِار (َ )39م ْن َعم َل َسيَِّئةً فَاَل ُي ْج َزى ِإ مثْلَهَا َو َم ْن َعم َل َ
ِ ِ
اب (َ )40وَيا قَ ْوِم َما ِلي ون ِفيها بِ َغ ْي ِر ِح َس ٍ
ون اْل َجَّنةَ ُي ْر َزقُ َ َ ك َي ْد ُخلُ َ َذ َك ٍر أ َْو أ ُْنثَى َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن فَأُولَئِ َ
ك بِ ِه َما لَْي َس ِلي بِ ِه ِعْل ٌم وننِي أِل َ ْكفَُر بِاللَّ ِه َوأُ ْش ِر َ
الن ِار ( )41تَ ْد ُع َ وننِي ِإلَى َّ الن َج ِاة َوتَ ْد ُع َ أ َْد ُعو ُك ْم ِإلَى َّ
الد ْنَيا َواَل ِفي وننِي ِإلَْي ِه لَْي َس لَهُ َد ْعوةٌ ِفي ُّ
َ يز اْل َغفَّ ِار ( )42اَل َج َر َم أََّن َما تَ ْد ُع َ َوأََنا أ َْد ُعو ُك ْم ِإلَى اْل َع ِز ِ
ون َما أَقُو ُل لَ ُك ْم الن ِار ( )43فَ َستَ ْذ ُك ُر َ اب َّ َص َح ُ ين ُه ْم أ ْ َن اْل ُم ْس ِر ِف ََن َم َر َّدَنا ِإلَى اللَّ ِه َوأ َّ اآْل َ ِخ َر ِة َوأ َّ
َل ِف ْر َع ْو َن اق بِآ ِ
ات َما َم َك ُروا َو َح َ صير بِاْل ِعب ِاد ( )44فَوقَاه اللَّه سيَِّئ ِ
َ ُ ُ َ َ
َّ ِ َّ ِ
ض أ َْم ِري ِإلَى الله ِإ َّن اللهَ َب ٌَوأُفَ ِّو ُ
َّاعةُ أ َْد ِخلُوا َآ َل ِف ْر َع ْو َن أَ َش َّد
وم الس َ
ِ
ون َعلَْيهَا ُغ ُد ًّوا َو َعشيًّا َوَي ْو َم تَقُ ُ
ض َ اب (َّ )45
الن ُار ُي ْع َر ُ وء اْل َع َذ ِ
ُس ُ
اب ()46 اْل َع َذ ِ
ان ُمبِ ٍ
ين } إلى آخر القصة. طٍ وسى بِ َآياتَِنا َو ُسْل َ
{ َ { } 46 - 23ولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُم َ
وسى } ابن عمران { ،بِ َآياتَِنا } العظيمة ،الدالة
أيَ { :ولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا } إلى جنس هؤالء المكذبين { ُم َ
داللة قطعية ،على حقية ما أرسل به ،وبطالن ما عليه من أرسل إليهم من الشرك وما يتبعه.
ان ُمبِ ٍ
ين } أي :حجة بينة ،تتسلط على القلوب فتذعن لها ،كالحية والعصا ونحوهما من طٍ { َو ُسْل َ
اآليات البينات ،التي أيد اهلل بها موسى ،ومكنه مما دعا إليه من الحق.
ون } الذي كان من قوم موسى ،فبغى عليهم ِ
ان } وزيره { َوقَ ُار َ ام َ
والمبعوث إليهم { ف ْر َع ْو َن َو َه َ
احٌر َك َّذ ٌ
اب } بماله ،وكلهم ردوا عليه أشد الرد { فَقَالُوا س ِ
َ
ق ِم ْن ِعْن ِدَنا } وأيده اهلل بالمعجزات الباهرة ،الموجبة لتمام اإلذعان ،لم يقابلوها اء ُه ْم بِاْل َح ِّ
{ َفلَ َّما َج َ
بذلك ،ولم يكفهم مجرد الترك واإلعراض ،بل وال إنكارها ومعارضتها بباطلهم ،بل وصلت بهم
ِ ِ الحال الشنيعة إلى أن { قَالُوا ا ْقتُلُوا أ َْبَن َِّ
اء ُه ْم َو َما َك ْي ُد اْل َكاف ِر َ
ين } استَ ْحُيوا ن َس َ
آمُنوا َم َعهُ َو ْ
ين َ
اء الذ َ
َ
حيث كادوا هذه المكيدة ،وزعموا أنهم إذا قتلوا أبناءهم ،لم يقووا ،وبقوا في رقهم وتحت
عبوديتهم.
فما كيدهم إال في ضالل ،حيث لم يتم لهم ما قصدوا ،بل أصابهم ضد ما قصدوا ،أهلكهم اهلل
وأبادهم عن آخرهم.
( )1وتدبر هذه النكتة التي يكثر مرورها بكتاب اهلل تعالى :إذا كان السياق في قصة معينة أو على
شيء معين ،وأراد اهلل أن يحكم على ذلك المعين بحكم ،ال يختص به ذكر الحكم ،وعلقه على
الوصف العام ليكون أعم ،وتندرج فيه الصورة التي سيق الكالم ألجلها ،وليندفع اإليهام
باختصاص الحكم بذلك المعين.
ض ٍ ِ ِ
الل } . ين ِإال في َ
فلهذا لم يقل { وما كيدهم إال في ضالل } .بل قالَ { :و َما َك ْي ُد اْل َكاف ِر َ
__________
( )1في هامش األصل (قاعدة).
( )1/736
وسى َوْلَي ْدعُ َربَّهُ } أي: مغررا لقومه السفهاءَ { :ذ ُرونِي أَ ْقتُ ْل ُم َ ً متجبرا
ً متكبرا
ً { وقَا َل ِف ْر َع ْو ُن }
زعم -قبحه اهلل -أنه لوال مراعاة خواطر قومه لقتله ،وأنه ال يمنعه من دعاء ربه ،ثم ذكر الحامل
َن ُيَب ِّد َل ِد َين ُك ْم }
اف أ ْ له على إرادة قتله ،وأنه نصح لقومه ،وإ زالة للشر في األرض فقالِ { :إِّني أ َ
َخ ُ
َن ي ْ ِ
اد } وهذا من أعجب ما يكون ،أن يكون شر الخلق ض اْلفَ َس َاألر ِ ظ ِه َر في ْ الذي أنتم عليه { أ َْو أ ْ ُ
ينصح الناس عن اتباع خير الخلق هذا من التمويه والترويج الذي ال يدخل إال عقل من قال اهلل
ِِ
اعوهُ ِإَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو ًما فَاسق َ
ين } ط ُ
ف قَ ْو َمهُ فَأَ َاستَ َخ َّ
فيهم { :فَ ْ
وسى } حين قال فرعون تلك المقالة الشنيعة التي أوجبها له طغيانه ،واستعان فيها بقوته { َوقَا َل ُم َ
ت بَِربِّي َو َرِّب ُك ْم } أي :امتنعت بربوبيته التي دبر بها جميعمستعينا بربهِ { :إِّني ُع ْذ ُ ً واقتداره،
اب } أي :يحمله تكبره وعدم إيمانه بيوم الحساب على األمور { ِم ْن ُك ِّل متَ َكب ٍِّر ال ُي ْؤ ِم ُن بَِيوِم اْل ِح َس ِ
ْ ُ
قريبا في القاعدة ،فمنعه اهلل تعالى بلطفه من كل
الشر والفساد ،يدخل فيه فرعون وغيره ،كما تقدم ً
متكبر ال يؤمن بيوم الحساب ،وقيض له من األسباب ما اندفع به عنه شر فرعون وملئه.
ومن جملة األسباب ،هذا الرجل المؤمن ،الذي من آل فرعون ،من بيت المملكة ،ال بد أن يكون له
وخصوصا إذا كان يظهر موافقتهم ويكتم إيمانه ،فإنهم يراعونه في الغالب ما ال
ً كلمة مسموعة،
محمدا صلى اهلل عليه وسلم بعمه أبي طالب
ً يراعونه لو خالفهم في الظاهر ،كما منع اهلل رسوله
مسلما لم يحصل
كبيرا عندهم ،موافقًا لهم على دينهم ،ولو كان ً
من قريش ،حيث كان أبو طالب ً
منه ذلك المنع.
مقبحا فعل قومه ،وشناعة ما عزموا عليه: فقال ذلك الرجل المؤمن الموفق العاقل الحازمً ،
ِّي اللَّهُ } أي :كيف تستحلون قتله ،وهذا ذنبه وجرمه ،أنه يقول ربي ول َرب َ
َن َيقُ َ
ون َر ُجال أ ْ
{ أَتَ ْقتُلُ َ
ات ِم ْن َرِّب ُك ْم } ألن
مجردا عن البينات ،ولهذا قال { :وقَ ْد جاء ُكم بِاْلبيَِّن ِ
َ َ َ ْ َ ً اهلل ،ولم يكن أيضا قوال
اشتهارا علم به الصغير والكبير ،أي :فهذا ال يوجب قتله. ً بينته اشتهرت عندهم
فهال أبطلتم قبل ذلك ما جاء به من الحق ،وقابلتم البرهان ببرهان يرده ،ثم بعد ذلك نظرتم :هل
يحل قتله إذا ظهرتم عليه بالحجة أم ال؟ فأما وقد ظهرت حجته ،واستعلى برهانه [ ،ص ] 737
فبينكم وبين حل قتله مفاوز تنقطع بها أعناق المطي.
ك َك ِاذًبا فَ َعلَْي ِه َك ِذُبهُ َوإِ ْن َي ُ
ك ثم قال لهم مقالة عقلية تقنع كل عاقل ،بأي حالة قدرت ،فقالَ { :وإِ ْن َي ُ
ض الَِّذي َي ِع ُد ُك ْم } ِ ِ
صادقًا ُيص ْب ُك ْم َب ْع ُ
َ
كاذبا فكذبه عليه ،وضرره
أي :موسى بين أمرين ،إما كاذب في دعواه أو صادق فيها ،فإن كان ً
مختص به ،وليس عليكم في ذلك ضرر حيث امتنعتم من إجابته وتصديقه ،وإ ن كان صادقًا وقد
وعذابا في اآلخرة ،فإنه ال
ً عذابا في الدنيا
جاءكم بالبينات ،وأخبركم أنكم إن لم تجيبوه عذبكم اهلل ً
بد أن يصيبكم بعض الذي يعدكم ،وهو عذاب الدنيا.
وهذا من حسن عقله ،ولطف دفعه عن موسى ،حيث أتى بهذا الجواب الذي ال تشويش فيه عليهم،
دائرا بين تينك الحالتين ،وعلى كل تقدير فقتله سفه وجهل منكم.
وجعل األمر ً
ثم انتقل رضي اهلل عنه وأرضاه وغفر له ورحمه -إلى أمر أعلى من ذلك ،وبيان قرب موسى
ف } أي :متجاوز الحد بترك الحق واإلقبال على من الحق فقالِ { :إ َّن اللَّهَ ال َي ْه ِدي َم ْن ُه َو ُم ْس ِر ٌ
اب } بنسبته ما أسرف فيه إلى اهلل ،فهذا ال يهديه اهلل إلى طريق الصواب ،ال في الباطلَ { .ك َّذ ٌ
مدلوله وال في دليله ،وال يوفق للصراط المستقيم ،أي :وقد رأيتم ما دعا موسى إليه من الحق،
وما هداه اهلل إلى بيانه من البراهين العقلية والخوارق السماوية ،فالذي اهتدى هذا الهدى ال يمكن
كاذبا ،وهذا دليل على كمال علمه وعقله ومعرفته بربه.
أن يكون مسرفًا وال ً
ثم حذر قومه ونصحهم ،وخوفهم عذاب اآلخرة ،ونهاهم عن االغترار بالملك الظاهر ،فقالَ { :يا
ض } على رعيتكم ،تنفذون فيهم ما شئتم األر ِ اه ِر ِ
ظِ قَ ْوِم لَ ُك ُم اْل ُمْل ُ
ين في ْ َ ك اْلَي ْو َم } أي :في الدنيا { َ
ْس اللَّ ِه } أي :عذابه { ِإ ْن
ص ُرَنا ِم ْن َبأ ِ
من التدبير ،فهبكم حصل لكم ذلك وتم ،ولن يتم { ،فَ َم ْن َي ْن ُ
ص ُرَنا }
اءَنا } ؟ وهذا من حسن دعوته ،حيث جعل األمر مشتر ًكا بينه وبينهم بقوله { :فَ َم ْن َي ْن ُ َج َ
اءَنا } ليفهمهم أنه ينصح لهم كما ينصح لنفسه ،ويرضى لهم ما يرضى لنفسه. وقولهِ { :إ ْن َج َ
ومغررا لقومه أن يتبعوا موسىَ { :ما أ ُِري ُك ْم ِإال َما أ ََرى
ً معارضا له في ذلك،
ً ال ِف ْر َع ْو ُن }
فـ { قَ َ
الر َش ِاد } وصدق في قولهَ { :ما أ ُِري ُك ْم ِإال َما أ ََرى } ولكن ما الذي رأى؟ َه ِدي ُك ْم ِإال َسبِ َ
يل َّ َو َما أ ْ
رأى أن يستخف قومه فيتابعوه ،ليقيم بهم رياسته ،ولم ير الحق معه ،بل رأى الحق مع موسى،
مستيقنا له.
ً وجحد به
اتباعا يل َّ ِ
َه ِدي ُك ْم ِإال َسبِ َ
الر َشاد } فإن هذا قلب للحق ،فلو أمرهم باتباعه ً وكذب في قولهَ { :و َما أ ْ
مجردا على كفره وضالله ،لكان الشر أهون ،ولكنه أمرهم باتباعه ،وزعم أن في اتباعه اتباع ً
الحق وفي اتباع الحق ،اتباع الضالل.
مكررا دعوة قومه غير آيس من هدايتهم ،كما هي حالة الدعاة إلى اهلل تعالى، آم َن } َِّ
ً { َوقَا َل الذي َ
ال يزالون يدعون إلى ربهم ،وال يردهم عن ذلك راد ،وال يثنيهم عتو من دعوه عن تكرار الدعوة
اب } يعني األمم المكذبين ،الذين تحزبوا على اف َعلَْي ُك ْم ِم ْث َل َي ْوِم ْ
األح َز ِ فقال لهمَ { :يا قَ ْوِم ِإِّني أ َ
َخ ُ
ين ِم ْن وح وع ٍاد وثَم َ َِّ
ود َوالذ َ ِ ِ
أنبيائهم ،واجتمعوا على معارضتهم ،ثم بينهم فقال { :م ْث َل َدأْب قَ ْوِم ُن ٍ َ َ َ ُ
َب ْع ِد ِه ْم } أي :مثل عادتهم في الكفر والتكذيب وعادة اهلل فيهم بالعقوبة العاجلة في الدنيا قبل
يد ظُْل ًما ِلْل ِعَب ِاد } فيعذبهم بغير ذنب أذنبوه ،وال جرم أسلفوه. اآلخرةَ { ،و َما اللَّهُ ُي ِر ُ
اف َعلَْي ُك ْم َي ْوِم ولما خوفهم العقوبات الدنيوية ،خوفهم العقوبات األخروية ،فقالَ { :وَيا قَ ْوِم ِإِّني أ َ
َخ ُ
َن قَ ْد َو َج ْدَنا َما َو َع َدَنا َربَُّنا َحقًّا } إلىالتََّن ِاد } أي :يوم القيامة ،حين ينادي أهل الجنة أهل النار { :أ ْ
آخر اآليات.
َّ َّ ِ ِ ِ الن ِار أَصحاب اْلجَّن ِة أ ْ ِ
يضوا َعلَْيَنا م َن اْل َماء أ َْو م َّما َر َزقَ ُك ُم اللهُ قَالُوا ِإ َّن اللهَ
َن أَف ُ َْ َ َ اب َّ َص َح ُ
ادى أ ْ { َوَن َ
ِ
َح َّر َمهُ َما َعلَى اْل َكاف ِر َ
ين }
ِ
ون } وحين ينادون ربهم{ : وحين ينادي أهل النار مال ًكا { ليقض علينا ربك } فيقولِ { :إَّن ُك ْم َماكثُ َ
سؤوا ِفيهَا َوال تُ َكلِّ ُم ِ
ون } وحين يقال اخ ُ
ون } فيجيبهمْ { : َخ ِر ْجَنا ِم ْنها فَِإ ْن ع ْدَنا فَِإَّنا َ ِ
ظال ُم َ ُ َ َربََّنا أ ْ
اء ُك ْم فَ َد َع ْو ُه ْم َفلَ ْم َي ْستَ ِج ُيبوا لَهُ ْم }
للمشركينْ { :اد ُعوا ُش َر َك َ
فخوفهم رضي اهلل عنه هذا اليوم المهول ،وتوجع لهم أن أقاموا على شركهم بذلك ،ولهذا قال:
اصٍم } ال من أنفسكم قوة { يوم تُولُّون م ْدبِ ِرين } أي :قد ذهب بكم إلى النار { ما لَ ُكم ِمن اللَّ ِه ِم ْن ع ِ
َ َ ْ َ َْ َ َ َ ُ
تدفعون بها عذاب اهلل ،وال ينصركم من دونه من أحد { َي ْو َم تُْبلَى الس ََّرائِ ُر فَ َما لَهُ ِم ْن قَُّو ٍة َوال
َن ِ
اص ٍر }
ضِل ِل اللَّهُ فَ َما لَهُ ِم ْن َه ٍاد } ألن الهدى بيد اهلل تعالى ،فإذا منع عبده الهدى لعلمه أنه غير
{ َو َم ْن ُي ْ
الئق به ،لخبثه ،فال سبيل إلى هدايته.
( )1/736
ف } بن يعقوب عليهما السالم { ِم ْن قَْب ُل } إتيان موسى بالبينات الدالة على وس ُاء ُك ْم ُي ُ
{ َولَقَ ْد َج َ
اء ُك ْم بِ ِه } [ ص ] 738 صدقه ،وأمركم بعبادة ربكم وحده ال شريك له { ،فَما ِزْلتُم ِفي َش ٍّ ِ
ك م َّما َج َ ْ َ
ث اللَّهُ ِم ْن َب ْع ِد ِه َر ُسوال } أي: في حياته { َحتَّى ِإ َذا َهلَ َ
ك } ازداد شككم وشرككم ،و { ُقْلتُ ْم لَ ْن َي ْب َع َ
هذا ظنكم الباطل ،وحسبانكم الذي ال يليق باهلل تعالى ،فإنه تعالى ال يترك خلقه سدى ،ال يأمرهم
كي ِ
ض ُّل ِ
وينهاهم ،ويرسل إليهم رسله ،وظن أن اهلل ال يرسل رسوال ظن ضالل ،ولهذا قالَ { :ك َذل َ ُ
ظلما وعلوا ،فهم اب } وهذا هو وصفهم الحقيقي الذي وصفوا به موسى ً اللَّهُ َم ْن ُه َو ُم ْس ِر ٌ
ف ُم ْرتَ ٌ
المسرفون بتجاوزهم الحق وعدولهم عنه إلى الضالل ،وهم الكذبة ،حيث نسبوا ذلك إلى اهلل،
وكذبوا رسوله.
فالذي وصفه السرف والكذب ،ال ينفك عنهما ،ال يهديه اهلل ،وال يوفقه للخير ،ألنه رد الحق بعد
غ
اغوا أ ََزا َ
أن وصل إليه وعرفه ،فجزاؤه أن يعاقبه اهلل ،بأن يمنعه الهدى ،كما قال تعالىَ { :فلَ َّما َز ُ
ِ ِ ِ اللَّه ُقلُوبهم } { وُن َقلِّ ِ
ص َار ُه ْم َك َما لَ ْم ُي ْؤ ِمُنوا بِه أ ََّو َل َم َّر ٍة َوَن َذ ُر ُه ْم في طُ ْغَيان ِه ْم َي ْع َمهُ َ
ون ب أَ ْفئ َدتَهُ ْم َوأ َْب َ
َ ُ ُ َ ُْ
ين } َّ ِ ِ ِ َّ
} { َواللهُ ال َي ْهدي اْلقَ ْو َم الظالم َ
ات اللَّ ِه } التي بينت الحق من ثم ذكر وصف المسرف الكذاب فقال { :الَِّذين يج ِادلُون ِفي آي ِ
َ َ َُ َ
الباطل ،وصارت -من ظهورها -بمنزلة الشمس للبصر ،فهم يجادلون فيها على وضوحها،
اه ْم } أي :بغير حجة وبرهان ،وهذا وصف الزم لكل من طٍ
ان أَتَ ُ ليدفعوها ويبطلوها { بِ َغ ْي ِر ُسْل َ
جادل في آيات اهلل ،فإنه من المحال أن يجادل بسلطان ،ألن الحق ال يعارضه معارض ،فال يمكن
أن يعارض بدليل شرعي أو عقلي أصال { َكُب َر } ذلك القول المتضمن لرد الحق بالباطل { َم ْقتًا
َِّ ِ َّ ِ
بغضا لصاحبه ،ألنه تضمن التكذيب بالحق والتصديقآمُنوا } فاهلل أشد ً عْن َد الله َو ِع ْن َد الذ َ
ين َ
بالباطل ونسبته إليه ،وهذه أمور يشتد بغض اهلل لها ولمن اتصف بها ،وكذلك عباده المؤمنون
يمقتون على ذلك أشد المقت موافقة لربهم ،وهؤالء خواص خلق اهلل تعالى ،فمقتهم دليل على
طَبعُ اللَّهُ َعلَى ُك ِّل َقْل ِب ُمتَ َكب ٍِّر
ك } أي :كما طبع على قلوب آل فرعون { َي ْ شناعة من مقتوهَ { ،ك َذِل َ
َّار } متكبر في نفسه على الحق برده وعلى الخلق باحتقارهم ،جبار بكثرة ظلمه وعدوانه. َجب ٍ
ومكذبا له في دعوته إلى اإلقرار برب العالمين ،الذي على ً معارضا لموسى
ً { َوقَا َل ِف ْر َع ْو ُن }
ِ
مرتفعا،
ً عظيما
ً ان ْاب ِن لي َ
ص ْر ًحا } أي :بناء ام ُ
العرش استوى ،وعلى الخلق اعتلىَ { :يا َه َ
ربا ،وأنه فوق
كاذبا } في دعواه أن لنا ً
والقصد منه لعلي أطلع { إلى إله موسى وإ ني ألظنه ً
السماوات.
ولكنه يريد أن يحتاط فرعون ،ويختبر األمر بنفسه ،قال اهلل تعالى في بيان الذي حمله على هذا
وء َع َمِل ِه } فزين له العمل السيئ ،فلم يزل الشيطان يزينه ،وهو ك ُزي ِ ِ
ِّن لف ْر َع ْو َن ُس ُ
ِ
القولَ { :و َك َذل َ َ
حسنا ودعا إليه وناظر مناظرة المحقين ،وهو من أعظم المفسدين{ ، يدعو إليه ويحسنه ،حتى رآه ً
يل } الحق ،بسبب الباطل الذي زين لهَ { .و َما َك ْي ُد ِف ْر َع ْو َن } الذي أراد أن يكيد به السبِ ِ ص َّد َع ِن َّ َو ُ
اب } أي :خسار وبوار ،ال يفيده الحق ،ويوهم به الناس أنه محق ،وأن موسى مبطل { ِإال ِفي تََب ٍ
إال الشقاء في الدنيا واآلخرة.
الر َش ِاد } ال كما يقول لكم َه ِد ُك ْم َسبِ َ
يل َّ ون أ ْمعيدا نصيحته لقومهَ { :يا قَ ْوِم اتَّبِ ُع ِ آم َن } ً َِّ
{ َوقَا َل الذي َ
فرعون ،فإنه ال يهديكم إال طريق الغي والفساد.
الد ْنَيا َمتَاعٌ } يتمتع بها ويتنعم قليال ثم تنقطع وتضمحل ،فال تغرنكم { َيا قَ ْوِم ِإَّن َما َه ِذ ِه اْل َحَياةُ ُّ
اآلخ َرةَ ِه َي َد ُار اْلقََر ِار } التي هي محل اإلقامة ،ومنزل السكون وتخدعنكم عما خلقتم له { وإِ َّن ِ
َ
واالستقرار ،فينبغي لكم أن تؤثروها ،وتعملوا لها عمال يسعدكم فيها.
{ َم ْن َع ِم َل َسيَِّئةً } من شرك أو فسوق أو عصيان { فَال ُي ْج َزى ِإال ِمثْلَهَا } أي :ال يجازى إال بما
يسوؤه ويحزنه ألن جزاء السيئة السوء.
ص ِال ًحا ِم ْن َذ َك ٍر أ َْو أ ُْنثَى } من أعمال القلوب والجوارح ،وأقوال اللسان { فَأُولَئِ َ
ك ِ
{ َو َم ْن َعم َل َ
ون ِفيها بِ َغ ْي ِر ِح َس ٍ
اب } أي :يعطون أجرهم بال حد وال عد ،بل يعطيهم اهلل ما ون اْل َجَّنةَ ُي ْر َزقُ َ َ َي ْد ُخلُ َ
ال تبلغه أعمالهم.
( )1/737
الن ِار } بترك اتباع نبي اهلل وننِي ِإلَى َّ الن َج ِاة } بما قلت لكم { َوتَ ْد ُع َ { َوَيا قَ ْوِم َما ِلي أ َْد ُعو ُك ْم ِإلَى َّ
موسى عليه السالم.
ك بِ ِه َما لَْي َس ِلي بِ ِه ِعْل ٌم } أنه يستحق أن يعبد من وننِي أل ْكفَُر بِاللَّ ِه َوأُ ْش ِر َ
ثم فسر ذلك فقال { :تَ ْد ُع َ
يز } الذي لهدون اهلل ،والقول على اهلل بال علم من أكبر الذنوب وأقبحهاَ { ،وأََنا أ َْد ُعو ُك ْم ِإلَى اْل َع ِز ِ
القوة كلها ،وغيره ليس بيده من األمر شيء { .اْل َغفَّار } الذي يسرف العباد على أنفسهم
ويتجرؤون على مساخطه ثم إذا تابوا وأنابوا إليه ،كفر عنهم السيئات والذنوب ،ودفع موجباتها
من العقوبات الدنيوية واألخروية.
الد ْنيا وال ِفي ِ
اآلخ َر ِة } أي :ال ِ ُّ يقينا { أََّنما تَ ْدع َ ِ ِ ِ
ونني إلَْيه لَْي َس لَهُ َد ْع َوةٌ في َ َ َ ُ { ال َج َر َم } أي :حقًا ً
يستحق من الدعوة إليه ،والحث على اللجأ إليه ،في الدنيا وال في اآلخرة ،لعجزه ونقصه ،وأنه ال
نشورا.
ضرا وال موتًا وال حياة ،وال ً
نفعا [ ص ] 739وال ً يملك ً
الن ِار }
اب َّ
َص َح ُ
ين ُه ْم أ ْ َن َم َر َّدَنا ِإلَى اللَّ ِه } تعالى فسيجازي كل عامل بعملهَ { .وأ َّ
َن اْل ُم ْس ِر ِف َ { َوأ َّ
وهم الذين أسرفوا على أنفسهم بالتجرؤ ( )1على ربهم بمعاصيه والكفر به ،دون غيرهم.
فلما نصحهم وحذرهم وأنذرهم ولم يطيعوه وال وافقوه قال لهم:
ون َما أَقُو ُل لَ ُك ْم } من هذه النصيحة ،وسترون مغبة عدم قبولها حين يحل بكم العقاب، { فَ َستَ ْذ ُك ُر َ
وتحرمون جزيل الثواب.
ض أ َْم ِري ِإلَى اللَّ ِه } أي :ألجأ إليه وأعتصم ،وألقي أموري كلها لديه ،وأتوكل عليه في { َوأُفَ ِّو ُ
ص ٌير بِاْل ِعَب ِاد } يعلم أحوالهم
مصالحي ودفع الضرر الذي يصيبني منكم أو من غيركمِ { .إ َّن اللَّه ب ِ
ََ
وما يستحقون ،يعلم حالي وضعفي فيمنعني منكم ويكفيني شركم ،ويعلم أحوالكم فال تتصرفون إال
بإرادته ومشيئته ،فإن سلطكم علي َّ،فبحكمة منه تعالى ،وعن إرادته ومشيئته صدر ذلك.
القوي الرحيم ،ذلك الرجل المؤمن الموفق ،عقوبات { فَوقَاه اللَّه سيَِّئ ِ
ات َما َم َك ُروا } أي :وقى اهلل
ّ َ ُ ُ َ
ما مكر فرعون وآله له ،من إرادة إهالكه وإ تالفه ،ألنه بادأهم بما يكرهون ،وأظهر لهم الموافقة
التامة لموسى عليه السالم ،ودعاهم إلى ما دعاهم إليه موسى ،وهذا أمر ال يحتملونه وهم الذين
كيدا فحفظه اهلل من كيدهم ومكرهم لهم القدرة إذ ذاك ،وقد أغضبهم واشتد حنقهم عليه ،فأرادوا به ً
وء اْل َع َذ ِ وانقلب كيدهم ومكرهم ،على أنفسهم { ،وح َ ِ ِ
اب } أغرقهم اهلل تعالى في اق بِآل ف ْر َع ْو َن ُس ُ َ َ
صبيحة واحدة عن آخرهم.
آل ِف ْر َع ْو َن أَ َش َّد
َّاعةُ أ َْد ِخلُوا َ
وم الس َ
ِ
ون َعلَْيهَا ُغ ُد ًّوا َو َعشيًّا َوَي ْو َم تَقُ ُ
ض َ وفي البرزخ { َّ
الن ُار ُي ْع َر ُ
اب } فهذه العقوبات الشنيعة ،التي تحل بالمكذبين لرسل اهلل ،المعاندين ألمره. اْل َع َذ ِ
__________
( )1في النسختين (بالتجري).
( )1/738
الن ِار فَيقُو ُل الضُّعفَاء ِللَِّذين استَ ْكبروا ِإَّنا ُكَّنا لَ ُكم تَبعا فَه ْل أ َْنتُم م ْغُنون عَّنا َن ِ وإِ ْذ يتَحاج ِ
ص ًيبا ْ ُ َ َ ْ ًَ َ َ ُ َ ْ َُ ُّون في َّ َ َ َ َ َ
ين ِفي الن ِار ( )47قَا َل الَِّذين استَ ْكبروا ِإَّنا ُك ٌّل ِفيها ِإ َّن اللَّه قَ ْد ح َكم ب ْين اْل ِعب ِاد ( )48وقَ َ َِّ
ال الذ َ َ َ َ ََ َ َ َ َ ْ َُ ِم َن َّ
اب ()49 ف َعَّنا َيوما ِم َن اْل َع َذ ِ
الن ِار ِل َخ َزَن ِة َجهََّن َم ْاد ُعوا َرَّب ُك ْم ُي َخفِّ ْ
َّ
ًْ
استَ ْكَب ُروا ِإَّنا ُكَّنا لَ ُك ْم تََب ًعا فَهَ ْل أ َْنتُ ْم الن ِار فَيقُو ُل الضُّعفَ َِِّ { { } 50 - 47وإِ ْذ يتَحاج ِ
ين ْ اء للذ َ َ ُ ُّون في َّ َ َ َ َ َ
استَ ْكَب ُروا ِإَّنا ُك ٌّل ِفيهَا ِإ َّن اللَّهَ قَ ْد َح َك َم َب ْي َن اْل ِعَب ِاد * َوقَا َل
ين ْ
الن ِار * قَ َ َِّ
ال الذ َ ص ًيبا ِم َن َّ م ْغُنون عَّنا َن ِ
ُ َ َ
اب } . ف َعَّنا َيوما ِم َن اْل َع َذ ِالن ِار ِل َخ َزَن ِة َجهََّن َم ْاد ُعوا َرَّب ُك ْم ُي َخفِّ ْ
ين ِفي َّ
الذ َ
َِّ
ًْ
بعضا واستغاثتهم بخزنة النار ،وعدم الفائدة يخبر تعالى عن تخاصم أهل النار ،وعتاب بعضهم ً
الن ِار } يحتج التابعون بإغواء المتبوعين ،ويتبرأ المتبوعون من ُّون ِفي َّ
في ذلك فقالَ { :وإِ ْذ َيتَ َحاج َ
استَ ْكَب ُروا } على الحق ،ودعوهم إلى ما َِِّ
ين ْ اء } أي :األتباع للقادة { للذ َ ُّعفَ ُ
التابعين { ،فََيقُو ُل الض َ
استكبروا ألجلهِ { .إَّنا ُكَّنا لَ ُك ْم تََب ًعا } أنتم أغويتمونا وأضللتمونا وزينتم لنا الشرك والشر { ،فَهَ ْل
ص ًيبا ِم َن َّ
الن ِار } أي :ولو قليال. أ َْنتُم م ْغُنون عَّنا َن ِ
ْ ُ َ َ
استَ ْكَب ُروا } مبينين لعجزهم ونفوذ الحكم اإللهي في الجميعِ { :إَّنا ُك ٌّل ِفيهَا ِإ َّن اللَّهَ قَ ْد ين ْ
َِّ
{ قَا َل الذ َ
َح َك َم َب ْي َن اْل ِعَب ِاد } وجعل لكل قسطه من العذاب ،فال يزاد في ذلك وال ينقص منه ،وال يغير ما حكم
به الحكيم.
ف َعَّنا َي ْو ًما ِم َن الن ِار } من المستكبرين والضعفاء { ِل َخ َزَن ِة َجهََّن َم ْاد ُعوا َرَّب ُك ْم ُي َخفِّ ْ ين ِفي َّ َِّ
{ َوقَا َل الذ َ
اب } لعله تحصل بعض الراحة. اْل َع َذ ِ
كشيئا { :أ ََو لَ ْم تَ ُ
فـ { قَالُوا } لهم موبخين ومبينين أن شفاعتهم ال تنفعهم ،ودعاءهم ال يفيدهم ً
ات } التي تبينتم بها الحق والصراط المستقيم ،وما يقرب من اهلل وما يبعد منه؟ تَأْتِي ُكم رسلُ ُكم بِاْلبيَِّن ِ
ُْ ُ ْ َ
( )1/739
( )1/739
اد * َي ْو َم ال َي ْنفَعُ
وم األ ْشهَ ُ ِ ُّ ِ َِّ
{ ِ { } 52 - 51إَّنا لََن ْن ُ
آمُنوا في اْل َحَياة الد ْنَيا َوَي ْو َم َيقُ ُين َص ُر ُر ُسلََنا َوالذ َ
وء َّ
الد ِار } . َّ ِ َّ ِ ِ
ين َم ْعذ َرتُهُ ْم َولَهُ ُم الل ْعَنةُ َولَهُ ْم ُس ُ
الظالم َ
لما ذكر عقوبة آل فرعون في الدنيا ،والبرزخ ،ويوم القيامة ،وذكر حالة أهل النار الفظيعة ،الذين
الد ْنَيا } أي :بالحجة آمُنوا ِفي اْل َحَي ِاة ُّ ين َ
َِّ
نابذوا رسله وحاربوهم ،قالِ { :إَّنا لََن ْن ُ
ص ُر ُر ُسلََنا َوالذ َ
والبرهان والنصر ،في اآلخرة بالحكم لهم وألتباعهم بالثواب ،ولمن حاربهم بشدة العقاب.
الد ِار } أي :الدار السيئة وء َّ َّ ِ َّ ِ ِ
ين َم ْعذ َرتُهُ ْم } حين يعتذرون { َولَهُ ُم الل ْعَنةُ َولَهُ ْم ُس ُ { َي ْو َم ال َي ْنفَعُ الظالم َ
التي تسوء نازليها.
( )1/739
اب (ُ )53ه ًدى و ِذ ْكرى أِل ُوِلي اأْل َْلَب ِ ِ ِ ِ
اب ()54 َ َ وسى اْلهُ َدى َوأ َْو َرثَْنا َبني ِإ ْس َرائي َل اْلكتَ َ َولَقَ ْد آَتَْيَنا ُم َ
ِّك بِاْل َع ِش ِّي َواإْلِ ْب َك ِار ()55
ِّح بِ َح ْم ِد َرب َ استَ ْغ ِف ْر ِل َذ ْنبِ َ
ك َو َسب ْ اصبِ ْر ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ
ق َو ْ َ فَ ْ
اب * ُه ًدى َو ِذ ْك َرى ألوِلي { { } 55 - 53ولَقَ ْد آتَْيَنا موسى اْله َدى وأَورثَْنا بنِي ِإسرائِ َ ِ
يل اْلكتَ َ َْ ُ َ َْ َ ُ َ َ
ك بِاْل َع ِش ِّي َو ْ
اإلب َك ِار } . ِّح بِ َح ْم ِد َرِّب َ استَ ْغ ِف ْر ِل َذ ْنبِ َ
ك َو َسب ْ اصبِ ْر ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ
ق َو ْ َ
األْلَب ِ
اب * فَ ْ
لما ذكر [ ص ] 740ما جرى لموسى وفرعون ،وما آل إليه أمر فرعون وجنوده ،ثم ذكر الحكم
العام الشامل له وألهل النار ،ذكر أنه أعطى موسى { اْلهُ َدى } أي :اآليات ،والعلم الذي يهتدي به
ِ ِ ِ
اب } أي :جعلناه متوارثًا بينهم ،من قرن إلى آخر ،وهوالمهتدونَ { .وأ َْو َرثَْنا َبني ِإ ْس َرائي َل اْلكتَ َ
التوراة ،وذلك الكتاب مشتمل على الهدى الذي هو :العلم باألحكام الشرعية وغيرها ،وعلى
التذكر للخير بالترغيب فيه ،وعن الشر بالترهيب عنه ،وليس ذلك لكل أحد ،وإ نما هو { ألوِلي
األْلَب ِ
اب }
ق} اصبِ ْر } يا أيها الرسول كما صبر من قبلك من أولي العزم المرسلينِ { .إ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ { فَ ْ
َ
أي :ليس مشكو ًكا فيه ،أو فيه ريب أو كذب ،حتى يعسر عليك الصبر ،وإ نما هو الحق المحض،
والهدى الصرف ،الذي يصبر عليه الصابرون ،ويجتهد في التمسك به أهل البصائر.
ق } من األسباب التي تحث على الصبر على طاعة اهلل وعن ما يكره اهلل. فقولهِ { :إ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ
َ
ك } المانع لك من تحصيل فوزك وسعادتك ،فأمره بالصبر الذي فيه يحصل استَ ْغ ِف ْر ِل َذ ْنبِ َ
{ َو ْ
خصوصا { بِاْل َع ِش ِّي
ً المحبوب ،وباالستغفار الذي فيه دفع المحذور ،وبالتسبيح بحمد اهلل تعالى
اإلب َك ِار } اللذين هما أفضل األوقات ،وفيهما من األوراد والوظائف الواجبة والمستحبة ما فيهما،
َو ْ
عونا على جميع األمور.
ألن في ذلك ً
( )1/739
( )1/740
ون (َ )57و َما َي ْستَِوي اس اَل َي ْعلَ ُم َ اس َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ
الن ِ الن ِ ض أَ ْكَب ُر ِم ْن َخْل ِ
ق َّ ِ
ات واأْل َْر ِ
َّم َاو َق الس َ
لَ َخْل ُ
ِ ِ ِ ِ ِ َِّ ِ
ون ()58 يء َقلياًل َما تَتَ َذ َّك ُر َ
َمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َواَل اْل ُمس ُ ين آ َ
ير َوالذ ََع َمى َواْلَبص ُ
اأْل ْ
ون *
اس ال َي ْعلَ ُم َ اس َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ
الن ِ الن ِ ض أَ ْكَب ُر ِم ْن َخْل ِ
ق َّ األر ِ ِ
َّم َاوات َو ْ
ق الس َ{ { } 59 - 57لَ َخْل ُ
ِ ِ ِ ِ ِ َِّ ِ
يء َقليال َما تَتَ َذ َّك ُر َ
ون } . آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َوال اْل ُمس ُ ين َ َو َما َي ْستَِوي ْ
األع َمى َواْلَبص ُير َوالذ َ
يخبر تعالى بما تقرر في العقول ،أن خلق السماوات واألرض -على عظمهما وسعتهما -أعظم
وأكبر ،من خلق الناس ،فإن الناس بالنسبة إلى خلق السماوات واألرض من أصغر ما يكون
فالذي خلق األجرام العظيمة وأتقنها ،قادر على إعادة الناس بعد موتهم من باب أولى وأحرى.
وهذا أحد األدلة العقلية الدالة على البعث ،داللة قاطعة ،بمجرد نظر العاقل إليها ،يستدل بها
استدالال ال يقبل الشك والشبهة بوقوع ما أخبرت به الرسل من البعث.
ون } ولذلك
اس ال َي ْعلَ ُم َ وليس كل أحد يجعل فكره لذلك ،ويقبل بتدبره ،ولهذا قالَ { :ولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ
الن ِ
ال يعتبرون بذلك ،وال يجعلونه منهم على بال.
يء } أي: ِ ِ ِ ِ َِّ ِ ثم قال تعالىَ { :و َما َي ْستَِوي ْ
آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َوال اْل ُمس ُ ين َ
ير َوالذ َ
األع َمى َواْلَبص ُ
كما ال يستوي األعمى والبصير ،كذلك ال يستوي من آمن باهلل وعمل الصالحات ،ومن كان
ِ
ساعيا في مساخطهَ { ،قليال َما تَتَ َذ َّك ُر َ
ون } أي: ً مقدما على معاصيه، مستكبرا على عبادة ربهً ، ً
تذكركم قليل ( )1وإ ال فلو تذكرتم مراتب األمور ،ومنازل الخير والشر ،والفرق بين األبرار
والفجار ،وكانت لكم همة عليه ،آلثرتم النافع على الضار ،والهدى على الضالل ،والسعادة
الدائمة ،على الدنيا الفانية.
__________
( )1في النسختين (قليالً).
( )1/740
اس ال ُي ْؤ ِمُن َ
ون } . ب ِفيهَا َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ
الن ِ ِ
{ ِإ َّن الس َ
َّاعةَ آلتَيةٌ ال َر ْي َ
ب ِفيهَا } قد أخبرت بها الرسل الذين هم أصدق الخلق ونطقت بها الكتب ِ
{ ِإ َّن الس َ
َّاعةَ آلتَيةٌ ال َر ْي َ
السماوية ،التي جميع أخبارها أعلى مراتب الصدق ،وقامت عليها الشواهد المرئية ،واآليات
اس ال ُي ْؤ ِمُن َ
ون } مع هذه األمور ،التي توجب كمال التصديق ،واإلذعان. األفقيةَ { .ولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ
الن ِ
( )1/740
ِ ب لَ ُكم ِإ َّن الَِّذين يستَ ْكبِرون ع ْن ِعب َ ِ ال رُّب ُكم ْاد ُعونِي أ ْ ِ
ون َجهََّن َم َداخ ِر َ
ين ()60 ادتي َسَي ْد ُخلُ َ َ َْ ُ َ َ َ َستَج ْ ْ َوقَ َ َ ُ
ون َجهََّن َم ب لَ ُكم ِإ َّن الَِّذين يستَ ْكبِرون ع ْن ِعب َ ِ ال رُّب ُكم ْاد ُعونِي أ ْ ِ
ادتي َسَي ْد ُخلُ َ َ َْ ُ َ َ َ َستَج ْ ْ { َ { } 60وقَ َ َ ُ
ِ
َداخ ِر َ
ين } .
هذا من لطفه بعباده ،ونعمته العظيمة ،حيث دعاهم إلى ما فيه صالح دينهم ودنياهم ،وأمرهم
بدعائه ،دعاء العبادة ،ودعاء المسألة ،ووعدهم أن يستجيب لهم ،وتوعد من استكبر عنها فقال:
ِ { ِإ َّن الَِّذين يستَ ْكبِرون ع ْن ِعب َ ِ
ون َجهََّن َم َداخ ِر َ
ين } أي :ذليلين حقيرين ،يجتمع عليهم ادتي َسَي ْد ُخلُ َ َ َْ ُ َ َ َ
العذاب [ ص ] 741واإلهانة ،جزاء على استكبارهم.
