You are on page 1of 1081

‫الكتاب ‪ :‬تيسير الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان‬

‫المؤلف ‪ :‬عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي‬


‫المحقق ‪ :‬عبد الرحمن بن معال اللويحق‬
‫الناشر ‪ :‬مؤسسة الرسالة‬
‫الطبعة ‪ :‬األولى ‪1420‬هـ ‪ 2000-‬م‬
‫عدد األجزاء ‪1 :‬‬
‫مصدر الكتاب ‪ :‬موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف‬
‫‪www.qurancomplex.com‬‬
‫[ ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ‪ ،‬والصفحات مذيلة بحواشي المحقق ]‬

‫وسى (‪)57‬‬ ‫ك َيا ُم َ‬ ‫ضَنا بِ ِس ْح ِر َ‬ ‫ال أَ ِج ْئتََنا ِلتُ ْخ ِرجَنا ِم ْن أَر ِ‬


‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب َوأََبى (‪ )56‬قَ َ‬ ‫َّ‬ ‫ِ َّ‬
‫َولَقَ ْد أ ََر ْيَناهُ آََياتَنا ُكلهَا فَ َكذ َ‬
‫ال‬
‫ت َم َك ًانا ُس ًوى (‪ )58‬قَ َ‬ ‫ك َم ْو ِع ًدا اَل ُن ْخِلفُهُ َن ْح ُن َواَل أ َْن َ‬ ‫اج َع ْل َب ْيَنَنا َوَب ْيَن َ‬‫ك بِ ِس ْح ٍر ِمثِْل ِه فَ ْ‬ ‫َفلََنأْتَِيَّن َ‬
‫ض ًحى (‪ )59‬فَتََولَّى ِف ْر َع ْو ُن فَ َج َم َع َك ْي َدهُ ثَُّم أَتَى (‪ )60‬قَ َ‬
‫ال‬ ‫اس ُ‬ ‫الن ُ‬ ‫َن ُي ْح َش َر َّ‬ ‫الز َين ِة َوأ ْ‬
‫َم ْو ِع ُد ُك ْم َي ْو ُم ِّ‬
‫اب َم ِن ا ْفتََرى (‪ )61‬فَتََن َاز ُعوا‬ ‫اب َوقَ ْد َخ َ‬ ‫وسى وْيلَ ُكم اَل تَ ْفتَروا َعلَى اللَّ ِه َك ِذًبا فَُي ْس ِحتَ ُكم بِ َع َذ ٍ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫لَهُ ْم ُم َ َ ْ‬
‫َن ي ْخ ِرجا ُكم ِم ْن أَر ِ‬ ‫ان لَس ِ‬
‫ض ُك ْم‬ ‫ْ‬ ‫ان أ ْ ُ َ ْ‬ ‫يد ِ‬ ‫ان ُي ِر َ‬‫اح َر ِ‬ ‫الن ْج َوى (‪ )62‬قَالُوا ِإ ْن َه َذ ِ َ‬ ‫َس ُّروا َّ‬ ‫أ َْم َر ُه ْم َب ْيَنهُ ْم َوأ َ‬
‫ط ِريقَتِ ُكم اْلمثْلَى (‪ )63‬فَأ ْ ِ‬ ‫بِ ِس ْح ِر ِه َما َوَي ْذ َهَبا بِ َ‬
‫استَ ْعلَى (‬ ‫صفًّا َوقَ ْد أَ ْفلَ َح اْلَي ْو َم َم ِن ْ‬ ‫َجم ُعوا َك ْي َد ُك ْم ثَُّم ا ْئتُوا َ‬ ‫ُ ُ‬
‫ال َب ْل أَْلقُوا فَِإ َذا ِحَبالُهُ ْم‬ ‫ون أ ََّو َل َم ْن أَْلقَى (‪ )65‬قَ َ‬ ‫َن َن ُك َ‬ ‫َن تُْل ِق َي َوإِ َّما أ ْ‬ ‫وسى ِإ َّما أ ْ‬ ‫‪ )64‬قَالُوا َيا ُم َ‬
‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫وسى (‪ُ )67‬قْلَنا اَل‬ ‫َو ِعصيُّهُ ْم ُي َخَّي ُل ِإلَْيه م ْن س ْح ِر ِه ْم أََّنهَا تَ ْس َعى (‪ )66‬فَأ َْو َج َس في َن ْفسه خيفَةً ُم َ‬
‫اح ٍر َواَل ُي ْفِل ُح‬ ‫ف ما صَنعوا ِإَّنما صَنعوا َك ْي ُد س ِ‬
‫َ‬ ‫ك تَْلقَ ْ َ َ ُ َ َ ُ‬ ‫ق َما ِفي َي ِمينِ َ‬ ‫َعلَى (‪ )68‬وأَْل ِ‬
‫َ‬ ‫ت اأْل ْ‬ ‫ك أ َْن َ‬‫ف ِإَّن َ‬ ‫تَ َخ ْ‬
‫َمَّنا بَِر ِّ‬ ‫ِ‬ ‫الس ِ‬
‫َم ْنتُ ْم لَهُ‬ ‫وسى (‪ )70‬قَا َل آ َ‬ ‫ون َو ُم َ‬ ‫ب َه ُار َ‬ ‫َّدا قَالُوا آ َ‬
‫َّح َرةُ ُسج ً‬ ‫ث أَتَى (‪ )69‬فَأُْلق َي الس َ‬ ‫َّاح ُر َح ْي ُ‬
‫ِ ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫ُصلَِّبَّن ُك ْم‬
‫ِّح َر فَأَل ُقَط َع َّن أ َْيدَي ُك ْم َوأ َْر ُجلَ ُك ْم م ْن خاَل ف َوأَل َ‬ ‫َن َآ َذ َن لَ ُك ْم ِإَّنهُ لَ َكبِ ُير ُك ُم الَِّذي َعلَّ َم ُك ُم الس ْ‬ ‫قَْب َل أ ْ‬
‫ك علَى ما جاءَنا ِمن اْلبيَِّن ِ‬ ‫ِفي ُج ُذ ِ‬
‫ات‬ ‫الن ْخ ِل َولَتَ ْعلَ ُم َّن أَيَُّنا أَ َش ُّد َع َذ ًابا َوأ َْبقَى (‪ )71‬قَالُوا لَ ْن ُن ْؤثَِر َ َ َ َ َ َ َ‬ ‫وع َّ‬
‫َمَّنا بَِربَِّنا ِلَي ْغ ِف َر لََنا‬ ‫ِ‬
‫الد ْنَيا (‪ )72‬إَّنا آ َ‬ ‫ضي َه ِذ ِه اْل َحَياةَ ُّ‬ ‫اض ِإَّنما تَ ْق ِ‬
‫ت قَ ٍ َ‬ ‫ض َما أ َْن َ‬ ‫ط َرَنا فَا ْق ِ‬ ‫َوالَِّذي فَ َ‬
‫ِّح ِر َواللَّهُ َخ ْيٌر َوأ َْبقَى (‪)73‬‬ ‫ط َاي َانا َو َما أَ ْك َر ْهتََنا َعلَْي ِه ِم َن الس ْ‬ ‫َخ َ‬

‫ك َيا‬‫ضَنا بِ ِس ْح ِر َ‬
‫َج ْئتََنا ِلتُ ْخ ِرجَنا ِم ْن أَر ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب وأََبى * قَا َل أ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ َّ‬
‫{ ‪َ { } 61 - 56‬ولَقَ ْد أ ََر ْيَناهُ َآياتَنا ُكلهَا فَ َكذ َ َ‬
‫ت َم َك ًانا ُس ًوى * قَا َل‬ ‫ك َم ْو ِع ًدا ال ُن ْخِلفُهُ َن ْح ُن َوال أ َْن َ‬ ‫ك بِ ِس ْح ٍر ِم ْثِل ِه فَ ْ‬
‫اج َع ْل َب ْيَنَنا َوَب ْيَن َ‬ ‫وسى * َفلََنأْتَِيَّن َ‬ ‫ُم َ‬
‫ض ًحى * فَتََولَّى ِف ْر َع ْو ُن فَ َج َم َع َك ْي َدهُ ثَُّم أَتَى * قَ َ‬
‫ال لَهُ ْم‬ ‫اس ُ‬ ‫َن ُي ْح َش َر َّ‬
‫الن ُ‬ ‫الز َين ِة َوأ ْ‬
‫َم ْو ِع ُد ُك ْم َي ْو ُم ِّ‬
‫اب َم ِن ا ْفتََرى } ‪.‬‬ ‫وسى وْيلَ ُكم ال تَ ْفتَروا َعلَى اللَّ ِه َك ِذًبا فَُي ْس ِحتَ ُكم بِ َع َذ ٍ‬
‫اب َوقَ ْد َخ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُم َ َ ْ‬
‫يخبر تعالى‪ ،‬أنه أرى فرعون من اآليات والعبر والقواطع‪ ،‬جميع أنواعها العيانية‪ ،‬واألفقية‬
‫والنفسية‪ ،‬فما استقام وال ارعوى‪ ،‬وإ نما كذب وتولى‪ ،‬كذب الخبر‪ ،‬وتولى عن األمر والنهي‪،‬‬
‫َج ْئتََنا ِلتُ ْخ ِرجَنا ِم ْن أَر ِ‬
‫ضَنا‬ ‫وجعل الحق باطال والباطل حقا‪ ،‬وجادل بالباطل ليضل الناس‪ ،‬فقال‪ { :‬أ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ك } زعم أن هذه اآليات التي أراه إياها موسى‪ ،‬سحر وتمويه‪ ،‬المقصود منها إخراجهم من‬ ‫بِ ِس ْح ِر َ‬
‫أرضهم‪ ،‬واالستيالء عليها‪ ،‬ليكون كالمه مؤثرا في قلوب قومه‪ ،‬فإن الطباع تميل إلى أوطانها‪،‬‬
‫ويصعب عليها الخروج منها ومفارقتها‪.‬‬
‫فأخبرهم أن موسى هذا قصده‪ ،‬ليبغضوه‪ ،‬ويسعوا في محاربته‪ ،‬فلنأتينك بسحر مثل سحرك‬
‫فأمهلنا‪ ،‬واجعل لنا { َم ْو ِع ًدا ال ُن ْخِلفُهُ َن ْح ُن َوال أ َْن َ‬
‫ت َم َك ًانا ُس ًوى } أي‪ :‬مستو علمنا وعلمك به‪ ،‬أو‬
‫مكانا مستويا معتدال ليتمكن من رؤية ما فيه‪.‬‬
‫الز َين ِة } وهو عيدهم‪ ،‬الذي يتفرغون فيه ويقطعون شواغلهم‪َ { ،‬وأ ْ‬
‫َن‬ ‫فقال موسى‪َ { :‬م ْو ِع ُد ُك ْم َي ْو ُم ِّ‬
‫ض ًحى } أي‪ :‬يجمعون كلهم في وقت الضحى‪ ،‬وإ نما سأل موسى ذلك‪ ،‬ألن يوم‬ ‫اس ُ‬ ‫ُي ْح َش َر َّ‬
‫الن ُ‬
‫الزينة ووقت الضحى فيه يحصل فيه من كثرة االجتماع‪ ،‬ورؤية األشياء على حقائقها‪ ،‬ما ال‬
‫يحصل في غيره‪ { ،‬فَتََولَّى ِف ْر َع ْو ُن فَ َج َم َع َك ْي َدهُ } أي‪ :‬جميع ما يقدر عليه‪ ،‬مما يكيد به موسى‪،‬‬
‫فأرسل في مدائنه من يحشر السحرة الماهرين في سحرهم‪ ،‬وكان السحر إذ ذاك‪ ،‬متوفرا‪ ،‬وعلمه‬
‫علما مرغوبا فيه‪ ،‬فجمع خلقا كثيرا من السحرة‪ ،‬ثم أتى كل منهما للموعد‪ ،‬واجتمع الناس للموعد‪.‬‬
‫فكان الجمع حافال حضره الرجال والنساء‪ ،‬والمأل واألشراف‪ ،‬والعوام‪ ،‬والصغار‪ ،‬والكبار‪،‬‬
‫َّح َرةَ ِإ ْن َك ُانوا‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ون * لَ َعلَنا َنتَّبِعُ الس َ‬
‫وحضوا الناس على االجتماع‪ ،‬وقالوا للناس‪َ { :‬ه ْل أ َْنتُ ْم ُم ْجتَم ُع َ‬
‫ِ‬
‫ين } فحين اجتمعوا من جميع البلدان‪ ،‬وعظهم موسى عليه السالم‪ ،‬وأقام عليهم الحجة‪،‬‬ ‫ُه ُم اْل َغالبِ َ‬
‫اب } أي‪ :‬ال تنصروا ما أنتم عليه من‬ ‫وقال لهم‪ { :‬وْيلَ ُكم ال تَ ْفتَروا َعلَى اللَّ ِه َك ِذًبا فَُي ْس ِحتَ ُكم بِ َع َذ ٍ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬
‫الباطل بسحركم وتغالبون الحق‪ ،‬وتفترون على اهلل الكذب‪ ،‬فيستأصلكم بعذاب من عنده‪ ،‬ويخيب‬
‫سعيكم وافتراؤكم‪ ،‬فال تدركون ما تطلبون من النصر والجاه عند فرعون ومالئه‪ ،‬وال تسلمون من‬
‫عذاب اهلل‪ ،‬وكالم الحق ال بد أن يؤثر في القلوب‪.‬‬
‫ال جرم ارتفع الخصام والنزاع بين السحرة لما سمعوا كالم موسى‪ ،‬وارتبكوا‪ ،‬ولعل من جملة‬
‫نزاعهم‪ ،‬االشتباه في موسى‪ ،‬هل هو على الحق أم ال؟ ولكن هم إلى اآلن‪ ،‬ما تم أمرهم‪ ،‬ليقضي‬
‫ك َع ْن َبيَِّن ٍة َوَي ْحَيا َم ْن َح َّي َع ْن َبيَِّن ٍة } فحينئذ أسروا فيما بينهم‬ ‫اهلل أمرا كان مفعوال { ِلَي ْهِل َ‬
‫ك َم ْن َهلَ َ‬
‫النجوى‪ ،‬وأنهم يتفقون على مقالة واحدة‪ ،‬لينجحوا في مقالهم وفعالهم‪ ،‬وليتمسك الناس بدينهم‪،‬‬
‫َن ي ْخ ِرجا ُكم ِم ْن أَر ِ‬ ‫ان لَس ِ‬
‫ض ُك ْم‬ ‫ْ‬ ‫ان أ ْ ُ َ ْ‬ ‫يد ِ‬
‫ان ُي ِر َ‬
‫اح َر ِ‬ ‫والنجوى التي أسروها فسرها بقوله‪ { :‬قَالُوا ِإ ْن َه َذ ِ َ‬
‫ط ِريقَتِ ُك ُم اْل ُمثْلَى } كمقالة فرعون السابقة‪ ،‬فإما أن يكون ذلك توافقا من فرعون‬ ‫بِ ِس ْح ِر ِه َما َوَي ْذ َهَبا بِ َ‬
‫والسحرة على هذه المقالة من غير قصد‪ ،‬وإ ما أن يكون تلقينا منه لهم مقالته‪ ،‬التي صمم عليها‬
‫ط ِريقَتِ ُك ُم اْل ُمثْلَى } أي‪ :‬طريقة‬
‫وأظهرها للناس‪ ،‬وزادوا على قول فرعون أن قالوا‪َ { :‬وَي ْذ َهَبا بِ َ‬
‫السحر حسدكم عليها‪ ،‬وأراد أن يظهر عليكم‪ ،‬ليكون له الفخر والصيت والشهرة‪ ،‬ويكون هو‬
‫المقصود بهذا العلم‪ ،‬الذي أشغلتم زمانكم فيه‪ ،‬ويذهب عنكم ما كنتم تأكلون بسببه‪ ،‬وما يتبع ذلك‬
‫من الرياسة‪ ،‬وهذا حض من بعضهم على بعض على االجتهاد في مغالبته‪ ،‬ولهذا قالوا‪:‬‬
‫َج ِم ُعوا َك ْي َد ُك ْم } أي‪ :‬أظهروه دفعة واحدة متظاهرين متساعدين فيه‪ ،‬متناصرين‪ ،‬متفقا رأيكم‬
‫{ فَأ ْ‬
‫صفًّا } ليكون أمكن لعملكم‪ ،‬وأهيب لكم في القلوب‪ ،‬ولئال يترك بعضكم بعض‬
‫وكلمتكم‪ { ،‬ثَُّم ا ْئتُوا َ‬
‫مقدوره من العمل‪ ،‬واعلموا أن من أفلح اليوم ونجح وغلب غيره‪ ،‬فإنه المفلح الفائز‪ ،‬فهذا يوم له‬
‫ما بعده من األيام‬

‫( ‪)1/508‬‬

‫فلله درهم ما أصلبهم في باطلهم‪ ،‬وأشدهم فيه‪ ،‬حيث أتوا بكل سبب‪ ،‬ووسيلة وممكن‪ ،‬ومكيدة‬
‫يكيدون بها الحق‪ ،‬ويأبى اهلل إال أن يتم نوره‪ ،‬ويظهر الحق على الباطل‪.،‬فلما تمت مكيدتهم‪،‬‬
‫ون أ ََّو َل‬ ‫َن تُْل ِق َي } عصاك { َوإِ َّما أ ْ‬
‫َن َن ُك َ‬ ‫وسى ِإ َّما أ ْ‬‫وانحصر مقصدهم‪ ،‬ولم يبق إال العمل { قَالُوا َيا ُم َ‬
‫َم ْن أَْلقَى } خيروه‪ ،‬موهمين أنهم على جزم من ظهورهم عليه بأي‪ :‬حالة كانت‪ ،‬فقال لهم موسى‪:‬‬
‫صيُّهُ ْم ُي َخَّي ُل ِإلَْي ِه } أي‪ :‬إلى موسى { ِم ْن‬ ‫{ ب ْل أَْلقُوا } فألقوا حبالهم وعصيهم‪ { ،‬فَِإ َذا ِحبالُهم و ِع ِ‬
‫َ ُْ َ‬ ‫َ‬
‫ِس ْح ِر ِه ْم } البليغ { أََّنهَا تَ ْس َعى } أي‪ :‬أنها حيات تسعى فلما خيل إلى موسى ذلك‪.‬‬
‫وسى } كما هو مقتضى الطبيعة البشرية‪ ،‬وإ ال فهو جازم بوعد اهلل‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫{ أ َْو َج َس في َن ْفسه خيفَةً ُم َ‬
‫ونصره‪.‬‬
‫األعلَى } عليهم‪ ،‬أي‪ :‬ستعلو عليهم وتقهرهم‪،‬‬ ‫ت ْ‬ ‫ف ِإَّن َ‬
‫ك أ َْن َ‬ ‫{ ُقْلَنا } له تثبيتا وتطمينا‪ { :‬ال تَ َخ ْ‬
‫ويذلوا [ ص ‪ ] 509‬لك ويخضعوا‪.‬‬
‫اح ٍر وال ي ْفِلح الس ِ‬
‫َّاح ُر‬ ‫ف ما صَنعوا ِإَّنما صَنعوا َك ْي ُد س ِ‬ ‫ق َما ِفي َي ِمينِ َ‬
‫{ وأَْل ِ‬
‫َ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ك } أي‪ :‬عصاك { تَْلقَ ْ َ َ ُ َ َ ُ‬ ‫َ‬
‫ث أَتَى } أي‪ :‬كيدهم ومكرهم‪ ،‬ليس بمثمر لهم وال ناجح‪ ،‬فإنه من كيد السحرة‪ ،‬الذين يموهون‬ ‫َح ْي ُ‬
‫على الناس‪ ،‬ويلبسون الباطل‪ ،‬ويخيلون أنهم على الحق‪ ،‬فألقى موسى عصاه‪ ،‬فتلقفت ما صنعوا‬
‫كله وأكلته‪ ،‬والناس ينظرون لذلك الصنيع‪ ،‬فعلم السحرة علما يقينا أن هذا ليس بسحر‪ ،‬وأنه من‬
‫اهلل‪ ،‬فبادروا لإليمان‪.‬‬
‫ون } فوقع الحق وظهر‬ ‫ين َر ِّ‬ ‫ِ‬ ‫آمَّنا بَِر ِّ‬ ‫ِ‬
‫وسى َو َه ُار َ‬
‫ب ُم َ‬ ‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫َّح َرةُ ساجدين * قَالُوا َ‬
‫{ فَأُْلق َي الس َ‬
‫وسطع وبطل السحر والمكر والكيد في ذلك المجمع العظيم‬
‫َن‬
‫آم ْنتُ ْم لَهُ قَْب َل أ ْ‬
‫ال } فرعون للسحرة { َ‬
‫فصارت بينة ورحمة للمؤمنين وحجة على المعاندين فـ { قَ َ‬
‫آ َذ َن لَ ُك ْم } أي كيف أقدمتم على اإليمان من دون مراجعة مني وال إذن؟‬
‫استغرب ذلك منهم ألدبهم معه وذلهم وانقيادهم له في كل أمر من أمورهم وجعل هذا من ذاك‬
‫ثم استلج فرعون في كفره وطغيانه بعد هذا البرهان واستخف عقول قومه وأظهر لهم أن هذه‬
‫الغلبة من موسى للسحرة ليس ألن الذي معه الحق بل ألنه تماأل هو والسحرة ومكروا ودبروا أن‬
‫استَ َخ َّ‬
‫ف قَ ْو َمهُ‬ ‫يخرجوا فرعون وقومه من بالدهم فقبل قومه هذا المكر منه وظنوه صدقا { فَ ْ‬
‫ِِ‬
‫ين } مع أن هذه المقالة التي قالها ال تدخل عقل من له أدنى مسكة‬ ‫اعوهُ ِإَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو ًما فَاسق َ‬
‫ط ُ‬‫فَأَ َ‬
‫من عقل ومعرفة بالواقع فإن موسى أتى من مدين وحيدا وحين أتى لم يجتمع بأحد من السحرة‬
‫وال غيرهم بل بادر إلى دعوة فرعون وقومه وأراهم اآليات فأراد فرعون أن يعارض ما جاء به‬
‫موسى فسعى ما أمكنه وأرسل في مدائنه من يجمع له كل ساحر عليم‬
‫فجاءوا إليه ووعدهم األجر والمنزلة عند الغلبة وهم حرصوا غاية الحرص وكادوا أشد الكيد على‬
‫غلبتهم لموسى وكان منهم ما كان فهل يمكن أن يتصور مع هذا أن يكونوا دبروا هم وموسى‬
‫واتفقوا على ما صدر؟ هذا من أمحل المحال ثم توعد فرعون السحرة فقال { فألقَطِّ َع َّن أ َْي ِدَي ُك ْم‬
‫وأَرجلَ ُكم ِم ْن ِخ ٍ‬
‫الف }‬ ‫َ ْ ُ ْ‬
‫ألصلَِّبَّن ُك ْم ِفي ُج ُذ ِ‬
‫وع‬ ‫كما يفعل بالمحارب الساعي بالفساد يقطع يده اليمنى ورجله اليسرى { َو َ‬
‫الن ْخ ِل } أي ألجل أن تشتهروا وتختزوا { َولَتَ ْعلَ ُم َّن أَيَُّنا أَ َش ُّد َع َذ ًابا َوأ َْبقَى } يعني بزعمه هو أو اهلل‬
‫َّ‬
‫وأنه أشد عذابا من اهلل وأبقى قلبا للحقائق وترهيبا لمن ال عقل له‬
‫ولهذا لما عرف السحرة الحق ورزقهم اهلل من العقل ما يدركون به الحقائق أجابوه بقولهم‬
‫ك علَى ما جاءَنا ِمن اْلبيَِّن ِ‬
‫ات } أي لن نختارك وما وعدتنا به من األجر والتقريب على‬ ‫{ لَ ْن ُن ْؤثَِر َ َ َ َ َ َ َ‬
‫ما أرانا اهلل من اآليات البينات الداالت على أن اهلل هو الرب المعبود وحده المعظم المبجل وحده‬
‫ت قَ ٍ‬
‫اض } مما‬ ‫وأن ما سواه باطل ونؤثرك على الذي فطرنا وخلقنا هذا ال يكون { فَا ْق ِ‬
‫ض َما أ َْن َ‬
‫أوعدتنا به من القطع والصلب والعذاب‬
‫ضي َه ِذ ِه اْل َحَياةَ ُّ‬
‫الد ْنَيا } أي إنما توعدنا به غاية ما يكون في هذه الحياة الدنيا ينقضي‬ ‫{ ِإَّنما تَ ْق ِ‬
‫َ‬
‫ويزول وال يضرنا بخالف عذاب اهلل لمن استمر على كفره فإنه دائم عظيم‬
‫وهذا كأنه جواب منهم لقوله { َولَتَ ْعلَ ُم َّن أَيَُّنا أَ َش ُّد َع َذ ًابا َوأ َْبقَى } وفي هذا الكالم من السحرة دليل‬
‫على أنه ينبغي للعاقل أن يوازن بين لذات الدنيا ولذات اآلخرة وبين عذاب الدنيا وعذاب اآلخرة‬
‫ط َاي َانا } أي كفرنا ومعاصينا فإن اإليمان مكفر للسيئات والتوبة تجب ما‬ ‫آمَّنا بَِربَِّنا ِلَي ْغ ِف َر لََنا َخ َ‬ ‫ِ‬
‫{ إَّنا َ‬
‫ِّح ِر } الذي عارضنا به الحق هذا دليل على أنهم غير‬ ‫قبلها وقولهم { َو َما أَ ْك َر ْهتََنا َعلَْي ِه ِم َن الس ْ‬
‫مختارين في عملهم المتقدم وإ نما أكرههم فرعون إكراها‬
‫والظاهر ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬أن موسى لما وعظهم كما تقدم في قوله { َوْيلَ ُك ْم ال تَ ْفتَُروا َعلَى اللَّ ِه َك ِذًبا‬
‫اب } أثر معهم ووقع منهم موقعا كبيرا ولهذا تنازعوا بعد هذا الكالم والموعظة ثم إن‬ ‫فَُي ْس ِحتَ ُكم بِ َع َذ ٍ‬
‫ْ‬
‫فرعون ألزمهم ذلك وأكرههم على المكر الذي أجروه ولهذا تكلموا بكالمه السابق قبل إتيانهم‬
‫ض ُك ْم بِ ِس ْح ِر ِه َما } فجروا على ما سنه‬
‫َن ي ْخ ِرجا ُكم ِم ْن أَر ِ‬
‫ْ‬ ‫ان أ ْ ُ َ ْ‬ ‫يد ِ‬
‫ان ُي ِر َ‬ ‫ان لَس ِ‬
‫اح َر ِ‬ ‫حيث قالوا { ِإ ْن َه َذ ِ َ‬
‫لهم وأكرههم عليه ولعل هذه النكتة التي قامت بقلوبهم من كراهتهم لمعارضة الحق بالباطل‬
‫وفعلهم ما فعلوا على وجه اإلغماض هي التي أثرت معهم ورحمهم اهلل بسببها ووفقهم لإليمان‬
‫والتوبة { واهلل خير } مما وعدتنا من األجر والمنزلة والجاه وأبقى ثوابا وإ حسانا ال ما يقول‬
‫فرعون { َولَتَ ْعلَ ُم َّن أَيَُّنا أَ َش ُّد َع َذ ًابا َوأ َْبقَى } يريد أنه أشد عذابا وأبقى وجميع ما أتى من قصص‬
‫موسى مع فرعون يذكر اهلل فيه إذا أتى على قصة السحرة أن فرعون توعدهم بالقطع والصلب‬
‫ولم يذكر أنه فعل ذلك ولم يأت في ذلك حديث صحيح والجزم بوقوعه أو عدمه يتوقف على‬
‫الدليل واهلل أعلم بذلك وغيره ولكن توعده إياهم بذلك مع اقتداره دليل على وقوعه وألنه لو لم يقع‬
‫لذكره اهلل والتفاق الناقلين على ذلك‬

‫( ‪)1/508‬‬

‫وت ِفيهَا َواَل َي ْحَيى (‪َ )74‬و َم ْن َيأْتِ ِه ُم ْؤ ِمًنا قَ ْد َع ِم َل‬


‫ْت َربَّهُ ُم ْج ِر ًما فَِإ َّن لَهُ َجهََّن َم اَل َي ُم ُ‬ ‫ِإَّنه م ْن يأ ِ‬
‫َُ َ‬
‫ين ِفيهَا‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات َع ْد ٍن تَ ْج ِري م ْن تَ ْحتهَا اأْل َْنهَ ُار َخالد َ‬‫ات اْل ُعاَل (‪َ )75‬جَّن ُ‬ ‫الد َر َج ُ‬ ‫ك لَهُ ُم َّ‬ ‫ات فَأُولَئِ َ‬
‫َّالح ِ‬
‫ِ‬
‫الص َ‬
‫اء َم ْن تََز َّكى (‪)76‬‬ ‫ك َج َز ُ‬ ‫َو َذِل َ‬

‫وت ِفيهَا َوال َي ْحَيا * َو َم ْن َيأْتِ ِه ُم ْؤ ِمًنا‬ ‫{ ‪ِ { } 76 - 74‬إَّنه م ْن يأ ِ‬


‫ْت َربَّهُ ُم ْج ِر ًما فَِإ َّن لَهُ َجهََّن َم ال َي ُم ُ‬ ‫َُ َ‬
‫ين‬ ‫ِِ‬ ‫ات َع ْد ٍن تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِهَا ْ‬
‫ات اْل ُعلَى * َجَّن ُ‬ ‫ات فَأُولَئِ َ‬
‫ك لَهُ ُم َّ‬ ‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األنهَ ُار َخالد َ‬ ‫الد َر َج ُ‬ ‫قَ ْد َعم َل الص َ‬
‫اء َم ْن تََز َّكى } ‪.‬‬ ‫ِفيهَا َو َذِل َ‬
‫ك َج َز ُ‬
‫يخبر تعالى أن من أتاه‪ ،‬وقدم عليه مجرما ‪-‬أي‪ :‬وصفه الجرم من كل وجه‪ ،‬وذلك يستلزم الكفر‪-‬‬
‫واستمر على ذلك حتى مات‪ ،‬فإن له نار جهنم‪ ،‬الشديد نكالها‪ ،‬العظيمة أغاللها‪ ،‬البعيد قعرها‪،‬‬
‫األليم حرها وقرها‪ ،‬التي فيها من العقاب ما يذيب [ ص ‪ ] 510‬األكباد والقلوب‪ ،‬ومن شدة ذلك‬
‫أن المعذب فيها ال يموت وال يحيا‪ ،‬ال يموت فيستريح‪ ،‬وال يحيا حياة يتلذذ بها‪ ،‬وإ نما حياته‬
‫محشوة بعذاب القلب والروح والبدن‪ ،‬الذي ال يقدر قدره‪ ،‬وال يفتر عنه ساعة‪ ،‬يستغيث فال يغاث‪،‬‬
‫ويدعو فال يستجاب له‪.‬‬
‫اخ َسُئوا ِفيهَا َوال تُ َكلِّ ُم ِ‬
‫ون‬ ‫نعم إذا استغاث‪ ،‬أغيث بماء كالمهل يشوي الوجوه‪ ،‬وإ ذا دعا‪ ،‬أجيب بـ { ْ‬
‫}‪.‬‬
‫َّالح ِ‬
‫ات } الواجبة والمستحبة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ومن يأت ربه مؤمنا به مصدقا لرسله‪ ،‬متبعا لكتبه { قَ ْد َعم َل الص َ‬
‫ات اْل ُعال } أي‪ :‬المنازل العاليات‪ ،‬وفي الغرف المزخرفات‪ ،‬واللذات‬
‫الد َر َج ُ‬ ‫{ فَأُولَئِ َ‬
‫ك لَهُ ُم َّ‬
‫المتواصالت‪ ،‬واألنهار السارحات‪ ،‬والخلود الدائم‪ ،‬والسرور العظيم‪ ،‬فيما ال عين رأت‪ ،‬وال أذن‬
‫سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب بشر‪.‬‬
‫اء َم ْن تََز َّكى } أي‪ :‬تطهر من الشرك والكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬إما أن‬ ‫{ َو َذِل َ‬
‫ك } الثواب‪َ { ،‬ج َز ُ‬
‫ال يفعلها بالكلية‪ ،‬أو يتوب مما فعله منها‪ ،‬وزكى أيضا نفسه‪ ،‬ونماها باإليمان والعمل الصالح‪ ،‬فإن‬
‫للتزكية معنيين‪ ،‬التنقية‪ ،‬وإ زالة الخبث‪ ،‬والزيادة بحصول الخير‪ ،‬وسميت الزكاة زكاة‪ ،‬لهذين‬
‫األمرين‪.‬‬

‫( ‪)1/509‬‬

‫ط ِريقًا ِفي اْلَب ْح ِر َيَب ًسا اَل تَ َخ ُ‬


‫اف َد َر ًكا َواَل‬ ‫ب لَهُ ْم َ‬ ‫َس ِر بِ ِعَب ِادي فَ ْ‬
‫اض ِر ْ‬ ‫َن أ ْ‬ ‫وسى أ ْ‬ ‫َولَقَ ْد أ َْو َح ْيَنا ِإلَى ُم َ‬
‫َض َّل ِف ْر َع ْو ُن قَ ْو َمهُ َو َما‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫تَ ْخ َشى (‪ )77‬فَأَتَْب َعهُ ْم ف ْر َع ْو ُن بِ ُجُنو ِده فَ َغشَيهُ ْم م َن اْلَي ِّم َما َغشَيهُ ْم (‪َ )78‬وأ َ‬
‫َه َدى (‪)79‬‬

‫ط ِريقًا ِفي اْلَب ْح ِر َيَب ًسا ال‬ ‫اض ِر ْ‬


‫ب لَهُ ْم َ‬ ‫َس ِر بِ ِعَب ِادي فَ ْ‬
‫َن أ ْ‬ ‫{ ‪َ { } 79 - 77‬ولَقَ ْد أ َْو َح ْيَنا ِإلَى ُم َ‬
‫وسى أ ْ‬
‫َض َّل ِف ْر َع ْو ُن‬ ‫ِ‬ ‫اف َدر ًكا وال تَ ْخ َشى * فَأَتْبعهم ِفرعون بِجُن ِ ِ ِ ِ‬
‫وده فَ َغشَيهُ ْم م َن اْلَي ِّم َما َغشَيهُ ْم * َوأ َ‬ ‫َ َ ُْ ْ َ ْ ُ ُ‬ ‫تَ َخ ُ َ َ‬
‫قَ ْو َمهُ َو َما َه َدى } ‪.‬‬
‫لما ظهر موسى بالبراهين على فرعون وقومه‪ ،‬مكث في مصر يدعوهم إلى اإلسالم‪ ،‬ويسعى في‬
‫تخليص بني إسرائيل من فرعون وعذابه‪ ،‬وفرعون في عتو ونفور‪ ،‬وأمره شديد على بني‬
‫إسرائيل ويريه اهلل من اآليات والعبر‪ ،‬ما قصه اهلل علينا في القرآن‪ ،‬وبنو إسرائيل ال يقدرون أن‬
‫يظهروا إيمانهم ويعلنوه‪ ،‬قد اتخذوا بيوتهم مساجد‪ ،‬وصبروا على فرعون وأذاه‪ ،‬فأراد اهلل تعالى‬
‫أن ينجيهم من عدوهم‪ ،‬ويمكن لهم في األرض ليعبدوه جهرا‪ ،‬ويقيموا أمره‪ ،‬فأوحى إلى نبيه‬
‫موسى (‪ )1‬أن سر أو سيروا أول الليل‪ ،‬ليتمادوا (‪ )2‬في األرض‪ ،‬وأخبره أن فرعون وقومه‬
‫سيتبعونه‪ ،‬فخرجوا أول الليل‪ ،‬جميع بني إسرائيل هم ونساؤهم وذريتهم‪ ،‬فلما أصبح أهل مصر‬
‫إذا ليس فيها منهم داع وال مجيب‪ ،‬فحنق عليهم عدوهم فرعون‪ ،‬وأرسل في المدائن‪ ،‬من يجمع له‬
‫الناس ويحضهم على الخروج في أثر بني إسرائيل ليوقع بهم وينفذ غيظه‪ ،‬واهلل غالب على أمره‪،‬‬
‫فتكاملت جنود فرعون فسار بهم يتبع بني إسرائيل‪ ،‬فأتبعوهم مشرقين‪ { ،‬فلما تراءى الجمعان قال‬
‫أصحاب موسى إنا لمدركون } وقلقوا وخافوا‪ ،‬البحر أمامهم‪ ،‬وفرعون من ورائهم‪ ،‬قد امتأل‬
‫عليهم غيظا وحنقا‪ ،‬وموسى مطمئن القلب‪ ،‬ساكن البال‪ ،‬قد وثق بوعد ربه‪ ،‬فقال‪َ { :‬كال ِإ َّن َم ِع َي‬
‫َربِّي َسَي ْه ِد ِ‬
‫ين } فأوحى اهلل إليه أن يضرب البحر بعصاه‪ ،‬فضربه‪ ،‬فانفرق اثني عشر طريقا‪،‬‬
‫وصار الماء كالجبال العالية‪ ،‬عن يمين الطرق ويسارها‪ ،‬وأيبس اهلل طرقهم التي انفرق عنها‬
‫الماء‪ ،‬وأمرهم اهلل أن ال يخافوا من إدراك فرعون‪ ،‬وال يخشوا من الغرق في البحر‪ ،‬فسلكوا في‬
‫تلك الطرق‪.‬‬
‫فجاء فرعون وجنوده‪ ،‬فسلكوا وراءهم‪ ،‬حتى إذا تكامل قوم موسى خارجين وقوم فرعون‬
‫داخلين‪ ،‬أمر اهلل البحر فالتطم عليهم‪ ،‬وغشيهم من اليم ما غشيهم‪ ،‬وغرقوا كلهم‪ ،‬ولم ينجح منهم‬
‫أحد‪ ،‬وبنو إسرائيل ينظرون إلى عدوهم‪ ،‬قد أقر اهلل أعينهم بهالكه (‪. )3‬‬
‫َض َّل ِف ْر َع ْو ُن قَ ْو َمهُ }‬
‫وهذا عاقبة الكفر والضالل‪ ،‬وعدم االهتداء بهدي اهلل‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪َ { :‬وأ َ‬
‫بما زين لهم من الكفر‪ ،‬وتهجين ما أتى به موسى‪ ،‬واستخفافه إياهم‪ ،‬وما هداهم في وقت من‬
‫األوقات‪ ،‬فأوردهم موارد الغي والضالل‪ ،‬ثم أوردهم مورد العذاب والنكال‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬هنا زيادة في ب‪ :‬أن يواعد بني إسرائيل ويبدو أنها مشطوبة في أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬الكلمة غير واضحة‪.‬‬
‫(‪ )3‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬بهالكهم‪.‬‬

‫( ‪)1/510‬‬

‫ب الطُّ ِ‬
‫ور اأْل َْي َم َن َوَن َّزْلَنا َعلَْي ُك ُم اْل َم َّن‬ ‫ِ‬
‫اع ْدَنا ُك ْم َجان َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َيا َبني ِإ ْس َرائي َل قَ ْد أ َْن َج ْيَنا ُك ْم م ْن َع ُد ِّو ُك ْم َو َو َ‬
‫ضبِي َو َم ْن َي ْحِل ْل َعلَْي ِه‬ ‫ات ما ر َز ْقَنا ُكم واَل تَ ْ ِ ِ ِ‬
‫ط َغ ْوا فيه فََيح َّل َعلَْي ُك ْم َغ َ‬ ‫َْ‬ ‫طيَِّب َ َ‬
‫السْلوى (‪ُ )80‬كلُوا ِم ْن َ ِ‬
‫َو َّ َ‬
‫اهتَ َدى (‪)82‬‬ ‫ص ِال ًحا ثَُّم ْ‬ ‫ِ‬
‫َم َن َو َعم َل َ‬
‫اب َوآ َ‬
‫ِ‬
‫ضبِي فَقَ ْد َه َوى (‪َ )81‬وإِ ِّني لَ َغفَّ ٌار ل َم ْن تَ َ‬ ‫َغ َ‬

‫األي َم َن َوَن َّزْلَنا‬


‫ور ْ‬ ‫ب الطُّ ِ‬ ‫ِ‬
‫اع ْدَنا ُك ْم َجان َ‬
‫ِ‬ ‫{ ‪َ { } 82 - 80‬يا َبنِي ِإ ْس َرائِ َ‬
‫يل قَ ْد أ َْن َج ْيَنا ُك ْم م ْن َع ُد ِّو ُك ْم َو َو َ‬
‫ضبِي َو َم ْن َي ْحِل ْل‬ ‫ات ما ر َز ْقَنا ُكم وال تَ ْ ِ ِ ِ‬
‫ط َغ ْوا فيه فََيح َّل َعلَْي ُك ْم َغ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫طيَِّب َ َ‬
‫السْلوى * ُكلُوا ِم ْن َ ِ‬
‫َعلَْي ُك ُم اْل َم َّن َو َّ َ‬
‫اهتَ َدى } ‪.‬‬ ‫ص ِال ًحا ثَُّم ْ‬ ‫ِ‬
‫آم َن َو َعم َل َ‬ ‫اب َو َ‬
‫ِ‬
‫ضبِي فَقَ ْد َه َوى * َوإِ ِّني لَ َغفَّ ٌار ل َم ْن تَ َ‬ ‫َعلَْيه َغ َ‬
‫ِ‬
‫يذكر تعالى بني إسرائيل منته العظيمة عليهم بإهالك عدوهم‪ ،‬ومواعدته لموسى عليه السالم‬
‫بجانب الطور األيمن‪ ،‬لينزل عليه الكتاب‪ ،‬الذي فيه األحكام الجليلة‪ ،‬واألخبار الجميلة‪ ،‬فتتم عليهم‬
‫النعمة الدينية‪ ،‬بعد النعمة الدنيوية‪ ،‬ويذكر منته أيضا عليهم في التيه‪ ،‬بإنزال المن والسلوى‪،‬‬
‫والرزق الرغد الهني الذي يحصل لهم بال مشقة‪ ،‬وأنه قال لهم‪:‬‬
‫طيِّب ِ‬
‫ات َما َر َز ْقَنا ُك ْم } أي‪ :‬واشكروه على ما [ ص ‪ ] 511‬أسدى إليكم من النعم { َوال‬ ‫ِ‬
‫{ ُكلُوا م ْن َ َ‬
‫يه } أي‪ :‬في رزقه‪ ،‬فتستعملونه في معاصيه‪ ،‬وتبطرون النعمة‪ ،‬فإنكم إن فعلتم ذلك‪ ،‬حل‬ ‫ط َغوا ِف ِ‬
‫تَ ْ ْ‬
‫ضبِي فَقَ ْد َه َوى } أي‪ :‬ردى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عليكم غضبي أي‪ :‬غضبت عليكم‪ ،‬ثم عذبتكم‪َ { ،‬و َم ْن َي ْحل ْل َعلَْيه َغ َ‬
‫وهلك‪ ،‬وخاب وخسر‪ ،‬ألنه عدم الرضا واإلحسان‪ ،‬وحل عليه الغضب والخسران‪.‬‬
‫ومع هذا‪ ،‬فالتوبة معروضة‪ ،‬ولو عمل العبد ما عمل من المعاصي‪ ،‬فلهذا قال‪َ { :‬وإِ ِّني لَ َغفَّ ٌار }‬
‫أي‪ :‬كثير المغفرة والرحمة‪ ،‬لمن تاب من الكفر والبدعة والفسوق‪ ،‬وآمن باهلل ومالئكته وكتبه‬
‫ورسله واليوم اآلخر‪ ،‬وعمل صالحا من أعمال القلب والبدن‪ ،‬وأقوال اللسان‪.‬‬
‫اهتَ َدى } أي‪ :‬سلك الصراط المستقيم‪ ،‬وتابع الرسول الكريم‪ ،‬واقتدى بالدين القويم‪ ،‬فهذا يغفر‬
‫{ ثَُّم ْ‬
‫اهلل أوزاره‪ ،‬ويعفو عما تقدم من ذنبه وإ صراره‪ ،‬ألنه أتى بالسبب األكبر‪ ،‬للمغفرة والرحمة‪ ،‬بل‬
‫األسباب كلها منحصرة في هذه األشياء فإن التوبة تجب ما قبلها‪ ،‬واإليمان واإلسالم يهدم ما قبله‪،‬‬
‫والعمل الصالح الذي هو الحسنات‪ ،‬يذهب السيئات‪ ،‬وسلوك طرق الهداية بجميع أنواعها‪ ،‬من‬
‫تعلم علم‪ ،‬وتدبر آية أو حديث‪ ،‬حتى يتبين له معنى من المعاني يهتدي به‪ ،‬ودعوة إلى دين الحق‪،‬‬
‫ورد بدعة أو كفر أو ضاللة‪ ،‬وجهاد‪ ،‬وهجرة‪ ،‬وغير ذلك من جزئيات الهداية‪ ،‬كلها مكفرات‬
‫للذنوب محصالت لغاية المطلوب‪.‬‬

‫( ‪)1/510‬‬

‫ك ر ِّ ِ‬ ‫ال ُه ْم أُواَل ِء َعلَى أَثَِري َو َع ِجْل ُ‬


‫ضى (‪)84‬‬ ‫ب لتَْر َ‬ ‫ت ِإلَْي َ َ‬ ‫وسى (‪ )83‬قَ َ‬ ‫ك َيا ُم َ‬ ‫ك َع ْن قَ ْو ِم َ‬ ‫َع َجلَ َ‬ ‫َو َما أ ْ‬
‫ضبان أ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك وأَضلَّهم الس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال فَِإَّنا قَ ْد فَتََّنا قَوم َ ِ‬
‫ال‬
‫َسفًا قَ َ‬ ‫وسى ِإلَى قَ ْو ِمه َغ ْ َ َ‬ ‫ي (‪ )85‬فََر َج َع ُم َ‬ ‫َّام ِر ُّ‬ ‫ك م ْن َب ْعد َ َ َ ُ ُ‬ ‫َْ‬ ‫قَ َ‬
‫ب ِم ْن َرِّب ُك ْم‬
‫ضٌ‬ ‫ال علَْي ُكم اْلعه ُد أَم أَر ْدتُم أ ْ ِ‬
‫َن َيح َّل َعلَْي ُك ْم َغ َ‬ ‫ط َ َ ُ َْ ْ َ ْ‬ ‫َيا قَ ْوِم أَلَ ْم َي ِع ْد ُك ْم َرُّب ُك ْم َو ْع ًدا َح َسًنا أَفَ َ‬
‫َخلَ ْفتُ ْم َم ْو ِع ِدي (‪)86‬‬ ‫فَأ ْ‬

‫ب‬‫ك َر ِّ‬ ‫ال ُهم أ ِ‬


‫ُوالء َعلَى أَثَِري َو َع ِجْل ُ‬
‫ت ِإلَْي َ‬ ‫ك َع ْن قَ ْو ِم َ‬
‫وسى * قَ َ ْ‬ ‫ك َيا ُم َ‬ ‫َع َجلَ َ‬‫{ ‪َ { } 86 - 83‬و َما أ ْ‬
‫ان‬
‫ضَب َ‬‫وسى ِإلَى قَ ْو ِم ِه َغ ْ‬
‫ي * فََر َج َع ُم َ‬
‫ك وأَضلَّهم الس ِ‬
‫َّام ِر ُّ‬ ‫ِ‬
‫ك م ْن َب ْعد َ َ َ ُ ُ‬
‫ِلتَرضى * قَا َل فَِإَّنا قَ ْد فَتََّنا قَوم َ ِ‬
‫َْ‬ ‫ْ َ‬
‫ب ِم ْن‬‫ضٌ‬ ‫ال علَْي ُكم اْلعه ُد أَم أَر ْدتُم أ ْ ِ‬
‫َن َيح َّل َعلَْي ُك ْم َغ َ‬ ‫ط َ َ ُ َْ ْ َ ْ‬ ‫َسفًا قَا َل َيا قَ ْوِم أَلَ ْم َي ِع ْد ُك ْم َرُّب ُك ْم َو ْع ًدا َح َسًنا أَفَ َ‬ ‫أِ‬
‫َخلَ ْفتُ ْم َم ْو ِع ِدي } ‪.‬‬ ‫َرِّب ُك ْم فَأ ْ‬
‫كان اهلل تعالى‪ ،‬قد واعد موسى أن يأتيه لينزل عليه التوراة ثالثين ليلة‪ ،‬فأتمها بعشر‪ ،‬فلما تم‬
‫الميقات‪ ،‬بادر موسى عليه السالم إلى الحضور للموعد شوقا لربه‪ ،‬وحرصا على موعوده‪ ،‬فقال‬
‫وسى } أي‪ :‬ما الذي قدمك عليهم؟ ولم لم تصبر حتى تقدم‬ ‫ك َع ْن قَ ْو ِم َ‬
‫ك َيا ُم َ‬ ‫َع َجلَ َ‬
‫اهلل له‪َ { :‬و َما أ ْ‬
‫ُوالء َعلَى أَثَِري } أي‪ :‬قريبا مني‪ ،‬وسيصلون في أثري والذي عجلني إليك‬‫أنت وهم؟ قال‪ُ { :‬هم أ ِ‬
‫ْ‬
‫ك ِم ْن َب ْع ِد َ‬
‫ك‬ ‫يا رب طلبا لقربك ومسارعة في رضاك‪ ،‬وشوقا إليك‪ ،‬فقال اهلل له‪ { :‬فَِإَّنا قَ ْد فَتََّنا قَ ْو َم َ‬
‫} أي‪ :‬بعبادتهم للعجل‪ ،‬ابتليناهم‪ ،‬واختبرناهم‪ ،‬فلم يصبروا‪ ،‬وحين وصلت إليهم المحنة‪ ،‬كفروا‬
‫ي}‬ ‫{ وأَضلَّهم الس ِ‬
‫َّام ِر ُّ‬ ‫َ َ ُُ‬
‫ِ‬
‫وسى }‬ ‫َخ َر َج لَهُ ْم ع ْجال َج َس ًدا } وصاغه فصار { لَهُ ُخ َو ٌار فَقَالُوا } لهم { َه َذا ِإلَهُ ُك ْم َوإِلَهُ ُم َ‬
‫{ فَأ ْ‬
‫فنسيه موسى‪ ،‬فافتتن به بنو إسرائيل‪ ،‬فعبدوه‪ ،‬ونهاهم هارون فلم ينتهوا‪.‬‬
‫فلما رجع موسى إلى قومه وهو غضبان أسف‪ ،‬أي‪ :‬ممتلئ غيظا وحنقا وغما‪ ،‬قال لهم موبخا‬
‫ال َعلَْي ُك ُم اْل َع ْه ُد }‬
‫ط َ‬‫ومقبحا لفعلهم‪َ { :‬يا قَ ْوِم أَلَ ْم َي ِع ْد ُك ْم َرُّب ُك ْم َو ْع ًدا َح َسًنا } وذلك بإنزال التوراة‪ { ،‬أَفَ َ‬
‫أي‪ :‬المدة‪ ،‬فتطاولتم غيبتي وهي مدة قصيرة؟ هذا قول كثير من المفسرين‪ ،‬ويحتمل أن معناه‪:‬‬
‫أفطال عليكم عهد النبوة والرسالة‪ ،‬فلم يكن لكم بالنبوة علم وال أثر‪ ،‬واندرست آثارها‪ ،‬فلم تقفوا‬
‫منها على خبر‪ ،‬فانمحت آثارها لبعد العهد بها‪ ،‬فعبدتم غير اهلل‪ ،‬لغلبة الجهل‪ ،‬وعدم العلم بآثار‬
‫الرسالة؟ أي‪ :‬ليس األمر كذلك‪ ،‬بل النبوة بين أظهركم‪ ،‬والعلم قائم‪ ،‬والعذر غير مقبول؟ أم أردتم‬
‫بفعلكم‪ ،‬أن يحل عليكم غضب من ربكم؟ أي‪ :‬فتعرضتم ألسبابه واقتحمتم موجب عذابه‪ ،‬وهذا هو‬
‫َخلَ ْفتُ ْم َم ْو ِع ِدي } حين أمرتكم باالستقامة‪ ،‬ووصيت بكم هارون‪ ،‬فلم ترقبوا غائبا‪ ،‬ولم‬
‫الواقع‪ { ،‬فَأ ْ‬
‫تحترموا حاضرا‪.‬‬

‫( ‪)1/511‬‬

‫ك أَْلقَى الس ِ‬
‫اها فَ َك َذِل َ‬
‫َّام ِر ُّ‬
‫ي(‬ ‫ك بِ َمْل ِكَنا َولَ ِكَّنا ُح ِّمْلَنا أ َْو َز ًارا ِم ْن ِز َين ِة اْلقَ ْوِم فَقَ َذ ْفَن َ‬
‫َخلَ ْفَنا َم ْو ِع َد َ‬
‫قَالُوا َما أ ْ‬
‫‪)87‬‬

‫اها فَ َك َذِل َ‬
‫ك‬ ‫ك بِ َمْل ِكَنا َولَ ِكَّنا ُح ِّمْلَنا أ َْو َز ًارا ِم ْن ِز َين ِة اْلقَ ْوِم فَقَ َذ ْفَن َ‬
‫َخلَ ْفَنا َم ْو ِع َد َ‬
‫{ ‪ { } 89 - 87‬قَالُوا َما أ ْ‬
‫ي}‪.‬‬ ‫أَْلقَى الس ِ‬
‫َّام ِر ُّ‬
‫أي‪ :‬قالوا له‪ :‬ما فعلنا الذي فعلنا عن تعمد منا‪ ،‬وملك منا ألنفسنا‪ ،‬ولكن السبب الداعي لذلك‪ ،‬أننا‬
‫تأثمنا من زينة القوم التي عندنا‪ ،‬وكانوا فيما يذكرون استعاروا حليا كثيرا من القبط‪ ،‬فخرجوا‬
‫وهو معهم وألقوه‪ ،‬وجمعوه حين ذهب موسى ليراجعوه فيه إذا رجع‪.‬‬
‫وكان السامري قد بصر يوم الغرق بأثر الرسول‪ ،‬فسولت له نفسه أن يأخذ قبضة من أثره‪ ،‬وأنه‬
‫إذا ألقاها على شيء حيي‪ ،‬فتنة وامتحانا‪ ،‬فألقاها على ذلك العجل الذي صاغه بصورة عجل‪،‬‬
‫فتحرك العجل‪ ،‬وصار له خوار وصوت‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن موسى ذهب يطلب ربه‪ ،‬وهو هاهنا فنسيه‪.‬‬

‫( ‪)1/511‬‬
‫اَّل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َخ َر َج لَهُ ْم ع ْجاًل َج َس ًدا لَهُ ُخ َو ٌار فَقَالُوا َه َذا ِإلَهُ ُك ْم َوإِلَهُ ُم َ‬
‫وسى فََنس َي (‪ )88‬أَفَاَل َي َر ْو َن أَ َي ْرجعُ‬ ‫فَأ ْ‬
‫ض ًّرا َواَل َن ْف ًعا (‪)89‬‬ ‫ك لَهُ ْم َ‬ ‫ِإلَْي ِه ْم قَ ْواًل َواَل َي ْمِل ُ‬

‫وسى فََن ِس َي * أَفَال َي َر ْو َن أَال َي ْر ِجعُ ِإلَْي ِه ْم‬ ‫ِ‬


‫َخ َر َج لَهُ ْم ع ْجال َج َس ًدا لَهُ ُخ َو ٌار فَقَالُوا َه َذا ِإلَهُ ُك ْم َوإِلَهُ ُم َ‬‫{ فَأ ْ‬
‫ض ًّرا َوال َن ْف ًعا } ‪.‬‬ ‫قَ ْوال َوال َي ْمِل ُ‬
‫ك لَهُ ْم َ‬
‫وهذا من بالدتهم‪ ،‬وسخافة عقولهم‪ ،‬حيث رأوا هذا الغريب الذي صار له خوار‪ ،‬بعد أن كان‬
‫جمادا‪ ،‬فظنوه إله األرض والسماوات‪.‬‬
‫{ أَفَال َي َر ْو َن } أن العجل { ال َي ْر ِجعُ ِإلَْي ِه ْم قَ ْوال } أي‪ :‬ال يتكلم ويراجعهم ويراجعونه‪ ،‬وال يملك‬
‫لهم ضرا وال نفعا‪ ،‬فالعادم للكمال والكالم والفعال ال يستحق أن يعبد وهو أنقص من عابديه‪،‬‬
‫فإنهم يتكلمون ويقدرون [ ص ‪ ] 512‬على بعض األشياء‪ ،‬من النفع والدفع‪ ،‬بإقدار اهلل لهم‪.‬‬

‫( ‪)1/511‬‬

‫ِ‬ ‫ون ِم ْن قَْب ُل َيا قَ ْوِم ِإَّن َما فُتِْنتُ ْم بِ ِه َوإِ َّن َرَّب ُك ُم َّ‬
‫يعوا أ َْم ِري (‪)90‬‬ ‫الر ْح َم ُن فَاتَّبِ ُعونِي َوأَط ُ‬ ‫َولَقَ ْد قَا َل لَهُ ْم َه ُار ُ‬
‫ضلُّوا‬
‫ك ِإ ْذ َرأ َْيتَهُ ْم َ‬
‫ون َما َمَن َع َ‬
‫ال َيا َه ُار ُ‬‫وسى (‪ )91‬قَ َ‬ ‫ين َحتَّى َي ْر ِج َع ِإلَْيَنا ُم َ‬
‫ِ ِِ‬
‫قَالُوا لَ ْن َن ْب َر َح َعلَْيه َعاكف َ‬
‫َن‬ ‫ْسي ِإِّني َخ ِش ُ‬
‫يت أ ْ‬ ‫ْخ ْذ بِِل ْحيتِي واَل بِرأ ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ت أ َْم ِري (‪ )93‬قَا َل َيا ْاب َن أ َُّم اَل تَأ ُ‬ ‫ص ْي َ‬ ‫اَّل‬
‫(‪ )92‬أَ تَتَّبِ َع ِن أَفَ َع َ‬
‫ب قَ ْوِلي (‪)94‬‬ ‫ت َب ْي َن َبنِي ِإ ْس َرائِي َل َولَ ْم تَْرقُ ْ‬ ‫ول فََّر ْق َ‬
‫تَقُ َ‬

‫ون ِم ْن قَْب ُل َيا قَ ْوِم ِإَّن َما فُتِْنتُ ْم بِ ِه َوإِ َّن َرَّب ُك ُم َّ‬
‫الر ْح َم ُن فَاتَّبِ ُعونِي‬ ‫{ ‪َ { } 94 - 90‬ولَقَ ْد قَا َل لَهُ ْم َه ُار ُ‬
‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫ك ِإ ْذ‬
‫ون َما َمَن َع َ‬‫وسى * قَا َل َيا َه ُار ُ‬ ‫ين َحتَّى َي ْر ِج َع ِإلَْيَنا ُم َ‬ ‫يعوا أ َْم ِري * قَالُوا لَ ْن َن ْب َر َح َعلَْيه َعاكف َ‬ ‫َوأَط ُ‬
‫ْسي ِإِّني َخ ِش ُ‬
‫يت‬ ‫ْخ ْذ بِِل ْحيتِي وال بِرأ ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ت أ َْم ِري * قَا َل َيا ْاب َن أ َُّم ال تَأ ُ‬ ‫ص ْي َ‬‫ضلوا * أَال تَتَّبِ َع ِن أَفَ َع َ‬
‫رأ َْيتَهم ُّ‬
‫َ ُْ َ‬
‫ب قَ ْوِلي } ‪.‬‬ ‫يل َولَ ْم تَْرقُ ْ‬‫ت َب ْي َن َبنِي ِإ ْس َرائِ َ‬ ‫ول فََّر ْق َ‬
‫َن تَقُ َ‬
‫أْ‬
‫أي‪ :‬إن اتخاذهم العجل‪ ،‬ليسوا معذورين فيه‪ ،‬فإنه وإ ن كانت عرضت لهم الشبهة في أصل‬
‫عبادته‪ ،‬فإن هارون قد نهاهم عنه‪ ،‬وأخبرهم أنه فتنة‪ ،‬وأن ربهم الرحمن‪ ،‬الذي منه النعم الظاهرة‬
‫والباطنة‪ ،‬الدافع للنقم وأنه أمرهم أن يتبعوه‪ ،‬ويعتزلوا العجل‪ ،‬فأبوا وقالوا‪ { :‬لَ ْن َن ْب َر َح َعلَْي ِه‬
‫ِِ‬
‫ين َحتَّى َي ْر ِج َع ِإلَْيَنا ُم َ‬
‫وسى }‬ ‫َعاكف َ‬
‫ضلُّوا * أَال تَتَّبِ َع ِن }‬‫ك ِإ ْذ َرأ َْيتَهُ ْم َ‬
‫ون َما َمَن َع َ‬
‫فأقبل موسى على أخيه الئما له‪ ،‬وقال‪َ { :‬يا َه ُار ُ‬
‫َصِل ْح َوال تَتَّبِ ْع‬ ‫ت أَم ِري } في قولي { ْ ِ ِ‬
‫اخلُ ْفني في قَ ْو ِمي َوأ ْ‬ ‫ص ْي َ ْ‬
‫فتخبرني ألبادر للرجوع إليهم؟ { أَفَ َع َ‬
‫ِِ‬
‫َسبِي َل اْل ُم ْفسد َ‬
‫ين }‬
‫فأخذ موسى برأس هارون ولحيته يجره من الغضب والعتب عليه فقال هارون { َيا ْاب َن أ َُّم }‬
‫ت َب ْي َن َبنِي‬ ‫َن تَقُو َل فََّر ْق َ‬ ‫ْسي ِإِّني َخ ِش ُ‬
‫يت أ ْ‬ ‫ْخ ْذ بِِل ْحيتِي وال بِرأ ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ترقيق له وإ ال فهو شقيقه { ال تَأ ُ‬
‫ب قَ ْوِلي } فإنك أمرتني أن أخلفك فيهم فلو تبعتك لتركت ما أمرتني بلزومه‬ ‫ِإ ْس َرائِي َل َولَ ْم تَْرقُ ْ‬
‫ت َب ْي َن َبنِي ِإ ْس َرائِي َل } حيث تركتهم وليس عندهم راع وال خليفة‬ ‫َن تَقُو َل فََّر ْق َ‬
‫وخشيت الئمتك و { أ ْ‬
‫فإن هذا يفرقهم ويشتت شملهم فال تجعلني مع القوم الظالمين وال تشمت فينا األعداء فندم موسى‬
‫ك‬‫ألخي َوأ َْد ِخْلَنا ِفي َر ْح َمتِ َ‬
‫اغ ِفر ِلي و ِ‬
‫َ‬ ‫ب ْ ْ‬ ‫على ما صنع بأخيه وهو غير مستحق لذلك فـ { قَا َل َر ِّ‬
‫ين }‬ ‫ت أَرحم َّ ِ ِ‬
‫الراحم َ‬ ‫َوأ َْن َ ْ َ ُ‬
‫ثم أقبل على السامري‬

‫( ‪)1/512‬‬

‫الرس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص ُروا بِ ِه فَقََب ْ‬ ‫ك يا س ِ‬


‫ول‬ ‫ضةً م ْن أَثَِر َّ ُ‬ ‫ت قَْب َ‬ ‫ضُ‬ ‫ت بِ َما لَ ْم َي ْب ُ‬‫ص ْر ُ‬‫ي (‪ )95‬قَا َل َب ُ‬ ‫ام ِر ُّ‬ ‫طُب َ َ َ‬ ‫ال فَ َما َخ ْ‬ ‫قَ َ‬
‫َن تَقُ َ ِ‬
‫ك‬‫اس َوإِ َّن لَ َ‬
‫ول اَل م َس َ‬ ‫ك ِفي اْل َحَي ِاة أ ْ‬ ‫ب فَِإ َّن لَ َ‬‫ت ِلي َن ْف ِسي (‪ )96‬قَا َل فَا ْذ َه ْ‬ ‫ك َس َّولَ ْ‬‫فََنَب ْذتُهَا َو َك َذِل َ‬
‫اكفًا لَُن َحِّرقََّنهُ ثَُّم لََن ْن ِسفََّنهُ ِفي اْلَي ِّم َن ْسفًا (‪)97‬‬
‫ت علَْي ِه ع ِ‬
‫ظْل َ َ َ‬ ‫ك الَِّذي َ‬ ‫َم ْو ِع ًدا لَ ْن تُ ْخلَفَهُ َو ْانظُ ْر ِإلَى ِإلَ ِه َ‬

‫ضةً ِم ْن‬‫ت قَْب َ‬ ‫ضُ‬‫ص ُروا بِ ِه فَقََب ْ‬ ‫ت بِ َما لَ ْم َي ْب ُ‬ ‫ص ْر ُ‬‫ال َب ُ‬ ‫ي * قَ َ‬ ‫ك يا س ِ‬


‫ام ِر ُّ‬ ‫طُب َ َ َ‬ ‫{ ‪ } 97 - 95‬فـ { قَا َل فَ َما َخ ْ‬
‫َن تَقُ َ ِ‬
‫اس‬‫ول ال م َس َ‬ ‫ك ِفي اْل َحَي ِاة أ ْ‬ ‫ب فَِإ َّن لَ َ‬ ‫ت ِلي َن ْف ِسي * قَ َ‬
‫ال فَا ْذ َه ْ‬ ‫ك َس َّولَ ْ‬‫ول فََنَب ْذتُهَا َو َك َذِل َ‬
‫الرس ِ‬
‫أَثَِر َّ ُ‬
‫اكفًا لَُن َحِّرقََّنهُ ثَُّم لََن ْن ِسفََّنهُ ِفي اْلَي ِّم َن ْسفًا }‬
‫ت علَْي ِه ع ِ‬
‫ظْل َ َ َ‬ ‫ك الَِّذي َ‬‫ك َم ْو ِع ًدا لَ ْن تُ ْخلَفَهُ َو ْانظُ ْر ِإلَى ِإلَ ِه َ‬
‫َوإِ َّن لَ َ‬
‫‪.‬‬

‫( ‪)1/512‬‬

‫ِإَّن َما ِإلَهُ ُك ُم اللَّهُ الَِّذي اَل ِإلَهَ ِإاَّل ُه َو َو ِس َع ُك َّل َش ْي ٍء ِعْل ًما (‪)98‬‬

‫ص ُروا بِ ِه } وهو جبريل‬


‫ت بِ َما لَ ْم َي ْب ُ‬
‫ص ْر ُ‬
‫أي‪ :‬ما شأنك يا سامري‪ ،‬حيث فعلت ما فعلت؟‪ ،‬فقال‪َ { :‬ب ُ‬
‫عليه السالم على فرس رآه وقت خروجهم من البحر‪ ،‬وغرق فرعون وجنوده على ما قاله‬
‫ت ِلي َن ْف ِسي }‬ ‫المفسرون‪ ،‬فقبضت قبضة من أثر حافر فرسه‪ ،‬فنبذتها على العجل‪َ { ،‬و َك َذِل َ‬
‫ك َس َّولَ ْ‬
‫ب } أي‪ :‬تباعد عني واستأخر مني‬ ‫أن أقبضها‪ ،‬ثم أنبذها‪ ،‬فكان ما كان‪ ،‬فقال له موسى‪ { :‬فَا ْذ َه ْ‬
‫ِ‬
‫اس } أي‪ :‬تعاقب في الحياة عقوبة‪ ،‬ال يدنو منك أحد‪ ،‬وال‬ ‫ك ِفي اْل َحَي ِاة أ ْ‬
‫َن تَقُو َل ال م َس َ‬ ‫{ فَِإ َّن لَ َ‬
‫يمسك أحد‪ ،‬حتى إن من أراد القرب منك‪ ،‬قلت له‪ :‬ال تمسني‪ ،‬وال تقرب مني‪ ،‬عقوبة على ذلك‪،‬‬
‫ك َم ْو ِع ًدا لَ ْن تُ ْخلَفَهُ } فتجازى‬
‫حيث مس ما لم يمسه غيره‪ ،‬وأجرى ما لم يجره أحد‪َ { ،‬وإِ َّن لَ َ‬
‫اكفًا } أي‪ :‬العجل { لَُن َحِّرقََّنهُ ثَُّم‬‫ت علَْي ِه ع ِ‬ ‫ك الَِّذي َ‬
‫بعملك‪ ،‬من خير وشر‪َ { ،‬و ْانظُ ْر ِإلَى ِإلَ ِه َ‬
‫ظْل َ َ َ‬
‫لََن ْن ِسفََّنهُ ِفي اْلَي ِّم َن ْسفًا } ففعل موسى ذلك‪ ،‬فلو كان إلها‪ ،‬المتنع ممن يريده بأذى ويسعى له‬
‫باإلتالف‪ ،‬وكان قد أشرب العجل في قلوب بني إسرائيل‪ ،‬فأراد موسى عليه السالم إتالفه وهم‬
‫ينظرون‪ ،‬على وجه ال تمكن إعادته باإلحراق والسحق وذريه في اليم ونسفه‪ ،‬ليزول ما في‬
‫قلوبهم من حبه‪ ،‬كما زال شخصه‪ ،‬وألن في إبقائه محنة‪ ،‬ألن في النفوس أقوى داع إلى الباطل‪،‬‬
‫فلما تبين لهم بطالنه‪ ،‬أخبرهم بمن يستحق العبادة وحده ال شريك له‪ ،‬فقال‪ِ { } 98 { :‬إَّن َما ِإلَهُ ُك ُم‬
‫اللَّهُ الَِّذي ال ِإلَهَ ِإال ُه َو َو ِس َع ُك َّل َش ْي ٍء ِعْل ًما } ‪.‬‬
‫أي‪ :‬ال معبود إال وجهه الكريم‪ ،‬فال يؤله‪ ،‬وال يحب‪ ،‬وال يرجى وال يخاف‪ ،‬وال يدعى إال هو‪،‬‬
‫ألنه الكامل الذي له األسماء الحسنى‪ ،‬والصفات العلى‪ ،‬المحيط علمه بجميع األشياء‪ ،‬الذي ما من‬
‫نعمة بالعباد إال منه‪ ،‬وال يدفع السوء إال هو‪ ،‬فال إله إال هو‪ ،‬وال معبود سواه‪.‬‬

‫( ‪)1/512‬‬

‫ض َعْنهُ فَِإَّنهُ َي ْح ِم ُل‬ ‫ك ِم ْن لَ ُدَّنا ِذ ْك ًرا (‪َ )99‬م ْن أ ْ‬


‫َع َر َ‬ ‫ق َوقَ ْد آَتَْيَنا َ‬ ‫ك ِم ْن أ َْنب ِ‬
‫اء َما قَ ْد َسَب َ‬ ‫َ‬ ‫ص َعلَْي َ‬ ‫َك َذِل َ‬
‫ك َنقُ ُّ‬
‫ام ِة ِح ْماًل (‪)101‬‬ ‫ِ‬
‫اء لَهُ ْم َي ْو َم اْلقَي َ‬
‫يوم اْل ِقيام ِة ِو ْزرا (‪َ )100‬خ ِال ِد ِ ِ‬
‫ين فيه َو َس َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َْ َ َ َ‬

‫ض‬ ‫اك ِم ْن لَ ُدَّنا ِذ ْك ًرا * َم ْن أ ْ‬


‫َع َر َ‬ ‫ق َوقَ ْد آتَْيَن َ‬ ‫ك ِم ْن أ َْنب ِ‬
‫اء َما قَ ْد َسَب َ‬ ‫َ‬ ‫ص َعلَْي َ‬ ‫{ ‪َ { } 101 - 99‬ك َذِل َ‬
‫ك َنقُ ُّ‬
‫ام ِة ِح ْمال } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫اء لَهُ ْم َي ْو َم اْلقَي َ‬
‫عْنه فَِإَّنه ي ْح ِم ُل يوم اْل ِقيام ِة ِو ْزرا * َخ ِال ِد ِ ِ‬
‫ين فيه َو َس َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َْ َ َ َ‬ ‫َ ُ َُ‬
‫يمتن اهلل تعالى على نبيه صلى اهلل عليه وسلم بما قصه عليه من أنباء السابقين‪ ،‬وأخبار السالفين‪،‬‬
‫كهذه القصة العظيمة‪ ،‬وما فيها من األحكام وغيرها‪ ،‬التي ال ينكرها أحد من أهل الكتاب‪ ،‬فأنت لم‬
‫تدرس أخبار األولين‪ ،‬ولم تتعلم ممن دراها‪ ،‬فإخبارك بالحق اليقين من أخبارهم‪ ،‬دليل على أنك‬
‫اك ِم ْن لَ ُدَّنا } أي‪ :‬عطية نفيسة‪ ،‬ومنحة‬
‫رسول اهلل حقا‪ ،‬وما جئت به صدق‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وقَ ْد آتَْيَن َ‬
‫جزيلة من عندنا‪ِ { .‬ذ ْك ًرا } وهو هذا القرآن الكريم‪ ،‬ذكر لألخبار السابقة والالحقة‪ ،‬وذكر يتذكر‬
‫به ما هلل تعالى من األسماء والصفات الكاملة‪ ،‬ويتذكر به أحكام األمر والنهي‪ ،‬وأحكام الجزاء‪،‬‬
‫وهذا مما يدل على أن القرآن مشتمل على أحسن ما يكون من األحكام‪ ،‬التي تشهد العقول والفطر‬
‫بحسنها وكمالها‪ ،‬ويذكر هذا القرآن ما أودع اهلل فيها‪ ،‬وإ ذا كان القرآن ذكرا للرسول وألمته‪،‬‬
‫فيجب تلقيه بالقبول والتسليم واالنقياد والتعظيم‪ ،‬وأن يهتدى بنوره إلى الصراط المستقيم‪ ،‬وأن‬
‫يقبلوا عليه بالتعلم والتعليم‪.‬‬
‫وأما مقابلته باإلعراض‪ ،‬أو ما هو أعظم منه من اإلنكار‪ ،‬فإنه كفر لهذه النعمة‪ ،‬ومن فعل ذلك‪،‬‬
‫ض َع ْنهُ } فلم يؤمن به‪ ،‬أو تهاون بأوامره ونواهيه‪ ،‬أو‬
‫َع َر َ‬
‫فهو مستحق للعقوبة‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬م ْن أ ْ‬
‫ام ِة ِو ْز ًرا } وهو ذنبه‪ ،‬الذي بسببه أعرض عن القرآن‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بتعلم معانيه الواجبة { فَإَّنهُ َي ْحم ُل َي ْو َم اْلقَي َ‬
‫يه } أي‪ [ :‬ص ‪ ] 513‬في وزرهم‪ ،‬ألن العذاب هو نفس‬ ‫وأواله الكفر والهجران‪َ { ،‬خ ِال ِدين ِف ِ‬
‫َ‬
‫األعمال‪ ،‬تنقلب عذابا على أصحابها‪ ،‬بحسب صغرها وكبرها‪.‬‬
‫ام ِة ِح ْمال } أي‪ :‬بئس الحمل الذي يحملونه‪ ،‬والعذاب الذي يعذبونه يوم‬ ‫ِ‬
‫اء لَهُ ْم َي ْو َم اْلقَي َ‬
‫{ َو َس َ‬
‫القيامة‪ ،‬ثم استطرد‪ ،‬فذكر أحوال يوم القيامة وأهواله فقال‪:‬‬

‫( ‪)1/512‬‬

‫ون َب ْيَنهُ ْم ِإ ْن لَبِثْتُ ْم ِإاَّل َع ْش ًرا (‬ ‫ٍِ‬ ‫َي ْو َم ُي ْنفَ ُخ ِفي الص ِ‬
‫ين َي ْو َمئذ ُز ْرقًا (‪َ )102‬يتَ َخافَتُ َ‬ ‫ُّور َوَن ْح ُش ُر اْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ط ِريقَةً ِإ ْن لَبِثْتُ ْم ِإاَّل َي ْو ًما (‪)104‬‬
‫ون ِإ ْذ َيقُو ُل أ َْمثَلُهُ ْم َ‬
‫َعلَ ُم بِ َما َيقُولُ َ‬
‫‪َ )103‬ن ْح ُن أ ْ‬

‫ون َب ْيَنهُ ْم ِإ ْن‬ ‫ٍِ‬ ‫{ ‪َ { } 104 - 102‬ي ْو َم ُي ْنفَ ُخ ِفي الص ِ‬


‫ين َي ْو َمئذ ُز ْرقًا * َيتَ َخافَتُ َ‬ ‫ُّور َوَن ْح ُش ُر اْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ط ِريقَةً ِإ ْن لَبِثْتُ ْم ِإال َي ْو ًما } ‪.‬‬
‫ون ِإ ْذ َيقُو ُل أ َْمثَلُهُ ْم َ‬
‫َعلَ ُم بِ َما َيقُولُ َ‬
‫لَبِثْتُ ْم ِإال َع ْش ًرا * َن ْح ُن أ ْ‬
‫أي‪ :‬إذا نفخ في الصور وخرج الناس من قبورهم‪ ،‬كل على حسب حاله‪ ،‬فالمتقون يحشرون إلى‬
‫الرحمن وفدا‪ ،‬والمجرمون يحشرون زرقا ألوانهم من الخوف والقلق والعطش‪ ،‬يتناجون بينهم‪،‬‬
‫ويتخافتون في قصر مدة الدنيا‪ ،‬وسرعة اآلخرة‪ ،‬فيقول بعضهم‪ :‬ما لبثتم إال عشرة أيام‪ ،‬ويقول‬
‫بعضهم غير ذلك‪ ،‬واهلل يعلم تخافتهم‪ ،‬ويسمع ما يقولون { ِإ ْذ َيقُو ُل أ َْمثَلُهُ ْم َ‬
‫ط ِريقَةً } أي‪ :‬أعدلهم‬
‫وأقربهم إلى التقدير { ِإ ْن لَبِثْتُ ْم ِإال َي ْو ًما }‬
‫والمقصود من هذا‪ ،‬الندم العظيم‪ ،‬كيف ضيعوا األوقات القصيرة‪ ،‬وقطعوها ساهين الهين‪،‬‬
‫معرضين عما ينفعهم‪ ،‬مقبلين على ما يضرهم‪ ،‬فها قد حضر الجزاء‪ ،‬وحق الوعيد‪ ،‬فلم يبق إال‬
‫الندم‪ ،‬والدعاء بالويل والثبور‪.‬‬
‫اسأ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َل‬ ‫ين * قَالُوا لَبِثَْنا َي ْو ًما أ َْو َب ْع َ‬
‫ض َي ْوٍم فَ ْ‬ ‫ض َع َد َد سن َ‬ ‫األر ِ‬ ‫كما قال تعالى‪ { :‬قَا َل َك ْم لَبِثْتُ ْم في ْ‬
‫ِ‬
‫ين * قَا َل ِإ ْن لَبِثْتُ ْم ِإال َقليال لَ ْو أََّن ُك ْم ُك ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون }‬ ‫اْل َع ِّ‬
‫اد َ‬

‫( ‪)1/513‬‬
‫صفًا (‪ )106‬اَل تََرى ِفيهَا‬ ‫ص ْف َ‬‫اعا َ‬
‫ِ‬ ‫ك َع ِن اْل ِجَب ِ‬
‫ال فَ ُق ْل َي ْنسفُهَا َربِّي َن ْسفًا (‪ )105‬فََي َذ ُر َها قَ ً‬ ‫ون َ‬
‫َوَي ْسأَلُ َ‬
‫ات ِل َّلر ْحم ِن فَاَل تَسمع ِإاَّل‬ ‫َص َو ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِعوجا واَل أَمتًا (‪ )107‬يومئٍِذ يتَّبِعون َّ ِ‬
‫َْ ُ‬ ‫َ‬ ‫الداع َي اَل ع َو َج لَهُ َو َخ َش َعت اأْل ْ‬ ‫َْ َ َ ُ َ‬ ‫َ ً َ ْ‬
‫الر ْحمن ور ِ‬ ‫ِ‬ ‫َهم ًسا (‪َ )108‬يومئٍِذ اَل تَْنفَع َّ‬
‫الشفَ َ اَّل‬
‫ض َي لَهُ قَ ْواًل (‪َ )109‬ي ْعلَ ُم َما َب ْي َن‬ ‫اعةُ ِإ َم ْن أَذ َن لَهُ َّ َ ُ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬
‫اب َم ْن َح َم َل‬ ‫ون بِ ِه ِعْل ًما (‪ )110‬و َعَن ِت اْلو ُجوهُ ِلْل َح ِّي اْلقَي ِ‬
‫ُّوم َوقَ ْد َخ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ َْيدي ِه ْم َو َما َخْلفَهُ ْم َواَل ُيحيطُ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ض ًما (‪)112‬‬ ‫اف ظُْل ًما َواَل َه ْ‬ ‫َّالح ِ‬
‫ات َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن فَاَل َي َخ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ظُْل ًما (‪َ )111‬و َم ْن َي ْع َم ْل م َن الص َ‬

‫صفًا * ال‬ ‫ِ‬ ‫ك َع ِن اْل ِجَب ِ‬


‫ص ْف َ‬ ‫اعا َ‬‫ال فَ ُق ْل َي ْنسفُهَا َربِّي َن ْسفًا * فََي َذ ُر َها قَ ً‬ ‫ون َ‬
‫{ ‪َ { } 112 - 105‬وَي ْسأَلُ َ‬
‫ات ِل َّلر ْح َم ِن فَال‬‫األص َو ُ‬
‫ْ‬ ‫اع َي ال ِع َو َج لَهُ َو َخ َش َع ِت‬ ‫الد ِ‬
‫ون َّ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ ِ‬
‫تََرى فيهَا ع َو ًجا َوال أ َْمتًا * َي ْو َمئذ َيتَّبِ ُع َ‬
‫الر ْحمن ور ِ‬ ‫ِ‬ ‫تَ ْسمع ِإال َهم ًسا * َيومئٍِذ ال تَْنفَع َّ‬
‫ض َي لَهُ قَ ْوال * َي ْعلَ ُم َما َب ْي َن‬ ‫اعةُ ِإال َم ْن أَذ َن لَهُ َّ َ ُ َ َ‬ ‫الشفَ َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫َُ‬
‫اب َم ْن َح َم َل ظُْل ًما *‬ ‫ُّوم َوقَ ْد َخ َ‬ ‫ون بِ ِه ِعْلما * و َعَن ِت اْلو ُجوهُ ِلْل َح ِّي اْلقَي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ َْيدي ِه ْم َو َما َخْلفَهُ ْم َوال ُيحيطُ َ‬
‫ُ‬ ‫ً َ‬
‫ض ًما } ‪.‬‬ ‫اف ظُْل ًما َوال َه ْ‬ ‫ات َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن فَال َي َخ ُ‬ ‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َم ْن َي ْع َم ْل م َن الص َ‬
‫ال }‬‫ك َع ِن اْل ِجَب ِ‬ ‫ون َ‬
‫يخبر تعالى عن أهوال القيامة‪ ،‬وما فيها من الزالزل والقالقل‪ ،‬فقال‪َ { :‬وَي ْسأَلُ َ‬
‫أي‪ :‬ماذا يصنع بها يوم القيامة‪ ،‬وهل تبقى بحالها أم ال؟ { فَ ُق ْل َي ْن ِسفُهَا َربِّي َن ْسفًا } أي‪ :‬يزيلها‬
‫ويقلعها من أماكنها فتكون كالعهن وكالرمل‪ ،‬ثم يدكها فيجعلها هباء منبثا‪ ،‬فتضمحل وتتالشى‪،‬‬
‫ويسويها باألرض‪ ،‬ويجعل األرض قاعا صفصفا‪ ،‬مستويا ال يرى فيه أيها الناظر ِع َو ًجا‪ ،‬هذا من‬
‫تمام استوائها { َوال أ َْمتًا } أي‪ :‬أودية وأماكن منخفضة‪ ،‬أو مرتفعة فتبرز األرض‪ ،‬وتتسع‬
‫للخالئق‪ ،‬ويمدها اهلل مد األديم‪ ،‬فيكونون في موقف واحد‪ ،‬يسمعهم الداعي‪ ،‬وينفذهم البصر‪ ،‬ولهذا‬
‫قال‪:‬‬
‫الد ِ‬ ‫ٍِ‬
‫اع َي } وذلك حين يبعثون من قبورهم ويقومون منها‪ ،‬يدعوهم الداعي إلى‬ ‫{ َي ْو َمئذ َيتَّبِ ُع َ‬
‫ون َّ‬
‫الحضور واالجتماع للموقف‪ ،‬فيتبعونه مهطعين إليه‪ ،‬ال يلتفتون عنه‪ ،‬وال يعرجون يمنة وال‬
‫يسرة‪ ،‬وقوله‪ { :‬ال ِع َو َج لَهُ } أي‪ :‬ال عوج لدعوة الداعي‪ ،‬بل تكون دعوته حقا وصدقا‪ ،‬لجميع‬
‫الخلق‪ ،‬يسمعهم جميعهم‪ ،‬ويصيح بهم أجمعين‪ ،‬فيحضرون لموقف القيامة‪ ،‬خاشعة أصواتهم‬
‫للرحمن‪ { ،‬فَال تَ ْس َمعُ ِإال َه ْم ًسا } أي‪ :‬إال وطء األقدام‪ ،‬أو المخافتة سرا بتحريك الشفتين فقط‪،‬‬
‫يملكهم الخشوع والسكون واإلنصات‪ ،‬انتظارا لحكم الرحمن فيهم‪ ،‬وتعنو وجوههم‪ ،‬أي‪ :‬تذل‬
‫وتخضع‪ ،‬فترى في ذلك الموقف العظيم‪ ،‬األغنياء والفقراء‪ ،‬والرجال والنساء‪ ،‬واألحرار‬
‫واألرقاء‪ ،‬والملوك والسوقة‪ ،‬ساكتين منصتين‪ ،‬خاشعة أبصارهم‪ ،‬خاضعة رقابهم‪ ،‬جاثين على‬
‫ركبهم‪ ،‬عانية وجوههم‪ ،‬ال يدرون ماذا ينفصل كل منهم به‪ ،‬وال ماذا يفعل به‪ ،‬قد اشتغل كل بنفسه‬
‫ْن ي ْغنِ ِ‬
‫يه } فحينئذ يحكم فيهم‬ ‫ٍِ‬ ‫وشأنه‪ ،‬عن أبيه وأخيه‪ ،‬وصديقه وحبيبه { ِل ُك ِّل ام ِر ٍ ِ‬
‫ئ م ْنهُ ْم َي ْو َمئذ َشأ ٌ ُ‬ ‫ْ‬
‫الحاكم العدل الديان‪ ،‬ويجازي المحسن بإحسانه‪ ،‬والمسيء بالحرمان‪.‬‬
‫واألمل بالرب الكريم‪ ،‬الرحمن الرحيم‪ ،‬أن يرى الخالئق منه‪ ،‬من الفضل واإلحسان‪ ،‬والعفو‬
‫والصفح والغفران‪ ،‬ما ال تعبر عنه األلسنة‪ ،‬وال تتصوره األفكار‪ ،‬ويتطلع لرحمته إذ ذاك جميع‬
‫الخلق لما يشاهدونه [فيختص المؤمنون به وبرسله بالرحمة] (‪ )1‬فإن قيل‪ :‬من أين لكم هذا‬
‫األمل؟ وإ ن شئت قلت‪ :‬من أين لكم هذا العلم بما ذكر؟‬
‫قلنا‪ :‬لما نعلمه من غلبة رحمته لغضبه‪ ،‬ومن سعة جوده‪ ،‬الذي عم جميع البرايا‪ ،‬ومما نشاهده في‬
‫أنفسنا وفي غيرنا‪ ،‬من النعم المتواترة في هذه الدار‪ ،‬وخصوصا في فصل القيامة‪ ،‬فإن قوله‪:‬‬
‫ق ِل َّلر ْح َم ِن‬
‫ك َي ْو َمئٍِذ اْل َح ُّ‬ ‫ات ِل َّلر ْح َم ِن } { ِإال َم ْن أ َِذ َن لَهُ َّ‬
‫الر ْح َم ُن } مع قوله { اْل ُمْل ُ‬ ‫األص َو ُ‬
‫ْ‬ ‫{ َو َخ َش َع ِت‬
‫} مع قوله صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬إن هلل مائة رحمة أنزل لعباده رحمة‪ ،‬بها يتراحمون‬
‫ويتعاطفون‪ ،‬حتى إن البهيمة ترفع حافرها عن ولدها خشية أن تطأه ‪-‬أي‪ -:‬من الرحمة المودعة‬
‫في قلبها‪ ،‬فإذا كان يوم القيامة‪ ،‬ضم هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة‪ ،‬فرحم بها العباد "‬
‫مع قوله صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬هلل أرحم بعباده من الوالدة بولدها " فقل ما شئت عن رحمته‪،‬‬
‫فإنها فوق ما تقول‪ ،‬وتصور ما شئت‪ ،‬فإنها فوق ذلك‪ ،‬فسبحان من رحم في عدله وعقوبته‪ ،‬كما‬
‫رحم في فضله وإ حسانه ومثوبته‪ ،‬وتعالى من وسعت رحمته كل شيء‪ ،‬وعم كرمه كل حي‪ ،‬وجل‬
‫من غني عن عباده‪ ،‬رحيم بهم‪ ،‬وهم مفتقرون إليه على الدوام‪ ،‬في جميع أحوالهم‪ ،‬فال غنى لهم‬
‫عنه طرفة عين‪.‬‬
‫الر ْحمن ور ِ‬ ‫ِ‬ ‫وقوله‪َ { :‬يومئٍِذ ال تَْنفَع َّ‬
‫ض َي لَهُ قَ ْوال } [ ص ‪ ] 514‬أي‪ :‬ال‬ ‫اعةُ ِإال َم ْن أَذ َن لَهُ َّ َ ُ َ َ‬
‫الشفَ َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬
‫يشفع أحد عنده من الخلق‪ ،‬إال إذا أذن في الشفاعة (‪ )2‬وال يأذن إال لمن رضي قوله‪ ،‬أي‪:‬‬
‫شفاعته‪ ،‬من األنبياء والمرسلين‪ ،‬وعباده المقربين‪ ،‬فيمن ارتضى قوله وعمله‪ ،‬وهو المؤمن‬
‫المخلص‪ ،‬فإذا اختل واحد من هذه األمور‪ ،‬فال سبيل ألحد إلى شفاعة من أحد‪.‬‬
‫وينقسم الناس في ذلك الموقف قسمين‪:‬‬
‫ظالمين بكفرهم وشرهم‪ ،‬فهؤالء ال ينالهم إال الخيبة والحرمان‪ ،‬والعذاب األليم في جهنم‪ ،‬وسخط‬
‫الديان‪.‬‬
‫اف ظُْل ًما }‬
‫والقسم الثاني‪ :‬من آمن اإليمان المأمور به‪ ،‬وعمل صالحا من واجب ومسنون { فَال َي َخ ُ‬
‫ض ًما } أي‪ :‬نقصا من حسناته‪ ،‬بل تغفر ذنوبه‪ ،‬وتطهر عيوبه‪،‬‬ ‫أي‪ :‬زيادة في سيئاته { َوال َه ْ‬
‫يما }‬ ‫ِ‬ ‫اع ْفهَا َوُي ْؤ ِت ِم ْن لَ ُد ْنهُ أ ْ‬
‫ك حسَنةً يض ِ‬
‫َج ًرا َعظ ً‬ ‫وتضاعف حسناته‪َ { ،‬وإِ ْن تَ ُ َ َ ُ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ب‪ :‬إال من أذن له في الشفاعة‪.‬‬
‫( ‪)1/513‬‬

‫ث لَهُ ْم ِذ ْك ًرا (‪)113‬‬


‫ون أ َْو ُي ْح ِد ُ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِِ ِ‬
‫ص َّر ْفَنا فيه م َن اْل َو ِعيد لَ َعلهُ ْم َيتَّقُ َ‬ ‫َو َك َذِل َ‬
‫ك أ َْن َزْلَناهُ قُْرآًَنا َعَربِيًّا َو َ‬

‫ث لَهُ ْم ِذ ْك ًرا } ‪.‬‬


‫ون أ َْو ُي ْح ِد ُ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِِ ِ‬
‫ص َّر ْفَنا فيه م َن اْل َو ِعيد لَ َعلهُ ْم َيتَّقُ َ‬ ‫{ ‪َ { } 113‬و َك َذِل َ‬
‫ك أ َْن َزْلَناهُ قُْر ًآنا َعَربِيًّا َو َ‬
‫أي‪ :‬وكذلك أنزلنا هذا الكتاب‪ ،‬باللسان الفاضل العربي‪ ،‬الذي تفهمونه وتفقهونه‪ ،‬وال يخفى عليكم‬
‫لفظه‪ ،‬وال معناه‪.‬‬
‫يه ِم َن اْل َو ِع ِيد } أي‪ :‬نوعناها أنواعا كثيرة‪ ،‬تارة بذكر أسمائه الدالة على العدل‬
‫{ وص َّر ْفَنا ِف ِ‬
‫َ َ‬
‫واالنتقام‪ ،‬وتارة بذكر المثالت التي أحلها باألمم السابقة‪ ،‬وأمر أن تعتبر بها األمم الالحقة‪ ،‬وتارة‬
‫بذكر آثار الذنوب‪ ،‬وما تكسبه من العيوب‪ ،‬وتارة بذكر أهوال القيامة‪ ،‬وما فيها من المزعجات‬
‫والمقلقات‪ ،‬وتارة بذكر جهنم وما فيها من أنوع العقاب وأصناف العذاب‪ ،‬كل هذا رحمة بالعباد‪،‬‬
‫ث لَهُ ْم ِذ ْك ًرا } فيعملون من‬
‫لعلهم يتقون اهلل فيتركون من الشر والمعاصي ما يضرهم‪ { ،‬أ َْو ُي ْح ِد ُ‬
‫الطاعات والخير ما ينفعهم‪ ،‬فكونه عربيا‪ ،‬وكونه مصرفا فيه [من] الوعيد‪ ،‬أكبر سبب‪ ،‬وأعظم‬
‫داع للتقوى والعمل الصالح‪ ،‬فلو كان غير عربي‪ ،‬أو غير مصرف فيه‪ ،‬لم يكن له هذا األثر‪.‬‬

‫( ‪)1/514‬‬

‫ب ِز ْدنِي ِعْل ًما (‬ ‫ضى ِإلَْي َ‬


‫ك َو ْحُيهُ َو ُق ْل َر ِّ‬ ‫َن ِم ْن قَْب ِل أ ْ‬
‫َن ُي ْق َ‬ ‫ق َواَل تَ ْع َج ْل بِاْلقُْرآ ِ‬ ‫فَتَ َعالَى اللَّهُ اْل َمِل ُ‬
‫ك اْل َح ُّ‬
‫‪)114‬‬

‫ب‬ ‫ضى ِإلَْي َ‬


‫ك َو ْحُيهُ َو ُق ْل َر ِّ‬ ‫آن ِم ْن قَْب ِل أ ْ‬
‫َن ُي ْق َ‬ ‫ق َوال تَ ْع َج ْل بِاْلقُْر ِ‬ ‫{ ‪ { } 114‬فَتَ َعالَى اللَّهُ اْل َمِل ُ‬
‫ك اْل َح ُّ‬
‫ِز ْدنِي ِعْل ًما } ‪.‬‬
‫لما ذكر تعالى حكمه الجزائي في عباده‪ ،‬وحكمه األمري الديني‪ ،‬الذي أنزله في كتابه‪ ،‬وكان هذا‬
‫ك } الذي‬ ‫من آثار ملكه قال‪ { :‬فَتَ َعالَى اللَّهُ } أي‪ :‬جل وارتفع وتقدس عن كل نقص وآفة‪ { ،‬اْل َمِل ُ‬
‫الملك وصفه‪ ،‬والخلق كلهم مماليك له‪ ،‬وأحكام الملك القدرية والشرعية‪ ،‬نافذة فيهم‪.‬‬
‫{ اْل َح ُّ‬
‫ق } أي‪ :‬وجوده وملكه وكماله حق‪ ،‬فصفات الكمال‪ ،‬ال تكون حقيقة إال لذي الجالل‪ ،‬ومن‬
‫ذلك‪ :‬الملك‪ ،‬فإن غيره من الخلق‪ ،‬وإ ن كان له ملك في بعض األوقات‪ ،‬على بعض األشياء‪ ،‬فإنه‬
‫ملك قاصر باطل يزول‪ ،‬وأما الرب‪ ،‬فال يزال وال يزول ملكا حيا قيوما جليال‪.‬‬
‫ك َو ْحُيهُ } أي‪ :‬ال تبادر بتلقف القرآن حين يتلوه عليك‬ ‫ضى ِإلَْي َ‬ ‫آن ِم ْن قَْب ِل أ ْ‬
‫َن ُي ْق َ‬ ‫{ َوال تَ ْع َج ْل بِاْلقُْر ِ‬
‫جبريل‪ ،‬واصبر حتى يفرغ منه‪ ،‬فإذا فرغ منه فاقرأه‪ ،‬فإن اهلل قد ضمن لك جمعه في صدرك‬
‫ك ِلتَ ْع َج َل بِ ِه * ِإ َّن َعلَْيَنا َج ْم َعهُ َوقُْر َآنهُ * فَِإ َذا‬
‫وقراءتك إياه‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬ال تُ َحِّر ْك بِ ِه ِل َس َان َ‬
‫قََرأَْناهُ فَاتَّبِ ْع قُْر َآنهُ * ثَُّم ِإ َّن َعلَْيَنا َبَي َانهُ } ولما كانت عجلته صلى اهلل عليه وسلم على تلقف الوحي‬
‫ومبادرته إليه تدل على محبته التامة للعلم وحرصه عليه أمره اهلل تعالى أن يسأله زيادة العلم فإن‬
‫العلم خير وكثرة الخير مطلوبة وهي من اهلل والطريق إليها االجتهاد والشوق للعلم وسؤال اهلل‬
‫واالستعانة به واالفتقار إليه في كل وقت‬
‫ويؤخذ من هذه اآلية الكريمة األدب في تلقي العلم وأن المستمع للعلم ينبغي له أن يتأنى ويصبر‬
‫حتى يفرغ المملي والمعلم من كالمه المتصل بعضه ببعض فإذا فرغ منه سأل إن كان عنده سؤال‬
‫وال يبادر بالسؤال وقطع كالم ملقي العلم فإنه سبب للحرمان وكذلك المسئول ينبغي له أن يستملي‬
‫سؤال السائل ويعرف المقصود منه قبل الجواب فإن ذلك سبب إلصابة الصواب‬

‫( ‪)1/514‬‬

‫َد َم ِم ْن قَْب ُل فََن ِس َي َولَ ْم َن ِج ْد لَهُ َع ْز ًما (‪)115‬‬


‫َولَقَ ْد َع ِه ْدَنا ِإلَى آ َ‬

‫آد َم ِم ْن قَْب ُل فََن ِس َي َولَ ْم َن ِج ْد لَهُ َع ْز ًما } ‪.‬‬


‫{ ‪َ { } 115‬ولَقَ ْد َع ِه ْدَنا ِإلَى َ‬
‫أي‪ :‬ولقد وصينا آدم وأمرناه‪ ،‬وعهدنا إليه عهدا ليقوم به‪ ،‬فالتزمه‪ ،‬وأذعن له وانقاد‪ ،‬وعزم على‬
‫القيام به‪ ،‬ومع ذلك نسي ما أمر به‪ ،‬وانتقضت عزيمته المحكمة‪ ،‬فجرى عليه ما جرى‪ ،‬فصار‬
‫عبرة لذريته‪ ،‬وصارت طبائعهم مثل طبيعته‪ ،‬نسي آدم فنسيت ذريته‪ ،‬وخطئ فخطئوا‪ ،‬ولم يثبت‬
‫على العزم المؤكد‪ ،‬وهم كذلك‪ ،‬وبادر بالتوبة من خطيئته‪ ،‬وأقر بها واعترف‪ ،‬فغفرت له‪ ،‬ومن‬
‫يشابه أباه فما ظلم‪.‬‬

‫( ‪)1/514‬‬

‫ك َوِل َز ْو ِج َ‬
‫َد ُم ِإ َّن َه َذا َع ُد ٌّو لَ َ‬ ‫اَّل ِ‬ ‫آِل‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ك‬ ‫يس أََبى (‪ )116‬فَ ُقْلَنا َيا آ َ‬ ‫اس ُج ُدوا َ َد َم فَ َس َج ُدوا ِإ ِإْبل َ‬
‫َوإِ ْذ ُقْلَنا لْل َماَل ئ َكة ْ‬
‫ظ َمأُ ِفيهَا‬
‫ك اَل تَ ْ‬ ‫وع ِفيهَا َواَل تَ ْع َرى (‪َ )118‬وأََّن َ‬ ‫ك أَاَّل تَ ُج َ‬ ‫فَاَل ُي ْخ ِر َجَّن ُك َما ِم َن اْل َجَّن ِة فَتَ ْشقَى (‪ِ )117‬إ َّن لَ َ‬
‫ك َعلَى َش َج َر ِة اْل ُخْل ِد َو ُمْل ٍك اَل َيْبلَى (‬ ‫َد ُم َه ْل أ َُدلُّ َ‬
‫ان قَا َل َيا آ َ‬‫ط ُ‬ ‫ض َحى (‪ )119‬فَو ْسو َس ِإلَْي ِه َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َ َ‬ ‫َواَل تَ ْ‬
‫ِ‬ ‫ان َعلَْي ِه َما ِم ْن و َر ِ‬ ‫ط ِفقَا ي ْخ ِ‬
‫صفَ ِ‬ ‫‪ )120‬فَأَكَاَل ِم ْنهَا فََب َد ْ‬
‫َد ُم َربَّهُ‬ ‫ق اْل َجَّنة َو َع َ‬
‫صى آ َ‬ ‫َ‬ ‫ت لَهُ َما َس ْوآَتُهُ َما َو َ َ‬
‫اب َعلَْي ِه َو َه َدى (‪)122‬‬
‫اجتََباهُ َربُّهُ فَتَ َ‬
‫فَ َغ َوى (‪ )121‬ثَُّم ْ‬

‫ثم ذكر تفصيل ما أجمله فقال‪:‬‬


‫[ ص ‪] 515‬‬
‫آد ُم ِإ َّن َه َذا‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫يس أََبى * فَ ُقْلَنا َيا َ‬ ‫آلد َم فَ َس َج ُدوا ِإال ِإْبل َ‬‫اس ُج ُدوا َ‬ ‫{ ‪َ { } 122 - 116‬وإِ ْذ ُقْلَنا لْل َمالئ َكة ْ‬
‫ك ال‬ ‫وع ِفيهَا َوال تَ ْع َرى * َوأََّن َ‬ ‫ك أَال تَ ُج َ‬ ‫ك فَال ُي ْخ ِر َجَّن ُك َما ِم َن اْل َجَّن ِة فَتَ ْشقَى * ِإ َّن لَ َ‬ ‫ك َوِل َز ْو ِج َ‬‫َع ُد ٌّو لَ َ‬
‫ك َعلَى َش َج َر ِة اْل ُخْل ِد َو ُمْل ٍك ال‬ ‫آد ُم َه ْل أ َُدلُّ َ‬
‫ان قَا َل َيا َ‬
‫ط ُ‬ ‫ض َحى * فَو ْسو َس ِإلَْي ِه َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َ َ‬ ‫ظ َمأُ ِفيهَا َوال تَ ْ‬ ‫تَ ْ‬
‫ِ‬ ‫ان َعلَْي ِه َما ِم ْن و َر ِ‬ ‫ط ِفقَا ي ْخ ِ‬
‫صفَ ِ‬ ‫َيْبلَى * فَأَ َكال ِم ْنهَا فََب َد ْ‬
‫آد ُم َربَّهُ‬ ‫صى َ‬ ‫ق اْل َجَّنة َو َع َ‬ ‫َ‬ ‫ت لَهُ َما َس ْوآتُهُ َما َو َ َ‬
‫اب َعلَْي ِه َو َه َدى } ‪.‬‬ ‫اجتََباهُ َربُّهُ فَتَ َ‬ ‫فَ َغ َوى * ثَُّم ْ‬
‫أي‪ :‬لما أكمل خلق آدم بيده‪ ،‬وعلمه األسماء‪ ،‬وفضله‪ ،‬وكرمه‪ ،‬أمر المالئكة بالسجود له‪ ،‬إكراما‬
‫وتعظيما وإ جالال فبادروا بالسجود ممتثلين‪ ،‬وكان بينهم إبليس‪ ،‬فاستكبر عن أمر ربه‪ ،‬وامتنع من‬
‫السجود آلدم وقال‪ { :‬أََنا َخ ْيٌر ِم ْنهُ َخلَ ْقتَنِي ِم ْن َن ٍار َو َخلَ ْقتَهُ ِم ْن ِط ٍ‬
‫ين } فتبينت حينئذ‪ ،‬عداوته البليغة‬
‫آلدم وزوجه‪ ،‬لما كان عدوا هلل‪ ،‬وظهر من حسده‪ ،‬ما كان سبب العداوة‪ ،‬فحذر اهلل آدم وزوجه‬
‫منه‪ ،‬وقال { ال ُي ْخ ِر َجَّن ُك َما ِم َن اْل َجَّن ِة فَتَ ْشقَى } إذا أخرجت منها‪ ،‬فإن لك فيها الرزق الهني‪،‬‬
‫والراحة التامة‪.‬‬
‫ض َحى } أي‪ :‬تصيبك الشمس بحرها‪،‬‬ ‫ظ َمأُ ِفيهَا َوال تَ ْ‬ ‫ك ال تَ ْ‬ ‫وع ِفيهَا َوال تَ ْع َرى َوأََّن َ‬ ‫{ ِإ َّن لَ َ‬
‫ك أَال تَ ُج َ‬
‫فضمن له استمرار الطعام والشراب‪ ،‬والكسوة‪ ،‬والماء‪ ،‬وعدم التعب والنصب‪ ،‬ولكنه نهاه عن‬
‫ين } فلم يزل الشيطان يسول‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫الشجرةَ فَتَ ُك َ ِ‬ ‫ِ ِ َّ‬
‫ونا م َن الظالم َ‬ ‫أكل شجرة معينة فقال‪َ { :‬وال تَ ْق َرَبا َهذه َ َ‬
‫ك َعلَى َش َج َر ِة اْل ُخْل ِد } أي‪ :‬الشجرة التي من أكل منها‬ ‫لهما‪ ،‬ويزين أكل الشجرة‪ ،‬ويقول‪َ { :‬ه ْل أ َُدلُّ َ‬
‫خلد في الجنة‪َ { .‬و ُمْل ٍك ال َيْبلَى } أي‪ :‬ال ينقطع إذا أكلت منها‪ ،‬فأتاه بصورة ناصح‪ ،‬وتلطف له في‬
‫الكالم‪ ،‬فاغتر به آدم‪ ،‬وأكال من الشجرة فسقط في أيديهما‪ ،‬وسقطت كسوتهما‪ ،‬واتضحت‬
‫معصيتهما‪ ،‬وبدا لكل منهما سوأة اآلخر‪ ،‬بعد أن كانا مستورين‪ ،‬وجعال يخصفان على أنفسهما من‬
‫ورق أشجار الجنة ليستترا بذلك‪ ،‬وأصابهما من الخجل ما اهلل به عليم‪.‬‬
‫ظلَ ْمَنا أ َْنفُ َسَنا َوإِ ْن لَ ْم تَ ْغ ِف ْر لََنا‬
‫آد ُم َربَّهُ فَ َغ َوى } فبادرا إلى التوبة واإلنابة‪ ،‬وقاال { َربََّنا َ‬
‫صى َ‬
‫{ َو َع َ‬
‫اب َعلَْي ِه َو َه َدى }‬ ‫ين } فاجتباه ربه‪ ،‬واختاره‪ ،‬ويسر له التوبة { فَتَ َ‬
‫ِ‬ ‫وتَرحمَنا لََن ُك َ ِ‬
‫ون َّن م َن اْل َخاس ِر َ‬ ‫َ ْ َْ‬
‫فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها‪ ،‬ورجع كيد العدو عليه‪ ،‬وبطل مكره‪ ،‬فتمت النعمة عليه وعلى‬
‫ذريته‪ ،‬ووجب عليهم القيام بها واالعتراف‪ ،‬وأن يكونوا على حذر من هذا العدو المرابط المالزم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫آدم ال َي ْفتَِنَّن ُكم َّ‬ ‫ِ‬
‫َخ َر َج أََب َو ْي ُك ْم م َن اْل َجَّنة َينزعُ َع ْنهُ َما لَب َ‬
‫اسهُ َما‬ ‫ان َك َما أ ْ‬
‫ط ُ‬‫الش ْي َ‬ ‫ُ‬ ‫لهم‪ ،‬ليال ونهارا { َيا َبني َ َ‬
‫اطين أَوِلي َِِّ‬
‫ث ال تَروَنهم ِإَّنا جعْلَنا َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ال‬
‫اء للذ َ‬
‫الشَي َ ْ َ َ‬ ‫ََ‬ ‫لُي ِرَيهُ َما َس ْوآت ِه َما ِإَّنهُ َي َرا ُك ْم ُه َو َوقَبِيلُهُ م ْن َح ْي ُ َ ْ ُ ْ‬
‫ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون }‬

‫( ‪)1/514‬‬

‫ض ع ُد ٌّو فَِإ َّما يأْتِيَّن ُكم ِمِّني ُه ًدى فَم ِن اتَّبع ُه َداي فَاَل ي ِ‬
‫ض ُّل َواَل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اهبِ َ ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ض ُك ْم لَب ْع ٍ َ‬ ‫يعا َب ْع ُ‬
‫طا م ْنهَا َجم ً‬ ‫ال ْ‬
‫قَ َ‬
‫َع َمى (‪)124‬‬ ‫ام ِة أ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َع ْن ذ ْك ِري فَِإ َّن لَهُ َمعي َشةً َ‬
‫ض ْن ًكا َوَن ْح ُش ُرهُ َي ْو َم اْلقَي َ‬ ‫َع َر َ‬
‫َي ْشقَى (‪َ )123‬و َم ْن أ ْ‬
‫ص ًيرا (‪)125‬‬ ‫تب ِ‬ ‫ب ِل َم َح َش ْرتَنِي أ ْ‬
‫ال َر ِّ‬
‫َع َمى َوقَ ْد ُك ْن ُ َ‬ ‫قَ َ‬

‫ض َع ُد ٌّو فَِإ َّما َيأْتَِيَّن ُك ْم ِمِّني ُه ًدى فَ َم ِن اتََّب َع‬


‫ض ُك ْم ِلَب ْع ٍ‬
‫يعا َب ْع ُ‬
‫ِ‬ ‫اهبِ َ ِ‬
‫طا م ْنهَا َجم ً‬ ‫{ ‪ { } 127 - 123‬قَا َل ْ‬
‫ام ِة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َع ْن ذ ْك ِري فَِإ َّن لَهُ َمعي َشةً َ‬
‫ض ْن ًكا َوَن ْح ُش ُرهُ َي ْو َم اْلقَي َ‬
‫ِ‬
‫َع َر َ‬ ‫ض ُّل َوال َي ْشقَى * َو َم ْن أ ْ‬ ‫ه َداي فَال ي ِ‬
‫ُ َ َ‬
‫ص ًيرا } ‪.‬‬ ‫تب ِ‬ ‫ب ِل َم َح َش ْرتَنِي أ ْ‬
‫َع َمى * قَا َل َر ِّ‬
‫َع َمى َوقَ ْد ُك ْن ُ َ‬ ‫أْ‬
‫يخبر تعالى‪ ،‬أنه أمر آدم وإ بليس أن يهبطا إلى األرض‪ ،‬وأن يتخذوا [آدم وبنوه] (‪ )1‬الشيطان‬
‫عدوا لهم‪ ،‬فيأخذوا الحذر منه‪ ،‬ويعدوا له عدته ويحاربوه‪ ،‬وأنه سينزل عليهم كتبا‪ ،‬ويرسل إليهم‬
‫رسال يبينون لهم الطريق المستقيم الموصلة إليه وإ لى جنته‪ ،‬ويحذرونهم من هذا العدو المبين‪،‬‬
‫وأنهم أي‪ :‬وقت جاءهم ذلك الهدى‪ ،‬الذي هو الكتب والرسل‪ ،‬فإن من اتبعه اتبع ما أمر به‪،‬‬
‫واجتنب ما نهي عنه‪ ،‬فإنه ال يضل في الدنيا وال في اآلخرة‪ ،‬وال يشقى فيهما‪ ،‬بل قد هدي إلى‬
‫صراط مستقيم‪ ،‬في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وله السعادة واألمن في اآلخرة‪.‬‬
‫ف َعلَْي ِه ْم َوال ُه ْم‬ ‫وقد نفى عنه الخوف والحزن في آية أخرى‪ ،‬بقوله‪ { :‬فَ َم ْن تَبِ َع ُه َد َ‬
‫اي فَال َخ ْو ٌ‬
‫ون } واتباع الهدى‪ ،‬بتصديق الخبر‪ ،‬وعدم معارضته بالشبه‪ ،‬وامتثال األمر بأن ال يعارضه‬ ‫َي ْح َزُن َ‬
‫بشهوة‪.‬‬
‫ض َع ْن ِذ ْك ِري } أي‪ :‬كتابي الذي يتذكر به جميع المطالب العالية‪ ،‬وأن يتركه على‬
‫َع َر َ‬
‫{ َو َم ْن أ ْ‬
‫وجه اإلعراض عنه‪ ،‬أو ما هو أعظم من ذلك‪ ،‬بأن يكون على وجه اإلنكار له‪ ،‬والكفر به { فَِإ َّن‬
‫ض ْن ًكا } أي‪ :‬فإن جزاءه‪ ،‬أن نجعل معيشته ضيقة مشقة‪ ،‬وال يكون ذلك إال عذابا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫لَهُ َمعي َشةً َ‬
‫وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر‪ ،‬وأنه يضيق عليه قبره‪ ،‬ويحصر فيه ويعذب‪ ،‬جزاء‬
‫إلعراضه عن ذكر ربه‪ ،‬وهذه إحدى اآليات الدالة على عذاب القبر‪ .‬والثانية قوله تعالى‪َ { :‬ولَ ْو‬
‫اسطُو أ َْي ِدي ِه ْم } اآلية‪ .‬والثالثة قوله‪َ { :‬ولَُن ِذيقََّنهُ ْم‬ ‫تَرى ِإ ِذ الظَّ ِالمون ِفي َغمر ِ‬
‫ات اْلمو ِت واْلمالئِ َكةُ ب ِ‬
‫َ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫ََ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫ون َعلَْيهَا‬ ‫ض َ‬ ‫اب األ ْكَب ِر } والرابعة قوله عن آل فرعون‪َّ { :‬‬
‫الن ُار ُي ْع َر ُ‬ ‫ون اْل َع َذ ِ‬
‫األدَنى ُد َ‬
‫اب ْ‬ ‫ِم َن اْل َع َذ ِ‬
‫ُغ ُد ًّوا َو َع ِشيًّا } اآلية‪.‬‬
‫والذي أوجب لمن فسرها بعذاب القبر فقط من السلف‪ ،‬وقصرها على ذلك ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬آخر‬
‫اآلية‪ [ ،‬ص ‪ ] 516‬وأن اهلل ذكر في آخرها عذاب يوم القيامة‪ .‬وبعض المفسرين‪ ،‬يرى أن‬
‫المعيشة الضنك‪ ،‬عامة في دار الدنيا‪ ،‬بما يصيب المعرض عن ذكر ربه‪ ،‬من الهموم والغموم‬
‫واآلالم‪ ،‬التي هي عذاب معجل‪ ،‬وفي دار البرزخ‪ ،‬وفي الدار اآلخرة‪ ،‬إلطالق المعيشة الضنك‪،‬‬
‫َع َمى } البصر على‬ ‫ام ِة أ ْ‬ ‫ِ‬
‫وعدم تقييدها‪َ { .‬وَن ْح ُش ُرهُ } أي‪ :‬هذا المعرض عن ذكر ربه { َي ْو َم اْلقَي َ‬
‫الصحيح‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَن ْح ُشر ُهم يوم اْل ِقي ِ‬
‫امة َعلَى ُو ُجو ِه ِه ْم ُع ْمًيا َوُب ْك ًما َو ُ‬
‫ص ًّما } ‪.‬‬ ‫ُ ْ َْ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ب ِل َم َح َش ْرتَنِي أ ْ‬
‫َع َمى َوقَ ْد‬ ‫قال على وجه الذل والمراجعة والتألم والضجر من هذه الحالة‪َ { :‬ر ِّ‬
‫ص ًيرا } فما الذي صيرني إلى هذه الحالة البشعة‪.‬‬ ‫ت } في دار الدنيا { ب ِ‬
‫ُك ْن ُ‬
‫َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫( ‪)1/515‬‬

‫ف ولَم يؤ ِم ْن بِآَي ِ‬ ‫ك اْلَي ْو َم تُْن َسى (‪َ )126‬و َك َذِل َ‬


‫ك آََياتَُنا فََن ِسيتَهَا َو َك َذِل َ‬ ‫ال َك َذِل َ‬
‫ات‬ ‫َ‬ ‫ك َن ْج ِزي َم ْن أ ْ‬
‫َس َر َ َ ْ ُ ْ‬ ‫ك أَتَتْ َ‬ ‫قَ َ‬
‫اب اآْل َ ِخ َر ِة أَ َش ُّد َوأ َْبقَى (‪)127‬‬ ‫ِ‬
‫َربِّه َولَ َع َذ ُ‬

‫ف ولَم يؤ ِم ْن بِآي ِ‬ ‫ك اْلَي ْو َم تُْن َسى * َو َك َذِل َ‬


‫ك َآياتَُنا فََن ِسيتَهَا َو َك َذِل َ‬ ‫{ قَا َل َك َذِل َ‬
‫ات‬ ‫َ‬ ‫ك َن ْج ِزي َم ْن أ ْ‬
‫َس َر َ َ ْ ُ ْ‬ ‫ك أَتَتْ َ‬
‫ِّه ولَع َذاب ِ‬
‫اآلخ َر ِة أَ َش ُّد َوأ َْبقَى } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َرب َ َ ُ‬
‫ك اْلَي ْو َم تُْن َسى } أي‪ :‬تترك في العذاب‪،‬‬ ‫ك َآياتَُنا فََن ِسيتَهَا } بإعراضك عنها { َو َك َذِل َ‬ ‫ك أَتَتْ َ‬‫{ قَا َل َك َذِل َ‬
‫فأجيب‪ ،‬بأن هذا هو عين عملك‪ ،‬والجزاء من جنس العمل‪ ،‬فكما عميت عن ذكر ربك‪ ،‬وعشيت‬
‫عنه ونسيته ونسيت حظك منه‪ ،‬أعمى اهلل بصرك في اآلخرة‪ ،‬فحشرت إلى النار أعمى‪ ،‬أصم‪،‬‬
‫أبكم‪ ،‬وأعرض عنك‪ ،‬ونسيك في العذاب‪.‬‬
‫ف } بأن تعدى الحدود‪ ،‬وارتكب المحارم‬ ‫ك } أي‪ :‬هذا الجزاء { َن ْج ِزي } به { َم ْن أ ْ‬
‫َس َر َ‬ ‫{ َو َك َذِل َ‬
‫ات رب ِ‬
‫ِ‬
‫ِّه } الدالة على جميع مطالب اإليمان داللة واضحة‬ ‫وجاوز ما أذن له { َولَ ْم ُي ْؤ ِم ْن بِ َآي َ‬
‫صريحة‪ ،‬فاهلل لم يظلمه ولم يضع العقوبة في غير محلها‪ ،‬وإ نما السبب إسرافه وعدم إيمانه‪.‬‬
‫{ ولَع َذاب ِ‬
‫اآلخ َر ِة أَ َش ُّد } من عذاب الدنيا أضعافا مضاعفة { َوأ َْبقَى } لكونه ال ينقطع‪ ،‬بخالف‬ ‫َ َ ُ‬
‫عذاب الدنيا فإنه منقطع‪ ،‬فالواجب الخوف والحذر من عذاب اآلخرة‪.‬‬

‫( ‪)1/516‬‬
‫ك آَل َي ٍ‬
‫ات أِل ُوِلي ُّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ون يم ُش ِ‬ ‫ِ‬ ‫أَ َفلَ ْم َي ْه ِد لَهُ ْم َك ْم أ ْ‬
‫النهَى (‬ ‫ون في َم َساكن ِه ْم ِإ َّن في َذل َ َ‬
‫َهلَ ْكَنا قَْبلَهُ ْم م َن اْلقُُر ِ َ ْ َ‬
‫‪)128‬‬

‫ك آلي ٍ‬
‫ات ألوِلي‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ون يم ُش ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 128‬أَ َفلَ ْم َي ْه ِد لَهُ ْم َك ْم أ ْ‬
‫ون في َم َساكن ِه ْم ِإ َّن في َذل َ َ‬
‫َهلَ ْكَنا قَْبلَهُ ْم م َن اْلقُُر ِ َ ْ َ‬
‫ُّ‬
‫النهَى } ‪.‬‬
‫أي‪ :‬أفلم يهد هؤالء المكذبين المعرضين‪ ،‬ويدلهم على سلوك طريق الرشاد‪ ،‬وتجنب طريق الغي‬
‫والفساد‪ ،‬ما أحل اهلل بالمكذبين قبلهم‪ ،‬من القرون الخالية‪ ،‬واألمم المتتابعة‪ ،‬الذين يعرفون‬
‫قصصهم‪ ،‬ويتناقلون أسمارهم‪ ،‬وينظرون بأعينهم‪ ،‬مساكنهم من بعدهم‪ ،‬كقوم هود وصالح ولوط‬
‫وغيرهم‪ ،‬وأنهم لما كذبوا رسلنا‪ ،‬وأعرضوا عن كتبنا‪ ،‬أصبناهم بالعذاب األليم؟‬
‫فما الذي يؤمن هؤالء‪ ،‬أن يحل بهم‪ ،‬ما حل بأولئك؟ { أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في‬
‫الزبر * أم يقولون نحن جميع منتصر } ال شيء من هذا كله فليس هؤالء الكفار خيرا من أولئك‬
‫حتى يدفع عنهم العذاب بخيرهم بل هم شر منهم ألنهم كفروا بأشرف الرسل وخير الكتب وليس‬
‫لهم براءة مزبورة وعهد عند اهلل وليسوا كما يقولون أن جمعهم ينفعهم ويدفع عنهم بل هم أذل‬
‫وأحقر من ذلك فإهالك القرون الماضية بذنوبهم من أسباب الهداية لكونها من اآليات الدالة على‬
‫صحة رسالة الرسل الذين جاءوهم وبطالن ما هم عليه ولكن ما كل أحد ينتفع باآليات إنما ينتفع‬
‫بها أولو النهى أي العقول السليمة والفطر المستقيمة واأللباب التي تزجر أصحابها عما ال ينبغي‬

‫( ‪)1/516‬‬

‫ِّح بِ َح ْم ِد‬ ‫اصبِ ْر َعلَى َما َيقُولُ َ‬


‫ون َو َسب ْ‬ ‫َج ٌل ُم َس ًّمى (‪ )129‬فَ ْ‬ ‫اما َوأ َ‬
‫ك لَ َك ِ‬
‫ان ل َز ً‬
‫ولَواَل َكِلمةٌ سبقَ ْ ِ‬
‫ت م ْن َرِّب َ َ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ ْ‬
‫ضى (‪)130‬‬ ‫النهَ ِار لَ َعلَّ َ‬
‫ك تَْر َ‬ ‫اف َّ‬
‫ط َر َ‬ ‫اء اللَّْي ِل فَ َسب ْ‬
‫ِّح َوأَ ْ‬ ‫س وقَْب َل ُغروبِها و ِم ْن آََن ِ‬
‫ُ َ َ‬
‫ك قَْب َل طُلُ ِ َّ ِ‬
‫وع الش ْم َ‬ ‫َرِّب َ‬

‫ِّك لَ َك ِ‬ ‫{ ‪ { } 129-130‬ولَوال َكِلمةٌ سبقَ ْ ِ‬


‫اصبِ ْر َعلَى َما َيقُولُ َ‬
‫ون‬ ‫َج ٌل ُم َس ًّمى * فَ ْ‬ ‫اما َوأ َ‬
‫ان ل َز ً‬
‫ت م ْن َرب َ َ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ ْ‬
‫النهَ ِار لَ َعلَّ َ‬
‫ك‬ ‫اف َّ‬
‫ط َر َ‬ ‫اء اللَّْي ِل فَ َسب ْ‬
‫ِّح َوأَ ْ‬ ‫س وقَْب َل ُغروبِها و ِم ْن َآن ِ‬
‫ُ َ َ‬
‫ِّك قَْب َل طُلُ ِ َّ ِ‬
‫وع الش ْم َ‬ ‫ِّح بِ َح ْم ِد َرب َ‬
‫َو َسب ْ‬
‫ضى } ‪.‬‬‫تَْر َ‬
‫هذا تسلية للرسول‪ ،‬وتصبير له عن المبادرة إلى إهالك المكذبين المعرضين‪ ،‬وأن كفرهم‬
‫وتكذيبهم سبب صالح لحلول العذاب بهم‪ ،‬ولزومه لهم‪ ،‬ألن اهلل جعل العقوبات سببا وناشئا عن‬
‫الذنوب‪ ،‬مالزما لها‪ ،‬وهؤالء قد أتوا بالسبب‪ ،‬ولكن الذي أخره عنهم كلمة ربك‪ ،‬المتضمنة‬
‫إلمهالهم وتأخيرهم‪ ،‬وضرب األجل المسمى‪ ،‬فاألجل المسمى ونفوذ كلمة اهلل‪ ،‬هو الذي أخر عنهم‬
‫العقوبة إلى إبان وقتها‪ ،‬ولعلهم يراجعون أمر اهلل‪ ،‬فيتوب عليهم‪ ،‬ويرفع عنهم العقوبة‪ ،‬إذا لم تحق‬
‫عليهم الكلمة‪.‬‬
‫ولهذا أمر اهلل رسوله بالصبر على أذيتهم بالقول‪ ،‬وأمره أن يتعوض عن ذلك‪ ،‬ويستعين عليه‬
‫بالتسبيح بحمد ربه‪ ،‬في هذه األوقات الفاضلة‪ ،‬قبل طلوع الشمس وغروبها‪ ،‬وفي أطراف النهار‪،‬‬
‫أوله وآخره‪ ،‬عموم بعد خصوص‪ ،‬وأوقات الليل وساعاته‪ ،‬لعلك إن فعلت ذلك‪ ،‬ترضى بما‬
‫يعطيك ربك من الثواب العاجل واآلجل‪ ،‬وليطمئن قلبك‪ ،‬وتقر عينك بعبادة ربك‪ ،‬وتتسلى بها عن‬
‫أذيتهم‪ ،‬فيخف حينئذ عليك الصبر‪.‬‬

‫( ‪)1/516‬‬

‫الد ْنيا ِلَن ْفتَِنهم ِف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك ِإلَى ما متَّعَنا بِ ِه أ َْزو ِ‬


‫ِّك َخ ْيٌر‬ ‫يه َو ِر ْز ُ‬
‫ق َرب َ‬ ‫ُْ‬ ‫اجا م ْنهُ ْم َز ْه َرةَ اْل َحَياة ُّ َ‬
‫َ ً‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َواَل تَ ُم َّد َّن َع ْيَن ْي َ‬
‫َوأ َْبقَى (‪)131‬‬

‫الد ْنيا ِلَن ْفتَِنهم ِف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك ِإلَى ما متَّعَنا بِ ِه أ َْزو ِ‬


‫يه َو ِر ْز ُ‬
‫ق‬ ‫ُْ‬ ‫اجا م ْنهُ ْم َز ْه َرةَ اْل َحَياة ُّ َ‬
‫َ ً‬ ‫َ َ ْ‬ ‫{ ‪َ { } 131‬وال تَ ُم َّد َّن َع ْيَن ْي َ‬
‫َرِّب َ‬
‫ك َخ ْيٌر َوأ َْبقَى } ‪.‬‬
‫أي‪ :‬ال تمد عينيك معجبا‪ ،‬وال تكرر النظر مستحسنا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها‪ ،‬من المآكل‬
‫والمشارب اللذيذة‪ ،‬والمالبس الفاخرة‪ ،‬والبيوت المزخرفة‪ ،‬والنساء المجملة‪ ،‬فإن ذلك كله زهرة‬
‫الحياة الدنيا‪ ،‬تبتهج بها نفوس المغترين‪ ،‬وتأخذ إعجابا بأبصار المعرضين‪ ،‬ويتمتع بها ‪ -‬بقطع‬
‫النظر عن اآلخرة ‪ -‬القوم الظالمون‪ ،‬ثم تذهب سريعا‪ ،‬وتمضي جميعا‪ ،‬وتقتل [ ص ‪] 517‬‬
‫محبيها وعشاقها‪ ،‬فيندمون حيث ال تنفع الندامة‪ ،‬ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة‪ ،‬وإ نما‬
‫جعلها اهلل فتنة واختبارا‪ ،‬ليعلم من يقف عندها ويغتر بها‪ ،‬ومن هو أحسن عمال كما قال تعالى‪:‬‬
‫ص ِع ً‬
‫يدا‬ ‫ِ‬ ‫ض ِز َينةً لَهَا ِلَنْبلَُو ُه ْم أَيُّهُ ْم أ ْ‬
‫َح َس ُن َع َمال * َوإِ َّنا لَ َجاعلُ َ‬
‫ون َما َعلَْيهَا َ‬ ‫{ ِإَّنا َج َعْلَنا َما َعلَى ْ‬
‫األر ِ‬
‫ُج ُر ًزا }‬
‫ِّك } العاجل من العلم واإليمان وحقائق األعمال الصالحة واآلجل من النعيم المقيم‬ ‫{ َو ِر ْز ُ‬
‫ق َرب َ‬
‫والعيش السليم في جوار الرب الرحيم { خير } مما متعنا به أزواجا في ذاته وصفاته { َوأ َْبقَى }‬
‫الد ْنيا و ِ‬
‫اآلخ َرةُ َخ ْيٌر َوأ َْبقَى }‬ ‫ُّ‬ ‫لكونه ال ينقطع أكلها دائم وظلها كما قال تعالى { َب ْل تُ ْؤثِ ُر َ‬
‫ون اْل َحَياةَ َ َ‬
‫وفي هذه اآلية إشارة إلى أن العبد إذا رأى من نفسه طموحا إلى زينة الدنيا وإ قباال عليها أن‬
‫يذكرها ما أمامها من رزق ربه وأن يوازن بين هذا وهذا‬
‫( ‪)1/516‬‬

‫ك َواْل َع ِاقَبةُ ِللتَّ ْق َوى (‪)132‬‬ ‫طبِ ْر َعلَْيهَا اَل َن ْسأَلُ َ‬


‫ك ِر ْزقًا َن ْح ُن َن ْر ُزقُ َ‬ ‫اص َ‬ ‫ك بِ َّ ِ‬
‫الصاَل ة َو ْ‬ ‫َهلَ َ‬
‫ْم ْر أ ْ‬
‫َوأ ُ‬

‫ك َواْل َع ِاقَبةُ ِللتَّ ْق َوى } ‪.‬‬ ‫طبِ ْر َعلَْيهَا ال َن ْسأَلُ َ‬


‫ك ِر ْزقًا َن ْح ُن َن ْر ُزقُ َ‬ ‫اص َ‬ ‫ِ‬
‫ك بِالصَّالة َو ْ‬
‫َهلَ َ‬
‫ْم ْر أ ْ‬
‫{ ‪َ { } 132‬وأ ُ‬
‫أي‪ :‬حث أهلك على الصالة‪ ،‬وأزعجهم إليها من فرض ونفل‪ .‬واألمر بالشيء‪ ،‬أمر بجميع ما ال‬
‫يتم إال به‪ ،‬فيكون أمرا بتعليمهم‪ ،‬ما يصلح الصالة ويفسدها ويكملها‪.‬‬
‫طبِ ْر َعلَْيهَا } أي‪ :‬على الصالة بإقامتها‪ ،‬بحدودها وأركانها وآدابها وخشوعها‪ ،‬فإن ذلك‬
‫اص َ‬
‫{ َو ْ‬
‫مشق على النفس‪ ،‬ولكن ينبغي إكراهها وجهادها على ذلك‪ ،‬والصبر معها دائما‪ ،‬فإن العبد إذا أقام‬
‫صالته على الوجه المأمور به‪ ،‬كان لما سواها من دينه أحفظ وأقوم‪ ،‬وإ ذا ضيعها كان لما سواها‬
‫أضيع‪ ،‬ثم ضمن تعالى لرسوله الرزق‪ ،‬وأن ال يشغله االهتمام به عن إقامة دينه‪ ،‬فقال‪َ { :‬ن ْح ُن‬
‫ك } أي‪ :‬رزقك علينا قد تكفلنا به‪ ،‬كما تكفلنا بأرزاق الخالئق كلهم‪ ،‬فكيف بمن قام بأمرنا‪،‬‬‫َن ْر ُزقُ َ‬
‫واشتغل بذكرنا؟! ورزق اهلل عام للمتقي وغيره‪ ،‬فينبغي االهتمام بما يجلب السعادة األبدية‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫التقوى‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬واْل َع ِاقَبةُ } في الدنيا واآلخرة { ِللتَّ ْق َوى } التي هي فعل المأمور وترك‬
‫ِ ِ ِ‬
‫المنهي‪ ،‬فمن قام بها‪ ،‬كان له العاقبة‪ ،‬كما قال تعالى { َواْل َعاقَبةُ لْل ُمتَّق َ‬
‫ين }‬

‫( ‪)1/517‬‬

‫ِّه أَولَم تَأْتِ ِهم بيَِّنةُ ما ِفي الصُّح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬


‫اه ْم‬ ‫ف اأْل ُولَى (‪َ )133‬ولَ ْو أََّنا أ ْ‬
‫َهلَ ْكَن ُ‬ ‫ُ‬ ‫َْ َ‬ ‫َوقَالُوا لَ ْواَل َيأْت َينا بِآََية م ْن َرب َ ْ‬
‫َن َن ِذ َّل َوَن ْخ َزى (‪ُ )134‬ق ْل‬ ‫ك ِم ْن قَْب ِل أ ْ‬ ‫ت ِإلَْيَنا َر ُسواًل فََنتَّبِ َع آََياتِ َ‬
‫اب ِم ْن قَْبِل ِه لَقَالُوا َربََّنا لَ ْواَل أ َْر َسْل َ‬
‫بِ َع َذ ٍ‬
‫اهتَ َدى (‪)135‬‬ ‫ي َو َم ِن ْ‬ ‫اط الس ِ‬
‫َّو ِّ‬ ‫ُك ٌّل متَربِّص فَتَربَّصوا فَستَعلَمون م ْن أَصحاب الصِّر ِ‬
‫َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َ ْ ُ َ َ‬ ‫َُ ٌ َ ُ‬

‫ِّه أَولَم تَأْتِ ِهم بيَِّنةُ ما ِفي الصُّح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬


‫ف األولَى * َولَ ْو أََّنا‬ ‫ُ‬ ‫َْ َ‬ ‫{ ‪َ { } 133-135‬وقَالُوا لَ ْوال َيأْت َينا بِ َآية م ْن َرب َ ْ‬
‫َن َن ِذ َّل َوَن ْخ َزى *‬ ‫ك ِم ْن قَْب ِل أ ْ‬ ‫ت ِإلَْيَنا َر ُسوال فََنتَّبِ َع َآياتِ َ‬‫اب ِم ْن قَْبِل ِه لَقَالُوا َربََّنا لَ ْوال أ َْر َسْل َ‬
‫اهم بِ َع َذ ٍ‬
‫َهلَ ْكَن ُ ْ‬
‫أْ‬
‫اهتَ َدى } ‪.‬‬ ‫ي َو َم ِن ْ‬ ‫اط الس ِ‬
‫َّو ِّ‬ ‫ُق ْل ُك ٌّل متَربِّص فَتَربَّصوا فَستَعلَمون م ْن أَصحاب الصِّر ِ‬
‫َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َ ْ ُ َ َ‬ ‫َُ ٌ َ ُ‬
‫أي‪ :‬قال المكذبون للرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬هال يأتينا بآية من ربه؟ يعنون آيات االقتراح‬
‫ك َجَّنةٌ ِم ْن َن ِخ ٍ‬ ‫ِ‬
‫يل‬ ‫ون لَ َ‬‫وعا * أ َْو تَ ُك َ‬ ‫ض َي ْنُب ً‬‫األر ِ‬‫ك َحتَّى تَ ْف ُج َر لََنا م َن ْ‬ ‫كقولهم‪َ { :‬وقَالُوا لَ ْن ُن ْؤ ِم َن لَ َ‬
‫ت َعلَْيَنا ِك َسفًا أ َْو تَأْتِ َي بِاللَّ ِه‬ ‫اء َك َما َز َع ْم َ‬
‫َّم َ‬
‫ط الس َ‬ ‫األنهَ َار ِخاللَهَا تَ ْف ِج ًيرا * أ َْو تُ ْس ِق َ‬ ‫ِّر ْ‬ ‫ٍ‬
‫َو ِعَنب فَتُفَج َ‬
‫َواْل َمالئِ َك ِة قَبِيال }‬
‫وهذا تعنت منهم وعناد وظلم فإنهم هم والرسول بشر عبيد هلل فال يليق منهم االقتراح بحسب‬
‫أهوائهم وإ نما الذي ينزلها ويختار منها ما يختار بحسب حكمته هو اهلل‬
‫ِّه } يقتضي أنه لم يأتهم بآية على صدقه وال بينة على‬ ‫ات ِم ْن رب ِ‬
‫وألن قولهم { لَ ْوال أُنز َل َعلَْي ِه َآي ٌ‬
‫َ‬
‫حقه وهذا كذب وافتراء فإنه أتى من المعجزات الباهرات واآليات القاهرات ما يحصل ببعضه‬
‫المقصود ولهذا قال { أ ََولَ ْم تَأْتِ ِه ْم } إن كانوا صادقين في قولهم وأنهم يطلبون الحق بدليله { َبيَِّنةُ َما‬
‫ف األولَى } أي هذا القرآن العظيم المصدق لما في الصحف األولى من التوراة‬ ‫ِفي الصُّح ِ‬
‫ُ‬
‫واإلنجيل والكتب السابقة المطابق لها المخبر بما أخبرت به وتصديقه أيضا مذكور فيها ومبشر‬
‫اب ُي ْتلَى َعلَْي ِه ْم ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ك لََر ْح َمةً‬ ‫بالرسول بها وهذا كقوله تعالى { أَولَم ي ْك ِف ِهم أََّنا أَنزْلَنا علَْي َ ِ‬
‫ك اْلكتَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ ْ‬
‫ِ‬
‫ون } فاآليات تنفع المؤمنين ويزداد بها إيمانهم وإ يقانهم وأما المعرضون عنها‬ ‫َو ِذ ْك َرى لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون *‬ ‫ت َعلَْي ِه ْم َكِل َمةُ َرب َ‬
‫ِّك ال ُي ْؤ ِمُن َ‬ ‫ين َحقَّ ْ‬ ‫َِّ‬
‫المعارضون لها فال يؤمنون بها وال ينتفعون بها { ِإ َّن الذ َ‬
‫ٍ‬
‫اب }‬ ‫اءتْهُ ْم ُك ُّل َآية َحتَّى َي َر ُوا اْل َع َذ َ‬‫َولَ ْو َج َ‬
‫وإ نما الفائدة في سوقها إليهم ومخاطبتهم بها‪ ،‬لتقوم عليهم حجة اهلل‪ ،‬ولئال يقولوا حين ينزل بهم‬
‫َن َن ِذ َّل َوَن ْخ َزى } بالعقوبة‪ ،‬فها قد جاءكم‬ ‫ك ِم ْن قَْب ِل أ ْ‬
‫ت ِإلَْيَنا َر ُسوال فََنتَّبِ َع َآياتِ َ‬‫العذاب‪ { :‬لَ ْوال أ َْر َسْل َ‬
‫رسولي ومعه آياتي وبراهيني‪ ،‬فإن كنتم كما تقولون‪ ،‬فصدقوه‪.‬‬
‫قل يا محمد مخاطبا للمكذبين لك الذين يقولون تربصوا به ريب المنون { ُق ْل ُك ٌّل ُمتََرب ٌ‬
‫ِّص }‬
‫ون بَِنا ِإال ِإ ْح َدى اْل ُح ْسَنَي ْي ِن } أي‪:‬‬
‫َّص َ‬
‫فتربصوا بي الموت‪ ،‬وأنا أتربص بكم العذاب { ُق ْل َه ْل تََرب ُ‬
‫اب ِم ْن ِع ْن ِد ِه أ َْو بِأ َْي ِد َينا } [ ص ‪] 518‬‬
‫ص َيب ُكم اللَّهُ بِ َع َذ ٍ‬
‫ُ‬
‫َن ي ِ‬
‫َّص بِ ُك ْم أ ْ ُ‬
‫الظفر أو الشهادة { َوَن ْح ُن َنتََرب ُ‬
‫اهتَ َدى } بسلوكه‪ ،‬أنا‬ ‫ي } أي‪ :‬المستقيم‪َ { ،‬و َم ِن ْ‬ ‫َّو ِّ‬ ‫{ فَتَربَّصوا فَستَعلَمون م ْن أَصحاب الصِّر ِ‬
‫اط الس ِ‬ ‫َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َ ْ ُ َ َ‬ ‫َ ُ‬
‫أم أنتم؟ فإن صاحبه هو الفائز الراشد‪ ،‬الناجي المفلح‪ ،‬ومن حاد عنه خاسر خائب معذب‪ ،‬وقد علم‬
‫أن الرسول هو الذي بهذه الحالة‪ ،‬وأعداؤه بخالفه‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫( ‪)1/517‬‬

‫تفسير سورة األنبياء عليهم‬


‫السالم‪ ،‬وهي مكية‬

‫( ‪)1/518‬‬
‫ضون (‪ )1‬ما َيأْتِي ِهم ِم ْن ِذ ْك ٍر ِم ْن رِّب ِهم م ْح َد ٍث ِإاَّل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ا ْقتَرب ِل َّلن ِ ِ‬
‫َ ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫اس ح َس ُابهُ ْم َو ُه ْم في َغ ْفلَة ُم ْع ِر ُ َ‬ ‫َ َ‬
‫ظلَ ُموا َه ْل َه َذا ِإاَّل َب َشٌر ِم ْثلُ ُك ْم‬
‫ين َ‬ ‫َِّ‬
‫الن ْج َوى الذ َ‬‫َس ُّروا َّ‬
‫وبهُ ْم َوأ َ‬
‫ِ‬
‫ون (‪ )2‬اَل هَيةً ُقلُ ُ‬
‫استَ َم ُعوهُ َو ُه ْم َيْل َعُب َ‬
‫ْ‬
‫يم (‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اء واأْل َْر ِ‬ ‫صرون (‪ )3‬قَا َل ربِّي يعلَم اْلقَو َل ِفي الس ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َو ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ‬ ‫َّم َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ ُ ْ‬ ‫ِّح َر َوأ َْنتُ ْم تُْب ُ َ‬
‫ون الس ْ‬‫أَفَتَأْتُ َ‬
‫‪)4‬‬

‫ون * َما َيأْتِي ِه ْم‬‫ض َ‬


‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫الر ِح ِيم ا ْقتَرب ِل َّلن ِ ِ‬
‫اس ح َس ُابهُ ْم َو ُه ْم في َغ ْفلَة ُم ْع ِر ُ‬ ‫َ َ‬ ‫{ ‪ { } 4 - 1‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ظلَ ُموا‬‫ين َ‬ ‫َس ُّروا َّ‬
‫الن ْج َوى الذ َ‬ ‫وبهُ ْم َوأ َ‬
‫ون * الهَيةً ُقلُ ُ‬ ‫م ْن ذ ْك ٍر م ْن َرِّب ِه ْم ُم ْح َدث ِإال ْ‬
‫استَ َم ُعوهُ َو ُه ْم َيْل َعُب َ‬
‫ال ربِّي يعلَم اْلقَو َل ِفي الس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض‬ ‫األر ِ‬ ‫َّماء َو ْ‬‫َ‬ ‫ون * قَ َ َ َ ْ ُ ْ‬ ‫ِّح َر َوأ َْنتُ ْم تُْبص ُر َ‬
‫ون الس ْ‬ ‫َه ْل َه َذا ِإال َب َشٌر مثْلُ ُك ْم أَفَتَأْتُ َ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ‬
‫هذا تعجب من حالة الناس‪ ،‬وأنه ال ينجع فيهم تذكير‪ ،‬وال يرعون إلى نذير‪ ،‬وأنهم قد قرب‬
‫حسابهم‪ ،‬ومجازاتهم على أعمالهم الصالحة والطالحة‪ ،‬والحال أنهم في غفلة معرضون‪ ،‬أي‪:‬‬
‫غفلة عما خلقوا له‪ ،‬وإ عراض عما زجروا به‪ .‬كأنهم للدنيا خلقوا‪ ،‬وللتمتع بها ولدوا‪ ،‬وأن اهلل‬
‫تعالى ال يزال يجدد لهم التذكير والوعظ‪ ،‬وال يزالون في غفلتهم وإ عراضهم‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ما‬
‫َيأْتِي ِه ْم ِم ْن ِذ ْك ٍر ِم ْن َرِّب ِه ْم ُم ْح َد ٍث } يذكرهم ما ينفعهم ويحثهم عليه وما يضرهم‪ ،‬ويرهبهم منه { ِإال‬
‫وبهُ ْم } أي‪ :‬قلوبهم غافلة‬ ‫ِ‬
‫ون‪ .‬الهَيةً ُقلُ ُ‬
‫استَ َم ُعوهُ } سماعا‪ ،‬تقوم عليهم به الحجة‪َ { ،‬و ُه ْم َيْل َعُب َ‬
‫ْ‬
‫معرضة الهية بمطالبها الدنيوية‪ ،‬وأبدانهم العبة‪ ،‬قد اشتغلوا بتناول الشهوات والعمل بالباطل‪،‬‬
‫واألقوال الردية‪ ،‬مع أن الذي ينبغي لهم أن يكونوا بغير هذه الصفة‪ ،‬تقبل قلوبهم على أمر اهلل‬
‫ونهيه‪ ،‬وتستمعه استماعا‪ ،‬تفقه المراد منه‪ ،‬وتسعى جوارحهم‪ ،‬في عبادة ربهم‪ ،‬التي خلقوا‬
‫ألجلها‪ ،‬ويجعلون القيامة والحساب والجزاء منهم على بال‪ ،‬فبذلك يتم لهم أمرهم‪ ،‬وتستقيم‬
‫اس ِح َس ُابهُ ْم } قوالن‪ :‬أحدهما أن هذه‬
‫ب ِل َّلن ِ‬
‫أحوالهم‪ ،‬وتزكوا أعمالهم‪ ،‬وفي معنى قوله‪ { :‬ا ْقتََر َ‬
‫األمة هي آخر األمم‪ ،‬ورسولها آخر الرسل‪ ،‬وعلى أمته تقوم الساعة‪ ،‬فقد قرب الحساب منها‬
‫بالنسبة لما قبلها من األمم‪ ،‬لقوله صلى اهلل عليه وسلم " بعثت أنا والساعة كهاتين " وقرن بين‬
‫إصبعيه‪ ،‬السبابة والتي تليها‪.‬‬
‫والقول الثاني‪ :‬أن المراد بقرب الحساب الموت‪ ،‬وأن من مات‪ ،‬قامت قيامته‪ ،‬ودخل في دار‬
‫الجزاء على األعمال‪ ،‬وأن هذا تعجب من كل غافل معرض‪ ،‬ال يدري متى يفجأه الموت‪ ،‬صباحا‬
‫أو مساء‪ ،‬فهذه حالة الناس كلهم‪ ،‬إال من أدركته العناية الربانية‪ ،‬فاستعد للموت وما بعده‪.‬‬
‫ثم ذكر ما يتناجى به الكافرون الظالمون على وجه العناد‪ ،‬ومقابلة الحق بالباطل‪ ،‬وأنهم تناجوا‪،‬‬
‫وتواطأوا فيما بينهم‪ ،‬أن يقولوا في الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬إنه بشر مثلكم‪ ،‬فما الذي فضله‬
‫عليكم‪ ،‬وخصه من بينكم‪ ،‬فلو ادعى أحد منكم مثل دعواه‪ ،‬لكان قوله من جنس قوله‪ ،‬ولكنه يريد‬
‫أن يتفضل عليكم‪ ،‬ويرأس فيكم‪ ،‬فال تطيعوه‪ ،‬وال تصدقوه‪ ،‬وأنه ساحر‪ ،‬وما جاء به من القرآن‬
‫ون } هذا وهم يعلمون‬ ‫ِ‬
‫ِّح َر َوأ َْنتُ ْم تُْبص ُر َ‬
‫ون الس ْ‬
‫سحر‪ ،‬فانفروا عنه‪ ،‬ونفروا الناس‪ ،‬وقولوا‪ { :‬أَفَتَأْتُ َ‬
‫أنه رسول اهلل حقا بما شاهدوا (‪ )1‬من اآليات الباهرة ما لم يشاهد غيرهم‪ ،‬ولكن حملهم على ذلك‬
‫الشقاء والظلم والعناد‪ ،‬واهلل تعالى قد أحاط علما بما تناجوا به‪ ،‬وسيجازيهم عليه‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ض } أي‪ :‬في جميع ما احتوت‬ ‫األر ِ‬ ‫{ قَا َل ربِّي يعلَم اْلقَو َل } أي‪ :‬الخفي والجلي { ِفي الس ِ‬
‫َّماء َو ْ‬
‫َ‬ ‫َ َْ ُ ْ‬
‫يم }‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عليه أقطارهما { َو ُه َو السَّميعُ } لسائر األصوات‪ ،‬باختالف اللغات‪ ،‬على تفنن الحاجات { اْل َعل ُ‬
‫بما في الضمائر‪ ،‬وأكنته السرائر‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬بما يشاهدون‪.‬‬

‫( ‪)1/518‬‬

‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اث أ ْ ٍ‬


‫ت قَْبلَهُ ْم‬
‫َمَن ْ‬ ‫َحاَل م َب ِل ا ْفتََراهُ َب ْل ُه َو َشاعٌر َفْلَيأْتَنا بِآََية َك َما أ ُْرس َل اأْل ََّولُ َ‬
‫ون (‪َ )5‬ما آ َ‬ ‫َض َغ ُ‬ ‫َب ْل قَالُوا أ ْ‬
‫ون (‪)6‬‬ ‫اها أَفَهُ ْم ُي ْؤ ِمُن َ‬ ‫ِم ْن قَ ْرَي ٍة أ ْ‬
‫َهلَ ْكَن َ‬

‫ون * َما‬ ‫اعٌر َفْلَيأْتَِنا بِ َآي ٍة َك َما أ ُْر ِس َل َّ‬


‫األولُ َ‬
‫الم ب ِل ا ْفتَراه ب ْل ُهو َش ِ‬
‫َ َُ َ‬ ‫َح ٍ َ‬ ‫اث أ ْ‬ ‫َض َغ ُ‬
‫{ ‪َ { } 6 - 5‬ب ْل قَالُوا أ ْ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫اها أَفَهُ ْم ُي ْؤ ِمُن َ‬ ‫ت قَْبلَهُ ْم ِم ْن قَ ْرَي ٍة أ ْ‬
‫َهلَ ْكَن َ‬ ‫آمَن ْ‬
‫َ‬
‫يذكر تعالى ائتفاك المكذبين بمحمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وبما جاء به من القرآن العظيم‪ ،‬وأنهم‬
‫سفهوه (‪ )1‬وقالوا فيه األقاويل الباطلة المختلفة‪ ،‬فتارة يقولون‪ { :‬أضغاث أحالم } بمنزلة كالم‬
‫النائم الهاذي‪ ،‬الذي ال يحس بما يقول‪ ،‬وتارة يقولون‪ { :‬افتراه } واختلقه وتقوله من عند نفسه‪،‬‬
‫وتارة يقولون‪ :‬إنه شاعر وما جاء به شعر‪.‬‬
‫وكل من له أدنى معرفة بالواقع‪ ،‬من حالة الرسول‪ ،‬ونظر في هذا الذي جاء به‪ ،‬جزم جزما ال‬
‫يقبل الشك‪ ،‬أنه أجل الكالم وأعاله‪ ،‬وأنه من عند اهلل‪ ،‬وأن أحدا من البشر ال يقدر على اإلتيان‬
‫بمثل بعضه‪ ،‬كما تحدى اهلل أعداءه بذلك‪ ،‬ليعارضوا مع توفر دواعيهم لمعارضته وعداوته‪ ،‬فلم‬
‫يقدروا على شيء من معارضته‪ ،‬وهم يعلمون ذلك وإ ال فما الذي أقامهم وأقعدهم وأقض‬
‫مضاجعهم وبلبل ألسنتهم إال الحق الذي ال يقوم له شيء‪ ،‬وإ نما يقولون هذه األقوال فيه ‪ -‬حيث لم‬
‫يؤمنوا به ‪ -‬تنفيرا عنه لمن لم [ ص ‪ ] 519‬يعرفه‪ ،‬وهو أكبر اآليات المستمرة‪ ،‬الدالة على‬
‫صحة ما جاء به الرسول صلى اهلل عليه وسلم وصدقه‪ ،‬وهو كاف شاف‪ ،‬فمن طلب دليال غيره‪،‬‬
‫أو اقترح آية من اآليات سواه‪ ،‬فهو جاهل ظالم مشبه لهؤالء المعاندين الذين كذبوه وطلبوا من‬
‫اآليات االقتراح ما هو أضر شيء عليهم‪ ،‬وليس لهم فيها مصلحة‪ ،‬ألنهم إن كان (‪ )2‬قصدهم‬
‫معرفة الحق إذا تبين دليله‪ ،‬فقد تبين دليله بدونها‪ ،‬وإ ن كان قصدهم التعجيز وإ قامة العذر ألنفسهم‪،‬‬
‫إن لم يأت بما طلبوا فإنهم بهذه الحالة ‪ -‬على فرض إتيان ما طلبوا من اآليات ‪ -‬ال يؤمنون‬
‫قطعا‪ ،‬فلو جاءتهم كل آية‪ ،‬ال يؤمنون حتى يروا العذاب األليم‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬كناقة صالح‪ ،‬وعصا موسى‪ ،‬ونحو‬ ‫ولهذا قال اهلل عنهم‪َ { :‬فْلَيأْتَِنا بِ َآي ٍة َك َما أ ُْر ِس َل َّ‬
‫األولُ َ‬
‫ذلك‪.‬‬
‫اها } أي‪ :‬بهذه اآليات المقترحة‪ ،‬وإ نما سنته تقتضي أن‬ ‫ت قَْبلَهُ ْم ِم ْن قَ ْرَي ٍة أ ْ‬
‫َهلَ ْكَن َ‬ ‫آمَن ْ‬
‫قال اهلل‪َ { :‬ما َ‬
‫من طلبها‪ ،‬ثم حصلت له‪ ،‬فلم يؤمن أن يعاجله بالعقوبة‪ .‬فاألولون ما آمنوا بها‪ ،‬أفيؤمن هؤالء‬
‫بها؟ ما الذي فضلهم على أولئك‪ ،‬وما الخير الذي فيهم‪ ،‬يقتضي اإليمان عند وجودها؟ وهذا‬
‫االستفهام بمعنى النفي‪ ،‬أي‪ :‬ال يكون ذلك منهم أبدا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬تقولوه فيه‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬كانوا‪.‬‬

‫( ‪)1/518‬‬

‫ك ِإاَّل ِرجااًل ُن ِ‬
‫وحي ِإلَْي ِهم فَاسأَلُوا أ ْ ِّ‬
‫اه ْم‬
‫ون (‪َ )7‬و َما َج َعْلَن ُ‬ ‫َه َل الذ ْك ِر ِإ ْن ُك ْنتُ ْم اَل تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫َو َما أ َْر َسْلَنا قَْبلَ َ‬
‫ِِ‬ ‫َّ‬
‫َهلَ ْكَنا‬
‫اء َوأ ْ‬
‫اه ْم َو َم ْن َن َش ُ‬
‫اه ُم اْل َو ْع َد فَأ َْن َج ْيَن ُ‬
‫ص َد ْقَن ُ‬
‫ين (‪ )8‬ثَُّم َ‬ ‫َج َس ًدا اَل َي ْأ ُكلُ َ‬
‫ون الط َع َام َو َما َك ُانوا َخالد َ‬
‫ين (‪)9‬‬ ‫اْل ُم ْس ِر ِف َ‬

‫وحي ِإلَْي ِهم فَاسأَلُوا أ ْ ِّ‬ ‫ك ِإال ِرجاال ُن ِ‬


‫َه َل الذ ْك ِر ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ال تَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون * َو َما‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫{ ‪َ { } 9 - 7‬و َما أ َْر َسْلَنا قَْبلَ َ‬
‫ِِ‬ ‫َّ‬
‫اء‬
‫اه ْم َو َم ْن َن َش ُ‬
‫اه ُم اْل َو ْع َد فَأ َْن َج ْيَن ُ‬
‫ص َد ْقَن ُ‬
‫ين * ثَُّم َ‬
‫ون الط َع َام َو َما َك ُانوا َخالد َ‬ ‫اه ْم َج َس ًدا ال َي ْأ ُكلُ َ‬ ‫َج َعْلَن ُ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫َهلَ ْكَنا اْل ُم ْس ِر ِف َ‬
‫َوأ ْ‬
‫هذا جواب لشبه المكذبين للرسول القائلين‪ :‬هال كان ملكا‪ ،‬ال يحتاج إلى طعام وشراب‪ ،‬وتصرف‬
‫في األسواق‪ ،‬وهال كان خالدا؟ فإذا لم يكن كذلك‪ ،‬دل على أنه ليس برسول‪.‬‬
‫وهذه الشبه ما زالت في قلوب المكذبين للرسل‪ ،‬تشابهوا في الكفر‪ ،‬فتشابهت أقوالهم‪ ،‬فأجاب‬
‫تعالى عن هذه الشبه لهؤالء المكذبين للرسول‪ ،‬المقرين بإثبات الرسل قبله ‪ -‬ولو لم يكن إال‬
‫إبراهيم عليه السالم‪ ،‬الذي قد أقر بنبوته جميع الطوائف‪ ،‬والمشركون يزعمون أنهم على دينه‬
‫وملته ‪ -‬بأن الرسل قبل محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬كلهم من البشر‪ ،‬الذين يأكلون الطعام‪،‬‬
‫ويمشون في األسواق‪ ،‬وتطرأ عليهم العوارض البشرية‪ ،‬من الموت وغيره‪ ،‬وأن اهلل أرسلهم إلى‬
‫قومهم وأممهم‪ ،‬فصدقهم من صدقهم‪ ،‬وكذبهم من كذبهم‪ ،‬وأن اهلل صدقهم ما وعدهم به من النجاة‪،‬‬
‫والسعادة لهم وألتباعهم‪ ،‬وأهلك المسرفين المكذبين لهم‪.‬‬
‫فما بال محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬تقام الشبه الباطلة على إنكار رسالته‪ ،‬وهي موجودة في‬
‫إخوانه المرسلين‪ ،‬الذين يقر بهم المكذبون لمحمد؟ فهذا إلزام لهم في غاية الوضوح‪ ،‬وأنهم إن‬
‫أقروا برسول من البشر‪ ،‬ولن يقروا برسول من غير البشر‪ ،‬إن شبههم باطلة‪ ،‬قد أبطلوها هم‬
‫بإقرارهم بفسادها‪ ،‬وتناقضهم بها‪ ،‬فلو قدر انتقالهم من هذا إلى إنكار نبوة البشر رأسا‪ ،‬وأنه ال‬
‫يكون نبي إن لم يكن ملكا مخلدا‪ ،‬ال يأكل الطعام‪ ،‬فقد أجاب [اهلل] تعالى عن هذه الشبهة بقوله‪:‬‬
‫ون * َولَ ْو َج َعْلَناهُ َملَ ًكا‬ ‫ِ‬ ‫{ َوقَالُوا لَ ْوال أُنز َل َعلَْي ِه َملَ ٌ‬
‫ظ ُر َ‬
‫األم ُر ثَُّم ال ُي ْن َ‬
‫ك َولَ ْو أَنزْلَنا َملَ ًكا لَقُض َي ْ‬
‫لَ َج َعْلَناهُ َر ُجال َولَلََب ْسَنا َعلَْي ِه ْم َما َيْلبِ ُس َ‬
‫ون }‬
‫ون‬ ‫وأن البشر ال طاقة لهم بتلقي الوحي من المالئكة { ُق ْل لَو َكان ِفي األر ِ ِ‬
‫ض َمالئ َكةٌ َي ْم ُش َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬
‫اء َملَ ًكا َر ُسوال } فإن حصل معكم شك وعدم علم بحالة الرسل‬ ‫طمئِِّنين لَنزْلَنا علَْي ِهم ِمن السَّم ِ‬
‫َ ْ َ َ‬ ‫ُم ْ َ َ‬
‫الذ ْك ِر } من الكتب السالفة كأهل التوراة واإلنجيل يخبرونكم بما عندهم‬ ‫َه َل ِّ‬ ‫اسأَلُوا أ ْ‬ ‫المتقدمين { فَ ْ‬
‫من العلم وأنهم كلهم بشر من جنس المرسل إليهم‬
‫وهذه اآلية وإ ن كان سببها خاصا بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين ألهل الذكر وهم أهل العلم‬
‫فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين أصوله وفروعه إذا لم يكن عند اإلنسان علم منها أن‬
‫يسأل من يعلمها ففيه األمر بالتعلم والسؤال ألهل العلم ولم يؤمر بسؤالهم إال ألنه يجب عليهم‬
‫التعليم واإلجابة عما علموه‬
‫وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم نهي عن سؤال المعروف بالجهل وعدم العلم ونهي له‬
‫أن يتصدى لذلك وفي هذه اآلية دليل على أن النساء ليس منهن نبية ال مريم وال غيرها لقوله { ِإال‬
‫ِر َجاال }‬

‫( ‪)1/519‬‬

‫ِ‬ ‫ِ ِِِ‬
‫لَقَ ْد أ َْن َزْلَنا ِإلَْي ُك ْم كتَ ًابا فيه ذ ْك ُر ُك ْم أَفَاَل تَ ْعقلُ َ‬
‫ون (‪)10‬‬

‫ِ‬ ‫ِ ِِِ‬
‫{ ‪ { } 10‬لَقَ ْد أ َْن َزْلَنا ِإلَْي ُك ْم كتَ ًابا فيه ذ ْك ُر ُك ْم أَفَال تَ ْعقلُ َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫لقد أنزلنا إليكم ‪ -‬أيها المرسل إليهم‪ ،‬محمد بن عبد اهلل بن عبد المطلب ‪ -‬كتابا جليال وقرآنا مبينا‬
‫يه ِذ ْك ُر ُك ْم } أي‪ :‬شرفكم وفخركم وارتفاعكم‪ ،‬إن تذكرتم به ما فيه من األخبار الصادقة‬ ‫{ ِف ِ‬
‫فاعتقدتموها‪ ،‬وامتثلتم ما فيه من األوامر‪ ،‬واجتنبتم ما فيه من النواهي‪ ،‬ارتفع قدركم‪ ،‬وعظم‬
‫ون } ما ينفعكم وما يضركم؟ كيف ال ترضون وال تعملون على ما فيه ذكركم‬ ‫ِ‬
‫أمركم‪ { ،‬أَفَال تَ ْعقلُ َ‬
‫وشرفكم في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فلو كان لكم عقل‪ ،‬لسلكتم هذا [ ص ‪ ] 520‬السبيل‪ ،‬فلما لم تسلكوه‪،‬‬
‫وسلكتم غيره من الطرق‪ ،‬التي فيها ضعتكم وخستكم في الدنيا واآلخرة وشقاوتكم فيهما‪ ،‬علم أنه‬
‫ليس لكم معقول صحيح‪ ،‬وال رأي رجيح‪.‬‬
‫وهذه اآلية‪ ،‬مصداقها ما وقع‪ ،‬فإن المؤمنين بالرسول‪ ،‬الذين تذكروا بالقرآن‪ ،‬من الصحابة‪ ،‬فمن‬
‫بعدهم‪ ،‬حصل لهم من الرفعة والعلو الباهر‪ ،‬والصيت العظيم‪ ،‬والشرف على الملوك‪ ،‬ما هو أمر‬
‫معلوم لكل أحد‪ ،‬كما أنه معلوم ما حصل‪ ،‬لمن لم يرفع بهذا القرآن رأسا‪ ،‬ولم يهتد به ويتزك به‪،‬‬
‫من المقت والضعة‪ ،‬والتدسية‪ ،‬والشقاوة‪ ،‬فال سبيل إلى سعادة الدنيا واآلخرة إال بالتذكر بهذا‬
‫الكتاب‪.‬‬

‫( ‪)1/519‬‬

‫ْسَنا ِإ َذا ُه ْم ِم ْنهَا‬


‫َحسُّوا َبأ َ‬‫ين (‪َ )11‬فلَ َّما أ َ‬ ‫َخ ِر َ‬ ‫ظ ِال َمةً َوأ َْن َشأَْنا َب ْع َد َها قَ ْو ًما آ َ‬
‫ت َ‬‫ص ْمَنا ِم ْن قَ ْرَي ٍة َك َان ْ‬
‫َو َك ْم قَ َ‬
‫َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬
‫ون (‪ )13‬قَالُوا َيا‬ ‫ضوا َو ْار ِج ُعوا ِإلَى َما أُتْ ِر ْفتُ ْم فيه َو َم َساكن ُك ْم لَ َعل ُك ْم تُ ْسأَلُ َ‬ ‫ون (‪ )12‬اَل تَْر ُك ُ‬ ‫ض َ‬ ‫َي ْر ُك ُ‬
‫ص ً ِِ‬ ‫اهم ح ِ‬ ‫ت تِْل َ‬ ‫وْيلََنا ِإَّنا ُكَّنا َ ِ ِ‬
‫ين (‪)15‬‬ ‫يدا َخامد َ‬ ‫اه ْم َحتَّى َج َعْلَن ُ ْ َ‬ ‫ك َد ْع َو ُ‬ ‫ين (‪ )14‬فَ َما َزالَ ْ‬ ‫ظالم َ‬ ‫َ‬

‫َحسُّوا‬ ‫ين * َفلَ َّما أ َ‬ ‫ظ ِال َمةً َوأ َْن َشأَْنا َب ْع َد َها قَ ْو ًما َ‬
‫آخ ِر َ‬ ‫ص ْمَنا ِم ْن قَ ْرَي ٍة َك َان ْ‬
‫ت َ‬ ‫{ ‪َ { } 15 - 11‬و َك ْم قَ َ‬
‫َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ضوا َو ْار ِج ُعوا ِإلَى َما أُتْ ِر ْفتُ ْم فيه َو َم َساكن ُك ْم لَ َعل ُك ْم تُ ْسأَلُ َ‬
‫ون *‬ ‫ون * ال تَْر ُك ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ْسَنا ِإ َذا ُه ْم م ْنهَا َي ْر ُك ُ‬
‫َبأ َ‬
‫ص ً ِِ‬ ‫اهم ح ِ‬ ‫ت تِْل َ‬ ‫قَالُوا يا وْيلََنا ِإَّنا ُكَّنا َ ِ ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫يدا َخامد َ‬ ‫اه ْم َحتَّى َج َعْلَن ُ ْ َ‬ ‫ك َد ْع َو ُ‬ ‫ين * فَ َما َزالَ ْ‬ ‫ظالم َ‬ ‫َ َ‬
‫يقول تعالى ‪ -‬محذرا لهؤالء الظالمين‪ ،‬المكذبين للرسول‪ ،‬بما فعل باألمم المكذبة لغيره من‬
‫ص ْمَنا } أي‪ :‬أهلكنا بعذاب مستأصل { ِم ْن قَ ْرَي ٍة } تلفت عن آخرها { َوأ َْن َشأَْنا‬ ‫الرسل ‪َ { -‬و َك ْم قَ َ‬
‫ين } وأن هؤالء المهلكين‪ ،‬لما أحسوا بعذاب اهلل وعقابه‪ ،‬وباشرهم نزوله‪ ،‬لم‬ ‫آخ ِر َ‬‫َب ْع َد َها قَ ْو ًما َ‬
‫يمكن لهم الرجوع وال طريق لهم إلى النزوع وإ نما ضربوا األرض بأرجلهم‪ ،‬ندما وقلقا‪ ،‬وتحسرا‬
‫ضوا َو ْار ِج ُعوا ِإلَى َما‬
‫على ما فعلوا وهروبا من وقوعه‪ ،‬فقيل لهم على وجه التهكم بهم‪ { :‬ال تَْر ُك ُ‬
‫َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬
‫ون } أي‪ :‬ال يفيدكم الركوض والندم‪ ،‬ولكن إن كان لكم اقتدار‪،‬‬ ‫أُتْ ِر ْفتُ ْم فيه َو َم َساكن ُك ْم لَ َعل ُك ْم تُ ْسأَلُ َ‬
‫فارجعوا إلى ما أترفتم فيه‪ ،‬من اللذات‪ ،‬والمشتهيات‪ ،‬ومساكنكم المزخرفات‪ ،‬ودنياكم التي غرتكم‬
‫وألهتكم‪ ،‬حتى جاءكم أمر اهلل‪ .‬فكونوا فيها متمكنين‪ ،‬وللذاتها جانين‪ ،‬وفي منازلكم مطمئنين‬
‫معظمين‪ ،‬لعلكم أن تكونوا مقصودين في أموركم‪ ،‬كما كنتم سابقا‪ ،‬مسئولين من مطالب الدنيا‪،‬‬
‫كحالتكم األولى‪ ،‬وهيهات‪ ،‬أين الوصول إلى هذا؟ وقد فات الوقت‪ ،‬وحل بهم العقاب والمقت‪،‬‬
‫وذهب عنهم عزهم‪ ،‬وشرفهم ودنياهم‪ ،‬وحضرهم ندمهم وتحسرهم؟‪.‬‬
‫اه ْم }‬ ‫ت تِْل َ‬
‫ك َد ْع َو ُ‬ ‫ين * فَ َما َزالَ ْ‬ ‫ولهذا { قَالُوا يا وْيلََنا ِإَّنا ُكَّنا َ ِ ِ‬
‫ظالم َ‬ ‫َ َ‬
‫أي الدعاء بالويل والثبور والندم واإلقرار على أنفسهم بالظلم وأن اهلل عادل فيما أحل بهم { َحتَّى‬
‫ين } أي بمنزلة النبات الذي قد حصد وأنيم قد خمدت منهم الحركات‬ ‫ص ً ِِ‬ ‫اهم ح ِ‬
‫يدا َخامد َ‬ ‫َج َعْلَن ُ ْ َ‬
‫وسكنت منهم األصوات فاحذروا ‪ -‬أيها المخاطبون ‪ -‬أن تستمروا على تكذيب أشرف الرسل‬
‫فيحل بكم كما حل بأولئك‬

‫( ‪)1/520‬‬

‫َن َنتَّ ِخ َذ لَ ْه ًوا اَل تَّ َخ ْذَناهُ ِم ْن لَ ُدَّنا ِإ ْن ُكَّنا‬


‫ين (‪ )16‬لَ ْو أ ََر ْدَنا أ ْ‬ ‫ِ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما اَل عبِ َ‬
‫اء َواأْل َْر َ‬
‫َّم َ‬
‫َو َما َخلَ ْقَنا الس َ‬
‫ين (‪)17‬‬ ‫ِِ‬
‫فَاعل َ‬

‫العبِين * لَو أَر ْدَنا أ ْ ِ‬


‫{ ‪ { } 17 - 16‬وما َخلَ ْقَنا السَّماء واألرض وما ب ْيَنهما ِ‬
‫َن َنتَّخ َذ لَ ْه ًوا التَّ َخ ْذَناهُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ َ َ َُ‬ ‫ََ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫م ْن لَ ُدَّنا ِإ ْن ُكَّنا فَاعل َ‬
‫يخبر تعالى أنه ما خلق السماوات واألرض عبثا‪ ،‬وال لعبا من غير فائدة‪ ،‬بل خلقها بالحق وللحق‪،‬‬
‫ليستدل بها العباد على أنه الخالق العظيم‪ ،‬المدبر الحكيم‪ ،‬الرحمن الرحيم‪ ،‬الذي له الكمال كله‪،‬‬
‫والحمد كله‪ ،‬والعزة كلها‪ ،‬الصادق في قيله‪ ،‬الصادقة رسله‪ ،‬فيما تخبر عنه‪ ،‬وأن القادر على‬
‫خلقهما مع سعتهما وعظمهما‪ ،‬قادر على إعادة األجساد بعد موتها‪ ،‬ليجازي المحسن بإحسانه‪،‬‬
‫والمسيء بإساءته‪.‬‬
‫َن َنتَّ ِخ َذ لَ ْه ًوا } على الفرض والتقدير المحال { التَّ َخ ْذَناهُ ِم ْن لَ ُدَّنا } أي‪ :‬من عندنا { ِإ ْن‬
‫{ لَ ْو أ ََر ْدَنا أ ْ‬
‫ِِ‬
‫ين } ولم نطلعكم على ما فيه عبث ولهو‪ ،‬ألن ذلك نقص ومثل سوء‪ ،‬ال نحب أن نريه‬ ‫ُكَّنا فَاعل َ‬
‫إياكم‪ ،‬فالسماوات واألرض اللذان بمرأى منكم على الدوام‪ ،‬ال يمكن أن يكون القصد منهما العبث‬
‫واللهو‪ ،‬كل هذا تنزل مع العقول الصغيرة وإ قناعها بجميع الوجوه المقنعة‪ ،‬فسبحان الحليم الرحيم‪،‬‬
‫الحكيم في تنزيله األشياء منازلها‪.‬‬

‫( ‪)1/520‬‬
‫ون (‪َ )18‬ولَهُ َم ْن ِفي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ق َولَ ُك ُم اْل َوْي ُل م َّما تَصفُ َ‬
‫اط ِل فَي ْدم ُغه فَِإ َذا ُهو َز ِ‬
‫اه ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫ق علَى اْلب ِ‬
‫َ‬ ‫ف بِاْل َح ِّ َ‬‫َب ْل َن ْق ِذ ُ‬
‫ون اللَّْي َل‬
‫ِّح َ‬
‫ون (‪ُ )19‬ي َسب ُ‬
‫ِ‬ ‫ض وم ْن ِع ْن َده اَل يستَ ْكبِرون ع ْن ِعب َ ِ ِ‬
‫ادته َواَل َي ْستَ ْحس ُر َ‬ ‫ُ َْ ُ َ َ َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َواأْل َْر ِ َ َ‬ ‫الس َ‬
‫ون (‪)20‬‬ ‫النهَ َار اَل َي ْفتُُر َ‬‫َو َّ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اط ِل فَي ْدم ُغه فَِإ َذا ُهو َز ِ‬


‫ق علَى اْلب ِ‬ ‫{ ‪َ { } 20 - 18‬ب ْل َن ْق ِذ ُ‬
‫ون *‬
‫ق َولَ ُك ُم اْل َوْي ُل م َّما تَصفُ َ‬
‫اه ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ف بِاْل َح ِّ َ‬
‫ِ‬ ‫ض وم ْن ِع ْن َده ال يستَ ْكبِرون ع ْن ِعب َ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون‬
‫ِّح َ‬
‫ون * ُي َسب ُ‬‫ادته َوال َي ْستَ ْحس ُر َ‬ ‫ُ َْ ُ َ َ َ‬ ‫األر ِ َ َ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫َولَهُ َم ْن في الس َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫اللَّْي َل َو َّ‬
‫النهَ َار ال َي ْفتُُر َ‬
‫يخبر تعالى‪ ،‬أنه تكفل بإحقاق الحق وإ بطال الباطل‪ ،‬وإ ن كل باطل قيل وجودل به‪ ،‬فإن اهلل ينزل‬
‫ق } أي‪:‬‬ ‫من الحق والعلم والبيان‪ ،‬ما يدمغه‪ ،‬فيضمحل‪ ،‬ويتبين لكل أحد بطالنه { فَِإ َذا ُهو َز ِ‬
‫اه ٌ‬ ‫َ‬
‫فان‪ ،‬وهذا عام في جميع المسائل الدينية‪ ،‬ال يورد مبطل‪ ،‬شبهة‪ ،‬عقلية وال نقلية‪ ،‬في‬ ‫مضمحل‪ٍ ،‬‬
‫إحقاق باطل‪ ،‬أو رد حق‪ ،‬إال وفي أدلة اهلل‪ ،‬من القواطع العقلية والنقلية‪ ،‬ما يذهب ذلك القول‬
‫الباطل ويقمعه فإذا هو متبين بطالنه لكل أحد‪.‬‬
‫وهذا يتبين باستقراء المسائل‪ ،‬مسألة مسألة‪ ،‬فإنك تجدها كذلك‪ ،‬ثم قال‪َ { :‬ولَ ُك ْم } أيها الواصفون‬
‫اهلل‪ ،‬بما ال يليق به‪ ،‬من اتخاذ الولد والصاحبة‪ ،‬ومن األنداد والشركاء‪ ،‬حظكم من ذلك‪ ،‬ونصيبكم‬
‫الذي تدركون به { اْل َوْي ُل } والندامة والخسران‪.‬‬
‫ليس لكم مما قلتم فائدة‪ ،‬وال يرجع عليكم بعائدة تؤملونها‪ ،‬وتعملون ألجلها‪ ،‬وتسعون في الوصول‬
‫إليها‪ ،‬إال عكس مقصودكم‪ ،‬وهو الخيبة والحرمان‪ ،‬ثم أخبر أنه له ملك السماوات واألرض وما‬
‫بينهما‪ ،‬فالكل عبيده ومماليكه‪ ،‬فليس ألحد منهم ملك وال قسط من الملك‪ ،‬وال معاونة عليه‪ ،‬وال‬
‫يشفع إال بإذن اهلل‪ ،‬فكيف يتخذ من هؤالء آلهة وكيف يجعل هلل منها ولد؟! فتعالى وتقدس‪ ،‬المالك‬
‫العظيم‪ ،‬الذي خضعت له الرقاب‪ ،‬وذلت له الصعاب‪ ،‬وخشعت له المالئكة المقربون‪ ،‬وأذعنوا له‬
‫ِ‬
‫بالعبادة الدائمة المستمرة أجمعون‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬و َم ْن ع ْن َدهُ } أي من المالئكة { ال َي ْستَ ْكبِ ُر َ‬
‫ون َع ْن‬
‫ون } أي‪ :‬ال يملون وال يسأمونها‪ ،‬لشدة رغبتهم‪ ،‬وكمال محبتهم‪ ،‬وقوة [ ص‬ ‫ِ‬ ‫ِعب َ ِ ِ‬
‫ادته َوال َي ْستَ ْحس ُر َ‬ ‫َ‬
‫‪ ] 521‬أبدانهم‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬مستغرقين في العبادة والتسبيح في جميع أوقاتهم فليس‬ ‫ون اللَّْي َل َو َّ‬
‫النهَ َار ال َي ْفتُُر َ‬ ‫ِّح َ‬
‫{ ُي َسب ُ‬
‫في أوقاتهم وقت فارغ وال خال منها وهم على كثرتهم بهذه الصفة‪ ،‬وفي هذا من بيان عظمته‬
‫وجاللة سلطانه وكمال علمه وحكمته‪ ،‬ما يوجب أن ال يعبد إال هو‪ ،‬وال تصرف العبادة لغيره‪.‬‬

‫( ‪)1/520‬‬
‫ان اللَّ ِه َر ِّ‬
‫ب‬ ‫ِ اَّل َّ‬
‫ان في ِه َما آَلهَةٌ ِإ اللهُ لَفَ َس َدتَا فَ ُس ْب َح َ‬
‫ض ُهم ي ْن ِشرون (‪ )21‬لَو َك ِ‬
‫ْ َ‬
‫ِ ِ‬
‫أَم اتَّ َخ ُذوا آَلهَةً م َن اأْل َْر ِ ْ ُ ُ َ‬
‫ِ‬
‫ون (‪ )23‬أَِم اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُدونِ ِه آَِلهَةً ُق ْل‬ ‫ون (‪ )22‬اَل ُي ْسأَ ُل َع َّما َي ْف َع ُل َو ُه ْم ُي ْسأَلُ َ‬
‫ِ‬
‫ش َع َّما َيصفُ َ‬ ‫اْل َع ْر ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)24‬‬ ‫ض َ‬ ‫ق فَهُ ْم ُم ْع ِر ُ‬ ‫َهاتُوا ُب ْر َه َان ُك ْم َه َذا ذ ْك ُر َم ْن َمع َي َو ِذ ْك ُر َم ْن قَْبلي َب ْل أَ ْكثَُر ُه ْم اَل َي ْعلَ ُم َ‬
‫ون اْل َح َّ‬

‫ان ِفي ِه َما ِآلهَةٌ ِإال اللَّهُ لَفَ َس َدتَا‬


‫ون * لَ ْو َك َ‬
‫ِ‬
‫ض ُه ْم ُي ْنش ُر َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪ { } 25 - 21‬أَم اتَّ َخ ُذوا آلهَةً م َن ْ‬
‫األر ِ‬
‫ون * أَِم اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُدونِ ِه‬ ‫ون * ال ُي ْسأَ ُل َع َّما َي ْف َع ُل َو ُه ْم ُي ْسأَلُ َ‬
‫ِ‬
‫ش َع َّما َيصفُ َ‬ ‫ب اْل َع ْر ِ‬ ‫ان اللَّ ِه َر ِّ‬
‫فَ ُس ْب َح َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ق فَهُ ْم‬ ‫آلهَةً ُق ْل َهاتُوا ُب ْر َه َان ُك ْم َه َذا ذ ْك ُر َم ْن َمع َي َو ِذ ْك ُر َم ْن قَْبلي َب ْل أَ ْكثَُر ُه ْم ال َي ْعلَ ُم َ‬
‫ون اْل َح َّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ض َ‬ ‫ُم ْع ِر ُ‬
‫لما بيَّن تعالى كمال اقتداره وعظمته‪ ،‬وخضوع كل شيء له‪ ،‬أنكر على المشركين الذين اتخذوا‬
‫ون } استفهام بمعنى النفي‪،‬‬ ‫ِ‬
‫من دون اهلل آلهة من األرض‪ ،‬في غاية العجز وعدم القدرة { ُه ْم ُي ْنش ُر َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫أي‪ :‬ال يقدرون على نشرهم وحشرهم‪ ،‬يفسرها قوله تعالى‪َ { :‬واتَّ َخ ُذوا م ْن ُدونِه آلهَةً ال َي ْخلُقُ َ‬
‫ون‬
‫ِ‬ ‫َش ْيًئا و ُهم ي ْخلَقُون وال يمِل ُكون ْ ِ‬
‫ورا }‬ ‫ون َم ْوتًا َوال َحَياةً َوال ُن ُش ً‬ ‫ألنفُس ِه ْم َ‬
‫ض ًّرا َوال َن ْف ًعا َوال َي ْمل ُك َ‬ ‫َ َ َْ َ‬ ‫َ ُْ‬
‫ون }‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫{ واتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ َّ ِ ِ‬
‫ض ُر َ‬ ‫ص َر ُه ْم َو ُه ْم لَهُ ْم ُج ْن ٌد ُم ْح َ‬
‫ون َن ْ‬‫يع َ‬‫ون‪ .‬ال َي ْستَط ُ‬ ‫ص ُر َ‬ ‫ون الله آلهَةً لَ َعلهُ ْم ُي ْن َ‬ ‫َ‬
‫فالمشرك يعبد المخلوق‪ ،‬الذي ال ينفع وال يضر‪ ،‬ويدع اإلخالص هلل‪ ،‬الذي له الكمال كله وبيده‬
‫األمر والنفع والضر‪ ،‬وهذا من عدم توفيقه‪ ،‬وسوء حظه‪ ،‬وتوفر جهله‪ ،‬وشدة ظلمه‪ ،‬فإنه ال يصلح‬
‫الوجود‪ ،‬إال على إله واحد‪ ،‬كما أنه لم يوجد‪ ،‬إال برب واحد‪.‬‬
‫ان ِفي ِه َما } أي‪ :‬في السماوات واألرض { ِآلهَةٌ ِإال اللَّهُ لَفَ َس َدتَا } في ذاتهما‪،‬‬
‫ولهذا قال‪ { :‬لَ ْو َك َ‬
‫وفسد من فيهما من المخلوقات‪.‬‬
‫وبيان ذلك‪ :‬أن العالم العلوي والسفلي‪ ،‬على ما يرى‪ ،‬في أكمل ما يكون من الصالح واالنتظام‪،‬‬
‫الذي ما فيه خلل وال عيب‪ ،‬وال ممانعة‪ ،‬وال معارضة‪ ،‬فدل ذلك‪ ،‬على أن مدبره واحد‪ ،‬وربه‬
‫واحد‪ ،‬وإ لهه واحد‪ ،‬فلو كان له مدبران وربان أو أكثر من ذلك‪ ،‬الختل نظامه‪ ،‬وتقوضت أركانه‬
‫فإنهما يتمانعان ويتعارضان‪ ،‬وإ ذا أراد أحدهما تدبير شيء‪ ،‬وأراد اآلخر عدمه‪ ،‬فإنه محال وجود‬
‫مرادهما معا‪ ،‬ووجود مراد أحدهما دون اآلخر‪ ،‬يدل على عجز اآلخر‪ ،‬وعدم اقتداره واتفاقهما‬
‫على مراد واحد في جميع األمور‪ ،‬غير ممكن‪ ،‬فإ ًذا يتعين أن القاهر الذي يوجد مراده وحده‪ ،‬من‬
‫َّ‬
‫غير ممانع وال مدافع‪ ،‬هو اهلل الواحد القهار‪ ،‬ولهذا ذكر اهلل دليل التمانع في قوله‪َ { :‬ما اتَّ َخ َذ اللهُ‬
‫ان اللَّ ِه َع َّما‬ ‫ضهُ ْم َعلَى َب ْع ٍ‬
‫ض ُس ْب َح َ‬ ‫ق َولَ َعال َب ْع ُ‬‫ب ُك ُّل ِإلَ ٍه بِ َما َخلَ َ‬ ‫ِ ٍ‬
‫ان َم َعهُ م ْن ِإلَه ِإ ًذا لَ َذ َه َ‬
‫ٍ‬
‫م ْن َولَد َو َما َك َ‬
‫ِ‬
‫ون }‬ ‫ِ‬
‫َيصفُ َ‬
‫البتَ َغ ْوا ِإلَى ِذي‬ ‫ون ِإ ًذا ْ‬ ‫ِ‬
‫ان َم َعهُ آلهَةٌ َك َما َيقُولُ َ‬‫ومنه ‪ -‬على أحد التأويلين ‪ -‬قوله تعالى‪ُ { :‬ق ْل لَ ْو َك َ‬
‫ان اللَّ ِه } أي‪:‬‬ ‫ون ُعلًُّوا َكبِ ًيرا } ولهذا قال هنا‪ { :‬فَ ُس ْب َح َ‬ ‫ش َسبِيال * ُس ْب َح َانهُ َوتَ َعالَى َع َّما َيقُولُ َ‬ ‫اْل َع ْر ِ‬
‫ش } الذي هو سقف المخلوقات وأوسعها‪،‬‬ ‫ب اْل َع ْر ِ‬‫تنزه وتقدس عن كل نقص لكماله وحده‪َ { ،‬ر ُّ‬
‫ون } أي‪ :‬الجاحدون الكافرون‪ ،‬من‬ ‫ِ‬
‫وأعظمها‪ ،‬فربوبية (‪ )1‬ما دونه من باب أولى‪َ { ،‬ع َّما َيصفُ َ‬
‫اتخاذ الولد والصاحبة‪ ،‬وأن يكون له شريك بوجه من الوجوه‪.‬‬
‫{ ال ُي ْسأَ ُل َع َّما َي ْف َع ُل } لعظمته وعزته‪ ،‬وكمال قدرته‪ ،‬ال يقدر أحد أن يمانعه أو يعارضه‪ ،‬ال‬
‫بقول‪ ،‬وال بفعل‪ ،‬ولكمال حكمته ووضعه األشياء مواضعها‪ ،‬وإ تقانها‪ ،‬أحسن كل شيء يقدره‬
‫العقل‪ ،‬فال يتوجه إليه سؤال‪ ،‬ألن خلقه ليس فيه خلل وال إخالل‪.‬‬
‫ون } عن أفعالهم وأقوالهم‪ ،‬لعجزهم وفقرهم‪ ،‬ولكونهم عبيدا‪،‬‬
‫{ َو ُه ْم } أي‪ :‬المخلوقين كلهم { ُي ْسأَلُ َ‬
‫قد استحقت أفعالهم وحركاتهم فليس لهم من التصرف والتدبير في أنفسهم‪ ،‬وال في غيرهم‪ ،‬مثقال‬
‫ذرة‪.‬‬
‫ثم رجع إلى تهجين حال المشركين‪ ،‬وأنهم اتخذوا من دونه آلهة فقل لهم موبخا ومقرعا‪ { :‬أَِم‬
‫اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُدونِ ِه ِآلهَةً ُق ْل َهاتُوا ُب ْر َه َان ُك ْم } أي‪ :‬حجتكم ودليلكم على صحة ما ذهبتم إليه‪ ،‬ولن‬
‫يجدوا لذلك سبيال بل قد قامت األدلة القطعية على بطالنه‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ه َذا ِذ ْك ُر َم ْن َم ِع َي َو ِذ ْك ُر‬
‫َم ْن قَْبِلي } أي‪ :‬قد اتفقت الكتب والشرائع على صحة ما قلت لكم‪ ،‬من إبطال الشرك‪ ،‬فهذا كتاب‬
‫اهلل الذي فيه ذكر كل شيء‪ ،‬بأدلته العقلية والنقلية‪ ،‬وهذه الكتب السابقة كلها‪ ،‬براهين وأدلة لما‬
‫قلت‪.‬‬
‫ولما علم أنهم قامت عليهم الحجة والبرهان على بطالن ما ذهبوا إليه‪ ،‬علم أنه ال برهان لهم‪ ،‬ألن‬
‫البرهان القاطع‪ ،‬يجزم أنه ال معارض له‪ ،‬وإ ال لم يكن قطعيا‪ ،‬وإ ن وجد في معارضات‪ ،‬فإنها شبه‬
‫ال تغني من الحق شيئا‪.‬‬
‫ون اْل َح َّ‬
‫ق } أي‪ :‬وإ نما أقاموا على ما هم عليه‪ ،‬تقليدا ألسالفهم‬ ‫وقوله‪َ { :‬ب ْل أَ ْكثَُر ُه ْم ال َي ْعلَ ُم َ‬
‫يجادلون بغير علم وال هدى‪ ،‬وليس عدم علمهم بالحق لخفائه وغموضه‪ ،‬وإ نما ذلك‪ ،‬إلعراضهم‬
‫عنه‪ ،‬وإ ال فلو التفتوا إليه أدنى التفات‪ ،‬لتبين لهم الحق من الباطل تبينا واضحا جليا ولهذا قال‪:‬‬
‫ون }‬
‫ض َ‬‫{ فَهُ ْم ُم ْع ِر ُ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين‪ :‬فربوبيته‪.‬‬

‫( ‪)1/521‬‬

‫وحي ِإلَْي ِه أََّنهُ اَل ِإلَهَ ِإاَّل أََنا فَ ْ‬


‫اعُب ُد ِ‬
‫ون (‪)25‬‬ ‫ول ِإاَّل ُن ِ‬
‫ك ِم ْن رس ٍ‬
‫َ ُ‬ ‫َو َما أ َْر َسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ‬

‫وحي ِإلَْي ِه أََّنهُ ال ِإلَهَ ِإال أََنا فَ ْ‬


‫اعُب ُد ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ول ِإال ُن ِ‬
‫ك ِم ْن رس ٍ‬
‫َ ُ‬ ‫{ َو َما أ َْر َسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ‬
‫( ‪)1/521‬‬

‫ونهُ بِاْلقَ ْو ِل َو ُه ْم بِأ َْم ِر ِه َي ْع َملُ َ‬


‫ون (‬ ‫ون (‪ )26‬اَل َي ْسبِقُ َ‬ ‫اد ُم ْك َر ُم َ‬ ‫الر ْح َم ُن َولَ ًدا ُس ْب َح َانهُ َب ْل ِعَب ٌ‬‫َوقَالُوا اتَّ َخ َذ َّ‬
‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)28‬‬ ‫ضى َو ُه ْم م ْن َخ ْشَيته ُم ْشفقُ َ‬ ‫ون ِإاَّل ل َم ِن ْارتَ َ‬ ‫‪َ )27‬ي ْعلَ ُم َما َب ْي َن أ َْيدي ِه ْم َو َما َخْلفَهُ ْم َواَل َي ْشفَ ُع َ‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫يه َجهََّن َم َك َذِل َ‬
‫ك َن ْج ِز ِ‬ ‫َو َم ْن َي ُق ْل ِم ْنهُ ْم ِإِّني ِإلَهٌ ِم ْن ُدونِ ِه فَ َذِل َ‬
‫ين (‪)29‬‬ ‫ك َن ْج ِزي الظالم َ‬

‫ولما حول تعالى على ذكر المتقدمين‪ ،‬وأمر بالرجوع إليهم في بيان هذه المسألة‪ ،‬بيَّنها أتم تبيين‬
‫ون } فكل الرسل‬ ‫وحي ِإلَْي ِه أََّنهُ ال ِإلَهَ ِإال أََنا فَ ْ‬
‫اعُب ُد ِ‬ ‫ول ِإال ُن ِ‬
‫ك ِم ْن رس ٍ‬
‫َ ُ‬ ‫في قوله‪َ { :‬و َما أ َْر َسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ‬
‫الذين من قبلك مع كتبهم‪ ،‬زبدة رسالتهم وأصلها‪ ،‬األمر بعبادة اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وبيان أنه‬
‫اإلله الحق المعبود‪ ،‬وأن عبادة ما سواه باطلة‪.‬‬
‫[ ص ‪] 522‬‬
‫ونهُ بِاْلقَ ْو ِل َو ُه ْم‬
‫ون * ال َي ْسبِقُ َ‬ ‫اد ُم ْك َر ُم َ‬ ‫الر ْح َم ُن َولَ ًدا ُس ْب َح َانهُ َب ْل ِعَب ٌ‬
‫{ ‪َ { } 29 - 26‬وقَالُوا اتَّ َخ َذ َّ‬
‫ضى َو ُه ْم ِم ْن َخ ْشَيتِ ِه‬ ‫ِ‬
‫ون ِإال ل َم ِن ْارتَ َ‬
‫ِ‬
‫ون * َي ْعلَ ُم َما َب ْي َن أ َْيدي ِه ْم َو َما َخْلفَهُ ْم َوال َي ْشفَ ُع َ‬ ‫بِأ َْم ِر ِه َي ْع َملُ َ‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫يه َجهََّن َم َك َذِل َ‬‫ك َن ْج ِز ِ‬ ‫ون * َو َم ْن َي ُق ْل ِم ْنهُ ْم ِإِّني ِإلَهٌ ِم ْن ُدونِ ِه فَ َذِل َ‬ ‫ِ‬
‫ين } ‪.‬‬‫ك َن ْج ِزي الظالم َ‬ ‫ُم ْشفقُ َ‬
‫يخبر تعالى عن سفاهة المشركين المكذبين للرسول‪ ،‬وأنهم زعموا ‪ -‬قبحهم اهلل ‪ -‬أن اهلل اتخذ‬
‫ولدا فقالوا‪ :‬المالئكة بنات اهلل‪ ،‬تعالى اهلل عن قولهم‪ ،‬وأخبر عن وصف المالئكة‪ ،‬بأنهم (‪ )1‬عبيد‬
‫مربوبون مدبرون‪ ،‬ليس لهم من األمر شيء‪ ،‬وإ نما هم مكرمون عند اهلل‪ ،‬قد أكرمهم اهلل‪،‬‬
‫وصيرهم من عبيد كرامته ورحمته‪ ،‬وذلك لما خصهم به من الفضائل والتطهير عن الرذائل‪،‬‬
‫وأنهم في غاية األدب مع اهلل‪ ،‬واالمتثال ألوامره‪.‬‬
‫ونهُ بِاْلقَ ْو ِل } أي‪ :‬ال يقولون قوال مما يتعلق بتدبير المملكة‪ ،‬حتى يقول اهلل‪ ،‬لكمال‬
‫فـ { ال َي ْسبِقُ َ‬
‫أدبهم‪ ،‬وعلمهم بكمال حكمته وعلمه‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬مهما أمرهم‪ ،‬امتثلوا ألمره‪ ،‬ومهما دبرهم عليه‪ ،‬فعلوه‪ ،‬فال يعصونه‬ ‫{ َو ُه ْم بِأ َْم ِر ِه َي ْع َملُ َ‬
‫طرفة عين‪ ،‬وال يكون لهم عمل بأهواء أنفسهم من دون أمر اهلل‪ ،‬ومع هذا‪ ،‬فاهلل قد أحاط بهم‬
‫علمه‪ ،‬فعلم { َما َب ْي َن أ َْي ِدي ِه ْم َو َما َخْلفَهُ ْم } أي‪ :‬أمورهم الماضية والمستقبلة‪ ،‬فال خروج لهم عن‬
‫علمه‪ ،‬كما ال خروج لهم عن أمره وتدبيره‪.‬‬
‫ومن جزئيات وصفهم‪ ،‬بأنهم ال يسبقونه بالقول‪ ،‬أنهم ال يشفعون ألحد بدون إذنه ورضاه‪ ،‬فإذا أذن‬
‫لهم‪ ،‬وارتضى من يشفعون فيه‪ ،‬شفعوا فيه‪ ،‬ولكنه تعالى ال يرضى من القول والعمل‪ ،‬إال ما كان‬
‫خالصا لوجهه‪ ،‬متبعا فيه الرسول‪ ،‬وهذه اآلية من أدلة إثبات الشفاعة‪ ،‬وأن المالئكة يشفعون‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬خائفون وجلون‪ ،‬قد خضعوا لجالله‪ ،‬وعنت وجوههم لعزه‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َو ُه ْم م ْن َخ ْشَيته ُم ْشفقُ َ‬
‫وجماله‪.‬‬
‫فلما بين أنه ال حق لهم في األلوهية‪ ،‬وال يستحقون شيئا من العبودية بما وصفهم به من الصفات‬
‫المقتضية لذلك‪ ،‬ذكر أيضا أنه ال حظ لهم‪ ،‬وال بمجرد الدعوى‪ ،‬وأن من قال منهم‪ِ { :‬إِّني ِإلَهٌ ِم ْن‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫يه َجهََّن َم َك َذِل َ‬
‫ك َن ْج ِز ِ‬
‫ُدونِ ِه } على سبيل الفرض والتنزل { فَ َذِل َ‬
‫ك َن ْج ِزي الظالم َ‬
‫ين } وأي ظلم أعظم‬
‫من ادعاء المخلوق الناقص‪ ،‬الفقير إلى اهلل من جميع الوجوه مشاركة اهلل في خصائص اإللهية‬
‫والربوبية؟"‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين‪ :‬بأنه‪.‬‬

‫( ‪)1/521‬‬

‫اء ُك َّل َش ْي ٍء َح ٍّي‬


‫اهما وجعْلَنا ِمن اْلم ِ‬
‫َ َ‬ ‫ض َك َانتَا َرتْقًا فَفَتَ ْقَن ُ َ َ َ َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َواأْل َْر َ‬ ‫ين َكفَ ُروا أ َّ‬
‫َن الس َ‬
‫َِّ‬
‫أ ََولَ ْم َي َر الذ َ‬
‫ون (‪)30‬‬ ‫أَفَاَل ُي ْؤ ِمُن َ‬

‫اهما وجعْلَنا ِمن اْلم ِ‬


‫اء ُك َّل‬ ‫ِ‬ ‫ين َكفَ ُروا أ َّ‬ ‫َِّ‬
‫َ َ‬ ‫ض َك َانتَا َرتْقًا فَفَتَ ْقَن ُ َ َ َ َ‬
‫األر َ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫َن الس َ‬ ‫{ ‪ { } 30‬أ ََولَ ْم َي َر الذ َ‬
‫ٍ‬
‫ون } ‪.‬‬‫َش ْيء َح ٍّي أَفَال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫أي‪ :‬أولم ينظر هؤالء الذين كفروا بربهم‪ ،‬وجحدوا اإلخالص له في العبودية‪ ،‬ما يدلهم داللة‬
‫مشاهدة‪ ،‬على أنه الرب المحمود الكريم المعبود‪ ،‬فيشاهدون السماء واألرض فيجدونهما رتقا‪،‬‬
‫هذه ليس فيها سحاب وال مطر‪ ،‬وهذه هامدة ميتة‪ ،‬ال نبات فيها‪ ،‬ففتقناهما‪ :‬السماء بالمطر‪،‬‬
‫واألرض بالنبات‪ ،‬أليس الذي أوجد في السماء السحاب‪ ،‬بعد أن كان الجو صافيا ال قزعة فيه‪،‬‬
‫وأودع فيه الماء الغزير‪ ،‬ثم ساقه إلى بلد ميت; قد اغبرت أرجاؤه‪ ،‬وقحط عنه ماؤه‪ ،‬فأمطره‬
‫فيها‪ ،‬فاهتزت‪ ،‬وتحركت‪ ،‬وربت‪ ،‬وأنبتت من كل زوج بهيج‪ ،‬مختلف األنواع‪ ،‬متعدد المنافع‪،‬‬
‫[أليس ذلك] (‪ )1‬دليال على أنه الحق‪ ،‬وما سواه باطل‪ ،‬وأنه محيي الموتى‪ ،‬وأنه الرحمن الرحيم؟‬
‫ولهذا قال‪ { :‬أَفَال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون } أي‪ :‬إيمانا صحيحا‪ ،‬ما فيه شك وال شرك‪ .‬ثم عدد تعالى األدلة‬
‫األفقية فقال‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫( ‪)1/522‬‬
‫َّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َن تَ ِم َ‬ ‫ض رو ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪َ )31‬و َج َعْلَنا‬ ‫يد بِ ِه ْم َو َج َعْلَنا فيهَا ف َج ً‬
‫اجا ُسُباًل لَ َعلهُ ْم َي ْهتَ ُد َ‬ ‫اس َي أ ْ‬ ‫ِ‬
‫َو َج َعْلَنا في اأْل َْر َ َ‬
‫النهار و َّ‬ ‫ظا و ُهم ع ْن آَياتِها مع ِرضون (‪ )32‬و ُهو الَِّذي َخلَ َ َّ‬
‫الش ْم َس‬ ‫ق اللْي َل َو َّ َ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫اء َس ْقفًا َم ْحفُو ً َ ْ َ َ َ ُ ْ ُ َ‬ ‫َّم َ‬‫الس َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)33‬‬ ‫َواْلقَ َم َر ُك ٌّل في َفلَك َي ْسَب ُح َ‬

‫َّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َن تَ ِم َ‬ ‫ض رو ِ‬ ‫{ ‪ { } 33 - 31‬و َج َعْلَنا ِفي ْ ِ‬


‫ون‬
‫اجا ُسُبال لَ َعلهُ ْم َي ْهتَ ُد َ‬‫يد بِ ِه ْم َو َج َعْلَنا فيهَا ف َج ً‬ ‫اس َي أ ْ‬ ‫األر َ َ‬ ‫َ‬
‫ق اللَّْي َل َو َّ‬
‫النهَ َار‬ ‫ون * َو ُه َو الَِّذي َخلَ َ‬ ‫ض َ‬
‫ِ‬
‫ظا َو ُه ْم َع ْن َآياتهَا ُم ْع ِر ُ‬
‫اء َس ْقفًا َم ْحفُو ً‬
‫َّم َ‬
‫* َو َج َعْلَنا الس َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫الش ْم َس َواْلقَ َم َر ُك ٌّل في َفلَك َي ْسَب ُح َ‬
‫و َّ‬
‫َ‬
‫‪ X‬أي‪ :‬ومن األدلة على قدرته وكماله ووحدانيته ورحمته‪ ،‬أنه لما كانت األرض ال تستقر إال‬
‫بالجبال‪ ،‬أرساها بها وأوتدها‪ ،‬لئال تميد بالعباد‪ ،‬أي‪ :‬لئال تضطرب‪ ،‬فال يتمكن العباد من السكون‬
‫فيها‪ ،‬وال حرثها‪ ،‬وال االستقرار بها‪ ،‬فأرساها بالجبال‪ ،‬فحصل بسبب ذلك‪ ،‬من المصالح والمنافع‪،‬‬
‫ما حصل‪ ،‬ولما كانت الجبال المتصل بعضها ببعض‪ ،‬قد تتصل اتصاال كثيرا جدا‪ ،‬فلو بقيت‬
‫بحالها‪ ،‬جباال شامخات‪ ،‬وقلال باذخات‪ ،‬لتعطل االتصال بين كثير من البلدان‪.‬‬
‫فمن حكمة اهلل ورحمته‪ ،‬أن جعل بين تلك الجبال فجاجا سبال أي‪ :‬طرقا سهلة ال حزنة‪ ،‬لعلهم‬
‫يهتدون إلى الوصول‪ ،‬إلى مطالبهم من البلدان‪ ،‬ولعلهم يهتدون باالستدالل بذلك على وحدانية‬
‫المنان‪.‬‬
‫ظا } من السقوط { ِإ َّن اللَّهَ ُي ْم ِس ُ‬
‫ك‬ ‫اء َس ْقفًا } لألرض التي أنتم عليها { َم ْحفُو ً‬
‫َّم َ‬
‫{ َو َج َعْلَنا الس َ‬
‫َن تَُزوال } محفوظا أيضا من استراق الشياطين للسمع‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ض أْ‬ ‫األر َ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫الس َ‬
‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬غافلون الهون‪ ،‬وهذا عام في جميع آيات السماء‪ ،‬من علوها‪،‬‬ ‫ض َ‬‫{ َو ُه ْم َع ْن َآياتهَا ُم ْع ِر ُ‬
‫وسعتها‪ [ ،‬ص ‪ ] 523‬وعظمتها‪ ،‬ولونها الحسن‪ ،‬وإ تقانها العجيب‪ ،‬وغير ذلك من المشاهد فيها‪،‬‬
‫من الكواكب الثوابت والسيارات‪ ،‬وشمسها‪ ،‬وقمرها النيرات‪ ،‬المتولد عنهما‪ ،‬الليل والنهار‪،‬‬
‫وكونهما دائما في فلكهما سابحين‪ ،‬وكذلك النجوم‪ ،‬فتقوم بسبب ذلك منافع العباد من الحر والبرد‪،‬‬
‫والفصول‪ ،‬ويعرفون حساب عباداتهم ومعامالتهم‪ ،‬ويستريحون في ليلهم‪ ،‬ويهدأون ويسكنون‬
‫وينتشرون في نهارهم‪ ،‬ويسعون في معايشهم‪ ،‬كل هذه األمور إذا تدبرها اللبيب‪ ،‬وأمعن فيها‬
‫النظر‪ ،‬جزم حزما ال شك فيه‪ ،‬أن اهلل جعلها مؤقتة في وقت معلوم‪ ،‬إلى أجل محتوم‪ ،‬يقضي العباد‬
‫منها مآربهم‪ ،‬وتقوم بها منافعهم‪ ،‬وليستمتعوا وينتفعوا‪ ،‬ثم بعد هذا‪ ،‬ستزول وتضمحل‪ ،‬ويفنيها‬
‫الذي أوجدها‪ ،‬ويسكنها الذي حركها‪ ،‬وينتقل المكلفون إلى دار غير هذه الدار‪ ،‬يجدون فيها جزاء‬
‫أعمالهم‪ ،‬كامال موفرا ويعلم أن المقصود من هذه الدار أن تكون مزرعة لدار القرار‪ ،‬وأنها منزل‬
‫سفر‪ ،‬ال محل إقامة‪.‬‬
‫( ‪)1/522‬‬

‫س َذائِقَةُ اْلمو ِت وَنْبلُو ُكم بِ َّ‬


‫الشِّر‬ ‫ون (‪ُ )34‬ك ُّل َن ْف ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ك اْل ُخْل َد أَفَِإ ْن ِم َّ‬
‫ت فَهُ ُم اْل َخال ُد َ‬ ‫َو َما َج َعْلَنا ِلَب َش ٍر ِم ْن قَْبِل َ‬
‫ْ‬ ‫َْ َ‬
‫ِ‬
‫ون (‪)35‬‬ ‫َواْل َخ ْي ِر فتَْنةً َوإِلَْيَنا تُْر َج ُع َ‬

‫س َذائِقَةُ اْل َم ْو ِت‬


‫ون * ُك ُّل َن ْف ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ك اْل ُخْل َد أَفَِإ ْن ِم َّ‬
‫ت فَهُ ُم اْل َخال ُد َ‬ ‫{ ‪َ { } 35 - 34‬و َما َج َعْلَنا ِلَب َش ٍر ِم ْن قَْبِل َ‬
‫ِ‬ ‫وَنْبلُو ُكم بِ َّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫الشِّر َواْل َخ ْي ِر فتَْنةً َوإِلَْيَنا تُْر َج ُع َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫لما كان أعداء الرسول يقولون (‪ )1‬تربصوا به ريب المنون‪ .‬قال اهلل تعالى‪ :‬هذا طريق مسلوك‪،‬‬
‫ومعبد منهوك‪ ،‬فلم نجعل لبشر { ِم ْن قَْبِل َ‬
‫ك } يا محمد { اْل ُخْل َد } في الدنيا‪ ،‬فإذا مت‪ ،‬فسبيل أمثالك‪،‬‬
‫من الرسل واألنبياء‪ ،‬واألولياء‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬فهل إذا مت خلدوا بعدك‪ ،‬فليهنهم الخلود إ ًذا إن كان‪ ،‬وليس األمر‬ ‫ِ‬ ‫{ أَفَِإ ْن ِم َّ‬
‫ت فَهُ ُم اْل َخال ُد َ‬
‫س َذائِقَةُ اْل َم ْو ِت } وهذا يشمل سائر نفوس‬
‫كذلك‪ ،‬بل كل من عليها فان‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬ك ُّل َن ْف ٍ‬
‫وعمر سنين‪ ،‬ولكن اهلل تعالى‬
‫الخالئق‪ ،‬وإ ن هذا كأس ال بد من شربه وإ ن طال بالعبد المدى‪ّ ،‬‬
‫أوجد عباده في الدنيا‪ ،‬وأمرهم‪ ،‬ونهاهم‪ ،‬وابتالهم بالخير والشر‪ ،‬بالغنى والفقر‪ ،‬والعز والذل‬
‫والحياة والموت‪ ،‬فتنة منه تعالى ليبلوهم أيهم أحسن عمال ومن يفتتن عند مواقع الفتن ومن ينجو‪،‬‬
‫الم ِلْل َعبِ ِيد }‬
‫ظ ٍ‬ ‫ُّك بِ َ‬
‫ون } فنجازيكم بأعمالكم‪ ،‬إن خيرا فخير‪ ،‬وإ ن شرا فشر { َو َما َرب َ‬
‫{ َوإِلَْيَنا تُْر َج ُع َ‬
‫وهذه اآلية‪ ،‬تدل على بطالن قول من يقول ببقاء الخضر‪ ،‬وأنه مخلد في الدنيا‪ ،‬فهو قول‪ ،‬ال دليل‬
‫عليه‪ ،‬ومناقض لألدلة الشرعية‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين‪ :‬يقولون قل تربصوا‪.‬‬

‫( ‪)1/523‬‬

‫ِ‬ ‫َه َذا الَِّذي َي ْذ ُك ُر آَِلهَتَ ُك ْم َو ُه ْم بِِذ ْك ِر َّ‬ ‫ين َكفَ ُروا ِإ ْن َيتَّ ِخ ُذ َ‬ ‫وإِ َذا رَآ َ َِّ‬
‫الر ْح َم ِن ُه ْم َكاف ُر َ‬
‫ون‬ ‫ك ِإاَّل ُه ُز ًوا أ َ‬
‫ون َ‬ ‫ك الذ َ‬ ‫َ َ‬
‫ون َمتَى َه َذا اْل َو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُ ْم‬ ‫ون (‪َ )37‬وَيقُولُ َ‬ ‫ان ِم ْن َع َج ٍل َسأ ُِري ُك ْم آََياتِي فَاَل تَ ْستَ ْع ِجلُ ِ‬ ‫ق اإْلِ ْن َس ُ‬‫(‪ُ )36‬خِل َ‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِِ‬
‫ور ِه ْم َواَل ُه ْم‬
‫الن َار َواَل َع ْن ظُهُ ِ‬ ‫ون َع ْن ُو ُجو ِه ِه ُم َّ‬ ‫ين اَل َي ُكفُّ َ‬‫ين َكفَ ُروا ح َ‬ ‫ين (‪ )38‬لَ ْو َي ْعلَ ُم الذ َ‬ ‫صادق َ‬‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫استُ ْه ِزئَ‬ ‫ون (‪َ )40‬ولَقَد ْ‬ ‫ظ ُر َ‬ ‫ون َر َّد َها َواَل ُه ْم ُي ْن َ‬ ‫يع َ‬ ‫ون (‪َ )39‬ب ْل تَأْتي ِه ْم َب ْغتَةً فَتَْبهَتُهُ ْم فَاَل َي ْستَط ُ‬ ‫ص ُر َ‬‫ُي ْن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك فَح َ َِّ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون (‪)41‬‬ ‫ين َسخ ُروا م ْنهُ ْم َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬ ‫اق بِالذ َ‬ ‫بِ ُر ُس ٍل م ْن قَْبل َ َ‬
‫َه َذا الَِّذي َي ْذ ُك ُر ِآلهَتَ ُك ْم َو ُه ْم بِِذ ْك ِر‬
‫ك ِإال ُه ُز ًوا أ َ‬ ‫ين َكفَ ُروا ِإ ْن َيتَّ ِخ ُذ َ‬
‫ون َ‬ ‫{ ‪ { } 41 - 36‬وإِ َذا رآ َ َِّ‬
‫ك الذ َ‬ ‫َ َ‬
‫ون َمتَى َه َذا‬ ‫ون * َوَيقُولُ َ‬ ‫ان ِم ْن َع َج ٍل َسأ ُِري ُك ْم َآياتِي فَال تَ ْستَ ْع ِجلُ ِ‬ ‫اإلن َس ُ‬
‫ق ْ‬ ‫ون * ُخِل َ‬ ‫ِ‬
‫الر ْح َم ِن ُه ْم َكاف ُر َ‬
‫َّ‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫ور ِه ْم‬‫الن َار َوال َع ْن ظُهُ ِ‬ ‫ون َع ْن ُو ُجو ِه ِه ُم َّ‬ ‫ين ال َي ُكفُّ َ‬‫ين َكفَ ُروا ح َ‬ ‫ين * لَ ْو َي ْعلَ ُم الذ َ‬ ‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫استُ ْه ِزئَ‬ ‫ون * َولَقَد ْ‬ ‫ظ ُر َ‬ ‫ون َر َّد َها َوال ُه ْم ُي ْن َ‬‫يع َ‬ ‫ون * َب ْل تَأْتي ِه ْم َب ْغتَةً فَتَْبهَتُهُ ْم فَال َي ْستَط ُ‬‫ص ُر َ‬‫َوال ُه ْم ُي ْن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك فَح َ َِّ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ين َسخ ُروا م ْنهُ ْم َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬ ‫اق بِالذ َ‬ ‫بِ ُر ُس ٍل م ْن قَْبل َ َ‬
‫وهذا من شدة كفرهم‪ ،‬فإن المشركين إذا رأوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬استهزأوا به‬
‫َه َذا الَِّذي َي ْذ ُك ُر ِآلهَتَ ُك ْم } أي‪ :‬هذا المحتقر بزعمهم‪ ،‬الذي يسب آلهتكم ويذمها‪ ،‬ويقع‬ ‫وقالوا‪ { :‬أ َ‬
‫فيها‪ ،‬أي‪ :‬فال تبالوا به‪ ،‬وال تحتفلوا به‪.‬‬
‫هذا استهزاؤهم واحتقارهم له‪ ،‬بما هو من كماله‪ ،‬فإنه األكمل األفضل الذي من فضائله ومكارمه‪،‬‬
‫إخالص العبادة هلل‪ ،‬وذم كل ما يعبد من دونه وتنقصه‪ ،‬وذكر محله ومكانته‪ ،‬ولكن محل االزدراء‬
‫واالستهزاء‪ ،‬هؤالء الكفار‪ ،‬الذين جمعوا كل خلق ذميم‪ ،‬ولو لم يكن إال كفرهم بالرب وجحدهم‬
‫لرسله فصاروا بذلك‪ ،‬من أخس الخلق وأرذلهم‪ ،‬ومع هذا‪ ،‬فذكرهم للرحمن‪ ،‬الذي هو أعلى‬
‫حاالتهم‪ ،‬كافرون بها‪ ،‬ألنهم ال يذكرونه وال يؤمنون به إال وهم مشركون فذكرهم كفر وشرك‪،‬‬
‫الر ْح َم ِن‬ ‫ِ‬ ‫فكيف بأحوالهم بعد ذلك؟ ولهذا قال‪َ { :‬و ُه ْم بِِذ ْك ِر َّ‬
‫ون } وفي ذكر اسمه { َّ‬ ‫الر ْح َم ِن ُه ْم َكاف ُر َ‬
‫} هنا‪ ،‬بيان لقباحة حالهم‪ ،‬وأنهم كيف قابلوا الرحمن ‪ -‬مسدي النعم كلها‪ ،‬ودافع النقم الذي ما‬
‫بالعباد من نعمة إال منه‪ ،‬وال يدفع السوء إال إياه ‪ -‬بالكفر والشرك‪.‬‬
‫ان ِم ْن َع َج ٍل } أي‪ :‬خلق عجوال يبادر األشياء‪ ،‬ويستعجل بوقوعها‪ ،‬فالمؤمنون‪،‬‬ ‫اإلن َس ُ‬
‫ق ْ‬ ‫{ ُخِل َ‬
‫يستعجلون عقوبة اهلل للكافرين‪ ،‬ويتباطئونها‪ ،‬والكافرون يتولون (‪ )1‬ويستعجلون بالعذاب‪ ،‬تكذيبا‬
‫ين } واهلل تعالى‪ ،‬يمهل وال يهمل ويحلم‪،‬‬ ‫وعنادا‪ ،‬ويقولون‪ { :‬متَى َه َذا اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ولهذا قال‪َ { :‬سأ ُِري ُك ْم‬
‫اعةً َوال َي ْستَ ْقد ُم َ‬ ‫ون َس َ‬ ‫َجلُهُ ْم ال َي ْستَأْخ ُر َ‬ ‫ويجعل لهم أجال مؤقتا { ِإ َذا َج َ‬
‫اء أ َ‬
‫ون } ذلك‪ ،‬وكذلك الذين كفروا‬ ‫َآياتِي } أي‪ :‬في انتقامي ممن كفر بي وعصاني { فَال تَ ْستَ ْع ِجلُ ِ‬
‫ين } قالوا هذا القول‪ ،‬اغترارا‪ ،‬ولما يحق عليهم [ ص‬ ‫يقولون‪ { :‬متَى َه َذا اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪ ] 524‬العقاب‪ ،‬وينزل بهم العذاب‪.‬‬
‫ين َكفَ ُروا } حالهم الشنيعة حين ال يكفون عن وجوههم النار وال عن ظهورهم‪ ،‬إذ‬ ‫َِّ‬
‫فـ { لَ ْو َي ْعلَ ُم الذ َ‬
‫ون } أي‪ :‬ال ينصرهم غيرهم‪،‬‬ ‫ص ُر َ‬ ‫قد أحاط بهم من كل جانب وغشيهم من كل مكان { َوال ُه ْم ُي ْن َ‬
‫فال نصروا وال انتصروا‪.‬‬
‫{ َب ْل تَأْتِي ِه ْم } النار { َب ْغتَةً فَتَْبهَتُهُ ْم } من االنزعاج والذعر والخوف العظيم‪.‬‬
‫ون َر َّد َها } إذ هم أذل وأضعف من ذلك‪.‬‬ ‫ِ‬
‫يع َ‬‫{ فَال َي ْستَط ُ‬
‫ون } أي‪ :‬يمهلون‪ ،‬فيؤخر عنهم العذاب‪ .‬فلو علموا هذه الحالة حق المعرفة‪ ،‬لما‬ ‫ظ ُر َ‬
‫{ َوال ُه ْم ُي ْن َ‬
‫استعجلوا بالعذاب‪ ،‬ولخافوه أشد الخوف‪ ،‬ولكن لما ترحل عنهم هذا العلم‪ ،‬قالوا ما قالوا‪ ،‬ولما ذكر‬
‫َه َذا الَِّذي َي ْذ ُك ُر ِآلهَتَ ُك ْم } ساله بأن هذا دأب األمم السالفة مع رسلهم‬‫استهزاءهم برسوله بقولهم‪ { :‬أ َ‬
‫ين َس ِخ ُروا ِم ْنهُ ْم } أي‪ :‬نزل بهم { َما َك ُانوا بِ ِه‬ ‫ك فَح َ َِّ‬
‫اق بِالذ َ‬
‫ِ ِ‬
‫استُ ْه ِزئَ بِ ُر ُس ٍل م ْن قَْبل َ َ‬
‫ِ‬
‫فقال‪َ { :‬ولَقَد ْ‬
‫ون } أي‪ :‬نزل بهم العذاب‪ ،‬وتقطعت عنهم األسباب‪ ،‬فليحذر هؤالء‪ ،‬أن يصيبهم ما أصاب‬ ‫َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬
‫أولئك المكذبين‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ الكلمة أقرب إلى أن تكون يقولون وفي ب غير واضحة وكلمة (يتولون) أقرب مناسبة‬
‫للسياق‪.‬‬

‫( ‪)1/523‬‬

‫ون (‪ )42‬أ َْم لَهُ ْم آَِلهَةٌ‬ ‫ض َ‬


‫ِ‬ ‫النهَ ِار ِم َن َّ‬
‫الر ْح َم ِن َب ْل ُه ْم َع ْن ذ ْك ِر َرِّب ِه ْم ُم ْع ِر ُ‬ ‫ُق ْل َم ْن َي ْكلَ ُؤ ُك ْم بِاللَّْي ِل َو َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪َ )43‬ب ْل َمتَّ ْعَنا َه ُؤاَل ء َوآََب َ‬
‫اء ُه ْم‬ ‫ص َحُب َ‬ ‫ص َر أ َْنفُس ِه ْم َواَل ُه ْم مَّنا ُي ْ‬‫ون َن ْ‬
‫يع َ‬‫تَ ْمَن ُعهُ ْم م ْن ُدونَِنا اَل َي ْستَط ُ‬
‫ون (‪)44‬‬ ‫ِ‬ ‫ال علَْي ِهم اْلعمر أَفَاَل يرون أََّنا َنأْتِي اأْل َرض َن ْنقُصها ِم ْن أَ ْ ِ‬ ‫َحتَّى َ‬
‫ط َرافهَا أَفَهُ ُم اْل َغالُب َ‬ ‫َُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ََ ْ َ‬ ‫ط َ َ ُ ُ ُُ‬

‫ِ‬ ‫النهَ ِار ِم َن َّ‬


‫{ ‪ُ { } 44 - 42‬ق ْل َم ْن َي ْكلَ ُؤ ُك ْم بِاللَّْي ِل َو َّ‬
‫ون * أ َْم‬
‫ض َ‬ ‫الر ْح َم ِن َب ْل ُه ْم َع ْن ذ ْك ِر َرِّب ِه ْم ُم ْع ِر ُ‬
‫لَهم ِآلهةٌ تَمَنعهم ِم ْن ُدونَِنا ال يستَ ِطيعون َنصر أ َْنفُ ِس ِهم وال ُهم ِمَّنا يصحبون * ب ْل متَّعَنا َهؤ ِ‬
‫الء‬ ‫ْ ُ ْ َُ َ َ َ ْ ُ‬ ‫َْ‬ ‫َ ْ ُ َ َْ‬ ‫ُْ َ ْ ُ ُْ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ال علَْي ِهم اْلعمر أَفَال يرون أََّنا َنأْتِي األرض َن ْنقُصها ِم ْن أَ ْ ِ‬ ‫اء ُه ْم َحتَّى َ‬
‫ط َرافهَا أَفَهُ ُم اْل َغالُب َ‬ ‫َُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ََ ْ َ‬ ‫ط َ َ ُ ُ ُُ‬ ‫َو َآب َ‬
‫يقول تعالى ‪ -‬ذاكرا عجز هؤالء‪ ،‬الذين اتخذوا من دونه آلهة‪ ،‬وأنهم محتاجون مضطرون إلى‬
‫ربهم الرحمن‪ ،‬الذي رحمته‪ ،‬شملت البر والفاجر‪ ،‬في ليلهم ونهارهم ‪ -‬فقال‪ُ { :‬ق ْل َم ْن َي ْكلَ ُؤ ُك ْم }‬
‫النهَ ِار } وقت‬ ‫أي‪ :‬يحرسكم ويحفظكم { بِاللَّْي ِل } إذ كنتم نائمين على فرشكم‪ ،‬وذهبت حواسكم { َو َّ‬
‫الر ْح َم ِن } أي‪ :‬بدله غيره‪ ،‬أي‪ :‬هل يحفظكم أحد غيره؟ ال حافظ إال هو‪.‬‬ ‫انتشاركم وغفلتكم { ِم َن َّ‬
‫ِ‬
‫ون } فلهذا أشركوا به‪ ،‬وإ ال فلو أقبلوا على ذكر ربهم‪ ،‬وتلقوا‬ ‫ض َ‬‫{ َب ْل ُه ْم َع ْن ذ ْك ِر َرِّب ِه ْم ُم ْع ِر ُ‬
‫نصائحه‪ ،‬لهدوا لرشدهم‪ ،‬ووفقوا في أمرهم‪.‬‬
‫{ أ َْم لَهُ ْم ِآلهَةٌ تَ ْمَن ُعهُ ْم ِم ْن ُدونَِنا } أي‪ :‬إذا أردناهم بسوء هل من آلهتهم‪ ،‬من يقدر على منعهم من‬
‫ذلك السوء‪ ،‬والشر النازل بهم؟؟‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬ال يعانون على أمورهم من جهتنا‪ ،‬وإ ذا‬ ‫ص َر أ َْنفُس ِه ْم َوال ُه ْم مَّنا ُي ْ‬
‫ص َحُب َ‬ ‫ون َن ْ‬ ‫يع َ‬
‫{ ال َي ْستَط ُ‬
‫لم يعانوا من اهلل‪ ،‬فهم مخذولون في أمورهم‪ ،‬ال يستطيعون جلب منفعة‪ ،‬وال دفع مضرة‪.‬‬
‫اء ُه ْم َحتَّى َ‬ ‫ِ‬
‫ال‬
‫ط َ‬ ‫والذي أوجب لهم استمرارهم على كفرهم وشركهم قوله‪َ { :‬ب ْل َمتَّ ْعَنا َه ُؤالء َو َآب َ‬
‫َعلَْي ِه ُم اْل ُع ُم ُر } أي‪ :‬أمددناهم باألموال والبنين‪ ،‬وأطلنا أعمارهم‪ ،‬فاشتغلوا بالتمتع بها‪ ،‬ولهوا بها‪،‬‬
‫عما له خلقوا‪ ،‬وطال عليهم األمد‪ ،‬فقست قلوبهم‪ ،‬وعظم طغيانهم‪ ،‬وتغلظ كفرانهم‪ ،‬فلو لفتوا‬
‫أنظارهم إلى من عن يمينهم‪ ،‬وعن يسارهم من األرض‪ ،‬لم يجدوا إال هالكا ولم يسمعوا إال صوت‬
‫ناعية‪ ،‬ولم يحسوا إال بقرون متتابعة على الهالك‪ ،‬وقد نصب الموت في كل طريق القتناص‬
‫ط َر ِافهَا } أي‪ :‬بموت‬
‫صهَا ِم ْن أَ ْ‬
‫ض َن ْنقُ ُ‬
‫ِ‬
‫النفوس األشراك‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬أَفَال َي َر ْو َن أََّنا َنأْتي ْ‬
‫األر َ‬
‫أهلها وفنائهم‪ ،‬شيئا فشيئا‪ ،‬حتى يرث اهلل األرض ومن عليها وهو خير الوارثين‪ ،‬فلو رأوا هذه‬
‫الحالة لم يغتروا ويستمروا على ما هم عليه‪.‬‬
‫ون } الذين بوسعهم‪ ،‬الخروج عن قدر اهلل؟ وبطاقتهم االمتناع عن الموت؟ فهل هذا‬ ‫ِ‬
‫{ أَفَهُ ُم اْل َغالُب َ‬
‫وصفهم حتى يغتروا بطول البقاء؟ أم إذا جاءهم رسول ربهم لقبض أرواحهم‪ ،‬أذعنوا‪ ،‬وذلوا‪ ،‬ولم‬
‫يظهر منهم أدنى ممانعة؟‬

‫( ‪)1/524‬‬

‫ون (‪ )45‬ولَئِ ْن مسَّتْهم َن ْف َحةٌ ِم ْن َع َذ ِ‬


‫اب‬ ‫اء ِإ َذا َما ُي ْن َذ ُر َ‬ ‫ُق ْل ِإَّن َما أ ُْن ِذ ُر ُك ْم بِاْل َو ْح ِي َواَل َي ْس َمعُ الص ُّ‬
‫ُّم ُّ‬
‫الد َع َ‬
‫َ ُْ‬ ‫َ‬
‫ك لَيقُولُ َّن يا وْيلََنا ِإَّنا ُكَّنا َ ِ ِ‬
‫ين (‪)46‬‬ ‫ظالم َ‬ ‫َ َ‬ ‫َرِّب َ َ‬

‫ون * َولَئِ ْن َمسَّتْهُ ْم‬


‫اء ِإ َذا َما ُي ْن َذ ُر َ‬ ‫{ ‪ُ { } 46 - 45‬ق ْل ِإَّن َما أ ُْن ِذ ُر ُك ْم بِاْل َو ْح ِي َوال َي ْس َمعُ الص ُّ‬
‫ُّم ُّ‬
‫الد َع َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ِّك لَيقُولُ َّن يا وْيلََنا ِإَّنا ُكَّنا َ ِ ِ‬ ‫َن ْف َحةٌ ِم ْن َع َذ ِ‬
‫ظالم َ‬ ‫َ َ‬ ‫اب َرب َ َ‬
‫أي‪ُ { :‬ق ْل } يا محمد‪ ،‬للناس كلهم‪ِ { :‬إَّن َما أ ُْن ِذ ُر ُك ْم بِاْل َو ْح ِي } أي‪ :‬إنما أنا رسول‪ ،‬ال آتيكم بشيء من‬
‫عندي‪ ،‬وال عندي خزائن اهلل‪ ،‬وال أعلم الغيب‪ ،‬وال أقول إني ملك‪ ،‬وإ نما أنذركم بما أوحاه اهلل‬
‫إلي‪ ،‬فإن استجبتم‪ ،‬فقد استجبتم هلل‪ ،‬وسيثيبكم على ذلك‪ ،‬وإ ن أعرضتم وعارضتم‪ ،‬فليس بيدي من‬
‫األمر شيء‪ ،‬وإ نما األمر هلل‪ ،‬والتقدير كله هلل‪.‬‬
‫اء } أي‪ :‬األصم ال يسمع صوتا‪ ،‬ألن سمعه قد فسد وتعطل‪ ،‬وشرط السماع‬ ‫ُّم ُّ‬
‫الد َع َ‬ ‫{ َوال َي ْس َمعُ الص ُّ‬
‫مع الصوت‪ ،‬أن يوجد محل قابل لذلك‪ ،‬كذلك الوحي سبب لحياة القلوب واألرواح‪ ،‬وللفقه عن اهلل‪،‬‬
‫ولكن إذا كان القلب غير قابل لسماع الهدى‪ ،‬كان بالنسبة للهدى واإليمان‪ ،‬بمنزلة األصم‪ ،‬بالنسبة‬
‫إلى األصوات فهؤالء المشركون‪ ،‬صم عن الهدى‪ ،‬فال يستغرب عدم اهتدائهم‪ ،‬خصوصا في هذه‬
‫الحالة‪ ،‬التي لم يأتهم العذاب‪ ،‬وال مسهم ألمه‪.‬‬
‫ك } أي‪ :‬ولو جزءا يسيرا وال يسير من عذابه‪ { ،‬لََيقُولُ َّن َيا َوْيلََنا ِإَّنا‬ ‫فلو مسهم { َن ْف َحةٌ ِم ْن َع َذ ِ‬
‫اب َرِّب َ‬
‫ين } أي‪ :‬لم يكن قولهم إال الدعاء بالويل والثبور‪ ،‬والندم‪ ،‬واالعتراف بظلمهم وكفرهم‬ ‫ُكَّنا َ ِ ِ‬
‫ظالم َ‬
‫واستحقاقهم للعذاب‪.‬‬
‫( ‪)1/524‬‬

‫َّة ِم ْن َخ ْر َد ٍل أَتَْيَنا بِهَا‬


‫ال حب ٍ‬ ‫ظلَم َن ْفس َش ْيًئا وإِ ْن َك ِ‬
‫ان مثْقَ َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ط ِليوِم اْل ِقي ِ‬
‫امة فَاَل تُ ْ ُ ٌ‬
‫وَنضع اْلمو ِاز ِ‬
‫ين اْلق ْس َ َ ْ َ َ‬ ‫َ َ ُ ََ َ‬
‫ِ‬
‫َو َكفَى بَِنا َحاسبِ َ‬
‫ين (‪)47‬‬

‫َّة ِم ْن َخ ْر َد ٍل‬
‫ظلَم َن ْفس َش ْيًئا وإِ ْن َكان ِمثْقَا َل حب ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ط ِليوِم اْل ِقي ِ‬
‫امة فَال تُ ْ ُ ٌ‬
‫{ ‪ { } 47‬وَنضع اْلمو ِاز ِ‬
‫ين اْلق ْس َ َ ْ َ َ‬ ‫َ َ ُ ََ َ‬
‫ِ‬
‫أَتَْيَنا بِهَا َو َكفَى بَِنا َحاسبِ َ‬
‫ين } ‪.‬‬
‫يخبر تعالى عن حكمه العدل‪ ،‬وقضائه القسط بين عباده إذا جمعهم في يوم القيامة‪ ،‬وأنه يضع لهم‬
‫الموازين العادلة‪ ،‬التي يبين فيها مثاقيل الذر‪ ،‬الذي توزن بها الحسنات [ ص ‪ ] 525‬والسيئات‪{ ،‬‬
‫ظلَ ُم َن ْف ٌس } مسلمة أو كافرة { َش ْيًئا } بأن تنقص من حسناتها‪ ،‬أو يزاد في سيئاتها‪.‬‬ ‫فَال تُ ْ‬
‫َّة ِم ْن َخ ْر َد ٍل } التي هي أصغر األشياء وأحقرها‪ ،‬من خير أو شر { أَتَْيَنا بِهَا }‬ ‫ال حب ٍ‬ ‫{ وإِ ْن َك ِ‬
‫ان مثْقَ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ال َذ َّر ٍة َخ ْي ًرا َي َرهُ * َو َم ْن َي ْع َم ْل مثْقَ َ‬
‫ال‬ ‫ِ‬
‫وأحضرناها‪ ،‬ليجازى بها صاحبها‪ ،‬كقوله‪ { :‬فَ َم ْن َي ْع َم ْل مثْقَ َ‬
‫َذ َّر ٍة َش ًّرا َي َرهُ }‬
‫اها َو َو َج ُدوا َما َع ِملُوا‬‫ص َ‬ ‫َح َ‬‫ص ِغ َيرةً َوال َكبِ َيرةً ِإال أ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ال َه َذا اْل ِكتَ ِ‬
‫اب ال ُي َغاد ُر َ‬
‫وقالوا { َيا وْيلَتََنا م ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫اض ًرا }‬‫ح ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ين } يعني بذلك نفسه الكريمة فكفى به حاسبا أي عالما بأعمال العباد حافظا لها‬ ‫{ َو َكفَى بَِنا َحاسبِ َ‬
‫مثبتا لها في الكتاب عالما بمقاديرها ومقادير ثوابها وعقابها واستحقاقها موصال للعمال جزاءها‬

‫( ‪)1/524‬‬

‫ين َي ْخ َش ْو َن َربَّهُ ْم بِاْل َغ ْي ِب َو ُه ْم‬ ‫َِّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫ين (‪ )48‬الذ َ‬ ‫اء َو ِذ ْك ًرا لْل ُمتَّق َ‬ ‫ان َوضَي ً‬ ‫ون اْلفُْرقَ َ‬
‫وسى َو َه ُار َ‬‫َولَقَ ْد آَتَْيَنا ُم َ‬
‫ون (‪)50‬‬ ‫ِ‬ ‫ون (‪َ )49‬و َه َذا ِذ ْكٌر ُمَب َار ٌ‬ ‫ِمن الس ِ ِ‬
‫ك أ َْن َزْلَناهُ أَفَأ َْنتُ ْم لَهُ ُم ْنك ُر َ‬ ‫َّاعة ُم ْشفقُ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬

‫َِّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َي ْخ َش ْو َن َربَّهُ ْم‬
‫ين * الذ َ‬‫اء َو ِذ ْك ًرا لْل ُمتَّق َ‬ ‫ان َوضَي ً‬ ‫ون اْلفُْرقَ َ‬‫وسى َو َه ُار َ‬ ‫{ ‪َ { } 50 - 48‬ولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ون * َو َه َذا ِذ ْكٌر ُمَب َار ٌ‬ ‫بِاْل َغ ْي ِب و ُهم ِمن الس ِ ِ‬
‫ك أ َْن َزْلَناهُ أَفَأ َْنتُ ْم لَهُ ُم ْنك ُر َ‬ ‫َّاعة ُم ْشفقُ َ‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫كثيرا ما يجمع تعالى‪ ،‬بين هذين الكتابين الجليلين‪ ،‬اللذين لم يطرق العالم أفضل منهما‪ ،‬وال أعظم‬
‫ذكرا‪ ،‬وال أبرك‪ ،‬وال أعظم هدى وبيانا‪[ ،‬وهما التوراة والقرآن] (‪ )1‬فأخبر أنه آتى موسى أصال‬
‫ان } وهي التوراة الفارقة بين الحق والباطل‪ ،‬والهدى والضالل‪ ،‬وأنها‬
‫وهارون تبعا { اْلفُْرقَ َ‬
‫اء } أي‪ :‬نور يهتدي به المهتدون‪ ،‬ويأتم به السالكون‪ ،‬وتعرف به األحكام‪ ،‬ويميز به بين‬ ‫ِ‬
‫{ ضَي ً‬
‫ِ ِ‬
‫ين } يتذكرون به‪ ،‬ما‬‫الحالل والحرام‪ ،‬وينير في ظلمة الجهل والبدع والغواية‪َ { ،‬و ِذ ْك ًرا لْل ُمتَّق َ‬
‫ينفعهم‪ ،‬وما يضرهم‪ ،‬ويتذكر به الخير والشر‪ ،‬وخص { المتقين } بالذكر‪ ،‬ألنهم المنتفعون بذلك‪،‬‬
‫علما وعمال‪.‬‬
‫ين َي ْخ َش ْو َن َربَّهُ ْم بِاْل َغ ْي ِب } أي‪ :‬يخشونه في حال غيبتهم‪ ،‬وعدم مشاهدة‬ ‫َِّ‬
‫ثم فسر المتقين فقال‪ { :‬الذ َ‬
‫َّاع ِة‬ ‫ِ‬
‫الناس لهم‪ ،‬فمع المشاهدة أولى‪ ،‬فيتورعون عما حرم‪ ،‬ويقومون بما ألزم‪َ { ،‬و ُه ْم م َن الس َ‬
‫ون } أي‪ :‬خائفون وجلون‪ ،‬لكمال معرفتهم بربهم‪ ،‬فجمعوا بين اإلحسان والخوف‪ ،‬والعطف‬ ‫ِ‬
‫ُم ْشفقُ َ‬
‫هنا من باب عطف الصفات المتغايرات‪ ،‬الواردة على شيء واحد وموصوف واحد‪.‬‬
‫ك أَنزْلَناهُ } فوصفه بوصفين جليلين‪ ،‬كونه ذكرا يتذكر به جميع‬ ‫{ َو َه َذا } أي‪ :‬القرآن { ِذ ْكٌر ُمَب َار ٌ‬
‫المطالب‪ ،‬من معرفة اهلل بأسمائه وصفاته وأفعاله‪ ،‬ومن صفات الرسل واألولياء وأحوالهم‪ ،‬ومن‬
‫أحكام الشرع من العبادات والمعامالت وغيرها‪ ،‬ومن أحكام الجزاء والجنة والنار‪ ،‬فيتذكر به‬
‫المسائل والدالئل العقلية والنقلية‪ ،‬وسماه ذكرا‪ ،‬ألنه يذكر ما ركزه اهلل في العقول والفطر‪ ،‬من‬
‫التصديق باألخبار الصادقة‪ ،‬واألمر بالحسن عقال والنهي عن القبيح عقال وكونه { مباركا }‬
‫يقتضي كثرة خيراته (‪ )2‬ونمائها وزيادتها‪ ،‬وال شيء أعظم بركة من هذا القرآن‪ ،‬فإن كل خير‬
‫ونعمة‪ ،‬وزيادة دينية أو دنيوية‪ ،‬أو أخروية‪ ،‬فإنها بسببه‪ ،‬وأثر عن العمل به‪ ،‬فإذا كان ذكرا‬
‫مباركا‪ ،‬وجب تلقيه بالقبول واالنقياد‪ ،‬والتسليم‪ ،‬وشكر اهلل على هذه المنحة الجليلة‪ ،‬والقيام بها‪،‬‬
‫واستخراج بركته‪ ،‬بتعلم ألفاظه ومعانيه‪ ،‬وأما مقابلته بضد هذه الحالة‪ ،‬من اإلعراض عنه‪،‬‬
‫واإلضراب عنه‪ ،‬صفحا وإ نكاره‪ ،‬وعدم اإليمان به فهذا من أعظم الكفر وأشد الجهل والظلم‪،‬‬
‫ون }‬ ‫ِ‬
‫ولهذا أنكر تعالى على من أنكره فقال‪ { :‬أَفَأ َْنتُ ْم لَهُ ُم ْنك ُر َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬في النسختين خيره‪ ،‬وغيرت الكلمة لتتوافق مع الضمائر التي بعدها‪.‬‬

‫( ‪)1/525‬‬

‫يه َوقَ ْو ِم ِه َما َه ِذ ِه التَّ َماثِي ُل الَّتِي أ َْنتُ ْم‬ ‫ال أِل َبِ ِ‬ ‫ين (‪ِ )51‬إ ْذ قَ َ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫يم ُر ْش َدهُ م ْن قَْب ُل َو ُكَّنا بِه َعالم َ‬
‫ِ ِ‬
‫َولَقَ ْد آَتَْيَنا إ ْب َراه َ‬
‫ضاَل ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‬ ‫اؤ ُك ْم في َ‬ ‫ين (‪ )53‬قَا َل لَقَ ْد ُك ْنتُ ْم أ َْنتُ ْم َوآََب ُ‬ ‫اءَنا لَهَا َعابِد َ‬
‫ون (‪ )52‬قَالُوا َو َج ْدَنا آََب َ‬ ‫لَهَا َعاكفُ َ‬
‫ض الَِّذي‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاو َ‬ ‫ب الس َ‬ ‫ال َب ْل َرُّب ُك ْم َر ُّ‬ ‫ين (‪ )55‬قَ َ‬ ‫ق أَم أ َْن َ ِ اَّل ِ‬
‫ت م َن ال عبِ َ‬ ‫ِ‬
‫‪ )54‬قَالُوا أَج ْئتََنا بِاْل َح ِّ ْ‬
‫يد َّن أَصَنام ُكم بع َد أ ْ ُّ‬ ‫اه ِدين (‪ )56‬وتَاللَّ ِه أَل ِ‬ ‫طر ُه َّن وأََنا علَى َذِل ُكم ِمن َّ ِ‬
‫ين (‪)57‬‬ ‫َن تَُولوا ُم ْدبِ ِر َ‬ ‫ْ َ ْ َْ‬ ‫َك َ‬ ‫َ‬ ‫الش َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫فَ َ َ‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫اَّل‬
‫ين (‬‫ون (‪ )58‬قَالُوا َم ْن فَ َع َل َه َذا بِآَلهَتَنا ِإَّنهُ لَم َن الظالم َ‬ ‫فَ َج َعلَهُ ْم ُج َذا ًذا ِإ َكبِ ًيرا لَهُ ْم لَ َعلهُ ْم ِإلَْيه َي ْر ِج ُع َ‬
‫ون‬ ‫الن ِ َّ‬ ‫يم (‪ )60‬قَالُوا فَأْتُوا بِ ِه َعلَى أ ْ‬
‫َعُي ِن َّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اس لَ َعلهُ ْم َي ْشهَ ُد َ‬ ‫‪ )59‬قَالُوا َسم ْعَنا فَتًى َي ْذ ُك ُر ُه ْم ُيقَا ُل لَهُ إ ْب َراه ُ‬
‫وه ْم ِإ ْن َك ُانوا‬ ‫ِِ ِ ِ ِ‬
‫اسأَلُ ُ‬ ‫ال َب ْل فَ َعلَهُ َكبِ ُير ُه ْم َه َذا فَ ْ‬
‫يم (‪ )62‬قَ َ‬ ‫ت َه َذا بآَلهَتَنا َيا إ ْب َراه ُ‬ ‫ت فَ َعْل َ‬‫(‪ )61‬قَالُوا أَأ َْن َ‬
‫ي ْن ِطقُون (‪ )63‬فَرجعوا ِإلَى أ َْنفُ ِس ِهم فَقَالُوا ِإَّن ُكم أ َْنتُم الظَّ ِالمون (‪ )64‬ثَُّم ُن ِكسوا علَى رء ِ‬
‫وس ِه ْم لَقَ ْد‬ ‫ُ َ ُ ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ض ُّر ُك ْم (‪)66‬‬ ‫ت ما َهؤاَل ِء ي ْن ِطقُون (‪ )65‬قَا َل أَفَتَعب ُدون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون الله َما اَل َي ْنفَ ُع ُك ْم َش ْيًئا َواَل َي ُ‬ ‫ُْ َ‬ ‫َ‬ ‫َعل ْم َ َ ُ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُف لَ ُكم وِلما تَعب ُدون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ين‬‫ص ُروا آَلهَتَ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنتُ ْم فَاعل َ‬ ‫ون (‪ )67‬قَالُوا َحِّرقُوهُ َو ْان ُ‬ ‫ون الله أَفَاَل تَ ْعقلُ َ‬ ‫أ ٍّ ْ َ َ ْ ُ َ‬
‫ادوا بِ ِه َك ْي ًدا فَ َج َعْلَن ُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‬ ‫َخ َس ِر َ‬ ‫اه ُم اأْل ْ‬ ‫يم (‪َ )69‬وأ ََر ُ‬ ‫(‪ُ )68‬قْلَنا َيا َن ُار ُكوني َب ْر ًدا َو َساَل ًما َعلَى إ ْب َراه َ‬
‫وب َن ِافلَةً‬ ‫اق َوَي ْعقُ َ‬ ‫ين (‪َ )71‬و َو َه ْبَنا لَهُ ِإ ْس َح َ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫طا ِإلَى اأْل َر ِ َّ ِ‬
‫ض التي َب َار ْكَنا فيهَا لْل َعالَم َ‬ ‫ْ‬ ‫َّيَناهُ َولُو ً‬ ‫‪َ )70‬وَنج ْ‬
‫الصاَل ِة‬‫ات َوإِقَ َام َّ‬ ‫اهم أَئِ َّمةً يه ُدون بِأَم ِرَنا وأَوح ْيَنا ِإلَْي ِهم ِفع َل اْل َخ ْير ِ‬
‫َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َْ َ ْ َ ْ َ‬ ‫ين (‪َ )72‬و َج َعْلَن ُ ْ‬
‫و ُكاًّل جعْلَنا ِ ِ‬
‫صالح َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫ين (‪)73‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اء َّ‬
‫الز َكاة َو َك ُانوا لََنا َعابد َ‬ ‫َوإِيتَ َ‬

‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين } إلى آخر هذه القصة‪.‬‬ ‫يم ُر ْش َدهُ م ْن قَْب ُل َو ُكَّنا بِه َعالم َ‬
‫{ ‪َ { } 73 - 51‬ولَقَ ْد آتَْيَنا إ ْب َراه َ‬
‫وهو قوله‪ { :‬وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإ قام الصالة وإ يتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين } لما ذكر‬
‫يم ُر ْش َدهُ ِم ْن قَْب ُل }‬ ‫ِ ِ‬
‫تعالى موسى ومحمدا صلى اهلل عليهما وسلم‪ ،‬وكتابيهما قال‪َ { :‬ولَقَ ْد آتَْيَنا إ ْب َراه َ‬
‫أي‪ :‬من قبل إرسال موسى ومحمد ونزول كتابيهما‪ ،‬فأراه اهلل ملكوت السماوات واألرض‪،‬‬
‫وأعطاه من الرشد‪ ،‬الذي كمل به نفسه‪ ،‬ودعا الناس إليه‪ ،‬ما لم يؤته أحدا من العالمين‪ ،‬غير‬
‫محمد‪ ،‬وأضاف الرشد إليه‪ ،‬لكونه رشدا‪ ،‬بحسب حاله‪ ،‬وعلو مرتبته‪ ،‬وإ ال فكل مؤمن‪ ،‬له من‬
‫ِ ِِ‬
‫ين } أي‪ :‬أعطيناه رشده‪ ،‬واختصصناه‬ ‫الرشد‪ ،‬بحسب ما معه من اإليمان‪َ { .‬و ُكَّنا بِه َعالم َ‬
‫بالرسالة والخلة‪ ،‬واصطفيناه في الدنيا واآلخرة‪ ،‬لعلمنا أنه أهل لذلك‪ ،‬وكفء له‪ ،‬لزكائه وذكائه‪،‬‬
‫ولهذا ذكر محاجته لقومه‪ ،‬ونهيهم عن الشرك‪ ،‬وتكسير األصنام‪ ،‬وإ لزامهم بالحجة‪ ،‬فقال‪ِ { :‬إ ْذ‬
‫يه َوقَ ْو ِم ِه َما َه ِذ ِه التَّ َماثِي ُل } التي مثلتموها‪ ،‬ونحتموها بأيديكم‪ ،‬على صور بعض المخلوقات‬
‫ال ألبِ ِ‬‫قَ َ‬
‫ون } مقيمون على عبادتها‪ ،‬مالزمون لذلك‪ ،‬فما هي؟ وأي فضيلة ثبتت لها؟‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫{ التي أ َْنتُ ْم لَهَا َعاكفُ َ‬
‫وأين عقولكم‪ ،‬التي ذهبت حتى أفنيتم أوقاتكم بعبادتها؟ والحال أنكم مثلتموها‪ ،‬ونحتموها بأيديكم‪،‬‬
‫فهذا من أكبر العجائب‪ ،‬تعبدون ما تنحتون‪.‬‬
‫[ ص ‪] 526‬‬
‫اءَنا } كذلك‬
‫فأجابوا بغير حجة‪ ،‬جواب العاجز‪ ،‬الذي ليس بيده أدنى شبهة فقالوا‪َ { :‬و َج ْدَنا َآب َ‬
‫يفعلون‪ ،‬فسلكنا سبيلهم‪ ،‬وتبعناهم على عبادتها‪ ،‬ومن المعلوم أن فعل أحد من الخلق سوى الرسل‬
‫ليس بحجة‪ ،‬وال تجوز به القدوة‪ ،‬خصوصا‪ ،‬في أصل الدين‪ ،‬وتوحيد رب العالمين‪ ،‬ولهذا قال لهم‬
‫ين } أي‪ :‬ضالل بين واضح‪ ،‬وأي‬ ‫ض ٍ‬
‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫اؤ ُك ْم في َ‬
‫إبراهيم مضلال للجميع‪ { :‬لَقَ ْد ُك ْنتُ ْم أ َْنتُ ْم َو َآب ُ‬
‫ضالل‪ ،‬أبلغ من ضاللهم في الشرك‪ ،‬وترك التوحيد؟" أي‪ :‬فليس ما قلتم‪ ،‬يصلح للتمسك به‪ ،‬وقد‬
‫اشتركتم وإ ياهم في الضالل الواضح‪ ،‬البين لكل أحد‪.‬‬
‫{ قَالُوا } على وجه االستغراب لقوله‪ ،‬واالستعظام لما قال‪ ،‬وكيف بادأهم بتسفيههم‪ ،‬وتسفيه‬
‫ِ‬ ‫ق أَم أ َْن َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ت م َن الالعبِ َ‬
‫ين } أي‪ :‬هذا القول الذي قلته‪ ،‬والذي جئتنا به‪ ،‬هل هو‬ ‫آبائهم‪ { :‬أَج ْئتََنا بِاْل َح ِّ ْ‬
‫حق وجد؟ أم كالمك لنا‪ ،‬كالم العب مستهزئ‪ ،‬ال يدري ما يقول؟ وهذا الذي أرادوا‪ ،‬وإ نما رددوا‬
‫الكالم بين األمرين‪ ،‬ألنهم نزلوه منزلة المتقرر المعلوم عند كل أحد‪ ،‬أن الكالم الذي جاء به‬
‫إبراهيم‪ ،‬كالم سفيه ال يعقل ما يقول‪ ،‬فرد عليهم إبراهيم ردا بين به وجه سفههم‪ ،‬وقلة عقولهم‬
‫ين } فجمع لهم‬ ‫طر ُه َّن وأََنا علَى َذِل ُكم ِمن َّ ِ ِ‬ ‫ات واألر ِ َِّ‬
‫ِ‬ ‫فقال‪َ { :‬بل َرُّب ُك ْم َر ُّ‬
‫الشاهد َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ض الذي فَ َ َ‬ ‫َّم َاو َ ْ‬
‫ب الس َ‬
‫بين الدليل العقلي‪ ،‬والدليل السمعي‪.‬‬
‫أما الدليل العقلي‪ ،‬فإنه قد علم كل أحد حتى هؤالء الذين جادلهم إبراهيم‪ ،‬أن اهلل وحده‪ ،‬الخالق‬
‫لجميع المخلوقات‪ ،‬من بني آدم‪ ،‬والمالئكة‪ ،‬والجن‪ ،‬والبهائم‪ ،‬والسماوات‪ ،‬واألرض‪ ،‬المدبر لهن‪،‬‬
‫بجميع أنواع التدبير‪ ،‬فيكون كل مخلوق مفطورا مدبرا متصرفا فيه‪ ،‬ودخل في ذلك‪ ،‬جميع ما عبد‬
‫من دون اهلل‪.‬‬
‫أفيليق عند من له أدنى مسكة من عقل وتمييز‪ ،‬أن يعبد مخلوقا متصرفا فيه‪ ،‬ال يملك نفعا‪ ،‬وال‬
‫ضرا‪ ،‬وال موتا‪ ،‬وال حياة‪ ،‬وال نشورا‪ ،‬ويدع عبادة الخالق الرازق المدبر؟‬
‫أما الدليل السمعي‪ :‬فهو المنقول عن الرسل عليهم الصالة والسالم‪ ،‬فإن ما جاءوا به معصوم ال‬
‫يغلط وال يخبر بغير الحق‪ ،‬ومن أنواع هذا القسم شهادة أحد من الرسل على ذلك فلهذا قال‬
‫ين }‬ ‫إبراهيم‪ { :‬وأََنا علَى َذِل ُكم } أي‪ :‬أن اهلل وحده المعبود وأن عبادة ما سواه باطل { ِمن َّ ِ ِ‬
‫الشاهد َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫وأي شهادة بعد شهادة اهلل أعلى من شهادة الرسل؟ خصوصا أولي العزم منهم خصوصا خليل‬
‫الرحمن‪.‬‬
‫ولما بين أن أصنامهم ليس لها من التدبير شيء أراد أن يريهم بالفعل عجزها وعدم انتصارها‬
‫وليكيد كيدا يحصل به إقرارهم بذلك فلهذا قال‪ { :‬وتَاللَّ ِه ِ‬
‫ام ُك ْم } أي أكسرها على وجه‬ ‫يد َّن أ ْ‬
‫َصَن َ‬ ‫ألك َ‬ ‫َ‬
‫الكيد { بع َد أ ْ ُّ‬
‫ين } عنها إلى عيد من أعيادهم‪ ،‬فلما تولوا مدبرين‪ ،‬ذهب إليها بخفية‪.‬‬ ‫َن تَُولوا ُم ْدبِ ِر َ‬ ‫َْ‬

‫( ‪)1/525‬‬

‫{ فَ َج َعلَهُ ْم ُج َذا ًذا } أي كسرا وقطعا‪ ،‬وكانت مجموعة في بيت واحد‪ ،‬فكسرها كلها‪ِ { ،‬إال َكبِ ًيرا لَهُ ْم‬
‫} أي إال صنمهم الكبير‪ ،‬فإنه تركه لمقصد سيبينه‪ ،‬وتأمل هذا االحتراز العجيب‪ ،‬فإن كل ممقوت‬
‫عند اهلل‪ ،‬ال يطلق عليه ألفاظ التعظيم‪ ،‬إال على وجه إضافته ألصحابه‪ ،‬كما كان النبي صلى اهلل‬
‫عليه وسلم إذا كتب إلى ملوك األرض المشركين يقول‪ " :‬إلى عظيم الفرس " " إلى عظيم الروم "‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬ولم يقل " إلى العظيم " وهنا قال تعالى‪ِ { :‬إال َكبِ ًيرا لَهُ ْم } ولم يقل " كبيرا من‬
‫أصنامهم " فهذا ينبغي التنبيه له‪ ،‬واالحتراز من تعظيم ما حقره اهلل‪ ،‬إال إذا أضيف إلى من‬
‫عظمه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ون } أي ترك إبراهيم تكسير صنمهم هذا ألجل أن يرجعوا إليه‪،‬‬ ‫وقوله‪ { :‬لَ َعلهُ ْم ِإلَْيه َي ْر ِج ُع َ‬
‫ويستملوا حجته‪ ،‬ويلتفتوا إليها‪ ،‬وال يعرضوا عنها ولهذا قال في آخرها‪ { :‬فََر َج ُعوا ِإلَى أ َْنفُ ِس ِه ْم }‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين }‬ ‫فحين رأوا ما حل بأصنامهم من اإلهانة والخزي { قَالُوا َم ْن فَ َع َل َه َذا بِآلهَتَنا ِإَّنهُ لَم َن الظالم َ‬
‫فرموا إبراهيم بالظلم الذي هم أولى به حيث كسرها ولم يدروا أن تكسيره لها من أفضل مناقبه‬
‫ومن عدله وتوحيده‪ ،‬وإ نما الظالم من اتخذها آلهة‪ ،‬وقد رأى ما يفعل بها { قَالُوا َس ِم ْعَنا فَتًى‬
‫َي ْذ ُك ُر ُه ْم } أي‪ :‬يعيبهم ويذمهم‪ ،‬ومن هذا شأنه ال بد أن يكون هو الذي كسرها أو أن بعضهم سمعه‬
‫يم } فلما تحققوا أنه إبراهيم { قَالُوا فَأْتُوا بِ ِه } أي‪ :‬بإبراهيم‬ ‫ِ ِ‬
‫يذكر أنه سيكيدها { ُيقَا ُل لَهُ إ ْب َراه ُ‬
‫ون } أي‪ :‬يحضرون ما يصنع بمن‬ ‫َّ‬ ‫الن ِ‬‫َعُي ِن َّ‬
‫اس } أي بمرأى منهم ومسمع { لَ َعلهُ ْم َي ْشهَ ُد َ‬ ‫{ َعلَى أ ْ‬
‫كسر آلهتهم‪ ،‬وهذا الذي أراد إبراهيم وقصد أن يكون بيان الحق بمشهد من الناس ليشاهدوا الحق‬
‫اس‬ ‫َن ُي ْح َش َر َّ‬
‫الن ُ‬ ‫الز َين ِة َوأ ْ‬
‫وتقوم عليهم الحجة‪ ،‬كما قال موسى حين واعد فرعون‪َ { :‬م ْو ِع ُد ُك ْم َي ْو ُم ِّ‬
‫ض ًحى }‬‫ُ‬
‫يم‬ ‫ِِ ِ ِ ِ‬
‫ت َه َذا } أي‪ :‬التكسير { بآلهَتَنا َيا إ ْب َراه ُ‬ ‫ت فَ َعْل َ‬‫فحين حضر الناس وأحضر إبراهيم قالوا له‪ { :‬أَأ َْن َ‬
‫} ؟ وهذا استفهام تقرير‪ ،‬أي‪ :‬فما الذي جرأك‪ ،‬وما الذي أوجب لك اإلقدام على هذا األمر؟‪.‬‬
‫فقال إبراهيم والناس شاهدون‪َ { :‬ب ْل فَ َعلَهُ َكبِ ُير ُه ْم َه َذا } أي‪ :‬كسرها غضبا عليها‪ ،‬لما عبدت معه‪،‬‬
‫وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده‪ ،‬وهذا الكالم من إبراهيم‪ ،‬المقصد منه إلزام‬
‫ِ‬
‫وه ْم ِإ ْن َك ُانوا َي ْنطقُ َ‬
‫ون } وأراد األصنام المكسرة‬ ‫اسأَلُ ُ‬
‫الخصم وإ قامة الحجة عليه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَ ْ‬
‫اسألوها لم كسرت؟ والصنم الذي لم يكسر‪ ،‬اسألوه ألي شيء كسرها‪ ،‬إن كان عندهم نطق‪،‬‬
‫فسيجيبونكم إلى ذلك‪ ،‬وأنا وأنتم‪ ،‬وكل أحد يدري أنها ال تنطق وال تتكلم‪ ،‬وال تنفع وال تضر‪ ،‬بل‬
‫وال تنصر نفسها ممن يريدها بأذى‪.‬‬
‫{ فََر َج ُعوا ِإلَى أ َْنفُ ِس ِه ْم } أي‪ :‬ثابت عليهم عقولهم‪ ،‬ورجعت إليهم أحالمهم‪ ،‬وعلموا أنهم ضالون‬
‫َّ ِ‬
‫ون } فحصل بذلك‬‫في عبادتها‪ ،‬وأقروا على أنفسهم بالظلم والشرك‪ { ،‬فَقَالُوا ِإَّن ُك ْم أ َْنتُُم الظال ُم َ‬
‫المقصود‪ ،‬ولزمتهم [ ص ‪ ] 527‬الحجة بإقرارهم أن ما هم عليه باطل وأن فعلهم كفر وظلم‪،‬‬
‫وس ِه ْم } أي‪ :‬انقلب األمر عليهم‪،‬‬ ‫ولكن لم يستمروا على هذه الحالة‪ ،‬ولكن { ُن ِكسوا علَى رء ِ‬
‫ُ َ ُ ُ‬
‫ون } فكيف تهكم‬ ‫ِ ِ‬ ‫وانتكست عقولهم وضلت أحالمهم‪ ،‬فقالوا إلبراهيم‪ { :‬لَقَ ْد َعِل ْم َ‬
‫ت َما َه ُؤالء َي ْنطقُ َ‬
‫بنا وتستهزئ بنا وتأمرنا أن نسألها وأنت تعلم أنها ال تنطق؟ ‪.‬‬
‫فقال إبراهيم ‪ -‬موبخا لهم ومعلنا بشركهم على رءوس األشهاد‪ ،‬ومبينا عدم استحقاق آلهتهم‬
‫ض ُّر ُك ْم } فال نفع وال دفع‪.‬‬ ‫للعبادة‪ { :-‬أَفَتَعب ُدون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون الله َما ال َي ْنفَ ُع ُك ْم َش ْيًئا َوال َي ُ‬ ‫ُْ َ‬
‫ون اللَّ ِه } أي‪ :‬ما أضلكم وأخسر صفقتكم‪ ،‬وما أخسكم‪ ،‬أنتم وما‬
‫ون ِم ْن ُد ِ‬
‫ُف لَ ُك ْم َوِل َما تَ ْعُب ُد َ‬
‫{ أ ٍّ‬
‫عبدتم من دون اهلل‪ ،‬إن كنتم تعقلون عرفتم هذه الحال‪ ،‬فلما عدمتم العقل‪ ،‬وارتكبتم الجهل‬
‫والضالل على بصيرة‪ ،‬صارت البهائم‪ ،‬أحسن حاال منكم‪.‬‬
‫ص ُروا ِآلهَتَ ُك ْم‬
‫فحينئذ لما أفحمهم‪ ،‬ولم يبينوا حجة‪ ،‬استعملوا قوتهم في معاقبته‪ ،‬فـ { قَالُوا َحِّرقُوهُ َو ْان ُ‬
‫ِِ‬
‫ين } أي‪ :‬اقتلوه أشنع القتالت‪ ،‬باإلحراق‪ ،‬غضبا آللهتكم‪ ،‬ونصرة لها‪ .‬فتعسا لهم‬ ‫ِإ ْن ُك ْنتُ ْم فَاعل َ‬
‫تعسا‪ ،‬حيث عبدوا من أقروا أنه يحتاج إلى نصرهم‪ ،‬واتخذوه إلها‪ ،‬فانتصر اهلل لخليله لما ألقوه في‬
‫يم } فكانت عليه بردا وسالما‪ ،‬لم ينله فيها أذى‪،‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫الما َعلَى إ ْب َراه َ‬
‫النار وقال لها‪ُ { :‬كوني َب ْر ًدا َو َس ً‬
‫وال أحس بمكروه‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬في الدنيا واآلخرة‪،‬‬ ‫األخ َس ِر َ‬ ‫ادوا بِ ِه َك ْي ًدا } حيث عزموا على إحراقه‪ { ،‬فَ َج َعْلَن ُ‬
‫اه ُم ْ‬ ‫{ َوأ ََر ُ‬
‫كما جعل اهلل خليله وأتباعه‪ ،‬هم الرابحين المفلحين‪.‬‬
‫طا } وذلك أنه لم يؤمن به من قومه إال لوط عليه السالم قيل‪ :‬إنه ابن أخيه‪ ،‬فنجاه‬ ‫َّيَناهُ َولُو ً‬
‫{ َوَنج ْ‬
‫ين } أي‪ :‬الشام‪ ،‬فغادر قومه في " بابل " من‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫اهلل‪ ،‬وهاجر { ِإلَى األر ِ َّ ِ‬
‫ض التي َب َار ْكَنا فيهَا لْل َعالَم َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫أرض العراق‪ { ،‬وقَ َ ِ‬
‫يم } ومن بركة الشام‪ ،‬أن كثيرا‬‫ال إِّني ُمهَاجٌر إلَى َربِّي إَّنهُ ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬ ‫َ‬
‫من األنبياء كانوا فيها‪ ،‬وأن اهلل اختارها‪ ،‬مهاجرا لخليله‪ ،‬وفيها أحد بيوته الثالثة المقدسة‪ ،‬وهو‬
‫بيت المقدس‪.‬‬
‫وب } ابن إسحاق { َن ِافلَةً } بعدما كبر‪ ،‬وكانت‬ ‫{ َو َو َه ْبَنا لَهُ } حين اعتزل قومه { ِإ ْس َح َ‬
‫اق َوَي ْعقُ َ‬
‫وب } ويعقوب‪ ،‬هو إسرائيل‪،‬‬ ‫زوجته عاقرا‪ ،‬فبشرته المالئكة بإسحاق‪ { ،‬و ِم ْن ور ِ‬
‫اء ِإ ْس َح َ‬
‫اق َي ْعقُ َ‬ ‫َ ََ‬
‫الذي كانت منه األمة العظيمة‪ ،‬وإ سماعيل بن إبراهيم‪ ،‬الذي كانت منه األمة الفاضلة العربية‪،‬‬
‫ين }‬ ‫ومن ذريته‪ ،‬سيد األولين واآلخرين‪ { .‬و ُكال } من إبراهيم وإ سحاق ويعقوب { جعْلَنا ِ ِ‬
‫صالح َ‬‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬قائمين بحقوقه‪ ،‬وحقوق عباده‪ ،‬ومن صالحهم‪ ،‬أنه جعلهم أئمة يهدون بأمره‪ ،‬وهذا من أكبر‬
‫نعم اهلل على عبده أن يكون إماما يهتدي به المهتدون‪ ،‬ويمشي خلفه السالكون‪ ،‬وذلك لما صبروا‪،‬‬
‫وكانوا بآيات اهلل يوقنون‪.‬‬

‫( ‪)1/526‬‬

‫ون بِأ َْم ِرَنا } أي‪ :‬يهدون الناس بديننا‪ ،‬ال يأمرون بأهواء أنفسهم‪ ،‬بل بأمر اهلل ودينه‪،‬‬
‫وقوله‪َ { :‬ي ْه ُد َ‬
‫واتباع مرضاته‪ ،‬وال يكون العبد إماما حتى يدعو إلى أمر اهلل‪.‬‬
‫ات } يفعلونها ويدعون الناس إليها‪ ،‬وهذا شامل لجميع الخيرات كلها‪،‬‬ ‫{ وأَوح ْيَنا ِإلَْي ِهم ِفع َل اْل َخ ْير ِ‬
‫َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ ْ َ‬
‫من حقوق اهلل‪ ،‬وحقوق العباد‪.‬‬
‫الز َك ِاة } هذا من باب عطف الخاص على العام‪ ،‬لشرف هاتين العبادتين‬
‫اء َّ‬ ‫ِ‬
‫{ َوإِقَ َام الصَّالة َوإِيتَ َ‬
‫وفضلهما‪ ،‬وألن من كملهما كما أمر‪ ،‬كان قائما بدينه‪ ،‬ومن ضيعهما‪ ،‬كان لما سواهما أضيع‪،‬‬
‫وألن الصالة أفضل األعمال‪ ،‬التي فيها حقه‪ ،‬والزكاة أفضل األعمال‪ ،‬التي فيها اإلحسان لخلقه‪.‬‬
‫ِ‬
‫{ َو َك ُانوا لََنا } أي‪ :‬ال لغيرنا { َعابِد َ‬
‫ين } أي‪ :‬مديمين على العبادات القلبية والقولية والبدنية في‬
‫أكثر أوقاتهم‪ ،‬فاستحقوا أن تكون العبادة وصفهم‪ ،‬فاتصفوا بما أمر اهلل به الخلق‪ ،‬وخلقهم ألجله‪.‬‬

‫( ‪)1/527‬‬

‫ِِ‬ ‫ت تَ ْع َم ُل اْل َخَبائِ َ‬


‫َّيَناهُ ِم َن اْلقَ ْرَي ِة الَّتِي َك َان ْ‬
‫ث ِإَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو َم َس ْو ٍء فَاسق َ‬
‫ين‬ ‫طا آَتَْيَناهُ ُح ْك ًما َو ِعْل ًما َوَنج ْ‬
‫َولُو ً‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪)75‬‬ ‫(‪َ )74‬وأ َْد َخْلَناهُ في َر ْح َمتَنا ِإَّنهُ م َن الصَّالح َ‬

‫ت تَ ْع َم ُل اْل َخَبائِ َ‬
‫ث ِإَّنهُ ْم َك ُانوا‬ ‫َّيَناهُ ِم َن اْلقَ ْرَي ِة الَّتِي َك َان ْ‬
‫طا آتَْيَناهُ ُح ْك ًما َو ِعْل ًما َوَنج ْ‬
‫{ ‪َ { } 75 - 74‬ولُو ً‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ين * َوأ َْد َخْلَناهُ في َر ْح َمتَنا ِإَّنهُ م َن الصَّالح َ‬ ‫قَ ْو َم َس ْو ٍء فَاسق َ‬
‫هذا ثناء من اهلل على رسوله (لوط) عليه السالم بالعلم الشرعي‪ ،‬والحكم بين الناس‪ ،‬بالصواب‬
‫والسداد‪ ،‬وأن اهلل أرسله إلى قومه‪ ،‬يدعوهم إلى عبادة اهلل‪ ،‬وينهاهم عما هم عليه من الفواحش‪،‬‬
‫فلبث يدعوهم‪ ،‬فلم يستجيبوا له‪ ،‬فقلب اهلل عليهم ديارهم وعذبهم عن آخرهم ألنهم { قَ ْو َم َس ْو ٍء‬
‫ين } كذبوا الداعي‪ ،‬وتوعدوه باإلخراج‪ ،‬ونجى اهلل لوطا وأهله‪ ،‬فأمره أن يسري بهم ليال‬ ‫ِِ‬
‫فَاسق َ‬
‫ليبعدوا عن القرية‪ ،‬فسروا ونجوا‪ ،‬من فضل اهلل عليهم ومنته‪.‬‬
‫{ َوأ َْد َخْلَناهُ ِفي َر ْح َمتَِنا } التي من دخلها‪ ،‬كان من اآلمنين‪ ،‬من جميع المخاوف‪ ،‬النائلين كل خير‬
‫وسعادة‪ ،‬وبر‪ ،‬وسرور‪ ،‬وثناء‪ ،‬وذلك ألنه من الصالحين‪ ،‬الذين صلحت أعمالهم وزكت أحوالهم‪،‬‬
‫وأصلح اهلل فاسدهم‪ ،‬والصالح هو السبب لدخول العبد برحمة اهلل‪ ،‬كما أن الفساد‪ ،‬سبب لحرمانه‬
‫الرحمة والخير‪ ،‬وأعظم الناس صالحا‪ ،‬األنبياء عليهم السالم ولهذا يصفهم بالصالح‪ ،‬وقال‬
‫ين }‬ ‫ِِ‬ ‫ك ِفي ِعَب ِاد َ‬
‫سليمان عليه السالم‪َ { :‬وأ َْد ِخْلنِي بَِر ْح َمتِ َ‬
‫ك الصَّالح َ‬

‫( ‪)1/527‬‬

‫ص ْرَناهُ ِم َن اْلقَ ْوِم‬ ‫ِِ‬ ‫َّيَناه وأ ْ ِ‬


‫َهلَهُ م َن اْل َك ْر ِب اْل َعظيم (‪َ )76‬وَن َ‬ ‫استَ َج ْبَنا لَهُ فََنج ْ ُ َ‬‫ادى م ْن قَْب ُل فَ ْ‬
‫وُنوحا ِإ ْذ َن َ ِ‬
‫َ ً‬
‫ين (‪)77‬‬ ‫اهم أ ْ ِ‬ ‫ين َك َّذُبوا بِآََياتَِنا ِإَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو َم َس ْو ٍء فَأ ْ‬ ‫َِّ‬
‫َج َمع َ‬ ‫َغ َر ْقَن ُ ْ‬ ‫الذ َ‬
‫َهلَهُ ِم َن اْل َك ْر ِب اْل َع ِظ ِيم *‬
‫َّيَناهُ َوأ ْ‬
‫استَ َج ْبَنا لَهُ فََنج ْ‬ ‫{ ‪ { } 77 - 76‬وُنوحا ِإ ْذ َن َ ِ‬
‫ادى م ْن قَْب ُل فَ ْ‬ ‫َ ً‬
‫اهم أ ْ ِ‬ ‫ين َك َّذُبوا بِ َآياتَِنا ِإَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو َم َس ْو ٍء فَأ ْ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫َج َمع َ‬ ‫َغ َر ْقَن ُ ْ‬ ‫ص ْرَناهُ م َن اْلقَ ْوِم الذ َ‬
‫َوَن َ‬
‫أي‪ :‬واذكر عبدنا ورسولنا‪ ،‬نوحا عليه السالم‪ ،‬مثنيا مادحا‪ ،‬حين أرسله اهلل إلى قومه‪ ،‬فلبث فيهم‬
‫ألف سنة‪ ،‬إال خمسين عاما‪ ،‬يدعوهم إلى عبادة اهلل‪ ،‬وينهاهم عن الشرك به‪ ،‬ويبدي فيهم ويعيد‪،‬‬
‫ويدعوهم سرا وجهارا‪ ،‬وليال ونهارا‪ ،‬فلما رآهم ال ينجع فيهم الوعظ‪ ،‬وال يفيد لديهم الزجر‪ ،‬نادى‬
‫ِ‬ ‫ب ال تَ َذر علَى األر ِ ِ‬
‫َّارا } [ ص ‪ ] 528‬فاستجاب اهلل له‬ ‫ض م َن اْل َكاف ِر َ‬
‫ين َدي ً‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ربه وقال‪َ { :‬ر ِّ‬
‫فأغرقهم ولم يبق منهم أحدا ونجى اهلل نوحا وأهله ومن معه من المؤمنين في الفلك المشحون‬
‫وجعل ذريته هم الباقين ونصرهم اهلل على قومه المستهزئين‬

‫( ‪)1/527‬‬

‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ان ِفي اْلحر ِث ِإ ْذ َنفَ َش ْ ِ ِ‬


‫ين (‪)78‬‬ ‫ت فيه َغَن ُم اْلقَ ْوِم َو ُكَّنا ل ُح ْكم ِه ْم َشاهد َ‬ ‫َْ‬ ‫ان ِإ ْذ َي ْح ُك َم ِ‬
‫ود َو ُسلَْي َم َ‬
‫َو َد ُاو َ‬
‫ِِ‬ ‫َّ‬ ‫ود اْل ِجَب َ‬‫ان َو ُكاًّل آَتَْيَنا ُح ْك ًما َو ِعْل ًما َو َس َّخ ْرَنا َم َع َد ُاو َ‬
‫ِّح َن َوالط ْي َر َو ُكَّنا فَاعل َ‬
‫ين (‬ ‫ال ُي َسب ْ‬ ‫اها ُسلَْي َم َ‬
‫فَفَهَّ ْمَن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬
‫يح‬
‫الر َ‬ ‫ون (‪َ )80‬وِل ُسلَْي َم َ‬
‫ان ِّ‬ ‫وس لَ ُك ْم لتُ ْحصَن ُك ْم م ْن َبأْس ُك ْم فَهَ ْل أ َْنتُ ْم َشاك ُر َ‬ ‫ص ْن َعةَ لَُب ٍ‬ ‫‪َ )79‬و َعل ْمَناهُ َ‬
‫ٍ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫اصفَةً تَ ْج ِري بِأَم ِر ِه ِإلَى اأْل َر ِ َّ ِ‬ ‫ع ِ‬
‫ين (‪)81‬‬ ‫ض التي َب َار ْكَنا فيهَا َو ُكَّنا بِ ُك ِّل َش ْيء َعالم َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬

‫يه َغَن ُم اْلقَ ْوِم َو ُكَّنا ِل ُح ْك ِم ِه ْم‬‫ت ِف ِ‬ ‫ان ِفي اْل َح ْر ِث ِإ ْذ َنفَ َش ْ‬ ‫ان ِإ ْذ َي ْح ُك َم ِ‬
‫{ ‪َ { } 82 - 78‬و َد ُاو َد َو ُسلَْي َم َ‬
‫ِّح َن َوالطَّ ْي َر َو ُكَّنا‬ ‫ال ُي َسب ْ‬ ‫ان َو ُكال آتَْيَنا ُح ْك ًما َو ِعْل ًما َو َس َّخ ْرَنا َم َع َد ُاو َد اْل ِجَب َ‬ ‫اها ُسلَْي َم َ‬‫ين * فَفَهَّ ْمَن َ‬ ‫ِِ‬
‫َشاهد َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِِ‬
‫يح‬
‫الر َ‬ ‫ان ِّ‬ ‫ون * َوِل ُسلَْي َم َ‬ ‫وس لَ ُك ْم لتُ ْحصَن ُك ْم م ْن َبأْس ُك ْم فَهَ ْل أ َْنتُ ْم َشاك ُر َ‬ ‫ص ْن َعةَ لَُب ٍ‬ ‫ين * َو َعل ْمَناهُ َ‬ ‫فَاعل َ‬
‫ٍ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫اصفَةً تَ ْج ِري بِأَم ِر ِه ِإلَى األر ِ َّ ِ‬ ‫ع ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ض التي َب َار ْكَنا فيهَا َو ُكَّنا بِ ُك ِّل َش ْيء َعالم َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬واذكر هذين النبيين الكريمين { داود } و { سليمان } مثنيا مبجال إذ آتاهما اهلل العلم الواسع‬
‫ت ِف ِ‬
‫يه َغَن ُم اْلقَ ْوِم } أي‪ :‬إذ تحاكم‬ ‫ان ِفي اْل َح ْر ِث ِإ ْذ َنفَ َش ْ‬
‫والحكم بين العباد‪ ،‬بدليل قوله‪ِ { :‬إ ْذ َي ْح ُك َم ِ‬
‫إليهما صاحب حرث‪ ،‬نفشت فيه غنم القوم اآلخرين‪ ،‬أي‪ :‬رعت ليال فأكلت ما في أشجاره‪،‬‬
‫ورعت زرعه‪ ،‬فقضى فيه داود عليه السالم‪ ،‬بأن الغنم تكون لصاحب الحرث‪ ،‬نظرا إلى تفريط‬
‫أصحابها‪ ،‬فعاقبهم بهذه العقوبة‪ ،‬وحكم فيها سليمان بحكم موافق للصواب‪ ،‬بأن أصحاب الغنم‬
‫يدفعون غنمهم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرها وصوفها ويقومون على بستان صاحب الحرث‪،‬‬
‫حتى يعود إلى حاله األولى‪ ،‬فإذا عاد إلى حاله‪ ،‬ترادا ورجع كل منهما بما له‪ ،‬وكان هذا من كمال‬
‫ان } أي‪ :‬فهمناه هذه القضية‪ ،‬وال يدل ذلك‪،‬‬‫اها ُسلَْي َم َ‬
‫فهمه وفطنته عليه السالم ولهذا قال‪ { :‬فَفَهَّ ْمَن َ‬
‫أن داود لم يفهمه اهلل في غيرها‪ ،‬ولهذا خصها بالذكر بدليل قوله‪َ { :‬و ُكال } من داود وسليمان‬
‫{ آتَْيَنا ُح ْك ًما َو ِعْل ًما } وهذا دليل على أن الحاكم قد يصيب الحق والصواب وقد يخطئ ذلك‪ ،‬وليس‬
‫بمعلوم إذا أخطأ مع بذل اجتهاده‪.‬‬
‫ِّح َن َوالطَّ ْي َر } وذلك أنه كان‬ ‫ثم ذكر ما خص به كال منهما فقال‪َ { :‬و َس َّخ ْرَنا َم َع َد ُاو َد اْل ِجَب َ‬
‫ال ُي َسب ْ‬
‫من أعبد الناس وأكثرهم هلل ذكرا وتسبيحا وتمجيدا‪ ،‬وكان قد أعطاه [اهلل] من حسن الصوت ورقته‬
‫ورخامته‪ ،‬ما لم يؤته أحدا من الخلق‪ ،‬فكان إذا سبح وأثنى على اهلل‪ ،‬جاوبته الجبال الصم والطيور‬
‫ِِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫البهم‪ ،‬وهذا فضل اهلل عليه وإ حسانه فلهذا قال‪َ { :‬و ُكَّنا فَاعل َ‬
‫وس لَ ُك ْم } أي‪ :‬علم اهلل داود عليه السالم‪ ،‬صنعة الدروع‪ ،‬فهو أول من صنعها‬ ‫ص ْن َعةَ لَُب ٍ‬ ‫َّ‬
‫{ َو َعل ْمَناهُ َ‬
‫وعلمها وسرت صناعته إلى من بعده‪ ،‬فأالن اهلل له الحديد‪ ،‬وعلمه كيف يسردها والفائدة فيها‬
‫ْس ُك ْم } أي‪ :‬هي وقاية لكم‪ ،‬وحفظ عند الحرب‪ ،‬واشتداد البأس‪.‬‬ ‫صَن ُكم ِم ْن بأ ِ‬
‫كبيرة‪ِ { ،‬لتُ ْح ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ون } نعمة اهلل عليكم‪ ،‬حيث أجراها على يد عبده داود‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬و َج َع َل‬ ‫ِ‬
‫{ فَهَ ْل أ َْنتُ ْم َشاك ُر َ‬
‫ون }‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫يل تَِقي ُكم اْلح َّر وسرابِي َل تَِقي ُكم بأْس ُكم َك َذِل َ ِ ِ‬‫لَ ُك ْم َس َرابِ َ‬
‫ك ُيت ُّم ن ْع َمتَهُ َعلَْي ُك ْم لَ َعل ُك ْم تُ ْسل ُم َ‬ ‫َْ َ ْ‬ ‫ُ َ َ ََ‬
‫يحتمل أن تعليم اهلل لداود صنعة الدروع وإ النتها أمر خارق للعادة‪ ،‬وأن يكون ‪ -‬كما قاله‬
‫المفسرون‪ :-‬إن اهلل أالن له الحديد‪ ،‬حتى كان يعمله كالعجين والطين‪ ،‬من دون إذابة له على‬
‫النار‪ ،‬ويحتمل أن تعليم اهلل له‪ ،‬على جاري العادة‪ ،‬وأن إالنة الحديد له‪ ،‬بما علمه اهلل من األسباب‬
‫المعروفة اآلن‪ ،‬إلذابتها‪ ،‬وهذا هو الظاهر‪ ،‬ألن اهلل امتن بذلك على العباد وأمرهم بشكرها‪ ،‬ولوال‬
‫أن صنعته من األمور التي جعلها اهلل مقدورة للعباد‪ ،‬لم يمتن عليهم بذلك‪ ،‬ويذكر فائدتها‪ ،‬ألن‬
‫الدروع التي صنع داود عليه السالم‪ ،‬متعذر أن يكون المراد أعيانها‪ ،‬وإ نما المنة بالجنس‪،‬‬
‫يد } وليس فيه أن اإلالنة‬ ‫واالحتمال الذي ذكره المفسرون‪ ،‬ال دليل عليه إال قوله‪َ { :‬وأَلََّنا لَهُ اْل َح ِد َ‬
‫من دون سبب‪ ،‬واهلل أعلم بذلك‪.‬‬
‫اصفَةً } أي‪ :‬سريعة في مرورها‪ { ،‬تَ ْج ِري بِأ َْم ِر ِه } حيث‬ ‫الريح } أي‪ :‬سخرناها { ع ِ‬
‫َ‬ ‫{ َوِل ُسلَْي َم َ‬
‫ان ِّ َ‬
‫ض الَّتِي َب َار ْكَنا ِفيهَا } وهي أرض‬ ‫األر ِ‬ ‫دبرت امتثلت أمره‪ ،‬غدوها شهر ورواحها شهر { ِإلَى ْ‬
‫الشام‪ ،‬حيث كان مقره‪ ،‬فيذهب على الريح شرقا وغربا‪ ،‬ويكون مأواها ورجوعها إلى األرض‬
‫ٍ ِِ‬
‫المباركة‪َ { ،‬و ُكَّنا بِ ُك ِّل َش ْيء َعالم َ‬
‫ين } قد أحاط علمنا بجميع األشياء‪ ،‬وعلمنا من داود وسليمان‪ ،‬ما‬
‫أوصلناهما به إلى ما ذكرنا‪.‬‬

‫( ‪)1/528‬‬

‫ِِ‬ ‫ون َذِل َ‬ ‫الشي ِ‬


‫ك َو ُكَّنا لَهُ ْم َحافظ َ‬
‫ين (‪)82‬‬ ‫ون َع َماًل ُد َ‬
‫ون لَهُ َوَي ْع َملُ َ‬
‫وص َ‬ ‫اط ِ‬
‫ين َم ْن َي ُغ ُ‬ ‫َو ِم َن َّ َ‬
‫ِِ‬ ‫ون َذِل َ‬ ‫الشي ِ‬
‫ك َو ُكَّنا لَهُ ْم َحافظ َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ون َع َمال ُد َ‬
‫ون لَهُ َوَي ْع َملُ َ‬
‫وص َ‬ ‫اط ِ‬
‫ين َم ْن َي ُغ ُ‬ ‫{ َو ِم َن َّ َ‬
‫ك } وهذا أيضا من خصائص سليمان‬ ‫ون َذِل َ‬
‫ون َع َمال ُد َ‬
‫ون لَهُ َوَي ْع َملُ َ‬
‫وص َ‬
‫ين َم ْن َي ُغ ُ‬
‫الشي ِ‬
‫اط ِ‬ ‫{ َو ِم َن َّ َ‬
‫عليه السالم‪ ،‬أن اهلل سخر له الشياطين والعفاريت‪ ،‬وسلطه على تسخيرهم في األعمال‪ ،‬التي ال‬
‫يقدر على كثير منها غيرهم‪ ،‬فكان منهم من يغوص له في البحر‪ ،‬ويستخرج الدر‪ ،‬واللؤلؤ‪ ،‬وغير‬
‫اسي ٍ‬
‫اب وقُ ُد ٍ ِ‬
‫ِ‬ ‫يب َوتَ َماثِي َل َو ِجفَ ٍ‬
‫ات } وسخر طائفة‬ ‫ور َر َ‬ ‫ان َكاْل َج َو َ‬ ‫ذلك‪ ،‬ومنهم من يعمل له { َم َح ِار َ‬
‫منهم‪ ،‬لبناء بيت المقدس‪ ،‬ومات‪ ،‬وهم على عمله‪ ،‬وبقوا بعده سنة‪ ،‬حتى علموا موته‪ ،‬كما سيأتي‬
‫إن شاء اهلل تعالى‪.‬‬

‫( ‪)1/528‬‬

‫استَ َج ْبَنا لَهُ فَ َك َش ْفَنا َما بِ ِه ِم ْن‬


‫ين (‪ )83‬فَ ْ‬
‫ت أَرحم َّ ِ ِ‬
‫الراحم َ‬ ‫ادى َربَّهُ أَِّني َمسَّنِ َي الض ُّ‬
‫ُّر َوأ َْن َ ْ َ ُ‬ ‫ُّوب ِإ ْذ َن َ‬
‫َوأَي َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫ين (‪)84‬‬‫َهلَهُ َو ِم ْثلَهُ ْم َم َعهُ ْم َر ْح َمةً م ْن ع ْندَنا َو ِذ ْك َرى لْل َعابِد َ‬
‫ضٍّر َوآَتَْيَناهُ أ ْ‬
‫ُ‬

‫ِِ‬
‫{ َو ُكَّنا لَهُ ْم َحافظ َ‬
‫ين } أي‪ :‬ال يقدرون على االمتناع منه وعصيانه‪ ،‬بل حفظهم اهلل له‪ ،‬بقوته‬
‫وعزته‪ ،‬وسلطانه‪.‬‬
‫[ ص ‪] 529‬‬
‫ت أَرحم َّ ِ ِ‬ ‫ادى َربَّهُ أَِّني َمسَّنِ َي الض ُّ‬ ‫ُّوب ِإ ْذ َن َ‬
‫استَ َج ْبَنا لَهُ‬
‫ين * فَ ْ‬‫الراحم َ‬ ‫ُّر َوأ َْن َ ْ َ ُ‬ ‫{ ‪َ { } 84 - 83‬وأَي َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين } ‪.‬‬‫َهلَهُ َو ِمثْلَهُ ْم َم َعهُ ْم َر ْح َمةً م ْن ع ْندَنا َو ِذ ْك َرى لْل َعابِد َ‬ ‫فَ َك َش ْفَنا َما بِه م ْن ُ‬
‫ضٍّر َوآتَْيَناهُ أ ْ‬
‫أي‪ :‬واذكر عبدنا ورسولنا‪ ،‬أيوب ‪ -‬مثنيا معظما له‪ ،‬رافعا لقدره ‪ -‬حين ابتاله‪ ،‬ببالء شديد‪،‬‬
‫فوجده صابرا راضيا عنه‪ ،‬وذلك أن الشيطان سلط على جسده‪ ،‬ابتالء من اهلل‪ ،‬وامتحانا فنفخ في‬
‫جسده‪ ،‬فتقرح قروحا عظيمة ومكث مدة طويلة‪ ،‬واشتد به البالء‪ ،‬ومات أهله‪ ،‬وذهب ماله‪ ،‬فنادى‬
‫ين } فتوسل إلى اهلل باإلخبار عن حال نفسه‪،‬‬ ‫ت أَرحم َّ ِ ِ‬ ‫ربه‪ :‬رب { أَِّني َمسَّنِ َي الض ُّ‬
‫الراحم َ‬ ‫ُّر َوأ َْن َ ْ َ ُ‬
‫ض‬ ‫وأنه بلغ الضر منه كل مبلغ‪ ،‬وبرحمة ربه الواسعة العامة فاستجاب اهلل له‪ ،‬وقال له‪ْ { :‬ار ُك ْ‬
‫اب } فركض برجله فخرجت من ركضته عين ماء باردة فاغتسل‬ ‫بِ ِر ْجِل َ‬
‫ك َه َذا ُم ْغتَ َس ٌل َب ِار ٌد َو َش َر ٌ‬
‫َهلَهُ } أي‪ :‬رددنا عليه أهله وماله‪.‬‬ ‫منها وشرب‪ ،‬فأذهب اهلل عنه ما به من األذى‪َ { ،‬وآتَْيَناهُ أ ْ‬
‫{ َو ِمثْلَهُ ْم َم َعهُ ْم } بأن منحه اهلل العافية من األهل والمال شيئا كثيرا‪َ { ،‬ر ْح َمةً ِم ْن ِع ْن ِدَنا } به‪ ،‬حيث‬
‫صبر ورضي‪ ،‬فأثابه اهلل ثوابا عاجال قبل ثواب اآلخرة‪.‬‬
‫ِ ِ‬
‫ين } أي‪ :‬جعلناه عبرة للعابدين‪ ،‬الذين ينتفعون بالعبر‪ ،‬فإذا رأوا ما أصابه من‬ ‫{ َو ِذ ْك َرى لْل َعابِد َ‬
‫البالء‪ ،‬ثم ما أثابه اهلل بعد زواله‪ ،‬ونظروا السبب‪ ،‬وجدوه الصبر‪ ،‬ولهذا أثنى اهلل عليه به في قوله‪:‬‬
‫اب } فجعلوه أسوة وقدوة عندما يصيبهم الضر‪.‬‬ ‫صابًِرا نِ ْع َم اْل َع ْب ُد ِإَّنهُ أ ََّو ٌ‬
‫{ ِإَّنا َو َج ْدَناهُ َ‬

‫( ‪)1/528‬‬

‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اعي َل وإِ ْد ِريس و َذا اْل ِك ْف ِل ُك ٌّل ِمن الصَّابِ ِرين (‪ )85‬وأ َْد َخْلَن ُ ِ‬
‫وإِسم ِ‬
‫اه ْم في َر ْح َمتَنا ِإَّنهُ ْم م َن الصَّالح َ‬
‫ين (‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ‬
‫‪)86‬‬

‫اه ْم ِفي َر ْح َمتَِنا ِإَّنهُ ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫يس َو َذا اْلك ْف ِل ُك ٌّل م َن الصَّابِ ِر َ‬
‫ين * َوأ َْد َخْلَن ُ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪َ { } 86 - 85‬وإِ ْس َماعي َل َوإِ ْد ِر َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫م َن الصَّالح َ‬
‫أي‪ :‬واذكر عبادنا المصطفين‪ ،‬وأنبياءنا المرسلين بأحسن الذكر‪ ،‬وأثن عليهم أبلغ الثناء‪ ،‬إسماعيل‬
‫بن إبراهيم‪ ،‬وإ دريس‪ ،‬وذا الكفل‪ ،‬نبيين من أنبياء بني إسرائيل { ُك ٌّل } من هؤالء المذكورين‬
‫ِ‬
‫{ م َن الصَّابِ ِر َ‬
‫ين } والصبر‪ :‬هو حبس النفس ومنعها‪ ،‬مما تميل بطبعها إليه‪ ،‬وهذا يشمل أنواع‬
‫الصبر الثالثة‪ :‬الصبر على طاعة اهلل والصبر عن معصية اهلل‪ ،‬والصبر على أقدار اهلل المؤلمة‪،‬‬
‫فال يستحق العبد اسم الصبر التام‪ ،‬حتى يوفي هذه الثالثة حقها‪ .‬فهؤالء األنبياء‪ ،‬عليهم الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬قد وصفهم اهلل بالصبر‪ ،‬فدل أنهم وفوها حقها‪ ،‬وقاموا بها كما ينبغي‪ ،‬ووصفهم أيضا‬
‫بالصالح‪ ،‬وهو يشمل صالح القلب‪ ،‬بمعرفة اهلل ومحبته‪ ،‬واإلنابة إليه كل وقت‪ ،‬وصالح اللسان‪،‬‬
‫بأن يكون رطبا من ذكر اهلل‪ ،‬وصالح الجوارح‪ ،‬باشتغالها بطاعة اهلل وكفها عن المعاصي‪.‬‬
‫فبصبرهم وصالحهم‪ ،‬أدخلهم اهلل برحمته‪ ،‬وجعلهم مع إخوانهم من المرسلين‪ ،‬وأثابهم الثواب‬
‫العاجل واآلجل‪ ،‬ولو لم يكن من ثوابهم‪ ،‬إال أن اهلل تعالى نوه بذكرهم في العالمين‪ ،‬وجعل لهم‬
‫لسان صدق في اآلخرين‪ ،‬لكفى بذلك شرفا وفضال‪.‬‬

‫( ‪)1/529‬‬

‫َن اَل ِإلَهَ ِإاَّل أ َْن َ‬ ‫ادى ِفي الظُّلُم ِ‬ ‫َن لَ ْن َن ْق ِد َر َعلَْي ِه فََن َ‬ ‫ون ِإ ْذ َذ َهب م َغ ِ‬
‫الن ِ‬
‫َو َذا ُّ‬
‫ك‬
‫ت ُس ْب َح َان َ‬ ‫ات أ ْ‬ ‫َ‬ ‫ظ َّن أ ْ‬
‫اضًبا فَ َ‬ ‫َ ُ‬
‫ِ‬ ‫َّيَناهُ ِم َن اْل َغ ِّم َو َك َذِل َ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ِإِّني ُك ْن ُ ِ‬
‫ين (‪)88‬‬ ‫ك ُن ْن ِجي اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫استَ َج ْبَنا لَهُ َوَنج ْ‬
‫ين (‪ )87‬فَ ْ‬ ‫ت م َن الظالم َ‬

‫ادى ِفي الظُّلُم ِ‬ ‫َن لَ ْن َن ْق ِد َر َعلَْي ِه فََن َ‬ ‫ون ِإ ْذ َذ َهب م َغ ِ‬


‫َن ال ِإلَهَ‬
‫ات أ ْ‬ ‫َ‬ ‫ظ َّن أ ْ‬
‫اضًبا فَ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫الن ِ‬
‫{ ‪َ { } 88 - 87‬و َذا ُّ‬
‫ِ‬ ‫َّيَناهُ ِم َن اْل َغ ِّم َو َك َذِل َ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ك ِإِّني ُك ْن ُ ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ك ُن ْن ِجي اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫استَ َج ْبَنا لَهُ َوَنج ْ‬
‫ين * فَ ْ‬
‫ت م َن الظالم َ‬ ‫ِإال أ َْن َ‬
‫ت ُس ْب َح َان َ‬
‫أي‪ :‬واذكر عبدنا ورسولنا ذا النون وهو‪ :‬يونس‪ ،‬أي‪ :‬صاحب النون‪ ،‬وهي الحوت‪ ،‬بالذكر‬
‫الجميل‪ ،‬والثناء الحسن‪ ،‬فإن اهلل تعالى أرسله إلى قومه‪ ،‬فدعاهم‪ ،‬فلم يؤمنوا فوعدهم بنزول‬
‫العذاب بأمد سماه لهم‪.‬‬
‫[فجاءهم العذاب] ورأوه عيانا‪ ،‬فعجوا إلى اهلل‪ ،‬وضجوا وتابوا‪ ،‬فرفع اهلل عنهم العذاب كما قال‬
‫اب اْل ِخ ْز ِي‬ ‫آمُنوا َك َش ْفَنا َع ْنهُ ْم َع َذ َ‬
‫ون َس لَ َّما َ‬ ‫يم ُانهَا ِإال قَ ْو َم ُي ُ‬ ‫ِ‬
‫ت فََنفَ َعهَا إ َ‬
‫آمَن ْ‬
‫ت قَ ْرَيةٌ َ‬ ‫تعالى‪َ { :‬فلَ ْوال َك َان ْ‬
‫ين } وقال‪ { :‬وأَرسْلَناه ِإلَى ِم َائ ِة أَْل ٍ‬ ‫اه ْم ِإلَى ِح ٍ‬ ‫ِفي اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫آمُنوا فَ َمتَّ ْعَن ُ‬
‫اه ْم‬ ‫ون فَ َ‬‫يد َ‬ ‫ف أ َْو َي ِز ُ‬ ‫َ ْ َ ُ‬ ‫الد ْنَيا َو َمتَّ ْعَن ُ‬
‫ين } وهذه األمة العظيمة‪ ،‬الذين آمنوا بدعوة يونس‪ ،‬من أكبر فضائله‪ .‬ولكنه عليه الصالة‬ ‫ِإلَى ِح ٍ‬
‫والسالم‪ ،‬ذهب مغاضبا‪ ،‬وأبق عن ربه لذنب من الذنوب‪ ،‬التي لم يذكرها اهلل لنا في كتابه‪ ،‬وال‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم } أي‪ :‬فاعل ما يالم عليه] (‪)1‬‬ ‫ق ِإلَى اْل ُفْلك } { َو ُه َو ُمل ٌ‬
‫حاجة لنا إلى تعيينها [لقوله‪ِ { :‬إ ْذ أََب َ‬
‫والظاهر أن (‪ )2‬عجلته ومغاضبته لقومه وخروجه من بين أظهرهم قبل أن يأمره اهلل بذلك‪ ،‬ظن‬
‫أن اهلل ال يقدر عليه‪ ،‬أي‪ :‬يضيق عليه في بطن الحوت أو ظن أنه سيفوت اهلل تعالى‪ ،‬وال مانع من‬
‫عروض هذا الظن للكمل من الخلق على وجه ال يستقر‪ ،‬وال يستمر عليه‪ ،‬فركب في السفينة مع‬
‫أناس‪ ،‬فاقترعوا‪ ،‬من يلقون منهم في البحر؟ لما خافوا الغرق إن بقوا كلهم‪ ،‬فأصابت القرعة‬
‫يونس‪ ،‬فالتقمه الحوت‪ ،‬وذهب به إلى ظلمات البحار‪ ،‬فنادى في تلك الظلمات‪ { :‬ال ِإلَهَ ِإال أ َْن َ‬
‫ت‬
‫ين } فأقر هلل تعالى بكمال األلوهية‪ ،‬ونزهه عن كل نقص‪ ،‬وعيب‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ك ِإِّني ُك ْن ُ ِ‬
‫ت م َن الظالم َ‬ ‫ُس ْب َح َان َ‬
‫وآفة‪ ،‬واعترف بظلم نفسه وجنايته‪.‬‬
‫ث ِفي ب ْ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫قال اهلل تعالى‪َ { :‬فلَوال أََّنه َك ِ‬
‫طنه ِإلَى َي ْوِم ُي ْب َعثُ َ‬
‫ون } ولهذا قال هنا‬ ‫َ‬ ‫ين * لَلَبِ َ‬
‫ان م َن اْل ُم َسبِّح َ‬‫ُ َ‬ ‫ْ‬
‫َّيَناهُ ِم َن اْل َغ ِّم } أي الشدة التي وقع فيها‬ ‫استَ َج ْبَنا لَهُ َوَنج ْ‬
‫[ ص ‪ { ] 530‬فَ ْ‬
‫ِ‬ ‫{ َو َك َذِل َ‬
‫ين } وهذا وعد وبشارة لكل مؤمن وقع في شدة وغم أن اهلل تعالى سينجيه‬ ‫ك ُن ْن ِجي اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫منها ويكشف عنه ويخفف إليمانه كما فعل بـ " يونس " عليه السالم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬في األصل‪ :‬أنه‪.‬‬

‫( ‪)1/529‬‬

‫استَ َج ْبَنا لَهُ َو َو َه ْبَنا لَهُ َي ْحَيى‬ ‫ت َخ ْي ُر اْل َو ِارثِ َ‬


‫ين (‪ )89‬فَ ْ‬ ‫ب اَل تَ َذ ْرنِي فَ ْر ًدا َوأ َْن َ‬ ‫َو َز َك ِريَّا ِإ ْذ َن َ‬
‫ادى َربَّهُ َر ِّ‬
‫ين (‬ ‫ِِ‬ ‫وأَصلَ ْحَنا لَه َزوجه ِإَّنهم َك ُانوا يس ِارعون ِفي اْل َخ ْير ِ‬
‫ونَنا َر َغًبا َو َر َهًبا َو َك ُانوا لََنا َخاشع َ‬ ‫ات َوَي ْد ُع َ‬ ‫َ‬ ‫َُ ُ َ‬ ‫ُ ْ َ ُ ُْ‬ ‫َ ْ‬
‫‪)90‬‬
‫استَ َج ْبَنا لَهُ‬
‫ين * فَ ْ‬ ‫ت َخ ْي ُر اْل َو ِارثِ َ‬‫ب ال تَ َذ ْرنِي فَ ْر ًدا َوأ َْن َ‬ ‫{ ‪َ { } 90 - 89‬و َز َك ِريَّا ِإ ْذ َن َ‬
‫ادى َربَّهُ َر ِّ‬
‫ونَنا َر َغًبا َو َر َهًبا‬
‫ات َوَي ْد ُع َ‬‫وو َه ْبَنا لَه ي ْحيى وأَصلَ ْحَنا لَه َزوجه ِإَّنهم َك ُانوا يس ِارعون ِفي اْل َخ ْير ِ‬
‫َ‬ ‫َُ ُ َ‬ ‫ُ ْ َ ُ ُْ‬ ‫َُ َ َ ْ‬ ‫ََ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫َو َك ُانوا لََنا َخاشع َ‬
‫أي‪ :‬واذكر عبدنا ورسولنا زكريا‪ ،‬منوها بذكره‪ ،‬ناشرا لمناقبه وفضائله‪ ،‬التي من جملتها‪ ،‬هذه‬
‫ب ال تَ َذ ْرنِي فَ ْر ًدا }‬‫ادى َربَّهُ َر ِّ‬ ‫المنقبة العظيمة المتضمنة لنصحه للخلق‪ ،‬ورحمة اهلل إياه‪ ،‬وأنه { َن َ‬
‫ب َش ِقيًّا * َوإِ ِّني ِخ ْف ُ‬
‫ت‬ ‫ك َر ِّ‬ ‫ْس َش ْيًبا َولَ ْم أَ ُك ْن بِ ُد َعائِ َ‬ ‫ظ ُم ِمِّني َوا ْشتَ َع َل َّ‬
‫الرأ ُ‬ ‫ب ِإِّني َو َه َن اْل َع ْ‬
‫أي‪ { :‬قَا َل َر ِّ‬
‫وب‬
‫آل َي ْعقُ َ‬‫ث ِم ْن ِ‬ ‫ك َوِليًّا * َي ِرثُنِي َوَي ِر ُ‬ ‫ب ِلي ِم ْن لَ ُد ْن َ‬‫ام َرأَتِي َع ِاق ًرا فَهَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اْل َم َوال َي م ْن َو َرائي َو َك َانت ْ‬
‫بر ِ‬
‫ضيًّا }‬ ‫اج َعْلهُ َر ِّ َ‬
‫َو ْ‬
‫ب ال تَ َذ ْرنِي فَ ْر ًدا } أنه لما تقارب أجله‪ ،‬خاف أن ال يقوم أحد‬ ‫من هذه اآليات علمنا أن قوله { َر ِّ‬
‫بعده مقامه في الدعوة إلى اهلل‪ ،‬والنصح لعباد اهلل‪ ،‬وأن يكون في وقته فردا‪ ،‬وال يخلف من يشفعه‬
‫ت َخ ْي ُر اْل َو ِارثِ َ‬
‫ين } أي‪ :‬خير الباقين‪ ،‬وخير من خلفني بخير‪ ،‬وأنت‬ ‫ويعينه‪ ،‬على ما قام به‪َ { ،‬وأ َْن َ‬
‫أرحم بعبادك مني‪ ،‬ولكني أريد ما يطمئن به قلبي‪ ،‬وتسكن له نفسي‪ ،‬ويجري في موازيني ثوابه‪.‬‬
‫استَ َج ْبَنا لَهُ َو َو َه ْبَنا لَهُ َي ْحَيى } النبي الكريم‪ ،‬الذي لم يجعل اهلل له من قبل سميا‪.‬‬
‫{ فَ ْ‬
‫َصلَ ْحَنا لَهُ َز ْو َجهُ } بعدما كانت عاقرا‪ ،‬ال يصلح رحمها للوالدة فأصلح اهلل رحمها للحمل‪،‬‬ ‫{ َوأ ْ‬
‫ألجل نبيه زكريا‪ ،‬وهذا من فوائد الجليس‪ ،‬والقرين الصالح‪ ،‬أنه مبارك على قرينه‪ ،‬فصار يحيى‬
‫مشتركا بين الوالدين‪.‬‬
‫ولما ذكر هؤالء األنبياء والمرسلين‪ ،‬كال على انفراده‪ ،‬أثنى عليهم عموما فقال‪ِ { :‬إَّنهُ ْم َك ُانوا‬
‫ات } أي‪ :‬يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة‪ ،‬ويكملونها على الوجه‬ ‫يس ِارعون ِفي اْل َخ ْير ِ‬
‫َ‬ ‫َُ ُ َ‬
‫ونَنا َر َغًبا‬
‫الالئق الذي ينبغي وال يتركون فضيلة يقدرون عليها‪ ،‬إال انتهزوا الفرصة فيها‪َ { ،‬وَي ْد ُع َ‬
‫َو َر َهًبا } أي‪ :‬يسألوننا األمور المرغوب فيها‪ ،‬من مصالح الدنيا واآلخرة‪ ،‬ويتعوذون بنا من‬
‫األمور المرهوب منها‪ ،‬من مضار الدارين‪ ،‬وهم راغبون راهبون ال غافلون‪ ،‬الهون وال مدلون‪،‬‬
‫ين } أي‪ :‬خاضعين متذللين متضرعين‪ ،‬وهذا لكمال معرفتهم بربهم‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫{ َو َك ُانوا لََنا َخاشع َ‬

‫( ‪)1/530‬‬

‫ُمةً‬ ‫ين (‪ِ )91‬إ َّن َه ِذ ِه أ َّ‬


‫ُمتُ ُك ْم أ َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫اها َو ْابَنهَا آََيةً لْل َعالَم َ‬
‫ت فَرجها فََنفَ ْخَنا ِفيها ِم ْن ر ِ‬
‫وحَنا َو َج َعْلَن َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫صَن ْ ْ َ َ‬ ‫َح َ‬ ‫َوالَّتِي أ ْ‬
‫ون (‪ )93‬فَ َم ْن َي ْع َم ْل ِم َن‬ ‫ون (‪ )92‬وتَقَطَّ ُعوا أَمر ُهم َب ْيَنهم ُك ٌّل ِإلَْيَنا ر ِ‬
‫اج ُع َ‬ ‫اعُب ُد ِ‬ ‫و ِ‬
‫اح َدةً َوأََنا َرُّب ُك ْم فَ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ َ ْ ُْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)94‬‬ ‫ان ل َس ْعيِه َوإِ َّنا لَهُ َكاتُب َ‬‫الصَّال َحات َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن فَاَل ُك ْف َر َ‬
‫ين * ِإ َّن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت فَرجها فََنفَ ْخَنا ِفيها ِم ْن ر ِ‬ ‫{ ‪َ { } 94 - 91‬والَّتِي أ ْ‬
‫اها َو ْابَنهَا َآيةً لْل َعالَم َ‬
‫وحَنا َو َج َعْلَن َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫صَن ْ ْ َ َ‬ ‫َح َ‬
‫َّ‬ ‫ُمةً و ِ‬ ‫َه ِذ ِه أ َّ‬
‫ون * فَ َم ْن َي ْع َم ْل‬‫ون * َوتَقَط ُعوا أ َْم َر ُه ْم َب ْيَنهُ ْم ُك ٌّل ِإلَْيَنا َرا ِج ُع َ‬ ‫اعُب ُد ِ‬
‫اح َدةً َوأََنا َرُّب ُك ْم فَ ْ‬ ‫ُمتُ ُك ْم أ َّ َ‬
‫ِ‬ ‫ات و ُهو مؤ ِم ٌن فَال ُك ْفر ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ان ل َس ْعيِه َوإِ َّنا لَهُ َكاتُب َ‬
‫َ َ‬ ‫م َن الصَّال َح َ َ ُ ْ‬
‫ت‬‫صَن ْ‬ ‫َح َ‬ ‫أي‪ :‬واذكر مريم‪ ،‬عليها السالم‪ ،‬مثنيا عليها مبينا لقدرها‪ ،‬شاهرا لشرفها فقال‪َ { :‬والَّتِي أ ْ‬
‫فَ ْر َجهَا } أي‪ :‬حفظته من الحرام وقربانه‪ ،‬بل ومن الحالل‪ ،‬فلم تتزوج الشتغالها بالعبادة‪،‬‬
‫واستغراق وقتها بالخدمة لربها‪.‬‬
‫الر ْح َم ِن ِم ْن َ‬
‫ك ِإ ْن‬ ‫َعو ُذ بِ َّ‬
‫ت ِإِّني أ ُ‬
‫وحين جاءها جبريل في صورة بشر سوي تام الخلق والحسن { قَالَ ْ‬
‫ت تَِقيًّا } فجازاها اهلل من جنس عملها‪ ،‬ورزقها ولدا من غير أب‪ ،‬بل نفخ فيها جبريل عليه‬ ‫ُك ْن َ‬
‫السالم‪ ،‬فحملت بإذن اهلل‪.‬‬
‫ين } حيث حملت به‪ ،‬ووضعته من دون مسيس أحد‪ ،‬وحيث تكلم في‬ ‫ِ ِ‬
‫اها َو ْابَنهَا َآيةً لْل َعالَم َ‬
‫{ َو َج َعْلَن َ‬
‫المهد‪ ،‬وبرأها مما ظن بها المتهمون وأخبر عن نفسه في تلك الحالة‪ ،‬وأجرى اهلل على يديه من‬
‫الخوارق والمعجزات ما هو معلوم‪ ،‬فكانت وابنها آية للعالمين‪ ،‬يتحدث بها جيال بعد جيل‪ ،‬ويعتبر‬
‫بها المعتبرون‪.‬‬
‫ُمةً و ِ‬
‫اح َدةً } أي‪ :‬هؤالء‬ ‫ولما ذكر األنبياء عليهم السالم‪ ،‬قال مخاطبا للناس‪ِ { :‬إ َّن َه ِذ ِه أ َّ‬
‫ُمتُ ُك ْم أ َّ َ‬
‫الرسل المذكورون هم أمتكم وأئمتكم الذين بهم تأتمون‪ ،‬وبهديهم تقتدون‪ ،‬كلهم على دين واحد‪،‬‬
‫وصراط واحد‪ ،‬والرب أيضا واحد‪.‬‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬وأََنا َرُّب ُك ْم } الذي خلقتكم‪ ،‬وربيتكم بنعمتي‪ ،‬في الدين والدنيا‪ ،‬فإذا كان الرب واحدا‪،‬‬
‫والنبي واحدا‪ ،‬والدين واحدا‪ ،‬وهو عبادة اهلل‪ ،‬وحده ال شريك له‪ ،‬بجميع أنواع العبادة كان‬
‫اعُب ُد ِ‬
‫ون } فرتب العبادة على ما سبق بالفاء‪،‬‬ ‫وظيفتكم والواجب عليكم‪ ،‬القيام بها‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَ ْ‬
‫ترتيب المسبب على سببه‪.‬‬
‫وكان الالئق‪ ،‬االجتماع على هذا األمر‪ ،‬وعدم التفرق فيه‪ ،‬ولكن البغي واالعتداء‪ ،‬أبيا إال‬
‫االفتراق والتقطع‪ .‬ولهذا قال‪ { :‬وتَقَ َّ‬
‫ط ُعوا أ َْم َر ُه ْم َب ْيَنهُ ْم } أي‪ :‬تفرق األحزاب المنتسبون التباع‬ ‫َ‬
‫األنبياء فرقا‪ ،‬وتشتتوا‪ ،‬كل يدعي أن الحق معه‪ ،‬والباطل مع الفريق اآلخر و { ُك ُّل ِح ْز ٍب بِ َما‬
‫لَ َد ْي ِه ْم فَ ِر ُح َ‬
‫ون }‬
‫وقد علم أن المصيب منهم‪ ،‬من كان سالكا للدين القويم‪ ،‬والصراط المستقيم‪ ،‬مؤتما باألنبياء‬
‫وسيظهر هذا‪ ،‬إذا انكشف الغطاء‪ ،‬وبرح الخفاء‪ ،‬وحشر اهلل الناس لفصل القضاء‪ ،‬فحينئذ يتبين‬
‫ون } أي‪:‬‬ ‫الصادق من الكاذب‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬ك ٌّل } من الفرق المتفرقة وغيرهم { ِإلَْيَنا ر ِ‬
‫اج ُع َ‬ ‫َ‬
‫فنجازيهم أتم الجزاء‪.‬‬
‫ات } أي‪ :‬األعمال التي‬ ‫َّالح ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ثم فصل جزاءه فيهم‪ ،‬منطوقا ومفهوما‪ ،‬فقال‪ { :‬فَ َم ْن َي ْع َم ْل م َن الص َ‬
‫شرعتها الرسل وحثت عليها الكتب { َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن } باهلل وبرسله‪ ،‬وما جاءوا به { فَال ُك ْف َر َ‬
‫ان‬
‫ِل َس ْعيِ ِه } أي‪ :‬ال نضيع سعيه وال نبطله‪ ،‬بل نضاعفه له أضعافا كثيرة‪.‬‬
‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬مثبتون له في اللوح المحفوظ‪ ،‬وفي الصحف [ ص ‪ ] 531‬التي مع‬ ‫{ َوإِ َّنا لَهُ َكاتُب َ‬
‫الحفظة‪ .‬أي‪ :‬ومن لم يعمل من الصالحات‪ ،‬أو عملها وهو ليس بمؤمن‪ ،‬فإنه محروم‪ ،‬خاسر في‬
‫دينه‪ ،‬ودنياه‪.‬‬

‫( ‪)1/530‬‬

‫اها أََّنهُ ْم اَل َي ْر ِج ُع َ‬


‫ون (‪)95‬‬ ‫َو َح َر ٌام َعلَى قَ ْرَي ٍة أ ْ‬
‫َهلَ ْكَن َ‬

‫اها أََّنهُ ْم ال َي ْر ِج ُع َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫{ ‪َ { } 95‬و َح َر ٌام َعلَى قَ ْرَي ٍة أ ْ‬
‫َهلَ ْكَن َ‬
‫أي‪ :‬يمتنع على القرى المهلكة المعذبة‪ ،‬الرجوع إلى الدنيا‪ ،‬ليستدركوا ما فرطوا فيه فال سبيل إلى‬
‫الرجوع لمن أهلك وعذب‪ ،‬فليحذر المخاطبون‪ ،‬أن يستمروا على ما يوجب اإلهالك فيقع بهم‪ ،‬فال‬
‫يمكن رفعه‪ ،‬وليقلعوا وقت اإلمكان واإلدراك‪.‬‬

‫( ‪)1/531‬‬

‫ق فَِإ َذا ِه َي‬


‫ب اْلو ْع ُد اْل َح ُّ‬
‫ون (‪َ )96‬وا ْقتََر َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وج َو ُه ْم م ْن ُك ِّل َح َد ٍب َي ْنسلُ َ‬ ‫ْج ُ‬‫وج َو َمأ ُ‬
‫ْج ُ‬ ‫َحتَّى ِإ َذا فُتِ َح ْ‬
‫ت َيأ ُ‬
‫ين (‪)97‬‬ ‫اخصةٌ أ َْبصار الَِّذين َكفَروا يا وْيلََنا قَ ْد ُكَّنا ِفي َغ ْفلَ ٍة ِم ْن َه َذا ب ْل ُكَّنا َ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ظالم َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ َ‬ ‫َُ‬ ‫َش َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪َ { } 97 - 96‬حتَّى ِإ َذا فُتِ َح ْ‬