( )1/740
ض ٍل َعلَىص ًرا ِإ َّن اللَّهَ لَ ُذو فَ ْالنهار م ْب ِ ِِ َّ ِ َّ َِّ
{ { } 65 - 61اللهُ الذي َج َع َل لَ ُك ُم اللْي َل لتَ ْس ُكُنوا فيه َو َّ َ َ ُ
ٍ ون * َذِل ُك ُم اللَّهُ َرُّب ُك ْم َخ ِال ُ اس َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ
ق ُك ِّل َش ْيء ال ِإلَهَ ِإال ُه َو فَأََّنى تُ ْؤفَ ُك َ
ون اس ال َي ْش ُك ُر َالن ِ الن ِ
َّ
َّ َِّ ِ َّ ِ ك يؤفَ ُ َِّ ِ
اء بَِن ً
اء َّم َ
ض قََر ًارا َوالس َ األر َون * اللهُ الذي َج َع َل لَ ُك ُم ْ ين َك ُانوا بِ َآيات الله َي ْج َح ُد َك الذ َ * َك َذل َ ُ ْ
ين * ُه َو ِ ك اللَّهُ َر ُّ
ات َذِل ُك ُم اللَّهُ َرُّب ُك ْم فَتََب َار َ َحسن صور ُكم ور َزقَ ُكم ِمن الطَّيِّب ِ
ب اْل َعالَم َ َ ص َّو َر ُك ْم فَأ ْ َ َ ُ َ َ ْ َ َ ْ َ َو َ
ِ ين اْل َح ْم ُد ِللَّ ِه َر ِّ ِ ِ
ين } . ب اْل َعالَم َ الد َ اْل َح ُّي ال ِإلَهَ ِإال ُه َو فَ ْاد ُعوهُ ُم ْخلص َ
ين لَهُ ِّ
تدبر هذه اآليات الكريمات ،الدالة على سعة رحمة اهلل تعالى وجزيل فضله ،ووجوب شكره،
وكمال قدرته ،وعظيم سلطانه ،وسعة ملكه ،وعموم خلقه لجميع األشياء ،وكمال حياته ،واتصافه
بالحمد على كل ما اتصف به من الصفات الكاملة ،وما فعله من األفعال الحسنة ،وتمام ربوبيته،
وانفراده فيها ،وأن جميع التدبير في العالم العلوي والسفلي في ماضي األوقات وحاضرها،
ومستقبلها بيد اهلل تعالى ،ليس ألحد من األمر شىء ،وال من القدرة شيء ،فينتج من ذلك ،أنه
شيئا ،كما لم يستحق من الربوبية
تعالى المألوه المعبود وحده ،الذي ال يستحق أحد من العبودية ً
شيئا ،وينتج من ذلك ،امتالء القلوب بمعرفة اهلل تعالى ومحبته وخوفه ورجائه ،وهذان األمران
ً
-وهما معرفته وعبادته -هما اللذان خلق اهلل الخلق ألجلهما ،وهما الغاية المقصودة منه تعالى
لعباده ،وهما الموصالن إلى كل خير وفالح وصالح ،وسعادة دنيوية وأخروية ،وهما اللذان هما
أشرف عطايا الكريم لعباده ،وهما أشرف اللذات على اإلطالق ،وهما اللذان إن فاتا ،فات كل
خير ،وحضر كل شر.
فنسأله تعالى أن يمأل قلوبنا بمعرفته ومحبته ،وأن يجعل حركاتنا الباطنة والظاهرة ،خالصة
لوجهه ،تابعة ألمره ،إنه ال يتعاظمه سؤال ،وال يحفيه نوال.
فقوله تعالى { :اللَّه الَِّذي جع َل لَ ُكم اللَّْي َل } أي :ألجلكم جعل اهلل الليل مظلماِ { ،لتَس ُكُنوا ِف ِ
يه } من ْ ً ََ ُ ُ
حركاتكم ،التي لو استمرت لضرت ،فتأوون إلى فرشكم ،ويلقي اهلل عليكم النوم الذي يستريح به
أيضا ،كل حبيب إلى حبيبه،
القلب والبدن ،وهو من ضروريات اآلدمي ال يعيش بدونه ،ويسكن ً
ويجتمع الفكر ،وتقل الشواغل.
منيرا بالشمس المستمرة في الفلك ،فتقومون من فرشكم إلى ِ { و } جعل تعالى { َّ
النهَ َار ُم ْبص ًرا } ً
أشغالكم الدينية والدنيوية ،هذا لذكره وقراءته ،وهذا لصالته ،وهذا لطلبه العلم ودراسته ،وهذا
وبحرا ،وهذا
لبيعه وشرائه ،وهذا لبنائه أو حدادته ،أو نحوها من الصناعات ،وهذا لسفره ًبرا ً
لفالحته ،وهذا لتصليح حيواناته.
اس } حيث أنعم عليهم بهذه النعم ض ٍل } أي :عظيم ،كما يدل عليه التنكير { َعلَى َّ
الن ِ { ِإ َّن اللَّهَ لَ ُذو فَ ْ
وغيرها ،وصرف عنهم النقم ،وهذا يوجب عليهم ،تمام شكره وذكرهَ { ،ولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ
الن ِ
اس ال
ور } الذين يقرون بنعمة ربهم، ون } بسبب جهلهم وظلمهم { .و َقِلي ٌل ِم ْن ِعَب ِاد َ َّ
ي الش ُك ُ َ َي ْش ُك ُر َ
ويخضعون للّه ،ويحبونه ،ويصرفونها في طاعة موالهم ورضاه.
{ َذِل ُك ُم } الذي فعل ما فعل { اللَّهُ َرُّب ُك ْم } أي :المنفرد باإللهية ،والمنفرد بالربوبية ،ألن انفراده
بهذه النعم ،من ربوبيته ،وإ يجابها للشكر ،من ألوهيته { ،ال ِإلَهَ ِإال ُه َو } تقرير أنه المستحق للعبادة
ق ُك ِّل َش ْي ٍء } تقرير لربوبيته. وحده ،ال شريك لهَ { ،خ ِال ُ
ون } أي :كيف تصرفون عن عبادته ،وحده ال شريك ثم صرح باألمر بعبادته فقال { :فَأََّنى تُ ْؤفَ ُك َ
له ،بعد ما أبان لكم الدليل ،وأنار لكم السبيل؟"
ِ َّ ِ ك يؤفَ ُ َِّ ِ
ون } أي :عقوبة على جحدهم آليات اهلل ،وتعديهم على ين َك ُانوا بِ َآيات الله َي ْج َح ُد َ
ك الذ َ { َك َذل َ ُ ْ
ضهُ ْم ِإلَى
ظ َر َب ْع ُ
ورةٌ َن َ
ت ُس َ
رسله ،صرفوا عن التوحيد واإلخالص ،كما قال تعالىَ { :وإِ َذا َما أُنزلَ ْ
ض َه ْل يرا ُكم ِم ْن أَح ٍد ثَُّم ْانصرفُوا صر َ َّ
وبهُ ْم بِأََّنهُ ْم قَ ْو ٌم ال َي ْفقَهُ َ
ون } ف اللهُ ُقلُ َ ََ ََ َ ََ ْ َب ْع ٍ
ض قََر ًارا } أي :قارة ساكنة ،مهيأة لكل مصالحكم ،تتمكنون من حرثها َّ َِّ
األر َ
{ اللهُ الذي َج َع َل لَ ُك ُم ْ
وغرسها ،والبناء عليها ،والسفر ،واإلقامة فيها.
اء } سقفًا لألرض ،التي أنتم فيها ،قد جعل اهلل فيها ما تنتفعون به من األنوار اء بَِن ً
َّم َ
{ َوالس َ
ص َو َر ُك ْم } فليس في َح َس َن ُ ص َّو َر ُك ْم فَأ ْ
والعالمات ،التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحرَ { ،و َ
ان ِفي أ ْ
َح َس ِن تَ ْق ِو ٍيم اإلن َس َ
جنس الحيوانات ،أحسن صورة من بني آدم ،كما قال تعالى { :لَقَ ْد َخلَ ْقَنا ْ
}
عضوا ،هل
ً عضوا
ً وإ ذا أردت أن تعرف حسن اآلدمي وكمال حكمة اهلل تعالى فيه ،فانظر إليه،
أيضا ،إلى الميل الذي
عضوا من أعضائه ،يليق به ،ويصلح أن يكون في غير محله؟ وانظر ً
ً تجد
في القلوب ،بعضهم لبعض ،هل تجد ذلك في غير اآلدمين؟ وانظر إلى ما خصه اهلل به من العقل
واإليمان ،والمحبة والمعرفة ،التي هي أحسن األخالق المناسبة ألجمل الصور.
ات } وهذا شامل لكل طيب ،من مأكل [ ،ص ] 742ومشرب ،ومنكح، { ور َزقَ ُكم ِمن َّ
الطيِّب ِ
َ ََ ْ َ
وملبس ،ومنظر ،ومسمع ،وغير ذلك ،من الطيبات التي يسرها اهلل لعباده ،ويسر لهم أسبابها،
ومنعهم من الخبائث ،التي تضادها ،وتضر أبدانهم ،وقلوبهم ،وأديانهمَ { ،ذِل ُك ُم } الذي دبر
ين } أي :تعاظم ،وكثر ِ ك اللَّهُ َر ُّ
األمور ،وأنعم عليكم بهذه النعم { اللَّهُ َرُّب ُك ْم } { فَتََب َار َ
ب اْل َعالَم َ
خيره وإ حسانه ،المربي جميع العالمين بنعمه.
{ ُه َو اْل َح ُّي } الذي له الحياة الكاملة التامة ،المستلزمة لما تستلزمه من صفاته الذاتية ،التي ال تتم
حياته إال بها ،كالسمع ،والبصر ،والقدرة ،والعلم ،والكالم ،وغير ذلك ،من صفات كماله ،ونعوت
جالله.
{ ال ِإلَهَ ِإال ُه َو } أي :ال معبود بحق ،إال وجهه الكريم { .فَ ْاد ُعوهُ } وهذا شامل لدعاء العبادة،
ين } أي :اقصدوا بكل عبادة ودعاء وعمل ،وجه اهلل تعالى ،فإن ين لَهُ ِّ ِ ِ
الد َ ودعاء المسألة { ُم ْخلص َ
ِ ِ َّ ِ ِ
اء }
ين ُحَنفَ َ
الد َ اإلخالص ،هو المأمور به كما قال تعالىَ { :و َما أُم ُروا ِإال لَي ْعُب ُدوا اللهَ ُم ْخلص َ
ين لَهُ ِّ
ين } أي :جميع المحامد والمدائح والثناء ،بالقول كنطق الخلق بذكره، ِ { اْل َح ْم ُد ِللَّ ِه َر ِّ
ب اْل َعالَم َ
والفعل ،كعبادتهم له ،كل ذلك للّه تعالى وحده ال شريك له ،لكماله في أوصافه وأفعاله ،وتمام
نعمه.
( )1/741
ُسِل َم ِل َر ِّ
ب َن أ ْ
ت أْ ات ِم ْن ربِّي وأ ِ
ُم ْر ُ َ َ اءنِ َي اْلَبيَِّن ُ َعب َد الَِّذين تَ ْدعون ِم ْن ُد ِ َّ ِ
ون الله لَ َّما َج َ َ ُ َ َن أ ْ ُ ُق ْل ِإِّني ُن ِه ُ
يت أ ْ
ين ()66 ِ
اْل َعالَم َ
ات ِم ْن َربِّي
اءنِ َي اْلَبيَِّن ُ َعب َد الَِّذين تَ ْدعون ِم ْن ُد ِ َّ ِ
ون الله لَ َّما َج َ َ ُ َ َن أ ْ ُ { ُ { } 68 - 66ق ْل ِإِّني ُن ِه ُ
يت أ ْ
ين } . ِ ُسِل َم ِل َر ِّ وأ ِ
ب اْل َعالَم َ َن أ ْ
ت أْ
ُم ْر ُ َ
لما ذكر األمر بإخالص العبادة للّه وحده ،وذكر األدلة على ذلك والبينات ،صرح بالنهي عن
ون اللَّ ِه } من
ون ِم ْن ُد ِ ين تَ ْد ُع َ
َن أ ْ َِّ
َعُب َد الذ َ عبادة ما سواه فقالُ { :ق ْل } يا أيها النبي { ِإِّني ُن ِه ُ
يت أ ْ
األوثان واألصنام ،وكل ما عبد من دون اهلل.
ات ِم ْن َربِّياءنِ َي اْلَبيَِّن ُ
ولست على شك من أمري ،بل على يقين وبصيرة ،ولهذا قال { :لَ َّما َج َ
ين } بقلبي ولساني ،وجوارحي ،بحيث تكون منقادة لطاعته ،مستسلمة ِ ُسِل َم ِل َر ِّ وأ ِ
ب اْل َعالَم َ َن أ ْ
ت أْ
ُم ْر ُ َ
ألمره ،وهذا أعظم مأمور به ،على اإلطالق ،كما أن النهي عن عبادة ما سواه ،أعظم َم ْن ِه ٍّي عنه،
على اإلطالق.
( )1/742
طفَ ٍة ثَُّم ِم ْن َعلَقَ ٍة ثَُّم ُي ْخ ِر ُج ُك ْم ِطفْاًل ثَُّم ِلتَْبلُ ُغوا أَ ُش َّد ُك ْم ثَُّم ِلتَ ُك ُ
ونوا اب ثَُّم ِم ْن ُن ْ
ُهو الَِّذي َخلَقَ ُكم ِم ْن تُر ٍ
َ ْ َ
يت ِ ِ ِ َّ
ون (ُ )67ه َو الذي ُي ْحيي َوُيم ُ ِ َّ ِ ِ َّ ِ
َجاًل ُم َس ًّمى َولَ َعل ُك ْم تَ ْعقلُ َ وخا َوم ْن ُك ْم َم ْن ُيتََوفى م ْن قَْب ُل َولتَْبلُ ُغوا أ َ ُشُي ً
ون ()68 ضى أ َْم ًرا فَِإَّن َما َيقُو ُل لَهُ ُك ْن فََي ُك ُفَِإ َذا قَ َ
ونوا طفَ ٍة ثَُّم ِم ْن َعلَقَ ٍة ثَُّم ُي ْخ ِر ُج ُك ْم ِط ْفال ثَُّم ِلتَْبلُ ُغوا أَ ُش َّد ُك ْم ثَُّم ِلتَ ُك ُ
اب ثَُّم ِم ْن ُن ْ{ ُهو الَِّذي َخلَقَ ُكم ِم ْن تُر ٍ
َ ْ َ
ون * ُه َو الَِّذي ُي ْحيِي َوُي ِم ُ
يت فَِإ َذا ِ َّ
َجال ُم َس ًّمى َولَ َعل ُك ْم تَ ْعقلُ َ
ِ
وخا َو ِم ْن ُك ْم َم ْن ُيتََوفَّى م ْن قَْب ُل َوِلتَْبلُ ُغوا أ َُشُي ً
ون } . ضى أ َْم ًرا فَِإَّن َما َيقُو ُل لَهُ ُك ْن فََي ُك ُ قَ َ
ثم قرر هذا التوحيد ،بأنه الخالق لكم والمطور لخلقتكم ،فكما خلقكم وحده ،فاعبدوه وحده فقال:
طفَ ٍة } وهذا
اب } وذلك بخلقه ألصلكم وأبيكم آدم عليه السالم { .ثَُّم ِم ْن ُن ْ { ُهو الَِّذي َخلَقَ ُكم ِم ْن تُر ٍ
َ ْ َ
ابتداء خلق سائر النوع اإلنساني ،ما دام في بطن أمه ،فنبه باالبتداء ،على بقية األطوار ،من
العلقة ،فالمضغة ،فالعظام ،فنفخ الروح { ،ثَُّم ُي ْخ ِر ُج ُك ْم ِط ْفال } ثم هكذا تنتقلون في الخلقة اإللهية
حتى تبلغوا أشدكم من قوة العقل والبدن ،وجميع قواه الظاهرة والباطنة.
وخا َو ِم ْن ُك ْم َم ْن ُيتََوفَّى ِم ْن قَْب ُل } بلوغ األشد { َوِلتَْبلُ ُغوا } بهذه األطوار المقدرة { ثَُّم ِلتَ ُك ُ
ونوا ُشُي ً
ون } أحوالكم ،فتعلمون أن المطور لكم في ِ َّ
َجال ُم َس ًّمى } تنتهي عنده أعماركمَ { .ولَ َعل ُك ْم تَ ْعقلُ َ { أَ
هذه األطوار كامل االقتدار ،وأنه الذي ال تنبغي العبادة إال له ،وأنكم ناقصون من كل وجه.
يت } أي هو المنفرد باإلحياء واإلماتة ،فال تموت نفس بسبب أو بغير سبب، { ُه َو الَِّذي ُي ْحيِي َوُي ِم ُ
ك َعلَى اللَّ ِه َي ِس ٌير }
اب ِإ َّن َذِل َ
ص ِم ْن ُعم ِر ِه ِإال ِفي ِكتَ ٍ
ُ
ِ
إال بإذنهَ { .و َما ُي َع َّم ُر م ْن ُم َع َّم ٍر َوال ُي ْنقَ ُ
ون } ال رد في ذلك ،وال مثنوية ،وال حقيرا { فَِإَّن َما َيقُو ُل لَهُ ُك ْن فََي ُك ُ
ضى أ َْم ًرا } جليال أو ً { فَِإ َذا قَ َ
تمنع.
( )1/742
اب َوبِ َما أ َْر َسْلَنا بِ ِه ين َك َّذُبوا بِاْل ِكتَ ِ َِّ
ون ( )69الذ َ
ِ َّ ِ أَلَم تَر ِإلَى الَِّذين يج ِادلُ ِ
ون في آََيات الله أََّنى ُي ْ
ص َرفُ َ َ َُ َ ْ َ
ون (ِ )71في اْل َح ِم ِيم ثَُّم ِفي َعَن ِاق ِهم و َّ ِ
الساَل س ُل ُي ْس َحُب َ َغاَل ُل في أ ْ ْ َ
ف يعلَمون (ِ )70إ ِذ اأْل ْ ِ
ُر ُسلََنا فَ َس ْو َ َ ْ ُ َ
ضلُّوا َعَّنا َب ْل لَ ْم ون الله قَالُوا َ
يل لَهم أ َْين ما ُك ْنتُم تُ ْش ِر ُكون (ِ )73م ْن ُد ِ َّ ِ
َ ْ
ِ
ون ( )72ثَُّم ق َ ُ ْ َ َ الن ِار ُي ْس َج ُر َ
َّ
ض بِ َغ ْي ِرون ِفي اأْل َْر ِ ِ
ين (َ )74ذل ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْف َر ُح َ
ِ َن ُك ْن َن ْدعو ِم ْن قَْب ُل َش ْيًئا َك َذِل َ ِ َّ
ك ُيض ُّل اللهُ اْل َكاف ِر َ ُ
ق وبِما ُك ْنتُم تَمرحون (ْ )75اد ُخلُوا أ َْبواب جهَّنم َخ ِال ِد ِ
ين ()76 ين فيهَا فَبِْئ َس َمثَْوى اْل ُمتَ َكب ِِّر َ َ َ َ َََ ْ َْ ُ َ اْل َح ِّ َ َ
( )1/742
ك فَِإلَْيَنا ُي ْر َج ُع َ
ون } . ض الَِّذي َن ِع ُد ُه ْم أ َْو َنتََوفََّيَّن َ
ك َب ْع َ اصبِ ْر ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ
ق فَِإ َّما ُن ِرَيَّن َ َ { { } 77فَ ْ
اصبِ ْر } يا أيها الرسول ،على دعوة قومك ،وما ينالك منهم ،من أذى ،واستعن على صبرك أي { فَ ْ
وي ْعِلي كلمته ،وينصر رسله في الدنيا واآلخرة، ق } سينصر دينهُ ، بإيمانك { ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ
َ
كأيضا ،بتوقع العقوبة بأعدائك في الدنيا واآلخرة ،ولهذا قال { :فَِإ َّما ُن ِرَيَّن َ واستعن على ذلك ً
ون } فنجازيهم ك } قبل عقوبتهم { فَِإلَْيَنا ُي ْر َج ُع َ ض الَِّذي َن ِع ُد ُه ْم } في الدنيا فذاك { أ َْو َنتََوفََّيَّن َ َب ْع َ
َّ ِ َّ ِ
بأعمالهمَ { ،وال تَ ْح َسَب َّن اللهَ َغافال َع َّما َي ْع َم ُل الظال ُم َ
ون } ثم ساله وصبَّره ،بذكر إخوانه المرسلين
فقال:
( )1/743
( )1/743
( )1/743
ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم َك ُانوا أَ ْكثََر ِم ْنهُ ْم َوأَ َش َّد قَُّوةً َوَآثَ ًارا ِ َِّ
ان َعاقَبةُ الذ َ ف َك َ ض فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ أَ َفلَ ْم َي ِس ُيروا ِفي اأْل َْر ِ
ات فَ ِر ُحوا بِ َما ِع ْن َد ُه ْم َغَنى ع ْنهم ما َك ُانوا ي ْك ِسبون (َ )82فلَ َّما جاءتْهم رسلُهم بِاْلبيَِّن ِ
َ َ ُْ ُ ُ ُْ َ َ ُ َ ض فَ َما أ ْ َ ُ ْ َ ِفي اأْل َْر ِ
َمَّنا بِاللَّ ِه َو ْح َدهُ َو َكفَ ْرَنا بِ َما
ْسَنا قَالُوا آ َ
ون (َ )83فلَ َّما َرأ َْوا َبأ َ
ِ
اق بِ ِه ْم َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ ِم َن اْل ِعْلِم َو َح َ
ت ِفي ِعَب ِاد ِه َو َخ ِس َر ْسَنا ُسَّنةَ اللَّ ِه الَّتِي قَ ْد َخلَ ْ يم ُانهُ ْم لَ َّما َرأ َْوا َبأ َ ِ
ك َي ْنفَ ُعهُ ْم إ َ
ين (َ )84فلَ ْم َي ُ ِ ِ
ُكَّنا بِه ُم ْش ِرك َ
ون ()85 ُهَن ِال َ ِ
ك اْل َكاف ُر َ
ون } أي :أي آية من آياته ال تعترفون بها؟ فإنكم ،قد تقرر عندكم ،أن جميع { فَأ َّ ِ َّ ِ ِ
َي َآيات الله تُْنك ُر َ
اآليات والنعم ،منه تعالى ،فلم يبق لإلنكار محل ،وال لإلعراض عنها موضع ،بل أوجبت لذوي
األلباب ،بذل الجهد ،واستفراغ الوسع ،لالجتهاد في طاعته ،والتبتل في خدمته ،واالنقطاع إليه.
[ ص ] 744
ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم َك ُانوا أَ ْكثََر ِ َِّ
ان َعاقَبةُ الذ َ ف َك َ ض فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ األر ِ ِ ِ
{ { } 85 - 82أَ َفلَ ْم َيس ُيروا في ْ
َغَنى عْنهم ما َك ُانوا ي ْك ِسبون * َفلَ َّما جاءتْهم رسلُهم بِاْلبيَِّن ِ األر ِ ِ ِ
ات َ َ ُْ ُ ُ ُْ َ َ ُ َ ض فَ َما أ ْ َ ُ ْ َ م ْنهُ ْم َوأَ َش َّد قَُّوةً َوآثَ ًارا في ْ
آمَّنا بِاللَّ ِه
ْسَنا قَالُوا َ ون * َفلَ َّما َرأ َْوا َبأ َ
ِ
اق بِ ِه ْم َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ فَ ِر ُحوا بِ َما ِعْن َد ُه ْم ِم َن اْل ِعْلِم َو َح َ
ت ِفي ْسَنا ُسَّنةَ اللَّ ِه الَّتِي قَ ْد َخلَ ْ يم ُانهُ ْم لَ َّما َرأ َْوا َبأ َ ِ
ك َي ْنفَ ُعهُ ْم إ َ
ِ ِ
َو ْح َدهُ َو َكفَ ْرَنا بِ َما ُكَّنا بِه ُم ْش ِرك َ
ين * َفلَ ْم َي ُ
ون } . ِعب ِاد ِه و َخ ِسر ُهَن ِال َ ِ
ك اْل َكاف ُر َ َ َ َ
يحث تعالى ،المكذبين لرسولهم ،على السير في األرض ،بأبدانهم ،وقلوبهم :وسؤال العالمين.
{ فََي ْنظُ ُروا } نظر فكر واستدالل ،ال نظر غفلة وإ همال.
ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم } من األمم السالفة ،كعاد ،وثمود وغيرهم ،ممن كانوا أعظم ِ َِّ
ان َعاقَبةُ الذ َف َك َ { َك ْي َ
آثارا في األرض من األبنية الحصينة ،والغراس األنيقة ،والزروع منهم قوة وأكثر أمواال وأشد ً
ون } حين جاءهم أمر اهلل ،فلم تغن عنهم قوتهم ،وال افتدوا ِ
َغَنى َعْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْكسُب َ
الكثيرة { فَ َما أ ْ
بأموالهم ،وال تحصنوا بحصونهم.
ات } من الكتب اإللهية ،والخوارق ثم ذكر جرمهم الكبير فقالَ { :فلَ َّما جاءتْهم رسلُهم بِاْلبيَِّن ِ
َ َ ُْ ُ ُ ُْ َ
العظيمة ،والعلم النافع المبين ،للهدي من الضالل ،والحق من الباطل { فَ ِر ُحوا بِ َما ِعْن َد ُه ْم ِم َن اْل ِعْلِم
} المناقض لدين الرسل.
ومن المعلوم ،أن فرحهم به ،يدل على شدة رضاهم به ،وتمسكهم ،ومعاداة الحق ،الذي جاءت به
الرسل ،وجعل باطلهم حقًا ،وهذا عام لجميع العلوم ،التي نوقض بها ،ما جاءت به الرسل ،ومن
أحقها بالدخول في هذا ،علوم الفلسفة ،والمنطق اليوناني ،الذي ُر َّدت به كثير من آيات القرآن،
شيئا من اليقين ،ويقدم
ونقصت قدره في القلوب ،وجعلت أدلته اليقينية القاطعة ،أدلة لفظية ،ال تفيد ً
عليها عقول أهل السفه والباطل ،وهذا من أعظم اإللحاد في آيات اهلل ،والمعارضة لها،
والمناقضة ،فاهلل المستعان.
ِ
اق بِ ِه ْم } أي :نزل { َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ
ون } من العذاب. { َو َح َ
آمَّنا بِاللَّ ِه َو ْح َدهُ َو َكفَ ْرَنا بِ َما
ْسَنا } أي :عذابنا ،أقروا حيث ال ينفعهم اإلقرار { قَالُوا َ { َفلَ َّما َرأ َْوا َبأ َ
ِ ِ
ين } من األصنام واألوثان ،وتبرأنا من كل ما خالف الرسل ،من علم أو عمل. ُكَّنا بِه ُم ْش ِرك َ
ْسَنا } أي :في تلك الحال ،وهذه { ُسَّنةَ اللَّ ِه } وعادته { الَّتِي قَ ْد يم ُانهُ ْم لَ َّما َرأ َْوا َبأ َ ِ
ك َي ْنفَ ُعهُ ْم إ َ
{ َفلَ ْم َي ُ
ت ِفي ِعَب ِاد ِه } أن المكذبين حين ينزل بهم بأس اهلل وعقابه إذا آمنوا ،كان إيمانهم غير صحيح، َخلَ ْ
منجيا لهم من العذاب ،وذلك ألنه إيمان ضرورة ،قد اضطروا إليه ،وإ يمان مشاهدة ،وإ نما
وال ً
إيمانا بالغيب ،وذلك قبل
اإليمان النافع الذي ينجي صاحبه ،هو اإليمان االختياري ،الذي يكون ً
وجود قرائن العذاب.
ون } دينهم ودنياهم وأخراهم ،وال ِ { َو َخ ِس َر ُهَن ِال َ
ك } أي :وقت اإلهالك ،وإ ذاقة البأس { اْل َكاف ُر َ
يكفي مجرد الخسارة ،في تلك الدار ،بل ال بد من خسران يشقي في العذاب الشديد ،والخلود فيه،
أبدا.
دائما ً
تم تفسير سورة المؤمن بحمد اهلل ولطفه ومعونته ،ال بحولنا وقوتنا ،فله الشكر والثناء
( )1/743
سورة فصلت
مكية
( )1/744
وحى ِإلَ َّي أََّن َما ِإلَهُ ُك ْم ِإلَهٌ ِ ِ ك ِح َج ٌ َو ِم ْن َب ْينَِنا َوَب ْينِ َ
ون (ُ )5ق ْل ِإَّن َما أََنا َب َشٌر م ْثلُ ُك ْم ُي َ اع َم ْل ِإَّنَنا َعاملُ َ
اب فَ ْ
الز َكاةَ َو ُه ْم بِاآْل َ ِخ َر ِة ُه ْمون َّ ين اَل ُي ْؤتُ َ
َِّ
ين ( )6الذ َ
ِ ِ اح ٌد فَاستَِقيموا ِإلَْي ِه و ِ
استَ ْغف ُروهُ َو َوْي ٌل لْل ُم ْش ِرك َ
َ ْ ْ ُ
و ِ
َ
َجٌر َغ ْي ُر َم ْمُن ٍ ِ ِ ِ ِ َّ ِ ِ
ون ()8 َمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات لَهُ ْم أ ْ ون ( )7إ َّن الذ َ
ين آ َ َكاف ُر َ
( )1/744
ِ ون لَهُ أ َْن َد ًادا َذِل َ ق اأْل َر ِ َِّ ِ
ين (َ )9و َج َع َل
ب اْل َعالَم َك َر ُّ ض في َي ْو َم ْي ِن َوتَ ْج َعلُ َون بِالذي َخلَ َ ْ َ ُق ْل أَئَّن ُك ْم لَتَ ْكفُُر َ
َّام سو ِ ِِ ِ ٍ ِ ِ اسي ِم ْن فَو ِقها وبار َ ِ ِ ِ
استََوى ين ( )10ثَُّم ْاء للسَّائل َ ك فيهَا َوقَ َّد َر فيهَا أَ ْق َواتَهَا في أ َْرَب َعة أَي َ َ ً ْ َ ََ َ فيهَا َر َو َ
ين ()11 طوعا أَو َكر ًها قَالَتَا أَتَْيَنا َ ِ ِ ان فَقَا َل لَها وِلأْل َر ِ ِ ِ ِإلَى السَّم ِ
اء َو ِه َي ُد َخ ٌ
طائع َ ض ا ْئتَيا َ ْ ً ْ ْ َ َ ْ َ
( )1/745
يح َو ِح ْف ً
ظا صابِ َ
الد ْنَيا بِ َم َ
اء ُّ ٍ ِ ِّ ٍ ِ
اه َّن َس ْب َع َس َم َوات في َي ْو َم ْي ِن َوأ َْو َحى في ُكل َس َماء أ َْم َر َها َو َزيََّّنا الس َ
َّم َ ض ُ فَقَ َ
يز اْل َعِل ِيم ()12ك تَ ْق ِد ُير اْل َع ِز ِ
َذِل َ
ٍ ِ ِّ ٍ ِ
صابِ َ
يح الد ْنَيا بِ َم َ
اء ُّ اه َّن َس ْب َع َس َم َاوات في َي ْو َم ْي ِن َوأ َْو َحى في ُكل َس َماء أ َْم َر َها َو َزيََّّنا الس َ
َّم َ ض ُ { فَقَ َ
يز اْل َعِل ِيم } .
ك تَ ْق ِد ُير اْل َع ِز ِ
ظا َذِل َ
َو ِح ْف ً
ات ِفي َي ْو َم ْي ِن } فَتَ َّم خلق السماوات واألرض في ستة أيام ،أولها يوم األحد، اه َّن س ْبع سماو ٍ
ض ُ َ َ ََ َ { فَقَ َ
وآخرها يوم الجمعة ،مع أن قدرة اللّه ومشيئته صالحة لخلق الجميع في لحظة واحدة ،ولكن مع
أنه قدير ،فهو حكيم رفيق ،فمن حكمته ورفقه ،أن جعل خلقها في هذه المدة المقدرة.
ض
األر َ
واعلم أن ظاهر هذه اآلية ،مع قوله تعالى في النازعات ،لما ذكر خلق السماوات قالَ { :و ْ
اها } يظهر منهما التعارض ،مع أن كتاب اللّه ،ال تعارض فيه وال اختالف. َب ْع َد َذِل َ
ك َد َح َ
والجواب عن ذلك ،ما قاله كثير من السلف ،أن خلق األرض وصورتها [ ص ] 746متقدم على
اها } اها َواْل ِجَب َ ِ
ال أ َْر َس َ اء َها َو َم ْر َع َ
َخ َر َج م ْنهَا َم َ
خلق السماوات كما هنا ،ودحي األرض بأن { أ ْ
اها ض َب ْع َد َذِل َ
ك َد َح َ األر َمتأخر عن خلق السماوات كما في سورة النازعات ،ولهذا قال فيهاَ { :و ْ
َخ َر َج ِم ْنهَا } إلى آخره ولم يقل" :واألرض بعد ذلك خلقها"أْ
اء أ َْم َر َها } أي :األمر والتدبير الالئق بها ،الذي اقتضته حكمة أحكم وقوله { :وأَوحى ِفي ُك ِّل سم ٍ
ََ َ ْ َ
الحاكمين.
يح } هي :النجوم ،يستنار ،بها ،ويهتدى ،وتكون زينة وجماال للسماء صابِ َ
الد ْنَيا بِ َم َ
اء ُّ { َو َزيََّّنا الس َ
َّم َ
ك } المذكور،رجوما للشياطين ،لئال يسترق السمع فيهاَ { .ذِل َ ً باطنا ،بجعلها
ظاهرا ،وجماال لهاً ، ً
يز } الذي عزته ،قهر بها األشياء ودبرها، من األرض وما فيها ،والسماء وما فيها { تَ ْق ِد ُير اْل َع ِز ِ
وخلق بها المخلوقات { .اْل َعِل ِيم } الذي أحاط علمه بالمخلوقات ،الغائب والشاهد.
ك المشركين اإلخالص لهذا الرب العظيم الواحد القهار ،الذي انقادت المخلوقات ألمره ونفذ
فَتَْر ُ
أندادا يسوونهم به ،وهم ناقصون في أوصافهم
فيها قدره ،من أعجب األشياء ،واتخاذهم له ً
وأفعالهم ،أعجب ،وأعجب ،وال دواء لهؤالء ،إن استمر إعراضهم ،إال العقوبات الدنيوية
واألخروية ،فلهذا خوفهم بقوله:
( )1/745
( )1/746
اب اْلهُ ِ
ون َخ َذتْهم ص ِ
اعقَةُ اْل َع َذ ِ استَ َحبُّوا اْل َع َمى َعلَى اْلهُ َدى فَأ َ ُ ْ َ
اه ْم فَ ْ
ود فَهَ َد ْيَن ُ
َما ثَ ُم ُ
{ َ { } 18 - 17وأ َّ
بِما َك ُانوا ي ْك ِسبون * وَنج ْ َِّ
آمُنوا َو َك ُانوا َيتَّقُ َ
ون } . ين َ َّيَنا الذ َ َ ُ َ َ َ
صالحا عليه
ً وأما ثمود وهم القبيلة المعروفة الذين سكنوا الحجر وحواليه ،الذين أرسل اللّه إليهم
السالم ،يدعوهم إلى توحيد ربهم ،وينهاهم عن الشرك وآتاهم اللّه الناقة ،آية عظيمة ،لها شرب
يوما ،وليسوا ينفقون عليها ،بل
يوما ويشربون من الماء ً
ولهم شرب يوم معلوم ،يشربون لبنها ً
اه ْم } أي [ :ص ] 747هداية بيان ،وإ نما
ود فَهَ َد ْيَن ُ
َما ثَ ُم ُ
تأكل من أرض اللّه ،ولهذا قال هناَ { :وأ َّ
نص عليهم ،وإ ن كان جميع األمم المهلكة ،قد قامت عليهم الحجة ،وحصل لهم البيان ،ألن آية
ثمود ،آية باهرة ،قد رآها صغيرهم وكبيرهم ،وذكرهم وأنثاهم ،وكانت آية مبصرة ،فلهذا خصهم
بزيادة البيان والهدى.
ولكنهم -من ظلمهم وشرهم -استحبوا العمى -الذي هو الكفر والضالل -على الهدى -الذي هو:
ِ َخ َذتْهم ص ِ
اعقَةُ اْل َع َذ ِ
ظلما من اللّه لهم. ون بِ َما َك ُانوا َي ْكسُب َ
ون } ال ً اب اْلهُ ِ العلم واإليمان { -فَأ َ ُ ْ َ
{ وَنج ْ َِّ
صالحا عليه السالم ومن اتبعه من المؤمنين ً ون } أي نجى اللّه آمُنوا َو َك ُانوا َيتَّقُ َ
ين َ
َّيَنا الذ َ َ
المتقين للشرك ،والمعاصي.
( )1/746
( )1/747
ق ُك َّل َش ْي ٍء َو ُه َو َخلَقَ ُك ْم أ ََّو َل َم َّر ٍة َوإِلَْي ِه طَطقََنا اللَّهُ الَِّذي أ َْن ََوقَالُوا ِل ُجلُو ِد ِه ْم ِل َم َش ِه ْدتُ ْم َعلَْيَنا قَالُوا أ َْن َ
ود ُك ْم َولَ ِك ْن َ
ظَن ْنتُ ْم ص ُار ُك ْم َواَل ُجلُ ُ َن َي ْشهَ َد َعلَْي ُك ْم َس ْم ُع ُك ْم َواَل أ َْب َون أ ْ ِ
ون (َ )21و َما ُك ْنتُ ْم تَ ْستَت ُر َ تُْر َج ُع َ
َصَب ْحتُ ْم ِم َن ظُّن ُك ُم الَِّذي َ
ظَن ْنتُ ْم بَِرِّب ُك ْم أ َْر َدا ُك ْم فَأ ْ ون (َ )22و َذِل ُك ْم َ ِ ِ أ َّ َّ
َن اللهَ اَل َي ْعلَ ُم َكث ًيرا م َّما تَ ْع َملُ َ
ِ ِ ِ
ين ()24 الن ُار َمثًْوى لَهُ ْم َوإِ ْن َي ْستَ ْعتُبوا فَ َما ُه ْم م َن اْل ُم ْعتَبِ َ صبِ ُروا فَ َّ ين ( )23فَِإ ْن َي ْ اْل َخاس ِر َ
ق ُك َّل َش ْي ٍء َو ُه َو َخلَقَ ُك ْم أ ََّو َل َم َّر ٍة َوإِلَْي ِه طَ طقََنا اللَّهُ الَِّذي أ َْن َ{ َوقَالُوا ِل ُجلُو ِد ِه ْم ِل َم َش ِه ْدتُ ْم َعلَْيَنا قَالُوا أ َْن َ
َن ود ُك ْم َولَ ِك ْن َ
ظَن ْنتُ ْم أ َّ ص ُار ُك ْم َوال ُجلُ ُ َن َي ْشهَ َد َعلَْي ُك ْم َس ْم ُع ُك ْم َوال أ َْب َ ون أ ْ ِ
ون * َو َما ُك ْنتُ ْم تَ ْستَت ُر َ تُْر َج ُع َ
ِ ِ ظُّن ُك ُم الَِّذي َ
ون * َو َذِل ُك ْم َ ِ ِ َّ
ين * َصَب ْحتُ ْم م َن اْل َخاس ِر َ ظَن ْنتُ ْم بَِرِّب ُك ْم أ َْر َدا ُك ْم فَأ ْ اللهَ ال َي ْعلَ ُم َكث ًيرا م َّما تَ ْع َملُ َ
ِ ِ
ين } . الن ُار َمثًْوى لَهُ ْم َوإِ ْن َي ْستَ ْعتُبوا فَ َما ُه ْم م َن اْل ُم ْعتَبِ َ صبِ ُروا فَ َّ فَِإ ْن َي ْ
فإذا شهدت عليهم عاتبوهاَ { ،وقَالُوا ِل ُجلُو ِد ِه ْم } هذا دليل عل أن الشهادة تقع من كل عضو كما
ق ُك َّل َش ْي ٍء } فليس في طَ طقََنا اللَّهُ الَِّذي أ َْن َ ذكرناِ { :ل َم َش ِه ْدتُ ْم َعلَْيَنا } ونحن ندافع عنكن؟ { قَالُوا أ َْن َ
إمكاننا ،االمتناع عن الشهادة حين أنطقنا الذي ال يستعصي عن مشيئته أحد.
{ َو ُه َو َخلَقَ ُك ْم أ ََّو َل َم َّر ٍة } فكما خلقكم بذواتكم ،وأجسامكم ،خلق أيضا صفاتكم ،ومن ذلك،
ون } في اآلخرة ،فيجزيكم بما عملتم ،ويحتمل أن المراد بذلك ،االستدالل ِ
اإلنطاقَ { .وإِلَْيه تُْر َج ُع َ
على البعث بالخلق األول ،كما هو طريقة القرآن.
ود ُك ْم } أي :وما كنتم تختفون
ص ُار ُك ْم َوال ُجلُ ُ ِ
َن َي ْشهَ َد َعلَْي ُك ْم َس ْم ُع ُك ْم َوال أ َْب َ ون أ ْ
{ َو َما ُك ْنتُ ْم تَ ْستَت ُر َ
عن شهادة أعضائكم عليكم ،وال تحاذرون من ذلكَ { .ولَ ِك ْن َ
ظَن ْنتُ ْم } بإقدامكم على المعاصي { أ َّ
َن
ون } فلذلك صدر منكم ما صدر ،وهذا الظن ،صار سبب هالكهم ِ ِ َّ
اللهَ ال َي ْعلَ ُم َكث ًيرا م َّما تَ ْع َملُ َ
ظَن ْنتُ ْم بَِرِّب ُك ْم } الظن السيئ ،حيث ظننتم به ،ما ال يليق ظُّن ُك ُم الَِّذي َ وشقائهم ولهذا قالَ { :و َذِل ُك ْم َ
ِ ِ
ين } ألنفسهم وأهليهم وأديانهم بسبب َصَب ْحتُ ْم م َن اْل َخاس ِر َ بجالله { .أ َْر َدا ُك ْم } أي :أهلككم { فَأ ْ
األعمال التي أوجبها لكم ظنكم القبيح بربكم ،فحقت عليكم كلمة العقاب والشقاء ،ووجب عليكم
الخلود الدائم ،في العذاب ،الذي ال يفتر عنهم ساعة:
صبِ ُروا فَ َّ
الن ُار َمثًْوى لَهُ ْم } فال َجلَ َد عليها ،وال صبر ،وكل حالة قُ ِّدر إمكان الصبر عليها، { فَِإ ْن َي ْ
فالنار ال يمكن الصبر عليها ،وكيف الصبر على نار ،قد اشتد حرها ،وزادت على نار الدنيا،
بسبعين ضعفًا ،وعظم غليان حميمها ،وزاد نتن صديدها ،وتضاعف برد زمهريرها وعظمت
سالسلها وأغاللها ،وكبرت مقامعها ،وغلظ ُخ َّزانها ،وزال ما في قلوبهم من رحمتهم ،وختام ذلك
ون } اخ َسُئوا ِفيهَا َوال تُ َكلِّ ُم ِ سخط الجبار ،وقوله لهم حين يدعونه ويستغيثونْ { :
{ َوإِ ْن َي ْستَ ْعتُِبوا } أي :يطلبوا أن يزال عنهم العتب ،ويرجعوا إلى الدنيا ،ليستأنفوا العمل { .فَ َما
ِ
ين } ألنه ذهب وقته ،وعمروا ،ما يعمر فيه من تذكر وجاءهم النذير وانقطعت ُه ْم م َن اْل ُم ْعتَبِ َ
ِ حجتهم ،مع أن استعتابهم ،كذب منهم { ولَو ر ُّدوا لَع ُ ِ
ادوا ل َما ُنهُوا َعْنهُ َوإِ َّنهُ ْم لَ َكاذُب َ
ون } َ َ ْ ُ
( )1/747
ت ِم ْن قَْبِل ِه ْم
ُمٍم قَ ْد َخلَ ْ ِ اء فََزيَُّنوا لَهُ ْم ما َب ْي َن أ َْي ِدي ِه ْم وما َخْلفَهُ ْم و َح َّ ِ
ق َعلَْيه ُم اْلقَ ْو ُل في أ َ َ ََ َ َّضَنا لَهُ ْم قَُرَن َ
َوقَي ْ
ِ ِم َن اْل ِج ِّن واإْلِ ْن ِ
ين ()25 س ِإَّنهُ ْم َك ُانوا َخاس ِر َ َ
ُمٍم قَ ْد ِ اء فََزيَُّنوا لَهُ ْم ما َب ْي َن أ َْي ِدي ِه ْم وما َخْلفَهُ ْم و َح َّ ِ
ق َعلَْيه ُم اْلقَ ْو ُل في أ َ َ ََ َ َّضَنا لَهُ ْم قَُرَن َ
{ َ { } 25وقَي ْ
ِ ت ِم ْن قَْبِل ِه ْم ِم َن اْل ِج ِّن َو ْ
ين } .س ِإَّنهُ ْم َك ُانوا َخاس ِر َ اإلن ِ َخلَ ْ
اء } من الشياطين ،كما قال تعالى { :أَلَ ْم تََر أََّنا
أي :وقضينا لهؤالء الظالمين الجاحدين للحق { قَُرَن َ
ين تَ ُؤ ُّز ُه ْم أ ًَّزا } أي تزعجهم إلى المعاصي وتحثهم عليها ،بسبب ما ِ أَرسْلَنا َّ ِ
ين َعلَى اْل َكاف ِر َ الشَياط َ ْ َ
زينوا { لَهُ ْم َما َب ْي َن أ َْي ِدي ِه ْم َو َما َخْلفَهُ ْم } فالدنيا زخرفوها بأعينهم ،ودعوهم إلى لذاتها وشهواتها
المحرمة حتى افتتنوا ،فأقدموا على معاصي اللّه ،وسلكوا ما شاءوا من محاربة اللّه ورسله
واآلخرة َب ّع ُدوها [ ص ] 748عليهم وأنسوهم ذكرها ،وربما أوقعوا عليهم ُّ
الشبه ،بعدم وقوعها،
فترحَّل خوفها من قلوبهم ،فقادوهم إلى الكفر ،والبدع ،والمعاصي.
وهذا التسليط والتقييض من اللّه للمكذبين الشياطين ،بسبب إعراضهم عن ذكر اللّه وآياته،
ط ًانا فَهَُو لَهُ قَ ِر ٌ
ين ِّض لَهُ َش ْي َ ش َع ْن ِذ ْك ِر َّ
الر ْح َم ِن ُنقَي ْ وجحودهم الحق كما قال تعالىَ { :و َم ْن َي ْع ُ
ون أََّنهُ ْم ُم ْهتَ ُد َ السبِ ِ ص ُّد َ
ونهُ ْم َع ِن َّ
ون } يل َوَي ْح َسُب َ َوإِ َّنهُ ْم لََي ُ
ُمٍم قَ ْد ِ { و َح َّ ِ
ق َعلَْيه ُم اْلقَ ْو ُل } أي :وجب عليهم ،ونزل القضاء والقدر بعذابهم { في } جملة { أ َ َ
ِ ت ِم ْن قَْبِل ِه ْم ِم َن اْل ِج ِّن َو ْ
س ِإَّنهُ ْم َك ُانوا َخاس ِر َ
ين } ألديانهم وآخرتهم ،ومن خسر ،فال بد أن اإلن ِ َخلَ ْ
يذل ويشقى ويعذب.
( )1/747
َِّ ِ ِ ِ ِ َّ ين َكفَ ُروا اَل تَ ْس َم ُعوا ِلهَ َذا اْلقُْرآ ِ وقَ َ َِّ
ين َكفَ ُروا َع َذ ًابا ون (َ )26فلَُنذيقَ َّن الذ َ َن َواْل َغ ْوا فيه لَ َعل ُك ْم تَ ْغلُب َ ال الذ َ َ
النار لَهم ِفيها َدار اْل ُخْلدِ ِ َّ ِ ِ ِ َّ ِ
َع َداء الله َّ ُ ُ ْ َ ُ اء أ ْ
ك َج َز ُ ون (َ )27ذل َ َس َوأَ الذي َك ُانوا َي ْع َملُ َ يدا َولََن ْج ِزَيَّنهُ ْم أ ْ
َشد ً
َضاَّل َنا ِم َن اْل ِج ِّن واإْلِ ْن ِ
س َّ
ين َكفَ ُروا َربََّنا أ َِرَنا ال َذ ْي ِن أ َ
ج َزاء بِما َك ُانوا بِآَياتَِنا ي ْجح ُدون ( )28وقَ َ َِّ
ال الذ َ َ َ َ َ َ ً َ
َ َ
ين ()29 ونا ِمن اأْل ِ ِ ِ
َس َفل َ
ت أَ ْق َدامَنا لَي ُك َ َ ْ َن ْج َعْلهُ َما تَ ْح َ
ون * َفلَُن ِذيقَ َّن ِ ِ ِ َّ ين َكفَ ُروا ال تَ ْس َم ُعوا ِلهَ َذا اْلقُْر ِ
آن َواْل َغ ْوا فيه لَ َعل ُك ْم تَ ْغلُب َ
{ { } 29 - 26وقَ َ َِّ
ال الذ َ َ
ِ ِ َّ ِ ِ ِ َّ ِ َِّ
الن ُار لَهُ ْم فيهَا َع َداء الله َّ اء أ ْ
ك َج َز ُ ون * َذل َ َس َوأَ الذي َك ُانوا َي ْع َملُ َ يدا َولََن ْج ِزَيَّنهُ ْم أ ْ ين َكفَ ُروا َع َذ ًابا َشد ًالذ َ
النا ِم َن اْل ِج ِّنَض َ َّ
ين َكفَ ُروا َربََّنا أ َِرَنا ال َذ ْي ِن أ َ
َدار اْل ُخْل ِد ج َزاء بِما َك ُانوا بِآياتَِنا ي ْجح ُدون * وقَ َ َِّ
ال الذ َ َ َ َ َ َ َ ً َ ُ
ين } . ِ امَنا ِلي ُك َ ِ ت أَ ْق َد ِ اإلن ِ
األس َفل َ
ونا م َن ْ َ س َن ْج َعْلهُ َما تَ ْح َ َو ْ
ين َكفَ ُروا ال َِّ
يخبر تعالى عن إعراض الكفار عن القرآن ،وتواصيهم بذلك ،فقالَ { :وقَا َل الذ َ
آن } أي :أعرضوا عنه بأسماعكم ،وإ ياكم أن تلتفتوا ،أو تصغوا إليه وال إلى من تَ ْس َم ُعوا ِلهَ َذا اْلقُْر ِ
يه } أي :تكلموا بالكالم جاء به ،فإن اتفق أنكم سمعتموه ،أو سمعتم الدعوة إلى أحكامه ،فـ { اْل َغوا ِف ِ
ْ
أحدا يملك عليكم الكالم به ،وتالوة الذي ال فائدة فيه ،بل فيه المضرة ،وال تمكنوا -مع قدرتكمً -
ألفاظه ومعانيه ،هذا لسان حالهم ،ولسان مقالهم ،في اإلعراض عن هذا القرآن { ،لَ َعلَّ ُك ْم } إن
ون } ]وهذه[ ( )1شهادة من األعداء ،وأوضح الحق ،ما شهدت به األعداء ،فإنهم ِ
فعلتم ذلك { تَ ْغلُب َ
لم يحكموا بغلبتهم لمن جاء بالحق إال في حال اإلعراض عنه والتواصي بذلك ،ومفهوم كالمهم،
أنهم إن لم يلغوا فيه ،بل استمعوا إليه ،وألقوا أذهانهم ،أنهم ال يغلبون ،فإن الحق ،غالب غير
مغلوب ،يعرف هذا ،أصحاب الحق وأعداؤه.
وعنادا ،لم يبق فيهم مطمع للهداية ،فلم يبق إال عذابهم ونكالهم ،ولهذا ً ظلما منهم ولما كان هذا ً
َِّ ين َكفَ ُروا َع َذ ًابا َش ِد ً َِّ ِ
ون } وهو الكفر يدا َولََن ْج ِزَيَّنهُ ْم أ ْ
َس َوأَ الذي َك ُانوا َي ْع َملُ َ قالَ { :فلَُنذيقَ َّن الذ َ
والمعاصي ،فإنها أسوأ ما كانوا يعملون ،لكونهم يعملون المعاصي وغيرها ،فالجزاء بالعقوبة،
َح ًدا }
ُّك أ َ ظِل ُم َرب َ إنما هو على عمل الشرك (َ { )2وال َي ْ
اء اللَّ ِه } الذين حاربوه ،وحاربوا أولياءه ،بالكفر والتكذيب ،والمجادلة والمجالدة. َع َد ِ
اء أ ْ
ك َج َز ُ { َذِل َ
الن ُار لَهُ ْم ِفيهَا َد ُار اْل ُخْل ِد } أي :الخلود الدائم ،الذي ال يفتر عنهم العذاب ساعة ،وال هم { َّ
ِ
ون } فإنها آيات واضحة ،وأدلة قاطعة مفيدةاء بِ َما َك ُانوا بِ َآياتَنا َي ْج َح ُد َ
ينصرون ،وذلك { َج َز ً
لليقين ،فأعظم الظلم وأكبر العناد ،جحدها ،والكفر بها.
ين َكفَ ُروا } أي :األتباع منهم ،بدليل ما بعده ،على وجه الحنق ،على من أضلهمَ { :ربََّنا َِّ
{ َوقَا َل الذ َ
س } أي :الصنفين اللذين ،قادانا إلى الضالل والعذاب ،من النا ِم َن اْل ِج ِّن َو ْ
اإلن ِ َّ
أ َِرَنا ال َذ ْي ِن أ َ
َض َ
شياطين الجن ،وشياطين اإلنس ،الدعاة إلى جهنم.
ين } أي :األذلين المهانين كما أضلونا ،وفتنونا ،وصاروا ِ امَنا ِلي ُك َ ِت أَ ْق َد ِ
األس َفل َ
ونا م َن ْ َ { َن ْج َعْلهُ َما تَ ْح َ
وتبري بعضهم من بعض. سببا لنزولنا .ففي هذا ،بيان حنق بعضهم على بعضِّ ، ً
__________
( )1في النسختين (وهذا).
( )2في (ب) (الشرك).
( )1/748
اموا تَتََن َّز ُل َعلَْي ِه ُم اْل َماَل ئِ َكةُ أَاَّل تَ َخافُوا َواَل تَ ْح َزُنوا َوأ َْب ِش ُروا بِاْل َجَّن ِةاستَقَ ُ
َّ َِّ
ِإ َّن الذ َ
ين قَالُوا َربَُّنا اللهُ ثَُّم ْ
الد ْنَيا َو ِفي اآْل َ ِخ َر ِة َولَ ُك ْم ِفيهَا َما تَ ْشتَ ِهي أ َْنفُ ُس ُك ْم
اؤ ُك ْم ِفي اْل َحَي ِاة ُّ ون (َ )30ن ْح ُن أ َْوِلَي ُ وع ُد َ التي ُك ْنتُ ْم تُ َ
َّ ِ
ور َر ِح ٍيم ()32 ون (ُ )31ن ُزاًل ِم ْن َغفُ ٍ ِ
َولَ ُك ْم فيهَا َما تَ َّد ُع َ
اموا تَتََن َّز ُل َعلَْي ِه ُم اْل َمالئِ َكةُ أَال تَ َخافُوا َوال تَ ْح َزُنوااستَقَ ُ
َّ
ين قَالُوا َربَُّنا اللهُ ثَُّم ْ
َِّ
{ ِ { } 32 - 30إ َّن الذ َ
اآلخ َر ِة َولَ ُك ْم ِفيهَا َما
الد ْنيا و ِفي ِ ِ ُّ
اؤ ُك ْم في اْل َحَياة َ َ
ِ
ون * َن ْح ُن أ َْوِلَي ُ وع ُد َ
ِ َّ ِ ِ
َوأ َْبش ُروا بِاْل َجَّنة التي ُك ْنتُ ْم تُ َ
ور َر ِح ٍيم } . ون * ُن ُزال ِم ْن َغفُ ٍ ِ
تَ ْشتَ ِهي أ َْنفُ ُس ُك ْم َولَ ُك ْم فيهَا َما تَ َّد ُع َ
َِّ
يخبر تعالى عن أوليائه ،وفي ضمن ذلك ،تنشيطهم ،والحث على االقتداء بهم ،فقالِ { :إ َّن الذ َ
ين
اموا } أي :اعترفوا ونطقوا ورضوا بربوبية اهلل تعالى ،واستسلموا ألمره، َّ
استَقَ ُ
قَالُوا َربَُّنا اللهُ ثَُّم ْ
علما وعمال فلهم البشرى في الحياة الدنيا وفي اآلخرة. ثم استقاموا على الصراط المستقيمً ،
{ تَتَنز ُل َعلَْي ِه ُم اْل َمالئِ َكةُ } الكرام ،أي :يتكرر نزولهم عليهم ،مبشرين لهم عند االحتضار { .أَال
تَ َخافُوا } على ما يستقبل من أمركمَ { ،وال تَ ْح َزُنوا } على ما مضى ،فنفوا عنهم المكروه الماضي
ِ َّ ِ ِ
ون } فإنها قد وجبت لكم وثبتت ،وكان وعد اهلل وع ُد َ والمستقبلَ { ،وأ َْبش ُروا بِاْل َجَّنة التي ُك ْنتُ ْم تُ َ
الد ْنيا و ِفي ِ
اآلخ َر ِة ِ ُّ ِ
اؤ ُك ْم في اْل َحَياة َ َ مفعوال ويقولون لهم أيضا -مثبتين لهم ،ومبشرينَ { :ن ْح ُن أ َْوِلَي ُ
} يحثونهم في الدنيا على الخير ،ويزينونه لهم ،ويرهبونهم عن الشر ،ويقبحونه في قلوبهم،
وخصوصا عند الموت وشدته ،والقبر
ً ويدعون اهلل لهم ،ويثبتونهم عند المصائب والمخاوف،
وظلمته ،وفي القيامة وأهوالها ،وعلى الصراط ،وفي الجنة يهنئونهم بكرامة ربهم ،ويدخلون
الد ِار } ويقولون لهم أيضا: صَب ْرتُ ْم فَنِ ْع َم ُع ْقَبى َّ
الم َعلَْي ُك ْم بِ َما َ
[ ص ] 749عليهم من كل باب { َس ٌ
ِ ِ
{ َولَ ُك ْم فيهَا } أي :في الجنة { َما تَ ْشتَ ِهي أ َْنفُ ُس ُك ْم } قد أعد وهيئَ { .ولَ ُك ْم فيهَا َما تَ َّد ُع َ
ون } أي:
تطلبون من كل ما تتعلق به إرادتكم وتطلبونه من أنواع اللذات والمشتهيات ،مما ال عين رأت،
وال أذن سمعت ،وال خطر على قلب بشر.
ور َر ِح ٍيم } أي :هذا الثواب الجزيل ،والنعيم المقيم ،نز ٌل وضيافة { ِم ْن َغفُ ٍ
ور } { نزال ِم ْن َغفُ ٍ
غفر لكم السيئاتَ { ،ر ِح ٍيم } حيث وفقكم لفعل الحسنات ،ثم قبلها منكم .فبمغفرته أزال عنكم
المحذور ،وبرحمته ،أنالكم المطلوب.
( )1/748
( )1/749
( )1/749
( )1/750
( )1/750
الن ِار َخ ْيٌر أ َْم َم ْن َيأْتِي ون ِفي َآياتَِنا ال َي ْخفَ ْو َن َعلَْيَنا أَفَ َم ْن ُيْلقَى ِفي َّ ِ
ين ُيْلح ُد َ
َِّ
{ ِ { } 40-42إ َّن الذ َ
ِّ َِّ ِ ِ ام ِة ْ ِ ِ
ين َكفَ ُروا بِالذ ْك ِر لَ َّما َج َ
اء ُه ْم َوإِ َّنهُ ون َبص ٌير * ِإ َّن الذ َ اع َملُوا َما ش ْئتُ ْم ِإَّنهُ بِ َما تَ ْع َملُ َ آمًنا َي ْو َم اْلقَي َ
اط ُل ِم ْن َب ْي ِن َي َد ْي ِه َوال ِم ْن َخْل ِف ِه تَْن ِزي ٌل ِم ْن َح ِك ٍيم َح ِم ٍيد } . يه اْلب ِ
ِِ
اب َع ِز ٌيز * ال َيأْت َ لَ ِكتَ ٌ
اإللحاد في آيات اهلل :الميل بها عن الصواب ،بأي وجه كان :إما بإنكارها وجحودها ،وتكذيب من
جاء بها ،وإ ما بتحريفها وتصريفها عن معناها الحقيقي ،وإ ثبات معان لها ،ما أرادها اهلل منها.
فتوعَّد تعالى من ألحد فيها بأنه ال يخفى عليه ،بل هو مطلع على ظاهره وباطنه ،وسيجازيه على
الن ِار } مثل الملحد بآيات اهلل { َخ ْيٌر أ َْم َم ْن َيأْتِي
إلحاده بما كان يعمل ،ولهذا قال { :أَفَ َم ْن ُيْلقَى ِفي َّ
ام ِة } من عذاب اهلل مستحقًا لثوابه؟ من المعلوم أن هذا خير. ِ ِ
آمًنا َي ْو َم اْلقَي َ
اع َملُوا َما ِش ْئتُ ْم
لما تبين الحق من الباطل ،والطريق المنجي من عذابه من الطريق المهلك قالْ { :
} إن شئتم ،فاسلكوا طريق الرشد الموصلة إلى رضا ربكم وجنته ،وإ ن شئتم ،فاسلكوا طريق
الغي المسخطة لربكم ،الموصلة إلى دار الشقاء. ِّ
ق ِم ْن َرِّب ُك ْم
ص ٌير } يجازيكم بحسب أحوالكم وأعمالكم ،كقوله تعالى { :و ُق ِل اْل َح ُّ
َ
{ ِإَّنه بِما تَعملُون ب ِ
ُ َ َْ َ َ
اء َفْلُي ْؤ ِم ْن َو َم ْن َش َ
اء َفْلَي ْكفُْر } فَ َم ْن َش َ
الذ ْك ِر } أي :يجحدون القرآن الكريم المذكر للعباد جميع ثم قال تعالىِ { :إ َّن الَِّذين َكفَروا بِ ِّ
َ ُ
اء ُه ْم } نعمة من ربهم على المعلي لقدر من اتبعه { ،لَ َّما َج َ مصالحهم الدينية والدنيوية واألخرويةُ ،
اب } جامع ألوصاف الكمال { َع ِز ٌيز } أي :منيع يد أفضل الخلق وأكملهم { .و } الحال { ِإَّنهُ لَ ِكتَ ٌ
اط ُل ِم ْن َب ْي ِن َي َد ْي ِه َوال ِم ْن َخْل ِف ِه } أي:
يه اْلب ِ
ِِ
من كل من أراده بتحريف أو سوء ،ولهذا قال { :ال َيأْت َ
ال يقربه شيطان من شياطين اإلنس والجن ،ال بسرقة ،وال بإدخال ما ليس منه به ،وال بزيادة وال
نقص ،فهو محفوظ في تنزيله ،محفوظة ألفاظه ومعانيه ،قد تكفل من أنزله بحفظه كما قال تعالى:
ِ ِّ
{ ِإَّنا َن ْح ُن نزْلَنا الذ ْك َر َوإِ َّنا لَهُ لَ َحافظُ َ
ون }
( )1/750
{ تَنزي ٌل ِم ْن َح ِك ٍيم } في خلقه وأمره ،يضع كل شيء موضعه ،وينزله منزلهَ { .ح ِم ٌ
يد } على ما له
من صفات الكمال ،ونعوت الجالل ،وعلى ما له من العدل واإلفضال ،فلهذا كان كتابه ،مشتمال
على تمام الحكمة ،وعلى تحصيل المصالح والمنافع ،ودفع المفاسد والمضار ،التي يحمد عليها.
[ ص ] 751
اب أَِل ٍيم } .َّك لَ ُذو م ْغ ِفر ٍة و ُذو ِعقَ ٍ
َ َ َ يل ِل ُّلر ُس ِل ِم ْن قَْبِل َ
ك ِإ َّن َرب َ ك ِإال َما قَ ْد ِق َ
{ َ { } 43ما ُيقَا ُل لَ َ
يل ِل ُّلر ُس ِل
ك } أيها الرسول من األقوال الصادرة ،ممن كذبك وعاندك { ِإال َما قَ ْد ِق َ أيَ { :ما ُيقَا ُل لَ َ
ك } أي :من جنسها ،بل ربما إنهم تكلموا بكالم واحد ،كتعجب جميع األمم المكذبة للرسل، ِم ْن قَْبِل َ
من دعوتهم إلى اإلخالص للّه وعبادته وحده ال شريك له ،وردهم هذا بكل طريق يقدرون عليه،
وقولهمَ { :ما أ َْنتُ ْم ِإال َب َشٌر ِم ْثلَُنا }
واقتراحهم على رسلهم اآليات ،التي ال يلزمهم اإلتيان بها ،ونحو ذلك من أقوال أهل التكذيب ،لما
تشابهت قلوبهم في الكفر ،تشابهت أقوالهم ،وصبر الرسل عليهم السالم على أذاهم وتكذيبهم،
فاصبر كما صبر من قبلك.
الغي فقالِ { :إ َّن َرب َ
َّك ثم دعاهم إلى التوبة واإلتيان بأسباب المغفرة ،وحذرهم من االستمرار على ّ
اب أَِل ٍيم } لمن :أصر
لَ ُذو م ْغ ِفر ٍة } أي :عظيمة ،يمحو بها كل ذنب لمن أقلع وتاب { و ُذو ِعقَ ٍ
َ َ َ
واستكبر.
( )1/750
( )1/751
ضي ب ْيَنهم وإِ َّنهم لَِفي َش ٍّ ِ ت ِم ْن رب َ ِ يه َولَ ْواَل َكِل َمةٌ َسَبقَ ْ
ف ِف ِ اختُِل َ ِ
ك م ْنهُ ِّك لَقُ َ َ ُ ْ َ ُ ْ َ اب فَ ْ
وسى اْلكتَ َ
َولَقَ ْد آَتَْيَنا ُم َ
ظاَّل ٍم ِلْل َعبِ ِيد ()46
ُّك بِ َ
اء فَ َعلَْيهَا َو َما َرب َ
َس َ
يب ( )45م ْن ع ِم َل ِ ِ ِ ِ
صال ًحا َفلَن ْفسه َو َم ْن أ َ
َ َ َ م ِر ٍ
ُ
ِّك لَقُ ِ
ض َي َب ْيَنهُ ْم َوإِ َّنهُ ْم ت ِم ْن َرب َ يه َولَ ْوال َكِل َمةٌ َسَبقَ ْ
ف ِف ِ اختُِل َ
اب فَ ْ ِ
وسى اْلكتَ َ
{ َ { } 45-46ولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ
الم ِلْل َعبِ ِيد } .
ظ ٍ ك بِ َ
اء فَ َعلَْيهَا َو َما َرُّب َ
َس َ
يب * م ْن ع ِم َل ِ ِ ِ ِ
صال ًحا َفلَن ْفسه َو َم ْن أ َ َ ك م ْنهُ ُم ِر ٍ َ َ
لَِفي َش ٍّ ِ
اب } كما آتيناك الكتاب ،فصنع به الناس ما صنعوا معك، ِ
وسى اْلكتَ َ
يقول تعالىَ { :ولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ
اختلفوا فيه :فمنهم من آمن به واهتدى وانتفع ،ومنهم من كذبه ولم ينتفع به ،وإ ن اللّه تعالى ،لوال
حلمه وكلمته السابقة ،بتأخير العذاب إلى أجل مسمى ال يتقدم عليه وال يتأخر { لَقُ ِ
ض َي َب ْيَنهُ ْم }
بمجرد ما يتميز المؤمنون من الكافرين ،بإهالك الكافرين في الحال ،ألن سبب الهالك قد وجب
يب } أي :قد بلغ بهم إلى الريب الذي يقلقهم ،فلذلك كذبوه ك ِم ْنهُ م ِر ٍوحق { .وإِ َّنهم لَِفي َش ٍّ
ُ َ ُْ
وجحدوه.
ص ِال ًحا } وهو العمل الذي أمر اللّه به ،ورسوله { َفِلَن ْف ِس ِه } نفعه وثوابه في الدنيا ِ
{ َم ْن َعم َل َ
حث على فعل الخير، واآلخرة { وم ْن أَساء فَعلَْيها } ضرره وعقابه ،في الدنيا واآلخرة ،وفي هذاٌّ ،
ََ َ َ َ َ
وترك الشر ،وانتفاع العاملين ،بأعمالهم الحسنة ،وضررهم بأعمالهم السيئة ،وأنه ال تزر وازرة
أحدا فوق سيئاتهم. حمل ً الم ِلْل َعبِ ِيد } فَُي ِّ
ظ ٍ ك بِ َ
وزر أخرىَ { .و َما َرُّب َ
( )1/751
ضعُ ِإاَّل بِ ِعْل ِم ِه ِ ِ ِ ٍ ِ ِ ِإلَْي ِه ير ُّد ِعْلم الس ِ
َّاعة َو َما تَ ْخ ُر ُج م ْن ثَ َم َرات م ْن أَ ْك َمامهَا َو َما تَ ْحم ُل م ْن أ ُْنثَى َواَل تَ َ
َ ُ َُ
ون ِم ْن قَْب ُل ض َّل َع ْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْد ُع َ
ٍ ويوم يَن ِادي ِهم أ َْين ُشر َكائِي قَالُوا َآ َذَّنا َ ِ ِ
ك َما مَّنا م ْن َش ِهيد (َ )47و َ ْ َ َ َ َْ َ ُ
يص ()48 ظُّنوا َما لَهُ ْم ِم ْن َم ِح ٍ
َو َ
امهَا َو َما تَ ْح ِم ُل ِم ْن أ ُْنثَى َوال
ات ِم ْن أَ ْكم ِ
َ
{ ِ { } 47-48إلَْي ِه ير ُّد ِعْلم السَّاع ِة وما تَ ْخرج ِم ْن ثَمر ٍ
ََ َ ََ ُ ُ ُ َُ
ض َّل َعْنهُ ْم َما َك ُانوا ٍ تَضع ِإال بِ ِعْل ِم ِه ويوم يَن ِادي ِهم أ َْين ُشر َكائِي قَالُوا آ َذَّنا َ ِ ِ
ك َما مَّنا م ْن َش ِهيد * َو َ ْ َ َ َ َْ َ ُ َُ
ظُّنوا َما لَهُ ْم ِم ْن َم ِح ٍ
يص } . ون ِم ْن قَْب ُل َو َ
َي ْد ُع َ
هذا إخبار عن سعة علمه تعالى واختصاصه بالعلم الذي ال يطلع عليه سواه فقالِ { :إلَْي ِه ُي َر ُّد ِعْل ُم
َّاع ِة } أي :جميع الخلق ترد علمهم إلى اهلل تعالى ،ويقرون بالعجز عنه ،الرسل ،والمالئكة، الس َ
وغيرهم.
امهَا } أي :وعائها الذي تخرج منه ،وهذا شامل لثمرات جميع ات ِم ْن أَ ْكم ِ{ وما تَ ْخرج ِم ْن ثَمر ٍ
َ ََ ََ ُ ُ
األشجار التي في البلدان والبراري ،فال تخرج ثمرة شجرة من األشجار ،إال وهو يعلمها علما
تفصيليا.
ً
ضعُ } أنثى ِ ِ
{ َو َما تَ ْحم ُل م ْن أ ُْنثَى } من بني آدم وغيرهم ،من أنواع الحيوانات ،إال بعلمه { َوال تَ َ
سوى المشركون به تعالى ،من ال علم عنده وال سمع وال بصر؟. حملها { ِإال بِ ِعْل ِم ِه } فكيف َّ
ظهارا لكذبهم ،فيقول لهم { :أ َْي َن ُش َر َكائِ َي
توبيخا وإ ً
ً { َوَي ْو َم ُيَن ِادي ِه ْم } أي :المشركين به يوم القيامة
} الذين زعمتم أنهم شركائي ،فعبدتموهم ،وجادلتم على ذلك ،وعاديتم الرسل ألجلهم؟ { قَالُوا }
اك َما ِمَّنا ِم ْن َش ِه ٍيد } أي :أعلمناك يا ربنا ،واشهد
مقرين ببطالن إلهيتهم ،وشركتهم مع اهلل { :آ َذَّن َ
علينا أنه ما منا أحد يشهد بصحة إلهيتهم وشركتهم ،فكلنا اآلن قد رجعنا إلى بطالن عبادتها،
ون } من دون اهلل ،أي [ :ص ] 752ذهبت ض َّل َعْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْد ُع َ
وتبرأنا منها ،ولهذا قالَ { :و َ
عقائدهم وأعمالهم ،التي أفنوا فيها أعمارهم على عبادة غير اهلل ،وظنوا أنها تفيدهم ،وتدفع عنهم
ظُّنوا
شيئا { َو َ
العذاب ،وتشفع لهم عند اهلل ،فخاب سعيهم ،وانتقض ظنهم ،ولم تغن عنهم شركاؤهم ً
} أي :أيقنوا في تلك الحال { َما لَهُ ْم ِم ْن َم ِح ٍ
يص } أي :منقذ ينقذهم ،وال مغيث ،وال ملجأ ،فهذه
عاقبة من أشرك باهلل غيره ،بينها اهلل لعباده ،ليحذروا الشرك به.
( )1/751
وس قَُنوطٌ (َ )49ولَئِ ْن أَ َذ ْقَناهُ َر ْح َمةً ِمَّنا ِم ْن َب ْع ِد اء اْل َخ ْي ِر وإِ ْن مسَّهُ َّ
الش ُّر فََيُئ ٌ َ َ
اَل يسأَم اإْلِ ْنسان ِم ْن ُدع ِ
َ َ ُ َُْ
ت ِإلَى َربِّي ِإ َّن ِلي ِع ْن َدهُ لَْل ُح ْسَنى َّاعةَ قَائِ َمةً َولَئِ ْن ُر ِج ْع ُ ِ
اء َمسَّتْهُ لََيقُولَ َّن َه َذا لي َو َما أَظُ ُّن الس َ
ض َّر َ
َ
يظ (َ )50وإِ َذا أ َْن َع ْمَنا َعلَى اإْلِ ْن َس ِ اب َغِل ٍ ين َكفَروا بِما َع ِملُوا ولَُن ِذيقََّنهم ِم ْن َع َذ ٍ َِّ
ض َع َر َ ان أ ْ ُْ َ َفلَُنَنبَِّئ َّن الذ َ ُ َ
يض ()51 اء َع ِر ٍ الش ُّر فَ ُذو ُدع ٍ
وَنأَى بِ َجانِبِ ِه وإِ َذا مسَّهُ َّ
َ َ َ َ
وس قَُنوطٌ * َولَئِ ْن أَ َذ ْقَناهُ َر ْح َمةً اء اْل َخ ْي ِر وإِ ْن مسَّهُ َّ
الش ُّر فََيُئ ٌ َ َ
اإلنسان ِم ْن ُدع ِ
َ { { } 49-51ال َي ْسأ َُم ْ َ ُ
ِ ِ َّاعةَ قَائِ َمةً َولَئِ ْن ُر ِج ْع ُ ِ ِ ِ ِ
ت ِإلَى َربِّي ِإ َّن لي ع ْن َدهُ اء َمسَّتْهُ لََيقُولَ َّن َه َذا لي َو َما أَظُ ُّن الس َ مَّنا م ْن َب ْعد َ
ض َّر َ
اإلن َس ِ اب َغِل ٍ ين َكفَروا بِما َع ِملُوا ولَُن ِذيقََّنهم ِم ْن َع َذ ٍ َِّ
ان يظ * َوإِ َذا أ َْن َع ْمَنا َعلَى ْ ُْ َ لَْل ُح ْسَنى َفلَُنَنبَِّئ َّن الذ َ ُ َ
يض } . اء َع ِر ٍ الش ُّر فَ ُذو ُدع ٍض وَنأَى بِ َجانِبِ ِه وإِ َذا مسَّهُ َّ
َ َ َ َع َر َ َ
أْ
هذا إخبار عن طبيعة اإلنسان ،من حيث هو ،وعدم صبره وجلده ،ال على الخير وال على الشر،
اء اْل َخ ْي ِر } أي :ال اإلنسان ِم ْن ُدع ِ
َ إال من نقله اهلل من هذه الحال إلى حال الكمال ،فقال { :ال َي ْسأ َُم ْ َ ُ
دائما ،من دعاء اهلل ،في الغنى والمال والولد ،وغير ذلك من مطالب الدنيا ،وال يزال يعمل يمل ً
طالبا
على ذلك ،وال يقتنع بقليل ،وال كثير منها ،فلو حصل له من الدنيا ،ما حصل ،لم يزل ً
للزيادة.
وس قَُنوطٌ } أي :ييأس { وإِ ْن مسَّهُ َّ
الش ُّر } أي :المكروه ،كالمرض ،والفقر ،وأنواع الباليا { فََيُئ ٌ َ َ
من رحمة اهلل تعالى ،ويظن أن هذا البالء هو القاضي عليه بالهالك ،ويتشوش من إتيان األسباب،
على غير ما يحب ويطلب.
إال الذين آمنوا وعملوا الصالحات ،فإنهم إذا أصابهم الخير والنعمة والمحاب ،شكروا اهلل تعالى،
استدراجا وإ مهاال وإ ن أصابتهم مصيبة ،في أنفسهم وأموالهم،
ً وخافوا أن تكون نعم اهلل عليهم،
وأوالدهم ،صبروا ،ورجوا فضل ربهم ،فلم ييأسوا.
ثم قال تعالىَ { :ولَئِ ْن أَ َذ ْقَناهُ } أي :اإلنسان الذي يسأم من دعاء الخير ،وإ ن مسه الشر فيئوس
قنوط { َر ْح َمةً ِمَّنا } أي :بعد ذلك الشر الذي أصابه ،بأن عافاه اهلل من مرضه ،أو أغناه من فقره،
فإنه ال يشكر اهلل تعالى ،بل يبغى ،ويطغى ،ويقولَ { :ه َذا ِلي } أي :أتاني ألني له أهل ،وأنا
َّاعةَ قَائِ َمةً } وهذا إنكار منه للبعث ،وكفر للنعمة والرحمة ،التي أذاقها مستحق له { َو َما أَظُ ُّن الس َ
ت ِإلَى َربِّي ِإ َّن ِلي ِعْن َدهُ لَْل ُح ْسَنى } أي :على تقدير إتيان الساعة ،وأني
اهلل لهَ { .ولَئِ ْن ُر ِج ْع ُ
سأرجع إلى ربي ،إن لي عنده ،للحسنى ،فكما حصلت لي النعمة في الدنيا ،فإنها ستحصل ]
لي[ في اآلخرة وهذا من أعظم الجراءة والقول على اهلل بال علم ،فلهذا توعده بقولهَ { :فلَُنَنبَِّئ َّن
جدا.
يظ } أي :شديد ً اب َغِل ٍين َكفَروا بِما َع ِملُوا ولَُن ِذيقََّنهم ِم ْن َع َذ ٍ َِّ
ُْ َ الذ َ ُ َ
ض } عن ربه وعن شكره َع َر َ
ان } بصحة ،أو رزق ،أو غيرهما { أ ْ اإلن َس ِ
{ َوإِ َذا أ َْن َع ْمَنا َعلَى ْ
الش ُّر } أي :المرض ،أو الفقر ،أو غيرهما { { وَنأَى } ترفع { بِ َجانِبِ ِه } عجبا وتكبرا { .وإِ ْن مسَّهُ َّ
َ َ ً َ
جدا ،لعدم صبره ،فال صبر في الضراء ،وال شكر في الرخاء ،إال يض } أي :كثير ً فَ ُذو ُدع ٍ
اء َع ِر ٍ َ
ومن عليه. من هداه اهلل َّ
( )1/752
ق َب ِع ٍيد (َ )52سُن ِري ِه ْم آََياتَِناَض ُّل ِم َّم ْن ُهو ِفي ِشقَا ٍ
َ
ِ ُق ْل أَرأ َْيتُم ِإ ْن َك ِ ِ ِ َّ ِ
ان م ْن عْند الله ثَُّم َكفَ ْرتُ ْم بِه َم ْن أ َ َ َ ْ
يد ( )53أَاَل ِّك أََّنهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه ٌ ق أَولَم ي ْك ِ
ف بَِرب َ ِ
ق َو ِفي أ َْنفُس ِه ْم َحتَّى َيتََبي َ
َّن لَهُ ْم أََّنهُ اْل َح ُّ َ ْ َ ِفي اآْل َفَا ِ
اء َرِّب ِه ْم أَاَل ِإَّنهُ بِ ُك ِّل َش ْي ٍء ُم ِحيطٌ ()54
ِإَّنهم ِفي ِمري ٍة ِم ْن ِلقَ ِ
َْ ُْ
ق َب ِع ٍيد *
َض ُّل ِم َّم ْن ُهو ِفي ِشقَا ٍ
َ
ِ { ُ { } 52-54ق ْل أَرأ َْيتُم ِإ ْن َك ِ ِ ِ َّ ِ
ان م ْن عْند الله ثَُّم َكفَ ْرتُ ْم بِه َم ْن أ َ َ َ ْ
ِّك أََّنهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء
ف بَِرب َق أَولَم ي ْك ِ
َّن لَهُ ْم أََّنهُ اْل َح ُّ َ ْ َ
ِ
ق َو ِفي أ َْنفُس ِه ْم َحتَّى َيتََبي ََسُن ِري ِه ْم َآياتَِنا ِفي اآلفَا ِ
اء َرِّب ِه ْم أَال ِإَّنهُ بِ ُك ِّل َش ْي ٍء ُم ِحيطٌ } . يد * أَال ِإَّنهم ِفي ِمري ٍة ِم ْن ِلقَ ِ
َْ ُْ َش ِه ٌ
ان } هذا القرآن { ِم ْن أي { ُق ْل } لهؤالء المكذبين بالقرآن المسارعين إلى الكفران { أ ََرأ َْيتُ ْم ِإ ْن َك َ
ق َب ِع ٍيد } أي :معاندة َض ُّل ِم َّم ْن ُهو ِفي ِشقَا ٍ
َ
ِ
عْند الله } من غير شك وال ارتياب { ،ثَُّم َكفَ ْرتُ ْم بِه َم ْن أ َ
ِ ِ َّ ِ
للّه ولرسوله ،ألنه تبين لكم الحق والصواب ،ثم عدلتم عنه ،ال إلى حق ،بل إلى باطل وجهل ،فإذا
تكونون أضل الناس وأظلمهم.
فإن قلتم ،أو شككتم بصحته وحقيقته ،فسيقيم اللّه لكم ،ويريكم من آياته في اآلفاق كاآليات التي في
السماء وفي األرض ،وما يحدثه اللّه تعالى من الحوادث العظيمة ،الدالة للمستبصر على الحق.
{ َو ِفي أ َْنفُ ِس ِه ْم } مما اشتملت عليه أبدانهم ،من بديع آيات اللّه وعجائب صنعته ،وباهر قدرته،
وفي حلول العقوبات والمثالت في المكذبين ،ونصر المؤمنينَ { .حتَّى َيتََبي َ
َّن لَهُ ْم } من تلك
بيانا ال يقبل الشك { أََّنهُ اْل َح ُّ
ق } وما اشتمل عليه حق. اآلياتً ،
وقد فعل تعالى ،فإنه أرى عباده من اآليات ،ما به تبين لهم أنه الحق ،ولكن اللّه هو الموفق
لإليمان من شاء ،والخاذل لمن يشاء.
ك أََّنهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه ٌ
يد } أي :أولم يكفهم على أن القرآن حق ،ومن جاء به { أَولَم ي ْك ِ
ف بَِرِّب َ َ َْ
صادق ،بشهادة اللّه تعالى ،فإنه قد شهد له بالتصديق ،وهو أصدق الشاهدين ،وأيده ،ونصره
متضمنا لشهادته القولية ،عند من شك فيها. ً نصرا
ً
اء َرِّب ِه ْم } أي :في شك من البعث والقيامة ،وليس عندهم دار سوى الدار { أَال ِإَّنهم ِفي ِمري ٍة ِم ْن ِلقَ ِ
َْ ُْ
الدنيا ،فلذلك لم يعملوا لآلخرة ،ولم يلتفتوا لها { .أَال ِإَّنهُ بِ ُك ِّل َش ْي ٍء ُم ِحيطٌ } علما وقدرة وعزة.
تم تفسير سورة فصلت
-بمنه تعالى-
( )1/752
تفسير سورة الشورى
مكية
( )1/752
ك وإِلَى الَِّذين ِم ْن قَْبِل َ َّ الر ِح ِيم حم * عسق * َك َذِل َ ِ ِ { { } 1-9بِ ْسِم اللَّ ِه َّ
الر ْح َم ِن َّ
ك اللهُ َ ك ُيوحي إلَْي َ َ
ِ ِ األر ِ ِ ِ ِ ِ
ات
َّم َاو ُاد الس َ يم * تَ َك ُ
ض َو ُه َو اْل َعل ُّي اْل َعظ ُ َّم َاوات َو َما في ْ يم * لَهُ َما في الس َ اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ
ض أَال ِإ َّن اللَّهَ ُه َواألر ِ يتَفَطَّرن ِم ْن فَو ِق ِه َّن واْلمالئِ َكةُ يسبِّحون بِحم ِد رِّب ِهم ويستَ ْغ ِفر ِ ِ
ون ل َم ْن في ْ ُ َ ُ َ َْ َ ْ ََ ْ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ
يل * َو َك َذِل َ
ك ت َعلَْي ِهم بِو ِك ٍ
ْ َ اء اللَّهُ َح ِفيظٌ َعلَْي ِه ْم َو َما أ َْن َ ِ ِ
ين اتَّ َخ ُذوا م ْن ُدونِه أَوِلَي َ
َِّ
يم * َوالذ َ
اْل َغفُور َّ ِ
الرح ُ ُ
يق ِفي اْل َجَّن ِة يه فَ ِر ٌ ك قُر ًآنا عربِيًّا ِلتُْن ِذر أ َُّم اْلقُرى وم ْن حولَها وتُْن ِذر يوم اْلجم ِع ال ر ْيب ِف ِ
َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َْ َ َ ْ َ ََ أ َْو َح ْيَنا ِإلَْي َ ْ
َّ ِ ِِ اح َدةً ولَ ِك ْن ي ْد ِخ ُل م ْن ي َش ِ ُمةً و ِ ير * ولَو َش َّ ِ وفَ ِر ٌ ِ
ون
اء في َر ْح َمته َوالظال ُم َ َ َ ُ ُ َ اء اللهُ لَ َج َعلَهُ ْم أ َّ َ يق في السَّع ِ َ ْ َ َ
اء فَاللَّهُ ُه َو اْل َوِل ُّي َو ُه َو ُي ْحيِي اْل َم ْوتَى َو ُه َو ِ ِ ِ
ير * أَم اتَّ َخ ُذوا م ْن ُدونِه أ َْوِلَي َ صٍ ما لَهم ِم ْن وِل ٍّي وال َن ِ
َ َ َ ُْ
ِ
َعلَى ُك ِّل َش ْيء قَد ٌير } [ .ص ] 753 ٍ
يخبر تعالى أنه أوحى هذا القرآن العظيم إلى النبي الكريم ،كما أوحى إلى من قبله من األنبياء
والمرسلين ،ففيه بيان فضله ،بإنزال الكتب ،وإ رسال الرسل ،سابقا والحقا ،وأن محمدا صلى اهلل
عليه وسلم ليس ببدع من الرسل ،وأن طريقته طريقة من قبله ،وأحواله تناسب أحوال من قبله من
المرسلين .وما جاء به يشابه ما جاءوا به ،ألن الجميع حق وصدق ،وهو تنزيل من اتصف
باأللوهية والعزة العظيمة والحكمة البالغة ،وأن جميع العالم العلوي والسفلي ملكه وتحت تدبيره
القدري والشرعي.