‫ب اْل َو ْع ُد‬
‫ون * َوا ْقتََر َ‬ ‫وج َو ُه ْم م ْن ُك ِّل َح َد ٍب َي ْنسلُ َ‬ ‫ْج ُ‬ ‫وج َو َمأ ُ‬
‫ْج ُ‬
‫ت َيأ ُ‬
‫اخصةٌ أ َْبصار الَِّذين َكفَروا يا وْيلََنا قَ ْد ُكَّنا ِفي َغ ْفلَ ٍة ِم ْن َه َذا ب ْل ُكَّنا َ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ظالم َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ َ‬ ‫َُ‬ ‫ق فَِإ َذا ه َي َش َ‬
‫اْل َح ُّ‬
‫هذا تحذير من اهلل للناس‪ ،‬أن يقيموا على الكفر والمعاصي‪ ،‬وأنه قد قرب انفتاح يأجوج ومأجوج‪،‬‬
‫وهما قبيلتان عظيمتان من بني آدم‪ ،‬وقد سد عليهم ذو القرنين‪ ،‬لما شكي إليه إفسادهم في األرض‪،‬‬
‫وفي آخر الزمان‪ ،‬ينفتح السد عنهم‪ ،‬فيخرجون إلى الناس في هذه الحالة والوصف‪ ،‬الذي ذكره‬
‫اهلل من كل من مكان مرتفع‪ ،‬وهو الحدب ينسلون أي‪ :‬يسرعون‪ .‬وفي هذا داللة على كثرتهم‬
‫الباهرة‪ ،‬وإ سراعهم في األرض‪ ،‬إما بذواتهم‪ ،‬وإ ما بما خلق اهلل لهم من األسباب التي تقرب لهم‬
‫البعيد‪ ،‬وتسهل عليهم الصعب‪ ،‬وأنهم يقهرون الناس‪ ،‬ويعلون عليهم في الدنيا‪ ،‬وأنه ال يد ألحد‬
‫بقتالهم‪.‬‬
‫ب اْلو ْع ُد اْل َح ُّ‬
‫ق } أي‪ :‬يوم القيامة الذي وعد اهلل بإتيانه‪ ،‬ووعده حق وصدق‪ ،‬ففي ذلك‬ ‫{ َوا ْقتََر َ َ‬
‫اليوم ترى أبصار الكفار شاخصة‪ ،‬من شدة األفزاع واألهوال المزعجة‪ ،‬والقالقل المفظعة‪ ،‬وما‬
‫كانوا يعرفون من جناياتهم وذنوبهم‪ ،‬وأنهم يدعون بالويل والثبور‪ ،‬والندم والحسرة‪ ،‬على ما فات‬
‫ويقولون لـ ‪ { :‬قَ ْد ُكَّنا ِفي َغ ْفلَ ٍة ِم ْن َه َذا } اليوم العظيم‪ ،‬فلم نزل فيها مستغرقين‪ ،‬وفي لهو الدنيا‬
‫متمتعين‪ ،‬حتى أتانا اليقين‪ ،‬ووردنا القيامة‪ ،‬فلو كان يموت أحد من الندم والحسرة‪ ،‬لماتوا‪َ { .‬ب ْل‬
‫ين } اعترفوا بظلمهم‪ ،‬وعدل اهلل فيهم‪ ،‬فحينئذ يؤمر بهم إلى النار‪ ،‬هم وما كانوا يعبدون‪،‬‬ ‫ُكَّنا َ ِ ِ‬
‫ظالم َ‬
‫ولهذا قال‪:‬‬

‫( ‪)1/531‬‬

‫ان َه ُؤاَل ِء آَِلهَةً َما َو َر ُد َ‬ ‫ِإَّن ُكم وما تَعب ُدون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬


‫وها‬ ‫ب َجهََّن َم أ َْنتُ ْم لَهَا َو ِار ُد َ‬
‫ون (‪ )98‬لَ ْو َك َ‬ ‫صُ‬‫ون الله َح َ‬ ‫ْ َ َ ُْ َ‬
‫ت لَهُ ْم ِمَّنا‬ ‫َِّ‬
‫ون (‪ِ )100‬إ َّن الذ َ‬
‫ين َسَبقَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪ )99‬لَهُ ْم فيهَا َز ِف ٌير َو ُه ْم فيهَا اَل َي ْس َم ُع َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو ُك ٌّل فيهَا َخال ُد َ‬
‫ون (‪)101‬‬ ‫اْل ُح ْسَنى أُولَئِ َ‬
‫ك َعْنهَا ُم ْب َع ُد َ‬

‫ون اللَّ ِه حصب جهَّنم أ َْنتُم لَها و ِار ُدون * لَو َكان َهؤ ِ‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬
‫الء‬ ‫ْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ َََ ْ َ َ‬ ‫{ ‪ِ { } 103 - 98‬إَّن ُك ْم َو َما تَ ْعُب ُد َ‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت لَهُ ْم‬ ‫ون * ِإ َّن الذ َ‬
‫ين َسَبقَ ْ‬ ‫وها َو ُك ٌّل فيهَا َخال ُد َ‬
‫ون * لَهُ ْم فيهَا َز ِف ٌير َو ُه ْم فيهَا ال َي ْس َم ُع َ‬ ‫ِآلهَةً َما َو َر ُد َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ك َع ْنهَا ُم ْب َع ُد َ‬ ‫ِمَّنا اْل ُح ْسَنى أُولَئِ َ‬
‫ب َجهََّن َم } أي‪ :‬وقودها وحطبها { أ َْنتُ ْم لَهَا‬ ‫صُ‬ ‫أي‪ :‬إنكم أيها العابدون مع اهلل آلهة غيره { َح َ‬
‫ون } وأصنامكم‪.‬‬ ‫َو ِار ُد َ‬
‫والحكمة في دخول األصنام النار‪ ،‬وهي جماد‪ ،‬ال تعقل‪ ،‬وليس عليها ذنب‪ ،‬بيان كذب من اتخذها‬
‫ِ‬ ‫الء ِآلهَةً َما َو َر ُد َ‬
‫ِّن‬ ‫آلهة‪ ،‬وليزداد عذابهم‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬لَو َكان َهؤ ِ‬
‫وها } وهذا كقوله تعالى‪ { :‬لُيَبي َ‬ ‫ْ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫لَهم الَِّذي ي ْختَِلفُ ِ ِ‬
‫ين } وكل من العابدين والمعبودين فيها‪،‬‬ ‫ين َكفَ ُروا أََّنهُ ْم َك ُانوا َكاذبِ َ‬
‫ون فيه َوِلَي ْعلَ َم الذ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُُ‬
‫خالدون‪ ،‬ال يخرجون منها‪ ،‬وال ينتقلون عنها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } صم بكم عمي‪ ،‬أوال يسمعون من‬ ‫{ لَهُ ْم فيهَا َز ِف ٌير } من شدة العذاب { َو ُه ْم فيهَا ال َي ْس َم ُع َ‬
‫األصوات غير صوتها‪ ،‬لشدة غليانها‪ ،‬واشتداد زفيرها وتغيظها‪.‬‬
‫ودخول آلهة المشركين النار‪ ،‬إنما هو األصنام‪ ،‬أو من عبد‪ ،‬وهو راض بعبادته‪.‬‬
‫وأما المسيح‪ ،‬وعزير‪ ،‬والمالئكة ونحوهم‪ ،‬ممن عبد من األولياء‪ ،‬فإنهم ال يعذبون فيها‪ ،‬ويدخلون‬
‫ت لَهُ ْم ِمَّنا اْل ُح ْسَنى } أي‪ :‬سبقت لهم سابقة السعادة في علم اهلل‪ ،‬وفي‬ ‫َِّ‬
‫في قوله‪ِ { :‬إ َّن الذ َ‬
‫ين َسَبقَ ْ‬
‫اللوح المحفوظ وفي تيسيرهم في الدنيا لليسرى واألعمال الصالحة‪.‬‬
‫ون } فال يدخلونها‪ ،‬وال يكونون قريبا منها‪ ،‬بل يبعدون‬ ‫{ أُولَئِ َ‬
‫ك َع ْنهَا } أي‪ :‬عن النار { ُم ْب َع ُد َ‬
‫عنها‪ ،‬غاية البعد‪ ،‬حتى ال يسمعوا حسيسها‪ ،‬وال يروا شخصها‪.‬‬

‫( ‪)1/531‬‬

‫ِ‬ ‫يسهَا َو ُه ْم ِفي َما ا ْشتَهَ ْ‬ ‫ِ‬


‫ون (‪ )102‬اَل َي ْح ُزُنهُ ُم اْلفََزعُ اأْل َ ْكَب ُر َوتَتَلَقَّ ُ‬
‫اه ُم‬ ‫ت أ َْنفُ ُسهُ ْم َخال ُد َ‬ ‫ون َحس َ‬ ‫اَل َي ْس َم ُع َ‬
‫ون (‪)103‬‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫وع ُد َ‬‫اْل َماَل ئ َكةُ َه َذا َي ْو ُم ُك ُم الذي ُك ْنتُ ْم تُ َ‬

‫ِ‬ ‫يسهَا َو ُه ْم ِفي َما ا ْشتَهَ ْ‬ ‫ِ‬


‫ون * ال َي ْح ُزُنهُ ُم اْلفََزعُ األ ْكَب ُر َوتَتَلَقَّ ُ‬
‫اه ُم‬ ‫ت أ َْنفُ ُسهُ ْم َخال ُد َ‬ ‫ون َحس َ‬ ‫{ ال َي ْس َم ُع َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫وع ُد َ‬
‫اْل َمالئ َكةُ َه َذا َي ْو ُم ُك ُم الذي ُك ْنتُ ْم تُ َ‬
‫ون } من المآكل‪ ،‬والمشارب‪ ،‬والمناكح والمناظر‪ ،‬مما ال عين‬ ‫ِ‬ ‫{ َو ُه ْم ِفي َما ا ْشتَهَ ْ‬
‫ت أ َْنفُ ُسهُ ْم َخال ُد َ‬
‫رأت‪ ،‬وال أذن سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب بشر‪ ،‬مستمر لهم ذلك‪ ،‬يزداد حسنه على األحقاب‪.‬‬
‫{ ال َي ْح ُزُنهُ ُم اْلفََزعُ األ ْكَب ُر } أي‪ :‬ال يقلقهم إذا فزع الناس أكبر فزع‪ ،‬وذلك يوم القيامة‪ ،‬حين تقرب‬
‫النار‪ ،‬تتغيظ على الكافرين والعاصين فيفزع الناس لذلك األمر وهؤالء ال يحزنهم‪ ،‬لعلمهم بما‬
‫يقدمون عليه وأن اهلل قد أمنهم مما يخافون‪.‬‬
‫اه ُم اْل َمالئِ َكةُ } إذا بعثوا من قبورهم‪ ،‬وأتوا على النجائب وفدا‪ ،‬لنشورهم‪ ،‬مهنئين لهم‬ ‫{ َوتَتَلَقَّ ُ‬
‫ون } فليهنكم ما وعدكم اهلل‪ ،‬وليعظم استبشاركم‪ ،‬بما أمامكم‬ ‫َِّ‬
‫وع ُد َ‬
‫قائلين‪َ { :‬ه َذا َي ْو ُم ُك ُم الذي ُك ْنتُ ْم تُ َ‬
‫من الكرامة‪ ،‬وليكثر فرحكم وسروركم‪ ،‬بما أمنكم اهلل من المخاوف والمكاره‪.‬‬

‫( ‪)1/531‬‬

‫ِِ‬ ‫ق ُن ِع ُ‬
‫ِّج ِّل ِلْل ُكتُ ِب َك َما َب َدأَْنا أ ََّو َل َخْل ٍ‬
‫ط ِّي الس ِ‬
‫يدهُ َو ْع ًدا َعلَْيَنا ِإَّنا ُكَّنا فَاعل َ‬
‫ين (‪)104‬‬ ‫اء َك َ‬ ‫ط ِوي الس َ‬
‫َّم َ‬ ‫َي ْو َم َن ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ور ِم ْن َبع ِد ِّ‬ ‫ولَقَ ْد َكتَْبَنا ِفي َّ‬
‫ون (‪)105‬‬ ‫ي الصَّال ُح َ‬ ‫ض َي ِرثُهَا عَباد َ‬ ‫َن اأْل َْر َ‬ ‫الذ ْك ِر أ َّ‬ ‫ْ‬ ‫الزُب ِ‬ ‫َ‬

‫ق ُن ِع ُ‬
‫يدهُ َو ْع ًدا َعلَْيَنا‬ ‫الس ِج ِّل ِلْل ُكتُ ِب َك َما َب َدأَْنا أ ََّو َل َخْل ٍ‬
‫ط ِّي ِّ‬ ‫اء َك َ‬ ‫ط ِوي الس َ‬
‫َّم َ‬ ‫{ ‪َ { } 105 - 104‬ي ْو َم َن ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ور ِم ْن َبع ِد ِّ‬ ‫ين * ولَقَ ْد َكتَْبَنا ِفي َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ي الصَّال ُح َ‬ ‫ض َي ِرثُهَا عَباد َ‬ ‫األر َ‬
‫َن ْ‬ ‫الذ ْك ِر أ َّ‬ ‫ْ‬ ‫الزُب ِ‬ ‫إَّنا ُكَّنا فَاعل َ َ‬
‫يخبر تعالى أنه يوم القيامة يطوي السماوات ‪ -‬على عظمها واتساعها ‪ -‬كما يطوي الكاتب‬
‫للسجل أي‪ :‬الورقة المكتوب فيها‪ ،‬فتنثر نجومها‪ ،‬ويكور شمسها وقمرها‪ ،‬وتزول عن أماكنها‬
‫ق ُن ِع ُ‬
‫يدهُ } أي‪ :‬إعادتنا للخلق‪ ،‬مثل ابتدائنا لخلقهم‪ ،‬فكما ابتدأنا خلقهم‪ ،‬ولم‬ ‫{ َك َما َب َدأَْنا أ ََّو َل َخْل ٍ‬
‫يكونوا شيئا‪ ،‬كذلك نعيدهم بعد موتهم‪.‬‬
‫ِِ‬
‫{ َو ْع ًدا َعلَْيَنا ِإَّنا ُكَّنا فَاعل َ‬
‫ين } ننفذ ما وعدنا‪ ،‬لكمال قدرته‪ ،‬وأنه ال تمتنع منه األشياء‪.‬‬
‫ور } وهو الكتاب المزبور‪ ،‬والمراد‪ :‬الكتب المنزلة‪ ،‬كالتوراة ونحوها { ِم ْن‬ ‫{ ولَقَ ْد َكتَْبَنا ِفي َّ‬
‫الزُب ِ‬ ‫َ‬
‫َب ْعد الذ ْك ِر } [ ص ‪ ] 532‬أي‪ :‬كتبناه في الكتب المنزلة‪ ،‬بعد ما كتبنا في الكتاب السابق‪ ،‬الذي هو‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫اللوح المحفوظ‪ ،‬وأم الكتاب الذي توافقه جميع التقادير المتأخرة عنه والمكتوب في ذلك‪ { :‬أ َّ‬
‫َن‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون } الذين قاموا بالمأمورات‪ ،‬واجتنبوا‬ ‫ي الصَّال ُح َ‬ ‫ض } أي‪ :‬أرض الجنة { َي ِرثُهَا عَباد َ‬ ‫األر َ‬
‫ْ‬
‫ص َدقََنا َو ْع َدهُ َوأ َْو َرثََنا‬ ‫َِّ ِ َِّ‬
‫المنهيات‪ ،‬فهم الذين يورثهم اهلل الجنات‪ ،‬كقول أهل الجنة‪ { :‬اْل َح ْم ُد لله الذي َ‬
‫اء }‬‫ث َن َش ُ‬‫ض َنتََب َّوأُ ِم َن اْل َجَّن ِة َح ْي ُ‬
‫األر َ‬
‫ْ‬
‫ويحتمل أن المراد‪ :‬االستخالف في األرض‪ ،‬وأن الصالحين يمكن اهلل لهم في األرض‪ ،‬ويوليهم‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َِّ‬
‫ض َك َما‬ ‫آمُنوا م ْن ُك ْم َو َعملُوا الصَّال َحات لََي ْستَ ْخلفََّنهُ ْم في ْ‬
‫ين َ‬‫عليها كقوله تعالى‪َ { :‬و َع َد اللهُ الذ َ‬
‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم } اآلية‪.‬‬ ‫استَ ْخلَ َ َِّ‬
‫ف الذ َ‬ ‫ْ‬

‫( ‪)1/531‬‬

‫وحى ِإلَ َّي‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِإ َّن ِفي َه َذا لََباَل ًغا ِلقَوٍم َعابِِدين (‪ )106‬وما أَرسْلَنا َ اَّل‬
‫ين (‪ُ )107‬ق ْل ِإَّن َما ُي َ‬‫ك ِإ َر ْح َمةً لْل َعالَم َ‬ ‫ََ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫اح ٌد فَه ْل أ َْنتُم مسِلمون (‪ )108‬فَِإ ْن تَولَّوا فَ ُق ْل َآ َذ ْنتُ ُكم علَى سو ٍ‬
‫اء َوإِ ْن أ َْد ِري أَقَ ِر ٌ‬
‫يب‬ ‫أََّنما ِإلَه ُكم ِإلَهٌ و ِ‬
‫ْ َ ََ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ ُْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ْ َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫أ َْم َب ِع ٌ‬
‫ون (‪َ )110‬وإِ ْن أ َْد ِري لَ َعلهُ‬ ‫ون (‪ِ )109‬إَّنهُ َي ْعلَ ُم اْل َج ْه َر م َن اْلقَ ْو ِل َوَي ْعلَ ُم َما تَ ْكتُ ُم َ‬
‫وع ُد َ‬‫يد َما تُ َ‬
‫ون (‬ ‫ِ‬ ‫اح ُك ْم بِاْل َح ِّ‬ ‫ين (‪ )111‬قَا َل َر ِّ‬ ‫ِفتَْنةٌ لَ ُك ْم َو َمتَاعٌ ِإلَى ِح ٍ‬
‫ان َعلَى َما تَصفُ َ‬ ‫الر ْح َم ُن اْل ُم ْستَ َع ُ‬
‫ق َو َربَُّنا َّ‬ ‫ب ْ‬
‫‪)112‬‬

‫ين * ُق ْل ِإَّن َما‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ِ { } 112 - 106‬إ َّن ِفي َه َذا لَب ً ِ‬
‫اك ِإال َر ْح َمةً لْل َعالَم َ‬
‫ين * َو َما أ َْر َسْلَن َ‬ ‫الغا لقَ ْوٍم َعابِد َ‬ ‫َ‬
‫اء َوإِ ْن أ َْد ِري‬ ‫اح ٌد فَه ْل أ َْنتُم مسِلمون * فَِإ ْن تَولَّوا فَ ُق ْل آ َذ ْنتُ ُكم علَى سو ٍ‬ ‫يوحى ِإلَ َّي أََّنما ِإلَه ُكم ِإلَهٌ و ِ‬
‫ْ َ ََ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ ُْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ْ َ‬ ‫ُ َ‬
‫ون * َوإِ ْن أ َْد ِري لَ َعلَّهُ ِفتَْنةٌ‬ ‫ِ‬
‫ون * ِإَّنهُ َي ْعلَ ُم اْل َج ْه َر م َن اْلقَ ْو ِل َوَي ْعلَ ُم َما تَ ْكتُ ُم َ‬
‫وع ُد َ‬‫يد َما تُ َ‬ ‫يب أ َْم َب ِع ٌ‬‫أَقَ ِر ٌ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫اح ُك ْم بِاْل َح ِّ‬ ‫ال َر ِّ‬ ‫لَ ُك ْم َو َمتَاعٌ ِإلَى ِح ٍ‬
‫ان َعلَى َما تَصفُ َ‬ ‫الر ْح َم ُن اْل ُم ْستَ َع ُ‬
‫ق َو َربَُّنا َّ‬ ‫ب ْ‬ ‫ين * قَ َ‬
‫يثني اهلل تعالى على كتابه العزيز " القرآن " ويبين كفايته التامة عن كل شيء‪ ،‬وأنه ال يستغنى‬
‫ِ‬ ‫عنه فقال‪ِ { :‬إ َّن ِفي َه َذا لَب ً ِ‬
‫ين } أي‪ :‬يتبلغون به في الوصول إلى ربهم‪ ،‬وإ لى دار‬‫الغا لقَ ْوٍم َعابِد َ‬ ‫َ‬
‫كرامته‪ ،‬فوصلهم إلى أجل المطالب‪ ،‬وأفضل الرغائب‪ .‬وليس للعابدين‪ ،‬الذين هم أشرف الخلق‪،‬‬
‫وراءه غاية‪ ،‬ألنه الكفيل بمعرفة ربهم‪ ،‬بأسمائه‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬وباإلخبار بالغيوب الصادقة‪،‬‬
‫وبالدعوة لحقائق اإليمان‪ ،‬وشواهد اإليقان‪ ،‬المبين للمأمورات كلها‪ ،‬والمنهيات جميعا‪ ،‬المعرف‬
‫بعيوب النفس والعمل‪ ،‬والطرق التي ينبغي سلوكها في دقيق الدين وجليله‪ ،‬والتحذير من طرق‬
‫الشيطان‪ ،‬وبيان مداخله على اإلنسان‪ ،‬فمن لم يغنه القرآن‪ ،‬فال أغناه اهلل‪ ،‬ومن ال يكفيه‪ ،‬فال كفاه‬
‫اهلل‪.‬‬
‫ِ ِ‬
‫اك ِإال َر ْح َمةً لْل َعالَم َ‬
‫ين } فهو رحمته‬ ‫ثم أثنى على رسوله‪ ،‬الذي جاء بالقرآن فقال‪َ { :‬و َما أ َْر َسْلَن َ‬
‫المهداة لعباده‪ ،‬فالمؤمنون به‪ ،‬قبلوا هذه الرحمة‪ ،‬وشكروها‪ ،‬وقاموا بها‪ ،‬وغيرهم كفرها‪ ،‬وبدلوا‬
‫نعمة اهلل كفرا‪ ،‬وأبوا رحمة اهلل ونعمته‪.‬‬
‫{ ُق ْل } يا محمد { ِإَّنما يوحى ِإلَ َّي أََّنما ِإلَه ُكم ِإلَهٌ و ِ‬
‫اح ٌد } الذي ال يستحق العبادة إال هو‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬ ‫َ ُ ْ َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫ون } أي‪ :‬منقادون لعبوديته مستسلمون أللوهيته‪ ،‬فإن فعلوا فليحمدوا ربهم على‬ ‫ِ‬
‫{ فَهَ ْل أ َْنتُ ْم ُم ْسل ُم َ‬
‫من عليهم بهذه النعمة التي فاقت المنن‪.‬‬ ‫ما َّ‬
‫{ فَِإ ْن تََولَّ ْوا } عن االنقياد لعبودية ربهم‪ ،‬فحذرهم حلول المثالت‪ ،‬ونزول العقوبة‪.‬‬
‫اء } أي علمي وعلمكم بذلك مستو‪ ،‬فال تقولوا ‪-‬‬‫{ فَ ُق ْل آ َذ ْنتُ ُكم } أي‪ :‬أعلمتكم بالعقوبة { علَى سو ٍ‬
‫َ ََ‬ ‫ْ‬
‫ير } بل اآلن‪ ،‬استوى علمي وعلمكم‪ ،‬لما‬ ‫ير َوال َن ِذ ٍ‬
‫اءَنا ِم ْن َب ِش ٍ‬
‫إذا أنزل بكم العذاب‪َ { :‬ما َج َ‬
‫أنذرتكم‪ ،‬وحذرتكم‪ ،‬وأعلمتكم بمآل الكفر‪ ،‬ولم أكتم عنكم شيئا‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬من العذاب ألن علمه عند اهلل‪ ،‬وهو بيده‪ ،‬ليس لي‬ ‫وع ُد َ‬
‫يد َما تُ َ‬ ‫يب أ َْم َب ِع ٌ‬‫{ َوإِ ْن أ َْد ِري أَقَ ِر ٌ‬
‫من األمر شيء‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬لعل تأخير العذاب الذي استعجلتموه شر لكم‪،‬‬ ‫{ َوإِ ْن أ َْد ِري لَ َعلَّهُ ِفتَْنةٌ لَ ُك ْم َو َمتَاعٌ ِإلَى ِح ٍ‬
‫وأن تتمتعوا في الدنيا إلى حين‪ ،‬ثم يكون أعظم لعقوبتكم‪.‬‬
‫ق } أي‪ :‬بيننا وبين القوم الكافرين‪ ،‬فاستجاب اهلل هذا الدعاء‪ ،‬وحكم بينهم في‬ ‫اح ُك ْم بِاْل َح ِّ‬
‫ب ْ‬ ‫{ قَا َل َر ِّ‬
‫الدنيا قبل اآلخرة‪ ،‬بما عاقب اهلل به الكافرين من وقعة " بدر " وغيرها‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬نسأل ربنا الرحمن‪ ،‬ونستعين به على ما‬ ‫ِ‬
‫ان َعلَى َما تَصفُ َ‬
‫الر ْح َم ُن اْل ُم ْستَ َع ُ‬
‫{ َو َربَُّنا َّ‬
‫تصفون‪ ،‬من قولكم سنظهر عليكم‪ ،‬وسيضمحل دينكم‪ ،‬فنحن في هذا‪ ،‬ال نعجب بأنفسنا‪ ،‬وال نتكل‬
‫على حولنا وقوتنا‪ ،‬وإ نما نستعين بالرحمن‪ ،‬الذي ناصية كل مخلوق بيده‪ ،‬ونرجوه أن يتم ما‬
‫استعناه به من رحمته‪ ،‬وقد فعل‪ ،‬وهلل الحمد‪.‬‬

‫( ‪)1/532‬‬

‫تفسير سورة الحج قيل‪:‬‬


‫مكية‪ ،‬وقيل‪ :‬مدنية‬
‫( ‪)1/532‬‬

‫ض َع ٍة َع َّما‬
‫الناس اتَّقُوا رَّب ُكم ِإ َّن َزْل َزلَةَ السَّاع ِة َشيء ع ِظيم (‪ )1‬يوم تَروَنها تَ ْذ َه ُل ُك ُّل مر ِ‬
‫ُْ‬ ‫َْ َ َ ْ َ‬ ‫ٌْ َ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َيا أَيُّهَا َّ ُ‬
‫اب اللَّ ِه‬ ‫ِ‬
‫اس ُس َك َارى َو َما ُه ْم بِ ُس َك َارى َولَك َّن َع َذ َ‬
‫الن َ‬
‫ت وتَضع ُك ُّل َذ ِ‬
‫ات َح ْم ٍل َح ْملَهَا َوتََرى َّ‬ ‫ض َع ْ َ َ ُ‬
‫أ َْر َ‬
‫َش ِد ٌ‬
‫يد (‪)2‬‬

‫ِ‬ ‫الناس اتَّقُوا رَّب ُكم ِإ َّن َزْل َزلَةَ الس ِ‬ ‫الر ْحم ِن َّ ِ ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬
‫يم *‬
‫َّاعة َش ْي ٌء َعظ ٌ‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫الرحيم َيا أَيُّهَا َّ ُ‬ ‫{ ‪ { } 2 - 1‬ب ْسم الله َّ َ‬
‫ت وتَضع ُك ُّل َذ ِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫اس ُس َك َارى‬ ‫ات َح ْم ٍل َح ْملَهَا َوتََرى َّ‬
‫الن َ‬ ‫ض َع ْ َ َ ُ‬ ‫َي ْو َم تََر ْوَنهَا تَ ْذ َه ُل ُك ُّل ُم ْرض َعة َع َّما أ َْر َ‬
‫يد } ‪.‬‬ ‫اب اللَّ ِه َش ِد ٌ‬ ‫ِ‬
‫َو َما ُه ْم بِ ُس َك َارى َولَك َّن َع َذ َ‬
‫يخاطب اهلل الناس كافة‪ ،‬بأن يتقوا ربهم‪ ،‬الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة‪ ،‬فحقيق بهم أن‬
‫يتقوه‪ ،‬بترك الشرك والفسوق والعصيان‪ ،‬ويمتثلوا أوامره‪ ،‬مهما استطاعوا‪.‬‬
‫ثم ذكر ما يعينهم على التقوى‪ ،‬ويحذرهم من تركها‪ ،‬وهو اإلخبار بأهوال القيامة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫يم } ال يقدر قدره‪ ،‬وال يبلغ كنهه‪ ،‬ذلك بأنها إذا وقعت الساعة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫{ ِإ َّن َزْل َزلَةَ الس ِ‬
‫َّاعة َش ْي ٌء َعظ ٌ‬
‫َ‬
‫رجفت األرض وارتجت‪ ،‬وزلزلت زلزالها‪ [ ،‬ص ‪ ] 533‬وتصدعت الجبال‪ ،‬واندكت‪ ،‬وكانت‬
‫كثيبا مهيال ثم كانت هباء منبثا‪ ،‬ثم انقسم الناس ثالثة أزواج‪.‬‬
‫فهناك تنفطر السماء‪ ،‬وتكور الشمس والقمر‪ ،‬وتنتثر النجوم‪ ،‬ويكون من القالقل والبالبل ما‬
‫تنصدع له القلوب‪ ،‬وتجل منه األفئدة‪ ،‬وتشيب منه الولدان‪ ،‬وتذوب له الصم الصالب‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ِ ٍ‬
‫ت } مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها‪،‬‬ ‫{ َي ْو َم تََر ْوَنهَا تَ ْذ َه ُل ُك ُّل ُم ْرض َعة َع َّما أ َْر َ‬
‫ض َع ْ‬
‫خصوصا في هذه الحال‪ ،‬التي ال يعيش إال بها‪.‬‬
‫اس ُس َك َارى َو َما ُه ْم بِ ُس َك َارى‬ ‫ات َح ْم ٍل َح ْملَهَا } من شدة الفزع والهول‪َ { ،‬وتََرى َّ‬ ‫{ وتَضع ُك ُّل َذ ِ‬
‫الن َ‬ ‫َ َُ‬
‫} أي‪ :‬تحسبهم ‪-‬أيها الرائي لهم‪ -‬سكارى من الخمر‪ ،‬وليسوا سكارى‪.‬‬
‫يد } فلذلك أذهب عقولهم‪ ،‬وفرغ قلوبهم‪ ،‬ومألها من الفزع‪ ،‬وبلغت القلوب‬ ‫اب اللَّ ِه َش ِد ٌ‬ ‫ِ‬
‫{ َولَك َّن َع َذ َ‬
‫الحناجر‪ ،‬وشخصت األبصار‪ ،‬وفي ذلك اليوم‪ ،‬ال يجزي والد عن ولده‪ ،‬وال مولود هو جاز عن‬
‫والده شيئا‪.‬‬
‫ئ ِم ْنهُ ْم َي ْو َمئٍِذ َشأ ٌ‬
‫ْن‬ ‫ام ِر ٍ‬ ‫يه * و َ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِّ‬
‫صاحَبته َوَبنيه * ل ُكل ْ‬ ‫َ‬
‫ُم ِه وأَبِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ويومئذ { َيف ُّر اْل َم ْر ُء م ْن أَخيه * َوأ ِّ َ‬
‫ي ْغنِ ِ‬
‫يه } ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وهناك { يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيال يا ويلتى ليتني لم أتخذ‬
‫فالنا خليال } وتسود حينئذ وجوه وتبيض وجوه وتنصب الموازين التي يوزن بها مثاقيل الذر من‬
‫الخير والشر وتنشر صحائف األعمال وما فيها من جميع األعمال واألقوال والنيات من صغير‬
‫وكبير وينصب الصراط على متن جهنم وتزلف الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين { إذا رأتهم‬
‫من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا * وإ ذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا }‬
‫ورا َكثِ ًيرا } وإ ذا نادوا ربهم ليخرجهم منها قال {‬ ‫ِ‬
‫ورا َواح ًدا َو ْاد ُعوا ثُُب ً‬
‫ويقال لهم { ال تَ ْد ُعوا اْلَي ْو َم ثُُب ً‬
‫ون } قد غضب عليهم الرب الرحيم وحضرهم العذاب األليم وأيسوا من كل‬ ‫اخ َسُئوا ِفيهَا َوال تُ َكلِّ ُم ِ‬
‫ْ‬
‫خير ووجدوا أعمالهم كلها لم يفقدوا منها نقيرا وال قطميرا‬
‫هذا والمتقون في روضات الجنات يحبرون وفي أنواع اللذات يتفكهون وفيما اشتهت أنفسهم‬
‫خالدون فحقيق بالعاقل الذي يعرف أن كل هذا أمامه أن يعد له عدته وأن ال يلهيه األمل فيترك‬
‫العمل وأن تكون تقوى اهلل شعاره وخوفه دثاره ومحبة اهلل وذكره روح أعماله‬

‫( ‪)1/532‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫اس َم ْن ُي َج ِاد ُل ِفي اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم َوَيتَّبِعُ ُك َّل َش ْي َ‬
‫ب َعلَْيه أََّنهُ َم ْن تََواَّل هُ فَأََّنهُ‬
‫ان َم ِريد (‪ُ )3‬كت َ‬
‫طٍ‬ ‫الن ِ‬ ‫َو ِم َن َّ‬
‫ير (‪)4‬‬ ‫اب الس ِ‬
‫َّع ِ‬ ‫يه ِإلَى َع َذ ِ‬ ‫ضلُّه ويه ِد ِ‬ ‫ِ‬
‫ُي ُ َ َ ْ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫اس َم ْن ُي َج ِاد ُل ِفي اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم َوَيتَّبِعُ ُك َّل َش ْي َ‬
‫الن ِ‬ ‫{ ‪َ { } 4 - 3‬و ِم َن َّ‬
‫ان َم ِريد * ُكت َ‬
‫ب َعلَْيه أََّنهُ‬ ‫طٍ‬
‫اب الس ِ‬
‫َّع ِ‬ ‫يه ِإلَى َع َذ ِ‬ ‫ضلُّه ويه ِد ِ‬ ‫ِ‬
‫ير } ‪.‬‬ ‫َم ْن تََوالهُ فَأََّنهُ ُي ُ َ َ ْ‬
‫أي‪ :‬ومن الناس طائفة وفرقة‪ ،‬سلكوا طريق الضالل‪ ،‬وجعلوا يجادلون بالباطل الحق‪ ،‬يريدون‬
‫إحقاق الباطل وإ بطال الحق‪ ،‬والحال أنهم في غاية الجهل ما عندهم من العلم شيء‪ ،‬وغاية ما‬
‫عندهم‪ ،‬تقليد أئمة الضالل‪ ،‬من كل شيطان مريد‪ ،‬متمرد على اهلل وعلى رسله‪ ،‬معاند لهم‪ ،‬قد شاق‬
‫اهلل ورسوله‪ ،‬وصار من األئمة الذين يدعون إلى النار‪.‬‬
‫ضلُّهُ } عن‬
‫{ ُكتِب علَْي ِه } أي‪ :‬قدر على هذا الشيطان المريد { أََّنه م ْن تَواله } أي‪ :‬اتبعه { فَأََّنه ي ِ‬
‫ُُ‬ ‫َُ َ ُ‬ ‫َ َ‬
‫ير } وهذا نائب إبليس حقا‪ ،‬فإن اهلل قال‬ ‫اب الس ِ‬
‫َّع ِ‬ ‫الحق‪ ،‬ويجنبه الصراط المستقيم { ويه ِد ِ‬
‫يه ِإلَى َع َذ ِ‬ ‫ََْ‬
‫ير } فهذا الذي يجادل في اهلل‪ ،‬قد جمع بين‬ ‫اب الس ِ‬
‫َّع ِ‬ ‫َص َح ِ‬ ‫عنه { ِإَّنما ي ْدعو ِح ْزبه ِلي ُك ُ ِ‬
‫ونوا م ْن أ ْ‬ ‫َُ َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫ضالله بنفسه‪ ،‬وتصديه إلى إضالل الناس‪ ،‬وهو متبع‪ ،‬ومقلد لكل شيطان مريد‪ ،‬ظلمات بعضها‬
‫فوق بعض‪ ،‬ويدخل في هذا‪ ،‬جمهور أهل الكفر والبدع‪ ،‬فإن أكثرهم مقلدة‪ ،‬يجادلون بغير علم‪.‬‬

‫( ‪)1/533‬‬
‫طفَ ٍة ثَُّم ِم ْن َعلَقَ ٍة ثَُّم ِم ْن‬‫اب ثَُّم ِم ْن ُن ْ‬ ‫اس ِإ ْن ُك ْنتُم ِفي ر ْي ٍب ِم َن اْلَب ْع ِث فَِإَّنا َخلَ ْقَنا ُكم ِم ْن تُر ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َيا أَيُّهَا َّ‬
‫الن ُ‬
‫َج ٍل ُم َس ًّمى ثَُّم ُن ْخ ِر ُج ُك ْم ِطفْاًل‬ ‫اء ِإلَى أ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ِّن لَ ُك ْم َوُنق ُّر في اأْل َْر َحام َما َن َش ُ‬
‫َّ ٍ ِ‬ ‫م ْ ٍ َّ ٍ‬
‫ض َغة ُم َخلقَة َو َغ ْي ِر ُم َخلقَة لُنَبي َ‬ ‫ُ‬
‫ثَُّم ِلتَْبلُ ُغوا أَ ُش َّد ُك ْم َو ِم ْن ُك ْم َم ْن ُيتََوفَّى َو ِم ْن ُك ْم َم ْن ُي َر ُّد ِإلَى أ َْر َذ ِل اْل ُع ُم ِر ِل َك ْياَل َي ْعلَ َم ِم ْن َب ْع ِد ِعْلٍم َش ْيًئا‬
‫يج (‪)5‬‬ ‫ت ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج َب ِه ٍ‬ ‫ت َوأ َْنَبتَ ْ‬‫ت َو َرَب ْ‬ ‫اهتََّز ْ‬‫اء ْ‬ ‫ِ‬
‫ض َهام َدةً فَِإ َذا أ َْن َزْلَنا َعلَْيهَا اْل َم َ‬ ‫َوتََرى اأْل َْر َ‬

‫طفَ ٍة ثَُّم ِم ْن‬


‫اب ثَُّم ِم ْن ُن ْ‬ ‫اس ِإ ْن ُك ْنتُم ِفي ر ْي ٍب ِم َن اْلَب ْع ِث فَِإَّنا َخلَ ْقَنا ُكم ِم ْن تُر ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫{ ‪َ { } 7 - 5‬يا أَيُّهَا َّ‬
‫الن ُ‬
‫َج ٍل ُم َس ًّمى ثَُّم‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ٍ ِ‬ ‫علَقَ ٍة ثَُّم ِم ْن م ْ ٍ َّ ٍ‬
‫اء ِإلَى أ َ‬ ‫األر َحام َما َن َش ُ‬ ‫ِّن لَ ُك ْم َوُنق ُّر في ْ‬ ‫ض َغة ُم َخلقَة َو َغ ْي ِر ُم َخلقَة لُنَبي َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ُن ْخ ِر ُج ُك ْم ِط ْفال ثَُّم ِلتَْبلُ ُغوا أَ ُش َّد ُك ْم َو ِم ْن ُك ْم َم ْن ُيتََوفَّى َو ِم ْن ُك ْم َم ْن ُي َر ُّد ِإلَى أ َْر َذ ِل اْل ُع ُم ِر ِل َك ْيال َي ْعلَ َم ِم ْن َب ْع ِد‬
‫ت ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج َب ِه ٍ‬
‫يج } ‪.‬‬ ‫ت َوأ َْنَبتَ ْ‬ ‫اهتََّز ْ‬
‫ت َو َرَب ْ‬ ‫اء ْ‬ ‫ِ‬
‫ض َهام َدةً فَِإ َذا أ َْن َزْلَنا َعلَْيهَا اْل َم َ‬ ‫األر َ‬ ‫ٍِ‬
‫عْلم َش ْيًئا َوتََرى ْ‬
‫اس ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ِفي َر ْي ٍب ِم َن اْلَب ْع ِث } أي‪ :‬شك واشتباه‪ ،‬وعدم علم بوقوعه‪،‬‬ ‫يقول تعالى‪َ { :‬يا أَيُّهَا َّ‬
‫الن ُ‬
‫مع أن الواجب عليكم أن تصدقوا ربكم‪ ،‬وتصدقوا رسله في ذلك‪ ،‬ولكن إذا أبيتم إال الريب‪ ،‬فهاكم‬
‫دليلين عقليين تشاهدونهما‪ ،‬كل واحد منهما‪ ،‬يدل داللة قطعية على ما شككتم فيه‪ ،‬ويزيل عن‬
‫قلوبكم الريب‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬االستدالل بابتداء خلق اإلنسان‪ ،‬وأن الذي ابتدأه سيعيده‪ ،‬فقال فيه‪ { :‬فَِإَّنا َخلَ ْقَنا ُك ْم ِم ْن‬
‫طفَ ٍة } أي‪ :‬مني‪ [ ،‬ص ‪ ] 534‬وهذا‬ ‫اب } وذلك بخلق أبي البشر آدم عليه السالم‪ { ،‬ثَُّم ِم ْن ُن ْ‬
‫تُر ٍ‬
‫َ‬
‫ض َغ ٍة }‬‫ابتداء أول التخليق‪ { ،‬ثَُّم ِم ْن َعلَقَ ٍة } أي‪ :‬تنقلب تلك النطفة‪ ،‬بإذن اهلل دما أحمر‪ { ،‬ثَُّم ِم ْن ُم ْ‬
‫أي‪ :‬ينتقل الدم مضغة‪ ،‬أي‪ :‬قطعة لحم‪ ،‬بقدر ما يمضغ‪ ،‬وتلك المضغة تارة تكون { ُم َخلَّقَ ٍة } أي‪:‬‬
‫ِ‬ ‫َّ ٍ‬
‫مصور منها خلق اآلدمي‪َ { ،‬و َغ ْي ِر ُم َخلقَة } تارة‪ ،‬بأن تقذفها األرحام قبل تخليقها‪ { ،‬لُنَبي َ‬
‫ِّن لَ ُك ْم }‬
‫أصل نشأتكم‪ ،‬مع قدرته تعالى‪ ،‬على تكميل خلقه في لحظة واحدة‪ ،‬ولكن ليبين لنا كمال حكمته‪،‬‬
‫وعظيم قدرته‪ ،‬وسعة رحمته‪.‬‬
‫َج ٍل ُم َس ًّمى } أي ‪ :‬ونقر‪ ،‬أي‪ :‬نبقي في األرحام من الحمل‪ ،‬الذي‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اء ِإلَى أ َ‬
‫األر َحام َما َن َش ُ‬
‫{ َوُنق ُّر في ْ‬
‫لم تقذفه األرحام‪ ،‬ما نشاء إبقاءه إلى أجل مسمى‪ ،‬وهو مدة الحمل‪ { .‬ثَُّم ُن ْخ ِر ُج ُك ْم } من بطون‬
‫أمهاتكم { ِط ْفال } ال تعلمون شيئا‪ ،‬وليس لكم قدرة‪ ،‬وسخرنا لكم األمهات‪ ،‬وأجرينا لكم في ثديها‬
‫الرزق‪ ،‬ثم تنتقلون طورا بعد طور‪ ،‬حتى تبلغوا أشدكم‪ ،‬وهو كمال القوة والعقل‪.‬‬
‫{ َو ِم ْن ُك ْم َم ْن ُيتََوفَّى } من قبل أن يبلغ سن األشد‪ ،‬ومنكم من يتجاوزه فيرد إلى أرذل العمر‪ ،‬أي‪:‬‬
‫أخسه وأرذله‪ ،‬وهو سن الهرم والتخريف‪ ،‬الذي به يزول العقل‪ ،‬ويضمحل‪ ،‬كما زالت باقي القوة‪،‬‬
‫وضعفت‪.‬‬
‫{ ِل َك ْيال َي ْعلَ َم ِم ْن َب ْع ِد ِعْلٍم َش ْيًئا } أي‪ :‬ألجل أن ال يعلم هذا المعمر شيئا مما كان يعلمه قبل ذلك‪،‬‬
‫وذلك لضعف عقله‪ ،‬فقوة اآلدمي محفوفة بضعفين‪ ،‬ضعف الطفولية ونقصها‪ ،‬وضعف الهرم‬
‫ف قَُّوةً ثَُّم َج َع َل ِم ْن َب ْع ِد‬
‫ف ثَُّم جع َل ِم ْن بع ِد ضع ٍ‬
‫َْ َ ْ‬ ‫ََ‬
‫ونقصه‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬اللَّه الَِّذي َخلَقَ ُكم ِم ْن ضع ٍ‬
‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫يم اْلقَِد ُير } والدليل الثاني‪ ،‬إحياء األرض بعد موتها‪ ،‬فقال‬ ‫ِ‬
‫اء َو ُه َو اْل َعل ُ‬
‫ق َما َي َش ُ‬ ‫قَُّو ٍة َ‬
‫ض ْعفًا َو َش ْيَبةً َي ْخلُ ُ‬
‫ام َدةً } أي‪ :‬خاشعة مغبرة ال نبات فيها‪ ،‬وال خضر‪ { ،‬فَِإ َذا أَنزْلَنا َعلَْيهَا‬ ‫اهلل فيه‪ { :‬وتَرى األرض َه ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ َ‬
‫ت } أي‪ :‬ارتفعت بعد خشوعها وذلك لزيادة نباتها‪،‬‬ ‫ت } أي‪ :‬تحركت بالنبات { َو َرَب ْ‬ ‫اهتََّز ْ‬
‫اء ْ‬‫اْل َم َ‬
‫يج } أي‪ :‬يبهج الناظرين‪ ،‬ويسر‬ ‫ت ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج } أي‪ :‬صنف من أصناف النبات { َب ِه ٍ‬ ‫{ َوأ َْنَبتَ ْ‬
‫المتأملين‪ ،‬فهذان الدليالن القاطعان‪ ،‬يدالن على هذه المطالب الخمسة‪ ،‬وهي هذه‪.‬‬

‫( ‪)1/533‬‬

‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ق َوأََّنهُ ُي ْحيِي اْل َم ْوتَى َوأََّنهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير (‪َ )6‬وأ َّ‬
‫َن اللَّهَ ُهو اْل َح ُّ‬ ‫َذِل َ‬
‫ك بِأ َّ‬
‫َّاعةَ آَتَيةٌ اَل َر ْي َ‬
‫َن الس َ‬ ‫َ‬
‫ور (‪)7‬‬ ‫ث َم ْن ِفي اْلقُُب ِ‬ ‫َن اللَّهَ َي ْب َع ُ‬
‫ِفيهَا َوأ َّ‬

‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ق َوأََّنهُ ُي ْحيِي اْل َم ْوتَى َوأََّنهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير * َوأ َّ‬‫َن اللَّهَ ُهو اْل َح ُّ‬ ‫ك بِأ َّ‬‫{ َذِل َ‬
‫َّاعةَ آتَيةٌ ال َر ْي َ‬‫َن الس َ‬ ‫َ‬
‫ور } ‪.‬‬‫ث َم ْن ِفي اْلقُُب ِ‬ ‫َن اللَّهَ َي ْب َع ُ‬‫ِفيهَا َوأ َّ‬
‫ق}‬ ‫َن اللَّهَ ُهو اْل َح ُّ‬
‫ك } الذي أنشأ اآلدمي من ما وصف لكم‪ ،‬وأحيا األرض بعد موتها‪ { ،‬بِأ َّ‬ ‫{ َذِل َ‬
‫َ‬
‫أي‪ :‬الرب المعبود‪ ،‬الذي ال تنبغي العبادة إال له‪ ،‬وعبادته هي الحق‪ ،‬وعبادة غيره باطلة‪َ { ،‬وأََّنهُ‬
‫ُي ْحيِي اْل َم ْوتَى } كما ابتدأ الخلق‪ ،‬وكما أحيا األرض بعد موتها‪َ { ،‬وأََّنهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير } كما‬
‫أشهدكم من بديع قدرته وعظيم صنعته ما أشهدكم‪.‬‬
‫ور } فيجازيكم‬ ‫ث َم ْن ِفي اْلقُُب ِ‬ ‫َن اللَّهَ َي ْب َع ُ‬
‫ب ِفيهَا } فال وجه الستبعادها‪َ { ،‬وأ َّ‬ ‫ِ‬
‫َّاعةَ آتَيةٌ ال َر ْي َ‬ ‫َن الس َ‬ ‫{ َوأ َّ‬
‫بأعمالكم حسنها وسيئها‪.‬‬

‫( ‪)1/534‬‬

‫ض َّل َع ْن سبِ ِ‬ ‫ط ِف ِه ِلي ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اب ُمنِ ٍ‬


‫اس م ْن ُي َج ِاد ُل ِفي اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم واَل ُه ًدى واَل ِكتَ ٍ‬ ‫َو ِم َن َّ‬
‫يل‬ ‫َ‬ ‫ير (‪ )8‬ثَان َي ع ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الن ِ َ‬
‫َن اللَّهَ لَْي َس‬
‫اك َوأ َّ‬
‫ت َي َد َ‬ ‫ق (‪َ )9‬ذِل َ‬
‫ك بِ َما قَ َّد َم ْ‬ ‫اب اْل َح ِري ِ‬ ‫الد ْنيا ِخ ْزي وُن ِذيقُه يوم اْل ِقي ِ‬
‫امة َع َذ َ‬‫ٌ َ ُ َْ َ َ َ‬
‫َّ ِ ِ‬
‫الله لَهُ في ُّ َ‬
‫ظاَّل ٍم ِلْل َعبِ ِيد (‪)10‬‬
‫بِ َ‬

‫ط ِف ِه‬
‫ير * ثَانِ َي ِع ْ‬
‫اب ُمنِ ٍ‬
‫اس م ْن ُي َج ِاد ُل ِفي اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم وال ُه ًدى وال ِكتَ ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫{ ‪َ { } 9 - 8‬و ِم َن َّ‬
‫الن ِ َ‬
‫اب اْل َح ِري ِ‬ ‫الد ْنيا ِخ ْزي وُن ِذيقُه يوم اْل ِقي ِ‬ ‫ض َّل ع ْن سبِ ِ َّ ِ ِ‬‫ِلي ِ‬
‫ق}‪.‬‬ ‫امة َع َذ َ‬
‫ٌ َ ُ َْ َ َ َ‬ ‫يل الله لَهُ في ُّ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫المجادلة المتقدمة للمقلد‪ ،‬وهذه المجادلة للشيطان المريد‪ ،‬الداعي إلى البدع‪ ،‬فأخبر أنه { ُي َج ِاد ُل ِفي‬
‫اللَّ ِه } أي‪ :‬يجادل رسل اهلل وأتباعهم بالباطل ليدحض به الحق‪ { ،‬بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم } صحيح { َوال ُه ًدى‬
‫ير }‬ ‫اب ُمنِ ٍ‬
‫} أي‪ :‬غير متبع في جداله هذا من يهديه‪ ،‬ال عقل مرشد‪ ،‬وال متبوع مهتد‪ { ،‬وال ِكتَ ٍ‬
‫َ‬
‫أي‪ :‬واضح بين‪ ،‬أي‪ :‬فال له حجة عقلية وال نقلية ‪ ،‬إن هي إال شبهات‪ ،‬يوحيها إليه الشيطان‬
‫ط ِف ِه } أي‪ :‬الوي جانبه‬ ‫ون ِإلَى أ َْوِلَيائِ ِه ْم ِلُي َج ِادلُو ُك ْم } ومع هذا { ثَانِ َي ِع ْ‬
‫وح َ‬
‫ين لَُي ُ‬
‫{ وإِ َّن َّ ِ‬
‫الشَياط َ‬ ‫َ‬
‫وعنقه‪ ،‬وهذا كناية عن كبره عن الحق‪ ،‬واحتقاره للخلق‪ ،‬فقد فرح بما معه من العلم غير النافع‪،‬‬
‫ض َّل } الناس‪ ،‬أي‪ :‬ليكون من دعاة الضالل‪ ،‬ويدخل‬ ‫واحتقر أهل الحق وما معهم من الحق‪ِ { ،‬لي ِ‬
‫ُ‬
‫تحت هذا جميع أئمة الكفر والضالل‪ ،‬ثم ذكر عقوبتهم الدنيوية واألخروية فقال‪ { :‬لَهُ ِفي ُّ‬
‫الد ْنَيا‬
‫ي } أي‪ :‬يفتضح هذا في الدنيا قبل اآلخرة‪ ،‬وهذا من آيات اهلل العجيبة‪ ،‬فإنك ال تجد داعيا من‬ ‫ِ‬
‫خ ْز ٌ‬
‫دعاة الكفر والضالل‪ ،‬إال وله من المقت بين العالمين‪ ،‬واللعنة‪ ،‬والبغض‪ ،‬والذم‪ ،‬ما هو حقيق به‪،‬‬
‫وكل بحسب حاله‪.‬‬
‫اب اْل َح ِري ِ‬
‫ق } أي‪ :‬نذيقه حرها الشديد‪ ،‬وسعيرها البليغ‪ ،‬وذلك بما قدمت‬ ‫{ وُن ِذيقُه يوم اْل ِقي ِ‬
‫امة َع َذ َ‬
‫َ ُ َْ َ َ َ‬
‫الم ِلْل َعبِ ِيد }‬
‫ظ ٍ‬ ‫يداه‪َ { ،‬وأَّن اللَّهَ لَْي َس بِ َ‬

‫( ‪)1/534‬‬

‫ب َعلَى َو ْج ِه ِه‬ ‫ِ‬ ‫طمأ َّ ِ‬


‫َن بِه َوإِ ْن أ َ‬
‫َص َابتْهُ فتَْنةٌ ْان َقلَ َ‬
‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫اس َم ْن َي ْعُب ُد اللهَ َعلَى َح ْرف فَِإ ْن أ َ‬
‫َص َابهُ َخ ْيٌر ا ْ َ‬ ‫الن ِ‬ ‫َو ِم َن َّ‬
‫ك ُهو اْل ُخسران اْلمبِين (‪ )11‬ي ْدعو ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ُّ‬
‫ض ُّرهُ َو َما اَل َي ْنفَ ُعهُ‬ ‫ون الله َما اَل َي ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َْ ُ ُ ُ‬ ‫َخس َر الد ْنَيا َواآْل َخ َرةَ َذل َ َ‬
‫ب ِم ْن َن ْف ِع ِه لَبِْئ َس اْل َم ْولَى َولَبِْئ َس اْل َع ِش ُير (‪)13‬‬‫ض ُّرهُ أَ ْق َر ُ‬ ‫الضاَل ُل اْلَب ِع ُ‬
‫يد (‪َ )12‬ي ْد ُعو لَ َم ْن َ‬ ‫ك ُه َو َّ‬ ‫َذِل َ‬

‫َص َابتْهُ ِفتَْنةٌ‬ ‫طمأ َّ ِ‬


‫َن بِه َوإِ ْن أ َ‬ ‫َص َابهُ َخ ْيٌر ا ْ َ‬
‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫اس َم ْن َي ْعُب ُد اللهَ َعلَى َح ْرف فَِإ ْن أ َ‬ ‫{ ‪َ { } 13 - 11‬و ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬
‫ك ُهو اْل ُخسران اْلمبِين * ي ْدعو ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ُّ‬
‫ض ُّرهُ‬
‫ون الله َما ال َي ُ‬ ‫َْ ُ ُ ُ َ ُ‬ ‫ب َعلَى َو ْجهه َخس َر الد ْنَيا َواآلخ َرةَ َذل َ َ‬ ‫ْان َقلَ َ‬
‫ب ِم ْن َن ْف ِع ِه لَبِْئ َس اْل َم ْولَى َولَبِْئ َس‬
‫ض ُّرهُ أَ ْق َر ُ‬ ‫ك ُه َو الضَّال ُل اْلَب ِع ُ‬
‫يد * َي ْد ُعو لَ َم ْن َ‬ ‫َو َما ال َي ْنفَ ُعهُ َذِل َ‬
‫اْل َع ِش ُير } ‪.‬‬
‫أي‪ :‬ومن الناس من هو ضعيف اإليمان‪ ،‬لم يدخل اإليمان قلبه‪ ،‬ولم تخالطه بشاشته‪ ،‬بل دخل فيه‪،‬‬
‫َن بِ ِه } أي‪ :‬إن استمر‬
‫ط َمأ َّ‬ ‫إما خوفا‪ ،‬وإ ما عادة على وجه ال يثبت عند المحن‪ { ،‬فَِإ ْن أ َ‬
‫َص َابهُ َخ ْيٌر ا ْ‬
‫رزقه رغدا‪ ،‬ولم يحصل له من المكاره شيء‪ ،‬اطمأن بذلك الخير‪ ،‬ال بإيمانه‪ .‬فهذا‪ ،‬ربما أن اهلل‬
‫َص َابتْهُ ِفتَْنةٌ } من حصول مكروه‪،‬‬ ‫يعافيه‪ ،‬وال يقيض له من الفتن ما ينصرف به عن دينه‪َ { ،‬وإِ ْن أ َ‬
‫الد ْنيا و ِ‬
‫اآلخ َرةَ } أما في [ ص‬ ‫ِ ُّ‬ ‫ِِ‬
‫ب َعلَى َو ْجهه } أي‪ :‬ارتد عن دينه‪َ { ،‬خس َر َ َ‬ ‫أو زوال محبوب { ْان َقلَ َ‬
‫‪ ] 535‬الدنيا‪ ،‬فإنه ال يحصل له بالردة ما أمله الذي جعل الردة رأسا لماله‪ ،‬وعوضا عما يظن‬
‫إدراكه‪ ،‬فخاب سعيه‪ ،‬ولم يحصل له إال ما قسم له‪ ،‬وأما اآلخرة‪ ،‬فظاهر‪ ،‬حرم الجنة التي عرضها‬
‫ين } أي‪ :‬الواضح البين‪.‬‬ ‫ان اْل ُمبِ ُ‬ ‫السماوات واألرض‪ ،‬واستحق النار‪َ { ،‬ذِل َ‬
‫ك ُه َو اْل ُخ ْس َر ُ‬
‫ض ُّرهُ َو َما ال َي ْنفَ ُعهُ } وهذا صفة كل مدعو‬ ‫{ ي ْدعو } هذا الراجع على وجهه { ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون الله َما ال َي ُ‬ ‫َ ُ‬
‫ك ُه َو الضَّال ُل اْلَب ِع ُ‬
‫يد }‬ ‫ومعبود من دون اهلل‪ ،‬فإنه ال يملك لنفسه وال لغيره نفعا وال ضرا‪َ { ،‬ذِل َ‬
‫الذي قد بلغ في البعد إلى حد النهاية‪ ،‬حيث أعرض عن عبادة النافع الضار‪ ،‬الغني المغني ‪ ،‬وأقبل‬
‫على عبادة مخلوق مثله أو دونه‪ ،‬ليس بيده من األمر شيء بل هو إلى حصول ضد مقصوده‬
‫ب ِم ْن َن ْف ِع ِه } فإن ضرره في العقل والبدن والدنيا‬ ‫ض ُّرهُ أَ ْق َر ُ‬
‫أقرب‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ي ْد ُعو لَ َم ْن َ‬
‫واآلخرة معلوم { لَبِْئ َس اْل َم ْولَى } أي‪ :‬هذا المعبود { َولَبِْئ َس اْل َع ِش ُير } أي‪ :‬القرين المالزم على‬
‫صحبته‪ ،‬فإن المقصود من المولى والعشير‪ ،‬حصول النفع‪ ،‬ودفع الضرر‪ ،‬فإذا لم يحصل شيء‬
‫من هذا‪ ،‬فإنه مذموم ملوم‪.‬‬

‫( ‪)1/534‬‬

‫ات تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِهَا اأْل َْنهَ ُار ِإ َّن اللَّهَ َي ْف َع ُل َما ُي ِر ُ‬


‫يد‬ ‫ات جَّن ٍ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َمُنوا َو َعملُوا الصَّال َح َ‬
‫ين آ َ‬
‫َّ ِ َِّ‬
‫ِإ َّن اللهَ ُي ْدخ ُل الذ َ‬
‫(‪)14‬‬

‫َّ‬ ‫ات تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِهَا ْ‬


‫ات جَّن ٍ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ َِّ‬
‫األنهَ ُار ِإ َّن اللهَ‬ ‫آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َح َ‬ ‫{ ‪ِ { } 14‬إ َّن اللهَ ُي ْدخ ُل الذ َ‬
‫ين َ‬
‫يد } ‪.‬‬‫َي ْف َع ُل َما ُي ِر ُ‬
‫لما ذكر تعالى المجادل بالباطل‪ ،‬وأنه على قسمين‪ ،‬مقلد‪ ،‬وداع‪ ،‬ذكر أن المتسمي باإليمان أيضا‬
‫على قسمين‪ ،‬قسم لم يدخل اإليمان قلبه كما تقدم‪ ،‬والقسم الثاني‪ :‬المؤمن حقيقة‪ ،‬صدق ما معه من‬
‫اإليمان باألعمال الصالحة‪ ،‬فأخبر تعالى أنه (‪ )1‬يدخلهم جنات تجري من تحتها األنهار‪ ،‬وسميت‬
‫الجنة جنة‪ ،‬الشتمالها على المنازل والقصور واألشجار والنوابت التي تجن من فيها‪ ،‬ويستتر بها‬
‫يد } فما أراده تعالى فعله من غير ممانع وال معارض‪ ،‬ومن‬ ‫من كثرتها‪ِ { ،‬إ َّن اللَّهَ َي ْف َع ُل َما ُي ِر ُ‬
‫ذلك‪ ،‬إيصال أهل الجنة إليها‪ ،‬جعلنا اهلل منهم بمنه وكرمه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين‪ :‬أنهم‪.‬‬

‫( ‪)1/535‬‬
‫اء ثَُّم ِلَي ْق َ‬
‫ط ْع َفْلَي ْنظُ ْر َه ْل‬ ‫الد ْنيا واآْل َ ِخر ِة َفْليم ُد ْد بِسب ٍب ِإلَى السَّم ِ‬
‫َ‬ ‫ََ‬ ‫ص َرهُ اللهُ في ُّ َ َ َ َ ْ‬
‫َّ ِ‬ ‫ان َيظُ ُّن أ ْ‬
‫َن لَ ْن َي ْن ُ‬ ‫َم ْن َك َ‬
‫ُي ْذ ِهَب َّن َك ْي ُدهُ َما َي ِغيظُ (‪)15‬‬

‫اء ثَُّم ِلَي ْق َ‬


‫ط ْع‬ ‫اآلخر ِة َفْليم ُد ْد بِسب ٍب ِإلَى السَّم ِ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬
‫الد ْنَيا َو َ َ ْ‬ ‫ص َرهُ اللَّهُ ِفي ُّ‬ ‫ان َيظُ ُّن أ ْ‬
‫َن لَ ْن َي ْن ُ‬ ‫{ ‪َ { } 15‬م ْن َك َ‬
‫َفْلَي ْنظُ ْر َه ْل ُي ْذ ِهَب َّن َك ْي ُدهُ َما َي ِغيظُ } ‪.‬‬
‫أي‪ :‬من كان يظن أن اهلل ال ينصر رسوله‪ ،‬وأن دينه سيضمحل‪ ،‬فإن النصر من اهلل ينزل من‬
‫ط ْع }‬ ‫اء } وليرقى إليها { ثَُّم ِلَي ْق َ‬ ‫السماء { َفْليم ُد ْد } ذلك الظان { بِسب ٍب } أي‪ :‬حبل { ِإلَى السَّم ِ‬
‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َْ‬
‫النصر النازل عليه من السماء (‪. )1‬‬
‫{ َفْلَي ْنظُ ْر َه ْل ُي ْذ ِهَب َّن َك ْي ُدهُ } أي‪ :‬ما يكيد به الرسول‪ ،‬ويعمله من محاربته‪ ،‬والحرص على إبطال‬
‫دينه‪ ،‬ما يغيظه من ظهور دينه‪ ،‬وهذا استفهام بمعنى النفي [وأنه]‪ ،‬ال يقدر على شفاء غيظه بما‬
‫يعمله من األسباب‪.‬‬
‫ومعنى هذه اآلية الكريمة‪ :‬يا أيها المعادي للرسول محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬الساعي في إطفاء‬
‫دينه‪ ،‬الذي يظن بجهله‪ ،‬أن سعيه سيفيده شيئا‪ ،‬اعلم أنك مهما فعلت من األسباب‪ ،‬وسعيت في كيد‬
‫الرسول‪ ،‬فإن ذلك ال يذهب غيظك‪ ،‬وال يشفي كمدك‪ ،‬فليس لك قدرة في ذلك‪ ،‬ولكن سنشير عليك‬
‫برأي‪ ،‬تتمكن به من شفاء غيظك‪ ،‬ومن قطع النصر عن الرسول ‪-‬إن كان ممكنا‪ -‬ائت األمر مع‬
‫بابه‪ ،‬وارتق إليه بأسبابه‪ ،‬اعمد إلى حبل من ليف أو غيره‪ ،‬ثم علقه في السماء‪ ،‬ثم اصعد به حتى‬
‫تصل إلى األبواب التي ينزل منها النصر‪ ،‬فسدها وأغلقها واقطعها‪ ،‬فبهذه الحال تشفي غيظك‪،‬‬
‫فهذا هو الرأي‪ :‬والمكيدة‪ ،‬وأما ما سوى هذه الحال فال يخطر ببالك أنك تشفي بها غيظك‪ ،‬ولو‬
‫ساعدك من ساعدك من الخلق‪ .‬وهذه اآلية الكريمة‪ ،‬فيها من الوعد والبشارة بنصر اهلل لدينه‬
‫ولرسوله وعباده المؤمنين ما ال يخفى‪ ،‬ومن تأييس الكافرين‪ ،‬الذين يريدون أن يطفئوا نور اهلل‬
‫بأفواههم‪ ،‬واهلل متم نوره‪ ،‬ولو كره الكافرون‪ ،‬أي‪ :‬وسعوا مهما أمكنهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في هامش ب ( "فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع" النصر عن الرسول )‬

‫( ‪)1/535‬‬

‫َن اللَّهَ َي ْه ِدي َم ْن ُي ِر ُ‬


‫يد (‪)16‬‬ ‫ات بيَِّن ٍ‬
‫ات َوأ َّ‬ ‫ٍ‬ ‫َو َك َذِل َ‬
‫ك أ َْن َزْلَناهُ آََي َ‬

‫َن اللَّهَ َي ْه ِدي َم ْن ُي ِر ُ‬


‫يد } ‪.‬‬ ‫ات بيَِّن ٍ‬
‫ات َوأ َّ‬ ‫ٍ‬ ‫{ ‪َ { } 16‬و َك َذِل َ‬
‫ك أ َْن َزْلَناهُ َآي َ‬
‫أي‪ :‬وكذلك لما فصلنا في هذا القرآن ما فصلنا‪ ،‬جعلناه آيات بينات واضحات‪ ،‬داالت على جميع‬
‫المطالب والمسائل النافعة‪ ،‬ولكن الهداية بيد اهلل‪ ،‬فمن أراد اهلل هدايته‪ ،‬اهتدى بهذا القرآن‪ ،‬وجعله‬
‫إماما له وقدوة‪ ،‬واستضاء بنوره‪ ،‬ومن لم يرد اهلل هدايته‪ ،‬فلو جاءته كل آية ما آمن‪ ،‬ولم ينفعه‬
‫القرآن شيئا‪ ،‬بل يكون حجة عليه‪.‬‬

‫( ‪)1/535‬‬

‫النصارى واْلمجوس والَِّذين أَ ْشر ُكوا ِإ َّن اللَّه ي ْف ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫َِّ‬
‫ص ُل َب ْيَنهُ ْم‬ ‫ََ‬ ‫ين َو َّ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ‬ ‫ادوا َوالصَّابِئ َ‬ ‫ين َه ُ‬ ‫َمُنوا َوالذ َ‬ ‫ين آ َ‬ ‫ِإ َّن الذ َ‬
‫ات َو َم ْن ِفي‬ ‫َن اللَّه يسج ُد لَه م ْن ِفي السَّماو ِ‬
‫ََ‬ ‫يد (‪ )17‬أَلَ ْم تََر أ َّ َ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫ام ِة ِإ َّن اللَّهَ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه ٌ‬ ‫ِ‬
‫َي ْو َم اْلقَي َ‬
‫ق َعلَْي ِه‬ ‫اس و َكثِ ٌير َح َّ‬ ‫اب و َكثِ ٌير ِم َن َّ ِ‬
‫الن َ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وم َواْلجَبا ُل َوالش َج ُر َوالد َو ُّ َ‬
‫ِ‬ ‫ض و َّ‬
‫الش ْم ُس َواْلقَ َم ُر َو ُّ‬
‫الن ُج ُ‬ ‫ِ‬
‫اأْل َْر َ‬
‫ص ُموا ِفي‬ ‫اختَ َ‬
‫ان ْ‬ ‫ص َم ِ‬ ‫ان َخ ْ‬ ‫اء (‪َ )18‬ه َذ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫اب َو َم ْن ُي ِه ِن اللهُ فَ َما لَهُ م ْن ُم ْك ِرٍم ِإ َّن اللهَ َي ْف َع ُل َما َي َش ُ‬ ‫اْل َع َذ ُ‬
‫صهَ ُر بِ ِه َما‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ب ِم ْن فَ ْو ِ‬ ‫ت لَهم ثِي ٌ ِ‬ ‫ِّ‬ ‫َِّ‬
‫يم (‪ُ )19‬ي ْ‬ ‫ق ُر ُءوسه ُم اْل َحم ُ‬ ‫ص ُّ‬ ‫اب م ْن َن ٍار ُي َ‬ ‫ين َكفَ ُروا قُط َع ْ ُ ْ َ‬ ‫َرِّب ِه ْم فَالذ َ‬
‫َن َي ْخ ُر ُجوا ِم ْنهَا ِم ْن َغ ٍّم‬ ‫ادوا أ ْ‬‫امعُ ِم ْن َح ِد ٍيد (‪ُ )21‬كلَّ َما أ ََر ُ‬ ‫ود (‪ )20‬ولَهم مقَ ِ‬
‫َ ُْ َ‬ ‫ِفي ُبطُونِ ِه ْم َواْل ُجلُ ُ‬
‫ات جَّن ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ َِّ‬ ‫ُع ُ ِ‬ ‫أِ‬
‫ات‬ ‫َمُنوا َو َعملُوا الصَّال َح َ‬ ‫ين آ َ‬ ‫ق (‪ِ )22‬إ َّن اللهَ ُي ْدخ ُل الذ َ‬ ‫اب اْل َح ِري ِ‬
‫يدوا فيهَا َو ُذوقُوا َع َذ َ‬
‫اسهُ ْم ِفيهَا َح ِر ٌير (‪َ )23‬و ُه ُدوا‬ ‫ِ‬
‫َس ِاو َر م ْن َذ َه ٍب َولُ ْؤلُ ًؤا َوِلَب ُ‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تَ ْج ِري م ْن تَ ْحتهَا اأْل َْنهَ ُار ُي َحل ْو َن فيهَا م ْن أ َ‬
‫اط اْل َح ِم ِيد (‪)24‬‬ ‫صر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫ِإلَى الطيِّب م َن اْلقَ ْول َو ُه ُدوا ِإلَى َ‬

‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫َِّ‬


‫ين أَ ْش َر ُكوا‬
‫وس َوالذ َ‬ ‫ص َارى َواْل َم ُج َ‬ ‫الن َ‬ ‫ين َو َّ‬‫ادوا َوالصَّابِئ َ‬ ‫ين َه ُ‬‫آمُنوا َوالذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫{ ‪ِ { } 24 - 17‬إ َّن الذ َ‬
‫َن اللَّهَ َي ْس ُج ُد لَهُ َم ْن ِفي‬
‫يد * أَلَ ْم تََر أ َّ‬ ‫ام ِة ِإ َّن اللَّهَ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫إ َّن اللهَ َي ْفص ُل َب ْيَنهُ ْم َي ْو َم اْلقَي َ‬
‫اس‬ ‫اب َو َكثِ ٌير ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬ ‫الش َج ُر و َّ‬
‫الد َو ُّ‬ ‫َ‬
‫الن ُجوم واْل ِجَبا ُل و َّ‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫األرض َوالش ْم ُس َواْلقَ َم ُر َو ُّ ُ َ‬
‫ات و َم ْن ِفي ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاو َ‬ ‫الس َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫و َكثِير ح َّ ِ‬
‫ان‬‫ص َم ِ‬‫ان َخ ْ‬ ‫اء * َه َذ ِ‬ ‫اب َو َم ْن ُي ِه ِن اللهُ فَ َما لَهُ م ْن ُم ْك ِرٍم ِإ َّن اللهَ َي ْف َع ُل َما َي َش ُ‬
‫ق َعلَْيه اْل َع َذ ُ‬ ‫َ ٌ َ‬
‫اط اْل َح ِم ِيد } ‪.‬‬ ‫صر ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ُموا في َرِّب ِه ْم } إلى قوله‪ [ :‬ص ‪َ { ] 536‬و ُه ُدوا ِإلَى َ‬
‫ِ‬
‫اختَ َ‬
‫ْ‬
‫يخبر تعالى عن طوائف أهل األرض‪ ،‬من الذين أوتوا الكتاب‪ ،‬من المؤمنين واليهود والنصارى‬
‫والصابئين‪ ،‬ومن المجوس‪ ،‬ومن المشركين أن اهلل سيجمعهم جميعهم ليوم القيامة‪ ،‬ويفصل بينهم‬
‫بحكمه العدل‪ ،‬ويجازيهم بأعمالهم التي حفظها وكتبها وشهدها‪ ،‬ولهذا قال‪ِ { :‬إ َّن اللَّهَ َعلَى ُك ِّل‬
‫ص ُموا ِفي َرِّب ِه ْم } كل يدعي‬ ‫اختَ َ‬ ‫ص َم ِ‬
‫ان ْ‬ ‫َش ْي ٍء َش ِه ٌ‬
‫يد } ثم فصل هذا الفصل بينهم بقوله‪َ { :‬ه َذ ِ‬
‫ان َخ ْ‬
‫أنه المحق‪.‬‬
‫ين َكفَ ُروا } يشمل كل كافر‪ ،‬من اليهود‪ ،‬والنصارى‪ ،‬والمجوس‪ ،‬والصابئين‪ ،‬والمشركين‪.‬‬ ‫َِّ‬
‫{ فَالذ َ‬
‫اب ِم ْن َن ٍار } أي‪ :‬يجعل لهم ثياب من قطران‪ ،‬وتشعل فيها النار‪ ،‬ليعمهم العذاب‬ ‫{ قُطِّ َع ْ‬
‫ت لَهُ ْم ثَِي ٌ‬
‫من جميع جوانبهم‪.‬‬
‫يم } الماء الحار جدا‪ ،‬يصهر ما في بطونهم من اللحم والشحم‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ب ِم ْن فَ ْو ِ‬
‫ص ُّ‬
‫ق ُر ُءوسه ُم اْل َحم ُ‬ ‫{ ُي َ‬
‫امعُ ِم ْن َح ِد ٍيد } بيد المالئكة الغالظ الشداد‪،‬‬ ‫واألمعاء‪ ،‬من شدة حره‪ ،‬وعظيم أمره‪ { ،‬ولَهم مقَ ِ‬
‫َ ُْ َ‬
‫يدوا ِفيهَا } فال يفتر عنهم‬ ‫ُع ُ‬ ‫َن ي ْخرجوا ِم ْنها ِم ْن َغ ٍّم أ ِ‬
‫َ‬ ‫تضربهم فيها وتقمعهم‪ُ { ،‬كلَّ َما أ ََر ُ‬
‫ادوا أ ْ َ ُ ُ‬
‫ق } أي‪ :‬المحرق للقلوب‬ ‫اب اْل َح ِري ِ‬ ‫العذاب‪ ،‬وال هم ينظرون‪ ،‬ويقال لهم توبيخا‪ُ { :‬ذوقُوا َع َذ َ‬
‫ات تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِهَا ْ‬
‫األنهَ ُار }‬ ‫ات جَّن ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َح َ‬ ‫ين َ‬
‫َّ ِ َِّ‬
‫واألبدان ‪ِ { ،‬إ َّن اللهَ ُي ْدخ ُل الذ َ‬
‫ومعلوم أن هذا الوصف ال يصدق على غير المسلمين‪ ،‬الذين آمنوا بجميع الكتب‪ ،‬وجميع الرسل‪،‬‬
‫َس ِاو َر ِم ْن َذ َه ٍب } أي‪ :‬يسورون في أيديهم‪ ،‬رجالهم ونساؤهم أساور الذهب‪.‬‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫{ ُي َحل ْو َن فيهَا م ْن أ َ‬
‫اسهُ ْم ِفيهَا َح ِر ٌير } فتم نعيمهم بذكر أنواع المأكوالت اللذيذات المشتمل عليها‪ ،‬لفظ الجنات‪،‬‬ ‫{ َوِلَب ُ‬
‫وذكر األنهار السارحات‪ ،‬أنهار الماء واللبن والعسل والخمر‪ ،‬وأنواع اللباس‪ ،‬والحلي الفاخر‪.‬‬

‫( ‪)1/535‬‬

‫ِّب ِم َن اْلقَ ْو ِل } الذي أفضله وأطيبه كلمة اإلخالص‪ ،‬ثم سائر‬ ‫وذلك بسبب أنهم { ُه ُدوا ِإلَى الطَّي ِ‬
‫اط اْل َح ِم ِيد } أي‪:‬‬
‫صر ِ‬‫ِ‬
‫األقوال الطيبة التي فيها ذكر اهلل‪ ،‬أو إحسان إلى عباد اهلل‪َ { ،‬و ُه ُدوا ِإلَى َ‬
‫الصراط المحمود‪ ،‬وذلك‪ ،‬ألن جميع الشرع كله محتو على الحكمة والحمد‪ ،‬وحسن المأمور به‪،‬‬
‫وقبح المنهي عنه‪ ،‬وهو الدين الذي ال إفراط فيه وال تفريط‪ ،‬المشتمل على العلم النافع والعمل‬
‫الصالح‪ .‬أو‪ :‬وهدوا إلى صراط اهلل الحميد‪ ،‬ألن اهلل كثيرا ما يضيف الصراط إليه‪ ،‬ألنه يوصل‬
‫صاحبه إلى اهلل‪ ،‬وفي ذكر { الحميد } هنا‪ ،‬ليبين أنهم نالوا الهداية بحمد ربهم ومنته عليهم‪ ،‬ولهذا‬
‫َن َه َد َانا اللَّهُ } واعترض تعالى‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ ِ َِّ‬
‫يقولون في الجنة‪ { :‬اْل َح ْم ُد لله الذي َه َد َانا لهَ َذا َو َما ُكَّنا لَن ْهتَد َ‬
‫ي لَ ْوال أ ْ‬
‫بين هذه اآليات بذكر سجود المخلوقات له‪ ،‬جميع من في السماوات واألرض‪ ،‬والشمس‪ ،‬والقمر‪،‬‬
‫والنجوم‪ ،‬والجبال‪ ،‬والشجر‪ ،‬والدواب‪ ،‬الذي يشمل الحيوانات كلها‪ ،‬وكثير من الناس‪ ،‬وهم‬
‫اب } أي‪ :‬وجب وكتب‪ ،‬لكفره وعدم إيمانه‪ ،‬فلم يوفقه لإليمان‪،‬‬ ‫المؤمنون‪ { ،‬و َكثِير ح َّ ِ‬
‫ق َعلَْيه اْل َع َذ ُ‬ ‫َ ٌ َ‬
‫ألن اهلل أهانه‪َ { ،‬و َم ْن ُي ِه ِن اللَّهُ فَ َما لَهُ ِم ْن ُم ْك ِرٍم } وال راد لما أراد‪ ،‬وال معارض لمشيئته‪ ،‬فإذا‬
‫كانت المخلوقات كلها ساجدة لربها‪ ،‬خاضعة لعظمته‪ ،‬مستكينة لعزته‪ ،‬عانية لسلطانه‪ ،‬دل على‬
‫أنه وحده‪ ،‬الرب المعبود‪ ،‬والملك المحمود‪ ،‬وأن من عدل عنه إلى عبادة سواه‪ ،‬فقد ضل ضالال‬
‫بعيدا‪ ،‬وخسر خسرانا مبينا‪.‬‬

‫( ‪)1/536‬‬
‫ف ِف ِ‬ ‫اس سواء اْلع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫َِّ‬
‫يه‬ ‫اك ُ‬ ‫ون َع ْن َسبِيل الله َواْل َم ْس ِجد اْل َح َرام الذي َج َعْلَناهُ ل َّلن ِ َ َ ً َ‬ ‫ص ُّد َ‬ ‫ين َكفَ ُروا َوَي ُ‬ ‫ِإ َّن الذ َ‬
‫اب أَِل ٍيم (‪)25‬‬ ‫يه بِِإْل َح ٍاد بِظُْلٍم ُن ِذ ْقهُ ِم ْن َع َذ ٍ‬
‫واْلب ِاد وم ْن ي ِر ْد ِف ِ‬
‫َ َ ََ ُ‬

‫اء‬ ‫يل اللَّ ِه واْل َم ْس ِج ِد اْل َح َر ِام الَِّذي َج َعْلَناهُ ِل َّلن ِ‬


‫اس َس َو ً‬
‫ون َع ْن سبِ ِ‬
‫َ‬ ‫ص ُّد َ‬‫ين َكفَ ُروا َوَي ُ‬
‫َِّ‬
‫{ ‪ِ { } 25‬إ َّن الذ َ‬
‫َ‬
‫اب أَِل ٍيم } ‪.‬‬ ‫يه بِِإْل َح ٍاد بِظُْلٍم ُن ِذ ْقهُ ِم ْن َع َذ ٍ‬
‫يه واْلب ِادي وم ْن ي ِر ْد ِف ِ‬
‫ََ ُ‬ ‫فف َ َ‬
‫اك ُ ِ ِ‬
‫اْلع ِ‬
‫َ‬
‫يخبر تعالى عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم‪ ،‬وأنهم جمعوا بين الكفر باهلل ورسوله‪،‬‬
‫وبين الصد عن سبيل اهلل ومنع الناس من اإليمان‪ ،‬والصد أيضا عن المسجد الحرام‪ ،‬الذي ليس‬
‫ملكا لهم وال آلبائهم‪ ،‬بل الناس فيه سواء‪ ،‬المقيم فيه‪ ،‬والطارئ إليه‪ ،‬بل صدوا عنه أفضل الخلق‬
‫محمدا وأصحابه‪ ،‬والحال أن هذا المسجد الحرام‪ ،‬من حرمته واحترامه وعظمته‪ ،‬أن من يرد فيه‬
‫بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم‪.‬‬
‫فمجرد إرادة الظلم واإللحاد في الحرم‪ ،‬موجب للعذاب‪ ،‬وإ ن كان غيره ال يعاقب العبد عليه إال‬
‫بعمل الظلم‪ ،‬فكيف بمن أتى فيه أعظم الظلم‪ ،‬من الكفر والشرك‪ ،‬والصد عن سبيله‪ ،‬ومنع من‬
‫يريده بزيارة‪ ،‬فما ظنكم (‪ )1‬أن يفعل اهلل بهم؟"‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬ظنهم‪.‬‬

‫( ‪)1/536‬‬

‫ِِ‬ ‫ِ ِ َّ ِِ‬ ‫ان اْلَب ْي ِت أ ْ‬


‫الر َّك ِع‬
‫ين َو ُّ‬ ‫َن اَل تُ ْش ِر ْك بِي َش ْيًئا َو َ‬ ‫إِلِ ِ‬
‫ين َواْلقَائم َ‬ ‫طهِّ ْر َب ْيت َي للطائف َ‬ ‫يم َم َك َ‬
‫َوإِ ْذ َب َّوأَْنا ْب َراه َ‬
‫ق (‪)27‬‬ ‫ين ِم ْن ُك ِّل فَ ٍّج َع ِمي ٍ‬ ‫وك ِرجااًل وعلَى ُك ِّل ِ ِ‬
‫ضام ٍر َيأْت َ‬ ‫َ‬ ‫اس بِاْل َح ِّج َيأْتُ َ َ َ َ‬ ‫ُّجو ِد (‪َ )26‬وأ َِّذ ْن ِفي َّ‬
‫الن ِ‬ ‫الس ُ‬
‫يم ِة اأْل َْن َع ِام فَ ُكلُوا ِم ْنهَا‬ ‫ِ ِ‬
‫ومات َعلَى َما َر َزقَهُ ْم م ْن َبه َ‬
‫َّام معلُ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫اس َم الله في أَي َ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لَي ْشهَ ُدوا َمَناف َع لَهُ ْم َوَي ْذ ُك ُروا ْ‬
‫ق (‪)29‬‬ ‫ور ُه ْم وْلَيطَّ َّوفُوا بِاْلَب ْي ِت اْل َعتِي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وأَ ْ ِ‬
‫ضوا تَفَثَهُ ْم َوْلُيوفُوا ُن ُذ َ َ‬ ‫طع ُموا اْلَبائ َس اْلفَق َير (‪ )28‬ثَُّم ْلَي ْق ُ‬ ‫َ‬

‫وفي هذه اآلية الكريمة‪ ،‬وجوب احترام الحرم‪ ،‬وشدة تعظيمه‪ ،‬والتحذير من إرادة المعاصي فيه‬
‫وفعلها‪.‬‬
‫[ ص ‪] 537‬‬
‫ِ ِ َّ ِِ‬ ‫ان اْلَب ْي ِت أ ْ‬
‫ين‬ ‫َن ال تُ ْش ِر ْك بِي َش ْيًئا َو َ‬ ‫{ ‪ { } 29 - 26‬وإِ ْذ ب َّوأَْنا ْ ِ‬
‫طهِّ ْر َب ْيت َي للطائف َ‬ ‫يم َم َك َ‬
‫إلب َراه َ‬ ‫َ َ‬
‫ين ِم ْن ُك ِّل‬ ‫ك ِرجاال وعلَى ُك ِّل ِ ِ‬
‫ضام ٍر َيأْت َ‬ ‫َ‬ ‫اس بِاْل َح ِّج َيأْتُو َ َ َ َ‬ ‫ُّجو ِد * َوأ َِّذ ْن ِفي َّ‬
‫الن ِ‬ ‫الر َّك ِع الس ُ‬
‫ين َو ُّ‬ ‫ِِ‬
‫َواْلقَائم َ‬
‫يم ِة‬ ‫ِ ِ‬
‫ومات َعلَى َما َر َزقَهُ ْم م ْن َبه َ‬
‫َّام معلُ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫اس َم الله في أَي َ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫فَ ٍّج ع ِمي ٍ ِ‬
‫ق * لَي ْشهَ ُدوا َمَناف َع لَهُ ْم َوَي ْذ ُك ُروا ْ‬ ‫َ‬
‫ور ُه ْم َوْلَيطَّ َّوفُوا بِاْلَب ْي ِت‬
‫ضوا تَفَثَهُ ْم َوْلُيوفُوا ُن ُذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫طع ُموا اْلَبائ َس اْلفَق َير * ثَُّم ْلَي ْق ُ‬
‫األنع ِام فَ ُكلُوا ِم ْنها وأَ ْ ِ‬
‫َ َ‬ ‫َْ‬
‫ق}‪.‬‬ ‫اْل َعتِي ِ‬
‫يذكر تعالى عظمة البيت الحرام وجاللته وعظمة بانيه‪ ،‬وهو خليل الرحمن‪ ،‬فقال‪َ { :‬وإِ ْذ َب َّوأَْنا‬
‫ان اْلَب ْي ِت } أي‪ :‬هيأناه له‪ ،‬وأنزلناه إياه‪ ،‬وجعل قسما من ذريته من سكانه‪ ،‬وأمره اهلل‬‫يم َم َك َ‬
‫ْ ِ‬
‫إلب َراه َ‬
‫ببنيانه‪ ،‬فبناه على تقوى اهلل‪ ،‬وأسسه على طاعة اهلل‪ ،‬وبناه هو وابنه إسماعيل‪ ،‬وأمره أن ال يشرك‬
‫به شيئا‪ ،‬بأن يخلص هلل أعماله‪ ،‬ويبنيه على اسم اهلل‪.‬‬
‫طهِّ ْر َب ْيتِ َي } أي‪ :‬من الشرك والمعاصي‪ ،‬ومن األنجاس واألدناس وأضافه الرحمن إلى نفسه‪،‬‬
‫{ َو َ‬
‫لشرفه‪ ،‬وفضله‪ ،‬ولتعظم محبته في القلوب‪ ،‬وتنصب إليه األفئدة من كل جانب‪ ،‬وليكون أعظم‬
‫لتطهيره وتعظيمه‪ ،‬لكونه بيت الرب للطائفين به والعاكفين عنده‪ ،‬المقيمين لعبادة من العبادات من‬
‫ود } أي‪:‬‬ ‫الر َّك ِع الس ُ‬
‫ُّج ِ‬ ‫ذكر‪ ،‬وقراءة‪ ،‬وتعلم علم وتعليمه‪ ،‬وغير ذلك من أنواع القرب‪َ { ،‬و ُّ‬
‫المصلين‪ ،‬أي‪ :‬طهره لهؤالء الفضالء‪ ،‬الذين همهم طاعة موالهم وخدمته‪ ،‬والتقرب إليه عند‬
‫بيته‪ ،‬فهؤالء لهم الحق‪ ،‬ولهم اإلكرام‪ ،‬ومن إكرامهم تطهير البيت ألجلهم‪ ،‬ويدخل في تطهيره‪،‬‬
‫تطهيره من األصوات الالغية والمرتفعة التي تشوش المتعبدين‪ ،‬بالصالة والطواف‪ ،‬وقدم‬
‫الطواف على االعتكاف والصالة‪ ،‬الختصاصه بهذا البيت‪ ،‬ثم االعتكاف‪ ،‬الختصاصه بجنس‬
‫المساجد‪.‬‬
‫اس بِاْل َح ِّج } أي‪ :‬أعلمهم به‪ ،‬وادعهم إليه‪ ،‬وبلغ دانيهم وقاصيهم‪ ،‬فرضه وفضيلته‪،‬‬ ‫الن ِ‬‫{ َوأ َِّذ ْن ِفي َّ‬
‫فإنك إذا دعوتهم‪ ،‬أتوك حجاجا وعمارا‪ ،‬رجاال أي‪ :‬مشاة على أرجلهم من الشوق‪َ { ،‬و َعلَى ُك ِّل‬
‫ام ٍر } أي‪ :‬ناقة ضامر‪ ،‬تقطع المهامه والمفاوز‪ ،‬وتواصل السير‪ ،‬حتى تأتي إلى أشرف‬ ‫ضِ‬
‫َ‬
‫ق } أي‪ :‬من كل بلد بعيد‪ ،‬وقد فعل الخليل عليه السالم‪ ،‬ثم من بعده ابنه‬‫األماكن‪ِ { ،‬م ْن ُك ِّل فَ ٍّج َع ِمي ٍ‬
‫محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فدعيا الناس إلى حج هذا البيت‪ ،‬وأبديا في ذلك وأعادا‪ ،‬وقد حصل ما‬
‫وعد اهلل به‪ ،‬أتاه الناس رجاال وركبانا من مشارق األرض ومغاربها‪ ،‬ثم ذكر فوائد زيارة بيت اهلل‬
‫الحرام‪ ،‬مرغبا فيه فقال‪ِ { :‬لَي ْشهَ ُدوا َمَن ِاف َع لَهُ ْم } أي‪ :‬لينالوا ببيت اهلل منافع دينية‪ ،‬من العبادات‬
‫الفاضلة‪ ،‬والعبادات التي ال تكون إال فيه‪ ،‬ومنافع دنيوية‪ ،‬من التكسب‪ ،‬وحصول األرباح الدنيوية‪،‬‬
‫يم ِة‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّام معلُ ٍ‬
‫ومات َعلَى َما َر َزقَهُ ْم م ْن َبه َ‬
‫ٍ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫اس َم الله في أَي َ ْ َ‬ ‫وكل هذا أمر مشاهد كل يعرفه‪َ { ،‬وَي ْذ ُك ُروا ْ‬
‫األن َع ِام } وهذا من المنافع الدينية والدنيوية‪ ،‬أي‪ :‬ليذكروا اسم اهلل عند ذبح الهدايا‪ ،‬شكرا هلل على‬ ‫ْ‬
‫ط ِع ُموا اْلَبائِ َس اْلفَِق َير } أي‪ :‬شديد الفقر‬
‫ما رزقهم منها‪ ،‬ويسرها لهم‪ ،‬فإذا ذبحتموها { فَ ُكلُوا ِم ْنهَا َوأَ ْ‬
‫ضوا تَفَثَهُ ْم } أي‪ :‬يقضوا نسكهم‪ ،‬ويزيلوا الوسخ واألذى‪ ،‬الذي لحقهم في حال اإلحرام‪،‬‬ ‫‪ { ،‬ثَُّم ْلَي ْق ُ‬
‫ور ُه ْم } التي أوجبوها على أنفسهم‪ ،‬من الحج‪ ،‬والعمرة والهدايا‪َ { ،‬وْلَيطَّ َّوفُوا بِاْلَب ْي ِت‬
‫{ َوْلُيوفُوا ُن ُذ َ‬
‫ق } أي‪ :‬القديم‪ ،‬أفضل المساجد على اإلطالق‪ ،‬المعتق‪ :‬من تسلط الجبابرة عليه‪ .‬وهذا أمر‬ ‫اْل َعتِي ِ‬
‫بالطواف‪ ،‬خصوصا بعد األمر بالمناسك عموما‪ ،‬لفضله‪ ،‬وشرفه‪ ،‬ولكونه المقصود‪ ،‬وما قبله‬
‫وسائل إليه‪.‬‬
‫ولعله ‪-‬واهلل أعلم أيضا‪ -‬لفائدة أخرى‪ ،‬وهو‪ :‬أن الطواف مشروع كل وقت‪ ،‬وسواء كان تابعا‬
‫لنسك‪ ،‬أم مستقال بنفسه‪.‬‬

‫( ‪)1/536‬‬

‫اجتَنُِبوا‬ ‫ُحلَّ ْ‬
‫ِّه وأ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِّ‬ ‫َذِل َ‬
‫ام ِإاَّل َما ُي ْتلَى َعلَْي ُك ْم فَ ْ‬
‫ت لَ ُك ُم اأْل َْن َع ُ‬ ‫ك َو َم ْن ُي َعظ ْم ُح ُر َمات الله فَهَُو َخ ْيٌر لَهُ عْن َد َرب َ‬
‫ور (‪)30‬‬ ‫الز ِ‬‫اجتَنُِبوا قَ ْو َل ُّ‬ ‫الر ْج َس ِم َن اأْل َْوثَ ِ‬
‫ان َو ْ‬ ‫ِّ‬

‫ام ِإال َما ُي ْتلَى‬ ‫ُحلَّ ْ‬


‫ِّه وأ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِّ‬ ‫{ ‪َ { } 31 - 30‬ذِل َ‬
‫األن َع ُ‬
‫ت لَ ُك ُم ْ‬ ‫ك َو َم ْن ُي َعظ ْم ُح ُر َمات الله فَهَُو َخ ْيٌر لَهُ ع ْن َد َرب َ‬
‫ور } ‪.‬‬‫الز ِ‬ ‫اجتَنُِبوا قَ ْو َل ُّ‬ ‫األوثَ ِ‬
‫ان َو ْ‬ ‫ِ‬
‫الر ْج َس م َن ْ‬ ‫اجتَنُِبوا ِّ‬
‫َعلَْي ُك ْم فَ ْ‬
‫ك } الذي ذكرنا لكم من تلكم األحكام‪ ،‬وما فيها من تعظيم حرمات اهلل وإ جاللها وتكريمها‪،‬‬ ‫{ َذِل َ‬
‫ألن تعظيم حرمات اهلل‪ ،‬من األمور المحبوبة هلل‪ ،‬المقربة إليه‪ ،‬التي من عظمها وأجلها‪ ،‬أثابه اهلل‬
‫ثوابا جزيال وكانت خيرا له في دينه‪ ،‬ودنياه وأخراه عند ربه‪.‬‬
‫وحرمات اهلل‪ :‬كل ماله حرمة‪ ،‬وأمر باحترامه‪ ،‬بعبادة أو غيرها‪ ،‬كالمناسك كلها‪ ،‬وكالحرم‬
‫واإلحرام‪ ،‬وكالهدايا‪ ،‬وكالعبادات التي أمر اهلل العباد بالقيام بها‪ ،‬فتعظيمها إجاللها بالقلب‪،‬‬
‫ومحبتها‪ ،‬وتكميل العبودية فيها‪ ،‬غير متهاون‪ ،‬وال متكاسل‪ ،‬وال متثاقل‪ ،‬ثم ذكر منته وإ حسانه بما‬
‫أحله لعباده‪ ،‬من بهيمة األنعام‪ ،‬من إبل وبقر وغنم‪ ،‬وشرعها من جملة المناسك‪ ،‬التي يتقرب بها‬
‫إليه‪ ،‬فعظمت منته فيها من الوجهين‪ِ { ،‬إال َما ُي ْتلَى َعلَْي ُك ْم } في القرآن تحريمه من قوله‪ُ { :‬حِّر َم ْ‬
‫ت‬
‫نزير } اآلية‪ ،‬ولكن الذي من رحمته بعباده‪ ،‬أن حرمه عليهم‪ ،‬ومنعهم‬ ‫الد ُم َولَ ْح ُم اْل ِخ ِ‬
‫َعلَْي ُك ُم اْل َم ْيتَةُ و َّ‬
‫َ‬
‫اجتَنُِبوا ِّ‬
‫الر ْج َس } أي‪:‬‬ ‫منه‪ ،‬تزكية لهم‪ ،‬وتطهيرا من الشرك به وقول الزور‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَ ْ‬
‫ان } أي‪ :‬األنداد‪ ،‬التي جعلتموها آلهة مع اهلل‪ ،‬فإنها أكبر أنواع الرجس‪،‬‬ ‫األوثَ ِ‬ ‫ِ‬
‫الخبث القذر { م َن ْ‬
‫والظاهر أن { من } هنا ليست لبيان الجنس‪ ،‬كما قاله كثير من المفسرين‪ ،‬وإ نما هي للتبعيض‪،‬‬
‫وأن الرجس عام في جميع المنهيات المحرمات‪ ،‬فيكون [ ص ‪ ] 538‬منهيا عنها عموما‪ ،‬وعن‬
‫ور } أي‪ :‬جميع األقوال المحرمات‪ ،‬فإنها‬ ‫اجتَنُِبوا قَ ْو َل ُّ‬
‫الز ِ‬ ‫األوثان التي هي بعضها خصوصا‪َ { ،‬و ْ‬
‫من قول الزور الذي هو الكذب‪ ،‬ومن ذلك شهادة الزور فلما نهاهم عن الشرك والرجس وقول‬
‫الزور‪.‬‬

‫( ‪)1/537‬‬
‫طفُهُ الطَّ ْي ُر أ َْو تَ ْه ِوي بِ ِه‬ ‫حَنفَاء ِللَّ ِه َغ ْير م ْش ِر ِكين بِ ِه وم ْن ي ْش ِر ْك بِاللَّ ِه فَ َكأََّنما َخ َّر ِمن السَّم ِ‬
‫اء فَتَ ْخ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َ‬
‫ق (‪)31‬‬ ‫ان َس ِحي ٍ‬‫يح ِفي َم َك ٍ‬ ‫الر ُ‬‫ِّ‬

‫طفُهُ الطَّ ْي ُر أ َْو تَ ْه ِوي بِ ِه‬ ‫{ حَنفَاء ِللَّ ِه َغْير م ْش ِر ِكين بِ ِه وم ْن ي ْش ِر ْك بِاللَّ ِه فَ َكأََّنما َخ َّر ِمن السَّم ِ‬
‫اء فَتَ ْخ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َ‬
‫ق}‪.‬‬ ‫ان َس ِحي ٍ‬
‫يح ِفي َم َك ٍ‬ ‫الر ُ‬
‫ِّ‬
‫اء ِللَّ ِه } أي‪ :‬مقبلين عليه وعلى عبادته‪ ،‬معرضين عما سواه‪.‬‬ ‫أمرهم أن يكونوا { ُحَنفَ َ‬
‫{ َغ ْير م ْش ِر ِكين بِ ِه وم ْن ي ْش ِر ْك بِاللَّ ِه } فمثله { فَ َكأََّنما َخ َّر ِمن السَّم ِ‬
‫طفُهُ‬ ‫اء } أي‪ :‬سقط منها { فَتَ ْخ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫َ ُ‬
‫ق } أي‪ :‬بعيد‪ ،‬كذلك المشرك‪ ،‬فاإليمان بمنزلة‬ ‫ِ‬
‫ان َسحي ٍ‬ ‫يح في َم َك ٍ‬ ‫ِ‬ ‫الطَّ ْي ُر } بسرعة { أ َْو تَ ْه ِوي بِه ِّ‬
‫الر ُ‬
‫ِ‬
‫السماء‪ ،‬محفوظة مرفوعة‪.‬‬
‫ومن ترك اإليمان‪ ،‬بمنزلة الساقط من السماء‪ ،‬عرضة لآلفات والبليات‪ ،‬فإما أن تخطفه الطير‬
‫فتقطعه أعضاء‪ ،‬كذلك المشرك إذا ترك االعتصام باإليمان تخطفته الشياطين من كل جانب‪،‬‬
‫ومزقوه‪ ،‬وأذهبوا عليه دينه ودنياه‪.‬‬

‫( ‪)1/538‬‬

‫َج ٍل ُم َس ًّمى ثَُّم َم ِحلُّهَا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك وم ْن ُي َعظِّم َش َعائِر اللَّ ِه فَِإَّنها ِم ْن تَ ْقوى اْل ُقلُ ِ‬
‫وب (‪ )32‬لَ ُك ْم فيهَا َمَنافعُ ِإلَى أ َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َذل َ َ َ‬
‫ق (‪)33‬‬ ‫ِإلَى اْلَب ْي ِت اْل َعتِي ِ‬

‫َج ٍل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك وم ْن ُي َعظِّم َش َعائِر اللَّ ِه فَِإَّنها ِم ْن تَ ْقوى اْل ُقلُ ِ‬
‫وب * لَ ُك ْم فيهَا َمَنافعُ ِإلَى أ َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫{ ‪َ { } 33 - 32‬ذل َ َ َ‬
‫ق}‪.‬‬ ‫ُم َس ًّمى ثَُّم َم ِحلُّهَا ِإلَى اْلَب ْي ِت اْل َعتِي ِ‬
‫أي‪ :‬ذلك الذي ذكرنا لكم من تعظيم حرماته وشعائره‪ ،‬والمراد بالشعائر‪ :‬أعالم الدين الظاهرة‪،‬‬
‫ومنها المناسك كلها‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ { :‬إ َّن الصَّفَا َواْل َم ْر َوةَ ِم ْن َش َعائِ ِر اللَّ ِه } ومنها الهدايا والقربان‬
‫للبيت‪ ،‬وتقدم أن معنى تعظيمها‪ ،‬إجاللها‪ ،‬والقيام بها‪ ،‬وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد‪،‬‬
‫ومنها الهدايا‪ ،‬فتعظيمها‪ ،‬باستحسانها واستسمانها‪ ،‬وأن تكون مكملة من كل وجه‪ ،‬فتعظيم شعائر‬
‫اهلل صادر من تقوى القلوب‪ ،‬فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه‪ ،‬ألن تعظيمها‪ ،‬تابع‬
‫لتعظيم اهلل وإ جالله‪.‬‬
‫َج ٍل ُم َس ًّمى } هذا في الهدايا المسوقة‪ ،‬من البدن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ لَ ُك ْم فيهَا } أي‪[ :‬في] الهدايا { َمَنافعُ ِإلَى أ َ‬
‫َج ٍل ُم َس ًّمى }‬
‫ونحوها‪ ،‬ينتفع بها أربابها‪ ،‬بالركوب‪ ،‬والحلب ونحو ذلك‪ ،‬مما ال يضرها { ِإلَى أ َ‬
‫ق‪ ،‬أي‪ :‬الحرم كله " منى " وغيرها‪،‬‬ ‫مقدر‪ ،‬موقت وهو ذبحها إذا وصلت َم ِحلُّهَا وهو اْلَب ْي ِت اْل َعتِي ِ‬
‫فإذا ذبحت‪ ،‬أكلوا منها وأهدوا‪ ،‬وأطعموا البائس الفقير‪.‬‬
‫( ‪)1/538‬‬

‫ِ‬ ‫ُم ٍة جعْلَنا م ْنس ًكا ِلي ْذ ُكروا اسم اللَّ ِه علَى ما ر َزقَهم ِم ْن ب ِه ِ‬
‫يمة اأْل َْن َع ِام فَِإلَهُ ُك ْم ِإلَهٌ َواح ٌد َفلَهُ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ َ ُْ‬ ‫َْ‬ ‫َوِل ُكل أ َّ َ َ َ َ َ ُ‬
‫ِّ‬
‫َص َابهُ ْم‬
‫ين َعلَى َما أ َ‬ ‫وبهُ ْم َوالصَّابِ ِر َ‬‫ت ُقلُ ُ‬‫ين ِإ َذا ُذ ِك َر اللَّهُ َو ِجلَ ْ‬ ‫َِّ‬
‫ين (‪ )34‬الذ َ‬
‫ِ‬ ‫أ ِ‬
‫َسل ُموا َوَب ِّش ِر اْل ُم ْخبِت َ‬
‫ْ‬
‫ون (‪)35‬‬ ‫الصاَل ِة و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ‬ ‫ِِ‬
‫اه ْم ُي ْنفقُ َ‬ ‫َواْل ُمقيمي َّ َ َ‬

‫يم ِة ْ‬
‫األن َع ِام فَِإلَهُ ُك ْم‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اس َم الله َعلَى َما َر َزقَهُ ْم م ْن َبه َ‬
‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 35 - 34‬وِل ُك ِّل أ َّ ٍ‬
‫ُمة َج َعْلَنا َم ْن َس ًكا لَي ْذ ُك ُروا ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫اح ٌد َفلَه أ ِ‬
‫ِإلَهٌ و ِ‬
‫ين َعلَى َما‬ ‫وبهُ ْم َوالصَّابِ ِر َ‬ ‫ين ِإ َذا ُذك َر اللهُ َوجلَ ْ‬
‫ت ُقلُ ُ‬ ‫ين * الذ َ‬ ‫َسل ُموا َوَبش ِر اْل ُم ْخبِت َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫َّالة و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫اه ْم ُي ْنفقُ َ‬ ‫َص َابهُ ْم َواْل ُمقيمي الص َ َ‬ ‫أ َ‬
‫أي‪ :‬ولكل أمة من األمم السالفة جعلنا منسكا‪ ،‬أي‪ :‬فاستبقوا إلى الخيرات وتسارعوا إليها‪ ،‬ولننظر‬
‫أيكم أحسن عمال والحكمة في جعل اهلل لكل أمة منسكا‪ ،‬إلقامة ذكره‪ ،‬وااللتفات لشكره‪ ،‬ولهذا‬
‫اح ٌد } وإ ن اختلفت أجناس‬ ‫األنع ِام فَِإلَه ُكم ِإلَهٌ و ِ‬ ‫قال‪ِ { :‬لي ْذ ُكروا اسم اللَّ ِه علَى ما ر َزقَهم ِم ْن ب ِه ِ‬
‫ُ ْ َ‬ ‫يمة ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ ُْ‬ ‫َْ‬ ‫َ ُ‬
‫الشرائع‪ ،‬فكلها متفقة على هذا األصل‪ ،‬وهو ألوهية اهلل‪ ،‬وإ فراده بالعبودية‪ ،‬وترك الشرك به ولهذا‬
‫َسِل ُموا } أي‪ :‬انقادوا واستسلموا له ال لغيره‪ ،‬فإن اإلسالم له طريق إلى الوصول إلى‬ ‫قال‪َ { :‬فلَهُ أ ْ‬
‫ِ‬
‫ين } بخير الدنيا واآلخرة‪ ،‬والمخبت‪ :‬الخاضع لربه‪ ،‬المستسلم ألمره‪،‬‬ ‫دار السالم‪َ { .‬وَب ِّش ِر اْل ُم ْخبِت َ‬
‫وبهُ ْم } أي‪ :‬خوفا‬ ‫ين ِإ َذا ُذ ِك َر اللَّهُ َو ِجلَ ْ‬
‫ت ُقلُ ُ‬
‫َِّ‬
‫المتواضع لعباده ‪ ،‬ثم ذكر صفات المخبتين فقال‪ { :‬الذ َ‬
‫َص َابهُ ْم }‬
‫ين َعلَى َما أ َ‬ ‫وتعظيما‪ ،‬فتركوا لذلك المحرمات‪ ،‬لخوفهم ووجلهم من اهلل وحده‪َ { ،‬والصَّابِ ِر َ‬
‫من البأساء والضراء‪ ،‬وأنواع األذى‪ ،‬فال يجري منهم التسخط لشيء من ذلك‪ ،‬بل صبروا ابتغاء‬
‫َّالة } أي‪ :‬الذين جعلوها قائمة‬ ‫يمي الص ِ‬ ‫وجه ربهم‪ ،‬محتسبين ثوابه‪ ،‬مرتقبين أجره‪ { ،‬واْلم ِق ِ‬
‫َ ُ‬
‫مستقيمة كاملة‪ ،‬بأن أدوا الالزم فيها والمستحب‪ ،‬وعبوديتها الظاهرة والباطنة‪َ { ،‬و ِم َّما َر َز ْقَن ُ‬
‫اه ْم‬
‫ون } وهذا يشمل جميع النفقات الواجبة‪ ،‬كالزكاة‪ ،‬والكفارة‪ ،‬والنفقة على الزوجات والمماليك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ُي ْنفقُ َ‬
‫واألقارب‪ ،‬والنفقات المستحبة‪ ،‬كالصدقات بجميع وجوهها‪ ،‬وأتي بـ { من } المفيدة للتبعيض‪ ،‬ليعلم‬
‫سهولة ما أمر اهلل به ورغب فيه‪ ،‬وأنه جزء يسير مما رزق اهلل‪ ،‬ليس للعبد في تحصيله قدرة‪،‬‬
‫لوال تيسير اهلل له ورزقه إياه‪ .‬فيا أيها المرزوق من فضل اهلل‪ ،‬أنفق مما رزقك اهلل‪ ،‬ينفق اهلل‬
‫عليك‪ ،‬ويزدك من فضله‪.‬‬

‫( ‪)1/538‬‬
‫اف فَِإ َذا َو َجَب ْ‬ ‫صو َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫وبهَا‬
‫ت ُجُن ُ‬ ‫اها لَ ُك ْم م ْن َش َعائ ِر الله لَ ُك ْم فيهَا َخ ْيٌر فَا ْذ ُك ُروا ْ‬
‫اس َم الله َعلَْيهَا َ َ‬ ‫َواْلُب ْد َن َج َعْلَن َ‬
‫اها لَ ُكم لَعلَّ ُكم تَ ْش ُكرون (‪ )36‬لَ ْن يَن َ َّ‬ ‫ط ِع ُموا اْلقَانِ َع َواْل ُم ْعتََّر َك َذِل َ‬‫فَ ُكلُوا ِم ْنهَا َوأَ ْ‬
‫ومهَا‬
‫ال اللهَ لُ ُح ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ك َس َّخ ْرَن َ ْ َ ْ‬
‫ِِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫اؤ َها َولَ ِك ْن َيَنالُهُ التَّ ْق َوى ِم ْن ُك ْم َك َذِل َ‬ ‫ِ‬
‫ك َس َّخ َر َها لَ ُك ْم لتُ َكب ُِّروا اللهَ َعلَى َما َه َدا ُك ْم َوَب ِّش ِر اْل ُم ْحسن َ‬
‫ين‬ ‫َواَل د َم ُ‬
‫(‪)37‬‬

‫صو َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬


‫اف‬ ‫اس َم الله َعلَْيهَا َ َ‬ ‫اها لَ ُك ْم م ْن َش َعائ ِر الله لَ ُك ْم فيهَا َخ ْيٌر فَا ْذ ُك ُروا ْ‬ ‫{ ‪َ { } 37 - 36‬واْلُب ْد َن َج َعْلَن َ‬
‫َّ‬ ‫ط ِع ُموا اْلقَانِ َع َواْل ُم ْعتََّر َك َذِل َ‬
‫وبهَا فَ ُكلُوا ِم ْنهَا َوأَ ْ‬ ‫فَِإ َذا َو َجَب ْ‬
‫ون * لَ ْن‬ ‫ك َس َّخ ْرَن َ‬
‫اها لَ ُك ْم لَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ‬ ‫ت ُجُن ُ‬
‫ك َس َّخ َر َها لَ ُك ْم ِلتُ َكب ُِّروا اللَّهَ َعلَى َما َه َدا ُك ْم‬‫اؤ َها َولَ ِك ْن َيَنالُهُ التَّ ْق َوى ِم ْن ُك ْم َك َذِل َ‬ ‫ِ‬
‫ومهَا َوال د َم ُ‬
‫َّ‬
‫َيَنا َل اللهَ لُ ُح ُ‬
‫ِِ‬
‫ين } ‪.‬‬‫َوَب ِّش ِر اْل ُم ْحسن َ‬
‫هذا دليل على أن الشعائر عام في جميع أعالم الدين الظاهرة‪ .‬وتقدم أن اهلل أخبر أن من عظم‬
‫شعائره‪ ،‬فإن ذلك من تقوى القلوب‪ ،‬وهنا أخبر أن من جملة شعائره‪ ،‬البدن‪ ،‬أي‪ :‬اإلبل‪ ،‬والبقر‪،‬‬
‫على أحد القولين‪ ،‬فتعظم وتستسمن‪ ،‬وتستحسن‪ { ،‬لَ ُك ْم ِفيهَا َخ ْيٌر } أي‪ :‬المهدي وغيره‪ ،‬من األكل‪،‬‬
‫اس َم اللَّ ِه َعلَْيهَا } أي‪ :‬عند ذبحها قولوا " بسم‬
‫والصدقة‪ ،‬واالنتفاع‪ ،‬والثواب‪ ،‬واألجر‪ { ،‬فَا ْذ ُك ُروا ْ‬
‫اف } أي‪ :‬قائمات‪ ،‬بأن تقام على قوائمها األربع‪ ،‬ثم تعقل يدها اليسرى‪،‬‬ ‫صو َّ‬
‫اهلل "س واذبحوها‪َ َ { ،‬‬
‫ثم تنحر‪.‬‬
‫وبهَا } أي‪ :‬سقطت في األرض جنوبها‪ ،‬حين تسلخ‪ ،‬ثم يسقط الجزار جنوبها على‬ ‫ت ُجُن ُ‬ ‫{ فَِإ َذا َو َجَب ْ‬
‫األرض‪ ،‬فحينئذ قد استعدت ألن يؤكل منها‪ { ،‬فَ ُكلُوا ِم ْنهَا } وهذا خطاب للمهدي‪ ،‬فيجوز له األكل‬
‫ط ِع ُموا اْلقَانِ َع َواْل ُم ْعتََّر } أي‪ :‬الفقير الذي ال يسأل‪ ،‬تقنعا‪ ،‬وتعففا‪ ،‬والفقير الذي‬ ‫من هديه‪َ { ،‬وأَ ْ‬
‫يسأل‪ ،‬فكل منهما له حق فيهما‪.‬‬
‫َّ‬ ‫{ َك َذِل َ‬
‫ون } اهلل على تسخيرها‪ ،‬فإنه لوال تسخيره لها‪ ،‬لم‬
‫اها لَ ُك ْم } أي‪ :‬البدن { لَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ‬ ‫ك َس َّخ ْرَن َ‬
‫يكن لكم بها طاقة‪ ،‬ولكنه ذللها لكم وسخرها‪ ،‬رحمة بكم وإ حسانا إليكم‪ [ ،‬ص ‪ ] 539‬فاحمدوه‪.‬‬
‫اؤ َها } أي‪ :‬ليس المقصود منها ذبحها فقط‪ .‬وال ينال اهلل من‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ومهَا َوال د َم ُ‬
‫وقوله‪ { :‬لَ ْن َيَنا َل اللهَ لُ ُح ُ‬
‫لحومها وال دمائها شيء‪ ،‬لكونه الغني الحميد‪ ،‬وإ نما يناله اإلخالص فيها‪ ،‬واالحتساب‪ ،‬والنية‬
‫الصالحة‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ولَ ِك ْن َيَنالُهُ التَّ ْق َوى ِم ْن ُك ْم } ففي هذا حث وترغيب على اإلخالص في‬
‫النحر‪ ،‬وأن يكون القصد وجه اهلل وحده‪ ،‬ال فخرا وال رياء‪ ،‬وال سمعة‪ ،‬وال مجرد عادة‪ ،‬وهكذا‬
‫سائر العبادات‪ ،‬إن لم يقترن بها اإلخالص وتقوى اهلل‪ ،‬كانت كالقشور الذي ال لب فيه‪ ،‬والجسد‬
‫الذي ال روح فيه‪.‬‬
‫ك َس َّخ َر َها لَ ُك ْم ِلتُ َكب ُِّروا اللَّهَ } أي‪ :‬تعظموه وتجلوه‪َ { ،‬علَى َما َه َدا ُك ْم } أي‪ :‬مقابلة لهدايته‬
‫{ َك َذِل َ‬
‫ِِ‬
‫إياكم‪ ،‬فإنه يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد‪ ،‬وأعلى التعظيم‪َ { ،‬وَب ِّش ِر اْل ُم ْحسن َ‬
‫ين } بعبادة اهلل بأن‬
‫يعبدوا اهلل‪ ،‬كأنهم يرونه‪ ،‬فإن لم يصلوا إلى هذه الدرجة فليعبدوه‪ ،‬معتقدين وقت عبادتهم اطالعه‬
‫عليهم‪ ،‬ورؤيته إياهم‪ ،‬والمحسنين لعباد اهلل‪ ،‬بجميع وجوه اإلحسان من نفع مال‪ ،‬أو علم‪ ،‬أو جاه‪،‬‬
‫أو نصح‪ ،‬أو أمر بمعروف‪ ،‬أو نهي عن منكر‪ ،‬أو كلمة طيبة ونحو ذلك‪ ،‬فالمحسنون لهم البشارة‬
‫اء‬
‫من اهلل‪ ،‬بسعادة الدنيا واآلخرة وسيحسن اهلل إليهم‪ ،‬كما أحسنوا في عبادته ولعباده { َه ْل َج َز ُ‬
‫َح َسُنوا اْل ُح ْسَنى َو ِزَي َ‬
‫ادةٌ }‬ ‫ين أ ْ‬ ‫َِِّ‬ ‫ان ِإال ْ‬
‫اإلح َس ِ‬
‫ان } { للذ َ‬
‫اإلح َس ُ‬ ‫ْ‬

‫( ‪)1/538‬‬

‫ان َكفُ ٍ‬
‫ور (‪)38‬‬ ‫َمُنوا ِإ َّن اللَّهَ اَل ُي ِح ُّ‬
‫ب ُك َّل َخ َّو ٍ‬ ‫َِّ‬ ‫َّ ِ‬
‫ِإ َّن اللهَ ُي َدافعُ َع ِن الذ َ‬
‫ين آ َ‬

‫ان َكفُ ٍ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫آمُنوا ِإ َّن اللَّهَ ال ُي ِح ُّ‬
‫ب ُك َّل َخ َّو ٍ‬ ‫َِّ‬ ‫َّ ِ‬
‫{ ‪ِ { } 38‬إ َّن اللهَ ُي َدافعُ َع ِن الذ َ‬
‫ين َ‬
‫هذا إخبار ووعد وبشارة من اهلل‪ ،‬للذين آمنوا‪ ،‬أن اهلل يدافع عنهم كل مكروه‪ ،‬ويدفع عنهم كل شر‬
‫‪-‬بسبب إيمانهم‪ -‬من شر الكفار‪ ،‬وشر وسوسة الشيطان‪ ،‬وشرور أنفسهم‪ ،‬وسيئات أعمالهم‪،‬‬
‫ويحمل عنهم عند نزول المكاره‪ ،‬ما ال يتحملون‪ ،‬فيخفف عنهم غاية التخفيف‪ .‬كل مؤمن له من‬
‫هذه المدافعة والفضيلة بحسب إيمانه‪ ،‬فمستقل ومستكثر‪.‬‬
‫{ ِإ َّن اللَّهَ ال ُي ِح ُّ‬
‫ب ُك َّل َخ َّو ٍ‬
‫ان } أي‪ :‬خائن في أمانته التي حمله اهلل إياها‪ ،‬فيبخس حقوق اهلل عليه‪،‬‬
‫ويخونها‪ ،‬ويخون الخلق‪.‬‬
‫ور } لنعم اهلل‪ ،‬يوالي عليه اإلحسان‪ ،‬ويتوالى منه الكفر والعصيان‪ ،‬فهذا ال يحبه اهلل‪ ،‬بل‬
‫{ َكفُ ٌ‬
‫يبغضه ويمقته‪ ،‬وسيجازيه على كفره وخيانته‪ ،‬ومفهوم اآلية‪ ،‬أن اهلل يحب كل أمين قائم بأمانته‪،‬‬
‫شكور لمواله‪.‬‬

‫( ‪)1/539‬‬

‫ُخ ِر ُجوا ِم ْن ِدَي ِار ِه ْم بِ َغ ْي ِر‬ ‫ين أ ْ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬


‫ص ِر ِه ْم لَقَد ٌير (‪ )39‬الذ َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ون بِأََّنهُ ْم ظُل ُموا َوإِ َّن اللهَ َعلَى َن ْ‬ ‫ين ُيقَاتَلُ َ‬
‫ِ َِِّ‬
‫أُذ َن للذ َ‬
‫ِ‬ ‫َن َيقُولُوا َربَُّنا اللَّهُ َولَ ْواَل َد ْفعُ اللَّ ِه َّ‬
‫ات‬‫صلَ َو ٌ‬ ‫ص َوامعُ َوبَِيعٌ َو َ‬ ‫ت َ‬ ‫ض لَهُ ِّد َم ْ‬ ‫ضهُ ْم بَِب ْع ٍ‬ ‫اس َب ْع َ‬ ‫الن َ‬ ‫ق ِإاَّل أ ْ‬
‫َح ٍّ‬
‫ين ِإ ْن‬ ‫َِّ‬ ‫ص ُرهُ ِإ َّن اللَّهَ لَقَ ِو ٌّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وم َس ِ‬
‫ي َع ِز ٌيز (‪ )40‬الذ َ‬ ‫ص َر َّن اللهُ َم ْن َي ْن ُ‬
‫اس ُم الله َكث ًيرا َولََي ْن ُ‬ ‫اج ُد ُي ْذ َك ُر فيهَا ْ‬ ‫ََ‬
‫وف َوَنهَ ْوا َع ِن اْل ُم ْن َك ِر َوِللَّ ِه َع ِاقَبةُ‬ ‫الز َكاةَ وأَمروا بِاْلمعر ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫الصاَل ةَ َوآَتَُوا َّ َ َ ُ‬ ‫اموا َّ‬ ‫ض أَقَ ُ‬ ‫اه ْم ِفي اأْل َْر ِ‬‫َم َّكَّن ُ‬
‫ُم ِ‬
‫ور (‪)41‬‬ ‫اأْل ُ‬
‫ُخ ِر ُجوا ِم ْن‬ ‫ين أ ْ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫ص ِر ِه ْم لَقَد ٌير * الذ َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ون بِأََّنهُ ْم ظُل ُموا َوإِ َّن اللهَ َعلَى َن ْ‬ ‫ين ُيقَاتَلُ َ‬
‫ِ َِِّ‬
‫{ ‪ { } 41 - 39‬أُذ َن للذ َ‬
‫ِ‬ ‫َن َيقُولُوا َربَُّنا اللَّهُ َولَ ْوال َد ْفعُ اللَّ ِه َّ‬ ‫ِدَي ِار ِه ْم بِ َغ ْي ِر َح ٍّ‬
‫ص َوامعُ َوبَِيعٌ‬ ‫ت َ‬ ‫ض لَهُ ِّد َم ْ‬ ‫ضهُ ْم بَِب ْع ٍ‬‫اس َب ْع َ‬ ‫الن َ‬ ‫ق ِإال أ ْ‬
‫ي َع ِز ٌيز *‬ ‫ص ُرهُ ِإ َّن اللَّهَ لَقَ ِو ٌّ‬ ‫َّ‬
‫ص َر َّن اللهُ َم ْن َي ْن ُ‬
‫َّ ِ ِ‬
‫اس ُم الله َكث ًيرا َولََي ْن ُ‬
‫ِ‬
‫ات َو َم َسا ِج ُد ُي ْذ َك ُر فيهَا ْ‬‫صلَ َو ٌ‬ ‫َو َ‬
‫وف َوَنهَ ْوا َع ِن اْل ُم ْن َك ِر َوِللَّ ِه‬ ‫الز َكاةَ وأَمروا بِاْلمعر ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫اموا الصَّالةَ َوآتَُوا َّ َ َ ُ‬ ‫األر ِ‬
‫ض أَقَ ُ‬
‫الَِّذين ِإ ْن م َّكَّن ُ ِ‬
‫اه ْم في ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫األم ِ‬ ‫ِ‬
‫َعاقَبةُ ُ‬
‫كان المسلمون في أول اإلسالم ممنوعين من قتال الكفار‪ ،‬ومأمورين بالصبر عليهم‪ ،‬لحكمة إلهية‪،‬‬
‫فلما هاجروا إلى المدينة‪ ،‬وأوذوا‪ ،‬وحصل لهم منعة وقوة‪ ،‬أذن لهم بالقتال‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬أ ُِذ َن‬
‫ون } يفهم منه أنهم كانوا قبل ممنوعين‪ ،‬فأذن اهلل لهم بقتال الذين يقاتلون‪ ،‬وإ نما أذن‬ ‫َِِّ‬
‫ين ُيقَاتَلُ َ‬
‫للذ َ‬
‫لهم‪ ،‬ألنهم ظلموا‪ ،‬بمنعهم من دينهم‪ ،‬وأذيتهم عليه‪ ،‬وإ خراجهم من ديارهم‪.‬‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ص ِر ِه ْم لَقَد ٌير } فليستنصروه‪ ،‬وليستعينوا به‪ ،‬ثم ذكر صفة ظلمهم فقال‪ { :‬الذ َ‬
‫ين‬ ‫{ َوإِ َّن اللهَ َعلَى َن ْ‬
‫ق ِإال } أن ذنبهم الذي نقم‬ ‫ُخ ِر ُجوا ِم ْن ِدَي ِار ِه ْم } أي‪ :‬ألجئوا إلى الخروج باألذية والفتنة { بِ َغ ْي ِر َح ٍّ‬ ‫أْ‬
‫َن َيقُولُوا َربَُّنا اللَّهُ } أي‪ :‬إال أنهم وحدوا اهلل‪ ،‬وعبدوه مخلصين له الدين‪ ،‬فإن‬ ‫منهم أعداؤهم { أ ْ‬
‫يز اْل َح ِم ِيد } وهذا‬
‫َن ُي ْؤ ِمُنوا بِاللَّ ِه اْل َع ِز ِ‬
‫كان هذا ذنبا‪ ،‬فهو ذنبهم كقوله تعالى‪َ { :‬و َما َنقَ ُموا ِم ْنهُ ْم ِإال أ ْ‬
‫يدل على حكمة الجهاد‪ ،‬وأن المقصود منه إقامة دين اهلل‪ ،‬وذب الكفار المؤذين للمؤمنين‪ ،‬البادئين‬
‫لهم باالعتداء‪ ،‬عن ظلمهم واعتدائهم‪ ،‬والتمكن من عبادة اهلل‪ ،‬وإ قامة الشرائع الظاهرة‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ض } فيدفع اهلل بالمجاهدين في سبيله ضرر الكافرين‪،‬‬ ‫ضهُ ْم بَِب ْع ٍ‬
‫اس َب ْع َ‬ ‫{ َولَ ْوال َد ْفعُ اللَّ ِه َّ‬
‫الن َ‬
‫ات َو َم َسا ِج ُد } أي‪ :‬لهدمت هذه المعابد الكبار‪ ،‬لطوائف أهل‬ ‫ِ‬
‫صلَ َو ٌ‬‫ص َوامعُ َوبَِيعٌ َو َ‬ ‫ت َ‬ ‫{ لَهُ ِّد َم ْ‬
‫اس ُم‬ ‫ِ‬
‫الكتاب‪ ،‬معابد اليهود والنصارى‪ ،‬والمساجد للمسلمين‪ُ { ،‬ي ْذ َك َر فيهَا } أي‪ :‬في هذه المعابد { ْ‬
‫اللَّ ِه َكثِ ًيرا } تقام فيها الصلوات‪ ،‬وتتلى فيها كتب اهلل‪ ،‬ويذكر فيها اسم اهلل بأنواع الذكر‪ ،‬فلوال دفع‬
‫اهلل الناس بعضهم ببعض‪ ،‬الستولى الكفار على المسلمين‪ ،‬فخربوا معابدهم‪ ،‬وفتنوهم عن دينهم‪،‬‬
‫فدل هذا‪ ،‬أن الجهاد مشروع‪ ،‬ألجل دفع الصائل والمؤذي‪ ،‬ومقصود لغيره‪ ،‬ودل ذلك على أن‬
‫البلدان التي حصلت فيها الطمأنينة بعبادة اهلل‪ ،‬وعمرت مساجدها‪ ،‬وأقيمت فيها شعائر الدين كلها‪،‬‬
‫اس‬ ‫من فضائل المجاهدين وببركتهم‪ ،‬دفع اهلل عنها الكافرين‪ ،‬قال اهلل تعالى‪َ { :‬ولَ ْوال َد ْفعُ اللَّ ِه َّ‬
‫الن َ‬
‫ِ‬ ‫ض َولَ ِك َّن اللَّهَ ُذو فَ ْ‬ ‫ِ‬
‫ض ٍل َعلَى اْل َعالَم َ‬
‫ين }‬ ‫األر ُ‬ ‫ضهُ ْم بَِب ْع ٍ‬
‫ض لَفَ َس َدت ْ‬ ‫َب ْع َ‬
‫فإن قلت‪ :‬نرى اآلن مساجد المسلمين عامرة لم تخرب‪ ،‬مع أنها كثير منها إمارة صغيرة‪،‬‬
‫وحكومة غير منظمة‪ ،‬مع أنهم ال يدان لهم بقتال من جاورهم من اإلفرنج‪ ،‬بل نرى المساجد التي‬
‫تحت واليتهم وسيطرتهم عامرة‪ ،‬وأهلها آمنون مطمئنون‪ ،‬مع قدرة والتهم من الكفار على هدمها‪،‬‬
‫واهلل أخبر أنه لوال دفع اهلل الناس بعضهم ببعض‪ ،‬لهدمت هذه المعابد‪ ،‬ونحن ال نشاهد دفعا‪.‬‬
‫أجيب بأن هذا السؤال واالستشكال‪ ،‬داخل في عموم هذه اآلية وفرد من أفرادها‪ ،‬فإن من عرف‬
‫أحوال الدول اآلن ونظامها‪ ،‬وأنها تعتبر كل أمة وجنس تحت واليتها‪ ،‬وداخل في حكمها‪ ،‬تعتبره‬
‫عضوا من أعضاء المملكة‪ ،‬وجزء من أجزاء الحكومة‪ ،‬سواء كانت تلك األمة [ ص ‪] 540‬‬
‫مقتدرة بعددها أو عددها‪ ،‬أو مالها‪ ،‬أو عملها‪ ،‬أو خدمتها‪ ،‬فتراعي الحكومات مصالح ذلك‬
‫الشعب‪ ،‬الدينية والدنيوية‪ ،‬وتخشى إن لم تفعل ذلك أن يختل نظامها‪ ،‬وتفقد بعض أركانها‪ ،‬فيقوم‬
‫من أمر الدين بهذا السبب ما يقوم‪ ،‬خصوصا المساجد‪ ،‬فإنها ‪-‬وهلل الحمد‪ -‬في غاية االنتظام‪،‬‬
‫حتى في عواصم الدول الكبار‪.‬‬
‫وتراعي تلك الدول الحكومات المستقلة‪ ،‬نظرا لخواطر رعاياهم المسلمين‪ ،‬مع وجود التحاسد‬
‫والتباغض بين دول النصارى‪ ،‬الذي أخبر اهلل أنه ال يزال إلى يوم القيامة‪ ،‬فتبقى الحكومة‬
‫المسلمة‪ ،‬التي ال تقدر تدافع عن نفسها‪ ،‬سالمة من [كثير] (‪ )1‬ضررهم‪ ،‬لقيام الحسد عندهم‪ ،‬فال‬
‫يقدر أحدهم أن يمد يده عليها‪ ،‬خوفا من احتمائها باآلخر‪ ،‬مع أن اهلل تعالى ال بد أن يري عباده من‬
‫نصر اإلسالم والمسلمين‪ ،‬ما قد وعد به في كتابه‪.‬‬
‫وقد ظهرت ‪-‬وهلل الحمد‪ -‬أسبابه [بشعور المسلمين بضرورة رجوعهم إلى دينهم والشعور مبدأ‬
‫العمل] (‪ )2‬فنحمده ونسأله أن يتم نعمته‪ ،‬ولهذا قال في وعده الصادق المطابق للواقع‪:‬‬
‫َّ‬
‫ص َر َّن اللهُ َم ْن َي ْن ُ‬
‫ص ُرهُ } أي‪ :‬يقوم بنصر دينه‪ ،‬مخلصا له في ذلك‪ ،‬يقاتل في سبيله‪ ،‬لتكون‬ ‫{ َولََي ْن ُ‬
‫كلمة اهلل هي العليا‪.‬‬
‫ي َع ِز ٌيز } أي‪ :‬كامل القوة‪ ،‬عزيز ال يرام‪ ،‬قد قهر الخالئق‪ ،‬وأخذ بنواصيهم‪،‬‬ ‫{ ِإ َّن اللَّهَ لَقَ ِو ٌّ‬
‫فأبشروا‪ ،‬يا معشر المسلمين‪ ،‬فإنكم وإ ن ضعف عددكم وعددكم‪ ،‬وقوي عدد عدوكم وعدتهم (‪)3‬‬
‫فإن ركنكم القوي العزيز‪ ،‬ومعتمدكم على من خلقكم وخلق ما تعملون‪ ،‬فاعملوا باألسباب المأمور‬
‫بها‪ ،‬ثم اطلبوا منه نصركم‪ ،‬فال بد أن ينصركم‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َِّ‬
‫ام ُك ْم } وقوموا‪ ،‬أيها المسلمون‪ ،‬بحق‬ ‫ِّت أَ ْق َد َ‬
‫ص ْر ُك ْم َوُيثَب ْ‬
‫ص ُروا اللهَ َي ْن ُ‬ ‫آمُنوا ِإ ْن تَْن ُ‬
‫ين َ‬‫{ َيا أَيُّهَا الذ َ‬
‫ات لََي ْستَ ْخِلفََّنهُ ْم ِفي‬ ‫َّالح ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوا م ْن ُك ْم َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين َ‬
‫َّ َِّ‬
‫اإليمان والعمل الصالح‪ ،‬فقد { َو َع َد اللهُ الذ َ‬
‫ضى لَهُ ْم َولَُيَب ِّدلََّنهُ ْم ِم ْن َب ْع ِد َخ ْو ِف ِه ْم‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ف الَِّذ ِ ِ‬
‫ين م ْن قَْبل ِه ْم َولَُي َم ِّكَن َّن لَهُ ْم د َينهُ ُم الذي ْارتَ َ‬
‫َ‬ ‫استَ ْخلَ َ‬
‫ض َك َما ْ‬‫األر ِ‬ ‫ْ‬
‫ون بِي َش ْيًئا }‬ ‫أَمًنا يعب ُد َ ِ‬
‫ونني ال ُي ْش ِر ُك َ‬ ‫ْ َ ُْ‬
‫ثم ذكر عالمة من ينصره‪ ،‬وبها يعرف‪ ،‬أن من ادعى أنه ينصر اهلل وينصر دينه‪ ،‬ولم يتصف‬
‫ض } أي‪ :‬ملكناهم إياها‪ ،‬وجعلناهم‬ ‫األر ِ‬ ‫بهذا الوصف‪ ،‬فهو كاذب فقال‪ { :‬الَِّذين ِإ ْن م َّكَّن ُ ِ‬
‫اه ْم في ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اموا الصَّالةَ } في أوقاتها‪،‬‬ ‫المتسلطين عليها‪ ،‬من غير منازع ينازعهم‪ ،‬وال معارض‪ { ،‬أَقَ ُ‬
‫وحدودها‪ ،‬وأركانها‪ ،‬وشروطها‪ ،‬في الجمعة والجماعات‪.‬‬
‫الز َكاةَ } التي عليهم خصوصا‪ ،‬وعلى رعيتهم عموما‪ ،‬آتوها أهلها‪ ،‬الذين هم أهلها‪،‬‬ ‫{ وآتُوا َّ‬
‫َ‬
‫وف } وهذا يشمل كل معروف حسنه شرعا وعقال من حقوق اهلل‪ ،‬وحقوق‬ ‫{ وأَمروا بِاْلمعر ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫َ َُ‬
‫اآلدميين‪َ { ،‬وَنهَ ْوا َع ِن اْل ُم ْن َك ِر } كل منكر شرعا وعقال معروف قبحه‪ ،‬واألمر بالشيء والنهي‬
‫عنه يدخل فيه ما ال يتم إال به‪ ،‬فإذا كان المعروف والمنكر يتوقف على تعلم وتعليم‪ ،‬أجبروا الناس‬
‫على التعلم والتعليم‪ ،‬وإ ذا كان يتوقف على تأديب مقدر شرعا‪ ،‬أو غير مقدر‪ ،‬كأنواع التعزير‪،‬‬
‫قاموا بذلك‪ ،‬وإ ذا كان يتوقف على جعل أناس متصدين له‪ ،‬لزم ذلك‪ ،‬ونحو ذلك مما ال يتم األمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر إال به‪.‬‬
‫ور } أي‪ :‬جميع األمور‪ ،‬ترجع إلى اهلل‪ ،‬وقد أخبر أن العاقبة للتقوى‪ ،‬فمن سلطه‬ ‫األم ِ‬ ‫َِّ ِ ِ‬
‫{ َولله َعاقَبةُ ُ‬
‫اهلل على العباد من الملوك‪ ،‬وقام بأمر اهلل‪ ،‬كانت له العاقبة الحميدة‪ ،‬والحالة الرشيدة‪ ،‬ومن تسلط‬
‫عليهم بالجبروت‪ ،‬وأقام فيهم هوى نفسه‪ ،‬فإنه وإ ن حصل له ملك موقت‪ ،‬فإن عاقبته غير حميدة‪،‬‬
‫فواليته مشئومة‪ ،‬وعاقبته مذمومة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من هامش ب‬
‫(‪ )2‬زيادة من هامش ب‬
‫(‪ )3‬في أ‪ :‬وعدتكم‪ ،‬وهو سبق قلم ‪-‬واهلل أعلم‪. -‬‬

‫( ‪)1/539‬‬

‫اب‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫وك فَقَ ْد َك َّذَب ْ‬


‫َوإِ ْن ُي َك ِّذُب َ‬
‫َص َح ُ‬ ‫يم َوقَ ْو ُم لُوط (‪َ )43‬وأ ْ‬ ‫ود (‪َ )42‬وقَ ْو ُم إ ْب َراه َ‬ ‫اد َوثَ ُم ُ‬‫وح َو َع ٌ‬ ‫ت قَْبلَهُ ْم قَ ْو ُم ُن ٍ‬
‫اها‬ ‫ِّن ِم ْن قَ ْرَي ٍة أ ْ‬
‫َهلَ ْكَن َ‬ ‫ير (‪ )44‬فَ َكأَي ْ‬ ‫ان َن ِك ِ‬‫ف َك َ‬ ‫َخ ْذتُهُ ْم فَ َك ْي َ‬
‫ين ثَُّم أ َ‬ ‫م ْدين و ُك ِّذب موسى فَأَملَْي ُ ِ ِ‬
‫ت لْل َكاف ِر َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ََ َ َ ُ َ‬
‫ص ٍر َم ِش ٍيد (‪ )45‬أَ َفلَ ْم َي ِس ُيروا ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫َّ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫و ِهي َ ِ‬
‫ض‬ ‫ظال َمةٌ فَ ِه َي َخ ِاوَيةٌ َعلَى ُع ُروشهَا َوبِْئ ٍر ُم َعطلَة َوقَ ْ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وب التي‬ ‫ص ُار َولَك ْن تَ ْع َمى اْل ُقلُ ُ‬ ‫ون بِهَا فَِإَّنهَا اَل تَ ْع َمى اأْل َْب َ‬‫ان َي ْس َم ُع َ‬‫ون بِهَا أ َْو َآ َذ ٌ‬ ‫وب َي ْعقلُ َ‬ ‫ون لَهُ ْم ُقلُ ٌ‬ ‫فَتَ ُك َ‬
‫ور (‪)46‬‬ ‫ِفي الص ُ‬
‫ُّد ِ‬

‫اهيم وقَوم لُ ٍ‬
‫وط *‬ ‫ِ ِ‬ ‫ك فَقَ ْد َك َّذَب ْ‬
‫{ ‪َ { } 46 - 42‬وإِ ْن ُي َك ِّذُبو َ‬
‫ود * َوقَ ْو ُم إ ْب َر َ َ ْ ُ‬ ‫اد َوثَ ُم ُ‬
‫وح َو َع ٌ‬ ‫ت قَْبلَهُ ْم قَ ْو ُم ُن ٍ‬
‫ِّن ِم ْن قَ ْرَي ٍة‬
‫ير * فَ َكأَي ْ‬ ‫ان َن ِك ِ‬
‫ف َك َ‬ ‫َخ ْذتُهُ ْم فَ َك ْي َ‬
‫ين ثَُّم أ َ‬ ‫وأَصحاب م ْدين و ُك ِّذب موسى فَأَملَْي ُ ِ ِ‬
‫ت لْل َكاف ِر َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ ُ َ ََ َ َ ُ َ‬
‫ص ٍر َم ِش ٍيد * أَ َفلَ ْم َي ِس ُيروا ِفي‬ ‫َّ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫اها و ِهي َ ِ‬
‫ظال َمةٌ فَ ِه َي َخ ِاوَيةٌ َعلَى ُع ُروشهَا َوبِْئ ٍر ُم َعطلَة َوقَ ْ‬ ‫َهلَ ْكَن َ َ َ‬‫أْ‬
‫ص ُار َولَ ِك ْن تَ ْع َمى‬ ‫ون بِهَا فَِإَّنهَا ال تَ ْع َمى ْ‬
‫األب َ‬ ‫ان َي ْس َم ُع َ‬ ‫ون بِهَا أ َْو آ َذ ٌ‬ ‫ض فَتَ ُكون لَهم ُقلُ ٌ ِ‬
‫وب َي ْعقلُ َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫األر ِ‬‫ْ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫ُّد ِ‬‫وب الَّتِي ِفي الص ُ‬‫اْل ُقلُ ُ‬
‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬وإ ن يكذبك هؤالء المشركون فلست بأول رسول‬
‫يم‬ ‫ِ ِ‬ ‫كذب‪ ،‬وليسوا بأول أمة كذبت رسولها { فَقَ ْد َك َّذَب ْ‬
‫ود * َوقَ ْو ُم إ ْب َراه َ‬ ‫اد َوثَ ُم ُ‬
‫وح َو َع ٌ‬
‫ت قَْبلَهُ ْم قَ ْو ُم ُن ٍ‬
‫اب َم ْدَي َن } أي‪ :‬قوم شعيب‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫َص َح ُ‬ ‫َوقَ ْو ُم لُوط * َوأ ْ‬
‫{ و ُك ِّذب موسى فَأَملَْي ُ ِ ِ‬
‫ين } المكذبين‪ ،‬فلم أعاجلهم بالعقوبة‪ ،‬بل أمهلتهم‪ ،‬حتى استمروا في‬ ‫ت لْل َكاف ِر َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ُ َ‬
‫َخ ْذتُهُ ْم } بالعذاب أخذ عزيز‬
‫طغيانهم يعمهون‪ ،‬وفي كفرهم [ ص ‪ ] 541‬وشرهم يزدادون‪ { ،‬ثَُّم أ َ‬
‫ير } أي‪ :‬إنكاري عليهم كفرهم‪ ،‬وتكذيبهم كيف حاله‪ ،‬كان أشد العقوبات‪،‬‬ ‫ان َن ِك ِ‬
‫ف َك َ‬
‫مقتدر { فَ َك ْي َ‬
‫وأفظع المثالت‪ ،‬فمنهم من أغرقه‪ ،‬ومنهم من أخذته الصيحة‪ ،‬ومنهم من أهلك بالريح العقيم‪،‬‬
‫ومنهم من خسف به األرض‪ ،‬ومنهم من أرسل عليه عذاب يوم الظلة‪ ،‬فليعتبر بهم هؤالء‬
‫المكذبون‪ ،‬أن يصيبهم ما أصابهم‪ ،‬فإنهم ليسوا خيرا منهم‪ ،‬وال كتب لهم براءة في الكتب المنزلة‬
‫ِّن ِم ْن قَ ْرَي ٍة } أي‪ :‬وكم‬
‫من اهلل‪ ،‬وكم من المعذبين المهلكين أمثال هؤالء كثير‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَ َكأَي ْ‬
‫ظ ِال َمةٌ } بكفرها باهلل وتكذيبها‬ ‫اها } بالعذاب الشديد‪ ،‬والخزي الدنيوي‪َ { ،‬و ِه َي َ‬ ‫َهلَ ْكَن َ‬
‫من قرية { أ ْ‬
‫وشهَا } أي‪ :‬فديارهم متهدمة‪،‬‬ ‫لرسله‪ ،‬لم يكن عقوبتنا لها ظلما منا‪ { ،‬فَ ِهي َخ ِاويةٌ علَى عر ِ‬
‫َ َ ُُ‬ ‫َ‬
‫قصورها‪ ،‬وجدرانها‪ ،‬قد سقطت عروشها‪ ،‬فأصبحت خرابا بعد أن كانت عامرة‪ ،‬وموحشة بعد أن‬
‫ص ٍر َم ِش ٍيد } أي‪ :‬وكم من بئر‪ ،‬قد كان يزدحم عليه‬ ‫َّ ٍ‬
‫كانت آهلة بأهلها آنسة‪َ { ،‬وبِْئ ٍر ُم َعطلَة َوقَ ْ‬
‫الخلق‪ ،‬لشربهم‪ ،‬وشرب مواشيهم‪ ،‬ففقد أهله‪ ،‬وعدم منه الوارد والصادر‪ ،‬وكم من قصر‪ ،‬تعب‬
‫عليه أهله‪ ،‬فشيدوه‪ ،‬ورفعوه‪ ،‬وحصنوه‪ ،‬وزخرفوه‪ ،‬فحين جاءهم أمر اهلل‪ ،‬لم يغن عنهم شيئا‪،‬‬
‫وأصبح خاليا من أهله‪ ،‬قد صاروا عبرة لمن اعتبر‪ ،‬ومثاال لمن فكر ونظر‪.‬‬
‫األر ِ‬
‫ض}‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ولهذا دعا اهلل عباده إلى السير في األرض‪ ،‬لينظروا‪ ،‬ويعتبروا فقال‪ { :‬أَ َفلَ ْم َيس ُيروا في ْ‬
‫ون بِهَا } آيات اهلل ويتأملون بها مواقع عبره‪ { ،‬أ َْو آ َذ ٌ‬
‫ان‬ ‫بأبدانهم وقلوبهم { فَتَ ُكون لَهم ُقلُ ٌ ِ‬
‫وب َي ْعقلُ َ‬ ‫َ ُْ‬
‫ون بِهَا } أخبار األمم الماضين‪ ،‬وأنباء القرون المعذبين‪ ،‬وإ ال فمجرد نظر العين‪ ،‬وسماع‬ ‫َي ْس َم ُع َ‬
‫األذن‪ ،‬وسير البدن الخالي من التفكر واالعتبار‪ ،‬غير مفيد‪ ،‬وال موصل إلى المطلوب‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫وب الَّتِي ِفي الص ُ‬
‫ُّد ِ‬
‫ور } أي‪ :‬هذا العمى الضار في الدين‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ص ُار َولَك ْن تَ ْع َمى اْل ُقلُ ُ‬ ‫{ فَِإَّنهَا ال تَ ْع َمى ْ‬
‫األب َ‬
‫عمى القلب عن الحق‪ ،‬حتى ال يشاهده كما ال يشاهد األعمى المرئيات‪ ،‬وأما عمى البصر‪ ،‬فغايته‬
‫بلغة‪ ،‬ومنفعة دنيوية‪.‬‬

‫( ‪)1/540‬‬

‫ِ ٍ ِ‬ ‫ف اللَّهُ َو ْع َدهُ َوإِ َّن َي ْو ًما ِعْن َد َرب َ‬


‫اب َولَ ْن ُي ْخِل َ‬
‫ك بِاْل َع َذ ِ‬ ‫َوَي ْستَ ْع ِجلُ َ‬
‫ِّك َكأَْلف َسَنة م َّما تَ ُع ُّد َ‬
‫ون (‪)47‬‬ ‫ون َ‬
‫ص ُير (‪)48‬‬ ‫َخ ْذتُها وإِلَ َّي اْلم ِ‬ ‫ت لَها و ِهي َ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫و َكأَي ْ ِ‬
‫َ‬ ‫ظال َمةٌ ثَُّم أ َ َ َ‬ ‫ِّن م ْن قَ ْرَية أ َْملَْي ُ َ َ َ‬ ‫َ‬

‫ف َسَن ٍة ِم َّما‬
‫ِّك َكأَْل ِ‬
‫ف اللَّهُ َو ْع َدهُ َوإِ َّن َي ْو ًما ِع ْن َد َرب َ‬
‫اب َولَ ْن ُي ْخِل َ‬
‫ك بِاْل َع َذ ِ‬ ‫{ ‪َ { } 48 - 47‬وَي ْستَ ْع ِجلُ َ‬
‫ون َ‬
‫ص ُير } ‪.‬‬ ‫َخ ْذتُها وإِلَ َّي اْلم ِ‬ ‫ت لَها و ِهي َ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫تَع ُّدون * و َكأَي ْ ِ‬
‫َ‬ ‫ظال َمةٌ ثَُّم أ َ َ َ‬ ‫ِّن م ْن قَ ْرَية أ َْملَْي ُ َ َ َ‬ ‫ُ َ َ‬
‫أي‪ :‬يستعجلك هؤالء المكذبون بالعذاب‪ ،‬لجهلهم‪ ،‬وظلمهم‪ ،‬وعنادهم‪ ،‬وتعجيزا هلل‪ ،‬وتكذيبا لرسله‪،‬‬
‫ولن يخلف اهلل وعده‪ ،‬فما وعدهم به من العذاب‪ ،‬ال بد من وقوعه‪ ،‬وال يمنعهم منه مانع‪ ،‬وأما‬
‫عجلته‪ ،‬والمبادرة فيه‪ ،‬فليس ذلك إليك يا محمد‪ ،‬وال يستفزنك عجلتهم وتعجيزهم إيانا‪ .‬فإن أمامهم‬
‫يوم القيامة‪ ،‬الذي يجمع فيه أولهم وآخرهم‪ ،‬ويجازون بأعمالهم‪ ،‬ويقع بهم العذاب الدائم األليم‪،‬‬
‫ِ ٍ ِ‬ ‫ولهذا قال‪َ { :‬وإِ َّن َي ْو ًما ِع ْن َد َرِّب َ‬
‫ون } من طوله‪ ،‬وشدته‪ ،‬وهو له‪ ،‬فسواء‬ ‫ك َكأَْلف َسَنة م َّما تَ ُع ُّد َ‬
‫أصابهم عذاب في الدنيا‪ ،‬أم تأخر عنهم العذاب‪ ،‬فإن هذا اليوم‪ ،‬ال بد أن يدركهم‪.‬‬
‫ويحتمل أن المراد‪ :‬أن اهلل حليم‪ ،‬ولو استعجلوا العذاب‪ ،‬فإن يوما عنده كألف سنة مما تعدون‪،‬‬
‫فالمدة‪ ،‬وإ ن تطاولتموها‪ ،‬واستبطأتم فيها نزول العذاب‪ ،‬فإن اهلل يمهل المدد الطويلة وال يهمل‪،‬‬
‫حتى إذا أخذ الظالمين بعذابه لم يفلتهم‪.‬‬
‫ظ ِال َمةٌ } أي‪ :‬مع ظلمهم‪ ،‬فلم يكن‬ ‫ت لَهَا } أي‪ :‬أمهلتها مدة طويلة { َو ِه َي َ‬ ‫ِّن ِم ْن قَ ْرَي ٍة أ َْملَْي ُ‬
‫{ َو َكأَي ْ‬
‫َخ ْذتُها } بالعذاب { وإِلَ َّي اْلم ِ‬
‫ص ُير } أي‪ :‬مع‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫مبادرتهم بالظلم‪ ،‬موجبا لمبادرتنا بالعقوبة‪ { ،‬ثَُّم أ َ َ‬
‫عذابها في الدنيا‪ ،‬سترجع إلى اهلل‪ ،‬فيعذبها بذنوبها‪ ،‬فليحذر هؤالء الظالمون من حلول عقاب اهلل‪،‬‬
‫وال يغتروا باإلمهال‪.‬‬

‫( ‪)1/541‬‬

‫ات لَهُ ْم َم ْغ ِف َرةٌ َو ِر ْز ٌ‬


‫ق‬ ‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين آ َ‬
‫َِّ‬
‫ين (‪ )49‬فَالذ َ‬ ‫اس ِإَّن َما أََنا لَ ُك ْم َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ‬ ‫ُق ْل َيا أَيُّهَا َّ‬
‫الن ُ‬
‫اب اْل َج ِح ِيم (‪)51‬‬
‫َص َح ُ‬
‫كأ ْ‬ ‫ين أُولَئِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َس َع ْوا في آََياتَنا ُم َعا ِج ِز َ‬
‫َِّ‬
‫يم (‪َ )50‬والذ َ‬ ‫َك ِر ٌ‬

‫َّالح ِ‬
‫ات لَهُ ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫اس ِإَّن َما أََنا لَ ُك ْم َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ‬ ‫{ ‪ُ { } 51 - 49‬ق ْل َيا أَيُّهَا َّ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين َ‬‫ين * فَالذ َ‬ ‫الن ُ‬
‫اب اْل َج ِح ِيم } (‪. )1‬‬
‫َص َح ُ‬
‫كأ ْ‬ ‫ين أُولَئِ َ‬ ‫ين َس َعوا ِفي َآياتَِنا م َع ِ‬
‫اج ِز َ‬ ‫ُ‬
‫َِّ‬
‫يم * َوالذ َ ْ‬ ‫َم ْغ ِف َرةٌ َو ِر ْز ٌ‬
‫ق َك ِر ٌ‬
‫يأمر تعالى عبده ورسوله محمدا صلى اهلل عليه وسلم أن يخاطب الناس جميعا‪ ،‬بأنه رسول اهلل‬
‫حقا‪ ،‬مبشرا للمؤمنين بثواب اهلل‪ ،‬منذرا للكافرين والظالمين من عقابه‪ ،‬وقوله‪ُ { :‬مبِ ٌ‬
‫ين } أي‪ :‬بين‬
‫اإلنذار‪ ،‬وهو التخويف مع اإلعالم بالمخوف‪ ،‬وذلك ألنه أقام البراهين الساطعة على صدق ما‬
‫آمُنوا } بقلوبهم إيمانا صحيحا صادقا {‬ ‫َِّ‬
‫ين َ‬
‫أنذرهم به‪ ،‬ثم ذكر تفصيل النذارة والبشارة فقال‪ { :‬فَالذ َ‬
‫ات } بجوارحهم { في جنات النعيم } أي‪ :‬الجنات التي يتنعم بها بأنواع النعيم من‬ ‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َعملُوا الص َ‬
‫المآكل والمشارب والمناكح والصور واألصوات والتنعم برؤية الرب الكريم وسماع [ ص‬
‫‪ ] 542‬كالمه { والذين كفروا } أي‪ :‬جحدوا نعمة ربهم وكذبوا رسله وآياته فأولئك أصحاب‬
‫الجحيم أي‪ :‬المالزمون لها‪ ،‬المصاحبون لها في كل أوقاتهم‪ ،‬فال يخفف عنهم من عذابها وال يفتر‬
‫عنهم لحظة من عقابها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق قلم الشيخ ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬إلى اآلية رقم (‪ )56‬من هذه السورة فجمع بينها وبين هذه اآلية‬
‫فكتب (فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك‬
‫أصحاب الجحيم) ثم فسرها بما يوافق الذي كتب‪ ،‬فعدلت اآلية وصوبتها‪ ،‬وأبقيت التفسير كما هو‪.‬‬

‫( ‪)1/541‬‬

‫ان ِفي أ ُْمنِيَّتِ ِه فََي ْن َس ُخ اللَّهُ َما ُيْل ِقي‬‫ط ُ‬ ‫ول واَل َنبِ ٍّي ِإاَّل ِإ َذا تَمَّنى أَْلقَى َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫ك م ْن َر ُس َ‬
‫وما أَرسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ ِ‬
‫ََ ْ َ‬
‫ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم‬ ‫ط ِ َِِّ‬
‫ان فتَْنةً للذ َ‬ ‫ان ثَُّم ُي ْح ِكم اللَّهُ آََياتِ ِه واللَّهُ َعِليم َح ِكيم (‪ِ )52‬لَي ْج َع َل ما ُيْل ِقي َّ‬
‫الش ْي َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ط ُ‬ ‫َّ‬
‫الش ْي َ‬
‫ق ِم ْن‬ ‫ين أُوتُوا اْل ِعْل َم أََّنهُ اْل َح ُّ‬ ‫َِّ‬ ‫اسي ِة ُقلُوبهم وإِ َّن الظَّ ِال ِمين لَِفي ِشقَا ٍ ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ق َبعيد (‪َ )53‬وِلَي ْعلَ َم الذ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُْ َ‬ ‫ض َواْلقَ َ‬ ‫َم َر ٌ‬
‫اط ُم ْستَِق ٍيم (‪)54‬‬ ‫صر ٍ‬ ‫ِ‬
‫َمُنوا ِإلَى َ‬ ‫ين آ َ‬
‫َّ ِ َِّ‬
‫وبهُ ْم َوإِ َّن اللهَ لَهَاد الذ َ‬ ‫ك فَُي ْؤ ِمُنوا بِ ِه فَتُ ْخبِ َ‬
‫ت لَهُ ُقلُ ُ‬ ‫َرِّب َ‬

‫ان ِفي أ ُْمنِيَّتِ ِه‬‫ط ُ‬ ‫ول وال َنبِ ٍّي ِإال ِإ َذا تَمَّنى أَْلقَى َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫ك م ْن َر ُس َ‬
‫{ ‪ { } 57 - 52‬وما أَرسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ ِ‬
‫ََ ْ َ‬
‫ان ِفتَْنةً‬ ‫ط ُ‬ ‫ان ثَُّم ُي ْح ِكم اللَّهُ َآياتِ ِه واللَّهُ َعِليم َح ِكيم * ِلَي ْج َع َل ما ُيْل ِقي َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ط ُ‬ ‫فََي ْن َس ُخ اللَّهُ ما ُيْل ِقي َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َ‬
‫ين أُوتُوا اْل ِعْل َم‬ ‫َِّ‬ ‫َّ‬
‫اسي ِة ُقلُوبهم وإِ َّن الظ ِال ِمين لَِفي ِشقَا ٍ ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ق َبعيد * َوِلَي ْعلَ َم الذ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُْ َ‬ ‫ض َواْلقَ َ‬ ‫ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬ ‫َِِّ‬
‫للذ َ‬
‫اط ُم ْستَِق ٍيم *‬ ‫صر ٍ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوا ِإلَى َ‬ ‫ين َ‬
‫َّ ِ َِّ‬
‫وبهُ ْم َوإِ َّن اللهَ لَهَادي الذ َ‬ ‫ت لَهُ ُقلُ ُ‬‫ِّك فَُي ْؤ ِمُنوا بِ ِه فَتُ ْخبِ َ‬
‫ق ِم ْن َرب َ‬‫أََّنهُ اْل َح ُّ‬
‫اب َي ْوٍم َع ِق ٍيم } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ٍ ِ‬
‫ين َكفَ ُروا في م ْرَية م ْنهُ َحتَّى تَأْتَيهُ ُم الس َ‬
‫َّاعةُ َب ْغتَةً أ َْو َيأْتَيهُ ْم َع َذ ُ‬
‫َِّ‬
‫َوال َي َزا ُل الذ َ‬
‫ول َوال َنبِ ٍّي ِإال‬ ‫يخبر تعالى بحكمته البالغة‪ ،‬واختياره لعباده‪ ،‬وأن اهلل ما أرسل قبل محمد { ِم ْن رس ٍ‬
‫َ ُ‬
‫ان ِفي أ ُْمنِيَّتِ ِه }‬ ‫ط ُ‬ ‫ِإ َذا تَمَّنى } أي‪ :‬قرأ قراءته‪ ،‬التي يذكر بها الناس‪ ،‬ويأمرهم وينهاهم‪ { ،‬أَْلقَى َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬في قراءته‪ ،‬من طرقه ومكايده‪ ،‬ما هو مناقض لتلك القراءة‪ ،‬مع أن اهلل تعالى قد عصم الرسل‬
‫بما يبلغون عن اهلل‪ ،‬وحفظ وحيه أن يشتبه‪ ،‬أو يختلط بغيره‪ .‬ولكن هذا اإللقاء من الشيطان‪ ،‬غير‬
‫مستقر وال مستمر‪ ،‬وإ نما هو عارض يعرض‪ ،‬ثم يزول‪ ،‬وللعوارض أحكام‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فََي ْن َس ُخ‬
‫ان } أي‪ :‬يزيله ويذهبه ويبطله‪ ،‬ويبين أنه ليس من آياته‪ ،‬و { ُي ْح ِك ُم اللَّهُ َآياتِ ِه }‬
‫ط ُ‬ ‫اللَّهُ ما ُيْل ِقي َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬يتقنها‪ ،‬ويحررها‪ ،‬ويحفظها‪ ،‬فتبقى خالصة من مخالطة إلقاء الشيطان‪َ { ،‬واللَّهُ َع ِز ٌيز } أي‪:‬‬
‫يم } يضع‬ ‫ِ‬
‫كامل القوة واالقتدار‪ ،‬فبكمال قوته‪ ،‬يحفظ وحيه‪ ،‬ويزيل ما تلقيه الشياطين‪َ { ،‬حك ٌ‬
‫األشياء مواضعها‪ ،‬فمن كمال حكمته‪ ،‬مكن الشياطين من اإللقاء المذكور‪ ،‬ليحصل ما ذكره بقوله‪:‬‬
‫ان ِفتَْنةً } لطائفتين من الناس‪ ،‬ال يبالي اهلل بهم‪ ،‬وهم الذين { ِفي ُقلُوبِ ِه ْم‬
‫ط ُ‬ ‫{ ِلَي ْج َع َل ما ُيْل ِقي َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َ‬
‫ض } أي‪ :‬ضعف وعدم إيمان تام وتصديق جازم‪ ،‬فيؤثر في قلوبهم أدنى شبهة تطرأ عليها‪،‬‬ ‫َم َر ٌ‬
‫فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان‪ ،‬داخلهم الريب والشك‪ ،‬فصار فتنة لهم‪.‬‬
‫وبهُ ْم } أي‪ :‬الغليظة‪ ،‬التي ال يؤثر فيها زجر وال تذكير‪ ،‬وال تفهم عن اهلل وعن‬ ‫ِ ِ‬
‫{ َواْلقَاسَية ُقلُ ُ‬
‫رسوله لقسوتها‪ ،‬فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان‪ ،‬جعلوه حجة لهم على باطلهم‪ ،‬وجادلوا به وشاقوا‬
‫ق َب ِع ٍيد } أي‪ :‬مشاقة هلل‪ ،‬ومعاندة للحق‪ ،‬ومخالفة‬
‫ين لَِفي ِشقَا ٍ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫اهلل ورسوله‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وإِ َّن الظالم َ‬
‫له‪ ،‬بعيد من الصواب‪ ،‬فما يلقيه الشيطان‪ ،‬يكون فتنة لهؤالء الطائفتين‪ ،‬فيظهر به ما في قلوبهم‪،‬‬
‫من الخبث الكامن فيها ‪ ،‬وأما الطائفة الثالثة‪ ،‬فإنه يكون رحمة في حقها‪ ،‬وهم المذكورون بقوله‪{ :‬‬
‫ق ِم ْن َرِّب َ‬
‫ك } ألن اهلل منحهم من العلم‪ ،‬ما به يعرفون الحق من‬ ‫ين أُوتُوا اْل ِعْل َم أََّنهُ اْل َح ُّ‬ ‫َِّ‬
‫َوِلَي ْعلَ َم الذ َ‬
‫الباطل‪ ،‬والرشد من الغي‪ ،‬فيميزون بين األمرين‪ ،‬الحق المستقر‪ ،‬الذي يحكمه اهلل‪ ،‬والباطل‬
‫العارض الذي ينسخه اهلل‪ ،‬بما على كل منهما من الشواهد‪ ،‬وليعلموا أن اهلل حكيم‪ ،‬يقيض بعض‬
‫أنواع االبتالء‪ ،‬ليظهر بذلك كمائن النفوس الخيرة والشريرة‪ { ،‬فَُي ْؤ ِمُنوا بِ ِه } بسبب ذلك‪ ،‬ويزداد‬
‫إيمانهم عند دفع المعارض والشبه‪.‬‬
‫وبهُ ْم } أي‪ :‬تخشع وتخضع‪ ،‬وتسلم لحكمته‪ ،‬وهذا من هدايته إياهم‪َ { ،‬وإِ َّن اللَّهَ لَهَ ِاد‬ ‫{ فَتُ ْخبِ َ‬
‫ت لَهُ ُقلُ ُ‬
‫اط ُم ْستَِق ٍيم } علم بالحق‪ ،‬وعمل بمقتضاه‪ ،‬فيثبت اهلل الذين‬ ‫صر ٍ‬‫ِ‬
‫آمُنوا } بسبب إيمانهم { ِإلَى َ‬ ‫ين َ‬ ‫الذ َ‬
‫َِّ‬
‫آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي اآلخرة‪ ،‬وهذا النوع من تثبيت اهلل لعبده‪.‬‬
‫وهذه اآليات‪ ،‬فيها بيان أن للرسول صلى اهلل عليه وسلم أسوة بإخوانه المرسلين‪ ،‬لما وقع منه عند‬
‫الالت َواْل ُع َّزى‪َ .‬و َمَناةَ الثَّ ِالثَةَ ْ‬
‫األخ َرى }‬ ‫َ‬ ‫قراءته صلى اهلل عليه وسلم‪ { :‬والنجم } فلما بلغ { أَفََرأ َْيتُُم‬
‫ألقى الشيطان في قراءته‪ " :‬تلك الغرانيق العلى‪ ،‬وإ ن شفاعتهن (‪ )1‬لترتجى " فحصل بذلك‬
‫للرسول حزن وللناس فتنة‪ ،‬كما ذكر اهلل‪ ،‬فأنزل اهلل هذه اآليات‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬شفاعتهم‪.‬‬

‫( ‪)1/542‬‬

‫اب َي ْوٍم َع ِق ٍيم (‪)55‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ٍ ِ‬


‫ين َكفَ ُروا في م ْرَية م ْنهُ َحتَّى تَأْتَيهُ ُم الس َ‬
‫َّاعةُ َب ْغتَةً أ َْو َيأْتَيهُ ْم َع َذ ُ‬
‫َِّ‬
‫َواَل َي َزا ُل الذ َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ٍ ِ‬ ‫َِّ‬


‫اب َي ْوٍم‬ ‫ين َكفَ ُروا في م ْرَية م ْنهُ َحتَّى تَأْتَيهُ ُم الس َ‬
‫َّاعةُ َب ْغتَةً أ َْو َيأْتَيهُ ْم َع َذ ُ‬ ‫{ ‪َ { } 57 - 55‬وال َي َزا ُل الذ َ‬
‫ين‬ ‫َِّ‬ ‫ات َّ ِ ِ‬ ‫ات ِفي جَّن ِ‬ ‫َّالح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫عِق ٍيم * اْلمْل ُ ٍِ َِّ ِ‬
‫النعيم * َوالذ َ‬ ‫َ‬ ‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين َ‬‫ك َي ْو َمئذ لله َي ْح ُك ُم َب ْيَنهُ ْم فَالذ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫اب ُم ِه ٌ‬
‫ك لَهُ ْم َع َذ ٌ‬ ‫َكفَ ُروا َو َك َّذُبوا بِ َآياتَِنا فَأُولَئِ َ‬
‫يخبر تعالى عن حالة الكفار‪ ،‬وأنهم ال يزالون في شك مما جئتهم به يا محمد‪ ،‬لعنادهم‪،‬‬
‫ِ‬
‫وإ عراضهم‪ ،‬وأنهم (‪ )1‬ال يبرحون مستمرين على هذه الحال [ ص ‪َ { ] 543‬حتَّى تَأْتَيهُ ُم الس َ‬
‫َّاعةُ‬
‫اب َي ْوٍم َعِق ٍيم } أي‪ :‬ال خير فيه‪ ،‬وهو يوم القيامة‪ ،‬فإذا جاءتهم‬ ‫ِ‬
‫َب ْغتَةً } أي‪ :‬مفاجأة { أ َْو َيأْتَيهُ ْم َع َذ ُ‬
‫الساعة‪ ،‬أو أتاهم ذلك اليوم‪ ،‬علم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين‪ ،‬وندموا حيث ال ينفعهم الندم‪،‬‬
‫وأبلسوا وأيسوا من كل خير‪ ،‬وودوا لو آمنوا بالرسول واتخذوا معه سبيال ففي هذا تحذيرهم من‬
‫إقامتهم على مريتهم وفريتهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين‪ :‬وأنه‪.‬‬

‫( ‪)1/542‬‬

‫ين َكفَ ُروا‬ ‫َِّ‬ ‫ات َّ ِ ِ‬


‫ات ِفي جَّن ِ‬
‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫اْلمْل ُ ٍِ َِّ ِ‬
‫النعيم (‪َ )56‬والذ َ‬ ‫َ‬ ‫َمُنوا َو َعملُوا الص َ‬
‫ين آ َ‬
‫ك َي ْو َمئذ لله َي ْح ُك ُم َب ْيَنهُ ْم فَالذ َ‬ ‫ُ‬
‫ين (‪)57‬‬ ‫اب ُم ِه ٌ‬
‫ك لَهُ ْم َع َذ ٌ‬ ‫َو َك َّذُبوا بِآََياتَِنا فَأُولَئِ َ‬

‫ين َكفَ ُروا‬ ‫َِّ‬ ‫ات َّ ِ ِ‬


‫ات ِفي جَّن ِ‬ ‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫{ اْلمْل ُ ٍِ َِّ ِ‬
‫النعيم * َوالذ َ‬ ‫َ‬ ‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬
‫ين َ‬ ‫ك َي ْو َمئذ لله َي ْح ُك ُم َب ْيَنهُ ْم فَالذ َ‬ ‫ُ‬
‫ين } ‪.‬‬‫اب ُم ِه ٌ‬ ‫ك لَهُ ْم َع َذ ٌ‬ ‫َو َك َّذُبوا بِ َآياتَِنا فَأُولَئِ َ‬
‫ك َي ْو َمئٍِذ } أي‪ :‬يوم القيامة { ِللَّ ِه } تعالى‪ ،‬ال لغيره‪َ { ،‬ي ْح ُك ُم َب ْيَنهُ ْم } بحكمه العدل‪ ،‬وقضائه‬ ‫{ اْل ُمْل ُ‬
‫ات } ليصدقوا بذلك إيمانهم‬ ‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫آمُنوا } باهلل ورسله‪ ،‬وما جاءوا به { َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين َ‬ ‫الفصل‪ { ،‬فَالذ َ‬
‫الن ِع ِيم } نعيم القلب والروح والبدن‪ ،‬مما ال يصفه الواصفون‪ ،‬وال تدركه العقول‪.‬‬ ‫ات َّ‬ ‫{ ِفي جَّن ِ‬
‫َ‬
‫ين َكفَ ُروا } باهلل ورسله وكذبوا بآياته الهادية للحق والصواب فأعرضوا عنها‪ ،‬أو عاندوها‪،‬‬ ‫َِّ‬
‫{ َوالذ َ‬
‫ين } لهم‪ ،‬من شدته‪ ،‬وألمه‪ ،‬وبلوغه لألفئدة كما استهانوا برسله وآياته‪،‬‬ ‫اب ُم ِه ٌ‬ ‫ك لَهُ ْم َع َذ ٌ‬ ‫{ فَأُولَئِ َ‬
‫أهانهم اهلل بالعذاب‪.‬‬

‫( ‪)1/543‬‬

‫يل اللَّ ِه ثَُّم قُتِلُوا أ َْو َماتُوا لََي ْر ُزقََّنهُ ُم اللَّهُ ِر ْزقًا َح َسًنا َوإِ َّن اللَّهَ لَهَُو َخ ْي ُر‬
‫اجروا ِفي سبِ ِ‬
‫َ‬ ‫ين َه َ ُ‬
‫َِّ‬
‫َوالذ َ‬
‫يم (‪)59‬‬ ‫الر ِاز ِقين (‪ )58‬لَي ْد ِخلََّنهم م ْد َخاًل يرضوَنه وإِ َّن اللَّه لَعِل ِ‬
‫يم َحل ٌ‬ ‫َ َ ٌ‬ ‫َْ َ ْ ُ َ‬ ‫ُْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬

‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫{ ‪ { } 59 - 58‬والَِّذين َهاجروا ِفي سبِ ِ َّ ِ ِ‬


‫يل الله ثَُّم قُتلُوا أ َْو َماتُوا لََي ْر ُزقََّنهُ ُم اللهُ ِر ْزقًا َح َسًنا َوإِ َّن اللهَ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َُ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫الر ِاز ِقين * لَي ْد ِخلََّنهم م ْد َخال يرضوَنه وإِ َّن اللَّه لَعِل ِ‬
‫يم َحل ٌ‬‫َ َ ٌ‬ ‫َْ َ ْ ُ َ‬ ‫ُْ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫لَهَُو َخ ْي ُر َّ‬
‫هذه بشارة كبرى‪ ،‬لمن هاجر في سبيل اهلل‪ ،‬فخرج من داره ووطنه وأوالده وماله‪ ،‬ابتغاء وجه‬
‫اهلل‪ ،‬ونصرة لدين اهلل‪ ،‬فهذا قد وجب أجره على اهلل‪ ،‬سواء مات على فراشه‪ ،‬أو قتل مجاهدا في‬
‫سبيل اهلل‪ { ،‬لََي ْر ُزقََّنهُ ُم اللَّهُ ِر ْزقًا َح َسًنا } في البرزخ‪ ،‬وفي يوم القيامة بدخول الجنة الجامعة للروح‬
‫والريحان‪ ،‬والحسن واإلحسان‪ ،‬ونعيم القلب والبدن‪ ،‬ويحتمل أن المعنى (‪ )1‬أن المهاجر في سبيل‬
‫اهلل‪ ،‬قد تكفل برزقه في الدنيا‪ ،‬رزقا واسعا حسنا‪ ،‬سواء علم اهلل منه أنه يموت على فراشه‪ ،‬أو‬
‫يقتل شهيدا‪ ،‬فكلهم مضمون له الرزق‪ ،‬فال يتوهم أنه إذا خرج من دياره وأمواله‪ ،‬سيفتقر ويحتاج‪،‬‬
‫فإن رازقه هو خير الرازقين‪ ،‬وقد وقع كما أخبر‪ ،‬فإن المهاجرين السابقين‪ ،‬تركوا ديارهم‬
‫وأبناءهم وأموالهم‪ ،‬نصرة لدين اهلل‪ ،‬فلم يلبثوا إال يسيرا‪ ،‬حتى فتح اهلل عليهم البالد‪ ،‬ومكنهم من‬
‫العباد فاجتبوا من أموالها‪ ،‬ما كانوا به من أغنى الناس‪ ،‬ويكون على هذا القول‪ ،‬قوله‪ { :‬لَُي ْد ِخلََّنهُ ْم‬
‫ض ْوَنهُ } إما ما يفتحه اهلل عليهم من البلدان‪ ،‬خصوصا فتح مكة المشرفة‪ ،‬فإنهم دخلوها‬ ‫ُم ْد َخال َي ْر َ‬
‫في حالة الرضا والسرور‪ ،‬وإ ما المراد به رزق اآلخرة‪ ،‬وأن ذلك دخول الجنة‪ ،‬فتكون اآلية‬
‫جمعت بين الرزقين‪ ،‬رزق الدنيا‪ ،‬ورزق اآلخرة‪ ،‬واللفظ صالح لذلك كله‪ ،‬والمعنى صحيح‪ ،‬فال‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫يم‬
‫يم } باألمور‪ ،‬ظاهرها‪ ،‬وباطنها‪ ،‬متقدمها‪ ،‬ومتأخرها‪َ { ،‬حل ٌ‬‫مانع من إرادة الجميع { َوإِ َّن اللهَ لَ َعل ٌ‬
‫} يعصيه الخالئق‪ ،‬ويبارزونه بالعظائم‪ ،‬وهو ال يعاجلهم بالعقوبة مع كمال اقتداره‪ ،‬بل يواصل‬
‫لهم رزقه‪ ،‬ويسدي إليهم فضله‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬المراد‪.‬‬

‫( ‪)1/543‬‬

‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ك وم ْن عاقَب بِ ِمثْ ِل ما عو ِق ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫ص َرَّنهُ اللهُ ِإ َّن اللهَ لَ َعفٌُّو َغفُ ٌ‬
‫ور (‪)60‬‬ ‫ب بِه ثَُّم ُبغ َي َعلَْيه لََي ْن ُ‬
‫َ ُ َ‬ ‫َذل َ َ َ َ َ‬

‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ك وم ْن عاقَب بِ ِمثْ ِل ما عو ِق ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫ص َرَّنهُ اللهُ ِإ َّن اللهَ لَ َعفٌُّو َغفُ ٌ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫ب بِه ثَُّم ُبغ َي َعلَْيه لََي ْن ُ‬
‫َ ُ َ‬ ‫{ ‪َ { } 60‬ذل َ َ َ َ َ‬
‫ذلك بأن من جني عليه وظلم‪ ،‬فإنه يجوز له مقابلة الجاني بمثل جنايته‪ ،‬فإن فعل ذلك‪ ،‬فليس عليه‬
‫سبيل‪ ،‬وليس بملوم‪ ،‬فإن بغي عليه بعد هذا‪ ،‬فإن اهلل ينصره‪ ،‬ألنه مظلوم‪ ،‬فال يجوز أن يبغي‬
‫عليه‪ ،‬بسبب أنه استوفى حقه‪ ،‬وإ ذا كان المجازي غيره‪ ،‬بإساءته إذا ظلم بعد ذلك‪ ،‬نصره اهلل‪،‬‬
‫فالذي باألصل لم يعاقب أحدا إذا ظلم وجني عليه‪ ،‬فالنصر إليه أقرب‪.‬‬
‫َّ‬
‫ور } أي‪ :‬يعفو عن المذنبين‪ ،‬فال يعاجلهم بالعقوبة‪ ،‬ويغفر ذنوبهم فيزيلها‪،‬‬‫{ ِإ َّن اللهَ لَ َعفٌُّو َغفُ ٌ‬
‫ويزيل آثارها عنهم‪ ،‬فاهلل هذا وصفه المستقر الالزم الذاتي‪ ،‬ومعاملته لعباده في جميع األوقات‬
‫بالعفو والمغفرة‪ ،‬فينبغي لكم أيها المظلومون المجني عليهم‪ ،‬أن تعفوا وتصفحوا وتغفروا ليعاملكم‬
‫َج ُرهُ َعلَى اللَّ ِه }‬
‫َصلَ َح فَأ ْ‬
‫اهلل كما تعاملون عباده { فَ َم ْن َعفَا َوأ ْ‬

‫( ‪)1/543‬‬

‫ك بِأ َّ َّ‬
‫ص ٌير (‪َ )61‬ذِل َ‬
‫َن اللَّه س ِميع ب ِ‬ ‫النه ِار ويوِلج َّ ِ َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ك بِأ َّ َّ‬ ‫َذِل َ‬
‫َن اللهَ‬ ‫النهَ َار في اللْي ِل َوأ َّ َ َ ٌ َ‬ ‫َن اللهَ ُيوِل ُج اللْي َل في َّ َ َ ُ ُ‬
‫َن اللَّهَ ُه َو اْل َعِل ُّي اْل َكبِ ُير (‪)62‬‬ ‫َن ما ي ْدعون ِم ْن ُدونِ ِه ُهو اْلب ِ‬
‫اط ُل َوأ َّ‬ ‫َ َ‬ ‫ق َوأ َّ َ َ ُ َ‬‫ُهو اْل َح ُّ‬
‫َ‬

‫َن اللَّه س ِميع ب ِ‬ ‫النه ِار ويوِلج َّ ِ َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ك بِأ َّ َّ‬‫{ ‪َ { } 62 - 61‬ذِل َ‬
‫ص ٌير‬ ‫النهَ َار في اللْي ِل َوأ َّ َ َ ٌ َ‬ ‫َن اللهَ ُيوِل ُج اللْي َل في َّ َ َ ُ ُ‬
‫َن اللَّهَ ُه َو اْل َعِل ُّي اْل َكبِ ُير } ‪.‬‬ ‫َن ما ي ْدعون ِم ْن ُدونِ ِه ُهو اْلب ِ‬
‫اط ُل َوأ َّ‬ ‫َ َ‬ ‫ق َوأ َّ َ َ ُ َ‬ ‫َن اللَّهَ ُهو اْل َح ُّ‬
‫َ‬ ‫* َذِل َ‬
‫ك بِأ َّ‬
‫ذلك الذي شرع لكم تلك األحكام الحسنة العادلة‪ ،‬هو حسن التصرف‪ ،‬في تقديره وتدبيره‪ ،‬الذي‬
‫{ ُيوِل ُج اللَّْي َل ِفي َّ‬
‫النهَ ِار } أي‪ :‬يدخل هذا على هذا‪ ،‬وهذا على هذا‪ ،‬فيأتي بالليل بعد النهار‪،‬‬
‫وبالنهار بعد الليل‪ ،‬ويزيد في أحدهما ما ينقصه في اآلخر‪ ،‬ثم بالعكس‪ ،‬فيترتب على ذلك‪ ،‬قيام‬
‫الفصول‪ ،‬ومصالح الليل والنهار‪ ،‬والشمس والقمر‪ ،‬التي هي من أجل نعمه على العباد‪ ،‬وهي من‬
‫َن اللَّهَ َس ِميعٌ } يسمع ضجيج األصوات‪ ،‬باختالف‪ ،‬اللغات‪ ،‬على تفنن‬ ‫الضروريات لهم‪َ { .‬وأ َّ‬
‫اء‬ ‫ِ‬
‫الحاجات‪َ { ،‬بص ٌير } يرى دبيب النملة السوداء‪ ،‬تحت الصخرة الصماء‪ ،‬في الليلة الظلماء { َس َو ٌ‬
‫النهَ ِار }‬ ‫ف بِاللَّْي ِل َو َس ِار ٌ‬
‫ب بِ َّ‬ ‫ِم ْن ُكم م ْن أَس َّر اْلقَو َل وم ْن جهر بِ ِه وم ْن ُهو مستَ ْخ ٍ‬
‫ْ َ َ َ ََ َ َ َ ُ ْ‬ ‫ْ َ َ‬
‫[ ص ‪] 544‬‬
‫ق } أي‪ :‬الثابت‪ ،‬الذي ال يزال وال يزول‪،‬‬ ‫َن اللَّهَ ُهو اْل َح ُّ‬
‫ك } صاحب الحكم واألحكام { بِأ َّ‬ ‫{ َذِل َ‬
‫َ‬
‫األول الذي ليس قبله شيء‪ ،‬اآلخر الذي ليس بعده شيء‪ ،‬كامل األسماء والصفات‪ ،‬صادق الوعد‪،‬‬
‫الذي وعده حق ولقاؤه حق‪ ،‬ودينه حق‪ ،‬وعبادته هي الحق‪ ،‬النافعة الباقية على الدوام‪.‬‬
‫َن ما ي ْدعون ِم ْن ُدونِ ِه } من األصنام واألنداد‪ ،‬من الحيوانات والجمادات‪ُ { ،‬هو اْلب ِ‬
‫اط ُل }‬ ‫َ َ‬ ‫{ َوأ َّ َ َ ُ َ‬
‫الذي‪ ،‬هو باطل في نفسه‪ ،‬وعبادته باطلة‪ ،‬ألنها متعلقة بمضمحل فان‪ ،‬فتبطل تبعا لغايتها‬
‫َن اللَّهَ ُه َو اْل َعِل ُّي اْل َكبِ ُير } العلي في ذاته‪ ،‬فهو عال على جميع المخلوقات وفي‬
‫ومقصودها‪َ { ،‬وأ َّ‬
‫قدره‪ ،‬فهو كامل الصفات‪ ،‬وفي قهره لجميع المخلوقات‪ ،‬الكبير في ذاته‪ ،‬وفي أسمائه‪ ،‬وفي‬
‫صفاته‪ ،‬الذي من عظمته وكبريائه‪ ،‬أن األرض قبضته يوم القيامة‪ ،‬والسماوات مطويات بيمينه‪،‬‬
‫ومن كبريائه‪ ،‬أن كرسيه وسع السماوات واألرض‪ ،‬ومن عظمته وكبريائه‪ ،‬أن نواصي العباد‬
‫بيده‪ ،‬فال يتصرفون إال بمشيئته‪ ،‬وال يتحركون ويسكنون إال بإرادته‪.‬‬
‫وحقيقة الكبرياء التي ال يعلمها إال هو‪ ،‬ال ملك مقرب‪ ،‬وال نبي مرسل‪ ،‬أنها كل صفة كمال وجالل‬
‫وكبرياء وعظمة‪ ،‬فهي ثابتة له‪ ،‬وله من تلك الصفة أجلها وأكملها‪ ،‬ومن كبريائه‪ ،‬أن العبادات‬
‫كلها‪ ،‬الصادرة من أهل السماوات واألرض‪ ،‬كلها المقصود منها‪ ،‬تكبيره وتعظيمه‪ ،‬وإ جالله‬
‫وإ كرامه‪ ،‬ولهذا كان التكبير شعارا للعبادات الكبار‪ ،‬كالصالة وغيرها‪.‬‬

‫( ‪)1/543‬‬

‫يف َخبِ ٌير (‪ )63‬لَهُ َما ِفي‬


‫ض َّرةً ِإ َّن اللَّهَ لَ ِط ٌ‬
‫ض ُم ْخ َ‬ ‫صبِ ُح اأْل َْر ُ‬ ‫اء فَتُ ْ‬
‫َن اللَّه أ َْن َز َل ِمن الس ِ‬
‫َّماء َم ً‬ ‫َ َ‬ ‫أَلَ ْم تََر أ َّ َ‬
‫يد (‪)64‬‬ ‫ض َوإِ َّن اللَّهَ لَهَُو اْل َغنِ ُّي اْل َح ِم ُ‬
‫ات و َما ِفي اأْل َْر ِ‬‫ِ‬
‫َّم َاو َ‬
‫الس َ‬

‫ض َّرةً ِإ َّن اللَّهَ لَ ِط ٌ‬


‫يف َخبِ ٌير‬ ‫ض ُم ْخ َ‬ ‫صبِ ُح ْ‬
‫األر ُ‬ ‫اء فَتُ ْ‬
‫َن اللَّه أ َْن َز َل ِمن الس ِ‬
‫َّماء َم ً‬ ‫َ َ‬ ‫{ ‪ { } 64 - 63‬أَلَ ْم تََر أ َّ َ‬
‫ض َوإِ َّن اللَّهَ لَهَُو اْل َغنِ ُّي اْل َح ِم ُ‬
‫يد } ‪.‬‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو َما في ْ‬
‫ِ‬
‫* لَهُ َما في الس َ‬
‫هذا حث منه تعالى‪ ،‬وترغيب في النظر بآياته الداالت على وحدانيته‪ ،‬وكماله فقال‪ { :‬أَلَ ْم تََر }‬
‫َن اللَّه أَنز َل ِمن الس ِ‬
‫اء } وهو‪ :‬المطر‪ ،‬فينزل على‬ ‫َّماء َم ً‬ ‫َ َ‬ ‫أي‪ :‬ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك { أ َّ َ‬
‫أرض خاشعة مجدبة‪ ،‬قد اغبرت أرجاؤها‪ ،‬ويبس ما فيها‪ ،‬من شجر ونبات‪ ،‬فتصبح مخضرة قد‬
‫اكتست من كل زوج كريم‪ ،‬وصار لها بذلك منظر بهيج‪ ،‬إن الذي أحياها بعد موتها وهمودها‬
‫لمحيي الموتى بعد أن كانوا رميما‪.‬‬
‫{ ِإ َّن اللَّهَ لَ ِط ٌ‬
‫يف َخبِ ٌير } اللطيف الذي يدرك بواطن األشياء‪ ،‬وخفياتها‪ ،‬وسرائرها‪ ،‬الذي يسوق‬
‫إلى عبده الخير‪ ،‬ويدفع عنه الشر (‪ )1‬بطرق لطيفة تخفى على العباد‪ ،‬ومن لطفه‪ ،‬أنه يري عبده‪،‬‬
‫عزته في انتقامه وكمال اقتداره‪ ،‬ثم يظهر لطفه بعد أن أشرف العبد على الهالك‪ ،‬ومن لطفه‪ ،‬أنه‬
‫يعلم مواقع القطر من األرض‪ ،‬وبذور األرض في باطنها‪ ،‬فيسوق ذلك الماء إلى ذلك البذر‪ ،‬الذي‬
‫خفي على علم الخالئق فينبت منه أنواع النبات‪َ { ،‬خبِ ٌير } بسرائر األمور‪ ،‬وخبايا الصدور‪،‬‬
‫وخفايا األمور‪.‬‬
‫ض } خلقا وعبيدا‪ ،‬يتصرف فيهم بملكه وحكمته وكمال‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات وما في ْ‬ ‫{ لَهُ َما في الس َ‬
‫اقتداره‪ ،‬ليس ألحد غيره من األمر شيء‪.‬‬
‫{ َوإِ َّن اللَّهَ لَهَُو اْل َغنِ ُّي } بذاته الذي له الغنى المطلق التام‪ ،‬من جميع الوجوه‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أنه ال‬
‫يحتاج إلى أحد من خلقه‪ ،‬وال يواليهم من ذلة‪ ،‬وال يتكثر بهم من قلة‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أنه ما اتخذ‬
‫صاحبة وال ولدا‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أنه صمد‪ ،‬ال يأكل وال يشرب‪ ،‬وال يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلق‬
‫بوجه من الوجوه‪ ،‬فهو يطعم وال يطعم‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أن الخلق كلهم مفتقرون إليه‪ ،‬في إيجادهم‪،‬‬
‫وإ عدادهم وإ مدادهم‪ ،‬وفي دينهم ودنياهم‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أنه لو اجتمع من في السماوات ومن في‬
‫األرض‪ ،‬األحياء منهم واألموات‪ ،‬في صعيد واحد‪ ،‬فسأل كل منهم ما بلغت أمنيته‪ ،‬فأعطاهم فوق‬
‫أمانيهم‪ ،‬ما نقص ذلك من ملكه شيء‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أن يده سحاء بالخير والبركات‪ ،‬الليل والنهار‪،‬‬
‫لم يزل إفضاله على األنفاس‪ ،‬ومن غناه وكرمه‪ ،‬ما أودعه في دار كرامته‪ ،‬مما ال عين رأت‪ ،‬وال‬
‫أذن سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب بشر‪.‬‬
‫{ اْل َح ِم ِيد } أي‪ :‬المحمود في ذاته‪ ،‬وفي أسمائه‪ ،‬لكونها حسنى‪ ،‬وفي صفاته‪ ،‬لكونها كلها صفات‬
‫كمال‪ ،‬وفي أفعاله‪ ،‬لكونها دائرة بين العدل واإلحسان والرحمة والحكمة وفي شرعه‪ ،‬لكونه ال‬
‫يأمر إال بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة‪ ،‬وال ينهى إال عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة‪ ،‬الذي‬
‫له الحمد‪ ،‬الذي يمأل ما في السماوات واألرض‪ ،‬وما بينهما‪ ،‬وما شاء بعدها‪ ،‬الذي ال يحصي‬
‫العباد ثناء على حمده‪ ،‬بل هو كما أثنى على نفسه‪ ،‬وفوق ما يثني عليه عباده‪ ،‬وهو المحمود على‬
‫توفيق من يوفقه‪ ،‬وخذالن من يخذله‪ ،‬وهو الغني في حمده‪ ،‬الحميد في غناه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪( :‬عباده الخير ويدفع عنهم الشر )‬

‫( ‪)1/544‬‬

‫َن تَقَ َع َعلَى‬ ‫اء أ ْ‬‫َّم َ‬‫ك الس َ‬ ‫ك تَ ْج ِري ِفي اْلَب ْح ِر بِأ َْم ِر ِه َوُي ْم ِس ُ‬ ‫َن اللَّهَ َس َّخ َر لَ ُك ْم َما ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ض َواْل ُفْل َ‬ ‫أَلَ ْم تََر أ َّ‬
‫َحَيا ُك ْم ثَُّم ُي ِميتُ ُك ْم ثَُّم ُي ْحيِي ُك ْم ِإ َّن‬
‫يم (‪َ )65‬و ُه َو الَِّذي أ ْ‬ ‫اس لَرء ٌ ِ‬
‫وف َرح ٌ‬ ‫الن ِ َ ُ‬ ‫ض ِإاَّل بِِإ ْذنِ ِه ِإ َّن اللَّهَ بِ َّ‬ ‫اأْل َْر ِ‬
‫ور (‪)66‬‬ ‫ان لَ َكفُ ٌ‬ ‫اإْلِ ْن َس َ‬

‫ك‬‫ك تَ ْج ِري ِفي اْلَب ْح ِر بِأ َْم ِر ِه َوُي ْم ِس ُ‬ ‫األر ِ‬


‫ض َواْل ُفْل َ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 66 - 65‬أَلَم تَر أ َّ َّ‬
‫َن اللهَ َس َّخ َر لَ ُك ْم َما في ْ‬ ‫ْ َ‬
‫ِ‬
‫َحَيا ُك ْم ثَُّم ُيميتُ ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫يم * َو ُه َو الذي أ ْ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ِإال بِِإ ْذنه ِإ َّن اللهَ بِ َّ‬
‫الن ِ‬ ‫األر ِ‬
‫وف َرح ٌ‬ ‫اس لََر ُء ٌ‬ ‫َن تَقَ َع َعلَى ْ‬
‫اء أ ْ‬
‫َّم َ‬
‫الس َ‬
‫ور } ‪.‬‬
‫ان لَ َكفُ ٌ‬ ‫ثَُّم ُي ْحيِي ُك ْم ِإ َّن ْ‬
‫اإلن َس َ‬
‫َن اللَّهَ َس َّخ َر لَ ُك ْم َما ِفي‬
‫أي‪ :‬ألم تشاهد ببصرك وقلبك نعمة ربك السابغة‪ ،‬وأياديه الواسعة‪ ،‬و { أ َّ‬
‫األر ِ‬
‫ض } من حيوانات‪ ،‬ونبات‪ ،‬وجمادات‪ ،‬فجميع ما في األرض‪ ،‬مسخر لبني آدم‪ ،‬حيواناتها‪،‬‬ ‫ْ‬
‫لركوبه‪ ،‬وحمله‪ ،‬وأعماله‪ ،‬وأكله‪ ،‬وأنواع انتفاعه‪ ،‬وأشجارها‪ ،‬وثمارها‪ ،‬يقتاتها‪ ،‬وقد سلط على‬
‫ك } أي‪ :‬وسخر لكم الفلك‪ ،‬وهي‬ ‫غرسها واستغاللها‪ ،‬ومعادنها‪ ،‬يستخرجها‪ ،‬وينتفع بها‪َ { ،‬واْل ُفْل َ‬
‫السفن [ ص ‪ { ] 545‬تَ ْج ِري ِفي اْلَب ْح ِر بِأ َْم ِر ِه } تحملكم‪ ،‬وتحمل تجاراتكم‪ ،‬وتوصلكم من محل‬
‫َن تَقَ َع‬
‫اء أ ْ‬
‫َّم َ‬ ‫إلى محل‪ ،‬وتستخرجون من البحر حلية تلبسونها‪ ،‬ومن رحمته بكم أنه { ُي ْم ِس ُ‬
‫ك الس َ‬
‫ض } فلوال رحمته وقدرته‪ ،‬لسقطت السماء على األرض‪ ،‬فتلف ما عليها‪ ،‬وهلك من‬ ‫األر ِ‬
‫َعلَى ْ‬
‫ِِ‬ ‫َن تَُزوال ولَئِ ْن َزالَتَا ِإ ْن أَمس َكهما ِم ْن أ ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫فيها { ِإ َّن اللَّهَ ُي ْم ِس ُ‬
‫َحد م ْن َب ْعده ِإَّنهُ‬
‫َ‬ ‫ْ َ َُ‬ ‫َ‬ ‫ض أْ‬
‫األر َ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ك الس َ‬
‫ورا } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫يما َغفُ ً‬ ‫ان َحل ً‬ ‫َك َ‬
‫اس لَرء ٌ ِ‬ ‫{ ِإ َّن اللَّهَ بِ َّ‬
‫يم } أرحم بهم من والديهم‪ ،‬ومن أنفسهم‪ ،‬ولهذا يريد لهم الخير‪،‬‬ ‫وف َرح ٌ‬ ‫الن ِ َ ُ‬
‫ويريدون لها الشر والضر‪ ،‬ومن رحمته‪ ،‬أن سخر لهم ما سخر من هذه األشياء‪.‬‬
‫َحَيا ُك ْم } أوجدكم من العدم { ثَُّم ُي ِميتُ ُك ْم } بعد أن أحياكم‪ { ،‬ثَُّم ُي ْحيِي ُك ْم } بعد موتكم‪،‬‬ ‫{ َو ُه َو الَِّذي أ ْ‬
‫ان } أي‪ :‬جنسه‪ ،‬إال من عصمه اهلل‬ ‫ليجازي المحسن بإحسانه‪ ،‬والمسيء بإساءته‪ِ { ،‬إ َّن ْ‬
‫اإلن َس َ‬
‫ور } لنعم اهلل‪ ،‬كفور باهلل‪ ،‬ال يعترف بإحسانه‪ ،‬بل ربما كفر بالبعث وقدرة ربه‪.‬‬ ‫{ لَ َكفُ ٌ‬

‫( ‪)1/544‬‬

‫ك لَ َعلَى ُه ًدى ُم ْستَِق ٍيم (‬ ‫ك ِفي اأْل َْم ِر َو ْادعُ ِإلَى َرِّب َ‬
‫ك ِإَّن َ‬ ‫ُم ٍة جعْلَنا م ْنس ًكا ُهم َن ِ‬
‫اس ُكوهُ فَاَل ُيَن ِاز ُعَّن َ‬ ‫ل ُكل أ َّ َ َ َ َ ْ‬
‫ِ ِّ‬
‫َعلَم بِما تَعملُون (‪ )68‬اللَّه ي ْح ُكم ب ْيَن ُكم يوم اْل ِقيام ِة ِفيما ُك ْنتُم ِف ِ‬ ‫َّ‬
‫يه‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ ُ َ ْ َْ َ َ َ َ‬ ‫وك فَ ُق ِل اللهُ أ ْ ُ َ ْ َ َ‬ ‫ادلُ َ‬ ‫‪َ )67‬وإِ ْن َج َ‬
‫ك َعلَى اللَّ ِه‬ ‫اب ِإ َّن َذِل َ‬
‫ك ِفي ِكتَ ٍ‬ ‫ض ِإ َّن َذِل َ‬
‫اء واأْل َْر ِ‬ ‫َن اللَّه يعلَم ما ِفي الس ِ‬
‫َّم َ‬‫َ‬ ‫ون (‪ )69‬أَلَ ْم تَ ْعلَ ْم أ َّ َ َ ْ ُ َ‬
‫ِ‬
‫تَ ْختَلفُ َ‬
‫َي ِس ٌير (‪)70‬‬

‫ك لَ َعلَى‬‫ك ِإَّن َ‬
‫األم ِر َو ْادعُ ِإلَى َرِّب َ‬ ‫اس ُكوه فَال يَن ِازعَّن َ ِ‬
‫ُم ٍة جعْلَنا م ْنس ًكا ُهم َن ِ‬ ‫ِ ِّ‬
‫ك في ْ‬ ‫ُ ُ ُ‬ ‫{ ‪ { } 70 - 67‬ل ُكل أ َّ َ َ َ َ ْ‬
‫َعلَم بِما تَعملُون * اللَّه ي ْح ُكم ب ْيَن ُكم يوم اْل ِقيام ِة ِفيما ُك ْنتُم ِف ِ‬ ‫َّ‬ ‫ُه ًدى ُم ْستَِق ٍيم * َوإِ ْن َج َ‬
‫يه‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ ُ َ ْ َْ َ َ َ َ‬ ‫ك فَ ُق ِل اللهُ أ ْ ُ َ ْ َ َ‬ ‫ادلُو َ‬
‫ك َعلَى اللَّ ِه َي ِس ٌير }‬ ‫اب ِإ َّن َذِل َ‬
‫ك ِفي ِكتَ ٍ‬‫ض ِإ َّن َذِل َ‬
‫األر ِ‬ ‫َن اللَّه يعلَم ما ِفي الس ِ‬
‫َّماء َو ْ‬
‫َ‬ ‫ون * أَلَ ْم تَ ْعلَ ْم أ َّ َ َ ْ ُ َ‬
‫ِ‬
‫تَ ْختَلفُ َ‬
‫‪.‬‬
‫يخبر تعالى أنه جعل لكل أمة { َم ْن َس ًكا } أي‪ :‬معبدا وعبادة‪ ،‬قد تختلف في بعض األمور‪ ،‬مع‬
‫اتفاقها على العدل والحكمة‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ { :‬ل ُك ٍّل جعْلَنا ِم ْن ُكم ِشرعةً و ِم ْنهاجا ولَو َش َّ‬
‫اء اللهُ‬
‫ْ ْ َ َ َ ً َ ْ َ‬ ‫ََ‬
‫اس ُكوهُ } أي‪ :‬عاملون عليه‪ ،‬بحسب‬ ‫اح َدةً ولَ ِك ْن ِليْبلُو ُكم ِفي ما آتَا ُكم } اآلية‪ُ { ،‬هم َن ِ‬
‫ُمةً و ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫لَ َج َعلَ ُك ْم أ َّ َ‬
‫أحوالهم‪ ،‬فال اعتراض على شريعة من الشرائع‪ ،‬خصوصا من األميين‪ ،‬أهل الشرك والجهل‬
‫المبين‪ ،‬فإنه إذا ثبتت رسالة الرسول بأدلتها‪ ،‬وجب أن يتلقى جميع ما جاء به بالقبول والتسليم‪،‬‬
‫األم ِر } أي‪ :‬ال ينازعك المكذبون لك‪،‬‬ ‫وترك االعتراض‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَال يَن ِازعَّن َ ِ‬
‫ك في ْ‬ ‫ُ ُ‬
‫ويعترضون على بعض ما جئتهم به‪ ،‬بعقولهم الفاسدة‪ ،‬مثل منازعتهم في حل الميتة‪ ،‬بقياسهم‬
‫الفاسد‪ ،‬يقولون‪ " :‬تأكلون ما قتلتم‪ ،‬وال تأكلون ما قتل اهلل " وكقولهم { ِإَّن َما اْلَب ْيعُ ِمثْ ُل ِّ‬
‫الرَبا } ونحو‬
‫ذلك من اعتراضاتهم‪ ،‬التي ال يلزم الجواب عن أعيانها‪ ،‬وهم منكرون ألصل الرسالة‪ ،‬وليس فيها‬
‫مجادلة ومحاجة بانفرادها‪ ،‬بل لكل مقام مقال‪ ،‬فصاحب هذا االعتراض‪ ،‬المنكر لرسالة الرسول‪،‬‬
‫إذا زعم أنه يجادل ليسترشد‪ ،‬يقال له‪ :‬الكالم معك في إثبات الرسالة وعدمها‪ ،‬وإ ال فاالقتصار‬
‫على هذه‪ ،‬دليل أن مقصوده التعنت والتعجيز‪ ،‬ولهذا أمر اهلل رسوله أن يدعو إلى ربه بالحكمة‬
‫والموعظة الحسنة‪ ،‬ويمضي على ذلك‪ ،‬سواء اعترض المعترضون أم ال وأنه ال ينبغي أن يثنيك‬
‫عن الدعوة شيء‪ ،‬ألنك { على ُه ًدى ُم ْستَِق ٍيم } أي‪ :‬معتدل موصل للمقصود‪ ،‬متضمن علم الحق‬
‫والعمل به‪ ،‬فأنت على ثقة من أمرك‪ ،‬ويقين من دينك‪ ،‬فيوجب ذلك لك الصالبة والمضي لما‬
‫أمرك به ربك‪ ،‬ولست على أمر مشكوك فيه‪ ،‬أو حديث مفترى‪ ،‬فتقف مع الناس ومع أهوائهم‪،‬‬
‫ق اْل ُمبِ ِ‬
‫ين }‬ ‫وآرائهم‪ ،‬ويوقفك اعتراضهم‪ ،‬ونظير هذا قوله تعالى‪ { :‬فَتََو َّك ْل َعلَى اللَّ ِه ِإَّن َ‬
‫ك َعلَى اْل َح ِّ‬
‫ك لَ َعلَى ُه ًدى ُم ْستَِق ٍيم } إرشاد ألجوبة المعترضين على جزئيات الشرع‪،‬‬ ‫مع أن في قوله‪ِ { :‬إَّن َ‬
‫بالعقل الصحيح‪ ،‬فإن الهدى وصف لكل ما جاء به الرسول‪ ،‬والهدى‪ :‬ما تحصل به الهداية‪ ،‬من‬
‫مسائل األصول والفروع‪ ،‬وهي المسائل التي يعرف حسنها وعدلها وحكمتها بالعقل والفطرة‬
‫السليمة‪ ،‬وهذا يعرف بتدبر تفاصيل المأمورات والمنهيات‪.‬‬
‫ون‬ ‫وك فَ ُق ِل اللَّهُ أ ْ‬
‫َعلَ ُم بِ َما تَ ْع َملُ َ‬ ‫ادلُ َ‬
‫ولهذا أمره اهلل بالعدول عن جدالهم في هذه الحالة‪ ،‬فقال‪َ { :‬وإِ ْن َج َ‬
‫} أي‪ :‬هو عالم بمقاصدكم ونياتكم‪ ،‬فمجازيكم عليها في يوم القيامة الذي يحكم اهلل بينكم فيما كنتم‬
‫فيه تختلفون‪ ،‬فمن وافق الصراط المستقيم‪ ،‬فهو من أهل النعيم‪ ،‬ومن زاغ عنه‪ ،‬فهو من أهل‬
‫الجحيم‪ ،‬ومن تمام حكمه‪ ،‬أن يكون حكما بعلم‪ ،‬فلذلك ذكر إحاطة علمه‪ ،‬وإ حاطة كتابه فقال‪ { :‬أَلَ ْم‬
‫األر ِ‬ ‫َن اللَّه يعلَم ما ِفي الس ِ‬
‫ض } ال يخفى عليه منها خافية‪ ،‬من ظواهر األمور‬ ‫َّماء َو ْ‬
‫َ‬ ‫تَ ْعلَ ْم أ َّ َ َ ْ ُ َ‬
‫وبواطنها‪ ،‬خفيها وجليها‪ ،‬متقدمها ومتأخرها‪ ،‬أن ذلك العلم المحيط بما في السماء واألرض قد‬
‫أثبته اهلل في كتاب‪ ،‬وهو اللوح المحفوظ‪ ،‬حين خلق اهلل القلم‪ ،‬قال له‪ " :‬اكتب " قال‪ :‬ما أكتب؟‬
‫قال‪ " :‬اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة‬
‫ك َعلَى اللَّ ِه َي ِس ٌير } وإ ن كان تصوره عندكم ال يحاط به‪ ،‬فاهلل تعالى يسير عليه أن يحيط‬
‫{ ِإ َّن َذِل َ‬
‫علما بجميع األشياء‪ ،‬وأن يكتب ذلك في كتاب مطابق للواقع‪.‬‬

‫( ‪)1/545‬‬

‫ط ًانا وما لَْيس لَهم بِ ِه ِعْلم وما ِللظَّ ِال ِمين ِم ْن َن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ويعب ُدون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ير (‪)71‬‬ ‫صٍ‬ ‫َ‬ ‫ٌََ‬ ‫ون الله َما لَ ْم ُيَنِّز ْل بِه ُسْل َ َ َ َ ُ ْ‬ ‫َ َ ُْ َ‬
‫َِّ‬ ‫َِّ‬ ‫ات تَع ِر ُ ِ‬ ‫وإِ َذا تُْتلَى علَْي ِهم آَياتَُنا بيَِّن ٍ‬
‫ون‬ ‫ون بِالذ َ‬
‫ين َي ْتلُ َ‬ ‫ون َي ْسطُ َ‬ ‫اد َ‬ ‫ف في ُو ُجو ِه الذ َ‬
‫ين َكفَ ُروا اْل ُم ْن َك َر َي َك ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ين َكفَ ُروا َوبِْئ َس اْل َمص ُير (‪)72‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعلَْي ِه ْم آََياتَنا ُق ْل أَفَأَُنبُِّئ ُك ْم بِ َشٍّر م ْن َذل ُك ُم َّ‬
‫الن ُار َو َع َد َها اللهُ الذ َ‬
‫ِ َّ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ون اللَّ ِه َما لَ ْم ُيَنِّز ْل بِ ِه ُسْل َ‬
‫ون ِم ْن ُد ِ‬
‫ط ًانا َو َما لَْي َس لَهُ ْم بِه عْل ٌم َو َما للظالم َ‬
‫ين‬ ‫{ ‪َ { } 72 - 71‬وَي ْعُب ُد َ‬
‫َِّ‬ ‫ات تَع ِر ُ ِ‬ ‫ير * وإِ َذا تُْتلَى علَْي ِهم آياتَُنا بيَِّن ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون‬
‫ون َي ْسطُ َ‬ ‫اد َ‬ ‫ف في ُو ُجو ِه الذ َ‬
‫ين َكفَ ُروا اْل ُم ْن َك َر َي َك ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫م ْن َنص ٍ َ‬
‫النار وع َد َها اللَّه الَِّذين َكفَروا وبِْئس اْلم ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ص ُير‬ ‫ُ َ ُ َ َ َ‬ ‫ون َعلَْي ِه ْم َآياتَنا ُق ْل أَفَأَُنبُِّئ ُك ْم بِ َشٍّر م ْن َذل ُك ُم َّ ُ َ َ‬ ‫بِالذ َ‬
‫ين َي ْتلُ َ‬
‫}‪.‬‬
‫يذكر تعالى حالة المشركين به‪ ،‬العادلين به غيره‪ ،‬وأن حالهم أقبح الحاالت‪ ،‬وأنه ال مستند لهم‬
‫على ما فعلوه‪ ،‬فليس لهم به علم‪ ،‬وإ نما هو تقليد تلقوه عن آبائهم الضالين‪ ،‬وقد يكون اإلنسان ال‬
‫علم عنده بما فعله‪ ،‬وهو ‪-‬في نفس األمر‪ -‬له حجة ما علمها‪ ،‬فأخبر هنا‪ ،‬أن اهلل لم ينزل في ذلك‬
‫سلطانا‪ ،‬أي‪ :‬حجة تدل علي وتجوزه‪ ،‬بل قد أنزل البراهين القاطعة على فساده وبطالنه‪ ،‬ثم توعد‬
‫صٍ‬
‫ير } ينصرهم من عذاب اهلل إذا نزل‬ ‫الظالمين منهم المعاندين للحق فقال‪ { :‬وما ِللظَّ ِال ِمين ِم ْن َن ِ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫بهم وحل‪ .‬وهل لهؤالء الذين ال علم لهم بما هم عليه قصد في اتباع [ ص ‪ ] 546‬اآليات والهدى‬
‫إذا جاءهم؟ أم هم راضون بما هم عليه من الباطل؟ ذكر ذلك بقوله‪َ { :‬وإِ َذا تُْتلَى َعلَْي ِه ْم َآياتَُنا }‬
‫التي هي آيات اهلل الجليلة‪ ،‬المستلزمة لبيان الحق من الباطل‪ ،‬لم يلتفتوا إليها‪ ،‬ولم يرفعوا بها‬
‫َِّ‬ ‫رأسا‪ ،‬بل { تَع ِر ُ ِ‬
‫ين َكفَ ُروا اْل ُم ْن َك َر } من بغضها وكراهتها‪ ،‬ترى وجوههم معبسة‪،‬‬ ‫ف في ُو ُجو ِه الذ َ‬ ‫ْ‬
‫ون َعلَْي ِه ْم َآياتَِنا } أي‪ :‬يكادون يوقعون بهم القتل‬
‫ين َي ْتلُ َ‬
‫َِّ‬
‫ون بِالذ َ‬
‫ون َي ْسطُ َ‬
‫اد َ‬‫وأبشارهم مكفهرة‪َ { ،‬ي َك ُ‬
‫والضرب البليغ‪ ،‬من شدة بغضهم وبغض الحق وعداوته‪ ،‬فهذه الحالة من الكفار بئس الحالة‪،‬‬
‫وشرها بئس الشر‪ ،‬ولكن ثم ما هو شر منها‪ ،‬حالتهم التي يؤولون إليها‪ ،‬فلهذا قال‪ُ { :‬ق ْل أَفَأَُنبُِّئ ُك ْم‬
‫النار وع َد َها اللَّه الَِّذين َكفَروا وبِْئس اْلم ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ص ُير } فهذه شرها طويل عريض‪،‬‬ ‫ُ َ ُ َ َ َ‬ ‫بِ َشٍّر م ْن َذل ُك ُم َّ ُ َ َ‬
‫ومكروهها وآالمها تزداد على الدوام‪.‬‬

‫( ‪)1/545‬‬

‫ون اللَّ ِه لَ ْن َي ْخلُقُوا ُذَب ًابا َولَ ِو ْ‬


‫اجتَ َم ُعوا‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫َِّ‬ ‫الناس ض ِرب مثَ ٌل فَ ِ‬
‫استَم ُعوا لَهُ ِإ َّن الذ َ‬
‫ين تَ ْد ُع َ‬ ‫ْ‬ ‫َيا أَيُّهَا َّ ُ ُ َ َ‬
‫وب (‪َ )73‬ما قَ َد ُروا اللَّهَ َح َّ‬
‫ق‬ ‫الذباب َش ْيًئا اَل يستَْن ِق ُذوه ِم ْنه ضع َ َّ ِ‬ ‫ُّ‬
‫طلُ ُ‬ ‫ب َواْل َم ْ‬
‫ف الطال ُ‬ ‫ُ ُ َُ‬ ‫َْ‬ ‫لَهُ َوإِ ْن َي ْسلُْبهُ ُم َ ُ‬
‫قَ ْد ِر ِه ِإ َّن اللَّهَ لَقَ ِو ٌّ‬
‫ي َع ِز ٌيز (‪)74‬‬

‫ون اللَّ ِه لَ ْن َي ْخلُقُوا‬


‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫َِّ‬ ‫الناس ض ِرب مثَ ٌل فَ ِ‬
‫استَم ُعوا لَهُ ِإ َّن الذ َ‬
‫ين تَ ْد ُع َ‬ ‫ْ‬ ‫{ ‪َ { } 74 - 73‬يا أَيُّهَا َّ ُ ُ َ َ‬
‫وب * َما‬ ‫الذباب َش ْيًئا ال يستَْن ِق ُذوه ِم ْنه ضع َ َّ ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ُذَب ًابا َولَ ِو ْ‬
‫طلُ ُ‬ ‫ب َواْل َم ْ‬
‫ف الطال ُ‬ ‫ُ ُ َُ‬ ‫َْ‬ ‫اجتَ َم ُعوا لَهُ َوإِ ْن َي ْسلُْبهُ ُم َ ُ‬
‫ي َع ِز ٌيز } ‪.‬‬‫ق قَ ْد ِر ِه ِإ َّن اللَّهَ لَقَ ِو ٌّ‬
‫قَ َد ُروا اللَّهَ َح َّ‬
‫هذا مثل ضربه اهلل لقبح عبادة األوثان‪ ،‬وبيان نقصان عقول من عبدها‪ ،‬وضعف الجميع‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫اس } هذا خطاب للمؤمنين والكفار‪ ،‬المؤمنون يزدادون علما وبصيرة‪ ،‬والكافرون‬ ‫{ َيا أَيُّهَا َّ‬
‫الن ُ‬
‫استَ ِم ُعوا لَهُ } أي‪ :‬ألقوا إليه أسماعكم‪ ،‬وتفهموا ما احتوى عليه‪،‬‬ ‫ض ِر َ‬
‫ب َمثَ ٌل فَ ْ‬ ‫تقوم عليهم الحجة‪ُ { ،‬‬
‫وال يصادف منكم قلوبا الهية‪ ،‬وأسماعا معرضة‪ ،‬بل ألقوا إليه القلوب واألسماع‪ ،‬وهو هذا‪ِ { :‬إ َّن‬
‫ون اللَّ ِه } شمل كل ما يدعى من دون اهلل‪ { ،‬لَ ْن َي ْخلُقُوا ُذَب ًابا } الذي هو من‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬
‫ين تَ ْد ُع َ‬
‫َِّ‬
‫الذ َ‬
‫أحقر المخلوقات وأخسها‪ ،‬فليس في قدرتهم خلق هذا المخلوق الضعيف‪ ،‬فما فوقه من باب أولى‪،‬‬
‫اب َش ْيًئا ال َي ْستَْن ِق ُذوهُ ِم ْنهُ } وهذا غاية ما‬ ‫ُّ‬
‫اجتَ َم ُعوا لَهُ } بل أبلغ من ذلك لو { َي ْسلُْبهُ ُم الذَب ُ‬‫{ َولَ ِو ْ‬
‫وب } الذي هو‬ ‫يصير من العجز‪ { .‬ضع َ َّ ِ‬
‫طلُ ُ‬ ‫ب } الذي هو المعبود من دون اهلل { َواْل َم ْ‬ ‫ف الطال ُ‬ ‫َُ‬
‫الذباب‪ ،‬فكل منهما ضعيف‪ ،‬وأضعف منهما‪ ،‬من يتعلق بهذا الضعيف‪ ،‬وينزله منزلة رب‬
‫العالمين‪.‬‬
‫فهذا ما قدر { اللَّهَ َح َّ‬
‫ق قَ ْد ِر ِه } حيث سوى الفقير العاجز من جميع الوجوه‪ ،‬بالغني القوي من جميع‬
‫الوجوه‪ ،‬سوى من ال يملك لنفسه‪ ،‬وال لغيره نفعا وال ضرا‪ ،‬وال موتا وال حياة وال نشورا‪ ،‬بمن‬
‫هو النافع الضار‪ ،‬المعطي المانع‪ ،‬مالك الملك‪ ،‬والمتصرف فيه بجميع أنواع التصريف‪.‬‬
‫{ ِإ َّن اللَّهَ لَقَ ِو ٌّ‬
‫ي َع ِز ٌيز } أي‪ :‬كامل القوة‪ ،‬كامل العزة‪ ،‬من كمال قوته وعزته‪ ،‬أن نواصي الخلق‬
‫بيديه‪ ،‬وأنه ال يتحرك متحرك‪ ،‬وال يسكن ساكن‪ ،‬إال بإرادته ومشيئته‪ ،‬فما شاء اهلل كان وما لم يشأ‬
‫لم يكن‪ ،‬ومن كمال قوته‪ ،‬أنه يمسك السماوات واألرض أن تزوال ومن كمال قوته‪ ،‬أنه يبعث‬
‫الخلق كلهم‪ ،‬أولهم وآخرهم‪ ،‬بصيحة واحدة‪ ،‬ومن كمال قوته‪ ،‬أنه أهلك الجبابرة واألمم العاتية‪،‬‬
‫بشيء يسير‪ ،‬وسوط من عذابه‪.‬‬

‫( ‪)1/546‬‬

‫ص ٌير (‪َ )75‬ي ْعلَ ُم َما َب ْي َن أ َْي ِدي ِه ْم َو َما‬


‫اس ِإ َّن اللَّه س ِميع ب ِ‬
‫َ َ ٌَ‬ ‫ط ِفي ِم َن اْل َماَل ئِ َك ِة ُر ُساًل َو ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬ ‫صَ‬ ‫َّ‬
‫اللهُ َي ْ‬
‫ور (‪)76‬‬ ‫َّ ِ‬
‫ُم ُ‬
‫َخْلفَهُ ْم َوإِلَى الله تُْر َجعُ اأْل ُ‬

‫اس ِإ َّن اللَّه س ِميع ب ِ‬


‫ص ٌير * َي ْعلَ ُم َما َب ْي َن‬ ‫ط ِفي ِم َن اْل َمالئِ َك ِة ُر ُسال َو ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬ ‫صَ‬ ‫َّ‬
‫َ َ ٌَ‬ ‫{ ‪ { } 76 - 75‬اللهُ َي ْ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫األم ُ‬
‫أ َْيديه ْم َو َما َخْلفَهُ ْم َوإِلَى الله تُْر َجعُ ُ‬
‫لما بين تعالى كماله وضعف األصنام‪ ،‬وأنه المعبود حقا‪ ،‬بين حالة الرسل‪ ،‬وتميزهم عن الخلق‬
‫اس } أي‪ :‬يختار‬ ‫ط ِفي ِم َن اْل َمالئِ َك ِة ُر ُسال َو ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬ ‫صَ‬ ‫َّ‬
‫بما تميزوا به من الفضائل فقال‪ { :‬اللهُ َي ْ‬
‫ويجتبي من المالئكة رسال ومن الناس رسال يكونون أزكى ذلك النوع‪ ،‬وأجمعه لصفات المجد‪،‬‬
‫وأحقه باالصطفاء‪ ،‬فالرسل ال يكونون إال صفوة الخلق على اإلطالق‪ ،‬والذي اختارهم واصطفاهم‬
‫(‪ )1‬ليس جاهال بحقائق األشياء‪ ،‬أو يعلم شيئا دون شيء‪ ،‬وإ نما المصطفى لهم‪ ،‬السميع‪ ،‬البصير‪،‬‬
‫الذي قد أحاط علمه وسمعه وبصره بجميع األشياء‪ ،‬فاختياره إياهم‪ ،‬عن علم منه‪ ،‬أنهم أهل لذلك‪،‬‬
‫ث َي ْج َع ُل ِر َسالَتَهُ }‬ ‫وأن الوحي يصلح فيهم كما قال تعالى‪ { :‬اللَّهُ أ ْ‬
‫َعلَ ُم َح ْي ُ‬
‫ور } أي‪ :‬هو يرسل الرسل‪ ،‬يدعون الناس إلى اهلل‪ ،‬فمنهم المجيب‪ ،‬ومنهم‬ ‫َّ ِ‬
‫األم ُ‬
‫{ َوإِلَى الله تُْر َجعُ ُ‬
‫الراد لدعوتهم‪ ،‬ومنهم العامل‪ ،‬ومنهم الناكل‪ ،‬فهذا وظيفة الرسل‪ ،‬وأما الجزاء على تلك األعمال‪،‬‬
‫فمصيرها إلى اهلل‪ ،‬فال تعدم منه فضال أو عدال‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬واجتباهم‪.‬‬

‫( ‪)1/546‬‬

‫اه ُدوا ِفي‬


‫اعب ُدوا رَّب ُكم وا ْفعلُوا اْل َخ ْير لَعلَّ ُكم تُْفِلحون (‪ )77‬وج ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ ْ ُ َ‬ ‫اس ُج ُدوا َو ْ ُ َ ْ َ َ‬ ‫َمُنوا ْار َك ُعوا َو ْ‬ ‫ين آ َ‬
‫َِّ‬
‫َيا أَيُّهَا الذ َ‬
‫يم ُه َو َس َّما ُك ُم‬ ‫ِ َّ ِ ِ ِ‬ ‫الد ِ ِ‬ ‫اجتََبا ُك ْم َو َما َج َع َل َعلَْي ُك ْم ِفي ِّ‬ ‫ق ِجهَ ِاد ِه ُه َو ْ‬ ‫اللَّ ِه َح َّ‬
‫ين م ْن َح َر ٍج ملةَ أَبي ُك ْم إ ْب َراه َ‬
‫الن ِ ِ‬ ‫الر ُسو ُل َش ِه ً‬ ‫ِ‬ ‫اْلمسِل ِم ِ‬
‫الصاَل ةَ‬
‫يموا َّ‬ ‫اس فَأَق ُ‬ ‫اء َعلَى َّ‬ ‫ونوا ُشهَ َد َ‬‫يدا َعلَْي ُك ْم َوتَ ُك ُ‬ ‫ون َّ‬ ‫ين م ْن قَْب ُل َو ِفي َه َذا لَي ُك َ‬ ‫ُْ َ‬
‫ص ُير (‪)78‬‬ ‫الن ِ‬
‫ص ُموا بِاللَّ ِه ُه َو َم ْواَل ُك ْم فَنِ ْع َم اْل َم ْولَى َونِ ْع َم َّ‬
‫اعتَ ِ‬ ‫وآَتُوا َّ‬
‫الز َكاةَ َو ْ‬ ‫َ‬

‫َّ ِ‬ ‫َِّ‬
‫اعُب ُدوا َرَّب ُك ْم َوا ْف َعلُوا اْل َخ ْي َر لَ َعل ُك ْم تُْفل ُح َ‬
‫ون‬ ‫اس ُج ُدوا َو ْ‬ ‫آمُنوا ْار َك ُعوا َو ْ‬ ‫ين َ‬ ‫{ ‪َ { } 78 - 77‬يا أَيُّهَا الذ َ‬
‫يم‬ ‫ِ َّ ِ ِ ِ‬ ‫الد ِ ِ‬ ‫اجتََبا ُك ْم َو َما َج َع َل َعلَْي ُك ْم ِفي ِّ‬ ‫ق ِجهَ ِاد ِه ُه َو ْ‬ ‫اه ُدوا ِفي اللَّ ِه َح َّ‬
‫* وج ِ‬
‫ين م ْن َح َر ٍج ملةَ أَبي ُك ْم إ ْب َراه َ‬ ‫َ َ‬
‫الر ُسو ُل َش ِه ً‬ ‫ِ‬ ‫ُهو س َّما ُكم اْلمسِل ِم ِ‬
‫الن ِ‬
‫اس‬ ‫اء َعلَى َّ‬ ‫ونوا ُشهَ َد َ‬ ‫يدا َعلَْي ُك ْم َوتَ ُك ُ‬ ‫ون َّ‬ ‫ين م ْن قَْب ُل َو ِفي َه َذا لَي ُك َ‬ ‫َ َ ُ ُْ َ‬
‫ص ُير } ‪.‬‬ ‫الن ِ‬
‫ص ُموا بِاللَّ ِه ُه َو َم ْوال ُك ْم فَنِ ْع َم اْل َم ْولَى َونِ ْع َم َّ‬
‫اعتَ ِ‬
‫الز َكاةَ َو ْ‬‫يموا الصَّالةَ وآتُوا َّ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫فَأَق ُ‬
‫يأمر تعالى‪ ،‬عباده المؤمنين بالصالة‪ ،‬وخص منها الركوع [ ص ‪ ] 547‬والسجود‪ ،‬لفضلهما‬
‫وركنيتهما‪ ،‬وعبادته التي هي قرة العيون‪ ،‬وسلوة القلب المحزون‪ ،‬وأن ربوبيته وإ حسانه على‬
‫العباد‪ ،‬يقتضي منهم أن يخلصوا له العبادة‪ ،‬ويأمرهم بفعل الخير عموما‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬تفوزون بالمطلوب المرغوب‪،‬‬ ‫َّ ِ‬
‫وعلق تعالى الفالح على هذه األمور فقال‪ { :‬لَ َعل ُك ْم تُْفل ُح َ‬
‫وتنجون من المكروه المرهوب‪ ،‬فال طريق للفالح سوى اإلخالص في عبادة الخالق‪ ،‬والسعي في‬
‫نفع عبيده‪ ،‬فمن وفق لذلك‪ ،‬فله القدح المعلى‪ ،‬من السعادة والنجاح والفالح‪.‬‬
‫ق ِجهَ ِاد ِه } والجهاد بذل الوسع في حصول الغرض المطلوب‪ ،‬فالجهاد في‬
‫اه ُدوا ِفي اللَّ ِه َح َّ‬
‫{ وج ِ‬
‫َ َ‬
‫اهلل حق جهاده‪ ،‬هو القيام التام بأمر اهلل‪ ،‬ودعوة الخلق إلى سبيله بكل طريق موصل إلى ذلك‪ ،‬من‬
‫نصيحة وتعليم وقتال وأدب وزجر ووعظ‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫اجتََبا ُك ْم } أي‪ :‬اختاركم ‪-‬يا معشر المسلمين‪ -‬من بين الناس‪ ،‬واختار لكم الدين‪ ،‬ورضيه‬ ‫{ ُه َو ْ‬
‫لكم‪ ،‬واختار لكم أفضل الكتب وأفضل الرسل‪ ،‬فقابلوا هذه المنحة العظيمة‪ ،‬بالقيام بالجهاد فيه حق‬
‫ق ِجهَ ِاد ِه } ربما توهم متوهم أن هذا من باب تكليف‬ ‫اه ُدوا ِفي اللَّ ِه َح َّ‬
‫القيام‪ ،‬ولما كان قوله‪ { :‬وج ِ‬
‫َ َ‬
‫ين ِم ْن َح َر ٍج } أي‪:‬‬ ‫ما ال يطاق‪ ،‬أو تكليف ما يشق‪ ،‬احترز منه بقوله‪َ { :‬و َما َج َع َل َعلَْي ُك ْم ِفي ِّ‬
‫الد ِ‬
‫مشقة وعسر‪ ،‬بل يسره غاية التيسير‪ ،‬وسهله بغاية السهولة‪ ،‬فأوال ما أمر وألزم إال بما هو سهل‬
‫على النفوس‪ ،‬ال يثقلها وال يؤودها‪ ،‬ثم إذا عرض بعض األسباب الموجبة للتخفيف‪ ،‬خفف ما أمر‬
‫به‪ ،‬إما بإسقاطه‪ ،‬أو إسقاط بعضه‪ .‬ويؤخذ من هذه اآلية‪ ،‬قاعدة شرعية وهي أن " المشقة تجلب‬
‫التيسير " و " الضرورات تبيح المحظورات " فيدخل في ذلك من األحكام الفرعية‪ ،‬شيء كثير‬
‫معروف في كتب األحكام‪.‬‬
‫يم } أي‪ :‬هذه الملة المذكورة‪ ،‬واألوامر المزبورة‪ ،‬ملة أبيكم إبراهيم‪ ،‬التي ما‬ ‫ِ َّ ِ ِ ِ‬
‫{ ملةَ أَبي ُك ْم إ ْب َراه َ‬
‫زال عليها‪ ،‬فالزموها واستمسكوا بها‪.‬‬
‫ين ِم ْن قَْب ُل } أي‪ :‬في الكتب السابقة‪ ،‬مذكورون ومشهورون‪َ { ،‬و ِفي َه َذا }‬ ‫ِِ‬
‫{ ُه َو َس َّما ُك ُم اْل ُم ْسلم َ‬
‫الر ُسو ُل َش ِه ً‬
‫يدا‬ ‫ون َّ‬ ‫ِ‬
‫أي‪ :‬هذا الكتاب‪ ،‬وهذا الشرع‪ .‬أي‪ :‬ما زال هذا االسم لكم قديما وحديثا‪ { ،‬لَي ُك َ‬
‫اس } لكونكم خير أمة أخرجت للناس‪،‬‬ ‫الن ِ‬
‫اء َعلَى َّ‬
‫ونوا ُشهَ َد َ‬
‫َعلَْي ُك ْم } بأعمالكم خيرها وشرها { َوتَ ُك ُ‬
‫أمة وسطا عدال خيارا‪ ،‬تشهدون للرسل أنهم بلغوا أممهم‪ ،‬وتشهدون على األمم أن رسلهم بلغتهم‬
‫يموا الصَّالةَ } بأركانها وشروطها وحدودها‪ ،‬وجميع لوازمها‪{ ،‬‬ ‫ِ‬
‫بما أخبركم اهلل به في كتابه‪ { ،‬فَأَق ُ‬
‫ص ُموا بِاللَّ ِه } أي‪ :‬امتنعوا‬‫اعتَ َ‬ ‫الز َكاةَ } المفروضة لمستحقيها شكرا هلل على ما أوالكم‪َ { ،‬و ْ‬ ‫وآتُوا َّ‬
‫َ‬
‫به وتوكلوا عليه في ذلك‪ ،‬وال تتكلوا على حولكم وقوتكم‪ُ { ،‬ه َو َم ْوال ُك ْم } الذي يتولى أموركم‪،‬‬
‫ص ُير } أي‪ :‬نعم‬ ‫الن ِ‬
‫فيدبركم بحسن تدبيره‪ ،‬ويصرفكم على أحسن تقديره‪ { ،‬فَنِ ْع َم اْل َم ْولَى َونِ ْع َم َّ‬
‫ص ُير } لمن استنصره فدفع عنه المكروه‪ .‬تم‬ ‫الن ِ‬
‫المولى لمن تواله‪ ،‬فحصل له مطلوبه { َونِ ْع َم َّ‬
‫تفسير سورة الحج‪ ،‬والحمد هلل رب العالمين‪.‬‬

‫( ‪)1/546‬‬

‫تفسير سورة المؤمنون (‪)1‬‬


‫وهي مكية‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ‪ :‬المؤمنين‪.‬‬
‫( ‪)1/547‬‬

‫َّ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬


‫ون (‪)3‬‬ ‫ض َ‬ ‫ين ُه ْم َع ِن الل ْغ ِو ُم ْع ِر ُ‬ ‫ون (‪َ )2‬والذ َ‬ ‫صاَل ت ِه ْم َخاش ُع َ‬ ‫ين ُه ْم في َ‬ ‫ون (‪ )1‬الذ َ‬ ‫قَ ْد أَ ْفلَ َح اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫ون (‪ِ )5‬إاَّل َعلَى أ َْزو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫َِّ‬
‫ت‬ ‫اج ِه ْم أ َْو َما َملَ َك ْ‬ ‫َ‬ ‫ين ُه ْم لفُُرو ِج ِه ْم َحافظُ َ‬ ‫ون (‪َ )4‬والذ َ‬ ‫ين ُه ْم ل َّلز َكاة فَاعلُ َ‬ ‫َوالذ َ‬
‫ين ُه ْم أِل ََم َاناتِ ِه ْم‬ ‫َِّ‬
‫ون (‪َ )7‬والذ َ‬ ‫اد َ‬ ‫ك فَأُولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم اْل َع ُ‬ ‫اء َذِل َ‬
‫ين (‪ )6‬فَ َم ِن ْابتَ َغى َو َر َ‬ ‫أ َْي َم ُانهُ ْم فَِإَّنهُ ْم َغ ْي ُر َملُو ِم َ‬
‫َِّ‬ ‫ون (‪ )9‬أُولَئِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِِ‬
‫ين‬
‫ون (‪ )10‬الذ َ‬ ‫ك ُه ُم اْل َو ِارثُ َ‬ ‫صلَ َوات ِه ْم ُي َحافظُ َ‬‫ين ُه ْم َعلَى َ‬ ‫ون (‪َ )8‬والذ َ‬ ‫اع َ‬ ‫َو َع ْهده ْم َر ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)11‬‬ ‫ون اْلف ْر َد ْو َس ُه ْم فيهَا َخال ُد َ‬ ‫َي ِرثُ َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫الر ْحم ِن َّ ِ ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬


‫صالت ِه ْم َخاش ُع َ‬
‫ون *‬ ‫ين ُه ْم في َ‬ ‫ون * الذ َ‬ ‫الرحيم قَ ْد أَ ْفلَ َح اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬ ‫{ ‪ { } 11 - 1‬ب ْسم الله َّ َ‬
‫ون * ِإال‬ ‫ِ‬ ‫ين ُهم ِلفُر ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫َِّ‬ ‫َّ‬ ‫َِّ‬
‫وج ِه ْم َحافظُ َ‬ ‫ون * َوالذ َ ْ ُ‬ ‫ين ُه ْم ل َّلز َكاة فَاعلُ َ‬ ‫ون * َوالذ َ‬ ‫ض َ‬ ‫ين ُه ْم َع ِن الل ْغ ِو ُم ْع ِر ُ‬‫َوالذ َ‬
‫ون‬
‫اد َ‬
‫ك ُه ُم اْل َع ُ‬ ‫ك فَأُولَئِ َ‬‫اء َذِل َ‬
‫ين * فَ َم ِن ْابتَ َغى َو َر َ‬‫ت أ َْي َم ُانهُ ْم فَِإَّنهُ ْم َغْي ُر َملُو ِم َ‬ ‫َعلَى أ َْزو ِ‬
‫اج ِه ْم ْأو َما َملَ َك ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ك ُه ُم‬ ‫ون * أُولَئ َ‬ ‫صلَ َوات ِه ْم ُي َحافظُ َ‬
‫ين ُه ْم َعلَى َ‬ ‫ون * َوالذ َ‬ ‫اع َ‬ ‫ألم َانات ِه ْم َو َع ْهده ْم َر ُ‬‫ين ُه ْم َ‬ ‫* َوالذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ون اْلف ْر َد ْو َس ُه ْم فيهَا َخال ُد َ‬ ‫ين َي ِرثُ َ‬ ‫ون * الذ َ‬ ‫اْل َو ِارثُ َ‬
‫هذا تنويه من اهلل‪ ،‬بذكر عباده المؤمنين‪ ،‬وذكر فالحهم وسعادتهم‪ ،‬وبأي‪ :‬شيء وصلوا إلى ذلك‪،‬‬
‫وفي ضمن ذلك‪ ،‬الحث على االتصاف بصفاتهم‪ ،‬والترغيب فيها‪ .‬فليزن العبد نفسه وغيره على‬
‫هذه اآليات‪ ،‬يعرف بذلك ما معه وما مع غيره من اإليمان‪ ،‬زيادة ونقصا‪ ،‬كثرة وقلة‪ ،‬فقوله { قَ ْد‬
‫ون } أي‪ :‬قد فازوا وسعدوا ونجحوا‪ ،‬وأدركوا كل ما يرام المؤمنون الذين آمنوا باهلل‬ ‫أَ ْفلَ َح اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صالت ِه ْم َخاش ُع َ‬
‫ون }‬ ‫وصدقوا المرسلين الذين من صفاتهم الكاملة أنهم { في َ‬
‫والخشوع في الصالة‪ :‬هو حضور القلب بين يدي اهلل تعالى‪ ،‬مستحضرا لقربه‪ ،‬فيسكن لذلك قلبه‪،‬‬
‫وتطمئن نفسه‪ ،‬وتسكن حركاته‪ ،‬ويقل التفاته‪ ،‬متأدبا بين يدي ربه‪ ،‬مستحضرا جميع ما يقوله‬
‫ويفعله في صالته‪ ،‬من أول صالته إلى آخرها‪ ،‬فتنتفي بذلك الوساوس واألفكار الردية‪ ،‬وهذا‬
‫روح الصالة‪ ،‬والمقصود منها‪ ،‬وهو الذي يكتب للعبد‪ ،‬فالصالة التي ال خشوع فيها وال حضور‬
‫قلب‪ ،‬وإ ن كانت مجزئة مثابا عليها‪ ،‬فإن الثواب على [ ص ‪ ] 548‬حسب ما يعقل القلب منها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َِّ‬
‫ون } رغبة عنه‪،‬‬‫ض َ‬‫ين ُه ْم َع ِن الل ْغ ِو } وهو الكالم الذي ال خير فيه وال فائدة‪ُ { ،‬م ْع ِر ُ‬
‫{ َوالذ َ‬
‫وتنزيها ألنفسهم‪ ،‬وترفعا عنه‪ ،‬وإ ذا مروا باللغو مروا كراما‪ ،‬وإ ذا كانوا معرضين عن اللغو‪،‬‬
‫فإعراضهم عن المحرم من باب أولى وأحرى‪ ،‬وإ ذا ملك العبد لسانه وخزنه ‪-‬إال في الخير‪ -‬كان‬
‫مالكا ألمره‪ ،‬كما قال النبي صلى اهلل عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين وصاه بوصايا قال‪ " :‬أال‬
‫أخبرك بمالك ذلك كله؟ " قلت‪ :‬بلى يا رسول اهلل‪ ،‬فأخذ بلسان نفسه وقال‪ " :‬كف عليك هذا "‬
‫فالمؤمنون من صفاتهم الحميدة‪ ،‬كف ألسنتهم عن اللغو والمحرمات‪.‬‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫َِّ‬
‫ون } أي مؤدون لزكاة أموالهم‪ ،‬على اختالف أجناس األموال‪ ،‬مزكين‬‫ين ُه ْم ل َّلز َكاة فَاعلُ َ‬
‫{ َوالذ َ‬
‫ألنفسهم من أدناس األخالق ومساوئ األعمال التي تزكو النفس بتركها وتجنبها‪ ،‬فأحسنوا في‬
‫عبادة الخالق‪ ،‬في الخشوع في الصالة‪ ،‬وأحسنوا إلى خلقه بأداء الزكاة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ون } عن الزنا‪ ،‬ومن تمام حفظها تجنب ما يدعو إلى ذلك‪ ،‬كالنظر‬ ‫ين ُه ْم لفُُرو ِج ِه ْم َحافظُ َ‬ ‫{ َوالذ َ‬
‫واللمس ونحوهما‪ .‬فحفظوا فروجهم من كل أحد { ِإال َعلَى أ َْز َوا ِج ِه ْم ْأو َما َملَ َك ْ‬
‫ت أ َْي َم ُانهُ ْم } من‬
‫ين } بقربهما‪ ،‬ألن اهلل تعالى أحلهما‪.‬‬ ‫اإلماء المملوكات { فَِإَّنهُ ْم َغ ْي ُر َملُو ِم َ‬
‫ون } الذين تعدوا ما أحل اهلل‬ ‫اد َ‬ ‫ك } غير الزوجة والسرية { فَأُولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم اْل َع ُ‬ ‫اء َذِل َ‬
‫{ فَ َم ِن ْابتَ َغى َو َر َ‬
‫إلى ما حرمه‪ ،‬المتجرئون على محارم اهلل‪ .‬وعموم هذه اآلية‪ ،‬يدل على تحريم نكاح المتعة‪ ،‬فإنها‬
‫ليست زوجة حقيقة مقصودا بقاؤها‪ ،‬وال مملوكة‪ ،‬وتحريم نكاح المحلل لذلك‪.‬‬
‫ت أ َْي َم ُانهُ ْم } أنه يشترط في حل المملوكة أن تكون كلها في ملكه‪ ،‬فلو كان‬
‫ويدل قوله { ْأو َما َملَ َك ْ‬
‫له بعضها لم تحل‪ ،‬ألنها (‪ )1‬ليست مما ملكت يمينه‪ ،‬بل هي ملك له ولغيره‪ ،‬فكما أنه ال يجوز أن‬
‫يشترك في المرأة الحرة زوجان‪ ،‬فال يجوز أن يشترك في األمة المملوكة سيدان‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ون } أي‪ :‬مراعون لها‪ ،‬ضابطون‪ ،‬حافظون‪ ،‬حريصون على‬ ‫اع َ‬‫ألم َانات ِه ْم َو َع ْهده ْم َر ُ‬
‫ين ُه ْم َ‬ ‫{ َوالذ َ‬
‫القيام بها وتنفيذها‪ ،‬وهذا عام في جميع األمانات التي هي حق هلل‪ ،‬والتي هي حق للعباد‪ ،‬قال‬
‫َن َي ْح ِمْلَنهَا َوأَ ْشفَ ْق َن ِم ْنهَا‬ ‫ض واْل ِجَب ِ‬
‫ال فَأََب ْي َن أ ْ‬ ‫األر َ‬
‫ِ‬
‫ات و ْ ِ‬
‫َّم َاو َ‬
‫األم َانةَ َعلَى الس َ‬
‫ضَنا َ‬ ‫تعالى‪ِ { :‬إَّنا َعَر ْ‬
‫ان } فجميع ما أوجبه اهلل على عبده أمانة‪ ،‬على العبد حفظها بالقيام التام بها‪ ،‬وكذلك‬ ‫اإلن َس ُ‬
‫َو َح َملَهَا ْ‬
‫يدخل في ذلك أمانات اآلدميين‪ ،‬كأمانات األموال واألسرار ونحوهما‪ ،‬فعلى العبد مراعاة‬
‫َهِلهَا }‬ ‫َن تُؤ ُّدوا األم َان ِ‬
‫ات ِإلَى أ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ َّ‬
‫األمرين‪ ،‬وأداء األمانتين { إ َّن اللهَ َيأ ُ‬
‫ْم ُر ُك ْم أ ْ َ‬
‫وكذلك العهد‪ ،‬يشمل العهد الذي بينهم وبين ربهم والذي بينهم وبين العباد‪ ،‬وهي االلتزامات‬
‫والعقود‪ ،‬التي يعقدها العبد‪ ،‬فعليه مراعاتها والوفاء بها‪ ،‬ويحرم عليه التفريط فيها وإ همالها ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ون } أي‪ :‬يداومون عليها في أوقاتها وحدودها وأشراطها‬ ‫صلَ َوات ِه ْم ُي َحافظُ َ‬
‫ين ُه ْم َعلَى َ‬
‫{ َوالذ َ‬
‫وأركانها‪ ،‬فمدحهم بالخشوع بالصالة‪ ،‬وبالمحافظة عليها‪ ،‬ألنه ال يتم أمرهم إال باألمرين‪ ،‬فمن‬
‫يداوم على الصالة من غير خشوع‪ ،‬أو على الخشوع من دون محافظة عليها‪ ،‬فإنه مذموم ناقص‪.‬‬
‫ون اْل ِف ْر َد ْو َس } الذي هو أعلى‬
‫ين َي ِرثُ َ‬
‫َِّ‬ ‫{ أُولَئِ َ‬
‫ك } الموصوفون بتلك الصفات { هم اْل َو ِارثُ َ‬
‫ون * الذ َ‬
‫الجنة ووسطها وأفضلها ألنهم حلوا من صفات الخير أعالها وذروتها أو المراد بذلك جميع الجنة‬
‫ون } ال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ليدخل بذلك عموم المؤمنين على درجاتهم و مراتبهم كل بحسب حاله { ُه ْم فيهَا َخال ُد َ‬
‫يظعنون عنها وال يبغون عنها حوال الشتمالها على أكمل النعيم وأفضله وأتمه من غير مكدر وال‬
‫منغص‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ‪ :‬ألنه‪ ،‬وفي ب‪ :‬ألن‪ ،‬ولعل الصواب ما أثبت‬
‫( ‪)1/547‬‬

‫طفَةَ‬ ‫ين (‪ )13‬ثَُّم َخلَ ْقَنا ُّ‬


‫الن ْ‬ ‫طفَةً ِفي قََر ٍار َم ِك ٍ‬ ‫ين (‪ )12‬ثَُّم َج َعْلَناهُ ُن ْ‬ ‫ان ِم ْن ُساَل لَ ٍة ِم ْن ِط ٍ‬ ‫َولَقَ ْد َخلَ ْقَنا اإْلِ ْن َس َ‬
‫ك‬‫َخ َر فَتََب َار َ‬ ‫اما فَ َك َس ْوَنا اْل ِع َ‬
‫ظ َام لَ ْح ًما ثَُّم أ َْن َشأَْناهُ َخْلقًا آ َ‬ ‫ظً‬ ‫ض َغةَ ِع َ‬
‫ض َغةً فَ َخلَ ْقَنا اْل ُم ْ‬
‫َعلَقَةً فَ َخلَ ْقَنا اْل َعلَقَةَ ُم ْ‬
‫ك لَميِّتُون (‪ )15‬ثَُّم ِإَّن ُكم يوم اْل ِقي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫اللَّهُ أ ْ‬
‫ون (‪)16‬‬ ‫امة تُْب َعثُ َ‬‫ْ َْ َ َ َ‬ ‫ين (‪ )14‬ثَُّم ِإَّن ُك ْم َب ْع َد َذل َ َ َ‬ ‫َح َس ُن اْل َخالق َ‬

‫ين * ثَُّم‬‫طفَةً ِفي قََر ٍار َم ِك ٍ‬ ‫ين * ثَُّم َج َعْلَناهُ ُن ْ‬ ‫ان ِم ْن ُساللَ ٍة ِم ْن ِط ٍ‬ ‫اإلن َس َ‬
‫{ ‪َ { } 16 - 12‬ولَقَ ْد َخلَ ْقَنا ْ‬
‫اما فَ َك َس ْوَنا اْل ِع َ‬
‫ظ َام لَ ْح ًما ثَُّم أ َْن َشأَْناهُ َخْلقًا‬ ‫ظً‬ ‫ض َغةَ ِع َ‬
‫ض َغةً فَ َخلَ ْقَنا اْل ُم ْ‬
‫طفَةَ َعلَقَةً فَ َخلَ ْقَنا اْل َعلَقَةَ ُم ْ‬ ‫َخلَ ْقَنا ُّ‬
‫الن ْ‬
‫ك لَميِّتُون * ثَُّم ِإَّن ُكم يوم اْل ِقي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ك اللَّهُ أ ْ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫امة تُْب َعثُ َ‬ ‫ْ َْ َ َ َ‬ ‫ين * ثَُّم ِإَّن ُك ْم َب ْع َد َذل َ َ َ‬ ‫َح َس ُن اْل َخالق َ‬ ‫آخ َر فَتََب َار َ‬
‫َ‬
‫ذكر اهلل في هذه اآليات أطوار اآلدمي وتنقالته‪ ،‬من ابتداء خلقه إلى آخر ما يصير إليه‪ ،‬فذكر‬
‫ين } أي‪ :‬قد سلت‪،‬‬ ‫ابتداء خلق أبي النوع البشري آدم عليه السالم‪ ،‬وأنه { ِم ْن ُساللَ ٍة ِم ْن ِط ٍ‬
‫وأخذت من جميع األرض‪ ،‬ولذلك جاء بنوه على قدر األرض‪ ،‬منهم الطيب والخبيث‪ ،‬وبين ذلك‪،‬‬
‫والسهل والحزن‪ ،‬وبين ذلك‪.‬‬
‫طفَةً } تخرج من بين الصلب والترائب‪ ،‬فتستقر { ِفي قََر ٍار‬
‫{ ثَُّم َج َعْلَناهُ } أي‪ :‬جنس اآلدميين { ُن ْ‬
‫ين } وهو الرحم‪ ،‬محفوظة من الفساد والريح وغير ذلك‪.‬‬ ‫َم ِك ٍ‬
‫طفَةَ } التي قد استقرت قبل { َعلَقَةً } أي‪ :‬دما أحمر‪ [ ،‬ص ‪ ] 549‬بعد مضي‬ ‫{ ثَُّم َخلَ ْقَنا ُّ‬
‫الن ْ‬
‫ض َغةً } أي‪ :‬قطعة لحم صغيرة‪،‬‬
‫فخلَ ْقَنا اْل َعلَقَةَ } بعد أربعين يوما { ُم ْ‬
‫أربعين يوما من النطفة‪َ { ،‬‬
‫بقدر ما يمضغ من صغرها‪.‬‬
‫اما } صلبة‪ ،‬قد تخللت اللحم‪ ،‬بحسب حاجة البدن إليها‪ { ،‬فَ َك َس ْوَنا‬
‫ظً‬ ‫ض َغةَ } اللينة { ِع َ‬
‫{ فَ َخلَ ْقَنا اْل ُم ْ‬
‫ظ َام لَ ْح ًما } أي‪ :‬جعلنا اللحم‪ ،‬كسوة للعظام‪ ،‬كما جعلنا العظام‪ ،‬عمادا للحم‪ ،‬وذلك في األربعين‬ ‫اْل ِع َ‬
‫آخ َر } نفخ فيه الروح‪ ،‬فانتقل من كونه جمادا‪ ،‬إلى أن صار حيوانا‪،‬‬ ‫الثالثة‪ { ،‬ثَُّم أ َْن َشأَْناهُ َخْلقًا َ‬
‫ين } { الذي أحسن كل شيء خلقه‬ ‫ِِ‬ ‫ك اللَّهُ } أي‪ :‬تعالى وتعاظم وكثر خيره { أ ْ‬
‫َح َس ُن اْل َخالق َ‬ ‫{ فَتََب َار َ‬
‫وبدأ خلق اإلنسان من طين ثم جعل نسله من ساللة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه‬
‫وجعل لكم السمع واألبصار واألفئدة قليال ما تشكرون } فخلقه كله حسن‪ ،‬واإلنسان من أحسن‬
‫َح َس ِن تَ ْق ِو ٍيم }‬ ‫ان ِفي أ ْ‬
‫اإلن َس َ‬
‫مخلوقاته‪ ،‬بل هو أحسنها على اإلطالق‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬لَقَ ْد َخلَ ْقَنا ْ‬
‫ولهذا كان خواصه أفضل المخلوقات وأكملها‪.‬‬
‫ون } في أحد أطواركم وتنقالتكم { ثَُّم ِإَّن ُك ْم َي ْو َم‬ ‫{ ثَُّم ِإَّن ُك ْم َب ْع َد َذِل َ‬
‫ك } الخلق‪ ،‬ونفخ الروح { لَ َميِّتُ َ‬
‫ك ُس ًدى‬ ‫َن ُيتَْر َ‬ ‫اْل ِقي ِ‬
‫ان أ ْ‬ ‫اإلن َس ُ‬
‫ب ْ‬ ‫ون } فتجازون بأعمالكم‪ ،‬حسنها وسيئها‪ .‬قال تعالى‪ { :‬أََي ْح َس ُ‬ ‫امة تُْب َعثُ َ‬ ‫ََ‬
‫الزوج ْي ِن َّ‬ ‫ِ‬ ‫ك ُن ْ ِ ِ‬
‫األنثَى *‬
‫الذ َك َر َو ْ‬ ‫ق فَ َس َّوى * فَ َج َع َل م ْنهُ َّ ْ َ‬
‫ان َعلَقَةً فَ َخلَ َ‬
‫طفَةً م ْن َمن ٍّي ُي ْمَنى * ثَُّم َك َ‬ ‫* أَلَ ْم َي ُ‬
‫ك بِقَ ِاد ٍر َعلَى أ ْ‬
‫َن ُي ْحيِ َي اْل َم ْوتَى }‬ ‫أَلَْي َس َذِل َ‬

‫( ‪)1/548‬‬

‫ين (‪)17‬‬ ‫ق وما ُكَّنا ع ِن اْل َخْل ِ ِِ‬ ‫ولَقَ ْد َخلَ ْقَنا فَوقَ ُكم س ْبع َ ِ‬
‫ق َغافل َ‬ ‫َ‬ ‫ط َرائ َ َ َ‬ ‫ْ ْ َ َ‬ ‫َ‬

‫ين } ‪.‬‬ ‫ق وما ُكَّنا ع ِن اْل َخْل ِ ِِ‬ ‫{ ‪ { } 20 - 17‬ولَقَ ْد َخلَ ْقَنا فَوقَ ُكم س ْبع َ ِ‬
‫ق َغافل َ‬ ‫َ‬ ‫ط َرائ َ َ َ‬ ‫ْ ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫لما ذكر تعالى خلق اآلدمي‪ ،‬ذكر سكنه‪ ،‬وتوفر النعم عليه من كل وجه فقال‪َ { :‬ولَقَ ْد َخلَ ْقَنا فَ ْوقَ ُك ْم }‬
‫ق } أي‪ :‬سبع سماوات طباقا‪ ،‬كل طبقة فوق األخرى‪ ،‬قد‬ ‫ط َرائِ َ‬
‫سقفا للبالد‪ ،‬ومصلحة للعباد { َس ْب َع َ‬
‫زينت بالنجوم والشمس والقمر‪ ،‬وأودع فيها من مصالح الخلق ما أودع‪ { ،‬و َما ُكَّنا َع ِن اْل َخْل ِ‬
‫ق‬ ‫َ‬
‫ين } فكما أن خلقنا عام لكل مخلوق‪ ،‬فعلمنا أيضا محيط بما خلقنا‪ ،‬فال نغفل مخلوقا وال ننساه‪،‬‬ ‫ِِ‬
‫َغافل َ‬
‫وال نخلق خلقا فنضيعه‪ ،‬وال نغفل عن السماء فتقع على األرض‪ ،‬وال ننسى ذرة في لجج البحار‬
‫ض ِإال َعلَى اللَّ ِه ِر ْزقُهَا‬
‫األر ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ‬
‫وجوانب الفلوات‪ ،‬وال دابة إال سقنا إليها رزقها { َو َما م ْن َدابَّة في ْ‬
‫ق‬
‫َوَي ْعلَ ُم ُم ْستَقََّر َها َو ُم ْستَ ْو َد َعهَا } وكثيرا ما يقرن تعالى بين خلقه وعلمه كقوله‪ { :‬أَال َي ْعلَ ُم َم ْن َخلَ َ‬
‫يم } ألن خلق المخلوقات‪ ،‬من أقوى األدلة العقلية‪،‬‬ ‫يف اْل َخبِير } { بلَى و ُهو اْل َخ ُ ِ‬
‫َو ُه َو اللَّ ِط ُ‬
‫الق اْل َعل ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُ‬
‫على علم خالقها وحكمته‪.‬‬

‫( ‪)1/549‬‬

‫ون (‪ )18‬فَأ َْن َشأَْنا لَ ُك ْم بِ ِه‬ ‫ض وإِ َّنا علَى َذ َه ٍ ِ ِ‬


‫اب بِه لَقَاد ُر َ‬ ‫َس َكَّناهُ في اأْل َْر ِ َ َ‬
‫ِ‬
‫اء بِقَ َد ٍر فَأ ْ‬
‫وأ َْن َزْلَنا ِمن الس ِ‬
‫َّماء َم ً‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫اء‬
‫ور َس ْيَن َ‬ ‫ون (‪َ )19‬و َش َج َرةً تَ ْخ ُر ُج ِم ْن طُ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اب لَ ُك ْم فيهَا فَ َواكهُ َكث َيرةٌ َو ِم ْنهَا تَْأ ُكلُ َ‬ ‫َعَن ٍ‬ ‫ات ِم ْن َن ِخ ٍ‬
‫يل َوأ ْ‬ ‫جَّن ٍ‬
‫َ‬
‫ِ ِ ِِ‬ ‫ت بِ ُّ‬
‫ين (‪)20‬‬ ‫الد ْه ِن َوص ْب ٍغ لآْل َكل َ‬ ‫تَْنُب ُ‬

‫ون * فَأ َْن َشأَْنا لَ ُك ْم بِ ِه‬ ‫ض وإِ َّنا علَى َذ َه ٍ ِ ِ‬


‫اب بِه لَقَاد ُر َ‬ ‫األر ِ َ َ‬
‫ِ‬
‫َس َكَّناهُ في ْ‬ ‫اء بِقَ َد ٍر فَأ ْ‬
‫{ وأ َْن َزْلَنا ِمن الس ِ‬
‫َّماء َم ً‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫اء‬
‫ور َس ْيَن َ‬ ‫ون * َو َش َج َرةً تَ ْخ ُر ُج ِم ْن طُ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اب لَ ُك ْم فيهَا فَ َواكهُ َكث َيرةٌ َو ِم ْنهَا تَْأ ُكلُ َ‬‫َعَن ٍ‬ ‫ات ِم ْن َن ِخ ٍ‬
‫يل َوأ ْ‬ ‫جَّن ٍ‬
‫َ‬
‫ِ ِ ِِ‬ ‫ت بِ ُّ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫الد ْه ِن َوص ْب ٍغ لآلكل َ‬ ‫تَْنُب ُ‬
‫اء } يكون رزقا لكم وألنعامكم بقدر ما يكفيكم‪ ،‬فال ينقصه‪ ،‬بحيث ال يكفي‬ ‫{ وأَنزْلَنا ِمن الس ِ‬
‫َّماء َم ً‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫األرض واألشجار‪ ،‬فال يحصل منه المقصود‪ ،‬وال يزيده زيادة ال تحتمل‪ ،‬بحيث يتلف المساكن‪،‬‬
‫وال تعيش معه النباتات واألشجار‪ ،‬بل أنزله وقت الحاجة لنزوله ثم صرفه عند التضرر من‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫ض } أي‪ :‬أنزلناه عليها‪ ،‬فسكن واستقر‪ ،‬وأخرج بقدرة منزله‪ ،‬جميع‬ ‫َس َكَّناهُ في ْ‬‫دوامه‪ { ،‬فَأ ْ‬
‫األزواج النباتية‪ ،‬وأسكنه أيضا معدا في خزائن األرض‪ ،‬بحيث لم يذهب نازال حتى ال يوصل‬
‫إليه‪ ،‬وال يبلغ قعره‪ { ،‬وإِ َّنا علَى َذ َه ٍ ِ ِ‬
‫ون } إما بأن ال ننزله‪ ،‬أو ننزله‪ ،‬فيذهب نازال ال‬ ‫اب بِه لَقَاد ُر َ‬ ‫َ َ‬
‫يوصل إليه‪ ،‬أو ال يوجد منه المقصود منه‪ ،‬وهذا تنبيه منه لعباده أن يشكروه على نعمته‪ ،‬ويقدروا‬
‫اؤ ُك ْم َغ ْو ًرا فَ َم ْن َيأْتِي ُك ْم‬ ‫عدمها‪ ،‬ماذا يحصل به من الضرر‪ ،‬كقوله تعالى‪ُ { :‬ق ْل أ ََرأ َْيتُ ْم ِإ ْن أ ْ‬
‫َصَب َح َم ُ‬
‫ين }‬‫اء َم ِع ٍ‬
‫بِم ٍ‬
‫َ‬
‫اب } خص تعالى هذين‬ ‫َعَن ٍ‬
‫يل َوأ ْ‬ ‫ات } أي‪ :‬بساتين { ِم ْن َن ِخ ٍ‬ ‫{ فَأ َْن َشأَْنا لَ ُكم بِ ِه } أي‪ :‬بذلك الماء { جَّن ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫النوعين‪ ،‬مع أنه ينشئ منه غيرهما من األشجار‪ ،‬لفضلهما ومنافعهما‪ ،‬التي فاقت بها األشجار‪،‬‬
‫ِ ِ‬
‫ون } من‬ ‫ولهذا ذكر العام في قوله‪ { :‬لَ ُك ُم فيها } أي‪ :‬في تلك الجنات { فَ َواكهُ َكث َيرةٌ َو ِم ْنهَا تَْأ ُكلُ َ‬
‫اء } وهي شجرة الزيتون‪،‬‬ ‫ور َس ْيَن َ‬‫تين‪ ،‬وأترج‪ ،‬ورمان‪ ،‬وتفاح وغيرها ‪َ { ،‬و َش َج َرةً تَ ْخ ُر ُج ِم ْن طُ ِ‬
‫أي‪ :‬جنسها‪ ،‬خصت بالذكر‪ ،‬ألن مكانها خاص في أرض الشام‪ ،‬ولمنافعها‪ ،‬التي ذكر بعضها في‬
‫ِ ِ ِِ‬ ‫ت بِ ُّ‬
‫ين } أي‪ :‬فيها الزيت‪ ،‬الذي هو دهن‪ ،‬يستعمل (‪ )1‬استعماله من‬ ‫الد ْه ِن َوص ْب ٍغ لآلكل َ‬ ‫قوله‪ { :‬تَْنُب ُ‬
‫االستصباح به‪ ،‬واصطباغ اآلكلين‪ ،‬أي‪ :‬يجعل إداما لآلكلين‪ ،‬وغير ذلك من المنافع‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في النسختين‪ ،‬وقد شطبت كلمة يستعمل في ب‪ ،‬وكتب فوقها بخط مغاير‪ :‬يكثر‪ .‬وهي‬
‫كذلك في الطبعات المختلفة للتفسير‪.‬‬

‫( ‪)1/549‬‬

‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َوإِ َّن لَ ُك ْم في اأْل َْن َعام لَع ْب َرةً ُن ْسقي ُك ْم م َّما في ُبطُونِهَا َولَ ُك ْم فيهَا َمَنافعُ َكث َيرةٌ َو ِم ْنهَا تَْأ ُكلُ َ‬
‫ون (‪)21‬‬
‫ون (‪)22‬‬ ‫ِ‬
‫َو َعلَْيهَا َو َعلَى اْل ُفْلك تُ ْح َملُ َ‬

‫األن َع ِام لَ ِع ْب َرةً ُن ْس ِقي ُك ْم ِم َّما ِفي ُبطُونِهَا َولَ ُك ْم ِفيهَا َمَن ِافعُ َكثِ َيرةٌ َو ِم ْنهَا‬
‫{ ‪َ { } 22 - 21‬وإِ َّن لَ ُك ْم ِفي ْ‬
‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫تَْأ ُكلُ َ‬
‫ون * َو َعلَْيهَا َو َعلَى اْل ُفْلك تُ ْح َملُ َ‬
‫أي‪ :‬ومن نعمه عليكم‪ ،‬أن سخر لكم األنعام‪ ،‬اإلبل والبقر‪ ،‬والغنم‪ ،‬فيها عبرة للمعتبرين‪ ،‬ومنافع‬
‫للمنتفعين { ُن ْس ِقي ُك ْم ِم َّما ِفي ُبطُونِهَا } من لبن‪ ،‬يخرج من بين فرث ودم‪ ،‬خالص سائغ للشاربين‪{ ،‬‬
‫َولَ ُك ْم ِفيهَا َمَن ِافعُ َكثِ َيرةٌ } من أصوافها‪ ،‬وأوبارها‪ ،‬وأشعارها‪ ،‬وجعل لكم من [ ص ‪ ] 550‬جلود‬
‫األنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم { َو ِم ْنهَا تَْأ ُكلُ َ‬
‫ون } أفضل المآكل من لحم وشحم‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬جعلها سفنا لكم في البر‪ ،‬تحملون عليها أثقالكم إلى بلد لم‬ ‫ِ‬
‫{ َو َعلَْيهَا َو َعلَى اْل ُفْلك تُ ْح َملُ َ‬
‫تكونوا بالغيه إال بشق األنفس‪ ،‬كما جعل لكم السفن في البحر تحملكم‪ ،‬وتحمل متاعكم‪ ،‬قليال [كان]‬
‫أو كثيرا‪ ،‬فالذي أنعم بهذه النعم‪ ،‬وصنف أنواع اإلحسان‪ ،‬وأدر علينا من خيره المدرار‪ ،‬هو الذي‬
‫يستحق كمال الشكر‪ ،‬وكمال الثناء‪ ،‬واالجتهاد في عبوديته‪ ،‬وأن ال يستعان بنعمه على معاصيه‪.‬‬

‫( ‪)1/549‬‬

‫ِ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫وحا ِإلَى قَ ْو ِم ِه فَقَ َ‬


‫ون (‪ )23‬فَقَا َل اْل َمأَل ُ‬ ‫اعُب ُدوا اللهَ َما لَ ُك ْم م ْن ِإلَه َغْي ُرهُ أَفَاَل تَتَّقُ َ‬ ‫ال َيا قَ ْوِم ْ‬ ‫َولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُن ً‬
‫اء اللَّهُ أَل َْن َز َل َماَل ئِ َكةً َما‬
‫ض َل َعلَْي ُك ْم َولَ ْو َش َ‬ ‫َن َيتَفَ َّ‬ ‫يد أ ْ‬ ‫ين َكفَ ُروا ِم ْن قَ ْو ِم ِه َما َه َذا ِإاَّل َب َشٌر ِمثْلُ ُك ْم ُي ِر ُ‬ ‫َِّ‬
‫الذ َ‬
‫ب‬‫ال َر ِّ‬ ‫ين (‪ )25‬قَ َ‬ ‫َّصوا بِ ِه َحتَّى ِح ٍ‬ ‫ِ‬ ‫اَّل‬
‫ين (‪ِ )24‬إ ْن ُه َو ِإ َر ُج ٌل بِه ِجَّنةٌ فَتََرب ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َسم ْعَنا بِهَ َذا في آََبائَنا اأْل ََّوِل َ‬
‫ِ‬
‫ك بِأ ْ ِ‬ ‫ون (‪ )26‬فَأ َْو َح ْيَنا ِإلَْي ِه أ ِ‬ ‫ص ْرنِي بِ َما َك َّذُب ِ‬
‫ور‬ ‫اء أ َْم ُرَنا َوفَ َار التَُّّن ُ‬
‫َعُينَنا َو َو ْحيَِنا فَِإ َذا َج َ‬ ‫اصَن ِع اْل ُفْل َ‬
‫َن ْ‬ ‫ْان ُ‬
‫ين‬ ‫ِ ِ ِ َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ك ِإاَّل م ْن سب َ ِ‬ ‫اسلُ ْك ِفيهَا ِم ْن ُك ٍّل َز ْو َج ْي ِن اثَْن ْي ِن َوأ ْ‬
‫ق َعلَْيه اْلقَ ْو ُل م ْنهُ ْم َواَل تُ َخاط ْبني في الذ َ‬ ‫َهلَ َ َ َ َ‬ ‫فَ ْ‬
‫َّانا ِم َن‬
‫ك َعلَى اْل ُفْل ِك فَ ُق ِل اْل َح ْم ُد ِللَّ ِه الَِّذي َنج َ‬ ‫ت َو َم ْن َم َع َ‬ ‫ت أ َْن َ‬ ‫ون (‪ )27‬فَِإ َذا ْ‬
‫استََو ْي َ‬ ‫ظلَ ُموا ِإَّنهُ ْم ُم ْغ َرقُ َ‬ ‫َ‬
‫ك آَل َي ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ب أ َْن ِزْلنِي ُم ْن َزاًل ُمَب َار ًكا َوأ َْن َ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫ات‬ ‫ين (‪ِ )29‬إ َّن في َذل َ َ‬ ‫ت َخ ْي ُر اْل ُم ْن ِزِل َ‬ ‫ين (‪َ )28‬و ُق ْل َر ِّ‬ ‫اْلقَ ْوِم الظالم َ‬
‫ِ‬
‫ين (‪)30‬‬ ‫َوإِ ْن ُكَّنا لَ ُم ْبتَل َ‬

‫اعُب ُدوا اللَّهَ َما لَ ُك ْم ِم ْن ِإلَ ٍه َغ ْي ُرهُ أَفَال‬ ‫وحا ِإلَى قَ ْو ِم ِه فَقَ َ‬
‫ال َيا قَ ْوِم ْ‬ ‫{ ‪َ { } 30 - 23‬ولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُن ً‬
‫ون } إلى آخر القصة ‪.‬‬ ‫تَتَّقُ َ‬
‫وهي قوله { إن في ذلك آليات وإ ن كنا لمبتلين } يذكر تعالى رسالة عبده ورسوله نوح عليه‬
‫السالم‪ ،‬أول رسول أرسله ألهل األرض‪ ،‬فأرسله إلى قومه‪ ،‬وهم يعبدون األصنام‪ ،‬فأمرهم بعبادة‬
‫اعُب ُدوا اللَّهَ } أي‪ :‬أخلصوا له العبادة‪ ،‬ألن العبادة ال تصح إال‬ ‫اهلل وحده‪ ،‬فقال‪َ { :‬يا قَ ْوِم ْ‬
‫بإخالصها‪َ { .‬ما لَ ُك ْم ِم ْن ِإلَ ٍه َغ ْي ُرهُ } فيه إبطال ألوهية غير اهلل‪ ،‬وإ ثبات اإللهية هلل تعالى‪ ،‬ألنه‬
‫الخالق الرازق‪ ،‬الذي له الكمال كله‪ ،‬وغيره بخالف ذلك‪ { .‬أَفَال تَتَّقُ َ‬
‫ون } ما أنتم عليه من عبادة‬
‫األوثان واألصنام‪ ،‬التي صورت على صور قوم صالحين‪ ،‬فعبدوها مع اهلل‪ ،‬فاستمر على ذلك‪،‬‬
‫يدعوهم سرا وجهارا‪ ،‬وليال ونهارا‪ ،‬ألف سنة إال خمسين عاما‪ ،‬وهم ال يزدادون إال عتوا ونفورا‪.‬‬
‫{ فَقَا َل اْل َمأل } من قومه األشراف والسادة المتبوعون ‪-‬على وجه المعارضة لنبيهم نوح‪،‬‬
‫َن َيتَفَ َّ‬
‫ض َل َعلَْي ُك ْم } أي‪ :‬ما هذا إال بشر‬ ‫والتحذير من اتباعه ‪َ { :-‬ما َه َذا ِإال َب َشٌر ِمثْلُ ُك ْم ُي ِر ُ‬
‫يد أ ْ‬
‫مثلكم‪ ،‬قصده حين ادعى النبوة أن يزيد عليكم فضيلة‪ ،‬ليكون متبوعا‪ ،‬وإ ال فما الذي يفضله عليكم‪،‬‬
‫وهو من جنسكم؟ وهذه المعارضة ال زالت موجودة في مكذبي الرسل‪ ،‬وقد أجاب اهلل عنها‬
‫بجواب شاف‪ ،‬على ألسنة رسله كما في قوله‪ { :‬قالوا } أي‪ :‬لرسلهم { ِإ ْن أ َْنتُ ْم ِإال َب َشٌر ِمثْلَُنا‬
‫ت لَهُ ْم ُر ُسلُهُ ْم ِإ ْن َن ْح ُن ِإال َب َشٌر‬ ‫ان ُمبِ ٍ‬
‫ين * قَالَ ْ‬ ‫طٍ‬ ‫ونا بِ ُسْل َ‬
‫اؤَنا فَأْتُ َ‬
‫ان َي ْعُب ُد َآب ُ‬ ‫ص ُّد َ‬
‫ونا َع َّما َك َ‬ ‫َن تَ ُ‬‫ون أ ْ‬
‫يد َ‬ ‫تُِر ُ‬
‫اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه } فأخبروا أن هذا فضل اهلل ومنته فليس لكم أن‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬
‫م ْثلُ ُك ْم َولَك َّن اللهَ َي ُم ُّن َعلَى َم ْن َي َش ُ‬
‫تحجروا على اهلل وتمنعوه من إيصال فضله علينا‬
‫وقالوا هنا { ولو شاء اهلل ألنزل مالئكة } وهذه أيضا معارضة بالمشيئة باطلة فإنه وإ ن كان لو‬
‫شاء ألنزل مالئكة فإنه حكيم رحيم حكمته ورحمته تقتضي أن يكون الرسول من جنس اآلدميين‬
‫ألن الملك ال قدرة لهم على مخاطبته وال يمكن أن يكون إال بصورة رجل ثم يعود اللبس عليهم‬
‫كما كان‬
‫ين } وأي حجة في عدم سماعهم‬ ‫وقولهم { َما َس ِم ْعَنا بِهَ َذا } أي بإرسال الرسول { ِفي َآبائَِنا َّ‬
‫األوِل َ‬
‫إرسال رسول في آبائهم األولين؟ ألنهم لم يحيطوا علما بما تقدم فال يجعلوا جهلهم حجة لهم وعلى‬
‫تقدير أنه لم يرسل فيهم رسوال فإما أن يكونوا على الهدى فال حاجة إلرسال الرسول إذ ذاك وإ ما‬
‫أن يكونوا على غيره فليحمدوا ربهم ويشكروه أن خصهم بنعمة لم تأت آباءهم وال شعروا بها وال‬
‫يجعلوا عدم اإلحسان على غيرهم سببا لكفرهم لإلحسان إليهم‬
‫َّصوا بِ ِه } أي انتظروا به { َحتَّى ِح ٍ‬
‫ين } إلى أن يأتيه‬ ‫ِ‬
‫{ ِإ ْن ُه َو ِإال َر ُج ٌل بِه ِجَّنةٌ } أي مجنون { فَتََرب ُ‬
‫الموت‬
‫وهذه الشبه التي أوردوها معارضة لنبوة نبيهم دالة على شدة كفرهم وعنادهم وعلى أنهم في غاية‬
‫الجهل والضالل فإنها ال تصلح للمعارضة بوجه من الوجوه كما ذكرنا بل هي في نفسها متناقضة‬
‫َّل َعلَْي ُك ْم } أثبتوا أن له عقال يكيدهم به‬
‫َن َيتَفَض َ‬ ‫متعارضة فقوله { َما َه َذا ِإال َب َشٌر ِم ْثلُ ُك ْم ُي ِر ُ‬
‫يد أ ْ‬
‫ليعلوهم ويسودهم ويحتاج ‪-‬مع هذا‪ -‬أن يحذر منه لئال يغتر به فكيف يلتئم مع قولهم { ِإ ْن ُه َو ِإال‬
‫َر ُج ٌل بِ ِه ِجَّنةٌ } وهل هذا إال من مشبه ضال منقلب عليه األمر قصده الدفع بأي طريق اتفق له‬
‫غير عالم بما يقول؟"‬
‫ويأبى اهلل إال أن يظهر خزي من عاداه وعادى رسله‬
‫ون } فاستنصر ربه‬ ‫ص ْرنِي بِ َما َك َّذُب ِ‬ ‫ال َر ِّ‬
‫ب ْان ُ‬ ‫فلما رأى نوح أنه ال يفيدهم دعاؤه إال فرارا { قَ َ‬
‫ِ‬ ‫ب ال تَ َذر علَى األر ِ ِ‬
‫ض م َن اْل َكاف ِر َ‬
‫ين‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫عليهم غضبا هلل حيث ضيعوا أمره وكذبوا رسوله وقال { َر ِّ‬
‫وح‬
‫اد َانا ُن ٌ‬ ‫ك َوال َيِل ُدوا ِإال فَا ِج ًرا َكفَّ ًارا } قال تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد َن َ‬ ‫ضلُّوا ِعَب َ‬
‫اد َ‬ ‫ك ِإ ْن تَ َذر ُهم ي ِ‬
‫ْ ُْ‬ ‫َّارا * ِإَّن َ‬ ‫َدي ً‬
‫ِ‬
‫ون }‬‫َفلَن ْع َم اْل ُم ِج ُيب َ‬
‫ك } أي‪:‬‬ ‫اصَن ِع اْل ُفْل َ‬
‫َن ْ‬ ‫{ فَأ َْو َح ْيَنا ِإلَْي ِه } عند استجابتنا له‪ ،‬سببا ووسيلة للنجاة‪ ،‬قبل وقوع أسبابه‪ { ،‬أ ِ‬
‫َعُينَِنا َو َو ْحيَِنا } أي‪ :‬بأمرنا لك ومعونتنا‪ ،‬وأنت في حفظنا وكالءتنا بحيث نراك‬ ‫السفينة { بِأ ْ‬
‫ونسمعك‪.‬‬

‫اء أ َْم ُرَنا } بإرسال الطوفان الذي عذبوا به { َوفَ َار التَُّّن ُ‬
‫ور } أي‪ :‬فارت األرض‪ ،‬وتفجرت‬ ‫{ فَِإ َذا َج َ‬
‫اسلُ ْك ِفيهَا ِم ْن ُك ٍّل َز ْو َج ْي ِن‬
‫عيونا‪ ،‬حتى محل النار‪ ،‬الذي لم تجر العادة إال ببعده عن الماء‪ { ،‬فَ ْ‬
‫اثَْن ْي ِن } أي‪ :‬أدخل في الفلك من كل جنس من الحيوانات‪ ،‬ذكرا وأنثى‪ ،‬تبقى مادة النسل لسائر‬
‫ك } أي‪ :‬أدخلهم { ِإال َم ْن‬
‫َهلَ َ‬
‫الحيوانات‪ ،‬التي اقتضت الحكمة الربانية إيجادها في األرض‪َ { ،‬وأ ْ‬
‫ظلَ ُموا } أي‪ :‬ال تدعني أن أنجيهم‪ ،‬فإن القضاء‬ ‫ين َ‬ ‫ِ ِ ِ َِّ‬ ‫سب َ ِ‬
‫ق َعلَْيه اْلقَ ْو ُل } كابنه‪َ { ،‬وال تُ َخاط ْبني في الذ َ‬ ‫ََ‬
‫والقدر‪ ،‬قد حتم أنهم مغرقون‪.‬‬

‫( ‪)1/550‬‬

‫[ ص ‪] 551‬‬
‫ك َعلَى اْل ُفْل ِك } أي‪ :‬علوتم عليها‪ ،‬واستقلت بكم في تيار األمواج‪،‬‬
‫ت َو َم ْن َم َع َ‬
‫ت أ َْن َ‬ ‫{ فَِإ َذا ْ‬
‫استََو ْي َ‬
‫ولجج اليم‪ ،‬فاحمدوا اهلل على النجاة والسالمة‪ .‬فقل الحمد هلل الذي نجانا من القوم الظالمين‪ ،‬وهذا‬
‫تعليم منه له ولمن معه‪ ،‬أن يقولوا هذا شكرا له وحمدا على نجاتهم من القوم الظالمين في عملهم‬
‫وعذابهم‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬وبقيت عليكم نعمة أخرى‪ ،‬فادعوا اهلل‬ ‫ب أَنزْلنِي ُمنزال ُمَب َار ًكا َوأ َْن َ‬
‫ت َخ ْي ُر اْل ُمنزِل َ‬ ‫{ َو ُق ْل َر ِّ‬
‫ت‬‫استََو ْ‬ ‫ِ‬
‫األم ُر َو ْ‬
‫فيها‪ ،‬وهي أن ييسر اهلل لكم منزال مباركا‪ ،‬فاستجاب اهلل دعاءه‪ ،‬قال اهلل‪َ { :‬وقُض َي ْ‬
‫الم ِمَّنا وبر َك ٍ‬
‫ط بِس ٍ‬ ‫ين } إلى أن قال‪ِ { :‬ق َ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ك‬
‫ات َعلَْي َ‬ ‫َ ََ‬ ‫اهبِ ْ َ‬
‫وح ْ‬
‫يل َيا ُن ُ‬ ‫ي َو ِق َ‬
‫يل ُب ْع ًدا لْلقَ ْوِم الظالم َ‬ ‫َعلَى اْل ُجو ِد ِّ‬
‫ك } اآلية‪.‬‬ ‫ُمٍم ِم َّم ْن َم َع َ‬
‫َو َعلَى أ َ‬
‫ات } تدل على أن اهلل وحده المعبود‪ ،‬وعلى أن رسوله‬ ‫ك } أي‪ :‬في هذه القصة { آلي ٍ‬ ‫{ ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫َ‬
‫نوحا صادق‪ ،‬وأن قومه كاذبون‪ ،‬وعلى رحمة اهلل بعباده‪ ،‬حيث حملهم في صلب أبيهم نوح‪ ،‬في‬
‫الفلك لما غرق أهل األرض‪.‬‬
‫اها َآيةً فَهَ ْل ِم ْن ُم َّد ِك ٍر } ولهذا جمعها هنا ألنها‬
‫والفلك أيضا من آيات اهلل‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد تََر ْكَن َ‬
‫ِ‬
‫ين }‬‫تدل على عدة آيات ومطالب‪َ { .‬وإِ ْن ُكَّنا لَ ُم ْبتَل َ‬

‫( ‪)1/551‬‬

‫اعُب ُدوا اللَّهَ َما لَ ُك ْم ِم ْن ِإلَ ٍه‬ ‫َن ْ‬ ‫ين (‪ )31‬فَأ َْر َسْلَنا ِفي ِه ْم َر ُسواًل ِم ْنهُ ْم أ ِ‬ ‫ثَُّم أ َْن َشأَْنا ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم قَ ْرًنا آ َ‬
‫َخ ِر َ‬
‫اه ْم ِفي اْل َحَي ِاة‬ ‫اء اآْل َ ِخ َر ِة َوأَتَْر ْفَن ُ‬
‫َغْيره أَفَاَل تَتَّقُون (‪ )32‬وقَا َل اْلمأَل ُ ِم ْن قَو ِم ِه الَِّذين َكفَروا و َك َّذبوا بِِلقَ ِ‬
‫َ ُ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُُ‬
‫ون (‪َ )33‬ولَئِ ْن أَ َ‬
‫ط ْعتُ ْم َب َش ًرا‬ ‫الد ْنيا ما َه َذا ِإاَّل ب َشر ِمثْلُ ُكم ي ْأ ُك ُل ِم َّما تَْأ ُكلُون ِم ْنه وي ْشر ِ‬
‫ب م َّما تَ ْش َرُب َ‬ ‫َ ُ ََ َ ُ‬ ‫َْ‬ ‫َ ٌ‬ ‫ُّ َ َ‬
‫ون (‪)35‬‬ ‫اما أََّن ُك ْم ُم ْخ َر ُج َ‬‫ظً‬ ‫ون (‪ )34‬أََي ِع ُد ُك ْم أََّن ُك ْم ِإ َذا ِمتُّ ْم َو ُك ْنتُ ْم تَُر ًابا َو ِع َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مثْلَ ُك ْم ِإَّن ُك ْم ِإ ًذا لَ َخاس ُر َ‬
‫ين (‪)37‬‬ ‫وت َوَن ْحَيا َو َما َن ْح ُن بِ َم ْب ُعوثِ َ‬ ‫ون (‪ِ )36‬إ ْن ِهي ِإاَّل َحَياتَُنا ُّ‬
‫الد ْنَيا َن ُم ُ‬ ‫وع ُد َ‬
‫ات َه ْيه َ ِ‬
‫ات ل َما تُ َ‬ ‫َه ْيهَ َ َ‬
‫َ‬
‫ص ْرنِي بِ َما َك َّذُب ِ‬
‫ون (‬ ‫ب ْان ُ‬ ‫ال َر ِّ‬ ‫ين (‪ )38‬قَ َ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫ِإ ْن ُه َو ِإ َر ُج ٌل ا ْفتََرى َعلَى الله َكذًبا َو َما َن ْح ُن لَهُ بِ ُم ْؤ ِمن َ‬
‫اَّل‬
‫اء فَُب ْع ًدا ِلْلقَ ْوِم‬
‫اه ْم ُغثَ ً‬ ‫َّي َحةُ بِاْل َح ِّ‬
‫ق فَ َج َعْلَن ُ‬ ‫َخ َذتْهُ ُم الص ْ‬ ‫ين (‪ )40‬فَأ َ‬ ‫ِِ‬
‫صبِ ُح َّن َنادم َ‬
‫يل لَُي ْ‬‫‪ )39‬قَا َل َع َّما َقِل ٍ‬
‫ين (‪)41‬‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫الظالم َ‬

‫اعُب ُدوا اللَّهَ َما‬‫َن ْ‬ ‫ين * فَأ َْر َسْلَنا ِفي ِه ْم َر ُسوال ِم ْنهُ ْم أ ِ‬ ‫آخ ِر َ‬ ‫{ ‪ { } 41 - 31‬ثَُّم أ َْن َشأَْنا ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم قَ ْرًنا َ‬
‫اه ْم ِفي‬ ‫اء ِ‬
‫اآلخ َر ِة َوأَتَْر ْفَن ُ‬ ‫لَ ُكم ِم ْن ِإلَ ٍه َغْيره أَفَال تَتَّقُون * وقَا َل اْلمأل ِم ْن قَو ِم ِه الَِّذين َكفَروا و َك َّذبوا بِِلقَ ِ‬
‫َ ُ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُُ‬ ‫ْ‬
‫ون * َولَئِ ْن أَ َ‬
‫ط ْعتُ ْم َب َش ًرا‬ ‫الد ْنيا ما َه َذا ِإال ب َشر ِمثْلُ ُكم ي ْأ ُك ُل ِم َّما تَْأ ُكلُون ِم ْنه وي ْشر ِ‬
‫ب م َّما تَ ْش َرُب َ‬ ‫َ ُ ََ َ ُ‬ ‫َْ‬ ‫َ ٌ‬ ‫اْل َحَياة ُّ َ َ‬
‫ِ‬
‫ات‬
‫ون * َه ْيهَ َ‬ ‫اما أََّن ُك ْم ُم ْخ َر ُج َ‬‫ظً‬ ‫ون * أََي ِع ُد ُك ْم أََّن ُك ْم ِإ َذا ِمتُّ ْم َو ُك ْنتُ ْم تَُر ًابا َو ِع َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مثْلَ ُك ْم ِإَّن ُك ْم ِإ ًذا لَ َخاس ُر َ‬
‫ين (‪ِ )1‬إ ْن ُه َو ِإال‬ ‫وت َوَن ْحَيا َو َما َن ْح ُن بِ َم ْب ُعوثِ َ‬‫الد ْنَيا َن ُم ُ‬ ‫ون * ِإ ْن ِهي ِإال َحَياتَُنا ُّ‬ ‫وع ُد َ‬
‫َه ْيه َ ِ‬
‫ات ل َما تُ َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ون * قَا َل َع َّما َقل ٍ‬ ‫َّ‬
‫ص ْرنِي بِ َما َكذُب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫يل‬ ‫ب ْان ُ‬ ‫ال َر ِّ‬‫ين * قَ َ‬ ‫َر ُج ٌل ا ْفتََرى َعلَى الله َكذًبا َو َما َن ْح ُن لَهُ بِ ُم ْؤ ِمن َ‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّي َحةُ بِاْل َح ِّ‬ ‫ِِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫اء فَُب ْع ًدا لْلقَ ْوِم الظالم َ‬ ‫اه ْم ُغثَ ً‬
‫ق فَ َج َعْلَن ُ‬ ‫َخ َذتْهُ ُم الص ْ‬ ‫ين * فَأ َ‬ ‫صبِ ُح َّن َنادم َ‬ ‫لَُي ْ‬
‫ين } الظاهر أنهم " ثمود‬ ‫لما ذكر نوحا وقومه‪ ،‬وكيف أهلكهم قال‪ { :‬ثَُّم أ َْن َشأَْنا ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم قَ ْرًنا َ‬
‫آخ ِر َ‬
‫" قوم صالح عليه السالم‪ ،‬ألن هذه القصة تشبه قصتهم‪.‬‬
‫{ فَأ َْر َسْلَنا ِفي ِه ْم َر ُسوال ِم ْنهُ ْم } من جنسهم‪ ،‬يعرفون نسبه وحسبه وصدقه‪ ،‬ليكون ذلك أسرع‬
‫اعُب ُدوا‬‫َن ْ‬ ‫النقيادهم‪ ،‬إذا كان منهم‪ ،‬وأبعد عن اشمئزازهم‪ ،‬فدعا إلى ما دعت إليه الرسل أممهم { أ ِ‬
‫اللَّهَ َما لَ ُك ْم ِم ْن ِإلَ ٍه َغ ْي ُرهُ } فكلهم اتفقوا على هذه الدعوة‪ ،‬وهي أول دعوة يدعون بها أممهم‪ ،‬األمر‬
‫بعبادة اهلل‪ ،‬واإلخبار أنه المستحق لذلك‪ ،‬والنهي عن عبادة ما سواه‪ ،‬واإلخبار ببطالن ذلك‬
‫ون } ربكم‪ ،‬فتجتنبوا هذه األوثان واألصنام‪.‬‬ ‫وفساده‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬أَفَال تَتَّقُ َ‬
‫الد ْنَيا } أي‪ :‬قال‬ ‫اه ْم ِفي اْل َحَي ِاة ُّ‬ ‫اء ِ‬
‫اآلخ َر ِة َوأَتَْر ْفَن ُ‬ ‫{ وقَا َل اْلمأل ِم ْن قَو ِم ِه الَِّذين َكفَروا و َك َّذبوا بِِلقَ ِ‬
‫َ ُ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الرؤساء الذين جمعوا بين الكفر والمعاندة‪ ،‬وأطغاهم ترفهم في الحياة الدنيا‪ ،‬معارضة لنبيهم‪،‬‬
‫ب‬ ‫وتكذيبا وتحذيرا منه‪ { :‬ما َه َذا ِإال ب َشر ِمثْلُ ُكم } أي‪ :‬من جنسكم { ي ْأ ُك ُل ِم َّما تَْأ ُكلُ ِ‬
‫ون م ْنهُ َوَي ْش َر ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ٌ‬ ‫َ‬
‫ون } فما الذي يفضله عليكم؟ فهال كان ملكا ال يأكل الطعام‪ ،‬وال يشرب الشراب ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫م َّما تَ ْش َرُب َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ َولَئِ ْن أَ َ‬
‫ون } أي‪ :‬إن تبعتموه وجعلتموه لكم رئيسا‪ ،‬وهو مثلكم‬ ‫ط ْعتُ ْم َب َش ًرا مثْلَ ُك ْم ِإَّن ُك ْم ِإ ًذا لَ َخاس ُر َ‬
‫إنكم لمسلوبو العقل‪ ،‬نادمون على ما فعلتم‪ .‬وهذا من العجب‪ ،‬فإن الخسارة والندامة حقيقة لمن لم‬
‫يتابعه ولم ينقد له‪ .‬والجهل والسفه العظيم لمن تكبر عن االنقياد لبشر‪ ،‬خصه اهلل بوحيه‪ ،‬وفضله‬
‫برسالته‪ ،‬وابتلي بعبادة الشجر والحجر‪.‬‬
‫الذ ْك ُر َعلَْي ِه ِم ْن‬
‫الل وسع ٍر أَؤْل ِقي ِّ‬
‫اح ًدا َنتَّبِعهُ ِإَّنا ِإ ًذا لَِفي َ ٍ‬
‫وهذا نظير قولهم‪ { :‬قَالُوا أَب َشرا ِمَّنا و ِ‬
‫ض َ ُُ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ً‬
‫َشٌر } فلما أنكروا رسالته وردوها‪ ،‬أنكروا ما جاء به من البعث بعد الموت‪،‬‬ ‫اب أ ِ‬
‫َب ْينَِنا َب ْل ُه َو َك َّذ ٌ‬
‫اما أََّن ُك ْم ُم ْخ َر ُج َ‬
‫ون *‬ ‫ظً‬ ‫والمجازاة على األعمال فقالوا‪ { :‬أََي ِع ُد ُك ْم أََّن ُك ْم ِإ َذا ِمتُّ ْم َو ُك ْنتُ ْم تَُر ًابا َو ِع َ‬
‫ون } أي بعيد بعيد ما يعدكم به من البعث بعد أن تمزقتم وكنتم ترابا‬ ‫ات َه ْيه َ ِ‬
‫وع ُد َ‬
‫ات ل َما تُ َ‬‫َه ْيهَ َ َ‬
‫وعظاما فنظروا نظرا قاصرا ورأوا هذا بالنسبة إلى قدرهم غير ممكن فقاسوا قدرة الخالق‬
‫بقدرهم تعالى اهلل فأنكروا قدرته على إحياء الموتى وعجزوه غاية التعجيز ونسوا خلقهم أول مرة‬
‫وأن الذي أنشأهم من العدم فإعادته لهم بعد البلى أهون عليه وكالهما هين لديه فلم ال ينكرون أول‬
‫خلقهم ويكابرون المحسوسات ويقولون إننا لم نزل موجودين حتى يسلم لهم إنكارهم للبعث‬
‫وينتقلوا معهم إلى االحتجاج على إثبات وجود الخالق العظيم؟‬
‫وهنا دليل آخر وهو أن الذي أحيا األرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى إنه على كل شيء‬
‫اء ُه ْم ُم ْن ِذٌر ِم ْنهُ ْم‬
‫َن َج َ‬ ‫قدير وثم دليل آخر وهو ما أجاب به المنكرين للبعث في قوله { َب ْل َع ِجُبوا أ ْ‬
‫يد } فقال في جوابهم { قَ ْد َعِل ْمَنا‬ ‫ك َر ْجعٌ َب ِع ٌ‬ ‫يب أَئِ َذا ِمتَْنا َو ُكَّنا تَُر ًابا َذِل َ‬
‫ون َه َذا َش ْي ٌء َع ِج ٌ‬ ‫فَقَ َ ِ‬
‫ال اْل َكاف ُر َ‬
‫اب َح ِفيظٌ }‬ ‫ض ِم ْنهُ ْم } أي في البلى { َو ِع ْن َدَنا ِكتَ ٌ‬ ‫األر ُ‬‫ص ْ‬ ‫َما تَْنقُ ُ‬
‫ين }‬‫وت َوَن ْحَيا } أي يموت أناس ويحيا أناس { َو َما َن ْح ُن بِ َم ْب ُعوثِ َ‬ ‫{ ِإ ْن ِهي ِإال َحَياتَُنا ُّ‬
‫الد ْنَيا َن ُم ُ‬ ‫َ‬
‫{ ِإ ْن ُه َو ِإال َر ُج ٌل بِ ِه ِجَّنةٌ } فلهذا أتى بما أتى به من توحيد اهلل [ ص ‪ ] 552‬وإ ثبات المعاد‬
‫ين } أي ارفعوا عنه العقوبة بالقتل وغيره احتراما له وألنه مجنون غير‬ ‫َّصوا بِ ِه َحتَّى ِح ٍ‬ ‫{ فَتََرب ُ‬
‫مؤاخذ بما يتكلم به أي فلم يبق بزعمهم الباطل مجادلة معه لصحة ما جاء به فإنهم قد عرفوا‬
‫بطالنه وإ نما بقي الكالم هل يوقعون به أم ال؟ فبزعمهم أن عقولهم الرزينة اقتضت اإلبقاء عليه‬
‫وترك اإليقاع به مع قيام الموجب فهل فوق هذا العناد والكفر غاية؟" ولهذا لما اشتد كفرهم ولم‬
‫ون } أي بإهالكهم وخزيهم الدنيوي‬ ‫ص ْرنِي بِ َما َك َّذُب ِ‬
‫ب ْان ُ‬ ‫ينفع فيهم اإلنذار دعا عليهم نبيهم فقال { َر ِّ‬
‫َّي َحةُ بِاْل َح ِّ‬ ‫ِِ‬ ‫قبل اآلخرة { قَا َل } اهلل مجيبا لدعوته { َع َّما َقِل ٍ‬
‫ق } ال‬ ‫َخ َذتْهُ ُم الص ْ‬ ‫صبِ ُح َّن َنادم َ‬
‫ين فَأ َ‬ ‫يل لَُي ْ‬
‫بالظلم والجور بل بالعدل وظلمهم أخذتهم الصيحة فأهلكتهم عن آخرهم‬
‫اء } أي هشيما يبسا بمنزلة غثاء السيل الملقى في جنبات الوادي وقال في اآلية‬ ‫اه ْم ُغثَ ً‬
‫{ فَ َج َعْلَن ُ‬
‫اح َدةً فَ َك ُانوا َكهَ ِش ِيم اْل ُم ْحتَ ِظ ِر }‬
‫األخرى { ِإَّنا أَرسْلَنا علَْي ِهم ص ْيحةً و ِ‬
‫ْ َ َ ْ َ َ َ‬
‫ت َعلَْي ِه ُم‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } أي أتبعوا مع عذابهم البعد واللعنة والذم من العالمين { فَ َما َب َك ْ‬ ‫{ فَُب ْع ًدا لْلقَ ْوِم الظالم َ‬
‫ظ ِر َ‬
‫ين }‬ ‫ض َو َما َك ُانوا ُم ْن َ‬ ‫األر ُ‬
‫اء َو ْ‬ ‫َّم ُ‬‫الس َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كتب الشيخ هذه اآلية فقال‪( :‬إن هو إال رجل به جنة فتربصوا به حتى حين) وهذا سبق قلم‬
‫منه ‪-‬رحمه اهلل‪ ، -‬وسيفسرها فيما يلي على نحو مما أثبت‪ .‬وقد تركت تفسيره لآليات كما هو‪.‬‬

‫( ‪)1/551‬‬
‫َخ ِر َ‬
‫ين (‪)42‬‬ ‫ثَُّم أ َْن َشأَْنا ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم قُُر ً‬
‫ونا آ َ‬

‫آخ ِر َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫{ ‪ { } 44 - 42‬ثَُّم أ َْن َشأَْنا ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم قُُر ً‬
‫ونا َ‬
‫أي‪ :‬ثم أنشأنا من بعد هؤالء المكذبين المعاندين قرونا آخرين‪.‬‬

‫( ‪)1/552‬‬

‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ق ِم ْن أ َّ ٍ‬


‫َما تَ ْسبِ ُ‬
‫ُمةً َر ُسولُهَا َكذُبوهُ‬
‫اء أ َّ‬
‫ون (‪ )43‬ثَُّم أ َْر َسْلَنا ُر ُسلََنا تَتَْرى ُكل َما َج َ‬ ‫َجلَهَا َو َما َي ْستَأْخ ُر َ‬
‫ُمة أ َ‬
‫ِ‬ ‫َح ِاد َ‬
‫ون (‪)44‬‬ ‫يث فَُب ْع ًدا لقَ ْوٍم اَل ُي ْؤ ِمُن َ‬ ‫اه ْم أ َ‬
‫ضا َو َج َعْلَن ُ‬
‫ضهُ ْم َب ْع ً‬
‫فَأَتَْب ْعَنا َب ْع َ‬

‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ق ِم ْن أ َّ ٍ‬


‫{ َما تَ ْسبِ ُ‬
‫ُمةً َر ُسولُهَا َكذُبوهُ‬
‫اء أ َّ‬
‫ون * ثَُّم أ َْر َسْلَنا ُر ُسلََنا تَتَْرى ُكل َما َج َ‬ ‫َجلَهَا َو َما َي ْستَأْخ ُر َ‬‫ُمة أ َ‬
‫ِ‬ ‫َح ِاد َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫يث فَُب ْع ًدا لقَ ْوٍم ال ُي ْؤ ِمُن َ‬ ‫اه ْم أ َ‬
‫ضا َو َج َعْلَن ُ‬‫ضهُ ْم َب ْع ً‬‫فَأَتَْب ْعَنا َب ْع َ‬
‫كل أمة في وقت مسمى‪ ،‬وأجل محدود‪ ،‬ال تتقدم عنه وال تتأخر‪ ،‬وأرسلنا إليهم رسال متتابعة‪،‬‬
‫لعلهم يؤمنون وينيبون‪ ،‬فلم يزل الكفر والتكذيب دأب األمم العصاة‪ ،‬والكفرة البغاة‪ ،‬كلما جاء أمة‬
‫رسولها كذبوه‪ ،‬مع أن كل رسول يأتي من اآليات ما يؤمن على مثله البشر‪ ،‬بل مجرد دعوة‬
‫ضا } بالهالك‪ ،‬فلم يبق منهم‬ ‫ضهُ ْم َب ْع ً‬ ‫الرسل وشرعهم‪ ،‬يدل على حقية ما جاءوا به‪ { ،‬فَأَتَْب ْعَنا َب ْع َ‬
‫يث } يتحدث بهم من بعدهم‪ ،‬ويكونون عبرة‬ ‫َح ِاد َ‬ ‫اه ْم أ َ‬
‫باقية‪ ،‬وتعطلت مساكنهم من بعدهم { َو َج َعْلَن ُ‬
‫ِ‬
‫للمتقين‪ ،‬ونكاال للمكذبين‪ ،‬وخزيا عليهم مقرونا بعذابهم‪ { .‬فَُب ْع ًدا لقَ ْوٍم ال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون } ما أشقاهم!!‪.‬‬
‫وتعسا لهم‪ ،‬ما أخسر صفقتهم!!‪.‬‬

‫( ‪)1/552‬‬

‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ون بِآََياتَِنا َو ُسْل َ‬


‫ين (‪ِ )45‬إلَى ف ْر َع ْو َن َو َملَئه فَ ْ‬
‫استَ ْكَب ُروا َو َك ُانوا‬ ‫ان ُمبِ ٍ‬ ‫طٍ‬ ‫َخاهُ َه ُار َ‬ ‫وسى َوأ َ‬‫ثَُّم أ َْر َسْلَنا ُم َ‬
‫وه َما فَ َك ُانوا ِم َن‬
‫ون (‪ )47‬فَ َك َّذُب ُ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪ )46‬فَقَالُوا أَُن ْؤ ِم ُن لَب َش َر ْي ِن م ْثلَنا َوقَ ْو ُمهُ َما لََنا َعابِ ُد َ‬
‫ِ‬
‫قَ ْو ًما َعال َ‬
‫ون (‪)49‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب لَ َعلهُ ْم َي ْهتَ ُد َ‬
‫وسى اْلكتَ َ‬ ‫ين (‪َ )48‬ولَقَ ْد آَتَْيَنا ُم َ‬ ‫اْل ُم ْهلَك َ‬

‫ين * ِإلَى ِف ْر َع ْو َن َو َملَئِ ِه‬‫ان ُمبِ ٍ‬ ‫طٍ‬ ‫ون بِ َآياتَِنا َو ُسْل َ‬‫َخاهُ َه ُار َ‬ ‫وسى َوأ َ‬ ‫{ ‪ { } 49 - 45‬ثَُّم أ َْر َسْلَنا ُم َ‬
‫ون * فَ َك َّذُب ُ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وه َما‬ ‫ين * فَقَالُوا أَُن ْؤ ِم ُن لَب َش َر ْي ِن مثْلَنا َوقَ ْو ُمهُ َما لََنا َعابِ ُد َ‬‫استَ ْكَب ُروا َو َك ُانوا قَ ْو ًما َعال َ‬
‫فَ ْ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب لَ َعلهُ ْم َي ْهتَ ُد َ‬
‫وسى اْلكتَ َ‬
‫ين * َولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ‬
‫فَ َك ُانوا م َن اْل ُم ْهلَك َ‬
‫علي منذ زمان طويل كالم لبعض العلماء ال يحضرني اآلن اسمه‪ ،‬وهو أنه بعد بعث موسى‬ ‫مر َّ‬
‫ونزول التوراة‪ ،‬رفع اهلل العذاب عن األمم‪ ،‬أي‪ :‬عذاب االستئصال‪ ،‬وشرع للمكذبين المعاندين‬
‫الجهاد‪ ،‬ولم أدر من أين أخذه‪ ،‬فلما تدبرت هذه اآليات‪ ،‬مع اآليات التي في سورة القصص‪ ،‬تبين‬
‫لي وجهه‪ ،‬أما هذه اآليات‪ ،‬فألن اهلل ذكر األمم المهلكة المتتابعة على الهالك‪ ،‬ثم أخبر أنه أرسل‬
‫موسى بعدهم‪ ،‬وأنزل عليه التوراة فيها الهداية للناس‪ ،‬وال يرد على هذا‪ ،‬إهالك فرعون‪ ،‬فإنه قبل‬
‫نزول التوراة‪ ،‬وأما اآليات التي في سورة القصص‪ ،‬فهي صريحة جدا‪ ،‬فإنه لما ذكر هالك‬
‫صائَِر ِل َّلن ِ‬
‫اس َو ُه ًدى‬ ‫ون األولَى َب َ‬ ‫اب ِم ْن َب ْع ِد َما أ ْ‬
‫َهلَ ْكَنا اْلقُُر َ‬
‫ِ‬
‫وسى اْلكتَ َ‬
‫فرعون قال‪َ { :‬ولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ‬
‫َّ‬
‫ون } فهذا صريح أنه آتاه الكتاب بعد هالك األمم الباغية‪ ،‬وأخبر أنه أنزله‬ ‫َو َر ْح َمةً لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ‬
‫بصائر للناس وهدى ورحمة‪ ،‬ولعل من هذا‪ ،‬ما ذكر اهلل في سورة " يونس " من قولة‪ { :‬ثم بعثنا‬
‫من بعده } أي‪ :‬من بعد نوح { رسال إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به‬
‫من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين * ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون } اآليات واهلل أعلم‬
‫ون } حين سأل ربه أن يشركه‬ ‫َخاهُ َه ُار َ‬ ‫وسى } بن عمران كليم الرحمن { َوأ َ‬ ‫فقوله { ثَُّم أ َْر َسْلَنا ُم َ‬
‫في أمره فأجاب سؤله‬
‫ين } أي حجة بينة من قوتها أن‬ ‫ان ُمبِ ٍ‬ ‫طٍ‬ ‫{ بِ َآياتَِنا } الدالة على صدقهما وصحة ما جاءا به { َو ُسْل َ‬
‫تقهر القلوب وتتسلط عليها لقوتها فتنقاد لها قلوب المؤمنين وتقوم الحجة البينة على المعاندين‬
‫ات } ولهذا رئيس المعاندين عرف الحق وعاند‬ ‫ات بيَِّن ٍ‬‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫وسى ت ْس َع َآي َ‬ ‫وهذا كقوله { َولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ‬
‫وسى‬‫ك َيا ُم َ‬ ‫ال له ِف ْر َع ْو ُن ِإِّني ألظُُّن َ‬ ‫اء ُه ْم } أي بتلك اآليات البينات { فَقَ َ‬ ‫ِ‬ ‫{ فَاسأ ْ ِ‬
‫َل َبني ِإ ْس َرائي َل ِإ ْذ َج َ‬ ‫ْ‬
‫صائَِر‬
‫ض َب َ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ب الس َ‬ ‫الء ِإال َر ُّ‬‫ت ما أَنز َل َهؤ ِ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫ورا } فـ { قال } موسى { قَا َل لَقَ ْد َعل ْم َ َ‬ ‫َم ْس ُح ً‬
‫وإِ ِّني ألظُُّن َ ِ‬
‫ورا } وقال تعالى { َو َج َح ُدوا بِهَا َو ْ‬
‫استَْيقََنتْهَا أ َْنفُ ُسهُ ْم ظُْل ًما َو ُعلًُّوا } وقال‬ ‫ك َيا ف ْر َع ْو ُن َمثُْب ً‬ ‫َ‬
‫ين * ِإلَى ِف ْر َع ْو َن َو َملَئِ ِه } كـ‬ ‫ان ُمبِ ٍ‬ ‫طٍ‬ ‫ون بِ َآياتَِنا َو ُسْل َ‬
‫َخاهُ َه ُار َ‬‫وسى [ ص ‪َ ] 553‬وأ َ‬ ‫هنا { ثَُّم أ َْر َسْلَنا ُم َ‬
‫استَ ْكَب ُروا } أي تكبروا عن اإليمان باهلل واستكبروا على أنبيائه‬ ‫" هامان " وغيره من رؤسائهم { فَ ْ‬
‫ين } أي وصفهم العلو والقهر والفساد في األرض فلهذا صدر منهم االستكبار‬ ‫ِ‬
‫{ َو َك ُانوا قَ ْو ًما َعال َ‬
‫ذلك غير مستكثر منهم‬
‫{ فَقَالُوا } كبرا وتيها وتحذيرا لضعفاء العقول وتمويها { أَُن ْؤ ِم ُن ِلَب َش َر ْي ِن ِمثِْلَنا } كما قاله من قبلهم‬
‫سواء بسواء تشابهت قلوبهم في الكفر فتشابهت أقوالهم وأفعالهم وجحدوا منة اهلل عليهما بالرسالة‬
‫ون } أي معبدون باألعمال واألشغال الشاقة كما قال تعالى‬ ‫{ َوقَ ْو ُمهُ َما } أي بنو إسرائيل { لََنا َعابِ ُد َ‬
‫اب ي َذبِّحون أ َْبَناء ُكم ويستَ ْحي ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫اء ُك ْم َو ِفي‬
‫ون ن َس َ‬
‫َ ْ ََ ْ ُ َ‬ ‫وء اْل َع َذ ِ ُ ُ َ‬
‫ون ُك ْم ُس َ‬
‫وم َ‬
‫َّيَنا ُك ْم م ْن آل ف ْر َع ْو َن َي ُس ُ‬
‫{ َوإِ ْذ َنج ْ‬
‫ِ‬ ‫َذِل ُكم ب ِ‬
‫يم }‬ ‫الء م ْن َرِّب ُك ْم َعظ ٌ‬
‫َْ ٌ‬
‫فكيف نكون تابعين بعد أن كنا متبوعين؟" وكيف يكون هؤالء رؤساء علينا؟" ونظير قولهم قول‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ْي } من‬‫الرأ ِ‬
‫ي َّ‬ ‫ك ِإال الذ َ‬
‫ين ُه ْم أ ََراذلَُنا َباد َ‬ ‫ك اتََّب َع َ‬
‫ون } { َو َما َن َرا َ‬
‫األر َذلُ َ‬‫ك ْ‬ ‫ك َواتََّب َع َ‬‫قوم نوح { أَُن ْؤ ِم ُن لَ َ‬
‫المعلوم أن هذا ال يصلح لدفع الحق وأنه تكذيب ومعاندة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } في الغرق في البحر وبنو إسرائيل ينظرون‬ ‫ولهذا قال { فَ َك َّذُب ُ‬
‫وه َما فَ َك ُانوا م َن اْل ُم ْهلَك َ‬
‫وسى } بعدما أهلك اهلل فرعون وخلص الشعب اإلسرائيلي مع موسى وتمكن حينئذ‬ ‫{ َولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ‬
‫من إقامة أمر اهلل فيهم وإ ظهار شعائره وعده اهلل أن ينزل عليه التوراة أربعين ليلة فذهب لميقات‬
‫صيال ِل ُك ِّل َش ْي ٍء } ولهذا قال‬ ‫ظةً وتَ ْف ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ربه قال اهلل تعالى { و َكتَْبَنا لَهُ ِفي األْلو ِ ِ ِّ‬
‫اح م ْن ُكل َش ْيء َم ْوع َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ون } أي بمعرفة تفاصيل األمر والنهي والثواب والعقاب ويعرفون ربهم بأسمائه‬ ‫َّ‬
‫هنا { لَ َعلهُ ْم َي ْهتَ ُد َ‬
‫وصفاته‬

‫( ‪)1/552‬‬

‫ات قََر ٍار َو َم ِع ٍ‬


‫ين (‪)50‬‬ ‫اهما ِإلَى ر ْبو ٍة َذ ِ‬
‫َ َ‬ ‫ُمهُ آََيةً َوآ ََو ْيَن ُ َ‬
‫َو َج َعْلَنا ْاب َن َم ْرَي َم َوأ َّ‬

‫ات قََر ٍار َو َم ِع ٍ‬


‫ين } ‪.‬‬ ‫اهما ِإلَى ر ْبو ٍة َذ ِ‬
‫َ َ‬ ‫ُمهُ َآيةً َو َآو ْيَن ُ َ‬
‫{ ‪َ { } 50‬و َج َعْلَنا ْاب َن َم ْرَي َم َوأ َّ‬
‫أي‪ :‬وامتننا على عيسى ابن مريم‪ ،‬وجعلناه وأمه من آيات اهلل العجيبة‪ ،‬حيث حملته وولدته من‬
‫اه َما ِإلَى‬
‫غير أب‪ ،‬وتكلم في المهد صبيا‪ ،‬وأجرى اهلل على يديه من اآليات ما أجرى‪َ { ،‬و َآو ْيَن ُ‬
‫ات قََر ٍار } أي‪ :‬مستقر وراحة‬ ‫ر ْبو ٍة } أي‪ :‬مكان مرتفع‪ ،‬وهذا ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬وقت وضعها‪َ { ،‬ذ ِ‬
‫َ َ‬
‫ُّك تَ ْحتَ ِك } أي‪ :‬تحت المكان الذي أنت فيه‪،‬‬ ‫ين } أي‪ :‬ماء جار‪ ،‬بدليل قوله‪ { :‬قَ ْد جع َل رب ِ‬
‫ََ َ‬ ‫{ َو َم ِع ٍ‬
‫طًبا َجنِيًّا *‬
‫ط َعلَْي ِك ُر َ‬
‫الن ْخلَ ِة تُ َس ِاق ْ‬
‫الرتفاعه‪َ { ،‬س ِريًّا } أي‪ :‬نهرا وهو المعين { َو ُهِّزي ِإلَْي ِك بِ ِج ْذ ِع َّ‬
‫فَ ُكِلي َوا ْش َربِي َوقَِّري َعْيًنا }‬

‫( ‪)1/553‬‬

‫يم (‪َ )51‬وإِ َّن َه ِذ ِه أ َّ‬ ‫ِ‬ ‫اعملُوا ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬


‫ُمةً‬
‫ُمتُ ُك ْم أ َّ‬ ‫ون َعل ٌ‬‫صال ًحا ِإِّني بِ َما تَ ْع َملُ َ‬ ‫َ‬ ‫الر ُس ُل ُكلُوا م َن الطيَِّبات َو ْ َ‬ ‫َيا أَيُّهَا ُّ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫و ِ‬
‫ون (‪)53‬‬ ‫ون (‪ )52‬فَتَقَط ُعوا أ َْم َر ُه ْم َب ْيَنهُ ْم ُزُب ًرا ُك ُّل ح ْز ٍب بِ َما لَ َد ْي ِه ْم فَ ِر ُح َ‬‫اح َدةً َوأََنا َرُّب ُك ْم فَاتَّقُ ِ‬ ‫َ‬
‫ين (‪ُ )55‬ن َس ِارعُ لَهُ ْم ِفي‬‫ين (‪ )54‬أَي ْحسبون أََّنما ُن ِم ُّد ُهم بِ ِه ِم ْن م ٍ ِ‬
‫ال َوَبن َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َُ َ َ‬ ‫فَ َذ ْر ُه ْم ِفي َغ ْم َرتِ ِه ْم َحتَّى ِح ٍ‬
‫ون (‪)56‬‬ ‫ِ‬
‫اْل َخ ْي َرات َب ْل اَل َي ْش ُع ُر َ‬
‫ِ‬ ‫اعملُوا ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم * َوإِ َّن‬ ‫ون َعل ٌ‬ ‫صال ًحا ِإِّني بِ َما تَ ْع َملُ َ‬
‫َ‬ ‫الر ُس ُل ُكلُوا م َن الطيَِّبات َو ْ َ‬ ‫{ ‪َ { } 56 - 51‬يا أَيُّهَا ُّ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ُمةً و ِ‬ ‫َه ِذ ِه أ َّ‬
‫ون * فَتَقَط ُعوا أ َْم َر ُه ْم َب ْيَنهُ ْم ُزُب ًرا ُك ُّل ح ْز ٍب بِ َما لَ َد ْي ِه ْم فَ ِر ُح َ‬
‫ون‬ ‫اح َدةً َوأََنا َرُّب ُك ْم فَاتَّقُ ِ‬ ‫ُمتُ ُك ْم أ َّ َ‬
‫ين * ُن َس ِارعُ لَهُ ْم ِفي‬ ‫ين * أَي ْحسبون أََّنما ُن ِم ُّد ُهم بِ ِه ِم ْن م ٍ ِ‬
‫ال َوَبن َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َُ َ َ‬ ‫* فَ َذ ْر ُه ْم ِفي َغ ْم َرتِ ِه ْم َحتَّى ِح ٍ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫اْل َخ ْي َرات َبل ال َي ْش ُع ُر َ‬
‫هذا أمر منه تعالى لرسله بأكل الطيبات‪ ،‬التي هي الرزق الطيب الحالل‪ ،‬وشكر اهلل‪ ،‬بالعمل‬
‫الصالح‪ ،‬الذي به يصلح القلب والبدن‪ ،‬والدنيا واآلخرة‪ .‬ويخبرهم أنه بما يعملون عليم‪ ،‬فكل عمل‬
‫عملوه‪ ،‬وكل سعي اكتسبوه‪ ،‬فإن اهلل يعلمه‪ ،‬وسيجازيهم عليه أتم الجزاء وأفضله‪ ،‬فدل هذا على أن‬
‫الرسل كلهم‪ ،‬متفقون على إباحة الطيبات من المآكل‪ ،‬وتحريم الخبائث منها‪ ،‬وأنهم متفقون على‬
‫كل عمل صالح وإ ن تنوعت بعض أجناس المأمورات‪ ،‬واختلفت بها الشرائع‪ ،‬فإنها كلها عمل‬
‫صالح‪ ،‬ولكن تتفاوت بتفاوت األزمنة‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬األعمال الصالحة‪ ،‬التي هي صالح في جميع األزمنة‪ ،‬قد اتفقت عليها األنبياء والشرائع‪،‬‬
‫كاألمر بتوحيد اهلل‪ ،‬وإ خالص الدين له‪ ،‬ومحبته‪ ،‬وخوفه‪ ،‬ورجائه‪ ،‬والبر‪ ،‬والصدق‪ ،‬والوفاء‬
‫بالعهد‪ ،‬وصلة األرحام‪ ،‬وبر الوالدين‪ ،‬واإلحسان إلى الضعفاء والمساكين واليتامى‪ ،‬والحنو‬
‫واإلحسان إلى الخلق‪ ،‬ونحو ذلك من األعمال الصالحة‪ ،‬ولهذا كان أهل العلم‪ ،‬والكتب السابقة‪،‬‬
‫والعقل‪ ،‬حين بعث اهلل محمدا صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬يستدلون على نبوته بأجناس ما يأمر به‪،‬‬
‫وينهى عنه‪ ،‬كما جرى لهرقل وغيره‪ ،‬فإنه إذا أمر بما أمر به األنبياء‪ ،‬الذين من قبله‪ ،‬ونهى عما‬
‫نهوا عنه‪ ،‬دل على أنه من جنسهم‪ ،‬بخالف الكذاب‪ ،‬فال بد أن يأمر بالشر‪ ،‬وينهى عن الخير‪.‬‬
‫أمةً } أي‪ :‬جماعتكم ‪-‬يا معشر الرسل‪ -‬جماعة‬ ‫ولهذا قال تعالى للرسل‪َ { :‬وإِ َّن َه ِذ ِه أ َّ‬
‫ُمتُ ُك ْم َّ‬
‫اح َدةً } متفقة على دين واحد‪ ،‬وربكم واحد‪.‬‬ ‫{و ِ‬
‫َ‬
‫ون } بامتثال أوامري‪ ،‬واجتناب زواجري‪ .‬وقد أمر اهلل المؤمنين بما أمر به المرسلين‪،‬‬ ‫َّ‬
‫{ فَاتقُ ِ‬
‫ات َما َر َز ْقَنا ُك ْم‬‫طيِّب ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫آمُنوا ُكلُوا م ْن َ َ‬
‫ين َ‬
‫ألنهم بهم يقتدون‪ ،‬وخلفهم يسلكون‪ ،‬فقال‪َ { :‬يا أَيُّهَا الذ َ‬
‫َِّ ِ‬
‫ون } فالواجب من كل المنتسبين إلى األنبياء وغيرهم‪ ،‬أن يمتثلوا‬ ‫َوا ْش ُك ُروا لله ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ِإيَّاهُ تَ ْعُب ُد َ‬
‫هذا‪ ،‬ويعملوا به‪ ،‬ولكن أبى الظالمون المفترقون إال عصيانا‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَتَقَطَّ ُعوا أ َْم َر ُه ْم َب ْيَنهُ ْم‬
‫ُزُب ًرا } أي‪ :‬تقطع المنتسبون إلى اتباع األنبياء { أ َْم ُر ُه ْم } أي‪ :‬دينهم { َب ْيَنهُ ْم ُزُب ًرا } أي‪ :‬قطعا‬
‫ِ‬
‫ون } يزعمون أنهم‬ ‫{ ُك ُّل ح ْز ٍب بِ َما لَ َد ْي ِه ْم } [ ص ‪ ] 554‬أي‪ :‬بما عندهم من العلم والدين { فَ ِر ُح َ‬
‫المحقون‪ ،‬وغيرهم على غير الحق‪ ،‬مع أن المحق منهم‪ ،‬من كان على طريق الرسل‪ ،‬من أكل‬
‫الطيبات‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬وما عداهم فإنهم مبطلون‪.‬‬
‫{ فَ َذ ْر ُه ْم ِفي َغ ْم َرتِ ِه ْم } أي‪ :‬في وسط جهلهم بالحق‪ ،‬ودعواهم أنهم هم (‪ )1‬المحقون‪َ { .‬حتَّى ِح ٍ‬
‫ين‬
‫} أي‪ :‬إلى أن ينزل العذاب بهم‪ ،‬فإنهم ال ينفع فيهم وعظ‪ ،‬وال يفيدهم زجر‪ ،‬وكيف يفيد من يزعم‬
‫أنه على الحق‪ ،‬ويطمع في دعوة غيره إلى ما هو عليه؟‪.‬‬
‫ال وبنِين ُنس ِارعُ لَهم ِفي اْل َخ ْير ِ‬
‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ات } أي‪ :‬أيظنون أن زيادتنا إياهم‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫ون أََّن َما ُنم ُّد ُه ْم بِه م ْن َم َ َ َ َ‬
‫{ أََي ْح َسُب َ‬
‫باألموال واألوالد‪ ،‬دليل على أنهم من أهل الخير والسعادة‪ ،‬وأن لهم خير الدنيا واآلخرة؟ وهذا‬
‫مقدم لهم‪ ،‬ليس األمر كذلك‪.‬‬
‫ون } أنما نملي لهم ونمهلهم ونمدهم بالنعم‪ ،‬ليزدادوا إثما‪ ،‬وليتوفر عقابهم في‬ ‫{ َبل ال َي ْش ُع ُر َ‬
‫اه ْم َب ْغتَةً }‬ ‫اآلخرة‪ ،‬وليغتبطوا بما أوتوا { َحتَّى ِإ َذا فَ ِر ُحوا بِ َما أُوتُوا أ َ‬
‫َخ ْذَن ُ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين‪ :‬هو‪.‬‬