يم } الذي من عظمته ِ ِ
وأنه { اْل َعل ُّي } بذاته وقدره وقهره { .اْل َعظ ُ
ات َيتَفَطَّ ْر َن ِم ْن فَ ْو ِق ِه َّن } على عظمها وكونها جماداَ { ،واْل َمالئِ َكةُ } الكرام المقربون
َّم َاو ُ
اد الس َ
{ تَ َك ُ
ون بِ َح ْم ِد َرِّب ِه ْم } ويعظمونه عن
ِّح َ
خاضعون لعظمته ،مستكينون لعزته ،مذعنون بربوبيتهُ { .ي َسب ُ
ض } عما يصدر منهم ،مما ال يليق األر ِ كل نقص ،ويصفونه بكل كمال { ،ويستَ ْغ ِفر ِ ِ
ون ل َم ْن في ْ
ََ ْ ُ َ
يم } الذي لوال مغفرته ورحمته ،لعاجل بعظمة ربهم وكبريائه ،مع أنه تعالى هو { اْل َغفُور َّ ِ
الرح ُ ُ
الخلق بالعقوبة المستأصلة.
وفي وصفه تعالى بهذه األوصاف ،بعد أن ذكر أنه أوحى إلى الرسل كلهم عموما ،وإ لى محمد -
صلى اهلل عليهم أجمعين -خصوصا ،إشارة إلى أن هذا القرآن الكريم ،فيه من األدلة والبراهين،
واآليات الدالة على كمال الباري تعالى ،ووصفه بهذه األسماء العظيمة الموجبة المتالء القلوب
من معرفته ومحبته وتعظيمه وإ جالله وإ كرامه ،وصرف جميع أنواع العبودية الظاهرة والباطنة
له تعالى ،وأن من أكبر الظلم وأفحش القول ،اتخاذ أنداد للّه من دونه ،ليس بيدهم نفع وال ضرر،
ين اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُدونِ ِه َِّ
بل هم مخلوقون مفتقرون إلى اهلل في جميع أحوالهم ،ولهذا عقبه بقولهَ { :والذ َ
أ َْوِلَي َ
اء }
يتولونهم بالعبادة والطاعة ،كما يعبدون اهلل ويطيعونه ،فإنما اتخذوا الباطل ،وليسوا بأولياء على
ت َعلَْي ِه ْمالحقيقة { .اللَّهُ َح ِفيظٌ َعلَْي ِه ْم } يحفظ عليهم أعمالهم ،فيجازيهم بخيرها وشرهاَ { .و َما أ َْن َ
يل } فتسأل عن أعمالهم ،وإ نما أنت مبلغ أديت وظيفتك. بِو ِك ٍ
َ
ِ
ثم ذكر منته على رسوله وعلى الناس ،حيث أنزل اهلل { قُْر ًآنا َع َربيًّا } بين األلفاظ والمعاني
{ ِلتُْن ِذ َر أ َُّم اْلقَُرى } وهي مكة المكرمة { َو َم ْن َح ْولَهَا } من قرى العرب ،ثم يسري هذا اإلنذار إلى
سائر الخلقَ { .وتُْن ِذ َر } الناس { َي ْو َم اْل َج ْم ِع } الذي يجمع اهلل به األولين واآلخرين ،وتخبرهم أنه {
يق ِفي اْل َجَّن ِة } وهم الذين آمنوا باهلل ،وصدقوا يه } وأن الخلق ينقسمون فيه فريقين { فَ ِر ٌ ال ر ْيب ِف ِ
َ َ
ير } وهم أصناف الكفرة المكذبين. يق ِفي الس ِ
َّع ِ المرسلينَ { ،وفَ ِر ٌ
اح َدةً } على الهدى ،ألنه ُمةً و ِ { و } مع هذا { لَو َش َّ
اء اللهُ } لجعل الناس ،أي :جعل الناس { أ َّ َ ْ َ
القادر الذي ال يمتنع عليه شيء ،ولكنه أراد أن يدخل في رحمته من شاء من خواص خلقه.
وأما الظالمون الذين ال يصلحون لصالح ،فإنهم محرومون من الرحمة ،فـ { َما لَهُ ْم } من دون اهلل
ير } يدفع عنهم المكروه.صٍ{ ِم ْن وِل ٍّي } يتوالهم ،فيحصل لهم المحبوب { وال َن ِ
َ َ
ِ ِ
اء } يتولونهم بعبادتهم إياهم ،فقد غلطوا أقبح غلط .فاهلل هو الوليوالذين { اتَّ َخ ُذوا م ْن ُدونِه أ َْوِلَي َ
الذي يتواله عبده بعبادته وطاعته ،والتقرب إليه بما أمكن من أنواع التقربات ،ويتولى عباده
عموما بتدبيره ،ونفوذ القدر فيهم ،ويتولى عباده المؤمنين خصوصا ،بإخراجهم من الظلمات إلى
النور ،وتربيتهم بلطفه ،وإ عانتهم في جميع أمورهم.
{ َو ُه َو ُي ْحيِي اْل َم ْوتَى َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير } أي :هو المتصرف باإلحياء واإلماتة ،ونفوذ
المشيئة والقدرة ،فهو الذي يستحق أن يعبد وحده ال شريك له.
( )1/752
يب ()10ِ ِ يه ِم ْن َش ْي ٍء فَ ُح ْك ُمهُ ِإلَى اللَّ ِه َذِل ُك ُم اللَّهُ َربِّي َعلَْي ِه تََو َّكْل ُ
اختَلَ ْفتُم ِف ِ
ت َوإِلَْيه أُن ُ َو َما ْ ْ
يب ِ ِ يه ِم ْن َش ْي ٍء فَ ُح ْك ُمهُ ِإلَى اللَّ ِه َذِل ُك ُم اللَّهُ َربِّي َعلَْي ِه تََو َّكْل ُ
اختَلَ ْفتُم ِف ِ
ت َوإِلَْيه أُن ُ { َ { } 10-12و َما ْ ْ
*}.
ٍ ِِ ِ
اختَلَ ْفتُ ْم فيه م ْن َش ْيء } من أصول دينكم وفروعه ،مما لم تتفقوا عليه { فَ ُح ْك ُمهُ يقول تعالىَ { :و َما ْ
ِإلَى اللَّ ِه } يرد إلى كتابه ،وإ لى سنة رسوله ،فما حكما به فهو الحق ،وما خالف ذلك فباطل.
{ َذِل ُك ُم اللَّهُ َربِّي } أي :فكما أنه تعالى الرب الخالق الرازق المدبر ،فهو تعالى الحاكم بين عباده
بشرعه في جميع أمورهم.
ومفهوم اآلية الكريمة ،أن اتفاق األمة حجة قاطعة ،ألن اللّه تعالى لم يأمرنا أن نرد إليه إال ما
اختلفنا فيه ،فما اتفقنا عليه ،يكفي اتفاق األمة عليه ،ألنها معصومة عن الخطأ ،وال بد أن يكون
اتفاقها موافقا لما في كتاب اللّه وسنة رسوله.
ت } أي :اعتمدت بقلبي عليه في جلب المنافع ودفع المضار ،واثقا به تعالى وقولهَ { :علَْي ِه تََو َّكْل ُ
يب } أي :أتوجه بقلبي وبدني إليه ،وإ لى طاعته وعبادته.ِ ِ
في اإلسعاف بذلكَ { .وإِلَْيه أُن ُ
وهذان األصالن ،كثيرا ما يذكرهما اللّه في كتابه ،ألنهما يحصل بمجموعهما كمال العبد ،ويفوته
ين } وقوله: َّاك َنعب ُد وإِي َ ِ ِ
َّاك َن ْستَع ُ [ ص ] 754الكمال بفوتهما أو فوت أحدهما ،كقوله تعالى { :إي َ ْ ُ َ
اعُب ْدهُ َوتََو َّك ْل َعلَْي ِه } .
{ فَ ْ
( )1/753
يه لَْي َس َك ِمثِْل ِه ض جع َل لَ ُكم ِم ْن أ َْنفُ ِس ُكم أ َْزواجا و ِمن اأْل َْنع ِام أ َْزواجا ي ْذرؤ ُكم ِف ِ
َ ً ََُ ْ َ ْ َ ً َ َ
ِ
َّم َاوات َواأْل َْر ِ َ َ ْ
ِ
فَاط ُر الس َ
ِ الر ْز َ ِ ِ ص ُير ( )11لَهُ َمقَ ِال َُّميع اْلب ِ
ِ
اء َوَي ْقد ُر ِإَّنهُ
ق ل َم ْن َي َش ُ ات واأْل َْر ِ
ض َي ْب ُسطُ ِّ َّم َاو َ
يد الس َ َش ْي ٌء َو ُه َو الس ُ َ
ٍ ِ ِّ
يم ()12 بِ ُكل َش ْيء َعل ٌ
( )1/754
ك وما وص ْ ِ ِ ِ ِ َِّ ِ ع لَ ُك ْم ِم َن ِّ
وسى َو ِع َ
يسى يم َو ُم َ َّيَنا به إ ْب َراه َ
ِ ين َما َوصَّى بِه ُن ً
وحا َوالذي أ َْو َح ْيَنا إلَْي َ َ َ َ الد ِ َش َر َ
ِ يه َكبر علَى اْلم ْش ِر ِكين ما تَ ْدع ُ ِ َّ ِِ أْ ِ
وه ْم ِإلَْيه اللهُ َي ْجتَبِي ِإلَْيه َم ْن َي َش ُ
اء َ َ ُ ُ ين َواَل تَتَفََّرقُوا ف ُ َ َ يموا ِّ
الد َ َن أَق ُ
ِ ِ ِ
يب ()13 َوَي ْهدي ِإلَْيه َم ْن ُين ُ
( )1/754
َج ٍل ُم َس ًّمى ِّك ِإلَى أ َ ت ِم ْن َرب َ اء ُه ُم اْل ِعْل ُم َب ْغًيا َب ْيَنهُ ْم َولَ ْواَل َكِل َمةٌ َسَبقَ ْ ِ اَّل ِ
َو َما تَفََّرقُوا ِإ م ْن َب ْعد َما َج َ
استَِق ْم َك َماك فَ ْادعُ َو ْ يب (َ )14فِل َذِل َ ك ِم ْنهُ م ِر ٍ
ُ
اب ِم ْن َب ْع ِد ِهم لَِفي َش ٍّ
ْ
ِ
ُورثُوا اْلكتَ َ ين أ ِ َِّ ِ
لَقُض َي َب ْيَنهُ ْم َوإِ َّن الذ َ
َع ِد َل َب ْيَن ُك ُم اللَّهُ َربَُّنا َو َرُّب ُك ْم
ت أِل ْ
ُم ْر ُ اب وأ ِ َّ ِ ِ ٍ
ت ب َما أ َْن َز َل اللهُ م ْن كتَ َ
اء ُه ْم و ُق ْل آَم ْن ُ ِ
َ َه َو َ َ ت َواَل تَتَّبِ ْع أ ْ أِ
ُم ْر َ
ص ُير ()15 َعمالُ ُكم اَل ح َّجةَ ب ْيَنَنا وب ْيَن ُكم اللَّه ي ْجمع ب ْيَنَنا وإِلَْي ِه اْلم ِ
َ َع َمالَُنا َولَ ُك ْم أ ْ َ ْ ُ َ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ َ لََنا أ ْ
ك ِإلَى ت ِم ْن َرِّب َ اء ُه ُم اْل ِعْل ُم َب ْغًيا َب ْيَنهُ ْم َولَ ْوال َكِل َمةٌ َسَبقَ ْ ِ ِ
{ َ { } 14-15و َما تَفََّرقُوا ِإال م ْن َب ْعد َما َج َ
ك فَ ْادعُيب * َفِل َذِل َك ِم ْنهُ م ِر ٍ
ُ
اب ِم ْن َب ْع ِد ِهم لَِفي َش ٍّ
ْ
ِ ين أ ِ
ُورثُوا اْلكتَ َ
َِّ ِ
َج ٍل ُم َس ًّمى لَقُض َي َب ْيَنهُ ْم َوإِ َّن الذ َ أَ
َّ ت ِْ اب وأ ِ َّ ِ ِ ٍ اء ُه ْم و ُق ْل آم ْن ُ ِ ت َوال تَتَّبِ ْع أ ْ واستَِقم َكما أ ِ
ألعد َل َب ْيَن ُك ُم اللهُ ُم ْر ُ ت ب َما أ َْن َز َل اللهُ م ْن كتَ َ َ َه َو َ َ ُم ْر َ َ ْ ْ َ
ص ُير } . َعمالُ ُكم ال ح َّجةَ ب ْيَنَنا وب ْيَن ُكم اللَّه ي ْجمع ب ْيَنَنا وإِلَْي ِه اْلم ِ َربَُّنا َو َرُّب ُك ْم لََنا أ ْ
َ َع َمالَُنا َولَ ُك ْم أ ْ َ ْ ُ َ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ َ
لما أمر تعالى باجتماع المسلمين على دينهم ،ونهاهم عن التفرق ،أخبرهم
أنكم ال تغتروا بما أنزل اهلل عليكم من الكتاب ،فإن أهل الكتاب لم يتفرقوا حتى أنزل اهلل عليهم
الكتاب الموجب لالجتماع ،ففعلوا ضد ما يأمر به كتابهم ،وذلك كله بغيا وعدوانا منهم ،فإنهم
تباغضوا وتحاسدوا ،وحصلت بينهم المشاحنة والعداوة ،فوقع االختالف ،فاحذروا أيها المسلمون
أن تكونوا مثلهم.
ِّك } أي :بتأخير العذاب القاضي { إلى أجل مسمى لَقُ ِ
ض َي َب ْيَنهُ ْم } ت ِم ْن َرب َ
{ َولَ ْوال َكِل َمةٌ َسَبقَ ْ
اب ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم } أي :الذين ِ
ُورثُوا اْلكتَ َين أ ِ َِّ
ولكن حكمته وحلمه ،اقتضى تأخير ذلك عنهمَ { .وإِ َّن الذ َ
يب } أي :لفي اشتباه ك ِم ْنهُ م ِر ٍ
ورثوهم وصاروا خلفا لهم ممن ينتسب إلى العلم منهم { لَِفي َش ٍّ
ُ
كثير يوقع في االختالف ،حيث اختلف سلفهم بغيا وعنادا ،فإن خلفهم اختلفوا شكا وارتيابا،
والجميع مشتركون في االختالف المذموم.
{ َفِل َذِل َ
ك فَ ْادعُ } أي :فللدين القويم والصراط المستقيم ،الذي أنزل اهلل به كتبه وأرسل رسله ،فادع
ت } أي :استقامة إليه أمتك وحضهم عليه ،وجاهد عليه ،من لم يقبله { ،واستَِقم } بنفسك { َكما أ ِ
ُم ْر َ َ َ ْ ْ
موافقة ألمر اهلل ،ال تفريط وال إفراط ،بل امتثاال ألوامر اهلل واجتنابا لنواهيه ،على وجه
االستمرار على ذلك ،فأمره بتكميل نفسه بلزوم االستقامة ،وبتكميل غيره بالدعوة إلى ذلك.
ومن المعلوم أن أمر الرسول صلى اهلل عليه وسلم أمر ألمته إذا لم يرد تخصيص له.
اء ُه ْم } أي :أهواء المنحرفين عن الدين ،من الكفرة والمنافقين إما باتباعهم على { َوال تَتَّبِ ْع أ ْ
َه َو َ
بعض دينهم ،أو بترك الدعوة إلى اهلل ،أو بترك االستقامة ،فإنك إن اتبعت أهواءهم من بعد ما
جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ،ولم يقل" :وال تتبع دينهم" ألن حقيقة دينهم الذي شرعه اهلل
لهم ،هو دين الرسل كلهم ،ولكنهم لم يتبعوه ،بل اتبعوا أهواءهم ،واتخذوا دينهم لهوا ولعبا.
اب } أي :لتكن مناظرتك لهم َنزل اللَّهُ ِم ْن ِكتَ ٍ
ت بِ َما أ َ
آم ْن ُ
{ َو ُق ْل } لهم عند جدالهم ومناظرتهمَ { :
مبنية على هذا األصل العظيم ،الدال على شرف اإلسالم وجاللته وهيمنته على سائر األديان،
وأن الدين الذي يزعم أهل الكتاب أنهم عليه جزء من اإلسالم ،وفي هذا إرشاد إلى أن أهل الكتاب
إن ناظروا مناظرة مبنية على اإليمان ببعض الكتب ،أو ببعض الرسل دون غيره ،فال يسلم لهم
ذلك ،ألن الكتاب الذي يدعون إليه ،والرسول الذي ينتسبون إليه ،من شرطه أن يكون مصدقا بهذا
القرآن وبمن جاء به ،فكتابنا ورسولنا لم يأمرنا إال باإليمان بموسى وعيسى والتوراة واإلنجيل،
التي أخبر بها وصدق بها ،وأخبر أنها مصدقة له ومقرة بصحته.
وأما مجرد التوراة واإلنجيل ،وموسى وعيسى ،الذين لم يوصفوا لنا ،ولم يوافقوا لكتابنا ،فلم
يأمرنا باإليمان بهم.
ألع ِد َل َب ْيَن ُك ُم } أي :في الحكم فيما اختلفتم فيه ،فال تمنعني عداوتكم وبغضكم ،يا ت ْ وقوله { :وأ ِ
ُم ْر ُ َ
أهل الكتاب من العدل بينكم ،ومن العدل في الحكم ،بين أهل األقوال المختلفة ،من أهل الكتاب
وغيرهم ،أن يقبل ما معهم من الحق ،ويرد ما معهم من الباطل { ،اللَّهُ َربَُّنا َو َرُّب ُك ْم } أي :هو رب
َع َمالُ ُك ْم } من خير وشر { ال ُح َّجةَ َب ْيَنَنا َوَب ْيَن ُك ُم }
َع َمالَُنا َولَ ُك ْم أ ْ
الجميع ،لستم بأحق به منا { .لََنا أ ْ
أي :بعد ما تبينت الحقائق ،واتضح الحق من الباطل ،والهدى من الضالل ،لم يبق للجدال
والمنازعة محل ،ألن المقصود من الجدال ،إنما هو بيان الحق من الباطل ،ليهتدي الراشد ،ولتقوم
الحجة على الغاوي ،وليس المراد بهذا أن أهل الكتاب ال يجادلون ،كيف واهلل يقولَ { :وال تُ َج ِادلُوا
اب ِإال بِالَّتِي ِه َي أ ْ
َح َس ُن } وإ نما المراد ما ذكرنا. َه َل اْل ِكتَ ِ
أْ
[ ص ] 756
ص ُير } يوم القيامة ،فيجزي كال بعمله ،ويتبين حينئذ الصادق من { اللَّه ي ْجمع ب ْيَنَنا وإِلَْي ِه اْلم ِ
َ َُ ََُ َ
الكاذب.
( )1/755
ِ ِ ِ والَِّذين يحاج ِ َّ ِ ِ
ب َولَهُ ْم
ضٌضةٌ عْن َد َرِّب ِه ْم َو َعلَْي ِه ْم َغ َ استُ ِج َ
يب لَهُ ُحجَّتُهُ ْم َداح َ ُّون في الله م ْن َب ْعد َما ْ
َ َ َُ َ
اب َش ِد ٌ
يد ()16 َع َذ ٌ
( )1/756
( )1/756
ث ان ُي ِر ُ
يد َح ْر َ اء َو ُه َو اْلقَ ِو ُّ
ي اْل َع ِز ُيز * َم ْن َك َ يف بِ ِعَب ِاد ِه َي ْر ُز ُ
ق َم ْن َي َش ُ { { } 19-20اللَّهُ لَ ِط ٌ
ص ٍ اآلخر ِة ِم ْن َن ِ
الد ْنيا ُنؤتِ ِه ِم ْنها وما لَه ِفي ِ ِ ِ ِ
يب } . َ َ ََ ُ ث ُّ َ ْ يد َح ْر َ اآلخ َر ِة َن ِز ْد لَهُ في َح ْرثِه َو َم ْن َك َ
ان ُي ِر ُ
يخبر تعالى بلطفه بعباده ليعرفوه ويحبوه ،ويتعرضوا للطفه وكرمه ،واللطف من أوصافه تعالى
معناه :الذي يدرك الضمائر والسرائر ،الذي يوصل عباده -وخصوصا المؤمنين -إلى ما فيه
الخير لهم من حيث ال يعلمون وال يحتسبون.
فمن لطفه بعبده المؤمن ،أن هداه إلى الخير هداية ال تخطر بباله ،بما يسر له من األسباب الداعية
إلى ذلك ،من فطرته على محبة الحق واالنقياد له وإ يزاعه تعالى لمالئكته الكرام ،أن يثبتوا عباده
المؤمنين ،ويحثوهم على الخير ،ويلقوا في قلوبهم من تزيين الحق ما يكون داعيا التباعه.
ومن لطفه أن أمر المؤمنين ،بالعبادات االجتماعية ،التي بها تقوى عزائمهم وتنبعث هممهم،
ويحصل منهم التنافس [ ص ] 757على الخير والرغبة فيه ،واقتداء بعضهم ببعض.
ومن لطفه ،أن قيض لعبده كل سبب يعوقه ويحول بينه وبين المعاصي ،حتى إنه تعالى إذا علم أن
الدنيا والمال والرياسة ونحوها مما يتنافس فيه أهل الدنيا ،تقطع عبده عن طاعته ،أو تحمله على
اء }
ق َم ْن َي َش ُ
الغفلة عنه ،أو على معصية صرفها عنه ،وقدر عليه رزقه ،ولهذا قال هناَ { :ي ْر ُز ُ
ي اْل َع ِز ُيز } الذي له القوة كلها ،فال حول وال قوة ألحد بحسب اقتضاء حكمته ولطفه { َو ُه َو اْلقَ ِو ُّ
من المخلوقين إال به ،الذي دانت له جميع األشياء.
اآلخ َر ِة } أي :أجرها وثوابها ،فآمن بها وصدق ،وسعى لها ث ِ يد َح ْر َان ُي ِر ُثم قال تعالىَ { :م ْن َك َ
نزد لَهُ ِفي َح ْرثِ ِه } بأن نضاعف عمله وجزاءه أضعافا كثيرة ،كما قال تعالىَ { :و َم ْن سعيها { ْ
ورا } ومع ذلك ،فنصيبه من ان َس ْعُيهُ ْم َم ْش ُك ً اآلخ َرةَ َو َس َعى لَهَا َس ْعَيهَا َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن فَأُولَئِ َ
ك َك َ
أَر َاد ِ
َ
الدنيا ال بد أن يأتيه.
الد ْنَيا } بأن :كانت الدنيا هي مقصوده وغاية مطلوبه ،فلم يقدم آلخرته، ث ُّ ان ُي ِر ُ
يد َح ْر َ { َو َم ْن َك َ
اآلخ َر ِة ِم ْن
وال رجا ثوابها ،ولم يخش عقابهاُ { .نؤتِ ِه ِم ْنها } نصيبه الذي قسم له { ،وما لَه ِفي ِ
ََ ُ َ ْ
يب } قد حرم الجنة ونعيمها ،واستحق النار وجحيمها. ص ٍ َن ِ
َع َمالَهُ ْم ِفيهَا َو ُه ْم
ف ِإلَْي ِه ْم أ ْ يد اْل َحَياةَ ُّ
الد ْنَيا َو ِز َينتَهَا ُن َو ِّ ان ُي ِر ُ
وهذه اآلية ،شبيهة بقوله تعالىَ { :م ْن َك َ
ون } إلى آخر اآليات. ِ
فيهَا ال ُي ْب َخ ُس َ
( )1/756
ين ما لَم ي ْأ َذ ْن بِ ِه اللَّه ولَواَل َكِلمةُ اْلفَص ِل لَقُ ِ اء َش َر ُعوا لَهُ ْم ِم َن ِّ
ض َي َب ْيَنهُ ْم َوإِ َّن ْ َ َُ ْ الد ِ َ ْ َ أ َْم لَهُ ْم ُش َر َك ُ
َِّ ِ اب أَِليم ( )21تَرى الظَّ ِال ِمين م ْش ِف ِق ِ َّ ِ ِ
َمُنواين آ َين م َّما َك َسُبوا َو ُه َو َواقعٌ بِ ِه ْم َوالذ َ َ َ ُ َ ين لَهُ ْم َع َذ ٌ ٌ الظالم َ
ض ُل اْل َكبِ ُير ()22 ون ِع ْن َد َرِّب ِه ْم َذِل َ
ك ُه َو اْلفَ ْ ِ ات ِفي رو ِ
ضات اْل َجَّنات لَهُ ْم َما َي َش ُ
اء َ َْ َ
َّالح ِ
ِ
َو َعملُوا الص َ
ِ
ين ما لَم ي ْأ َذ ْن بِ ِه اللَّه ولَوال َكِلمةُ اْلفَص ِل لَقُ ِ اء َش َر ُعوا لَهُ ْم ِم َن ِّ
ض َي ْ َ َُ ْ الد ِ َ ْ َ { { } 21-23أ َْم لَهُ ْم ُش َر َك ُ
َِّ ِ اب أَِليم * تَرى الظَّ ِال ِمين م ْش ِف ِق ِ َّ ِ ِ
ين م َّما َك َسُبوا َو ُه َو َواقعٌ بِ ِه ْم َوالذ َ
ين َ َ ُ ين لَهُ ْم َع َذ ٌ ٌ َ َب ْيَنهُ ْم َوإِ َّن الظالم َ
ض ُل اْل َكبِ ُير ون ِعْن َد َرِّب ِه ْم َذِل َ
ك ُه َو اْلفَ ْ اء َ
ِ ات ِفي رو ِ
ضات اْل َجَّنات لَهُ ْم َما َي َش ُ َْ َ
َّالح ِ
ِ ِ
آمُنوا َو َعملُوا الص َ َ
*}.
يخبر تعالى أن المشركين اتخذوا شركاء يوالونهم ويشتركون هم وإ ياهم في الكفر وأعماله ،من
ين َما لَ ْم َي ْأ َذ ْن بِ ِه اللَّهُ } من الشرك والبدع، شياطين اإلنس ،الدعاة إلى الكفر { َش َر ُعوا لَهُ ْم ِم َن ِّ
الد ِ
وتحريم ما أحل اهلل ،وتحليل ما حرم اهلل ونحو ذلك مما اقتضته أهواؤهم.
مع أن الدين ال يكون إال ما شرعه اهلل تعالى ،ليدين به العباد ويتقربوا به إليه ،فاألصل الحجر
على كل أحد أن يشرع شيئا ما جاء عن اهلل وعن رسوله ،فكيف بهؤالء الفسقة المشتركين هم
وآباؤهم على الكفر.
{ ولَوال َكِلمةُ اْلفَص ِل لَقُ ِ
ض َي َب ْيَنهُ ْم } أي :لوال األجل المسمى الذي ضربه اهلل فاصال بين الطوائف ْ َ َ ْ
المختلفة ،وأنه سيؤخرهم إليه ،لقضي بينهم في الوقت الحاضر بسعادة المحق وإ هالك المبطل،
ألن المقتضي لإلهالك موجود ،ولكن أمامهم العذاب األليم في اآلخرة ،هؤالء وكل ظالم.
ين } أي :خائفين وجلين { ِم َّما ِِ َّ ِ ِ
ين } أنفسهم بالكفر والمعاصي { ُم ْشفق َ
وفي ذلك اليوم { تََرى الظالم َ
َك َسُبوا } أن يعاقبوا عليه.
ولما كان الخائف قد يقع به ما أشفق منه وخافه ،وقد ال يقع ،أخبر أنه { َو ِاقعٌ بِ ِه ْم } العقاب الذي
خافوه ،ألنهم أتوا بالسبب التام الموجب للعقاب ،من غير معارض ،من توبة وال غيرها ،ووصلوا
موضعا فات فيه اإلنظار واإلمهال.
ات } يشمل كل عمل َّالح ِ
ِ ِ َِّ
آمُنوا } بقلوبهم باهلل وبكتبه ورسله وما جاءوا بهَ { ،و َعملُوا الص َ
ين َ
{ َوالذ َ
صالح من أعمال القلوب ،وأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات ،فهؤالء { ِفي روض ِ
ات َْ َ
ات } أي :الروضات المضافة إلى الجنات ،والمضاف يكون بحسب المضاف إليه ،فال تسأل اْلجَّن ِ
َ
عن بهجة تلك الرياض المونقة ،وما فيها من األنهار المتدفقة ،والفياض المعشبة ،والمناظر
الحسنة ،واألشجار المثمرة ،والطيور المغردة ،واألصوات الشجية المطربة ،واالجتماع بكل
حبيب ،واألخذ من المعاشرة والمنادمة بأكمل نصيب ،رياض ال تزداد على طول المدى إال حسنا
ون } فيها ،أي :في الجنات،
اء َ
وبهاء ،وال يزداد أهلها إال اشتياقا إلى لذاتها وودادا { ،لَهُ ْم َما َي َش ُ
فمهما أرادوا فهو حاصل ،ومهما طلبوا حصل ،مما ال عين رأت ،وال أذن سمعت ،وال خطر
ض ُل اْل َكبِ ُير } وهل فوز أكبر من الفوز برضا اهلل تعالى ،والتنعم على قلب بشرَ { .ذِل َ
ك ُه َو اْلفَ ْ
بقربه في دار كرامته؟
( )1/757
َج ًرا ِإاَّل اْل َم َو َّدةَ ِفي
َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه أ ْ ِ ِ ِ
َمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات ُق ْل اَل أ ْ ين آ َ
ك الَِّذي يب ِّشر اللَّه ِعب َ َِّ
ادهُ الذ َ َُ ُ ُ َ َذِل َ
َّ ِ
ور ()23 ور َش ُك ٌ ف َح َسَنةً َن ِز ْد لَهُ فيهَا ُح ْسًنا ِإ َّن اللهَ َغفُ ٌ
اْلقُْرَبى َو َم ْن َي ْقتَ ِر ْ
( )1/757
( )1/758
ات ويعلَم ما تَ ْفعلُون ( )25ويستَ ِج َِّ ِ ِ ِِ َِّ
َمُنوا
ين آ َ يب الذ َ ََ ْ ُ َو ُه َو الذي َي ْقَب ُل التَّْوَبةَ َع ْن عَباده َوَي ْعفُو َع ِن السَّيَِّئ َ َ ْ ُ َ َ َ
قالر ْز َط اللَّهُ ِّ اب َش ِد ٌ
يد (َ )26ولَ ْو َب َس َ ون لَهُ ْم َع َذ ٌ ِ
ضله َواْل َكاف ُر َ
يد ُهم ِم ْن فَ ْ ِ ِ ِ ِ
َو َعملُوا الصَّال َحات َوَي ِز ُ ْ
ِ
ص ٌير (َ )27و ُه َو الَِّذي ُيَنِّز ُل ض ولَ ِك ْن يَنِّز ُل بِقَ َد ٍر ما ي َشاء ِإَّنه بِ ِعب ِاد ِه َخبِير ب ِ
ٌ َ َ َ ُ ُ َ ُ ِ ِ
لعَباده لََب َغ ْوا في اأْل َْر َ
ِِ ِ ِ
يد ()28 ث ِم ْن َب ْع ِد َما قََنطُوا َوَي ْن ُش ُر َر ْح َمتَهُ َو ُه َو اْل َوِل ُّي اْل َح ِم ُ اْل َغ ْي َ
( )1/758
( )1/759
ين ِفي اأْل َْر ِ
ض ت أ َْي ِدي ُك ْم َوَي ْعفُو َع ْن َكثِ ٍ
ير (َ )30و َما أ َْنتُ ْم بِ ُم ْع ِج ِز َ ص َيب ٍة فَبِ َما َك َسَب ْ
وما أَصاب ُكم ِم ْن م ِ
ُ ََ ََ ْ
ير ()31 صٍ ون اللَّ ِه ِم ْن وِل ٍّي واَل َن ِ َو َما لَ ُك ْم ِم ْن ُد ِ
َ َ
( )1/759
( )1/759
َِِّ ِ َّ ِ فَ َما أُوتِيتُ ْم ِم ْن َشي ٍء فَ َمتَاعُ اْل َحَي ِاة ُّ
ون (َمُنوا َو َعلَى َرِّب ِه ْم َيتََو َّكلُ َ
ين آ َ
الد ْنَيا َو َما ع ْن َد الله َخ ْيٌر َوأ َْبقَى للذ َ ْ
ِ َّ ِ ِ ِ ِ ِ ِ َِّ
استَ َج ُابوا
ين ْ ون (َ )37والذ َ ون َكَبائ َر اإْلِ ثْم َواْلفَ َواح َش َوإِ َذا َما َغضُبوا ُه ْم َي ْغف ُر َ ين َي ْجتَنُب َ
َ )36والذ َ
َِّ الصاَل ةَ وأَمر ُهم ُشورى ب ْيَنهم و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ ِ ِ
ي ين ِإ َذا أ َ
َص َابهُ ُم اْلَب ْغ ُ ون (َ )38والذ َ اه ْم ُي ْنفقُ َ اموا َّ َ ْ ُ ْ َ َ ُ ْ َ َ ل َرِّبه ْم َوأَقَ ُ
ون ()39 ِ
ُه ْم َي ْنتَص ُر َ
آمُنوا َو َعلَى َِِّ ِ َّ ِ { { } 36-39فَ َما أُوتِيتُ ْم ِم ْن َشي ٍء فَ َمتَاعُ اْل َحَي ِاة ُّ
ين َ الد ْنَيا َو َما ع ْن َد الله َخ ْيٌر َوأ َْبقَى للذ َ ْ
َِّ ِ ِ ِ ِ ِ ِ َِّ
ين
ون * َوالذ َ ون َكَبائ َر اإلثْم َواْلفَ َواح َش َوإِ َذا َما َغضُبوا ُه ْم َي ْغف ُر َ ين َي ْجتَنُب َ
ون * َوالذ َ َرِّب ِه ْم َيتََو َّكلُ َ
َِّ استَجابوا ِلرِّب ِهم وأَقَاموا الصَّالةَ وأَمر ُهم ُشورى ب ْيَنهم و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ
ين ِإ َذا أ َ
َص َابهُ ُم ون * َوالذ َ اه ْم ُي ْنفقُ َ َ ْ ُ ْ َ َ ُْ َ َ ْ َُ َ ْ َ ُ
ون } . ِ
ي ُه ْم َي ْنتَص ُر َ اْلَب ْغ ُ
هذا تزهيد في الدنيا وترغيب في اآلخرة ،وذكر األعمال الموصلة إليها فقال { :فَ َما أُوتِيتُ ْم ِم ْن
الد ْنَيا } لذة منغصة َشي ٍء } من ملك ورياسة ،وأموال وبنين ،وصحة وعافية بدنية { .فَ َمتَاعُ اْل َحَي ِاة ُّ
ْ
منقطعةَ { .و َما ِع ْن َد اللَّ ِه } من الثواب الجزيل ،واألجر الجليل ،والنعيم المقيم { َخ ْيٌر } من لذات
الدنيا ،خيرية ال نسبة بينهما { َوأ َْبقَى } [ ص ] 760ألنه نعيم ال منغص فيه وال كدر ،وال انتقال.
َِِّ
آمُنوا َو َعلَى َرِّب ِه ْم َيتََو َّكلُ َ
ون } أي :جمعوا بين اإليمان ين َ
ثم ذكر لمن هذا الثواب فقال { :للذ َ
الصحيح ،المستلزم ألعمال اإليمان الظاهرة والباطنة ،وبين التوكل الذي هو اآللة لكل عمل ،فكل
عمل ال يصحبه التوكل فغير تام ،وهو االعتماد بالقلب على اهلل في جلب ما يحبه العبد ،ودفع ما
يكرهه مع الثقة به تعالى.
{ والَِّذين ي ْجتَنِبون َكبائِر اإلثِْم واْلفَو ِ
اح َش } والفرق بين الكبائر والفواحش -مع أن جميعهما َ َ َ َ َ ُ َ َ َ
كبائر -أن الفواحش هي الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها ،كالزنا ونحوه ،والكبائر ما ليس
كذلك ،هذا عند االقتران ،وأما مع إفراد كل منهما عن اآلخر فإن اآلخر يدخل فيه.
ون } أي :قد تخلقوا بمكارم األخالق ومحاسن الشيم ،فصار الحلم لهم ِ ِ
{ َوإِ َذا َما َغضُبوا ُه ْم َي ْغف ُر َ
سجية ،وحسن الخلق لهم طبيعة حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله ،كظموا ذلك الغضب فلم
ينفذوه ،بل غفروه ،ولم يقابلوا المسيء إال باإلحسان والعفو والصفح.
فترتب على هذا العفو والصفح ،من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير ،كما
َِّ ِ َح َس ُن فَِإ َذا الَِّذي َب ْيَن َ
قال تعالىْ { :ادفَ ْع بِالَّتِي ِه َي أ ْ
ين يم َو َما ُيلَقَّ َ
اها ِإال الذ َ ك َوَب ْيَنهُ َع َد َاوةٌ َكأََّنهُ َوِل ٌّي َحم ٌ
ظ َع ِظ ٍيم } صبروا وما يلَقَّاها ِإال ُذو ح ٍّ
َ َ َُ َ َ ُ َ
استَ َج ُابوا ِل َرِّب ِه ْم } أي :انقادوا لطاعته ،ولب َّْوا دعوته ،وصار قصدهم رضوانه ،وغايتهم ين ْ
َِّ
{ َوالذ َ
الفوز بقربه.
ومن االستجابة للّه ،إقامة الصالة وإ يتاء الزكاة ،فلذلك عطفهما على ذلك ،من باب عطف العام
اموا الصَّالةَ } أي :ظاهرها وباطنها ،فرضها
على الخاص ،الدال على شرفه وفضله فقالَ { :وأَقَ ُ
ون } من النفقات الواجبة ،كالزكاة والنفقة على األقارب ونحوهم، ونفلها { .و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ
اه ْم ُي ْنفقُ َ َ َ
والمستحبة ،كالصدقات على عموم الخلق.
ورى َب ْيَنهُ ْم } أي :ال يستبد أحد منهم برأيه في أمر من األمور
{ َوأ َْم ُر ُه ْم } الديني والدنيوي { ُش َ
المشتركة بينهم ،وهذا ال يكون إال فرعا عن اجتماعهم وتوالفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال
عقولهم ،أنهم إذا أرادوا أمرا من األمور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها ،اجتمعوا لها
وتشاوروا وبحثوا فيها ،حتى إذا تبينت لهم المصلحة ،انتهزوها وبادروها ،وذلك كالرأي في
الغزو والجهاد ،وتولية الموظفين إلمارة أو قضاء ،أو غيره ،وكالبحث في المسائل الدينية عموما،
فإنها من األمور المشتركة ،والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه اهلل ،وهو داخل في هذه اآلية.
ِ َِّ
ون } لقوتهم وعزتهم ،ولم
ي } أي :وصل إليهم من أعدائهم { ُه ْم َي ْنتَص ُر َ ين ِإ َذا أ َ
َص َابهُ ُم اْلَب ْغ ُ { َوالذ َ
يكونوا أذالء عاجزين عن االنتصار.
فوصفهم باإليمان ،وعلى اهلل ،واجتناب الكبائر والفواحش الذي تكفر به الصغائر ،واالنقياد التام،
واالستجابة لربهم ،وإ قامة الصالة ،واإلنفاق في وجوه اإلحسان ،والمشاورة في أمورهم ،والقوة
واالنتصار على أعدائهم ،فهذه خصال الكمال قد جمعوها ،ويلزم من قيامها فيهم ،فعل ما هو
دونها ،وانتفاء ضدها.
( )1/759
ين (َ )40ولَ َم ِن َجره علَى اللَّ ِه ِإَّنه اَل ي ِح ُّ َّ ِ ِ ِ ٍ
ب الظالم َ ُ ُ َصلَ َح فَأ ْ ُ ُ َ
اء َسيَِّئة َسيَِّئةٌ مثْلُهَا فَ َم ْن َعفَا َوأ ْ
َو َج َز ُ
ون ون َّ السبِي ُل علَى الَِّذين ي ِْ
يل (ِ )41إَّن َما َّ ك ما َعلَْي ِهم ِم ْن سبِ ٍ ِِ ِ
اس َوَي ْب ُغ َ الن َ ظل ُم َ َ َ َ َ ْ ص َر َب ْع َد ظُْلمه فَأُولَئ َ َ ْانتَ َ
اب أَِليم ( )42ولَم ْن صبر و َغفَر ِإ َّن َذِل َ ِ ق أُولَئِ َ
ض بِ َغ ْي ِر اْل َح ِِّفي اأْل َْر ِ
ُم ِ
ور ( ك لَم ْن َع ْزِم اأْل ُ َ َ َ ََ َ َ ك لَهُ ْم َع َذ ٌ ٌ
)43
( )1/760
ون َه ْل ِإلَى َم َر ٍّد ِم ْن َّ ِ ِ ِِ ِ ِ وم ْن ي ْ ِ َّ
اب َيقُولُ َ ضل ِل اللهُ فَ َما لَهُ م ْن َوِل ٍّي م ْن َب ْعده َوتََرى الظالم َ
ين لَ َّما َرأ َُوا اْل َع َذ َ ََ ُ
يل ()44سبِ ٍ
َ
( )1/761
َمُنوا ِإ َّن َِّ الذ ِّل ي ْنظُرون ِم ْن َ ٍ ِ اش ِعين ِمن ُّ اهم يعرضون علَْيها َخ ِ
ين آ َ
ط ْرف َخف ٍّي َوقَا َل الذ َ َ ُ َ َ َ َوتََر ُ ْ ُ ْ َ ُ َ َ َ
ان َهِلي ِهم َيوم اْل ِقَيام ِة أَاَل ِإ َّن الظَّ ِال ِمين ِفي َع َذ ٍ ِ ٍ ِ اس ِر َِّ اْل َخ ِ
اب ُمقيم (َ )45و َما َك َ َ َ ين َخس ُروا أ َْنفُ َسهُ ْم َوأ ْ ْ ْ َ ين الذ َ َ
ضِل ِل اللَّهُ فَما لَهُ ِم ْن سبِ ٍ
ون اللَّ ِه َو َم ْن ُي ْ
ونهُ ْم ِم ْن ُد ِ ِ
يل ()46 َ َ ص ُر َ لَهُ ْم م ْن أ َْوِلَي َ
اء َي ْن ُ
آمُنوا ِإ َّن ف َخ ِف ٍّي وقَ َ َِّ طر ٍ الذ ِّل ي ْنظُر ِ اش ِعين ِمن ُّ اهم يعرضون علَْيها َخ ِ
ين َال الذ َ َ ون م ْن َ ْ َ ُ َ َ َ { َوتََر ُ ْ ُ ْ َ ُ َ َ َ
ان لَهُ ْم الظ ِال ِمين ِفي َع َذ ٍ ِ ٍاس ِرين الَِّذين َخ ِسروا أ َْنفُسهم وأَهِلي ِهم يوم اْل ِقيام ِة أَال ِإ َّن َّ اْل َخ ِ
اب ُمقيم * َو َما َك َ َ َ ُْ َ ْ ْ َ ْ َ َ َ َ ُ َ
ضِل ِل اللَّهُ فَما لَهُ ِم ْن سبِ ٍ ون اللَّ ِه َو َم ْن ُي ْونهُ ْم ِم ْن ُد ِ ِ
يل } . َ َ ص ُر َ م ْن أ َْوِلَي َ
اء َي ْن ُ
الذ ِّل } أي :ترى أجسامهم خاشعة للذل اش ِعين ِمن ُّ اهم يعرضون علَْيها } أي :على النار { َخ ِ
َ َ { َوتََر ُ ْ ُ ْ َ ُ َ َ َ
ف َخ ِف ٍّي } أي :ينظرون إلى النار مسارقة وشزرا ،من هيبتها طر ٍ
ون م ْن َ ْ
الذي في قلوبهم { ،ي ْنظُر ِ
َ ُ َ
وخوفها.
ِ َِّ
ينآمُنوا } حيث ظهرت عواقب الخلق ،وتبين أهل الصدق من غيرهمِ { :إ َّن اْل َخاس ِر َ ين َ { َوقَا َل الذ َ
ام ِة } حيث فوتوا أنفسهم جزيل الثواب، ِ ين َخ ِس ُروا أ َْنفُ َسهُ ْم وأ ْ ِ ِ
َهليه ْم َي ْو َم اْلقَي َ َ
َِّ
} على الحقيقة { الذ َ
وحصلوا على أليم العقاب وفرق بينهم وبين أهليهم ،فلم يجتمعوا بهم ،آخر ما عليهم { .أَال ِإ َّن
اب ُم ِق ٍيم } أي :في سوائه ووسطه ،منغمرين ال ين } أنفسهم بالكفر والمعاصي { ِفي َع َذ ٍ َّ ِ ِ
الظالم َ
يخرجون منه أبدا ،وال يفتر عنهم وهم فيه مبلسون.
ون اللَّ ِه } كما كانوا في الدنيا يمنون بذلك أنفسهم ،ففي ونهُ ْم ِم ْن ُد ِص ُر َ ِ
ان لَهُ ْم م ْن أ َْوِلَي َ
اء َي ْن ُ { َو َما َك َ
القيامة يتبين لهم ولغيرهم أن أسبابهم التي أملوها تقطعت ،وأنه حين جاءهم عذاب اهلل لم يدفع
يل } تحصل به هدايته ،فهؤالء ضلوا حيث زعموا في ضِل ِل اللَّهُ فَما لَهُ ِم ْن سبِ ٍ عنهمَ { .و َم ْن ُي ْ
َ َ
شركائهم النفع ودفع الضر ،فتبين حينئذ ضاللهم.
( )1/761
ير ( َن َيأْتِي َي ْو ٌم اَل َم َر َّد لَهُ ِم َن اللَّ ِه َما لَ ُك ْم ِم ْن َمْل َجٍأ َي ْو َمئٍِذ َو َما لَ ُك ْم ِم ْن َن ِك ٍ ْ ِ ِ ِّ ِ ِ
استَج ُيبوا ل َرب ُك ْم م ْن قَْبل أ ْ َ
ان ِمَّنا َر ْح َمةً ظا ِإ ْن َعلَْي َ اَّل
ك ِإ اْلَباَل غُ َوإِ َّنا ِإ َذا أَ َذ ْقَنا اإْلِ ْن َس َ ك َعلَْي ِه ْم َح ِفي ً
ضوا فَ َما أ َْر َسْلَنا َ )47فَِإ ْن أ ْ
َع َر ُ
ص ْبهم سيَِّئةٌ بِما قَ َّدم ْ ِ ِ
ور ()48 ان َكفُ ٌ ت أ َْيدي ِه ْم فَِإ َّن اإْلِ ْن َس َ َ َ فَ ِر َح بِهَا َوإِ ْن تُ ُ ْ َ
َن َيأْتِ َي َي ْو ٌم ال َم َر َّد لَهُ ِم َن اللَّ ِه َما لَ ُك ْم ِم ْن َمْل َجٍإ َي ْو َمئٍِذ َو َما استَ ِج ُيبوا ِل َرِّب ُك ْم ِم ْن قَْب ِل أ ْ
{ ْ { } 47-48
ان ك ِإال اْلَبالغُ َوإِ َّنا ِإ َذا أَ َذ ْقَنا ْ
اإلن َس َ ظا ِإ ْن َعلَْي َ ك َعلَْي ِه ْم َح ِفي ً ضوا فَ َما أ َْر َسْلَنا َ َع َر ُ لَ ُك ْم ِم ْن َن ِك ٍ
ير * فَِإ ْن أ ْ
ور } . ان َكفُ ٌ ت أ َْي ِدي ِه ْم فَِإ َّن ْ
اإلن َس َ ص ْبهُ ْم َسيَِّئةٌ بِ َما قَ َّد َم ِْمَّنا ر ْحمةً فَ ِرح بِها وإِ ْن تُ ِ
َ َ َ َ َ
يأمر تعالى عباده باالستجابة له ،بامتثال ما أمر به ،واجتناب ما نهى عنه ،وبالمبادرة بذلك وعدم
َن َيأْتِ َي َي ْوم القيامة الذي إذا جاء ال يمكن رده واستدراك الفائت ،وليس للعبد
التسويفِ ،م ْن قَْب ِل أ ْ
في ذلك اليوم ملجأ يلجأ إليه ،فيفوت ربه ،ويهرب منه.
َن تَْنفُ ُذوا
ط ْعتُ ْم أ ْ س ِإ ِن ْ
استَ َ بل قد أحاطت المالئكة بالخليقة من خلفهم ،ونودوا { َيا َم ْع َش َر اْل ِج ِّن َو ْ
اإلن ِ
طٍ ون ِإال بِ ُسْل َ األر ِ ِ ِم ْن أَ ْق َ
ان } وليس للعبد في ذلك اليوم نكير لما ض فَ ْانفُ ُذوا ال تَْنفُ ُذ َ ط ِار الس َ
َّم َاوات َو ْ
اقترفه وأجرمه ،بل لو أنكر لشهدت عليه جوارحه.
وهذه اآلية ونحوها ،فيها ذم األمل ،واألمر بانتهاز الفرصة في كل عمل يعرض للعبد ،فإن
للتأخير آفات.
اك َعلَْي ِه ْم َح ِفي ً
ظا } تحفظ أعمالهم ضوا } عما جئتهم به بعد البيان التام { فَ َما أ َْر َسْلَن َ { فَِإ ْن أ ْ
َع َر ُ
ك ِإال اْلَبالغُ } فإذا أديت ما عليك ،فقد وجب أجرك على اللّه ،سواء وتسأل عنهاِ { ،إ ْن َعلَْي َ
استجابوا أم أعرضوا ،وحسابهم على اللّه الذي يحفظ عليهم صغير أعمالهم وكبيرها ،وظاهرها
وباطنها.
ثم ذكر تعالى حالة اإلنسان ،وأنه إذا أذاقه اهلل رحمة ،من صحة بدن ،ورزق رغد ،وجاه ونحوه {
فَ ِر َح بِهَا } أي :فرح فرحا مقصورا عليها ،ال يتعداها ،ويلزم من ذلك طمأنينته بها ،وإ عراضه
عن المنعم.
[ ص ] 762
ور } أي:
ان َكفُ ٌ ت أ َْي ِدي ِه ْم فَِإ َّن ْ
اإلن َس َ
{ وإِ ْن تُ ِ
ص ْبهُ ْم َسيَِّئةٌ } أي :مرض أو فقر ،أو نحوهما { بِ َما قَ َّد َم ْ َ
طبيعته كفران النعمة السابقة ،والتسخط لما أصابه من السيئة.
( )1/761
ور ( )49أ َْو ق ما ي َشاء يهب ِلم ْن ي َشاء ِإَناثًا ويهب ِلم ْن ي َش ُّ ات واأْل َْر ِ ِ ِللَّ ِه ُمْل ُ
اء الذ ُك َ
َََ ُ َ َ ُ ض َي ْخلُ ُ َ َ ُ َ َ ُ َ َ ُ َّم َاو َ ك الس َ
يم قَِد ٌير ()50 ِ
يما ِإَّنهُ َعل ٌ
ي َز ِّوجهم ُذ ْكر ًانا وإِ َناثًا وي ْجع ُل م ْن ي َش ِ
اء َعق ً
ََ َ َ َ ُ ُ ُ ُْ َ َ
اء ق ما ي َشاء يهب ِلم ْن ي َشاء ِإَناثًا ويه ِ األر ِ ِ { ِ { } 49-50للَّ ِه ُمْل ُ
ب ل َم ْن َي َش ُ
َََ ُ ض َي ْخلُ ُ َ َ ُ َ َ ُ َ َ ُ َّم َاوات َو ْ ك الس َ
يم قَِد ٌير } . ِ
يما ِإَّنهُ َعل ٌ
الذ ُكور * أَو ي َز ِّوجهم ُذ ْكر ًانا وإِ َناثًا وي ْجع ُل م ْن ي َش ِ
اء َعق ً
ََ َ َ َ ُ ْ ُ ُ ُْ َ َ َ
ُّ
هذه اآلية فيها اإلخبار عن سعة ملكه تعالى ،ونفوذ تصرفه في الملك في الخلق لما يشاء ،والتدبير
لجميع األمور ،حتى إن تدبيره تعالى ،من عمومه ،أنه يتناول المخلوقة عن األسباب التي يباشرها
العباد ،فإن النكاح من األسباب لوالدة األوالد ،فاللّه تعالى هو الذي يعطيهم من األوالد ما يشاء.
فمن الخلق من يهب له إناثا ،ومنهم من يهب له ذكورا ،ومنهم من يزوجه ،أي :يجمع له ذكورا
وإ ناثا ،ومنهم من يجعله عقيما ال يولد له.
يم } بكل شيء { قَِد ٌير } على كل شيء ،فيتصرف بعلمه وإ تقانه األشياء ،وبقدرته في ِ
{ ِإَّنهُ َعل ٌ
مخلوقاته.
( )1/762
( )1/762
ِ ِ وحا ِم ْن أ َْم ِرَنا َما ُك ْن َ ك أ َْو َح ْيَنا ِإلَْي َ{ َو َك َذِل َ
ورا
ان َولَك ْن َج َعْلَناهُ ُن ً
اإليم ُ ت تَ ْد ِري َما اْلكتَ ُ
اب َوال َ ك ُر ً
اط اللَّ ِه الَِّذي لَهُ َما ِفي
صر ِِ ٍِ ِ ٍ
ك لَتَ ْهدي ِإلَى ص َراط ُم ْستَقيم * َ
َنه ِدي بِ ِه م ْن َن َشاء ِم ْن ِعب ِادَنا وإِ َّن َ ِ
َ َ ُ َ ْ
ور } . ات وما ِفي األر ِ ِ َّ ِ ِ ِ
األم ُض أَال إلَى الله تَص ُير ُ ْ َّم َاو َ َ الس َ
وحا ِم ْن أ َْم ِرَنا } وهو هذا القرآن الكريم، ك ُر ً ك } حين أوحينا إلى الرسل قبلك { أ َْو َح ْيَنا ِإلَْي َ { َو َك َذِل َ
سماه روحا ،ألن الروح يحيا به الجسد ،والقرآن تحيا به القلوب واألرواح ،وتحيا به مصالح الدنيا
والدين ،لما فيه من الخير الكثير والعلم الغزير.
ت
وهو محض منة اهلل على رسوله وعباده المؤمنين ،من غير سبب منهم ،ولهذا قالَ { :ما ُك ْن َ
ِ
ان } أي :ليس عندك علم بأخبار الكتب اإليم ُ تَ ْد ِري } أي :قبل نزوله عليك { َما اْلكتَ ُ
اب َوال َ
السابقة ،وال إيمان وعمل بالشرائع اإللهية ،بل كنت أميا ال تخط وال تقرأ ،فجاءك هذا الكتاب
اء ِم ْن ِعَب ِادَنا } يستضيئون به في ظلمات الكفر والبدع، ِ ِ
ورا َن ْهدي بِه َم ْن َن َش ُ
الذي { َج َعْلَناهُ ُن ً
واألهواء المردية ،ويعرفون به الحقائق ،ويهتدون به إلى الصراط المستقيم.
اط ُم ْستَِق ٍيم } أي :تبينه لهم وتوضحه ،وتنيره وترغبهم فيه ،وتنهاهم عن صر ٍ ِ { وإِ َّن َ ِ
ك لَتَ ْهدي ِإلَى َ َ
ِ
َّم َاوات َو َما ِ ِ َّ ِ َّ ِ ِ
ضده ،وترهبهم منه ،ثم فسر الصراط المستقيم فقال { :ص َراط الله الذي لَهُ َما في الس َ
ض} األر ِ ِ
في ْ
أي :الصراط الذي نصبه اهلل لعباده ،وأخبرهم أنه موصل إليه وإ لى دار كرامته { ،أَال ِإلَى اللَّ ِه
ور } أي :ترجع جميع أمور الخير والشر ،فيجازي ُكال بحسب عمله ،إن خيرا فخير، ِ
األم ُ
تَص ُير ُ
وإ ن شرا فشر.
تم تفسير سورة الشورى ،والحمد للّه أوال وآخرا ،وظاهرا وباطنا ،على تيسيره وتسهيله.
تفسير سورة الزخرف
مكية
( )1/762
ِ َّ الر ِح ِيم حم * واْل ِكتَ ِ { { } 1-5بِ ْسِم اللَّ ِه َّ
ين * ِإَّنا َج َعْلَناهُ قُْر ًآنا َعَربِيًّا لَ َعل ُك ْم تَ ْعقلُ َ
ون اب اْل ُمبِ ِ َ الر ْح َم ِن َّ
ِّ ِ ِ ِ ِ ِ
ين } . َن ُك ْنتُ ْم قَ ْو ًما ُم ْس ِر ِف َ
ص ْف ًحا أ ْب َعْن ُك ُم الذ ْك َر َ ض ِر ُ * َوإِ َّنهُ في أ ُِّم اْلكتَاب لَ َد ْيَنا لَ َعل ٌّي َحك ٌ
يم * أَفََن ْ
هذا قسم بالقرآن على القرآن ،فأقسم بالكتاب المبين وأطلق ،ولم يذكر المتعلق ،ليدل على أنه مبين
لكل ما يحتاج إليه العباد من أمور الدنيا والدين واآلخرة.
{ ِإَّنا َج َعْلَناهُ قُْر ًآنا َعَربِيًّا } هذا المقسم عليه ،أنه جعل بأفصح اللغات وأوضحها وأبينها ،وهذا من
ون } ألفاظه ومعانيه لتيسرها وقربها من األذهان. ِ َّ
بيانه .وذكر الحكمة في ذلك فقال { :لَ َعل ُك ْم تَ ْعقلُ َ
ِ ِ
{ َوإِ َّنهُ } أي :هذا الكتاب { لَ َد ْيَنا } في المأل األعلى في أعلى الرتب وأفضلها { لَ َعل ٌّي َحك ٌ
يم } أي:
لعلي في قدره وشرفه ومحله ،حكيم فيما يشتمل عليه من األوامر والنواهي واألخبار ،فليس فيه
حكم مخالف للحكمة والعدل والميزان.
ثم أخبر تعالى أن حكمته وفضله يقتضي أن ال يترك عباده همال ال يرسل إليهم رسوال وال ينزل
عليهم كتابا ،ولو كانوا مسرفين ظالمين فقال:
( )1/762
ص ْف ًحا } أي :أفنعرض عنكم ،ونترك إنزال الذكر إليكم ،ونضرب عنكم ِّ ض ِر ُ
ب َعْن ُك ُم الذ ْك َر َ { أَفََن ْ
صفحا ،ألجل إعراضكم ،وعدم انقيادكم له؟ بل ننزل عليكم الكتاب ،ونوضح لكم فيه كل شيء،
فإن آمنتم به واهتديتم ،فهو من توفيقكم ،وإ ال قامت عليكم الحجة ،وكنتم على بينة من أمركم.
[ ص ] 763
ِ ِ ِ { َ { } 6-8و َك ْم أ َْر َسْلَنا ِم ْن َنبِ ٍّي ِفي َّ
ين * َو َما َيأْتي ِه ْم م ْن َنبِ ٍّي ِإال َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ
ون * األوِل َ
األوِل َ
ين } . ضى َمثَ ُل َّ ط ًشا َو َم َ َهلَ ْكَنا أَ َش َّد ِم ْنهُ ْم َب ْ
فَأ ْ
يقول تعالى :إن هذه سنتنا في الخلق ،أن ال نتركهم همال فكم { أ َْر َسْلَنا ِم ْن َنبِ ٍّي ِفي َّ
األوِل َ
ين }
يأمرونهم بعبادة اللّه وحده ال شريك له ،ولم يزل التكذيب موجودا في األمم.
ِ ِ ِ
ون } جحدا لما جاء به ،وتكبرا على الحق. { َو َما َيأْتي ِه ْم م ْن َنبِ ٍّي ِإال َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ
األوِل َ
ين } ضى َمثَ ُل َّ ط ًشا } أي :قوة وأفعاال وآثارا في األرضَ { ،و َم َ َهلَ ْكَنا أَ َش ّد } من هؤالء { َب ْ { فَأ ْ
أي :مضت أمثالهم وأخبارهم ،وبينا لكم منها ما فيه عبرة ومزدجر عن التكذيب واإلنكار.
( )1/762
( )1/763
اج
ق اأْل َْز َو َ ون (َ )11والَِّذي َخلَ َ ك تُ ْخ َر ُج َ اء بِقَ َد ٍر فَأ َْن َش ْرَنا بِ ِه َبْل َدةً َم ْيتًا َك َذِل َ والَِّذي َن َّز َل ِمن الس ِ
َّماء َم ً
َ َ َ
ور ِه ثَُّم تَ ْذ ُك ُروا نِ ْع َمةَ َرِّب ُك ْم ِإ َذا
ون (ِ )12لتَ ْستَُووا َعلَى ظُهُ ِ ِ ِ ِ َّ
ُكلهَا َو َج َع َل لَ ُك ْم م َن اْل ُفْلك َواأْل َْن َعام َما تَْر َكُب َ
ِ استَو ْيتُم علَْي ِه وتَقُولُوا س ْبح َِّ
ون ( ين (َ )13وإِ َّنا ِإلَى َربَِّنا لَ ُم ْن َقلُب َ ان الذي َس َّخ َر لََنا َه َذا َو َما ُكَّنا لَهُ ُم ْق ِرنِ َ ُ َ َ َْ ْ َ َ
)14
اج
األز َو َ ق ْ ون * َوالَِّذي َخلَ َ ك تُ ْخ َر ُج َ اء بِقَ َد ٍر فَأ َْن َش ْرَنا بِ ِه َبْل َدةً َم ْيتًا َك َذِل َ { والَِّذي َن َّز َل ِمن الس ِ
َّماء َم ً
َ َ َ
ور ِه ثَُّم تَ ْذ ُك ُروا نِ ْع َمةَ َرِّب ُك ْم ِإ َذا
ون * ِلتَ ْستَُووا َعلَى ظُهُ ِ ُكلَّها و َجع َل لَ ُكم ِمن اْل ُفْل ِك و ْ ِ
األن َعام َما تَْر َكُب َ َ ْ َ َ َ َ
ِ استَو ْيتُم علَْي ِه وتَقُولُوا س ْبح َِّ
ون } . ين * َوإِ َّنا ِإلَى َربَِّنا لَ ُم ْن َقلُب َ ان الذي َس َّخ َر لََنا َه َذا َو َما ُكَّنا لَهُ ُم ْق ِرنِ َ ُ َ َ َْ ْ َ َ
اء بِقَ َد ٍر } ال يزيد وال ينقص ،ويكون أيضا بمقدار الحاجة ،ال ينقص نزل ِمن الس ِ َِّ
َّماء َم ً
{ َوالذي َ َ َ
بحيث ال يكون فيه نفع ،وال يزيد بحيث يضر العباد والبالد ،بل أغاث به العباد ،وأنقذ به البالد
ون } أي: ك تُ ْخ َر ُج َ من الشدة ،ولهذا قال { :فَأ َْن َش ْرَنا بِ ِه َبْل َدةً َم ْيتًا } أي :أحييناها بعد موتهاَ { ،ك َذِل َ
فكما أحيا األرض الميتة الهامدة بالماء ،كذلك يحييكم بعد ما تستكملون في البرزخ ،ليجازيكم
بأعمالكم.
اج ُكلَّهَا } أي :األصناف جميعها ،مما تنبت األرض ومن أنفسهم ومما ال األز َو َ
ق ْ { َوالَِّذي َخلَ َ
يعلمون ،من ليل ونهار ،وحر وبرد ،وذكر وأنثى ،وغير ذلكَ { .و َج َع َل لَ ُك ْم ِم َن اْل ُفْل ِك } أي:
ون { و } من { األنعام ما تركبون ِلتَ ْستَُووا َعلَى السفن البحرية ،الشراعية والناريةَ ،ما تَْر َكُب َ
ور ِه }
ظُهُ ِ
وهذا شامل لظهور الفلك ولظهور األنعام ،أي :لتستقروا عليها { ،ثَُّم تَ ْذ ُك ُروا نِ ْع َمةَ َرِّب ُك ْم ِإ َذا
استََو ْيتُ ْم َعلَْي ِه } باالعتراف بالنعمة لمن سخرها ،والثناء عليه تعالى بذلك ،ولهذا قالَ { :وتَقُولُوا ْ
س ْبح َِّ
ين } أي :لوال تسخيره لنا ما سخر من الفلك ،واألنعام، ان الذي َس َّخ َر لََنا َه َذا َو َما ُكَّنا لَهُ ُم ْق ِرنِ َ
ُ َ َ
ما كنا مطيقين لذلك وقادرين عليه ،ولكن من لطفه وكرمه تعالى ،سخرها وذللها ويسر أسبابها.
( )1/763
والمقصود من هذا ،بيان أن الرب الموصوف بما ذكره ،من إفاضة النعم على العباد ،هو الذي
ور
ان لَ َكفُ ٌ يستحق أن يعبد ،ويصلى له ويسجدَ { } 25-15 { .و َج َعلُوا لَهُ ِم ْن ِعَب ِاد ِه ُج ْز ًءا ِإ َّن ْ
اإلن َس َ
ظ َّلب ِل َّلر ْح َم ِن َمثَال َض َر َ ين * َوإِ َذا ُب ِّش َر أ َ
َح ُد ُه ْم بِ َما َ
ِ
َصفَا ُك ْم بِاْلَبن َ
ين * أَِم اتَّ َخ َذ ِم َّما ي ْخلُ ُ ٍ
ق َبَنات َوأ ْ َ ُمبِ ٌ
ين * َو َج َعلُوا اْل َمالئِ َكةَ ص ِام َغ ْي ُر ُمبِ ٍ ِ ِ ِ ِ ِ
يم * أ ََو َم ْن ُيَن َّشأُ في اْلحْلَية َو ُه َو في اْلخ َ
ِ
َو ْجهُهُ ُم ْس َو ًّدا َو ُه َو َكظ ٌ
الر ْح َم ُن َمااء َّ
ون * َوقَالُوا لَ ْو َش َ ادتُهُ ْم َوُي ْسأَلُ َ
ب َشهَ َ الر ْح َم ِن ِإَناثًا أَ َش ِه ُدوا َخْلقَهُ ْم َستُ ْكتَ ُ
اد َّ ين ُه ْم ِعَب ُ
الذ َ
َِّ
ِ ِ ك ِم ْن ِعْلٍم ِإ ْن ُهم ِإال ي ْخرصون * أَم آتَْيَن ُ ِ ِ ِ ِ اه ْم َما لَهُ ْم بِ َذِل َ
ون * اه ْم كتَ ًابا م ْن قَْبله فَهُ ْم بِه ُم ْستَ ْمس ُك َ ْ ْ َ ُ ُ َ َعَب ْدَن ُ
ب ْل قَالُوا ِإَّنا وج ْدَنا آباءَنا علَى أ َّ ٍ
ون * } . ُمة َوإِ َّنا َعلَى آثَ ِار ِه ْم ُم ْهتَ ُد َ َ َ َ َ َ َ
يخبر تعالى عن شناعة قول المشركين ،الذين جعلوا للّه تعالى ولدا ،وهو الواحد األحد ،الفرد
الصمد ،الذي لم يتخذ صاحبة وال ولدا ،ولم يكن له كفوا أحد ،وإ ن ذلك باطل من عدة أوجه:
منها :أن الخلق كلهم عباده ،والعبودية تنافي الوالدة.
ومنها :أن الولد جزء من والده ،واللّه تعالى بائن من خلقه ،مباين لهم في صفاته ونعوت جالله،
والولد جزء من الوالد ،فمحال أن يكون للّه تعالى ولد.
ومنها :أنهم يزعمون أن المالئكة بنات اللّه ،ومن المعلوم أن البنات أدون الصنفين ،فكيف يكون
هلل البنات ،ويصطفيهم بالبنين ،ويفضلهم بها؟! فإذا يكونون أفضل من اللّه ،تعالى اللّه عن ذلك
علوا كبيرا.
ومنها :أن الصنف الذي نسبوه للّه ،وهو البنات ،أدون الصنفين ،وأكرههما لهم ،حتى إنهم من
ب ِل َّلر ْح َم ِن َمثَال َ
ظ َّل َو ْجهُهُ ُم ْس َو ًّدا } من كراهته وشدة َح ُد ُه ْم بِ َما َ
ض َر َ كراهتهم لذلك { ِإ َذا ُب ّش َر أ َ
بغضه ،فكيف يجعلون للّه ما يكرهون؟
ومنها :أن األنثى ناقصة في [ ص ] 764وصفها ،وفي منطقها وبيانها ،ولهذا قال تعالى:
{ أ ََو َم ْن ُيَن َّشأُ ِفي اْل ِحْلَي ِة } أي :يجمل فيها ،لنقص جماله ،فيجمل بأمر خارج عنه؟ { َو ُه َو ِفي
ين } أي :غير ص ِام } أي :عند الخصام الموجب إلظهار ما عند الشخص من الكالمَ { ،غْي ُر ُمبِ ٍ ِ
اْلخ َ
مبين لحجته ،وال مفصح عما احتوى عليه ضميره ،فكيف ينسبونهن للّه تعالى؟
ين ُه ْم ِعَب ُ
اد اهلل ِإَناثًا ،فتجرأوا على المالئكة ،العباد المقربين، ِ َِّ
ومنها :أنهم َج َعلُوا اْل َمالئ َكةَ الذ َ
ورقوهم عن مرتبة العبادة والذل ،إلى مرتبة المشاركة للّه ،في شيء من خواصه ،ثم نزلوا بهم
عن مرتبة الذكورية إلى مرتبة األنوثية ،فسبحان من أظهر تناقض من كذب عليه وعاند رسله.
ومنها :أن اللّه رد عليهم بأنهم لم يشهدوا خلق اللّه لمالئكته ،فكيف يتكلمون بأمر من المعلوم عند
كل أحد ،أنه ليس لهم به علم؟! ولكن ال بد أن يسألوا عن هذه الشهادة ،وستكتب عليهم ،ويعاقبون
عليها.
اه ْم } فاحتجوا على عبادتهم المالئكة بالمشيئة،
الر ْح َم ُن َما َعَب ْدَن ُ
اء َّ
وقوله تعالىَ { :وقَالُوا لَ ْو َش َ
وهي حجة لم يزل المشركون يطرقونها ،وهي حجة باطلة في نفسها ،عقال وشرعا .فكل عاقل ال
يقبل االحتجاج بالقدر ،ولو سلكه في حالة من أحواله لم يثبت عليها قدمه.
وأما شرعا ،فإن اللّه تعالى أبطل االحتجاج به ،ولم يذكره عن غير المشركين به المكذبين لرسله،
فإن اللّه تعالى قد أقام الحجة على العباد ،فلم يبق ألحد عليه حجة أصال ولهذا قال هناَ { :ما لَهُ ْم
بِ َذِل َ ِ ِ ٍ
ون } أي :يتخرصون تخرصا ال دليل عليه ،ويتخبطون خبط ك م ْن عْلم ِإ ْن ُه ْم ِإال َي ْخ ُر ُ
ص َ
عشواء.
ِ ِ ثم قال { :أَم آتَْيَن ُ ِ ِ ِ ِ
ون } يخبرهم بصحة أفعالهم ،وصدق أقوالهم؟ اه ْم كتَ ًابا م ْن قَْبله فَهُ ْم بِه ُم ْستَ ْمس ُك َ ْ
ليس األمر كذلك ،فإن اللّه أرسل محمدا نذيرا إليهم ،وهم لم يأتهم نذير غيره ،أي :فال عقل وال
نقل ،وإ ذا انتفى األمران ،فال ثََّم إال الباطل.
الشَبه ،وهي تقليد آبائهم الضالين ،الذين ما زال الكفرة يردون بتقليدهم نعم ،لهم شبهة من أوهى ُّ
ُم ٍة } أي :على دين وملة { َوإِ َّنا دعوة الرسل ،ولهذا قال هناَ { :ب ْل قَالُوا ِإَّنا َو َج ْدَنا َآب َ
اءَنا َعلَى أ َّ
ون } أي :فال نتبع ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم. َعلَى آثَ ِار ِه ْم ُم ْهتَ ُد َ
( )1/763
ُم ٍة َوإِ َّنا َعلَى
اءَنا َعلَى أ َّ وها ِإَّنا َو َج ْدَنا آََب َ
ال ُمتَْرفُ َ ك ِفي قَ ْرَي ٍة ِم ْن َن ِذ ٍ
ير ِإاَّل قَ َ ك َما أ َْر َسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ
َو َك َذِل َ
اء ُك ْم قَالُوا ِإَّنا بِ َما أ ُْر ِسْلتُ ْم بِ ِه ِ َآثَ ِار ِهم م ْقتَ ُدون ( )23قَا َل أَولَو ِج ْئتُ ُكم بِأ ْ ِ
َه َدى م َّما َو َج ْدتُ ْم َعلَْيه آََب َ ْ َ ْ َ ْ ُ
ِّ ِ ون ( )24فَ ْانتَقَ ْمَنا ِم ْنهُ ْم فَ ْانظُ ْر َك ْي َ ِ
ين ()25 ان َعاقَبةُ اْل ُم َكذبِ َ ف َك َ َكاف ُر َ
( )1/764
ين ()27 ط َرنِي فَِإَّنهُ َسَي ْه ِد ِ ون (ِ )26إاَّل الَِّذي فَ َ يه وقَو ِم ِه ِإَّننِي بر ِ
اء م َّما تَ ْعُب ُد َ
ََ ٌ
اه أِل ِ ِ
يم َب َ ْ
وإِ ْذ قَ َ ِ ِ
ال إ ْب َر ُ َ
اء ُه ُم اْل َح ُّ
ق َّ ِ َّ ِ َّ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
اء ُه ْم َحتى َج َ ت َه ُؤاَل ء َوآََب َ ون (َ )28ب ْل َمت ْع ُ َو َج َعلَهَا َكل َمةً َباقَيةً في َعقبه لَ َعلهُ ْم َي ْرج ُع َ
ِ ِ ِ
ون (َ )30وقَالُوا لَ ْواَل ُنِّز َل َه َذا ق قَالُوا َه َذا س ْحٌر َوإِ َّنا بِه َكاف ُر َ اء ُه ُم اْل َح ُّين (َ )29ولَ َّما َج َ َو َر ُسو ٌل ُمبِ ٌ
ِّك َن ْح ُن قَ َس ْمَنا َب ْيَنهُ ْم َم ِعي َشتَهُ ْم
ون َر ْح َمةَ َرب َ اْلقُرآَن علَى رج ٍل ِمن اْلقَريتَْي ِن ع ِظ ٍيم ( )31أ ُ ِ
َه ْم َي ْقس ُم َ َ ْ ُ َ َ ُ َ َْ
ٍ ِ ِ ِفي اْل َحَي ِاة ُّ
ك َخ ْيٌر ضا ُس ْخ ِريًّا َو َر ْح َمةُ َرِّب َ ض َد َر َجات لَيتَّخ َذ َب ْع ُ
ضهُ ْم َب ْع ً ق َب ْع ٍ ضهُ ْم فَ ْو َ الد ْنَيا َو َرفَ ْعَنا َب ْع َ
ون ()32 ِ
م َّما َي ْج َم ُع َ
( )1/764
الر ْحم ِن ِلبيوتِ ِهم سقُفًا ِم ْن ِفض ٍ ِ ِ
َّة َو َم َع ِار َج َعلَْيهَا ُمةً َواح َدةً لَ َج َعْلَنا ل َم ْن َي ْكفُُر بِ َّ َ ُ ُ ْ ُ
اس أ َّ ون َّ
الن ُ َن َي ُك َ
َولَ ْواَل أ ْ
ون ()33 ظهَ ُر ََي ْ
( )1/765
( )1/765
السبِ ِ
يل ونهُ ْم َع ِن َّ ص ُّد َين (َ )36وإِ َّنهُ ْم لََي ُ ط ًانا فَهَُو لَهُ قَ ِر ٌ ش َع ْن ِذ ْك ِر َّ
الر ْح َم ِن ُنقَي ْ
ِّض لَهُ َش ْي َ َو َم ْن َي ْع ُ
ك ُب ْع َد اْل َم ْش ِرقَْي ِن فَبِْئ َس اْلقَ ِر ُ
ين ( ت َب ْينِي َوَب ْيَن َ ون (َ )37حتَّى ِإ َذا َج َ
اءَنا قَا َل َيا لَْي َ ون أََّنهُ ْم ُم ْهتَ ُد َ
َوَي ْح َسُب َ
ظلَمتُم أََّن ُكم ِفي اْل َع َذ ِ
ون ()39 اب ُم ْشتَ ِر ُك َ َ )38ولَ ْن َي ْنفَ َع ُك ُم اْلَي ْو َم ِإ ْذ َ ْ ْ ْ
ص ُّد َ
ونهُ ْم ين * َوإِ َّنهُ ْم لََي ُ ط ًانا فَهَُو لَهُ قَ ِر ٌ ِّض لَهُ َش ْي َ ش َع ْن ِذ ْك ِر َّ
الر ْح َم ِن ُنقَي ْ { َ { } 36-39و َم ْن َي ْع ُ
ت َب ْينِي َوَب ْيَن َ
ك ُب ْع َد اْل َم ْش ِرقَْي ِن فَبِْئ َس ون * َحتَّى ِإ َذا َج َ
اءَنا قَا َل َيا لَْي َ ون أََّنهُ ْم ُم ْهتَ ُد َ السبِ ِ
يل َوَي ْح َسُب َ َع ِن َّ
ظلَمتُم أََّن ُكم ِفي اْل َع َذ ِ
ون } . اب ُم ْشتَ ِر ُك َ ين * َولَ ْن َي ْنفَ َع ُك ُم اْلَي ْو َم ِإ ْذ َ ْ ْ ْ اْلقَ ِر ُ
ش } أي :يعرض ويصد يخبر تعالى عن عقوبته البليغة ،لمن أعرض عن ذكره ،فقالَ { :و َم ْن َي ْع ُ
الر ْح َم ِن } الذي هو القرآن العظيم ،الذي هو أعظم رحمة رحم بها الرحمن عباده ،فمن{ َع ْن ِذ ْك ِر َّ
قبلها ،فقد قبل خير المواهب ،وفاز بأعظم المطالب والرغائب ،ومن أعرض عنها وردها ،فقد
خاب وخسر خسارة ال يسعد بعدها أبدا ،وقيَّض له الرحمن شيطانا مريدا ،يقارنه ويصاحبه،
ويعده ويمنيه ،ويؤزه إلى المعاصي أزا،
ون أََّنهُ ْم ُم ْهتَ ُد َ السبِ ِ ص ُّد َ
ونهُ ْم َع ِن َّ
ون يل } أي :الصراط المستقيم ،والدين القويمَ { .وَي ْح َسُب َ { َوإِ َّنهُ ْم لََي ُ
} بسبب تزيين الشيطان للباطل وتحسينه له ،وإ عراضهم عن الحق ،فاجتمع هذا وهذا.
فإن قيل :فهل لهذا من عذر ،من حيث إنه ظن أنه مهتد ،وليس كذلك؟
قيل :ال عذر لهذا وأمثاله ،الذين مصدر جهلهم اإلعراض عن ذكر اللّه ،مع تمكنهم على االهتداء،
فزهدوا في الهدى مع القدرة عليه ،ورغبوا في الباطل ،فالذنب ذنبهم ،والجرم جرمهم.
والغي ،وانقالب
ّ فهذه حالة هذا المعرض عن ذكر اللّه في الدنيا ،مع قرينه ،وهو الضالل
الحقائق.
وأما حاله ،إذا جاء ربه في اآلخرة ،فهو شر األحوال ،وهو :إظهار الندم والتحسر ،والحزن الذي
كت َب ْينِي َوَب ْيَن َ والتبري من قرينه ،ولهذا قال تعالىَ { :حتَّى ِإ َذا َج َ
اءَنا قَا َل َيا لَْي َ ِّ ال يجبر مصابه،
ُب ْع َد اْل َم ْش ِرقَْي ِن فَبِْئ َس اْلقَ ِر ُ
ين }
كما في قوله تعالى { :ويوم يع ُّ َّ
ول َسبِيال َيا الرس ِ
ت َم َع َّ ُ ض الظ ِال ُم َعلَى َي َد ْي ِه َيقُو ُل َيا لَْيتَنِي اتَّ َخ ْذ ُ َ َْ َ َ َ
ان َخ ُذوال ان ِل ْ
إلن َس ِ ط ُ ان َّ
الش ْي َ اءني َو َك َ
الذ ْك ِر بع َد ِإ ْذ ج ِ
َ َ َْ
َضلَّنِي َع ِن ِّ وْيلَتَى لَْيتَنِي لَم أَتَّ ِخ ْذ فُ ً ِ
النا َخليال لَقَ ْد أ َ ْ َ
}
ظلَمتُم أََّن ُكم ِفي اْل َع َذ ِ
ون } أي :وال ينفعكم يوم اب ُم ْشتَ ِر ُك َ وقوله تعالىَ { :ولَ ْن َي ْنفَ َع ُك ُم اْلَي ْو َم ِإ ْذ َ ْ ْ ْ
القيامة اشتراككم في العذاب ،أنتم وقرناؤكم وأخالؤكم ،وذلك ألنكم اشتركتم في الظلم ،فاشتركتم
في عقابه وعذابه.
ولن ينفعكم أيضا ،روح التسلي في المصيبة ،فإن المصيبة إذا وقعت في الدنيا ،واشترك فيها
المعاقبون ،هان عليهم بعض الهون ،وتسلَّى بعضهم ببعض ،وأما مصيبة اآلخرة ،فإنها جمعت
كل عقاب ،ما فيه أدنى راحة ،حتى وال هذه الراحة .نسألك يا ربنا العافية ،وأن تريحنا برحمتك.
( )1/766
ك فَِإَّنا ِم ْنهُ ْمين ( )40فَِإ َّما َن ْذ َهَب َّن بِ َ ضاَل ٍل ُمبِ ٍان في َ
ُّم أَو تَه ِدي اْلعمي وم ْن َك ِ
َ ُْ َ َ َ ت تُ ْسمعُ الص َّ ْ ْ
أَفَأ َْن َ ِ
ُوح َي ِإلَْي َ
ك اهم فَِإَّنا علَْي ِهم م ْقتَِدرون ( )42فَاستَم ِس ْك بِالَِّذي أ ِ م ْنتَِقمون ( )41أَو ُن ِريَّن َ َِّ
ْ ْ َ ْ ُ ُ َ ك الذي َو َع ْدَن ُ ْ ْ َ ُ ُ َ
َل َم ْن أ َْر َسْلَنا ِم ْن اسأ ْ
ون (َ )44و ْ ف تُ ْسأَلُ َ ك َوِلقَ ْو ِم َ
ك َو َس ْو َ اط ُم ْستَِق ٍيم (َ )43وإِ َّنهُ لَِذ ْكٌر لَ َ صر ٍ ِ
ك َعلَى َ ِإَّن َ
ِ َج َعْلَنا ِم ْن ُد ِ ِ قَْبِل َ ِ
ون ()45 الر ْح َم ِن آَلهَةً ُي ْعَب ُد َ ون َّ ك م ْن ُر ُسلَنا أ َ
( )1/766
اء ُه ْم ِ وسى بِآََياتَِنا ِإلَى ِف ْر َع ْو َن َو َملَئِ ِه فَقَا َل ِإِّني َر ُسو ُل َر ِّ
ين (َ )46فلَ َّما َج َ ب اْل َعالَم َ َولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُم َ
اباهم بِاْل َع َذ ِ ُختِهَا َوأ َ
َخ ْذَن ُ ْ ون (َ )47و َما ُن ِري ِه ْم ِم ْن آََي ٍة ِإاَّل ِه َي أَ ْكَب ُر ِم ْن أ ْ ض َح ُك َ بِآََياتَِنا ِإ َذا ُه ْم ِم ْنهَا َي ْ
ون (َ )49فلَ َّما ك ِإَّنَنا لَ ُم ْهتَ ُد َك بِ َما َع ِه َد ِعْن َد َ لَعلَّهم ير ِجعون ( )48وقَالُوا يا أَيُّها الس ِ
َّاح ُر ْادعُ لََنا َرَّب َ َ َ َ َ ُْ َْ ُ َ
ص َر ال يا قَوِم أَلَْيس ِلي مْل ُ ِ ِِ ِ َك َش ْفَنا ع ْنهم اْلع َذاب ِإ َذا ُهم ي ْن ُكثُون ( )50وَن َ ِ
كم ْ ُ َ ادى ف ْر َع ْو ُن في قَ ْومه قَ َ َ ْ َ َ َْ َ ُُ َ َ
اد
ين َواَل َي َك ُ ون ( )51أ َْم أََنا َخ ْيٌر ِم ْن َه َذا الَِّذي ُه َو َم ِه ٌ ِ ِ ِ
َو َهذه اأْل َْنهَ ُار تَ ْج ِري م ْن تَ ْحتي أَفَاَل تُْبص ُر َ
ِِ
ِ ِ ِ ِ
ف قَ ْو َمهُ استَ َخ َّ
ين ( )53فَ ْ اء َم َعهُ اْل َماَل ئ َكةُ ُم ْقتَ ِرنِ َ َس ِو َرةٌ م ْن َذ َه ٍب أ َْو َج َ
ين (َ )52فلَ ْواَل أُْلق َي َعلَْيه أ ْ ُيبِ ُ
اهم أ ْ ِ ونا ْانتَقَ ْمَنا ِم ْنهُ ْم فَأ ْ ِِ
اه ْم
ين ( )55فَ َج َعْلَن ُ َج َمع َ َغ َر ْقَن ُ ْ َسفُ َ
ين (َ )54فلَ َّما آ َ اعوهُ ِإَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو ًما فَاسق َ ط ُ فَأَ َ
ِ ِ
ين ()56 َسلَفًا َو َمثَاًل لآْل َخ ِر َ
وسى بِ َآياتَِنا ِإلَى ِف ْر َع ْو َن َو َملَئِ ِه } .إلى آخر القصة)1( . { َ { } 46-56ولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُم َ
ِ َج َعْلَنا ِم ْن ُد ِ ِ َل م ْن أَرسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ ِ
الر ْح َم ِن آلهَةً ُي ْعَب ُد َ
ون } بين ون َّ ك م ْن ُر ُسلَنا أ َ اسأ ْ َ ْ َ لما قال تعالىَ { :و ْ
تعالى حال موسى ودعوته ،التي هي أشهر ما يكون من دعوات الرسل ،وألن اللّه تعالى أكثر من
وسى بِ َآياتَِنا } التي دلت داللة ذكرها في كتابه ،فذكر حاله مع فرعون ،فقالَ { :ولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُم َ
قاطعة على صحة ما جاء به ،كالعصا ،والحية ،وإ رسال الجراد ،والقمل ،إلى آخر اآليات.
ين } فدعاهم إلى اإلقرار بربهم ،ونهاهم عن عبادة ِ { ِإلَى ِف ْر َع ْو َن َو َملَئِ ِه فَقَا َل ِإِّني َر ُسو ُل َر ِّ
ب اْل َعالَم َ
ما سواه.
ون } أي :ردوها وأنكروها ،واستهزأوا بها ،ظلما وعلوا، اء ُه ْم بِ َآياتَِنا ِإ َذا ُه ْم ِم ْنهَا َي ْ
ض َح ُك َ { َفلَ َّما َج َ
فلم يكن لقصور باآليات ،وعدم وضوح فيها ،ولهذا قال:
__________
( )1وفي [ب] :ذكر اآليات إلى آخرها.