‫( ‪)1/553‬‬

‫ين ُه ْم بَِرِّب ِه ْم‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ين ُه ْم بِآََيات َرِّب ِه ْم ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون (‪َ )58‬والذ َ‬ ‫ين ُه ْم م ْن َخ ْشَية َرِّب ِه ْم ُم ْشفقُ َ‬
‫ون (‪َ )57‬والذ َ‬ ‫ِإ َّن الذ َ‬
‫ون (‪)59‬‬ ‫اَل ُي ْش ِر ُك َ‬

‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬


‫ين ُه ْم بِ َآيات َرِّب ِه ْم ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون *‬ ‫ين ُه ْم م ْن َخ ْشَية َرِّب ِه ْم ُم ْشفقُ َ‬
‫ون * َوالذ َ‬ ‫{ ‪ِ { } 62 - 57‬إ َّن الذ َ‬
‫َِّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ين ُه ْم بَِرِّب ِه ْم ال ُي ْش ِر ُك َ‬
‫َوالذ َ‬
‫لما ذكر تعالى الذين جمعوا بين اإلساءة واألمن‪ ،‬الذين يزعمون أن عطاء اهلل إياهم في الدنيا دليل‬
‫ين ُه ْم ِم ْن َخ ْشَي ِة‬ ‫َِّ‬
‫على خيرهم وفضلهم‪ ،‬ذكر الذين جمعوا بين اإلحسان والخوف‪ ،‬فقال‪ِ { :‬إ َّن الذ َ‬
‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬وجلون‪ ،‬مشفقة قلوبهم كل ذلك من خشية ربهم‪ ،‬خوفا أن يضع عليهم عدله‪،‬‬ ‫َرِّب ِه ْم ُم ْشفقُ َ‬
‫فال يبقى لهم حسنة‪ ،‬وسوء ظن بأنفسهم‪ ،‬أن ال يكونوا قد قاموا بحق اهلل تعالى‪ ،‬وخوفا على‬
‫إيمانهم من الزوال‪ ،‬ومعرفة منهم بربهم‪ ،‬وما يستحقه من اإلجالل واإلكرام‪ ،‬وخوفهم وإ شفاقهم‬
‫يوجب لهم الكف عما يوجب األمر المخوف من الذنوب‪ ،‬والتقصير في الواجبات‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ين ُه ْم بِ َآيات َرِّب ِه ْم ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون } أي‪ :‬إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا‪ ،‬ويتفكرون أيضا في‬ ‫{ َوالذ َ‬
‫اآليات القرآنية ويتدبرونها‪ ،‬فيبين لهم من معاني القرآن وجاللته واتفاقه‪ ،‬وعدم اختالفه وتناقضه‪،‬‬
‫وما يدعو إليه من معرفة اهلل وخوفه ورجائه‪ ،‬وأحوال الجزاء‪ ،‬فيحدث لهم بذلك من تفاصيل‬
‫اإليمان‪ ،‬ما ال يعبر عنه اللسان‪.‬‬
‫اختِ ِ‬
‫الف‬ ‫األر ِ‬
‫ض َو ْ‬ ‫ِ‬ ‫ويتفكرون أيضا في اآليات األفقية‪ ،‬كما في قوله‪ِ { :‬إ َّن ِفي َخْل ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ق الس َ‬
‫ات ألوِلي األْلَب ِ‬ ‫النه ِار آلي ٍ‬ ‫َّ ِ‬
‫اب } إلى آخر اآليات‪.‬‬ ‫َ‬ ‫اللْيل َو َّ َ‬
‫َِّ‬
‫ون } أي‪ :‬ال شركا جليا‪ ،‬كاتخاذ غير اهلل معبودا‪ ،‬يدعوه ويرجوه وال‬ ‫ين ُه ْم بَِرِّب ِه ْم ال ُي ْش ِر ُك َ‬ ‫{ َوالذ َ‬
‫شركا خفيا‪ ،‬كالرياء ونحوه‪ ،‬بل هم مخلصون هلل‪ ،‬في أقوالهم وأعمالهم وسائر أحوالهم‪.‬‬
‫( ‪)1/554‬‬

‫ك يس ِارعون ِفي اْل َخ ْير ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬


‫ات‬ ‫َ‬ ‫ون (‪ )60‬أُولَئ َ ُ َ ُ َ‬ ‫وبهُ ْم َو ِجلَةٌ أََّنهُ ْم ِإلَى َرِّب ِه ْم َرا ِج ُع َ‬ ‫ون َما آَتَ ْوا َو ُقلُ ُ‬
‫ين ُي ْؤتُ َ‬
‫َوالذ َ‬
‫ون (‪)62‬‬ ‫ظلَ ُم َ‬
‫ق َو ُه ْم اَل ُي ْ‬ ‫اب َي ْن ِط ُ‬
‫ق بِاْل َح ِّ‬ ‫ف َن ْف ًسا ِإاَّل ُو ْس َعهَا َولَ َد ْيَنا ِكتَ ٌ‬
‫ون (‪َ )61‬واَل ُن َكلِّ ُ‬ ‫َو ُه ْم لَهَا َسابِقُ َ‬

‫ك يس ِارعون ِفي اْل َخ ْير ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬


‫ات‬ ‫َ‬ ‫ون * أُولَئ َ ُ َ ُ َ‬ ‫وبهُ ْم َو ِجلَةٌ أََّنهُ ْم ِإلَى َرِّب ِه ْم َرا ِج ُع َ‬
‫ون َما آتَ ْوا َو ُقلُ ُ‬
‫ين ُي ْؤتُ َ‬
‫{ َوالذ َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫ظلَ ُم َ‬
‫ق َو ُه ْم ال ُي ْ‬ ‫اب َي ْن ِط ُ‬
‫ق بِاْل َح ِّ‬ ‫ف َن ْف ًسا ِإال ُو ْس َعهَا َولَ َد ْيَنا ِكتَ ٌ‬‫ون * َوال ُن َكلِّ ُ‬ ‫َو ُه ْم لَهَا َسابِقُ َ‬
‫ون َما آتَ ْوا } أي‪ :‬يعطون من أنفسهم مما أمروا به‪ ،‬ما آتوا من كل ما يقدرون عليه‪،‬‬ ‫َِّ‬
‫ين ُي ْؤتُ َ‬
‫{ َوالذ َ‬
‫وبهُ ْم َو ِجلَةٌ } أي‪ :‬خائفة { أََّنهُ ْم‬ ‫من صالة‪ ،‬وزكاة‪ ،‬وحج‪ ،‬وصدقة‪ ،‬وغير ذلك‪ { ،‬و } مع هذا { ُقلُ ُ‬
‫ون } أي‪ :‬خائفة عند عرض أعمالها عليه‪ ،‬والوقوف بين يديه‪ ،‬أن تكون أعمالهم‬ ‫ِإلَى رِّب ِهم ر ِ‬
‫اج ُع َ‬ ‫َ َْ‬
‫غير منجية من عذاب اهلل‪ ،‬لعلمهم بربهم‪ ،‬وما يستحقه من أصناف العبادات‪.‬‬
‫ك يس ِارعون ِفي اْل َخ ْير ِ‬
‫ات } أي‪ :‬في ميدان التسارع في أفعال الخير‪ ،‬همهم ما يقربهم إلى‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫{ أُولَئ َ ُ َ ُ َ‬
‫اهلل‪ ،‬وإ رادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه‪ ،‬فكل خير سمعوا به‪ ،‬أو سنحت لهم الفرصة إليه‪،‬‬
‫انتهزوه وبادروه‪ ،‬قد نظروا إلى أولياء اهلل وأصفيائه‪ ،‬أمامهم‪ ،‬ويمنة‪ ،‬ويسرة‪ ،‬يسارعون في كل‬
‫خير‪ ،‬وينافسون في الزلفى عند ربهم‪ ،‬فنافسوهم‪ .‬ولما كان السابق لغيره المسارع قد يسبق لجده‬
‫وتشميره‪ ،‬وقد ال يسبق لتقصيره‪ ،‬أخبر تعالى أن هؤالء من القسم السابقين فقال‪:‬‬
‫{ َو ُه ْم لَهَا } أي‪ :‬للخيرات { َسابِقُ َ‬
‫ون } قد بلغوا ذروتها‪ ،‬وتباروا هم والرعيل األول‪ ،‬ومع هذا‪ ،‬قد‬
‫سبقت لهم من اهلل سابقة السعادة‪ ،‬أنهم سابقون‪.‬‬
‫ولما ذكر مسارعتهم إلى الخيرات وسبقهم إليها‪ ،‬ربما وهم واهم أن المطلوب منهم ومن غيرهم‬
‫أمر غير مقدور أو متعسر‪ ،‬أخبر تعالى أنه ال يكلف { َن ْف ًسا ِإال ُو ْس َعهَا } أي‪ :‬بقدر ما تسعه‪،‬‬
‫ويفضل من قوتها عنه‪ ،‬ليس مما يستوعب قوتها‪ ،‬رحمة منه وحكمة‪ ،‬لتيسير طريق الوصول‬
‫ق } وهو الكتاب األول‪،‬‬ ‫اب َي ْن ِط ُ‬
‫ق بِاْل َح ِّ‬ ‫إليه‪ ،‬ولتعمر جادة السالكين في كل وقت إليه‪َ { .‬ولَ َد ْيَنا ِكتَ ٌ‬
‫ون } أي ال ينقص‬
‫ظلَ ُم َ‬
‫الذي فيه كل شيء‪ ،‬وهو يطابق كل واقع يكون‪ ،‬فلذلك كان حقا‪َ { ،‬و ُه ْم ال ُي ْ‬
‫من إحسانهم‪ ،‬وال يزداد في عقوبتهم وعصيانهم‪.‬‬

‫( ‪)1/554‬‬
‫ون (‪َ )63‬حتَّى ِإ َذا أ َ‬
‫َخ ْذَنا‬ ‫ِ‬ ‫ون َذِل َ‬‫َع َما ٌل ِم ْن ُد ِ‬ ‫وبهُ ْم ِفي َغ ْم َر ٍة ِم ْن َه َذا َولَهُ ْم أ ْ‬
‫ك ُه ْم لَهَا َعاملُ َ‬ ‫َب ْل ُقلُ ُ‬
‫ت آََياتِي‬ ‫ون (‪ )65‬قَ ْد َك َان ْ‬ ‫ص ُر َ‬
‫ِ‬
‫ون (‪ )64‬اَل تَ ْجأ َُروا اْلَي ْو َم ِإَّن ُك ْم مَّنا اَل تُْن َ‬ ‫اب ِإ َذا ُه ْم َي ْجأ َُر َ‬‫متْر ِفي ِهم بِاْل َع َذ ِ‬
‫َُ ْ‬
‫َعقَابِ ُكم تَْن ِكصون (‪ )66‬مستَ ْكبِ ِر ِ ِ‬
‫ون (‪ )67‬أَ َفلَ ْم َي َّدب َُّروا‬ ‫ين بِه َسام ًرا تَ ْه ُج ُر َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫ُ َ‬ ‫تُْتلَى َعلَْي ُك ْم فَ ُك ْنتُ ْم َعلَى أ ْ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪ )69‬أ َْم‬ ‫ين (‪ )68‬أ َْم لَ ْم َي ْع ِرفُوا َر ُسولَهُ ْم فَهُ ْم لَهُ ُم ْنك ُر َ‬ ‫اء ُه ُم اأْل ََّوِل َ‬
‫اء ُه ْم َما لَ ْم َيأْت آََب َ‬‫اْلقَ ْو َل أ َْم َج َ‬
‫اء ُه ْم لَفَ َس َد ِت‬ ‫َه َو َ‬
‫قأْ‬ ‫ون (‪ )70‬ولَ ِو اتََّب َع اْل َح ُّ‬
‫َ‬ ‫ق َك ِار ُه َ‬ ‫ق َوأَ ْكثَُر ُه ْم ِلْل َح ِّ‬‫اء ُه ْم بِاْل َح ِّ‬ ‫ِ‬
‫ون بِه ِجَّنةٌ َب ْل َج َ‬ ‫َيقُولُ َ‬
‫ِ‬ ‫ات واأْل َرض وم ْن ِفي ِه َّن ب ْل أَتَْيَن ُ ِ‬
‫ون (‪)71‬‬ ‫ض َ‬ ‫اه ْم بِذ ْك ِر ِه ْم فَهُ ْم َع ْن ذ ْك ِر ِه ْم ُم ْع ِر ُ‬ ‫َ‬ ‫َّم َو ُ َ ْ ُ َ َ‬ ‫الس َ‬

‫ون * َحتَّى‬ ‫ِ‬ ‫ون َذِل َ‬


‫َع َما ٌل ِم ْن ُد ِ‬ ‫وبهُ ْم ِفي َغ ْم َر ٍة ِم ْن َه َذا َولَهُ ْم أ ْ‬
‫ك ُه ْم لَهَا َعاملُ َ‬ ‫{ ‪َ { } 67 - 63‬ب ْل ُقلُ ُ‬
‫ِ‬ ‫َخ ْذَنا متْر ِفي ِهم بِاْل َع َذ ِ‬
‫ت‬‫ون * قَ ْد َك َان ْ‬ ‫ون * ال تَ ْجأ َُروا اْلَي ْو َم ِإَّن ُك ْم مَّنا ال تُْن َ‬
‫ص ُر َ‬ ‫اب ِإ َذا ُه ْم َي ْجأ َُر َ‬ ‫ِإ َذا أ َ ُ َ ْ‬
‫َعقَابِ ُكم تَْن ِكصون * مستَ ْكبِ ِر ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين بِه َسام ًرا تَ ْه ُج ُر َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ُْ‬ ‫َآياتي تُْتلَى َعلَْي ُك ْم فَ ُك ْنتُ ْم َعلَى أ ْ ْ‬
‫يخبر تعالى أن قلوب المكذبين في غمرة من هذا‪ ،‬أي‪ :‬وسط غمرة من الجهل والظلم‪ ،‬والغفلة‬
‫واإلعراض‪ ،‬تمنعهم من الوصول إلى هذا القرآن‪ ،‬فال يهتدون به‪ ،‬وال يصل [ ص ‪ ] 555‬إلى‬
‫ِ ِ‬ ‫َِّ‬
‫ون بِاآلخ َر ِة ح َج ًابا َم ْستُ ً‬
‫ورا *‬ ‫ين ال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ك َوَب ْي َن الذ َ‬
‫آن َج َعْلَنا َب ْيَن َ‬
‫ْت اْلقُْر َ‬
‫قلوبهم منه شيء‪َ { .‬وإِ َذا قََرأ َ‬
‫َن َي ْفقَهُوهُ َو ِفي آ َذانِ ِه ْم َو ْق ًرا } فلما كانت قلوبهم في غمرة منه عملوا‬ ‫وجعْلَنا علَى ُقلُوبِ ِهم أ ِ‬
‫َكَّنةً أ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ََ َ‬
‫بحسب هذا الحال من األعمال الكفرية والمعاندة للشرع ما هو موجب لعقابهم { و } لكن { لَهُ ْم‬
‫ون } أي فال يستغربوا عدم وقوع العذاب فيهم فإن‬ ‫ِ‬ ‫َع َما ٌل ِم ْن ُد ِ‬
‫ون } هذه األعمال { ُه ْم لَهَا َعاملُ َ‬ ‫أْ‬
‫اهلل يمهلهم ليعملوا هذه األعمال التي بقيت عليهم مما كتب عليهم فإذا عملوها واستوفوها انتقلوا‬
‫بشر حالة إلى غضب اهلل وعقابه‬
‫َخ ْذَنا ُمتَْر ِفي ِه ْم } أي متنعميهم الذين ما اعتادوا إال الترف والرفاهية والنعيم ولم تحصل‬ ‫{ َحتَّى ِإ َذا أ َ‬
‫ون } يصرخون ويتوجعون ألنه‬ ‫لهم المكاره فإذا أخذناهم { بِاْل َع َذ ِ‬
‫اب } ووجدوا مسه { ِإ َذا ُه ْم َي ْجأ َُر َ‬
‫ِ‬
‫ون } وإ ذا‬ ‫أصابهم أمر خالف ما هم عليه ويستغيثون فيقال لهم { ال تَ ْجأ َُروا اْلَي ْو َم ِإَّن ُك ْم مَّنا ال تُْن َ‬
‫ص ُر َ‬
‫لم تأتهم النصرة من اهلل وانقطع عنهم الغوث من جانبه لم يستطيعوا نصر أنفسهم ولم ينصرهم‬
‫أحد‬
‫ت َآياتِي تُْتلَى َعلَْي ُك ْم } لتؤمنوا بها‬
‫فكأنه قيل ما السبب الذي أوصلهم إلى هذا الحال؟ قال { قَ ْد َك َان ْ‬
‫ِ‬
‫ون } أي راجعين القهقرى إلى الخلف‬ ‫ص َ‬ ‫َعقَابِ ُك ْم تَْنك ُ‬
‫وتقبلوا عليها فلم تفعلوا ذلك بل { ُك ْنتُ ْم َعلَى أ ْ‬
‫وذلك ألن باتباعهم القرآن يتقدمون وباإلعراض عنه يستأخرون وينزلون إلى أسفل سافلين‬
‫{ مستَ ْكبِ ِر ِ ِ‬
‫ون } قال المفسرون معناه مستكبرين به الضمير يعود إلى البيت‬ ‫ين بِه َسام ًرا تَ ْه ُج ُر َ‬
‫َ‬ ‫ُْ‬
‫المعهود عند المخاطبين أو الحرم أي متكبرين على الناس بسببه تقولون نحن أهل الحرم فنحن‬
‫ون } أي‬ ‫ِ‬
‫أفضل من غيرنا وأعلى { َسام ًرا } أي جماعة يتحدثون بالليل حول البيت { تَ ْه ُج ُر َ‬
‫تقولون الكالم الهجر الذي هو القبيح في هذا القرآن‬
‫ين‬ ‫فالمكذبون كانت طريقتهم في القرآن اإلعراض عنه ويوصي بعضهم بعضا بذلك { وقَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬
‫يه لَعلَّ ُكم تَ ْغِلبون } وقال اهلل عنهم { أَفَ ِم ْن َه َذا اْلح ِد ِ‬
‫يث‬ ‫ِِ‬ ‫َكفَ ُروا ال تَ ْس َم ُعوا ِلهَ َذا اْلقُْر ِ‬
‫َ‬ ‫آن َواْل َغ ْوا ف َ ْ ُ َ‬
‫ون تَقَ َّولَهُ }‬ ‫ِ‬
‫ون } { أ َْم َيقُولُ َ‬
‫ون * َوأ َْنتُ ْم َسام ُد َ‬
‫ون َوال تَْب ُك َ‬ ‫ض َح ُك َ‬ ‫ون * َوتَ ْ‬ ‫تَ ْع َجُب َ‬
‫فلما كانوا جامعين لهذه الرذائل ال جرم حقت عليهم العقوبة ولما وقعوا فيها لم يكن لهم ناصر‬
‫ينصرهم وال مغيث ينقذهم ويوبخون عند ذلك بهذه األعمال الساقطة‬
‫{ أَ َفلَ ْم َي َّدب َُّروا اْلقَ ْو َل } أي أفال يتفكرن في القرآن ويتأملونه ويتدبرونه أي فإنهم لو تدبروه ألوجب‬
‫لهم اإليمان ولمنعهم من الكفر ولكن المصيبة التي أصابتهم بسبب إعراضهم عنه ودل هذا على‬
‫أن تدبر القرآن يدعو إلى كل خير ويعصم من كل شر والذي منعهم من تدبره أن على قلوبهم‬
‫أقفالها‬
‫ِ‬
‫ين } أي أو منعهم من اإليمان أنه جاءهم رسول وكتاب ما جاء‬ ‫األوِل َ‬
‫اء ُه ُم َّ‬ ‫اء ُه ْم َما لَ ْم َيأْت َآب َ‬ ‫{ أ َْم َج َ‬
‫آباءهم األولين فرضوا بسلوك طريق آبائهم الضالين وعارضوا كل ما خالف ذلك ولهذا قالوا هم‬
‫ير ِإال قَا َل‬ ‫ك ِفي قَ ْرَي ٍة ِم ْن َن ِذ ٍ‬
‫ك َما أ َْر َسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ‬ ‫ومن أشبههم من الكفار ما أخبر اهلل عنهم { َو َك َذِل َ‬
‫ال أ ََولَ ْو ِج ْئتُ ُك ْم‬ ‫وها ِإَّنا وج ْدَنا آباءَنا علَى أ َّ ٍ‬
‫ون } فأجابهم بقوله { قَ َ‬ ‫ُمة َوإِ َّنا َعلَى آثَ ِار ِه ْم ُم ْقتَ ُد َ‬ ‫َ َ َ َ َ‬ ‫ُمتَْرفُ َ‬
‫اء ُك ْم } فهل تتبعون إن كان قصدكم الحق فأجابوا بحقيقة أمرهم { قَالُوا‬ ‫ِ‬ ‫بِأ ْ ِ‬
‫َه َدى م َّما َو َج ْدتُ ْم َعلَْيه َآب َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون }‬‫ِإَّنا بِ َما أ ُْرسْلتُ ْم بِه َكاف ُر َ‬
‫ِ‬
‫ون } أي أو منعهم من اتباع الحق أن رسولهم محمدا‬ ‫وقوله { أ َْم لَ ْم َي ْع ِرفُوا َر ُسولَهُ ْم فَهُ ْم لَهُ ُم ْنك ُر َ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم غير معروف عندهم فهم منكرون له؟ يقولون ال نعرفه وال نعرف صدقه‬
‫دعونا حتى ننظر حاله ونسأل عنه من له به خبرة أي لم يكن األمر كذلك فإنهم يعرفون الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم معرفة تامة صغيرهم وكبيرهم يعرفون منه كل خلق جميل ويعرفون صدقه‬
‫وأمانته حتى كانوا يسمونه قبل البعثة " األمين " فلم ال يصدقونه حين جاءهم بالحق العظيم‬
‫والصدق المبين؟‬
‫ون بِ ِه ِجَّنةٌ } أي جنون فلهذا قال ما قال والمجنون غير مسموع منه وال عبرة بكالمه‬
‫{ أ َْم َيقُولُ َ‬
‫ألنه يهذي بالباطل والكالم السخيف‬
‫ق } أي باألمر الثابت الذي هو صدق‬‫اء ُه ْم بِاْل َح ِّ‬
‫قال اهلل في الرد عليهم في هذه المقالة { َب ْل َج َ‬
‫وعدل ال اختالف فيه وال تناقض فكيف يكون من جاء به به جنة؟ وهال يكون إال في أعلى درج‬
‫الكمال من العلم والعقل ومكارم األخالق وأيضا فإن في هذا االنتقال مما تقدم أي بل الحقيقة التي‬
‫ون } وأعظم الحق الذي جاءهم به‬ ‫منعتهم من اإليمان أنه جاءهم بالحق { َوأَ ْكثَُر ُه ْم ِلْل َح ِّ‬
‫ق َك ِار ُه َ‬
‫إخالص العبادة هلل وحده وترك ما يعبد من دون اهلل وقد علم كراهتهم لهذا األمر وتعجبهم منه‬
‫فكون الرسول أتى بالحق وكونهم كارهين للحق باألصل هو الذي أوجب لهم التكذيب بالحق ال‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ون َ ِ‬ ‫شكا وال تكذيبا للرسول كما قال تعالى { فَِإَّنهُ ْم ال ُي َك ِّذُب َ‬
‫ين بِ َآيات الله َي ْج َح ُد َ‬
‫ون }‬ ‫ك َولَك َّن الظالم َ‬
‫فإن قيل لم لم يكن الحق موافقا ألهوائهم ألجل أن يؤمنوا و يسرعوا االنقياد؟ أجاب تعالى بقوله‬
‫ض}‬ ‫ِ‬ ‫{ ولَ ِو اتََّب َع اْل َح ُّ‬
‫األر ُ‬
‫ات َو ْ‬
‫َّم َاو ُ‬
‫اء ُه ْم لَفَ َس َدت الس َ‬
‫َه َو َ‬
‫قأْ‬ ‫َ‬
‫ووجه ذلك أن أهواءهم متعلقة بالظلم والكفر والفساد من األخالق واألعمال فلو اتبع الحق‬
‫أهواءهم لفسدت السماوات واألرض لفساد التصرف والتدبير المبني على الظلم وعدم العدل‬
‫اه ْم بذكرهم } أي بهذا‬
‫[ ص ‪ ] 556‬فالسماوات واألرض ما استقامتا إال بالحق والعدل { َب ْل أَتَْيَن ُ‬
‫القرآن المذكر لهم بكل خير الذي به فخرهم وشرفهم حين يقومون به ويكونون به سادة الناس‬
‫ِ‬
‫ون } شقاوة منهم وعدم توفيق { نسوا اهلل فنسيهم } نسوا اهلل فأنساهم‬
‫ض َ‬‫{ فَهُ ْم َع ْن ذ ْك ِر ِه ْم ُم ْع ِر ُ‬
‫أنفسهم فالقرآن ومن جاء به أعظم نعمة ساقها اهلل إليهم فلم يقابلوها إال بالرد واإلعراض فهل بعد‬
‫هذا الحرمان حرمان؟ وهل يكون وراءه إال نهاية الخسران؟‬

‫( ‪)1/554‬‬

‫الر ِاز ِق َ‬
‫ين (‪)72‬‬ ‫ِّك َخ ْيٌر َو ُه َو َخ ْي ُر َّ‬
‫اج َرب َ‬
‫أ َْم تَ ْسأَلُهُ ْم َخ ْر ًجا فَ َخ َر ُ‬

‫الر ِاز ِق َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫اج َرِّب َ‬
‫ك َخ ْيٌر َو ُه َو َخ ْي ُر َّ‬ ‫{ ‪ { } 72‬أ َْم تَ ْسأَلُهُ ْم َخ ْر ًجا فَ َخ َر ُ‬
‫ِ‬
‫أي‪ :‬أو منعهم من اتباعك يا محمد‪ ،‬أنك تسألهم على اإلجابة أجرا } فَهُ ْم م ْن َم ْغ َرٍم ُمثَْقلُ َ‬
‫ون‬
‫اج َرِّب َ‬
‫ك‬ ‫{ يتكلفون من اتباعك‪ ،‬بسبب ما تأخذ منهم من األجر والخراج‪ ،‬ليس األمر كذلك } فَ َخ َر ُ‬
‫ين { وهذا كما قال األنبياء ألممهم‪ } :‬يا قوم ال أسألكم عليه أجرا إن أجري‬‫الر ِاز ِق َ‬
‫َخ ْيٌر َو ُه َو َخ ْي ُر َّ‬
‫إال على اهلل { أي‪ :‬ليسوا يدعون الخلق طمعا فيما يصيبهم منهم من األموال‪ ،‬وإ نما يدعون نصحا‬
‫لهم‪ ،‬وتحصيال لمصالحهم‪ ،‬بل كان الرسل أنصح للخلق من أنفسهم‪ ،‬فجزاهم اهلل عن أممهم خير‬
‫الجزاء‪ ،‬ورزقنا االقتداء بهم في جميع األحوال‪.‬‬

‫( ‪)1/556‬‬

‫اط مستَِق ٍيم (‪ )73‬وإِ َّن الَِّذين اَل يؤ ِمُنون بِاآْل َ ِخر ِة ع ِن الص ِ ِ‬
‫ِ ٍ‬
‫ون (‬
‫ِّراط لََناكُب َ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫َ‬ ‫وه ْم ِإلَى ص َر ُ ْ‬ ‫َوإِ َّن َ‬
‫ك لَتَ ْد ُع ُ‬
‫‪)74‬‬

‫اآلخر ِة ع ِن الصِّر ِ‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫اط‬ ‫َ‬ ‫ون بِ َ َ‬ ‫ين ال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫وه ْم ِإلَى ص َراط ُم ْستَقيم * َوإِ َّن الذ َ‬ ‫{ ‪َ { } 74 - 73‬وإِ َّن َ‬
‫ك لَتَ ْد ُع ُ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫لََناكُب َ‬
‫ذكر اهلل تعالى في هذه اآليات الكريمات‪ ،‬كل سبب موجب لإليمان‪ ،‬وذكر الموانع‪ ،‬وبين فسادها‪،‬‬
‫واحدا بعد واحد‪ ،‬فذكر من الموانع أن قلوبهم في غمرة‪ ،‬وأنهم لم يدبروا القول‪ ،‬وأنهم اقتدوا‬
‫بآبائهم‪ ،‬وأنهم قالوا‪ :‬برسولهم جنة‪ ،‬كما تقدم الكالم عليها‪ ،‬وذكر من األمور الموجبة إليمانهم‪،‬‬
‫تدبر القرآن‪ ،‬وتلقي نعمة اهلل بالقبول‪ ،‬ومعرفة حال الرسول محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكمال‬
‫صدقه وأمانته‪ ،‬وأنه ال يسألهم عليه أجرا‪ ،‬وإ نما سعيه لنفعهم ومصلحتهم‪ ،‬وأن الذي يدعوهم إليه‬
‫صراط مستقيم‪ ،‬سهل على العاملين الستقامته‪ ،‬موصل إلى المقصود‪ ،‬من قرب حنيفية سمحة‪،‬‬
‫حنيفية في التوحيد‪ ،‬سمحة في العمل‪ ،‬فدعوتك إياهم إلى الصراط المستقيم‪ ،‬موجب لمن يريد‬
‫الحق أن يتبعك‪ ،‬ألنه مما تشهد العقول والفطر بحسنه‪ ،‬وموافقته للمصالح‪ ،‬فأين يذهبون إن لم‬
‫ون }‬ ‫يتابعوك؟ فإنهم ليس عندهم ما يغنيهم ويكفيهم عن متابعتك‪ ،‬ألنهم { ع ِن الص ِ ِ‬
‫ِّراط لََناكُب َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫متجنبون منحرفون‪ ،‬عن الطريق الموصل إلى اهلل‪ ،‬وإ لى دار كرامته‪ ،‬ليس في أيديهم إال ضالالت‬
‫وجهاالت‪.‬‬
‫وهكذا كل من خالف الحق‪ ،‬ال بد أن يكون منحرفا في جميع أموره‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬فَِإ ْن لَ ْم َي ْستَ ِج ُيبوا‬
‫َض ُّل ِم َّم َن اتََّب َع َه َواهُ بِ َغ ْي ِر ُه ًدى ِم َن اللَّ ِه } ‪.‬‬
‫اء ُه ْم َو َم ْن أ َ‬
‫َه َو َ‬ ‫اعلَ ْم أََّن َما َيتَّبِ ُع َ‬
‫ون أ ْ‬ ‫ك فَ ْ‬
‫لَ َ‬

‫( ‪)1/556‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫اهم بِاْل َع َذ ِ‬
‫اب فَ َما‬ ‫َخ ْذَن ُ ْ‬ ‫ضٍّر لَلَجُّوا في طُ ْغَيان ِه ْم َي ْع َمهُ َ‬
‫ون (‪َ )75‬ولَقَ ْد أ َ‬ ‫َولَ ْو َر ِح ْمَن ُ‬
‫اه ْم َو َك َش ْفَنا َما بِ ِه ْم م ْن ُ‬
‫ِِ ِ‬ ‫استَ َك ُانوا ِلرِّب ِهم وما يتَض َّرعون (‪ )76‬حتَّى ِإ َذا فَتَ ْحَنا علَْي ِهم بابا َذا ع َذ ٍ ِ ٍ‬
‫اب َشديد ِإ َذا ُه ْم فيه ُمْبل ُس َ‬
‫ون‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ًَ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ََ َ َ ُ َ‬ ‫ْ‬
‫(‪)77‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ون * َولَقَ ْد‬‫ضٍّر لَلَجُّوا في طُ ْغَيان ِه ْم َي ْع َمهُ َ‬ ‫{ ‪َ { } 77 - 75‬ولَ ْو َر ِح ْمَن ُ‬
‫اه ْم َو َك َش ْفَنا َما بِ ِه ْم م ْن ُ‬
‫اب َش ِد ٍيد ِإ َذا‬ ‫ون * َحتَّى ِإ َذا فَتَ ْحَنا َعلَْي ِهم َب ًابا َذا َع َذ ٍ‬
‫ْ‬ ‫ض َّر ُع َ‬
‫ِ‬
‫استَ َك ُانوا ل َرِّب ِه ْم َو َما َيتَ َ‬
‫اب فَ َما ْ‬‫اهم بِاْل َع َذ ِ‬
‫َخ ْذَن ُ ْ‬
‫أَ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِِ ِ‬
‫ُه ْم فيه ُمْبل ُس َ‬
‫هذا بيان لشدة تمردهم وعنادهم‪ ،‬وأنهم إذا أصابهم الضر‪ ،‬دعوا اهلل أن يكشف عنهم ليؤمنوا‪ ،‬أو‬
‫ابتالهم بذلك ليرجعوا إليه‪ .‬إن اهلل إذا كشف الضر عنهم لجوا‪ ،‬أي‪ :‬استمروا في طغيانهم‬
‫يعمهون‪ ،‬أي‪ :‬يجولون في كفرهم‪ ،‬حائرين مترددين‪.‬‬
‫كما ذكر اهلل حالهم عند ركوب الفلك‪ ،‬وأنهم يدعون مخلصين له الدين‪ ،‬وينسون ما يشركون به‪،‬‬
‫فلما أنجاهم إذا هم يبغون في األرض بالشرك وغيره‪.‬‬
‫اهم بِاْل َع َذ ِ‬
‫اب } قال المفسرون‪ :‬المراد بذلك‪ :‬الجوع الذي أصابهم سبع سنين‪ ،‬وأن اهلل‬ ‫َخ ْذَن ُ ْ‬
‫{ َولَقَ ْد أ َ‬
‫استَ َك ُانوا‬
‫ابتالهم بذلك‪ ،‬ليرجعوا إليه بالذل واالستسالم‪ ،‬فلم ينجع فيهم‪ ،‬وال نجح منهم أحد‪ { ،‬فَ َما ْ‬
‫ِ‬
‫ون } إليه ويفتقرون‪ ،‬بل مر عليهم ذلك ثم زال‪ ،‬كأنه لم‬ ‫ل َرِّب ِه ْم } أي‪ :‬خضعوا وذلوا { َو َما َيتَ َ‬
‫ض َّر ُع َ‬
‫يصبهم‪ ،‬لم يزالوا في غيهم وكفرهم‪ ،‬ولكن وراءهم العذاب الذي ال يرد‪ ،‬وهو قوله‪َ { :‬حتَّى ِإ َذا‬
‫ِِ ِ‬ ‫فَتَ ْحَنا علَْي ِهم بابا َذا ع َذ ٍ ِ ٍ‬
‫ون } آيسون من كل‬ ‫اب َشديد } كالقتل يوم بدر وغيره‪ِ { ،‬إ َذا ُه ْم فيه ُمْبل ُس َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ًَ‬
‫خير‪ ،‬قد حضرهم الشر وأسبابه‪ ،‬فليحذروا قبل نزول عذاب اهلل الشديد‪ ،‬الذي ال يرد‪ ،‬بخالف‬
‫مجرد العذاب‪ ،‬فإنه ربما أقلع عنهم‪ ،‬كالعقوبات الدنيوية‪ ،‬التي يؤدب اهلل بها عباده‪ .‬قال تعالى‬
‫ض الَِّذي َع ِملُوا لَ َعلَّهُ ْم‬ ‫الن ِ ِ ِ‬
‫اس لُيذيقَهُ ْم َب ْع َ‬ ‫ت أ َْي ِدي َّ‬
‫اد ِفي اْلَبِّر َواْلَب ْح ِر بِ َما َك َسَب ْ‬
‫ظهََر اْلفَ َس ُ‬
‫فيها‪َ { :‬‬
‫َي ْر ِج ُع َ‬
‫ون }‬

‫( ‪)1/556‬‬

‫ون (‪َ )78‬و ُه َو الَِّذي َذ َرأَ ُك ْم ِفي‬ ‫ِ ِ‬


‫ص َار َواأْل َ ْفئ َدةَ َقلياًل َما تَ ْش ُك ُر َ‬
‫َّم َع َواأْل َْب َ‬
‫َِّ‬
‫َو ُه َو الذي أ َْن َشأَ لَ ُك ُم الس ْ‬
‫ِ‬ ‫ف اللَّْي ِل َو َّ‬
‫اختِاَل ُ‬ ‫ون (‪َ )79‬و ُه َو الَِّذي ُي ْحيِي َوُي ِم ُ‬ ‫ِ‬ ‫اأْل َْر ِ‬
‫النهَ ِار أَفَاَل تَ ْعقلُ َ‬
‫ون (‬ ‫يت َولَهُ ْ‬ ‫ض َوإِلَْيه تُ ْح َش ُر َ‬
‫‪)80‬‬

‫ون * َو ُه َو الَِّذي‬ ‫ِ ِ‬
‫ص َار َواأل ْفئ َدةَ َقليال َما تَ ْش ُك ُر َ‬
‫األب َ‬
‫َّم َع َو ْ‬ ‫َِّ‬
‫{ ‪َ { } 80 - 78‬و ُه َو الذي أ َْن َشأَ لَ ُك ُم الس ْ‬
‫الف اللَّْي ِل َو َّ‬
‫النهَ ِار أَفَال‬ ‫اختِ ُ‬ ‫يت َولَهُ ْ‬ ‫ون * َو ُه َو الَِّذي ُي ْحيِي َوُي ِم ُ‬ ‫ِ‬
‫ض َوإِلَْيه تُ ْح َش ُر َ‬‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َذ َرأَ ُك ْم في ْ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تَ ْعقلُ َ‬
‫يخبر تعالى بمننه على عباده الداعية (‪ )1‬لهم إلى شكره‪ ،‬والقيام بحقه فقال‪َ { :‬و ُه َو الَِّذي أ َْن َشأَ لَ ُك ُم‬
‫ص َار }‬
‫األب َ‬
‫َّم َع } [ ص ‪ ] 557‬لتدركوا به المسموعات‪ ،‬فتنتفعوا في دينكم ودنياكم‪َ { ،‬و ْ‬ ‫الس ْ‬
‫لتدركوا بها المبصرات‪ ،‬فتنتفعوا بها (‪ )2‬في مصالحكم‪.‬‬
‫{ َواأل ْفئِ َدةَ } أي‪ :‬العقول التي تدركون بها األشياء‪ ،‬وتتميزون بها عن البهائم‪ ،‬فلو عدمتم السمع‪،‬‬
‫واألبصار‪ ،‬والعقول‪ ،‬بأن كنتم صما عميا بكما ماذا تكون حالكم؟ وماذا تفقدون من ضرورياتكم‬
‫وكمالكم؟ أفال تشكرون الذي من عليكم بهذه النعم‪ ،‬فتقومون بتوحيده وطاعته؟‪ .‬ولكنكم‪ ،‬قليل‬
‫شكركم‪ ،‬مع توالي النعم عليكم‪.‬‬
‫ض } أي‪ :‬بثكم في أقطارها‪ ،‬وجهاتها‪ ،‬وسلطكم على‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫{ َو ُه َو } تعالى { الذي َذ َرأَ ُك ْم في ْ‬
‫ون } بعد موتكم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫استخراج مصالحها ومنافعها‪ ،‬وجعلها كافية لمعايشكم ومساكنكم‪َ { ،‬وإِلَْيه تُ ْح َش ُر َ‬
‫فيجازيكم بما عملتم في األرض‪ ،‬من خير وشر‪ ،‬وتحدث األرض التي كنتم فيها بأخبارها { َو ُه َو }‬
‫تعالى وحده { الَِّذي ُي ْحيِي َوُي ِم ُ‬
‫يت } أي‪ :‬المتصرف في الحياة والموت‪ ،‬هو اهلل وحده‪َ { ،‬ولَهُ‬
‫الف اللَّْي ِل َو َّ‬
‫النهَ ِار } أي‪ :‬تعاقبهما وتناوبهما‪ ،‬فلو شاء أن يجعل النهار سرمدا‪ ،‬من إله غير اهلل‬ ‫اختِ ُ‬
‫ْ‬
‫يأتيكم بليل تسكنون فيه؟ ولو شاء أن يجعل الليل سرمدا‪ ،‬من إله غير اهلل يأتيكم بضياء أفال‬
‫تبصرون؟‪( .‬ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم‬
‫تشكرون)‪.‬‬
‫ون } فتعرفون أن الذي وهب لكم من النعم‪ ،‬السمع‪ ،‬واألبصار‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ولهذا قال هنا‪ { :‬أَفَال تَ ْعقلُ َ‬
‫واألفئدة‪ ،‬والذي نشركم في األرض وحده‪ ،‬والذي يحيي ويميت وحده‪ ،‬والذي يتصرف بالليل‬
‫والنهار وحده‪ ،‬أن ذلك موجب لكم‪ ،‬أن تخلصوا له العبادة وحده ال شريك له‪ ،‬وتتركوا عبادة من ال‬
‫ينفع وال يضر‪ ،‬وال يتصرف بشيء‪ ،‬بل هو عاجز من كل وجه‪ ،‬فلو كان لكم عقل لم تفعلوا ذلك‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬الداعي‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬لتدركوا به المبصرات‪ ،‬فتنتفعون به‪.‬‬

‫( ‪)1/556‬‬

‫ظ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اما أَئَّنا لَ َم ْب ُعوثُ َ‬
‫ون (‪ )82‬لَقَ ْد‬ ‫ون (‪ )81‬قَالُوا أَئ َذا متَْنا َو ُكَّنا تَُر ًابا َوع َ ً‬ ‫َب ْل قَالُوا مثْ َل َما قَا َل اأْل ََّولُ َ‬
‫و ِع ْدَنا َن ْحن وآَباؤَنا َه َذا ِم ْن قَْب ُل ِإ ْن َه َذا ِإاَّل أ ِ‬
‫ين (‪)83‬‬ ‫َساط ُير اأْل ََّوِل َ‬‫َ‬ ‫ُ َ َُ‬ ‫ُ‬

‫ظ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫{ ‪َ { } 83 - 81‬ب ْل قَالُوا ِمثْ َل َما قَ َ‬


‫اما أَئَّنا لَ َم ْب ُعوثُ َ‬
‫ون‬ ‫ون * قَالُوا أَئ َذا متَْنا َو ُكَّنا تَُر ًابا َوع َ ً‬
‫األولُ َ‬
‫ال َّ‬
‫* لَقَ ْد و ِع ْدَنا َن ْحن وآباؤَنا َه َذا ِم ْن قَْب ُل ِإ ْن َه َذا ِإال أَس ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫األوِل َ‬
‫اط ُير َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َُ‬ ‫ُ‬
‫أي‪ :‬بل سلك هؤالء المكذبون مسلك األولين من المكذبين بالبعث‪ ،‬واستبعدوه غاية االستبعاد‬
‫ظ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون } أي‪ :‬هذا ال يتصور‪ ،‬وال يدخل العقل‪،‬‬‫اما أَئَّنا لَ َم ْب ُعوثُ َ‬
‫وقالوا‪ { :‬أَئ َذا متَْنا َو ُكَّنا تَُر ًابا َوع َ ً‬
‫بزعمهم‪.‬‬
‫اؤَنا َه َذا ِم ْن قَْب ُل } أي‪ :‬ما زلنا نوعد بأن البعث كائن‪ ،‬نحن وآباؤنا‪ ،‬ولم نره‪،‬‬ ‫{ لَقَ ْد ُو ِع ْدَنا َن ْح ُن َو َآب ُ‬
‫ولم يأت بعد‪ِ { ،‬إ ْن َه َذا ِإال أَس ِ‬
‫ين } أي‪ :‬قصصهم وأسمارهم‪ ،‬التي يتحدث بها وتلهى‪،‬‬ ‫األوِل َ‬
‫اط ُير َّ‬ ‫َ‬
‫وإ ال فليس لها حقيقة‪ ،‬وكذبوا ‪-‬قبحهم اهلل‪ -‬فإن اهلل أراهم‪ ،‬من آياته أكبر من البعث‪ ،‬ومثله‪،‬‬
‫الن ِ‬
‫اس }‬ ‫ض أَ ْكَب ُر ِم ْن َخْل ِ‬
‫ق َّ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ق الس َ‬ ‫{ لَ َخْل ُ‬
‫ظام و ِهي ر ِميم } اآليات { وتَرى األرض َه ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب لََنا َمثَال َوَن ِس َي َخْلقَهُ قَ َ‬
‫ام َدةً‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ال َم ْن ُي ْحيِي اْلع َ َ َ َ َ ٌ‬ ‫ض َر َ‬‫{ َو َ‬
‫ت } اآليات‪.‬‬ ‫ت َو َرَب ْ‬ ‫اهتََّز ْ‬ ‫فَِإ َذا أَنزْلَنا َعلَْيهَا اْل َم َ‬
‫اء ْ‬

‫( ‪)1/557‬‬
‫ُق ْل ِلم ِن اأْل َرض وم ْن ِفيها ِإ ْن ُك ْنتُم تَعلَمون (‪ )84‬سيقُولُ َِّ ِ‬
‫ب‬‫ون (‪ُ )85‬ق ْل َم ْن َر ُّ‬ ‫ون لله ُق ْل أَفَاَل تَ َذ َّك ُر َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫ْ ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ ََ‬ ‫َ‬
‫ون (‪ُ )87‬ق ْل َم ْن بَِي ِد ِه َملَ ُك ُ‬
‫وت‬ ‫ش اْلع ِظ ِيم (‪ )86‬سيقُولُ َِّ ِ‬
‫ون لله ُق ْل أَفَاَل تَتَّقُ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫ب اْل َع ْر ِ َ‬
‫السَّماو ِ‬
‫ات الس َّْب ِع َو َر ُّ‬ ‫ََ‬
‫ُك ِّل َشي ٍء و ُهو ي ِجير واَل يجار علَْي ِه ِإ ْن ُك ْنتُم تَعلَمون (‪ )88‬سيقُولُ َِّ ِ‬
‫ون (‪)89‬‬ ‫ون لله ُق ْل فَأََّنى تُ ْس َح ُر َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫ْ ْ ُ َ‬ ‫ْ َ َ ُ ُ َ َُ ُ َ‬

‫{ ‪ُ { } 89 - 84‬ق ْل ِلم ِن األرض وم ْن ِفيها ِإ ْن ُك ْنتُم تَعلَمون * سيقُولُ َِّ ِ‬


‫ون *‬ ‫ون لله ُق ْل أَفَال تَ َذ َّك ُر َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫ْ ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ ََ‬ ‫َ‬
‫ون * ُق ْل َم ْن بَِي ِد ِه‬ ‫ش اْلع ِظ ِيم * سيقُولُ َِّ ِ‬
‫ون لله ُق ْل أَفَال تَتَّقُ َ‬
‫َ‬ ‫ََ‬ ‫ب اْل َع ْر ِ َ‬
‫ب السَّماو ِ‬
‫ات الس َّْب ِع َو َر ُّ‬ ‫ُق ْل َم ْن َر ُّ َ َ‬
‫وت ُك ِّل َشي ٍء و ُهو ي ِجير وال يجار علَْي ِه ِإ ْن ُك ْنتُم تَعلَمون * سيقُولُ َِّ ِ‬
‫ون } ‪.‬‬‫ون لله ُق ْل فَأََّنى تُ ْس َح ُر َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫ْ ْ ُ َ‬ ‫ْ َ َ ُ ُ َ َُ ُ َ‬ ‫َملَ ُك ُ‬
‫أي‪ :‬قل لهؤالء المكذبين بالبعث‪ ،‬العادلين باهلل غيره‪ ،‬محتجا عليهم بما أثبتوه‪ ،‬وأقروا به‪ ،‬من‬
‫توحيد الربوبية‪ ،‬وانفراد اهلل بها‪ ،‬على ما أنكروه من توحيد اإللهية والعبادة‪ ،‬وبما أثبتوه من خلق‬
‫المخلوقات العظيمة‪ ،‬على ما أنكروه من إعادة الموتى‪ ،‬الذي هو أسهل من ذلك‪.‬‬
‫ض َو َم ْن ِفيهَا } أي‪ :‬من هو الخالق لألرض ومن عليها‪ ،‬من حيوان‪ ،‬ونبات وجماد‬ ‫ِ‬
‫{ ل َم ِن ْ‬
‫األر ُ‬
‫وبحار وأنهار وجبال‪ ،‬المالك لذلك‪ ،‬المدبر له؟ فإنك إذا سألتهم (‪ )1‬عن ذلك‪ ،‬ال بد أن يقولوا‪ :‬اهلل‬
‫ون } أي‪ :‬أفال ترجعون إلى ما ذكركم اهلل به‪ ،‬مما هو‬ ‫وحده‪ .‬فقل لهم إذا أقروا بذلك‪ { :‬أَفَال تَ َذ َّك ُر َ‬
‫معلوم عندكم‪ ،‬مستقر في فطركم‪ ،‬قد يغيبه اإلعراض في بعض األوقات‪ .‬والحقيقة أنكم إن رجعتم‬
‫إلى ذاكرتكم‪ ،‬بمجرد التأمل‪ ،‬علمتم أن مالك ذلك‪ ،‬هو المعبود وحده‪ ،‬وأن إلهية من هو مملوك‬
‫ب السَّماو ِ‬
‫ات الس َّْب ِع } وما فيها‬ ‫أبطل الباطل ثم انتقل إلى ما هو أعظم من ذلك‪ ،‬فقال‪ُ { :‬ق ْل َم ْن َر ُّ َ َ‬
‫ش اْل َع ِظ ِيم } الذي هو أعلى المخلوقات‬ ‫ب اْل َع ْر ِ‬
‫من النيرات‪ ،‬والكواكب السيارات‪ ،‬والثوابت { َو َر ُّ‬
‫ون ِللَّ ِه } أي‪:‬‬
‫وأوسعها وأعظمها‪ ،‬فمن الذي خلق ذلك ودبره‪ ،‬وصرفه بأنواع التدبير؟ { َسَيقُولُ َ‬
‫ون } عبادة المخلوقات‬ ‫سيقرون بأن اهلل رب ذلك كله‪ .‬قل لهم حين يقرون بذلك‪ { :‬أَفَال تَتَّقُ َ‬
‫العاجزة‪ [ ،‬ص ‪ ] 558‬وتتقون الرب العظيم‪ ،‬كامل القدرة‪ ،‬عظيم السلطان؟ وفي هذا من لطف‬
‫ون } والوعظ بأداة العرض الجاذبة للقلوب‪ ،‬ما ال‬ ‫الخطاب‪ ،‬من قوله‪ { :‬أَفَال تذكرون } { أفال تَتَّقُ َ‬
‫وت ُك ِّل َش ْي ٍء } أي‪:‬‬
‫يخفى ثم انتقل إلى إقرارهم بما هو أعم من ذلك كله فقال‪ُ { :‬ق ْل َم ْن بَِي ِد ِه َملَ ُك ُ‬
‫ملك كل شيء‪ ،‬من العالم العلوي‪ ،‬والعالم السفلي‪ ،‬ما نبصره‪ ،‬وما ال نبصره؟‪ .‬و " الملكوت "ب‬
‫صيغة مبالغة بمعنى الملك‪َ { .‬و ُه َو ُي ِج ُير } عباده من الشر‪ ،‬ويدفع عنهم المكاره‪ ،‬ويحفظهم مما‬
‫يضرهم‪َ { ،‬وال ُي َج ُار َعلَْي ِه } أي‪ :‬ال يقدر أحد أن يجير على اهلل‪ .‬وال يدفع الشر الذي قدره اهلل‪ .‬بل‬
‫ون ِللَّ ِه } أي‪ :‬سيقرون أن اهلل المالك لكل شيء‪ ،‬المجير‪،‬‬
‫وال يشفع أحد عنده إال بإذنه ‪َ { ،‬سَيقُولُ َ‬
‫الذي ال يجار عليه‪.‬‬
‫{ ُق ْل } لهم حين يقرون بذلك‪ ،‬ملزما لهم‪ { ،‬فَأََّنى تُ ْس َح ُر َ‬
‫ون } أي‪ :‬فأين تذهب عقولكم‪ ،‬حيث عبدتم‬
‫من علمتم أنهم ال ملك لهم‪ ،‬وال قسط من الملك‪ ،‬وأنهم عاجزون من جميع الوجوه‪ ،‬وتركتم‬
‫اإلخالص للمالك العظيم القادر المدبر لجميع األمور‪ ،‬فالعقول التي دلتكم على هذا‪ ،‬ال تكون إال‬
‫مسحورة‪ ،‬وهي ‪ -‬بال شك‪ -‬قد سحرها الشيطان‪ ،‬بما زين لهم‪ ،‬وحسن لهم‪ ،‬وقلب الحقائق لهم‪،‬‬
‫فسحر عقولهم‪ ،‬كما سحرت السحرة أعين الناس‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ‪ :‬سألتم‬

‫( ‪)1/557‬‬

‫ب ُك ُّل ِإلَ ٍه‬ ‫ِ ٍ‬


‫ان َم َعهُ م ْن ِإلَه ِإ ًذا لَ َذ َه َ‬
‫ٍ‬ ‫َّ ِ‬
‫ون (‪َ )90‬ما اتَّ َخ َذ اللهُ م ْن َولَد َو َما َك َ‬
‫ِ‬ ‫اه ْم بِاْل َح ِّ‬
‫ق َوإِ َّنهُ ْم لَ َكاذُب َ‬ ‫َب ْل أَتَْيَن ُ‬
‫اد ِة فَتَ َعالَى‬ ‫ون (‪َ )91‬ع ِالِم اْل َغ ْي ِب و َّ‬
‫الشهَ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ض س ْبح َّ ِ‬
‫ان الله َع َّما َيصفُ َ‬ ‫ضهُ ْم َعلَى َب ْع ٍ ُ َ َ‬ ‫ق َولَ َعاَل َب ْع ُ‬ ‫بِ َما َخلَ َ‬
‫ون (‪)92‬‬ ‫َع َّما ُي ْش ِر ُك َ‬

‫ان َم َعهُ ِم ْن ِإلَ ٍه ِإ ًذا‬ ‫ٍ‬ ‫َّ ِ‬


‫ون * َما اتَّ َخ َذ اللهُ م ْن َولَد َو َما َك َ‬
‫ِ‬ ‫اه ْم بِاْل َح ِّ‬
‫ق َوإِ َّنهُ ْم لَ َكاذُب َ‬ ‫{ ‪َ { } 92 - 90‬ب ْل أَتَْيَن ُ‬
‫اد ِة‬
‫الشهَ َ‬‫ون * َع ِالِم اْل َغ ْي ِب و َّ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ض س ْبح َّ ِ‬
‫ان الله َع َّما َيصفُ َ‬ ‫ضهُ ْم َعلَى َب ْع ٍ ُ َ َ‬ ‫ق َولَ َعال َب ْع ُ‬ ‫ب ُك ُّل ِإلَ ٍه بِ َما َخلَ َ‬
‫لَ َذ َه َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫فَتَ َعالَى َع َّما ُي ْش ِر ُك َ‬
‫يقول تعالى‪ :‬بل أتينا هؤالء المكذبين بالحق‪ ،‬المتضمن للصدق في األخبار‪ ،‬العدل في األمر‬
‫والنهي‪ ،‬فما بالهم ال يعترفون به‪ ،‬وهو أحق أن يتبع؟ وليس عندهم ما يعوضهم عنه‪ ،‬إال الكذب‬
‫ِ‬
‫والظلم‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وإِ َّنهُ ْم لَ َكاذُب َ‬
‫ون }‬
‫ان َم َعهُ ِم ْن ِإلَ ٍه } كذب يعرف بخبر اهلل‪ ،‬وخبر رسله‪ ،‬ويعرف بالعقل‬ ‫ٍ‬ ‫َّ ِ‬
‫{ َما اتَّ َخ َذ اللهُ م ْن َولَد َو َما َك َ‬
‫الصحيح‪ ،‬ولهذا نبه تعالى على الدليل العقلي‪ ،‬على امتناع إلهين فقال‪ِ { :‬إ ًذا } أي‪ :‬لو كان معه‬
‫ق } أي‪ :‬النفرد كل واحد من اإللهين بمخلوقاته‪ ،‬واستقل‬ ‫ب ُك ُّل ِإلَ ٍه بِ َما َخلَ َ‬
‫آلهة كما يقولون { لَ َذ َه َ‬
‫ض } فالغالب يكون هو‬ ‫ضهُ ْم َعلَى َب ْع ٍ‬
‫بها‪ ،‬ولحرص على ممانعة اآلخر ومغالبته‪َ { ،‬ولَ َعال َب ْع ُ‬
‫اإلله‪ ،‬وإ ال فمع التمانع ال يمكن وجود العالم‪ ،‬وال يتصور أن ينتظم هذا االنتظام المدهش للعقول‪،‬‬
‫واعتبر ذلك بالشمس والقمر‪ ،‬والكواكب الثابتة‪ ،‬والسيارة‪ ،‬فإنها منذ خلقت‪ ،‬وهي تجري على‬
‫نظام واحد‪ ،‬وترتيب واحد‪ ،‬كلها مسخرة بالقدرة‪ ،‬مدبرة بالحكمة لمصالح الخلق كلهم‪ ،‬ليست‬
‫مقصورة على مصلحة أحد دون أحد‪ ،‬ولن ترى فيها خلال وال تناقضا‪ ،‬وال معارضة في أدنى‬
‫تصرف‪ ،‬فهل يتصور أن يكون ذلك‪ ،‬تقدير إلهين ربين؟"‬
‫ون } قد نطقت بلسان حالها‪ ،‬وأفهمت ببديع أشكالها‪ ،‬أن المدبر لها إله‬ ‫ِ‬ ‫{ س ْبح َّ ِ‬
‫ان الله َع َّما َيصفُ َ‬
‫ُ َ َ‬
‫واحد كامل األسماء والصفات‪ ،‬قد افتقرت إليه جميع المخلوقات‪ ،‬في ربوبيته لها‪ ،‬وفي إلهيته لها‪،‬‬
‫فكما ال وجود لها وال دوام إال بربوبيته‪ ،‬كذلك‪ ،‬ال صالح لها وال قوام إال بعبادته وإ فراده‬
‫بالطاعة‪ ،‬ولهذا نبه على عظمة صفاته بأنموذج من ذلك‪ ،‬وهو علمه المحيط‪ ،‬فقال‪َ { :‬ع ِال ُم اْل َغ ْي ِب‬
‫اد ِة }‬
‫الشهَ َ‬ ‫} أي‪ :‬الذي غاب عن أبصارنا وعلمنا‪ ،‬من الواجبات والمستحيالت والممكنات‪ { ،‬و َّ‬
‫َ‬
‫ون } به‪ ،‬من ال علم عنده‪ ،‬إال‬ ‫وهو ما نشاهد من ذلك { فَتَ َعالَى } أي‪ :‬ارتفع وعظم‪َ { ،‬ع َّما ُي ْش ِر ُك َ‬
‫ما علمه اهلل (‪. )1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬شطب حرف الجر (من) وغيرت الجملة فصارت (وال علم عندهم إال ما علمه اهلل)‪.‬‬

‫( ‪)1/558‬‬

‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َن ُن ِرَي َ‬
‫ك‬ ‫ب فَاَل تَ ْج َعْلني في اْلقَ ْوِم الظالم َ‬
‫ين (‪َ )94‬وإِ َّنا َعلَى أ ْ‬ ‫ون (‪َ )93‬ر ِّ‬ ‫ب ِإ َّما تُِرَيِّني َما ُي َ‬
‫وع ُد َ‬ ‫ُق ْل َر ِّ‬
‫ون (‪)95‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َما َنع ُد ُه ْم لَقَاد ُر َ‬

‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ب فَال تَ ْج َعْلني في اْلقَ ْوِم الظالم َ‬
‫ين * َوإِ َّنا‬ ‫ون * َر ِّ‬ ‫ب ِإ َّما تُِرَيِّني َما ُي َ‬
‫وع ُد َ‬ ‫{ ‪ُ { } 95 - 93‬ق ْل َر ِّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َن ُن ِرَي َ‬
‫ك َما َنع ُد ُه ْم لَقَاد ُر َ‬ ‫َعلَى أ ْ‬
‫لما أقام تعالى على المكذبين أدلته العظيمة‪ ،‬فلم يلتفتوا لها‪ ،‬ولم يذعنوا لها‪ ،‬حق عليهم العذاب‪،‬‬
‫ون } أي‪ :‬أي وقت‬ ‫ب ِإ َّما تُِرَيِّني َما ُي َ‬
‫وع ُد َ‬ ‫ووعدوا بنزوله‪ ،‬وأرشد اهلل رسوله أن يقول‪ُ { :‬ق ْل َر ِّ‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين } أي‪ :‬اعصمني‬ ‫ب فَال تَ ْج َعْلني في اْلقَ ْوِم الظالم َ‬ ‫أريتني عذابهم‪ ،‬وأحضرتني ذلك { َر ِّ‬
‫وارحمني‪ ،‬مما ابتليتهم به من الذنوب الموجبة للنقم‪ ،‬واحمني أيضا من العذاب الذي ينزل بهم‪،‬‬
‫ألن العقوبة العامة تعم ‪-‬عند نزولها‪ -‬العاصي وغيره ‪ ،‬قال اهلل في تقريب عذابهم‪َ { :‬وإِ َّنا َعلَى‬
‫ون } ولكن إن أخرناه فلحكمة‪ ،‬وإ ال فقدرتنا صالحة إليقاعه فيهم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َن ُن ِرَي َ‬
‫ك َما َنع ُد ُه ْم لَقَاد ُر َ‬ ‫أْ‬

‫( ‪)1/558‬‬

‫الشي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب أَعو ُذ بِ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْادفَ ْع بِالَّتِي ِه َي أ ْ‬


‫اط ِ‬
‫ين‬ ‫ك م ْن َه َم َزات َّ َ‬ ‫َعلَ ُم بِ َما َيصفُ َ‬
‫ون (‪َ )96‬و ُق ْل َر ِّ ُ‬ ‫َح َس ُن السَّيَِّئةَ َن ْح ُن أ ْ‬
‫ض ُر ِ‬
‫ون (‪)98‬‬ ‫َن َي ْح ُ‬
‫ب أْ‬ ‫َعو ُذ بِ َ‬
‫ك َر ِّ‬ ‫(‪َ )97‬وأ ُ‬
‫ك ِم ْن‬
‫َعو ُذ بِ َ‬
‫بأُ‬
‫ِ‬
‫َعلَ ُم بِ َما َيصفُ َ‬
‫ون * َو ُق ْل َر ِّ‬ ‫{ ‪ْ { } 98 - 96‬ادفَ ْع بِالَّتِي ِه َي أ ْ‬
‫َح َس ُن السَّيَِّئةَ َن ْح ُن أ ْ‬
‫الشي ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ض ُر ِ‬ ‫َن َي ْح ُ‬ ‫ب أْ‬ ‫ك َر ِّ‬ ‫َعو ُذ بِ َ‬
‫ين * َوأ ُ‬ ‫اط ِ‬ ‫َه َم َزات َّ َ‬
‫هذا من مكارم األخالق‪ ،‬التي أمر اهلل رسوله بها فقال‪ْ { :‬ادفَ ْع بِالَّتِي ِه َي أ ْ‬
‫َح َس ُن السَّيَِّئةَ } أي‪ :‬إذا‬
‫أساء إليك أعداؤك‪ ،‬بالقول والفعل‪ ،‬فال تقابلهم باإلساءة‪ ،‬مع أنه يجوز معاقبة المسيء بمثل‬
‫إساءته‪ ،‬ولكن ادفع إساءتهم إليك باإلحسان منك إليهم‪ ،‬فإن ذلك فضل منك على المسيء‪ ،‬ومن‬
‫مصالح ذلك‪ ،‬أنه تخف اإلساءة عنك‪ ،‬في الحال‪ ،‬وفي المستقبل‪ ،‬وأنه أدعى لجلب المسيء إلى‬
‫الحق‪ ،‬وأقرب إلى ندمه وأسفه‪ ،‬ورجوعه بالتوبة عما فعل‪ ،‬وليتصف العافي بصفة اإلحسان‪،‬‬

‫َج ُرهُ‬
‫َصلَ َح فَأ ْ‬
‫ويقهر بذلك عدوه الشيطان‪ ،‬وليستوجب الثواب من الرب‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬فَ َم ْن َعفَا َوأ ْ‬
‫ِ‬ ‫َح َس ُن فَِإ َذا الَِّذي َب ْيَن َ‬
‫َعلَى اللَّ ِه } وقال تعالى‪ْ { :‬ادفَ ْع بِالَّتِي ِه َي أ ْ‬
‫يم *‬‫ك َوَب ْيَنهُ َع َد َاوةٌ َكأََّنهُ َوِل ٌّي َحم ٌ‬
‫وما يلَقَّاها } أي ما يوفق لهذا الخلق الجميل { ِإال الَِّذين صبروا وما يلَقَّاها ِإال ُذو ح ٍّ‬
‫ظ َع ِظ ٍيم }‬ ‫َ‬ ‫َ َ َُ َ َ ُ َ‬ ‫ََ ُ َ‬
‫[ ص ‪] 559‬‬
‫ِ‬
‫َعلَ ُم بِ َما َيصفُ َ‬
‫ون } أي بما يقولون من األقوال المتضمنة للكفر والتكذيب بالحق قد‬ ‫وقوله { َن ْح ُن أ ْ‬
‫أحاط علمنا بذلك وقد حلمنا عنهم وأمهلناهم وصبرنا عليهم والحق لنا وتكذيبهم لنا فأنت ‪-‬يا‬
‫محمد‪ -‬ينبغي لك أن تصبر على ما يقولون وتقابلهم باإلحسان هذه وظيفة العبد في مقابلة المسيء‬
‫من البشر وأما المسيء من الشياطين فإنه ال يفيد فيه اإلحسان وال يدعو حزبه إال ليكونوا من‬
‫َعو ُذ‬
‫بأُ‬ ‫أصحاب السعير فالوظيفة في مقابلته أن يسترشد بما أرشد اهلل إليه رسوله فقال { َو ُق ْل َر ِّ‬
‫الشي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعو ُذ بِ َ‬
‫ك‬ ‫ين * َوأ ُ‬ ‫اط ِ‬ ‫ك } أي اعتصم بحولك وقوتك متبرئا من حولي وقوتي { م ْن َه َم َزات َّ َ‬ ‫بِ َ‬
‫ون } أي أعوذ بك من الشر الذي يصيبني بسبب مباشرتهم وهمزهم ومسهم ومن‬ ‫ض ُر ِ‬
‫َن َي ْح ُ‬ ‫َر ِّ‬
‫ب أْ‬
‫الشر الذي بسبب حضورهم ووسوستهم وهذه استعاذة من مادة الشر كله وأصله ويدخل فيها‬
‫االستعاذة من جميع نزغات الشيطان ومن مسه ووسوسته فإذا أعاذ اهلل عبده من هذا الشر وأجاب‬
‫دعاءه سلم من كل شر ووفق لكل خير‬

‫( ‪)1/558‬‬

‫ت َكاَّل ِإَّنهَا َكِل َمةٌ‬


‫يما تََر ْك ُ‬ ‫َعم ُل ِ ِ‬
‫صال ًحا ف َ‬
‫ِّ‬ ‫ب ْار ِج ُع ِ‬
‫ون (‪ )99‬لَ َعلي أ ْ َ َ‬ ‫ال َر ِّ‬‫ت قَ َ‬ ‫َح َد ُه ُم اْل َم ْو ُ‬ ‫َحتَّى ِإ َذا َج َ‬
‫اء أ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُه َو قَائلُهَا َو ِم ْن َو َرائ ِه ْم َب ْر َز ٌخ ِإلَى َي ْوِم ُي ْب َعثُ َ‬
‫ون (‪)100‬‬

‫َعم ُل ِ ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ب ْار ِج ُع ِ‬


‫يما‬
‫صال ًحا ف َ‬
‫ون * لَ َعلي أ ْ َ َ‬ ‫ت قَا َل َر ِّ‬‫َح َد ُه ُم اْل َم ْو ُ‬ ‫{ ‪َ { } 100 - 99‬حتَّى ِإ َذا َج َ‬
‫اء أ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬‫ت َكال ِإَّنهَا َكل َمةٌ ُه َو قَائلُهَا َو ِم ْن َو َرائ ِه ْم َب ْر َز ٌخ ِإلَى َي ْوِم ُي ْب َعثُ َ‬
‫تََر ْك ُ‬
‫يخبر تعالى عن حال من حضره الموت‪ ،‬من المفرطين الظالمين‪ ،‬أنه يندم في تلك الحال‪ ،‬إذا رأى‬
‫مآله‪ ،‬وشاهد قبح أعماله فيطلب الرجعة إلى الدنيا‪ ،‬ال للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها وإ نما ذلك‬
‫ت } من العمل‪ ،‬وفرطت في جنب اهلل‪َ { .‬كال } أي‪ :‬ال رجعة‬ ‫يما تََر ْك ُ‬ ‫َعم ُل ِ ِ‬ ‫ِّ‬
‫صال ًحا ف َ‬ ‫يقول‪ { :‬لَ َعلي أ ْ َ َ‬
‫له وال إمهال‪ ،‬قد قضى اهلل أنهم إليها ال يرجعون‪ِ { ،‬إَّنهَا } أي‪ :‬مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى‬
‫الدنيا { َكِل َمةٌ ُه َو قَائِلُهَا } أي‪ :‬مجرد قول باللسان‪ ،‬ال يفيد صاحبه إال الحسرة والندم‪ ،‬وهو أيضا‬
‫غير صادق في ذلك‪ ،‬فإنه لو رد لعاد لما نهي عنه‪.‬‬
‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬من أمامهم وبين أيديهم برزخ‪ ،‬وهو الحاجز بين‬ ‫{ َو ِم ْن َو َرائ ِه ْم َب ْر َز ٌخ ِإلَى َي ْوِم ُي ْب َعثُ َ‬
‫الشيئين‪ ،‬فهو هنا‪ :‬الحاجز بين الدنيا واآلخرة‪ ،‬وفي هذا البرزخ‪ ،‬يتنعم المطيعون‪ ،‬ويعذب‬
‫العاصون‪ ،‬من موتهم إلى يوم يبعثون‪ ،‬أي‪ :‬فليعدوا له عدته‪ ،‬وليأخذوا له أهبته‪.‬‬

‫( ‪)1/559‬‬

‫ت َم َو ِاز ُينهُ فَأُولَئِ َ‬


‫ك ُه ُم‬ ‫ون (‪ )101‬فَ َم ْن ثَُقلَ ْ‬ ‫اءلُ َ‬
‫ٍِ‬
‫اب َب ْيَنهُ ْم َي ْو َمئذ َواَل َيتَ َس َ‬ ‫فَِإ َذا ُن ِف َخ ِفي الص ِ‬
‫ُّور فَاَل أ َْن َس َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت مو ِاز ُينه فَأُولَئِ َ َِّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪ )103‬تَْلفَ ُح‬ ‫ين َخس ُروا أ َْنفُ َسهُ ْم في َجهََّن َم َخال ُد َ‬‫ك الذ َ‬ ‫ُ‬ ‫ون (‪َ )102‬و َم ْن َخف ْ َ َ‬ ‫اْل ُم ْفل ُح َ‬
‫ون (‪)104‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وههُ ُم َّ‬
‫الن ُار َو ُه ْم فيهَا َكال ُح َ‬ ‫ُو ُج َ‬

‫ت‬
‫ون * فَ َم ْن ثَُقلَ ْ‬ ‫ٍِ‬ ‫{ ‪ { } 114 - 101‬فَِإ َذا ُن ِف َخ ِفي الص ِ‬
‫اءلُ َ‬ ‫اب َب ْيَنهُ ْم َي ْو َمئذ َوال َيتَ َس َ‬
‫ُّور فَال أ َْن َس َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت مو ِاز ُينه فَأُولَئِ َ َِّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َم َو ِاز ُينهُ فَأُولَئِ َ‬
‫ين َخس ُروا أ َْنفُ َسهُ ْم في َجهََّن َم َخال ُد َ‬
‫ون‬ ‫ك الذ َ‬ ‫ُ‬ ‫ون * َو َم ْن َخف ْ َ َ‬‫ك ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وههُ ُم َّ‬
‫الن ُار َو ُه ْم فيهَا َكال ُح َ‬ ‫* تَْلفَ ُح ُو ُج َ‬
‫يخبر تعالى عن هول يوم القيامة‪ ،‬وما في ذلك اليوم‪ ،‬من المزعجات والمقلقات‪ ،‬وأنه إذا نفخ في‬
‫الصور نفخة البعث‪ ،‬فحشر الناس أجمعون‪ ،‬لميقات يوم معلوم‪ ،‬أنه يصيبهم من الهول ما ينسيهم‬
‫أنسابهم‪ ،‬التي هي أقوى األسباب‪ ،‬فغير األنساب من باب أولى‪ ،‬وأنه ال يسأل أحد أحدا عن حاله‪،‬‬
‫الشتغاله بنفسه‪ ،‬فال يدري هل ينجو نجاة ال شقاوة بعدها؟ أو يشقى شقاوة ال سعادة بعدها؟ قال‬
‫ئ ِم ْنهُ ْم َي ْو َمئٍِذ َشأ ٌ‬
‫ْن‬ ‫ام ِر ٍ‬ ‫يه * و َ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِّ‬
‫صاحَبته َوَبنيه * ل ُكل ْ‬ ‫َ‬
‫ُم ِه وأَبِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫تعالى‪َ { :‬ي ْو َم َيف ُّر اْل َم ْر ُء م ْن أَخيه * َوأ ِّ َ‬
‫يه } (‪. )1‬‬ ‫ي ْغنِ ِ‬
‫ُ‬
‫وفي القيامة مواضع‪ ،‬يشتد كربها‪ ،‬ويعظم وقعها‪ ،‬كالميزان الذي يميز به أعمال العبد‪ ،‬وينظر فيه‬
‫ت َم َو ِاز ُينهُ } بأن‬
‫بالعدل ما له وما عليه‪ ،‬وتبين فيه مثاقيل الذر‪ ،‬من الخير والشر‪ { ،‬فَ َم ْن ثَُقلَ ْ‬
‫ون } لنجاتهم من النار‪ ،‬واستحقاقهم الجنة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫رجحت حسناته على سيئاته { فَأُولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ‬
‫وفوزهم بالثناء الجميل ‪َ { ،‬و َم ْن َخفَّ ْ‬
‫ت َم َو ِاز ُينهُ } بأن رجحت سيئاته على حسناته‪ ،‬وأحاطت بها‬
‫ين َخ ِس ُروا أ َْنفُ َسهُ ْم } كل خسارة‪ ،‬غير هذه الخسارة‪ ،‬فإنها ‪-‬بالنسبة إليها‪-‬‬ ‫خطيئاته { فَأُولَئِ َ َِّ‬
‫ك الذ َ‬
‫سهلة‪ ،‬ولكن هذه خسارة صعبة‪ ،‬ال يجبر مصابها‪ ،‬وال يستدرك فائتها‪ ،‬خسارة أبدية‪ ،‬وشقاوة‬
‫سرمدية‪ ،‬قد خسر نفسه الشريفة‪ ،‬التي يتمكن بها من السعادة األبدية ففوتها هذا النعيم المقيم‪ ،‬في‬
‫جوار الرب الكريم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ في َجهََّن َم َخال ُد َ‬
‫ون } ال يخرجون منها أبد اآلبدين‪ ،‬وهذا الوعيد‪ ،‬إنما هو كما ذكرنا‪ ،‬لمن أحاطت‬
‫خطيئاته بحسناته‪ ،‬وال يكون ذلك إال كافرا‪ ،‬فعلى هذا‪ ،‬ال يحاسب محاسبة من توزن حسناته‬
‫وسيئاته‪ ،‬فإنهم ال حسنات لهم‪ ،‬ولكن تعد أعمالهم وتحصى‪ ،‬فيوقفون عليها‪ ،‬ويقررون بها‪،‬‬
‫ويخزون بها‪ ،‬وأما من معه أصل اإليمان‪ ،‬ولكن عظمت سيئاته‪ ،‬فرجحت على حسناته‪ ،‬فإنه وإ ن‬
‫دخل النار‪ ،‬ال يخلد فيها‪ ،‬كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة‪.‬‬
‫الن ُار } أي‪ :‬تغشاهم من‬ ‫وههُ ُم َّ‬
‫ثم ذكر تعالى‪ ،‬سوء مصير الكافرين [ ص ‪ ] 560‬فقال‪ { :‬تَْلفَ ُح ُو ُج َ‬
‫ون‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫جميع جوانبهم‪ ،‬حتى تصيب أعضاءهم الشريفة‪ ،‬ويتقطع لهبها عن وجوههم‪َ { ،‬و ُه ْم فيهَا َكال ُح َ‬
‫} قد عبست وجوههم‪ ،‬وقلصت شفاههم‪ ،‬من شدة ما هم فيه‪ ،‬وعظيم ما يلقونه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين وقع تداخل بين آيات سورة عبس وآيات سورة المعارج فكانت أقرب إلى آيات‬
‫سورة عبس فأثبتها منها‬

‫( ‪)1/559‬‬

‫ت َعلَْيَنا ِش ْقوتَُنا و ُكَّنا قَوما َ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬


‫ين‬
‫ضال َ‬ ‫ًْ‬ ‫َ َ‬ ‫ون (‪ )105‬قَالُوا َربََّنا َغلََب ْ‬ ‫أَلَ ْم تَ ُك ْن آََياتي تُْتلَى َعلَْي ُك ْم فَ ُك ْنتُ ْم بِهَا تُ َكذُب َ‬
‫ون (‪ِ )108‬إَّنهُ‬ ‫اخ َسُئوا ِفيهَا َواَل تُ َكلِّ ُم ِ‬ ‫ال ْ‬ ‫ون (‪ )107‬قَ َ‬ ‫ظال ُم َ‬
‫َخ ِر ْجَنا ِم ْنها فَِإ ْن ع ْدَنا فَِإَّنا َ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫(‪َ )106‬ربََّنا أ ْ‬
‫ين (‪)109‬‬ ‫ت َخ ْير َّ ِ ِ‬ ‫يق ِم ْن ِعب ِادي يقُولُون ربََّنا آَمَّنا فَ ْ ِ‬ ‫ان فَ ِر ٌ‬
‫الراحم َ‬ ‫اغف ْر لََنا َو ْار َح ْمَنا َوأ َْن َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َك َ‬
‫ون (‪ِ )110‬إِّني َج َز ْيتُهُ ُم اْلَي ْو َم بِ َما‬ ‫ض َح ُك َ‬ ‫وه ْم ِس ْخ ِريًّا َحتَّى أ َْن َس ْو ُك ْم ِذ ْك ِري َو ُك ْنتُ ْم ِم ْنهُ ْم تَ ْ‬ ‫فَاتَّ َخ ْذتُ ُم ُ‬
‫ين (‪ )112‬قَالُوا لَبِثَْنا َي ْو ًما أ َْو‬ ‫ِِ‬ ‫ال َك ْم لَبِثْتُ ْم ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َع َد َد سن َ‬ ‫ون (‪ )111‬قَ َ‬ ‫صَب ُروا أََّنهُ ْم ُه ُم اْلفَائ ُز َ‬ ‫َ‬
‫اَّل ِ‬ ‫اسأ ِ‬
‫ون (‪)114‬‬ ‫ال ِإ ْن لَبِثْتُ ْم ِإ َقلياًل لَ ْو أََّن ُك ْم ُك ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ين (‪ )113‬قَ َ‬ ‫اد َ‬ ‫َل اْل َع ِّ‬ ‫ض َي ْوٍم فَ ْ‬ ‫َب ْع َ‬

‫ت َعلَْيَنا ِش ْقوتَُنا و ُكَّنا قَوما َ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬


‫ين *‬ ‫ضال َ‬ ‫ًْ‬ ‫َ َ‬ ‫ون * قَالُوا َربََّنا َغلََب ْ‬ ‫{ أَلَ ْم تَ ُك ْن َآياتي تُْتلَى َعلَْي ُك ْم فَ ُك ْنتُ ْم بِهَا تُ َكذُب َ‬
‫يق ِم ْن‬
‫ان فَ ِر ٌ‬ ‫ون * ِإَّنهُ َك َ‬ ‫اخ َسُئوا ِفيهَا َوال تُ َكلِّ ُم ِ‬ ‫ون * قَا َل ْ‬ ‫َخ ِر ْجَنا ِم ْنها فَِإ ْن ع ْدَنا فَِإَّنا َ ِ‬
‫ظال ُم َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َربََّنا أ ْ‬
‫وه ْم ِس ْخ ِريًّا َحتَّى‬
‫ين * فَاتَّ َخ ْذتُ ُم ُ‬ ‫ت َخ ْير َّ ِ ِ‬
‫الراحم َ‬ ‫اغف ْر لََنا َو ْار َح ْمَنا َوأ َْن َ ُ‬
‫ِعب ِادي يقُولُون ربََّنا آمَّنا فَ ْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫أ َْن َس ْو ُك ْم ِذ ْك ِري َو ُك ْنتُ ْم ِم ْنهُ ْم تَ ْ‬
‫ون * قَا َل َك ْم‬‫صَب ُروا أََّنهُ ْم ُه ُم اْلفَائ ُز َ‬ ‫ون * ِإِّني َج َز ْيتُهُ ُم اْلَي ْو َم بِ َما َ‬ ‫ض َح ُك َ‬
‫ال ِإ ْن لَبِثْتُ ْم ِإال َقِليال‬
‫ين * قَ َ‬ ‫اسأ ِ‬
‫َل اْل َع ِّ‬
‫اد َ‬ ‫ض َي ْوٍم فَ ْ‬ ‫ين * قَالُوا لَبِثَْنا َي ْو ًما أ َْو َب ْع َ‬
‫ِِ‬
‫ض َع َد َد سن َ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫لَبِثْتُ ْم في ْ‬
‫ون } ‪.‬‬‫لَ ْو أََّن ُك ْم ُك ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُم َ‬
‫فيقال لهم ‪ -‬توبيخا ولوما ‪ { :-‬أَلَ ْم تَ ُك ْن َآياتِي تُْتلَى َعلَْي ُك ْم } تدعون بها‪ ،‬لتؤمنوا‪ ،‬وتعرض عليكم‬
‫ِّ‬
‫ون } ظلما منكم وعنادا‪ ،‬وهي آيات بينات‪ ،‬داالت على الحق والباطل‪،‬‬ ‫لتنظروا‪ { ،‬فَ ُك ْنتُ ْم بِهَا تُ َكذُب َ‬
‫ت َعلَْيَنا‬ ‫مبينات للمحق والمبطل ‪ ،‬فحينئذ أقروا بظلمهم‪ ،‬حيث ال ينفع اإلقرار { قَالُوا َربََّنا َغلََب ْ‬
‫ِش ْق َوتَُنا } أي‪ :‬غلبت علينا الشقاوة الناشئة عن الظلم واإلعراض عن الحق‪ ،‬واإلقبال على ما‬
‫ين } في عملهم‪ ،‬وإ ن كانوا يدرون أنهم ظالمون‪ ،‬أي‪ :‬فعلنا‬ ‫يضر‪ ،‬وترك ما ينفع‪ { ،‬و ُكَّنا قَوما َ ِّ‬
‫ضال َ‬ ‫ًْ‬ ‫َ‬
‫في الدنيا فعل التائه‪ ،‬الضال السفيه‪ ،‬كما قالوا في اآلية األخرى‪َ { :‬وقَالُوا لَ ْو ُكَّنا َن ْس َمعُ أ َْو َن ْع ِق ُل َما‬
‫َخ ِر ْجَنا ِم ْنها فَِإ ْن ع ْدَنا فَِإَّنا َ ِ‬ ‫اب الس ِ‬
‫َّع ِ‬ ‫َص َح ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } وهم كاذبون في وعدهم‬ ‫ظال ُم َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ير } { َربََّنا أ ْ‬ ‫ُكَّنا في أ ْ‬
‫ادوا ِل َما ُنهُوا َع ْنهُ } ولم يبق اهلل لهم حجة‪ ،‬بل قطع‬ ‫هذا‪ ،‬فإنهم كما قال تعالى‪َ { :‬ولَ ْو ُر ُّدوا لَ َع ُ‬
‫أعذارهم‪ ،‬وعمرهم في الدنيا‪ ،‬ما يتذكر فيه [من] المتذكر‪ ،‬ويرتدع فيه المجرم‪ ،‬فقال اهلل جوابا‬
‫ون } وهذا القول ‪ -‬نسأله تعالى العافية‪ -‬أعظم قول على‬ ‫اخ َسُئوا ِفيهَا َوال تُ َكلِّ ُم ِ‬
‫لسؤالهم‪ْ { :‬‬
‫اإلطالق يسمعه المجرمون في التخييب‪ ،‬والتوبيخ‪ ،‬والذل‪ ،‬والخسار‪ ،‬والتأييس من كل خير‪،‬‬
‫والبشرى بكل شر‪ ،‬وهذا الكالم والغضب من الرب الرحيم‪ ،‬أشد عليهم وأبلغ في نكايتهم من‬
‫عذاب الجحيم ‪ ،‬ثم ذكر الحال التي أوصلتهم إلى العذاب‪ ،‬وقطعت عنهم الرحمة فقال‪ِ { :‬إَّنهُ َك َ‬
‫ان‬
‫ين } فجمعوا بين اإليمان‬ ‫ت َخ ْير َّ ِ ِ‬ ‫يق ِم ْن ِعب ِادي يقُولُون ربََّنا آمَّنا فَ ْ ِ‬
‫فَ ِر ٌ‬
‫الراحم َ‬ ‫اغف ْر لََنا َو ْار َح ْمَنا َوأ َْن َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫المقتضي ألعماله الصالحة‪ ،‬والدعاء لربهم بالمغفرة والرحمة‪ ،‬والتوسل إليه بربوبيته‪ ،‬ومنته‬
‫عليهم باإليمان‪ ،‬واإلخبار بسعة رحمته‪ ،‬وعموم إحسانه‪ ،‬وفي ضمنه‪ ،‬ما يدل على خضوعهم‬
‫وخشوعهم‪ ،‬وانكسارهم لربهم‪ ،‬وخوفهم ورجائهم‪.‬‬
‫وه ْم } أيها الكفرة األنذال ناقصو العقول واألحالم‬ ‫فهؤالء سادات الناس وفضالئهم‪ { ،‬فَاتَّ َخ ْذتُ ُم ُ‬
‫{ ِس ْخ ِريًّا } تهزءون بهم وتحتقرونهم‪ ،‬حتى اشتغلتم بذلك السفه‪َ { .‬حتَّى أ َْن َس ْو ُك ْم ِذ ْك ِري َو ُك ْنتُ ْم ِم ْنهُ ْم‬
‫ون } وهذا الذي أوجب لهم نسيان الذكر‪ ،‬اشتغالهم باالستهزاء بهم‪ ،‬كما أن نسيانهم للذكر‪،‬‬ ‫ض َح ُك َ‬
‫تَ ْ‬
‫يحثهم على االستهزاء‪ ،‬فكل من األمرين يمد اآلخر‪ ،‬فهل فوق هذه الجراءة جراءة؟!‬
‫صَب ُروا } على طاعتي‪ ،‬وعلى أذاكم‪ ،‬حتى وصلوا إلي‪ { .‬أََّنهُ ْم ُه ُم‬ ‫{ ِإِّني َج َز ْيتُهُ ُم اْلَي ْو َم بِ َما َ‬
‫آمُنوا ِم َن‬
‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫ون } بالنعيم المقيم‪ ،‬والنجاة من الجحيم‪ ،‬كما قال في اآلية األخرى‪ { :‬فَاْلَي ْو َم الذ َ‬
‫ِ‬
‫اْلفَائ ُز َ‬
‫ون } اآليات‪.‬‬ ‫اْل ُكفَّ ِار َي ْ‬
‫ض َح ُك َ‬
‫{ قَا َل } لهم على وجه اللوم‪ ،‬وأنهم سفهاء األحالم‪ ،‬حيث اكتسبوا في هذه المدة اليسيرة كل شر‬
‫أوصلهم إلى غضبه وعقوبته‪ ،‬ولم يكتسبوا ما اكتسبه المؤمنون [من] الخير‪ ،‬الذي يوصلهم إلى‬
‫السعادة الدائمة ورضوان ربهم‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين * قَالُوا لَبِثَْنا َي ْو ًما أ َْو َب ْع َ‬
‫ض َي ْوٍم } كالمهم هذا مبني على‬ ‫{ َك ْم لَبِثْتُ ْم في ْ‬
‫األر ِ‬
‫ض َع َد َد سن َ‬
‫اسأ ِ‬
‫َل‬ ‫استقصارهم جدا لمدة مكثهم في الدنيا وأفاد ذلك لكنه ال يفيد مقداره وال يعينه فلهذا قالوا { فَ ْ‬
‫ين } أي الضابطين لعدده وأما هم ففي شغل شاغل وعذاب مذهل عن معرفة عدده فقال لهم {‬ ‫اد َ‬ ‫اْل َع ِّ‬
‫ِ‬
‫ِإ ْن لَبِثْتُ ْم ِإال َقليال } سواء عينتم عدده أم ال { لَ ْو أََّن ُك ْم ُك ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون }‬

‫( ‪)1/560‬‬

‫ق اَل ِإلَهَ ِإاَّل ُه َو َر ُّ‬


‫ب‬ ‫ون (‪ )115‬فَتَ َعالَى اللَّهُ اْل َمِل ُ‬
‫ك اْل َح ُّ‬ ‫ِ‬
‫أَفَ َحس ْبتُ ْم أََّن َما َخلَ ْقَنا ُك ْم َعَبثًا َوأََّن ُك ْم ِإلَْيَنا اَل تُْر َج ُع َ‬
‫ش اْل َك ِر ِيم (‪)116‬‬ ‫اْل َع ْر ِ‬

‫ق‬ ‫ون * فَتَ َعالَى اللَّهُ اْل َمِل ُ‬


‫ك اْل َح ُّ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪ { } 116 - 115‬أَفَ َحس ْبتُ ْم أََّن َما َخلَ ْقَنا ُك ْم َعَبثًا َوأََّن ُك ْم ِإلَْيَنا ال تُْر َج ُع َ‬
‫ش اْل َك ِر ِيم } ‪.‬‬ ‫ال ِإلَهَ ِإال ُه َو َر ُّ‬
‫ب اْل َع ْر ِ‬
‫أي‪ { :‬أَفَ َح ِس ْبتُ ْم } أيها الخلق { أََّن َما َخلَ ْقَنا ُك ْم َعَبثًا } أي‪ :‬سدى وباطال تأكلون وتشربون وتمرحون‪،‬‬
‫وتتمتعون بلذات الدنيا‪ ،‬ونترككم ال نأمركم‪ ،‬و[ال] ننهاكم وال نثيبكم‪ ،‬وال نعاقبكم؟ ولهذا قال‪:‬‬
‫ون } ال يخطر هذا ببالكم ‪ { ،‬فَتَ َعالَى اللَّهُ } أي‪ :‬تعاظم وانتفع عن هذا الظن‬ ‫{ َوأََّن ُك ْم ِإلَْيَنا ال تُْر َج ُع َ‬
‫ش اْل َك ِر ِيم } فكونه‬ ‫ق ال ِإلَهَ ِإال ُه َو َر ُّ‬
‫ب اْل َع ْر ِ‬ ‫الباطل‪ ،‬الذي يرجع إلى القدح في حكمته‪ { .‬اْل َمِل ُ‬
‫ك اْل َح ُّ‬
‫ملكا للخلق كلهم حقا‪ ،‬في صدقه‪ ،‬ووعده‪ ،‬ووعيده‪ ،‬مألوها معبودا‪ ،‬لما له من الكمال { َر ُّ‬
‫ب‬
‫اْل َع ْر ِ‬
‫ش الكريم } فما دونه من باب أولى‪ ،‬يمنع أن يخلقكم عبثا‪.‬‬

‫( ‪)1/560‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َو َم ْن َي ْدعُ َم َع اللَّ ِه ِإلَهًا آ َ‬
‫ان لَهُ بِه فَِإَّن َما ح َس ُابهُ ع ْن َد َربِّه ِإَّنهُ اَل ُي ْفل ُح اْل َكاف ُر َ‬
‫ون (‪َ )117‬و ُق ْل‬ ‫َخ َر اَل ُب ْر َه َ‬
‫ين (‪)118‬‬ ‫ت َخ ْير َّ ِ ِ‬ ‫ب ِْ‬ ‫َر ِّ‬
‫الراحم َ‬ ‫اغف ْر َو ْار َح ْم َوأ َْن َ ُ‬

‫ِّه ِإَّنهُ ال ُي ْفِل ُح‬


‫آخر ال بر َهان لَه بِ ِه فَِإَّنما ِحسابه ِع ْن َد رب ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ ُُ‬
‫َّ ِ‬
‫{ ‪َ { } 118 - 117‬و َم ْن َي ْدعُ َم َع الله ِإلَهًا َ َ ُ ْ َ ُ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ت َخ ْير َّ ِ ِ‬ ‫ب ِْ‬‫ون * َو ُق ْل َر ِّ‬ ‫ِ‬
‫الراحم َ‬ ‫اغف ْر َو ْار َح ْم َوأ َْن َ ُ‬ ‫اْل َكاف ُر َ‬
‫أي‪ :‬ومن دعا [ ص ‪ ] 561‬مع اهلل آلهة غيره‪ ،‬بال بينة من أمره وال برهان يدل على ما ذهب‬
‫إليه‪ ،‬وهذا قيد مالزم‪ ،‬فكل من دعا غير اهلل‪ ،‬فليس له برهان على ذلك‪ ،‬بل دلت البراهين على‬
‫بطالن ما ذهب إليه‪ ،‬فأعرض عنها ظلما وعنادا‪ ،‬فهذا سيقدم على ربه‪ ،‬فيجازيه بأعماله‪ ،‬وال‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ينيله من الفالح شيئا‪ ،‬ألنه كافر‪ِ { ،‬إَّنهُ ال ُي ْفل ُح اْل َكاف ُر َ‬
‫ون } فكفرهم منعهم من الفالح‪.‬‬
‫اغ ِف ْر } لنا حتى تنجينا من المكروه‪ ،‬وارحمنا‪،‬‬
‫ب ْ‬‫{ َو ُق ْل } داعيا لربك مخلصا له الدين { َر ِّ‬
‫ين } فكل راحم للعبد‪ ،‬فاهلل خير له منه‪ ،‬أرحم‬ ‫ت َخ ْير َّ ِ ِ‬
‫الراحم َ‬ ‫لتوصلنا برحمتك إلى كل خير { َوأ َْن َ ُ‬
‫بعبده من الوالدة بولدها‪ ،‬وأرحم به من نفسه‪ .‬تم تفسير سورة المؤمنين‪ ،‬من فضل اهلل وإ حسانه‪.‬‬
‫_‬

‫( ‪)1/560‬‬

‫تفسير سورة النور‬


‫وهي مدنية‬

‫( ‪)1/561‬‬

‫ٍ َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬


‫اها َوأ َْن َزْلَنا فيهَا آََيات َبيَِّنات لَ َعل ُك ْم تَ َذ َّك ُر َ‬
‫ون (‪)1‬‬ ‫ضَن َ‬
‫اها َوفََر ْ‬
‫ورةٌ أ َْن َزْلَن َ‬
‫ُس َ‬

‫ات لَ َعلَّ ُك ْم‬


‫ات بيَِّن ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫اها َوأ َْن َزْلَنا فيهَا َآي َ‬
‫ضَن َ‬
‫اها َوفََر ْ‬
‫ورةٌ أ َْن َزْلَن َ‬ ‫الر ْحم ِن َّ ِ ِ‬
‫الرحيم ُس َ‬
‫ِ ِ َّ ِ‬
‫{ ‪ { } 1‬ب ْسم الله َّ َ‬
‫تَ َذ َّك ُر َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫اها } رحمة منا بالعباد‪ ،‬وحفظناها من كل شيطان‬ ‫ورةٌ } عظيمة القدر { أَنزْلَن َ‬
‫أي‪ :‬هذه { ُس َ‬
‫اها } أي‪ :‬قدرنا فيها ما قدرنا‪ ،‬من الحدود والشهادات وغيرها‪ { ،‬وأَنزْلَنا ِفيها آي ٍ‬
‫ات‬ ‫ضَن َ‬
‫{ َوفََر ْ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫ون } حين نبين لكم‪،‬‬ ‫َبيَِّنات } أي‪ :‬أحكاما جليلة‪ ،‬وأوامر وزواجر‪ ،‬وحكما عظيمة { لَ َعل ُك ْم تَ َذ َّك ُر َ‬
‫ونعلمكم ما لم تكونوا تعلمون‪ .‬ثم شرع في بيان تلك األحكام المشار إليها‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫( ‪)1/561‬‬

‫ين اللَّ ِه ِإ ْن ُك ْنتُ ْم‬


‫ْخ ْذ ُك ْم بِ ِه َما َرْأفَةٌ ِفي ِد ِ‬
‫اح ٍد ِم ْنهُ َما ِمَئةَ َجْل َد ٍة َواَل تَأ ُ‬
‫اجِل ُدوا ُك َّل و ِ‬
‫َ‬ ‫الزانِي فَ ْ‬ ‫الزانَِيةُ و َّ‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫الزانِي اَل َي ْن ِك ُح ِإاَّل َزانَِيةً أ َْو‬
‫ين (‪َّ )2‬‬ ‫ِ‬ ‫تُؤ ِمُنون بِاللَّ ِه واْليوِم اآْل َ ِخ ِر وْلي ْشه ْد ع َذابهما َ ِ ِ‬
‫طائفَةٌ م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫َ َ َ َ َ َُ‬ ‫َ َْ‬ ‫ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ك َو ُحِّر َم َذِل َ‬ ‫الزانَِيةُ اَل َي ْن ِك ُحهَا ِإاَّل َز ٍ‬
‫ين (‪)3‬‬‫ك َعلَى اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫ان أ َْو ُم ْش ِر ٌ‬ ‫ُم ْش ِر َكةً و َّ‬
‫َ‬
‫ْخ ْذ ُك ْم بِ ِه َما َرْأفَةٌ ِفي ِد ِ‬
‫ين‬ ‫اح ٍد ِم ْنهُ َما ِم َائةَ َجْل َد ٍة َوال تَأ ُ‬
‫اجِل ُدوا ُك َّل و ِ‬
‫َ‬ ‫الزانِي فَ ْ‬ ‫الزانَِيةُ و َّ‬
‫َ‬
‫{ ‪َّ { } 3 - 2‬‬
‫الزانِي ال َي ْن ِك ُح إال‬
‫ين * َّ‬ ‫ِ‬ ‫اآلخ ِر وْلي ْشه ْد ع َذابهما َ ِ ِ‬
‫طائفَةٌ م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫َ َ َ َ َ َُ‬
‫اللَّ ِه ِإ ْن ُك ْنتُم تُؤ ِمُنون بِاللَّ ِه واْليوِم ِ‬
‫َ َْ‬ ‫ْ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ك َو ُحِّر َم َذِل َ‬ ‫الزانَِيةُ ال َي ْن ِك ُحهَا ِإال َز ٍ‬
‫َزانَِيةً أ َْو ُم ْش ِر َكةً و َّ‬
‫ك َعلَى اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ان أ َْو ُم ْش ِر ٌ‬ ‫َ‬
‫هذا الحكم في الزاني والزانية البكرين‪ ،‬أنهما يجلد كل منهما مائة جلدة‪ ،‬وأما الثيب‪ ،‬فقد دلت السنة‬
‫الصحيحة المشهورة‪ ،‬أن حده الرجم‪ ،‬ونهانا تعالى أن تأخذنا رأفة [بهما] في دين اهلل‪ ،‬تمنعنا من‬
‫إقامة الحد عليهم‪ ،‬سواء رأفة طبيعية‪ ،‬أو ألجل قرابة أو صداقة أو غير ذلك‪ ،‬وأن اإليمان موجب‬
‫النتفاء هذه الرأفة المانعة من إقامة أمر اهلل‪ ،‬فرحمته حقيقة‪ ،‬بإقامة حد اهلل عليه‪ ،‬فنحن وإ ن‬
‫رحمناه لجريان القدر عليه‪ ،‬فال نرحمه من هذا الجانب‪ ،‬وأمر تعالى أن يحضر عذاب الزانيين‬
‫طائفة‪ ،‬أي‪ :‬جماعة من المؤمنين‪ ،‬ليشتهر ويحصل بذلك الخزي واالرتداع‪ ،‬وليشاهدوا الحد فعال‬
‫فإن مشاهدة أحكام الشرع بالفعل‪ ،‬مما يقوى بها العلم‪ ،‬ويستقر به الفهم‪ ،‬ويكون أقرب إلصابة‬
‫الصواب‪ ،‬فال يزاد فيه وال ينقص‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫هذا بيان لرذيلة الزنا‪ ،‬وأنه يدنس عرض صاحبه‪ ،‬وعرض من قارنه ومازجه‪ ،‬ما ال يفعله بقية‬
‫الذنوب‪ ،‬فأخبر أن الزاني ال يقدم على نكاحه من النساء‪ ،‬إال أنثى زانية‪ ،‬تناسب حاله حالها‪ ،‬أو‬
‫مشركة باهلل‪ ،‬ال تؤمن ببعث وال جزاء‪ ،‬وال تلتزم أمر اهلل‪ ،‬والزانية كذلك‪ ،‬ال ينكحها إال زان أو‬
‫ِ‬ ‫مشرك { َو ُحِّر َم َذِل َ‬
‫ين } أي‪ :‬حرم عليهم أن ينكحوا زانيا‪ ،‬أو ينكحوا زانية‪.‬‬ ‫ك َعلَى اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ومعنى اآلية‪ :‬أن من اتصف بالزنا‪ ،‬من رجل أو امرأة‪ ،‬ولم يتب من ذلك‪ ،‬أن المقدم على نكاحه‪،‬‬
‫مع تحريم اهلل لذلك‪ ،‬ال يخلو إما أن ال يكون ملتزما لحكم اهلل ورسوله‪ ،‬فذاك ال يكون إال مشركا‪،‬‬
‫وإ ما أن يكون ملتزما لحكم اهلل ورسوله‪ ،‬فأقدم على نكاحه مع علمه بزناه‪ ،‬فإن هذا النكاح زنا‪،‬‬
‫والناكح زان مسافح‪ ،‬فلو كان مؤمنا باهلل حقا‪ ،‬لم يقدم على ذلك‪ ،‬وهذا دليل صريح على تحريم‬
‫نكاح الزانية حتى تتوب‪ ،‬وكذلك إنكاح الزاني حتى يتوب‪ ،‬فإن مقارنة الزوج لزوجته‪ ،‬والزوجة‬
‫اجهُ ْم } أي‪:‬‬ ‫َِّ‬
‫ظلَ ُموا َوأ َْز َو َ‬
‫ين َ‬
‫اح ُش ُروا الذ َ‬
‫لزوجها‪ ،‬أشد االقترانات واالزدواجات‪ ،‬وقد قال تعالى‪ْ { :‬‬
‫قرناءهم‪ ،‬فحرم اهلل ذلك‪ ،‬لما فيه من الشر العظيم‪ ،‬وفيه من قلة الغيرة‪ ،‬وإ لحاق األوالد‪ ،‬الذين‬
‫ليسوا من الزوج‪ ،‬وكون الزاني ال يعفها بسبب اشتغاله بغيرها‪ ،‬مما بعضه كاف للتحريم (‪)1‬‬
‫وفي هذا دليل أن الزاني ليس مؤمنا‪ ،‬كما قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬ال يزني الزاني حين‬
‫يزني وهو مؤمن " فهو وإ ن لم يكن مشركا‪ ،‬فال يطلق عليه اسم المدح‪ ،‬الذي هو اإليمان المطلق‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬كاف في التحريم‬

‫( ‪)1/561‬‬
‫ِ‬ ‫اجِل ُد ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ادةً‬
‫ين َجْل َدةً َواَل تَ ْقَبلُوا لَهُ ْم َشهَ َ‬
‫وه ْم ثَ َمان َ‬ ‫اء فَ ْ‬‫صَنات ثَُّم لَ ْم َيأْتُوا بِأ َْرَب َعة ُشهَ َد َ‬
‫ون اْل ُم ْح َ‬
‫ين َي ْر ُم َ‬
‫َوالذ َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ين تَ ُابوا ِم ْن َب ْع ِد َذِل َ‬ ‫اَّل َِّ‬ ‫ِ‬ ‫أََب ًدا َوأُولَئِ َ‬
‫يم (‪)5‬‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫َصلَ ُحوا فَِإ َّن اللهَ َغفُ ٌ‬ ‫ك َوأ ْ‬ ‫ون (‪ِ )4‬إ الذ َ‬ ‫ك ُه ُم اْلفَاسقُ َ‬

‫ِ‬ ‫اجِل ُد ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬


‫ين َجْل َدةً َوال‬
‫وه ْم ثَ َمان َ‬ ‫اء فَ ْ‬‫صَنات ثَُّم لَ ْم َيأْتُوا بِأ َْرَب َعة ُشهَ َد َ‬
‫ون اْل ُم ْح َ‬‫ين َي ْر ُم َ‬‫{ ‪َ { } 5 - 4‬والذ َ‬
‫َّ‬ ‫ين تَ ُابوا ِم ْن َب ْع ِد َذِل َ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ادةً أََب ًدا َوأُولَئِ َ‬
‫َصلَ ُحوا فَِإ َّن اللهَ َغفُ ٌ‬
‫ور‬ ‫ك َوأ ْ‬ ‫ون * ِإال الذ َ‬ ‫ك ُه ُم اْلفَاسقُ َ‬ ‫تَ ْقَبلُوا لَهُ ْم َشهَ َ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َرح ٌ‬
‫لما عظم تعالى أمر [ ص ‪ ] 562‬الزاني (‪ )1‬بوجوب جلده‪ ،‬وكذا رجمه إن كان محصنا‪ ،‬وأنه ال‬
‫تجوز مقارنته‪ ،‬وال مخالطته على وجه ال يسلم فيه العبد من الشر‪ ،‬بين تعالى تعظيم اإلقدام على‬
‫ات } أي‪ :‬النساء األحرار العفائف‪،‬‬ ‫األعراض بالرمي بالزنا فقال‪ { :‬والَِّذين يرمون اْلم ْحصَن ِ‬
‫َ َ َْ ُ َ ُ َ‬
‫وكذاك الرجال‪ ،‬ال فرق بين األمرين‪ ،‬والمراد بالرمي الرمي بالزنا‪ ،‬بدليل السياق‪ { ،‬ثَُّم لَ ْم َيأْتُوا }‬
‫ِ‬ ‫اجِل ُد ُ‬ ‫ِ‬
‫ين‬
‫وه ْم ثَ َمان َ‬ ‫اء } أي‪ :‬رجال عدول‪ ،‬يشهدون بذلك صريحا‪ { ،‬فَ ْ‬ ‫على ما رموا به { بِأ َْرَب َعة ُشهَ َد َ‬
‫َجْل َدةً } بسوط متوسط‪ ،‬يؤلم فيه‪ ،‬وال يبالغ بذلك حتى يتلفه‪ ،‬ألن القصد التأديب ال اإلتالف‪ ،‬وفي‬
‫هذا تقدير حد القذف‪ ،‬ولكن بشرط أن يكون المقذوف كما قال تعالى محصنا مؤمنا‪ ،‬وأما قذف‬
‫غير المحصن‪ ،‬فإنه يوجب التعزير‪.‬‬
‫ادةً أََب ًدا } أي‪ :‬لهم عقوبة أخرى‪ ،‬وهو أن شهادة القاذف غير مقبولة‪ ،‬ولو حد‬ ‫{ َوال تَ ْقَبلُوا لَهُ ْم َشهَ َ‬
‫ون } أي‪ :‬الخارجون عن طاعة اهلل‪ ،‬الذين‬ ‫ِ‬ ‫على القذف‪ ،‬حتى يتوب كما يأتي‪َ { ،‬وأُولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم اْلفَاسقُ َ‬
‫قد كثر شرهم‪ ،‬وذلك النتهاك ما حرم اهلل‪ ،‬وانتهاك عرض أخيه‪ ،‬وتسليط الناس على الكالم بما‬
‫تكلم به‪ ،‬وإ زالة األخوة التي عقدها اهلل بين أهل اإليمان‪ ،‬ومحبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا‪،‬‬
‫وهذا دليل على أن القذف من كبائر الذنوب‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ين تَ ُابوا ِم ْن َب ْع ِد َذِل َ‬ ‫َِّ‬
‫يم } فالتوبة في هذا الموضع‪ ،‬أن‬ ‫َصلَ ُحوا فَِإ َّن اللهَ َغفُ ٌ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫ك َوأ ْ‬ ‫وقوله‪ِ { :‬إال الذ َ‬
‫يكذب القاذف نفسه‪ ،‬ويقر أنه كاذب فيما قال‪ ،‬وهو واجب عليه‪ ،‬أن يكذب نفسه ولو تيقن وقوعه‪،‬‬
‫حيث لم يأت بأربعة شهداء‪ ،‬فإذا تاب القاذف وأصلح عمله وبدل إساءته إحسانا‪ ،‬زال عنه الفسق‪،‬‬
‫وكذلك تقبل شهادته على الصحيح‪ ،‬فإن اهلل غفور رحيم يغفر الذنوب جميعا‪ ،‬لمن تاب وأناب‪،‬‬
‫وإ نما يجلد القاذف‪ ،‬إذا لم يأت بأربعة شهداء إذا لم يكن زوجا‪ ،‬فإن كان زوجا‪ ،‬فقد ذكر بقوله‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ‪ :‬الزنا‪ ،‬وفي ب‪ :‬الكلمة مشطوبة‪.‬‬

‫( ‪)1/561‬‬
‫ات بِاللَّ ِه ِإَّنهُ لَ ِم َن‬
‫اد ٍ‬
‫َح ِد ِه ْم أ َْرَبعُ َشهَ َ‬ ‫اء ِإاَّل أ َْنفُ ُسهُ ْم فَ َشهَ َ‬
‫ادةُ أ َ‬ ‫اجهُ ْم َولَ ْم َي ُك ْن لَهُ ْم ُشهَ َد ُ‬‫ون أ َْز َو َ‬
‫ين َي ْر ُم َ‬
‫َِّ‬
‫َوالذ َ‬
‫ِ‬ ‫َن لَعَنةَ اللَّ ِه علَْي ِه ِإ ْن َك ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َن تَ ْشهَ َد‬‫اب أ ْ‬ ‫ين (‪َ )7‬وَي ْد َرأُ َع ْنهَا اْل َع َذ َ‬ ‫ان م َن اْل َكاذبِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ين (‪َ )6‬واْل َخام َسةُ أ َّ ْ‬ ‫الصَّادق َ‬
‫ِِ‬ ‫َن َغضب اللَّ ِه علَْيها ِإ ْن َك ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أَربع َشه َ ٍ َّ ِ‬
‫ين (‬ ‫ان م َن الصَّادق َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ين (‪َ )8‬واْل َخام َسةَ أ َّ َ َ‬ ‫ادات بِالله ِإَّنهُ لَم َن اْل َكاذبِ َ‬ ‫ََْ َ‬
‫َن اللَّه تََّو ٌ ِ‬ ‫‪ )9‬ولَواَل فَ ْ َّ ِ‬
‫يم (‪)10‬‬ ‫اب َحك ٌ‬ ‫ض ُل الله َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُهُ َوأ َّ َ‬ ‫َ ْ‬

‫ادةُ أ ِ ِ‬ ‫َِّ‬
‫َحده ْم أ َْرَبعُ‬‫اء ِإال أ َْنفُ ُسهُ ْم فَ َشهَ َ َ‬
‫اجهُ ْم َولَ ْم َي ُك ْن لَهُ ْم ُشهَ َد ُ‬
‫ون أ َْز َو َ‬
‫ين َي ْر ُم َ‬
‫{ ‪َ { } 10 - 6‬والذ َ‬
‫ِ‬ ‫َن لَعَنةَ اللَّ ِه علَْي ِه ِإ ْن َك ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َشه َ ٍ َّ ِ‬
‫ين * َوَي ْد َرأُ َعْنهَا‬ ‫ان م َن اْل َكاذبِ َ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ين * َواْل َخام َسةُ أ َّ ْ‬ ‫ادات بِالله ِإَّنهُ لَم َن الصَّادق َ‬ ‫َ‬
‫َن َغض َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َن تَ ْشه َد أَربع َشه َ ٍ َّ ِ‬
‫ب الله َعلَْيهَا ِإ ْن َك َ‬
‫ان‬ ‫ين * َواْل َخام َسةَ أ َّ َ َ‬ ‫ادات بِالله ِإَّنهُ لَم َن اْل َكاذبِ َ‬ ‫اب أ ْ َ ْ َ َ َ‬ ‫اْل َع َذ َ‬
‫َن اللَّه تََّو ٌ ِ‬ ‫َّاد ِقين * ولَوال فَ ْ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫اب َحك ٌ‬ ‫ض ُل الله َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُهُ َوأ َّ َ‬ ‫م َن الص َ َ ْ‬
‫وإ نما كانت شهادات الزوج على زوجته‪ ،‬دارئة عنه الحد‪ ،‬ألن الغالب‪ ،‬أن الزوج ال يقدم على‬
‫رمي زوجته‪ ،‬التي يدنسه ما يدنسها إال إذا كان صادقا‪ ،‬وألن له في ذلك حقا‪ ،‬وخوفا من إلحاق‬
‫اجهُ ْم }‬ ‫َِّ‬
‫ون أ َْز َو َ‬‫ين َي ْر ُم َ‬‫أوالد ليسوا منه به‪ ،‬ولغير ذلك من الحكم المفقودة في غيره فقال‪َ { :‬والذ َ‬
‫أي‪ :‬الحرائر (‪ )1‬ال المملوكات‪.‬‬
‫اء ِإال أ َْنفُ ُسهُ ْم } بأن لم يقيموا شهداء‪ ،‬على ما رموهم به {‬
‫{ َولَ ْم َي ُك ْن لَهُ ْم } على رميهم بذلك { ُشهَ َد ُ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ادةُ أَح ِد ِهم أَربع َشه َ ٍ َّ ِ‬
‫ين } سماها شهادة‪ ،‬ألنها نائبة مناب الشهود‪ ،‬بأن‬‫ادات بِالله ِإَّنهُ لَم َن الصَّادق َ‬‫فَ َشهَ َ َ ْ ْ َ ُ َ‬
‫يقول‪ " :‬أشهد باهلل إني لمن الصادقين فيما رميتها به "‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َن لَعَنةَ اللَّ ِه علَْي ِه ِإ ْن َك ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } أي‪ :‬يزيد في الخامسة مع الشهادة المذكورة‪،‬‬ ‫ان م َن اْل َكاذبِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫{ َواْل َخام َسةُ أ َّ ْ‬
‫مؤكدا تلك الشهادات‪ ،‬بأن يدعو على نفسه‪ ،‬باللعنة إن كان كاذبا‪ ،‬فإذا تم لعانه‪ ،‬سقط عنه حد‬
‫القذف‪ ،‬ظاهر اآليات‪ ،‬ولو سمى الرجل الذي رماها به‪ ،‬فإنه يسقط حقه تبعا لها‪ .‬وهل يقام عليها‬
‫الحد‪ ،‬بمجرد لعان الرجل ونكولها أم تحبس؟ فيه قوالن للعلماء‪ ،‬الذي يدل عليه الدليل‪ ،‬أنه يقام‬
‫َن تَ ْشهَ َد } إلى آخره‪ ،‬فلوال أن العذاب وهو الحد قد‬
‫اب أ ْ‬
‫عليها الحد‪ ،‬بدليل قوله‪َ { :‬وَي ْد َرأُ َع ْنهَا اْل َع َذ َ‬
‫وجب بلعانه‪ ،‬لم يكن لعانها دارئا له‪.‬‬
‫ويدرأ عنها‪ ،‬أي‪ :‬يدفع عنها العذاب‪ ،‬إذ قابلت شهادات الزوج‪ ،‬بشهادات من جنسها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َن تَ ْشه َد أَربع َشه َ ٍ َّ ِ‬
‫ين } وتزيد في الخامسة‪ ،‬مؤكدة لذلك‪ ،‬أن تدعو على‬ ‫ادات بِالله ِإَّنهُ لَم َن اْل َكاذبِ َ‬‫{ أْ َ ْ َ َ َ‬
‫نفسها بالغضب‪ ،‬فإذا تم اللعان بينهما‪ ،‬فرق بينهما إلى األبد‪ ،‬وانتفى الولد المالعن عليه‪ ،‬وظاهر‬
‫اآليات يدل على اشتراط هذه األلفاظ عند اللعان‪ ،‬منه ومنها‪ ،‬واشتراط الترتيب فيها‪ ،‬وأن ال‬
‫ينقص منها شيء‪ ،‬وال يبدل شيء بشيء‪ ،‬وأن اللعان مختص بالزوج إذا رمى امرأته‪ ،‬ال بالعكس‪،‬‬
‫وأن الشبه في الولد مع اللعان ال عبرة به‪ ،‬كما ال يعتبر مع الفراش‪ ،‬وإ نما يعتبر الشبه حيث ال‬
‫مرجح إال هو‪.‬‬
‫َن اللَّه تََّو ٌ ِ‬ ‫{ ولَوال فَ ْ َّ ِ‬
‫يم } وجواب الشرط محذوف‪ ،‬يدل عليه سياق‬
‫اب َحك ٌ‬ ‫ض ُل الله َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُهُ َوأ َّ َ‬ ‫َ ْ‬
‫الكالم أي‪ :‬ألحل بأحد المتالعنين الكاذب منهما‪ ،‬ما دعا به على نفسه‪ ،‬ومن رحمته وفضله‪،‬‬
‫ثبوت هذا الحكم الخاص بالزوجين‪ ،‬لشدة الحاجة إليه‪ ،‬وأن بين [ ص ‪ ] 563‬لكم شدة الزنا‬
‫وفظاعته‪ ،‬وفظاعة القذف به‪ ،‬وأن شرع التوبة من هذه الكبائر وغيرها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين‪ :‬األحرار ولعل الصواب ما أثبت‬

‫( ‪)1/562‬‬

‫ب‬ ‫ِإ َّن الَِّذين جاءوا بِاإْلِ ْف ِك عصبةٌ ِم ْن ُكم اَل تَ ْحسبوه َش ًّرا لَ ُكم ب ْل ُهو َخ ْير لَ ُكم ِل ُك ِّل ام ِر ٍ ِ‬
‫ئ م ْنهُ ْم َما ا ْكتَ َس َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َ ٌ ْ‬ ‫َُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َْ‬ ‫َ َ ُ‬
‫ون َواْل ُم ْؤ ِمَن ُ‬
‫ات‬ ‫ظ َّن اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬ ‫يم (‪ )11‬لَ ْواَل ِإ ْذ َس ِم ْعتُ ُموهُ َ‬ ‫ِمن اإْلِ ثِْم والَِّذي تَولَّى ِك ْبره ِم ْنهم لَه ع َذ ٌ ِ‬
‫اب َعظ ٌ‬ ‫َ ُ ُْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الشه َد ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بِأ َْنفُ ِس ِه ْم َخ ْي ًرا َوقَالُوا َه َذا ِإ ْف ٌ‬
‫اء‬ ‫اء فَِإ ْذ لَ ْم َيأْتُوا بِ َ‬ ‫اءوا َعلَْيه بِأ َْرَب َعة ُشهَ َد َ‬ ‫ين (‪ )12‬لَ ْواَل َج ُ‬ ‫ك ُمبِ ٌ‬
‫الد ْنَيا َواآْل َ ِخ َر ِة لَ َم َّس ُك ْم ِفي‬
‫ض ُل اللَّ ِه َعلَْي ُك ْم و َر ْح َمتُهُ ِفي ُّ‬
‫َ‬ ‫ون (‪َ )13‬ولَ ْواَل فَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫فَأُولَئِ َ ِ َّ ِ‬
‫ك ع ْن َد الله ُه ُم اْل َكاذُب َ‬
‫اه ُك ْم َما لَْي َس لَ ُك ْم بِ ِه ِعْل ٌم‬ ‫اب ع ِظيم (‪ِ )14‬إ ْذ تَلَقَّوَنه بِأَْل ِسَنتِ ُكم وتَقُولُون بِأَ ْفو ِ‬
‫َ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ضتُ ْم فيه َع َذ ٌ َ ٌ‬
‫ما أَفَ ْ ِ ِ‬
‫َ‬
‫َن َنتَ َكلَّ َم بِهَ َذا‬ ‫ِ‬
‫يم (‪َ )15‬ولَ ْواَل ِإ ْذ َسم ْعتُ ُموهُ ُقْلتُ ْم َما َي ُك ُ‬
‫ون لََنا أ ْ‬ ‫ِ َّ ِ ِ‬
‫ونهُ َهيًِّنا َو ُه َو عْن َد الله َعظ ٌ‬ ‫َوتَ ْح َسُب َ‬
‫ودوا ِل ِم ْثِل ِه أَب ًدا ِإ ْن ُك ْنتُم مؤ ِمنِين (‪ )17‬ويبي َّ‬ ‫يم (‪َ )16‬ي ِعظُ ُك َم اللَّهُ أ ْ‬ ‫ك َه َذا بهتَ ٌ ِ‬
‫ِّن اللهُ‬ ‫َ َُ ُ‬ ‫ْ ُْ َ‬ ‫َ‬ ‫َن تَ ُع ُ‬ ‫ان َعظ ٌ‬ ‫ُْ‬ ‫ُس ْب َح َان َ‬
‫يم‬ ‫اح َشةُ ِفي الَِّذين آَمُنوا لَهم ع َذ ٌ ِ‬ ‫َن تَ ِشيع اْلفَ ِ‬ ‫ات واللَّه عِليم ح ِكيم (‪ِ )18‬إ َّن الَِّذ ِ‬ ‫ِ‬
‫اب أَل ٌ‬ ‫ُْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُّون أ ْ‬
‫ين ُيحب َ‬ ‫َ‬ ‫لَ ُك ُم اآْل ََي َ ُ َ ٌ َ ٌ‬
‫ض ُل اللَّ ِه علَْي ُكم ور ْحمتُه وأ َّ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِفي ُّ‬
‫َن اللهَ‬ ‫َ ْ ََ َ ُ َ‬ ‫ون (‪َ )19‬ولَ ْواَل فَ ْ‬ ‫الد ْنَيا َواآْل َخ َر ِة َواللهُ َي ْعلَ ُم َوأ َْنتُ ْم اَل تَ ْعلَ ُم َ‬
‫طِ‬ ‫ات َّ‬ ‫ان وم ْن يتَّبِع ُخطُو ِ‬ ‫ات َّ‬ ‫وف ر ِحيم (‪ )20‬يا أَيُّها الَِّذين آَمُنوا اَل تَتَّبِعوا ُخطُو ِ‬
‫ان‬ ‫الش ْي َ‬ ‫طِ ََ َ ْ َ‬ ‫الش ْي َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َر ُء ٌ َ ٌ‬
‫ِ َّ‬ ‫ض ُل اللَّ ِه علَْي ُكم ور ْحمتُه ما َز َكا ِم ْن ُكم ِم ْن أ ٍ‬ ‫اء َواْل ُم ْن َك ِر َولَ ْواَل فَ ْ‬ ‫فَِإَّنه يأْمر بِاْلفَ ْح َش ِ‬
‫َحد أََب ًدا َولَك َّن اللهَ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ ََ َ ُ َ‬ ‫ُ َ ُُ‬
‫َّع ِة أ ْ‬
‫َن ُي ْؤتُوا أُوِلي اْلقُْرَبى‬ ‫ي َز ِّكي م ْن ي َشاء واللَّه س ِميع عِليم (‪ )21‬واَل يأْتَ ِل أُولُو اْلفَ ْ ِ ِ‬
‫ضل م ْن ُك ْم َوالس َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َُ ُ َ ٌ َ ٌ‬ ‫ُ‬
‫َّ‬ ‫يل اللَّ ِه وْليعفُوا وْليصفَحوا أَاَل تُ ِحبُّون أ ْ ِ َّ‬ ‫ين ِفي سبِ ِ‬ ‫ين واْلمه ِ‬ ‫ِ‬
‫ور‬
‫َن َي ْغف َر اللهُ لَ ُك ْم َواللهُ َغفُ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ َ َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫اج ِر َ‬ ‫َواْل َم َساك َ َ ُ َ‬
‫الد ْنَيا َواآْل َ ِخ َر ِة َولَهُ ْم َع َذ ٌ‬
‫اب‬ ‫ات لُ ِعُنوا ِفي ُّ‬ ‫ات اْل َغ ِافاَل ِت اْلمؤ ِمَن ِ‬
‫ُْ‬
‫ر ِحيم (‪ِ )22‬إ َّن الَِّذين يرمون اْلم ْحصَن ِ‬
‫َ َْ ُ َ ُ َ‬ ‫َ ٌ‬
‫َّ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪َ )24‬ي ْو َمئذ ُي َوفِّي ِه ُم اللهُ‬ ‫يم (‪َ )23‬ي ْو َم تَ ْشهَ ُد َعلَْي ِه ْم أَْلسَنتُهُ ْم َوأ َْيدي ِه ْم َوأ َْر ُجلُهُ ْم بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬ ‫َعظ ٌ‬
‫ات ِلْل َخبِيثِين واْل َخبِيثُون ِلْل َخبِيثَ ِ‬ ‫ين (‪ )25‬اْل َخبِيثَ ُ‬ ‫َن اللَّهَ ُهو اْل َح ُّ‬ ‫ِد َينهُ ُم اْل َح َّ‬
‫ات‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ق اْل ُمبِ ُ‬ ‫َ‬ ‫ون أ َّ‬‫ق َوَي ْعلَ ُم َ‬
‫ون لَهُ ْم َم ْغ ِف َرةٌ َو ِر ْز ٌ‬ ‫ك مب َّرء ِ‬ ‫ات ِللطَِّّيبِين والطَّيِّب ِ َّ ِ ِ‬ ‫َّ‬
‫يم (‪)26‬‬ ‫ق َك ِر ٌ‬ ‫ون م َّما َيقُولُ َ‬ ‫ون للطيَِّبات أُولَئ َ ُ َ ُ َ‬ ‫َ َ ُ َ‬ ‫َوالطيَِّب ُ‬
‫صَبةٌ ِم ْن ُك ْم ال تَ ْح َسُبوهُ َش ًّرا لَ ُك ْم َب ْل ُه َو َخ ْيٌر لَ ُك ْم } ‪ .‬إلى‬ ‫ِ‬
‫اءوا بِاإل ْفك ُع ْ‬
‫ين َج ُ‬
‫َِّ‬
‫{ ‪ِ { } 26 - 11‬إ َّن الذ َ‬
‫آخر اآليات‬
‫يم } لما ذكر فيما تقدم‪ ،‬تعظيم الرمي بالزنا عموما‪ ،‬صار ذلك‬ ‫وهو قوله‪ { :‬لَهُ ْم َم ْغ ِف َرةٌ َو ِر ْز ٌ‬
‫ق َك ِر ٌ‬
‫كأنه مقدمة لهذه القصة‪ ،‬التي وقعت على أشرف النساء‪ ،‬أم المؤمنين رضي اهلل عنها‪ ،‬وهذه‬
‫اآليات‪ ،‬نزلت في قصة اإلفك المشهورة‪ ،‬الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد‪.‬‬
‫وحاصلها أن النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬في بعض غزواته‪ ،‬ومعه زوجته عائشة الصديقة بنت‬
‫الصديق‪ ،‬فانقطع عقدها فانحبست في طلبه ورحلوا جملها وهودجها‪ ،‬فلم يفقدوها‪ ،‬ثم استقل‬
‫الجيش راحال وجاءت مكانهم‪ ،‬وعلمت أنهم إذا فقدوها‪ ،‬رجعوا إليها فاستمروا في مسيرهم‪ ،‬وكان‬
‫صفوان بن المعطل السلمي‪ ،‬من أفاضل الصحابة رضي اهلل عنه‪ ،‬قد عرس في أخريات القوم‬
‫ونام‪ ،‬فرأى عائشة رضي اهلل عنها فعرفها‪ ،‬فأناخ راحلته‪ ،‬فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه‪،‬‬
‫ثم جاء يقود بها بعد ما نزل الجيش في الظهيرة‪ ،‬فلما رأى بعض المنافقين الذين في صحبة النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬في ذلك السفر مجيء صفوان بها في هذه الحال‪ ،‬أشاع ما أشاع‪ ،‬ووشى‬
‫الحديث‪ ،‬وتلقفته األلسن‪ ،‬حتى اغتر بذلك بعض المؤمنين‪ ،‬وصاروا يتناقلون هذا الكالم‪ ،‬وانحبس‬
‫الوحي مدة طويلة عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وبلغ الخبر عائشة بعد ذلك بمدة‪ ،‬فحزنت‬
‫حزنا شديدا‪ ،‬فأنزل اهلل تعالى براءتها في هذه اآليات‪ ،‬ووعظ اهلل المؤمنين‪ ،‬وأعظم ذلك‪ ،‬ووصاهم‬
‫اءوا بِاإل ْف ِك } أي‪ :‬الكذب الشنيع‪ ،‬وهو رمي أم‬ ‫َِّ‬
‫بالوصايا النافعة‪ .‬فقوله تعالى‪ِ { :‬إ َّن الذ َ‬
‫ين َج ُ‬
‫صَبةٌ ِم ْن ُك ْم } أي‪ :‬جماعة منتسبون إليكم يا معشر المؤمنين‪ ،‬منهم المؤمن الصادق‬ ‫المؤمنين { ُع ْ‬
‫[في إيمانه ولكنه اغتر بترويج المنافقين] (‪ )1‬ومنهم المنافق‪.‬‬
‫{ ال تَ ْح َسُبوهُ َش ًّرا لَ ُك ْم َب ْل ُه َو َخ ْيٌر لَ ُك ْم } لما تضمن ذلك تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها‪ ،‬والتنويه‬
‫بذكرها‪ ،‬حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ولما تضمن من بيان‬
‫اآليات المضطر إليها العباد‪ ،‬التي ما زال العمل بها إلى يوم القيامة‪ ،‬فكل هذا خير عظيم‪ ،‬لوال‬
‫مقالة أهل اإلفك لم يحصل ذلك‪ ،‬وإ ذا أراد اهلل أمرا جعل له سببا‪ ،‬ولذلك جعل الخطاب عاما مع‬
‫المؤمنين كلهم‪ ،‬وأخبر أن قدح بعضهم ببعض كقدح في أنفسهم‪ ،‬ففيه أن المؤمنين في توادهم‬
‫وتراحمهم وتعاطفهم‪ ،‬واجتماعهم على مصالحهم‪ ،‬كالجسد الواحد‪ ،‬والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد‬
‫بعضه بعضا‪ ،‬فكما أنه يكره أن يقدح أحد في عرضه‪ ،‬فليكره من كل أحد‪ ،‬أن يقدح في أخيه‬
‫المؤمن‪ ،‬الذي بمنزلة نفسه‪ ،‬وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة‪ ،‬فإنه من نقص إيمانه وعدم نصحه‪.‬‬
‫ب ِم َن اإلثِْم } وهذا وعيد للذين جاءوا باإلفك‪ ،‬وأنهم سيعاقبون على ما‬ ‫{ ِل ُك ِّل ام ِر ٍ ِ‬
‫ئ م ْنهُ ْم َما ا ْكتَ َس َ‬ ‫ْ‬
‫قالوا من ذلك‪ ،‬وقد حد النبي صلى اهلل عليه وسلم منهم جماعة‪َ { ،‬والَِّذي تََولَّى ِك ْب َرهُ } أي‪ :‬معظم‬
‫يم } أال وهو‬ ‫اإلفك‪ ،‬وهو المنافق الخبيث‪ ،‬عبد اهلل بن أبي بن سلول ‪-‬لعنه اهلل‪ { -‬لَه ع َذ ٌ ِ‬
‫اب َعظ ٌ‬ ‫ُ َ‬
‫الخلود في الدرك األسفل من النار‪.‬‬
‫ون َواْل ُم ْؤ ِمَن ُ‬
‫ات‬ ‫ثم أرشد اهلل عباده عند سماع مثل هذا الكالم فقال‪ { :‬لَ ْوال ِإ ْذ َس ِم ْعتُ ُموهُ َ‬
‫ظ َّن اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫بِأ َْنفُ ِس ِه ْم َخ ْي ًرا } أي‪ :‬ظن المؤمنون بعضهم ببعض خيرا‪ ،‬وهو السالمة مما رموا به‪ ،‬وأن ما معهم‬
‫ك}‬
‫من اإليمان المعلوم‪ ،‬يدفع ما قيل فيهم من اإلفك الباطل‪َ { ،‬وقَالُوا } بسبب ذلك الظن { ُس ْب َح َان َ‬
‫ين } أي‪:‬‬ ‫ك ُمبِ ٌ‬
‫أي‪ :‬تنزيها لك من كل سوء‪ ،‬وعن أن تبتلي أصفياءك باألمور الشنيعة‪َ { ،‬ه َذا ِإ ْف ٌ‬
‫كذب وبهت‪ ،‬من أعظم األشياء‪ ،‬وأبينها‪ .‬فهذا من الظن الواجب‪ ،‬حين سماع المؤمن عن أخيه‬
‫المؤمن‪ ،‬مثل هذا الكالم‪ ،‬أن يبرئه بلسانه‪ ،‬ويكذب القائل لذلك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء } أي‪ :‬هال جاء الرامون على ما رموا به‪ ،‬بأربعة شهداء أي‪:‬‬ ‫اءوا َعلَْيه بِأ َْرَب َعة ُشهَ َد َ‬ ‫{ لَ ْوال َج ُ‬
‫ِ‬ ‫اء فَأُولَئِ َ ِ َّ ِ‬ ‫الشه َد ِ‬
‫ُّ‬
‫ون } وإ ن كانوا في أنفسهم قد‬
‫ك عْن َد الله ُه ُم اْل َكاذُب َ‬ ‫عدول مرضيين‪ { .‬فَِإ ْذ لَ ْم َيأْتُوا بِ َ‬
‫تيقنوا ذلك‪ ،‬فإنهم كاذبون في حكم اهلل‪ ،‬ألن اهلل حرم عليهم التكلم بذلك‪ ،‬من دون أربعة شهود‪،‬‬
‫ون } ولم يقل " فأولئك هم الكاذبون " وهذا كله‪ ،‬من تعظيم‬ ‫ِ‬ ‫ولهذا قال‪ { :‬فَأُولَئِ َ ِ َّ ِ‬
‫ك ع ْن َد الله ُه ُم اْل َكاذُب َ‬
‫حرمة عرض المسلم‪ ،‬بحيث ال يجوز اإلقدام على رميه‪ ،‬من دون نصاب الشهادة بالصدق‪.‬‬
‫اآلخ َر ِة } بحيث شملكم إحسانه فيهما‪ ،‬في أمر دينكم‬ ‫الد ْنيا و ِ‬
‫ِ ُّ‬ ‫{ ولَوال فَ ْ َّ ِ‬
‫ض ُل الله َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُهُ في َ َ‬ ‫َ ْ‬
‫يم } الستحقاقكم‬ ‫يه } من شأن اإلفك { ع َذ ٌ ِ‬ ‫ضتُم } أي‪ :‬خضتم { ِف ِ‬ ‫ِ‬
‫اب َعظ ٌ‬ ‫َ‬ ‫يما أَفَ ْ ْ‬ ‫ودنياكم‪ { ،‬لَ َم َّس ُك ْم ف َ‬
‫ذلك بما قلتم‪ ،‬ولكن من فضل اهلل عليكم ورحمته‪ ،‬أن [ ص ‪ ] 564‬شرع لكم التوبة‪ ،‬وجعل‬
‫العقوبة مطهرة للذنوب‪.‬‬
‫{ ِإ ْذ تَلَقَّ ْوَنهُ بِأَْل ِسَنتِ ُك ْم } أي‪ :‬تلقفونه‪ ،‬ويلقيه بعضكم إلى بعض‪ ،‬وتستوشون حديثه‪ ،‬وهو قول‬
‫اه ُك ْم َما لَْي َس لَ ُك ْم بِ ِه ِعْل ٌم } واألمران محظوران‪ ،‬التكلم بالباطل‪ ،‬والقول بال‬
‫باطل‪ { .‬وتَقُولُون بِأَ ْفو ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ونهُ َهيًِّنا } فلذلك أقدم عليه من أقدم من المؤمنين الذين تابوا منه‪ ،‬وتطهروا بعد‬ ‫علم‪َ { ،‬وتَ ْح َسُب َ‬
‫يم } وهذا فيه الزجر البليغ‪ ،‬عن تعاطي بعض الذنوب على وجه التهاون‬ ‫ِ َّ ِ ِ‬
‫ذلك‪َ { ،‬و ُه َو ع ْن َد الله َعظ ٌ‬
‫بها‪ ،‬فإن العبد ال يفيده حسبانه شيئا‪ ،‬وال يخفف من عقوبة الذنب‪ ،‬بل يضاعف الذنب‪ ،‬ويسهل‬
‫عليه مواقعته مرة أخرى‪.‬‬
‫{ ولَ ْوال ِإ ْذ َس ِم ْعتُ ُموهُ } أي‪ :‬وهال إذ سمعتم ‪-‬أيها المؤمنون‪ -‬كالم أهل اإلفك { ُقْلتُ ْم } منكرين‬
‫َن َنتَ َكلَّ َم بِهَ َذا } أي‪ :‬ما ينبغي لنا‪ ،‬وما يليق بنا الكالم‪ ،‬بهذا‬
‫ون لََنا أ ْ‬
‫لذلك‪ ،‬معظمين ألمره‪َ { :‬ما َي ُك ُ‬
‫ان } أي‪ :‬كذب عظيم‪.‬‬ ‫اإلفك المبين‪ ،‬ألن المؤمن يمنعه إيمانه من ارتكاب القبائح { َه َذا ُب ْهتَ ٌ‬
‫ودوا ِل ِمثِْل ِه } أي‪ :‬لنظيره‪ ،‬من رمي المؤمنين بالفجور‪ ،‬فاهلل يعظكم وينصحكم‬ ‫{ َي ِعظُ ُك ُم اللَّهُ أ ْ‬
‫َن تَ ُع ُ‬
‫عن ذلك‪ ،‬ونعم المواعظ والنصائح من ربنا فيجب علينا مقابلتها بالقبول واإلذعان‪ ،‬والتسليم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ ِ ِ‬
‫ين } دل ذلك على أن‬ ‫والشكر له‪ ،‬على ما بين لنا { ِإ َّن اللهَ نع َّما َيعظُ ُك ْم بِه } { ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ُم ْؤ ِمن َ‬
‫اإليمان الصادق‪ ،‬يمنع صاحبه من اإلقدام على المحرمات‪ { .‬ويبيِّن اللَّه لَ ُكم اآلي ِ‬
‫ات } المشتملة‬ ‫َ َُ ُ ُ ُ َ‬
‫على بيان األحكام‪ ،‬والوعظ‪ ،‬والزجر‪ ،‬والترغيب‪ ،‬والترهيب‪ ،‬يوضحها لكم توضيحا جليا‪.‬‬
‫يم } أي‪ :‬كامل العلم عام الحكمة‪ ،‬فمن علمه وحكمته‪ ،‬أن علمكم من علمه‪ ،‬وإ ن كان‬ ‫َّ ِ‬
‫{ َواللهُ َعل ٌ‬
‫ذلك راجعا لمصالحكم في كل وقت‪.‬‬
‫َن تَ ِشيع اْلفَ ِ‬
‫اح َشةُ } أي‪ :‬األمور الشنيعة المستقبحة المستعظمة‪ ،‬فيحبون أن‬ ‫{ ِإ َّن الَِّذ ِ‬
‫َ‬ ‫ُّون أ ْ‬
‫ين ُيحب َ‬
‫َ‬
‫يم } أي‪ :‬موجع للقلب والبدن‪ ،‬وذلك لغشه إلخوانه‬ ‫تشتهر الفاحشة { ِفي الَِّذين آمُنوا لَهم ع َذ ٌ ِ‬
‫اب أَل ٌ‬ ‫ُْ َ‬ ‫َ َ‬
‫المسلمين‪ ،‬ومحبة الشر لهم‪ ،‬وجراءته على أعراضهم‪ ،‬فإذا كان هذا الوعيد‪ ،‬لمجرد محبة أن‬
‫تشيع الفاحشة‪ ،‬واستحالء ذلك بالقلب‪ ،‬فكيف بما هو أعظم من ذلك‪ ،‬من إظهاره‪ ،‬ونقله؟" وسواء‬
‫كانت الفاحشة‪ ،‬صادرة أو غير صادرة‪.‬‬
‫وكل هذا من رحمة اهلل بعباده المؤمنين‪ ،‬وصيانة أعراضهم‪ ،‬كما صان دماءهم وأموالهم‪ ،‬وأمرهم‬
‫َّ‬
‫بما يقتضي المصافاة‪ ،‬وأن يحب أحدهم ألخيه ما يحب لنفسه‪ ،‬ويكره له ما يكره لنفسه‪َ { .‬واللهُ‬
‫ون } فلذلك علمكم‪ ،‬وبين لكم ما تجهلونه‪.‬‬ ‫َي ْعلَ ُم َوأ َْنتُ ْم ال تَ ْعلَ ُم َ‬
‫َن اللَّه رء ٌ ِ‬ ‫{ ولَوال فَ ْ َّ ِ‬
‫يم‬
‫وف َرح ٌ‬ ‫ض ُل الله َعلَْي ُك ْم } قد أحاط بكم من كل جانب { َو َر ْح َمتُهُ } عليكم { َوأ َّ َ َ ُ‬ ‫َ ْ‬
‫} لما بين لكم هذه األحكام والمواعظ‪ ،‬والحكم الجليلة‪ ،‬ولما أمهل من خالف أمره‪ ،‬ولكن فضله‬
‫ورحمته‪ ،‬وأن ذلك وصفه الالزم آثر لكم من الخير الدنيوي واألخروي‪ ،‬ما لن تحصوه‪ ،‬أو‬
‫تعدوه‪.‬‬
‫آمُنوا ال تَتَّبِ ُعوا‬ ‫َِّ‬
‫ين َ‬
‫ولما نهى عن هذا الذنب بخصوصه‪ ،‬نهى عن الذنوب عموما فقال‪َ { :‬يا أَيُّهَا الذ َ‬
‫طِ‬
‫ان } أي‪ :‬طرقه ووساوسه‪.‬‬ ‫الش ْي َ‬ ‫ُخطُو ِ‬
‫ات َّ‬
‫َ‬
‫وخطوات الشيطان‪ ،‬يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب‪ ،‬واللسان والبدن‪ .‬ومن حكمته‬
‫تعالى‪ ،‬أن بين الحكم‪ ،‬وهو‪ :‬النهي عن اتباع خطوات الشيطان‪ .‬والحكمة وهو بيان ما في المنهي‬
‫ان فَِإَّنهُ } أي‪ :‬الشيطان‬
‫طِ‬ ‫الش ْي َ‬ ‫عنه‪ ،‬من الشر المقتضي‪ ،‬والداعي لتركه فقال‪ { :‬وم ْن يتَّبِع ُخطُو ِ‬
‫ات َّ‬
‫ََ َ ْ َ‬
‫اء } أي‪ :‬ما تستفحشه العقول والشرائع‪ ،‬من الذنوب العظيمة‪ ،‬مع ميل بعض‬ ‫{ يأْمر بِاْلفَ ْح َش ِ‬
‫َ ُُ‬
‫النفوس إليه‪َ { .‬واْل ُم ْن َك ِر } وهو ما تنكره العقول وال تعرفه‪ .‬فالمعاصي التي هي خطوات‬
‫الشيطان‪ ،‬ال تخرج عن ذلك‪ ،‬فنهي اهلل عنها للعباد‪ ،‬نعمة منه عليهم أن يشكروه ويذكروه‪ ،‬ألن‬
‫ذلك صيانة لهم عن التدنس بالرذائل والقبائح‪ ،‬فمن إحسانه عليهم‪ ،‬أن نهاهم عنها‪ ،‬كما نهاهم عن‬
‫َح ٍد أََب ًدا } أي‪ :‬ما‬ ‫ِ ِ‬ ‫أكل السموم القاتلة ونحوها‪ { ،‬ولَوال فَ ْ َّ ِ‬
‫ض ُل الله َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُهُ َما َز َكى م ْن ُك ْم م ْن أ َ‬ ‫َ ْ‬
‫تطهر من اتباع خطوات الشيطان‪ ،‬ألن الشيطان يسعى‪ ،‬هو وجنده‪ ،‬في الدعوة إليها وتحسينها‪،‬‬
‫والنفس ميالة إلى السوء أمارة به‪ ،‬والنقص مستول على العبد من جميع جهاته‪ ،‬واإليمان غير‬
‫قوي‪ ،‬فلو خلي وهذه الدواعي‪ ،‬ما زكى أحد بالتطهر من الذنوب والسيئات والنماء بفعل‬
‫الحسنات‪ ،‬فإن الزكاء يتضمن الطهارة والنماء‪ ،‬ولكن فضله ورحمته أوجبا أن يتزكى منكم من‬
‫تزكى‪.‬‬
‫وكان من دعاء النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬اللهم آت نفسي تقواها‪ ،‬وزكها أنت خير من زكاها‪،‬‬
‫ِ َّ ِّ‬
‫أنت وليها وموالها " ولهذا قال‪َ { :‬ولَك َّن اللهَ ُي َزكي َم ْن َي َش ُ‬
‫اء } من يعلم منه أن يزكى بالتزكية‪،‬‬
‫يم }‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬واللهُ َسميعٌ َعل ٌ‬
‫ِ‬ ‫َّع ِة أ ْ‬ ‫{ وال يأْتَ ِل } أي‪ :‬ال يحلف { أُولُو اْلفَ ْ ِ ِ‬
‫َن ُي ْؤتُوا أُوِلي اْلقُْرَبى َواْل َم َساك َ‬
‫ين‬ ‫ضل م ْن ُك ْم َوالس َ‬ ‫َ َ‬
‫صفَ ُحوا } كان من جملة الخائضين في اإلفك " مسطح بن‬ ‫واْلمها ِج ِرين ِفي سبِ ِ َّ ِ‬
‫يل الله َوْلَي ْعفُوا َوْلَي ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َُ‬
‫أثاثة " وهو قريب ألبي بكر الصديق رضي اهلل عنه‪ ،‬وكان مسطح فقيرا من المهاجرين في سبيل‬
‫اهلل‪ ،‬فحلف أبو بكر أن ال ينفق عليه‪ ،‬لقوله الذي قال‪.‬‬
‫فنزلت هذه اآلية‪ ،‬ينهاهم (‪ )2‬عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه‪ ،‬ويحثه على العفو‬
‫َّ‬ ‫والصفح‪ ،‬ويعده بمغفرة اهلل إن غفر له‪ ،‬فقال‪ [ :‬ص ‪ { ] 565‬أَال تُ ِحبُّون أ ْ ِ َّ‬
‫َن َي ْغف َر اللهُ لَ ُك ْم َواللهُ‬ ‫َ‬
‫يم } إذا عاملتم عبيده‪ ،‬بالعفو والصفح‪ ،‬عاملكم بذلك‪ ،‬فقال أبو بكر ‪ -‬لما سمع هذه‬ ‫ِ‬
‫ور َرح ٌ‬
‫َغفُ ٌ‬
‫اآلية‪ :-‬بلى‪ ،‬واهلل إني ألحب أن يغفر اهلل لي‪ ،‬فرجع النفقة إلى مسطح‪ ،‬وفي هذه اآلية دليل على‬
‫النفقة على القريب‪ ،‬وأنه ال تترك النفقة واإلحسان بمعصية اإلنسان‪ ،‬والحث على العفو والصفح‪،‬‬
‫ولو جرى عليه ما جرى من أهل الجرائم‪.‬‬
‫ات } أي‪ :‬العفائف‬ ‫ثم ذكر الوعيد الشديد على رمي المحصنات فقال‪ِ { :‬إ َّن الَِّذين يرمون اْلم ْحصَن ِ‬
‫َ َْ ُ َ ُ َ‬
‫الد ْنيا و ِ‬
‫اآلخ َر ِة }‬ ‫ِ ِ ِ ِ ُّ‬ ‫ِ ِ‬
‫عن الفجور { اْل َغافالت } التي لم يخطر ذلك بقلوبهن { اْل ُم ْؤمَنات لُعُنوا في َ َ‬
‫واللعنة ال تكون إال على ذنب كبير‪.‬‬
‫يم } وهذا زيادة على اللعنة‪،‬‬ ‫وأكد اللعنة بأنها متواصلة عليهم في الدارين { ولَهم ع َذ ٌ ِ‬
‫اب َعظ ٌ‬ ‫َ ُْ َ‬
‫أبعدهم عن رحمته‪ ،‬وأحل بهم شدة نقمته‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } فكل‬ ‫وذلك العذاب يوم القيامة { َي ْو َم تَ ْشهَ ُد َعلَْي ِه ْم أَْلسَنتُهُ ْم َوأ َْيدي ِه ْم َوأ َْر ُجلُهُ ْم بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫جارحة تشهد عليهم بما عملته‪ ،‬ينطقها الذي أنطق كل شيء‪ ،‬فال يمكنه اإلنكار‪ ،‬ولقد عدل في‬
‫ق } أي‪ :‬جزاءهم على‬ ‫العباد‪ ،‬من جعل شهودهم من أنفسهم‪َ { ،‬ي ْو َمئٍِذ ُيوفِّي ِه ُم اللَّهُ ِد َينهُ ُم اْل َح َّ‬
‫َ‬
‫أعمالهم‪ ،‬الجزاء الحق‪ ،‬الذي بالعدل والقسط‪ ،‬يجدون جزاءها موفرا‪ ،‬لم يفقدوا منها شيئا‪،‬‬
‫اها َو َو َج ُدوا َما َع ِملُوا‬ ‫ص َ‬‫َح َ‬ ‫ص ِغ َيرةً َوال َكبِ َيرةً ِإال أ ْ‬ ‫ِ‬
‫اب ال ُي َغاد ُر َ‬ ‫ال َه َذا اْل ِكتَ ِ‬‫ون َيا وْيلَتََنا م ِ‬
‫َ‬ ‫{ َوَيقُولُ َ َ‬
‫َح ًدا } ويعلمون في ذلك الموقف العظيم‪ ،‬أن اهلل هو الحق المبين‪ ،‬فيعلمون‬ ‫ظِل ُم َرب َ‬
‫ُّك أ َ‬
‫ح ِ‬
‫اض ًرا َوال َي ْ‬ ‫َ‬
‫انحصار الحق المبين في اهلل تعالى‪.‬‬
‫فأوصافه العظيمة حق‪ ،‬وأفعاله هي الحق‪ ،‬وعبادته هي الحق‪ ،‬ولقاؤه حق‪ ،‬ووعده ووعيده‪،‬‬
‫وحكمه الديني والجزائي حق‪ ،‬ورسله حق‪ ،‬فال ثم حق‪ ،‬إال في اهلل وما من اهلل‪.‬‬
‫ات } أي‪ :‬كل خبيث من الرجال والنساء‪ ،‬والكلمات‬ ‫ات ِلْل َخبِيثِين واْل َخبِيثُون ِلْل َخبِيثَ ِ‬
‫{ اْل َخبِيثَ ُ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫واألفعال‪ ،‬مناسب للخبيث‪ ،‬وموافق له‪ ،‬ومقترن به‪ ،‬ومشاكل له‪ ،‬وكل طيب من الرجال والنساء‪،‬‬
‫والكلمات واألفعال‪ ،‬مناسب للطيب‪ ،‬وموافق له‪ ،‬ومقترن به‪ ،‬ومشاكل له‪ ،‬فهذه كلمة عامة‬
‫وحصر‪ ،‬ال يخرج منه شيء‪ ،‬من أعظم مفرداته‪ ،‬أن األنبياء ‪-‬خصوصا أولي العزم منهم‪،‬‬
‫خصوصا سيدهم محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬الذي هو أفضل الطيبين من الخلق على اإلطالق ال‬
‫يناسبهم إال كل طيب من النساء‪ ،‬فالقدح في عائشة رضي اهلل عنها بهذا األمر قدح في النبي صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهو المقصود بهذا اإلفك‪ ،‬من قصد المنافقين‪ ،‬فمجرد كونها زوجة للرسول صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬يعلم أنها ال تكون إال طيبة طاهرة من هذا األمر القبيح‪.‬‬
‫فكيف وهي هي؟" صديقة النساء وأفضلهن وأعلمهن وأطيبهن‪ ،‬حبيبة رسول رب العالمين‪ ،‬التي‬
‫لم ينزل الوحي عليه وهو في لحاف زوجة من زوجاته غيرها‪ ،‬ثم صرح بذلك‪ ،‬بحيث ال يبقى‬
‫ون } واإلشارة إلى عائشة‬ ‫ك مب َّرء ِ‬ ‫ِ‬
‫ون م َّما َيقُولُ َ‬ ‫لمبطل مقاال وال لشك وشبهة مجاال فقال‪ { :‬أُولَئ َ ُ َ ُ َ‬
‫رضي اهلل عنها أصال وللمؤمنات المحصنات الغافالت تبعا { لَهُ ْم َم ْغ ِف َرةٌ } تستغرق الذنوب‬
‫يم } في الجنة صادر من الرب الكريم‪.‬‬ ‫ق َك ِر ٌ‬
‫{ َو ِر ْز ٌ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من هامش‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في النسختين‬

‫( ‪)1/563‬‬

‫َهِلهَا َذِل ُك ْم َخ ْيٌر لَ ُك ْم‬


‫َمُنوا اَل تَ ْد ُخلُوا ُبُيوتًا َغ ْي َر ُبُيوتِ ُك ْم َحتَّى تَ ْستَأْنِ ُسوا َوتُ َسلِّ ُموا َعلَى أ ْ‬
‫ين آ َ‬
‫َِّ‬
‫َيا أَيُّهَا الذ َ‬
‫َّ‬
‫ون (‪)27‬‬ ‫لَ َعل ُك ْم تَ َذ َّك ُر َ‬

‫َهِلهَا‬
‫آمُنوا ال تَ ْد ُخلُوا ُبُيوتًا َغْي َر ُبُيوتِ ُك ْم َحتَّى تَ ْستَأْنِ ُسوا َوتُ َسلِّ ُموا َعلَى أ ْ‬
‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫{ ‪َ { } 29 - 27‬يا أَيُّهَا الذ َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ون * } ‪.‬‬‫َذل ُك ْم َخ ْيٌر لَ ُك ْم لَ َعل ُك ْم تَ َذ َّك ُر َ‬
‫يرشد الباري عباده المؤمنين‪ ،‬أن ال يدخلوا بيوتا غير بيوتهم بغير استئذان‪ ،‬فإن في ذلك عدة‬
‫مفاسد‪ :‬منها ما ذكره الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬حيث قال " إنما جعل االستئذان من أجل‬
‫البصر " فبسبب اإلخالل به‪ ،‬يقع البصر على العورات التي داخل البيوت‪ ،‬فإن البيت لإلنسان في‬
‫ستر عورة ما وراءه‪ ،‬بمنزلة الثوب في ستر عورة جسده‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن ذلك يوجب الريبة من الداخل‪ ،‬ويتهم بالشر سرقة أو غيرها‪ ،‬ألن الدخول خفية‪ ،‬يدل‬
‫على الشر‪ ،‬ومنع اهلل المؤمنين من دخول غير بيوتهم َحتَّى َي ْستَأْنِ ُسوا أي‪ :‬يستأذنوا‪ .‬سمي‬
‫َهِلهَا }‬
‫االستئذان استئناسا‪ ،‬ألن به يحصل االستئناس‪ ،‬وبعدمه تحصل الوحشة‪َ { ،‬وتُ َسلِّ ُموا َعلَى أ ْ‬
‫وصفة ذلك‪ ،‬ما جاء في الحديث‪ " :‬السالم عليكم‪ ،‬أأدخل "؟‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫{ َذل ُك ْم } أي‪ :‬االستئذان المذكور { َخ ْيٌر لَ ُك ْم لَ َعل ُك ْم تَ َذ َّك ُر َ‬
‫ون } الشتماله على عدة مصالح‪ ،‬وهو من‬
‫مكارم األخالق الواجبة‪ ،‬فإن أذن‪ ،‬دخل المستأذن‪.‬‬
‫( ‪)1/565‬‬

‫وها َحتَّى ُي ْؤ َذ َن لَ ُك ْم َوإِ ْن ِقي َل لَ ُك ُم ْار ِج ُعوا فَ ْار ِج ُعوا ُه َو أ َْز َكى لَ ُك ْم‬ ‫ِ‬
‫فَِإ ْن لَ ْم تَ ِج ُدوا فيهَا أ َ‬
‫َح ًدا فَاَل تَ ْد ُخلُ َ‬
‫َّ‬ ‫َن تَ ْد ُخلُوا بيوتًا َغ ْير مس ُك َ ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ونة فيهَا َمتَاعٌ لَ ُك ْم َواللهُ‬ ‫َ َْ‬ ‫ُُ‬ ‫اح أ ْ‬‫يم (‪ )28‬لَْي َس َعلَْي ُك ْم ُجَن ٌ‬ ‫ون َعل ٌ‬ ‫َواللهُ بِ َما تَ ْع َملُ َ‬
‫ون (‪)29‬‬ ‫ون َو َما تَ ْكتُ ُم َ‬
‫َي ْعلَ ُم َما تُْب ُد َ‬

‫يل لَ ُك ُم ْار ِج ُعوا فَ ْار ِج ُعوا ُه َو أ َْز َكى لَ ُك ْم‬ ‫وها َحتَّى ُي ْؤ َذ َن لَ ُك ْم َوإِ ْن ِق َ‬ ‫ِ‬
‫{ فَِإ ْن لَ ْم تَ ِج ُدوا فيهَا أ َ‬
‫َح ًدا فَال تَ ْد ُخلُ َ‬
‫ون ٍة ِفيهَا َمتَاعٌ لَ ُك ْم َواللَّهُ َي ْعلَ ُم‬
‫َن تَ ْد ُخلُوا ُبُيوتًا َغ ْي َر َم ْس ُك َ‬ ‫اح أ ْ‬
‫يم * لَْي َس َعلَْي ُك ْم ُجَن ٌ‬ ‫ِ‬
‫ون َعل ٌ‬
‫َّ‬
‫َواللهُ بِ َما تَ ْع َملُ َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫ون َو َما تَ ْكتُ ُم َ‬
‫َما تُْب ُد َ‬
‫يل لَ ُك ُم ْار ِج ُعوا فَ ْار ِج ُعوا } أي‪ :‬فال‬ ‫وها َحتَّى ُي ْؤ َذ َن لَ ُك ْم َوإِ ْن ِق َ‬ ‫ِ‬
‫{ فَِإ ْن لَ ْم تَ ِج ُدوا فيهَا أ َ‬
‫َح ًدا فَال تَ ْد ُخلُ َ‬
‫تمتنعوا من الرجوع‪ ،‬وال تغضبوا منه‪ ،‬فإن صاحب المنزل‪ ،‬لم يمنعكم حقا واجبا لكم‪ ،‬وإ نما هو‬
‫متبرع‪ ،‬فإن شاء أذن أو منع‪ ،‬فأنتم ال يأخذ أحدكم الكبر واالشمئزاز من هذه الحال‪ُ { ،‬ه َو أ َْز َكى‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫يم } فيجازي‬ ‫ون َعل ٌ‬ ‫لَ ُك ْم } أي‪ :‬أشد لتطهيركم من السيئات‪ ،‬وتنميتكم بالحسنات‪َ { .‬واللهُ بِ َما تَ ْع َملُ َ‬
‫كل عامل بعمله‪ ،‬من كثرة وقلة‪ ،‬وحسن وعدمه‪ ،‬هذا الحكم في البيوت المسكونة‪ ،‬سواء كان فيها‬
‫متاع لإلنسان أم ال وفي البيوت غير المسكونة‪ ،‬التي ال متاع فيها لإلنسان‪ ،‬وأما البيوت التي ليس‬
‫فيها أهلها‪ ،‬وفيها متاع اإلنسان المحتاج للدخول إليه‪ ،‬وليس فيها أحد يتمكن من استئذانه‪ ،‬وذلك‬
‫كبيوت الكراء وغيرها‪ ،‬فقد ذكرها بقوله‪:‬‬
‫اح } أي‪ :‬حرج وإ ثم‪ ،‬دل على أن الدخول من غير استئذان في البيوت السابقة‪،‬‬ ‫{ لَْي َس َعلَْي ُك ْم ُجَن ٌ‬
‫ون ٍة ِفيهَا َمتَاعٌ لَ ُك ْم } وهذا من‬
‫َن تَ ْد ُخلُوا ُبُيوتًا َغ ْي َر َم ْس ُك َ‬
‫أنه محرم‪ [ ،‬ص ‪ ] 566‬وفيه حرج { أ ْ‬
‫احترازات القرآن العجيبة‪ ،‬فإن قوله‪ { :‬ال تَ ْد ُخلُوا ُبُيوتًا َغ ْي َر ُبُيوتِ ُك ْم } لفظ عام في كل بيت ليس‬
‫ملكا لإلنسان‪ ،‬أخرج منه تعالى البيوت التي ليست ملكه‪ ،‬وفيها متاعه‪ ،‬وليس فيها ساكن‪ ،‬فأسقط‬
‫ون } أحوالكم الظاهرة والخفية‪ ،‬وعلم‬ ‫َّ‬
‫ون َو َما تَ ْكتُ ُم َ‬
‫الحرج في الدخول إليها‪َ { ،‬واللهُ َي ْعلَ ُم َما تُْب ُد َ‬
‫مصالحكم‪ ،‬فلذلك شرع لكم ما تحتاجون إليه وتضطرون‪ ،‬من األحكام الشرعية‪.‬‬

‫( ‪)1/565‬‬

‫َّ‬ ‫وجهُ ْم َذِل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬


‫ون (‬ ‫ك أ َْز َكى لَهُ ْم ِإ َّن اللهَ َخبِ ٌير بِ َما َي ْ‬
‫صَن ُع َ‬ ‫ص ِار ِه ْم َوَي ْحفَظُوا فُُر َ‬ ‫ُق ْل لْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين َي ُغضُّوا م ْن أ َْب َ‬
‫‪)30‬‬
‫ك أ َْز َكى لَهُ ْم ِإ َّن اللَّهَ َخبِ ٌير بِ َما‬
‫وجهُ ْم َذِل َ‬
‫ص ِار ِه ْم َوَي ْحفَظُوا فُُر َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫{ ‪ُ { } 30‬ق ْل لْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين َي ُغضُّوا م ْن أ َْب َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫صَن ُع َ‬ ‫َي ْ‬
‫أي‪ :‬أرشد المؤمنين‪ ،‬وقل لهم‪ :‬الذين معهم إيمان‪ ،‬يمنعهم من وقوع ما يخل باإليمان‪َ { :‬ي ُغضُّوا‬
‫ص ِار ِه ْم } عن النظر إلى العورات وإ لى النساء األجنبيات‪ ،‬وإ لى المردان‪ ،‬الذين يخاف‬ ‫ِ‬
‫م ْن أ َْب َ‬
‫بالنظر إليهم الفتنة‪ ،‬وإ لى زينة الدنيا التي تفتن‪ ،‬وتوقع في المحذور‪.‬‬
‫وجهُ ْم } عن الوطء الحرام‪ ،‬في قبل أو دبر‪ ،‬أو ما دون ذلك‪ ،‬وعن التمكين من‬ ‫{ َوَي ْحفَظُوا فُُر َ‬
‫مسها‪ ،‬والنظر إليها‪َ { .‬ذِل َ‬
‫ك } الحفظ لألبصار والفروج { أ َْز َكى لَهُ ْم } أطهر وأطيب‪ ،‬وأنمى‬
‫ألعمالهم‪ ،‬فإن من حفظ فرجه وبصره‪ ،‬طهر من الخبث الذي يتدنس به أهل الفواحش‪ ،‬وزكت‬
‫أعماله‪ ،‬بسبب ترك المحرم‪ ،‬الذي (‪ )1‬تطمع إليه النفس وتدعو إليه‪ ،‬فمن ترك شيئا هلل‪ ،‬عوضه‬
‫اهلل خيرا منه‪ ،‬ومن غض بصره عن المحرم‪ ،‬أنار اهلل بصيرته‪ ،‬وألن العبد إذا حفظ فرجه‬
‫وبصره عن الحرام ومقدماته‪ ،‬مع داعي الشهوة‪ ،‬كان حفظه لغيره أبلغ‪ ،‬ولهذا سماه اهلل حفظا‪،‬‬
‫فالشيء المحفوظ إن لم يجتهد حافظه في مراقبته وحفظه‪ ،‬وعمل األسباب الموجبة لحفظه‪ ،‬لم‬
‫ينحفظ‪ ،‬كذلك البصر والفرج‪ ،‬إن لم يجتهد العبد في حفظهما‪ ،‬أوقعاه في باليا ومحن‪ ،‬وتأمل كيف‬
‫أمر بحفظ الفرج مطلقا‪ ،‬ألنه ال يباح في حالة من األحوال‪ ،‬وأما البصر فقال‪َ { :‬ي ُغضُّوا ِم ْن‬
‫ص ِار ِه ْم } أتى بأداة " من " الدالة على التبعيض‪ ،‬فإنه يجوز النظر في بعض األحوال لحاجة‪،‬‬ ‫أ َْب َ‬
‫كنظر الشاهد والعامل والخاطب‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬ثم ذكرهم بعلمه بأعمالهم‪ ،‬ليجتهدوا في حفظ أنفسهم‬
‫من المحرمات‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬التي‪.‬‬

‫( ‪)1/566‬‬

‫ظهََر ِم ْنهَا‬ ‫ين ِز َينتَهُ َّن ِإاَّل َما َ‬ ‫ِ‬


‫وجهُ َّن َواَل ُي ْبد َ‬
‫ظ َن فُُر َ‬ ‫ص ِار ِه َّن َوَي ْحفَ ْ‬ ‫ات ي ْغض ْ ِ‬
‫ض َن م ْن أ َْب َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو ُق ْل لْل ُم ْؤ ِمَن َ ُ‬
‫اء ُب ُعولَتِ ِه َّن أ َْو‬
‫ض ِر ْبن بِ ُخم ِر ِه َّن علَى جيوبِ ِه َّن واَل ي ْب ِدين ِز َينتَه َّن ِإاَّل ِلبعولَتِ ِه َّن أَو آَبائِ ِه َّن أَو آَب ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ ُُ‬ ‫َوْلَي ْ َ ُ‬
‫ت‬‫َخ َواتِ ِه َّن أ َْو نِ َسائِ ِه َّن أ َْو َما َملَ َك ْ‬
‫اء ُب ُعولَتِ ِه َّن أ َْو ِإ ْخ َوانِ ِه َّن أ َْو َبنِي ِإ ْخ َوانِ ِه َّن أ َْو َبنِي أ َ‬
‫أ َْبَنائِ ِه َّن أَو أ َْبَن ِ‬
‫ْ‬
‫النس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ َِّ‬ ‫ين َغ ْي ِر أُوِلي اإْلِ ْرَب ِة ِم َن ِّ‬ ‫ِ‬
‫اء‬ ‫ظهَ ُروا َعلَى َع ْو َرات ِّ َ‬ ‫ال أ َِو الط ْف ِل الذ َ‬
‫ين لَ ْم َي ْ‬ ‫الر َج ِ‬ ‫أ َْي َم ُانهُ َّن أ َِو التَّابِع َ‬
‫ون لَ َعلَّ ُك ْم‬
‫يعا أَيُّهَا اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫َّ ِ ِ‬
‫وبوا ِإلَى الله َجم ً‬
‫ِ‬
‫ين م ْن ِز َينت ِه َّن َوتُ ُ‬
‫ض ِر ْبن بِأَرجِل ِه َّن ِليعلَم ما ي ْخ ِف ِ‬
‫ُْ َ َ ُ َ‬ ‫َواَل َي ْ َ ْ ُ‬
‫ون (‪)31‬‬ ‫ِ‬
‫تُْفل ُح َ‬
‫ين ِز َينتَهُ َّن ِإال َما‬ ‫ِ‬ ‫ص ِار ِه َّن َوَي ْحفَ ْ‬ ‫ات ي ْغض ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وجهُ َّن َوال ُي ْبد َ‬
‫ظ َن فُُر َ‬ ‫ض َن م ْن أ َْب َ‬ ‫{ ‪َ { } 31‬و ُق ْل لْل ُم ْؤ ِمَن َ ُ‬
‫ض ِر ْبن بِ ُخم ِر ِه َّن علَى جيوبِ ِه َّن وال ي ْب ِدين ِز َينتَه َّن ِإال ِلبعولَتِ ِه َّن أَو آبائِ ِه َّن أَو آب ِ‬
‫اء‬ ‫َ ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ ُُ‬ ‫ظهََر م ْنهَا َوْلَي ْ َ ُ‬
‫َخ َواتِ ِه َّن أ َْو نِ َسائِ ِه َّن أ َْو َما‬
‫اء ُب ُعولَتِ ِه َّن أ َْو ِإ ْخ َوانِ ِه َّن أ َْو َبنِي ِإ ْخ َوانِ ِه َّن أ َْو َبنِي أ َ‬
‫بعولَتِ ِه َّن أَو أ َْبَنائِ ِه َّن أَو أ َْبَن ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُُ‬
‫ظهروا علَى عور ِ‬ ‫ِّ َِّ‬ ‫اإلرَب ِة ِم َن ِّ‬ ‫ِ‬
‫ات‬ ‫ين لَ ْم َي ْ َ ُ َ َ ْ َ‬ ‫ال أ َِو الط ْف ِل الذ َ‬ ‫الر َج ِ‬
‫ين َغ ْي ِر أُوِلي ْ‬ ‫ت أ َْي َم ُانهُ َّن أ َِو التَّابِع َ‬ ‫َملَ َك ْ‬
‫ون لَ َعلَّ ُك ْم‬
‫يعا أَيُّهَ اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫َّ ِ ِ‬
‫وبوا ِإلَى الله َجم ً‬
‫ِ‬ ‫ض ِر ْبن بِأَرجِل ِه َّن ِليعلَم ما ي ْخ ِف ِ‬
‫ين م ْن ِز َينت ِه َّن َوتُ ُ‬
‫ُْ َ َ ُ َ‬ ‫الن َساء َوال َي ْ َ ْ ُ‬
‫ِّ ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تُْفل ُح َ‬
‫لما أمر المؤمنين بغض األبصار وحفظ الفروج‪ ،‬أمر المؤمنات بذلك‪ ،‬فقال‪ { :‬و ُق ْل ِلْلمؤ ِمَن ِ‬
‫ات‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫ص ِار ِه َّن } عن النظر إلى العورات والرجال‪ ،‬بشهوة ونحو ذلك من النظر‬ ‫ي ْغض ْ ِ‬
‫ض َن م ْن أ َْب َ‬ ‫َ ُ‬
‫وجهُ َّن } من التمكين من جماعها‪ ،‬أو مسها‪ ،‬أو النظر المحرم إليها‪َ { .‬وال‬ ‫ظ َن فُُر َ‬ ‫الممنوع‪َ { ،‬وَي ْحفَ ْ‬
‫ين ِز َينتَهُ َّن } كالثياب الجميلة والحلي‪ ،‬وجميع البدن كله من الزينة‪ ،‬ولما كانت الثياب الظاهرة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ُي ْبد َ‬
‫ظهََر ِم ْنهَا } أي‪ :‬الثياب الظاهرة‪ ،‬التي جرت العادة بلبسها إذا لم يكن‬ ‫ال بد لها منها‪ ،‬قال‪ِ { :‬إال َما َ‬
‫ض ِر ْب َن بِ ُخ ُم ِر ِه َّن َعلَى ُجُيوبِ ِه َّن } وهذا لكمال االستتار‪ ،‬ويدل‬
‫في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها‪َ { ،‬وْلَي ْ‬
‫ذلك على أن الزينة التي يحرم إبداؤها‪ ،‬يدخل فيها جميع البدن‪ ،‬كما ذكرنا‪ .‬ثم كرر النهي عن‬
‫اء ُب ُعولَتِ ِه َّن }‬
‫إبداء زينتهن‪ ،‬ليستثني منه قوله‪ِ { :‬إال ِلبعولَتِ ِه َّن } أي‪ :‬أزواجهن { أَو آبائِ ِه َّن أَو آب ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُُ‬
‫يشمل األب بنفسه‪ ،‬والجد وإ ن عال { أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن } ويدخل فيه األبناء وأبناء‬
‫َخ َواتِ ِه َّن أ َْو‬
‫البعولة مهما نزلوا { أ َْو ِإ ْخ َوانِ ِه َّن أ َْو َبنِي ِإ ْخ َوانِ ِه َّن } أشقاء‪ ،‬أو ألب‪ ،‬أو ألم‪ { .‬أ َْو َبنِي أ َ‬
‫نِ َسائِ ِه َّن } أي‪ :‬يجوز للنساء أن ينظر بعضهن إلى بعض مطلقا‪ ،‬ويحتمل أن اإلضافة تقتضي‬
‫الجنسية‪ ،‬أي‪ :‬النساء المسلمات‪ ،‬الالتي من جنسكم‪ ،‬ففيه دليل لمن قال‪ :‬إن المسلمة ال يجوز أن‬
‫تنظر إليها الذمية‪.‬‬
‫ت أ َْي َم ُانهُ َّن } فيجوز للمملوك إذا كان كله لألنثى‪ ،‬أن ينظر لسيدته‪ ،‬ما دامت مالكة له‬ ‫{ أ َْو َما َملَ َك ْ‬
‫ال } أي‪:‬‬ ‫اإلرَب ِة ِم َن ِّ‬
‫الر َج ِ‬
‫ين َغ ْي ِر أُوِلي ْ‬
‫ِ‬
‫كله‪ ،‬فإن زال الملك أو بعضه‪ ،‬لم يجز النظر‪ { .‬أ َِو التَّابِع َ‬
‫أو الذين يتبعونكم‪ ،‬ويتعلقون بكم‪ ،‬من الرجال الذين ال إربة لهم في هذه الشهوة‪ ،‬كالمعتوه الذي ال‬
‫يدري ما هنالك‪ ،‬وكالعنين الذي لم يبق له شهوة‪ ،‬ال في فرجه‪ ،‬وال في قلبه‪ ،‬فإن هذا ال محذور من‬
‫نظره‪.‬‬
‫النس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ َِّ‬
‫اء } أي‪ :‬األطفال الذين دون التمييز‪ ،‬فإنه يجوز‬ ‫ظهَ ُروا َعلَى َع ْو َرات ِّ َ‬ ‫{ أ َِو الط ْف ِل الذ َ‬
‫ين لَ ْم َي ْ‬
‫نظرهم للنساء [ ص ‪ ] 567‬األجانب‪ ،‬وعلل تعالى ذلك‪ ،‬بأنهم لم يظهروا على عورات النساء‪،‬‬
‫أي‪ :‬ليس لهم علم بذلك‪ ،‬وال وجدت فيهم الشهوة بعد ودل هذا‪ ،‬أن المميز تستتر منه المرأة‪ ،‬ألنه‬
‫يظهر على عورات النساء‪.‬‬
‫ين ِم ْن ِز َينتِ ِه َّن } أي‪ :‬ال يضربن األرض بأرجلهن‪ ،‬ليصوت‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ض ِر ْب َن بِأ َْر ُجل ِه َّن لُي ْعلَ َم َما ُي ْخف َ‬
‫{ َوال َي ْ‬
‫ما عليهن من حلي‪ ،‬كخالخل وغيرها‪ ،‬فتعلم زينتها بسببه‪ ،‬فيكون وسيلة إلى الفتنة‪.‬‬
‫ويؤخذ من هذا ونحوه‪ ،‬قاعدة سد الوسائل‪ ،‬وأن األمر إذا كان مباحا‪ ،‬ولكنه يفضي إلى محرم‪ ،‬أو‬
‫يخاف من وقوعه‪ ،‬فإنه يمنع منه‪ ،‬فالضرب بالرجل في األرض‪ ،‬األصل أنه مباح‪ ،‬ولكن لما كان‬
‫وسيلة لعلم الزينة‪ ،‬منع منه‪.‬‬
‫ولما أمر تعالى بهذه األوامر الحسنة‪ ،‬ووصى بالوصايا المستحسنة‪ ،‬وكان ال بد من وقوع تقصير‬
‫َّ ِ ِ‬
‫يعا أَيُّهَ اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫ون } ألن‬ ‫وبوا ِإلَى الله َجم ً‬
‫من المؤمن بذلك‪ ،‬أمر اهلل تعالى بالتوبة‪ ،‬فقال‪َ { :‬وتُ ُ‬
‫ون } فال سبيل إلى‬ ‫َّ ِ‬
‫المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة ثم علق على ذلك الفالح‪ ،‬فقال‪ { :‬لَ َعل ُك ْم تُْفل ُح َ‬
‫الفالح إال بالتوبة‪ ،‬وهي الرجوع مما يكرهه اهلل‪ ،‬ظاهرا وباطنا‪ ،‬إلى‪ :‬ما يحبه ظاهرا وباطنا‪،‬‬
‫ودل هذا‪ ،‬أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة‪ ،‬ألن اهلل خاطب المؤمنين جميعا‪ ،‬وفيه الحث على‬
‫وبوا ِإلَى اللَّ ِه } أي‪ :‬ال لمقصد غير وجهه‪ ،‬من سالمة من آفات‬
‫اإلخالص بالتوبة في قوله‪َ { :‬وتُ ُ‬
‫الدنيا‪ ،‬أو رياء وسمعة‪ ،‬أو نحو ذلك من المقاصد الفاسدة‪.‬‬

‫( ‪)1/566‬‬

‫ونوا فُقَراء ي ْغنِ ِهم اللَّه ِم ْن فَ ْ ِ ِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّال ِح ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضله َواللهُ‬ ‫ين م ْن عَباد ُك ْم َوإِ َمائ ُك ْم ِإ ْن َي ُك ُ َ َ ُ ُ ُ‬ ‫امى م ْن ُك ْم َوالص َ‬ ‫َوأ َْنك ُحوا اأْل ََي َ‬
‫ون‬ ‫ف الَِّذين اَل ي ِج ُدون نِ َكاحا حتَّى ي ْغنِيهم اللَّه ِم ْن فَ ْ ِ ِ َِّ‬ ‫اسع عِليم (‪ )32‬وْليستَع ِف ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َي ْبتَ ُغ َ‬ ‫ضله َوالذ َ‬ ‫َ َ َ ً َ ُ َ ُُ ُ‬ ‫َ َْ ْ‬ ‫َو ٌ َ ٌ‬
‫ال اللَّ ِه الَِّذي آَتَا ُك ْم َواَل‬‫وهم ِم ْن م ِ‬
‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ت أ َْي َم ُان ُك ْم فَ َكاتُِب ُ‬
‫وه ْم ِإ ْن َعل ْمتُ ْم في ِه ْم َخ ْي ًرا َوآَتُ ُ ْ‬ ‫اب ِم َّما َملَ َك ْ‬ ‫ِ‬
‫اْلكتَ َ‬
‫الد ْنَيا َو َم ْن ُي ْك ِر ُّه َّن فَِإ َّن اللَّهَ ِم ْن‬
‫ض اْل َحَي ِاة ُّ‬ ‫اء ِإ ْن أَر ْدن تَحصً ِ‬
‫ُّنا لتَْبتَ ُغوا َع َر َ‬ ‫َ َ َ‬
‫تُ ْك ِر ُهوا فَتَياتِ ُكم علَى اْلبِ َغ ِ‬
‫َ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪)33‬‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫َب ْعد ِإ ْك َراه ِه َّن َغفُ ٌ‬

‫اء ُي ْغنِ ِه ُم‬


‫ونوا فُقََر َ‬ ‫ين ِم ْن ِعَب ِاد ُك ْم َوإِ َمائِ ُك ْم ِإ ْن َي ُك ُ‬ ‫ِِ‬
‫امى م ْن ُك ْم َوالصَّالح َ‬
‫ِ‬
‫األي َ‬
‫ِ‬
‫{ ‪َ { } 33 - 32‬وأ َْنك ُحوا َ‬
‫ضِل ِه‬‫احا َحتَّى ُي ْغنَِيهُ ُم اللَّهُ ِم ْن فَ ْ‬ ‫ف الَِّذين ال ي ِج ُد ِ‬
‫ون ن َك ً‬ ‫َ َ َ‬
‫اسع عِليم * وْليستَع ِف ِ‬
‫ضله َواللهُ َو ٌ َ ٌ َ َ ْ ْ‬
‫اللَّه ِم ْن فَ ْ ِ ِ َّ ِ‬
‫ُ‬
‫ال اللَّ ِه الَِّذي‬ ‫وهم ِم ْن م ِ‬
‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ت أ َْي َم ُان ُك ْم فَ َكاتُِب ُ‬
‫وه ْم ِإ ْن َعل ْمتُ ْم في ِه ْم َخ ْي ًرا َوآتُ ُ ْ‬ ‫اب ِم َّما َملَ َك ْ‬ ‫ِ‬
‫ون اْلكتَ َ‬
‫ين َي ْبتَ ُغ َ‬
‫َِّ‬
‫َوالذ َ‬
‫ض اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫الد ْنَيا َو َم ْن ُي ْك ِر ُّه َّن فَِإ َّن‬ ‫اء ِإ ْن أَر ْدن تَحصً ِ‬
‫ُّنا لتَْبتَ ُغوا َع َر َ‬ ‫َ َ َ‬
‫آتَا ُكم وال تُ ْك ِر ُهوا فَتَياتِ ُكم علَى اْلبِ َغ ِ‬
‫َ ْ َ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫اللهَ م ْن َب ْعد ِإ ْك َراه ِه َّن َغفُ ٌ‬
‫يأمر تعالى األولياء واألسياد‪ ،‬بإنكاح من تحت واليتهم من األيامى وهم‪ :‬من ال أزواج لهم‪ ،‬من‬
‫رجال‪ ،‬ونساء ثيب‪ ،‬وأبكار‪ ،‬فيجب على القريب وولي اليتيم‪ ،‬أن يزوج من يحتاج للزواج‪ ،‬ممن‬
‫تجب نفقته عليه‪ ،‬وإ ذا كانوا مأمورين بإنكاح من تحت أيديهم‪ ،‬كان أمرهم بالنكاح بأنفسهم من باب‬
‫أولى‪.‬‬
‫ين ِم ْن ِعَب ِاد ُك ْم َوإِ َمائِ ُك ْم } يحتمل أن المراد بالصالحين‪ ،‬صالح الدين‪ ،‬وأن الصالح من‬ ‫ِِ‬
‫{ َوالصَّالح َ‬
‫العبيد واإلماء ‪-‬وهو الذي ال يكون فاجرا زانيا‪ -‬مأمور سيده بإنكاحه‪ ،‬جزاء له على صالحه‪،‬‬
‫وترغيبا له فيه‪ ،‬وألن الفاسد بالزنا‪ ،‬منهي عن تزوجه‪ ،‬فيكون مؤيدا للمذكور في أول السورة‪ ،‬أن‬
‫نكاح الزاني والزانية محرم حتى يتوب‪ ،‬ويكون التخصيص بالصالح في العبيد واإلماء دون‬
‫األحرار‪ ،‬لكثرة وجود ذلك في العبيد عادة‪ ،‬ويحتمل أن المراد بالصالحين الصالحون للتزوج‬
‫المحتاجون إليه (‪ )1‬من العبيد واإلماء‪ ،‬يؤيد هذا المعنى‪ ،‬أن السيد غير مأمور بتزويج مملوكه‪،‬‬
‫قبل حاجته إلى الزواج‪ .‬وال يبعد إرادة المعنيين كليهما‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫ضِل ِه } فال يمنعكم ما‬
‫اء } أي‪ :‬األزواج والمتزوجين { ُي ْغنِ ِه ُم اللَّهُ ِم ْن فَ ْ‬ ‫وقوله‪ِ { :‬إ ْن َي ُك ُ‬
‫ونوا فُقََر َ‬
‫تتوهمون‪ ،‬من أنه إذا تزوج‪ ،‬افتقر بسبب كثرة العائلة ونحوه‪ ،‬وفيه حث على التزوج‪ ،‬ووعد‬
‫يم } بمن يستحق فضله‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫للمتزوج بالغنى بعد الفقر‪َ { .‬واللهُ َواسعٌ } كثير الخير عظيم الفضل { َعل ٌ‬
‫الديني والدنيوي أو أحدهما‪ ،‬ممن ال يستحق‪ ،‬فيعطي كال ما علمه واقتضاه حكمه‪.‬‬
‫ضِل ِه } هذا حكم العاجز عن النكاح‪ ،‬أمره‬ ‫احا َحتَّى ُي ْغنَِيهُ ُم اللَّهُ ِم ْن فَ ْ‬ ‫ف الَِّذين ال ي ِج ُد ِ‬
‫ون ن َك ً‬
‫َ َ َ‬
‫{ وْليستَع ِف ِ‬
‫َ َْ ْ‬
‫اهلل أن يستعفف‪ ،‬أن يكف عن المحرم‪ ،‬ويفعل األسباب التي تكفه عنه‪ ،‬من صرف دواعي قلبه‬
‫باألفكار التي تخطر بإيقاعه فيه‪ ،‬ويفعل أيضا‪ ،‬كما قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬يا معشر‬
‫الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " وقوله‪:‬‬
‫احا } أي‪ :‬ال يقدرون نكاحا‪ ،‬إما لفقرهم أو فقر أوليائهم وأسيادهم‪ ،‬أو‬ ‫{ الَِّذين ال ي ِج ُد ِ‬
‫ون ن َك ً‬
‫َ َ َ‬
‫امتناعهم من تزويجهم [وليس لهم] (‪ )2‬من قدرة على إجبارهم على ذلك‪ ،‬وهذا التقدير‪ ،‬أحسن‬
‫من تقدير من قدر " ال يجدون مهر نكاح " وجعلوا المضاف إليه نائبا مناب المضاف‪ ،‬فإن في ذلك‬
‫محذورين‪ :‬أحدهما‪ :‬الحذف في الكالم‪ ،‬واألصل عدم الحذف‪.‬‬
‫والثاني كون المعنى قاصرا على من له حاالن‪ ،‬حالة غنى بماله‪ ،‬وحالة عدم‪ ،‬فيخرج العبيد‬
‫واإلماء ومن إنكاحه على وليه‪ ،‬كما ذكرنا‪.‬‬
‫ضِل ِه } وعد [ ص ‪ ] 568‬للمستعفف أن اهلل سيغنيه وييسر له أمره‪ ،‬وأمر‬ ‫{ َحتَّى ُي ْغنَِيهُ ُم اللَّهُ ِم ْن فَ ْ‬
‫له بانتظار الفرج‪ ،‬لئال يشق عليه ما هو فيه‪.‬‬
‫وه ْم ِإ ْن َعِل ْمتُ ْم ِفي ِه ْم َخ ْي ًرا } أي‪ :‬من ابتغى‬
‫ت أ َْي َم ُان ُك ْم فَ َكاتُِب ُ‬
‫اب ِم َّما َملَ َك ْ‬ ‫ِ‬
‫ون اْلكتَ َ‬
‫ين َي ْبتَ ُغ َ‬
‫َِّ‬
‫وقوله { َوالذ َ‬
‫وطلب منكم الكتابة‪ ،‬وأن يشتري نفسه‪ ،‬من عبيد وإ ماء‪ ،‬فأجيبوه إلى ما طلب‪ ،‬وكاتبوه‪ِ { ،‬إ ْن‬
‫َعِل ْمتُ ْم ِفي ِه ْم } أي‪ :‬في الطالبين للكتابة { َخ ْي ًرا } أي‪ :‬قدرة على التكسب‪ ،‬وصالحا في دينه‪ ،‬ألن‬
‫في الكتابة تحصيل المصلحتين‪ ،‬مصلحة العتق والحرية‪ ،‬ومصلحة العوض الذي يبذله في فداء‬
‫نفسه‪ .‬وربما جد واجتهد‪ ،‬وأدرك لسيده في مدة الكتابة من المال ما ال يحصل في رقه‪ ،‬فال يكون‬
‫ضرر على السيد في كتابته‪ ،‬مع حصول عظيم المنفعة للعبد‪ ،‬فلذلك أمر اهلل بالكتابة على هذا‬
‫الوجه أمر إيجاب‪ ،‬كما هو الظاهر‪ ،‬أو أمر استحباب على القول اآلخر‪ ،‬وأمر بمعاونتهم على‬
‫ال اللَّ ِه الَِّذي آتَا ُك ْم }‬
‫وهم ِم ْن م ِ‬
‫َ‬ ‫كتابتهم‪ ،‬لكونهم محتاجين لذلك‪ ،‬بسبب أنهم ال مال لهم‪ ،‬فقال‪َ { :‬وآتُ ُ ْ‬
‫يدخل في ذلك أمر سيده الذي كاتبه‪ ،‬أن يعطيه من كتابته أو يسقط عنه منها‪ ،‬وأمر الناس‬
‫بمعونتهم‪.‬‬
‫ال اللَّ ِه الَِّذي آتَا ُك ْم }‬
‫ولهذا جعل اهلل للمكاتبين قسطا من الزكاة‪ ،‬ورغب في إعطائه بقوله‪ِ { :‬م ْن م ِ‬
‫َ‬
‫أي‪ :‬فكما أن المال مال اهلل‪ ،‬وإ نما الذي بأيديكم عطية من اهلل لكم ومحض منه‪ ،‬فأحسنوا لعباد اهلل‪،‬‬
‫كما أحسن اهلل إليكم‪.‬‬
‫ومفهوم اآلية الكريمة‪ ،‬أن العبد إذا لم يطلب الكتابة‪ ،‬ال يؤمر سيده أن يبتدئ بكتابته‪ ،‬وأنه إذا لم‬
‫يعلم منه خيرا‪ ،‬بأن علم منه عكسه‪ ،‬إما أنه يعلم أنه ال كسب له‪ ،‬فيكون بسبب ذلك كال على‬
‫الناس‪ ،‬ضائعا‪ ،‬وإ ما أن يخاف إذا أعتق‪ ،‬وصار في حرية نفسه‪ ،‬أن يتمكن من الفساد‪ ،‬فهذا ال‬
‫يؤمر بكتابته‪ ،‬بل ينهى عن ذلك لما فيه من المحذور المذكور‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪ { :‬وال تُ ْك ِر ُهوا فَتَياتِ ُكم } أي‪ :‬إماءكم { علَى اْلبِ َغ ِ‬
‫اء } أي‪ :‬أن تكون زانية { ِإ ْن أ ََر ْد َن‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ُّنا } ألنه ال يتصور إكراهها إال بهذه الحال‪ ،‬وأما إذا لم ترد تحصنا فإنها تكون بغيا‪ ،‬يجب‬ ‫تَ َحصً‬
‫على سيدها منعها من ذلك‪ ،‬وإ نما هذا نهى لما كانوا يستعملونه في الجاهلية‪ ،‬من كون السيد يجبر‬
‫ض اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫الد ْنَيا } فال يليق بكم أن‬ ‫ِ‬
‫أمته على البغاء‪ ،‬ليأخذ منها أجرة ذلك‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬لتَْبتَ ُغوا َعَر َ‬
‫تكون إماؤكم خيرا منكم‪ ،‬وأعف عن الزنا‪ ،‬وأنتم تفعلون بهن ذلك‪ ،‬ألجل عرض الحياة‪ ،‬متاع‬
‫قليل يعرض ثم يزول‪.‬‬
‫فكسبكم النزاهة‪ ،‬والنظافة‪ ،‬والمروءة ‪-‬بقطع النظر عن ثواب اآلخرة وعقابها‪ -‬أفضل من كسبكم‬
‫العرض القليل‪ ،‬الذي يكسبكم الرذالة والخسة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ثم دعا من جرى منه اإلكراه إلى التوبة‪ ،‬فقال‪َ { :‬و َم ْن ُي ْك ِرههُّ َّن فَِإ َّن اللهَ م ْن َب ْعد ِإ ْك َراه ِه َّن َغفُ ٌ‬
‫ور‬
‫يم } فليتب إلى اهلل‪ ،‬وليقلع عما صدر منه مما يغضبه‪ ،‬فإذا فعل ذلك‪ ،‬غفر اهلل ذنوبه‪ ،‬ورحمه‬ ‫ِ‬
‫َرح ٌ‬
‫كما رحم نفسه بفكاكها من العذاب‪ ،‬وكما رحم أمته بعدم إكراهها على ما يضرها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين‪ :‬الصالحين للتزوج المحتاجين إليه‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من ب بخط مغاير‪ ،‬وقد حذف بعدها حرف (من)‪.‬‬

‫( ‪)1/567‬‬

‫ات ومثَاًل ِمن الَِّذين َخلَوا ِم ْن قَْبِل ُكم ومو ِع َ ِ ِ‬


‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ظةً لْل ُمتَّق َ‬
‫ين (‪)34‬‬ ‫ْ َ َْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫َولَقَ ْد أ َْن َزْلَنا إلَْي ُك ْم آََيات ُمَبيَِّن َ َ‬
‫ات ومثَال ِمن الَِّذين َخلَوا ِم ْن قَْبِل ُكم ومو ِع َ ِ ِ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ظةً لْل ُمتَّق َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ْ َ َْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪َ { } 34‬ولَقَ ْد أ َْن َزْلَنا إلَْي ُك ْم َآيات ُمَبيَِّن َ َ‬
‫هذا تعظيم وتفخيم لهذه اآليات‪ ،‬التي تالها على عباده‪ ،‬ليعرفوا قدرها‪ ،‬ويقوموا بحقها فقال‪:‬‬
‫ات مبيَِّن ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ات } أي‪ :‬واضحات الداللة‪ ،‬على كل أمر تحتاجون إليه‪ ،‬من‬ ‫{ َولَقَ ْد أَنزْلَنا ِإلَْي ُك ْم َآي ُ َ‬
‫ين‬ ‫ِ َِّ‬
‫األصول والفروع‪ ،‬بحيث ال يبقى فيها إشكال وال شبهة‪ { ،‬و } أنزلنا إليكم أيضا { مثال م َن الذ َ‬
‫َخلَ ْوا ِم ْن قَْبِل ُك ْم } من أخبار األولين‪ ،‬الصالح منهم والطالح‪ ،‬وصفة أعمالهم‪ ،‬وما جرى لهم وجرى‬
‫عليهم تعتبرونه مثاال ومعتبرا‪ ،‬لمن فعل مثل أفعالهم أن يجازى مثل ما جوزوا‪.‬‬
‫{ ومو ِع َ ِ ِ‬
‫ين } أي‪ :‬وأنزلنا إليكم موعظة للمتقين‪ ،‬من الوعد والوعيد‪ ،‬والترغيب‬ ‫ظةً لْل ُمتَّق َ‬ ‫َ َْ‬
‫والترهيب‪ ،‬يتعظ بها المتقون‪ ،‬فينكفون عما يكره اهلل إلى ما يحبه اهلل‪.‬‬

‫( ‪)1/568‬‬

‫اجةُ َكأََّنهَا‬
‫الز َج َ‬ ‫اج ٍة ُّ‬ ‫اح اْل ِمصب ِ‬
‫اح في ُز َج َ‬‫َْ ُ‬ ‫صَب ٌ‬ ‫ض مثَ ُل ُن ِ ِ ٍ ِ ِ‬
‫ور ِه َكم ْش َكاة فيهَا م ْ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َواأْل َْر ِ َ‬ ‫ور الس َ‬
‫َّ‬
‫اللهُ ُن ُ‬
‫ِ‬ ‫َّة واَل َغربِي ٍ‬ ‫ٍِ‬ ‫ي يوقَ ُد ِم ْن َشجر ٍة مبار َك ٍة َز ْيتُ َ ٍ‬
‫يء َولَ ْو لَ ْم تَ ْم َس ْسهُ‬
‫اد َز ْيتُهَا ُيض ُ‬
‫َّة َي َك ُ‬ ‫ْ‬ ‫ونة اَل َش ْرقي َ‬ ‫َ َ َُ َ‬ ‫ب ُدِّر ٌّ ُ‬
‫َك ْو َك ٌ‬
‫ٍ ِ‬ ‫ال ِل َّلن ِ َّ ِّ‬ ‫ب اللَّهُ اأْل َْمثَ َ‬ ‫ور َي ْه ِدي اللَّهُ ِلُن ِ‬
‫يم (‬ ‫اس َواللهُ بِ ُكل َش ْيء َعل ٌ‬ ‫ض ِر ُ‬ ‫ور ِه َم ْن َي َش ُ‬
‫اء َوَي ْ‬ ‫ور َعلَى ُن ٍ‬ ‫َن ٌار ُن ٌ‬
‫‪)35‬‬

‫اج ٍة‬
‫اح في ُز َج َ‬
‫اح اْل ِمصب ِ‬
‫َْ ُ‬ ‫صَب ٌ‬ ‫ض مثَ ُل ُن ِ ِ ٍ ِ ِ‬
‫ور ِه َكم ْش َكاة فيهَا م ْ‬ ‫األر ِ َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ور الس َ‬
‫َّ‬
‫{ ‪ { } 35‬اللهُ ُن ُ‬
‫يء‬ ‫ِ‬ ‫َّة وال َغربِي ٍ‬
‫ٍِ‬ ‫ي يوقَ ُد ِم ْن َشجر ٍة مبار َك ٍة َز ْيتُ َ ٍ‬ ‫اجةُ َكأََّنهَا َك ْو َك ٌ‬ ‫ُّ‬
‫اد َز ْيتُهَا ُيض ُ‬ ‫َّة َي َك ُ‬ ‫ْ‬ ‫ونة ال َش ْرقي َ‬ ‫َ َ َُ َ‬ ‫ب ُدِّر ٌّ ُ‬ ‫الز َج َ‬
‫اس َواللَّهُ بِ ُك ِّل‬
‫ال ِل َّلن ِ‬
‫األمثَ َ‬ ‫ض ِر َّ‬
‫ب اللهُ ْ‬ ‫اء َوَي ْ ُ‬‫ور ِه َم ْن َي َش ُ‬‫ور َي ْه ِدي اللَّهُ ِلُن ِ‬
‫ور َعلَى ُن ٍ‬ ‫َولَ ْو لَ ْم تَ ْم َس ْسهُ َن ٌار ُن ٌ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫ٍ ِ‬
‫َش ْيء َعل ٌ‬
‫ض } الحسي والمعنوي‪ ،‬وذلك أنه تعالى بذاته نور‪ ،‬وحجابه ‪-‬الذي‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ور الس َ‬ ‫{ اللهُ ُن ُ‬
‫لوال لطفه‪ ،‬ألحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه‪ -‬نور‪ ،‬وبه استنار العرش‪،‬‬
‫والكرسي‪ ،‬والشمس‪ ،‬والقمر‪ ،‬والنور‪ ،‬وبه استنارت الجنة‪ .‬وكذلك النور المعنوي يرجع إلى اهلل‪،‬‬
‫فكتابه نور‪ ،‬وشرعه نور‪ ،‬واإليمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور‪ .‬فلوال نوره‬
‫ور ِه } الذي‬
‫تعالى‪ ،‬لتراكمت الظلمات‪ ،‬ولهذا‪ :‬كل محل‪ ،‬يفقد نوره فثم الظلمة والحصر‪َ { ،‬مثَ ُل ُن ِ‬
‫اح }‬
‫صَب ٌ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫يهدي إليه‪ ،‬وهو نور اإليمان والقرآن في قلوب المؤمنين‪َ { ،‬كم ْش َكاة } أي‪ :‬كوة { فيهَا م ْ‬
‫اجةُ } من صفائها‬ ‫اج ٍة ُّ‬
‫الز َج َ‬
‫ألن الكوة تجمع نور المصباح بحيث ال يتفرق ذلك { اْل ِمصب ِ‬
‫اح في ُز َج َ‬
‫َْ ُ‬
‫ي } أي‪ :‬مضيء إضاءة الدر‪ُ { .‬يوقَ ُد } ذلك المصباح‪ ،‬الذي في تلك‬ ‫ب ُدِّر ٌّ‬‫وبهائها { َكأََّنهَا َك ْو َك ٌ‬
‫ون ٍة } أي‪ :‬يوقد من زيت الزيتون الذي ناره من أنور ما‬ ‫الزجاجة الدرية { ِم ْن َش َج َر ٍة ُمَب َار َك ٍة َز ْيتُ َ‬
‫َّة } فقط‪ ،‬فال تصيبها الشمس آخر النهار‪ { ،‬وال َغربِي ٍ‬
‫َّة } فقط‪ ،‬فال تصيبها‬ ‫يكون‪ { ،‬ال َشر ِقي ٍ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫الشمس [أول] (‪ )1‬النهار‪ ،‬وإ ذا انتفى عنها األمران‪ ،‬كانت متوسطة من األرض‪ ،‬كزيتون الشام‪[ ،‬‬
‫ص ‪ ] 569‬تصيبها الشمس أول النهار وآخره‪ ،‬فتحسن وتطيب‪ ،‬ويكون أصفى لزيتها‪ ،‬ولهذا‬
‫يء َولَ ْو لَ ْم تَ ْم َس ْسهُ َن ٌار } فإذا مسته النار‪ ،‬أضاء إضاءة بليغة‬ ‫ِ‬
‫اد َز ْيتُهَا } من صفائه { ُيض ُ‬
‫قال‪َ { :‬ي َك ُ‬
‫ور } أي‪ :‬نور النار‪ ،‬ونور الزيت‪.‬‬ ‫ور َعلَى ُن ٍ‬ ‫{ ُن ٌ‬
‫ووجه هذا المثل الذي ضربه اهلل‪ ،‬وتطبيقه على حالة المؤمن‪ ،‬ونور اهلل في قلبه‪ ،‬أن فطرته التي‬
‫فطر عليها‪ ،‬بمنزلة الزيت الصافي‪ ،‬ففطرته صافية‪ ،‬مستعدة للتعاليم اإللهية‪ ،‬والعمل المشروع‪،‬‬
‫فإذا وصل إليه العلم واإليمان‪ ،‬اشتعل ذلك النور في قلبه‪ ،‬بمنزلة اشتعال النار في فتيلة ذلك‬
‫المصباح‪ ،‬وهو صافي القلب من سوء القصد‪ ،‬وسوء الفهم عن اهلل‪ ،‬إذا وصل إليه اإليمان‪ ،‬أضاء‬
‫إضاءة عظيمة‪ ،‬لصفائه من الكدورات‪ ،‬وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية‪ ،‬فيجتمع له نور‬
‫الفطرة‪ ،‬ونور اإليمان‪ ،‬ونور العلم‪ ،‬وصفاء المعرفة‪ ،‬نور على نوره‪.‬‬
‫ولما كان هذا من نور اهلل تعالى‪ ،‬وليس كل أحد يصلح له ذلك‪ ،‬قال‪َ { :‬ي ْه ِدي اللَّهُ ِلُن ِ‬
‫ور ِه َم ْن َي َش ُ‬
‫اء }‬
‫اس } ليعقلوا عنه‬ ‫ال ِل َّلن ِ‬
‫األمثَ َ‬ ‫ض ِر َّ‬
‫ب اللهُ ْ‬‫ممن يعلم زكاءه وطهارته‪ ،‬وأنه يزكي معه وينمو‪َ { .‬وَي ْ ُ‬
‫ويفهموا‪ ،‬لطفا منه بهم‪ ،‬وإ حسانا إليهم‪ ،‬وليتضح الحق من الباطل‪ ،‬فإن األمثال تقرب المعاني‬
‫ٍ ِ‬ ‫َّ ِّ‬
‫يم } فعلمه محيط‬ ‫المعقولة من المحسوسة‪ ،‬فيعلمها العباد علما واضحا‪َ { ،‬واللهُ بِ ُكل َش ْيء َعل ٌ‬
‫بجميع األشياء‪ ،‬فلتعلموا أن ضربه األمثال‪ ،‬ضرب من يعلم حقائق األشياء وتفاصيلها‪ ،‬وأنها‬
‫مصلحة للعباد‪ ،‬فليكن اشتغالكم بتدبرها وتعقلها‪ ،‬ال باالعتراض عليها‪ ،‬وال بمعارضتها‪ ،‬فإنه يعلم‬
‫وأنتم ال تعلمون‪.‬‬
‫ولما كان نور اإليمان والقرآن أكثر وقوع أسبابه في المساجد‪ ،‬ذكرها منوها بها فقال‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين آخر النهار‪ ،‬ولعل الصواب ما أثبته‪ ،‬ثم إن الكلمة معدلة من آخر إلى أول في‬
‫ب‪ ،‬بقلم مغاير لما كتبت به النسخة‪.‬‬

‫( ‪)1/568‬‬

‫ِّح لَهُ ِفيها بِاْل ُغ ُد ِّو واآْل َص ِ‬


‫ال (‪)36‬‬ ‫اس ُمهُ ُي َسب ُ‬
‫ِ‬ ‫وت أ َِذ َن اللَّهُ أ ْ‬
‫َن تُْرفَ َع َوُي ْذ َك َر فيهَا ْ‬
‫ِفي بي ٍ‬
‫ُُ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬

‫ِّح لَهُ ِفيها بِاْل ُغ ُد ِّو واآلص ِ‬


‫ال } ‪.‬‬ ‫اس ُمهُ ُي َسب ُ‬
‫ِ‬ ‫وت أ َِذ َن اللَّهُ أ ْ‬
‫َن تُْرفَ َع َوُي ْذ َك َر فيهَا ْ‬
‫{ ‪ِ { } 38 - 36‬في بي ٍ‬
‫ُُ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫وت } عظيمة فاضلة‪ ،‬هي أحب البقاع إليه‪ ،‬وهي المساجد‪ { .‬أ َِذ َن اللَّهُ } أي‪:‬‬ ‫أي‪ :‬يتعبد هلل { ِفي بي ٍ‬
‫ُُ‬
‫اس ُمهُ } هذان مجموع أحكام المساجد‪ ،‬فيدخل في رفعها‪،‬‬ ‫ِ‬
‫َن تُْرفَ َع َوُي ْذ َك َر فيهَا ْ‬
‫أمر ووصى { أ ْ‬
‫بناؤها‪ ،‬وكنسها‪ ،‬وتنظيفها من النجاسة واألذى‪ ،‬وصونها من المجانين والصبيان الذين ال‬
‫يتحرزون عن النجاسة‪ ،‬وعن الكافر‪ ،‬وأن تصان عن اللغو فيها‪ ،‬ورفع األصوات بغير ذكر اهلل‪.‬‬
‫اس ُمهُ } يدخل في ذلك الصالة كلها‪ ،‬فرضها‪ ،‬ونفلها‪ ،‬وقراءة القرآن‪ ،‬والتسبيح‪،‬‬ ‫ِ‬
‫{ َوُي ْذ َك َر فيهَا ْ‬
‫والتهليل‪ ،‬وغيره من أنواع الذكر‪ ،‬وتعلم العلم وتعليمه‪ ،‬والمذاكرة فيها‪ ،‬واالعتكاف‪ ،‬وغير ذلك‬
‫من العبادات التي تفعل في المساجد‪ ،‬ولهذا كانت عمارة المساجد على قسمين‪ :‬عمارة بنيان‪،‬‬
‫وصيانة لها‪ ،‬وعمارة بذكر اسم اهلل‪ ،‬من الصالة وغيرها‪ ،‬وهذا أشرف القسمين‪ ،‬ولهذا شرعت‬
‫الصلوات الخمس والجمعة في المساجد‪ ،‬وجوبا عند أكثر العلماء‪ ،‬أو استحبابا عند آخرين‪ .‬ثم‬
‫ِّح لَهُ } إخالصا { بِاْل ُغ ُد ِّو } أول النهار { واآلص ِ‬
‫ال } آخره‬ ‫مدح تعالى عمارها بالعبادة فقال‪ُ { :‬ي َسب ُ‬
‫َ َ‬
‫‪.‬‬

‫( ‪)1/569‬‬

‫الز َك ِاة ي َخافُون يوما تَتََقلَّب ِف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِرجا ٌل اَل تُْل ِهي ِهم تِجارةٌ واَل ب ْيع ع ْن ِذ ْك ِر اللَّ ِه وإِقَ ِام َّ ِ‬
‫يه‬ ‫ُ‬ ‫َ َْ ً‬ ‫الصاَل ة َوإِيتَاء َّ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ََ َ َ ٌ َ‬ ‫َ‬
‫اء‬
‫ق َم ْن َي َش ُ‬‫ضِل ِه َواللَّهُ َي ْر ُز ُ‬
‫يد ُه ْم ِم ْن فَ ْ‬
‫َح َس َن َما َع ِملُوا َوَي ِز َ‬
‫ص ُار (‪ِ )37‬لَي ْج ِزَيهُ ُم اللَّهُ أ ْ‬
‫وب َواأْل َْب َ‬
‫اْل ُقلُ ُ‬
‫اب (‪)38‬‬ ‫بِ َغ ْي ِر ِح َس ٍ‬

‫الز َك ِاة ي َخافُون يوما تَتََقلَّب ِف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يه‬ ‫ُ‬ ‫َ َْ ً‬ ‫{ ِر َجا ٌل ال تُْل ِهي ِه ْم ت َج َارةٌ َوال َب ْيعٌ َع ْن ذ ْك ِر الله َوإِقَ ِام الصَّالة َوإِيتَاء َّ َ‬
‫اء بِ َغ ْي ِر‬ ‫ضِل ِه َواللَّهُ َي ْر ُز ُ‬
‫ق َم ْن َي َش ُ‬ ‫يد ُه ْم ِم ْن فَ ْ‬
‫َح َس َن َما َع ِملُوا َوَي ِز َ‬
‫ص ُار * ِلَي ْج ِزَيهُ ُم اللَّهُ أ ْ‬
‫األب َ‬
‫وب َو ْ‬
‫اْل ُقلُ ُ‬
‫ِح َس ٍ‬
‫اب } ‪.‬‬
‫{ ِر َجا ٌل } خص هذين الوقتين لشرفهما ولتيسر السير فيهما إلى اهلل وسهولته‪ .‬ويدخل في ذلك‪،‬‬
‫التسبيح في الصالة وغيرها‪ ،‬ولهذا شرعت أذكار الصباح والمساء وأورادهما عند الصباح‬
‫والمساء‪ .‬أي‪ :‬يسبح فيها اهلل‪ ،‬رجال‪ ،‬وأي‪ :‬رجال‪ ،‬ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا‪ ،‬ذات لذات‪،‬‬
‫وال تجارة ومكاسب‪ ،‬مشغلة عنه‪ { ،‬ال تُْل ِهي ِه ْم تِ َج َارةٌ } وهذا يشمل كل تكسب يقصد به العوض‪،‬‬
‫فيكون قوله‪َ { :‬وال َب ْيعٌ } من باب عطف الخاص على العام‪ ،‬لكثرة االشتغال بالبيع على غيره‪،‬‬
‫فهؤالء الرجال‪ ،‬وإ ن اتجروا‪ ،‬وباعوا‪ ،‬واشتروا‪ ،‬فإن ذلك‪ ،‬ال محذور فيه‪ .‬لكنه ال تلهيهم تلك‪ ،‬بأن‬
‫الز َك ِاة } بل جعلوا طاعة اهلل وعبادته غاية‬ ‫َّالة وإِيتَ ِ‬
‫اء َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يقدموها ويؤثروها على { ذ ْك ِر الله َوإِقَام الص َ‬
‫مرادهم‪ ،‬ونهاية مقصدهم‪ ،‬فما حال بينهم وبينها رفضوه‪.‬‬
‫ولما كان ترك الدنيا شديدا على أكثر النفوس‪ ،‬وحب المكاسب بأنواع التجارات محبوبا لها‪ ،‬ويشق‬
‫عليها تركه في الغالب‪ ،‬وتتكلف من تقديم حق اهلل على ذلك‪ ،‬ذكر ما يدعوها إلى ذلك ‪-‬ترغيبا‬
‫ص ُار } من شدة هوله وإ زعاجه للقلوب‬ ‫وترهيبا‪ -‬فقال‪ { :‬ي َخافُون يوما تَتََقلَّ ِ ِ‬
‫األب َ‬
‫وب َو ْ‬ ‫ب فيه اْل ُقلُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َْ ً‬ ‫َ‬
‫َح َس َن‬‫واألبدان‪ ،‬فلذلك خافوا ذلك اليوم‪ ،‬فسهل عليهم العمل‪ ،‬وترك ما يشغل عنه‪ِ { ،‬لَي ْج ِزَيهُ ُم اللَّهُ أ ْ‬
‫َما َع ِملُوا } والمراد بأحسن ما عملوا‪ :‬أعمالهم الحسنة الصالحة‪ ،‬ألنها أحسن ما عملوا‪ ،‬ألنهم‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫يعملون المباحات وغيرها‪ ،‬فالثواب ال يكون إال على العمل الحسن‪ ،‬كقوله تعالى‪ { :‬لُي َكفَِّر اللهُ‬
‫ضِل ِه } زيادة‬ ‫يد ُه ْم ِم ْن فَ ْ‬‫ون } { َوَي ِز ُ‬
‫َح َس ِن ما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬ ‫َس َوأَ الَِّذي َع ِملُوا َوَي ْج ِزَيهُ ْم أ ْ‬
‫َج َر ُه ْم بِأ ْ‬ ‫َعْنهُ ْم أ ْ‬
‫اب } بل يعطيه من األجر ما‬ ‫اء بِ َغ ْي ِر ِح َس ٍ‬ ‫كثيرة عن الجزاء المقابل ألعمالهم‪َ { ،‬واللَّهُ َي ْر ُز ُ‬
‫ق َم ْن َي َش ُ‬
‫ال يبلغه عمله‪ ،‬بل وال تبلغه أمنيته‪ ،‬ويعطيه من األجر بال عد وال كيل‪ ،‬وهذا كناية عن كثرته‬
‫جدا‪.‬‬

‫( ‪)1/569‬‬

‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫اب بِِق ٍ‬ ‫َِّ‬


‫اءهُ لَ ْم َي ِج ْدهُ َش ْيًئا َو َو َج َد اللهَ‬
‫اء َحتَّى ِإ َذا َج َ‬ ‫َن َم ً‬ ‫َع َمالُهُ ْم َك َس َر ٍ َ‬
‫يعة َي ْح َسُبهُ الظ ْمآ ُ‬ ‫ين َكفَ ُروا أ ْ‬‫َوالذ َ‬
‫ِّي َي ْغ َشاهُ َم ْو ٌج ِم ْن فَ ْو ِق ِه َم ْو ٌج‬‫ات ِفي َب ْح ٍر لُج ٍّ‬ ‫اب (‪ )39‬أَو َكظُلُم ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ِعْن َدهُ فَوفَّاهُ ِح َس َابهُ واللَّهُ َس ِريع اْل ِح َس ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ورا‬ ‫ِ َّ‬ ‫ض ِإ َذا أ ْ‬
‫ق َب ْع ٍ‬ ‫ِم ْن فَ ْو ِق ِه َس َح ٌ‬
‫اها َو َم ْن لَ ْم َي ْج َعل اللهُ لَهُ ُن ً‬ ‫َخ َر َج َي َدهُ لَ ْم َي َك ْد َي َر َ‬ ‫ضهَا فَ ْو َ‬ ‫ات َب ْع ُ‬
‫اب ظُلُ َم ٌ‬
‫ور (‪)40‬‬ ‫فَ َما لَهُ ِم ْن ُن ٍ‬

‫َّ‬ ‫اب بِِق ٍ‬ ‫َِّ‬


‫اءهُ لَ ْم َي ِج ْدهُ‬
‫اء َحتَّى ِإ َذا َج َ‬ ‫آن َم ً‬ ‫َع َمالُهُ ْم َك َس َر ٍ َ‬
‫يعة َي ْح َسُبهُ الظ ْم ُ‬ ‫ين َكفَ ُروا أ ْ‬ ‫{ ‪َ { } 40 - 39‬والذ َ‬
‫ات ِفي َب ْح ٍر لُج ٍّ‬
‫ِّي َي ْغ َشاهُ َم ْو ٌج‬ ‫اب * أَو َكظُلُم ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫َش ْيًئا وو َج َد اللَّهَ ِع ْن َدهُ فَوفَّاهُ ِح َس َابهُ واللَّهُ َس ِريع اْل ِح َس ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫اها َو َم ْن لَ ْم‬ ‫ض ِإ َذا أ ْ‬
‫َخ َر َج َي َدهُ لَ ْم َي َك ْد َي َر َ‬ ‫ق َب ْع ٍ‬
‫ضهَا فَ ْو َ‬
‫ات َب ْع ُ‬
‫اب ظُلُ َم ٌ‬ ‫ِم ْن فَ ْو ِق ِه َم ْو ٌج ِم ْن فَ ْو ِق ِه َس َح ٌ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫ورا فَ َما لَهُ ِم ْن ُن ٍ‬ ‫ِ َّ‬
‫َي ْج َعل اللهُ لَهُ ُن ً‬
‫هذان مثالن‪ ،‬ضربهما اهلل ألعمال الكفار في بطالنها وذهابها سدى وتحسر عامليها منها [ ص‬
‫يع ٍة } أي‪ :‬بقاع‪ ،‬ال‬ ‫َعمالُهم َكسر ٍ ِ‬
‫اب بِق َ‬ ‫ين َكفَ ُروا } بربهم وكذبوا رسله { أ ْ َ ُ ْ َ َ‬
‫َِّ‬
‫‪ ] 570‬فقال‪َ { :‬والذ َ‬
‫شجر فيه وال نبت‪.‬‬
‫اء } شديد العطش‪ ،‬الذي يتوهم ما ال يتوهم غيره‪ ،‬بسبب ما معه من العطش‪،‬‬ ‫َّ‬
‫آن َم ً‬ ‫{ َي ْح َسُبهُ الظ ْم ُ‬
‫اءهُ لَ ْم َي ِج ْدهُ َش ْيًئا } فندم ندما شديدا‪ ،‬وازداد‬ ‫وهذا حسبان باطل‪ ،‬فيقصده ليزيل ظمأه‪َ { ،‬حتَّى ِإ َذا َج َ‬
‫ما به من الظمأ‪ ،‬بسبب انقطاع رجائه‪ ،‬كذلك أعمال الكفار‪ ،‬بمنزلة السراب‪ ،‬ترى ويظنها الجاهل‬
‫الذي ال يدري األمور‪ ،‬أعماال نافعة‪ ،‬فيغره صورتها‪ ،‬ويخلبه خيالها‪ ،‬ويحسبها هو أيضا أعماال‬
‫نافعة لهواه‪ ،‬وهو أيضا محتاج إليها بل مضطر إليها‪ ،‬كاحتياج الظمآن للماء‪ ،‬حتى إذ قدم على‬
‫أعماله يوم الجزاء‪ ،‬وجدها ضائعة‪ ،‬ولم يجدها شيئا‪ ،‬والحال إنه لم يذهب‪ ،‬ال له وال عليه‪ ،‬بل‬
‫{ وجد اللَّهَ ِع ْن َدهُ فَ َوفَّاهُ ِح َس َابهُ } لم يخف عليه من عمله نقير وال قطمير‪ ،‬ولن يعدم منه قليال وال‬
‫كثيرا‪ { ،‬واللَّهُ َس ِريع اْل ِح َس ِ‬
‫اب } فال يستبطئ الجاهلون ذلك الوعد‪ ،‬فإنه ال بد من إتيانه‪ ،‬ومثلها اهلل‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫بالسراب الذي بقيعة‪ ،‬أي‪ :‬ال شجر فيه وال نبات‪ ،‬وهذا مثال لقلوبهم‪ ،‬ال خير فيها وال بر‪ ،‬فتزكو‬
‫فيها األعمال وذلك للسبب المانع‪ ،‬وهو الكفر‪.‬‬
‫ات ِفي َب ْح ٍر لُج ٍّ‬
‫ِّي } بعيد قعره‪ ،‬طويل مداه { َي ْغ َشاهُ‬
‫والمثل الثاني‪ ،‬لبطالن أعمال الكفار { َكظُلُم ٍ‬
‫َ‬
‫ض } ظلمة البحر اللجي‪ ،‬ثم فوقه‬ ‫ق َب ْع ٍ‬
‫ضهَا فَ ْو َ‬
‫ات َب ْع ُ‬ ‫َم ْو ٌج ِم ْن فَ ْو ِق ِه َم ْو ٌج ِم ْن فَ ْو ِق ِه َس َح ٌ‬
‫اب ظُلُ َم ٌ‬
‫ظلمة األمواج المتراكمة‪ ،‬ثم فوق ذلك‪ ،‬ظلمة السحب المدلهمة‪ ،‬ثم فوق ذلك ظلمة الليل البهيم‪،‬‬
‫اها } مع قربها إليه‪،‬‬ ‫فاشتدت الظلمة جدا‪ ،‬بحيث أن الكائن في تلك الحال { ِإ َذا أ ْ‬
‫َخ َر َج َي َدهُ لَ ْم َي َك ْد َي َر َ‬
‫فكيف بغيرها‪ ،‬كذلك الكفار‪ ،‬تراكمت على قلوبهم الظلمات‪ ،‬ظلمة الطبيعة‪ ،‬التي ال خير فيها‪،‬‬
‫وفوقها ظلمة الكفر‪ ،‬وفوق ذلك‪ ،‬ظلمة الجهل‪ ،‬وفوق ذلك‪ ،‬ظلمة األعمال الصادرة عما ذكر‪،‬‬
‫فبقوا في الظلمة متحيرين‪ ،‬وفي غمرتهم يعمهون‪ ،‬وعن الصراط المستقيم مدبرين‪ ،‬وفي طرق‬
‫َّ‬
‫الغي والضالل يترددون‪ ،‬وهذا ألن اهلل تعالى خذلهم‪ ،‬فلم يعطهم من نوره‪َ { ،‬و َم ْن لَ ْم َي ْج َع ِل اللهُ لَهُ‬
‫ور } ألن نفسه ظالمة جاهلة‪ ،‬فليس فيها من الخير والنور‪ ،‬إال ما أعطاها‬ ‫ورا فَ َما لَهُ ِم ْن ُن ٍ‬
‫ُن ً‬
‫موالها‪ ،‬ومنحها ربها‪ .‬يحتمل أن هذين المثالين‪ ،‬ألعمال جميع الكفار‪ ،‬كل منهما‪ ،‬منطبق عليها‪،‬‬
‫وعددهما لتعدد األوصاف‪ ،‬ويحتمل أن كل مثال‪ ،‬لطائفة وفرقة‪ .‬فاألول‪ ،‬للمتبوعين‪ ،‬والثاني‪،‬‬
‫للتابعين‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫( ‪)1/569‬‬

‫صاَل تَهُ َوتَ ْسبِ َ‬


‫ِ‬ ‫ض والطَّ ْير َّ ٍ ٌّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أَلَم تَر أ َّ َّ‬
‫يحهُ‬ ‫َّم َاوات َواأْل َْر ِ َ ُ َ‬
‫صافات ُكل قَ ْد َعل َم َ‬ ‫ِّح لَهُ َم ْن في الس َ‬
‫َن اللهَ ُي َسب ُ‬ ‫ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ون (‪َ )41‬وِلله ُمْل ُ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫َّماوات واأْل َْر ِ‬
‫ض َوإِلَى الله اْل َمص ُير (‪)42‬‬ ‫ك الس َ َ َ‬ ‫يم بِ َما َي ْف َعلُ َ‬
‫َواللهُ َعل ٌ‬

‫ات ُك ٌّل قَ ْد َعِل َم‬‫ض والطَّ ْير صافَّ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 42 - 41‬أَلَم تَر أ َّ َّ‬
‫األر ِ َ ُ َ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ِّح لَهُ َم ْن في الس َ‬ ‫َن اللهَ ُي َسب ُ‬ ‫ْ َ‬
‫ض وإِلَى اللَّ ِه اْلم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون * َوِللَّ ِه ُمْل ُ‬ ‫َّ ِ‬
‫ص ُير } ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ات و ْ ِ‬
‫األر َ‬ ‫َّم َاو َ‬‫ك الس َ‬ ‫يم بِ َما َي ْف َعلُ َ‬
‫يحهُ َواللهُ َعل ٌ‬‫صالتَهُ َوتَ ْسبِ َ‬
‫َ‬
‫نبه تعالى عباده على عظمته‪ ،‬وكمال سلطانه‪ ،‬وافتقار جميع المخلوقات له في ربوبيتها‪ ،‬وعبادتها‬
‫ات‬‫ض } من حيوان وجماد { والطَّ ْير صافَّ ٍ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فقال‪ { :‬أَلَم تَر أ َّ َّ‬
‫َ ُ َ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ِّح لَهُ َم ْن في الس َ‬ ‫َن اللهَ ُي َسب ُ‬ ‫ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ٌّ‬
‫صالتَهُ‬ ‫} أي‪ :‬صافات أجنحتها‪ ،‬في جو السماء‪ ،‬تسبح ربها‪ُ { .‬كل } من هذه المخلوقات { قَ ْد َعل َم َ‬
‫َوتَ ْسبِ َ‬
‫يحهُ } أي‪ :‬كل له صالة وعبادة بحسب حاله الالئقة به‪ ،‬وقد ألهمه اهلل تلك الصالة والتسبيح‪،‬‬
‫إما بواسطة الرسل‪ ،‬كالجن واإلنس والمالئكة‪ ،‬وإ ما بإلهام منه تعالى‪ ،‬كسائر المخلوقات غير‬
‫َّ ِ‬
‫يم بِ َما َي ْف َعلُ َ‬
‫ون } أي‪ :‬علم جميع أفعالها‪ ،‬فلم‬ ‫ذلك‪ ،‬وهذا االحتمال أرجح‪ ،‬بدليل قوله‪َ { :‬واللهُ َعل ٌ‬
‫يخف عليه منها (‪ )1‬شيء‪ ،‬وسيجازيهم بذلك‪ ،‬فيكون على هذا‪ ،‬قد جمع بين علمه (‪ )2‬بأعمالها‪،‬‬
‫وذلك بتعليمه‪ ،‬وبين علمه بأعمالهم المتضمن للجزاء‪.‬‬
‫ِ‬
‫يحهُ } يعود إلى اهلل‪ ،‬وأن اهلل تعالى قد علم‬ ‫صالتَهُ َوتَ ْسبِ َ‬‫ويحتمل أن الضمير في قوله‪ { :‬قَ ْد َعل َم َ‬
‫عباداتهم‪ ،‬وإ ن لم تعلموا ‪-‬أيها العباد‪ -‬منها‪ ،‬إال ما أطلعكم اهلل عليه‪ .‬وهذه اآلية كقوله تعالى‪:‬‬
‫ِِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِّح بِ َح ْمده َولَك ْن ال تَ ْفقَهُ َ‬
‫ون‬ ‫ض َو َم ْن في ِه َّن َوإِ ْن م ْن َش ْيء ِإال ُي َسب ُ‬ ‫األر ُ‬‫ات الس َّْبعُ َو ْ‬
‫َّم َاو ُ‬
‫ِّح لَهُ الس َ‬ ‫{ تُ َسب ُ‬
‫ِ‬
‫ورا } فلما بين عبوديتهم وافتقارهم إليه ‪-‬من جهة العبادة والتوحيد‪-‬‬ ‫يما َغفُ ً‬ ‫يحهُ ْم ِإَّنهُ َك َ‬
‫ان َحل ً‬ ‫تَ ْسبِ َ‬
‫ض } خالقهما (‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫بين افتقارهم‪ ،‬من جهة الملك والتربية والتدبير فقال‪َ { :‬وِللَّ ِه ُمْل ُ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ك الس َ‬
‫‪ )3‬ورازقهما‪ ،‬والمتصرف فيهما‪ ،‬في حكمه الشرعي [والقدري] (‪ )4‬في هذه الدار‪ ،‬وفي حكمه‬
‫الجزائي‪ ،‬بدار القرار‪ ،‬بدليل قوله‪ { :‬وإِلَى اللَّ ِه اْلم ِ‬
‫ص ُير } أي‪ :‬مرجع الخلق ومآلهم‪ ،‬ليجازيهم‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بأعمالهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين (منه)‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬علمها‪.‬‬
‫(‪ )3‬في النسختين‪ :‬خالقها‪ ،‬ولعل الصواب ما أثبته‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من هامش‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/570‬‬

‫ق َي ْخ ُر ُج ِم ْن ِخاَل ِل ِه َوُيَنِّز ُل ِم َن‬


‫اما فَتََرى اْل َو ْد َ‬ ‫َن اللَّهَ ُي ْز ِجي َس َح ًابا ثَُّم ُي َؤلِّ ُ‬
‫ف َب ْيَنهُ ثَُّم َي ْج َعلُهُ ُر َك ً‬ ‫أَلَ ْم تََر أ َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اء ِم ْن ِجب ٍ ِ ِ‬ ‫السَّم ِ‬
‫اد َسَنا َب ْر ِقه َي ْذ َه ُ‬
‫ب‬ ‫ص ِرفُهُ َع ْن َم ْن َي َش ُ‬
‫اء َي َك ُ‬ ‫اء َوَي ْ‬‫يب بِه َم ْن َي َش ُ‬ ‫ال فيهَا م ْن َب َر ٍد فَُيص ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ص ِار (‪)43‬‬ ‫بِاأْل َْب َ‬

‫ق َي ْخ ُر ُج ِم ْن‬
‫اما فَتََرى اْل َو ْد َ‬ ‫َن اللَّهَ ُي ْز ِجي َس َح ًابا ثَُّم ُي َؤلِّ ُ‬
‫ف َب ْيَنهُ ثَُّم َي ْج َعلُهُ ُر َك ً‬ ‫{ ‪ { } 44 - 43‬أَلَ ْم تََر أ َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اء ِم ْن ِجب ٍ ِ ِ‬ ‫الل ِه ويَنِّز ُل ِمن السَّم ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اد‬ ‫ص ِرفُهُ َع ْن َم ْن َي َش ُ‬
‫اء َي َك ُ‬ ‫يب بِه َم ْن َي َش ُ‬
‫اء َوَي ْ‬ ‫ال فيهَا م ْن َب َر ٍد فَُيص ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫خ َُ‬
‫ب بِ ْ‬ ‫ِ‬
‫ص ِار }‬‫األب َ‬ ‫َسَنا َب ْر ِقه َي ْذ َه ُ‬
‫[ ص ‪] 571‬‬
‫أي‪ :‬ألم تشاهد ببصرك‪ ،‬عظيم قدرة اهلل‪ ،‬وكيف { ُي ْز ِجي } أي‪ :‬يسوق { َس َح ًابا } قطعا متفرقة‬
‫ف } بين تلك القطع‪ ،‬فيجعله سحابا متراكما‪ ،‬مثل الجبال‪.‬‬ ‫{ ثَُّم ُي َؤلِّ ُ‬
‫ق } أي‪ :‬الوابل والمطر‪ ،‬يخرج من خالل السحاب‪ ،‬نقطا متفرقة‪ ،‬ليحصل بها‬ ‫{ فَتََرى اْل َو ْد َ‬
‫االنتفاع من دون ضرر‪ ،‬فتمتلئ بذلك الغدران‪ ،‬وتتدفق الخلجان‪ ،‬وتسيل األودية‪ ،‬وتنبت األرض‬
‫من كل زوج كريم‪ ،‬وتارة ينزل اهلل من ذلك السحاب بردا يتلف ما يصيبه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء } بحسب ما اقتضاه حكمه القدري‪ ،‬وحكمته التي‬ ‫ص ِرفُهُ َع ْن َم ْن َي َش ُ‬ ‫يب بِه َم ْن َي َش ُ‬
‫اء َوَي ْ‬ ‫{ فَُيص ُ‬
‫ب بِ ْ‬ ‫ِ‬
‫ص ِار }‬
‫األب َ‬ ‫اد َسَنا َب ْر ِقه } أي‪ :‬يكاد ضوء برق ذلك السحاب‪ ،‬من شدته { َي ْذ َه ُ‬ ‫يحمد عليها‪َ { ،‬ي َك ُ‬
‫أليس الذي أنشأها وساقها لعباده المفتقرين‪ ،‬وأنزلها على وجه يحصل به النفع وينتفي به الضرر‪،‬‬
‫كامل القدرة‪ ،‬نافذ المشيئة‪ ،‬واسع الرحمة؟‪.‬‬

‫( ‪)1/570‬‬

‫النهار ِإ َّن ِفي َذِل َ ِ أِل‬ ‫ي َقلِّ َّ َّ‬


‫ك لَع ْب َرةً ُوِلي اأْل َْب َ‬
‫ص ِار (‪)44‬‬ ‫ب اللهُ اللْي َل َو َّ َ َ‬
‫ُ ُ‬

‫ص ِار } ‪.‬‬ ‫ك لَ ِع ْب َرةً ألوِلي ْ‬


‫األب َ‬ ‫النهَ َار ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ب اللَّهُ اللَّْي َل َو َّ‬
‫{ ُي َقلِّ ُ‬
‫النهَ َار } من حر إلى برد‪ ،‬ومن برد إلى حر‪ ،‬من ليل إلى نهار‪ ،‬ومن نهار إلى‬ ‫ب اللَّهُ اللَّْي َل َو َّ‬
‫{ ُي َقلِّ ُ‬
‫ص ِار } أي‪ :‬لذوي البصائر‪ ،‬والعقول‬ ‫ك لَ ِع ْب َرةً ألوِلي ْ‬
‫األب َ‬ ‫ليل‪ ،‬ويديل األيام بين عباده‪ِ { ،‬إ َّن ِفي َذِل َ‬
‫النافذة لألمور المطلوبة منها‪ ،‬كما تنفذ األبصار إلى األمور المشاهدة الحسية‪ .‬فالبصير ينظر إلى‬
‫هذه المخلوقات نظر اعتبار وتفكر وتدبر لما أريد بها ومنها‪ ،‬والمعرض الجاهل نظره إليها نظر‬
‫غفلة‪ ،‬بمنزلة نظر البهائم‪.‬‬

‫( ‪)1/571‬‬

‫طنِ ِه َو ِم ْنهُ ْم َم ْن َي ْم ِشي َعلَى ِر ْجلَْي ِن َو ِم ْنهُ ْم َم ْن‬


‫اء فَ ِم ْنهُ ْم َم ْن َي ْم ِشي َعلَى َب ْ‬
‫َّة ِم ْن م ٍ‬
‫َ‬
‫ق ُك َّل َداب ٍ‬
‫َواللَّهُ َخلَ َ‬
‫اء ِإ َّن اللَّهَ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير (‪)45‬‬ ‫يم ِشي علَى أَرب ٍع ي ْخلُ ُ َّ‬
‫ق اللهُ َما َي َش ُ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫َْ‬

‫طنِ ِه َو ِم ْنهُ ْم َم ْن َي ْم ِشي َعلَى ِر ْجلَْي ِن‬


‫اء فَ ِم ْنهُ ْم َم ْن َي ْم ِشي َعلَى َب ْ‬
‫َّة ِم ْن م ٍ‬
‫َ‬
‫ق ُك َّل َداب ٍ‬
‫{ ‪َ { } 45‬واللَّهُ َخلَ َ‬
‫اء ِإ َّن اللَّهَ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير } ‪.‬‬ ‫و ِم ْنهم م ْن يم ِشي علَى أَرب ٍع ي ْخلُ ُ َّ‬
‫ق اللهُ َما َي َش ُ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫َ ُْ َ َ ْ‬
‫اء } أي‪:‬‬ ‫ينبه عباده على ما يشاهدونه‪ ،‬أنه خلق جميع الدواب التي على وجه األرض‪ِ { ،‬م ْن م ٍ‬
‫َ‬
‫اء ُك َّل َش ْي ٍء َح ٍّي }‪.‬‬
‫مادتها كلها الماء‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وجعْلَنا ِمن اْلم ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ ََ‬
‫فالحيوانات التي تتوالد‪ ،‬مادتها ماء النطفة‪ ،‬حين يلقح الذكر األنثى‪ .‬والحيوانات التي تتولد من‬
‫األرض‪ ،‬ال تتولد إال من الرطوبات المائية‪ ،‬كالحشرات ال يوجد منها شيء‪ ،‬يتولد من غير ماء‬
‫طنِ ِه } كالحية‬ ‫أبدا‪ ،‬فالمادة واحدة‪ ،‬ولكن الخلقة مختلفة من وجوه كثيرة‪ { ،‬فَ ِم ْنهُ ْم َم ْن َي ْم ِشي َعلَى َب ْ‬
‫ونحوها‪َ { ،‬و ِم ْنهُ ْم َم ْن َي ْم ِشي َعلَى ِر ْجلَْي ِن } كاآلدميين‪ ،‬وكثير من الطيور‪َ { ،‬و ِم ْنهُ ْم َم ْن َي ْم ِشي‬
‫َعلَى أ َْرَب ٍع } كبهيمة األنعام ونحوها‪ .‬فاختالفها ‪-‬مع أن األصل واحد‪ -‬يدل على نفوذ مشيئة اهلل‪،‬‬
‫اء } أي‪ :‬من المخلوقات‪ ،‬على ما يشاؤه من‬ ‫وعموم قدرته‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬ي ْخلُ ُ َّ‬
‫ق اللهُ َما َي َش ُ‬ ‫َ‬
‫الصفات‪ِ { ،‬إ َّن اللَّهَ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير } كما أنزل المطر على األرض‪ ،‬وهو لقاح واحد‪ ،‬واألم‬
‫ض ِق َ‬
‫طعٌ ُمتَ َج ِاو َر ٌ‬
‫ات‬ ‫األر ِ‬ ‫واحدة‪ ،‬وهي األرض‪ ،‬واألوالد مختلفو األصناف واألوصاف { َو ِفي ْ‬
‫ضهَا َعلَى‬ ‫اح ٍد َوُنفَ ِّ‬
‫ض ُل َب ْع َ‬
‫اء و ِ‬
‫ِ ٍ‬ ‫ان و َغ ْير ِ‬
‫ص ْن َو ٍ‬
‫ان ُي ْسقَى ب َم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعَناب َو َز ْرعٌ َوَنخي ٌل ص ْن َو ٌ َ ُ‬
‫ات ِم ْن أ ْ ٍ‬ ‫َو َجَّن ٌ‬
‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ض ِفي األ ُك ِل ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫آليات لقَ ْوٍم َي ْعقلُ َ‬
‫ون }‪.‬‬ ‫ك َ‬ ‫َب ْع ٍ‬

‫( ‪)1/571‬‬

‫اط ُم ْستَِق ٍيم (‪)46‬‬


‫صر ٍ‬‫ِ‬
‫اء ِإلَى َ‬
‫ٍ َّ ِ‬ ‫ٍ‬
‫لَقَ ْد أ َْن َزْلَنا آََيات ُمَبيَِّنات َواللهُ َي ْهدي َم ْن َي َش ُ‬

‫اط ُم ْستَِق ٍيم } ‪.‬‬


‫صر ٍ‬‫ِ‬
‫اء ِإلَى َ‬
‫ٍ َّ ِ‬ ‫ٍ‬
‫{ ‪ { } 46‬لَقَ ْد أ َْن َزْلَنا َآيات ُمَبيَِّنات َواللهُ َي ْهدي َم ْن َي َش ُ‬
‫أي‪ :‬لقد رحمنا عبادنا‪ ،‬وأنزلنا إليهم آيات بينات‪ ،‬أي‪ :‬واضحات الداللة‪ ،‬على جميع المقاصد‬
‫الشرعية‪ ،‬واآلداب المحمودة‪ ،‬والمعارف الرشيدة‪ ،‬فاتضحت بذلك السبل‪ ،‬وتبين الرشد من الغي‪،‬‬
‫والهدى من الضالل‪ ،‬فلم يبق أدنى شبهة لمبطل يتعلق بها‪ ،‬وال أدنى إشكال لمريد الصواب‪ ،‬ألنها‬
‫ك } بعد ذلك { َم ْن‬‫تنزيل من كمل علمه‪ ،‬وكملت رحمته‪ ،‬وكمل بيانه‪ ،‬فليس بعد بيانه بيان { ِلَي ْهِل َ‬
‫اء } ممن سبقت لهم سابقة الحسنى‪،‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ك َع ْن َبيَِّنة َوَي ْحَيا َم ْن َح َّي َع ْن َبيَِّنة } { َواللهُ َي ْهدي َم ْن َي َش ُ‬
‫َهلَ َ‬
‫اط ُم ْستَِق ٍيم } أي‪ :‬طريق واضح مختصر‪ ،‬موصل إليه‪ ،‬وإ لى دار‬ ‫صر ٍ‬ ‫ِ‬
‫وقدم الصدق‪ِ { ،‬إلَى َ‬
‫كرامته‪ ،‬متضمن العلم بالحق وإ يثاره والعمل به‪ .‬عمم البيان التام لجميع الخلق‪ ،‬وخصص بالهداية‬
‫من يشاء‪ ،‬فهذا فضله وإ حسانه‪ ،‬وما فضل الكريم بممنون وذاك عدله‪ ،‬وقطع الحجة للمحتج‪ ،‬واهلل‬
‫أعلم حيث يجعل مواقع إحسانه‪.‬‬

‫( ‪)1/571‬‬
‫ِ‬ ‫ك َو َما أُولَئِ َ‬‫يق ِم ْنهُ ْم ِم ْن َب ْع ِد َذِل َ‬
‫ط ْعَنا ثَُّم َيتََولَّى فَ ِر ٌ‬ ‫الرس ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين (‪)47‬‬ ‫ك بِاْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫ول َوأَ َ‬ ‫َمَّنا بِالله َوبِ َّ ُ‬
‫ون آ َ‬
‫َوَيقُولُ َ‬
‫ون (‪ )48‬وإِ ْن َي ُك ْن لَهُ ُم اْل َح ُّ‬ ‫وإِ َذا ُدعوا ِإلَى اللَّ ِه ورسوِل ِه ِلي ْح ُكم ب ْيَنهم ِإ َذا فَ ِر ٌ ِ‬
‫ق َيأْتُوا‬ ‫َ‬ ‫ض َ‬ ‫يق م ْنهُ ْم ُم ْع ِر ُ‬ ‫َ َ َ ُْ‬ ‫ََ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫يف اللَّهُ َعلَْي ِه ْم َو َر ُسولُهُ َب ْل أُولَئِ َ‬
‫ك‬ ‫َن َي ِح َ‬ ‫ون أ ْ‬ ‫ِإلَْي ِه م ْذ ِعنِين (‪ )49‬أ َِفي ُقلُوبِ ِهم مر ٌ ِ‬
‫ض أَم ْارتَ ُابوا أ َْم َي َخافُ َ‬ ‫ْ ََ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ون (‪)50‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ُه ُم الظال ُم َ‬

‫ك َو َما‬ ‫يق ِم ْنهُ ْم ِم ْن َب ْع ِد َذِل َ‬‫ط ْعَنا ثَُّم َيتََولَّى فَ ِر ٌ‬ ‫الرس ِ‬


‫ول َوأَ َ‬ ‫َّ ِ‬
‫آمَّنا بِالله َوبِ َّ ُ‬
‫ون َ‬ ‫{ ‪َ { } 50 - 47‬وَيقُولُ َ‬
‫ك بِاْلمؤ ِمنِين * وإِ َذا ُدعوا ِإلَى اللَّ ِه ورسوِل ِه ِلي ْح ُكم ب ْيَنهم ِإ َذا فَ ِر ٌ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون * َوإِ ْن َي ُك ْن‬ ‫ض َ‬ ‫يق م ْنهُ ْم ُم ْع ِر ُ‬ ‫َ َ َ ُْ‬ ‫ََ ُ‬ ‫ُ‬ ‫أُولَئ َ ُ ْ َ َ‬
‫يف اللَّهُ َعلَْي ِه ْم‬
‫َن َي ِح َ‬ ‫ون أ ْ‬ ‫ق َيأْتُوا ِإلَْي ِه م ْذ ِعنِين * أ َِفي ُقلُوبِ ِهم مر ٌ ِ‬
‫ض أَم ْارتَ ُابوا أ َْم َي َخافُ َ‬ ‫ْ ََ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫لَهُ ُماْل َح ُّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫َو َر ُسولُهُ َب ْل أُولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم الظال ُم َ‬
‫يخبر تعالى عن حالة الظالمين‪ ،‬ممن في قلبه مرض وضعف إيمان‪ ،‬أو نفاق وريب وضعف علم‪،‬‬
‫أنهم يقولون بألسنتهم‪ ،‬ويلتزمون اإليمان باهلل والطاعة‪ ،‬ثم ال يقومون بما قالوا‪ ،‬ويتولى فريق منهم‬
‫ون } فإن المتولي‪ ،‬قد يكون له نية عود‬
‫ض َ‬‫عن الطاعة توليا عظيما‪ ،‬بدليل قوله‪َ { :‬و ُه ْم ُم ْع ِر ُ‬
‫ورجوع إلى ما تولى عنه‪ ،‬وهذا المتولي معرض‪ ،‬ال التفات له‪ ،‬وال نظر لما تولى عنه‪ ،‬وتجد هذه‬
‫الحالة مطابقة لحال كثير ممن يدعي اإليمان والطاعة هلل وهو ضعيف اإليمان‪ ،‬وتجده ال يقوم‬
‫بكثير من العبادات‪ ،‬خصوصا‪ :‬العبادات التي تشق على كثير من النفوس‪ ،‬كالزكوات‪ ،‬والنفقات‬
‫الواجبة والمستحبة‪ ،‬والجهاد في سبيل اهلل‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫{ َوإِ َذا ُد ُعوا ِإلَى اللَّ ِه َو َر ُسوِل ِه ِلَي ْح ُك َم َب ْيَنهُ ْم } أي‪ :‬إذا صار بينهم وبين أحد [ ص ‪ ] 572‬حكومة‪،‬‬
‫ودعوا إلى حكم اهلل ورسوله { ِإ َذا فَ ِر ٌ ِ‬
‫ون } يريدون أحكام الجاهلية‪ ،‬ويفضلون‬‫ض َ‬‫يق م ْنهُ ْم ُم ْع ِر ُ‬
‫أحكام القوانين غير الشرعية على األحكام الشرعية‪ ،‬لعلمهم أن الحق عليهم‪ ،‬وأن الشرع ال يحكم‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين } وليس‬‫ق َيأْتُوا ِإلَْيه } أي‪ :‬إلى حكم الشرع { ُم ْذعن َ‬
‫إال بما يطابق الواقع‪ { ،‬وإِ ْن َي ُك ْن لَهُ ُم اْل َح ُّ‬
‫َ‬
‫ذلك ألجل أنه حكم شرعي‪ ،‬وإ نما ذلك ألجل موافقة أهوائهم‪ ،‬فليسوا ممدوحين في هذه الحال‪ ،‬ولو‬
‫أتوا إليه مذعنين‪ ،‬ألن العبد حقيقة‪ ،‬من يتبع الحق فيما يحب ويكره‪ ،‬وفيما يسره ويحزنه‪ ،‬وأما‬
‫الذي يتبع الشرع عند موافقة هواه‪ ،‬وينبذه عند مخالفته‪ ،‬ويقدم الهوى على الشرع‪ ،‬فليس بعبد‬
‫ض } أي‪:‬‬ ‫على الحقيقة‪ ،‬قال اهلل في لومهم على اإلعراض عن الحكم الشرعي‪ { :‬أ َِفي ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬
‫علة‪ ،‬أخرجت القلب عن صحته وأزالت حاسته‪ ،‬فصار بمنزلة المريض‪ ،‬الذي يعرض عما ينفعه‪،‬‬
‫ويقبل على ما يضره‪،‬‬
‫{ أَِم ْارتَ ُابوا } أي‪ :‬شكوا‪ ،‬وقلقت قلوبهم من حكم اهلل ورسوله‪ ،‬واتهموه أنه ال يحكم بالحق‪ { ،‬أ َْم‬
‫يف اللَّهُ َعلَْي ِه ْم َو َر ُسولُهُ } أي‪ :‬يحكم عليهم حكما ظالما جائرا‪ ،‬وإ نما هذا وصفهم‬ ‫َن َي ِح َ‬
‫ون أ ْ‬
‫َي َخافُ َ‬
‫ون }‪.‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫{ َب ْل أُولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم الظال ُم َ‬
‫َح َس ُن ِم َن اللَّ ِه ُح ْك ًما‬
‫وأما حكم اهلل ورسوله‪ ،‬ففي غاية العدالة والقسط‪ ،‬وموافقة الحكمة‪َ { .‬و َم ْن أ ْ‬
‫ِ‬
‫لقَ ْوٍم ُيو ِقُن َ‬
‫ون } وفي هذه اآليات‪ ،‬دليل على أن اإليمان‪ ،‬ليس هو مجرد القول حتى يقترن به‬
‫العمل‪ ،‬ولهذا نفى اإليمان عمن تولى عن الطاعة‪ ،‬ووجوب االنقياد لحكم اهلل ورسوله في كل‬
‫حال‪ ،‬وأن من ينقد له دل على مرض في قلبه‪ ،‬وريب في إيمانه‪ ،‬وأنه يحرم إساءة الظن بأحكام‬
‫الشريعة‪ ،‬وأن يظن بها خالف العدل والحكمة‪.‬‬
‫ولما ذكر حالة المعرضين عن الحكم الشرعي‪ ،‬ذكر حالة المؤمنين الممدوحين‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫( ‪)1/571‬‬

‫ط ْعَنا َوأُولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم‬ ‫َن َيقُولُوا َس ِم ْعَنا َوأَ َ‬
‫ين ِإ َذا ُد ُعوا ِإلَى اللَّ ِه َو َر ُسوِل ِه ِلَي ْح ُك َم َب ْيَنهُ ْم أ ْ‬‫ِ‬
‫ان قَ ْو َل اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ِإَّن َما َك َ‬
‫ون (‪)52‬‬ ‫ِ‬ ‫ون (‪َ )51‬و َم ْن ُي ِط ِع اللَّهَ َو َر ُسولَهُ َوَي ْخ َش اللَّهَ َوَيتَّ ْق ِه فَأُولَئِ َ‬ ‫ِ‬
‫ك ُه ُم اْلفَائ ُز َ‬ ‫اْل ُم ْفل ُح َ‬

‫َن َيقُولُوا َس ِم ْعَنا‬ ‫ين ِإ َذا ُد ُعوا ِإلَى اللَّ ِه َو َر ُسوِل ِه ِلَي ْح ُك َم َب ْيَنهُ ْم أ ْ‬‫ِ‬
‫ان قَ ْو َل اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫{ ‪ِ { } 52 - 51‬إَّن َما َك َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ون * َو َم ْن ُي ِط ِع اللَّهَ َو َر ُسولَهُ َوَي ْخ َش اللَّهَ َوَيتَّ ْق ِه فَأُولَئِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ط ْعَنا َوأُولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم اْلفَائ ُز َ‬ ‫ك ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ‬ ‫َوأَ َ‬
‫ِ‬
‫ين } حقيقة‪ ،‬الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم حين يدعون إلى اهلل‬ ‫ان قَ ْو َل اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫أي‪ِ { :‬إَّن َما َك َ‬
‫ط ْعَنا } أي‪ :‬سمعنا‬ ‫َن َيقُولُوا َس ِم ْعَنا َوأَ َ‬ ‫ورسوله ليحكم بينهم‪ ،‬سواء وافق أهواءهم أو خالفها‪ { ،‬أ ْ‬
‫حكم اهلل ورسوله‪ ،‬وأجبنا من دعانا إليه‪ ،‬وأطعنا طاعة تامة‪ ،‬سالمة من الحرج‪.‬‬
‫ون } حصر الفالح فيهم‪ ،‬ألن الفالح‪ :‬الفوز بالمطلوب‪ ،‬والنجاة من المكروه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫{ َوأُولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ‬
‫وال يفلح إال من حكم اهلل ورسوله‪ ،‬وأطاع اهلل ورسوله‪ .‬ولما ذكر فضل الطاعة في الحكم‬
‫خصوصا‪ ،‬ذكر فضلها عموما‪ ،‬في جميع األحوال‪ ،‬فقال‪َ { :‬و َم ْن ُي ِط ِع اللَّهَ َو َر ُسولَهُ } فيصدق‬
‫خبرهما ويمتثل أمرهما‪َ { ،‬وَي ْخ َش اللَّهَ } أي‪ :‬يخافه خوفا مقرونا بمعرفة‪ ،‬فيترك ما نهى عنه‪،‬‬
‫ويكف نفسه عما تهوى‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وَيتَّ ْق ِه } بترك المحظور‪ ،‬ألن التقوى ‪-‬عند اإلطالق‪ -‬يدخل‬
‫فيها‪ ،‬فعل المأمور‪ ،‬وترك المنهي عنه‪ ،‬وعند اقترانها بالبر أو الطاعة ‪ -‬كما في هذا الموضع ‪-‬‬
‫ك } الذين جمعوا بين طاعة اهلل وطاعة رسوله‪،‬‬‫تفسر بتوقي عذاب اهلل‪ ،‬بترك معاصيه‪ { ،‬فَأُولَئِ َ‬
‫ون } بنجاتهم من العذاب‪ ،‬لتركهم أسبابه‪ ،‬ووصولهم إلى الثواب‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وخشية اهلل وتقواه‪ُ { ،‬ه ُم اْلفَائ ُز َ‬
‫لفعلهم أسبابه‪ ،‬فالفوز محصور فيهم‪ ،‬وأما من لم يتصف بوصفهم‪ ،‬فإنه يفوته من الفوز بحسب ما‬
‫قصر عنه من هذه األوصاف الحميدة‪ ،‬واشتملت هذه اآلية‪ ،‬على الحق المشترك بين اهلل وبين‬
‫رسوله‪ ،‬وهو‪ :‬الطاعة المستلزمة لإليمان‪ ،‬والحق المختص باهلل‪ ،‬وهو‪ :‬الخشية والتقوى‪ ،‬وبقي‬
‫الحق الثالث المختص بالرسول‪ ،‬وهو التعزير والتوقير‪ ،‬كما جمع بين الحقوق الثالثة في سورة‬
‫الفتح في قوله‪ِ { :‬لتُؤ ِمُنوا بِاللَّ ِه ورسوِل ِه وتُعِّزروه وتُوقِّروه وتُسبِّحوه ب ْكرةً وأ ِ‬
‫َصيال }‬ ‫ََ ُ َ َ ُ ُ َ َ ُ ُ َ َ ُ ُ ُ َ َ‬ ‫ْ‬
‫( ‪)1/572‬‬

‫اعةٌ َم ْع ُروفَةٌ ِإ َّن اللَّهَ َخبِ ٌير بِ َما‬


‫ط َ‬‫َم ْرتَهُ ْم لََي ْخ ُر ُج َّن ُق ْل اَل تُ ْق ِس ُموا َ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫َوأَ ْق َس ُموا بالله َج ْه َد أ َْي َمانه ْم لَئ ْن أ َ‬
‫ون (‪)53‬‬
‫تَ ْع َملُ َ‬

‫اعةٌ َم ْع ُروفَةٌ ِإ َّن‬


‫ط َ‬‫َم ْرتَهُ ْم لََي ْخ ُر ُج َّن ُق ْل ال تُ ْق ِس ُموا َ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫{ ‪َ { } 54 - 53‬وأَ ْق َس ُموا بالله َج ْه َد أ َْي َمانه ْم لَئ ْن أ َ‬
‫َّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫اللهَ َخبِ ٌير بِ َما تَ ْع َملُ َ‬
‫يخبر تعالى عن حالة المتخلفين عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم في الجهاد من المنافقين‪ ،‬ومن‬
‫َم ْرتَهُ ْم } فيما يستقبل‪ ،‬أو لئن نصصت‬ ‫ِ‬
‫في قلوبهم مرض وضعف إيمان أنهم يقسمون باهلل‪ { ،‬لَئ ْن أ َ‬
‫عليهم حين خرجت { لََي ْخ ُر ُج َّن } والمعنى األول أولى‪ .‬قال اهلل ‪-‬رادا عليهم‪ُ { :-‬ق ْل ال تُ ْق ِس ُموا }‬
‫أي‪ :‬ال نحتاج إلى إقسامكم وال إلى أعذاركم‪ ،‬فإن اهلل قد نبأنا من أخباركم‪ ،‬وطاعتكم معروفة‪ ،‬ال‬
‫تخفى علينا‪ ،‬قد كنا نعرف منكم التثاقل والكسل من غير عذر‪ ،‬فال وجه لعذركم وقسمكم‪ ،‬إنما‬
‫يحتاج إلى ذلك‪ ،‬من كان أمره محتمال وحاله مشتبهة‪ ،‬فهذا ربما يفيده العذر براءة‪ ،‬وأما أنتم فكال‬
‫ولما‪ ،‬وإ نما ينتظر بكم ويخاف عليكم حلول بأس اهلل ونقمته‪ ،‬ولهذا توعدهم بقوله‪ِ { :‬إ َّن اللَّهَ َخبِ ٌير‬
‫ون } فيجازيكم عليها أتم الجزاء‪ ،‬هذه حالهم في نفس األمر‪ ،‬وأما الرسول عليه الصالة‬ ‫بِ َما تَ ْع َملُ َ‬
‫والسالم‪ ،‬فوظيفته أن يأمركم وينهاكم‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫( ‪)1/572‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬


‫الر ُسو َل فَِإ ْن تََول ْوا فَِإَّن َما َعلَْيه َما ُح ِّم َل َو َعلَْي ُك ْم َما ُح ِّمْلتُ ْم َوإِ ْن تُط ُ‬
‫يعوهُ‬ ‫يعوا َّ‬
‫يعوا اللهَ َوأَط ُ‬
‫ُق ْل أَط ُ‬
‫الرس ِ اَّل‬
‫ين (‪)54‬‬ ‫ول ِإ اْلَباَل غُ اْل ُمبِ ُ‬ ‫تَ ْهتَ ُدوا َو َما َعلَى َّ ُ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬


‫يعوهُ‬ ‫الر ُسو َل فَِإ ْن تََول ْوا فَِإَّن َما َعلَْيه َما ُح ِّم َل َو َعلَْي ُك ْم َما ُح ِّمْلتُ ْم َوإِ ْن تُط ُ‬
‫يعوا َّ‬‫يعوا اللهَ َوأَط ُ‬
‫{ ُق ْل أَط ُ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫الرس ِ‬
‫ول ِإال اْلَبالغُ اْل ُمبِ ُ‬ ‫تَ ْهتَ ُدوا َو َما َعلَى َّ ُ‬
‫الر ُسو َل فَِإ ْن } امتثلوا‪ ،‬كان حظكم وسعادتكم (‪ )1‬وإ ن { تََولَّ ْوا فَِإَّن َما‬ ‫يعوا َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫يعوا اللهَ َوأَط ُ‬
‫ِ‬
‫{ ُق ْل أَط ُ‬
‫َعلَْي ِه َما ُح ِّم َل } من الرسالة‪ ،‬وقد أداها‪.‬‬
‫{ َو َعلَْي ُك ْم َما ُح ِّمْلتُ ْم } من الطاعة‪ ،‬وقد بانت حالكم وظهرت‪ ،‬فبان ضاللكم وغيكم واستحقاقكم‬
‫يعوهُ تَ ْهتَ ُدوا } إلى الصراط المستقيم‪ [ ،‬ص ‪ ] 573‬قوال وعمال فال سبيل لكم‬ ‫ِ‬
‫العذاب‪َ { .‬وإِ ْن تُط ُ‬
‫إلى الهداية إال بطاعته‪ ،‬وبدون ذلك‪ ،‬ال يمكن‪ ،‬بل هو محال‪.‬‬
‫الرس ِ‬
‫ول ِإال اْلَبالغُ اْل ُمبِ ُ‬
‫ين } أي‪ :‬تبليغكم البين الذي ال يبقي ألحد شكا وال شبهة‪ ،‬وقد‬ ‫{ َو َما َعلَى َّ ُ‬
‫فعل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬بلغ البالغ المبين‪ ،‬وإ نما الذي يحاسبكم ويجازيكم هو اهلل تعالى‪،‬‬
‫فالرسول ليس له من األمر شيء‪ ،‬وقد قام بوظيفته‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬كان حظهم وسعادتهم‪.‬‬

‫( ‪)1/572‬‬

‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم‬ ‫ض َكما استَ ْخلَ َ َِّ‬


‫ف الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َمُنوا م ْن ُك ْم َو َعملُوا الصَّال َحات لََي ْستَ ْخلفََّنهُ ْم في اأْل َْر ِ َ ْ‬ ‫ين آ َ‬
‫َّ َِّ‬
‫َو َع َد اللهُ الذ َ‬
‫ون بِي َش ْيًئا‬ ‫ولَيم ِّكَن َّن لَهم ِد َينهم الَِّذي ارتَضى لَهم ولَيب ِّدلََّنهم ِم ْن بع ِد َخو ِف ِهم أَمًنا يعب ُد َ ِ‬
‫ونني اَل ُي ْش ِر ُك َ‬ ‫َ ْ ْ ْ ْ َ ُْ‬ ‫ْ َ ُ ْ َ َُ ُ ْ‬ ‫ُْ ُُ‬ ‫َ َُ‬
‫ون (‪)55‬‬ ‫ِ‬ ‫ك فَأُولَئِ َ‬
‫َو َم ْن َكفََر َب ْع َد َذِل َ‬
‫ك ُه ُم اْلفَاسقُ َ‬

‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َِّ‬


‫ف‬
‫استَ ْخلَ َ‬
‫ض َك َما ْ‬ ‫آمُنوا م ْن ُك ْم َو َعملُوا الصَّال َحات لََي ْستَ ْخلفََّنهُ ْم في ْ‬ ‫ين َ‬ ‫{ ‪َ { } 55‬و َع َد اللهُ الذ َ‬
‫وننِي ال‬‫ضى لَهُ ْم َولَُيَب ِّدلََّنهُ ْم ِم ْن َب ْع ِد َخ ْو ِف ِه ْم أ َْمًنا َي ْعُب ُد َ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫الَِّذ ِ ِ‬
‫ين م ْن قَْبل ِه ْم َولَُي َم ِّكَن َّن لَهُ ْم د َينهُ ُم الذي ْارتَ َ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ك فَأُولَئِ َ‬
‫ون بِي َش ْيًئا َو َم ْن َكفََر َب ْع َد َذِل َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ك ُه ُم اْلفَاسقُ َ‬ ‫ُي ْش ِر ُك َ‬
‫هذا من أوعاده (‪ )1‬الصادقة‪ ،‬التي شوهد تأويلها ومخبرها‪ ،‬فإنه وعد من قام باإليمان والعمل‬
‫الصالح من هذه األمة‪ ،‬أن يستخلفهم في األرض‪ ،‬يكونون هم الخلفاء فيها‪ ،‬المتصرفين في‬
‫تدبيرها‪ ،‬وأنه يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم‪ ،‬وهو دين اإلسالم‪ ،‬الذي فاق األديان كلها‪،‬‬
‫ارتضاه لهذه األمة‪ ،‬لفضلها وشرفها ونعمته عليها‪ ،‬بأن يتمكنوا من إقامته‪ ،‬وإ قامة شرائعه‬
‫الظاهرة والباطنة‪ ،‬في أنفسهم وفي غيرهم‪ ،‬لكون غيرهم من أهل األديان وسائر الكفار مغلوبين‬
‫ذليلين‪ ،‬وأنه يبدلهم من بعد خوفهم الذي كان الواحد منهم ال يتمكن من إظهار دينه‪ ،‬وما هو عليه‬
‫إال بأذى كثير من الكفار‪ ،‬وكون جماعة المسلمين قليلين جدا بالنسبة إلى غيرهم‪ ،‬وقد رماهم أهل‬
‫األرض عن قوس واحدة‪ ،‬وبغوا لهم الغوائل‪.‬‬
‫فوعدهم اهلل هذه األمور وقت نزول اآلية‪ ،‬وهي لم تشاهد االستخالف في األرض والتمكين فيها‪،‬‬
‫والتمكين من إقامة الدين اإلسالمي‪ ،‬واألمن التام‪ ،‬بحيث يعبدون اهلل وال يشركون به شيئا‪ ،‬وال‬
‫يخافون أحدا إال اهلل‪ ،‬فقام صدر هذه األمة‪ ،‬من اإليمان والعمل الصالح بما يفوقون على غيرهم‪،‬‬
‫فمكنهم من البالد والعباد‪ ،‬وفتحت مشارق األرض ومغاربها‪ ،‬وحصل األمن التام والتمكين التام‪،‬‬
‫فهذا من آيات اهلل العجيبة الباهرة‪ ،‬وال يزال األمر إلى قيام الساعة‪ ،‬مهما قاموا باإليمان والعمل‬
‫الصالح‪ ،‬فال بد أن يوجد ما وعدهم اهلل‪ ،‬وإ نما يسلط عليهم الكفار والمنافقين‪ ،‬ويديلهم في بعض‬
‫األحيان‪ ،‬بسبب إخالل المسلمين باإليمان والعمل الصالح‪.‬‬
‫ون }‬ ‫ِ‬ ‫ك } التمكين والسلطنة التامة لكم‪ ،‬يا معشر المسلمين‪ { ،‬فَأُولَئِ َ‬
‫{ َو َم ْن َكفََر َب ْع َد َذِل َ‬
‫ك ُه ُم اْلفَاسقُ َ‬
‫الذين خرجوا عن طاعة اهلل‪ ،‬وفسدوا‪ ،‬فلم يصلحوا لصالح‪ ،‬ولم يكن فيهم أهلية للخير‪ ،‬ألن الذي‬
‫يترك اإليمان في حال عزه وقهره‪ ،‬وعدم وجود األسباب المانعة منه‪ ،‬يدل على فساد نيته‪ ،‬وخبث‬
‫طويته‪ ،‬ألنه ال داعي له لترك الدين إال ذلك‪ .‬ودلت هذه اآلية‪ ،‬أن اهلل قد مكن من قبلنا‪ ،‬واستخلفهم‬
‫ون } وقال تعالى‪:‬‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ف تَ ْع َملُ َ‬ ‫ض فََي ْنظَُر َك ْي َ‬ ‫في األرض‪ ،‬كما قال موسى لقومه‪َ { :‬وَي ْستَ ْخلفَ ُك ْم في ْ‬
‫ين َوُن َم ِّك َن لَهُ ْم ِفي‬ ‫ِ‬
‫ض َوَن ْج َعلَهُ ْم أَئ َّمةً َوَن ْج َعلَهُ ُم اْل َو ِارثِ َ‬
‫األر ِ‬ ‫َن َنم َّن علَى الَِّذين استُ ْ ِ ِ‬
‫ضعفُوا في ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫يد أ ْ ُ َ‬ ‫{ َوُن ِر ُ‬
‫ض}‬ ‫األر ِ‬‫ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في النسختين‪ ،‬ولعل الصواب‪ :‬وعوده‪.‬‬

‫( ‪)1/573‬‬

‫َِّ‬ ‫الرس َ َّ‬ ‫ِ‬ ‫الصاَل ةَ وآَتُوا َّ‬ ‫ِ‬


‫ون (‪ )56‬اَل تَ ْح َسَب َّن الذ َ‬
‫ين َكفَ ُروا‬ ‫ول لَ َعل ُك ْم تُْر َح ُم َ‬ ‫يعوا َّ ُ‬‫الز َكاةَ َوأَط ُ‬ ‫يموا َّ َ‬ ‫َوأَق ُ‬
‫النار ولَبِْئس اْلم ِ‬ ‫ين ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ص ُير (‪)57‬‬ ‫اه ُم َّ ُ َ َ َ‬ ‫ض َو َمأ َْو ُ‬ ‫ُم ْع ِج ِز َ‬

‫ون * ال تَ ْح َسَب َّن‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫يموا الصَّالةَ وآتُوا َّ‬ ‫ِ‬
‫الر ُسو َل لَ َعل ُك ْم تُْر َح ُم َ‬
‫يعوا َّ‬
‫الز َكاةَ َوأَط ُ‬ ‫َ‬ ‫{ ‪َ { } 57 - 56‬وأَق ُ‬
‫النار ولَبِْئس اْلم ِ‬ ‫األر ِ‬ ‫الَِّذين َكفَروا مع ِج ِز ِ‬
‫ص ُير } ‪.‬‬ ‫اه ُم َّ ُ َ َ َ‬ ‫ض َو َمأ َْو ُ‬ ‫ين في ْ‬‫َ ُ ُْ َ‬
‫يأمر تعالى بإقامة الصالة‪ ،‬بأركانها وشروطها وآدابها‪ ،‬ظاهرا وباطنا‪ ،‬وبإيتاء الزكاة من األموال‬
‫التي استخلف اهلل عليها العباد‪ ،‬وأعطاهم إياها‪ ،‬بأن يؤتوها الفقراء وغيرهم‪ ،‬ممن ذكرهم اهلل‬
‫لمصرف الزكاة‪ ،‬فهذان أكبر الطاعات وأجلهما‪ ،‬جامعتان لحقه وحق خلقه‪ ،‬لإلخالص للمعبود‪،‬‬
‫ول } وذلك بامتثال‬
‫الر ُس َ‬
‫يعوا َّ‬ ‫ِ‬
‫ولإلحسان إلى العبيد‪ ،‬ثم عطف عليهما األمر العام‪ ،‬فقال‪َ { :‬وأَط ُ‬
‫اع اللَّهَ } { لَ َعلَّ ُك ْم } حين تقومون بذلك‬
‫ط َ‬ ‫أوامره واجتناب نواهيه { َم ْن ُي ِط ِع َّ‬
‫الر ُسو َل فَقَ ْد أَ َ‬
‫ون } فمن أراد الرحمة‪ ،‬فهذا طريقها‪ ،‬ومن رجاها من دون إقامة الصالة‪ ،‬وإ يتاء الزكاة‪،‬‬ ‫{ تُْر َح ُم َ‬
‫وإ طاعة الرسول‪ ،‬فهو متمن كاذب‪ ،‬وقد منته نفسه األماني الكاذبة‪.‬‬
‫ض } فال يغررك ما متعوا به في الحياة الدنيا‪ ،‬فإن اهلل‪،‬‬ ‫األر ِ‬ ‫{ ال تَ ْحسب َّن الَِّذين َكفَروا مع ِج ِز ِ‬
‫ين في ْ‬ ‫َ ُ ُْ َ‬ ‫ََ‬
‫اب َغِل ٍ‬
‫يظ }‪.‬‬ ‫ط ُّر ُهم ِإلَى َع َذ ٍ‬ ‫وإ ن أمهلهم فإنه ال يهملهم { ُن َمتِّ ُعهُ ْم َقِليال ثَُّم َن ْ‬
‫ضَ ْ‬
‫النار ولَبِْئس اْلم ِ‬
‫ص ُير } أي‪ :‬بئس المآل‪ ،‬مآل الكافرين‪ ،‬مآل الشر‬ ‫اه ُم َّ ُ َ َ َ‬ ‫ولهذا قال هنا‪َ { :‬و َمأ َْو ُ‬
‫والحسرة والعقوبة األبدية‪.‬‬

‫( ‪)1/573‬‬

‫ات ِم ْن قَْب ِل‬ ‫ث م َّر ٍ‬ ‫ِ‬


‫ين لَ ْم َيْبلُ ُغوا اْل ُحلُ َم م ْن ُك ْم ثَاَل َ َ‬
‫َِّ‬
‫ت أ َْي َم ُان ُك ْم َوالذ َ‬
‫ين َملَ َك ْ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ ِ‬
‫َمُنوا لَي ْستَأْذ ْن ُك ُم الذ َ‬
‫ين آ َ‬
‫َِّ‬
‫َيا أَيُّهَا الذ َ‬
‫ث عور ٍ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫صاَل ِة اْلفَ ْج ِر و ِحين تَضع ِ‬
‫ات لَ ُك ْم لَْي َس‬ ‫صاَل ة اْلع َشاء ثَاَل ُ َ ْ َ‬ ‫ون ثَي َاب ُك ْم م َن الظ ِه َير ِة َو ِم ْن َب ْعد َ‬ ‫َ َ َُ َ‬ ‫َ‬
‫ِ َّ‬ ‫ك يبي َّ‬ ‫ط َّوافُون علَْي ُكم بعض ُكم علَى بع ٍ ِ‬ ‫َعلَْي ُك ْم َواَل َعلَْي ِه ْم ُجَن ٌ‬
‫اح َب ْع َد ُه َّن َ‬
‫ِّن اللهُ لَ ُك ُم اآْل ََيات َواللهُ‬
‫ض َك َذل َ َُ ُ‬ ‫َ َ ْ َْ ُ ْ َ َْ‬
‫يم (‪)58‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم َحك ٌ‬ ‫َعل ٌ‬

‫ين لَ ْم َيْبلُ ُغوا اْل ُحلُ َم ِم ْن ُك ْم ثَ َ‬


‫الث‬ ‫َِّ‬
‫ت أ َْي َم ُان ُك ْم َوالذ َ‬
‫ين َملَ َك ْ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ ِ‬
‫آمُنوا لَي ْستَأْذ ْن ُك ُم الذ َ‬‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫{ ‪َ { } 58‬يا أَُّيهَا الذ َ‬
‫الث‬
‫اء ثَ ُ‬‫الة اْل ِع َش ِ‬‫الة اْلفَ ْج ِر و ِحين تَضعون ثِياب ُكم ِمن الظَّ ِهير ِة و ِم ْن بع ِد ص ِ‬ ‫ات ِم ْن قَْب ِل ص ِ‬ ‫م َّر ٍ‬
‫َ َ َْ َ‬ ‫َ َ َُ َ ََ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك يبي َّ‬ ‫ط َّوافُون علَْي ُكم بعض ُكم علَى بع ٍ ِ‬ ‫اح َب ْع َد ُه َّن َ‬ ‫عور ٍ‬
‫ات لَ ُك ْم لَْي َس َعلَْي ُك ْم َوال َعلَْي ِه ْم ُجَن ٌ‬
‫ِّن اللهُ‬
‫ض َك َذل َ َُ ُ‬ ‫َ َ ْ َْ ُ ْ َ َْ‬ ‫َْ َ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫يم َحك ٌ‬ ‫اآليات َواللهُ َعل ٌ‬ ‫لَ ُك ُم َ‬
‫أمر المؤمنين أن يستأذنهم مماليكهم‪ ،‬والذين لم يبلغوا الحلم منهم‪ .‬قد ذكر اهلل حكمته وأنه ثالث‬
‫عورات للمستأذن عليهم‪ ،‬وقت نومهم بالليل بعد العشاء‪ ،‬وعند انتباههم قبل صالة الفجر‪ ،‬فهذا‬
‫‪-‬في الغالب‪ -‬أن النائم يستعمل للنوم في الليل ثوبا غير ثوبه المعتاد‪ ،‬وأما نوم النهار‪ ،‬فلما كان‬
‫ون ثَِي َاب ُك ْم ِم َن الظَّ ِه َير ِة }‬
‫ض ُع َ‬
‫ين تَ َ‬
‫ِ‬
‫في الغالب قليال قد ينام فيه العبد بثيابه المعتادة‪ ،‬قيده بقوله‪َ { :‬وح َ‬
‫أي‪ :‬للقائلة‪ ،‬وسط النهار‪.‬‬
‫ففي ثالثة هذه األحوال‪ ،‬يكون المماليك واألوالد الصغار كغيرهم‪ ،‬ال يمكنون من الدخول إال‬
‫بإذن‪ ،‬وأما [ ص ‪ ] 574‬ما عدا هذه األحوال الثالثة فقال‪ { :‬لَْي َس َعلَْي ُك ْم َوال َعلَْي ِه ْم ُجَن ٌ‬
‫اح َب ْع َد ُه َّن }‬
‫أي‪ :‬ليسوا كغيرهم‪ ،‬فإنهم يحتاج إليهم دائما‪ ،‬فيشق االستئذان منهم في كل وقت‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ض } أي‪ :‬يترددون عليكم في قضاء أشغالكم وحوائجكم‪.‬‬ ‫ض ُك ْم َعلَى َب ْع ٍ‬
‫ون َعلَْي ُك ْم َب ْع ُ‬
‫ط َّوافُ َ‬
‫{ َ‬
‫ات } بيانا مقرونا بحكمته‪ ،‬ليتأكد ويتقوى ويعرف به رحمة شارعه‬ ‫ك يبيِّن اللَّه لَ ُكم اآلي ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َك َذل َ َُ ُ ُ ُ َ‬
‫يم } له العلم المحيط بالواجبات والمستحيالت والممكنات‪،‬‬ ‫وحكمته‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬واللَّه عِل ِ‬
‫يم َحك ٌ‬
‫َ ُ َ ٌ‬
‫والحكمة التي وضعت كل شيء موضعه‪ ،‬فأعطى كل مخلوق خلقه الالئق به‪ ،‬وأعطى كل حكم‬
‫شرعي حكمه الالئق به‪ ،‬ومنه هذه األحكام التي بينها وبين مآخذها وحسنها‪.‬‬

‫( ‪)1/573‬‬
‫ِ ِ َّ‬ ‫ك يبي َّ‬ ‫ِ‬ ‫طفَا ُل ِم ْن ُكم اْلحلُم َفْليستَأ ِْذُنوا َكما استَْأ َذن الَِّذ ِ ِ‬
‫ين م ْن قَْبل ِه ْم َك َذل َ َُ ُ‬
‫ِّن اللهُ لَ ُك ْم آََياته َواللهُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ُ َُ َْ‬ ‫َوإِ َذا َبلَ َغ اأْل َ ْ‬
‫يم (‪)59‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم َحك ٌ‬ ‫َعل ٌ‬

‫طفَا ُل ِم ْن ُك ُم اْل ُحلُ َم } ‪.‬‬


‫{ ‪َ { } 59‬وإِ َذا َبلَ َغ األ ْ‬
‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم } أي‪ :‬في سائر‬ ‫َِّ‬
‫استَْأ َذ َن الذ َ‬
‫ِ‬
‫وهو إنزال المني يقظة أو مناما‪َ { ،‬فْلَي ْستَأْذ ُنوا َك َما ْ‬
‫آمُنوا ال تَ ْد ُخلُوا ُبُيوتًا َغ ْي َر‬ ‫َِّ‬
‫ين َ‬
‫األوقات‪ ،‬والذين من قبلهم‪ ،‬هم الذين ذكرهم اهلل بقوله‪َ { :‬يا أَيُّهَا الذ َ‬
‫ُبُيوتِ ُك ْم َحتَّى تَ ْستَأْنِ ُسوا } اآلية‪.‬‬
‫يم }‪.‬‬ ‫ات } ويوضحها‪ ،‬ويفصل أحكامها { واللَّه عِل ِ‬ ‫ك يبيِّن اللَّه لَ ُكم اآلي ِ‬ ‫ِ‬
‫يم َحك ٌ‬
‫َ ُ َ ٌ‬ ‫{ َك َذل َ َُ ُ ُ ْ َ‬
‫وفي هاتين اآليتين فوائد‪ ،‬منها‪ :‬أن السيد وولي الصغير‪ ،‬مخاطبان بتعليم عبيدهم ومن تحت‬
‫ين‬ ‫َِّ‬
‫واليتهم من األوالد‪ ،‬العلم واآلداب الشرعية‪ ،‬ألن اهلل وجه الخطاب إليهم بقوله‪َ { :‬يا أَيُّهَا الذ َ‬
‫ين لَ ْم َيْبلُ ُغوا اْل ُحلُ َم } اآلية‪ ،‬وال يمكن ذلك‪ ،‬إال بالتعليم‬ ‫َِّ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ ِ‬
‫ت أ َْي َم ُان ُك ْم َوالذ َ‬‫ين َملَ َك ْ‬
‫آمُنوا لَي ْستَأْذ ْن ُك ُم الذ َ‬
‫َ‬
‫والتأديب‪ ،‬ولقوله‪ { :‬لَْي َس َعلَْي ُك ْم َوال َعلَْي ِه ْم ُجَن ٌ‬
‫اح َب ْع َد ُه َّن }‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬األمر بحفظ العورات‪ ،‬واالحتياط لذلك من كل وجه‪ ،‬وأن المحل والمكان‪ ،‬الذي هو مظنة‬
‫لرؤية عورة اإلنسان فيه‪ ،‬أنه منهي عن االغتسال فيه واالستنجاء‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬جواز كشف العورة لحاجة‪ ،‬كالحاجة عند النوم‪ ،‬وعند البول والغائط‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن المسلمين كانوا معتادين للقيلولة وسط النهار‪ ،‬كما اعتادوا نوم الليل‪ ،‬ألن اهلل خاطبهم‬
‫ببيان حالهم الموجودة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الصغير الذي دون البلوغ‪ ،‬ال يجوز أن يمكن من رؤية العورة‪ ،‬وال يجوز أن ترى‬
‫عورته‪ ،‬ألن اهلل لم يأمر باستئذانهم‪ ،‬إال عن أمر ما يجوز‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن المملوك أيضا‪ ،‬ال يجوز أن يرى عورة سيده‪ ،‬كما أن سيده ال يجوز أن يرى عورته‪،‬‬
‫كما ذكرنا في الصغير‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي للواعظ والمعلم ونحوهم‪ ،‬ممن يتكلم في مسائل العلم الشرعي‪ ،‬أن يقرن بالحكم‪،‬‬
‫بيان مأخذه ووجهه‪ ،‬وال يلقيه مجردا عن الدليل والتعليل‪ ،‬ألن اهلل ‪ -‬لما بين الحكم المذكور‪-‬‬
‫الث عور ٍ‬
‫ات لَ ُك ْم }‪.‬‬ ‫علله بقوله‪ { :‬ثَ ُ َ ْ َ‬
‫ومنها‪ :‬أن الصغير والعبد‪ ،‬مخاطبان‪ ،‬كما أن وليهما مخاطب لقوله‪ { :‬لَْي َس َعلَْي ُك ْم َوال َعلَْي ِه ْم‬
‫اح َب ْع َد ُه َّن }‪.‬‬
‫ُجَن ٌ‬
‫ون َعلَْي ُك ْم } مع‬
‫ط َّوافُ َ‬
‫ومنها‪ :‬أن ريق الصبي طاهر‪ ،‬ولو كان بعد نجاسة‪ ،‬كالقيء‪ ،‬لقوله تعالى‪َ { :‬‬
‫قول النبي صلى اهلل عليه وسلم حين سئل عن الهرة‪ " :‬إنها ليست بنجس‪ ،‬إنها من الطوافين عليكم‬
‫والطوافات "‬
‫ومنها‪ :‬جواز استخدام اإلنسان من تحت يده‪ ،‬من األطفال على وجه معتاد‪ ،‬ال يشق على الطفل‬
‫ون َعلَْي ُك ْم }‪.‬‬
‫ط َّوافُ َ‬
‫لقوله‪َ { :‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الحكم المذكور المفصل‪ ،‬إنما هو لما دون البلوغ‪ ،‬فأما ما بعد البلوغ‪ ،‬فليس إال‬
‫االستئذان‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن البلوغ يحصل باإلنزال فكل حكم شرعي رتب على البلوغ‪ ،‬حصل باإلنزال‪ ،‬وهذا‬
‫مجمع عليه‪ ،‬وإ نما الخالف‪ ،‬هل يحصل البلوغ بالسن‪ ،‬أو اإلنبات للعانة‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫( ‪)1/574‬‬

‫َن يضعن ثِيابه َّن َغ ْير متَبِّرج ٍ‬ ‫احا َفلَْي َس َعلَْي ِه َّن ُجَن ٌ‬ ‫اء الاَّل تِي اَل يرج ِ‬ ‫النس ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ات‬ ‫َ َُ َ‬ ‫اح أ ْ َ َ ْ َ َ َ ُ‬ ‫ون ن َك ً‬
‫َْ ُ َ‬ ‫َواْلقَ َواع ُد م َن ِّ َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪)60‬‬ ‫بِ ِز َين ٍة َوأ ْ‬
‫َن َي ْستَ ْعف ْف َن َخ ْيٌر لَهُ َّن َواللهُ َسميعٌ َعل ٌ‬

‫ض ْع َن ثَِي َابهُ َّن َغ ْي َر‬


‫َن َي َ‬ ‫احا َفلَْي َس َعلَْي ِه َّن ُجَن ٌ‬
‫اح أ ْ‬ ‫اء الالتِي ال يرج ِ‬
‫ون ن َك ً‬
‫َْ ُ َ‬
‫النس ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫{ ‪َ { } 60‬واْلقَ َواع ُد م َن ِّ َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات بِ ِز َين ٍة َوأ ْ‬
‫متَبِّرج ٍ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫َن َي ْستَ ْعف ْف َن َخ ْيٌر لَهُ َّن َواللهُ َسميعٌ َعل ٌ‬ ‫َُ َ‬
‫اء أي‪ :‬الالتي قعدن عن االستمتاع والشهوة { الالتِي ال يرج ِ‬ ‫النس ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫احا } أي‪ :‬ال‬ ‫ون ن َك ً‬ ‫َْ ُ َ‬ ‫َواْلقَ َواع ُد م َن ِّ َ‬
‫يطمعن في النكاح‪ ،‬وال يطمع فيهن‪ ،‬وذلك لكونها عجوزا ال تشتهى‪ ،‬أو دميمة الخلقة ال تشتهي‬
‫ض ْع َن ثَِي َابهُ َّن } أي‪ :‬الثياب‬ ‫َن َي َ‬ ‫اح } أي‪ :‬حرج وإ ثم { أ ْ‬ ‫وال تشتهى (‪َ { )1‬فلَْي َس َعلَْي ِه َّن ُجَن ٌ‬
‫ض ِر ْب َن بِ ُخ ُم ِر ِه َّن َعلَى ُجُيوبِ ِه َّن }‬
‫الظاهرة‪ ،‬كالخمار ونحوه‪ ،‬الذي قال اهلل فيه للنساء‪َ { :‬وْلَي ْ‬
‫فهؤالء‪ [ ،‬ص ‪ ] 575‬يجوز لهن أن يكشفن وجوههن آلمن المحذور منها وعليها‪ ،‬ولما كان نفي‬
‫الحرج عنهن في وضع الثياب‪ ،‬ربما توهم منه جواز استعمالها لكل شيء‪ ،‬دفع هذا االحتراز‬
‫ات بِ ِز َين ٍة } أي‪ :‬غير مظهرات للناس زينة‪ ،‬من تجمل بثياب ظاهرة‪ ،‬وتستر‬ ‫بقوله‪َ { :‬غ ْير متَبِّرج ٍ‬
‫َ َُ َ‬
‫وجهها‪ ،‬ومن ضرب األرض برجلها‪ ،‬ليعلم ما تخفي من زينتها‪ ،‬ألن مجرد الزينة على األنثى‪،‬‬
‫َن َي ْستَ ْع ِف ْف َن‬
‫ولو مع تسترها‪ ،‬ولو كانت ال تشتهى يفتن فيها‪ ،‬ويوقع الناظر إليها في الحرج { َوأ ْ‬
‫َخ ْيٌر لَهُ َّن }‪.‬‬
‫واالستعفاف‪ :‬طلب العفة‪ ،‬بفعل األسباب المقتضية لذلك‪ ،‬من تزوج وترك لما يخشى منه الفتنة‪{ ،‬‬
‫يم } بالنيات والمقاصد‪ ،‬فليحذرن من كل قول وقصد فاسد‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َواللهُ َسميعٌ } لجميع األصوات { َعل ٌ‬
‫وليعلمن أن اهلل يجازي على ذلك‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في النسختين‪ ،‬ولعل في الكالم قلبا فاألقرب أن يقال‪( :‬عجوزا ال تشتهي وال تشتهى‪ ،‬أو‬
‫دميمة الخلقة ال تشتهى)‪.‬‬

‫( ‪)1/574‬‬

‫يض َح َر ٌج َواَل َعلَى أ َْنفُ ِس ُك ْم أ ْ‬


‫َن‬ ‫َع َر ِج َح َر ٌج واَل َعلَى اْل َم ِر ِ‬
‫َ‬ ‫َع َمى َح َر ٌج َواَل َعلَى اأْل ْ‬ ‫لَْي َس َعلَى اأْل ْ‬
‫َخواتِ ُكم أَو بي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وت أ َّ ِ‬ ‫وت آَبائِ ُكم أَو بي ِ‬ ‫تَْأ ُكلُوا ِم ْن بيوتِ ُكم أَو بي ِ‬
‫وت‬ ‫ُمهَات ُك ْم أ َْو ُبُيوت ِإ ْخ َوان ُك ْم أ َْو ُبُيوت أ َ َ ْ ْ ُ ُ‬ ‫َ ْ ْ ُُ‬ ‫ُُ ْ ْ ُُ‬
‫ص ِد ِيق ُك ْم لَْي َس‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وت أ ْ ِ‬
‫َخ َوال ُك ْم أ َْو ُبُيوت َخااَل ت ُك ْم أ َْو َما َملَ ْكتُ ْم َمفَات َحهُ أ َْو َ‬
‫وت ع َّماتِ ُكم أَو بي ِ‬
‫َ ْ ْ ُُ‬
‫ام ُكم أَو بي ِ‬‫أْ ِ‬
‫َع َم ْ ْ ُ ُ‬
‫يعا أ َْو أَ ْشتَاتًا فَِإ َذا َد َخْلتُ ْم ُبُيوتًا فَ َسلِّ ُموا َعلَى أ َْنفُ ِس ُك ْم تَ ِحَّيةً ِم ْن ِعْن ِد اللَّ ِه‬ ‫ِ‬
‫َن تَْأ ُكلُوا َجم ً‬
‫اح أ ْ‬
‫َعلَْي ُك ْم ُجَن ٌ‬
‫ون (‪)61‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ك يبي َّ‬ ‫ِ‬
‫ِّن اللهُ لَ ُك ُم اآْل ََيات لَ َعل ُك ْم تَ ْعقلُ َ‬
‫طيَِّبةً َك َذل َ َُ ُ‬
‫ُمَب َار َكةً َ‬

‫يض َح َر ٌج َوال َعلَى‬ ‫األع َر ِج َح َر ٌج وال َعلَى اْل َم ِر ِ‬ ‫األع َمى َح َر ٌج َوال َعلَى ْ‬ ‫{ ‪ { } 61‬لَْي َس َعلَى ْ‬
‫َ‬
‫َخ َواتِ ُك ْم‬‫وت أ َ‬‫وت ِإ ْخوانِ ُكم أَو بي ِ‬
‫َ ْ ْ ُُ‬
‫ُمهاتِ ُكم أَو بي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َن تَْأ ُكلُوا م ْن ُبُيوتِ ُك ْم أ َْو ُبُيوت َآبائ ُك ْم أ َْو ُبُيوت أ َّ َ ْ ْ ُ ُ‬ ‫أ َْنفُ ِس ُك ْم أ ْ‬
‫وت َخاالتِ ُك ْم أ َْو َما َملَ ْكتُ ْم َمفَاتِ َحهُ أ َْو‬
‫َخو ِال ُكم أَو بي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َع َمام ُك ْم أ َْو ُبُيوت َع َّمات ُك ْم أ َْو ُبُيوت أ ْ َ ْ ْ ُ ُ‬
‫وت أ ْ ِ‬ ‫أَو بي ِ‬
‫ْ ُُ‬
‫يعا أ َْو أَ ْشتَاتًا فَِإ َذا َد َخْلتُ ْم ُبُيوتًا فَ َسلِّ ُموا َعلَى أ َْنفُ ِس ُك ْم تَ ِحَّيةً ِم ْن‬ ‫ِ‬
‫َن تَْأ ُكلُوا َجم ً‬ ‫ص ِد ِيق ُك ْم لَْي َس َعلَْي ُك ْم ُجَن ٌ‬
‫اح أ ْ‬ ‫َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ك يبي َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِعْن ِد اللَّ ِه ُمَب َار َكةً َ‬
‫اآليات لَ َعل ُك ْم تَ ْعقلُ َ‬
‫ِّن اللهُ لَ ُك ُم َ‬
‫طيَِّبةً َك َذل َ َُ ُ‬
‫يخبر تعالى عن منته على عباده‪ ،‬وأنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج بل يسره غاية التيسير‪،‬‬
‫األع َر ِج َح َر ٌج وال َعلَى اْل َم ِر ِ‬
‫يض َح َر ٌج } أي‪ :‬ليس على‬ ‫األع َمى َح َر ٌج َوال َعلَى ْ‬
‫فقال‪ { :‬لَْي َس َعلَى ْ‬
‫َ‬
‫هؤالء جناح‪ ،‬في ترك األمور الواجبة‪ ،‬التي تتوقف على واحد منها‪ ،‬وذلك كالجهاد ونحوه‪ ،‬مما‬
‫يتوقف على بصر األعمى‪ ،‬أو سالمة األعرج‪ ،‬أو صحة للمريض‪ ،‬ولهذا المعنى العام الذي‬
‫ذكرناه‪ ،‬أطلق الكالم في ذلك‪ ،‬ولم يقيد‪ ،‬كما قيد قوله‪َ { :‬وال َعلَى أ َْنفُ ِس ُك ْم } أي‪ :‬حرج { أ ْ‬
‫َن تَْأ ُكلُوا‬
‫ِم ْن ُبُيوتِ ُك ْم } أي‪ :‬بيوت أوالدكم‪ ،‬وهذا موافق للحديث الثابت‪ " :‬أنت ومالك ألبيك " والحديث‬
‫اآلخر‪ " :‬إن أطيب ما أكلتم من كسبكم‪ ،‬وإ ن أوالدكم من كسبكم " وليس المراد من قوله‪ِ { :‬م ْن‬
‫ُبُيوتِ ُك ْم } بيت اإلنسان نفسه‪ ،‬فإن هذا من باب تحصيل الحاصل‪ ،‬الذي ينزه عنه كالم اهلل‪ ،‬وألنه‬
‫نفى الحرج عما يظن أو يتوهم فيه اإلثم من هؤالء المذكورين‪ ،‬وأما بيت اإلنسان نفسه فليس فيه‬
‫أدنى توهم‪.‬‬
‫ام ُكم أَو بي ِ‬
‫وت أ ْ ِ‬ ‫َخواتِ ُكم أَو بي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وت أ َّ ِ‬‫وت آبائِ ُكم أَو بي ِ‬
‫{ أَو بي ِ‬
‫وت‬ ‫َع َم ْ ْ ُ ُ‬ ‫ُمهَات ُك ْم أ َْو ُبُيوت ِإ ْخ َوان ُك ْم أ َْو ُبُيوت أ َ َ ْ ْ ُ ُ‬ ‫َ ْ ْ ُُ‬ ‫ْ ُُ‬
‫وت َخاالتِ ُك ْم } وهؤالء معروفون‪ { ،‬أ َْو َما َملَ ْكتُ ْم َمفَاتِ َحهُ } أي‪:‬‬ ‫َخو ِال ُكم أَو بي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َع َّمات ُك ْم أ َْو ُبُيوت أ ْ َ ْ ْ ُ ُ‬
‫البيوت التي أنتم متصرفون فيها بوكالة‪ ،‬أو والية ونحو ذلك‪ ،‬وأما تفسيرها بالمملوك‪ ،‬فليس‬
‫بوجيه‪ ،‬لوجهين‪ :‬أحدهما‪ :‬أن المملوك ال يقال فيه " ملكت مفاتحه " بل يقال‪ " :‬ما ملكتموه " أو "‬
‫ما ملكت أيمانكم " ألنهم مالكون له جملة‪ ،‬ال لمفاتحه فقط‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن بيوت المماليك‪ ،‬غير خارجة عن بيت اإلنسان نفسه‪ ،‬ألن المملوك وما ملكه لسيده‪،‬‬
‫فال وجه لنفي الحرج عنه‪.‬‬
‫ص ِد ِيق ُك ْم } وهذا الحرج المنفي عن األكل (‪ )1‬من هذه البيوت كل ذلك‪ ،‬إذا كان بدون إذن‪،‬‬
‫{ أ َْو َ‬
‫والحكمة فيه معلومة من السياق‪ ،‬فإن هؤالء المسمين (‪ )2‬قد جرت العادة والعرف‪ ،‬بالمسامحة‬
‫في األكل منها‪ ،‬ألجل القرابة القريبة‪ ،‬أو التصرف التام‪ ،‬أو الصداقة‪ ،‬فلو قدر في أحد من هؤالء‬
‫عدم المسامحة والشح في األكل المذكور‪ ،‬لم يجز األكل‪ ،‬ولم يرتفع الحرج‪ ،‬نظرا للحكمة‬
‫والمعنى‪.‬‬
‫ِ‬
‫َن تَْأ ُكلُوا َجم ً‬
‫يعا أ َْو أَ ْشتَاتًا } فكل ذلك جائز‪ ،‬أكل أهل البيت الواحد‬ ‫اح أ ْ‬
‫وقوله‪ { :‬لَْي َس َعلَْي ُك ْم ُجَن ٌ‬
‫جميعا‪ ،‬أو أكل كل واحد منهم وحده‪ ،‬وهذا نفي للحرج‪ ،‬ال نفي للفضيلة وإ ال فاألفضل االجتماع‬
‫على الطعام‪.‬‬
‫{ فَِإ َذا َد َخْلتُ ْم ُبُيوتًا } نكرة في سياق الشرط‪ ،‬يشمل بيت اإلنسان وبيت غيره‪ ،‬سواء كان في البيت‬
‫ساكن أم ال فإذا دخلها اإلنسان { فَ َسلِّ ُموا َعلَى أ َْنفُ ِس ُك ْم } أي‪ :‬فليسلم بعضكم على بعض‪ ،‬ألن‬
‫المسلمين كأنهم شخص واحد‪ ،‬من تواددهم‪ ،‬وتراحمهم‪ ،‬وتعاطفهم‪ ،‬فالسالم مشروع لدخول سائر‬
‫البيوت‪ ،‬من غير فرق بين بيت وبيت‪ ،‬واالستئذان تقدم أن فيه تفصيال في أحكامه‪ ،‬ثم مدح هذا‬
‫طيَِّبةً } [ ص ‪ ] 576‬أي‪ :‬سالمكم بقولكم‪ " :‬السالم‬ ‫السالم فقال‪ { :‬تَ ِحَّيةً ِم ْن ِع ْن ِد اللَّ ِه ُمَب َار َكةً َ‬
‫عليكم ورحمة اهلل وبركاته " أو " السالم علينا وعلى عباد اهلل الصالحين " إذ تدخلون البيوت‪،‬‬
‫{ تَ ِحَّيةً ِم ْن ِعْن ِد اللَّ ِه } أي‪ :‬قد شرعها لكم‪ ،‬وجعلها تحيتكم‪ُ { ،‬مَب َار َكةً } الشتمالها على السالمة من‬
‫طيَِّبةً } ألنها من الكلم الطيب المحبوب‬ ‫النقص‪ ،‬وحصول الرحمة والبركة والنماء والزيادة‪َ { ،‬‬
‫عند اهلل‪ ،‬الذي فيه طيب نفس للمحيا‪ ،‬ومحبة وجلب مودة‪.‬‬
‫لما بين لنا هذه األحكام الجليلة قال‪:‬‬
‫ون } عنه‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ك يبي َّ‬ ‫ِ‬
‫اآليات } الداالت على أحكامه الشرعية وحكمها‪ { ،‬لَ َعل ُك ْم تَ ْعقلُ َ‬
‫ِّن اللهُ لَ ُك ْم َ‬
‫{ َك َذل َ َُ ُ‬
‫فتفهمونها‪ ،‬وتعقلونها بقلوبكم‪ ،‬ولتكونوا من أهل العقول واأللباب الرزينة‪ ،‬فإن معرفة أحكامه‬
‫الشرعية على وجهها‪ ،‬يزيد في العقل‪ ،‬وينمو به اللب‪ ،‬لكون معانيها أجل المعاني‪ ،‬وآدابها أجل‬
‫اآلداب‪ ،‬وألن الجزاء من جنس العمل‪ ،‬فكما استعمل عقله للعقل عن ربه‪ ،‬وللتفكر في آياته التي‬
‫دعاه إليها‪ ،‬زاده من ذلك‪.‬‬
‫وفي هذه اآليات دليل على قاعدة عامة كلية وهي‪ :‬أن " العرف والعادة مخصص لأللفاظ‪،‬‬
‫كتخصيص اللفظ للفظ " فإن األصل‪ ،‬أن اإلنسان ممنوع من تناول طعام غيره‪ ،‬مع أن اهلل أباح‬
‫األكل من بيوت هؤالء‪ ،‬للعرف والعادة‪ ،‬فكل مسألة تتوقف على اإلذن من مالك الشيء‪ ،‬إذا علم‬
‫إذنه بالقول أو العرف‪ ،‬جاز اإلقدام عليه‪.‬‬
‫وفيها دليل على أن األب يجوز له أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما ال يضره‪ ،‬ألن اهلل سمى بيته‬
‫بيتا لإلنسان‪.‬‬
‫وفيها دليل على أن المتصرف في بيت اإلنسان‪ ،‬كزوجته‪ ،‬وأخته ونحوهما‪ ،‬يجوز لهما األكل‬
‫عادة‪ ،‬وإ طعام السائل المعتاد‪.‬‬
‫وفيها دليل‪ ،‬على جواز المشاركة في الطعام‪ ،‬سواء أكلوا مجتمعين‪ ،‬أو متفرقين‪ ،‬ولو أفضى ذلك‬
‫إلى أن يأكل بعضهم أكثر من بعض‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬من‪.‬‬
‫(‪ )2‬مراد الشيخ ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬فإن بيوت هؤالء المسمين‪ ،‬كما يبدو ‪-‬واهلل أعلم‪.-‬‬

‫( ‪)1/575‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِإَّنما اْلمؤ ِمُن َِّ‬


‫َمُنوا بِالله َو َر ُسوِله َوإِ َذا َك ُانوا َم َعهُ َعلَى أ َْم ٍر َجام ٍع لَ ْم َي ْذ َهُبوا َحتَّى َي ْستَأْذُنوهُ‬ ‫ين آ َ‬‫ون الذ َ‬ ‫َ ُْ َ‬
‫ض َشأْنِ ِه ْم فَ ْأ َذ ْن ِل َم ْن ِش ْئ َ‬
‫ت‬ ‫ك ِلَب ْع ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ون بِالله َو َر ُسوِله فَِإ َذا ْ‬
‫استَْأ َذُنو َ‬ ‫ين ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ك أُولَئِ َ َِّ‬
‫ك الذ َ‬ ‫ين َي ْستَأ ِْذُن َ‬
‫ون َ‬ ‫َِّ‬
‫ِإ َّن الذ َ‬
‫اء بع ِ‬ ‫ِ‬ ‫الرس ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِم ْنهم و ِ‬
‫ض ُك ْم‬ ‫ول َب ْيَن ُك ْم َك ُد َع َ ْ‬ ‫اء َّ ُ‬ ‫يم (‪ )62‬اَل تَ ْج َعلُوا ُد َع َ‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫استَ ْغف ْر لَهُ ُم اللهَ ِإ َّن اللهَ َغفُ ٌ‬ ‫ُْ َ ْ‬
‫ص َيبهُ ْم ِفتَْنةٌ أ َْو‬
‫َن تُ ِ‬ ‫ون َع ْن أ َْم ِر ِه أ ْ‬ ‫ِ‬
‫ين ُي َخالفُ َ‬
‫َِّ‬ ‫بعضا قَ ْد يعلَم اللَّه الَِّذين يتَسلَّلُ ِ ِ‬
‫ون م ْن ُك ْم ل َوا ًذا َفْلَي ْح َذ ِر الذ َ‬
‫َْ ً َْ ُ ُ َ َ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َِّ ِ ِ‬ ‫صيبهم ع َذ ٌ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون‬
‫ض قَ ْد َي ْعلَ ُم َما أ َْنتُ ْم َعلَْيه َوَي ْو َم ُي ْر َج ُع َ‬ ‫َّم َاو َ‬ ‫يم (‪ )63‬أَاَل إ َّن لله َما في الس َ‬ ‫اب أَل ٌ‬ ‫ُي َ ُ ْ َ‬
‫ٍ ِ‬ ‫َّ ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪)64‬‬ ‫ِإلَْيه فَُيَنبُِّئهُ ْم بِ َما َعملُوا َواللهُ بِ ُكل َش ْيء َعل ٌ‬

‫{ ‪ِ { } 64 - 62‬إَّنما اْلمؤ ِمُنون الَِّذين آمُنوا بِاللَّ ِه ورسوِل ِه وإِ َذا َك ُانوا معه علَى أَم ٍر ج ِ‬
‫ام ٍع لَ ْم‬ ‫ََُ َ ْ َ‬ ‫ََ ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُْ َ‬
‫ك ِلَب ْع ِ‬
‫ض‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ون بِالله َو َر ُسوِله فَِإ َذا ْ‬
‫استَْأ َذُنو َ‬ ‫ين ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ك أُولَئِ َ َِّ‬
‫ك الذ َ‬ ‫ين َي ْستَأ ِْذُن َ‬
‫ون َ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫َي ْذ َهُبوا َحتَّى َي ْستَأْذُنوهُ ِإ َّن الذ َ‬
‫الرس ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ت ِم ْنهم و ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ول َب ْيَن ُك ْم‬ ‫اء َّ ُ‬ ‫يم * ال تَ ْج َعلُوا ُد َع َ‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫استَ ْغف ْر لَهُ ُماللهَ ِإ َّن اللهَ َغفُ ٌ‬ ‫َشأْن ِه ْم فَ ْأ َذ ْن ل َم ْن ش ْئ َ ُ ْ َ ْ‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ض ُكم بعضا قَ ْد يعلَم اللَّه الَِّذين يتَسلَّلُ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َن‬‫ون َع ْن أ َْم ِر ِه أ ْ‬ ‫ين ُي َخالفُ َ‬ ‫ون م ْن ُك ْم ل َوا ًذا َفْلَي ْح َذ ِر الذ َ‬
‫َك ُد َعاء َب ْع ْ َ ْ ً َ ْ ُ ُ َ َ َ َ‬
‫ض قَ ْد َي ْعلَ ُم َما أ َْنتُ ْم َعلَْي ِه‬‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ِ َِّ ِ ِ‬
‫يم * أَال إ َّن لله َما في الس َ‬
‫صيبهم ع َذ ٌ ِ‬
‫اب أَل ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تُص َيبهُ ْم فتَْنةٌ أ َْو ُي َ ُ ْ َ‬
‫ِ‬
‫ٍ ِ‬ ‫َّ ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫ون ِإلَْيه فَُيَنبُِّئهُ ْم بِ َما َعملُوا َواللهُ بِ ُكل َش ْيء َعل ٌ‬ ‫َوَي ْو َم ُي ْر َج ُع َ‬
‫هذا إرشاد من اهلل لعباده المؤمنين‪ ،‬أنهم إذا كانوا مع الرسول صلى اهلل عليه وسلم على أمر‬
‫جامع‪ ،‬أي‪ :‬من ضرورته أو من مصلحته‪ ،‬أن يكونوا فيه جميعا‪ ،‬كالجهاد‪ ،‬والمشاورة‪ ،‬ونحو ذلك‬
‫من األمور التي يشترك فيها المؤمنون‪ ،‬فإن المصلحة تقتضي اجتماعهم عليه وعدم تفرقهم‪،‬‬
‫فالمؤمن باهلل ورسوله حقا‪ ،‬ال يذهب ألمر من األمور‪ ،‬ال يرجع ألهله‪ ،‬وال يذهب لبعض الحوائج‬
‫التي يشذ بها عنهم‪ ،‬إال بإذن من الرسول أو نائبه من بعده‪ ،‬فجعل موجب اإليمان‪ ،‬عدم الذهاب إال‬
‫ك‬ ‫ين َي ْستَأ ِْذُن َ‬
‫ون َ‬ ‫َِّ‬
‫بإذن‪ ،‬ومدحهم على فعلهم هذا وأدبهم مع رسوله وولي األمر منهم‪ ،‬فقال‪ِ { :‬إ َّن الذ َ‬
‫ون بِاللَّ ِه َو َر ُسوِل ِه } ولكن هل يأذن لهم أم ال؟ ذكر إلذنه لهم شرطين‪:‬‬
‫ين ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫أُولَئِ َ َِّ‬
‫ك الذ َ‬
‫أحدهما‪ :‬أن يكون لشأن من شئونهم‪ ،‬وشغل من أشغالهم‪ ،‬فأما من يستأذن من غير عذر‪ ،‬فال يؤذن‬
‫له‪.‬‬
‫ك ِلَب ْع ِ‬
‫ض‬ ‫والثاني‪ :‬أن يشاء اإلذن فتقتضيه المصلحة‪ ،‬من دون مضرة باآلذن‪ ،‬قال‪ { :‬فَِإ َذا ْ‬
‫استَْأ َذُنو َ‬
‫ت ِم ْنهُ ْم } فإذا كان له عذر واستأذن‪ ،‬فإن كان في قعوده وعدم ذهابه مصلحة‬ ‫َشأْنِ ِه ْم فَ ْأ َذ ْن ِل َم ْن ِش ْئ َ‬
‫برأيه‪ ،‬أو شجاعته‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬لم يأذن له‪ ،‬ومع هذا إذا استأذن‪ ،‬وأذن له بشرطيه‪ ،‬أمر اهلل رسوله‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫أن يستغفر له‪ ،‬لما عسى أن يكون مقصرا في االستئذان‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬و ِ‬
‫استَ ْغف ْر لَهُم اللهَ ِإ َّن اللهَ‬
‫َ ْ‬
‫يم } يغفر لهم الذنوب ويرحمهم‪ ،‬بأن جوز لهم االستئذان مع العذر‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫َغفُ ٌ‬
‫ضا } أي‪ :‬ال تجعلوا دعاء الرسول إياكم‬ ‫ِ ِ‬ ‫الرس ِ‬
‫ول َب ْيَن ُك ْم َك ُد َعاء َب ْعض ُك ْم َب ْع ً‬ ‫اء َّ ُ‬ ‫{ ال تَ ْج َعلُوا ُد َع َ‬
‫ودعائكم للرسول كدعاء بعضكم بعضا‪ ،‬فإذا دعاكم فأجيبوه وجوبا‪ ،‬حتى إنه تجب إجابة الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم في حال الصالة‪ ،‬وليس أحد إذا قال قوال يجب على األمة قبول قوله والعمل‬
‫استَ ِج ُيبوا ِللَّ ِه‬
‫آمُنوا ْ‬
‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫به‪ ،‬إال الرسول‪ ،‬لعصمته‪ ،‬وكوننا مخاطبين باتباعه‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬يا أَيُّهَا الذ َ‬
‫ول ِإ َذا َد َعا ُك ْم ِل َما ُي ْحيِي ُك ْم } وكذلك ال تجعلوا دعاءكم للرسول كدعاء بعضكم بعضا‪ ،‬فال‬
‫وِل َّلرس ِ‬
‫َ ُ‬
‫تقولوا‪ " :‬يا محمد " عند ندائكم‪ ،‬أو " يا محمد بن عبد اهلل " كما يقول ذلك بعضكم لبعض‪ ،‬بل من‬
‫شرفه وفضله وتميزه صلى اهلل عليه وسلم عن غيره‪ ،‬أن يقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬يا نبي اهلل‪.‬‬
‫ون ِم ْن ُك ْم ِل َوا ًذا } لما مدح المؤمنين باهلل ورسوله‪ ،‬الذين إذا كانوا معه على‬ ‫َّ‬
‫ين َيتَ َسللُ َ‬
‫َّ َِّ‬
‫{ قَ ْد َي ْعلَ ُم اللهُ الذ َ‬
‫أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه‪ ،‬توعد من لم [ ص ‪ ] 577‬يفعل ذلك وذهب من غير استئذان‪،‬‬
‫ون ِم ْن ُك ْم ِل َوا ًذا } أي‪:‬‬ ‫َّ‬
‫فهو وإ ن خفي عليكم بذهابه على وجه خفي‪ ،‬وهو المراد بقوله‪َ { :‬يتَ َسللُ َ‬
‫يلوذون وقت تسللهم وانطالقهم بشيء يحجبهم عن العيون‪ ،‬فاهلل يعلمهم‪ ،‬وسيجازيهم على ذلك أتم‬
‫ون َع ْن أ َْم ِر ِه } أي‪ :‬يذهبون إلى بعض شئونهم‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫الجزاء‪ ،‬ولهذا توعدهم بقوله‪َ { :‬فْلَي ْح َذ ِر الذ َ‬
‫ين ُي َخالفُ َ‬
‫عن أمر اهلل ورسوله‪ ،‬فكيف بمن لم يذهب إلى شأن من شئونه؟" وإ نما ترك أمر اهلل من دون شغل‬
‫يم }‪.‬‬ ‫صيبهم ع َذ ٌ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫له‪ { .‬أ ْ ِ‬
‫اب أَل ٌ‬ ‫َن تُص َيبهُ ْم فتَْنةٌ } أي‪ :‬شرك وشر { أ َْو ُي َ ُ ْ َ‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َِّ ِ ِ‬
‫ض } ملكا وعبيدا‪ ،‬يتصرف فيهم بحكمه القدري‪ ،‬وحكمه‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫{ أَال إ َّن لله َما في الس َ‬
‫الشرعي‪ { .‬قَ ْد َي ْعلَ ُم َما أ َْنتُ ْم َعلَْي ِه } أي‪ :‬قد أحاط علمه بما أنتم عليه‪ ،‬من خير وشر‪ ،‬وعلم جميع‬
‫أعمالكم‪ ،‬أحصاها علمه‪ ،‬وجرى بها قلمه‪ ،‬وكتبتها عليكم الحفظة الكرام الكاتبون‪.‬‬
‫ون ِإلَْي ِه } في يوم القيامة { فَُيَنبُِّئهُ ْم بِ َما َع ِملُوا } يخبرهم بجميع أعمالهم‪ ،‬دقيقها‬ ‫{ َوَي ْو َم ُي ْر َج ُع َ‬
‫وجليلها‪ ،‬إخبارا مطابقا لما وقع منهم‪ ،‬ويستشهد عليهم أعضاءهم‪ ،‬فال يعدمون منه فضال أو عدال‪.‬‬
‫ٍ ِ‬ ‫َّ ِّ‬
‫ولما قيد علمه بأعمالهم‪ ،‬ذكر العموم بعد الخصوص‪ ،‬فقال‪َ { :‬واللهُ بِ ُكل َش ْيء َعل ٌ‬
‫يم }‪.‬‬
‫تفسير سورة الفرقان‬
‫وهي مكية عند الجمهور‬

‫( ‪)1/576‬‬

‫ِ‬
‫ات واأْل َْر ِ‬
‫ض‬ ‫ين َن ِذ ًيرا (‪ )1‬الَِّذي لَهُ ُمْل ُ‬ ‫ك الَِّذي َن َّز َل اْلفُرقَان علَى ع ْب ِد ِه ِلي ُك ِ ِ‬
‫َّم َاو َ‬
‫ك الس َ‬ ‫ون لْل َعالَم َ‬
‫ْ َ َ َ َ َ‬ ‫تََب َار َ‬
‫ق ُك َّل َش ْي ٍء فَقَ َّد َرهُ تَ ْق ِد ًيرا (‪)2‬‬
‫ك ِفي اْل ُمْل ِك َو َخلَ َ‬
‫َولَ ْم َيتَّ ِخ ْذ َولَ ًدا َولَ ْم َي ُك ْن لَهُ َش ِري ٌ‬

‫ين َن ِذ ًيرا‬ ‫ك الَِّذي َن َّز َل اْلفُرقَان علَى عْب ِد ِه ِلي ُك ِ ِ‬


‫ون لْل َعالَم َ‬
‫ْ َ َ َ َ َ‬ ‫الر ِح ِيم تََب َار َ‬ ‫{ ‪ { } 2 - 1‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫ق ُك َّل َش ْي ٍء‬‫ك ِفي اْل ُمْل ِك َو َخلَ َ‬
‫ض َولَ ْم َيتَّ ِخ ْذ َولَ ًدا َولَ ْم َي ُك ْن لَهُ َش ِري ٌ‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ك الس َ‬ ‫* الَِّذي لَهُ ُمْل ُ‬
‫فَقَ َّد َرهُ تَ ْق ِد ًيرا } ‪.‬‬
‫هذا بيان لعظمته الكاملة وتفرده [بالوحدانية] (‪ )1‬من كل وجه وكثرة خيراته وإ حسانه فقال‪:‬‬
‫ك } أي‪ :‬تعاظم وكملت أوصافه وكثرت خيراته الذي من أعظم خيراته ونعمه أن نزل هذا‬ ‫{ تََب َار َ‬
‫القرآن الفارق بين الحالل والحرام والهدى والضالل وأهل السعادة من أهل الشقاوة‪َ { ،‬علَى َعْب ِد ِه‬
‫ون } ذلك‬ ‫ِ‬
‫} محمد صلى اهلل عليه وسلم الذي كمل مراتب العبودية وفاق جميع المرسلين‪ { ،‬لَي ُك َ‬
‫ين َن ِذ ًيرا } ينذرهم بأس اهلل ونقمه ويبين لهم مواقع رضا اهلل من‬ ‫ِ ِ‬
‫اإلنزال للفرقان على عبده { لْل َعالَم َ‬
‫سخطه‪ ،‬حتى إن من قبل نذارته وعمل بها كان من الناجين في الدنيا واآلخرة الذين حصلت لهم‬
‫السعادة األبدية والملك السرمدي‪ ،‬فهل فوق هذه النعمة وهذا الفضل واإلحسان شيء؟ فتبارك‬
‫الذي هذا من بعض إحسانه وبركاته‪.‬‬
‫ض } أي‪ :‬له التصرف فيهما وحده‪ ،‬وجميع من فيهما مماليك‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ الَِّذي لَهُ ُمْل ُ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ك الس َ‬
‫ِ‬
‫وعبيد له مذعنون لعظمته خاضعون لربوبيته‪ ،‬فقراء إلى رحمته الذي { لَ ْم َيتَّخ ْذ َولَ ًدا َولَ ْم َي ُك ْن لَهُ‬
‫ك ِفي اْل ُمْل ِك } وكيف يكون له ولد أو شريك وهو المالك وغيره مملوك‪ ،‬وهو القاهر وغيره‬ ‫َش ِري ٌ‬
‫مقهور وهو الغني بذاته من جميع الوجوه‪ ،‬والمخلوقون مفتقرون إليه فقرا ذاتيا من جميع‬
‫الوجوه؟"‬
‫وكيف يكون له شريك في الملك ونواصي العباد كلهم بيديه‪ ،‬فال يتحركون أو يسكنون وال‬
‫يتصرفون إال بإذنه فتعالى اهلل عن ذلك علوا كبيرا‪ ،‬فلم يقدره حق قدره من قال فيه ذلك ولهذا‬
‫ق ُك َّل َش ْي ٍء } شمل العالم العلوي والعالم السفلي من حيواناته ونباتاته وجماداته‪،‬‬
‫قال‪َ { :‬و َخلَ َ‬
‫{ فَقَ َّد َرهُ تَ ْق ِد ًيرا } أي‪ :‬أعطى كل مخلوق منها ما يليق به ويناسبه من الخلق وما تقتضيه حكمته‬
‫من ذلك‪ ،‬بحيث صار كل مخلوق ال يتصور العقل الصحيح أن يكون بخالف شكله وصورته‬
‫المشاهدة‪ ،‬بل كل جزء وعضو من المخلوق الواحد ال يناسبه غير محله الذي هو فيه‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫طى ُك َّل‬ ‫ق فَ َس َّوى َوالَِّذي قَ َّد َر فَهَ َدى } وقال تعالى‪َ { :‬ربَُّنا الَِّذي أ ْ‬
‫َع َ‬ ‫األعلَى الَِّذي َخلَ َ‬
‫ِّك ْ‬‫اس َم َرب َ‬
‫ِّح ْ‬
‫{ َسب ِ‬
‫َش ْي ٍء َخْلقَهُ ثَُّم َه َدى } ولما بين كماله وعظمته وكثرة إحسانه كان ذلك مقتضيا ألن يكون وحده‬
‫المحبوب المألوه المعظم المفرد باإلخالص وحده ال شريك له ناسب أن يذكر بطالن عبادة ما‬
‫سواه فقال‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫( ‪)1/577‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫ون‬ ‫ون أِل َْنفُس ِه ْم َ‬
‫ض ًّرا َواَل َن ْف ًعا َواَل َي ْمل ُك َ‬ ‫ون َواَل َي ْمل ُك َ‬ ‫َواتَّ َخ ُذوا م ْن ُدونِه آَلهَةً اَل َي ْخلُقُ َ‬
‫ون َش ْيًئا َو ُه ْم ُي ْخلَقُ َ‬
‫ورا (‪)3‬‬ ‫َم ْوتًا َواَل َحَياةً َواَل ُن ُش ً‬