( )1/767
ُختِهَا }
{ َو َما ُن ِري ِه ْم ِم ْن َآي ٍة ِإال ِه َي أَ ْكَب ُر ِم ْن أ ْ
اب } كالجراد ،والقمل ،والضفادع ،والدم، اهم بِاْل َع َذ ِ
َخ ْذَن ُ ْ
أي :اآلية المتأخرة أعظم من السابقةَ { ،وأ َ
َّ
ون } إلى اإلسالم ،ويذعنون له ،ليزول شركهم وشرهم. آيات مفصالت { .لَ َعلهُ ْم َي ْر ِج ُع َ
َّاح ُر } يعنون موسى عليه السالم ،وهذا ،إما من { وقَالُوا } عندما نزل عليهم العذاب { :يا أَيُّها الس ِ
َ َ َ
باب التهكم به ،وإ ما أن يكون هذا الخطاب عندهم مدحا ،فتضرعوا إليه بأن خاطبوه بما يخاطبون
َّك بِ َما َع ِه َد ِع ْن َد َ
ك به من يزعمون أنهم علماؤهم ،وهم السحرة ،فقالوا { :يا أَيُّها الس ِ
َّاح ُر ْادعُ لََنا َرب َ َ َ
} أي :بما خصك اللّه به ،وفضلك به ،من الفضائل والمناقب ،أن يكشف عنا العذاب { ِإَّنَنا
ون } إن كشف اللّه عنا ذلك. لَ ُم ْهتَ ُد َ
ون } أي :لم يفوا بما قالوا ،بل غدروا ،واستمروا على اب ِإ َذا ُه ْم َي ْن ُكثُ َ { َفلَ َّما َك َش ْفَنا َعْنهُ ُم اْل َع َذ َ
الدم آي ٍ ان َواْل َج َر َاد َواْلقُ َّم َل َوالضَّفَ ِاد َ ُّ
ات ع َو َّ َ َ كفرهم .وهذا كقوله تعالى { :فَأ َْر َسْلَنا َعلَْي ِه ُم الطوفَ َ
ك بِ َما ين َولَ َّما َوقَ َع َعلَْي ِه ُم ِّ ٍ
وسى ْادعُ لََنا َرَّب َ الر ْج ُز قَالُوا َيا ُم َ استَ ْكَب ُروا َو َك ُانوا قَ ْو ًما ُم ْج ِر ِم َ ُمفَصَّالت فَ ْ
الر ْج َز ك َبنِي ِإ ْس َرائِ َ
يل َفلَ َّما َك َش ْفَنا َعْنهُ ُم ِّ ك َولَُن ْر ِسلَ َّن َم َع َالر ْج َز لَُن ْؤ ِمَن َّن لَ َ
ت َعَّنا ِّ ك لَئِ ْن َك َش ْف َ َع ِه َد ِعْن َد َ
ِ
ون }َج ٍل ُه ْم َبال ُغوهُ ِإ َذا ُه ْم َي ْن ُكثُ َ ِإلَى أ َ
ادى ِف ْر َع ْو ُن ِفي قَ ْو ِم ِه قَا َل } مستعليا بباطله ،قد غره ملكه ،وأطغاه ماله وجنودهَ { :يا قَ ْوِم { َوَن َ
األنهَ ُار تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِي } ص َر } أي :ألست المالك لذلك ،المتصرف فيهَ { ،و َه ِذ ِه ْ كم ْ
أَلَْيس ِلي مْل ُ ِ
ُ َ
ون } هذا الملك ِ
أي :األنهار المنسحبة من النيل ،في وسط القصور والبساتين { .أَفَال تُْبص ُر َ
الطويل العريض ،وهذا من جهله البليغ ،حيث افتخر بأمر خارج عن ذاته ،ولم يفخر بأوصاف
حميدة ،وال أفعال سديدة.
ين } يعني -قبحه اللّه -بالمهين ،موسى بن عمران ،كليم { أ َْم أََنا َخ ْيٌر ِم ْن َه َذا الَِّذي ُه َو َم ِه ٌ
الرحمن ،الوجيه عند اللّه ،أي :أنا العزيز ،وهو الذليل المهان المحتقر ،فأينا خير؟ { و } مع هذا
اد ُيبِ ُ
ين } عما في ضميره بالكالم ،ألنه ليس بفصيح اللسان ،وهذا ليس من العيوب في فـ { ال َي َك ُ
شيء ،إذا كان يبين ما في قلبه ،ولو كان ثقيال عليه الكالم.
َس ِو َرةٌ ِم ْن َذ َه ٍب } أي :فهال كان موسى بهذه الحالة ،أن يكون ِ ِ
ثم قال فرعونَ { :فلَ ْوال أُْلق َي َعلَْيه أ ْ
ِ
اء َم َعهُ اْل َمالئ َكةُ ُم ْقتَ ِرنِ َ
ين } يعاونونه على دعوته، مزينا مجمال بالحلي واألساور؟ { أ َْو َج َ
ويؤيدونه على قوله.
اعوهُ } أي :استخف عقولهم بما أبدى لهم من هذه الشبه ،التي ال تسمن وال
ط ُ استَ َخ َّ
ف قَ ْو َمهُ فَأَ َ { فَ ْ
تغني من جوع ،وال حقيقة تحتها ،وليست دليال على حق وال على باطل ،وال تروج إال على
ضعفاء العقول.
فأي دليل يدل على أن فرعون محق ،لكون ملك مصر له ،وأنهاره تجري من تحته؟
وأي دليل يدل على بطالن ما جاء به موسى لقلة أتباعه ،وثقل لسانه ،وعدم تحلية اهلل له ،ولكنه
ِِ
ين } فبسبب لقي مأل ال معقول عندهم ،فمهما قال اتبعوه ،من حق وباطلِ { .إَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو ًما فَاسق َ
فسقهم ،قيض لهم [ ص ] 768فرعون ،يزين لهم الشرك والشر.
اه ْم َسلَفًا َو َمثَال اهم أ ْ ِ ونا } أي :أغضبونا بأفعالهم { ْانتَقَ ْمَنا ِم ْنهُ ْم فَأ ْ
ين فَ َج َعْلَن ُ
َج َمع َ َغ َر ْقَن ُ ْ آسفُ َ
{ َفلَ َّما َ
ِ ِ
ين } ليعتبر بهم المعتبرون ،ويتعظ بأحوالهم المتعظون. لآلخ ِر َ
( )1/767
ِ ِ ولَ َّما ض ِرب ْابن مريم مثَاًل ِإ َذا قَوم َ ِ
كض َرُبوهُ لَ َ
ون (َ )57وقَالُوا أَآَلهَتَُنا َخ ْيٌر أ َْم ُه َو َما َ ك م ْنهُ َيص ُّد َ ُْ ُ َ ُ َ ْ ََ َ َ
ِ ِ ِ ِ اَّل
ون (ِ )58إ ْن ُه َو ِإ َعْب ٌد أ َْن َع ْمَنا َعلَْيه َو َج َعْلَناهُ َمثَاًل لَبني ِإ ْس َرائ َ ِ اَّل
يل ()59 ِإ َج َداًل َب ْل ُه ْم قَ ْو ٌم َخص ُم َ
ون ()60 اء لَ َج َعْلَنا ِم ْن ُك ْم َماَل ئِ َكةً ِفي اأْل َْر ِ
ض َي ْخلُفُ َ َولَ ْو َن َش ُ
ان ِإَّنهُ لَ ُك ْم ص َّدَّن ُكم َّ ِ ِ َّاع ِة فَاَل تَ ْمتَُر َّن بِهَا َواتَّبِ ُع ِ ِ ِ
ط ُالش ْي َ يم (َ )61واَل َي ُ ُ ون َه َذا ص َراطٌ ُم ْستَق ٌ َوإِ َّنهُ لَعْل ٌم للس َ
ِ َِّ ِ ِ ين ( )62ولَ َّما جاء ِعيسى بِاْلبيَِّن ِ
ون
ض الذي تَ ْختَلفُ َ ال قَ ْد ِج ْئتُ ُك ْم بِاْلح ْك َمة َوأِل َُبي َ
ِّن لَ ُك ْم َب ْع َ ات قَ َ َ َ َ َ َ َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ
ِ ِ ون (ِ )63إ َّن اللَّهَ ُه َو َربِّي َو َرُّب ُك ْم فَ ْ َّ ِ ِِ
ف
اختَلَ َ يم ( )64فَ ْ اعُب ُدوهُ َه َذا ص َراطٌ ُم ْستَق ٌ يع ِفيه فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ
اب َي ْوٍم أَِل ٍيم ()65 ظلَموا ِم ْن َع َذ ِ
ين َ ُ
َِِّ َح َز ِ ِ
اب م ْن َب ْين ِه ْم فَ َوْي ٌل للذ َ
اأْل ْ ُ
ان ِإَّنهُ لَ ُك ْم ص َّدَّن ُكم َّ ِ ِ َّاع ِة فَال تَ ْمتَُر َّن بِهَا َواتَّبِ ُع ِ ِ ِ
ط ُالش ْي َ يم * َوال َي ُ ُ ون َه َذا ص َراطٌ ُم ْستَق ٌ { َوإِ َّنهُ لَعْل ٌم للس َ
ال قَ ْد ِج ْئتُ ُكم بِاْل ِح ْكم ِة وألبيِّن لَ ُكم بعض الَِّذي تَ ْختَِلفُون ِف ِ ين * ولَ َّما جاء ِعيسى بِاْلبيَِّن ِ
يه َ َ َ َ َ ْ َْ َ ْ ات قَ َ َ َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ َ َ َ َ
ِ ِ ون * ِإ َّن اللَّهَ ُه َو َربِّي َو َرُّب ُك ْم فَ ْ َّ ِ
اب
األح َز ُ ف ْ اختَلَ َيم * فَ ْ اعُب ُدوهُ َه َذا ص َراطٌ ُم ْستَق ٌ يع ِفَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ
اب َي ْوٍم أَِل ٍيم } .ظلَموا ِم ْن َع َذ ِ
ين َ ُ
َِِّ ِ ِ
م ْن َب ْين ِه ْم فَ َوْي ٌل للذ َ
َّاع ِة } أي :وإ ن عيسى عليه السالم ،لدليل على الساعة ،وأن القادر على إيجاده من ِ ِ
{ َوإِ َّنهُ لَعْل ٌم للس َ
أم بال أب ،قادر على بعث الموتى من قبورهم ،أو وإ ن عيسى عليه السالم ،سينزل في آخر
الزمان ،ويكون نزوله عالمة من عالمات الساعة { فَال تَ ْمتَُر َّن بِهَا } أي :ال تشكن في قيام
ون } بامتثال ما أمرتكم ،واجتناب ما نهيتكمَ { ،ه َذا ِ
ص َراطٌ الساعة ،فإن الشك فيها كفرَ { .واتَّبِ ُع ِ
يم } موصل إلى اهلل عز وجل، ِ
ُم ْستَق ٌ
ان } عما أمركم اهلل به ،فإن الشيطان { لَ ُك ْم َع ُد ٌّو } حريص على إغوائكم، ط ُ ص َّدَّن ُكم َّ
الش ْي َ { َوال َي ُ ُ
باذل جهده في ذلك.
ات } الدالة على صدق نبوته وصحة ما جاءهم به [ ،ص ] 769من { ولَ َّما جاء ِعيسى بِاْلبيَِّن ِ
َ َ َ َ َ
ال } لبني إسرائيل { :قَ ْد إحياء الموتى ،وإ براء األكمه واألبرص ،ونحو ذلك من اآليات { .قَ َ
ض الَِّذي
ِّن لَ ُك ْم َب ْع َ
ِ ِ
ِج ْئتُ ُك ْم بِاْلح ْك َمة } النبوة والعلم ،بما ينبغي على الوجه الذي ينبغيَ { .و َ
ألبي َ
يه } أي :أبين لكم صوابه وجوابه ،فيزول عنكم بذلك اللبس ،فجاء عليه السالم مكمال تَ ْختَِلفُون ِف ِ
َ
ومتمما لشريعة موسى عليه السالم ،وألحكام التوراة .وأتى ببعض التسهيالت الموجبة لالنقياد
َّ ِ
ون } أي :اعبدوا اهلل وحده ال شريك له ،وامتثلوا له ،وقبول ما جاءهم به { .فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ
يع ِ
أمره ،واجتنبوا نهيه ،وآمنوا بي وصدقوني وأطيعون.
يم } ففيه اإلقرار بتوحيد الربوبية ،بأن اهلل هو ِ ِ { ِإ َّن اللَّهَ ُه َو َربِّي َو َرُّب ُك ْم فَ ْ
اعُب ُدوهُ َه َذا ص َراطٌ ُم ْستَق ٌ
المربي جميع خلقه بأنواع النعم الظاهرة والباطنة ،واإلقرار بتوحيد العبودية ،باألمر بعبادة اهلل
وحده ال شريك له ،وإ خبار عيسى عليه السالم أنه عبد من عباد اهلل ،ليس كما قال فيه النصارى:
"إنه ابن اهلل أو ثالث ثالثة" واإلخبار بأن هذا المذكور صراط مستقيم ،موصل إلى اهلل وإ لى جنته.
اب } المتحزبون على التكذيب { ِم ْن َب ْينِ ِه ْم }
األح َز ُ
ف ْ اختَلَ َ
فلما جاءهم عيسى عليه السالم بهذا { ْ
كل قال بعيسى عليه السالم مقالة باطلة ،ورد ما جاء به ،إال من هدى اهلل من المؤمنين ،الذين
شهدوا له بالرسالة ،وصدقوا بكل ما جاء به ،وقالوا :إنه عبد اهلل ورسوله.
ظلَ ُموا من عذاب يوم أليم } أي :ما أشد حزن الظالمين وما أعظم خسارهم في ذلك
ين َ َِِّ
{ فَ َوْي ٌل للذ َ
اليوم".
( )1/768
( )1/769
( )1/770
( )1/770
( )1/770
ض ِإلَهٌ و ُهو اْلح ِكيم اْلعِليم * وتَبار َ َِّ { { } 84-89و ُهو الَِّذي ِفي الس ِ
ك الذي لَهُ َ َ َ ُ َ ُ َ ََ َّماء ِإلَهٌ َو ِفي ْ
األر ِ َ َ َ
ض وما ب ْيَنهما و ِع ْن َده ِعْلم السَّاع ِة وإِلَْي ِه تُرجعون * وال يمِل ُ َِّ ِ
ون
ين َي ْد ُع َ
ك الذ َ ْ َ ُ َ َ َْ َ َ األر ِ َ َ َ ُ َ َ ُ ُ َّم َاوات َو ْ ك الس َ ُمْل ُ
ون * َولَئِ ْن َسأَْلتَهُ ْم َم ْن َخلَقَهُ ْم لََيقُولُ َّن اللَّهُ فَأََّنى
ق َو ُه ْم َي ْعلَ ُم َاعةَ ِإال َم ْن َش ِه َد بِاْل َح ِّ
الشفَ َ ِم ْن ُدونِ ِه َّ
ِ ون * َو ِق ِيل ِه َيا َر ِّ
ون } .ف َي ْعلَ ُم َ الم فَ َس ْو َاصفَ ْح َعْنهُ ْم َو ُق ْل َس ٌ ون * فَ ْ ب ِإ َّن َه ُؤالء قَ ْو ٌم ال ُي ْؤ ِمُن َ ُي ْؤفَ ُك َ
يخبر تعالى ،أنه وحده المألوه المعبود في السماوات واألرض فأهل السماوات كلهم ،والمؤمنون
من أهل األرض ،يعبدونه ،ويعظمونه ،ويخضعون [ ص ] 771لجالله ،ويفتقرون لكماله.
ِّح بِ َح ْم ِد ِه } { َوِللَّ ِه َي ْس ُج ُد َم ْن ٍ ِ ِ
ض َو َم ْن في ِه َّن َوإِ ْن م ْن َش ْيء ِإال ُي َسب ُاألر ُ ات الس َّْبعُ َو ْ
َّم َاو ُ
ِّح لَهُ الس َ
{ تُ َسب ُ
ط ْو ًعا َو َك ْر ًها }
ض َاألر ِ ِ ِ
َّم َاوات َو ْ في الس َ
فهو تعالى المألوه المعبود ،الذي يألهه الخالئق كلهم ،طائعين مختارين ،وكارهين .وهذه كقوله
تعالى { :وهو اللّه في السماوات وفي األرض } أي :ألوهيته ومحبته فيهما .وأما هو فهو فوق
يم } الذي أحكم ما خلقه ،وأتقن ِ
عرشه ،بائن من خلقه ،متوحد بجالله ،متمجد بكمالهَ { ،و ُه َو اْل َحك ُ
ما شرعه ،فما خلق شيئا إال لحكمة ،وال شرع شيئا إال لحكمة ،وحكمه القدري والشرعي
يم } بكل شيء ،يعلم السر وأخفى ،وال يعزب عنه مثقال ِ
والجزائي مشتمل على الحكمة { .اْل َعل ُ
ذرة في العالم العلوي والسفلي ،وال أصغر منها وال أكبر.
األر ِ
ض َو َما َب ْيَنهُ َما } تبارك بمعنى تعالى وتعاظم ،وكثر ِ ك الَِّذي لَهُ ُمْل ُ
َّم َاوات َو ْك الس َ { َوتََب َار َ
خيره ،واتسعت صفاته ،وعظم ملكه .ولهذا ذكر سعة ملكه للسموات واألرض وما بينهما ،وسعة
علمه ،وأنه بكل شيء عليم ،حتى إنه تعالى ،انفرد بعلم كثير من الغيوب ،التي لم يطلع عليها أحد
َّاع ِة } قدم الظرف ،ليفيد ِ
من الخلق ،ال نبي مرسل ،وال ملك مقرب ،ولهذا قالَ { :و ِع ْن َدهُ عْل ُم الس َ
الحصر ،أي :ال يعلم متى تجيء الساعة إال هو ،ومن تمام ملكه وسعته ،أنه مالك الدنيا واآلخرة،
ون } أي :في اآلخرة فيحكم بينكم بحكمه العدل ،ومن تمام ملكه ،أنه ال ِ
ولهذا قالَ { :وإِلَْيه تُْر َج ُع َ
يملك أحد من خلقه من األمر شيئا ،وال يقدم على الشفاعة عنده أحد إال بإذنه.
اعةَ } أي :كل من دعي من دون اللّه ،من األنبياء ون ِم ْن ُدونِ ِه َّ
الشفَ َ ين َي ْد ُع َ
{ وال يمِل ُ َِّ
ك الذ َ َ َْ
والمالئكة وغيرهم ،ال يملكون الشفاعة ،وال يشفعون إال بإذن اللّه ،وال يشفعون إال لمن ارتضى،
ق } أي :نطق بلسانه ،مقرا بقلبه ،عالما بما شهد به ،ويشترط أن ولهذا قالِ { :إال َم ْن َش ِه َد بِاْل َح ِّ
تكون شهادته بالحق ،وهو الشهادة للّه تعالى بالوحدانية ،ولرسله بالنبوة والرسالة ،وصحة ما
جاءوا به ،من أصول الدين وفروعه ،وحقائقه وشرائعه ،فهؤالء الذين تنفع فيهم شفاعة الشافعين،
وهؤالء الناجون من عذاب اللّه ،الحائزون لثوابه.
ثم قال تعالىَ { :ولَئِ ْن َسأَْلتَهُ ْم َم ْن َخلَقهم لََيقُولُ َّن اللَّهُ } أي :ولئن سألت المشركين عن توحيد
الربوبية ،ومن هو الخالق ،ألقروا أنه اللّه وحده ال شريك له.
ون } أي :فكيف يصرفون عن عبادة اللّه واإلخالص له وحده؟! { فَأََّنى ُي ْؤفَ ُك َ
فإقرارهم بتوحيد الربوبية ،يلزمهم به اإلقرار بتوحيد األلوهية ،وهو من أكبر األدلة على بطالن
الشرك.
َّاع ِة } أي: ِ
ون } هذا معطوف على قولهَ { :و ِع ْن َدهُ عْل ُم الس َ
ِ { َو ِق ِيل ِه َيا َر ِّ
ب ِإ َّن َه ُؤالء قَ ْو ٌم ال ُي ْؤ ِمُن َ
وعنده علم قيله ،أي :الرسول صلى اللّه عليه وسلم ،شاكيا لربه تكذيب قومه ،متحزنا على ذلك،
متحسرا على عدم إيمانهم ،فاللّه تعالى عالم بهذه الحال ،قادر على معاجلتهم بالعقوبة ،ولكنه
اصفَ ْح َع ْنهُ ْم َو ُق ْل
تعالى حليم ،يمهل العباد ويستأني بهم ،لعلهم يتوبون ويرجعون ،ولهذا قال { :فَ ْ
الم } أي :اصفح عنهم ما يأتيك من أذيتهم القولية والفعلية ،واعف عنهم ،وال يبدر منك لهم إال َس ٌ
السالم الذي يقابل به أولو األلباب والبصائر الجاهلين ،كما قال تعالى عن عباده الصالحين { :وإ ذا
خاطبهم الجاهلون } أي :خطابا بمقتضى جهلهم { قالوا سالما } فامتثل صلى اللّه عليه وسلم،
ألمر ربه ،وتلقى ما يصدر إليه من قومه وغيرهم من األذى ،بالعفو والصفح ،ولم يقابلهم عليه إال
باإلحسان إليهم والخطاب الجميل.
فصلوات اللّه وسالمه على من خصه اللّه بالخلق العظيم ،الذي فضل به أهل األرض والسماء،
وارتفع به أعلى من كواكب الجوزاء.
ون } أيِ :غ َّ
ب ذنوبهم ،وعاقبة جرمهم. ف َي ْعلَ ُم َ
وقوله { :فَ َس ْو َ
تم تفسير سورة الزخرف
( )1/770
تفسير سورة الدخان
مكية
( )1/771
ين * ِإَّنا أ َْن َزْلَناهُ ِفي لَْيلَ ٍة ُمَب َار َك ٍة ِإَّنا ُكَّنا
اب اْل ُمبِ ِ الر ِح ِيم حم * واْل ِكتَ ِ
َ { { } 1-16بِ ْسِم اللَّ ِه َّ
الر ْح َم ِن َّ
ك ِإَّنهُ ُه َو ين * َر ْح َمةً ِم ْن َرِّب َ ِِ ِ ِِ ٍِ
ق ُك ُّل أ َْم ٍر َحكيم * أ َْم ًرا م ْن عْندَنا ِإَّنا ُكَّنا ُم ْرسل َ ين * ِفيهَا ُي ْف َر ُ ِ
ُم ْنذ ِر َ
ين * ال ِإلَهَ ِإال ُه َو ُي ْحيِي َوُي ِم ُ
يت ِ
ض َو َما َب ْيَنهُ َما ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ُمو ِقن َ األر ِ ِ
َّم َاوات َو ْ ب الس َ يم * َر ُّ ِ ِ
السَّميعُ اْل َعل ُ
ان ُمبِ ٍ
اء بِ ُد َخ ٍ ِ ون * فَ ْارتَِق ْ ين * َب ْل ُهم ِفي َش ٍّ ب َآبائِ ُك ُم َّ
ين * َّم ُ
ب َي ْو َم تَأْتي الس َ ك َيْل َعُب َ ْ األوِل َ َرُّب ُك ْم َو َر ُّ
اء ُه ْم ِّ
ون * أََّنى لَهُ ُم الذ ْك َرى َوقَ ْد َج َ اب ِإَّنا ُم ْؤ ِمُن َف َعَّنا اْل َع َذ َ يم * َربََّنا ا ْك ِش ْ الناس َه َذا ع َذ ٌ ِ
اب أَل ٌ َ َي ْغ َشى َّ َ
ِ اشفُوا اْلع َذ ِ ِ ون * ِإَّنا َك ِ ين * ثَُّم تََولَّ ْوا َع ْنهُ َوقَالُوا ُم َعلٌَّم َم ْجُن ٌ
ون * َي ْو َم اب َقليال ِإَّن ُك ْم َعائ ُد َ َ َر ُسو ٌل ُمبِ ٌ
ِ َن ْب ِط ُ
ون } . ط َشةَ اْل ُك ْب َرى ِإَّنا ُم ْنتَق ُم َش اْلَب ْ
هذا قسم بالقرآن على القرآن ،فأقسم بالكتاب المبين لكل ما يحتاج إلى بيانه أنه أنزله { ِفي لَْيلَ ٍة
ُمَب َار َك ٍة } أي :كثيرة الخير والبركة وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ،فأنزل أفضل
الكالم بأفضل الليالي واأليام على أفضل األنام ،بلغة العرب الكرام لينذر به قوما عمتهم الجهالة
وغلبت عليهم الشقاوة فيستضيئوا بنوره ويقتبسوا من هداه ويسيروا وراءه فيحصل لهم الخير
ين ِفيهَا } أي :في تلك الليل الفاضلة التي نزل ِ
الدنيوي والخير األخروي ولهذا قالِ { :إَّنا ُكَّنا ُم ْنذ ِر َ
ق ُك ُّل أ َْم ٍر َح ِك ٍيم } أي :يفصل ويميز ويكتب كل أمر قدري وشرعي حكم اهلل به، فيها القرآن { ُي ْف َر ُ
وهذه الكتابة والفرقان [ ،ص ] 772الذي يكون في ليلة القدر أحد ( )1الكتابات التي تكتب
وتميز فتطابق الكتاب األول الذي كتب اهلل به مقادير الخالئق وآجالهم وأرزاقهم وأعمالهم
وأحوالهم ،ثم إن اهلل تعالى قد وكل مالئكة تكتب ما سيجري على العبد وهو في بطن أمه ،ثم
وكلهم بعد وجوده إلى الدنيا وكل به كراما كاتبين يكتبون ويحفظون عليه أعماله ،ثم إنه تعالى
يقدر في ليلة القدر ما يكون في السنة ،وكل هذا من تمام علمه وكمال حكمته وإ تقان حفظه
واعتنائه تعالى بخلقه.
{ أ َْم ًرا ِم ْن ِعْن ِدَنا } أي :هذا األمر الحكيم أمر صادر من عندنا.
ِِ
ين } للرسل ومنزلين للكتب والرسل تبلغ أوامر المرسل وتخبر بأقدارهَ { ،ر ْح َمةً { ِإَّنا ُكَّنا ُم ْرسل َ
ِّك } أي :إن إرسال الرسل وإ نزال الكتب التي أفضلها القرآن رحمة من رب العباد بالعباد، ِم ْن َرب َ
فما رحم اهلل عباده برحمة أجل من هدايتهم بالكتب والرسل ،وكل خير ينالونه في الدنيا واآلخرة
ِ ِ ِ
يم } أي :يسمع جميع األصوات ويعلم جميع األمور فإنه من أجل ذلك وسببه { ،إَّنهُ ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ
الظاهرة والباطنة وقد علم تعالى ضرورة العباد إلى رسله وكتبه فرحمهم بذلك ومن عليهم فله
تعالى الحمد والمنة واإلحسان.
ض َو َما َب ْيَنهُ َما } أي :خالق ذلك ومدبره والمتصرف فيه بما شاءِ { .إ ْن
األر ِ ِ { َر ِّ
َّم َاوات َو ْ ب الس َ
ِ
ين } أي :عالمين بذلك علما مفيدا لليقين فاعلموا أن الرب للمخلوقات هو إلهها الحق ُك ْنتُ ْم ُمو ِقن َ
يت } أي :هو المتصرف وحده ولهذا قال { :ال ِإلَهَ ِإال ُه َو } أي :ال معبود إال وجههُ { ،ي ْحيِي َوُي ِم ُ
باإلحياء واإلماتة وسيجمعكم بعد موتكم فيجزيكم بعملكم إن خيرا فخير وإ ن شرا فشرَ { ،رُّب ُك ْم
ين } أي :رب األولين واآلخرين مربيهم بالنعم الدافع عنهم النقم. ب َآبائِ ُك ُم َّ
األوِل َ َو َر ُّ
فلما قرر تعالى ربوبيته وألوهيته بما يوجب العلم التام ويدفع الشك أخبر أن الكافرين مع هذا
ون } أي :منغمرون في الشكوك والشبهات غافلون عما خلقوا له قد اشتغلوا ك َيْل َعُب َ البيان { ِفي َش ٍّ
باللعب الباطل ،الذي ال يجدي عليهم إال الضرر.
ين َي ْغ َشى ان ُمبِ ٍ
اء بِ ُد َخ ٍ ِ { فَ ْارتَِق ْ
َّم ُ
ب } أي :انتظر فيهم العذاب فإنه قد قرب وآن أوانهَ { ،ي ْو َم تَأْتي الس َ
الناس } أي :يعمهم ذلك الدخان ويقال لهمَ { :ه َذا ع َذ ٌ ِ
يم }
اب أَل ٌ َ َّ َ
واختلف المفسرون في المراد بهذا الدخان ،فقيل :إنه الدخان الذي يغشى الناس ويعمهم حين
تقرب النار من المجرمين في يوم القيامة وأن اهلل توعدهم بعذاب يوم القيامة وأمر نبيه أن ينتظر
بهم ذلك اليوم.
ويؤيد هذا المعنى أن هذه الطريقة هي طريقة القرآن في توعد الكفار والتأني بهم وترهيبهم بذلك
اليوم وعذابه وتسلية الرسول والمؤمنين باالنتظار بمن آذاهم.
اء ُه ْم َر ُسو ٌل ُمبِ ٌ ِّ
ين } وهذا يقال يوم ويؤيده أيضا أنه قال في هذه اآلية { :أََّنى لَهُ ُم الذ ْك َرى َوقَ ْد َج َ
القيامة للكفار حين يطلبون الرجوع إلى الدنيا فيقال :قد ذهب وقت الرجوع.
وقيل :إن المراد بذلك ما أصاب كفار قريش حين امتنعوا من اإليمان واستكبروا على الحق فدعا
عليهم النبي صلى اهلل عليه وسلم فقال { :اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف } فأرسل اهلل
عليهم الجوع العظيم حتى أكلوا الميتات والعظام وصاروا يرون الذي بين السماء واألرض كهيئة
الدخان وليس به ،وذلك من شدة الجوع.
اء بِ ُد َخ ٍ
ان } أن ذلك بالنسبة إلى أبصارهم وما يشاهدون ِ
َّم ُ
فيكون -على هذا -قولهَ { :ي ْو َم تَأْتي الس َ
وليس بدخان حقيقة.
ولم يزالوا بهذه الحالة حتى استرحموا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وسألوه أن يدعو اهلل لهم أن
اب َقِليال ِإَّن ُك ْم يكشفه اهلل عنهم فدعا ربه فكشفه اهلل عنهم ،وعلى هذا فيكون قولهِ { :إَّنا َك ِ
اشفُوا اْل َع َذ ِ
ون } إخبار بأن اهلل سيصرفه عنكم وتوعد لهم أن يعودوا إلى االستكبار والتكذيب وإ خبار ِ
َعائ ُد َ
بوقوعه فوقع وأن اهلل سيعاقبهم بالبطشة الكبرى ،قالوا :وهي وقعة بدر وفي هذا القول نظر
ظاهر.
وقيل :إن المراد بذلك أن ذلك من أشراط الساعة وأنه يكون في آخر الزمان دخان يأخذ بأنفاس
الناس ويصيب المؤمنين منهم كهيئة الدخان ،والقول هو األول ،وفي اآلية احتمال أن المراد
ين } أن هذا كله يكون يوم القيامة [ .ص ] 773 ان ُمبِ ٍ اء بِ ُد َخ ٍ ِ بقوله { :فَ ْارتَِق ْ
َّم ُ
ب َي ْو َم تَأْتي الس َ
ِ ون * َي ْو َم َن ْب ِط ُ ِ اشفُوا اْلع َذ ِ ِ وأن قوله تعالى { ِإَّنا َك ِ
ط َشةَ اْل ُك ْب َرى ِإَّنا ُم ْنتَق ُم َ
ون } ش اْلَب ْ اب َقليال ِإَّن ُك ْم َعائ ُد َ َ
أن هذا ما وقع لقريش كما تقدم وإ ذا نزلت هذه اآليات على هذين المعنيين لم تجد في اللفظ ما يمنع
من ذلك
بل تجدها مطابقة لهما أتم المطابقة وهذا الذي يظهر عندي ويترجح واهلل أعلم
{ َ { } 17-33ولَقَ ْد فَتََّنا قَْبلَهُ ْم قَ ْو َم ِف ْر َع ْو َن } إلى آخر القصة.
( )2لما ذكر تعالى تكذيب من كذب الرسول محمدا صلى اهلل عليه وسلم ذكر أن لهم سلفا من
المكذبين ،فذكر قصتهم مع موسى وما أحل اهلل بهم ليرتدع هؤالء المكذبون عن ما هم عليه فقال:
{ َولَقَ ْد فَتََّنا قَْبلَهُ ْم قَ ْو َم ِف ْر َع ْو َن } أي :ابتليناهم واختبرناهم بإرسال رسولنا موسى بن عمران إليهم
الرسول الكريم الذي فيه من الكرم ومكارم األخالق ما ليس في غيره.
اد اللَّ ِه } أي :قال لفرعون وملئه :أدوا إلي عباد اهلل ،يعني بهم :بني إسرائيل أي: َن أ َُّدوا ِإلَ َّي ِعَب َ { أْ
أرسلوهم وأطلقوهم من عذابكم وسومكم إياهم سوء العذاب فإنهم عشيرتي وأفضل العالمين في
زمانهم.
ين } أي: وأنتم قد ظلمتموهم واستعبدتموهم بغير حق فأرسلوهم ليعبدوا ربهمِ { ،إِّني لَ ُكم رسو ٌل أ ِ
َم ٌ َْ ُ
رسول من رب العالمين أمين على ما أرسلني به ال أكتمكم منه شيئا وال أزيد فيه وال أنقص وهذا
يوجب تمام االنقياد له.
__________
( )1في النسختين (أحد) ولعل الصواب (إحدى).
( )2في نسخة (ب) ذكر اآليات كاملة.
( )1/771
ون ()20 َن تَْر ُج ُم ِ ت بَِربِّي َو َرِّب ُك ْم أ ْ ين (َ )19وإِ ِّني ُع ْذ ُ ان ُمبِ ٍ طٍ َن اَل تَ ْعلُوا َعلَى اللَّ ِه ِإِّني آَتِي ُك ْم بِ ُسْل َ
َوأ ْ
َس ِر بِ ِعَب ِادي لَْياًل ِإَّن ُك ْم
ون ( )22فَأ ْ
ِ
َن َه ُؤاَل ء قَ ْو ٌم ُم ْج ِر ُم َ
ون ( )21فَ َد َعا َربَّهُ أ َّ َوإِ ْن لَ ْم تُ ْؤ ِمُنوا ِلي فَ ْ
اعتَ ِزلُ ِ
ون ()25 ات َو ُعُي ٍ متَّبعون ( )23واتْر ِك اْلب ْحر ر ْهوا ِإَّنهم ج ْن ٌد م ْغرقُون (َ )24كم تَر ُكوا ِم ْن جَّن ٍ
َ ْ َ َ َ َ ً ُْ ُ ُ َ َ َ ُ ُ َُ َ
ين ( )28فَ َما َخ ِر َ اها قَ ْو ًما آ َ ك َوأ َْو َرثَْن َين (َ )27ك َذِل َ ِ ِ ٍ ٍ
وع َو َمقَام َك ِريم (َ )26وَن ْع َمة َك ُانوا فيهَا فَاك ِه َ
ٍ َو ُز ُر ٍ
يناب اْل ُم ِه ِ يل ِم َن اْل َع َذ َِّيَنا َبنِي ِإ ْس َرائِ َ ين (َ )29ولَقَ ْد َنج ْ ظ ِر َ ض َو َما َك ُانوا ُم ْن َ اء َواأْل َْر ُ َّم ُ ِ
ت َعلَْيه ُم الس َ َب َك ْ
ِ ٍِ ين (َ )31ولَقَِد ْ ِ ِ ِ ِ
ين ()32 اه ْم َعلَى عْلم َعلَى اْل َعالَم َ اختَْرَن ُ ان َعالًيا م َن اْل ُم ْس ِر ِف َ ( )30م ْن ف ْر َع ْو َن ِإَّنهُ َك َ
ين ()33 يه َباَل ٌء ُمبِ ٌ ات ما ِف ِ ِ وآَتَْيَن ُ ِ
اه ْم م َن اآْل ََي َ َ
ان ُمبِ ٍ
ين طٍ َن ال تَ ْعلُوا َعلَى اللَّ ِه } باالستكبار عن عبادته والعلو على عباد اهللِ { ،إِّني آتِي ُك ْم بِ ُسْل َ
{ َوأ ْ
} أي :بحجة بينة ظاهرة وهو ما أتى به من المعجزات الباهرات واألدلة القاهرات ،فكذبوه وهموا
ون } أي :تقتلوني أشر ت بَِربِّي َو َرِّب ُك ْم أ ْ
َن تَْر ُج ُم ِ بقتله فلجأ باهلل من شرهم فقالَ { :وإِ ِّني ُع ْذ ُ
القتالت بالرجم بالحجارة.
ون } أي :لكم ثالث مراتب :اإليمان بي وهو مقصودي منكم فإن لم { َوإِ ْن لَ ْم تُ ْؤ ِمُنوا ِلي فَ ْ
اعتَ ِزلُ ِ
تحصل منكم هذه المرتبة فاعتزلوني ال علي وال لي ،فاكفوني شركم .فلم تحصل منهم المرتبة
األولى وال الثانية بل لم يزالوا متمردين عاتين على اهلل محاربين لنبيه موسى عليه السالم غير
ِ
َن َه ُؤالء قَ ْو ٌم ُم ْج ِر ُم َ
ون } أي :قد أجرموا جرما ممكنين له من قومه بني إسرائيل { .فَ َد َعا َربَّهُ أ َّ
يوجب تعجيل العقوبة.
فأخبر عليه السالم بحالهم وهذا دعاء بالحال التي هي أبلغ من المقال ،كما قال عن نفسه عليه
ت ِإلَ َّي ِم ْن َخ ْي ٍر فَِق ٌير } فأمره اهلل أن يسري بعباده ليال وأخبره أن
ب ِإِّني ِل َما أَنزْل َ
السالم { َر ِّ
فرعون وقومه سيتبعونهَ { .واتْ ُر ِك اْلَب ْح َر َر ْه ًوا } أي :بحاله وذلك أنه لما سرى موسى ببني
إسرائيل كما أمره اهلل ثم تبعهم فرعون فأمر اهلل موسى أن يضرب البحر فضربه فصار اثنى
عشر طريقا وصار الماء من بين تلك الطرق كالجبال العظيمة فسلكه موسى وقومه.
فلما خرجوا منه أمره اهلل أن يتركه رهوا أي :بحاله ليسلكه فرعون وجنوده { ِإَّنهُ ْم ُج ْن ٌد ُم ْغ َرقُ َ
ون }
فلما تكامل قوم موسى خارجين منه وقوم فرعون داخلين فيه أمره اهلل تعالى أن يلتطم عليهم
فغرقوا عن آخرهم وتركوا ما متعوا به من الحياة الدنيا وأورثه اهلل بني إسرائيل الذين كانوا
وع َو َمقَ ٍام َك ِر ٍيم * َوَن ْع َم ٍة َك ُانوا
ون * َو ُز ُر ٍ مستعبدين لهم ولهذا قالَ { :كم تَر ُكوا ِم ْن جَّن ٍ
ات َو ُعُي ٍ َ ْ َ
ين } وفي اآلية األخرى آخ ِر َ اها } أي هذه النعمة المذكورة { قَ ْو ًما َ ين * َك َذِل َ
ك َوأ َْو َرثَْن َ ِ
فيهَا فَاك ِه َ
ِ
اها َبنِي ِإ ْس َرائِي َل }ك َوأ َْو َرثَْن َ{ َك َذِل َ
ض } أي لما أتلفهم اهلل وأهلكهم لم تبك عليهم السماء واألرض أي
األر ُ
اء َو ْ
َّم ُ ِ
ت َعلَْيه ُم الس َ
{ فَ َما َب َك ْ
لم يحزن عليهم ولم يؤس على فراقهم بل كل استبشر بهالكهم وتلفهم حتى السماء واألرض ألنهم
ما خلفوا من آثارهم إال ما يسود وجوههم ويوجب عليهم اللعنة والمقت من العالمين
ين } أي ممهلين عن العقوبة بل اصطلمتهم في الحال ثم امتن تعالى على بني ظ ِر َ { َو َما َك ُانوا ُم ْن َ
ين } الذي كانوا فيه { ِم ْن ِف ْر َع ْو َن } إذ َّيَنا َبنِي ِإ ْسرائِي َل ِم َن اْل َع َذ ِ
اب اْل ُم ِه ِ َ إسرائيل فقال { َولَقَ ْد َنج ْ
ان َع ِالًيا } أي مستكبرا في األرض بغير الحق { ِم َن يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم { ِإَّنهُ َك َ
ين } المتجاوزين لحدود اهلل المتجرئين على محارمه اْل ُم ْس ِر ِف َ
اه ْم } أي اصطفيناهم وانتقيناهم { َعلَى ِعْلٍم } منا بهم وباستحقاقهم لذلك الفضل { َولَقَِد ْ
اختَْرَن ُ
ين } أي عالمي زمانهم ومن قبلهم وبعدهم حتى أتى اهلل بأمة محمد صلى اهلل عليه ِ
{ َعلَى اْل َعالَم َ
وسلم ففضلوا العالمين كلهم وجعلهم اهلل خير أمة أخرجت للناس وامتن عليهم بما لم يمتن به على
غيرهم
الء ُمبِ ٌ
ين } ِِ ِ ِ
اآليات } الباهرة والمعجزات الظاهرة { َما فيه َب ٌ
اه ْم } أي بني إسرائيل { م َن َ
{ َوآتَْيَن ُ
أي [ ص ] 774إحسان كثير ظاهر منا عليهم وحجة عليهم على صحة ما جاءهم به نبيهم
موسى عليه السالم
( )1/773
( )1/774
ق َولَ ِك َّن
اه َما ِإال بِاْل َح ِّ ِ
ض َو َما َب ْيَنهُ َما العبِ َ
ين * َما َخلَ ْقَن ُ األر َ
ِ
َّم َاوات َو ْ
{ َ { } 38-42و َما َخلَ ْقَنا الس َ
ون * } . أَ ْكثََر ُه ْم ال َي ْعلَ ُم َ
يخبر تعالى عن كمال قدرته وتمام حكمته وأنه ما خلق السماوات واألرض لعبا وال لهوا أو سدى
من غير فائدة وأنه ما خلقهما إال بالحق أي :نفس خلقهما بالحق وخلقهما مشتمل على الحق ،وأنه
أوجدهما ليعبدوه وحده ال شريك له وليأمر العباد وينهاهم ويثيبهم ويعاقبهمَ { .ولَ ِك َّن أَ ْكثََر ُه ْم ال
ون } فلذلك لم يتفكروا في خلق السماوات واألرض. َي ْعلَ ُم َ
( )1/774
( )1/774
ون (َ )45ك َغْل ِي اْل َح ِم ِيم ()46 ام اأْل َثِ ِيم (َ )44كاْل ُم ْه ِل َي ْغِلي ِفي اْلُبطُ ِ ط َع ُ
وم (َ )43 الزقُّ ِ
ِإ َّن َش َج َرةَ َّ
ت اب اْل َح ِم ِيم (ُ )48ذ ْق ِإَّن َ
ك أ َْن َ ْس ِه ِم ْن َع َذ ِ
ق رأ ِ
صبُّوا فَ ْو َ َ
ِِ ِ
اعتلُوهُ ِإلَى َس َواء اْل َجحيم ( )47ثَُّم ُ
ُخ ُذوه فَ ْ ِ
ُ
ِ
ون ()50 يم (ِ )49إ َّن َه َذا َما ُك ْنتُ ْم بِه تَ ْمتَُر َ اْل َع ِز ُيز اْل َك ِر ُ
ون * َك َغْل ِي اْل َح ِم ِيم * ام األثِ ِيم * َكاْل ُم ْه ِل َي ْغِلي ِفي اْلُبطُ ِط َع ُ
الزقُّ ِ
وم * َ { ِ { } 43-50إ َّن َش َج َرةَ َّ
ت اْل َع ِز ُيز اب اْل َح ِم ِيم * ُذ ْق ِإَّن َ
ك أ َْن َ ْس ِه ِم ْن َع َذ ِ
ق رأ ِ ِِ ِ
اعتلُوهُ ِإلَى َس َواء اْل َجحيم * ثَُّم ُ
صبُّوا فَ ْو َ َ
ُخ ُذوه فَ ْ ِ
ُ
ِ
ون } .يم * ِإ َّن َه َذا َما ُك ْنتُ ْم بِه تَ ْمتَُر َاْل َك ِر ُ
لما ذكر يوم القيامة وأنه يفصل بين عباده فيه ذكر افتراقهم إلى فريقين :فريق في الجنة ،وفريق
وم } شر األشجار الزقُّ ِ
في السعير وهم :اآلثمون بعمل الكفر والمعاصي وأن طعامهم { َش َج َرةَ َّ
وأفظعها وأن طعمها { َكاْل ُم ْه ِل } أي :كالصديد المنتن خبيث الريح والطعم شديد الحرارة يغلي في
ت ك أ َْن َ بطونهم { َك َغْل ِي اْل َح ِم ِيم } ويقال للمعذبُ { :ذ ْق } هذا العذاب األليم والعقاب الوخيم { ِإَّن َ
يم } أي :بزعمك أنك عزيز ستمتنع من عذاب اهلل وأنك كريم على اهلل ال يصيبك اْل َع ِز ُيز اْل َك ِر ُ
بعذاب ،فاليوم تبين لك أنك أنت الذليل المهان الخسيسِ { .إ َّن َه َذا } العذاب العظيم { َما ُك ْنتُ ْم بِ ِه
ون } أي :تشكون فاآلن صار عندكم حق اليقين. تَ ْمتَُر َ
( )1/774
ِ ون ( )52يْلبس ِ ين (ِ )51في جَّن ٍ ِإ َّن اْلمتَِّقين ِفي مقَ ٍام أ ِ
ق ُمتَقَابِل َ
ين ( س وإِ ْستَْب َر ٍٍ
ون م ْن ُس ْن ُد َ ََُ َ ات َو ُعُي ٍ َ َم ٍ َ ُ َ
ون ِفيهَاين ( )55اَل َي ُذوقُ َ
ِ ٍ ِِ
ون فيهَا بِ ُك ِّل فَاكهَة آَمن َ
ين ( )54ي ْدع ِ
َ ُ َ ور ِع ٍ اه ْم بِ ُح ٍ َ )53ك َذِل َ
ك َو َز َّو ْجَن ُ
ِ ك َذِل َضاًل ِم ْن َرِّب َ
اب اْل َج ِح ِيم ( )56فَ ْ
يم ()57ك ُه َو اْلفَ ْو ُز اْل َعظ ُ ت ِإاَّل اْل َم ْوتَةَ اأْل ُولَى َو َوقَ ُ
اه ْم َع َذ َ اْل َم ْو َ
ِ ون ( )58فَ ْارتَِق ْ فَِإَّنما يسَّرَناه بِِلسانِ َ َّ
ون ()59 ب ِإَّنهُ ْم ُم ْرتَقُب َ ك لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ َ َ ْ ُ َ
س وإِ ْستَْب َر ٍ ٍ ون * يْلبس ِ ٍ َم ٍ ِ { ِ { } 51-59إ َّن اْلمتَِّقين ِفي مقَ ٍام أ ِ
ق ين * في َجَّنات َو ُعُي ٍ َ َ ُ َ
ون م ْن ُس ْن ُد َ َ ُ َ
ون ِفيهَا اْل َم ْو َ
ت ين * ال َي ُذوقُ َ
ِ ٍ ِِ
ون فيهَا بِ ُك ِّل فَاكهَة آمن َ
ين * ي ْدع ِ
ور ع ٍ َ ُ َ
اهم بِح ٍ ِ
ك َو َز َّو ْجَن ُ ْ ُ ين * َك َذِل َ ِ
ُمتَقَابِل َ
ِ ِّك َذِل َ
ضال ِم ْن َرب َاب اْل َج ِح ِيم * فَ ْ
يم * فَِإَّن َما َيس َّْرَناهُ
ك ُه َو اْلفَ ْو ُز اْل َعظ ُ ِإال اْل َم ْوتَةَ األولَى َو َوقَ ُ
اه ْم َع َذ َ
ِ ون * فَ ْارتَِق ْ بِِلسانِ َ َّ
ون } .ب ِإَّنهُ ْم ُم ْرتَقُب َ ك لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ َ
هذا جزاء المتقين هلل الذين اتقوا سخطه وعذابه بتركهم المعاصي وفعلهم الطاعات ،فلما انتفى
السخط عنهم والعذاب ثبت لهم الرضا من اهلل والثواب العظيم في ظل ظليل من كثرة األشجار
والفواكه وعيون سارحة تجري من تحتهم األنهار يفجرونها تفجيرا في جنات النعيم.
فأضاف الجنات إلى النعيم ألن كل ما اشتملت عليه كله نعيم وسرور ،كامل من كل وجه ما فيه
منغص وال مكدر بوجه من الوجوه.
ولباسهم من الحرير األخضر من السندس واإلستبرق أي :غليظ الحرير ورقيقه مما تشتهيه
ِ
ين } في قلوبهم ووجوههم في كمال الراحة والطمأنينة والمحبة والعشرة الحسنة أنفسهمُ { .متَقَابِل َ
واآلداب المستحسنة.
ور عين } أي :نساء جميالت من جمالهن اه ْم بِ ُح ٍ
ك } النعيم التام والسرور الكامل { َو َز َّو ْجَن ُ { َك َذِل َ
وحسنهن أنه [ ص ] 775يحار الطرف في حسنهن وينبهر العقل بجمالهن وينخلب اللب
عين } أي :ضخام األعين حسانها. لكمالهن { ٍ
اكهَ ٍة } مما له اسم في الدنيا ومما ال يوجد له اسم وال نظير في { ي ْدعون ِفيها } أي :الجنة { بِ ُك ِّل فَ ِ
َ ُ َ َ
الدنيا ،فمهما طلبوه من أنواع الفاكهة وأجناسها أحضر لهم في الحال من غير تعب وال كلفة،
ين } من انقطاع ذلك وآمنين من مضرته وآمنين من كل مكدر ،وآمنين من الخروج منها ِِ
{ آمن َ
ون ِفيهَا اْل َم ْو َ
ت ِإال اْل َم ْوتَةَ األولَى } أي :ليس فيها موت بالكلية ،ولو والموت ولهذا قال { :ال َي ُذوقُ َ
كان فيها موت يستثنى لم يستثن الموتة األولى التي هي الموتة في الدنيا فتم لهم كل محبوب
ك } أي :حصول النعيم واندفاع العذاب عنهم من ضال ِم ْن َرِّب َ اب اْل َج ِح ِيم فَ ْ
اه ْم َع َذ َ
مطلوبَ { ،و َوقَ ُ
فضل اهلل عليهم وكرمه فإنه تعالى هو الذي وفقهم لألعمال الصالحة التي بها نالوا خير اآلخرة
يم } وأي فوز أعظم من نيل رضوان ِ وأعطاهم أيضا ما لم تبلغه أعمالهمَ { ،ذِل َ
ك ُه َو اْلفَ ْو ُز اْل َعظ ُ
اهلل وجنته والسالمة من عذابه وسخطه؟
ك } أي :سهلناه بلسانك الذي هو أفصح األلسنة على اإلطالق { فَِإَّن َما َيس َّْرَناهُ } أي :القرآن { بِِل َسانِ َ
َّ
ون } ما فيه نفعهم فيفعلونه وما فيه ضررهم وأجلها فتيسر به لفظه وتيسر معناه { .لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ
فيتركونه.
ِ { فَ ْارتَِق ْ
ب } أي :انتظر ما وعدك ربك من الخير والنصر { ِإَّنهُ ْم ُم ْرتَقُب َ
ون } ما يحل بهم من
العذاب وفرق بين االرتقابين :رسول اهلل وأتباعه يرتقبون الخير في الدينا واآلخرة ،وضدهم
يرتقبون الشر في الدنيا واآلخرة.
تم تفسير سورة الدخان ،وهلل الحمد والمنة
( )1/774
( )1/775
ٍ ِ ِ ِ ِ ِ ِِ اب ِم َن اللَّ ِه اْل َع ِز ِ حم ( )1تَْن ِزي ُل اْل ِكتَ ِ
ين ()3 ض آَل ََيات لْل ُم ْؤ ِمن َ ات واأْل َْر ِ
َّم َاو َ يز اْل َحكيم ( )2إ َّن في الس َ
النهَ ِار َو َما أ َْن َز َل اللَّهُ ِم َن
ف اللَّْي ِل َو َّ
اختِاَل ِ ون (َ )4و ْ َّة آَي ٌ ِ
ات لقَ ْوٍم ُيو ِقُن َ
ٍ
ث م ْن َداب َ
و ِفي َخْل ِق ُكم وما يب ُّ ِ
ْ َ َ َُ َ
ات
ك آََي ُ ون ( )5تِْل َ ِ اح آَي ٌ ِ
ات لقَ ْوٍم َي ْعقلُ َ الرَي ِ َيف ِّ َحيا بِ ِه اأْل َرض بع َد موتِها وتَص ِر ِ
ْ َ َ ْ َْ َ َ ْ ق فَأ ْ َ اء ِم ْن ِر ْز ٍ السَّم ِ
َ
ِ ِّ َّ ٍ ِ ٍ ِِ َّ ِ ق فَبِأ ِّ ِ ٍ اللَّ ِه َن ْتلُ َ
ون (َ )6وْي ٌل ل ُكل أَفاك أَثيم (َ )7ي ْس َمعُ َي َحديث َب ْع َد الله َوآََياته ُي ْؤ ِمُن َ ك بِاْل َح ِّ وها َعلَْي َ
اب أَِل ٍيم (َ )8وإِ َذا َعِل َم ِم ْن آََياتَِناَن لَم َي ْسم ْعها فََب ِّش ْرهُ بِ َع َذ ٍ ِ ِ
آََيات الله تُْتلَى َعلَْيه ثَُّم ُيص ُّر ُم ْستَ ْكبًِرا َكأ ْ ْ َ َ
ِ َّ ِ
ين (ِ )9م ْن َو َرائِ ِه ْم َجهََّن ُم َواَل ُي ْغنِي َعْنهُ ْم َما َك َسُبوا َش ْيًئا َواَل اب ُم ِه ٌك لَهُ ْم َع َذ ٌ َش ْيًئا اتَّ َخ َذ َها ُه ُز ًوا أُولَئِ َ
اب ع ِظيم (َ )10ه َذا ُه ًدى والَِّذين َكفَروا بِآَي ِ
ات َرِّب ِه ْم لَهُ ْم ما اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ َّ ِ
َ َ َ ُ اء َولَهُ ْم َع َذ ٌ َ ٌ ون الله أ َْوِلَي َ َ
ِ ع َذ ٌ ِ
يم ()11 اب م ْن ِر ْج ٍز أَل ٌ َ
يز اْل َح ِك ِيم * ِإ َّن ِفي اب ِم َن اللَّ ِه اْل َع ِز ِ الر ِح ِيم حم * تَْن ِزي ُل اْل ِكتَ ِ الر ْح َم ِن َّ { { } 1-11بِ ْسِم اللَّ ِه َّ
َّة آي ٌ ِ ٍ ات ِلْلمؤ ِمنِين * و ِفي َخْل ِق ُكم وما يب ُّ ِ ض آلي ٍ ِ
ون * ات لقَ ْوٍم ُيو ِقُن َ ث م ْن َداب َ ْ َ َ َُ ُْ َ َ األر ِ َ َّم َاوات َو ْ الس َ
َحيا بِ ِه األرض بع َد موتِها وتَص ِر ِ اء ِم ْن ِر ْز ٍ النه ِار وما أ َْن َز َل اللَّه ِمن السَّم ِ و ْ ِ ِ َّ ِ
يف ْ َ َ ْ َْ َ َ ْ ق فَأ ْ َ ُ َ َ اختالف اللْيل َو َّ َ َ َ َ
ِِ َّ ِ ق فَبِأ ِّ ِ ٍ ات اللَّ ِه َن ْتلُ َ ون * تِْل َ ِ اح آي ٌ ِ
َي َحديث َب ْع َد الله َو َآياته ُي ْؤ ِمُن َ
ون ك بِاْل َح ِّ
وها َعلَْي َ ك َآي ُ ات لقَ ْوٍم َي ْعقلُ َ الرَي ِ َ ِّ
َن لَم َي ْسم ْعها فََب ِّش ْرهُ بِ َع َذ ٍ ِ ِ ِ َّ ِ ِ ِّ َّ ٍ ِ ٍ
اب * َوْي ٌل ل ُكل أَفاك أَثيم * َي ْس َمعُ َآيات الله تُْتلَى َعلَْيه ثَُّم ُيص ُّر ُم ْستَ ْكبًِرا َكأ ْ ْ َ َ
ين * ِم ْن َو َرائِ ِه ْم َجهََّن ُم َوال ُي ْغنِي اب ُم ِه ٌ ك لَهُ ْم َع َذ ٌ أَِل ٍيم * َوإِ َذا َعِل َم ِم ْن َآياتَِنا َش ْيًئا اتَّ َخ َذ َها ُه ُز ًوا أُولَئِ َ
ين َِّ ون اللَّ ِه أَوِلياء ولَهم ع َذ ٌ ِ َعْنهُ ْم َما َك َسُبوا َش ْيًئا َوال َما اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ
يم * َه َذا ُه ًدى َوالذ َ اب َعظ ٌ ْ َ َ َ ُْ َ
ِ ات رِّب ِهم لَهم ع َذ ٌ ِ ِ
يم } .اب م ْن ِر ْج ٍز أَل ٌ َكفَ ُروا بِ َآي َ ْ ُ ْ َ
يخبر تعالى خبرا يتضمن األمر بتعظيم القرآن واالعتناء به وأنه { تَنزي ُل } { ِم َن اللَّ ِه } المألوه
المعبود لما اتصف به من صفات الكمال وانفرد به من النعم الذي له العزة الكاملة والحكمة التامة.
ثم أيد ذلك بما ذكره من اآليات األفقية والنفسية من خلق السماوات واألرض وما بث فيهما من
الدواب وما أودع فيهما من المنافع وما أنزل اهلل من الماء الذي يحيي به اهلل البالد والعباد.
فهذه كلها آيات بينات وأدلة واضحات على صدق هذا القرآن العظيم وصحة ما اشتمل عليه من
الحكم واألحكام ،وداالت أيضا على ما هلل تعالى من الكمال وعلى البعث والنشور.
ثم قسم تعالى الناس بالنسبة إلى االنتفاع بآياته وعدمه إلى قسمين:
قسم يستدلون بها ويتفكرون بها وينتفعون فيرتفعون وهم المؤمنون باهلل ومالئكته وكتبه ورسله
واليوم اآلخر إيمانا تاما وصل بهم إلى درجة اليقين ،فزكى منهم العقول وازدادت به معارفهم
وألبابهم وعلومهم.
وقسم يسمع آيات اهلل سماعا تقوم به الحجة عليه ثم يعرض عنها ويستكبر ،كأنه ما سمعها ألنها لم
تزك قلبه وال طهرته بل بسبب استكباره عنها ازداد طغيانه.
وأنه إذا علم من آيات اهلل شيئا اتخذها هزوا فتوعده اهلل تعالى بالويل فقال:
اك أَثِ ٍيم } أي :كذاب في مقاله أثيم في فعاله.{ وْي ٌل ِل ُك ِّل أَفَّ ٍ
َ
ِ ِ
وأخبر أن له عذابا أليما وأن { م ْن َو َرائ ِه ْم َجهََّن ُم } تكفي في عقوبتهم البليغة.
وأنه { ال ي ْغنِي ع ْنهم ما َكسبوا } من األموال { وال ما اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ َّ ِ
ون الله أ َْوِلَي َ
اء } يستنصرون َ َ َ ُْ َ َ ُ ُ
بهم فخذلوهم أحوج ما كانوا إليهم لو نفعوا.
فلما بين آياته القرآنية والعيانية وأن الناس فيها على قسمين أخبر أن القرآن المشتمل على هذه
المطالب العالية أنه هدى فقالَ { :ه َذا ُه ًدى } وهذا وصف عام لجميع القرآن فإنه يهدي إلى
معرفة اهلل تعالى بصفاته المقدسة وأفعاله الحميدة ،ويهدي إلى معرفة رسله وأوليائه وأعدائه،
وأوصافهم ،ويهدي إلى األعمال الصالحة ويدعو إليها ويبين األعمال السيئة وينهى عنها ،ويهدي
إلى بيان الجزاء على األعمال ويبين الجزاء الدنيوي واألخروي ،فالمهتدون اهتدوا به فأفلحوا
وسعدوا [ ،ص { ] 776والَِّذين َكفَروا بِآي ِ
ات َرِّب ِه ْم } الواضحة القاطعة التي ال يكفر بها إال من َ َ َ ُ
ِ اشتد ظلمه وتضاعف طغيانه { ،لَهم ع َذ ٌ ِ
اب م ْن ِر ْج ٍز أَل ٌ
يم } ُْ َ
( )1/775
( )1/776
( )1/776
اه ْم ات َوفَ َّ اهم ِمن الطَّيِّب ِ اب َواْل ُح ْك َم َو ُّ { { } 16-17ولَقَ ْد آتَْيَنا بنِي ِإسرائِ َ ِ
ضْلَن ُ َ النُب َّوةَ َو َر َز ْقَن ُ ْ َ يل اْلكتَ َ َْ َ َ
اء ُه ُم اْل ِعْل ُم َب ْغًيا َب ْيَنهُ ْم ِإ َّن ِ ِ
اختَلَفُوا ِإال م ْن َب ْعد َما َج َ األم ِر فَ َما ْ ٍ ِ
اه ْم َبيَِّنات م َن ْ
ين * َوآتَْيَن ُ ِ
َعلَى اْل َعالَم َ
ِِ ِ ضي ب ْيَنهم يوم اْل ِقي ِ ِ ك ي ْق ِ
ون } . يما َك ُانوا فيه َي ْختَلفُ َ
امة ف َ
َ ُْ َ ْ َ َ َ َرَّب َ َ
أي :ولقد أنعمنا على بني إسرائيل نعما لم تحصل لغيرهم من الناس ،وآتيناهم { الكتاب } أي:
التوراة واإلنجيل { والحكم } بين الناس { والنبوة } التي امتازوا بها وصارت النبوة في ذرية
ات } من المآكل والمشارباهم ِمن الطَّيِّب ِ
َ إبراهيم عليه السالم ،أكثرهم من بني إسرائيلَ { ،و َر َز ْقَن ُ ْ َ
ين } أي :على الخلق بهذه النعم ِ والمالبس وإ نزال المن والسلوى عليهم { َوفَ َّ
اه ْم َعلَى اْل َعالَم َ
ضْلَن ُ
ويخرج من هذا العموم اللفظي هذه األمة فإنهم خير أمة أخرجت للناس.
والسياق يدل على أن المراد غير هذه األمة فإن اهلل يقص علينا ما امتن به على بني إسرائيل
وميزهم عن غيرهم ،وأيضا فإن الفضائل التي فاق بها بنو إسرائيل من الكتاب والحكم والنبوة
وغيرها من النعوت قد حصلت كلها لهذه األمة ،وزادت عليهم هذه األمة فضائل كثيرة فهذه
الشريعة شريعة بني إسرائيل جزء منها ،فإن هذا الكتاب مهيمن على سائر الكتب السابقة ،ومحمد
صلى اهلل عليه وسلم مصدق لجميع المرسلين.
األم ِر } ِ ٍ
اه ْم } أي :آتينا بني إسرائيل { َبيَِّنات } أي :دالالت تبين الحق من الباطل { م َن ْ
{ َوآتَْيَن ُ
القدري الذي أوصله اهلل إليهم.
وتلك اآليات هي المعجزات التي رأوها على يد موسى عليه السالم ،فهذه النعم التي أنعم اهلل بها
على بني إسرائيل تقتضي الحال أن يقوموا بها على أكمل الوجوه وأن يجتمعوا على الحق الذي
بينه اهلل لهم ،ولكن انعكس األمر فعاملوها بعكس ما يجب.
اء ُه ُم اْل ِعْل ُم } أي: ِ ِ
اختَلَفُوا ِإال م ْن َب ْعد َما َج َ
وافترقوا فيما أمروا باالجتماع به ولهذا قال { :فَ َما ْ
الموجب لعدم [ ص ] 777االختالف ،وإ نما حملهم على االختالف البغي من بعضهم على بعض
والظلم.
ِِ ِ ضي ب ْيَنهم يوم اْل ِقي ِ ِ
َّك ي ْق ِ
ون } فيميز المحق من المبطل والذي حمله
يما َك ُانوا فيه َي ْختَلفُ َ
امة ف َ
َ ُْ َ ْ َ َ َ { ِإ َّن َرب َ َ
على االختالف الهوى أو غيره.
( )1/776
( )1/777
( )1/777
( )1/777
( )1/777
ص ِر ِه ِغ َش َاوةً ِ ِِ ٍِ
َضلهُ اللهُ َعلَى عْلم َو َختَ َم َعلَى َس ْمعه َو َقْلبِه َو َج َع َل َعلَى َب َ
ت م ِن اتَّ َخ َذ ِإلَهه َهواه وأ َّ َّ
َُ َ ُ َ َ أَفََرأ َْي َ َ
وت َوَن ْحَيا َو َما ُي ْهِل ُكَناالد ْنَيا َن ُم ُ ون ( )23وقَالُوا َما ِهي ِإاَّل َحَياتَُنا ُّ
َ
ِ َّ ِ ِ ِ ِ
فَ َم ْن َي ْهديه م ْن َب ْعد الله أَفَاَل تَ َذ َّك ُر َ
َ
ٍ اَّل الد ْهر وما لَهم بِ َذِل َ ِ ِ ٍ اَّل
انون (َ )24وإِ َذا تُْتلَى َعلَْي ِه ْم آََياتَُنا َبيَِّنات َما َك َ ك م ْن عْلم ِإ ْن ُه ْم ِإ َيظُُّن َ ِإ َّ ُ َ َ ُ ْ
ين (ُ )25ق ِل اللَّهُ ُي ْحيِي ُك ْم ثَُّم ُي ِميتُ ُك ْم ثَُّم َي ْج َم ُع ُك ْم ِإلَى َي ْوِم َن قَالُوا ا ْئتُوا بِآَبائَِنا ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ
صادق َ ْ َ َ ُحجَّتَهُ ْم ِإاَّل أ ْ
ون ()26
اس اَل َي ْعلَ ُم َ يه َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ
الن ِ اْل ِقيام ِة اَل ر ْيب ِف ِ
َ َ ََ
( )1/777
ُم ٍة
ون (َ )27وتََرى ُك َّل أ َّ ِ ٍِ
َّاعةُ َي ْو َمئذ َي ْخ َس ُر اْل ُم ْبطلُ َ وم الس َ ض َوَي ْو َم تَقُ ُ ات واأْل َْر ِ ِ
َّم َاو َ ك الس َ َوِللَّ ِه ُمْل ُ
ق َعلَْي ُك ْم بِاْل َح ِّ
ق ون (َ )28ه َذا ِكتَ ُابَنا َي ْن ِط ُ ِ
ُمة تُ ْد َعى ِإلَى كتَابِهَا اْلَي ْو َم تُ ْج َز ْو َن َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ
جاثِيةً ُك ُّل أ َّ ٍ
َ َ
ات فَُي ْد ِخلُهُ ْم َربُّهُ ْم ِفي َر ْح َمتِ ِه َّالح ِ ِ ِ
َمُنوا َو َعملُوا الص َ ين آ َ
ِإَّنا ُكَّنا َنستَْن ِس ُخ ما ُك ْنتُم تَعملُون ( )29فَأ َّ َِّ
َما الذ َ ْ َْ َ َ ْ
استَ ْكَب ْرتُ ْم َو ُك ْنتُ ْم قَ ْو ًما ِ ك ُهو اْلفَو ُز اْلمبِين ( )30وأ َّ َِّ ِ
ين َكفَ ُروا أَ َفلَ ْم تَ ُك ْن آََياتي تُْتلَى َعلَْي ُك ْم فَ ْ َما الذ َ َ َذل َ َ ْ ُ ُ
َّاعةُ ِإ ْن َنظُ ُّن ق والسَّاعةُ اَل ر ْي ِ َّ ِ ٌّ ِ ِ
ب فيهَا ُقْلتُ ْم َما َن ْد ِري َما الس َ َ َ َ ين (َ )31وإِ َذا قي َل إ َّن َو ْع َد الله َح َ ُم ْج ِر ِم َ
ِِ ِإاَّل َ
ين ()32 ظًّنا َو َما َن ْح ُن بِ ُم ْستَْيقن َ
( )1/778
يل اْلَي ْو َم َن ْن َسا ُك ْم َك َما َن ِسيتُ ْمون (َ )33و ِق َ ِ ات َما َع ِملُوا َو َح َ
اق بِ ِه ْم َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ َوَب َدا لَهُ ْم َسيَِّئ ُ
ات اللَّ ِه ُه ُز ًوااص ِرين (َ )34ذِل ُكم بِأََّن ُكم اتَّ َخ ْذتُم آَي ِ
ْ َ ُ ْ َ
النار وما لَ ُكم ِم ْن َن ِ
اء َي ْو ِم ُك ْم َه َذا َو َمأ َْوا ُك ُم َّ ُ َ َ ْ
ِ
لقَ َ
ب السَّماو ِ َِّ ِ الد ْنيا فَاْليوم اَل ي ْخرج ِ
ات ون (َ )35فلله اْل َح ْم ُد َر ِّ َ َ ون م ْنهَا َواَل ُه ْم ُي ْستَ ْعتَُب َ َو َغ َّرتْ ُك ُم اْل َحَياةُ ُّ َ َ ْ َ ُ َ ُ َ
ِ ات واأْل َْر ِ ِ ب اْلعالَ ِمين ( )36ولَه اْل ِك ْب ِري ِ ب اأْل َْر ِ
يم ()37 ض َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ َّم َاو َ اء في الس َ َ ُ َ ُ ض َر ِّ َ َ َو َر ِّ
( )1/778
( )1/779
( )1/779
( )1/779
ون
ين ( )7أ َْم َيقُولُ َ اء ُه ْم َه َذا ِس ْحٌر ُمبِ ٌق لَ َّما َج َين َكفَ ُروا ِلْل َح ِّ َِّ ٍ
َوإِ َذا تُْتلَى َعلَْي ِه ْم آََياتَُنا َبيَِّنات قَا َل الذ َ
يدا َب ْينِي
يه َكفَى بِ ِه َش ِه ًَعلَم بِما تُِفيضون ِف ِ
ُ َ
ا ْفتَراه ُق ْل ِإ ِن ا ْفتَر ْيتُه فَاَل تَمِل ُك ِ ِ َّ ِ
ون لي م َن الله َش ْيًئا ُه َو أ ْ ُ َ ْ َ َ ُ َ ُ
ِ ِ َِّ ِ ت بِ ْد ًعا ِم َن ُّ ِ وب ْيَن ُكم و ُهو اْل َغفُور َّ ِ
الر ُسل َو َما أ َْد ِري َما ُي ْف َع ُل بي َواَل ب ُك ْم إ ْن أَتبعُ يم (ُ )8ق ْل َما ُك ْن ُ الرح ُ ُ ََ ْ َ َ
ين (ُ )9ق ْل أَرأ َْيتُم ِإ ْن َكان ِم ْن ِع ْن ِد اللَّ ِه و َكفَرتُم بِ ِه و َش ِه َد َش ِ وحى ِإلَ َّي َو َما أََنا ِإاَّل َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ
اه ٌد َ ْ ْ َ َ َ ْ ِإاَّل َما ُي َ
َّ ِ ِ ِ َّ ِ ِِ ِ ِ ِ ِ
ين ()10 استَ ْكَب ْرتُ ْم ِإ َّن اللهَ اَل َي ْهدي اْلقَ ْو َم الظالم َ
َم َن َو ْ
م ْن َبني إ ْس َرائي َل َعلَى م ْثله فَآ َ
( )1/779
يم ونا ِإلَْي ِه وإِ ْذ لَم يهتَ ُدوا بِ ِه فَسيقُولُون َه َذا ِإ ْف ٌ ِ َِِّ وقَ َ َِّ
ك قَد ٌ َ ََ َ ْ َْ ان َخ ْي ًرا َما َسَبقُ ََمُنوا لَ ْو َك َ
ين آ َ
ين َكفَ ُروا للذ َ
ال الذ َ َ
ِ َّ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ظلَ ُموا
ين َ ق ل َس ًانا َعَربِيًّا لُي ْنذ َر الذ َ
ص ِّد ٌ
اب ُم َ
اما َو َر ْح َمةً َو َه َذا كتَ ٌ اب م َ ِ
وسى إ َم ً
ِ
(َ )11وم ْن قَْبله كتَ ُ ُ
ين ()12 ِ ِِ
َوُب ْش َرى لْل ُم ْحسن َ
( )1/780
ون * أُولَئِ َ
ك ف َعلَْي ِه ْم َوال ُه ْم َي ْح َزُن َ
اموا فَال َخ ْو ٌ
استَقَ ُ
َّ َِّ
{ ِ { } 13-14إ َّن الذ َ
ين قَالُوا َربَُّنا اللهُ ثَُّم ْ
أَصحاب اْلجَّن ِة َخ ِال ِد ِ
اء بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ
ون } ين فيهَا َج َز ً
َ َْ ُ َ
أي :إن الذين أقروا بربهم وشهدوا له بالوحدانية والتزموا طاعته
[ ص ] 781
ف َعلَْي ِه ْم } من كل شر أمامهمَ { ،وال ُه ْم
اموا } مدة حياتهم { فَال َخ ْو ٌ استَقَ ُ
وداموا على ذلك ،و { ْ
ون } على ما خلفوا وراءهم. َي ْح َزُن َ
اب اْل َجَّن ِة } أي :أهلها المالزمون لها الذين ال يبغون عنها حوال وال يريدون بها بدال َص َح ُكأ ْ { أُولَئِ َ
{ َخ ِال ِد ِ
ون } من اإليمان باهلل المقتضى لألعمال الصالحة التي استقاموا اء بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ
ين فيهَا َج َز ً
َ
عليها.
( )1/780
ون َش ْه ًرا
صالُهُ ثَاَل ثُ َض َعتْهُ ُك ْر ًها َو َح ْملُهُ َو ِف َ ان بِ َو ِال َد ْي ِه ِإ ْح َس ًانا َح َملَتْهُ أ ُّ
ُمهُ ُك ْر ًها َو َو َ َّيَنا اإْلِ ْن َس َ
َو َوص ْ
ت َعلَ َّي َو َعلَى ك الَّتِي أ َْن َع ْم َ
َن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ َ
ب أ َْو ِز ْعنِي أ ْ
ال َر ِّين َسَنةً قَ َ ِ
َحتَّى ِإ َذا َبلَ َغ أَ ُش َّدهُ َوَبلَ َغ أ َْرَبع َ
ِِ ِ ت ِإلَْي ََصِل ْح ِلي ِفي ُذِّريَّتِي ِإِّني تُْب ُ َعم َل ِ َو ِال َد َّ
ين ()15 ك َوإِ ِّني م َن اْل ُم ْسلم َ ضاهُ َوأ ْ صال ًحا تَْر َ َن أ ْ َ َ ي َوأ ْ
اب اْل َجَّن ِة َو ْع َد الص ْ
ِّد ِ
ق َص َح ِ ِ ِ
جاو ُز َع ْن َسيَِّئات ِه ْم في أ ْ
ِ ين َنتَقََّب ُل َعْنهُ ْم أ ْ
َح َس َن َما َعملُوا َوَنتَ َ
أُولَئِ َ َِّ
ك الذ َ
ون ()16 َِّ
وع ُد َ
الذي َك ُانوا ُي َ
( )1/781
( )1/781
استَ ْمتَ ْعتُ ْم بِهَا فَاْلَي ْو َم تُ ْج َز ْو َن طيَِّباتِ ُك ْم ِفي َحَياتِ ُك ُم ُّ
الد ْنَيا َو ْ الن ِار أَ ْذ َه ْبتُ ْم َ
ين َكفَ ُروا َعلَى َّ َِّ
ض الذ َ َوَي ْو َم ُي ْع َر ُ
ون ()20 ق َوبِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْف ُسقُ َ ون ِفي اأْل َْر ِ
ض بِ َغ ْي ِر اْل َح ِّ ون بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْستَ ْكبِ ُر َ
اب اْلهُ َِع َذ َ
( )1/782
َّ ِِ ِ اف وقَ ْد َخلَ ِت ُّ ِ َخا ع ٍاد ِإ ْذ أ َْن َذر قَومه بِاأْل ْ ِ
الن ُذ ُر م ْن َب ْي ِن َي َد ْيه َو ِم ْن َخْلفه أَاَّل تَ ْعُب ُدوا ِإاَّل اللهَ َحقَ َ َ َُْ َوا ْذ ُك ْر أ َ َ
ت ِم َن اب َي ْوٍم َع ِظ ٍيم ( )21قَالُوا أَ ِج ْئتََنا ِلتَأ ِْف َكَنا َع ْن آَِلهَتَِنا فَأْتَِنا بِ َما تَ ِع ُدَنا ِإ ْن ُك ْن َ اف َعلَْي ُك ْم َع َذ َ
َخ ُ ِإِّني أ َ
ال ِإَّنما اْل ِعْلم ِعْن َد اللَّ ِه وأُبلِّ ُغ ُكم ما أُر ِسْل ُ ِ ِ ِِ
ون ()23 ت بِه َولَكِّني أ ََرا ُك ْم قَ ْو ًما تَ ْجهَلُ َ ََ ْ َ ْ ُ ين ( )22قَ َ َ الصَّادق َ
يح ِفيهَا استَ ْع َجْلتُ ْم بِ ِه ِر ٌ ِ
ض ُم ْمط ُرَنا َب ْل ُه َو َما ْ ضا ُم ْستَ ْقبِ َل أ َْو ِدَيتِ ِه ْم قَالُوا َه َذا َع ِار ٌ
َفلَ َّما َرأ َْوهُ َع ِار ً
ك َن ْج ِزي اْلقَ ْو َم اكُنهُ ْم َك َذِل َ
اب أَِليم ( )24تُ َد ِّمر ُك َّل َشي ٍء بِأَم ِر ربِّها فَأَصبحوا اَل يرى ِإاَّل مس ِ
ََ َُ َْ ُ ْ ْ َ َ ُ َع َذ ٌ ٌ
َغَنى َعْنهُ ْم ص ًارا َوأَ ْفئِ َدةً فَ َما أ ْ ِِ َّ
يما ِإ ْن َمكَّنا ُك ْم فيه َو َج َعْلَنا لَهُ ْم َس ْم ًعا َوأ َْب َ
اْلم ْج ِر ِمين ( )25ولَقَ ْد م َّكَّن ُ ِ
اه ْم ف َ َ َ َ ُ
اق بِ ِه ْم َما َك ُانوا بِ ِه ات اللَّ ِه َو َح َ سمعهم واَل أ َْبصار ُهم واَل أَ ْفئِ َدتُهم ِم ْن َشي ٍء ِإ ْذ َك ُانوا ي ْجح ُدون بِآَي ِ
َ َ َ َ ْ ُْ َُ َْ َ ْ ُ ُْ َ
ون ()26 َي ْستَ ْه ِزُئ َ
األحقَ ِ
اف } إلى آخر القصة ()1 َخا َع ٍاد ِإ ْذ أ َْن َذ َر قَ ْو َمهُ بِ ْ
{ َ { } 21-26وا ْذ ُك ْر أ َ
َخا َع ٍاد } وهو هود عليه السالم ،حيث كان من الرسل الكرام أيَ { :وا ْذ ُك ْر } بالثناء الجميل { أ َ
الذين فضلهم اهلل تعالى بالدعوة إلى دينه وإ رشاد الخلق إليه.
اف } أي :في منازلهم المعروفة باألحقاف وهي :الرمال األحقَ ِ { ِإ ْذ أ َْن َذ َر قَ ْو َمهُ } وهم عاد { بِ ْ
الكثيرة في أرض اليمن.
الن ُذ ُر ِم ْن َب ْي ِن َي َد ْي ِه َو ِم ْن َخْل ِف ِه } فلم يكن بدعا منهم وال مخالفا لهم ،قائال لهم { :أَال
{ َوقَ ْد َخلَ ِت ُّ
اب َي ْوٍم َع ِظ ٍيم }
اف َعلَْي ُك ْم َع َذ ََخ ُ تَ ْعُب ُدوا ِإال اللَّهَ ِإِّني أ َ
فأمرهم بعبادة اهلل الجامعة لكل قول سديد وعمل حميد ،ونهاهم عن الشرك والتنديد وخوفهم -إن
لم يطيعوه -العذاب الشديد فلم تفد فيهم تلك الدعوة.
{ قَالُوا أَ ِج ْئتََنا ِلتَأ ِْف َكَنا َع ْن ِآلهَتَِنا } أي :ليس لك من القصد وال معك من الحق إال أنك حسدتنا على
آلهتنا فأردت أن تصرفنا عنها.
ين } وهذا غاية الجهل والعناد. ِِ { فَأْتَِنا بِما تَ ِع ُدَنا ِإ ْن ُك ْن َ ِ
ت م َن الصَّادق َ َ
ِ َّ ِ
{ قَا َل ِإَّن َما اْلعْل ُم عْن َد الله } فهو الذي بيده أزمة األمور ومقاليدها وهو الذي يأتيكم بالعذاب إن شاء. ِ
ِ { وأُبلِّ ُغ ُكم ما أُر ِسْل ُ ِ
ت بِه } أي :ليس علي إال البالغ المبينَ { ،ولَكِّني أ ََرا ُك ْم قَ ْو ًما تَ ْجهَلُ َ
ون } فلذلك ََ ْ َ ْ
صدر منكم ما صدر من هذه الجرأة الشديدة ،فأرسل اهلل عليهم العذاب العظيم وهو الريح التي
دمرتهم وأهلكتهم.
ضا ُم ْستَ ْقبِ َل أ َْو ِدَيتِ ِه ْم } أي :معترضا كالسحاب قد
ولهذا قالَ { :فلَ َّما َرأ َْوهُ } أي :العذاب { َع ِار ً
أقبل على أوديتهم التي تسيل فتسقي نوابتهم ويشربون من آبارها وغدرانها.
ض ُم ْم ِط ُرَنا } أي :هذا السحاب سيمطرنا. { قَالُوا } مستبشرينَ { :ه َذا َع ِار ٌ
استَ ْع َجْلتُ ْم بِ ِه } أي :هذا الذي جنيتم به على أنفسكم حيث قلتم { :فَأْتَِنا بِ َما قال تعالىَ { :ب ْل ُه َو َما ْ
يح ِفيها ع َذ ٌ ِ ِِ تَ ِع ُدَنا ِإ ْن ُك ْن َ ِ
يم } اب أَل ٌ ين } { ِر ٌ َ َ ت م َن الصَّادق َ
{ تُ َد ِّم ُر ُك َّل َش ْي ٍء } تمر عليه من شدتها ونحسها.
فسلطها اهلل عليهم { سبع ليالي وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل
خاوية } [ { بِأَم ِر ربِّها } أي :بإذنه ومشيئته] { .فَأَصبحوا ال يرى ِإال مس ِ
اكُنهُ ْم } قد تلفت ََ َُ َْ ُ ْ َ َ
ِ
ين } بسبب جرمهم وظلمهم. ك َن ْج ِزي اْلقَ ْو َم اْل ُم ْج ِر ِم َ
مواشيهم وأموالهم وأنفسهمَ { .ك َذل َ
هذا مع أن اهلل تعالى قد أدر عليهم النعم العظيمة فلم يشكروه وال ذكروه ولهذا قالَ { :ولَقَ ْد َم َّكَّن ُ
اه ْم
يه } أي :مكناهم في األرض يتناولون طيباتها ويتمتعون بشهواتها ِفيما ِإ ْن م َّكَّنا ُكم ِف ِ
َ ْ َ
[ ص ] 783
وعمرناهم عمرا يتذكر فيه من تذكر ،ويتعظ فيه المهتدي ،أي :ولقد مكنا عادا كما مكناكم يا
هؤالء المخاطبون أي :فال تحسبوا أن ما مكناكم فيه مختص بكم وأنه سيدفع عنكم من عذاب اهلل
شيئا ،بل غيركم أعظم منكم تمكينا فلم تغن عنهم أموالهم وال أوالدهم وال جنودهم من اهلل شيئا.
ص ًارا َوأَ ْفئِ َدةً } أي :ال قصور في أسماعهم وال أبصارهم وال أذهانهم حتى { َو َج َعْلَنا لَهُ ْم َس ْم ًعا َوأ َْب َ
يقال إنهم تركوا الحق جهال منهم وعدم تمكن من العلم به وال خلل في عقولهم ولكن التوفيق بيد
ص ُار ُه ْم َوال أَ ْفئِ َدتُهُ ْم ِم ْن َش ْي ٍء } ال قليل وال كثير ،وذلك بسبب
َغَنى َع ْنهُ ْم َس ْم ُعهُ ْم َوال أ َْب َاهلل { .فَ َما أ ْ
ات اللَّ ِه } الدالة على توحيده وإ فراده بالعبادة. أنهم { ي ْجح ُدون بِآي ِ
َ َ َ َ
ِ
ون } أي :نزل بهم العذاب الذي يكذبون بوقوعه ويستهزئون اق بِ ِه ْم َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ{ َو َح َ
بالرسل الذين حذروهم منه.
__________
( )1في ب :ذكر اآليات كاملة إلى قوله تعالى" :وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون".
( )1/782
ِ َّ ِ
ص َر ُه ُم اآليات لَ َعلهُ ْم َي ْر ِج ُع َ
ون * َفلَ ْوال َن َ ص َّر ْفَنا َ َهلَ ْكَنا َما َح ْولَ ُك ْم م َن اْلقَُرى َو َ
{ َ { } 27-28ولَقَ ْد أ ْ
ون } . ضلُّوا َع ْنهُ ْم َو َذِل َ
ك ِإ ْف ُكهُ ْم َو َما َك ُانوا َي ْفتَُر َ
ِ الَِّذين اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ َّ ِ
ون الله قُْرَب ًانا آلهَةً َب ْل َ َ
يحذر تعالى مشركي العرب وغيرهم بإهالك األمم المكذبين الذين هم حول ديارهم ،بل كثير منهم
في جزيرة العرب كعاد وثمود ونحوهم وأن اهلل تعالى صرف لهم اآليات أي :نوعها من كل
َّ
وجه { ،لَ َعلهُ ْم َي ْر ِج ُع َ
ون } عماهم عليه من الكفر والتكذيب.
فلما لم يؤمنوا أخذهم اهلل أخذ عزيز مقتدر ولم تنفعهم آلهتهم التي يدعون من دون اهلل من شيء
ون اللَّ ِه قُْرَب ًانا ِآلهَةً } أي :يتقربون إليهم ين اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ َِّ
ص َر ُه ُم الذ َ
ولهذا قال هناَ { :فلَ ْوال َن َ
ويتألهونهم لرجاء نفعهم.
ون } من الكذب ضلُّوا َع ْنهُ ْم } فلم يجيبوهم وال دفعوا عنهمَ { ،و َذِل َ
ك ِإ ْف ُكهُ ْم َو َما َك ُانوا َي ْفتَُر َ { َب ْل َ
الذي يمنون به أنفسهم حيث يزعمون أنهم على الحق وأن أعمالهم ستنفعهم فضلت وبطلت.