‫{ ‪ { } 3‬واتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُدونِ ِه ِآلهةً ال ي ْخلُقُون َش ْيًئا و ُهم ي ْخلَقُون وال يمِل ُكون ْ ِ‬
‫ألنفُس ِه ْم َ‬
‫ض ًّرا َوال َن ْف ًعا‬ ‫َ َ َْ َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ورا } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ون َم ْوتًا َوال َحَياةً َوال ُن ُش ً‬ ‫َوال َي ْمل ُك َ‬
‫أي‪ :‬من أعجب العجائب وأدل الدليل على سفههم ونقص عقولهم‪ ،‬بل أدل على ظلمهم وجراءتهم‬
‫على ربهم أن اتخذوا آلهة بهذه الصفة‪ ،‬في كمال العجز أنها ال تقدر على خلق شيء بل هم‬
‫مخلوقون‪ ،‬بل بعضهم مما عملته أيديهم‪ { .‬وال يمِل ُكون ْ ِ‬
‫ألنفُس ِه ْم َ‬
‫ض ًّرا َوال َن ْف ًعا } أي‪ :‬ال قليال وال‬ ‫َ َْ َ‬
‫كثيرا‪ ،‬ألنه نكرة في سياق النفي‪.‬‬
‫ورا } أي‪ :‬بعثا بعد الموت‪ ،‬فأعظم أحكام العقل بطالن إلهيتها‬ ‫ِ‬
‫ون َم ْوتًا َوال َحَياةً َوال ُن ُش ً‬
‫{ َوال َي ْمل ُك َ‬
‫وفسادها وفساد عقل من اتخذها آلهة وشركاء [ ص ‪ ] 578‬للخالق لسائر المخلوقات من غير‬
‫مشاركة له في ذلك‪ ،‬الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع الذي يحيي ويميت ويبعث من في‬
‫القبور ويجمعهم ليوم النشور‪ ،‬وقد جعل لهم دارين دار الشقاء والخزي والنكال لمن اتخذ معه آلهة‬
‫أخرى‪ ،‬ودار الفوز والسعادة والنعيم المقيم لمن اتخذه وحده معبودا‪.‬‬
‫ولما قرر بالدليل القاطع الواضح صحة التوحيد وبطالن ضده قرر صحة الرسالة وبطالن قول‬
‫من عارضها واعترضها فقال‪:‬‬

‫( ‪)1/577‬‬
‫ورا (‪)4‬‬ ‫اءوا ظُْل ًما َو ُز ً‬ ‫ون فَقَ ْد َج ُ‬ ‫َع َانهُ َعلَْي ِه قَ ْو ٌم آ َ‬
‫َخ ُر َ‬ ‫ك ا ْفتََراهُ َوأ َ‬‫ين َكفَ ُروا ِإ ْن َه َذا ِإاَّل ِإ ْف ٌ‬ ‫وقَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬
‫ِّر ِفي‬
‫َصياًل (‪ُ )5‬ق ْل أ َْن َزلَهُ الَِّذي َي ْعلَ ُم الس َّ‬
‫اطير اأْل ََّوِلين ا ْكتَتَبها فَ ِهي تُملَى علَْي ِه ب ْكرةً وأ ِ‬
‫ََ َ ْ َ ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫وقَالُوا أ ِ‬
‫َس ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما (‪)6‬‬ ‫ورا َرح ً‬ ‫ان َغفُ ً‬ ‫ض ِإَّنهُ َك َ‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬
‫َّم َاو َ‬
‫الس َ‬

‫اءوا ظُْل ًما‬ ‫ون فَقَ ْد َج ُ‬‫آخ ُر َ‬ ‫َع َانهُ َعلَْي ِه قَ ْو ٌم َ‬ ‫ين َكفَ ُروا ِإ ْن َه َذا ِإال ِإ ْف ٌ‬
‫ك ا ْفتََراهُ َوأ َ‬
‫َِّ‬
‫{ ‪َ { } 6 - 4‬وقَا َل الذ َ‬
‫َصيال * ُق ْل أ َْن َزلَهُ الَِّذي َي ْعلَ ُم الس َّ‬
‫ِّر‬ ‫األوِلين ا ْكتَتَبها فَ ِهي تُملَى علَْي ِه ب ْكرةً وأ ِ‬
‫ََ َ ْ َ ُ َ َ‬ ‫َساط ُير َّ َ‬
‫و ُزورا * وقَالُوا أ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما } ‪.‬‬ ‫ورا َرح ً‬ ‫ان َغفُ ً‬‫ض ِإَّنهُ َك َ‬
‫األر ِ‬‫َّم َاوات َو ْ‬
‫في الس َ‬
‫أي‪ :‬وقال الكافرون باهلل الذي أوجب لهم كفرهم أن قالوا في القرآن والرسول‪ :‬إن هذا القرآن‬
‫كذب كذبه محمد وإ فك افتراه على اهلل وأعانه على ذلك قوم آخرون‪.‬‬
‫فرد اهلل عليهم ذلك بأن هذا مكابرة منهم وإ قدام على الظلم والزور‪ ،‬الذي ال يمكن أن يدخل عقل‬
‫أحد وهم أشد الناس معرفة بحالة الرسول صلى اهلل عليه وسلم وكمال صدقه وأمانته وبره التام‬
‫وأنه ال يمكنه‪ ،‬ال هو وال سائر الخلق أن يأتوا بهذا القرآن الذي هو أجل الكالم وأعاله وأنه لم‬
‫يجتمع بأحد يعينه على ذلك فقد جاءوا بهذا القول ظلما وزورا‪.‬‬
‫ومن جملة أقاويلهم فيه أن قالوا‪ :‬هذا الذي جاء به محمد { أَس ِ‬
‫األوِل َ‬
‫ين ا ْكتَتََبهَا } أي‪ :‬هذا‬ ‫اط ُير َّ‬ ‫َ‬
‫قصص األولين وأساطيرهم التي تتلقاها األفواه وينقلها كل أحد استنسخها محمد { فَ ِه َي تُ ْملَى َعلَْي ِه‬
‫َصيال } وهذا القول منهم فيه عدة عظائم‪:‬‬ ‫ب ْكرةً وأ ِ‬
‫ُ َ َ‬
‫منها‪ :‬رميهم الرسول الذي هو أبر الناس وأصدقهم بالكذب والجرأة العظيمة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬إخبارهم عن هذا القرآن الذي هو أصدق الكالم وأعظمه وأجله ‪ -‬بأنه كذب وافتراء‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن في ضمن ذلك أنهم قادرون أن يأتوا بمثله وأن يضاهي المخلوق الناقص من كل وجه‬
‫للخالق الكامل من كل وجه بصفة من صفاته‪ ،‬وهي الكالم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الرسول قد علمت حالته وهم أشد الناس علما بها‪ ،‬أنه ال يكتب وال يجتمع بمن يكتب له‬
‫وقد زعموا ذلك‪.‬‬
‫األر ِ‬
‫ض } أي‪ :‬أنزله من‬ ‫ِ‬ ‫فلذلك رد عليهم ذلك بقوله‪ُ { :‬ق ْل أَنزلَه الَِّذي يعلَم الس َّ ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ِّر في الس َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫ُ‬
‫أحاط علمه بما في السماوات وما في األرض‪ ،‬من الغيب والشهادة والجهر والسر كقوله‪َ { :‬وإِ َّنهُ‬
‫ِ‬ ‫ك ِلتَ ُك ِ‬
‫ين َعلَى َقْلبِ َ‬ ‫ِ‬ ‫نزل بِ ِه ُّ‬ ‫ِ‬
‫ون م َن اْل ُم ْنذ ِر َ‬
‫ين }‬ ‫َ‬ ‫وح األم ُ‬
‫الر ُ‬ ‫ين َ‬ ‫لَتَنزي ُل َر ِّ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬
‫ووجه إقامة الحجة عليهم أن الذي أنزله‪ ،‬هو المحيط علمه بكل شيء‪ ،‬فيستحيل ويمتنع أن يقول‬
‫مخلوق ويتقول عليه هذا القرآن‪ ،‬ويقول‪ :‬هو من عند اهلل وما هو من عنده ويستحل دماء من‬
‫خالفه وأموالهم‪ ،‬ويزعم أن اهلل قال له ذلك‪ ،‬واهلل يعلم كل شيء ومع ذلك فهو يؤيده وينصره على‬
‫أعدائه‪ ،‬ويمكنه من رقابهم وبالدهم فال يمكن أحدا أن ينكر هذا القرآن‪ ،‬إال بعد إنكار علم اهلل‪،‬‬
‫وهذا ال تقول به طائفة من بني آدم سوى الفالسفة الدهرية‪.‬‬
‫وأيضا فإن ذكر علمه تعالى العام ينبههم‪ :‬ويحضهم على تدبر القرآن‪ ،‬وأنهم لو تدبروا لرأوا فيه‬
‫من علمه وأحكامه ما يدل داللة قاطعة على أنه ال يكون إال من عالم الغيب والشهادة‪ ،‬ومع‬
‫إنكارهم للتوحيد والرسالة من لطف اهلل بهم‪ ،‬أنه لم يدعهم وظلمهم بل دعاهم إلى التوبة واإلنابة‬
‫ورا } أي‪ :‬وصفه‬ ‫إليه ووعدهم بالمغفرة والرحمة‪ ،‬إن هم تابوا ورجعوا فقال‪ِ { :‬إَّنهُ َك َ‬
‫ان َغفُ ً‬
‫المغفرة ألهل الجرائم والذنوب‪ ،‬إذا فعلوا أسباب المغفرة وهي الرجوع عن معاصيه والتوبة منها‪.‬‬
‫يما } بهم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة وقد فعلوا مقتضاها‪ ،‬وحيث قبل توبتهم بعد المعاصي‬ ‫ِ‬
‫{ َرح ً‬
‫وحيث محا ما سلف من سيئاتهم وحيث قبل حسناتهم وحيث أعاد الراجع إليه بعد شروده والمقبل‬
‫عليه بعد إعراضه إلى حالة المطيعين المنيبين إليه‪.‬‬

‫( ‪)1/578‬‬

‫ون َم َعهُ َن ِذ ًيرا (‬ ‫ق لَ ْواَل أ ُْن ِز َل ِإلَْي ِه َملَ ٌ‬


‫َسوا ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ال َه َذا َّ ِ‬ ‫وقَالُوا م ِ‬
‫ك فََي ُك َ‬ ‫الر ُسول َي ْأ ُك ُل الط َع َام َوَي ْمشي في اأْل ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ال الظَّ ِالمون ِإ ْن تَتَّبِع اَّل‬ ‫ون لَهُ َجَّنةٌ َي ْأ ُك ُل ِم ْنهَا َوقَ َ‬ ‫ِ‬
‫ورا (‪)8‬‬ ‫ون ِإ َر ُجاًل َم ْس ُح ً‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫‪ )7‬أ َْو ُيْلقَى ِإلَْيه َك ْنٌز أ َْو تَ ُك ُ‬
‫ك اأْل َمثَا َل فَضلُّوا فَاَل يستَ ِطيعون سبِياًل (‪ )9‬تَبار َ َِّ‬
‫ك‬ ‫ك الذي ِإ ْن َش َ‬
‫اء َج َع َل لَ َ‬ ‫ََ‬ ‫َْ ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ض َرُبوا لَ َ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ْانظُ ْر َك ْي َ‬
‫َّاع ِة َوأ ْ‬
‫َعتَ ْدَنا‬ ‫َّ‬
‫ورا (‪َ )10‬ب ْل َكذُبوا بِالس َ‬ ‫ص ً‬‫ك قُ ُ‬ ‫ات تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِهَا اأْل َْنهَ ُار َوَي ْج َع ْل لَ َ‬ ‫ك جَّن ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫َخ ْي ًرا م ْن َذل َ َ‬
‫َّاع ِة َس ِع ًيرا (‪)11‬‬
‫ب بِالس َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ل َم ْن َكذ َ‬

‫ق لَ ْوال أ ُْن ِز َل ِإلَْي ِه َملَ ٌ‬‫األسوا ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ال َه َذا َّ ِ‬ ‫{ ‪ { } 14 - 7‬وقَالُوا م ِ‬


‫ك‬ ‫الر ُسول َي ْأ ُك ُل الط َع َام َوَي ْمشي في ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ون ِإال‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون ِإ ْن تَتَّبِ ُع َ‬ ‫ال الظال ُم َ‬ ‫ون َم َعهُ َنذ ًيرا * أ َْو ُيْلقَى ِإلَْيه َك ْنٌز أ َْو تَ ُك ُ‬
‫ون لَهُ َجَّنةٌ َي ْأ ُك ُل م ْنهَا َوقَ َ‬ ‫فََي ُك َ‬
‫ك الَِّذي ِإ ْن‬ ‫ون َسبِيال * تََب َار َ‬ ‫يع َ‬
‫ِ‬
‫ضلوا فَال َي ْستَط ُ‬
‫ال فَ ُّ‬
‫األمثَ َ َ‬ ‫ك ْ‬ ‫ض َرُبوا لَ َ‬ ‫ف َ‬ ‫ورا * ْانظُ ْر َك ْي َ‬ ‫َر ُجال َم ْس ُح ً‬
‫ورا * َب ْل َك َّذُبوا‬ ‫ص ً‬ ‫ك قُ ُ‬ ‫ات تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِهَا ْ‬
‫األنهَ ُار َوَي ْج َع ْل لَ َ‬ ‫ك جَّن ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫ك َخ ْي ًرا م ْن َذل َ َ‬ ‫اء َج َع َل لَ َ‬
‫َش َ‬
‫َّاع ِة َس ِع ًيرا } ‪.‬‬‫ب بِالس َ‬
‫َّ‬ ‫بِالسَّاع ِة وأ ْ ِ‬
‫َعتَ ْدَنا ل َم ْن َكذ َ‬ ‫َ َ‬
‫هذا من مقالة المكذبين للرسول الذين قدحوا بها في رسالته‪ ،‬وهو أنهم اعترضوا بأنه هال كان‬
‫ول } أي‪ :‬ما لهذا الذي ادعى الرسالة؟‬ ‫الرس ِ‬ ‫ِ‬
‫ملكا أو مليكا‪ ،‬أو يساعده ملك فقالوا‪َ { :‬مال َه َذا َّ ُ‬
‫تهكما منهم واستهزاء‪.‬‬
‫[ ص ‪] 579‬‬
‫{ ي ْأ ُك ُل َّ‬
‫الط َع َام } وهذا من خصائص البشر فهال كان ملكا ال يأكل الطعام‪ ،‬وال يحتاج إلى ما يحتاج‬ ‫َ‬
‫ق } للبيع والشراء وهذا ‪-‬بزعمهم‪ -‬ال يليق بمن يكون رسوال مع‬ ‫األسوا ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫إليه البشر‪َ { ،‬وَي ْمشي في ْ َ‬
‫األسوا ِ‬
‫ق }‪.‬‬ ‫ك ِمن اْلمرسِلين ِإال ِإَّنهم لَي ْأ ُكلُون الطَّعام ويم ُش ِ‬
‫ون في ْ َ‬ ‫َ َ ََْ َ‬ ‫ُْ َ َ‬ ‫أن اهلل قال‪َ { :‬و َما أ َْر َسْلَنا قَْبلَ َ َ ُ ْ َ َ‬
‫ون َم َعهُ َن ِذ ًيرا } وبزعمهم‬
‫ك } أي‪ :‬هال أنزل معه ملك يساعده ويعاونه‪ { ،‬فََي ُك َ‬ ‫{ لَ ْوال أُنز َل ِإلَْي ِه َملَ ٌ‬
‫أنه غير كاف للرسالة وال بطوقه وقدرته القيام بها‪.‬‬
‫ون لَهُ َجَّنةٌ َي ْأ ُك ُل ِم ْنهَا } فيستغني‬ ‫ِ‬
‫{ أ َْو ُيْلقَى ِإلَْيه َكنز } أي‪ :‬مال مجموع من غير تعب‪ { ،‬أ َْو تَ ُك ُ‬
‫بذلك عن مشيه في األسواق لطلب الرزق‪.‬‬
‫َّ ِ‬
‫ون ِإال َر ُجال َم ْس ُح ً‬
‫ورا } هذا‬ ‫ون } حملهم على القول ظلمهم ال اشتباه منهم‪ِ { ،‬إ ْن تَتَّبِ ُع َ‬ ‫{ َوقَا َل الظال ُم َ‬
‫وقد علموا كمال عقله وحسن حديثه‪ ،‬وسالمته من جميع المطاعن‪ .‬ولما كانت هذه األقوال منهم‬
‫ال } وهي‪ :‬أنه هال كان ملكا وزالت عنه‬
‫األمثَ َ‬
‫ك ْ‬ ‫ض َرُبوا لَ َ‬
‫ف َ‬
‫عجيبة جدا قال تعالى‪ْ { :‬انظُ ْر َك ْي َ‬
‫خصائص البشر؟ أو معه ملك ألنه غير قادر على ما قال‪ ،‬أو أنزل عليه كنز أو جعلت له جنة‬
‫تغنيه عن المشي في األسواق أو أنه كان مسحورا‪.‬‬
‫ون َسبِيال } قالوا أقواال متناقضة كلها جهل وضالل وسفه‪ ،‬ليس في شيء‬ ‫ِ‬ ‫{ فَ ُّ‬
‫يع َ‬
‫ضلوا فَال َي ْستَط ُ‬‫َ‬
‫منها هداية بل وال في شيء منها أدنى شبهة تقدح في الرسالة‪ ،‬فبمجرد النظر إليها وتصورها‬
‫يجزم العاقل ببطالنها ويكفيه عن ردها‪ ،‬ولهذا أمر تعالى بالنظر إليها وتدبرها والنظر‪ :‬هل‬
‫توجب التوقف عن الجزم للرسول بالرسالة والصدق؟ ولهذا أخبر أنه قادر على أن يعطيك خيرا‬
‫ك َخ ْي ًرا ِم ْن َذِل َ‬
‫ك } أي‪ :‬خيرا مما قالوا‪ ،‬ثم‬ ‫اء َج َع َل لَ َ‬ ‫كثيرا في الدنيا فقال‪ { :‬تَبار َ َِّ‬
‫ك الذي ِإ ْن َش َ‬ ‫ََ‬
‫ورا } مرتفعة مزخرفة‪ ،‬فقدرته‬ ‫ص ً‬ ‫ك قُ ُ‬ ‫ات تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِهَا ْ‬
‫األنهَ ُار َوَي ْج َع ْل لَ َ‬ ‫فسره بقوله‪ { :‬جَّن ٍ‬
‫َ‬
‫ومشيئته ال تقصر عن ذلك ولكنه تعالى ‪-‬لما كانت الدنيا عنده في غاية البعد والحقارة‪ -‬أعطى‬
‫منها أولياءه ورسله ما اقتضته حكمته منها‪ ،‬واقتراح أعدائهم بأنهم هال رزقوا منها رزقا كثيرا‬
‫جدا ظلم وجراءة‪.‬‬
‫ولما كانت تلك األقوال التي قالوها معلومة الفساد أخبر تعالى أنها لم تصدر منهم لطلب الحق‪،‬‬
‫وال التباع البرهان وإ نما صدرت منهم تعنتا وظلما وتكذيبا بالحق‪ ،‬فقالوا ما بقلوبهم من ذلك ولهذا‬
‫َّاع ِة } والمكذب المتعنت الذي ليس له قصد في اتباع الحق‪ ،‬ال سبيل إلى‬ ‫َّ‬
‫قال‪َ { :‬ب ْل َكذُبوا بِالس َ‬
‫َعتَ ْدَنا ِل َم ْن‬
‫هدايته وال حيلة في مجادلته وإ نما له حيلة واحدة وهي نزول العذاب به‪ ،‬فلهذا قال‪َ { :‬وأ ْ‬
‫َّاع ِة َس ِع ًيرا } أي‪ :‬نارا عظيمة قد اشتد سعيرها‪ ،‬وتغيظت على أهلها واشتد زفيرها‪.‬‬ ‫ب بِالس َ‬
‫َّ‬
‫َكذ َ‬

‫( ‪)1/578‬‬
‫ِ‬ ‫ان َب ِع ٍيد َس ِم ُعوا لَهَا تَ َغُّي ً‬
‫ِإ َذا َرأَتْهُ ْم ِم ْن َم َك ٍ‬
‫ضيِّقًا ُمقََّرنِ َ‬
‫ين َد َع ْوا‬ ‫ظا َو َز ِف ًيرا (‪َ )12‬وإِ َذا أُْلقُوا م ْنهَا َم َك ًانا َ‬
‫ورا َكثِ ًيرا (‪)14‬‬ ‫ِ‬
‫ورا َواح ًدا َو ْاد ُعوا ثُُب ً‬
‫ورا (‪ )13‬اَل تَ ْد ُعوا اْلَي ْو َم ثُُب ً‬ ‫ك ثُُب ً‬ ‫ُهَن ِال َ‬

‫ِ‬ ‫ان َب ِع ٍيد َس ِم ُعوا لَهَا تَ َغُّي ً‬‫{ ِإ َذا َرأَتْهُ ْم ِم ْن َم َك ٍ‬


‫ضيِّقًا ُمقََّرنِ َ‬
‫ين َد َع ْوا‬ ‫ظا َو َز ِف ًيرا * َوإِ َذا أُْلقُوا م ْنهَا َم َك ًانا َ‬
‫ورا َكثِ ًيرا } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ورا َواح ًدا َو ْاد ُعوا ثُُب ً‬ ‫ورا * ال تَ ْد ُعوا اْلَي ْو َم ثُُب ً‬ ‫ك ثُُب ً‬ ‫ُهَن ِال َ‬
‫ظا } عليهم‬ ‫ان َب ِع ٍيد } أي‪ :‬قبل وصولهم ووصولها إليهم‪َ { ،‬س ِم ُعوا لَهَا تَ َغُّي ً‬ ‫{ ِإ َذا َرأَتْهُ ْم ِم ْن َم َك ٍ‬
‫{ َو َز ِف ًيرا } تقلق منهم األفئدة وتتصدع القلوب‪ ،‬ويكاد الواحد منهم يموت خوفا منها وذعرا قد‬
‫غضبت عليهم لغضب خالقها وقد زاد لهبها لزيادة كفرهم وشرهم‪.‬‬
‫ِ‬
‫ين } أي‪ :‬وقت عذابهم وهم في وسطها‪ ،‬جمع في مكان بين‬ ‫ضيِّقًا ُمقََّرنِ َ‬ ‫{ َوإِ َذا أُْلقُوا م ْنهَا َم َك ًانا َ‬
‫ضيق المكان وتزاحم السكان وتقرينهم بالسالسل واألغالل‪ ،‬فإذا وصلوا لذلك المكان النحس‬
‫ورا } دعوا على أنفسهم بالثبور والخزي والفضيحة‬ ‫ك ثُُب ً‬ ‫وحبسوا في أشر حبس { َد َع ْوا ُهَن ِال َ‬
‫وعلموا أنهم ظالمون معتدون‪ ،‬قد عدل فيهم الخالق حيث أنزلهم بأعمالهم هذا المنزل‪ ،‬وليس ذلك‬
‫الدعاء واالستغاثة بنافعة لهم وال مغنية من عذاب اهلل‪ ،‬بل يقال لهم‪ { :‬ال تَ ْدعوا اْليوم ثُبورا و ِ‬
‫اح ًدا‬ ‫ُ َْ َ ُ ً َ‬
‫ورا َكثِ ًيرا } أي‪ :‬لو زاد ما قلتم أضعاف أضعافه ما أفادكم إال الهم والغم والحزن‪.‬‬ ‫َو ْاد ُعوا ثُُب ً‬
‫لما بين جزاء الظالمين ناسب أن يذكر جزاء المتقين فقال‪:‬‬

‫( ‪)1/579‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ُق ْل أَ َذِل َ‬


‫ون‬
‫اء َ‬
‫اء َو َمص ًيرا (‪ )15‬لَهُ ْم فيهَا َما َي َش ُ‬
‫ت لَهُ ْم َج َز ً‬ ‫ك َخ ْيٌر أ َْم َجَّنةُ اْل ُخْلد التي ُو ِع َد اْل ُمتَّقُ َ‬
‫ون َك َان ْ‬
‫ك َو ْع ًدا َم ْسُئواًل (‪)16‬‬ ‫ان َعلَى َرِّب َ‬ ‫ِِ‬
‫ين َك َ‬‫َخالد َ‬

‫ت لَهم ج َزاء وم ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫{ ‪ُ { } 16 - 15‬ق ْل أَ َذِل َ‬


‫ص ًيرا * لَهُ ْم‬ ‫ون َك َان ْ ُ ْ َ ً َ َ‬ ‫ك َخ ْيٌر أ َْم َجَّنةُ اْل ُخْلد التي ُو ِع َد اْل ُمتَّقُ َ‬
‫ِّك َو ْع ًدا َم ْسُئوال } ‪.‬‬ ‫ان َعلَى َرب َ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين َك َ‬ ‫ون َخالد َ‬ ‫اء َ‬‫فيهَا َما َي َش ُ‬
‫ك } الذي وصفت لكم من‬ ‫أي‪ :‬قل لهم ‪-‬مبينا لسفاهة رأيهم واختيارهم الضار على النافع‪ { :-‬أَ َذِل َ‬
‫ِ َّ ِ‬
‫ون } التي زادها تقوى اهلل فمن قام بالتقوى فاهلل قد‬ ‫العذاب { َخ ْيٌر أ َْم َجَّنةُ اْل ُخْلد التي ُو ِع َد اْل ُمتَّقُ َ‬
‫ص ًيرا } موئال يرجعون إليها‪ ،‬ويستقرون فيها‬ ‫ت لَهم ج َزاء } على تقواهم { وم ِ‬
‫ََ‬ ‫وعده إياها‪َ { ،‬ك َان ْ ُ ْ َ ً‬
‫ويخلدون دائما أبدا‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬يطلبون وتتعلق بهم أمانيهم ومشيئتهم‪ ،‬من المطاعم والمشارب‬ ‫ِ‬
‫اء َ‬
‫{ لَهُ ْم فيهَا َما َي َش ُ‬
‫اللذيذة والمالبس الفاخرة والنساء الجميالت والقصور العاليات والجنات والحدائق المرجحنة‬
‫والفواكه التي تسر ناظريها وآكليها‪ ،‬من حسنها وتنوعها وكثرة أصنافها واألنهار التي تجري في‬
‫رياض الجنة وبساتينها‪ ،‬حيث شاءوا يصرفونها ويفجرونها أنهارا من ماء غير آسن وأنهارا من‬
‫لبن لم يتغير طعمه وأنهارا من خمر لذة للشاربين وأنهارا من عسل مصفى وروائح طيبة‪،‬‬
‫ومساكن [ ص ‪ ] 580‬مزخرفة‪ ،‬وأصوات شجية تأخذ من حسنها بالقلوب ومزاورة اإلخوان‪،‬‬
‫والتمتع بلقاء األحباب‪ ،‬وأعلى من ذلك كله التمتع بالنظر إلى وجه الرب الرحيم وسماع كالمه‪،‬‬
‫والحظوة بقربه والسعادة برضاه واألمن من سخطه واستمرار هذا النعيم ودوامه وزيادته على‬
‫ِّك َو ْع ًدا َم ْسُئوال } يسأله‬
‫ان } دخولها والوصول إليها { َعلَى َرب َ‬
‫ممر األوقات وتعاقب اآلنات { َك َ‬
‫إياها‪ ،‬عباده المتقون بلسان حالهم ولسان مقالهم‪ ،‬فأي الدارين المذكورتين خير وأولى باإليثار؟‬
‫وأي‪ :‬العاملين عمال دار الشقاء أو عمال دار السعادة أولى بالفضل والعقل والفخر يا أولي‬
‫األلباب؟‬
‫لقد وضح الحق واستنار السبيل فلم يبق للمفرط عذر في تركه الدليل‪ ،‬فنرجوك يا من قضيت على‬
‫أقوام بالشقاء وأقوام بالسعادة أن تجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة‪ ،‬ونستغيث بك اللهم من‬
‫حالة األشقياء ونسألك المعافاة منها‪.‬‬

‫( ‪)1/579‬‬

‫ضلُّوا َّ‬
‫السبِي َل (‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َضلَْلتُ ْم عَبادي َه ُؤاَل ء أ َْم ُه ْم َ‬ ‫ون اللَّ ِه فََيقُو ُل أَأ َْنتُ ْم أ ْ‬‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫َوَي ْو َم َي ْح ُش ُر ُه ْم َو َما َي ْعُب ُد َ‬
‫ِ‬ ‫َن َنتَّ ِخ َذ ِم ْن ُدونِ َ ِ‬
‫اء ُه ْم َحتَّى َن ُسوا‬
‫اء َولَك ْن َمتَّ ْعتَهُ ْم َوآََب َ‬ ‫ك م ْن أ َْوِلَي َ‬ ‫ان َي ْنَب ِغي لََنا أ ْ‬‫ك َما َك َ‬ ‫‪ )17‬قَالُوا ُس ْب َح َان َ‬
‫ظِل ْم‬
‫ص ًرا َو َم ْن َي ْ‬
‫ص ْرفًا َواَل َن ْ‬ ‫ون َ‬ ‫يع َ‬
‫ِ‬
‫ون فَ َما تَ ْستَط ُ‬
‫َّ‬
‫ورا (‪ )18‬فَقَ ْد َكذُبو ُك ْم بِ َما تَقُولُ َ‬ ‫الذ ْك َر َو َك ُانوا قَ ْو ًما ُب ً‬
‫ِّ‬
‫ون ِفي‬ ‫َّ‬ ‫ك ِمن اْلمرسِل اَّل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون الط َع َام َوَي ْم ُش َ‬ ‫ين ِإ ِإَّنهُ ْم لََي ْأ ُكلُ َ‬ ‫م ْن ُك ْم ُنذ ْقهُ َع َذ ًابا َكبِ ًيرا (‪َ )19‬و َما أ َْر َسْلَنا قَْبلَ َ َ ُ ْ َ َ‬
‫كب ِ‬ ‫ق وجعْلَنا بعض ُكم ِلبع ٍ ِ‬
‫ص ًيرا (‪)20‬‬ ‫ان َرُّب َ َ‬
‫ون َو َك َ‬ ‫صبِ ُر َ‬ ‫ض فتَْنةً أَتَ ْ‬ ‫َس َوا ِ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ‬ ‫اأْل ْ‬

‫َضلَْلتُم ِعب ِادي َهؤ ِ‬


‫الء أ َْم ُه ْم‬ ‫{ ‪ { } 20 - 17‬ويوم ي ْح ُشر ُهم وما يعب ُدون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ُ‬ ‫ون الله فََيقُو ُل أَأ َْنتُ ْم أ ْ ْ َ‬ ‫َ َْ َ َ ُ ْ َ َ َ ُْ َ‬
‫ِ‬ ‫َن َنتَّ ِخ َذ ِم ْن ُدونِ َ ِ‬
‫اء َولَك ْن َمتَّ ْعتَهُ ْم َو َآب َ‬
‫اء ُه ْم‬ ‫ك م ْن أ َْوِلَي َ‬ ‫ان َي ْنَب ِغي لََنا أ ْ‬
‫ك َما َك َ‬ ‫السبِي َل * قَالُوا ُس ْب َح َان َ‬‫ضلُّوا َّ‬‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫ص ًرا َو َم ْن‬ ‫ص ْرفًا َوال َن ْ‬ ‫ون َ‬ ‫يع َ‬‫ون فَ َما تَ ْستَط ُ‬ ‫ورا * فَقَ ْد َكذُبو ُك ْم بِ َما تَقُولُ َ‬ ‫َحتَّى َن ُسوا الذ ْك َر َو َك ُانوا قَ ْو ًما ُب ً‬
‫ون ِفي‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ظِلم ِم ْن ُكم ُن ِذ ْقه ع َذابا َكبِيرا * وما أَرسْلَنا قَْبلَ َ ِ‬
‫ون الط َع َام َوَي ْم ُش َ‬ ‫ين ِإال ِإَّنهُ ْم لََي ْأ ُكلُ َ‬
‫ك م َن اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫ََ ْ َ‬ ‫َي ْ ْ ْ ُ َ ً ً‬
‫كب ِ‬ ‫ق وجعْلَنا بعض ُكم ِلبع ٍ ِ‬
‫ص ًيرا } ‪.‬‬ ‫ان َرُّب َ َ‬ ‫ون َو َك َ‬‫صبِ ُر َ‬ ‫ض فتَْنةً أَتَ ْ‬ ‫األس َوا ِ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ‬ ‫ْ‬
‫يخبر تعالى عن حالة المشركين وشركائهم يوم القيامة وتبريهم منهم‪ ،‬وبطالن سعيهم فقال‪:‬‬
‫ون اللَّ ِه فََيقُو ُل } اهلل مخاطبا‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫{ َوَي ْو َم َي ْح ُش ُر ُه ْم } أي‪ :‬المكذبين المشركين { َو َما َي ْعُب ُد َ‬
‫يل } هل‬ ‫السبِ َ‬‫ضلُّوا َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َضلَْلتُ ْم عَبادي َه ُؤالء أ َْم ُه ْم َ‬ ‫للمعبودين على وجه التقريع لمن عبدهم‪ { :‬أَأ َْنتُ ْم أ ْ‬
‫أمرتموهم بعبادتكم وزينتم لهم ذلك أم ذلك من تلقاء أنفسهم؟‬
‫ان َي ْنَب ِغي لََنا }‬
‫ك } نزهوا اهلل عن شرك المشركين به وبرؤوا أنفسهم من ذلك‪َ { ،‬ما َك َ‬
‫{ قَالُوا ُس ْب َح َان َ‬
‫أي‪ :‬ال يليق بنا وال يحسن منا أن نتخذ من دونك من أولياء نتوالهم ونعبدهم وندعوهم‪ ،‬فإذا كنا‬
‫محتاجين ومفتقرين إلى عبادتك متبرئين من عبادة غيرك‪ ،‬فكيف نأمر أحدا بعبادتنا؟ هذا ال يكون‬
‫َن َنتَّ ِخ َذ ِم ْن ُدونِ َ ِ‬
‫اء } وهذا كقول المسيح عيسى بن مريم عليه‬ ‫ك م ْن أ َْوِلَي َ‬ ‫أو‪ ،‬سبحانك عن { أ ْ‬
‫ون اللَّ ِه قَا َل‬ ‫ُمي ِإلَهَْي ِن ِم ْن ُد ِ‬ ‫ت ُقْل َ ِ َّ ِ َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ت للناس اتخ ُذوني َوأ ِّ َ‬ ‫يسى ْاب َن َم ْرَي َم أَأ َْن َ‬ ‫السالم‪َ { :‬وإِ ْذ قَا َل اللهُ َيا ع َ‬
‫َعلَ ُم‬‫ت ُقْلتُهُ فَقَ ْد َعِل ْمتَهُ تَ ْعلَ ُم َما ِفي َن ْف ِسي َوال أ ْ‬ ‫ق ِإ ْن ُك ْن ُ‬ ‫ول َما لَْي َس ِلي بِ َح ٍّ‬ ‫ون ِلي أ ْ‬
‫َن أَقُ َ‬ ‫ك َما َي ُك ُ‬ ‫ُس ْب َح َان َ‬
‫اعُب ُدوا اللَّهَ َربِّي َو َرَّب ُك ْم }‬
‫َن ْ‬ ‫َم ْرتَنِي بِ ِه أ ِ‬ ‫ِ‬
‫ت لَهُ ْم إال َما أ َ‬ ‫وب َما ُقْل ُ‬ ‫ت َعالم اْل ُغُي ِ‬
‫ُ‬ ‫ك أ َْن َ‬ ‫َما ِفي َن ْف ِس َ‬
‫ك ِإَّن َ‬
‫اآلية‪.‬‬
‫وقال تعالى‪ { :‬ويوم َن ْح ُشر ُهم ج ِميعا ثَُّم َنقُو ُل ِلْلمالئِ َك ِة أ َ ِ‬
‫ك‬‫ون قَالُوا ُس ْب َح َان َ‬ ‫َه ُؤالء ِإيَّا ُك ْم َك ُانوا َي ْعُب ُد َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ َ ً‬ ‫َ َْ َ‬
‫اس َك ُانوا لَهُ ْم‬ ‫ون } { َوإِ َذا ُح ِش َر َّ‬
‫الن ُ‬ ‫ون اْل ِج َّن أَ ْكثَُر ُه ْم بِ ِه ْم ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫ِ‬
‫ت َوِليَُّنا م ْن ُدونِ ِه ْم َب ْل َك ُانوا َي ْعُب ُد َ‬ ‫أ َْن َ‬
‫ِ‬ ‫َع َداء و َك ُانوا بِ ِعب َ ِ‬
‫ين } فلما نزهوا أنفسهم أن يدعوا لعبادة غير اهلل أو يكونوا أضلوهم‬ ‫ادت ِه ْم َكاف ِر َ‬ ‫َ‬ ‫أْ ًَ‬
‫ِ‬
‫اء ُه ْم } في لذات الدنيا‬ ‫ذكروا السبب الموجب إلضالل المشركين فقالوا‪َ { :‬ولَك ْن َمتَّ ْعتَهُ ْم َو َآب َ‬
‫الذ ْك َر } اشتغاال في لذات الدنيا وإ كبابا على شهواتها‪،‬‬ ‫وشهواتها ومطالبها النفسية‪َ { ،‬حتَّى َنسوا ِّ‬
‫ُ‬
‫ورا } أي‪ :‬بائرين ال خير فيهم وال يصلحون‬ ‫فحافظوا على دنياهم وضيعوا دينهم { َو َك ُانوا قَ ْو ًما ُب ً‬
‫لصالح ال يصلحون إال للهالك والبوار‪ ،‬فذكروا المانع من اتباعهم الهدى وهو التمتع في الدنيا‬
‫الذي صرفهم عن الهدى‪ ،‬وعدم المقتضي للهدى وهو أنهم ال خير فيهم‪ ،‬فإذا عدم المقتضي ووجد‬
‫المانع فال تشاء من شر وهالك‪ ،‬إال وجدته فيهم‪ ،‬فلما تبرؤوا منهم قال اهلل توبيخا وتقريعا للعابدين‬
‫َّ‬
‫ون } إنهم أمروكم بعبادتهم ورضوا فعلكم‪ ،‬وأنهم شفعاء لكم عند ربكم‪،‬‬ ‫(‪ { )1‬فَقَ ْد َكذُبو ُك ْم بِ َما تَقُولُ َ‬
‫ص ْرفًا }‬ ‫ِ‬
‫ون َ‬
‫يع َ‬
‫كذبوكم في ذلك الزعم وصاروا من أكبر أعدائكم فحق عليكم العذاب‪ { ،‬فَ َما تَ ْستَط ُ‬
‫ص ًرا } لعجزكم وعدم ناصركم‪ .‬هذا حكم‬ ‫للعذاب عنكم بفعلكم أو بفداء أو غير ذلك‪َ { ،‬وال َن ْ‬
‫الضالين المقلدين الجاهلين كما رأيت أسوأ حكم‪ ،‬وأشر مصير‪.‬‬
‫ظِل ْم ِم ْن ُك ْم } بترك الحق‬
‫وأما المعاند منهم الذي عرف الحق وصدف عنه فقال في حقه‪َ { :‬و َم ْن َي ْ‬
‫ظلما وعنادا { ُن ِذ ْقهُ َع َذ ًابا َكبِ ًيرا } ال يقادر قدره وال يبلغ أمره‪.‬‬
‫األسوا ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ال َه َذا َّ ِ‬ ‫ثم قال تعالى جوابا لقول المكذبين‪ { :‬م ِ‬
‫ق } { َو َما‬ ‫الر ُسول َي ْأ ُك ُل الط َع َام َوَي ْمشي في ْ َ‬ ‫َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫أَرسْلَنا قَْبلَ َ ِ‬
‫ق } فما جعلناهم جسدا ال‬ ‫األسوا ِ‬
‫ون في ْ َ‬ ‫ين ِإال ِإَّنهُ ْم لََي ْأ ُكلُ َ‬
‫ون الط َع َام َوَي ْم ُش َ‬ ‫ك م َن اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫ْ َ‬
‫يأكلون الطعام وما جعلناهم مالئكة‪ ،‬فلك فيهم أسوة‪ ،‬وأما الغنى والفقر فهو فتنة وحكمة من اهلل‬
‫ض ِفتَْنةً } الرسول فتنة للمرسل إليهم واختبار للمطيعين من‬ ‫ض ُك ْم ِلَب ْع ٍ‬ ‫تعالى كما قال‪َ { :‬و َج َعْلَنا َب ْع َ‬
‫العاصين (‪ )2‬والرسل فتناهم بدعوة الخلق‪ ،‬والغنى فتنة للفقير والفقير فتنة للغني‪ ،‬وهكذا سائر‬
‫أصناف الخلق في هذه الدار دار الفتن واالبتالء واالختبار‪.‬‬
‫صبِ ُر َ‬
‫ون } فتقومون بما هو وظيفتكم الالزمة الراتبة فيثيبكم موالكم (‪)3‬‬ ‫والقصد من تلك الفتنة { أَتَ ْ‬
‫أم ال تصبرون فتستحقون المعاقبة؟‬
‫كب ِ‬
‫ص ًيرا } يعلم أحوالكم‪ ،‬ويصطفي من يعلمه يصلح [ ص ‪ ] 581‬لرسالته ويختصه‬ ‫ان َرُّب َ َ‬
‫{ َو َك َ‬
‫بتفضيله ويعلم أعمالكم فيجازيكم عليها إن خيرا فخير‪ ،‬وإ ن شرا فشر‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬للمعاندين‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬المعاصي‪.‬‬
‫(‪ )3‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬موالهم‪.‬‬

‫( ‪)1/580‬‬

‫استَ ْكَب ُروا ِفي أ َْنفُ ِس ِه ْم َو َعتَ ْوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫اءَنا لَ ْواَل أ ُْن ِز َل َعلَْيَنا اْل َماَل ئ َكةُ أ َْو َن َرى َربََّنا لَقَد ْ‬
‫ال الَِّذين اَل يرج ِ‬
‫ون لقَ َ‬
‫َ َْ ُ َ‬ ‫َوقَ َ‬
‫ورا (‪)22‬‬ ‫عتًُّوا َكبِيرا (‪ )21‬يوم يرون اْلماَل ئِ َكةَ اَل ب ْشرى يومئٍِذ ِلْلم ْج ِر ِمين ويقُولُ ِ‬
‫ون ح ْج ًرا َم ْح ُج ً‬ ‫َ‬ ‫َ ََ‬ ‫ُ َ َْ َ ُ‬ ‫َ ْ َ ََ ْ َ َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ورا (‪)23‬‬ ‫َوقَد ْمَنا ِإلَى َما َعملُوا م ْن َع َمل فَ َج َعْلَناهُ َهَب ً‬
‫اء َم ْنثُ ً‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال الَِّذين ال يرج ِ‬


‫اءَنا لَ ْوال أ ُْن ِز َل َعلَْيَنا اْل َمالئ َكةُ أ َْو َن َرى َربََّنا لَقَد ْ‬
‫استَ ْكَب ُروا‬ ‫ون لقَ َ‬
‫َ َْ ُ َ‬ ‫{ ‪َ { } 23 - 21‬وقَ َ‬
‫ون ِح ْج ًرا‬
‫ين َوَيقُولُ َ‬
‫ٍِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫في أ َْنفُس ِه ْم َو َعتَ ْوا ُعتًُّوا َكبِ ًيرا * َي ْو َم َي َر ْو َن اْل َمالئ َكةَ ال ُب ْش َرى َي ْو َمئذ لْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ورا } ‪.‬‬ ‫ورا * َوقَد ْمَنا ِإلَى َما َعملُوا م ْن َع َمل فَ َج َعْلَناهُ َهَب ً‬
‫اء َم ْنثُ ً‬ ‫َم ْح ُج ً‬
‫أي‪ :‬قال المكذبون للرسول المكذبون بوعد اهلل ووعيده الذين ليس في قلوبهم خوف الوعيد وال‬
‫رجاء لقاء الخالق‪.‬‬
‫{ لَ ْوال أُنز َل َعلَْيَنا اْل َمالئِ َكةُ أ َْو َن َرى َربََّنا } أي‪ :‬هال نزلت المالئكة تشهد لك بالرسالة وتؤيدك‬
‫عليها أو تنزل رسال مستقلين‪ ،‬أو نرى ربنا فيكلمنا ويقول‪ :‬هذا رسولي فاتبعوه؟ وهذا معارضة‬
‫للرسول بما ليس بمعارض بل بالتكبر والعلو والعتو‪.‬‬
‫استَ ْكَب ُروا ِفي أ َْنفُ ِس ِه ْم } حيث اقترحوا هذا االقتراح وتجرأوا هذه الجرأة‪ ،‬فمن أنتم يا فقراء‬ ‫ِ‬
‫{ لَقَد ْ‬
‫ويا مساكين حتى تطلبوا رؤية اهلل وتزعموا أن الرسالة متوقف ثبوتها على ذلك؟ وأي كبر أعظم‬
‫من هذا؟‪.‬‬
‫{ َو َعتَ ْوا ُعتًُّوا َكبِ ًيرا } أي‪ :‬قسوا وصلبوا عن الحق قساوة عظيمة‪ ،‬فقلوبهم أشد من األحجار‬
‫وأصلب من الحديد ال تلين للحق‪ ،‬وال تصغي للناصحين فلذلك لم ينجع فيهم وعظ وال تذكير وال‬
‫اتبعوا الحق حين جاءهم النذير‪ ،‬بل قابلوا أصدق الخلق وأنصحهم وآيات اهلل البينات باإلعراض‬
‫والتكذيب والمعارضة‪ ،‬فأي عتو أكبر من هذا العتو؟" ولذلك بطلت أعمالهم واضمحلت‪ ،‬وخسروا‬
‫أشد الخسران‪ ،‬وحرموا غاية الحرمان‪.‬‬
‫ٍِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } وذلك أنهم ال يرونها‬ ‫{ َي ْو َم َي َر ْو َن اْل َمالئ َكةَ } التي اقترحوا نزولها { ال ُب ْش َرى َي ْو َمئذ لْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫مع استمرارهم على جرمهم وعنادهم إال لعقوبتهم وحلول البأس بهم‪ ،‬فأول ذلك عند الموت إذا‬
‫تنزلت عليهم المالئكة قال اهلل تعالى‪ { :‬ولَو تَرى ِإ ِذ الظَّ ِالمون ِفي َغمر ِ‬
‫ات اْل َم ْو ِت َواْل َمالئِ َكةُ‬ ‫ََ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫ق‬‫ون َعلَى اللَّ ِه َغ ْي َر اْل َح ِّ‬
‫ون بِ َما ُك ْنتُ ْم تَقُولُ َ‬‫اب اْلهُ ِ‬ ‫اسطُو أ َْي ِدي ِه ْم أ ْ‬
‫َخ ِر ُجوا أ َْنفُ َس ُك ُم اْلَي ْو َم تُ ْج َز ْو َن َع َذ َ‬
‫ب ِ‬
‫َ‬
‫ِِ‬
‫ون } ثم في القبر حيث يأتيهم منكر ونكير فيسألهم عن ربهم ونبيهم ودينهم‬ ‫َو ُك ْنتُ ْم َع ْن َآياته تَ ْستَ ْكبِ ُر َ‬
‫فال يجيبون جوابا ينجيهم فيحلون بهم النقمة‪ ،‬وتزول عنهم بهم الرحمة‪ ،‬ثم يوم القيامة حين‬
‫تسوقهم المالئكة إلى النار ثم يسلمونهم لخزنة جهنم الذين يتولون عذابهم ويباشرون عقابهم‪ ،‬فهذا‬
‫الذي اقترحوه وهذا الذي طلبوه إن استمروا على إجرامهم ال بد أن يروه ويلقوه‪ ،‬وحينئذ يتعوذون‬
‫من المالئكة ويفرون ولكن ال مفر لهم‪.‬‬
‫ط ِار السَّماو ِ‬
‫َن تَْنفُ ُذوا ِم ْن أَ ْق َ‬ ‫ورا } { َيا َم ْع َش َر اْل ِج ِّن َو ْ‬ ‫{ ويقُولُ ِ‬
‫ات‬ ‫ََ‬ ‫ط ْعتُ ْم أ ْ‬ ‫س ِإ ِن ْ‬
‫استَ َ‬ ‫اإلن ِ‬ ‫ون ح ْج ًرا َم ْح ُج ً‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ان }‪.‬‬ ‫طٍ‬ ‫ون ِإال بِ ُسْل َ‬
‫ض فَ ْانفُ ُذوا ال تَْنفُ ُذ َ‬‫األر ِ‬
‫َو ْ‬
‫{ َوقَِد ْمَنا ِإلَى َما َع ِملُوا ِم ْن َع َم ٍل } أي‪ :‬أعمالهم التي رجوا أن تكون خيرا لهم وتعبوا فيها‪،‬‬
‫ورا } أي باطال مضمحال قد خسروه وحرموا أجره وعوقبوا عليه وذلك لفقده‬ ‫اء َم ْنثُ ً‬
‫{ فَ َج َعْلَناهُ َهَب ً‬
‫اإليمان وصدوره عن مكذب هلل ورسله‪ ،‬فالعمل الذي يقبله اهلل‪ ،‬ما صدر عن المؤمن المخلص‬
‫المصدق للرسل المتبع لهم فيه‪.‬‬

‫( ‪)1/581‬‬

‫َح َس ُن َم ِقياًل (‪)24‬‬


‫اب اْل َجَّن ِة َي ْو َمئٍِذ َخ ْيٌر ُم ْستَقًَّرا َوأ ْ‬
‫َص َح ُ‬
‫أ ْ‬

‫َح َس ُن َم ِقيال } ‪.‬‬‫اب اْل َجَّن ِة َي ْو َمئٍِذ َخ ْيٌر ُم ْستَقًَّرا َوأ ْ‬


‫َص َح ُ‬
‫{ ‪ { } 24‬أ ْ‬
‫اب اْل َجَّن ِة } الذين آمنوا باهلل وعملوا صالحا واتقوا‬
‫َص َح ُ‬‫أي‪ :‬في ذلك اليوم الهائل كثير البالبل { أ ْ‬
‫َح َس ُن َم ِقيال } أي‪ :‬مستقرهم في الجنة وراحتهم التي هي‬ ‫ربهم { َخ ْيٌر ُم ْستَقًَّرا } من أهل النار { َوأ ْ‬
‫القيلولة‪ ،‬هو المستقر النافع والراحة التامة الشتمال ذلك على تمام النعيم الذي ال يشوبه كدر‪،‬‬
‫بخالف أصحاب النار فإن جهنم ساءت مستقرا ومقيال وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل‪ ،‬فيما‬
‫ليس في الطرف اآلخر منه شيء ألنه ال خير في مقيل أهل النار ومستقرهم كقوله‪ { :‬آللَّهُ َخ ْيٌر‬
‫َما ُي ْش ِر ُك َ‬
‫ون }‪.‬‬ ‫أ َّ‬
‫( ‪)1/581‬‬

‫ك يومئٍِذ اْلح ُّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ق السَّم ِ ِ‬


‫ق ل َّلر ْح َم ِن َو َك َ‬
‫ان َي ْو ًما َعلَى‬ ‫َ‬ ‫َوَي ْو َم تَ َشقَّ ُ َ ُ‬
‫اء باْل َغ َمام َوُنِّز َل اْل َماَل ئ َكةُ تَْن ِزياًل (‪ )25‬اْل ُمْل ُ َ ْ َ‬
‫اْل َك ِاف ِرين ع ِسيرا (‪ )26‬ويوم يع ُّ َّ‬
‫ول َسبِياًل (‪)27‬‬ ‫الرس ِ‬
‫ت َم َع َّ ُ‬ ‫ض الظ ِال ُم َعلَى َي َد ْي ِه َيقُو ُل َيا لَْيتَنِي اتَّ َخ ْذ ُ‬ ‫َ َْ َ َ َ‬ ‫َ َ ً‬
‫ان َّ‬ ‫الذ ْك ِر بع َد ِإ ْذ ج ِ‬ ‫َضلَّنِي َع ِن ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ان‬‫ط ُ‬
‫الش ْي َ‬ ‫اءني َو َك َ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َيا َوْيلَتَا لَْيتَني لَ ْم أَتَّخ ْذ فُاَل ًنا َخلياًل (‪ )28‬لَقَ ْد أ َ‬
‫ان َخ ُذواًل (‪)29‬‬ ‫ِلإْل ِ ْن َس ِ‬

‫ق ِل َّلر ْح َم ِن‬
‫ك َي ْو َمئٍِذ اْل َح ُّ‬
‫اء بِاْل َغ َم ِام َوُنِّز َل اْل َمالئِ َكةُ تَْن ِزيال * اْل ُمْل ُ‬
‫َّم ُ‬ ‫{ ‪َ { } 29 - 25‬وَي ْو َم تَ َشقَّ ُ‬
‫ق الس َ‬
‫و َكان يوما علَى اْل َك ِاف ِرين ع ِسيرا * ويوم يع ُّ َّ‬
‫الرس ِ‬
‫ول‬ ‫ت َم َع َّ ُ‬ ‫ض الظ ِال ُم َعلَى َي َد ْي ِه َيقُو ُل َيا لَْيتَنِي اتَّ َخ ْذ ُ‬ ‫َ َْ َ َ َ‬ ‫َ َ ً‬ ‫َ َ َْ ً َ‬
‫ان‬ ‫ان َّ‬ ‫الذ ْك ِر بع َد ِإ ْذ ج ِ‬‫َضلَّنِي َع ِن ِّ‬ ‫سبِيال * يا وْيلَتَى لَْيتَنِي لَم أَتَّ ِخ ْذ فُ ً ِ‬
‫ط ُ‬ ‫الش ْي َ‬ ‫اءني َو َك َ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫النا َخليال * لَقَ ْد أ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ِل ْ‬
‫إلن َس ِ‬
‫ان َخ ُذوال } ‪.‬‬
‫يخبر تعالى عن عظمة يوم القيامة وما فيه من الشدة والكروب‪ ،‬ومزعجات القلوب فقال‪َ { :‬وَي ْو َم‬
‫اء بِاْل َغ َم ِام } وذلك الغمام الذي ينزل اهلل فيه‪ ،‬ينزل من فوق السماوات فتنفطر له‬ ‫َّم ُ‬ ‫تَ َشقَّ ُ‬
‫ق الس َ‬
‫السماوات وتشقق وتنزل مالئكة كل سماء فيقفون صفا صفا‪ ،‬إما صفا واحدا محيطا بالخالئق‪،‬‬
‫وإ ما كل سماء يكونون صفا ثم السماء التي تليها صفا وهكذا‪.‬‬
‫القصد أن المالئكة ‪-‬على كثرتهم وقوتهم‪ -‬ينزلون محيطين بالخلق مذعنين ألمر ربهم ال يتكلم‬
‫منهم أحد إال بإذن من اهلل‪ ،‬فما ظنك باآلدمي الضعيف خصوصا الذي بارز مالكه بالعظائم‪ ،‬وأقدم‬
‫على مساخطه ثم قدم عليه بذنوب وخطايا لم يتب منها‪ ،‬فيحكم فيه الملك الحق بالحكم الذي ال‬
‫ين َع ِس ًيرا } لصعوبته الشديدة‬ ‫ِ‬
‫ان َي ْو ًما َعلَى اْل َكاف ِر َ‬ ‫يجور وال يظلم مثقال ذرة ولهذا قال‪َ { :‬و َك َ‬
‫وتعسر أموره عليه‪ ،‬بخالف المؤمن فإنه يسير عليه خفيف الحمل‪.‬‬
‫ين ِإلَى َجهََّن َم ِو ْر ًدا }‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وق اْل ُم ْج ِر ِم َ‬ ‫ين ِإلَى َّ‬
‫الر ْح َم ِن َو ْف ًدا َوَن ُس ُ‬ ‫{ َي ْو َم َن ْح ُش ُر اْل ُمتَّق َ‬
‫ق ِل َّلر ْح َم ِن } ال يبقى ألحد من المخلوقين ملك وال‬ ‫ك َي ْو َمئٍِذ } أي‪ :‬يوم القيامة { اْل َح ُّ‬ ‫وقوله‪ { :‬اْل ُمْل ُ‬
‫صورة ملك‪ ،‬كما كانوا في الدنيا‪ ،‬بل قد تساوت الملوك ورعاياهم واألحرار والعبيد واألشراف‬
‫وغيرهم‪ ،‬ومما يرتاح له القلب‪ ،‬وتطمئن به النفس وينشرح له [ ص ‪ ] 582‬الصدر أن أضاف‬
‫الملك في يوم القيامة السمه " الرحمن " الذي وسعت رحمته كل شيء وعمت كل حي ومألت‬
‫الكائنات وعمرت بها الدنيا واآلخرة‪ ،‬وتم بها كل ناقص وزال بها كل نقص‪ ،‬وغلبت األسماء‬
‫الدالة عليه األسماء الدالة على الغضب وسبقت رحمته غضبه وغلبته‪ ،‬فلها السبق والغلبة‪ ،‬وخلق‬
‫هذا اآلدمي الضعيف وشرفه وكرمه ليتم عليه نعمته‪ ،‬وليتغمده برحمته‪ ،‬وقد حضروا في موقف‬
‫الذل والخضوع واالستكانة بين يديه ينتظرون ما يحكم فيهم وما يجري عليهم وهو أرحم بهم من‬
‫أنفسهم ووالديهم فما ظنك بما يعاملهم به‪ ،‬وال يهلك على اهلل إال هالك وال يخرج من رحمته إال من‬
‫غلبت عليه الشقاوة وحقت عليه كلمة العذاب‪.‬‬
‫ض الظَّ ِال ُم } بشركه وكفره وتكذيبه للرسل { َعلَى َي َد ْي ِه } تأسفا وتحسرا وحزنا وأسفا‪{ .‬‬ ‫{ َوَي ْو َم َي َع ُّ‬
‫ول َسبِيال } أي طريقا باإليمان به وتصديقه واتباعه‪.‬‬ ‫الرس ِ‬
‫ت َم َع َّ ُ‬ ‫َيقُو ُل َيا لَْيتَنِي اتَّ َخ ْذ ُ‬
‫النا } وهو الشيطان اإلنسي أو الجني‪َ { ،‬خِليال } أي‪ :‬حبيبا مصافيا‬ ‫{ َيا َوْيلَتَى لَْيتَنِي لَ ْم أَتَّ ِخ ْذ فُ ً‬
‫عاديت أنصح الناس لي‪ ،‬وأبرهم بي وأرفقهم بي‪ ،‬وواليت أعدى عدو لي الذي لم تفدني واليته إال‬
‫الشقاء والخسار والخزي والبوار‪.‬‬
‫اءنِي } حيث زين له ما هو عليه من الضالل بخدعه وتسويله‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫َضلني َع ِن الذ ْك ِر َب ْع َد ِإ ْذ َج َ‬
‫{ لَقَ ْد أ َّ ِ‬
‫َ‬
‫ان َخ ُذوال } يزين له الباطل ويقبح له الحق‪ ،‬ويعده األماني ثم يتخلى عنه‬ ‫ان ِل ْ‬
‫إلن َس ِ‬ ‫ط ُ‬ ‫ان َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫{ َو َك َ‬
‫ان‬
‫ط ُ‬ ‫ال َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫ويتبرأ منه كما قال لجميع أتباعه حين قضي األمر‪ ،‬وفرغ اهلل من حساب الخلق { َوقَ َ‬
‫ان ِإال أ ْ‬
‫َن‬ ‫ان ِلي َعلَْي ُك ْم ِم ْن ُسْل َ‬
‫طٍ‬ ‫َخلَ ْفتُ ُك ْم َو َما َك َ‬ ‫األم ُر ِإ َّن اللَّهَ َو َع َد ُك ْم َو ْع َد اْل َح ِّ‬
‫ق َو َو َع ْدتُ ُك ْم فَأ ْ‬ ‫ِ‬
‫لَ َّما قُض َي ْ‬
‫ص ِر ِخ َّي ِإِّني َكفَ ْر ُ‬
‫ت‬ ‫ِ‬
‫ص ِرخ ُك ْم َو َما أ َْنتُ ْم بِ ُم ْ‬
‫وموا أ َْنفُ َس ُك ْم َما أََنا بِ ُم ْ‬ ‫وموني َولُ ُ‬
‫استَ َج ْبتُ ْم ِلي فَال تَلُ ِ‬
‫ُ‬ ‫َد َع ْوتُ ُك ْم فَ ْ‬
‫ون ِم ْن قَْب ُل } اآلية‪ .‬فلينظر العبد لنفسه وقت اإلمكان وليتدارك الممكن قبل أن ال‬ ‫بِ َما أَ ْش َر ْكتُ ُم ِ‬
‫يمكن‪ ،‬وليوال من واليته فيها سعادته وليعاد من تنفعه عداوته وتضره صداقته‪ .‬واهلل الموفق‪.‬‬

‫( ‪)1/581‬‬

‫ك َج َعْلَنا ِل ُك ِّل َنبِ ٍّي َع ُد ًّوا ِم َن‬


‫ورا (‪َ )30‬و َك َذِل َ‬ ‫ب ِإ َّن قَ ْو ِمي اتَّ َخ ُذوا َه َذا اْلقُْرآ َ‬
‫َن َم ْه ُج ً‬ ‫الر ُسو ُل َيا َر ِّ‬
‫ال َّ‬ ‫َوقَ َ‬
‫ك َه ِاديا وَن ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ًيرا (‪)31‬‬ ‫ين َو َكفَى ب َرِّب َ ً َ‬ ‫اْل ُم ْج ِر ِم َ‬

‫ك َج َعْلَنا ِل ُك ِّل‬
‫ورا * َو َك َذِل َ‬ ‫ب ِإ َّن قَ ْو ِمي اتَّ َخ ُذوا َه َذا اْلقُْر َ‬
‫آن َم ْه ُج ً‬ ‫الر ُسو ُل َيا َر ِّ‬
‫ال َّ‬‫{ ‪َ { } 31 - 30‬وقَ َ‬
‫ك َه ِاديا وَن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ًيرا } ‪.‬‬ ‫ين َو َكفَى ب َرِّب َ ً َ‬ ‫َنبِ ٍّي َع ُد ًّوا م َن اْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫الر ُسو ُل } مناديا لربه وشاكيا له إعراض قومه عما جاء به‪ ،‬ومتأسفا على ذلك منهم‪َ { :‬يا‬ ‫{ َوقَا َل َّ‬
‫ورا } أي‪ :‬قد‬ ‫ب ِإ َّن قَ ْو ِمي } الذي أرسلتني لهدايتهم وتبليغهم‪ { ،‬اتَّ َخ ُذوا َه َذا اْلقُْر َ‬
‫آن َم ْه ُج ً‬ ‫َر ِّ‬
‫أعرضوا عنه وهجروه وتركوه مع أن الواجب عليهم االنقياد لحكمه واإلقبال على أحكامه‪،‬‬
‫والمشي خلفه‪ ،‬قال اهلل مسليا لرسوله ومخبرا أن هؤالء الخلق لهم سلف صنعوا كصنيعهم فقال‪{ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َو َك َذِل َ‬
‫ك َج َعْلَنا ل ُك ِّل َنبِ ٍّي َع ُد ًّوا م َن اْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ين } أي‪ :‬من الذين ال يصلحون للخير وال يزكون عليه‬
‫يعارضونهم ويردون عليهم ويجادلونهم بالباطل‪.‬‬
‫من بعض فوائد ذلك أن يعلو الحق على الباطل وأن يتبين الحق ويتضح اتضاحا عظيما ألن‬
‫معارضة الباطل للحق مما تزيده وضوحا وبيانا وكمال استدالل وأن يتبين ما يفعل اهلل بأهل الحق‬
‫من الكرامة وبأهل الباطل من العقوبة‪ ،‬فال تحزن عليهم وال تذهب نفسك عليهم حسرات { َو َكفَى‬
‫ِّك َه ِاديا } يهديك فيحصل لك المطلوب ومصالح دينك ودنياك‪ { .‬وَن ِ‬
‫ص ًيرا } ينصرك على‬ ‫َ‬ ‫بَِرب َ ً‬
‫أعدائك ويدفع عنك كل مكروه في أمر الدين والدنيا فاكتف به وتوكل عليه‪.‬‬

‫( ‪)1/582‬‬

‫ِّت بِ ِه فُ َؤ َاد َ‬
‫ك َو َرتَّْلَناهُ تَْرتِياًل (‪)32‬‬ ‫ك ِلُنثَب َ‬
‫اح َدةً َك َذِل َ‬
‫ال الَِّذين َكفَروا لَواَل ُنِّز َل علَْي ِه اْلقُرآَن جملَةً و ِ‬
‫ْ ُ ُْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫َوقَ َ‬

‫ك‬‫ِّت بِ ِه فُ َؤ َاد َ‬
‫ك ِلُنثَب َ‬
‫اح َدةً َك َذِل َ‬
‫ال الَِّذين َكفَروا لَوال ُنِّز َل علَْي ِه اْلقُرآن جملَةً و ِ‬
‫ْ ُ ُْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫{ ‪َ { } 33 - 32‬وقَ َ‬
‫َو َرتَّْلَناهُ تَْرتِيال } ‪.‬‬
‫آن ُج ْملَةً‬ ‫ِ‬
‫هذا من جملة مقترحات الكفار الذي توحيه إليهم أنفسهم فقالوا‪ { :‬لَ ْوال نز َل َعلَْيه اْلقُْر ُ‬
‫اح َدةً } أي‪ :‬كما أنزلت الكتب قبله‪ ،‬وأي محذور من نزوله على هذا الوجه؟ بل نزوله على هذا‬ ‫و ِ‬
‫َ‬
‫ك } ألنه كلما نزل عليه‬ ‫ِّت بِ ِه فُ َؤ َاد َ‬
‫ك } أنزلناه متفرقا { ِلُنثَب َ‬ ‫الوجه أكمل وأحسن‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ك َذِل َ‬
‫شيء من القرآن ازداد طمأنينة وثباتا وخصوصا عند ورود أسباب القلق فإن نزول القرآن عند‬
‫حدوث السبب يكون له موقع عظيم وتثبيت كثير أبلغ مما لو كان نازال قبل ذلك ثم تذكره عند‬
‫حلول سببه‪.‬‬
‫{ َو َرتَّْلَناهُ تَْرتِيال } أي‪ :‬مهلناه ودرجناك فيه تدريجا‪ .‬وهذا كله يدل على اعتناء اهلل بكتابه القرآن‬
‫وبرسوله محمد صلى اهلل عليه وسلم حيث جعل إنزال كتابه جاريا على أحوال الرسول ومصالحه‬
‫الدينية‪.‬‬

‫( ‪)1/582‬‬

‫َح َس َن تَ ْف ِس ًيرا (‪)33‬‬


‫ق َوأ ْ‬ ‫ك بِ َمثَ ٍل ِإاَّل ِج ْئَنا َ‬
‫ك بِاْل َح ِّ‬ ‫ون َ‬
‫َواَل َيأْتُ َ‬

‫َح َس َن تَ ْف ِس ًيرا } ‪.‬‬


‫ق َوأ ْ‬ ‫ك بِ َمثَ ٍل ِإال ِج ْئَن َ‬
‫اك بِاْل َح ِّ‬ ‫ون َ‬
‫{ َوال َيأْتُ َ‬
‫ق‬ ‫ك بِ َمثَ ٍل } يعارضون به الحق ويدفعون به رسالتك‪ِ { ،‬إال ِج ْئَن َ‬
‫اك بِاْل َح ِّ‬ ‫ون َ‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬وال َيأْتُ َ‬
‫َح َس َن تَ ْف ِس ًيرا } أي‪ :‬أنزلنا عليك قرآنا جامعا للحق في معانيه والوضوح والبيان التام في‬ ‫َوأ ْ‬
‫ألفاظه‪ ،‬فمعانيه كلها حق وصدق ال يشوبها باطل وال شبهة بوجه من الوجوه‪ ،‬وألفاظه وحدوده‬
‫لألشياء أوضح ألفاظا وأحسن تفسيرا مبين للمعاني بيانا كامال‪.‬‬
‫وفي هذه اآلية دليل على أنه ينبغي للمتكلم في العلم من محدث [ ص ‪ ] 583‬ومعلم‪ ،‬وواعظ أن‬
‫يقتدي بربه في تدبيره حال رسوله‪ ،‬كذلك العالم يدبر أمر الخلق فكلما حدث موجب أو حصل‬
‫موسم‪ ،‬أتى بما يناسب ذلك من اآليات القرآنية واألحاديث النبوية والمواعظ الموافقة لذلك‪.‬‬
‫وفيه رد على المتكلفين من الجهمية ونحوهم ممن يرى أن كثيرا من نصوص القرآن محمولة‬
‫على غير ظاهرها ولها معان غير ما يفهم منها‪ ،‬فإذا ‪-‬على قولهم‪ -‬ال يكون القرآن أحسن تفسيرا‬
‫من غيره‪ ،‬وإ نما التفسير األحسن ‪-‬على زعمهم‪ -‬تفسيرهم الذي حرفوا له المعاني تحريفا‪.‬‬

‫( ‪)1/582‬‬

‫َض ُّل َسبِياًل (‪)34‬‬ ‫ون َعلَى ُو ُجو ِه ِه ْم ِإلَى َجهََّن َم أُولَئِ َ‬
‫ك َشٌّر َم َك ًانا َوأ َ‬ ‫ين ُي ْح َش ُر َ‬
‫َِّ‬
‫الذ َ‬

‫َض ُّل َسبِيال } ‪.‬‬ ‫ون َعلَى ُو ُجو ِه ِه ْم ِإلَى َجهََّن َم أُولَئِ َ‬
‫ك َشٌّر َم َك ًانا َوأ َ‬ ‫ين ُي ْح َش ُر َ‬
‫َِّ‬
‫{ ‪ { } 34‬الذ َ‬
‫ون َعلَى ُو ُجو ِه ِه ْم‬
‫يخبر تعالى عن حال المشركين الذين كذبوا رسوله وسوء مآلهم‪ ،‬وأنهم { ُي ْح َش ُر َ‬
‫} أشنع مرأى‪ ،‬وأفظع منظر تسحبهم مالئكة العذاب ويجرونهم { ِإلَى َجهََّن َم } الجامعة لكل عذاب‬
‫َض ُّل َسبِيال }‬ ‫وعقوبة‪ { .‬أُولَئِ َ‬
‫ك } الذين بهذه الحالة { َشٌّر َم َك ًانا } ممن آمن باهلل وصدق رسله‪َ { ،‬وأ َ‬
‫وهذا من باب استعمال أفضل التفضيل فيما ليس في الطرف اآلخر منه شيء فإن المؤمنين حسن‬
‫مكانهم ومستقرهم‪ ،‬واهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم وفي اآلخرة إلى الوصول إلى جنات‬
‫النعيم‪.‬‬

‫( ‪)1/583‬‬

‫ين َك َّذُبوا‬ ‫َِّ‬


‫ون َو ِز ًيرا (‪ )35‬فَ ُقْلَنا ا ْذ َهَبا ِإلَى اْلقَ ْوِم الذ َ‬ ‫َخاهُ َه ُار َ‬ ‫اب َو َج َعْلَنا َم َعهُ أ َ‬ ‫ِ‬
‫وسى اْلكتَ َ‬ ‫َولَقَ ْد آَتَْيَنا ُم َ‬
‫َعتَ ْدَنا‬
‫اس آََيةً َوأ ْ‬ ‫اه ْم ِل َّلن ِ‬
‫اه ْم َو َج َعْلَن ُ‬
‫َغ َر ْقَن ُ‬
‫الر ُس َل أ ْ‬‫وح لَ َّما َك َّذُبوا ُّ‬
‫اه ْم تَ ْد ِم ًيرا (‪َ )36‬وقَ ْو َم ُن ٍ‬ ‫بِآََياتَِنا فَ َد َّم ْرَن ُ‬
‫ك َكثِيرا (‪ )38‬و ُكاًّل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫ونا َب ْي َن َذل َ ً‬ ‫الر ِّس َوقُُر ً‬ ‫اب َّ‬‫َص َح َ‬ ‫ود َوأ ْ‬‫ادا َوثَ ُم َ‬‫يما (‪َ )37‬و َع ً‬ ‫ين َع َذ ًابا أَل ً‬‫للظالم َ‬
‫ط َر الس َّْو ِء أَ َفلَ ْم‬
‫ت َم َ‬ ‫ض َر ْبَنا لَهُ اأْل َْمثَا َل َو ُكاًّل تَب َّْرَنا تَتْبِ ًيرا (‪َ )39‬ولَقَ ْد أَتَ ْوا َعلَى اْلقَ ْرَي ِة الَّتِي أ ُْم ِط َر ْ‬
‫َ‬
‫ورا (‪)40‬‬
‫ون ُن ُش ً‬
‫ونوا َي َر ْوَنهَا َب ْل َك ُانوا اَل َي ْر ُج َ‬
‫َي ُك ُ‬
‫ون َو ِز ًيرا * فَ ُقْلَنا ا ْذ َهَبا ِإلَى اْلقَ ْوِم‬ ‫ِ‬
‫َخاهُ َه ُار َ‬ ‫اب َو َج َعْلَنا َم َعهُ أ َ‬
‫وسى اْلكتَ َ‬ ‫{ ‪َ { } 40 - 35‬ولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ‬
‫اس َآيةً‬‫اه ْم ِل َّلن ِ‬ ‫اه ْم َو َج َعْلَن ُ‬
‫َغ َر ْقَن ُ‬‫الر ُس َل أ ْ‬‫وح لَ َّما َك َّذُبوا ُّ‬
‫اه ْم تَ ْد ِم ًيرا * َوقَ ْو َم ُن ٍ‬
‫ين َك َّذُبوا بِ َآياتَِنا فَ َد َّم ْرَن ُ‬ ‫َِّ‬
‫الذ َ‬
‫ك َكثِ ًيرا * َو ُكال‬ ‫ونا َب ْي َن َذِل َ‬
‫الر ِّس َوقُُر ً‬ ‫اب َّ‬ ‫ِ‬ ‫وأ ْ ِ َّ ِ ِ‬
‫َص َح َ‬ ‫ود َوأ ْ‬ ‫ادا َوثَ ُم َ‬
‫يما * َو َع ً‬ ‫ين َع َذ ًابا أَل ً‬ ‫َعتَ ْدَنا للظالم َ‬ ‫َ‬
‫ونوا‬ ‫ط َر الس َّْو ِء أَ َفلَ ْم َي ُك ُ‬‫ت َم َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫األمثَا َل َو ُكال تَب َّْرَنا تَتْبِ ًيرا * َولَقَ ْد أَتَ ْوا َعلَى اْلقَ ْرَية التي أ ُْمط َر ْ‬ ‫ض َر ْبَنا لَهُ ْ‬ ‫َ‬
‫ورا } ‪.‬‬
‫ون ُن ُش ً‬
‫َي َر ْوَنهَا َب ْل َك ُانوا ال َي ْر ُج َ‬
‫أشار تعالى إلى هذه القصص وقد بسطها في آيات أخر ليحذر المخاطبين من استمرارهم على‬
‫تكذيب رسولهم فيصيبهم ما أصاب هؤالء األمم الذين قريبا منهم ويعرفون قصصهم بما استفاض‬
‫واشتهر عنهم‪.‬‬
‫ومنهم من يرون آثارهم عيانا كقوم صالح في الحجر وكالقرية التي أمطرت مطر السوء بحجارة‬
‫من سجيل يمرون عليهم مصبحين وبالليل في أسفارهم‪ ،‬فإن أولئك األمم ليسوا شرا منهم ورسلهم‬
‫اءةٌ ِفي ُّ‬
‫الزُب ِر } ولكن الذي منع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ليسوا خيرا من رسول هؤالء { أَ ُكفَّ ُار ُك ْم َخ ْيٌر م ْن أُولَئ ُك ْم أ َْم لَ ُك ْم َب َر َ‬
‫هؤالء من اإليمان ‪-‬مع ما شاهدوا من اآليات‪ -‬أنهم كانوا ال يرجون بعثا وال نشورا‪ ،‬فال يرجون‬
‫لقاء ربهم وال يخشون نكاله فلذلك استمروا على عنادهم‪ ،‬وإ ال فقد جاءهم من اآليات ما ال يبقي‬
‫معه شك وال شبهة وال إشكال وال ارتياب‪.‬‬

‫( ‪)1/583‬‬

‫ضلَُّنا َع ْن آَِلهَتَِنا لَ ْواَل‬


‫اد لَي ِ‬ ‫َه َذا الَِّذي بع َ َّ‬
‫ث اللهُ َر ُسواًل (‪ِ )41‬إ ْن َك َ ُ‬ ‫ََ‬ ‫ك ِإاَّل ُه ُز ًوا أ َ‬ ‫ك ِإ ْن َيتَّ ِخ ُذ َ‬
‫ون َ‬ ‫َوإِ َذا َرأ َْو َ‬
‫َض ُّل َسبِياًل (‪ )42‬أ ََرأ َْي َ‬ ‫ف يعلَم ِ‬
‫ت َم ِن اتَّ َخ َذ ِإلَهَهُ‬ ‫اب َم ْن أ َ‬
‫ين َي َر ْو َن اْل َع َذ َ‬
‫ون ح َ‬ ‫صَب ْرَنا َعلَْيهَا َو َس ْو َ َ ْ ُ َ‬ ‫َن َ‬ ‫أْ‬
‫ون َعلَْي ِه َو ِكياًل (‪)43‬‬ ‫ت تَ ُك ُ‬ ‫َه َواهُ أَفَأ َْن َ‬

‫ضلَُّنا‬
‫اد لَي ِ‬
‫ث اللهُ َر ُسوال * ِإ ْن َك َ ُ‬
‫َه َذا الَِّذي بع َ َّ‬
‫ََ‬ ‫ك ِإال ُه ُز ًوا أ َ‬ ‫ك ِإ ْن َيتَّ ِخ ُذ َ‬
‫ون َ‬ ‫{ ‪َ { } 44 - 41‬وإِ َذا َرأ َْو َ‬
‫ف يعلَم ِ‬
‫ت َم ِن‬ ‫َض ُّل َسبِيال * أ ََرأ َْي َ‬
‫اب َم ْن أ َ‬
‫ين َي َر ْو َن اْل َع َذ َ‬
‫ون ح َ‬ ‫صَب ْرَنا َعلَْيهَا َو َس ْو َ َ ْ ُ َ‬ ‫َن َ‬ ‫َع ْن ِآلهَتَِنا لَ ْوال أ ْ‬
‫ون َعلَْي ِه َو ِكيال } ‪.‬‬ ‫ت تَ ُك ُ‬ ‫اتَّ َخ َذ ِإلَهَهُ َه َواهُ أَفَأ َْن َ‬
‫أي‪ :‬وإ ذا رآك يا محمد هؤالء المكذبون لك المعاندون آليات [اهلل] (‪ )1‬المستكبرون في األرض‬
‫ث اللَّهُ َر ُسوال‬
‫َه َذا الَِّذي َب َع َ‬
‫استهزءوا بك واحتقروك وقالوا ‪-‬على وجه االحتقار واالستصغار‪ { -‬أ َ‬
‫} أي‪ :‬غير مناسب وال الئق أن يبعث اهلل هذا الرجل‪ ،‬وهذا من شدة ظلمهم وعنادهم وقلبهم‬
‫الحقائق فإن كالمهم هذا يفهم أن الرسول ‪-‬حاشاه‪ -‬في غاية الخسة والحقارة وأنه لو كانت‬
‫الرسالة لغيره لكان أنسب‪.‬‬
‫آن َعلَى َر ُج ٍل ِم َن اْلقَ ْرَيتَْي ِن َع ِظ ٍيم } فهذا الكالم ال يصدر إال من أجهل‬
‫{ َوقَالُوا لَ ْوال نز َل َه َذا اْلقُْر ُ‬
‫الناس وأضلهم‪ ،‬أو من أعظمهم عنادا وهو متجاهل‪ ،‬قصده ترويج ما معه من الباطل بالقدح‬
‫بالحق وبمن جاء به‪ ،‬وإ ال فمن تدبر أحوال محمد بن عبد اهلل صلى اهلل عليه وسلم وجده رجل‬
‫العالم وهمامهم ومقدمهم في العقل والعلم واللب والرزانة‪ ،‬ومكارم األخالق ومحاسن الشيم والعفة‬
‫والشجاعة والكرم وكل خلق فاضل‪ ،‬وأن المحتقر له والشانئ له قد جمع من السفه والجهل‬
‫والضالل والتناقض والظلم والعدوان ما ال يجمعه غيره‪ ،‬وحسبه جهال وضالال أن يقدح بهذا‬
‫الرسول العظيم والهمام الكريم‪.‬‬
‫والقصد من قدحهم فيه واستهزائهم به تصلبهم على باطلهم وغرورا لضعفاء العقول (‪ )2‬ولهذا‬
‫ضلَُّنا َع ْن ِآلهَتَِنا } بأن يجعل اآللهة إلها واحدا { لَ ْوال أ ْ‬
‫صَب ْرَنا‬ ‫اد } هذا الرجل { لَي ِ‬
‫قالوا‪ِ { :‬إ ْن َك َ‬
‫َن َ‬ ‫ُ‬
‫َعلَْيهَا } ألضلنا زعموا ‪-‬قبحهم اهلل‪ -‬أن الضالل هو التوحيد وأن الهدى ما هم عليه من الشرك‬
‫اصبِ ُروا َعلَى ِآلهَتِ ُك ْم }‪.‬‬
‫ام ُشوا َو ْ‬ ‫ق اْل َمأل ِم ْنهُ ْم أ ِ‬
‫َن ْ‬ ‫طلَ َ‬
‫فلهذا تواصوا بالصبر عليه‪َ { .‬و ْان َ‬
‫[ ص ‪] 584‬‬
‫صَب ْرَنا َعلَْيهَا } والصبر يحمد في المواضع كلها‪ ،‬إال في هذا الموضع فإنه‬
‫َن َ‬
‫وهنا قالوا‪ { :‬لَ ْوال أ ْ‬
‫صبر على أسباب الغضب وعلى االستكثار من حطب جهنم‪ .‬وأما المؤمنون فهم كما قال اهلل‬
‫َّب ِر } ولما كان هذا حكما منهم بأنهم المهتدون والرسول‬ ‫اص ْوا بِالص ْ‬ ‫اص ْوا بِاْل َح ِّ‬
‫ق َوتََو َ‬ ‫عنهم‪َ { :‬وتََو َ‬
‫ين َي َر ْو َن‬ ‫ِ‬
‫ضال وقد تقرر أنهم ال حيلة فيهم توعدهم بالعذاب وأخبر أنهم في ذلك الوقت { ح َ‬
‫ض الظَّ ِال ُم َعلَى َي َد ْي ِه َيقُو ُل َيا‬
‫َض ُّل َسبِيال } { َوَي ْو َم َي َع ُّ‬
‫اب } يعلمون علما حقيقيا { َم ْن } هو { أ َ‬ ‫اْل َع َذ َ‬
‫ول َسبِيال } اآليات‪.‬‬ ‫الرس ِ‬
‫ت َم َع َّ ُ‬ ‫لَْيتَنِي اتَّ َخ ْذ ُ‬
‫ت َم ِن اتَّ َخ َذ‬ ‫وهل فوق ضالل من جعل إلهه معبوده [هواه] (‪ )3‬فما هويه فعله فلهذا قال‪ { :‬أ ََرأ َْي َ‬
‫ِإلَهَهُ َه َواهُ } أال تعجب من حاله وتنظر ما هو فيه من الضالل؟ وهو يحكم لنفسه بالمنازل‬
‫الرفيعة؟‬
‫ون َعلَْي ِه َو ِكيال } أي‪ :‬لست عليه بمسيطر مسلط بل إنما أنت منذر‪ ،‬وقد قمت بوظيفتك‬
‫ت تَ ُك ُ‬
‫{ أَفَأ َْن َ‬
‫وحسابه على اهلل‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة مني يقتضيها السياق‪.‬‬
‫(‪ )2‬المراد‪( :‬وتغريرا بضعفاء العقول)‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة مني يقتضيها السياق مع العلم أن كلمة هواه كتبت في ب بدال عن معبوده ثم شطبت‪.‬‬

‫( ‪)1/583‬‬
‫ِ‬
‫ون ِإ ْن ُه ْم ِإاَّل َكاأْل َْن َع ِام َب ْل ُه ْم أ َ‬
‫َض ُّل َسبِياًل (‪)44‬‬ ‫ون أ َْو َي ْعقلُ َ‬ ‫ب أ َّ‬
‫َن أَ ْكثََر ُه ْم َي ْس َم ُع َ‬ ‫أ َْم تَ ْح َس ُ‬

‫ِ‬
‫األن َع ِام َب ْل ُه ْم أ َ‬
‫َض ُّل َسبِيال } ‪.‬‬ ‫ون ِإ ْن ُه ْم ِإال َك ْ‬
‫ون أ َْو َي ْعقلُ َ‬ ‫ب أ َّ‬
‫َن أَ ْكثََر ُه ْم َي ْس َم ُع َ‬ ‫{ أ َْم تَ ْح َس ُ‬
‫ثم سجل تعالى على ضاللهم البليغ بأن سلبهم العقول واألسماع وشبههم في ضاللهم باألنعام‬
‫السائمة التي ال تسمع إال دعاء ونداء‪ ،‬صم بكم عمي فهم ال يعقلون بل هم أضل من األنعام ألن‬
‫األنعام يهديها راعيها فتهتدي وتعرف طريق هالكها فتجتنبه وهي أيضا أسلم عاقبة من هؤالء‪،‬‬
‫فتبين بهذا أن الرامي للرسول بالضالل أحق بهذا الوصف وأن كل حيوان بهيم فهو أهدى منه‪.‬‬

‫( ‪)1/584‬‬

‫الش ْم َس َعلَْي ِه َدِلياًل (‪ )45‬ثَُّم قََب ْ‬ ‫ف م َّد الظِّ َّل ولَو َشاء لَجعلَه س ِ‬
‫اكًنا ثَُّم َج َعْلَنا َّ‬ ‫أَلَ ْم تََر ِإلَى َرب َ‬
‫ضَناهُ‬ ‫َ ْ َ ََ ُ َ‬ ‫ِّك َك ْي َ َ‬
‫ضا َي ِس ًيرا (‪)46‬‬
‫ِإلَْيَنا قَْب ً‬

‫الش ْم َس َعلَْي ِه َدِليال‬ ‫ف م َّد الظِّ َّل ولَو َشاء لَجعلَه س ِ‬


‫اكًنا ثَُّم َج َعْلَنا َّ‬ ‫{ ‪ { } 46 - 45‬أَلَ ْم تََر ِإلَى َرب َ‬
‫َ ْ َ ََ ُ َ‬ ‫ِّك َك ْي َ َ‬
‫ضا َي ِس ًيرا } ‪.‬‬‫ضَناهُ ِإلَْيَنا قَْب ً‬ ‫* ثَُّم قََب ْ‬
‫أي‪ :‬ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك كمال قدرة ربك وسعة رحمته‪ ،‬أنه مد على العباد الظل وذلك‬
‫الش ْم َس َعلَْي ِه } أي‪ :‬على الظل { َدِليال } فلوال وجود الشمس لما‬ ‫قبل طلوع الشمس { ثَُّم َج َعْلَنا َّ‬
‫عرف الظل فإن الضد يعرف بضده‪.‬‬
‫ضا َي ِس ًيرا } فكلما ارتفعت الشمس تقلص الظل شيئا فشيئا‪ ،‬حتى يذهب بالكلية‬ ‫ضَناهُ ِإلَْيَنا قَْب ً‬‫{ ثَُّم قََب ْ‬
‫فتوالي الظل والشمس على الخلق الذي يشاهدونه عيانا وما يترتب على ذلك من اختالف الليل‬
‫والنهار وتعاقبهما وتعاقب الفصول‪ ،‬وحصول المصالح الكثيرة بسبب ذلك‪ -‬من أدل دليل على‬
‫قدرة اهلل وعظمته وكمال رحمته وعنايته بعباده وأنه وحده المعبود المحمود المحبوب المعظم‪ ،‬ذو‬
‫الجالل واإلكرام‪.‬‬

‫( ‪)1/584‬‬

‫ورا (‪)47‬‬ ‫الن ْو َم ُسَباتًا َو َج َع َل َّ‬


‫اسا َو َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َِّ‬
‫النهَ َار ُن ُش ً‬ ‫َو ُه َو الذي َج َع َل لَ ُك ُم اللْي َل لَب ً‬
‫ورا } ‪.‬‬ ‫الن ْو َم ُسَباتًا َو َج َع َل َّ‬
‫اسا َو َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َِّ‬
‫النهَ َار ُن ُش ً‬ ‫{ ‪َ { } 47‬و ُه َو الذي َج َع َل لَ ُك ُم اللْي َل لَب ً‬
‫أي‪ :‬من رحمته بكم ولطفه أن جعل الليل لكم بمنزلة اللباس الذي يغشاكم‪ ،‬حتى تستقروا فيه‬
‫وتهدؤوا بالنوم وتسبت حركاتكم أي‪ :‬تنقطع عند النوم‪ ،‬فلوال الليل لما سكن العباد وال استمروا في‬
‫تصرفهم فضرهم ذلك غاية الضرر‪ ،‬ولو استمر أيضا الظالم لتعطلت عليهم معايشهم‬
‫ومصالحهم‪ ،‬ولكنه جعل النهار نشورا ينتشرون فيه لتجاراتهم وأسفارهم وأعمالهم فيقوم بذلك ما‬
‫يقوم من المصالح‪.‬‬

‫( ‪)1/584‬‬

‫ورا (‪ِ )48‬لُن ْحيِ َي بِ ِه َبْل َدةً‬ ‫طهُ ً‬ ‫اء َ‬ ‫الرياح ب ْشرا ب ْين ي َدي ر ْحمتِ ِه وأ َْن َزْلَنا ِمن الس ِ‬
‫َّماء َم ً‬ ‫َ َ‬ ‫َو ُه َو الذي أ َْر َس َل ِّ َ َ ُ ً َ َ َ ْ َ َ َ‬
‫َِّ‬
‫اس ِإاَّل‬
‫الن ِ‬ ‫ص َّر ْفَناهُ َب ْيَنهُ ْم ِلَي َّذ َّك ُروا فَأََبى أَ ْكثَُر َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫اما َوأََناس َّي َكث ًيرا (‪َ )49‬ولَقَ ْد َ‬
‫ِ ِ‬
‫َم ْيتًا َوُن ْسقَيهُ م َّما َخلَ ْقَنا أ َْن َع ً‬
‫ورا (‪)50‬‬
‫ُكفُ ً‬

‫ورا *‬ ‫الرياح ب ْشرا ب ْين ي َدي ر ْحمتِ ِه وأ َْن َزْلَنا ِمن الس ِ‬ ‫َِّ‬
‫طهُ ً‬
‫اء َ‬ ‫َّماء َم ً‬ ‫َ َ‬ ‫{ ‪َ { } 50 - 48‬و ُه َو الذي أ َْر َس َل ِّ َ َ ُ ً َ َ َ ْ َ َ َ‬
‫ص َّر ْفَناهُ َب ْيَنهُ ْم ِلَي َّذ َّك ُروا فَأََبى أَ ْكثَُر‬ ‫ِ ِ‬
‫اما َوأََناس َّي َكث ًيرا * َولَقَ ْد َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫لُن ْحي َي به َبْل َدةً َم ْيتًا َوُن ْسقَيهُ م َّما َخلَ ْقَنا أ َْن َع ً‬
‫ورا } ‪.‬‬ ‫اس ِإال ُكفُ ً‬ ‫الن ِ‬
‫َّ‬
‫أي‪ :‬هو وحده الذي رحم عباده وأدر عليهم رزقه بأن أرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته‬
‫وهو المطر فثار بها السحاب وتألف وصار كسفا وألقحته وأدرته بإذن آمرها والمتصرف فيها‬
‫ليقع استبشار العباد بالمطر قبل نزوله وليستعدوا له قبل أن يفاجئهم دفعة واحدة‪.‬‬
‫ورا } يطهر من الحدث والخبث ويطهر من الغش واألدناس‪ ،‬وفيه‬ ‫{ وأَنزْلَنا ِمن الس ِ‬
‫طهُ ً‬ ‫اء َ‬
‫َّماء َم ً‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫بركة من بركته أنه أنزله ليحيي به بلدة ميتا فتختلف أصناف النوابت واألشجار فيها مما يأكل‬
‫اس َّي َكثِ ًيرا } أي‪ :‬نسقيكموه أنتم وأنعامكم‪ ،‬أليس‬
‫الناس واألنعام‪ { .‬وُنس ِقيه ِم َّما َخلَ ْقَنا أ َْنعاما وأََن ِ‬
‫ًَ َ‬ ‫َ ْ َُ‬
‫الذي أرسل الرياح المبشرات وجعلها في عملها متنوعات‪ ،‬وأنزل من السماء ماء طهورا مباركا‬
‫فيه رزق العباد ورزق بهائمهم‪ ،‬هو الذي يستحق أن يعبد وحده وال يشرك معه غيره؟‬
‫ولما ذكر تعالى هذه اآليات العيانية المشاهدة وصرفها للعباد ليعرفوه ويشكروه ويذكروه مع ذلك‬
‫أبي أكثر الخلق إال كفورا‪ ،‬لفساد أخالقهم وطبائعهم‪.‬‬

‫( ‪)1/584‬‬
‫اه ْد ُه ْم بِ ِه ِجهَ ً‬
‫ادا َكبِ ًيرا (‪)52‬‬ ‫ولَو ِش ْئَنا لَبعثَْنا ِفي ُك ِّل قَري ٍة َن ِذيرا (‪ )51‬فَاَل تُ ِط ِع اْل َك ِاف ِرين وج ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ً‬ ‫َْ‬ ‫ََ‬ ‫َ ْ‬

‫اه ْد ُه ْم بِ ِه ِجهَ ً‬
‫ادا َكبِ ًيرا‬ ‫{ ‪ { } 52 - 51‬ولَو ِش ْئَنا لَبعثَْنا ِفي ُك ِّل قَري ٍة َن ِذيرا * فَال تُ ِط ِع اْل َك ِاف ِرين وج ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ً‬ ‫َْ‬ ‫ََ‬ ‫َ ْ‬
‫}‪.‬‬
‫يخبر تعالى عن نفوذ مشيئته وأنه لو شاء لبعث في كل قرية نذيرا‪ ،‬أي‪ :‬رسوال ينذرهم ويحذرهم‬
‫فمشيئته غير قاصرة عن ذلك‪ ،‬ولكن اقتضت حكمته ورحمته بك وبالعباد ‪-‬يا محمد‪ -‬أن أرسلك‬
‫إلى جميعهم أحمرهم وأسودهم عربيهم وعجميهم إنسهم وجنهم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } في ترك شيء مما أرسلت [ ص ‪ ] 585‬به بل ابذل جهدك في تبليغ ما‬ ‫{ فَال تُط ِع اْل َكاف ِر َ‬
‫أرسلت به‪ { .‬وج ِ‬
‫اه ْد ُه ْم } بالقرآن { ِجهَ ً‬
‫ادا َكبِ ًيرا } أي‪ :‬ال تبق من مجهودك في نصر الحق وقمع‬ ‫َ َ‬
‫الباطل إال بذلته ولو رأيت منهم من التكذيب والجراءة ما رأيت فابذل جهدك واستفرغ وسعك‪،‬‬
‫وال تيأس من هدايتهم وال تترك إبالغهم ألهوائهم‪.‬‬

‫( ‪)1/584‬‬

‫ورا (‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َو ُه َو الَِّذي َم َر َج اْلَب ْح َر ْي ِن َه َذا َع ْذ ٌ‬


‫اج َو َج َع َل َب ْيَنهُ َما َب ْر َز ًخا َوح ْج ًرا َم ْح ُج ً‬
‫ُج ٌ‬
‫ات َو َه َذا مْل ٌح أ َ‬
‫ب فَُر ٌ‬
‫‪)53‬‬

‫اج َو َج َع َل َب ْيَنهُ َما َب ْر َز ًخا َو ِح ْج ًرا‬


‫ُج ٌ‬ ‫ِ‬
‫ات َو َه َذا مْل ٌح أ َ‬ ‫{ ‪َ { } 53‬و ُه َو الَِّذي َم َر َج اْلَب ْح َر ْي ِن َه َذا َع ْذ ٌ‬
‫ب فَُر ٌ‬
‫ورا } ‪.‬‬
‫َم ْح ُج ً‬
‫أي‪ :‬وهو وحده الذي مرج البحرين يلتقيان البحر العذب وهي األنهار السارحة على وجه األرض‬
‫والبحر الملح وجعل منفعة كل واحد منهما مصلحة للعباد‪َ { ،‬و َج َع َل َب ْيَنهُ َما َب ْر َز ًخا } أي‪ :‬حاجزا‬
‫ورا } أي‪ :‬حاجزا‬ ‫ِ‬
‫يحجز من اختالط أحدهما باآلخر فتذهب المنفعة المقصودة منها { َوح ْج ًرا َم ْح ُج ً‬
‫حصينا‪.‬‬

‫( ‪)1/585‬‬

‫ك قَِد ًيرا (‪)54‬‬


‫ان َرُّب َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫و ُهو الَِّذي َخلَ َ ِ‬
‫ق م َن اْل َماء َب َش ًرا فَ َج َعلَهُ َن َسًبا َوص ْه ًرا َو َك َ‬ ‫َ َ‬
‫ُّك قَِد ًيرا } ‪.‬‬
‫ان َرب َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 54‬و ُهو الَِّذي َخلَ َ ِ‬
‫ق م َن اْل َماء َب َش ًرا فَ َج َعلَهُ َن َسًبا َوص ْه ًرا َو َك َ‬ ‫َ َ‬
‫أي‪ :‬وهو اهلل وحده ال شريك له الذي خلق اآلدمي من ماء مهين‪ ،‬ثم نشر منه ذرية كثيرة وجعلهم‬
‫أنسابا وأصهارا متفرقين ومجتمعين‪ ،‬والمادة كلها من ذلك الماء المهين‪ ،‬فهذا يدل على كمال‬
‫ك قَِد ًيرا } ويدل على أن عبادته هي الحق وعبادة غيره باطلة لقوله‪:‬‬
‫ان َرُّب َ‬
‫اقتداره لقوله‪َ { :‬و َك َ‬

‫( ‪)1/585‬‬

‫ظ ِه ًيرا (‪)55‬‬ ‫ون اللَّ ِه ما اَل ي ْنفَعهم واَل يض ُّر ُهم و َكان اْل َك ِافر علَى رب ِ‬
‫ِّه َ‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬
‫ُ َ َ‬ ‫َ َ ُ ُْ َ َ ُ ْ َ َ‬ ‫َوَي ْعُب ُد َ‬

‫ظ ِه ًيرا } ‪.‬‬ ‫ون اللَّ ِه ما ال ي ْنفَعهم وال يض ُّر ُهم و َكان اْل َك ِافر علَى رب ِ‬
‫ِّه َ‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬
‫ُ َ َ‬ ‫َ َ ُ ُْ َ َ ُ ْ َ َ‬ ‫{ ‪َ { } 55‬وَي ْعُب ُد َ‬
‫أي‪ :‬يعبدون أصناما وأمواتا ال تضر وال تنفع ويجعلونها أندادا لمالك النفع والضرر والعطاء‬
‫والمنع مع أن الواجب عليهم أن يكونوا مقتدين بإرشادات ربهم ذابين عن دينه‪ ،‬ولكنهم عكسوا‬
‫القضية‪.‬‬
‫ظ ِه ًيرا } فالباطل الذي هو األوثان واألنداد أعداء هلل‪ ،‬فالكافر عاونها‬ ‫{ و َكان اْل َك ِافر علَى رب ِ‬
‫ِّه َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫وظاهرها على ربها وصار عدوا لربه مبارزا له في العداوة والحرب‪ ،‬هذا وهو الذي خلقه‬
‫ورزقه وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة‪ ،‬وليس يخرج عن ملكه وسلطانه وقبضته واهلل لم‬
‫يقطع عنه إحسانه وبره وهو ‪-‬بجهله‪ -‬مستمر على هذه المعاداة والمبارزة‪.‬‬

‫( ‪)1/585‬‬

‫َن يتَّ ِخ َذ ِإلَى رب ِ‬ ‫ك ِإاَّل مَب ِّشرا وَن ِذيرا (‪ُ )56‬ق ْل ما أَسأَلُ ُكم َعلَْي ِه ِم ْن أ ْ اَّل‬
‫ِّه‬ ‫َ‬ ‫اء أ ْ َ‬‫َج ٍر ِإ َم ْن َش َ‬ ‫َ ْ ْ‬ ‫َو َما أ َْر َسْلَنا َ ُ ً َ ً‬
‫وب ِعَب ِاد ِه َخبِ ًيرا (‪)58‬‬ ‫ِّح بِ َحم ِد ِه و َكفَى بِ ِه بِ ُذُن ِ‬
‫وت َو َسب ْ ْ َ‬ ‫َسبِياًل (‪َ )57‬وتََو َّك ْل َعلَى اْل َح ِّي الَِّذي اَل َي ُم ُ‬
‫َل بِ ِه‬
‫اسأ ْ‬
‫الر ْح َم ُن فَ ْ‬‫ش َّ‬ ‫استَوى َعلَى اْل َع ْر ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ ٍ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما في ستة أَيَّام ثَُّم ْ َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َواأْل َْر َ‬ ‫الَِّذي َخلَ َ‬
‫ق الس َ‬
‫ِ‬ ‫اس ُج ُدوا ِل َّلر ْح َم ِن قَالُوا َو َما َّ‬ ‫ِ‬
‫ورا (‬ ‫ْم ُرَنا َو َز َاد ُه ْم ُنفُ ً‬
‫الر ْح َم ُن أََن ْس ُج ُد ل َما تَأ ُ‬ ‫َخبِ ًيرا (‪َ )59‬وإِ َذا قي َل لَهُ ُم ْ‬
‫‪)60‬‬

‫َن‬ ‫َج ٍر ِإال َم ْن َش َ‬


‫اء أ ْ‬ ‫َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه ِم ْن أ ْ‬ ‫ِ‬
‫ك ِإال ُمَب ِّش ًرا َوَنذ ًيرا * ُق ْل َما أ ْ‬
‫{ ‪َ { } 60 - 56‬و َما أ َْر َسْلَنا َ‬
‫وب ِعَب ِاد ِه َخبِ ًيرا‬
‫ِّح بِ َحم ِد ِه و َكفَى بِ ِه بِ ُذُن ِ‬
‫وت َو َسب ْ ْ َ‬ ‫ِّه َسبِيال * َوتََو َّك ْل َعلَى اْل َح ِّي الَِّذي ال َي ُم ُ‬ ‫يتَّ ِخ َذ ِإلَى رب ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َل بِ ِه‬
‫اسأ ْ‬
‫الر ْح َم ُن فَ ْ‬
‫ش َّ‬ ‫استَوى َعلَى اْل َع ْر ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ ٍ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما في ستة أَيَّام ثَُّم ْ َ‬ ‫األر َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ق الس َ‬‫* الَِّذي َخلَ َ‬
‫ِ‬ ‫اس ُج ُدوا ِل َّلر ْح َم ِن قَالُوا َو َما َّ‬ ‫ِ‬
‫ورا } ‪.‬‬
‫ْم ُرَنا َو َز َاد ُه ْم ُنفُ ً‬
‫الر ْح َم ُن أََن ْس ُج ُد ل َما تَأ ُ‬ ‫َخبِ ًيرا * َوإِ َذا قي َل لَهُ ُم ْ‬
‫يخبر تعالى‪ :‬أنه ما أرسل رسوله محمدا صلى اهلل عليه وسلم مسيطرا على الخلق وال جعله ملكا‬
‫وال عنده خزائن األشياء‪ ،‬وإ نما أرسله { ُمَب ِّش ًرا } يبشر من أطاع اهلل بالثواب العاجل واآلجل‪،‬‬
‫{ َوَن ِذ ًيرا } ينذر من عصى اهلل بالعقاب العاجل واآلجل وذلك مستلزم لتبيين ما به البشارة وما‬
‫تحصل به النذارة من األوامر والنواهي‪ ،‬وإ نك ‪-‬يا محمد‪ -‬ال تسألهم على إبالغهم القرآن والهدى‬
‫َن يتَّ ِخ َذ ِإلَى رب ِ‬
‫ِّه َسبِيال }‬ ‫َ‬ ‫أجرا حتى يمنعهم ذلك من اتباعك ويتكلفون من الغرامة‪ِ { ،‬إال َم ْن َش َ‬
‫اء أ ْ َ‬
‫أي‪ :‬إال من شاء أن ينفق نفقة في مرضاة ربه وسبيله فهذا وإ ن رغبتكم فيه فلست أجبركم عليه‬
‫وليس أيضا أجرا لي عليكم وإ نما هو راجع لمصلحتكم وسلوككم للسبيل الموصلة إلى ربكم‪ ،‬ثم‬
‫أمره أن يتوكل عليه ويستعين به فقال‪َ { :‬وتََو َّك ْل َعلَى اْل َح ِّي } الذي له الحياة الكاملة المطلقة‬
‫ِّح بِ َح ْم ِد ِه } أي‪ :‬اعبده وتوكل عليه في األمور المتعلقة بك والمتعلقة بالخلق‪.‬‬ ‫{ الَِّذي ال َي ُم ُ‬
‫وت َو َسب ْ‬
‫وب ِعَب ِاد ِه َخبِ ًيرا } يعلمها ويجازي عليها‪.‬‬ ‫{ و َكفَى بِ ِه بِ ُذُن ِ‬
‫َ‬
‫ق‬‫فأنت ليس عليك من هداهم شيء وليس عليك حفظ أعمالهم‪ ،‬وإ نما ذلك كله بيد اهلل { الَِّذي َخلَ َ‬
‫ش } الذي هو سقف‬ ‫استَوى } بعد ذلك { َعلَى اْل َع ْر ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما في ستة أَيَّام ثَُّم ْ َ‬ ‫األر َ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫الس َ‬
‫الر ْح َم ُن } استوى على عرشه الذي وسع السماوات‬
‫المخلوقات وأعالها وأوسعها وأجملها { َّ‬
‫واألرض باسمه الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء فاستوى على أوسع المخلوقات‪ ،‬بأوسع‬
‫الصفات‪ .‬فأثبت بهذه اآلية خلقه للمخلوقات واطالعه على ظاهرهم وباطنهم وعلوه فوق العرش‬
‫ومباينته إياهم‪.‬‬
‫َل بِ ِه َخبِ ًيرا } يعني بذلك نفسه الكريمة فهو الذي يعلم أوصافه وعظمته وجالله‪ ،‬وقد‬ ‫اسأ ْ‬
‫{ فَ ْ‬
‫أخبركم بذلك وأبان لكم من عظمته ما تستعدون به من معرفته فعرفه العارفون وخضعوا لجالله‪،‬‬
‫اس ُج ُدوا ِل َّلر ْح َم ِن }‬ ‫واستكبر عن عبادته الكافرون واستنكفوا عن ذلك ولهذا قال‪َ { :‬وإِ َذا ِق َ‬
‫يل لَهُ ُم ْ‬
‫أي‪ :‬وحده الذي أنعم عليكم بسائر النعم ودفع عنكم جميع النقم‪ { .‬قَالُوا } جحدا وكفرا { َو َما‬
‫الر ْح َم ُن } بزعمهم الفاسد أنهم ال يعرفون الرحمن‪ ،‬وجعلوا من جملة قوادحهم في الرسول أن‬ ‫َّ‬
‫قالوا‪ :‬ينهانا عن اتخاذ آلهة مع اهلل وهو يدعو معه إلها آخر يقول‪ " :‬يا رحمن " ونحو ذلك كما‬
‫اء اْل ُح ْسَنى } فأسماؤه تعالى‬
‫األس َم ُ‬ ‫قال تعالى‪ُ { :‬ق ِل ْاد ُعوا اللَّهَ أ َِو ْاد ُعوا َّ‬
‫الر ْح َم َن أَيًّا َما تَ ْد ُعوا َفلَهُ ْ‬
‫كثيرة لكثرة أوصافه وتعدد كماله‪ [ ،‬ص ‪ ] 586‬فكل واحد منها دل على صفة كمال‪.‬‬
‫ْم ُرَنا } أي‪ :‬لمجرد أمرك إيانا‪ .‬وهذا مبني منهم على التكذيب بالرسول واستكبارهم‬ ‫ِ‬
‫{ أََن ْس ُج ُد ل َما تَأ ُ‬
‫ورا } هربا من الحق إلى الباطل وزيادة‬ ‫عن طاعته‪َ { ،‬و َز َاد ُه ْم } دعوتهم إلى السجود للرحمن { ُنفُ ً‬
‫كفر وشقاء‪.‬‬

‫( ‪)1/585‬‬
‫اجا َوقَ َم ًرا ُمنِ ًيرا (‪َ )61‬و ُه َو الَِّذي َج َع َل اللَّْي َل‬ ‫ِ ِ‬
‫وجا َو َج َع َل فيهَا س َر ً‬‫َّماء ُب ُر ً‬
‫ك الَِّذي جع َل ِفي الس ِ‬
‫َ‬ ‫ََ‬ ‫تََب َار َ‬
‫النهار ِخْلفَةً ِلم ْن أَر َاد أ ْ َّ َّ‬
‫ورا (‪)62‬‬ ‫َن َيذك َر أ َْو أ ََر َاد ُش ُك ً‬ ‫َ َ‬ ‫َو َّ َ َ‬

‫اجا َوقَ َم ًرا ُمنِ ًيرا * َو ُه َو‬ ‫ِ ِ‬


‫وجا َو َج َع َل فيهَا س َر ً‬
‫ك الَِّذي جع َل ِفي الس ِ‬
‫َّماء ُب ُر ً‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫{ ‪ { } 62 - 61‬تََب َار َ‬
‫النهار ِخْلفَةً ِلم ْن أَر َاد أ ْ َّ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َِّ‬
‫ورا } ‪.‬‬‫َن َيذك َر أ َْو أ ََر َاد ُش ُك ً‬ ‫َ َ‬ ‫الذي َج َع َل اللْي َل َو َّ َ َ‬
‫ك } ثالث مرات ألن معناها كما تقدم أنها تدل‬ ‫كرر تعالى في هذه السورة الكريمة قوله‪ { :‬تََب َار َ‬
‫على عظمة الباري وكثرة أوصافه‪ ،‬وكثرة خيراته وإ حسانه‪ .‬وهذه السورة فيها من االستدالل‬
‫على عظمته وسعة سلطانه ونفوذ مشيئته وعموم علمه وقدرته وإ حاطة ملكه في األحكام األمرية‬
‫واألحكام الجزائية وكمال حكمته‪ .‬وفيها ما يدل على سعة رحمته وواسع جوده وكثرة خيراته‬
‫ك الَِّذي جع َل ِفي السَّم ِ‬
‫اء‬ ‫الدينية والدنيوية ما هو مقتض لتكرار هذا الوصف الحسن فقال‪ { :‬تََب َار َ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫وجا } وهي النجوم عمومها أو منازل الشمس والقمر التي تنزلها منزلة منزلة وهي بمنزلة‬ ‫ُب ُر ً‬
‫البروج والقالع للمدن في حفظها‪ ،‬كذلك النجوم بمنزلة البروج المجعولة للحراسة فإنها رجوم‬
‫للشياطين‪.‬‬
‫اجا } فيه النور والحرارة وهو الشمس‪َ { .‬وقَ َم ًرا ُمنِ ًيرا } فيه النور ال الحرارة‬ ‫ِ ِ‬
‫{ َو َج َع َل فيهَا س َر ً‬
‫وهذا من أدلة عظمته‪ ،‬وكثرة إحسانه‪ ،‬فإن ما فيها من الخلق الباهر والتدبير المنتظم والجمال‬
‫العظيم دال على عظمة خالقها في أوصافه كلها‪ ،‬وما فيها من المصالح للخلق والمنافع دليل على‬
‫كثرة خيراته‪.‬‬
‫النهَ َار ِخْلفَةً } أي‪ :‬يذهب أحدهما فيخلفه اآلخر‪ ،‬هكذا أبدا ال يجتمعان وال‬ ‫{ َو ُه َو الَِّذي َج َع َل اللَّْي َل َو َّ‬
‫ورا } أي‪ :‬لمن أراد أن يتذكر بهما ويعتبر ويستدل بهما‬ ‫يرتفعان‪ِ { ،‬لم ْن أَر َاد أ ْ َّ َّ‬
‫َن َيذك َر أ َْو أ ََر َاد ُش ُك ً‬ ‫َ َ‬
‫على كثير من المطالب اإللهية ويشكر اهلل على ذلك‪ ،‬ولمن أراد أن يذكر اهلل ويشكره وله ورد من‬
‫الليل أو النهار‪ ،‬فمن فاته ورده من أحدهما أدركه في اآلخر‪ ،‬وأيضا فإن القلوب تتقلب وتنتقل في‬
‫ساعات الليل والنهار فيحدث لها النشاط والكسل والذكر والغفلة والقبض والبسط واإلقبال‬
‫واإلعراض‪ ،‬فجعل اهلل الليل والنهار يتوالى على العباد ويتكرران ليحدث لهم الذكر والنشاط‬
‫والشكر هلل في وقت آخر‪ ،‬وألن أوراد العبادات تتكرر بتكرر الليل والنهار‪ ،‬فكما تكررت األوقات‬
‫أحدث للعبد همة غير همته التي كسلت في الوقت المتقدم فزاد في تذكرها وشكرها‪ ،‬فوظائف‬
‫الطاعات بمنزلة سقي اإليمان الذي يمده فلوال ذلك لذوى غرس اإليمان ويبس‪ .‬فلله أتم حمد‬
‫وأكمله على ذلك‪.‬‬
‫ثم ذكر من جملة كثرة خيره منته على عباده الصالحين وتوفيقهم لألعمال الصالحات التي‬
‫أكسبتهم المنازل العاليات في غرف الجنات فقال‪:‬‬

‫( ‪)1/586‬‬

‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ون َعلَى اأْل َْر ِ‬ ‫َِّ‬ ‫َو ِعَب ُ‬


‫ين‬‫ون قَالُوا َساَل ًما (‪َ )63‬والذ َ‬ ‫طَبهُ ُم اْل َجاهلُ َ‬ ‫ض َه ْوًنا َوإِ َذا َخا َ‬ ‫ين َي ْم ُش َ‬‫الر ْح َم ِن الذ َ‬ ‫اد َّ‬
‫َِّ‬ ‫ون ِل َرِّب ِه ْم ُسج ً ِ‬
‫اب َجهََّن َم ِإ َّن َع َذ َابهَا َك َ‬
‫ان‬ ‫ف َعَّنا َع َذ َ‬ ‫اص ِر ْ‬ ‫ون َربََّنا ْ‬ ‫ين َيقُولُ َ‬ ‫اما (‪َ )64‬والذ َ‬ ‫َّدا َوقَي ً‬ ‫َيبِيتُ َ‬
‫َِّ‬
‫ان َب ْي َن‬ ‫ين ِإ َذا أ َْنفَقُوا لَ ْم ُي ْس ِرفُوا َولَ ْم َي ْقتُُروا َو َك َ‬ ‫اما (‪َ )66‬والذ َ‬ ‫ت ُم ْستَقًَّرا َو ُمقَ ً‬ ‫اما (‪ِ )65‬إَّنهَا َس َ‬
‫اء ْ‬ ‫َغَر ً‬
‫ق َواَل‬ ‫الن ْف َس الَّتِي َح َّر َم اللَّهُ ِإاَّل بِاْل َح ِّ‬
‫ون َّ‬ ‫َخ َر َواَل َي ْقتُلُ َ‬ ‫ون َم َع اللَّ ِه ِإلَهًا آ َ‬ ‫ين اَل َي ْد ُع َ‬
‫َِّ‬
‫اما (‪َ )67‬والذ َ‬ ‫َذِل َ‬
‫ك قَ َو ً‬
‫يه مه ًانا (‪ِ )69‬إاَّل‬ ‫ِِ‬ ‫ف لَه اْلع َذاب يوم اْل ِقي ِ‬ ‫ون َو َم ْن َي ْف َع ْل َذِل َ‬
‫امة َوَي ْخلُ ْد ف ُ َ‬ ‫اع ْ ُ َ ُ َ ْ َ َ َ‬ ‫ض َ‬ ‫اما (‪ُ )68‬ي َ‬ ‫ق أَثَ ً‬ ‫ك َيْل َ‬ ‫َي ْزُن َ‬
‫ِ‬ ‫ات و َك َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ص ِال ًحا فَأُولَئِ َ‬ ‫ِ‬
‫يما (‬ ‫ورا َرح ً‬ ‫ان اللهُ َغفُ ً‬ ‫ك ُيَب ِّد ُل اللهُ َسيَِّئات ِه ْم َح َسَن َ َ‬ ‫َم َن َو َعم َل َع َماًل َ‬ ‫اب َوآ َ‬‫َم ْن تَ َ‬
‫َِّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫‪ )70‬وم ْن تَاب وع ِم َل ِ‬
‫ور َوإِ َذا َم ُّروا‬ ‫الز َ‬ ‫ون ُّ‬ ‫ين اَل َي ْشهَ ُد َ‬ ‫وب ِإلَى الله َمتَ ًابا (‪َ )71‬والذ َ‬ ‫صال ًحا فَِإَّنهُ َيتُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫ص ًّما َو ُع ْمَي ًانا (‪)73‬‬ ‫ين ِإ َذا ُذك ُروا بِآََيات َرِّب ِه ْم لَ ْم َيخ ُّروا َعلَْيهَا ُ‬ ‫اما (‪َ )72‬والذ َ‬ ‫بالل ْغ ِو َم ُّروا ك َر ً‬
‫ك‬‫اما (‪ )74‬أُولَئِ َ‬ ‫اج َعْلَنا ِلْلمتَِّق َ ِ‬
‫ين إ َم ً‬ ‫ُ‬ ‫َعُي ٍن َو ْ‬ ‫اجَنا َو ُذِّريَّاتَِنا قَُّرةَ أ ْ‬ ‫ب لََنا ِم ْن أ َْزو ِ‬
‫َ‬ ‫ون َربََّنا َه ْ‬ ‫ين َيقُولُ َ‬
‫َِّ‬
‫َوالذ َ‬
‫اما (‬ ‫ت ُم ْستَقًَّرا َو ُمقَ ً‬ ‫ين ِفيهَا َح ُسَن ْ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صَب ُروا َوُيلَقَّ ْو َن فيهَا تَحَّيةً َو َساَل ًما (‪َ )75‬خالد َ‬ ‫ُي ْج َز ْو َن اْل ُغ ْرفَةَ بِ َما َ‬
‫ف ي ُك ِ‬ ‫َّ‬
‫اما (‪)77‬‬ ‫ون ل َز ً‬ ‫اؤ ُك ْم فَقَ ْد َكذ ْبتُ ْم فَ َس ْو َ َ ُ‬ ‫‪ُ )76‬ق ْل َما َي ْعَبأُ بِ ُك ْم َربِّي لَ ْواَل ُد َع ُ‬

‫ِ‬ ‫األر ِ‬ ‫َِّ‬ ‫{ ‪َ { } 77 - 63‬و ِعَب ُ‬


‫ون قَالُوا‬ ‫طَبهُ ُم اْل َجاهلُ َ‬
‫ض َه ْوًنا َوإِ َذا َخا َ‬ ‫ون َعلَى ْ‬ ‫ين َي ْم ُش َ‬‫الر ْح َم ِن الذ َ‬
‫اد َّ‬
‫اب َجهََّن َم ِإ َّن‬ ‫َِّ‬ ‫ون ِل َرِّب ِه ْم ُسج ً ِ‬ ‫َِّ‬
‫ف َعَّنا َع َذ َ‬ ‫اص ِر ْ‬
‫ون َربََّنا ْ‬ ‫ين َيقُولُ َ‬
‫اما * َوالذ َ‬ ‫َّدا َوقَي ً‬ ‫ين َيبِيتُ َ‬
‫الما * َوالذ َ‬ ‫َس ً‬
‫اما } إلى آخر السورة الكريمة‪.‬‬ ‫ت ُم ْستَقًَّرا َو ُمقَ ً‬ ‫اما * ِإَّنهَا َس َ‬
‫اء ْ‬ ‫ان َغ َر ً‬ ‫َع َذ َابهَا َك َ‬
‫العبودية هلل نوعان‪ :‬عبودية لربوبيته فهذه يشترك فيها سائر الخلق مسلمهم وكافرهم‪ ،‬برهم‬
‫الر ْح َم ِن‬‫ض ِإال آتِي َّ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ُّ‬
‫وفاجرهم‪ ،‬فكلهم عبيد هلل مربوبون مدبرون { إ ْن ُكل َم ْن في الس َ‬
‫َعْب ًدا } وعبودية أللوهيته وعبادته ورحمته وهي عبودية أنبيائه وأوليائه وهي المراد هنا ولهذا‬
‫أضافها إلى اسمه " الرحمن " إشارة إلى أنهم إنما وصلوا إلى هذه الحال بسبب رحمته‪ ،‬فذكر أن‬
‫ض َه ْوًنا } أي‪:‬‬ ‫األر ِ‬
‫ون َعلَى ْ‬
‫صفاتهم أكمل الصفات ونعوتهم أفضل النعوت‪ ،‬فوصفهم بأنهم { َي ْم ُش َ‬
‫ساكنين متواضعين هلل والخلق فهذا وصف لهم بالوقار والسكينة والتواضع هلل ولعباده‪َ { .‬وإِ َذا‬
‫الما }‬ ‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬خطاب جهل بدليل إضافة الفعل وإ سناده لهذا الوصف‪ { ،‬قَالُوا َس ً‬ ‫طَبهُ ُم اْل َجاهلُ َ‬
‫َخا َ‬
‫أي‪ :‬خاطبوهم خطابا يسلمون فيه من اإلثم ويسلمون من مقابلة الجاهل بجهله‪ .‬وهذا مدح لهم‪،‬‬
‫بالحلم الكثير ومقابلة المسيء باإلحسان والعفو عن الجاهل ورزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه‬
‫الحال‪.‬‬
‫اما } أي‪ :‬يكثرون من صالة الليل مخلصين فيها لربهم متذللين له‬ ‫ون ِل َرِّب ِه ْم ُسج ً ِ‬ ‫ين َيبِيتُ َ‬
‫َِّ‬
‫َّدا َوقَي ً‬ ‫{ َوالذ َ‬
‫طمعا و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ‬
‫ون‬
‫اه ْم ُي ْنفقُ َ‬ ‫ضا ِج ِع َي ْد ُع َ‬
‫ون َربَّهُ ْم َخ ْوفًا َو َ َ ً َ َ‬ ‫وبهُ ْم َع ِن اْل َم َ‬ ‫كما قال تعالى‪ { :‬تَتَ َجافَى ُجُن ُ‬
‫اء بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫ون }‪.‬‬ ‫ُخ ِف َي لَهُ ْم ِم ْن قَُّر ِة أ ْ‬
‫َعُي ٍن َج َز ً‬ ‫فَال تَ ْعلَ ُم َن ْف ٌس َما أ ْ‬
‫اب َجهََّن َم } أي‪ :‬ادفعه عنا بالعصمة من أسبابه ومغفرة ما‬ ‫اص ِر ْ‬ ‫َِّ‬
‫ف َعَّنا َع َذ َ‬ ‫ون َربََّنا ْ‬ ‫ين َيقُولُ َ‬ ‫{ َوالذ َ‬
‫اما } أي‪ :‬مالزما ألهلها بمنزلة مالزمة‬ ‫ان َغ َر ً‬‫وقع منا مما هو مقتض للعذاب‪ِ { .‬إ َّن َع َذ َابهَا َك َ‬
‫الغريم لغريمه‪.‬‬
‫اما } وهذا منهم على وجه التضرع لربهم‪ ،‬وبيان شدة حاجتهم إليه وأنهم‬
‫ت ُم ْستَقًَّرا َو ُمقَ ً‬ ‫{ ِإَّنهَا َس َ‬
‫اء ْ‬
‫ليس في طاقتهم احتمال هذا العذاب‪ ،‬وليتذكروا منة اهلل عليهم‪ ،‬فإن صرف الشدة بحسب شدتها‬
‫وفظاعتها يعظم وقعها ويشتد الفرح بصرفها‪.‬‬
‫ين ِإ َذا أ َْنفَقُوا } النفقات الواجبة والمستحبة { لَ ْم ُي ْس ِرفُوا } بأن يزيدوا على الحد فيدخلوا في‬ ‫َِّ‬
‫{ َوالذ َ‬
‫ان }‬
‫قسم التبذير وإ همال الحقوق الواجبة‪َ { ،‬ولَ ْم َي ْقتُُروا } فيدخلوا في باب البخل والشح { َو َك َ‬
‫اما } يبذلون في الواجبات من الزكوات والكفارات‬ ‫إنفاقهم { َب ْي َن َذِل َ‬
‫ك } بين اإلسراف والتقتير { قَ َو ً‬
‫والنفقات الواجبة‪ ،‬وفيما ينبغي على الوجه الذي ينبغي من غير ضرر وال ضرار وهذا من عدلهم‬
‫واقتصادهم‪.‬‬

‫( ‪)1/586‬‬

‫[ ص ‪] 587‬‬
‫آخ َر } بل يعبدونه وحده مخلصين له الدين حنفاء مقبلين عليه‬ ‫ون َم َع اللَّ ِه ِإلَهًا َ‬
‫ين ال َي ْد ُع َ‬
‫َِّ‬
‫{ َوالذ َ‬
‫معرضين عما سواه‪.‬‬
‫ق } كقتل النفس‬ ‫الن ْف َس الَّتِي َح َّر َم اللَّهُ } وهي نفس المسلم والكافر المعاهد‪ِ { ،‬إال بِاْل َح ِّ‬ ‫ون َّ‬ ‫{ َوال َي ْقتُلُ َ‬
‫بالنفس وقتل الزاني المحصن والكافر الذي يحل قتله‪.‬‬
‫ت أ َْي َم ُانهُ ْم } { َو َم ْن َي ْف َع ْل َذِل َ‬
‫ك}‬ ‫ون } بل يحفظون فروجهم { ِإال َعلَى أ َْز َوا ِج ِه ْم ْأو َما َملَ َك ْ‬ ‫{ َوال َي ْزُن َ‬
‫اما } ثم فسره‬ ‫ق أَثَ ً‬
‫أي‪ :‬الشرك باهلل أو قتل النفس التي حرم اهلل بغير حق أو الزنا فسوف { َيْل َ‬
‫يه } أي‪ :‬في العذاب { ُمهَ ًانا } فالوعيد بالخلود‬ ‫ف لَه اْلع َذاب يوم اْل ِقيام ِة وي ْخلُ ْد ِف ِ‬
‫اع ْ ُ َ ُ َ ْ َ َ َ َ َ‬ ‫ض َ‬ ‫بقوله‪ُ { :‬ي َ‬
‫لمن فعلها كلها ثابت ال شك فيه وكذا لمن أشرك باهلل‪ ،‬وكذلك الوعيد بالعذاب الشديد على كل‬
‫واحد من هذه الثالثة لكونها إما شرك وإ ما من أكبر الكبائر‪.‬‬
‫وأما خلود القاتل والزاني في العذاب فإنه ال يتناوله الخلود ألنه قد دلت النصوص القرآنية والسنة‬
‫النبوية أن جميع المؤمنين سيخرجون من النار وال يخلد فيها مؤمن ولو فعل من المعاصي ما‬
‫فعل‪ ،‬ونص تعالى على هذه الثالثة ألنها من أكبر الكبائر‪ :‬فالشرك فيه فساد األديان‪ ،‬والقتل فيه‬
‫فساد األبدان والزنا فيه فساد األعراض‪.‬‬
‫اب } عن هذه المعاصي وغيرها بأن أقلع عنها في الحال وندم على ما مضى له من‬ ‫{ ِإال َم ْن تَ َ‬
‫آم َن } باهلل إيمانا صحيحا يقتضي ترك المعاصي وفعل‬‫فعلها وعزم عزما جازما أن ال يعود‪َ { ،‬و َ‬
‫ص ِال ًحا } مما أمر به الشارع إذا قصد به وجه اهلل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الطاعات { َو َعم َل َع َمال َ‬
‫ك يب ِّد ُل اللَّه سيَِّئاتِ ِهم حسَن ٍ‬
‫ات } أي‪ :‬تتبدل أفعالهم وأقوالهم التي كانت مستعدة لعمل السيئات‬ ‫ِ‬
‫ُ َ ْ ََ‬ ‫{ فَأُولَئ َ َُ‬
‫تتبدل حسنات‪ ،‬فيتبدل شركهم إيمانا ومعصيتهم طاعة وتتبدل نفس السيئات التي عملوها ثم‬
‫أحدثوا عن كل ذنب منها توبة وإ نابة وطاعة تبدل حسنات كما هو ظاهر اآلية‪.‬‬
‫وورد في ذلك حديث الرجل الذي حاسبه اهلل ببعض ذنوبه فعددها عليه ثم أبدل مكان كل سيئة‬
‫حسنة فقال‪ : :‬يا رب إن لي سيئات ال أراها هاهنا " واهلل أعلم‪.‬‬
‫يما } بعباده حيث دعاهم إلى التوبة بعد‬ ‫ِ‬ ‫{ و َك َّ‬
‫ورا } لمن تاب يغفر الذنوب العظيمة { َرح ً‬ ‫ان اللهُ َغفُ ً‬
‫َ َ‬
‫مبارزته بالعظائم ثم وفقهم لها ثم قبلها منهم‪.‬‬
‫وب ِإلَى اللَّ ِه َمتَ ًابا } أي‪ :‬فليعلم أن توبته في غاية الكمال ألنها‬ ‫{ وم ْن تَاب وع ِم َل ِ‬
‫صال ًحا فَِإَّنهُ َيتُ ُ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ََ‬
‫رجوع إلى الطريق الموصل إلى اهلل الذي هو عين سعادة العبد وفالحه فليخلص فيها وليخلصها‬
‫من شوائب األغراض الفاسدة‪ ،‬فالمقصود من هذا الحث على تكميل التوبة وإ يقاعها على أفضل‬
‫الوجوه وأجلها ليقدم على من تاب إليه فيوفيه (‪ )1‬أجره بحسب كمالها‪.‬‬
‫ور } أي‪ :‬ال يحضرون الزور أي‪ :‬القول والفعل المحرم‪ ،‬فيجتنبون جميع‬ ‫ون ُّ‬ ‫َِّ‬
‫الز َ‬ ‫ين ال َي ْشهَ ُد َ‬
‫{ َوالذ َ‬
‫المجالس المشتملة على األقوال المحرمة أو األفعال المحرمة‪ ،‬كالخوض في آيات اهلل والجدال‬
‫الباطل والغيبة والنميمة والسب والقذف واالستهزاء والغناء المحرم وشرب الخمر وفرش‬
‫الحرير‪ ،‬والصور ونحو ذلك‪ ،‬وإ ذا كانوا ال يشهدون الزور فمن باب أولى وأحرى أن ال يقولوه‬
‫ويفعلوه‪.‬‬
‫وشهادة الزور داخلة في قول الزور تدخل في هذه اآلية باألولوية‪َ { ،‬وإِ َذا َم ُّروا بِاللَّ ْغ ِو } وهو‬
‫اما } أي‪:‬‬ ‫ِ‬
‫الكالم الذي ال خير فيه وال فيه فائدة دينية وال دنيوية ككالم السفهاء ونحوهم { َم ُّروا ك َر ً‬
‫نزهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه ورأوا أن الخوض فيه وإ ن كان ال إثم فيه فإنه سفه‬
‫ونقص لإلنسانية والمروءة فربأوا بأنفسهم عنه‪.‬‬
‫وفي قوله‪َ { :‬وإِ َذا َم ُّروا بِاللَّ ْغ ِو } إشارة إلى أنهم ال يقصدون حضوره وال سماعه‪ ،‬ولكن عند‬
‫المصادفة التي من غير قصد يكرمون أنفسهم عنه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫َِّ‬
‫ين ِإ َذا ُذك ُروا بِ َآيات َرِّب ِه ْم } التي أمرهم باستماعها واالهتداء بها‪ { ،‬لَ ْم َيخ ُّروا َعلَْيهَا ُ‬
‫ص ًّما‬ ‫{ َوالذ َ‬
‫َو ُع ْمَي ًانا } أي لم يقابلوها باإلعراض عنها والصمم عن سماعها وصرف النظر والقلوب عنها كما‬
‫يفعله من لم يؤمن بها ولم يصدق‪ ،‬وإ نما حالهم فيها وعند سماعها كما قال تعالى‪ِ { :‬إَّن َما ُي ْؤ ِم ُن‬
‫ِ‬ ‫ين ِإ َذا ُذ ِّك ُروا بِهَا َخ ُّروا ُسج ً‬ ‫ِ َِّ‬
‫ون } يقابلونها بالقبول‬ ‫َّحوا بِ َح ْمد َرِّب ِه ْم َو ُه ْم ال َي ْستَ ْكبِ ُر َ‬
‫َّدا َو َسب ُ‬ ‫بِ َآياتَنا الذ َ‬
‫واالفتقار إليها واالنقياد والتسليم لها‪ ،‬وتجد عندهم آذانا سامعة وقلوبا واعية فيزداد بها إيمانهم‬
‫ويتم بها إيقانهم وتحدث لهم نشاطا ويفرحون بها سرورا واغتباطا‪.‬‬
‫ب لََنا ِم ْن أ َْز َوا ِجَنا } أي‪ :‬قرنائنا من أصحاب وأقران وزوجات‪،‬‬
‫ون َربََّنا َه ْ‬
‫ين َيقُولُ َ‬
‫َِّ‬
‫{ َوالذ َ‬
‫َعُي ٍن } أي‪ :‬تقر بهم أعيننا‪.‬‬ ‫{ َو ُذِّريَّاتَِنا قَُّرةَ أ ْ‬
‫وإ ذا استقرأنا حالهم وصفاتهم عرفنا من هممهم وعلو مرتبتهم أنهم ال تقر أعينهم حتى يروهم‬
‫مطيعين لربهم عالمين عاملين وهذا كما أنه دعاء ألزواجهم وذرياتهم في صالحهم فإنه دعاء‬
‫ب لََنا } بل دعاؤهم يعود إلى‬
‫ألنفسهم ألن نفعه يعود عليهم ولهذا جعلوا ذلك هبة لهم فقالوا‪َ { :‬ه ْ‬
‫نفع عموم المسلمين ألن بصالح من ذكر يكون سببا لصالح كثير ممن يتعلق بهم وينتفع بهم‪.‬‬
‫[ ص ‪] 588‬‬
‫اما } أي‪ :‬أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية‪ ،‬درجة الصديقين والكمل‬ ‫اج َعْلَنا ِلْلمتَِّق َ ِ‬
‫ين إ َم ً‬ ‫ُ‬ ‫{ َو ْ‬
‫من عباد اهلل الصالحين وهي درجة اإلمامة في الدين وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم‬
‫يقتدى بأفعالهم‪ ،‬ويطمئن ألقوالهم ويسير أهل الخير خلفهم فيهدون ويهتدون‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن الدعاء ببلوغ شيء دعاء بما ال يتم إال به‪ ،‬وهذه الدرجة ‪-‬درجة اإلمامة في‬
‫ِ‬
‫ون بِأ َْم ِرَنا لَ َّما َ‬
‫صَب ُروا‬ ‫الدين‪ -‬ال تتم إال بالصبر واليقين كما قال تعالى‪َ { :‬و َج َعْلَناهم أَئ َّمةً َي ْه ُد َ‬
‫ِ‬
‫ون } فهذا الدعاء يستلزم من األعمال والصبر على طاعة اهلل وعن معصيته‬ ‫َو َك ُانوا بِ َآياتَنا ُيو ِقُن َ‬
‫وأقداره المؤلمة ومن العلم التام الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين‪ ،‬خيرا كثيرا وعطاء جزيال‬
‫وأن يكونوا في أعلى ما يمكن من درجات الخلق بعد الرسل‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬لما كانت هممهم ومطالبهم عالية كان الجزاء من جنس العمل فجازاهم بالمنازل العاليات‬
‫صَب ُروا } أي‪ :‬المنازل الرفيعة والمساكن األنيقة الجامعة لكل ما‬ ‫فقال‪ { :‬أُولَئِ َ‬
‫ك ُي ْج َز ْو َن اْل ُغ ْرفَةَ بِ َما َ‬
‫ون َعلَْي ِه ْم‬ ‫ِ‬
‫يشتهى وتلذه األعين وذلك بسبب صبرهم نالوا ما نالوا كما قال تعالى‪َ { :‬واْل َمالئ َكةُ َي ْد ُخلُ َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫صَب ْرتُ ْم فَنِ ْع َم ُع ْقَبى َّ‬ ‫ِ ِّ ٍ‬
‫الما }‬ ‫الد ِار } ولهذا قال هنا { َوُيلَق ْو َن فيهَا تَحَّيةً َو َس ً‬ ‫الم َعلَْي ُك ْم بِ َما َ‬
‫م ْن ُكل َباب َس ٌ‬
‫من ربهم ومن مالئكته الكرام ومن بعض على بعض ويسلمون من جميع المنغصات والمكدرات‪.‬‬
‫والحاصل‪ :‬أن اهلل وصفهم بالوقار والسكينة والتواضع له ولعباده وحسن األدب والحلم وسعة‬
‫الخلق والعفو عن الجاهلين واإلعراض عنهم ومقابلة إساءتهم باإلحسان وقيام الليل واإلخالص‬
‫فيه‪ ،‬والخوف من النار والتضرع لربهم أن ينجيهم منها وإ خراج الواجب والمستحب في النفقات‬
‫واالقتصاد في ذلك ‪ -‬وإ ذا كانوا مقتصدين في اإلنفاق الذي جرت العادة بالتفريط فيه أو اإلفراط‪،‬‬
‫فاقتصادهم وتوسطهم في غيره من باب أولى‪ -‬والسالمة من كبائر الذنوب واالتصاف باإلخالص‬
‫هلل في عبادته والعفة عن الدماء واألعراض والتوبة عند صدور شيء من ذلك‪ ،‬وأنهم ال‬
‫يحضرون مجالس المنكر والفسوق القولية والفعلية وال يفعلونها بأنفسهم وأنهم يتنزهون من اللغو‬
‫واألفعال الردية التي ال خير فيها‪ ،‬وذلك يستلزم مروءتهم وإ نسانيتهم وكمالهم ورفعة أنفسهم عن‬
‫كل خسيس قولي وفعلي‪ ،‬وأنهم يقابلون آيات اهلل بالقبول لها والتفهم لمعانيها والعمل بها‪،‬‬
‫واالجتهاد في تنفيذ أحكامها‪ ،‬وأنهم يدعون اهلل تعالى بأكمل الدعاء‪ ،‬في الدعاء الذي ينتفعون به‪،‬‬
‫وينتفع به من يتعلق بهم وينتفع به المسلمون من صالح أزواجهم وذريتهم‪ ،‬ومن لوازم ذلك سعيهم‬
‫في تعليمهم ووعظهم ونصحهم ألن من حرص على شيء ودعا اهلل فيه ال بد أن يكون متسببا فيه‪،‬‬
‫وأنهم دعوا اهلل ببلوغ أعلى الدرجات الممكنة لهم وهي درجة اإلمامة والصديقية‪.‬‬
‫فلله ما أعلى هذه الصفات وأرفع هذه الهمم وأجل هذه المطالب‪ ،‬وأزكى تلك النفوس وأطهر تلك‬
‫القلوب وأصفى هؤالء الصفوة وأتقى هؤالء السادة"‬
‫وهلل‪ ،‬فضل اهلل عليهم ونعمته ورحمته التي جللتهم‪ ،‬ولطفه الذي أوصلهم إلى هذه المنازل‪.‬‬
‫وهلل‪ ،‬منة اهلل على عباده أن بين لهم أوصافهم‪ ،‬ونعت لهم هيئاتهم وبين لهم هممهم‪ ،‬وأوضح لهم‬
‫أجورهم‪ ،‬ليشتاقوا إلى االتصاف بأوصافهم‪ ،‬ويبذلوا جهدهم في ذلك‪ ،‬ويسألوا الذي من عليهم‬
‫وأكرمهم الذي فضله في كل زمان ومكان‪ ،‬وفي كل وقت وأوان‪ ،‬أن يهديهم كما هداهم ويتوالهم‬
‫بتربيته الخاصة كما توالهم‪.‬‬
‫فاللهم لك الحمد وإ ليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث‪ ،‬وال حول وال قوة إال بك‪ ،‬ال نملك‬
‫ألنفسنا نفعا وال ضرا وال نقدر على مثقال ذرة من الخير إن لم تيسر ذلك لنا‪ ،‬فإنا ضعفاء‬
‫عاجزون من كل وجه‪.‬‬
‫نشهد أنك إن وكلتنا إلى أنفسنا طرفة عين وكلتنا إلى ضعف وعجز وخطيئة‪ ،‬فال نثق يا ربنا إال‬
‫برحمتك التي بها خلقتنا ورزقتنا وأنعمت علينا بما أنعمت من النعم الظاهرة والباطنة وصرفت‬
‫عنا من النقم‪ ،‬فارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك فال خاب من سألك ورجاك‪.‬‬
‫ولما كان اهلل تعالى قد أضاف هؤالء العباد إلى رحمته واختصهم بعبوديته لشرفهم وفضلهم ربما‬
‫توهم متوهم أنه وأيضا غيرهم فلم ال يدخل في العبودية؟‬
‫فأخبر تعالى أنه ال يبالي وال يعبأ بغير هؤالء وأنه لوال دعاؤكم إياه دعاء العبادة ودعاء المسألة ما‬
‫ف ي ُك ِ‬ ‫َّ‬
‫اما } أي‪:‬‬
‫ون ل َز ً‬ ‫عبأ بكم وال أحبكم فقال‪ُ { :‬ق ْل َما َي ْعَبأُ بِ ُك ْم َربِّي لَ ْوال ُد َع ُ‬
‫اؤ ُك ْم فَقَ ْد َكذ ْبتُ ْم فَ َس ْو َ َ ُ‬
‫عذابا يلزمكم لزوم الغريم لغريمه وسوف يحكم اهلل بينكم وبين عباده المؤمنين‪ .‬تم تفسير سورة‬
‫الفرقان‪،‬‬
‫فلله الحمد والثناء والشكر أبدا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬فيوفيهم‪.‬‬
‫( ‪)1/587‬‬

‫[ ص ‪] 589‬‬
‫تفسير سورة الشعراء‬
‫وهي مكية عند الجمهور‬

‫( ‪)1/589‬‬

‫ين (‪ِ )3‬إ ْن َن َش ْأ ُنَنِّز ْل‬ ‫ِ‬ ‫ك أَاَّل َي ُك ُ‬ ‫كب ِ‬ ‫َّ‬ ‫ات اْل ِكتَ ِ‬ ‫طسم (‪ )1‬تِْل َ‬
‫ونوا ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫اخعٌ َن ْف َس َ‬ ‫ين (‪ )2‬لَ َعل َ َ‬ ‫اب اْل ُمبِ ِ‬ ‫ك آََي ُ‬
‫الر ْحم ِن م ْح َد ٍث ِإاَّل‬ ‫ِِ ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ظلَّ ْ‬ ‫علَْي ِهم ِمن السَّم ِ‬
‫ين (‪َ )4‬و َما َيأْتيه ْم م ْن ذ ْك ٍر م َن َّ َ ُ‬ ‫َعَناقُهُ ْم لَهَا َخاضع َ‬ ‫تأْ‬ ‫اء آََيةً فَ َ‬ ‫َ ْ َ َ‬
‫ون (‪ )6‬أ ََولَ ْم َي َر ْوا ِإلَى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫اء َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬ ‫ين (‪ )5‬فَقَ ْد َكذُبوا فَ َسَيأْتي ِه ْم أ َْنَب ُ‬ ‫َك ُانوا َعْنهُ ُم ْع ِرض َ‬
‫ِ‬ ‫ض َك ْم أ َْنَبتَْنا ِفيهَا ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج َك ِر ٍيم (‪ِ )7‬إ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ين (‪َ )8‬وإِ َّن‬ ‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ك آَل ََيةً َو َما َك َ‬ ‫اأْل َْر ِ‬
‫ك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬
‫يم (‪)9‬‬ ‫الرح ُ‬ ‫َرَّب َ َُ َ‬

‫ك أَال‬‫اخعٌ َن ْف َس َ‬ ‫كب ِ‬ ‫َّ‬ ‫اب اْل ُمبِ ِ‬ ‫ات اْل ِكتَ ِ‬ ‫الر ِح ِيم * طسم * تِْل َ‬ ‫الر ْح َم ِن َّ‬ ‫{ ‪ { } 9 - 1‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫ين * لَ َعل َ َ‬ ‫ك َآي ُ‬
‫ين * َو َما َيأْتِي ِه ْم ِم ْن‬ ‫ِِ‬
‫َعَناقُهُ ْم لَهَا َخاضع َ‬ ‫تأْ‬ ‫ظلَّ ْ‬ ‫ونوا مؤ ِمنِين * ِإ ْن َن َش ْأ ُنَنِّز ْل علَْي ِهم ِمن السَّم ِ‬
‫اء َآيةً فَ َ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫َي ُك ُ ُ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِذ ْك ٍر ِم َن َّ‬
‫اء َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬
‫ون‬ ‫ين * فَقَ ْد َكذُبوا فَ َسَيأْتي ِه ْم أ َْنَب ُ‬ ‫الر ْح َم ِن ُم ْح َدث ِإال َك ُانوا َعْنهُ ُم ْع ِرض َ‬
‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم‬
‫آليةً َو َما َك َ‬
‫ك َ‬ ‫ض َك ْم أ َْنَبتَْنا ِفيهَا ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج َك ِر ٍيم * ِإ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫األر ِ‬ ‫* أ ََولَ ْم َي َر ْوا ِإلَى ْ‬
‫َّك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم } ‪.‬‬‫الرح ُ‬ ‫ين * َوإِ َّن َرب َ َُ َ‬ ‫ُم ْؤ ِمن َ‬
‫يشير الباري تعالى إشارة‪ ،‬تدل على التعظيم آليات الكتاب المبين البين الواضح‪ ،‬الدال على جميع‬
‫المطالب اإللهية‪ ،‬والمقاصد الشرعية‪ ،‬بحيث ال يبقى عند الناظر فيه‪ ،‬شك وال شبهة فيما أخبر به‪،‬‬
‫أو حكم به‪ ،‬لوضوحه‪ ،‬وداللته على أشرف المعاني‪ ،‬وارتباط األحكام بحكمها‪ ،‬وتعليقها بمناسبها‪،‬‬
‫فكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ينذر به الناس‪ ،‬ويهدي به الصراط المستقيم‪ ،‬فيهتدي بذلك‬
‫عباد اهلل المتقون‪ ،‬ويعرض عنه من كتب عليه الشقاء‪ ،‬فكان يحزن حزنا شديدا‪ ،‬على عدم‬
‫إيمانهم‪ ،‬حرصا منه على الخير‪ ،‬ونصحا لهم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫كب ِ‬ ‫َّ‬
‫ونوا ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين } أي‪:‬‬ ‫ك } أي‪ :‬مهلكها وشاق عليها‪ { ،‬أَال َي ُك ُ‬‫اخعٌ َن ْف َس َ‬ ‫فلهذا قال تعالى عنه‪ { :‬لَ َعل َ َ‬
‫فال تفعل‪ ،‬وال تذهب نفسك عليهم حسرات‪ ،‬فإن الهداية بيد اهلل‪ ،‬وقد أديت ما عليك من التبليغ‪،‬‬
‫وليس فوق هذا القرآن المبين آية‪ ،‬حتى ننزلها‪ ،‬ليؤمنوا [بها]‪ ،‬فإنه كاف شاف‪ ،‬لمن يريد الهداية‪،‬‬
‫نزل علَْي ِهم ِمن السَّم ِ‬ ‫ِ‬
‫اء َآيةً }‪.‬‬ ‫ولهذا قال‪ { :‬إ ْن َن َش ْأ ُن ْ َ ْ َ َ‬
‫ين } ولكن ال حاجة‬ ‫ِِ‬ ‫ظلَّ ْ‬
‫َعَناقُهُ ْم } أي‪ :‬أعناق المكذبين { لَهَا َخاضع َ‬ ‫تأْ‬ ‫أي‪ :‬من آيات االقتراح‪ { ،‬فَ َ‬
‫إلى ذلك‪ ،‬وال مصلحة فيه‪ ،‬فإنه إذ ذاك الوقت‪ ،‬يكون اإليمان غير نافع‪ ،‬وإ نما اإليمان النافع‪،‬‬
‫ِ‬ ‫َن تَأْتَِيهُ ُم اْل َمالئِ َكةُ أ َْو َيأْتِ َي َرب َ‬
‫ض‬‫ُّك أ َْو َيأْت َي َب ْع ُ‬ ‫ون ِإال أ ْ‬‫اإليمان بالغيب‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ه ْل َي ْنظُ ُر َ‬
‫يم ُانهَا } اآلية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ات َرِّب َ‬‫ِّك يوم يأْتِي بعض آي ِ‬ ‫ِ‬
‫ك ال َي ْنفَعُ َن ْف ًسا إ َ‬ ‫َآيات َرب َ َ ْ َ َ َ ْ ُ َ‬
‫الر ْح َم ِن ُم ْح َد ٍث } يأمرهم وينهاهم‪ ،‬ويذكرهم ما ينفعهم ويضرهم‪ِ { .‬إال‬ ‫{ َو َما َيأْتِي ِه ْم ِم ْن ِذ ْك ٍر ِم َن َّ‬
‫ِ‬
‫ين } بقلوبهم وأبدانهم‪ ،‬هذا إعراضهم عن الذكر المحدث‪ ،‬الذي جرت العادة‪ ،‬أنه‬ ‫َك ُانوا َعْنهُ ُم ْع ِرض َ‬
‫يكون موقعه أبلغ من غيره‪ ،‬فكيف بإعراضهم عن غيره‪ ،‬وهذا ألنهم ال خير فيهم‪ ،‬وال تنجع فيهم‬
‫المواعظ‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَقَ ْد َك َّذُبوا }‪.‬‬
‫اء َما َك ُانوا بِ ِه‬ ‫ِ‬
‫أي‪ :‬بالحق‪ ،‬وصار التكذيب لهم سجية‪ ،‬ال تتغير وال تتبدل‪ { ،‬فَ َسَيأْتي ِه ْم أ َْنَب ُ‬
‫ون } أي‪ :‬سيقع بهم العذاب‪ ،‬ويحل بهم ما كذبوا به‪ ،‬فإنهم قد حقت عليهم‪ ،‬كلمة العذاب‪.‬‬ ‫َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬
‫ض َك ْم أ َْنَبتَْنا ِفيهَا ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج‬
‫األر ِ‬ ‫قال اهلل منبها على التفكر الذي ينفع صاحبه‪ { :‬أ ََولَ ْم َي َر ْوا ِإلَى ْ‬
‫َك ِر ٍيم } من جميع أصناف النباتات‪ ،‬حسنة المنظر‪ ،‬كريمة في نفعها‪.‬‬
‫ان‬
‫آليةً } على إحياء اهلل الموتى بعد موتهم‪ ،‬كما أحيا األرض بعد موتها { َو َما َك َ‬ ‫ك َ‬ ‫{ ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين }‪.‬‬ ‫ت بِ ُم ْؤ ِمن َ‬
‫صَ‬ ‫الن ِ‬
‫اس َولَ ْو َح َر ْ‬ ‫أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين } كما قال تعالى‪َ { :‬و َما أَ ْكثَُر َّ‬
‫الر ِح ِيم }‬‫ك لَهَُو اْل َع ِز ُيز } الذي قد قهر كل مخلوق‪ ،‬ودان له العالم العلوي والسفلي‪َّ { ،‬‬ ‫{ َوإِ َّن َرَّب َ‬
‫الذي وسعت رحمته كل شيء‪ ،‬ووصل جوده إلى كل حي‪ ،‬العزيز الذي أهلك األشقياء بأنواع‬
‫العقوبات‪ ،‬الرحيم بالسعداء‪ ،‬حيث أنجاهم من كل شر وبالء‪.‬‬

‫( ‪)1/589‬‬

‫ب ِإِّني‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ك موسى أ ِ ِ‬


‫ال َر ِّ‬‫ون (‪ )11‬قَ َ‬ ‫ين (‪ )10‬قَ ْو َم ف ْر َع ْو َن أَاَل َيتَّقُ َ‬ ‫َن ا ْئت اْلقَ ْو َم الظالم َ‬ ‫ادى َرُّب َ ُ َ‬ ‫َوإِ ْذ َن َ‬
‫ِ‬ ‫طِل ُ ِ ِ‬ ‫ون (‪ )12‬وي ِ‬ ‫َن ُي َك ِّذُب ِ‬
‫ون (‪َ )13‬ولَهُ ْم َعلَ َّي‬ ‫ق ل َساني فَأ َْرس ْل ِإلَى َه ُار َ‬ ‫ص ْد ِري َواَل َي ْن َ‬ ‫يق َ‬ ‫ض ُ‬ ‫ََ‬ ‫اف أ ْ‬‫َخ ُ‬ ‫أَ‬
‫ون (‪ )15‬فَأْتَِيا ِف ْر َع ْو َن فَقُواَل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اَّل‬
‫ون (‪ )14‬قَا َل َك فَا ْذ َهَبا بِآََياتَنا ِإَّنا َم َع ُك ْم ُم ْستَم ُع َ‬ ‫َن َي ْقتُلُ ِ‬
‫اف أ ْ‬ ‫َخ ُ‬ ‫ب فَأ َ‬ ‫َذ ْن ٌ‬
‫ت‬ ‫ِّك ِف َينا َوِل ً‬
‫يدا َولَبِثْ َ‬ ‫ال أَلَ ْم ُن َرب َ‬
‫يل (‪ )17‬قَ َ‬ ‫َن أ َْر ِس ْل َم َعَنا َبنِي ِإ ْس َرائِ َ‬ ‫ين (‪ )16‬أ ْ‬ ‫ِ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫ِإَّنا َر ُسو ُل َر ِّ‬
‫ين (‪ )19‬قَا َل فَ َعْلتُهَا ِإ ًذا َوأََنا‬ ‫ِ‬ ‫ت وأ َْن َ ِ‬ ‫ت فَعلَتَ َ َّ ِ‬ ‫ِف َينا ِم ْن عم ِر َ ِ ِ‬
‫ت م َن اْل َكاف ِر َ‬ ‫ك التي فَ َعْل َ َ‬ ‫ين (‪َ )18‬وفَ َعْل َ ْ‬ ‫ك سن َ‬ ‫ُُ‬
‫ين (‪)21‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت ِم ْن ُكم لَ َّما ِخ ْفتُ ُكم فَو َه ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫ب لي َربِّي ُح ْك ًما َو َج َعلَني م َن اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ين (‪ )20‬فَفََر ْر ُ‬ ‫م َن الضَّال َ‬
‫ِ‬ ‫ت َبنِي ِإ ْس َرائِي َل (‪ )22‬قَا َل ِف ْر َع ْو ُن َو َما َر ُّ‬
‫ب‬‫ال َر ُّ‬ ‫ين (‪ )23‬قَ َ‬ ‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫َن َعب َّْد َ‬ ‫ك نِ ْع َمةٌ تَ ُمُّنهَا َعلَ َّي أ ْ‬ ‫َوتِْل َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال َرُّب ُك ْم‬ ‫ون (‪ )25‬قَ َ‬ ‫ين (‪ )24‬قَا َل ل َم ْن َح ْولَهُ أَاَل تَ ْستَم ُع َ‬ ‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ُمو ِقن َ‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬
‫َّم َاو َ‬ ‫الس َ‬
‫ب اْل َم ْش ِر ِ‬
‫ق‬ ‫ال َر ُّ‬ ‫ون (‪ )27‬قَ َ‬ ‫ال ِإ َّن َر ُسولَ ُك ُم الَِّذي أ ُْر ِس َل ِإلَْي ُك ْم لَ َم ْجُن ٌ‬ ‫ين (‪ )26‬قَ َ‬ ‫ور ُّ ِ‬
‫ب آََبائ ُك ُم اأْل ََّوِل َ‬ ‫ََ‬
‫َجعلََّن َ ِ‬ ‫ون (‪ )28‬قَا َل لَئِ ِن اتَّ َخ ْذ َ‬ ‫ِ‬
‫ين (‬ ‫ك م َن اْل َم ْس ُجونِ َ‬ ‫ت ِإلَهًا َغ ْي ِري أَل ْ َ‬ ‫َواْل َم ْغ ِر ِب َو َما َب ْيَنهُ َما ِإ ْن ُك ْنتُ ْم تَ ْعقلُ َ‬
‫صاهُ فَِإ َذا‬ ‫ِِ‬ ‫ْت بِ ِه ِإ ْن ُك ْن َ ِ‬ ‫ين (‪ )30‬قَا َل فَأ ِ‬ ‫ك بِ َشي ٍء ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪ )31‬فَأَْلقَى َع َ‬ ‫ت م َن الصَّادق َ‬ ‫‪ )29‬قَا َل أ ََولَ ْو ج ْئتُ َ ْ‬
‫ال ِلْلمإَل ِ حولَه ِإ َّن َه َذا لَس ِ‬ ‫ع ي َده فَِإ َذا ِهي ب ْيض ِ ِ‬ ‫ان ُمبِ ٌ‬ ‫ِه َي ثُ ْعَب ٌ‬
‫احٌر‬ ‫َ‬ ‫ين (‪ )33‬قَ َ َ َ ْ ُ‬ ‫اء ل َّلناظ ِر َ‬ ‫ََ َ ُ‬ ‫ين (‪َ )32‬وَن َز َ َ ُ‬
‫ون (‪ )35‬قَالُوا أ َْر ِج ْه َوأ َ‬ ‫ِ ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ث‬‫َخاهُ َو ْاب َع ْ‬ ‫ْم ُر َ‬ ‫َن ُي ْخ ِر َج ُك ْم م ْن أ َْرض ُك ْم بس ْح ِره فَ َما َذا تَأ ُ‬ ‫يم (‪ُ )34‬ي ِر ُ‬
‫يد أ ْ‬ ‫َعل ٌ‬
‫َّار عِل ٍيم (‪ )37‬فَج ِمع السَّحرةُ ِل ِميقَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وم (‪)38‬‬ ‫ات َي ْوٍم َم ْعلُ ٍ‬ ‫ُ َ ََ‬ ‫ك بِ ُك ِّل َسح ٍ َ‬ ‫ين (‪َ )36‬يأْتُو َ‬ ‫في اْل َم َدائ ِن َحاش ِر َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫يل ِل َّلن ِ‬
‫اء‬
‫ين (‪َ )40‬فلَ َّما َج َ‬ ‫َّح َرةَ ِإ ْن َك ُانوا ُه ُم اْل َغالبِ َ‬ ‫ون (‪ )39‬لَ َعلَنا َنتَّبِعُ الس َ‬ ‫اس َه ْل أ َْنتُ ْم ُم ْجتَم ُع َ‬ ‫َو ِق َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّح َرةُ قَالُوا ِل ِف ْر َع ْو َن أَئِ َّن لََنا أَل ْ‬
‫ين (‬ ‫ال َن َع ْم َوإِ َّن ُك ْم ِإ ًذا لَم َن اْل ُمقََّربِ َ‬ ‫ين (‪ )41‬قَ َ‬ ‫َج ًرا ِإ ْن ُكَّنا َن ْح ُن اْل َغالبِ َ‬ ‫الس َ‬
‫صيَّهُ ْم َوقَالُوا بِ ِع َّز ِة ِف ْر َع ْو َن ِإَّنا‬ ‫‪ )42‬قَا َل لَهم موسى أَْلقُوا ما أ َْنتُم مْلقُون (‪ )43‬فَأَْلقَوا ِحبالَهم و ِع ِ‬
‫ْ َ ُْ َ‬ ‫َ ْ ُ َ‬ ‫ُْ ُ َ‬
‫ف ما يأ ِْف ُكون (‪ )45‬فَأُْل ِقي السَّحرةُ س ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‬ ‫اجد َ‬ ‫ََ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫صاهُ فَِإ َذا ه َي تَْلقَ ُ َ َ‬ ‫وسى َع َ‬ ‫ون (‪ )44‬فَأَْلقَى ُم َ‬ ‫لََن ْح ُن اْل َغالُب َ‬
‫ِ‬
‫َن َآ َذ َن لَ ُك ْم ِإَّنهُ‬ ‫َم ْنتُ ْم لَهُ قَْب َل أ ْ‬
‫ون (‪ )48‬قَا َل آ َ‬ ‫وسى َو َه ُار َ‬ ‫ب ُم َ‬ ‫ين (‪َ )47‬ر ِّ‬ ‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫َمَّنا بَِر ِّ‬‫‪ )46‬قَالُوا آ َ‬
‫ِ ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫ُصلَِّبَّن ُك ْم‬
‫ون أَل ُقَط َع َّن أ َْيدَي ُك ْم َوأ َْر ُجلَ ُك ْم م ْن خاَل ف َوأَل َ‬ ‫ف تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ِّح َر َفلَ َس ْو َ‬ ‫لَ َكبِ ُير ُك ُم الَِّذي َعلَّ َم ُك ُم الس ْ‬
‫َن ُكَّنا‬ ‫ط َاي َانا أ ْ‬ ‫َن َي ْغ ِف َر لََنا َربَُّنا َخ َ‬ ‫ط َمعُ أ ْ‬ ‫ون (‪ِ )50‬إَّنا َن ْ‬ ‫ِ‬
‫ض ْي َر ِإَّنا ِإلَى َربَِّنا ُم ْن َقلُب َ‬ ‫ين (‪ )49‬قَالُوا اَل َ‬
‫أْ ِ‬
‫َج َمع َ‬
‫ون (‪ )52‬فَأ َْر َس َل ِف ْر َع ْو ُن ِفي‬ ‫ِ ِ‬
‫َس ِر بِعَبادي ِإَّن ُك ْم ُمتََّب ُع َ‬ ‫َن أ ْ‬ ‫وسى أ ْ‬ ‫ين (‪َ )51‬وأ َْو َح ْيَنا ِإلَى ُم َ‬
‫ِ‬
‫أ ََّو َل اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪َ )55‬وإِ َّنا لَ َجميعٌ‬ ‫ون (‪َ )54‬وإِ َّنهُ ْم لََنا لَ َغائظُ َ‬ ‫ين (‪ِ )53‬إ َّن َه ُؤاَل ء لَش ْر ِذ َمةٌ َقليلُ َ‬ ‫اْل َم َدائ ِن َحاش ِر َ‬
‫اها‬
‫ك َوأ َْو َرثَْن َ‬ ‫وز َو َمقَ ٍام َك ِر ٍيم (‪َ )58‬ك َذِل َ‬ ‫ون (‪َ )57‬و ُكُن ٍ‬ ‫ات َو ُعُي ٍ‬ ‫اهم ِم ْن جَّن ٍ‬
‫َ‬ ‫َخ َر ْجَن ُ ْ‬ ‫ون (‪ )56‬فَأ ْ‬ ‫ِ‬
‫َحاذ ُر َ‬
‫وسى ِإَّنا‬ ‫اب ُم َ‬ ‫َص َح ُ‬ ‫ال أ ْ‬ ‫ان قَ َ‬ ‫اءى اْل َج ْم َع ِ‬ ‫ين (‪َ )60‬فلَ َّما تََر َ‬ ‫وه ْم ُم ْش ِر ِق َ‬
‫يل (‪ )59‬فَأَتَْب ُع ُ‬ ‫َبنِي ِإ ْس َرائِ َ‬
‫اك‬‫ص َ‬ ‫ب بِ َع َ‬ ‫اض ِر ْ‬ ‫َن ْ‬ ‫وسى أ ِ‬ ‫ين (‪ )62‬فَأ َْو َح ْيَنا ِإلَى ُم َ‬ ‫ال َكاَّل ِإ َّن َم ِعي َربِّي َسَي ْه ِد ِ‬ ‫ون (‪ )61‬قَ َ‬ ‫لَ ُم ْد َر ُك َ‬
‫َ‬
‫ِِ‬ ‫َّ‬ ‫ان ُك ُّل ِف ْر ٍ‬
‫وسى َو َم ْن‬ ‫ين (‪َ )64‬وأ َْن َج ْيَنا ُم َ‬ ‫ق َكالط ْو ِد اْل َعظيم (‪َ )63‬وأ َْزلَ ْفَنا ثََّم اآْل َ َخ ِر َ‬ ‫ق فَ َك َ‬ ‫اْلَب ْح َر فَ ْان َفلَ َ‬
‫ِ‬ ‫ين (‪ِ )66‬إ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫معه أ ْ ِ‬
‫ين (‪َ )67‬وإِ َّن‬ ‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫ك آَل ََيةً َو َما َك َ‬ ‫َغ َر ْقَنا اآْل َ َخ ِر َ‬‫ين (‪ )65‬ثَُّم أ ْ‬ ‫َج َمع َ‬ ‫ََُ‬
‫ك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬
‫يم (‪)68‬‬ ‫الرح ُ‬ ‫َرَّب َ َُ َ‬

‫ين } إلى آخر القصة قوله‪ِ { :‬إ َّن في‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ك موسى أ ِ ِ‬
‫َن ا ْئت اْلقَ ْو َم الظالم َ‬ ‫ادى َرُّب َ ُ َ‬ ‫{ ‪َ { } 68 - 10‬وإِ ْذ َن َ‬
‫َّك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َذِل َ‬
‫يم }‬
‫الرح ُ‬ ‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُمؤ ِمن َ‬
‫ين َوإِ َّن َرب َ َُ َ‬ ‫آليةً َو َما َك َ‬
‫ك َ‬
‫أعاد الباري تعالى‪ ،‬قصة موسى وثناها في القرآن‪ ،‬ما لم يثن غيرها‪ ،‬لكونها مشتملة على حكم‬
‫عظيمة‪ ،‬وعبر وفيها نبأه مع الظالمين والمؤمنين‪ ،‬وهو صاحب الشريعة الكبرى‪ ،‬وصاحب‬
‫التوراة أفضل الكتب بعد القرآن فقال‪ :‬واذكر حالة موسى الفاضلة‪ ،‬وقت نداء اهلل إياه‪ ،‬حين كلمه‬
‫ين } الذين تكبروا في األرض‪ ،‬وعلوا على أهلها‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ونبأه وأرسله فقال‪ { :‬أ ِ ِ‬
‫َن ا ْئت اْلقَ ْو َم الظالم َ‬
‫وادعى كبيرهم الربوبية‪.‬‬
‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬قل لهم‪ ،‬بلين قول‪ ،‬ولطف عبارة { أَال تَتَّقُ َ‬
‫ون } اهلل الذي خلقكم‬ ‫{ قَ ْو َم ف ْر َع ْو َن أَال َيتَّقُ َ‬
‫ورزقكم‪ ،‬فتتركون ما أنتم عليه من الكفر‪.‬‬
‫فقال موسى عليه السالم‪ ،‬معتذرا من ربه‪ ،‬ومبينا لعذره‪ ،‬وسائال له المعونة على هذا الحمل‬
‫ق ِل َسانِي }‪.‬‬‫طِل ُ‬‫ص ْد ِري َوال َي ْن َ‬ ‫يق َ‬ ‫ض ُ‬‫ون وي ِ‬
‫َن ُي َك ِّذُب ِ َ َ‬
‫اف أ ْ‬ ‫ب ِإِّني أ َ‬
‫َخ ُ‬ ‫الثقيل‪ { :‬قَا َل َر ِّ‬
‫احلُ ْل ُع ْق َدةً ِم ْن ِل َسانِي * َي ْفقَهُوا قَ ْوِلي *‬
‫ص ْد ِري * َوَيس ِّْر ِلي أ َْم ِري * َو ْ‬ ‫ِ‬
‫ب ا ْش َر ْح لي َ‬ ‫فقال‪َ { :‬ر ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اجع ْل ِلي و ِزيرا ِم ْن أ ْ ِ‬
‫ون } فأجاب اهلل طلبته ونبأ أخاه‬ ‫ون أَخي } { فَأ َْرس ْل ِإلَى َه ُار َ‬ ‫َهلي * َه ُار َ‬ ‫َ ً‬ ‫َو ْ َ‬
‫هارون كما نبأه { فَأ َْر ِسْلهُ َم ِع َي ِر ْد ًءا } أي معاونا لي على أمري أن يصدقوني‬
‫ون }‬ ‫َن َي ْقتُلُ ِ‬
‫اف أ ْ‬
‫َخ ُ‬
‫ب } أي في قتل القبطي { فَأ َ‬ ‫{ َولَهُ ْم َعلَ َّي َذ ْن ٌ‬
‫{ قَا َل َكال } أي ال يتمكنون من قتلك فإنا سنجعل لكما سلطانا فال يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن‬
‫اتبعكما الغالبون ولهذا لم يتمكن فرعون من قتل موسى مع منابذته له غاية المنابذة وتسفيه رأيه‬
‫وتضليله وقومه { فَا ْذ َهَبا بِ َآياتَِنا } الدالة على [ ص ‪ ] 590‬صدقكما وصحة ما جئتما به { ِإَّنا‬
‫ون } أحفظكما وأكلؤكما‬ ‫ِ‬
‫َم َع ُك ْم ُم ْستَم ُع َ‬
‫ين } أي أرسلنا إليك لتؤمن به وبنا وتنقاد لعبادته وتذعن‬ ‫ِ‬ ‫{ فَأْتَِيا ِف ْر َع ْو َن فَقُوال ِإَّنا َر ُسو ُل َر ِّ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬
‫لتوحيده‬
‫َن أ َْر ِس ْل َم َعَنا َبنِي ِإ ْس َرائِي َل } فكف عنهم عذابك وارفع عنهم يدك ليعبدوا ربهم ويقيموا أمر‬ ‫{ أْ‬
‫دينهم‬
‫ال‬
‫فلما جاءا فرعون وقاال له ما قال اهلل لهما لم يؤمن فرعون ولم يلن وجعل يعارض موسى فـ { قَ َ‬
‫يدا } أي ألم ننعم عليك ونقم بتربيتك منذ كنت وليدا في مهدك ولم تزل كذلك‬ ‫ك ِف َينا َوِل ً‬
‫أَلَ ْم ُن َرِّب َ‬
‫ت } وهي قتل موسى للقبطي‪ ،‬حين‬ ‫ك الَّتِي فَ َعْل َ‬
‫ت فَ ْعلَتَ َ‬
‫ين * َوفَ َعْل َ‬‫ت ِف َينا ِم ْن عم ِر َ ِ ِ‬
‫ك سن َ‬ ‫ُُ‬ ‫{ َولَبِثْ َ‬
‫ضى َعلَْي ِه } اآلية‪.‬‬
‫وسى فَقَ َ‬
‫استغاثه الذي من شيعته‪ ،‬على الذي من عدوه { فَ َو َك َزهُ ُم َ‬
‫ِ‬ ‫{ وأ َْن َ ِ‬
‫ين } أي‪ :‬وأنت إذ ذاك طريقك طريقنا‪ ،‬وسبيلك سبيلنا‪ ،‬في الكفر‪ ،‬فأقر على‬ ‫ت م َن اْل َكاف ِر َ‬ ‫َ‬
‫نفسه بالكفر‪ ،‬من حيث ال يدري‪.‬‬

‫( ‪)1/589‬‬

‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫ين } أي‪ :‬عن غير كفر‪ ،‬وإ نما كان عن ضالل وسفه‪،‬‬ ‫فقال موسى‪ { :‬فَ َعْلتُهَا ِإ ًذا َوأََنا م َن الضَّال َ‬
‫فاستغفرت ربي فغفر لي‪.‬‬
‫ت ِم ْن ُك ْم لَ َّما ِخ ْفتُ ُك ْم } حين تراجعتم بقتلي‪ ،‬فهربت إلى مدين‪ ،‬ومكثت سنين‪ ،‬ثم جئتكم‪.‬‬‫{ فَفََر ْر ُ‬
‫ين }‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫{ فَو َه ِ‬
‫ب لي َربِّي ُح ْك ًما َو َج َعلَني م َن اْل ُم ْر َسل َ‬
‫َ َ‬
‫فالحاصل أن اعتراض فرعون على موسى‪ ،‬اعتراض جاهل أو متجاهل‪ ،‬فإنه جعل المانع من‬
‫كونه رسوال أن جرى منه القتل‪ ،‬فبين له موسى‪ ،‬أن قتله كان على وجه الضالل والخطأ‪ ،‬الذي لم‬
‫يقصد نفس القتل‪ ،‬وأن فضل اهلل تعالى غير ممنوع منه أحد‪ ،‬فلم منعتم ما منحني اهلل‪ ،‬من الحكم‬
‫يدا } وعند التحقيق‪ ،‬يتبين أن ال‬ ‫ِّك ِف َينا َوِل ً‬
‫والرسالة؟ بقي عليك يا فرعون إدالؤك بقولك‪ { :‬أَلَ ْم ُن َرب َ‬
‫ت َبنِي ِإ ْس َرائِ َ‬
‫يل }‪.‬‬ ‫ك نِ ْع َمةٌ تَ ُمُّنهَا َعلَ َّي أ ْ‬
‫َن َعب َّْد َ‬ ‫منة لك فيها‪ ،‬ولهذا قال موسى‪َ { :‬وتِْل َ‬
‫أي‪ :‬تدلي علي بهذه المنة ألنك سخرت بني إسرائيل‪ ،‬وجعلتهم لك بمنزلة العبيد‪ ،‬وأنا قد أسلمتني‬
‫من تعبيدك وتسخيرك‪ ،‬وجعلتها علي نعمة‪ ،‬فعند التصور‪ ،‬يتبين أن الحقيقة‪ ،‬أنك ظلمت هذا‬
‫الشعب الفاضل‪ ،‬وعذبتهم وسخرتهم بأعمالك‪ ،‬وأنا قد سلمني اهلل من أذاك‪ ،‬مع وصول أذاك‬
‫لقومي‪ ،‬فما هذه المنة التي تبت بها وتدلي بها؟‪.‬‬
‫ين } وهذا إنكار منه لربه‪ ،‬ظلما وعلوا‪ ،‬مع تيقن صحة ما دعاه إليه‬ ‫ِ‬ ‫{ قَا َل ِف ْر َع ْو ُن َو َما َر ُّ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬
‫األر ِ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما }‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫موسى‪ ،‬قال‪َ { :‬ر ُّ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬‫ب الس َ‬
‫أي‪ :‬الذي خلق العالم العلوي والسفلي‪ ،‬ودبره بأنواع التدبير‪ ،‬ورباه بأنواع التربية‪ .‬ومن جملة‬
‫ذلك‪ ،‬أنتم أيها المخاطبون‪ ،‬فكيف تنكرون خالق المخلوقات‪ ،‬وفاطر األرض والسماوات { ِإ ْن ُك ْنتُ ْم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ما يقول هذا الرجل‪ ،‬فقال‬ ‫ين } فقال فرعون متجرهما‪ ،‬ومعجبا لقومه‪ { :‬أَال تَ ْستَم ُع َ‬ ‫ُمو ِقن َ‬
‫ين } تعجبتم أم ال استكبرتم‪ ،‬أم أذعنتم‪.‬‬ ‫ب َآبائِ ُك ُم َّ‬
‫األوِل َ‬ ‫موسى‪َ { :‬رُّب ُك ْم َو َر ُّ‬
‫ون } حيث قال‬ ‫فقال فرعون معاندا للحق‪ ،‬قادحا بمن جاء به‪ِ { :‬إ َّن َر ُسولَ ُك ُم الَِّذي أ ُْر ِس َل ِإلَْي ُك ْم لَ َم ْجُن ٌ‬
‫خالف ما نحن عليه‪ ،‬وخالفنا فيما ذهبنا إليه‪ ،‬فالعقل عنده وأهل العقل‪ ،‬من زعموا أنهم لم يخلقوا‪،‬‬
‫أو أن السماوات واألرض‪ ،‬ما زالتا موجودتين من غير موجد وأنهم‪ ،‬بأنفسهم‪ ،‬خلقوا من غير‬
‫خالق‪ ،‬والعقل عنده‪ ،‬أن يعبد المخلوق الناقص‪ ،‬من جميع الوجوه‪ ،‬والجنون عنده‪ ،‬أن يثبت الرب‬
‫الخالق للعالم العلوي والسفلي‪ ،‬والمنعم بالنعم الظاهرة والباطنة‪ ،‬ويدعو إلى عبادته‪ ،‬وزين لقومه‬
‫اعوهُ ِإَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو ًما‬
‫ط ُ‬ ‫استَ َخ َّ‬
‫ف قَ ْو َمهُ فَأَ َ‬ ‫هذا القول‪ ،‬وكانوا سفهاء األحالم‪ ،‬خفيفي العقول { فَ ْ‬
‫ب اْل َم ْش ِر ِ‬
‫ق‬ ‫ين } فقال موسى عليه السالم‪ ،‬مجيبا إلنكار فرعون وتعطيله لرب العالمين‪َ { :‬ر ُّ‬ ‫ِِ‬
‫فَاسق َ‬
‫َواْل َم ْغ ِر ِب َو َما َب ْيَنهُ َما }‪.‬‬
‫ِ‬
‫ون } فقد أديت لكم من البيان والتبيين‪ ،‬ما يفهمه كل من له‬ ‫من سائر المخلوقات { ِإ ْن ُك ْنتُ ْم تَ ْعقلُ َ‬
‫أدنى مسكة من عقل‪ ،‬فما بالكم تتجاهلون فيما أخاطبكم به؟ وفيه إيماء وتنبيه إلى أن الذي رميتم‬
‫به موسى من الجنون‪ ،‬أنه داؤكم فرميتم أزكى الخلق عقال وأكملهم علما‪ ،‬بالجنون‪ ،‬والحال أنكم‬
‫أنتم المجانين‪ ،‬حيث ذهبت عقولكم إلنكار أظهر الموجودات‪ ،‬خالق األرض والسماوات وما‬
‫بينهما‪ ،‬فإذا جحدتموه‪ ،‬فأي شيء تثبتون؟ وإ ذا جهلتموه‪ ،‬فأي شيء تعلمون؟ وإ ذا لم تؤمنوا به‬
‫وبآياته‪ ،‬فبأي شيء ‪ -‬بعد اهلل وآياته ‪ -‬تؤمنون؟ تاهلل‪ ،‬إن المجانين الذين بمنزلة البهائم‪ ،‬أعقل‬
‫منكم‪ ،‬وإ ن األنعام السارحة‪ ،‬أهدى منكم‪.‬‬
‫ال } متوعدا لموسى بسلطانه‬
‫فلما خنقت فرعون الحجة‪ ،‬وعجزت قدرته وبيانه عن المعارضة { قَ َ‬
‫ألجعلََّن َ ِ‬ ‫{ لَئِ ِن اتَّ َخ ْذ َ‬
‫ك م َن اْل َم ْس ُجونِ َ‬
‫ين } زعم ‪ -‬قبحه اهلل ‪ -‬أنه قد طمع في إضالل‬ ‫ت ِإلَهًا َغ ْي ِري ْ َ‬
‫موسى‪ ،‬وأن ال يتخذ إلها غيره‪ ،‬وإ ال فقد تقرر أنه هو ومن معه‪ ،‬على بصيرة من أمرهم‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬آية ظاهرة جلية‪ ،‬على صحة ما جئت به‪ ،‬من‬ ‫ك بِ َشي ٍء ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫فقال له موسى‪ { :‬أ ََولَ ْو ج ْئتُ َ ْ‬
‫خوارق العادات‪.‬‬
‫[ ص ‪] 591‬‬
‫ان } أي‪ :‬ذكر الحيات‪ُ { ،‬مبِ ٌ‬
‫ين }‬ ‫صاهُ فَِإ َذا ِه َي ثُ ْعَب ٌ‬
‫ين فَأَْلقَى َع َ‬
‫ِِ‬ ‫ْت بِ ِه ِإ ْن ُك ْن َ ِ‬
‫ت م َن الصَّادق َ‬
‫{ قَا َل فَأ ِ‬
‫ظاهر لكل أحد‪ ،‬ال خيال‪ ،‬وال تشبيه‪.‬‬
‫نزع ي َده } من جيبه { فَِإ َذا ِهي ب ْيض ِ ِ‬
‫ين } أي‪ :‬لها نور عظيم‪ ،‬ال نقص فيه لمن نظر‬ ‫اء ل َّلناظ ِر َ‬
‫ََ َ ُ‬ ‫{ َو َ َ ُ‬
‫إليها‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َن‬
‫يد أ ْ‬ ‫{ قَا َل } فرعون { لْل َمإل َح ْولَهُ } معارضا للحق‪ ،‬ومن جاء به‪ِ { :‬إ َّن َه َذا لَ َساحٌر َعل ٌ‬
‫يم ُي ِر ُ‬
‫موه عليهم لعلمه بضعف عقولهم‪ ،‬أن هذا من جنس ما يأتي به السحرة‪،‬‬ ‫ض ُك ْم } َّ‬‫ي ْخ ِرج ُكم ِم ْن أَر ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ َ ْ‬
‫وخوفهم أن‬
‫ألنه من المتقرر عندهم‪ ،‬أن السحرة يأتون من العجائب‪ ،‬بما ال يقدر عليه الناس‪َّ ،‬‬
‫قصده بهذا السحر‪ ،‬التوصل إلى إخراجهم من وطنهم‪ ،‬ليجدوا ويجتهدوا في معاداة من يريد‬
‫ون } أن نفعل به؟‪.‬‬ ‫ْم ُر َ‬
‫إجالءهم عن أوالدهم وديارهم‪ { ،‬فَ َما َذا تَأ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َخاه } أي‪ :‬أخرهما { و ْابع ْ ِ‬
‫ث في اْل َم َدائ ِن َحاش ِر َ‬
‫ين } جامعين للناس‪.‬‬ ‫َ َ‬ ‫{ قَالُوا أ َْر ِج ْه َوأ َ ُ‬
‫َّار َعِل ٍيم } أي‪ :‬ابعث في جميع مدنك‪ ،‬التي هي مقر العلم‪،‬‬ ‫وك } أولئك الحاشرون { بِ ُك ِّل َسح ٍ‬ ‫{ َيأْتُ َ‬
‫ومعدن السحر‪ ،‬من يجمع لك كل ساحر ماهر‪ ،‬عليم في سحره فإن الساحر يقابل بسحر من جنس‬
‫سحره‪.‬‬
‫وهذا من لطف اهلل أن يري العباد‪ ،‬بطالن ما موه به فرعون الجاهل الضال‪ ،‬المضل أن ما جاء به‬
‫موسى سحر‪ ،‬قيضهم أن جمعوا أهل المهارة بالسحر‪ ،‬لينعقد المجلس عن حضرة الخلق العظيم‪،‬‬
‫فيظهر الحق على الباطل‪ ،‬ويقر أهل العلم وأهل الصناعة‪ ،‬بصحة ما جاء به موسى‪ ،‬وأنه ليس‬
‫بسحر‪ ،‬فعمل فرعون برأيهم‪ ،‬فأرسل في المدائن‪ ،‬من يجمع السحرة‪ ،‬واجتهد في ذلك‪ ،‬وجد‪.‬‬
‫{ فَج ِمع السَّحرةُ ِل ِميقَ ِ‬
‫ات َي ْوٍم َم ْعلُ ٍ‬
‫وم } قد واعدهم إياه موسى‪ ،‬وهو يوم الزينة‪ ،‬الذي يتفرغون فيه‬ ‫ُ َ ََ‬
‫من أشغالهم‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬نودي بعموم الناس باالجتماع في ذلك اليوم الموعود‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫{ و ِقي َل ِل َّلن ِ‬
‫اس َه ْل أ َْنتُ ْم ُم ْجتَم ُع َ‬ ‫َ‬

‫( ‪)1/590‬‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫َّح َرةَ ِإ ْن َك ُانوا ُه ُم اْل َغالبِ َ‬
‫ين } أي‪ :‬قالوا للناس‪ :‬اجتمعوا لتنظروا غلبة السحرة‬ ‫{ لَ َعلَنا َنتَّبِعُ الس َ‬
‫لموسى‪ ،‬وأنهم ماهرون في صناعتهم‪ ،‬فنتبعهم‪ ،‬ونعظمهم‪ ،‬ونعرف فضيلة علم السحر‪ ،‬فلو وفقوا‬
‫للحق‪ ،‬لقالوا‪ :‬لعلنا نتبع المحق منهم‪ ،‬ولنعرف الصواب‪ ،‬فلذلك ما أفاد فيهم ذلك‪ ،‬إال قيام الحجة‬
‫عليهم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َّح َرةُ } ووصلوا لفرعون قالوا له‪ { :‬أَئِ َّن لََنا ْ‬
‫ين } لموسى؟‬‫ألج ًرا ِإ ْن ُكَّنا َن ْح ُن اْل َغالبِ َ‬ ‫اء الس َ‬
‫{ َفلَ َّما َج َ‬
‫ِ‬
‫ين } عندي‪ ،‬وعدهم األجر والقربة منه‪ ،‬ليزداد‬ ‫{ قَا َل َن َع ْم } لكم أجر وثواب { َوإِ َّن ُك ْم ِإ ًذا لَم َن اْل ُمقََّربِ َ‬
‫نشاطهم‪ ،‬ويأتوا بكل مقدورهم في معارضة ما جاء به موسى‪.‬‬
‫فلما اجتمعوا للموعد‪ ،‬هم وموسى‪ ،‬وأهل مصر‪ ،‬وعظهم موسى وذكرهم وقال‪َ { :‬وْيلَ ُك ْم ال تَ ْفتَُروا‬
‫اب َم ِن ا ْفتََرى } فتنازعوا وتخاصموا ثم شجعهم فرعون‪،‬‬ ‫َعلَى اللَّ ِه َك ِذًبا فَُي ْس ِحتَ ُكم بِ َع َذ ٍ‬
‫اب َوقَ ْد َخ َ‬ ‫ْ‬
‫وشجع بعضهم بعضا‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬ألقوا كل ما في خواطركم إلقاؤه‪ ،‬ولم يقيده بشيء‬ ‫وسى أَْلقُوا َما أ َْنتُ ْم ُمْلقُ َ‬‫ال لَهُ ْم ُم َ‬ ‫فـ { قَ َ‬
‫دون شيء‪ ،‬لجزمه ببطالن ما جاءوا به من معارضة الحق‪.‬‬
‫صيَّهُ ْم } فإذا هي حيات تسعى‪ ،‬وسحروا بذلك أعين الناس‪َ { ،‬وقَالُوا بِ ِع َّز ِة‬ ‫{ فَأَْلقَوا ِحبالَهم و ِع ِ‬
‫ْ َ ُْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } فاستعانوا بعزة عبد ضعيف‪ ،‬عاجز من كل وجه‪ ،‬إال أنه قد تجبر‪،‬‬ ‫ف ْر َع ْو َن ِإَّنا لََن ْح ُن اْل َغالُب َ‬
‫وحصل له صورة ملك وجنود‪ ،‬فغرتهم تلك األبهة‪ ،‬ولم تنفذ بصائرهم إلى حقيقة األمر‪ ،‬أو أن هذا‬
‫قسم منهم بعزة فرعون والمقسم عليه‪ ،‬أنهم غالبون‪.‬‬
‫ون } فالتفت جميع ما ألقوا من الحبال‬ ‫ِ‬ ‫صاهُ فَِإ َذا ِه َي تَْلقَ ُ‬
‫ف } تبتلع وتأخذ { َما َيأْف ُك َ‬ ‫وسى َع َ‬
‫{ فَأَْلقَى ُم َ‬
‫والعصي‪ ،‬ألنها إفك‪ ،‬وكذب‪ ،‬وزور وذلك كله باطل ال يقوم للحق‪ ،‬وال يقاومه‪.‬‬
‫فلما رأى السحرة هذه اآلية العظيمة‪ ،‬تيقنوا ‪ -‬لعلمهم ‪ -‬أن هذا ليس بسحر‪ ،‬وإ نما هو آية من‬
‫آيات اهلل‪ ،‬ومعجزة تنبئ بصدق موسى‪ ،‬وصحة ما جاء به‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } لربهم‪.‬‬‫َّح َرةُ َسا ِجد َ‬‫{ فَأُْلق َي الس َ‬
‫ون } وانقمع الباطل‪ ،‬في ذلك المجمع‪ ،‬وأقر رؤساؤه‪،‬‬ ‫ين َر ِّ‬ ‫ِ‬ ‫آمَّنا بَِر ِّ‬
‫وسى َو َه ُار َ‬
‫ب ُم َ‬ ‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫{ قَالُوا َ‬
‫ببطالنه‪ ،‬ووضح الحق‪ ،‬وظهر حتى رأى ذلك الناظرون بأبصارهم‪ ،‬ولكن أبى فرعون‪ ،‬إال عتوا‬
‫َن آ َذ َن لَ ُك ْم }‪.‬‬
‫آم ْنتُ ْم لَهُ قَْب َل أ ْ‬
‫وضالال وتماديا في غيه وعنادا‪ ،‬فقال للسحرة‪َ { :‬‬
‫يتعجب ويعجب قومه من جراءتهم عليه‪ ،‬وإ قدامهم على اإليمان من غير إذنه ومؤامرته‪.‬‬
‫{ ِإَّنهُ لَ َكبِ ُير ُك ُم الَِّذي َعلَّ َم ُك ُم الس ْ‬
‫ِّح َر } هذا‪ ،‬وهو الذي جمع السحرة‪ ،‬ومأله‪ ،‬الذين أشاروا عليه‬
‫بجمعهم من مدائنهم‪ ،‬وقد علموا أنهم ما اجتمعوا بموسى‪ ،‬وال رأوه قبل ذلك‪ ،‬وأنهم جاءوا من‬
‫السحر‪ ،‬بما يحير الناظرين ويهيلهم‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فراج عليهم هذا القول‪ ،‬الذي هم بأنفسهم‪ ،‬وقفوا‬
‫على بطالنه‪ ،‬فال يستنكر على أهل هذه العقول‪ ،‬أن ال يؤمنوا بالحق الواضح‪ ،‬واآليات الباهرة‪،‬‬
‫ألنهم لو قال لهم فرعون عن أي شيء كان‪ ،‬إنه على خالف حقيقته‪ ،‬صدقوه‪.‬‬
‫الف } أي‪ :‬اليد اليمنى‪ ،‬والرجل اليسرى‪،‬‬ ‫ثم توعد السحرة فقال‪ { :‬ألقَطِّع َّن أ َْي ِدي ُكم وأَرجلَ ُكم ِم ْن ِخ ٍ‬
‫َ َْ ْ ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ين } لتختزوا‪ ،‬وتذلوا‪ .‬فقال‬ ‫كما يفعل بالمفسد في األرض‪ [ ،‬ص ‪ { ] 592‬وألصلِّبَّن ُكم أ ْ ِ‬
‫َج َمع َ‬ ‫َ ََ ْ‬
‫ض ْي َر } أي‪ :‬ال نبالي بما توعدتنا به‬
‫السحرة ‪ -‬حين وجدوا حالوة اإليمان وذاقوا لذته ‪ { :-‬ال َ‬
‫َن ُكَّنا‬
‫ط َاي َانا } من الكفر والسحر‪ ،‬وغيرهما { أ ْ‬ ‫َن َي ْغ ِف َر لََنا َربَُّنا َخ َ‬ ‫ون ِإَّنا َن ْ‬
‫ط َمعُ أ ْ‬ ‫ِ‬
‫{ ِإَّنا ِإلَى َربَِّنا ُم ْن َقلُب َ‬
‫ِ‬
‫ين } بموسى‪ ،‬من هؤالء الجنود‪ ،‬فثبتهم اهلل وصبرهم‪.‬‬ ‫أ ََّو َل اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫فيحتمل أن فرعون فعل بهم ما توعدهم به‪ ،‬لسلطانه‪ ،‬واقتداره إذ ذاك ويحتمل‪ ،‬أن اهلل منعه منهم‪،‬‬
‫ثم لم يزل فرعون وقومه‪ ،‬مستمرين على كفرهم‪ ،‬يأتيهم موسى باآليات البينات‪ ،‬وكلما جاءتهم‬
‫آية‪ ،‬وبلغت منهم كل مبلغ‪ ،‬وعدوا موسى‪ ،‬وعاهدوه لئن كشف اهلل عنهم‪ ،‬ليؤمنن به‪ ،‬وليرسلن‬
‫معه بني إسرائيل‪ ،‬فيكشفه اهلل‪ ،‬ثم ينكثون‪ ،‬فلما يئس موسى من إيمانهم‪ ،‬وحقت عليهم كلمة‬
‫العذاب‪ ،‬وآن لبني إسرائيل أن ينجيهم من أسرهم‪ ،‬ويمكن لهم في األرض‪ ،‬أوحى اهلل إلى موسى‪:‬‬
‫َس ِر بِ ِعَب ِادي }‪.‬‬
‫َن أ ْ‬
‫{ أْ‬
‫أي‪ :‬اخرج ببني إسرائيل أول الليل‪ ،‬ليتمادوا ويتمهلوا في ذهابهم‪ِ { .‬إَّن ُك ْم ُمتََّب ُع َ‬
‫ون } أي‪ :‬سيتبعكم‬
‫فرعون وجنوده‪.‬‬
‫ووقع كما أخبر‪ ،‬فإنهم لما أصبحوا‪ ،‬وإ ذا بنو إسرائيل قد سروا كلهم مع موسى‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } يجمعون الناس‪ ،‬ليوقع ببني إسرائيل‪ ،‬ويقول مشجعا‬ ‫{ فَأ َْر َس َل ف ْر َع ْو ُن في اْل َم َدائ ِن َحاش ِر َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لقومه‪ِ { :‬إ َّن َه ُؤالء } أي‪ :‬بني إسرائيل { لَش ْر ِذ َمةٌ َقليلُ َ‬
‫ون َوإِ َّنهُ ْم لََنا لَ َغائظُ َ‬
‫ون } ونريد أن ننفذ‬
‫غيظنا في هؤالء العبيد‪ ،‬الذين أبِقُوا منا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬الحذر على الجميع منهم‪ ،‬وهم أعداء للجميع‪ ،‬والمصلحة مشتركة‪،‬‬ ‫{ َوإِ َّنا لَ َجميعٌ َحاذ ُر َ‬
‫فخرج فرعون وجنوده‪ ،‬في جيش عظيم‪ ،‬ونفير عام‪ ،‬لم يتخلف منهم سوى أهل األعذار‪ ،‬الذين‬
‫منعهم العجز‪.‬‬
‫اهم ِم ْن جَّن ٍ‬
‫ات َو ُعُي ٍ‬
‫ون } أي‪ :‬بساتين مصر وجناتها الفائقة‪ ،‬وعيونها‬ ‫َ‬ ‫َخ َر ْجَن ُ ْ‬
‫قال اهلل تعالى‪ { :‬فَأ ْ‬
‫المتدفقة‪ ،‬وزروع قد مألت أراضيهم‪ ،‬وعمرت بها حاضرتهم وبواديهم‪.‬‬
‫{ َو َمقَ ٍام َك ِر ٍيم } يعجب الناظرين‪ ،‬ويلهي المتأملين‪ ،‬تمتعوا به دهرا طويال وقضوا بلذته وشهواته‪،‬‬
‫عمرا مديدا‪ ،‬على الكفر والفساد‪ ،‬والتكبر على العباد والتيه العظيم‪.‬‬
‫اها } أي‪ :‬هذه البساتين والعيون‪ ،‬والزروع‪ ،‬والمقام الكريم‪َ { ،‬بنِي ِإ ْس َرائِي َل } الذين‬ ‫{ َك َذِل َ‬
‫ك َوأ َْو َرثَْن َ‬
‫جعلوهم من قبل عبيدهم‪ ،‬وسخروا في أعمالهم الشاقة‪ ،‬فسبحان من يؤتي الملك من يشاء‪ ،‬وينزعه‬
‫ممن يشاء‪ ،‬ويعز من يشاء بطاعته‪ ،‬ويذل من يشاء بمعصيته‪.‬‬
‫وه ْم ُم ْش ِر ِق َ‬
‫ين } أي‪ :‬اتبع قوم فرعون قوم موسى‪ ،‬وقت شروق الشمس‪ ،‬وساقوا خلفهم‬ ‫{ فَأَتَْب ُع ُ‬
‫محثين‪ ،‬على غيظ وحنق قادرين‪.‬‬
‫( ‪)1/591‬‬

‫وسى } شاكين لموسى‬‫اب ُم َ‬


‫َص َح ُ‬ ‫ان } أي رأى كل منهما صاحبه‪ { ،‬قَا َل أ ْ‬ ‫اءى اْل َج ْم َع ِ‬ ‫{ َفلَ َّما تََر َ‬
‫ون } فـ { قَا َل } موسى‪ ،‬مثبتا لهم‪ ،‬ومخبرا لهم بوعد ربه الصادق‪ُ { :‬كال }‬ ‫وحزنين { ِإَّنا لَ ُم ْد َر ُك َ‬
‫أي‪ :‬ليس األمر كما ذكرتم‪ ،‬أنكم مدركون‪ِ { ،‬إ َّن َم ِعي َربِّي َسَي ْه ِد ِ‬
‫ين } لما فيه نجاتي ونجاتكم‪.‬‬ ‫َ‬
‫ان ُك ُّل‬
‫ق } اثني عشر طريقا { فَ َك َ‬
‫ك اْلَب ْح َر } فضربه { فَ ْان َفلَ َ‬ ‫ب بِ َع َ‬
‫صا َ‬ ‫اض ِر ْ‬ ‫{ فَأ َْو َح ْيَنا ِإلَى ُم َ‬
‫وسى أ ِ‬
‫َن ْ‬
‫ق َكالطَّ ْو ِد } أي‪ :‬الجبل { اْل َع ِظ ِيم } فدخله موسى وقومه‪.‬‬ ‫ِف ْر ٍ‬
‫ين } أي فرعون وقومه‪ ،‬قربناهم‪ ،‬وأدخلناهم في ذلك‬ ‫اآلخ ِر َ‬
‫{ َوأ َْزلَ ْفَنا ثََّم } في ذلك المكان { َ‬
‫الطريق‪ ،‬الذي سلك منه موسى وقومه‪.‬‬
‫ين } استكملوا خارجين‪ ،‬لم يتخلف منهم أحد‪.‬‬ ‫{ وأ َْنج ْيَنا موسى وم ْن معه أ ْ ِ‬
‫َج َمع َ‬ ‫َ َ ُ َ َ َ ََُ‬
‫ين } لم يتخلف منهم عن الغرق أحد‪.‬‬ ‫اآلخ ِر َ‬
‫َغ َر ْقَنا َ‬‫{ ثَُّم أ ْ‬
‫آليةً } عظيمة‪ ،‬على صدق ما جاء به موسى عليه السالم‪ ،‬وبطالن ما عليه فرعون‬ ‫ك َ‬ ‫{ ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ِ‬
‫ين } مع هذه اآليات المقتضية لإليمان‪ ،‬لفساد قلوبكم‪.‬‬‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ‬
‫وقومه‪َ { ،‬و َما َك َ‬
‫ك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬
‫يم } بعزته أهلك الكافرين المكذبين‪ ،‬وبرحمته نجى موسى‪ ،‬ومن معه‬ ‫الرح ُ‬ ‫{ َوإِ َّن َرَّب َ َُ َ‬
‫أجمعين‪.‬‬

‫( ‪)1/592‬‬

‫ظ ُّل لَهَا‬ ‫ِ‬ ‫اهيم (‪ِ )69‬إ ْذ قَ َ أِل ِ‬ ‫ِ ِ‬


‫اما فََن َ‬‫َصَن ً‬
‫ون (‪ )70‬قَالُوا َن ْعُب ُد أ ْ‬ ‫ال َبِيه َوقَ ْو ِمه َما تَ ْعُب ُد َ‬ ‫ِ‬
‫َو ْات ُل َعلَْيه ْم َنَبأَ إ ْب َر َ‬
‫ِِ‬
‫ون (‪ )73‬قَالُوا َب ْل َو َج ْدَنا‬ ‫ض ُّر َ‬ ‫ون ُك ْم أ َْو َي ُ‬‫ون (‪ )72‬أ َْو َي ْنفَ ُع َ‬ ‫ون ُك ْم ِإ ْذ تَ ْد ُع َ‬
‫ين (‪ )71‬قَا َل َه ْل َي ْس َم ُع َ‬ ‫َعاكف َ‬
‫ون (‪ )76‬فَِإَّنهُ ْم‬ ‫اؤ ُك ُم اأْل َ ْق َد ُم َ‬
‫ون (‪ )75‬أ َْنتُ ْم َوآََب ُ‬ ‫ون (‪ )74‬قَا َل أَفََرأ َْيتُ ْم َما ُك ْنتُ ْم تَ ْعُب ُد َ‬ ‫اءَنا َك َذِل َ‬
‫ك َي ْف َعلُ َ‬ ‫آََب َ‬
‫ين (‪)79‬‬ ‫ط ِع ُمنِي َوَي ْس ِق ِ‬ ‫ين (‪َ )78‬والَِّذي ُه َو ُي ْ‬ ‫ين (‪ )77‬الَِّذي َخلَقَنِي فَهَُو َي ْه ِد ِ‬ ‫ِ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫َع ُد ٌّو ِلي ِإاَّل َر َّ‬
‫َن َي ْغ ِف َر ِلي َخ ِط َيئتِي‬ ‫ط َمعُ أ ْ‬ ‫ين (‪َ )81‬والَِّذي أَ ْ‬ ‫ين (‪َ )80‬والَِّذي ُي ِميتُنِي ثَُّم ُي ْحيِ ِ‬ ‫ت فَهَُو َي ْش ِف ِ‬ ‫ضُ‬‫َوإِ َذا َم ِر ْ‬
‫ق ِفي‬‫ص ْد ٍ‬ ‫اجع ْل ِلي ِلسان ِ‬
‫َ َ‬ ‫ين (‪َ )83‬و ْ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ب لي ُح ْك ًما َوأَْلح ْقني بِالصَّالح َ‬
‫ب َه ْ ِ‬ ‫ين (‪َ )82‬ر ِّ‬ ‫َي ْو َم ِّ‬
‫الد ِ‬
‫ِّ‬ ‫اغ ِفر أِل َبِي ِإَّنه َك ِ‬ ‫اجعْلنِي ِم ْن ورثَ ِة َجَّن ِة َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪َ )86‬واَل‬ ‫ان م َن الضَّال َ‬ ‫ُ َ‬ ‫النعيم (‪َ )85‬و ْ ْ‬ ‫ََ‬ ‫ين (‪َ )84‬و ْ َ‬ ‫اآْل َخ ِر َ‬
‫ون (‪ِ )88‬إاَّل َم ْن أَتَى اللَّهَ بِ َقْل ٍب َسِل ٍيم (‪)89‬‬ ‫ون (‪َ )87‬ي ْو َم اَل َي ْنفَعُ َما ٌل َواَل َبُن َ‬ ‫تُ ْخ ِزنِي َي ْو َم ُي ْب َعثُ َ‬
‫ين (‪َ )91‬و ِق َ‬ ‫وأ ُْزِلفَ ِت اْلجَّنةُ ِلْلمتَِّقين (‪ )90‬وبِّر َز ِت اْلج ِح ِ‬
‫ون (‪)92‬‬ ‫يل لَهُ ْم أ َْي َن َما ُك ْنتُ ْم تَ ْعُب ُد َ‬ ‫يم لْل َغ ِاو َ‬
‫َ ُ‬ ‫َُ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫يس‬ ‫ود ِإْبل َ‬
‫ون (‪َ )94‬و ُجُن ُ‬ ‫ون (‪ )93‬فَ ُك ْبكُبوا فيهَا ُه ْم َواْل َغ ُاو َ‬ ‫ون ُك ْم أ َْو َي ْنتَص ُر َ‬
‫ص ُر َ‬
‫ون الله َه ْل َي ْن ُ‬ ‫م ْن ُد ِ‬
‫ين (‪ِ )97‬إ ْذ ُن َس ِّوي ُك ْم‬ ‫ضاَل ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪ )96‬تَالله ِإ ْن ُكَّنا لَفي َ‬ ‫ون (‪ )95‬قَالُوا َو ُه ْم فيهَا َي ْختَص ُم َ‬ ‫َج َم ُع َ‬
‫أْ‬
‫ق َح ِم ٍيم‬ ‫ص ِدي ٍ‬ ‫ين (‪َ )100‬واَل َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪ )99‬فَ َما لََنا م ْن َشافع َ‬
‫ب اْلعالَ ِمين (‪ )98‬وما أ َ َّ اَّل‬
‫َضلَنا ِإ اْل ُم ْج ِر ُم َ‬ ‫ََ‬ ‫بَِر ِّ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ين (‪ِ )102‬إ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫ِ‬ ‫َن لََنا َك َّرةً فََن ُك ِ‬
‫ين (‬ ‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ك آَل ََيةً َو َما َك َ‬ ‫ون م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬‫َ‬ ‫(‪َ )101‬فلَ ْو أ َّ‬
‫‪)103‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يم * ِإ ْذ قَا َل ألبِيه َوقَ ْو ِمه َما تَ ْعُب ُد َ‬
‫ون }‬ ‫ِ‬
‫{ ‪َ { } 104 - 69‬و ْات ُل َعلَْيه ْم َنَبأَ إ ْب َراه َ‬
‫إلى آخر هذه القصة { وإ ن ربك لهو العزيز الرحيم }‬
‫أي‪ :‬واتل يا محمد على الناس‪ ،‬نبأ إبراهيم الخليل‪ ،‬وخبره الجليل‪ ،‬في هذه الحالة بخصوصها‪،‬‬
‫وإ ال فله أنباء كثيرة‪ ،‬ولكن من أعجب أنبائه‪ ،‬وأفضلها‪ ،‬هذا النبأ المتضمن لرسالته‪ ،‬ودعوته‬
‫يه َوقَ ْو ِم ِه َما‬
‫ال ألبِ ِ‬‫قومه‪ ،‬ومحاجته إياهم‪ ،‬وإ بطاله ما هم عليه‪ ،‬ولذلك قيده بالظرف فقال‪ِ { :‬إ ْذ قَ َ‬
‫ِِ‬
‫ظ ُّل لَهَا َعاكف َ‬
‫ين‬ ‫اما } ننحتها ونعملها بأيدينا‪ { .‬فََن َ‬‫َصَن ً‬
‫ون * قَالُوا } متبجحين بعبادتهم‪َ { :‬ن ْعُب ُد أ ْ‬
‫تَ ْعُب ُد َ‬
‫} أي مقيمين على عبادتها في كثير من أوقاتنا‪ ،‬فقال لهم إبراهيم‪ ،‬مبينا لعدم استحقاقها للعبادة‪:‬‬
‫ون } فيستجيبون دعاءكم‪ ،‬ويفرجون كربكم‪ ،‬ويزيلون عنكم كل مكروه؟‪.‬‬ ‫ون ُك ْم ِإ ْذ تَ ْد ُع َ‬
‫{ َه ْل َي ْس َم ُع َ‬
‫ون } فأقروا أن ذلك كله‪ ،‬غير موجود فيها‪ ،‬فال تسمع دعاء‪ ،‬وال تنفع‪ ،‬وال‬ ‫ض ُّر َ‬
‫ون ُك ْم أ َْو َي ُ‬‫{ أ َْو َي ْنفَ ُع َ‬
‫ِ‬
‫وه ْم ِإ ْن َك ُانوا َي ْنطقُ َ‬
‫ون } قالوا له‪ { :‬لَقَ ْد‬ ‫تضر‪ ،‬ولهذا لما كسرها وقال‪َ { :‬ب ْل فَ َعلَهُ َكبِ ُير ُه ْم َه َذا فَ ْ‬
‫اسأَلُ ُ‬
‫ون } [ ص ‪ ] 593‬أي‪ :‬هذا أمر متقرر من حالها‪ ،‬ال يقبل اإلشكال والشك‪.‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫َعِل ْم َ‬
‫ت َما َه ُؤالء َي ْنطقُ َ‬
‫ون } فتبعناهم على ذلك‪،‬‬ ‫اءَنا َك َذِل َ‬
‫ك َي ْف َعلُ َ‬ ‫فلجأوا إلى تقليد آبائهم الضالين‪ ،‬فقالوا‪َ { :‬ب ْل َو َج ْدَنا َآب َ‬
‫وسلكنا سبيلهم‪ ،‬وحافظنا على عاداتهم‪ ،‬فقال لهم إبراهيم‪ :‬أنتم وآباءكم‪ ،‬كلكم خصوم في األمر‪،‬‬
‫والكالم مع الجميع واحد‪.‬‬
‫ون فَِإَّنهُ ْم َع ُد ٌّو ِلي } فليضروني بأدنى شيء من‬
‫اؤ ُك ُم األ ْق َد ُم َ‬
‫ون أ َْنتُ ْم َو َآب ُ‬
‫{ أَفََرأ َْيتُ ْم َما ُك ْنتُ ْم تَ ْعُب ُد َ‬
‫الضرر‪ ،‬وليكيدوني‪ ،‬فال يقدرون‪.‬‬
‫ين } هو المنفرد بنعمة الخلق‪ ،‬ونعمة الهداية للمصالح‬ ‫ين الَِّذي َخلَقَنِي فَهَُو َي ْه ِد ِ‬ ‫ِ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬‫{ ِإال َر َّ‬
‫الدينية والدنيوية‪.‬‬
‫ت فَهَُو َي ْش ِف ِ‬
‫ين‬ ‫ضُ‬ ‫ط ِع ُمنِي َوَي ْس ِق ِ‬
‫ين َوإِ َذا َم ِر ْ‬ ‫ثم خصص منها بعض الضروريات فقال‪َ { :‬والَِّذي ُه َو ُي ْ‬
‫ين } فهذا هو وحده المنفرد بذلك‪،‬‬ ‫َن َي ْغ ِف َر ِلي َخ ِط َيئتِي َي ْو َم ِّ‬
‫الد ِ‬ ‫ط َمعُ أ ْ‬ ‫ين َوالَِّذي أَ ْ‬
‫َوالَِّذي ُي ِميتُنِي ثَُّم ُي ْحيِ ِ‬
‫فيجب أن يفرد بالعبادة والطاعة‪ ،‬وتترك هذه األصنام‪ ،‬التي ال تخلق‪ ،‬وال تهدي‪ ،‬وال تمرض‪ ،‬وال‬
‫تشفي‪ ،‬وال تطعم وال تسقي‪ ،‬وال تميت‪ ،‬وال تحيي‪ ،‬وال تنفع عابديها‪ ،‬بكشف الكروب‪ ،‬وال مغفرة‬
‫الذنوب‪.‬‬
‫فهذا دليل قاطع‪ ،‬وحجة باهرة‪ ،‬ال تقدرون أنتم وآباؤكم على معارضتها‪ ،‬فدل على اشتراككم في‬
‫ُّوني ِفي اللَّ ِه‬
‫ال أَتُ َحاج ِّ‬
‫الضالل‪ ،‬وترككم طريق الهدى والرشد‪ .‬قال اهلل تعالى‪َ { :‬و َحاجَّهُ قَ ْو ُمهُ قَ َ‬
‫َوقَ ْد َه َد ِ‬
‫ان } اآليات‪.‬‬
‫ب ِلي ُح ْك ًما } أي‪ :‬علما كثيرا‪ ،‬أعرف به األحكام‪،‬‬ ‫ثم دعا عليه السالم ربه فقال‪َ { :‬ر ِّ‬
‫ب َه ْ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫والحالل والحرام‪ ،‬وأحكم به بين األنام‪َ { ،‬وأَْلح ْقني بِالصَّالح َ‬
‫ين } من إخوانه األنبياء والمرسلين‪.‬‬

‫( ‪)1/592‬‬

‫ِ‬ ‫ص ْد ٍ ِ‬
‫اجع ْل ِلي ِلسان ِ‬
‫ين } أي‪ :‬اجعل لي ثناء صدق‪ ،‬مستمر إلى آخر الدهر‪.‬‬ ‫ق في اآلخ ِر َ‬ ‫َ َ‬ ‫{ َو ْ َ‬
‫فاستجاب اهلل دعاءه‪ ،‬فوهب له من العلم والحكم‪ ،‬ما كان به من أفضل المرسلين‪ ،‬وألحقه بإخوانه‬
‫مثنى عليه‪ ،‬في جميع الملل‪ ،‬في كل األوقات‪.‬‬ ‫المرسلين‪ ،‬وجعله محبوبا مقبوال معظما ً‬
‫ين ِإَّنهُ ِم ْن ِعَب ِادَنا‬‫ِِ‬ ‫يم َك َذِل َ‬
‫ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ‬
‫ِ ِ‬
‫الم َعلَى إ ْب َراه َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫قال تعالى‪َ { :‬وتََر ْكَنا َعلَْيه في اآلخ ِر َ‬
‫ين َس ٌ‬
‫ِ‬
‫اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين }‪.‬‬
‫الن ِع ِيم } أي‪ :‬من أهل الجنة‪ ،‬التي يورثهم اهلل إياها‪ ،‬فأجاب اهلل دعاءه‪،‬‬ ‫اج َعْلنِي ِم ْن َو َرثَ ِة َجَّن ِة َّ‬
‫{ َو ْ‬
‫فرفع منزلته في جنات النعيم‪.‬‬
‫َستَ ْغ ِف ُر لَ َ‬
‫ك‬ ‫ين } وهذا الدعاء‪ ،‬بسبب الوعد الذي قال ألبيه‪َ { :‬سأ ْ‬
‫ِّ‬
‫ان م َن الضَّال َ‬
‫اغ ِفر ألبِي ِإَّنه َك ِ‬
‫ُ َ‬ ‫{ َو ْ ْ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ربِّي ِإَّنه َكان بِي ح ِفيًّا } قال تعالى‪ { :‬وما َكان ِ‬
‫يم ألبِيه ِإال َع ْن َم ْو ِع َدة َو َع َد َها ِإيَّاهُ‬
‫است ْغفَ ُار إ ْب َراه َ‬
‫ََ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫اهيم َّ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫َِّ ِ‬
‫يم }‪.‬‬ ‫ألواهٌ َحل ٌ‬ ‫َّن لَهُ أََّنهُ َع ُد ٌّو لله تََب َّرأَ م ْنهُ إ َّن إ ْب َر َ‬
‫َفلَ َّما تََبي َ‬
‫ون } أي‪ :‬بالتوبيخ على بعض الذنوب‪ ،‬والعقوبة عليها والفضيحة‪ ،‬بل‬ ‫{ َوال تُ ْخ ِزنِي َي ْو َم ُي ْب َعثُ َ‬
‫ون * ِإال َم ْن أَتَى اللَّهَ بِ َقْل ٍب َسِل ٍيم } فهذا‬ ‫أسعدني في ذلك اليوم الذي { ال َي ْنفَعُ } فيه { َما ٌل َوال َبُن َ‬
‫الذي ينفعه عندك وهذا الذي ينجو به من العقاب ويستحق جزيل الثواب‬
‫والقلب السليم معناه الذي سلم من الشرك والشك ومحبة الشر واإلصرار على البدعة والذنوب‬
‫ويلزم من سالمته مما ذكر اتصافه بأضدادها من اإلخالص والعلم واليقين ومحبة الخير وتزيينه‬
‫في قلبه وأن تكون إرادته ومحبته تابعة لمحبة اهلل وهواه تابعا لما جاء عن اهلل‬
‫ثم ذكر من صفات ذلك اليوم العظيم وما فيه من الثواب والعقاب فقال { َوأ ُْزِلفَ ِت اْل َجَّنةُ } أي قربت‬
‫ِ ِ‬
‫ين } ربهم الذين امتثلوا أوامره واجتنبوا زواجره واتقوا سخطه وعقابه‬ ‫{ لْل ُمتَّق َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } الذين أوضعوا في‬ ‫يم } أي برزت واستعدت بجميع ما فيها من العذاب { لْل َغ ِاو َ‬ ‫{ َوُبِّر َزت اْل َجح ُ‬
‫معاصي اهلل وتجرأوا على محارمه وكذبوا رسله وردوا ما جاءوهم به من الحق { َو ِق َ‬
‫يل لَهُ ْم أ َْي َن‬
‫ون } بأنفسهم أي فلم يكن من ذلك من‬ ‫ِ‬ ‫ما ُك ْنتُم تَعب ُدون * ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون ُك ْم أ َْو َي ْنتَص ُر َ‬
‫ص ُر َ‬
‫ون الله َه ْل َي ْن ُ‬ ‫ْ ُْ َ‬ ‫َ‬
‫شيء وظهر كذبهم وخزيهم والحت خسارتهم وفضيحتهم وبان ندمهم وضل سعيهم‬
‫ون } العابدون لها‬ ‫ِ ِ‬
‫{ فَ ُك ْبكُبوا فيهَا } أي ألقوا في النار { ُه ْم } أي ما كانوا يعبدون { َواْل َغ ُاو َ‬
‫{ وجُن ُ ِ‬
‫ون } من اإلنس والجن الذين َّأزهم إلى المعاصي ًّأزا وتسلط عليهم بشركهم‬
‫َج َم ُع َ‬ ‫ود ِإْبل َ‬
‫يس أ ْ‬ ‫َ ُ‬
‫وعدم إيمانهم فصاروا من دعاته والساعين في مرضاته وهم ما بين داع لطاعته ومجيب لهم‬
‫ومقلد لهم على شركهم‬
‫ض ٍ‬
‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين‬ ‫{ قَالُوا } أي جنود إبليس الغاوون ألصنامهم وأوثانهم التي عبدوها { تَالله ِإ ْن ُكَّنا لَفي َ‬
‫ين } في العبادة والمحبة والخوف والرجاء وندعوكم كما ندعوه فتبين لهم‬ ‫ِ‬ ‫ِإ ْذ ُن َس ِّوي ُك ْم بَِر ِّ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬
‫حينئذ ضاللهم وأقروا بعدل اهلل في عقوبتهم وأنها في محلها وهم لم يسووهم برب العالمين إال في‬
‫العبادة ال في الخلق بدليل قولهم { برب العالمين } إنهم مقرون أن اهلل رب العالمين كلهم الذين من‬
‫جملتهم أصنامهم وأوثانهم‬
‫َضلََّنا } عن طريق الهدى والرشد ودعانا إلى طريق الغي [ ص ‪ ] 594‬والفسق { ِإال‬ ‫{ َو َما أ َ‬
‫ون } وهم األئمة الذين يدعون إلى النار‬ ‫اْل ُم ْج ِر ُم َ‬
‫ين } يشفعون لنا لينقذونا من عذابه‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫{ فَ َما لََنا } حينئذ { م ْن َشافع َ‬
‫ق َح ِم ٍيم } أي قريب مصاف ينفعنا بأدنى نفع كما جرت العادة بذلك في الدنيا فأيسوا‬ ‫ص ِدي ٍ‬
‫{ َوال َ‬
‫من كل خير وأبلسوا بما كسبوا وتمنوا العودة إلى الدنيا ليعملوا صالحا‬
‫ِ‬ ‫َن لََنا َك َّرةً } أي رجعة إلى الدنيا وإ عادة إليها { فََن ُك ِ‬
‫ين } لنسلم من العقاب‬ ‫ون م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫َ‬ ‫{ َفلَ ْو أ َّ‬
‫ونستحق الثواب هيهات هيهات قد حيل بينهم وبين ما يشتهون وقد غلقت منهم الرهون‬
‫ِ‬ ‫{ ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين } مع نزول‬ ‫آليةً } لكم { َو َما َك َ‬
‫ك } الذي ذكرنا لكم ووصفنا { َ‬
‫ك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬
‫يم }‬
‫الرح ُ‬ ‫{وإِ َّن َرَّب َ َُ َ‬
‫اآليات َ‬

‫( ‪)1/593‬‬

‫ين (‪ِ )105‬إ ْذ قَ َ‬ ‫ِ‬ ‫يم (‪َ )104‬ك َّذَب ْ‬ ‫ك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬
‫وح أَاَل‬
‫وه ْم ُن ٌ‬ ‫َخ ُ‬ ‫ال لَهُ ْم أ ُ‬ ‫وح اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫ت قَ ْو ُم ُن ٍ‬ ‫الرح ُ‬ ‫َوإِ َّن َرَّب َ َُ َ‬
‫َج ٍر‬‫َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه ِم ْن أ ْ‬
‫ون (‪َ )108‬و َما أ ْ‬ ‫يع ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين (‪ )107‬فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ‬ ‫َم ٌ‬‫تَتَّقُون (‪ِ )106‬إِّني لَ ُكم رسو ٌل أ ِ‬
‫َْ ُ‬ ‫َ‬
‫ك َواتََّب َع َ‬ ‫ون (‪ )110‬قَالُوا أَُن ْؤ ِم ُن لَ َ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي ِإاَّل َعلَى َر ِّ‬
‫ك‬ ‫يع ِ‬ ‫ين (‪ )109‬فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ‬ ‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫ِإ ْن أ ْ‬
‫َج ِر َ‬
‫اَّل‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون (‬ ‫ون (‪ِ )112‬إ ْن ح َس ُابهُ ْم ِإ َعلَى َربِّي لَ ْو تَ ْش ُع ُر َ‬ ‫ون (‪ )111‬قَا َل َو َما عْلمي بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬ ‫اأْل َْر َذلُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين (‪ِ )114‬إ ْن أََنا ِإاَّل َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ‬ ‫ِ‬
‫وح‬
‫ين (‪ )115‬قَالُوا لَئ ْن لَ ْم تَْنتَه َيا ُن ُ‬ ‫ط ِار ِد اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫‪َ )113‬و َما أََنا بِ َ‬
‫ون (‪ )117‬فَا ْفتَ ْح َب ْينِي َوَب ْيَنهُ ْم فَتْ ًحا َوَنجِّنِي‬ ‫ب ِإ َّن قَ ْو ِمي َك َّذُب ِ‬ ‫ين (‪ )116‬قَا َل َر ِّ‬ ‫لَتَ ُك َ ِ‬
‫ون َّن م َن اْل َم ْر ُجو ِم َ‬
‫َغ َر ْقَنا َب ْع ُد‬
‫ون (‪ )119‬ثَُّم أ ْ‬ ‫ين (‪ )118‬فَأ َْن َج ْيَناهُ َو َم ْن َم َعهُ ِفي اْل ُفْل ِك اْل َم ْش ُح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َو َم ْن َمع َي م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫َّك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين (‪ِ )120‬إ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫ِ‬
‫يم (‬‫الرح ُ‬ ‫ين (‪َ )121‬وإِ َّن َرب َ َُ َ‬ ‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ‬‫ك آَل ََيةً َو َما َك َ‬ ‫اْلَباق َ‬
‫‪)122‬‬
‫ين } إلى آخر القصة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪َ { } 122 - 105‬ك َّذَب ْ‬
‫وح اْل ُم ْر َسل َ‬
‫ت قَ ْو ُم ُن ٍ‬
‫يذكر تعالى‪ ،‬تكذيب قوم نوح لرسولهم نوح‪ ،‬وما رد عليهم وردوا عليه‪ ،‬وعاقبة الجميع فقال‪:‬‬
‫ين } جميعهم‪ ،‬وجعل تكذيب نوح‪ ،‬كتكذيب جميع المرسلين‪ ،‬ألنهم كلهم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫{ َك َّذَب ْ‬
‫وح اْل ُم ْر َسل َ‬
‫ت قَ ْو ُم ُن ٍ‬
‫اتفقوا على دعوة واحدة‪ ،‬وأخبار واحدة‪ ،‬فتكذيب أحدهم‪ ،‬تكذيب‪ ،‬بجميع ما جاءوا به من الحق‪.‬‬
‫وح } وإ نما ابتعث اهلل الرسل‪ ،‬من نسب من أرسل‬
‫وه ْم } في النسب { ُن ٌ‬
‫َخ ُ‬ ‫ك ّذبوه { ِإ ْذ قَ َ‬
‫ال لَهُ ْم أ ُ‬
‫إليهم‪ ،‬لئال يشمئزوا من االنقياد له‪ ،‬وألنهم يعرفون حقيقته‪ ،‬فال يحتاجون أن يبحثوا عنه‪ ،‬فقال لهم‬
‫مخاطبا بألطف خطاب ‪ -‬كما هي طريقة الرسل‪ ،‬صلوات اهلل وسالمه عليهم ‪ { : -‬أَال تَتَّقُ َ‬
‫ون }‬
‫اهلل‪ ،‬تعالى‪ ،‬فتتركون ما أنتم مقيمون عليه‪ ،‬من عبادة األوثان‪ ،‬وتخلصون العبادة هلل وحده‪.‬‬
‫ين } فكونه رسوال إليهم بالخصوص‪ ،‬يوجب لهم تلقي ما أرسل به إليهم‪،‬‬ ‫{ ِإِّني لَ ُكم رسو ٌل أ ِ‬
‫َم ٌ‬ ‫َْ ُ‬
‫واإليمان به‪ ،‬وأن يشكروا اهلل تعالى‪ ،‬على أن خصهم بهذا الرسول الكريم‪ ،‬وكونه أمينا يقتضي أنه‬
‫ال يتقول على اهلل‪ ،‬وال يزيد في وحيه‪ ،‬وال ينقص‪ ،‬وهذا يوجب لهم التصديق بخبره والطاعة‬
‫ألمره‪.‬‬
‫َّ ِ‬
‫{ فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ‬
‫يع ِ‬
‫ون } فيما آمركم به‪ ،‬وأنهاكم عنه‪ ،‬فإن هذا هو الذي يترتب على كونه رسوال‬
‫إليهم‪ ،‬أمينا‪ ،‬فلذلك رتبه بالفاء الدالة على السبب‪ ،‬فذكر السبب الموجب‪ ،‬ثم ذكر انتفاء المانع فقال‪:‬‬
‫َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه ِم ْن أ ْ‬
‫َج ٍر }‪.‬‬ ‫{ َو َما أ ْ‬
‫ِ‬ ‫ي ِإال َعلَى َر ِّ‬ ‫فتتكلفون من المغرم الثقيل‪ِ { ،‬إ ْن أ ْ‬
‫ين } أرجو بذلك القرب منه‪ ،‬والثواب‬ ‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫َج ِر َ‬
‫الجزيل‪ ،‬وأما أنتم فمنيتي‪ ،‬ومنتهى إرادتي منكم‪ ،‬النصح لكم‪ ،‬وسلوككم الصراط المستقيم‪.‬‬
‫َّ ِ‬
‫ون } كرر ذلك عليه السالم‪ ،‬لتكريره دعوة قومه‪ ،‬وطول مكثه في ذلك‪ ،‬كما‬ ‫يع ِ‬ ‫{ فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ‬
‫ت قَ ْو ِمي لَْيال َوَنهَ ًارا َفلَ ْم‬
‫ب ِإِّني َد َع ْو ُ‬ ‫ِ‬ ‫ث ِفي ِهم أَْل َ ٍ‬
‫اما } وقال‪َ { :‬ر ِّ‬ ‫ف َسَنة ِإال َخ ْمس َ‬
‫ين َع ً‬ ‫قال تعالى { َفلَبِ َ ْ‬
‫َي ِز ْد ُه ْم ُد َعائِي ِإال ِف َر ًارا } اآليات‪.‬‬
‫ون } أي‪:‬‬
‫األر َذلُ َ‬
‫ك ْ‬ ‫ك َواتََّب َع َ‬
‫فقالوا ردا لدعوته‪ ،‬ومعارضة له بما ليس يصلح للمعارضة‪ { :‬أَُن ْؤ ِم ُن لَ َ‬
‫كيف نتبعك ونحن ال نرى أتباعك إال أسافل الناس‪ ،‬وأراذلهم‪ ،‬وسقطهم‪ .‬بهذا يعرف تكبرهم عن‬
‫الحق‪ ،‬وجهلهم بالحقائق‪ ،‬فإنهم لو كان قصدهم الحق‪ ،‬لقالوا ‪ -‬إن كان عندهم إشكال وشك في‬
‫دعوته ‪ّ -‬بين لنا صحة ما جئت به بالطرق الموصلة إلى ذلك‪ ،‬ولو تأملوا حق التأمل‪ ،‬لعلموا أن‬
‫أتباعه‪ ،‬هم األعلون‪ ،‬خيار الخلق‪ ،‬أهل العقول الرزينة‪ ،‬واألخالق الفاضلة‪ ،‬وأن األرذل‪ ،‬من‬
‫سلب خاصية عقله‪ ،‬فاستحسن عبادة األحجار‪ ،‬ورضي أن يسجد لها‪ ،‬ويدعوها‪ ،‬وأبى االنقياد‬
‫لدعوة الرسل الكمل‪ .‬وبمجرد ما يتكلم أحد الخصمين في الكالم الباطل‪ ،‬يعرف فساد ما عنده‬
‫بقطع النظر عن صحة دعوى خصمه‪ ،‬فقوم نوح‪ ،‬لما سمعنا عنهم‪ ،‬أنهم قالوا في ردهم دعوة‬
‫ون } فبنوا على هذا األصل‪ ،‬الذي كل أحد يعرف فساده‪ ،‬رد‬
‫األر َذلُ َ‬
‫ك ْ‬ ‫ك َواتََّب َع َ‬
‫نوح‪ { :‬أَُن ْؤ ِم ُن لَ َ‬
‫دعوته ‪ -‬عرفنا أنهم ضالون مخطئون‪ ،‬ولو لم نشاهد من آيات نوح ودعوته العظيمة‪ ،‬ما يفيد‬
‫الجزم واليقين‪ ،‬بصدقه وصحة ما جاء به‪.‬‬

‫( ‪)1/594‬‬

‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون * ِإ ْن ح َس ُابهُ ْم ِإال َعلَى َربِّي لَ ْو تَ ْش ُع ُر َ‬
‫ون }‬ ‫فقال نوح عليه السالم‪َ { :‬و َما عْلمي بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫أي أعمالهم وحسابهم على اهلل إنما علي التبليغ وأنتم دعوهم عنكم إن كان ما جئتكم به الحق‬
‫فانقادوا له وكل له عمله‬
‫ِ‬
‫ين } كأنهم ‪ -‬قبحهم اهلل ‪ -‬طلبوا منه أن يطردهم عنه تكبرا وتجبرا‬ ‫ط ِار ِد اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫{ َو َما أََنا بِ َ‬
‫ِ‬
‫ين } فإنهم ال يستحقون الطرد واإلهانة وإ نما يستحقون‬ ‫ط ِار ِد اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ليؤمنوا فقال { َو َما أََنا بِ َ‬
‫ِ‬ ‫اإلكرام القولي والفعلي كما قال تعالى { وإِ َذا جاء َ َِّ‬
‫ب‬ ‫ون بِ َآياتَنا فَ ُق ْل َس ٌ‬
‫الم َعلَْي ُك ْم َكتَ َ‬ ‫ين ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ك الذ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫َرُّب ُك ْم َعلَى َن ْف ِس ِه َّ‬
‫الر ْح َمةَ }‬
‫ين } أي ما أنا إال منذر ومبلغ عن اهلل ومجتهد في نصح العباد وليس لي من‬ ‫{ ِإ ْن أََنا ِإال َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ‬
‫األمر شيء إن األمر إال هلل ‪.‬‬
‫[ ص ‪] 595‬‬
‫فاستمر نوح عليه الصالة والسالم على دعوتهم ليال ونهارا سرا وجهارا فلم يزدادوا إال نفورا و {‬
‫قَالُوا لَئِ ْن لَم تَْنتَ ِه يا ُنوح } من دعوتك إيانا إلى اهلل وحده { لَتَ ُك َ ِ‬
‫ين } أي لنقتلك شر‬ ‫ون َّن م َن اْل َم ْر ُجو ِم َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬
‫قتلة بالرمي بالحجارة كما يقتل الكلب فتبا لهم ما أقبح هذه المقابلة يقابلون الناصح األمين الذي هو‬
‫أشفق عليهم من أنفسهم بشر مقابلة ال جرم لما انتهى ظلمهم واشتد كفرهم دعا عليهم نبيهم بدعوة‬
‫ِ‬ ‫ب ال تَ َذر علَى األر ِ ِ‬
‫َّارا } اآليات‬ ‫ض م َن اْل َكاف ِر َ‬
‫ين َدي ً‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫أحاطت بهم فقال { َر ِّ‬
‫ون * فَا ْفتَ ْح َب ْينِي َوَب ْيَنهُ ْم فَتْ ًحا } أي أهلك الباغي منا وهو يعلم أنهم‬
‫ب ِإ َّن قَ ْو ِمي َك َّذُب ِ‬
‫وهنا { قَا َل َر ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫البغاة الظلمة ولهذا قال { َوَنجِّني َو َم ْن َمع َي م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين }‬
‫ون } من الخلق والحيوانات‬ ‫{ فَأ َْن َج ْيَناهُ َو َم ْن َم َعهُ ِفي اْل ُفْل ِك } أي السفينة { اْل َم ْش ُح ِ‬
‫ين } أي جميع قومه‬ ‫ِ‬
‫َغ َر ْقَنا َب ْع ُد } أي بعد نوح ومن معه من المؤمنين { اْلَباق َ‬ ‫{ ثَُّم أ ْ‬
‫آليةً } دالة على صدق رسلنا وصحة ما‬ ‫ك } أي نجاة نوح وأتباعه وإ هالك من كذبه { َ‬ ‫{ ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫جاءوا به وبطالن ما عليه أعداؤهم المكذبون بهم‬
‫ك لَهو اْلع ِز ُيز } الذي قهر بعزه أعداءه فأغرقهم بالطوفان { َّ ِ‬
‫يم } بأوليائه حيث نجى‬
‫الرح ُ‬ ‫{ َوإِ َّن َرَّب َ َُ َ‬
‫نوحا ومن معه من أهل اإليمان‬
‫( ‪)1/594‬‬

‫ين (‬‫َم ٌ‬‫ود أَاَل تَتَّقُون (‪ِ )124‬إِّني لَ ُكم رسو ٌل أ ِ‬ ‫وه ْم ُه ٌ‬ ‫ين (‪ِ )123‬إ ْذ قَا َل لَهُ ْم أ ُ‬ ‫ِ‬ ‫َك َّذَب ْ‬
‫َْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َخ ُ‬ ‫اد اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫ت َع ٌ‬
‫ِ‬ ‫ي ِإاَّل َعلَى َر ِّ‬ ‫َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه ِم ْن أ ْ‬
‫َج ٍر ِإ ْن أ ْ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين (‬ ‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫َج ِر َ‬ ‫ون (‪َ )126‬و َما أ ْ‬ ‫يع ِ‬‫‪ )125‬فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ‬
‫يع آَيةً تَعبثُون (‪ )128‬وتَتَّ ِخ ُذون م ِ َّ‬
‫ط ْشتُ ْم‬‫ون (‪َ )129‬وإِ َذا َب َ‬ ‫صان َع لَ َعل ُك ْم تَ ْخلُ ُد َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ون بِ ُك ِّل ِر ٍ َ ْ َ َ‬ ‫‪ )127‬أَتَْبُن َ‬
‫َّ َِّ‬ ‫َّ ِ‬
‫َم َّد ُك ْم‬
‫ون (‪ )132‬أ َ‬ ‫َم َّد ُك ْم بِ َما تَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون (‪َ )131‬واتقُوا الذي أ َ‬ ‫ين (‪ )130‬فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ‬
‫يع ِ‬ ‫َّار َ‬‫ط ْشتُ ْم َجب ِ‬ ‫َب َ‬
‫اب َي ْوٍم َع ِظ ٍيم (‪ )135‬قَالُوا‬ ‫اف َعلَْي ُك ْم َع َذ َ‬‫َخ ُ‬ ‫ون (‪ِ )134‬إِّني أ َ‬ ‫ات َو ُعُي ٍ‬ ‫بِأ َْنع ٍام وبنِين (‪ )133‬وجَّن ٍ‬
‫َ َ‬ ‫َ ََ َ‬
‫ين (‪ِ )136‬إ ْن َه َذا ِإاَّل ُخلُ ُ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪َ )137‬و َما َن ْح ُن‬ ‫ق اأْل ََّوِل َ‬ ‫ت أ َْم لَ ْم تَ ُك ْن م َن اْل َواعظ َ‬ ‫ظَ‬ ‫اء َعلَْيَنا أ ََو َع ْ‬
‫َس َو ٌ‬
‫ِ‬ ‫اه ْم ِإ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫ين (‪ )138‬فَ َك َّذُبوهُ فَأ ْ‬ ‫َّ‬
‫ين (‪)139‬‬ ‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫ك آَل ََيةً َو َما َك َ‬ ‫َهلَ ْكَن ُ‬ ‫بِ ُم َعذبِ َ‬

‫ين } إلى آخر القصة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪َ { } 140 - 123‬ك َّذَب ْ‬


‫اد اْل ُم ْر َسل َ‬
‫ت َع ٌ‬
‫أي‪ :‬كذبت القبيلة المسماة عادا‪ ،‬رسولهم هودا‪ ،‬وتكذيبهم له تكذيب لغيره‪ ،‬التفاق الدعوة‪.‬‬
‫ود } بلطف وحسن خطاب‪ { :‬أَال تَتَّقُ َ‬
‫ون } اهلل‪ ،‬فتتركون‬ ‫وه ْم } في النسب { ُه ُ‬ ‫َخ ُ‬ ‫{ ِإ ْذ قَا َل لَهُ ْم أ ُ‬
‫الشرك وعبادة غيره‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬أرسلني اهلل إليكم‪ ،‬رحمة بكم‪ ،‬واعتناء بكم‪ ،‬وأنا أمين‪ ،‬تعرفون ذلك‬ ‫{ ِإِّني لَ ُكم رسو ٌل أ ِ‬
‫َم ٌ‬ ‫َْ ُ‬
‫َّ ِ‬
‫مني‪ ،‬رتب على ذلك قوله‪ { :‬فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ‬
‫يع ِ‬
‫ون }‪.‬‬
‫أي‪ :‬أدوا حق اهلل تعالى‪ ،‬وهو التقوى‪ ،‬وأدوا حقي‪ ،‬بطاعتي فيما آمركم به‪ ،‬وأنهاكم عنه‪ ،‬فهذا‬
‫موجب‪ ،‬ألن تتبعوني وتطيعوني وليس ثََّم مانع يمنعكم من اإليمان‪ ،‬فلست أسألكم على تبليغي‬
‫ِ‬ ‫ي ِإال َعلَى َر ِّ‬ ‫إياكم‪ ،‬ونصحي لكم‪ ،‬أجرا‪ ،‬حتى تستثقلوا ذلك المغرم‪ِ { .‬إ ْن أ ْ‬
‫ين } الذي‬
‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫َج ِر َ‬
‫وأدر عليهم فضله وكرمه‪ ،‬خصوصا ما ربَّى به أولياءه وأنبياءه‪.‬‬ ‫رباهم بنعمه‪َّ ،‬‬
‫ون } أي‪ :‬تفعلون ذلك عبثا‬‫يع } أي‪ :‬مدخل بين الجبال { َآيةً } أي‪ :‬عالمة { تَ ْعَبثُ َ‬ ‫ون بِ ُك ِّل ِر ٍ‬
‫{ أَتَْبُن َ‬
‫لغير فائدة تعود بمصالح دينكم ودنياكم‪.‬‬
‫ون } والحال أنه ال سبيل إلى الخلود‬ ‫َّ‬ ‫{ وتَتَّ ِخ ُذون م ِ‬
‫صان َع } أي‪ :‬بركا ومجابي للحياة { لَ َعل ُك ْم تَ ْخلُ ُد َ‬
‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ألحد‪.‬‬
‫ين } قتال وضربا‪ ،‬وأخذ أموال‪ .‬وكان اهلل تعالى قد أعطاهم‬ ‫ط ْشتُ ْم َجب ِ‬
‫َّار َ‬ ‫ط ْشتُ ْم } بالخلق { َب َ‬ ‫{ َوإِ َذا َب َ‬
‫قوة عظيمة‪ ،‬وكان الواجب عليهم أن يستعينوا بقوتهم على طاعة اهلل‪ ،‬ولكنهم فخروا‪ ،‬واستكبروا‪،‬‬
‫وقالوا‪َ { :‬م ْن أَ َش ُّد ِمَّنا قَُّوةً } واستعملوا قوتهم في معاصي اهلل‪ ،‬وفي العبث والسفه‪ ،‬فلذلك نهاهم‬
‫نبيهم عن ذلك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫{ فَاتَّقُوا اللهَ } واتركوا شرككم وبطركم { َوأَط ُ‬
‫يع ِ‬
‫ون } حيث علمتم أني رسول اهلل إليكم‪ ،‬أمين‬
‫ناصح‪.‬‬
‫َّ َِّ‬
‫َم َّد ُك ْم } أي‪ :‬أعطاكم { بِ َما تَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون } أي‪ :‬أمدكم بما ال يجهل وال ينكر من اإلنعام‪.‬‬ ‫{ َواتقُوا الذي أ َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ين } أي‪ :‬وكثرة نسل‪ ،‬كثر أموالكم‪ ،‬وكثر أوالدكم‪،‬‬ ‫َم َّد ُك ْم بِأ َْن َعام } من إبل وبقر وغنم { َوَبن َ‬
‫{ أَ‬
‫خصوصا الذكور‪ ،‬أفضل القسمين‪.‬‬
‫اب َي ْوٍم َع ِظ ٍيم }‪.‬‬
‫اف َعلَْي ُك ْم َع َذ َ‬ ‫هذا تذكيرهم بالنعم‪ ،‬ثم ذكرهم حلول عذاب اهلل فقال‪ِ { :‬إِّني أ َ‬
‫َخ ُ‬
‫أي‪ :‬إني ‪ -‬من شفقتي عليكم وبري بكم ‪ -‬أخاف أن ينزل بكم عذاب يوم عظيم‪ ،‬إذا نزل ال يرد‪،‬‬
‫إن استمريتم على كفركم وبغيكم‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬الجميع‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ت أ َْم لَ ْم تَ ُك ْن م َن اْل َواعظ َ‬
‫ظَ‬‫اء َعلَْيَنا أ ََو َع ْ‬
‫فقالوا معاندين للحق مكذبين لنبيهم‪َ { :‬س َو ٌ‬
‫على حد سواء‪ ،‬وهذا غاية العتو‪ ،‬فإن قوما بلغت بهم الحال إلى أن صارت مواعظ اهلل‪ ،‬التي تذيب‬
‫الجبال الصم الصالب‪ ،‬وتتصدع لها أفئدة أولي األلباب‪ ،‬وجودها وعدمها ‪-‬عندهم‪ -‬على حد‬
‫سواء‪ ،‬لقوم انتهى ظلمهم‪ ،‬واشتد شقاؤهم‪ ،‬وانقطع الرجاء من هدايتهم‪ ،‬ولهذا قالوا‪:‬‬

‫( ‪)1/595‬‬

‫األوِل َ‬
‫ين }‪.‬‬ ‫ق َّ‬ ‫{ ِإ ْن َه َذا ِإال ُخلُ ُ‬
‫أي‪ :‬هذه األحوال والنعم‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬عادة األولين‪ ،‬تارة يستغنون‪ ،‬وتارة يفتقرون‪ ،‬وهذه أحوال‬
‫الدهر‪ ،‬ال أن هذه محن ومنح من اهلل تعالى‪ ،‬وابتالء لعباده‪.‬‬
‫َّ‬
‫ين } وهذا إنكار منهم للبعث‪ ،‬أو تنزل مع نبيهم وتهكم به‪ ،‬إننا على فرض أننا‬ ‫{ َو َما َن ْح ُن بِ ُم َعذبِ َ‬
‫أدرت علينا النعم في الدنيا‪ ،‬كذلك ال تزال مستمرة علينا إذا بعثنا‪.‬‬ ‫نبعث‪ ،‬فإننا كما َّ‬
‫يح‬‫اه ْم } { بِ ِر ٍ‬ ‫{ فَ َك َّذُبوهُ } أي‪ :‬صار التكذيب سجية لهم وخلقا‪ ،‬ال يردعهم عنه رادع‪ { ،‬فَأ ْ‬
‫َهلَ ْكَن ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ‬
‫ص ْر َعى َكأََّنهُ ْم‬ ‫ص ٍر َعاتَية * َس َّخ َر َها َعلَْيه ْم َس ْب َع لََيال َوثَ َمانَيةَ أَيَّام ُح ُس ً‬
‫وما فَتََرى اْلقَ ْو َم فيهَا َ‬ ‫ص ْر َ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫َع َج ُاز َن ْخ ٍل َخ ِاوَية }‬ ‫أْ‬
‫آليةً } على صدق نبينا هود عليه السالم وصحة ما جاء به وبطالن ما عليه قومه‬ ‫ك َ‬‫{ ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ِ‬
‫ين } [ ص ‪ ] 596‬مع وجود اآليات المقتضية‬‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ‬
‫من الشرك والجبروت { َو َما َك َ‬
‫لإليمان‬
‫ك لَهَُو اْل َع ِز ُيز } الذي أهلك بقوته قوم هود على قوتهم وبطشهم‬
‫{ َوإِ َّن َرَّب َ‬
‫يم } بنبيه هود حيث نجاه ومن معه من المؤمنين‬ ‫{ َّ ِ‬
‫الرح ُ‬

‫( ‪)1/595‬‬
‫ص ِال ٌح أَاَل‬
‫وه ْم َ‬
‫َخ ُ‬ ‫ين (‪ِ )141‬إ ْذ قَ َ‬
‫ال لَهُ ْم أ ُ‬ ‫ِ‬
‫ود اْل ُم ْر َسل َ‬
‫ت ثَ ُم ُ‬‫يم (‪َ )140‬ك َّذَب ْ‬ ‫ك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫َوإِ َّن َرَّب َ َُ َ‬
‫َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه ِم ْن أ ْ‬
‫َج ٍر‬ ‫ون (‪َ )144‬و َما أ ْ‬ ‫يع ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين (‪ )143‬فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ‬ ‫َم ٌ‬ ‫تَتَّقُون (‪ِ )142‬إِّني لَ ُكم رسو ٌل أ ِ‬
‫َْ ُ‬ ‫َ‬
‫َمنِين (‪ِ )146‬في جَّن ٍ‬ ‫ب اْلعالَ ِمين (‪ )145‬أَتُتْر ُكون ِفي ما َه ُ ِ‬ ‫َج ِر اَّل‬
‫ون (‬ ‫ات َو ُعُي ٍ‬ ‫َ‬ ‫اهَنا آ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ي ِإ َعلَى َر ِّ َ َ‬ ‫ِإ ْن أ ْ َ‬
‫َّ‬ ‫ون ِم َن اْل ِجَب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وع َوَن ْخ ٍل َ‬
‫ين (‪ )149‬فَاتَّقُوا اللهَ‬ ‫ال ُبُيوتًا فَ ِار ِه َ‬ ‫يم (‪َ )148‬وتَْنحتُ َ‬ ‫طْل ُعهَا َهض ٌ‬ ‫‪َ )147‬و ُز ُر ٍ‬
‫ض واَل ي ِ‬ ‫ون (‪ )150‬واَل تُ ِطيعوا أَمر اْلمس ِر ِفين (‪ )151‬الَِّذين ي ْف ِس ُد ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‬ ‫صل ُح َ‬ ‫ون في اأْل َْر ِ َ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َْ ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫يع ِ‬
‫َوأَط ُ‬
‫ِِ‬ ‫ْت بِآَي ٍة ِإ ْن ُك ْن َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت ِم َن اْل ُم َسح ِ‬
‫ين‬
‫ت م َن الصَّادق َ‬ ‫ت ِإاَّل َب َشٌر مثْلَُنا فَأ َ‬ ‫ين (‪َ )153‬ما أ َْن َ‬ ‫َّر َ‬ ‫‪ )152‬قَالُوا ِإَّن َما أ َْن َ‬
‫اب‬ ‫ُّوها بِ ُسو ٍء فََيأ ُ‬ ‫ب َي ْوٍم َم ْعلُ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ال َه ِذ ِه َناقَةٌ لَهَا ِش ْر ٌ‬
‫ْخ َذ ُك ْم َع َذ ُ‬ ‫وم (‪َ )155‬واَل تَ َمس َ‬ ‫ب َولَ ُك ْم ش ْر ُ‬ ‫(‪ )154‬قَ َ‬
‫ان‬‫ك آَل ََيةً َو َما َك َ‬‫اب ِإ َّن ِفي َذِل َ‬‫َخ َذ ُه ُم اْل َع َذ ُ‬
‫ين (‪ )157‬فَأ َ‬ ‫ِِ‬
‫َصَب ُحوا َنادم َ‬ ‫وها فَأ ْ‬ ‫َي ْوٍم َع ِظ ٍيم (‪ )156‬فَ َعقَ ُر َ‬
‫ك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪)159‬‬ ‫الرح ُ‬ ‫ين (‪َ )158‬وإِ َّن َرَّب َ َُ َ‬ ‫أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ‬

‫ين } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪َ { } 159 - 141‬ك َّذَب ْ‬


‫ود اْل ُم ْر َسل َ‬
‫ت ثَ ُم ُ‬
‫ين } كذبوا صالحا‬ ‫ِ‬ ‫إلى آخر القصة { َك َّذَب ْ‬
‫ود } القبيلة المعروفة في مدائن الحجر { اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫ت ثَ ُم ُ‬
‫عليه السالم‪ ،‬الذي جاء بالتوحيد‪ ،‬الذي دعت إليه المرسلون‪ ،‬فكان تكذيبهم له تكذيبا للجميع‪.‬‬
‫وهم ِ‬
‫ون } اهلل تعالى‪ ،‬وتدعون الشرك‬ ‫صال ٌح } في النسب‪ ،‬برفق ولين‪ { :‬أَال تَتَّقُ َ‬ ‫َخ ُ ْ َ‬ ‫{ ِإ ْذ قَا َل لَهُ ْم أ ُ‬
‫والمعاصي‪.‬‬
‫{ ِإِّني لَ ُك ْم َر ُسو ٌل } من اهلل ربكم‪ ،‬أرسلني إليكم‪ ،‬لطفا بكم ورحمة‪ ،‬فتلقوا رحمته بالقبول‪ ،‬وقابلوها‬
‫ين } تعرفون ذلك مني‪ ،‬وذلك يوجب عليكم أن تؤمنوا بي‪ ،‬وبما جئت به‪.‬‬ ‫باإلذعان‪ { ،‬أ ِ‬
‫َم ٌ‬
‫ي ِإال‬ ‫َج ٍر } فتقولون‪ :‬يمنعنا من اتباعك‪ ،‬أنك تريد أخذ أموالنا‪ِ { ،‬إ ْن أ ْ‬
‫َج ِر َ‬ ‫َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه ِم ْن أ ْ‬
‫{ َو َما أ ْ‬
‫ين } أي‪ :‬ال أطلب الثواب إال منه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َعلَى َر ِّ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬
‫ِ‬ ‫آمنِين * ِفي جَّن ٍ‬
‫اهَنا ِ‬
‫يم } أي نضيد‬ ‫وع َوَن ْخ ٍل َ‬
‫طْل ُعهَا َهض ٌ‬ ‫ات َو ُعُي ٍ‬
‫ون * َو ُز ُر ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ون ِفي َما َه ُ‬ ‫{ أَتُتَْر ُك َ‬
‫كثير أي أتحسبون أنكم تتركون في هذه الخيرات والنعم سدى تتنعمون وتتمتعون كما تتمتع‬
‫األنعام وتتركون سدى ال تؤمرون وال تنهون وتستعينون بهذه النعم على معاصي اهلل‬
‫ين } أي بلغت بكم الفراهة والحذق إلى أن اتخذتم بيوتا من‬ ‫ون ِم َن اْل ِجَب ِ‬
‫ال ُبُيوتًا فَ ِار ِه َ‬
‫ِ‬
‫{ َوتَْنحتُ َ‬
‫الجبال الصم الصالب‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫يعوا أ َْم َر اْل ُم ْس ِر ِف َ‬
‫ين } الذين تجاوزوا الحد‬ ‫ون * َوال تُط ُ‬ ‫يع ِ‬‫{ فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ‬
‫ض وال ي ِ‬ ‫{ الَِّذين ي ْف ِس ُد ِ‬
‫ون } أي الذين وصفهم ودأبهم اإلفساد في األرض بعمل‬ ‫صل ُح َ‬ ‫األر ِ َ ُ ْ‬ ‫ون في ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫المعاصي والدعوة إليها إفسادا ال إصالح فيه وهذا أضر ما يكون ألنه شر محض وكأن أناسا‬
‫عندهم مستعدون لمعارضة نبيهم موضعون في الدعوة لسبيل الغي فنهاهم صالح عن االغترار‬
‫ض وال ي ِ‬ ‫بهم ولعلهم الذين قال اهلل فيهم { و َكان ِفي اْلم ِد َين ِة تِسعةُ ر ْه ٍط ي ْف ِس ُد ِ‬
‫ون }‬
‫صل ُح َ‬‫األر ِ َ ُ ْ‬ ‫ون في ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ين } أي قد سحرت فأنت‬ ‫ت ِم َن اْل ُم َسح ِ‬
‫َّر َ‬ ‫فلم يفد فيهم هذا النهي والوعظ شيئا فقالوا لصالح { ِإَّن َما أ َْن َ‬
‫تهذي بما ال معنى له‬
‫ت ِم َن‬
‫ْت بِ َآي ٍة ِإ ْن ُك ْن َ‬
‫ت ِإال ب َشر ِمثْلَُنا } فأي فضيلة فقتنا بها حتى تدعونا إلى اتباعك؟ { فَأ ِ‬
‫{ َما أ َْن َ َ ٌ‬
‫ين } هذا مع أن مجرد اعتبار حالته وحالة ما دعا إليه من أكبر اآليات البينات على صحة‬ ‫ِِ‬
‫الصَّادق َ‬
‫ما جاء به وصدقه ولكنهم من قسوتهم سألوا آيات االقتراح التي في الغالب ال يفلح من طلبها لكون‬
‫طلبه مبنيا على التعنت ال على االسترشاد‬
‫فقال صالح { َه ِذ ِه َناقَةُ } تخرج من صخرة صماء ملساء ترونها وتشاهدونها بأجمعكم { لَهَا ِش ْر ٌ‬
‫ب‬
‫وم } أي تشرب ماء البئر يوما وأنتم تشربون لبنها ثم تصدر عنكم اليوم اآلخر‬ ‫ب َي ْوٍم َم ْعلُ ٍ‬ ‫ِ‬
‫َولَ ُك ْم ش ْر ُ‬
‫وتشربون أنتم ماء البئر‬
‫اب َي ْوٍم َع ِظ ٍيم } فخرجت واستمرت عندهم‬ ‫ُّوها بِ ُسو ٍء } بعقر أو غيره { فََيأ ُ‬
‫ْخ َذ ُك ْم َع َذ ُ‬ ‫{ َوال تَ َمس َ‬
‫بتلك الحال فلم يؤمنوا واستمروا على طغيانهم‬
‫اب } وهي صيحة نزلت عليهم‪ ،‬فدمرتهم أجمعين‪،‬‬ ‫ِِ‬
‫َخ َذ ُه ُم اْل َع َذ ُ‬
‫ين * فَأ َ‬
‫َصَب ُحوا َنادم َ‬ ‫وها فَأ ْ‬ ‫{ فَ َعقَ ُر َ‬
‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم‬
‫آليةً } على صدق ما جاءت به رسلنا‪ ،‬وبطالن قول معارضيهم‪َ { ،‬و َما َك َ‬ ‫ك َ‬ ‫{ ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫َّك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم }‪.‬‬
‫الرح ُ‬ ‫ين َوإِ َّن َرب َ َُ َ‬ ‫ُم ْؤ ِمن َ‬

‫( ‪)1/596‬‬

‫ين (‬
‫َم ٌ‬ ‫وهم لُوطٌ أَاَل تَتَّقُون (‪ِ )161‬إِّني لَ ُكم رسو ٌل أ ِ‬ ‫ين (‪ِ )160‬إ ْذ قَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َك َّذَب ْ‬
‫َْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َخ ُ ْ‬ ‫ال لَهُ ْم أ ُ‬ ‫ت قَ ْو ُم لُوط اْل ُم ْر َسل َ‬
‫ِ‬ ‫ي ِإاَّل َعلَى َر ِّ‬ ‫َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه ِم ْن أ ْ‬
‫َج ٍر ِإ ْن أ ْ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين (‬ ‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫َج ِر َ‬ ‫ون (‪َ )163‬و َما أ ْ‬ ‫يع ِ‬‫‪ )162‬فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ‬
‫اج ُك ْم َب ْل أ َْنتُ ْم قَ ْو ٌم‬‫ق لَ ُكم رُّب ُكم ِم ْن أ َْزو ِ‬ ‫ِ‬ ‫الذ ْكر ِ‬ ‫ُّ‬
‫َ‬ ‫ون َما َخلَ َ ْ َ ْ‬ ‫ين (‪َ )165‬وتَ َذ ُر َ‬ ‫ان م َن اْل َعالَم َ‬ ‫ون َ َ‬ ‫‪ )164‬أَتَأْتُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ادون (‪ )166‬قَالُوا لَئِ ْن لَم تَْنتَ ِه يا لُوطُ لَتَ ُك َ ِ‬
‫ال ِإِّني ل َع َمل ُك ْم م َن اْلقَال َ‬
‫ين‬ ‫ين (‪ )167‬قَ َ‬ ‫ون َّن م َن اْل ُم ْخ َر ِج َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َع ُ َ‬
‫وزا ِفي‬ ‫ين (‪ِ )170‬إاَّل َع ُج ً‬ ‫َهلَه أ ْ ِ‬
‫َج َمع َ‬ ‫َّيَناهُ َوأ ْ ُ‬‫ون (‪ )169‬فََنج ْ‬ ‫ب َنجِّنِي وأ ْ ِ ِ‬
‫َهلي م َّما َي ْع َملُ َ‬ ‫َ‬ ‫(‪َ )168‬ر ِّ‬
‫ين (‪)173‬‬ ‫ط ُر اْل ُم ْن َذ ِر َ‬
‫اء َم َ‬ ‫ط ْرَنا َعلَْي ِه ْم َم َ‬
‫ط ًرا فَ َس َ‬ ‫ين (‪َ )172‬وأ َْم َ‬ ‫ين (‪ )171‬ثَُّم َد َّم ْرَنا اآْل َ َخ ِر َ‬ ‫اْل َغابِ ِر َ‬
‫ِ‬ ‫ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ين (‪)174‬‬ ‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ك آَل ََيةً َو َما َك َ‬

‫ين } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫{ ‪َ { } 175 - 160‬ك َّذَب ْ‬


‫ت قَ ْو ُم لُوط اْل ُم ْر َسل َ‬
‫إلى آخر القصة‪ ،‬قال لهم وقالوا كما قال من قبلهم‪ ،‬تشابهت قلوبهم في الكفر‪ ،‬فتشابهت أقوالهم‪،‬‬
‫وكانوا ‪ -‬مع شركهم ‪ -‬يأتون فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين‪ ،‬يختارون نكاح الذكران‪،‬‬
‫المستقذر الخبيث‪ ،‬ويرغبون عما خلق لهم من أزواجهم إلسرافهم وعدوانهم فلم يزل ينهاهم حتى‬
‫{ قَالُوا } له { لَئِ ْن لَم تَْنتَ ِه يا لُوطُ لَتَ ُك َ ِ‬
‫ين } أي‪ :‬من البلد‪ ،‬فلما رأى استمرارهم عليه‬ ‫ون َّن م َن اْل ُم ْخ َر ِج َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ين } أي‪ :‬المبغضين له الناهين عنه‪ ،‬المحذرين‪.‬‬ ‫{ قَا َل ِإِّني ل َع َمل ُك ْم م َن اْلقَال َ‬
‫ون } من فعله وعقوبته فاستجاب اهلل له‪.‬‬ ‫ب َنجِّنِي وأ ْ ِ ِ‬ ‫{ َر ِّ‬
‫َهلي م َّما َي ْع َملُ َ‬ ‫َ‬
‫َجم ِعين * ِإال عج ً ِ‬
‫ين } أي الباقين في العذاب وهي امرأته‬ ‫وزا في اْل َغابِ ِر َ‬ ‫َُ‬ ‫َهلَهُ أ ْ َ َ‬ ‫َّيَناهُ َوأ ْ‬
‫{ فََنج ْ‬
‫ط ُر اْل ُم ْن َذ ِر َ‬
‫ين }‬ ‫اء َم َ‬
‫ط ًرا } أي حجارة من سجيل { فَ َس َ‬ ‫ط ْرَنا َعلَْي ِه ْم َم َ‬
‫ين * َوأ َْم َ‬ ‫اآلخ ِر َ‬
‫{ ثَُّم َد َّم ْرَنا َ‬
‫أهلكهم اهلل عن آخرهم‬

‫( ‪)1/596‬‬

‫ين (‪ِ )176‬إ ْذ قَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬


‫ب أَاَل‬‫ال لَهُ ْم ُش َع ْي ٌ‬ ‫اب اأْل َْي َكة اْل ُم ْر َسل َ‬
‫َص َح ُ‬
‫بأ ْ‬‫يم (‪َ )175‬كذ َ‬ ‫الرح ُ‬ ‫َوإِ َّن َرَّب َ َُ َ‬
‫َج ٍر‬‫َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه ِم ْن أ ْ‬
‫ون (‪َ )179‬و َما أ ْ‬ ‫يع ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين (‪ )178‬فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ‬
‫تَتَّقُون (‪ِ )177‬إِّني لَ ُكم رسو ٌل أ ِ‬
‫َم ٌ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ب اْلعالَ ِمين (‪ )180‬أَوفُوا اْل َكْي َل واَل تَ ُك ُ ِ‬ ‫َج ِر اَّل‬
‫ين (‪َ )181‬و ِزُنوا‬ ‫ونوا م َن اْل ُم ْخس ِر َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي ِإ َعلَى َر ِّ َ َ‬ ‫ِإ ْن أ ْ َ‬
‫الناس أَ ْشياء ُهم واَل تَعثَوا ِفي اأْل َر ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ط ِ‬ ‫بِاْل ِق ْس َ‬
‫ين (‪)183‬‬ ‫ض ُم ْفسد َ‬ ‫ْ‬ ‫اس اْل ُم ْستَقيم (‪َ )182‬واَل تَْب َخ ُسوا َّ َ َ َ ْ َ ْ ْ‬
‫ت ِإاَّل َب َشٌر‬
‫ين (‪َ )185‬و َما أ َْن َ‬ ‫ت ِم َن اْل ُم َسح ِ‬
‫َّر َ‬ ‫ين (‪ )184‬قَالُوا ِإَّن َما أ َْن َ‬ ‫َّ‬ ‫َِّ‬
‫َواتَّقُوا الذي َخلَقَ ُك ْم َواْل ِجبِلةَ اأْل ََّوِل َ‬
‫ِِ‬ ‫اء ِإ ْن ُك ْن َ ِ‬
‫ط علَْيَنا ِكسفًا ِمن السَّم ِ‬ ‫ك لَ ِمن اْل َك ِاذبِين (‪ )186‬فَأ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪)187‬‬ ‫ت م َن الصَّادق َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َسق ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫م ْثلَُنا َوإِ ْن َنظُُّن َ َ‬
‫اب َي ْوٍم َع ِظ ٍيم (‬ ‫َُّّ ِ‬ ‫ون (‪ )188‬فَ َك َّذُبوهُ فَأ َ‬
‫اب َي ْوِم الظلة ِإَّنهُ َك َ‬
‫ان َع َذ َ‬ ‫َخ َذ ُه ْم َع َذ ُ‬ ‫َعلَ ُم بِ َما تَ ْع َملُ َ‬‫ال َربِّي أ ْ‬ ‫قَ َ‬
‫َّك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪ِ )189‬إ َّن ِفي َذِل َ‬
‫يم (‪)191‬‬ ‫الرح ُ‬ ‫ين (‪َ )190‬وإِ َّن َرب َ َُ َ‬ ‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ك آَل ََيةً َو َما َك َ‬

‫ك لَهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ِإ َّن ِفي َذِل َ‬


‫يم } { ‪{ } 191 - 176‬‬ ‫الرح ُ‬ ‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين * َوإِ َّن َرَّب َ َُ َ‬ ‫آليةً َو َما َك َ‬
‫ك َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َك َّذب أَصحاب ْ ِ‬
‫األي َكة اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫َ َْ ُ‬
‫أصحاب األيكة‪ :‬أي‪ :‬البساتين الملتفة أشجارها (‪ )1‬وهم أصحاب مدين‪ ،‬فكذبوا نبيهم شعيبا‪ ،‬الذي‬
‫جاء بما جاء به المرسلون‪.‬‬
‫ون } اهلل تعالى‪ ،‬فتتركون ما يسخطه [ ص ‪ ] 597‬ويغضبه‪ ،‬من الكفر‬ ‫ب أَال تَتَّقُ َ‬‫{ ِإ ْذ قَا َل لَهُ ْم ُش َع ْي ٌ‬
‫والمعاصي‪.‬‬
‫ين } يترتب على ذلك‪ ،‬أن تتقوا اهلل وتطيعون‪.‬‬ ‫َم ٌ‬‫{ ِإِّني لَ ُكم رسو ٌل أ ِ‬
‫َْ ُ‬
‫وكانوا ‪ -‬مع شركهم ‪ -‬يبخسون المكاييل والموازين‪ ،‬فلذلك قال لهم‪ { :‬أ َْوفُوا اْل َكْي َل } أي‪ :‬أتموه‬
‫ِ‬ ‫وأكملوه { وال تَ ُك ُ ِ‬
‫ين } الذين ينقصون الناس أموالهم ويسلبونها ببخس المكيال‬ ‫ونوا م َن اْل ُم ْخس ِر َ‬ ‫َ‬
‫والميزان‪.‬‬
‫اس اْل ُم ْستَِق ِيم } أي‪ :‬بالميزان العادل‪ ،‬الذي ال يميل‪.‬‬
‫ط ِ‬‫{ َو ِزُنوا بِاْل ِق ْس َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬أشجاره‪.‬‬

‫( ‪)1/596‬‬

‫ين } أي‪ :‬الخليقة األولين‪ ،‬فكما انفرد بخلقكم‪ ،‬وخلق من قبلكم‬ ‫{ َواتَّقُوا الَِّذي َخلَقَ ُك ْم َواْل ِجبِلَّةَ َّ‬
‫األوِل َ‬
‫من غير مشارك له في ذلك‪ ،‬فأفردوه بالعبادة والتوحيد‪ ،‬وكما أنعم عليكم باإليجاد واإلمداد بالنعم‪،‬‬
‫فقابلوه بشكره‪.‬‬
‫ين } فأنت تهذي وتتكلم كالم المسحور‪،‬‬ ‫ت ِم َن اْل ُم َسح ِ‬
‫َّر َ‬ ‫قالوا له‪ ،‬مكذبين له‪ ،‬رادين لقوله‪ِ { :‬إَّن َما أ َْن َ‬
‫الذي غايته أن ال يؤاخذ به‪.‬‬
‫ت ِإال َب َشٌر ِم ْثلَُنا } فليس فيك فضيلة‪ ،‬اختصصت بها علينا‪ ،‬حتى تدعونا إلى اتباعك‪ ،‬وهذا‬ ‫{ َو َما أ َْن َ‬
‫مثل قول من قبلهم ومن بعدهم‪ ،‬ممن عارضوا الرسل بهذه الشبهة‪ ،‬التي لم يزالوا‪ ،‬يدلون بها‬
‫ويصولون‪ ،‬ويتفقون عليها‪ ،‬التفاقهم على الكفر‪ ،‬وتشابه قلوبهم‪.‬‬
‫وقد أجابت عنها الرسل بقولهم‪ { :‬إن نحن إال بشر مثلكم ولكن اهلل يمن على من يشاء من عباده‬
‫}‪.‬‬
‫ِ‬ ‫{ وإِ ْن َنظُُّن َ ِ‬
‫ين } وهذا جراءة منهم وظلم‪ ،‬وقول زور‪ ،‬قد انطووا على خالفه‪ ،‬فإنه ما‬ ‫ك لَم َن اْل َكاذبِ َ‬ ‫َ‬
‫من رسول من الرسل‪ ،‬واجه قومه ودعاهم‪ ،‬وجادلهم وجادلوه‪ ،‬إال وقد أظهر اهلل على يديه من‬
‫اآليات‪ ،‬ما به يتيقنون صدقه وأمانته‪ ،‬خصوصا شعيبا عليه السالم‪ ،‬الذي يسمى خطيب األنبياء‪،‬‬
‫لحسن مراجعته قومه‪ ،‬ومجادلتهم بالتي هي أحسن‪ ،‬فإن قومه قد تيقنوا صدقه‪ ،‬وأن ما جاء به‬
‫حق‪ ،‬ولكن إخبارهم عن ظن كذبه‪ ،‬كذب منهم‪.‬‬
‫ين } كقول‬ ‫ِِ‬ ‫اء } أي‪ :‬قطع عذاب تستأصلنا‪ِ { .‬إ ْن ُك ْن َ ِ‬ ‫ط علَْيَنا ِكسفًا ِمن السَّم ِ‬ ‫{ فَأ ِ‬
‫ت م َن الصَّادق َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َسق ْ َ‬
‫ْ‬
‫اء أ َِو ا ْئتَِنا‬
‫ك فَأَم ِطر علَْيَنا ِحجارةً ِمن السَّم ِ‬
‫ََ َ َ‬
‫إخوانهم { وإِ ْذ قَالُوا اللَّه َّم ِإ ْن َكان َه َذا ُهو اْلح َّ ِ ِ ِ‬
‫ق م ْن ع ْند َ ْ ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫اب أَِل ٍيم } أو أنهم طلبوا بعض آيات االقتراح‪ ،‬التي ال يلزم تتميم مطلوب من سألها‪.‬‬ ‫بِ َع َذ ٍ‬

‫َعلَ ُم بِ َما تَ ْع َملُ َ‬


‫ون } أي‪ :‬نزول العذاب‪ ،‬ووقوع آيات االقتراح‪،‬‬ ‫{ قَا َل } شعيب عليه السالم‪َ { :‬ربِّي أ ْ‬
‫لست أنا الذي آتي بها وأنزلها بكم‪ ،‬وليس علي إال تبليغكم ونصحكم وقد فعلت‪ ،‬وإ نما الذي يأتي‬
‫بها ربي‪ ،‬العالم بأعمالكم وأحوالكم‪ ،‬الذي يجازيكم ويحاسبكم‪.‬‬
‫{ فَ َك َّذُبوهُ } أي‪ :‬صار التكذيب لهم‪ ،‬وصفا والكفر لهم ديدنا‪ ،‬بحيث ال تفيدهم اآليات‪ ،‬وليس بهم‬
‫حيلة إال نزول العذاب‪.‬‬
‫اب َي ْوِم الظُّلَّ ِة } أظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها مستلذين‪ ،‬لظلها غير الظليل‪،‬‬
‫َخ َذ ُه ْم َع َذ ُ‬
‫{ فَأ َ‬
‫فأحرقتهم بالعذاب‪ ،‬فظلوا تحتها خامدين‪ ،‬ولديارهم مفارقين‪ ،‬ولدار الشقاء والعذاب نازلين‪.‬‬
‫اب َي ْوٍم َع ِظ ٍيم } ال كرة لهم إلى الدنيا‪ ،‬فيستأنفوا العمل‪ ،‬وال يفتر عنهم العذاب ساعة‪،‬‬ ‫ان َع َذ َ‬ ‫{ ِإَّنهُ َك َ‬
‫وال هم ينظرون‪.‬‬
‫آليةً } دالة على صدق شعيب‪ ،‬وصحة ما دعا إليه‪ ،‬وبطالن رد قومه عليه‪َ { ،‬و َما‬ ‫ك َ‬ ‫{ ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ِ‬
‫الن ِ‬
‫اس‬ ‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين } مع رؤيتهم اآليات‪ ،‬ألنهم ال زكاء فيهم‪ ،‬وال خير لديهم { َو َما أَ ْكثَُر َّ‬ ‫َك َ‬
‫ِ‬
‫ت بِ ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين }‪.‬‬ ‫صَ‬ ‫َولَ ْو َح َر ْ‬
‫ك لَهو اْلع ِز ُيز } الذي امتنع بقدرته‪ ،‬عن إدراك أحد‪ ،‬وقهر كل مخلوق‪ِ َّ { .‬‬
‫يم } الذي‬ ‫الرح ُ‬ ‫{ َوإِ َّن َرَّب َ َُ َ‬
‫الرحمة وصفه ومن آثارها‪ ،‬جميع الخيرات في الدنيا واآلخرة‪ ،‬من حين أوجد اهلل العالم إلى ما ال‬
‫نهاية له‪ .‬ومن عزته أن أهلك أعداءه حين كذبوا رسله‪ ،‬ومن رحمته‪ ،‬أن نجى أولياءه ومن اتبعهم‬
‫من المؤمنين‪.‬‬

‫( ‪)1/597‬‬

‫ِ‬ ‫ك ِلتَ ُك ِ‬ ‫ين (‪َ )193‬علَى َقْلبِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ين (‪َ )192‬ن َز َل بِ ِه ُّ‬ ‫ِ‬
‫ين (‬ ‫ون م َن اْل ُم ْنذ ِر َ‬ ‫َ‬ ‫وح اأْل َم ُ‬ ‫الر ُ‬ ‫ب اْل َعالَم َ‬‫َوإِ َّنهُ لَتَْن ِزي ُل َر ِّ‬
‫ِ‬ ‫‪ )194‬بِِل َس ٍ‬
‫اء‬
‫َن َي ْعلَ َمهُ ُعلَ َم ُ‬
‫ين (‪ )196‬أ ََولَ ْم َي ُك ْن لَهُ ْم آََيةً أ ْ‬ ‫ين (‪َ )195‬وإِ َّنهُ لَفي ُزُب ِر اأْل ََّوِل َ‬ ‫ان َع َربِ ٍّي ُمبِ ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض اأْل ْ ِ‬ ‫َبنِي ِإ ْس َرائِ َ‬
‫ين (‬ ‫ين (‪ )198‬فَقََرأَهُ َعلَْي ِه ْم َما َك ُانوا بِه ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫َع َجم َ‬ ‫يل (‪ )197‬ولَ ْو َن َّزْلَناهُ َعلَى َب ْع ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك َسلَ ْكَناهُ ِفي ُقلُ ِ‬ ‫‪َ )199‬ك َذِل َ‬
‫يم (‪)201‬‬ ‫ون بِه َحتَّى َي َر ُوا اْل َع َذ َ‬
‫اب اأْل َل َ‬ ‫ين (‪ )200‬اَل ُي ْؤ ِمُن َ‬ ‫وب اْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ون (‪)203‬‬ ‫ِ‬
‫ظ ُر َ‬
‫ون (‪ )202‬فََيقُولُوا َه ْل َن ْح ُن ُم ْن َ‬ ‫فََيأْتَيهُ ْم َب ْغتَةً َو ُه ْم اَل َي ْش ُع ُر َ‬

‫ون ِم َن‬ ‫األمين * علَى َقْلبِ َ ِ‬


‫ك لتَ ُك َ‬ ‫ُ َ‬
‫الروح ِ‬ ‫ِ‬
‫ين * َن َز َل بِه ُّ ُ‬
‫ِ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬‫{ ‪َ { } 203 - 192‬وإِ َّنهُ لَتَْن ِزي ُل َر ِّ‬
‫اء َبنِي‬
‫َن َي ْعلَ َمهُ ُعلَ َم ُ‬ ‫ين * َوإِ َّنهُ لَِفي ُزُب ِر َّ‬
‫األوِل َ‬
‫ين * أ ََولَ ْم َي ُك ْن لَهُ ْم َآيةً أ ْ‬ ‫ان َع َربِ ٍّي ُمبِ ٍ‬ ‫ين * بِِل َس ٍ‬ ‫ِ‬
‫اْل ُم ْنذ ِر َ‬
‫ك َسلَ ْكَناهُ‬‫ين * َك َذِل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين * فَقََرأَهُ َعلَْي ِه ْم َما َك ُانوا بِه ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ض ْ ِ‬
‫األع َجم َ‬ ‫ِإ ْس َرائِي َل * ولَ ْو َن َّزْلَناهُ َعلَى َب ْع ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِفي ُقلُ ِ‬
‫ون *‬ ‫يم * فََيأْتَيهُ ْم َب ْغتَةً َو ُه ْم ال َي ْش ُع ُر َ‬ ‫اب األل َ‬‫ون بِه َحتَّى َي َر ْوا اْل َع َذ َ‬
‫ين * ال ُي ْؤ ِمُن َ‬ ‫وب اْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ظ ُر َ‬ ‫فََيقُولُوا َه ْل َن ْح ُن ُم ْن َ‬
‫لما ذكر قصص األنبياء مع أممهم‪ ،‬وكيف دعوهم‪ ،‬و [ما] (‪ )1‬ردوا عليهم به; وكيف أهلك اهلل‬
‫أعداءهم‪ ،‬وصارت لهم العاقبة‪.‬‬
‫ذكر هذا الرسول الكريم‪ ،‬والنبي المصطفى العظيم وما جاء به من الكتاب‪ ،‬الذي فيه هداية ألولي‬
‫ين } فالذي أنزله‪ ،‬فاطر األرض والسماوات‪ ،‬المربي‬ ‫ِ‬ ‫األلباب فقال‪َ { :‬وإِ َّنهُ لَتَنزي ُل َر ِّ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬
‫جميع العالم‪ ،‬العلوي والسفلي‪ ،‬وكما أنه رباهم بهدايتهم لمصالح دنياهم وأبدانهم‪ ،‬فإنه يربيهم‬
‫أيضا‪ ،‬بهدايتهم لمصالح دينهم وأخراهم‪ ،‬ومن أعظم ما رباهم به‪ ،‬إنزال هذا الكتاب الكريم‪ ،‬الذي‬
‫[ ص ‪ ] 598‬اشتمل على الخير الكثير‪ ،‬والبر الغزير‪ ،‬وفيه من الهداية‪ ،‬لمصالح الدارين‪،‬‬
‫ين } من تعظيمه وشدة‬ ‫ِ‬ ‫واألخالق الفاضلة‪ ،‬ما ليس في غيره‪ ،‬وفي قوله‪َ { :‬وإِ َّنهُ لَتَنزي ُل َر ِّ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬
‫االهتمام فيه‪ ،‬من كونه نزل من اهلل‪ ،‬ال من غيره‪ ،‬مقصودا فيه نفعكم وهدايتكم‪.‬‬
‫ين }‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ نز َل بِ ِه ُّ‬
‫ين } وهو جبريل عليه السالم‪ ،‬الذي هو أفضل المالئكة وأقواهم { األم ُ‬ ‫وح األم ُ‬
‫الر ُ‬
‫الذي قد أمن أن يزيد فيه أو ينقص‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ك } يا محمد { ِلتَ ُك ِ‬ ‫{ َعلَى َقْلبِ َ‬
‫ين } تهدي به إلى طريق الرشاد‪ ،‬وتنذر به عن طريق‬ ‫ون م َن اْل ُم ْنذ ِر َ‬
‫َ‬
‫الغي‪.‬‬
‫ان َعَربِ ٍّي } وهو أفضل األلسنة‪ ،‬بلغة من بعث إليهم‪ ،‬وباشر دعوتهم أصال اللسان البين‬ ‫{ بِِل َس ٍ‬
‫الواضح‪ .‬وتأمل كيف اجتمعت هذه الفضائل الفاخرة في هذا الكتاب الكريم‪ ،‬فإنه أفضل الكتب‪،‬‬
‫نزل به أفضل المالئكة‪ ،‬على أفضل الخلق‪ ،‬على أفضل بضعة فيه وهي قلبه‪ ،‬على أفضل أمة‬
‫أخرجت للناس‪ ،‬بأفضل األلسنة وأفصحها‪ ،‬وأوسعها‪ ،‬وهو‪ :‬اللسان العربي المبين‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬قد بشرت به كتب األولين وصدقته‪ ،‬وهو لما نزل‪ ،‬طبق ما أخبرت‬ ‫{ َوإِ َّنهُ لَِفي ُزُب ِر َّ‬
‫األوِل َ‬
‫به‪ ،‬صدقها‪ ،‬بل جاء بالحق‪ ،‬وصدق المرسلين‪.‬‬
‫اء َبنِي ِإ ْس َرائِ َ‬
‫يل } الذي قد انتهى‬ ‫َن َي ْعلَ َمهُ ُعلَ َم ُ‬
‫{ أ ََولَ ْم َي ُك ْن لَهُ ْم َآيةً } على صحته‪ ،‬وأنه من اهلل { أ ْ‬
‫إليهم العلم‪ ،‬وصاروا أعلم الناس‪ ،‬وهم أهل الصنف‪ ،‬فإن كل شيء يحصل به اشتباه‪ ،‬يرجع فيه‬
‫إلى أهل الخبرة والدراية‪ ،‬فيكون قولهم حجة على غيرهم‪ ،‬كما عرف السحرة الذين مهروا في‬
‫علم السحر‪ ،‬صدق معجزة موسى‪ ،‬وأنه ليس بسحر‪ ،‬فقول الجاهلين بعد هذا‪ ،‬ال يؤبه به‪.‬‬
‫ين } الذين ال يفقهون لسانهم‪ ،‬وال يقدرون على التعبير لهم كما‬ ‫ض ْ ِ‬ ‫{ ولَ ْو نزْلَناهُ َعلَى َب ْع ِ‬
‫األع َجم َ‬ ‫َ‬
‫ينبغي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ فَقََرأَهُ َعلَْي ِه ْم َما َك ُانوا بِه ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين } يقولون‪ :‬ما نفقه ما يقول‪ ،‬وال ندري ما يدعو إليه‪ ،‬فليحمدوا‬
‫ربهم‪ ،‬أن جاءهم على لسان أفصح الخلق‪ ،‬وأقدرهم على التعبير عن المقاصد‪ ،‬بالعبارات‬
‫الواضحة‪ ،‬وأنصحهم‪ ،‬وليبادروا إلى التصديق به‪ ،‬وتلقيه بالتسليم والقبول‪ ،‬ولكن تكذيبهم له من‬
‫غير شبهة‪ ،‬إن هو إال محض الكفر والعناد‪ ،‬وأمر قد توارثته األمم المكذبة‪ ،‬فلهذا قال‪َ { :‬ك َذِل َ‬
‫ك‬
‫ين } أي‪ :‬أدخلنا التكذيب‪ ،‬وأنظمناه في قلوب أهل اإلجرام‪ ،‬كما يدخل‬ ‫وب اْل ُم ْج ِر ِم َ‬‫َسلَ ْكَناهُ ِفي ُقلُ ِ‬

‫السلك في اإلبرة‪ ،‬فتشربته‪ ،‬وصار وصفا لها‪ ،‬وذلك بسبب ظلمهم وجرمهم‪ ،‬فلذلك‪ { :‬ال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم } على تكذيبهم‪.‬‬‫اب األل َ‬ ‫بِه َحتَّى َي َر ْوا اْل َع َذ َ‬
‫ون } أي‪ :‬يأتيهم على حين غفلة‪ ،‬وعدم إحساس منهم‪ ،‬وال استشعار‬ ‫ِ‬
‫{ فََيأْتَيهُ ْم َب ْغتَةً َو ُه ْم ال َي ْش ُع ُر َ‬
‫بنزوله‪ ،‬ليكون أبلغ في عقوبتهم والنكال بهم‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬يطلبون أن ينظروا ويمهلوا‪ ،‬والحال إنه قد فات‬
‫ظ ُر َ‬
‫{ فََيقُولُوا } إذ ذاك‪َ { :‬ه ْل َن ْح ُن ُم ْن َ‬
‫الوقت‪ ،‬وحل بهم العذاب الذي ال يرفع عنهم‪ ،‬وال يفتر ساعة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة يقتضيها السياق‪.‬‬

‫( ‪)1/597‬‬

‫ت ِإ ْن متَّعَن ُ ِ ِ‬
‫ون (‪)206‬‬
‫وع ُد َ‬
‫اء ُه ْم َما َك ُانوا ُي َ‬
‫ين (‪ )205‬ثَُّم َج َ‬
‫اه ْم سن َ‬ ‫َ ْ‬ ‫أَفَبِ َع َذابَِنا َي ْستَ ْع ِجلُ َ‬
‫ون (‪ )204‬أَفََرأ َْي َ‬
‫َغَنى َع ْنهُ ْم َما َك ُانوا ُي َمتَّ ُع َ‬
‫ون (‪)207‬‬ ‫َما أ ْ‬

‫ت ِإن متَّعَن ِ ِ‬
‫اء ُه ْم َما َك ُانوا‬
‫ين * ثَُّم َج َ‬
‫اه ْم سن َ‬ ‫{ ‪ { } 207 - 204‬أَفَبِ َع َذابَِنا َي ْستَ ْع ِجلُ َ‬
‫ون * أَفََرأ َْي َ ْ َ ْ ُ‬
‫ون } ‪.‬‬‫َغَنى َعْنهُ ْم َما َك ُانوا ُي َمتَّ ُع َ‬‫ون * َما أ ْ‬
‫وع ُد َ‬
‫ُي َ‬
‫يقول تعالى‪ { :‬أَفَبِ َع َذابَِنا } الذي هو العذاب األليم العظيم‪ ،‬الذي ال يستهان به‪ ،‬وال يحتقر‪،‬‬
‫ون } فما الذي غرهم؟ هل فيهم قوة وطاقة‪ ،‬للصبر عليه؟ أم عندهم قوة يقدرون على‬ ‫{ َي ْستَ ْع ِجلُ َ‬
‫دفعه أو رفعه إذا نزل؟ أم يعجزوننا‪ ،‬ويظنون أننا ال نقدر على ذلك؟‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬أفرأيت إذا لم نستعجل عليهم‪ ،‬بإنزال العذاب‪ ،‬وأمهلناهم عدة‬ ‫ت ِإ ْن متَّعَن ُ ِ ِ‬
‫اه ْم سن َ‬ ‫َ ْ‬ ‫{ أَفََرأ َْي َ‬
‫ون } من العذاب‪.‬‬
‫وع ُد َ‬
‫اء ُه ْم َما َك ُانوا ُي َ‬
‫سنين‪ ،‬يتمتعون في الدنيا { ثَُّم َج َ‬

‫( ‪)1/598‬‬

‫َغَنى َعْنهُ ْم َما َك ُانوا ُي َمتَّ ُع َ‬


‫ون } من اللذات والشهوات‪ ،‬أي‪ :‬أي شيء يغني عنهم‪ ،‬ويفيدهم‪،‬‬ ‫{ َما أ ْ‬
‫وقد مضت وبطلت واضمحلت‪ ،‬وأعقبت تبعاتها‪ ،‬وضوعف لهم العذاب عند طول المدة‪ .‬القصد‬
‫أن الحذر‪ ،‬من وقوع العذاب‪ ،‬واستحقاقهم له‪ .‬وأما تعجيله وتأخيره‪ ،‬فال أهمية تحته‪ ،‬وال جدوى‬
‫عنده‪.‬‬

‫( ‪)1/598‬‬
‫ت بِ ِه‬
‫ين (‪َ )209‬و َما تََن َّزلَ ْ‬ ‫َهلَ ْكَنا ِم ْن قَري ٍة ِإاَّل لَها م ْن ِذرون (‪ِ )208‬ذ ْكرى وما ُكَّنا َ ِ ِ‬
‫ظالم َ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ ُ ُ َ‬ ‫َْ‬ ‫َو َما أ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ون (‪)212‬‬ ‫ون (‪ِ )211‬إَّنهُ ْم َع ِن الس ْ‬
‫َّم ِع لَ َم ْع ُزولُ َ‬ ‫يع َ‬
‫ين (‪َ )210‬و َما َي ْنَبغي لَهُ ْم َو َما َي ْستَط ُ‬
‫الشَياط ُ‬

‫ين * َو َما تََن َّزلَ ْ‬


‫ت‬ ‫َهلَ ْكَنا ِم ْن قَري ٍة ِإال لَها م ْن ِذرون * ِذ ْكرى وما ُكَّنا َ ِ ِ‬
‫ظالم َ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ ُ ُ َ‬ ‫َْ‬ ‫{ ‪َ { } 212 - 208‬و َما أ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بِ ِه َّ ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ون * ِإَّنهُ ْم َع ِن الس ْ‬
‫َّم ِع لَ َم ْع ُزولُ َ‬ ‫يع َ‬
‫ين * َو َما َي ْنَبغي لَهُ ْم َو َما َي ْستَط ُ‬
‫الشَياط ُ‬
‫يخبر تعالى عن كمال عدله‪ ،‬في إهالك المكذبين‪ ،‬وأنه ما أوقع بقرية‪ ،‬هالكا وعذابا‪ ،‬إال بعد أن‬
‫يعذر بهم‪ ،‬ويبعث فيهم النذر باآليات البينات‪ ،‬ويدعونهم إلى الهدى‪ ،‬وينهونهم عن الردى‪،‬‬
‫ويذكرونهم بآيات اهلل‪ ،‬وينبهونهم على أيامه في نعمه ونقمه‪.‬‬
‫ين } فنهلك القرى‪ ،‬قبل أن ننذرهم‪ ،‬ونأخذهم‬ ‫{ ِذ ْكرى } لهم وإ قامة حجة عليهم‪ { .‬وما ُكَّنا َ ِ ِ‬
‫ظالم َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫ِّ‬
‫ث َر ُسوال } { ُر ُسال ُمَب ِّش ِر َ‬
‫ين‬ ‫ين َحتَّى َن ْب َع َ‬
‫وهم غافلون عن النذر‪ ،‬كما قال تعالى { َو َما ُكَّنا ُم َعذبِ َ‬
‫الر ُس ِل }‪.‬‬‫اس َعلَى اللَّ ِه ُح َّجةٌ َب ْع َد ُّ‬‫ون ِل َّلن ِ‬ ‫وم ْن ِذ ِر ِ‬
‫ين لَئال َي ُك َ‬‫َ‬ ‫َُ‬
‫ولما بيَّن تعالى كمال القرآن وجاللته‪ ،‬نزهه عن كل صفة نقص‪ ،‬وحماه ‪ -‬وقت نزوله‪ ،‬وبعد‬
‫ين َو َما َي ْنَب ِغي لَهُ ْم } أي‪ :‬ال يليق‬ ‫ت بِ ِه َّ ِ‬
‫الشَياط ُ‬ ‫نزوله ‪ -‬من شياطين الجن واإلنس فقال‪َ { :‬و َما تَنزلَ ْ‬
‫ون } ذلك‪.‬‬ ‫ِ‬
‫يع َ‬ ‫بحالهم وال يناسبهم { َو َما َي ْستَط ُ‬
‫ون } قد أبعدوا عنه‪ ،‬وأعدت لهم الرجوم لحفظه‪ ،‬ونزل به جبريل‪ ،‬أقوى‬ ‫{ ِإَّنهُ ْم َع ِن الس ْ‬
‫َّم ِع لَ َم ْع ُزولُ َ‬
‫المالئكة‪ ،‬الذي ال يقدر شيطان أن يقربه‪ ،‬أو يحوم حول ساحته‪ ،‬وهذا كقوله‪ِ { :‬إَّنا َن ْح ُن نزْلَنا‬
‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫الذ ْك َر َوإِ َّنا لَهُ لَ َحافظُ َ‬
‫ون }‪.‬‬

‫( ‪)1/598‬‬

‫اخ ِف ْ‬
‫ض‬ ‫ين (‪َ )213‬وأ َْن ِذ ْر َع ِش َيرتَ َ‬
‫ك اأْل َ ْق َربِ َ‬
‫ين (‪َ )214‬و ْ‬ ‫َّ‬ ‫َخر فَتَ ُك ِ‬
‫ون م َن اْل ُم َعذبِ َ‬
‫َ‬
‫َّ ِ‬
‫فَاَل تَ ْدعُ َم َع الله ِإلَهًا آ َ َ‬
‫ك فَ ُق ْل ِإِّني ب ِر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك ِلم ِن اتَّبع َ ِ‬
‫ون (‪)216‬‬
‫يء م َّما تَ ْع َملُ َ‬
‫َ ٌ‬ ‫ين (‪ )215‬فَِإ ْن َع َ‬
‫ص ْو َ‬ ‫ك م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫اح َ َ َ َ‬ ‫َجَن َ‬

‫ين *‬ ‫ك األ ْق َربِ َ‬ ‫ين * َوأ َْن ِذ ْر َع ِش َيرتَ َ‬ ‫َّ‬ ‫آخر فَتَ ُك ِ‬
‫ون م َن اْل ُم َعذبِ َ‬
‫َ‬
‫َّ ِ‬
‫{ ‪ { } 216 - 213‬فَال تَ ْدعُ َم َع الله ِإلَهًا َ َ‬
‫ك فَ ُق ْل ِإِّني ب ِر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك ِلم ِن اتَّبع َ ِ‬ ‫اخ ِف ْ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫يء م َّما تَ ْع َملُ َ‬‫َ ٌ‬ ‫ين * فَِإ ْن َع َ‬
‫ص ْو َ‬ ‫ك م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫اح َ َ َ َ‬ ‫ض َجَن َ‬ ‫َو ْ‬
‫ينهى تعالى رسوله أصال وأمته أسوة له في ذلك‪ ،‬عن دعاء غير اهلل‪ ،‬من جميع المخلوقين‪ ،‬وأن‬
‫ذلك موجب للعذاب الدائم‪ ،‬والعقاب السرمدي‪ ،‬لكونه [ ص ‪ ] 599‬شركا‪َ { ،‬و َم ْن ُي ْش ِر ْك بِاللَّ ِه فَقَ ْد‬
‫الن ُار } والنهي عن الشيء‪ ،‬أمر بضده‪ ،‬فالنهي عن الشرك‪ ،‬أمر‬ ‫َح َّر َم اللَّهُ َعلَْي ِه اْل َجَّنةَ َو َمأ َْواهُ َّ‬
‫بإخالص العبادة هلل وحده ال شريك له‪ ،‬محبة‪ ،‬وخوفا‪ ،‬ورجاء‪ ،‬وذال وإ نابة إليه في جميع األوقات‪.‬‬
‫ولما أمره بما فيه كمال نفسه‪ ،‬أمره بتكميل غيره فقال‪َ { :‬وأ َْن ِذ ْر َع ِش َيرتَ َ‬
‫ك األ ْق َربِ َ‬
‫ين }‪.‬‬
‫الذين هم أقرب الناس إليك‪ ،‬وأحقهم بإحسانك الديني والدنيوي‪ ،‬وهذا ال ينافي أمره بإنذار جميع‬
‫الناس‪ ،‬كما إذا أمر اإلنسان بعموم اإلحسان‪ ،‬ثم قيل له " أحسن إلى قرابتك " فيكون هذا خصوصا‬
‫(‪ )1‬داال على التأكيد‪ ،‬وزيادة الحق‪ ،‬فامتثل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬هذا األمر اإللهي‪ ،‬فدعا سائر‬
‫بطون قريش‪ ،‬فعمم وخصص‪ ،‬وذكرهم ووعظهم‪ ،‬ولم ُي ْبق صلى اهلل عليه وسلم من مقدوره شيئا‪،‬‬
‫من نصحهم‪ ،‬وهدايتهم‪ ،‬إال فعله‪ ،‬فاهتدى من اهتدى‪ ،‬وأعرض من أعرض‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ك ِلم ِن اتَّبع َ ِ‬ ‫اخ ِف ْ‬
‫ين } بلين جانبك‪ ،‬ولطف خطابك لهم‪ ،‬وتوددك‪ ،‬وتحببك‬ ‫ك م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫اح َ َ َ َ‬ ‫ض َجَن َ‬ ‫{ َو ْ‬
‫إليهم‪ ،‬وحسن خلقك واإلحسان التام بهم‪ ،‬وقد فعل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ذلك كما قال تعالى‪:‬‬
‫استَ ْغ ِف ْر‬
‫ف َعْنهُ ْم َو ْ‬
‫اع ُ‬ ‫النفَضُّوا ِم ْن َح ْوِل َ‬
‫ك فَ ْ‬ ‫ت فَظًّا َغِلي َ‬
‫ظ اْل َقْل ِب ْ‬ ‫{ فَبِ َما َر ْح َم ٍة ِم َن اللَّ ِه ِل ْن َ‬
‫ت لَهُ ْم َولَ ْو ُك ْن َ‬
‫ِ‬
‫األم ِر } فهذه أخالقه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬أكمل األخالق‪ ،‬التي يحصل بها من‬ ‫لَهُ ْم َو َش ِاو ْر ُه ْم في ْ‬
‫المصالح العظيمة‪ ،‬ودفع المضار‪ ،‬ما هو مشاهد‪ ،‬فهل يليق بمؤمن باهلل ورسوله‪ ،‬ويدعي اتباعه‬
‫واالقتداء به‪ ،‬أن يكون كال على المسلمين‪ ،‬شرس األخالق‪ ،‬شديد الشكيمة عليهم ‪ ،‬غليظ القلب‪،‬‬
‫فظ القول‪ ،‬فظيعه؟ [و] إن رأى منهم معصية‪ ،‬أو سوء أدب‪ ،‬هجرهم‪ ،‬ومقتهم‪ ،‬وأبغضهم‪ ،‬ال لين‬
‫عنده‪ ،‬وال أدب لديه‪ ،‬وال توفيق‪ ،‬قد حصل من هذه المعاملة‪ ،‬من المفاسد‪ ،‬وتعطيل المصالح ما‬
‫حصل‪ ،‬ومع ذلك تجده محتقرا لمن اتصف بصفات الرسول الكريم‪ ،‬وقد رماه بالنفاق والمداهنة‪،‬‬
‫كمل نفسه ورفعها‪ ،‬وأعجب بعمله‪ ،‬فهل هذا إال من جهله‪ ،‬وتزيين الشيطان وخدعه له‪ ،‬ولهذا‬
‫وقد َّ‬
‫ك } في أمر من األمور‪ ،‬فال تتبرأ منهم‪ ،‬وال تترك معاملتهم‪،‬‬ ‫قال اهلل لرسوله‪ { :‬فَِإ ْن َع َ‬
‫ص ْو َ‬
‫بخفض الجناح‪ ،‬ولين الجانب‪ ،‬بل تبرأ من عملهم‪ ،‬فعظهم عليه وانصحهم‪ ،‬وابذل قدرتك في ردهم‬
‫ك } للمؤمنين‪،‬‬
‫اح َ‬
‫ض َجَن َ‬‫اخ ِف ْ‬
‫عنه‪ ،‬وتوبتهم منه‪ ،‬وهذا لدفع احتراز وهم من يتوهم‪ ،‬أن قوله { َو ْ‬
‫يقتضي الرضاء بجميع ما يصدر منهم‪ ،‬ما داموا مؤمنين‪ ،‬فدفع هذا بهذا واهلل أعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬وفي ب‪ :‬الخصوص‪.‬‬

‫( ‪)1/598‬‬

‫ين (‪)219‬‬ ‫ك ِفي الس ِ ِ‬


‫وم (‪َ )218‬وتََقلَُّب َ‬ ‫الر ِح ِيم (‪ )217‬الَِّذي ير َ ِ‬ ‫َوتََو َّك ْل َعلَى اْل َع ِز ِ‬
‫َّاجد َ‬ ‫ين تَقُ ُ‬
‫اك ح َ‬ ‫ََ‬ ‫يز َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪)220‬‬ ‫إَّنهُ ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ‬

‫ِ‬ ‫اك ِحين تَقُوم * وتََقلُّب َ ِ‬ ‫َِّ‬ ‫يز َّ ِ‬


‫ك في السَّا ِجد َ‬
‫ين‬ ‫الرح ِيم * الذي َي َر َ َ ُ َ َ‬ ‫{ ‪َ { } 220 - 217‬وتََو َّك ْل َعلَى اْل َع ِز ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫* إَّنهُ ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ‬
‫أعظم مساعد للعبد على القيام بما أمر به‪ ،‬االعتماد على ربه‪ ،‬واالستعانة بمواله على توفيقه للقيام‬
‫الر ِح ِيم } والتوكل هو‬ ‫بالمأمور‪ ،‬فلذلك أمر اهلل تعالى بالتوكل عليه فقال‪َ { :‬وتََو َّك ْل َعلَى اْل َع ِز ِ‬
‫يز َّ‬
‫اعتماد القلب على اهلل تعالى‪ ،‬في جلب المنافع‪ ،‬ودفع المضار‪ ،‬مع ثقته به‪ ،‬وحسن ظنه بحصول‬
‫مطلوبه‪ ،‬فإنه عزيز رحيم‪ ،‬بعزته يقدر على إيصال الخير‪ ،‬ودفع الشر عن عبده‪ ،‬وبرحمته به‪،‬‬
‫يفعل ذلك‪.‬‬
‫ين‬ ‫ثم نبهه على االستعانة باستحضار قرب اهلل‪ ،‬والنزول في منزل اإلحسان فقال‪ { :‬الَِّذي يرا َ ِ‬
‫كح َ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬ ‫تَقُوم وتََقلُّب َ ِ‬
‫ين } أي‪ :‬يراك في هذه العبادة العظيمة‪ ،‬التي هي الصالة‪ ،‬وقت قيامك‪،‬‬‫ك في السَّا ِجد َ‬ ‫َُ َ‬
‫وتقلبك راكعا وساجدا خصها بالذكر‪ ،‬لفضلها وشرفها‪ ،‬وألن من استحضر فيها قرب ربه‪ ،‬خشع‬
‫وذل‪ ،‬وأكملها‪ ،‬وبتكميلها‪ ،‬يكمل سائر عمله‪ ،‬ويستعين بها على جميع أموره‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ إَّنهُ ُه َو السَّميعُ } لسائر األصوات على اختالفها وتشتتها وتنوعها‪ { ،‬اْل َعل ُ‬
‫يم } الذي أحاط‬
‫بالظواهر والبواطن‪ ،‬والغيب والشهادة‪ .‬فاستحضار العبد رؤية اهلل له في جميع أحواله‪ ،‬وسمعه‬
‫لكل ما ينطق به‪ ،‬وعلمه بما ينطوي عليه قلبه‪ ،‬من الهم‪ ،‬والعزم‪ ،‬والنيات‪ ،‬مما يعينه على منزلة‬
‫اإلحسان‪.‬‬

‫( ‪)1/599‬‬

‫ٍ ٍِ‬ ‫َه ْل أَُنبُِّئ ُكم علَى م ْن تََن َّز ُل َّ ِ‬


‫َّم َع َوأَ ْكثَُر ُه ْم‬
‫ون الس ْ‬ ‫ين (‪ )221‬تََن َّز ُل َعلَى ُك ِّل أَفَّاك أَثيم (‪ُ )222‬يْلقُ َ‬ ‫الشَياط ُ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ون (‪َ )225‬وأََّنهُ ْم‬ ‫ِ ِّ ٍ ِ‬ ‫اء َيتَّبِ ُعهُ ُم اْل َغ ُاو َ‬ ‫ون (‪ )223‬و ُّ‬ ‫ِ‬
‫يم َ‬‫ون (‪ )224‬أَلَ ْم تََر أََّنهُ ْم في ُكل َواد َيه ُ‬ ‫الش َع َر ُ‬ ‫َ‬ ‫َكاذُب َ‬
‫ص ُروا ِم ْن‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َو َذ َك ُروا اللهَ َكث ًيرا َو ْانتَ َ‬ ‫ين آ َ‬
‫اَّل َِّ‬
‫ون (‪ِ )226‬إ الذ َ‬ ‫ون َما اَل َي ْف َعلُ َ‬
‫َيقُولُ َ‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)227‬‬ ‫َي ُم ْن َقلَ ٍب َي ْن َقلُب َ‬
‫ظلَ ُموا أ َّ‬
‫ين َ‬ ‫َب ْعد َما ظُل ُموا َو َسَي ْعلَ ُم الذ َ‬

‫ٍ ٍِ‬ ‫{ ‪َ { } 227 - 221‬ه ْل أَُنبُِّئ ُكم علَى م ْن تََن َّز ُل َّ ِ‬


‫ين * تََن َّز ُل َعلَى ُك ِّل أَفَّاك أَثيم * ُيْلقُ َ‬
‫ون‬ ‫الشَياط ُ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ون * َوأََّنهُ ْم‬ ‫ِ ِّ ٍ ِ‬ ‫اء َيتَّبِ ُعهُ ُم اْل َغ ُاو َ‬ ‫ون * و ُّ‬ ‫ِ‬
‫ون * أَلَ ْم تََر أََّنهُ ْم في ُكل َواد َيه ُ‬
‫يم َ‬ ‫الش َع َر ُ‬ ‫َّم َع َوأَ ْكثَُر ُه ْم َكاذُب َ َ‬
‫الس ْ‬
‫ص ُروا ِم ْن َب ْع ِد َما‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َو َذ َك ُروا اللهَ َكث ًيرا َو ْانتَ َ‬ ‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫ون * ِإال الذ َ‬ ‫ون َما ال َي ْف َعلُ َ‬‫َيقُولُ َ‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫َي ُم ْن َقلَ ٍب َي ْن َقلُب َ‬‫ظلَ ُموا أ َّ‬
‫ين َ‬
‫ظُل ُموا َو َسَي ْعلَ ُم الذ َ‬
‫هذا جواب لمن قال من مكذبي الرسول‪ :‬إن محمدا ينزل عليه شيطان‪ .‬وقول من قال‪ :‬إنه شاعر‬
‫فقال‪َ { :‬ه ْل أَُنبُِّئ ُك ْم } أي‪ :‬أخبركم الخبر الحقيقي الذي ال شك فيه وال شبهة‪ ،‬على من تنزل‬
‫الشياطين‪ ،‬أي‪ :‬بصفة األشخاص‪ ،‬الذين تنزل عليهم الشياطين‪.‬‬
‫اك } أي‪ :‬كذاب‪ ،‬كثير القول للزور‪ ،‬واإلفك بالباطل‪ { ،‬أَثِ ٍيم } في فعله‪ ،‬كثير‬
‫{ تَنز ُل علَى ُك ِّل أَفَّ ٍ‬
‫َ‬
‫المعاصي‪ ،‬هذا الذي تنزل عليه الشياطين‪ ،‬وتناسب حاله حالهم‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬أكثر ما يلقون‬ ‫ِ‬
‫َّم َع } الذي يسترقونه من السماء‪َ { ،‬وأَ ْكثَُر ُه ْم َكاذُب َ‬
‫ون } عليه { الس ْ‬
‫{ ُيْلقُ َ‬
‫إليه كذب (‪ )1‬فيصدق واحدة‪ ،‬ويكذب معها مائة‪ ،‬فيختلط الحق بالباطل‪ ،‬ويضمحل الحق بسبب‬
‫قلته‪ ،‬وعدم علمه‪ .‬فهذه (‪ )2‬صفة األشخاص الذين تنزل عليهم الشياطين‪ ،‬وهذه صفة وحيهم له‪.‬‬
‫وأما محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فحاله مباينة لهذه األحوال أعظم مباينة‪ ،‬ألنه الصادق األمين‪،‬‬
‫البار الراشد‪ ،‬الذي جمع بين بر القلب‪ ،‬وصدق اللهجة‪ ،‬ونزاهة األفعال [ ص ‪ ] 600‬من‬
‫المحرم‪.‬‬
‫والوحي الذي ينزل عليه من عند اهلل‪ ،‬ينزل محروسا محفوظا‪ ،‬مشتمال على الصدق العظيم‪ ،‬الذي‬
‫ال شك فيه وال ريب‪ ،‬فهل يستوي ‪ -‬يا أهل العقول ‪ -‬هذا وأولئك؟ وهل يشتبهان‪ ،‬إال على‬
‫مجنون‪ ،‬ال يميز‪ ،‬وال يفرق بين األشياء؟‪.‬‬
‫اء } أي‪ :‬هل أنبئكم‬ ‫فلما نزهه عن نزول الشياطين عليه‪َّ ،‬برأه أيضا من الشعر فقال‪ { :‬و ُّ‬
‫الش َع َر ُ‬ ‫َ‬
‫ون } عن طريق الهدى‪ ،‬المقبلون‬ ‫أيضا عن حالة الشعراء‪ ،‬ووصفهم الثابت‪ ،‬فإنهم { َيتَّبِ ُعهُ ُم اْل َغ ُاو َ‬
‫على طريق الغي والردى‪ ،‬فهم في أنفسهم غاوون‪ ،‬وتجد أتباعهم كل غاو ضال فاسد‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِّ ٍ‬
‫ون } فتارة في‬ ‫{ أَلَ ْم تََر } غوايتهم وشدة ضاللهم { أََّنهُ ْم في ُكل َواد } من أودية الشعر‪َ { ،‬يه ُ‬
‫يم َ‬
‫مدح‪ ،‬وتارة في قدح‪ ،‬وتارة في صدق‪ ،‬وتارة في كذب‪ ،‬وتارة يتغزلون‪ ،‬وأخرى يسخرون‪ ،‬ومرة‬
‫يمرحون‪ ،‬وآونة يحزنون‪ ،‬فال يستقر لهم قرار‪ ،‬وال يثبتون على حال من األحوال‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬هذا وصف الشعراء‪ ،‬أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم‪ ،‬فإذا سمعت‬ ‫{ َوأََّنهُ ْم َيقُولُ َ‬
‫ون َما ال َي ْف َعلُ َ‬
‫الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق‪ ،‬قلت‪ :‬هذا أشد الناس غراما‪ ،‬وقلبه فارغ من ذاك‪ ،‬وإ ذا سمعته‬
‫يمدح أو يذم‪ ،‬قلت‪ :‬هذا صدق‪ ،‬وهو كذب‪ ،‬وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها‪ ،‬وتروك لم يتركها‪،‬‬
‫وكرم لم يحم حول ساحته‪ ،‬وشجاعة يعلو بها على الفرسان‪ ،‬وتراه أجبن من كل جبان‪ ،‬هذا‬
‫وصفهم‪.‬‬
‫فانظر‪ ،‬هل يطابق حالة الرسول محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬الراشد البار‪ ،‬الذي يتبعه كل راشد‬
‫ومهتد‪ ،‬الذي قد استقام على الهدى‪ ،‬وجانب الردى‪ ،‬ولم تتناقض أفعاله ولم تخالف أقواله أفعاله؟‬
‫الذي ال يأمر إال بالخير‪ ،‬وال ينهى إال عن الشر‪ ،‬وال أخبر بشيء إال صدق‪ ،‬وال أمر بشيء إال‬
‫كان أول الفاعلين له‪ ،‬وال نهى عن شيء إال كان أول التاركين له‪.‬‬
‫فهل تناسب حاله‪ ،‬حالة الشعراء‪ ،‬أو يقاربهم؟ أم هو مخالف لهم من جميع الوجوه؟ فصلوات اهلل‬
‫وسالمه على هذا الرسول األكمل‪ ،‬والهمام األفضل‪ ،‬أبد اآلبدين‪ ،‬ودهر الداهرين‪ ،‬الذي ليس‬
‫بشاعر‪ ،‬وال ساحر‪ ،‬وال مجنون‪ ،‬وال يليق به إال كل كمال‪.‬‬
‫ولما وصف الشعراء بما وصفهم به‪ ،‬استثنى منهم من آمن باهلل ورسوله‪ ،‬وعمل صالحا‪ ،‬وأكثر‬
‫من ذكر اهلل‪ ،‬وانتصر من أعدائه المشركين من بعد ما ظلموهم‪.‬‬
‫فصار شعرهم من أعمالهم الصالحة‪ ،‬وآثار إيمانهم‪ ،‬الشتماله على مدح أهل اإليمان‪ ،‬واالنتصار‬
‫من أهل الشرك والكفر‪ ،‬والذب عن دين اهلل‪ ،‬وتبيين العلوم النافعة‪ ،‬والحث على األخالق الفاضلة‬
‫ص ُروا ِم ْن َب ْع ِد َما ظُِل ُموا َو َسَي ْعلَ ُم‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َو َذ َك ُروا اللهَ َكث ًيرا َو ْانتَ َ‬ ‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫فقال‪ِ { :‬إال الذ َ‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ون } ينقلبون إلى موقف وحساب‪ ،‬ال يغادر صغيرة وال كبيرة‪ ،‬إال‬ ‫َي ُم ْن َقلَ ٍب َي ْن َقلُب َ‬
‫ظلَ ُموا أ َّ‬
‫ين َ‬
‫الذ َ‬
‫أحصاها‪ ،‬وال حقا إال استوفاه‪ .‬والحمد هلل رب العالمين‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين‪ :‬كذبا‪.‬‬
‫(‪ )2‬في النسختين‪ :‬هذا‪.‬‬

‫( ‪)1/599‬‬

‫تفسير سورة النمل‬


‫وهي مكية‬

‫( ‪)1/600‬‬

‫ين (‪ُ )1‬ه ًدى وب ْشرى ِلْلمؤ ِمنِين (‪ )2‬الَِّذ ِ‬ ‫َن و ِكتَ ٍ‬
‫اب ُمبِ ٍ‬ ‫طس تِْل َ‬
‫الصاَل ةَ‬
‫ون َّ‬ ‫يم َ‬ ‫ين ُيق ُ‬
‫َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫َُ َ‬ ‫ات اْلقُْرآ ِ َ‬‫ك آََي ُ‬
‫ون بِاآْل َ ِخ َر ِة َزيََّّنا لَهُ ْم أ ْ‬
‫َع َمالَهُ ْم فَهُ ْم‬ ‫ين اَل ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫َِّ‬
‫ون (‪ِ )3‬إ َّن الذ َ‬
‫ِ‬
‫الز َكاةَ َو ُه ْم بِاآْل َخ َر ِة ُه ْم ُيو ِقُن َ‬‫ون َّ‬ ‫َوُي ْؤتُ َ‬
‫ك لَتُلَقَّى اْلقُْرآ َ‬
‫َن‬ ‫ون (‪َ )5‬وإِ َّن َ‬ ‫َخ َس ُر َ‬ ‫اب َو ُه ْم ِفي اآْل َ ِخ َر ِة ُه ُم اأْل ْ‬ ‫وء اْل َع َذ ِ‬
‫ين لَهُ ْم ُس ُ‬
‫يعمهون (‪ )4‬أُولَئِ َ َِّ‬
‫ك الذ َ‬ ‫ََْ ُ َ‬
‫ت َنارا َسآَتِي ُكم ِم ْنها بِ َخَب ٍر أَو آَتِي ُكم بِ ِشه ٍ‬ ‫ِم ْن لَ ُد ْن ح ِك ٍيم عِل ٍيم (‪ِ )6‬إ ْذ قَا َل موسى أِل ْ ِ ِ‬
‫اب‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َهله ِإِّني آََن ْس ُ ً‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ان اللَّ ِه َر ِّ‬
‫ب‬ ‫الن ِار َو َم ْن َح ْولَهَا َو ُس ْب َح َ‬ ‫ك َم ْن ِفي َّ‬ ‫ور َ‬ ‫َن ُب ِ‬‫ي أْ‬ ‫اء َها ُنو ِد َ‬‫ون (‪َ )7‬فلَ َّما َج َ‬ ‫طلُ َ‬ ‫صَ‬ ‫قَب ٍ َّ‬
‫س لَ َعل ُك ْم تَ ْ‬ ‫َ‬
‫ان َولَّى‬ ‫َها تَ ْهتَُّز َكأََّنهَا َج ٌّ‬ ‫اك َفلَ َّما َرآ َ‬ ‫ص َ‬ ‫ق َع َ‬ ‫يم (‪ )9‬وأَْل ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ين (‪َ )8‬يا م َ ِ‬
‫وسى إَّنهُ أََنا اللهُ اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫اْل َعالَم َ‬
‫ظلَ َم ثَُّم َب َّد َل ُح ْسًنا‬‫ون (‪ِ )10‬إاَّل َم ْن َ‬ ‫ي اْل ُم ْر َسلُ َ‬ ‫ف ِإِّني اَل َي َخ ُ‬
‫اف لَ َد َّ‬ ‫وسى اَل تَ َخ ْ‬ ‫ب َيا ُم َ‬ ‫ُم ْدبًِرا َولَ ْم ُي َعقِّ ْ‬
‫ك تَ ْخر ْج ب ْيضاء ِم ْن َغ ْي ِر سو ٍء ِفي تِس ِع آَي ٍ‬ ‫بع َد سو ٍء فَِإِّني َغفُور ر ِحيم (‪ )11‬وأ َْد ِخ ْل ي َد َ ِ‬
‫ات‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ك في َج ْيبِ َ ُ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ َ ٌ‬ ‫َْ ُ‬
‫ين (‬‫ص َرةً قَالُوا َه َذا ِس ْحٌر ُمبِ ٌ‬ ‫اس ِقين (‪َ )12‬فلَ َّما جاءتْهم آَياتَُنا م ْب ِ‬
‫َ َ ُْ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِإلَى ف ْر َع ْو َن َوقَ ْو ِمه ِإَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو ًما فَ َ‬
‫ِ‬
‫‪)13‬‬
‫اب ُمبِ ٍ‬‫آن و ِكتَ ٍ‬ ‫الر ِح ِيم طس تِْل َ‬ ‫{ ‪ { } 6 - 1‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫ين * ُه ًدى َوُب ْش َرى‬ ‫ات اْلقُْر ِ َ‬
‫ك َآي ُ‬ ‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِلْلمؤ ِمنِين * الَِّذ ِ‬
‫ين ال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون‬ ‫ون * ِإ َّن الذ َ‬
‫الز َكاةَ َو ُه ْم بِاآلخ َر ِة ُه ْم ُيو ِقُن َ‬
‫ون َّ‬
‫ون الصَّالةَ َوُي ْؤتُ َ‬ ‫يم َ‬‫ين ُيق ُ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ‬
‫اب و ُهم ِفي ِ‬
‫اآلخ َر ِة ُه ُم‬ ‫ِ‬ ‫َعمالَهم فَهم يعمهون * أُولَئِ َ َِّ‬ ‫ِ‬
‫وء اْل َع َذ َ ْ‬ ‫ين لَهُ ْم ُس ُ‬‫ك الذ َ‬ ‫بِاآلخ َر ِة َزيََّّنا لَهُ ْم أ ْ َ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ َ‬
‫آن ِم ْن لَ ُد ْن َح ِك ٍيم َعِل ٍيم } ‪.‬‬
‫ك لَتُلَقَّى اْلقُْر َ‬
‫ون * َوإِ َّن َ‬
‫األخ َس ُر َ‬
‫ْ‬
‫ات اْلقُْر ِ‬
‫آن‬ ‫ينبه تعالى عباده على عظمة القرآن ويشير إليه إشارة دالة على التعظيم فقال‪ { :‬تِْل َ‬
‫ك َآي ُ‬
‫ين } أي‪ :‬هي أعلى اآليات وأقوى البينات وأوضح الدالالت وأبينها على أجل المطالب‬ ‫و ِكتَ ٍ‬
‫اب ُمبِ ٍ‬ ‫َ‬
‫وأفضل المقاصد‪ ،‬وخير األعمال وأزكى األخالق‪ ،‬آيات تدل على األخبار الصادقة واألوامر‬
‫الحسنة والنهي عن كل عمل وخيم وخلق ذميم‪ ،‬آيات بلغت في وضوحها وبيانها للبصائر النيرة‬
‫مبلغ الشمس لألبصار‪ ،‬آيات دلت على اإليمان ودعت للوصول إلى اإليقان‪ ،‬وأخبرت عن الغيوب‬
‫الماضية والمستقبلة‪ ،‬على طبق ما كان ويكون‪ .‬آيات دعت إلى معرفة الرب العظيم بأسمائه‬
‫الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الكاملة‪ ،‬آيات عرفتنا برسله وأوليائه ووصفتهم حتى كأننا ننظر‬
‫إليهم بأبصارنا‪ ،‬ولكن مع هذا لم ينتفع بها كثير من العالمين ولم يهتد بها جميع المعاندين صونا‬
‫لها عن من ال خير فيه وال صالح وال زكاء في قلبه‪ ،‬وإ نما اهتدى بها من خصهم اهلل باإليمان‬
‫واستنارت بذلك قلوبهم وصفت سرائرهم‪.‬‬
‫ِ ِ‬
‫ين } أي‪ :‬تهديهم إلى سلوك الصراط المستقيم وتبين لهم ما‬‫فلهذا قال‪ُ { :‬ه ًدى َوُب ْش َرى لْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ينبغي أن يسلكوه أو يتركوه‪ ،‬وتبشرهم بثواب اهلل المرتب على الهداية لهذا الطريق‪.‬‬
‫ربما قيل‪ :‬لعله يكثر مدعو اإليمان فهل يقبل من كل أحد ادعى [ ص ‪ ] 601‬أنه مؤمن ذلك؟ أم‬
‫ون الصَّالةَ }‬ ‫ال بد لذلك من دليل؟ وهو الحق فلذلك بين تعالى صفة المؤمنين فقال‪ { :‬الَِّذ ِ‬
‫يم َ‬
‫ين ُيق ُ‬
‫َ‬
‫فرضها ونفلها فيأتون بأفعالها الظاهرة‪ ،‬من أركانها وشروطها وواجباتها بل ومستحباتها‪،‬‬
‫وأفعالها الباطنة وهو الخشوع الذي روحها ولبها باستحضار قرب اهلل وتدبر ما يقول المصلي‬
‫ويفعله‪.‬‬
‫ِ‬
‫الز َكاةَ } المفروضة لمستحقيها‪َ { .‬و ُه ْم بِاآلخ َر ِة ُه ْم ُيو ِقُن َ‬
‫ون } أي‪ :‬قد بلغ معهم اإليمان‬ ‫ون َّ‬
‫{ َوُي ْؤتُ َ‬
‫إلى أن وصل إلى درجة اليقين وهو العلم التام الواصل إلى القلب الداعي إلى العمل‪ .‬ويقينهم‬
‫باآلخرة يقتضي كمال سعيهم لها‪ ،‬وحذرهم من أسباب العذاب وموجبات العقاب وهذا أصل كل‬
‫خير‪.‬‬
‫{ ِإ َّن الَِّذين ال يؤ ِمُنون بِ ِ‬
‫اآلخ َر ِة } ويكذبون بها ويكذبون من جاء بإثباتها‪َ { ،‬زيََّّنا لَهُ ْم أ ْ‬
‫َع َمالَهُ ْم فَهُ ْم‬ ‫َ ُْ َ‬
‫ون } حائرين مترددين مؤثرين سخط اهلل على رضاه‪ ،‬قد انقلبت عليهم الحقائق فرأوا الباطل‬ ‫َي ْع َمهُ َ‬
‫حقا والحق باطال‪.‬‬
‫ون }‬ ‫اب } أي‪ :‬أشده وأسوأه وأعظمه‪ { ،‬و ُهم ِفي ِ‬
‫اآلخ َر ِة ُه ُم ْ‬ ‫وء اْل َع َذ ِ‬ ‫{ أُولَئِ َ َِّ‬
‫األخ َس ُر َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ين لَهُ ْم ُس ُ‬
‫ك الذ َ‬
‫حصر الخسار فيهم لكونهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وخسروا اإليمان الذي دعتهم إليه‬
‫الرسل‪.‬‬
‫آن ِم ْن لَ ُد ْن َح ِك ٍيم َعِل ٍيم } أي‪ :‬وإ ن هذا القرآن الذي ينزل عليك وتتلقفه وتتلقنه‬
‫ك لَتُلَقَّى اْلقُْر َ‬
‫{ َوإِ َّن َ‬
‫ينزل من عند { َح ِك ٍيم } يضع األشياء مواضعها‪ ،‬وينزلها منازلها‪َ { .‬عِل ٍيم } بأسرار األمور (‪)1‬‬
‫وبواطنها‪ ،‬كظواهرها‪ .‬وإ ذا كان من عند { َح ِك ٍيم َعِل ٍيم } (‪ )2‬علم أنه كله حكمة ومصالح للعباد‪،‬‬
‫من الذي [هو] أعلم بمصالحهم منهم؟‬
‫ت َن ًارا } إلى آخر قصته‪ ،‬يعني‪ :‬اذكر هذه الحالة الفاضلة الشريفة‬‫ألهِل ِه ِإِّني َآن ْس ُ‬ ‫{ ِإ ْذ قَا َل ُم َ‬
‫وسى ْ‬
‫من أحوال موسى بن عمران‪ ،‬ابتداء الوحي إليه واصطفائه برسالته وتكليم اهلل إياه‪ ،‬وذلك أنه لما‬
‫مكث في مدين عدة سنين وسار بأهله من مدين متوجها إلى مصر‪ ،‬فلما كان في أثناء الطريق‬
‫ت َن ًارا } أي‪ :‬أبصرت نارا من بعيد‬ ‫ضل وكان في ليلة مظلمة باردة فقال لهم‪ِ { :‬إِّني َآن ْس ُ‬
‫اب قَب ٍ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون } أي‪ :‬تستدفئون‪،‬‬ ‫طلُ َ‬ ‫صَ‬ ‫س لَ َعل ُك ْم تَ ْ‬ ‫{ َسآتي ُك ْم م ْنهَا بِ َخَب ٍر } عن الطريق‪ { ،‬أ َْو آتي ُك ْم بِشهَ ٍ َ‬
‫وهذا دليل على أنه تائه ومشتد برده هو وأهله‪.‬‬
‫الن ِار َو َم ْن َح ْولَهَا } أي‪ :‬ناداه اهلل تعالى وأخبره أن هذا محل‬ ‫ك َم ْن ِفي َّ‬ ‫َن ُب ِ‬
‫ور َ‬ ‫ي أْ‬ ‫اء َها ُنو ِد َ‬‫{ َفلَ َّما َج َ‬
‫مقدس مبارك‪ ،‬ومن بركته أن جعله اهلل موضعا لتكليم اهلل لموسى وندائه وإ رساله‪.‬‬
‫ين } عن أن يظن به نقص أو سوء بل هو الكامل في وصفه وفعله‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ان اللَّ ِه َر ِّ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫{ َو ُس ْب َح َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫{ َيا م َ ِ‬
‫يم } أي‪ :‬أخبره اهلل أنه اهلل المستحق للعبادة وحده ال شريك له‬ ‫وسى إَّنهُ أََنا اللهُ اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬ ‫ُ‬
‫اعُب ْدنِي َوأ َِقِم الصَّالةَ ِل ِذ ْك ِري } { اْل َع ِز ُيز } الذي‬
‫كما في اآلية األخرى { ِإَّننِي أََنا اللَّهُ ال ِإلَهَ ِإال أََنا فَ ْ‬
‫يم } في أمره وخلقه‪ .‬ومن حكمته أن أرسل‬ ‫ِ‬
‫قهر جميع األشياء وأذعنت له كل المخلوقات‪ { ،‬اْل َحك ُ‬
‫عبده موسى بن عمران الذي علم اهلل منه أنه أهل لرسالته ووحيه وتكليمه‪ .‬ومن عزته أن تعتمد‬
‫عليه وال تستوحش من انفرادك وكثرة أعدائك وجبروتهم‪ ،‬فإن نواصيهم بيد اهلل وحركاتهم‬
‫وسكونهم بتدبيره‪.‬‬
‫ان } وهو ذكر الحيات سريع الحركة‪َ { ،‬ولَّى‬
‫آها تَ ْهتَُّز َكأََّنهَا َج ٌّ‬
‫اك } فألقاها { َفلَ َّما َر َ‬
‫ص َ‬ ‫{ وأَْل ِ‬
‫ق َع َ‬ ‫َ‬
‫ب } ذعرا من الحية التي رأى على مقتضى الطبائع البشرية‪ ،‬فقال اهلل له‪َ { :‬يا‬ ‫ُم ْدبًِرا َولَ ْم ُي َعقِّ ْ‬
‫ي‬ ‫ين } { ِإِّني ال َي َخ ُ‬
‫اف لَ َد َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ف ِإَّن َ ِ‬
‫ف } وقال في اآلية األخرى‪ { :‬أَ ْقبِ ْل َوال تَ َخ ْ‬
‫ك م َن اآلمن َ‬ ‫وسى ال تَ َخ ْ‬ ‫ُم َ‬
‫ون } ألن جميع المخاوف مندرجة في قضائه وقدره وتصريفه وأمره‪ ،‬فالذين اختصهم اهلل‬ ‫اْل ُم ْر َسلُ َ‬
‫برسالته واصطفاهم لوحيه ال ينبغي لهم أن يخافوا غير اهلل خصوصا عند زيادة القرب منه‬
‫والحظوة بتكليمه‪.‬‬
‫ظلَ َم ثَُّم َب َّد َل ُح ْسًنا َب ْع َد ُسو ٍء } أي‪ :‬فهذا الذي هو محل الخوف والوحشة بسبب ما أسدى‬
‫{ ِإال َم ْن َ‬
‫من الظلم وما تقدم له من الجرم‪ ،‬وأما المرسلون فما لهم وللوحشة والخوف؟ ومع هذا من ظلم‬
‫نفسه بمعاصي اهلل‪ ،‬ثم تاب وأناب فبدل سيئاته حسنات ومعاصيه طاعات فإن اهلل غفور رحيم‪ ،‬فال‬
‫ييأس أحد من رحمته ومغفرته فإنه يغفر الذنوب جميعا وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها‪.‬‬
‫اء ِم ْن َغْي ِر ُسو ٍء } ال برص وال نقص‪ ،‬بل بياض يبهر‬ ‫ض َ‬ ‫ك ِفي َج ْيبِ َ‬
‫ك تَ ْخ ُر ْج َب ْي َ‬ ‫{ َوأ َْد ِخ ْل َي َد َ‬
‫ات ِإلَى ِف ْر َع ْو َن َوقَ ْو ِم ِه } أي‪ :‬هاتان اآليتان انقالب العصا حية‬
‫الناظرين شعاعه‪ِ { .‬في تِس ِع آي ٍ‬
‫ْ َ‬
‫تسعى وإ خراج اليد من [ ص ‪ ] 602‬الجيب فتخرج بيضاء في جملة تسع آيات تذهب بها وتدعو‬
‫ِِ‬
‫ين } فسقوا بشركهم وعتوهم وعلوهم على عباد اهلل‬ ‫فرعون وقومه‪ِ { ،‬إَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو ًما فَاسق َ‬
‫واستكبارهم في األرض بغير الحق‪.‬‬
‫فذهب موسى عليه السالم إلى فرعون وملئه ودعاهم إلى اهلل تعالى وأراهم اآليات‪.‬‬
‫ص َرةً } مضيئة تدل على الحق ويبصر بها كما تبصر األبصار بالشمس‪{ .‬‬ ‫{ َفلَ َّما جاءتْهم آياتَُنا م ْب ِ‬
‫َ َ ُْ َ ُ‬
‫ين } لم يكفهم مجرد القول بأنه سحر بل قالوا‪ُ { :‬مبِ ٌ‬
‫ين } ظاهر لكل أحد‪ .‬وهذا‬ ‫قَالُوا َه َذا ِس ْحٌر ُمبِ ٌ‬
‫من أعجب العجائب اآليات المبصرات واألنوار الساطعات‪ ،‬تجعل من بين الخزعبالت وأظهر‬
‫السحر! هل هذا إال من أعظم المكابرة وأوقح السفسطة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬األحوال‪.‬‬
‫(‪ )2‬سبق قلم الشيخ ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬فكتب‪( :‬حكيم خبير) فصححتها‪ ،‬وأبقيت التفسير كما هو‪.‬‬

‫( ‪)1/600‬‬

‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪)14‬‬
‫ان َعاقَبةُ اْل ُم ْفسد َ‬
‫ف َك َ‬ ‫َو َج َح ُدوا بِهَا َو ْ‬
‫استَْيقََنتْهَا أ َْنفُ ُسهُ ْم ظُْل ًما َو ُعلًُّوا فَ ْانظُ ْر َك ْي َ‬

‫{ َو َج َح ُدوا بِهَا } أي‪ :‬كفروا بآيات اهلل جاحدين لها‪َ { ،‬و ْ‬


‫استَْيقََنتْهَا أ َْنفُ ُسهُ ْم } أي‪ :‬ليس جحدهم‬
‫مستندا إلى الشك والريب‪ ،‬وإ نما جحدهم مع علمهم ويقينهم (‪ )1‬بصحتها { ظُْل ًما } منهم لحق‬
‫ان‬
‫ف َك َ‬
‫ربهم وألنفسهم‪َ { ،‬و ُعلًُّوا } على الحق وعلى العباد وعلى االنقياد للرسل‪ { ،‬فَ ْانظُ ْر َك ْي َ‬
‫ين } أسوأ عاقبة دمرهم اهلل وغرقهم في البحر وأخزاهم وأورث مساكنهم‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َعاقَبةُ اْل ُم ْفسد َ‬
‫المستضعفين من عباده‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬تيقنهم‪.‬‬

‫( ‪)1/602‬‬
‫ِ‬ ‫ضلََنا علَى َكثِ ٍ ِ ِ ِ ِ‬ ‫َِّ ِ َِّ‬ ‫ود وسلَْيم ِ‬
‫ين (‪)15‬‬ ‫ير م ْن عَباده اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫ان عْل ًما َوقَااَل اْل َح ْم ُد لله الذي فَ َّ َ‬ ‫َولَقَ ْد آَتَْيَنا َد ُاو َ َ ُ َ َ‬
‫الط ْي ِر َوأُوتِ َينا ِم ْن ُك ِّل َش ْي ٍء ِإ َّن َه َذا لَهَُو‬‫ق َّ‬ ‫اس ُعلِّ ْمَنا َم ْن ِط َ‬ ‫ود َوقَا َل َيا أَيُّهَا َّ‬ ‫َو َو ِر َ‬
‫الن ُ‬ ‫ان َد ُاو َ‬ ‫ث ُسلَْي َم ُ‬
‫ون (‪َ )17‬حتَّى ِإ َذا‬ ‫وز ُع َ‬ ‫س َوالطَّ ْي ِر فَهُ ْم ُي َ‬‫ودهُ ِم َن اْل ِج ِّن واإْلِ ْن ِ‬
‫َ‬ ‫ان ُجُن ُ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين (‪َ )16‬و ُحش َر ل ُسلَْي َم َ‬ ‫ض ُل اْل ُمبِ ُ‬
‫اْلفَ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أَتَ ْوا َعلَى َو ِاد َّ‬
‫الن ْم ِل قَالَ ْ‬
‫ودهُ َو ُه ْم اَل‬
‫ان َو ُجُن ُ‬ ‫الن ْم ُل ْاد ُخلُوا َم َساكَن ُك ْم اَل َي ْحط َمَّن ُك ْم ُسلَْي َم ُ‬ ‫ت َن ْملَةٌ َيا أَيُّهَا َّ‬
‫ت َعلَ َّي‬ ‫ك الَّتِي أ َْن َع ْم َ‬ ‫َن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ َ‬ ‫ب أ َْو ِز ْعنِي أ ْ‬ ‫ال َر ِّ‬‫اح ًكا ِم ْن قَ ْوِلهَا َوقَ َ‬ ‫ي ْشعرون (‪ )18‬فَتَبسَّم ض ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫َ ُُ َ‬
‫ين (‪َ )19‬وتَفَقَّ َد الطَّ ْي َر‬ ‫ِِ‬
‫ك الصَّالح َ‬ ‫ك ِفي ِعَب ِاد َ‬ ‫ضاهُ َوأ َْد ِخْلنِي بَِر ْح َمتِ َ‬ ‫صال ًحا تَْر َ‬
‫َعم َل ِ‬
‫َن أ ْ َ َ‬ ‫ي َوأ ْ‬ ‫َو َعلَى َو ِال َد َّ‬
‫يدا أ َْو أَل َ ْذَب َحَّنهُ أ َْو لََيأْتَِيِّني‬ ‫ُع ِّذَبَّنهُ َع َذ ًابا َش ِد ً‬ ‫ين (‪ )20‬أَل َ‬
‫ِ‬
‫ان م َن اْل َغائبِ َ‬
‫ال ما ِلي اَل أَرى اْله ْد ُه َد أَم َك ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫فَقَ َ َ َ َ‬
‫ين (‪)22‬‬ ‫ك ِم ْن َسَبٍإ بَِنَبٍإ َي ِق ٍ‬ ‫ط بِ ِه َو ِج ْئتُ َ‬‫طت بِ َما لَ ْم تُ ِح ْ‬ ‫َح ُ‬ ‫ٍِ‬
‫ث َغْي َر َبعيد فَقَا َل أ َ‬ ‫ين (‪ )21‬فَ َم َك َ‬ ‫ان ُمبِ ٍ‬ ‫طٍ‬ ‫بِ ُسْل َ‬
‫ون‬ ‫ت ِم ْن ُك ِّل َشي ٍء ولَها عر ٌ ِ‬ ‫ام َرأَةً تَ ْمِل ُكهُ ْم َوأُوتَِي ْ‬ ‫ِإِّني َو َج ْد ُ‬
‫يم (‪َ )23‬و َج ْدتُهَا َوقَ ْو َمهَا َي ْس ُج ُد َ‬ ‫ش َعظ ٌ‬ ‫ْ َ َ َْ‬ ‫ت ْ‬
‫يل فَهم اَل َيهتَ ُدون (‪ )24‬أَاَّل‬ ‫َعمالَهم فَص َّد ُهم َع ِن َّ ِ‬ ‫َّن لَهم َّ‬ ‫س ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬ ‫ِل َّ‬
‫ْ َ‬ ‫السبِ ُ ْ‬ ‫ان أ ْ َ ُ ْ َ ْ‬ ‫ط ُ‬ ‫الش ْي َ‬ ‫ون الله َو َزي َ ُ ُ‬ ‫لش ْم ِ‬
‫ون (‪ )25‬اللَّهُ اَل‬ ‫ِ‬
‫ون َو َما تُ ْعلُن َ‬ ‫ض َوَي ْعلَ ُم َما تُ ْخفُ َ‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاو َ‬ ‫ب َء في الس َ‬
‫يسج ُدوا ِللَّ ِه الَِّذي ي ْخ ِرج اْل َخ ْ ِ‬
‫ُ ُ‬ ‫َُْ‬
‫ب بِ ِكتَابِي‬ ‫ين (‪ )27‬ا ْذ َه ْ‬ ‫ِ‬
‫ت م َن اْل َكاذبِ َ‬
‫ت أَم ُك ْن َ ِ‬
‫َص َد ْق َ ْ‬‫ش اْل َعظيم (‪ )26‬قَا َل َسَن ْنظُ ُر أ َ‬
‫ب اْلعر ِ ِ ِ‬
‫ِإلَهَ ِإ ُه َو َر ُّ َ ْ‬
‫اَّل‬

‫اب َك ِر ٌ‬
‫يم‬ ‫ت َيا أَيُّهَا اْل َمأَل ُ ِإِّني أُْل ِق َي ِإلَ َّي ِكتَ ٌ‬ ‫ون (‪ )28‬قَالَ ْ‬ ‫ِِ‬
‫َه َذا فَأَْلقه ِإلَْي ِه ْم ثَُّم تََو َّل َعْنهُ ْم فَ ْانظُ ْر َما َذا َي ْر ِج ُع َ‬
‫ِِ‬ ‫اَّل‬ ‫الر ْحم ِن َّ ِ ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪)31‬‬ ‫الرحيم (‪ )30‬أَ تَ ْعلُوا َعلَ َّي َوأْتُونِي ُم ْسلم َ‬ ‫ان َوإِ َّنهُ ب ْسم الله َّ َ‬ ‫(‪ِ )29‬إَّنهُ م ْن ُسلَْي َم َ‬
‫ون (‪ )32‬قَالُوا َن ْح ُن أُولُو قَُّو ٍة‬ ‫اط َعةً أ َْم ًرا َحتَّى تَ ْشهَ ُد ِ‬ ‫ت قَ ِ‬ ‫ت َيا أَيُّهَا اْل َمأَل ُ أَ ْفتُونِي ِفي أ َْم ِري َما ُك ْن ُ‬ ‫قَالَ ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫وأُولُو بأ ٍ ِ ٍ‬
‫وك ِإ َذا َد َخلُوا قَ ْرَيةً أَ ْف َس ُد َ‬
‫وها‬ ‫ت ِإ َّن اْل ُملُ َ‬ ‫ين (‪ )33‬قَالَ ْ‬ ‫ْم ِر َ‬
‫ْس َشديد َواأْل َْم ُر إلَْيك فَ ْانظُ ِري َما َذا تَأ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َهِلهَا أ َِذلَّةً َو َك َذِل َ‬ ‫وجعلُوا أ ِ‬
‫ون (‪َ )34‬وإِ ِّني ُم ْرسلَةٌ ِإلَْي ِه ْم بِهَديَّة فََناظ َرةٌ بِ َم َي ْر ِجعُ اْل ُم ْر َسلُ َ‬
‫ون‬ ‫ك َي ْف َعلُ َ‬ ‫َع َّزةَ أ ْ‬ ‫َ ََ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ون ِن بِم ٍ‬ ‫(‪َ )35‬فلَ َّما جاء سلَْيمان قَ َ ِ‬
‫ون (‬ ‫ال فَ َما آَتَان َي اللهُ َخ ْيٌر م َّما آَتَا ُك ْم َب ْل أ َْنتُ ْم بِهَديَّت ُك ْم تَ ْف َر ُح َ‬ ‫ال أَتُم ُّد َ َ‬ ‫َ َ ُ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ َّ‬ ‫‪ )36‬ار ِجع ِإلَْي ِهم َفلََنأْتِيَّنهم بِجُن ٍ ِ‬
‫ال َيا‬ ‫ون (‪ )37‬قَ َ‬ ‫صاغ ُر َ‬ ‫ود اَل قَب َل لَهُ ْم بِهَا َولَُن ْخ ِر َجَّنهُ ْم م ْنهَا أَذلةً َو ُه ْم َ‬ ‫َ ُْ ُ‬ ‫ْ ْ ْ‬
‫يك بِ ِه قَْب َل‬ ‫ريت ِم َن اْل ِج ِّن أََنا آَتِ َ‬ ‫ين (‪ )38‬قَا َل ِع ْف ٌ‬ ‫ِِ‬
‫َن َيأْتُونِي ُم ْسلم َ‬ ‫أَيُّهَا اْل َمأَل ُ أَُّي ُك ْم َيأْتِينِي بِ َع ْر ِشهَا قَْب َل أ ْ‬
‫يك بِ ِه قَْب َل أ ْ‬ ‫اب أََنا آَتِ َ‬ ‫ين (‪ )39‬قَا َل الَِّذي ِع ْن َدهُ ِعْلم ِم َن اْل ِكتَ ِ‬
‫َن‬ ‫َم ٌ‬ ‫ي أِ‬ ‫ك َوإِ ِّني َعلَْي ِه لَقَ ِو ٌّ‬ ‫ام َ‬‫َن تَقُوم ِم ْن مقَ ِ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫أْ َ‬
‫ض ِل َربِّي ِلَيْبلَُونِي أَأَ ْش ُك ُر أ َْم أَ ْكفُُر َو َم ْن َش َك َر‬ ‫ك َفلَ َّما َرآَهُ ُم ْستَِق ًّرا ِع ْن َدهُ قَا َل َه َذا ِم ْن فَ ْ‬ ‫ط ْرفُ َ‬‫ك َ‬ ‫َي ْرتَ َّد ِإلَْي َ‬
‫يم (‪ )40‬قَا َل َن ِّك ُروا لَهَا َع ْر َشهَا َن ْنظُ ْر أَتَ ْهتَِدي أ َْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫فَِإَّن َما َي ْش ُك ُر لَن ْفسه َو َم ْن َكفََر فَِإ َّن َربِّي َغن ٌّي َك ِر ٌ‬
‫ت َكأََّنهُ ُه َو َوأُوتِ َينا اْل ِعْل َم ِم ْن‬ ‫َه َك َذا َع ْر ُش ِك قَالَ ْ‬ ‫يل أ َ‬‫ت ِق َ‬ ‫اء ْ‬‫ون (‪َ )41‬فلَ َّما َج َ‬ ‫ين اَل َي ْهتَ ُد َ‬
‫تَ ُك ِ َِّ‬
‫ون م َن الذ َ‬ ‫ُ‬
‫ين (‪ِ )43‬ق َ‬
‫يل‬ ‫ِ‬
‫ت م ْن قَ ْوٍم َكاف ِر َ‬
‫ون اللَّ ِه ِإَّنها َك َان ْ ِ‬
‫َ‬ ‫ت تَ ْعُب ُد ِم ْن ُد ِ‬ ‫ص َّد َها َما َك َان ْ‬ ‫ين (‪َ )42‬و َ‬
‫ِِ‬
‫قَْبلهَا َو ُكَّنا ُم ْسلم َ‬
‫ِ‬
‫ت‬‫ص ْر ٌح ُم َم َّر ٌد ِم ْن قَ َو ِار َير قَالَ ْ‬ ‫ت َع ْن َساقَْيهَا قَا َل ِإَّنهُ َ‬ ‫َّر َح َفلَ َّما َرأَتْهُ َح ِسَبتْهُ لُ َّجةً َو َك َشفَ ْ‬ ‫ِ‬
‫لَهَا ْاد ُخلي الص ْ‬
‫ِ‬ ‫ان ِللَّ ِه َر ِّ‬ ‫ظلَم ُ ِ‬
‫ين (‪)44‬‬ ‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫ت َم َع ُسلَْي َم َ‬ ‫َسلَ ْم ُ‬‫ت َن ْفسي َوأ ْ‬ ‫ب ِإِّني َ ْ‬ ‫َر ِّ‬

‫ير ِم ْن ِعَب ِاد ِه‬


‫ضلََنا َعلَى َكثِ ٍ‬
‫ان ِعْل ًما َوقَاال اْل َح ْم ُد ِللَّ ِه الَِّذي فَ َّ‬
‫{ ‪َ { } 44 - 15‬ولَقَ ْد آتَْيَنا َد ُاو َد َو ُسلَْي َم َ‬
‫ِ‬
‫ان َد ُاو َد } إلى آخر القصة‪.‬‬ ‫ث ُسلَْي َم ُ‬ ‫اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين * َو َو ِر َ‬
‫يذكر في هذا القرآن وينوه بمنته على داود وسليمان ابنه بالعلم الواسع الكثير بدليل التنكير كما‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ان ِفي اْلحر ِث ِإ ْذ َنفَ َش ْ ِ ِ‬
‫ت فيه َغَن ُم اْلقَ ْوِم َو ُكَّنا ل ُح ْكم ِه ْم َشاهد َ‬
‫ين‬ ‫َْ‬ ‫ان ِإ ْذ َي ْح ُك َم ِ‬
‫قال تعالى‪َ { :‬و َد ُاو َد َو ُسلَْي َم َ‬
‫ان َو ُكال آتَْيَنا ُح ْك ًما َو ِعْل ًما } اآلية‪.‬‬ ‫اها ُسلَْي َم َ‬
‫فَفَهَّ ْمَن َ‬
‫ير ِم ْن ِعَب ِاد ِه‬
‫ضلََنا َعلَى َكثِ ٍ‬ ‫{ َوقَاال } شاكرين لربهما منته الكبرى بتعليمهما‪ { :‬اْل َح ْم ُد ِللَّ ِه الَِّذي فَ َّ‬
‫ِ‬
‫ين } فحمدا اهلل على جعلهما من المؤمنين أهل السعادة وأنهما كانا من خواصهم‪.‬‬ ‫اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫وال شك أن المؤمنين أربع درجات‪ :‬الصالحون‪ ،‬ثم فوقهم الشهداء‪ ،‬ثم فوقهم الصديقون ثم فوقهم‬
‫األنبياء‪ ،‬وداود وسليمان من خواص الرسل وإ ن كانوا دون درجة أولي العزم [الخمسة]‪ ،‬لكنهم‬
‫من جملة الرسل الفضالء الكرام الذين نوه اهلل بذكرهم ومدحهم في كتابه مدحا عظيما فحمدوا اهلل‬
‫على بلوغ هذه المنزلة‪ ،‬وهذا عنوان سعادة العبد أن يكون شاكرا هلل على نعمه الدينية والدنيوية‬
‫وأن يرى جميع النعم من ربه‪ ،‬فال يفخر بها وال يعجب بها بل يرى أنها تستحق عليه شكرا كثيرا‪،‬‬
‫فلما مدحهما مشتركين خص سليمان بما خصه به لكون اهلل أعطاه ملكا عظيما وصار له من‬
‫ان َد ُاو َد }‪.‬‬ ‫الماجريات ما لم يكن ألبيه صلى اهلل عليهما وسلم فقال‪َ { :‬و َو ِر َ‬
‫ث ُسلَْي َم ُ‬
‫أي‪ :‬ورث علمه ونبوته فانضم علم أبيه إلى علمه‪ ،‬فلعله تعلم من أبيه ما عنده من العلم مع ما كان‬
‫عليه من العلم وقت أبيه كما تقدم من قوله ففهمناها سليمان‪ ،‬وقال شكرا هلل وتبجحا بإحسانه‬
‫ق الطَّ ْي ِر } فكان عليه الصالة [والسالم] يفقه ما تقول‬
‫اس ُعلِّ ْمَنا َم ْن ِط َ‬ ‫وتحدثا بنعمته‪َ { :‬يا أَيُّهَا َّ‬
‫الن ُ‬
‫وتتكلم به كما راجع الهدهد وراجعه‪ ،‬وكما فهم قول النملة للنمل كما يأتي وهذا لم يكن ألحد غير‬
‫سليمان عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫{ َوأُوتِ َينا ِم ْن ُك ِّل َش ْي ٍء } أي‪ :‬أعطانا اهلل من النعم ومن أسباب الملك ومن السلطنة والقهر ما لم‬
‫ألح ٍد ِم ْن َب ْع ِدي } (‪)1‬‬ ‫ِ‬ ‫يؤته أحدا من اآلدميين‪ ،‬ولهذا دعا ربه فقال‪ { :‬و َه ْ ِ‬
‫ب لي ُمْل ًكا ال َي ْنَبغي َ‬ ‫َ‬
‫فسخر اهلل له الشياطين يعملون له كل ما شاء من األعمال التي يعجز عنها غيرهم‪ ،‬وسخر له‬
‫الريح غدوها شهر ورواحها شهر‪.‬‬
‫ين } الواضح الجلي فاعترف‬‫ض ُل اْل ُمبِ ُ‬
‫{ ِإ َّن َه َذا } الذي أعطانا اهلل وفضلنا واختصنا به { لَهَُو اْلفَ ْ‬
‫أكمل اعتراف بنعمة اهلل تعالى‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬جمع له جنوده الكثيرة‬ ‫وز ُع َ‬‫س َوالطَّ ْي ِر فَهُ ْم ُي َ‬ ‫ودهُ ِم َن اْل ِج ِّن َو ْ‬
‫اإلن ِ‬ ‫ان ُجُن ُ‬ ‫ِ ِ‬
‫{ َو ُحش َر ل ُسلَْي َم َ‬
‫الهائلة المتنوعة من بني آدم‪ ،‬ومن الجن والشياطين ومن الطيور فهم يوزعون يدبرون ويرد‬
‫أولهم على آخرهم‪ ،‬وينظمون غاية التنظيم في سيرهم ونزولهم وحلهم وترحالهم قد استعد لذلك‬
‫وأعد له عدته‪.‬‬
‫اؤَنا‬
‫طُ‬ ‫وكل هذه الجنود مؤتمرة بأمره ال تقدر على عصيانه وال تتمرد عنه‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬ه َذا َع َ‬
‫امُن ْن أ َْو أ َْم ِس ْك } أي‪ :‬أعط بغير حساب‪ ،‬فسار بهذه الجنود الضخمة في بعض أسفاره (‪)2‬‬
‫فَ ْ‬
‫[ ص ‪] 603‬‬
‫ت َن ْملَةٌ } منبهة لرفقتها وبني جنسها‪َ { :‬يا أَيُّهَا َّ‬
‫الن ْم ُل ْاد ُخلُوا‬ ‫{ َحتَّى ِإ َذا أَتَ ْوا َعلَى َو ِاد َّ‬
‫الن ْم ِل قَالَ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } فنصحت هذه النملة وأسمعت النمل إما‬ ‫ودهُ َو ُه ْم ال َي ْش ُع ُر َ‬ ‫َم َساكَن ُك ْم ال َي ْحط َمَّن ُك ْم ُسلَْي َم ُ‬
‫ان َو ُجُن ُ‬
‫بنفسها ويكون اهلل قد أعطى النمل أسماعا خارقة للعادة‪ ،‬ألن التنبيه للنمل الذي قد مأل الوادي‬
‫بصوت نملة واحدة من أعجب العجائب‪ .‬وإ ما بأنها أخبرت من حولها من النمل ثم سرى الخبر‬
‫من بعضهن لبعض حتى بلغ الجميع وأمرتهن بالحذر‪ ،‬والطريق في ذلك وهو دخول مساكنهن‪.‬‬
‫وعرفت حالة سليمان وجنوده وعظمة سلطانه‪ ،‬واعتذرت عنهم أنهم إن حطموكم فليس عن قصد‬
‫منهم وال شعور‪ ،‬فسمع سليمان عليه الصالة والسالم قولها وفهمه‪.‬‬
‫اح ًكا ِم ْن قَ ْوِلهَا } إعجابا منه بفصاحتها (‪ )3‬ونصحها وحسن تعبيرها‪ .‬وهذا حال‬
‫{ فَتَبسَّم ض ِ‬
‫َ َ َ‬
‫األنبياء عليهم الصالة والسالم األدب الكامل‪ ،‬والتعجب في موضعه وأن ال يبلغ بهم الضحك إال‬
‫إلى التبسم‪ ،‬كما كان الرسول صلى اهلل عليه وسلم جل ضحكه التبسم‪ ،‬فإن القهقهة تدل على خفة‬
‫العقل وسوء األدب‪ .‬وعدم التبسم والعجب مما يتعجب منه‪ ،‬يدل على شراسة الخلق والجبروت‪.‬‬
‫والرسل منزهون عن ذلك‪.‬‬
‫ب أ َْو ِز ْعنِي } أي‪ :‬ألهمني ووفقني { أ ْ‬
‫َن أَ ْش ُك َر‬ ‫وقال شاكرا هلل الذي أوصله إلى هذه الحال‪َ { :‬ر ِّ‬
‫ي } فإن النعمة على الوالدين نعمة على الولد‪ .‬فسأل ربه‬ ‫ت َعلَ َّي َو َعلَى َو ِال َد َّ‬ ‫ك الَّتِي أ َْن َع ْم َ‬
‫نِ ْع َمتَ َ‬
‫ضاهُ } أي‪:‬‬ ‫َعم َل ِ‬
‫صال ًحا تَْر َ‬
‫َن أ ْ َ َ‬ ‫التوفيق للقيام بشكر نعمته الدينية والدنيوية عليه وعلى والديه‪َ { ،‬وأ ْ‬
‫ووفقني أن أعمل صالحا ترضاه لكونه موافقا ألمرك مخلصا فيه سالما من المفسدات‬
‫ين } فإن‬ ‫ِِ‬ ‫ك } التي منها الجنة { ِفي } جملة { ِعَب ِاد َ‬ ‫والمنقصات‪َ { ،‬وأ َْد ِخْلنِي بَِر ْح َمتِ َ‬
‫ك الصَّالح َ‬
‫الرحمة مجعولة للصالحين على اختالف درجاتهم ومنازلهم‪.‬‬
‫فهذا نموذج ذكره اهلل من حالة سليمان عند سماعه خطاب النملة ونداءها‪.‬‬
‫ثم ذكر نموذجا آخر من مخاطبته للطير فقال‪َ { :‬وتَفَقَّ َد الطَّ ْي َر } دل هذا على كمال عزمه وحزمه‬
‫وحسن تنظيمه لجنوده وتدبيره بنفسه لألمور الصغار والكبار‪ ،‬حتى إنه لم يهمل هذا األمر وهو‬
‫تفقد الطيور والنظر‪ :‬هل هي موجودة كلها أم مفقود منها شيء؟ وهذا هو المعنى لآلية‪ .‬ولم‬
‫يصنع شيئا من قال‪ :‬إنه تفقد الطير لينظر أين الهدهد منها (‪ )4‬ليدله على بعد الماء وقربه‪ ،‬كما‬
‫زعموا عن الهدهد أنه يبصر الماء تحت األرض الكثيفة‪ ،‬فإن هذا القول ال يدل عليه دليل بل‬
‫الدليل العقلي واللفظي دال على بطالنه‪ ،‬أما العقلي فإنه قد عرف بالعادة والتجارب والمشاهدات‬
‫أن هذه الحيوانات كلها‪ ،‬ليس منها شيء يبصر هذا البصر الخارق للعادة‪ ،‬ينظر الماء تحت‬
‫األرض الكثيفة‪ ،‬ولو كان كذلك لذكره اهلل ألنه من أكبر اآليات‪.‬‬
‫وأما الدليل اللفظي فلو أريد هذا المعنى لقال‪ " :‬وطلب الهدهد لينظر له الماء فلما فقده قال ما قال "‬
‫أو " فتش عن الهدهد " أو‪ " :‬بحث عنه " ونحو ذلك من العبارات‪ ،‬وإ نما تفقد الطير لينظر‬
‫الحاضر منها والغائب ولزومها للمراكز والمواضع التي عينها لها‪ .‬وأيضا فإن سليمان عليه‬
‫السالم ال يحتاج وال يضطر إلى الماء بحيث يحتاج لهندسة الهدهد‪ ،‬فإن عنده من الشياطين‬
‫والعفاريت ما يحفرون له الماء‪ ،‬ولو بلغ في العمق ما بلغ‪ .‬وسخر اهلل له الريح غدوها شهر‬
‫ورواحها شهر‪ ،‬فكيف ‪-‬مع ذلك‪ -‬يحتاج إلى الهدهد؟"‬
‫وهذه التفاسير التي توجد وتشتهر بها أقوال ال يعرف غيرها‪ ،‬تنقل هذه األقوال عن بني إسرائيل‬
‫مجردة ويغفل الناقل عن مناقضتها للمعاني الصحيحة وتطبيقها على األقوال‪ ،‬ثم ال تزال تتناقل‬
‫وينقلها المتأخر مسلما للمتقدم حتى يظن أنها الحق‪ ،‬فيقع من األقوال الردية في التفاسير ما يقع‪،‬‬
‫واللبيب الفطن يعرف أن هذا القرآن الكريم العربي المبين الذي خاطب اهلل به الخلق كلهم عالمهم‬
‫وجاهلهم وأمرهم بالتفكر في معانيه‪ ،‬وتطبيقها على ألفاظه العربية المعروفة المعاني التي ال‬
‫تجهلها العرب العرباء‪ ،‬وإ ذا وجد أقواال منقولة عن غير رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ردها إلى‬
‫هذا األصل‪ ،‬فإن وافقته قبلها لكون اللفظ داال عليها‪ ،‬وإ ن خالفته لفظا ومعنى أو لفظا أو معنى‬
‫ردها وجزم ببطالنها‪ ،‬ألن عنده أصال معلوما مناقضا لها وهو ما يعرفه من معنى الكالم وداللته‪.‬‬
‫والشاهد أن تفقد سليمان عليه السالم للطير‪ ،‬وفقده الهدهد يدل على كمال حزمه وتدبيره للملك‬
‫ِ‬ ‫بنفسه وكمال فطنته حتى فقد هذا الطائر الصغير { فَقَا َل ما ِلي ال أَرى اْله ْد ُه َد أَم َك ِ‬
‫ان م َن اْل َغائبِ َ‬
‫ين‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ‬
‫} أي‪ :‬هل عدم رؤيتي إياه لقلة فطنتي به لكونه خفيا بين هذه األمم الكثيرة؟ أم على بابها بأن كان‬
‫غائبا من غير إذني وال أمري؟‪.‬‬
‫[ ص ‪] 604‬‬
‫يدا } دون القتل‪ { ،‬أ َْو أل ْذَب َحَّنهُ أ َْو لََيأْتَِيِّني‬
‫ألع ِّذَبَّنهُ َع َذ ًابا َش ِد ً‬
‫فحينئذ تغيظ عليه وتوعده فقال‪َ { :‬‬
‫ين } أي‪ :‬حجة واضحة على تخلفه‪ ،‬وهذا من كمال ورعه وإ نصافه أنه لم يقسم على‬ ‫ان ُمبِ ٍ‬
‫طٍ‬ ‫بِ ُسْل َ‬
‫مجرد عقوبته بالعذاب أو القتل ألن ذلك ال يكون إال من ذنب‪ ،‬وغيبته قد تحتمل أنها لعذر واضح‬
‫فلذلك استثناه لورعه وفطنته‪.‬‬
‫ث َغْي َر َب ِع ٍيد } ثم جاء وهذا يدل على هيبة (‪ )5‬جنوده منه وشدة ائتمارهم ألمره‪ ،‬حتى إن‬ ‫{ فَ َم َك َ‬
‫ال } لسليمان‪:‬‬
‫هذا الهدهد الذي خلفه العذر الواضح لم يقدر على التخلف زمنا كثيرا‪ { ،‬فَقَ َ‬
‫ط بِ ِه } أي‪ :‬عندي العلم علم ما أحطت به على علمك الواسع وعلى درجتك‬ ‫طت بِ َما لَ ْم تُ ِح ْ‬‫َح ُ‬ ‫{ أَ‬
‫ين } أي‪ :‬خبر متيقن‪.‬‬ ‫ك ِم ْن َسَبٍإ } القبيلة المعروفة في اليمن { بَِنَبٍإ َي ِق ٍ‬ ‫فيه‪َ { ،‬و ِج ْئتُ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين‪ :‬فقال‪( :‬رب هب) وهو خطأ‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ‪ :‬في بعض في‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ب‪ :‬بنصح أمتها‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ب‪ :‬منه‪.‬‬
‫(‪ )5‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬هيبته‪.‬‬
‫( ‪)1/602‬‬

‫ت ِم ْن‬ ‫ام َرأَةً تَ ْمِل ُكهُ ْم } أي‪ :‬تملك قبيلة سبأ وهي امرأة { َوأُوتَِي ْ‬
‫ت ْ‬ ‫ثم فسر هذا النبأ فقال‪ِ { :‬إِّني َو َج ْد ُ‬
‫ُك ِّل َش ْي ٍء } يؤتاه الملوك من األموال والسالح والجنود والحصون والقالع ونحو ذلك‪َ { .‬ولَهَا‬
‫يم } أي‪ :‬كرسي ملكها الذي تجلس عليه عرش هائل‪ ،‬وعظم العروش تدل على عظمة‬ ‫عر ٌ ِ‬
‫ش َعظ ٌ‬ ‫َْ‬
‫المملكة وقوة السلطان وكثرة رجال الشورى‪.‬‬
‫َّن لَهُ ُم‬ ‫س ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫لش ْم ِ‬‫ون ِل َّ‬
‫ون الله } أي‪ :‬هم مشركون يعبدون الشمس‪َ { .‬و َزي َ‬ ‫{ َو َج ْدتُهَا َوقَ ْو َمهَا َي ْس ُج ُد َ‬
‫ون } ألن الذي يرى أن الذي عليه حق‬ ‫َع َمالَهُ ْم } فرأوا ما عليه هو الحق‪ { ،‬فَهُ ْم ال َي ْهتَ ُد َ‬ ‫ان أ ْ‬
‫ط ُ‬ ‫َّ‬
‫الش ْي َ‬
‫ال مطمع في هدايته حتى تتغير عقيدته‪.‬‬
‫ض } أي‪ :‬يعلم‬‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ثم قال‪ { :‬أَال } أي‪ :‬هال { يسج ُدوا ِللَّ ِه الَِّذي ي ْخ ِرج اْل َخ ْ ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ب َء في الس َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َُْ‬
‫الخفي الخبيء في أقطار السماوات وأنحاء األرض‪ ،‬من صغار المخلوقات وبذور النباتات وخفايا‬
‫الصدور‪ ،‬ويخرج خبء األرض والسماء بإنزال المطر وإ نبات النباتات‪ ،‬ويخرج خبء األرض‬
‫ون َو َما‬
‫عند النفخ في الصور وإ خراج األموات من األرض ليجازيهم بأعمالهم { َوَي ْعلَ ُم َما تُ ْخفُ َ‬
‫ون }‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تُ ْعلُن َ‬
‫{ اللَّهُ ال ِإلَهَ ِإال ُه َو } أي‪ :‬ال تنبغي العبادة واإلنابة والذل والحب إال له ألنه المألوه لما له من‬
‫ش اْل َع ِظ ِيم } الذي هو سقف المخلوقات ووسع‬ ‫ب اْل َع ْر ِ‬
‫الصفات الكاملة والنعم الموجبة لذلك‪َ { .‬ر ُّ‬
‫األرض والسماوات‪ ،‬فهذا الملك عظيم السلطان كبير الشأن هو الذي يذل له ويخضع ويسجد له‬
‫ويركع‪ ،‬فسلم الهدهد حين ألقى إليه هذا النبأ العظيم وتعجب سليمان كيف خفي عليه‪.‬‬
‫ب بِ ِكتَابِي َه َذا }‬
‫ين * ا ْذ َه ْ‬ ‫ِ‬ ‫ت أَم ُك ْن َ ِ‬
‫ت م َن اْل َكاذبِ َ‬ ‫َص َد ْق َ ْ‬
‫وقال مثبتا لكمال عقله ورزانته { َسَن ْنظُ ُر أ َ‬
‫ِِ‬
‫ون } إليك وما‬ ‫وسيأتي نصه { فَأَْلقه ِإلَْي ِه ْم ثَُّم تََو َّل َع ْنهُ ْم } أي استأخر غير بعيد { فَ ْانظُ ْر َما َذا َي ْر ِج ُع َ‬
‫يتراجعون به‬
‫يم } أي جليل المقدار من أكبر ملوك‬ ‫فذهب به فألقاه عليها فقالت لقومها { ِإِّني أُْل ِق َي ِإلَ َّي ِكتَ ٌ‬
‫اب َك ِر ٌ‬
‫األرض‬
‫الر ِح ِيم * أَال تَ ْعلُوا َعلَ َّي َوأْتُونِي‬ ‫ان َوإِ َّنهُ بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬ ‫ِ‬
‫ثم بينت مضمونه فقالت { ِإَّنهُ م ْن ُسلَْي َم َ‬
‫ين } أي‪ :‬ال تكونوا فوقي بل اخضعوا تحت سلطاني‪ ،‬وانقادوا ألوامري وأقبلوا إلي‬ ‫ِِ‬
‫ُم ْسلم َ‬
‫مسلمين‪.‬‬
‫وهذا في غاية الوجازة مع البيان التام فإنه تضمن نهيهم عن العلو عليه‪ ،‬والبقاء على حالهم التي‬
‫هم عليها واالنقياد ألمره والدخول تحت طاعته‪ ،‬ومجيئهم إليه ودعوتهم إلى اإلسالم‪ ،‬وفيه‬
‫استحباب ابتداء الكتب بالبسملة كاملة وتقديم االسم في أول عنوان الكتاب‪ ،‬فمن حزمها وعقلها أن‬
‫جمعت كبار دولتها ورجال مملكتها وقالت‪َ { :‬يا أَيُّهَا اْل َمأل أَ ْفتُونِي ِفي أ َْم ِري }‪.‬‬
‫ت قَ ِ‬
‫اط َعةً أ َْم ًرا‬ ‫أي‪ :‬أخبروني ماذا نجيبه به؟ وهل ندخل تحت طاعته وننقاد؟ أم ماذا نفعل؟ { َما ُك ْن ُ‬
‫ون } أي‪ :‬ما كنت مستبدة بأمر دون رأيكم ومشورتكم‪.‬‬ ‫َحتَّى تَ ْشهَ ُد ِ‬
‫ْس َش ِد ٍيد } أي‪ :‬إن رددت عليه قوله ولم تدخلي في طاعته فإنا‬ ‫{ قَالُوا َن ْح ُن أُولُو قَُّو ٍة وأُولُو َبأ ٍ‬
‫َ‬
‫أقوياء على القتال‪ ،‬فكأنهم مالوا إلى هذا الرأي الذي لو تم لكان فيه دمارهم‪ ،‬ولكنهم أيضا لم‬
‫ك } أي‪ :‬الرأي ما رأيت لعلمهم بعقلها وحزمها ونصحها لهم‬ ‫األم ُر ِإلَْي َ‬
‫يستقروا عليه بل قالوا‪َ { :‬و ْ‬
‫ْم ِر َ‬
‫ين }‪.‬‬ ‫{ فَ ْانظُ ِري } نظر فكر وتدبر { َما َذا تَأ ُ‬
‫وك ِإ َذا َد َخلُوا قَ ْرَيةً أَ ْف َس ُد َ‬
‫وها }‬ ‫فقالت لهم ‪-‬مقنعة لهم عن رأيهم ومبينة سوء مغبة القتال‪ِ { -‬إ َّن اْل ُملُ َ‬
‫َهِلهَا أ َِذلَّةً } أي‪ :‬جعلوا الرؤساء‬ ‫قتال وأسرا ونهبا ألموالها‪ ،‬وتخريبا لديارها‪ { ،‬وجعلُوا أ ِ‬
‫َع َّزةَ أ ْ‬ ‫َ ََ‬
‫السادة أشراف الناس من األذلين‪ ،‬أي‪ :‬فهذا رأي غير سديد‪ ،‬وأيضا فلست بمطيعة له قبل االختبار‬
‫وإ رسال من يكشف عن أحواله ويتدبرها‪ ،‬وحينئذ نكون على بصيرة من أمرنا‪.‬‬
‫ِ ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫فقالت‪َ { :‬وإِ ِّني ُم ْرسلَةٌ ِإلَْي ِه ْم بِهَديَّة فََناظ َرةٌ بِ َم َي ْر ِجعُ اْل ُم ْر َسلُ َ‬
‫ون } منه‪ .‬هل يستمر على رأيه [ ص‬
‫‪ ] 605‬وقوله؟ أم تخدعه الهدية وتتبدل فكرته وكيف أحواله وجنوده؟ فأرسلت له هدية مع رسل‬
‫من عقالء قومها وذوي الرأي‪ :‬منهم‬

‫( ‪)1/604‬‬

‫ان } أي‪ :‬جاءه الرسل بالهدية { قَا َل } منكرا عليهم ومتغيظا على عدم إجابتهم‪{ :‬‬ ‫اء ُسلَْي َم َ‬
‫{ َفلَ َّما َج َ‬
‫ال فَ َما آتَانِ َي اللَّهُ َخ ْيٌر ِم َّما آتَا ُك ْم } فليست تقع عندي موقعا وال أفرح بها قد أغناني اهلل‬ ‫ون ِن بِم ٍ‬
‫أَتُم ُّد َ َ‬
‫ِ‬
‫ِِ‬
‫عنها وأكثر علي النعم‪َ { ،‬ب ْل أ َْنتُ ْم بِهَديَّت ُك ْم تَ ْف َر ُح َ‬
‫ون } لحبكم للدنيا وقلة ما بأيديكم بالنسبة لما‬
‫أعطاني اهلل‪.‬‬
‫ثم أوصى الرسول من غير كتاب لما رأى من عقله وأنه سينقل كالمه على وجهه فقال‪ْ { :‬ار ِج ْع‬
‫ِإلَْي ِه ْم } أي‪ :‬بهديتك { َفلََنأْتَِيَّنهُ ْم بِ ُجُنو ٍد ال ِقَب َل لَهُ ْم } أي‪ :‬ال طاقة لهم { بِهَا َولَُن ْخ ِر َجَّنهُ ْم ِم ْنهَا أ َِذلَّةً‬
‫ون } فرجع إليهم وأبلغهم ما قال سليمان وتجهزوا للمسير إلى سليمان‪ ،‬وعلم سليمان‬ ‫ِ‬
‫صاغ ُر َ‬
‫َو ُه ْم َ‬
‫َن َيأْتُونِي‬ ‫أنهم ال بد أن يسيروا إليه فقال لمن حضره من الجن واإلنس‪ { :‬أَُّي ُك ْم َيأْتِينِي بِ َع ْر ِشهَا قَْب َل أ ْ‬
‫ريت ِم َن‬ ‫ال ِع ْف ٌ‬ ‫ين } أي‪ :‬ألجل أن نتصرف فيه قبل أن يسلموا فتكون أموالهم محترمة‪ { ،‬قَ َ‬ ‫ِِ‬
‫ُم ْسلم َ‬
‫ي‬‫ك َوإِ ِّني َعلَْي ِه لَقَ ِو ٌّ‬ ‫ام َ‬‫َن تَقُوم ِم ْن مقَ ِ‬
‫َ‬
‫اْل ِج ِّن } والعفريت‪ :‬هو القوي النشيط جدا‪ { :‬أََنا آتِي َ ِ ِ‬
‫ك به قَْب َل أ ْ َ‬
‫ين } والظاهر أن سليمان إذ ذاك في الشام فيكون بينه وبين سبأ نحو مسيرة أربعة أشهر شهران‬ ‫َم ٌ‬ ‫أِ‬
‫ذهابا وشهران إيابا‪ ،‬ومع ذلك يقول هذا العفريت‪ :‬أنا التزم بالمجيء به على كبره وثقله‪ ،‬وبعده‬
‫قبل أن تقوم من مجلسك الذي أنت فيه‪ .‬والمعتاد من المجالس الطويلة أن تكون معظم الضحى‬
‫نحو ثلث يوم هذا نهاية المعتاد‪ ،‬وقد يكون دون ذلك أو أكثر‪ ،‬وهذا الملك العظيم الذي عند آحاد‬
‫اب } قال المفسرون‪ :‬هو‬ ‫ال الَِّذي ِع ْن َدهُ ِعْلم ِم َن اْل ِكتَ ِ‬
‫رعيته هذه القوة والقدرة وأبلغ من ذلك أن { قَ َ‬
‫ٌ‬
‫رجل عالم صالح عند سليمان يقال له‪ " :‬آصف بن برخيا " كان يعرف اسم اهلل األعظم الذي إذا‬
‫دعا اهلل به أجاب وإ ذا سأل به أعطى‪.‬‬
‫ك } بأن يدعو اهلل بذلك االسم فيحضر حاال وأنه دعا اهلل‬
‫ط ْرفُ َ‬
‫ك َ‬ ‫ك بِ ِه قَْب َل أ ْ‬
‫َن َي ْرتَ َّد ِإلَْي َ‬ ‫{ أََنا آتِي َ‬
‫فحضر‪ .‬فاهلل أعلم [هل هذا المراد أم أن عنده علما من الكتاب يقتدر به على جلب البعيد وتحصيل‬
‫الشديد] (‪)1‬‬
‫{ َفلَ َّما َرآهُ } سليمان { ُم ْستَِق ًّرا ِع ْن َدهُ } حمد اهلل تعالى على إقداره وملكه وتيسير األمور له و { قَا َل‬
‫ض ِل َربِّي ِلَيْبلَُونِي أَأَ ْش ُك ُر أ َْم أَ ْكفُُر } أي‪ :‬ليختبرني بذلك‪ .‬فلم يغتر عليه السالم بملكه‬
‫َه َذا ِم ْن فَ ْ‬
‫وسلطانه وقدرته كما هو دأب الملوك الجاهلين‪ ،‬بل علم أن ذلك اختبار من ربه فخاف أن ال يقوم‬
‫بشكر هذه النعمة‪ ،‬ثم بين أن هذا الشكر ال ينتفع اهلل به وإ نما يرجع نفعه إلى صاحبه فقال‪َ { :‬و َم ْن‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫يم } غني عن أعماله كريم كثير الخير يعم به‬ ‫َش َك َر فَِإَّن َما َي ْش ُك ُر لَن ْفسه َو َم ْن َكفََر فَِإ َّن َربِّي َغن ٌّي َك ِر ٌ‬
‫الشاكر والكافر‪ ،‬إال أن شكر نعمه داع للمزيد منها وكفرها داع لزوالها‪ ،‬ثم قال لمن عنده‪:‬‬
‫{ َن ِّك ُروا لَهَا َع ْر َشهَا } أي‪ :‬غيروه بزيادة ونقص‪ ،‬ونحو ذلك { َن ْنظُ ْر } مختبرين لعقلها { أَتَ ْهتَِدي }‬
‫ون }‪.‬‬ ‫للصواب ويكون عندها ذكاء وفطنة تليق بملكها { أَم تَ ُك ِ َِّ‬
‫ين ال َي ْهتَ ُد َ‬
‫ون م َن الذ َ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ت } قادمة على سليمان عرض عليها عرشها وكان عهدها به قد خلفته في بلدها‪ ،‬و‬ ‫اء ْ‬
‫{ َفلَ َّما َج َ‬
‫َه َك َذا َع ْر ُش ِك } أي‪ :‬أنه استقر عندنا أن لك عرشا عظيما فهل هو كهذا العرش الذي‬ ‫{ ِقي َل } لها { أ َ‬
‫ت َكأََّنهُ ُه َو } وهذا من ذكائها وفطنتها لم تقل " هو " لوجود التغيير فيه‬ ‫أحضرناه لك؟ { قَالَ ْ‬
‫والتنكير ولم تنف أنه هو‪ ،‬ألنها عرفته‪ ،‬فأتت بلفظ محتمل لألمرين صادق على الحالين‪ ،‬فقال‬
‫سليمان متعجبا من هدايتها وعقلها وشاكرا هلل أن أعطاه أعظم منها‪َ { :‬وأُوتِ َينا اْل ِعْل َم ِم ْن قَْبِلهَا }‬
‫ِِ‬
‫ين } وهي الهداية النافعة األصلية‪.‬‬ ‫أي‪ :‬الهداية والعقل والحزم من قبل هذه الملكة‪َ { ،‬و ُكَّنا ُم ْسلم َ‬
‫ويحتمل أن هذا من قول ملكة سبأ‪ " :‬وأوتينا العلم عن ملك سليمان وسلطانه وزيادة اقتداره من‬
‫قبل هذه الحالة التي رأينا فيها قدرته على إحضار العرش من المسافة البعيدة فأذعنا له وجئنا‬
‫مسلمين له خاضعين لسلطانه "‬
‫ون اللَّ ِه } أي‪ :‬عن اإلسالم‪ ،‬وإ ال فلها من الذكاء‬
‫ت تَ ْعُب ُد ِم ْن ُد ِ‬
‫ص َّد َها َما َك َان ْ‬
‫قال اهلل تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫ت ِم ْن‬
‫والفطنة ما به تعرف الحق من الباطل ولكن العقائد الباطلة تذهب بصيرة القلب { ِإَّنهَا َك َان ْ‬
‫ِ‬
‫ين } فاستمرت على دينهم‪ ،‬وانفراد الواحد عن أهل الدين والعادة المستمرة بأمر يراه‬ ‫قَ ْوٍم َكاف ِر َ‬
‫بعقله من ضاللهم وخطئهم من أندر ما يكون فلهذا ال يستغرب بقاؤها على الكفر‪ ،‬ثم إن سليمان‬
‫أراد أن ترى من سلطانه ما يبهر العقول فأمرها أن تدخل الصرح وهي المجلس المرتفع المتسع‬
‫وكان مجلسا من قوارير تجري تحته األنهار‪.‬‬
‫َّر َح َفلَ َّما َرأَتْهُ َح ِسَبتْهُ لُ َّجةً } ماء ألن القوارير شفافة‪ [ ،‬ص ‪ ] 606‬يرى‬ ‫ِ‬ ‫فـ { ِق َ‬
‫يل لَهَا ْاد ُخلي الص ْ‬
‫ت َع ْن َساقَْيهَا } للخياضة وهذا أيضا‬
‫الماء الذي تحتها كأنه بذاته يجري ليس دونه شيء‪َ { ،‬و َك َشفَ ْ‬
‫من عقلها وأدبها‪ ،‬فإنها لم تمتنع من الدخول للمحل الذي أمرت بدخوله لعلمها أنها لم تستدع إال‬
‫لإلكرام وأن ملك سليمان وتنظيمه قد بناه على الحكمة ولم يكن في قلبها أدنى شك من حالة السوء‬
‫بعد ما رأت ما رأت‪.‬‬
‫ص ْر ٌح ُم َم َّر ٌد } أي‪ :‬مملس { ِم ْن قَ َو ِار َير } فال حاجة منك‬ ‫فلما استعدت للخوض قيل لها‪ِ { :‬إَّنهُ َ‬
‫لكشف الساقين‪ .‬فحينئذ لما وصلت إلى سليمان وشاهدت ما شاهدت وعلمت نبوته ورسالته تابت‬
‫ِ‬ ‫ان ِللَّ ِه َر ِّ‬ ‫ظلَم ُ ِ‬
‫ين }‪.‬‬
‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫ت َم َع ُسلَْي َم َ‬
‫َسلَ ْم ُ‬
‫ت َن ْفسي َوأ ْ‬ ‫ب ِإِّني َ ْ‬ ‫ت َر ِّ‬
‫ورجعت عن كفرها و { قَالَ ْ‬
‫فهذا ما قصه اهلل علينا من قصة ملكة سبأ وما جرى لها مع سليمان‪ ،‬وما عدا ذلك من الفروع‬
‫المولدة والقصص اإلسرائيلية فإنه ال يتعلق بالتفسير لكالم اهلل وهو من األمور التي يقف الجزم‬
‫بها‪ ،‬على الدليل المعلوم عن المعصوم‪ ،‬والمنقوالت في هذا الباب كلها أو أكثرها ليس كذلك‪،‬‬
‫فالحزم كل الحزم‪ ،‬اإلعراض عنها وعدم إدخالها في التفاسير‪ .‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫( ‪)1/605‬‬

‫ون (‪ )45‬قَا َل َيا قَ ْوِم ِل َم‬ ‫ِ‬


‫ان َي ْختَص ُم َ‬ ‫اعُب ُدوا اللَّهَ فَِإ َذا ُه ْم فَ ِريقَ ِ‬‫َن ْ‬ ‫ص ِال ًحا أ ِ‬ ‫اه ْم َ‬ ‫َخ ُ‬‫ود أ َ‬‫َولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ِإلَى ثَ ُم َ‬
‫ك َوبِ َم ْن‬ ‫ون (‪ )46‬قَالُوا اطَّي َّْرَنا بِ َ‬ ‫َّ َّ‬
‫ون اللهَ لَ َعل ُك ْم تُْر َح ُم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تَ ْستَ ْع ِجلُ َ‬
‫ون بِالسَّيَِّئة قَْب َل اْل َح َسَنة لَ ْواَل تَ ْستَ ْغف ُر َ‬
‫ون ِفي‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫ان في اْل َمد َينة ت ْس َعةُ َر ْهط ُي ْفس ُد َ‬
‫طائِر ُكم ِع ْن َد اللَّ ِه ب ْل أ َْنتُم قَوم تُ ْفتَُنون (‪ )47‬و َك ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ٌْ‬ ‫َ‬ ‫ال َ ُ ْ‬ ‫ك قَ َ‬ ‫َم َع َ‬
‫َهِل ِه‬‫كأْ‬ ‫ِّه َما َش ِه ْدَنا َم ْهِل َ‬
‫َهلَه ثَُّم لََنقُولَ َّن ِلوِلي ِ‬
‫َ‬
‫َّ ِ‬
‫اس ُموا بِالله لَُنَبيِّتََّنهُ َوأ ْ ُ‬‫ون (‪ )48‬قَالُوا تَقَ َ‬ ‫صل ُح َ‬
‫ض واَل ي ِ‬
‫اأْل َْر ِ َ ُ ْ‬
‫ان َع ِاقَبةُ‬ ‫ف َك َ‬ ‫ون (‪ )50‬فَ ْانظُ ْر َك ْي َ‬ ‫ون (‪َ )49‬و َم َك ُروا َم ْك ًرا َو َم َك ْرَنا َم ْك ًرا َو ُه ْم اَل َي ْش ُع ُر َ‬
‫وإِ َّنا لَ ِ‬
‫صادقُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك آَل ََيةً ِلقَ ْوٍم‬
‫ظلَ ُموا ِإ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫ك ُبُيوتُهُ ْم َخ ِاوَيةً بِ َما َ‬ ‫ين (‪ )51‬فَتِْل َ‬ ‫اهم وقَومهم أ ْ ِ‬
‫َج َمع َ‬ ‫َم ْك ِر ِه ْم أََّنا َد َّم ْرَن ُ ْ َ ْ َ ُ ْ‬
‫ال ِلقَو ِم ِه أَتَأْتُون اْلفَ ِ‬ ‫ون (‪ )53‬ولُو ً ِ‬ ‫َِّ‬
‫اح َشةَ َوأ َْنتُ ْم‬ ‫َ‬ ‫طا إ ْذ قَ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َمُنوا َو َك ُانوا َيتَّقُ َ‬ ‫ين آ َ‬
‫ون (‪َ )52‬وأ َْن َج ْيَنا الذ َ‬ ‫َي ْعلَ ُم َ‬
‫ون ِّ ِ‬ ‫ال َش ْه َوةً ِم ْن ُد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ان‬
‫ون (‪ )55‬فَ َما َك َ‬ ‫الن َساء َب ْل أ َْنتُ ْم قَ ْو ٌم تَ ْجهَلُ َ‬ ‫الر َج َ‬ ‫ون ِّ‬ ‫ون (‪ )54‬أَئَّن ُك ْم لَتَأْتُ َ‬ ‫تُْبص ُر َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬
‫َهلَهُ ِإاَّل‬
‫ون (‪ )56‬فَأ َْن َج ْيَناهُ َوأ ْ‬ ‫طهَُّر َ‬ ‫َخ ِر ُجوا َآ َل لُوط م ْن قَ ْرَيت ُك ْم ِإَّنهُ ْم أَُن ٌ‬
‫اس َيتَ َ‬ ‫َن قَالُوا أ ْ‬ ‫اب قَ ْو ِم ِه ِإاَّل أ ْ‬
‫َج َو َ‬
‫ط ْرَنا َعلَْي ِه ْم َم َ‬ ‫امرأَتَه قَ َّدرَن َ ِ‬
‫ين (‪)58‬‬ ‫ط ُر اْل ُم ْن َذ ِر َ‬
‫اء َم َ‬
‫ط ًرا فَ َس َ‬ ‫ين (‪َ )57‬وأ َْم َ‬ ‫اها م َن اْل َغابِ ِر َ‬ ‫َْ ُ ْ‬
‫ون }‬ ‫ِ‬ ‫اعُب ُدوا اللَّهَ فَِإ َذا ُه ْم فَ ِريقَ ِ‬ ‫ص ِال ًحا أ ِ‬ ‫{ ‪َ { } 53 - 45‬ولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ِإلَى ثَ ُم َ‬
‫ان َي ْختَص ُم َ‬ ‫َن ْ‬ ‫اه ْم َ‬
‫َخ ُ‬
‫ود أ َ‬
‫إلى آخر القصة‪.‬‬
‫يخبر تعالى أنه أرسل إلى ثمود القبيلة المعروفة أخاهم في النسب صالحا وأنه أمرهم أن يعبدوا‬
‫ون } منهم المؤمن ومنهم الكافر وهم‬ ‫ِ‬ ‫اهلل وحده ويتركوا األنداد واألوثان‪ { ،‬فَِإ َذا ُه ْم فَ ِريقَ ِ‬
‫ان َي ْختَص ُم َ‬
‫معظمهم‪.‬‬
‫ون بِالسَّيَِّئ ِة قَْب َل اْل َح َسَن ِة } أي‪ :‬لم تبادرون فعل السيئات وتحرصون عليها‬ ‫ِ‬
‫{ قَا َل َيا قَ ْوِم ل َم تَ ْستَ ْع ِجلُ َ‬
‫قبل فعل الحسنات التي بها تحسن أحوالكم وتصلح أموركم الدينية والدنيوية؟ والحال أنه ال موجب‬
‫ون اللَّهَ } بأن تتوبوا من شرككم وعصيانكم‬ ‫ِ‬
‫لكم إلى الذهاب لفعل السيئات؟‪ { .‬لَ ْوال تَ ْستَ ْغف ُر َ‬
‫ون } فإن رحمة اهلل تعالى قريب من المحسنين والتائب من‬ ‫َّ‬
‫وتدعوه أن يغفر لكم‪ { ،‬لَ َعل ُك ْم تُْر َح ُم َ‬
‫الذنوب هو من المحسنين‪.‬‬
‫ك } زعموا ‪-‬قبحهم اهلل‪ -‬أنهم‬ ‫{ قَالُوا } لنبيهم صالح مكذبين ومعارضين‪ { :‬اطَّي َّْرَنا بِ َ‬
‫ك َوبِ َم ْن َم َع َ‬
‫لم يروا على وجه صالح خيرا وأنه هو ومن معه من المؤمنين صاروا سببا لمنع بعض مطالبهم‬
‫ون‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫الدنيوية‪ ،‬فقال لهم صالح‪ِ َ { :‬‬
‫طائ ُر ُك ْم عْن َد الله } أي‪ :‬ما أصابكم إال بذنوبكم‪َ { ،‬ب ْل أ َْنتُ ْم قَ ْو ٌم تُ ْفتَُن َ‬
‫} بالسراء والضراء والخير والشر لينظر هل تقلعون وتتوبون أم ال؟ فهذا دأبهم في تكذيب نبيهم‬
‫وما قابلوه به‪.‬‬
‫ض َوال‬‫األر ِ‬ ‫{ و َكان ِفي اْلم ِد َين ِة } التي فيها صالح الجامعة لمعظم قومه { تِسعةُ ر ْه ٍط ي ْف ِس ُد ِ‬
‫ون في ْ‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ون } أي‪ :‬وصفهم اإلفساد في األرض‪ ،‬وال لهم قصد وال فعل باإلصالح قد استعدوا لمعاداة‬ ‫ي ِ‬
‫صل ُح َ‬ ‫ُ ْ‬
‫َّ ِ‬
‫صالح والطعن في دينه ودعوة قومهم إلى ذلك كما قال تعالى‪ { :‬فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ‬
‫يع ِ‬
‫ون * َوال‬
‫ض وال ي ِ‬ ‫تُ ِطيعوا أَمر اْلمس ِر ِفين * الَِّذين ي ْف ِس ُد ِ‬
‫ون }‬‫صل ُح َ‬ ‫األر ِ َ ُ ْ‬ ‫ون في ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َْ ُ ْ َ‬
‫اس ُموا } فيما بينهم كل واحد أقسم لآلخر‬ ‫فلم يزالوا بهذه الحال الشنيعة حتى إنهم من عداوتهم { تَقَ َ‬
‫َهلَه } أي نأتيه ليال هو وأهله فلنقتلنهم { ثَُّم لََنقُولَ َّن ِلوِلي ِ‬
‫ِّه } إذا قام علينا وادعى علينا أنا‬ ‫َ‬ ‫{ لَُنَبيِّتََّنهُ َوأ ْ ُ‬
‫ون } فتواطئوا على ذلك‬ ‫قتلناه ننكر ذلك وننفيه ونحلف { ِإَّنا لَ ِ‬
‫صادقُ َ‬‫َ‬
‫{ َو َم َك ُروا َم ْك ًرا } دبروا أمرهم على قتل صالح وأهله على وجه الخفية حتى من قومهم خوفا من‬
‫أوليائه { َو َم َك ْرَنا َم ْك ًرا } بنصر نبينا صالح عليه السالم وتيسير أمره وإ هالك قومه المكذبين‬
‫ون }‬
‫{ َو ُه ْم ال َي ْش ُع ُر َ‬
‫ان َع ِاقَبةُ َم ْك ِر ِه ْم } هل حصل مقصودهم؟ وأدركوا بذلك المكر مطلوبهم أم انتقض‬ ‫ف َك َ‬‫{ فَ ْانظُ ْر َك ْي َ‬
‫اهم وقَومهم أ ْ ِ‬
‫ين } أهلكناهم واستأصلنا شأفتهم فجاءتهم‬
‫َج َمع َ‬ ‫عليهم األمر ولهذا قال { أََّنا َد َّم ْرَن ُ ْ َ ْ َ ُ ْ‬
‫صيحة عذاب فأهلكوا عن آخرهم‬
‫{ فَتِْل َ‬
‫ك ُبُيوتُهُ ْم َخ ِاوَيةً } قد تهدمت جدرانها على سقوفها وأوحشت من ساكنيها وعطلت من نازليها‬
‫ظلَ ُموا } أي هذا عاقبة ظلمهم وشركهم باهلل وبغيهم في األرض‬ ‫{ بِ َما َ‬
‫ِ‬ ‫{ ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ون } الحقائق ويتدبرون وقائع اهلل في أوليائه وأعدائه فيعتبرون بذلك‬ ‫آليةً لقَ ْوٍم َي ْعلَ ُم َ‬
‫ك َ‬
‫ويعلمون أن عاقبة الظلم الدمار والهالك وأن عاقبة اإليمان والعدل النجاة والفوز‬
‫َِّ‬
‫آمُنوا َو َك ُانوا َيتَّقُ َ‬
‫ون } أي أنجينا المؤمنين باهلل ومالئكته وكتبه ورسله‬ ‫ين َ‬ ‫ولهذا قال { َوأ َْن َج ْيَنا الذ َ‬
‫واليوم اآلخر والقدر خيره وشره وكانوا يتقون الشرك باهلل والمعاصي ويعملون بطاعته وطاعة‬
‫رسله‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون } إلى آخر القصة‪.‬‬ ‫طا ِإ ْذ قَا َل لقَ ْو ِمه أَتَأْتُ َ‬
‫ون اْلفَاح َشةَ َوأ َْنتُ ْم تُْبص ُر َ‬ ‫{ ‪َ { } 58 - 54‬ولُو ً‬
‫أي‪ :‬واذكر عبدنا ورسولنا لوطا ونبأه الفاضل حين قال [ ص ‪ ] 607‬لقومه ‪-‬داعيا إلى اهلل‬
‫اح َشةَ } أي‪ :‬الفعلة الشنعاء التي تستفحشها العقول والفطر وتستقبحها‬ ‫وناصحا‪ { :-‬أَتَأْتُون اْلفَ ِ‬
‫َ‬
‫ون } ذلك وتعلمون قبحه فعاندتم وارتكبتم ذلك ظلما منكم وجرأة على اهلل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الشرائع { َوأ َْنتُ ْم تُْبص ُر َ‬
‫النس ِ‬ ‫ال َش ْه َوةً ِم ْن ُد ِ‬ ‫ِ‬
‫اء } أي‪ :‬كيف توصلتم إلى‬ ‫ون ِّ َ‬ ‫الر َج َ‬
‫ون ِّ‬‫ثم فسر تلك الفاحشة فقال‪ { :‬أَئَّن ُك ْم لَتَأْتُ َ‬
‫هذه الحال‪ ،‬صارت شهوتكم للرجال‪ ،‬وأدبارهم محل الغائط والنجو والخبث‪ ،‬وتركتم ما خلق اهلل‬
‫لكم من النساء من المحال الطيبة التي جبلت النفوس إلى الميل إليها وأنتم انقلب عليكم األمر‬
‫ون } (‪ )1‬متجاوزون لحدود اهلل متجرئون‬
‫فاستحسنتم القبيح واستقبحتم الحسن { َب ْل أ َْنتُ ْم قَ ْو ٌم تَ ْجهَلُ َ‬
‫على محارمه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق قلم الشيخ ‪-‬رحمه اهلل‪-‬فذهب إلى آية األعراف فكتب‪( :‬بل أنتم قوم مسرفون) وفسرها‬
‫على هذا‪ ،‬فصححت اآلية‪ ،‬وأبقيت التفسير كما هو‪.‬‬

‫( ‪)1/606‬‬

‫اب قَ ْو ِم ِه } قبول وال انزجار وال تذكر وادكار‪ ،‬إنما كان جوابهم المعارضة‬
‫ان َج َو َ‬
‫{ فَ َما َك َ‬
‫والمناقضة والتوعد لنبيهم الناصح ورسولهم األمين باإلجالء عن وطنه والتشريد عن بلده‪ .‬فما‬
‫وط ِم ْن قَ ْرَيتِ ُك ْم }‪.‬‬
‫َخ ِرجوا آ َل لُ ٍ‬ ‫كان جواب قومه { ِإال أ ْ‬
‫َن قَالُوا أ ْ ُ‬
‫ون }‬
‫طهَُّر َ‬ ‫فكأنه قيل‪ :‬ما نقمتم منهم وما ذنبهم الذي أوجب لهم اإلخراج‪ ،‬فقالوا‪ِ { :‬إَّنهُ ْم أَُن ٌ‬
‫اس َيتَ َ‬
‫أي‪ :‬يتنزهون عن اللواط وأدبار الذكور‪ .‬فقبحهم اهلل جعلوا أفضل الحسنات بمنزلة أقبح السيئات‪،‬‬
‫ولم يكتفوا بمعصيتهم لنبيهم فيما وعظهم به حتى وصلوا إلى إخراجه‪ ،‬والبالء موكل بالمنطق فهم‬
‫ِ‬ ‫َخ ِرج ُ ِ‬
‫ون }‪.‬‬
‫طهَُّر َ‬ ‫وه ْم م ْن قَ ْرَيت ُك ْم ِإَّنهُ ْم أَُن ٌ‬
‫اس َيتَ َ‬ ‫قالوا‪ { :‬أ ْ ُ‬
‫ومفهوم هذا الكالم‪ " :‬وأنتم متلوثون بالخبث والقذارة المقتضي لنزول العقوبة بقريتكم ونجاة من‬
‫خرج منها "‬
‫َهلَه ِإال امرأَتَه قَ َّدرَن َ ِ‬
‫اها م َن اْل َغابِ ِر َ‬
‫ين } وذلك لما جاءته المالئكة في‬ ‫َْ ُ ْ‬ ‫ولهذا قال تعالى‪ { :‬فَأ َْن َج ْيَناهُ َوأ ْ ُ‬
‫صورة أضياف وسمع بهم قومه فجاءوا إليه يريدونهم بالشر وأغلق الباب دونهم واشتد األمر‬
‫عليه‪ ،‬ثم أخبرته المالئكة عن جلية الحال وأنهم جاءوا الستنقاذه وإ خراجه من بين أظهرهم وأنهم‬
‫يريدون إهالكهم وأن موعدهم الصبح‪ ،‬وأمروه أن يسري بأهله ليال إال امرأته فإنه سيصيبها ما‬
‫أصابهم فخرج بأهله ليال فنجوا وصبحهم العذاب‪ ،‬فقلب اهلل عليهم ديارهم وجعل أعالها أسفلها‬
‫وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬بئس المطر مطرهم وبئس‬ ‫ط ُر اْل ُم ْن َذ ِر َ‬
‫اء َم َ‬ ‫ط ْرَنا َعلَْي ِه ْم َم َ‬
‫ط ًرا فَ َس َ‬ ‫ولهذا قال هنا‪َ { :‬وأ َْم َ‬
‫العذاب عذابهم ألنهم أنذروا وخوفوا فلم ينزجروا ولم يرتدعوا فأحل اهلل بهم عقابه الشديد‪.‬‬

‫( ‪)1/607‬‬

‫طفَى آَللَّهُ َخ ْيٌر أ َّ‬


‫َما ُي ْش ِر ُك َ‬
‫ون (‪)59‬‬ ‫اص َ‬
‫ين ْ‬
‫ِ ِ ِ َِّ‬ ‫َِّ ِ‬
‫ُق ِل اْل َح ْم ُد لله َو َساَل ٌم َعلَى عَباده الذ َ‬

‫َّ‬ ‫ِ ِ ِ َِّ‬ ‫َِّ ِ‬ ‫ِ‬


‫طفَى آللهُ َخ ْيٌر أ َْم َما ُي ْش ِر ُك َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫اص َ‬
‫ين ْ‬
‫الم َعلَى عَباده الذ َ‬
‫{ ‪ُ { } 59‬قل اْل َح ْم ُد لله َو َس ٌ‬
‫أي‪ :‬قل الحمد هلل الذي يستحق كمال الحمد والمدح والثناء لكمال أوصافه وجميل معروفه وهباته‬
‫وعدله وحكمته في عقوبته المكذبين وتعذيب الظالمين‪ ،‬وسلم أيضا على عباده الذين تخيرهم‬
‫واصطفاهم على العالمين من األنبياء والمرسلين وصفوة اهلل من العالمين‪ ،‬وذلك لرفع ذكرهم‬
‫وتنويها بقدرهم وسالمتهم من الشر واألدناس‪ ،‬وسالمة ما قالوه في ربهم من النقائص والعيوب‪.‬‬
‫َّ‬
‫أما ُي ْش ِر ُك َ‬
‫ون } وهذا استفهام قد تقرر وعرف‪ ،‬أي‪ :‬اهلل الرب العظيم كامل األوصاف‬ ‫{ آللهُ َخ ْيٌر َ‬
‫عظيم األلطاف خير أم األصنام واألوثان التي عبدوها معه‪ ،‬وهي ناقصة من كل وجه‪ ،‬ال تنفع وال‬
‫تضر وال تملك ألنفسها وال لعابديها مثقال ذرة من الخير فاهلل خير مما يشركون‪.‬‬

‫( ‪)1/607‬‬

‫ان لَ ُك ْم‬ ‫ٍ‬ ‫اء فَأ َْنَبتَْنا بِ ِه َح َدائِ َ‬ ‫ات واأْل َرض وأ َْن َز َل لَ ُكم ِمن الس ِ‬ ‫ِ‬
‫ات َب ْه َجة َما َك َ‬
‫ق َذ َ‬ ‫َّماء َم ً‬
‫ْ َ َ‬ ‫َّم َاو َ ْ َ َ‬ ‫ق الس َ‬ ‫أ َْم َم ْن َخلَ َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َن تُْنبِتُوا َش َج َر َها أَئلَهٌ َم َع الله َب ْل ُه ْم قَ ْو ٌم َي ْعدلُ َ‬
‫ون (‪)60‬‬ ‫أْ‬

‫ثم ذكر تفاصيل ما به يعرف ويتعين أنه اإلله المعبود وأن عبادته هي الحق وعبادة [ما] سواه هي‬
‫اء فَأ َْنَبتَْنا بِ ِه َح َدائِ َ‬
‫ق‬ ‫ات واألرض وأ َْن َز َل لَ ُكم ِمن الس ِ‬
‫َّماء َم ً‬
‫ْ َ َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاو َ ْ َ َ‬
‫ق الس َ‬
‫َم ْن َخلَ َ‬
‫الباطل فقال‪ { } 60 { :‬أ َّ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ٍ‬
‫َن تُْنبِتُوا َش َج َر َها أَِإلَهٌ َم َع الله َب ْل ُه ْم قَ ْو ٌم َي ْعدلُ َ‬
‫ون }‬ ‫ان لَ ُك ْم أ ْ‬
‫ات َب ْه َجة َما َك َ‬
‫َذ َ‬
‫أي‪ :‬أمن خلق السماوات وما فيها من الشمس والقمر والنجوم والمالئكة واألرض وما فيها من‬
‫جبال وبحار وأنهار وأشجار وغير ذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/607‬‬

‫اس َي َو َج َع َل َب ْي َن اْلَب ْح َر ْي ِن َحا ِج ًزا أَئِلَهٌ‬


‫أَم م ْن جع َل اأْل َرض قَرارا وجع َل ِخاَل لَها أ َْنهارا وجع َل لَها رو ِ‬
‫َ ًَ َ ََ َ ََ‬ ‫ْ َ َ ً َ ََ‬ ‫ْ َ ََ‬
‫ون (‪)61‬‬ ‫َّ ِ‬
‫َم َع الله َب ْل أَ ْكثَُر ُه ْم اَل َي ْعلَ ُم َ‬

‫ات َب ْه َج ٍة } أي‪:‬‬
‫ق } أي‪ :‬بساتين { َذ َ‬ ‫اء فَأ َْنَبتَْنا بِ ِه َح َدائِ َ‬ ‫{ وأَنز َل لَ ُكم } أي‪ :‬ألجلكم { ِمن الس ِ‬
‫َّماء َم ً‬
‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َن تُْنبِتُوا َش َج َر َها } لوال منة‬
‫ان لَ ُك ْم أ ْ‬
‫حسن منظر من كثرة أشجارها وتنوعها وحسن ثمارها‪َ { ،‬ما َك َ‬
‫اهلل عليكم بإنزال المطر‪ { .‬أَِإلَهٌ َم َع اللَّ ِه } فعل هذه األفعال حتى يعبد معه ويشرك به؟ { َب ْل ُه ْم‬
‫ون } به غيره ويسوون به سواه مع علمهم أنه وحده خالق العالم العلوي والسفلي ومنزل‬ ‫ِ‬
‫قَ ْو ٌم َي ْعدلُ َ‬
‫الرزق‪.‬‬
‫[ ص ‪] 608‬‬
‫َم ْن جع َل األرض قَرارا وجع َل ِخاللَها أ َْنهارا وجع َل لَها رو ِ‬
‫اس َي َو َج َع َل َب ْي َن اْلَب ْح َر ْي ِن‬ ‫َ ًَ َ ََ َ ََ‬ ‫ْ َ َ ً َ ََ‬ ‫{ ‪ { } 61‬أ َّ َ َ‬
‫َّ ِ‬ ‫َح ِ‬
‫ون } ‪.‬‬‫اج ًزا أَِإلَهٌ َم َع الله َب ْل أَ ْكثَُر ُه ْم ال َي ْعلَ ُم َ‬
‫أي‪ :‬هل األصنام واألوثان الناقصة من كل وجه التي ال فعل منها وال رزق وال نفع خير؟ أم اهلل‬
‫ض قََر ًارا } يستقر عليها العباد ويتمكنون من السكنى والحرث والبناء والذهاب‬ ‫األر َ‬
‫الذي { َج َع َل ْ‬
‫واإلياب‪َ { .‬و َج َع َل ِخاللَهَا أ َْنهَ ًارا } أي‪ :‬جعل في خالل األرض أنهارا ينتفع بها العباد في‬
‫زروعهم وأشجارهم‪ ،‬وشربهم وشرب مواشيهم‪.‬‬
‫اس َي } أي‪ :‬جباال ترسيها وتثبتها لئال تميد وتكون أوتادا لها لئال تضطرب‪.‬‬ ‫{ وجع َل لَها رو ِ‬
‫َ ََ َ ََ‬
‫اج ًزا } يمنع من اختالطهما فتفوت المنفعة‬ ‫{ و َج َع َل َب ْي َن اْلَب ْحر ْي ِن } البحر المالح والبحر العذب { َح ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫المقصودة من كل منهما بل جعل بينهما حاجزا من األرض‪ ،‬جعل مجرى األنهار في األرض‬
‫مبعدة عن البحار فيحصل منها مقاصدها ومصالحها‪ { ،‬أَِإلَهٌ َم َع اللَّ ِه } فعل ذلك حتى يعدل به اهلل‬
‫ون } فيشركون باهلل تقليدا لرؤسائهم وإ ال فلو علموا حق‬ ‫ويشرك به معه‪َ { .‬ب ْل أَ ْكثَُر ُه ْم ال َي ْعلَ ُم َ‬
‫العلم لم يشركوا به شيئا‪.‬‬

‫( ‪)1/607‬‬
‫ض أَئِلَهٌ َم َع اللَّ ِه َقِلياًل َما‬
‫اء اأْل َْر ِ‬
‫ُّوء َوَي ْج َعلُ ُك ْم ُخلَفَ َ‬ ‫ط َّر ِإ َذا َد َعاهُ َوَي ْك ِش ُ‬
‫ف الس َ‬ ‫ضَ‬ ‫أ َْم َم ْن ُي ِج ُ‬
‫يب اْل ُم ْ‬
‫ون (‪)62‬‬ ‫تَ َذ َّك ُر َ‬

‫ض أَِإلَهٌ َم َع اللَّ ِه َقِليال‬


‫األر ِ‬
‫اء ْ‬‫ُّوء َوَي ْج َعلُ ُك ْم ُخلَفَ َ‬ ‫ط َّر ِإ َذا َد َعاهُ َوَي ْك ِش ُ‬
‫ف الس َ‬ ‫ضَ‬ ‫َم ْن ُي ِج ُ‬
‫يب اْل ُم ْ‬ ‫{ ‪ { } 62‬أ َّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫َما تَ َذ َّك ُر َ‬
‫أي‪ :‬هل يجيب المضطرب الذي أقلقته الكروب وتعسر عليه المطلوب واضطر للخالص مما هو‬
‫فيه إال اهلل وحده؟ ومن يكشف السوء أي‪ :‬البالء والشر والنقمة إال اهلل وحده؟ ومن يجعلكم خلفاء‬
‫األرض يمكنكم منها ويمد لكم بالرزق ويوصل إليكم نعمه وتكونون خلفاء من قبلكم كما أنه‬
‫سيميتكم ويأتي بقوم بعدكم أإله مع اهلل يفعل هذه األفعال؟ ال أحد يفعل مع اهلل شيئا من ذلك حتى‬
‫بإقراركم أيها المشركون‪ ،‬ولهذا كانوا إذا مسهم الضر دعوا اهلل مخلصين له الدين لعلمهم أنه‬
‫ِ‬
‫وحده المقتدر على دفعه وإ زالته‪َ { ،‬قليال َما تَ َذ َّك ُر َ‬
‫ون } أي‪ :‬قليل تذكركم وتدبركم لألمور التي إذا‬
‫ادكرتم ورجعتم إلى الهدى‪ ،‬ولكن الغفلة واإلعراض شامل لكم فلذلك ما ارعويتم وال‬ ‫تذكرتموها َّ‬
‫اهتديتم‪.‬‬

‫( ‪)1/608‬‬

‫ي َر ْح َمتِ ِه أَئِلَهٌ َم َع اللَّ ِه تَ َعالَى‬


‫اح ُب ْش ًرا َب ْي َن َي َد ْ‬ ‫ات اْلَبِّر َواْلَب ْح ِر َو َم ْن ُي ْر ِس ُل ِّ‬
‫الرَي َ‬
‫أَم م ْن يه ِدي ُكم ِفي ظُلُم ِ‬
‫َ‬ ‫ْ َ َْ ْ‬
‫َّ‬
‫ون (‪)63‬‬ ‫اللهُ َع َّما ُي ْش ِر ُك َ‬

‫ي َر ْح َمتِ ِه أَِإلَهٌ َم َع‬


‫اح ُب ْش ًرا َب ْي َن َي َد ْ‬ ‫ات اْلَبِّر َواْلَب ْح ِر َو َم ْن ُي ْر ِس ُل ِّ‬
‫الرَي َ‬
‫َم ْن يه ِدي ُكم ِفي ظُلُم ِ‬
‫َ‬ ‫{ ‪ { } 63‬أ َّ َ ْ ْ‬
‫َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫الله تَ َعالَى اللهُ َع َّما ُي ْش ِر ُك َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫أي‪ :‬من هو الذي يهديكم حين تكونون في ظلمات البر والبحر‪ ،‬حيث ال دليل وال معلم يرى وال‬
‫وسيلة إلى النجاة إال هدايته لكم‪ ،‬وتيسيره الطريق وجعل ما جعل لكم من األسباب التي تهتدون‬
‫ي َر ْح َمتِ ِه } أي‪ :‬بين يدي المطر‪ ،‬فيرسلها فتثير السحاب ثم‬ ‫اح ُب ْش ًرا َب ْي َن َي َد ْ‬ ‫بها‪َ { ،‬و َم ْن ُي ْر ِس ُل ِّ‬
‫الرَي َ‬
‫تؤلفه ثم تجمعه ثم تلقحه ثم تدره‪ ،‬فيستبشر بذلك العباد قبل نزول المطر‪ { .‬أَِإلَهٌ َم َع اللَّ ِه } فعل‬
‫َّ‬
‫ذلك؟ أم هو وحده الذي انفرد به؟ فلم أشركتم معه غيره وعبدتم سواه؟ { تَ َعالَى اللهُ َع َّما ُي ْش ِر ُك َ‬
‫ون‬
‫} تعاظم وتنزه وتقدس عن شركهم وتسويتهم به غيره‪.‬‬
‫( ‪)1/608‬‬

‫ض أَئِلَهٌ َم َع اللَّ ِه ُق ْل َهاتُوا ُب ْر َه َان ُك ْم ِإ ْن‬ ‫يده وم ْن ير ُزقُ ُكم ِمن الس ِ‬
‫اء واأْل َْر ِ‬
‫َّم َ‬‫ْ َ َ‬
‫أَم م ْن ي ْب َدأُ اْل َخْل َ ِ‬
‫ق ثَُّم ُيع ُ ُ َ َ َ ْ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ين (‪)64‬‬ ‫ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬

‫ض أَِإلَهٌ َم َع اللَّ ِه ُق ْل َهاتُوا‬


‫األر ِ‬ ‫يده وم ْن ير ُزقُ ُكم ِمن الس ِ‬
‫َّماء َو ْ‬
‫ْ َ َ‬
‫َم ْن ي ْب َدأُ اْل َخْل َ ِ‬
‫ق ثَُّم ُيع ُ ُ َ َ َ ْ‬ ‫{ ‪ { } 64‬أ َّ َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫بر َه َان ُكم ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬
‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُْ‬
‫أي‪ :‬من هو الذي يبدأ الخلق وينشئ المخلوقات ويبتدئ خلقها‪ ،‬ثم يعيد الخلق يوم البعث والنشور؟‬
‫ومن يرزقكم من السماء واألرض بالمطر والنبات؟‪.‬‬
‫{ أَِإلَهٌ َم َع اللَّ ِه } يفعل ذلك ويقدر عليه؟ { ُق ْل َهاتُوا ُب ْر َه َان ُك ْم } أي‪ :‬حجتكم ودليلكم على ما قلتم‬
‫ين } وإ ال فبتقدير أنكم تقولون‪ :‬إن األصنام لها مشاركة له في شيء من ذلك فذلك‬ ‫{ ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬‫ْ َ‬
‫مجرد دعوى صدقوها بالبرهان‪ ،‬وإ ال فاعرفوا أنكم مبطلون ال حجة لكم‪ ،‬فارجعوا إلى األدلة‬
‫اليقينية والبراهين القطعية الدالة على أن اهلل هو المتفرد بجميع التصرفات وأنه المستحق أن‬
‫تصرف له جميع أنواع العبادات‪.‬‬

‫( ‪)1/608‬‬

‫ون (‪َ )65‬ب ِل َّ‬ ‫ض اْل َغ ْي اَّل َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ك‬‫اد َار َ‬ ‫َّان ُي ْب َعثُ َ‬ ‫ب ِإ اللهُ َو َما َي ْش ُع ُر َ‬
‫ون أَي َ‬ ‫َ‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬
‫َّم َاو َ‬‫ُق ْل اَل َي ْعلَ ُم َم ْن في الس َ‬
‫ين َكفَ ُروا أَئِ َذا ُكَّنا تَُر ًابا‬ ‫ك ِم ْنها ب ْل ُهم ِم ْنها عمون (‪ )66‬وقَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عْل ُمهُ ْم في اآْل َخ َر ِة َب ْل ُه ْم في َش ٍّ َ َ ْ َ َ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وآَباؤَنا أَئَِّنا لَم ْخرجون (‪ )67‬لَقَ ْد و ِع ْدَنا َه َذا َن ْحن وآَباؤَنا ِم ْن قَْب ُل ِإ ْن َه َذا ِإاَّل أ ِ‬
‫ين (‪)68‬‬ ‫َساط ُير اأْل ََّوِل َ‬‫َ‬ ‫ُ َ َُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ ُ َ‬ ‫َ َُ‬
‫ِ‬ ‫ُق ْل ِس ُيروا ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ين (‪)69‬‬ ‫ان َعاقَبةُ اْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ف َك َ‬‫ض فَ ْانظُ ُروا َك ْي َ‬

‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ون‬‫َّان ُي ْب َعثُ َ‬
‫ون أَي َ‬‫ب ِإال اللهُ َو َما َي ْش ُع ُر َ‬ ‫األر ِ‬
‫ض اْل َغ ْي َ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫{ ‪ُ { } 68 - 65‬ق ْل ال َي ْعلَ ُم َم ْن في الس َ‬
‫ين َكفَ ُروا أَئِ َذا ُكَّنا‬ ‫ك ِم ْنها ب ْل ُهم ِم ْنها عمون * وقَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ َ ْ َ َُ َ َ‬
‫اآلخر ِة َب ْل ُهم ِفي َش ٍّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ك ِعْلمهم ِفي ِ‬ ‫* َب ِل َّ‬
‫اد َار َ ُ ُ ْ‬
‫تُرابا وآباؤَنا أَئَِّنا لَم ْخرجون * لَقَ ْد و ِع ْدَنا َه َذا َن ْحن وآباؤَنا ِم ْن قَْب ُل ِإ ْن َه َذا ِإال أَس ِ‬
‫ين *‬ ‫األوِل َ‬
‫اط ُير َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ ُ َ‬ ‫َ ً َ َُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ان َعاقَبةُ اْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ف َك َ‬ ‫األر ِ‬
‫ض فَ ْانظُ ُروا َك ْي َ‬ ‫ُق ْل س ُيروا في ْ‬
‫يخبر تعالى أنه المنفرد بعلم غيب السماوات واألرض كقوله تعالى‪َ { :‬و ِع ْن َدهُ َمفَاتِ ُح اْل َغ ْي ِب ال‬
‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض‬‫األر ِ‬ ‫َي ْعلَ ُمهَا ِإال ُه َو َوَي ْعلَ ُم َما في اْلَبِّر َواْلَب ْح ِر َو َما تَ ْسقُطُ م ْن َو َرقَة ِإال َي ْعلَ ُمهَا َوال َحبَّة في ظُلُ َمات ْ‬
‫َّاع ِة َوُينز ُل اْل َغ ْي َ‬
‫ث َوَي ْعلَ ُم‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫ين } وكقوله‪ِ { :‬إ َّن اللهَ ع ْن َدهُ عْل ُم الس َ‬ ‫س ِإال ِفي ِكتَ ٍ‬
‫اب ُمبِ ٍ‬ ‫ط ٍب وال َيابِ ٍ‬
‫َوال َر ْ َ‬
‫األر َح ِام } إلى آخر السورة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َما في ْ‬
‫فهذه الغيوب ونحوها اختص اهلل بعلمها فلم يعلمها ملك مقرب وال نبي مرسل‪ ،‬وإ ذا كان هو‬
‫المنفرد بعلم ذلك المحيط علمه بالسرائر والبواطن والخفايا فهو الذي ال تنبغي العبادة إال له‪ ،‬ثم‬
‫أخبر تعالى عن ضعف علم المكذبين باآلخرة منتقال من شيء إلى ما هو أبلغ منه فقال‪َ { :‬و َما‬
‫ون } أي‪ :‬متى البعث والنشور والقيام من القبور أي‪:‬‬ ‫َّان ُي ْب َعثُ َ‬
‫ون } أي‪ :‬وما يدرون { أَي َ‬ ‫َي ْش ُع ُر َ‬
‫فلذلك لم يستعدوا‪.‬‬
‫اآلخ َر ِة } أي‪ :‬بل ضعف‪ ،‬وقل ولم يكن يقينا‪ ،‬وال علما واصال إلى القلب‬ ‫ك ِعْلمهم ِفي ِ‬ ‫{ َب ِل َّ‬
‫اد َار َ ُ ُ ْ‬
‫وهذا أقل وأدنى درجة للعلم ضعفه ووهاؤه‪ ،‬بل ليس عندهم علم قوي وال ضعيف وإ نما { ُه ْم ِفي‬
‫ك ِم ْنهَا } أي‪ :‬من اآلخرة‪ ،‬والشك زال به العلم ألن العلم بجميع مراتبه ال يجامع الشك‪َ { ،‬ب ْل ُه ْم‬ ‫َش ٍّ‬
‫ون } قد عميت عنها بصائرهم‪ ،‬ولم يكن في قلوبهم من وقوعها وال‬ ‫ِ‬
‫م ْنهَا } أي‪ :‬من اآلخرة { َع ُم َ‬
‫اؤَنا أَئَِّنا‬ ‫ِ‬
‫ين َكفَ ُروا أَئ َذا ُكَّنا تَُر ًابا َو َآب ُ‬
‫احتمال بل أنكروها واستبعدوها‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وقَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬
‫ون } أي‪ :‬هذا بعيد غير ممكن قاسوا قدرة كامل القدرة بقدرهم الضعيفة‪.‬‬ ‫لَ ُم ْخ َر ُج َ‬
‫[ ص ‪] 609‬‬
‫اؤَنا ِم ْن قَْب ُل } أي‪ :‬فلم يجئنا وال رأينا منه شيئا‪ِ { .‬إ ْن َه َذا‬
‫{ لَقَ ْد ُو ِع ْدَنا َه َذا } أي‪ :‬البعث { َن ْح ُن َو َآب ُ‬
‫ِإال أَس ِ‬
‫ين } أي‪ :‬قصصهم وأخبارهم التي تقطع بها األوقات وليس لها أصل وال صدق‬ ‫األوِل َ‬
‫اط ُير َّ‬ ‫َ‬
‫فيها‪.‬‬
‫فانتقل في اإلخبار عن أحوال المكذبين باإلخبار أنهم ال يدرون متى وقت اآلخرة ثم اإلخبار‬
‫بضعف علمهم فيها ثم اإلخبار بأنه شك ثم اإلخبار بأنه عمى ثم اإلخبار بإنكارهم لذلك‬
‫واستبعادهم وقوعه‪ .‬أي‪ :‬وبسبب هذه األحوال ترحل خوف اآلخرة من قلوبهم فأقدموا على‬
‫معاصي اهلل وسهل عليهم تكذيب الحق والتصديق بالباطل واستحلوا الشهوات على القيام‬
‫بالعبادات فخسروا دنياهم وأخراهم‪.‬‬
‫ف‬ ‫األر ِ‬
‫ض فَ ْانظُ ُروا َك ْي َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪ } 69‬ثم نبههم على صدق ما أخبرت به الرسل فقال‪ُ { :‬ق ْل س ُيروا في ْ‬
‫ِ‬
‫ين } فال تجدون مجرما قد استمر على إجرامه‪ ،‬إال وعاقبته شر عاقبة وقد أحل‬ ‫ان َعاقَبةُ اْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫َك َ‬
‫اهلل به من الشر والعقوبة ما يليق بحاله‪.‬‬

‫( ‪)1/608‬‬
‫ق ِم َّما يم ُكرون (‪ )70‬ويقُولُون متَى َه َذا اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‬
‫صادق َ‬‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬ ‫َْ ُ َ‬ ‫ض ْي ٍ‬ ‫َواَل تَ ْح َز ْن َعلَْي ِه ْم َواَل تَ ُك ْن في َ‬
‫َِّ‬
‫ون (‪)72‬‬ ‫ض الذي تَ ْستَ ْع ِجلُ َ‬ ‫ون َر ِد َ‬
‫ف لَ ُك ْم َب ْع ُ‬ ‫َن َي ُك َ‬
‫(‪ُ )71‬ق ْل َع َسى أ ْ‬

‫ون َمتَى َه َذا اْل َو ْع ُد ِإ ْن‬ ‫ك ِفي ض ْي ٍ ِ‬ ‫{ ‪َ { } 72 - 70‬وال تَ ْح َز ْن َعلَْي ِه ْم َوال تَ ُ‬


‫ون * َوَيقُولُ َ‬
‫ق م َّما َي ْم ُك ُر َ‬ ‫َ‬
‫َِّ‬ ‫ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫ون } ‪.‬‬‫ض الذي تَ ْستَ ْع ِجلُ َ‬ ‫ف لَ ُك ْم َب ْع ُ‬‫ون َر ِد َ‬
‫َن َي ُك َ‬ ‫ين * ُق ْل َع َسى أ ْ‬‫صادق َ‬
‫ْ َ‬
‫أي‪ :‬ال تحزن يا محمد على هؤالء المكذبين وعدم إيمانهم‪ ،‬فإنك لو علمت ما فيهم من الشر وأنهم‬
‫ال يصلحون للخير‪ ،‬لم تأس ولم تحزن‪ ،‬وال يضق صدرك وال تقلق نفسك بمكرهم فإن مكرهم‬
‫ِ‬ ‫َّ َّ‬
‫ين } ويقول المكذبون بالمعاد‬ ‫ون َوَي ْم ُك ُر اللهُ َواللهُ َخ ْي ُر اْل َماك ِر َ‬
‫سيعود عاقبته عليهم‪َ { ،‬وَي ْم ُك ُر َ‬
‫ين }‪.‬‬ ‫وبالحق الذي جاء به الرسول مستعجلين للعذاب‪ { :‬متَى َه َذا اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وهذا من سفاهة رأيهم وجهلهم فإن وقوعه ووقته قد أجله اهلل بأجله وقدره بقدر‪ ،‬فال يدل عدم‬
‫استعجاله على بعض مطلوبهم‪.‬‬
‫ون َر ِد َ‬
‫ف لَ ُك ْم } أي‪:‬‬ ‫َن َي ُك َ‬
‫ولكن ‪-‬مع هذا‪ -‬قال تعالى محذرا لهم وقوع ما استعجلوه‪ُ { :‬ق ْل َع َسى أ ْ‬
‫َِّ‬
‫ون } من العذاب‪.‬‬ ‫ض الذي تَ ْستَ ْع ِجلُ َ‬
‫قرب منكم وأوشك أن يقع بكم { َب ْع ُ‬

‫( ‪)1/609‬‬

‫ِ‬ ‫ون (‪َ )73‬وإِ َّن َرَّب َ‬ ‫الن ِ ِ‬ ‫ض ٍل َعلَى َّ‬ ‫َوإِ َّن َرَّب َ‬
‫ور ُه ْم‬ ‫ك لََي ْعلَ ُم َما تُك ُّن ُ‬
‫ص ُد ُ‬ ‫اس َولَك َّن أَ ْكثََر ُه ْم اَل َي ْش ُك ُر َ‬ ‫ك لَ ُذو فَ ْ‬
‫ين (‪)75‬‬ ‫اب ُمبِ ٍ‬ ‫ض ِإاَّل ِفي ِكتَ ٍ‬
‫اء واأْل َْر ِ‬ ‫وما يعِلُنون (‪ )74‬وما ِم ْن َغائِب ٍة ِفي الس ِ‬
‫َّم َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ ُْ َ‬

‫ون * َوإِ َّن َرب َ‬ ‫الن ِ ِ‬ ‫ض ٍل َعلَى َّ‬


‫َّك لََي ْعلَ ُم َما‬ ‫اس َولَك َّن أَ ْكثََر ُه ْم ال َي ْش ُك ُر َ‬ ‫{ ‪َ { } 75 - 73‬وإِ َّن َرب َ‬
‫َّك لَ ُذو فَ ْ‬
‫اب ُمبِ ٍ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ض ِإال ِفي ِكتَ ٍ‬ ‫األر ِ‬ ‫تُ ِك ُّن ص ُدور ُهم وما يعِلُنون * وما ِم ْن َغائِب ٍة ِفي الس ِ‬
‫َّماء َو ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ ْ َ َ ُْ َ َ َ‬
‫ينبه عباده على سعة جوده وكثرة أفضاله ويحثهم على شكرها‪ ،‬ومع هذا فأكثر الناس قد أعرضوا‬
‫عن الشكر واشتغلوا بالنعم عن المنعم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ َوإِ َّن َرَّب َ‬
‫ون } فليحذروا من عالم‬
‫ور ُه ْم َو َما ُي ْعلُن َ‬ ‫ك لََي ْعلَ ُم َما تُك ُّن } أي‪ :‬تنطوي عليه { ُ‬
‫ص ُد ُ‬
‫السرائر والظواهر وليراقبوه‪.‬‬
‫ض } أي‪ :‬خفية وسر من أسرار العالم العلوي والسفلي { ِإال ِفي‬ ‫األر ِ‬ ‫{ وما ِم ْن َغائِب ٍة ِفي الس ِ‬
‫َّماء َو ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ين } قد أحاط ذلك الكتاب بجميع ما كان ويكون إلى أن تقوم الساعة‪ ،‬فكل حادث يحدث‬ ‫اب ُمبِ ٍ‬ ‫ِكتَ ٍ‬
‫جلي أو خفي إال وهو مطابق لما كتب في اللوح المحفوظ‪.‬‬

‫( ‪)1/609‬‬
‫ِِ ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص َعلَى َبني ِإ ْس َرائي َل أَ ْكثََر الذي ُه ْم فيه َي ْختَلفُ َ‬
‫ون (‪)76‬‬ ‫ِإ َّن َه َذا اْلقُْرآ َ‬
‫َن َيقُ ُّ‬

‫ِِ ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ص َعلَى َبني ِإ ْس َرائي َل أَ ْكثََر الذي ُه ْم فيه َي ْختَلفُ َ‬
‫ون * } ‪.‬‬ ‫{ ‪ِ { } 77 - 76‬إ َّن َه َذا اْلقُْر َ‬
‫آن َيقُ ُّ‬
‫وهذا خبر عن هيمنة القرآن على الكتب السابقة وتفصيله وتوضيحه‪ ،‬لما كان فيها قد وقع فيه‬
‫اشتباه واختالف عند بني إسرائيل فقصه هذا القرآن قصا زال به اإلشكال وبين به الصواب من‬
‫المسائل المختلف فيها‪ .‬وإ ذا كان بهذه المثابة من الجاللة والوضوح وإ زالة كل خالف وفصل كل‬
‫مشكل كان أعظم نعم اهلل على العباد ولكن ما كل أحد يقابل النعمة بالشكر‪ .‬ولهذا بين أن نفعه‬
‫ونوره وهداه مختص بالمؤمنين فقال‪:‬‬

‫( ‪)1/609‬‬

‫ِ ِ‬
‫َوإِ َّنهُ لَهُ ًدى َو َر ْح َمةٌ لْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين (‪)77‬‬

‫ِ ِ‬
‫{ َوإِ َّنهُ لَهُ ًدى َو َر ْح َمةٌ لْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين } ‪.‬‬
‫{ َوإِ َّنهُ لَهُ ًدى }‪.‬‬
‫من الضاللة والغي والشبه { َو َر ْح َمةٌ } تنثلج له صدورهم وتستقيم به أمورهم الدينية والدنيوية‬
‫ِ ِ‬
‫ين } به المصدقين له المتلقين له بالقبول المقبلين على تدبره المتفكرين في معانيه‪ ،‬فهؤالء‬ ‫{ لْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫تحصل لهم به الهداية إلى الصراط المستقيم والرحمة المتضمنة للسعادة والفوز والفالح‪.‬‬

‫( ‪)1/609‬‬

‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِإ َّن رَّب َ ِ‬


‫ك َي ْقضي َب ْيَنهُ ْم ب ُح ْكمه َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َعل ُ‬
‫يم (‪)78‬‬ ‫َ‬

‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫{ ‪ِ { } 78‬إ َّن رب َ ِ‬


‫َّك َي ْقضي َب ْيَنهُ ْم ب ُح ْكمه َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َعل ُ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬إن اهلل تعالى سيفصل بين المختصين وسيحكم بين المختلفين بحكمه العدل وقضائه القسط‪،‬‬
‫فاألمور وإ ن حصل فيها اشتباه في الدنيا بين المختلفين لخفاء الدليل أو لبعض المقاصد فإنه سيبين‬
‫فيها الحق المطابق للواقع حين يحكم اهلل فيها‪َ { ،‬و ُه َو اْل َع ِز ُيز } الذي قهر الخالئق فأذعنوا له‪،‬‬
‫يم } بأقوال المختلفين وعن ماذا صدرت وعن غاياتها ومقاصدها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم } بجميع األشياء { اْل َعل ُ‬
‫{ اْل َعل ُ‬
‫وسيجازي كال بما علمه فيه‪.‬‬

‫( ‪)1/609‬‬

‫اء ِإ َذا َولَّ ْوا‬ ‫ُّم ُّ‬


‫الد َع َ‬ ‫ك اَل تُ ْس ِمعُ اْل َم ْوتَى َواَل تُ ْس ِمعُ الص َّ‬ ‫ين (‪ِ )79‬إَّن َ‬ ‫ق اْل ُمبِ ِ‬ ‫فَتََو َّك ْل َعلَى اللَّ ِه ِإَّن َ‬
‫ك َعلَى اْل َح ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ اَّل‬ ‫ِ‬ ‫م ْدبِ ِرين (‪ )80‬وما أ َْن َ ِ‬
‫ون (‬‫ضاَل لَت ِه ْم ِإ ْن تُ ْسمعُ ِإ َم ْن ُي ْؤ ِم ُن بِآََياتَنا فَهُ ْم ُم ْسل ُم َ‬‫ت بِهَادي اْل ُع ْم ِي َع ْن َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫‪)81‬‬

‫ك ال تُ ْس ِمعُ اْل َم ْوتَى َوال تُ ْس ِمعُ الص َّ‬


‫ُّم‬ ‫ين * ِإَّن َ‬ ‫ق اْل ُمبِ ِ‬ ‫{ ‪ { } 81 - 79‬فَتََو َّك ْل َعلَى اللَّ ِه ِإَّن َ‬
‫ك َعلَى اْل َح ِّ‬
‫ضاللَتِ ِه ْم ِإ ْن تُ ْس ِمعُ ِإال َم ْن ُي ْؤ ِم ُن بِ َآياتَِنا فَهُ ْم‬ ‫الدعاء ِإ َذا ولَّوا م ْدبِ ِرين * وما أ َْن َ ِ‬
‫ت بِهَادي اْل ُع ْم ِي َع ْن َ‬ ‫َ ََ‬ ‫ُّ َ َ َ ْ ُ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُم ْسل ُم َ‬
‫أي‪ :‬اعتمد على ربك في جلب المصالح ودفع المضار وفي تبليغ الرسالة وإ قامة الدين وجهاد‬
‫ق اْل ُمبِ ِ‬
‫ين } الواضح والذي على الحق يدعو إليه‪ ،‬ويقوم بنصرته أحق من‬ ‫األعداء‪ِ { .‬إَّن َ‬
‫ك َعلَى اْل َح ِّ‬
‫غيره بالتوكل فإنه يسعى في أمر مجزوم به معلوم صدقه ال شك فيه وال مرية‪ .‬وأيضا فهو حق‬
‫في غاية البيان ال خفاء به وال اشتباه‪ ،‬وإ ذا قمت بما حملت وتوكلت على اهلل في ذلك فال يضرك‬
‫اء }‪.‬‬ ‫ُّم ُّ‬
‫الد َع َ‬ ‫ك ال تُ ْس ِمعُ اْل َم ْوتَى َوال تُ ْس ِمعُ الص َّ‬ ‫ضالل من ضل وليس عليك هداهم فلهذا قال‪ِ { :‬إَّن َ‬
‫َّ‬
‫ين } فإنه يكون أبلغ في عدم إسماعهم‪.‬‬ ‫أي‪ :‬حين تدعوهم وتناديهم‪ ،‬وخصوصا { ِإ َذا َول ْوا ُم ْدبِ ِر َ‬
‫َحب ْب َ ِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ضاللَتِ ِه ْم } كما قال تعالى‪ِ { :‬إَّن َ‬ ‫{ وما أ َْن َ ِ‬
‫ت َولَك َّن اللهَ‬ ‫ك ال تَ ْهدي َم ْن أ ْ َ‬ ‫ت بِهَادي اْل ُع ْم ِي َع ْن َ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬هؤالء الذين ينقادون لك‪،‬‬ ‫اء } { ِإ ْن تُ ْسمعُ ِإال َم ْن ُي ْؤ ِم ُن بِ َآياتَنا فَهُ ْم ُم ْسل ُم َ‬ ‫َي ْهدي َم ْن َي َش ُ‬
‫الذين يؤمنون [ ص ‪ ] 610‬بآيات اهلل وينقادون لها بأعمالهم واستسالمهم كما قال تعالى‪ِ { :‬إَّن َما‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫يستَ ِج َِّ‬
‫ون }‪.‬‬ ‫ون َواْل َم ْوتَى َي ْب َعثُهُ ُم اللهُ ثَُّم ِإلَْيه ُي ْر َج ُع َ‬
‫ين َي ْس َم ُع َ‬
‫يب الذ َ‬ ‫َْ ُ‬

‫( ‪)1/609‬‬

‫ِ‬ ‫َخ َر ْجَنا لَهُ ْم َد َّابةً ِم َن اأْل َْر ِ‬


‫ض تُ َكلِّ ُمهُ ْم أ َّ‬
‫اس َك ُانوا بِآََياتَنا اَل ُيو ِقُن َ‬
‫ون (‪)82‬‬ ‫َن َّ‬
‫الن َ‬ ‫َوإِ َذا َوقَ َع اْلقَ ْو ُل َعلَْي ِه ْم أ ْ‬

‫اس َك ُانوا بِ َآياتَِنا ال‬ ‫ض تُ َكلِّ ُمهُ ْم أ َّ‬


‫َن َّ‬
‫الن َ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪َ { } 82‬وإِ َذا َوقَ َع اْلقَ ْو ُل َعلَْي ِه ْم أ ْ‬
‫َخ َر ْجَنا لَهُ ْم َد َّابةً م َن ْ‬
‫ُيو ِقُن َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫َخ َر ْجَنا لَهُ ْم َد َّابةً } خارجة { ِم َن‬
‫أي‪ :‬إذا وقع على الناس القول الذي حتمه اهلل وفرض وقته‪ { .‬أ ْ‬
‫ض } أو دابة من دواب األرض ليست من السماء‪ .‬وهذه الدابة { تُ َكلِّ ُمهُ ْم } أي‪ :‬تكلم العباد أن‬ ‫األر ِ‬
‫ْ‬
‫الناس كانوا بآياتنا ال يوقنون‪ ،‬أي‪ :‬ألجل أن الناس ضعف علمهم ويقينهم بآيات اهلل‪ ،‬فإظهار اهلل‬
‫هذه الدابة من آيات اهلل العجيبة ليبين للناس ما كانوا فيه يمترون‪.‬‬
‫وهذه الدابة هي الدابة المشهورة التي تخرج في آخر الزمان وتكون من أشراط الساعة كما‬
‫تكاثرت بذلك األحاديث [ولم يأت دليل يدل على كيفيتها وال من أي‪ :‬نوع هي وإ نما دلت اآلية‬
‫الكريمة على أن اهلل يخرجها للناس وأن هذا التكليم منها خارق للعوائد المألوفة وأنه من األدلة‬
‫على صدق ما أخبر اهلل به في كتابه واهلل أعلم] (‪)1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ما بين القوسين المركنين زيادة من هامش أ بخط الشيخ ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬وفي ب زيادة أخرى‪،‬‬
‫يبدو أنها بخطه ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬هي‪( :‬لم يذكر اهلل ورسوله كيفية هذه الدابة‪ ،‬وإ نما ذكر أثرها‪،‬‬
‫والمقصود منها‪ ،‬وأنها من آيات اهلل تكلم الناس كالما خارقا للعادة حين يقع القول على الناس‪،‬‬
‫وحين يمترون بآيات اهلل فتكون حجة وبرهانا للمؤمنين وحجة على المعاندين)‪.‬‬

‫( ‪)1/610‬‬

‫ال أَ َك َّذ ْبتُ ْم‬‫اءوا قَ َ‬‫ون (‪َ )83‬حتَّى ِإ َذا َج ُ‬ ‫وز ُع َ‬ ‫ب بِآََياتَِنا فَهُ ْم ُي َ‬ ‫ِ‬ ‫ويوم َن ْح ُشر ِم ْن ُك ِّل أ َّ ٍ‬
‫ُمة فَ ْو ًجا م َّم ْن ُي َك ِّذ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َْ َ‬
‫ون (‪َ )84‬و َوقَ َع اْلقَ ْو ُل َعلَْي ِه ْم بِ َما َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ظلَ ُموا فَهُ ْم اَل‬ ‫بِآََياتي َولَ ْم تُحيطُوا بِهَا عْل ًما أ َْم َما َذا ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫ون (‪)85‬‬ ‫ِ‬
‫َي ْنطقُ َ‬

‫ون * َحتَّى ِإ َذا َج ُ‬


‫اءوا‬ ‫وز ُع َ‬ ‫ب بِ َآياتَِنا فَهُ ْم ُي َ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 85 - 83‬ويوم َن ْح ُشر ِم ْن ُك ِّل أ َّ ٍ‬
‫ُمة فَ ْو ًجا م َّم ْن ُي َك ِّذ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َْ َ‬
‫ون * َو َوقَ َع اْلقَ ْو ُل َعلَْي ِه ْم بِ َما َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫قَ َ َّ‬
‫ظلَ ُموا فَهُ ْم ال‬ ‫ال أَ َكذ ْبتُ ْم بِ َآياتي َولَ ْم تُحيطُوا بِهَا عْل ًما أ َْم َما َذا ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َي ْنطقُ َ‬
‫يخبر تعالى عن حالة المكذبين في موقف القيامة وأن اهلل يجمعهم‪ ،‬ويحشر من كل أمة من األمم‬
‫ون } يجمع أولهم على آخرهم وآخرهم على أولهم‬ ‫وز ُع َ‬ ‫ب بِ َآياتَِنا فَهُ ْم ُي َ‬ ‫ِ‬
‫فوجا وطائفة { م َّم ْن ُي َك ِّذ ُ‬
‫ليعمهم السؤال والتوبيخ واللوم‪.‬‬
‫اءوا } وحضروا قال لهم موبخا ومقرعا‪ { :‬أَ َك َّذ ْبتُ ْم بِ َآياتِي َولَ ْم تُ ِحيطُوا بِهَا } العلم أي‪:‬‬ ‫{ َحتَّى ِإ َذا َج ُ‬
‫الواجب عليكم التوقف حتى ينكشف لكم الحق وأن ال تتكلموا إال بعلم‪ ،‬فكيف كذبتم بأمر لم تحيطوا‬
‫ون } أي‪ :‬يسألهم عن علمهم وعن عملهم فيجد عليهم تكذيبا بالحق‪،‬‬
‫به علما؟ { أ َْم َما َذا ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫وعملهم لغير اهلل أو على غير سنة رسولهم‪.‬‬
‫ظلَ ُموا } أي‪ :‬حقت عليهم كلمة العذاب بسبب ظلمهم الذي استمروا عليه‬ ‫{ َو َوقَ َع اْلقَ ْو ُل َعلَْي ِه ْم بِ َما َ‬
‫ون } ألنه ال حجة لهم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وتوجهت عليهم الحجة‪ { ،‬فَهُ ْم ال َي ْنطقُ َ‬

‫( ‪)1/610‬‬

‫ٍ ِ‬ ‫ص ًرا ِإ َّن ِفي َذِل َ‬


‫النهار م ْب ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ك آَل ََيات لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون (‪)86‬‬ ‫أَلَ ْم َي َر ْوا أََّنا َج َعْلَنا اللْي َل لَي ْس ُكُنوا فيه َو َّ َ َ ُ‬

‫ٍ ِ‬ ‫ص ًرا ِإ َّن ِفي َذِل َ‬


‫النهار م ْب ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬
‫آليات لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ك َ‬ ‫{ ‪ { } 86‬أَلَ ْم َي َر ْوا أََّنا َج َعْلَنا اللْي َل لَي ْس ُكُنوا فيه َو َّ َ َ ُ‬
‫أي‪ :‬ألم يشاهدوا هذه اآلية العظيمة والنعمة الجسيمة وهو تسخير اهلل لهم الليل والنهار‪ ،‬هذا‬
‫بظلمته ليسكنوا فيه ويستريحوا من التعب ويستعدوا للعمل‪ ،‬وهذا بضيائه لينتشروا فيه في معاشهم‬
‫ٍ ِ‬ ‫وتصرفاتهم‪ِ { .‬إ َّن ِفي َذِل َ‬
‫آليات لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون } على كمال وحدانية اهلل وسبوغ نعمته‪.‬‬ ‫ك َ‬

‫( ‪)1/610‬‬

‫ِ‬ ‫ض ِإاَّل م ْن َش َّ‬ ‫ات و َم ْن ِفي اأْل َْر ِ‬


‫ِ‬ ‫ُّور فَفَ ِز َ ِ‬ ‫َوَي ْو َم ُي ْنفَ ُخ ِفي الص ِ‬
‫اء اللهُ َو ُك ٌّل أَتَ ْوهُ َداخ ِر َ‬
‫ين‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّم َاو َ‬ ‫ع َم ْن في الس َ‬
‫ص ْن َع اللَّ ِه الَِّذي أَتْقَ َن ُك َّل َش ْي ٍء ِإَّنهُ َخبِ ٌير‬ ‫َّح ِ‬
‫اب ُ‬
‫ِ‬ ‫(‪َ )87‬وتََرى اْل ِجَب َ‬
‫ال تَ ْح َسُبهَا َجام َدةً َو ِه َي تَ ُم ُّر َم َّر الس َ‬
‫بِ َما تَ ْف َعلُ َ‬
‫ون (‪)88‬‬

‫ض ِإال م ْن َش َّ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّور فَفَ ِز َ ِ‬ ‫{ ‪َ { } 90 - 87‬وَي ْو َم ُي ْنفَ ُخ ِفي الص ِ‬
‫اء اللهُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّم َاوات َو َم ْن في ْ‬ ‫ع َم ْن في الس َ‬
‫ص ْن َع اللَّ ِه الَِّذي أَتْقَ َن ُك َّل‬
‫اب ُ‬‫َّح ِ‬ ‫ِ‬
‫ين * َوتََرى اْل ِجَبا َل تَ ْح َسُبهَا َجام َدةً َو ِه َي تَ ُم ُّر َم َّر الس َ‬
‫ِ‬
‫َو ُك ٌّل أَتَ ْوهُ َداخ ِر َ‬
‫ٍ‬
‫َش ْيء ِإَّنهُ َخبِ ٌير بِ َما تَ ْف َعلُ َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫يخوف تعالى عباده ما أمامهم من يوم القيامة وما فيه من المحن والكروب‪ ،‬ومزعجات القلوب‬
‫ض}‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فقال‪َ { :‬وَي ْو َم ُي ْنفَ ُخ ِفي الص ِ‬
‫ُّور فَفَ ِز َ‬
‫َّم َاوات َو َم ْن في ْ‬ ‫ع } بسبب النفخ فيه { َم ْن في الس َ‬
‫اء اللَّهُ } ممن‬ ‫أي‪ :‬انزعجوا وارتاعوا وماج بعضهم ببعض خوفا مما هو مقدمة له‪ِ { .‬إال َم ْن َش َ‬
‫ِ‬
‫أكرمه اهلل وثبته وحفظه من الفزع‪َ { .‬و ُك ٌّل } من الخلق عند النفخ في الصور { أَتَ ْوهُ َداخ ِر َ‬
‫ين }‬
‫ض ِإال آتِي َّ‬
‫الر ْح َم ِن َع ْب ًدا }‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ُّ‬
‫صاغرين ذليلين‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬إ ْن ُكل َم ْن في الس َ‬
‫ففي ذلك اليوم يتساوى الرؤساء والمرءوسون في الذل والخضوع لمالك الملك‪.‬‬
‫ال تَ ْحسبها ج ِ‬
‫ام َدةً } ال تفقد [شيئا] منها وتظنها باقية على الحال‬ ‫ومن هوله أنك { ترى اْل ِجَب َ َ ُ َ َ‬
‫المعهودة وهي قد بلغت منها الشدائد واألهوال كل مبلغ وقد تفتت ثم تضمحل وتكون هباء منبثا‪.‬‬
‫ص ْن َع اللَّ ِه الَِّذي أَتْقَ َن‬
‫اب } من خفتها وشدة ذلك الخوف وذلك { ُ‬‫َّح ِ‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬و ِه َي تَ ُم ُّر َم َّر الس َ‬
‫ٍ‬
‫ُك َّل َش ْيء ِإَّنهُ َخبِ ٌير بِ َما تَ ْف َعلُ َ‬
‫ون } فيجازيكم بأعمالكم‪.‬‬

‫( ‪)1/610‬‬

‫وههُ ْم‬ ‫اء بِالسَّيَِّئ ِة فَ ُكب ْ‬


‫َّت ُو ُج ُ‬ ‫ٍِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء بِاْل َح َسَنة َفلَهُ َخ ْيٌر م ْنهَا َو ُه ْم م ْن فََز ٍع َي ْو َمئذ آَمُن َ‬
‫ون (‪َ )89‬و َم ْن َج َ‬ ‫َم ْن َج َ‬
‫ون (‪)90‬‬ ‫اَّل‬ ‫ِفي َّ‬
‫الن ِار َه ْل تُ ْج َز ْو َن ِإ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬

‫وههُ ْم‬ ‫اء بِالسَّيَِّئ ِة فَ ُكب ْ‬


‫َّت ُو ُج ُ‬ ‫ٍِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء بِاْل َح َسَنة َفلَهُ َخ ْيٌر م ْنهَا َو ُه ْم م ْن فََز ٍع َي ْو َمئذ آمُن َ‬
‫ون * َو َم ْن َج َ‬ ‫{ َم ْن َج َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِفي َّ‬
‫الن ِار َه ْل تُ ْج َز ْو َن ِإال َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫اء بِاْل َح َسَن ِة } اسم جنس يشمل كل حسنة قولية أو فعلية أو قلبية {‬ ‫ثم بين كيفية جزائه فقال‪َ { :‬م ْن َج َ‬
‫َفلَهُ َخ ْيٌر ِم ْنهَا } هذا أقل التفضيل (‪. )1‬‬
‫[ ص ‪] 611‬‬
‫ون } أي‪ :‬من األمر الذي فزع الخلق ألجله آمنون وإ ن كانوا يفزعون‬ ‫ٍِ ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َو ُه ْم م ْن فََز ٍع َي ْو َمئذ آمُن َ‬
‫معهم‪.‬‬
‫الن ِار } أي‪ :‬ألقوا في النار‬ ‫وههُ ْم ِفي َّ‬ ‫اء بِالسَّيَِّئ ِة } اسم جنس يشمل كل سيئة { فَ ُكب ْ‬
‫َّت ُو ُج ُ‬ ‫{ َو َم ْن َج َ‬
‫على وجوههم ويقال لهم‪َ { :‬ه ْل تُ ْج َز ْو َن ِإال َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫ون }‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق قلم الشيخ إلى آية األنعام (فله عشر أمثالها) وعليه فسرها‪.‬‬

‫( ‪)1/610‬‬

‫ين (‬ ‫ِِ‬ ‫َن أَ ُك ِ‬ ‫ب َه ِذ ِه اْلبْل َد ِة الَِّذي ح َّرمها ولَه ُك ُّل َشي ٍء وأ ِ‬ ‫َعُب َد َر َّ‬ ‫ِإَّنما أ ِ‬
‫ون م َن اْل ُم ْسلم َ‬ ‫َ‬ ‫ت أْ‬ ‫ُم ْر ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ََ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َن أ ْ‬
‫ت أْ‬ ‫ُم ْر ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪)92‬‬ ‫ضل فَ ُق ْل ِإَّن َما أََنا م َن اْل ُم ْنذ ِر َ‬ ‫اهتَ َدى فَِإَّن َما َي ْهتَدي لَن ْفسه َو َم ْن َ‬
‫َن فَ َم ِن ْ‬
‫َن أ َْتلَُو اْلقُْرآ َ‬
‫‪َ )91‬وأ ْ‬
‫ونها وما رب َ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َِّ ِ‬
‫ون (‪)93‬‬ ‫ُّك بِ َغاف ٍل َع َّما تَ ْع َملُ َ‬ ‫ِ‬
‫َو ُقل اْل َح ْم ُد لله َسُي ِري ُك ْم آََياته فَتَ ْع ِرفُ َ َ َ َ َ‬

‫ون ِم َن‬
‫َن أَ ُك َ‬ ‫ت أْ‬ ‫ب َه ِذ ِه اْلبْل َد ِة الَِّذي ح َّرمها ولَه ُك ُّل َشي ٍء وأ ِ‬
‫ُم ْر ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ََ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َعُب َد َر َّ‬
‫َن أ ْ‬
‫ت أْ‬
‫ُم ْر ُ‬‫{ ‪ِ { } 91-93‬إَّنما أ ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫ِِ‬
‫ين *‬‫ض َّل فَ ُق ْل ِإَّن َما أََنا م َن اْل ُم ْنذ ِر َ‬
‫اهتَ َدى فَِإَّن َما َي ْهتَدي لَن ْفسه َو َم ْن َ‬
‫آن فَ َم ِن ْ‬
‫َن أ َْتلَُو اْلقُْر َ‬
‫ين * َوأ ْ‬
‫اْل ُم ْسلم َ‬
‫ونها وما رب َ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َِّ ِ‬
‫ُّك بِ َغاف ٍل َع َّما تَ ْع َملُ َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َو ُقل اْل َح ْم ُد لله َسُي ِري ُك ْم َآياته فَتَ ْع ِرفُ َ َ َ َ َ‬
‫ب َه ِذ ِه اْلَبْل َد ِة } أي‪ :‬مكة المكرمة التي حرمها وأنعم‬ ‫َعُب َد َر َّ‬
‫َن أ ْ‬
‫ت أْ‬ ‫أي‪ :‬قل لهم يا محمد { ِإَّنما أ ِ‬
‫ُم ْر ُ‬ ‫َ‬
‫على أهلها فيجب أن يقابلوا ذلك بالشكر والقبول‪َ { .‬ولَهُ ُك ُّل َش ْي ٍء } من العلويات والسفليات أتى‬
‫ين } (‪ )1‬أي‪ :‬أبادر‬ ‫ِِ‬ ‫َن أَ ُك ِ‬ ‫به لئال يتوهم اختصاص ربوبيته بالبيت وحده‪ { .‬وأ ِ‬
‫ون م َن اْل ُم ْسلم َ‬
‫َ‬ ‫ت أْ‬ ‫ُم ْر ُ‬ ‫َ‬
‫إلى اإلسالم‪ ،‬وقد فعل صلى اهلل عليه وسلم فإنه أول هذه األمة إسالما وأعظمها استسالما‪.‬‬
‫آن } لتهتدوا به وتقتدوا وتعلموا ألفاظه ومعانيه فهذا‬ ‫{ و } أمرت أيضا { أن أ َْتلَُو } عليكم { اْلقُْر ُ‬
‫اهتَ َدى فَِإَّن َما َي ْهتَِدي ِلَن ْف ِس ِه } نفعه يعود عليه وثمرته عائدة إليه { َو َم ْن‬
‫الذي علي وقد أديته‪ { ،‬فَ َم ِن ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } وليس بيدي من الهداية شيء‪.‬‬ ‫ض َّل فَ ُق ْل ِإَّن َما أََنا م َن اْل ُم ْنذ ِر َ‬
‫َ‬
‫{ َو ُق ِل اْل َح ْم ُد ِللَّ ِه } الذي له الحمد في األولى واآلخرة ومن جميع الخلق‪ ،‬خصوصا أهل‬
‫االختصاص والصفوة من عباده‪ ،‬فإن الذي ينبغي أن يقع منهم من الحمد والثناء على ربهم أعظم‬
‫مما يقع من غيرهم لرفعة درجاتهم وكمال قربهم منه وكثرة خيراته عليهم‪.‬‬
‫ونهَا } معرفة تدلكم على الحق والباطل‪ ،‬فال بد أن يريكم من آياته ما‬ ‫{ َسُي ِري ُك ْم آياتِ ِه فَتَ ْع ِرفُ َ‬
‫ك َع ْن َبيَِّن ٍة َوَي ْحَيا َم ْن َح َّي َع ْن َبيَِّن ٍة }‬ ‫تستنيرون به في الظلمات‪ِ { .‬لَي ْهِل َ‬
‫ك َم ْن َهلَ َ‬
‫{ وما رُّب َ ِ‬
‫ون } بل قد علم ما أنتم عليه من األعمال واألحوال وعلم مقدار جزاء‬ ‫ك بِ َغاف ٍل َع َّما تَ ْع َملُ َ‬ ‫ََ َ‬
‫تلك األعمال وسيحكم بينكم حكما تحمدونه عليه وال يكون لكم حجة بوجه من الوجوه عليه‪.‬‬
‫تم تفسير سورة النمل بفضل اهلل وإ عانته وتيسيره‪.‬‬
‫ونسأله تعالى أن ال تزال ألطافه ومعونته مستمرة علينا وواصلة منه إلينا‪ ،‬فهو أكرم األكرمين‬
‫وخير الراحمين وموصل المنقطعين ومجيب السائلين‪.‬‬
‫ميسر األمور العسيرة وفاتح أبواب بركاته والمجزل في جميع األوقات هباته‪ ،‬ميسر القرآن‬
‫للمتذكرين ومسهل طرقه وأبوابه للمقبلين وممد مائدة خيراته ومبراته للمتفكرين والحمد هلل رب‬
‫العالمين‪ .‬وصلى اهلل على محمد وآله وصحبه وسلم‪.‬‬
‫على يد جامعه وممليه عبد الرحمن بن ناصر بن عبد اهلل السعدي غفر اهلل له ولوالديه ولجميع‬
‫المسلمين‪ ،‬وذلك في ‪ 22‬رمضان سنة ‪.1343‬‬
‫المجلد السادس من تفسير الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان‪ ،‬من منن اهلل على الفقير إلى‬
‫المعيد المبدي‪ :‬عبده وابن عبده وابن أمته‪ :‬عبد الرحمن بن ناصر بن عبد اهلل بن سعدي غفر اهلل‬
‫له آمين‪.‬‬
‫تفسير سورة القصص‬
‫وهي مكية‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬سبق قلم الشيخ ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬فكتب‪( :‬وأمرت أن اكون أول المسلمين) وعلى هذا فسر اآلية‪.‬‬
‫( ‪)1/611‬‬

‫ك ِم ْن َنبِإ موسى و ِفرعون بِاْلح ِّ ِ‬ ‫ات اْل ِكتَ ِ‬ ‫طسم (‪ )1‬تِْل َ‬


‫ق لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون (‬ ‫َ ُ َ َ ْ َْ َ َ‬ ‫ين (‪َ )2‬ن ْتلُوا َعلَْي َ‬ ‫اب اْل ُمبِ ِ‬ ‫ك آََي ُ‬
‫اء ُه ْم َوَي ْستَ ْحيِي‬ ‫ف َِ ِ‬ ‫ض ِع ُ‬
‫َهلَهَا ِشَي ًعا َي ْستَ ْ‬ ‫‪ِ )3‬إ َّن ِف ْر َع ْو َن َعاَل ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ِّح أ َْبَن َ‬
‫طائفَةً م ْنهُ ْم ُي َذب ُ‬ ‫ض َو َج َع َل أ ْ‬
‫ين (‪)4‬‬ ‫ِِ‬ ‫نِساء ُهم ِإَّنه َك ِ‬
‫ان م َن اْل ُم ْفسد َ‬‫َ َ ْ ُ َ‬

‫ك ِم ْن َنَبِإ‬
‫ين * َن ْتلُوا َعلَْي َ‬ ‫ات اْل ِكتَ ِ‬
‫اب اْل ُمبِ ِ‬ ‫الر ِح ِيم طسم * تِْل َ‬
‫ك َآي ُ‬ ‫الر ْح َم ِن َّ‬ ‫{ ‪ { } 1-51‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫موسى و ِفرعون بِاْلح ِّ ِ‬
‫ون }‬ ‫ق لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬ ‫ُ َ َ ْ َْ َ َ‬
‫ين } لكل أمر‬ ‫ات اْل ِكتَ ِ‬
‫اب اْل ُمبِ ِ‬ ‫ك } اآليات المستحقة للتعظيم والتفخيم { َآي ُ‬ ‫إلى آخر القصة‪ { .‬تِْل َ‬
‫يحتاج إليه العباد‪ ،‬من معرفة ربهم‪ ،‬ومعرفة حقوقه‪ ،‬ومعرفة أوليائه وأعدائه‪ ،‬ومعرفة وقائعه‬
‫وأيامه‪ ،‬ومعرفة ثواب األعمال‪ ،‬وجزاء العمال‪ ،‬فهذا القرآن قد بينها غاية التبيين‪ ،‬وجالها للعباد‪،‬‬
‫ووضحها‪.‬‬
‫ومن جملة ما أبان‪ ،‬قصة موسى وفرعون‪ ،‬فإنه أبداها‪ ،‬وأعادها في عدة مواضع‪ ،‬وبسطها في هذا‬
‫وسى َو ِف ْر َع ْو َن بِاْل َح ِّ‬ ‫الموضع فقال‪َ { :‬ن ْتلُوا علَْي َ ِ‬
‫ق } فإن نبأهما غريب‪ ،‬وخبرهما‬ ‫ك م ْن َنَبِإ ُم َ‬ ‫َ‬
‫عجيب‪.‬‬
‫ِ‬
‫ون } فإليهم يساق الخطاب‪ ،‬ويوجه الكالم‪ ،‬حيث إن معهم من اإليمان‪ ،‬ما يقبلون به‬ ‫{ لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫على تدبُّر ذلك‪ ،‬وتلقِّيه بالقبول واالهتداء بمواقع العبر‪ ،‬ويزدادون به إيمانا ويقينا‪ ،‬وخيرا إلى‬
‫خيرهم‪ ،‬وأما من عداهم‪ ،‬فال يستفيدون منه إال إقامة الحجة عليهم‪ ،‬وصانه اللّه عنهم‪ ،‬وجعل بينهم‬
‫وبينه حجابا أن يفقهوه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فأول هذه القصة { ِإ َّن ف ْر َع ْو َن َعال في ْ‬
‫األر ِ‬
‫ض } في ملكه وسلطانه وجنوده وجبروته‪ ،‬فصار من‬
‫أهل العلو فيها‪ ،‬ال من األعلين فيها‪.‬‬
‫[ ص ‪] 612‬‬
‫َهلَهَا ِشَي ًعا } أي‪ :‬طوائف متفرقة‪ ،‬يتصرف فيهم بشهوته‪ ،‬وينفذ فيهم ما أراد من قهره‪،‬‬ ‫{ َو َج َع َل أ ْ‬
‫وسطوته‪.‬‬
‫طائِفَةً ِم ْنهُ ْم } وتلك الطائفة‪ ،‬هم بنو إسرائيل‪ ،‬الذين فضلهم اللّه على العالمين‪ ،‬الذين‬ ‫ض ِع ُ‬
‫ف َ‬ ‫{ َي ْستَ ْ‬
‫ينبغي له أن يكرمهم ويجلهم‪ ،‬ولكنه استضعفهم‪ ،‬بحيث إنه رأى أنهم ال منعة لهم تمنعهم مما أراده‬
‫اء ُه ْم َوَي ْستَ ْحيِي‬
‫ِّح أ َْبَن َ‬
‫فيهم‪ ،‬فصار ال يبالي بهم‪ ،‬وال يهتم بشأنهم‪ ،‬وبلغت به الحال إلى أنه { ُي َذب ُ‬
‫اء ُه ْم } خوفا من أن يكثروا‪ ،‬فيغمروه في بالده‪ ،‬ويصير لهم الملك‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ن َس َ‬
‫ين } الذين ال قصد لهم في إصالح الدين‪ ،‬وال إصالح الدنيا‪ ،‬وهذا من إفساده‬ ‫ِِ‬ ‫{ ِإَّنه َك ِ‬
‫ان م َن اْل ُم ْفسد َ‬
‫ُ َ‬
‫في األرض‪.‬‬
‫ض } بأن نزيل عنهم مواد االستضعاف‪ ،‬ونهلك‬ ‫األر ِ‬ ‫َن َنم َّن علَى الَِّذين استُ ْ ِ ِ‬ ‫{ َوُن ِر ُ‬
‫ضعفُوا في ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫يد أ ْ ُ َ‬
‫من قاومهم‪ ،‬ونخذل من ناوأهم‪َ { .‬وَن ْج َعلَهُ ْم أَئِ َّمةً } في الدين‪ ،‬وذلك ال يحصل مع استضعاف‪ ،‬بل‬
‫ال بد من تمكين في األرض‪ ،‬وقدرة تامة‪َ { ،‬وَن ْج َعلَهُ ُم اْل َو ِارثِ َ‬
‫ين } لألرض‪ ،‬الذين لهم العاقبة في‬
‫الدنيا قبل اآلخرة‪.‬‬

‫( ‪)1/611‬‬

‫ين (‪َ )5‬وُن َم ِّك َن لَهُ ْم‬ ‫ِ‬ ‫ض ِعفُوا ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫َِّ‬
‫ض َوَن ْج َعلَهُ ْم أَئ َّمةً َوَن ْج َعلَهُ ُم اْل َو ِارثِ َ‬ ‫استُ ْ‬‫ين ْ‬ ‫َن َن ُم َّن َعلَى الذ َ‬ ‫َوُن ِر ُ‬
‫يد أ ْ‬
‫ِ‬ ‫ض وُن ِر ِ‬ ‫ِ‬
‫وسى‬ ‫ون (‪َ )6‬وأ َْو َح ْيَنا ِإلَى أ ُِّم ُم َ‬ ‫ود ُه َما م ْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْح َذ ُر َ‬ ‫ان َو ُجُن َ‬ ‫ام َ‬
‫ي ف ْر َع ْو َن َو َه َ‬ ‫في اأْل َْر ِ َ َ‬
‫اعلُوهُ ِم َن‬ ‫ادوه ِإلَْي ِك وج ِ‬
‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َن أ َْرضعيه فَِإ َذا خ ْفت َعلَْيه فَأَْلقيه في اْلَي ِّم َواَل تَ َخافي َواَل تَ ْح َزنِي ِإَّنا َر ُّ ُ‬
‫ِِ ِ‬ ‫أْ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ود ُه َما َك ُانوا‬
‫ان َو ُجُن َ‬ ‫ام َ‬ ‫ون لَهُ ْم َع ُد ًّوا َو َح َزًنا إ َّن ف ْر َع ْو َن َو َه َ‬ ‫طهُ َآ ُل ف ْر َع ْو َن لَي ُك َ‬ ‫ين (‪ )7‬فَاْلتَقَ َ‬
‫اْل ُم ْر َسل َ‬
‫َن َي ْنفَ َعَنا أ َْو َنتَّ ِخ َذهُ َولَ ًدا َو ُه ْم‬
‫ك اَل تَ ْقتُلُوهُ َع َسى أ ْ‬ ‫ام َرأَةُ ِف ْر َع ْو َن قَُّرةُ َعْي ٍن ِلي َولَ َ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪َ )8‬وقَالَت ْ‬
‫ِِ‬
‫َخاطئ َ‬
‫ِ‬
‫طَنا َعلَى َقْلبِهَا لتَ ُك َ‬
‫ون‬ ‫َن َرَب ْ‬ ‫ت لَتُْب ِدي بِ ِه لَ ْواَل أ ْ‬ ‫وسى فَ ِار ًغا ِإ ْن َك َ‬
‫اد ْ‬ ‫اد أ ُِّم ُم َ‬‫َصَب َح فُ َؤ ُ‬
‫ون (‪َ )9‬وأ ْ‬ ‫اَل َي ْش ُع ُر َ‬
‫ِّيه فَبصر ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت أِل ْ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪َ )11‬و َح َّر ْمَنا‬‫ت بِه َع ْن ُجُن ٍب َو ُه ْم اَل َي ْش ُع ُر َ‬ ‫ُخته قُص َ ُ َ‬ ‫ين (‪َ )10‬وقَالَ ْ‬ ‫م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ِ‬ ‫َه ِل َب ْي ٍت َي ْك ُفلُ َ‬
‫ت َه ْل أ َُدلُّ ُك ْم َعلَى أ ْ‬ ‫اض َع ِم ْن قَْب ُل فَقَالَ ْ‬
‫علَْي ِه اْلمر ِ‬
‫ون (‪ )12‬فََر َد ْدَناهُ‬ ‫ونهُ لَ ُك ْم َو ُه ْم لَهُ َناص ُح َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫َن و ْع َد اللَّ ِه ح ٌّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِإلَى أ ِّ ِ‬
‫ون (‪)13‬‬‫ق َولَك َّن أَ ْكثََر ُه ْم اَل َي ْعلَ ُم َ‬ ‫َ‬ ‫ُمه َك ْي تَقََّر َعْيُنهَا َواَل تَ ْح َز َن َولتَ ْعلَ َم أ َّ َ‬

‫ض } فهذه األمور كلها‪ ،‬قد تعلقت بها إرادة اللّه‪ ،‬وجرت بها مشيئته‪ { ،‬و }‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫{ َوُن َمك َن لَهُ ْم في ْ‬
‫ود ُه َما } التي بها صالوا وجالوا‪ ،‬وعلوا‬ ‫ان } وزيره { َو ُجُن َ‬ ‫كذلك نريد أن { ُن ِر ِ‬
‫ام َ‬
‫ي ف ْر َع ْو َن َو َه َ‬
‫َ‬
‫ون } من إخراجهم من ديارهم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وبغوا { م ْنهُ ْم } أي‪ :‬من هذه الطائفة المستضعفة‪َ { .‬ما َك ُانوا َي ْح َذ ُر َ‬
‫ولذلك كانوا يسعون في قمعهم‪ ،‬وكسر شوكتهم‪ ،‬وتقتيل أبنائهم‪ ،‬الذين هم محل ذلك‪ ،‬فكل هذا قد‬
‫أراده اللّه‪ ،‬وإ ذا أراد أمرا سهل أسبابه‪ ،‬ونهج طرقه‪ ،‬وهذا األمر كذلك‪ ،‬فإنه قدر وأجرى من‬
‫األسباب ‪-‬التي لم يشعر بها ال أولياؤه وال أعداؤه‪ -‬ما هو سبب موصل إلى هذا المقصود‪.‬‬
‫فأول ذلك‪ ،‬لما أوجد اللّه رسوله موسى‪ ،‬الذي جعل استنقاذ هذا الشعب اإلسرائيلي على يديه‬
‫وبسببه‪ ،‬وكان في وقت تلك المخافة العظيمة‪ ،‬التي يذبحون بها األبناء‪ ،‬أوحى إلى أمه أن‬
‫ترضعه‪ ،‬ويمكث عندها‪.‬‬
‫يه ِفي اْلَي ِّم } أي نيل‬ ‫{ فَِإ َذا ِخ ْف ِت علَْي ِه } بأن أحسست أحدا تخافين عليه منه أن يوصله إليهم‪ { ،‬فَأَْل ِق ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫مصر‪ ،‬في وسط تابوت مغلق‪ { ،‬وال تَ َخ ِافي وال تَ ْح َزنِي ِإَّنا َر ُّ‬
‫ادوهُ ِإلَْيك َو َجاعلُوهُ م َن اْل ُم ْر َسل َ‬
‫ين }‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فبشرها بأنه سيرده عليها‪ ،‬وأنه سيكبر ويسلم من كيدهم‪ ،‬ويجعله اللّه رسوال‪.‬‬
‫وهذا من أعظم البشائر الجليلة‪ ،‬وتقديم هذه البشارة ألم موسى‪ ،‬ليطمئن قلبها‪ ،‬ويسكن روعها‪،‬‬
‫فإنها خافت عليه‪ ،‬وفعلت ما أمرت به‪ ،‬ألقته في اليم‪ ،‬فساقه اللّه تعالى‪.‬‬
‫ون لَهُ ْم َع ُد ًّوا َو َح َزًنا }‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫طهُ آ ُل ف ْر َع ْو َن } فصار من لقطهم‪ ،‬وهم الذين باشروا وجدانه‪ { ،‬لَي ُك َ‬
‫{ فَاْلتَقَ َ‬
‫أي‪ :‬لتكون العاقبة والمآل من هذا االلتقاط‪ ،‬أن يكون عدوا لهم وحزنا يحزنهم‪ ،‬بسبب أن الحذر ال‬
‫ينفع من القدر‪ ،‬وأن الذي خافوا منه من بني إسرائيل‪ ،‬قيض اللّه أن يكون زعيمهم‪ ،‬يتربى تحت‬
‫أيديهم‪ ،‬وعلى نظرهم‪ ،‬وبكفالتهم‪.‬‬
‫وعند التدبر والتأمل‪ ،‬تجد في طي ذلك من المصالح لبني إسرائيل‪ ،‬ودفع كثير من األمور الفادحة‬
‫بهم‪ ،‬ومنع كثير من التعديات قبل رسالته‪ ،‬بحيث إنه صار من كبار المملكة‪.‬‬
‫وبالطبع‪ ،‬إنه ال بد أن يحصل منه مدافعة عن حقوق شعبه هذا‪ ،‬وهو هو ذو الهمة العالية والغيرة‬
‫المتوقدة‪ ،‬ولهذا وصلت الحال بذلك الشعب المستضعف ‪-‬الذي بلغ بهم الذل واإلهانة إلى ما قص‬
‫اللّه علينا بعضه ‪ -‬أن صار بعض أفراده‪ ،‬ينازع ذلك الشعب القاهر العالي في األرض‪ ،‬كما‬
‫سيأتي بيانه‪.‬‬
‫وهذا مقدمة للظهور‪ ،‬فإن اللّه تعالى من سنته الجارية‪ ،‬أن جعل األمور تمشي على التدريج شيئا‬
‫فشيئا‪ ،‬وال تأتي دفعة واحدة‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين } أي‪ :‬فأردنا أن نعاقبهم على خطئهم (‪)1‬‬
‫ود ُه َما َك ُانوا َخاطئ َ‬
‫ان َو ُجُن َ‬ ‫وقوله‪ { :‬إ َّن ف ْر َع ْو َن َو َه َ‬
‫ام َ‬
‫ونكيد هم‪ ،‬جزاء على مكرهم وكيدهم‪.‬‬
‫حنن اللّه عليه امرأة فرعون الفاضلة الجليلة المؤمنة " آسية " بنت مزاحم‬ ‫فلما التقطه آل فرعون‪َّ ،‬‬
‫ك ال تَ ْقتُلُوهُ } أي‪ :‬أبقه لنا‪ِ ،‬ل َّ‬
‫تقر به أعيننا‪ ،‬ونستر به في‬ ‫" َوقَالَ ِت " هذا الولد { قَُّرةُ َعْي ٍن ِلي َولَ َ‬
‫حياتنا‪.‬‬
‫َن َي ْنفَ َعَنا أ َْو َنتَّ ِخ َذهُ َولَ ًدا } أي‪ :‬ال يخلو‪ ،‬إما أن يكون بمنزلة الخدم‪ ،‬الذين يسعون في نفعنا‬
‫{ َع َسى أ ْ‬
‫وخدمتنا‪ ،‬أو نرقيه منزلة أعلى من ذلك‪ ،‬نجعله ولدا لنا‪ ،‬ونكرمه‪ ،‬ونجله‪.‬‬
‫َّ‬
‫فقدر اللّه تعالى‪ ،‬أنه نفع امرأة فرعون‪ ،‬التي قالت تلك المقالة‪ ،‬فإنه لما صار قرة عين لها‪ ،‬وأحبته‬
‫حبا شديدا‪ ،‬فلم يزل لها بمنزلة الولد الشفيق حتى كبر ونبأه اللّه وأرسله‪ ،‬فبادرت إلى اإلسالم‬
‫واإليمان به‪ ،‬رضي اللّه عنها وأرضاها‪.‬‬
‫ون }‬
‫قال اللّه تعالى هذه المراجعات [ ص ‪[ ] 613‬والمقاوالت] في شأن موسى‪َ { :‬و ُه ْم ال َي ْش ُع ُر َ‬
‫ما جرى به القلم‪ ،‬ومضى به القدر‪ ،‬من وصوله إلى ما وصل إليه‪ ،‬وهذا من لطفه تعالى‪ ،‬فإنهم لو‬
‫شعروا‪ ،‬لكان لهم وله‪ ،‬شأن آخر‪.‬‬
‫ولما فقدت موسى أمه‪ ،‬حزنت حزنا شديدا‪ ،‬وأصبح فؤادها فارغا من القلق الذي أزعجها‪ ،‬على‬
‫مقتضى الحالة البشرية‪ ،‬مع أن اللّه تعالى نهاها عن الحزن والخوف‪ ،‬ووعدها برده‪.‬‬
‫طَنا َعلَى َقْلبِهَا } فثبتناها‪ ،‬فصبرت‪ ،‬ولم تبد‬ ‫ت لَتُْب ِدي بِ ِه } أي‪ :‬بما في قلبها { لَ ْوال أ ْ‬
‫َن َرَب ْ‬ ‫{ ِإ ْن َك َ‬
‫اد ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } فإن العبد إذا أصابته مصيبة فصبر وثبت‪،‬‬ ‫ون } بذلك الصبر والثبات { م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫به‪ { .‬لتَ ُك َ‬
‫ازداد بذلك إيمانه‪ ،‬ودل ذلك‪ ،‬على أن استمرار الجزع مع العبد‪ ،‬دليل على ضعف إيمانه‪.‬‬
‫ِّيه } أي‪ :‬اذهبي [فقصي األثر عن أخيك وابحثي عنه من غير‬ ‫ألختِ ِه قُص ِ‬
‫{ َوقَالَ ِت } أم موسى { ْ‬
‫أن يحس بك أحد أو يشعروا بمقصودك فذهبت تقصه] { فَبصر ْ ِ‬
‫ت بِه َع ْن ُجُن ٍب َو ُه ْم ال َي ْش ُع ُر َ‬
‫ون }‬ ‫َ َُ‬
‫أي‪ :‬أبصرته على وجه‪ ،‬كأنها مارة ال قصد لها فيه‪.‬‬
‫وهذا من تمام الحزم والحذر‪ ،‬فإنها لو أبصرته‪ ،‬وجاءت إليهم قاصدة‪ ،‬لظنوا بها أنها هي التي‬
‫ألقته‪ ،‬فربما عزموا على ذبحه‪ ،‬عقوبة ألهله‪.‬‬
‫ومن لطف اللّه بموسى وأمه‪ ،‬أن منعه من قبول ثدي امرأة‪ ،‬فأخرجوه إلى السوق رحمة به‪ ،‬ولعل‬
‫َه ِل َب ْي ٍت َي ْك ُفلُ َ‬
‫ونهُ لَ ُك ْم َو ُه ْم لَهُ‬ ‫ت َه ْل أ َُدلُّ ُك ْم َعلَى أ ْ‬
‫أحدا يطلبه‪ ،‬فجاءت أخته‪ ،‬وهو بتلك الحال { فَقَالَ ْ‬
‫ون }‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َناص ُح َ‬
‫وهذا ُج ُّل غرضهم‪ ،‬فإنهم أحبوه حبا شديدا‪ ،‬وقد منعه اللّه من المراضع فخافوا أن يموت‪ ،‬فلما‬
‫قالت لهم أخته تلك المقالة‪ ،‬المشتملة على الترغيب‪ ،‬في أهل هذا البيت‪ ،‬بتمام حفظه وكفالته‬
‫والنصح له‪ ،‬بادروا إلى إجابتها‪ ،‬فأعلمتهم ودلتهم على أهل هذا البيت‪.‬‬
‫ُم ِه } كما وعدناها بذلك { َك ْي تَقََّر َع ْيُنهَا َوال تَ ْح َز َن } بحيث إنه تربى عندها على‬
‫{ فََر َد ْدَناهُ ِإلَى أ ِّ‬
‫َن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ‬ ‫ِ‬
‫ق‬ ‫وجه تكون فيه آمنة مطمئنة‪ ،‬تفرح به‪ ،‬وتأخذ األجرة الكثيرة على ذلك‪َ { ،‬ولتَ ْعلَ َم أ َّ َ‬
‫} فأريناها بعض ما وعدناها به عيانا‪ ،‬ليطمئن بذلك قلبها‪ ،‬ويزداد إيمانها‪ ،‬ولتعلم أنه سيحصل‬
‫ِ‬
‫ون } فإذا رأوا السبب متشوشا‪ ،‬شوش ذلك‬ ‫وعد اللّه في حفظه ورسالته‪َ { ،‬ولَك َّن أَ ْكثََر ُه ْم ال َي ْعلَ ُم َ‬
‫إيمانهم‪ ،‬لعدم علمهم الكامل‪ ،‬أن اللّه تعالى يجعل المحن الشاقة والعقبات الشاقة‪ ،‬بين يدي األمور‬
‫العالية والمطالب الفاضلة‪ ،‬فاستمر موسى عليه الصالة والسالم عند آل فرعون‪ ،‬يتربى في‬
‫سلطانهم‪ ،‬ويركب مراكبهم‪ ،‬ويلبس مالبسهم‪ ،‬وأمه بذلك مطمئنة‪ ،‬قد استقر أنها أمه من الرضاع‪،‬‬
‫ولم يستنكر مالزمته إياها وحنوها عليها‪.‬‬
‫وتأمل هذا اللطف‪ ،‬وصيانة نبيه موسى من الكذب في منطقه‪ ،‬وتيسير األمر‪ ،‬الذي صار به التعلق‬
‫ُما‪ ،‬فكان الكالم الكثير منه ومن‬
‫بينه وبينها‪ ،‬الذي بان للناس أنه هو الرضاع‪ ،‬الذي بسببه يسميها أ َّ‬
‫غيره في ذلك كله‪ ،‬صدقا وحقا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬نعاقبهما على خطئهما‪.‬‬

‫( ‪)1/612‬‬
‫ين (‪َ )14‬و َد َخ َل اْل َم ِد َينةَ َعلَى ِح ِ‬
‫ين‬ ‫ِِ‬
‫ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ‬ ‫استََوى آَتَْيَناهُ ُح ْك ًما َو ِعْل ًما َو َك َذِل َ‬‫َولَ َّما َبلَ َغ أَ ُش َّدهُ َو ْ‬
‫يعتِ ِه‬ ‫َِّ ِ ِ‬
‫استَ َغاثَهُ الذي م ْن ش َ‬
‫ِ‬ ‫َهِلها فَوج َد ِفيها رجلَْي ِن ي ْقتَتِاَل ِن َه َذا ِم ْن ِش ِ ِ‬
‫يعته َو َه َذا م ْن َع ُد ِّو ِه فَ ْ‬ ‫َ‬ ‫َغ ْفلَة م ْن أ ْ َ َ َ َ َ ُ َ‬
‫ٍ ِ‬

‫ض ٌّل ُمبِ ٌ‬‫ان ِإَّنه ع ُد ٌّو م ِ‬ ‫ضى َعلَْي ِه قَا َل َه َذا ِم ْن َعم ِل َّ‬ ‫َِّ ِ‬
‫ين (‬ ‫طِ ُ َ ُ‬ ‫الش ْي َ‬ ‫َ‬ ‫وسى فَقَ َ‬ ‫َعلَى الذي م ْن َع ُد ِّو ِه فَ َو َك َزهُ ُم َ‬
‫ب بِ َما‬ ‫اغ ِفر ِلي فَ َغفَر لَه ِإَّنه ُهو اْل َغفُور َّ ِ‬ ‫ظلَم ُ ِ‬
‫ال َر ِّ‬‫يم (‪ )16‬قَ َ‬ ‫الرح ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ُ َ‬ ‫ت َن ْفسي فَ ْ ْ‬ ‫ب ِإِّني َ ْ‬ ‫‪ )15‬قَا َل َر ِّ‬
‫ب فَِإ َذا الَِّذي‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َصَب َح في اْل َمد َينة َخائفًا َيتََرقَّ ُ‬ ‫ين (‪ )17‬فَأ ْ‬
‫ِ‬
‫ظ ِه ًيرا لْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ون َ‬ ‫ت َعلَ َّي َفلَ ْن أَ ُك َ‬ ‫أ َْن َع ْم َ‬
‫َن َي ْب ِط َش بِالَِّذي‬ ‫َن أ ََر َاد أ ْ‬ ‫ين (‪َ )18‬فلَ َّما أ ْ‬ ‫ي ُمبِ ٌ‬ ‫ك لَ َغ ِو ٌّ‬ ‫وسى ِإَّن َ‬ ‫ال لَهُ ُم َ‬ ‫ص ِر ُخهُ قَ َ‬ ‫س َي ْستَ ْ‬ ‫ص َرهُ بِاأْل َْم ِ‬ ‫استَْن َ‬‫ْ‬
‫َّارا ِفي‬ ‫ون َجب ً‬ ‫َن تَ ُك َ‬ ‫يد ِإاَّل أ ْ‬
‫س ِإ ْن تُِر ُ‬ ‫ت َن ْف ًسا بِاأْل َْم ِ‬ ‫َن تَ ْقتُلَنِي َك َما قَتَْل َ‬ ‫وسى أَتُِر ُ‬
‫يد أ ْ‬ ‫ال َيا ُم َ‬ ‫ُه َو َع ُد ٌّو لَهُ َما قَ َ‬
‫صى اْل َم ِد َين ِة َي ْس َعى قَا َل َيا‬ ‫ِ‬
‫اء َر ُج ٌل م ْن أَ ْق َ‬ ‫ين (‪َ )19‬و َج َ‬ ‫صلح َ‬
‫َن تَ ُكون ِمن اْلم ِ ِ‬
‫َ َ ُ ْ‬ ‫يد أ ْ‬ ‫ض َو َما تُِر ُ‬ ‫اأْل َْر ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك ِمن َّ ِ ِ‬ ‫ك ِلَي ْقتُلُ َ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪ )20‬فَ َخ َر َج م ْنهَا َخائفًا َيتََرقَّ ُ‬
‫ب‬ ‫الناصح َ‬ ‫اخ ُر ْج ِإِّني لَ َ َ‬ ‫وك فَ ْ‬ ‫ون بِ َ‬ ‫وسى ِإ َّن اْل َمأَل َ َيأْتَم ُر َ‬ ‫ُم َ‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫ال ر ِّ ِ ِ‬
‫ين (‪)21‬‬ ‫ب َنجِّني م َن اْلقَ ْوِم الظالم َ‬ ‫قَ َ َ‬

‫{ َولَ َّما َبلَ َغ أَ ُش َّدهُ } من القوة والعقل واللب‪ ،‬وذلك نحو أربعين سنة في الغالب‪َ { ،‬و ْ‬
‫استََوى } كملت‬
‫فيه تلك األمور { آتَْيَناهُ ُح ْك ًما َو ِعْل ًما } أي‪ :‬حكما يعرف به األحكام الشرعية‪ ،‬ويحكم به بين‬
‫الناس‪ ،‬وعلما كثيرا‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫{ َو َك َذِل َ‬
‫ين } في عبادة اللّه المحسنين لخلق اللّه‪ ،‬نعطيهم علما وحكما بحسب‬ ‫ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ‬
‫إحسانهم‪ ،‬ودل هذا على كمال إحسان موسى عليه السالم‪.‬‬
‫َهِلهَا } إما وقت القائلة‪ ،‬أو غير ذلك من األوقات التي بها‬ ‫ين َغ ْفلَ ٍة ِم ْن أ ْ‬
‫{ َو َد َخ َل اْل َم ِد َينةَ َعلَى ِح ِ‬
‫يعتِ ِه‬ ‫ِ ِ‬ ‫يغفلون عن االنتشار‪ { .‬فَ َو َج َد ِفيهَا َر ُجلَْي ِن َي ْقتَتِ ِ‬
‫الن } أي‪ :‬يتخاصمان ويتضاربان { َه َذا م ْن ش َ‬
‫} أي‪ :‬من بني إسرائيل { َو َه َذا ِم ْن َع ُد ِّو ِه } القبط‪.‬‬
‫يعتِ ِه َعلَى الَِّذي ِم ْن َع ُد ِّو ِه } ألنه قد اشتهر‪ ،‬وعلم الناس أنه من بني‬ ‫َِّ ِ ِ‬
‫استَ َغاثَهُ الذي م ْن ش َ‬ ‫{ فَ ْ‬
‫إسرائيل‪ ،‬واستغاثته لموسى‪ ،‬دليل على أنه بلغ موسى عليه السالم مبلغا يخاف منه‪ ،‬ويرجى من‬
‫بيت المملكة والسلطان‪.‬‬
‫ضى َعلَْي ِه } أي‪:‬‬
‫وسى } أي‪ :‬وكز الذي من عدوه‪ ،‬استجابة الستغاثة اإلسرائيلي‪ { ،‬فَقَ َ‬ ‫{ فَ َو َك َزهُ ُم َ‬
‫أماته من تلك الوكزة‪ ،‬لشدتها وقوة موسى‪.‬‬
‫ان } أي‪ :‬من تزيينه‬ ‫طِ‬ ‫ال َه َذا ِم ْن َعم ِل َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫فندم موسى عليه السالم على ما جرى منه‪ ،‬و { قَ َ‬
‫َ‬
‫ين } فلذلك أجريت ما أجريت بسبب عداوته البينة‪ ،‬وحرصه على‬ ‫ووسوسته‪ِ { ،‬إَّنه ع ُد ٌّو م ِ‬
‫ض ٌّل ُمبِ ٌ‬ ‫ُ َ ُ‬
‫اإلضالل‪.‬‬
‫اغ ِفر ِلي فَ َغفَر لَه ِإَّنه ُهو اْل َغفُور َّ ِ‬ ‫ظلَم ُ ِ‬
‫يم } خصوصا‬
‫الرح ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ُ َ‬ ‫ت َن ْفسي فَ ْ ْ‬ ‫ب ِإِّني َ ْ‬
‫ال َر ِّ‬
‫ثم استغفر ربه { قَ َ‬
‫للمخبتين‪ ،‬المبادرين لإلنابة والتوبة‪ ،‬كما جرى من موسى عليه السالم‪.‬‬
‫ظ ِه ًيرا }‬
‫ون َ‬ ‫ب بِ َما أ َْن َع ْم َ‬
‫ت َعلَ َّي } بالتوبة والمغفرة‪ ،‬والنعم الكثيرة‪َ { ،‬فلَ ْن أَ ُك َ‬ ‫ال } موسى { َر ِّ‬
‫فـ { قَ َ‬
‫ِ‬
‫ين } أي‪ :‬ال أعين أحدا على معصية‪ ،‬وهذا وعد من موسى عليه‬ ‫أي‪ :‬معينا ومساعدا { لْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫السالم‪ ،‬بسبب منة اللّه عليه‪ ،‬أن ال يعين مجرما‪ ،‬كما فعل في قتل القبطي‪ .‬وهذا يفيد أن النعم‬
‫تقتضي من العبد فعل الخير‪ ،‬وترك الشر‪.‬‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ب } [ ص ‪ ] 614‬هل‬ ‫َصَب َح في اْل َمد َينة َخائفًا َيتََرقَّ ُ‬
‫{ فـ } لما جرى منه قتل الذي هو من عدوه { أ ْ‬
‫يشعر به آل فرعون‪ ،‬أم ال؟ وإ نما خاف‪ ،‬ألنه قد علم‪ ،‬أنه ال يتجرأ أحد على مثل هذه الحال سوى‬
‫موسى من بني إسرائيل‪.‬‬
‫َِّ‬
‫ص ِر ُخهُ } على قبطي‬
‫س } على عدوه { َي ْستَ ْ‬ ‫ص َرهُ بِ ْ‬
‫األم ِ‬ ‫فبينما هو على تلك الحال { فَِإ َذا الذي ْ‬
‫استَْن َ‬
‫ين } أي‪ :‬بين الغواية‪ ،‬ظاهر‬ ‫ي ُمبِ ٌ‬ ‫وسى } موبخا له على حاله { ِإَّن َ‬
‫ك لَ َغ ِو ٌّ‬ ‫آخر‪ { .‬قَا َل لَهُ ُم َ‬
‫الجراءة‪.‬‬
‫َن َي ْب ِط َش } موسى { بِالَِّذي ُه َو َع ُد ٌّو لَهُ َما } أي‪ :‬له وللمخاصم المستصرخ‪ ،‬أي‪ :‬لم‬ ‫َن أ ََر َاد أ ْ‬
‫{ َفلَ َّما أ ْ‬
‫يزل اللجاج بين القبطي واإلسرائيلي‪ ،‬وهو يستغيث بموسى‪ ،‬فأخذته الحمية‪ ،‬حتى هم أن يبطش‬
‫س ِإ ْن تُِر ُ‬
‫يد‬ ‫َن تَ ْقتُلَنِي َك َما قَتَْل َ‬
‫ت َن ْف ًسا بِ ْ‬
‫األم ِ‬ ‫ال } له القبطي زاجرا له عن قتله‪ { :‬أَتُِر ُ‬
‫يد أ ْ‬ ‫بالقبطي‪ { ،‬قَ َ‬
‫َن تَ ُكون جب ِ‬
‫ض } ألن من أعظم آثار الجبار في األرض‪ ،‬قتل النفس بغير حق‪.‬‬ ‫األر ِ‬
‫َّارا في ْ‬‫َ َ ً‬ ‫ِإال أ ْ‬
‫ين } وإ ال فلو أردت اإلصالح لحلت بيني وبينه من غير قتل‬ ‫َن تَ ُكون ِمن اْلم ِ ِ‬ ‫{ َو َما تُِر ُ‬
‫صلح َ‬‫َ َ ُ ْ‬ ‫يد أ ْ‬
‫أحد‪ ،‬فانكف موسى عن قتله‪ ،‬وارعوى لوعظه وزجره‪ ،‬وشاع الخبر بما جرى من موسى في‬
‫هاتين القضيتين‪ ،‬حتى تراود مأل فرعون‪ ،‬وفرعون على قتله‪ ،‬وتشاوروا على ذلك‪.‬‬
‫ْي ملئهم‪ .‬فقال‪:‬‬ ‫وقيض اللّه ذلك الرجل الناصح‪ ،‬وبادرهم إلى اإلخبار لموسى بما اجتمع عليه َرأ ُ‬
‫صى اْل َم ِد َين ِة َي ْس َعى } أي‪ :‬ركضا على قدميه من نصحه لموسى‪ ،‬وخوفه أن‬ ‫ِ‬
‫اء َر ُج ٌل م ْن أَ ْق َ‬
‫{ َو َج َ‬
‫وسى ِإ َّن اْل َمأل َيأْتَ ِم ُرون } أي‪ :‬يتشاورون فيك { ِلَي ْقتُلُ َ‬
‫وك‬ ‫يوقعوا به‪ ،‬قبل أن يشعر‪ ،‬فـ { قَا َل َيا ُم َ‬
‫ك ِمن َّ ِ ِ‬
‫ين } فامتثل نصحه‪.‬‬ ‫الناصح َ‬ ‫اخ ُر ْج } عن المدينة { ِإِّني لَ َ َ‬ ‫فَ ْ‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫{ فَ َخرج ِم ْنها َخائِفًا يتَرقَّب } أن يوقع به القتل‪ ،‬ودعا اللّه‪ ،‬و { قَا َل ر ِّ ِ ِ‬
‫ب َنجِّني م َن اْلقَ ْوِم الظالم َ‬
‫ين }‬ ‫َ‬ ‫ََ ُ‬ ‫َ َ َ‬
‫ُّد ُه ْم له ظلم منهم وجراءة‪.‬‬‫فإنه قد تاب من ذنبه وفعله غضبا من غير قصد منه للقتل‪ ،‬فَتَوع ُ‬

‫( ‪)1/613‬‬

‫َن َيه ِدَينِي سواء َّ ِ‬ ‫ِ‬


‫السبِيل (‪َ )22‬ولَ َّما َو َر َد َم َ‬
‫اء َم ْدَي َن َو َج َد‬ ‫ََ َ‬ ‫اء َم ْدَي َن قَا َل َع َسى َربِّي أ ْ ْ‬‫َولَ َّما تََوجَّهَ تْلقَ َ‬
‫طُب ُك َما قَالَتَا اَل َن ْس ِقي َحتَّى‬
‫ال َما َخ ْ‬ ‫ود ِ‬
‫ان قَ َ‬ ‫ام َرأتَْي ِن تَ ُذ َ‬ ‫ِ‬
‫ون َو َو َج َد م ْن ُدونِ ِه ُم ْ‬ ‫ُمةً ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬
‫اس َي ْسقُ َ‬ ‫َعلَْي ِه أ َّ‬
‫ت ِإلَ َّي‬‫ب ِإِّني ِل َما أ َْن َزْل َ‬ ‫ال َر ِّ‬‫ونا َش ْي ٌخ َكبِ ٌير (‪ )23‬فَ َسقَى لَهُ َما ثَُّم تََولَّى ِإلَى الظِّ ِّل فَقَ َ‬ ‫اء َوأَُب َ‬
‫الر َع ُ‬ ‫ص ِد َر ِّ‬‫ُي ْ‬
‫َج َر َما‬ ‫كأْ‬ ‫وك ِلَي ْج ِزَي َ‬
‫ت ِإ َّن أَبِي َي ْد ُع َ‬ ‫اء قَالَ ْ‬ ‫اهما تَم ِشي علَى استِ ْحي ٍ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫اءتْهُ ِإ ْح َد ُ َ ْ‬
‫ِ‬
‫م ْن َخ ْي ٍر فَق ٌير (‪ )24‬فَ َج َ‬
‫ِ‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫ف َنجو َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫ين (‪ )25‬قَالَ ْ‬ ‫ت م َن اْلقَ ْوِم الظالم َ‬ ‫ال اَل تَ َخ ْ َ ْ‬ ‫ص قَ َ‬ ‫ص َ‬ ‫ص َعلَْيه اْلقَ َ‬ ‫اءهُ َوقَ َّ‬‫ت لََنا َفلَ َّما َج َ‬‫َسقَْي َ‬
‫ك ِإ ْح َدى‬ ‫َن أ ُْن ِك َح َ‬ ‫ال ِإِّني أ ُِر ُ‬
‫يد أ ْ‬ ‫ين (‪ )26‬قَ َ‬ ‫ت اْلقَ ِو ُّ ِ‬
‫ي اأْل َم ُ‬ ‫ْج ْر َ‬ ‫استَْأ ِج ْرهُ ِإ َّن َخ ْي َر َم ِن ْ‬
‫استَأ َ‬
‫ِ‬
‫اه َما َيا أََبت ْ‬ ‫ِإ ْح َد ُ‬
‫ك‬‫ق َعلَْي َ‬ ‫َن أَ ُش َّ‬ ‫ك َو َما أ ُِر ُ‬
‫يد أ ْ‬ ‫ت َع ْش ًرا فَ ِم ْن ِعْن ِد َ‬ ‫ْج َرنِي ثَ َمانِ َي ِح َج ٍج فَِإ ْن أَتْ َم ْم َ‬‫َن تَأ ُ‬‫ْابَنتَ َّي َهاتَْي ِن َعلَى أ ْ‬
‫ان‬
‫ت فَاَل ُع ْد َو َ‬ ‫ض ْي ُ‬‫َجلَْي ِن قَ َ‬
‫َّما اأْل َ‬‫ك أَي َ‬‫ك َب ْينِي َوَب ْيَن َ‬
‫ال َذِل َ‬ ‫ين (‪ )27‬قَ َ‬ ‫ِِ‬ ‫ستَ ِج ُدنِي ِإ ْن َش َّ ِ‬
‫اء اللهُ م َن الصَّالح َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َعلَ َّي َواللَّهُ َعلَى َما َنقُو ُل َو ِكي ٌل (‪)28‬‬

‫اء َم ْدَي َن } أي‪ :‬قاصدا بوجهه مدين‪ ،‬وهو جنوبي فلسطين‪ ،‬حيث ال ملك لفرعون‪،‬‬ ‫ِ‬
‫{ َولَ َّما تََوجَّهَ تْلقَ َ‬
‫يل } أي‪ :‬وسط الطريق المختصر‪ ،‬الموصل إليها بسهولة‬ ‫السبِ ِ‬
‫اء َّ‬ ‫{ قَا َل عسى ربِّي أ ْ ِ ِ‬
‫َن َي ْهدَيني َس َو َ‬ ‫ََ َ‬
‫ورفق‪ ،‬فهداه اللّه سواء السبيل‪ ،‬فوصل إلى مدين‪.‬‬
‫ون } مواشيهم‪ ،‬وكانوا أهل ماشية كثيرة‬
‫اس َي ْسقُ َ‬ ‫ُمةً ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬ ‫اء َم ْدَي َن َو َج َد َعلَْي ِه أ َّ‬
‫{ َولَ َّما َو َر َد َم َ‬
‫ِ‬
‫ان } غنمهما عن حياض الناس‪،‬‬ ‫ود ِ‬ ‫{ َو َو َج َد م ْن ُدونِ ِه ُم } أي‪ :‬دون تلك األمة { ْ‬
‫ام َرأتَْي ِن تَ ُذ َ‬
‫لعجزهما عن مزاحمة الرجال وبخلهم‪ ،‬وعدم مروءتهم عن السقي لهما‪.‬‬
‫ص ِد َر‬ ‫ِ‬
‫طُب ُك َما } أي‪ :‬ما شأنكما بهذه الحالة‪ { ،‬قَالَتَا ال َن ْسقي َحتَّى ُي ْ‬ ‫{ قَا َل } لهما موسى { َما َخ ْ‬
‫اء } أي‪ :‬قد جرت العادة أنه ال يحصل لنا سقي حتى يصدر الرعاء مواشيهم‪ ،‬فإذا خال لنا‬ ‫الر َع ُ‬ ‫ِّ‬
‫ونا َش ْي ٌخ َكبِ ٌير } أي‪ :‬ال قوة له على السقي‪ ،‬فليس فينا قوة‪ ،‬نقتدر بها‪ ،‬وال لنا‬ ‫الجو سقينا‪َ { ،‬وأَُب َ‬
‫رجال يزاحمون الرعاء‪.‬‬
‫فرق لهما موسى عليه السالم ورحمهما { فَ َسقَى لَهُ َما } غير طالب منهما األجرة‪ ،‬وال له قصد‬
‫غير وجه اللّه تعالى‪ ،‬فلما سقى لهما‪ ،‬وكان ذلك وقت شدة حر‪ ،‬وسط النهار‪ ،‬بدليل قوله‪ { :‬ثَُّم‬
‫الظ ِّل } مستريحا لذلك الظالل بعد التعب‪.‬‬ ‫تَولَّى ِإلَى ِّ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت ِإلَ َّي م ْن َخ ْي ٍر فَق ٌير } أي‪ :‬إني مفتقر‬ ‫ِ‬
‫ب ِإِّني ل َما أَنزْل َ‬
‫{ فَقَا َل } في تلك الحالة‪ ،‬مسترزقا ربه { َر ِّ‬
‫إلي وتيسره لي‪ .‬وهذا سؤال منه بحاله‪ ،‬والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان‬ ‫للخير الذي تسوقه َّ‬
‫المقال‪ ،‬فلم يزل في هذه الحالة داعيا ربه متملقا‪ .‬وأما المرأتان‪ ،‬فذهبتا إلى أبيهما‪ ،‬وأخبرتاه بما‬
‫جرى‪.‬‬
‫فأرسل أبوهما إحداهما إلى موسى‪ ،‬فجاءته { تَم ِشي علَى استِ ْحي ٍ‬
‫اء } وهذا يدل على كرم‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫عنصرها‪ ،‬وخلقها الحسن‪ ،‬فإن الحياء من األخالق الفاضلة‪ ،‬وخصوصا في النساء‪.‬‬
‫ويدل على أن موسى عليه السالم‪ ،‬لم يكن فيما فعله من السقي بمنزلة األجير والخادم الذي ال‬
‫يستحى منه عادة‪ ،‬وإ نما هو عزيز النفس‪ ،‬رأت من حسن خلقه ومكارم أخالقه‪ ،‬ما أوجب لها‬
‫يم َّن عليك‪ ،‬بل‬ ‫ِ‬ ‫ك ِلَي ْج ِزَي َ‬
‫ت } له‪ِ { :‬إ َّن أَبِي َي ْد ُعو َ‬
‫ت لََنا } أي‪ :‬ال ل ُ‬
‫َج َر َما َسقَْي َ‬
‫كأْ‬ ‫الحياء منه‪ ،‬فـ { قَالَ ْ‬
‫أنت الذي ابتدأتنا باإلحسان‪ ،‬وإ نما قصده أن يكافئك على إحسانك‪ ،‬فأجابها موسى‪.‬‬
‫ال }‬
‫ص } من ابتداء السبب الموجب لهربه‪ ،‬إلى أن وصل إليه { قَ َ‬ ‫ِ‬
‫ص َ‬‫ص َعلَْيه اْلقَ َ‬
‫اءهُ َوقَ َّ‬
‫{ َفلَ َّما َج َ‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫ف َنجو َ ِ‬
‫ين } أي‪ :‬ليذهب خوفك وروعك‪،‬‬ ‫ت م َن اْلقَ ْوِم الظالم َ‬ ‫مسكنا روعه‪ ،‬جابرا قلبه‪ { :‬ال تَ َخ ْ َ ْ‬
‫فإن اللّه نجاك منهم‪ ،‬حيث وصلت إلى هذا المحل‪ ،‬الذي ليس لهم عليه سلطان‪.‬‬
‫استَْأ ِج ْرهُ } أي‪ :‬اجعله أجيرا عندك‪ ،‬يرعى الغنم‬ ‫ِ‬
‫اه َما } أي‪ :‬إحدى ابنتيه { َيا أََبت ْ‬ ‫ت ِإ ْح َد ُ‬
‫{ قَالَ ْ‬
‫ت اْلقَ ِو ُّ ِ‬
‫ين } أي‪ :‬إن موسى أولى من استؤجر‪ ،‬فإنه جمع‬ ‫ي األم ُ‬ ‫ْج ْر َ‬ ‫ويسقيها‪ِ { ،‬إ َّن َخ ْي َر َم ِن ْ‬
‫استَأ َ‬
‫القوة واألمانة‪ ،‬وخير أجير استؤجر‪ ،‬من جمعهما‪ ،‬أي‪ :‬القوة والقدرة على ما استؤجر عليه‪،‬‬
‫واألمانة فيه بعدم الخيانة‪ ،‬وهذان الوصفان‪ ،‬ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى لإلنسان عمال‬
‫بإجارة أو غيرها‪.‬‬
‫فإن الخلل ال يكون إال بفقدهما أو فقد إحداهما‪ ،‬وأما باجتماعهما‪ ،‬فإن العمل يتم ويكمل‪ ،‬وإ نما‬
‫قالت ذلك‪ ،‬ألنها شاهدت من قوة موسى عند [ ص ‪ ] 615‬السقي لهما ونشاطه‪ ،‬ما عرفت به‬
‫قوته‪ ،‬وشاهدت من أمانته وديانته‪ ،‬وأنه رحمهما في حالة ال يرجى نفعهما‪ ،‬وإ نما قصده [بذلك]‬
‫وجه اللّه تعالى‪.‬‬
‫ْج َرنِي } أي‬ ‫ك ِإ ْح َدى ْابَنتَ َّي َهاتَْي ِن َعلَى أ ْ‬
‫َن تَأ ُ‬ ‫َن أ ُْن ِك َح َ‬ ‫{ قَا َل } صاحب مدين لموسى { ِإِّني أ ُِر ُ‬
‫يد أ ْ‬
‫ك } تبرع‬ ‫ت َع ْش ًرا فَ ِم ْن ِعْن ِد َ‬ ‫تصير أجيرا عندي { ثَ َمانِ َي ِح َج ٍج } أي‪ :‬ثماني سنين‪ { .‬فَِإ ْن أَتْ َم ْم َ‬
‫ك } فأحتم عشر السنين‪ ،‬أو ما أريد أن‬ ‫ق َعلَْي َ‬‫َن أَ ُش َّ‬ ‫منك‪ ،‬ال شيء واجب عليك‪َ { .‬و َما أ ُِر ُ‬
‫يد أ ْ‬
‫ِ‬
‫أستأجرك ألكلفك أعماال شاقة‪ ،‬وإ نما استأجرك لعمل سهل يسير ال مشقة فيه { َستَ ِج ُدني ِإ ْن َش َ‬
‫اء‬
‫ين } فرغبه في سهولة العمل‪ ،‬وفي حسن المعاملة‪ ،‬وهذا يدل على أن الرجل‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اللهُ م َن الصَّالح َ‬
‫الصالح‪ ،‬ينبغي له أن يحسن خلقه مهما أمكنه‪ ،‬وأن الذي يطلب منه‪ ،‬أبلغ من غيره‪.‬‬
‫ك } أي‪ :‬هذا الشرط‪،‬‬ ‫ك َب ْينِي َوَب ْيَن َ‬
‫ال } موسى عليه السالم ‪-‬مجيبا له فيما طلبه منه‪َ { :-‬ذِل َ‬ ‫فـ { قَ َ‬
‫ان َعلَ َّي }‬
‫ت فَال ُع ْد َو َ‬ ‫األجلَْي ِن قَ َ‬
‫ض ْي ُ‬ ‫َّما َ‬ ‫الذي أنت ذكرت‪ ،‬رضيت به‪ ،‬وقد تم فيما بيني وبينك‪ { .‬أَي َ‬
‫سواء قضيت الثماني الواجبة‪ ،‬أم تبرعت بالزائد عليها { َواللَّهُ َعلَى َما َنقُو ُل َو ِكي ٌل } حافظ يراقبنا‪،‬‬
‫ويعلم ما تعاقدنا عليه‪.‬‬
‫وهذا الرجل‪ ،‬أبو المرأتين‪ ،‬صاحب مدين‪ ،‬ليس بشعيب النبي المعروف‪ ،‬كما اشتهر عند كثير من‬
‫الناس‪ ،‬فإن هذا‪ ،‬قول لم يدل عليه دليل‪ ،‬وغاية ما يكون‪ ،‬أن شعيبا عليه السالم‪ ،‬قد كانت بلده‬
‫مدين‪ ،‬وهذه القضية جرت في مدين‪ ،‬فأين المالزمة بين األمرين؟‬
‫وأيضا‪ ،‬فإنه غير معلوم أن موسى أدرك زمان شعيب‪ ،‬فكيف بشخصه؟" ولو كان ذلك الرجل‬
‫شعيبا‪ ،‬لذكره اللّه تعالى‪ ،‬ولسمته المرأتان‪ ،‬وأيضا فإن شعيبا عليه الصالة والسالم‪ ،‬قد أهلك اللّه‬
‫قومه بتكذيبهم إياه‪ ،‬ولم يبق إال من آمن به‪ ،‬وقد أعاذ اللّه المؤمنين أن يرضوا لبنتي نبيهم‪،‬‬
‫بمنعهما عن الماء‪ ،‬وصد ماشيتهما‪ ،‬حتى يأتيهما رجل غريب‪ ،‬فيحسن إليهما‪ ،‬ويسقي ماشيتهما‪،‬‬
‫وما كان شعيب‪ ،‬ليرضى أن يرعى موسى عنده ويكون خادما له‪ ،‬وهو أفضل منه وأعلى درجة‪،‬‬
‫واهلل أعلم‪[ ،‬إال أن يقال‪ :‬هذا قبل نبوة موسى فال منافاة وعلى كل حال ال يعتمد على أنه شعيب‬
‫النبي بغير نقل صحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم] (‪)1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من هامش‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/614‬‬

‫ت َن ًارا‬ ‫ام ُكثُوا ِإِّني آََن ْس ُ‬ ‫ال أِل ْ ِ ِ‬


‫َهله ْ‬ ‫ور َن ًارا قَ َ‬ ‫َهِل ِه آََن َس ِم ْن َجانِ ِب الطُّ ِ‬ ‫َج َل َو َس َار بِأ ْ‬ ‫وسى اأْل َ‬ ‫ضى ُم َ‬ ‫َفلَ َّما قَ َ‬
‫اط ِئ اْل َو ِاد‬ ‫ودي ِم ْن َش ِ‬
‫اها ُن ِ َ‬ ‫ون (‪َ )29‬فلَ َّما أَتَ َ‬ ‫طلُ َ‬ ‫صَ‬ ‫َّ‬ ‫لَ َعلِّي آَتِي ُك ْم ِم ْنهَا بِ َخَب ٍر أ َْو َج ْذ َو ٍة ِم َن َّ‬
‫الن ِار لَ َعل ُك ْم تَ ْ‬
‫ِ‬ ‫وسى ِإِّني أََنا اللَّهُ َر ُّ‬ ‫اأْل َْيم ِن ِفي اْلُب ْق َع ِة اْلمَبار َك ِة ِم َن َّ‬
‫ق‬‫َن أَْل ِ‬‫ين (‪َ )30‬وأ ْ‬ ‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫َن َيا ُم َ‬ ‫الش َج َر ِة أ ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫ين (‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف ِإَّن َ‬
‫وسى أَ ْقبِ ْل َواَل تَ َخ ْ‬ ‫َّ‬
‫ان َولى ُم ْدبًِرا َولَ ْم ُي َعقِّ ْ‬ ‫َها تَ ْهتَُّز َكأََّنهَا َج ٌّ‬
‫ك م َن اآْل َمن َ‬ ‫ب َيا ُم َ‬ ‫اك َفلَ َّما َرآ َ‬‫ص َ‬ ‫َع َ‬
‫ك‬‫الر ْه ِب فَ َذانِ َ‬ ‫ك ِم َن َّ‬ ‫اح َ‬‫ك َجَن َ‬ ‫اء ِم ْن َغْي ِر ُسو ٍء َو ْ‬
‫اض ُم ْم ِإلَْي َ‬ ‫ض َ‬ ‫ك تَ ْخ ُر ْج َب ْي َ‬ ‫ك ِفي َج ْيبِ َ‬ ‫اسلُ ْك َي َد َ‬
‫‪ْ )31‬‬
‫ت ِم ْنهُ ْم َن ْف ًسا‬ ‫ب ِإِّني قَتَْل ُ‬‫ال َر ِّ‬ ‫ين (‪ )32‬قَ َ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ك ِإلَى ف ْر َع ْو َن َو َملَئه ِإَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو ًما فَاسق َ‬ ‫ان ِم ْن َرِّب َ‬ ‫ُب ْر َه َان ِ‬
‫ص ِّدقُنِي ِإِّني‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ص ُح مِّني ل َس ًانا فَأ َْرسْلهُ َمع َي ِر ْد ًءا ُي َ‬ ‫ون ُه َو أَ ْف َ‬
‫ِ‬
‫ون (‪َ )33‬وأَخي َه ُار ُ‬ ‫َن َي ْقتُلُ ِ‬‫اف أ ْ‬‫َخ ُ‬ ‫فَأ َ‬
‫ون ِإلَْي ُك َما بِآََياتَِنا‬ ‫ِ‬
‫ط ًانا فَاَل َيصلُ َ‬ ‫ك َوَن ْج َع ُل لَ ُك َما ُسْل َ‬ ‫َخي َ‬ ‫ك بِأ ِ‬
‫ون (‪ )34‬قَا َل َسَن ُش ُّد َع ُ‬
‫ض َد َ‬ ‫َن ُي َك ِّذُب ِ‬‫اف أ ْ‬
‫َخ ُ‬ ‫أَ‬
‫ِ‬
‫ون (‪)35‬‬ ‫أ َْنتُ َما َو َم ِن اتََّب َع ُك َما اْل َغالُب َ‬

‫األج َل } يحتمل أنه قضى األجل الواجب‪ ،‬أو الزائد عليه‪ ،‬كما هو الظن‬ ‫وسى َ‬ ‫ضى ُم َ‬ ‫{ َفلَ َّما قَ َ‬
‫بموسى ووفائه‪ ،‬اشتاق إلى الوصول إلى أهله ووالدته وعشيرته‪ ،‬ووطنه‪ ،‬وعلم من طول المدة‪،‬‬
‫َهِل ِه } قاصدا مصر‪َ { ،‬آن َس } أي‪ :‬أبصر { ِم ْن َجانِ ِب‬ ‫أنهم قد تناسوا ما صدر منه‪َ { .‬س َار بِأ ْ‬
‫الن ِار لَ َعلَّ ُك ْم‬
‫ت َن ًارا لَ َعلِّي آتِي ُك ْم ِم ْنهَا بِ َخَب ٍر أ َْو َج ْذ َو ٍة ِم َن َّ‬ ‫ور َنارا قَا َل ْ ِ ِ‬ ‫ُّ‬
‫ام ُكثُوا ِإِّني َآن ْس ُ‬
‫ألهله ْ‬ ‫الط ِ ً‬
‫ون } وكان قد أصابهم البرد‪ ،‬وتاهوا الطريق‪.‬‬ ‫طلُ َ‬
‫صَ‬‫تَ ْ‬
‫ين } فأخبر بألوهيته وربوبيته‪ ،‬ويلزم‬ ‫ِ‬ ‫وسى ِإِّني أََنا اللَّهُ َر ُّ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫{ ‪ } 30‬فلما أتاها نودي { َيا ُم َ‬
‫اعُب ْدنِي َوأ َِقِم الصَّالةَ‬
‫من ذلك‪ ،‬أن يأمره بعبادته‪ ،‬وتألهه‪ ،‬كما صرح به في اآلية األخرى { فَ ْ‬
‫ِل ِذ ْك ِري }‪.‬‬
‫آها تَ ْهتَُّز } تسعى سعيا شديدا‪ ،‬ولها سورة ُم ِهيلة { َكأََّنهَا َج ٌّ‬
‫ان‬ ‫ك } فألقاها { َفلَ َّما َر َ‬ ‫صا َ‬ ‫َن أَْل ِ‬
‫ق َع َ‬ ‫{ َوأ ْ‬
‫ب } أي‪ :‬يرجع‪ ،‬الستيالء الروع على قلبه‪ ،‬فقال اللّه‬ ‫} َذ َك ُر الحيات العظيم‪َ { ،‬ولَّى ُم ْدبًِرا َولَ ْم ُي َعقِّ ْ‬
‫ين } وهذا أبلغ ما يكون في التأمين‪ ،‬وعدم الخوف‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫ف ِإَّن َ ِ‬‫وسى أَ ْقبِ ْل َوال تَ َخ ْ‬
‫ك م َن اآلمن َ‬ ‫له‪َ { :‬يا ُم َ‬
‫فإن قوله‪ { :‬أَ ْقبِ ْل } يقتضي األمر بإقباله‪ ،‬ويجب عليه االمتثال‪ ،‬ولكن قد يكون إقباله‪ ،‬وهو لم يزل‬
‫ف } أمر له بشيئين‪ ،‬إقباله‪ ،‬وأن ال يكون في قلبه خوف‪ ،‬ولكن‬ ‫في األمر المخوف‪ ،‬فقال‪َ { :‬وال تَ َخ ْ‬
‫يبقى احتمال‪ ،‬وهو أنه قد يقبل وهو غير خائف‪ ،‬ولكن ال تحصل له الوقاية واألمن من المكروه‪،‬‬
‫ين } فحينئذ اندفع المحذور من جميع الوجوه‪ ،‬فأقبل موسى عليه السالم غير‬ ‫ِِ‬ ‫فقال ‪ِ { :‬إَّن َ ِ‬
‫ك م َن اآلمن َ‬
‫خائف وال مرعوب‪ ،‬بل مطمئنا‪ ،‬واثقا بخبر ربه‪ ،‬قد ازداد إيمانه‪ ،‬وتم يقينه‪ ،‬فهذه آية‪ ،‬أراه اللّه‬
‫إياها قبل ذهابه إلى فرعون‪ ،‬ليكون على يقين تام‪ ،‬فيكون (‪ )1‬أجرأ له‪ ،‬وأقوى وأصلب‪.‬‬
‫اء ِم ْن َغ ْي ِر ُسو ٍء }‬ ‫ض َ‬ ‫ك } أي‪ :‬أدخلها { ِفي َج ْيبِ َ‬
‫ك تَ ْخ ُر ْج َب ْي َ‬ ‫اسلُ ْك َي َد َ‬
‫ثم أراه اآلية األخرى فقال‪ْ { :‬‬
‫فسلكها وأخرجها‪ ،‬كما ذكر اللّه تعالى‪.‬‬
‫الر ْه ِب } أي ضم جناحك وهو عضدك إلى جنبك يزول عنك الرهب‬ ‫ك ِم َن َّ‬
‫اح َ‬
‫ك َجَن َ‬ ‫اض ُم ْم ِإلَْي َ‬
‫{ َو ْ‬
‫ان ِم ْن َرِّب َ‬
‫ك}‬ ‫ك } انقالب العصا حية‪ ،‬وخروج اليد بيضاء من غير سوء { ُب ْر َه َان ِ‬ ‫والخوف‪ { .‬فَ َذانِ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين } فال يكفيهم مجرد‬ ‫أي‪ :‬حجتان قاطعتان من اللّه‪ِ { ،‬إلَى ف ْر َع ْو َن َو َملَئه ِإَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو ًما فَاسق َ‬
‫اإلنذار وأمر الرسول إياهم‪ ،‬بل ال بد من اآليات الباهرة‪ ،‬إن نفعت‪.‬‬
‫ال } موسى عليه السالم‪.‬‬
‫فـ { قَ َ‬
‫[ ص ‪] 616‬‬
‫معتذرا من ربه‪ ،‬وسائال له المعونة على ما حمله‪ ،‬وذاكرا له الموانع التي فيه‪ ،‬ليزيل ربه ما‬
‫ص ُح‬ ‫ِ‬ ‫َن َي ْقتُلُ ِ‬ ‫ت ِم ْنهُ ْم َن ْف ًسا } أي‪ { :‬فَأ َ‬
‫ب ِإِّني قَتَْل ُ‬
‫يحذره منها‪َ { .‬ر ِّ‬
‫ون ُه َو أَ ْف َ‬
‫ون * َوأَخي َه ُار ُ‬ ‫اف أ ْ‬
‫َخ ُ‬
‫ص ِّدقُنِي } فإنه مع تضافر األخبار يقوى‬ ‫ِ ِ‬
‫مِّني ل َس ًانا فَأ َْرسْلهُ َمعي ِر ْد ًءا } أي‪ :‬معاونا ومساعدا { ُي َ‬
‫ِ ِ‬
‫ك بِأ ِ‬
‫ك } أي‪ :‬نعاونك به ونقويك‪.‬‬ ‫َخي َ‬ ‫الحق فأجابه اللّه إلى سؤاله فقال‪َ { :‬سَن ُش ُّد َع ُ‬
‫ض َد َ‬
‫ط ًانا } أي‪ :‬تسلطا‪ ،‬وتمكنا من الدعوة‪،‬‬ ‫ثم أزال عنه محذور القتل‪ ،‬فقال‪َ { :‬وَن ْج َع ُل لَ ُك َما ُسْل َ‬
‫ون ِإلَْي ُك َما } وذلك بسبب آياتنا‪ ،‬وما دلت عليه‬ ‫ِ‬
‫بالحجة‪ ،‬والهيبة اإللهية من عدوهما لهما‪ { ،‬فَال َيصلُ َ‬
‫من الحق‪ ،‬وما أزعجت به من باشرها ونظر إليها‪ ،‬فهي التي بها حصل لكما السلطان‪ ،‬واندفع بها‬
‫عنكم‪ ،‬كيد عدوكم (‪ )2‬وصارت لكم أبلغ من الجنود‪ ،‬أولي اْل َع َد ِد واْل ُع َد ِد‪.‬‬
‫ِ‬
‫ون } وهذا وعد لموسى في ذلك الوقت‪ ،‬وهو وحده فريد‪ ،‬وقد رجع إلى‬ ‫{ أ َْنتُ َما َو َم ِن اتََّب َع ُك َما اْل َغالُب َ‬
‫بلده‪ ،‬بعد ما كان شريدا‪ ،‬فلم تزل األحوال تتطور‪ ،‬واألمور تنتقل‪ ،‬حتى أنجز اهلل له موعوده‪،‬‬
‫ومكنه من العباد والبالد‪ ،‬وصار له وألتباعه‪ ،‬الغلبة والظهور‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬ليكون‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬عنكم كيد عدوهم‪.‬‬

‫( ‪)1/615‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اَّل ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ين (‬ ‫وسى بِآََياتَنا َبيَِّنات قَالُوا َما َه َذا ِإ س ْحٌر ُم ْفتًَرى َو َما َسم ْعَنا بِهَ َذا في آََبائَنا اأْل ََّوِل َ‬ ‫اء ُه ْم ُم َ‬
‫َفلَ َّما َج َ‬
‫الد ِار ِإَّنهُ اَل ُي ْفِل ُح‬
‫ون لَهُ َع ِاقَبةُ َّ‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫اء بِاْلهُ َدى م ْن ع ْنده َو َم ْن تَ ُك ُ‬ ‫َعلَ ُم بِ َم ْن َج َ‬ ‫وسى َربِّي أ ْ‬ ‫‪َ )36‬وقَا َل ُم َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ٍِ‬ ‫ون (‪َ )37‬وقَا َل ِف ْر َع ْو ُن َيا أَيُّهَا اْل َمأَل ُ َما َعِل ْم ُ‬ ‫َّ ِ‬
‫ان َعلَى‬ ‫ام ُ‬‫ت لَ ُك ْم م ْن إلَه َغْي ِري فَأ َْوق ْد لي َيا َه َ‬ ‫الظال ُم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ َِّ‬ ‫ين فَ ْ ِ‬ ‫ِّ‬
‫استَ ْكَب َر ُه َو‬ ‫ين (‪َ )38‬و ْ‬ ‫وسى َوإِ ِّني أَل َظُُّنهُ م َن اْل َكاذبِ َ‬ ‫ص ْر ًحا لَ َعلي أَطلعُ ِإلَى ِإلَه ُم َ‬ ‫اج َع ْل لي َ‬ ‫الط ِ‬
‫اه ْم ِفي‬ ‫ودهُ فََنَب ْذَن ُ‬ ‫َخ ْذَناهُ َو ُجُن َ‬‫ون (‪ )39‬فَأ َ‬ ‫ظُّنوا أََّنهُ ْم ِإلَْيَنا اَل ُي ْر َج ُع َ‬
‫ق َو َ‬ ‫ض بِ َغ ْي ِر اْل َح ِّ‬‫ودهُ ِفي اأْل َْر ِ‬
‫َو ُجُن ُ‬
‫ام ِة اَل‬ ‫ِ‬ ‫ون ِإلَى َّ‬ ‫ف َكان ع ِاقبةُ الظَّ ِال ِمين (‪ )40‬وجعْلَن ُ ِ‬
‫الن ِار َوَي ْو َم اْلقَي َ‬ ‫اه ْم أَئ َّمةً َي ْد ُع َ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ‬ ‫اْلَي ِّم فَ ْانظُ ْر َك ْي َ َ َ َ‬
‫ِ‬ ‫الد ْنيا لَعَنةً ويوم اْل ِقي ِ ِ‬ ‫ي ْنصرون (‪ )41‬وأَتْبعَن ُ ِ ِ ِ‬
‫ين (‪َ )42‬ولَقَ ْد آَتَْيَنا‬ ‫امة ُه ْم م َن اْل َم ْقُبوح َ‬ ‫اه ْم في َهذه ُّ َ ْ َ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ َْ‬ ‫ُ َُ َ‬
‫َّ‬ ‫صائَِر ِل َّلن ِ‬ ‫اب ِم ْن َب ْع ِد َما أ ْ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)43‬‬ ‫اس َو ُه ًدى َو َر ْح َمةً لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ‬ ‫ون اأْل ُولَى َب َ‬ ‫َهلَ ْكَنا اْلقُُر َ‬ ‫وسى اْلكتَ َ‬ ‫ُم َ‬

‫ات } واضحات الداللة على ما قال لهم‪،‬‬ ‫فذهب موسى برسالة ربه { َفلَ َّما جاء ُهم موسى بِآياتَِنا بيَِّن ٍ‬
‫َ َ ْ ُ َ َ َ‬
‫ليس فيها قصور وال خفاء‪ { .‬قَالُوا } على وجه الظلم والعلو والعناد { َما َه َذا ِإال ِس ْحٌر ُم ْفتًَرى }‬
‫كما قال فرعون في تلك الحالة التي ظهر فيها الحق‪ ،‬واستعل على الباطل‪ ،‬واضمحل الباطل‪،‬‬
‫ِّح َر } هذا‪ ،‬وهو الذكي‬ ‫وخضع له الرؤساء العارفون حقائق األمور { ِإَّنهُ لَ َكبِ ُير ُك ُم الَِّذي َعلَّ َم ُك ُم الس ْ‬
‫َنزل َهؤ ِ‬
‫الء ِإال‬ ‫غير الزكي الذي بلغ من المكر والخداع والكيد ما قصه اللّه علينا وقد علم { َما أ َ ُ‬
‫ض } ولكن الشقاء غالب‪.‬‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫َر ُّ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ب الس َ‬
‫ين } وقد كذبوا في ذلك‪ ،‬فإن اللّه أرسل يوسف عليه السالم قبل‬ ‫{ َو َما َس ِم ْعَنا بِهَ َذا ِفي َآبائَِنا َّ‬
‫األوِل َ‬
‫اء ُك ْم بِ ِه َحتَّى‬ ‫ات فَما ِزْلتُم ِفي َش ٍّ ِ‬
‫ك م َّما َج َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ف ِم ْن قَْب ُل بِاْلبيَِّن ِ‬
‫َ‬ ‫وس ُ‬
‫اء ُك ْم ُي ُ‬
‫موسى‪ ،‬كما قال تعالى { َولَقَ ْد َج َ‬
‫اب }‪.‬‬
‫ف ُم ْرتَ ٌ‬ ‫ض ُّل اللَّهُ َم ْن ُه َو ُم ْس ِر ٌ‬ ‫كي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ك ُقْلتُم لَ ْن ي ْبع َ َّ ِ‬
‫ث اللهُ م ْن َب ْعده َر ُسوال َك َذل َ ُ‬ ‫ِإ َذا َهلَ َ ْ َ َ‬
‫وسى } حين زعموا أن الذي جاءهم به سحر وضالل‪ ،‬وأن ما هم عليه هو الهدى‪:‬‬ ‫{ َوقَا َل ُم َ‬
‫الد ِار } أي‪ :‬إذا لم تفد المقابلة معكم‪،‬‬ ‫ون لَهُ َع ِاقَبةُ َّ‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫اء بِاْلهُ َدى م ْن ع ْنده َو َم ْن تَ ُك ُ‬
‫َعلَ ُم بِ َم ْن َج َ‬
‫{ َربِّي أ ْ‬
‫وتبيين اآليات البينات‪ ،‬وأبيتم إال التمادي في غيكم واللجاج على كفركم‪ ،‬فاللّه تعالى العالم‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } فصار عاقبة‬ ‫بالمهتدي وغيره‪ ،‬ومن تكون له عاقبة الدار‪ ،‬نحن أم أنتم { ِإَّنهُ ال ُي ْفل ُح الظال ُم َ‬
‫الدار لموسى وأتباعه‪ ،‬والفالح والفوز‪ ،‬وصار ألولئك‪ ،‬الخسار وسوء العاقبة والهالك‪.‬‬
‫{ َوقَا َل ِف ْر َع ْو ُن } متجرئا على ربه‪ ،‬ومموها على قومه السفهاء‪ ،‬أخفاء العقول‪َ { :‬يا أَيُّهَا اْل َمأل َما‬
‫ت لَ ُك ْم ِم ْن ِإلَ ٍه َغ ْي ِري } أي‪ :‬أنا وحدي‪ ،‬إلهكم ومعبودكم‪ ،‬ولو كان ثََّم إله غيري‪ ،‬لعلمته‪،‬‬ ‫َعِل ْم ُ‬
‫فانظر إلى هذا الورع التام من فرعون!‪ ،‬حيث لم يقل " ما لكم من إله غيري " بل تورع وقال‪:‬‬
‫ت لَ ُك ْم ِم ْن ِإلَ ٍه َغ ْي ِري } وهذا‪ ،‬ألنه عندهم‪ ،‬العالم الفاضل‪ ،‬الذي مهما قال فهو الحق‪،‬‬ ‫{ َما َعِل ْم ُ‬
‫ومهما أمر أطاعوه‪.‬‬
‫فلما قال هذه المقالة‪ ،‬التي قد تحتمل أن ثََّم إلها غيره‪ ،‬أراد أن يحقق النفي‪ ،‬الذي جعل فيه ذلك‬
‫اج َع ْل‬ ‫االحتمال‪ ،‬فقال لـ " هامان " { فَأَو ِق ْد ِلي يا هامان علَى ِّ‬
‫الط ِ‬
‫ين } ليجعل له لبنا من فخار‪ { .‬فَ ْ‬ ‫َ ََ ُ َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫ين } ولكن سنحقق هذا‬ ‫وسى َوإِ ِّني ألظُُّنهُ م َن اْل َكاذبِ َ‬
‫ص ْر ًحا } أي‪ :‬بناء { لَ َعلي أَطلعُ ِإلَى ِإلَه ُم َ‬
‫لي َ‬
‫الظن‪ ،‬ونريكم كذب موسى‪ .‬فانظر هذه الجراءة العظيمة على اللّه‪ ،‬التي ما بلغها آدمي‪ ،‬كذب‬
‫موسى‪َّ ،‬‬
‫وادعى أنه إله‪ ،‬ونفى أن يكون له علم باإلله الحق‪ ،‬وفعل األسباب‪ ،‬ليتوصل إلى إله‬
‫موسى‪ ،‬وكل هذا ترويج‪ ،‬ولكن العجب من هؤالء المأل الذين يزعمون أنهم كبار المملكة‪،‬‬
‫المدبرون لشئونها‪ ،‬كيف لعب هذا الرجل بعقولهم‪ ،‬واستخف أحالمهم‪ ،‬وهذا لفسقهم الذي صار‬
‫صفة راسخة فيهم‪.‬‬
‫فسد دينهم‪ ،‬ثم تبع ذلك فساد عقولهم‪ ،‬فنسألك اللهم الثبات على اإليمان‪ ،‬وأن ال تزيغ قلوبنا بعد إذ‬
‫هديتنا‪ ،‬وتهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب‪.‬‬
‫ض بِ َغ ْي ِر اْل َح ِّ‬
‫ق } استكبروا على عباد اللّه‪ ،‬وساموهم‬ ‫األر ِ‬ ‫قال تعالى‪ { :‬واستَ ْكبر ُهو وجُن ُ ِ‬
‫ودهُ في ْ‬ ‫َ ْ ََ َ َ ُ‬
‫سوء العذاب‪ ،‬واستكبروا على رسل اللّه‪ ،‬وما جاءوهم به من اآليات‪ ،‬فكذبوها‪ ،‬وزعموا أن ما هم‬
‫عليه أعلى منها وأفضل‪.‬‬
‫ون } فلذلك (‪ )1‬تجرأوا‪ ،‬وإ ال فلو علموا‪ ،‬أو ظنوا أنهم يرجعون إلى‬ ‫ظُّنوا أََّنهُ ْم ِإلَْيَنا ال ُي ْر َج ُع َ‬
‫{ َو َ‬
‫اللّه‪ ،‬لما كان منهم ما كان‪.‬‬
‫ان َع ِاقَبةُ‬ ‫اه ْم ِفي اْلَي ِّم فَ ْانظُ ْر َك ْي َ‬
‫ف َك َ‬ ‫ودهُ } عندما استمر عنادهم وبغيهم { فََنَب ْذَن ُ‬ ‫َخ ْذَناهُ َو ُجُن َ‬ ‫{ فَأ َ‬
‫ين } [ ص ‪ ] 617‬كانت شر العواقب وأخسرها عاقبة أعقبتها العقوبة الدنيوية المستمرة‪،‬‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫الظالم َ‬
‫المتصلة بالعقوبة األخروية‪.‬‬
‫الن ِار } أي جعلنا فرعون ومأله من األئمة الذين يقتدي بهم ويمشي‬ ‫ون ِإلَى َّ‬ ‫{ وجعْلَن ُ ِ‬
‫اه ْم أَئ َّمةً َي ْد ُع َ‬ ‫َ ََ‬
‫ون } من عذاب اللّه‪ ،‬فهم أضعف شيء‪،‬‬ ‫خلفهم إلى دار الخزي والشقاء‪ { .‬ويوم اْل ِقي ِ‬
‫ص ُر َ‬
‫امة ال ُي ْن َ‬
‫َ َْ َ َ َ‬
‫عن دفعه عن أنفسهم‪ ،‬وليس لهم من دون اللّه‪ ،‬من ولي وال نصير‪.‬‬
‫الد ْنَيا لَ ْعَنةً } أي‪ :‬وأتبعناهم‪ ،‬زيادة في عقوبتهم وخزيهم‪ ،‬في الدنيا لعنة‪،‬‬ ‫اه ْم ِفي َه ِذ ِه ُّ‬
‫{ َوأَتَْب ْعَن ُ‬
‫يلعنون‪ ،‬ولهم عند الخلق الثناء القبيح والمقت والذم‪ ،‬وهذا أمر مشاهد‪ ،‬فهم أئمة الملعونين في‬
‫ين } المبعدين‪ ،‬المستقذرة أفعالهم‪ .‬الذين اجتمع‬ ‫ِ‬ ‫الدنيا ومقدمتهم‪ { ،‬ويوم اْل ِقي ِ ِ‬
‫امة ُه ْم م َن اْل َم ْقُبوح َ‬
‫َ َْ َ َ َ‬
‫عليهم مقت اللّه‪ ،‬ومقت خلقه‪ ،‬ومقت أنفسهم‪.‬‬
‫ون األولَى } الذين كان خاتمتهم‬ ‫اب } وهو التوراة { ِم ْن َب ْع ِد َما أ ْ‬
‫َهلَ ْكَنا اْلقُُر َ‬
‫ِ‬
‫وسى اْلكتَ َ‬ ‫{ َولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ‬
‫في اإلهالك العام‪ ،‬فرعون وجنوده‪ .‬وهذا دليل على أنه بعد نزول التوراة‪ ،‬انقطع الهالك العام‪،‬‬
‫وشرع جهاد الكفار بالسيف‪.‬‬
‫صائَِر ِل َّلن ِ‬
‫اس } أي‪ :‬كتاب اللّه‪ ،‬الذي أنزله على موسى‪ ،‬فيه بصائر للناس‪ ،‬أي‪ :‬أمور يبصرون‬ ‫{ َب َ‬
‫بها ما ينفعهم‪ ،‬وما يضرهم‪ ،‬فتقوم الحجة على العاصي‪ ،‬وينتفع بها المؤمن‪ ،‬فتكون رحمة في‬
‫َّ‬
‫حقه‪ ،‬وهداية له إلى الصراط المستقيم‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬و ُه ًدى َو َر ْح َمةً لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ‬
‫ون }‪.‬‬
‫ولما قص اللّه على رسوله ما قص من هذه األخبار الغيبية‪ ،‬نبه العباد على أن هذا خبر إلهي‬
‫محض‪ ،‬ليس للرسول‪ ،‬طريق إلى علمه إال من جهة الوحي‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬فكذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/616‬‬

‫ين (‪َ )44‬ولَ ِكَّنا أ َْن َشأَْنا‬ ‫ت ِمن َّ ِ ِ‬


‫الشاهد َ‬ ‫وسى اأْل َْم َر َو َما ُك ْن َ َ‬ ‫ض ْيَنا ِإلَى ُم َ‬
‫وما ُك ْن َ ِ‬
‫ت بِ َجان ِب اْل َغ ْربِ ِّي ِإ ْذ قَ َ‬ ‫ََ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت ثَ ِاوًيا ِفي أ ْ‬
‫ين (‪)45‬‬ ‫َه ِل َم ْدَي َن تَ ْتلُو َعلَْي ِه ْم آََياتَنا َولَكَّنا ُكَّنا ُم ْرسل َ‬ ‫ط َاو َل َعلَْي ِه ُم اْل ُع ُم ُر َو َما ُك ْن َ‬ ‫ونا فَتَ َ‬ ‫قُُر ً‬
‫ك لَ َعلَّهُ ْم‬ ‫ير ِم ْن قَْبِل َ‬ ‫اه ْم ِم ْن َن ِذ ٍ‬
‫ِّك ِلتُْن ِذ َر قَ ْو ًما َما أَتَ ُ‬
‫اد ْيَنا َولَ ِك ْن َر ْح َمةً ِم ْن َرب َ‬ ‫ت بِ َجانِ ِب الطُّ ِ‬
‫ور ِإ ْذ َن َ‬ ‫َو َما ُك ْن َ‬
‫ت ِإلَْيَنا َر ُسواًل‬ ‫ت أ َْي ِدي ِه ْم فََيقُولُوا َربََّنا لَ ْواَل أ َْر َسْل َ‬ ‫صيبهم م ِ‬
‫ص َيبةٌ بِ َما قَ َّد َم ْ‬ ‫يتَ َذ َّكرون (‪ )46‬ولَواَل أ ْ ِ‬
‫َن تُ َ ُ ْ ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ُ َ‬
‫ق ِم ْن ِعْن ِدَنا قَالُوا لَ ْواَل أُوتِ َي ِمثْ َل َما أُوتِ َي‬ ‫اء ُه ُم اْل َح ُّ‬
‫ين (‪َ )47‬فلَ َّما َج َ‬
‫ِ‬ ‫ك وَن ُك ِ‬
‫ون م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ِ‬
‫فََنتَّبِ َع آََيات َ َ َ‬
‫ِ‬ ‫وسى ِم ْن قَْب ُل قَالُوا ِس ْح َر ِ‬
‫ون (‪)48‬‬ ‫اه َرا َوقَالُوا ِإَّنا بِ ُك ٍّل َكاف ُر َ‬ ‫ظ َ‬‫ان تَ َ‬ ‫وسى أ ََولَ ْم َي ْكفُُروا بِ َما أُوتِ َي ُم َ‬ ‫ُم َ‬
‫ين (‪ )49‬فَِإ ْن لَ ْم َي ْستَ ِج ُيبوا لَ َ‬
‫ك‬ ‫َه َدى ِم ْنهما أَتَّبِعه ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬ ‫اب ِم ْن ِع ْن ِد اللَّ ِه ُه َو أ ْ‬ ‫ُق ْل فَأْتُوا بِ ِكتَ ٍ‬
‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َُ ْ ُ‬
‫َض ُّل ِم َّم ِن اتََّب َع َه َواهُ بِ َغ ْي ِر ُه ًدى ِم َن اللَّ ِه ِإ َّن اللَّهَ اَل َي ْه ِدي اْلقَ ْو َم‬ ‫اء ُه ْم َو َم ْن أ َ‬ ‫َه َو َ‬ ‫ون أ ْ‬ ‫اعلَ ْم أََّن َما َيتَّبِ ُع َ‬
‫فَ ْ‬
‫ين (‪)50‬‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫الظالم َ‬

‫ت بِ َجانِ ِب اْل َغ ْربِ ِّي }‪ .‬أي‪ :‬بجانب الطور الغربي وقت قضائنا لموسى األمر { َو َما ُك ْن َ‬
‫ت‬ ‫{ َو َما ُك ْن َ‬
‫ين } على ذلك‪ ،‬حتى يقال‪ :‬إنه وصل إليك من هذا الطريق‪.‬‬ ‫ِمن َّ ِ ِ‬
‫الشاهد َ‬ ‫َ‬
‫ط َاو َل َعلَْي ِه ُم اْل ُع ُم ُر } فاندرس العلم‪ ،‬ونسيت آياته‪ ،‬فبعثناك في وقت اشتدت‬ ‫{ َولَ ِكَّنا أ َْن َشأَْنا قُُر ً‬
‫ونا فَتَ َ‬
‫ت ثَ ِاوًيا } أي‪ :‬مقيما { ِفي أ ْ‬
‫َه ِل َم ْدَي َن تَ ْتلُو‬ ‫الحاجة إليك وإ لى ما علمناك وأوحينا إليك‪َ { .‬و َما ُك ْن َ‬
‫َعلَْي ِه ْم َآياتَِنا } أي‪ :‬تعلمهم وتتعلم منهم‪ ،‬حتى أخبرت بما أخبرت من شأن موسى في مدين‪،‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين } أي‪ :‬ولكن ذلك الخبر الذي جئت به عن موسى‪ ،‬أثر من آثار إرسالنا إياك‪،‬‬ ‫{ َولَكَّنا ُكَّنا ُم ْرسل َ‬
‫ي ال سبيل لك إلى علمه‪ ،‬بدون إرسالنا‪.‬‬ ‫َو َو ْح ٌ‬
‫اد ْيَنا } موسى‪َ ،‬وأمرناه أن يأتي القوم الظالمين‪ ،‬ويبلغهم رسالتنا‪،‬‬ ‫ت بِ َجانِ ِب الطُّ ِ‬
‫ور ِإ ْذ َن َ‬ ‫{ َو َما ُك ْن َ‬
‫ويريهم من آياتنا وعجائبنا ما قصصنا عليك‪ .‬والمقصود‪ :‬أن الماجريات‪ ،‬التي جرت لموسى‬
‫عليه الصالة والسالم في هذه األماكن‪ ،‬فقصصتها كما هي‪ ،‬من غير زيادة وال نقص‪ ،‬ال يخلو من‬
‫أحد أمرين‪.‬‬
‫إما أن تكون حضرتها وشاهدتها‪ ،‬أو ذهبت إلى محالِّها فتعلمتها من أهلها‪ ،‬فحينئذ قد ال يدل ذلك‬
‫على أنك رسول اللّه‪ ،‬إذ األمور التي يخبر بها عن شهادة ودراسة‪ ،‬من األمور المشتركة غير‬
‫المختصة باألنبياء‪ ،‬ولكن هذا قد ُعِل َم وتُُيقِّن أنه ما كان وما صار‪ ،‬فأولياؤك وأعداؤك يعلمون عدم‬
‫ذلك‪.‬‬
‫فتعين األمر الثاني‪ ،‬وهو‪ :‬أن هذا جاءك من ِقَب ِل اللّه ووحيه وإ رساله‪ ،‬فثبت بالدليل القطعي‪،‬‬
‫اه ْم ِم ْن‬
‫ِّك ِلتُْن ِذ َر قَ ْو ًما َما أَتَ ُ‬
‫صحة رسالتك‪ ،‬ورحمة اللّه بك للعباد‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ولَ ِك ْن َر ْح َمةً ِم ْن َرب َ‬
‫ك } أي‪ :‬العرب‪ ،‬وقريش‪ ،‬فإن الرسالة [عندهم] ال تعرف وقت إرسال الرسول وقبله‬ ‫ير ِم ْن قَْبِل َ‬
‫َن ِذ ٍ‬
‫َّ‬
‫بأزمان متطاولة‪ { ،‬لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ‬
‫ون } تفصيل الخير فيفعلونه‪ ،‬والشر فيتركونه‪ ،‬فإذا كنت بهذه‬
‫المنزلة‪ ،‬كان الواجب عليهم‪ ،‬المبادرة إلى اإليمان بك‪ ،‬وشكر هذه النعمة‪ ،‬التي ال يقادر قدرها‪،‬‬
‫وال يدرك شكرها‪.‬‬
‫وإ نذاره للعرب ال ينفي أن يكون مرسال لغيرهم‪ ،‬فإنه عربي‪ ،‬والقرآن الذي أنزل عليه عربي‪،‬‬
‫ان‬
‫وأول من باشر بدعوته العرب‪ ،‬فكانت رسالته إليهم أصال ولغيرهم تبعا‪ ،‬كما قال تعالى { أَ َك َ‬
‫اس ِإِّني َر ُسو ُل اللَّ ِه ِإلَْي ُك ْم‬ ‫اس } { ُق ْل َيا أَيُّهَا َّ‬
‫الن ُ‬ ‫الن َ‬‫َن أ َْن ِذ ِر َّ‬
‫َن أ َْو َح ْيَنا ِإلَى َر ُج ٍل ِم ْنهُ ْم أ ْ‬ ‫ِل َّلن ِ‬
‫اس َع َجًبا أ ْ‬
‫يعا }‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َجم ً‬
‫ت‬‫ت أ َْي ِدي ِه ْم } من الكفر والمعاصي { فََيقُولُوا َربََّنا لَ ْوال أ َْر َسْل َ‬ ‫صيبهم م ِ‬
‫ص َيبةٌ بِ َما قَ َّد َم ْ‬ ‫َن تُ َ ُ ْ ُ‬
‫{ ولَوال أ ْ ِ‬
‫َ ْ‬
‫ِ‬ ‫ك وَن ُك ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } أي‪ :‬فأرسلناك يا محمد‪ ،‬لدفع حجتهم‪ ،‬وقطع‬ ‫ون م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫ِإلَْيَنا َر ُسوال فََنتَّبِ َع َآيات َ َ َ‬
‫مقالتهم‪.‬‬
‫ق } الذي ال شك فيه { ِم ْن ِع ْن ِدَنا } وهو القرآن‪ ،‬الذي أوحيناه إليك { قَالُوا }‬ ‫اء ُه ُم اْل َح ُّ‬
‫{ َفلَ َّما َج َ‬
‫ِ‬
‫وسى } أي‪ :‬أنزل عليه‬ ‫مكذبين له‪ ،‬ومعترضين بما ليس يعترض به‪ { :‬لَ ْوال أُوتِ َي مثْ َل َما أُوتِ َي ُم َ‬
‫كتاب من السماء جملة واحدة‪ .‬أي‪ :‬فأما ما دام ينزل متفرقا‪ ،‬فإنه ليس من عند اللّه‪ .‬وأي‪ :‬دليل‬
‫في هذا؟ وأي‪ :‬شبهة أنه ليس من عند اللّه‪ ،‬حين نزل مفرقا؟‬
‫بل من كمال هذا القرآن‪ ،‬واعتناء اللّه بمن أنزل عليه‪ ،‬أن نزل متفرقا‪ ،‬ليثبت اللّه به فؤاد رسوله‪،‬‬
‫َح َس َن تَ ْف ِس ًيرا } وأيضا‪،‬‬
‫ق َوأ ْ‬ ‫ك بِ َمثَ ٍل ِإال ِج ْئَن َ‬
‫اك بِاْل َح ِّ‬ ‫ون َ‬
‫ويحصل زيادة اإليمان للمؤمنين { َوال َيأْتُ َ‬
‫فإن قياسهم على كتاب موسى‪ ،‬قياس قد نقضوه‪ [ ،‬ص ‪ ] 618‬فكيف يقيسونه على كتاب كفروا‬
‫اه َرا } أي‪:‬‬
‫ظ َ‬‫ان تَ َ‬‫وسى ِم ْن قَْب ُل قَالُوا ِس ْح َر ِ‬ ‫به ولم يؤمنوا؟ ولهذا قال { أ ََولَ ْم َي ْكفُُروا بِ َما أُوتِ َي ُم َ‬
‫ِ‬
‫ون } فثبت بهذا أن‬ ‫القرآن والتوراة‪ ،‬تعاونا في سحرهما‪ ،‬وإ ضالل الناس { َوقَالُوا ِإَّنا بِ ُك ٍّل َكاف ُر َ‬
‫القوم يريدون إبطال الحق بما ليس ببرهان‪ ،‬وينقضونه بما ال ينقض‪ ،‬ويقولون األقوال المتناقضة‬
‫المختلفة‪ ،‬وهذا شأن كل كافر‪ .‬ولهذا صرح أنهم كفروا بالكتابين والرسولين‪ ،‬ولكن هل كفرهم‬
‫بهما كان طلبا للحق‪ ،‬واتباعا ألمر عندهم خير منهما‪ ،‬أم مجرد هوى؟‪.‬‬
‫َه َدى ِم ْنهُ َما } أي‪ :‬من التوراة والقرآن‬
‫اب ِم ْن ِعْن ِد اللَّ ِه ُه َو أ ْ‬
‫قال تعالى ملزما لهم بذلك‪ { :‬فَأْتُوا بِ ِكتَ ٍ‬
‫ين } وال سبيل لهم وال لغيرهم أن يأتوا بمثلهما‪ ،‬فإنه ما طرق العالم منذ‬ ‫{ أَتَّبِعه ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬‫ْ َ‬ ‫ُْ‬
‫خلقه اللّه‪ ،‬مثل هذين الكتابين‪ ،‬علما وهدى‪ ،‬وبيانا‪ ،‬ورحمة للخلق‪ ،‬وهذا من كمال اإلنصاف من‬
‫الداعي أن قال‪ :‬أنا مقصودي الحق والهدى والرشد‪ ،‬وقد جئتكم بهذا الكتاب المشتمل على ذلك‪،‬‬
‫الموافق لكتاب موسى‪ ،‬فيجب علينا جميعا اإلذعان لهما واتباعهما‪ ،‬من حيث كونهما هدى وحقا‪،‬‬
‫فإن جئتموني بكتاب من عند اللّه هو أهدى منهما اتبعته‪ ،‬وإ ال فال أترك هدى وحقا قد علمته لغير‬
‫هدى وحق (‪)1‬‬
‫اء ُه ْم } أي‪ :‬فاعلم أن‬
‫َه َو َ‬ ‫اعلَ ْم أََّن َما َيتَّبِ ُع َ‬
‫ون أ ْ‬ ‫{ فَِإ ْن لَ ْم َي ْستَ ِج ُيبوا لَ َ‬
‫ك } فلم يأتوا بكتاب أهدى منهما { فَ ْ‬
‫تركهم اتباعك‪ ،‬ليسوا ذاهبين إلى حق يعرفونه‪ ،‬وال إلى هدى‪ ،‬وإ نما ذلك مجرد اتباع ألهوائهم‪{ .‬‬
‫َض ُّل ِم َّم َن اتََّب َع َه َواهُ بِ َغ ْي ِر ُه ًدى ِم َن اللَّ ِه } فهذا من أضل الناس‪ ،‬حيث عرض عليه الهدى‪،‬‬ ‫َو َم ْن أ َ‬
‫والصراط المستقيم‪ ،‬الموصل إلى اللّه وإ لى دار كرامته‪ ،‬فلم يلتفت إليه ولم يقبل عليه‪ ،‬ودعاه هواه‬
‫إلى سلوك الطرق الموصلة إلى الهالك والشقاء (‪ )2‬فاتبعه وترك الهدى‪ ،‬فهل أحد أضل ممن هذا‬
‫وصفه؟" ولكن ظلمه وعدوانه‪ ،‬وعدم محبته للحق‪ ،‬هو الذي أوجب له‪ :‬أن يبقى على ضالله وال‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ين } أي‪ :‬الذين صار الظلم لهم وصفا والعناد‬‫يهديه اللّه‪ ،‬فلهذا قال‪ِ { :‬إ َّن اللهَ ال َي ْهدي اْلقَ ْو َم الظالم َ‬
‫لهم نعتا‪ ،‬جاءهم الهدى فرفضوه‪ ،‬وعرض لهم الهوى‪ ،‬فتبعوه‪ ،‬سدوا على أنفسهم أبواب الهداية‬
‫وطرقها‪ ،‬وفتحوا عليهم أبواب الغواية وسبلها‪ ،‬فهم في غيهم وظلمهم يعمهون‪ ،‬وفي شقائهم‬
‫وهالكهم يترددون‪.‬‬
‫اء ُه ْم } دليل على أن كل من لم يستجب‬
‫َه َو َ‬ ‫اعلَ ْم أََّن َما َيتَّبِ ُع َ‬
‫ون أ ْ‬ ‫وفي قوله‪ { :‬فَِإ ْن لَ ْم َي ْستَ ِج ُيبوا لَ َ‬
‫ك فَ ْ‬
‫للرسول‪ ،‬وذهب إلى قول مخالف لقول الرسول‪ ،‬فإنه لم يذهب إلى هدى‪ ،‬وإ نما ذهب إلى هوى‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬لغيره حق‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬الشقاق‪.‬‬

‫( ‪)1/617‬‬

‫َّ‬
‫صْلَنا لَهُ ُم اْلقَ ْو َل لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ‬
‫ون (‪)51‬‬ ‫َولَقَ ْد َو َّ‬

‫صْلَنا لَهُ ُم اْلقَ ْو َل } أي‪ :‬تابعناه وواصلناه‪ ،‬وأنزلناه شيئا فشيئا‪ ،‬رحمة بهم ولطفا { لَ َعلَّهُ ْم‬
‫{ َولَقَ ْد َو َّ‬
‫ون } حين تتكرر عليهم آياته‪ ،‬وتنزل عليهم بيناته وقت الحاجة إليها‪ .‬فصار نزوله متفرقا‬ ‫َيتَ َذ َّك ُر َ‬
‫رحمة بهم‪ ،‬فلم اعترضوا على ما هو من مصالحهم؟ فصل في ذكر بعض الفوائد والعبر في هذه‬
‫القصة العجيبة‬
‫فمنها أن آيات اللّه تعالى وعبره‪ ،‬وأيامه في األمم السابقة‪ ،‬إنما يستفيد بها ويستنير المؤمنون‪،‬‬
‫فعلى حسب إيمان العبد تكون عبرته‪ ،‬وإ ن اللّه تعالى إنما يسوق القصص‪ ،‬ألجلهم‪ ،‬وأما غيرهم‪،‬‬
‫فال يعبأ اللّه بهم‪ ،‬وليس لهم منها نور وهدى‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن اللّه تعالى إذا أراد أمرا هيأ أسبابه‪ ،‬وأتى بها شيئا فشيئا بالتدريج‪ ،‬ال دفعة واحدة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن األمة المستضعفة‪ ،‬ولو بلغت في الضعف ما بلغت‪ ،‬ال ينبغي لها أن يستولي عليها‬
‫الكسل عن طلب حقها‪ ،‬وال اإلياس من ارتقائها إلى أعلى األمور‪ ،‬خصوصا إذا كانوا مظلومين‪،‬‬
‫كما استنقذ اللّه أمة بني إسرائيل‪ ،‬األمة الضعيفة‪ ،‬من أسر فرعون وملئه‪ ،‬ومكنهم في األرض‪،‬‬
‫وملكهم بالدهم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن األمة ما دامت ذليلة مقهورة ال تأخذ حقها وال تتكلم به‪ ،‬ال يقوم لها أمر دينها [وال‬
‫دنياها] (‪ )1‬وال يكون لها إمامة فيه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬لطف اللّه بأم موسى‪ ،‬وتهوينه عليها المصيبة بالبشارة‪ ،‬بأن اللّه سيرد إليها ابنها‪ ،‬ويجعله‬
‫من المرسلين‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن اللّه يقدر على عبده بعض المشاق‪ ،‬لينيله سرورا أعظم من ذلك‪ ،‬أو يدفع عنه شرا‬
‫أكثر منه‪ ،‬كما قدر على أم موسى ذلك الحزن الشديد‪ ،‬والهم البليغ‪ ،‬الذي هو وسيلة إلى أن يصل‬
‫إليها ابنها‪ ،‬على وجه تطمئن به نفسها‪ ،‬وتقر به عينها‪ ،‬وتزداد به غبطة وسرورا‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الخوف الطبيعي من الخلق‪ ،‬ال ينافي اإليمان وال يزيله‪ ،‬كما جرى ألم موسى ولموسى‬
‫من تلك المخاوف‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن اإليمان يزيد وينقص‪ .‬وأن من أعظم ما يزيد به اإليمان‪ ،‬ويتم به اليقين‪ ،‬الصبر عند‬
‫ِ‬
‫طَنا َعلَى َقْلبِهَا لتَ ُك َ‬
‫ون‬ ‫َن َرَب ْ‬
‫المزعجات‪ ،‬والتثبيت من اللّه‪ ،‬عند المقلقات‪ ،‬كما قال تعالى‪ { .‬لَ ْوال أ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } أي‪ :‬ليزداد إيمانها بذلك ويطمئن قلبها‪.‬‬‫م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ومنها‪ :‬أن من أعظم نعم اللّه على عبده‪ ،‬و [أعظم] معونة للعبد على أموره‪ ،‬تثبيت اللّه إياه‪،‬‬
‫وربط جأشه وقلبه عند المخاوف‪ ،‬وعند األمور المذهلة‪ ،‬فإنه بذلك يتمكن من القول الصواب‪،‬‬
‫والفعل الصواب‪ ،‬بخالف من استمر قلقه وروعه‪ ،‬وانزعاجه‪ ،‬فإنه يضيع فكره‪ ،‬ويذهل عقله‪ ،‬فال‬
‫ينتفع بنفسه في تلك الحال‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن العبد ‪-‬ولو عرف أن القضاء والقدر ووعد اللّه نافذ ال بد منه‪ -‬فإنه ال يهمل فعل‬
‫األسباب التي [ ص ‪ ] 619‬أمر بها‪ ،‬وال يكون ذلك منافيا إليمانه بخبر اللّه‪ ،‬فإن اللّه قد وعد أم‬
‫موسى أن يرده عليها‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬اجتهدت على رده‪ ،‬وأرسلت أخته لتقصه وتطلبه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬جواز خروج المرأة في حوائجها‪ ،‬وتكليمها للرجال‪ ،‬من غير محذور‪ ،‬كما جرى ألخت‬
‫موسى وابنتي صاحب مدين‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬جواز أخذ األجرة على الكفالة والرضاع‪ ،‬والداللة على من يفعل ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن اللّه من رحمته بعبده الضعيف الذي يريد إكرامه‪ ،‬أن يريه من آياته‪ ،‬ويشهده من‬
‫بيناته‪ ،‬ما يزيد به إيمانه‪ ،‬كما رد اهلل موسى على أمه‪ ،‬لتعلم أن وعد اللّه حق‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن قتل الكافر الذي له عهد بعقد أو عرف‪ ،‬ال يجوز‪ ،‬فإن موسى عليه السالم َّ‬
‫عد قتله‬
‫القبطي الكافر ذنبا‪ ،‬واستغفر اللّه منه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الذي يقتل النفوس بغير حق يعد من الجبارين الذين يفسدون في األرض‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن من قتل النفوس بغير حق‪ ،‬وزعم أنه يريد اإلصالح في األرض‪ ،‬وتهييب أهل‬
‫َّارا‬
‫ون َجب ً‬ ‫يد ِإال أ ْ‬
‫َن تَ ُك َ‬ ‫المعاصي‪ ،‬فإنه كاذب في ذلك‪ ،‬وهو مفسد كما حكى اللّه قول القبطي { ِإ ْن تُِر ُ‬
‫ين } على وجه التقرير له‪ ،‬ال اإلنكار‪.‬‬ ‫َن تَ ُكون ِمن اْلم ِ ِ‬ ‫األر ِ‬
‫ض َو َما تُِر ُ‬ ‫ِ‬
‫صلح َ‬‫َ َ ُ ْ‬ ‫يد أ ْ‬ ‫في ْ‬
‫ومنها‪ :‬أن إخبار الرجل غيره بما قيل فيه‪ ،‬على وجه التحذير له من شر يقع فيه‪ ،‬ال يكون ذلك‬
‫نميمة ‪-‬بل قد يكون واجبا‪ -‬كما أخبر ذلك الرجل لموسى‪ ،‬ناصحا له ومحذرا‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه إذا خاف القتل والتلف في اإلقامة‪ ،‬فإنه ال يلقي بيده إلى التهلكة‪ ،‬وال يستسلم لذلك‪ ،‬بل‬
‫يذهب عنه‪ ،‬كما فعل موسى‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه عند تزاحم المفسدتين‪ ،‬إذا كان ال بد من ارتكاب إحداهما أنه يرتكب األخف منهما‬
‫واألسلم‪ ،‬كما أن موسى‪ ،‬لما دار األمر بين بقائه في مصر ولكنه يقتل‪ ،‬أو يذهب (‪ )2‬إلى بعض‬
‫البلدان البعيدة‪ ،‬التي ال يعرف الطريق إليها‪ ،‬وليس معه دليل [يد] له غير ربه‪ ،‬ولكن هذه الحالة‬
‫أقرب للسالمة من األولى‪ ،‬فتبعها موسى‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الناظر في العلم عند الحاجة إلى التكلم فيه‪ ،‬إذا لم يترجح عنده أحد القولين‪ ،‬فإنه‬
‫يستهدي ربه‪ ،‬ويسأله أن يهديه الصواب من القولين‪ ،‬بعد أن يقصد بقلبه الحق ويبحث عنه‪ ،‬فإن‬
‫اء‬ ‫اللّه ال يخيب م ْن هذه حاله‪ .‬كما خرج موسى تلقاء مدين فقال‪ { :‬عسى ربِّي أ ْ ِ ِ‬
‫َن َي ْهدَيني َس َو َ‬ ‫ََ َ‬ ‫َ‬
‫السبِ ِ‬
‫يل }‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ومنها‪ :‬أن الرحمة بالخلق‪ ،‬واإلحسان على من يعرف ومن ال يعرف‪ ،‬من أخالق‪ :‬األنبياء‪ ،‬وأن‬
‫من اإلحسان سقي الماشية الماء‪ ،‬وإ عانة العاجز‪.‬‬
‫ومنها استحباب الدعاء بتبيين الحال وشرحها‪ ،‬ولو كان اللّه عالما لها‪ ،‬ألنه تعالى‪ ،‬يحب تضرع‬
‫ت ِإلَ َّي ِم ْن َخ ْي ٍر فَِق ٌير }‪.‬‬
‫ب ِإِّني ِل َما أَنزْل َ‬
‫عبده وإ ظهار ذله ومسكنته‪ ،‬كما قال موسى‪َ { :‬ر ِّ‬
‫ومنها أن الحياء ‪-‬خصوصا من الكرام‪ -‬من األخالق الممدوحة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬المكافأة على اإلحسان لم يزل دأب األمم السابقين‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن العبد إذا فعل العمل للّه تعالى‪ ،‬ثم حصل له مكافأة عليه من غير قصد بالقصد األول‪،‬‬
‫أنه ال يالم على ذلك‪ ،‬كما قبل موسى مجازاة صاحب مدين عن معروفه الذي لم يبتغ له‪ ،‬ولم‬
‫يستشرف بقلبه على عوض‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬مشروعية اإلجارة‪ ،‬وأنها تجوز على رعاية الغنم ونحوها‪ ،‬مما ال يقدر العمل‪ ،‬وإ نما‬
‫مرده‪ ،‬العرف‪.‬‬
‫ومنها أنه تجوز اإلجارة بالمنفعة‪ ،‬ولو كانت المنفعة بضعا‪.‬‬
‫ومنها أن خطبة الرجل البنته الرجل الذي يتخيره‪ ،‬ال يالم عليه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن خير أجير وعامل [يعمل] لإلنسان‪ ،‬أن يكون قويا أمينا‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن من مكارم األخالق‪ ،‬أن ُي َحسِّن خلقه ألجيره‪ ،‬وخادمه‪ ،‬وال يشق عليه بالعمل‪ ،‬لقوله‪:‬‬
‫ين }‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫ك ستَ ِج ُدنِي ِإ ْن َش َّ ِ‬ ‫َن أَ ُش َّ‬ ‫{ َو َما أ ُِر ُ‬
‫اء اللهُ م َن الصَّالح َ‬
‫َ‬ ‫ق َعلَْي َ َ‬ ‫يد أ ْ‬
‫ومنها‪ :‬جواز عقد اإلجارة وغيرها من العقود من دون إشهاد لقوله‪َ { :‬واللَّهُ َعلَى َما َنقُو ُل َو ِكي ٌل‬
‫}‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ما أجرى اللّه على يد موسى من اآليات البينات‪ ،‬والمعجزات الظاهرة‪ ،‬من الحية‪،‬‬
‫وانقالب يده بيضاء من غير سوء‪ ،‬ومن عصمة اللّه لموسى وهارون‪ ،‬من فرعون‪ ،‬ومن الغرق‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن من أعظم العقوبات أن يكون اإلنسان إماما في الشر‪ ،‬وذلك بحسب معارضته آليات‬
‫اللّه وبيناته‪ ،‬كما أن من أعظم نعمة أنعم اللّه بها على عبده‪ ،‬أن يجعله إماما في الخير هاديا مهديا‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ما فيها من الداللة على رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬حيث أخبر بذلك تفصيال‬
‫مطابقا‪ ،‬وتأصيال موافقا‪ ،‬قصه قصا‪ ،‬صدق به المرسلين‪ ،‬وأيد به الحق المبين‪ ،‬من غير حضور‬
‫شيء من تلك الوقائع‪ ،‬وال مشاهدة لموضع واحد من تلك المواضع‪ ،‬وال تالوة درس فيها شيئا من‬
‫هذه األمور‪ ،‬وال مجالسة أحد من أهل العلم‪ ،‬إن هو إال رسالة الرحمن الرحيم‪ ،‬ووحي أنزله عليه‬
‫الكريم المنان‪ ،‬لينذر به قوما جاهلين‪ ،‬وعن النذر والرسل غافلين‪.‬‬
‫فصلوات اللّه وسالمه‪ ،‬على من مجرد خبره ينبئ أنه رسول اللّه‪ ،‬ومجرد أمره ونهيه ينبه العقول‬
‫النيرة‪ ،‬أنه من عند اللّه‪ ،‬كيف وقد تطابق على صحة ما جاء به‪ ،‬وصدقه خبر األولين واآلخرين‪،‬‬
‫والشرع الذي جاء به من رب العالمين‪ ،‬وما جبل عليه من األخالق الفاضلة‪ ،‬التي ال تناسب‪ ،‬وال‬
‫تصلح إال ألعلى الخلق درجة‪ ،‬والنصر المبين لدينه وأمته‪ ،‬حتى بلغ دينه مبلغ [ ص ‪ ] 620‬الليل‬
‫والنهار‪ ،‬وفتحت أمته معظم بلدان األمصار‪ ،‬بالسيف والسنان‪ ،‬وقلوبهم بالعلم واإليمان‪.‬‬
‫ولم تزل األمم المعاندة‪ ،‬والملوك الكفرة المتعاضدة‪ ،‬ترميه بقوس واحدة‪ ،‬وتكيد له المكايد‪ ،‬وتمكر‬
‫إلطفائه وإ خفائه‪ ،‬وإ خماده من األرض‪ ،‬وهو قد بهرها وعالها‪ ،‬ال يزداد إال نموا‪ ،‬وال آياته‬
‫ين‪ ،‬وهداية‬ ‫ِ ِ‬
‫وبراهينه إال ظهورا‪ ،‬وكل وقت من األوقات‪ ،‬يظهر من آياته ما هو عبرة لْل َعالَم َ‬
‫ين‪ ،‬ونور وبصيرة للمتوسمين‪ .‬والحمد للّه وحده‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫لْل َعالم َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من هامش‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬ويذهب‬
‫( ‪)1/618‬‬

‫ق ِم ْن َربَِّنا‬‫َمَّنا بِ ِه ِإَّنهُ اْل َح ُّ‬ ‫ِ‬


‫ون (‪َ )52‬وإِ َذا ُي ْتلَى َعلَْيه ْم قَالُوا آ َ‬
‫ِ‬ ‫اهم اْل ِكتَ ِ ِ ِ‬
‫اب م ْن قَْبله ُه ْم بِه ُي ْؤ ِمُن َ‬‫َ‬ ‫ين آَتَْيَن ُ ُ‬
‫َِّ‬
‫الذ َ‬
‫ون بِاْل َح َسَن ِة السَّيَِّئةَ‬‫صَب ُروا َوَي ْد َر ُء َ‬ ‫َج َر ُه ْم َم َّرتَْي ِن بِ َما َ‬
‫ك ُي ْؤتَ ْو َن أ ْ‬ ‫ين (‪ )53‬أُولَئِ َ‬ ‫ِ ِِ ِِ‬
‫ِإَّنا ُكَّنا م ْن قَْبله ُم ْسلم َ‬
‫َع َمالُ ُك ْم َساَل ٌم‬
‫َع َمالَُنا َولَ ُك ْم أ ْ‬
‫ضوا َعْنهُ َوقَالُوا لََنا أ ْ‬ ‫َع َر ُ‬ ‫ون (‪َ )54‬وإِ َذا َس ِم ُعوا اللَّ ْغ َو أ ْ‬ ‫و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ‬
‫اه ْم ُي ْنفقُ َ‬ ‫َ َ‬
‫ين (‪)55‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َعلَْي ُك ْم اَل َن ْبتَغي اْل َجاهل َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اهم اْل ِكتَ ِ ِ ِ‬ ‫َِّ‬


‫آمَّنا بِه ِإَّنهُ‬ ‫ِ‬
‫ون * َوإِ َذا ُي ْتلَى َعلَْيه ْم قَالُوا َ‬ ‫اب م ْن قَْبله ُه ْم بِه ُي ْؤ ِمُن َ‬‫َ‬ ‫ين آتَْيَن ُ ُ‬
‫{ ‪ { } 52-55‬الذ َ‬
‫ون‬
‫صَب ُروا َوَي ْد َر ُء َ‬‫َج َر ُه ْم َم َّرتَْي ِن بِ َما َ‬
‫ك ُي ْؤتَ ْو َن أ ْ‬‫ين * أُولَئِ َ‬ ‫ِ ِِ ِِ‬ ‫اْلح ُّ ِ‬
‫ق م ْن َربَِّنا ِإَّنا ُكَّنا م ْن قَْبله ُم ْسلم َ‬ ‫َ‬
‫َع َمالَُنا َولَ ُك ْم‬
‫ضوا َعْنهُ َوقَالُوا لََنا أ ْ‬ ‫َع َر ُ‬ ‫ون * َوإِ َذا َس ِم ُعوا اللَّ ْغ َو أ ْ‬ ‫بِاْلحسَن ِة السَّيَِّئةَ و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ‬
‫اه ْم ُي ْنفقُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫الم َعلَْي ُك ْم ال َن ْبتَغي اْل َجاهل َ‬
‫َع َمالُ ُك ْم َس ٌ‬
‫أْ‬
‫يذكر تعالى عظمة القرآن وصدقه وحقه‪ ،‬وأن أهل العلم بالحقيقة يعرفونه ويؤمنون به ويقرون‬
‫اب ِم ْن قَْبِل ِه } وهم أهل التوراة‪ ،‬واإلنجيل‪ ،‬الذين لم يغيروا ولم‬ ‫بأنه الحق‪ { ،‬الَِّذين آتَْيَن ُ ِ‬
‫اه ُم اْلكتَ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ون }‪.‬‬ ‫يبدلوا { ُه ْم بِه } أي‪ :‬بهذا القرآن ومن جاء به { ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ق ِم ْن َربَِّنا } لموافقته ما جاءت‬
‫آمَّنا بِ ِه ِإَّنهُ اْل َح ُّ‬ ‫ِ‬
‫{ َوإِ َذا ُي ْتلَى َعلَْيه ْم } استمعوا له وأذعنوا و { قَالُوا َ‬
‫به الرسل‪ ،‬ومطابقته لما ذكر في الكتب‪ ،‬واشتماله على األخبار الصادقة‪ ،‬واألوامر والنواهي‬
‫الموافقة‪ ،‬لغاية الحكمة‪.‬‬
‫وهؤالء الذين تفيد شهادتهم‪ ،‬وينفع قولهم‪ ،‬ألنهم ال يقولون ما يقولون إال عن علم وبصيرة‪ ،‬ألنهم‬
‫أهل الصنف (‪ )1‬وأهل الكتب‪ ،‬وغيرهم ال يدل ردهم ومعارضتهم للحق على شبهة‪ ،‬فضال عن‬
‫الحجة‪ ،‬ألنهم ما بين جاهل فيه أو متجاهل معاند للحق‪.‬‬
‫ون ِلأل ْذقَ ِ‬
‫ان‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫ين أُوتُوا اْلعْل َم م ْن قَْبله ِإ َذا ُي ْتلَى َعلَْي ِه ْم َيخ ُّر َ‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال تعالى‪ُ { :‬ق ْل آمُنوا بِه أ َْو ال تُ ْؤ ِمُنوا ِإ َّن الذ َ‬
‫َّدا } اآليات‪.‬‬ ‫ُسج ً‬
‫ِ ِِ ِِ‬
‫ين } فلذلك ثبتنا على ما َم َّن اللّه به علينا من اإليمان‪ ،‬فصدقنا بهذا‬ ‫وقوله‪ِ { :‬إَّنا ُكَّنا م ْن قَْبله ُم ْسلم َ‬
‫القرآن‪ ،‬آمنا بالكتاب األول والكتاب اآلخر‪ ،‬وغيرنا ينقض تكذيبه بهذا الكتاب‪ ،‬إيمانه بالكتاب‬
‫األول‪.‬‬
‫َج َر ُه ْم َم َّرتَْي ِن } أجرا على اإليمان األول‪ ،‬وأجرا على‬
‫ك } الذين آمنوا بالكتابين { ُي ْؤتَ ْو َن أ ْ‬ ‫{ أُولَئِ َ‬
‫صَب ُروا } على اإليمان‪ ،‬وثبتوا على العمل‪ ،‬فلم تزعزعهم (‪ )2‬عن ذلك‬ ‫اإليمان الثاني‪ { ،‬بِ َما َ‬
‫شبهة‪ ،‬وال ثناهم عن اإليمان رياسة وال شهوة‪.‬‬
‫ون بِاْل َح َسَن ِة السَّيَِّئةَ } أي‪:‬‬
‫و من خصالهم الفاضلة‪ ،‬التي من آثار إيمانهم الصحيح‪ ،‬أنهم { َوَي ْد َر ُء َ‬
‫دأبهم وطريقتهم اإلحسان لكل أحد‪ ،‬حتى للمسيء إليهم بالقول والفعل‪ ،‬يقابلونه بالقول الحميد‬
‫والفعل الجميل‪ ،‬لعلمهم بفضيلة هذا الخلق العظيم‪ ،‬وأنه ال يوفق له إال ذو حظ عظيم‪.‬‬
‫{ َوإِ َذا َس ِم ُعوا اللَّ ْغ َو } من جاهل خاطبهم به‪ { ،‬قَالُوا } مقالة عباد الرحمن أولي األلباب‪ { :‬لََنا‬
‫جازى بعمله الذي عمله وحده‪ ،‬ليس عليه من وزر غيره شيء‪.‬‬ ‫َع َمالُ ُك ْم } أي‪ُ :‬ك ٌّل َسُي َ‬
‫َع َمالَُنا َولَ ُك ْم أ ْ‬
‫أْ‬
‫ولزم من ذلك‪ ،‬أنهم يتبرءون مما عليه الجاهلون‪ ،‬من اللغو والباطل‪ ،‬والكالم الذي ال فائدة فيه‪.‬‬
‫الم َعلَْي ُك ْم } أي ال تسمعون منا إال الخير‪ ،‬وال نخاطبكم بمقتضى جهلكم‪ ،‬فإنكم وإ ن رضيتم‬ ‫{ َس ٌ‬
‫ين‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ألنفسكم هذا المرتع اللئيم‪ ،‬فإننا ننزه أنفسنا عنه‪ ،‬ونصونها عن الخوض فيه‪ { ،‬ال َن ْبتَغي اْل َجاهل َ‬
‫} من كل وجه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬الخبرة‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬يزعزعهم من‪.‬‬

‫( ‪)1/620‬‬

‫ِ‬ ‫َحب ْب َ ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬


‫َعلَ ُم بِاْل ُم ْهتَد َ‬
‫ين (‪)56‬‬ ‫ت َولَك َّن اللهَ َي ْهدي َم ْن َي َش ُ‬
‫اء َو ُه َو أ ْ‬ ‫ِإَّن َ‬
‫ك اَل تَ ْهدي َم ْن أ ْ َ‬

‫ِ‬ ‫َحب ْب َ ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬


‫َعلَ ُم بِاْل ُم ْهتَد َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ت َولَك َّن اللهَ َي ْهدي َم ْن َي َش ُ‬
‫اء َو ُه َو أ ْ‬ ‫{ ‪ِ { } 56‬إَّن َ‬
‫ك ال تَ ْهدي َم ْن أ ْ َ‬
‫يخبر تعالى أنك يا محمد ‪-‬وغيرك من باب أولى‪ -‬ال تقدر على هداية أحد‪ ،‬ولو كان من أحب‬
‫الناس إليك‪ ،‬فإن هذا أمر غير مقدور للخلق هداية للتوفيق‪ ،‬وخلق اإليمان في القلب‪ ،‬وإ نما ذلك بيد‬
‫اللّه سبحانه تعالى‪ ،‬يهدي من يشاء‪ ،‬وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه‪ ،‬ممن ال يصلح لها فيبقيه‬
‫على ضالله‪.‬‬
‫اط ُم ْستَِق ٍيم } فتلك هداية البيان‬
‫صر ٍ‬‫ِ‬ ‫وأما إثبات الهداية للرسول في قوله تعالى‪ { :‬وإِ َّن َ ِ‬
‫ك لَتَ ْهدي ِإلَى َ‬ ‫َ‬
‫واإلرشاد‪ ،‬فالرسول يبين الصراط المستقيم‪ ،‬ويرغب فيه‪ ،‬ويبذل جهده في سلوك الخلق له‪ ،‬وأما‬
‫كونه يخلق في قلوبهم اإليمان‪ ،‬ويوفقهم بالفعل‪ ،‬فحاشا وكال‪.‬‬

‫( ‪)1/620‬‬
‫ات ُك ِّل‬‫َمًنا ُي ْجَبى ِإلَْي ِه ثَ َم َر ُ‬
‫ضَنا أَولَم ُنم ِّك ْن لَهم حرما آ ِ‬
‫ُْ َ َ ً‬ ‫َ ْ َ‬
‫ف ِم ْن أَر ِ‬
‫ْ‬ ‫ك ُنتَ َخطَّ ْ‬ ‫َوقَالُوا ِإ ْن َنتَّبِ ِع اْلهُ َدى َم َع َ‬
‫ت َم ِعي َشتَهَا فَتِْل َ‬
‫ك‬ ‫َهلَ ْكَنا ِم ْن قَ ْرَي ٍة َب ِط َر ْ‬
‫ون (‪َ )57‬و َك ْم أ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َش ْيء ِر ْزقًا م ْن لَ ُدَّنا َولَك َّن أَ ْكثََر ُه ْم اَل َي ْعلَ ُم َ‬
‫ك اْلقَُرى َحتَّى‬ ‫ك ُم ْهِل َ‬
‫ان َرُّب َ‬
‫ين (‪َ )58‬و َما َك َ‬
‫ِ ِ اَّل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َم َساكُنهُ ْم لَ ْم تُ ْس َك ْن م ْن َب ْعده ْم ِإ َقلياًل َو ُكَّنا َن ْح ُن اْل َو ِارثِ َ‬
‫َهلُها َ ِ‬ ‫اَّل‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ث ِفي أ ِّ‬
‫ون (‪)59‬‬ ‫ظال ُم َ‬ ‫ُمهَا َر ُسواًل َي ْتلُو َعلَْي ِه ْم آََياتَنا َو َما ُكَّنا ُم ْهلكي اْلقَُرى ِإ َوأ ْ َ‬ ‫َي ْب َع َ‬

‫ولهذا‪ ،‬لو كان قادرا عليها‪ ،‬لهدى من وصل إليه إحسانه‪ ،‬ونصره ومنعه من قومه‪ ،‬عمه أبا‬
‫طالب‪ ،‬ولكنه أوصل إليه من اإلحسان بالدعوة للدين والنصح التام‪ ،‬ما هو أعظم مما فعله معه‬
‫عمه‪ ،‬ولكن الهداية بيد اللّه تعالى‪.‬‬
‫[ ص ‪] 621‬‬
‫آمًنا ُي ْجَبى ِإلَْي ِه‬‫ضَنا أَولَم ُنم ِّك ْن لَهم حرما ِ‬
‫ُْ َ َ ً‬ ‫َ ْ َ‬
‫ف ِم ْن أَر ِ‬
‫ْ‬ ‫ك ُنتَ َخطَّ ْ‬ ‫{ ‪َ { } 57-59‬وقَالُوا ِإ ْن َنتَّبِ ِع اْلهُ َدى َم َع َ‬
‫ت َم ِعي َشتَهَا‬‫َهلَ ْكَنا ِم ْن قَ ْرَي ٍة َب ِط َر ْ‬
‫ون * َو َك ْم أ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ات ُك ِّل َش ْيء ِر ْزقًا م ْن لَ ُدَّنا َولَك َّن أَ ْكثََر ُه ْم ال َي ْعلَ ُم َ‬ ‫ثَ َم َر ُ‬
‫ك اْلقَُرى َحتَّى‬ ‫ُّك ُم ْهِل َ‬
‫ان َرب َ‬ ‫ين * َو َما َك َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك َم َساكُنهُ ْم لَ ْم تُ ْس َك ْن م ْن َب ْعده ْم ِإال َقليال َو ُكَّنا َن ْح ُن اْل َو ِارثِ َ‬‫فَتِْل َ‬
‫َهلُها َ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ث ِفي أ ِّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ظال ُم َ‬ ‫ُمهَا َر ُسوال َي ْتلُو َعلَْي ِه ْم َآياتَنا َو َما ُكَّنا ُم ْهلكي اْلقَُرى ِإال َوأ ْ َ‬ ‫َي ْب َع َ‬
‫يخبر تعالى أن المكذبين من قريش وأهل مكة‪ ،‬يقولون للرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ِ { :‬إ ْن َنتَّبِ ِع‬
‫ضَنا } بالقتل واألسر ونهب األموال‪ ،‬فإن الناس قد عادوك وخالفوك‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ك ُنتَ َخطَّ ْ‬
‫ف ِم ْن أَر ِ‬ ‫اْلهُ َدى َم َع َ‬
‫فلو تابعناك لتعرضنا لمعاداة الناس كلهم‪ ،‬ولم يكن لنا بهم طاقة‪.‬‬
‫وهذا الكالم منهم‪ ،‬يدل على سوء الظن باللّه تعالى‪ ،‬وأنه ال ينصر دينه‪ ،‬وال يعلي كلمته‪ ،‬بل يمكن‬
‫الناس من أهل دينه‪ ،‬فيسومونهم سوء العذاب‪ ،‬وظنوا أن الباطل سيعلو على الحق‪.‬‬
‫قال اللّه مبينا لهم حالة هم بها دون الناس وأن اللّه اختصهم بها‪ ،‬فقال‪ { :‬أَولَم ُنم ِّك ْن لَهم حرما ِ‬
‫آمًنا‬ ‫ُْ َ َ ً‬ ‫َ ْ َ‬
‫ات ُك ِّل َش ْي ٍء ِر ْزقًا ِم ْن لَ ُدَّنا } أي‪ :‬أولم نجعلهم متمكنين [ممكنين] في حرم يكثره‬
‫ُي ْجَبى ِإلَْي ِه ثَ َم َر ُ‬
‫المنتابون ويقصده الزائرون‪ ،‬قد احترمه البعيد والقريب‪ ،‬فال يهاج أهله‪ ،‬وال ينتقصون بقليل [وال‬
‫كثير]‪.‬‬
‫والحال أن كل ما حولهم من األماكن‪ ،‬قد حف بها الخوف من كل جانب‪ ،‬وأهلها غير آمنين وال‬
‫مطمئنين‪َ ،‬فْلَي ْح َم ُدوا ربهم على هذا األمن التام‪ ،‬الذي ليس فيه غيرهم‪ ،‬وعلى الرزق الكثير‪ ،‬الذي‬
‫يجيء إليهم من كل مكان‪ ،‬من الثمرات واألطعمة والبضائع‪ ،‬ما به يرتزقون ويتوسعون‪ .‬وْلَيتَّبِ ُعوا‬
‫هذا الرسول الكريم‪ ،‬ليتم لهم األمن والرغد‪.‬‬
‫وإ ياهم وتكذيبه‪ ،‬والبطر بنعمة اهلل‪ ،‬فيبدلوا من بعد أمنهم خوفا‪ ،‬وبعد عزهم ذال وبعد غناهم فقرا‪،‬‬
‫ولهذا توعدهم بما فعل باألمم قبلهم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ت َم ِعي َشتَهَا } أي‪ :‬فخرت بها‪ ،‬وألهتها‪ ،‬واشتغلت بها عن اإليمان‬ ‫َهلَ ْكَنا ِم ْن قَ ْرَي ٍة َب ِط َر ْ‬
‫{ َو َك ْم أ ْ‬
‫اكُنهُ ْم لَ ْم تُ ْس َك ْن ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم‬
‫ك مس ِ‬ ‫ِ‬
‫بالرسل‪ ،‬فأهلكهم اللّه‪ ،‬وأزال عنهم النعمة‪ ،‬وأحل بهم النقمة‪ { .‬فَتْل َ َ َ‬
‫ِإال َقِليال } لتوالي الهالك والتلف عليهم‪ ،‬وإ يحاشها من بعدهم‪.‬‬
‫{ َو ُكَّنا َن ْح ُن اْل َو ِارثِ َ‬
‫ين } للعباد‪ ،‬نميتهم‪ ،‬ثم يرجع إلينا جميع ما متعناهم به من النعم‪ ،‬ثم نعيدهم (‪)1‬‬
‫إلينا‪ ،‬فنجازيهم بأعمالهم‪.‬‬
‫ومن حكمته ورحمته أن ال يعذب األمم بمجرد كفرهم قبل إقامة الحجة عليهم‪ ،‬بإرسال الرسل‬
‫ث ِفي أ ِّ‬
‫ُمهَا }‬ ‫ُّك ُم ْهِل َ‬
‫ك اْلقَُرى } أي‪ :‬بكفرهم وظلمهم { َحتَّى َي ْب َع َ‬ ‫ان َرب َ‬
‫إليهم‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬و َما َك َ‬
‫أي‪ :‬في القرية والمدينة التي إليها يرجعون‪ ،‬ونحوها يترددون‪ ،‬وكل ما حولها ينتجعها‪ ،‬وال تخفى‬
‫عليه أخبارها‪.‬‬
‫{ َر ُسوال َي ْتلُو َعلَْي ِه ْم َآياتَِنا } الدالة على صحة ما جاء به‪ ،‬وصدق ما دعاهم إليه‪ ،‬فيبلغ قوله‬
‫قاصيهم ودانيهم‪ ،‬بخالف بعث الرسل في القرى البعيدة‪ ،‬واألطراف النائية‪ ،‬فإن ذلك مظنة الخفاء‬
‫والجفاء‪ ،‬والمدن األمهات مظنة الظهور واالنتشار‪ ،‬وفي الغالب أنهم أقل جفاء من غيرهم‪.‬‬
‫َهلُها َ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ون } بالكفر والمعاصي‪ ،‬مستحقون للعقوبة‪ .‬والحاصل‪:‬‬‫ظال ُم َ‬ ‫{ َو َما ُكَّنا ُم ْهلكي اْلقَُرى ِإال َوأ ْ َ‬
‫أن اللّه ال يعذب أحدا إال بظلمه‪ ،‬وإ قامة الحجة عليه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬ثم تفيدهم إلينا‪ ،‬فنجازيهم‪ ،‬وهو خطأ ظاهر من الناسخ‪.‬‬

‫( ‪)1/620‬‬

‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫و َما أُوتِيتُ ْم ِم ْن َشي ٍء فَ َمتَاعُ اْل َحَي ِاة ُّ‬


‫ون (‪ )60‬أَفَ َم ْن‬ ‫الد ْنَيا َو ِز َينتُهَا َو َما ع ْن َد الله َخ ْيٌر َوأ َْبقَى أَفَاَل تَ ْعقلُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫الد ْنيا ثَُّم ُهو يوم اْل ِقي ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يه َك َم ْن َمتَّ ْعَناهُ َمتَ َ‬‫وع ْدَناه و ْع ًدا حسًنا فَهو اَل ِق ِ‬
‫ين (‬ ‫ض ِر َ‬
‫امة م َن اْل ُم ْح َ‬
‫َ َْ َ َ َ‬ ‫اع اْل َحَياة ُّ َ‬ ‫َ َ َُ‬ ‫َ َ َُ‬
‫‪)61‬‬

‫الد ْنَيا َو ِز َينتُهَا َو َما ِع ْن َد اللَّ ِه َخ ْيٌر َوأ َْبقَى أَفَال‬


‫{ ‪ { } 60-61‬و َما أُوتِيتُ ْم ِم ْن َشي ٍء فَ َمتَاعُ اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ام ِة ِم َن‬ ‫ِ‬ ‫اع اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫الد ْنَيا ثَُّم ُه َو َي ْو َم اْلقَي َ‬
‫الق ِ‬
‫يه َك َم ْن َمتَّ ْعَناهُ َمتَ َ‬ ‫تَع ِقلُون * أَفَم ْن وع ْدَناه و ْع ًدا حسًنا فَهو ِ‬
‫َ َ َُ‬ ‫َ َ َ َُ‬ ‫ْ َ‬
‫ض ِر َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫اْل ُم ْح َ‬
‫هذا حض من اهلل لعباده على الزهد في الدنيا وعدم االغترار بها‪ ،‬وعلى الرغبة في األخرى‪،‬‬
‫وجعلها مقصود العبد ومطلوبه‪ ،‬ويخبرهم أن جميع ما أوتيه الخلق‪ ،‬من الذهب‪ ،‬والفضة‪،‬‬
‫والحيوانات واألمتعة‪ ،‬والنساء‪ ،‬والبنين‪ ،‬والمآكل‪ ،‬والمشارب‪ ،‬واللذات‪ ،‬كلها متاع الحياة [الدنيا]‬
‫وزينتها‪ ،‬أي‪ :‬يتمتع به وقتا قصيرا‪ ،‬متاعا قاصرا‪ ،‬محشوا بالمنغصات‪ ،‬ممزوجا بالغصص‪.‬‬
‫ويزين به زمانا يسيرا‪ ،‬للفخر والرياء‪ ،‬ثم يزول ذلك سريعا‪ ،‬وينقضي جميعا‪ ،‬ولم يستفد صاحبه‬
‫منه إال الحسرة والندم‪ ،‬والخيبة والحرمان‪.‬‬
‫{ َو َما ِع ْن َد اللَّ ِه } من النعيم المقيم‪ ،‬والعيش السليم { َخ ْيٌر َوأ َْبقَى } أي‪ :‬أفضل في وصفه وكميته‪،‬‬
‫وهو دائم أبدا‪ ،‬ومستمر سرمدا‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬أفال يكون لكم عقول‪ ،‬بها تزنون أي‪ :‬األمور (‪ )1‬أولى باإليثار‪ ،‬وأي‪:‬‬ ‫ِ‬
‫{ أَفَال تَ ْعقلُ َ‬
‫الدارين أحق للعمل لها فدل ذلك أنه بحسب عقل العبد‪ ،‬يؤثر األخرى على الدنيا‪ ،‬وأنه ما آثر أحد‬
‫الدنيا إال لنقص في عقله‪ ،‬ولهذا نبه العقول على الموازنة بين عاقبة مؤثر الدنيا ومؤثر اآلخرة‪،‬‬
‫الق ِ‬
‫يه }‪.‬‬ ‫فقال‪ { :‬أَفَم ْن وع ْدَناه و ْع ًدا حسًنا فَهو ِ‬
‫َ َ َُ‬ ‫َ َ َ َُ‬
‫أي‪ :‬هل يستوي مؤمن ساع لآلخرة سعيها‪ ،‬قد عمل على وعد ربه له‪ ،‬بالثواب الحسن‪ ،‬الذي هو‬
‫الجنة‪ ،‬وما فيها من النعيم العظيم‪ ،‬فهو القيه من [ ص ‪ ] 622‬غير شك وال ارتياب‪ ،‬ألنه وعد‬
‫من كريم صادق الوعد‪ ،‬ال يخلف الميعاد‪ ،‬لعبد قام بمرضاته وجانب سخطه‪َ { ،‬ك َم ْن َمتَّ ْعَناهُ َمتَ َ‬
‫اع‬
‫الد ْنَيا } فهو يأخذ فيها ويعطي‪ ،‬ويأكل ويشرب‪ ،‬ويتمتع كما تتمتع البهائم‪ ،‬قد اشتغل بدنياه‬ ‫اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫عن آخرته‪ ،‬ولم يرفع بهدى اهلل رأسا‪ ،‬ولم ينقد للمرسلين‪ ،‬فهو ال يزال كذلك‪ ،‬ال يتزود من دنياه‬
‫إال الخسار والهالك‪.‬‬
‫{ ثَُّم ُهو يوم اْل ِقي ِ ِ‬
‫ض ِر َ‬
‫ين } للحساب‪ ،‬وقد علم أنه لم يقدم خيرا لنفسه‪ ،‬وإ نما قدم جميع‬ ‫امة م َن اْل ُم ْح َ‬
‫َ َْ َ َ َ‬
‫ما يضره‪ ،‬وانتقل إلى دار الجزاء باألعمال‪ ،‬فما ظنكم إلى ما يصير إليه؟ وما تحسبون ما يصنع‬
‫به؟ فليختر العاقل لنفسه‪ ،‬ما هو أولى باالختيار‪ ،‬وأحق األمرين باإليثار‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬األمرين‪.‬‬

‫( ‪)1/621‬‬

‫ق َعلَْي ِه ُم اْلقَ ْو ُل َربََّنا َه ُؤاَل ِء‬


‫ين َح َّ‬ ‫َِّ‬
‫ون (‪ )62‬قَا َل الذ َ‬ ‫ين ُك ْنتُ ْم تَْز ُع ُم َ‬
‫ِ َِّ‬ ‫ِ‬
‫َوَي ْو َم ُيَنادي ِه ْم فََيقُو ُل أ َْي َن ُش َر َكائ َي الذ َ‬
‫اء ُك ْم‬ ‫ون (‪َ )63‬و ِق َ‬ ‫ك َما َك ُانوا ِإي َ‬ ‫اه ْم َك َما َغ َو ْيَنا تََب َّرأَْنا ِإلَْي َ‬ ‫َِّ‬
‫يل ْاد ُعوا ُش َر َك َ‬ ‫َّانا َي ْعُب ُد َ‬ ‫َغ َو ْيَن ُ‬
‫َغ َو ْيَنا أ ْ‬
‫ين أ ْ‬
‫الذ َ‬
‫ِ‬
‫ون (‪َ )64‬وَي ْو َم ُيَنادي ِه ْم فََيقُو ُل َما َذا أ َ‬
‫َج ْبتُُم‬ ‫اب لَ ْو أََّنهُ ْم َك ُانوا َي ْهتَ ُد َ‬‫فَ َد َع ْو ُه ْم َفلَ ْم َي ْستَ ِج ُيبوا لَهُ ْم َو َرأ َُوا اْل َع َذ َ‬
‫ٍِ‬ ‫ين (‪ )65‬فَ َع ِمَي ْ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)66‬‬ ‫اءلُ َ‬‫اء َي ْو َمئذ فَهُ ْم اَل َيتَ َس َ‬ ‫ت َعلَْي ِه ُم اأْل َْنَب ُ‬ ‫اْل ُم ْر َسل َ‬

‫ق َعلَْي ِه ُم اْلقَ ْو ُل‬


‫ين َح َّ‬ ‫{ ‪ { } 62-66‬ويوم يَن ِادي ِهم فَيقُو ُل أ َْين ُشر َكائِي الَِّذين ُك ْنتُم تَْزعمون * قَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ ْ ُُ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َْ َ ُ‬
‫يل ْاد ُعوا‬ ‫ون * َو ِق َ‬ ‫ك َما َك ُانوا ِإي َ‬ ‫اه ْم َك َما َغ َو ْيَنا تََب َّرأَْنا ِإلَْي َ‬ ‫ِ َِّ‬
‫َّانا َي ْعُب ُد َ‬ ‫َغ َو ْيَن ُ‬
‫َغ َو ْيَنا أ ْ‬
‫ين أ ْ‬ ‫َربََّنا َه ُؤالء الذ َ‬
‫ون * َوَي ْو َم ُيَن ِادي ِه ْم فََيقُو ُل َما َذا‬ ‫اء ُك ْم فَ َد َع ْو ُه ْم َفلَ ْم َي ْستَ ِج ُيبوا لَهُ ْم َو َرأ َُوا اْل َع َذ َ‬
‫اب لَ ْو أََّنهُ ْم َك ُانوا َي ْهتَ ُد َ‬ ‫ُش َر َك َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ٍِ‬ ‫ين * فَ َع ِمَي ْ‬
‫ت َعلَْي ِه ُم ْ‬ ‫ِ‬
‫اءلُ َ‬
‫اء َي ْو َمئذ فَهُ ْم ال َيتَ َس َ‬
‫األنَب ُ‬ ‫َج ْبتُُم اْل ُم ْر َسل َ‬
‫أَ‬
‫هذا إخبار من اللّه تعالى‪ ،‬عما يسأل عنه الخالئق يوم القيامة‪ ،‬وأنه يسألهم عن أصول األشياء‪،‬‬
‫وعن عبادة اللّه وإ جابة رسله‪ ،‬فقال‪َ { :‬وَي ْو َم ُيَن ِادي ِه ْم } أي‪ :‬ينادي من أشركوا به شركاء يعبدونهم‪،‬‬
‫ويرجون نفعهم‪ ،‬ودفع الضرر عنهم‪ ،‬فيناديهم‪ ،‬ليبين لهم عجزها وضاللهم‪ { ،‬فََيقُو ُل أ َْي َن ُش َر َكائِ َي‬
‫ون } فأين‬ ‫َِّ‬
‫ين ُك ْنتُ ْم تَْز ُع ُم َ‬
‫} وليس للّه شريك‪ ،‬ولكن ذلك بحسب زعمهم وافترائهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬الذ َ‬
‫هم‪ ،‬بذواتهم‪ ،‬وأين نفعهم وأين دفعهم؟‬
‫ومن المعلوم أنه (‪ )1‬يتبين لهم في تلك الحال‪ ،‬أن الذي عبدوه‪ ،‬ورجوه باطل‪ ،‬مضمحل في ذاته‪،‬‬
‫وما رجوا منه‪ ،‬فيقرون على أنفسهم بالضاللة والغواية‪.‬‬
‫ق َعلَْي ِه ُم اْلقَ ْو ُل } الرؤساء والقادة‪ ،‬في الكفر والشر‪ ،‬مقرين بغوايتهم‬ ‫ين َح َّ‬ ‫ولهذا { قَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬
‫اه ْم َك َما َغ َو ْيَنا } أي‪ :‬كلنا قد اشترك في‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫َغ َو ْيَن ُ‬
‫َغ َو ْيَنا أ ْ‬
‫ين أ ْ‬
‫وإ غوائهم‪َ { :‬ربََّنا َه ُؤالء } التابعون { الذ َ‬
‫الغواية‪ ،‬وحق عليه كلمة العذاب‪.‬‬
‫ون } وإ نما‬ ‫ك } من عبادتهم‪ ،‬أي‪ :‬نحن برآء منهم ومن عملهم‪َ { .‬ما َك ُانوا ِإي َ‬
‫َّانا َي ْعُب ُد َ‬ ‫{ تََب َّرأَْنا ِإلَْي َ‬
‫كانوا يعبدون الشياطين‪.‬‬

‫{ َو ِقي َل } لهم‪ْ { :‬اد ُعوا ُش َر َك َ‬


‫اء ُك ْم } على ما أملتم فيهم من النفع فأمروا بدعائهم في ذلك الوقت‬
‫الحرج‪ ،‬الذي يضطر فيه العابد إلى من عبده‪.‬‬
‫{ فَ َد َع ْو ُه ْم } لينفعوهم‪ ،‬أو يدفعوا عنهم من عذاب اللّه من شيء‪َ { .‬فلَ ْم َي ْستَ ِج ُيبوا لَهُ ْم } فعلم الذين‬
‫اب } الذي سيحل بهم عيانا‪ ،‬بأبصارهم‬ ‫كفروا أنهم كانوا كاذبين مستحقين للعقوبة‪َ { ،‬و َرأ َُوا اْل َع َذ َ‬
‫بعد ما كانوا مكذبين به‪ ،‬منكرين له‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬لما حصل عليهم ما حصل‪ ،‬ولهدوا إلى صراط الجنة‪ ،‬كما اهتدوا‬ ‫{ لَ ْو أََّنهُ ْم َك ُانوا َي ْهتَ ُد َ‬
‫في الدنيا‪ ،‬ولكن لم يهتدوا‪ ،‬فلم يهتدوا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } هل صدقتموهم‪[ ،‬واتبعتموهم] أم كذبتموهم‬ ‫{ َوَي ْو َم ُيَنادي ِه ْم فََيقُو ُل َما َذا أ َ‬
‫َج ْبتُُم اْل ُم ْر َسل َ‬
‫وخالفتموهم؟‬
‫ون } أي‪ :‬لم يحيروا عن هذا السؤال جوابا‪ ،‬ولم يهتدوا‬ ‫ٍِ‬ ‫ت َعلَْي ِه ُم ْ‬ ‫{ فَ َع ِمَي ْ‬
‫اءلُ َ‬
‫اء َي ْو َمئذ فَهُ ْم ال َيتَ َس َ‬ ‫األنَب ُ‬
‫إلى الصواب‪.‬‬
‫ومن المعلوم أنه ال ينجى في هذا الموضع إال التصريح بالجواب الصحيح‪ ،‬المطابق ألحوالهم‪،‬‬
‫من أننا أجبناهم باإليمان واالنقياد‪ ،‬ولكن لما علموا تكذيبهم لهم وعنادهم ألمرهم‪ ،‬لم ينطقوا‬
‫بشيء‪ ،‬وال يمكن أن يتساءلوا ويتراجعوا بينهم في ماذا يجيبون به‪ ،‬ولو كان كذبا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬أنهم‪.‬‬
‫( ‪)1/622‬‬

‫ين (‪)67‬‬ ‫ِِ‬ ‫َن ي ُك ِ‬ ‫َما م ْن تَاب وآَمن وع ِم َل ِ‬


‫ون م َن اْل ُم ْفلح َ‬
‫صال ًحا فَ َع َسى أ ْ َ َ‬
‫َ‬ ‫َ َ ََ َ َ‬ ‫فَأ َّ َ‬

‫ين } ‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫َن ي ُك ِ‬ ‫َما م ْن تَاب وآمن وع ِم َل ِ‬


‫ون م َن اْل ُم ْفلح َ‬
‫صال ًحا فَ َع َسى أ ْ َ َ‬
‫َ‬ ‫َ َ ََ َ َ‬ ‫{ ‪ { } 67‬فَأ َّ َ‬
‫لما ذكر تعالى سؤال الخلق عن معبودهم وعن رسلهم‪ ،‬ذكر الطريق الذي ينجو به العبد من عقاب‬
‫اللّه تعالى‪ ،‬وأنه ال نجاة إال لمن اتصف بالتوبة من الشرك والمعاصي‪ ،‬وآمن باللّه فعبده‪ ،‬وآمن‬
‫ون } من جمع هذه الخصال { ِم َن‬ ‫َن َي ُك َ‬
‫برسله فصدقهم‪ ،‬وعمل صالحا متبعا فيه للرسل‪ { ،‬فَ َع َسى أ ْ‬
‫ين } الناجحين بالمطلوب‪ ،‬الناجين من المرهوب‪ ،‬فال سبيل إلى الفالح بدون هذه األمور‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫اْل ُم ْفلح َ‬

‫( ‪)1/622‬‬

‫ق ما ي َشاء وي ْختَار ما َكان لَهم اْل ِخيرةُ س ْبح َّ ِ‬


‫ون (‪َ )68‬و َرُّب َ‬
‫ك‬ ‫ان الله َوتَ َعالَى َع َّما ُي ْش ِر ُك َ‬ ‫ك َي ْخلُ ُ َ َ ُ َ َ ُ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ َ‬ ‫َو َرُّب َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪َ )69‬و ُه َو اللهُ اَل ِإلَهَ ِإاَّل ُه َو لَهُ اْل َح ْم ُد في اأْل ُولَى َواآْل َخ َر ِة َولَهُ‬
‫ور ُه ْم َو َما ُي ْعلُن َ‬
‫ص ُد ُ‬‫َي ْعلَ ُم َما تُك ُّن ُ‬
‫ون (‪)70‬‬ ‫ِ‬
‫اْل ُح ْك ُم َوإِلَْيه تُْر َج ُع َ‬

‫ق ما ي َشاء وي ْختَار ما َكان لَهم اْل ِخيرةُ س ْبح َّ ِ‬


‫ان الله َوتَ َعالَى َع َّما ُي ْش ِر ُك َ‬
‫ون‬ ‫ك َي ْخلُ ُ َ َ ُ َ َ ُ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ َ‬ ‫{ ‪َ { } 68-70‬و َرُّب َ‬
‫ك يعلَم ما تُ ِك ُّن ص ُدور ُهم وما يعِلُنون * و ُهو اللَّه ال ِإلَه ِإال ُهو لَه اْلحم ُد ِفي األولَى و ِ‬
‫اآلخ َر ِة‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َْ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ ْ َ َ ُْ َ َ َ ُ‬ ‫* َو َرُّب َ َ ْ ُ َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َولَهُ اْل ُح ْك ُم َوإِلَْيه تُْر َج ُع َ‬
‫هذه اآليات‪ ،‬فيها عموم خلقه لسائر المخلوقات‪ ،‬ونفوذ مشيئته بجميع البريات‪ ،‬وانفراده باختيار‬
‫من يختاره ويختصه‪ ،‬من األشخاص‪ ،‬واألوامر [واألزمان] واألماكن‪ ،‬وأن أحدا (‪ )1‬ليس له من‬
‫األمر واالختيار شيء‪ ،‬وأنه تعالى منزه عن كل ما يشركون به‪ ،‬من الشريك‪ ،‬والظهير‪ ،‬والعوين‪،‬‬
‫والولد‪ ،‬والصاحبة‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬مما أشرك به المشركون‪ ،‬وأنه العالم بما أكنته الصدور وما‬
‫أعلنوه‪ ،‬وأنه وحده المعبود المحمود في الدنيا واآلخرة‪ ،‬على ماله من صفات الجالل والجمال‪،‬‬
‫وعلى ما أسداه إلى خلقه من اإلحسان واإلفضال‪.‬‬
‫وأنه هو الحاكم في الدارين‪ ،‬في الدنيا‪ ،‬بالحكم القدري‪ ،‬الذي أثره جميع ما خلق وذرأ‪ ،‬والحكم‬
‫الديني‪ ،‬الذي أثره جميع الشرائع‪ ،‬واألوامر والنواهي‪.‬‬
‫ون }‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وفي اآلخرة يحكم بحكمه القدري والجزائي‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وإِلَْيه تُْر َج ُع َ‬
‫[ ص ‪] 623‬‬
‫فيجازي كال منكم بعمله‪ ،‬من خير وشر‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في هامش أ‪ :‬كل‪.‬‬

‫( ‪)1/622‬‬

‫ضي ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ُق ْل أَرأ َْيتُم ِإ ْن جع َل اللَّه علَْي ُكم اللَّْي َل سرم ًدا ِإلَى يوِم اْل ِقي ِ‬
‫اء أَفَاَل‬ ‫امة َم ْن ِإلَهٌ َغ ْي ُر الله َيأْتي ُك ْم بِ َ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫ََ‬ ‫َ ْ‬
‫ام ِة َم ْن ِإلَهٌ َغْي ُر اللَّ ِه َيأْتِي ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون (‪ُ )71‬ق ْل أ ََرأ َْيتُ ْم ِإ ْن َج َع َل اللَّهُ َعلَْي ُك ُم َّ‬
‫النهَ َار َس ْر َم ًدا إلَى َي ْوِم اْلقَي َ‬ ‫تَ ْس َم ُع َ‬
‫يه َوِلتَْبتَ ُغوا ِم ْن‬ ‫النهار ِلتَس ُكُنوا ِف ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِِ‬
‫ون (‪َ )72‬و ِم ْن َر ْح َمته َج َع َل لَ ُك ُم اللْي َل َو َّ َ َ ْ‬
‫ِ‬
‫ون فيه أَفَاَل تُْبص ُر َ‬
‫بِلَْي ٍل تَس ُكُن ِ ِ‬
‫ْ َ‬
‫ون (‪)73‬‬ ‫فَ ْ ِ ِ َّ‬
‫ضله َولَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ‬

‫ام ِة َم ْن ِإلَهٌ َغ ْي ُر اللَّ ِه َيأْتِي ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪ُ { } 71-73‬ق ْل أ ََرأ َْيتُ ْم إ ْن َج َع َل اللهُ َعلَْي ُك ُم اللْي َل َس ْر َم ًدا إلَى َي ْوِم اْلقَي َ‬
‫ام ِة َم ْن ِإلَهٌ َغْي ُر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون * ُق ْل أ ََرأ َْيتُ ْم ِإ ْن َج َع َل اللَّهُ َعلَْي ُك ُم َّ‬
‫النهَ َار َس ْر َم ًدا إلَى َي ْوِم اْلقَي َ‬
‫ِ ٍ‬
‫بِضَياء أَفَال تَ ْس َم ُع َ‬
‫النهار ِلتَس ُكُنوا ِف ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫اللَّ ِه يأْتِي ُكم بِلَْي ٍل تَس ُكُن ِ ِ‬
‫يه‬ ‫ون * َو ِم ْن َر ْح َمته َج َع َل لَ ُك ُم اللْي َل َو َّ َ َ ْ‬ ‫ون فيه أَفَال تُْبص ُر َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫وِلتَْبتَ ُغوا ِم ْن فَ ْ ِ ِ َّ‬
‫ضله َولَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ‬ ‫َ‬
‫هذا امتنان من اللّه على عباده‪ ،‬يدعوهم به إلى شكره‪ ،‬والقيام بعبوديته وحقه‪ ،‬أنه جعل لهم من‬
‫رحمته النهار ليبتغوا من فضل اللّه‪ ،‬وينتشروا لطلب أرزاقهم ومعايشهم في ضيائه‪ ،‬والليل‬
‫ليهدأوا فيه ويسكنوا‪ ،‬وتستريح أبدانهم وأنفسهم من تعب التصرف في النهار‪ ،‬فهذا من فضله‬
‫ورحمته بعباده‪.‬‬
‫ام ِة َم ْن ِإلَهٌ َغْي ُر اللَّ ِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫فهل أحد يقدر على شيء من ذلك؟ فلو جعل { َعلَْي ُك ُم اللْي َل َس ْر َم ًدا إلَى َي ْوِم اْلقَي َ‬
‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ون } مواعظ اللّه وآياته سماع فهم وقبول وانقياد‪ ،‬ولو جعل { َعلَْي ُك ُم‬ ‫َيأْتي ُك ْم بِضَياء أَفَال تَ ْس َم ُع َ‬
‫ِ‬ ‫النهار سرم ًدا ِإلَى يوِم اْل ِقيام ِة م ْن ِإلَهٌ َغْير اللَّ ِه يأْتِي ُكم بِلَْي ٍل تَس ُكُن ِ ِ‬
‫ون } مواقع‬ ‫ون فيه أَفَال تُْبص ُر َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َْ َ َ َ‬ ‫َّ َ َ َ ْ َ‬
‫العبر‪ ،‬ومواضع اآليات‪ ،‬فتستنير بصائركم‪ ،‬وتسلكوا الطريق المستقيم‪.‬‬
‫ون } ألن سلطان السمع أبلغ في الليل من‬ ‫ِ‬
‫ون } وفي النهار { أَفَال تُْبص ُر َ‬
‫وقال في الليل { أَفَال تَ ْس َم ُع َ‬
‫سلطان البصر‪ ،‬وعكسه النهار‪ .‬وفي هذه اآليات‪ ،‬تنبيه إلى أن العبد ينبغي له أن يتدبر نعم اللّه‬
‫عليه‪ ،‬ويستبصر فيها‪ ،‬ويقيسها بحال عدمها‪ ،‬فإنه إذا وازن بين حالة وجودها‪ ،‬وبين حالة عدمها‪،‬‬
‫تنبه عقله لموضع المنة‪ ،‬بخالف من جرى مع العوائد‪ ،‬ورأى أن هذا أمر لم يزل مستمرا‪ ،‬وال‬
‫يزال‪ .‬وعمي قلبه عن الثناء على اللّه‪ ،‬بنعمه‪ ،‬ورؤية افتقاره إليها في كل وقت‪ ،‬فإن هذا ال يحدث‬
‫له فكرة شكر وال ذكر‪.‬‬

‫( ‪)1/623‬‬

‫ُم ٍة َش ِه ً‬
‫يدا فَ ُقْلَنا َهاتُوا‬ ‫ون (‪َ )74‬وَن َز ْعَنا ِم ْن ُك ِّل أ َّ‬ ‫ين ُك ْنتُ ْم تَْز ُع ُم َ‬
‫ِ َِّ‬ ‫ِ‬
‫َوَي ْو َم ُيَنادي ِه ْم فََيقُو ُل أ َْي َن ُش َر َكائ َي الذ َ‬
‫َن اْلح َّ َِّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)75‬‬ ‫ض َّل َع ْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْفتَُر َ‬
‫ق لله َو َ‬ ‫ُب ْر َه َان ُك ْم فَ َعل ُموا أ َّ َ‬

‫ُم ٍة َش ِه ً‬
‫يدا‬ ‫ون * َوَن َز ْعَنا ِم ْن ُك ِّل أ َّ‬
‫ين ُك ْنتُ ْم تَْز ُع ُم َ‬
‫ِ َِّ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪َ { } 74-75‬وَي ْو َم ُيَنادي ِه ْم فََيقُو ُل أ َْي َن ُش َر َكائ َي الذ َ‬
‫َن اْلح َّ َِّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َّل َعْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْفتَُر َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ق لله َو َ‬ ‫فَ ُقْلَنا َهاتُوا ُب ْر َه َان ُك ْم فَ َعل ُموا أ َّ َ‬
‫أي‪ :‬ويوم ينادي اللّه المشركين به‪ ،‬العادلين به غيره‪ ،‬الذين يزعمون أن له شركاء‪ ،‬يستحقون أن‬
‫يعبدوا‪ ،‬وينفعون ويضرون‪ ،‬فإذا كان يوم القيامة‪ ،‬أراد اللّه أن يظهر جراءتهم وكذبهم في زعمهم‬
‫ِ َِّ‬ ‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬بزعمهم‪ ،‬ال‬ ‫ين ُك ْنتُ ْم تَْز ُع ُم َ‬‫وتكذيبهم (‪ )1‬ألنفسهم فـ { ُيَنادي ِه ْم فََيقُو ُل أ َْي َن ُش َر َكائ َي الذ َ‬
‫ون ِإال الظَّ َّن وإ ن هم‬
‫اء ِإ ْن َيتَّبِ ُع َ‬
‫بنفس األمر‪ ،‬كما قال‪ { :‬وما يتَّبِع الَِّذين ي ْدعون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون الله ُش َر َك َ‬ ‫ََ َ ُ َ َ ُ َ‬
‫إال يخرصون }‬
‫ُم ٍة } من األمم المكذبة { َش ِه ً‬
‫يدا } يشهد على ما جرى في‬ ‫فإذا حضروا وإ ياهم‪ ،‬نزع { ِم ْن ُك ِّل أ َّ‬
‫الدنيا‪ ،‬من شركهم واعتقادهم‪ ،‬وهؤالء بمنزلة المنتخبين‪.‬‬
‫أي‪ :‬انتخبنا من رؤساء المكذبين من يتصدى للخصومة عنهم‪ ،‬والمجادلة عن إخوانهم‪ ،‬ومن هم‬
‫وإ ياهم على طريق واحد‪ ،‬فإذا برزوا للمحاكمة { فَ ُقْلَنا َهاتُوا ُب ْر َه َان ُك ْم } حجتكم ودليلكم على صحة‬
‫شرككم‪ ،‬هل أمرناكم بذلك؟ هل أمرتكم رسلي؟ هل وجدتم ذلك في شيء من كتبي؟ هل فيهم أحد‬
‫يستحق شيئا من اإللهية؟ هل ينفعونكم‪ ،‬أو يدفعون عنكم من عذاب اللّه أو يغنون عنكم؟ فليفعلوا‬
‫إذا [إن] كان فيهم أهلية (‪ )2‬وليروكم إن كان لهم قدرة‪ { ،‬فَ َعِل ُموا } حينئذ بطالن قولهم وفساده‪ ،‬و‬
‫ق ِللَّ ِه } تعالى‪ ،‬قد توجهت عليهم الخصومة‪ ،‬وانقطعت حجتهم‪ ،‬وأفلجت حجة اللّه‪،‬‬ ‫َن اْل َح َّ‬
‫{ أ َّ‬
‫ون } من الكذب واإلفك‪ ،‬واضمحل وتالشى وعدم‪ ،‬وعلموا أن اللّه قد‬ ‫ض َّل َع ْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْفتَُر َ‬ ‫{ َو َ‬
‫عدل فيهم‪ ،‬حيث لم يضع العقوبة إال بمن استحقها واستأهلها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬وتكذيب‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬فيهم إلهية‪.‬‬

‫( ‪)1/623‬‬
‫صَب ِة أُوِلي‬ ‫وء بِاْل ُع ْ‬
‫ِ‬
‫وز َما ِإ َّن َمفَات َحهُ لَتَُن ُ‬ ‫وسى فََب َغى َعلَْي ِه ْم َوآَتَْيَناهُ ِم َن اْل ُكُن ِ‬ ‫ان م ْن قَ ْوِم ُم َ‬
‫ِإ َّن قَارون َك ِ‬
‫ُ َ َ‬
‫الد َار اآْل َ ِخ َرةَ َواَل‬‫ك اللَّهُ َّ‬ ‫يما آَتَا َ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪َ )76‬و ْابتَ ِغ ف َ‬
‫ِ‬
‫ب اْلفَ ِرح َ‬ ‫ال لَهُ قَ ْو ُمهُ اَل تَ ْف َر ْح ِإ َّن اللَّهَ اَل ُي ِح ُّ‬
‫اْلقَُّو ِة ِإ ْذ قَ َ‬
‫ض ِإ َّن اللَّهَ اَل ُي ِح ُّ‬
‫ب‬ ‫اد ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫ك َواَل تَْب ِغ اْلفَ َس َ‬ ‫َح َس َن اللَّهُ ِإلَْي َ‬‫َح ِس ْن َك َما أ ْ‬ ‫ك ِم َن ُّ‬
‫الد ْنَيا َوأ ْ‬ ‫ص َيب َ‬ ‫تَْنس َن ِ‬
‫َ‬
‫ون َم ْن‬ ‫ك ِم ْن قَْبِل ِه ِم َن اْلقُُر ِ‬ ‫َن اللَّهَ قَ ْد أ ْ‬
‫َهلَ َ‬ ‫ال ِإَّن َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِعْلٍم ِع ْن ِدي أ ََولَ ْم َي ْعلَ ْم أ َّ‬ ‫ين (‪ )77‬قَ َ‬ ‫ِِ‬
‫اْل ُم ْفسد َ‬
‫ون (‪ )78‬فَ َخ َر َج َعلَى قَ ْو ِم ِه ِفي ِز َينتِ ِه‬ ‫ِ‬
‫ُه َو أَ َش ُّد م ْنهُ قَُّوةً َوأَ ْكثَُر َج ْم ًعا َواَل ُي ْسأَ ُل َع ْن ُذُنوبِ ِه ُم اْل ُم ْج ِر ُم َ‬
‫ظ ع ِظ ٍيم (‪ )79‬وقَ َ َِّ‬ ‫ٍّ‬ ‫الد ْنيا يا لَْي َ ِ‬ ‫قَ َ َِّ‬
‫ين‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬ ‫ون ِإَّنهُ لَ ُذو َح َ‬ ‫ت لََنا مثْ َل َما أُوتِ َي قَ ُار ُ‬ ‫ون اْل َحَياةَ ُّ َ َ‬ ‫يد َ‬ ‫ين ُي ِر ُ‬ ‫ال الذ َ‬
‫ون (‪ )80‬فَ َخ َس ْفَنا بِ ِه‬ ‫اها ِإ الصَّابِ ُر َ‬
‫اب اللَّ ِه َخ ْير ِلم ْن آَمن و َع ِم َل ص ِال ًحا واَل ُيلَقَّ َ اَّل‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ َ ََ َ‬
‫ِ‬
‫أُوتُوا اْلعْل َم َوْيلَ ُك ْم ثََو ُ‬
‫ِ‬ ‫ون اللَّ ِه وما َك ِ‬ ‫ونهُ ِم ْن ُد ِ‬ ‫ِ ٍِ‬
‫َصَب َح‬ ‫ين (‪َ )81‬وأ ْ‬ ‫ان م َن اْل ُم ْنتَص ِر َ‬ ‫ََ َ‬ ‫ص ُر َ‬ ‫ان لَهُ م ْن فَئة َي ْن ُ‬ ‫ض فَ َما َك َ‬ ‫َوبِ َد ِار ِه اأْل َْر َ‬
‫اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه َوَي ْق ِد ُر لَ ْواَل أ ْ‬
‫َن َم َّن‬ ‫الر ْز َ ِ‬ ‫َن اللَّهَ َي ْب ُسطُ ِّ‬ ‫ون َو ْي َكأ َّ‬ ‫ين تَ َمَّن ْوا َم َك َانهُ بِاأْل َْم ِ‬ ‫َِّ‬
‫ق ل َم ْن َي َش ُ‬ ‫س َيقُولُ َ‬ ‫الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اللَّهُ َعلَْيَنا لَ َخ َس َ‬
‫ون (‪)82‬‬ ‫ف بَِنا َو ْي َكأََّنهُ اَل ُي ْفل ُح اْل َكاف ُر َ‬

‫وسى فََب َغى َعلَْي ِه ْم } ‪ .‬إلى آخر القصة‬ ‫{ ‪ِ { } 76-82‬إ َّن قَارون َك ِ‬
‫ان م ْن قَ ْوِم ُم َ‬
‫ُ َ َ‬
‫ان ِم ْن قَ ْوِم‬ ‫ظ‪ ،‬فقال‪ِ { :‬إ َّن قَ ُار َ‬
‫ون َك َ‬ ‫وو ِع َ‬ ‫يخبر تعالى عن حالة قارون وما [فعل] وفُ ِع َل به ُ ِ‬
‫ونص َح ُ‬
‫وسى } أي‪ :‬من بني إسرائيل‪ ،‬الذين فُضِّلوا على العالمين‪ ،‬وفاقوهم في زمانهم‪ ،‬وامتن اللّه‬ ‫ُم َ‬
‫عليهم بما امتن به‪ ،‬فكانت حالهم مناسبة لالستقامة‪ ،‬ولكن قارون هذا‪ ،‬بغى على قومه وطغى‪ ،‬بما‬
‫وز } أي‪ :‬كنوز األموال شيئا كثيرا‪َ { ،‬ما ِإ َّن‬ ‫أوتيه من األموال العظيمة المطغية { َوآتَْيَناهُ ِم َن اْل ُكُن ِ‬
‫صَب ِة [أُوِلي اْلقَُّو ِة } والعصبة]‪ ،‬من العشرة إلى التسعة إلى السبعة‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬ ‫وء بِاْل ُع ْ‬
‫ِ‬
‫َمفَات َحهُ لَتَُن ُ‬
‫أي‪ :‬حتى أن مفاتح خزائن أمواله لتثقل الجماعة القوية عن حملها‪ ،‬هذه المفاتيح‪ ،‬فما ظنك‬
‫ب‬‫بالخزائن؟ { ِإ ْذ قَا َل لَهُ قَ ْو ُمهُ } ناصحين له محذرين له عن الطغيان‪ { :‬ال تَ ْف َر ْح ِإ َّن اللَّهَ ال ُي ِح ُّ‬
‫ِ‬
‫ين } أي‪ :‬ال تفرح بهذه الدنيا العظيمة‪ ،‬وتفتخر بها‪ ،‬وتلهيك عن اآلخرة‪ ،‬فإن اللّه ال يحب‬ ‫اْلفَ ِرح َ‬
‫الفرحين بها‪ ،‬المنكبين على محبتها‪.‬‬
‫الدار ِ‬ ‫{ و ْابتَ ِغ ِفيما آتَ َ َّ‬
‫اآلخ َرةَ } أي‪ :‬قد حصل عندك من وسائل اآلخرة ما ليس عند غيرك‬ ‫اك اللهُ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫من األموال‪ ،‬فابتغ بها ما عند اللّه‪ ،‬وتصدق وال تقتصر على مجرد نيل الشهوات‪ ،‬وتحصيل‬
‫الد ْنَيا } أي‪ :‬ال نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعا‪ ،‬بل‬ ‫ك ِم َن ُّ‬
‫ص َيب َ‬‫اللذات‪ { ،‬وال تَْنس َن ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫َحس ْن } إلى عباد‬
‫أنفق آلخرتك‪ ،‬واستمتع بدنياك استمتاعا ال يثلم دينك‪ ،‬وال يضر بآخرتك‪َ { ،‬وأ ْ‬
‫ض } بالتكبر والعمل‬ ‫األر ِ‬ ‫ك } بهذه األموال‪ { ،‬وال تَْب ِغ اْلفَس َ ِ‬ ‫َح َس َن اللَّهُ ِإلَْي َ‬
‫اد في ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اللّه { َك َما أ ْ‬
‫ين } بل يعاقبهم على ذلك‪،‬‬ ‫ِِ‬ ‫بمعاصي اللّه واالشتغال بالنعم عن المنعم‪ِ { ،‬إ َّن اللَّهَ ال ُي ِح ُّ‬
‫ب اْل ُم ْفسد َ‬
‫أشد العقوبة‪.‬‬
‫( ‪)1/623‬‬

‫ال } قارون ‪-‬رادا لنصيحتهم‪ ،‬كافرا بنعمة ربه‪ِ { :-‬إَّن َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِعْلٍم ِعْن ِدي }‪.‬‬
‫فـ { قَ َ‬
‫[ ص ‪] 624‬‬
‫أي‪ :‬إنما أدركت هذه األموال بكسبي ومعرفتي بوجوه المكاسب‪ ،‬وحذقي‪ ،‬أو على علم من اللّه‬
‫بحالي‪ ،‬يعلم أني أهل لذلك‪ ،‬فلم تنصحوني على ما أعطاني اللّه تعالى؟ قال تعالى مبينا أن عطاءه‪،‬‬
‫ك ِم ْن قَْبِل ِه ِم َن اْلقُُر ِ‬
‫ون َم ْن ُه َو أَ َش ُّد‬ ‫َن اللَّهَ قَ ْد أ ْ‬
‫َهلَ َ‬ ‫ليس دليال على حسن حالة المعطي‪ { :‬أ ََولَ ْم َي ْعلَ ْم أ َّ‬
‫ض ِّي عادتنا وسنتنا بإهالك من هو مثله‬ ‫ِم ْنه قَُّوةً وأَ ْكثَر جمعا } فما المانع من إهالك قارون‪ ،‬مع م ِ‬
‫ُ‬ ‫َ ُ ًَْ‬ ‫ُ‬
‫وأعظم‪ ،‬إذ فعل ما يوجب الهالك؟‪.‬‬
‫{ َوال ُي ْسأَ ُل َع ْن ُذُنوبِ ِه ُم اْل ُم ْج ِر ُم َ‬
‫ون } بل يعاقبهم اللّه‪ ،‬ويعذبهم على ما يعلمه منهم‪ ،‬فهم‪ ،‬وإ ن أثبتوا‬
‫ألنفسهم حالة حسنة‪ ،‬وشهدوا لها بالنجاة‪ ،‬فليس قولهم مقبوال وليس ذلك دافعا عنهم من العذاب‬
‫شيئا‪ ،‬ألن ذنوبهم غير خفية‪ ،‬فإنكارهم ال محل له‪ ،‬فلم يزل قارون مستمرا على عناده وبغيه‪،‬‬
‫وعدم قبول نصيحة قومه‪ ،‬فرحا بطرا قد أعجبته نفسه‪ ،‬وغره ما أوتيه من األموال‪.‬‬
‫{ فَ َخ َر َج } ذات يوم { ِفي ِز َينتِ ِه } أي‪ :‬بحالة أرفع ما يكون من أحوال دنياه‪ ،‬قد كان له من‬
‫األموال ما كان‪ ،‬وقد استعد وتجمل بأعظم ما يمكنه‪ ،‬وتلك الزينة في العادة من مثله تكون هائلة‪،‬‬
‫جمعت زينة الدنيا وزهرتها وبهجتها وغضارتها وفخرها‪ ،‬فرمقته في تلك الحالة العيون‪ ،‬ومألت‬
‫بَِّزتُهُ القلوب‪ ،‬واختلبت زينته النفوس‪ ،‬فانقسم فيه الناظرون قسمين‪ ،‬كل تكلم بحسب ما عنده من‬
‫الهمة والرغبة‪.‬‬
‫الد ْنَيا } أي‪ :‬الذين تعلقت إرادتهم فيها‪ ،‬وصارت منتهى رغبتهم‪،‬‬ ‫ون اْل َحَياةَ ُّ‬ ‫ين ُي ِر ُ‬ ‫فـ { قَ َ َِّ‬
‫يد َ‬ ‫ال الذ َ‬
‫ليس لهم إرادة في سواها‪ { ،‬يا لَْي َ ِ‬
‫ون } من الدنيا ومتاعها وزهرتها { ِإَّنهُ‬
‫ت لََنا مثْ َل َما أُوتِ َي قَ ُار ُ‬ ‫َ‬
‫ظ َع ِظ ٍيم } وصدقوا إنه لذو حظ عظيم‪ ،‬لو كان األمر منتهيا إلى رغباتهم‪ ،‬وأنه ليس وراء‬ ‫لَ ُذو ح ٍّ‬
‫َ‬
‫الدنيا‪ ،‬دار أخرى‪ ،‬فإنه قد أعطي منها ما به غاية التنعم (‪ )1‬بنعيم الدنيا‪ ،‬واقتدر بذلك على جميع‬
‫مطالبه‪ ،‬فصار هذا الحظ العظيم‪ ،‬بحسب همتهم‪ ،‬وإ ن همة جعلت هذا غاية مرادها ومنتهى‬
‫مطلبها‪ ،‬لَ ِم ْن أدنى الهمم وأسفلها وأدناها‪ ،‬وليس لها أدنى صعود إلى المرادات العالية والمطالب‬
‫الغالية‪.‬‬
‫ين أُوتُوا اْل ِعْل َم } الذين عرفوا حقائق األشياء‪ ،‬ونظروا إلى باطن الدنيا‪ ،‬حين نظر (‪)2‬‬ ‫َِّ‬
‫{ َوقَا َل الذ َ‬
‫أولئك إلى ظاهرها‪َ { :‬وْيلَ ُك ْم } متوجعين مما تمنوا ألنفسهم‪ ،‬راثين لحالهم‪ ،‬منكرين لمقالهم‪:‬‬
‫اب اللَّ ِه } العاجل‪ ،‬من لذة العبادة ومحبته‪ ،‬واإلنابة إليه‪ ،‬واإلقبال عليه‪ .‬واآلجل من الجنة وما‬‫{ ثََو ُ‬
‫فيها‪ ،‬مما تشتهيه األنفس وتلذ األعين { َخ ْيٌر } من هذا الذي تمنيتم ورغبتم فيه‪ ،‬فهذه حقيقة األمر‪،‬‬
‫ولكن ما كل من يعلم ذلك يؤثر األعلى على األدنى‪ ،‬فما ُيلَقَّى ذلك ويوفق له { ِإال الصَّابِ ُر َ‬
‫ون }‬
‫الذين حبسوا أنفسهم على طاعة اللّه‪ ،‬وعن معصيته‪ ،‬وعلى أقداره المؤلمة‪ ،‬وصبروا على جواذب‬
‫الدنيا وشهواتها‪ ،‬أن تشغلهم عن ربهم‪ ،‬وأن تحول بينهم وبين ما خلقوا له‪ ،‬فهؤالء الذين يؤثرون‬
‫ثواب اللّه على الدنيا الفانية‪.‬‬
‫وازيََّنت الدنيا عنده‪ ،‬وكثر بها إعجابه‪ ،‬بغته العذاب‬ ‫فلما انتهت بقارون حالة البغي والفخر‪َّ ،‬‬
‫ِ‬
‫ض } جزاء من جنس عمله‪ ،‬فكما رفع نفسه على عباد اللّه‪ ،‬أنزله اللّه‬ ‫األر َ‬ ‫{ فَ َخ َس ْفَنا بِه َوبِ َد ِار ِه ْ‬
‫أسفل سافلين‪ ،‬هو وما اغتر به‪ ،‬من داره وأثاثه‪ ،‬ومتاعه‪.‬‬
‫ان‬ ‫ونه ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬ ‫ِ ٍِ‬
‫ون الله َو َما َك َ‬ ‫ص ُر َ ُ‬ ‫ان لَهُ م ْن فَئة } أي‪ :‬جماعة‪ ،‬وعصبة‪ ،‬وخدم‪ ،‬وجنود { َي ْن ُ‬ ‫{ فَ َما َك َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } أي‪ :‬جاءه العذاب‪ ،‬فما نصر وال انتصر‪.‬‬ ‫م َن اْل ُم ْنتَص ِر َ‬
‫َِّ‬
‫ت لََنا‬ ‫س } أي‪ :‬الذين يريدون الحياة الدنيا‪ ،‬الذين قالوا‪َ { :‬يا لَْي َ‬ ‫ين تَ َمَّن ْوا َم َك َانهُ بِ ْ‬
‫األم ِ‬ ‫َصَب َح الذ َ‬‫{ َوأ ْ‬
‫ِ‬
‫ون } متوجعين ومعتبرين‪ ،‬وخائفين من وقوع العذاب بهم‪َ { :‬و ْي َكأ َّ‬
‫َن‬ ‫ون } { َيقُولُ َ‬ ‫م ْث َل َما أُوتِ َي قَ ُار ُ‬
‫اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه َوَي ْق ِد ُر } أي‪ :‬يضيق الرزق على من يشاء‪ ،‬فعلمنا حينئذ أن‬ ‫ق ل َم ْن َي َش ُ‬
‫الر ْز َ ِ‬
‫اللَّهَ َي ْب ُسطُ ِّ‬
‫ظ َع ِظ ٍيم } و { لَ ْوال‬ ‫بسطه لقارون‪ ،‬ليس دليال على خير فيه‪ ،‬وأننا غالطون في قولنا‪ِ { :‬إَّنه لَ ُذو ح ٍّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ف بَِنا } فصار هالك قارون‬ ‫َن َم َّن اللَّهُ َعلَْيَنا } فلم يعاقبنا على ما قلنا‪ ،‬فلوال فضله ومنته { لَ َخ َس َ‬ ‫أْ‬
‫عقوبة له‪ ،‬وعبرة وموعظة لغيره‪ ،‬حتى إن الذين غبطوه‪ ،‬سمعت كيف ندموا‪ ،‬وتغير فكرهم‬
‫األول‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َو ْي َكأََّنهُ ال ُي ْفل ُح اْل َكاف ُر َ‬
‫ون } أي‪ :‬ال في الدنيا وال في اآلخرة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬التنعيم‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬نظروا‪.‬‬

‫( ‪)1/623‬‬

‫ِ ِ ِ‬ ‫ون ُعلًُّوا ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫َِِّ‬ ‫ِ‬ ‫تِْل َ‬


‫ادا َواْل َعاقَبةُ لْل ُمتَّق َ‬
‫ين (‪)83‬‬ ‫ض َواَل فَ َس ً‬ ‫ين اَل ُي ِر ُ‬
‫يد َ‬ ‫ك َّ‬
‫الد ُار اآْل َخ َرةُ َن ْج َعلُهَا للذ َ‬

‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِِّ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 83‬تِْل َ‬


‫ادا َواْل َعاقَبةُ لْل ُمتَّق َ‬
‫ين }‬ ‫األر ِ‬
‫ض َوال فَ َس ً‬ ‫ون ُعلًُّوا في ْ‬ ‫ين ال ُي ِر ُ‬
‫يد َ‬ ‫ك َّ‬
‫الد ُار اآلخ َرةُ َن ْج َعلُهَا للذ َ‬
‫‪.‬‬
‫لما ذكر تعالى‪ ،‬قارون وما أوتيه من الدنيا‪ ،‬وما صار إليه عاقبة أمره‪ ،‬وأن أهل العلم قالوا‪:‬‬
‫ص ِال ًحا } رغب تعالى في الدار اآلخرة‪ ،‬وأخبر بالسبب الموصل‬ ‫ِ‬
‫آم َن َو َعم َل َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اب الله َخ ْيٌر ل َم ْن َ‬
‫{ ثََو ُ‬
‫الدار ِ‬ ‫إليها فقال‪ { :‬تِْل َ‬
‫اآلخ َرةُ } التي أخبر اللّه بها [ ص ‪ ] 625‬في كتبه وأخبرت [بها] رسله‪،‬‬ ‫ك َّ ُ‬
‫ين ال‬ ‫َِِّ‬
‫التي [قد] جمعت كل نعيم‪ ،‬واندفع عنها كل مكدر ومنغص‪َ { ،‬ن ْج َعلُهَا } دارا وقرارا { للذ َ‬
‫ادا } أي‪ :‬ليس لهم إرادة‪ ،‬فكيف العمل للعلو في األرض على‬ ‫األر ِ‬
‫ض َوال فَ َس ً‬ ‫ِ‬ ‫ُي ِر ُ‬
‫ون ُعلًُّوا في ْ‬ ‫يد َ‬
‫ادا } وهذا شامل لجميع المعاصي‪ ،‬فإذا كانوا ال‬ ‫عباد اللّه‪ ،‬والتكبر عليهم وعلى الحق { َوال فَ َس ً‬
‫إرادة لهم في العلو في األرض واإلفساد‪ ،‬لزم من ذلك‪ ،‬أن تكون إرادتهم مصروفة إلى اللّه‪،‬‬
‫وقصدهم الدار اآلخرة‪ ،‬وحالهم التواضع لعباد اللّه‪ ،‬واالنقياد للحق والعمل الصالح‪.‬‬
‫وهؤالء هم المتقون الذين لهم العاقبة‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬واْل َع ِاقَبةُ } أي حالة الفالح والنجاح‪ ،‬التي‬
‫تستقر وتستمر‪ ،‬لمن اتقى اللّه تعالى‪ ،‬وغيرهم ‪-‬وإ ن حصل لهم بعض الظهور والراحة‪ -‬فإنه ال‬
‫يطول وقته‪ ،‬ويزول عن قريب‪ .‬وعلم من هذا الحصر في اآلية الكريمة‪ ،‬أن الذين يريدون العلو‬
‫في األرض‪ ،‬أو الفساد‪ ،‬ليس لهم في الدار اآلخرة‪ ،‬نصيب‪ ،‬وال لهم منها نصيب (‪)1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬حظ‪.‬‬

‫( ‪)1/624‬‬

‫م ْن جاء بِاْلحسَن ِة َفلَه َخ ْير ِم ْنها وم ْن جاء بِالسَّيَِّئ ِة فَاَل ي ْج َزى الَِّذين ع ِملُوا السَّيَِّئ ِ‬
‫ات ِإاَّل َما َك ُانوا‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ٌ َ ََ َ َ‬ ‫َ َ َ ََ‬
‫ون (‪)84‬‬ ‫َي ْع َملُ َ‬