( )1/783
ض َي َولَّ ْوا ِإلَى صتُوا َفلَ َّما قُ ِ ك َنفَرا ِمن اْل ِج ِّن يستَ ِمعون اْلقُرآَن َفلَ َّما حضروه قَالُوا أ َْن ِ
َ َُ ُ َْ ُ َ ْ َ ص َر ْفَنا ِإلَْي َ ً َ َوإِ ْذ َ
ص ِّدقًا ِل َما َب ْي َن َي َد ْي ِه َي ْه ِدي
وسى ُم َ
ِ ِ ِ ِ
ين ( )29قَالُوا َيا قَ ْو َمَنا ِإَّنا َسم ْعَنا كتَ ًابا أ ُْن ِز َل م ْن َب ْعد ُم َ
ِ
قَ ْو ِم ِه ْم ُم ْنذ ِر َ
َمُنوا بِ ِه َي ْغ ِف ْر لَ ُك ْم ِم ْن ُذُنوبِ ُك ْم
اعي اللَّ ِه وآ ِ
ِ ِ ٍِ ق وإِلَى َ ِ ٍ
إلَى اْل َح ِّ َ
ِ
َ طريق ُم ْستَقيم (َ )30يا قَ ْو َمَنا أَج ُيبوا َد َ
ض َولَْي َس لَهُ ِم ْن ُدونِ ِه اعي اللَّ ِه َفلَْي َس بِ ُم ْع ِج ٍز ِفي اأْل َْر ِ اب أَِل ٍيم ( )31وم ْن اَل ي ِج ْ ِ وُي ِج ْر ُكم ِم ْن َع َذ ٍ
ب َد َ ُ ََ ْ َ
ٍ
ضاَل ل ُمبِ ٍ ِ ِ
ين ()32 ك في َ اء أُولَئ َأ َْوِلَي ُ
ك َنفَرا ِمن اْل ِج ِّن يستَ ِمعون اْلقُرآن َفلَ َّما حضروه قَالُوا أ َْن ِ
صتُوا َفلَ َّما َ َُ ُ َْ ُ َ ْ َ ص َر ْفَنا ِإلَْي َ ً َ { َ { } 29-32وإِ ْذ َ
ص ِّدقًا ِل َما َب ْي َنوسى ُم َ
ِ ِ ِ ِ
ين * قَالُوا َيا قَ ْو َمَنا ِإَّنا َسم ْعَنا كتَ ًابا أ ُْن ِز َل م ْن َب ْعد ُم َ
ِ ِ َّ
قُض َي َول ْوا ِإلَى قَ ْو ِم ِه ْم ُم ْنذ ِر َ
آمُنوا بِ ِه َي ْغ ِف ْر لَ ُك ْم ِم ْن
اعي اللَّ ِه و ِ ِ ِ ٍِ ق وإِلَى َ ِ ٍ ِ ِ ِ
َي َد ْيه َي ْهدي إلَى اْل َح ِّ َ
َ طريق ُم ْستَقيم * َيا قَ ْو َمَنا أَج ُيبوا َد َ
ض َولَْي َس لَهُ ِم ْن األر ِ ِ اب أَِل ٍيم * وم ْن ال ي ِج ْ ِ َّ ِ
ب َداع َي الله َفلَْي َس بِ ُم ْع ِج ٍز في ْ ُ ََ
ُذُنوبِ ُكم وُي ِج ْر ُكم ِم ْن َع َذ ٍ
ْ ْ َ
ين } . ض ٍ
الل ُمبِ ٍ ُدونِ ِه أَوِلياء أُولَئِ َ ِ
ك في َ َ ُ
كان اهلل تعالى قد أرسل رسوله محمدا صلى اهلل عليه وسلم إلى الخلق إنسهم وجنهم وكان ال بد
من إبالغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة.
فاإلنس يمكنه عليه الصالة والسالم دعوتهم وإ نذارهم ،وأما الجن فصرفهم اهلل إليه بقدرته وأرسل
صتُوا } أي :وصى بعضهم بعضا إليه { َنفَرا ِمن اْل ِج ِّن يستَ ِمعون اْلقُرآن َفلَ َّما حضروه قَالُوا أ َْن ِ
َ َُ ُ َْ ُ َ ْ َ ً َ
ِ َّ ِ
ين } نصحا منهم لهم وإ قامة بذلكَ { ،فلَ َّما قُضي } وقد وعوه وأثر ذلك فيهم { َول ْوا ِإلَى قَ ْو ِم ِه ْم ُم ْنذ ِر َ
لحجة اهلل عليهم وقيضهم اهلل معونة لرسوله صلى اهلل عليه وسلم في نشر دعوته في الجن.
وسى } ألن كتاب موسى أصل لإلنجيل وعمدة لبني ِ { قَالُوا يا قَومَنا ِإَّنا س ِمعَنا ِكتَابا أ َ ِ
ُنزل م ْن َب ْعد ُم َ ً َ ْ َ َْ
إسرائيل في أحكام الشرع ،وإ نما اإلنجيل متمم ومكمل ومغير لبعض األحكام.
ق } وهو الصواب في كل ص ِّدقًا ِل َما َب ْي َن َي َد ْي ِه َي ْه ِدي } هذا الكتاب الذي سمعناه { ِإلَى اْل َح ِّ
{ ُم َ
ق ُم ْستَِق ٍيم } موصل إلى اهلل وإ لى جنته من العلم باهلل وبأحكامه الدينية ط ِري ٍ
مطلوب وخبر { َوإِلَى َ
وأحكام الجزاء.
َجيبوا َد ِ
اع َي فلما مدحوا القرآن وبينوا محله ومرتبته دعوهم إلى اإليمان به ،فقالواَ { :يا قَ ْو َمَنا أ ِ ُ
اللَّ ِه } أي :الذي ال يدعو إال إلى ربه ال يدعوكم إلى غرض من أغراضه وال هوى وإ نما يدعوكم
إلى ربكم ليثيبكم ويزيل عنكم كل شر ومكروه ،ولهذا قالواَ { :ي ْغ ِف ْر لَ ُك ْم ِم ْن ُذُنوبِ ُك ْم َوُي ِج ْر ُك ْم ِم ْن
اب أَِل ٍيم } وإ ذا أجارهم من العذاب األليم فما ثم بعد ذلك إال النعيم فهذا جزاء من أجاب داعي َع َذ ٍ
اهلل.
ِ { وم ْن ال ي ِج ْ ِ َّ ِ
ض } فإن اهلل على كل شيء قدير فال يفوته هارب األر ِ ب َداع َي الله َفلَْي َس بِ ُم ْع ِج ٍز في ْ ُ ََ
ين } وأي ضالل أبلغ من الل ُمبِ ٍ ض ٍ وال يغالبه مغالب { .ولَْيس لَه ِم ْن ُدونِ ِه أَوِلياء أُولَئِ َ ِ
ك في َ َ ُ َ َ ُ
ضالل من نادته الرسل ووصلت إليه النذر باآليات البينات ،والحجج المتواترات فأعرض
واستكبر؟"
( )1/783
( )1/783
اب بِ َما ُك ْنتُ ْم الن ِار أَلَْي َس َه َذا بِاْل َح ِّ
ين َكفَ ُروا َعلَى َّ َِّ
ق قَالُوا َبلَى َو َربَِّنا قَا َل فَ ُذوقُوا اْل َع َذ َ ض الذ َ َوَي ْو َم ُي ْع َر ُ
الر ُس ِل َواَل تَ ْستَ ْع ِج ْل لَهُ ْم َكأََّنهُ ْم َي ْو َم َي َر ْو َن َماصَب َر أُولُو اْل َع ْزِم ِم َن ُّ
اصبِ ْر َك َما َ
ون ( )34فَ ْ تَ ْكفُُر َ
ِ اعةً ِم ْن َنه ٍار َباَل غٌ فَه ْل ُيهلَ ُ اَّل
ون ()35 ك ِإ اْلقَ ْو ُم اْلفَاسقُ َ َ ْ َ ون لَ ْم َيْلَبثُوا ِإاَّل َس َ
وع ُد َُي َ
هذا استدالل منه تعالى على اإلعادة بعد الموت بما هو أبلغ منها ،وهو أنه الذي خلق السماوات
واألرض على عظمهما وسعتهما وإ تقان خلقهما من دون أن يكترث بذلك ولم يعي بخلقهن فكيف
تعجزه إعادتكم بعد موتكم وهو على كل شيء قدير؟"
[ ص ] 784
ال فَ ُذوقُوا ق قَالُوا َبلَى َو َربَِّنا قَ َ الن ِار أَلَْي َس َه َذا بِاْل َح ِّ
ين َكفَ ُروا َعلَى َّ َِّ
ض الذ َ{ َ { } 34-35وَي ْو َم ُي ْع َر ُ
الر ُس ِل َوال تَ ْستَ ْع ِج ْل لَهُ ْم َكأََّنهُ ْم َي ْو َم صَب َر أُولُو اْل َع ْزِم ِم َن ُّ اصبِ ْر َك َما َ
ون * فَ ْ اب بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْكفُُر َ
اْل َع َذ َ
ِ اعةً ِم ْن َنهَ ٍار َبالغٌ فَهَ ْل ُي ْهلَ ُ
ون } . ك ِإال اْلقَ ْو ُم اْلفَاسقُ َ ون لَ ْم َيْلَبثُوا ِإال َس َ
وع ُد َ
َي َر ْو َن َما ُي َ
يخبر تعالى عن حال الكفار الفظيعة عند عرضهم على النار التي كانوا يكذبون بها وأنهم يوبخون
ق } فقد حضرتموه وشاهدتموه عيانا؟ { قَالُوا َبلَى َو َربَِّنا } فاعترفوا ويقال لهم { :أَلَْي َس َه َذا بِاْل َح ِّ
ون } أي :عذابا الزما دائما كما كان كفركم اب بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْكفُُر َ
بذنبهم وتبين كذبهم { قَا َل فَ ُذوقُوا اْل َع َذ َ
صفة الزمة.
ثم أمر تعالى رسوله أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له وأن ال يزال داعيا لهم إلى اهلل وأن
يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين سادات الخلق أولي العزائم والهمم العالية الذين عظم
صبرهم ،وتم يقينهم ،فهم أحق الخلق باألسوة بهم والقفو آلثارهم واالهتداء بمنارهم.
فامتثل صلى اهلل عليه وسلم ألمر ربه فصبر صبرا لم يصبره نبي قبله حتى رماه المعادون له عن
قوس واحدة ،وقاموا جميعا بصده عن الدعوة إلى اهلل وفعلوا ما يمكنهم من المعاداة والمحاربة،
وهو صلى اهلل عليه وسلم لم يزل صادعا بأمر اهلل مقيما على جهاد أعداء اهلل صابرا على ما يناله
من األذى ،حتى مكن اهلل له في األرض وأظهر دينه على سائر األديان وأمته على األمم ،فصلى
اهلل عليه وسلم تسليما.
وقولهَ { :وال تَ ْستَ ْع ِج ْل لَهُ ْم } أي :لهؤالء المكذبين المستعجلين للعذاب فإن هذا من جهلهم وحمقهم
فال يستخفنك بجهلهم وال يحملك ما ترى من استعجالهم على أن تدعو اهلل عليهم بذلك فإن كل ما
اعةً ِم ْن َنهَ ٍار } فال
ون لَ ْم َيْلَبثُوا } في الدنيا { ِإال َس َ هو آت قريب ،و { َكأََّنهُ ْم َي ْو َم َي َر ْو َن َما ُي َ
وع ُد َ
يحزنك تمتعهم القليل وهم صائرون إلى العذاب الوبيل.
{ َبالغٌ } أي :هذه الدنيا متاعها وشهوتها ولذاتها بلغة منغصة ودفع وقت حاضر قليل.
أو هذا القرآن العظيم الذي بينا لكم فيه البيان التام بالغ لكم ،وزاد إلى الدار اآلخرة ،ونعم الزاد
والبلغة زاد يوصل إلى دار النعيم ويعصم من العذاب األليم ،فهو أفضل زاد يتزوده الخالئق
وأجل نعمة أنعم اهلل بها عليهم.
ِ
ك } بالعقوبات { ِإال اْلقَ ْو ُم اْلفَاسقُ َ
ون } أي :الذين ال خير فيهم وقد خرجوا عن طاعة { فَهَ ْل ُي ْهلَ ُ
ربهم ولم يقبلوا الحق الذي جاءتهم به الرسل.
وأعذر اهلل لهم وأنذرهم فبعد ذلك إذ يستمرون على تكذيبهم وكفرهم نسأل
اهلل العصمة.
آخر تفسير سورة األحقاف ،والحمد هلل رب العالمين
( )1/783
تفسير سورة القتال
وهي مدنية
( )1/784
َمُنوا بِ َما ِ ِ ِ َِّ َض َّل أ ْ الَِّذين َكفَروا وص ُّدوا ع ْن سبِ ِ َّ ِ
َمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َوآ َ ين آ َ
َع َمالَهُ ْم (َ )1والذ َ يل الله أ َ َ َ َ ُ َ َ
ك بِأ َّ َِّ َصلَ َح َبالَهُ ْم (َ )2ذِل َ ِ ُنِّز َل علَى مح َّم ٍد و ُهو اْلح ُّ ِ
ين َكفَ ُرواَن الذ َ ق م ْن َرِّب ِه ْم َكفََّر َع ْنهُ ْم َسيَِّئات ِه ْم َوأ ْ َ َُ َ َ َ
ب اللَّهُ ِل َّلن ِ
اس أ َْمثَالَهُ ْم ()3 ض ِر ُ
ك َي ْق ِم ْن َرِّب ِه ْم َك َذِل ََمُنوا اتََّب ُعوا اْل َح َّ
ين آ َ
اط َل وأ َّ َِّ
َن الذ َ
اتَّبعوا اْلب ِ
َُ َ
َ
ين َِّ َض َّل أ ْ الر ِح ِيم الَِّذين َكفَروا وص ُّدوا ع ْن سبِ ِ َّ ِ { { } 1-3بِ ْسِم اللَّ ِه َّ
الر ْح َم ِن َّ
َع َمالَهُ ْم * َوالذ َ يل الله أ َ َ َ َ ُ َ َ
ق ِم ْن َرِّب ِه ْم َكفََّر َع ْنهُ ْم َسيَِّئاتِ ِه ْم
آمُنوا بِ َما ُنِّز َل َعلَى ُم َح َّم ٍد و ُهو اْل َح ُّ
َ َ
ِ ِ
آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َو َ
ِ
َ
ك ِ
ق م ْن َرِّب ِه ْم َك َذل َ ِ آمُنوا اتََّب ُعوا اْل َح َّ ِ َّ ِ
ين َكفَ ُروا اتََّب ُعوا اْلَباط َل َوأ َّ ِ َّ ك بِأ َّ ِ
ين ََن الذ َ َن الذ َ َصلَ َح َبالَهُ ْم * َذل َ
َوأ ْ
ب اللَّهُ ِل َّلن ِ
اس أ َْمثَالَهُ ْم } . ض ِر ُ
َي ْ
هذه اآليات مشتمالت على ذكر ثواب المؤمنين وعقاب العاصين ،والسبب في ذلك ،ودعوة الخلق
يل اللَّ ِه } وهؤالء رؤساء الكفر ،وأئمة
ين َكفَروا وص ُّدوا َع ْن سبِ ِ
َ
َِّ
إلى االعتبار بذلك ،فقال { :الذ َ ُ َ َ
الضالل ،الذين جمعوا بين الكفر باهلل وآياته ،والصد ألنفسهم وغيرهم عن سبيل اهلل ،التي هي
اإليمان بما دعت إليه الرسل واتباعه.
َض َّل } اهلل { أ ْ
َع َمالَهُ ْم } أي :أبطلها وأشقاهم بسببها ،وهذا يشمل أعمالهم التي عملوها فهؤالء { أ َ
ليكيدوا بها الحق وأولياء اهلل ،أن اهلل جعل كيدهم في نحورهم ،فلم يدركوا مما قصدوا شيئا،
وأعمالهم التي يرجون أن يثابوا عليها ،أن اهلل سيحبطها عليهم ،والسبب في ذلك أنهم اتبعوا
الباطل ،وهو كل غاية ال يراد بها وجه اهلل من عبادة األصنام واألوثان ،واألعمال التي في نصر
الباطل لما كانت باطلة ،كانت األعمال ألجلها باطلة.
آمُنوا } بما أنزل اهلل على رسله عموما ،وعلى محمد صلى اهلل عليه وسلم َِّ
ين َ وأما { َوالذ َ
َّالح ِ
ات } بأن قاموا بما عليهم من حقوق اهلل ،وحقوق العباد الواجبة ِ ِ
خصوصاَ { ،و َعملُوا الص َ
والمستحبة.
{ َكفََّر } اهلل { َع ْنهُ ْم َسيَِّئاتِ ِه ْم } صغارها وكبارها ،وإ ذا كفرت سيئاتهم ،نجوا من عذاب الدنيا
َصلَ َح َبالَهُ ْم } أي :أصلح دينهم ودنياهم ،وقلوبهم وأعمالهم ،وأصلح ثوابهم ،بتنميته واآلخرةَ { .وأ ْ
وتزكيته ،وأصلح جميع أحوالهم ،والسبب في ذلك أنهم { :اتبعوا اْل َح ُّ
ق } الذي هو الصدق
واليقين ،وما اشتمل عليه هذا القرآن العظيم ،الصادر { ِم ْن َرِّب ِه ْم } الذي رباهم بنعمته ،ودبرهم
بلطفه فرباهم تعالى بالحق فاتبعوه ،فصلحت أمورهم ،فلما كانت الغاية المقصودة لهم ،متعلقة
بالحق المنسوب إلى اهلل الباقي الحق المبين ،كانت الوسيلة صالحة باقية ،باقيا ثوابها.
( )1/784
ب اللَّهُ ِل َّلن ِ
اس أ َْمثَالَهُ ْم } حيث بين لهم تعالى أهل الخير وأهل الشر ،وذكر لكل منهم ض ِر ُ { َك َذِل َ
ك َي ْ
صفة يعرفون بها ويتميزون { ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة }
[ ص ] 785
اق فَِإ َّما َمًّنا َب ْع ُد الرقَ ِ ِ َِّ
اب َحتَّى ِإ َذا أَثْ َخ ْنتُ ُم ُ
وه ْم فَ ُش ُّدوا اْل َوثَ َ ب ِّ ض ْر َ ين َكفَ ُروا فَ َ { { } 4-6فَِإذا لَقيتُُم الذ َ
ض ُك ْم بَِب ْع ٍ ِ ِ ِ اء اللَّهُ ْ ب أ َْو َز َار َها َذِل َ ِ
ض ص َر م ْنهُ ْم َولَك ْن لَيْبلَُو َب ْع َ النتَ َ ك َولَ ْو َي َش ُ اء َحتَّى تَ َ
ض َع اْل َح ْر ُ َوإِ َّما ف َد ً
صِل ُح َبالَهُ ْم * َوُي ْد ِخلُهُ ُم اْل َجَّنةَ َعَّرفَهَا ِ
َع َمالَهُ ْم * َسَي ْهدي ِه ْم َوُي ْ
يل اللَّ ِه َفلَ ْن ي ِ
ض َّل أ ْ ُ ين قُتِلُوا ِفي سبِ ِ
َ
َِّ
َوالذ َ
لَهُ ْم } .
ِ َِّ
يقول تعالى -مرشدا عباده إلى ما فيه صالحهم ،ونصرهم على أعدائهم { :-فَِإذا لَقيتُُم الذ َ
ين
َكفَ ُروا } في الحرب والقتال ،فاصدقوهم القتال ،واضربوا منهم األعناقَ ،حتَّى تثخنوهم وتكسروا
اق } أي: شوكتهم وتبطلوا شرتهم ،فإذا فعلتم ذلك ،ورأيتم األسر أولى وأصلح { ،فَ ُش ُّدوا اْل َوثَ َ
الرباط ،وهذا احتياط ألسرهم لئال يهربوا ،فإذا شد منهم الوثاق اطمأن المسلمون من هربهم ومن
شرهم ،فإذا كانوا تحت أسركم ،فأنتم بالخيار بين المن عليهم ،وإ طالقهم بال مال وال فداء ،وإ ما أن
تفدوهم بأن ال تطلقوهم حتى يشتروا أنفسهم ،أو يشتريهم أصحابهم بمال ،أو بأسير مسلم عندهم.
ب أ َْو َز َار َها } أي :حتى ال يبقى حرب ،وتبقون في المسألة وهذا األمر مستمر { َحتَّى تَ َ
ض َع اْل َح ْر ُ
والمهادنة ،فإن لكل مقام مقاال ولكل حال حكما ،فالحال المتقدمة ،إنما هي إذا كان قتال وحرب.
فإذا كان في بعض األوقات ،ال حرب فيه لسبب من األسباب ،فال قتل وال أسر.
{ َذِل َ
ك } الحكم المذكور في ابتالء المؤمنين بالكافرين ،ومداولة األيام بينهم ،وانتصار بعضهم
ص َر ِم ْنهُ ْم } فإنه تعالى على كل شيء قدير ،وقادر على أن ال اء اللَّهُ ْ
النتَ َ على بعض { َولَ ْو َي َش ُ
ينتصر الكفار في موضع واحد أبدا ،حتى يبيد المسلمون خضراءهم.
ض } ليقوم سوق الجهاد ،ويتبين بذلك أحوال العباد ،الصادق من ض ُك ْم بَِب ْع ٍ ِ ِ
{ َولَك ْن لَيْبلَُو َب ْع َ
الكاذب ،وليؤمن من آمن إيمانا صحيحا عن بصيرة ،ال إيمانا مبنيا على متابعة أهل الغلبة ،فإنه
إيمان ضعيف جدا ،ال يكاد يستمر لصاحبه عند المحن والباليا.
يل اللَّ ِه } لهم ثواب جزيل ،وأجر جميل ،وهم الذين قاتلوا من أمروا بقتالهم،
ين قُتِلُوا ِفي سبِ ِ
َ
َِّ
{ َوالذ َ
لتكون كلمة اهلل هي العليا.
فهؤالء لن يضل اهلل أعمالهم ،أي :لن يحبطها ويبطلها ،بل يتقبلها وينميها لهم ،ويظهر من
أعمالهم نتائجها ،في الدنيا واآلخرة.
صِل ُح َبالَهُ ْم } أي :حالهم وأمورهم،
{ َسَي ْهدي ِه ْم } إلى سلوك الطريق الموصلة إلى الجنةَ { ،وُي ْ
ِ
وثوابهم يكون صالحا كامال ال نكد فيه ،وال تنغيص بوجه من الوجوه.
{ َوُي ْد ِخلُهُ ُم اْل َجَّنةَ َع َّرفَهَا لَهُ ْم } أي :عرفها أوال بأن شوقهم إليها ،ونعتها لهم ،وذكر لهم األعمال
الموصلة إليها ،التي من جملتها القتل في سبيله ،ووفقهم للقيام بما أمرهم به ورغبهم فيه ،ثم إذا
دخلوا الجنة ،عرفهم منازلهم ،وما احتوت عليه من النعيم المقيم ،والعيش السليم.
( )1/784
( )1/785
ِ َّ ف َكان ع ِاقبةُ الَِّذ ِ ِ أَ َفلَ ْم َي ِس ُيروا ِفي اأْل َْر ِ
ين م ْن قَْبل ِه ْم َد َّم َر اللهُ َعلَْي ِه ْم َوِلْل َكاف ِر َ
ين أ َْمثَالُهَا َ ض فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ َ َ َ
َن اللَّه مولَى الَِّذين آَمُنوا وأ َّ ِ (َ )10ذِل َ ِ
ين اَل َم ْولَى لَهُ ْم ()11 َن اْل َكاف ِر َ َ َ َ ك بأ َّ َ َ ْ
( )1/785
( )1/786
اهم فَاَل َن ِ
اص َر لَهُ ْم ()13 ك الَّتِي أ ْ
ِّن ِم ْن قَ ْرَي ٍة ِه َي أَ َش ُّد قَُّوةً ِم ْن قَ ْرَيتِ َ
َهلَ ْكَن ُ ْ
كأَْخ َر َجتْ َ َو َكأَي ْ
اهم فَال َن ِ
اص َر لَهُ ْم } . ك الَّتِي أ ْ
ِّن ِم ْن قَ ْرَي ٍة ِه َي أَ َش ُّد قَُّوةً ِم ْن قَ ْرَيتِ َ
َهلَ ْكَن ُ ْ
كأَْخ َر َجتْ َ { َ { } 13و َكأَي ْ
أي :وكم من قرية من قرى المكذبين ،هي أشد قوة من قريتك ،في األموال واألوالد واألعوان،
واألبنية واآلالت.
{ أهلكناهم } حين كذبوا رسلنا ،ولم تفد فيهم المواعظ ،فال نجد لهم ( )1ناصرا ،ولم تغن عنهم
قوتهم من عذاب اهلل شيئا.
فكيف حال هؤالء الضعفاء ،أهل قريتك ،إذ أخرجوك عن وطنك وكذبوك ،وعادوك ،وأنت أفضل
المرسلين ،وخير األولين واآلخرين؟!
أليسوا بأحق من غيرهم باإلهالك والعقوبة ،لوال أن اهلل تعالى بعث رسوله بالرحمة والتأني بكل
كافر وجاحد؟
__________
( )1في ب فال تجد لهم ناصرا.
( )1/786
( )1/786
( )1/786
( )1/786
( )1/787
( )1/787
ين ِفي ت سورةٌ م ْح َكمةٌ و ُذ ِكر ِفيها اْل ِقتَا ُل رأ َْي َ َِّ
ت الذ َ َ ورةٌ فَِإ َذا أ ُْن ِزلَ ْ ُ َ ُ َ َ َ َ ت ُس َ َمُنوا لَ ْواَل ُنِّزلَ ْ
ين آ َ
َِّ
َوَيقُو ُل الذ َ
وف
اعةٌ َوقَ ْو ٌل َم ْع ُر ٌ
ط َ ظ َر اْل َم ْغ ِش ِّي َعلَْي ِه ِم َن اْل َم ْو ِت فَأ َْولَى لَهُ ْم (َ )20 ك َن َ ون ِإلَْي َ
ض َي ْنظُ ُر َ ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ
َن تُ ْف ِس ُدوا ِفي اأْل َْر ِ
ض ان َخ ْي ًرا لَهُ ْم ( )21فَهَ ْل َع َس ْيتُ ْم ِإ ْن تََولَّْيتُ ْم أ ْ َّ
ص َدقُوا اللهَ لَ َك َ فَِإ َذا َعَز َم اأْل َْم ُر َفلَ ْو َ
ص َار ُه ْم ()23 َّ وتُقَطِّعوا أَرحام ُكم ( )22أُولَئِ َ َِّ
َع َمى أ َْب َ َص َّمهُ ْم َوأ ْ
ين لَ َعَنهُ ُم اللهُ فَأ َ
ك الذ َ َ ُ ْ َ َ ْ
ورةٌ ُم ْح َك َمةٌ َو ُذ ِك َر ِفيهَا اْل ِقتَا ُل ت ُس َ ورةٌ فَِإ َذا أ ُْن ِزلَ ْ
ت ُس َ آمُنوا لَ ْوال ُنِّزلَ ْ
ين َ
َِّ
{ َ { } 20-23وَيقُو ُل الذ َ
اعةٌ
ط َ ظ َر اْل َم ْغ ِش ِّي َعلَْي ِه ِم َن اْل َم ْو ِت فَأ َْولَى لَهُ ْم * َ ك َن َون ِإلَْي َ
ض َي ْنظُ ُر َ ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ رأ َْي َ َِّ
ت الذ َ َ
َن تُ ْف ِس ُدواان َخ ْي ًرا لَهُ ْم * فَهَ ْل َع َس ْيتُ ْم ِإ ْن تََولَّْيتُ ْم أ ْ َّ
ص َدقُوا اللهَ لَ َك َ وف فَِإ َذا َعَز َم ْ
األم ُر َفلَ ْو َ َوقَ ْو ٌل َم ْع ُر ٌ
َّ ض وتُقَطِّعوا أَرحام ُكم * أُولَئِ َ َِّ ِ
ص َار ُه ْم } . َع َمى أ َْب َ َص َّمهُ ْم َوأ ْ
ين لَ َعَنهُ ُم اللهُ فَأ َ ك الذ َ األر ِ َ ُ ْ َ َ ْ في ْ
ورةٌ } أي: َِّ
ت ُس َ آمُنوا } استعجاال ومبادرة لألوامر الشاقة { :لَ ْوال نزلَ ْ ين َيقول تعالىَ { :وَيقُو ُل الذ َ
فيها األمر بالقتال.
ورةٌ ُم ْح َك َمةٌ } أي :ملزم العمل بهاَ { ،و ُذ ِك َر ِفيهَا اْل ِقتَا ُل } الذي هو أشق شيء على ت ُس َ { فَِإ َذا أُنزلَ ْ
ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم النفوس ،لم يثبت ضعفاء اإليمان على امتثال هذه األوامر ،ولهذا قال { :رأ َْي َ َِّ
ت الذ َ َ
ظ َر اْل َم ْغ ِش ِّي َعلَْي ِه ِم َن اْل َم ْو ِت } من كراهتهم لذلك ،وشدته عليهم. ك َن َ ون ِإلَْي َ
ض َي ْنظُ ُر َ َم َر ٌ
ب ِ يموا الصَّالةَ وآتُوا َّ ِ ُّ ِ وهذا كقوله تعالى { :أَلَم تَر ِإلَى الَِّذ ِ
الز َكاةَ َفلَ َّما ُكت َ َ ين قي َل لَهُ ْم ُكفوا أ َْيدَي ُك ْم َوأَق ُ َ ْ َ
اس َك َخ ْشَي ِة اللَّ ِه أ َْو أَ َش َّد َخ ْشَيةً } يق ِم ْنهُ ْم َي ْخ َش ْو َن َّ
الن َ َعلَْي ِه ُم اْل ِقتَا ُل ِإ َذا فَ ِر ٌ
وف } أي :فأولى اعةٌ َوقَ ْو ٌل َم ْع ُر ٌ
ط َ ثم ندبهم تعالى إلى ما هو األليق بحالهم ،فقال { :فَأ َْولَى لَهُ ْم َ
لهم أن يمتثلوا األمر الحاضر المحتم عليهم ،ويجمعوا عليه هممهم ،وال يطلبوا أن يشرع لهم ما
هو شاق عليهم ،وليفرحوا بعافية اهلل تعالى وعفوه.
األم ُر } أي :جاءهم األمر جد ،وأمر محتم ،ففي هذه الحال لو صدقوا اهلل باالستعانة { فَِإ َذا َع َز َم ْ
ان َخ ْي ًرا لَهُ ْم } من حالهم األولى ،وذلك من وجوه:
به ،وبذل الجهد في امتثاله { لَ َك َ
منها :أن العبد ناقص من كل وجه ،ال قدرة له إال إن أعانه اهلل ،فال يطلب زيادة على ما هو قائم
بصدده.
ومنها :أنه إذا تعلقت نفسه بالمستقبل ،ضعف عن العمل ،بوظيفة وقته ،وبوظيفة المستقبل ،أما
الحال ،فألن الهمة انتقلت عنه إلى غيره ،والعمل تبع للهمة ،وأما المستقبل ،فإنه ال يجيء حتى
تفتر الهمة عن نشاطها فال يعان عليه.
ومنها :أن العبد المؤمل لآلمال المستقبلة ،مع كسله عن عمل الوقت الحاضر ،شبيه بالمتألي الذي
يجزم بقدرته ،على ما يستقبل من أموره ،فأحرى به أن يخذل وال يقوم بما هم به ووطن نفسه ()1
عليه ،فالذي ينبغي أن يجمع العبد همه وفكرته ونشاطه على وقته الحاضر ،ويؤدي وظيفته
بحسب قدرته ،ثم كلما جاء وقت استقبله بنشاط وهمة عالية مجتمعة غير متفرقة ،مستعينا بربه
في ذلك ،فهذا حري بالتوفيق والتسديد في جميع أموره.
ثم ذكر تعالى حال المتولي عن طاعة ربه ،وأنه ال يتولى إلى خير ،بل إلى شر ،فقال { :فَهَ ْل
ام ُك ْم } أي :فهما أمران ،إما التزام لطاعة ِّ األر ِ عس ْيتُم ِإ ْن تَولَّْيتُم أ ْ ِ ِ
ض َوتُقَط ُعوا أ َْر َح َ َن تُ ْفس ُدوا في ْ َ ْ ََ ْ
وتول عن طاعة اهلل، اهلل ،وامتثال ألوامره ،فثم الخير والرشد والفالح ،وإ ما إعراض عن ذلكٍ ،
فما ثم إال الفساد في األرض بالعمل بالمعاصي وقطيعة األرحام.
ين } أفسدوا في األرض ،وقطعوا أرحامهم { لَ َعَنهُ ُم اللَّهُ } بأن أبعدهم عن رحمته، { أُولَئِ َ َِّ
ك الذ َ
وقربوا من سخط اهلل.
ص َار ُه ْم } أي :جعلهم ال يسمعون ما ينفعهم وال يبصرونه ،فلهم آذان ،ولكن
َع َمى أ َْب َ
َص َّمهُ ْم َوأ ْ
{ فَأ َ
ال تسمع سماع إذعان وقبول ،وإ نما تسمع سماعا تقوم به حجة اهلل عليها ،ولهم أعين ،ولكن ال
يبصرون بها العبر واآليات ،وال يلتفتون بها إلى البراهين والبينات.
__________
( )1في ب :وتوعد نفسه ،وكذلك كانت في أ من قبل ثم شطبها الشيخ -رحمه اهلل -وعدلها إلى:
وطن نفسه.
( )1/788
( )1/788
( )1/789
َن لَ ْن ُي ْخ ِر َج اللَّهُ أ ْ
َض َغ َانهُ ْم ()29 ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ
ض أْ أَم ح ِس َِّ
ب الذ َْ َ َ
َن لَ ْن ُي ْخ ِر َج اللَّهُ أ ْ
َض َغ َانهُ ْم } . ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ
ض أْ { { } 29-31أَم ح ِس َِّ
ب الذ َْ َ َ
ض } من شبهة أو شهوة ،بحيث تخرج القلب عن ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ يقول تعالى { :أَم ح ِس َِّ
ب الذ َْ َ َ
حال صحته واعتداله ،أن اهلل ال يخرج ما في قلوبهم من األضغان والعداوة لإلسالم وأهله؟ هذا
ظن ال يليق بحكمة اهلل ،فإنه ال بد أن يميز الصادق من الكاذب ،وذلك باالبتالء بالمحن ،التي من
ثبت عليها ،ودام إيمانه فيها ،فهو المؤمن حقيقة ،ومن ردته على عقبيه فلم يصبر عليها ،وحين
أتاه االمتحان ،جزع وضعف إيمانه ،وخرج ما في قلبه من الضغن ،وتبين نفاقه ،هذا مقتضى
الحكمة اإللهية ،مع أنه تعالى قال:
( )1/789
( )1/789
( )1/789
( )1/789
يل اللَّ ِه ثَُّم َماتُوا َو ُه ْم ُكفَّ ٌار َفلَ ْن َي ْغ ِف َر اللَّهُ لَهُ ْم ( )34فَاَل تَ ِهُنوا ين َكفَروا وص ُّدوا َع ْن سبِ ِ
َ ِإ َّن الذ َ ُ َ َ
َِّ
َع َمالَ ُك ْم ()35 َعلَ ْو َن َواللَّهُ َم َع ُك ْم َولَ ْن َيتَِر ُك ْم أ ْ
السْلِم َوأ َْنتُُم اأْل ْ
َوتَ ْد ُعوا ِإلَى َّ
يل اللَّ ِه ثَُّم َماتُوا َو ُه ْم ُكفَّ ٌار َفلَ ْن َي ْغ ِف َر اللَّهُ لَهُ ْم * فَالين َكفَروا وص ُّدوا َع ْن سبِ ِ
َ
َِّ
{ ِ { } 34-35إ َّن الذ َ ُ َ َ
َع َمالَ ُك ْم } .األعلَ ْو َن َواللَّهُ َم َع ُك ْم َولَ ْن َيتَِر ُك ْم أ ْ
السْلِم َوأ َْنتُُم ْ
تَ ِهُنوا َوتَ ْد ُعوا ِإلَى َّ
ت
طْ ك َحبِ َ ت َو ُه َو َك ِافٌر فَأُولَئِ َ هذه اآلية والتي في البقرة قولهَ { :و َم ْن َي ْرتَِد ْد ِم ْن ُك ْم َع ْن ِدينِ ِه فََي ُم ْ
اآلخ َر ِة } مقيدتان ،لكل نص مطلق ،فيه إحباط العمل بالكفر ،فإنه مقيد بالموت الد ْنيا و ِ
ِ ُّ
َع َمالُهُ ْم في َ َ أْ
َِّ
ص ُّدوا } الخلق عليه ،فقال هناِ { :إ َّن الذ َ
ين َكفَ ُروا } باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر { َو َ
يل اللَّ ِه } بتزهيدهم إياهم بالحق ،ودعوتهم إلى الباطل ،وتزيينه { ،ثَُّم َماتُوا َو ُه ْم ُكفَّ ٌار }{ َع ْن سبِ ِ
َ
لم يتوبوا منهَ { ،فلَ ْن َي ْغ ِف َر اللَّهُ لَهُ ْم } ال بشفاعة وال بغيرها ،ألنه قد تحتم عليهم العقاب ،وفاتهم
الثواب ،ووجب عليهم الخلود في النار ،وسدت عليهم رحمة الرحيم الغفار.
ومفهوم اآلية الكريمة أنهم إن تابوا من ذلك قبل موتهم ،فإن اهلل يغفر لهم ويرحمهم ،ويدخلهم
الجنة ،ولو كانوا مفنين أعمارهم في الكفر به والصد عن سبيله ،واإلقدام على معاصيه ،فسبحان
من فتح لعباده أبواب الرحمة ،ولم يغلقها عن أحد ،ما دام حيا متمكنا من التوبة.
وسبحان الحليم ،الذي ال يعاجل العاصين بالعقوبة ،بل يعافيهم ،ويرزقهم ،كأنهم ما عصوه مع
قدرته عليهم.
ثم قال تعالى { :فَال تَ ِهُنوا } أي :ال تضعفوا عن قتال عدوكم ،ويستولي عليكم الخوف ،بل
اصبروا واثبتوا ،ووطنوا أنفسكم على القتال والجالد ،طلبا لمرضاة ربكم ،ونصحا لإلسالم،
وإ غضابا للشيطان.
وال تدعوا إلى المسالمة والمتاركة بينكم وبين أعدائكم ،طلبا للراحة { ،و } الحال أنكم { أنتم
األعلَ ْو َن َواللَّهُ َم َع ُك ْم َولَ ْن َيتَِر ُك ْم } أي :ينقصكم { أ ْ
َع َمال ُكم } ْ
فهذه األمور الثالثة ،كل منها مقتض للصبر وعدم الوهن كونهم األعلين ،أي :قد توفرت لهم
أسباب النصر ،ووعدوا من اهلل بالوعد الصادق ،فإن اإلنسان ،ال يهن إال إذا كان أذل من غيره
وأضعف عددا ،وعددا ،وقوة داخلية وخارجية.
الثاني :أن اهلل معهم ،فإنهم مؤمنون ،واهلل مع المؤمنين ،بالعون ،والنصر ،والتأييد ،وذلك موجب
لقوة قلوبهم ،وإ قدامهم على عدوهم.
الثالث :أن اهلل ال ينقصهم من أعمالهم شيئا ،بل سيوفيهم أجورهم ،ويزيدهم من فضله ،خصوصا
عبادة الجهاد ،فإن النفقة تضاعف فيه ،إلى سبع مائة ضعف ،إلى أضعاف كثيرة ،وقال تعالى:
ون َم ْو ِطًئا َي ِغيظُ اْل ُكفَّ َارطُئ َيل اللَّ ِه َوال َي َ ب وال م ْخمصةٌ ِفي سبِ ِ
َ صٌ َ َ َ َ ظ َمأٌ َوال َن َ
ص ُيبهُ ْم َ ك بِأََّنهم ال ي ِ
{ َذل َ ُ ْ ُ
ِ
ون ِ ِِ وال يَنالُون ِم ْن ع ُد ٍّو َن ْيال ِإال ُكتِب لَهم بِ ِه عم ٌل ص ِال ٌح ِإ َّن اللَّه ال ي ِ
ين َوال ُي ْنفقُ َ َج َر اْل ُم ْحسن َضيعُ أ ْ َ ُ َ ُْ َ َ َ َ َ َ َ
ون } ب لَهُ ْم ِلَي ْج ِزَيهُ ُم اللَّهُ أ ْ
َح َس َن َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ
ِ ِ
ون َوادًيا ِإال ُكت َ ص ِغ َيرةً َوال َكبِ َيرةً َوال َي ْق َ
ط ُع َ َنفَقَةً َ
فإذا عرف اإلنسان أن اهلل تعالى ال يضيع عمله وجهاده ،أوجب له ذلك النشاط ،وبذل الجهد فيما
يترتب عليه األجر والثواب ،فكيف إذا اجتمعت هذه األمور الثالثة فإن ذلك يوجب النشاط التام،
فهذا من ترغيب اهلل لعباده ،وتنشيطهم ،وتقوية أنفسهم على ما فيه صالحهم وفالحهم.
( )1/790
ور ُك ْم َواَل َي ْسأَْل ُك ْم أ َْم َوالَ ُك ْم (ِ )36إ ْن ُج َ الد ْنَيا لَ ِع ٌ
ب َولَ ْهٌو َوإِ ْن تُ ْؤ ِمُنوا َوتَتَّقُوا ُي ْؤتِ ُك ْم أ ُ ِإَّن َما اْل َحَياةُ ُّ
يل اللَّ ِهَض َغ َان ُكم (َ )37ها أ َْنتُم َهؤاَل ِء تُ ْد َعو َن ِلتُْن ِفقُوا ِفي سبِ ِ
َ ْ ْ ُ
ِ
وها فَُي ْحف ُك ْم تَْب َخلُوا َوُي ْخ ِر ْج أ ْ ْ َي ْسأَْل ُك ُم َ
اء َوإِ ْن تَتََولَّ ْوا َي ْستَْب ِد ْل قَ ْو ًما ِ ِ َّ ِ ِ
فَم ْن ُك ْم َم ْن َي ْب َخ ُل َو َم ْن َي ْب َخ ْل فَِإَّن َما َي ْب َخ ُل َع ْن َن ْفسه َواللهُ اْل َغن ُّي َوأ َْنتُُم اْلفُقََر ُ
ونوا أ َْمثَالَ ُك ْم ()38 َغْي َر ُك ْم ثَُّم اَل َي ُك ُ
( )1/790
( )1/791
ك َوَي ْه ِدَي َ
ك َخ َر َوُيتِ َّم نِ ْع َمتَهُ َعلَْي َ
ك و َما تَأ َّ َّ ِ ِ ك فَتْحا مبِ ًينا (ِ )1لي ْغ ِفر لَ َ َّ
ك اللهُ َما تَقَد َم م ْن َذ ْنب َ َ َ َ ِ
إَّنا فَتَ ْحَنا لَ َ ً ُ
ص ًرا َع ِز ًيزا ()3 طا مستَِقيما ( )2وي ْنصر َ َّ ِ
ك اللهُ َن ْ َ َ َُ ص َرا ً ُ ْ ً
( )1/791
ود السَّماو ِ ادوا ِإيم ًانا مع ِإ ِ ِ َِّ ِ ين ِلَي ْز َد ُ ِ َّك َينةَ ِفي ُقلُ ِ ُهو الَِّذي أ َْن َز َل الس ِ
ات يمانه ْم َولله ُجُن ُ َ َ َ ََ َ وب اْل ُم ْؤ ِمن َ َ
ِ ِ ٍ ِ
ين َواْل ُم ْؤ ِمَنات َجَّنات تَ ْج ِري م ْن تَ ْحتهَا اأْل َْنهَ ُار ِ ِ ِ ِ ِ َّ
يما ( )4لُي ْدخ َل اْل ُم ْؤ ِمن َ يما َحك ً ان اللهُ َعل ً ض َو َك َ واأْل َْر ِ
َ
ك ِع ْن َد اللَّ ِه فَو ًزا ع ِظيما ( )5ويع ِّذب اْلمَن ِاف ِقين واْلمَن ِافقَاتِ ِ ِ ِ ِ ِ
ََُ َ ُ َ َ ُ ْ َ ً ان َذل َين فيهَا َوُي َكفَِّر َع ْنهُ ْم َسيَِّئات ِه ْم َو َك َ َخالد َ
ب اللَّهُ َعلَْي ِه ْم َولَ َعَنهُ ْم ِ ِ ين بِاللَّ ِه َ ِ َّ ِ
ظ َّن الس َّْو ِء َعلَْي ِه ْم َدائ َرةُ الس َّْو ِء َو َغض َ ين َواْل ُم ْش ِر َكات الظ ِّان َ َواْل ُم ْش ِرك َ
تم ِ
ص ًيرا ()6 اء ْ َ َع َّد لَهُ ْم َجهََّن َم َو َس َ
َوأ َ