‫{ ‪ { } 84‬م ْن جاء بِاْلحسَن ِة َفلَه َخ ْير ِم ْنها وم ْن جاء بِالسَّيَِّئ ِة فَال ي ْج َزى الَِّذين ع ِملُوا السَّيَِّئ ِ‬
‫ات ِإال َما‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ٌ َ ََ َ َ‬ ‫َ َ َ ََ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫اء بِاْل َح َسَن ِة } شرط فيها أن يأتي بها‬
‫يخبر تعالى عن مضاعفة فضله‪ ،‬وتمام عدله فقال‪َ { :‬م ْن َج َ‬
‫العامل‪ ،‬ألنه قد يعملها‪ ،‬ولكن يقترن بها ما ال تقبل منه أو يبطلها‪ ،‬فهذا لم يجيء بالحسنة‪،‬‬
‫والحسنة‪ :‬اسم جنس يشمل جميع ما أمر اللّه به ورسوله‪ ،‬من األقوال واألعمال الظاهرة‬
‫والباطنة‪ ،‬المتعلقة بحق اهلل تعالى وحق (‪ )1‬عباده‪َ { ،‬فلَهُ َخ ْيٌر ِم ْنهَا } [أي‪ :‬أعظم وأجل‪ ،‬وفي‬
‫اآلية األخرى { َفلَهُ َع ْش ُر أ َْمثَ ِالهَا } ] (‪)2‬‬
‫هذا التضعيف للحسنة‪ ،‬ال بد منه‪ ،‬وقد يقترن بذلك من األسباب ما تزيد به المضاعفة‪ ،‬كما قال‬
‫يم } بحسب حال العامل وعمله‪ ،‬ونفعه ومحله‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫اع ُ ِ‬ ‫تعالى‪ { :‬واللَّه يض ِ‬
‫اء َواللهُ َواسعٌ َعل ٌ‬
‫ف ل َم ْن َي َش ُ‬ ‫َ ُُ َ‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫اء بِالسَّيَِّئة } وهي كل ما نهى الشارع عنه‪َ ،‬ن ْه َي تحريم‪ { .‬فَال ُي ْج َزى الذ َ‬
‫ين‬ ‫ومكانه‪َ { ،‬و َم ْن َج َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء بِاْل َح َسَنة َفلَهُ َع ْش ُر أ َْمثَالهَا َو َم ْن َج َ‬
‫اء‬ ‫ون } كقوله تعالى‪َ { :‬م ْن َج َ‬ ‫َعملُوا السَّيَِّئات ِإال َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫ون }‪.‬‬ ‫بِالسَّيَِّئ ِة فَال ُي ْج َزى ِإال ِم ْثلَهَا َو ُه ْم ال ُي ْ‬
‫ظلَ ُم َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب ‪ :‬وحقوق العباد‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من هامش‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/625‬‬

‫ضاَل ٍل‬ ‫ِ‬ ‫ك ِإلَى َم َع ٍاد ُق ْل َربِّي أ ْ‬ ‫َِّ‬


‫اء بِاْلهُ َدى َو َم ْن ُه َو في َ‬ ‫َعلَ ُم َم ْن َج َ‬ ‫اد َ‬‫َن لََر ُّ‬ ‫ك اْلقُْرآ َ‬
‫ض َعلَْي َ‬ ‫ِإ َّن الذي فََر َ‬
‫ِ ِ‬ ‫اب ِإاَّل َر ْح َمةً ِم ْن َرب َ‬ ‫َن يْلقَى ِإلَْي َ ِ‬
‫ظ ِه ًيرا لْل َكاف ِر َ‬
‫ين (‬ ‫ون َّن َ‬
‫ِّك فَاَل تَ ُك َ‬ ‫ك اْلكتَ ُ‬ ‫ت تَْر ُجو أ ْ ُ‬ ‫ين (‪َ )85‬و َما ُك ْن َ‬ ‫ُمبِ ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِّك واَل تَ ُك َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت ِإلَْي َ‬‫ات اللَّ ِه َب ْع َد ِإ ْذ أ ُْن ِزلَ ْ‬
‫ك ع ْن آَي ِ‬
‫ين (‪)87‬‬ ‫ون َّن م َن اْل ُم ْش ِرك َ‬ ‫ك َو ْادعُ إلَى َرب َ َ‬ ‫ص ُّدَّن َ َ َ‬ ‫‪َ )86‬واَل َي ُ‬
‫ِ‬ ‫َخر اَل ِإلَهَ ِإاَّل ُهو ُك ُّل َشي ٍء َه ِال ٌ اَّل‬ ‫َّ ِ‬
‫ون (‪)88‬‬ ‫ك ِإ َو ْجهَهُ لَهُ اْل ُح ْك ُم َوإِلَْيه تُْر َج ُع َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َواَل تَ ْدعُ َم َع الله ِإلَهًا آ َ َ‬

‫اء بِاْلهُ َدى َو َم ْن‬ ‫ك ِإلَى َم َع ٍاد ُق ْل َربِّي أ ْ‬


‫َعلَ ُم َم ْن َج َ‬ ‫آن لََر ُّ‬
‫اد َ‬ ‫ك اْلقُْر َ‬ ‫ض َعلَْي َ‬ ‫َِّ‬
‫{ ‪ِ { } 85-88‬إ َّن الذي فََر َ‬
‫ظ ِه ًيرا‬
‫ون َّن َ‬ ‫اب ِإال َر ْح َمةً ِم ْن َرب َ‬
‫ِّك فَال تَ ُك َ‬ ‫َن يْلقَى ِإلَْي َ ِ‬
‫ك اْلكتَ ُ‬ ‫ت تَْر ُجو أ ْ ُ‬ ‫ين * َو َما ُك ْن َ‬ ‫ض ٍ‬
‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُه َو في َ‬
‫ِ‬ ‫ك وال تَ ُك َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات اللَّ ِه َب ْع َد ِإ ْذ أ ُْن ِزلَ ْ‬
‫ت ِإلَْي َ‬ ‫ك ع ْن آي ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون َّن م َن اْل ُم ْش ِرك َ‬
‫ين‬ ‫ك َو ْادعُ إلَى َرِّب َ َ‬ ‫ص ُّدَّن َ َ َ‬ ‫لْل َكاف ِر َ‬
‫ين * َوال َي ُ‬
‫ِ‬ ‫آخ َر ال ِإلَهَ ِإال ُه َو ُك ُّل َش ْي ٍء َه ِال ٌ‬
‫* َوال تَ ْدعُ َم َع اللَّ ِه ِإلَهًا َ‬
‫ك ِإال َو ْجهَهُ لَهُ اْل ُح ْك ُم َوإِلَْيه تُْر َج ُع َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫َِّ‬
‫آن } أي‪ :‬أنزله‪ ،‬وفرض فيه األحكام‪ ،‬وبين فيه الحالل‬ ‫ك اْلقُْر َ‬‫ض َعلَْي َ‬ ‫يقول تعالى { ِإ َّن الذي فََر َ‬
‫والحرام‪ ،‬وأمرك بتبليغه للعالمين‪ ،‬والدعوة ألحكام جميع المكلفين‪ ،‬ال يليق بحكمته أن تكون الحياة‬
‫هي الحياة الدنيا فقط‪ ،‬من غير أن يثاب العباد ويعاقبوا‪ ،‬بل ال بد أن يردك إلى معاد‪ ،‬يجازي فيه‬
‫المحسنون بإحسانهم‪ ،‬والمسيئون بمعصيتهم‪.‬‬
‫وقد بينت لهم الهدى‪ ،‬وأوضحت لهم المنهج‪ ،‬فإن تبعوك‪ ،‬فذلك حظهم وسعادتهم‪ ،‬وإ ن أبوا إال‬
‫عصيانك والقدح بما جئت به من الهدى‪ ،‬وتفضيل ما معهم من الباطل على الحق‪ ،‬فلم يبق‬
‫للمجادلة محل‪ ،‬ولم يبق إال المجازاة على األعمال من العالم بالغيب والشهادة‪ ،‬والمحق والمبطل‪.‬‬
‫ض ٍ‬
‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ين } وقد علم أن رسوله هو‬ ‫اء بِاْلهُ َدى َو َم ْن ُه َو في َ‬
‫َعلَ ُم َم ْن َج َ‬
‫ولهذا قال‪ُ { :‬ق ْل َربِّي أ ْ‬
‫المهتدي الهادي‪ ،‬وأن أعداءه هم الضالون المضلون‪.‬‬
‫اب } أي‪ :‬لم تكن متحريا لنزول هذا الكتاب عليك‪ ،‬وال مستعدا‬ ‫َن يْلقَى ِإلَْي َ ِ‬
‫ك اْلكتَ ُ‬ ‫ت تَْر ُجو أ ْ ُ‬‫{ َو َما ُك ْن َ‬
‫ك } بك وبالعباد‪ ،‬فأرسلك بهذا الكتاب‪ ،‬الذي رحم به‬ ‫له‪ ،‬وال متصديا‪ِ { .‬إال َر ْح َمةً ِم ْن َرِّب َ‬
‫العالمين‪ ،‬وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون‪ ،‬وزكاهم وعلمهم الكتاب والحكمة‪ ،‬وإ ن كانوا من قبل لفي‬
‫ضالل مبين‪ ،‬فإذا علمت أنه أنزل إليك رحمة منه‪[ ،‬علمت] أن جميع ما أمر به ونهى عنه‪ ،‬فإنه‬
‫رحمة وفضل من اللّه‪ ،‬فال يكن في صدرك حرج من شيء منه‪ ،‬وتظن أن مخالفه أصلح وأنفع‪.‬‬
‫ِ ِ‬
‫ين } أي‪ :‬معينا لهم على ما هو من شعب كفرهم‪ ،‬ومن جملة‬ ‫ظ ِه ًيرا لْل َكاف ِر َ‬
‫ون َّن َ‬
‫{ فَال تَ ُك َ‬
‫مظاهرتهم‪ ،‬أن يقال في شيء منه‪ ،‬إنه خالف الحكمة والمصلحة والمنفعة‪.‬‬
‫ك } بل أبلغها وأنفذها‪ ،‬وال تبال بمكرهم وال يخدعنك‬ ‫ات اللَّ ِه َب ْع َد ِإ ْذ أُنزلَ ْ‬
‫ت ِإلَْي َ‬ ‫ك ع ْن آي ِ‬
‫ص ُّدَّن َ َ َ‬ ‫{ َوال َي ُ‬
‫عنها‪ ،‬وال تتبع أهواءهم‪.‬‬
‫ك } أي اجعل الدعوة إلى ربك منتهى قصدك وغاية عملك‪ ،‬فكل ما خالف ذلك‬ ‫{ َو ْادعُ ِإلَى َرِّب َ‬
‫فارفضه‪ ،‬من رياء‪ ،‬أو سمعة‪ ،‬أو موافقة أغراض أهل الباطل‪ ،‬فإن ذلك داع إلى الكون معهم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ومساعدتهم على أمرهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وال تَ ُك َ ِ‬
‫ون َّن م َن اْل ُم ْش ِرك َ‬
‫ين } ال في شركهم‪ ،‬وال في فروعه‬ ‫َ‬
‫وشعبه‪ ،‬التي هي جميع المعاصي‪.‬‬
‫[ ص ‪] 626‬‬
‫آخ َر } بل أخلص للّه عبادتك‪ ،‬فإنه { ال ِإلَهَ ِإال ُه َو } فال أحد يستحق أن‬ ‫{ َوال تَ ْدعُ َم َع اللَّ ِه ِإلَهًا َ‬
‫ك ِإال َو ْجهَهُ } وإ ذا كان كل شيء‬ ‫يؤله ويحب ويعبد‪ ،‬إال اللّه الكامل الباقي الذي { ُك ُّل َش ْي ٍء َه ِال ٌ‬
‫هالكا مضمحال سواه فعبادة الهالك الباطل باطلة ببطالن غايتها‪ ،‬وفساد نهايتها‪ { .‬لَهُ اْل ُح ْك ُم } في‬
‫ون } فإذا كان ما سوى اللّه باطال هالكا‪ ،‬واللّه هو‬ ‫ِ‬
‫الدنيا واآلخرة { َوإِلَْيه } ال إلى غيره { تُْر َج ُع َ‬
‫الباقي‪ ،‬الذي ال إله إال هو‪ ،‬وله الحكم في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وإ ليه مرجع الخالئق كلهم‪ ،‬ليجازيهم‬
‫بأعمالهم‪ ،‬تعيَّن على من له عقل‪ ،‬أن يعبد اللّه وحده ال شريك له‪ ،‬ويعمل لما يقربه ويدنيه‪ ،‬ويحذر‬
‫من سخطه وعقابه‪ ،‬وأن يقدم على ربه غير تائب‪ ،‬وال مقلع عن خطئه وذنوبه‪.‬‬
‫تم تفسير سورة القصص ‪-‬وللّه الحمد والثناء والمجد دائما أبدا‪.-‬‬
‫تفسير سورة العنكبوت‬
‫وهي مكية‬

‫( ‪)1/625‬‬

‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم‬ ‫َِّ‬


‫ون (‪َ )2‬ولَقَ ْد فَتََّنا الذ َ‬
‫َمَّنا َو ُه ْم اَل ُي ْفتَُن َ‬
‫َن َيقُولُوا آ َ‬‫َن ُيتَْر ُكوا أ ْ‬ ‫اس أ ْ‬ ‫ب َّ‬
‫الن ُ‬
‫الم (‪ )1‬أ ِ‬
‫َحس َ‬‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ َِّ‬
‫ين (‪)3‬‬ ‫ص َدقُوا َولََي ْعلَ َم َّن اْل َكاذبِ َ‬
‫ين َ‬ ‫َفلََي ْعلَ َم َّن اللهُ الذ َ‬

‫الر ِح ِيم الم * أ ِ‬ ‫الر ْح َم ِن َّ‬ ‫{ ‪ { } 1-3‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬


‫آمَّنا َو ُه ْم ال ُي ْفتَُن َ‬
‫ون‬ ‫َن َيقُولُوا َ‬
‫َن ُيتَْر ُكوا أ ْ‬ ‫اس أ ْ‬ ‫ب َّ‬
‫الن ُ‬ ‫َحس َ‬‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ َِّ‬ ‫* ولَقَ ْد فَتََّنا الَِّذ ِ ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ص َدقُوا َولََي ْعلَ َم َّن اْل َكاذبِ َ‬
‫ين َ‬‫ين م ْن قَْبل ِه ْم َفلََي ْعلَ َم َّن اللهُ الذ َ‬‫َ‬ ‫َ‬
‫يخبر تعالى عن [تمام] حكمته وأن حكمته ال تقتضي أن كل من قال " إنه مؤمن " وادعى لنفسه‬
‫اإليمان‪ ،‬أن يبقوا في حالة يسلمون فيها من الفتن والمحن‪ ،‬وال يعرض لهم ما يشوش عليهم‬
‫إيمانهم وفروعه‪ ،‬فإنهم لو كان األمر كذلك‪ ،‬لم يتميز الصادق من الكاذب‪ ،‬والمحق من المبطل‪،‬‬
‫ولكن سنته وعادته في األولين وفي هذه األمة‪ ،‬أن يبتليهم بالسراء والضراء‪ ،‬والعسر واليسر‪،‬‬
‫والمنشط والمكره‪ ،‬والغنى والفقر‪ ،‬وإ دالة األعداء عليهم في بعض األحيان‪ ،‬ومجاهدة األعداء‬
‫بالقول والعمل ونحو ذلك من الفتن‪ ،‬التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة‪،‬‬
‫والشهوات المعارضة لإلرادة‪ ،‬فمن كان عند ورود الشبهات يثبت إيمانه وال يتزلزل‪ ،‬ويدفعها (‬
‫‪ )1‬بما معه من الحق وعند ورود الشهوات الموجبة والداعية إلى المعاصي والذنوب‪ ،‬أو‬
‫الصارفة عن ما أمر اللّه به ورسوله‪ ،‬يعمل بمقتضى اإليمان‪ ،‬ويجاهد شهوته‪ ،‬دل ذلك على‬
‫صدق إيمانه وصحته‪.‬‬
‫ومن كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه شكا وريبا‪ ،‬وعند اعتراض الشهوات تصرفه إلى‬
‫دل ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه‪.‬‬‫المعاصي أو تصدفه عن الواجبات‪َّ ،‬‬
‫والناس في هذا المقام درجات ال يحصيها إال اللّه‪ ،‬فمستقل ومستكثر‪ ،‬فنسأل اللّه تعالى أن يثبتنا‬
‫بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي اآلخرة‪ ،‬وأن يثبت قلوبنا على دينه‪ ،‬فاالبتالء واالمتحان‬
‫للنفوس بمنزلة الكير‪ ،‬يخرج خبثها وطيبها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب وفي أ‪ :‬ويدفعه‪.‬‬

‫( ‪)1/626‬‬

‫ون (‪)4‬‬ ‫َن َي ْسبِقُ َ‬ ‫أَم ح ِسب الَِّذين يعملُون السَّيَِّئ ِ‬


‫اء َما َي ْح ُك ُم َ‬
‫ونا َس َ‬ ‫ات أ ْ‬ ‫َ ََْ َ‬ ‫ْ َ َ‬

‫ون } ‪.‬‬ ‫َن َي ْسبِقُ َ‬ ‫{ ‪ { } 4‬أَم ح ِسب الَِّذين يعملُون السَّيَِّئ ِ‬


‫اء َما َي ْح ُك ُم َ‬
‫ونا َس َ‬ ‫ات أ ْ‬ ‫َ ََْ َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫أي‪ :‬أحسب الذين همهم فعل السيئات وارتكاب الجنايات‪ ،‬أن أعمالهم ستهمل‪ ،‬وأن اللّه سيغفل‬
‫ون } أي‪ :‬ساء‬
‫اء َما َي ْح ُك ُم َ‬
‫عنهم‪ ،‬أو يفوتونه‪ ،‬فلذلك أقدموا عليها‪ ،‬وسهل عليهم عملها؟ { َس َ‬
‫حكمهم‪ ،‬فإنه حكم جائر‪ ،‬لتضمنه إنكار قدرة اللّه وحكمته‪ ،‬وأن لديهم قدرة يمتنعون بها من عقاب‬
‫اللّه‪ ،‬وهم أضعف شيء وأعجزه‪.‬‬

‫( ‪)1/626‬‬
‫اه ُد ِلَن ْف ِس ِه ِإ َّن‬
‫اه َد فَِإَّنما يج ِ‬
‫يم (‪َ )5‬و َم ْن َج َ َ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ ٍ‬ ‫م ْن َكان يرجو ِلقَ َّ ِ‬
‫اء الله فَِإ َّن أ َ‬
‫َج َل الله آَل َت َو ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين (‪)6‬‬ ‫اللهَ لَ َغن ٌّي َع ِن اْل َعالَم َ‬

‫اه َد فَِإَّن َما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ ٍ‬ ‫{ ‪ { } 5-6‬م ْن َكان يرجو ِلقَ َّ ِ‬
‫يم * َو َم ْن َج َ‬ ‫اء الله فَِإ َّن أ َ‬
‫َج َل الله آلت َو ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ُي َجاه ُد لَن ْفسه ِإ َّن اللهَ لَ َغن ٌّي َع ِن اْل َعالَم َ‬
‫يعني‪ :‬يا أيها المحب لربه‪ ،‬المشتاق لقربه ولقائه‪ ،‬المسارع في مرضاته‪ ،‬أبشر بقرب لقاء‬
‫الحبيب‪ ،‬فإنه آت‪ ،‬وكل آت إنما هو قريب‪ ،‬فتزود للقائه‪ ،‬وسر نحوه‪ ،‬مستصحبا الرجاء‪ ،‬مؤمال‬
‫الوصول إليه‪ ،‬ولكن‪ ،‬ما كل من َي َّد ِعي ُي ْع َ‬
‫طى بدعواه‪ ،‬وال كل من تمنى يعطى ما تمناه‪ ،‬فإن اللّه‬
‫سميع لألصوات‪ ،‬عليم بالنيات‪ ،‬فمن كان صادقا في ذلك أناله ما يرجو‪ ،‬ومن كان كاذبا لم تنفعه‬
‫دعواه‪ ،‬وهو العليم بمن يصلح لحبه ومن ال يصلح‪.‬‬
‫اه ُد ِلَن ْف ِس ِه } ألن نفعه راجع إليه‪ ،‬وثمرته‬
‫اه َد } نفسه وشيطانه‪ ،‬وعدوه الكافر‪ { ،‬فَِإَّنما يج ِ‬
‫َ َُ‬ ‫{ َو َم ْن َج َ‬
‫عائدة إليه‪ ،‬واهلل غني عن العالمين‪ ،‬لم يأمرهم بما أمرهم به لينتفع به‪ ،‬وال نهاهم عما نهاهم عنه‬
‫ُب ْخال عليهم‪.‬‬
‫وقد علم أن األوامر والنواهي يحتاج المكلف فيها إلى جهاد‪ ،‬ألن نفسه تتثاقل بطبعها عن الخير‪،‬‬
‫وشيطانه ينهاه عنه‪ ،‬وعدوه الكافر يمنعه من إقامة دينه‪ ،‬كما ينبغي‪ ،‬وكل هذا معارضات تحتاج‬
‫إلى مجاهدات وسعي شديد‪.‬‬

‫( ‪)1/626‬‬

‫ون (‪)7‬‬ ‫َِّ‬ ‫ات لَُن َكفَِّر َّن َعْنهُ ْم َسيَِّئاتِ ِه ْم َولََن ْج ِزَيَّنهُ ْم أ ْ‬
‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫َح َس َن الذي َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬ ‫َمُنوا َو َعملُوا الص َ‬
‫ين آ َ‬
‫َوالذ َ‬

‫َح َس َن الَِّذي َك ُانوا‬


‫ات لَُن َكفَِّر َّن َع ْنهُ ْم َسيَِّئاتِ ِه ْم َولََن ْج ِزَيَّنهُ ْم أ ْ‬
‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬
‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫{ ‪َ { } 7‬والذ َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫َي ْع َملُ َ‬
‫من اللّه عليهم باإليمان والعمل الصالح‪ ،‬سيكفر اللّه عنهم سيئاتهم‪ ،‬ألن الحسنات‬ ‫يعني أن الذين َّ‬
‫ون } [ ص ‪ ] 627‬وهي أعمال الخير‪ ،‬من‬ ‫َِّ‬ ‫يذهبن السيئات‪َ { ،‬ولََن ْج ِزَيَّنهُ ْم أ ْ‬
‫َح َس َن الذي َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫واجبات ومستحبات‪ ،‬فهي أحسن ما يعمل العبد‪ ،‬ألنه يعمل المباحات أيضا‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫( ‪)1/626‬‬
‫ك بِ ِه ِعْل ٌم فَاَل تُ ِط ْعهُ َما ِإلَ َّي‬ ‫ك ِلتُ ْش ِر َ‬
‫ك بِي َما لَْي َس لَ َ‬ ‫ان بِ َو ِال َد ْي ِه ُح ْسًنا َوإِ ْن َج َ‬
‫اه َدا َ‬ ‫َّيَنا اإْلِ ْن َس َ‬ ‫َو َوص ْ‬
‫ون (‪)8‬‬ ‫َم ْر ِج ُع ُك ْم فَأَُنبُِّئ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬

‫ك بِ ِه ِعْل ٌم فَال تُ ِط ْعهُ َما‬ ‫ك ِلتُ ْش ِر َ‬


‫ك بِي َما لَْي َس لَ َ‬ ‫ان بِ َو ِال َد ْي ِه ُح ْسًنا َوإِ ْن َج َ‬
‫اه َدا َ‬ ‫اإلن َس َ‬
‫َّيَنا ْ‬
‫{ ‪َ { } 8‬و َوص ْ‬
‫ِإلَ َّي َم ْر ِج ُع ُك ْم فَأَُنبُِّئ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫أي‪ :‬وأمرنا اإلنسان‪ ،‬ووصيناه بوالديه حسنا‪ ،‬أي‪ :‬ببرهما واإلحسان إليهما‪ ،‬بالقول والعمل‪ ،‬وأن‬
‫يحافظ على ذلك‪ ،‬وال يعقهما ويسيء إليهما في قوله وعمله‪.‬‬
‫ك بِ ِه ِعْل ٌم } وليس ألحد علم بصحة الشرك باللّه‪ ،‬وهذا تعظيم‬ ‫ك بِي َما لَْي َس لَ َ‬ ‫ك ِلتُ ْش ِر َ‬
‫اه َدا َ‬
‫{ َوإِ ْن َج َ‬
‫ِ‬
‫ألمر الشرك‪ { ،‬فَال تُط ْعهُ َما ِإلَ َّي َم ْر ِج ُع ُك ْم فَأَُنبُِّئ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫ون } فأجازيكم بأعمالكم‪ ،‬فبروا‬
‫والديكم وقدموا طاعتهما‪ ،‬إال على طاعة اللّه ورسوله‪ ،‬فإنها مقدمة على كل شيء‪.‬‬

‫( ‪)1/627‬‬

‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬


‫َمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات لَُن ْدخلََّنهُ ْم في الصَّالح َ‬
‫ين (‪)9‬‬ ‫ين آ َ‬
‫َوالذ َ‬

‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬


‫آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات لَُن ْدخلََّنهُ ْم في الصَّالح َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ين َ‬
‫{ ‪َ { } 9‬والذ َ‬
‫أي‪ :‬من آمن باللّه وعمل صالحا‪ ،‬فإن اللّه وعده أن يدخله الجنة في جملة عباده الصالحين‪ ،‬من‬
‫النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‪ ،‬كل على حسب درجته ومرتبته عند اللّه‪ ،‬فاإليمان‬
‫الصحيح والعمل الصالح عنوان على سعادة صاحبه‪ ،‬وأنه من أهل الرحمن‪ ،‬والصالحين من عباد‬
‫اللّه تعالى‪.‬‬

‫( ‪)1/627‬‬

‫صٌر ِم ْن‬‫اء َن ْ‬
‫اس َكع َذ ِ َّ ِ ِ‬
‫اب الله َولَئ ْن َج َ‬ ‫الن ِ َ‬ ‫ي ِفي اللَّ ِه َج َع َل ِفتَْنةَ َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫َمَّنا بِالله فَِإ َذا أُو ِذ َ‬
‫اس َم ْن َيقُو ُل آ َ‬ ‫الن ِ‬ ‫َو ِم َن َّ‬
‫َّ َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك لََيقُولُ َّن ِإَّنا ُكَّنا َم َع ُك ْم أ ََولَْي َس اللَّهُ بِأ ْ‬
‫َمُنوا‬ ‫ين (‪َ )10‬ولََي ْعلَ َم َّن اللهُ الذ َ‬
‫ين آ َ‬ ‫ص ُد ِ‬
‫ور اْل َعالَم َ‬ ‫َعلَ َم بِ َما في ُ‬ ‫َرِّب َ‬
‫ِِ‬
‫ين (‪)11‬‬ ‫َولََي ْعلَ َم َّن اْل ُمَنافق َ‬
‫اب اللَّ ِه َولَئِ ْن‬‫اس َك َع َذ ِ‬ ‫ي ِفي اللَّ ِه َج َع َل ِفتَْنةَ َّ‬
‫الن ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫آمَّنا بِالله فَِإ َذا أُو ِذ َ‬‫اس َم ْن َيقُو ُل َ‬ ‫الن ِ‬ ‫{ ‪َ { } 10-11‬و ِم َن َّ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّك لََيقُولُ َّن ِإَّنا ُكَّنا َم َع ُك ْم أ ََولَْي َس اللَّهُ بِأ ْ‬
‫صٌر ِم ْن َرب َ‬
‫ين * َولََي ْعلَ َم َّن اللهُ‬ ‫ص ُد ِ‬
‫ور اْل َعالَم َ‬ ‫َعلَ َم بِ َما في ُ‬ ‫اء َن ْ‬
‫َج َ‬
‫ِِ‬ ‫َِّ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫آمُنوا َولََي ْعلَ َم َّن اْل ُمَنافق َ‬
‫ين َ‬‫الذ َ‬
‫ادعى اإليمان‪ ،‬ليظهر الصادق من الكاذب‪ ،‬بيَّن تعالى أن‬ ‫لما ذكر تعالى أنه ال بد أن يمتحن من َّ‬
‫من الناس فريقا ال صبر لهم على المحن‪ ،‬وال ثبات لهم على بعض الزالزل فقال‪َ { :‬و ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬
‫اس‬
‫ي ِفي اللَّ ِه } بضرب‪ ،‬أو أخذ مال‪ ،‬أو تعيير‪ ،‬ليرتد عن دينه‪ ،‬وليراجع‬ ‫م ْن َيقُو ُل آمَّنا بِاللَّ ِه فَِإ َذا أ ِ‬
‫ُوذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫صادة له عن اإليمان والثبات عليه‪ ،‬كما أن‬ ‫اب اللَّ ِه } أي‪ :‬يجعلها َّ‬ ‫اس َك َع َذ ِ‬ ‫الن ِ‬ ‫الباطل‪َ { ،‬ج َع َل ِفتَْنةَ َّ‬
‫صاد عما هو سببه‪.‬‬ ‫العذاب ٌّ‬
‫ك لََيقُولُ َّن ِإَّنا ُكَّنا َم َع ُك ْم } ألنه موافق للهوى‪ ،‬فهذا الصنف من الناس من‬ ‫صٌر ِم ْن َرِّب َ‬ ‫اء َن ْ‬
‫ِ‬
‫{ َولَئ ْن َج َ‬
‫طمأ َّ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫َن بِه َوإِ ْن أ َ‬
‫َص َابتْهُ‬ ‫اس َم ْن َي ْعُب ُد اللهَ َعلَى َح ْرف فَِإ ْن أ َ‬
‫َص َابهُ َخ ْيٌر ا ْ َ‬ ‫الن ِ‬ ‫الذين قال اللّه فيهم‪َ { :‬و ِم َن َّ‬
‫ين }‪.‬‬ ‫ان اْل ُمبِ ُ‬ ‫اآلخ َرةَ َذِل َ‬
‫ك ُه َو اْل ُخ ْس َر ُ‬
‫الد ْنيا و ِ‬ ‫ِ ِ ِ ُّ‬
‫ب َعلَى َو ْجهه َخس َر َ َ‬
‫ِ‬
‫فتَْنةٌ ْان َقلَ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ أ ََولَْي َس اللَّهُ بِأ ْ‬
‫ين } حيث أخبركم بهذا الفريق‪ ،‬الذي حاله كما وصف‬ ‫ور اْل َعالَم َ‬‫ص ُد ِ‬ ‫َعلَ َم بِ َما في ُ‬
‫لكم‪ ،‬فتعرفون بذلك كمال علمه وسعة حكمته‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬فلذلك قَ َّد َر ِم َحًنا وابتالء‪ ،‬ليظهر علمه فيهم‪،‬‬ ‫ِِ‬
‫آمُنوا َولََي ْعلَ َم َّن اْل ُمَنافق َ‬ ‫ين َ‬
‫َّ َِّ‬
‫{ َولََي ْعلَ َم َّن اللهُ الذ َ‬
‫فيجازيهم بما ظهر منهم‪ ،‬ال بما يعلمه بمجرده‪ ،‬ألنهم قد يحتجون على اللّه‪ ،‬أنهم لو ابتُلُوا لَثََبتُوا‪.‬‬

‫( ‪)1/627‬‬

‫اه ْم ِم ْن‬
‫ط َاي ُ‬‫ين ِم ْن َخ َ‬ ‫ِِ‬ ‫َمُنوا اتَّبِ ُعوا َسبِيلََنا َوْلَن ْح ِم ْل َخ َ‬
‫ط َايا ُك ْم َو َما ُه ْم بِ َحامل َ‬ ‫ين آ َ‬
‫َِِّ‬
‫ين َكفَ ُروا للذ َ‬
‫وقَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬
‫ون‬ ‫َشي ٍء ِإَّنهم لَ َك ِاذبون (‪ )12‬ولَي ْح ِملُ َّن أَثْقَالَهم وأَثْقَااًل مع أَثْقَ ِال ِهم ولَيسأَلُ َّن يوم اْل ِقي ِ‬
‫امة َع َّما َك ُانوا َي ْفتَُر َ‬
‫ْ َ ُ ْ َْ َ َ َ‬ ‫ََ‬ ‫ُْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ ُْ‬
‫(‪)13‬‬

‫ين ِم ْن‬ ‫ِِ‬


‫ط َايا ُك ْم َو َما ُه ْم بِ َحامل َ‬ ‫آمُنوا اتَّبِ ُعوا َسبِيلََنا َوْلَن ْح ِم ْل َخ َ‬ ‫ين َ‬
‫َِِّ‬
‫ين َكفَ ُروا للذ َ‬
‫َِّ‬
‫{ ‪َ { } 12-13‬وقَا َل الذ َ‬
‫ام ِة َع َّما‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫طاي ُ ِ‬
‫اه ْم م ْن َش ْيء ِإَّنهُ ْم لَ َكاذُب َ‬
‫ون * َولََي ْحملُ َّن أَثْقَالَهُ ْم َوأَثْقَاال َم َع أَثْقَاله ْم َولَُي ْسأَلُ َّن َي ْو َم اْلقَي َ‬ ‫َخ َ َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫َك ُانوا َي ْفتَُر َ‬
‫يخبر تعالى عن افتراء الكفار ودعوتهم للمؤمنين إلى دينهم‪ ،‬وفي ضمن ذلك‪ ،‬تحذير المؤمنين من‬
‫آمُنوا اتَّبِ ُعوا َسبِيلََنا } فاتركوا‬ ‫َِِّ‬ ‫َِّ‬
‫ين َ‬‫ين َكفَ ُروا للذ َ‬ ‫االغترار بهم والوقوع في مكرهم‪ ،‬فقال‪َ { :‬وقَا َل الذ َ‬
‫ط َايا ُك ْم } وهذا األمر ليس‬ ‫دينكم أو بعضه واتبعونا في ديننا‪ ،‬فإننا نضمن لكم األمر { َوْلَن ْح ِم ْل َخ َ‬
‫اه ْم ِم ْن َش ْي ٍء } ال قليل وال كثير‪ .‬فهذا التحمل‪،‬‬ ‫ين ِم ْن َخ َ‬
‫ط َاي ُ‬ ‫ِِ‬
‫بأيديهم‪ ،‬فلهذا قال‪َ { :‬و َما ُه ْم بِ َحامل َ‬
‫ولو رضي به صاحبه‪ ،‬فإنه ال يفيد شيئا‪ ،‬فإن الحق للّه‪ ،‬واللّه تعالى لم يمكن العبد من التصرف‬
‫في حقه إال بأمره وحكمه‪ ،‬وحكمه { أن ال تَ ِز ُر َو ِاز َرةٌ ِو ْز َر أ ْ‬
‫ُخ َرى }‪.‬‬
‫اه ْم ِم ْن َش ْي ٍء } قد يتوهم منه أيضا‪ ،‬أن الكفار الداعين‬ ‫ط َاي ُ‬ ‫ين ِم ْن َخ َ‬ ‫ِِ‬
‫ولما كان قوله‪َ { :‬و َما ُه ْم بِ َحامل َ‬
‫إلى كفرهم ‪-‬ونحوهم ممن دعا إلى باطله‪ -‬ليس عليهم إال ذنبهم الذي ارتكبوه‪ ،‬دون الذنب الذي‬
‫فعله غيرهم‪ ،‬ولو كانوا متسببين فيه‪ ،‬قال‪[ :‬مخبرا عن هذا الوهم] (‪)1‬‬
‫{ َولََي ْح ِملُ َّن أَثْقَالَهُ ْم } أي‪ :‬أثقال ذنوبهم التي عملوها { َوأَثْقَاال َم َع أَثْقَ ِال ِه ْم } وهي الذنوب التي‬
‫بسببهم ومن جرائهم‪ ،‬فالذنب الذي فعله التابع [لكل من التابع]‪ ،‬والمتبوع حصته منه‪ ،‬هذا ألنه‬
‫فعله وباشره‪ ،‬والمتبوع [ألنه] تسبب في فعله ودعا إليه‪ ،‬كما أن الحسنة إذا فعلها التابع له أجرها‬
‫ون } من الشر وتزيينه‪،‬‬ ‫بالمباشرة‪ ،‬وللداعي أجره بالتسبب‪ { .‬ولَيسأَلُ َّن يوم اْل ِقي ِ‬
‫امة َع َّما َك ُانوا َي ْفتَُر َ‬
‫َ ُ ْ َْ َ َ َ‬
‫[وقولهم] (‪َ { )2‬وْلَن ْح ِم ْل َخ َ‬
‫ط َايا ُك ْم }‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من هامش‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬وقوله‪.‬‬

‫( ‪)1/627‬‬

‫َخ َذ ُهم الطُّوفَان و ُهم َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ث ِفي ِهم أَْل َ ٍ اَّل‬ ‫ِ‬
‫ون (‬
‫ظال ُم َ‬ ‫ُ َ ْ‬ ‫اما فَأ َ ُ‬ ‫ف َسَنة ِإ َخ ْمس َ‬
‫ين َع ً‬ ‫وحا ِإلَى قَ ْو ِمه َفلَبِ َ ْ‬
‫َولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُن ً‬
‫‪)14‬‬

‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ث ِفي ِهم أَْل َ ٍ‬ ‫ِ‬


‫ان‬
‫َخ َذ ُه ُم الطوفَ ُ‬
‫اما فَأ َ‬ ‫ف َسَنة ِإال َخ ْمس َ‬
‫ين َع ً‬ ‫وحا ِإلَى قَ ْو ِمه َفلَبِ َ ْ‬
‫{ ‪َ { } 14-15‬ولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُن ً‬
‫ون * } ‪.‬‬ ‫و ُهم َ ِ‬
‫ظال ُم َ‬ ‫َ ْ‬
‫يخبر تعالى عن حكمه وحكمته في عقوبة (‪ )1‬األمم المكذبة‪ [ ،‬ص ‪ ] 628‬وأن اللّه أرسل عبده‬
‫ورسوله نوحا عليه الصالة السالم إلى قومه‪ ،‬يدعوهم إلى التوحيد وإ فراد اللّه بالعبادة‪ ،‬والنهي عن‬
‫اما } وهو ال َينِي بدعوتهم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ث ِفي ِهم } نبيا داعيا { أَْل َ ٍ‬
‫ف َسَنة ِإال َخ ْمس َ‬
‫ين َع ً‬ ‫األنداد واألصنام‪َ { ،‬فلَبِ َ ْ‬
‫وال يفتر في نصحهم‪ ،‬يدعوهم ليال ونهارا وسرا وجهارا‪ ،‬فلم يرشدوا ولم يهتدوا‪ ،‬بل استمروا‬
‫على كفرهم وطغيانهم‪ ،‬حتى دعا عليهم نبيهم نوح عليه الصالة والسالم‪ ،‬مع شدة صبره وحلمه‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ب ال تَ َذر علَى األر ِ ِ‬
‫ان } أي‪ :‬الماء‬
‫َخ َذ ُه ُم الطوفَ ُ‬
‫َّارا } { فَأ َ‬ ‫ض م َن اْل َكاف ِر َ‬
‫ين َدي ً‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫واحتماله‪ ،‬فقال‪َ { :‬ر ِّ‬
‫ون } مستحقون للعذاب‪.‬‬ ‫الذي نزل من السماء بكثرة‪ ،‬ونبع من األرض بشدة { و ُهم َ ِ‬
‫ظال ُم َ‬ ‫َ ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬عقوبات‪.‬‬

‫( ‪)1/627‬‬

‫ِ ِ‬
‫ين (‪)15‬‬ ‫اب الس َِّف َين ِة َو َج َعْلَن َ‬
‫اها آََيةً لْل َعالَم َ‬ ‫َص َح َ‬
‫فَأ َْن َج ْيَناهُ َوأ ْ‬

‫ِ ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫اب الس َِّف َين ِة َو َج َعْلَن َ‬
‫اها َآيةً لْل َعالَم َ‬ ‫َص َح َ‬ ‫{ فَأ َْن َج ْيَناهُ َوأ ْ‬
‫اب الس َِّف َين ِة } الذين ركبوا معه‪ ،‬أهله ومن آمن به‪َ { .‬و َج َعْلَن َ‬
‫اها } أي‪ :‬السفينة‪ ،‬أو‬ ‫َص َح َ‬ ‫{ فَأ َْن َج ْيَناهُ َوأ ْ‬
‫ين } يعتبرون بها‪ ،‬على أن من كذب الرسل‪ ،‬آخر أمره الهالك‪ ،‬وأن‬ ‫ِ ِ‬
‫قصة نوح { َآيةً لْل َعالَم َ‬
‫المؤمنين سيجعل اللّه لهم من كل هم فرجا‪ ،‬ومن كل ضيق مخرجا‪.‬‬
‫وجعل اللّه أيضا السفينة‪ ،‬أي‪ :‬جنسها آية للعالمين‪ ،‬يعتبرون بها رحمة ربهم‪ ،‬الذي قيض لهم‬
‫طر إلى قُ ٍ‬
‫طر‪.‬‬ ‫أسبابها‪ ،‬ويسر لهم أمرها‪ ،‬وجعلها تحملهم وتحمل متاعهم من محل إلى محل ومن قُ ٍ‬

‫( ‪)1/628‬‬

‫ون ِم ْن‬‫ون (‪ِ )16‬إَّن َما تَ ْعُب ُد َ‬


‫ِ‬ ‫َّ‬
‫اعُب ُدوا اللهَ َواتَّقُوهُ َذل ُك ْم َخ ْيٌر لَ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ال ِلقَ ْو ِم ِه ْ‬
‫يم ِإ ْذ قَ َ‬ ‫ِ‬
‫َوإِ ْب َراه َ‬
‫ون لَ ُك ْم ِر ْزقًا فَ ْابتَ ُغوا ِعْن َد اللَّ ِه‬ ‫ِ‬ ‫ون اللَّ ِه أَوثَ ًانا وتَ ْخلُقُون ِإ ْف ًكا ِإ َّن الَِّذين تَعب ُدون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون الله اَل َي ْمل ُك َ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُد ِ‬
‫ُم ٌم ِم ْن قَْبِل ُك ْم َو َما َعلَى‬ ‫ب أَ‬
‫َّ‬
‫ون (‪َ )17‬وإِ ْن تُ َك ِّذُبوا فَقَ ْد َكذ َ‬
‫ِ‬
‫اعُب ُدوهُ َوا ْش ُك ُروا لَهُ ِإلَْيه تُْر َج ُع َ‬ ‫ق َو ْ‬ ‫الر ْز َ‬
‫ِّ‬
‫ك َعلَى اللَّ ِه َي ِس ٌير (‬ ‫يدهُ ِإ َّن َذِل َ‬ ‫ق ثَُّم ُي ِع ُ‬
‫ف ُي ْب ِدئُ اللَّهُ اْل َخْل َ‬ ‫ين (‪ )18‬أ ََولَ ْم َي َر ْوا َك ْي َ‬ ‫الرس ِ اَّل‬
‫ول ِإ اْلَباَل غُ اْل ُمبِ ُ‬ ‫َّ ُ‬
‫الن ْشأَةَ اآْل َ ِخ َرةَ ِإ َّن اللَّهَ َعلَى ُك ِّل‬ ‫ق ثَُّم اللَّهُ ُي ْن ِشئُ َّ‬ ‫ف َب َدأَ اْل َخْل َ‬‫ض فَ ْانظُ ُروا َك ْي َ‬ ‫‪ُ )19‬ق ْل ِس ُيروا ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ين ِفي‬‫ون (‪َ )21‬و َما أ َْنتُ ْم بِ ُم ْع ِج ِز َ‬
‫ِ‬
‫اء َوإِلَْيه تُْقلَُب َ‬ ‫اء َوَي ْر َح ُم َم ْن َي َش ُ‬ ‫ب َم ْن َي َش ُ‬
‫ٍ ِ‬
‫َش ْيء قَد ٌير (‪ُ )20‬ي َع ِّذ ُ‬
‫ير (‪)22‬‬ ‫صٍ‬ ‫ون اللَّ ِه ِم ْن وِل ٍّي واَل َن ِ‬ ‫اء َو َما لَ ُك ْم ِم ْن ُد ِ‬ ‫ض واَل ِفي السَّم ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫اأْل َْر َ‬

‫ون * ِإَّن َما‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫يم ِإ ْذ قَا َل ِلقَ ْو ِم ِه ْ‬ ‫ِ‬


‫اعُب ُدوا اللهَ َواتَّقُوهُ َذل ُك ْم َخ ْيٌر لَ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫{ ‪َ { } 16-22‬وإِ ْب َراه َ‬
‫ون لَ ُك ْم ِر ْزقًا‬ ‫ِ‬ ‫ون اللَّ ِه أَوثَ ًانا وتَ ْخلُقُون ِإ ْف ًكا ِإ َّن الَِّذين تَعب ُدون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬
‫ون الله ال َي ْمل ُك َ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫تَ ْعُب ُد َ‬
‫ُم ٌم ِم ْن قَْبِل ُك ْم‬
‫ب أَ‬
‫َّ‬
‫ون * َوإِ ْن تُ َك ِّذُبوا فَقَ ْد َكذ َ‬
‫ِ‬
‫اعُب ُدوهُ َوا ْش ُك ُروا لَهُ ِإلَْيه تُْر َج ُع َ‬ ‫ق َو ْ‬ ‫فَ ْابتَ ُغوا ِع ْن َد اللَّ ِه ِّ‬
‫الر ْز َ‬
‫ك َعلَى اللَّ ِه‬ ‫يدهُ ِإ َّن َذِل َ‬
‫ق ثَُّم ُي ِع ُ‬ ‫ف ُي ْب ِدئُ اللَّهُ اْل َخْل َ‬ ‫ول ِإال اْلَبالغُ اْل ُمبِ ُ‬
‫ين * أ ََولَ ْم َي َر ْوا َك ْي َ‬ ‫الرس ِ‬
‫َو َما َعلَى َّ ُ‬
‫اآلخ َرةَ ِإ َّن اللَّهَ َعلَى‬ ‫الن ْشأَةَ ِ‬ ‫ق ثَُّم اللَّهُ ُي ْن ِشئُ َّ‬ ‫ف َب َدأَ اْل َخْل َ‬
‫ض فَ ْانظُ ُروا َك ْي َ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َيس ٌير * ُق ْل س ُيروا في ْ‬
‫ِ‬
‫األر ِ‬
‫ض‬ ‫ُك ِّل َشي ٍء قَِدير * يع ِّذب م ْن ي َشاء ويرحم م ْن ي َشاء وإِلَْي ِه تُْقلَبون * وما أ َْنتُم بِمع ِج ِز ِ‬
‫ين في ْ‬
‫ُ َ ََ ْ ُْ َ‬ ‫ٌ ُ َ ُ َ َ ُ َ َْ َ ُ َ َ ُ َ‬ ‫ْ‬
‫ير } ‪.‬‬ ‫صٍ‬ ‫ون اللَّ ِه ِم ْن وِل ٍّي وال َن ِ‬
‫اء َو َما لَ ُك ْم ِم ْن ُد ِ‬
‫وال ِفي السَّم ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يذكر تعالى أنه أرسل خليله إبراهيم عليه الصالة والسالم إلى قومه‪ ،‬يدعوهم إلى اهلل‪ ،‬فقال [لهم]‪:‬‬
‫وحدوه‪ ،‬وأخلصوا له العبادة‪ ،‬وامتثلوا ما أمركم به‪َ { ،‬واتَّقُوهُ } أن يغضب‬ ‫اعُب ُدوا اللَّهَ } أي‪ِّ :‬‬
‫{ ْ‬
‫عليكم‪ ،‬فيعذبكم‪ ،‬وذلك بترك ما يغضبه من المعاصي‪َ { ،‬ذِل ُك ْم } أي‪ :‬عبادة اهلل وتقواه { َخ ْيٌر لَ ُك ْم }‬
‫من ترك ذلك‪ ،‬وهذا من باب إطالق " أفعل التفضيل " بما ليس في الطرف اآلخر منه شيء‪ ،‬فإن‬
‫ترك عبادة اهلل‪ ،‬وترك تقواه‪ ،‬ال خير فيه بوجه‪ ،‬وإ نما كانت عبادة اهلل وتقواه خيرا للناس‪ ،‬ألنه ال‬
‫سبيل إلى نيل كرامته في الدنيا واآلخرة إال بذلك‪ ،‬وكل خير يوجد في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فإنه من‬
‫آثار عبادة اهلل وتقواه‪.‬‬
‫ون } ذلك‪ ،‬فاعلموا األمور وانظروا ما هو أولى باإليثار‪ ،‬فلما أمرهم بعبادة اهلل‬ ‫{ ِإ ْن ُك ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُم َ‬
‫وتقواه‪ ،‬نهاهم عن عبادة األصنام‪ ،‬وبيَّن لهم نقصها وعدم استحقاقها للعبودية‪ ،‬فقال‪ِ { :‬إَّن َما تَ ْعُب ُد َ‬
‫ون‬
‫ون ِإ ْف ًكا } تنحتونها وتخلقونها بأيديكم‪ ،‬وتخلقون لها أسماء اآللهة‪،‬‬ ‫ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون الله أ َْوثَ ًانا َوتَ ْخلُقُ َ‬
‫ون اللَّ ِه } في نقصه‪،‬‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫َِّ‬
‫وتختلقون الكذب باألمر بعبادتها والتمسك بذلك‪ِ { ،‬إ َّن الذ َ‬
‫ين تَ ْد ُع َ‬
‫ون لَ ُك ْم ِر ْزقًا } فكأنه قيل‪ :‬قد بان لنا أن هذه األوثان‬ ‫ِ‬
‫وأنه ليس فيه ما يدعو إلى عبادته‪ { ،‬ال َي ْمل ُك َ‬
‫مخلوقة ناقصة‪ ،‬ال تملك نفعا وال ضرا‪ ،‬وال موتا وال حياة وال نشورا‪ ،‬وأن من هذا وصفه‪ ،‬ال‬
‫يستحق أدنى أدنى أدنى مثقال مثقال مثقال ذرة من العبادة والتأله‪ ،‬والقلوب ال بد أن تطلب معبودا‬
‫ق } فإنه‬ ‫تألهه وتسأله حوائجها‪ ،‬فقال ‪-‬حاثا لهم على من يستحق العبادة‪ { -‬فَ ْابتَ ُغوا ِعْن َد اللَّ ِه ِّ‬
‫الر ْز َ‬
‫اعُب ُدوهُ } وحده ال‬
‫هو الميسر له‪ ،‬المقدر‪ ،‬المجيب لدعوة من دعاه في أمر دينه ودنياه (‪َ { )1‬و ْ‬
‫شريك له‪ ،‬لكونه الكامل النافع الضار‪ ،‬المتفرد بالتدبير‪َ { ،‬وا ْش ُك ُروا لَهُ } وحده‪ ،‬لكون جميع ما‬
‫وصل ويصل إلى الخلق من النعم فمنه‪ ،‬وجميع ما اندفع ويندفع من النقم عنهم فهو الدافع لها‪.‬‬
‫ِ‬
‫ون } يجازيكم على ما عملتم‪ ،‬وينبئكم بما أسررتم وأعلنتم‪ ،‬فاحذروا القدوم عليه وأنتم‬ ‫{ ِإلَْيه تُْر َج ُع َ‬
‫على شرككم‪ ،‬وارغبوا فيما يقربكم إليه‪ ،‬ويثيبكم ‪-‬عند القدوم‪ -‬عليه‪.‬‬
‫ك َعلَى اللَّ ِه َي ِس ٌير } كما قال‬
‫يدهُ } يوم القيامة { ِإ َّن َذِل َ‬ ‫ق ثَُّم ُي ِع ُ‬
‫ف ُي ْب ِدئُ اللَّهُ اْل َخْل َ‬‫{ أ ََولَ ْم َي َر ْوا َك ْي َ‬
‫َه َو ُن َعلَْي ِه }‪.‬‬ ‫ق ثَُّم ُي ِع ُ‬
‫يدهُ َو ُه َو أ ْ‬ ‫تعالى‪َ { :‬و ُه َو الَِّذي َي ْب َدأُ اْل َخْل َ‬
‫ض } بأبدانكم وقلوبكم‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ ُق ْل } لهم‪ ،‬إن حصل معهم ريب وشك في االبتداء‪ { :‬س ُيروا في ْ‬
‫ق } فإنكم ستجدون أمما من اآلدميين والحيوانات‪ ،‬ال تزال توجد شيئا‬
‫ف َب َدأَ اْل َخْل َ‬
‫{ فَ ْانظُ ُروا َك ْي َ‬
‫فشيئا‪ ،‬وتجدون النبات واألشجار‪ ،‬كيف تحدث وقتا بعد وقت‪ ،‬وتجدون السحاب والرياح ونحوها‪،‬‬
‫مستمرة في تجددها‪ ،‬بل الخلق دائما في بدء وإ عادة‪ ،‬فانظر [ ص ‪ ] 629‬إليهم وقت موتتهم‬
‫الصغرى ‪-‬النوم‪ -‬وقد هجم عليهم الليل بظالمه‪ ،‬فسكنت منهم الحركات‪ ،‬وانقطعت منهم‬
‫األصوات‪ ،‬وصاروا في فرشهم ومأواهم كالميتين‪ ،‬ثم إنهم لم يزالوا على ذلك طول ليلهم‪ ،‬حتى‬
‫انفلق اإلصباح‪ ،‬فانتبهوا من رقدتهم‪ ،‬وبعثوا من موتتهم‪ ،‬قائلين‪ " :‬الحمد للّه الذي أحيانا بعد ما‬
‫أماتنا وإ ليه النشور "‬
‫اآلخ َرةَ } وهي النشأة التي ال تقبل موتا وال نوما‪،‬‬ ‫الن ْشأَةَ ِ‬ ‫ولهذا قال‪ { :‬ثَُّم اللَّهُ } بعد اإلعادة { ُي ْن ِشئُ َّ‬
‫وإ نما هو الخلود والدوام في إحدى الدارين‪ِ { .‬إ َّن اللَّهَ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير } فقدرته تعالى ال‬
‫يعجزها شيء وكما قدر بها على ابتداء الخلق‪ ،‬فقدرته على اإلعادة من باب أولى وأحرى‪.‬‬
‫اء } أي‪ :‬هو المنفرد بالحكم الجزائي‪ ،‬وهو إثابة الطائعين‬ ‫اء َوَي ْر َح ُم َم ْن َي َش ُ‬ ‫{ ُي َع ِّذ ُ‬
‫ب َم ْن َي َش ُ‬
‫ون } أي‪ :‬ترجعون إلى الدار‪ ،‬التي بها‬ ‫ِ‬
‫ورحمتهم‪ ،‬وتعذيب العاصين والتنكيل بهم‪َ { .‬وإِلَْيه تُْقلَُب َ‬
‫تجري عليكم أحكام عذابه ورحمته‪ ،‬فاكتسبوا في هذه الدار‪ ،‬ما هو من أسباب رحمته من‬
‫الطاعات‪ ،‬وابتعدوا من أسباب عذابه‪ ،‬وهي المعاصي‪.‬‬
‫ض وال ِفي السَّم ِ‬
‫ين ِفي ْ ِ‬
‫اء } أي‪ :‬يا هؤالء المكذبون‪ ،‬المتجرؤن على‬ ‫َ‬ ‫األر َ‬ ‫{ َو َما أ َْنتُ ْم بِ ُم ْع ِج ِز َ‬
‫المعاصي‪ ،‬ال تحسبوا أنه مغفول عنكم‪ ،‬أو معجزون للّه في األرض وال في السماء‪ ،‬فال تغرنكم‬
‫قدرتكم وما زينت لكم أنفسكم وخدعتكم‪ ،‬من النجاة من عذاب اهلل‪ ،‬فلستم بمعجزين اهلل في جميع‬
‫أقطار العالم‪.‬‬
‫صٍ‬
‫ير }‬ ‫ون اللَّ ِه ِم ْن وِل ٍّي } يتوالكم‪ ،‬فيحصل لكم مصالح دينكم ودنياكم‪ { ،‬وال َن ِ‬
‫{ َو َما لَ ُك ْم ِم ْن ُد ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ينصركم‪ ،‬فيدفع عنكم المكاره‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬لمصالح دينه ودنياه‪.‬‬

‫( ‪)1/628‬‬

‫يم (‪)23‬‬ ‫ك لَهم ع َذ ٌ ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات اللَّ ِه وِلقَائِ ِه أُولَئِ َ ِ‬
‫والَِّذين َكفَروا بِآَي ِ‬
‫اب أَل ٌ‬ ‫ك َيئ ُسوا م ْن َر ْح َمتي َوأُولَئ َ ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ‬

‫يم } ‪.‬‬ ‫ك لَهم ع َذ ٌ ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات اللَّ ِه وِلقَائِ ِه أُولَئِ َ ِ‬
‫{ ‪ { } 23‬والَِّذين َكفَروا بِآي ِ‬
‫اب أَل ٌ‬ ‫ك َيئ ُسوا م ْن َر ْح َمتي َوأُولَئ َ ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫يخبر تعالى من هم الذين زال عنهم الخير‪ ،‬وحصل لهم الشر‪ ،‬وأنهم الذين كفروا به وبرسله‪ ،‬وبما‬
‫جاءوهم به‪ ،‬وكذبوا بلقاء اللّه‪ ،‬فليس عندهم إال الدنيا‪ ،‬فلذلك قدموا على ما أقدموا عليه من الشرك‬
‫ك َيئِ ُسوا ِم ْن‬
‫والمعاصي‪ ،‬ألنه ليس في قلوبهم ما يخوفهم من عاقبة ذلك‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬أُولَئِ َ‬
‫َر ْح َمتِي } أي‪ :‬فلذلك لم يعلموا سببا واحدا يحصلون به الرحمة‪ ،‬وإ ال لو طمعوا في رحمته‪ ،‬لعملوا‬
‫لذلك أعماال واإلياس من رحمة اللّه من أعظم المحاذير‪ ،‬وهو نوعان‪ :‬إياس الكفار منها‪ ،‬وتركهم‬
‫جميع سبب يقربهم منها‪ ،‬وإ ياس العصاة‪ ،‬بسبب كثرة جناياتهم أوحشتهم‪ ،‬فملكت قلوبهم‪ ،‬فأحدث‬
‫يم } أي‪ :‬مؤلم موجع‪ .‬وكأن هذه اآليات معترضات بين كالم‬ ‫ك لَهم ع َذ ٌ ِ‬‫ِ‬
‫اب أَل ٌ‬ ‫لها اإلياس‪َ { ،‬وأُولَئ َ ُ ْ َ‬
‫إبراهيم عليه السالم لقومه‪ ،‬وردهم عليه‪ ،‬واللّه أعلم بذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/629‬‬

‫ات ِلقَ ْوٍم‬‫ك آَل َي ٍ‬ ‫ِ ِ‬


‫الن ِار ِإ َّن في َذل َ َ‬ ‫َن قَالُوا ا ْقتُلُوهُ أ َْو َحِّرقُوهُ فَأ َْن َجاهُ اللَّهُ ِم َن َّ‬ ‫اب قَ ْو ِم ِه ِإاَّل أ ْ‬
‫ان َج َو َ‬ ‫فَ َما َك َ‬
‫ام ِة َي ْكفُُر‬ ‫ِ‬ ‫ون اللَّ ِه أ َْوثَ ًانا َمو َّدةَ َب ْينِ ُك ْم ِفي اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫الد ْنَيا ثَُّم َي ْو َم اْلقَي َ‬ ‫َ‬ ‫ون (‪َ )24‬وقَا َل ِإَّن َما اتَّ َخ ْذتُ ْم ِم ْن ُد ِ‬ ‫ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ُك ْم بَِب ْع ٍ‬
‫ين (‪)25‬‬ ‫الن ُار َو َما لَ ُك ْم م ْن َناص ِر َ‬ ‫ضا َو َمأ َْوا ُك ُم َّ‬
‫ض ُك ْم َب ْع ً‬‫ض َوَيْل َع ُن َب ْع ُ‬ ‫َب ْع ُ‬

‫الن ِار ِإ َّن ِفي َذِل َ‬


‫ك‬ ‫َن قَالُوا ا ْقتُلُوهُ أ َْو َحِّرقُوهُ فَأ َْن َجاهُ اللَّهُ ِم َن َّ‬ ‫اب قَ ْو ِم ِه ِإال أ ْ‬‫ان َج َو َ‬ ‫{ ‪ { } 24-25‬فَ َما َك َ‬
‫ون اللَّ ِه أ َْوثَ ًانا َمو َّدةَ َب ْينِ ُك ْم ِفي اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫الد ْنَيا ثَُّم َي ْو َم‬ ‫ال ِإَّن َما اتَّ َخ ْذتُ ْم ِم ْن ُد ِ‬
‫ون * َوقَ َ‬ ‫ٍ ِ‬
‫آليات لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ُك ْم بَِب ْع ٍ‬ ‫اْل ِقي ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫الن ُار َو َما لَ ُك ْم م ْن َناص ِر َ‬ ‫ضا َو َمأ َْوا ُك ُم َّ‬ ‫ض ُك ْم َب ْع ً‬
‫ض َوَيْل َع ُن َب ْع ُ‬ ‫امة َي ْكفُُر َب ْع ُ‬‫ََ‬
‫أي‪ :‬فما كان مجاوبة قوم إبراهيم إبراهيم حين دعاهم إلى ربه قبول دعوته‪ ،‬واالهتداء بنصحه‪،‬‬
‫ورؤية نعمة اللّه عليهم بإرساله إليهم‪ ،‬وإ نما كان مجاوبتهم له شر مجاوبة‪.‬‬
‫{ قَالُوا ا ْقتُلُوهُ أ َْو َحِّرقُوهُ } أشنع القتالت‪ ،‬وهم أناس مقتدرون‪ ،‬لهم السلطان‪ ،‬فألقوه في النار‬
‫{ فَأ َْن َجاهُ اللَّهُ } منها‪.‬‬
‫ون } فيعلمون صحة ما جاءت به الرسل‪ ،‬وبَِّر ُه ْم ونصحهم‪،‬‬ ‫ٍ ِ‬ ‫{ ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫آليات لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ك َ‬
‫وبطالن قول من خالفهم وناقضهم‪ ،‬وأن المعارضين للرسل كأنهم تواصوا وحث بعضهم بعضا‬
‫على التكذيب‪.‬‬
‫ون اللَّ ِه أ َْوثَ ًانا َم َو َّدةَ َب ْينِ ُك ْم ِفي‬
‫{ َوقَا َل } لهم إبراهيم في جملة ما قاله من نصحه‪ِ { :‬إَّن َما اتَّ َخ ْذتُ ْم ِم ْن ُد ِ‬
‫الد ْنيا } أي‪ :‬غاية ذلك‪ ،‬مودة في الدنيا ستنقطع وتضمحل‪ { ،‬ثَُّم يوم اْل ِقي ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ُك ْم‬‫امة َي ْكفُُر َب ْع ُ‬ ‫َْ َ َ َ‬ ‫اْل َحَياة ُّ َ‬
‫ضا } أي‪ :‬يتبرأ كل من العابدين والمعبودين من اآلخر { َوإِ َذا ُح ِش َر‬ ‫ض ُك ْم َب ْع ً‬ ‫بَِب ْع ٍ‬
‫ض َوَيْل َع ُن َب ْع ُ‬
‫ِ‬ ‫َع َداء و َك ُانوا بِ ِعب َ ِ‬
‫ين } فكيف تتعلقون بمن يعلم أنه سيتبرأ من عابديه‬ ‫ادت ِه ْم َكاف ِر َ‬ ‫َ‬ ‫اس َك ُانوا لَهُ ْم أ ْ ً َ‬ ‫َّ‬
‫الن ُ‬
‫النار " وليس أحد ينصرهم من عذاب‬ ‫ويلعنهم؟ " و " أن مأوى الجميع‪ ،‬العابدين والمعبودين " َّ‬
‫اللّه‪ ،‬وال يدفع عنهم عقابه‪.‬‬

‫( ‪)1/629‬‬
‫يم (‪َ )26‬و َو َه ْبَنا لَهُ ِإ ْس َح َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫وب‬
‫اق َوَي ْعقُ َ‬ ‫َم َن لَهُ لُوطٌ َوقَا َل إِّني ُمهَاجٌر إلَى َربِّي إَّنهُ ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬ ‫فَآ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َج َرهُ ِفي ُّ‬ ‫ِ‬ ‫َو َج َعْلَنا ِفي ُذِّريَّتِ ِه ُّ‬
‫ين (‪)27‬‬ ‫الد ْنَيا َوإِ َّنهُ في اآْل َخ َر ِة لَم َن الصَّالح َ‬ ‫اب َوآَتَْيَناهُ أ ْ‬
‫النُب َّوةَ َواْلكتَ َ‬

‫يم * َو َو َه ْبَنا لَهُ ِإ ْس َح َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫اق‬ ‫آم َن لَهُ لُوطٌ َوقَا َل إِّني ُمهَاجٌر إلَى َربِّي إَّنهُ ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬ ‫{ ‪ { } 26-27‬فَ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َج َرهُ ِفي ُّ‬ ‫ِ‬ ‫وب َو َج َعْلَنا ِفي ُذِّريَّتِ ِه ُّ‬
‫الد ْنَيا َوإِ َّنهُ في اآلخ َر ِة لَم َن الصَّالح َ‬
‫ين‬ ‫اب َوآتَْيَناهُ أ ْ‬
‫النُب َّوةَ َواْلكتَ َ‬ ‫َوَي ْعقُ َ‬
‫}‪.‬‬
‫أي‪ :‬لم يزل إبراهيم عليه الصالة والسالم يدعو قومه‪ ،‬وهم مستمرون على عنادهم‪ ،‬إال أنه آمن له‬
‫بدعوته لوط‪ ،‬الذي نبأه اللّه‪ ،‬وأرسله إلى قومه كما سيأتي ذكره‪.‬‬
‫{ وقَا َل } إبراهيم حين رأى أن دعوة قومه ال تفيدهم شيئا‪ِ { :‬إِّني مه ِ‬
‫اجٌر ِإلَى َربِّي } أي‪ :‬هاجر‬‫َُ‬ ‫َ‬
‫أرض السوء‪ ،‬ومهاجر إلى األرض المباركة‪ ،‬وهي الشام‪ِ { ،‬إَّنهُ ُه َو اْل َع ِز ُيز } أي‪ :‬الذي له القوة‪،‬‬
‫يم ما اقتضت حكمته ذلك‪ ،‬ولما اعتزلهم وفارقهم‪ ،‬وهم بحالهم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وهو يقدر على هدايتكم‪ ،‬ولكنه َحك ٌ‬
‫لم [ ص ‪ ] 630‬يذكر اللّه عنهم أنه أهلكهم بعذاب‪ ،‬بل ذكر اعتزاله إياهم‪ ،‬وهجرته من بين‬
‫أظهرهم‪.‬‬
‫فأما ما يذكر في اإلسرائيليات‪ ،‬أن اللّه تعالى فتح على قومه باب البعوض‪ ،‬فشرب دماءهم‪ ،‬وأكل‬
‫لحومهم‪ ،‬وأتلفهم عن آخرهم‪ ،‬فهذا يتوقف الجزم به على الدليل الشرعي‪ ،‬ولم يوجد‪ ،‬فلو كان اللّه‬
‫استأصلهم بالعذاب لذكره كما ذكر إهالك األمم المكذبة‪ ،‬ولكن لعل من أسرار ذلك‪ ،‬أن الخليل‬
‫عليه السالم من أرحم الخلق وأفضلهم [وأحلمهم] وأجلهم‪ ،‬فلم يدع على قومه كما دعا غيره‪ ،‬ولم‬
‫يكن اللّه ليجري بسببه عذابا عاما‪.‬‬
‫ومما يدل على ذلك‪ ،‬أنه راجع المالئكة في إهالك قوم لوط‪ ،‬وجادلهم‪ ،‬ودافع عنهم‪ ،‬وهم ليسوا‬
‫قومه‪ ،‬واللّه أعلم بالحال‪.‬‬
‫اب }‬ ‫ِ‬ ‫وب } أي‪ :‬بعد ما هاجر إلى الشام { َو َج َعْلَنا ِفي ُذِّريَّتِ ِه ُّ‬ ‫{ َو َو َه ْبَنا لَهُ ِإ ْس َح َ‬
‫النُب َّوةَ َواْلكتَ َ‬ ‫اق َوَي ْعقُ َ‬
‫فلم يأت بعده نبي إال من ذريته‪ ،‬وال نزل كتاب إال على ذريته‪ ،‬حتى ختموا بالنبي (‪ )1‬محمد‬
‫صلى اللّه عليه وسلم وعليهم أجمعين‪.‬‬
‫وهذا [من] أعظم المناقب والمفاخر‪ ،‬أن تكون مواد الهداية والرحمة والسعادة والفالح في ذريَّته‪،‬‬
‫َج َرهُ ِفي ُّ‬
‫الد ْنَيا }‬ ‫وعلى أيديهم اهتدى المهتدون‪ ،‬وآمن المؤمنون‪ ،‬وصلح الصالحون‪َ { .‬وآتَْيَناهُ أ ْ‬
‫من الزوجة الجميلة فائقة الجمال‪ ،‬والرزق الواسع‪ ،‬واألوالد‪ ،‬الذين بهم قرت عينه‪ ،‬ومعرفة اللّه‬
‫ومحبته‪ ،‬واإلنابة إليه‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } بل هو ومحمد صلى اللّه عليهما وسلم أفضل الصالحين على‬ ‫{ َوإِ َّنهُ في اآلخ َر ِة لَم َن الصَّالح َ‬
‫اإلطالق‪ ،‬وأعالهم منزلة‪ ،‬فجمع اللّه له بين سعادة الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬بابنه‬

‫( ‪)1/629‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اح َشةَ ما سبقَ ُكم بِها ِم ْن أ ٍ ِ‬ ‫ال ِلقَو ِم ِه ِإَّن ُكم لَتَأْتُون اْلفَ ِ‬ ‫ولُو ً ِ‬
‫ين (‪ )28‬أَئَّن ُك ْم لَتَأْتُ َ‬
‫ون‬ ‫َحد م َن اْل َعالَم َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫طا إ ْذ قَ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫َن قَالُوا ا ْئتَنا بِ َع َذ ِ‬ ‫اَّل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب‬ ‫اب قَ ْو ِمه ِإ أ ْ‬‫ان َج َو َ‬ ‫ون في َنادي ُك ُم اْل ُم ْن َك َر فَ َما َك َ‬ ‫يل َوتَأْتُ َ‬ ‫السبِ َ‬
‫ون َّ‬ ‫ط ُع َ‬‫الر َجا َل َوتَ ْق َ‬‫ِّ‬
‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫اللَّ ِه ِإ ْن ُك ْن َ ِ‬
‫ت ُر ُسلَُنا‬ ‫اء ْ‬
‫ين (‪َ )30‬ولَ َّما َج َ‬ ‫ص ْرنِي َعلَى اْلقَ ْوِم اْل ُم ْفسد َ‬ ‫ب ْان ُ‬ ‫ال َر ِّ‬‫ين (‪ )29‬قَ َ‬ ‫ت م َن الصَّادق َ‬
‫طا‬‫ين (‪ )31‬قَا َل ِإ َّن ِفيهَا لُو ً‬ ‫َهلَها َك ُانوا َ ِ ِ‬
‫ظالم َ‬
‫ِ‬ ‫اهيم بِاْلب ْشرى قَالُوا ِإَّنا مهِل ُكو أ ْ ِ ِ ِ‬
‫َهل َهذه اْلقَ ْرَية ِإ َّن أ ْ َ‬ ‫ُْ‬ ‫ِإ ْب َر َ ُ َ‬
‫ِ‬
‫َهلَه ِإاَّل امرأَتَه َك َان ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫ت ُر ُسلَُنا‬ ‫اء ْ‬
‫َن َج َ‬ ‫ين (‪َ )32‬ولَ َّما أ ْ‬ ‫ت م َن اْل َغابِ ِر َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َعلَ ُم بِ َم ْن فيهَا لَُنَنجَ‬
‫ِّيَّنهُ َوأ ْ ُ‬ ‫قَالُوا َن ْح ُن أ ْ‬
‫َهلَ َ اَّل‬ ‫لُو ً ِ‬
‫ت‬‫ك َك َان ْ‬ ‫ام َرأَتَ َ‬‫ك ِإ ْ‬ ‫ف َواَل تَ ْح َز ْن ِإَّنا ُمَنج َ‬
‫ُّوك َوأ ْ‬ ‫اق بِ ِه ْم َذ ْر ًعا َوقَالُوا اَل تَ َخ ْ‬ ‫ض َ‬ ‫يء بِ ِه ْم َو َ‬‫طا س َ‬
‫َه ِل َه ِذ ِه اْلقَري ِة ِر ْج ًزا ِمن الس ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)34‬‬ ‫َّماء بِ َما َك ُانوا َي ْف ُسقُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫ون َعلَى أ ْ‬ ‫ين (‪ِ )33‬إَّنا ُم ْن ِزلُ َ‬ ‫م َن اْل َغابِ ِر َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)35‬‬ ‫َولَقَ ْد تََر ْكَنا م ْنهَا آََيةً َبيَِّنةً لقَ ْوٍم َي ْعقلُ َ‬

‫ين *‬ ‫ِ‬ ‫اح َشةَ ما سبقَ ُكم بِها ِم ْن أ ٍ ِ‬ ‫ال ِلقَو ِم ِه ِإَّن ُكم لَتَأْتُون اْلفَ ِ‬ ‫{ ‪ { } 28-35‬ولُو ً ِ‬
‫َحد م َن اْل َعالَم َ‬‫َ‬ ‫َ ََ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫طا إ ْذ قَ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب قَ ْو ِمه ِإال أ ْ‬
‫َن قَالُوا‬ ‫ان َج َو َ‬ ‫ون في َنادي ُك ُم اْل ُم ْن َك َر فَ َما َك َ‬ ‫يل َوتَأْتُ َ‬ ‫السبِ َ‬‫ون َّ‬ ‫ط ُع َ‬
‫ال َوتَ ْق َ‬
‫الر َج َ‬
‫ون ِّ‬ ‫أَئَّن ُك ْم لَتَأْتُ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫اب اللَّ ِه ِإ ْن ُك ْن َ ِ‬
‫ا ْئتَِنا بِ َع َذ ِ‬
‫ين } إلى آخر القصة‬ ‫ص ْرنِي َعلَى اْلقَ ْوِم اْل ُم ْفسد َ‬ ‫ب ْان ُ‬ ‫ين * قَا َل َر ِّ‬ ‫ت م َن الصَّادق َ‬
‫‪.‬‬
‫تقدم أن لوطا عليه السالم آمن إلبراهيم‪ ،‬وصار من المهتدين به‪ ،‬وقد ذكروا أنه ليس من ذرية‬
‫إبراهيم‪ ،‬وإ نما هو ابن أخي إبراهيم‪.‬‬
‫اب } وإ ن كان عاما‪ ،‬فال يناقض كون لوط نبيا‬ ‫ِ‬ ‫فقوله تعالى‪َ { :‬و َج َعْلَنا ِفي ُذِّريَّتِ ِه ُّ‬
‫النُب َّوةَ َواْلكتَ َ‬
‫رسوال وهو ليس من ذريته‪ ،‬ألن اآلية جيء بها لسياق المدح والثناء على الخليل‪ ،‬وقد أخبر أن‬
‫لوطا اهتدى على يديه‪ ،‬ومن اهتدى على يديه أكمل ممن اهتدى من ذريته بالنسبة إلى فضيلة‬
‫الهادي‪ ،‬واللّه أعلم‪.‬‬
‫فأرسل اللّه لوطا إلى قومه‪ ،‬وكانوا مع شركهم‪ ،‬قد جمعوا بين فعل الفاحشة في الذكور‪ ،‬وتقطيع‬
‫السبيل‪ ،‬وفشو المنكرات في مجالسهم‪ ،‬فنصحهم لوط عن هذه األمور‪ ،‬وبيَّن لهم قبائحها في‬
‫اب قَ ْو ِم ِه ِإال أ ْ‬
‫َن‬ ‫ان َج َو َ‬
‫نفسها‪ ،‬وما تئول إليه من العقوبة البليغة‪ ،‬فلم يرعووا ولم يذكروا‪ { .‬فَ َما َك َ‬
‫ين }‬ ‫ِِ‬ ‫اب اللَّ ِه ِإ ْن ُك ْن َ ِ‬
‫قَالُوا ا ْئتَِنا بِ َع َذ ِ‬
‫ت م َن الصَّادق َ‬
‫فأيس منهم نبيهم‪ ،‬وعلم استحقاقهم العذاب‪ ،‬وجزع من شدة تكذيبهم له‪ ،‬فدعا عليهم و { قَا َل َر ِّ‬
‫ب‬
‫ِِ‬
‫ص ْرنِي َعلَى اْلقَ ْوِم اْل ُم ْفسد َ‬
‫ين } فاستجاب اللّه دعاءه‪ ،‬فأرسل المالئكة إلهالكهم‪.‬‬ ‫ْان ُ‬

‫( ‪)1/630‬‬

‫فمروا بإبراهيم قبل‪ ،‬وبشروه بإسحاق‪ ،‬ومن وراء إسحاق يعقوب‪ ،‬ثم سألهم إبراهيم أين يريدون؟‬
‫فأخبروه أنهم يريدون إهالك قوم لوط‪ ،‬فجعل يراجعهم ويقول‪ِ { :‬إ َّن ِفيهَا لُو ً‬
‫طا } فقالوا له‪:‬‬
‫َهلَه ِإال امرأَتَه َك َان ْ ِ‬
‫ين } ثم مضوا حتى أتوا لوطا‪ ،‬فساءه مجيئهم‪ ،‬وضاق‬ ‫ت م َن اْل َغابِ ِر َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫ِّيَّنهُ َوأ ْ ُ‬
‫{ لَُنَنجَ‬
‫بهم ذرعا‪ ،‬بحيث إنه لم يعرفهم‪ ،‬وظن أنهم من جملة أبناء السبيل الضيوف‪ ،‬فخاف عليهم من‬
‫ف َوال تَ ْح َز ْن } وأخبروه أنهم رسل اللّه‪.‬‬ ‫قومه‪ ،‬فقالوا له‪ { :‬ال تَ َخ ْ‬
‫َه ِل َه ِذ ِه اْلقَ ْرَي ِة ِر ْج ًزا } أي‪:‬‬ ‫ين ِإَّنا ُمنزلُ َ‬
‫ون َعلَى أ ْ‬ ‫ك َك َان ْ ِ‬
‫ت م َن اْل َغابِ ِر َ‬ ‫ك ِإال ْ‬
‫ام َرأَتَ َ‬ ‫َهلَ َ‬
‫ك َوأ ْ‬‫{ ِإَّنا ُمَنجُّو َ‬
‫عذابا { ِمن الس ِ‬
‫ون } فأمروه أن يسري بأهله ليال فلما أصبحوا‪ ،‬قلب اللّه عليهم‬ ‫َّماء بِ َما َك ُانوا َي ْف ُسقُ َ‬ ‫َ َ‬
‫ديارهم‪ ،‬فجعل عاليها سافلها‪ ،‬وأمطر عليهم حجارة من سجيل متتابعة حتى أبادتهم وأهلكتهم‪،‬‬
‫العبر‪.‬‬ ‫فصاروا سمرا من األسمار‪ ،‬وعبرة من ِ‬
‫َ ًَ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬تركنا من ديار قوم لوط‪ ،‬آثارا بينة لقوم يعقلون‬ ‫{ َولَقَ ْد تََر ْكَنا م ْنهَا َآيةً َبيَِّنةً لقَ ْوٍم َي ْعقلُ َ‬
‫ين َوبِاللَّْي ِل أَفَال‬ ‫العبر بقلوبهم‪[ ،‬فينتفعون بها]‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وإِ َّن ُكم لَتَم ُّرون علَْي ِهم م ِ‬
‫صبِح َ‬ ‫َ ْ ُ َ َ ْ ُ ْ‬
‫ِ‬
‫ون }‬ ‫ِ‬
‫تَ ْعقلُ َ‬

‫( ‪)1/630‬‬

‫اعب ُدوا اللَّه وارجوا اْليوم اآْل َ ِخر واَل تَعثَوا ِفي اأْل َر ِ ِ ِ‬
‫ين‬
‫ض ُم ْفسد َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْْ‬ ‫َ َ ْ ُ َْ َ‬ ‫اه ْم ُش َع ْيًبا فَقَا َل َيا قَ ْوِم ْ ُ‬
‫َخ ُ‬
‫َوإِلَى َم ْدَي َن أ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫(‪ )36‬فَ َك َّذُبوهُ فَأ َ‬
‫ين (‪)37‬‬ ‫َصَب ُحوا في َد ِار ِه ْم َجاثم َ‬
‫الر ْجفَةُ فَأ ْ‬‫َخ َذتْهُ ُم َّ‬

‫اآلخ َر َوال تَ ْعثَْوا ِفي‬


‫اعب ُدوا اللَّه وارجوا اْليوم ِ‬
‫َ َ ْ ُ َْ َ‬ ‫اه ْم ُش َع ْيًبا فَقَا َل َيا قَ ْوِم ْ ُ‬
‫َخ ُ‬
‫{ ‪َ { } 36-37‬وإِلَى َم ْدَي َن أ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ين * فَ َك َّذُبوهُ فَأ َ‬ ‫األر ِ ِ ِ‬
‫َصَب ُحوا في َد ِار ِه ْم َجاثم َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫الر ْجفَةُ فَأ ْ‬ ‫َخ َذتْهُ ُم َّ‬ ‫ض ُم ْفسد َ‬ ‫ْ‬

‫( ‪)1/630‬‬
‫السبِ ِ‬
‫يل َو َك ُانوا‬ ‫ص َّد ُه ْم َع ِن َّ‬
‫َع َمالَهُ ْم فَ َ‬
‫ان أ ْ‬
‫ط ُ‬ ‫َّن لَهم َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫ِِِ‬ ‫ِ‬
‫َّن لَ ُك ْم م ْن َم َساكنه ْم َو َزي َ ُ ُ‬
‫ود َوقَ ْد تََبي َ‬
‫ادا َوثَ ُم َ‬
‫َو َع ً‬
‫ِ‬
‫ين (‪)38‬‬ ‫ُم ْستَْبص ِر َ‬

‫أي { و } أرسلنا { ِإلَى َم ْدَي َن } القبيلة المعروفة المشهورة { ُش َع ْيًبا } فأمرهم بعبادة اللّه وحده ال‬
‫شريك له‪ ،‬واإليمان بالبعث ورجائه‪ ،‬والعمل له‪ ،‬ونهاهم عن اإلفساد في األرض‪ ،‬ببخس المكاييل‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين } {‬ ‫َصَب ُحوا في َد ِار ِه ْم َجاثم َ‬ ‫والموازين‪ ،‬والسعي بقطع الطرق‪ ،‬فكذبوه فأخذهم عذاب اللّه { فَأ ْ‬
‫ص َّد ُه ْم َع ِن‬
‫َع َمالَهُ ْم فَ َ‬
‫ان أ ْ‬
‫ط ُ‬ ‫َّن لَهم َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫ِِِ‬ ‫ِ‬
‫َّن لَ ُك ْم م ْن َم َساكنه ْم َو َزي َ ُ ُ‬
‫ود َوقَ ْد تََبي َ‬
‫ادا َوثَ ُم َ‬
‫‪َ { } 40-38‬و َع ً‬
‫ِ‬ ‫السبِ ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫يل َو َك ُانوا ُم ْستَْبص ِر َ‬ ‫َّ‬
‫أي‪ :‬وكذلك ما فعلنا بعاد وثمود‪ ،‬وقد علمتم قصصهم‪ ،‬وتبين لكم بشيء [ ص ‪ ] 631‬تشاهدونه‬
‫بأبصاركم من مساكنهم وآثارهم التي بانوا عنها‪ ،‬وقد جاءتهم رسلهم باآليات البينات‪ ،‬المفيدة‬
‫َع َمالَهُ ْم } حتى ظنوا أنها أفضل مما جاءتهم‬
‫ان أ ْ‬
‫ط ُ‬ ‫َّن لَهم َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫للبصيرة‪ ،‬فكذبوهم وجادلوهم‪َ { .‬و َزي َ ُ ُ‬
‫به الرسل‪.‬‬

‫( ‪)1/630‬‬

‫ِ‬ ‫استَ ْكَب ُروا ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬


‫ض َو َما َك ُانوا َسابِق َ‬
‫ين (‬ ‫وسى بِاْلَبيَِّنات فَ ْ‬
‫اء ُه ْم ُم َ‬
‫ان َولَقَ ْد َج َ‬ ‫ام َ‬ ‫وقَ ُار َ ِ‬
‫ون َوف ْر َع ْو َن َو َه َ‬ ‫َ‬
‫َّيحةُ و ِم ْنهم م ْن َخس ْفَنا بِهِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اًّل‬
‫َ‬ ‫َخ َذتْهُ الص ْ َ َ ُ ْ َ‬ ‫َخ ْذَنا ب َذ ْنبه فَم ْنهُ ْم َم ْن أ َْر َسْلَنا َعلَْيه َحاصًبا َوم ْنهُ ْم َم ْن أ َ‬
‫‪ )39‬فَ ُك أ َ‬
‫ظِلمهم ولَ ِك ْن َك ُانوا أ َْنفُسهم ي ِْ‬ ‫َغر ْقَنا وما َك َّ ِ‬
‫ون (‪)40‬‬ ‫ظل ُم َ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫ض َو ِم ْنهُ ْم َم ْن أ ْ َ َ َ َ‬
‫ان اللهُ لَي ْ َ ُ ْ َ‬ ‫اأْل َْر َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ض َو َما َك ُانوا َسابِق َ‬
‫ين‬ ‫األر ِ‬ ‫استَ ْكَب ُروا في ْ‬ ‫وسى بِاْلَبيَِّنات فَ ْ‬ ‫اء ُه ْم ُم َ‬
‫ان َولَقَ ْد َج َ‬
‫ام َ‬ ‫{ وقَ ُار َ ِ‬
‫ون َوف ْر َع ْو َن َو َه َ‬ ‫َ‬
‫َّي َحةُ َو ِم ْنهُ ْم َم ْن َخ َس ْفَنا بِ ِه‬
‫َخ َذتْهُ الص ْ‬ ‫َخ ْذَنا بِ َذ ْنبِ ِه فَ ِم ْنهم م ْن أَرسْلَنا علَْي ِه ح ِ‬
‫اصًبا َو ِم ْنهُ ْم َم ْن أ َ‬ ‫ُْ َ ْ َ َ َ‬ ‫* فَ ُكال أ َ‬
‫ظِلمهم ولَ ِك ْن َك ُانوا أ َْنفُسهم ي ِْ‬ ‫َغر ْقَنا وما َك َّ ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ظل ُم َ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫ض َو ِم ْنهُ ْم َم ْن أ ْ َ َ َ َ‬
‫ان اللهُ لَي ْ َ ُ ْ َ‬ ‫األر َ‬ ‫ْ‬
‫وكذلك قارون‪ ،‬وفرعون‪ ،‬وهامان‪ ،‬حين بعث اللّه إليهم موسى بن عمران‪ ،‬باآليات البينات‪،‬‬
‫والبراهين الساطعات‪ ،‬فلم ينقادوا‪ ،‬واستكبروا في األرض‪[ ،‬على عباد اللّه فأذلوهم‪ ،‬وعلى الحق‬
‫ِ‬
‫ين } اللّه‪ ،‬وال فائتين‪ ،‬بل‬ ‫فردوه فلم يقدروا على النجاء حين نزلت بهم العقوبة] { َو َما َك ُانوا َسابِق َ‬
‫سلموا واستسلموا‪.‬‬
‫َخ ْذَنا بِ َذ ْنبِ ِه } على قدره‪ ،‬وبعقوبة مناسبة له‪ { ،‬فَ ِم ْنهُ ْم َم ْن‬ ‫{ فَ ُكال } من هؤالء األمم المكذبة { أ َ‬
‫اصًبا } أي‪ :‬عذابا يحصبهم‪ ،‬كقوم عاد‪ ،‬حين أرسل اللّه عليهم الريح العقيم‪ ،‬و‬ ‫أَرسْلَنا علَْي ِه ح ِ‬
‫ْ َ َ َ‬
‫َع َج ُاز َن ْخ ٍل َخ ِاوَي ٍة‬ ‫ص ْر َعى َكأََّنهُ ْم أ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫{ َس َّخ َر َها َعلَْيه ْم َس ْب َع لََيال َوثَ َمانَيةَ أَيَّام ُح ُس ً‬
‫وما فَتََرى اْلقَ ْو َم فيهَا َ‬
‫}‬
‫ض } كقارون‪َ { ،‬و ِم ْنهُ ْم َم ْن‬ ‫ِ‬
‫َّي َحةُ } كقوم صالح‪َ { ،‬و ِم ْنهُ ْم َم ْن َخ َس ْفَنا بِه ْ‬
‫األر َ‬ ‫َخ َذتْهُ الص ْ‬‫{ َو ِم ْنهُ ْم َم ْن أ َ‬
‫َغ َر ْقَنا } كفرعون وهامان وجنودهما‪.‬‬ ‫أْ‬
‫ان اللَّهُ } أي‪ :‬ما ينبغي وال يليق به تعالى أن يظلمهم لكمال عدله‪ ،‬وغناه التام عن جميع‬ ‫{ َو َما َك َ‬
‫ون } منعوها حقها التي هي بصدده‪ ،‬فإنها مخلوقة لعبادة اللّه‬ ‫الخلق‪ { .‬ولَ ِك ْن َك ُانوا أ َْنفُسهم ي ِْ‬
‫ظل ُم َ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫َ‬
‫وحده‪ ،‬فهؤالء وضعوها في غير موضعها‪ ،‬وأشغلوها بالشهوات والمعاصي‪ ،‬فضروها غاية‬
‫الضرر‪ ،‬من حيث ظنوا أنهم ينفعونها‪.‬‬

‫( ‪)1/631‬‬

‫ت ب ْيتًا وإِ َّن أَو َهن اْلبي ِ‬ ‫ِ‬ ‫مثَ ُل الَِّذين اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ت‬
‫وت لََب ْي ُ‬ ‫اء َك َمثَ ِل اْل َع ْن َكُبوت اتَّ َخ َذ ْ َ َ ْ َ ُ ُ‬ ‫ون الله أ َْوِلَي َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫وت لَو َك ُانوا يعلَمون (‪ِ )41‬إ َّن اللَّه يعلَم ما ي ْدع ِ‬ ‫اْلع ْن َكب ِ‬
‫ون م ْن ُدونه م ْن َش ْيء َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬
‫يم (‬ ‫َ َْ ُ َ َ ُ َ‬ ‫َْ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ اَّل‬ ‫ض ِرُبهَا ِل َّلن ِ‬
‫ون (‪)43‬‬ ‫اس َو َما َي ْعقلُهَا ِإ اْل َعال ُم َ‬ ‫ك اأْل َْمثَا ُل َن ْ‬‫‪َ )42‬وتِْل َ‬

‫ون اللَّ ِه أَوِلياء َكمثَ ِل اْلع ْن َكب ِ‬


‫وت اتَّ َخ َذ ْ‬
‫ت َب ْيتًا َوإِ َّن أ َْو َه َن‬ ‫ين اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ‬ ‫َِّ‬
‫َ ُ‬ ‫ْ َ َ َ‬ ‫{ ‪َ { } 43 - 41‬مثَ ُل الذ َ‬
‫ون ِم ْن ُدونِ ِه ِم ْن َش ْي ٍء َو ُه َو اْل َع ِز ُيز‬ ‫َّ‬
‫ون * ِإ َّن اللهَ َي ْعلَ ُم َما َي ْد ُع َ‬
‫ِ‬
‫ت اْل َع ْن َكُبوت لَ ْو َك ُانوا َي ْعلَ ُم َ‬
‫اْلبي ِ‬
‫وت لََب ْي ُ‬ ‫ُُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ِرُبهَا ِل َّلن ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫اس َو َما َي ْعقلُهَا ِإال اْل َعال ُم َ‬ ‫األمثَا ُل َن ْ‬
‫ك ْ‬ ‫يم * َوتِْل َ‬ ‫اْل َحك ُ‬
‫هذا مثل ضربه اللّه لمن عبد معه غيره‪ ،‬يقصد به التعزز والتَّقَ ِّوي والنفع‪ ،‬وأن األمر بخالف‬
‫مقصوده‪ ،‬فإن مثله كمثل العنكبوت‪ ،‬اتخذت بيتا يقيها من الحر والبرد واآلفات‪َ { ،‬وإِ َّن أ َْو َه َن‬
‫وت } فالعنكبوت من الحيوانات الضعيفة‪ ،‬وبيتها من‬ ‫ت اْلع ْن َكب ِ‬ ‫ِ‬
‫اْلُبُيوت } أضعفها وأوهاها { لََب ْي ُ َ ُ‬
‫أضعف البيوت‪ ،‬فما ازدادت باتخاذه إال ضعفا‪ ،‬كذلك هؤالء الذين يتخذون من دونه أولياء‪ ،‬فقراء‬
‫عاجزون من جميع الوجوه‪ ،‬وحين اتخذوا األولياء من دونه يتعززون بهم ويستنصرونهم‪،‬‬
‫ازدادوا ضعفا إلى ضعفهم‪ ،‬ووهنا إلى وهنهم‪.‬‬
‫فإنهم اتكلوا عليهم في كثير من مصالحهم‪ ،‬وألقوها عليهم‪ ،‬وتخلوا هم عنها‪ ،‬على أن أولئك‬
‫سيقومون بها‪ ،‬فخذلوهم‪ ،‬فلم يحصلوا منهم على طائل‪ ،‬وال أنالوهم من معونتهم أقل نائل‪.‬‬
‫فلو كانوا يعلمون حقيقة العلم‪ ،‬حالهم وحال من اتخذوهم‪ ،‬لم يتخذوهم‪ ،‬ولتبرأوا منهم‪ ،‬ولتولوا‬
‫الرب القادر الرحيم‪ ،‬الذي إذا تواله عبده وتوكل عليه‪ ،‬كفاه مئونة دينه ودنياه‪ ،‬وازداد قوة إلى‬
‫قوته‪ ،‬في قلبه وفي بدنه وحاله وأعماله‪.‬‬
‫ولما بين نهاية ضعف آلهة المشركين‪ ،‬ارتقى من هذا إلى ما هو أبلغ منه‪ ،‬وأنها ليست بشيء‪ ،‬بل‬
‫هي مجرد أسماء سموها‪ ،‬وظنون اعتقدوها‪ ،‬وعند التحقيق‪ ،‬يتبين للعاقل بطالنها وعدمها‪ ،‬ولهذا‬
‫ون ِم ْن ُدونِ ِه ِم ْن َش ْي ٍء } أي‪ :‬إنه تعالى يعلم ‪-‬وهو عالم الغيب‬ ‫َّ‬
‫قال‪ِ { :‬إ َّن اللهَ َي ْعلَ ُم َما َي ْد ُع َ‬
‫والشهادة‪ -‬أنهم ما يدعون من دون اللّه شيئا موجودا‪ ،‬وال إلها له حقيقة‪ ،‬كقوله تعالى‪ِ { :‬إ ْن ِه َي‬
‫َِّ‬ ‫اؤ ُك ْم َما أَنز َل اللَّهُ بِهَا ِم ْن ُسْل َ‬
‫ون‬ ‫ان } وقوله‪َ { :‬و َما َيتَّبِعُ الذ َ‬
‫ين َي ْد ُع َ‬ ‫طٍ‬ ‫وها أ َْنتُ ْم َو َآب ُ‬
‫اء َس َّم ْيتُ ُم َ‬ ‫ِإال أ ْ‬
‫َس َم ٌ‬
‫ون ِإال الظَّ َّن وإ ن هم إال يخرصون }‬ ‫اء ِإ ْن َيتَّبِ ُع َ‬
‫ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون الله ُش َر َك َ‬
‫ِ‬
‫يم } الذي‬ ‫{ َو ُه َو اْل َع ِز ُيز الحكيم } الذي له القوة جميعا‪ ،‬التي قهر بها جميع المخلوقات‪ { ،‬اْل َحك ُ‬
‫يضع األشياء مواضعها‪ ،‬الذي أحسن كل شيء خلقه‪ ،‬وأتقن ما أمره‪.‬‬
‫ض ِرُبهَا ِل َّلن ِ‬
‫اس } أي‪ :‬ألجلهم والنتفاعهم وتعليمهم‪ ،‬لكونها من الطرق الموضحة‬ ‫األمثَا ُل َن ْ‬
‫ك ْ‬ ‫{ َوتِْل َ‬
‫للعلوم‪ ،‬وألنها تقرب األمور المعقولة باألمور المحسوسة‪ ،‬فيتضح المعنى المطلوب بسببها‪ ،‬فهي‬
‫مصلحة لعموم الناس‪.‬‬
‫{ و } لكن { َما َي ْع ِقلُهَا } بفهمها وتدبرها‪ ،‬وتطبيقها على ما ضربت له‪ ،‬وعقلها في القلب { ِإال‬
‫ون } أي‪ :‬أهل العلم الحقيقي‪ ،‬الذين وصل العلم إلى قلوبهم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫اْل َعال ُم َ‬
‫وحث على تدبرها وتعقلها‪ ،‬ومدح لمن يعقلها‪ ،‬وأنه عنوان على‬‫ٌّ‬ ‫وهذا مدح لألمثال التي يضربها‪،‬‬
‫أنه من أهل العلم‪ ،‬فعلم أن من لم يعقلها ليس من العالمين‪.‬‬
‫والسبب في ذلك‪ ،‬أن األمثال التي يضربها اللّه في القرآن‪ ،‬إنما هي لألمور الكبار‪ ،‬والمطالب‬
‫العالية‪ ،‬والمسائل الجليلة‪ ،‬فأهل العلم يعرفون أنها أهم من غيرها‪ ،‬العتناء اللّه بها‪ ،‬وحثه عباده‬
‫على تعقلها وتدبرها‪ ،‬فيبذلون جهدهم في معرفتها‪.‬‬
‫وأما من لم يعقلها‪ ،‬مع أهميتها‪ ،‬فإن ذلك دليل على أنه ليس من أهل العلم‪ ،‬ألنه إذا لم يعرف‬
‫المسائل المهمة‪ ،‬فعدم معرفته غيرها من باب أولى وأحرى‪ .‬ولهذا‪ ،‬أكثر ما يضرب اللّه األمثال‬
‫في أصول الدين ونحوها‪.‬‬

‫( ‪)1/631‬‬

‫ِ ِ‬ ‫ق ِإ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫ِ‬ ‫َخلَ َ َّ‬


‫ك آَل ََيةً لْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين (‪)44‬‬ ‫ض بِاْل َح ِّ‬
‫َّم َاوات َواأْل َْر َ‬
‫ق اللهُ الس َ‬

‫ِ ِ‬ ‫ق ِإ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪َ { } 44‬خلَ َ َّ‬


‫آليةً لْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ك َ‬ ‫ض بِاْل َح ِّ‬
‫األر َ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ق اللهُ الس َ‬
‫أي‪ :‬هو تعالى المنفرد بخلق السماوات‪ ،‬على علوها وارتفاعها وسعتها وحسنها وما فيها من‬
‫الشمس والقمر والكواكب والمالئكة‪ ،‬واألرض وما فيها من الجبال والبحار والبراري والقفار‬
‫واألشجار ونحوها‪ ،‬وكل ذلك خلقه بالحق‪ ،‬أي‪ :‬لم يخلقها عبثا وال سدى‪ ،‬وال لغير فائدة‪ ،‬وإ نما‬
‫خلقها‪ ،‬ليقوم أمره وشرعه‪ ،‬ولتتم نعمته على عباده‪ ،‬وليروا من حكمته وقهره وتدبيره‪ ،‬ما يدلهم‬
‫ِ ِ‬ ‫على أنه وحده معبودهم ومحبوبهم وإ لههم‪ِ { .‬إ َّن ِفي َذِل َ‬
‫آليةً لْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين } على كثير من [ ص‬ ‫ك َ‬
‫‪ ] 632‬المطالب اإليمانية‪ ،‬إذا تدبرها المؤمن رأى ذلك فيها عيانا‪.‬‬

‫( ‪)1/631‬‬

‫اء َواْل ُم ْن َك ِر َولَِذ ْك ُر اللَّ ِه أَ ْكَب ُر‬


‫الصاَل ةَ تَْنهى ع ِن اْلفَ ْح َش ِ‬
‫َ َ‬ ‫اب َوأ َِقِم َّ‬
‫الصاَل ةَ ِإ َّن َّ‬ ‫ك ِم َن اْل ِكتَ ِ‬ ‫ْات ُل ما أ ِ‬
‫ُوح َي ِإلَْي َ‬ ‫َ‬
‫ون (‪)45‬‬ ‫َّ‬
‫صَن ُع َ‬
‫َواللهُ َي ْعلَ ُم َما تَ ْ‬

‫اب وأ َِقِم الصَّالةَ ِإ َّن الصَّالةَ تَْنهى ع ِن اْلفَ ْح َش ِ‬


‫اء َواْل ُم ْن َك ِر‬ ‫ُوحي ِإلَْي َ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫ك م َن اْلكتَ َ‬ ‫{ ‪ْ { } 45‬ات ُل َما أ َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫صَن ُع َ‬
‫َولَذ ْك ُر الله أَ ْكَب ُر َواللهُ َي ْعلَ ُم َما تَ ْ‬
‫يأمر تعالى بتالوة وحيه وتنزيله‪ ،‬وهو هذا الكتاب العظيم‪ ،‬ومعنى تالوته اتباعه‪ ،‬بامتثال ما يأمر‬
‫به‪ ،‬واجتناب ما ينهى عنه‪ ،‬واالهتداء بهداه‪ ،‬وتصديق أخباره‪ ،‬وتدبر معانيه‪ ،‬وتالوة ألفاظه‪،‬‬
‫فصار تالوة لفظه جزء المعنى وبعضه‪ ،‬وإ ذا كان هذا معنى تالوة الكتاب‪ ،‬علم أن إقامة الدين‬
‫كله‪ ،‬داخلة في تالوة الكتاب‪ .‬فيكون قوله‪َ { :‬وأ َِقِم الصَّالةَ } من باب عطف الخاص على العام‪،‬‬
‫لفضل الصالة وشرفها‪ ،‬وآثارها الجميلة‪ ،‬وهي { ِإ َّن الصَّالةَ تَْنهى ع ِن اْلفَ ْح َش ِ‬
‫اء َواْل ُم ْن َك ِر }‬ ‫َ َ‬
‫والفحشاء‪ :‬كل ما استعظم واستفحش من المعاصي التي تشتهيها النفوس‪.‬‬
‫والمنكر‪ :‬كل معصية تنكرها العقول والفطر‪.‬‬
‫ووجه كون الصالة تنهى عن الفحشاء والمنكر‪ ،‬أن العبد المقيم لها‪ ،‬المتمم ألركانها وشروطها‬
‫وخشوعها‪ ،‬يستنير قلبه‪ ،‬ويتطهر فؤاده‪ ،‬ويزداد إيمانه‪ ،‬وتقوى رغبته في الخير‪ ،‬وتقل أو تعدم‬
‫رغبته في الشر‪ ،‬فبالضرورة‪ ،‬مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه‪ ،‬تنهى عن الفحشاء‬
‫والمنكر‪ ،‬فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها‪ .‬وثََّم في الصالة مقصود أعظم من هذا وأكبر‪ ،‬وهو‬
‫ما اشتملت عليه من ذكر اللّه‪ ،‬بالقلب واللسان والبدن‪ .‬فإن اللّه تعالى‪ ،‬إنما خلق الخلق (‪)1‬‬
‫لعبادته‪ ،‬وأفضل عبادة تقع منهم الصالة‪ ،‬وفيها من عبوديات الجوارح كلها‪ ،‬ما ليس في غيرها‪،‬‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬ولَِذ ْك ُر اللَّ ِه أَ ْكَب ُر }‬
‫ويحتمل أنه لما أمر بالصالة ومدحها‪ ،‬أخبر أن ذكره تعالى خارج الصالة أكبر من الصالة‪ ،‬كما‬
‫هو قول جمهور المفسرين‪ ،‬لكن األول أولى‪ ،‬ألن الصالة أفضل من الذكر خارجها‪ ،‬وألنها ‪-‬كما‬
‫تقدم‪ -‬بنفسها من أكبر الذكر‪.‬‬
‫ون } من خير وشر‪ ،‬فيجازيكم على ذلك أكمل الجزاء وأوفاه‪.‬‬ ‫َّ‬
‫صَن ُع َ‬
‫{ َواللهُ َي ْعلَ ُم َما تَ ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬العباد‪.‬‬

‫( ‪)1/632‬‬

‫َمَّنا بِالَِّذي أ ُْن ِز َل ِإلَْيَنا‬ ‫ِ‬


‫ظلَ ُموا م ْنهُ ْم َوقُولُوا آ َ‬
‫اَّل َِّ‬
‫َح َس ُن ِإ الذ َ‬
‫ين َ‬ ‫اب ِإاَّل بِالَّتِي ِه َي أ ْ‬‫َه َل اْل ِكتَ ِ‬‫َواَل تُ َج ِادلُوا أ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)46‬‬‫َوأ ُْن ِز َل ِإلَْي ُك ْم َوإِلَهَُنا َوإِلَهُ ُك ْم َواح ٌد َوَن ْح ُن لَهُ ُم ْسل ُم َ‬

‫آمَّنا بِالَِّذي‬ ‫ِ‬


‫ظلَ ُموا م ْنهُ ْم َوقُولُوا َ‬
‫َِّ‬ ‫اب ِإال بِالَّتِي ِه َي أ ْ‬
‫َح َس ُن ِإال الذ َ‬
‫ين َ‬ ‫َه َل اْل ِكتَ ِ‬
‫{ ‪َ { } 46‬وال تُ َج ِادلُوا أ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ ُْن ِز َل ِإلَْيَنا َوأ ُْن ِز َل ِإلَْي ُك ْم َوإِلَهَُنا َوإِلَهُ ُك ْم َواح ٌد َوَن ْح ُن لَهُ ُم ْسل ُم َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب‪ ،‬إذا كانت من غير بصيرة من المجادل‪ ،‬أو بغير قاعدة‬
‫مرضية‪ ،‬وأن ال يجادلوا إال بالتي هي أحسن‪ ،‬بحسن خلق ولطف ولين كالم‪ ،‬ودعوة إلى الحق‬
‫وتحسينه‪ ،‬ورد عن الباطل وتهجينه‪ ،‬بأقرب طريق موصل لذلك‪ ،‬وأن ال يكون القصد منها مجرد‬
‫المجادلة والمغالبة وحب العلو‪ ،‬بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق‪ ،‬إال من ظلم من أهل‬
‫الكتاب‪ ،‬بأن ظهر من قصده وحاله‪ ،‬أنه ال إرادة له في الحق‪ ،‬وإ نما يجادل على وجه المشاغبة‬
‫والمغالبة‪ ،‬فهذا ال فائدة في جداله‪ ،‬ألن المقصود منها ضائع‪.‬‬
‫ُنزل ِإلَْي ُكم وإِلَهَنا وإِلَه ُكم و ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َِّ‬
‫اح ٌد } أي‪ :‬ولتكن مجادلتكم ألهل‬ ‫آمَّنا بالذي أُنز َل إلَْيَنا َوأ َ ْ َ ُ َ ُ ْ َ‬
‫{ َوقُولُوا َ‬
‫الكتاب مبنية على اإليمان بما أنزل إليكم وأنزل إليهم‪ ،‬وعلى اإليمان برسولكم ورسولهم‪ ،‬وعلى‬
‫أن اإلله واحد‪ ،‬وال تكن مناظرتكم إياهم [على وجه] يحصل به (‪ )1‬القدح في شيء من الكتب‬
‫اإللهية‪ ،‬أو بأحد من الرسل‪ ،‬كما يفعله الجاهل عند مناظرة الخصوم‪ ،‬يقدح بجميع ما معهم‪ ،‬من‬
‫حق وباطل‪ ،‬فهذا ظلم‪ ،‬وخروج عن الواجب وآداب النظر‪ ،‬فإن الواجب‪ ،‬أن يرد ما مع الخصم‬
‫من الباطل‪ ،‬ويقبل ما معه من الحق‪ ،‬وال يرد الحق ألجل قوله‪ ،‬ولو كان كافرا‪ .‬وأيضا‪ ،‬فإن بناء‬
‫مناظرة أهل الكتاب‪ ،‬على هذا الطريق‪ ،‬فيه إلزام لهم باإلقرار بالقرآن‪ ،‬وبالرسول الذي جاء به‪،‬‬
‫فإنه إذا تكلم في األصول الدينية التي اتفقت عليها األنبياء والكتب‪ ،‬وتقررت عند المتناظرين‪،‬‬
‫وثبتت حقائقها عندهما‪ ،‬وكانت الكتب السابقة والمرسلون مع القرآن ومحمد صلى اللّه عليه وسلم‬
‫قد بينتها ودلت عليها وأخبرت بها‪ ،‬فإنه يلزم التصديق بالكتب كلها‪ ،‬والرسل كلهم‪ ،‬وهذا من‬
‫خصائص اإلسالم‪.‬‬
‫فأما أن يقال‪ :‬نؤمن بما دل عليه الكتاب الفالني‪ ،‬دون الكتاب الفالني وهو الحق الذي صدق ما‬
‫قبله‪ ،‬فهذا ظلم وجور‪ ،‬وهو يرجع إلى قوله بالتكذيب‪ ،‬ألنه إذا كذب القرآن الدال عليها‪ ،‬المصدق‬
‫لما بين يديه من التوراة‪ ،‬فإنه مكذب لما زعم أنه به مؤمن‪.‬‬
‫وأيضا‪ ،‬فإن كل طريق تثبت به (‪ )2‬نبوة أي‪ :‬نبي كان‪ ،‬فإن مثلها وأعظم منها‪ ،‬دالة على نبوة‬
‫محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬وكل شبهة يقدح بها في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬فإن مثلها‬
‫أو أعظم منها‪ ،‬يمكن توجيهها إلى نبوة غيره‪ ،‬فإذا ثبت بطالنها في غيره‪ ،‬فثبوت بطالنها في حقه‬
‫صلى اللّه عليه وسلم أظهر وأظهر‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬منقادون مستسلمون ألمره‪ .‬ومن آمن [ ص ‪ ] 633‬به‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وقوله‪َ { :‬وَن ْح ُن لَهُ ُم ْسل ُم َ‬
‫واتخذه إلها‪ ،‬وآمن بجميع كتبه ورسله‪ ،‬وانقاد للّه واتبع رسله‪ ،‬فهو السعيد‪ ،‬ومن انحرف عن هذا‬
‫الطريق‪ ،‬فهو الشقي‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ‪ :‬بها‪.‬‬
‫(‪ )2‬وفي ب‪ :‬بها‪.‬‬

‫( ‪)1/632‬‬

‫ون بِ ِه َو ِم ْن َه ُؤاَل ِء َم ْن ُي ْؤ ِم ُن بِ ِه َو َما َي ْج َح ُد‬


‫اب ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ك اْل ِكتَاب فَالَِّذين آَتَْيَن ُ ِ‬
‫اه ُم اْلكتَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك أ َْن َزْلَنا ِإلَْي َ‬ ‫َو َك َذِل َ‬
‫ون‬ ‫ِ‬
‫اب اْل ُم ْبطلُ َ‬‫ك ِإ ًذا اَل ْرتَ َ‬ ‫اب َواَل تَ ُخطُّهُ بَِي ِمينِ َ‬‫ت تَ ْتلُو ِم ْن قَْبِل ِه ِم ْن ِكتَ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ اَّل‬
‫بِآََياتَنا ِإ اْل َكاف ُر َ‬
‫ون (‪َ )47‬و َما ُك ْن َ‬
‫(‪)48‬‬

‫اهم اْل ِكتَاب يؤ ِمُنون بِ ِه و ِم ْن َهؤ ِ‬


‫الء َم ْن‬ ‫َِّ‬ ‫ك أ َْن َزْلَنا ِإلَْي َ ِ‬
‫{ ‪َ { } 48 - 47‬و َك َذِل َ‬
‫ُ‬ ‫َ ُْ َ َ‬ ‫ين آتَْيَن ُ ُ‬
‫اب فَالذ َ‬ ‫ك اْلكتَ َ‬
‫ك ِإ ًذا‬‫اب َوال تَ ُخطُّهُ بَِي ِمينِ َ‬
‫ت تَ ْتلُو ِم ْن قَْبِل ِه ِم ْن ِكتَ ٍ‬‫ون * َو َما ُك ْن َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُي ْؤ ِم ُن بِه َو َما َي ْج َح ُد بِ َآياتَنا ِإال اْل َكاف ُر َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫اب اْل ُم ْبطلُ َ‬ ‫الرتَ َ‬
‫ْ‬
‫ك } يا محمد‪ ،‬هذا { اْل ِكتَاب } الكريم‪ ،‬المبين كل نبأ عظيم‪ ،‬الداعي إلى كل‬ ‫أي‪َ { :‬و َك َذِل َ‬
‫ك أَنزْلَنا ِإلَْي َ‬
‫خلق فاضل‪ ،‬وأمر كامل‪ ،‬المصدق للكتب السابقة‪ ،‬المخبر به األنبياء األقدمون‪.‬‬
‫اب } فعرفوه حق معرفته‪ ،‬ولم يداخلهم حسد وهوى‪.‬‬ ‫{ فَالَِّذين آتَْيَن ُ ِ‬
‫اه ُم اْلكتَ َ‬ ‫َ‬
‫ون بِ ِه } ألنهم تيقنوا صدقه‪ ،‬بما لديهم من الموافقات‪ ،‬وبما عندهم من البشارات‪ ،‬وبما‬
‫{ ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫تميزوا به من معرفة الحسن والقبيح‪ ،‬والصدق والكذب‪.‬‬
‫الء } الموجودين { َم ْن ُي ْؤ ِم ُن بِ ِه } إيمانا عن بصيرة‪ ،‬ال عن رغبته وال رهبته‪َ { .‬و َما‬ ‫{ و ِم ْن َهؤ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } الذين دأبهم الجحود للحق والعناد له‪ .‬وهذا حصر لمن كفر به‪ ،‬أنه ال‬ ‫َي ْج َح ُد بِ َآياتَنا ِإال اْل َكاف ُر َ‬
‫يكون من أحد قصده متابعة الحق‪ ،‬وإ ال فكل من له قصد صحيح‪ ،‬فإنه ال بد أن يؤمن به‪ ،‬لما‬
‫اشتمل عليه من البينات‪ ،‬لكل من له عقل‪ ،‬أو ألقى السمع وهو شهيد‪.‬‬
‫ومما يدل على صحته‪ ،‬أنه جاء به هذا النبي األمين‪ ،‬الذي عرف قومه صدقه وأمانته ومدخله‬
‫ومخرجه وسائر أحواله‪ ،‬وهو ال يكتب بيده خطا‪ ،‬وال يقرأ خطا مكتوبا‪ ،‬فإتيانه به في هذه الحال‪،‬‬
‫من أظهر البينات القاطعة‪ ،‬التي ال تقبل االرتياب‪ ،‬أنه من عند اللّه العزيز الحميد‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫اب َوال تَ ُخطُّهُ بَِي ِمينِ َ‬
‫ك ِإ ًذا } لو كنت بهذه الحال‬ ‫ت تَ ْتلُو } أي‪ :‬تقرأ { ِم ْن قَْبِل ِه ِم ْن ِكتَ ٍ‬‫{ َو َما ُك ْن َ‬
‫ون } فقالوا‪ :‬تعلمه من الكتب السابقة‪ ،‬أو استنسخه منها‪ ،‬فأما وقد نزل على‬ ‫ِ‬
‫اب اْل ُم ْبطلُ َ‬
‫الرتَ َ‬ ‫{ ْ‬
‫قلبك‪ ،‬كتابا جليال تحديت به الفصحاء والبلغاء‪ ،‬األعداء األلداء‪ ،‬أن يأتوا بمثله‪ ،‬أو بسورة من‬
‫مثله‪ ،‬فعجزوا غاية العجز‪ ،‬بل وال حدثتهم أنفسهم بالمعارضة‪ ،‬لعلمهم ببالغته وفصاحته‪ ،‬وأن‬
‫كالم أحد من البشر‪ ،‬ال يبلغ أن يكون مجاريا له أو على منواله‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫( ‪)1/633‬‬

‫ِ اَّل َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات ِفي ص ُد ِ َِّ‬


‫ين أُوتُوا اْلعْل َم َو َما َي ْج َح ُد بِآََياتَنا ِإ الظال ُم َ‬
‫ون (‪)49‬‬ ‫ور الذ َ‬ ‫ُ‬ ‫ات َبيَِّن ٌ‬
‫َب ْل ُه َو آََي ٌ‬

‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات ِفي ص ُد ِ َِّ‬


‫ين أُوتُوا اْلعْل َم َو َما َي ْج َح ُد بِ َآياتَنا ِإال الظال ُم َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ور الذ َ‬ ‫ُ‬ ‫ات َبيَِّن ٌ‬
‫{ ‪َ { } 49‬ب ْل ُه َو َآي ٌ‬
‫ين أُوتُوا اْل ِعْل َم } وهم سادة‬ ‫أي‪ { :‬ب ْل } هذا القرآن { آيات بيَِّنات } ال خفيات‪ِ { ،‬في ص ُد ِ َِّ‬
‫ور الذ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫الخلق‪ ،‬وعقالؤهم‪ ،‬وأولو األلباب منهم‪ ،‬والكمل منهم‪.‬‬
‫فإذا كان آيات بينات في صدور أمثال هؤالء‪ ،‬كانوا حجة على غيرهم‪ ،‬وإ نكار غيرهم ال يضر‪،‬‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫وال يكون ذلك إال ظلما‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬و َما َي ْج َح ُد بِ َآياتَنا ِإال الظال ُم َ‬
‫ون } ألنه ال يجحدها إال جاهل‬
‫تكلم بغير علم‪ ،‬ولم يقتد بأهل العلم‪ ،‬وهو متمكن من معرفته على حقيقته‪ ،‬وإ ما متجاهل عرف أنه‬
‫حق فعانده‪ ،‬وعرف صدقه فخالفه‪.‬‬

‫( ‪)1/633‬‬

‫ين (‪ )50‬أ ََولَ ْم َي ْك ِف ِه ْم‬ ‫ات ِع ْن َد اللَّ ِه َوإِ َّن َما أََنا َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ‬ ‫ات ِم ْن رب ِ‬
‫ِّه ُق ْل ِإَّن َما اآْل ََي ُ‬ ‫َ‬ ‫َوقَالُوا لَ ْواَل أ ُْن ِز َل َعلَْي ِه آََي ٌ‬
‫ون (‪ُ )51‬ق ْل َكفَى بِاللَّ ِه‬ ‫ِ‬
‫ك لََر ْح َمةً َو ِذ ْك َرى لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬ ‫اب ُي ْتلَى َعلَْي ِه ْم ِإ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫أََّنا أ َْن َزْلَنا علَْي َ ِ‬
‫ك اْلكتَ َ‬ ‫َ‬
‫ك ُه ُم‬ ‫اط ِل َو َكفَ ُروا بِاللَّ ِه أُولَئِ َ‬
‫ض والَِّذين آَمُنوا بِاْلب ِ‬
‫َ‬ ‫َّم َاوات َواأْل َْر ِ َ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يدا َي ْعلَ ُم َما في الس َ‬ ‫َب ْينِي َوَب ْيَن ُك ْم َش ِه ً‬
‫ون (‪)52‬‬ ‫ِ‬
‫اْل َخاس ُر َ‬
‫ات ِعْن َد اللَّ ِه َوإِ َّن َما أََنا َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ‬
‫ين‬ ‫اآلي ُ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 52 - 50‬وقَالُوا لَوال أ ُْن ِز َل علَْي ِه آي ٌ ِ‬
‫ات م ْن َربِّه ُق ْل ِإَّن َما َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫اب ُي ْتلَى َعلَْي ِه ْم ِإ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫* أَولَم ي ْك ِف ِهم أََّنا أ َْن َزْلَنا علَْي َ ِ‬
‫ون * ُق ْل‬ ‫ك لََر ْح َمةً َو ِذ ْك َرى لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬ ‫ك اْلكتَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ ْ‬
‫اط ِل َو َكفَ ُروا بِاللَّ ِه‬ ‫ض والَِّذين آمُنوا بِاْلب ِ‬
‫َ‬ ‫األر ِ َ َ َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ِ‬
‫يدا َي ْعلَ ُم َما في الس َ‬ ‫َكفَى بِاللَّ ِه َب ْينِي َوَب ْيَن ُك ْم َش ِه ً‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أُولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم اْل َخاس ُر َ‬
‫أي‪ :‬واعترض هؤالء الظالمون المكذبون للرسول ولما جاء به‪ ،‬واقترحوا عليه نزول آيات‬
‫ِ‬
‫وعا } اآليات‪ .‬فتعيين اآليات‬ ‫ض َي ْنُب ً‬ ‫ك َحتَّى تَ ْف ُج َر لََنا م َن ْ‬
‫األر ِ‬ ‫عينوها‪ ،‬كقولهم‪َ { :‬وقَالُوا لَ ْن ُن ْؤ ِم َن لَ َ‬
‫ليس عندهم‪ ،‬وال عند الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬فإن في ذلك تدبيرا مع اللّه‪ ،‬وأنه لو كان‬
‫كذلك‪ ،‬وينبغي (‪ )1‬أن يكون كذلك‪ ،‬وليس ألحد من األمر شيء‪.‬‬
‫ات ِع ْن َد اللَّ ِه } إن شاء أنزلها أو منعها { َوإِ َّن َما أََنا َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ‬
‫ين } وليس لي‬ ‫ولهذا قال‪ُ { :‬ق ْل ِإَّن َما َ‬
‫اآلي ُ‬
‫مرتبة فوق هذه المرتبة‪.‬‬
‫وإ ذا كان القصد بيان الحق من الباطل‪ ،‬فإذا حصل المقصود ‪-‬بأي‪ :‬طريق‪ -‬كان اقتراح اآليات‬
‫المعينات على ذلك ظلما وجورا‪ ،‬وتكبرا على اللّه وعلى الحق‪.‬‬
‫بل لو قدر أن تنزل تلك اآليات‪ ،‬ويكون في قلوبهم أنهم ال يؤمنون بالحق إال بها‪ ،‬كان ذلك ليس‬
‫بإيمان‪ ،‬وإ نما ذلك شيء وافق أهواءهم‪ ،‬فآمنوا‪ ،‬ال ألنه حق‪ ،‬بل لتلك اآليات‪ .‬فأي فائدة حصلت‬
‫في إنزالها على التقدير الفرضي؟‬
‫ولما كان المقصود بيان الحق‪ ،‬ذكر تعالى طريقه‪ ،‬فقال‪ { :‬أ ََولَ ْم َي ْك ِف ِه ْم } في علمهم بصدقك‬
‫اب ُي ْتلَى َعلَْي ِه ْم } وهذا كالم مختصر جامع‪ ،‬فيه من‬ ‫وصدق ما جئت به { أََّنا أَنزْلَنا علَْي َ ِ‬
‫ك اْلكتَ َ‬ ‫َ‬
‫اآليات البينات‪ ،‬والدالالت الباهرات‪ ،‬شيء كثير‪ ،‬فإنه كما تقدم إتيان الرسول به بمجرده وهو‬
‫أمي‪ ،‬من أكبر اآليات على صدقه‪.‬‬
‫[ ص ‪] 634‬‬
‫ثم عجزهم عن معارضته‪ ،‬وتحديه إياهم (‪ )2‬آية أخرى‪ ،‬ثم ظهوره‪ ،‬وبروزه جهرا عالنية‪ ،‬يتلى‬
‫عليهم‪ ،‬ويقال‪ :‬هو من عند اللّه‪ ،‬قد أظهره الرسول‪ ،‬وهو في وقت َّ‬
‫قل فيه أنصاره‪ ،‬وكثر مخالفوه‬
‫وأعداؤه‪ ،‬فلم يخفه‪ ،‬ولم يثن ذلك عزمه‪ ،‬بل صرح به على رءوس األشهاد‪ ،‬ونادى به بين‬
‫الحاضر والباد‪ ،‬بأن هذا كالم ربي‪ ،‬فهل أحد يقدر على معارضته‪ ،‬أو ينطق بمباراته أو يستطيع‬
‫مجاراته؟‪.‬‬
‫ثم إخباره عن قصص األولين‪ ،‬وأنباء السابقين (‪ )3‬والغيوب المتقدمة والمتأخرة‪ ،‬مع مطابقته‬
‫للواقع‪.‬‬
‫ي ما أدخل فيها من التحريف والتبديل‪،‬‬
‫ون ْف ُ‬
‫ثم هيمنته على الكتب المتقدمة‪ ،‬وتصحيحه للصحيح‪َ ،‬‬
‫ثم هدايته لسواء السبيل‪ ،‬في أمره ونهيه‪ ،‬فما أمر بشيء فقال العقل "ليته لم يأمر به" وال نهى عن‬
‫شيء فقال العقل‪" :‬ليته لم ينه عنه" بل هو مطابق للعدل والميزان‪ ،‬والحكمة المعقولة لذوي‬
‫البصائر والعقول [ثم مسايرة إرشاداته وهدايته وأحكامه لكل حال وكل زمان بحيث ال تصلح‬
‫األمور إال به] (‪. )4‬‬
‫فجميع ذلك يكفي من أراد تصديق الحق‪ ،‬وعمل على طلب الحق‪ ،‬فال كفى اللّه من لم يكفه‬
‫القرآن‪ ،‬وال شفى اللّه من لم يشفه الفرقان‪ ،‬ومن اهتدى به واكتفى‪ ،‬فإنه خير له (‪ )5‬فلذلك قال‪:‬‬
‫ِ‬ ‫{ ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ون } وذلك لما يحصلون فيه من العلم الكثير‪ ،‬والخير‬ ‫ك لََر ْح َمةً َو ِذ ْك َرى لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫الغزير‪ ،‬وتزكية القلوب واألرواح‪ ،‬وتطهير العقائد‪ ،‬وتكميل األخالق‪ ،‬والفتوحات اإللهية‪،‬‬
‫واألسرار الربانية‪.‬‬
‫َح َّل بي ما به تعتبرون‪،‬‬ ‫{ ُق ْل َكفَى بِاللَّ ِه َب ْينِي َوَب ْيَن ُك ْم َش ِه ً‬
‫يدا } فأنا قد استشهدته‪ ،‬فإن كنت كاذبا‪ ،‬أ َ‬
‫وإ ن كان إنما يؤيدني وينصرني وييسر لي األمور‪ ،‬فلتكفكم هذه الشهادة الجليلة من اللّه‪ ،‬فإن وقع‬
‫في قلوبكم أن شهادته ‪-‬وأنتم لم تسمعوه ولم تروه‪ -‬ال تكفي دليال فإنه { يعلَم ما ِفي السَّماو ِ‬
‫ات‬ ‫ََ‬ ‫َْ ُ َ‬
‫ض}‬‫األر ِ‬‫َو ْ‬
‫ومن جملة معلوماته حالي وحالكم‪ ،‬ومقالي لكم (‪ )6‬فلو كنت متقوال عليه‪ ،‬مع علمه بذلك‪ ،‬وقدرته‬
‫ض‬‫على عقوبتي‪ ،‬لكان [قدحا في علمه وقدرته وحكمته] كما قال تعالى‪َ { :‬ولَ ْو تَقَ َّو َل َعلَْيَنا َب ْع َ‬
‫ين ثَُّم لَقَ َ ِ‬ ‫ألخ ْذَنا ِم ْنهُ بِاْلَي ِم ِ‬ ‫األقَ ِاو ِ‬
‫ين }‬‫ط ْعَنا م ْنهُ اْل َوتِ َ‬ ‫يل َ‬
‫ون } حيث هم خسروا اإليمان باللّه‬ ‫ِ‬ ‫اط ِل َو َكفَ ُروا بِاللَّ ِه أُولَئِ َ‬ ‫{ والَِّذين آمُنوا بِاْلب ِ‬
‫ك ُه ُم اْل َخاس ُر َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر‪ ،‬وحيث فاتهم النعيم المقيم‪ ،‬وحيث حصل لهم في مقابلة‬
‫الحق الصحيح كل باطل قبيح‪ ،‬وفي مقابلة النعيم كل عذاب أليم‪ ،‬فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم‬
‫القيامة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬وينفي‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ب‪ :‬وتحديهم إياه‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ب‪ :‬السالفين‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من هامش‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ب‪ :‬فإنه رحمة له وخير‪.‬‬
‫(‪ )6‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬ومقالكم‪.‬‬

‫( ‪)1/633‬‬
‫ِ‬ ‫ك بِاْل َع َذ ِ‬ ‫َوَي ْستَ ْع ِجلُ َ‬
‫ون (‪)53‬‬ ‫اب َولََيأْتَيَّنهُ ْم َب ْغتَةً َو ُه ْم اَل َي ْش ُع ُر َ‬
‫اء ُه ُم اْل َع َذ ُ‬
‫َج ٌل ُم َس ًّمى لَ َج َ‬
‫اب َولَ ْواَل أ َ‬ ‫ون َ‬
‫اب ِم ْن فَ ْو ِق ِه ْم َو ِم ْن تَ ْح ِت‬
‫اه ُم اْل َع َذ ُ‬
‫ين (‪َ )54‬ي ْو َم َي ْغ َش ُ‬ ‫ِ‬ ‫اب َوإِ َّن َجهََّن َم لَ ُم ِحي َ‬
‫طةٌ بِاْل َكاف ِر َ‬ ‫ك بِاْل َع َذ ِ‬ ‫َي ْستَ ْع ِجلُ َ‬
‫ون َ‬
‫ِ‬
‫ون (‪)55‬‬ ‫أ َْر ُجل ِه ْم َوَيقُو ُل ُذوقُوا َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬

‫اب َولََيأْتَِيَّنهُ ْم َب ْغتَةً َو ُه ْم ال‬


‫اء ُه ُم اْل َع َذ ُ‬
‫َج ٌل ُم َس ًّمى لَ َج َ‬
‫اب َولَ ْوال أ َ‬ ‫ك بِاْل َع َذ ِ‬ ‫{ ‪َ { } 55 - 53‬وَي ْستَ ْع ِجلُ َ‬
‫ون َ‬
‫اب ِم ْن فَ ْو ِق ِه ْم‬
‫اه ُم اْل َع َذ ُ‬
‫ِ‬ ‫اب َوإِ َّن َجهََّن َم لَ ُم ِحي َ‬
‫طةٌ بِاْل َكاف ِر َ‬
‫ين * َي ْو َم َي ْغ َش ُ‬ ‫ك بِاْل َع َذ ِ‬
‫ون َ‬‫ون * َي ْستَ ْع ِجلُ َ‬
‫َي ْش ُع ُر َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬‫َو ِم ْن تَ ْحت أ َْر ُجل ِه ْم َوَيقُو ُل ُذوقُوا َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫يخبر تعالى عن جهل المكذبين للرسول وما جاء به‪ ،‬وأنهم يقولون ‪-‬استعجاال للعذاب‪ ،‬وزيادة‬
‫ين } ؟‬ ‫تكذيب‪ { -‬متَى َه َذا اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اب } بسبب‬ ‫اء ُه ُم اْل َع َذ ُ‬
‫َج ٌل ُم َس ًّمى } مضروب لنزوله‪ ،‬ولم يأت بعد‪ { ،‬لَ َج َ‬ ‫يقول تعالى‪َ { :‬ولَ ْوال أ َ‬
‫تعجيزهم لنا وتكذيبهم الحق‪ ،‬فلو آخذناهم بجهلهم‪ ،‬لكان كالمهم أسرع لبالئهم وعقوبتهم‪ ،‬ولكن‬
‫ون }‬
‫‪-‬مع ذلك‪ -‬فال يستبطئون (‪ )1‬نزوله‪ ،‬فإنه سيأتيهم { َب ْغتَةً َو ُه ْم ال َي ْش ُع ُر َ‬
‫فوقع كما أخبر اللّه تعالى‪ ،‬لما قدموا لـ "بدر" بطرين مفاخرين‪ ،‬ظانين‬
‫أنهم قادرون على مقصودهم‪ ،‬فأهانهم (‪ )2‬اللّه‪ ،‬وقتل كبارهم‪ ،‬واستوعب جملة أشرارهم‪ ،‬ولم‬
‫يبق فيهم بيت إال أصابته تلك المصيبة‪ ،‬فأتاهم العذاب من حيث لم يحتسبوا‪ ،‬ونزل بهم وهم ال‬
‫يشعرون‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وإ ن لم ينزل عليهم العذاب الدنيوي‪ ،‬فإن أمامهم العذاب األخروي‪ ،‬الذي ال يخلص منهم أحد‬
‫ِ‬ ‫منه‪ ،‬سواء عوجل بعذاب الدنيا أو أمهل‪َ { .‬وإِ َّن َجهََّن َم لَ ُم ِحي َ‬
‫طةٌ بِاْل َكاف ِر َ‬
‫ين } ليس لهم عنها معدل‬
‫وال متصرف‪ ،‬قد أحاطت بهم من كل جانب‪ ،‬كما أحاطت بهم ذنوبهم وسيئاتهم وكفرهم‪ ،‬وذلك‬
‫العذاب‪ ،‬هو العذاب الشديد‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اهم اْلع َذ ِ‬
‫اب م ْن فَ ْو ِق ِه ْم َو ِم ْن تَ ْحت أ َْر ُجل ِه ْم َوَيقُو ُل ُذوقُوا َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫ون } فإن أعمالكم‬ ‫{ َي ْو َم َي ْغ َش ُ ُ َ ُ‬
‫انقلبت عليكم عذابا‪ ،‬وشملكم العذاب كما شملكم الكفر والذنوب‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬بستعجلون‪.‬‬
‫(‪ )2‬في النسختين‪ :‬فأحانهم‪ ،‬ولعلها كا أثبت واهلل أعلم‪.‬‬

‫( ‪)1/634‬‬
‫س َذائِقَةُ اْل َم ْو ِت ثَُّم ِإلَْيَنا‬‫ون (‪ُ )56‬ك ُّل َن ْف ٍ‬ ‫اعُب ُد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َمُنوا ِإ َّن أ َْرضي َواس َعةٌ فَِإي َ‬
‫َّاي فَ ْ‬ ‫ين آ َ‬
‫يا ِعب ِاد َِّ‬
‫ي الذ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ات لَُنَب ِّوَئَّنهُ ْم ِم َن اْل َجَّن ِة ُغَرفًا تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِهَا اأْل َْنهَ ُار‬ ‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َمُنوا َو َعملُوا الص َ‬‫ين آ َ‬
‫َِّ‬
‫ون (‪َ )57‬والذ َ‬ ‫تُْر َج ُع َ‬
‫َِّ‬ ‫ِِ‬ ‫ين ِفيهَا نِ ْع َم أ ْ‬ ‫ِِ‬
‫ون (‪)59‬‬ ‫صَب ُروا َو َعلَى َرِّب ِه ْم َيتََو َّكلُ َ‬
‫ين َ‬‫ين (‪ )58‬الذ َ‬ ‫َج ُر اْل َعامل َ‬ ‫َخالد َ‬

‫س َذائِقَةُ اْل َم ْو ِت‬‫ون * ُك ُّل َن ْف ٍ‬‫اعُب ُد ِ‬ ‫َّاي فَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫آمُنوا ِإ َّن أ َْرضي َواس َعةٌ فَِإي َ‬
‫ين َ‬
‫{ ‪ { } 59 - 56‬يا ِعب ِاد َِّ‬
‫ي الذ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ات لَُنَب ِّوَئَّنهُ ْم ِم َن اْل َجَّن ِة ُغ َرفًا تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِهَا‬
‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫ون * َوالذ َ‬ ‫ثَُّم ِإلَْيَنا تُْر َج ُع َ‬
‫َِّ‬ ‫ِِ‬ ‫ين ِفيهَا نِ ْع َم أ ْ‬ ‫ِِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫صَب ُروا َو َعلَى َرِّب ِه ْم َيتََو َّكلُ َ‬ ‫ين َ‬ ‫ين * الذ َ‬
‫َج ُر اْل َعامل َ‬ ‫األنهَ ُار َخالد َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يقول تعالى‪ { :‬يا ِعب ِاد َِّ‬
‫اعُب ُد ِ‬
‫ون }‬ ‫آمُنوا } بي وصدقوا رسولي { ِإ َّن أ َْرضي َواس َعةٌ فَِإي َ‬
‫َّاي فَ ْ‬ ‫ين َ‬ ‫ي الذ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫فإذا تعذرت عليكم عبادة ربكم في أرض‪ ،‬فارتحلوا منها إلى أرض أخرى‪ ،‬حيث كانت العبادة للّه‬
‫وحده‪ ،‬فأماكن العبادة ومواضعها‪ ،‬واسعة‪ ،‬والمعبود واحد‪ ،‬والموت ال بد أن ينزل بكم ثم ترجعون‬
‫إلى ربكم‪ ،‬فيجازي من أحسن عبادته وجمع بين اإليمان والعمل الصالح بإنزاله الغرف العالية‪،‬‬
‫والمنازل األنيقة الجامعة لما تشتهيه األنفس‪ ،‬وتلذ األعين‪ ،‬وأنتم فيها خالدون‪.‬‬
‫[ ص ‪] 635‬‬
‫ين } للّه‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫َج ُر اْل َعامل َ‬ ‫فـ { نعم } تلك المنازل‪ ،‬في جنات النعيم { أ ْ‬
‫َِّ‬
‫ون } في ذلك‪ .‬فصبرهم على عبادة اللّه‪،‬‬‫صَب ُروا } على عبادة اللّه { َو َعلَى َرِّب ِه ْم َيتََو َّكلُ َ‬
‫ين َ‬
‫{ الذ َ‬
‫يقتضي بذل الجهد والطاقة في ذلك‪ ،‬والمحاربة العظيمة للشيطان‪ ،‬الذي يدعوهم إلى اإلخالل‬
‫بشيء من ذلك‪ ،‬وتوكلهم‪ ،‬يقتضي شدة اعتمادهم على اللّه‪ ،‬وحسن ظنهم به‪ ،‬أن يحقق ما عزموا‬
‫عليه من األعمال ويكملها‪ ،‬ونص على التوكل‪ ،‬وإ ن كان داخال في الصبر‪ ،‬ألنه يحتاج إليه في كل‬
‫فعل وترك مأمور به‪ ،‬وال يتم إال به‪.‬‬

‫( ‪)1/634‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫و َكأَي ْ ِ‬


‫ِّن م ْن َدابَّة اَل تَ ْحم ُل ِر ْزقَهَا اللهُ َي ْر ُزقُهَا َوإِيَّا ُك ْم َو ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ‬
‫يم (‪)60‬‬ ‫َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫{ ‪ { } 60‬و َكأَي ْ ِ‬


‫ِّن م ْن َدابَّة ال تَ ْحم ُل ِر ْزقَهَا اللهُ َي ْر ُزقُهَا َوإِيَّا ُك ْم َو ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬الباري تبارك وتعالى‪ ،‬قد تكفل بأرزاق الخالئق كلهم‪ ،‬قويهم وعاجزهم‪ ،‬فكم { ِم ْن َداب ٍ‬
‫َّة } في‬
‫األرض‪ ،‬ضعيفة القوى‪ ،‬ضعيفة العقل‪ { .‬ال تَ ْح ِم ُل ِر ْزقَهَا } وال تدخره‪ ،‬بل لم تزل‪ ،‬ال شيء معها‬
‫من الرزق‪ ،‬وال يزال اللّه يسخر لها الرزق‪ ،‬في كل وقت بوقته‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫{ اللهُ َي ْر ُزقُهَا َوإِيَّا ُك ْم } فكلكم عيال اللّه‪ ،‬القائم برزقكم‪ ،‬كما قام بخلقكم وتدبيركم‪َ { ،‬و ُه َو السَّميعُ‬
‫يم } فال يخفى عليه خافية‪ ،‬وال تهلك دابة من عدم الرزق بسبب أنها خافية عليه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫اْل َعل ُ‬
‫ض ِإال َعلَى اللَّ ِه ِر ْزقُهَا َوَي ْعلَ ُم ُم ْستَقََّر َها َو ُم ْستَ ْو َد َعهَا ُك ٌّل ِفي‬
‫األر ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ‬
‫كما قال تعالى‪َ { :‬و َما م ْن َدابَّة في ْ‬
‫ِكتَ ٍ‬
‫اب ُمبِ ٍ‬
‫ين }‬

‫( ‪)1/635‬‬

‫َّ‬ ‫ض و َس َّخر َّ‬ ‫ِ‬ ‫َولَئِ ْن َسأَْلتَهُ ْم َم ْن َخلَ َ‬


‫ون (‪)61‬‬ ‫الش ْم َس َواْلقَ َم َر لََيقُولُ َّن اللهُ فَأََّنى ُي ْؤفَ ُك َ‬ ‫َّم َاوات َواأْل َْر َ َ َ‬ ‫ق الس َ‬
‫يم (‪َ )62‬ولَئِ ْن َسأَْلتَهُ ْم َم ْن َن َّز َل‬ ‫ٍ ِ‬ ‫َّ ِّ‬ ‫ق ِلم ْن ي َش ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫اء م ْن عَباده َوَي ْقد ُر لَهُ ِإ َّن اللهَ بِ ُكل َش ْيء َعل ٌ‬ ‫الر ْز َ َ َ ُ‬ ‫اللَّهُ َي ْب ُسطُ ِّ‬
‫ِ‬ ‫َِّ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َحيا بِ ِه اأْل َر ِ‬ ‫ِمن الس ِ‬
‫ض م ْن َب ْعد َم ْوتِهَا لََيقُولُ َّن اللهُ ُق ِل اْل َح ْم ُد لله َب ْل أَ ْكثَُر ُه ْم اَل َي ْعقلُ َ‬
‫ون (‬ ‫ْ َ‬ ‫اء فَأ ْ َ‬
‫َّماء َم ً‬ ‫َ َ‬
‫‪)63‬‬

‫َّ‬ ‫ض و َس َّخر َّ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪َ { } 63 - 61‬ولَئِ ْن َسأَْلتَهُ ْم َم ْن َخلَ َ‬


‫الش ْم َس َواْلقَ َم َر لََيقُولُ َّن اللهُ‬ ‫األر َ َ َ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ق الس َ‬
‫يم * َولَئِ ْن‬ ‫ٍ ِ‬ ‫َّ ِّ‬ ‫ق ِلم ْن ي َش ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫اء م ْن عَباده َوَي ْقد ُر لَهُ ِإ َّن اللهَ بِ ُكل َش ْيء َعل ٌ‬ ‫الر ْز َ َ َ ُ‬ ‫ون * اللَّهُ َي ْب ُسطُ ِّ‬‫فَأََّنى ُي ْؤفَ ُك َ‬
‫ض ِم ْن َب ْع ِد َم ْوتِهَا لََيقُولُ َّن اللَّهُ ُق ِل اْل َح ْم ُد ِللَّ ِه َب ْل أَ ْكثَُر ُه ْم‬ ‫األر َ‬
‫اء ماء فَأ ْ ِ‬
‫َحَيا بِه ْ‬ ‫َّم َ ً‬
‫سأَْلتَهم م ْن َن َّز َل ِمن الس ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ ُْ َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ال َي ْعقلُ َ‬
‫هذا استدالل على المشركين المكذبين بتوحيد اإللهية والعبادة‪ ،‬وإ لزام لهم بما أثبتوه من توحيد‬
‫الربوبية‪ ،‬فأنت لو سألتهم من خلق السماوات واألرض‪ ،‬ومن نزل من السماء ماء فأحيا به‬
‫األرض بعد موتها‪ ،‬ومن بيده تدبير جميع األشياء؟ { لََيقُولُ َّن اللَّهُ } وحده‪ْ ،‬‬
‫والعتََرفُوا بعجز‬
‫األوثان ومن عبدوه مع اللّه على شيء من ذلك‪.‬‬
‫وس ِّج ْل‬
‫فاعجب إلفكهم وكذبهم‪ ،‬وعدولهم إلى من أقروا بعجزه‪ ،‬وأنه ال يستحق أن يدبر شيئا‪َ ،‬‬
‫عليهم بعدم العقل‪ ،‬وأنهم السفهاء‪ ،‬ضعفاء األحالم‪ ،‬فهل تجد أضعف عقال وأقل بصيرة‪ ،‬ممن أتى‬
‫إلى حجر‪ ،‬أو قبر ونحوه‪ ،‬وهو يدري أنه ال ينفع وال يضر‪ ،‬وال يخلق وال يرزق‪ ،‬ثم صرف له‬
‫خالص اإلخالص‪ ،‬وصافي العبودية‪ ،‬وأشركه مع الرب‪ ،‬الخالق الرازق‪ ،‬النافع الضار‪ .‬وقل‪:‬‬
‫الحمد هلل الذي بين الهدى من الضالل‪ ،‬وأوضح بطالن ما عليه المشركون‪ ،‬ليحذره الموفقون‪.‬‬
‫وقل‪ :‬الحمد هلل‪ ،‬الذي خلق العالم العلوي والسفلي‪ ،‬وقام بتدبيرهم ورزقهم‪ ،‬وبسط الرزق على من‬
‫يشاء‪ ،‬وضيقه على من يشاء‪ ،‬حكمة منه‪ ،‬ولعلمه بما يصلح عباده وما ينبغي لهم‪.‬‬

‫( ‪)1/635‬‬
‫ون (‪ )64‬فَِإ َذا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ ِاَّل‬ ‫ِِ‬
‫ان لَ ْو َك ُانوا َي ْعلَ ُم َ‬‫الد َار اآْل َخ َرةَ لَ ِه َي اْل َحَي َو ُ‬
‫ب وإِ َّن َّ‬
‫َو َما َهذه اْل َحَياةُ الد ْنَيا إ لَ ْهٌو َولَع ٌ َ‬
‫ون (‪ِ )65‬لَي ْكفُُروا‬ ‫َّاه ْم ِإلَى اْلَبِّر ِإ َذا ُه ْم ُي ْش ِر ُك َ‬
‫ين َفلَ َّما َنج ُ‬ ‫ين لَهُ ِّ‬
‫الد َ‬
‫ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َركُبوا في اْل ُفْلك َد َع ُوا اللهَ ُم ْخلص َ‬
‫اس ِم ْن‬ ‫ف َّ‬
‫الن ُ‬ ‫َمًنا َوُيتَ َخطَّ ُ‬ ‫ف يعلَمون (‪ )66‬أَولَم يروا أََّنا جعْلَنا حرما آ ِ‬
‫َ َ ََ ً‬ ‫َ ْ ََ ْ‬ ‫اه ْم َوِلَيتَ َمتَّ ُعوا فَ َس ْو َ َ ْ ُ َ‬
‫بِ َما آَتَْيَن ُ‬
‫َّ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫اط ِل يؤ ِمُنون وبِنِعم ِة اللَّ ِه ي ْكفُرون (‪ )67‬وم ْن أَ ْ ِ‬ ‫حوِل ِهم أَفَبِاْلب ِ‬
‫ظلَ ُم م َّم ِن ا ْفتََرى َعلَى الله َكذًبا أ َْو َكذ َ‬
‫ب‬ ‫ََ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ُْ َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ ْ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ق لَ َّما جاءه أَلَْيس ِفي جهَّنم مثْوى ِلْل َك ِاف ِرين (‪ )68‬والَِّذين ج َ ِ‬ ‫بِاْل َح ِّ‬
‫اه ُدوا ف َينا لََن ْهدَيَّنهُ ْم ُسُبلََنا َوإِ َّن اللهَ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َََ ًَ‬ ‫َ َُ َ‬
‫ين (‪)69‬‬ ‫ِِ‬
‫لَ َم َع اْل ُم ْحسن َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬


‫ان لَ ْو َك ُانوا‬‫الد َار اآلخ َرةَ لَ ِه َي اْل َحَي َو ُ‬ ‫ب وإِ َّن َّ‬ ‫ُّ ِ‬
‫{ ‪َ { } 69 - 64‬و َما َهذه اْل َحَياةُ الد ْنَيا إال لَ ْهٌو َولَع ٌ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون *‬ ‫َّاه ْم ِإلَى اْلَبِّر ِإ َذا ُه ْم ُي ْش ِر ُك َ‬ ‫ين َفلَ َّما َنج ُ‬ ‫ين لَهُ ِّ‬
‫الد َ‬ ‫ون * فَِإ َذا َركُبوا في اْل ُفْلك َد َع ُوا اللهَ ُم ْخلص َ‬ ‫َي ْعلَ ُم َ‬
‫اس ِم ْن‬ ‫الن ُ‬‫ف َّ‬ ‫آمًنا َوُيتَ َخطَّ ُ‬ ‫ف يعلَمون * أَولَم يروا أََّنا جعْلَنا حرما ِ‬
‫َ َ ََ ً‬ ‫َ ْ ََ ْ‬ ‫ِلَي ْكفُُروا بِ َما آتَْيَن ُ‬
‫اه ْم َوِلَيتَ َمتَّ ُعوا فَ َس ْو َ َ ْ ُ َ‬
‫َّ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫اط ِل يؤ ِمُنون وبِنِعم ِة اللَّ ِه ي ْكفُرون * وم ْن أَ ْ ِ‬ ‫حوِل ِهم أَفَبِاْلب ِ‬
‫ب‬‫ظلَ ُم م َّم ِن ا ْفتََرى َعلَى الله َكذًبا أ َْو َكذ َ‬ ‫َ ُ َ ََ‬ ‫ُْ َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ ْ‬
‫اه ُدوا ِف َينا لََن ْه ِدَيَّنهُ ْم ُسُبلََنا َوإِ َّن اللَّهَ لَ َم َع‬
‫ين َج َ‬ ‫َِّ‬
‫ين * َوالذ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اءهُ أَلَْي َس في َجهََّن َم َمثًْوى لْل َكاف ِر َ‬ ‫ق لَ َّما َج َ‬ ‫بِاْل َح ِّ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫اْل ُم ْحسن َ‬
‫يخبر تعالى عن حالة الدنيا واآلخرة‪ ،‬وفي ضمن ذلك‪ ،‬التزهيد في الدنيا والتشويق لألخرى‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ب } تلهو بها القلوب‪ ،‬وتلعب بها األبدان‪ ،‬بسبب‬ ‫الد ْنَيا } في الحقيقة { ِإال لَ ْهٌو َولَ ِع ٌ‬ ‫{ و َما َه ِذ ِه اْل َحَياةُ ُّ‬
‫َ‬
‫ما جعل اللّه فيها من الزينة واللذات‪ ،‬والشهوات الخالبة للقلوب المعرضة‪ ،‬الباهجة للعيون الغافلة‪،‬‬
‫المفرحة للنفوس المبطلة الباطلة‪ ،‬ثم تزول سريعا‪ ،‬وتنقضي جميعا‪ ،‬ولم يحصل منها محبها إال‬
‫على الندم والحسرة والخسران‪.‬‬
‫وأما الدار اآلخرة‪ ،‬فإنها دار { الحيوان } أي‪ :‬الحياة الكاملة‪ ،‬التي من لوازمها‪ ،‬أن تكون أبدان‬
‫أهلها في غاية القوة‪ ،‬وقواهم في غاية الشدة‪ ،‬ألنها أبدان وقوى خلقت للحياة‪ ،‬وأن يكون موجودا‬
‫فيها كل ما تكمل به الحياة‪ ،‬وتتم به اللذات‪ ،‬من مفرحات القلوب‪ ،‬وشهوات األبدان‪ ،‬من المآكل‪،‬‬
‫والمشارب‪ ،‬والمناكح‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬مما ال عين رأت‪ ،‬وال أذن سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب بشر‪{ .‬‬
‫ون } لما آثروا الدنيا على اآلخرة‪ ،‬ولو كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان‪،‬‬
‫لَ ْو َك ُانوا َي ْعلَ ُم َ‬
‫ورغبوا في دار اللهو واللعب‪ ،‬فدل ذلك على أن الذين يعلمون‪ ،‬ال بد أن يؤثروا اآلخرة على‬
‫الدنيا‪ ،‬لما يعلمونه من حالة الدارين‪.‬‬
‫ثم ألزم تعالى المشركين بإخالصهم للّه تعالى‪ ،‬في حالة (‪ )1‬الشدة‪ ،‬عند ركوب البحر وتالطم‬
‫أمواجه وخوفهم الهالك‪ ،‬يتركون إذا أندادهم‪ ،‬ويخلصون الدعاء للّه وحده ال شريك له‪ ،‬فلما زالت‬
‫عنهم الشدة‪ ،‬ونجى (‪ )2‬من أخلصوا له الدعاء إلى البر‪ ،‬أشركوا به من ال نجاهم من شدة‪ ،‬وال‬
‫أزال (‪ )3‬عنهم مشقة‪.‬‬
‫فهال أخلصوا للّه الدعاء في حال [ ص ‪ ] 636‬الرخاء والشدة‪ ،‬واليسر والعسر‪ ،‬ليكونوا مؤمنين‬
‫به حقا‪ ،‬مستحقين ثوابه‪ ،‬مندفعا عنهم عقابه‪.‬‬
‫ولكن شركهم هذا بعد نعمتنا عليهم‪ ،‬بالنجاة من البحر‪ ،‬ليكون عاقبته كفر ما آتيناهم‪ ،‬ومقابلة‬
‫هم إال بطونهم‬
‫النعمة باإلساءة‪ ،‬وليكملوا تمتعهم في الدنيا‪ ،‬الذي هو كتمتع األنعام‪ ،‬ليس لهم ٌّ‬
‫وفروجهم‪.‬‬
‫ون } حين ينتقلون من الدنيا إلى اآلخرة‪ ،‬شدة األسف وأليم العقوبة‪.‬‬
‫ف َي ْعلَ ُم َ‬
‫{ فَ َس ْو َ‬
‫ثم امتن عليهم بحرمه اآلمن‪ ،‬وأنهم أهله في أمن وسعة ورزق‪ ،‬والناس من حولهم يتخطفون‬
‫ويخافون‪ ،‬أفال يعبدون الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف‪.‬‬
‫ون } وهو ما هم عليه من الشرك‪ ،‬واألقوال‪ ،‬واألفعال الباطلة‪َ { .‬وبِنِ ْع َم ِة اللَّ ِه }‬ ‫ِ‬
‫{ أَفَبِاْلَباط ِل ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون } فأين ذهبت عقولهم‪ ،‬وانسلخت أحالمهم حيث آثروا الضالل على الهدى‪ ،‬والباطل‬ ‫هم { َي ْكفُُر َ‬
‫على الحق‪ ،‬والشقاء على السعادة‪ ،‬وحيث كانوا أظلم الخلق‪.‬‬
‫ظلَ ُم ِم َّم ِن ا ْفتََرى َعلَى اللَّ ِه َك ِذًبا } فنسب ما هو عليه من الضالل والباطل إلى اللّه‪ { ،‬أ َْو‬ ‫{ َو َم ْن أَ ْ‬
‫اءهُ } على يد رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم‪.‬‬ ‫ب بِاْل َح ِّ‬ ‫َّ‬
‫ق لَ َّما َج َ‬ ‫َكذ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } يؤخذ بها منهم الحق‪،‬‬ ‫ولكن هذا الظالم العنيد‪ ،‬أمامه جهنم { أَلَْي َس في َجهََّن َم َمثًْوى لْل َكاف ِر َ‬
‫ويخزون بها‪ ،‬وتكون منزلهم الدائم‪ ،‬الذين ال يخرجون منه‪.‬‬
‫اه ُدوا ِف َينا } وهم الذين هاجروا في سبيل اللّه‪ ،‬وجاهدوا أعداءهم‪ ،‬وبذلوا مجهودهم في‬ ‫ين َج َ‬ ‫َِّ‬
‫{ َوالذ َ‬
‫اتباع مرضاته‪ { ،‬لََن ْه ِدَيَّنهُ ْم ُسُبلََنا } أي‪ :‬الطرق الموصلة إلينا‪ ،‬وذلك ألنهم محسنون‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫َّ‬
‫ين } بالعون والنصر والهداية‪ .‬دل هذا‪ ،‬على أن أحرى الناس بموافقة‬ ‫{ َوإِ َّن اللهَ لَ َم َع اْل ُم ْحسن َ‬
‫الصواب أهل الجهاد‪ ،‬وعلى أن من أحسن فيما أمر به أعانه اللّه ويسر له أسباب الهداية‪ ،‬وعلى‬
‫أن من جد واجتهد في طلب العلم الشرعي‪ ،‬فإنه يحصل له من الهداية والمعونة على تحصيل‬
‫مطلوبه أمور إلهية‪ ،‬خارجة عن مدرك اجتهاده‪ ،‬وتيسر له أمر العلم‪ ،‬فإن طلب العلم الشرعي من‬
‫الجهاد في سبيل اللّه‪ ،‬بل هو أحد َن ْو َعي الجهاد‪ ،‬الذي ال يقوم به إال خواص الخلق‪ ،‬وهو الجهاد‬
‫بالقول واللسان‪ ،‬للكفار والمنافقين‪ ،‬والجهاد على تعليم أمور الدين‪ ،‬وعلى رد نزاع المخالفين‬
‫للحق‪ ،‬ولو كانوا من المسلمين‪.‬‬
‫تم تفسير سورة العنكبوت بحمد اللّه وعونه‪.‬‬
‫تفسير سورة الروم‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬حال‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬نجاهم‪.‬‬
‫(‪ )3‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬زال‪.‬‬
‫( ‪)1/635‬‬

‫ين ِللَّ ِه‬ ‫ض و ُهم ِم ْن بع ِد َغلَبِ ِهم سي ْغِلبون (‪ِ )3‬في بِ ْ ِ ِ‬


‫ض ِع سن َ‬ ‫ْ ََ ُ َ‬ ‫َْ‬ ‫وم (‪ )2‬في أ َْدَنى اأْل َْر ِ َ ْ‬
‫ِ‬
‫الر ُ‬‫الم (‪ُ )1‬غِلَب ِت ُّ‬
‫َّ ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ‬
‫اء َو ُه َو اْل َع ِز ُيز‬ ‫ون (‪ )4‬بَِن ْ‬
‫ص ِر الله َي ْن ُ‬
‫ص ُر َم ْن َي َش ُ‬ ‫اأْل َْم ُر م ْن قَْب ُل َو ِم ْن َب ْع ُد َوَي ْو َمئذ َي ْف َر ُح اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫يم (‪)5‬‬ ‫َّ ِ‬
‫الرح ُ‬

‫ض َو ُه ْم ِم ْن‬
‫األر ِ‬
‫وم * في أ َْدَنى ْ‬
‫ِ‬
‫الر ُ‬ ‫الر ِح ِيم الم * ُغِلَب ِت ُّ‬ ‫وهي مكية { ‪ { } 7 - 1‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫ٍِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ِع ِسنِ َِّ ِ‬ ‫ون * ِفي بِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ِر‬‫ون * بَِن ْ‬ ‫األم ُر م ْن قَْب ُل َو ِم ْن َب ْع ُد َوَي ْو َمئذ َي ْف َر ُح اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫ين لله ْ‬ ‫َ‬ ‫َب ْعد َغلَبِ ِه ْم َسَي ْغلُب َ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫اللَّ ِه ي ْنصر م ْن ي َشاء و ُهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫َ ُُ َ َ ُ َ َ َ‬
‫كانت الفرس والروم في ذلك الوقت من أقوى دول األرض‪ ،‬وكان يكون بينهما من الحروب‬
‫والقتال ما يكون بين الدول المتوازنة‪.‬‬
‫وكانت الفرس مشركين يعبدون النار‪ ،‬وكانت الروم أهل كتاب ينتسبون إلى التوراة واإلنجيل وهم‬
‫أقرب إلى المسلمين من الفرس فكان المؤمنون يحبون غلبتهم وظهورهم على الفرس‪ ،‬وكان‬
‫المشركون ‪-‬الشتراكهم والفرس في الشرك‪ -‬يحبون ظهور الفرس على الروم‪.‬‬
‫فظهر الفرس على الروم فغلبوهم غلبا لم يحط بملكهم بل بأدنى أرضهم‪ ،‬ففرح بذلك مشركو مكة‬
‫وحزن المسلمون‪ ،‬فأخبرهم اللّه ووعدهم (‪ )1‬أن الروم ستغلب الفرس‪.‬‬
‫ين } تسع أو ثمان ونحو ذلك مما ال يزيد على العشر‪ ،‬وال ينقص عن الثالث‪ ،‬وأن‬ ‫{ ِفي بِ ْ ِ ِ‬
‫ض ِع سن َ‬
‫األم ُر ِم ْن قَْب ُل‬ ‫َِّ ِ‬
‫غلبة الفرس للروم ثم غلبة الروم للفرس كل ذلك بمشيئته وقدره ولهذا قال‪ { :‬لله ْ‬
‫َو ِم ْن َب ْع ُد } فليس الغلبة والنصر لمجرد وجود األسباب‪ ،‬وإ نما هي ال بد أن يقترن بها القضاء‬
‫والقدر‪.‬‬
‫َّ ِ‬ ‫ٍِ‬
‫اء‬ ‫ون بَِن ْ‬
‫ص ِر الله َي ْن ُ‬
‫ص ُر َم ْن َي َش ُ‬ ‫{ َوَي ْو َمئذ } أي‪ :‬يوم يغلب الروم الفرس ويقهرونهم { َي ْف َر ُح اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫} أي‪ :‬يفرحون بانتصارهم على الفرس وإ ن كان الجميع كفارا ولكن بعض الشر أهون من بعض‬
‫ويحزن يومئذ المشركون‪.‬‬
‫{ َو ُه َو اْل َع ِز ُيز } الذي له العزة التي قهر بها الخالئق أجمعين يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك‬
‫الرحيم } بعباده المؤمنين حيث قيض لهم من‬
‫ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء‪َّ { .‬‬
‫األسباب التي تسعدهم وتنصرهم ما ال يدخل في الحساب‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬بوعده‪.‬‬
‫( ‪)1/636‬‬

‫اه ًرا ِم َن اْل َحَي ِاة ُّ‬


‫الد ْنَيا َو ُه ْم‬ ‫ظِ‬ ‫ون َ‬
‫ون (‪َ )6‬ي ْعلَ ُم َ‬ ‫ف اللَّهُ َو ْع َدهُ َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫الن ِ‬
‫اس اَل َي ْعلَ ُم َ‬ ‫َو ْع َد اللَّ ِه اَل ُي ْخِل ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)7‬‬ ‫َع ِن اآْل َخ َر ِة ُه ْم َغافلُ َ‬

‫اه ًرا ِم َن اْل َحَي ِاة ُّ‬


‫الد ْنَيا َو ُه ْم‬ ‫ظِ‬ ‫ون َ‬
‫ون * َي ْعلَ ُم َ‬ ‫ف اللَّهُ َو ْع َدهُ َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫الن ِ‬
‫اس ال َي ْعلَ ُم َ‬ ‫{ َو ْع َد اللَّ ِه ال ُي ْخِل ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫َع ِن اآلخ َر ِة ُه ْم َغافلُ َ‬
‫[ ص ‪] 637‬‬
‫ف اللَّهُ َو ْع َدهُ } فتيقنوا ذلك واجزموا به واعلموا أنه ال بد من وقوعه‪.‬‬
‫{ َو ْع َد اللَّ ِه ال ُي ْخِل ُ‬
‫فلما نزلت هذه اآليات التي فيها هذا الوعد صدق بها المسلمون‪ ،‬وكفر بها المشركون حتى تراهن‬
‫بعض المسلمين وبعض المشركين على مدة سنين عينوها‪ ،‬فلما جاء األجل الذي ضربه اللّه‬
‫انتصر الروم على الفرس وأجلوهم من بالدهم التي أخذوها منهم وتحقق وعد اللّه‪.‬‬
‫وهذا من األمور الغيبية التي أخبر بها اللّه قبل وقوعها ووجدت في زمان من أخبرهم اللّه بها من‬
‫ون } أن ما وعد اللّه به حق فلذلك يوجد فريق‬ ‫اس ال َي ْعلَ ُم َ‬ ‫المسلمين والمشركين‪َ { .‬ولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫الن ِ‬
‫منهم يكذبون بوعد اهلل‪ ،‬ويكذبون آياته‪.‬‬
‫اه ًرا ِم َن‬
‫ظِ‬ ‫ون َ‬
‫وهؤالء الذين ال يعلمون أي‪ :‬ال يعلمون بواطن األشياء وعواقبها‪ .‬وإ نما { َي ْعلَ ُم َ‬
‫الد ْنَيا } فينظرون إلى األسباب ويجزمون بوقوع األمر الذي في رأيهم انعقدت أسباب‬ ‫اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫وجوده ويتيقنون عدم األمر الذي لم يشاهدوا له من األسباب المقتضية لوجوده شيئا‪ ،‬فهم واقفون‬
‫مع األسباب غير ناظرين إلى مسببها المتصرف فيها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َو ُه ْم َع ِن اآلخ َر ِة ُه ْم َغافلُ َ‬
‫ون } قد توجهت قلوبهم وأهواؤهم وإ راداتهم إلى الدنيا وشهواتها‬
‫وحطامها فعملت لها وسعت وأقبلت بها وأدبرت وغفلت عن اآلخرة‪ ،‬فال الجنة تشتاق إليها وال‬
‫النار تخافها وتخشاها وال المقام بين يدي اللّه ولقائه يروعها ويزعجها وهذا عالمة الشقاء‬
‫وعنوان الغفلة عن اآلخرة‪.‬‬
‫ومن العجب أن هذا القسم من الناس قد بلغت بكثير منهم الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا إلى أمر‬
‫يحير العقول ويدهش األلباب‪.‬‬
‫وأظهروا من العجائب الذرية (‪ )1‬والكهربائية والمراكب البرية والبحرية والهوائية ما فاقوا به‬
‫وبرزوا وأعجبوا بعقولهم ورأوا غيرهم عاجزا عما أقدرهم اللّه عليه‪ ،‬فنظروا إليهم بعين االحتقار‬
‫واالزدراء وهم مع ذلك أبلد الناس في أمر دينهم وأشدهم غفلة عن آخرتهم وأقلهم معرفة‬
‫بالعواقب‪ ،‬قد رآهم أهل البصائر النافذة في جهلهم يتخبطون وفي ضاللهم يعمهون وفي باطلهم‬
‫يترددون (‪ )2‬نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون‪.‬‬
‫ثم (‪ )3‬نظروا إلى ما أعطاهم اللّه وأقدرهم عليه من األفكار الدقيقة في الدنيا وظاهرها و[ما]‬
‫حرموا من العقل العالي فعرفوا (‪ )4‬أن األمر للّه والحكم له في عباده وإ ن هو إال توفيقه وخذالنه‬
‫فخافوا (‪ )5‬ربهم وسألوه أن يتم لهم ما وهبهم من نور العقول واإليمان حتى يصلوا إليه‪ ،‬ويحلوا‬
‫الر ِق َّي العالي والحياة الطيبة‪ ،‬ولكنها‬
‫بساحته [وهذه األمور لو قارنها اإليمان وبنيت عليه ألثمرت ُّ‬
‫لما بني كثير منها على اإللحاد لم تثمر إال هبوط األخالق وأسباب الفناء والتدمير] (‪. )6‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬النارية‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬يتردون‪.‬‬
‫(‪ )3‬هكذا في النسختين وقد شطبت الكلمة في ب‪ ،‬وجعل بدلها (ولو)‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ب‪ :‬عدلت إلى‪ :‬لعرفوا‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ب‪ :‬عدلت إلى ولخافوا‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من هامش ب‪ ،‬لم يتضح أولها وقد نقلته من طبعة السلفية‪.‬‬

‫( ‪)1/636‬‬

‫َج ٍل ُم َس ًّمى َوإِ َّن‬ ‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما ِإاَّل بِاْل َح ِّ‬ ‫ِ‬ ‫أَولَم يتَفَ َّكروا ِفي أ َْنفُ ِس ِهم ما َخلَ َ َّ‬
‫ق َوأ َ‬ ‫َّم َاوات َواأْل َْر َ‬
‫ق اللهُ الس َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َْ ُ‬
‫ِ َِّ‬ ‫ون (‪ )8‬أَولَ ْم َي ِس ُيروا ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫الن ِ ِ ِ‬ ‫َكثِ ًيرا ِم َن َّ‬
‫ين‬
‫ان َعاقَبةُ الذ َ‬ ‫ف َك َ‬ ‫ض فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ‬ ‫َ‬ ‫اس بِلقَاء َرِّب ِه ْم لَ َكاف ُر َ‬
‫وها أَ ْكثََر ِم َّما َع َم ُر َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اءتْهُ ْم ُر ُسلُهُ ْم‬
‫وها َو َج َ‬ ‫ض َو َع َم ُر َ‬ ‫م ْن قَْبل ِه ْم َك ُانوا أَ َش َّد م ْنهُ ْم قَُّوةً َوأَثَ ُاروا اأْل َْر َ‬
‫اءوا السُّوأَى‬ ‫ِ َِّ‬ ‫ظِلمهم ولَ ِك ْن َك ُانوا أ َْنفُسهم ي ِْ‬ ‫ات فَما َك َّ ِ‬ ‫بِاْلبيَِّن ِ‬
‫َس ُ‬
‫ين أ َ‬ ‫ان َعاقَبةَ الذ َ‬ ‫ون (‪ )9‬ثَُّم َك َ‬ ‫ظل ُم َ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫ان اللهُ لَي ْ َ ُ ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫أ ْ َّ‬
‫ون (‪)10‬‬ ‫َن َكذُبوا بِآََيات الله َو َك ُانوا بِهَا َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬

‫ق‬‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما ِإال بِاْل َح ِّ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 10 - 8‬أَولَم يتَفَ َّكروا ِفي أ َْنفُ ِس ِهم ما َخلَ َ َّ‬
‫األر َ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ق اللهُ الس َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َْ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الن ِ ِ ِ‬ ‫َج ٍل ُم َس ًّمى َوإِ َّن َكثِ ًيرا ِم َن َّ‬
‫ف‬‫ض فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ‬ ‫األر ِ‬ ‫ون * أ ََولَ ْم َيس ُيروا في ْ‬ ‫اس بِلقَاء َرِّب ِه ْم لَ َكاف ُر َ‬ ‫َوأ َ‬
‫وها أَ ْكثََر ِم َّما َع َم ُر َ‬ ‫ِ‬ ‫َكان ع ِاقبةُ الَِّذ ِ ِ‬
‫وها‬ ‫ض َو َع َم ُر َ‬ ‫ين م ْن قَْبل ِه ْم َك ُانوا أَ َش َّد م ْنهُ ْم قَُّوةً َوأَثَ ُاروا ْ‬
‫األر َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ين‬ ‫ِ َِّ‬ ‫ظِلمهم ولَ ِك ْن َك ُانوا أ َْنفُسهم ي ِْ‬ ‫ات فَما َك َّ ِ‬ ‫وجاءتْهم رسلُهم بِاْلبيَِّن ِ‬
‫ان َعاقَبةَ الذ َ‬ ‫ون * ثَُّم َك َ‬ ‫ظل ُم َ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫ان اللهُ لَي ْ َ ُ ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ ُْ ُ ُ ُْ َ‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫أَساءوا السُّوءى أ ْ َّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫َن َكذُبوا بِ َآيات الله َو َك ُانوا بِهَا َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫أي‪ :‬أفلم يتفكر هؤالء المكذبون لرسل اللّه ولقائه { ِفي أ َْنفُ ِس ِه ْم } فإن في أنفسهم آيات يعرفون (‪)1‬‬
‫بها أن الذي أوجدهم من العدم سيعيدهم بعد ذلك وأن الذي نقلهم أطوارا من نطفة إلى علقة إلى‬
‫مضغة إلى آدمي قد نفخ فيه الروح إلى طفل إلى شاب إلى شيخ إلى هرم‪ ،‬غير الئق أن يتركهم‬
‫ض‬ ‫ِ‬ ‫سدى مهملين ال ينهون وال يؤمرون وال يثابون وال يعاقبون‪ { .‬ما َخلَ َ َّ‬
‫األر َ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ق اللهُ الس َ‬ ‫َ‬
‫َج ٍل ُم َس ًّمى } أي‪ :‬مؤقت بقاؤهما إلى‬ ‫َو َما َب ْيَنهُ َما ِإال بِاْل َح ِّ‬
‫ق } [أي] ليبلوكم أيكم أحسن عمال‪َ { .‬وأ َ‬
‫أجل تنقضي به الدنيا وتجيء به القيامة وتبدل األرض غير األرض والسماوات‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الن ِ ِ ِ‬ ‫{ َوإِ َّن َكثِ ًيرا ِم َن َّ‬
‫اس بِلقَاء َرِّب ِه ْم لَ َكاف ُر َ‬
‫ون } فلذلك لم يستعدوا للقائه ولم يصدقوا رسله التي‬
‫أخبرت به وهذا الكفر عن غير دليل‪ ،‬بل األدلة القاطعة قد دلت على البعث والجزاء‪ [ ،‬ص ‪638‬‬
‫] ولهذا نبههم على السير في األرض والنظر في عاقبة الذين كذبوا رسلهم وخالفوا أمرهم ممن‬
‫هم أشد من هؤالء قوة وأكثر آثارا في األرض من بناء قصور ومصانع ومن غرس أشجار ومن‬
‫زرع وإ جراء أنهار‪ ،‬فلم تغن عنهم قوتهم وال نفعتهم آثارهم حين كذبوا رسلهم الذين جاءوهم‬
‫بالبينات الداالت على الحق وصحة ما جاءوهم به‪ ،‬فإنهم حين ينظرون في آثار أولئك لم يجدوا إال‬
‫أمما بائدة وخلقا مهلكين ومنازل بعدهم موحشة وذم من الخلق عليهم متتابع‪ .‬وهذا جزاء معجل‬
‫نموذج للجزاء األخروي ومبتدأ له‪.‬‬
‫وكل هذه األمم المهلكة لم يظلمهم اللّه بذلك اإلهالك وإ نما ظلموا أنفسهم وتسببوا في هالكها‪.‬‬
‫اءوا السوأى } أي‪ :‬الحالة السيئة الشنيعة‪ ،‬وصار ذلك داعيا لهم ألن‬ ‫ِ َِّ‬
‫َس ُ‬
‫ين أ َ‬ ‫ان َعاقَبةَ الذ َ‬
‫{ ثَُّم َك َ‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫َّ‬
‫ون } فهذا عقوبة لسوئهم وذنوبهم‪.‬‬‫{ َكذُبوا بِ َآيات الله َو َك ُانوا بِهَا َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬
‫ثم ذلك االستهزاء والتكذيب يكون سببا ألعظم العقوبات وأعضل المثالت‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬يعرف‪.‬‬

‫( ‪)1/637‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ق ثَُّم ُي ِع ُ‬


‫اللَّهُ َي ْب َدأُ اْل َخْل َ‬
‫ون (‪َ )12‬ولَ ْم َي ُك ْن‬ ‫َّاعةُ ُيْبل ُس اْل ُم ْج ِر ُم َ‬
‫وم الس َ‬ ‫ون (‪َ )11‬وَي ْو َم تَقُ ُ‬ ‫يدهُ ثَُّم ِإلَْيه تُْر َج ُع َ‬
‫ٍِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)14‬‬ ‫َّاعةُ َي ْو َمئذ َيتَفََّرقُ َ‬
‫وم الس َ‬ ‫ين (‪َ )13‬وَي ْو َم تَقُ ُ‬ ‫اء َو َك ُانوا بِ ُش َر َكائ ِه ْم َكاف ِر َ‬
‫لَهُ ْم م ْن ُش َر َكائ ِه ْم ُشفَ َع ُ‬
‫ون (‪)15‬‬ ‫ات فَهم ِفي رو ٍ‬ ‫َّالح ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فَأ َّ َِّ‬
‫ضة ُي ْحَب ُر َ‬ ‫ُْ َ ْ َ‬ ‫َمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين آ َ‬ ‫َما الذ َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ق ثَُّم ُي ِع ُ‬‫{ ‪ { } 16 - 11‬اللَّهُ َي ْب َدأُ اْل َخْل َ‬


‫َّاعةُ ُيْبل ُس اْل ُم ْج ِر ُم َ‬
‫ون‬ ‫وم الس َ‬‫ون * َوَي ْو َم تَقُ ُ‬ ‫يدهُ ثَُّم ِإلَْيه تُْر َج ُع َ‬
‫ٍِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون‬
‫َّاعةُ َي ْو َمئذ َيتَفََّرقُ َ‬
‫وم الس َ‬‫ين * َوَي ْو َم تَقُ ُ‬‫اء َو َك ُانوا بِ ُش َر َكائ ِه ْم َكاف ِر َ‬
‫* َولَ ْم َي ُك ْن لَهُ ْم م ْن ُش َر َكائ ِه ْم ُشفَ َع ُ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ات فَهم ِفي رو ٍ‬ ‫َّالح ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫* فَأ َّ َِّ‬
‫ضة ُي ْحَب ُر َ‬
‫ُْ َ ْ َ‬ ‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين َ‬
‫َما الذ َ‬
‫يخبر تعالى أنه المتفرد بإبداء المخلوقات ثم يعيدهم ثم إليه يرجعون بعد إعادتهم ليجازيهم‬
‫بأعمالهم‪ ،‬ولهذا ذكر جزاء أهل الشر ثم جزاء أهل الخير فقال‪:‬‬
‫َّاعةُ } أي‪ :‬يقوم الناس لرب العالمين ويردون القيامة عيانا‪ ،‬يومئذ { ُيْبِل ُس‬
‫وم الس َ‬
‫{ َوَي ْو َم تَقُ ُ‬
‫ون } أي‪ :‬ييأسون من كل خير‪ .‬وذلك أنهم ما قدموا لذلك اليوم إال اإلجرام وهي الذنوب‪،‬‬ ‫اْل ُم ْج ِر ُم َ‬
‫من كفر وشرك ومعاصي‪ ،‬فلما قدموا أسباب العقاب ولم يخلطوها بشيء من أسباب الثواب‪،‬‬
‫أيسوا وأبلسوا وأفلسوا وضل عنهم ما كانوا يفترونه‪ ،‬من نفع شركائهم وأنهم يشفعون لهم‪ ،‬ولهذا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } تبرأ‬ ‫اء َو َك ُانوا بِ ُش َر َكائ ِه ْم َكاف ِر َ‬‫قال‪َ { :‬ولَ ْم َي ُك ْن لَهُ ْم م ْن ُش َر َكائ ِه ْم } التي عبدوها مع اللّه { ُشفَ َع ُ‬
‫ون }‬ ‫ك َما َك ُانوا ِإي َ‬
‫َّانا َي ْعُب ُد َ‬ ‫المشركون ممن أشركوهم مع اللّه وتبرأ المعبودون وقالوا‪ { :‬تََب َّرأَْنا ِإلَْي َ‬
‫والتعنوا وابتعدوا‪ ،‬وفي ذلك اليوم يفترق أهل الخير والشر كما افترقت أعمالهم في الدنيا‪.‬‬
‫ات } آمنوا بقلوبهم وصدقوا ذلك باألعمال الصالحة { فَهُ ْم ِفي‬ ‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬
‫ين َ‬
‫{ فَأ َّ َِّ‬
‫َما الذ َ‬
‫ون } أي‪ :‬يسرون وينعمون‬ ‫رو ٍ‬
‫ضة } فيها سائر أنواع النبات وأصناف المشتهيات‪ُ { ،‬ي ْحَب ُر َ‬ ‫َْ َ‬
‫بالمآكل اللذيذة واألشربة والحور الحسان والخدم والولدان واألصوات المطربات والسماع‬
‫المشجي والمناظر العجيبة والروائح الطيبة والفرح والسرور واللذة والحبور مما ال يقدر أحد أن‬
‫يصفه‪.‬‬

‫( ‪)1/638‬‬

‫ون (‪)16‬‬
‫ض ُر َ‬ ‫ك ِفي اْل َع َذ ِ‬
‫اب ُم ْح َ‬ ‫اء اآْل َ ِخ َر ِة فَأُولَئِ َ‬
‫َما الَِّذين َكفَروا و َك َّذبوا بِآَياتَِنا وِلقَ ِ‬
‫َوأ َّ‬
‫َ ُ َ ُ َ َ‬

‫ون } ‪.‬‬
‫ض ُر َ‬ ‫اب ُم ْح َ‬ ‫ك ِفي اْل َع َذ ِ‬
‫اآلخ َر ِة فَأُولَئِ َ‬
‫اء ِ‬ ‫َما الَِّذين َكفَروا و َك َّذبوا بِآياتَِنا وِلقَ ِ‬
‫{ َوأ َّ‬
‫َ ُ َ ُ َ َ‬
‫ين َكفَ ُروا } وجحدوا نعمه وقابلوها بالكفر { َو َك َّذُبوا بِ َآياتَِنا } التي جاءتهم بها‬ ‫{ ‪ { } 16‬وأ َّ َِّ‬
‫َما الذ َ‬ ‫َ‬
‫َّ‬
‫ون } فيه‪ ،‬قد أحاطت بهم جهنم من جميع جهاتهم واطلع‬ ‫ِ‬
‫ك في اْل َع َذ ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ُر َ‬ ‫اب ُم ْح َ‬ ‫رسلنا { فَأُولَئ َ‬
‫العذاب األليم على أفئدتهم وشوى الحميم وجوههم وقطَّع أمعاءهم‪ ،‬فأين الفرق بين الفريقين وأين‬
‫التساوي بين المنعمين والمعذبين؟"‬

‫( ‪)1/638‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فَس ْبح َّ ِ ِ‬
‫ين‬
‫ض َو َعشيًّا َوح َ‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬
‫َّم َاو َ‬ ‫ون (‪َ )17‬ولَهُ اْل َح ْم ُد في الس َ‬ ‫صبِ ُح َ‬
‫ين تُ ْ‬
‫ون َوح َ‬
‫ين تُ ْم ُس َ‬‫ان الله ح َ‬
‫ُ َ َ‬
‫ض َب ْع َد َم ْوتِهَا َو َك َذِل َ‬
‫ك‬ ‫ِّت وي ْخ ِرج اْلمي َ ِ‬
‫ِّت م َن اْل َح ِّي َوُي ْحيِي اأْل َْر َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪ُ )18‬ي ْخ ِر ُج اْل َح َّي م َن اْل َمي َ ُ ُ َ‬‫ظ ِه ُر َ‬
‫تُ ْ‬
‫ون (‪)19‬‬‫تُ ْخ َر ُج َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 19 - 17‬فَس ْبح َّ ِ ِ‬


‫األر ِ‬
‫ض‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫صبِ ُح َ‬
‫ون * َولَهُ اْل َح ْم ُد في الس َ‬ ‫ين تُ ْ‬
‫ون َوح َ‬
‫ين تُ ْم ُس َ‬
‫ان الله ح َ‬ ‫ُ َ َ‬
‫ِّت وي ْخ ِرج اْلمي َ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َب ْع َد‬ ‫ِّت م َن اْل َح ِّي َوُي ْحيِي ْ‬
‫األر َ‬ ‫ظ ِه ُر َ‬
‫ون * ُي ْخ ِر ُج اْل َح َّي م َن اْل َمي َ ُ ُ َ‬ ‫ين تُ ْ‬
‫َو َعشيًّا َوح َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫َم ْوتِهَا َو َك َذِل َ‬
‫ك تُ ْخ َر ُج َ‬
‫هذا إخبار عن تنزهه عن السوء والنقص وتقدسه عن أن يماثله أحد من الخلق وأمر للعباد أن‬
‫يسبحوه حين يمسون وحين يصبحون ووقت العشي ووقت الظهيرة‪.‬‬
‫فهذه األوقات الخمسة أوقات الصلوات الخمس أمر اللّه عباده بالتسبيح فيها والحمد‪ ،‬ويدخل في‬
‫ذلك الواجب منه كالمشتملة عليه الصلوات الخمس‪ ،‬والمستحب كأذكار الصباح والمساء وأدبار‬
‫الصلوات وما يقترن بها من النوافل‪ ،‬ألن هذه األوقات التي اختارها اللّه [ألوقات المفروضات‬
‫هي] أفضل من غيرها [فالتسبيح والتحميد فيها والعبادة فيها أفضل من غيرها] (‪ )1‬بل العبادة‬
‫وإ ن لم تشتمل على قول "سبحان اللّه" فإن اإلخالص فيها تنزيه للّه بالفعل أن يكون له شريك في‬
‫العبادة أو أن يستحق أحد من الخلق ما يستحقه من اإلخالص واإلنابة‪.‬‬
‫[ ص ‪] 639‬‬
‫{ ي ْخ ِرج اْلح َّي ِمن اْلمي ِ‬
‫ِّت } كما يخرج النبات من األرض الميتة والسنبلة من الحبة والشجرة من‬ ‫َ َ‬ ‫ُ ُ َ‬
‫النواة والفرخ من البيضة والمؤمن من الكافر‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫ض َب ْع َد َم ْوتِهَا } فينزل عليها المطر‬ ‫{ وي ْخ ِرج اْلمي َ ِ‬
‫ِّت م َن اْل َح ِّي } بعكس المذكور { َوُي ْحيِي ْ‬
‫األر َ‬ ‫َُ ُ َ‬
‫ك‬‫وهي ميتة هامدة فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج { َو َك َذِل َ‬
‫ون } من قبوركم‪.‬‬
‫تُ ْخ َر ُج َ‬
‫فهذا دليل قاطع وبرهان ساطع أن الذي أحيا األرض بعد موتها فإنه يحيي األموات‪ ،‬فال فرق في‬
‫نظر العقل بين األمرين وال موجب الستبعاد أحدهما مع مشاهدة اآلخر‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ب‪.‬‬

‫( ‪)1/638‬‬
‫ق لَ ُك ْم ِم ْن أ َْنفُ ِس ُك ْم‬ ‫ون (‪َ )20‬و ِم ْن آََياتِ ِه أ ْ‬
‫َن َخلَ َ‬ ‫ِ‬
‫اب ثَُّم ِإ َذا أ َْنتُ ْم َب َشٌر تَْنتَش ُر َ‬ ‫َن َخلَقَ ُكم ِم ْن تُر ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َو ِم ْن آََياتِ ِه أ ْ‬
‫ٍ ِ‬ ‫اجا ِلتَ ْس ُكُنوا ِإلَْيهَا َو َج َع َل َب ْيَن ُك ْم َم َو َّدةً َو َر ْح َمةً ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ون (‪)21‬‬ ‫ك آَل ََيات لقَ ْوٍم َيتَفَ َّك ُر َ‬ ‫أ َْز َو ً‬

‫ون * َو ِم ْن َآياتِ ِه أ ْ‬ ‫ِ‬ ‫َن َخلَقَ ُكم ِم ْن تُر ٍ‬


‫ق‬
‫َن َخلَ َ‬ ‫اب ثَُّم ِإ َذا أ َْنتُ ْم َب َشٌر تَْنتَش ُر َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫{ ‪َ { } 21 - 20‬و ِم ْن َآياتِ ِه أ ْ‬
‫ٍ ِ‬ ‫اجا ِلتَ ْس ُكُنوا ِإلَْيهَا َو َج َع َل َب ْيَن ُك ْم َم َو َّدةً َو َر ْح َمةً ِإ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آليات لقَ ْوٍم َيتَفَ َّك ُر َ‬
‫ون‬ ‫ك َ‬ ‫لَ ُك ْم م ْن أ َْنفُس ُك ْم أ َْز َو ً‬
‫}‪.‬‬
‫هذا شروع في تعداد آياته الدالة على انفراده باإللهية وكمال عظمته‪ ،‬ونفوذ مشيئته وقوة اقتداره‬
‫اب } وذلك بخلق أصل‬ ‫َن َخلَقَ ُكم ِم ْن تُر ٍ‬
‫وجميل صنعه وسعة رحمته وإ حسانه فقال‪َ { :‬و ِم ْن َآياتِ ِه أ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫ون } [أي‪ :‬الذي خلقكم من أصل واحد ومادة‬ ‫النسل آدم عليه السالم { ثَُّم ِإ َذا أ َْنتُ ْم َب َشٌر تَْنتَش ُر َ‬
‫واحدة] (‪ )1‬وبثكم في أقطار األرض [وأرجائها ففي ذلك آيات على أن الذي أنشأكم من هذا‬
‫األصل وبثكم في أقطار األرض] (‪ )2‬هو الرب المعبود الملك المحمود والرحيم الودود الذي‬
‫سيعيدكم بالبعث بعد الموت‪.‬‬
‫ق لَ ُك ْم‬
‫َن َخلَ َ‬ ‫{ َو ِم ْن َآياتِ ِه } الدالة على رحمته وعنايته بعباده وحكمته العظيمة وعلمه المحيط‪ { ،‬أ ْ‬
‫اجا } تناسبكم وتناسبونهن وتشاكلكم وتشاكلونهن { ِلتَ ْس ُكُنوا ِإلَْيهَا َو َج َع َل َب ْيَن ُك ْم َم َو َّدةً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن أ َْنفُس ُك ْم أ َْز َو ً‬
‫َو َر ْح َمةً } بما رتب على الزواج من األسباب الجالبة للمودة والرحمة‪.‬‬
‫فحصل بالزوجة االستمتاع واللذة والمنفعة بوجود األوالد وتربيتهم‪ ،‬والسكون إليها‪ ،‬فال تجد بين‬
‫ٍ ِ‬ ‫أحد في الغالب مثل ما بين الزوجين من المودة والرحمة‪ِ { ،‬إ َّن ِفي َذِل َ‬
‫آليات لقَ ْوٍم َيتَفَ َّك ُر َ‬
‫ون }‬ ‫ك َ‬
‫ُيعملون أفكارهم ويتدبرون آيات اللّه وينتقلون من شيء إلى شيء‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة بخط المؤلف من هامش أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من ب‪.‬‬

‫( ‪)1/639‬‬

‫ين (‪)22‬‬ ‫ٍ ِ ِِ‬ ‫ف أَْل ِسَنتِ ُك ْم َوأَْل َوانِ ُك ْم ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫اختِاَل ُ‬ ‫ِ‬
‫ات واأْل َْر ِ‬ ‫َو ِم ْن آََياتِ ِه َخْل ُ‬
‫ك آَل ََيات لْل َعالم َ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫َّم َاو َ‬
‫ق الس َ‬

‫ك آلي ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اختِ ُ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪َ { } 22‬و ِم ْن َآياتِ ِه َخْل ُ‬


‫ات‬ ‫الف أَْلسَنت ُك ْم َوأَْل َوان ُك ْم ِإ َّن في َذل َ َ‬ ‫األر ِ‬
‫ض َو ْ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ق الس َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ِ ِِ‬
‫لْل َعالم َ‬
‫والع ِال ُمون هم أهل العلم الذين يفهمون العبر ويتدبرون اآليات‪ .‬واآليات في ذلك كثيرة‪ :‬فمن آيات‬ ‫َ‬
‫خلق السماوات واألرض وما فيهما‪ ،‬أن ذلك دال على عظمة سلطان اللّه وكمال اقتداره الذي‬
‫أوجد هذه المخلوقات العظيمة‪ ،‬وكمال حكمته لما فيها من اإلتقان وسعة علمه‪ ،‬ألن الخالق ال بد‬
‫ق } وعموم رحمته وفضله لما في ذلك من المنافع الجليلة‪ ،‬وأنه‬
‫أن يعلم ما خلقه { أَال َي ْعلَ ُم َم ْن َخلَ َ‬
‫المريد الذي يختار ما يشاء لما فيها من التخصيصات والمزايا‪ ،‬وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد‬
‫ويوحد ألنه المنفرد بالخلق فيجب أن يفرد بالعبادة‪ ،‬فكل هذه أدلة عقلية نبه اللّه العقول إليها‬
‫وأمرها بالتفكر واستخراج العبرة منها‪.‬‬
‫الف أَْل ِسَنتِ ُك ْم َوأَْل َوانِ ُك ْم } على كثرتكم وتباينكم مع أن األصل واحد ومخارج‬
‫اختِ ُ‬
‫{ و } كذلك في { ْ‬
‫الحروف واحدة‪ ،‬ومع ذلك ال تجد صوتين متفقين من كل وجه وال لونين متشابهين من كل وجه‬
‫إال وتجد من الفرق بين ذلك ما به يحصل التمييز‪ .‬وهذا دال على كمال قدرته‪ ،‬ونفوذ مشيئته‪.‬‬
‫و [من] (‪ )1‬عنايته بعباده ورحمته بهم أن قدر ذلك االختالف لئال يقع التشابه فيحصل‬
‫االضطراب ويفوت كثير من المقاصد والمطالب‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة يقتضيها السياق‪.‬‬

‫( ‪)1/639‬‬

‫ٍ ِ‬ ‫ضِل ِه ِإ َّن ِفي َذِل َ‬


‫اؤ ُك ْم ِم ْن فَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ام ُك ْم بِاللَّْي ِل َو َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ك آَل ََيات لقَ ْوٍم َي ْس َم ُع َ‬
‫ون (‪)23‬‬ ‫النهَ ِار َو ْابت َغ ُ‬ ‫َوم ْن آََياته َمَن ُ‬

‫ٍ ِ‬ ‫ضِل ِه ِإ َّن ِفي َذِل َ‬


‫اؤ ُك ْم ِم ْن فَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ام ُك ْم بِاللَّْي ِل َو َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫آليات لقَ ْوٍم َي ْس َم ُع َ‬
‫ون‬ ‫ك َ‬ ‫النهَ ِار َو ْابت َغ ُ‬ ‫{ ‪َ { } 23‬وم ْن َآياته َمَن ُ‬
‫}‪.‬‬
‫أي‪ :‬سماع تدبر وتعقل للمعاني واآليات في ذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/639‬‬

‫ض َب ْع َد َم ْوتِهَا ِإ َّن ِفي‬ ‫ِ‬


‫اء فَُي ْحيِي بِه اأْل َْر َ‬
‫طمعا ويَنِّز ُل ِمن الس ِ‬
‫َّماء َم ً‬
‫َ َ‬ ‫َو ِم ْن آََياتِ ِه ُي ِري ُك ُم اْلَب ْر َ‬
‫ق َخ ْوفًا َو َ َ ً َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫َذِل َ‬
‫ون (‪)24‬‬ ‫ك آَل ََيات لقَ ْوٍم َي ْعقلُ َ‬

‫النهار ِلتَس ُكُنوا ِف ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِِ‬


‫يه‬ ‫إن ذلك دليل على رحمة اللّه تعالى كما قال‪َ { :‬و ِم ْن َر ْح َمته َج َع َل لَ ُك ُم اللْي َل َو َّ َ َ ْ‬
‫ون } وعلى تمام حكمته إذ حكمته اقتضت سكون الخلق في وقت‬ ‫وِلتَْبتَ ُغوا ِم ْن فَ ْ ِ ِ َّ‬
‫ضله َولَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ‬ ‫َ‬
‫ليستريحوا به (‪ )1‬ويستجموا (‪ )2‬وانتشارهم في وقت‪ ،‬لمصالحهم الدينية والدنيوية وال يتم ذلك‬
‫إال بتعاقب الليل والنهار عليهم‪ ،‬والمنفرد بذلك هو المستحق للعبادة‪.‬‬
‫[ ص ‪] 640‬‬
‫ِ‬ ‫طمعا ويَنِّز ُل ِمن الس ِ‬ ‫{ ‪َ { } 24‬و ِم ْن َآياتِ ِه ُي ِري ُك ُم اْلَب ْر َ‬
‫ض َب ْع َد‬ ‫اء فَُي ْحيِي بِه ْ‬
‫األر َ‬ ‫َّماء َم ً‬
‫َ َ‬ ‫ق َخ ْوفًا َو َ َ ً َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫َم ْوتِهَا ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫آليات لقَ ْوٍم َي ْعقلُ َ‬ ‫ك َ‬
‫أي‪ :‬ومن آياته أن ينزل عليكم المطر الذي تحيا به البالد والعباد ويريكم قبل نزوله مقدماته من‬
‫ط َمع فيه‪.‬‬
‫وي ْ‬
‫الرعد والبرق الذي ُي َخاف ُ‬
‫ك آلي ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫ات } [دالة] على عموم إحسانه وسعة علمه وكمال إتقانه‪ ،‬وعظيم حكمته وأنه‬ ‫{ ِإ َّن في َذل َ َ‬
‫يحيي الموتى كما أحيا األرض بعد موتها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬لهم عقول تعقل بها ما تسمعه وتراه وتحفظه‪ ،‬وتستدل به عل ما جعل دليال‬ ‫{ لقَ ْوٍم َي ْعقلُ َ‬
‫عليه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من أ‪.‬‬
‫(‪ )2‬الكلمة غير واضحة في النسختين وكأنها (ويجموا) وقد زيد عليها في نسخة ب حرفان‬
‫فصارت يستجموا‪.‬‬

‫( ‪)1/639‬‬

‫ون (‪)25‬‬ ‫ض ِإ َذا أ َْنتُ ْم تَ ْخ ُر ُج َ‬‫ض بِأ َْم ِر ِه ثَُّم ِإ َذا َد َعا ُك ْم َد ْعوةً ِم َن اأْل َْر ِ‬ ‫اء َواأْل َْر ُ‬
‫َّم ُ‬
‫وم الس َ‬ ‫َو ِم ْن آََياتِ ِه أ ْ‬
‫َ‬ ‫َن تَقُ َ‬
‫َه َو ُن‬ ‫ق ثَُّم ُي ِع ُ‬
‫يدهُ َو ُه َو أ ْ‬ ‫ون (‪َ )26‬و ُه َو الَِّذي َي ْب َدأُ اْل َخْل َ‬ ‫ِ‬
‫ض ُك ٌّل لَهُ قَانتُ َ‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاو َ‬
‫ِ‬
‫َولَهُ َم ْن في الس َ‬
‫ِ‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫علَْي ِه ولَه اْلمثَ ُل اأْل ْ ِ‬
‫يم (‪)27‬‬ ‫ض َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬ ‫َّم َاو َ‬‫َعلَى في الس َ‬ ‫َ َ ُ َ‬

‫ِ‬
‫ض ِإ َذا‬
‫األر ِ‬ ‫ض بِأ َْم ِر ِه ثَُّم ِإ َذا َد َعا ُك ْم َد ْع َوةً م َن ْ‬‫األر ُ‬ ‫اء َو ْ‬
‫َّم ُ‬
‫وم الس َ‬ ‫{ ‪َ { } 27 - 25‬و ِم ْن َآياتِ ِه أ ْ‬
‫َن تَقُ َ‬
‫ق ثَُّم ُي ِع ُ‬
‫يدهُ‬ ‫ون * َو ُه َو الَِّذي َي ْب َدأُ اْل َخْل َ‬ ‫ِ‬
‫ض ُك ٌّل لَهُ قَانتُ َ‬‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ِ‬
‫ون * َولَهُ َم ْن في الس َ‬ ‫أ َْنتُ ْم تَ ْخ ُر ُج َ‬
‫ِ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫َهون علَْي ِه ولَه اْلمثَ ُل ْ ِ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫ض َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫األعلَى في الس َ‬ ‫َو ُه َو أ ْ َ ُ َ َ ُ َ‬
‫أي‪ :‬ومن آياته العظيمة أن قامت السماوات واألرض واستقرتا وثبتتا بأمره فلم تتزلزال ولم تسقط‬
‫السماء على األرض‪ ،‬فقدرته العظيمة التي بها أمسك السماوات واألرض أن تزوال يقدر بها أنه‬
‫الن ِ‬
‫اس‬ ‫ق َّ‬‫ض أَ ْكَب ُر ِم ْن َخْل ِ‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ق الس َ‬
‫إذا دعا الخلق دعوة من األرض إذا هم يخرجون { لَ َخْل ُ‬
‫}‬
‫ض } الكل خلقه ومماليكه المتصرف فيهم من غير منازع وال‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫{ َولَهُ َم ْن في الس َ‬
‫معاون وال معارض وكلهم قانتون لجالله خاضعون لكماله‪.‬‬
‫َه َو ُن َعلَْي ِه } من ابتداء‬ ‫ق ثَُّم ُي ِع ُ‬
‫يدهُ َو ُه َو } أي‪ :‬اإلعادة للخلق بعد موتهم { أ ْ‬ ‫{ َو ُه َو الَِّذي َي ْب َدأُ اْل َخْل َ‬
‫خلقهم وهذا بالنسبة إلى األذهان والعقول‪ ،‬فإذا كان قادرا على االبتداء الذي تقرون به كانت (‪)1‬‬
‫قدرته على اإلعادة التي أهون أولى وأولى‪.‬‬
‫ولما ذكر من اآليات العظيمة ما به يعتبر المعتبرون ويتذكر المؤمنون ويتبصر المهتدون ذكر‬
‫ض } وهو كل صفة‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫األمر العظيم والمطلب الكبير فقال‪ { :‬ولَه اْلمثَ ُل ْ ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫األعلَى في الس َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫كمال‪ ،‬والكمال من تلك الصفة والمحبة واإلنابة التامة الكاملة في قلوب عباده المخلصين والذكر‬
‫الجليل والعبادة منهم‪ .‬فالمثل األعلى هو وصفه األعلى وما ترتب عليه‪.‬‬
‫ولهذا كان أهل العلم يستعملون في حق الباري قياس األولى‪ ،‬فيقولون‪ :‬كل صفة كمال في‬
‫المخلوقات فخالقها أحق باالتصاف بها على وجه ال يشاركه فيها أحد‪ ،‬وكل نقص في المخلوق‬
‫ينزه عنه فتنزيه الخالق عنه من باب أولى وأحرى‪.‬‬
‫{ َو ُه َو اْل َع ِز ُيز الحكيم } أي‪ :‬له العزة الكاملة والحكمة الواسعة‪ ،‬فعزته أوجد بها المخلوقات‬
‫وأظهر المأمورات‪ ،‬وحكمته أتقن بها ما صنعه وأحسن فيها ما شرعه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين‪ :‬كان‪.‬‬

‫( ‪)1/640‬‬

‫اء‬ ‫ِِ‬ ‫ت أ َْيم ُان ُكم ِم ْن ُشر َك ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫اء في َما َر َز ْقَنا ُك ْم فَأ َْنتُ ْم فيه َس َو ٌ‬ ‫َ َ‬ ‫ب لَ ُك ْم َمثَاًل م ْن أ َْنفُس ُك ْم َه ْل لَ ُك ْم م ْن َما َملَ َك ْ َ ْ‬ ‫ض َر َ‬
‫َ‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ونهُ ْم َك ِخيفَتِ ُك ْم أ َْنفُ َس ُك ْم َك َذِل َ‬
‫اء ُه ْم‬
‫َه َو َ‬
‫ظلَ ُموا أ ْ‬ ‫ين َ‬ ‫ون (‪َ )28‬ب ِل اتََّب َع الذ َ‬
‫ص ُل اآْل ََيات لقَ ْوٍم َي ْعقلُ َ‬‫ك ُنفَ ِّ‬ ‫تَ َخافُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪)29‬‬‫َض َّل اللهُ َو َما لَهُ ْم م ْن َناص ِر َ‬ ‫بِ َغ ْي ِر عْلٍم فَ َم ْن َي ْهدي َم ْن أ َ‬

‫اء ِفي َما‬ ‫ِ‬


‫ت أ َْي َم ُان ُك ْم م ْن ُش َر َك َ‬‫ب لَ ُك ْم َمثَال ِم ْن أ َْنفُ ِس ُك ْم َه ْل لَ ُك ْم ِم ْن َما َملَ َك ْ‬ ‫ض َر َ‬
‫{ ‪َ { } 29 - 28‬‬
‫ون * َب ِل اتََّب َع‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ونهُ ْم َك ِخيفَتِ ُك ْم أ َْنفُ َس ُك ْم َك َذِل َ‬ ‫ِِ‬
‫اآليات لقَ ْوٍم َي ْعقلُ َ‬ ‫ص ُل َ‬ ‫ك ُنفَ ِّ‬ ‫اء تَ َخافُ َ‬
‫َر َز ْقَنا ُك ْم فَأ َْنتُ ْم فيه َس َو ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫َض َّل اللهُ َو َما لَهُ ْم م ْن َناص ِر َ‬ ‫اء ُه ْم بِ َغ ْي ِر عْلٍم فَ َم ْن َي ْهدي َم ْن أ َ‬ ‫َه َو َ‬
‫ظلَ ُموا أ ْ‬ ‫ين َ‬ ‫الذ َ‬
‫هذا مثل ضربه اللّه تعالى لقبح الشرك وتهجينه مثال من أنفسكم ال يحتاج إلى حل وترحال‬
‫وإ عمال الجمال‪.‬‬
‫يما َر َز ْقَنا ُك ْم } أي‪ :‬هل أحد من عبيدكم وإ مائكم األرقاء‬ ‫ت أ َْيم ُان ُكم ِم ْن ُشر َك ِ‬
‫اء ف َ‬
‫َ َ‬ ‫مما َملَ َك ْ َ ْ‬‫{ َه ْل لَ ُك ْم َ‬
‫يشارككم في رزقكم وترون أنكم وهم فيه على حد سواء‪.‬‬
‫ونهُ ْم َك ِخيفَتِ ُك ْم أ َْنفُ َس ُك ْم } أي‪ :‬كاألحرار الشركاء في الحقيقة الذين يخاف من قسمه‬
‫{ تَ َخافُ َ‬
‫واختصاص كل شيء بحاله؟‬
‫ليس األمر كذلك فإنه ليس أحد مما ملكت أيمانكم شريكا لكم فيما رزقكم اللّه تعالى‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬ولستم الذين خلقتموهم ورزقتموهم وهم أيضا مماليك مثلكم‪ ،‬فكيف ترضون أن تجعلوا للّه‬
‫شريكا من خلقه وتجعلونه بمنزلته‪ ،‬وعديال له في العبادة وأنتم ال ترضون مساواة مماليككم لكم؟‬
‫هذا من أعجب األشياء ومن أدل شيء على [سفه] (‪ )1‬من اتخذ شريكا مع اللّه وأن ما اتخذه‬
‫باطل مضمحل ليس مساويا للّه وال له من العبادة شيء‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ َك َذِل َ‬
‫ون } الحقائق ويعرفون‪ ،‬وأما من ال يعقل‬ ‫اآليات } بتوضيحها بأمثلتها { لقَ ْوٍم َي ْعقلُ َ‬
‫ص ُل َ‬
‫ك ُنفَ ِّ‬
‫صلَت له اآليات وبينت له البينات لم يكن له عقل يبصر به ما تبين وال لُ ٌّ‬
‫ب يعقل به ما‬ ‫فلو فُ ِّ‬
‫توضح‪ ،‬فأهل العقول واأللباب هم الذين يساق إليهم الكالم ويوجه الخطاب‪.‬‬
‫وإ ذا علم من هذا المثال أن من اتخذ من دون اللّه شريكا يعبده ويتوكل عليه في أموره‪ ،‬فإنه ليس‬
‫معه من الحق شيء فما الذي أوجب له اإلقدام على أمر باطل توضح له بطالنه وظهر برهانه؟‬
‫اء ُه ْم بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم }‬
‫َه َو َ‬
‫ظلَ ُموا أ ْ‬
‫ين َ‬ ‫َِّ‬
‫[لقد] (‪ )2‬أوجب لهم ذلك اتباع الهوى فلهذا قال‪َ { :‬ب ِل اتََّب َع الذ َ‬
‫هويت أنفسهم الناقصة التي ظهر من نقصانها ما تعلق به هواها‪ ،‬أمرا يجزم العقل بفساده والفطر‬
‫برده بغير علم دلهم عليه وال برهان قادهم إليه‪.‬‬
‫َض َّل اللَّهُ } أي‪ :‬ال تعجبوا من عدم هدايتهم فإن اللّه تعالى أضلهم بظلمهم وال‬ ‫ِ‬
‫{ فَ َم ْن َي ْهدي َم ْن أ َ‬
‫طريق لهداية من أضل اللّه ألنه ليس أحد معارضا للّه أو منازعا له في ملكه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من ب‪.‬‬

‫( ‪)1/640‬‬

‫ِّم َولَ ِك َّن‬


‫ين اْلقَي ُ‬ ‫ك ِّ‬
‫الد ُ‬ ‫ق اللَّ ِه َذِل َ‬
‫يل ِل َخْل ِ‬
‫اس َعلَْيهَا اَل تَْب ِد َ‬ ‫ط َر َّ‬
‫الن َ‬ ‫ط َرةَ اللَّ ِه الَّتِي فَ َ‬
‫ين َحنِيفًا ِف ْ‬‫ك ِل ِّلد ِ‬
‫فَأ َِق ْم َو ْجهَ َ‬
‫ِ‬ ‫الصاَل ةَ واَل تَ ُك ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون (‪ )30‬منِيبِ َ ِ ِ َّ‬ ‫الن ِ‬
‫ين (‪)31‬‬ ‫ونوا م َن اْل ُم ْش ِرك َ‬ ‫يموا َّ َ‬ ‫ين إلَْيه َواتقُوهُ َوأَق ُ‬ ‫ُ‬ ‫اس اَل َي ْعلَ ُم َ‬ ‫أَ ْكثََر َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َِّ‬
‫ون (‪)32‬‬ ‫ين فََّرقُوا د َينهُ ْم َو َك ُانوا شَي ًعا ُك ُّل ح ْز ٍب بِ َما لَ َد ْي ِه ْم فَ ِر ُح َ‬ ‫م َن الذ َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َو َما لَهُ ْم م ْن َناص ِر َ‬
‫ين } ينصرونهم حين تحق عليهم كلمة العذاب‪ ،‬وتنقطع بهم الوصل‬
‫واألسباب‪.‬‬
‫[ ص ‪] 641‬‬
‫ق اللَّ ِه َذِل َ‬
‫ك‬ ‫يل ِل َخْل ِ‬
‫اس َعلَْيهَا ال تَْب ِد َ‬ ‫ط َر َّ‬
‫الن َ‬ ‫ط َرةَ اللَّ ِه الَّتِي فَ َ‬
‫ين َحنِيفًا ِف ْ‬
‫ك ِل ِّلد ِ‬
‫{ ‪ { } 32 - 30‬فَأ َِق ْم َو ْجهَ َ‬
‫ونوا ِم َن‬ ‫يموا الصَّالةَ َوال تَ ُك ُ‬ ‫ِ‬ ‫ون * منِيبِ َ ِ ِ َّ‬
‫ين إلَْيه َواتقُوهُ َوأَق ُ‬ ‫اس ال َي ْعلَ ُم َ ُ‬ ‫الن ِ‬‫ِّم َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫ين اْلقَي ُ‬ ‫ِّ‬
‫الد ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َِّ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ين فََّرقُوا د َينهُ ْم َو َك ُانوا شَي ًعا ُك ُّل ح ْز ٍب بِ َما لَ َد ْي ِه ْم فَ ِر ُح َ‬‫ين * م َن الذ َ‬ ‫اْل ُم ْش ِرك َ‬
‫ك } أي‪ :‬انصبه ووجهه‬ ‫يأمر تعالى باإلخالص له في جميع األحوال وإ قامة دينه فقال‪ { :‬فَأ َِق ْم َو ْجهَ َ‬
‫إلى الدين الذي هو اإلسالم واإليمان واإلحسان بأن تتوجه بقلبك وقصدك وبدنك إلى (‪ )1‬إقامة‬
‫شرائع الدين الظاهرة كالصالة والزكاة والصوم والحج ونحوها‪ .‬وشرائعه الباطنة كالمحبة‬
‫والخوف والرجاء واإلنابة‪ ،‬واإلحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة بأن تعبد اللّه فيها كأنك تراه‬
‫فإن لم تكن تراه فإنه يراك‪.‬‬
‫ي البدن ولهذا‬
‫وخص اللّه إقامة الوجه ألن إقبال الوجه تبع إلقبال القلب ويترتب على األمرين َس ْع ُ‬
‫قال‪َ { :‬حنِيفًا } أي‪ :‬مقبال على اللّه في ذلك معرضا عما سواه‪.‬‬
‫اس َعلَْيهَا } ووضع في عقولهم حسنها‬ ‫ط َرةَ اللَّ ِه الَّتِي فَ َ‬
‫ط َر َّ‬
‫الن َ‬ ‫وهذا األمر الذي أمرناك به هو { ِف ْ‬
‫واستقباح غيرها‪ ،‬فإن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع اللّه في قلوب الخلق كلهم‪،‬‬
‫الميل إليها‪ ،‬فوضع في قلوبهم محبة الحق وإ يثار الحق وهذا حقيقة الفطرة‪.‬‬
‫ومن خرج عن هذا األصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم‪:‬‬
‫"كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"‬
‫ق اللَّ ِه } أي‪ :‬ال أحد يبدل خلق اللّه فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه‬
‫{ ال تَْب ِدي َل ِل َخْل ِ‬
‫ِّم } أي‪ :‬الطريق المستقيم الموصل إلى اللّه وإ لى كرامته‪،‬‬ ‫ين اْلقَي ُ‬ ‫ك } الذي أمرنا به { ِّ‬
‫الد ُ‬ ‫اللّه‪َ { ،‬ذِل َ‬
‫فإن من أقام وجهه للدين حنيفا فإنه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعه وطرقه‪َ { ،‬ولَ ِك َّن‬
‫ون } فال يتعرفون الدين القيم وإ ن عرفوه لم يسلكوه‪.‬‬ ‫الن ِ‬
‫اس ال َي ْعلَ ُم َ‬ ‫أَ ْكثََر َّ‬
‫ين ِإلَْي ِه َواتَّقُوهُ } وهذا تفسير إلقامة الوجه للدين‪ ،‬فإن اإلنابة إنابة القلب وانجذاب دواعيه‬ ‫ِ‬
‫{ ُمنيبِ َ‬
‫لمراضي اللّه تعالى‪.‬‬
‫ويلزم من ذلك حمل (‪ )2‬البدن بمقتضى ما في القلب فشمل ذلك العبادات الظاهرة والباطنة‪ ،‬وال‬
‫يتم ذلك إال بترك المعاصي الظاهرة والباطنة فلذلك قال‪َ { :‬واتَّقُوهُ } فهذا يشمل فعل المأمورات‬
‫وترك المنهيات‪.‬‬
‫وخص من المأمورات الصالة لكونها تدعو إلى اإلنابة والتقوى لقوله تعالى‪َ { :‬وأ َِقِم الصَّالةَ ِإ َّن‬
‫الصَّالةَ تَْنهى ع ِن اْلفَ ْح َش ِ‬
‫اء َواْل ُم ْن َك ِر } فهذا إعانتها على التقوى‪.‬‬ ‫َ َ‬
‫ثم قال‪َ { :‬ولَِذ ْك ُر اللَّ ِه أَ ْكَب ُر } فهذا حثها على اإلنابة‪ .‬وخص من المنهيات أصلها والذي ال يقبل‬
‫ِ‬ ‫معه عمل وهو الشرك فقال‪ { :‬وال تَ ُك ُ ِ‬
‫ين } لكون الشرك مضادا لإلنابة التي‬ ‫ونوا م َن اْل ُم ْش ِرك َ‬ ‫َ‬
‫روحها اإلخالص من كل وجه‪.‬‬
‫ين فََّرقُوا ِد َينهُ ْم } مع أن الدين واحد وهو‬ ‫ِ َِّ‬
‫ثم ذكر حالة المشركين مهجنا لها ومقبحا فقال‪ { :‬م َن الذ َ‬
‫إخالص العبادة للّه وحده وهؤالء المشركون فرقوه‪ ،‬منهم من يعبد األوثان واألصنام‪ .‬ومنهم من‬
‫يعبد الشمس والقمر‪ ،‬ومنهم من يعبد األولياء والصالحين ومنهم يهود ومنهم نصارى‪.‬‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬و َك ُانوا ِشَي ًعا } أي‪ :‬كل فرقة من فرق الشرك تألفت وتعصبت على نصر ما معها‬
‫من الباطل ومنابذة غيرهم ومحاربتهم‪.‬‬
‫ِ‬
‫{ ُك ُّل ح ْز ٍب بِ َما لَ َد ْي ِه ْم } من العلوم المخالفة لعلوم الرسل { فَ ِر ُح َ‬
‫ون } به يحكمون ألنفسهم بأنه‬
‫الحق وأن غيرهم على باطل‪ ،‬وفي هذا تحذير للمسلمين من تشتتهم وتفرقهم فرقا كل فريق‬
‫يتعصب لما معه من حق وباطل‪ ،‬فيكونون مشابهين بذلك للمشركين في التفرق بل الدين واحد‬
‫والرسول واحد واإلله واحد‪.‬‬
‫وأكثر األمور الدينية وقع فيها اإلجماع بين العلماء واألئمة‪ ،‬واألخوة اإليمانية قد عقدها اللّه‬
‫وي ْبَنى التفرق والشقاق بين المسلمين على مسائل خفية أو‬
‫وربطها أتم ربط‪ ،‬فما بال ذلك كله ُيْل َغى ُ‬
‫فروع خالفية يضلل بها بعضهم بعضا‪ ،‬ويتميز بها بعضهم عن بعض؟‬
‫فهل هذا إال من أكبر نزغات الشيطان وأعظم مقاصده التي كاد بها للمسلمين؟‬
‫وهل السعي في جمع كلمتهم وإ زالة ما بينهم من الشقاق المبني على ذلك األصل الباطل‪ ،‬إال من‬
‫أفضل الجهاد في سبيل اللّه وأفضل األعمال المقربة إلى اللّه؟‬
‫ولما أمر تعالى باإلنابة إليه ‪-‬وكان المأمور بها هي اإلنابة االختيارية‪ ،‬التي تكون في َحالَي العسر‬
‫واليسر والسعة والضيق‪ -‬ذكر اإلنابة االضطرارية التي ال تكون مع اإلنسان إال عند ضيقه‬
‫وكربه‪ ،‬فإذا زال عنه الضيق نبذها وراء ظهره وهذه غير نافعة فقال‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬على‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ب‪ :‬عمل‬

‫( ‪)1/640‬‬

‫الناس ضٌّر َدعوا ربَّهم منِيبِين ِإلَْي ِه ثَُّم ِإ َذا أَ َذاقَهم ِم ْنه ر ْحمةً ِإ َذا فَ ِر ٌ ِ‬
‫يق م ْنهُ ْم بَِرِّب ِه ْم ُي ْش ِر ُك َ‬
‫ون‬ ‫ُْ ُ َ َ‬ ‫َوإِ َذا َم َّس َّ َ ُ َ ْ َ ُ ْ ُ َ‬
‫ط ًانا فَهَُو َيتَ َكلَّ ُم بِ َما َك ُانوا‬
‫ون (‪ )34‬أ َْم أ َْن َزْلَنا َعلَْي ِه ْم ُسْل َ‬
‫ف تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫(‪ِ )33‬لَي ْكفُُروا بِ َما آَتَْيَن ُ‬
‫اه ْم فَتَ َمتَّ ُعوا فَ َس ْو َ‬
‫ِ‬
‫ون (‪)35‬‬ ‫بِه ُي ْش ِر ُك َ‬
‫ين ِإلَْي ِه ثَُّم ِإ َذا أَ َذاقَهُ ْم ِم ْنهُ َر ْح َمةً ِإ َذا فَ ِر ٌ‬
‫يق‬ ‫ِ‬
‫ضٌّر َد َع ْوا َربَّهُ ْم ُمنيبِ َ‬ ‫اس ُ‬ ‫{ ‪َ { } 35 - 33‬وإِ َذا َم َّس َّ‬
‫الن َ‬
‫ون * ِلَي ْكفُُروا بِ َما آتَْيَن ُ‬
‫ون * أ َْم أ َْن َزْلَنا َعلَْي ِه ْم ُسْل َ‬ ‫اه ْم فَتَ َمتَّ ُعوا فَ َس ْو َ‬ ‫ِ‬
‫ط ًانا فَهَُو‬ ‫ف تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫م ْنهُ ْم بَِرِّب ِه ْم ُي ْش ِر ُك َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫َيتَ َكل ُم بِ َما َك ُانوا بِه ُي ْش ِر ُك َ‬
‫ين ِإلَْي ِه } ونسوا ما‬ ‫ِ‬
‫ضٌّر } مرض أو خوف من هالك ونحوه‪َ { .‬د َع ْوا َربَّهُ ْم ُمنيبِ َ‬ ‫اس ُ‬ ‫{ َوإِ َذا َم َّس َّ‬
‫الن َ‬
‫كانوا به يشركون في تلك الحال لعلمهم أنه ال يكشف الضر إال اللّه‪.‬‬
‫يق ِم ْنهُ ْم } ينقضون‬ ‫{ ثَُّم ِإ َذا أَ َذاقَهُ ْم ِم ْنهُ َر ْح َمةً } شفاهم من مرضهم وآمنهم من خوفهم‪ِ { ،‬إ َذا فَ ِر ٌ‬
‫تلك اإلنابة [ ص ‪ ] 642‬التي صدرت منهم ويشركون به من ال دفع عنهم وال أغنى‪ ،‬وال أفقر‬
‫وم َّن به عليهم حيث أنجاهم‪ ،‬وأنقذهم من الشدة وأزال عنهم‬
‫وال أغنى‪ ،‬وكل هذا كفر بما آتاهم اللّه َ‬
‫المشقة‪ ،‬فهال قابلوا هذه النعمة الجليلة بالشكر والدوام على اإلخالص له في جميع األحوال؟‪.‬‬
‫ط ًانا } أي‪ :‬حجة ظاهرة { فَهَُو } أي‪ :‬ذلك السلطان‪َ { ،‬يتَ َكلَّ ُم بِ َما َك ُانوا بِ ِه‬
‫{ أ َْم أَنزْلَنا َعلَْي ِه ْم ُسْل َ‬
‫ون } ويقول لهم‪ :‬اثبتوا على شرككم واستمروا على شككم فإن ما أنتم عليه هو الحق وما‬ ‫ُي ْش ِر ُك َ‬
‫دعتكم الرسل إليه باطل‪.‬‬
‫فهل ذلك السلطان موجود عندهم حتى يوجب لهم شدة التمسك بالشرك؟ أم البراهين العقلية‬
‫والسمعية والكتب السماوية والرسل الكرام وسادات األنام‪ ،‬قد نهوا أشد النهي عن ذلك وحذروا‬
‫من سلوك طرقه الموصلة إليه وحكموا بفساد عقل ودين من ارتكبه؟‪.‬‬
‫فشرك هؤالء بغير حجة وال برهان وإ نما هو أهواء النفوس‪ ،‬ونزغات الشيطان‪.‬‬

‫( ‪)1/641‬‬

‫ص ْبهم سيَِّئةٌ بِما قَ َّدم ْ ِ‬ ‫ِ‬


‫ت أ َْيدي ِه ْم ِإ َذا ُه ْم َي ْقَنطُ َ‬
‫ون (‪ )36‬أ ََولَ ْم‬ ‫َ َ‬ ‫اس َر ْح َمةً فَ ِر ُحوا بِهَا َوإِ ْن تُ ُ ْ َ‬ ‫الن َ‬ ‫َوإِ َذا أَ َذ ْقَنا َّ‬
‫ٍ ِ‬ ‫اء َوَي ْق ِد ُر ِإ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫الر ْز َ ِ‬
‫َن اللَّهَ َي ْب ُسطُ ِّ‬
‫ون (‪)37‬‬ ‫ك آَل ََيات لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬ ‫ق ل َم ْن َي َش ُ‬ ‫َي َر ْوا أ َّ‬

‫ت أ َْي ِدي ِه ْم ِإ َذا ُه ْم‬ ‫الناس ر ْحمةً فَ ِرحوا بِها وإِ ْن تُ ِ‬


‫ص ْبهُ ْم َسيَِّئةٌ بِ َما قَ َّد َم ْ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫{ ‪َ { } 37 - 36‬وإِ َذا أَ َذ ْقَنا َّ َ َ َ‬
‫ٍ ِ‬ ‫اء َوَي ْق ِد ُر ِإ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫الر ْز َ ِ‬
‫َن اللَّهَ َي ْب ُسطُ ِّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫آليات لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬ ‫ك َ‬ ‫ق ل َم ْن َي َش ُ‬ ‫ون * أ ََولَ ْم َي َر ْوا أ َّ‬
‫َي ْقَنطُ َ‬
‫يخبر تعالى عن طبيعة أكثر الناس في حالي الرخاء والشدة أنهم إذا أذاقهم اللّه منه رحمة من‬
‫صحة وغنى ونصر ونحو ذلك فرحوا بذلك فرح بطر‪ ،‬ال فرح شكر وتبجح بنعمة اللّه‪.‬‬
‫ت أ َْي ِدي ِه ْم } من المعاصي‪ِ { .‬إ َذا ُه ْم‬
‫ص ْبهُ ْم َسيَِّئةٌ } أي‪ ::‬حال تسوؤهم وذلك { بِ َما قَ َّد َم ْ‬ ‫{ وإِ ْن تُ ِ‬
‫َ‬
‫ون } ييأسون من زوال ذلك الفقر والمرض ونحوه‪ .‬وهذا جهل منهم وعدم معرفة‪.‬‬ ‫َي ْقَنطُ َ‬
‫اء َوَي ْق ِد ُر } فالقنوط بعد ما علم أن الخير والشر من اللّه‬ ‫الر ْز َ ِ‬
‫ق ل َم ْن َي َش ُ‬ ‫َن اللَّهَ َي ْب ُسطُ ِّ‬
‫{ أ ََولَ ْم َي َر ْوا أ َّ‬
‫والرزق سعته وضيقه من تقديره ضائع ليس له محل‪ .‬فال تنظر أيها العاقل لمجرد األسباب بل‬
‫ٍ ِ‬ ‫اجعل نظرك لمسببها ولهذا قال‪ِ { :‬إ َّن ِفي َذِل َ‬
‫آليات لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون } فهم الذين يعتبرون بسط اللّه‬ ‫ك َ‬
‫لمن يشاء وقبضه‪ ،‬ويعرفون بذلك حكمة اللّه ورحمته وجوده وجذب القلوب لسؤاله في جميع‬
‫مطالب الرزق‪.‬‬

‫( ‪)1/642‬‬

‫ِ‬ ‫ون َو ْجهَ اللَّ ِه َوأُولَئِ َ‬ ‫َِِّ‬ ‫يل َذِل َ‬‫السبِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون‬
‫ك ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ‬ ‫يد َ‬ ‫ين ُي ِر ُ‬ ‫ك َخ ْيٌر للذ َ‬ ‫فَآَت َذا اْلقُْرَبى َحقَّهُ َواْلم ْسك َ‬
‫ين َو ْاب َن َّ‬
‫ون َو ْجهَ‬
‫يد َ‬ ‫اس فَاَل َي ْرُبو ِع ْن َد اللَّ ِه َو َما آَتَْيتُ ْم ِم ْن َز َك ٍاة تُِر ُ‬
‫الن ِ‬ ‫ال َّ‬ ‫(‪ )38‬وما آَتَْيتُم ِم ْن ِرًبا ِلَيرُبو ِفي أَمو ِ‬
‫َْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ‬
‫ون (‪)39‬‬ ‫ك ُهم اْلم ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ضعفُ َ‬ ‫الله فَأُولَئ َ ُ ُ‬

‫ون َو ْجهَ اللَّ ِه‬


‫يد َ‬ ‫ين ُي ِر ُ‬ ‫َِِّ‬
‫ك َخ ْيٌر للذ َ‬‫يل َذِل َ‬‫السبِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪ { } 39 - 38‬فَآت َذا اْلقُْرَبى َحقَّهُ َواْلم ْسك َ‬
‫ين َو ْاب َن َّ‬
‫اس فَال َي ْرُبو ِعْن َد اللَّ ِه َو َما آتَْيتُ ْم ِم ْن‬
‫الن ِ‬‫ال َّ‬ ‫ون * وما آتَْيتُم ِم ْن ِرًبا ِلَيرُبو ِفي أَمو ِ‬
‫َْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫َوأُولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ َ َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ك ُهم اْلم ْ ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫َز َك ٍاة تُِر ُ‬
‫ضعفُ َ‬ ‫ون َو ْجهَ الله فَأُولَئ َ ُ ُ‬ ‫يد َ‬
‫أي‪ :‬فأعط القريب منك ‪-‬على حسب قربه وحاجته‪ -‬حقه الذي أوجبه الشارع أو حض عليه من‬
‫النفقة الواجبة والصدقة والهدية والبر والسالم واإلكرام والعفو عن زلته والمسامحة عن هفوته‪.‬‬
‫وكذلك [آت] المسكين الذي أسكنه الفقر والحاجة ما تزيل به حاجته وتدفع به ضرورته من‬
‫إطعامه وسقيه وكسوته‪.‬‬
‫السبِ ِ‬
‫يل } الغريب المنقطع به في غير بلده الذي في مظنة شدة الحاجة‪ ،‬ألنه ال مال معه وال‬ ‫{ َو ْاب َن َّ‬
‫كسب قد دبر نفسه به [في] سفره‪ ،‬بخالف الذي في بلده‪ ،‬فإنه وإ ن لم يكن له مال ولكن ال بد ‪-‬في‬
‫الغالب‪ -‬أن يكون في حرفة أو صناعة ونحوها تسد حاجته‪ ،‬ولهذا جعل اللّه في الزكاة حصة‬
‫ون‬ ‫ين ُي ِر ُ‬ ‫َِِّ‬ ‫للمسكين وابن السبيل‪َ { .‬ذِل َ‬
‫يد َ‬ ‫ك } أي‪ :‬إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل { َخ ْيٌر للذ َ‬
‫} بذلك العمل { َو ْجه اللَّ ِه } أي‪ :‬خير غزير وثواب كثير ألنه من أفضل األعمال الصالحة والنفع‬
‫المتعدي الذي وافق محله المقرون به اإلخالص‪.‬‬
‫فإن لم يرد به وجه اللّه لم يكن خيرا ِلْل ُم ْع ِطي وإ ن كان خيرا ونفعا ِلْل ُم ْعطى كما قال تعالى‪ { :‬ال‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ير ِم ْن َن ْجو ُ ِ‬‫َخ ْي َر ِفي َكثِ ٍ‬
‫اس } مفهومها أن هذه‬‫الن ِ‬
‫الح َب ْي َن َّ‬ ‫ص ٍ‬‫ص َدقَة أ َْو َم ْع ُروف أ َْو ِإ ْ‬
‫َم َر بِ َ‬
‫اه ْم إال َم ْن أ َ‬ ‫َ‬
‫المثبتات خير لنفعها المتعدي ولكن من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة اللّه فسوف نؤتيه أجرا عظيما‪.‬‬
‫ون } الفائزون بثواب‬ ‫ِ‬ ‫وقوله‪َ { :‬وأُولَئِ َ‬
‫ك } الذين عملوا هذه األعمال وغيرها لوجه اللّه { ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ‬
‫اللّه الناجون من عقابه‪.‬‬
‫ولما ذكر العمل الذي يقصد به وجهه [من النفقات] ذكر العمل الذي يقصد به مقصد دنيوي فقال‪:‬‬
‫الن ِ‬
‫اس } أي‪ :‬ما أعطيتم من أموالكم الزائدة عن حوائجكم‬ ‫{ وما آتَْيتُم ِم ْن ِرًبا ِلَيرُبو ِفي أَمو ِ‬
‫ال َّ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ََ‬
‫وقصدكم بذلك أن يربو أي‪ :‬يزيد في أموالكم بأن تعطوها لمن تطمعون أن يعاوضكم عنها بأكثر‬
‫منها‪ ،‬فهذا العمل ال يربو أجره عند اللّه لكونه معدوم الشرط الذي هو اإلخالص‪ .‬ومثل ذلك‬
‫العمل الذي يراد به الزيادة في الجاه والرياء عند الناس فهذا كله ال يربو عند اللّه‪.‬‬
‫{ َو َما آتَْيتُ ْم ِم ْن َز َك ٍاة } أي‪ :‬مال يطهركم من األخالق الرذيلة ويطهر أموالكم من البخل بها ويزيد‬
‫ون } أي‪ :‬المضاعف لهم‬ ‫ك ُهم اْلم ْ ِ‬‫َّ ِ ِ‬ ‫طى‪ { .‬تُِر ُ‬
‫ضعفُ َ‬ ‫ون } بذلك { َو ْجهَ الله فَأُولَئ َ ُ ُ‬
‫يد َ‬ ‫في دفع حاجة اْل ُم ْع َ‬
‫األجر الذين تربو نفقاتهم عند اللّه ويربيها اللّه لهم حتى تكون شيئا كثيرا‪.‬‬
‫[ ص ‪] 643‬‬
‫ودل قوله‪َ { :‬و َما آتَْيتُ ْم ِم ْن َز َك ٍاة } أن الصدقة مع اضطرار من يتعلق بالمنفق أو مع َد ْي ٍن عليه لم‬
‫يقضه ويقدم عليه الصدقة أن ذلك ليس بزكاة يؤجر عليه العبد ويرد تصرفه شرعا كما قال تعالى‬
‫في الذي يمدح‪ { :‬الَِّذي ُي ْؤتِي َمالَهُ َيتََز َّكى } فليس مجرد إيتاء المال خيرا حتى يكون بهذه الصفة‬
‫وهو‪ :‬أن يكون على وجه يتزكى به المؤتي‪.‬‬

‫( ‪)1/642‬‬

‫اللَّهُ الَِّذي َخلَقَ ُك ْم ثَُّم َر َزقَ ُك ْم ثَُّم ُي ِميتُ ُك ْم ثَُّم ُي ْحيِي ُك ْم َه ْل ِم ْن ُش َر َكائِ ُك ْم َم ْن َي ْف َع ُل ِم ْن َذِل ُك ْم ِم ْن َش ْي ٍء‬
‫ُس ْب َح َانهُ َوتَ َعالَى َع َّما ُي ْش ِر ُك َ‬
‫ون (‪)40‬‬

‫{ ‪ { } 40‬اللَّهُ الَِّذي َخلَقَ ُك ْم ثَُّم َر َزقَ ُك ْم ثَُّم ُي ِميتُ ُك ْم ثَُّم ُي ْحيِي ُك ْم َه ْل ِم ْن ُش َر َكائِ ُك ْم َم ْن َي ْف َع ُل ِم ْن َذِل ُك ْم ِم ْن‬
‫ٍ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫َش ْيء ُس ْب َح َانهُ َوتَ َعالَى َع َّما ُي ْش ِر ُك َ‬
‫يخبر تعالى أنه وحده المنفرد بخلقكم ورزقكم وإ ماتتكم وإ حيائكم‪ ،‬وأنه ليس أحد من الشركاء التي‬
‫يدعوهم المشركون من يشارك اللّه في شيء من هذه األشياء‪.‬‬
‫فكيف يشركون بمن انفرد بهذه األمور من ليس له تصرف فيها بوجه من الوجوه؟!‬
‫فسبحانه وتعالى وتقدس وتنزه وعال عن شركهم‪ ،‬فال يضره ذلك وإ نما وبالهم (‪ )1‬عليهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬وباله‪.‬‬

‫( ‪)1/643‬‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫الن ِ ِ ِ‬
‫ت أ َْي ِدي َّ‬
‫اد ِفي اْلَبِّر َواْلَب ْح ِر بِ َما َك َسَب ْ‬
‫ض الذي َعملُوا لَ َعلهُ ْم َي ْر ِج ُع َ‬
‫ون (‬ ‫اس لُيذيقَهُ ْم َب ْع َ‬ ‫ظهََر اْلفَ َس ُ‬
‫َ‬
‫‪)41‬‬

‫ض الَِّذي َع ِملُوا لَ َعلَّهُ ْم‬ ‫الن ِ ِ ِ‬


‫اس لُيذيقَهُ ْم َب ْع َ‬ ‫ت أ َْي ِدي َّ‬
‫اد ِفي اْلَبِّر َواْلَب ْح ِر بِ َما َك َسَب ْ‬
‫ظهََر اْلفَ َس ُ‬
‫{ ‪َ { } 41‬‬
‫َي ْر ِج ُع َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫أي‪ :‬استعلن الفساد في البر والبحر أي‪ :‬فساد معايشهم ونقصها وحلول اآلفات بها‪ ،‬وفي أنفسهم‬
‫من األمراض والوباء وغير ذلك‪ ،‬وذلك بسبب ما قدمت أيديهم من األعمال الفاسدة المفسدة‬
‫بطبعها‪.‬‬
‫ض الَِّذي َع ِملُوا } أي‪ :‬ليعلموا أنه المجازي على األعمال فعجل لهم‬ ‫ِِ‬
‫هذه المذكورة { لُيذيقَهُ ْم َب ْع َ‬
‫َّ‬
‫ون } عن أعمالهم التي أثرت لهم من الفساد ما‬ ‫نموذجا من جزاء أعمالهم في الدنيا { لَ َعلهُ ْم َي ْر ِج ُع َ‬
‫أثرت‪ ،‬فتصلح أحوالهم ويستقيم أمرهم‪ .‬فسبحان من أنعم ببالئه وتفضل بعقوبته وإ ال فلو أذاقهم‬
‫جميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة‪.‬‬

‫( ‪)1/643‬‬

‫ِ‬ ‫ف َكان ع ِاقبةُ الَِّذ ِ‬ ‫ُق ْل ِس ُيروا ِفي اأْل َْر ِ‬


‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْش ِرك َ‬
‫ين (‪)42‬‬ ‫ين م ْن قَْب ُل َك َ‬
‫َ‬ ‫ض فَ ْانظُ ُروا َك ْي َ َ َ َ‬

‫ِ‬ ‫ف َكان ع ِاقبةُ الَِّذ ِ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْش ِرك َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ين م ْن قَْب ُل َك َ‬
‫َ‬ ‫ض فَ ْانظُ ُروا َك ْي َ َ َ َ‬ ‫{ ‪ُ { } 42‬ق ْل س ُيروا في ْ‬
‫واألمر بالسير في األرض يدخل فيه السير باألبدان (‪ )1‬والسير في القلوب للنظر والتأمل بعواقب‬
‫المتقدمين‪.‬‬
‫ِ‬
‫ين } تجدون عاقبتهم شر العواقب ومآلهم شر مآل‪ ،‬عذاب استأصلهم وذم‬ ‫ان أَ ْكثَُر ُه ْم ُم ْش ِرك َ‬
‫{ َك َ‬
‫ولعن من خلق اللّه يتبعهم وخزي متواصل‪ ،‬فاحذروا أن تفعلوا فعالهم ُي ْح َذى بكم حذوهم فإن عدل‬
‫اللّه وحكمته في كل زمان ومكان‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬في األبدان‪.‬‬

‫( ‪)1/643‬‬
‫ون (‪َ )43‬م ْن َكفََر‬ ‫َن َيأْتِي َي ْو ٌم اَل َم َر َّد لَهُ ِم َن اللَّ ِه َي ْو َمئٍِذ َيص َّ‬
‫َّد ُع َ‬ ‫فَأ َِقم و ْجه َ ِ ِّ ِ ِ ِ ِ‬
‫ك للدين اْلقَيِّم م ْن قَْبل أ ْ َ‬‫ْ َ َ‬
‫ات ِم ْن‬
‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َمُنوا َو َعملُوا الص َ‬
‫ين آ َ‬
‫فَعلَْي ِه ُك ْفره وم ْن ع ِم َل ص ِالحا فَأِل َْنفُ ِس ِهم يمه ُدون (‪ِ )44‬لي ْج ِز َِّ‬
‫ي الذ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ َْ َ َ‬ ‫َ ً‬ ‫ََُُ َ‬ ‫َ‬
‫ضِل ِه ِإَّنه اَل ي ِح ُّ ِ‬
‫ب اْل َكاف ِر َ‬
‫ين (‪)45‬‬ ‫ُ ُ‬ ‫فَ ْ‬

‫ون *‬‫َّد ُع َ‬ ‫َن َيأْتِي َي ْو ٌم ال َم َر َّد لَهُ ِم َن اللَّ ِه َي ْو َمئٍِذ َيص َّ‬ ‫{ ‪ { } 45 - 43‬فَأ َِقم و ْجه َ ِ ِّ ِ ِ ِ ِ‬
‫ك للدين اْلقَيِّم م ْن قَْبل أ ْ َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ات‬‫َّالح ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ألنفُ ِس ِهم يمه ُدون * ِلي ْج ِز َِّ‬ ‫م ْن َكفَر فَعلَْي ِه ُك ْفره وم ْن ع ِم َل ِ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين َ‬ ‫ي الذ َ‬ ‫صال ًحا فَ ْ ْ َ ْ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ََُُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضله ِإَّنهُ ال ُيح ُّ‬ ‫ِم ْن فَ ْ‬
‫ين } ‪.‬‬‫ب اْل َكاف ِر َ‬
‫أي‪ :‬أقبل بقلبك وتوجه بوجهك واسع ببدنك إلقامة الدين القيم المستقيم‪ ،‬فنفذ أوامره ونواهيه بجد‬
‫َن َيأْتِ َي َي ْو ٌم ال‬
‫واجتهاد وقم بوظائفه الظاهرة والباطنة‪ .‬وبادر زمانك وحياتك وشبابك‪ِ { ،‬م ْن قَْب ِل أ ْ‬
‫َم َر َّد لَهُ ِم َن اللَّ ِه } وهو يوم القيامة الذي إذا جاء ال يمكن رده وال يرجأ العاملون أن يستأنفوا (‪)1‬‬
‫ون } أي‪ :‬يتفرقون عن ذلك‬ ‫َّد ُع َ‬ ‫العمل بل فرغ من األعمال لم يبق إال جزاء العمال‪َ { .‬ي ْو َمئٍِذ َيص َّ‬
‫اليوم ويصدرون أشتاتا متفاوتين ِلُي َر ْوا أعمالهم‪.‬‬
‫{ َم ْن َكفََر } منهم { فَ َعلَْي ِه ُك ْف ُرهُ } ويعاقب هو بنفسه ال تزر وازرة وزر أخرى‪َ { ،‬و َم ْن َع ِم َل‬
‫ألنفُ ِس ِه ْم } ال لغيرهم‬ ‫ص ِال ًحا } من الحقوق التي للّه أو التي للعباد الواجبة والمستحبة‪ { ،‬فَ ْ‬ ‫َ‬
‫ون } أي‪ :‬يهيئون وألنفسهم يعمرون آخرتهم ويستعدون للفوز بمنازلها وغرفاتها‪ ،‬ومع‬
‫{ َي ْمهَ ُد َ‬
‫ذلك جزاؤهم ليس مقصورا على أعمالهم بل يجزيهم اللّه من فضله الممدود وكرمه غير المحدود‬
‫ما ال تبلغه أعمالهم‪ .‬وذلك ألنه أحبهم وإ ذا أحب اللّه عبدا صب عليه اإلحسان صبا‪ ،‬وأجزل له‬
‫العطايا الفاخرة وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة‪.‬‬
‫وهذا بخالف الكافرين فإن اللّه لما أبغضهم ومقتهم عاقبهم وعذبهم ولم يزدهم كما زاد من قبلهم‬
‫فلهذا قال‪ِ { :‬إَّنه ال ي ِح ُّ ِ‬
‫ب اْل َكاف ِر َ‬
‫ين }‬ ‫ُ ُ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬ليستأنفوا‪.‬‬

‫( ‪)1/643‬‬

‫ضِل ِه‬
‫ك بِأ َْم ِر ِه َوِلتَْبتَ ُغوا ِم ْن فَ ْ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬
‫اح ُمَب ِّش َرات َوِلُيذيقَ ُك ْم م ْن َر ْح َمته َوِلتَ ْج ِر َ‬
‫ي اْل ُفْل ُ‬ ‫َن ُي ْر ِس َل ِّ‬
‫الرَي َ‬ ‫َو ِم ْن آََياتِ ِه أ ْ‬
‫ون (‪)46‬‬ ‫َّ‬
‫َولَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ‬

‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫َن ُي ْر ِس َل ِّ‬


‫ك بِأ َْم ِر ِه َوِلتَْبتَ ُغوا‬ ‫اح ُمَب ِّش َرات َوِلُيذيقَ ُك ْم م ْن َر ْح َمته َوِلتَ ْج ِر َ‬
‫ي اْل ُفْل ُ‬ ‫الرَي َ‬ ‫{ ‪َ { } 46‬و ِم ْن َآياتِ ِه أ ْ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِم ْن فَ ْ ِ ِ َّ‬
‫ضله َولَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ‬
‫َن ُي ْر ِس َل‬
‫أي‪ :‬ومن األدلة الدالة على رحمته وبعثه الموتى وأنه اإلله المعبود والملك المحمود‪ { ،‬أ ْ‬
‫ات } بإثارتها للسحاب ثم جمعها فتبشر بذلك النفوس قبل نزوله‪.‬‬ ‫الرياح } أمام المطر { مب ِّشر ٍ‬
‫َُ َ‬ ‫ِّ َ َ‬
‫{ َوِلُي ِذيقَ ُك ْم ِم ْن َر ْح َمتِ ِه } فينزل عليكم من رحمته مطرا تحيا به البالد والعباد‪ ،‬وتذوقون من‬
‫رحمته ما تعرفون أن رحمته هي المنقذة للعباد والجالبة ألرزاقهم‪ ،‬فتشتاقون إلى اإلكثار من‬
‫األعمال الصالحة الفاتحة لخزائن الرحمة‪.‬‬
‫[ ص ‪] 644‬‬
‫ضِل ِه } بالتصرف في معايشكم‬‫ك } في البحر { بِأ َْم ِر ِه } القدري { َوِلتَْبتَ ُغوا ِم ْن فَ ْ‬ ‫{ َوِلتَ ْج ِر َ‬
‫ي اْل ُفْل ُ‬
‫ومصالحكم‪.‬‬
‫ون } من سخر لكم األسباب وسير لكم األمور‪ .‬فهذا المقصود من النعم أن تقابل‬ ‫َّ‬
‫{ َولَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ‬
‫بشكر اللّه تعالى ليزيدكم اللّه منها ويبقيها عليكم‪.‬‬
‫وأما مقابلة النعم بالكفر والمعاصي فهذه حال من َّ‬
‫بدل نعمة اللّه كفرا ونعمته محنة وهو معرض‬
‫لها للزوال واالنتقال منه إلى غيره‪.‬‬

‫( ‪)1/643‬‬

‫ان َحقًّا َعلَْيَنا‬ ‫ِ َِّ‬ ‫ِ‬ ‫َولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ‬


‫َج َر ُموا َو َك َ‬ ‫وه ْم بِاْلَبيَِّنات فَ ْانتَقَ ْمَنا م َن الذ َ‬
‫ين أ ْ‬ ‫ك ُر ُساًل ِإلَى قَ ْو ِم ِه ْم فَ َج ُ‬
‫اء ُ‬
‫ِ‬
‫ين (‪)47‬‬ ‫ص ُر اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫َن ْ‬

‫ِ َِّ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪َ { } 47‬ولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ‬


‫َج َر ُموا‬ ‫وه ْم بِاْلَبيَِّنات فَ ْانتَقَ ْمَنا م َن الذ َ‬
‫ين أ ْ‬ ‫ك ُر ُسال ِإلَى قَ ْو ِم ِه ْم فَ َج ُ‬
‫اء ُ‬
‫ِ‬
‫ص ُر اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ان َحقًّا َعلَْيَنا َن ْ‬ ‫َو َك َ‬
‫ك } في األمم السابقين { ُر ُسال ِإلَى قَ ْو ِم ِه ْم } حين جحدوا توحيد اللّه‬ ‫أي‪َ { :‬ولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ‬
‫وكذبوا بالحق فجاءتهم رسلهم يدعونهم إلى التوحيد واإلخالص والتصديق بالحق وبطالن ما هم‬
‫عليه من الكفر والضالل‪ ،‬وجاءوهم بالبينات واألدلة على ذلك فلم يؤمنوا ولم يزولوا عن غيهم‪{ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ َِّ‬
‫ان َحقًّا َعلَْيَنا َن ْ‬
‫ص ُر اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين }‬ ‫َج َر ُموا } ونصرنا المؤمنين أتباع الرسل‪َ { .‬و َك َ‬
‫ين أ ْ‬
‫فَ ْانتَقَ ْمَنا م َن الذ َ‬
‫أي‪ :‬أوجبنا ذلك على أنفسنا وجعلناه من جملة الحقوق المتعينة ووعدناهم به فال بد من وقوعه‪.‬‬
‫فأنتم أيها المكذبون لمحمد صلى اللّه عليه وسلم إن بقيتم على تكذيبكم حلَّت بكم العقوبة ونصرناه‬
‫عليكم‪.‬‬

‫( ‪)1/644‬‬
‫ق‬‫اء َوَي ْج َعلُهُ ِك َسفًا فَتََرى اْل َو ْد َ‬
‫ف َي َش ُ‬ ‫اء َك ْي َ‬ ‫الرياح فَتُثِير سحابا فَي ْبسطُه ِفي السَّم ِ‬
‫َ‬ ‫اللهُ الذي ُي ْرس ُل ِّ َ َ ُ َ َ ً َ ُ ُ‬
‫ِ‬ ‫َّ َِّ‬

‫ون (‪َ )48‬وإِ ْن َك ُانوا ِم ْن قَْب ِل أ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ي ْخرج ِم ْن ِخاَل ِل ِه فَِإ َذا أَصاب بِ ِه م ْن ي َش ِ ِ ِ ِ‬
‫َن‬ ‫اء م ْن عَباده ِإ َذا ُه ْم َي ْستَْبش ُر َ‬ ‫َ َ َ َ ُ‬ ‫َ ُ ُ‬
‫ض َب ْع َد َم ْوتِهَا ِإ َّن‬
‫ف ُي ْحيِي اأْل َْر َ‬ ‫ين (‪ )49‬فَ ْانظُ ْر ِإلَى َآثَ ِار َر ْح َم ِة اللَّ ِه َك ْي َ‬ ‫ِ ِِ ِ ِ‬
‫ُيَن َّز َل َعلَْي ِه ْم م ْن قَْبله لَ ُمْبلس َ‬
‫ك لَ ُم ْحيِي اْل َم ْوتَى َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير (‪)50‬‬‫َذِل َ‬

‫اء َوَي ْج َعلُهُ ِك َسفًا‬


‫ف َي َش ُ‬
‫اء َك ْي َ‬‫الرياح فَتُثِير سحابا فَي ْبسطُه ِفي السَّم ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫{ ‪ { } 50 - 48‬اللهُ الذي ُي ْرس ُل ِّ َ َ ُ َ َ ً َ ُ ُ‬
‫َّ َِّ‬
‫ِ‬ ‫الل ِه فَِإ َذا أَصاب بِ ِه م ْن ي َش ِ ِ ِ ِ‬ ‫ق ي ْخرج ِم ْن ِخ ِ‬
‫ون * َوإِ ْن َك ُانوا‬ ‫اء م ْن عَباده ِإ َذا ُه ْم َي ْستَْبش ُر َ‬ ‫َ َ َ َ ُ‬ ‫فَتََرى اْل َو ْد َ َ ُ ُ‬
‫ض َب ْع َد‬‫األر َ‬‫ف ُي ْحيِي ْ‬ ‫ين * فَ ْانظُ ْر ِإلَى آثَ ِار َر ْح َم ِة اللَّ ِه َك ْي َ‬ ‫ِ ِِ ِ ِ‬ ‫ِم ْن قَْب ِل أ ْ‬
‫َن ُيَن َّز َل َعلَْي ِه ْم م ْن قَْبله لَ ُمْبلس َ‬
‫ك لَ ُم ْحيِي اْل َم ْوتَى َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير } ‪.‬‬ ‫َم ْوتِهَا ِإ َّن َذِل َ‬
‫اح فَتُثِ ُير َس َح ًابا } من األرض‪،‬‬ ‫الرَي َ‬‫يخبر تعالى عن كمال قدرته وتمام نعمته أنه { ُي ْر ِس ُل ِّ‬
‫اء } أي‪ :‬على أي حالة أرادها من ذلك ثم‬ ‫{ فَي ْبسطُه ِفي السَّم ِ‬
‫ف َي َش ُ‬
‫اء } أي‪ :‬يمده ويوسعه { َك ْي َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُ‬
‫{ َي ْج َعلُهُ } أي‪ :‬ذلك السحاب الواسع { ِك َسفًا } أي‪ :‬سحابا ثخينا قد طبق بعضه فوق بعض‪.‬‬
‫الل ِه } أي‪ :‬السحاب نقطا صغارا متفرقة‪ ،‬ال تنزل جميعا فتفسد ما أتت‬ ‫ق ي ْخرج ِم ْن ِخ ِ‬
‫{ فَتََرى اْل َو ْد َ َ ُ ُ‬
‫عليه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫{ فَِإ َذا أَصاب بِ ِه } بذلك المطر { م ْن ي َش ِ ِ ِ ِ‬
‫ون } يبشر بعضهم بعضا‬ ‫اء م ْن عَباده ِإ َذا ُه ْم َي ْستَْبش ُر َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ َ‬
‫نزل َعلَْي ِه ْم ِم ْن‬
‫َن ُي َ‬ ‫بنزوله وذلك لشدة حاجتهم وضرورتهم إليه فلهذا قال‪َ { :‬وإِ ْن َك ُانوا ِم ْن قَْب ِل أ ْ‬
‫ين } أي‪ :‬آيسين قانطين لتأخر وقت مجيئه‪ ،‬أي‪ :‬فلما نزل في تلك الحال صار له موقع‬ ‫ِِ ِ ِ‬
‫قَْبله لَ ُمْبلس َ‬
‫عظيم [عندهم] (‪ )1‬وفرح واستبشار‪.‬‬
‫ض َب ْع َد َم ْوتِهَا } فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج‬ ‫األر َ‬‫ف ُي ْحيِي ْ‬‫{ فَ ْانظُ ْر ِإلَى آثَ ِار َر ْح َم ِة اللَّ ِه َك ْي َ‬
‫كريم‪.‬‬
‫ك } الذي أحيا األرض بعد موتها { لَ ُم ْحيِي اْل َم ْوتَى َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير } فقدرته‬ ‫{ ِإ َّن َذِل َ‬
‫تعالى ال يتعاصى عليها شيء وإ ن تعاصى على قدر خلقه ودق عن أفهامهم وحارت فيه عقولهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ب‪.‬‬

‫( ‪)1/644‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون (‪ )51‬فَِإَّن َ‬ ‫ِِ‬ ‫ولَئِ ْن أَرسْلَنا ِريحا فَرأَوه مصفًَّرا لَ َُّ ِ‬
‫ك اَل تُ ْسمعُ اْل َم ْوتَى َواَل تُ ْسمعُ‬ ‫ظلوا م ْن َب ْعده َي ْكفُُر َ‬ ‫ً َ ُُْ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫ضاَل لَتِ ِه ْم ِإ ْن تُ ْس ِمعُ ِإاَّل َم ْن ُي ْؤ ِم ُن‬ ‫الدعاء ِإ َذا ولَّوا م ْدبِ ِرين (‪ )52‬وما أ َْن َ ِ‬
‫ت بِهَادي اْل ُع ْم ِي َع ْن َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ُّم ُّ َ َ َ ْ ُ‬ ‫الص َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)53‬‬ ‫بِآََياتَنا فَهُ ْم ُم ْسل ُم َ‬

‫ِ‬ ‫ون * فَِإَّن َ‬ ‫ِِ‬ ‫{ ‪ { } 53 - 51‬ولَئِ ْن أَرسْلَنا ِريحا فَرأَوه مصفًَّرا لَ َُّ ِ‬
‫ك ال تُ ْسمعُ‬ ‫ظلوا م ْن َب ْعده َي ْكفُُر َ‬ ‫ً َ ُُْ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ت بِهَ ِادي اْل ُع ْم ِي َع ْن َ ِ ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫اْل َم ْوتَى َوال تُ ْس ِمعُ الص َّ‬
‫ضاللَته ْم إ ْن تُ ْسمعُ‬ ‫اء ِإ َذا َول ْوا ُم ْدبِ ِر َ‬
‫ين * َو َما أ َْن َ‬ ‫ُّم ُّ‬
‫الد َع َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِإال َم ْن ُي ْؤ ِم ُن بِ َآياتَنا فَهُ ْم ُم ْسل ُم َ‬
‫يخبر تعالى عن حالة الخلق وأنهم مع هذه النعم عليهم بإحياء األرض بعد موتها ونشر رحمة اللّه‬
‫تعالى لو أرسلنا على هذا النبات الناشئ عن المطر وعلى زروعهم ريحا مضرة متلفة أو منقصة‪،‬‬
‫ون } فينسون النعم الماضية‬ ‫ِِ‬ ‫{ فَرأَوه مصفًَّرا } قد تداعى إلى التلف { لَ َُّ ِ‬
‫ظلوا م ْن َب ْعده َي ْكفُُر َ‬ ‫َ ُُْ ْ‬
‫ويبادرون إلى الكفر‪.‬‬
‫اء } وباألولى‬ ‫ك ال تُ ْس ِمعُ اْل َم ْوتَى َوال تُ ْس ِمعُ الص َّ‬
‫ُّم ُّ‬
‫الد َع َ‬ ‫وهؤالء ال ينفع فيهم وعظ وال زجر { فَِإَّن َ‬
‫َّ‬
‫ين } فإن الموانع قد توفرت فيهم عن االنقياد والسماع النافع كتوفر هذه الموانع‬ ‫{ ِإ َذا َول ْوا ُم ْدبِ ِر َ‬
‫المذكورة عن سماع الصوت الحسي‪.‬‬
‫ضاللَتِ ِه ْم } ألنهم ال يقبلون اإلبصار بسبب عماهم فليس منهم (‪)1‬‬ ‫ت بِهَادي اْل ُع ْم ِي َع ْن َ‬
‫{ وما أ َْن َ ِ‬
‫ََ‬
‫قابلية له‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } فهؤالء الذين ينفع فيهم إسماع الهدى المؤمنون‬ ‫{ ِإ ْن تُ ْسمعُ ِإال َم ْن ُي ْؤ ِم ُن بِ َآياتَنا فَهُ ْم ُم ْسل ُم َ‬
‫بآياتنا بقلوبهم المنقادون ألوامرنا المسلمون لنا‪ ،‬ألن معهم الداعي القوي لقبول النصائح والمواعظ‬
‫وهو استعدادهم لإليمان بكل آية من آيات اللّه واستعدادهم لتنفيذ ما يقدرون عليه من أوامر اللّه‬
‫ونواهيه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬فيهم‪.‬‬

‫( ‪)1/644‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َِّ‬


‫ق َما‬ ‫ض ْعف قَُّوةً ثَُّم َج َع َل م ْن َب ْعد قَُّو ٍة َ‬
‫ض ْعفًا َو َش ْيَبةً َي ْخلُ ُ‬ ‫ض ْعف ثَُّم َج َع َل م ْن َب ْعد َ‬
‫اللهُ الذي َخلَقَ ُك ْم م ْن َ‬
‫يم اْلقَِد ُير (‪)54‬‬ ‫ِ‬
‫اء َو ُه َو اْل َعل ُ‬
‫َي َش ُ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َِّ‬


‫ض ْعف قَُّوةً ثَُّم َج َع َل م ْن َب ْعد قَُّو ٍة َ‬
‫ض ْعفًا‬ ‫ض ْعف ثَُّم َج َع َل م ْن َب ْعد َ‬ ‫{ ‪ { } 54‬اللهُ الذي َخلَقَ ُك ْم م ْن َ‬
‫يم اْلقَِد ُير } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫اء َو ُه َو اْل َعل ُ‬
‫ق َما َي َش ُ‬
‫َو َش ْيَبةً َي ْخلُ ُ‬
‫يخبر تعالى عن سعة علمه وعظيم اقتداره وكمال حكمته‪ ،‬ابتدأ خلق اآلدميين من ضعف وهو‬
‫األطوار األول من خلقه من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى أن صار حيوانا في األرحام إلى أن‬
‫ولد‪ ،‬وهو في سن الطفولية وهو إذ [ ص ‪ ] 645‬ذاك في غاية الضعف وعدم القوة والقدرة‪ .‬ثم‬
‫ما زال اللّه يزيد في قوته شيئا فشيئا حتى بلغ سن الشباب واستوت قوته وكملت قواه الظاهرة‬
‫والباطنة‪ ،‬ثم انتقل من هذا الطور ورجع إلى الضعف والشيبة والهرم‪.‬‬
‫اء } بحسب حكمته‪ .‬ومن حكمته أن يري العبد ضعفه وأن قوته محفوفة بضعفين‬ ‫ق َما َي َش ُ‬
‫{ َي ْخلُ ُ‬
‫وأنه ليس له من نفسه إال النقص‪ ،‬ولوال تقوية اللّه له لما وصل إلى قوة وقدرة ولو استمرت قوته‬
‫في الزيادة لطغى وبغى وعتا‪.‬‬
‫وليعلم العباد كمال قدرة اللّه التي ال تزال مستمرة يخلق بها األشياء‪ ،‬ويدبر بها األمور وال يلحقها‬
‫إعياء وال ضعف وال نقص بوجه من الوجوه‪.‬‬

‫( ‪)1/644‬‬

‫ك َك ُانوا يؤفَ ُكون (‪ )55‬وقَ َ َِّ‬ ‫اع ٍة َك َذِل َ‬ ‫ِ‬


‫ين أُوتُوا‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫ون َما لَبِثُوا َغْي َر َس َ‬ ‫َّاعةُ ُي ْقس ُم اْل ُم ْج ِر ُم َ‬
‫وم الس َ‬ ‫َوَي ْو َم تَقُ ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اْل ِعْلم واإْلِ يمان لَقَ ْد لَبِثْتُم ِفي ِكتَ ِ َّ ِ‬
‫ون (‪)56‬‬ ‫اب الله ِإلَى َي ْوِم اْلَب ْعث فَهَ َذا َي ْو ُم اْلَب ْعث َولَكَّن ُك ْم ُك ْنتُ ْم اَل تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ َ‬
‫ون (‪)57‬‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ٍِ‬
‫ظلَ ُموا َم ْعذ َرتُهُ ْم َواَل ُه ْم ُي ْستَ ْعتَُب َ‬‫ين َ‬ ‫فََي ْو َمئذ اَل َي ْنفَعُ الذ َ‬

‫ون *‬ ‫ك َك ُانوا ُي ْؤفَ ُك َ‬ ‫اع ٍة َك َذِل َ‬


‫ون َما لَبِثُوا َغ ْي َر َس َ‬
‫ِ‬
‫َّاعةُ ُي ْقس ُم اْل ُم ْج ِر ُم َ‬
‫وم الس َ‬ ‫{ ‪َ { } 57 - 55‬وَي ْو َم تَقُ ُ‬
‫اب اللَّ ِه ِإلَى َي ْوِم اْلَب ْع ِث فَهَ َذا َي ْو ُم اْلَب ْع ِث َولَ ِكَّن ُك ْم ُك ْنتُ ْم‬
‫ان لَقَ ْد لَبِثْتُم ِفي ِكتَ ِ‬
‫ْ‬ ‫اإليم َ‬
‫ِ‬
‫ين أُوتُوا اْلعْل َم َو َ‬
‫وقَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ٍِ‬
‫ظلَ ُموا َم ْعذ َرتُهُ ْم َوال ُه ْم ُي ْستَ ْعتَُب َ‬ ‫ين َ‬
‫ون * فََي ْو َمئذ ال َي ْنفَعُ الذ َ‬
‫ال تَ ْعلَ ُم َ‬
‫ِ‬
‫ون } باللّه أنهم‬ ‫يخبر تعالى عن يوم القيامة وسرعة مجيئه وأنه إذا قامت الساعة { ُي ْقس ُم اْل ُم ْج ِر ُم َ‬
‫اعة } وذلك اعتذار منهم لعله ينفعهم العذر واستقصار لمدة الدنيا‪.‬‬ ‫{ َما لَبِثُوا } في الدنيا إال { َس َ‬
‫ون } أي‪ :‬ما زالوا ‪-‬وهم في‬ ‫ولما كان قولهم كذبا ال حقيقة له قال تعالى‪َ { :‬ك َذِل َ‬
‫ك َك ُانوا ُي ْؤفَ ُك َ‬
‫كذبوا الحق الذي جاءتهم به المرسلون‪،‬‬ ‫الدنيا‪ -‬يؤفكون عن الحقائق ويأتفكون الكذب‪ ،‬ففي الدنيا َّ‬
‫وفي اآلخرة أنكروا األمر المحسوس وهو اللبث الطويل في الدنيا‪ ،‬فهذا خلقهم القبيح والعبد يبعث‬
‫على ما مات عليه‪.‬‬
‫ان } أي‪َ :‬م َّن اللّه عليهم بهما وصارا وصفا لهم العلم بالحق‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫اإليم َ‬
‫ين أُوتُوا اْلعْل َم َو َ‬
‫{ َوقَا َل الذ َ‬
‫واإليمان المستلزم إيثار الحق‪ ،‬وإ ذا كانوا عالمين بالحق مؤثرين له لزم أن يكون قولهم مطابقا‬
‫للواقع مناسبا ألحوالهم‪.‬‬
‫اب اللَّ ِه } أي‪ :‬في قضائه وقدره‪ ،‬الذي كتبه اللّه عليكم وفي‬ ‫فلهذا قالوا الحق‪ { :‬لَقَ ْد لَبِثْتُم ِفي ِكتَ ِ‬
‫ْ‬
‫حكمه { ِإلَى َي ْوِم اْلَب ْع ِث } أي‪ :‬عمرتم ُع ْم ًرا يتذكر فيه المتذكر ويتدبر فيه المتدبر ويعتبر فيه‬
‫المعتبر حتى صار البعث ووصلتم إلى هذه الحال‪.‬‬
‫ِ ِ‬
‫ون } فلذلك أنكرتموه في الدنيا وأنكرتم إقامتكم في الدنيا وقتا‬ ‫{ فَهَ َذا َي ْو ُم اْلَب ْعث َولَكَّن ُك ْم ُك ْنتُ ْم ال تَ ْعلَ ُم َ‬
‫تتمكنون فيه من اإلنابة والتوبة‪ ،‬فلم يزل الجهل شعاركم وآثاره من التكذيب والخسار دثاركم‪.‬‬
‫ظلَ ُموا َم ْع ِذ َرتُهُ ْم } فإن كذبوا وزعموا أنهم ما قامت عليهم الحجة أو ما‬ ‫ين َ‬ ‫َِّ‬ ‫ٍِ‬
‫{ فََي ْو َمئذ ال َي ْنفَعُ الذ َ‬
‫تمكنوا من اإليمان ظهر كذبهم بشهادة أهل العلم واإليمان‪ ،‬وشهادة جلودهم وأيديهم وأرجلهم‪ ،‬وإ ن‬
‫طلبوا اإلعذار وأنهم يردون وال يعودون لما ُنهوا عنه لم ُي َم َّكُنوا فإنه فات وقت اإلعذار فال تقبل‬
‫ون } أي‪ :‬يزال عتبهم والعتاب عنهم‪.‬‬ ‫معذرتهم‪َ { ،‬وال ُه ْم ُي ْستَ ْعتَُب َ‬

‫( ‪)1/645‬‬

‫َن ِم ْن ُك ِّل مثَ ٍل ولَئِ ْن ِج ْئتَهم بِآََي ٍة لََيقُولَ َّن الَِّذين َكفَروا ِإ ْن أ َْنتُم ِإاَّل‬
‫اس ِفي َه َذا اْلقُْرآ ِ‬ ‫ض َر ْبَنا ِل َّلن ِ‬
‫َولَقَ ْد َ‬
‫ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُْ‬ ‫َ َ‬
‫ق َواَل‬ ‫اصبِ ْر ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ‬
‫ون (‪ )59‬فَ ْ‬ ‫ين اَل َي ْعلَ ُم َ‬
‫طبع اللَّه علَى ُقلُ ِ َِّ‬
‫وب الذ َ‬ ‫ك َي ْ َ ُ ُ َ‬ ‫ون (‪َ )58‬ك َذِل َ‬ ‫ِ‬
‫ُم ْبطلُ َ‬
‫َ‬
‫يستَ ِخفََّّن َ َِّ‬
‫ون (‪)60‬‬ ‫ين اَل ُيو ِقُن َ‬‫ك الذ َ‬ ‫َْ‬

‫َِّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫اس ِفي َه َذا اْلقُر ِ ِ‬


‫ض َر ْبَنا ِل َّلن ِ‬
‫آن م ْن ُك ِّل َمثَ ٍل َولَئ ْن ِج ْئتَهُ ْم بِ َآية لََيقُولَ َّن الذ َ‬
‫ين‬ ‫ْ‬ ‫{ ‪َ { } 60 - 58‬ولَقَ ْد َ‬
‫اصبِ ْر ِإ َّن َو ْع َد اللَّ ِه‬
‫ون * فَ ْ‬ ‫ين ال َي ْعلَ ُم َ‬
‫طبع اللَّه علَى ُقلُ ِ َِّ‬
‫وب الذ َ‬ ‫ك َي ْ َ ُ ُ َ‬ ‫ون * َك َذِل َ‬ ‫ِ‬
‫َكفَ ُروا ِإ ْن أ َْنتُ ْم ِإال ُم ْبطلُ َ‬
‫ق وال يستَ ِخفََّّن َ َِّ‬
‫ين ال ُيو ِقُن َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ك الذ َ‬ ‫َح ٌّ َ َ ْ‬
‫آن ِم ْن ُك ِّل‬ ‫اس ِفي َه َذا اْلقُْر ِ‬ ‫ض َر ْبَنا } ألجل عنايتنا ورحمتنا ولطفنا وحسن تعليمنا { ِل َّلن ِ‬ ‫أي‪َ { :‬ولَقَ ْد َ‬
‫َمثَ ٍل } تتضح به الحقائق وتعرف به األمور وتنقطع به الحجة‪ .‬وهذا عام في األمثال التي يضربها‬
‫اللّه في تقريب األمور المعقولة بالمحسوسة‪ .‬وفي اإلخبار بما سيكون وجالء حقيقته [حتى] (‪)1‬‬
‫كأنه وقع‪.‬‬
‫ومنه في هذا الموضع ذكر اللّه تعالى ما يكون يوم القيامة وحالة المجرمين فيه وشدة أسفهم وأنه‬
‫ال يقبل منهم عذر وال عتاب‪.‬‬
‫ولكن أبى الظالمون الكافرون إال معاندة الحق الواضح ولهذا قال‪َ { :‬ولَئِ ْن ِج ْئتَهُ ْم بِ َآي ٍة } أي‪ :‬أي‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ون } أي‪ :‬قالوا للحق‪ :‬إنه‬ ‫ين َكفَ ُروا ِإ ْن أ َْنتُ ْم ِإال ُم ْبطلُ َ‬
‫آية تدل على صحة ما جئت به { لََيقُولَ َّن الذ َ‬
‫ك‬‫ط ْب ِع اللّه على قلوبهم وجهلهم المفرط ولهذا قال‪َ { :‬ك َذِل َ‬ ‫باطل‪ .‬وهذا من كفرهم وجراءتهم و َ‬
‫ون } فال يدخلها خير وال تدرك األشياء على حقيقتها بل ترى‬ ‫طبع اللَّه علَى ُقلُ ِ َِّ‬
‫ين ال َي ْعلَ ُم َ‬
‫وب الذ َ‬ ‫َي ْ َ ُ ُ َ‬
‫الحق باطال والباطل حقا‪.‬‬
‫اصبِ ْر } على ما أمرت به وعلى دعوتهم إلى اللّه‪ ،‬ولو رأيت منهم إعراضا فال يصدنك ذلك‪.‬‬ ‫{ فَ ْ‬
‫{ ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ‬
‫ق } أي‪ :‬ال شك فيه وهذا مما يعين على الصبر فإن العبد إذا علم أن عمله غير‬ ‫َ‬
‫ضائع بل سيجده كامال هان عليه ما يلقاه من المكاره [ ص ‪ ] 646‬ويسر عليه كل عسير واستقل‬
‫من عمله كل كثير‪.‬‬
‫{ وال يستَ ِخفََّّن َ َِّ‬
‫ون } أي‪ :‬قد ضعف إيمانهم وقل يقينهم فخفت لذلك أحالمهم وقل‬ ‫ين ال ُيو ِقُن َ‬
‫ك الذ َ‬ ‫َ َْ‬
‫صبرهم‪ ،‬فإياك أن يستخفك هؤالء فإنك إن لم تجعلهم (‪ )2‬منك على بال وتحذر منهم وإ ال‬
‫استخفوك وحملوك على عدم الثبات على األوامر والنواهي‪ ،‬والنفس تساعدهم على هذا وتطلب‬
‫التشبه والموافقة (‪ )3‬وهذا مما يدل على أن كل مؤمن موقن رزين العقل يسهل عليه الصبر‪،‬‬
‫وكل ضعيف اليقين ضعيف [العقل] (‪ )4‬خفيفه‪.‬‬
‫فاألول بمنزلة اللب واآلخر بمنزلة القشور فاللّه المستعان‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب وفي أ‪ :‬تجعل‪.‬‬
‫(‪ )3‬كذا في ب وفي أ‪ :‬والموافقة‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من ب‪.‬‬

‫( ‪)1/645‬‬

‫تفسير سورة لقمان وهي مكية‬

‫( ‪)1/646‬‬

‫اب اْلح ِك ِيم (‪ُ )2‬ه ًدى ور ْحمةً ِلْلم ْح ِسنِين (‪ )3‬الَِّذ ِ‬ ‫ك آَي ُ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون‬
‫الصاَل ةَ َوُي ْؤتُ َ‬
‫ون َّ‬ ‫يم َ‬ ‫ين ُيق ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ ُ‬ ‫ات اْلكتَ ِ َ‬ ‫الم (‪ )1‬تْل َ َ‬
‫ِ‬ ‫ك َعلَى ُه ًدى ِم ْن َرِّب ِه ْم َوأُولَئِ َ‬
‫ون (‪ )4‬أُولَئِ َ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)5‬‬ ‫ك ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ‬ ‫الز َكاةَ َو ُه ْم بِاآْل َخ َر ِة ُه ْم ُيو ِقُن َ‬
‫َّ‬

‫ين‬‫ِ ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ات اْل ِكتَ ِ‬ ‫الر ِح ِيم الم * تِْل َ‬ ‫{ ‪ { } 5 - 1‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫اب اْل َحكيم * ُه ًدى َو َر ْح َمةً لْل ُم ْحسن َ‬ ‫ك َآي ُ‬
‫ك َعلَى ُه ًدى ِم ْن َرِّب ِه ْم‬
‫ون * أُولَئِ َ‬ ‫ِ‬
‫الز َكاةَ َو ُه ْم بِاآلخ َر ِة ُه ْم ُيو ِقُن َ‬
‫ون َّ‬‫ون الصَّالةَ َوُي ْؤتُ َ‬ ‫يم َ‬
‫* الَِّذ ِ‬
‫ين ُيق ُ‬
‫َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َوأُولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ‬
‫اب اْل َح ِك ِيم } أي‪ :‬آياته محكمة‪ ،‬صدرت من‬
‫ات اْل ِكتَ ِ‬
‫يشير تعالى إشارة دالة على التعظيم إلى { َآي ُ‬
‫حكيم خبير‪.‬‬
‫من إحكامها‪ ،‬أنها جاءت بأجل األلفاظ وأفصحها‪ ،‬وأبينها‪ ،‬الدالة على أجل المعاني وأحسنها‪.‬‬
‫ومن إحكامها‪ ،‬أنها محفوظة من التغيير والتبديل‪ ،‬والزيادة والنقص‪ ،‬والتحريف‪.‬‬
‫ومن إحكامها‪ :‬أن جميع ما فيها من األخبار (‪ )1‬السابقة والالحقة‪ ،‬واألمور الغيبية كلها‪ ،‬مطابقة‬
‫للواقع‪ ،‬مطابق لها الواقع‪ ،‬لم يخالفها كتاب من الكتب اإللهية‪ ،‬ولم يخبر بخالفها‪ ،‬نبي من األنبياء‪،‬‬
‫[ولم يأت ولن يأتي علم محسوس وال معقول صحيح‪ ،‬يناقض ما دلت عليه] (‪. )2‬‬
‫ومن إحكامها‪ :‬أنها ما أمرت بشيء‪ ،‬إال وهو خالص المصلحة‪ ،‬أو راجحها‪ ،‬وال نهت عن شيء‪،‬‬
‫إال وهو خالص المفسدة أو راجحها‪ ،‬وكثيرا ما يجمع بين األمر بالشيء‪ ،‬مع ذكر [حكمته] (‪)3‬‬
‫فائدته‪ ،‬والنهي عن الشيء‪ ،‬مع ذكر مضرته‪.‬‬
‫ومن إحكامها‪ :‬أنها جمعت بين الترغيب والترهيب‪ ،‬والوعظ البليغ‪ ،‬الذي تعتدل به النفوس‬
‫الخيرة‪ ،‬وتحتكم‪ ،‬فتعمل بالحزم‪.‬‬
‫ومن إحكامها‪ :‬أنك تجد آياته المتكررة‪ ،‬كالقصص‪ ،‬واألحكام ونحوها‪ ،‬قد اتفقت كلها وتواطأت‪،‬‬
‫فليس فيها تناقض‪ ،‬وال اختالف‪ .‬فكلما ازداد بها البصير تدبرا‪ ،‬وأعمل فيها العقل تفكرا‪ ،‬انبهر‬
‫عقله‪ ،‬وذهل لبه من التوافق والتواطؤ‪ ،‬وجزم جزما ال يمترى فيه‪ ،‬أنه تنزيل من حكيم حميد‪.‬‬
‫ولكن ‪ -‬مع أنه حكيم ‪ -‬يدعو إلى كل خلق كريم‪ ،‬وينهى عن كل خلق لئيم‪ ،‬أكثر الناس‬
‫محرومون االهتداء به‪ ،‬معرضون عن اإليمان والعمل به‪ ،‬إال من وفقه اللّه تعالى وعصمه‪ ،‬وهم‬
‫المحسنون في عبادة ربهم والمحسنون إلى الخلق‪.‬‬
‫فإنه { ُه ًدى } لهم‪ ،‬يهديهم إلى الصراط المستقيم‪ ،‬ويحذرهم من طرق الجحيم‪َ { ،‬و َر ْح َمة } لهم‪،‬‬
‫تحصل لهم به السعادة في الدنيا واآلخرة‪ ،‬والخير الكثير‪ ،‬والثواب الجزيل‪ ،‬والفرح والسرور‪،‬‬
‫ويندفع عنهم الضالل والشقاء‪.‬‬
‫ثم وصف المحسنين بالعلم التام‪ ،‬وهو اليقين الموجب للعمل والخوف من عقاب اللّه‪ ،‬فيتركون‬
‫معاصيه‪ ،‬ووصفهم بالعمل‪ ،‬وخص من العمل‪ ،‬عملين فاضلين‪ :‬الصالة المشتملة على اإلخالص‪،‬‬
‫ومناجاة اللّه تعالى‪ ،‬والتعبد العام للقلب واللسان‪ ،‬والجوارح المعينة‪ ،‬على سائر األعمال‪ ،‬والزكاة‬
‫التي تزكي صاحبها من الصفات الرذيلة‪ ،‬وتنفع أخاه المسلم‪ ،‬وتسد حاجته‪ ،‬ويبين بها أن العبد‬
‫يؤثر محبة اللّه على محبته للمال‪ ،‬فيخرجه محبوبه من المال‪ ،‬لما هو أحب إليه‪ ،‬وهو طلب‬
‫مرضاة اللّه‪.‬‬
‫ك } هم المحسنون الجامعون بين العلم التام‪ ،‬والعمل { َعلَى ُه ًدى } أي‪ :‬عظيم كما يفيده‬ ‫فـ { أُولَئِ َ‬
‫التنكير‪ ،‬وذلك الهدى حاصل لهم‪ ،‬وواصل إليهم { ِم ْن َرِّب ِه ْم } الذي لم يزل يربيهم بالنعم; ويدفع‬
‫عنهم النقم‪.‬‬
‫وهذا الهدى الذي أوصله إليهم‪ ،‬من تربيته الخاصة بأوليائه‪ ،‬وهو أفضل أنواع التربية‪َ { .‬وأُولَئِ َ‬
‫ك‬
‫ون } الذين أدركوا رضا ربهم‪ ،‬وثوابه الدنيوي واألخروي‪ ،‬وسلموا من سخطه وعقابه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ُه ُم اْل ُم ْفل ُح َ‬
‫وذلك لسلوكهم طريق الفالح‪ ،‬الذي ال طريق له غيرها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ‪ :‬األحكام والتصويب من‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من ب‪.‬‬

‫( ‪)1/646‬‬

‫ك لَهُ ْم‬ ‫يل اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم َوَيتَّ ِخ َذ َها ُه ُز ًوا أُولَئِ َ‬


‫ض َّل َع ْن سبِ ِ‬
‫َ‬
‫يث ِلي ِ‬‫ِ ِ‬ ‫الن ِ‬
‫اس َم ْن َي ْشتَ ِري لَ ْه َو اْل َحد ُ‬ ‫َو ِم َن َّ‬
‫ِ‬ ‫َن لَم يسمعها َكأ َّ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫َن في أُ ُذَن ْيه َو ْق ًرا فََب ِّش ْرهُ‬ ‫ين (‪َ )6‬وإِ َذا تُْتلَى َعلَْيه آََياتَُنا َولى ُم ْستَ ْكبًِرا َكأ ْ ْ َ ْ َ ْ َ‬ ‫اب ُم ِه ٌ‬‫َع َذ ٌ‬
‫ين ِفيهَا َو ْع َد اللَّ ِه َحقًّا‬ ‫ِِ‬
‫النعيم (‪َ )8‬خالد َ‬
‫ات َّ ِ ِ‬ ‫ات لَهُ ْم َجَّن ُ‬ ‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين آ َ‬
‫َِّ‬ ‫بِع َذ ٍ ِ ٍ‬
‫اب أَليم (‪ِ )7‬إ َّن الذ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫يم (‪)9‬‬‫َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬

‫ولما ذكر تعالى المهتدين بالقرآن‪ ،‬المقبلين عليه‪ ،‬ذكر من أعرض عنه‪ ،‬ولم يرفع به رأسا‪ ،‬وأنه‬
‫عوقب على ذلك‪ ،‬بأن تعوض عنه كل باطل من القول‪ ،‬فترك أعلى األقوال‪ ،‬وأحسن الحديث‪،‬‬
‫واستبدل به أسفل قول وأقبحه‪ ،‬فلذلك قال‪:‬‬
‫[ ص ‪] 647‬‬
‫يل اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم َوَيتَّ ِخ َذ َها ُه ُز ًوا‬
‫ض َّل َع ْن سبِ ِ‬
‫َ‬
‫يث ِلي ِ‬‫ِ ِ‬
‫اس َم ْن َي ْشتَ ِري لَ ْه َو اْل َحد ُ‬ ‫{ ‪َ { } 9 - 6‬و ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬
‫َن ِفي أُ ُذَن ْي ِه َو ْق ًرا‬
‫َن لَ ْم َي ْس َم ْعهَا َكأ َّ‬‫ين * َوإِ َذا تُْتلَى َعلَْي ِه َآياتَُنا َولَّى ُم ْستَ ْكبًِرا َكأ ْ‬ ‫اب ُم ِه ٌ‬
‫ك لَهُ ْم َع َذ ٌ‬ ‫أُولَئِ َ‬
‫ين ِفيهَا َو ْع َد اللَّ ِه‬ ‫ِِ‬
‫النعيم * َخالد َ‬
‫ات َّ ِ ِ‬ ‫ات لَهُ ْم َجَّن ُ‬ ‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين َ‬
‫َِّ‬ ‫فََب ِّشره بِع َذ ٍ ِ ٍ‬
‫اب أَليم * ِإ َّن الذ َ‬ ‫ُْ َ‬
‫ِ‬ ‫ًّ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫َحقا َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬
‫اس َم ْن } هو محروم مخذول { َي ْشتَ ِري } أي‪ :‬يختار ويرغب رغبة من يبذل الثمن‬ ‫أي‪َ { :‬و ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬
‫أجل مطلوب‪ .‬فدخل‬ ‫الصادة لها عن ِّ‬ ‫َّ‬ ‫يث } أي‪ :‬األحاديث الملهية للقلوب‪،‬‬ ‫في الشيء‪ { .‬لَهو اْلح ِد ِ‬
‫َْ َ‬
‫في هذا كل كالم محرم‪ ،‬وكل لغو‪ ،‬وباطل‪ ،‬وهذيان من األقوال المرغبة في الكفر‪ ،‬والفسوق‪،‬‬
‫والعصيان‪ ،‬ومن أقوال الرادين على الحق‪ ،‬المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق‪ ،‬ومن غيبة‪،‬‬
‫ونميمة‪ ،‬وكذب‪ ،‬وشتم‪ ،‬وسب‪ ،‬ومن غناء ومزامير شيطان‪ ،‬ومن الماجريات الملهية‪ ،‬التي ال نفع‬
‫فيها في دين وال دنيا‪.‬‬
‫ض َّل } الناس { بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم }‬
‫فهذا الصنف من الناس‪ ،‬يشتري لهو الحديث‪ ،‬عن هدي الحديث { ِلي ِ‬
‫ُ‬
‫أي‪ :‬بعدما ضل بفعله‪ ،‬أضل غيره‪ ،‬ألن اإلضالل‪ ،‬ناشئ عن الضالل‪.‬‬
‫وإ ضالله في هذا الحديث; صده عن الحديث النافع‪ ،‬والعمل النافع‪ ،‬والحق المبين‪ ،‬والصراط‬
‫المستقيم‪.‬‬
‫وال يتم له هذا‪ ،‬حتى يقدح في الهدى والحق‪ ،‬ويتخذ آيات اللّه هزوا ويسخر بها‪ ،‬وبمن جاء بها‪،‬‬
‫فإذا جمع بين مدح الباطل والترغيب فيه‪ ،‬والقدح في الحق‪ ،‬واالستهزاء به وبأهله‪ ،‬أضل من ال‬
‫علم عنده وخدعه بما يوحيه إليه‪ ،‬من القول الذي ال يميزه ذلك الضال‪ ،‬وال يعرف حقيقته‪.‬‬
‫ين } بما ضلوا وأضلوا‪ ،‬واستهزءوا [بآيات اللّه] (‪ )1‬وكذبوا الحق‬ ‫اب ُم ِه ٌ‬ ‫{ أُولَئِ َ‬
‫ك لَهُ ْم َع َذ ٌ‬
‫الواضح‪.‬‬
‫ولهذا قال { َوإِ َذا تُْتلَى َعلَْي ِه َآياتَُنا } ليؤمن بها وينقاد لها‪َ { ،‬ولَّى ُم ْستَ ْكبًِرا } أي‪ :‬أدبر إدبار‬
‫َن لَ ْم َي ْس َم ْعهَا } بل { َكأ َّ‬
‫َن‬ ‫راد لها‪ ،‬ولم تدخل قلبه وال أثرت فيه‪ ،‬بل أدبر عنها { َكأ ْ‬ ‫مستكبر عنها‪ٍّ ،‬‬
‫ِفي أُ ُذَن ْي ِه َو ْق ًرا } أي‪ :‬صمما ال تصل إليه األصوات; فهذا ال حيلة في هدايته‪.‬‬
‫اب أَِل ٍيم }‬
‫{ فََب ِّش ْرهُ } بشارة تؤثر في قلبه الحزن والغم; وفي بشرته السوء والظلمة والغبرة‪ { .‬بِ َع َذ ٍ‬
‫مؤلم لقلبه; ولبدنه; ال يقادر قدره; وال يدرى بعظيم أمره‪ ،‬وهذه بشارة أهل الشر‪ ،‬فال نِ ْع َم ِت‬
‫البشارة‪.‬‬
‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ات } جمعوا بين عبادة الباطن‬ ‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫وأما بشارة أهل الخير فقال‪ِ { :‬إ َّن الذ َ‬
‫ين َ‬
‫باإليمان‪ ،‬والظاهر باإلسالم‪ ،‬والعمل الصالح‪.‬‬
‫ين ِفيهَا } أي‪ :‬في جنات‬ ‫ِِ‬
‫النعيم } بشارة لهم بما قدموه‪ ،‬وقرى لهم بما أسلفوه‪َ { .‬خالد َ‬
‫ات َّ ِ ِ‬‫{ لَهُ ْم َجَّن ُ‬
‫النعيم‪ ،‬نعيم القلب والروح‪ ،‬والبدن‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ ًّ‬
‫{ َو ْع َد الله َحقا } ال يمكن أن يخلف‪ ،‬وال يغير‪ ،‬وال يتبدل‪َ { .‬و ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬
‫يم } كامل العزة‪،‬‬
‫كامل الحكمة‪ ،‬من عزته وحكمته‪ ،‬وفق من وفق‪ ،‬وخذل من خذل‪ ،‬بحسب ما اقتضاه علمه فيهم‬
‫وحكمته‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ب‪.‬‬

‫( ‪)1/646‬‬
‫ث ِفيها ِم ْن ُك ِّل َداب ٍ‬
‫َّة‬ ‫يد بِ ُكم وَب َّ‬ ‫اسي أ ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ٍ‬
‫َ‬ ‫َن تَم َ ْ َ‬ ‫َّم َاوات ب َغ ْير َع َمد تََر ْوَنهَا َوأَْلقَى في اأْل َْرض َر َو َ‬ ‫ق الس َ‬ ‫َخلَ َ‬
‫ين‬ ‫ق اللَّ ِه فَأَرونِي ما َذا َخلَ َ َِّ‬‫اء فَأ َْنَبتَْنا ِفيهَا ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج َك ِر ٍيم (‪َ )10‬ه َذا َخْل ُ‬ ‫وأ َْن َزْلَنا ِمن الس ِ‬
‫ق الذ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّماء َم ً‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ين (‪)11‬‬ ‫ضاَل ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫َّ‬
‫ِم ْن ُدونِ ِه ب ِل الظ ِالم ِ‬
‫ون في َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬

‫يد بِ ُكم وَب َّ‬


‫ث‬ ‫اسي أ ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات بِ َغ ْي ِر َع َم ٍد تََر ْوَنهَا وأَْلقَى ِفي ْ ِ‬ ‫ق السَّماو ِ‬
‫َن تَم َ ْ َ‬ ‫األرض َر َو َ‬ ‫َ‬ ‫{ ‪َ { } 11 - 10‬خلَ َ َ َ‬
‫ق اللَّ ِه فَأ َُرونِي‬
‫اء فَأ َْنَبتَْنا ِفيهَا ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج َك ِر ٍيم * َه َذا َخْل ُ‬ ‫َّة وأ َْن َزْلَنا ِمن الس ِ‬
‫َّماء َم ً‬
‫َ َ‬
‫ِ ِ ِّ ٍ‬
‫فيهَا م ْن ُكل َداب َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ض ٍ‬
‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫ق الَِّذين ِم ْن ُدونِ ِه ب ِل الظَّ ِالم ِ‬
‫ون في َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َما َذا َخلَ َ َ‬
‫يتلو تعالى على عباده‪ ،‬آثارا من آثار قدرته‪ ،‬وبدائع من بدائع حكمته‪ ،‬ونعما من آثار رحمته‪،‬‬
‫ات } السبع على عظمها‪ ،‬وسعتها‪ ،‬وكثافتها‪ ،‬وارتفاعها الهائل‪ { .‬بِ َغ ْي ِر َع َم ٍد‬
‫فقال‪َ { :‬خلق السَّماو ِ‬
‫ََ‬
‫تََر ْوَنهَا } أي‪ :‬ليس لها عمد‪ ،‬ولو كان لها عمد لرئيت‪ ،‬وإ نما استقرت واستمسكت‪ ،‬بقدرة اللّه‬
‫تعالى‪.‬‬
‫اس َي } أي‪ :‬جباال عظيمة‪ ،‬ركزها في أرجائها وأنحائها‪ ،‬لئال { تَ ِم َ‬
‫يد بِ ُك ْم }‬ ‫ض رو ِ‬ ‫{ وأَْلقَى ِفي ْ ِ‬
‫األر َ َ‬ ‫َ‬
‫فلوال الجبال الراسيات لمادت األرض‪ ،‬ولما استقرت بساكنيها‪.‬‬
‫َّة } أي‪ :‬نشر في األرض الواسعة‪ ،‬من جميع أصناف الدواب‪ ،‬التي هي‬ ‫ث ِفيها ِم ْن ُك ِّل َداب ٍ‬
‫{ وَب َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مسخرة لبني آدم‪ ،‬ولمصالحهم‪ ،‬ومنافعهم‪ .‬ولما بثها في األرض‪ ،‬علم تعالى أنه ال بد لها من رزق‬
‫تعيش به‪ ،‬فأنزل من السماء ماء مباركا‪ { ،‬فَأ َْنَبتَْنا ِفيهَا ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج َك ِر ٍيم } المنظر‪ ،‬نافع مبارك‪،‬‬
‫فرتعت فيه الدواب المنبثة‪ ،‬وسكن إليه كل حيوان‪.‬‬
‫وس ْو ِ‬
‫ق أرزاق الخلق إليهم { َخلق‬ ‫{ َه َذا } أي‪ :‬خلق العالم العلوي والسفلي‪ ،‬من جماد‪ ،‬وحيوان‪َ ،‬‬
‫اللَّه } وحده ال شريك له‪ ،‬كل مقر بذلك حتى أنتم يا معشر المشركين‪.‬‬
‫ين ِم ْن ُدونِ ِه } أي‪ :‬الذين جعلتموهم له شركاء‪ ،‬تدعونهم وتعبدونهم‪ ،‬يلزم‬ ‫{ فَأَرونِي ما َذا َخلَ َ َِّ‬
‫ق الذ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫على هذا‪ ،‬أن يكون لهم خلق كخلقه‪ ،‬ورزق كرزقه‪ ،‬فإن كان لهم شيء من ذلك فأرونيه‪ ،‬ليصح ما‬
‫ادعيتم فيهم من استحقاق العبادة‪.‬‬
‫ومن المعلوم أنهم ال يقدرون أن يروه شيئا من الخلق لها‪ ،‬ألن جميع المذكورات‪ ،‬قد أقروا أنها‬
‫خلق اللّه وحده‪ ،‬وال ثََّم شيء يعلم غيرها‪ [ ،‬ص ‪ ] 648‬فثبت عجزهم عن إثبات شيء لها تستحق‬
‫به أن تعبد‪.‬‬
‫ون ِفي‬ ‫َّ ِ‬
‫ولكن عبادتهم إياها‪ ،‬عن غير علم وبصيرة‪ ،‬بل عن جهل وضالل‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ب ِل الظال ُم َ‬
‫ين } أي‪َ :‬جِل ٍّي واضح حيث عبدوا من ال يملك نفعا وال ضرا وال موتا وال حياة وال‬ ‫ض ٍ‬
‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫َ‬
‫نشورا‪ ،‬وتركوا اإلخالص للخالق الرازق المالك لكل األمور‪.‬‬

‫( ‪)1/647‬‬
‫يد (‬‫َن ا ْش ُك ْر ِللَّ ِه َو َم ْن َي ْش ُك ْر فَِإَّن َما َي ْش ُك ُر ِلَن ْف ِس ِه َو َم ْن َكفََر فَِإ َّن اللَّهَ َغنِ ٌّي َح ِم ٌ‬ ‫ان اْل ِح ْك َمةَ أ ِ‬ ‫َولَقَ ْد آَتَْيَنا لُ ْق َم َ‬
‫َّيَنا‬
‫يم (‪َ )13‬و َوص ْ‬ ‫ِ‬ ‫ان اِل ْبنِ ِه و ُهو َي ِعظُهُ َيا ُبَن َّي اَل تُ ْش ِر ْك بِاللَّ ِه ِإ َّن ِّ‬
‫ك لَظُْل ٌم َعظ ٌ‬ ‫الش ْر َ‬ ‫َ َ‬ ‫‪َ )12‬وإِ ْذ قَا َل لُ ْق َم ُ‬
‫ك ِإلَ َّي اْلم ِ‬ ‫َن ا ْش ُك ْر ِلي َوِل َو ِال َد ْي َ‬ ‫ِ‬ ‫ان بِ َو ِال َد ْي ِه َح َملَتْهُ أ ُّ‬
‫ص ُير‬ ‫َ‬ ‫ام ْي ِن أ ِ‬
‫صالُهُ في َع َ‬ ‫ُمهُ َو ْهًنا َعلَى َو ْه ٍن َو ِف َ‬ ‫اإْلِ ْن َس َ‬
‫اح ْبهُ َما ِفي ُّ‬
‫الد ْنَيا َم ْع ُروفًا‬ ‫ك بِ ِه ِعْلم فَاَل تُ ِطعهما وص ِ‬
‫ْ َُ َ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ك بِي َما لَْي َس لَ َ‬ ‫َن تُ ْش ِر َ‬ ‫ك َعلَى أ ْ‬ ‫اه َدا َ‬
‫(‪َ )14‬وإِ ْن َج َ‬
‫ك ِمثْقَ َ‬
‫ال‬ ‫ون (‪َ )15‬يا ُبَن َّي ِإَّنهَا ِإ ْن تَ ُ‬ ‫اب ِإلَ َّي ثَُّم ِإلَ َّي َم ْر ِج ُع ُك ْم فَأَُنبُِّئ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬‫َواتَّبِ ْع َسبِي َل َم ْن أََن َ‬
‫يف َخبِ ٌير‬ ‫ْت بِهَا اللَّهُ ِإ َّن اللَّهَ لَ ِط ٌ‬ ‫ض يأ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َّم َاوات أ َْو في اأْل َْر ِ َ‬
‫ٍ ِ‬
‫ص ْخ َرة أ َْو في الس َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َحبَّة م ْن َخ ْر َدل فَتَ ُك ْن في َ‬
‫ٍ ِ‬
‫ك ِم ْن‬‫ك ِإ َّن َذِل َ‬‫َص َاب َ‬ ‫اصبِ ْر َعلَى َما أ َ‬
‫ِ‬
‫ْم ْر بِاْل َم ْع ُروف َو ْانهَ َع ِن اْل ُم ْن َك ِر َو ْ‬ ‫الصاَل ةَ َوأ ُ‬ ‫(‪َ )16‬يا ُبَن َّي أ َِقِم َّ‬
‫ال‬‫ب ُك َّل م ْختَ ٍ‬
‫ُ‬ ‫ض َم َر ًحا ِإ َّن اللَّهَ اَل ُي ِح ُّ‬ ‫ش ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫اس واَل تَ ْم ِ‬ ‫صع ِّْر َخ َّد َ ِ ِ‬
‫ك ل َّلن َ‬ ‫ور (‪َ )17‬واَل تُ َ‬ ‫ُم ِ‬ ‫َع ْزِم اأْل ُ‬
‫ير (‪)19‬‬ ‫ت اْل َح ِم ِ‬ ‫ص ْو ُ‬ ‫ِ‬
‫َص َوات لَ َ‬ ‫ك ِإ َّن أ َْن َك َر اأْل ْ‬ ‫ص ْوتِ َ‬
‫ض م ْن َ‬
‫اغض ْ ِ‬
‫ك َو ْ ُ‬ ‫ص ْد ِفي َم ْشيِ َ‬ ‫ور (‪ )18‬وا ْق ِ‬
‫َ‬ ‫فَ ُخ ٍ‬

‫َن ا ْش ُك ْر ِللَّ ِه َو َم ْن َي ْش ُك ْر فَِإَّن َما َي ْش ُك ُر ِلَن ْف ِس ِه َو َم ْن َكفََر فَِإ َّن‬


‫ان اْل ِح ْك َمةَ أ ِ‬
‫{ ‪َ { } 19 - 12‬ولَقَ ْد آتَْيَنا لُ ْق َم َ‬
‫يم }‬ ‫ِ‬ ‫البنِ ِه و ُهو َي ِعظُهُ َيا ُبَن َّي ال تُ ْش ِر ْك بِاللَّ ِه ِإ َّن ِّ‬ ‫اللَّهَ َغنِ ٌّي َح ِم ٌ‬
‫ك لَظُْل ٌم َعظ ٌ‬ ‫الش ْر َ‬ ‫ان ْ َ َ‬ ‫يد * َوإِ ْذ قَا َل لُ ْق َم ُ‬
‫إلى آخر القصة‪.‬‬
‫يخبر تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان‪ ،‬بالحكمة‪ ،‬وهي العلم [بالحق] (‪ )1‬على وجهه‬
‫وحكمته‪ ،‬فهي العلم باألحكام‪ ،‬ومعرفة ما فيها من األسرار واإلحكام‪ ،‬فقد يكون اإلنسان عالما‪،‬‬
‫وال يكون حكيما‪.‬‬
‫وأما الحكمة‪ ،‬فهي مستلزمة للعلم‪ ،‬بل وللعمل‪ ،‬ولهذا فسرت الحكمة بالعلم النافع‪ ،‬والعمل الصالح‪.‬‬
‫ولما أعطاه اللّه هذه المنة العظيمة‪ ،‬أمره أن يشكره على ما أعطاه‪ ،‬ليبارك له فيه‪ ،‬وليزيده من‬
‫فضله‪ ،‬وأخبره أن شكر الشاكرين‪ ،‬يعود نفعه عليهم‪ ،‬وأن من كفر فلم يشكر اللّه‪ ،‬عاد وبال ذلك‬
‫عليه‪ .‬واهلل غني [عنه] (‪ )2‬حميد فيما يقدره ويقضيه‪ ،‬على من خالف أمره‪ ،‬فغناه تعالى‪ ،‬من‬
‫لوازم ذاته‪ ،‬وكونه حميدا في صفات كماله‪ ،‬حميدا في جميل صنعه‪ ،‬من لوازم ذاته‪ ،‬وكل واحد‬
‫من الوصفين‪ ،‬صفة كمال‪ ،‬واجتماع أحدهما إلى اآلخر‪ ،‬زيادة كمال إلى كمال‪.‬‬
‫واختلف المفسرون‪ ،‬هل كان لقمان نبيا‪ ،‬أو عبدا صالحا؟ واللّه تعالى لم يذكر عنه إال أنه آتاه‬
‫الحكمة‪ ،‬وذكر بعض ما يدل على حكمته في وعظه البنه‪ ،‬فذكر أصول الحكمة وقواعدها الكبار‬
‫البنِ ِه َو ُه َو َي ِعظُهُ }‬
‫ان ْ‬‫ال لُ ْق َم ُ‬
‫فقال‪َ { :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫أو قال له قوال به يعظه باألمر‪ ،‬والنهي‪ ،‬المقرون بالترغيب والترهيب‪ ،‬فأمره باإلخالص‪ ،‬ونهاه‬
‫يم } ووجه كونه عظيما‪ ،‬أنه ال‬ ‫ِ‬ ‫عن الشرك‪ ،‬وبيَّن له السبب في ذلك فقال‪ِ { :‬إ َّن ِّ‬
‫ك لَظُْل ٌم َعظ ٌ‬
‫الش ْر َ‬
‫وسوى الذي ال يملك من األمر شيئا‪،‬‬
‫أفظع وأبشع ممن َس َّوى المخلوق من تراب‪ ،‬بمالك الرقاب‪َّ ،‬‬
‫وسوى الناقص الفقير من جميع الوجوه‪ ،‬بالرب الكامل الغني من جميع‬
‫بمن له األمر كله‪َّ ،‬‬
‫وسوى من لم ينعم بمثقال ذرة [من النعم] (‪ )3‬بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم‪،‬‬
‫الوجوه‪َّ ،‬‬
‫ودنياهم وأخراهم‪ ،‬وقلوبهم‪ ،‬وأبدانهم‪ ،‬إال منه‪ ،‬وال يصرف السوء إال هو‪ ،‬فهل أعظم من هذا‬
‫الظلم شيء؟؟!‬
‫وهل أعظم ظلما ممن خلقه اللّه لعبادته وتوحيده‪ ،‬فذهب بنفسه الشريفة‪[ ،‬فجعلها في أخس‬
‫المراتب] (‪ )4‬جعلها عابدة لمن ال يسوى شيئا‪ ،‬فظلم نفسه ظلما كبيرا‪.‬‬
‫ولما أمر بالقيام بحقه‪ ،‬بترك الشرك الذي من لوازمه القيام بالتوحيد‪ ،‬أمر بالقيام بحق الوالدين‬
‫ان } أي‪ :‬عهدنا إليه‪ ،‬وجعلناه وصية عنده‪ ،‬سنسأله عن القيام بها‪ ،‬وهل‬ ‫اإلن َس َ‬
‫َّيَنا ْ‬
‫فقال‪َ { :‬و َوص ْ‬
‫حفظها أم ال؟ فوصيناه { بِ َو ِال َد ْي ِه } وقلنا له‪ { :‬ا ْش ُك ْر ِلي } بالقيام بعبوديتي‪ ،‬وأداء حقوقي‪ ،‬وأن ال‬
‫ك } باإلحسان إليهما بالقول اللين‪ ،‬والكالم اللطيف‪،‬‬ ‫تستعين بنعمي على معصيتي‪َ { .‬وِل َو ِال َد ْي َ‬
‫والفعل الجميل‪ ،‬والتواضع لهما‪[ ،‬وإ كرامهما] (‪ )5‬وإ جاللهما‪ ،‬والقيام بمئونتهما واجتناب اإلساءة‬
‫إليهما من كل وجه‪ ،‬بالقول والفعل‪.‬‬
‫ص ُير } أي‪ :‬سترجع أيها اإلنسان إلى من وصاك‪،‬‬‫فوصيناه بهذه الوصية‪ ،‬وأخبرناه أن { ِإلَ َّي اْلم ِ‬
‫َ‬
‫وكلفك بهذه الحقوق‪ ،‬فيسألك‪ :‬هل قمت بها‪ ،‬فيثيبك الثواب الجزيل؟ أم ضيعتها‪ ،‬فيعاقبك العقاب‬
‫الوبيل؟‪.‬‬
‫ُمهُ َو ْهًنا َعلَى َو ْه ٍن } أي‪ :‬مشقة على‬
‫ثم ذكر السبب الموجب لبر الوالدين في األم‪ ،‬فقال‪َ { :‬ح َملَتْهُ أ ُّ‬
‫مشقة‪ ،‬فال تزال تالقي المشاق‪ ،‬من حين يكون نطفة‪ ،‬من الوحم‪ ،‬والمرض‪ ،‬والضعف‪ ،‬والثقل‪،‬‬
‫وتغير الحال‪ ،‬ثم وجع الوالدة‪ ،‬ذلك الوجع الشديد‪.‬‬
‫ام ْي ِن } وهو مالزم لحضانة أمه وكفالتها ورضاعها‪ ،‬أفما يحسن بمن تحمل على‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صالُهُ في َع َ‬‫ثم { ف َ‬
‫ولده هذه الشدائد‪ ،‬مع شدة الحب‪ ،‬أن يؤكد على ولده‪ ،‬ويوصي إليه بتمام اإلحسان إليه؟‬
‫ك بِ ِه ِعْل ٌم فَال تُ ِط ْعهُ َما } وال‬
‫ك بِي َما لَْي َس لَ َ‬
‫َن تُ ْش ِر َ‬
‫ك } أي‪ :‬اجتهد والداك { َعلى أ ْ‬
‫اه َدا َ‬
‫{ َوإِ ْن َج َ‬
‫تظن أن هذا داخل في اإلحسان إليهما‪ ،‬ألن حق اللّه‪ ،‬مقدم على حق كل أحد‪ ،‬و "ال طاعة‬
‫لمخلوق‪ ،‬في معصية الخالق"‬
‫ولم يقل‪" :‬وإ ن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما" بل قال‪ { :‬فَال تُ ِط ْعهُ َما } أي‪:‬‬
‫الد ْنَيا َم ْع ُروفًا } أي‪ :‬صحبة‬‫اح ْبهُ َما ِفي ُّ‬
‫بالشرك‪ ،‬وأما برهما‪ ،‬فاستمر عليه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وص ِ‬
‫َ َ‬
‫إحسان إليهما بالمعروف‪ ،‬وأما اتباعهما وهما بحالة الكفر والمعاصي‪ ،‬فال تتبعهما‪.‬‬
‫اب ِإلَ َّي } وهم المؤمنون باللّه‪ ،‬ومالئكته وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬المستسلمون لربهم‪،‬‬
‫{ َواتَّبِ ْع َسبِي َل َم ْن أََن َ‬
‫المنيبون إليه‪.‬‬
‫واتباع سبيلهم‪ ،‬أن يسلك مسلكهم في اإلنابة إلى اللّه‪ ،‬التي هي انجذاب دواعي القلب وإ راداته إلى‬
‫اللّه‪ ،‬ثم يتبعها سعي البدن‪ ،‬فيما يرضي اللّه‪ ،‬ويقرب منه‪.‬‬
‫{ ثَُّم ِإلَ َّي َم ْر ِج ُع ُك ْم } الطائع والعاصي‪ ،‬والمنيب‪ ،‬وغيره { فَأَُنبُِّئ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫ون } فال يخفى‬
‫على اللّه من أعمالهم خافية‪.‬‬
‫[ ص ‪] 649‬‬
‫ص ْخ َر ٍة‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫{ يا بَن َّي ِإَّنها ِإ ْن تَ ُ ِ‬
‫ك مثْقَا َل َحبَّة م ْن َخ ْر َدل } التي هي أصغر األشياء وأحقرها‪ { ،‬فَتَ ُك ْن في َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫ْت بِهَا اللَّهُ }‬
‫ض } في أي جهة من جهاتهما { يأ ِ‬
‫َ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َّم َاوات أ َْو في ْ‬
‫ِ‬
‫} أي في وسطها { أ َْو في الس َ‬
‫يف َخبِ ٌير } أي‪ :‬لطف في علمه‬ ‫لسعة علمه‪ ،‬وتمام خبرته وكمال قدرته‪ ،‬ولهذا قال‪ِ { :‬إ َّن اللَّهَ لَ ِط ٌ‬
‫وخبرته‪ ،‬حتى اطلع على البواطن واألسرار‪ ،‬وخفايا القفار والبحار‪.‬‬
‫والمقصود من هذا‪ ،‬الحث على مراقبة اللّه‪ ،‬والعمل بطاعته‪ ،‬مهما أمكن‪ ،‬والترهيب من عمل‬
‫القبيح‪َ ،‬ق َّل أو َكثَُر‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ْم ْر بِاْل َم ْع ُروف َو ْانهَ‬
‫{ َيا ُبَن َّي أَقم الصَّالةَ } حثه عليها‪ ،‬وخصها ألنها أكبر العبادات البدنية‪َ { ،‬وأ ُ‬
‫َع ِن اْل ُم ْن َك ِر } وذلك يستلزم العلم بالمعروف ليأمر به‪ ،‬والعلم بالمنكر لينهى عنه‪.‬‬
‫واألمر بما ال يتم األمر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر إال به‪ ،‬من الرفق‪ ،‬والصبر‪ ،‬وقد صرح به‬
‫ك } ومن كونه فاعال لما يأمر به‪ ،‬كافًّا لما ينهى عنه‪ ،‬فتضمن‬ ‫اصبِ ْر َعلَى َما أ َ‬
‫َص َاب َ‬ ‫في قوله‪َ { :‬و ْ‬
‫هذا‪ ،‬تكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر‪ ،‬وتكميل غيره بذلك‪ ،‬بأمره ونهيه‪.‬‬
‫ولما علم أنه ال بد أن يبتلى إذا أمر ونهى وأن في األمر والنهي مشقة على النفوس‪ ،‬أمره بالصبر‬
‫ِ‬ ‫ك ِإ َّن َذِل َ‬
‫ور }‬ ‫ك } الذي وعظ به لقمان ابنه { م ْن َع ْزِم ُ‬
‫األم ِ‬ ‫اصبِ ْر َعلَى َما أ َ‬
‫َص َاب َ‬ ‫على ذلك فقال‪َ { :‬و ْ‬
‫أي‪ :‬من األمور التي يعزم عليها‪ ،‬ويهتم بها‪ ،‬وال يوفق لها إال أهل العزائم‪.‬‬
‫اس } أي‪ :‬ال تُ ِمْلهُ وتعبس بوجهك الناس‪ ،‬تكب ًُّرا عليهم‪ ،‬وتعاظما‪.‬‬ ‫ك ِل َّلن ِ‬ ‫صع ِّْر َخ َّد َ‬‫{ َوال تُ َ‬
‫ض َم َر ًحا } أي‪ :‬بطرا‪ ،‬فخرا بالنعم‪ ،‬ناسيا المنعم‪ ،‬معجبا بنفسك‪ِ { .‬إ َّن اللَّهَ ال‬ ‫األر ِ‬ ‫ش في ْ‬
‫{ وال تَم ِ ِ‬
‫َ ْ‬
‫ال } (‪ )6‬في نفسه وهيئته وتعاظمه { فَ ُخور } بقوله‪.‬‬ ‫ب ُك َّل م ْختَ ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُي ِح ُّ‬
‫ك } أي‪ :‬امش متواضعا مستكينا‪ ،‬ال َم ْش َي البطر والتكبر‪ ،‬وال مشي التماوت‪.‬‬ ‫ص ْد ِفي َم ْشيِ َ‬ ‫{ وا ْق ِ‬
‫َ‬
‫ات } أي أفظعها وأبشعها‬ ‫ك } أدبا مع الناس ومع اللّه‪ِ { ،‬إ َّن أ َْن َكر األصو ِ‬ ‫ص ْوتِ َ‬ ‫اغض ْ ِ‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ض م ْن َ‬ ‫{ َو ْ ُ‬
‫ير } فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة‪ ،‬لما اختص بذلك الحمار‪ ،‬الذي‬ ‫ت اْل َح ِم ِ‬ ‫ص ْو ُ‬
‫{ لَ َ‬
‫قد علمت خسته وبالدته‪.‬‬
‫وهذه الوصايا‪ ،‬التي وصى بها لقمان البنه‪ ،‬تجمع أمهات الحكم‪ ،‬وتستلزم ما لم يذكر منها‪ ،‬وكل‬
‫وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها‪ ،‬إن كانت أمرا‪ ،‬وإ لى تركها إن كانت نهيا‪.‬‬
‫وح َك ِمها ومناسباتها‪ ،‬فأمره بأصل‬
‫وهذا يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة‪ ،‬أنها العلم باألحكام‪ِ ،‬‬
‫الدين‪ ،‬وهو التوحيد‪ ،‬ونهاه عن الشرك‪ ،‬وبيَّن له الموجب لتركه‪ ،‬وأمره ببر الوالدين‪ ،‬وبين له‬
‫السبب الموجب لبرهما‪ ،‬وأمره بشكره وشكرهما‪ ،‬ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما‪،‬‬
‫ما لم يأمرا بمعصية‪ ،‬ومع ذلك فال يعقهما‪ ،‬بل يحسن إليهما‪ ،‬وإ ن كان ال يطيعهما إذا جاهداه على‬
‫وخوفه القدوم عليه‪ ،‬وأنه ال يغادر صغيرة وال كبيرة من الخير‬
‫الشرك‪ .‬وأمره بمراقبة اللّه‪َّ ،‬‬
‫والشر‪ ،‬إال أتى بها‪.‬‬
‫ونهاه عن التكبر‪ ،‬وأمره بالتواضع‪ ،‬ونهاه عن البطر واألشر‪ ،‬والمرح‪ ،‬وأمره بالسكون في‬
‫الحركات واألصوات‪ ،‬ونهاه عن ضد ذلك‪.‬‬
‫وأمره باألمر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬وإ قامة الصالة‪ ،‬وبالصبر اللذين يسهل بهما كل‬
‫أمر‪ ،‬كما قال تعالى فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا‪ ،‬أن يكون مخصوصا بالحكمة‪ ،‬مشهورا بها‪.‬‬
‫ولهذا من منة اللّه عليه وعلى سائر عباده‪ ،‬أن قص عليهم من حكمته‪ ،‬ما يكون لهم به أسوة‬
‫حسنة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )4‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )6‬كذا في ب‪ ،‬وزاد في أ قوله تعالى‪ :‬فخور‪.‬‬

‫( ‪)1/648‬‬

‫اهرةً وب ِ‬ ‫ض وأَسب َغ علَْي ُكم نِعمه َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أَلَم تَروا أ َّ َّ‬
‫اطَنةً‬ ‫ظ َ ََ‬ ‫َّم َاوات َو َما في اأْل َْر ِ َ ْ َ َ ْ َ َ ُ‬ ‫َن اللهَ َس َّخ َر لَ ُك ْم َما في الس َ‬ ‫ْ َْ‬
‫ير (‪َ )20‬وإِ َذا ِق َ‬
‫يل لَهُ ُم اتَّبِ ُعوا َما‬ ‫اب ُمنِ ٍ‬
‫اس م ْن ُي َج ِاد ُل ِفي اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم واَل ُه ًدى واَل ِكتَ ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫الن ِ َ‬ ‫َو ِم َن َّ‬
‫اب الس ِ‬ ‫وهم ِإلَى َع َذ ِ‬ ‫ان َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ير (‪)21‬‬ ‫َّع ِ‬ ‫ان َي ْد ُع ُ ْ‬
‫ط ُ‬‫الش ْي َ‬ ‫أ َْن َز َل اللهُ قَالُوا َب ْل َنتَّبِعُ َما َو َج ْدَنا َعلَْيه آََب َ‬
‫اءَنا أ ََولَ ْو َك َ‬

‫ِ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 21 - 20‬أَلَم تَروا أ َّ َّ‬


‫َسَب َغ َعلَْي ُك ْم ن َع َمهُ‬
‫ض َوأ ْ‬ ‫َّم َاوات َو َما في ْ‬ ‫َن اللهَ َس َّخ َر لَ ُك ْم َما في الس َ‬ ‫ْ َْ‬
‫ير * َوإِ َذا ِق َ‬
‫يل لَهُ ُم‬ ‫اب ُمنِ ٍ‬
‫اس م ْن ُي َج ِاد ُل ِفي اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم وال ُه ًدى وال ِكتَ ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫الن ِ َ‬
‫اهرةً وب ِ‬
‫اطَنةً َو ِم َن َّ‬ ‫ظ َ ََ‬
‫َ ِ‬
‫وهم ِإلَى َع َذ ِ‬ ‫ان َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫اب‬ ‫ان َي ْد ُع ُ ْ‬
‫ط ُ‬‫الش ْي َ‬ ‫اتَّبِ ُعوا َما أ َْن َز َل اللهُ قَالُوا َب ْل َنتَّبِعُ َما َو َج ْدَنا َعلَْيه َآب َ‬
‫اءَنا أ ََولَ ْو َك َ‬
‫ير } ‪.‬‬ ‫الس ِ‬
‫َّع ِ‬
‫يمتن تعالى على عباده بنعمه‪ ،‬ويدعوهم إلى شكرها ورؤيتها; وعدم الغفلة عنها فقال‪ { :‬أَلَ ْم تََر ْوا‬
‫َن اللَّه س َّخر لَ ُكم ما ِفي السَّماو ِ‬
‫ات } من الشمس‬ ‫ََ‬ ‫} أي‪ :‬تشاهدوا وتبصروا بأبصاركم وقلوبكم‪ { ،‬أ َّ َ َ َ ْ َ‬
‫والقمر والنجوم‪ ،‬كلها مسخرات لنفع العباد‪.‬‬
‫ض } من الحيوانات واألشجار والزروع‪ ،‬واألنهار والمعادن ونحوها كما قال‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َو َما في ْ‬
‫يعا }‬ ‫ق لَ ُكم ما ِفي األر ِ ِ‬ ‫َِّ‬
‫ض َجم ً‬ ‫ْ‬ ‫تعالى‪ُ { :‬ه َو الذي َخلَ َ ْ َ‬
‫عمكم وغمركم نعمه الظاهرة والباطنة التي نعلم بها; والتي تخفى علينا‪،‬‬ ‫َسَب َغ َعلَْي ُك ْم } أي‪ّ :‬‬
‫{ َوأ ْ‬
‫نعم الدنيا‪ ،‬ونعم الدين‪ ،‬حصول المنافع‪ ،‬ودفع المضار‪ ،‬فوظيفتكم أن تقوموا بشكر هذه النعم;‬
‫بمحبة المنعم والخضوع له; وصرفها في االستعانة على طاعته‪ ،‬وأن ال يستعان بشيء منها على‬
‫معصيته‪.‬‬
‫اس َم ْن } لم يشكرها; بل كفرها; وكفر بمن أنعم بها;‬ ‫{ و } لكن مع توالي هذه النعم; { ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬
‫وجحد الحق الذي أنزل به كتبه; وأرسل به رسله‪ ،‬فجعل { ُي َج ِاد ُل ِفي اللَّ ِه } أي‪ :‬يجادل عن‬
‫الباطل; ليدحض به الحق; ويدفع به ما جاء به الرسول من األمر بعبادة اللّه وحده‪ ،‬وهذا المجادل‬
‫على غير بصيرة‪ ،‬فليس جداله عن علم‪ ،‬فيترك وشأنه‪ ،‬ويسمح له في الكالم { َوال ُه ًدى } يقتدي‬
‫اب ُمنِ ٍ‬
‫ير } [غير مبين للحق فال معقول وال منقول وال اقتداء بالمهتدين] (‪)1‬‬ ‫به بالمهتدين { وال ِكتَ ٍ‬
‫َ‬
‫وإ نما جداله في اللّه مبني [ ص ‪ ] 650‬على تقليد آباء غير مهتدين‪ ،‬بل ضالين مضلين‪.‬‬
‫يل لَهُ ُم اتَّبِ ُعوا َما أَنز َل اللَّهُ } على أيدي رسله‪ ،‬فإنه الحق‪ ،‬وبينت لهم أدلته‬ ‫ولهذا قال‪َ { :‬وإِ َذا ِق َ‬
‫ِ‬
‫اءَنا } فال نترك ما وجدنا عليه‬ ‫الظاهرة { قَالُوا } معارضين ذلك‪َ { :‬ب ْل َنتَّبِعُ َما َو َج ْدَنا َعلَْيه َآب َ‬
‫آباءنا لقول أحد كائنا من كان‪.‬‬
‫اب الس ِ‬
‫َّع ِ‬
‫ير }‬ ‫وهم ِإلَى َع َذ ِ‬ ‫ان َّ‬
‫ان َي ْد ُع ُ ْ‬
‫ط ُ‬‫الش ْي َ‬ ‫قال تعالى في الرد عليهم وعلى آبائهم‪ { :‬أ ََولَ ْو َك َ‬
‫فاستجاب له آباؤهم‪ ،‬ومشوا خلفه‪ ،‬وصاروا من تالميذ الشيطان‪ ،‬واستولت عليهم الحيرة‪.‬‬
‫فهل هذا موجب التباعهم لهم ومشيهم على طريقتهم‪ ،‬أم ذلك يرهبهم من سلوك سبيلهم‪ ،‬وينادي‬
‫على ضاللهم‪ ،‬وضالل من اتبعهم‪.‬‬
‫وليس دعوة الشيطان آلبائهم ولهم‪ ،‬محبة لهم ومودة‪ ،‬وإ نما ذلك عداوة لهم ومكر بهم‪ ،‬وبالحقيقة‬
‫أتباعه من أعدائه‪ ،‬الذين تمكن منهم وظفر بهم‪ ،‬وقرت عينه باستحقاقهم عذاب السعير‪ ،‬بقبول‬
‫دعوته‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ب‪.‬‬

‫( ‪)1/649‬‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫استَ ْم َس َ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُم ِ‬
‫ور (‪)22‬‬ ‫ك باْل ُع ْر َوة اْل ُوثْقَى َوإِلَى الله َعاقَبةُ اأْل ُ‬ ‫َو َم ْن ُي ْسل ْم َو ْجهَهُ ِإلَى الله َو ُه َو ُم ْحس ٌن فَقَد ْ‬
‫ور (‪)23‬‬‫ُّد ِ‬
‫ات الص ُ‬ ‫ك ُك ْفره ِإلَْيَنا مر ِجعهم فَُنَنبُِّئهم بِما ع ِملُوا ِإ َّن اللَّه عِليم بِ َذ ِ‬
‫َ َ ٌ‬ ‫ُْ َ َ‬ ‫َ ْ ُ ُْ‬ ‫َو َم ْن َكفََر فَاَل َي ْح ُز ْن َ ُ ُ‬
‫يظ (‪)24‬‬ ‫اب َغِل ٍ‬
‫ط ُّر ُهم ِإلَى َع َذ ٍ‬ ‫ُن َمتِّ ُعهُ ْم َقِلياًل ثَُّم َن ْ‬
‫ضَ ْ‬

‫ك بِاْل ُع ْر َو ِة اْل ُوثْقَى َوإِلَى اللَّ ِه‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬


‫{ ‪َ { } 24 - 22‬و َم ْن ُي ْسل ْم َو ْجهَهُ ِإلَى الله َو ُه َو ُم ْحس ٌن فَقَد ْ‬
‫استَ ْم َس َ‬
‫ات‬‫ك ُك ْفره ِإلَْيَنا مر ِجعهم فَُنَنبُِّئهم بِما ع ِملُوا ِإ َّن اللَّه عِليم بِ َذ ِ‬ ‫األم ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ٌ‬ ‫ُْ َ َ‬ ‫َ ْ ُ ُْ‬ ‫ور * َو َم ْن َكفََر فَال َي ْح ُز ْن َ ُ ُ‬ ‫َعاقَبةُ ُ‬
‫يظ } ‪.‬‬ ‫اب َغِل ٍ‬
‫ط ُّر ُهم ِإلَى َع َذ ٍ‬ ‫ور * ُن َمتِّ ُعهُ ْم َقِليال ثَُّم َن ْ‬
‫ُّد ِ‬
‫ضَ ْ‬ ‫الص ُ‬
‫{ َو َم ْن ُي ْسِل ْم َو ْجهَهُ ِإلَى اللَّ ِه } أي‪ :‬يخضع له وينقاد له بفعل الشرائع مخلصا له دينه‪َ { .‬و ُه َو‬
‫ُم ْح ِس ٌن } في ذلك اإلسالم بأن كان عمله مشروعا‪ ،‬قد اتبع فيه الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫أو‪ :‬ومن يسلم وجهه إلى اللّه‪ ،‬بفعل جميع العبادات‪ ،‬وهو محسن فيها‪ ،‬بأن يعبد اللّه كأنه يراه‪ ،‬فإن‬
‫لم يكن يراه‪ ،‬فإنه يراه‪.‬‬
‫أو ومن يسلم وجهه إلى اللّه‪ ،‬بالقيام بحقوقه‪ ،‬وهو محسن إلى عباد اللّه‪ ،‬قائم بحقوقهم‪.‬‬
‫والمعاني متالزمة‪ ،‬ال فرق بينها إال من جهة [اختالف] (‪ )1‬مورد اللفظتين‪ ،‬وإ ال فكلها متفقة على‬
‫ك بِاْل ُع ْر َو ِة‬
‫استَ ْم َس َ‬
‫القيام بجميع شرائع الدين‪ ،‬على وجه تقبل به وتكمل‪ ،‬فمن فعل ذلك فقد أسلم و { ْ‬
‫اْل ُوثْقَى } أي‪ :‬بالعروة التي من تمسك بها‪ ،‬توثق ونجا‪ ،‬وسلم من الهالك‪ ،‬وفاز بكل خير‪.‬‬
‫ومن لم يسلم وجهه للّه‪ ،‬أو لم يحسن لم يستمسك بالعروة الوثقى‪ ،‬وإ ذا لم يستمسك بالعروة الوثقى‬
‫ور } أي‪ :‬رجوعها وموئلها ومنتهاها‪ ،‬فيحكم‬ ‫األم ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫لم يكن ثََّم إال الهالك والبوار‪َ { .‬وإِلَى الله َعاقَبةُ ُ‬
‫في عباده‪ ،‬ويجازيهم بما آلت إليه أعمالهم‪ ،‬ووصلت إليه عواقبهم‪ ،‬فليستعدوا لذلك األمر‪.‬‬
‫ك ُك ْف ُرهُ } ألنك أديت ما عليك‪ ،‬من الدعوة والبالغ‪ ،‬فإذا لم يهتد‪ ،‬فقد وجب‬
‫{ َو َم ْن َكفََر فَال َي ْح ُز ْن َ‬
‫أجرك على اللّه‪ ،‬ولم يبق للحزن موضع على عدم اهتدائه‪ ،‬ألنه لو كان فيه خير‪ ،‬لهداه اللّه‪.‬‬
‫وال تحزن أيضا‪ ،‬على كونهم تجرأوا عليك بالعداوة‪ ،‬ونابذوك المحاربة‪ ،‬واستمروا على غيهم‬
‫وكفرهم‪ ،‬وال تتحرق عليهم‪ ،‬بسبب أنهم ما بودروا بالعذاب‪.‬‬
‫فإن { ِإلَْيَنا َم ْر ِج ُعهُ ْم فَُنَنبُِّئهُ ْم بِ َما َع ِملُوا } من كفرهم وعداوتهم‪ ،‬وسعيهم في إطفاء نور اللّه وأذى‬
‫رسله‪.‬‬
‫ور } التي ما نطق بها الناطقون‪ ،‬فكيف بما ظهر‪ ،‬وكان شهادة؟"‬ ‫ُّد ِ‬
‫ات الص ُ‬ ‫{ ِإ َّن اللَّه عِليم بِ َذ ِ‬
‫َ َ ٌ‬
‫ط ُّر ُه ْم } أي‪[ :‬نلجئهم] (‪)2‬‬
‫ضَ‬‫{ ُن َمتِّ ُعهُ ْم َقِليال } في الدنيا‪ ،‬ليزداد إثمهم‪ ،‬ويتوفر عذابهم‪ { ،‬ثَُّم َن ْ‬
‫يظ } أي‪ :‬انتهى في عظمه وكبره‪ ،‬وفظاعته‪ ،‬وألمه‪ ،‬وشدته‪.‬‬ ‫اب َغِل ٍ‬ ‫{ ِإلَى َع َذ ٍ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من ب‪.‬‬
‫( ‪)1/650‬‬

‫ون (‪ِ )25‬للَّ ِه‬ ‫َِّ ِ‬ ‫َّ‬


‫ض لََيقُولُ َّن اللهُ ُق ِل اْل َح ْم ُد لله َب ْل أَ ْكثَُر ُه ْم اَل َي ْعلَ ُم َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َواأْل َْر َ‬ ‫َولَئِ ْن َسأَْلتَهُ ْم َم ْن َخلَ َ‬
‫ق الس َ‬
‫ض ِم ْن َش َج َر ٍة أَقْاَل ٌم‬ ‫يد (‪ )26‬ولَ ْو أََّن َما ِفي اأْل َْر ِ‬
‫َ‬ ‫ض ِإ َّن اللَّهَ ُه َو اْل َغنِ ُّي اْل َح ِم ُ‬
‫ات واأْل َْر ِ‬‫ِ‬
‫َّم َاو َ‬ ‫َما في الس َ‬
‫ِ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ت َكِلم ُ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪َ )27‬ما َخْلقُ ُك ْم َواَل‬ ‫ات الله ِإ َّن اللهَ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬ ‫َواْلَب ْح ُر َي ُم ُّدهُ م ْن َب ْعده َس ْب َعةُ أ َْب ُح ٍر َما َنف َد ْ َ‬
‫ص ٌير (‪)28‬‬ ‫اح َد ٍة ِإ َّن اللَّه س ِميع ب ِ‬
‫سو ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِاَّل‬
‫َ َ ٌَ‬ ‫َب ْعثُ ُك ْم إ َكَن ْف َ‬

‫ض لََيقُولُ َّن اللَّهُ ُق ِل اْل َح ْم ُد ِللَّ ِه َب ْل أَ ْكثَُر ُه ْم ال‬ ‫األر َ‬


‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ق الس َ‬ ‫{ ‪َ { } 28 - 25‬ولَئِ ْن َسأَْلتَهُ ْم َم ْن َخلَ َ‬
‫ض ِم ْن‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫يد * َولَ ْو أََّن َما في ْ‬ ‫ض ِإ َّن اللَّهَ ُه َو اْل َغنِ ُّي اْل َح ِم ُ‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫َِّ ِ ِ‬
‫ون * لله َما في الس َ‬ ‫َي ْعلَ ُم َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ت َكِلم ُ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫يم * َما َخْلقُ ُك ْم‬ ‫ات الله ِإ َّن اللهَ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬ ‫َش َج َر ٍة أَ ْق ٌ‬
‫الم َواْلَب ْح ُر َي ُم ُّدهُ م ْن َب ْعده َس ْب َعةُ أ َْب ُح ٍر َما َنف َد ْ َ‬
‫ص ٌير } ‪.‬‬ ‫اح َد ٍة ِإ َّن اللَّه س ِميع ب ِ‬ ‫سو ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ٌَ‬ ‫َوال َب ْعثُ ُك ْم إال َكَن ْف َ‬
‫ض } لعلموا أن‬ ‫ِ‬
‫األر َ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ق الس َ‬ ‫أي‪ :‬ولئن سألت هؤالء المشركين المكذبين بالحق { َم ْن َخلَ َ‬
‫أصنامهم‪ ،‬ما خلقت شيئا من ذلك ولبادروا بقولهم اهلل الذي خلقهما وحده‪.‬‬
‫فـ { ُق ِل } لهم ملزما لهم‪ ،‬ومحتجا عليهم بما أقروا به‪ ،‬على ما أنكروا‪ { :‬اْل َح ْم ُد ِللَّ ِه } الذي بيَّن‬
‫النور‪ ،‬وأظهر االستدالل عليكم من أنفسكم‪ ،‬فلو كانوا يعلمون‪ ،‬لجزموا أن المنفرد بالخلق‬
‫والتدبير‪ ،‬هو الذي يفرد بالعبادة والتوحيد‪.‬‬
‫ون } فلذلك أشركوا به غيره‪ ،‬ورضوا بتناقض ما ذهبوا إليه‪ ،‬على وجه‬‫ولكن { أَ ْكثَُر ُه ْم ال َي ْعلَ ُم َ‬
‫الحيرة والشك‪ ،‬ال على وجه البصيرة‪ ،‬ثم ذكر في هاتين اآليتين نموذجا من سعة أوصافه‪ ،‬ليدعو‬
‫عباده إلى معرفته‪ ،‬ومحبته‪ ،‬وإ خالص الدين له‪.‬‬
‫فذكر عموم ملكه‪ ،‬وأن جميع ما في السماوات واألرض ‪ -‬وهذا شامل لجميع العالم العلوي‬
‫والسفلي ‪ -‬أنه ملكه‪ ،‬يتصرف فيهم بأحكام الملك [ ص ‪ ] 651‬القدرية‪ ،‬وأحكامه األمرية‪،‬‬
‫وأحكامه الجزائية‪ ،‬فكلهم عبيد مماليك‪ ،‬مدبرون مسخرون‪ ،‬ليس لهم من الملك شيء‪ ،‬وأنه واسع‬
‫َن‬
‫يد أ ْ‬ ‫يد ِم ْنهُ ْم ِم ْن ِر ْز ٍ‬
‫ق َو َما أ ُِر ُ‬ ‫الغنى‪ ،‬فال يحتاج إلى ما يحتاج إليه أحد من الخلق‪َ { .‬ما أ ُِر ُ‬
‫ط ِع ُم ِ‬
‫ون }‬ ‫ُي ْ‬
‫وأن أعمال النبيين والصديقين‪ ،‬والشهداء والصالحين‪ ،‬ال تنفع اللّه شيئا وإ نما تنفع عامليها‪ ،‬واللّه‬
‫غني عنهم‪ ،‬وعن أعمالهم‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أن أغناهم وأقناهم في دنياهم وأخراهم‪.‬‬
‫ثم أخبر تعالى عن سعة حمده‪ ،‬وأن حمده من لوازم ذاته‪ ،‬فال يكون إال حميدا من جميع الوجوه‪،‬‬
‫فهو حميد في ذاته‪ ،‬وهو حميد في صفاته‪ ،‬فكل صفة من صفاته‪ ،‬يستحق عليها أكمل حمد وأتمه‪،‬‬
‫لكونها صفات عظمة وكمال‪ ،‬وجميع ما فعله وخلقه يحمد عليه‪ ،‬وجميع ما أمر به ونهى عنه‬
‫يحمد عليه‪ ،‬وجميع ما حكم به في العباد وبين العباد‪ ،‬في الدنيا واآلخرة‪ ،‬يحمد عليه‪.‬‬
‫ثم أخبر عن سعة كالمه وعظمة قوله‪ ،‬بشرح يبلغ من القلوب كل مبلغ‪ ،‬وتنبهر له العقول‪ ،‬وتحير‬
‫ض ِم ْن َش َج َر ٍة‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫فيه األفئدة‪ ،‬وتسيح في معرفته أولو األلباب والبصائر‪ ،‬فقال‪َ { :‬ولَ ْو أََّن َما في ْ‬
‫الم } يكتب بها { َواْلَب ْح ُر َي ُم ُّدهُ ِم ْن َب ْع ِد ِه َس ْب َعةُ أ َْب ُح ٍر } مدادا يستمد بها‪ ،‬لتكسرت تلك األقالم‬
‫أَ ْق ٌ‬
‫ات اللَّ ِه } تعالى‪ ،‬وهذا ليس مبالغة ال حقيقة له‪ ،‬بل لما علم‬ ‫ولفني ذلك المداد‪ ،‬و لم تنفد { َكِل َم ُ‬
‫تبارك وتعالى‪ ،‬أن العقول تتقاصر عن اإلحاطة ببعض صفاته‪ ،‬وعلم تعالى أن معرفته لعباده‪،‬‬
‫أفضل نعمة‪ ،‬أنعم بها عليهم‪ ،‬وأجل منقبة حصلوها‪ ،‬وهي ال تمكن على وجهها‪ ،‬ولكن ما ال يدرك‬
‫كله‪ ،‬ال يترك كله‪ ،‬فنبههم تعالى تنبيها تستنير به قلوبهم‪ ،‬وتنشرح له صدورهم‪ ،‬ويستدلون بما‬
‫وصلوا إليه إلى ما لم يصلوا إليه‪ ،‬ويقولون كما قال أفضلهم وأعلمهم بربه‪" :‬ال نحصي ثناء‬
‫عليك‪ ،‬أنت كما أثنيت على نفسك" وإ ال فاألمر أجل من ذلك وأعظم‪.‬‬
‫وهذا التمثيل من باب تقريب المعنى‪ ،‬الذي ال يطاق الوصول إليه إلى األفهام واألذهان‪ ،‬وإ ال‬
‫فاألشجار‪ ،‬وإ ن تضاعفت على ما ذكر‪ ،‬أضعافا كثيرة‪ ،‬والبحور لو امتدت (‪ )1‬بأضعاف‬
‫مضاعفة‪ ،‬فإنه يتصور نفادها وانقضاؤها‪ ،‬لكونها مخلوقة‪.‬‬
‫وأما كالم اللّه تعالى‪ ،‬فال يتصور نفاده‪ ،‬بل دلنا الدليل الشرعي والعقلي‪ ،‬على أنه ال نفاد له وال‬
‫َن ِإلَى َرب َ‬
‫ِّك اْل ُم ْنتَهَى }‬ ‫منتهى‪ ،‬وكل شيء ينتهي إال الباري وصفاته { َوأ َّ‬
‫وإ ذا تصور العقل حقيقة أوليته تعالى وآخريته‪ ،‬وأنه كل ما فرضه الذهن من األزمان السابقة‪،‬‬
‫مهما تسلسل الفرض والتقدير‪ ،‬فهو تعالى قبل ذلك إلى غير نهاية‪ ،‬وأنه مهما فرضه الذهن‬
‫والعقل‪ ،‬من األزمان المتأخرة‪ ،‬وتسلسل الفرض والتقدير‪ ،‬وساعد على ذلك من ساعد‪ ،‬بقلبه‬
‫ولسانه‪ ،‬فاللّه تعالى بعد ذلك إلى غير غاية وال نهاية‪.‬‬
‫واللّه في جميع األوقات يحكم‪ ،‬ويتكلم‪ ،‬ويقول‪ ،‬ويفعل كيف أراد‪ ،‬وإ ذا أراد ال مانع له من شيء‬
‫من أقواله وأفعاله‪ ،‬فإذا تصور العقل ذلك‪ ،‬عرف أن المثل الذي ضربه اللّه لكالمه‪ ،‬ليدرك العباد‬
‫شيئا منه‪ ،‬وإ ال فاألمر أعظم وأجل‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ثم ذكر جاللة عزته وكمال حكمته فقال‪ِ { :‬إ َّن اللهَ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫يم } أي‪ :‬له العزة جميعا‪ ،‬الذي ما في‬
‫العالم العلوي والسفلي من القوة إال منه‪ ،‬أعطاها للخلق‪ ،‬فال حول وال قوة إال به‪ ،‬وبعزته قهر‬
‫الخلق كلهم‪ ،‬وتصرف فيهم‪ ،‬ودبرهم‪ ،‬وبحكمته خلق الخلق‪ ،‬وابتدأه بالحكمة‪ ،‬وجعل غايته‬
‫والمقصود منه الحكمة‪ ،‬وكذلك األمر والنهي وجد بالحكمة‪ ،‬وكانت غايته المقصودة الحكمة‪ ،‬فهو‬
‫الحكيم في خلقه وأمره‪.‬‬
‫ثم ذكر عظمة قدرته وكمالها وأنه ال يمكن أن يتصورها العقل فقال‪َ { :‬ما َخْلقُ ُك ْم َوال َب ْعثُ ُك ْم ِإال‬
‫اح َد ٍة } وهذا شيء يحير العقول‪ ،‬إن خلق جميع الخلق ‪ -‬على كثرتهم وبعثهم بعد موتهم‪،‬‬ ‫سو ِ‬
‫ٍ‬
‫َكَن ْف َ‬
‫بعد تفرقهم في لمحة واحدة ‪ -‬كخلقه نفسا واحدة‪ ،‬فال وجه الستبعاد البعث والنشور‪ ،‬والجزاء‬
‫على األعمال‪ ،‬إال الجهل بعظمة اللّه وقوة قدرته‪.‬‬
‫ثم ذكر عموم سمعه لجميع المسموعات‪ ،‬وبصره لجميع المبصرات فقال‪ِ { :‬إ َّن اللَّه س ِميع ب ِ‬
‫ص ٌير }‬ ‫َ َ ٌَ‬
‫__________‬
‫مدت‪.‬‬
‫(‪ )1‬في ب‪ّ :‬‬

‫( ‪)1/650‬‬

‫النهار ِفي اللَّْي ِل و َس َّخر َّ‬


‫الش ْم َس َواْلقَ َم َر ُك ٌّل َي ْج ِري ِإلَى‬ ‫َن اللَّهَ ُيوِل ُج اللَّْي َل ِفي َّ‬
‫َ َ‬ ‫النهَ ِار َوُيوِل ُج َّ َ َ‬ ‫أَلَ ْم تََر أ َّ‬
‫ون ِم ْن ُدونِ ِه‬
‫َن َما َي ْد ُع َ‬ ‫َن اللَّهَ ُهو اْل َح ُّ‬
‫ق َوأ َّ‬ ‫َ‬ ‫ون َخبِ ٌير (‪َ )29‬ذِل َ‬
‫ك بِأ َّ‬ ‫أَج ٍل مس ًّمى وأ َّ َّ‬
‫َن اللهَ بِ َما تَ ْع َملُ َ‬ ‫َ َُ َ‬
‫َن اللَّهَ ُه َو اْل َعِل ُّي اْل َكبِ ُير (‪)30‬‬ ‫اْلب ِ‬
‫اط ُل َوأ َّ‬ ‫َ‬

‫النهار ِفي اللَّْي ِل و َس َّخر َّ‬ ‫َن اللَّهَ ُيوِل ُج اللَّْي َل ِفي َّ‬
‫الش ْم َس َواْلقَ َم َر‬ ‫َ َ‬ ‫النهَ ِار َوُيوِل ُج َّ َ َ‬ ‫{ ‪ { } 30 - 29‬أَلَ ْم تََر أ َّ‬
‫ون ِم ْن‬ ‫َن اللَّهَ ُهو اْل َح ُّ‬
‫ق َوأ َّ‬
‫َن َما َي ْد ُع َ‬ ‫َ‬ ‫ون َخبِ ٌير * َذِل َ‬
‫ك بِأ َّ‬ ‫ُك ٌّل ي ْج ِري ِإلَى أَج ٍل مس ًّمى وأ َّ َّ‬
‫َن اللهَ بِ َما تَ ْع َملُ َ‬ ‫َ َُ َ‬ ‫َ‬
‫َن اللَّهَ ُه َو اْل َعِل ُّي اْل َكبِ ُير } ‪.‬‬ ‫ُدونِ ِه اْلب ِ‬
‫اط ُل َوأ َّ‬ ‫َ‬
‫وهذا فيه أيضا‪ ،‬انفراده بالتصرف والتدبير‪ ،‬وسعة تصرفه بإيالج الليل في النهار‪ ،‬وإ يالج النهار‬
‫في الليل‪ ،‬أي‪ :‬إدخال أحدهما على اآلخر‪ ،‬فإذا دخل أحدهما‪ ،‬ذهب اآلخر‪.‬‬
‫وتسخيره للشمس والقمر‪ ،‬يجريان بتدبير ونظام‪ ،‬لم يختل منذ خلقهما‪ [ ،‬ص ‪ ] 652‬ليقيم بذلك‬
‫من مصالح العباد ومنافعهم‪ ،‬في دينهم ودنياهم‪ ،‬ما به يعتبرون وينتفعون‪.‬‬
‫َج ٍل ُم َس ًّمى } إذا جاء ذلك األجل‪ ،‬انقطع جريانهما‪ ،‬وتعطل‬
‫و { ُك ّل } منهما { َي ْج ِري ِإلَى أ َ‬
‫سلطانهما‪ ،‬وذلك في يوم القيامة‪ ،‬حين تكور الشمس‪ ،‬ويخسف القمر‪ ،‬وتنتهي دار الدنيا‪ ،‬وتبتدئ‬
‫الدار اآلخرة‪.‬‬
‫ون } من خير وشر { َخبِ ٌير } ال يخفى عليه شيء من ذلك‪ ،‬وسيجازيكم على‬ ‫{ وأ َّ َّ‬
‫َن اللهَ بِ َما تَ ْع َملُ َ‬ ‫َ‬
‫تلك األعمال‪ ،‬بالثواب للمطيعين‪ ،‬والعقاب للعاصين‪.‬‬
‫ق } في ذاته وفي صفاته‪،‬‬ ‫َن اللَّهَ ُهو اْل َح ُّ‬
‫ك } الذي بين لكم من عظمته وصفاته‪ ،‬ما بيَّن { بِأ َّ‬ ‫و { َذِل َ‬
‫َ‬
‫ودينه حق‪ ،‬ورسله حق‪ ،‬ووعده حق‪ ،‬ووعيده حق‪ ،‬وعبادته هي الحق‪.‬‬
‫َن ما ي ْدعون ِم ْن ُدونِ ِه اْلب ِ‬
‫اط ُل } في ذاته وصفاته‪ ،‬فلوال إيجاد اللّه له لما وجد‪ ،‬ولوال إمداده لَ َما‬ ‫َ‬ ‫{ َوأ َّ َ َ ُ َ‬
‫َب ِق َي‪ ،‬فإذا كان باطال كانت عبادته أبطل وأبطل‪.‬‬
‫َن اللَّهَ ُه َو اْل َعِل ُّي } بذاته‪ ،‬فوق جميع مخلوقاته‪ ،‬الذي علت صفاته‪ ،‬أن يقاس بها صفات أحد‬ ‫{ َوأ َّ‬
‫من الخلق‪ ،‬وعال على الخلق فقهرهم { اْل َكبِ ُير } الذي له الكبرياء في ذاته وصفاته‪ ،‬وله الكبرياء‬
‫في قلوب أهل السماء واألرض‪.‬‬

‫( ‪)1/651‬‬

‫ٍ ِ‬ ‫ك تَ ْج ِري ِفي اْلَب ْح ِر بِنِ ْع َم ِة اللَّ ِه ِلُي ِرَي ُك ْم ِم ْن آََياتِ ِه ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ور (‬ ‫َّار َش ُك ٍ‬ ‫ك آَل ََيات ل ُك ِّل َ‬
‫صب ٍ‬ ‫َن اْل ُفْل َ‬‫أَلَ ْم تََر أ َّ‬
‫َّاهم ِإلَى اْلبِّر فَ ِم ْنهم م ْقتَ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫ص ٌد َو َما‬ ‫ُْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ين َفلَ َّما َنج ُ ْ‬
‫الد َ‬‫ين لَهُ ِّ‬ ‫‪َ )31‬وإِ َذا َغشَيهُ ْم َم ْو ٌج َكالظلَ ِل َد َع ُوا اللهَ ُم ْخلص َ‬
‫ور (‪)32‬‬ ‫َي ْج َح ُد بِآََياتَِنا ِإاَّل ُك ُّل َختَّ ٍار َكفُ ٍ‬

‫ك آلي ٍ‬ ‫ِِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫ات‬ ‫ك تَ ْج ِري في اْلَب ْح ِر بِن ْع َمة الله لُي ِرَي ُك ْم م ْن َآياته ِإ َّن في َذل َ َ‬ ‫{ ‪ { } 32 - 31‬أَلَ ْم تََر أ َّ‬
‫َن اْل ُفْل َ‬
‫ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اه ْم ِإلَى اْلَبِّر‬
‫ين َفلَ َّما َن َّج ُ‬ ‫ور * َوإِ َذا َغشَيهُ ْم َم ْو ٌج َكالظلَ ِل َد َع ُوا اللهَ ُم ْخلص َ‬
‫ين لَهُ ِّ‬
‫الد َ‬ ‫صَّب ٍار َش ُك ٍ‬ ‫ل ُك ِّل َ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫ص ٌد َو َما َي ْج َح ُد بِ َآياتَِنا ِإال ُك ُّل َختَّ ٍار َكفُ ٍ‬
‫فَ ِم ْنهم م ْقتَ ِ‬
‫ُْ ُ‬
‫أي‪ :‬ألم تر من آثار قدرته ورحمته‪ ،‬وعنايته بعباده‪ ،‬أن سخر البحر‪ ،‬تجري فيه الفلك‪ ،‬بأمره‬
‫القدري [ولطفه وإ حسانه‪ِ { ،‬لُي ِرَي ُك ْم ِم ْن َآياتِ ِه } ففيها االنتفاع واالعتبار] (‪. )1‬‬
‫ٍ ِ‬ ‫{ ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ور } فهم المنتفعون باآليات‪ ،‬صبار على الضراء‪ ،‬شكور على‬ ‫َّار َش ُك ٍ‬‫صب ٍ‬ ‫آليات ل ُك ِّل َ‬ ‫ك َ‬
‫السراء‪ ،‬صبار على طاعة اللّه وعن معصيته‪ ،‬وعلى أقداره‪ ،‬شكور للّه‪ ،‬على نعمه الدينية‬
‫والدنيوية‪.‬‬
‫وذكر تعالى حال الناس‪ ،‬عند ركوبهم البحر‪ ،‬وغشيان األمواج كالظل (‪ )2‬فوقهم‪ ،‬أنهم يخلصون‬
‫َّاه ْم ِإلَى اْلَبِّر } انقسموا فريقين‪:‬‬
‫الدعاء [للّه] (‪ )3‬والعبادة‪َ { :‬فلَ َّما َنج ُ‬
‫فرقة مقتصدة‪ ،‬أي‪ :‬لم تقم بشكر اللّه على وجه الكمال‪ ،‬بل هم مذنبون ظالمون ألنفسهم‪.‬‬
‫وفرقة كافرة بنعمة اللّه‪ ،‬جاحدة لها‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬و َما َي ْج َح ُد بِ َآياتَِنا ِإال ُك ُّل َختَّ ٍار } (‪ )4‬أي غدار‪،‬‬
‫ومن غدره‪ ،‬أنه عاهد ربه‪ ،‬لئن أنجيتنا من البحر وشدته‪ ،‬لنكونن من الشاكرين‪ ،‬فغدر ولم يف‬
‫بذلك‪َ { ،‬كفُور } بنعم اللّه‪ .‬فهل يليق بمن نجاهم اللّه من هذه الشدة‪ ،‬إال القيام التام بشكر نعم اللّه؟‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ب‪ :‬كالظلل‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )4‬كذا في ب‪ ،‬وزاد في أ‪ :‬قوله تعالى‪" :‬كفور"‪.‬‬

‫( ‪)1/652‬‬
‫ود ُه َو َج ٍاز َع ْن َو ِال ِد ِه َش ْيًئا‬
‫اخ َش ْوا َي ْو ًما اَل َي ْج ِزي َو ِال ٌد َع ْن َولَِد ِه َواَل َم ْولُ ٌ‬‫اس اتَّقُوا َرَّب ُك ْم َو ْ‬ ‫الن ُ‬ ‫َيا أَيُّهَا َّ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ‬
‫ور (‪)33‬‬ ‫الد ْنَيا َواَل َي ُغ َّرَّن ُك ْم بِالله اْل َغ ُر ُ‬
‫ق فَاَل تَ ُغ َّرَّن ُك ُم اْل َحَياةُ ُّ‬
‫َ‬

‫اخ َش ْوا َي ْو ًما ال َي ْج ِزي َو ِال ٌد َع ْن َولَِد ِه َوال َم ْولُ ٌ‬


‫ود ُه َو َج ٍاز َع ْن‬ ‫اس اتَّقُوا َرَّب ُك ْم َو ْ‬ ‫الن ُ‬ ‫{ ‪َ { } 33‬يا أَيُّهَا َّ‬
‫َّ ِ‬ ‫و ِال ِد ِه َش ْيًئا ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫الد ْنَيا َوال َي ُغ َّرَّن ُك ْم بِالله اْل َغ ُر ُ‬
‫ق فَال تَ ُغ َّرَّن ُك ُم اْل َحَياةُ ُّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫يأمر تعالى الناس بتقواه‪ ،‬التي هي امتثال أوامره‪ ،‬وترك زواجره‪ ،‬ويستلفتهم لخشية يوم القيامة‪،‬‬
‫اليوم الشديد‪ ،‬الذي فيه كل أحد ال يهمه إال نفسه فـ { ال َي ْج ِزي َو ِال ٌد َع ْن َولَِد ِه َوال َم ْولُ ٌ‬
‫ود ُه َو َج ٍاز‬
‫َع ْن َو ِال ِد ِه َش ْيًئا } ال يزيد في حسناته وال ينقص من سيئاته‪ ،‬قد تم على كل عبد عمله‪ ،‬وتحقق عليه‬
‫جزاؤه‪.‬‬
‫فلفت النظر في هذا لهذا اليوم المهيل‪ ،‬مما يقوي العبد ويسهِّل عليه تقوى اللّه‪ ،‬وهذا من رحمة اللّه‬
‫بالعباد‪ ،‬يأمرهم بتقواه التي فيها سعادتهم‪ ،‬ويعدهم عليها الثواب‪ ،‬ويحذرهم من العقاب‪ ،‬ويزعجهم‬
‫إليه بالمواعظ والمخوفات‪ ،‬فلك الحمد يا رب العالمين‪.‬‬
‫ق } فال تمتروا فيه‪ ،‬وال تعملوا عمل غير المصدق‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬فَال تَ ُغ َّرَّن ُك ُم‬ ‫{ ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ‬
‫َ‬
‫الد ْنَيا } بزينتها وزخارفها وما فيها من الفتن والمحن‪.‬‬ ‫اْل َحَياةُ ُّ‬
‫َّ ِ‬
‫ور } الذي هو الشيطان‪ ،‬الذي ما زال يخدع اإلنسان وال يغفل عنه في‬ ‫{ َوال َي ُغ َّرَّن ُك ْم بِالله اْل َغ ُر ُ‬
‫جميع األوقات‪ ،‬فإن للّه على عباده حقا‪ ،‬وقد وعدهم موعدا يجازيهم فيه بأعمالهم‪ ،‬وهل وفوا حقه‬
‫أم قصروا فيه‪.‬‬
‫وهذا أمر يجب االهتمام به‪ ،‬وأن يجعله العبد نصب عينيه‪ ،‬ورأس مال تجارته‪ ،‬التي يسعى إليها‪.‬‬
‫ومن أعظم العوائق عنه والقواطع دونه‪ ،‬الدنيا الفتانة‪ ،‬والشيطان [ ص ‪ ] 653‬الموسوس‬
‫اْل ُم َس ِّول‪ ،‬فنهى تعالى عباده‪ ،‬أن تغرهم الدنيا‪ ،‬أو يغرهم باللّه الغرور { َي ِع ُد ُه ْم َوُي َمِّني ِه ْم َو َما َي ِع ُد ُه ُم‬
‫َّ‬
‫ان ِإال ُغ ُر ً‬
‫ورا }‬ ‫ط ُ‬‫الش ْي َ‬

‫( ‪)1/652‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّاع ِة َوُيَنِّز ُل اْل َغ ْي َ‬ ‫َّ ِ ِ‬


‫ث َوَي ْعلَ ُم َما في اأْل َْر َح ِام َو َما تَ ْد ِري َن ْف ٌس َما َذا تَ ْكس ُ‬
‫ب َغ ًدا َو َما‬ ‫ِإ َّن اللهَ ع ْن َدهُ عْل ُم الس َ‬
‫يم َخبِ ٌير (‪)34‬‬ ‫َّ ِ‬
‫وت ِإ َّن اللهَ َعل ٌ‬ ‫ض تَ ُم ُ‬ ‫تَ ْد ِري َن ْف ٌس بِأ ِّ‬
‫َي أ َْر ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّاع ِة َوُيَنِّز ُل اْل َغ ْي َ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫األر َح ِام َو َما تَ ْد ِري َن ْف ٌس َما َذا تَ ْكس ُ‬
‫ب‬ ‫ث َوَي ْعلَ ُم َما في ْ‬ ‫{ ‪ِ { } 34‬إ َّن اللهَ ع ْن َدهُ عْل ُم الس َ‬
‫يم َخبِ ٌير } ‪.‬‬ ‫َّ ِ‬
‫وت ِإ َّن اللهَ َعل ٌ‬ ‫ض تَ ُم ُ‬ ‫َغ ًدا َو َما تَ ْد ِري َن ْف ٌس بِأ ِّ‬
‫َي أ َْر ٍ‬
‫قد تقرر أن اللّه تعالى أحاط علمه بالغيب والشهادة‪ ،‬والظواهر والبواطن‪ ،‬وقد يطلع اللّه عباده‬
‫على كثير من األمور الغيبية‪ ،‬وهذه [األمور] (‪ )1‬الخمسة‪ ،‬من األمور التي طوى علمها عن‬
‫َّ‬
‫جميع المخلوقات‪ ،‬فال يعلمها نبي مرسل‪ ،‬وال ملك مقرب‪ ،‬فضال عن غيرهما‪ ،‬فقال‪ِ { :‬إ َّن اللهَ‬
‫اها‬ ‫ك ع ِن الس ِ‬ ‫َّاع ِة } أي‪ :‬يعلم متى مرساها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ي ْسأَلُ َ‬ ‫ِ ِ‬
‫َّان ُم ْر َس َ‬‫َّاعة أَي َ‬ ‫َ‬ ‫ون َ َ‬ ‫عْن َدهُ عْل ُم الس َ‬
‫ض ال تَأْتِي ُك ْم ِإال َب ْغتَةً }‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ُق ْل ِإَّنما ِعْلمها ِعْن َد ربِّي ال يجلِّيها ِلو ْقتِها ِإال ُهو ثَُقلَ ْ ِ‬
‫ت في الس َ‬ ‫َ‬ ‫َُ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َُ‬
‫اآلية‪.‬‬
‫ث } أي‪ :‬هو المنفرد بإنزاله‪ ،‬وعلم وقت نزوله‪.‬‬ ‫{ َوُينز ُل اْل َغ ْي َ‬
‫األر َح ِام } فهو الذي أنشأ ما فيها‪ ،‬وعلم ما هو‪ ،‬هل هو ذكر أم أنثى‪ ،‬ولهذا يسأل‬ ‫ِ‬
‫{ َوَي ْعلَ ُم َما في ْ‬
‫الملك الموكل باألرحام ربه‪ :‬هل هو ذكر أم أنثى؟ فيقضي اللّه ما يشاء‪.‬‬
‫ب َغ ًدا } من كسب دينها ودنياها‪َ { ،‬و َما تَ ْد ِري َن ْف ٌس بِأ ِّ‬
‫َي أ َْر ٍ‬ ‫ِ‬
‫وت }‬
‫ض تَ ُم ُ‬ ‫{ َو َما تَ ْد ِري َن ْف ٌس َما َذا تَ ْكس ُ‬
‫بل اللّه تعالى‪ ،‬هو المختص بعلم ذلك جميعه‪.‬‬
‫يم َخبِ ٌير } محيط بالظواهر‬ ‫َّ ِ‬
‫ولما خصص هذه األشياء‪ ،‬عمم علمه بجميع األشياء فقال‪ِ { :‬إ َّن اللهَ َعل ٌ‬
‫والبواطن‪ ،‬والخفايا والخبايا‪ ،‬والسرائر‪ ،‬ومن حكمته التامة‪ ،‬أن أخفى علم هذه الخمسة عن العباد‪،‬‬
‫ألن في ذلك من المصالح ما ال يخفى على من تدبر ذلك‪.‬‬
‫تم تفسير سورة لقمان بفضل اللّه وعونه‪ ،‬والحمد للّه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ب‪.‬‬

‫( ‪)1/653‬‬

‫تفسير سورة السجدة وهي مكية‬

‫( ‪)1/653‬‬

‫ق ِم ْن َرب َ‬
‫ِّك‬ ‫ون ا ْفتََراهُ َب ْل ُهو اْل َح ُّ‬
‫َ‬ ‫ين (‪ )2‬أ َْم َيقُولُ َ‬
‫ِ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫يه ِم ْن َر ِّ‬
‫اب اَل ر ْيب ِف ِ‬ ‫ِ‬
‫الم (‪ )1‬تَْن ِزي ُل اْلكتَ ِ َ َ‬
‫ير ِم ْن قَْبِل َ َّ‬
‫اه ْم ِم ْن َن ِذ ٍ‬
‫ون (‪)3‬‬
‫ك لَ َعلهُ ْم َي ْهتَ ُد َ‬ ‫ِلتُْن ِذ َر قَ ْو ًما َما أَتَ ُ‬
‫ِ‬ ‫يه ِم ْن َر ِّ‬
‫اب ال ر ْيب ِف ِ‬ ‫ِ‬ ‫الر ْحم ِن َّ ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬
‫ين * أ َْم‬
‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫الرح ِيم الم * تَْن ِزي ُل اْلكتَ ِ َ َ‬ ‫{ ‪ { } 3 - 1‬ب ْسم الله َّ َ‬
‫ير ِم ْن قَْبِل َ َّ‬
‫اه ْم ِم ْن َن ِذ ٍ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫ك لَ َعلهُ ْم َي ْهتَ ُد َ‬ ‫ك ِلتُْن ِذ َر قَ ْو ًما َما أَتَ ُ‬
‫ق ِم ْن َرِّب َ‬
‫ون ا ْفتََراهُ َب ْل ُهو اْل َح ُّ‬
‫َ‬ ‫َيقُولُ َ‬
‫يخبر تعالى أن هذا الكتاب الكريم‪ ،‬أنه تنزيل من رب العالمين‪ ،‬الذي رباهم بنعمته‪.‬‬
‫ومن أعظم ما رباهم به‪ ،‬هذا الكتاب‪ ،‬الذي فيه كل ما يصلح أحوالهم‪ ،‬ويتمم أخالقهم‪ ،‬وأنه ال‬
‫ريب فيه‪ ،‬وال شك‪ ،‬وال امتراء‪ ،‬ومع ذلك قال المكذبون للرسول الظالمون في ذلك‪ :‬افتراه محمد‪،‬‬
‫واختلقه من عند نفسه‪ ،‬وهذا من أكبر الجراءة على إنكار كالم اللّه‪ ،‬ورمي محمد صلى اللّه عليه‬
‫وسلم‪ ،‬بأعظم الكذب‪ ،‬وقدرة الخلق على كالم مثل كالم الخالق‪.‬‬
‫رادا على من قال‪ :‬افتراه‪-:‬‬ ‫وكل واحد من هذه من األمور العظائم‪ ،‬قال اللّه ‪ً -‬‬
‫ق } الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه‪ ،‬وال من خلفه‪ ،‬تنزيل من حكيم حميد‪ِ { .‬م ْن‬ ‫{ َب ْل ُهو اْل َح ُّ‬
‫َ‬
‫ك } أي‪ :‬في حالة ضرورة وفاقة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اه ْم م ْن َنذ ٍ‬
‫ير م ْن قَْبل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َرِّب َ‬
‫ك } أنزله رحمة للعباد { لتُْنذ َر قَ ْو ًما َما أَتَ ُ‬
‫إلرسال الرسول‪ ،‬وإ نزال الكتاب‪ ،‬لعدم النذير‪ ،‬بل هم في جهلهم يعمهون‪ ،‬وفي ظلمة ضاللهم‬
‫ون } من ضاللهم‪ ،‬فيعرفون الحق فيؤثرونه‪.‬‬ ‫َّ‬
‫يترددون‪ ،‬فأنزلنا الكتاب عليك { لَ َعلهُ ْم َي ْهتَ ُد َ‬
‫وهذه األشياء التي ذكرها اللّه كلها‪ ،‬مناقضة لتكذيبهم له‪ :‬وإ نها تقتضي منهم اإليمان والتصديق‬
‫ق } والحق مقبول على كل حال‪ ،‬وأنه { ال‬ ‫ين } وأنه { اْل َح ُّ‬ ‫ِ‬ ‫التام به‪ ،‬وهو كونه { ِم ْن َر ِّ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬
‫ر ْيب ِف ِ‬
‫يه } بوجه من الوجوه‪ ،‬فليس فيه‪ ،‬ما يوجب الريبة‪ ،‬ال بخبر ال يطابق للواقع (‪ )1‬وال بخفاء‬ ‫َ َ‬
‫واشتباه معانيه‪ ،‬وأنهم في ضرورة وحاجة إلى الرسالة‪ ،‬وأن فيه الهداية لكل خير وإ حسان‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬بخبر غير مطابق للواقع‪.‬‬

‫( ‪)1/653‬‬

‫ش َما لَ ُك ْم ِم ْن ُدونِ ِه‬


‫استَوى َعلَى اْل َع ْر ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ ٍ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما في ستة أَيَّام ثَُّم ْ َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َواأْل َْر َ‬ ‫ق الس َ‬ ‫اللَّهُ الَِّذي َخلَ َ‬
‫ِِ‬ ‫يع أَفَاَل تَتَ َذ َّكرون (‪ )4‬ي َدبِّر اأْل َمر ِمن السَّم ِ‬ ‫ِم ْن َوِل ٍّي َواَل َش ِف ٍ‬
‫ض ثَُّم َي ْع ُر ُج ِإلَْيه في َي ْوٍم َك َ‬
‫ان‬ ‫اء ِإلَى اأْل َْر ِ‬ ‫ُ ُ َْ َ َ‬ ‫ُ َ‬
‫يم (‪ )6‬الَِّذي أ ْ‬
‫َح َس َن ُك َّل‬ ‫اد ِة اْلع ِز ُيز َّ ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫الشهَ َ َ‬ ‫ك َع ِالم اْل َغ ْي ِب و َّ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ون (‪َ )5‬ذل َ ُ‬
‫ِم ْق َداره أَْل َ ٍ ِ‬
‫ف َسَنة م َّما تَ ُع ُّد َ‬ ‫ُُ‬
‫اء َم ِه ٍ‬‫ين (‪ )7‬ثَُّم جع َل َنسلَه ِم ْن ساَل لَ ٍة ِم ْن م ٍ‬ ‫ان ِم ْن ِط ٍ‬ ‫ق اإْلِ ْن َس ِ‬‫َش ْي ٍء َخلَقَهُ َوَب َدأَ َخْل َ‬
‫ين (‪ )8‬ثَُّم َس َّواهُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ ْ ُ‬
‫ون (‪)9‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫ص َار َواأْل َ ْفئ َدةَ َقلياًل َما تَ ْش ُك ُر َ‬
‫َّم َع َواأْل َْب َ‬
‫َوَنفَ َخ فيه م ْن ُروحه َو َج َع َل لَ ُك ُم الس ْ‬

‫استَوى َعلَى اْل َع ْر ِ‬


‫ش‬ ‫ِ ِ َّ ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 9 - 4‬اللَّهُ الَِّذي َخلَ َ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما في ستة أَيَّام ثَُّم ْ َ‬
‫األر َ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ق الس َ‬
‫يع أَفَال تَتَ َذ َّكرون * ي َدبِّر األمر ِمن الس ِ‬‫َما لَ ُك ْم ِم ْن ُدونِ ِه ِم ْن َوِل ٍّي َوال َش ِف ٍ‬
‫ض ثَُّم َي ْع ُر ُج‬ ‫َّماء ِإلَى ْ‬
‫األر ِ‬ ‫ُ َ ُ ُ َْ َ َ‬
‫يم * الَِّذي‬ ‫اد ِة اْلع ِز ُيز َّ ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫الشهَ َ َ‬ ‫ك َع ِالم اْل َغ ْي ِب و َّ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ون * َذل َ ُ‬
‫ِإلَْي ِه ِفي يوٍم َكان ِم ْق َداره أَْل َ ٍ ِ‬
‫ف َسَنة م َّما تَ ُع ُّد َ‬ ‫ُُ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫ين * ثَُّم‬ ‫ين * ثَُّم جع َل َنسلَه ِم ْن ساللَ ٍة ِم ْن م ٍ‬
‫اء َم ِه ٍ‬ ‫ان ِم ْن ِط ٍ‬ ‫اإلن َس ِ‬
‫ق ْ‬ ‫َح َس َن ُك َّل َش ْي ٍء َخلَقَهُ َوَب َدأَ َخْل َ‬
‫أْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ ْ ُ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫ص َار َواأل ْفئ َدةَ َقليال َما تَ ْش ُك ُر َ‬
‫األب َ‬
‫َّم َع َو ْ‬
‫َس َّواهُ َوَنفَ َخ فيه م ْن ُروحه َو َج َع َل لَ ُك ُم الس ْ‬
‫َّام } أولها‪ ،‬يوم‬‫ض وما َب ْيَنهما ِفي ِستَّ ِة أَي ٍ‬ ‫ِ‬
‫األر َ َ َ ُ َ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬
‫يخبر تعالى عن كمال قدرته بخلق { الس َ‬
‫األحد‪ ،‬وآخرها الجمعة‪ ،‬مع قدرته على خلقها بلحظة‪ ،‬ولكنه تعالى رفيق حكيم‪.‬‬
‫ش } الذي هو سقف المخلوقات‪ ،‬استواء يليق بجالله‪.‬‬ ‫استَوى َعلَى اْل َع ْر ِ‬
‫{ ثَُّم ْ َ‬
‫{ َما لَ ُك ْم ِم ْن ُدونِ ِه ِم ْن َوِل ٍّي } يتوالكم‪ ،‬في أموركم‪ ،‬فينفعكم { َوال َش ِفيع } يشفع لكم‪ ،‬إن توجه‬
‫عليكم العقاب‪ [ .‬ص ‪] 654‬‬
‫ون } فتعلمون أن خالق األرض والسماوات‪ ،‬المستوي على العرش العظيم‪ ،‬الذي‬ ‫{ أَفَال تَتَ َذ َّك ُر َ‬
‫انفرد بتدبيركم‪ ،‬وتوليكم‪ ،‬وله الشفاعة كلها‪ ،‬هو المستحق لجميع أنواع العبادة‪.‬‬
‫األم َر } القدري واألمر الشرعي‪ ،‬الجميع هو المتفرد بتدبيره‪ ،‬نازلة تلك التدابير من عند‬ ‫{ ُي َدب ُِّر ْ‬
‫ض } فَيس ِع ُد بها وي ْش ِقي‪ ،‬وي ْغنِي وي ْف ِقر‪ ،‬وي ِع ُّز‪ِ ،‬‬ ‫المليك القدير { ِمن الس ِ‬
‫ويذ ُّل‪ُ ،‬‬
‫وي ِ‬
‫كر ُم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫األر ِ ُ ْ‬‫َّماء ِإلَى ْ‬
‫َ َ‬
‫وينزل األرزاق‪.‬‬‫أقواما‪ ،‬ويضع آخرين‪ُ ،‬‬
‫ين‪ ،‬ويرفع ً‬ ‫وي ِه ُ‬ ‫ُ‬
‫ف َسَن ٍة ِم َّما‬‫ان ِم ْق َد ُارهُ أَْل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ ثَُّم َي ْع ُر ُج ِإلَْيه } أي‪ :‬األمر ينزل من عنده‪ ،‬ويعرج إليه { في َي ْوٍم َك َ‬
‫ون } وهو يعرج إليه‪ ،‬ويصله في لحظة‪.‬‬ ‫تَ ُع ُّد َ‬
‫ك } الذي خلق تلك المخلوقات العظيمة‪ ،‬الذي استوى على العرش العظيم‪ ،‬وانفرد بالتدابير‬ ‫{ َذِل َ‬
‫يم } فبسعة علمه‪ ،‬وكمال عزته‪ ،‬وعموم رحمته‪،‬‬ ‫اد ِة اْلع ِز ُيز َّ ِ‬ ‫في المملكة‪َ { ،‬ع ِالم اْل َغ ْي ِب و َّ‬
‫الرح ُ‬ ‫الشهَ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫أوجدها‪ ،‬وأودع فيها‪ ،‬من المنافع ما أودع‪ ،‬ولم يعسر عليه تدبيرها‪.‬‬
‫َح َس َن ُك َّل َش ْي ٍء َخلَقَهُ } أي‪ :‬كل مخلوق خلقه اللّه‪ ،‬فإن اللّه أحسن خلقه‪ ،‬وخلقه خلقًا يليق‬ ‫{ الَِّذي أ ْ‬
‫به‪ ،‬ويوافقه‪ ،‬فهذا عام‪.‬‬
‫ين } وذلك بخلق آدم عليه السالم‪،‬‬ ‫ان ِم ْن ِط ٍ‬
‫اإلن َس ِ‬
‫ق ْ‬ ‫ثم خص اآلدمي لشرفه وفضله فقال‪َ { :‬وَب َدأَ َخْل َ‬
‫أبي البشر‪.‬‬
‫ين } وهو النطفة المستقذرة الضعيفة‪.‬‬ ‫{ ثَُّم جع َل َنسلَه } أي‪ :‬ذرية آدم ناشئة { ِم ْن م ٍ‬
‫اء َم ِه ٍ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ ُ‬
‫{ ثَُّم َس َّواهُ } بلحمه‪ ،‬وأعضائه‪ ،‬وأعصابه‪ ،‬وعروقه‪ ،‬وأحسن خلقته‪ ،‬ووضع كل عضو منه‪،‬‬
‫وح ِه } بأن أرسل إليه الملك‪ ،‬فينفخ فيه الروح‪،‬‬ ‫يه ِم ْن ر ِ‬
‫ُ‬
‫بالمحل الذي ال يليق به غيره‪ { ،‬وَنفَ َخ ِف ِ‬
‫َ‬
‫فيعود‬
‫جمادا‪.‬‬
‫بإذن اللّه‪ ،‬حيوانا‪ ،‬بعد أن كان ً‬
‫شيئا فشيئا‪ ،‬حتى أعطاكم السمع‬
‫ص َار } أي‪ :‬ما زال يعطيكم من المنافع ً‬ ‫األب َ‬
‫َّم َع َو ْ‬ ‫{ َو َج َع َل لَ ُك ُم الس ْ‬
‫ون } الذي خلقكم وصوركم‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫واألبصار { َواأل ْفئ َدةَ َقليال َما تَ ْش ُك ُر َ‬
‫( ‪)1/653‬‬

‫ون (‪ُ )10‬ق ْل َيتََوفَّا ُك ْم َملَ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ض أَئَِّنا لَِفي َخْل ٍ ِ ٍ‬ ‫ضلَْلَنا ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫ق َجديد َب ْل ُه ْم بِلقَاء َرِّب ِه ْم َكاف ُر َ‬ ‫َوقَالُوا أَئ َذا َ‬
‫ِ َِّ‬
‫ون (‪)11‬‬ ‫اْل َم ْوت الذي ُو ِّك َل بِ ُك ْم ثَُّم ِإلَى َرِّب ُك ْم تُْر َج ُع َ‬

‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ض أَئَِّنا لَِفي َخْل ٍ ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ق َجديد َب ْل ُه ْم بِلقَاء َرِّب ِه ْم َكاف ُر َ‬
‫ون *‬ ‫األر ِ‬
‫ضلَْلَنا في ْ‬ ‫{ ‪َ { } 11 - 10‬وقَالُوا أَئ َذا َ‬
‫ِ َِّ‬
‫ك اْل َم ْوت الذي ُو ِّك َل بِ ُك ْم ثَُّم ِإلَى َرِّب ُك ْم تُْر َج ُع َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ُق ْل َيتََوفَّا ُك ْم َملَ ُ‬
‫ض } أي‪َ :‬بِل َينا وتمزقنا‪،‬‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫ضلَْلَنا في ْ‬
‫ِ‬
‫أي‪ :‬قال المكذبون بالبعث على وجه االستبعاد‪ { :‬أَئ َذا َ‬
‫وتفرقنا في المواضع التي ال تُ ْعلَ ُم‪.‬‬
‫ق َج ِد ٍيد } أي‪ :‬لمبعوثون بعثًا ً‬
‫جديدا بزعمهم أن هذا من أبعد األشياء‪ ،‬وذلك لقياسهم‬ ‫{ أَئَِّنا لَِفي َخْل ٍ‬
‫قدرة الخالق‪ ،‬بقدرهم‪.‬‬
‫وكالمهم هذا‪ ،‬ليس لطلب الحقيقة‪ ،‬وإ نما هو ظلم‪ ،‬وعناد‪ ،‬وكفر بلقاء ربهم وجحد‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫اء َرِّب ِه ْم َك ِاف ُرون } فكالمهم علم (‪ )1‬مصدره وغايته‪ ،‬وإ ال فلو كان قصدهم بيان الحق‪،‬‬
‫{ ب ْل ُهم بِِلقَ ِ‬
‫َ ْ‬
‫َّن لهم من األدلة القاطعة على ذلك‪ ،‬ما يجعله مشاهداً للبصيرة‪ ،‬بمنزلة الشمس للبصر‪.‬‬ ‫لََبي َ‬
‫ويكفيهم‪ ،‬أنهم معهم علم أنهم قد ابتدئوا من العدم‪ ،‬فاإلعادة أسهل من االبتداء‪ ،‬وكذلك األرض‬
‫الميتة‪ ،‬ينزل اللّه عليها المطر‪ ،‬فتحيا بعد موتها‪ ،‬وينبت به متفرق بذورها‪.‬‬
‫ك اْل َم ْو ِت الَِّذي ُو ِّك َل بِ ُك ْم } أي‪ :‬جعله اللّه وكيال على قبض األرواح‪ ،‬وله أعوان‪.‬‬
‫{ ُق ْل َيتََوفَّا ُك ْم َملَ ُ‬
‫ون } فيجازيكم بأعمالكم‪ ،‬وقد أنكرتم البعث‪ ،‬فانظروا ماذا يفعل اللّه بكم‪.‬‬ ‫{ ثَُّم ِإلَى َرِّب ُك ْم تُْر َج ُع َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في‪ :‬ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬ظلم‪ ،‬ولعل الصواب ما أثبته‪.‬‬

‫( ‪)1/654‬‬

‫ص ِال ًحا ِإَّنا‬ ‫ِ‬


‫ص ْرَنا َو َسم ْعَنا فَ ْار ِج ْعَنا َن ْع َم ْل َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون َناك ُسو ُر ُءوس ِه ْم ع ْن َد َرِّب ِه ْم َربََّنا أ َْب َ‬
‫ِ‬
‫َولَ ْو تََرى ِإذ اْل ُم ْج ِر ُم َ‬
‫الن ِ‬
‫اس‬ ‫َن َجهََّن َم ِم َن اْل ِجَّن ِة َو َّ‬‫ق اْلقَ ْو ُل ِمِّني أَل َْمأَل َّ‬
‫اها ولَ ِك ْن َح َّ‬ ‫َّ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪َ )12‬ولَ ْو ش ْئَنا آَل َتَْيَنا ُكل َن ْفس ُه َد َ َ‬ ‫ُمو ِقُن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫أْ ِ‬
‫ون (‬ ‫اب اْل ُخْلد بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫اء َي ْو ِم ُك ْم َه َذا ِإَّنا َنس َينا ُك ْم َو ُذوقُوا َع َذ َ‬ ‫ين (‪ )13‬فَ ُذوقُوا بِ َما َنسيتُ ْم لقَ َ‬ ‫َج َمع َ‬
‫‪)14‬‬
‫ص ْرَنا َو َس ِم ْعَنا فَ ْار ِج ْعَنا‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون َناك ُسو ُر ُءوس ِه ْم عْن َد َرِّب ِه ْم َربََّنا أ َْب َ‬
‫ِ‬
‫{ ‪َ { } 14 - 12‬ولَ ْو تََرى ِإذ اْل ُم ْج ِر ُم َ‬
‫ألن َجهََّن َم ِم َن‬ ‫ألم َّ‬ ‫ِ‬
‫ق اْلقَ ْو ُل مِّني ْ‬ ‫اها ولَ ِك ْن َح َّ‬ ‫َّ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ون * َولَ ْو ش ْئَنا آلتَْيَنا ُكل َن ْفس ُه َد َ َ‬
‫َنعم ْل ِ‬
‫صال ًحا ِإَّنا ُمو ِقُن َ‬‫َْ َ‬
‫اب اْل ُخْل ِد بِ َما ُك ْنتُ ْم‬ ‫ِ‬
‫اء َي ْو ِم ُك ْم َه َذا ِإَّنا َنس َينا ُك ْم َو ُذوقُوا َع َذ َ‬
‫ِ ِ‬
‫ين * فَ ُذوقُوا بِ َما َنسيتُ ْم لقَ َ‬
‫اس أ ْ ِ‬
‫َج َمع َ‬ ‫الن ِ‬‫اْل ِجَّن ِة َو َّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫تَ ْع َملُ َ‬
‫لما ذكر تعالى رجوعهم إليه يوم القيامة‪ ،‬ذكر حالهم في مقامهم بين [يديه] (‪ )1‬فقال‪َ { :‬ولَ ْو تََرى‬
‫وس ِه ْم ِعْن َد َرِّب ِه ْم } خاشعين‬
‫اكسو رء ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } الذين أصروا على الذنوب العظيمة‪َ { ،‬ن ُ ُ ُ‬
‫ِ‬
‫ِإذ اْل ُم ْج ِر ُم َ‬
‫ص ْرَنا َو َس ِم ْعَنا } أي‪ :‬بان لنا‬ ‫خاضعين أذالء‪ ،‬مقرين بجرمهم‪ ،‬سائلين الرجعة قائلين‪َ { :‬ربََّنا أ َْب َ‬
‫عيانا‪ ،‬فصار عين يقين‪.‬‬ ‫األمر‪ ،‬ورأيناه ً‬
‫{ فَار ِجعَنا َنعم ْل ِ‬
‫صال ًحا ِإَّنا ُمو ِقُن َ‬
‫ون } أي‪ :‬صار عندنا اآلن‪ ،‬يقين بما [كنا] (‪ )2‬نكذب به‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫ْ ْ َْ َ‬
‫وأقواما خاسرين‪ ،‬وسؤال غير مجاب‪ ،‬ألنه قد مضى وقت‬‫ً‬ ‫فظيعا‪ ،‬وحاال مزعجة‪،‬‬ ‫لرأيت أمرا ً‬
‫اإلمهال‪.‬‬
‫وكل هذا بقضاء اللّه وقدره‪ ،‬حيث خلى بينهم وبين الكفر والمعاصي‪ ،‬فلهذا قال‪َ { :‬ولَ ْو ِش ْئَنا آلتَْيَنا‬
‫اها } أي‪ :‬لهدينا الناس كلهم‪ ،‬وجمعناهم على الهدى‪ ،‬فمشيئتنا صالحة لذلك‪ ،‬ولكن‬ ‫ُك َّل َن ْف ٍ‬
‫س ُه َد َ‬
‫ق اْلقَ ْو ُل ِمِّني } أي‪ :‬وجب‪ ،‬وثبت‬
‫الحكمة‪ ،‬تأبى أن يكونوا كلهم على الهدى‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬ولَ ِك ْن َح َّ‬
‫َ‬
‫[ ص ‪ ] 655‬ثبوتًا ال تغير فيه‪.‬‬
‫ين } فهذا الوعد‪ ،‬ال بد منه‪ ،‬وال محيد عنه‪ ،‬فال بد من‬ ‫اس أ ْ ِ‬ ‫ألن َجهََّن َم ِم َن اْل ِجَّن ِة َو َّ‬
‫الن ِ‬ ‫ألم َّ‬
‫َج َمع َ‬ ‫{ ْ‬
‫تقرير أسبابه من الكفر والمعاصي‪.‬‬
‫اء َي ْو ِم ُك ْم َه َذا } أي‪ :‬يقال للمجرمين‪ ،‬الذين ملكهم الذل‪ ،‬وسألوا الرجعة إلى‬ ‫ِ ِ‬
‫{ فَ ُذوقُوا بِ َما َنسيتُ ْم لقَ َ‬
‫الدنيا‪ ،‬ليستدركوا ما فاتهم‪ ،‬قد فات وقت الرجوع ولم يبق إال العذاب‪ ،‬فذوقوا العذاب األليم‪ ،‬بما‬
‫نسيتم لقاء يومكم هذا‪ ،‬وهذا النسيان نسيان ترك‪ ،‬أي‪ :‬بما أعرضتم عنه‪ ،‬وتركتم العمل له‪ ،‬وكأنكم‬
‫غير قادمين عليه‪ ،‬وال مالقيه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ ِإَّنا َنس َينا ُك ْم } أي‪ :‬تركناكم بالعذاب‪ ،‬جزاء من جنس عملكم‪ ،‬فكما َنسيتُ ْم ُنسيتُ ْم‪َ { ،‬و ُذوقُوا َع َذ َ‬
‫اب‬
‫اْل ُخْل ِد } أي‪ :‬العذاب غير المنقطع‪ ،‬فإن العذاب إذا كان له أجل وغاية‪ ،‬كان فيه بعض التنفيس‬
‫والتخفيف‪ ،‬وأما عذاب جهنم ‪ -‬أعاذنا اللّه منه ‪ -‬فليس فيه روح راحة‪ ،‬وال انقطاع لعذابهم فيها‪.‬‬
‫{ بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫ون } من الكفر والفسوق والمعاصي‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/654‬‬
‫ِ‬ ‫ين ِإ َذا ُذ ِّك ُروا بِهَا َخ ُّروا ُسج ً‬ ‫ِ َِّ‬
‫ون (‪)15‬‬ ‫َّحوا بِ َح ْمد َرِّب ِه ْم َو ُه ْم اَل َي ْستَ ْكبِ ُر َ‬
‫َّدا َو َسب ُ‬ ‫ِإَّن َما ُي ْؤ ِم ُن بِآََياتَنا الذ َ‬
‫طمعا و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ‬
‫ون (‪ )16‬فَاَل تَ ْعلَ ُم‬ ‫اه ْم ُي ْنفقُ َ‬ ‫ون َربَّهُ ْم َخ ْوفًا َو َ َ ً َ َ‬ ‫ضا ِج ِع َي ْد ُع َ‬
‫وبهُ ْم َع ِن اْل َم َ‬ ‫تَتَ َجافَى ُجُن ُ‬
‫ون (‪)17‬‬ ‫اء بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬ ‫ُخ ِف َي لَهُ ْم ِم ْن قَُّر ِة أ ْ‬
‫َعُي ٍن َج َز ً‬ ‫َن ْف ٌس َما أ ْ‬

‫َّحوا بِ َح ْم ِد َرِّب ِه ْم َو ُه ْم ال‬ ‫ين ِإ َذا ُذ ِّك ُروا بِهَا َخ ُّروا ُسج ً‬
‫َّدا َو َسب ُ‬
‫ِ َِّ‬
‫{ ‪ِ { } 17 - 15‬إَّن َما ُي ْؤ ِم ُن بِ َآياتَنا الذ َ‬
‫طمعا و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ‬ ‫ض ِ‬
‫ون *‬
‫اه ْم ُي ْنفقُ َ‬ ‫ون َربَّهُ ْم َخ ْوفًا َو َ َ ً َ َ‬ ‫اج ِع َي ْد ُع َ‬ ‫وبهُ ْم َع ِن اْل َم َ‬‫ون * تَتَ َجافَى ُجُن ُ‬ ‫َي ْستَ ْكبِ ُر َ‬
‫ون } ‪.‬‬‫اء بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬ ‫ُخ ِف َي لَهُ ْم ِم ْن قَُّر ِة أ ْ‬
‫َعُي ٍن َج َز ً‬ ‫فَال تَ ْعلَ ُم َن ْف ٌس َما أ ْ‬
‫لما ذكر تعالى الكافرين بآياته‪ ،‬وما أعد لهم من العذاب‪ ،‬ذكر المؤمنين بها‪ ،‬ووصفهم‪ ،‬وما أعد‬
‫حقيقيا‪ ،‬من يوجد منه شواهد اإليمان‪،‬‬
‫ً‬ ‫لهم من الثواب‪ ،‬فقال‪ِ { :‬إَّن َما ُي ْؤ ِم ُن بِ َآياتَِنا } [أي] (‪ً )1‬‬
‫إيمانا‬
‫ين ِإ َذا ُذ ِّك ُروا } بآيات ربهم فتليت عليهم آيات القرآن‪ ،‬وأتتهم النصائح على أيدي رسل‬ ‫َِّ‬
‫وهم‪ { :‬الذ َ‬
‫َّدا } أي‪ :‬خاضعين لها‪ ،‬خضوع‬ ‫ود ُعوا إلى التذكر‪ ،‬سمعوها فقبلوها‪ ،‬وانقادوا‪ ،‬و { َخ ُّروا ُسج ً‬ ‫اللّه‪ُ ،‬‬
‫ذكر للّه‪ ،‬وفرح بمعرفته‪.‬‬
‫ِ‬
‫ون } ال بقلوبهم‪ ،‬وال بأبدانهم‪ ،‬فيمتنعون من االنقياد لها‪ ،‬بل‬ ‫َّحوا بِ َح ْمد َرِّب ِه ْم َو ُه ْم ال َي ْستَ ْكبِ ُر َ‬
‫{ َو َسب ُ‬
‫متواضعون لها‪ ،‬قد تلقوها بالقبول‪ ،‬والتسليم‪ ،‬وقابلوها باالنشراح والتسليم‪ ،‬وتوصلوا بها إلى‬
‫مرضاة الرب الرحيم‪ ،‬واهتدوا بها إلى الصراط المستقيم‪.‬‬
‫ضا ِج ِع } أي‪ :‬ترتفع جنوبهم‪ ،‬وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة‪ ،‬إلى ما هو‬
‫وبهُ ْم َع ِن اْل َم َ‬
‫{ تَتَ َجافَى ُجُن ُ‬
‫ألذ عندهم منه وأحب إليهم‪ ،‬وهو الصالة في الليل‪ ،‬ومناجاة اللّه تعالى‪.‬‬
‫ون َربَّهُ ْم } أي‪ :‬في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية‪ ،‬ودفع مضارهما‪َ { .‬خ ْوفًا‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬ي ْد ُع َ‬
‫وطمعا في قبولها‪ ،‬خوفًا من عذاب‬
‫ً‬ ‫ط َم ًعا } أي‪ :‬جامعين بين الوصفين‪ ،‬خوفًا أن ترد أعمالهم‪،‬‬ ‫َو َ‬
‫وطمعا في ثوابه‪.‬‬
‫ً‬ ‫اللّه‪،‬‬
‫ِ‬
‫ون } ولم يذكر قيد النفقة‪ ،‬وال المنفق‬
‫كثيرا { ُي ْنفقُ َ‬ ‫{ َو ِم َّما َر َز ْقَن ُ‬
‫اه ْم } من الرزق‪ ،‬قليال كان أو ً‬
‫عليه‪ ،‬ليدل على العموم‪ ،‬فإنه يدخل فيه‪ ،‬النفقة الواجبة‪ ،‬كالزكوات‪ ،‬والكفارات‪ ،‬ونفقة الزوجات‬
‫واألقارب‪ ،‬والنفقة المستحبة في وجوه الخير‪ ،‬والنفقة واإلحسان المالي‪ ،‬خير مطلقًا‪ ،‬سواء وافق‬
‫بعيدا‪ ،‬ولكن األجر يتفاوت‪ ،‬بتفاوت النفع‪ ،‬فهذا عملهم‪.‬‬
‫قريبا أو ً‬
‫فقيرا‪ً ،‬‬
‫غنيا أو ً‬
‫ً‬
‫وأما جزاؤهم‪ ،‬فقال‪ { :‬فَال تَ ْعلَ ُم َن ْف ٌس } يدخل فيه جميع نفوس الخلق‪ ،‬لكونها نكرة في سياق النفي‪.‬‬
‫ُخ ِف َي لَهُ ْم ِم ْن قَُّر ِة أ ْ‬
‫َعُي ٍن } من الخير الكثير‪ ،‬والنعيم الغزير‪ ،‬والفرح‬ ‫أي‪ :‬فال يعلم أحد { َما أ ْ‬
‫والسرور‪ ،‬واللذة والحبور‪ ،‬كما قال تعالى على لسان رسوله‪" :‬أعددت لعبادي الصالحين‪ ،‬ما ال‬
‫عين رأت‪ ،‬وال أذن سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب بشر"‬
‫فكما صلوا في الليل‪ ،‬ودعوا‪ ،‬وأخفوا العمل‪ ،‬جازاهم من جنس عملهم‪ ،‬فأخفى أجرهم‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫اء بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫ون }‬ ‫{ َج َز ً‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/655‬‬

‫َّالح ِ‬
‫ات َفلَهُ ْم َجَّن ُ‬
‫ات‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اسقًا اَل يستَوون (‪ )18‬أ َّ َِّ‬ ‫أَفَم ْن َكان مؤ ِمًنا َكم ْن َكان فَ ِ‬
‫َمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين آ َ‬
‫َما الذ َ‬ ‫َُْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َ‬
‫َن َي ْخ ُر ُجوا ِم ْنهَا‬ ‫الن ُار ُكلَّ َما أ ََر ُ‬
‫ادوا أ ْ‬ ‫اه ُم َّ‬
‫ين فَ َسقُوا فَ َمأ َْو ُ‬ ‫اْلمأْوى ُن ُزاًل بِما َك ُانوا يعملُون (‪ )19‬وأ َّ َِّ‬
‫َما الذ َ‬ ‫َ‬ ‫ََْ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ِ ِّ‬ ‫يل لَهم ُذوقُوا ع َذاب َّ َِّ‬ ‫ُع ُ ِ‬‫أِ‬
‫ون (‪)20‬‬ ‫الن ِار الذي ُك ْنتُ ْم بِه تُ َكذُب َ‬ ‫َ َ‬ ‫يدوا فيهَا َو ِق َ ُ ْ‬

‫آمُنوا َو َع ِملُوا‬ ‫ين َ‬


‫اسقًا ال يستَوون * أ َّ َِّ‬
‫َما الذ َ‬ ‫َُْ َ‬
‫{ ‪ { } 20 - 18‬أَفَم ْن َكان مؤ ِمًنا َكم ْن َكان فَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َ‬
‫الن ُار ُكلَّ َما‬
‫اه ُم َّ‬‫ين فَ َسقُوا فَ َمأ َْو ُ‬ ‫ات اْلمأْوى ُن ُزال بِما َك ُانوا يعملُون * وأ َّ َِّ‬
‫َما الذ َ‬ ‫ََْ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ ِ‬
‫الصَّال َحات َفلَهُ ْم َجَّن ُ َ َ‬
‫ِ ِّ‬ ‫يل لَهم ُذوقُوا ع َذاب َّ َِّ‬ ‫ُع ُ ِ‬ ‫َن ي ْخرجوا ِم ْنها أ ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫الن ِار الذي ُك ْنتُ ْم بِه تُ َكذُب َ‬ ‫َ َ‬ ‫يدوا فيهَا َو ِق َ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ادوا أ ْ َ ُ ُ‬‫أ ََر ُ‬
‫ينبه تعالى‪ ،‬العقول على ما تقرر فيها‪ ،‬من عدم تساوي المتفاوتين المتباينين‪ ،‬وأن حكمته تقتضي‬
‫ان ُم ْؤ ِمًنا } قد عمر قلبه باإليمان‪ ،‬وانقادت جوارحه لشرائعه‪،‬‬
‫عدم تساويهما فقال‪ { :‬أَفَ َم ْن َك َ‬
‫واقتضى إيمانه آثاره وموجباته‪ ،‬من ترك مساخط اللّه‪ ،‬التي (‪ )1‬يضر وجودها باإليمان‪.‬‬
‫اسقًا } قد خرب قلبه‪ ،‬وتعطل من اإليمان‪ ،‬فلم يكن فيه وازع ديني‪ ،‬فأسرعت‬ ‫{ َكم ْن َكان فَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫جوارحه بموجبات الجهل والظلم‪ ،‬من كل إثم ومعصية‪ ،‬وخرج بفسقه عن طاعة اهلل‪.‬‬
‫أفيستوي هذان الشخصان؟‪.‬‬
‫وشرعا‪ ،‬كما ال يستوي الليل والنهار‪ ،‬والضياء والظلمة‪ ،‬وكذلك ال يستوي‬ ‫ً‬ ‫ون } عقال‬ ‫{ ال َي ْستَُو َ‬
‫ثوابهما في اآلخرة‪.‬‬
‫َّالح ِ‬
‫ات } [ ص ‪ ] 656‬من فروض ونوافل { َفلَهُ ْم َجَّن ُ‬
‫ات اْل َمأ َْوى }‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ أ َّ َِّ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬
‫ين َ‬
‫َما الذ َ‬
‫أي‪ :‬الجنات التي هي مأوى اللذات‪ ،‬ومعدن الخيرات‪ ،‬ومحل األفراح‪ ،‬ونعيم القلوب‪ ،‬والنفوس‪،‬‬
‫واألرواح‪ ،‬ومحل الخلود‪ ،‬وجوار الملك المعبود‪ ،‬والتمتع بقربه‪ ،‬والنظر إلى وجهه‪ ،‬وسماع‬
‫خطابه‪.‬‬
‫{ نزال } لهم أي‪ :‬ضيافة‪ ،‬و ِق ًرى { بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫ون } فأعمالهم التي تفضل اللّه بها عليهم‪ ،‬هي‬
‫التي أوصلتهم لتلك المنازل الغالية العالية‪ ،‬التي ال يمكن التوصل إليها ببذل األموال‪ ،‬وال بالجنود‬
‫والخدم‪ ،‬وال باألوالد‪ ،‬بل وال بالنفوس واألرواح‪ ،‬وال يتقرب إليها بشيء‬
‫أصال سوى اإليمان والعمل الصالح‪.‬‬
‫الن ُار } أي‪ :‬مقرهم ومحل خلودهم‪ ،‬النار التي جمعت كل عذاب‬ ‫اه ُم َّ‬ ‫{ وأ َّ َِّ‬
‫ين فَ َسقُوا فَ َمأ َْو ُ‬
‫َما الذ َ‬ ‫َ‬
‫وشقاء‪ ،‬وال ُيفَتَُّر عنهم العقاب ساعة‪.‬‬
‫يدوا ِفيهَا } فكلما حدثتهم إرادتهم بالخروج‪ ،‬لبلوغ العذاب منهم‬ ‫َن ي ْخرجوا ِم ْنها أ ِ‬
‫ُع ُ‬ ‫َ‬ ‫ادوا أ ْ َ ُ ُ‬ ‫{ ُكلَّ َما أ ََر ُ‬
‫كل مبلغ‪ ،‬ردوا إليها‪ ،‬فذهب عنهم روح ذلك الفرج‪ ،‬واشتد عليهم الكرب‪.‬‬
‫ِ ِّ‬ ‫{ و ِقي َل لَهم ُذوقُوا ع َذاب َّ َِّ‬
‫الن ِار الذي ُك ْنتُ ْم بِه تُ َكذُب َ‬
‫ون } فهذا عذاب النار‪ ،‬الذي يكون فيه مقرهم‬ ‫َ َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫ومأواهم‪ ،‬وأما العذاب الذي قبل ذلك‪ ،‬ومقدمة له وهو عذاب البرزخ‪ ،‬فقد ذكر بقوله‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب وفي أ‪ :‬الذي‪.‬‬

‫( ‪)1/655‬‬

‫َّ‬ ‫ولَُن ِذيقََّنهم ِم َن اْل َع َذ ِ‬


‫اب اأْل َ ْكَب ِر لَ َعلهُ ْم َي ْر ِج ُع َ‬
‫ون (‪)21‬‬ ‫ون اْل َع َذ ِ‬
‫اب اأْل َْدَنى ُد َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬

‫َّ‬ ‫{ ‪ { } 21‬ولَُن ِذيقََّنهم ِم َن اْل َع َذ ِ‬


‫اب األ ْكَب ِر لَ َعلهُ ْم َي ْر ِج ُع َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ون اْل َع َذ ِ‬
‫األدَنى ُد َ‬
‫اب ْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫نموذجا من العذاب األدنى‪ ،‬وهو عذاب البرزخ‪ ،‬فنذيقهم طرفًا‬ ‫ً‬ ‫أي‪ :‬ولنذيقن الفاسقين المكذبين‪،‬‬
‫منه‪ ،‬قبل أن يموتوا‪ ،‬إما بعذاب بالقتل ونحوه‪ ،‬كما جرى ألهل بدر من المشركين‪ ،‬وإ ما عند‬
‫اسطُو أ َْي ِدي ِه ْم‬ ‫الموت‪ ،‬كما في قوله تعالى { ولَو تَرى ِإ ِذ الظَّ ِالمون ِفي َغمر ِ‬
‫ات اْلمو ِت واْلمالئِ َكةُ ب ِ‬
‫َ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫ََ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫ون } ثم يكمل لهم العذاب األدنى في برزخهم‪.‬‬ ‫اب اْلهُ ِ‬‫َخ ِر ُجوا أ َْنفُ َس ُك ُم اْلَي ْو َم تُ ْج َز ْو َن َع َذ َ‬
‫أْ‬
‫وهذه اآلية من األدلة على إثبات عذاب القبر‪ ،‬وداللتها ظاهرة‪ ،‬فإنه قال‪ { :‬ولَُن ِذيقََّنهم ِم َن اْل َع َذ ِ‬
‫اب‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫عذابا أدنى قبل العذاب األكبر‪ ،‬وهو عذاب النار‪.‬‬ ‫األدَنى } أي‪ :‬بعض وجزء منه‪ ،‬فدل على أن ثََّم ً‬ ‫ْ‬
‫ولما كانت اإلذاقة من العذاب األدنى في الدنيا‪ ،‬قد ال يتصل بها الموت‪ ،‬فأخبر تعالى أنه يذيقهم‬
‫اد ِفي اْلَبِّر َواْلَب ْح ِر بِ َما‬
‫ظهََر اْلفَ َس ُ‬
‫ذلك لعلهم يرجعون إليه ويتوبون من ذنوبهم كما قال تعالى‪َ { :‬‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫الن ِ ِ ِ‬
‫ت أ َْي ِدي َّ‬
‫ض الذي َعملُوا لَ َعلهُ ْم َي ْر ِج ُع َ‬
‫ون }‬ ‫اس لُيذيقَهُ ْم َب ْع َ‬ ‫َك َسَب ْ‬

‫( ‪)1/656‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات رب ِ‬


‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫وم ْن أَ ْ ِ‬
‫ون (‪)22‬‬ ‫ض َع ْنهَا ِإَّنا م َن اْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ين ُم ْنتَق ُم َ‬ ‫َع َر َ‬
‫ِّه ثَُّم أ ْ‬ ‫ظلَ ُم م َّم ْن ُذك َر بِآََي َ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات رب ِ‬
‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫{ ‪ { } 22‬وم ْن أَ ْ ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ض َعْنهَا ِإَّنا م َن اْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ين ُم ْنتَق ُم َ‬ ‫َع َر َ‬
‫ِّه ثَُّم أ ْ‬ ‫ظلَ ُم م َّم ْن ُذك َر بِ َآي َ‬ ‫ََ‬
‫تعديا‪ ،‬ممن ذكر بآيات ربه‪ ،‬التي أوصلها إليه ربه‪ ،‬الذي يريد تربيته‪،‬‬ ‫أي‪ :‬ال أحد أظلم‪ ،‬وأزيد ً‬
‫وتكميل نعمته على أيدي رسله‪ ،‬تأمره‪ ،‬وتذكره مصالحه الدينية والدنيوية‪ ،‬وتنهاه عن مضاره‬
‫الدينية والدنيوية‪ ،‬التي تقتضي أن يقابلها باإليمان والتسليم‪ ،‬واالنقياد والشكر‪ ،‬فقابلها هذا الظالم‬
‫بضد ما ينبغي‪ ،‬فلم يؤمن بها‪ ،‬وال اتبعها‪ ،‬بل أعرض عنها وتركها وراء ظهره‪ ،‬فهذا من أكبر‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون }‬ ‫المجرمين‪ ،‬الذين يستحقون شديد النقمة‪ ،‬ولهذا قال‪ِ { :‬إَّنا م َن اْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ين ُم ْنتَق ُم َ‬

‫( ‪)1/656‬‬

‫اب فَاَل تَ ُك ْن ِفي ِم ْرَي ٍة ِم ْن ِلقَائِ ِه َو َج َعْلَناهُ ُه ًدى ِلَبنِي ِإ ْس َرائِي َل (‪َ )23‬و َج َعْلَنا‬ ‫ِ‬
‫وسى اْلكتَ َ‬ ‫َولَقَ ْد آَتَْيَنا ُم َ‬
‫َّك ُهو ي ْف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ُل َب ْيَنهُ ْم َي ْو َم‬ ‫ون (‪ِ )24‬إ َّن َرب َ َ َ‬ ‫صَب ُروا َو َك ُانوا بِآََياتَنا ُيو ِقُن َ‬ ‫ون بِأ َْم ِرَنا لَ َّما َ‬
‫م ْنهُ ْم أَئ َّمةً َي ْه ُد َ‬
‫ون (‪)25‬‬ ‫ِِ ِ‬ ‫اْل ِقي ِ ِ‬
‫يما َك ُانوا فيه َي ْختَلفُ َ‬ ‫امة ف َ‬ ‫ََ‬

‫اب فَال تَ ُك ْن ِفي ِم ْرَي ٍة ِم ْن ِلقَائِ ِه َو َج َعْلَناهُ ُه ًدى ِلَبنِي ِإ ْس َرائِي َل‬ ‫ِ‬
‫وسى اْلكتَ َ‬ ‫{ ‪َ { } 25 - 23‬ولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ‬
‫َّك ُهو ي ْف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ُل َب ْيَنهُ ْم‬ ‫ون * ِإ َّن َرب َ َ َ‬ ‫صَب ُروا َو َك ُانوا بِ َآياتَنا ُيو ِقُن َ‬‫ون بِأ َْم ِرَنا لَ َّما َ‬
‫* َو َج َعْلَنا م ْنهُ ْم أَئ َّمةً َي ْه ُد َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِِ ِ‬ ‫يوم اْل ِقي ِ ِ‬
‫يما َك ُانوا فيه َي ْختَلفُ َ‬ ‫امة ف َ‬ ‫َْ َ َ َ‬
‫لما ذكر تعالى‪ ،‬آياته التي ذكر بها عباده‪ ،‬وهو‪ :‬القرآن‪ ،‬الذي أنزله على محمد صلى اللّه عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ذكر أنه ليس ببدع من الكتب‪ ،‬وال من جاء به‪ ،‬بغريب من الرسل‪ ،‬فقد آتى اهلل موسى‬
‫الكتاب الذي هو التوراة المصدقة للقرآن‪ ،‬التي قد صدقها القرآن‪ ،‬فتطابق حقهما‪ ،‬وثبت برهانهما‪،‬‬
‫{ فَال تَ ُك ْن ِفي ِم ْرَي ٍة ِم ْن ِلقَائِ ِه } ألنه قد تواردت أدلة الحق وبيناته‪ ،‬فلم يبق للشك والمرية‪ ،‬محل‪.‬‬
‫{ َو َج َعْلَناهُ } أي‪ :‬الكتاب الذي آتيناه موسى { ُه ًدى ِلَبنِي ِإ ْس َرائِ َ‬
‫يل } يهتدون به في أصول دينهم‪،‬‬
‫وفروعه (‪ )1‬وشرائعه موافقة لذلك الزمان‪ ،‬في بني إسرائيل‪.‬‬
‫وأما هذا القرآن الكريم‪ ،‬فجعله اللّه هداية للناس كلهم‪ ،‬ألنه هداية للخلق‪ ،‬في أمر دينهم ودنياهم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫إلى يوم القيامة‪ ،‬وذلك لكماله وعلوه { َوإِ َّنهُ في أ ُِّم اْلكتَاب لَ َد ْيَنا لَ َعل ٌّي َحك ٌ‬
‫يم }‬
‫ون بِأ َْم ِرَنا } أي‪ :‬علماء بالشرع‪ ،‬وطرق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َو َج َعْلَنا م ْنهُ ْم } أي‪ :‬من بني إسرائيل { أَئ َّمةً َي ْه ُد َ‬
‫الهداية‪ ،‬مهتدين في أنفسهم‪ ،‬يهدون غيرهم بذلك الهدى‪ ،‬فالكتاب الذي أنزل إليهم‪ ،‬هدى‪،‬‬
‫والمؤمنون به منهم‪ ،‬على قسمين‪ :‬أئمة يهدون بأمر اللّه‪ ،‬وأتباع مهتدون بهم‪.‬‬
‫والقسم األول أرفع الدرجات بعد درجة النبوة والرسالة‪ ،‬وهي درجة الصديقين‪ ،‬وإ نما نالوا هذه‬
‫الدرجة العالية بالصبر على التعلم والتعليم‪ ،‬والدعوة إلى اللّه‪ ،‬واألذى في سبيله‪ ،‬وكفوا أنفسهم‬
‫عن جماحها في المعاصي‪ ،‬واسترسالها في الشهوات‪.‬‬
‫ِ‬
‫{ َو َك ُانوا بِ َآياتَنا ُيو ِقُن َ‬
‫ون } أي‪ :‬وصلوا في اإليمان بآيات اللّه‪ ،‬إلى درجة اليقين‪ ،‬وهو العلم التام‪،‬‬
‫صحيحا‪ ،‬وأخذوا المسائل عن‬
‫ً‬ ‫تعلما‬
‫الموجب للعمل‪ ،‬وإ نما وصلوا إلى درجة اليقين‪ ،‬ألنهم تعلموا ً‬
‫أدلتها المفيدة لليقين‪.‬‬
‫فما زالوا يتعلمون المسائل‪ ،‬ويستدلون عليها بكثرة الدالئل‪ ،‬حتى وصلوا لذاك‪ ،‬فبالصبر واليقين‪،‬‬
‫تَُنا ُل اإلمامة في الدين‪.‬‬
‫عمدا‪،‬‬
‫وثََّم مسائل اختلف فيها بنو إسرائيل‪ ،‬منهم من أصاب فيها الحق‪ ،‬ومنهم من أخطأه خطأ‪ ،‬أو ً‬
‫ون } [ ص ‪ ] 657‬وهذا القرآن يقص‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ص ُل ب ْيَنهم يوم اْل ِقي ِ ِ‬
‫واللّه تعالى { ي ْف ِ‬
‫يما َك ُانوا فيه َي ْختَلفُ َ‬
‫امة ف َ‬
‫َ ُْ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫على بني إسرائيل‪ ،‬بعض الذي يختلفون فيه‪ ،‬فكل خالف وقع بينهم‪ ،‬ووجد في القرآن تصديق‬
‫ألحد القولين‪ ،‬فهو الحق‪ ،‬وما عداه مما خالفه‪ ،‬باطل‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين‪ :‬وفروعهم‪ ،‬لعل الصواب ‪ -‬واهلل أعلم‪ -‬ما أثبت‪.‬‬

‫( ‪)1/656‬‬

‫ٍ‬ ‫اكنِ ِه ْم ِإ َّن ِفي َذِل َ‬


‫ون يم ُشون ِفي مس ِ‬ ‫أَولَم يه ِد لَهم َكم أ ْ ِ ِ ِ‬
‫ون (‬
‫ك آَل ََيات أَفَاَل َي ْس َم ُع َ‬ ‫ََ‬ ‫َهلَ ْكَنا م ْن قَْبل ِه ْم م َن اْلقُُر ِ َ ْ َ‬ ‫َ ْ َ ْ ُْ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫اء ِإلَى اأْل َْر ِ‬
‫ض اْل ُج ُر ِز فَُن ْخ ِر ُج به َز ْر ًعا تَْأ ُك ُل م ْنهُ أ َْن َع ُ‬
‫امهُ ْم َوأ َْنفُ ُسهُ ْم‬ ‫‪ )26‬أ ََولَ ْم َي َر ْوا أََّنا َن ُس ُ‬
‫وق اْل َم َ‬
‫ون (‪)27‬‬ ‫ِ‬
‫أَفَاَل ُي ْبص ُر َ‬

‫ك‬‫اكنِ ِه ْم ِإ َّن ِفي َذِل َ‬


‫ون يم ُشون ِفي مس ِ‬
‫ََ‬
‫{ ‪ { } 27 - 26‬أَولَم يه ِد لَهم َكم أ ْ ِ ِ ِ‬
‫َهلَ ْكَنا م ْن قَْبل ِه ْم م َن اْلقُُر ِ َ ْ َ‬ ‫َ ْ َ ْ ُْ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ض اْل ُج ُر ِز فَُن ْخ ِر ُج بِه َز ْر ًعا تَْأ ُك ُل م ْنهُ‬ ‫اء ِإلَى ْ‬
‫األر ِ‬ ‫وق اْل َم َ‬‫ون * أ ََولَ ْم َي َر ْوا أََّنا َن ُس ُ‬
‫آليات أَفَال َي ْس َم ُع َ‬‫َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫امهُ ْم َوأ َْنفُ ُسهُ ْم أَفَال ُي ْبص ُر َ‬
‫أ َْن َع ُ‬
‫َهلَ ْكَنا ِم ْن قَْبلَهُ ْم ِم َن‬
‫يعني‪ :‬أولم يتبين لهؤالء المكذبين للرسول‪ ،‬ويهدهم إلى الصواب‪َ { .‬ك ْم أ ْ‬
‫عيانا‪ ،‬كقوم هود‪ ،‬وصالح‪،‬‬ ‫اكنِ ِه ْم } فيشاهدونها ً‬ ‫ون } الذين سلكوا مسلكهم‪ { ،‬يم ُشون ِفي مس ِ‬
‫ََ‬ ‫َْ َ‬ ‫اْلقُُر ِ‬
‫وقوم لوط‪.‬‬
‫ك آلي ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫ات } يستدل بها‪ ،‬على صدق الرسل‪ ،‬التي جاءتهم‪ ،‬وبطالن ما هم عليه‪ ،‬من‬ ‫{ ِإ َّن في َذل َ َ‬
‫الشرك والشر‪ ،‬وعلى أن من فعل مثل فعلهم‪ ،‬فُ ِع َل بهم‪ ،‬كما فُ ِع َل بأشياعه من قبل‪.‬‬
‫ون } آيات اللّه‪ ،‬فيعونها‪،‬‬
‫وعلى أن اللّه تعالى مجازي العباد‪ ،‬وباعثهم للحشر والتناد‪ { .‬أَفَال َي ْس َم ُع َ‬
‫فينتفعون بها‪ ،‬فلو كان لهم سمع صحيح‪ ،‬وعقل رجيح‪ ،‬لم يقيموا على حالة (‪ )1‬يجزم بها‪،‬‬
‫بالهالك‪.‬‬
‫ض اْل ُج ُر ِز } التي ال‬ ‫اء ِإلَى ْ‬
‫األر ِ‬ ‫وق اْل َم َ‬‫{ أ ََولَ ْم َي َر ْوا } بأبصارهم نعمتنا‪ ،‬وكمال حكمتنا { أََّنا َن ُس ُ‬
‫موجودا فيها‪ ،‬فيفرغه فيها‪ ،‬من السحاب‪ ،‬أو من‬ ‫ً‬ ‫نبات فيها‪ ،‬فيسوق اللّه المطر‪ ،‬الذي لم يكن قبل‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫امهُ ْم } وهو نبات البهائم {‬ ‫األنهار‪ { .‬فَُن ْخ ِر ُج به َز ْر ًعا } أي‪ :‬نباتًا‪ ،‬مختلف األنواع { تَْأ ُك ُل م ْنهُ أ َْن َع ُ‬
‫سهم } وهو طعام اآلدميين‪.‬‬ ‫َوأ َْنفُ ْ‬
‫ون } تلك المنة‪ ،‬التي أحيا اللّه بها البالد والعباد‪ ،‬فيستبصرون فيهتدون بذلك البصر‪،‬‬ ‫ِ‬
‫{ أَفَال ُي ْبص ُر َ‬
‫وتلك البصيرة‪ ،‬إلى الصراط المستقيم‪ ،‬ولكن غلب عليهم العمى‪ ،‬واستولت عليهم الغفلة‪ ،‬فلم‬
‫يبصروا في ذلك‪ ،‬بصر الرجال‪ ،‬وإ نما نظروا إلى ذلك‪ ،‬نظر الغفلة‪ ،‬ومجرد العادة‪ ،‬فلم يوفقوا‬
‫للخير‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬على حالة لم يجزم‪ ،‬والصواب ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬حذف لم‪.‬‬

‫( ‪)1/657‬‬

‫يم ُانهُ ْم َواَل ُه ْم‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ويقُولُون متَى َه َذا اْلفَتْح ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫ين َكفَ ُروا إ َ‬
‫ين (‪ُ )28‬ق ْل َي ْو َم اْلفَتْ ِح اَل َي ْنفَعُ الذ َ‬ ‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)30‬‬ ‫ض َع ْنهُ ْم َو ْانتَظ ْر ِإَّنهُ ْم ُم ْنتَظ ُر َ‬
‫َع ِر ْ‬
‫ون (‪ )29‬فَأ ْ‬
‫ظ ُر َ‬
‫ُي ْن َ‬

‫ين َكفَ ُروا‬ ‫َِّ‬ ‫{ ‪ { } 30 - 28‬ويقُولُون متَى َه َذا اْلفَتْح ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬


‫ين * ُق ْل َي ْو َم اْلفَتْ ِح ال َي ْنفَعُ الذ َ‬
‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ض َعْنهُ ْم َو ْانتَظ ْر ِإَّنهُ ْم ُم ْنتَظ ُر َ‬
‫َع ِر ْ‬
‫ون * فَأ ْ‬
‫ظ ُر َ‬
‫يم ُانهُ ْم َوال ُه ْم ُي ْن َ‬
‫إَ‬
‫ِ‬
‫أي‪ :‬يستعجل المجرمون بالعذاب‪ ،‬الذي وعدوا به على التكذيب‪ ،‬جهال منهم ومعاندة‪.‬‬
‫ون َمتَى َه َذا اْلفَتْ ُح } الذي يفتح بيننا وبينكم‪ ،‬بتعذيبنا على زعمكم { ِإ ْن ُك ْنتُ ْم } أيها الرسل {‬
‫{ َوَيقُولُ َ‬
‫ين } في دعواكم‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫صادق َ‬ ‫َ‬
‫شيئا‪ ،‬فلو كان إذا حصل‪ ،‬حصل‬
‫{ ُق ْل َي ْو َم اْلفَتْ ِح } الذي يحصل به عقابكم‪ ،‬ال تستفيدون به ً‬
‫يقينا‪ ،‬لكان لذلك وجه‪ ،‬ولكن إذا جاء يوم‬ ‫إمهالكم‪ ،‬لتستدركوا ما فاتكم‪ ،‬حين صار األمر عندكم ً‬
‫يم ُانهُ ْم } ألنه صار إيمان‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ين َكفَ ُروا إ َ‬
‫الفتح‪ ،‬انقضى األمر‪ ،‬ولم يبق للمحنة محل فـ { ال َي ْنفَعُ الذ َ‬
‫ون } أي‪ :‬يمهلون‪ ،‬فيؤخر عنهم العذاب‪ ،‬فيستدركون أمرهم‪.‬‬ ‫ظ ُر َ‬
‫ضرورة‪َ { ،‬وال ُه ْم ُي ْن َ‬
‫ض َعْنهُ ْم } لما وصل خطابهم إلى حالة الجهل‪ ،‬واستعجال العذاب‪َ { .‬و ْانتَ ِظ ْر } األمر‬ ‫َع ِر ْ‬
‫{ فَأ ْ‬
‫ِ‬
‫الذي يحل بهم‪ ،‬فإنه ال بد منه‪ ،‬ولكن له أجل‪ ،‬إذا جاء ال يتقدم وال يتأخر‪ِ { .‬إَّنهُ ْم ُم ْنتَظ ُر َ‬
‫ون } بك‬
‫ريب المنون‪ ،‬ومتربصون بكم دوائر السوء‪ ،‬والعاقبة للتقوى‪.‬‬
‫تم تفسير سورة السجدة ‪ -‬بحول اللّه ومنه فله تعالى كمال الحمد والثناء والمجد‪.‬‬

‫( ‪)1/657‬‬

‫تفسير سورة األحزاب وهي مدنية‬

‫( ‪)1/657‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫النبِ ُّي اتَّ ِ َّ‬
‫يما (‪َ )1‬واتَّبِ ْع َما ُي َ‬
‫وحى‬ ‫يما َحك ً‬ ‫ان َعل ً‬ ‫ين ِإ َّن اللهَ َك َ‬ ‫ق اللهَ َواَل تُط ِع اْل َكاف ِر َ‬
‫ين َواْل ُمَنافق َ‬ ‫َيا أَيُّهَا َّ‬
‫ون َخبِ ًيرا (‪َ )2‬وتََو َّك ْل َعلَى اللَّ ِه َو َكفَى بِاللَّ ِه َو ِكياًل (‪)3‬‬ ‫ان بِ َما تَ ْع َملُ َ‬
‫َّ‬ ‫ك ِم ْن َرب َ‬
‫ِّك ِإ َّن اللهَ َك َ‬ ‫ِإلَْي َ‬

‫َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫النبِ ُّي اتَّ ِ َّ‬


‫الر ِح ِيم َيا أَيُّهَا َّ‬ ‫{ ‪ { } 3 - 1‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫ين ِإ َّن اللهَ‬ ‫ق اللهَ َوال تُط ِع اْل َكاف ِر َ‬
‫ين َواْل ُمَنافق َ‬ ‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫ون َخبِ ًيرا * َوتََو َّك ْل َعلَى‬ ‫َّ‬ ‫ك ِم ْن َرب َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ان بِ َما تَ ْع َملُ َ‬
‫ِّك ِإ َّن اللهَ َك َ‬ ‫وحى ِإلَْي َ‬‫يما * َواتَّبِ ْع َما ُي َ‬ ‫يما َحك ً‬
‫ان َعل ً‬ ‫َك َ‬
‫اللَّ ِه َو َكفَى بِاللَّ ِه َو ِكيال } ‪.‬‬
‫من اللّه عليه بالنبوة‪ ،‬واختصه بوحيه‪ ،‬وفضله على سائر الخلق‪ ،‬اشكر نعمة‬ ‫أي‪ :‬يا أيها الذي َّ‬
‫ربك عليك‪ ،‬باستعمال تقواه‪ ،‬التي أنت أولى بها من غيرك‪ ،‬والتي يجب عليك منها‪ ،‬أعظم من‬
‫سواك‪ ،‬فامتثل أوامره ونواهيه‪ ،‬وبلغ رساالته‪ِّ ،‬‬
‫وأد إلى عباده وحيه‪ ،‬وابذل النصيحة للخلق‪.‬‬
‫وال يصدنك عن هذا المقصود صاد‪ ،‬وال يردك عنه راد‪ ،‬فال تطع كل كافر‪ ،‬قد أظهر العداوة للّه‬
‫ورسوله‪ ،‬وال منافق‪ ،‬قد استبطن التكذيب والكفر‪ ،‬وأظهر ضده‪.‬‬
‫فهؤالء هم األعداء على الحقيقة‪ ،‬فال تطعهم في بعض األمور‪ ،‬التي تنقض التقوى‪ ،‬وتناقضها‪،‬‬
‫وال تتبع أهواءهم‪ ،‬فيضلوك عن الصواب‪.‬‬
‫ك ِم ْن َرِّب َ‬
‫ك } فإنه هو الهدى والرحمة‪َ ،‬و ْار ُج بذلك ثواب ربك‪ ،‬فإنه‬ ‫وحى ِإلَْي َ‬
‫{ َو } لكن { اتَّبِ ْع َما ُي َ‬
‫بما تعملون خبير‪ ،‬يجازيكم بحسب ما يعلمه منكم‪ ،‬من الخير والشر‪.‬‬
‫فإن وقع في قلبك‪ ،‬أنك إن لم تطعهم في أهوائهم المضلة‪ ،‬حصل عليك منهم ضرر‪ ،‬أو حصل‬
‫نقص في هداية الخلق‪ ،‬فادفع ذلك عن نفسك‪ ،‬واستعمل ما يقاومه ويقاوم غيره‪ ،‬وهو التوكل على‬
‫نفعا‪ ،‬وال موتًا وال حياة‪ ،‬وال‬
‫ضرا وال ً‬
‫اللّه‪ ،‬بأن تعتمد على ربك‪ ،‬اعتماد من ال يملك لنفسه ً‬
‫نشورا‪ ،‬في سالمتك من شرهم‪ ،‬وفي إقامة الدين‪ ،‬الذي أمرت به‪ ،‬وثق باللّه في حصول ذلك‬
‫ً‬
‫األمر على أي‪ :‬حال كان‪.‬‬
‫{ َو َكفَى بِاللَّ ِه َو ِكيال } توكل إليه األمور‪ ،‬فيقوم بها‪ ،‬وبما هو أصلح للعبد‪ ،‬وذلك لعلمه بمصالح‬
‫عبده‪ ،‬من حيث ال يعلم العبد‪ ،‬وقدرته على إيصالها إليه‪ ،‬من حيث ال يقدر عليها العبد‪ ،‬وأنه أرحم‬
‫خصوصا خواص عبيده‪،‬‬‫ً‬ ‫بعبده من نفسه‪ ،‬ومن والديه‪ ،‬وأرأف به من كل أحد‪ [ ،‬ص ‪] 658‬‬
‫خصوصا وقد أمره بإلقاء أموره‬
‫ً‬ ‫وي ِد ُّر عليهم بركاته الظاهرة والباطنة‪،‬‬
‫الذين لم يزل يربيهم ببره‪ُ ،‬‬
‫إليه‪ ،‬ووعده‪ ،‬فهناك ال تسأل عن كل أمر يتيسر‪ ،‬وصعب يسهل‪ ،‬وخطوب تهون‪ ،‬وكروب تزول‪،‬‬
‫وأحوال وحوائج تقضى‪ ،‬وبركات تنزل‪ ،‬ونقم تدفع‪ ،‬وشرور ترفع‪.‬‬
‫وهناك ترى العبد الضعيف‪ ،‬الذي فوض أمره لسيده‪ ،‬قد قام بأمور ال تقوم بها أمة من الناس‪ ،‬وقد‬
‫سهل اللّه [عليه] (‪ )1‬ما كان يصعب على فحول الرجال وباللّه المستعان‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/657‬‬

‫ُمهَاتِ ُك ْم َو َما‬
‫ون ِم ْنهُ َّن أ َّ‬ ‫ما جع َل اللَّه ِلرج ٍل ِم ْن َقْلب ْي ِن ِفي جو ِف ِه وما جع َل أ َْزواج ُكم الاَّل ئِي تُ َ ِ‬
‫ظاه ُر َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َْ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫َ ََ‬
‫وه ْم‬
‫يل (‪ْ )4‬اد ُع ُ‬ ‫ق َو ُه َو َي ْه ِدي َّ‬
‫السبِ َ‬ ‫اه ُك ْم واللَّهُ َيقُو ُل اْل َح َّ‬
‫َ‬
‫جع َل أ َْد ِعياء ُكم أ َْبَناء ُكم َذِل ُكم قَولُ ُكم بِأَ ْفو ِ‬
‫َ َ ْ َ ْ ْ ْ ْ َ‬ ‫ََ‬
‫ين َو َم َو ِالي ُك ْم َولَْي َس َعلَْي ُك ْم ُجَن ٌ‬
‫اح‬ ‫اء ُه ْم فَِإ ْخ َو ُان ُك ْم ِفي ِّ‬
‫الد ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫آِل ِ‬
‫ََبائ ِه ْم ُه َو أَ ْق َسطُ عْن َد الله فَِإ ْن لَ ْم تَ ْعلَ ُموا آََب َ‬
‫ِ‬ ‫ت ُقلُوب ُكم و َك َّ‬ ‫َخ َ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يما (‪)5‬‬ ‫ورا َرح ً‬ ‫ان اللهُ َغفُ ً‬ ‫طأْتُ ْم بِه َولَك ْن َما تَ َع َّم َد ْ ُ ْ َ َ‬ ‫يما أ ْ‬ ‫فَ‬

‫ون ِم ْنهُ َّن‬ ‫{ ‪ { } 5 - 4‬ما جع َل اللَّه ِلرج ٍل ِم ْن َقْلب ْي ِن ِفي جو ِف ِه وما جع َل أ َْزواج ُكم الالئِي تُ َ ِ‬
‫ظاه ُر َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َْ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫َ ََ‬
‫يل *‬ ‫ق َو ُه َو َي ْه ِدي َّ‬
‫السبِ َ‬ ‫اه ُك ْم واللَّهُ َيقُو ُل اْل َح َّ‬
‫َ‬
‫ُمهاتِ ُكم وما جع َل أ َْد ِعياء ُكم أ َْبَناء ُكم َذِل ُكم قَولُ ُكم بِأَ ْفو ِ‬
‫َ َ ْ َ ْ ْ ْ ْ َ‬ ‫أ َّ َ ْ َ َ َ َ‬
‫ين َو َم َو ِالي ُك ْم َولَْي َس َعلَْي ُك ْم‬ ‫اء ُه ْم فَِإ ْخ َو ُان ُك ْم ِفي ِّ‬
‫الد ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫وهم ِ‬
‫آلبائ ِه ْم ُه َو أَ ْق َسطُ ع ْن َد الله فَِإ ْن لَ ْم تَ ْعلَ ُموا َآب َ‬
‫ْاد ُع ُ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ت ُقلُوب ُكم و َك َّ‬ ‫َخ َ ِ ِ‬ ‫جَن ٌ ِ‬
‫يما } ‪.‬‬ ‫ورا َرح ً‬ ‫ان اللهُ َغفُ ً‬ ‫طأْتُ ْم بِه َولَك ْن َما تَ َع َّم َد ْ ُ ْ َ َ‬ ‫يما أ ْ‬
‫اح ف َ‬ ‫ُ‬
‫يعاتب تعالى [عباده] (‪ )1‬عن التكلم بما ادعوهم آلبائهم هو أقسط عند اهلل فإن لم تعلموا آباءهم‬
‫فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان اهلل‬
‫رحيما ال حقيقة له من األقوال‪ ،‬ولم يجعله اهلل تعالى كما قالوا‪،‬فإن ذلك القول منكم كذب‬
‫ً‬ ‫غفورا‬
‫ً‬
‫وزور‪ ،‬يترتب عليه منكرات من الشرع‪ .‬وهذه قاعدة عامة في التكلم في كل شيء‪ ،‬واإلخبار‬
‫بوقوع ووجود‪ ،‬ما لم يجعله اللّه تعالى‪.‬‬
‫ولكن خص هذه األشياء المذكورة‪ ،‬لوقوعها‪ ،‬وشدة الحاجة إلى بيانها‪ ،‬فقال‪َ { :‬ما َج َع َل اللَّهُ ِل َر ُج ٍل‬
‫ِم ْن َقْلَب ْي ِن ِفي َج ْو ِف ِه } هذا ال يوجد‪ ،‬فإياكم أن تقولوا عن أحد‪ :‬إن له قلبين في جوفه‪ ،‬فتكونوا‬
‫كاذبين على الخلقة اإللهية‪.‬‬
‫لي كظهر أمي أو‬ ‫ون ِم ْنهُ َّن } بأن يقول أحدكم لزوجته‪" :‬أنت َع َّ‬ ‫ظاه ُر َ‬
‫{ وما جع َل أ َْزواج ُكم الالئِي تُ َ ِ‬
‫َ َ ُ‬ ‫ََ ََ‬
‫وتحريما‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُمهَاتِ ُك ْم } أمك من ولدتك‪ ،‬وصارت أعظم النساء عليك‪ ،‬حرمة‬ ‫كأمي" فما جعلهن اللّه { أ َّ‬
‫وزوجتك أحل النساء لك‪ ،‬فكيف تشبه أحد المتناقضين باآلخر؟‬
‫ُمهَاتِ ِه ْم ِإ ْن أ َّ‬
‫ُمهَاتُهُ ْم‬ ‫ون ِم ْن ُك ْم ِم ْن نِ َسائِ ِه ْم َما ُه َّن أ َّ‬ ‫هذا أمر ال يجوز‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬الَِّذين ي َ ِ‬
‫ظاه ُر َ‬ ‫َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ورا }‬ ‫ِإال الالئي َولَ ْدَنهُ ْم َوإِ َّنهُ ْم لََيقُولُ َ‬
‫ون ُم ْن َك ًرا م َن اْلقَ ْول َو ُز ً‬
‫اء ُك ْم } واألدعياء‪ ،‬الولد الذي كان الرجل يدعيه‪ ،‬وهو ليس له‪ ،‬أو ُي ْد َعى‬ ‫ِ‬
‫اء ُك ْم أ َْبَن َ‬
‫{ َو َما َج َع َل أ َْدعَي َ‬
‫إليه‪ ،‬بسبب تبنيه إياه‪ ،‬كما كان األمر بالجاهلية‪ ،‬وأول اإلسالم‪.‬‬
‫فأراد اللّه تعالى أن يبطله ويزيله‪ ،‬فقدم بين يدي ذلك بيان قبحه‪ ،‬وأنه باطل وكذب‪ ،‬وكل باطل‬
‫وكذب‪ ،‬ال يوجد في شرع اللّه‪ ،‬وال يتصف به عباد اللّه‪.‬‬
‫يقول تعالى‪ :‬فاللّه لم يجعل األدعياء الذين تدعونهم‪ ،‬أو يدعون إليكم‪ ،‬أبناءكم‪ ،‬فإن أبناءكم في‬
‫الحقيقة‪ ،‬من ولدتموهم‪ ،‬وكانوا منكم‪ ،‬وأما هؤالء األدعياء من غيركم‪ ،‬فال جعل اللّه هذا كهذا‪.‬‬
‫{ َذِل ُك ْم } القول‪ ،‬الذي تقولون في الدعي‪ :‬إنه ابن فالن‪ ،‬الذي ادعاه‪ ،‬أو والده فالن { قَ ْولُ ُك ْم‬
‫اه ُك ْم } أي‪ :‬قول ال حقيقة له وال معنى له‪.‬‬ ‫بِأَ ْفو ِ‬
‫َ‬
‫ق } أي‪ :‬اليقين والصدق‪ ،‬فلذلك أمركم باتباعه‪ ،‬على قوله وشرعه‪ ،‬فقوله‪ ،‬حق‪،‬‬ ‫{ واللَّهُ َيقُو ُل اْل َح َّ‬
‫َ‬
‫وشرعه حق‪ ،‬واألقوال واألفعال الباطلة‪ ،‬ال تنسب إليه بوجه من الوجوه‪ ،‬وليست من هدايته‪ ،‬ألنه‬
‫ال يهدي إال إلى السبيل المستقيمة‪ ،‬والطرق الصادقة‪.‬‬
‫واقعا بمشيئته‪ ،‬فمشيئته عامة‪ ،‬لكل ما وجد من خير وشر‪.‬‬
‫وإ ن كان ذلك ً‬
‫وه ْم } أي‪ :‬األدعياء‬
‫ثم صرح لهم بترك الحالة األولى‪ ،‬المتضمنة للقول الباطل فقال‪ْ { :‬اد ُع ُ‬
‫آلبائِ ِه ْم } الذين ولدوهم { ُه َو أَ ْق َسطُ ِعْن َد اللَّ ِه } أي‪ :‬أعدل‪ ،‬وأقوم‪ ،‬وأهدى‪.‬‬ ‫{ َ‬
‫ين َو َم َو ِالي ُك ْم } أي‪ :‬إخوتكم في دين اللّه‪،‬‬ ‫اء ُه ْم } الحقيقيين { فَِإ ْخ َو ُان ُك ْم ِفي ِّ‬
‫الد ِ‬ ‫{ فَِإ ْن لَ ْم تَ ْعلَ ُموا َآب َ‬
‫ومواليكم في ذلك‪ ،‬فادعوهم باألخوة اإليمانية الصادقة‪ ،‬والمواالة على ذلك‪ ،‬فترك الدعوة إلى من‬
‫تبناهم حتم‪ ،‬ال يجوز فعلها‪.‬‬
‫وأما دعاؤهم آلبائهم‪ ،‬فإن علموا‪ ،‬دعوا إليهم‪ ،‬وإ ن لم يعلموا‪ ،‬اقتصر على ما يعلم منهم‪ ،‬وهو‬
‫أخوة [الدين] (‪ )2‬والمواالة‪ ،‬فال تظنوا أن حالة عدم علمكم بآبائهم‪ ،‬عذر في دعوتهم إلى من‬
‫تبناهم‪ ،‬ألن المحذور ال يزول بذلك‪.‬‬
‫طأْتُ ْم بِ ِه } بأن سبق على لسان أحدكم‪ ،‬دعوته إلى من تبناه‪ ،‬فهذا غير‬ ‫َخ َ‬
‫يما أ ْ‬ ‫{ ولَْيس علَْي ُكم جَن ٌ ِ‬
‫اح ف َ‬ ‫َ َ َ ْ ُ‬
‫ظاهرا‪[ ،‬فدعوتموه إليه] (‪ )3‬وهو في الباطن‪ ،‬غير أبيه‪ ،‬فليس (‪ )4‬عليكم‬ ‫ً‬ ‫مؤاخذ به‪ ،‬أو علم أبوه‬
‫وب ُك ْم } من الكالم‪،‬‬ ‫في ذلك حرج‪ ،‬إذا كان خطأ‪ [ ،‬ص ‪َ { ] 659‬ولَ ِك ْن } يؤاخذكم بـ { َما تَ َع َّم َد ْ‬
‫ت ُقلُ ُ‬
‫يما } غفر لكم ورحمكم‪ ،‬حيث لم يعاقبكم بما سلف‪ ،‬وسمح‬ ‫ِ‬ ‫بما ال يجوز‪ { .‬و َك َّ‬
‫ورا َرح ً‬
‫ان اللهُ َغفُ ً‬
‫َ َ‬
‫لكم بما أخطأتم به‪ ،‬ورحمكم حيث بيَّن لكم أحكامه التي تصلح دينكم ودنياكم‪ ،‬فله الحمد تعالى‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )4‬في (أ) وقعت هنا زيادة حرف (في) وال محل له‪.‬‬

‫( ‪)1/658‬‬

‫ض ِفي ِكتَ ِ‬ ‫ُمهَاتُهُ ْم َوأُولُو اأْل َْر َح ِام َب ْع ُ‬


‫ضهُ ْم أ َْولَى بَِب ْع ٍ‬ ‫ِ‬ ‫النبِ ُّي أَولَى بِاْلمؤ ِمنِ ِ‬
‫ين م ْن أ َْنفُس ِه ْم َوأ َْز َو ُ‬
‫اب‬ ‫اجهُ أ َّ‬ ‫ُْ َ‬ ‫َّ ْ‬
‫ورا (‪)6‬‬ ‫ان َذِل َ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين ِإاَّل أ ْ‬
‫َن تَ ْف َعلُوا ِإلَى أ َْوِلَيائ ُك ْم َم ْع ُروفًا َك َ‬ ‫ين َواْل ُمهَا ِج ِر َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫الله م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ك في اْلكتَاب َم ْسطُ ً‬

‫ِ‬ ‫النبِ ُّي أَولَى بِاْلمؤ ِمنِ ِ‬


‫ض‬ ‫األر َح ِام َب ْع ُ‬
‫ضهُ ْم أ َْولَى بَِب ْع ٍ‬ ‫ُمهَاتُهُ ْم َوأُولُو ْ‬ ‫ين م ْن أ َْنفُس ِه ْم َوأ َْز َو ُ‬
‫اجهُ أ َّ‬ ‫ُْ َ‬ ‫{ ‪ْ َّ { } 6‬‬
‫ك ِفي اْل ِكتَ ِ‬ ‫ان َذِل َ‬ ‫ِ‬
‫َن تَ ْف َعلُوا ِإلَى أ َْوِلَيائ ُك ْم َم ْع ُروفًا َك َ‬
‫ين ِإال أ ْ‬ ‫ين واْلمه ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ َّ ِ ِ‬
‫اب‬ ‫اج ِر َ‬ ‫في كتَاب الله م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ َ ُ َ‬
‫ورا } ‪.‬‬
‫َم ْسطُ ً‬
‫خبرا يعرفون به حالة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومرتبته‪ ،‬فيعاملونه‬ ‫يخبر تعالى المؤمنين‪ً ،‬‬
‫ين ِم ْن أ َْنفُ ِس ِه ْم } أقرب ما لإلنسان‪ ،‬وأولى ما له‬‫ِ‬
‫النبِ ُّي أ َْولَى بِاْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫بمقتضى تلك الحالة فقال‪َّ { :‬‬
‫نفسه‪ ،‬فالرسول أولى به من نفسه‪ ،‬ألنه عليه الصالة والسالم‪ ،‬بذل لهم من النصح‪ ،‬والشفقة‪،‬‬
‫والرأفة‪ ،‬ما كان به أرحم الخلق‪ ،‬وأرأفهم‪ ،‬فرسول اللّه‪ ،‬أعظم الخلق ِمَّنةً عليهم‪ ،‬من كل أحد‪ ،‬فإنه‬
‫لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير‪ ،‬وال اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر‪ ،‬إال على يديه وبسببه‪.‬‬
‫فلذلك‪ ،‬وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس‪ ،‬أو مراد أحد من الناس‪ ،‬مع مراد الرسول‪ ،‬أن يقدم‬
‫كائنا من كان‪ ،‬وأن يفدوه بأنفسهم‬
‫مراد الرسول‪ ،‬وأن ال يعارض قول الرسول‪ ،‬بقول أحد‪ً ،‬‬
‫وأموالهم وأوالدهم‪ ،‬ويقدموا محبته على الخلق كلهم‪ ،‬وأال يقولوا حتى يقول‪ ،‬وال يتقدموا بين‬
‫يديه‪.‬‬
‫وهو صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬أب للمؤمنين‪ ،‬كما في قراءة بعض الصحابة‪ ،‬يربيهم كما يربي الوالد‬
‫أوالده‪.‬‬
‫فترتب على هذه األبوة‪ ،‬أن كان نساؤه أمهاتهم‪ ،‬أي‪ :‬في الحرمة واالحترام‪ ،‬واإلكرام‪ ،‬ال في‬
‫الخلوة والمحرمية‪ ،‬وكأن هذا مقدمة‪ ،‬لما سيأتي في قصة زيد بن حارثة‪ ،‬الذي كان قبل ُي ْد َعى‪:‬‬
‫َح ٍد ِم ْن ِر َج ِال ُك ْم } فقطع نسبه‪ ،‬وانتسابه منه‪،‬‬
‫ان ُم َح َّم ٌد أََبا أ َ‬
‫"زيد بن محمد" حتى أنزل اللّه { َما َك َ‬
‫فأخبر في هذه اآلية‪ ،‬أن المؤمنين كلهم‪ ،‬أوالد للرسول‪ ،‬فال مزية ألحد عن أحد وإ ن انقطع عن‬
‫أحدهم انتساب الدعوة‪ ،‬فإن النسب اإليماني لم ينقطع عنه‪ ،‬فال يحزن وال يأسف‪.‬‬
‫وترتب على أن زوجات الرسول أمهات المؤمنين‪ ،‬أنهن ال يحللن ألحد من بعده‪ ،‬كما اهلل صرح (‬
‫اجهُ ِم ْن َب ْع ِد ِه أََب ًدا"‬ ‫‪ )1‬بذلك‪" :‬وال أ ْ ِ‬
‫َن تَْنك ُحوا أ َْز َو َ‬ ‫َ‬
‫اب اللَّ ِه } [أي]‪( :‬‬
‫ض ِفي ِكتَ ِ‬ ‫األر َح ِام } أي‪ :‬األقارب‪ ،‬قربوا أو بعدوا { َب ْع ُ‬
‫ضهُ ْم أ َْولَى بَِب ْع ٍ‬ ‫{ َوأُولُو ْ‬
‫بعضا‪ ،‬فهم أولى من الحلف والنصرة‪.‬‬
‫بعضا‪ ،‬ويبر بعضهم ً‬
‫‪ )2‬في حكمه‪ ،‬فيرث بعضهم ً‬
‫واألدعياء الذين كانوا من قبل‪ ،‬يرثون بهذه األسباب‪ ،‬دون ذوي األرحام‪ ،‬فقطع تعالى‪ ،‬التوارث‬
‫بذلك‪ ،‬وجعله لألقارب‪ ،‬لطفًا منه وحكمة‪ ،‬فإن األمر لو استمر على العادة السابقة‪ ،‬لحصل من‬
‫الفساد والشر‪ ،‬والتحيل لحرمان األقارب من الميراث‪ ،‬شيء كثير‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } أي‪ :‬سواء كان األقارب مؤمنين مهاجرين وغير مهاجرين‪ ،‬فإن‬ ‫ين َواْل ُمهَا ِج ِر َ‬
‫{ م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ذوي األرحام مقدمون في ذلك‪ ،‬وهذه اآلية حجة على والية ذوي األرحام‪ ،‬في جميع الواليات‪،‬‬
‫كوالية النكاح‪ ،‬والمال‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫َن تَ ْف َعلُوا ِإلَى أ َْوِلَيائِ ُك ْم َم ْع ُروفًا } أي‪ :‬ليس لهم حق مفروض‪ ،‬وإ نما هو بإرادتكم‪ ،‬إن شئتم أن‬
‫{ ِإال أ ْ‬
‫ورا }‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ان } ذلك الحكم المذكور { في اْلكتَاب َم ْسطُ ً‬
‫تبرعا‪ ،‬وتعطوهم معروفًا منكم‪َ { ،‬ك َ‬ ‫تتبرعوا لهم ً‬
‫أي‪ :‬قد سطر‪ ،‬وكتب‪ ،‬وقدره اللّه‪ ،‬فال بد من نفوذه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في‪ :‬ب‪ :‬كما سيصرح بذلك‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/659‬‬

‫َخ ْذَنا ِم ْنهُ ْم‬ ‫وسى َو ِع َ‬


‫يسى ْاب ِن َم ْرَي َم َوأ َ‬ ‫يم َو ُم َ‬
‫ِ‬ ‫ِّين ِميثَاقَهُ ْم َو ِم ْن َ‬
‫ك َو ِم ْن ُن ٍ‬
‫وح َوإِ ْب َراه َ‬ ‫َخ ْذَنا ِم َن َّ‬
‫النبِي َ‬ ‫َوإِ ْذ أ َ‬
‫ِ‬ ‫ص ْد ِق ِهم وأ ِ ِ‬ ‫َّاد ِقين ع ْن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِميثَاقًا َغِلي ً‬
‫يما (‪)8‬‬ ‫َع َّد لْل َكاف ِر َ‬
‫ين َع َذ ًابا أَل ً‬ ‫َْ َ‬ ‫ظا (‪ )7‬لَي ْسأَ َل الص َ َ‬

‫ِ‬ ‫ِّين ِميثَاقَهُ ْم َو ِم ْن َ‬ ‫َخ ْذَنا ِم َن َّ‬


‫وسى َو ِع َ‬
‫يسى ْاب ِن َم ْرَي َم‬ ‫يم َو ُم َ‬
‫وح َوإِ ْب َراه َ‬ ‫ك َو ِم ْن ُن ٍ‬ ‫النبِي َ‬ ‫{ ‪َ { } 8 - 7‬وإِ ْذ أ َ‬
‫ِ‬ ‫ص ْد ِق ِهم وأ ِ ِ‬ ‫َّاد ِقين ع ْن ِ‬ ‫ِ‬ ‫َخ ْذَنا ِم ْنهم ِميثَاقًا َغِلي ً ِ‬
‫يما } ‪.‬‬ ‫َع َّد لْل َكاف ِر َ‬
‫ين َع َذ ًابا أَل ً‬ ‫ْ َ َ‬ ‫ظا * لَي ْسأَ َل الص َ َ‬ ‫ُْ‬ ‫َوأ َ‬
‫عموما‪ ،‬ومن أولي العزم ‪-‬وهم‪ ،‬هؤالء الخمسة المذكورون‪-‬‬ ‫ً‬ ‫يخبر تعالى أنه أخذ من النبيين‬
‫خصوصا‪ ،‬ميثاقهم الغليظ وعهدهم الثقيل المؤكد‪ ،‬على القيام بدين اللّه والجهاد في سبيله‪ ،‬وأن هذا‬
‫ً‬
‫سبيل‪ ،‬قد مشى األنبياء المتقدمون‪ ،‬حتى ختموا بسيدهم وأفضلهم‪ ،‬محمد صلى اللّه عليه وسلم‪،‬‬
‫وأمر الناس باالقتداء بهم‪.‬‬
‫وسيسأل اللّه األنبياء وأتباعهم‪ ،‬عن هذا العهد الغليظ هل وفوا فيه‪ ،‬وصدقوا؟ فيثيبهم جنات النعيم؟‬
‫اه ُدوا اللَّهَ َعلَْي ِه }‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أم كفروا‪ ،‬فيعذبهم العذاب األليم؟ قال تعالى‪ { :‬م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين ِر َجا ٌل َ‬
‫ص َدقُوا َما َع َ‬

‫( ‪)1/659‬‬

‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬


‫ودا لَ ْم تََر ْو َها‬ ‫ود فَأ َْر َسْلَنا َعلَْي ِه ْم ِر ً‬
‫يحا َو ُجُن ً‬ ‫َمُنوا ا ْذ ُك ُروا ن ْع َمةَ الله َعلَْي ُك ْم ِإ ْذ َج َ‬
‫اءتْ ُك ْم ُجُن ٌ‬ ‫ين آ َ‬
‫َيا أَيُّهَا الذ َ‬
‫صيرا (‪ِ )9‬إ ْذ جاءو ُكم ِم ْن فَو ِق ُكم و ِم ْن أَس َف َل ِم ْن ُكم وإِ ْذ َز َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫و َك َّ‬
‫ص ُار‬
‫اغت اأْل َْب َ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫ون َب ً‬ ‫ان اللهُ بِ َما تَ ْع َملُ َ‬
‫َ َ‬
‫ون َو ُزْل ِزلُوا ِزْل َزااًل َش ِد ً‬ ‫ونا (‪ُ )10‬هَن ِال َ ِ‬ ‫ُّ‬
‫يدا‬ ‫ك ْابتُل َي اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬ ‫ون بِاللَّ ِه الظُن َ‬ ‫اج َر َوتَظُُّن َ‬‫وب اْل َحَن ِ‬ ‫ِ‬
‫َوَبلَ َغت اْل ُقلُ ُ‬
‫(‪)11‬‬

‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬


‫ود فَأ َْر َسْلَنا َعلَْي ِه ْم ِر ً‬
‫يحا‬ ‫اءتْ ُك ْم ُجُن ٌ‬ ‫آمُنوا ا ْذ ُك ُروا ن ْع َمةَ الله َعلَْي ُك ْم ِإ ْذ َج َ‬
‫ين َ‬ ‫{ ‪َ { } 11 - 9‬يا أَيُّهَا الذ َ‬
‫َس َف َل ِم ْن ُك ْم َوإِ ْذ‬ ‫ِ‬
‫اءو ُك ْم م ْن فَ ْو ِق ُك ْم َو ِم ْن أ ْ‬
‫ِ‬
‫ون َبص ًيرا * ِإ ْذ َج ُ‬
‫ودا لَم تَرو َها و َك َّ‬
‫ان اللهُ بِ َما تَ ْع َملُ َ‬‫َو ُجُن ً ْ َ ْ َ َ‬
‫ونا * ُهَن ِال َ ِ‬ ‫ُّ‬
‫ون َو ُزْل ِزلُوا‬ ‫ك ْابتُل َي اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬ ‫ون بِاللَّ ِه الظُن َ‬ ‫وب اْل َحَنا ِج َر َوتَظُُّن َ‬
‫ِ‬
‫ص ُار َوَبلَ َغت اْل ُقلُ ُ‬ ‫اغ ِت ْ‬
‫األب َ‬ ‫َز َ‬
‫ِزْل َزاال َش ِد ً‬
‫يدا } ‪.‬‬
‫يذكر تعالى عباده المؤمنين‪ ،‬نعمته عليهم‪ ،‬ويحثهم على شكرها‪ ،‬حين جاءتهم جنود أهل مكة‬
‫والحجاز‪ ،‬من فوقهم‪ ،‬وأهل نجد‪ ،‬من أسفل منهم‪ ،‬وتعاقدوا [ ص ‪ ] 660‬وتعاهدوا على استئصال‬
‫الرسول والصحابة‪ ،‬وذلك في وقعة الخندق‪.‬‬
‫وماألتهم [طوائف] (‪ )1‬اليهود‪ ،‬الذين حوالي المدينة‪ ،‬فجاءوا بجنود عظيمة وأمم كثيرة‪.‬‬
‫وخندق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬على المدينة‪ ،‬فحصروا المدينة‪ ،‬واشتد األمر‪ ،‬وبلغت‬
‫القلوب الحناجر‪ ،‬حتى بلغ الظن من كثير من الناس كل مبلغ‪ ،‬لما رأوا من األسباب المستحكمة‪،‬‬
‫والشدائد الشديدة‪ ،‬فلم يزل الحصار على المدينة‪ ،‬مدة طويلة‪ ،‬واألمر كما وصف اللّه‪َ { :‬وإِ ْذ‬
‫َّ ِ ُّ‬ ‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬الظنون السيئة‪ ،‬أن اللّه ال‬ ‫ون بِالله الظُن َ‬ ‫وب اْل َحَنا ِج َر َوتَظُُّن َ‬
‫ص ُار َوَبلَ َغت اْل ُقلُ ُ‬ ‫اغ ِت ْ‬
‫األب َ‬ ‫َز َ‬
‫ينصر دينه‪ ،‬وال يتم كلمته‪.‬‬
‫ون } بهذه الفتنة العظيمة { َو ُزْل ِزلُوا ِزْل َزاال َش ِد ً‬
‫يدا } بالخوف والقلق‪،‬‬ ‫{ ُهَن ِال َ ِ‬
‫ك ْابتُل َي اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫والجوع‪ ،‬ليتبين إيمانهم‪ ،‬ويزيد إيقانهم‪ ،‬فظهر ‪-‬وللّه الحمد‪ -‬من إيمانهم‪ ،‬وشدة يقينهم‪ ،‬ما فاقوا‬
‫فيه األولين واآلخرين‪.‬‬
‫اب‬
‫األح َز َ‬
‫ون ْ‬ ‫وعندما اشتد الكرب‪ ،‬وتفاقمت الشدائد‪ ،‬صار إيمانهم عين اليقين‪َ { ،‬ولَ َّما َرأَى اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫يما }‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫قَالُوا َه َذا ما وع َدَنا اللَّه ورسولُه وص َد َ َّ‬
‫يم ًانا َوتَ ْسل ً‬
‫ق اللهُ َو َر ُسولُهُ َو َما َز َاد ُه ْم إال إ َ‬ ‫ُ ََ ُ ُ َ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫وهنالك تبين نفاق المنافقين‪ ،‬وظهر ما كانوا يضمرون قال تعالى‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/659‬‬

‫اَّل‬ ‫َّ‬ ‫ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬


‫ت‬‫ورا (‪َ )12‬وإِ ْذ قَالَ ْ‬ ‫ض َما َو َع َدَنا اللهُ َو َر ُسولُهُ ِإ ُغ ُر ً‬ ‫ون َوالذ َ‬ ‫َوإِ ْذ َيقُو ُل اْل ُمَنافقُ َ‬
‫ون ِإ َّن ُبُيوتََنا َع ْو َرةٌ‬ ‫النبِ َّي َيقُولُ َ‬ ‫يق ِم ْنهُ ُم َّ‬‫ب اَل ُمقَ َام لَ ُك ْم فَ ْار ِج ُعوا َوَي ْستَأ ِْذ ُن فَ ِر ٌ‬ ‫طائِفَةٌ ِم ْنهُ ْم َيا أ ْ‬
‫َه َل َيثْ ِر َ‬ ‫َ‬
‫ط ِار َها ثَُّم ُسئِلُوا اْل ِفتَْنةَ آَل َتَ ْو َها‬ ‫ت َعلَْي ِه ْم ِم ْن أَ ْق َ‬
‫ون ِإاَّل ِف َر ًارا (‪َ )13‬ولَ ْو ُد ِخلَ ْ‬ ‫َو َما ِه َي بِ َع ْو َر ٍة ِإ ْن ُي ِر ُ‬
‫يد َ‬
‫ان َع ْه ُد اللَّ ِه‬ ‫ون اأْل َْدَب َار َو َك َ‬
‫ُّ‬ ‫َّ ِ‬
‫اه ُدوا اللهَ م ْن قَْب ُل اَل ُي َول َ‬ ‫َو َما تَلََّبثُوا بِهَا ِإاَّل َي ِس ًيرا (‪َ )14‬ولَقَ ْد َك ُانوا َع َ‬
‫َم ْسُئواًل (‪)15‬‬

‫َّ‬ ‫ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬


‫ض َما َو َع َدَنا اللهُ َو َر ُسولُهُ ِإال ُغ ُر ً‬
‫ورا } ‪.‬‬ ‫ون َوالذ َ‬
‫{ ‪َ { } 12‬وإِ ْذ َيقُو ُل اْل ُمَنافقُ َ‬
‫وهذه عادة المنافق عند الشدة والمحنة‪ ،‬ال يثبت إيمانه‪ ،‬وينظر بعقله القاصر‪ ،‬إلى الحالة القاصرة‬
‫(‪ )1‬ويصدق ظنه‪.‬‬
‫أيضا من‬‫وقل صبرهم‪ ،‬وصاروا ً‬ ‫طائِفَةٌ ِم ْنهم } من المنافقين‪ ،‬بعد ما جزعوا َّ‬
‫ت َ‬
‫{ َوإِ ْذ قَالَ ْ‬
‫ُْ‬
‫َه َل َيثْ ِر َ‬
‫ب‬ ‫المخذولين‪ ،‬فال صبروا بأنفسهم‪ ،‬وال تركوا الناس من شرهم‪ ،‬فقالت هذه الطائفة‪َ { :‬يا أ ْ‬
‫} يريدون " يا أهل المدينة " فنادوهم باسم الوطن المنبئ [عن التسمية] (‪ )2‬فيه إشارة إلى أن‬
‫الدين واألخوة اإليمانية‪ ،‬ليس له في قلوبهم قدر‪ ،‬وأن الذي حملهم على ذلك‪ ،‬مجرد الخور‬
‫الطبيعي‪.‬‬
‫ب ال ُمقَ َام لَ ُك ْم } أي‪ :‬في موضعكم الذي خرجتم إليه خارج المدينة‪ ،‬وكانوا عسكروا‬ ‫َه َل َيثْ ِر َ‬
‫{ َيا أ ْ‬
‫دون الخندق‪ ،‬وخارج المدينة‪ { ،‬فَ ْار ِج ُعوا } إلى المدينة‪ ،‬فهذه الطائفة تخذل عن الجهاد‪ ،‬وتبين‬
‫أنهم ال قوة لهم بقتال عدوهم‪ ،‬ويأمرونهم بترك القتال‪ ،‬فهذه الطائفة‪ ،‬شر الطوائف وأضرها‪،‬‬
‫وطائفة أخرى دونهم‪ ،‬أصابهم الجبن والجزع‪ ،‬وأحبوا أن ينخزلوا عن الصفوف‪ ،‬فجعلوا‬
‫ون ِإ َّن ُبُيوتََنا‬ ‫يق ِم ْنهُ ُم َّ‬
‫النبِ َّي َيقُولُ َ‬ ‫يعتذرون باألعذار الباطلة‪ ،‬وهم الذين قال اللّه فيهم‪َ { :‬وَي ْستَأ ِْذ ُن فَ ِر ٌ‬
‫َّب عنها‪ ،‬فَ ْأ َذ ْن لنا‬ ‫َع ْو َرةٌ } أي‪ :‬عليها الخطر‪ ،‬ونخاف عليها أن يهجم عليها األعداء‪ ،‬ونحن ُغي ٌ‬
‫نرجع إليها‪ ،‬فنحرسها‪ ،‬وهم كذبة في ذلك‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬ما قصدهم { ِإال ِف َر ًارا } ولكن جعلوا هذا الكالم‪ ،‬وسيلة‬ ‫{ َو َما ِه َي بِ َع ْو َر ٍة ِإ ْن ُي ِر ُ‬
‫يد َ‬
‫وعذرا‪[ .‬لهم] (‪ )3‬فهؤالء قل إيمانهم‪ ،‬وليس له ثبوت عند اشتداد المحن‪.‬‬ ‫ً‬
‫ط ِار َها } أي‪ :‬لو دخل الكفار إليها من نواحيها‪ ،‬واستولوا‬ ‫ت َعلَْي ِه ْم } المدينة { ِم ْن أَ ْق َ‬
‫{ َولَ ْو ُد ِخلَ ْ‬
‫عليها ‪-‬ال كان ذلك‪ { -‬ثَُّم } سئل هؤالء { اْل ِفتَْنة } أي‪ :‬االنقالب عن دينهم‪ ،‬والرجوع إلى دين‬
‫المستولين المتغلبين { آلتَ ْو َها } أي‪ :‬ألعطوها مبادرين‪.‬‬
‫ب على الدين‪ ،‬بل بمجرد ما تكون الدولة‬ ‫{ َو َما تَلََّبثُوا بِهَا ِإال َي ِس ًيرا } أي‪ :‬ليس لهم منعة وال تَصلُّ ٌ‬
‫لألعداء‪ ،‬يعطونهم ما طلبوا‪ ،‬ويوافقونهم على كفرهم‪ ،‬هذه حالهم‪.‬‬
‫ان َع ْه ُد اللَّ ِه َم ْسُئوال } سيسألهم عن ذلك‬
‫األدَب َار َو َك َ‬
‫ون ْ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ ِ‬
‫اه ُدوا اللهَ م ْن قَْب ُل ال ُي َول َ‬
‫والحال أنهم قد { َع َ‬
‫العهد‪ ،‬فيجدهم قد نقضوه‪ ،‬فما ظنهم إ ًذا‪ ،‬بربهم؟‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬الحاضرة‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/660‬‬

‫ون ِإاَّل َقِلياًل (‪ُ )16‬ق ْل َم ْن َذا الَِّذي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُق ْل لَ ْن َي ْنفَ َع ُك ُم اْلف َر ُار ِإ ْن فََر ْرتُ ْم م َن اْل َم ْوت أ َِو اْلقَ ْت ِل َوإِ ًذا اَل تُ َمتَّ ُع َ‬
‫ون اللَّ ِه َوِليًّا َواَل‬
‫ون لَهُ ْم ِم ْن ُد ِ‬ ‫وءا أ َْو أ ََر َاد بِ ُك ْم َر ْح َمةً َواَل َي ِج ُد َ‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َي ْعص ُم ُك ْم م َن الله ِإ ْن أ ََر َاد بِ ُك ْم ُس ً‬
‫ْس ِإاَّل َقِلياًل (‬ ‫ون اْلَبأ َ‬
‫ِ‬ ‫صيرا (‪ )17‬قَ ْد َيعلَم اللَّهُ اْلمع ِّو ِقين ِم ْن ُكم واْلقَائِِل إِل‬
‫ين ِ ْخ َوان ِه ْم َهلُ َّم ِإلَْيَنا َواَل َيأْتُ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َُ َ‬ ‫ُْ‬ ‫َن ً‬
‫ِ‬
‫َعُيُنهُ ْم َكالَِّذي ُي ْغ َشى َعلَْي ِه ِم َن‬ ‫ور أ ْ‬ ‫ك تَ ُد ُ‬‫ون ِإلَْي َ‬ ‫ف َرأ َْيتَهُ ْم َي ْنظُ ُر َ‬ ‫اء اْل َخ ْو ُ‬ ‫ِ‬
‫‪ )18‬أَش َّحةً َعلَْي ُك ْم فَِإ َذا َج َ‬
‫َحب َ َّ‬ ‫َش َّحةً َعلَى اْل َخ ْي ِر أُولَئِ َ‬ ‫ف سلَقُو ُكم بِأَْل ِسَن ٍة ِح َد ٍاد أ ِ‬ ‫ِ‬
‫ط اللهُ‬ ‫ك لَ ْم ُي ْؤ ِمُنوا فَأ ْ َ‬ ‫ب اْل َخ ْو ُ َ ْ‬ ‫اْل َم ْوت فَِإ َذا َذ َه َ‬
‫اب َي َو ُّدوا لَ ْو‬ ‫َح َزاب لَم ي ْذ َهبوا وإِ ْن يأ ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ان َذِل َ‬
‫َح َز ُ‬ ‫ْت اأْل ْ‬ ‫ون اأْل ْ َ ْ َ ُ َ َ‬ ‫ك َعلَى الله َيس ًيرا (‪َ )19‬ي ْح َسُب َ‬ ‫َع َمالَهُ ْم َو َك َ‬
‫أْ‬
‫اَّل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َعر ِ‬ ‫اد ِ‬
‫ون َع ْن أ َْنَبائ ُك ْم َولَ ْو َك ُانوا في ُك ْم َما قَاتَلُوا ِإ َقلياًل (‪ )20‬لَقَ ْد َك َ‬
‫ان لَ ُك ْم‬ ‫اب َي ْسأَلُ َ‬ ‫ون في اأْل ْ َ‬ ‫أََّنهُ ْم َب ُ َ‬
‫ان َي ْر ُجو اللَّهَ َواْلَي ْو َم اآْل َ ِخ َر َو َذ َك َر اللَّهَ َكثِ ًيرا (‪َ )21‬ولَ َّما َرأَى‬ ‫ِ‬
‫ُس َوةٌ َح َسَنةٌ ل َم ْن َك َ‬
‫ِفي رس ِ َّ ِ‬
‫ول الله أ ْ‬ ‫َ ُ‬
‫ِاَّل ِ‬ ‫َح َزاب قَالُوا َه َذا ما وع َدَنا اللَّه ورسولُه وص َد َ َّ‬
‫يم ًانا‬
‫ق اللهُ َو َر ُسولُهُ َو َما َز َاد ُه ْم إ إ َ‬ ‫ُ ََ ُ ُ َ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ون اأْل ْ َ‬ ‫اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫ضى َن ْحَبهُ َو ِم ْنهُ ْم َم ْن‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اه ُدوا اللهَ َعلَْيه فَم ْنهُ ْم َم ْن قَ َ‬ ‫ص َدقُوا َما َع َ‬ ‫ين ِر َجا ٌل َ‬ ‫يما (‪ )22‬م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫َوتَ ْسل ً‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ي ْنتَ ِظر وما ب َّدلُوا تَْب ِدياًل (‪ِ )23‬لي ْج ِز َّ‬
‫وب‬
‫اء أ َْو َيتُ َ‬ ‫ين ِإ ْن َش َ‬ ‫ب اْل ُمَنافق َ‬‫ين بِص ْدق ِه ْم َوُي َع ِّذ َ‬‫ي اللهُ الصَّادق َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُ ََ َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َِّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ين َكفَ ُروا بِ َغ ْيظ ِه ْم لَ ْم َيَنالُوا َخ ْي ًرا َو َكفَى اللهُ‬ ‫يما (‪َ )24‬و َر َّد اللهُ الذ َ‬ ‫ورا َرح ً‬ ‫ان َغفُ ً‬ ‫َعلَْي ِه ْم ِإ َّن اللهَ َك َ‬
‫اب ِم ْن‬‫َه ِل اْل ِكتَ ِ‬
‫وه ْم ِم ْن أ ْ‬
‫اه ُر ُ‬ ‫ظ َ‬
‫ين َ‬ ‫َِّ‬ ‫اْلمؤ ِمنِين اْل ِقتَا َل و َك َّ‬
‫ان اللهُ قَ ِويًّا َع ِز ًيزا (‪َ )25‬وأ َْن َز َل الذ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُْ َ‬
‫ِ‬ ‫ف ِفي ُقلُوبِ ِه ُم ُّ‬ ‫اصي ِه ْم َوقَ َذ َ‬ ‫صي ِ‬
‫ون فَ ِريقًا (‪َ )26‬وأ َْو َرثَ ُك ْم أ َْر َ‬
‫ضهُ ْم‬ ‫ون َوتَأْس ُر َ‬‫ب فَ ِريقًا تَ ْقتُلُ َ‬‫الر ْع َ‬ ‫ََ‬
‫ان اللَّهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ًيرا (‪)27‬‬‫وها َو َك َ‬‫طُئ َ‬ ‫َو ِدَي َار ُه ْم َوأ َْم َوالَهُ ْم َوأ َْر ً‬
‫ضا لَ ْم تَ َ‬

‫{ ‪ُ { } 16‬ق ْل } ‪.‬‬
‫شيئا { لَ ْن َي ْنفَ َع ُك ُم اْل ِف َر ُار ِإ ْن فََر ْرتُ ْم ِم َن‬
‫ومخبرا أنهم ال يفيدهم ذلك ً‬
‫ً‬ ‫الئما على فرارهم‪،‬‬
‫{ ُق ْل } لهم‪ً ،‬‬
‫اْل َم ْو ِت أ َِو اْلقَ ْت ِل } فلو كنتم في بيوتكم‪ ،‬لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعكم‪.‬‬
‫واألسباب تنفع‪ ،‬إذا لم يعارضها القضاء والقدر‪ ،‬فإذا جاء القضاء والقدر‪ ،‬تالشى كل سبب‪،‬‬
‫وبطلت (‪ )1‬كل وسيلة‪ ،‬ظنها اإلنسان تنجيه‪.‬‬
‫ون ِإال َقِليال }‬
‫{ َوإِ ًذا } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل‪ ،‬ولتنعموا في الدنيا فإنكم { ال تُ َمتَّ ُع َ‬
‫متاعا‪ ،‬ال يسوى فراركم‪ ،‬وترككم أمر اللّه‪ ،‬وتفويتكم على أنفسكم‪ ،‬التمتع األبدي‪ ،‬في النعيم‬ ‫ً‬
‫السرمدي‪.‬‬
‫شيئا إذا أراده اللّه بسوء‪ ،‬فقال‪ُ { :‬ق ْل َم ْن َذا الَِّذي‬ ‫ثم بين أن األسباب كلها ال تغني عن العبد ً‬
‫شرا‪ { ،‬أ َْو أ ََر َاد بِ ُك ْم َر ْح َمةً } فإنه هو‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫وءا } أي‪ً :‬‬ ‫َي ْعص ُم ُك ْم } أي‪ :‬يمنعكم { من الله ِإ ْن أ ََر َاد بِ ُك ْم ُس ً‬
‫المعطي المانع‪ ،‬الضار النافع‪ ،‬الذي ال يأتي بالخير إال هو‪ ،‬وال يدفع السوء إال هو‪.‬‬
‫ون اللَّ ِه وِليًّا } يتوالهم‪ ،‬فيجلب لهم النفع (‪ { )2‬وال َن ِ‬ ‫ون لَهُ ْم ِم ْن ُد ِ‬
‫ص ًيرا } أي ينصرهم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫{ َوال َي ِج ُد َ‬
‫فيدفع عنهم المضار‪.‬‬
‫َفْلَي ْمتَثِلُوا طاعة المنفرد باألمور كلها‪ ،‬الذي نفذت مشيئته‪ ،‬ومضى قدره‪ ،‬ولم ينفع مع ترك واليته‬
‫ونصرته‪َ ،‬وِل ٌّي وال ناصر‪.‬‬
‫ين ِم ْن ُك ْم } عن الخروج‪،‬‬ ‫َّ‬
‫توعد تعالى المخذلين المعوقين‪ ،‬وتهددهم فقال‪ { :‬قَ ْد َي ْعلَ ُم اللهُ اْل ُم َع ِّو ِق َ‬ ‫ثم َّ‬
‫إلخ َوانِ ِه ْم } الذين خرجوا‪ [ :‬ص ‪َ { ] 661‬هلُ َّم ِإلَْيَنا } أي‪:‬‬ ‫ين ْ‬ ‫ِِ‬
‫لمن [لم] (‪ )3‬يخرجوا { َواْلقَائل َ‬
‫ب ال ُمقَ َام لَ ُك ْم فَ ْار ِج ُعوا }‬
‫َه َل َيثْ ِر َ‬
‫ارجعوا‪ ،‬كما تقدم من قولهم‪َ { :‬يا أ ْ‬
‫ْس } أي‪ :‬القتال والجهاد بأنفسهم { ِإال َقِليال } فهم أشد‬
‫ون اْلَبأ َ‬
‫وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { َوال َيأْتُ َ‬
‫حرصا على التخلف‪ ،‬لعدم الداعي لذلك‪ ،‬من اإليمان والصبر‪ ،‬ووجود المقتضى للجبن‪ ،‬من‬ ‫ً‬ ‫الناس‬
‫النفاق‪ ،‬وعدم اإليمان‪.‬‬
‫َش َّحةً َعلَْي ُك ْم } بأبدانهم عند القتال‪ ،‬وبأموالهم عند النفقة فيه‪ ،‬فال يجاهدون بأموالهم وأنفسهم‪.‬‬ ‫{ أِ‬
‫ك } نظر المغشى عليه { ِم َن اْل َم ْو ِت } من شدة الجبن‪ ،‬الذي‬
‫ون ِإلَْي َ‬
‫ف َرأ َْيتَهُ ْم َي ْنظُ ُر َ‬ ‫{ فَِإ َذا َج َ‬
‫اء اْل َخ ْو ُ‬
‫خلع قلوبهم‪ ،‬والقلق الذي أذهلهم‪ ،‬وخوفًا من إجبارهم على ما يكرهون‪ ،‬من القتال‪.‬‬
‫ف } وصاروا في حال األمن والطمأنينة‪َ { ،‬سلَقُو ُك ْم بِأَْل ِسَنة } أي‪ :‬خاطبوكم‪،‬‬ ‫{ فَِإ َذا َذ َه َ‬
‫ب اْل َخ ْو ُ‬
‫وتكلموا معكم‪ ،‬بكالم حديد‪ ،‬ودعاوى غير صحيحة‪.‬‬
‫َش َّحةً َعلَى اْل َخ ْي ِر } الذي يراد منهم‪ ،‬وهذا شر ما‬‫وحين تسمعهم‪ ،‬تظنهم أهل الشجاعة واإلقدام‪ { ،‬أ ِ‬
‫شحيحا في بدنه أن‬
‫ً‬ ‫شحيحا بماله أن ينفقه في وجهه‪،‬‬
‫ً‬ ‫شحيحا بما أمر به‪،‬‬
‫ً‬ ‫في اإلنسان‪ ،‬أن يكون‬
‫شحيحا بعلمه‪ ،‬ونصيحته ورأيه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫شحيحا بجاهه‪،‬‬
‫ً‬ ‫يجاهد أعداء اللّه‪ ،‬أو يدعو إلى سبيل اللّه‪،‬‬
‫ان َذِل َ‬
‫ك‬ ‫ك } الذين بتلك الحالة { لَ ْم ُي ْؤ ِمُنوا } بسبب عدم إيمانهم‪ ،‬أحبط اهلل أعمالهم‪َ { ،‬و َك َ‬ ‫{ أُولَئِ َ‬
‫َعلَى اللَّ ِه َي ِس ًيرا }‬
‫وأما المؤمنون‪ ،‬فقد وقاهم اللّه‪ ،‬شح أنفسهم‪ ،‬ووفقهم لبذل ما أمروا به‪ ،‬من بذل ألبدانهم في القتال‬
‫في سبيله‪ ،‬وإ عالء كلمته‪ ،‬وأموالهم‪ ،‬للنفقة في طرق الخير‪ ،‬وجاههم وعلمهم‪.‬‬
‫اب لَ ْم َي ْذ َهُبوا } أي‪ :‬يظنون أن هؤالء األحزاب‪ ،‬الذين تحزبوا على حرب‬
‫األح َز َ‬
‫ون ْ‬ ‫{ َي ْح َسُب َ‬
‫رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬وأصحابه‪ ،‬لم يذهبوا حتى يستأصلوهم‪ ،‬فخاب ظنهم‪ ،‬وبطل‬
‫حسبانهم‪.‬‬
‫ون َع ْن أ َْنَبائِ ُك ْم } أي‪:‬‬ ‫األعر ِ‬
‫اب َي ْسأَلُ َ‬
‫اد ِ‬
‫اب } مرة أخرى { َي َو ُّدوا لَ ْو أََّنهُ ْم َب ُ َ‬
‫ون في ْ َ‬ ‫األح َز ُ‬
‫ْت ْ‬ ‫{ وإِ ْن يأ ِ‬
‫َ َ‬
‫ود هؤالء المنافقون‪ ،‬أنهم ليسوا في المدينة‪ ،‬وال في‬ ‫لو أتى األحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة‪َّ ،‬‬
‫القرب منها‪ ،‬وأنهم مع األعراب في البادية‪ ،‬يستخبرون عن أخباركم‪ ،‬ويسألون عن أنبائكم‪ ،‬ماذا‬
‫حصل عليكم؟‬
‫وبعدا‪ ،‬فليسوا ممن يبالى (‪ )4‬بحضورهم { َولَ ْو َك ُانوا ِفي ُك ْم َما قَاتَلُوا ِإال َقِليال } فال‬
‫فتبا لهم‪ً ،‬‬
‫ً‬
‫تبالوهم‪ ،‬وال تأسوا عليهم‪.‬‬
‫ُس َوةٌ َح َسَنةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة‪ ،‬وباشر موقف‬ ‫{ لَقَ ْد َكان لَ ُكم ِفي رس ِ َّ ِ‬
‫ول الله أ ْ‬ ‫َ ْ َ ُ‬
‫الحرب‪ ،‬وهو الشريف الكامل‪ ،‬والبطل الباسل‪ ،‬فكيف تشحون بأنفسكم‪ ،‬عن أمر جاد رسول اللّه‬
‫صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬بنفسه فيه؟"‬
‫فَتأَس َّْوا به في هذا األمر وغيره‪.‬‬
‫واستدل األصوليون في هذه اآلية‪ ،‬على االحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬وأن‬
‫األصل‪ ،‬أن أمته أسوته في األحكام‪ ،‬إال ما دل الدليل الشرعي على االختصاص به‪.‬‬
‫فاألسوة نوعان‪ :‬أسوة حسنة‪ ،‬وأسوة سيئة‪.‬‬
‫فاألسوة الحسنة‪ ،‬في الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬فإن المتأسِّي به‪ ،‬سالك الطريق الموصل إلى‬
‫كرامة اللّه‪ ،‬وهو الصراط المستقيم‪.‬‬
‫وأما األسوة بغيره‪ ،‬إذا خالفه‪ ،‬فهو األسوة السيئة‪ ،‬كقول الكفار (‪ )5‬حين دعتهم الرسل للتأسِّي ]‬
‫بهم[ (‪ِ { )6‬إَّنا وج ْدَنا آباءَنا علَى أ َّ ٍ‬
‫ون }‬‫ُمة َوإِ َّنا َعلَى آثَ ِار ِه ْم ُم ْهتَ ُد َ‬ ‫َ َ َ َ َ‬
‫وهذه األسوة الحسنة‪ ،‬إنما يسلكها ويوفق لها‪ ،‬من كان يرجو اللّه‪ ،‬واليوم اآلخر‪ ،‬فإن ما معه (‪)7‬‬
‫من اإليمان‪ ،‬وخوف اللّه‪ ،‬ورجاء ثوابه‪ ،‬وخوف عقابه‪ ،‬يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫اب }‬
‫األح َز َ‬
‫ون ْ‬ ‫لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف‪ ،‬ذكر حال المؤمنين فقال‪َ { :‬ولَ َّما َرأَى اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫الذين تحزبوا‪ ،‬ونزلوا منازلهم‪ ،‬وانتهى الخوف‪ { ،‬قَالُوا َه َذا َما َو َع َدَنا اللَّهُ َو َر ُسولُهُ } في قوله‪:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫اء َو ُزْل ِزلُوا‬
‫َّر ُ‬
‫اء َوالض َّ‬
‫ْس ُ‬
‫ين َخلَ ْوا م ْن قَْبل ُك ْم َمسَّتْهُ ُم اْلَبأ َ‬ ‫{ أ َْم َح ِس ْبتُ ْم أ ْ‬
‫َن تَ ْد ُخلُوا اْل َجَّنةَ َولَ َّما َيأْت ُك ْم َمثَ ُل الذ َ‬
‫ص َر اللَّ ِه قَ ِر ٌ‬
‫يب }‬ ‫َّ ِ‬
‫ص ُر الله أَال ِإ َّن َن ْ‬ ‫آمُنوا َم َعهُ َمتَى َن ْ‬ ‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫الر ُسو ُل َوالذ َ‬ ‫َحتَّى َيقُو َل َّ‬
‫يم ًانا } في‬ ‫ِ ِ‬ ‫{ وص َد َ َّ‬
‫ق اللهُ َو َر ُسولُهُ } فإنا رأينا‪ ،‬ما أخبرنا به { َو َما َز َاد ُه ْم } ذلك األمر { إال إ َ‬ ‫َ َ‬
‫وانقيادا ألمر اللّه‪.‬‬ ‫يما } في جوارحهم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫قلوبهم { َوتَ ْسل ً‬
‫ولما ذكر أن المنافقين‪ ،‬عاهدوا اللّه‪ ،‬ال يولون األدبار‪ ،‬ونقضوا ذلك العهد‪ ،‬ذكر وفاء المؤمنين‬
‫اه ُدوا اللَّهَ } أي‪ :‬وفوا به‪ ،‬وأتموه‪ ،‬وأكملوه‪ ،‬فبذلوا‬ ‫ين ِر َجا ٌل َ‬
‫ص َدقُوا َما َع َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫به‪ ،‬فقال‪ { :‬م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫مهجهم في مرضاته‪ ،‬وسبَّلوا أنفسهم في طاعته‪.‬‬
‫ضى َن ْحَبهُ } أي‪ :‬إرادته ومطلوبه‪ ،‬وما عليه من الحق‪ ،‬فقتل في سبيل اللّه‪ ،‬أو مات‬ ‫ِ‬
‫{ فَم ْنهُ ْم َم ْن قَ َ‬
‫شيُئًُا‪.‬‬
‫مؤديا لحقه‪ ،‬لم ينقصه ً‬ ‫ً‬
‫{ َو ِم ْنهُ ْم َم ْن َي ْنتَ ِظ ُر } تكميل ما عليه‪ ،‬فهو شارع في قضاء ما عليه‪ ،‬ووفاء نحبه ولما يكمله‪ ،‬وهو‬
‫في رجاء تكميله‪ ،‬ساع في ذلك‪ ،‬مجد‪.‬‬
‫{ َو َما َب َّدلُوا تَْب ِديال } كما بدل غيرهم‪ ،‬بل لم يزالوا على العهد‪ ،‬ال يلوون‪ ،‬وال يتغيرون‪ ،‬فهؤالء‪،‬‬
‫الرجال على الحقيقة‪ ،‬ومن (‪ )8‬عداهم‪ ،‬فصورهم صور رجال‪ ،‬وأما الصفات‪ ،‬فقد قصرت عن‬
‫صفات الرجال‪.‬‬
‫ص ْد ِق ِه ْم } أي‪ :‬بسبب صدقهم‪ ،‬في أقوالهم‪ ،‬وأحوالهم‪ ،‬ومعاملتهم مع اللّه‪،‬‬ ‫َّاد ِقين بِ ِ‬‫ِ‬
‫ي اللهُ الص َ‬
‫{ ِلي ْج ِز َّ‬
‫َ َ‬
‫َّاد ِقين [ ص ‪ِ ] 662‬‬
‫ص ْدقُهُ ْم لَهُ ْم‬ ‫ِ‬
‫واستواء ظاهرهم وباطنهم‪ ،‬قال اللّه تعالى‪َ { :‬ه َذا َي ْو ُم َي ْنفَعُ الص َ‬
‫ين ِفيهَا أََب ًدا } اآلية‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫ات تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِهَا ْ‬
‫األنهَ ُار َخالد َ‬ ‫َجَّن ٌ‬
‫أي‪ :‬قدرنا ما قدرنا‪ ،‬من هذه الفتن والمحن‪ ،‬والزالزل‪ ،‬ليتبين الصادق من الكاذب‪ ،‬فيجزي‬
‫ِِ‬
‫ين } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم‪ ،‬عند حلول الفتن‪ ،‬ولم يفوا‬ ‫الصادقين بصدقهم { َوُي َع ِّذ َ‬
‫ب اْل ُمَنافق َ‬
‫بما عاهدوا اللّه عليه‪.‬‬
‫اء } تعذيبهم‪ ،‬بأن لم يشأ هدايتهم‪ ،‬بل علم أنهم ال خير فيهم‪ ،‬فلم يوفقهم‪.‬‬ ‫{ ِإ ْن َش َ‬
‫وب َعلَْي ِه ْم } بأن يوفقهم للتوبة واإلنابة‪ ،‬وهذا هو الغالب‪ ،‬على كرم الكريم‪ ،‬ولهذا ختم اآلية‬
‫{ أ َْو َيتُ َ‬
‫َّ‬
‫غفورا‬
‫ً‬ ‫رحيما }‬
‫ً‬ ‫ورا‬ ‫باسمين دالين على المغفرة‪ ،‬والفضل‪ ،‬واإلحسان فقال‪ِ { :‬إ َّن اللهَ َك َ‬
‫ان َغفُ ً‬
‫يما } بهم‪ ،‬حيث‬ ‫ِ‬
‫لذنوب المسرفين على أنفسهم‪ ،‬ولو أكثروا من العصيان‪ ،‬إذا أتوا بالمتاب‪َ { .‬رح ً‬
‫وفقهم للتوبة‪ ،‬ثم قبلها منهم‪ ،‬وستر عليهم ما اجترحوه‪.‬‬
‫ين َكفَ ُروا بِ َغ ْي ِظ ِه ْم لَ ْم َيَنالُوا َخ ْي ًرا } أي‪ :‬ردهم خائبين‪ ،‬لم يحصل لهم األمر الذي‬ ‫َّ َِّ‬
‫{ َو َر َّد اللهُ الذ َ‬
‫كانوا حنقين عليه‪ ،‬مغتاظين قادرين ]عليه[ (‪ )9‬جازمين‪ ،‬بأن لهم الدائرة‪ ،‬قد غرتهم جموعهم‪،‬‬
‫وع َد ِد ِه ْم‪.‬‬
‫هم ُ‬
‫ِ‬
‫وأعجبوا بتحزبهم‪ ،‬وفرحوا بِ َع َدد ْ‬
‫وقوضت‬‫ريحا عظيمة‪ ،‬وهي (‪ )10‬ريح الصبا‪ ،‬فزعزعت مراكزهم‪َّ ،‬‬ ‫فأرسل اللّه عليهم‪ً ،‬‬
‫خيامهم‪ ،‬وكفأت قدورهم وأزعجتهم‪ ،‬وضربهم اللّه بالرعب‪ ،‬فانصرفوا بغيظهم‪ ،‬وهذا من نصر‬
‫اللّه لعباده المؤمنين‪.‬‬
‫ان اللَّهُ قَ ِويًّا‬
‫ال } بما صنع لهم من األسباب العادية والقدرية‪َ { ،‬و َك َ‬ ‫ين اْل ِقتَ َ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫{ َو َكفَى اللهُ اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ِ‬
‫ب‪ ،‬وال يعجزه أمر أراده‪ ،‬وال ينفع أهل‬ ‫ب‪ ،‬وال يستنصره أحد إال َغلَ َ‬ ‫َع ِز ًيزا } ال يغالبه أحد إال ُغل َ‬
‫القوة والعزة‪ ،‬قوتهم وعزتهم‪ ،‬إن لم يعنهم بقوته وعزته‪.‬‬
‫اصي ِه ْم } أي‪:‬‬ ‫اب } أي‪ :‬اليهود { ِم ْن صي ِ‬ ‫َه ِل اْل ِكتَ ِ‬
‫وه ْم } أي عاونوهم { ِم ْن أ ْ‬ ‫َِّ‬
‫ََ‬ ‫اه ُر ُ‬‫ظ َ‬ ‫ين َ‬ ‫{ َوأَنز َل الذ َ‬
‫مظفورا بهم‪ ،‬مجعولين تحت حكم اإلسالم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أنزلهم من حصونهم‪ ،‬نزوال‬
‫ب } فلم يقووا على القتال‪ ،‬بل استسلموا وخضعوا وذلوا‪ { .‬فَ ِريقًا تَ ْقتُلُ َ‬
‫ون‬ ‫الر ْع َ‬‫ف ِفي ُقلُوبِ ِه ُم ُّ‬ ‫{ َوقَ َذ َ‬
‫ون فَ ِريقًا } َم ْن عداهم من النساء والصبيان‪.‬‬ ‫ِ‬
‫} وهم الرجال المقاتلون { َوتَأْس ُر َ‬
‫وها } أي‪ :‬أرضا كانت من‬ ‫طُئ َ‬ ‫ضهُ ْم َو ِدَي َار ُه ْم َوأ َْم َوالَهُ ْم َوأ َْر ً‬
‫ضا لَ ْم تَ َ‬ ‫غنمكم { أ َْر َ‬ ‫{ َوأ َْو َرثَ ُك ْم } أي‪َّ :‬‬
‫قبل‪ ،‬من شرفها وعزتها عند أهلها‪ ،‬ال تتمكنون من وطئها‪ ،‬فمكنكم اللّه وخذلهم‪ ،‬وغنمتم أموالهم‪،‬‬
‫وقتلتموهم‪ ،‬وأسرتموهم‪.‬‬
‫ان اللَّهُ َعلَى ُك ِّل َشي ٍء قَِد ًيرا } ال يعجزه شيء‪ ،‬ومن قدرته‪َّ ،‬‬
‫قدر لكم ما قدر‪.‬‬ ‫{ َو َك َ‬
‫ْ‬
‫وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب‪ ،‬هم بنو قريظة من اليهود‪ ،‬في قرية خارج المدينة‪ ،‬غير‬
‫بعيدة‪ ،‬وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم‪[ ،‬حين] (‪ )11‬هاجر إلى المدينة‪ ،‬وادعهم‪ ،‬وهادنهم‪ ،‬فلم‬
‫شيئا‪.‬‬
‫يقاتلهم ولم يقاتلوه‪ ،‬وهم باقون على دينهم‪ ،‬لم يغير عليهم ً‬
‫فلما رأوا يوم الخندق‪ ،‬األحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم‪ ،‬وقلة المسلمين‪ ،‬وظنوا‬
‫أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين‪ ،‬وساعد على ذلك‪[ ،‬تدجيل] (‪ )12‬بعض رؤسائهم عليهم‪،‬‬
‫فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬ومالؤوا المشركين على قتاله‪.‬‬
‫فلما خذل اللّه المشركين‪ ،‬تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬لقتالهم‪ ،‬فحاصرهم في حصنهم‪،‬‬
‫فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه‪ ،‬فحكم فيهم‪ ،‬أن تقتل مقاتلتهم‪ ،‬وتسبى ذراريهم‪،‬‬
‫وتغنم أموالهم‪.‬‬
‫فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين‪ ،‬المنة‪ ،‬وأسبغ عليهم النعمة‪ ،‬وأَقََّر أعينهم‪ ،‬بخذالن من انخذل من‬
‫مستمرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أعدائهم‪ ،‬وقتل من قتلوا‪ ،‬وأسر من أسروا‪ ،‬ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬بطل‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ب‪ :‬المنافع‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ب‪ :‬يغالى‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ب‪ :‬المشركين‪.‬‬
‫(‪ )6‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )7‬في ب‪ :‬فإن ذلك ما معه‪.‬‬
‫(‪ )8‬في أ‪ :‬وما وعداهم‪ ،‬ولعل الصواب ما أثبته‪.‬‬
‫(‪ )9‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )10‬زيادة من‪ :‬ب‪ .‬في أ ‪ :‬وهو ولعل الصواب ما أثبته‬
‫(‪ )11‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )12‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/660‬‬

‫ُسِّر ْح ُك َّن َس َر ً‬
‫احا‬ ‫ُمتِّ ْع ُك َّن َوأ َ‬
‫الد ْنَيا َو ِز َينتَهَا فَتَ َعالَْي َن أ َ‬ ‫النبِ ُّي ُق ْل أِل َْز َوا ِج َ‬
‫ك ِإ ْن ُك ْنتُ َّن تُِر ْد َن اْل َحَياةَ ُّ‬ ‫َيا أَيُّهَا َّ‬
‫ات ِم ْن ُك َّن أ ْ‬
‫َج ًرا‬ ‫الدار اآْل َ ِخرةَ فَِإ َّن اللَّه أَع َّد ِلْلم ْح ِسَن ِ‬
‫َ َ ُ‬ ‫َ‬
‫َّ‬
‫َجمياًل (‪َ )28‬وإِ ْن ُك ْنتُ َّن تُِر ْد َن اللهَ َو َر ُسولَهُ َو َّ َ‬
‫ِ‬
‫يما (‪)29‬‬ ‫ِ‬
‫َعظ ً‬

‫ُمتِّ ْع ُك َّن‬ ‫ك ِإ ْن ُك ْنتُ َّن تُِر ْد َن اْل َحَياةَ ُّ‬ ‫ألزو ِ‬ ‫{ ‪َ { } 29 - 28‬يا أَيُّهَا َّ ِ‬
‫الد ْنَيا َو ِز َينتَهَا فَتَ َعالَْي َن أ َ‬ ‫اج َ‬ ‫النب ُّي ُق ْل ْ َ‬
‫اآلخرةَ فَِإ َّن اللَّه أَع َّد ِلْلم ْح ِسَن ِ‬ ‫الدار ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ات‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫احا َجميال * َوإِ ْن ُك ْنتُ َّن تُِر ْد َن اللهَ َو َر ُسولَهُ َو َّ َ‬ ‫ُسِّر ْح ُك َّن َس َر ً‬
‫َوأ َ‬
‫يما } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِم ْن ُك َّن أ ْ‬
‫َج ًرا َعظ ً‬
‫لما اجتمع نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الغيرة‪ ،‬وطلبن منه النفقة والكسوة‪ ،‬طلبن منه‬
‫أمرا ال يقدر عليه في كل وقت‪ ،‬ولم يزلن في طلبهن متفقات‪ ،‬في مرادهن متعنتات‪َ ،‬ش َّ‬
‫ق ذلك على‬ ‫ً‬
‫شهرا‪.‬‬
‫الرسول‪ ،‬حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن ً‬
‫ب عنهن كل أمر ينقص‬ ‫فأراد اللّه أن يسهل األمر على رسوله‪ ،‬وأن يرفع درجة زوجاته‪ِ ،‬‬
‫وي ْذه َ‬
‫ُ‬
‫ك ِإ ْن ُك ْنتُ َّن تُِر ْد َن اْل َحَياةَ‬ ‫ألزو ِ‬
‫اج َ‬ ‫أجرهن‪ ،‬فأمر رسوله أن يخيرهن (‪ )1‬فقال‪َ { :‬يا أَيُّهَا َّ ِ‬
‫النب ُّي ُق ْل ْ َ‬
‫الد ْنَيا } أي‪ :‬ليس لكن في غيرها مطلب‪ ،‬وصرتن ترضين لوجودها‪ [ ،‬ص ‪ ] 663‬وتغضبن‬ ‫ُّ‬
‫لفقدها‪ ،‬فليس لي فيكن أرب وحاجة‪ ،‬وأنتن بهذه الحال‪.‬‬
‫احا َج ِميال } من‬ ‫ُسِّر ْح ُك َّن } أي‪ :‬أفارقكن { َس َر ً‬ ‫ُمتِّ ْع ُك َّن } شيئا مما عندي‪ ،‬من الدنيا { َوأ َ‬ ‫{ فَتَ َعالَْي َن أ َ‬
‫دون مغاضبة وال مشاتمة‪ ،‬بل بسعة صدر‪ ،‬وانشراح بال‪ ،‬قبل أن تبلغ الحال إلى ما ال ينبغي‪.‬‬
‫الدار ِ‬ ‫َّ‬
‫اآلخ َرةَ } أي‪ :‬هذه األشياء مرادكن‪ ،‬وغاية مقصودكن‪،‬‬ ‫{ َوإِ ْن ُك ْنتُ َّن تُِر ْد َن اللهَ َو َر ُسولَهُ َو َّ َ‬
‫وإ ذا حصل لَ ُك َّن اللّه ورسوله والجنة‪ ،‬لم تبالين بسعة الدنيا وضيقها‪ ،‬ويسرها وعسرها‪ ،‬وقنعتن‬
‫ات ِم ْن ُك َّن أ ْ‬
‫َج ًرا‬ ‫من رسول اللّه بما تيسر‪ ،‬ولم تطلبن منه ما يشق عليه‪ { ،‬فَِإ َّن اللَّه أَع َّد ِلْلم ْح ِسَن ِ‬
‫َ َ ُ‬
‫يما } رتب األجر على وصفهن باإلحسان‪ ،‬ألنه السبب الموجب لذلك‪ ،‬ال لكونهن زوجات‬ ‫ِ‬
‫َعظ ً‬
‫شيئا‪ ،‬مع عدم اإلحسان‪ ،‬فخيَّرهن رسول اللّه صلى‬
‫للرسول فإن مجرد ذلك‪ ،‬ال يكفي‪ ،‬بل ال يفيد ً‬
‫اللّه عليه وسلم في ذلك‪ ،‬فاخترن اللّه ورسوله‪ ،‬والدار اآلخرة‪ ،‬كلهن‪ ،‬ولم يتخلف منهن واحدة‪،‬‬
‫رضي اللّه عنهن‪.‬‬
‫وفي هذا التخيير فوائد عديدة‪:‬‬
‫منها‪ :‬االعتناء برسوله‪ ،‬وغيرته عليه‪ ،‬أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬سالمته صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات‪ ،‬وأنه يبقى في حرية‬
‫ض اللَّهُ لَهُ }‬
‫يما فََر َ‬
‫ِ‬ ‫نفسه‪ ،‬إن شاء أعطى‪ ،‬وإ ن شاء منع { ما َكان علَى َّ ِ ِ‬
‫النب ِّي م ْن َح َر ٍج ف َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ومنها‪ :‬تنزيهه عما لو كان فيهن‪ ،‬من تؤثر الدنيا على اللّه ورسوله‪ ،‬والدار اآلخرة‪ ،‬وعن‬
‫مقارنتها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬سالمة زوجاته‪ ،‬رضي اللّه عنهن‪ ،‬عن اإلثم‪ ،‬والتعرض لسخط اللّه ورسوله‪.‬‬
‫فحسم اللّه بهذا التخيير عنهن‪ ،‬التسخط على الرسول‪ ،‬الموجب لسخطه‪ ،‬المسخط لربه‪ ،‬الموجب‬
‫لعقابه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬إظهار رفعتهن‪ ،‬وعلو درجتهن‪ ،‬وبيان علو هممهن‪ ،‬أن كان اللّه ورسوله والدار اآلخرة‪،‬‬
‫مرادهن ومقصودهن‪ ،‬دون الدنيا وحطامها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬استعدادهن بهذا االختيار‪ ،‬لألمر الخيار للوصول إلى خيار درجات الجنة‪ ،‬وأن َي ُك َّن‬
‫زوجاته في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ظهور المناسبة بينه وبينهن‪ ،‬فإنه أكمل الخلق‪ ،‬وأراد اللّه أن تكون نساؤه (‪ )2‬كامالت‬
‫ات ِللطَِّّيبِين والطَّيِّبون ِللطَّيِّب ِ‬
‫ات }‬ ‫َّ‬
‫مكمالت‪ ،‬طيبات مطيبات { َوالطيَِّب ُ‬
‫َ‬ ‫َ َ ُ َ‬
‫ومنها‪ :‬أن هذا التخيير داع‪ ،‬وموجب للقناعة‪ ،‬التي يطمئن لها القلب‪ ،‬وينشرح لها الصدر‪ ،‬ويزول‬
‫عنهن جشع الحرص‪ ،‬وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه‪ ،‬وهمه وغمه‪.‬‬
‫سببا لزيادة أجرهن ومضاعفته‪ ،‬وأن َي ُك َّن بمرتبة‪ ،‬ليس فيها أحد‬
‫ومنها‪ :‬أن يكون اختيارهن هذا‪ً ،‬‬
‫من النساء‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ‪ :‬يخبرهن‪.‬‬
‫(‪ )2‬في أ‪ :‬نساء‪.‬‬

‫( ‪)1/662‬‬
‫ك َعلَى اللَّ ِه َي ِس ًيرا‬
‫ان َذِل َ‬ ‫ِ‬
‫اب ض ْعفَْي ِن َو َك َ‬
‫ف لَهَا اْل َع َذ ُ‬
‫اع ْ‬
‫ض َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫النبِ ِّي َم ْن َيأْت م ْن ُك َّن بِفَاح َشة ُمَبيَِّنة ُي َ‬
‫اء َّ‬ ‫ِ‬
‫َيا ن َس َ‬
‫(‪)30‬‬

‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫اب ض ْعفَْي ِن َو َك َ‬
‫ان‬ ‫ف لَهَا اْل َع َذ ُ‬
‫اع ْ‬
‫ض َ‬‫النبِ ِّي َم ْن َيأْت م ْن ُك َّن بِفَاح َشة ُمَبيَِّنة ُي َ‬
‫اء َّ‬
‫{ ‪َ { } 31 - 30‬يا ن َس َ‬
‫ك َعلَى اللَّ ِه َي ِس ًيرا } ‪.‬‬
‫َذِل َ‬
‫لما اخترن اللّه ورسوله والدار اآلخرة‪ ،‬ذكر مضاعفة أجرهن‪ ،‬ومضاعفة وزرهن وإ ثمهن‪ ،‬لو‬
‫جرى منهن‪ ،‬ليزداد حذرهن‪ ،‬وشكرهن اللّه تعالى‪ ،‬فجعل من أتى منهن بفاحشة ظاهرة‪ ،‬لها‬
‫العذاب ضعفين‪.‬‬

‫( ‪)1/663‬‬

‫َعتَ ْدَنا لَهَا ِر ْزقًا َك ِر ً‬


‫يما (‪)31‬‬ ‫ص ِال ًحا ُن ْؤتِهَا أ ْ‬
‫َج َر َها َم َّرتَْي ِن َوأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫وم ْن ي ْقُن ْ ِ َِّ ِ‬
‫ت م ْن ُك َّن لله َو َر ُسوِله َوتَ ْع َم ْل َ‬ ‫ََ َ‬

‫يما } ‪.‬‬ ‫َعتَ ْدَنا لَهَا ِر ْزقًا َك ِر ً‬ ‫ص ِال ًحا ُن ْؤتِهَا أ ْ‬


‫َج َر َها َم َّرتَْي ِن َوأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫{ وم ْن ي ْقُن ْ ِ َِّ ِ‬
‫ت م ْن ُك َّن لله َو َر ُسوِله َوتَ ْع َم ْل َ‬ ‫ََ َ‬
‫كثيرا‪ُ { ،‬ن ْؤتِهَا أ ْ‬
‫َج َر َها‬ ‫ت ِم ْن ُك َّن } أي‪ :‬تطيع { ِللَّ ِه ورسوِل ِه وتَعم ْل ِ‬
‫صال ًحا } قليال أو ً‬ ‫ََ ُ َ َْ َ‬ ‫{ َو َم ْن َي ْقُن ْ‬
‫َعتَ ْدَنا لَهَا ِر ْزقًا َك ِر ً‬
‫يما } وهي الجنة‪ ،‬فقنتن للّه‬ ‫َم َّرتَْي ِن } أي‪ :‬مثل ما نعطي غيرها مرتين‪َ { ،‬وأ ْ‬
‫صالحا‪ ،‬فعلم بذلك أجرهن‪.‬‬
‫ً‬ ‫ورسوله‪ ،‬وعملن‬

‫( ‪)1/663‬‬

‫ض‬ ‫ط َم َع الَِّذي ِفي َقْلبِ ِه َم َر ٌ‬ ‫ض ْع َن بِاْلقَ ْو ِل فََي ْ‬ ‫النبِ ِّي لَستُ َّن َكأَح ٍد ِمن ِّ ِ‬
‫الن َساء ِإ ِن اتَّقَْيتُ َّن فَاَل تَ ْخ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫اء َّ‬ ‫ِ‬
‫َيا ن َس َ‬
‫ين‬ ‫ِ‬ ‫َّة اأْل ُولَى َوأ َِق ْم َن َّ‬ ‫اهِلي ِ‬
‫و ُقْلن قَواًل معروفًا (‪ )32‬وقَرن ِفي بيوتِ ُك َّن واَل تَب َّر ْجن تَب ُّرج اْلج ِ‬
‫الصاَل ةَ َوآَت َ‬ ‫َ َ َ َ َ َ‬ ‫ُُ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ َ ْ َ ُْ‬
‫ط ِه ًيرا (‪)33‬‬ ‫َه َل اْلَب ْي ِت َوُي َ‬
‫طهَِّر ُك ْم تَ ْ‬ ‫الر ْج َس أ ْ‬ ‫ب َعْن ُك ُم ِّ‬ ‫َطعن اللَّه ورسولَه ِإَّنما ي ِر ُ َّ ِ ِ‬
‫يد اللهُ لُي ْذه َ‬ ‫الز َكاةَ َوأ ْ َ َ َ َ ُ ُ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ان لَ ِطيفًا َخبِ ًيرا (‪)34‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ َّ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوا ْذ ُك ْر َن َما ُي ْتلَى في ُبُيوتِ ُك َّن م ْن آََيات الله َواْلح ْك َمة ِإ َّن اللهَ َك َ‬

‫ط َم َع الَِّذي‬‫ض ْع َن بِاْلقَ ْو ِل فََي ْ‬ ‫النبِ ِّي لَستُ َّن َكأَح ٍد ِمن ِّ ِ‬


‫الن َساء ِإ ِن اتَّقَْيتُ َّن فَال تَ ْخ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫اء َّ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪َ { } 34 - 32‬يا ن َس َ‬
‫َّة األولَى َوأ َِق ْم َن‬ ‫اهِلي ِ‬‫ض و ُقْلن قَوال معروفًا * وقَرن ِفي بيوتِ ُك َّن وال تَب َّر ْجن تَب ُّرج اْلج ِ‬
‫َ َ َ َ َ َ‬ ‫ُُ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫في َقْلبِه َم َر ٌ َ َ ْ َ ْ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َه َل اْلَب ْي ِت َوُي َ‬
‫طهَِّر ُك ْم‬ ‫الر ْج َس أ ْ‬ ‫ب َع ْن ُك ُم ِّ‬ ‫َطعن اللَّه ورسولَه ِإَّنما ي ِر ُ َّ ِ ِ‬
‫يد اللهُ لُي ْذه َ‬ ‫الز َكاةَ َوأ ْ َ َ َ َ ُ ُ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ين َّ‬ ‫ِ‬
‫الصَّالةَ وآت َ‬
‫ان لَ ِطيفًا َخبِ ًيرا } ‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ َّ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ط ِه ًيرا * َوا ْذ ُك ْر َن َما ُي ْتلَى في ُبُيوتِ ُك َّن م ْن َآيات الله َواْلح ْك َمة ِإ َّن اللهَ َك َ‬
‫تَ ْ‬
‫النس ِ‬
‫اء ِإ ِن اتَّقَْيتُ َّن } اللّه‪ ،‬فإنكن‬ ‫النبِ ِّي } خطاب لهن كلهن { لَستُ َّن َكأ ٍ ِ‬
‫اء َّ‬ ‫ِ‬
‫َحد م َن ِّ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫يقول تعالى‪َ { :‬يا ن َس َ‬
‫بذلك‪ ،‬تفقن النساء‪ ،‬وال يلحقكن أحد من النساء‪ ،‬فكملن التقوى بجميع وسائلها ومقاصدها‪.‬‬
‫ض ْع َن بِاْلقَ ْو ِل } أي‪ :‬في مخاطبة الرجال‪،‬‬‫فلهذا أرشدهن إلى قطع وسائل المحرم‪ ،‬فقال‪ { :‬فَال تَ ْخ َ‬
‫أو بحيث يسمعون فَتَِل َّن في ذلك‪ ،‬وتتكلمن بكالم رقيق يدعو ويطمع { الَِّذي ِفي َقْلبِ ِه َم َر ٌ‬
‫ض } أي‪:‬‬
‫مرض شهوة الزنا‪ ،‬فإنه مستعد‪ ،‬ينظر أدنى محرك يحركه‪ ،‬ألن قلبه غير صحيح [فإن القلب‬
‫[ ص ‪ ] 664‬الصحيح] (‪ )1‬ليس فيه شهوة لما حرم اللّه‪ ،‬فإن ذلك ال تكاد تُ ِميلُه وال تحركه‬
‫األسباب‪ ،‬لصحة قلبه‪ ،‬وسالمته من المرض‪.‬‬
‫بخالف مريض القلب‪ ،‬الذي ال يتحمل ما يتحمل الصحيح‪ ،‬وال يصبر على ما يصبر عليه‪ ،‬فأدنى‬
‫سبب يوجد‪ ،‬يدعوه إلى الحرام‪ ،‬يجيب دعوته‪ ،‬وال يتعاصى عليه‪ ،‬فهذا دليل على أن الوسائل‪ ،‬لها‬
‫أحكام المقاصد‪ .‬فإن الخضوع بالقول‪ ،‬واللين فيه‪ ،‬في األصل مباح‪ ،‬ولكن لما كان وسيلة إلى‬
‫ين لهم القول‪.‬‬ ‫ِ‬
‫المحرم‪ ،‬منع منه‪ ،‬ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال‪ ،‬أن ال تل َ‬
‫ولما نهاهن عن الخضوع في القول‪ ،‬فربما توهم أنهن مأمورات بإغالظ القول‪ ،‬دفع هذا بقوله‪:‬‬
‫{ َو ُقْل َن قَ ْوال َم ْع ُروفًا } أي‪ :‬غير غليظ‪ ،‬وال جاف كما أنه ليس بِلَي ٍ‬
‫ِّن خاضع‪.‬‬
‫ض ْع َن بِاْلقَ ْو ِل } ولم يقل‪ { :‬فال تَِل َّن بالقول } وذلك ألن المنهي عنه‪،‬‬
‫وتأمل كيف قال‪ { :‬فَال تَ ْخ َ‬
‫القول اللين‪ ،‬الذي فيه خضوع المرأة للرجل‪ ،‬وانكسارها عنده‪ ،‬والخاضع‪ ،‬هو الذي يطمع فيه‪،‬‬
‫لينا‪ ،‬ليس فيه خضوع‪ ،‬بل ربما صار فيه ترفع وقهر للخصم‪ ،‬فإن هذا‪ ،‬ال‬ ‫كالما ً‬ ‫بخالف من تكلم ً‬
‫يطمع فيه خصمه‪ ،‬ولهذا مدح اللّه رسوله باللين‪ ،‬فقال‪ { :‬فَبِ َما َر ْح َم ٍة ِم َن اللَّ ِه ِل ْن َ‬
‫ت لَهُ ْم } وقال‬
‫ط َغى فَقُوال لَهُ قَ ْوال لَيًِّنا لَ َعلَّهُ َيتَ َذ َّك ُر أ َْو َي ْخ َشى }‬
‫لموسى وهارون‪ { :‬ا ْذ َهَبا ِإلَى ِف ْر َع ْو َن ِإَّنهُ َ‬
‫ض } مع أمره بحفظ الفرج وثنائه على الحافظين لفروجهم‪،‬‬ ‫ط َم َع الَِّذي ِفي َقْلبِ ِه َم َر ٌ‬ ‫ودل قوله‪ { :‬فََي ْ‬
‫والحافظات‪ ،‬ونهيه عن قربان الزنا‪ ،‬أنه ينبغي للعبد‪ ،‬إذا رأى من نفسه هذه الحالة‪ ،‬وأنه يهش (‪)2‬‬
‫لفعل المحرم عندما يرى أو يسمع كالم من يهواه‪ ،‬ويجد دواعي طمعه قد انصرفت إلى الحرام‪،‬‬
‫َفْلَي ْع ِر ْ‬
‫ف أن ذلك مرض‪.‬‬
‫َفْلَي ْجتَ ِه ْد في إضعاف هذا المرض وحسم الخواطر الردية‪ ،‬ومجاهدة نفسه على سالمتها من هذا‬
‫المرض الخطر‪ ،‬وسؤال اللّه العصمة والتوفيق‪ ،‬وأن ذلك من حفظ الفرج المأمور به‪.‬‬
‫اهِلي ِ‬
‫َّة األولَى‬ ‫{ وقَرن ِفي بيوتِ ُك َّن } أي‪ :‬اقررن فيها‪ ،‬ألنه أسلم وأحفظ لَ ُك َّن‪ { ،‬وال تَب َّر ْجن تَب ُّرج اْلج ِ‬
‫َ َ َ َ َ َ‬ ‫ُُ‬ ‫َ ْ َ‬
‫} أي‪ :‬ال تكثرن الخروج متجمالت أو متطيبات‪ ،‬كعادة أهل الجاهلية األولى‪ ،‬الذين ال علم عندهم‬
‫وال دين‪ ،‬فكل هذا دفع للشر وأسبابه‪.‬‬
‫عموما‪ ،‬وبجزئيات من التقوى‪ ،‬نص عليها [لحاجة] (‪ )3‬النساء إليها‪ ،‬كذلك‬
‫ً‬ ‫ولما أمرهن بالتقوى‬
‫خصوصا الصالة والزكاة‪ ،‬اللتان يحتاجهما‪ ،‬ويضطر إليهما كل أحد‪ ،‬وهما أكبر‬
‫ً‬ ‫أمرهن بالطاعة‪،‬‬
‫العبادات‪ ،‬وأجل الطاعات‪ ،‬وفي الصالة‪ ،‬اإلخالص للمعبود‪ ،‬وفي الزكاة‪ ،‬اإلحسان إلى العبيد‪.‬‬
‫َط ْع َن اللَّهَ َو َر ُسولَهُ } يدخل في طاعة اللّه ورسوله‪ ،‬كل أمر‪،‬‬ ‫ثم أمرهن بالطاعة عموما‪ ،‬فقال‪ { :‬وأ ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫أمرا به أمر إيجاب أو استحباب‪.‬‬ ‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫{ ِإَّنما ي ِر ُ َّ‬
‫الر ْج َس }‬ ‫َم َر ُك َّن به‪ ،‬ونهيكن بما (‪ )4‬نها ُك َّن عنه‪ { ،‬لُي ْذه َ‬
‫ب َعْن ُك ُم ِّ‬ ‫يد اللهُ } بأمركن بما أ َ‬ ‫َ ُ‬
‫ط ِه ًيرا } حتى تكونوا طاهرين مطهرين‪.‬‬ ‫َه َل اْلَب ْي ِت َوُي َ‬
‫طهَِّر ُك ْم تَ ْ‬ ‫أي‪ :‬األذى‪ ،‬والشر‪ ،‬والخبث‪ ،‬يا { أ ْ‬
‫أي‪ :‬فاحمدوا ربكم‪ ،‬واشكروه على هذه األوامر والنواهي‪ ،‬التي أخبركم بمصلحتها‪ ،‬وأنها محض‬
‫حرجا وال مشقة‪ ،‬بل لتتزكى نفوسكم‪ ،‬ولتتطهر‬
‫مصلحتكم‪ ،‬لم يرد اللّه أن يجعل عليكم بذلك ً‬
‫أخالقكم‪ ،‬وتحسن أعمالكم‪ ،‬ويعظم بذلك أجركم‪.‬‬
‫ولما أمرهن بالعمل‪ ،‬الذي هو فعل وترك‪ ،‬أمرهن بالعلم‪ ،‬وبين لهن طريقه‪ ،‬فقال‪َ { :‬وا ْذ ُك ْر َن َما‬
‫ات اللَّ ِه َواْل ِح ْك َم ِة } والمراد بآيات اللّه‪ ،‬القرآن‪ .‬والحكمة‪ ،‬أسراره‪ .‬وسنة‬
‫ي ْتلَى ِفي بيوتِ ُك َّن ِم ْن آي ِ‬
‫َ‬ ‫ُُ‬ ‫ُ‬
‫رسوله‪ .‬وأمرهن بذكره‪ ،‬يشمل ذكر لفظه‪ ،‬بتالوته‪ ،‬وذكر معناه‪ ،‬بتدبره والتفكر فيه‪ ،‬واستخراج‬
‫ان لَ ِطيفًا َخبِ ًيرا } يدرك أسرار (‪ )5‬األمور‪،‬‬ ‫َّ‬
‫أحكامه وحكمه‪ ،‬وذكر العمل به وتأويله‪ِ { .‬إ َّن اللهَ َك َ‬
‫وخفايا الصدور‪ ،‬وخبايا السماوات واألرض‪ ،‬واألعمال التي تبين وتسر‪.‬‬
‫فلطفه وخبرته‪ ،‬يقتضي حثهن على اإلخالص وإ سرار األعمال‪ ،‬ومجازاة اللّه على تلك األعمال‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من‪ :‬ب‪ ،‬ال يستقيم الكالم بدونها‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في‪ :‬ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬يشتهي‪ ،‬واألقرب ما أثبته‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )4‬في ب‪ :‬عما‪.‬‬
‫(‪ )5‬في ب‪ :‬سرائر‪.‬‬

‫( ‪)1/663‬‬

‫َّادقَ ِ‬‫َّاد ِقين والص ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬


‫ات‬ ‫ين َواْلقَانتَات َوالص َ َ‬ ‫ين َواْل ُم ْؤ ِمَنات َواْلقَانت َ‬
‫ين َواْل ُم ْسل َمات َواْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ِإ َّن اْل ُم ْسلم َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ات واْلمتَ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ص ِّدقَات َوالصَّائم َ‬
‫ين‬ ‫ص ِّدق َ‬
‫ين َواْل ُمتَ َ‬ ‫ين َواْل َخاش َع َ ُ َ‬ ‫ين َوالصَّابِ َرات َواْل َخاشع َ‬ ‫َوالصَّابِ ِر َ‬
‫َع َّد اللَّهُ لَهُ ْم َم ْغ ِف َرةً‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫اك ِر َّ ِ‬
‫ين اللهَ َكث ًيرا َوالذاك َرات أ َ‬‫َ‬
‫الذ ِ‬
‫ات و َّ‬
‫ات واْلح ِاف ِظين فُروجهم واْلح ِاف َ ِ‬
‫ظ َ‬ ‫َ ُ َ ُْ َ َ‬
‫ِ ِ‬
‫َوالصَّائ َم َ َ‬
‫يما (‪)35‬‬ ‫ِ‬
‫َج ًرا َعظ ً‬ ‫َوأ ْ‬

‫ومن معاني { اللطيف } الذي يسوق عبده إلى الخير‪ ،‬ويعصمه من الشر‪ ،‬بطرق خفية ال يشعر‬
‫بها‪ ،‬ويسوق إليه من الرزق‪ ،‬ما ال يدريه‪ ،‬ويريه من األسباب‪ ،‬التي تكرهها النفوس ما يكون ذلك‬
‫طريقا [له] (‪ )1‬إلى أعلى الدرجات‪ ،‬وأرفع المنازل‪.‬‬
‫[ ص ‪] 665‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين‬
‫ين َواْلقَانتَات َوالصَّادق َ‬‫ين َواْل ُم ْؤ ِمَنات َواْلقَانت َ‬
‫ين َواْل ُم ْسل َمات َواْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫{ ‪ِ { } 35‬إ َّن اْل ُم ْسلم َ‬
‫ات واْلمتَص ِّد ِقين واْلمتَص ِّدقَ ِ‬‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ات‬ ‫ين َواْل َخاش َع َ ُ َ َ َ ُ َ‬ ‫ين َوالصَّابِ َرات َواْل َخاشع َ‬ ‫َوالصَّادقَات َوالصَّابِ ِر َ‬
‫َّ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫اك ِر َّ ِ‬ ‫الذ ِ‬
‫ات و َّ‬ ‫ات واْلح ِاف ِظين فُروجهم واْلح ِاف َ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫َع َّد اللهُ‬
‫ين اللهَ َكث ًيرا َوالذاك َرات أ َ‬
‫َ‬ ‫ظ َ‬ ‫َ ُ َ ُْ َ َ‬ ‫ين َوالصَّائ َم َ َ‬ ‫َوالصَّائم َ‬
‫يما } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫لَهُ ْم َم ْغ ِف َرةً َوأ ْ‬
‫َج ًرا َعظ ً‬
‫لما ذكر تعالى ثواب زوجات الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬وعقابهن [لو قدر عدم االمتثال] (‪)2‬‬
‫وأنه ليس مثلهن أحد من النساء‪ ،‬ذكر بقية النساء غيرهن‪.‬‬
‫ات } وهذا‬ ‫واحدا‪ ،‬جعل الحكم مشتر ًكا‪ ،‬فقال‪ِ { :‬إ َّن اْلمسِل ِمين واْلمسِلم ِ‬ ‫ولما كان حكمهن والرجال ً‬
‫ُْ َ َ ُْ َ‬
‫ات } وهذا في األمور الباطنة‪،‬‬ ‫في الشرائع الظاهرة‪ ،‬إذا كانوا قائمين بها‪ { .‬واْلمؤ ِمنِين واْلمؤ ِمَن ِ‬
‫َ ُْ َ َ ُْ‬
‫من عقائد القلب وأعماله‪.‬‬
‫ين } في مقالهم وفعالهم‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين } أي‪ :‬المطيعين للّه ولرسوله { َواْلقَانتَات َوالصَّادق َ‬ ‫{ َواْلقَانت َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين } في جميع‬ ‫ين } على الشدائد والمصائب { َوالصَّابِ َرات َواْل َخاشع َ‬ ‫{ َوالصَّادقَات } { َوالصَّابِ ِر َ‬
‫ات } { واْلمتَ ِ‬ ‫اشع ِ‬ ‫ِ‬
‫فرضا‬‫ً‬ ‫ين }‬‫ص ِّدق َ‬
‫َ ُ َ‬ ‫خصوصا في صلواتهم‪َ { ،‬واْل َخ َ‬ ‫ً‬ ‫أحوالهم‪،‬خصوصا في عباداتهم‪،‬‬
‫ً‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫وجهُ ْم‬‫ين فُُر َ‬
‫ين َوالصَّائ َمات } شمل ذلك‪ ،‬الفرض والنفل‪َ { .‬واْل َحافظ َ‬ ‫ص ِّدقَات َوالصَّائم َ‬ ‫ونفال { َواْل ُمتَ َ‬
‫ين اللَّهَ [ َكثِ ًيرا } أي‪ )3( ]:‬في أكثر األوقات‪،‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫} عن الزنا ومقدماته‪ { ،‬واْلح ِاف َ ِ‬
‫ظات } { َوالذاك ِر َ‬ ‫َ َ‬
‫ات }‬‫اكر ِ‬‫َّ ِ‬
‫خصوصا أوقات األوراد المقيدة‪ ،‬كالصباح والمساء‪ ،‬وأدبار الصلوات المكتوبات { َوالذ َ‬ ‫ً‬
‫َع َّد اللَّهُ لَهُ ْم } أي‪ :‬لهؤالء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة‪ ،‬والمناقب الجليلة‪ ،‬التي هي‪ ،‬ما‬ ‫{أَ‬
‫بين اعتقادات‪ ،‬وأعمال قلوب‪ ،‬وأعمال جوارح‪ ،‬وأقوال لسان‪ ،‬ونفع متعد وقاصر‪ ،‬وما بين أفعال‬
‫الخير‪ ،‬وترك الشر‪ ،‬الذي من قام بهن‪ ،‬فقد قام بالدين كله‪ ،‬ظاهره وباطنه‪ ،‬باإلسالم واإليمان‬
‫واإلحسان‪.‬‬
‫يما } ال‬ ‫ِ‬ ‫فجازاهم على عملهم " بِاْل َم ْغ ِف َر ِة " لذنوبهم‪ ،‬ألن الحسنات يذهبن السيئات‪َ { .‬وأ ْ‬
‫َج ًرا َعظ ً‬
‫يقدر قدره‪ ،‬إال الذي أعطاه‪ ،‬مما ال عين رأت‪ ،‬وال أذن سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب بشر‪ ،‬نسأل‬
‫اللّه أن يجعلنا منهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/664‬‬
‫ون لَهُ ُم اْل ِخَي َرةُ ِم ْن أ َْم ِر ِه ْم و َم ْن َي ْع ِ‬
‫ص‬ ‫ضى اللَّهُ َو َر ُسولُهُ أ َْم ًرا أ ْ‬
‫َن َي ُك َ‬
‫ٍ‬ ‫وما َك ِ‬
‫ان ل ُم ْؤ ِم ٍن َواَل ُم ْؤ ِمَنة ِإ َذا قَ َ‬
‫ََ َ‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫ضاَل اًل ُمبِ ًينا (‪)36‬‬ ‫ض َّل َ‬ ‫اللهَ َو َر ُسولَهُ فَقَ ْد َ‬

‫ون لَهُ ُم اْل ِخَي َرةُ ِم ْن أ َْم ِر ِه ْم‬ ‫ضى اللَّهُ َو َر ُسولُهُ أ َْم ًرا أ ْ‬
‫َن َي ُك َ‬
‫ٍ‬ ‫{ ‪ { } 36‬وما َك ِ‬
‫ان ل ُم ْؤ ِم ٍن َوال ُم ْؤ ِمَنة ِإ َذا قَ َ‬
‫ََ َ‬
‫وم ْن يع ِ َّ‬
‫ضالال ُمبِ ًينا } ‪.‬‬ ‫ض َّل َ‬ ‫ص اللهَ َو َر ُسولَهُ فَقَ ْد َ‬ ‫َ َ َْ‬
‫أي‪ :‬ال ينبغي وال يليق‪ ،‬ممن اتصف باإليمان‪ ،‬إال اإلسراع في مرضاة اللّه ورسوله‪ ،‬والهرب من‬
‫َّ‬
‫ضى اللهُ‬ ‫سخط اللّه ورسوله‪ ،‬وامتثال أمرهما‪ ،‬واجتناب نهيهما‪ ،‬فال يليق بمؤمن وال مؤمنة { ِإ َذا قَ َ‬
‫ون لَهُ ُم اْل ِخَي َرةُ ِم ْن أ َْم ِر ِه ْم } أي‪ :‬الخيار‪،‬‬ ‫َن َي ُك َ‬‫َو َر ُسولُهُ أ َْم ًرا } من األمور‪ ،‬وحتَّما به وألزما به { أ ْ‬
‫هل يفعلونه أم ال؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة‪ ،‬أن الرسول أولى به من نفسه‪ ،‬فال يجعل بعض‬
‫حجابا بينه وبين أمر اللّه ورسوله‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أهواء نفسه‬
‫{ وم ْن يع ِ َّ‬
‫ض َّل َ‬
‫ضالال ُمبِ ًينا } أي‪َ :‬بيًِّنا‪ ،‬ألنه ترك الصراط المستقيم الموصلة‬ ‫ص اللهَ َو َر ُسولَهُ فَقَ ْد َ‬ ‫َ َ َْ‬
‫إلى كرامة اللّه‪ ،‬إلى غيرها‪ ،‬من الطرق الموصلة للعذاب األليم‪ ،‬فذكر أوال السبب الموجب لعدم‬
‫معارضته أمر اللّه ورسوله‪ ،‬وهو اإليمان‪ ،‬ثم ذكر المانع من ذلك‪ ،‬وهو التخويف بالضالل‪ ،‬الدال‬
‫على العقوبة والنكال‪.‬‬

‫( ‪)1/665‬‬

‫َّ‬ ‫ق اللَّهَ َوتُ ْخ ِفي ِفي َن ْف ِس َ‬ ‫ك واتَّ ِ‬ ‫ت َعلَْي ِه أ َْم ِس ْك َعلَْي َ‬


‫َوإِ ْذ تَقُو ُل ِللَِّذي أ َْن َع َم اللَّهُ َعلَْي ِه َوأ َْن َع ْم َ‬
‫ك َما اللهُ‬ ‫ك َز ْو َج َ َ‬
‫ون َعلَى‬ ‫ِ‬ ‫ضى َز ْي ٌد ِم ْنهَا َو َ‬ ‫َح ُّ‬ ‫َّ‬ ‫يه َوتَ ْخ َشى َّ‬ ‫م ْب ِد ِ‬
‫ط ًرا َز َّو ْجَنا َكهَا ل َك ْي اَل َي ُك َ‬ ‫َن تَ ْخ َشاهُ َفلَ َّما قَ َ‬‫ق أْ‬ ‫اس َواللهُ أ َ‬ ‫الن َ‬ ‫ُ‬
‫ان أ َْم ُر اللَّ ِه َم ْف ُعواًل (‪)37‬‬ ‫ط ًرا َو َك َ‬ ‫ض ْوا ِم ْنهُ َّن َو َ‬ ‫اْلمؤ ِمنِين حر ٌج ِفي أ َْزو ِ ِ ِ‬
‫اج أ َْدعَيائ ِه ْم ِإ َذا قَ َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ ََ‬

‫ق اللَّهَ َوتُ ْخ ِفي ِفي‬ ‫ك واتَّ ِ‬


‫ك َز ْو َج َ َ‬ ‫ت َعلَْي ِه أ َْم ِس ْك َعلَْي َ‬ ‫{ ‪َ { } 37‬وإِ ْذ تَقُو ُل ِللَِّذي أ َْن َع َم اللَّهُ َعلَْي ِه َوأ َْن َع ْم َ‬
‫ط ًرا َز َّو ْجَنا َكهَا ِل َك ْي‬
‫ضى َز ْي ٌد ِم ْنهَا َو َ‬ ‫َن تَ ْخ َشاهُ َفلَ َّما قَ َ‬‫ق أْ‬ ‫َح ُّ‬ ‫َّ‬
‫اس َواللهُ أ َ‬ ‫الن َ‬‫يه َوتَ ْخ َشى َّ‬ ‫ك ما اللَّه م ْب ِد ِ‬
‫َن ْفس َ َ ُ ُ‬
‫ِ‬
‫ان أ َْم ُر اللَّ ِه َم ْف ُعوال } ‪.‬‬ ‫ض ْوا ِم ْنهُ َّن َو َ‬
‫ط ًرا َو َك َ‬
‫ال ي ُكون علَى اْلمؤ ِمنِين حر ٌج ِفي أ َْزو ِ ِ ِ‬
‫اج أ َْدعَيائ ِه ْم ِإ َذا قَ َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ ََ‬ ‫َ َ َ‬
‫عاما للمؤمنين‪ ،‬أن األدعياء‬ ‫شرعا ً‬ ‫ً‬ ‫وكان سبب نزول هذه اآليات‪ ،‬أن اللّه تعالى أراد أن يشرع‬
‫ليسوا في حكم األبناء حقيقة‪ ،‬من جميع الوجوه وأن أزواجهم‪ ،‬ال جناح على من تبناهم‪ ،‬في‬
‫نكاحهن‪.‬‬
‫وكان هذا من األمور المعتادة‪ ،‬التي ال تكاد تزول إال بحادث كبير‪ ،‬فأراد أن يكون هذا الشرع‬
‫سببا‪ ،‬وكان زيد بن حارثة يدعى "زيد بن‬ ‫أمرا‪ ،‬جعل له ً‬
‫قوال من رسوله‪ ،‬وفعال وإ ذا أراد اللّه ً‬
‫آلبائِ ِه ْم } فقيل‬
‫وه ْم َ‬
‫محمد" قد تبناه النبي صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬فصار يدعى إليه حتى نزل { ْاد ُع ُ‬
‫له‪" :‬زيد بن حارثة" ‪.‬‬
‫وكانت تحته‪ ،‬زينب بنت جحش‪ ،‬ابنة عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬وكان قد وقع في قلب‬
‫لتزوجها‪ ،‬فقدر اللّه أن يكون بينها وبين زيد‪ ،‬ما اقتضى أن جاء زيد بن‬
‫الرسول‪ ،‬لو طلقها زيد‪َّ ،‬‬
‫حارثة يستأذن النبي صلى اللّه عليه وسلم في فراقها‪.‬‬
‫ت َعلَْي ِه } بالعتق (‪ )1‬حين جاءك‬ ‫قال اللّه‪َ { :‬وإِ ْذ تَقُو ُل ِللَِّذي أ َْن َع َم اللَّهُ َعلَْي ِه } أي‪ :‬باإلسالم { َوأ َْن َع ْم َ‬
‫ومخبرا بمصلحته (‪ )2‬مع وقوعها في قلبك‪ { :‬أ َْم ِس ْك‬ ‫ً‬ ‫ناصحا له‬
‫ً‬ ‫مشاورا في فراقها‪ :‬فقلت له‬ ‫ً‬
‫ق اللهَ } تعالى في أمورك‬ ‫َّ‬ ‫ك } أي‪ :‬ال تفارقها‪ ،‬واصبر على ما جاءك منها‪ { ،‬واتَّ ِ‬ ‫ك َز ْو َج َ‬‫َعلَْي َ‬
‫َ‬
‫عامة‪ ،‬وفي أمر زوجك خاصة‪ ،‬فإن التقوى‪ ،‬تحث على الصبر‪ ،‬وتأمر به‪.‬‬
‫يه } والذي أخفاه‪ ،‬أنه لو طلقها زيد‪ ،‬لتزوجها صلى اللّه عليه وسلم‪.‬‬ ‫ك ما اللَّه م ْب ِد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫{ َوتُ ْخفي في َن ْفس َ َ ُ ُ‬
‫شيئا‪{ ،‬‬ ‫َن تَ ْخ َشاهُ } (‪ )3‬وأن ال تباليهم ً‬ ‫َح ُّ‬ ‫َّ‬ ‫{ َوتَ ْخ َشى َّ‬
‫ق أْ‬ ‫اس } في عدم إبداء ما في نفسك { َواللهُ أ َ‬ ‫الن َ‬
‫ط ًرا } أي‪ :‬طابت نفسه‪ ،‬ورغب عنها‪ ،‬وفارقها‪َ { .‬ز َّو ْجَنا َكهَا } وإ نما [ ص‬ ‫ضى َز ْي ٌد ِم ْنهَا َو َ‬ ‫َفلَ َّما قَ َ‬
‫اج أ َْد ِعَيائِ ِه ْم‬
‫ين َح َر ٌج ِفي أ َْز َو ِ‬ ‫ِ‬
‫ون َعلَى اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ِ‬
‫‪ ] 666‬فعلنا ذلك‪ ،‬لفائدة عظيمة‪ ،‬وهي‪ { :‬ل َك ْي ال َي ُك َ‬
‫} حيث رأوك تزوجت‪ ،‬زوج زيد بن حارثة‪ ،‬الذي كان من قبل‪ ،‬ينتسب إليك‪.‬‬
‫عاما في جميع‬ ‫ين َح َر ٌج ِفي أ َْزو ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون َعلَى اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ِ‬
‫اج أ َْدعَيائه ْم } ً‬ ‫َ‬ ‫ولما كان قوله‪ { :‬ل َك ْي ال َي ُك َ‬
‫األحوال‪ ،‬وكان من األحوال‪ ،‬ما ال يجوز ذلك‪ ،‬وهي قبل انقضاء وطره منها‪ ،‬قيد ذلك بقوله‪ِ { :‬إ َذا‬
‫ان أ َْم ُر اللَّ ِه َم ْف ُعوال } أي‪ :‬ال بد من فعله‪ ،‬وال عائق له وال مانع‪.‬‬ ‫ط ًرا َو َك َ‬‫ض ْوا ِم ْنهُ َّن َو َ‬
‫قَ َ‬
‫وفي هذه اآليات المشتمالت على هذه القصة‪ ،‬فوائد‪ ،‬منها‪ :‬الثناء على زيد بن حارثة‪ ،‬وذلك من‬
‫وجهين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن اللّه سماه في القرآن‪ ،‬ولم يسم من الصحابة باسمه غيره‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن اللّه أخبر أنه أنعم عليه‪ ،‬أي‪ :‬بنعمة اإلسالم واإليمان‪ .‬وهذه شهادة من اللّه له أنه‬
‫وباطنا‪ ،‬وإ ال فال وجه لتخصيصه بالنعمة‪ ،‬لوال أن المراد بها‪ ،‬النعمة‬
‫ً‬ ‫ظاهرا‬
‫ً‬ ‫مسلم مؤمن‪،‬‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫الم ْعتَق في نعمة اْل ُم ْعتِق‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن ُ‬
‫الد ِع ّي‪ ،‬كما صرح به‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬جواز تزوج زوجة َّ‬
‫ومنها‪ :‬أن التعليم الفعلي‪ ،‬أبلغ من القولي‪ ،‬خصوصا‪ ،‬إذا اقترن بالقول‪ ،‬فإن ذلك‪ ،‬نور على نور‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن المحبة التي في قلب العبد‪ ،‬لغير زوجته ومملوكته‪ ،‬ومحارمه‪ ،‬إذا لم يقترن بها‬
‫محذور‪ ،‬ال يأثم عليها العبد‪ ،‬ولو اقترن بذلك أمنيته‪ ،‬أن لو طلقها زوجها‪ ،‬لتزوجها من غير أن‬
‫يسعى في فرقة بينهما‪ ،‬أو يتسبب بأي سبب كان‪ ،‬ألن اللّه أخبر أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪،‬‬
‫أخفى ذلك في نفسه‪.‬‬
‫شيئا مما أوحي إليه‪ ،‬إال‬
‫ومنها‪ :‬أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬قد بلغ البالغ المبين‪ ،‬فلم يدع ً‬
‫وبلغه‪ ،‬حتى هذا األمر‪ ،‬الذي فيه عتابه‪.‬‬
‫وهذا يدل‪ ،‬على أنه رسول اللّه‪ ،‬وال يقول إال ما أوحي إليه‪ ،‬وال يريد تعظيم نفسه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن المستشار مؤتمن‪ ،‬يجب عليه ‪-‬إذا استشير في أمر من األمور‪ -‬أن يشير بما يعلمه‬
‫أصلح للمستشير (‪ )4‬ولو كان له حظ نفس‪ ،‬فتقدم مصلحة المستشير على هوى نفسه وغرضه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن من الرأي‪ :‬الحسن لمن استشار في فراق زوجته أن يؤمر بإمساكها مهما أمكن صالح‬
‫الحال‪ ،‬فهو أحسن من الفرقة‪.‬‬
‫ومنها‪[ :‬أنه يتعين] (‪ )5‬أن يقدم العبد خشية اللّه‪ ،‬على خشية الناس‪ ،‬وأنها أحق منها وأولى‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬فضيلة زينب رضي اللّه عنها أم المؤمنين‪ ،‬حيث تولى اللّه تزويجها‪ ،‬من رسوله صلى‬
‫اللّه عليه وسلم‪ ،‬من دون خطبة وال شهود‪ ،‬ولهذا كانت تفتخر بذلك على أزواج رسول اللّه صلى‬
‫اللّه عليه وسلم‪ ،‬وتقول زوجكن أهاليكن‪ ،‬وزوجني اللّه من فوق سبع سماوات‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن المرأة‪ ،‬إذا كانت ذات زوج‪ ،‬ال يجوز نكاحها‪ ،‬وال السعي فيه وفي أسبابه‪ ،‬حتى يقضي‬
‫زوجها وطره منها‪ ،‬وال يقضي وطره‪ ،‬حتى تنقضي عدتها‪ ،‬ألنها قبل انقضاء عدتها‪ ،‬هي في‬
‫عصمته‪ ،‬أو في حقه الذي له وطر إليها‪ ،‬ولو من بعض الوجوه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في هامش ب‪ :‬واإلرشاد والتعليم‪.‬‬
‫مقدما لها على رغبتك‪.‬‬
‫(‪ )2‬في هامش ب‪ً :‬‬
‫(‪ )3‬في هامش ب‪ :‬فإن خشيته‪ ،‬جالبة لكل خير‪] ،‬مانعة[ من كل شر (مع أن كلمة مانعة واضحة‬
‫في األصل)‪.‬‬
‫(‪ )4‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬للمستشار‪ ،‬ولعل الصواب ما أثبت ‪-‬واهلل أعلم‪.-‬‬
‫(‪ )5‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/665‬‬

‫ان أ َْم ُر اللَّ ِه قَ َد ًرا‬ ‫ِ‬


‫ين َخلَ ْوا م ْن قَْب ُل َو َك َ‬
‫َّ ِ ِ َِّ‬
‫ض اللهُ لَهُ ُسَّنةَ الله في الذ َ‬
‫َّ‬
‫يما فََر َ‬
‫ِ‬ ‫ما َكان علَى َّ ِ ِ‬
‫النب ِّي م ْن َح َر ٍج ف َ‬ ‫َ َ َ‬
‫َح ًدا ِإاَّل اللَّهَ َو َكفَى بِاللَّ ِه َح ِس ًيبا (‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ون ِر َسااَل ت الله َوَي ْخ َش ْوَنهُ َواَل َي ْخ َش ْو َن أ َ‬ ‫ِّ‬
‫ين ُيَبل ُغ َ‬
‫َِّ‬
‫ورا (‪ )38‬الذ َ‬
‫َم ْق ُد ً‬
‫‪)39‬‬
‫ين َخلَ ْوا ِم ْن قَْب ُل‬ ‫َّ ِ ِ َِّ‬
‫ض اللهُ لَهُ ُسَّنةَ الله في الذ َ‬
‫َّ‬
‫يما فََر َ‬
‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 39 - 38‬ما َكان علَى َّ ِ ِ‬
‫النب ِّي م ْن َح َر ٍج ف َ‬ ‫َ َ َ‬
‫َح ًدا ِإال اللَّهَ َو َكفَى‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ون ِر َساالت الله َوَي ْخ َش ْوَنهُ َوال َي ْخ َش ْو َن أ َ‬ ‫ِّ‬
‫ين ُيَبل ُغ َ‬
‫َِّ‬
‫ورا * الذ َ‬
‫َّ ِ‬
‫ان أ َْم ُر الله قَ َد ًرا َم ْق ُد ً‬
‫َو َك َ‬
‫بِاللَّ ِه َح ِس ًيبا } ‪.‬‬
‫هذا دفع لطعن من طعن في الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬في كثرة أزواجه‪ ،‬وأنه طعن‪ ،‬بما ال‬
‫ض اللَّهُ لَهُ } أي‪ :‬قدر‬ ‫يما فََر َ‬
‫ِ‬
‫النب ِّي م ْن َح َر ٍج } أي‪ :‬إثم وذنب‪ { .‬ف َ‬
‫مطعن فيه‪ ،‬فقال‪ { :‬ما َكان علَى َّ ِ ِ‬
‫َ َ َ‬
‫ين َخلَ ْوا ِم ْن‬ ‫َّ ِ ِ َِّ‬
‫له من الزوجات‪ ،‬فإن هذا‪ ،‬قد أباحه اللّه لألنبياء قبله‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬سَّنةَ الله في الذ َ‬
‫ورا } أي‪ :‬ال بد من وقوعه‪.‬‬ ‫َّ ِ‬
‫ان أ َْم ُر الله قَ َد ًرا َم ْق ُد ً‬‫قَْب ُل َو َك َ‬
‫االت اللَّ ِه }‬
‫ثم ذكر من هم الذين من قبل قد خلوا‪ ،‬وهذه سنتهم وعادتهم‪ ،‬وأنهم { الَِّذين يبلِّ ُغون ِرس ِ‬
‫َ َُ َ َ‬
‫فيتلون على العباد آيات اللّه‪ ،‬وحججه وبراهينه‪ ،‬ويدعونهم إلى اللّه { َوَي ْخ َش ْوَنهُ } وحده ال شريك‬
‫َح ًدا } إال اللّه‪.‬‬
‫له { َوال َي ْخ َش ْو َن أ َ‬
‫فإذا كان هذا‪ ،‬سنة في األنبياء المعصومين‪ ،‬الذين وظيفتهم قد أدوها وقاموا بها‪ ،‬أتم القيام‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫دعوة الخلق إلى اللّه‪ ،‬والخشية منه وحده التي تقتضي فعل كل مأمور‪ ،‬وترك كل محظور‪ ،‬دل‬
‫ذلك على أنه ال نقص فيه بوجه‪.‬‬
‫مراقبا أعمالهم‪ .‬وعلم من هذا‪ ،‬أن النكاح‪ ،‬من سنن‬
‫ً‬ ‫محاسبا عباده‪،‬‬
‫ً‬ ‫{ َو َكفَى بِاللَّ ِه َح ِس ًيبا }‬
‫المرسلين‪.‬‬

‫( ‪)1/666‬‬

‫يما (‪)40‬‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِّين و َك َ َّ ِ ِّ‬ ‫َح ٍد ِم ْن ِر َج ِال ُك ْم ولَ ِك ْن َر ُسو َل اللَّ ِه و َخاتَم َّ ِ‬
‫ان اللهُ ب ُكل َش ْيء َعل ً‬ ‫النبي َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ان ُم َح َّم ٌد أََبا أ َ‬
‫َما َك َ‬

‫ان اللَّهُ بِ ُك ِّل َش ْي ٍء‬ ‫ول اللَّ ِه َو َخاتَ َم َّ‬


‫النبِي َ‬
‫ِّين َو َك َ‬ ‫َح ٍد ِم ْن ِر َج ِال ُك ْم َولَ ِك ْن َر ُس َ‬
‫ان ُم َح َّم ٌد أََبا أ َ‬
‫{ ‪َ { } 40‬ما َك َ‬
‫يما } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َعل ً‬
‫َح ٍد ِم ْن ِر َج ِال ُك ْم } أيها األمة فقطع‬ ‫أي‪ :‬لم يكن الرسول { ُم َح َّم ٌد } صلى اللّه عليه وسلم { أََبا أ َ‬
‫انتساب زيد بن حارثة منه‪ ،‬من هذا الباب‪.‬‬
‫عاما في جميع األحوال‪ ،‬إن حمل ظاهر اللفظ على [ ص ‪ ] 667‬ظاهره‪ ،‬أي‪:‬‬
‫ولما كان هذا النفي ًّ‬
‫ال أبوة نسب‪ ،‬وال أبوة ادعاء‪ ،‬وقد كان تقرر فيما تقدم أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬أب‬
‫للمؤمنين كلهم‪ ،‬وأزواجه أمهاتهم‪ ،‬فاحترز أن يدخل في هذا النوع‪ ،‬بعموم النهي المذكور‪ ،‬فقال‪{ :‬‬
‫ول اللَّ ِه َو َخاتَ َم َّ‬
‫النبِي َ‬
‫ِّين } أي‪ :‬هذه مرتبته مرتبة المطاع المتبوع‪ ،‬المهتدى به‪ ،‬المؤمن له‬ ‫َولَ ِك ْن َر ُس َ‬
‫الذي يجب تقديم محبته‪ ،‬على محبة كل أحد‪ ،‬الناصح الذي لهم‪ ،‬أي‪ :‬للمؤمنين‪ ،‬من بره [ونصحه]‬
‫(‪ )1‬كأنه أب لهم‪.‬‬
‫يما } أي‪ :‬قد أحاط علمه بجميع األشياء‪ ،‬ويعلم حيث يجعل رساالته‪،‬‬ ‫ٍ ِ‬ ‫{ و َك َ َّ ِ ِّ‬
‫ان اللهُ ب ُكل َش ْيء َعل ً‬ ‫َ‬
‫ومن يصلح لفضله‪ ،‬ومن ال يصلح‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/666‬‬

‫يا أَيُّها الَِّذين آَمُنوا ا ْذ ُكروا اللَّه ِذ ْكرا َكثِيرا (‪ )41‬وسبِّحوه ب ْكرةً وأ ِ‬
‫َصياًل (‪)42‬‬ ‫َ َ ُ ُُ َ َ‬ ‫ً‬ ‫َ ً‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬

‫َصيال * ُه َو الَِّذي‬
‫{ ‪ { } 44 - 41‬يا أَُّيها الَِّذين آمُنوا ا ْذ ُكروا اللَّه ِذ ْكرا َكثِيرا * وسبِّحوه ب ْكرةً وأ ِ‬
‫َ َ ُ ُُ َ َ‬ ‫ً‬ ‫َ ً‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يصلِّي علَْي ُكم ومالئِ َكتُه ِلي ْخ ِرج ُكم ِمن الظُّلُم ِ‬
‫يما } ‪.‬‬
‫ين َرح ً‬ ‫ان بِاْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ور َو َك َ‬ ‫ات ِإلَى ُّ‬
‫الن ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ َ ْ َ‬ ‫ُ َ َ ْ ََ‬
‫كثيرا‪ ،‬من تهليل‪ ،‬وتحميد‪ ،‬وتسبيح‪ ،‬وتكبير وغير ذلك‪ ،‬من كل‬ ‫يأمر تعالى المؤمنين‪ ،‬بذكره ذكرا ً‬
‫قول فيه قربة إلى اللّه‪ ،‬وأقل ذلك‪ ،‬أن يالزم اإلنسان‪ ،‬أوراد الصباح‪ ،‬والمساء‪ ،‬وأدبار الصلوات‬
‫الخمس‪ ،‬وعند العوارض واألسباب‪.‬‬
‫وينبغي مداومة ذلك‪ ،‬في جميع األوقات‪ ،‬على جميع األحوال‪ ،‬فإن ذلك عبادة يسبق بها العامل‪،‬‬
‫وهو مستريح‪ ،‬وداع إلى محبة اللّه ومعرفته‪ ،‬وعون على الخير‪ ،‬وكف اللسان عن الكالم القبيح‪.‬‬
‫{ وسبِّحوه ب ْكرةً وأ ِ‬
‫َصيال } أي‪ :‬أول النهار وآخره‪ ،‬لفضلها‪ ،‬وشرفها‪ ،‬وسهولة العمل فيها‪.‬‬ ‫َ َ ُ ُُ َ َ‬

‫( ‪)1/667‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُهو الَِّذي يصلِّي علَْي ُكم وماَل ئِ َكتُه ِلي ْخ ِرج ُكم ِمن الظُّلُم ِ‬
‫يما (‪)43‬‬ ‫ان بِاْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين َرح ً‬ ‫ور َو َك َ‬ ‫ات ِإلَى ُّ‬
‫الن ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ َ ْ َ‬ ‫ُ َ َ ْ ََ‬ ‫َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ُهو الَِّذي يصلِّي علَْي ُكم ومالئِ َكتُه ِلي ْخ ِرج ُكم ِمن الظُّلُم ِ‬
‫يما }‬ ‫ان بِاْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين َرح ً‬ ‫ور َو َك َ‬ ‫ات ِإلَى ُّ‬
‫الن ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ َ ْ َ‬ ‫ُ َ َ ْ ََ‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم‪ ،‬أن جعل من صالته عليهم‪ ،‬وثنائه‪ ،‬وصالة مالئكته‬
‫ودعائهم‪ ،‬ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل‪ ،‬إلى نور اإليمان‪ ،‬والتوفيق‪ ،‬والعلم‪ ،‬والعمل‪،‬‬
‫فهذه أعظم نعمة‪ ،‬أنعم بها على العباد الطائعين‪ ،‬تستدعي منهم شكرها‪ ،‬واإلكثار من ذكر اللّه‪،‬‬
‫الذي لطف بهم ورحمهم‪ ،‬وجعل حملة عرشه‪ ،‬أفضل المالئكة‪ ،‬ومن حوله‪ ،‬يسبحون بحمد ربهم‬
‫ين تَ ُابوا َواتََّب ُعوا‬ ‫ت ُك َّل َشي ٍء ر ْحمةً و ِعْلما فَ ْ ِ َِِّ‬
‫ويستغفرون للذين آمنوا فيقولون‪َ { :‬ربََّنا َو ِس ْع َ‬
‫اغف ْر للذ َ‬ ‫ْ َ َ َ ً‬
‫صلَ َح ِم ْن َآبائِ ِهم وأ َْزو ِ‬
‫اج ِه ْم‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫اب اْل َجحيم َربََّنا َوأ َْدخْلهُ ْم َجَّنات َع ْد ٍن التي َو َع ْدتَهُم َو َم ْن َ‬‫ك َو ِق ِه ْم َع َذ َ‬ ‫َسبِيلَ َ‬
‫َْ َ‬
‫ات َي ْو َمئٍِذ فَقَ ْد َر ِح ْمتَهُ َو َذِل َ‬
‫ك ُه َو‬ ‫ات وم ْن تَِقي السَّيَِّئ ِ‬
‫ِ‬ ‫ت اْل َع ِز ُيز اْل َح ِك ِ ِ‬
‫يم َوقه ْم السَّيَِّئ َ َ‬
‫ُ‬ ‫َو ُذِّريَّاتِ ِه ْم ِإَّن َ‬
‫ك أ َْن َ‬
‫يم }‬ ‫ِ‬
‫اْلفَ ْو ُز اْل َعظ ُ‬
‫فهذه رحمته ونعمته عليهم في الدنيا‪.‬‬

‫( ‪)1/667‬‬

‫َع َّد لَهُ ْم أ ْ‬ ‫ِ‬


‫َج ًرا َك ِر ً‬
‫يما (‪)44‬‬ ‫تَحيَّتُهُ ْم َي ْو َم َيْلقَ ْوَنهُ َساَل ٌم َوأ َ‬

‫َع َّد لَهُ ْم أ ْ‬ ‫ِ‬


‫َج ًرا َك ِر ً‬
‫يما } ‪.‬‬ ‫الم َوأ َ‬
‫{ تَحيَّتُهُ ْم َي ْو َم َيْلقَ ْوَنهُ َس ٌ‬
‫وأما رحمته بهم في اآلخرة‪ ،‬فأجل رحمة‪ ،‬وأفضل ثواب‪ ،‬وهو الفوز برضا ربهم‪ ،‬وتحيته‪،‬‬
‫واستماع كالمه الجليل‪ ،‬ورؤية وجهه الجميل‪ ،‬وحصول األجر الكبير‪ ،‬الذي ال يدري وال يعرف‬
‫َع َّد لَهُ ْم أ ْ‬ ‫ِ‬
‫َج ًرا َك ِر ً‬
‫يما }‬ ‫الم َوأ َ‬
‫كنهه‪ ،‬إال من أعطاهم إياه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬تَحيَّتُهُ ْم َي ْو َم َيْلقَ ْوَنهُ َس ٌ‬

‫( ‪)1/667‬‬

‫اجا ُمنِ ًيرا (‪)46‬‬ ‫َّ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫النبِ ُّي ِإَّنا أَرسْلَنا َ ِ‬
‫ك َشاه ًدا َو ُمَب ِّش ًرا َوَنذ ًيرا (‪َ )45‬و َداعًيا ِإلَى الله بِِإ ْذنه َوس َر ً‬ ‫ْ َ‬ ‫َيا أَيُّهَا َّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َن لَهُ ْم ِم َن اللَّ ِه فَ ْ‬ ‫ِ‬
‫اه ْم‬
‫ع أَ َذ ُ‬
‫ين َو َد ْ‬ ‫ضاًل َكبِ ًيرا (‪َ )47‬واَل تُط ِع اْل َكاف ِر َ‬
‫ين َواْل ُمَنافق َ‬ ‫َوَب ِّش ِر اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين بِأ َّ‬
‫َوتََو َّك ْل َعلَى اللَّ ِه َو َكفَى بِاللَّ ِه َو ِكياًل (‪)48‬‬

‫َّ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫النبِ ُّي ِإَّنا أَرسْلَن َ ِ‬


‫اك َشاه ًدا َو ُمَب ِّش ًرا َوَنذ ًيرا * َو َداعًيا ِإلَى الله بِِإ ْذنه َوس َر ً‬
‫اجا‬ ‫ْ َ‬ ‫{ ‪َ { } 48 - 45‬يا أَيُّهَا َّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َن لَهُ ْم ِم َن اللَّ ِه فَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اه ْم‬
‫ع أَ َذ ُ‬
‫ين َو َد ْ‬ ‫ضال َكبِ ًيرا * َوال تُط ِع اْل َكاف ِر َ‬
‫ين َواْل ُمَنافق َ‬ ‫ُمن ًيرا * َوَب ِّش ِر اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين بِأ َّ‬
‫َوتََو َّك ْل َعلَى اللَّ ِه َو َكفَى بِاللَّ ِه َو ِكيال } ‪.‬‬
‫محمدا صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬هي المقصود من رسالته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫هذه األشياء‪ ،‬التي وصف اهلل بها رسوله‬
‫شاهدا على‬ ‫ً‬ ‫اه ًدا } أي‪:‬‬ ‫وزبدتها وأصولها‪ ،‬التي اختص بها‪ ،‬وهي خمسة أشياء‪ :‬أحدها‪ :‬كونه { َش ِ‬
‫الر ُسو ُل‬
‫ون َّ‬ ‫الن ِ‬
‫اس َوَي ُك َ‬ ‫اء َعلَى َّ‬ ‫أمته بما عملوه‪ ،‬من خير وشر‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ { :‬لتَ ُك ُ‬
‫ونوا ُشهَ َد َ‬
‫ك علَى َهؤ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ف ِإ َذا ِج ْئَنا ِم ْن ُك ِّل أ َّ ٍ‬
‫يدا } فهو صلى اللّه‬ ‫الء َش ِه ً‬ ‫ُ‬ ‫ُمة بِ َش ِهيد َو ِج ْئَنا بِ َ َ‬ ‫َعلَْي ُك ْم َش ِه ً‬
‫يدا } { فَ َك ْي َ‬
‫عليه وسلم شاهد عدل مقبول‪.‬‬
‫الثاني‪ ،‬والثالث‪ :‬كونه { ُمَب ِّش ًرا َوَن ِذ ًيرا } وهذا يستلزم ذكر المبشر والمنذر‪ ،‬وما يبشر به وينذر‪،‬‬
‫واألعمال الموجبة لذلك‪.‬‬
‫َّ‬
‫فالمبشر هم‪ :‬المؤمنون المتقون‪ ،‬الذين جمعوا بين اإليمان والعمل الصالح‪ ،‬وترك المعاصي‪ ،‬لهم‬
‫البشرى في الحياة الدنيا‪ ،‬بكل ثواب دنيوي وديني‪ ،‬رتب على اإليمان والتقوى‪ ،‬وفي األخرى‬
‫بالنعيم المقيم‪.‬‬
‫وذلك كله يستلزم‪ ،‬ذكر تفصيل المذكور‪ ،‬من تفاصيل األعمال‪ ،‬وخصال التقوى‪ ،‬وأنواع الثواب‪.‬‬
‫من َذر هم‪ :‬المجرمون الظالمون‪ ،‬أهل الظلم والجهل‪ ،‬لهم النذارة في الدنيا‪ ،‬من العقوبات‬
‫واْل ْ‬
‫الدنيوية والدينية‪ ،‬المترتبة على الجهل والظلم‪ ،‬وفي األخرى‪ ،‬بالعقاب الوبيل‪ ،‬والعذاب الطويل‪.‬‬
‫وهذه الجملة تفصيلها‪ ،‬ما جاء به صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬من الكتاب والسنة‪ ،‬المشتمل على ذلك‪.‬‬
‫اعًيا ِإلَى اللَّ ِه } أي‪ :‬أرسله اللّه‪ ،‬يدعو الخلق إلى ربهم‪ ،‬ويسوقهم (‪ )1‬لكرامته‪،‬‬
‫الرابع‪ :‬كونه { َد ِ‬
‫ويأمرهم بعبادته‪ ،‬التي خلقوا لها‪ ،‬وذلك يستلزم استقامته‪ ،‬على ما يدعو إليه‪ ،‬وذكر تفاصيل ما‬
‫يدعو إليه‪ ،‬بتعريفهم لربهم [ ص ‪ ] 668‬بصفاته المقدسة‪ ،‬وتنزيهه عما ال يليق بجالله‪ ،‬وذكر‬
‫أنواع العبودية‪ ،‬والدعوة إلى اللّه بأقرب طريق موصل إليه‪ ،‬وإ عطاء كل ذي حق حقه‪ ،‬وإ خالص‬
‫الدعوة إلى اللّه‪ ،‬ال إلى نفسه وتعظيمها‪ ،‬كما قد يعرض ذلك لكثير من النفوس في هذا المقام‪،‬‬
‫وذلك كله بِِإ ْذ ِن اهلل تعالى له في الدعوة وأمره وإ رادته وقدره‪.‬‬
‫اجا ُمنِ ًيرا } وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة‪ ،‬ال نور‪ ،‬يهتدى به في‬ ‫ِ‬
‫الخامس‪ :‬كونه { س َر ً‬
‫ظلماتها‪ ،‬وال علم‪ ،‬يستدل به في جهاالتها (‪ )2‬حتى جاء اللّه بهذا النبي الكريم‪ ،‬فأضاء اللّه به تلك‬
‫ضالال إلى الصراط المستقيم‪.‬‬
‫الظلمات‪ ،‬وعلم به من الجهاالت‪ ،‬وهدى به ُ‬
‫فأصبح أهل االستقامة‪ ،‬قد وضح لهم الطريق‪ ،‬فمشوا خلف هذا اإلمام وعرفوا به الخير والشر‪،‬‬
‫وأهل السعادة من أهل الشقاوة‪ ،‬واستناروا به‪ ،‬لمعرفة معبودهم‪ ،‬وعرفوه بأوصافه الحميدة‪،‬‬
‫وأفعاله السديدة‪ ،‬وأحكامه الرشيدة‪.‬‬
‫َّ‬
‫المبشر‪ ،‬وهم‬ ‫َن لَهُ ْم ِم َن اللَّ ِه فَ ْ‬
‫ضال َكبِ ًيرا } ذكر في هذه الجملة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وقوله‪َ { :‬وَب ِّش ِر اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين بِأ َّ‬
‫المؤمنون‪ ،‬وعند ذكر اإليمان بمفرده‪ ،‬تدخل فيه األعمال الصالحة‪.‬‬
‫َّ‬
‫المبشر به‪ ،‬وهو الفضل الكبير‪ ،‬أي‪ :‬العظيم الجليل‪ ،‬الذي ال يقادر قدره‪ ،‬من النصر في‬ ‫وذكر‬
‫الدنيا‪ ،‬وهداية القلوب‪ ،‬وغفران الذنوب‪ ،‬وكشف الكروب‪ ،‬وكثرة األرزاق َّ‬
‫الد َّارة‪ ،‬وحصول النعم‬
‫السارة‪ ،‬والفوز برضا ربهم وثوابه‪ ،‬والنجاة من سخطه وعقابه‪.‬‬
‫وهذا مما ينشط العاملين‪ ،‬أن يذكر لهم‪ ،‬من ثواب اللّه على أعمالهم‪ ،‬ما به يستعينون على سلوك‬
‫الصراط المستقيم‪ ،‬وهذا من جملة حكم الشرع‪ ،‬كما أن من حكمه‪ ،‬أن يذكر في مقام الترهيب‪،‬‬
‫عونا على الكف عما حرم اللّه‪.‬‬
‫العقوبات المترتبة على ما يرهب منه‪ ،‬ليكون ً‬
‫ولما كان ثََّم طائفة من الناس‪ ،‬مستعدة للقيام بصد الداعين إلى اللّه‪ ،‬من الرسل وأتباعهم‪ ،‬وهم‬
‫ظاهرا‬
‫ً‬ ‫المنافقون‪ ،‬الذين أظهروا الموافقة في اإليمان‪ ،‬وهم كفرة فجرة في الباطن‪ ،‬والكفار‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } أي‪:‬‬
‫ين َواْل ُمَنافق َ‬‫وباطنا‪ ،‬نهى اللّه رسوله عن طاعتهم‪ ،‬وحذره ذلك فقال‪َ { :‬وال تُط ِع اْل َكاف ِر َ‬
‫ً‬
‫اه ْم } ] (‪)3‬‬
‫ع أَ َذ ُ‬
‫في كل أمر يصد عن سبيل اللّه‪ ،‬ولكن ال يقتضي هذا أذاهم‪[ ،‬بل ال تطعهم { َو َد ْ‬
‫فإن ذلك‪ ،‬جالب لهم‪ ،‬وداع إلى قبول اإلسالم‪ ،‬وإ لى كف كثير من أذيتهم له‪ ،‬وألهله‪.‬‬
‫{ َوتََو َّك ْل َعلَى اللَّ ِه } في إتمام أمرك‪ ،‬وخذالن عدوك‪َ { ،‬و َكفَى بِاللَّ ِه َو ِكيال } تُو َك ُل إليه األمور‬
‫المهمة‪ ،‬فيقوم بها‪ ،‬ويسهلها على عبده‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬يشوقهم‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬جهاتها‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/667‬‬

‫ُّوه َّن فَ َما لَ ُك ْم َعلَْي ِه َّن ِم ْن ِع َّد ٍة‬ ‫وه َّن ِم ْن قَْب ِل أ ْ‬
‫َن تَ َمس ُ‬ ‫طلَّ ْقتُ ُم ُ‬ ‫يا أَيُّها الَِّذين آَمُنوا ِإ َذا َن َك ْحتُم اْلمؤ ِمَن ِ‬
‫ات ثَُّم َ‬ ‫ُ ُْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫احا َج ِمياًل (‪)49‬‬ ‫وه َّن َس َر ً‬
‫وه َّن َو َسِّر ُح ُ‬‫ونهَا فَ َمتِّ ُع ُ‬
‫تَ ْعتَ ُّد َ‬

‫وه َّن ِم ْن قَْب ِل أ ْ‬


‫طلَّ ْقتُ ُم ُ‬
‫ُّوه َّن فَ َما لَ ُك ْم َعلَْي ِه َّن‬ ‫{ ‪ { } 49‬يا أَيُّها الَِّذين آمُنوا ِإ َذا َن َك ْحتُم اْلمؤ ِمَن ِ‬
‫َن تَ َمس ُ‬ ‫ات ثَُّم َ‬ ‫ُ ُْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫احا َج ِميال } ‪.‬‬ ‫وه َّن َس َر ً‬
‫وه َّن َو َسِّر ُح ُ‬ ‫ِم ْن ِع َّد ٍة تَ ْعتَ ُّد َ‬
‫ونهَا فَ َمتِّ ُع ُ‬
‫يخبر تعالى المؤمنين‪ ،‬أنهم إذا نكحوا المؤمنات‪ ،‬ثم طلقوهن من قبل أن يمسوهن‪ ،‬فليس عليهن‬
‫في ذلك‪ ،‬عدة يعتدها (‪ )1‬أزواجهن عليهن‪ ،‬وأمرهم بتمتيعهن (‪ )2‬بهذه الحالة‪ ،‬بشيء من متاع‬
‫الدنيا‪ ،‬الذي يكون فيه جبر لخواطرهن‪ ،‬ألجل فراقهن‪ ،‬وأن يفارقوهن فراقًا جميال من غير‬
‫مخاصمة‪ ،‬وال مشاتمة‪ ،‬وال مطالبة‪ ،‬وال غير ذلك‪.‬‬
‫ويستدل بهذه اآلية‪ ،‬على أن الطالق‪ ،‬ال يكون إال بعد النكاح‪ .‬فلو طلقها قبل أن ينكحها‪ ،‬أو علق‬
‫طلَّ ْقتُ ُم ُ‬
‫وه َّن } فجعل الطالق بعد‬ ‫طالقها على نكاحها‪ ،‬لم يقع‪ ،‬لقوله‪ِ { :‬إ َذا َن َك ْحتُم اْلمؤ ِمَن ِ‬
‫ات ثَُّم َ‬ ‫ُ ُْ‬
‫النكاح‪ ،‬فدل على أنه قبل ذلك‪ ،‬ال محل له‪.‬‬
‫وإ ذا كان الطالق الذي هو فرقة تامة‪ ،‬وتحريم تام‪ ،‬ال يقع قبل النكاح‪ ،‬فالتحريم الناقص‪ ،‬لظهار‪،‬‬
‫أو إيالء ونحوه‪ ،‬من باب أولى وأحرى‪ ،‬أن ال يقع قبل النكاح‪ ،‬كما هو أصح قَ ْولي العلماء‪.‬‬
‫ويدل على جواز الطالق‪ ،‬ألن اللّه أخبر به عن المؤمنين‪ ،‬على وجه لم يلمهم عليه‪ ،‬ولم يؤنبهم‪،‬‬
‫مع تصدير اآلية بخطاب المؤمنين‪.‬‬
‫اء َما لَ ْم‬ ‫طلَّ ْقتُُم ِّ‬
‫الن َس َ‬ ‫اح َعلَْي ُك ْم ِإ ْن َ‬
‫وعلى جوازه قبل المسيس‪ ،‬كما قال في اآلية األخرى { ال ُجَن َ‬
‫ُّوه َّن }‬
‫تَ َمس ُ‬
‫وعلى أن المطلقة قبل الدخول‪ ،‬ال عدة عليها‪ ،‬بل بمجرد طالقها‪ ،‬يجوز لها التزوج‪ ،‬حيث ال‬
‫مانع‪ ،‬وعلى أن عليها العدة‪ ،‬بعد الدخول‪.‬‬
‫وهل المراد بالدخول والمسيس‪ ،‬الوطء كما هو مجمع عليه؟ أو وكذلك الخلوة‪ ،‬ولو لم يحصل‬
‫معها وطء‪ ،‬كما أفتى بذلك الخلفاء الراشدون‪ ،‬وهو الصحيح‪ .‬فمن دخل عليها‪ ،‬وطئها‪ ،‬أم ال إذا‬
‫خال بها‪ ،‬وجب عليها العدة‪.‬‬
‫وعلى أن المطلقة قبل المسيس‪ ،‬تمتع على الموسع قدره‪ ،‬وعلى المقتر قدره‪ ،‬ولكن هذا‪ ،‬إذا لم‬
‫يفرض لها مهر‪ ،‬فإن كان لها مهر مفروض‪ ،‬فإنه إذا طلق قبل الدخول‪ ،‬تََنصَّف المهر‪ ،‬وكفى عن‬
‫المتعة‪ ،‬وعلى أنه ينبغي لمن فارق زوجته قبل الدخول أو بعده‪ ،‬أن يكون الفراق جميال يحمد فيه‬
‫كل منهما اآلخر‪.‬‬
‫وال يكون غير جميل‪ ،‬فإن في ذلك‪ ،‬من الشر المرتب عليه‪ ،‬من قدح كل منهما باآلخر‪ ،‬شيء‬
‫كثير‪.‬‬
‫وعلى أن العدة حق للزوج‪ ،‬لقوله‪ { :‬فَ َما لَ ُك ْم َعلَْي ِه َّن ِم ْن ِع َّد ٍة } دل مفهومه‪ ،‬أنه لو طلقها بعد‬
‫المسيس‪ ،‬كان له عليها عدة [وعلى أن المفارقة [ ص ‪ ] 669‬بالوفاة‪ ،‬تعتد مطلقًا‪ ،‬لقوله‪ { :‬ثَُّم‬
‫طلَّ ْقتُ ُم ُ‬
‫وه َّن } اآلية] (‪. )3‬‬ ‫َ‬
‫وعلى أن من عدا غير المدخول بها‪ ،‬من المفارقات من الزوجات‪ ،‬بموت أو حياة‪ ،‬عليهن العدة‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في النسختين ولعل الصواب تعتدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬بتمتعهن‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/668‬‬

‫ك‬‫اء اللَّهُ َعلَْي َ‬ ‫ت ي ِم ُين َ ِ‬


‫ك م َّما أَفَ َ‬ ‫ور ُه َّن َو َما َملَ َك ْ َ‬
‫ُج َ‬
‫تأُ‬ ‫ك الاَّل تِي آَتَْي َ‬ ‫اج َ‬ ‫ك أ َْز َو َ‬ ‫النبِ ُّي ِإَّنا أ ْ‬
‫َحلَْلَنا لَ َ‬ ‫َيا أَيُّهَا َّ‬
‫ات َخااَل تِ َ ِ‬ ‫ك وبَن ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ات َع َّماتِ َ‬ ‫ك وبَن ِ‬ ‫ِ‬
‫ام َرأَةً ُم ْؤ ِمَنةً ِإ ْن‬
‫ك َو ْ‬ ‫ك الاَّل تي َه َ‬
‫اج ْر َن َم َع َ‬ ‫ك َوَبَنات َخال َ َ َ‬ ‫َوَبَنات َع ِّم َ َ َ‬
‫ين قَ ْد َعِل ْمَنا َما فََر ْ‬
‫ضَنا‬ ‫ِ‬ ‫ك ِم ْن ُد ِ‬
‫ون اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫صةً لَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َن َي ْستَْنك َحهَا َخال َ‬ ‫النبِ ُّي أ ْ‬‫ت َن ْف َسهَا ِل َّلنبِ ِّي ِإ ْن أ ََر َاد َّ‬
‫َو َهَب ْ‬
‫يما (‪)50‬‬ ‫ِ‬ ‫ك حر ٌج و َك َّ‬ ‫ِ‬ ‫َعلَْي ِهم ِفي أ َْزو ِ‬
‫اج ِه ْم َو َما َملَ َك ْ‬
‫ورا َرح ً‬ ‫ان اللهُ َغفُ ً‬ ‫ون َعلَْي َ َ َ َ َ‬ ‫ت أ َْي َم ُانهُ ْم ل َك ْياَل َي ُك َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ك ِم َّما أَفَ َّ‬ ‫ت َي ِم ُين َ‬‫ور ُه َّن َو َما َملَ َك ْ‬ ‫ك الالتِي آتَْي َ‬ ‫النبِ ُّي ِإَّنا أ ْ‬
‫{ ‪َ { } 50‬يا أَيُّهَا َّ‬
‫اء اللهُ‬ ‫َ‬ ‫ُج َ‬
‫تأُ‬ ‫اج َ‬ ‫ك أ َْز َو َ‬ ‫َحلَْلَنا لَ َ‬
‫ام َرأَةً ُم ْؤ ِمَنةً‬ ‫ات َخاالتِ َ ِ‬ ‫ك وبَن ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ات َع َّماتِ َ‬‫ك وبَن ِ‬ ‫ِ‬
‫ك َو ْ‬ ‫اج ْر َن َم َع َ‬ ‫ك الالتي َه َ‬ ‫ك َوَبَنات َخال َ َ َ‬ ‫ك َوَبَنات َع ِّم َ َ َ‬ ‫َعلَْي َ‬
‫ين قَ ْد َعِل ْمَنا َما‬ ‫ِ‬ ‫ك ِم ْن ُد ِ‬
‫ون اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫صةً لَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َن َي ْستَْنك َحهَا َخال َ‬ ‫ت َن ْف َسهَا ِل َّلنبِ ِّي ِإ ْن أ ََر َاد َّ‬
‫النبِ ُّي أ ْ‬ ‫ِإ ْن َو َهَب ْ‬
‫يما } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ك حر ٌج و َك َّ‬ ‫ِ‬ ‫ضَنا َعلَْي ِه ْم ِفي أ َْز َوا ِج ِه ْم َو َما َملَ َك ْ‬
‫ورا َرح ً‬ ‫ان اللهُ َغفُ ً‬ ‫ون َعلَْي َ َ َ َ َ‬ ‫ت أ َْي َم ُانهُ ْم ل َك ْيال َي ُك َ‬ ‫فََر ْ‬
‫ممتنا على رسوله بإحالله له ما أحل مما يشترك فيه‪ ،‬هو والمؤمنون‪ ،‬وما ينفرد به‪،‬‬ ‫يقول تعالى‪ً ،‬‬
‫ور ُه َّن } أي‪ :‬أعطيتهن مهورهن‪،‬‬ ‫ُج َ‬
‫تأُ‬ ‫ك الالتِي آتَْي َ‬ ‫اج َ‬ ‫ك أ َْز َو َ‬ ‫النبِ ُّي ِإَّنا أ ْ‬
‫َحلَْلَنا لَ َ‬ ‫ويختص‪َ { :‬يا أَيُّهَا َّ‬
‫من الزوجات‪ ،‬وهذا من األمور المشتركة بينه وبين المؤمنين‪[ ،‬فإن المؤمنين] (‪ )1‬كذلك يباح لهم‬
‫ما (‪ )2‬آتوهن أجورهن‪ ،‬من األزواج‪.‬‬
‫اء اللَّهُ َعلَْي َ‬
‫ك } من غنيمة‬ ‫ِ‬
‫ك } أي‪ :‬اإلماء التي ملكت { م َّما أَفَ َ‬ ‫ت َي ِم ُين َ‬
‫{ و } كذلك أحللنا لك { َما َملَ َك ْ‬
‫الكفار من عبيدهم‪ ،‬واألحرار من لهن زوج منهم‪ ،‬ومن ال زوج لهن‪ ،‬وهذا أيضا مشترك‪.‬‬
‫ك } شمل العم‬‫ات َخاالتِ َ‬ ‫ك وبَن ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ات َع َّماتِ َ‬
‫ك َوَبَنات َخال َ َ َ‬
‫ك وبَن ِ‬ ‫ِ‬
‫وكذلك من المشترك‪ ،‬قوله { َوَبَنات َع ِّم َ َ َ‬
‫والعمة‪ ،‬والخال والخالة‪ ،‬القريبين والبعيدين‪ ،‬وهذا حصر المحلالت‪.‬‬
‫يؤخذ من مفهومه‪ ،‬أن ما عداهن من األقارب‪ ،‬غير محلل‪ ،‬كما تقدم في سورة النساء‪ ،‬فإنه ال يباح‬
‫من األقارب من النساء‪ ،‬غير هؤالء األربع‪ ،‬وما عداهن من الفروع مطلقًا‪ ،‬واألصول مطلقًا‪،‬‬
‫وفروع األب واألم‪ ،‬وإ ن نزلوا‪ ،‬وفروع من فوقهم لصلبه‪ ،‬فإنه ال يباح‪.‬‬
‫ك } قيد لحل هؤالء للرسول‪ ،‬كما هو الصواب من القولين‪ ،‬في تفسير‬ ‫اج ْر َن َم َع َ‬ ‫ِ‬
‫وقوله { الالتي َه َ‬
‫هذه اآلية‪ ،‬وأما غيره عليه الصالة والسالم‪ ،‬فقد علم أن هذا قيد لغير الصحة‪.‬‬
‫ت َن ْف َسهَا ِل َّلنبِ ِّي } بمجرد هبتها نفسها‪.‬‬
‫ام َرأَةً ُم ْؤ ِمَنةً ِإ ْن َو َهَب ْ‬
‫{ و } أحللنا لك { ْ‬
‫ِ‬ ‫ك ِم ْن ُد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين }‬ ‫صةً لَ َ‬
‫َن َي ْستَْنك َحهَا } أي‪ :‬هذا تحت اإلرادة والرغبة‪َ { ،‬خال َ‬ ‫النبِ ُّي أ ْ‬
‫{ ِإ ْن أ ََر َاد َّ‬
‫يعني‪ :‬إباحة الموهبة (‪ )3‬وأما المؤمنون‪ ،‬فال يحل لهم أن يتزوجوا امرأة‪ ،‬بمجرد هبتها نفسها‬
‫لهم‪.‬‬
‫ضَنا َعلَْي ِه ْم ِفي أ َْز َوا ِج ِه ْم َو َما َملَ َك ْ‬
‫ت أ َْي َم ُانهُ ْم } أي‪ :‬قد علمنا ما على المؤمنين‪ ،‬وما‬ ‫{ قَ ْد َعِل ْمَنا َما فََر ْ‬
‫يحل لهم‪ ،‬وما ال يحل‪ ،‬من الزوجات وملك اليمين‪ .‬وقد علمناهم بذلك‪ ،‬وبينا فرائضه‪.‬‬
‫خطابا للرسول وحده بقوله‪{ :‬‬
‫ً‬ ‫فما في هذه اآلية‪ ،‬مما يخالف ذلك‪ ،‬فإنه خاص لك‪ ،‬لكون اللّه جعله‬
‫ك } إلى آخر اآلية‪.‬‬ ‫النبِ ُّي ِإَّنا أ ْ‬
‫َحلَْلَنا لَ َ‬ ‫َيا أَيُّهَا َّ‬
‫ِ‬ ‫ك ِم ْن ُد ِ‬ ‫ِ‬
‫ون اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين } وأبحنا لك يا أيها النبي ما لم نبح لهم‪ ،‬ووسعنا لك ما لم‬ ‫صةً لَ َ‬‫وقوله‪َ { :‬خال َ‬
‫ك َح َر ٌج } وهذا من زيادة اعتناء اللّه تعالى برسوله صلى‬‫ون َعلَْي َ‬ ‫ِ‬
‫نوسع على غيرك‪ { ،‬ل َك ْيال َي ُك َ‬
‫اللّه عليه وسلم‪.‬‬
‫يما } أي‪ :‬لم يزل متصفًا بالمغفرة والرحمة‪ ،‬وينزل على عباده من مغفرته‬ ‫ِ‬ ‫{ و َك َّ‬
‫ورا َرح ً‬ ‫ان اللهُ َغفُ ً‬ ‫َ َ‬
‫ورحمته‪ ،‬وجوده وإ حسانه‪ ،‬ما اقتضته حكمته‪ ،‬ووجدت منهم أسبابه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في أ‪ ،‬وفي ب‪ :‬من‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ب‪ :‬الموهوبة‪.‬‬

‫( ‪)1/669‬‬

‫ك َذِل َ‬
‫ك أ َْدَنى‬ ‫اح َعلَْي َ‬ ‫ت ِم َّم ْن َع َزْل َ‬
‫ت فَاَل ُجَن َ‬ ‫اء َو َم ِن ْابتَ َغ ْي َ‬ ‫اء ِم ْنهُ َّن َوتُ ْؤ ِوي ِإلَْي َ‬
‫ك َم ْن تَ َش ُ‬ ‫تُْر ِجي َم ْن تَ َش ُ‬
‫يما‬ ‫َعيُنه َّن واَل ي ْح َز َّن ويرض ْين بِما آَتَْيتَه َّن ُكلُّه َّن واللَّه يعلَم ما ِفي ُقلُوبِ ُكم و َك َّ ِ‬
‫ان اللهُ َعل ً‬ ‫َْ َ‬ ‫ُ َ ُ َْ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َْ َ َ َ‬ ‫َن تَقََّر أ ْ ُ ُ َ َ‬ ‫أْ‬
‫يما (‪)51‬‬ ‫ِ‬
‫َحل ً‬

‫ك‬‫اح َعلَْي َ‬ ‫ت ِم َّم ْن َع َزْل َ‬


‫ت فَال ُجَن َ‬ ‫اء َو َم ِن ْابتَ َغ ْي َ‬ ‫اء ِم ْنهُ َّن َوتُ ْؤ ِوي ِإلَْي َ‬
‫ك َم ْن تَ َش ُ‬ ‫{ ‪ { } 51‬تُْر ِجي َم ْن تَ َش ُ‬
‫َعيُنه َّن وال ي ْح َز َّن ويرض ْين بِما آتَْيتَه َّن ُكلُّه َّن واللَّه يعلَم ما ِفي ُقلُوبِ ُكم و َك َّ‬ ‫َذِل َ‬
‫ان اللهُ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫ُ َ ُ َْ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َْ َ َ َ‬ ‫َن تَقََّر أ ْ ُ ُ َ َ‬ ‫ك أ َْدَنى أ ْ‬
‫يما } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما َحل ً‬ ‫َعل ً‬
‫أيضا من توسعة اللّه على رسوله ورحمته به‪ ،‬أن أباح له ترك القسم بين زوجاته‪ ،‬على وجه‬
‫وهذا ً‬
‫الوجوب‪ ،‬وأنه إن فعل ذلك‪ ،‬فهو تبرع منه‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فقد كان صلى اللّه عليه وسلم يجتهد في‬
‫القسم بينهن في كل شيء‪ ،‬ويقول "اللهم هذا قسمي فيما أملك‪ ،‬فال تلمني فيما ال أملك" ‪.‬‬
‫اء ِم ْنهُ َّن } [أي‪ :‬تؤخر من أردت من زوجاتك فال تؤويها إليك‪ ،‬وال‬ ‫فقال هنا‪ { :‬تُْر ِجي َم ْن تَ َش ُ‬
‫اء } أي‪ :‬تضمها وتبيت عندها‪.‬‬ ‫تبيت عندها] (‪َ { )1‬وتُ ْؤ ِوي ِإلَْي َ‬
‫ك َم ْن تَ َش ُ‬
‫ك } والمعنى أن‬‫اح َعلَْي َ‬ ‫{ و } مع ذلك ال يتعين هذا األمر { َم ِن ْابتَ َغ ْي َ‬
‫ت } أي‪ :‬أن تؤويها { فَال ُجَن َ‬
‫الخيرة بيدك في ذلك كله [وقال كثير من المفسرين‪ :‬إن هذا خاص بالواهبات‪ ،‬له أن يرجي من‬
‫يشاء‪ ،‬ويؤوي من يشاء‪ ،‬أي‪ :‬إن شاء قبل من وهبت نفسها له‪ ،‬وإ ن شاء لم يقبلها‪ ،‬واللّه أعلم] (‪)2‬‬
‫‪.‬‬
‫راجعا إليك وبيدك‪ ،‬وكون‬ ‫ً‬ ‫ك } أي‪ :‬التوسعة عليك‪ ،‬وكون األمر‬ ‫ثم بين الحكمة في ذلك فقال‪َ { :‬ذِل َ‬
‫ض ْي َن بِ َما آتَْيتَهُ َّن ُكلُّهُ َّن }‬
‫َعُيُنهُ َّن َوال َي ْح َز َّن َوَي ْر َ‬
‫َن تَقََّر أ ْ‬
‫تبرعا منك { أ َْدَنى أ ْ‬
‫ما جاء منك إليهن ً‬
‫واجبا‪ ،‬ولم تفرط في حق الزم‪.‬‬ ‫لعلمهن أنك لم تترك ً‬
‫[ ص ‪] 670‬‬
‫{ َواللَّهُ َي ْعلَ ُم َما ِفي ُقلُوبِ ُك ْم } أي‪ :‬ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة والمستحبة‪ ،‬وعند‬
‫المزاحمة في الحقوق‪ ،‬فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول اللّه‪ ،‬لتطمئن قلوب زوجاتك‪.‬‬
‫يما } أي‪ :‬واسع العلم‪ ،‬كثير الحلم‪ .‬ومن علمه‪ ،‬أن شرع لكم ما هو أصلح‬ ‫ِ‬ ‫{ و َك َّ ِ‬
‫يما َحل ً‬
‫ان اللهُ َعل ً‬
‫َ َ‬
‫ألموركم‪ ،‬وأكثر ألجوركم‪ .‬ومن حلمه‪ ،‬أن لم يعاقبكم بما صدر منكم‪ ،‬وما أصرت عليه قلوبكم‬
‫من الشر‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من هامش (ب) وفي بعض الكلمات عدم وضوح وتم تصويبها من طبعة السلفية‪.‬‬

‫( ‪)1/669‬‬

‫ت َي ِم ُين َ‬
‫ك‬ ‫ك ُح ْسُنهُ َّن ِإاَّل َما َملَ َك ْ‬
‫َع َجَب َ‬ ‫َن تََب َّد َل بِ ِه َّن ِم ْن أ َْز َو ٍ‬
‫اج َولَ ْو أ ْ‬ ‫اء ِم ْن َب ْع ُد َواَل أ ْ‬ ‫ك ِّ‬
‫الن َس ُ‬ ‫اَل َي ِح ُّل لَ َ‬
‫ان اللَّهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َر ِق ًيبا (‪)52‬‬ ‫َو َك َ‬

‫ك ُح ْسُنهُ َّن ِإال َما َملَ َك ْ‬


‫ت‬ ‫َع َجَب َ‬ ‫َن تََب َّد َل بِ ِه َّن ِم ْن أ َْز َو ٍ‬
‫اج َولَ ْو أ ْ‬ ‫اء ِم ْن َب ْع ُد َوال أ ْ‬ ‫ك ِّ‬
‫الن َس ُ‬ ‫{ ‪ { } 52‬ال َي ِح ُّل لَ َ‬
‫ان اللَّهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َر ِق ًيبا } ‪.‬‬ ‫َي ِم ُين َ‬
‫ك َو َك َ‬
‫شكورا‪ ،‬لزوجات رسوله‪ ،‬رضي اللّه عنهن‪ ،‬حيث اخترن اللّه‬ ‫ً‬ ‫وهذا شكر من اللّه‪ ،‬الذي لم يزل‬
‫اء ِم ْن َب ْع ُد }‬ ‫ك ِّ‬
‫الن َس ُ‬ ‫ورسوله‪ ،‬والدار اآلخرة‪ ،‬أن رحمهن‪ ،‬وقصر رسوله عليهن فقال‪ { :‬ال َي ِح ُّل لَ َ‬
‫اج } أي‪ :‬وال تطلق بعضهن‪ ،‬فتأخذ بدلها‪.‬‬ ‫َن تََب َّد َل بِ ِه َّن ِم ْن أ َْز َو ٍ‬
‫زوجاتك الموجودات { َوال أ ْ‬
‫فحصل بهذا‪ ،‬أمنهن من الضرائر‪ ،‬ومن الطالق‪ ،‬ألن اللّه قضى أنهن زوجاته في الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫ال يكون بينه وبينهن فرقة‪.‬‬
‫ك } أي‪ :‬السراري‪،‬‬ ‫ت َي ِم ُين َ‬ ‫ك ُح ْسُنهُ َّن } أي‪ :‬حسن غيرهن‪ ،‬فال يحللن لك { ِإال َما َملَ َك ْ‬ ‫َع َجَب َ‬
‫{ َولَ ْو أ ْ‬
‫فذلك جائز لك‪ ،‬ألن المملوكات‪ ،‬في كراهة الزوجات‪ ،‬لسن بمنزلة الزوجات‪ ،‬في اإلضرار‬
‫وقائما‬
‫ً‬ ‫وعالما بما إليه تؤول‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مراقبا لألمور‪،‬‬
‫ً‬ ‫ان اللَّهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َر ِق ًيبا } أي‪:‬‬
‫للزوجات‪َ { .‬و َك َ‬
‫بتدبيرها على أكمل نظام‪ ،‬وأحسن إحكام‪.‬‬

‫( ‪)1/670‬‬

‫ين ِإَناهُ َولَ ِك ْن ِإ َذا‬ ‫ِ‬ ‫َن ُيؤ َذن لَ ُكم ِإلَى َ ٍ‬
‫ط َعام َغ ْي َر َناظ ِر َ‬
‫وت َّ اَّل‬
‫النبِ ِّي ِإ أ ْ ْ َ ْ‬ ‫َمُنوا اَل تَ ْد ُخلُوا ُبُي َ‬
‫ين آ َ‬
‫َِّ‬
‫َيا أَيُّهَا الذ َ‬
‫النبِ َّي فََي ْستَ ْحيِي ِم ْن ُك ْم‬‫ان ُي ْؤ ِذي َّ‬ ‫ِ‬ ‫ط ِعمتُم فَ ْانتَ ِشروا واَل مستَأْنِ ِس ِ ِ ٍ‬
‫ين ل َحديث ِإ َّن َذل ُك ْم َك َ‬
‫َ‬ ‫ُ َ ُْ‬
‫ِ‬
‫ُدعيتُ ْم فَ ْاد ُخلُوا فَِإ َذا َ ْ ْ‬
‫طهَ ُر ِل ُقلُوبِ ُك ْم‬‫اب َذِل ُك ْم أَ ْ‬
‫اء ِح َج ٍ‬ ‫وه َّن ِم ْن ور ِ‬
‫ََ‬ ‫اسأَلُ ُ‬ ‫وه َّن َمتَ ً‬
‫اعا فَ ْ‬ ‫َواللَّهُ اَل َي ْستَ ْحيِي ِم َن اْل َح ِّ‬
‫ق َوإِ َذا َسأَْلتُ ُم ُ‬
‫ان ِعْن َد‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َن تَْن ِكحوا أ َْزو ِ‬
‫اجهُ م ْن َب ْعده أََب ًدا ِإ َّن َذل ُك ْم َك َ‬
‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َن تُ ْؤ ُذوا َر ُسو َل اللَّ ِه َواَل أ ْ‬ ‫َو ُقلُوبِ ِه َّن َو َما َك َ‬
‫ان لَ ُك ْم أ ْ‬
‫يما (‪)54‬‬ ‫ٍ ِ‬ ‫اللَّ ِه َع ِظيما (‪ِ )53‬إ ْن تُْب ُدوا َش ْيًئا أَو تُ ْخفُوهُ فَِإ َّن اللَّهَ َك َ ِ ِّ‬
‫ان ب ُكل َش ْيء َعل ً‬ ‫ْ‬ ‫ً‬

‫ِ‬ ‫َن ُيؤ َذن لَ ُكم ِإلَى َ ٍ‬ ‫َِّ‬


‫ط َعام َغْي َر َناظ ِر َ‬
‫ين‬ ‫النبِ ِّي ِإال أ ْ ْ َ ْ‬ ‫وت َّ‬
‫آمُنوا ال تَ ْد ُخلُوا ُبُي َ‬ ‫ين َ‬
‫{ ‪َ { } 54 - 53‬يا أَيُّهَا الذ َ‬
‫النبِ َّي‬
‫ان ُي ْؤ ِذي َّ‬ ‫ِ‬ ‫ط ِعمتُم فَ ْانتَ ِشروا وال مستَأْنِ ِس ِ ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ل َحديث ِإ َّن َذل ُك ْم َك َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ُْ‬ ‫ِإَناهُ َولَك ْن ِإ َذا ُدعيتُ ْم فَ ْاد ُخلُوا فَِإ َذا َ ْ ْ‬
‫اب َذِل ُك ْم‬‫اء ِح َج ٍ‬ ‫وه َّن ِم ْن ور ِ‬
‫ََ‬ ‫اسأَلُ ُ‬ ‫وه َّن َمتَ ً‬
‫اعا فَ ْ‬ ‫فََي ْستَ ْحيِي ِم ْن ُك ْم َواللَّهُ ال َي ْستَ ْحيِي ِم َن اْل َح ِّ‬
‫ق َوإِ َذا َسأَْلتُ ُم ُ‬
‫اجهُ ِم ْن َب ْع ِد ِه أََب ًدا ِإ َّن‬ ‫َن تُؤ ُذوا رسو َل اللَّ ِه وال أ ْ ِ‬
‫َن تَْنك ُحوا أ َْز َو َ‬ ‫َ‬ ‫ان لَ ُك ْم أ ْ ْ َ ُ‬
‫أَ ْ ِ‬
‫طهَ ُر ل ُقلُوبِ ُك ْم َو ُقلُوبِ ِه َّن َو َما َك َ‬
‫يما } ‪.‬‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ان ِعْن َد اللَّ ِه َع ِظيما * ِإ ْن تُْب ُدوا َش ْيًئا أَو تُ ْخفُوهُ فَِإ َّن اللَّهَ َك َ ِ ِّ‬ ‫ِ‬
‫ان ب ُكل َش ْيء َعل ً‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫َذل ُك ْم َك َ‬
‫يأمر تعالى عباده المؤمنين‪ ،‬بالتأدب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬في دخول بيوته فقال‪{ :‬‬
‫ط َع ٍام } أي‪ :‬ال تدخلوها بغير إذن‬
‫َن ُي ْؤ َذ َن لَ ُك ْم ِإلَى َ‬ ‫َِّ‬
‫النبِ ِّي ِإال أ ْ‬
‫وت َّ‬‫آمُنوا ال تَ ْد ُخلُوا ُبُي َ‬
‫ين َ‬
‫َيا أَيُّهَا الذ َ‬
‫ين ِإَناهُ } أي‪ :‬منتظرين ومتأنين النتظار‬ ‫ِ‬
‫وأيضا ال تكونوا { َناظ ِر َ‬ ‫ً‬ ‫للدخول فيها‪ ،‬ألجل الطعام‪.‬‬
‫نضجه‪ ،‬أو سعة صدر بعد الفراغ منه‪ .‬والمعنى‪ :‬أنكم ال تدخلوا بيوت النبي إال بشرطين‪:‬‬
‫اإلذن لكم بالدخول‪ ،‬وأن يكون جلوسكم بمقدار الحاجة‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ولَ ِك ْن ِإ َذا ُد ِعيتُ ْم فَ ْاد ُخلُوا فَِإ َذا‬
‫ط ِعمتُم فَ ْانتَ ِشروا وال مستَأْنِ ِسين ِلح ِد ٍ‬
‫يث } أي‪ :‬قبل الطعام وبعده‪.‬‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َ ُْ‬ ‫َ ْ ْ‬
‫ان ُي ْؤ ِذي‬ ‫ِ‬
‫ثم بين حكمة النهي وفائدته فقال‪ِ { :‬إ َّن َذل ُك ْم } أي‪ :‬انتظاركم الزائد على الحاجة‪َ { ،‬ك َ‬
‫النبِ َّي } أي‪ :‬يتكلف منه ويشق عليه حبسكم إياه عن شئون بيته‪ ،‬واشتغاله فيه { فََي ْستَ ْحيِي ِم ْن ُك ْم }‬ ‫َّ‬
‫‪-‬وخصوصا أهل الكرم منهم‪-‬‬ ‫ً‬ ‫أن يقول لكم‪ " :‬اخرجوا " كما هو جاري العادة‪ ،‬أن الناس‬
‫ق}‬ ‫يستحيون أن يخرجوا الناس من مساكنهم‪ { ،‬و } لكن { اللَّهُ ال َي ْستَ ْحيِي ِم َن اْل َح ِّ‬
‫فاألمر الشرعي‪ ،‬ولو كان يتوهم أن في تركه أدبا وحياء‪ ،‬فإن الحزم كل الحزم‪ ،‬اتباع األمر‬
‫الشرعي‪ ،‬وأن يجزم أن ما خالفه‪ ،‬ليس من األدب في شيء‪ .‬واللّه تعالى ال يستحي أن يأمركم‪،‬‬
‫كائنا ما كان‪.‬‬
‫بما فيه الخير لكم‪ ،‬والرفق لرسوله ً‬
‫فهذا أدبهم في الدخول في بيوته‪ ،‬وأما أدبهم معه في خطاب زوجاته‪ ،‬فإنه‪ ،‬إما أن يحتاج إلى ذلك‪،‬‬
‫أو ال يحتاج إليه‪ ،‬فإن لم يحتج إليه‪ ،‬فال حاجة إليه‪ ،‬واألدب تركه‪ ،‬وإ ن احتيج إليه‪ ،‬كأن يسألن‬
‫اء ِح َج ٍ‬
‫اب } أي‪ :‬يكون بينكم‬ ‫متاعا‪ ،‬أو غيره من أواني البيت أو نحوها‪ ،‬فإنهن يسألن { ِم ْن ور ِ‬
‫ً‬
‫ََ‬
‫وبينهن ستر‪ ،‬يستر عن النظر‪ ،‬لعدم الحاجة إليه‪.‬‬
‫ممنوعا بكل حال‪ ،‬وكالمهن فيه التفصيل‪ ،‬الذي ذكره اللّه‪ ،‬ثم ذكر حكمة ذلك‬ ‫ً‬ ‫فصار النظر إليهن‬
‫طهَ ُر ِل ُقلُوبِ ُك ْم َو ُقلُوبِ ِه َّن } ألنه أبعد عن الريبة‪ ،‬وكلما بعد اإلنسان عن األسباب‬
‫بقوله‪َ { :‬ذِل ُك ْم أَ ْ‬
‫الداعية إلى الشر‪ ،‬فإنه أسلم له‪ ،‬وأطهر لقلبه‪.‬‬
‫كثيرا من تفاصيلها‪ ،‬أن جميع وسائل الشر وأسبابه‬
‫فلهذا‪ ،‬من األمور الشرعية التي بين اللّه ً‬
‫ومقدماته‪ ،‬ممنوعة‪ ،‬وأنه مشروع‪ ،‬البعد عنها‪ ،‬بكل طريق‪.‬‬
‫ان لَ ُك ْم } يا معشر المؤمنين‪ ،‬أي‪ :‬غير الئق وال‬ ‫ثم قال كلمة جامعة وقاعدة عامة‪َ { :‬و َما َك َ‬
‫َن تُ ْؤ ُذوا َر ُسو َل اللَّ ِه } أي‪ :‬أذية قولية أو فعلية‪ ،‬بجميع ما‬
‫مستحسن منكم‪ ،‬بل هو أقبح شيء { أ ْ‬
‫اجهُ ِم ْن َب ْع ِد ِه أََب ًدا } هذا من جملة ما يؤذيه‪ ،‬فإنه صلى اللّه عليه‬ ‫يتعلق به‪ { ،‬وال أ ْ ِ‬
‫َن تَْنك ُحوا أ َْز َو َ‬ ‫َ‬
‫وسلم‪ ،‬له مقام التعظيم‪ ،‬والرفعة واإلكرام‪ ،‬وتزوج زوجاته [ ص ‪[ ] 671‬بعده] (‪ )1‬مخل بهذا‬
‫المقام‪.‬‬
‫وأيضا‪ ،‬فإنهن زوجاته في الدنيا واآلخرة‪ ،‬والزوجية باقية بعد موته‪ ،‬فلذلك ال يحل نكاح زوجاته‬
‫يما } وقد امتثلت هذه األمة‪ ،‬هذا األمر‪ ،‬واجتنبت‬ ‫بعده‪ ،‬ألحد من أمته‪ِ { .‬إ َّن َذِل ُكم َك ِ َّ ِ ِ‬
‫ان ع ْن َد الله َعظ ً‬
‫ْ َ‬
‫ما نهى اللّه عنه منه‪ ،‬وللّه الحمد والشكر‪.‬‬
‫يما } يعلم ما‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ثم قال تعالى‪ِ { :‬إ ْن تُْب ُدوا َش ْيًئا } أي تظهروه { أَو تُ ْخفُوهُ فَِإ َّن اللَّهَ َك َ ِ ِّ‬
‫ان ب ُكل َش ْيء َعل ً‬ ‫ْ‬
‫في قلوبكم‪ ،‬وما أظهرتموه‪ ،‬فيجازيكم عليه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/670‬‬

‫َخ َواتِ ِه َّن َواَل‬ ‫اء ِإ ْخوانِ ِه َّن واَل أ َْبَن ِ‬


‫اء أ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اَل جَناح علَْي ِه َّن ِفي آَبائِ ِه َّن واَل أ َْبَنائِ ِه َّن واَل ِإ ْخوانِ ِه َّن واَل أ َْبَن ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َ‬
‫يدا (‪)55‬‬ ‫ان َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه ً‬ ‫َّ‬ ‫ت أ َْيم ُانه َّن واتَِّق َّ‬
‫ين اللهَ ِإ َّن اللهَ َك َ‬ ‫ن َسائ ِه َّن َواَل َما َملَ َك ْ َ ُ َ َ‬
‫ِ ِ‬

‫اء ِإ ْخوانِ ِه َّن وال أ َْبَن ِ‬


‫اء‬ ‫{ ‪ { } 55‬ال جَناح علَْي ِه َّن ِفي آبائِ ِه َّن وال أ َْبَنائِ ِه َّن وال ِإ ْخوانِ ِه َّن وال أ َْبَن ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َ‬
‫ان َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه ً‬
‫يدا } ‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ت أ َْيم ُانه َّن واتَِّق َّ‬
‫ين اللهَ ِإ َّن اللهَ َك َ‬
‫ِ ِ‬
‫َخ َوات ِه َّن َوال ن َسائ ِه َّن َوال َما َملَ َك ْ َ ُ َ َ‬
‫أَ ِ‬
‫عاما [لكل أحد] (‪ )1‬احتيج أن‬ ‫متاعا إال من وراء حجاب‪ ،‬وكان اللفظ ً‬ ‫لما ذكر أنهن ال يسألن ً‬
‫اح َعلَْي ِه َّن } في عدم االحتجاب عنهم‪.‬‬
‫يستثنى منه هؤالء المذكورون‪ ،‬من المحارم‪ ،‬وأنه { ال ُجَن َ‬
‫ولم يذكر فيها األعمام‪ ،‬واألخوال‪ ،‬ألنهن إذا لم يحتجبن عمن هن عماته وال (‪ )2‬خاالته‪ ،‬من أبناء‬
‫اإلخوة واألخوات‪ ،‬مع رفعتهن عليهم‪ ،‬فعدم احتجابهن عن عمهن وخالهن‪ ،‬من باب أولى‪ ،‬وألن‬
‫منطوق اآلية األخرى‪ ،‬المصرحة بذكر العم والخال‪ ،‬مقدمة‪ ،‬على ما يفهم من هذه اآلية‪.‬‬
‫وقوله { َوال نِ َسائِ ِه َّن } أي‪ :‬ال جناح عليهن أال يحتجبن عن نسائهن‪ ،‬أي‪ :‬الالتي من جنسهن في‬
‫مخرجا لنساء الكفار‪ ،‬ويحتمل أن المراد جنس النساء‪ ،‬فإن المرأة ال تحتجب‬
‫ً‬ ‫الدين‪ ،‬فيكون ذلك‬
‫ت أ َْي َم ُانهُ َّن } ما دام العبد في ملكها جميعه‪.‬‬
‫عن المرأة‪َ { .‬وال َما َملَ َك ْ‬
‫ولما رفع الجناح عن هؤالء‪ ،‬شرط فيه وفي غيره‪ ،‬لزوم تقوى اللّه‪ ،‬وأن ال يكون في محذور‬
‫ان َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء‬ ‫َّ‬ ‫شرعي فقال‪ { :‬واتَِّق َّ‬
‫ين اللهَ } أي‪ :‬استعملن تقواه في جميع األحوال { ِإ َّن اللهَ َك َ‬
‫َ َ‬
‫يدا } يشهد أعمال العباد‪ ،‬ظاهرها وباطنها‪ ،‬ويسمع أقوالهم‪ ،‬ويرى حركاتهم‪ ،‬ثم يجازيهم على‬ ‫َش ِه ً‬
‫ذلك‪ ،‬أتم الجزاء وأوفاه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ب‪ :‬بدون (ال) وهو األقرب‪.‬‬

‫( ‪)1/671‬‬

‫ِ‬ ‫ِ ِّ‬ ‫النبِ ِّي يا أَيُّها الَِّذين آَمُنوا ُّ‬ ‫ِإ َّن اللَّه وماَل ئِ َكتَه ي ُّ‬
‫يما (‪)56‬‬
‫صلوا َعلَْيه َو َسل ُموا تَ ْسل ً‬‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ون َعلَى َّ َ َ‬ ‫صل َ‬‫ُُ َ‬ ‫َََ‬

‫ِ‬ ‫ِ ِّ‬ ‫النبِ ِّي يا أَيُّها الَِّذين آمُنوا ُّ‬ ‫{ ‪ِ { } 56‬إ َّن اللَّه ومالئِ َكتَه ي ُّ‬
‫يما } ‪.‬‬‫صلوا َعلَْيه َو َسل ُموا تَ ْسل ً‬‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ون َعلَى َّ َ َ‬ ‫صل َ‬‫ُُ َ‬ ‫َََ‬
‫وهذا فيه تنبيه على كمال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬ورفعة درجته‪ ،‬وعلو منزلته عند اللّه‬
‫ون } عليه‪ ،‬أي‪ :‬يثني اللّه عليه بين‬ ‫وعند خلقه‪ ،‬ورفع ذكره‪ .‬و { ِإ َّن اللَّه } تعالى { ومالئِ َكتَه ي ُّ‬
‫صل َ‬ ‫ُُ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫المالئكة‪ ،‬وفي المأل األعلى‪ ،‬لمحبته تعالى له‪ ،‬وتثني عليه المالئكة المقربون‪ ،‬ويدعون له‬
‫ويتضرعون‪.‬‬
‫يما } اقتداء باللّه ومالئكته‪ ،‬وجزاء له على بعض‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِّ‬ ‫{ يا أَيُّها الَِّذين آمُنوا ُّ‬
‫صلوا َعلَْيه َو َسل ُموا تَ ْسل ً‬‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫كراما‪ ،‬وزيادة في‬
‫وتعظيما له صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬ومحبة وإ ً‬
‫ً‬ ‫حقوقه عليكم‪ ،‬وتكميال إليمانكم‪،‬‬
‫وتكفيرا من سيئاتكم وأفضل هيئات الصالة عليه عليه الصالة والسالم‪ ،‬ما علم به‬
‫ً‬ ‫حسناتكم‪،‬‬
‫أصحابه‪" :‬اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد‪،‬‬
‫وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وهذا األمر‬
‫بالصالة والسالم عليه مشروع في جميع األوقات‪ ،‬وأوجبه كثير من العلماء في الصالة‬

‫( ‪)1/671‬‬

‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ون اللَّهَ و َر ُسولَهُ لَ َعَنهُ ُم اللَّهُ ِفي ُّ‬ ‫َِّ‬
‫َع َّد لَهُ ْم َع َذ ًابا ُم ِه ًينا (‪َ )57‬والذ َ‬
‫ين‬ ‫الد ْنَيا َواآْل َخ َر ِة َوأ َ‬ ‫َ‬ ‫ِإ َّن الذ َ‬
‫ين ُي ْؤ ُذ َ‬
‫احتَ َملُوا ُب ْهتَ ًانا َوإِثْ ًما ُمبِ ًينا (‪)58‬‬ ‫ات بِ َغ ْي ِر َما ا ْكتَ َسُبوا فَقَِد ْ‬‫يؤ ُذون اْلمؤ ِمنِين واْلمؤ ِمَن ِ‬
‫ُْ َ ُ ْ َ َ ُ ْ‬
‫َع َّد لَهُ ْم َع َذ ًابا ُم ِه ًينا‬ ‫ِ‬ ‫ون اللَّهَ و َر ُسولَهُ لَ َعَنهُ ُم اللَّهُ ِفي ُّ‬ ‫َِّ‬
‫الد ْنَيا َواآلخ َر ِة َوأ َ‬ ‫َ‬ ‫ين ُي ْؤ ُذ َ‬ ‫{ ‪ِ { } 58 - 57‬إ َّن الذ َ‬
‫ات بِ َغ ْي ِر َما ا ْكتَ َسُبوا فَقَِد ْ‬
‫احتَ َملُوا ُب ْهتَ ًانا َوإِثْ ًما ُمبِ ًينا } ‪.‬‬ ‫* والَِّذين يؤ ُذون اْلمؤ ِمنِين واْلمؤ ِمَن ِ‬
‫َ َ ُْ َ ُ ْ َ َ ُ ْ‬
‫لما أمر تعالى بتعظيم رسوله صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬والصالة والسالم عليه‪ ،‬نهى عن أذيته‪،‬‬
‫ون اللَّهَ َو َر ُسولَهُ } وهذا يشمل كل أذية‪ ،‬قولية أو فعلية‪ ،‬من‬ ‫َِّ‬
‫وتوعد عليها فقال‪ِ { :‬إ َّن الذ َ‬
‫ين ُي ْؤ ُذ َ‬
‫الد ْنَيا } أي‪ :‬أبعدهم‬ ‫سب وشتم‪ ،‬أو تنقص له‪ ،‬أو لدينه‪ ،‬أو ما يعود إليه باألذى‪ { .‬لَ َعَنهُ ُم اللَّهُ ِفي ُّ‬
‫وطردهم‪ ،‬ومن لعنهم [في الدنيا] (‪ )1‬أنه يحتم (‪ )2‬قتل من شتم الرسول‪ ،‬وآذاه‪.‬‬
‫َع َّد لَهُ ْم َع َذ ًابا ُم ِه ًينا } جزاء له على أذاه‪ ،‬أن يؤذى بالعذاب األليم‪ ،‬فأذية الرسول‪،‬‬ ‫ِ‬
‫{ َواآلخ َر ِة َوأ َ‬
‫ليست كأذية غيره‪ ،‬ألنه ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ال يؤمن العبد باللّه‪ ،‬حتى يؤمن برسوله صلى‬
‫اللّه عليه وسلم‪ .‬وله من التعظيم‪ ،‬الذي هو من لوازم اإليمان‪ ،‬ما يقتضي ذلك‪ ،‬أن ال يكون مثل‬
‫غيره‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ون اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين‬ ‫ين ُي ْؤ ُذ َ‬
‫عظيما‪ ،‬ولهذا قال فيها‪َ { :‬والذ َ‬
‫ً‬ ‫وإ ن كانت أذية المؤمنين عظيمة‪ ،‬وإ ثمها‬
‫احتَ َملُوا } على ظهورهم {‬ ‫ات بِ َغ ْي ِر َما ا ْكتَ َسُبوا } أي‪ :‬بغير جناية منهم موجبة لألذى { فَقَِد ْ‬
‫واْلمؤ ِمَن ِ‬
‫َ ُْ‬
‫ُب ْهتَ ًانا } حيث آذوهم بغير سبب { َوإِثْ ًما ُمبِ ًينا } حيث تعدوا عليهم‪ ،‬وانتهكوا حرمة أمر اللّه‬
‫باحترامها‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ب‪ :‬يتحتم‪.‬‬

‫( ‪)1/671‬‬

‫َن ُي ْع َر ْف َن‬
‫ك أ َْدَنى أ ْ‬ ‫ين َعلَْي ِه َّن ِم ْن َجاَل بِيبِ ِه َّن َذِل َ‬ ‫ِ‬
‫ين ُي ْدن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك َونِ َساء اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫ك َوَبَناتِ َ‬ ‫النبِ ُّي ُق ْل أِل َْز َوا ِج َ‬
‫َيا أَيُّهَا َّ‬
‫ض‬‫ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬ ‫َِّ‬
‫ون َوالذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما (‪ )59‬لَئ ْن لَ ْم َي ْنتَه اْل ُمَنافقُ َ‬
‫ِ‬
‫ورا َرح ً‬ ‫ان اللهُ َغفُ ً‬
‫فَاَل يؤ َذ ْين و َك َّ‬
‫ُْ َ َ َ‬
‫ين أ َْيَن َما ثُِقفُوا‬ ‫ون َ ِ اَّل ِ‬
‫ك فيهَا ِإ َقلياًل (‪َ )60‬مْل ُعونِ َ‬ ‫ون ِفي اْل َم ِد َين ِة لَُن ْغ ِرَيَّن َ‬
‫ك بِ ِه ْم ثَُّم اَل ُي َج ِاو ُر َ‬ ‫َواْل ُم ْر ِجفُ َ‬
‫ين َخلَ ْوا ِم ْن قَْب ُل َولَ ْن تَ ِج َد ِل ُسَّن ِة اللَّ ِه تَْب ِدياًل (‪)62‬‬ ‫َّ ِ ِ َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أُخ ُذوا َوقُتِّلُوا تَ ْقتياًل (‪ُ )61‬سَّنةَ الله في الذ َ‬

‫موجبا للتعزير‪ ،‬بحسب حالته وعلو مرتبته‪ ،‬فتعزير من سب‬


‫ً‬ ‫ولهذا كان سب آحاد المؤمنين‪،‬‬
‫الصحابة أبلغ‪ ،‬وتعزير من سب العلماء‪ ،‬وأهل الدين‪ ،‬أعظم من غيرهم‪.‬‬
‫[ ص ‪] 672‬‬
‫ين َعلَْي ِه َّن ِم ْن َجالبِيبِ ِه َّن‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك َوَبَناتِ َ‬
‫ك َونِ َساء اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين ُي ْدن َ‬ ‫ألزو ِ‬
‫اج َ‬ ‫{ ‪َ { } 62 - 59‬يا أَيُّهَا َّ ِ‬
‫النب ُّي ُق ْل ْ َ‬
‫ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم‬ ‫َِّ‬
‫ون َوالذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما * لَئ ْن لَ ْم َي ْنتَه اْل ُمَنافقُ َ‬
‫ِ‬
‫ورا َرح ً‬
‫َن يعر ْفن فَال يؤ َذ ْين و َك َّ‬
‫ان اللهُ َغفُ ً‬ ‫ُْ َ َ َ‬ ‫ك أ َْدَنى أ ْ ُ ْ َ َ‬‫َذِل َ‬
‫ين أ َْيَن َما ثُِقفُوا‬ ‫ِ‬
‫ك فيهَا ِإال َقليال * َمْل ُعونِ َ‬
‫ون َ ِ‬ ‫ك بِ ِه ْم ثَُّم ال ُي َج ِاو ُر َ‬‫ون ِفي اْل َم ِد َين ِة لَُن ْغ ِرَيَّن َ‬
‫ض َواْل ُم ْر ِجفُ َ‬
‫َم َر ٌ‬
‫ين َخلَ ْوا ِم ْن قَْب ُل َولَ ْن تَ ِج َد ِل ُسَّن ِة اللَّ ِه تَْب ِديال } ‪.‬‬ ‫َّ ِ ِ َِّ‬ ‫ِ‬
‫أُخ ُذوا َوقُتِّلُوا تَ ْقتيال * ُسَّنةَ الله في الذ َ‬
‫ِ‬
‫عموما‪ ،‬ويبدأ بزوجاته وبناته‪،‬‬
‫ً‬ ‫هذه اآلية‪ ،‬التي تسمى آية الحجاب‪ ،‬فأمر اللّه نبيه‪ ،‬أن يأمر النساء‬
‫ألنهن آكد من غيرهن‪ ،‬وألن اآلمر [لغيره] (‪ )1‬ينبغي أن يبدأ بأهله‪ ،‬قبل غيرهم كما قال تعالى‪:‬‬
‫َهِلي ُك ْم َن ًارا }‬
‫آمُنوا قُوا أ َْنفُ َس ُك ْم َوأ ْ‬
‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫{ َيا أَيُّهَا الذ َ‬
‫ين َعلَْي ِه َّن ِم ْن َجالبِيبِ ِه َّن } وهن الالتي يكن فوق الثياب من ملحفة وخمار ورداء ونحوه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أن { ُي ْدن َ‬
‫أي‪ :‬يغطين بها‪ ،‬وجوههن وصدورهن‪.‬‬
‫َن ُي ْع َر ْف َن فَال ُي ْؤ َذ ْي َن } دل على وجود أذية‪ ،‬إن لم يحتجبن‪،‬‬ ‫ثم ذكر حكمة ذلك‪ ،‬فقال‪َ { :‬ذِل َ‬
‫ك أ َْدَنى أ ْ‬
‫وذلك‪ ،‬ألنهن إذا لم يحتجبن‪ ،‬ربما ظن أنهن غير عفيفات‪ ،‬فيتعرض لهن من في قلبه مرض‪،‬‬
‫فيؤذيهن‪ ،‬وربما استهين بهن‪ ،‬وظن أنهن إماء‪ ،‬فتهاون بهن من يريد الشر‪ .‬فاالحتجاب حاسم‬
‫لمطامع الطامعين فيهن‪.‬‬
‫يما } حيث غفر لكم ما سلف‪ ،‬ورحمكم‪ ،‬بأن بين لكم األحكام‪ ،‬وأوضح‬ ‫ِ‬ ‫{ و َك َّ‬
‫ورا َرح ً‬
‫ان اللهُ َغفُ ً‬
‫َ َ‬
‫الحالل والحرام‪ ،‬فهذا سد للباب من جهتهن‪.‬‬
‫ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬
‫ض}‬ ‫َِّ‬
‫ون َوالذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وأما من جهة أهل الشر فقد توعدهم بقوله‪ { :‬لَئ ْن لَ ْم َي ْنتَه اْل ُمَنافقُ َ‬
‫ون ِفي اْل َم ِد َين ِة } أي‪ :‬المخوفون المرهبون األعداء‪،‬‬ ‫أي‪ :‬مرض شك أو شهوة { َواْل ُم ْر ِجفُ َ‬
‫المحدثون (‪ )2‬بكثرتهم وقوتهم‪ ،‬وضعف المسلمين‪.‬‬
‫ولم يذكر المعمول الذي ينتهون عنه‪ ،‬ليعم ذلك‪ ،‬كل ما توحي به أنفسهم إليهم‪ ،‬وتوسوس به‪،‬‬
‫وتدعو إليه من الشر‪ ،‬من التعريض بسب اإلسالم وأهله‪ ،‬واإلرجاف بالمسلمين‪ ،‬وتوهين قواهم‪،‬‬
‫والتعرض للمؤمنات بالسوء والفاحشة‪ ،‬وغير ذلك من المعاصي الصادرة‪ ،‬من أمثال هؤالء‪.‬‬
‫ك بِ ِه ْم } أي‪ :‬نأمرك بعقوبتهم وقتالهم‪ ،‬ونسلطك عليهم‪ ،‬ثم إذا فعلنا ذلك‪ ،‬ال طاقة لهم بك‪،‬‬ ‫{ لَُن ْغ ِرَيَّن َ‬
‫ك ِفيهَا ِإال َقِليال } أي‪ :‬ال يجاورونك في‬ ‫وليس لهم قوة وال امتناع‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬ثَُّم ال ُي َج ِاو ُر َ‬
‫ون َ‬
‫المدينة إال قليال بأن تقتلهم أو تنفيهم‪.‬‬
‫وهذا فيه دليل‪ ،‬لنفي أهل الشر‪ ،‬الذين يتضرر بإقامتهم بين أظهر المسلمين‪ ،‬فإن ذلك أحسم للشر‪،‬‬
‫ُخ ُذوا َوقُتِّلُوا تَ ْقتِيال }‬
‫وأبعد منه‪ ،‬ويكونون { مْلعونِين أ َْيَنما ثُِقفُوا أ ِ‬
‫َ ُ َ َ‬
‫أي‪ :‬مبعدين‪ ،‬أين (‪ )3‬وجدوا‪ ،‬ال يحصل لهم أمن‪ ،‬وال يقر (‪ )4‬لهم قرار‪ ،‬يخشون أن يقتلوا‪ ،‬أو‬
‫يحبسوا‪ ،‬أو يعاقبوا‪.‬‬
‫ين َخلَ ْوا ِم ْن قَْب ُل } أن من تمادى في العصيان‪ ،‬وتجرأ على األذى‪ ،‬ولم ينته منه‪،‬‬ ‫َّ ِ ِ َِّ‬
‫{ ُسَّنةَ الله في الذ َ‬
‫ِ ِ ِ َّ ِ ِ‬
‫فإنه يعاقب عقوبة بليغة‪َ { .‬ولَ ْن تَج َد ل ُسَّنة الله تَْبديال } أي ً‬
‫تغييرا‪ ،‬بل سنته تعالى وعادته‪ ،‬جارية‬
‫مع األسباب المقتضية ألسبابها (‪. )5‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من هامش‪ :‬ب‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ب‪ :‬المتحدثون‪.‬‬
‫(‪ )3‬في ب‪ :‬حيث‪.‬‬
‫(‪ )4‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬وال يقرر‪.‬‬
‫(‪ )5‬كذا في النسختين ولعله واهلل أعلم المقتضية لمسبباتها‪.‬‬

‫( ‪)1/671‬‬

‫َّ‬ ‫َّاع ِة ُق ْل ِإَّن َما ِعْل ُمهَا ِعْن َد اللَّ ِه َو َما ُي ْد ِر َ‬


‫ون قَ ِر ًيبا (‪ِ )63‬إ َّن اللهَ‬ ‫يك لَ َع َّل الس َ‬
‫َّاعةَ تَ ُك ُ‬ ‫اس َع ِن الس َ‬ ‫ك َّ‬
‫الن ُ‬ ‫َي ْسأَلُ َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫لَعن اْل َك ِاف ِرين وأَع َّد لَهم س ِعيرا (‪َ )64‬خ ِال ِد ِ‬
‫ب‬‫ون َوِليًّا َواَل َنص ًيرا (‪َ )65‬ي ْو َم تَُقل ُ‬ ‫ين فيهَا أََب ًدا اَل َي ِج ُد َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُْ َ ً‬ ‫ََ‬
‫ادتََنا‬ ‫الر ُسواَل (‪َ )66‬وقَالُوا َربََّنا ِإَّنا أَ َ‬
‫ط ْعَنا َس َ‬ ‫ط ْعَنا َّ‬ ‫ط ْعَنا اللَّهَ َوأَ َ‬
‫ون َيا لَْيتََنا أَ َ‬ ‫وههُ ْم ِفي َّ‬
‫الن ِار َيقُولُ َ‬ ‫ُو ُج ُ‬
‫ض ْعفَْي ِن ِم َن اْل َع َذ ِ‬
‫اب َواْل َع ْنهُ ْم لَ ْعًنا َكبِ ًيرا (‪)68‬‬ ‫السبِياَل (‪ )67‬ربََّنا آَتِ ِهم ِ‬ ‫ونا َّ‬‫َضلُّ َ‬
‫اءَنا فَأ َ‬
‫َو ُكَب َر َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬

‫ون‬ ‫يك لَ َع َّل الس َ‬


‫َّاعةَ تَ ُك ُ‬ ‫َّاع ِة ُق ْل ِإَّن َما ِعْل ُمهَا ِع ْن َد اللَّ ِه َو َما ُي ْد ِر َ‬
‫اس َع ِن الس َ‬ ‫ك َّ‬
‫الن ُ‬ ‫{ ‪َ { } 68 - 63‬ي ْسأَلُ َ‬
‫ص ًيرا *‬ ‫قَ ِريبا * ِإ َّن اللَّه لَعن اْل َك ِاف ِرين وأَع َّد لَهم س ِعيرا * َخ ِال ِدين ِفيها أَب ًدا ال ي ِج ُدون وِليًّا وال َن ِ‬
‫َ َ َ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َ َ ُْ َ ً‬ ‫َ ََ‬ ‫ً‬
‫الر ُسوال * َوقَالُوا َربََّنا ِإَّنا أَ َ‬
‫ط ْعَنا‬ ‫ط ْعَنا َّ‬ ‫ط ْعَنا اللَّهَ َوأَ َ‬‫ون َيا لَْيتََنا أَ َ‬ ‫وههُ ْم ِفي َّ‬
‫الن ِار َيقُولُ َ‬ ‫ب ُو ُج ُ‬ ‫َّ‬
‫َي ْو َم تَُقل ُ‬
‫اب َواْل َع ْنهُ ْم لَ ْعًنا َكبِ ًيرا } ‪.‬‬‫ض ْعفَْي ِن ِم َن اْل َع َذ ِ‬‫السبِيال * ربََّنا آتِ ِهم ِ‬ ‫ونا َّ‬ ‫َضلُّ َ‬
‫اءَنا فَأ َ‬
‫ادتََنا َو ُكَب َر َ‬
‫َس َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫وتعجيزا للذي أخبر‬
‫ً‬ ‫تكذيبا لوقوعها‪،‬‬
‫أي‪ :‬يستخبرك الناس عن الساعة‪ ،‬استعجاال لها‪ ،‬وبعضهم‪ً ،‬‬
‫بها‪ُ { .‬ق ْل } لهم‪ِ { :‬إَّن َما ِعْل ُمهَا ِع ْن َد اللَّ ِه } أي‪ :‬ال يعلمها إال اللّه‪ ،‬فليس لي‪ ،‬وال لغيرى بها علم‪،‬‬
‫ومع هذا‪ ،‬فال (‪ )1‬تستبطؤوها‪.‬‬
‫ون قَ ِر ًيبا } ومجرد مجيء الساعة‪ ،‬قرباً ً‬
‫وبعدا‪ ،‬ليس تحته نتيجة وال‬ ‫يك لَ َع َّل الس َ‬
‫َّاعةَ تَ ُك ُ‬ ‫{ َو َما ُي ْد ِر َ‬
‫فائدة‪ ،‬وإ نما النتيجة والخسار‪ ،‬والربح‪ ،‬والشقا (‪ )2‬والسعادة‪ ،‬هل يستحق العبد العذاب‪ ،‬أو يستحق‬
‫الثواب؟ فهذه سأخبركم بها‪ ،‬وأصف لكم مستحقها‪.‬‬
‫فوصف مستحق العذاب‪ ،‬ووصف العذاب‪ ،‬ألن الوصف المذكور‪ ،‬منطبق على هؤالء المكذبين‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ين } [أي‪ )3( ]:‬الذين صار الكفر دأبهم وطريقتهم الكفر باللّه‬ ‫بالساعة فقال‪ِ { :‬إ َّن اللهَ لَ َع َن اْل َكاف ِر َ‬
‫عقابا‪،‬‬
‫وبرسله‪ ،‬وبما جاءوا به من عند اللّه‪ ،‬فأبعدهم في الدنيا واآلخرة من رحمته‪ ،‬وكفى بذلك ً‬
‫ِ‬
‫نارا موقدة‪ ،‬تسعر [ ص ‪ ] 673‬في أجسامهم‪ ،‬ويبلغ العذاب إلى‬ ‫َع َّد لَهُ ْم َسع ًيرا } أي‪ً :‬‬‫{ َوأ َ‬
‫أفئدتهم‪ ،‬ويخلدون في ذلك العذاب الشديد‪ ،‬فال يخرجون منه‪ ،‬وال ُيفَتَّر عنهم ساعة‪.‬‬
‫ص ًيرا } يدفع عنهم العذاب‪ ،‬بل قد تخلى عنهم‬ ‫و { ال ي ِج ُدون وِليًّا } فيعطيهم ما طلبوه { وال َن ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬
‫عظيما‪،‬‬
‫ً‬ ‫مبلغا‬
‫الولي النصير‪ ،‬وأحاط بهم عذاب السعير‪ ،‬وبلغ منهم ً‬
‫الن ِار } فيذوقون حرها‪ ،‬ويشتد عليهم أمرها‪ ،‬ويتحسرون على‬ ‫وههُ ْم ِفي َّ‬ ‫ب ُو ُج ُ‬ ‫َّ‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬ي ْو َم تَُقل ُ‬
‫ما أسلفوا‪.‬‬
‫الر ُسوال } فسلمنا من هذا العذاب‪ ،‬واستحققنا‪ ،‬كالمطيعين‪،‬‬ ‫ط ْعَنا َّ‬ ‫ط ْعَنا اللَّهَ َوأَ َ‬‫ون َيا لَْيتََنا أَ َ‬‫{ َيقُولُ َ‬
‫وألما‪.‬‬
‫وغما‪ً ،‬‬ ‫وهما‪ً ،‬‬ ‫وندما‪ً ،‬‬ ‫جزيل الثواب‪ .‬ولكن أمنية فات وقتها‪ ،‬فلم تفدهم إال حسرة ً‬
‫السبِيال }‬
‫ونا َّ‬‫َضلُّ َ‬
‫اءَنا } وقلدناهم على ضاللهم‪ { ،‬فَأ َ‬ ‫ادتََنا َو ُكَب َر َ‬
‫ط ْعَنا َس َ‬ ‫{ َوقَالُوا َربََّنا ِإَّنا أَ َ‬
‫ول َسبِيال َيا َوْيلَتَى لَْيتَنِي‬ ‫كقوله تعالى { ويوم يع ُّ َّ‬
‫الرس ِ‬
‫ت َم َع َّ ُ‬‫ض الظ ِال ُم َعلَى َي َد ْي ِه َيقُو ُل َيا لَْيتَنِي اتَّ َخ ْذ ُ‬ ‫َ َْ َ َ َ‬
‫الذ ْك ِر بعد إذ جاءني } اآلية‪.‬‬ ‫َضلَّنِي َع ِن ِّ‬ ‫لَم أَتَّ ِخ ْذ فُ ً ِ‬
‫النا َخليال لَقَ ْد أ َ‬ ‫ْ‬
‫ولما علموا أنهم هم وكبراءهم مستحقون للعقاب‪ ،‬أرادوا أن يشتفوا ممن أضلوهم‪ ،‬فقالوا‪َ { :‬ربََّنا‬
‫ض ْعفَْي ِن ِم َن اْل َع َذ ِ‬
‫اب َواْل َع ْنهُ ْم لَ ْعًنا َكبِ ًيرا } فيقول اللّه لكل ضعف‪ ،‬فكلكم اشتركتم في الكفر‬ ‫آتِ ِهم ِ‬
‫ْ‬
‫والمعاصي‪ ،‬فتشتركون في العقاب‪ ،‬وإ ن تفاوت عذاب بعضكم على بعض بحسب تفاوت الجرم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬قد‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ب‪ :‬والشقاوة‪.‬‬
‫(‪ )3‬زيادة من‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/672‬‬

‫ان ِع ْن َد اللَّ ِه َو ِجيهًا (‪)69‬‬ ‫َّ ِ‬


‫وسى فََب َّرأَهُ اللهُ م َّما قَالُوا َو َك َ‬
‫ين َآ َذ ْوا ُم َ‬
‫َِّ‬
‫ونوا َكالذ َ‬
‫َمُنوا اَل تَ ُك ُ‬
‫ين آ َ‬
‫َِّ‬
‫َيا أَيُّهَا الذ َ‬

‫ان ِع ْن َد اللَّ ِه‬ ‫َّ ِ‬


‫وسى فََب َّرأَهُ اللهُ م َّما قَالُوا َو َك َ‬
‫ين آ َذ ْوا ُم َ‬
‫َِّ‬
‫ونوا َكالذ َ‬
‫آمُنوا ال تَ ُك ُ‬
‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫{ ‪َ { } 69‬يا أَيُّهَا الذ َ‬
‫َو ِجيهًا } ‪.‬‬
‫يحذر تعالى عباده المؤمنين عن أذية رسولهم‪ ،‬محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬النبي الكريم‪ ،‬الرءوف‬
‫الرحيم‪ ،‬فيقابلوه بضد ما يجب له من اإلكرام واالحترام‪ ،‬وأن ال يتشبهوا بحال الذين آذوا موسى‬
‫بن عمران‪ ،‬كليم الرحمن‪ ،‬فبرأه اللّه مما قالوا من األذية‪ ،‬أي‪ :‬أظهر اللّه لهم براءته‪ .‬والحال أنه‬
‫مقربا لديه‪ ،‬من‬
‫عليه الصالة والسالم‪ ،‬ليس محل التهمة واألذية‪ ،‬فإنه كان وجيها عند اللّه‪ً ،‬‬
‫خواص المرسلين‪ ،‬ومن عباده المخلصين‪ ،‬فلم يزجرهم ما له‪ ،‬من الفضائل عن أذيته والتعرض‬
‫له بما يكره‪ ،‬فاحذروا أيها المؤمنون‪ ،‬أن تتشبهوا بهم في ذلك‪ ،‬واألذية المشار إليها هي قول بني‬
‫إسرائيل لموسى (‪ )1‬لما رأوا شدة حيائه وتستره عنهم‪" :‬إنه ما يمنعه من ذلك إال أنه آدر" أي‪:‬‬
‫يوما‪ ،‬ووضع ثوبه على‬
‫كبير الخصيتين‪ ،‬واشتهر ذلك عندهم‪ ،‬فأراد اهلل أن يبرئه منهم‪ ،‬فاغتسل ً‬
‫حجر‪ ،‬ففر الحجر بثوبه‪ ،‬فأهوى موسى عليه السالم في طلبه‪ ،‬فمر به على مجالس بني إسرائيل‪،‬‬
‫فرأوه أحسن خلق اللّه‪ ،‬فزال عنه ما رموه به‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬عن موسى‪.‬‬

‫( ‪)1/673‬‬

‫وب ُك ْم َو َم ْن‬ ‫ِ‬ ‫صِل ْح لَ ُك ْم أ ْ‬ ‫َمُنوا اتَّقُوا اللَّهَ َوقُولُوا قَ ْواًل َس ِد ً‬ ‫َِّ‬
‫َع َمالَ ُك ْم َوَي ْغف ْر لَ ُك ْم ُذُن َ‬ ‫يدا (‪ُ )70‬ي ْ‬ ‫ين آ َ‬
‫َيا أَيُّهَا الذ َ‬
‫يما (‪)71‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫ُيط ِع اللهَ َو َر ُسولَهُ فَقَ ْد فَ َاز فَ ْو ًزا َعظ ً‬

‫َع َمالَ ُك ْم َوَي ْغ ِف ْر لَ ُك ْم‬


‫صِل ْح لَ ُك ْم أ ْ‬ ‫آمُنوا اتَّقُوا اللَّهَ َوقُولُوا قَ ْوال َس ِد ً‬
‫يدا * ُي ْ‬ ‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫{ ‪َ { } 71 - 70‬يا أَيُّهَا الذ َ‬
‫يما } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫وب ُك ْم َو َم ْن ُيط ِع اللهَ َو َر ُسولَهُ فَقَ ْد فَ َاز فَ ْو ًزا َعظ ً‬
‫ُذُن َ‬
‫يأمر تعالى المؤمنين بتقواه‪ ،‬في جميع أحوالهم‪ ،‬في السر والعالنية‪ ،‬ويخص منها‪ ،‬ويندب للقول‬
‫السديد‪ ،‬وهو القول الموافق للصواب‪ ،‬أو المقارب له‪ ،‬عند تعذر اليقين‪ ،‬من قراءة‪ ،‬وذكر‪ ،‬وأمر‬
‫بمعروف‪ ،‬ونهي عن منكر‪ ،‬وتعلم علم وتعليمه‪ ،‬والحرص على إصابة الصواب‪ ،‬في المسائل‬
‫العلمية‪ ،‬وسلوك كل طريق يوصل لذلك‪ ،‬وكل وسيلة تعين عليه‪.‬‬
‫ومن القول السديد‪ ،‬لين الكالم ولطفه‪ ،‬في مخاطبة األنام‪ ،‬والقول المتضمن للنصح واإلشارة‪ ،‬بما‬
‫هو األصلح‪.‬‬
‫صِل ْح لَ ُك ْم أ ْ‬
‫َع َمالَ ُك ْم } أي‪ :‬يكون ذلك‬ ‫ثم ذكر ما يترتب على تقواه‪ ،‬وقول القول السديد فقال‪ُ { :‬ي ْ‬
‫سببا لصالحها‪ ،‬وطريقًا لقبولها‪ ،‬ألن استعمال التقوى‪ ،‬تتقبل به األعمال كما قال تعالى‪ِ { :‬إَّن َما‬ ‫ً‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َيتَقََّب ُل اللهُ م َن اْل ُمتَّق َ‬
‫ين }‬
‫[أيضا] بحفظها عما يفسدها‪ ،‬وحفظ‬ ‫ويوفق فيه اإلنسان للعمل الصالح‪ ،‬ويصلح اللّه األعمال ً‬
‫ثوابها ومضاعفته‪ ،‬كما أن اإلخالل بالتقوى‪ ،‬والقول السديد سبب لفساد األعمال‪ ،‬وعدم قبولها‪،‬‬
‫وعدم تََرتُّ ِب آثارها عليها‪.‬‬
‫وب ُك ْم } التي هي السبب في هالككم‪ ،‬فالتقوى تستقيم بها األمور‪ ،‬ويندفع‬ ‫ِ‬
‫أيضا { ُذُن َ‬
‫{ َوَي ْغف ْر لَ ُك ْم } ً‬
‫يما }‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫بها كل محذور ولهذا قال‪َ { :‬و َم ْن ُيط ِع اللهَ َو َر ُسولَهُ فَقَ ْد فَ َاز فَ ْو ًزا َعظ ً‬

‫( ‪)1/673‬‬
‫َن َي ْح ِمْلَنهَا َوأَ ْشفَ ْق َن ِم ْنهَا َو َح َملَهَا‬ ‫ض واْل ِجَب ِ‬
‫ال فَأََب ْي َن أ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َواأْل َْر َ‬
‫ضَنا اأْل ََم َانةَ َعلَى الس َ‬ ‫ِإَّنا َع َر ْ‬
‫ات واْلم ْش ِر ِكين واْلم ْش ِر َك ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ظلُوما جهواًل (‪ِ )72‬ليع ِّذ َّ‬
‫ات‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ين َواْل ُمَنافقَ َ ُ‬ ‫ب اللهُ اْل ُمَنافق َ‬ ‫َُ َ‬ ‫ان َ ً َ ُ‬ ‫ان ِإَّنهُ َك َ‬
‫اإْلِ ْن َس ُ‬
‫ِ‬ ‫ات و َك َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫يما (‪)73‬‬ ‫ورا َرح ً‬ ‫ان اللهُ َغفُ ً‬‫ين َواْل ُم ْؤ ِمَن َ َ‬
‫وب اللهُ َعلَى اْل ُم ْؤ ِمن َ‬‫َوَيتُ َ‬

‫َن َي ْح ِمْلَنهَا َوأَ ْشفَ ْق َن‬ ‫ض واْل ِجَب ِ‬


‫ال فَأََب ْي َن أ ْ‬ ‫ات و ْ ِ‬
‫األر َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاو َ‬
‫األم َانةَ َعلَى الس َ‬
‫ضَنا َ‬ ‫{ ‪ِ { } 73 - 72‬إَّنا َعَر ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ظلُوما جهوال * ِليع ِّذ َّ‬ ‫ِم ْنهَا َو َح َملَهَا ْ‬
‫ين َواْل ُمَنافقَات َواْل ُم ْش ِرك َ‬
‫ين‬ ‫ب اللهُ اْل ُمَنافق َ‬
‫َُ َ‬ ‫ان َ ً َ ُ‬ ‫ان ِإَّنهُ َك َ‬
‫اإلن َس ُ‬
‫ِ‬ ‫ات و َك َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫يما } ‪.‬‬ ‫ورا َرح ً‬ ‫ان اللهُ َغفُ ً‬ ‫ين َواْل ُم ْؤ ِمَن َ َ‬
‫وب اللهُ َعلَى اْل ُم ْؤ ِمن َ‬‫َواْل ُم ْش ِر َكات َوَيتُ َ‬
‫يعظم تعالى شأن األمانة‪ ،‬التي ائتمن اللّه عليها المكلفين‪ ،‬التي هي امتثال األوامر‪ ،‬واجتناب‬
‫المحارم‪ ،‬في حال السر والخفية‪ ،‬كحال العالنية‪ ،‬وأنه [ ص ‪ ] 674‬تعالى عرضها على‬
‫المخلوقات العظيمة‪ ،‬السماوات واألرض والجبال‪ ،‬عرض تخيير ال تحتيم‪ ،‬وأنك إن قمت بها‬
‫وأديتِهَا على وجهها‪ ،‬فلك الثواب‪ ،‬وإ ن لم تقومي بها‪[ ،‬ولم تؤديها] فعليك العقاب‪.‬‬ ‫َّ‬
‫زهدا‬
‫عصيانا لربهن‪ ،‬وال ً‬
‫ً‬ ‫َن َي ْح ِمْلَنهَا َوأَ ْشفَ ْق َن ِم ْنهَا } أي‪ :‬خوفًا أن ال يقمن بما ُح ِّمْل َن‪ ،‬ال‬
‫{ فَأََب ْي َن أ ْ‬
‫في ثوابه‪ ،‬وعرضها اللّه على اإلنسان‪ ،‬على ذلك الشرط المذكور‪ ،‬فقبلها‪ ،‬وحملها مع ظلمه‬
‫وجهله‪ ،‬وحمل هذا الحمل الثقيل‪ .‬فانقسم الناس ‪-‬بحسب قيامهم بها وعدمه‪ -‬إلى ثالثة أقسام‪:‬‬
‫وباطنا‪ ،‬ومؤمنون‪،‬‬
‫ً‬ ‫ظاهرا‬
‫ً‬ ‫باطنا‪ ،‬ومشركون‪ ،‬تركوها‬
‫ظاهرا ال ً‬
‫ً‬ ‫منافقون‪ ،‬أظهروا أنهم قاموا بها‬
‫وباطنا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ظاهرا‬
‫ً‬ ‫قائمون بها‬
‫فذكر اللّه تعالى أعمال هؤالء األقسام الثالثة‪ ،‬وما لهم من الثواب والعقاب فقال‪ِ { :‬ليع ِّذ َّ‬
‫ب اللهُ‬ ‫َُ َ‬
‫ات و َك َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين َواْل ُم ْؤ ِمَن َ َ‬
‫ان اللهُ‬ ‫وب اللهُ َعلَى اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين َواْل ُم ْش ِر َكات َوَيتُ َ‬
‫ين َواْل ُمَنافقَات َواْل ُم ْش ِرك َ‬
‫اْل ُمَنافق َ‬
‫يما } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ورا َرح ً‬ ‫َغفُ ً‬
‫فله الحمد تعالى‪ ،‬حيث ختم هذه اآلية بهذين االسمين الكريمين‪ ،‬الدالين على تمام مغفرة اللّه‪،‬‬
‫وسعة رحمته‪ ،‬وعموم جوده‪ ،‬مع أن المحكوم عليهم‪ ،‬كثير منهم‪ ،‬لم يستحق المغفرة والرحمة‪،‬‬
‫لنفاقه وشركه‪.‬‬
‫تم تفسير سورة األحزاب‪.‬‬
‫بحمد اللّه وعونه‪.‬‬

‫( ‪)1/673‬‬

‫تفسير سورة سبأ وهي مكية‬


‫( ‪)1/674‬‬

‫يم اْل َخبِ ُير (‪)1‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات و َما ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ ِ َِّ‬
‫ض َولَهُ اْل َح ْم ُد في اآْل َخ َرة َو ُه َو اْل َحك ُ‬ ‫َّم َاو َ‬
‫اْل َح ْم ُد لله الذي لَهُ َما في الس َ‬
‫اء وما يعرج ِفيها و ُهو َّ ِ‬ ‫ض وما ي ْخرج ِم ْنها وما ي ْن ِز ُل ِمن الس ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ور (‬
‫يم اْل َغفُ ُ‬
‫الرح ُ‬ ‫َّم َ َ َ ْ ُ ُ َ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َي ْعلَ ُم َما َيل ُج في اأْل َْر ِ َ َ َ ُ ُ َ َ َ َ‬
‫‪)2‬‬

‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ ِ َِّ‬ ‫الر ْحم ِن َّ ِ ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬


‫ض َولَهُ‬ ‫َّم َاوات َو َما في ْ‬ ‫الرحيم اْل َح ْم ُد لله الذي لَهُ َما في الس َ‬ ‫{ ‪ { } 2 - 1‬ب ْسم الله َّ َ‬
‫ض َو َما َي ْخ ُر ُج ِم ْنهَا َو َما َي ْن ِز ُل ِم َن‬ ‫ِ ِ‬
‫يم اْل َخبِ ُير * َي ْعلَ ُم َما َيل ُج في ْ‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اْل َح ْم ُد في اآلخ َرة َو ُه َو اْل َحك ُ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫اء وما يعرج ِفيها و ُهو َّ ِ‬ ‫الس ِ‬
‫يم اْل َغفُ ُ‬
‫الرح ُ‬ ‫َّم َ َ َ ْ ُ ُ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫الحمد‪ :‬الثناء بالصفات الحميدة‪ ،‬واألفعال الحسنة‪ ،‬فللّه تعالى الحمد‪ ،‬ألن جميع صفاته‪ ،‬يحمد‬
‫عليها‪ ،‬لكونها صفات كمال‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬يحمد عليها‪ ،‬ألنها دائرة بين الفضل الذي يحمد عليه‬
‫ويشكر‪ ،‬والعدل الذي يحمد عليه ويعترف بحكمته فيه‪.‬‬
‫ض } ملكا وعبيدا‪ ،‬يتصرف فيهم‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو َما في ْ‬
‫وحمد نفسه هنا‪ ،‬على أن { لَهُ َما في الس َ‬
‫بحمده‪ { .‬ولَه اْلحم ُد ِفي ِ‬
‫اآلخ َر ِة } ألن في اآلخرة‪ ،‬يظهر من حمده‪ ،‬والثناء عليه‪ ،‬ما ال يكون في‬ ‫َ ُ َْ‬
‫الدنيا‪ ،‬فإذا قضى اللّه تعالى بين الخالئق كلهم‪ ،‬ورأى الناس والخلق كلهم‪ ،‬ما حكم به‪ ،‬وكمال‬
‫عدله وقسطه‪ ،‬وحكمته فيه‪ ،‬حمدوه كلهم على ذلك‪ ،‬حتى أهل العقاب ما دخلوا النار‪ ،‬إال وقلوبهم‬
‫ممتلئة من حمده‪ ،‬وأن هذا من جراء أعمالهم‪ ،‬وأنه عادل في حكمه بعقابهم‪.‬‬
‫وأما ظهور حمده في دار النعيم والثواب‪ ،‬فذلك شيء قد تواردت به األخبار‪ ،‬وتوافق عليه الدليل‬
‫السمعي والعقلي‪ ،‬فإنهم في الجنة‪ ،‬يرون من توالي نعم اللّه‪ ،‬وإ درار خيره‪ ،‬وكثرة بركاته‪ ،‬وسعة‬
‫عطاياه‪ ،‬التي لم يبق في قلوب أهل الجنة أمنية‪ ،‬وال إرادة‪ ،‬إال وقد أعطي فوق ما تمنى وأراد‪ ،‬بل‬
‫يعطون من الخير ما لم تتعلق به أمانيهم‪ ،‬ولم يخطر بقلوبهم‪.‬‬
‫فما ظنك بحمدهم لربهم في هذه الحال‪ ،‬مع أن في الجنة تضمحل العوارض والقواطع‪ ،‬التي تقطع‬
‫عن معرفة اللّه ومحبته والثناء عليه‪ ،‬ويكون ذلك أحب إلى أهلها من كل نعيم‪ ،‬وألذ عليهم من كل‬
‫لذة‪ ،‬ولهذا إذا رأوا اللّه تعالى‪ ،‬وسمعوا كالمه عند خطابه لهم‪ ،‬أذهلهم ذلك عن كل نعيم‪ ،‬ويكون‬
‫الذكر لهم في الجنة‪َّ ،‬‬
‫كالنفس‪ ،‬متواصال في جميع األوقات‪ ،‬هذا إذا أضفت ذلك إلى أنه يظهر‬
‫ألهل الجنة في الجنة كل وقت من عظمة ربهم‪ ،‬وجالله‪ ،‬وجماله‪ ،‬وسعة كماله‪ ،‬ما يوجب لهم‬
‫كمال الحمد‪ ،‬والثناء عليه‪.‬‬
‫يم } في ملكه وتدبيره‪ ،‬الحكيم في أمره ونهيه‪ { .‬اْل َخبِ ُير } المطلع على سرائر األمور‬ ‫ِ‬
‫{ َو ُه َو اْل َحك ُ‬
‫ض } أي‪ :‬من مطر‪ ،‬وبذر‪ ،‬وحيوان‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫وخفاياها ولهذا فصل علمه بقوله‪َ { :‬ي ْعلَ ُم َما َيل ُج في ْ‬
‫اء } من األمالك‬ ‫{ وما ي ْخرج ِم ْنها } من أنواع النباتات‪ ،‬وأصناف الحيوانات { وما ينز ُل ِمن السَّم ِ‬
‫َ َ‬ ‫ََ َ‬ ‫ََ َ ُ ُ َ‬
‫واألرزاق واألقدار { َو َما َي ْع ُر ُج ِفيهَا } من المالئكة واألرواح وغير ذلك‪.‬‬
‫يم‬ ‫ولما ذكر مخلوقاته وحكمته فيها‪ ،‬وعلمه بأحوالها‪ ،‬ذكر مغفرته ورحمته لها‪ ،‬فقال‪ { :‬و ُهو َّ ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫َ َ‬
‫ور } أي‪ :‬الذي الرحمة والمغفرة وصفه‪ ،‬ولم تزل آثارهما تنزل على عباده كل وقت بحسب‬ ‫اْل َغفُ ُ‬
‫ما قاموا به من مقتضياتهما‪.‬‬

‫( ‪)1/674‬‬

‫ب َعْنهُ ِمثْقَا ُل َذ َّر ٍة ِفي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫َّاعةُ ُق ْل َبلَى َو َربِّي لَتَأْتَيَّن ُك ْم َعالِم اْل َغ ْي ِب اَل َي ْع ُز ُ‬
‫ِ‬
‫ين َكفَ ُروا اَل تَأْت َينا الس َ‬
‫وقَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬
‫َمُنوا‬ ‫ين (‪ِ )3‬لي ْج ِز َِّ‬ ‫اب ُمبِ ٍ‬ ‫ك واَل أَ ْكَبر ِإاَّل ِفي ِكتَ ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ات واَل ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫ين آ َ‬
‫ي الذ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َص َغ ُر م ْن َذل َ َ‬‫ض َواَل أ ْ‬ ‫َّم َاو َ‬ ‫الس َ‬
‫ين أُولَئِ َ‬
‫ك لَهُ ْم‬ ‫اج ِز َ‬ ‫ين َس َعوا ِفي آََياتَِنا م َع ِ‬
‫ُ‬
‫َِّ‬
‫يم (‪َ )4‬والذ َ ْ‬ ‫ق َك ِر ٌ‬‫ك لَهُ ْم َم ْغ ِف َرةٌ َو ِر ْز ٌ‬
‫ات أُولَئِ َ‬
‫َّالح ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َعملُوا الص َ‬
‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ع َذ ٌ ِ‬
‫يم (‪)5‬‬ ‫اب م ْن ِر ْج ٍز أَل ٌ‬ ‫َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬


‫ب َع ْنهُ‬ ‫َّاعةُ ُق ْل َبلَى َو َربِّي لَتَأْتَيَّن ُك ْم َعالِم اْل َغ ْي ِب ال َي ْع ُز ُ‬ ‫ين َكفَ ُروا ال تَأْت َينا الس َ‬
‫{ ‪َ { } 5 - 3‬وقَا َل الذ َ‬
‫ين *‬‫اب ُمبِ ٍ‬‫ك وال أَ ْكَبر ِإال ِفي ِكتَ ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َص َغ ُر م ْن َذل َ َ‬ ‫ض َوال أ ْ‬ ‫َّم َاوات َوال في ْ‬ ‫مثْقَا ُل َذ َّرة في الس َ‬
‫ين َس َع ْوا ِفي َآياتَِنا‬ ‫َِّ‬
‫يم * َوالذ َ‬ ‫ق َك ِر ٌ‬ ‫ك لَهُ ْم َم ْغ ِف َرةٌ َو ِر ْز ٌ‬
‫ات أُولَئِ َ‬
‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين َ‬
‫ِلي ْج ِز َِّ‬
‫ي الذ َ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ك لَهم ع َذ ٌ ِ‬‫ِ‬
‫اب م ْن ِر ْج ٍز أَل ٌ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫ُم َعا ِج ِز َ‬
‫ين أُولَئ َ ُ ْ َ‬
‫لما بين تعالى‪ ،‬عظمته‪ ،‬بما وصف به نفسه‪ ،‬وكان هذا موجبا لتعظيمه وتقديسه‪ ،‬واإليمان به‪ ،‬ذكر‬
‫أن من أصناف الناس‪ ،‬طائفة لم تقدر ربها حق قدره‪ ،‬ولم تعظمه حق عظمته‪ ،‬بل كفروا به‪،‬‬
‫ين‬ ‫وأنكروا قدرته على إعادة األموات‪ ،‬وقيام الساعة‪ ،‬وعارضوا بذلك رسله فقال‪ { :‬وقَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬
‫َّاعةُ } أي‪ :‬ما هي‪،‬‬ ‫ِ‬
‫َكفَ ُروا } أي باللّه وبرسله‪ ،‬وبما جاءوا به‪ ،‬فقالوا بسبب كفرهم‪ { :‬ال تَأْت َينا الس َ‬
‫إال هذه الحياة الدنيا‪ ،‬نموت ونحيا‪ [ .‬ص ‪ ] 675‬فأمر اللّه رسوله أن يرد قولهم ويبطله‪ ،‬ويقسم‬
‫أقر به‪ ،‬لزمه أن يصدق بالبعث ضرورة‪،‬‬ ‫على البعث‪ ،‬وأنه سيأتيهم‪ ،‬واستدل على ذلك بدليل من َّ‬
‫وهو علمه تعالى الواسع العام فقال‪َ { :‬ع ِالِم اْل َغ ْي ِب } أي‪ :‬األمور الغائبة عن أبصارنا‪ ،‬وعن‬
‫علمنا‪ ،‬فكيف بالشهادة؟"‪.‬‬
‫ات َوال ِفي‬
‫ثم أكد علمه فقال‪ { :‬ال يع ُزب } أي‪ :‬ال يغيب عن علمه { ِمثْقَا ُل َذ َّر ٍة ِفي السَّماو ِ‬
‫ََ‬ ‫َْ ُ‬
‫ض } أي‪ :‬جميع األشياء بذواتها وأجزائها‪ ،‬حتى أصغر ما يكون من األجزاء‪ ،‬وهو المثاقيل‬ ‫األر ِ‬
‫ْ‬
‫منها‪.‬‬
‫ك وال أَ ْكَبر ِإال ِفي ِكتَ ٍ‬
‫اب ُمبِ ٍ‬
‫ين } أي‪ :‬قد أحاط به علمه‪ ،‬وجرى به قلمه‪،‬‬ ‫ِ ِ‬
‫ُ‬ ‫َص َغ ُر م ْن َذل َ َ‬
‫{ َوال أ ْ‬
‫وتضمنه الكتاب المبين‪ ،‬الذي هو اللوح المحفوظ‪ ،‬فالذي ال يخفى عن علمه مثقال الذرة فما دونه‪،‬‬
‫في جميع األوقات‪ ،‬ويعلم (‪ )1‬ما تنقص األرض من األموات‪ ،‬وما يبقى من أجسادهم‪ ،‬قادر على‬
‫بعثهم من باب أولى‪ ،‬وليس بعثهم بأعجب من هذا العلم المحيط‪.‬‬
‫آمُنوا } بقلوبهم‪ ،‬صدقوا اللّه‪ ،‬وصدقوا رسله‬ ‫ثم ذكر المقصود من البعث فقال‪ِ { :‬لي ْج ِز َِّ‬
‫ين َ‬
‫ي الذ َ‬‫َ َ‬
‫ك لَهُ ْم َم ْغ ِف َرةٌ } لذنوبهم‪ ،‬بسبب‬
‫ات } تصديقا إليمانهم‪ { .‬أُولَئِ َ‬ ‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تصديقا جازما‪َ { ،‬و َعملُوا الص َ‬
‫يم } بإحسانهم‪ ،‬يحصل لهم به كل‬ ‫ق َك ِر ٌ‬
‫إيمانهم وعملهم‪ ،‬يندفع بها كل شر وعقاب‪َ { .‬و ِر ْز ٌ‬
‫مطلوب ومرغوب‪ ،‬وأمنية‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬سعوا فيها كفرا بها‪ ،‬وتعجيزا لمن جاء بها‪ ،‬وتعجيزا‬ ‫ين َس َعوا ِفي َآياتَِنا م َع ِ‬
‫اج ِز َ‬
‫َِّ‬
‫ُ‬ ‫{ َوالذ َ ْ‬
‫ِ‬ ‫ك لَهم ع َذ ٌ ِ‬ ‫ِ‬
‫اب م ْن ِر ْج ٍز أَل ٌ‬
‫يم } أي‪ :‬مؤلم‬ ‫لمن أنزلها‪ ،‬كما عجزوه في اإلعادة بعد الموت‪ { .‬أُولَئ َ ُ ْ َ‬
‫ألبدانهم وقلوبهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬وعلم‪.‬‬

‫( ‪)1/674‬‬

‫يز اْل َح ِم ِيد (‪)6‬‬ ‫صر ِ‬


‫اط اْل َع ِز ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّك ُهو اْلح َّ ِ‬
‫ق َوَي ْهدي ِإلَى َ‬
‫ويرى الَِّذين أُوتُوا اْل ِعْلم الَِّذي أ ُْن ِز َل ِإلَْي َ ِ‬
‫ك م ْن َرب َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ‬

‫صر ِ‬‫ِ‬ ‫ك ُهو اْلح َّ ِ‬ ‫{ ‪ { } 6‬ويرى الَِّذين أُوتُوا اْل ِعْلم الَِّذي أ ُْن ِز َل ِإلَْي َ ِ‬
‫اط اْل َع ِز ِ‬
‫يز‬ ‫ق َوَي ْهدي ِإلَى َ‬ ‫ك م ْن َرِّب َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ‬
‫اْل َح ِم ِيد } ‪.‬‬
‫لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث‪ ،‬وأنهم يرون ما أنزل على رسوله ليس بحق‪ ،‬ذكر حالة‬
‫الموفقين من العباد‪ ،‬وهم أهل العلم‪ ،‬وأنهم يرون ما أنزل اللّه على رسوله من الكتاب‪ ،‬وما اشتمل‬
‫عليه من األخبار‪ ،‬هو الحق‪ ،‬أي‪ :‬الحق منحصر فيه‪ ،‬وما خالفه وناقضه‪ ،‬فإنه باطل‪ ،‬ألنهم‬
‫وصلوا من العلم إلى درجة اليقين‪.‬‬
‫يز اْل َح ِم ِيد } وذلك أنهم جزموا‬ ‫صر ِ‬
‫اط اْل َع ِز ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ويرون أيضا أنه في أوامره ونواهيه { َي ْهدي ِإلَى َ‬
‫بصدق ما أخبر به من وجوه كثيرة‪ :‬من جهة علمهم بصدق من أخبر به‪ ،‬ومن جهة موافقته‬
‫لألمور الواقعة‪ ،‬والكتب السابقة‪ ،‬ومن جهة ما يشاهدون من أخبارها‪ ،‬التي تقع عيانا‪ ،‬ومن جهة‬
‫ما يشاهدون من اآليات العظيمة الدالة عليها في اآلفاق وفي أنفسهم ومن جهة موافقتها‪ ،‬لما دلت‬
‫عليه أسماؤه تعالى وأوصافه‪.‬‬
‫ويرون في األوامر والنواهي‪ ،‬أنها تهدي إلى الصراط المستقيم‪ ،‬المتضمن لألمر بكل صفة تزكي‬
‫النفس‪ ،‬وتنمي األجر‪ ،‬وتفيد العامل وغيره‪ ،‬كالصدق واإلخالص وبر الوالدين‪ ،‬وصلة األرحام‪،‬‬
‫واإلحسان إلى عموم الخلق‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬وتنهى عن كل صفة قبيحة‪ ،‬تدنس النفس‪ ،‬وتحبط األجر‪،‬‬
‫وتوجب اإلثم والوزر‪ ،‬من الشرك‪ ،‬والزنا‪ ،‬والربا‪ ،‬والظلم في الدماء واألموال‪ ،‬واألعراض‪.‬‬
‫وهذه منقبة ألهل العلم وفضيلة‪ ،‬وعالمة لهم‪ ،‬وأنه كلما كان العبد أعظم علما وتصديقا بأخبار ما‬
‫جاء به الرسول‪ ،‬وأعظم معرفة بحكم أوامره ونواهيه‪ ،‬كان من أهل العلم الذين جعلهم اللّه حجة‬
‫على ما جاء به الرسول‪ ،‬احتج اللّه بهم على المكذبين المعاندين‪ ،‬كما في هذه اآلية وغيرها‪.‬‬

‫( ‪)1/675‬‬

‫ق َج ِد ٍيد (‪)7‬‬
‫ق ِإَّن ُك ْم لَِفي َخْل ٍ‬
‫ين َكفَ ُروا َه ْل َن ُدلُّ ُك ْم َعلَى َر ُج ٍل ُيَنبُِّئ ُك ْم ِإ َذا ُمِّز ْقتُ ْم ُك َّل ُم َم َّز ٍ‬ ‫وقَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬

‫ق ِإَّن ُك ْم لَِفي َخْل ٍ‬


‫ق‬ ‫ين َكفَ ُروا َه ْل َن ُدلُّ ُك ْم َعلَى َر ُج ٍل ُيَنبُِّئ ُك ْم ِإ َذا ُمِّز ْقتُ ْم ُك َّل ُم َم َّز ٍ‬ ‫َِّ‬
‫{ ‪َ { } 9 - 7‬وقَا َل الذ َ‬
‫َج ِد ٍيد } ‪.‬‬
‫ين َكفَ ُروا } على وجه التكذيب واالستهزاء واالستبعاد‪ ،‬وذكر وجه االستبعاد‪.‬‬ ‫َِّ‬
‫أي‪َ { :‬وقَا َل الذ َ‬
‫ق َج ِد ٍيد }‬
‫ق ِإَّن ُك ْم لَِفي َخْل ٍ‬ ‫أي‪ :‬قال بعضهم لبعض‪َ { :‬ه ْل َن ُدلُّ ُك ْم َعلَى َر ُج ٍل ُيَنبُِّئ ُك ْم ِإ َذا ُمِّز ْقتُ ْم ُك َّل ُم َم َّز ٍ‬
‫يعنون بذلك الرجل‪ ،‬رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬وأنه رجل أتى بما يستغرب منه‪ ،‬حتى‬
‫صار ‪ -‬بزعمهم ‪ -‬فرجة يتفرجون عليه‪ ،‬وأعجوبة يسخرون منه‪ ،‬وأنه كيف يقول { ِإَّن ُك ْم‬
‫ون } بعدما مزقكم البلى‪ ،‬وتفرقت أوصالكم‪ ،‬واضمحلت أعضاؤكم؟!‪.‬‬
‫َم ْب ُعوثُ َ‬

‫( ‪)1/675‬‬

‫الضاَل ِل اْلَب ِع ِيد (‪ )8‬أَ َفلَ ْم‬


‫اب َو َّ‬ ‫ون بِاآْل َ ِخر ِة ِفي اْل َع َذ ِ‬
‫َ‬ ‫ين اَل ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫أَ ْفتََرى َعلَى الله َكذًبا أ َْم بِه ِجَّنةٌ َب ِل الذ َ‬
‫ط َعلَْي ِه ْم‬ ‫ض أ َْو ُن ْس ِق ْ‬
‫ف بِ ِه ُم اأْل َْر َ‬‫ض ِإ ْن َن َش ْأ َن ْخ ِس ْ‬
‫اء واأْل َْر ِ‬‫يروا ِإلَى ما ب ْين أ َْي ِدي ِهم وما َخْلفَهم ِمن الس ِ‬
‫َّم َ‬ ‫ُْ َ َ‬ ‫ْ ََ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ََ ْ‬
‫يب (‪)9‬‬ ‫ك آَل ََيةً ِل ُك ِّل َع ْب ٍد منِ ٍ‬
‫اء ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ِكسفًا ِمن السَّم ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َ َ‬

‫َّالل اْلَب ِع ِيد * أَ َفلَ ْم‬


‫اب والض ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ أَ ْفتَرى علَى اللَّ ِه َك ِذبا أَم بِ ِه ِجَّنةٌ ب ِل الَِّذين ال يؤ ِمُن ِ ِ ِ ِ‬
‫ون باآلخ َرة في اْل َع َذ َ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫َ‬ ‫ً ْ‬ ‫َ َ‬
‫ط َعلَْي ِه ْم‬ ‫ض أ َْو ُن ْس ِق ْ‬‫األر َ‬ ‫ض ِإ ْن َن َش ْأ َن ْخ ِس ْ‬
‫ف بِ ِه ُم ْ‬ ‫األر ِ‬ ‫يروا ِإلَى ما ب ْين أ َْي ِدي ِهم وما َخْلفَهم ِمن الس ِ‬
‫َّماء َو ْ‬
‫ُْ َ َ‬ ‫ْ ََ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ََ ْ‬
‫آليةً ِل ُك ِّل َع ْب ٍد منِ ٍ‬
‫يب } ‪.‬‬ ‫ك َ‬ ‫اء ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ِكسفًا ِمن السَّم ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َ َ‬
‫فهذا الرجل الذي يأتي بذلك‪ ،‬هل { أَ ْفتََرى َعلَى اللَّ ِه َك ِذًبا } فتجرأ عليه وقال ما قال‪ { ،‬أ َْم بِ ِه ِجَّنةٌ‬
‫} ؟ فال يستغرب منه‪ ،‬فإن الجنون فنون‪ ،‬وكل هذا منهم‪ ،‬على وجه العناد والظلم‪ ،‬ولقد علموا‪ ،‬أنه‬
‫أصدق خلق اللّه وأعقلهم‪ ،‬ومن علمهم‪ ،‬أنهم أبدوا وأعادوا في معاداتهم‪ ،‬وبذلوا أنفسهم وأموالهم‪،‬‬
‫في صد الناس عنه‪ ،‬فلو كان كاذبا مجنونا لم ينبغ لكم [ ص ‪ - ] 676‬يا أهل العقول غير الزاكية‬
‫‪ -‬أن تصغوا لما قال‪ ،‬وال أن تحتفلوا بدعوته‪ ،‬فإن المجنون‪ ،‬ال ينبغي للعاقل أن يلفت إليه نظره‪،‬‬
‫أو يبلغ قوله منه كل مبلغ‪.‬‬
‫الن ُذ ُر َع ْن قَ ْوٍم ال‬
‫ات َو ُّ‬
‫اآلي ُ‬ ‫ِ‬
‫ولوال عنادكم وظلمكم‪ ،‬لبادرتم إلجابته‪ ،‬ولبيتم دعوته‪ ،‬ولكن { َما تُ ْغني َ‬
‫اآلخ َر ِة } ومنهم الذين قالوا تلك المقالة‪ِ { ،‬في‬ ‫يؤ ِمُنون } ولهذا قال تعالى‪ { :‬ب ِل الَِّذين ال يؤ ِمُنون بِ ِ‬
‫َ ُْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ‬
‫َّالل اْلَب ِع ِيد } أي‪ :‬في الشقاء العظيم‪ ،‬والضالل البعيد‪ ،‬الذي ليس بقريب من‬ ‫اب والض ِ‬ ‫ِ‬
‫اْل َع َذ َ‬
‫الصواب‪ ،‬وأي شقاء وضالل‪ ،‬أبلغ من إنكارهم لقدرة اللّه على البعث وتكذيبهم لرسوله الذي جاء‬
‫به‪ ،‬واستهزائهم به‪ ،‬وجزمهم بأن ما جاءوا به هو الحق‪ ،‬فرأوا الحق باطال والباطل والضالل حقا‬
‫وهدى‪.‬‬
‫ثم نبههم على الدليل العقلي‪ ،‬الدال على عدم استبعاد البعث‪ ،‬الذي استبعدوه‪ ،‬وأنهم لو نظروا إلى‬
‫ما بين أيديهم وما خلفهم‪ ،‬من السماء واألرض فرأوا من قدرة اللّه فيهما‪ ،‬ما يبهر العقول‪ ،‬ومن‬
‫عظمته ما يذهل العلماء الفحول‪ ،‬وأن خلقهما وعظمتهما وما فيهما من المخلوقات‪ ،‬أعظم من‬
‫إعادة الناس ‪ -‬بعد موتهم ‪ -‬من قبورهم‪ ،‬فما الحامل لهم‪ ،‬على ذلك التكذيب مع التصديق‪ ،‬بما هو‬
‫أكبر منه؟ نعم ذاك خبر غيبي إلى اآلن‪ ،‬ما شاهدوه‪ ،‬فلذلك كذبوا به‪.‬‬
‫ط علَْي ِهم ِكسفًا ِمن السَّم ِ‬ ‫ِ‬ ‫قال اللّه‪ِ { :‬إ ْن َن َش ْأ َن ْخ ِس ْ‬
‫اء } أي‪ :‬من العذاب‪ ،‬ألن‬ ‫ض أ َْو ُن ْسق ْ َ ْ َ َ َ‬ ‫ف بِ ِه ُم ْ‬
‫األر َ‬
‫األرض والسماء تحت تدبيرنا‪ ،‬فإن أمرناهما لم يستعصيا‪ ،‬فاحذروا إصراركم على تكذيبكم‪،‬‬
‫ك } أي‪ :‬خلق السماوات واألرض‪ ،‬وما فيهما من المخلوقات‬ ‫فنعاقبكم أشد العقوبة‪ِ { .‬إ َّن ِفي َذِل َ‬
‫آليةً ِل ُك ِّل َعْب ٍد منِ ٍ‬
‫يب }‬ ‫{ َ‬
‫ُ‬
‫فكلما كان العبد أعظم إنابة إلى اللّه‪ ،‬كان انتفاعه باآليات أعظم‪ ،‬ألن المنيب مقبل إلى ربه‪ ،‬قد‬
‫توجهت إراداته وهماته لربه‪ ،‬ورجع إليه في كل أمر من أموره‪ ،‬فصار قريبا من ربه‪ ،‬ليس له هم‬
‫إال االشتغال بمرضاته‪ ،‬فيكون نظره للمخلوقات نظر فكرة وعبرة‪ ،‬ال نظر غفلة غير نافعة‪.‬‬

‫( ‪)1/675‬‬

‫اعم ْل سابِ َغ ٍ‬
‫ات َوقَ ِّد ْر‬ ‫َن ْ َ َ‬ ‫ضاًل َيا ِجَبا ُل أ َِّوبِي َم َعهُ َوالطَّ ْي َر َوأَلََّنا لَهُ اْل َح ِد َ‬
‫يد (‪ )10‬أ ِ‬ ‫ود ِمَّنا فَ ْ‬
‫َولَقَ ْد آَتَْيَنا َد ُاو َ‬
‫ص ٌير (‪)11‬‬ ‫اعملُوا ص ِالحا ِإِّني بِما تَعملُون ب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َْ َ َ‬ ‫َ ً‬ ‫في الس َّْرد َو ْ َ‬
‫اع َم ْل‬ ‫ضال َيا ِجَبا ُل أ َِّوبِي َم َعهُ َوالطَّ ْي َر َوأَلََّنا لَهُ اْل َح ِد َ‬
‫يد * أ ِ‬
‫َن ْ‬ ‫{ ‪َ { } 11 - 10‬ولَقَ ْد آتَْيَنا َد ُاو َد ِمَّنا فَ ْ‬
‫اعملُوا ص ِالحا ِإِّني بِما تَعملُون ب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫ص ٌير } ‪.‬‬ ‫َ َْ َ َ‬ ‫َ ً‬ ‫َساب َغات َوقَ ِّد ْر في الس َّْرد َو ْ َ‬
‫أي‪ :‬ولقد مننا على عبدنا ورسولنا‪ ،‬داود عليه الصالة والسالم‪ ،‬وآتيناه فضال من العلم النافع‪،‬‬
‫والعمل الصالح‪ ،‬والنعم الدينية والدنيوية‪ ،‬ومن نعمه عليه‪ ،‬ما خصه به من أمره تعالى الجمادات‪،‬‬
‫كالجبال والحيوانات‪ ،‬من الطيور‪ ،‬أن تُ َؤ ِّوب معه‪ ،‬وتَُر ِّجع التسبيح بحمد ربها‪ ،‬مجاوبة له‪ ،‬وفي‬
‫هذا من النعمة عليه‪ ،‬أن كان ذلك من خصائصه التي لم تكن ألحد قبله وال بعده‪ ،‬وأن ذلك يكون‬
‫منهضا له ولغيره على التسبيح إذا رأوا هذه الجمادات والحيوانات‪ ،‬تتجاوب بتسبيح ربها‪،‬‬
‫وتمجيده‪ ،‬وتكبيره‪ ،‬وتحميده‪ ،‬كان ذلك مما يهيج على ذكر اللّه تعالى‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن ذلك ‪ -‬كما قال كثير من العلماء‪ ،‬أنه طرب لصوت داود‪ ،‬فإن اللّه تعالى‪ ،‬قد أعطاه من‬
‫حسن الصوت‪ ،‬ما فاق به غيره‪ ،‬وكان إذا رجَّع التسبيح والتهليل والتحميد بذلك الصوت الرخيم‬
‫الشجي المطرب‪ ،‬طرب كل من سمعه‪ ،‬من اإلنس‪ ،‬والجن‪ ،‬حتى الطيور والجبال‪ ،‬وسبحت بحمد‬
‫ِّ‬
‫ربها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه لعله ليحصل له أجر تسبيحها‪ ،‬ألنه سبب ذلك‪ ،‬وتسبح تبعا له‪.‬‬
‫ومن فضله عليه‪ ،‬أن أالن له الحديد‪ ،‬ليعمل الدروع السابغات‪ ،‬وعلمه تعالى كيفية صنعته‪ ،‬بأن‬
‫يقدره في السرد‪ ،‬أي‪ :‬يقدره حلقا‪ ،‬ويصنعه كذلك‪ ،‬ثم يدخل بعضها ببعض‪.‬‬
‫ون }‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ص ْن َعةَ لَُب ٍ‬ ‫َّ‬
‫وس لَ ُك ْم لتُ ْحصَن ُك ْم م ْن َبأْس ُك ْم فَهَ ْل أ َْنتُ ْم َشاك ُر َ‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬و َعل ْمَناهُ َ‬
‫ولما ذكر ما امتن به عليه وعلى آله‪ ،‬أمره بشكره‪ ،‬وأن يعملوا صالحا‪ ،‬ويراقبوا اللّه تعالى فيه‪،‬‬
‫بإصالحه وحفظه من المفسدات‪ ،‬فإنه بصير بأعمالهم‪ ،‬مطلع عليهم‪ ،‬ال يخفى عليه منها شيء‪.‬‬

‫( ‪)1/676‬‬

‫ط ِر َو ِم َن اْل ِج ِّن َم ْن َي ْع َم ُل َب ْي َن َي َد ْي ِه‬


‫َسْلَنا لَهُ َعْي َن اْل ِق ْ‬
‫احهَا َش ْهٌر َوأ َ‬ ‫يح ُغ ُد ُّو َها َش ْهٌر َو َر َو ُ‬ ‫الر َ‬ ‫ان ِّ‬‫َوِل ُسلَْي َم َ‬
‫ير (‪ )12‬يعملُون لَه ما ي َش ِ‬ ‫اب الس ِ‬‫غ ِم ْنهم َع ْن أَم ِرَنا ُن ِذ ْقهُ ِم ْن َع َذ ِ‬ ‫ِ‬
‫اء م ْن َم َح ِار َ‬
‫يب‬ ‫ََْ َ ُ َ َ ُ‬ ‫َّع ِ‬ ‫ْ‬ ‫بِِإ ْذ ِن َربِّه َو َم ْن َي ِز ْ ُ ْ‬
‫ور (‪)13‬‬ ‫ود ُش ْكرا و َقِلي ٌل ِم ْن ِعَب ِاد َ َّ‬ ‫اسي ٍ‬ ‫اب وقُ ُد ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يل َو ِجفَ ٍ‬ ‫َوتَ َماثِ َ‬
‫ي الش ُك ُ‬ ‫اع َملُوا َآ َل َد ُاو َ ً َ‬ ‫ات ْ‬ ‫ور َر َ‬ ‫ان َكاْل َج َو َ‬
‫ض تَْأ ُك ُل ِم ْن َسأَتَهُ َفلَ َّما َخ َّر تََبيََّن ِت اْل ِج ُّن أ ْ‬
‫َن‬ ‫ت َما َدلَّهُ ْم َعلَى َم ْوتِ ِه ِإاَّل َد َّابةُ اأْل َْر ِ‬ ‫ض ْيَنا َعلَْي ِه اْل َم ْو َ‬
‫َفلَ َّما قَ َ‬
‫ين (‪)14‬‬ ‫اب اْل ُم ِه ِ‬‫ب ما لَبِثُوا ِفي اْل َع َذ ِ‬
‫ون اْل َغ ْي َ َ‬‫لَ ْو َك ُانوا َي ْعلَ ُم َ‬

‫َسْلَنا لَهُ َع ْي َن اْل ِق ْ‬


‫ط ِر َو ِم َن اْل ِج ِّن َم ْن‬ ‫احهَا َش ْهٌر َوأ َ‬
‫يح ُغ ُد ُّو َها َش ْهٌر َو َر َو ُ‬
‫الر َ‬
‫ان ِّ‬‫{ ‪َ { } 14 - 12‬وِل ُسلَْي َم َ‬
‫اب الس ِ‬ ‫غ ِم ْنهم َع ْن أَم ِرَنا ُن ِذ ْقهُ ِم ْن َع َذ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء‬
‫ون لَهُ َما َي َش ُ‬ ‫ير * َي ْع َملُ َ‬ ‫َّع ِ‬ ‫ْ‬ ‫َي ْع َم ُل َب ْي َن َي َد ْيه بِِإ ْذ ِن َربِّه َو َم ْن َي ِز ْ ُ ْ‬
‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫اسي ٍ‬ ‫اب وقُ ُد ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يب َوتَ َماثِي َل َو ِجفَ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ي‬‫اع َملُوا آ َل َد ُاو َد ُش ْك ًرا َو َقلي ٌل م ْن عَباد َ‬ ‫ات ْ‬ ‫ور َر َ‬ ‫ان َكاْل َج َو َ‬ ‫م ْن َم َح ِار َ‬
‫ض تَْأ ُك ُل ِم ْن َسأَتَهُ َفلَ َّما َخ َّر تََبيََّن ِت‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ت َما َدلهُ ْم َعلَى َم ْوتِه ِإال َد َّابةُ ْ‬
‫األر ِ‬ ‫ض ْيَنا َعلَْي ِه اْل َم ْو َ‬
‫ور * َفلَ َّما قَ َ‬ ‫َّ‬
‫الش ُك ُ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ب ما لَبِثُوا ِفي اْل َع َذ ِ‬
‫اب اْل ُم ِه ِ‬ ‫اْل ِج ُّن أ ْ‬
‫ون اْل َغ ْي َ َ‬ ‫َن لَ ْو َك ُانوا َي ْعلَ ُم َ‬
‫لما ذكر فضله على داود عليه السالم‪ ،‬ذكر فضله على ابنه سليمان‪ ،‬عليه الصالة والسالم‪ ،‬وأن‬
‫اللّه سخر له الريح تجري بأمره‪ ،‬وتحمله‪ ،‬وتحمل جميع ما معه‪ ،‬وتقطع المسافة البعيدة جدا‪ ،‬في‬
‫مدة يسيرة‪ ،‬فتسير في اليوم‪ ،‬مسيرة شهرين‪ُ { .‬غ ُد ُّو َها َش ْهٌر } أي‪ :‬أول النهار إلى الزوال‬
‫ط ِر } أي‪ :‬سخرنا له عين‬ ‫َسْلَنا لَهُ َع ْي َن اْل ِق ْ‬
‫احهَا َش ْهٌر } من الزوال‪ ،‬إلى آخر النهار { َوأ َ‬ ‫{ َو َر َو ُ‬
‫النحاس‪ ،‬وسهلنا له األسباب‪ ،‬في استخراج ما يستخرج منها من األواني وغيرها‪.‬‬
‫غ ِم ْنهُ ْم َع ْن‬
‫وسخر اللّه له أيضا‪ ،‬الشياطين والجن‪ ،‬ال يقدرون أن يستعصوا عن أمره‪َ { ،‬و َم ْن َي ِز ْ‬
‫ير } وأعمالهم (‪ )1‬كل ما شاء سليمان‪ ،‬عملوه‪.‬‬ ‫اب الس ِ‬
‫َّع ِ‬ ‫أَم ِرَنا ُن ِذ ْقهُ ِم ْن َع َذ ِ‬
‫ْ‬
‫يب } وهو كل بناء يعقد‪ ،‬وتحكم به األبنية‪ ،‬فهذا فيه ذكر األبنية الفخمة‪َ { ،‬وتَ َماثِي َل }‬ ‫{ م ْن َم َح ِار َ‬
‫ِ‬
‫أي‪ :‬صور الحيوانات والجمادات‪ ،‬من إتقان صنعتهم‪ [ ،‬ص ‪ ] 677‬وقدرتهم على ذلك وعملهم‬
‫ان َكاْل َجو ِ‬
‫اب } أي‪ :‬كالبرك الكبار‪ ،‬يعملونها لسليمان للطعام‪ ،‬ألنه يحتاج إلى ما ال‬ ‫لسليمان { َو ِجفَ ٍ‬
‫َ‬
‫يحتاج إليه غيره ‪ ،‬ويعملون له قدورا راسيات ال تزول عن أماكنها‪ ،‬من عظمها‪.‬‬
‫اع َملُوا آ َل َد ُاو َد } وهم داود‪ ،‬وأوالده‪ ،‬وأهله‪ ،‬ألن‬
‫فلما ذكر منته عليهم‪ ،‬أمرهم بشكرها فقال‪ْ { :‬‬
‫المنة على الجميع‪ ،‬وكثير من هذه المصالح عائد لكلهم‪ُ { .‬ش ْك ًرا } للّه على ما أعطاهم‪ ،‬ومقابلة‬
‫ور } فأكثرهم‪ ،‬لم يشكروا اللّه تعالى على ما أوالهم من‬ ‫لما أوالهم‪ { .‬و َقِلي ٌل ِم ْن ِعَب ِاد َ َّ‬
‫ي الش ُك ُ‬ ‫َ‬
‫نعمه‪ ،‬ودفع عنهم من النقم‪.‬‬
‫والشكر‪ :‬اعتراف القلب بمنة اللّه تعالى‪ ،‬وتلقيها افتقارا إليها‪ ،‬وصرفها في طاعة اللّه تعالى‪،‬‬
‫وصونها عن صرفها في المعصية‪.‬‬
‫فلم يزل الشياطين يعملون لسليمان‪ ،‬عليه الصالة والسالم‪ ،‬كل بناء‪ ،‬وكانوا قد موهوا على اإلنس‪،‬‬

‫وأخبروهم أنهم يعلمون الغيب‪ ،‬ويطلعون على المكنونات‪ ،‬فأراد اللّه تعالى أن ُي ِر َ‬
‫ي العباد كذبهم‬
‫في هذه الدعوى‪ ،‬فمكثوا يعملون على عملهم‪ ،‬وقضى اللّه الموت على سليمان عليه السالم‪ ،‬واتَّكأ‬
‫على عصاه‪ ،‬وهي المنسأة‪ ،‬فصاروا إذا مروا به وهو متكئ عليها‪ ،‬ظنوه حيا‪ ،‬وهابوه‪.‬‬
‫فغدوا على عملهم كذلك سنة كاملة على ما قيل‪ ،‬حتى سلطت دابة األرض على عصاه‪ ،‬فلم تزل‬
‫ترعاها‪ ،‬حتى باد وسقط فسقط سليمان عليه السالم وتفرقت الشياطين وتبينت اإلنس أن الجن { لَ ْو‬
‫ين } وهو العمل الشاق عليهم‪ ،‬فلو علموا الغيب‪،‬‬ ‫ب ما لَبِثُوا ِفي اْل َع َذ ِ‬
‫اب اْل ُم ِه ِ‬ ‫ون اْل َغ ْي َ َ‬
‫َك ُانوا َي ْعلَ ُم َ‬
‫لعلموا موت سليمان‪ ،‬الذي هم أحرص شيء عليه‪ ،‬ليسلموا مما هم فيه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬وأعماله‪.‬‬
‫( ‪)1/676‬‬

‫ق َرِّب ُك ْم َوا ْش ُك ُروا لَهُ َبْل َدةٌ َ‬


‫طيَِّبةٌ‬ ‫ال ُكلُوا ِم ْن ِر ْز ِ‬ ‫ين و ِشم ٍ‬ ‫ِ‬
‫ان َع ْن َيم ٍ َ َ‬ ‫ان ِل َسَبٍإ ِفي َم ْس َكنِ ِه ْم آََيةٌ َجَّنتَ ِ‬
‫لَقَ ْد َك َ‬
‫اه ْم بِ َجَّنتَْي ِه ْم َجَّنتَْي ِن َذ َواتَ ْي أُ ُك ٍل َخ ْم ٍط‬
‫ضوا فَأ َْر َسْلَنا َعلَْي ِه ْم َسْي َل اْل َع ِرِم َوَب َّدْلَن ُ‬ ‫َع َر ُ‬ ‫ور (‪ )15‬فَأ ْ‬ ‫ب َغفُ ٌ‬ ‫َو َر ٌّ‬
‫ور (‪َ )17‬و َج َعْلَنا‬ ‫اَّل‬
‫اه ْم بِ َما َكفَ ُروا َو َه ْل ُن َج ِازي ِإ اْل َكفُ َ‬ ‫ك َج َز ْيَن ُ‬ ‫يل (‪َ )16‬ذِل َ‬ ‫وأَثْ ٍل و َشي ٍء ِم ْن ِس ْد ٍر َقِل ٍ‬
‫َ َ ْ‬
‫ين (‬ ‫اهرةً وقَ َّدرَنا ِفيها الس َّْير ِسيروا ِفيها لَي ِالي وأَي ِ ِ‬ ‫ب ْيَنهم وب ْين اْلقُرى الَّتِي بار ْكَنا ِفيها قُرى َ ِ‬
‫َّاما آَمن َ‬ ‫َ َ ََ ً‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ظ َ َ ْ‬ ‫َ ً‬ ‫ََ‬ ‫َ ُْ َ َ َ َ‬
‫ق ِإ َّن ِفي‬ ‫اه ْم ُك َّل ُم َم َّز ٍ‬
‫يث َو َم َّز ْقَن ُ‬ ‫َح ِاد َ‬‫اه ْم أ َ‬ ‫َسفَ ِارَنا َو َ‬
‫ظلَ ُموا أ َْنفُ َسهُ ْم فَ َج َعْلَن ُ‬ ‫ِ‬
‫‪ )18‬فَقَالُوا َربََّنا َباع ْد َب ْي َن أ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اَّل‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫َذِل َ‬
‫ين (‬ ‫ظَّنهُ فَاتََّب ُعوهُ ِإ فَ ِريقًا م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫يس َ‬ ‫ق َعلَْي ِه ْم ِإْبل ُ‬ ‫ص َّد َ‬‫ور (‪َ )19‬ولَقَ ْد َ‬ ‫َّار َش ُك ٍ‬ ‫صب ٍ‬ ‫ك آَل ََيات ل ُك ِّل َ‬
‫ُّك َعلَى‬ ‫ك َو َرب َ‬ ‫ان ِإاَّل ِلَن ْعلَم م ْن ُي ْؤ ِم ُن بِاآْل َ ِخر ِة ِم َّم ْن ُهو ِم ْنها ِفي َش ٍّ‬ ‫طٍ‬‫ان لَهُ َعلَْي ِه ْم ِم ْن ُسْل َ‬ ‫‪َ )20‬و َما َك َ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ُك ِّل َش ْي ٍء َح ِفيظٌ (‪)21‬‬

‫ق َرِّب ُك ْم‬‫ال ُكلُوا ِم ْن ِر ْز ِ‬ ‫ين و ِشم ٍ‬ ‫ِ‬


‫ان َع ْن َيم ٍ َ َ‬ ‫ان ِل َسَبٍإ ِفي َم ْس َكنِ ِه ْم َآيةٌ َجَّنتَ ِ‬ ‫{ ‪ { } 21 - 15‬لَقَ ْد َك َ‬
‫اه ْم بِ َجَّنتَْي ِه ْم َجَّنتَْي ِن‬
‫ضوا فَأ َْر َسْلَنا َعلَْي ِه ْم َسْي َل اْل َع ِرِم َوَب َّدْلَن ُ‬ ‫َع َر ُ‬ ‫ور * فَأ ْ‬ ‫ب َغفُ ٌ‬ ‫طيَِّبةٌ َو َر ٌّ‬
‫َوا ْش ُك ُروا لَهُ َبْل َدةٌ َ‬
‫ور *‬ ‫اه ْم بِ َما َكفَ ُروا َو َه ْل ُن َج ِازي ِإال اْل َكفُ َ‬ ‫ك َج َز ْيَن ُ‬ ‫يل * َذِل َ‬ ‫َذواتَي أُ ُك ٍل َخم ٍط وأَثْ ٍل و َشي ٍء ِم ْن ِس ْد ٍر َقِل ٍ‬
‫ْ َ َ ْ‬ ‫َ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وجعْلَنا ب ْيَنهم وب ْين اْلقُرى الَّتِي بار ْكَنا ِفيها قُرى َ ِ‬
‫ظاه َرةً َوقَ َّد ْرَنا فيهَا الس َّْي َر س ُيروا فيهَا لََيال َي َوأَي ً‬
‫َّاما‬ ‫َ ً‬ ‫ََ‬ ‫َ َ َ َ ُْ َ َ َ َ‬
‫ق ِإ َّن‬‫اه ْم ُك َّل ُم َم َّز ٍ‬
‫يث َو َم َّز ْقَن ُ‬ ‫َح ِاد َ‬ ‫اه ْم أ َ‬
‫ظلَ ُموا أ َْنفُ َسهُ ْم فَ َج َعْلَن ُ‬‫َسفَ ِارَنا َو َ‬ ‫ِ‬
‫ين * فَقَالُوا َربََّنا َباع ْد َب ْي َن أ ْ‬
‫ِِ‬
‫آمن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِفي َذِل َ‬
‫ين *‬ ‫ظَّنهُ فَاتََّب ُعوهُ ِإال فَ ِريقًا م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫يس َ‬ ‫ق َعلَْي ِه ْم ِإْبل ُ‬ ‫ص َّد َ‬‫ور * َولَقَ ْد َ‬ ‫َّار َش ُك ٍ‬ ‫صب ٍ‬ ‫آليات ل ُك ِّل َ‬ ‫ك َ‬
‫ُّك َعلَى ُك ِّل‬ ‫اآلخر ِة ِم َّم ْن ُهو ِم ْنها ِفي َش ٍّ‬ ‫ِ‬ ‫طٍ ِ‬ ‫ان لَهُ َعلَْي ِه ْم ِم ْن ُسْل َ‬
‫ك َو َرب َ‬ ‫َ َ‬ ‫ان ِإال لَن ْعلَ َم َم ْن ُي ْؤ ِم ُن بِ َ‬ ‫َو َما َك َ‬
‫َش ْي ٍء َح ِفيظٌ } ‪.‬‬
‫سبأ قبيلة معروفة في أداني اليمن‪ ،‬ومسكنهم بلدة يقال لها "مأرب" ومن نعم اللّه ولطفه بالناس‬
‫عموما‪ ،‬وبالعرب خصوصا‪ ،‬أنه قص في القرآن أخبار المهلكين والمعاقبين‪ ،‬ممن كان يجاور‬
‫العرب‪ ،‬ويشاهد آثاره‪ ،‬ويتناقل الناس أخباره‪ ،‬ليكون ذلك أدعى إلى التصديق‪ ،‬وأقرب للموعظة‬
‫ان ِل َسَبٍإ ِفي َم ْس َكنِ ِه ْم } أي‪ :‬محلهم الذي يسكنون فيه { َآيةٌ } واآلية هنا‪ :‬ما َّ‬
‫أدر اللّه‬ ‫فقال‪ { :‬لَقَ ْد َك َ‬
‫عليهم من النعم‪ ،‬وصرف عنهم من النقم‪ ،‬الذي يقتضي ذلك منهم‪ ،‬أن يعبدوا اللّه ويشكروه‪ .‬ثم‬
‫ين و ِشم ٍ‬ ‫ِ‬
‫ال } وكان لهم واد عظيم‪ ،‬تأتيه سيول كثيرة‪ ،‬وكانوا بنوا‬ ‫ان َع ْن َيم ٍ َ َ‬ ‫فسر اآلية بقوله { َجَّنتَ ِ‬
‫سدا محكما‪ ،‬يكون مجمعا للماء‪ ،‬فكانت السيول تأتيه‪ ،‬فيجتمع هناك ماء عظيم‪ ،‬فيفرقونه على‬
‫بساتينهم‪ ،‬التي عن يمين ذلك الوادي وشماله‪ .‬وتُ ِغ ُّل لهم تلك الجنتان العظيمتان‪ ،‬من الثمار ما‬
‫أدرها عليهم من وجوه‬
‫يكفيهم‪ ،‬ويحصل لهم به الغبطة والسرور‪ ،‬فأمرهم اللّه بشكر نعمه التي َّ‬
‫كثيرة‪ ،‬منها‪ :‬هاتان الجنتان اللتان غالب أقواتهم منهما‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن اللّه جعل بلدهم‪ ،‬بلدة طيبة‪ ،‬لحسن هوائها‪ ،‬وقلة وخمها‪ ،‬وحصول الرزق الرغد فيها‪.‬‬
‫طيَِّبةٌ‬
‫ومنها‪ :‬أن اللّه تعالى وعدهم ‪ -‬إن شكروه ‪ -‬أن يغفر لهم َويرحمهم‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬بْل َدةٌ َ‬
‫ور }‬ ‫َو َر ٌّ‬
‫ب َغفُ ٌ‬
‫ومنها‪ :‬أن اللّه لما علم احتياجهم في تجارتهم ومكاسبهم إلى األرض المباركة‪ - ،‬الظاهر أنها‪:‬‬
‫[قرى صنعاء قاله غير واحد من السلف‪ ،‬وقيل‪ :‬إنها] الشام ‪ -‬هيأ لهم من األسباب ما به يتيسر‬
‫وصولهم إليها‪ ،‬بغاية السهولة‪ ،‬من األمن‪ ،‬وعدم الخوف‪ ،‬وتواصل القرى بينهم وبينها‪ ،‬بحيث ال‬
‫يكون عليهم مشقة‪ ،‬بحمل الزاد والمزاد‪.‬‬
‫اه َرةً َوقَ َّد ْرَنا ِفيهَا الس َّْي َر } أي‪:‬‬
‫ظِ‬ ‫ولهذا قال‪َ { :‬و َج َعْلَنا َب ْيَنهُ ْم َوَب ْي َن اْلقَُرى الَّتِي َب َار ْكَنا ِفيهَا قًُرى َ‬
‫ين } أي‪:‬‬ ‫[سيرا] مقدرا يعرفونه‪ ،‬ويحكمون عليه‪ ،‬بحيث ال يتيهون عنه { لَي ِالي وأَي ِ ِ‬
‫َّاما آمن َ‬
‫َ ََ ً‬
‫مطمئنين في السير‪ ،‬في تلك الليالي واأليام‪ ،‬غير خائفين‪ .‬وهذا من تمام نعمة اللّه عليهم‪ ،‬أن أمنهم‬
‫من الخوف‪.‬‬
‫فأعرضوا عن المنعم‪ ،‬وعن عبادته‪ ،‬وبطروا النعمة‪ ،‬وملوها‪ ،‬حتى إنهم طلبوا وتمنوا‪ ،‬أن تتباعد‬
‫أسفارهم بين تلك القرى‪ ،‬التي كان السير فيها متيسرا‪.‬‬
‫ظلَ ُموا أ َْنفُ َسهُ ْم } بكفرهم باللّه وبنعمته‪ ،‬فعاقبهم اللّه تعالى بهذه النعمة‪ ،‬التي أطغتهم‪ ،‬فأبادها‬
‫{ َو َ‬
‫عليهم‪ ،‬فأرسل عليها سيل العرم‪.‬‬
‫أي‪ :‬السيل المتوعر‪ ،‬الذي خرب سدهم‪ ،‬وأتلف جناتهم‪ ،‬وخرب بساتينهم‪ ،‬فتبدلت تلك الجنات‬
‫ذات الحدائق المعجبة‪ ،‬واألشجار المثمرة‪ ،‬وصار بدلها أشجار ال نفع فيها‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وَب َّدْلَن ُ‬
‫اه ْم‬
‫بِ َجَّنتَْي ِه ْم َجَّنتَْي ِن َذ َواتَ ْي أُ ُك ٍل } أي‪ :‬شيء قليل من األكل الذي ال يقع منهم موقعا { َخ ْم ٍط َوأَ ْث ٍل َو َش ْي ٍء‬
‫يل } وهذا كله شجر معروف‪ ،‬وهذا من جنس عملهم‪.‬‬ ‫ِم ْن ِس ْد ٍر َقِل ٍ‬
‫اه ْم بِ َما‬ ‫فكما بدلوا الشكر الحسن‪ ،‬بالكفر القبيح‪ ،‬بدلوا تلك النعمة بما ذكر‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ذِل َ‬
‫ك َج َز ْيَن ُ‬
‫َكفَ ُروا َو َه ْل ُن َج ِازي ِإال اْل َكفُ َ‬
‫ور } أي‪ :‬وهل نجازي جزاء العقوبة ‪ -‬بدليل السياق ‪ -‬إال من كفر‬
‫باللّه وبطر النعمة؟‬
‫فلما أصابهم ما أصابهم‪ ،‬تفرقوا [ ص ‪ ] 678‬وتمزقوا‪ ،‬بعدما كانوا مجتمعين‪ ،‬وجعلهم اللّه‬
‫أحاديث يتحدث بهم‪ ،‬وأسمارا للناس‪ ،‬وكان يضرب بهم المثل فيقال‪" :‬تفرقوا أيدي سبأ" فكل أحد‬
‫ٍ ِ‬ ‫يتحدث بما جرى لهم‪ ،‬ولكن ال ينتفع بالعبرة فيهم إال من قال اللّه‪ِ { :‬إ َّن ِفي َذِل َ‬
‫صب ٍ‬
‫َّار‬ ‫آليات ل ُك ِّل َ‬
‫ك َ‬
‫ور } صبار على المكاره والشدائد‪ ،‬يتحملها لوجه اللّه‪ ،‬وال يتسخطها بل يصبر عليها‪ .‬شكور‬ ‫َش ُك ٍ‬
‫لنعمة اللّه تعالى ُي ِق ُّر بها‪ ،‬ويعترف‪ ،‬ويثني على من أوالها‪ ،‬ويصرفها في طاعته‪ .‬فهذا إذا سمع‬
‫بقصتهم‪ ،‬وما جرى منهم وعليهم‪ ،‬عرف بذلك أن تلك العقوبة‪ ،‬جزاء لكفرهم نعمة اللّه‪ ،‬وأن من‬
‫فعل مثلهم‪ ،‬فُ ِع َل به كما فعل بهم‪ ،‬وأن شكر اللّه تعالى‪ ،‬حافظ للنعمة‪ ،‬دافع للنقمة‪ ،‬وأن رسل اللّه‪،‬‬
‫صادقون فيما أخبروا به‪ ،‬وأن الجزاء حق‪ ،‬كما رأى أنموذجه في دار الدنيا‪.‬‬
‫ألغ ِوَيَّنهُ ْم‬
‫ك ْ‬ ‫صدق عليهم إبليس ظنه‪ ،‬حيث قال لربه‪ { :‬فَبِ ِع َّزتِ َ‬
‫ثم ذكر أن قوم سبأ من الذين َّ‬
‫ين } وهذا ظن من إبليس‪ ،‬ال يقين‪ ،‬ألنه ال يعلم الغيب‪ ،‬ولم يأته‬ ‫ِ‬ ‫اد َ ِ‬
‫ين ِإال ِعَب َ‬ ‫أْ ِ‬
‫ك م ْنهُ ُم اْل ُم ْخلَص َ‬ ‫َج َمع َ‬
‫خبر من اللّه‪ ،‬أنه سيغويهم أجمعين‪ ،‬إال من استثنى‪ ،‬فهؤالء وأمثالهم‪ ،‬ممن صدق عليه إبليس‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } ممن لم يكفر بنعمة اللّه‪ ،‬فإنه لم يدخل‬ ‫ظنه‪ ،‬ودعاهم وأغواهم‪ { ،‬فَاتََّب ُعوهُ ِإال فَ ِريقًا م َن اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫تحت ظن إبليس‪.‬‬
‫ٍ ِ‬ ‫ويحتمل أن قصة سبأ‪ ،‬انتهت عند قوله‪ِ { :‬إ َّن ِفي َذِل َ‬
‫َّار َش ُك ٍ‬
‫ور }‬ ‫صب ٍ‬ ‫آليات ل ُك ِّل َ‬‫ك َ‬
‫ق َعلَْي ِه ْم } أي‪ :‬على جنس الناس‪ ،‬فتكون اآلية عامة في كل من اتبعه‪.‬‬ ‫ص َّد َ‬
‫ثم ابتدأ فقال‪َ { :‬ولَقَ ْد َ‬
‫ان } أي‪ :‬تسلط وقهر‪ ،‬وقسر على ما‬ ‫طٍ‬ ‫ان لَهُ } أي‪ :‬إلبليس { َعلَْي ِه ْم ِم ْن ُسْل َ‬ ‫ثم قال تعالى‪َ { :‬و َما َك َ‬
‫يريده منهم‪ ،‬ولكن حكمة اللّه تعالى اقتضت تسليطه وتسويله لبني آدم‪.‬‬
‫اآلخر ِة ِم َّم ْن ُهو ِم ْنها ِفي َش ٍّ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك } أي‪ :‬ليقوم سوق االمتحان‪ ،‬ويعلم به الصادق‬ ‫َ َ‬ ‫{ لَن ْعلَ َم َم ْن ُي ْؤ ِم ُن بِ َ‬
‫من الكاذب‪ ،‬ويعرف من كان إيمانه صحيحا‪ ،‬يثبت عند االمتحان واالختبار‪ ،‬وإ لقاء الشبه‬
‫الشيطانية‪ ،‬ممن إيمانه غير ثابت‪ ،‬يتزلزل بأدنى شبهة‪ ،‬ويزول بأقل داع يدعوه إلى ضده‪ ،‬فاللّه‬
‫تعالى جعله امتحانا‪ ،‬يمتحن به عباده‪ ،‬ويظهر الخبيث من الطيب‪.‬‬
‫ُّك َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َح ِفيظٌ } يحفظ العباد‪ ،‬ويحفظ عليهم أعمالهم‪ ،‬ويحفظ تعالى جزاءها‪،‬‬
‫{ َو َرب َ‬
‫فيوفيهم إياها‪ ،‬كاملة موفرة‪.‬‬

‫( ‪)1/677‬‬

‫ات واَل ِفي اأْل َْر ِ‬


‫ض َو َما لَهُ ْم‬ ‫ِ‬ ‫ون اللَّ ِه اَل يمِل ُكون ِمثْقَ َ ٍ ِ‬
‫ين َز َع ْمتُ ْم ِم ْن ُد ِ‬ ‫َِّ‬
‫ُق ِل ْاد ُعوا الذ َ‬
‫َّم َاو َ‬
‫ال َذ َّرة في الس َ‬ ‫َْ َ‬
‫ير (‪)22‬‬ ‫ظ ِه ٍ‬ ‫ِفي ِه َما ِم ْن ِش ْر ٍك َو َما لَهُ ِم ْنهُ ْم ِم ْن َ‬

‫ات َوال ِفي‬


‫ال َذ َّر ٍة ِفي السَّماو ِ‬
‫ََ‬ ‫ون ِمثْقَ َ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ُ { } 23 - 22‬ق ِل ْادعوا الَِّذين َزعمتُم ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون الله ال َي ْمل ُك َ‬ ‫َ َْ ْ‬ ‫ُ‬
‫ير } ‪.‬‬‫ظ ِه ٍ‬‫ض َو َما لَهُ ْم ِفي ِه َما ِم ْن ِش ْر ٍك َو َما لَهُ ِم ْنهُ ْم ِم ْن َ‬
‫األر ِ‬
‫ْ‬
‫أي‪ُ { :‬ق ْل } يا أيها الرسول‪ ،‬للمشركين باللّه غيره من المخلوقات‪ ،‬التي ال تنفع وال تضر‪ ،‬ملزما‬
‫ون اللَّ ِه } أي‪ :‬زعمتموهم‬ ‫ين َز َع ْمتُ ْم ِم ْن ُد ِ‬ ‫َِّ‬
‫لهم بعجزها‪ ،‬ومبينا لهم بطالن عبادتها‪ْ { :‬اد ُعوا الذ َ‬
‫شركاء للّه‪ ،‬إن كان دعاؤكم ينفع‪ ،‬فإنهم قد توفرت فيهم أسباب العجز‪ ،‬وعدم إجابة الدعاء من كل‬
‫األر ِ‬
‫ض } على‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫وجه‪ ،‬فإنهم ليس لهم أدنى ملك فـ { ال يمِل ُك ِ‬
‫َّم َاوات َوال في ْ‬
‫ون مثْقَا َل َذ َّرة في الس َ‬
‫َْ َ‬
‫وجه االستقالل‪ ،‬وال على وجه االشتراك‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬و َما لَهُ ْم } أي‪ :‬لتلك اآللهة الذين زعمتم‬
‫{ ِفي ِه َما } أي‪ :‬في السماوات واألرض‪ِ { ،‬م ْن ِش ْر ٍك } أي‪ :‬ال شرك قليل وال كثير‪ ،‬فليس لهم‬
‫ملك‪ ،‬وال شركة ملك‪.‬‬
‫بقي أن يقال‪ :‬ومع ذلك‪ ،‬فقد يكونون أعوانا للمالك‪ ،‬ووزراء له‪ ،‬فدعاؤهم يكون نافعا‪ ،‬ألنهم ‪-‬‬
‫بسبب حاجة الملك إليهم ‪ -‬يقضون حوائج من تعلق بهم‪ ،‬فنفى تعالى هذه المرتبة فقال‪َ { :‬و َما لَهُ }‬
‫ير } أي‪ :‬معاون ووزير‬ ‫أي‪ :‬للّه تعالى الواحد القهار { ِم ْنهُ ْم } أي‪ :‬من هؤالء المعبودين { ِم ْن َ‬
‫ظ ِه ٍ‬
‫يساعده على الملك والتدبير‪.‬‬

‫( ‪)1/678‬‬

‫ق‬ ‫اعةُ ِعْن َدهُ ِإاَّل ِل َم ْن أ َِذ َن لَهُ َحتَّى ِإ َذا فُِّز َ‬
‫ع َع ْن ُقلُوبِ ِه ْم قَالُوا َما َذا قَ َ‬
‫ال َرُّب ُك ْم قَالُوا اْل َح َّ‬ ‫واَل تَْنفَع َّ‬
‫الشفَ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َو ُه َو اْل َعِل ُّي اْل َكبِ ُير (‪)23‬‬

‫ق‬ ‫اعةُ ِع ْن َدهُ ِإال ِل َم ْن أ َِذ َن لَهُ َحتَّى ِإ َذا فُِّز َ‬


‫ع َع ْن ُقلُوبِ ِه ْم قَالُوا َما َذا قَ َ‬
‫ال َرُّب ُك ْم قَالُوا اْل َح َّ‬ ‫{ وال تَْنفَع َّ‬
‫الشفَ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َو ُه َو اْل َعِل ُّي اْل َكبِ ُير } ‪.‬‬
‫اعةُ ِع ْن َدهُ ِإال ِل َم ْن أ َِذ َن لَهُ } فهذه أنواع التعلقات‪،‬‬ ‫فلم يبق إال الشفاعة‪ ،‬فنفاها بقوله‪ { :‬وال تَْنفَع َّ‬
‫الشفَ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫التي يتعلق بها المشركون بأندادهم‪ ،‬وأوثانهم‪ ،‬من البشر‪ ،‬والشجر‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬قطعها اللّه وبيَّن‬
‫بطالنها‪ ،‬تبيينا حاسما لمواد الشرك‪ ،‬قاطعا ألصوله‪ ،‬ألن المشرك إنما يدعو ويعبد غير اللّه‪ ،‬لما‬
‫يرجو منه من النفع‪ ،‬فهذا الرجاء‪ ،‬هو الذي أوجب له الشرك‪ ،‬فإذا كان من يدعوه [غير اللّه]‪ ،‬ال‬
‫مالكا للنفع والضر‪ ،‬وال شريكا للمالك‪ ،‬وال عونا وظهيرا للمالك‪ ،‬وال يقدر أن يشفع بدون إذن‬
‫المالك‪ ،‬كان هذا الدعاء‪ ،‬وهذه العبادة‪ ،‬ضالال في العقل‪ ،‬باطلة في الشرع‪.‬‬
‫بل ينعكس على المشرك مطلوبه ومقصوده‪ ،‬فإنه يريد منها النفع‪ ،‬فبيَّن اللّه بطالنه وعدمه‪ ،‬وبيَّن‬
‫في آيات أخر‪ ،‬ضرره على عابديه (‪ )1‬وأنه يوم القيامة‪ ،‬يكفر بعضهم ببعض‪ ،‬ويلعن بعضهم‬
‫ِ‬ ‫َع َداء و َك ُانوا بِ ِعب َ ِ‬ ‫بعضا‪ ،‬ومأواهم النار { َوإِ َذا ُح ِش َر َّ‬
‫ادت ِه ْم َكاف ِر َ‬
‫ين }‬ ‫َ‬ ‫اس َك ُانوا لَهُ ْم أ ْ ً َ‬
‫الن ُ‬
‫[ ص ‪ ] 679‬والعجب‪ ،‬أن المشرك استكبر عن االنقياد للرسل‪ ،‬بزعمه (‪ )2‬أنهم بشر‪ ،‬ورضي‬
‫أن يعبد ويدعو الشجر‪ ،‬والحجر‪ ،‬استكبر عن اإلخالص للملك الرحمن الديان‪ ،‬ورضي بعبادة من‬
‫ضره أقرب من نفعه‪ ،‬طاعة ألعدى عدو له وهو الشيطان‪.‬‬
‫ق َو ُه َو اْل َعِل ُّي اْل َكبِ ُير } يحتمل أن‬
‫ع َع ْن ُقلُوبِ ِه ْم قَالُوا َما َذا قَا َل َرُّب ُك ْم قَالُوا اْل َح َّ‬
‫وقوله‪َ { :‬حتَّى ِإ َذا فُِّز َ‬
‫الضمير في هذا الموضع‪ ،‬يعود إلى المشركين‪ ،‬ألنهم مذكورون في اللفظ‪ ،‬والقاعدة في الضمائر‪،‬‬
‫أن تعود إلى أقرب مذكور‪ ،‬ويكون المعنى‪ :‬إذا كان يوم القيامة‪ ،‬وفزع عن قلوب المشركين‪ ،‬أي‪:‬‬
‫زال الفزع‪ ،‬وسئلوا حين رجعت إليهم عقولهم‪ ،‬عن حالهم في الدنيا‪ ،‬وتكذيبهم للحق الذي جاءت‬
‫به الرسل‪ ،‬أنهم يقرون‪ ،‬أن ما هم عليه من الكفر والشرك‪ ،‬باطل‪ ،‬وأن ما قال اللّه‪ ،‬وأخبرت به‬
‫عنه رسله‪ ،‬هو الحق فبدا لهم ما كانوا يخفون من قبل وعلموا أن الحق للّه‪ ،‬واعترفوا بذنوبهم‪.‬‬
‫{ َو ُه َو اْل َعِل ُّي } بذاته‪ ،‬فوق جميع مخلوقاته وقهره لهم‪ ،‬وعلو قدره‪ ،‬بما له من الصفات العظيمة‪،‬‬
‫جليلة المقدار { اْل َكبِ ُير } في ذاته وصفاته‪.‬‬
‫ومن علوه‪ ،‬أن حكمه تعالى‪ ،‬يعلو‪ ،‬وتذعن له النفوس‪ ،‬حتى نفوس المتكبرين والمشركين‪.‬‬
‫وهذا المعنى أظهر‪ ،‬وهو الذي يدل عليه السياق‪ ،‬ويحتمل أن الضمير يعود إلى المالئكة‪ ،‬وذلك أن‬
‫اللّه تعالى إذا تكلم بالوحي‪ ،‬سمعته المالئكة‪ ،‬فصعقوا‪ ،‬وخروا للّه سجدا‪ ،‬فيكون أول من يرفع‬
‫رأسه جبريل‪ ،‬فيكلمه اللّه من وحيه بما أراد‪ ،‬وإ ذا زال الصعق عن قلوب المالئكة‪ ،‬وزال الفزع‪،‬‬
‫فيسأل بعضهم بعضا عن ذلك الكالم الذي صعقوا منه‪ :‬ماذا قال ربكم؟ فيقول بعضهم لبعض‪ :‬قال‬
‫الحق‪ ،‬إما إجماال لعلمهم أنه ال يقول إال حقا‪ ،‬وإ ما أن يقولوا‪ :‬قال كذا وكذا‪ ،‬للكالم الذي سمعوه‬
‫منه‪ ،‬وذلك من الحق‪.‬‬
‫فيكون المعنى على هذا‪ :‬أن المشركين الذين عبدوا مع اللّه تلك اآللهة‪ ،‬التي وصفنا لكم عجزها‬
‫ونقصها‪ ،‬وعدم نفعها بوجه من الوجوه‪ ،‬كيف صدفوا وصرفوا عن إخالص العبادة للرب العظيم‪،‬‬
‫العلي الكبير‪ ،‬الذي ‪ -‬من عظمته وجالله ‪ -‬أن المالئكة الكرام‪ ،‬والمقربين من الخلق‪ ،‬يبلغ بهم‬
‫الخضوع والصعق‪ ،‬عند سماع كالمه هذا المبلغ‪ ،‬ويقرون كلهم للّه‪ ،‬أنه ال يقول إال الحق‪.‬‬
‫فما بال هؤالء المشركين‪ ،‬استكبروا عن عبادة من هذا شأنه‪ ،‬وعظمة ملكه وسلطانه‪ .‬فتعالى‬
‫العلي الكبير‪ ،‬عن شرك المشركين‪ ،‬وإ فكهم‪ ،‬وكذبهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬عابديها‪.‬‬
‫(‪ )2‬في النسختين‪ :‬بزعمهم‪ ،‬ولعل األقرب ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬ما أثبت‪.‬‬

‫( ‪)1/678‬‬

‫ضاَل ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ين (‪)24‬‬ ‫ض ُق ِل اللهُ َوإِ َّنا أ َْو ِإيَّا ُك ْم لَ َعلَى ُه ًدى أ َْو في َ‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬
‫َّم َاو َ‬ ‫ُق ْل َم ْن َي ْر ُزقُ ُك ْم م َن الس َ‬
‫ق‬‫ون (‪ُ )25‬ق ْل َي ْج َمعُ َب ْيَنَنا َربَُّنا ثَُّم َي ْفتَ ُح َب ْيَنَنا بِاْل َح ِّ‬‫َج َر ْمَنا َواَل ُن ْسأَ ُل َع َّما تَ ْع َملُ َ‬
‫ون َع َّما أ ْ‬
‫ُق ْل اَل تُ ْسأَلُ َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫اح اْلعِليم (‪ُ )26‬ق ْل أَرونِي الَِّذين أَْل َح ْقتُم بِ ِه ُشر َك اَّل‬ ‫َّ‬
‫يم (‪)27‬‬ ‫اء َك َب ْل ُه َو اللهُ اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َو ُه َو اْلفَت ُ َ ُ‬

‫ض ُق ِل اللَّهُ َوإِ َّنا أ َْو ِإيَّا ُك ْم لَ َعلَى ُه ًدى أ َْو ِفي‬


‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ِ‬
‫{ ‪ُ { } 27 - 24‬ق ْل َم ْن َي ْر ُزقُ ُك ْم م َن الس َ‬
‫ون * ُق ْل َي ْج َمعُ َب ْيَنَنا َربَُّنا ثَُّم َي ْفتَ ُح‬
‫َج َر ْمَنا َوال ُن ْسأَ ُل َع َّما تَ ْع َملُ َ‬
‫ون َع َّما أ ْ‬
‫ين * ُق ْل ال تُ ْسأَلُ َ‬ ‫ض ٍ‬
‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫ين أَْل َح ْقتُ ْم بِه ُش َر َك َ‬
‫اء َكال َب ْل ُه َو اللهُ اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬
‫يم‬ ‫يم * ُق ْل أ َُرونِ َي الذ َ‬ ‫ق َو ُه َو اْلفَتَّ ُ‬
‫اح اْل َعل ُ‬ ‫َب ْيَنَنا بِاْل َح ِّ‬
‫}‪.‬‬
‫يأمر تعالى‪ ،‬نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬أن يقول لمن أشرك باللّه ويسأله عن حجة شركه‪:‬‬
‫ض } فإنهم ال بد أن يقروا أنه اللّه‪ ،‬ولئن لم يقروا فـ { ُق ِل اللَّهُ }‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ِ‬
‫{ َم ْن َي ْر ُزقُ ُك ْم م َن الس َ‬
‫فإنك ال تجد من يدفع هذا القول‪ ،‬فإذا تبين أن اللّه وحده الذي يرزقكم من السماوات واألرض‪،‬‬
‫وينزل [لكم] المطر‪ ،‬وينبت لكم النبات‪ ،‬ويفجر لكم األنهار‪ ،‬ويطلع لكم من ثمار األشجار‪ ،‬وجعل‬
‫لكم الحيوانات جميعها‪ ،‬لنفعكم ورزقكم‪ ،‬فلم تعبدون معه من ال يرزقكم شيئا‪ ،‬وال يفيدكم نفعا؟‪.‬‬
‫ض ٍ‬
‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ين } أي‪ :‬إحدى الطائفتين منا ومنكم‪ ،‬على‬ ‫وقوله‪َ { :‬وإِ َّنا أ َْو ِإيَّا ُك ْم لَ َعلَى ُه ًدى أ َْو في َ‬
‫الهدى‪ ،‬مستعلية عليه‪ ،‬أو في ضالل مبين‪ ،‬منغمرة فيه‪ ،‬وهذا الكالم يقوله من تبين له الحق‪،‬‬
‫واتضح له الصواب‪ ،‬وجزم بالحق الذي هو عليه‪ ،‬وبطالن ما عليه خصمه‪.‬‬
‫أي‪ :‬قد شرحنا من األدلة الواضحة عندنا وعندكم‪ ،‬ما به يعلم علما يقينا ال شك فيه‪ ،‬من المحق‬
‫منا‪ ،‬ومن المبطل‪ ،‬ومن المهتدي ومن الضال؟ حتى إنه يصير التعيين بعد ذلك‪ ،‬ال فائدة فيه‪ ،‬فإنك‬
‫(‪ )1‬إذا وازنت بين من يدعو إلى عبادة الخالق‪ ،‬لسائر المخلوقات المتصرف فيها‪ ،‬بجميع أنواع‬
‫التصرفات‪ ،‬المسدي جميع النعم‪ ،‬الذي رزقهم وأوصل إليهم كل نعمة‪ ،‬ودفع عنهم كل نقمة‪ ،‬الذي‬
‫له الحمد كله‪ ،‬والملك كله‪ ،‬وكل أحد من المالئكة فما دونهم‪ ،‬خاضعون لهيبته‪ ،‬متذللون لعظمته‪،‬‬
‫وكل الشفعاء تخافه‪ ،‬ال يشفع أحد منهم عنده إال بإذنه العلي الكبير‪ ،‬في ذاته‪ ،‬وأوصافه‪ ،‬وأفعاله‪،‬‬
‫الذي له كل كمال‪ ،‬وكل جالل‪ ،‬وكل جمال‪ ،‬وكل حمد وثناء ومجد‪ ،‬يدعو إلى التقرب لمن هذا‬
‫شأنه‪ ،‬وإ خالص العمل له‪ ،‬وينهى عن عبادة من سواه‪ ،‬وبين من يتقرب إلى أوثان‪ ،‬وأصنام‪،‬‬
‫وقبور‪ ،‬ال تخلق‪ ،‬وال ترزق‪ ،‬وال تملك ألنفسها‪ ،‬وال لمن عبدها‪ ،‬نفعا وال ضرا‪ ،‬وال موتا [ ص‬
‫‪ ] 680‬وال حياة‪ ،‬وال نشورا‪ ،‬بل هي جمادات‪ ،‬ال تعقل‪ ،‬وال تسمع دعاء عابديها‪ ،‬ولو سمعته ما‬
‫استجابت لهم‪ ،‬ويوم القيامة يكفرون بشركهم‪ ،‬ويتبرأون منهم‪ ،‬ويتالعنون بينهم‪ ،‬ليس لهم قسط‬
‫من الملك‪ ،‬وال شركة فيه‪ ،‬وال إعانة فيه‪ ،‬وال لهم شفاعة يستقلون بها دون اللّه‪ ،‬فهو يدعو َم ْن هذا‬
‫وصفه‪ ،‬ويتقرب إليه مهما أمكنه‪ ،‬ويعادي من أخلص الدين للّه‪ ،‬ويحاربه‪ ،‬ويكذب رسل اللّه‪،‬‬
‫الذين جاءوا باإلخالص للّه وحده‪ ،‬تبين (‪ )2‬لك أي الفريقين‪ ،‬المهتدي من الضال‪ ،‬والشقي من‬
‫السعيد؟ ولم يحتج إلى أن يعين لك ذلك‪ ،‬ألن وصف الحال‪ ،‬أوضح من لسان المقال‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬كل منا ومنكم‪ ،‬له عمله أنتم] {‬
‫َج َر ْمَنا َوال ُن ْسأَ ُل َع َّما تَ ْع َملُ َ‬
‫ون َع َّما أ ْ‬
‫{ ُق ْل } لهم [ { ال تُ ْسأَلُ َ‬
‫ال تسألون } عن إجرامنا وذنوبنا لو أذنبنا‪ ،‬ونحن ال نسأل عن أعمالكم‪ ،‬فليكن المقصود منا ومنكم‬
‫طلب الحقائق وسلوك طريق اإلنصاف‪ ،‬ودعوا ما كنا نعمل‪ ،‬وال يكن مانعا لكم من اتباع الحق‪،‬‬
‫فإن أحكام الدنيا تجري على الظواهر‪ ،‬ويتبع فيها الحق‪ ،‬ويجتنب الباطل‪ ،‬وأما األعمال فلها دار‬
‫أخرى‪ ،‬يحكم فيها أحكم الحاكمين‪ ،‬ويفصل بين المختصمين‪ ،‬أعدل العادلين‪.‬‬
‫ولهذا قال‪ُ { :‬ق ْل َي ْج َمعُ َب ْيَنَنا َربَُّنا ثَُّم َي ْفتَ ُح َب ْيَنَنا } أي‪ :‬يحكم بيننا حكما‪ ،‬يتبين به الصادق من‬
‫الكاذب‪ ،‬والمستحق للثواب‪ ،‬من المستحق للعقاب‪ ،‬وهو خير الفاتحين‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ين أَْل َح ْقتُ ْم بِه ُش َر َك َ‬
‫اء } أي‪ :‬أين هم؟‬ ‫{ ُق ْل } لهم يا أيها الرسول‪ ،‬ومن ناب منابك‪ { :‬أ َُرونِ َي الذ َ‬
‫وأين السبيل إلى معرفتهم؟ وهل هم في األرض‪ ،‬أم في السماء؟ فإن عالم الغيب والشهادة قد‬
‫أخبرنا أنه ليس في الوجود له شريك‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ويعب ُدون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون اللهَ‬
‫اؤَنا ع ْن َد الله ُق ْل أَتَُنبُِّئ َ‬
‫ون َه ُؤالء ُشفَ َع ُ‬ ‫ض ُّر ُه ْم َوال َي ْنفَ ُعهُ ْم َوَيقُولُ َ‬
‫ون الله َما ال َي ُ‬ ‫َ َ ُْ َ‬
‫ون ِإال الظَّ َّن َوإِ ْن ُه ْم ِإال‬
‫اء ِإ ْن َيتَّبِ ُع َ‬
‫بِما ال يعلَم } اآلية { وما يتَّبِع الَِّذين ي ْدعون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون الله ُش َر َك َ‬ ‫ََ َ ُ َ َ ُ َ‬ ‫َ َْ ُ‬
‫ون }‬
‫ص َ‬‫َي ْخ ُر ُ‬
‫وكذلك خواص خلقه من األنبياء والمرسلين‪ ،‬ال يعلمون له شريكا‪ ،‬فيا أيها المشركون أروني‬
‫الذين ألحقتم بزعمكم الباطل باللّه { ُش َر َكاء }‬
‫وهذا السؤال ال يمكنهم اإلجابة عنه‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬كال } أي‪ :‬ليس للّه شريك‪ ،‬وال ند‪ ،‬وال ضد‪.‬‬
‫{ َب ْل ُه َو اللَّهُ } الذي ال يستحق التأله والتعبد‪ ،‬إال هو { اْل َع ِز ُيز } الذي قهر كل شيء فكل ما سواه‪،‬‬
‫يم } الذي أتقن ما خلقه‪ ،‬وأحسن ما شرعه‪ ،‬ولو لم يكن في حكمته‬ ‫ِ‬
‫فهو مقهور مسخر مدبر‪ { .‬اْل َحك ُ‬
‫في شرعه إال أنه أمر بتوحيده‪ ،‬وإ خالص الدين له‪ ،‬وأحب ذلك‪ ،‬وجعله طريقا للنجاة‪ ،‬ونهى عن‬
‫الشرك به‪ ،‬واتخاذ األنداد من دونه‪ ،‬وجعل ذلك طريقا للشقاء والهالك‪ ،‬لكفى (‪ )3‬بذلك برهانا‬
‫على كمال حكمته‪ ،‬فكيف وجميع ما أمر به ونهى عنه‪ ،‬مشتمل على الحكمة؟"‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ورد في الهامش هنا‪ :‬فعل الشرط‪.‬‬
‫(‪ )2‬ورد في الهامش هنا‪ :‬جواب الشرط‪.‬‬
‫(‪ )3‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬يكفي‪ ،‬ولعل الصواب ما أثبته‪.‬‬

‫( ‪)1/679‬‬

‫ون َمتَى َه َذا‬


‫ون (‪َ )28‬وَيقُولُ َ‬ ‫اس اَل َي ْعلَ ُم َ‬ ‫اس َب ِش ًيرا َوَن ِذ ًيرا َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫الن ِ‬ ‫ك ِإاَّل َكافَّةً ِل َّلن ِ‬
‫َو َما أ َْر َسْلَنا َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫ون (‪)30‬‬ ‫اعةً َواَل تَ ْستَ ْقد ُم َ‬
‫ون َعْنهُ َس َ‬‫اد َي ْوٍم اَل تَ ْستَأْخ ُر َ‬‫يع ُ‬
‫ين (‪ُ )29‬ق ْل لَ ُك ْم م َ‬ ‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬

‫ون *‬‫اس ال َي ْعلَ ُم َ‬ ‫اس َب ِش ًيرا َوَن ِذ ًيرا َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫الن ِ‬ ‫ك ِإال َكافَّةً ِل َّلن ِ‬
‫{ ‪َ { } 30 - 28‬و َما أ َْر َسْلَنا َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ويقُولُون متَى َه َذا اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫اعةً َوال‬ ‫اد َي ْوٍم ال تَ ْستَأْخ ُر َ‬
‫ون َع ْنهُ َس َ‬ ‫يع ُ‬
‫ين * ُق ْل لَ ُك ْم م َ‬ ‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تَ ْستَ ْقد ُم َ‬
‫يخبر تعالى أنه ما أرسل رسوله صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬إال ليبشر جميع الناس بثواب اللّه‪،‬‬
‫ويخبرهم باألعمال الموجبة لذلك‪ ،‬وينذرهم عقاب اللّه‪ ،‬ويخبرهم باألعمال الموجبة له‪ ،‬فليس لك‬
‫من األمر شيء‪ ،‬وكل ما اقترح عليك أهل التكذيب والعناد‪ ،‬فليس من وظيفتك‪ ،‬إنما ذلك بيد اللّه‬
‫ون } أي‪ :‬ليس لهم علم صحيح‪ ،‬بل إما جهال‪ ،‬أو معاندون لم‬ ‫اس ال َي ْعلَ ُم َ‬ ‫تعالى‪َ { ،‬ولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫الن ِ‬
‫يعملوا بعلمهم‪ ،‬فكأنهم ال علم لهم‪ .‬ومن عدم علمهم‪ ،‬جعلهم عدم اإلجابة لما اقترحوه على‬
‫الرسول‪ ،‬موجبا لرد دعوته‪.‬‬
‫ون َمتَى َه َذا اْل َو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُ ْم‬
‫فمما اقترحوه‪ ،‬استعجالهم العذاب‪ ،‬الذي أنذرهم به فقال‪َ { :‬وَيقُولُ َ‬
‫ين } وهذا ظلم منهم‪ .‬فأي مالزمة بين صدقه‪ ،‬وبين اإلخبار بوقت وقوعه؟ وهل هذا إال رد‬ ‫ِِ‬
‫صادق َ‬‫َ‬
‫للحق‪ ،‬وسفه في العقل؟ أليس النذير [في أمر] في أحوال الدنيا‪ ،‬لو جاء قوما‪ ،‬يعلمون صدقه‬
‫وي ِع ُّد لهم فقال لهم‪ :‬تركت عدوكم قد سار‪ ،‬يريد اجتياحكم‬
‫ونصحه‪ ،‬ولهم عدو ينتهز الفرصة منهم ُ‬
‫واستئصالكم‪ .‬فلو قال بعضهم‪ :‬إن كنت صادقا‪ ،‬فأخبرنا بأية ساعة يصل إلينا‪ ،‬وأين مكانه اآلن؟‬
‫فهل يعد هذا القائل عاقال أم يحكم بسفهه وجنونه؟‬
‫هذا‪ ،‬والمخبر يمكن صدقه وكذبه‪ ،‬والعدو قد يبدو له غيرهم‪ ،‬وقد تنحل عزيمته‪ ،‬وهم قد يكون‬
‫بهم منعة يدافعون بها عن أنفسهم‪ ،‬فكيف بمن كذب أصدق الخلق‪ ،‬المعصوم في خبره‪ ،‬الذي ال‬
‫ينطق عن الهوى‪ ،‬بالعذاب اليقين‪ ،‬الذي ال مدفع له‪ ،‬وال ناصر منه؟! أليس رد خبره بحجة عدم‬
‫بيانه وقت وقوعه من أسفه السفه؟"‬

‫( ‪)1/680‬‬

‫ون ِع ْن َد‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫وقَ َ َِّ‬


‫ون َم ْوقُوفُ َ‬ ‫َن َواَل بِالذي َب ْي َن َي َد ْيه َولَ ْو تََرى ِإذ الظال ُم َ‬
‫ين َكفَ ُروا لَ ْن ُن ْؤ ِم َن بِهَ َذا اْلقُْرآ ِ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ض اْلقَو َل يقُو ُل الَِّذين استُ ْ ِ َِِّ‬
‫استَ ْكَب ُروا لَ ْواَل أ َْنتُ ْم لَ ُكَّنا ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين‬ ‫ين ْ‬
‫ضعفُوا للذ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ضهُ ْم ِإلَى َب ْع ٍ ْ َ‬ ‫َرِّب ِه ْم َي ْر ِجعُ َب ْع ُ‬
‫(‪)31‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اعةً‬
‫ون َع ْنهُ َس َ‬ ‫اد َي ْوٍم ال تَ ْستَأْخ ُر َ‬ ‫يع ُ‬
‫{ ُق ْل } لهم ‪ -‬مخبرا بوقت وقوعه الذي ال شك فيه ‪ { :-‬لَ ُك ْم م َ‬
‫ون } فاحذروا ذلك اليوم‪ ،‬وأعدوا له عدته‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َوال تَ ْستَ ْقد ُم َ‬
‫[ ص ‪] 681‬‬
‫آن َوال بِالَِّذي َب ْي َن َي َد ْي ِه َولَ ْو تََرى ِإ ِذ‬
‫ين َكفَ ُروا لَ ْن ُن ْؤ ِم َن بِهَ َذا اْلقُْر ِ‬ ‫{ ‪ { } 33 - 31‬وقَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬
‫ض اْلقَو َل يقُو ُل الَِّذين استُ ْ ِ َِِّ‬ ‫الظَّ ِالمون موقُوفُ ِ‬
‫ين‬
‫ضعفُوا للذ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ضهُ ْم ِإلَى َب ْع ٍ ْ َ‬ ‫ون ع ْن َد َرِّب ِه ْم َي ْر ِجعُ َب ْع ُ‬‫َ‬ ‫ُ َ َْ‬
‫ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫استَ ْكَب ُروا لَ ْوال أ َْنتُ ْم لَ ُكَّنا ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ْ‬
‫لما ذكر تعالى أن ميعاد المستعجلين بالعذاب‪ ،‬ال بد من وقوعه عند حلول أجله‪ ،‬ذكر هنا حالهم في‬
‫ذلك اليوم‪ ،‬وأنك لو رأيت حالهم إذا وقفوا عند ربهم‪ ،‬واجتمع الرؤساء واألتباع في الكفر‬
‫والضالل‪ ،‬لرأيت أمرا عظيما وهوال جسيما‪ ،‬ورأيت كيف يتراجع‪ ،‬ويرجع بعضهم إلى بعض‬
‫استَ ْكَب ُروا } وهم القادة‪ { :‬لَ ْوال أ َْنتُ ْم لَ ُكَّنا‬ ‫َِِّ‬ ‫القول‪ ،‬فـ { يقُو ُل الَِّذين استُ ْ ِ‬
‫ين ْ‬
‫ضعفُوا } وهم األتباع { للذ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ين } ولكنكم ُحْلتُم بيننا وبين اإليمان‪ ،‬وزينتم لنا الكفر[ان]‪ ،‬فتبعناكم على ذلك‪ ،‬ومقصودهم‬ ‫ُم ْؤ ِمن َ‬
‫بذلك أن يكون العذاب على الرؤساء دونهم‪.‬‬

‫( ‪)1/680‬‬

‫ال الَِّذين استَ ْكبروا ِللَِّذين استُ ْ ِ‬


‫اء ُك ْم َب ْل ُك ْنتُ ْم ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ين (‬ ‫ص َد ْدَنا ُك ْم َع ِن اْلهُ َدى َب ْع َد ِإ ْذ َج َ‬
‫ضعفُوا أََن ْح ُن َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ْ َُ‬ ‫قَ َ‬
‫َن َن ْكفَُر بِاللَّ ِه‬
‫ونَنا أ ْ‬
‫ْم ُر َ‬ ‫استَ ْكَب ُروا َب ْل م ْك ُر اللَّْي ِل و َّ ِ‬
‫النهَ ِار إ ْذ تَأ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ين ْ‬
‫‪ )32‬وقَا َل الَِّذين استُ ْ ِ َِِّ‬
‫ضعفُوا للذ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ين َكفَ ُروا َه ْل‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َعَنا ِ‬ ‫ِ‬ ‫َس ُّروا َّ‬
‫ق الذ َ‬ ‫َغاَل َل في أ ْ‬ ‫اب َو َج َعْلَنا اأْل ْ‬‫امةَ لَ َّما َرأ َُوا اْل َع َذ َ‬
‫الن َد َ‬ ‫َوَن ْج َع َل لَهُ أ َْن َد ًادا َوأ َ‬
‫اَّل‬
‫ون (‪)33‬‬ ‫ُي ْج َز ْو َن ِإ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬

‫{ قَا َل الَِّذين استَ ْكبروا ِللَِّذين استُ ْ ِ‬


‫اء ُك ْم َب ْل ُك ْنتُ ْم ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ين‬ ‫ص َد ْدَنا ُك ْم َع ِن اْلهُ َدى َب ْع َد ِإ ْذ َج َ‬
‫ضعفُوا أََن ْح ُن َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ْ َُ‬
‫َن َن ْكفَُر بِاللَّ ِه َوَن ْج َع َل‬
‫ونَنا أ ْ‬
‫ْم ُر َ‬ ‫استَ ْكَب ُروا َب ْل م ْك ُر اللَّْي ِل و َّ ِ‬
‫النهَ ِار إ ْذ تَأ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ين ْ‬
‫* وقَا َل الَِّذين استُ ْ ِ َِِّ‬
‫ضعفُوا للذ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ين َكفَ ُروا َه ْل ُي ْج َز ْو َن إال َما‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َعَنا ِ‬ ‫ِ‬ ‫َس ُّروا َّ‬
‫ق الذ َ‬ ‫األغال َل في أ ْ‬
‫اب َو َج َعْلَنا ْ‬ ‫امةَ لَ َّما َرأ َُوا اْل َع َذ َ‬
‫الن َد َ‬ ‫لَهُ أ َْن َد ًادا َوأ َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫ض ِعفُوا } مستفهمين لهم ومخبرين أن الجميع مشتركون في‬ ‫استُ ْ‬ ‫ين ْ‬
‫َِِّ‬
‫استَ ْكَب ُروا للذ َ‬‫ين ْ‬
‫َِّ‬
‫{ قَا َل الذ َ‬
‫اء ُك ْم } أي‪ :‬بقوتنا وقهرنا لكم‪َ { .‬ب ْل ُك ْنتُ ْم ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ين }‬ ‫ص َد ْدَنا ُك ْم َع ِن اْلهُ َدى َب ْع َد ِإ ْذ َج َ‬
‫الجرم‪ { :‬أََن ْح ُن َ‬
‫أي‪ :‬مختارين لإلجرام‪ ،‬لستم مقهورين عليه‪ ،‬وإ ن كنا قد زينا لكم‪ ،‬فما كان لنا عليكم من سلطان‪.‬‬
‫َّ ِ‬ ‫استَ ْكَب ُروا َب ْل م ْك ُر اللَّْي ِل و َّ ِ‬ ‫{ وقَا َل الَِّذين استُ ْ ِ َِِّ‬
‫َن َن ْكفَُر بِالله َوَن ْج َع َل لَهُ‬
‫ونَنا أ ْ‬ ‫النهَ ِار إ ْذ تَأ ُ‬
‫ْم ُر َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ين ْ‬
‫ضعفُوا للذ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫أ َْن َد ًادا } أي‪ :‬بل الذي دهانا منكم‪ ،‬ووصل إلينا من إضاللكم‪ ،‬ما دبرتموه من المكر‪ ،‬في الليل‬
‫والنهار‪ ،‬إذ تُ َحسِّنون لنا الكفر‪ ،‬وتدعوننا إليه‪ ،‬وتقولون‪ :‬إنه الحق‪ ،‬وتقدحون في الحق وتهجنونه‪،‬‬
‫وتزعمون أنه الباطل‪ ،‬فما زال مكركم بنا‪ ،‬وكيدكم إيانا‪ ،‬حتى أغويتمونا وفتنتمونا‪.‬‬
‫فلم تفد تلك المراجعة بينهم شيئا إال تبري بعضهم من بعض‪ ،‬والندامة العظيمة‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫اب } أي‪ :‬زال عنهم ذلك االحتجاج الذي احتج به بعضهم على‬ ‫امةَ لَ َّما َرأ َُوا اْل َع َذ َ‬ ‫َس ُّروا َّ‬
‫الن َد َ‬ ‫{ َوأ َ‬
‫بعض لينجو من العذاب‪ ،‬وعلم أنه ظالم مستحق له‪ ،‬فندم كل منهم غاية الندم‪ ،‬وتمنى أن لو كان‬
‫على الحق‪[ ،‬وأنه] ترك الباطل الذي أوصله إلى هذا العذاب‪ ،‬سرا في أنفسهم‪ ،‬لخوفهم من‬
‫الفضيحة في إقرارهم على أنفسهم‪ .‬وفي بعض مواقف القيامة‪ ،‬وعند دخولهم النار‪ ،‬يظهرون ذلك‬
‫الندم جهرا‪.‬‬
‫ول َسبِيال * َيا َوْيلَتَى لَْيتَنِي لَ ْم أَتَّ ِخ ْذ‬ ‫{ ويوم يع ُّ َّ‬
‫الرس ِ‬ ‫ض الظ ِال ُم َعلَى َي َد ْي ِه َيقُو ُل َيا لَْيتَنِي اتَّ َخ ْذ ُ‬
‫ت َم َع َّ ُ‬ ‫َ َْ َ َ َ‬
‫النا َخِليال } اآليات‬
‫فُ ً‬
‫ألص َح ِ‬ ‫اب الس ِ‬
‫َص َح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب‬ ‫اعتََرفُوا بِ َذ ْنبِ ِه ْم فَ ُس ْحقًا ْ‬ ‫َّع ِ‬
‫ير * فَ ْ‬ ‫{ َوقَالُوا لَ ْو ُكَّنا َن ْس َمعُ أ َْو َن ْعق ُل َما ُكَّنا في أ ْ‬
‫الس ِ‬
‫َّع ِ‬
‫ير }‬
‫{ وجعلنا األغالل في أعناق الذين كفروا } يغلون كما يغل المسجون الذي سيهان في سجنه كما‬
‫ون ِفي اْل َح ِم ِيم ثَُّم ِفي َّ‬
‫الن ِار ُي ْس َج ُر َ‬
‫ون } اآليات‬ ‫ِ‬ ‫األغال ُل ِفي أ ْ ِ‬
‫َعَناق ِه ْم َوالسَّالس ُل ُي ْس َحُب َ‬ ‫قال تعالى { ِإ ِذ ْ‬
‫ون } من الكفر‬ ‫{ َه ْل ُي ْج َز ْو َن } في هذا العذاب والنكال وتلك األغالل الثقال { ِإال َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫والفسوق والعصيان‬

‫( ‪)1/681‬‬

‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َو َما أ َْر َسْلَنا ِفي قَ ْرَي ٍة ِم ْن َن ِذ ٍ‬


‫ون (‪َ )34‬وقَالُوا َن ْح ُن أَ ْكثَُر‬ ‫ير ِإاَّل قَا َل ُمتَْرفُ َ‬
‫وها ِإَّنا بِ َما أ ُْرسْلتُ ْم بِه َكاف ُر َ‬
‫اء َوَي ْق ِد ُر َولَ ِك َّن أَ ْكثََر‬ ‫الر ْز َ ِ‬
‫ق ل َم ْن َي َش ُ‬ ‫ين (‪ُ )35‬ق ْل ِإ َّن َربِّي َي ْب ُسطُ ِّ‬ ‫َّ‬
‫أ َْم َوااًل َوأ َْواَل ًدا َو َما َن ْح ُن بِ ُم َعذبِ َ‬
‫َم َن َو َع ِم َل‬ ‫ِاَّل‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ون (‪َ )36‬و َما أ َْم َوالُ ُك ْم َواَل أ َْواَل ُد ُك ْم بالتي تُقَِّرُب ُك ْم ع ْن َدَنا ُزْلفَى إ َم ْن آ َ‬ ‫الن ِ‬
‫اس اَل َي ْعلَ ُم َ‬ ‫َّ‬
‫ين َي ْس َع ْو َن ِفي‬ ‫َِّ‬
‫ون (‪َ )37‬والذ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِّعف بِ َما َعملُوا َو ُه ْم في اْل ُغ ُرفَات آَمُن َ‬
‫ك لَهم ج َزاء الض ِ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫صال ًحا فَأُولَئ َ ُ ْ َ ُ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه‬ ‫ق ل َم ْن َي َش ُ‬
‫الر ْز َ ِ‬ ‫ون (‪ُ )38‬ق ْل ِإ َّن َربِّي َي ْب ُسطُ ِّ‬ ‫ض ُر َ‬ ‫اب ُم ْح َ‬ ‫ك ِفي اْل َع َذ ِ‬ ‫ين أُولَئِ َ‬ ‫ِ‬
‫آََياتَنا ُم َعا ِج ِز َ‬
‫ين (‪)39‬‬ ‫َوَي ْق ِد ُر لَهُ َو َما أ َْنفَ ْقتُ ْم ِم ْن َش ْي ٍء فَهَُو ُي ْخِلفُهُ َو ُه َو َخ ْي ُر َّ‬
‫الر ِاز ِق َ‬

‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪َ { } 39 - 34‬و َما أ َْر َسْلَنا ِفي قَ ْرَي ٍة ِم ْن َن ِذ ٍ‬


‫ون *‬ ‫وها ِإَّنا بِ َما أ ُْرسْلتُ ْم بِه َكاف ُر َ‬
‫ير ِإال قَا َل ُمتَْرفُ َ‬
‫اء َوَي ْق ِد ُر‬ ‫الر ْز َ ِ‬
‫ق ل َم ْن َي َش ُ‬ ‫ين * ُق ْل ِإ َّن َربِّي َي ْب ُسطُ ِّ‬ ‫َّ‬
‫الدا َو َما َن ْح ُن بِ ُم َعذبِ َ‬
‫َوقَالُوا َن ْح ُن أَ ْكثَُر أ َْم َواال َوأ َْو ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اس ال يعلَمون * وما أَموالُ ُكم وال أَو ُ ِ َّ ِ‬ ‫َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫آم َن‬ ‫الد ُك ْم بالتي تُقَِّرُب ُك ْم ع ْن َدَنا ُزْلفَى إال َم ْن َ‬ ‫الن ِ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ‬
‫ين َي ْس َع ْو َن ِفي‬ ‫َِّ‬
‫ون * َوالذ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِّعف بِ َما َعملُوا َو ُه ْم في اْل ُغ ُرفَات آمُن َ‬
‫ك لَهم ج َزاء الض ِ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫صال ًحا فَأُولَئ َ ُ ْ َ ُ‬
‫وع ِم َل ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه‬ ‫الر ْز َ ِ‬
‫ق ل َم ْن َي َش ُ‬ ‫ون * ُق ْل ِإ َّن َربِّي َي ْب ُسطُ ِّ‬ ‫ض ُر َ‬ ‫اب ُم ْح َ‬ ‫ك ِفي اْل َع َذ ِ‬ ‫ين أُولَئِ َ‬ ‫ِ‬
‫َآياتَنا ُم َعا ِج ِز َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫َوَي ْق ِد ُر لَهُ َو َما أ َْنفَ ْقتُ ْم ِم ْن َش ْي ٍء فَهَُو ُي ْخِلفُهُ َو ُه َو َخ ْي ُر َّ‬
‫الر ِاز ِق َ‬
‫يخبر تعالى عن حالة األمم الماضية المكذبة للرسل‪ ،‬أنها كحال هؤالء الحاضرين المكذبين‬
‫لرسولهم محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬وأن اللّه إذا أرسل رسوال في قرية من القرى‪ ،‬كفر به‬
‫مترفوها‪ ،‬وأبطرتهم نعمتهم وفخروا بها‪.‬‬
‫َّ‬
‫الدا } أي‪ :‬ممن اتبع الحق { َو َما َن ْح ُن بِ ُم َعذبِ َ‬
‫ين } أي‪ :‬أوال لسنا‬ ‫{ َوقَالُوا َن ْح ُن أَ ْكثَُر أ َْم َواال َوأ َْو ً‬
‫بمبعوثين‪ ،‬فإن بعثنا‪ ،‬فالذي أعطانا األموال واألوالد في الدنيا‪ ،‬سيعطينا أكثر من ذلك في اآلخرة‬
‫وال يعذبنا‪.‬‬
‫فأجابهم اللّه تعالى‪ ،‬بأن بسط الرزق وتضييقه‪ ،‬ليس دليال على ما زعمتم‪ ،‬فإن الرزق تحت مشيئة‬
‫اللّه‪ ،‬إن شاء بسطه لعبده‪ ،‬وإ ن شاء ضيقه‪.‬‬
‫وليست األموال واألوالد بالتي تقرب إلى اهلل زلفى وتدني إليه‪ ،‬وإ نما الذي يقرب منه زلفى‪،‬‬
‫اإليمان بما جاء به المرسلون‪ ،‬والعمل الصالح الذي هو من لوازم اإليمان‪ ،‬فأولئك لهم الجزاء عند‬
‫اللّه تعالى مضاعفا الحسنة بعشر أمثالها‪ ،‬إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة‪ ،‬ال يعلمها إال‬
‫ون } أي‪ :‬في المنازل العاليات المرتفعات جدا‪ ،‬ساكنين فيها‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اللّه‪َ { ،‬و ُه ْم في اْل ُغ ُرفَات آمُن َ‬
‫مطمئنين‪ ،‬آمنون من المكدرات والمنغصات‪ ،‬لما هم فيه من اللذات‪ ،‬وأنواع المشتهيات‪ ،‬وآمنون‬
‫من الخروج منها والحزن فيها‪.‬‬
‫ك ِفي اْل َع َذ ِ‬
‫اب‬ ‫وأما الذين سعوا في آياتنا على وجه التعجيز لنا ولرسلنا والتكذيب فـ { أُولَئِ َ‬
‫ون }‬
‫ض ُر َ‬
‫ُم ْح َ‬
‫اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه َوَي ْق ِد ُر لَهُ } ليرتب عليه قوله‪َ { :‬و َما أ َْنفَ ْقتُ ْم‬ ‫الر ْز َ ِ‬
‫ق ل َم ْن َي َش ُ‬ ‫ثم أعاد تعالى أنه { َي ْب ُسطُ ِّ‬
‫ِم ْن َش ْي ٍء } نفقة واجبة‪ ،‬أو مستحبة‪ ،‬على قريب‪ ،‬أو جار‪ ،‬أو مسكين‪ ،‬أو يتيم‪ ،‬أو غير ذلك‪ { ،‬فَهَُو‬
‫} تعالى { ُي ْخِلفُهُ } فال تتوهموا أن اإلنفاق مما ينقص الرزق‪ ،‬بل وعد بالخلف للمنفق‪ ،‬الذي يبسط‬
‫ين } فاطلبوا الرزق منه‪ ،‬واسعوا في األسباب التي‬ ‫الر ِاز ِق َ‬
‫الرزق لمن يشاء ويقدر { َو ُه َو َخ ْي ُر َّ‬
‫أمركم بها‪.‬‬

‫( ‪)1/681‬‬

‫ت َوِليَُّنا‬ ‫ويوم ي ْح ُشر ُهم ج ِميعا ثَُّم يقُو ُل ِلْلماَل ئِ َك ِة أ َ ِ‬


‫ك أ َْن َ‬
‫ون (‪ )40‬قَالُوا ُس ْب َح َان َ‬ ‫َه ُؤاَل ء ِإيَّا ُك ْم َك ُانوا َي ْعُب ُد َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ َ َ ُ ْ َ ً َ‬
‫ض ُك ْم ِلَب ْع ٍ‬
‫ض َن ْف ًعا‬ ‫ك َب ْع ُ‬‫ون (‪ )41‬فَاْلَي ْو َم اَل َي ْمِل ُ‬ ‫ون اْل ِج َّن أَ ْكثَُر ُه ْم بِ ِه ْم ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫ِ‬
‫م ْن ُدونِ ِه ْم َب ْل َك ُانوا َي ْعُب ُد َ‬
‫ِّ‬ ‫ظلَموا ُذوقُوا ع َذاب َّ َّ ِ‬ ‫َِِّ‬
‫ون (‪)42‬‬ ‫الن ِار التي ُك ْنتُ ْم بِهَا تُ َكذُب َ‬ ‫َ َ‬ ‫ين َ ُ‬ ‫ض ًّرا َوَنقُو ُل للذ َ‬ ‫َواَل َ‬

‫{ ‪ { } 42 - 40‬ويوم ي ْح ُشر ُهم ج ِميعا ثَُّم يقُو ُل ِلْلمالئِ َك ِة أ َ ِ‬


‫ون * قَالُوا‬ ‫َه ُؤالء ِإيَّا ُك ْم َك ُانوا َي ْعُب ُد َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ َ َ ُ ْ َ ً َ‬
‫ض ُك ْم‬ ‫ون * فَاْلَي ْو َم ال َي ْمِل ُ‬
‫ك َب ْع ُ‬ ‫ون اْل ِج َّن أَ ْكثَُر ُه ْم بِ ِه ْم ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫ِ‬
‫ت َوِليَُّنا م ْن ُدونِ ِه ْم َب ْل َك ُانوا َي ْعُب ُد َ‬
‫ك أ َْن َ‬
‫ُس ْب َح َان َ‬
‫ِّ‬ ‫ظلَموا ُذوقُوا ع َذاب َّ َّ ِ‬ ‫َِِّ‬ ‫ِلَب ْع ٍ‬
‫ون } ‪.‬‬‫الن ِار التي ُك ْنتُ ْم بِهَا تُ َكذُب َ‬ ‫َ َ‬ ‫ين َ ُ‬ ‫ض ًّرا َوَنقُو ُل للذ َ‬ ‫ض َن ْف ًعا َوال َ‬
‫يعا } أي‪ :‬العابدين لغير اللّه [ ص ‪ ] 682‬والمعبودين من دونه‪ ،‬من‬ ‫ِ‬
‫{ َوَي ْو َم َي ْح ُش ُر ُه ْم َجم ً‬
‫المالئكة‪ { .‬ثَُّم يقُو ُل } اهلل { ِلْلمالئِ َك ِة } على وجه التوبيخ لمن عبدهم { أ َ ِ‬
‫َه ُؤالء ِإيَّا ُك ْم َك ُانوا َي ْعُب ُد َ‬
‫ون‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫} فتبرأوا من عبادتهم‪.‬‬
‫ت َوِليَُّنا ِم ْن ُدونِ ِه ْم }‬ ‫ك } أي‪ :‬تنزيها لك وتقديسا‪ ،‬أن يكون لك شريك‪ ،‬أو ند { أ َْن َ‬ ‫و { قَالُوا ُس ْب َح َان َ‬
‫فنحن مفتقرون إلى واليتك‪ ،‬مضطرون إليها‪ ،‬فكيف ندعو غيرنا إلى عبادتنا؟ أم كيف نصلح ألن‬
‫نتخذ من دونك أولياء وشركاء؟"‬
‫ون اْل ِج َّن } أي‪ :‬الشياطين‪ ،‬يأمرون (‪ )1‬بعبادتنا أو عبادة‬
‫ولكن هؤالء المشركون { َك ُانوا َي ْعُب ُد َ‬
‫غيرنا‪ ،‬فيطيعونهم بذلك‪ .‬وطاعتهم هي عبادتهم‪ ،‬ألن العبادة الطاعة‪ ،‬كما قال تعالى مخاطبا لكل‬
‫َن‬ ‫ان ِإَّنهُ لَ ُك ْم َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ‬
‫ين * َوأ ِ‬ ‫ط َ‬ ‫َن ال تَ ْعُب ُدوا َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َعهَ ْد ِإلَْي ُك ْم َيا َبنِي َ‬
‫آد َم أ ْ‬ ‫من اتخذ معه آلهة { أَلَ ْم أ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم }‬‫اعُب ُدونِي َه َذا ص َراطٌ ُم ْستَق ٌ‬ ‫ْ‬
‫ون } أي مصدقون للجن منقادون لهم ألن اإليمان هو التصديق الموجب‬ ‫{ أَ ْكثَُر ُه ْم بِ ِه ْم ُم ْؤ ِمُن َ‬
‫لالنقياد‬
‫ض ًّرا } تقطعت‬ ‫ض ُك ْم ِلَب ْع ٍ‬
‫ض َن ْف ًعا َوال َ‬ ‫فلما تبرأوا منهم قال تعالى مخاطبا لهم { فَاْلَي ْو َم ال َي ْمِل ُ‬
‫ك َب ْع ُ‬
‫ظلَ ُموا } بالكفر والمعاصي ‪ -‬بعد ما‬ ‫ين َ‬ ‫َِِّ‬
‫بينكم األسباب وانقطع بعضكم من بعض { َوَنقُو ُل للذ َ‬
‫ِّ‬ ‫ندخلهم النار ‪ُ { -‬ذوقُوا ع َذاب َّ َّ ِ‬
‫ون } فاليوم عاينتموها ودخلتموها جزاء‬ ‫الن ِار التي ُك ْنتُ ْم بِهَا تُ َكذُب َ‬ ‫َ َ‬
‫لتكذيبكم وعقوبة لما أحدثه ذلك التكذيب من عدم الهرب من أسبابها‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬يأمرونهم‪.‬‬

‫( ‪)1/681‬‬

‫ات قَالُوا َما َه َذا ِإاَّل َر ُج ٌل ُي ِر ُ‬ ‫وإِ َذا تُْتلَى علَْي ِهم آَياتَُنا بيَِّن ٍ‬
‫اؤ ُك ْم َوقَالُوا َما‬ ‫ص َّد ُك ْم َع َّما َك َ‬
‫ان َي ْعُب ُد آََب ُ‬ ‫َن َي ُ‬
‫يد أ ْ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫اه ْم م ْن‬ ‫ِ‬ ‫اَّل‬
‫اء ُه ْم ِإ ْن َه َذا ِإ س ْحٌر ُمبِ ٌ‬ ‫ِ‬
‫ين َكفَ ُروا لْل َح ِّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫اَّل‬
‫َه َذا ِإ ِإ ْف ٌ‬
‫ين (‪َ )43‬و َما آَتَْيَن ُ‬ ‫ق لَ َّما َج َ‬ ‫ك ُم ْفتًَرى َوقَا َل الذ َ‬
‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم َو َما َبلَ ُغوا ِم ْع َش َار َما‬ ‫ير (‪ )44‬و َك َّذ َِّ‬
‫ب الذ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ك ِم ْن َن ِذ ٍ‬ ‫ُكتُ ٍب َي ْد ُر ُس َ‬
‫ونهَا َو َما أ َْر َسْلَنا ِإلَْي ِه ْم قَْبلَ َ‬
‫ير (‪)45‬‬ ‫ان َن ِك ِ‬‫ف َك َ‬ ‫اه ْم فَ َك َّذُبوا ُر ُسِلي فَ َك ْي َ‬
‫آَتَْيَن ُ‬

‫ات قَالُوا َما َه َذا ِإال َر ُج ٌل ُي ِر ُ‬ ‫{ ‪ { } 45 - 43‬وإِ َذا تُْتلَى علَْي ِهم آياتَُنا بيَِّن ٍ‬
‫ص َّد ُك ْم َع َّما َك َ‬
‫ان َي ْعُب ُد‬ ‫َن َي ُ‬
‫يد أ ْ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫ين *‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء ُه ْم إ ْن َه َذا إال س ْحٌر ُمب ٌ‬ ‫ِ‬
‫ين َكفَ ُروا لْل َح ِّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ق لَ َّما َج َ‬ ‫ك ُم ْفتًَرى َوقَا َل الذ َ‬ ‫اؤ ُك ْم َوقَالُوا َما َه َذا إال إ ْف ٌ‬ ‫َآب ُ‬
‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم َو َما َبلَ ُغوا‬ ‫ير * و َك َّذ َِّ‬
‫ب الذ َ‬ ‫ك م ْن َنذ ٍ َ َ‬
‫ونها وما أَرسْلَنا ِإلَْي ِهم قَْبلَ َ ِ ِ‬
‫ْ‬ ‫اه ْم م ْن ُكتُ ٍب َي ْد ُر ُس َ َ َ َ ْ َ‬
‫وما آتَْيَن ُ ِ‬
‫ََ‬
‫ير } ‪.‬‬ ‫ان َن ِك ِ‬‫ف َك َ‬ ‫اه ْم فَ َك َّذُبوا ُر ُسِلي فَ َك ْي َ‬
‫ِم ْع َش َار َما آتَْيَن ُ‬
‫يخبر تعالى عن حالة المشركين‪ ،‬عندما تتلى عليهم آيات اللّه البينات‪ ،‬وحججه الظاهرات‪،‬‬
‫وبراهينه القاطعات‪ ،‬الدالة على كل خير‪ ،‬الناهية عن كل شر‪ ،‬التي هي أعظم نعمة جاءتهم‪ ،‬و ِمَّن ٍة‬
‫وصلت إليهم‪ ،‬الموجبة لمقابلتها باإليمان والتصديق‪ ،‬واالنقياد‪ ،‬والتسليم‪ ،‬أنهم يقابلونها بضد ما‬
‫اؤ ُك ْم‬ ‫ص َّد ُك ْم َع َّما َك َ‬
‫ان َي ْعُب ُد َآب ُ‬ ‫َن َي ُ‬ ‫ينبغي‪ ،‬ويكذبون من جاءهم بها ويقولون‪َ { :‬ما َه َذا ِإال َر ُج ٌل ُي ِر ُ‬
‫يد أ ْ‬
‫} أي‪ :‬هذا قصده‪ ،‬حين يأمركم باإلخالص للّه‪ ،‬لتتركوا عوائد آبائكم‪ ،‬الذين تعظمون وتمشون‬
‫خلفهم‪ ،‬فردوا الحق‪ ،‬بقول الضالين‪ ،‬ولم يوردوا (‪ )1‬برهانا‪ ،‬وال شبهة‪.‬‬
‫فأي شبهة إذا أمرت الرسل بعض الضالين‪ ،‬باتباع الحق‪َّ ،‬‬
‫فادعوا أن إخوانهم‪ ،‬الذين على‬
‫طريقتهم‪ ،‬لم يزالوا عليه؟ وهذه السفاهة‪ ،‬ورد الحق‪ ،‬بأقوال الضالين‪ ،‬إذا تأملت كل حق رد‪ ،‬فإذا‬
‫هذا مآله ال يرد إال بأقوال الضالين من المشركين‪ ،‬والدهريين‪ ،‬والفالسفة‪ ،‬والصابئين‪ ،‬والملحدين‬
‫في دين اللّه‪ ،‬المارقين‪ ،‬فهم أسوة كل من رد الحق إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫ولما احتجوا بفعل آبائهم‪ ،‬وجعلوها دافعة لما جاءت به الرسل‪ ،‬طعنوا بعد هذا بالحق‪َ { ،‬وقَالُوا َما‬
‫ين َكفَ ُروا ِلْل َح ِّ‬
‫ق لَ َّما‬ ‫ك م ْفتَرى } أي‪ :‬كذب افتراه هذا الرجل‪ ،‬الذي جاء به‪ { .‬وقَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َه َذا ِإال ِإ ْف ٌ ُ ً‬
‫ين } أي‪ :‬سحر ظاهر بيِّن لكل أحد‪ ،‬تكذيبا بالحق‪ ،‬وترويجا على‬ ‫اء ُه ْم ِإ ْن َه َذا ِإال ِس ْحٌر ُمبِ ٌ‬
‫َج َ‬
‫السفهاء‪.‬‬
‫ولما بيَّن ما ردوا به الحق‪ ،‬وأنها أقوال دون مرتبة الشبهة‪ ،‬فضال أن تكون حجة‪ ،‬ذكر أنهم وإ ن‬
‫اه ْم‬
‫أراد أحد أن يحتج لهم‪ ،‬فإنهم ال مستند لهم‪ ،‬وال لهم شيء يعتمدون عليه أصال فقال‪َ { :‬و َما آتَْيَن ُ‬
‫ير } حتى يكون عندهم‬ ‫ك ِم ْن َن ِذ ٍ‬ ‫ِم ْن ُكتُ ٍب َي ْد ُر ُس َ‬
‫ونهَا } حتى تكون عمدة لهم { َو َما أ َْر َسْلَنا ِإلَْي ِه ْم قَْبلَ َ‬
‫من أقواله وأحواله‪ ،‬ما يدفعون به‪ ،‬ما جئتهم به‪ ،‬فليس عندهم علم‪ ،‬وال أثارة من علم‪.‬‬
‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم َو َما َبلَ ُغوا } أي‪ :‬ما بلغ‬ ‫ثم خوفهم ما فعل باألمم المكذبين [قبلهم] فقال‪ { :‬و َك َّذ َِّ‬
‫ب الذ َ‬‫َ َ‬
‫ان‬ ‫اه ْم } { فَ َك َّذُبوا } أي‪ :‬األمم الذين من قبلهم { ُر ُسِلي فَ َك ْي َ‬
‫ف َك َ‬ ‫هؤالء المخاطبون { ِم ْع َش َار َما آتَْيَن ُ‬
‫ير } أي‪ :‬إنكاري عليهم‪ ،‬وعقوبتي إياهم‪ .‬قد أعلمنا ما فعل بهم من النكال‪ ،‬وأن منهم من‬ ‫َن ِك ِ‬
‫أغرقه‪ ،‬ومنهم من أهلكه بالريح العقيم‪ ،‬وبالصيحة‪ ،‬وبالرجفة‪ ،‬وبالخسف باألرض‪ ،‬وبإرسال‬
‫الحاصب من السماء‪ ،‬فاحذروا يا هؤالء المكذبون‪ ،‬أن تدوموا على التكذيب‪ ،‬فيأخذكم كما أخذ من‬
‫قبلكم‪ ،‬ويصيبكم ما أصابهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬ولم يردوا‪.‬‬

‫( ‪)1/682‬‬
‫احبِ ُكم ِم ْن ِجَّن ٍة ِإ ْن ُهو ِإاَّل‬
‫َن تَقُوموا ِللَّ ِه مثَْنى وفُر َادى ثَُّم تَتَفَ َّكروا ما بِ ِ‬ ‫ِ ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ص ْ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُق ْل إَّن َما أَعظُ ُك ْم ب َواح َدة أ ْ ُ‬
‫ي ِإاَّل َعلَى اللَّ ِه َو ُه َو‬ ‫اب َش ِد ٍيد (‪ُ )46‬ق ْل َما َسأَْلتُ ُك ْم ِم ْن أ ْ‬
‫َج ٍر فَهَُو لَ ُك ْم ِإ ْن أ ْ‬
‫َج ِر َ‬ ‫ي َع َذ ٍ‬ ‫ِ‬
‫َنذ ٌير لَ ُك ْم َب ْي َن َي َد ْ‬
‫وب (‪)48‬‬ ‫ق َعاَّل م اْل ُغُي ِ‬
‫ُ‬ ‫ف بِاْل َح ِّ‬ ‫يد (‪ُ )47‬ق ْل ِإ َّن َربِّي َي ْق ِذ ُ‬ ‫َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه ٌ‬

‫احبِ ُك ْم ِم ْن‬
‫َن تَقُوموا ِللَّ ِه مثَْنى وفُر َادى ثَُّم تَتَفَ َّكروا ما بِص ِ‬
‫ُ َ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ِ ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪ُ { } 50 - 46‬ق ْل إَّن َما أَعظُ ُك ْم ب َواح َدة أ ْ ُ‬
‫ي ِإال َعلَى‬ ‫اب َش ِد ٍيد * ُق ْل َما َسأَْلتُ ُك ْم ِم ْن أ ْ‬
‫َج ٍر فَهَُو لَ ُك ْم ِإ ْن أ ْ‬
‫َج ِر َ‬ ‫ي َع َذ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ِجَّنة ِإ ْن ُه َو ِإال َنذ ٌير لَ ُك ْم َب ْي َن َي َد ْ‬
‫وب } ‪.‬‬ ‫ق َعالم اْل ُغُي ِ‬
‫ُ‬ ‫يد * ُق ْل ِإ َّن َربِّي َي ْق ِذ ُ‬
‫ف بِاْل َح ِّ‬ ‫اللَّ ِه َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه ٌ‬
‫أي [ ص ‪ُ { ] 683‬ق ْل } يا أيها الرسول‪ ،‬لهؤالء المكذبين المعاندين‪ ،‬المتصدين لرد الحق‬
‫اح َد ٍة } أي‪ :‬بخصلة واحدة‪ ،‬أشير عليكم بها‪،‬‬ ‫َعظُ ُكم بِو ِ‬
‫ْ َ‬
‫وتكذيبه‪ ،‬والقدح بمن جاء به‪ِ { :‬إَّنما أ ِ‬
‫َ‬
‫وأنصح لكم في سلوكها‪ ،‬وهي طريق نصف‪ ،‬لست أدعوكم بها إلى اتباع قولي‪ ،‬وال إلى ترك‬
‫وموا ِللَّ ِه َمثَْنى َوفَُر َادى } أي‪ :‬تنهضوا بهمة‪ ،‬ونشاط‪،‬‬
‫َن تَقُ ُ‬
‫قولكم‪ ،‬من دون موجب لذلك‪ ،‬وهي‪ { :‬أ ْ‬
‫وقصد التباع الصواب‪ ،‬وإ خالص للّه‪ ،‬مجتمعين‪ ،‬ومتباحثين في ذلك‪ ،‬ومتناظرين‪ ،‬وفرادى‪ ،‬كل‬
‫واحد يخاطب نفسه بذلك‪.‬‬
‫فإذا قمتم للّه‪ ،‬مثنى وفرادى‪ ،‬استعملتم فكركم‪ ،‬وأجلتموه‪ ،‬وتدبرتم أحوال رسولكم‪ ،‬هل هو‬
‫مجنون‪ ،‬فيه صفات المجانين من كالمه‪ ،‬وهيئته‪ ،‬وصفته؟ أم هو نبي صادق‪ ،‬منذر لكم ما‬
‫يضركم‪ ،‬مما أمامكم من العذاب الشديد؟‬
‫فلو قبلوا هذه الموعظة‪ ،‬واستعملوها‪ ،‬لتبين لهم أكثر من غيرهم‪ ،‬أن رسول اللّه صلى اللّه عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ليس بمجنون‪ ،‬ألن هيئاته (‪ )1‬ليست كهيئات المجانين‪ ،‬في خنقهم‪ ،‬واختالجهم‪ ،‬ونظرهم‪،‬‬
‫بل هيئته أحسن الهيئات‪ ،‬وحركاته أجل الحركات‪ ،‬وهو أكمل الخلق‪ ،‬أدبا‪ ،‬وسكينة‪ ،‬وتواضعا‪،‬‬
‫ووقارا‪ ،‬ال يكون [إال] ألرزن الرجال عقال‪.‬‬
‫ثم [إذا] تأملوا كالمه الفصيح‪ ،‬ولفظه المليح‪ ،‬وكلماته التي تمأل القلوب‪ ،‬أمنا‪ ،‬وإ يمانا‪ ،‬وتزكى‬
‫النفوس‪ ،‬وتطهر القلوب‪ ،‬وتبعث على مكارم األخالق‪ ،‬وتحث على محاسن الشيم‪ ،‬وترهب (‪)2‬‬
‫عن مساوئ األخالق ورذائلها‪ ،‬إذا تكلم رمقته العيون‪ ،‬هيبة وإ جالال وتعظيما‪.‬‬
‫فهل هذا يشبه هذيان المجانين‪ ،‬وعربدتهم‪ ،‬وكالمهم الذي يشبه أحوالهم؟"‬
‫فكل من تدبر أحواله ومقصده استعالم هل هو رسول اللّه أم ال؟ سواء تفكر وحده‪ ،‬أو مع غيره‪،‬‬
‫جزم بأنه رسول اللّه حقا‪ ،‬ونبيه صدقا‪ ،‬خصوصا المخاطبين‪ ،‬الذي هو صاحبهم يعرفون أول‬
‫أمره وآخره‪.‬‬
‫وثََّم مانع للنفوس آخر عن اتباع الداعي إلى الحق‪ ،‬وهو أنه يأخذ أموال من يستجيب له‪ ،‬ويأخذ‬
‫أجرة على دعوته‪ .‬فبين اللّه تعالى نزاهة رسوله صلى اهلل عليه وسلم عن هذا األمر فقال‪ُ { :‬ق ْل‬
‫َما َسأَْلتُ ُك ْم ِم ْن أ ْ‬
‫َج ٍر } أي‪ :‬على اتباعكم للحق { فَهَُو لَ ُك ْم } أي‪ :‬فأشهدكم أن ذلك األجر ‪ -‬على‬
‫ي ِإال َعلَى اللَّ ِه َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه ٌ‬
‫يد } أي‪ :‬محيط علمه بما أدعو‬ ‫التقدير ‪ -‬أنه لكم‪ِ { ،‬إ ْن أ ْ‬
‫َج ِر َ‬
‫إليه‪ ،‬فلو كنت كاذبا‪ ،‬ألخذني بعقوبته‪ ،‬وشهيد أيضا على أعمالكم‪ ،‬سيحفظها عليكم‪ ،‬ثم يجازيكم‬
‫بها‪.‬‬
‫ولما بين البراهين الدالة على صحة الحق‪ ،‬وبطالن الباطل‪ ،‬أخبر تعالى أن هذه سنته وعادته أن {‬
‫اط ِل فَي ْدم ُغه فَِإ َذا ُهو َز ِ‬
‫ق علَى اْلب ِ‬ ‫َي ْق ِذ ُ‬
‫ق } ألنه بين من الحق في هذا الموضع‪ ،‬ورد به‬ ‫اه ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ف بِاْل َح ِّ َ‬
‫أقوال المكذبين‪ ،‬ما كان عبرة للمعتبرين‪ ،‬وآية للمتأملين‪.‬‬
‫فإنك كما ترى‪ ،‬كيف اضمحلت أقوال المكذبين‪ ،‬وتبين كذبهم وعنادهم‪ ،‬وظهر الحق وسطع‪،‬‬
‫وبطل الباطل وانقمع‪ ،‬وذلك بسبب بيان { َعالم اْل ُغُي ِ‬
‫وب } الذي يعلم ما تنطوي عليه القلوب‪ ،‬من‬ ‫ُ‬
‫الوساوس والشبه‪ ،‬ويعلم ما يقابل ذلك‪ ،‬ويدفعه من الحجج‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬هيئته‪.‬‬
‫(‪ )2‬في ب‪ :‬وتزجر‪.‬‬

‫( ‪)1/682‬‬

‫ت‬ ‫َض ُّل َعلَى َن ْف ِسي َوإِ ِن ْ‬


‫اهتَ َد ْي ُ‬ ‫ت فَِإَّنما أ ِ‬
‫ضلَْل ُ َ‬ ‫اط ُل َو َما ُي ِع ُ‬
‫يد (‪ُ )49‬ق ْل ِإ ْن َ‬
‫ق وما ي ْب ِدئ اْلب ِ‬
‫اء اْل َح ُّ َ َ ُ ُ َ‬ ‫ُق ْل َج َ‬
‫يب (‪)50‬‬ ‫وحي ِإلَ َّي َربِّي ِإَّنهُ َس ِميعٌ قَ ِر ٌ‬
‫فَبِما ي ِ‬
‫َ ُ‬

‫ت‬ ‫َض ُّل َعلَى َن ْف ِسي َوإِ ِن ْ‬


‫اهتَ َد ْي ُ‬ ‫ت فَِإَّنما أ ِ‬
‫ضلَْل ُ َ‬ ‫يد * ُق ْل ِإ ْن َ‬ ‫اط ُل َو َما ُي ِع ُ‬
‫ق وما ي ْب ِدئ اْلب ِ‬
‫اء اْل َح ُّ َ َ ُ ُ َ‬ ‫{ ُق ْل َج َ‬
‫يب } ‪.‬‬ ‫وحي ِإلَ َّي َربِّي ِإَّنهُ َس ِميعٌ قَ ِر ٌ‬
‫فَبِما ي ِ‬
‫َ ُ‬
‫ق } أي‪ :‬ظهر وبان‪ ،‬وصار بمنزلة‬ ‫اء اْل َح ُّ‬
‫فيعلم بها عباده‪ ،‬ويبينها لهم‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬ق ْل َج َ‬
‫اط ُل َو َما ُي ِع ُ‬
‫يد } أي‪ :‬اضمحل وبطل أمره‪ ،‬وذهب‬ ‫الشمس‪ ،‬وظهر سلطانه‪ { ،‬وما ي ْب ِدئ اْلب ِ‬
‫ََ ُ ُ َ‬
‫سلطانه‪ ،‬فال يبدئ وال يعيد‪.‬‬
‫ولما تبين الحق بما دعا إليه الرسول‪ ،‬وكان المكذبون له‪ ،‬يرمونه بالضالل‪ ،‬أخبرهم بالحق‪،‬‬
‫ووضحه لهم‪ ،‬وبين لهم عجزهم عن مقاومته‪ ،‬وأخبرهم أن رميهم له بالضالل‪ ،‬ليس بضائر الحق‬
‫شيئا‪ ،‬وال دافع ما جاء به‪.‬‬
‫وأنه إن ضل ‪ -‬وحاشاه من ذلك‪ ،‬لكن على سبيل التنزل في المجادلة ‪ -‬فإنما يضل على نفسه‪،‬‬
‫أي‪ :‬ضالله قاصر على نفسه‪ ،‬غير متعد إلى غيره‪.‬‬
‫ت } فليس ذلك من نفسي‪ ،‬وحولي‪ ،‬وقوتي‪ ،‬وإ نما هدايتي بما { ي ِ‬
‫وحي ِإلَ َّي َربِّي } فهو‬ ‫{ َوإِ ِن ْ‬
‫اهتَ َد ْي ُ‬
‫ُ‬
‫مادة هدايتي‪ ،‬كما هو مادة هداية غيري‪ .‬إن ربي { َس ِميعٌ } لألقوال واألصوات كلها { قَ ِر ٌ‬
‫يب }‬
‫ممن دعاه وسأله وعبده‪.‬‬

‫( ‪)1/683‬‬

‫ش ِم ْن‬ ‫َمَّنا بِ ِه َوأََّنى لَهُ ُم التََّن ُاو ُ‬ ‫ٍ‬


‫ان قَ ِريب (‪َ )51‬وقَالُوا آ َ‬ ‫ُخ ُذوا ِم ْن َم َك ٍ‬ ‫ت وأ ِ‬ ‫ِ‬
‫َولَ ْو تََرى إ ْذ فَ ِز ُعوا فَاَل فَ ْو َ َ‬
‫ان َب ِع ٍيد (‪َ )53‬و ِح َ‬
‫يل َب ْيَنهُ ْم َوَب ْي َن َما‬ ‫ون بِاْل َغ ْي ِب ِم ْن َم َك ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫م َك ٍ ِ ٍ‬
‫ان َبعيد (‪َ )52‬وقَ ْد َكفَ ُروا بِه م ْن قَْب ُل َوَي ْقذفُ َ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون َك َما فُع َل بِأَ ْشَياع ِه ْم م ْن قَْب ُل ِإَّنهُ ْم َك ُانوا في َشك ُم ِريب (‪)54‬‬ ‫َي ْشتَهُ َ‬

‫آمَّنا بِ ِه َوأََّنى لَهُ ُم‬ ‫ٍ‬


‫ان قَ ِريب * َوقَالُوا َ‬ ‫ُخ ُذوا ِم ْن َم َك ٍ‬ ‫ت وأ ِ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪َ { } 54 - 51‬ولَ ْو تََرى إ ْذ فَ ِز ُعوا فَال فَ ْو َ َ‬
‫ان َب ِع ٍيد * َو ِح َ‬
‫يل َب ْيَنهُ ْم‬ ‫ون بِاْل َغ ْي ِب ِم ْن َم َك ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ش ِمن م َك ٍ ِ ٍ‬
‫ان َبعيد * َوقَ ْد َكفَ ُروا بِه م ْن قَْب ُل َوَي ْقذفُ َ‬ ‫التَن ُاو ُ ْ َ‬
‫َّ‬
‫ك م ِر ٍ‬‫ٍّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِِ ِ‬
‫يب } ‪.‬‬ ‫ون َك َما فُع َل بأَ ْشَياعه ْم م ْن قَْب ُل إَّنهُ ْم َك ُانوا في َش ُ‬ ‫َوَب ْي َن َما َي ْشتَهُ َ‬
‫يقول تعالى { َولَ ْو تََرى } أيها الرسول‪ ،‬ومن قام مقامك‪ ،‬حال هؤالء المكذبين‪ِ { ،‬إ ْذ فَ ِز ُعوا } حين‬
‫رأوا العذاب‪ ،‬وما أخبرتهم به الرسل‪ ،‬وما كذبوا به‪ ،‬لرأيت أمرا هائال ومنظرا مفظعا‪ ،‬وحالة‬
‫منكرة‪ ،‬وشدة شديدة‪ ،‬وذلك حين يحق عليهم العذاب‪.‬‬
‫[ ص ‪] 684‬‬
‫ُخ ُذوا ِم ْن َم َك ٍ‬
‫ان قَ ِر ٍ‬
‫يب } أي‪ :‬ليس بعيدا عن محل العذاب‪ ،‬بل‬ ‫فليس لهم عنه مهرب وال فوت { وأ ِ‬
‫َ‬
‫يؤخذون‪ ،‬ثم يقذفون في النار‪.‬‬
‫ش } أي‪:‬‬ ‫آمَّنا } باهلل وصدقنا ما به كذبنا { و } لكن { أََّنى لَهُ ُم التََّن ُاو ُ‬
‫{ َوقَالُوا } في تلك الحال‪َ { :‬‬
‫ان َب ِع ٍيد } قد حيل بينهم وبينه‪ ،‬وصار من األمور المحالة في هذه الحالة‪،‬‬ ‫تناول اإليمان { ِم ْن َم َك ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون } أي‪:‬‬ ‫فلو أنهم آمنوا وقت اإلمكان‪ ،‬لكان إيمانهم مقبوال ولكنهم { َكفَ ُروا بِه م ْن قَْب ُل َوَي ْقذفُ َ‬
‫ان َب ِع ٍيد } بقذفهم الباطل‪ ،‬ليدحضوا به الحق‪ ،‬ولكن ال سبيل إلى ذلك‪ ،‬كما‬ ‫يرمون { بِاْل َغ ْي ِب ِم ْن َم َك ٍ‬
‫ال سبيل للرامي‪ ،‬من مكان بعيد إلى إصابة الغرض‪ ،‬فكذلك الباطل‪ ،‬من المحال أن يغلب الحق أو‬
‫يدفعه‪ ،‬وإ نما يكون له صولة‪ ،‬وقت غفلة الحق عنه‪ ،‬فإذا برز الحق‪ ،‬وقاوم الباطل‪ ،‬قمعه‪.‬‬
‫ون } من الشهوات واللذات‪ ،‬واألوالد‪ ،‬واألموال‪ ،‬والخدم‪ ،‬والجنود‪ ،‬قد‬ ‫{ َو ِح َ‬
‫يل َب ْيَنهُ ْم َوَب ْي َن َما َي ْشتَهُ َ‬
‫انفردوا بأعمالهم‪ ،‬وجاءوا فرادى‪ ،‬كما خلقوا‪ ،‬وتركوا ما خولوا‪ ،‬وراء ظهورهم‪َ { ،‬ك َما فُ ِع َل‬
‫اع ِه ْم } من األمم السابقين‪ ،‬حين جاءهم الهالك‪ ،‬حيل بينهم وبين ما يشتهون‪ِ { ،‬إَّنهُ ْم َك ُانوا ِفي‬ ‫بِأَ ْشي ِ‬
‫َ‬
‫ٍّ‬
‫ك م ِر ٍ‬
‫يب } أي‪ :‬محدث الريبة وقلق القلب فلذلك‪ ،‬لم يؤمنوا‪ ،‬ولم يعتبوا حين استعتبوا‪.‬‬ ‫َش ُ‬
‫تم تفسير سورة سبأ ‪ -‬وللّه الحمد والمنة‪ ،‬والفضل‪ ،‬ومنه العون‪ ،‬وعليه التوكل‪ ،‬وبه الثقة‪.‬‬
‫تفسير سورة فاطر وهي مكية‬

‫( ‪)1/683‬‬

‫اع َي ِز ُ‬
‫يد‬ ‫ث َو ُرَب َ‬‫َجنِ َح ٍة َمثَْنى َوثُاَل َ‬
‫اع ِل اْل َماَل ئِ َك ِة ُر ُساًل أُوِلي أ ْ‬ ‫ضج ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َواأْل َْر ِ َ‬
‫َِّ ِ ِ‬
‫اْل َح ْم ُد لله فَاط ِر الس َ‬
‫اس ِم ْن َر ْح َم ٍة فَاَل ُم ْم ِس َ‬
‫ك لَهَا‬ ‫اء ِإ َّن اللَّهَ َعلَى ُك ِّل َشي ٍء قَِد ٌير (‪َ )1‬ما َي ْفتَ ِح اللَّهُ ِل َّلن ِ‬
‫ْ‬
‫ِفي اْل َخْل ِ‬
‫ق َما َي َش ُ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪)2‬‬ ‫َو َما ُي ْمس ْك فَاَل ُم ْرس َل لَهُ م ْن َب ْعده َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬

‫اع ِل اْل َمالئِ َك ِة ُر ُسال‬


‫ضج ِ‬
‫األر ِ َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫َِّ ِ ِ‬ ‫الر ْحم ِن َّ ِ ِ‬
‫الرحيم اْل َح ْم ُد لله فَاط ِر الس َ‬
‫ِ ِ َّ ِ‬
‫{ ‪ { } 2 - 1‬ب ْسم الله َّ َ‬
‫اء ِإ َّن اللَّهَ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير * َما َي ْفتَ ِح‬ ‫يد ِفي اْل َخْل ِ‬
‫ق َما َي َش ُ‬ ‫اع َي ِز ُ‬ ‫َجنِ َح ٍة َمثَْنى َوثُ َ‬
‫الث َو ُرَب َ‬ ‫أُوِلي أ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اس ِم ْن َر ْح َم ٍة فَال ُم ْم ِس َ‬
‫اللَّهُ ِل َّلن ِ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫ك لَهَا َو َما ُي ْمس ْك فَال ُم ْرس َل لَهُ م ْن َب ْعده َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬
‫يمدح اهلل تعالى نفسه الكريمة المقدسة‪ ،‬على خلقه السماوات واألرض‪ ،‬وما اشتملتا عليه من‬
‫المخلوقات‪ ،‬ألن ذلك دليل على كمال قدرته‪ ،‬وسعة ملكه‪ ،‬وعموم رحمته‪ ،‬وبديع حكمته‪ ،‬وإ حاطة‬
‫علمه‪.‬‬
‫اع ِل اْل َمالئِ َك ِة ُر ُسال } في تدبير أوامره‬
‫ولما ذكر الخلق‪ ،‬ذكر بعده ما يتضمن األمر‪ ،‬وهو‪ :‬أنه { ج ِ‬
‫َ‬
‫القدرية‪ ،‬ووسائط بينه وبين خلقه‪ ،‬في تبليغ أوامره الدينية‪.‬‬
‫وفي ذكره أنه جعل المالئكة رسال ولم يستثن منهم أحدا‪ ،‬دليل على كمال طاعتهم لربهم وانقيادهم‬
‫ون }‬ ‫َّ‬
‫ون َما ُي ْؤ َم ُر َ‬ ‫َم َر ُه ْم َوَي ْف َعلُ َ‬
‫ون اللهَ َما أ َ‬
‫ص َ‬‫ألمره‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬ال َي ْع ُ‬
‫ولما كانت المالئكة مدبرات بإذن اللّه‪ ،‬ما جعلهم اللّه موكلين فيه‪ ،‬ذكر قوتهم على ذلك وسرعة‬
‫اع‬ ‫َجنِ َح ٍة } تطير بها‪ ،‬فتسرع بتنفيذ ما أمرت به‪َ { .‬مثَْنى َوثُ َ‬
‫الث َو ُرَب َ‬ ‫سيرهم‪ ،‬بأن جعلهم { أُوِلي أ ْ‬
‫} أي‪ :‬منهم من له جناحان وثالثة وأربعة‪ ،‬بحسب ما اقتضته حكمته‪.‬‬
‫اء } أي‪ :‬يزيد بعض مخلوقاته على بعض‪ ،‬في صفة خلقها‪ ،‬وفي القوة‪،‬‬ ‫يد ِفي اْل َخْل ِ‬
‫ق َما َي َش ُ‬ ‫{ َي ِز ُ‬
‫وفي الحسن‪ ،‬وفي زيادة األعضاء المعهودة‪ ،‬وفي حسن األصوات‪ ،‬ولذة النغمات‪.‬‬
‫{ ِإ َّن اللَّهَ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير } فقدرته تعالى تأتي على ما يشاؤه‪ ،‬وال يستعصي عليها شيء‪ ،‬ومن‬
‫ذلك‪ ،‬زيادة مخلوقاته بعضها على بعض‪.‬‬
‫اس ِم ْن َر ْح َم ٍة فَال ُم ْم ِس َ‬
‫ك لَهَا‬ ‫ثم ذكر انفراده تعالى بالتدبير والعطاء والمنع فقال‪َ { :‬ما َي ْفتَ ِح اللَّهُ ِل َّلن ِ‬
‫َو َما ُي ْم ِس ْك } من رحمته عنهم { فَال ُم ْر ِس َل لَهُ ِم ْن َب ْع ِد ِه } فهذا يوجب التعلق باللّه تعالى‪ ،‬واالفتقار‬
‫إليه من جميع الوجوه‪ ،‬وأن ال يدعى إال هو‪ ،‬وال يخاف ويرجى‪ ،‬إال هو‪َ { .‬و ُه َو اْل َع ِز ُيز } الذي‬
‫يم } الذي يضع األشياء مواضعها وينزلها منازلها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫قهر األشياء كلها { اْل َحك ُ‬

‫( ‪)1/684‬‬

‫ض اَل ِإلَهَ ِإاَّل‬ ‫ق َغ ْير اللَّ ِه ير ُزقُ ُكم ِمن الس ِ‬


‫اء واأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َ‬‫َْ ْ َ َ‬ ‫اس ا ْذ ُك ُروا ن ْع َمةَ الله َعلَْي ُك ْم َه ْل م ْن َخال ٍ ُ‬
‫الن ُ‬‫َيا أَيُّهَا َّ‬
‫ون (‪)3‬‬ ‫ُه َو فَأََّنى تُ ْؤفَ ُك َ‬

‫ق َغْير اللَّ ِه ير ُزقُ ُكم ِمن السَّم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫اء‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َْ‬ ‫اس ا ْذ ُك ُروا ن ْع َمةَ الله َعلَْي ُك ْم َه ْل م ْن َخال ٍ ُ‬ ‫{ ‪َ { } 4 - 3‬يا أَيُّهَا َّ‬
‫الن ُ‬
‫ض ال ِإلَهَ ِإال ُه َو فَأََّنى تُ ْؤفَ ُك َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫األر ِ‬
‫َو ْ‬
‫يأمر تعالى‪ ،‬جميع الناس أن يذكروا نعمته عليهم‪ ،‬وهذا شامل لذكرها بالقلب اعترافا‪ ،‬وباللسان‬
‫ثناء‪ ،‬وبالجوارح انقيادا‪ ،‬فإن ذكر نعمه تعالى داع لشكره‪ ،‬ثم نبههم على أصول النعم‪ ،‬وهي الخلق‬
‫األر ِ‬ ‫ق َغ ْير اللَّ ِه ير ُزقُ ُكم ِمن الس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض}‬ ‫َّماء َو ْ‬
‫َْ ْ َ َ‬ ‫والرزق‪ ،‬فقال‪َ { :‬ه ْل م ْن َخال ٍ ُ‬
‫ولما كان من المعلوم أنه ليس أحد يخلق ويرزق إال اللّه‪ ،‬نتج من ذلك‪ ،‬أن كان ذلك دليال على‬
‫ون } أي‪ :‬تصرفون عن عبادة الخالق‬ ‫ألوهيته وعبوديته‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬ال ِإلَهَ ِإال ُه َو فَأََّنى تُ ْؤفَ ُك َ‬
‫الرازق لعبادة المخلوق المرزوق‪.‬‬

‫( ‪)1/684‬‬

‫ور (‪)4‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫ت ُر ُس ٌل ِم ْن قَْبِل َ‬


‫وك فَقَ ْد ُك ِّذَب ْ‬
‫َوإِ ْن ُي َك ِّذُب َ‬
‫ُم ُ‬
‫ك َوإِلَى الله تُْر َجعُ اأْل ُ‬

‫ور } ‪.‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫ت ُر ُس ٌل ِم ْن قَْبِل َ‬


‫ك فَقَ ْد ُك ِّذَب ْ‬
‫{ َوإِ ْن ُي َك ِّذُبو َ‬
‫األم ُ‬
‫ك َوإِلَى الله تُْر َجعُ ُ‬
‫ت ُر ُس ٌل ِم ْن قَْبِل َ‬
‫ك}‬ ‫ك } يا أيها الرسول‪ ،‬فلك أسوة بمن قبلك من المرسلين‪ { ،‬فَقَ ْد ُك ِّذَب ْ‬ ‫{ َوإِ ْن ُي َك ِّذُبو َ‬
‫ور }‬ ‫َّ ِ‬
‫األم ُ‬
‫فأهلك المكذبون‪ ،‬ونجى اللّه الرسل وأتباعهم‪َ { .‬وإِلَى الله تُْر َجعُ ُ‬

‫( ‪)1/684‬‬
‫ان‬
‫ط َ‬ ‫الد ْنَيا واَل َي ُغ َّرَّن ُكم بِاللَّ ِه اْل َغرور (‪ِ )5‬إ َّن َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫اس ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ‬
‫ق فَاَل تَ ُغ َّرَّن ُك ُم اْل َحَياةُ ُّ‬ ‫َيا أَيُّهَا َّ‬
‫ُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الن ُ‬
‫اب‬
‫ين َكفَ ُروا لَهُ ْم َع َذ ٌ‬ ‫َِّ‬ ‫اب الس ِ‬
‫َّع ِ‬ ‫َص َح ِ‬ ‫لَ ُكم ع ُد ٌّو فَاتَّ ِخ ُذوه ع ُد ًّوا ِإَّنما ي ْدعو ِح ْزبه ِلي ُك ُ ِ‬
‫ير (‪ )6‬الذ َ‬ ‫ونوا م ْن أ ْ‬ ‫َُ َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ َ‬
‫َجٌر َكبِ ٌير (‪)7‬‬ ‫ات لَهُ ْم َم ْغ ِف َرةٌ َوأ ْ‬ ‫َّالح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين آ َ‬
‫َش ِد ٌ َِّ‬
‫يد َوالذ َ‬

‫َّ ِ‬ ‫اس ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ‬


‫ور *‬ ‫الد ْنَيا َوال َي ُغ َّرَّن ُك ْم بِالله اْل َغ ُر ُ‬
‫ق فَال تَ ُغ َّرَّن ُك ُم اْل َحَياةُ ُّ‬
‫َ‬ ‫{ ‪َ { } 7 - 5‬يا أَيُّهَا َّ‬
‫الن ُ‬
‫ين َكفَ ُروا‬ ‫َِّ‬ ‫َّع ِ‬‫اب الس ِ‬ ‫َص َح ِ‬ ‫طان لَ ُكم ع ُد ٌّو فَاتَّ ِخ ُذوه ع ُد ًّوا ِإَّنما ي ْدعو ِح ْزبه ِلي ُك ُ ِ‬ ‫ِإ َّن َّ‬
‫ير * الذ َ‬ ‫ونوا م ْن أ ْ‬ ‫َُ َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫الش ْي َ َ ْ َ‬
‫َجٌر َكبِ ٌير } ‪.‬‬ ‫ات لَهُ ْم َم ْغ ِف َرةٌ َوأ ْ‬ ‫َّالح ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين َ‬
‫اب َش ِد ٌ َِّ‬
‫يد َوالذ َ‬ ‫لَهُ ْم َع َذ ٌ‬
‫ق}‬‫اس ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه } [ ص ‪ ] 685‬بالبعث والجزاء على األعمال‪َ { ،‬ح ٌّ‬ ‫يقول تعالى‪َ { :‬يا أَيُّهَا َّ‬
‫الن ُ‬
‫َ‬
‫أي‪ :‬ال شك فيه‪ ،‬وال مرية‪ ،‬وال تردد‪ ،‬قد دلت على ذلك األدلة السمعية والبراهين العقلية‪ ،‬فإذا كان‬
‫وعده حقا‪ ،‬فتهيئوا له‪ ،‬وبادروا أوقاتكم الشريفة باألعمال الصالحة‪ ،‬وال يقطعكم عن ذلك قاطع‪،‬‬
‫الد ْنَيا } بلذاتها وشهواتها ومطالبها النفسية‪ ،‬فتلهيكم عما خلقتم له‪َ { ،‬وال‬ ‫{ فَال تَ ُغ َّرَّن ُك ُم اْل َحَياةُ ُّ‬
‫ان } الذي هو عدوكم في الحقيقة { فَاتَّ ِخ ُذوهُ َع ُد ًّوا } أي‪:‬‬
‫ط ُ‬ ‫َي ُغ َّرَّن ُكم بِاللَّ ِه اْل َغرور } الذي هو { َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ْ‬
‫لتكن منكم عداوته على بال‪ ،‬وال تهملوا محاربته كل وقت‪ ،‬فإنه يراكم وأنتم ال ترونه‪ ،‬وهو دائما‬
‫لكم بالمرصاد‪.‬‬
‫اب الس ِ‬
‫َّع ِ‬
‫ير } هذا غايته ومقصوده ممن تبعه‪ ،‬أن يهان غاية‬ ‫َص َح ِ‬ ‫{ ِإَّنما ي ْدعو ِح ْزبه ِلي ُك ُ ِ‬
‫ونوا م ْن أ ْ‬ ‫َُ َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫اإلهانة بالعذاب الشديد‪.‬‬
‫ثم ذكر أن الناس انقسموا بحسب طاعة الشيطان وعدمها إلى قسمين‪ ،‬وذكر جزاء كل منهما‪،‬‬
‫اب َش ِد ٌ‬
‫يد }‬ ‫ين َكفَ ُروا } أي‪ :‬جحدوا ما جاءت به الرسل‪ ،‬ودلت عليه الكتب { لَهُ ْم َع َذ ٌ‬ ‫َِّ‬
‫فقال‪ { :‬الذ َ‬
‫في نار جهنم‪ ،‬شديد في ذاته ووصفه‪ ،‬وأنهم خالدون فيها أبدا‪.‬‬
‫آمُنوا } بقلوبهم‪ ،‬بما دعا اللّه إلى اإليمان به { َو َع ِملُوا } بمقتضى ذلك اإليمان‪،‬‬
‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫{ َوالذ َ‬
‫ات لَهُ ْم َم ْغ ِف َرةٌ } لذنوبهم‪ ،‬يزول بها عنهم الشر والمكروه { َوأ ْ‬
‫َجٌر‬ ‫َّالح ِ‬
‫ِ‬
‫بجوارحهم‪ ،‬األعمال { الص َ‬
‫َكبِ ٌير } يحصل به المطلوب‪.‬‬

‫( ‪)1/684‬‬

‫ِ‬ ‫َّ ِ ُّ‬ ‫ِِ‬


‫ك‬
‫ب َن ْف ُس َ‬
‫اء فَاَل تَ ْذ َه ْ‬ ‫وء َع َمله فََرآَهُ َح َسًنا فَِإ َّن اللهَ ُيضل َم ْن َي َش ُ‬
‫اء َوَي ْهدي َم ْن َي َش ُ‬ ‫ِّن لَهُ ُس ُ‬‫أَفَ َم ْن ُزي َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ٍ‬
‫ون (‪)8‬‬
‫صَن ُع َ‬ ‫يم بِ َما َي ْ‬
‫َعلَْي ِه ْم َح َس َرات ِإ َّن اللهَ َعل ٌ‬

‫ِ‬ ‫َّ ِ ُّ‬ ‫ِِ‬


‫ب‬
‫اء فَال تَ ْذ َه ْ‬ ‫وء َع َمله فََرآهُ َح َسًنا فَِإ َّن اللهَ ُيضل َم ْن َي َش ُ‬
‫اء َوَي ْهدي َم ْن َي َش ُ‬ ‫ِّن لَهُ ُس ُ‬
‫{ ‪ { } 8‬أَفَ َم ْن ُزي َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ٍ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫صَن ُع َ‬ ‫يم بِ َما َي ْ‬
‫ك َعلَْي ِه ْم َح َس َرات ِإ َّن اللهَ َعل ٌ‬
‫َن ْف ُس َ‬
‫ِّن لَهُ } عمله السيئ‪ ،‬القبيح‪ ،‬زينه له الشيطان‪ ،‬وحسنه في عينه‪.‬‬
‫يقول تعالى‪ { :‬أَفَ َم ْن ُزي َ‬
‫{ فََرآهُ َح َسًنا } أي‪ :‬كمن هداه اللّه إلى الصراط المستقيم والدين القويم‪ ،‬فهل يستوي هذا وهذا؟‬
‫فاألول‪ :‬عمل السيئ‪ ،‬ورأى الحق باطال والباطل حقا‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬عمل الحسن‪ ،‬ورأى الحق حقا‪ ،‬والباطل باطال ولكن الهداية واإلضالل بيد اللّه تعالى‪،‬‬
‫ك َعلَْي ِه ْم } أي‪ :‬على الضالين الذين زين‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ ُّ‬
‫ب َن ْف ُس َ‬‫اء فَال تَ ْذ َه ْ‬ ‫{ فَِإ َّن اللهَ ُيضل َم ْن َي َش ُ‬
‫اء َوَي ْهدي َم ْن َي َش ُ‬
‫ات } فليس عليك إال البالغ‪ ،‬وليس عليك‬ ‫لهم سوء أعمالهم‪ ،‬وصدهم الشيطان عن الحق { حسر ٍ‬
‫َ ََ‬
‫َّ ِ‬
‫ون }‬ ‫يم بِ َما َي ْ‬
‫صَن ُع َ‬ ‫من هداهم شيء‪ ،‬واهلل [هو] الذي يجازيهم بأعمالهم‪ِ { .‬إ َّن اللهَ َعل ٌ‬

‫( ‪)1/685‬‬

‫ض َب ْع َد َم ْوتِهَا َك َذِل َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬
‫َحَي ْيَنا بِه اأْل َْر َ‬
‫الرياح فَتُثِير سحابا فَس ْقَناه ِإلَى بلٍَد مي ٍ‬
‫ِّت فَأ ْ‬ ‫َ َ‬
‫َّ َِّ‬
‫َواللهُ الذي أ َْر َس َل ِّ َ َ ُ َ َ ً ُ ُ‬
‫ور (‪)9‬‬ ‫ُّ‬
‫الن ُش ُ‬

‫ض َب ْع َد َم ْوتِهَا‬ ‫ِ‬ ‫الرياح فَتُثِير سحابا فَس ْقَناه ِإلَى بلٍَد مي ٍ‬ ‫َّ َِّ‬
‫َحَي ْيَنا بِه ْ‬
‫األر َ‬ ‫ِّت فَأ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫{ ‪َ { } 9‬واللهُ الذي أ َْر َس َل ِّ َ َ ُ َ َ ً ُ ُ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫ك ُّ‬
‫الن ُش ُ‬ ‫َك َذِل َ‬
‫الرياح فَتُثِير سحابا فَس ْقَناه ِإلَى بلٍَد مي ٍ‬
‫ِّت‬ ‫َ َ‬ ‫يخبر تعالى عن كمال اقتداره‪ ،‬وسعة جوده‪ ،‬وأنه { أ َْر َس َل ِّ َ َ ُ َ َ ً ُ ُ‬
‫ض َب ْع َد َم ْوتِهَا }‬ ‫ِ‬
‫َحَي ْيَنا بِه ْ‬
‫األر َ‬ ‫} فأنزله اللّه عليها { فَأ ْ‬
‫ك } الذي أحيا‬ ‫فحييت البالد والعباد‪ ،‬وارتزقت الحيوانات‪ ،‬ورتعت في تلك الخيرات‪َ { ،‬ك َذِل َ‬
‫األرض بعد موتها‪ ،‬ينشر اهلل األموات من قبورهم‪ ،‬بعدما مزقهم البلى‪ ،‬فيسوق إليهم مطرا‪ ،‬كما‬
‫ساقه إلى األرض الميتة‪ ،‬فينزله عليهم فتحيا األجساد واألرواح من القبور‪ ،‬ويأتون للقيام بين يدي‬
‫اهلل ليحكم بينهم‪ ،‬ويفصل بحكمه العدل‪.‬‬

‫( ‪)1/685‬‬

‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫م ْن َكان ي ِر ُ ِ َِّ ِ ِ‬


‫ين‬
‫ِّب َواْل َع َم ُل الصَّال ُح َي ْرفَ ُعهُ َوالذ َ‬
‫ص َع ُد اْل َكل ُم الطي ُ‬‫يعا ِإلَْيه َي ْ‬ ‫يد اْلع َّزةَ َفلله اْلع َّزةُ َجم ً‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫ور (‪)10‬‬ ‫ك ُه َو َيُب ُ‬ ‫يد َو َم ْك ُر أُولَئِ َ‬
‫اب َش ِد ٌ‬
‫ات لَهُ ْم َع َذ ٌ‬‫يم ُكرون السَّيَِّئ ِ‬
‫َْ ُ َ‬

‫ِ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 10‬م ْن َكان ي ِر ُ ِ َِّ ِ ِ‬


‫ِّب َواْل َع َم ُل الصَّال ُح َي ْرفَ ُعهُ‬ ‫يعا ِإلَْيه َي ْ‬
‫ص َع ُد اْل َكل ُم الطي ُ‬ ‫يد اْلع َّزةَ َفلله اْلع َّزةُ َجم ً‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫ور } ‪.‬‬
‫ك ُه َو َيُب ُ‬ ‫يد َو َم ْك ُر أُولَئِ َ‬
‫اب َش ِد ٌ‬ ‫والَِّذين يم ُكرون السَّيَِّئ ِ‬
‫ات لَهُ ْم َع َذ ٌ‬ ‫َ َ َْ ُ َ‬
‫أي‪ :‬يا من يريد العزة‪ ،‬اطلبها ممن هي بيده‪ ،‬فإن العزة بيد اللّه‪ ،‬وال تنال إال بطاعته‪ ،‬وقد ذكرها‬
‫ِ َّ‬ ‫ِ‬
‫ِّب } من قراءة وتسبيح وتحميد وتهليل وكل كالم حسن طيب‪ ،‬فيرفع‬ ‫بقوله‪ِ { :‬إلَْيه َي ْ‬
‫ص َع ُد اْل َكل ُم الطي ُ‬
‫إلى اللّه ويعرض عليه ويثني اللّه على صاحبه بين المأل األعلى { واْلعم ُل الص ِ‬
‫َّال ُح } من أعمال‬ ‫َ ََ‬
‫القلوب وأعمال الجوارح { َي ْرفَ ُعهُ } اللّه تعالى إليه أيضا‪ ،‬كالكلم الطيب‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب‪ ،‬فيكون رفع الكلم الطيب بحسب أعمال العبد الصالحة‪،‬‬
‫فهي التي ترفع كلمه الطيب‪ ،‬فإذا لم يكن له عمل صالح‪ ،‬لم يرفع له قول إلى اللّه تعالى‪ ،‬فهذه‬
‫األعمال التي ترفع إلى اللّه تعالى‪ ،‬ويرفع اللّه صاحبها ويعزه‪.‬‬
‫وأما السيئات فإنها بالعكس‪ ،‬يريد صاحبها الرفعة بها‪ ،‬ويمكر ويكيد ويعود ذلك عليه‪ ،‬وال يزداد‬
‫اب َش ِد ٌ‬
‫يد }‬ ‫إال إهانة ونزوال ولهذا قال‪ { :‬والعمل الصالح يرفعه والَِّذين يم ُكرون السَّيَِّئ ِ‬
‫ات لَهُ ْم َع َذ ٌ‬ ‫َ َ َْ ُ َ‬
‫ور } أي‪ :‬يهلك ويضمحل‪ ،‬وال يفيدهم شيئا‪ ،‬ألنه‬ ‫يهانون فيه غاية اإلهانة‪َ { .‬و َم ْك ُر أُولَئِ َ‬
‫ك ُه َو َيُب ُ‬
‫مكر بالباطل‪ ،‬ألجل الباطل‪.‬‬

‫( ‪)1/685‬‬

‫ضعُ ِإاَّل بِ ِعْل ِم ِه َو َما‬ ‫ِ ِ‬


‫اجا َو َما تَ ْحم ُل م ْن أ ُْنثَى َواَل تَ َ‬
‫اب ثَُّم ِم ْن ُن ْ ٍ‬
‫طفَة ثَُّم َج َعلَ ُك ْم أ َْز َو ً‬ ‫واللَّهُ َخلَقَ ُكم ِم ْن تُر ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ك َعلَى اللَّ ِه َي ِس ٌير (‪)11‬‬ ‫اب ِإ َّن َذِل َ‬
‫ص ِم ْن ُعم ِر ِه ِإاَّل ِفي ِكتَ ٍ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫ُي َع َّم ُر م ْن ُم َع َّم ٍر َواَل ُي ْنقَ ُ‬

‫ضعُ ِإال‬ ‫ِ ِ‬ ‫اب ثَُّم ِم ْن ُن ْ ٍ‬


‫{ ‪ { } 11‬واللَّهُ َخلَقَ ُكم ِم ْن تُر ٍ‬
‫اجا َو َما تَ ْحم ُل م ْن أ ُْنثَى َوال تَ َ‬ ‫طفَة ثَُّم َج َعلَ ُك ْم أ َْز َو ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ك َعلَى اللَّ ِه َي ِس ٌير } ‪.‬‬
‫اب ِإ َّن َذِل َ‬
‫ص ِم ْن ُعم ِر ِه ِإال ِفي ِكتَ ٍ‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫بِعْلمه َو َما ُي َع َّم ُر م ْن ُم َع َّم ٍر َوال ُي ْنقَ ُ‬
‫يذكر تعالى خلقه اآلدمي‪ ،‬وتنقله في هذه األطوار‪ ،‬من تراب إلى نطفة وما بعدها‪.‬‬
‫اجا } أي‪ :‬لم يزل ينقلكم‪ ،‬طورا بعد طور‪ ،‬حتى أوصلكم إلى أن كنتم أزواجا‪،‬‬ ‫{ ثَُّم َج َعلَ ُك ْم أ َْز َو ً‬
‫ذكرا يتزوج أنثى‪ ،‬ويراد بالزواج‪ ،‬الذرية واألوالد‪ ،‬فهو وإ ن كان النكاح من األسباب فيه‪ ،‬فإنه‬
‫ضعُ ِإال بِ ِعْل ِم ِه } وكذلك أطوار‬ ‫ِ ِ‬
‫مقترن بقضاء اللّه وقدره‪ ،‬وعلمه‪َ { ،‬و َما تَ ْحم ُل م ْن أ ُْنثَى َوال تَ َ‬
‫اآلدمي‪ ،‬كلها بعلمه وقضائه‪.‬‬
‫[ ص ‪] 686‬‬
‫ص ِم ْن ُع ُم ِر ِه } أي‪ :‬عمر الذي كان معمرا عمرا طويال { ِإال }‬ ‫ِ‬
‫{ َو َما ُي َع َّم ُر م ْن ُم َع َّم ٍر َوال ُي ْنقَ ُ‬
‫بعلمه تعالى‪ ،‬أو ما ينقص من عمر اإلنسان الذي هو بصدد أن يصل إليه‪ ،‬لوال ما سلكه من‬
‫أسباب قصر العمر‪ ،‬كالزنا‪ ،‬وعقوق الوالدين‪ ،‬وقطيعة األرحام‪ ،‬ونحو ذلك مما ذكر أنها من‬
‫أسباب قصر العمر‪.‬‬
‫والمعنى‪ :‬أن طول العمر وقصره‪ ،‬بسبب وبغير سبب كله بعلمه تعالى‪ ،‬وقد أثبت ذلك { ِفي ِكتَ ٍ‬
‫اب‬
‫} حوى ما يجري على العبد‪ ،‬في جميع أوقاته وأيام حياته‪.‬‬
‫ك َعلَى اللَّ ِه َي ِس ٌير } أي‪ :‬إحاطة علمه بتلك المعلومات الكثيرة‪ ،‬وإ حاطة كتابه فيها‪ ،‬فهذه‬
‫{ ِإ َّن َذِل َ‬
‫ثالثة أدلة من أدلة البعث والنشور‪ ،‬كلها عقلية‪ ،‬نبه اللّه عليها في هذه اآليات‪ :‬إحياء األرض بعد‬
‫موتها‪ ،‬وأن الذي أحياها سيحيي الموتى‪ ،‬وتنقل اآلدمي في تلك األطوار‪.‬‬
‫فالذي أوجده ونقله‪ ،‬طبقا بعد طبق‪ ،‬وحاال بعد حال‪ ،‬حتى بلغ ما قدر له‪ ،‬فهو على إعادته وإ نشائه‬
‫النشأة األخرى أقدر‪ ،‬وهو أهون عليه‪ ،‬وإ حاطة علمه بجميع أجزاء العالم‪ ،‬العلوي والسفلي‪ ،‬دقيقها‬
‫وجليلها‪ ،‬الذي في القلوب‪ ،‬واألجنة التي في البطون‪ ،‬وزيادة األعمار ونقصها‪ ،‬وإ ثبات ذلك كله‬
‫في كتاب‪ .‬فالذي كان هذا [نعته] (‪ )1‬يسيرا عليه‪ ،‬فإعادته لألموات أيسر وأيسر‪ .‬فتبارك من كثر‬
‫خيره‪ ،‬ونبه عباده على ما فيه صالحهم‪ ،‬في معاشهم ومعادهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬هنا جاءت كلمة (نعته) في الهامش ولم يتضح لي محلها بدقة واألقرب أنه هنا‪.‬‬

‫( ‪)1/685‬‬

‫ِ‬ ‫ب فُر ٌ ِ‬
‫ط ِريًّا‬ ‫اج َو ِم ْن ُك ٍّل تَْأ ُكلُ َ‬
‫ون لَ ْح ًما َ‬ ‫ُج ٌ‬ ‫ات َسائغٌ َش َر ُابهُ َو َه َذا مْل ٌح أ َ‬ ‫َو َما َي ْستَِوي اْلَب ْح َر ِ‬
‫ان َه َذا َع ْذ ٌ َ‬
‫ون (‪ُ )12‬يوِل ُج‬ ‫اخر ِلتَْبتَ ُغوا ِم ْن فَ ْ ِ ِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ونها وتَرى اْل ُفْل َ ِ ِ‬ ‫وتَستَ ْخ ِرج ِ‬
‫ضله َولَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ‬ ‫ك فيه َم َو َ‬ ‫ون حْلَيةً تَْلَب ُس َ َ َ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ِ َّ‬ ‫النهار ِفي اللَّْي ِل و َس َّخر َّ‬ ‫اللَّْي َل ِفي َّ‬
‫َج ٍل ُم َس ًّمى َذل ُك ُم اللهُ‬ ‫الش ْم َس َواْلقَ َم َر ُك ٌّل َي ْج ِري أِل َ‬ ‫َ َ‬ ‫النهَ ِار َوُيوِل ُج َّ َ َ‬
‫اء ُك ْم‬ ‫ير (‪ِ )13‬إ ْن تَ ْد ُع ُ‬
‫وه ْم اَل َي ْس َم ُعوا ُد َع َ‬ ‫ط ِم ٍ‬
‫ون ِم ْن ِق ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك والَِّذين تَ ْدع ِ‬
‫ون م ْن ُدونِه َما َي ْمل ُك َ‬
‫َرُّب ُك ْم لَهُ اْل ُمْل ُ َ َ ُ َ‬
‫ير (‪)14‬‬ ‫ك ِمثْ ُل َخبِ ٍ‬ ‫ون بِ ِش ْر ِك ُك ْم َواَل ُيَنبُِّئ َ‬ ‫ولَو س ِمعوا ما استَجابوا لَ ُكم ويوم اْل ِقي ِ‬
‫امة َي ْكفُُر َ‬
‫ْ َ َْ َ َ َ‬ ‫َ ْ َ ُ َ ْ َُ‬

‫اج َو ِم ْن ُك ٍّل‬
‫ُج ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ب فُر ٌ ِ‬ ‫{ ‪َ { } 14 - 12‬و َما َي ْستَِوي اْلَب ْح َر ِ‬
‫ات َسائغٌ َش َر ُابهُ َو َه َذا مْل ٌح أ َ‬ ‫ان َه َذا َع ْذ ٌ َ‬
‫ضِل ِه َولَ َعلَّ ُك ْم‬
‫اخ َر ِلتَْبتَ ُغوا ِم ْن فَ ْ‬ ‫يه مو ِ‬ ‫ونها وتَرى اْل ُفْل َ ِ ِ‬
‫ك ف ََ‬
‫ط ِريًّا وتَستَ ْخ ِرج ِ‬
‫ون حْلَيةً تَْلَب ُس َ َ َ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ون لَ ْح ًما َ َ ْ‬ ‫تَْأ ُكلُ َ‬
‫الش ْم َس َواْلقَ َم َر ُك ٌّل َي ْج ِري َ‬
‫ألج ٍل‬ ‫النهار ِفي اللَّْي ِل و َس َّخر َّ‬ ‫ون * ُيوِل ُج اللَّْي َل ِفي َّ‬
‫َ َ‬ ‫النهَ ِار َوُيوِل ُج َّ َ َ‬ ‫تَ ْش ُك ُر َ‬
‫وه ْم ال‬ ‫ير * ِإ ْن تَ ْد ُع ُ‬ ‫ط ِم ٍ‬
‫ون ِم ْن ِق ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك والَِّذين تَ ْدع ِ‬
‫ون م ْن ُدونِه َما َي ْمل ُك َ‬
‫ِ َّ‬
‫ُم َس ًّمى َذل ُك ُم اللهُ َرُّب ُك ْم لَهُ اْل ُمْل ُ َ َ ُ َ‬
‫ير } ‪.‬‬ ‫ك ِمثْ ُل َخبِ ٍ‬ ‫ون بِ ِش ْر ِك ُك ْم َوال ُيَنبُِّئ َ‬ ‫يسمعوا ُدعاء ُكم ولَو س ِمعوا ما استَجابوا لَ ُكم ويوم اْل ِقي ِ‬
‫امة َي ْكفُُر َ‬‫ْ َ َْ َ َ َ‬ ‫َ َ َْ ْ َ ُ َ ْ َُ‬ ‫َ َُْ‬
‫هذا إخبار عن قدرته وحكمته ورحمته‪ ،‬أنه جعل البحرين لمصالح العالم األرضي كلهم‪ ،‬وأنه لم‬
‫يسو بينهما‪ ،‬ألن المصلحة تقتضي أن تكون األنهار عذبة فراتا‪ ،‬سائغا شرابها‪ ،‬لينتفع بها‬
‫ِّ‬
‫الشاربون والغارسون والزارعون‪ ،‬وأن يكون البحر ملحا أجاجا‪ ،‬لئال يفسد الهواء المحيط‬
‫باألرض بروائح ما يموت في البحر من الحيوانات وألنه ساكن ال يجري‪ ،‬فملوحته تمنعه من‬
‫التغير‪ ،‬ولتكون حيواناته أحسن وألذ‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬و ِم ْن ُك ٍل } من البحر الملح والعذب { تَْأ ُكلُ َ‬
‫ون‬
‫ونهَا } من لؤلؤ‬ ‫ون ِحْلَيةً تَْلَب ُس َ‬
‫ط ِريًّا } وهو السمك المتيسر صيده في البحر‪َ { ،‬وتَ ْستَ ْخ ِر ُج َ‬
‫لَ ْح ًما َ‬
‫ومرجان وغيرهما‪ ،‬مما يوجد في البحر‪ ،‬فهذه مصالح عظيمة للعباد‪.‬‬
‫ومن المصالح أيضا والمنافع في البحر‪ ،‬أن سخره اللّه تعالى يحمل الفلك من السفن والمراكب‪،‬‬
‫فتراها تمخر البحر وتشقه‪ ،‬فتسلك من إقليم إلى إقليم آخر‪ ،‬ومن محل إلى محل‪ ،‬فتحمل السائرين‬
‫وأثقالهم وتجاراتهم‪ ،‬فيحصل بذلك من فضل اللّه وإ حسانه شيء كثير‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وِلتَْبتَ ُغوا ِم ْن‬
‫ون }‬ ‫فَ ْ ِ ِ َّ‬
‫ضله َولَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ‬
‫ومن ذلك أيضا‪ ،‬إيالجه تعالى الليل بالنهار والنهار بالليل‪ ،‬يدخل هذا على هذا‪ ،‬وهذا على هذا‪،‬‬
‫كلما أتى أحدهما ذهب اآلخر‪ ،‬ويزيد أحدهما وينقص اآلخر‪ ،‬ويتساويان‪ ،‬فيقوم بذلك ما يقوم من‬
‫مصالح العباد في أبدانهم وحيواناتهم وأشجارهم وزروعهم‪.‬‬
‫وكذلك ما جعل اللّه في تسخير الشمس والقمر‪ ،‬الضياء والنور‪ ،‬والحركة والسكون‪ ،‬وانتشار‬
‫العباد في طلب فضله‪ ،‬وما فيهما من تنضيج الثمار وتجفيف ما يجفف (‪ )1‬وغير ذلك مما هو من‬
‫ق الناس الضرر‪.‬‬‫الضروريات‪ ،‬التي لو فقدت لَلَ ِح َ‬
‫وقوله‪ُ { :‬ك ٌّل َي ْج ِري َ‬
‫ألج ٍل ُم َس ًّمى } أي‪ :‬كل من الشمس والقمر‪ ،‬يسيران في فلكهما ما شاء اللّه أن‬
‫يسيرا‪ ،‬فإذا جاء األجل‪ ،‬وقرب انقضاء الدنيا‪ ،‬انقطع سيرهما‪ ،‬وتعطل سلطانهما‪ ،‬وخسف القمر‪،‬‬
‫وكورت الشمس‪ ،‬وانتثرت النجوم‪.‬‬
‫فلما بين تعالى ما بيَّن من هذه المخلوقات العظيمة‪ ،‬وما فيها من العبر الدالة على كماله وإ حسانه‪،‬‬
‫ك } أي‪ :‬الذي انفرد بخلق هذه المذكورات وتسخيرها‪ ،‬هو الرب‬ ‫قال‪َ { :‬ذِل ُك ُم اللَّهُ َرُّب ُك ْم لَهُ اْل ُمْل ُ‬
‫المألوه المعبود‪ ،‬الذي له الملك كله‪.‬‬
‫ط ِم ٍ‬
‫ير } أي‪ :‬ال يملكون شيئا‪،‬‬ ‫ون ِم ْن ِق ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون م ْن ُدونِه } من األوثان واألصنام { َما َي ْمل ُك َ‬
‫{ والَِّذين تَ ْدع ِ‬
‫َ َ ُ َ‬
‫ال قليال وال كثيرا‪ ،‬حتى وال القطمير الذي هو أحقر األشياء‪ ،‬وهذا من تنصيص النفي وعمومه‪،‬‬
‫فكيف ُي ْد َع ْو َن‪ ،‬وهم غير مالكين لشيء من ملك السماوات واألرض؟‬
‫[ ص ‪] 687‬‬
‫وه ْم } ال يسمعوكم ألنهم ما بين جماد وأموات ومالئكة مشغولين بطاعة ربهم‪.‬‬ ‫ومع هذا { ِإ ْن تَ ْد ُع ُ‬
‫استَ َج ُابوا لَ ُك ْم } ألنهم ال يملكون شيئا‪ ،‬وال يرضى‬ ‫ِ‬
‫{ َولَ ْو َسم ُعوا } على وجه الفرض والتقدير { َما ْ‬
‫ون بِ ِش ْر ِك ُك ْم } أي‪ :‬يتبرأون منكم‪،‬‬ ‫أكثرهم بعبادة من عبده‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬ويوم اْل ِقي ِ‬
‫امة َي ْكفُُر َ‬
‫َ َْ َ َ َ‬
‫ت َوِليَُّنا ِم ْن ُدونِ ِه ْم }‬
‫ك أ َْن َ‬
‫ويقولون‪ُ { :‬س ْب َح َان َ‬
‫ير } أي‪ :‬ال أحد ينبئك‪ ،‬أصدق من اهلل العليم الخبير‪ ،‬فاجزم بأن هذا األمر‪،‬‬ ‫ك ِمثْ ُل َخبِ ٍ‬ ‫{ َوال ُيَنبُِّئ َ‬
‫ْي عين‪ ،‬فال تشك فيه وال تمتر‪ .‬فتضمنت هذه اآليات‪ ،‬األدلة والبراهين‬
‫الذي نبأ به كأنه َرأ ُ‬
‫الساطعة‪ ،‬الدالة على أنه تعالى المألوه المعبود‪ ،‬الذي ال يستحق شيئا من العبادة سواه‪ ،‬وأن عبادة‬
‫ما سواه باطلة متعلقة بباطل‪ ،‬ال تفيد عابده شيئا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في‪ :‬ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬وتخفيف ما يخفف‪.‬‬

‫( ‪)1/686‬‬

‫ق َج ِد ٍيد (‬ ‫ْت بِ َخْل ٍ‬‫يد (‪ِ )15‬إ ْن ي َش ْأ ي ْذ ِه ْب ُكم ويأ ِ‬


‫ْ ََ‬ ‫َ ُ‬ ‫اء ِإلَى اللَّ ِه َواللَّهُ ُه َو اْل َغنِ ُّي اْل َح ِم ُ‬ ‫اس أ َْنتُُم اْلفُقََر ُ‬ ‫َيا أَيُّهَا َّ‬
‫الن ُ‬
‫ُخ َرى َوإِ ْن تَ ْدعُ ُمثَْقلَةٌ ِإلَى ِح ْمِلهَا اَل‬ ‫يز (‪َ )17‬واَل تَ ِز ُر َو ِاز َرةٌ ِو ْز َر أ ْ‬ ‫ك َعلَى اللَّ ِه بِ َع ِز ٍ‬ ‫‪َ )16‬و َما َذِل َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ َِّ‬ ‫ِ‬
‫الصاَل ةَ َو َم ْن‬
‫اموا َّ‬ ‫ان َذا قُْرَبى ِإَّن َما تُْنذ ُر الذ َ‬
‫ين َي ْخ َش ْو َن َربَّهُ ْم باْل َغ ْيب َوأَقَ ُ‬ ‫ُي ْح َم ْل م ْنهُ َش ْي ٌء َولَ ْو َك َ‬
‫ص ُير (‪)18‬‬ ‫تََز َّكى فَِإَّنما يتََز َّكى ِلَن ْف ِس ِه وإِلَى اللَّ ِه اْلم ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬

‫يد * ِإ ْن ي َش ْأ ي ْذ ِه ْب ُكم ويأ ِ‬


‫ْت‬ ‫اء ِإلَى اللَّ ِه َواللَّهُ ُه َو اْل َغنِ ُّي اْل َح ِم ُ‬ ‫{ ‪َ { } 18 - 15‬يا أَيُّهَا َّ‬
‫ْ ََ‬ ‫َ ُ‬ ‫اس أ َْنتُُم اْلفُقََر ُ‬‫الن ُ‬
‫ُخ َرى َوإِ ْن تَ ْدعُ ُمثَْقلَةٌ ِإلَى ِح ْمِلهَا‬ ‫يز * َوال تَ ِز ُر َو ِاز َرةٌ ِو ْز َر أ ْ‬ ‫ك َعلَى اللَّ ِه بِ َع ِز ٍ‬
‫ق َج ِد ٍيد * َو َما َذِل َ‬ ‫بِ َخْل ٍ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ َِّ‬ ‫ِ‬
‫اموا الصَّالةَ َو َم ْن‬ ‫ين َي ْخ َش ْو َن َربَّهُ ْم باْل َغ ْيب َوأَقَ ُ‬ ‫ان َذا قُْرَبى ِإَّن َما تُْنذ ُر الذ َ‬ ‫ال ُي ْح َم ْل م ْنهُ َش ْي ٌء َولَ ْو َك َ‬
‫ص ُير } ‪.‬‬‫تََز َّكى فَِإَّنما يتََز َّكى ِلَن ْف ِس ِه وإِلَى اللَّ ِه اْلم ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫يخاطب تعالى جميع الناس‪ ،‬ويخبرهم بحالهم ووصفهم‪ ،‬وأنهم فقراء إلى اللّه من جميع الوجوه‪:‬‬
‫فقراء في إيجادهم‪ ،‬فلوال إيجاده إياهم‪ ،‬لم يوجدوا‪.‬‬
‫فقراء في إعدادهم بالقوى واألعضاء والجوارح‪ ،‬التي لوال إعداده إياهم [بها]‪ ،‬لما استعدوا ألي‬
‫عمل كان‪.‬‬
‫فقراء في إمدادهم باألقوات واألرزاق والنعم الظاهرة والباطنة‪ ،‬فلوال فضله وإ حسانه وتيسيره‬
‫األمور‪ ،‬لما حصل [لهم] من الرزق والنعم شيء‪.‬‬
‫فقراء في صرف النقم عنهم‪ ،‬ودفع المكاره‪ ،‬وإ زالة الكروب والشدائد‪ .‬فلوال دفعه عنهم‪ ،‬وتفريجه‬
‫لكرباتهم‪ ،‬وإ زالته لعسرهم‪ ،‬الستمرت عليهم المكاره والشدائد‪.‬‬
‫فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية‪ ،‬وأجناس التدبير‪.‬‬
‫فقراء إليه‪ ،‬في تألههم له‪ ،‬وحبهم له‪ ،‬وتعبدهم‪ ،‬وإ خالص العبادة له تعالى‪ ،‬فلو لم يوفقهم لذلك‪،‬‬
‫لهلكوا‪ ،‬وفسدت أرواحهم‪ ،‬وقلوبهم وأحوالهم‪.‬‬
‫فقراء إليه‪ ،‬في تعليمهم ما ال يعلمون‪ ،‬وعملهم بما يصلحهم‪ ،‬فلوال تعليمه‪ ،‬لم يتعلموا‪ ،‬ولوال‬
‫توفيقه‪ ،‬لم يصلحوا‪.‬‬
‫فهم فقراء بالذات إليه‪ ،‬بكل معنى‪ ،‬وبكل اعتبار‪ ،‬سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا‪،‬‬
‫ولكن الموفق منهم‪ ،‬الذي ال يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه‪ ،‬ويتضرع له‪،‬‬
‫ويسأله أن ال يكله إلى نفسه طرفة عين‪ ،‬وأن يعينه على جميع أموره‪ ،‬ويستصحب هذا المعنى في‬
‫كل وقت‪ ،‬فهذا أحرى باإلعانة التامة من ربه وإ لهه‪ ،‬الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها‪.‬‬
‫يد } أي‪ :‬الذي له الغنى التام من جميع الوجوه‪ ،‬فال يحتاج إلى ما يحتاج إليه‬‫{ َواللَّهُ ُه َو اْل َغنِ ُّي اْل َح ِم ُ‬
‫خلقه‪ ،‬وال يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق‪ ،‬وذلك لكمال صفاته‪ ،‬وكونها كلها‪ ،‬صفات كمال‪،‬‬
‫ونعوت وجالل‪.‬‬
‫ومن غناه تعالى‪ ،‬أن أغنى الخلق في الدنيا واآلخرة‪ ،‬الحميد في ذاته‪ ،‬وأسمائه‪ ،‬ألنها حسنى‪،‬‬
‫وأوصافه‪ ،‬لكونها عليا‪ ،‬وأفعاله ألنها فضل وإ حسان وعدل وحكمة ورحمة‪ ،‬وفي أوامره ونواهيه‪،‬‬
‫فهو الحميد على ما فيه‪ ،‬وعلى ما منه‪ ،‬وهو الحميد في غناه [الغني في حمده]‪.‬‬
‫ق َج ِد ٍيد } يحتمل أن المراد‪ :‬إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بغيركم من‬ ‫{ ِإ ْن ي َش ْأ ي ْذ ِه ْب ُكم ويأ ِ‬
‫ْت بِ َخْل ٍ‬ ‫ْ ََ‬ ‫َ ُ‬
‫الناس‪ ،‬أطوع للّه منكم‪ ،‬ويكون في هذا تهديد لهم بالهالك واإلبادة‪ ،‬وأن مشيئته غير قاصرة عن‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ويحتمل أن المراد بذلك‪ ،‬إثبات البعث والنشور‪ ،‬وأن مشيئة اللّه تعالى نافذة في كل شيء‪ ،‬وفي‬
‫إعادتكم بعد موتكم خلقا جديدا‪ ،‬ولكن لذلك الوقت أجل قدره اللّه‪ ،‬ال يتقدم عنه وال يتأخر‪.‬‬
‫يز } أي‪ :‬بممتنع‪ ،‬وال معجز له‪.‬‬ ‫ك َعلَى اللَّ ِه بِ َع ِز ٍ‬
‫{ َو َما َذِل َ‬
‫ُخ َرى } أي‪ :‬في يوم‬ ‫ويدل على المعنى األخير‪ ،‬ما ذكره بعده في قوله‪َ { :‬وال تَ ِز ُر َو ِاز َرةٌ ِو ْز َر أ ْ‬
‫القيامة كل أحد يجازى بعمله‪ ،‬وال يحمل أحد ذنب أحد‪َ { .‬وإِ ْن تَ ْدعُ ُمثَْقلَةٌ } أي‪ :‬نفس مثقلة‬
‫ان َذا‬ ‫ِ‬
‫بالخطايا والذنوب‪ ،‬تستغيث بمن يحمل عنها بعض أوزارها { ال ُي ْح َم ْل م ْنهُ َش ْي ٌء َولَ ْو َك َ‬
‫قُْرَبى } فإنه ال يحمل عن قريب‪ ،‬فليست حال اآلخرة بمنزلة حال الدنيا‪ ،‬يساعد الحميم حميمه‪،‬‬
‫والصديق صديقه‪ ،‬بل يوم القيامة‪ ،‬يتمنى العبد أن يكون له حق على أحد‪ ،‬ولو على والديه‬
‫وأقاربه‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ َِّ‬
‫اموا الصَّالةَ } أي‪ :‬هؤالء الذين يقبلون النذارة‬ ‫{ ِإَّن َما تُْنذ ُر الذ َ‬
‫ين َي ْخ َش ْو َن َربَّهُ ْم باْل َغ ْيب َوأَقَ ُ‬
‫وينتفعون بها‪ ،‬أهل الخشية للّه بالغيب‪ ،‬أي‪ :‬الذين يخشونه في حال السر والعالنية‪ ،‬والمشهد‬
‫والمغيب‪ ،‬وأهل إقامة الصالة‪ ،‬بحدودها وشروطها وأركانها وواجباتها وخشوعها‪ ،‬ألن الخشية‬
‫للّه تستدعي من العبد العمل بما يخشى من تضييعه العقاب‪ ،‬والهرب مما يخشى من ارتكابه [ ص‬
‫‪ ] 688‬العذاب‪ ،‬والصالة تدعو إلى الخير‪ ،‬وتنهى عن الفحشاء والمنكر‪.‬‬
‫{ َو َم ْن تََز َّكى فَِإَّن َما َيتََز َّكى ِلَن ْف ِس ِه } أي‪ :‬ومن زكى نفسه بالتنقِّي من العيوب‪ ،‬كالرياء والكبر‪،‬‬
‫والكذب والغش‪ ،‬والمكر والخداع والنفاق‪ ،‬ونحو ذلك من األخالق الرذيلة‪ ،‬وتحلَّى باألخالق‬
‫الجميلة‪ ،‬من الصدق‪ ،‬واإلخالص‪ ،‬والتواضع‪ ،‬ولين الجانب‪ ،‬والنصح للعباد‪ ،‬وسالمة الصدر من‬
‫الحقد والحسد وغيرهما من مساوئ األخالق‪ ،‬فإن تزكيته يعود نفعها إليه‪ ،‬ويصل مقصودها إليه‪،‬‬
‫ليس يضيع من عمله شيء‪.‬‬
‫{ وإِلَى اللَّ ِه اْلم ِ‬
‫ص ُير } فيجازي الخالئق على ما أسلفوه‪ ،‬ويحاسبهم على ما قدموه وعملوه‪ ،‬وال‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يغادر صغيرة وال كبيرة إال أحصاها‪.‬‬

‫( ‪)1/687‬‬

‫ِّ ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫َعمى واْلب ِ‬


‫ور (‪)21‬‬ ‫ور (‪َ )20‬واَل الظل َواَل اْل َح ُر ُ‬ ‫ات َواَل ُّ‬
‫الن ُ‬ ‫ص ُير (‪َ )19‬واَل الظلُ َم ُ‬ ‫َو َما َي ْستَِوي اأْل ْ َ َ َ‬
‫ت بِ ُم ْس ِم ٍع َم ْن ِفي اْلقُُب ِ‬
‫ور (‪ِ )22‬إ ْن‬ ‫اء َو َما أ َْن َ‬ ‫َّ ِ‬
‫ات ِإ َّن اللهَ ُي ْسمعُ َم ْن َي َش ُ‬ ‫اء َواَل اأْل َْم َو ُ‬ ‫َو َما َي ْستَِوي اأْل ْ‬
‫َحَي ُ‬
‫ُم ٍة ِإاَّل َخاَل ِفيهَا َن ِذ ٌير (‪)24‬‬
‫ق َب ِش ًيرا َوَن ِذ ًيرا َوإِ ْن ِم ْن أ َّ‬ ‫ت ِإاَّل َن ِذ ٌير (‪ِ )23‬إَّنا أ َْر َسْلَنا َ‬
‫ك بِاْل َح ِّ‬ ‫أ َْن َ‬

‫ور * َوال الظِّ ُّل َوال‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬


‫ات َوال ُّ‬
‫الن ُ‬ ‫ير * َوال الظلُ َم ُ‬ ‫األع َمى َواْلَبص ُ‬ ‫{ ‪َ { } 24 - 19‬و َما َي ْستَِوي ْ‬
‫ت بِ ُم ْس ِم ٍع َم ْن ِفي اْلقُُب ِ‬
‫ور‬ ‫اء َو َما أ َْن َ‬ ‫َّ ِ‬
‫ات ِإ َّن اللهَ ُي ْسمعُ َم ْن َي َش ُ‬ ‫األم َو ُ‬‫اء َوال ْ‬ ‫ور * َو َما َي ْستَِوي ْ‬
‫األحَي ُ‬ ‫اْل َح ُر ُ‬
‫ُم ٍة ِإال َخال ِفيهَا َن ِذ ٌير } ‪.‬‬ ‫ق َب ِش ًيرا َوَن ِذ ًيرا َوإِ ْن ِم ْن أ َّ‬ ‫ت ِإال َن ِذ ٌير * ِإَّنا أ َْر َسْلَنا َ‬
‫ك بِاْل َح ِّ‬ ‫* ِإ ْن أ َْن َ‬
‫يخبر تعالى أنه ال يتساوى األضداد في حكمة اللّه‪ ،‬وفيما أودعه في فطر عباده‪َ { .‬و َما َي ْستَِوي‬
‫ور َو َما َي ْستَِوي‬ ‫ِّ ُّ‬ ‫ات َوال ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫األعمى } فاقد البصر { واْلب ِ‬
‫ور َوال الظل َوال اْل َح ُر ُ‬ ‫الن ُ‬ ‫ص ُير َوال الظلُ َم ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬
‫ات } فكما أنه من المتقرر عندكم‪ ،‬الذي ال يقبل الشك‪ ،‬أن هذه المذكورات ال‬ ‫األم َو ُ‬
‫اء َوال ْ‬ ‫األحَي ُ‬
‫ْ‬
‫تتساوى‪ ،‬فكذلك فلتعلموا أن عدم تساوي المتضادات المعنوية أولى وأولى‪.‬‬
‫فال يستوي المؤمن والكافر‪ ،‬وال المهتدي والضال‪ ،‬وال العالم والجاهل‪ ،‬وال أصحاب الجنة‬
‫وأصحاب النار‪ ،‬وال أحياء القلوب وأمواتها‪ ،‬فبين هذه األشياء من التفاوت والفرق ما ال يعلمه إال‬
‫اللّه تعالى‪ ،‬فإذا علمت المراتب‪ ،‬وميزت األشياء‪ ،‬وبان الذي ينبغي أن يتنافس في تحصيله من‬
‫ضده‪ ،‬فليختر الحازم لنفسه‪ ،‬ما هو أولى به وأحقها باإليثار‪.‬‬
‫ت بِ ُم ْس ِم ٍع َم ْن‬
‫اء } سماع فهم وقبول‪ ،‬ألنه تعالى هو الهادي الموفق { َو َما أ َْن َ‬ ‫َّ ِ‬
‫{ ِإ َّن اللهَ ُي ْسمعُ َم ْن َي َش ُ‬
‫ور } أي‪ :‬أموات القلوب‪ ،‬أو كما أن دعاءك ال يفيد سكان القبور شيئا‪ ،‬كذلك ال يفيد‬ ‫ِفي اْلقُُب ِ‬
‫المعرض المعاند شيئا‪ ،‬ولكن وظيفتك النذارة‪ ،‬وإ بالغ ما أرسلت به‪ ،‬قبل منك أم ال‪.‬‬
‫ق } أي مجرد إرسالنا إياك بالحق ألن اللّه تعالى‬ ‫ت ِإال َن ِذ ٌير * ِإَّنا أ َْر َسْلَنا َ‬
‫ك بِاْل َح ِّ‬ ‫ولهذا قال‪ِ { :‬إ ْن أ َْن َ‬
‫بعثك على حين فترة من الرسل وطموس من السبل واندراس من العلم وضرورة عظيمة إلى‬
‫بعثك فبعثك اللّه رحمة للعالمين‬
‫وكذلك ما بعثناك به من الدين القويم والصراط المستقيم حق ال باطل وكذلك ما أرسلناك به من‬
‫هذا القرآن العظيم وما اشتمل عليه من الذكر الحكيم حق وصدق { َب ِش ًيرا } لمن أطاعك بثواب‬
‫اللّه العاجل واآلجل { َوَن ِذ ًيرا } لمن عصاك بعقاب اللّه العاجل واآلجل ولست ببدع من الرسل‬
‫ُم ٍة } من األمم الماضية والقرون الخالية { ِإال َخال ِفيهَا َن ِذ ٌير } يقيم عليهم حجة اللّه‬ ‫فما { ِم ْن أ َّ‬
‫ك َع ْن َبيَِّن ٍة َوَي ْحَيا َم ْن َح َّي َع ْن َبيَِّن ٍة }‬
‫ك َم ْن َهلَ َ‬ ‫{ ِلَي ْهِل َ‬

‫( ‪)1/688‬‬

‫اب اْل ُمنِ ِ‬


‫ير (‪ )25‬ثَُّم‬ ‫الزُب ِر وبِاْل ِكتَ ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ات وبِ ُّ‬ ‫ِ‬ ‫وك فَقَ ْد َك َّذب الَِّذ ِ ِ‬
‫ين م ْن قَْبل ِه ْم َج َ‬
‫اءتْهُ ْم ُر ُسلُهُ ْم باْلَبيَِّن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َوإِ ْن ُي َك ِّذُب َ‬
‫ير (‪)26‬‬ ‫ان َن ِك ِ‬
‫ف َك َ‬
‫ين َكفَ ُروا فَ َك ْي َ‬ ‫َخ ْذ ُ َِّ‬
‫ت الذ َ‬ ‫أَ‬

‫الزُب ِر وبِاْل ِكتَ ِ‬


‫اب‬ ‫ات وبِ ُّ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك فَقَ ْد َك َّذب الَِّذ ِ ِ‬
‫ين م ْن قَْبل ِه ْم َج َ‬ ‫{ ‪َ { } 26 - 25‬وإِ ْن ُي َك ِّذُبو َ‬
‫َ‬ ‫اءتْهُ ْم ُر ُسلُهُ ْم باْلَبيَِّن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ير } ‪.‬‬ ‫ان َن ِك ِ‬
‫ف َك َ‬
‫ين َكفَ ُروا فَ َك ْي َ‬ ‫َخ ْذ ُ َِّ‬
‫ت الذ َ‬ ‫اْل ُمنِ ِ‬
‫ير * ثَُّم أ َ‬
‫ين ِم ْن‬ ‫أي‪ :‬وإ ن يكذبك أيها الرسول‪ ،‬هؤالء المشركون‪ ،‬فلست أول رسول كذب‪ { ،‬فَقَ ْد َك َّذ َِّ‬
‫ب الذ َ‬ ‫َ‬
‫ات } الداالت على الحق‪ ،‬وعلى صدقهم فيما أخبروهم به‪ { ،‬و ُّ‬
‫بالزُب ِر }‬ ‫قَْبِل ِهم جاءتْهم رسلُهم بِاْلبيَِّن ِ‬
‫َ‬ ‫ْ َ َ ُْ ُ ُ ُْ َ‬
‫ير } أي‪ :‬المضيء في‬ ‫اب اْل ُمنِ ِ‬
‫أي‪ :‬الكتب المكتوبة‪ ،‬المجموع فيها كثير من األحكام‪ { ،‬واْل ِكتَ ِ‬
‫َ‬
‫أخباره الصادقة‪ ،‬وأحكامه العادلة‪ ،‬فلم يكن تكذيبهم إياهم ناشئا عن اشتباه‪ ،‬أو قصور بما جاءتهم‬
‫به الرسل‪ ،‬بل بسبب ظلمهم وعنادهم‪.‬‬
‫ان َن ِك ِ‬
‫ير } عليهم؟ كان أشد النكير وأعظم‬ ‫ف َك َ‬
‫ين َكفَ ُروا } بأنواع العقوبات { فَ َك ْي َ‬ ‫َخ ْذ ُ َِّ‬
‫ت الذ َ‬ ‫{ ثَُّم أ َ‬
‫التنكيل‪ ،‬فإياكم وتكذيب هذا الرسول الكريم‪ ،‬فيصيبكم كما أصاب أولئك‪ ،‬من العذاب األليم‬
‫والخزي الوخيم‪.‬‬

‫( ‪)1/688‬‬

‫يض‬ ‫ال ُج َد ٌد بِ ٌ‬ ‫ات م ْختَِلفًا أَْلو ُانها و ِم َن اْل ِجَب ِ‬


‫ٍ‬ ‫ِِ‬ ‫َن اللَّه أ َْن َز َل ِمن الس ِ‬
‫أَلَ ْم تََر أ َّ َ‬
‫َ َ َ‬ ‫َخ َر ْجَنا به ثَ َم َر ُ‬
‫اء فَأ ْ‬
‫َّماء َم ً‬ ‫َ َ‬
‫ف أَْل َو ُانهُ َك َذِل َ‬
‫ك ِإَّن َما‬ ‫اب َواأْل َْن َع ِام ُم ْختَِل ٌ‬ ‫اس و َّ‬
‫الد َو ِّ‬ ‫ود (‪ )27‬و ِم َن َّ ِ‬
‫الن َ‬ ‫َ‬ ‫يب ُس ٌ‬ ‫َو ُح ْمٌر ُم ْختَِل ٌ‬
‫ف أَْل َو ُانهَا َو َغ َرابِ ُ‬
‫َّ‬ ‫َّ ِ ِ ِ ِ‬
‫ور (‪)28‬‬ ‫اء ِإ َّن اللهَ َع ِز ٌيز َغفُ ٌ‬
‫َي ْخ َشى اللهَ م ْن عَباده اْل ُعلَ َم ُ‬

‫ات ُم ْختَِلفًا أَْل َو ُانهَا َو ِم َن‬


‫َخر ْجَنا بِ ِه ثَمر ٍ‬
‫ََ‬ ‫اء فَأ ْ َ‬
‫َن اللَّه أ َْن َز َل ِمن الس ِ‬
‫َّماء َم ً‬
‫َ َ‬ ‫{ ‪ { } 28 - 27‬أَلَ ْم تََر أ َّ َ‬
‫األن َع ِام ُم ْختَِل ٌ‬
‫ف‬ ‫اب َو ْ‬ ‫ود * و ِم َن َّ ِ‬
‫اس و َّ‬
‫الد َو ِّ‬ ‫الن َ‬ ‫يب ُس ٌ َ‬ ‫يض َو ُح ْمٌر ُم ْختَِل ٌ‬
‫ف أَْل َو ُانهَا َو َغ َرابِ ُ‬ ‫اْل ِجَب ِ‬
‫ال ُج َد ٌد بِ ٌ‬
‫َّ‬ ‫َّ ِ ِ ِ ِ‬ ‫أَْل َو ُانهُ َك َذِل َ‬
‫اء ِإ َّن اللهَ َع ِز ٌيز َغفُ ٌ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫ك ِإَّن َما َي ْخ َشى اللهَ م ْن عَباده اْل ُعلَ َم ُ‬
‫يذكر تعالى خلقه لألشياء المتضادات‪ ،‬التي أصلها واحد‪ ،‬ومادتها واحدة‪ ،‬وفيها من التفاوت‬
‫والفرق ما هو مشاهد معروف‪ ،‬ليدل العباد على كمال قدرته وبديع حكمته‪.‬‬
‫فمن ذلك‪ :‬أن اللّه تعالى أنزل من السماء ماء‪ ،‬فأخرج به من الثمرات المختلفات‪ ،‬والنباتات‬
‫المتنوعات‪ ،‬ما هو مشاهد للناظرين‪ ،‬والماء واحد‪ ،‬واألرض واحدة‪.‬‬
‫ومن ذلك‪ :‬الجبال التي جعلها اللّه أوتادا لألرض‪ ،‬تجدها جباال مشتبكة‪ ،‬بل جبال واحدا‪ ،‬وفيها‬
‫ألوان متعددة‪ ،‬فيها جدد بيض‪ ،‬أي‪ :‬طرائق بيض‪ ،‬وفيها طرائق صفر وحمر‪ ،‬وفيها غرابيب‬
‫سود‪ ،‬أي‪ :‬شديدة السواد جدا‪.‬‬
‫ومن ذلك‪ :‬الناس والدواب‪ ،‬واألنعام‪ ،‬فيها من اختالف األلوان واألوصاف واألصوات والهيئات‪،‬‬
‫ما هو مرئي باألبصار‪ ،‬مشهود للنظار‪ ،‬والكل من أصل واحد ومادة واحدة‪.‬‬
‫فتفاوتها دليل عقلي على مشيئة اللّه تعالى‪ ،‬التي خصصت ما خصصت منها‪ ،‬بلونه‪ ،‬ووصفه‪،‬‬
‫وقدرة اللّه تعالى حيث أوجدها كذلك‪ ،‬وحكمته ورحمته‪ ،‬حيث كان ذلك االختالف‪ ،‬وذلك التفاوت‪،‬‬
‫فيه من المصالح والمنافع‪ ،‬ومعرفة الطرق‪ ،‬ومعرفة الناس بعضهم بعضا‪ ،‬ما هو معلوم‪.‬‬
‫وذلك أيضا‪ ،‬دليل على سعة علم اللّه تعالى‪ ،‬وأنه يبعث من في القبور‪ ،‬ولكن الغافل ينظر في هذه‬
‫األشياء وغيرها نظر غفلة ال تحدث له [ ص ‪ ] 689‬التذكر‪ ،‬وإ نما ينتفع بها من يخشى اللّه‬
‫تعالى‪ ،‬ويعلم بفكره الصائب وجه الحكمة فيها‪.‬‬
‫َّ ِ ِ ِ ِ‬
‫ولهذا قال‪ِ { :‬إَّن َما َي ْخ َشى اللهَ م ْن عَباده اْل ُعلَ َم ُ‬
‫اء } فكل من كان باللّه أعلم‪ ،‬كان أكثر له خشية‪،‬‬
‫وأوجبت له خشية اللّه‪ ،‬االنكفاف عن المعاصي‪ ،‬واالستعداد للقاء من يخشاه‪ ،‬وهذا دليل على‬
‫ِ َّ‬
‫فضيلة العلم‪ ،‬فإنه داع إلى خشية اللّه‪ ،‬وأهل خشيته هم أهل كرامته‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬رض َي اللهُ‬
‫ك ِل َم ْن َخ ِش َي َربَّهُ }‬
‫ضوا َع ْنهُ َذِل َ‬
‫َعْنهُ ْم َو َر ُ‬
‫{ ِإ َّن اللَّهَ َع ِز ٌيز } كامل العزة‪ ،‬ومن عزته خلق هذه المخلوقات المتضادات‪.‬‬
‫ور } لذنوب التائبين‪.‬‬
‫{ َغفُ ٌ‬

‫( ‪)1/688‬‬

‫ون تِ َج َارةً لَ ْن‬ ‫ِ‬ ‫الصاَل ةَ وأ َْنفَقُوا ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ‬


‫اه ْم س ًّرا َو َعاَل نَيةً َي ْر ُج َ‬ ‫َ‬ ‫اموا َّ َ‬
‫َّ ِ‬
‫اب الله َوأَقَ ُ‬
‫ِإ َّن الَِّذين ي ْتلُ ِ‬
‫ون كتَ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫يد ُهم ِم ْن فَ ْ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ور (‪)30‬‬ ‫ضله ِإَّنهُ َغفُ ٌ‬
‫ور َش ُك ٌ‬ ‫ور ُه ْم َوَي ِز َ ْ‬
‫ُج َ‬ ‫ور (‪ )29‬لُي َوفَِّيهُ ْم أ ُ‬
‫تَُب َ‬
‫اه ْم ِس ًّرا َو َعالنَِيةً‬
‫اموا الصَّالةَ َوأ َْنفَقُوا ِم َّما َر َز ْقَن ُ‬ ‫َّ ِ‬
‫اب الله َوأَقَ ُ‬
‫{ ‪ِ { } 30 - 29‬إ َّن الَِّذين ي ْتلُ ِ‬
‫ون كتَ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫يد ُهم ِم ْن فَ ْ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يرج ِ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫ور َش ُك ٌ‬ ‫ضله ِإَّنهُ َغفُ ٌ‬ ‫ور ُه ْم َوَي ِز َ ْ‬ ‫ور * لُي َوفَِّيهُ ْم أ ُ‬
‫ُج َ‬ ‫ون ت َج َارةً لَ ْن تَُب َ‬
‫َْ ُ َ‬
‫اب اللَّ ِه } أي‪ :‬يتبعونه في أوامره فيمتثلونها‪ ،‬وفي نواهيه فيتركونها‪ ،‬وفي‬ ‫{ ِإ َّن الَِّذين ي ْتلُ ِ‬
‫ون كتَ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫أخباره‪ ،‬فيصدقونها ويعتقدونها‪ ،‬وال يقدمون عليه ما خالفه من األقوال‪ ،‬ويتلون أيضا ألفاظه‪،‬‬
‫بدراسته‪ ،‬ومعانيه‪ ،‬بتتبعها واستخراجها‪.‬‬
‫ثم خص من التالوة بعد ما عم‪ ،‬الصالة التي هي عماد الدين‪ ،‬ونور المسلمين‪ ،‬وميزان اإليمان‪،‬‬
‫وعالمة صدق اإلسالم‪ ،‬والنفقة على األقارب والمساكين واليتامى وغيرهم‪ ،‬من الزكاة والكفارات‬
‫والنذور والصدقات‪ِ { .‬س ًّرا َو َعالنَِيةً } في جميع األوقات‪.‬‬
‫ور } أي‪ :‬لن تكسد وتفسد‪ ،‬بل تجارة‪ ،‬هي أجل التجارات‬ ‫ِ‬
‫ون } [بذلك] { ت َج َارةً لَ ْن تَُب َ‬
‫{ َي ْر ُج َ‬
‫وأعالها وأفضلها‪ ،‬أال وهي رضا ربهم‪ ،‬والفوز بجزيل ثوابه‪ ،‬والنجاة من سخطه وعقابه‪ ،‬وهذا‬
‫فيه أنهم يخلصون (‪ )1‬بأعمالهم‪ ،‬وأنهم ال يرجون بها من المقاصد السيئة والنيات الفاسدة شيئا‪.‬‬
‫ِ‬
‫ور ُه ْم } أي‪ :‬أجور أعمالهم‪ ،‬على حسب قلتها‬ ‫وذكر أنهم حصل لهم ما رجوه فقال‪ { :‬لُي َوفَِّيهُ ْم أ ُ‬
‫ُج َ‬
‫يد ُهم ِم ْن فَ ْ ِ ِ‬
‫ور } غفر‬ ‫ضله } زيادة عن أجورهم‪ِ { .‬إَّنهُ َغفُ ٌ‬
‫ور َش ُك ٌ‬ ‫وكثرتها‪ ،‬وحسنها وعدمه‪َ { ،‬وَي ِز َ ْ‬
‫لهم السيئات‪ ،‬وقبل منهم القليل من الحسنات‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬اإلخالص‪.‬‬

‫( ‪)1/689‬‬

‫ق مص ِّدقًا ِلما ب ْين ي َد ْي ِه ِإ َّن اللَّه بِ ِعب ِاد ِه لَ َخبِير ب ِ‬ ‫ك ِم َن اْل ِكتَ ِ‬‫َوالَِّذي أ َْو َح ْيَنا ِإلَْي َ‬
‫ص ٌير (‪ )31‬ثَُّم‬ ‫ٌ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫اب ُه َو اْل َح ُّ ُ َ‬
‫ات‬‫ق بِاْل َخ ْير ِ‬
‫ص ٌد َو ِم ْنهُ ْم َسابِ ٌ‬ ‫ظ ِالم ِلَن ْف ِس ِه و ِم ْنهم م ْقتَ ِ‬ ‫أَورثَْنا اْل ِكتَاب الَِّذين اص َ ِ ِ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُْ ُ‬ ‫طفَْيَنا م ْن عَبادَنا فَم ْنهُ ْم َ ٌ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬
‫َس ِاو َر م ْن َذ َه ٍب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ض ُل اْل َكبِ ُير (‪َ )32‬جَّن ُ‬
‫ات َع ْد ٍن َي ْد ُخلُ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫بِِإ ْذ ِن الله َذل َ‬
‫ونهَا ُي َحل ْو َن فيهَا م ْن أ َ‬ ‫ك ُه َو اْلفَ ْ‬
‫َِّ ِ َِّ‬ ‫ِ‬
‫ور (‬ ‫ور َش ُك ٌ‬ ‫ب َعَّنا اْل َح َز َن ِإ َّن َربََّنا لَ َغفُ ٌ‬‫اسهُ ْم فيهَا َح ِر ٌير (‪َ )33‬وقَالُوا اْل َح ْم ُد لله الذي أَ ْذ َه َ‬ ‫َولُ ْؤلُ ًؤا َوِلَب ُ‬
‫وب (‪)35‬‬ ‫ب َواَل َي َمسَُّنا ِفيهَا لُ ُغ ٌ‬ ‫صٌ‬ ‫ِ‬ ‫‪ )34‬الَِّذي أَحلََّنا َدار اْلمقَام ِة ِم ْن فَ ْ ِ ِ‬
‫ضله اَل َي َمسَُّنا فيهَا َن َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ‬

‫ص ِّدقًا ِل َما َب ْي َن َي َد ْي ِه ِإ َّن اللَّهَ بِ ِعَب ِاد ِه لَ َخبِ ٌير‬


‫ق ُم َ‬ ‫اب ُهو اْل َح ُّ‬
‫َ‬
‫ك ِم َن اْل ِكتَ ِ‬
‫{ ‪َ { } 35 - 31‬والَِّذي أ َْو َح ْيَنا ِإلَْي َ‬
‫ص ٌد َو ِم ْنهُ ْم َسابِ ٌ‬
‫ق‬ ‫ظ ِالم ِلَن ْف ِس ِه و ِم ْنهم م ْقتَ ِ‬ ‫صير * ثَُّم أَورثَْنا اْل ِكتَاب الَِّذين اص َ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ُْ ُ‬ ‫طفَْيَنا م ْن عَبادَنا فَم ْنهُ ْم َ ٌ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َب ٌ‬
‫َس ِاو َر ِم ْن‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫ونهَا ُي َحل ْو َن فيهَا م ْن أ َ‬ ‫ات َع ْد ٍن َي ْد ُخلُ َ‬‫ض ُل اْل َكبِ ُير * َجَّن ُ‬ ‫ك ُه َو اْلفَ ْ‬ ‫ات بِِإ ْذ ِن اللَّ ِه َذِل َ‬
‫بِاْل َخ ْير ِ‬
‫َ‬
‫َِّ ِ َِّ‬ ‫ِ‬
‫ور‬
‫ور َش ُك ٌ‬ ‫ب َعَّنا اْل َح َز َن ِإ َّن َربََّنا لَ َغفُ ٌ‬ ‫اسهُ ْم فيهَا َح ِر ٌير * َوقَالُوا اْل َح ْم ُد لله الذي أَ ْذ َه َ‬ ‫َذ َه ٍب َولُ ْؤلُ ًؤا َوِلَب ُ‬
‫ب َوال َي َمسَُّنا ِفيهَا لُ ُغ ٌ‬
‫وب } ‪.‬‬ ‫صٌ‬ ‫ِ‬ ‫* الَِّذي أَحلََّنا َدار اْلمقَام ِة ِم ْن فَ ْ ِ ِ‬
‫ضله ال َي َمسَُّنا فيهَا َن َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ق } من كثرة ما اشتمل عليه من الحق‪،‬‬ ‫يذكر تعالى أن الكتاب الذي أوحاه إلى رسوله { ُهو اْل َح ُّ‬
‫َ‬
‫كأن الحق منحصر فيه‪ ،‬فال يكن في قلوبكم حرج منه‪ ،‬وال تتبرموا منه‪ ،‬وال تستهينوا به‪ ،‬فإذا كان‬
‫هو الحق‪ ،‬لزم أن كل ما دل عليه من المسائل اإللهية والغيبية وغيرها‪ ،‬مطابق لما في الواقع‪ ،‬فال‬
‫يجوز أن يراد به ما يخالف ظاهره وما دل عليه‪.‬‬
‫ص ِّدقًا ِل َما َب ْي َن َي َد ْي ِه } من الكتب والرسل‪ ،‬ألنها أخبرت به‪ ،‬فلما وجد وظهر‪ ،‬ظهر به صدقها‪.‬‬
‫{ ُم َ‬
‫فهي بشرت به وأخبرت‪ ،‬وهو صدقها‪ ،‬ولهذا ال يمكن أحدا أن يؤمن بالكتب السابقة‪ ،‬وهو كافر‬
‫بالقرآن أبدا‪ ،‬ألن كفره به‪ ،‬ينقض إيمانه بها‪ ،‬ألن من جملة أخبارها الخبر عن القرآن‪ ،‬وألن‬
‫أخبارها مطابقة ألخبار القرآن‪.‬‬
‫ص ٌير } فيعطي كل أمة وكل شخص‪ ،‬ما هو الالئق بحاله‪ .‬ومن ذلك‪ ،‬أن‬ ‫{ ِإ َّن اللَّه بِ ِعب ِاد ِه لَ َخبِير ب ِ‬
‫ٌ َ‬ ‫َ َ‬
‫الشرائع السابقة ال تليق إال بوقتها وزمانها‪ ،‬ولهذا‪ ،‬ما زال اللّه يرسل الرسل رسوال بعد رسول‪،‬‬
‫حتى ختمهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬فجاء بهذا الشرع‪ ،‬الذي يصلح لمصالح الخلق إلى يوم‬
‫القيامة‪ ،‬ويتكفل بما هو الخير في كل وقت‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬لما كانت هذه األمة أكمل األمم عقوال وأحسنهم أفكارا‪ ،‬وأرقهم قلوبا‪ ،‬وأزكاهم أنفسا‪،‬‬
‫اصطفاهم اهلل تعالى‪ ،‬واصطفى لهم دين اإلسالم‪ ،‬وأورثهم الكتاب المهيمن على سائر الكتب‪،‬‬
‫ظ ِال ٌم ِلَن ْف ِس ِه }‬
‫طفَْيَنا ِم ْن ِعَب ِادَنا } وهم هذه األمة‪ { .‬فَ ِم ْنهُ ْم َ‬
‫اص َ‬
‫ين ْ‬
‫ولهذا قال‪ { :‬ثَُّم أَورثَْنا اْل ِكتَ َِّ‬
‫اب الذ َ‬
‫َ‬ ‫َْ‬
‫ص ٌد } مقتصر على ما يجب عليه‪ ،‬تارك للمحرم‪.‬‬ ‫بالمعاصي‪[ ،‬التي] هي دون الكفر‪ { .‬و ِم ْنهم م ْقتَ ِ‬
‫َ ُْ ُ‬
‫ات } أي‪ :‬سارع فيها واجتهد‪ ،‬فسبق غيره‪ ،‬وهو المؤدي للفرائض‪ ،‬المكثر‬ ‫ق بِاْل َخ ْير ِ‬‫{ َو ِم ْنهُ ْم َسابِ ٌ‬
‫َ‬
‫من النوافل‪ ،‬التارك للمحرم والمكروه‪.‬‬
‫فكلهم اصطفاه اللّه تعالى‪ ،‬لوراثة هذا الكتاب‪ ،‬وإ ن تفاوتت مراتبهم‪ ،‬وتميزت أحوالهم‪ ،‬فلكل منهم‬
‫قسط من وراثته‪ ،‬حتى الظالم لنفسه‪ ،‬فإن ما معه من أصل اإليمان‪ ،‬وعلوم اإليمان‪ ،‬وأعمال‬
‫اإليمان‪ ،‬من وراثة الكتاب‪ ،‬ألن المراد بوراثة الكتاب‪ ،‬وراثة علمه وعمله‪ ،‬ودراسة ألفاظه‪،‬‬
‫واستخراج معانيه‪.‬‬
‫وقوله { بِِإ ْذ ِن اللَّ ِه } راجع إلى السابق إلى الخيرات‪ ،‬لئال يغتر بعمله‪ ،‬بل ما سبق إلى الخيرات إال‬
‫بتوفيق اللّه تعالى ومعونته‪ ،‬فينبغي له أن يشتغل بشكر اللّه تعالى على ما أنعم به عليه‪.‬‬
‫ض ُل اْل َكبِ ُير } أي‪ :‬وراثة الكتاب الجليل‪ ،‬لمن اصطفى تعالى من عباده‪ ،‬هو الفضل‬ ‫{ َذِل َ‬
‫ك ُه َو اْلفَ ْ‬
‫الكبير‪ ،‬الذي جميع النعم بالنسبة إليه‪ ،‬كالعدم‪ ،‬فأجل النعم على اإلطالق‪ ،‬وأكبر الفضل‪ ،‬وراثة هذا‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫ونهَا } أي‪ [ :‬ص ‪ ] 690‬جنات‬ ‫ات َع ْد ٍن َي ْد ُخلُ َ‬
‫ثم ذكر جزاء الذين أورثهم كتابه فقال‪َ { :‬جَّن ُ‬
‫مشتمالت على األشجار‪ ،‬والظل‪ ،‬والظليل‪ ،‬والحدائق الحسنة‪ ،‬واألنهار المتدفقة‪ ،‬والقصور‬
‫العالية‪ ،‬والمنازل المزخرفة‪ ،‬في أبد ال يزول‪ ،‬وعيش ال ينفد‪.‬‬
‫والعدن "اإلقامة" فجنات عدن أي‪ :‬جنات إقامة‪ ،‬أضافها لإلقامة‪ ،‬ألن اإلقامة والخلود وصفها‬
‫ووصف أهلها‪.‬‬
‫َس ِاو َر ِم ْن َذ َه ٍب } وهو الحلي الذي يجعل في اليدين‪ ،‬على ما يحبون‪ ،‬ويرون‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫{ ُي َحل ْو َن فيهَا م ْن أ َ‬
‫أنه أحسن من غيره‪ ،‬الرجال والنساء في الحلية في الجنة سواء‪.‬‬
‫اسهُ ْم ِفيهَا َح ِر ٌير } من سندس‪ ،‬ومن‬‫{ و } يحلون فيها { لُ ْؤلُ ًؤا } ينظم في ثيابهم وأجسادهم‪َ { .‬وِلَب ُ‬
‫إستبرق أخضر‪.‬‬
‫ب َعَّنا اْل َح َز َن } وهذا يشمل كل‬ ‫َِّ ِ َِّ‬
‫{ و } لما تم نعيمهم‪ ،‬وكملت لذتهم { قَالُوا اْل َح ْم ُد لله الذي أَ ْذ َه َ‬
‫حزن‪ ،‬فال حزن يعرض لهم بسبب نقص في جمالهم‪ ،‬وال في طعامهم وشرابهم‪ ،‬وال في لذاتهم‬
‫وال في أجسادهم‪ ،‬وال في دوام لبثهم‪ ،‬فهم في نعيم ما يرون عليه مزيدا‪ ،‬وهو في تزايد أبد اآلباد‪.‬‬
‫ور } حيث قبل منا الحسنات وضاعفها‪ ،‬وأعطانا‬
‫ور } حيث غفر لنا الزالت { َش ُك ٌ‬‫{ ِإ َّن َربََّنا لَ َغفُ ٌ‬
‫من فضله ما لم تبلغه أعمالنا وال أمانينا‪ ،‬فبمغفرته نجوا من كل مكروه ومرهوب‪ ،‬وبشكره‬
‫وفضله حصل لهم كل مرغوب محبوب‪.‬‬
‫ام ِة } أي‪:‬‬
‫َحلَنا } أي‪ :‬أنزلنا نزول حلول واستقرار‪ ،‬ال نزول معبر واعتبار‪َ { .‬د َار اْل ُمقَ َ‬
‫{ الَِّذي أ َّ‬
‫َ‬
‫الدار التي تدوم فيها اإلقامة‪ ،‬والدار التي يرغب في المقام فيها‪ ،‬لكثرة خيراتها‪ ،‬وتوالي مسراتها‪،‬‬
‫ضِل ِه } علينا وكرمه‪ ،‬ال بأعمالنا‪ ،‬فلوال فضله‪ ،‬لما وصلنا‬ ‫وزوال كدوراتها‪ ،‬وذلك اإلحالل { ِم ْن فَ ْ‬
‫إلى ما وصلنا إليه‪.‬‬
‫ب َوال َي َمسَُّنا ِفيهَا لُ ُغ ٌ‬
‫وب } أي‪ :‬ال تعب في األبدان وال في القلب والقوى‪ ،‬وال‬ ‫صٌ‬ ‫ِ‬
‫{ ال َي َمسَُّنا فيهَا َن َ‬
‫في كثرة التمتع‪ ،‬وهذا يدل على أن اللّه تعالى يجعل أبدانهم في نشأة كاملة‪ ،‬ويهيئ لهم من أسباب‬
‫الراحة على الدوام‪ ،‬ما يكونون بهذه الصفة‪ ،‬بحيث ال يمسهم نصب وال لغوب‪ ،‬وال هم وال حزن‪.‬‬
‫ويدل على أنهم ال ينامون في الجنة‪ ،‬ألن النوم فائدته زوال التعب‪ ،‬وحصول الراحة به‪ ،‬وأهل‬
‫الجنة بخالف ذلك‪ ،‬وألنه موت أصغر‪ ،‬وأهل الجنة ال يموتون‪ ،‬جعلنا اللّه منهم‪ ،‬بمنه وكرمه‪.‬‬

‫( ‪)1/689‬‬

‫ك َن ْج ِزي ُك َّل‬ ‫ف َع ْنهُ ْم ِم ْن َع َذابِهَا َك َذِل َ‬ ‫ضى َعلَْي ِه ْم فََي ُموتُوا َواَل ُي َخفَّ ُ‬ ‫ين َكفَ ُروا لَهُ ْم َن ُار َجهََّن َم اَل ُي ْق َ‬
‫َِّ‬
‫َوالذ َ‬
‫ص ِال ًحا َغْي َر الَِّذي ُكَّنا َن ْع َم ُل أ ََولَ ْم ُن َع ِّم ْر ُك ْم َما‬ ‫ون ِفيهَا َربََّنا أ ْ‬
‫َخ ِر ْجَنا َن ْع َم ْل َ‬ ‫ط ِر ُخ َ‬ ‫صَ‬ ‫ور (‪َ )36‬و ُه ْم َي ْ‬ ‫َكفُ ٍ‬
‫صٍ‬ ‫الن ِذير فَ ُذوقُوا فَما ِللظَّ ِال ِمين ِم ْن َن ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫ير (‪)37‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اء ُك ُم َّ ُ‬ ‫َيتَ َذك ُر فيه َم ْن تَ َذك َر َو َج َ‬
‫ف َعْنهُ ْم ِم ْن َع َذابِهَا‬ ‫ضى َعلَْي ِه ْم فََي ُموتُوا َوال ُي َخفَّ ُ‬ ‫ين َكفَ ُروا لَهُ ْم َن ُار َجهََّن َم ال ُي ْق َ‬
‫َِّ‬
‫{ ‪َ { } 37 - 36‬والذ َ‬
‫ص ِال ًحا َغْي َر الَِّذي ُكَّنا َن ْع َم ُل‬ ‫ون ِفيهَا َربََّنا أ ْ‬
‫َخ ِر ْجَنا َن ْع َم ْل َ‬ ‫ط ِر ُخ َ‬‫صَ‬ ‫ك َن ْج ِزي ُك َّل َكفُ ٍ‬
‫ور * َو ُه ْم َي ْ‬ ‫َك َذِل َ‬
‫صٍ‬ ‫الن ِذير فَ ُذوقُوا فَما ِللظَّ ِال ِمين ِم ْن َن ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫ير } ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اء ُك ُم َّ ُ‬‫أ ََولَ ْم ُن َع ِّم ْر ُك ْم َما َيتَ َذك ُر فيه َم ْن تَ َذك َر َو َج َ‬
‫ين َكفَ ُروا } أي‪:‬‬ ‫َِّ‬
‫لما ذكر تعالى حال أهل الجنة ونعيمهم‪ ،‬ذكر حال أهل النار وعذابهم فقال‪َ { :‬والذ َ‬
‫جحدوا ما جاءتهم به رسلهم من اآليات‪ ،‬وأنكروا لقاء ربهم‪.‬‬
‫ضى َعلَْي ِه ْم } بالموت { فََي ُموتُوا }‬
‫{ لَهُ ْم َن ُار َجهََّن َم } يعذبون فيها أشد العذاب‪ ،‬وأبلغ العقاب‪ { .‬ال ُي ْق َ‬
‫ف َع ْنهُ ْم ِم ْن َع َذابِهَا } فشدة العذاب وعظمه‪ ،‬مستمر عليهم في جميع اآلنات‬ ‫فيستريحوا‪َ { ،‬وال ُي َخفَّ ُ‬
‫واللحظات‪.‬‬
‫ون ِفيهَا } أي‪ :‬يصرخون ويتصايحون ويستغيثون‬ ‫ط ِر ُخ َ‬ ‫صَ‬‫ور َو ُه ْم َي ْ‬‫ك َن ْج ِزي ُك َّل َكفُ ٍ‬‫{ َك َذِل َ‬
‫ص ِال ًحا َغْي َر الَِّذي ُكَّنا َن ْع َم ُل } فاعترفوا بذنبهم‪ ،‬وعرفوا أن اللّه‬
‫َخ ِر ْجَنا َن ْع َم ْل َ‬
‫ويقولون‪َ { :‬ربََّنا أ ْ‬
‫عدل فيهم‪ ،‬ولكن سألوا الرجعة في غير وقتها‪ ،‬فيقال لهم‪ { :‬أ ََولَ ْم ُن َع ِّم ْر ُك ْم َما } أي‪ :‬دهرا وعمرا {‬
‫يه َم ْن تَ َذ َّك َر } أي‪ :‬يتمكن فيه من أراد التذكر من العمل‪ ،‬متعناكم في الدنيا‪ ،‬وأدررنا عليكم‬ ‫يتَ َذ َّكر ِف ِ‬
‫َ ُ‬
‫األرزاق‪ ،‬وقيضنا لكم أسباب الراحة‪ ،‬ومددنا (‪ )1‬لكم في العمر‪ ،‬وتابعنا عليكم اآليات‪ ،‬وأوصلنا‬
‫إليكم النذر‪ ،‬وابتليناكم بالسراء والضراء‪ ،‬لتنيبوا إلينا وترجعوا إلينا‪ ،‬فلم ينجع فيكم إنذار‪ ،‬ولم تفد‬
‫فيكم موعظة‪ ،‬وأخرنا عنكم العقوبة‪ ،‬حتى إذا انقضت آجالكم‪ ،‬وتمت أعماركم‪ ،‬ورحلتم عن دار‬
‫اإلمكان‪ ،‬بأشر الحاالت‪ ،‬ووصلتم إلى هذه الدار دار الجزاء على األعمال‪ ،‬سألتم الرجعة؟ هيهات‬
‫هيهات‪ ،‬فات وقت اإلمكان‪ ،‬وغضب عليكم الرحيم الرحمن‪ ،‬واشتد عليكم عذاب النار‪ ،‬ونسيكم‬
‫ين‬ ‫ِ َّ ِ ِ‬
‫أهل الجنة‪ ،‬فامكثوا فيها خالدين مخلدين‪ ،‬وفي العذاب مهانين‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَ ُذوقُوا فَ َما للظالم َ‬
‫ير } ينصرهم فيخرجهم منها‪ ،‬أو يخفف عنهم من عذابها‪.‬‬ ‫صٍ‬‫ِم ْن َن ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في‪ :‬ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬مدينا‪.‬‬

‫( ‪)1/690‬‬

‫ض ِإَّنه عِليم بِ َذ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬


‫ُّد ِ‬
‫ور (‪)38‬‬ ‫ات الص ُ‬ ‫َّم َاوات َواأْل َْر ِ ُ َ ٌ‬
‫إ َّن اللهَ َعال ُم َغ ْيب الس َ‬

‫ض ِإَّنه عِليم بِ َذ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬


‫ُّد ِ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫ات الص ُ‬ ‫األر ِ ُ َ ٌ‬ ‫{ ‪ { } 38‬إ َّن اللهَ َعال ُم َغ ْيب الس َ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫لما ذكر تعالى جزاء أهل الدارين‪ ،‬وذكر أعمال الفريقين‪ ،‬أخبر تعالى عن سعة علمه تعالى‪،‬‬
‫واطالعه على غيب السماوات واألرض‪ ،‬التي غابت عن أبصار الخلق وعن علمهم‪ ،‬وأنه عالم‬
‫بالسرائر‪ ،‬وما تنطوي عليه الصدور من الخير والشر والزكاء وغيره‪ ،‬فيعطي كال ما يستحقه‪،‬‬
‫وينزل كل أحد منزلته‪.‬‬

‫( ‪)1/690‬‬

‫يد اْل َك ِاف ِرين ُك ْفر ُهم ِع ْن َد رِّب ِهم ِإاَّل‬


‫ض فَ َم ْن َكفََر فَ َعلَْي ِه ُك ْف ُرهُ َواَل َي ِز ُ‬
‫ف ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫ُه َو الَِّذي َج َعلَ ُك ْم َخاَل ئِ َ‬
‫َ ْ‬ ‫َ ُ ْ‬
‫ين ُك ْف ُر ُه ْم ِإاَّل َخ َس ًارا (‪)39‬‬ ‫م ْقتًا واَل ي ِز ُ ِ‬
‫يد اْل َكاف ِر َ‬ ‫َ َ َ‬

‫ين ُك ْف ُر ُه ْم ِع ْن َد‬ ‫ض فَم ْن َكفَر فَعلَْي ِه ُك ْفره وال ي ِز ُ ِ‬


‫يد اْل َكاف ِر َ‬ ‫َُُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫األر ِ َ‬ ‫ف في ْ‬
‫{ ‪ُ { } 39‬هو الَِّذي جعلَ ُكم َخالئِ َ ِ‬
‫ََ ْ‬ ‫َ‬
‫ين ُك ْف ُر ُه ْم ِإال َخ َس ًارا } ‪.‬‬ ‫رِّب ِهم ِإال م ْقتًا وال ي ِز ُ ِ‬
‫يد اْل َكاف ِر َ‬ ‫َ ْ َ َ َ‬
‫يخبر تعالى عن كمال حكمته ورحمته بعباده‪ ،‬أنه قدر بقضائه السابق‪ ،‬أن يجعل بعضهم يخلف‬
‫بعضا في األرض‪ ،‬ويرسل لكل أمة من األمم النذر‪ ،‬فينظر كيف يعملون‪ ،‬فمن كفر باللّه وبما‬
‫جاءت به رسله‪ ،‬فإن كفره عليه‪ ،‬وعليه إثمه وعقوبته‪ ،‬وال يحمل عنه أحد‪ ،‬وال يزداد الكافر بكفره‬
‫إال مقت ربه له وبغضه إياه‪ ،‬وأي‪ :‬عقوبة أعظم [ ص ‪ ] 691‬من مقت الرب الكريم؟!‬
‫ين ُك ْف ُر ُه ْم ِإال َخ َس ًارا } أي‪ :‬يخسرون أنفسهم وأهليهم وأعمالهم ومنازلهم في‬ ‫{ وال ي ِز ُ ِ‬
‫يد اْل َكاف ِر َ‬ ‫َ َ‬
‫الجنة‪ ،‬فالكافر ال يزال في زيادة من الشقاء والخسران‪ ،‬والخزي عند اللّه وعند خلقه والحرمان‪.‬‬

‫( ‪)1/690‬‬

‫ك ِفي‬
‫ض أ َْم لَهُ ْم ِش ْر ٌ‬
‫ون اللَّ ِه أ َُرونِي َما َذا َخلَقُوا ِم َن اأْل َْر ِ‬
‫ون ِم ْن ُد ِ‬‫ين تَ ْد ُع َ‬
‫َِّ‬
‫اء ُك ُم الذ َ‬
‫ُق ْل أ ََرأ َْيتُ ْم ُش َر َك َ‬
‫ضهم َبع ً اَّل‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ات أَم آَتَْيَن ُ ِ‬
‫ِ‬
‫ضا ِإ ُغ ُر ً‬
‫ورا (‪)40‬‬ ‫ون َب ْع ُ ُ ْ ْ‬ ‫اه ْم كتَ ًابا فَهُ ْم َعلَى َبيَِّنة م ْنهُ َب ْل ِإ ْن َيع ُد الظال ُم َ‬ ‫َّم َاو ْ‬ ‫الس َ‬

‫ِ‬ ‫{ ‪ُ { } 40‬ق ْل أَرأ َْيتُم ُشر َكاء ُكم الَِّذين تَ ْدعون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬


‫ض أ َْم لَهُ ْم‬‫األر ِ‬‫ون الله أ َُرونِي َما َذا َخلَقُوا م َن ْ‬ ‫َ ْ َ َ ُ َ ُ َ‬
‫ضا ِإال‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ات أَم آتَْيَن ُ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِشر ٌ ِ‬
‫ضهُ ْم َب ْع ً‬ ‫اه ْم كتَ ًابا فَهُ ْم َعلَى َبيَِّنة م ْنهُ َب ْل ِإ ْن َيع ُد الظال ُم َ‬
‫ون َب ْع ُ‬ ‫َّم َاو ْ‬
‫ك في الس َ‬ ‫ْ‬
‫ورا } ‪.‬‬
‫ُغ ُر ً‬
‫ِّزا آللهة المشركين‪ ،‬ومبينا نقصها‪ ،‬وبطالن شركهم من جميع الوجوه‪.‬‬
‫يقول تعالى ُمعج ً‬
‫{ ُق ْل } يا أيها الرسول لهم‪ { :‬أ ََرأ َْيتُ ْم } أي‪ :‬أخبروني عن شركائكم { الذين تدعون من دون اهلل }‬
‫ِ‬
‫ض } هل خلقوا بحرا أم خلقوا‬ ‫هل هم مستحقون للدعاء والعبادة‪ ،‬فـ { أ َُرونِي َما َذا َخلَقُوا [م َن ْ‬
‫األر ِ‬
‫جباال أو خلقوا] حيوانا‪ ،‬أو خلقوا جمادا؟ سيقرون أن الخالق لجميع األشياء‪ ،‬هو اللّه تعالى‪ ،‬أ َْم‬
‫لشركائكم ِشر ٌكة { ِفي السَّماو ِ‬
‫ات } في خلقها وتدبيرها؟ سيقولون‪ :‬ليس لهم شركة‪.‬‬ ‫ََ‬ ‫ْ‬
‫فإذا لم يخلقوا شيئا‪ ،‬ولم يشاركوا الخالق في خلقه‪ ،‬فلم عبدتموهم ودعوتموهم مع إقراركم‬
‫بعجزهم؟ فانتفى الدليل العقلي على صحة عبادتهم‪ ،‬ودل على بطالنها‪.‬‬
‫اه ْم ِكتَ ًابا } يتكلم بما كانوا به‬
‫ثم ذكر الدليل السمعي‪ ،‬وأنه أيضا منتف‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬أ َْم آتَْيَن ُ‬
‫يشركون‪ ،‬يأمرهم بالشرك وعبادة األوثان‪ { .‬فَهُ ْم } في شركهم { َعلَى َبيَِّن ٍة } من ذلك الكتاب الذي‬
‫نزل عليهم في صحة الشرك؟‬
‫ليس األمر كذلك؟ فإنهم ما نزل عليهم كتاب قبل القرآن‪ ،‬وال جاءهم نذير قبل رسول اللّه محمد‬
‫صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬ولو قدر نزول كتاب إليهم‪ ،‬وإ رسال رسول إليهم‪ ،‬وزعموا أنه أمرهم‬
‫وحي ِإلَْي ِه أََّنهُ ال‬
‫ول ِإال ُن ِ‬
‫ك ِم ْن رس ٍ‬
‫َ ُ‬ ‫بشركهم‪ ،‬فإنا نجزم بكذبهم‪ ،‬ألن اللّه قال‪َ { :‬و َما أ َْر َسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ‬
‫ون } فالرسل والكتب‪ ،‬كلها متفقة على األمر بإخالص الدين للّه تعالى‪َ { ،‬و َما‬ ‫ِإلَهَ ِإال أََنا فَ ْ‬
‫اعُب ُد ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء }‬‫ين ُحَنفَ َ‬
‫الد َ‬ ‫أُم ُروا ِإال لَي ْعُب ُدوا اللهَ ُم ْخلص َ‬
‫ين لَهُ ِّ‬
‫فإن قيل‪ :‬إذا كان الدليل العقلي‪ ،‬والنقلي قد دال على بطالن الشرك‪ ،‬فما الذي حمل المشركين على‬
‫الشرك‪ ،‬وفيهم ذوو العقول والذكاء والفطنة؟‬
‫ِ َّ ِ‬
‫ضا ِإال ُغ ُر ً‬
‫ورا } أي‪ :‬ذلك الذي مشوا عليه‪،‬‬ ‫ضهُ ْم َب ْع ً‬ ‫أجاب تعالى بقوله‪َ { :‬ب ْل ِإ ْن َيع ُد الظال ُم َ‬
‫ون َب ْع ُ‬
‫ليس لهم فيه حجة‪ ،‬فإنما ذلك توصية بعضهم لبعض به‪ ،‬وتزيين بعضهم لبعض‪ ،‬واقتداء المتأخر‬
‫وأماني َمَّناها الشيطان‪ ،‬وزين لهم [سوء] أعمالهم‪ ،‬فنشأت في قلوبهم‪ ،‬وصارت‬
‫ّ‬ ‫بالمتقدم الضال‪،‬‬
‫صفة من صفاتها‪ ،‬فعسر زوالها‪ ،‬وتعسر انفصالها‪ ،‬فحصل ما حصل من اإلقامة على الكفر‬
‫والشرك الباطل المضمحل‪.‬‬

‫( ‪)1/691‬‬

‫ِِ‬ ‫َن تَُزواَل ولَئِ ْن َزالَتَا ِإ ْن أَمس َكهما ِم ْن أ ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِإ َّن اللَّهَ ُي ْم ِس ُ‬
‫َحد م ْن َب ْعده ِإَّنهُ َك َ‬
‫ان‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َُ‬ ‫َ‬ ‫ض أْ‬
‫َّم َاوات َواأْل َْر َ‬
‫ك الس َ‬
‫ورا (‪)41‬‬ ‫ِ‬
‫يما َغفُ ً‬ ‫َحل ً‬

‫َح ٍد ِم ْن َب ْع ِد ِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫َن تَُزوال َولَئ ْن َزالَتَا ِإ ْن أ َْم َس َكهُ َما م ْن أ َ‬
‫ض أْ‬
‫األر َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫{ ‪ِ { } 41‬إ َّن اللَّهَ ُي ْم ِس ُ‬
‫ك الس َ‬
‫ِ‬
‫ورا } ‪.‬‬ ‫يما َغفُ ً‬ ‫ان َحل ً‬ ‫ِإَّنهُ َك َ‬
‫يخبر تعالى عن كمال قدرته‪ ،‬وتمام رحمته‪ ،‬وسعة حلمه ومغفرته‪ ،‬وأنه تعالى يمسك السماوات‬
‫واألرض عن الزوال‪ ،‬فإنهما لو زالتا ما أمسكهما أحد من الخلق‪ ،‬ولعجزت قدرهم وقواهم عنهما‪.‬‬
‫ولكنه تعالى‪ ،‬قضى أن يكونا كما وجدا‪ ،‬ليحصل للخلق القرار‪ ،‬والنفع‪ ،‬واالعتبار‪ ،‬وليعلموا من‬
‫عظيم سلطانه وقوة قدرته‪ ،‬ما به تمتلئ قلوبهم له إجالال وتعظيما‪ ،‬ومحبة وتكريما‪ ،‬وليعلموا‬
‫كمال حلمه ومغفرته‪ ،‬بإمهال المذنبين‪ ،‬وعدم معالجته للعاصين‪ ،‬مع أنه لو أمر السماء لحصبتهم‪،‬‬
‫ِ‬
‫ورا }‬
‫يما َغفُ ً‬ ‫ولو أذن لألرض البتلعتهم‪ ،‬ولكن وسعتهم مغفرته‪ ،‬وحلمه‪ ،‬وكرمه { ِإَّنهُ َك َ‬
‫ان َحل ً‬

‫( ‪)1/691‬‬

‫اء ُه ْم َن ِذ ٌير َما‬ ‫ِ‬ ‫ون َّن أ ْ ِ‬


‫َه َدى م ْن ِإ ْح َدى اأْل َُمم َفلَ َّما َج َ‬ ‫اء ُه ْم َن ِذ ٌير لََي ُك ُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َوأَ ْق َس ُموا بِالله َج ْه َد أ َْي َمان ِه ْم لَئ ْن َج َ‬
‫َهِل ِه فَهَ ْل‬ ‫ِّئ َواَل َي ِح ُ‬
‫يق اْل َم ْك ُر السَّيِّئُ ِإاَّل بِأ ْ‬ ‫ض َو َم ْك َر السَّي ِ‬ ‫استِ ْكَب ًارا ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫ورا (‪ْ )42‬‬
‫اَّل‬
‫َز َاد ُه ْم ِإ ُنفُ ً‬
‫ين َفلَ ْن تَ ِج َد ِل ُسَّن ِة اللَّ ِه تَْب ِدياًل َولَ ْن تَ ِج َد ِل ُسَّن ِة اللَّ ِه تَ ْح ِوياًل (‪)43‬‬ ‫َي ْنظُر اَّل‬
‫ون ِإ ُسَّنةَ اأْل ََّوِل َ‬ ‫ُ َ‬

‫األمِم َفلَ َّما‬ ‫ون َّن أ ْ ِ ِ‬ ‫اء ُه ْم َن ِذ ٌير لََي ُك ُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬


‫{ ‪َ { } 43 - 42‬وأَ ْق َس ُموا بِالله َج ْه َد أ َْي َمان ِه ْم لَئ ْن َج َ‬
‫َه َدى م ْن إ ْح َدى َ‬
‫ِّئ َوال َي ِح ُ‬
‫يق اْل َم ْك ُر السَّيِّئُ ِإال‬ ‫ض َو َم ْك َر السَّي ِ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫است ْكَب ًارا في ْ‬
‫جاء ُهم َن ِذير ما َز َاد ُهم ِإال ُنفُورا * ِ‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ ٌ َ‬
‫ين َفلَ ْن تَ ِج َد ِل ُسَّن ِة اللَّ ِه تَْب ِديال َولَ ْن تَ ِج َد ِل ُسَّن ِة اللَّ ِه تَ ْح ِويال } ‪.‬‬
‫األوِل َ‬
‫ون ِإال ُسَّنةَ َّ‬ ‫بِأ ْ ِ ِ‬
‫َهله فَهَ ْل َي ْنظُ ُر َ‬
‫اء ُه ْم‬ ‫ِ‬
‫أي وأقسم هؤالء‪ ،‬الذين كذبوك يا رسول اللّه‪ ،‬قسما اجتهدوا فيه باأليمان الغليظة‪ { .‬لَئ ْن َج َ‬
‫األمِم } أي‪ :‬أهدى من اليهود والنصارى [أهل الكتب]‪ ،‬فلم يفوا بتلك‬ ‫ون َّن أ ْ ِ ِ‬ ‫َن ِذ ٌير لََي ُك ُ‬
‫َه َدى م ْن إ ْح َدى َ‬
‫اإلقسامات والعهود‪.‬‬
‫اء ُه ْم َن ِذ ٌير } لم يهتدوا‪ ،‬ولم يصيروا أهدى من إحدى األمم‪ ،‬بل لم يدوموا على ضاللهم‬ ‫{ َفلَ َّما َج َ‬
‫ورا } وزيادة ضالل وبغي وعناد‪.‬‬ ‫الذي كان‪ ،‬بل { َما َز َاد ُه ْم } ذلك { ِإال ُنفُ ً‬
‫وليس إقسامهم المذكور‪ ،‬لقصد حسن‪ ،‬وطلب للحق‪ ،‬وإ ال لوفقوا له‪ ،‬ولكنه صادر عن استكبار في‬
‫األرض على الخلق‪ ،‬وعلى الحق‪ ،‬وبهرجة في كالمهم هذا‪ ،‬يريدون به المكر والخداع‪ ،‬وأنهم‬
‫أهل الحق‪ ،‬الحريصون على طلبه‪ ،‬فيغتر به المغترون‪ ،‬ويمشي خلفهم المقتدون‪.‬‬
‫{ َوال َي ِح ُ‬
‫يق اْل َم ْك ُر السَّيِّئُ } الذي مقصوده مقصود سيئ‪ ،‬ومآله وما يرمي إليه سيئ باطل { ِإال‬
‫َهِل ِه } فمكرهم إنما يعود عليهم‪ ،‬وقد أبان اللّه لعباده في هذه المقاالت وتلك اإلقسامات‪ ،‬أنهم كذبة‬ ‫بِأ ْ‬
‫في ذلك مزورون‪ ،‬فاستبان خزيهم‪ ،‬وظهرت فضيحتهم‪ ،‬وتبين قصدهم السيئ‪ ،‬فعاد مكرهم في‬
‫نحورهم‪ ،‬ورد اللّه كيدهم في صدورهم‪.‬‬
‫فلم يبق لهم إال انتظار ما يحل بهم من العذاب‪ ،‬الذي هو سنة اللّه في األولين‪ ،‬التي ال تبدل وال‬
‫تغير‪ ،‬أن كل من سار في الظلم والعناد واالستكبار على العباد‪ ،‬أن يحل به نقمته‪ ،‬وتسلب عنه‬
‫نعمته‪َ ،‬فْلَيتََّرقب هؤالء‪ ،‬ما فعل بأولئك‪.‬‬

‫( ‪)1/691‬‬
‫ِ‬ ‫ف َكان ع ِاقبةُ الَِّذ ِ ِ‬ ‫أَولَ ْم َي ِس ُيروا ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ين م ْن قَْبل ِه ْم َو َك ُانوا أَ َش َّد م ْنهُ ْم قَُّوةً َو َما َك َ‬
‫ان‬ ‫َ‬ ‫ض فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫يما قَِد ًيرا (‪)44‬‬ ‫ِ‬
‫ان َعل ً‬ ‫ات واَل ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ض ِإَّنهُ َك َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاو َ‬
‫ٍِ‬ ‫َّ ِ ِ ِ‬
‫اللهُ لُي ْعج َزهُ م ْن َش ْيء في الس َ‬

‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم َو َك ُانوا أَ َش َّد‬ ‫ِ َِّ‬


‫ان َعاقَبةُ الذ َ‬
‫ف َك َ‬ ‫األر ِ‬
‫ض فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪ { } 45 - 44‬أ ََولَ ْم َيس ُيروا في ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِم ْنهم قَُّوةً وما َك َّ ِ ِ ِ‬
‫ض ِإَّنهُ َك َ‬
‫ان‬ ‫األر ِ‬ ‫َّم َاوات َوال [ ص ‪ ] 692‬في ْ‬ ‫ان اللهُ لُي ْعج َزهُ م ْن َش ْيء في الس َ‬
‫ََ َ‬ ‫ُْ‬
‫يما قَِد ًيرا } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َعل ً‬
‫يحض تعالى على السير في األرض‪ ،‬في القلوب واألبدان‪ ،‬لالعتبار‪ ،‬ال لمجرد النظر والغفلة‪،‬‬
‫وأن ينظروا إلى عاقبة الذين من قبلهم ممن كذبوا الرسل‪ ،‬وكانوا أكثر منهم أمواال وأوالدا وأشد‬
‫قوة‪ ،‬وعمروا األرض (‪ )1‬أكثر مما عمرها هؤالء‪ ،‬فلما جاءهم العذاب‪ ،‬لم تنفعهم قوتهم‪ ،‬ولم‬
‫تغن عنهم أموالهم وال أوالدهم من اللّه شيئا‪ ،‬ونفذت فيهم قدرة اللّه ومشيئته‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫{ وما َك َّ ِ ِ ِ‬
‫ض } لكمال علمه وقدرته { ِإَّنهُ َك َ‬
‫ان‬ ‫األر ِ‬
‫َّم َاوات َوال في ْ‬
‫ان اللهُ لُي ْعج َزهُ م ْن َش ْيء في الس َ‬
‫ََ َ‬
‫يما قَِد ًيرا } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َعل ً‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬وعمروها‪.‬‬

‫( ‪)1/691‬‬

‫َج ٍل ُم َس ًّمى فَِإ َذا‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اخ ُذ اللَّهُ َّ‬ ‫ولَو يؤ ِ‬


‫ظ ْه ِر َها م ْن َدابَّة َولَك ْن ُي َؤ ِّخ ُر ُه ْم ِإلَى أ َ‬ ‫اس بِ َما َك َسُبوا َما تََر َ‬
‫ك َعلَى َ‬ ‫الن َ‬ ‫َ ْ َُ‬
‫ص ًيرا (‪)45‬‬ ‫جاء أَجلُهم فَِإ َّن اللَّه َكان بِ ِعب ِاد ِه ب ِ‬
‫َ َ َ َ‬ ‫َ َ َ ُْ‬

‫َج ٍل ُم َس ًّمى‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اخ ُذ اللَّهُ َّ‬


‫{ ولَو يؤ ِ‬
‫ظ ْه ِر َها م ْن َدابَّة َولَك ْن ُي َؤ ِّخ ُر ُه ْم ِإلَى أ َ‬
‫ك َعلَى َ‬ ‫اس بِ َما َك َسُبوا َما تََر َ‬
‫الن َ‬ ‫َ ْ َُ‬
‫ص ًيرا } ‪.‬‬‫فَِإ َذا جاء أَجلُهم فَِإ َّن اللَّه َكان بِ ِعب ِاد ِه ب ِ‬
‫َ َ َ َ‬ ‫َ َ َ ُْ‬
‫ِ َّ‬
‫ثم ذكر تعالى كمال حلمه‪ ،‬وشدة إمهاله وإ نظاره أرباب الجرائم والذنوب‪ ،‬فقال‪َ { :‬ولَ ْو ُي َؤاخ ُذ اللهُ‬
‫َّة } أي‪ :‬الستوعبت العقوبة‪ ،‬حتى‬ ‫ظه ِر َها ِم ْن َداب ٍ‬ ‫اس بِ َما َك َسُبوا } من الذنوب { َما تََر َ‬ ‫َّ‬
‫ك َعلَى َ ْ‬ ‫الن َ‬
‫الحيوانات غير المكلفة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫{ ولَ ِك ْن } يمهلهم تعالى وال يهملهم و { ُيؤ ِّخر ُهم ِإلَى أ َ ٍ‬
‫َجلُهُ ْم فَِإ َّن اللهَ َك َ‬
‫ان‬ ‫اء أ َ‬‫َجل ُم َس ًّمى فَِإ َذا َج َ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫َ‬
‫بِ ِعَباده َبص ًيرا } فيجازيهم بحسب ما علمه منهم‪ ،‬من خير وشر‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تم تفسير سورة فاطر‪ ،‬والحمد للّه رب العالمين‬
‫تفسير سورة يس وهي مكية‬

‫( ‪)1/692‬‬

‫يز‬‫يل اْل َع ِز ِ‬ ‫اط ُم ْستَِق ٍيم (‪ )4‬تَْن ِز َ‬ ‫صر ٍ‬ ‫ِ‬


‫ين (‪َ )3‬علَى َ‬
‫ِ‬ ‫َن اْلح ِك ِيم (‪ِ )2‬إَّن َ ِ‬
‫ك لَم َن اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫يس (‪َ )1‬واْلقُْرآ ِ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫ق اْلقَ ْو ُل َعلَى أَ ْكثَِر ِه ْم فَهُ ْم اَل ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون‬ ‫ون (‪ )6‬لَقَ ْد َح َّ‬ ‫اؤ ُه ْم فَهُ ْم َغافلُ َ‬ ‫الرحيم (‪ )5‬لتُْنذ َر قَ ْو ًما َما أ ُْنذ َر آََب ُ‬
‫ون (‪َ )8‬و َج َعْلَنا ِم ْن َب ْي ِن أ َْي ِدي ِه ْم َس ًّدا‬ ‫ان فَهُ ْم ُم ْق َم ُح َ‬ ‫َعَن ِاق ِه ْم أ ْ‬
‫َغاَل اًل فَ ِهي ِإلَى اأْل َ ْذقَ ِ‬ ‫(‪ِ )7‬إَّنا َج َعْلَنا ِفي أ ْ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َو ِم ْن َخْل ِف ِه ْم َس ًّدا فَأ ْ‬
‫اء َعلَْي ِه ْم أَأ َْن َذ ْرتَهُ ْم أ َْم لَ ْم تُْنذ ْر ُه ْم اَل ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون (‬ ‫ون (‪َ )9‬و َس َو ٌ‬ ‫اه ْم فَهُ ْم اَل ُي ْبص ُر َ‬ ‫َغ َش ْيَن ُ‬
‫َج ٍر َك ِر ٍيم (‪ِ )11‬إَّنا َن ْح ُن‬ ‫الر ْح َم َن بِاْل َغ ْي ِب فََب ِّش ْرهُ بِ َم ْغ ِف َر ٍة َوأ ْ‬
‫الذ ْك َر َو َخ ِش َي َّ‬‫‪ِ )10‬إَّنما تُْن ِذر م ِن اتََّبع ِّ‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫ين (‪)12‬‬ ‫ص ْيَناهُ ِفي ِإ َم ٍام ُمبِ ٍ‬ ‫أح َ‬ ‫ب َما قَ َّد ُموا َوَآثَ َار ُه ْم َو ُك َّل َش ْي ٍء ْ‬ ‫ُن ْحيِي اْل َم ْوتَى َوَن ْكتُ ُ‬

‫ِ‬ ‫آن اْلح ِك ِيم * ِإَّن َ ِ‬ ‫الر ْحم ِن َّ ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬


‫ين * َعلَى‬ ‫ك لَم َن اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫الرح ِيم يس * َواْلقُْر ِ َ‬ ‫{ ‪ { } 12 - 1‬ب ْسم الله َّ َ‬
‫ق اْلقَ ْو ُل‬‫ون * لَقَ ْد َح َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يز َّ ِ ِ ِ ِ‬ ‫اط ُم ْستَِق ٍيم * تَْن ِزي َل اْل َع ِز ِ‬ ‫صر ٍ‬ ‫ِ‬
‫اؤ ُه ْم فَهُ ْم َغافلُ َ‬ ‫الرحيم * لتُْنذ َر قَ ْو ًما َما أ ُْنذ َر َآب ُ‬ ‫َ‬
‫ون *‬ ‫ان فَهُ ْم ُم ْق َم ُح َ‬ ‫َغالال فَ ِهي ِإلَى األ ْذقَ ِ‬
‫َ‬ ‫َعَن ِاق ِه ْم أ ْ‬
‫ون * ِإَّنا َج َعْلَنا ِفي أ ْ‬ ‫َعلَى أَ ْكثَِر ِه ْم فَهُ ْم ال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫اء َعلَْي ِه ْم أَأ َْن َذ ْرتَهُ ْم‬ ‫ِ‬ ‫َو َج َعْلَنا ِم ْن َب ْي ِن أ َْي ِدي ِه ْم َس ًّدا َو ِم ْن َخْل ِف ِه ْم َس ًّدا فَأ ْ‬
‫ون * َو َس َو ٌ‬ ‫اه ْم فَهُ ْم ال ُي ْبص ُر َ‬ ‫َغ َش ْيَن ُ‬
‫َج ٍر‬‫الر ْح َم َن بِاْل َغ ْي ِب فََب ِّش ْرهُ بِ َم ْغ ِف َر ٍة َوأ ْ‬
‫الذ ْك َر َو َخ ِش َي َّ‬ ‫أَم لَم تُْن ِذر ُهم ال ُيؤ ِمُنون * ِإَّنما تُْن ِذر م ِن اتََّبع ِّ‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ْ ْ ْ ْ ْ َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ص ْيَناهُ ِفي ِإ َم ٍام ُمبِ ٍ‬ ‫أح َ‬ ‫ب َما قَ َّد ُموا َوآثَ َار ُه ْم َو ُك َّل َش ْي ٍء ْ‬ ‫َك ِر ٍيم * ِإَّنا َن ْح ُن ُن ْحيِي اْل َم ْوتَى َوَن ْكتُ ُ‬
‫هذا قسم من اللّه تعالى بالقرآن الحكيم‪ ،‬الذي وصفه الحكمة‪ ،‬وهي وضع كل شيء موضعه‪،‬‬
‫وضع األمر والنهي في الموضع (‪ )1‬الالئق بهما‪ ،‬ووضع الجزاء بالخير والشر في محلهما‬
‫الالئق بهما‪ ،‬فأحكامه الشرعية والجزائية كلها مشتملة على غاية الحكمة‪.‬‬
‫ومن حكمة هذا القرآن‪ ،‬أنه يجمع بين ذكر الحكم وحكمته‪ ،‬فينبه العقول على المناسبات‬
‫واألوصاف المقتضية لترتيب الحكم عليها‪.‬‬
‫ين } هذا المقسم عليه‪ ،‬وهو رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬وإ نك من جملة‬ ‫ِ‬ ‫{ ِإَّن َ ِ‬
‫ك لَم َن اْل ُم ْر َسل َ‬
‫المرسلين‪ ،‬فلست ببدع من الرسل‪ ،‬وأيضا فجئت بما جاء به الرسل من األصول الدينية‪ ،‬وأيضا‬
‫فمن تأمل أحوال (‪ )2‬المرسلين وأوصافهم‪ ،‬وعرف الفرق بينهم وبين غيرهم‪ ،‬عرف أنك من‬
‫خيار المرسلين‪ ،‬بما فيك من الصفات الكاملة‪ ،‬واألخالق الفاضلة‪.‬‬
‫وال يخفى ما بين المقسم به‪ ،‬وهو القرآن الحكيم‪ ،‬وبين المقسم عليه‪[ ،‬وهو] رسالة الرسول محمد‬
‫صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬من االتصال‪ ،‬وأنه لو لم يكن لرسالته دليل وال شاهد إال هذا القرآن الحكيم‪،‬‬
‫لكفى به دليال وشاهدا على رسالة محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬بل القرآن العظيم أقوى األدلة‬
‫المتصلة المستمرة على رسالة الرسول‪ ،‬فأدلة القرآن كلها أدلة لرسالة محمد صلى اللّه عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫ثم أخبر بأعظم أوصاف الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬الدالة على رسالته‪ ،‬وهو أنه { َعلَى‬
‫اط ُم ْستَِق ٍيم } معتدل‪ ،‬موصل إلى اللّه وإ لى دار كرامته‪ ،‬وذلك الصراط المستقيم‪ ،‬مشتمل على‬
‫صر ٍ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫أعمال‪ ،‬وهي األعمال الصالحة‪ ،‬المصلحة للقلب والبدن‪ ،‬والدنيا واآلخرة‪ ،‬واألخالق الفاضلة‪،‬‬
‫المزكية للنفس‪ ،‬المطهرة للقلب‪ ،‬المنمية لألجر‪ ،‬فهذا الصراط المستقيم‪ ،‬الذي هو وصف الرسول‬
‫صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬ووصف دينه الذي جاء به‪ ،‬فتأمل جاللة هذا القرآن الكريم‪ ،‬كيف جمع بين‬
‫القسم بأشرف األقسام‪ ،‬على أجل مقسم عليه‪ ،‬وخبر اللّه وحده كاف‪ ،‬ولكنه تعالى أقام من األدلة‬
‫الواضحة والبراهين الساطعة في هذا الموضع على صحة ما أقسم عليه‪ ،‬من رسالة رسوله ما‬
‫الر ِح ِيم }‬ ‫نزيل اْل َع ِز ِ‬
‫يز َّ‬ ‫نبهنا عليه‪ ،‬وأشرنا إشارة لطيفة لسلوك طريقه‪ ،‬وهذا الصراط المستقيم { تَ َ‬
‫فهو الذي أنزل به كتابه‪ ،‬وأنزله طريقا لعباده‪ ،‬موصال لهم إليه‪ ،‬فحماه بعزته عن التغيير‬
‫والتبديل‪ ،‬ورحم به عباده رحمة اتصلت بهم‪ ،‬حتى أوصلتهم إلى دار رحمته‪ ،‬ولهذا ختم اآلية‬
‫بهذين االسمين الكريمين‪ :‬العزيز‪ .‬الرحيم‪.‬‬
‫فلما أقسم تعالى على رسالته وأقام األدلة عليها‪ ،‬ذكر شدة الحاجة إليها واقتضاء الضرورة لها‬
‫ون } وهم العرب األميون‪ ،‬الذين لم يزالوا خالين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اؤ ُه ْم فَهُ ْم َغافلُ َ‬
‫فقال‪ { :‬لتُْنذ َر قَ ْو ًما َما أ ُْنذ َر َآب ُ‬
‫[ ص ‪ ] 693‬من الكتب‪ ،‬عادمين الرسل‪ ،‬قد عمتهم الجهالة‪ ،‬وغمرتهم الضاللة‪ ،‬وأضحكوا‬
‫عليهم وعلى سفههم عقول العالمين‪ ،‬فأرسل اللّه إليهم رسوال من أنفسهم‪ ،‬يزكيهم ويعلمهم الكتاب‬
‫والحكمة‪ ،‬وإ ن كانوا من قبل لفي ضالل مبين‪ ،‬فينذر العرب األميين‪ ،‬ومن لحق بهم من كل أمي‪،‬‬
‫ويذكر أهل الكتب بما عندهم من الكتب‪ ،‬فنعمة اللّه به على العرب خصوصا‪ ،‬وعلى غيرهم‬
‫عموما‪ .‬ولكن هؤالء الذين بعثت فيهم إلنذارهم بعدما أنذرتهم‪ ،‬انقسموا قسمين‪ :‬قسم رد لما جئت‬
‫ق اْلقَ ْو ُل َعلَى أَ ْكثَِر ِه ْم فَهُ ْم ال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون } أي‪:‬‬ ‫به‪ ،‬ولم يقبل النذارة‪ ،‬وهم الذين قال اللّه فيهم { لَقَ ْد َح َّ‬
‫نفذ فيهم القضاء والمشيئة‪ ،‬أنهم ال يزالون في كفرهم وشركهم‪ ،‬وإ نما حق عليهم القول بعد أن‬
‫عرض عليهم الحق فرفضوه‪ ،‬فحينئذ عوقبوا بالطبع على قلوبهم‪.‬‬
‫َعَن ِاق ِه ْم أ ْ‬
‫َغالال } وهي جمع "غل"‬ ‫وذكر الموانع من وصول اإليمان لقلوبهم‪ ،‬فقال‪ِ { :‬إَّنا َج َعْلَنا ِفي أ ْ‬
‫و "الغل" ما يغل به العنق‪ ،‬فهو للعنق بمنزلة القيد للرجل‪ ،‬وهذه األغالل التي في األعناق (‪)3‬‬
‫ون } أي‪ :‬رافعو رءوسهم‬ ‫عظيمة قد وصلت إلى أذقانهم ورفعت رءوسهم إلى فوق‪ { ،‬فَهُ ْم ُم ْق َم ُح َ‬
‫من شدة الغل الذي في أعناقهم‪ ،‬فال يستطيعون أن يخفضوها‪.‬‬
‫{ َو َج َعْلَنا ِم ْن َب ْي ِن أ َْي ِدي ِه ْم َس ًّدا َو ِم ْن َخْل ِف ِه ْم َس ًّدا } أي‪ :‬حاجزا يحجزهم عن اإليمان‪ { ،‬فَهُ ْم ال‬
‫اء َعلَْي ِه ْم‬ ‫ِ‬
‫ون } قد غمرهم الجهل والشقاء من جميع جوانبهم‪ ،‬فلم تفد فيهم النذارة‪َ { .‬و َس َو ٌ‬ ‫ُي ْبص ُر َ‬
‫ِ‬
‫ون } وكيف يؤمن من طبع على قلبه‪ ،‬ورأى الحق باطال والباطل‬ ‫أَأ َْن َذ ْرتَهُ ْم أ َْم لَ ْم تُْنذ ْر ُه ْم ال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫حقا؟!‬
‫والقسم الثاني‪ :‬الذين قبلوا النذارة‪ ،‬وقد ذكرهم بقوله‪ِ { :‬إَّن َما تُْن ِذ ُر } أي‪ :‬إنما تنفع نذارتك‪ ،‬ويتعظ‬
‫الذ ْك َر } [أي‪ ]:‬من قصده اتباع الحق وما ذكر به‪َ { ،‬و َخ ِش َي َّ‬
‫الر ْح َم َن بِاْل َغ ْي ِب }‬ ‫بنصحك { م ِن اتََّبع ِّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬من اتصف بهذين األمرين‪ ،‬القصد الحسن في طلب الحق‪ ،‬وخشية اللّه تعالى‪ ،‬فهم الذين‬
‫ينتفعون برسالتك‪ ،‬ويزكون بتعليمك‪ ،‬وهذا الذي وفق لهذين األمرين { فََب ِّش ْرهُ بِ َم ْغ ِف َر ٍة } لذنوبه‪،‬‬
‫َج ٍر َك ِر ٍيم } ألعماله الصالحة‪ ،‬ونيته الحسنة‪.‬‬
‫{ َوأ ْ‬
‫{ ِإَّنا َن ْح ُن ُن ْحيِي اْل َم ْوتَى } أي‪ :‬نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على األعمال‪َ { ،‬وَن ْكتُ ُ‬
‫ب َما قَ َّد ُموا } من‬
‫الخير والشر‪ ،‬وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في حال حياتهم‪َ { ،‬وآثَ َار ُه ْم } وهي آثار‬
‫الخير وآثار الشر‪ ،‬التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم‪ ،‬وتلك األعمال‬
‫التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم‪ ،‬فكل خير عمل به أحد من الناس‪ ،‬بسبب علم العبد‬
‫وتعليمه ونصحه‪ ،‬أو أمره بالمعروف‪ ،‬أو نهيه عن المنكر‪ ،‬أو علم أودعه عند المتعلمين‪ ،‬أو في‬
‫كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته‪ ،‬أو عمل خيرا‪ ،‬من صالة أو زكاة أو صدقة أو إحسان‪،‬‬
‫فاقتدى به غيره‪ ،‬أو عمل مسجدا‪ ،‬أو محال من المحال التي يرتفق بها الناس‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ ،‬فإنها‬
‫من آثاره التي تكتب له‪ ،‬وكذلك عمل الشر‪.‬‬
‫ولهذا‪ { :‬من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة‪ ،‬ومن سن سنة سيئة‬
‫فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة } وهذا الموضع‪ ،‬يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى‬
‫اللّه والهداية إلى سبيله بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك‪ ،‬ونزول درجة الداعي إلى الشر‬
‫اإلمام فيه‪ ،‬وأنه أسفل الخليقة‪ ،‬وأشدهم جرما‪ ،‬وأعظمهم إثما‪.‬‬
‫ص ْيَناهُ ِفي ِإ َم ٍام ُمبِ ٍ‬
‫ين } أي‪ :‬كتاب هو أم الكتب‬ ‫{ َو ُك َّل َش ْي ٍء } من األعمال والنيات وغيرها { ْ‬
‫أح َ‬
‫وإ ليه مرجع الكتب‪ ،‬التي تكون بأيدي المالئكة‪ ،‬وهو اللوح المحفوظ‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬في المحل‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬أصول‪.‬‬
‫(‪ )3‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬األذقان‪.‬‬

‫( ‪)1/692‬‬
‫ون (‪ِ )13‬إ ْذ أ َْر َسْلَنا ِإلَْي ِه ُم اثَْن ْي ِن فَ َك َّذُب ُ‬ ‫ِ‬
‫وه َما‬ ‫اء َها اْل ُم ْر َسلُ َ‬ ‫اب اْلقَ ْرَية ِإ ْذ َج َ‬ ‫َص َح َ‬‫ب لَهُ ْم َمثَاًل أ ْ‬ ‫اض ِر ْ‬‫َو ْ‬
‫الر ْح َم ُن ِم ْن َش ْي ٍء‬ ‫ون (‪ )14‬قَالُوا َما أ َْنتُ ْم ِإاَّل َب َشٌر ِم ْثلَُنا َو َما أ َْن َز َل َّ‬ ‫ٍِ‬
‫فَ َع َّز ْزَنا بِثَالث فَقَالُوا ِإَّنا ِإلَْي ُك ْم ُم ْر َسلُ َ‬
‫اَّل‬ ‫اَّل ِ‬
‫ين (‪)17‬‬ ‫ون (‪َ )16‬و َما َعلَْيَنا ِإ اْلَباَل غُ اْل ُمبِ ُ‬ ‫ون (‪ )15‬قَالُوا َربَُّنا َي ْعلَ ُم ِإَّنا ِإلَْي ُك ْم لَ ُم ْر َسلُ َ‬ ‫ِإ ْن أ َْنتُ ْم ِإ تَ ْكذُب َ‬
‫طائِ ُر ُك ْم َم َع ُك ْم أَئِ ْن‬‫يم (‪ )18‬قَالُوا َ‬ ‫طيَّرَنا بِ ُكم لَئِ ْن لَم تَْنتَهوا لََنرجمَّن ُكم ولَيمسََّّن ُكم ِمَّنا ع َذ ٌ ِ‬
‫اب أَل ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ ْ ُ َ ْ َ ََ ْ‬ ‫ْ‬ ‫قَالُوا ِإَّنا تَ َ ْ‬
‫ال َيا قَ ْوِم اتَّبِ ُعوا‬ ‫صى اْل َم ِد َين ِة َر ُج ٌل َي ْس َعى قَ َ‬ ‫ُذ ِّكرتُم ب ْل أ َْنتُم قَوم مس ِرفُون (‪ )19‬وج ِ‬
‫اء م ْن أَ ْق َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ ٌْ ُ ْ َ‬ ‫ْ َْ‬
‫ط َرنِي َوإِلَْي ِه‬ ‫َعُب ُد الَِّذي فَ َ‬ ‫ون (‪َ )21‬و َما ِل َي اَل أ ْ‬ ‫َج ًرا َو ُه ْم ُم ْهتَ ُد َ‬ ‫ين (‪ )20‬اتَّبِ ُعوا َم ْن اَل َي ْسأَلُ ُك ْم أ ْ‬ ‫ِ‬
‫اْل ُم ْر َسل َ‬
‫اعتُهُ ْم َش ْيًئا َواَل ُي ْن ِق ُذ ِ‬
‫ون‬ ‫ضٍّر اَل تُ ْغ ِن َعِّني َشفَ َ‬ ‫الر ْح َم ُن بِ ُ‬ ‫ون (‪ )22‬أَأَتَّ ِخ ُذ ِم ْن ُدونِ ِه آَِلهَةً ِإ ْن ُي ِر ْد ِن َّ‬ ‫تُْر َج ُع َ‬
‫ت‬‫ون (‪ِ )25‬قي َل ْاد ُخ ِل اْل َجَّنةَ قَا َل َيا لَْي َ‬ ‫اس َم ُع ِ‬‫ت بَِرِّب ُك ْم فَ ْ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪ )24‬إِّني آ َ‬
‫َم ْن ُ‬ ‫ضاَل ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫(‪ِ )23‬إِّني ِإ ًذا لَفي َ‬
‫ين (‪َ )27‬و َما أ َْن َزْلَنا َعلَى قَ ْو ِم ِه ِم ْن َب ْع ِد ِه‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪ )26‬بِ َما َغفََر لي َربِّي َو َج َعلَني م َن اْل ُم ْك َر ِم َ‬ ‫قَ ْو ِمي َي ْعلَ ُم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اء وما ُكَّنا م ْن ِزِلين (‪ِ )28‬إ ْن َك َان ْ اَّل‬ ‫ِم ْن ج ْن ٍد ِمن الس ِ‬
‫ون (‪َ )29‬يا‬ ‫ص ْي َحةً َواح َدةً فَِإ َذا ُه ْم َخام ُد َ‬ ‫ت ِإ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َّم َ َ‬ ‫ُ َ َ‬
‫ِ‬ ‫َحسرةً َعلَى اْل ِعَب ِاد ما َيأْتِي ِهم ِم ْن رس ٍ اَّل‬
‫ون (‪)30‬‬ ‫ول ِإ َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬

‫ِ‬
‫ون } إلى آخر القصة‪.‬‬ ‫اب اْلقَ ْرَية ِإ ْذ َج َ‬
‫اء َها اْل ُم ْر َسلُ َ‬ ‫َص َح َ‬ ‫اض ِر ْ‬
‫ب لَهُ ْم َمثَال أ ْ‬ ‫{ ‪َ { } 30 - 13‬و ْ‬
‫أي‪ :‬واضرب لهؤالء المكذبين برسالتك‪ ،‬الرادين لدعوتك‪ ،‬مثال يعتبرون به‪ ،‬ويكون لهم موعظة‬
‫إن وفقوا للخير‪ ،‬وذلك المثل‪ :‬أصحاب القرية‪ ،‬وما جرى منهم من التكذيب لرسل اللّه‪ ،‬وما جرى‬
‫عليهم من عقوبته ونكاله‪.‬‬
‫وتعيين تلك القرية‪ ،‬لو كان فيه فائدة‪ ،‬لعينها اللّه‪ ،‬فالتعرض لذلك وما أشبهه من باب التكلف‬
‫والتكلم بال علم‪ ،‬ولهذا إذا تكلم أحد في مثل هذا تجد عنده من الخبط والخلط واالختالف الذي ال‬
‫يستقر له قرار‪ ،‬ما تعرف به أن طريق العلم الصحيح‪ ،‬الوقوف مع الحقائق‪ ،‬وترك التعرض لما‬
‫ال فائدة فيه‪ ،‬وبذلك تزكو النفس‪ ،‬ويزيد العلم‪ ،‬من حيث يظن الجاهل أن زيادته بذكر األقوال التي‬
‫ال دليل عليها‪ ،‬وال حجة عليها وال يحصل منها من الفائدة إال تشويش الذهن واعتياد األمور‬
‫المشكوك فيها‪.‬‬
‫ون } [ ص ‪ ] 694‬من اللّه‬ ‫والشاهد أن هذه القرية جعلها اللّه مثال للمخاطبين‪ِ { .‬إ ْذ َج َ‬
‫اء َها اْل ُم ْر َسلُ َ‬
‫تعالى يأمرونهم بعبادة اللّه وحده‪ ،‬وإ خالص الدين له‪ ،‬وينهونهم عن الشرك والمعاصي‪.‬‬
‫وه َما فَ َع َّز ْزَنا بِثَ ِال ٍث } أي‪ :‬قويناهما بثالث‪ ،‬فصاروا ثالثة رسل‪ ،‬اعتناء‬ ‫{ ِإ ْذ أ َْر َسْلَنا ِإلَْي ِه ُم اثَْن ْي ِن فَ َك َّذُب ُ‬
‫ون } فأجابوهم‬ ‫من اللّه بهم‪ ،‬وإ قامة للحجة بتوالي الرسل إليهم‪ { ،‬فَقَالُوا } لهم‪ِ { :‬إَّنا ِإلَْي ُك ْم ُم ْر َسلُ َ‬
‫بالجواب الذي ما زال مشهورا عند من رد دعوة الرسل‪ :‬فـ { قَالُوا َما أ َْنتُ ْم ِإال َب َشٌر ِم ْثلَُنا } أي‪ :‬فما‬
‫ِ َّ‬ ‫ِ‬
‫الذي فضلكم علينا وخصكم من دوننا؟ قالت الرسل ألممهم‪ِ { :‬إ ْن َن ْح ُن ِإال َب َشٌر مثْلُ ُك ْم َولَك َّن اللهَ‬
‫اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه }‬ ‫َي ُم ُّن َعلَى َم ْن َي َش ُ‬
‫الر ْح َم ُن ِم ْن َش ْي ٍء } أي‪ :‬أنكروا عموم الرسالة‪ ،‬ثم أنكروا أيضا المخاطبين لهم‪،‬‬ ‫َنزل َّ‬‫{ َو َما أ َ‬
‫ِ‬
‫فقالوا‪ِ { :‬إ ْن أ َْنتُ ْم ِإال تَ ْكذُب َ‬
‫ون }‬
‫فقالت هؤالء الرسل الثالثة‪َ { :‬ربَُّنا َي ْعلَ ُم ِإَّنا ِإلَْي ُك ْم لَ ُم ْر َسلُ َ‬
‫ون } فلو كنا كاذبين‪ ،‬ألظهر اللّه (‪)1‬‬
‫خزينا‪ ،‬ولبادرنا بالعقوبة‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬البالغ المبين الذي يحصل به توضيح األمور المطلوب بيانها‪،‬‬ ‫{ َو َما َعلَْيَنا ِإال اْلَبالغُ اْل ُمبِ ُ‬
‫وما عدا هذا من آيات االقتراح‪ ،‬ومن سرعة العذاب‪ ،‬فليس إلينا‪ ،‬وإ نما وظيفتنا ‪-‬التي هي البالغ‬
‫المبين‪ -‬قمنا بها‪ ،‬وبيناها لكم‪ ،‬فإن اهتديتم‪ ،‬فهو حظكم وتوفيقكم‪ ،‬وإ ن ضللتم‪ ،‬فليس لنا من األمر‬
‫شيء‪.‬‬
‫طي َّْرَنا بِ ُك ْم } أي‪ :‬لم نر على قدومكم علينا واتصالكم بنا إال‬
‫فقال أصحاب القرية لرسلهم‪ِ { :‬إَّنا تَ َ‬
‫الشر‪ ،‬وهذا من أعجب العجائب‪ ،‬أن يجعل من قدم عليهم بأجل نعمة ينعم اللّه بها على العباد‪،‬‬
‫وأجل كرامة يكرمهم بها‪ ،‬وضرورتهم إليها فوق كل ضرورة‪ ،‬قد قدم بحالة شر‪ ،‬زادت على‬
‫الشر الذي هم عليه‪ ،‬واستشأموا بها‪ ،‬ولكن الخذالن وعدم التوفيق‪ ،‬يصنع بصاحبه أعظم مما (‪)2‬‬
‫يصنع به عدوه‪.‬‬
‫ثم توعدوهم فقالوا‪ { :‬لَئِ ْن لَ ْم تَْنتَهُوا لََن ْر ُج َمَّن ُك ْم } أي‪ :‬نقتلنكم رجما بالحجارة أشنع القتالت‬
‫يم }‬ ‫{ ولَيمسََّّن ُكم ِمَّنا ع َذ ٌ ِ‬
‫اب أَل ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ ْ‬
‫طائِ ُر ُك ْم َم َع ُك ْم } وهو ما معهم من الشرك والشر‪ ،‬المقتضي لوقوع المكروه‬ ‫فقالت لهم رسلهم‪َ { :‬‬
‫والنقمة‪ ،‬وارتفاع المحبوب والنعمة‪ { .‬أَئِ ْن ُذ ِّك ْرتُ ْم } أي‪ :‬بسبب أنا ذكرناكم ما فيه صالحكم‬
‫وحظكم‪ ،‬قلتم لنا ما قلتم‪.‬‬
‫ون } متجاوزون للحد‪ ،‬متجرهمون في قولكم‪ ،‬فلم يزدهم [دعاؤهم] إال نفورا‬ ‫{ َب ْل أ َْنتُ ْم قَ ْو ٌم ُم ْس ِرفُ َ‬
‫واستكبارا‪.‬‬
‫صى اْل َم ِد َين ِة َر ُج ٌل َي ْس َعى } حرصا على نصح قومه حين سمع ما دعت إليه الرسل‬ ‫{ وج ِ‬
‫اء م ْن أَ ْق َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ِ‬
‫وآمن به‪ ،‬وعلم ما رد به قومه عليهم فقال [لهم]‪َ { :‬يا قَ ْوِم اتَّبِ ُعوا اْل ُم ْر َسل َ‬
‫ين } فأمرهم باتباعهم‬
‫ونصحهم على ذلك‪ ،‬وشهد لهم بالرسالة‪ ،‬ثم ذكر تأييدا لما شهد به ودعا إليه‪ ،‬فقال‪ { :‬اتَّبِ ُعوا َم ْن ال‬
‫َج ًرا } أي‪ :‬اتبعوا من نصحكم نصحا يعود إليكم بالخير‪ ،‬وليس [يريد منكم أموالكم وال‬
‫َي ْسأَلُ ُك ْم أ ْ‬
‫أجرا على نصحه لكم وإ رشاده إياكم‪ ،‬فهذا موجب التباع من هذا وصفه‪.‬‬
‫بقي] أن يقال‪ :‬فلعله يدعو وال يأخذ أجرة‪ ،‬ولكنه ليس على الحق‪ ،‬فدفع هذا االحتراز بقوله‪:‬‬
‫ون } ألنهم ال يدعون إال لما يشهد العقل الصحيح بحسنه‪ ،‬وال ينهون إال بما يشهد‬
‫{ َو ُه ْم ُم ْهتَ ُد َ‬
‫العقل الصحيح بقبحه‪.‬‬
‫فكأن قومه لم يقبلوا نصحه‪ ،‬بل عادوا الئمين له على اتباع الرسل‪ ،‬وإ خالص الدين للّه وحده‪،‬‬
‫ِ‬ ‫َعُب ُد الَِّذي فَ َ‬
‫فقال‪َ { :‬و َما ِل َي ال أ ْ‬
‫ون } أي‪ :‬وما المانع لي من عبادة من هو‬‫ط َرنِي َوإِلَْيه تُْر َج ُع َ‬
‫المستحق للعبادة‪ ،‬ألنه الذي فطرني‪ ،‬وخلقني‪ ،‬ورزقني‪ ،‬وإ ليه مآل جميع الخلق‪ ،‬فيجازيهم‬
‫بأعمالهم‪ ،‬فالذي بيده الخلق والرزق‪ ،‬والحكم بين العباد‪ ،‬في الدنيا واآلخرة‪ ،‬هو الذي يستحق أن‬
‫يعبد‪ ،‬ويثنى عليه ويمجد‪ ،‬دون من ال يملك نفعا وال ضرا‪ ،‬وال عطاء وال منعا‪ ،‬وال حياة وال موتا‬
‫ضٍّر ال تُ ْغ ِن َعِّني َشفَ َ‬
‫اعتُهُ ْم } ألنه‬ ‫وال نشورا‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬أَأَتَّ ِخ ُذ ِم ْن ُدونِ ِه ِآلهَةً ِإ ْن ُي ِر ْد ِن َّ‬
‫الر ْح َم ُن بِ ُ‬
‫ال أحد يشفع عند اهلل إال بإذنه‪ ،‬فال تغني شفاعتهم عني شيئا‪َ ،‬وال ُه ْم ُي ْنقذون من الضر الذي أراده‬
‫اللّه بي‪.‬‬
‫ض ٍ‬
‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ين } فجمع في هذا الكالم‪ ،‬بين‬ ‫{ ِإِّني ِإ ًذا } أي‪ :‬إن عبدت آلهة هذا وصفها { لَفي َ‬
‫نصحهم‪ ،‬والشهادة للرسل بالرسالة‪ ،‬واالهتداء واإلخبار بِتعيُّن (‪ )3‬عبادة اللّه وحده‪ ،‬وذكر األدلة‬
‫عليها‪ ،‬وأن عبادة غيره باطلة‪ ،‬وذكر البراهين عليها‪ ،‬واإلخبار بضالل من عبدها‪ ،‬واإلعالن‬
‫ون } فقتله قومه‪ ،‬لما‬ ‫ت بَِرِّب ُك ْم فَ ْ‬
‫اس َم ُع ِ‬ ‫ِ‬
‫بإيمانه جهرا‪ ،‬مع خوفه الشديد من قتلهم‪ ،‬فقال‪ { :‬إِّني َ‬
‫آم ْن ُ‬
‫سمعوا منه وراجعهم بما راجعهم به‪.‬‬
‫يل } له في الحال‪ْ { :‬اد ُخ ِل اْل َجَّنةَ } فقال مخبرا بما وصل إليه من الكرامة على توحيده‬ ‫فـ { ِق َ‬
‫ون بِ َما َغفََر‬
‫ت قَ ْو ِمي َي ْعلَ ُم َ‬‫وإ خالصه‪ ،‬وناصحا لقومه بعد وفاته‪ ،‬كما نصح لهم في حياته‪َ { :‬يا لَْي َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫لي َربِّي } أي‪ :‬بأي‪ :‬شيء غفر لي‪ ،‬فأزال عني أنواع العقوبات‪َ { ،‬و َج َعلَني م َن اْل ُم ْك َر ِم َ‬
‫ين }‬
‫[ ص ‪ ] 695‬بأنواع المثوبات والمسرات‪ ،‬أي‪ :‬لو وصل علم ذلك إلى قلوبهم‪ ،‬لم يقيموا على‬
‫شركهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬لظهر خزينا‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬ما‪.‬‬
‫(‪ )3‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬بتعيين‪.‬‬

‫( ‪)1/693‬‬

‫قال اللّه في عقوبة قومه‪ { [ :‬وما أَنزْلَنا علَى قَو ِم ِه] ِم ْن بع ِد ِه ِم ْن ج ْن ٍد ِمن السَّم ِ‬
‫اء } أي‪ :‬ما احتجنا‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ََ‬
‫ين } لعدم الحاجة إلى‬‫أن نتكلف في عقوبتهم‪ ،‬فننزل جندا من السماء إلتالفهم‪َ { ،‬و َما ُكَّنا ُمنزِل َ‬
‫ذلك‪ ،‬وعظمة اقتدار اللّه تعالى‪ ،‬وشدة ضعف بني آدم‪ ،‬وأنهم أدنى شيء يصيبهم من عذاب اللّه‬
‫ت } أي‪ :‬كانت عقوبتهم { ِإال ص ْيحةً و ِ‬
‫اح َدةً } أي‪ :‬صوتا واحدا‪ ،‬تكلم به بعض‬ ‫يكفيهم { ِإ ْن َك َان ْ‬
‫َ َ َ‬
‫ِ‬
‫ون } قد تقطعت قلوبهم في أجوافهم‪ ،‬وانزعجوا لتلك الصيحة‪،‬‬ ‫مالئكة اللّه‪ { ،‬فَِإ َذا ُه ْم َخام ُد َ‬
‫فأصبحوا خامدين‪ ،‬ال صوت وال حركة‪ ،‬وال حياة بعد ذلك العتو واالستكبار‪ ،‬ومقابلة أشرف‬
‫الخلق بذلك الكالم القبيح‪ ،‬وتجبرهم عليهم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫قال اللّه متوجعا للعباد‪َ { :‬يا َح ْسرةً َعلَى اْل ِعَب ِاد ما َيأْتِي ِهم ِم ْن رس ٍ‬
‫ول ِإال َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬
‫ون } أي‪:‬‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما أعظم شقاءهم‪ ،‬وأطول عناءهم‪ ،‬وأشد جهلهم‪ ،‬حيث كانوا بهذه الصفة القبيحة‪ ،‬التي هي سبب‬
‫لكل شقاء وعذاب ونكال"‬

‫( ‪)1/695‬‬

‫ون (‪َ )31‬وإِ ْن ُك ٌّل لَ َّما َج ِميعٌ لَ َد ْيَنا‬ ‫َهلَ ْكَنا قَْبلَهُ ْم ِم َن اْلقُُر ِ‬
‫ون أََّنهُ ْم ِإلَْي ِه ْم اَل َي ْر ِج ُع َ‬ ‫أَلَ ْم َي َر ْوا َك ْم أ ْ‬
‫ون (‪)32‬‬ ‫ض ُر َ‬ ‫ُم ْح َ‬

‫ِ‬ ‫ٌّ‬ ‫َهلَ ْكَنا قَْبلَهُ ْم ِم َن اْلقُُر ِ‬


‫ون أََّنهُ ْم ِإلَْي ِه ْم ال َي ْر ِج ُع َ‬
‫ون * َوإِ ْن ُكل لَ َّما َجميعٌ‬ ‫{ ‪ { } 32 - 31‬أَلَ ْم َي َر ْوا َك ْم أ ْ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ض ُر َ‬
‫لَ َد ْيَنا ُم ْح َ‬
‫يقول تعالى‪ :‬ألم ير هؤالء ويعتبروا بمن قبلهم من القرون المكذبة‪ ،‬التي أهلكها اهلل تعالى وأوقع‬
‫بها عقابها‪ ،‬وأن جميعهم قد باد وهلك‪ ،‬فلم يرجع إلى الدنيا‪ ،‬ولن يرجع إليها‪ ،‬وسيعيد اللّه الجميع‬
‫خلقا جديدا‪ ،‬ويبعثهم بعد موتهم‪ ،‬ويحضرون بين يديه تعالى‪ ،‬ليحكم بينهم بحكمه العدل الذي ال‬
‫يما }‬ ‫ِ‬ ‫اع ْفهَا َوُي ْؤ ِت ِم ْن لَ ُد ْنهُ أ ْ‬
‫ك حسَنةً يض ِ‬
‫َج ًرا َعظ ً‬ ‫يظلم مثقال ذرة { َوإِ ْن تَ ُ َ َ ُ َ‬

‫( ‪)1/695‬‬

‫ات ِم ْن‬
‫َخر ْجَنا ِم ْنها حبًّا فَ ِم ْنه ي ْأ ُكلُون (‪ )33‬وجعْلَنا ِفيها جَّن ٍ‬
‫َ َ‬ ‫َ ََ‬ ‫َُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫اها َوأ ْ َ‬‫َحَي ْيَن َ‬
‫ض اْل َم ْيتَةُ أ ْ‬‫َوآََيةٌ لَهُ ُم اأْل َْر ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّرَنا ِفيهَا ِم َن اْل ُعُي ِ‬ ‫َعَن ٍ‬ ‫َن ِخ ٍ‬
‫ون (‪ )34‬لَي ْأ ُكلُوا م ْن ثَ َم ِر ِه َو َما َعملَتْهُ أ َْيدي ِه ْم أَفَاَل َي ْش ُك ُر َ‬
‫ون (‬ ‫اب َوفَج ْ‬ ‫يل َوأ ْ‬
‫ِ‬ ‫اج ُكلَّهَا ِم َّما تُْنبِ ُ‬ ‫ان الَِّذي َخلَ َ‬
‫ون (‪)36‬‬ ‫ض َو ِم ْن أ َْنفُس ِه ْم َو ِم َّما اَل َي ْعلَ ُم َ‬ ‫ت اأْل َْر ُ‬ ‫ق اأْل َْز َو َ‬ ‫‪ُ )35‬س ْب َح َ‬

‫ون * َو َج َعْلَنا ِفيهَا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫َخ َر ْجَنا م ْنهَا َحبًّا فَم ْنهُ َي ْأ ُكلُ َ‬ ‫اها َوأ ْ‬ ‫َحَي ْيَن َ‬
‫ض اْل َم ْيتَةُ أ ْ‬
‫األر ُ‬
‫{ ‪َ { } 36 - 33‬و َآيةٌ لَهُ ُم ْ‬
‫ون * ِلَي ْأ ُكلُوا ِم ْن ثَ َم ِر ِه َو َما َع ِملَتْهُ أ َْي ِدي ِه ْم أَفَال‬ ‫َّرَنا ِفيهَا ِم َن اْل ُعُي ِ‬ ‫َعَن ٍ‬
‫اب َوفَج ْ‬
‫ات ِم ْن َن ِخ ٍ‬
‫يل َوأ ْ‬ ‫جَّن ٍ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫اج ُكلَّهَا ِم َّما تُْنبِ ُ‬ ‫ان الَِّذي َخلَ َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ض َو ِم ْن أ َْنفُس ِه ْم َو ِم َّما ال َي ْعلَ ُم َ‬ ‫األر ُ‬
‫ت ْ‬ ‫األز َو َ‬
‫ق ْ‬ ‫ون * ُس ْب َح َ‬ ‫َي ْش ُك ُر َ‬
‫أي‪َ { :‬و َآيةٌ لَهُ ُم } على البعث والنشور‪ ،‬والقيام بين يدي اللّه تعالى للجزاء على األعمال‪ ،‬هذه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َخ َر ْجَنا م ْنهَا َحبًّا فَم ْنهُ‬ ‫ض اْل َم ْيتَةُ } أنزل اللّه عليها المطر‪ ،‬فأحياها (‪ )1‬بعد موتها‪َ { ،‬وأ ْ‬ ‫األر ُ‬
‫{ ْ‬
‫ون } من جميع أصناف الزروع‪ ،‬ومن جميع أصناف النبات‪ ،‬التي تأكله أنعامهم‪َ { ،‬و َج َعْلَنا‬ ‫َي ْأ ُكلُ َ‬
‫ات } أي‪ :‬بساتين‪ ،‬فيها أشجار كثيرة‪ ،‬وخصوصا النخيل‬ ‫ِفيها } أي‪ :‬في تلك األرض الميتة { جَّن ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َّرَنا ِفيهَا } أي‪ :‬في األرض { ِم َن اْل ُعُي ِ‬
‫ون }‬ ‫واألعناب‪ ،‬اللذان هما أشرف األشجار‪َ { ،‬وفَج ْ‬
‫جعلنا في األرض تلك األشجار‪ ،‬والنخيل واألعناب‪ِ { ،‬لَي ْأ ُكلُوا ِم ْن ثَ َم ِر ِه } قوتا وفاكهة‪ْ ،‬‬
‫وأد ًما‬
‫ولذة‪ { ،‬و } الحال أن تلك الثمار { َما َع ِملَتْهُ أ َْي ِدي ِه ْم } [وليس لهم فيه صنع‪ ،‬وال عمل‪ ،‬إن هو إال‬
‫صنعة أحكم الحاكمين‪ ،‬وخير الرازقين‪ ،‬وأيضا فلم تعمله أيديهم] بطبخ وال غيره‪ ،‬بل أوجد اللّه‬
‫ون }‬
‫شي‪ ،‬تؤخذ من أشجارها‪ ،‬فتؤكل في الحال‪ { .‬أَفَال َي ْش ُك ُر َ‬
‫هذه الثمار‪ ،‬غير محتاجة لطبخ وال ّ‬
‫من ساق لهم هذه النعم‪ ،‬وأسبغ عليهم من جوده وإ حسانه‪ ،‬ما به تصلح أمور دينهم ودنياهم‪ ،‬أليس‬
‫الذي أحيا األرض بعد موتها‪ ،‬فأنبت فيها الزروع واألشجار‪ ،‬وأودع فيها لذيذ الثمار‪ ،‬وأظهر ذلك‬
‫الجنى من تلك الغصون‪ ،‬وفجر األرض اليابسة الميتة بالعيون‪ ،‬بقادر على أن يحيي الموتى؟ بل‪،‬‬
‫إنه على كل شيء قدير‪.‬‬
‫ض } فنوع فيها من‬‫األر ُ‬
‫ت ْ‬ ‫اج ُكلَّهَا } أي‪ :‬األصناف كلها‪ِ { ،‬م َّما تُْنبِ ُ‬
‫األز َو َ‬
‫ق ْ‬ ‫ان الَِّذي َخلَ َ‬
‫{ ُس ْب َح َ‬
‫هم‪،‬‬ ‫األصناف ما يعسر تعداده‪ { .‬و ِم ْن أ َْنفُ ِس ِهم } فنوعهم إلى ذكر وأنثى‪ ،‬وفاوت بين خلقهم ُ ِ‬
‫وخلُق ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وأوصافهم الظاهرة والباطنة‪َ { .‬و ِم َّما ال َي ْعلَ ُم َ‬
‫ون } من المخلوقات التي قد خلقت وغابت عن‬
‫علمنا‪ ،‬والتي لم تخلق بعد‪ ،‬فسبحانه وتعالى أن يكون له شريك‪ ،‬أو ظهير‪ ،‬أو عوين‪ ،‬أو وزير‪ ،‬أو‬
‫صاحبة‪ ،‬أو ولد‪ ،‬أو َس ِم ٌّي‪ ،‬أو شبيه‪ ،‬أو مثيل في صفات كماله ونعوت جالله‪ ،‬أو يعجزه شيء‬
‫يريده‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬فأصابها‪.‬‬

‫( ‪)1/695‬‬

‫ك تَ ْق ِد ُير‬
‫الش ْم ُس تَ ْج ِري ِل ُم ْستَقٍَّر لَهَا َذِل َ‬
‫ون (‪ )37‬و َّ‬
‫َ‬
‫النهار فَِإ َذا ُهم م ِْ‬
‫ظل ُم َ‬ ‫ْ ُ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫َوآََيةٌ لَهُ ُم اللْي ُل َن ْسلَ ُخ م ْنهُ َّ َ َ‬
‫الش ْم ُس َي ْنَب ِغي لَهَا‬
‫ون اْلقَِد ِيم (‪ )39‬اَل َّ‬ ‫يز اْل َعِل ِيم (‪َ )38‬واْلقَ َم َر قَ َّد ْرَناهُ َمَن ِاز َل َحتَّى َع َ‬
‫اد َكاْل ُع ْر ُج ِ‬ ‫اْل َع ِز ِ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ك اْلقَ َم َر َواَل اللَّْي ُل َسابِ ُ‬
‫ون (‪)40‬‬ ‫النهَ ِار َو ُك ٌّل في َفلَك َي ْسَب ُح َ‬
‫ق َّ‬ ‫َن تُ ْد ِر َ‬
‫أْ‬

‫الش ْم ُس تَ ْج ِري ِل ُم ْستَقٍَّر لَهَا‬


‫ون * و َّ‬
‫ظل ُم َ َ‬
‫النهار فَِإ َذا ُهم م ِْ‬
‫ْ ُ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫{ ‪َ { } 40 - 37‬و َآيةٌ لَهُ ُم اللْي ُل َن ْسلَ ُخ م ْنهُ َّ َ َ‬
‫الش ْم ُس َي ْنَب ِغي‬
‫ون اْلقَِد ِيم * ال َّ‬ ‫يز اْل َعِل ِيم * َواْلقَ َم َر قَ َّد ْرَناهُ َمَن ِاز َل َحتَّى َع َ‬
‫اد َكاْل ُع ْر ُج ِ‬ ‫ك تَ ْق ِد ُير اْل َع ِز ِ‬‫َذِل َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ك اْلقَ َم َر َوال اللَّْي ُل َسابِ ُ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫النهَ ِار َو ُك ٌّل في َفلَك َي ْسَب ُح َ‬‫ق َّ‬ ‫َن تُ ْد ِر َ‬ ‫لَهَا أ ْ‬
‫أي‪َ { :‬و َآيةٌ لَهُ ُم } على نفوذ مشيئة اللّه‪ ،‬وكمال قدرته‪ ،‬وإ حيائه الموتى بعد موتهم‪ { .‬اللَّْي ُل َن ْسلَ ُخ‬
‫النهَ َار } أي‪ :‬نزيل الضياء العظيم الذي طبق األرض‪ ،‬فنبدله بالظلمة‪ ،‬ونحلها محله { فَِإ َذا ُه ْم‬ ‫ِم ْنهُ َّ‬
‫ون } وكذلك نزيل هذه الظلمة‪ ،‬التي عمتهم وشملتهم‪ ،‬فتطلع الشمس‪ ،‬فتضيء األقطار‪،‬‬ ‫م ِْ‬
‫ظل ُم َ‬ ‫ُ‬
‫الش ْم ُس تَ ْج ِري ِل ُم ْستَقٍَّر لَهَا } [ ص ‪] 696‬‬
‫وينتشر الخلق لمعاشهم ومصالحهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬و َّ‬
‫َ‬
‫[أي‪ :‬دائما تجري لمستقر لها] قدره اللّه لها‪ ،‬ال تتعداه‪ ،‬وال تقصر عنه‪ ،‬وليس لها تصرف في‬
‫يز } الذي بعزته دبر هذه المخلوقات‬ ‫ك تَ ْق ِد ُير اْل َع ِز ِ‬‫نفسها‪ ،‬وال استعصاء على قدرة اللّه تعالى‪َ { .‬ذِل َ‬
‫العظيمة‪ ،‬بأكمل تدبير‪ ،‬وأحسن نظام‪ { .‬اْل َعِليم } الذي بعلمه‪ ،‬جعلها مصالح لعباده‪ ،‬ومنافع في‬
‫دينهم ودنياهم‪.‬‬
‫{ َواْلقَ َم َر قَ َّد ْرَناهُ َمَن ِاز َل } ينزل بها‪ ،‬كل ليلة ينزل منها واحدة‪َ { ،‬حتَّى } يصغر جدا‪ ،‬فيعود‬
‫ون اْلقَِد ِيم } أي‪ :‬عرجون النخلة‪ ،‬الذي من قدمه نش وصغر حجمه وانحنى‪ ،‬ثم بعد‬ ‫{ َكاْل ُع ْر ُج ِ‬
‫ذلك‪ ،‬ما زال يزيد شيئا فشيئا‪ ،‬حتى يتم [نوره] ويتسق ضياؤه‪.‬‬
‫{ َو ُك ٌّل } من الشمس والقمر‪ ،‬والليل والنهار‪ ،‬قدره [اللّه] تقديرا ال يتعداه‪ ،‬وكل له سلطان ووقت‪،‬‬
‫ك اْلقَ َم َر } أي‪ :‬في سلطانه الذي هو‬ ‫الش ْم ُس َي ْنَب ِغي لَهَا أ ْ‬
‫َن تُ ْد ِر َ‬ ‫إذا وجد عدم اآلخر‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬ال َّ‬
‫النهَ ِار } فيدخل عليه قبل انقضاء‬ ‫ق َّ‬ ‫الليل‪ ،‬فال يمكن أن توجد الشمس في الليل‪َ { ،‬وال اللَّْي ُل َسابِ ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬يترددون على الدوام‪،‬‬ ‫سلطانه‪َ { ،‬و ُك ٌّل } من الشمس والقمر والنجوم { في َفلَك َي ْسَب ُح َ‬
‫فكل هذا دليل ظاهر‪ ،‬وبرهان باهر‪ ،‬على عظمة الخالق‪ ،‬وعظمة أوصافه‪ ،‬خصوصا وصف‬
‫القدرة والحكمة والعلم في هذا الموضع‪.‬‬

‫( ‪)1/695‬‬

‫ون (‪َ )42‬وإِ ْن َن َش ْأ‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫َوآََيةٌ لَهُ ْم أََّنا َح َمْلَنا ُذِّريَّتَهُ ْم ِفي اْل ُفْل ِك اْل َم ْش ُح ِ‬
‫ون (‪َ )41‬و َخلَ ْقَنا لَهُ ْم م ْن مثْله َما َي ْر َكُب َ‬
‫ين (‪َ )44‬وإِ َذا ِقي َل لَهُ ُم‬ ‫اعا ِإلَى ِح ٍ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪ِ )43‬إاَّل َر ْح َمةً مَّنا َو َمتَ ً‬ ‫يخ لَهُ ْم َواَل ُه ْم ُي ْنقَ ُذ َ‬ ‫ص ِر َ‬‫ُن ْغ ِر ْقهُ ْم فَاَل َ‬
‫اتَّقُوا ما ب ْين أ َْي ِدي ُكم وما َخْلفَ ُكم لَعلَّ ُكم تُرحمون (‪ )45‬وما تَأْتِي ِهم ِم ْن آَي ٍة ِم ْن آَي ِ‬
‫ات َرِّب ِه ْم ِإاَّل َك ُانوا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ‬ ‫ْ َ ْ ْ َُ َ‬ ‫ْ ََ‬ ‫َ َ َ‬
‫ط ِع ُم َم ْن‬‫َمُنوا أَُن ْ‬ ‫ين آ َ‬
‫َِِّ‬
‫ين َكفَ ُروا للذ َ‬
‫ضين (‪ )46‬وإِ َذا ِقي َل لَهم أ َْن ِفقُوا ِم َّما ر َزقَ ُكم اللَّه قَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫َعْنهَا ُم ْع ِر َ‬
‫ين (‪ )47‬ويقُولُون متَى َه َذا اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اء اللَّهُ أَ ْ‬
‫ين (‬‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬ ‫ضاَل ٍل ُمبِ ٍ‬‫ط َع َمهُ ِإ ْن أ َْنتُ ْم ِإاَّل في َ‬ ‫لَ ْو َي َش ُ‬
‫صَيةً َواَل ِإلَى‬ ‫ْخ ُذ ُهم و ُهم ي ِخصِّمون (‪ )49‬فَاَل يستَ ِطيعون تَو ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪ )48‬ما َي ْنظُر اَّل‬
‫َْ ُ َ ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫ص ْي َحةً َواح َدةً تَأ ُ ْ َ ْ َ‬ ‫ون ِإ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫أ ِْ‬
‫ون (‪)50‬‬ ‫َهل ِه ْم َي ْر ِج ُع َ‬

‫ون‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫{ ‪َ { } 50 - 41‬و َآيةٌ لَهُ ْم أََّنا َح َمْلَنا ُذِّريَّتَهُ ْم ِفي اْل ُفْل ِك اْل َم ْش ُح ِ‬
‫ون * َو َخلَ ْقَنا لَهُ ْم م ْن مثْله َما َي ْر َكُب َ‬
‫ين * َوإِ َذا ِق َ‬
‫يل‬ ‫اعا ِإلَى ِح ٍ‬ ‫ِ‬
‫ون * ِإال َر ْح َمةً مَّنا َو َمتَ ً‬ ‫يخ لَهُ ْم َوال ُه ْم ُي ْنقَ ُذ َ‬‫ص ِر َ‬ ‫* َوإِ ْن َن َش ْأ ُن ْغ ِر ْقهُ ْم فَال َ‬
‫لَهم اتَّقُوا ما ب ْين أ َْي ِدي ُكم وما َخْلفَ ُكم لَعلَّ ُكم تُرحمون * وما تَأْتِي ِهم ِم ْن آي ٍة ِم ْن آي ِ‬
‫ات َرِّب ِه ْم ِإال َك ُانوا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ ْ ْ َُ َ َ َ‬ ‫ْ ََ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُُ‬
‫ط ِع ُم َم ْن لَ ْو‬‫آمُنوا أَُن ْ‬
‫ين َ‬
‫َِِّ‬
‫ين َكفَ ُروا للذ َ‬
‫َِّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين * َوإِ َذا قي َل لَهُ ْم أ َْنفقُوا م َّما َر َزقَ ُك ُم اللهُ قَا َل الذ َ‬
‫ِ‬
‫َعْنهَا ُم ْع ِرض َ‬
‫ين * ويقُولُون متَى َه َذا اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬ ‫ض ٍ‬ ‫ِ‬ ‫اء اللَّهُ أَ ْ‬
‫ين * َما‬ ‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫الل ُمبِ ٍ َ َ‬ ‫ط َع َمهُ ِإ ْن أ َْنتُ ْم ِإال في َ‬ ‫َي َش ُ‬
‫َهِل ِه ْم‬ ‫ْخ ُذ ُهم و ُهم ي ِخصِّمون * فَال يستَ ِطيعون تَو ِ‬
‫صَيةً َوال ِإلَى أ ْ‬ ‫َْ ُ َ ْ‬ ‫ُ َ‬
‫ِ‬
‫ص ْي َحةً َواح َدةً تَأ ُ ْ َ ْ َ‬ ‫ون ِإال َ‬ ‫َي ْنظُ ُر َ‬
‫َي ْر ِج ُع َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫أي‪ :‬ودليل لهم وبرهان‪ ،‬على أن اللّه وحده المعبود‪ ،‬ألنه المنعم بالنعم‪ ،‬الصارف للنقم‪ ،‬الذي من‬
‫جملة نعمه { أََّنا َح َمْلَنا ُذِّريَّتَهُ ْم } قال كثير من المفسرين‪ :‬المراد بذلك‪ :‬آباؤهم‪.‬‬
‫{ َو َخلَ ْقَنا لَهُ ْم } أي‪ :‬للموجودين من (‪ )1‬بعدهم { ِم ْن ِم ْثِل ِه } أي‪ :‬من مثل ذلك الفلك‪ ،‬أي‪ :‬جنسه {‬
‫ون } به‪ ،‬فذكر نعمته على اآلباء بحملهم في السفن‪ ،‬ألن النعمة عليهم‪ ،‬نعمة على الذرية‪.‬‬ ‫َما َي ْر َكُب َ‬
‫علي في التفسير‪ ،‬فإن ما ذكره كثير من المفسرين‪ ،‬من أن‬ ‫وهذا الموضع من أشكل المواضع َّ‬
‫المراد بالذرية اآلباء‪ ،‬مما ال يعهد في القرآن إطالق الذرية على اآلباء‪ ،‬بل فيها من اإليهام‪،‬‬
‫وإ خراج الكالم عن موضوعه‪ ،‬ما يأباه كالم رب العالمين‪ ،‬وإ رادته البيان والتوضيح لعباده‪.‬‬
‫وثََّم احتمال أحسن من هذا‪ ،‬وهو أن المراد بالذرية الجنس‪ ،‬وأنهم هم بأنفسهم‪ ،‬ألنهم هم من ذرية‬
‫ون } إن أريد‪ :‬وخلقنا من‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫[بني] آدم‪ ،‬ولكن ينقض هذا المعنى قوله‪َ { :‬و َخلَ ْقَنا لَهُ ْم م ْن م ْثله َما َي ْر َكُب َ‬
‫مثل ذلك الفلك‪ ،‬أي‪ :‬لهؤالء المخاطبين‪ ،‬ما يركبون من أنواع الفلك‪ ،‬فيكون ذلك تكريرا للمعنى‪،‬‬
‫ون } اإلبل‪ ،‬التي هي سفن‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫تأباه فصاحة القرآن‪ .‬فإن أريد بقوله‪َ { :‬و َخلَ ْقَنا لَهُ ْم م ْن مثْله َما َي ْر َكُب َ‬
‫البر‪ ،‬استقام المعنى واتضح‪ ،‬إال أنه يبقى أيضا‪ ،‬أن يكون الكالم فيه تشويش‪ ،‬فإنه لو أريد هذا‬
‫ِ ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المعنى‪ ،‬لقال‪َ :‬و َآيةٌ لَهُ ْم أََّنا َح َمْلَناهم في اْل ُفْلك اْل َم ْش ُحون‪َ ِ،‬و َخلَ ْقَنا لَهُ ْم م ْن م ْثله َما َي ْر َكُب َ‬
‫ون ‪ ،‬فأما أن‬
‫يقول في األول‪ :‬وحملنا ذريتهم‪ ،‬وفي الثاني‪ :‬حملناهم‪ ،‬فإنه ال يظهر المعنى‪ ،‬إال أن يقال‪:‬‬
‫الضمير عائد إلى الذرية‪ ،‬واللّه أعلم بحقيقة الحال‪.‬‬
‫فلما وصلت في الكتابة إلى هذا الموضع‪ ،‬ظهر لي معنى ليس ببعيد من مراد اللّه تعالى‪ ،‬وذلك أن‬
‫من عرف جاللة كتاب اللّه وبيانه التام من كل وجه‪ ،‬لألمور الحاضرة والماضية والمستقبلة‪ ،‬وأنه‬
‫يذكر من كل معنى أعاله وأكمل ما يكون من أحواله‪ ،‬وكانت الفلك من آياته تعالى ونعمه على‬
‫عباده‪ ،‬من حين أنعم عليهم بتعلمها إلى يوم القيامة‪ ،‬ولم تزل موجودة في كل زمان‪ ،‬إلى زمان‬
‫المواجهين بالقرآن‪.‬‬
‫فلما خاطبهم اللّه تعالى بالقرآن‪ ،‬وذكر حالة الفلك‪ ،‬وعلم تعالى أنه سيكون أعظم آيات الفلك في‬
‫غير وقتهم‪ ،‬وفي غير زمانهم‪ ،‬حين يعلمهم [صنعة] الفلك [البحرية] الشراعية منها والنارية‪،‬‬
‫والجوية السابحة في الجو‪ ،‬كالطيور ونحوها‪[ ،‬والمراكب البرية] مما كانت اآلية العظمى فيه لم‬
‫توجد إال في الذرية‪ ،‬نبَّه في الكتاب على أعلى نوع من أنواع آياتها فقال‪:‬‬
‫{ َو َآيةٌ لَهُ ْم أََّنا َح َمْلَنا ُذِّريَّتَهُ ْم ِفي اْل ُفْل ِك اْل َم ْش ُح ِ‬
‫ون } أي‪ :‬المملوء ركبانا وأمتعة‪ .‬فحملهم اللّه تعالى‪،‬‬
‫ونجاهم باألسباب التي علمهم اللّه بها‪ ،‬من [ ص ‪ ] 697‬الغرق‪ ،‬و[لهذا] نبههم على نعمته عليهم‬
‫ص ِر َ‬
‫يخ لَهُ ْم } أي‪ :‬ال أحد‬ ‫حيث (‪ )2‬أنجاهم مع قدرته على ذلك‪ ،‬فقال‪َ { :‬وإِ ْن َن َش ْأ ُن ْغ ِر ْقهُ ْم فَال َ‬
‫ون } مما هم فيه { ِإال‬‫يصرخ لهم فيعاونهم على الشدة‪ ،‬وال يزيل عنهم المشقة‪َ { ،‬وال ُه ْم ُي ْنقَ ُذ َ‬
‫ين } حيث لم نغرقهم‪ ،‬لطفا بهم‪ ،‬وتمتيعا لهم إلى حين‪ ،‬لعلهم يرجعون‪ ،‬أو‬ ‫اعا ِإلَى ِح ٍ‬ ‫ِ‬
‫َر ْح َمةً مَّنا َو َمتَ ً‬
‫يستدركون ما فرط منهم‪.‬‬
‫يل لَهُ ُم اتَّقُوا َما َب ْي َن أ َْي ِدي ُك ْم َو َما َخْلفَ ُك ْم } أي‪ :‬من أحوال البرزخ والقيامة‪ ،‬وما في الدنيا من‬ ‫{ َوإِ َذا ِق َ‬
‫ون } أعرضوا عن ذلك‪ ،‬فلم يرفعوا به رأسا‪ ،‬ولو جاءتهم كل آية‪ ،‬ولهذا‬ ‫َّ‬
‫العقوبات { لَ َعل ُك ْم تُْر َح ُم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ٍ ِ‬
‫ين } وفي إضافة اآليات إلى ربهم‪،‬‬ ‫قال‪َ { :‬و َما تَأْتي ِه ْم م ْن َآية م ْن َآيات َرِّب ِه ْم ِإال َك ُانوا َع ْنهَا ُم ْع ِرض َ‬
‫دليل على كمالها ووضوحها‪ ،‬ألنه ما أبين من آية من آيات اللّه‪ ،‬وال أعظم بيانا‪.‬‬
‫وإ ن من جملة تربية اللّه لعباده‪ ،‬أن أوصل إليهم اآليات التي يستدلون بها على ما ينفعهم‪ ،‬في‬
‫دينهم ودنياهم‪.‬‬
‫من به اللّه عليكم‪ ،‬ولو شاء لسلبكم‬ ‫يل لَهُ ْم أ َْن ِفقُوا ِم َّما َر َزقَ ُك ُم اللَّهُ } أي‪ :‬من الرزق الذي َّ‬
‫{ َوإِ َذا ِق َ‬
‫اء‬ ‫ال الَِّذين َكفَروا ِللَِّذين آمُنوا } معارضين للحق‪ ،‬محتجين بالمشيئة‪ { :‬أَُن ْ ِ‬
‫طع ُم َم ْن لَ ْو َي َش ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫إياه‪ { ،‬قَ َ‬
‫ض ٍ‬
‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫اللَّهُ أَ ْ‬
‫ين } حيث تأمروننا بذلك‪.‬‬ ‫ط َع َمهُ ِإ ْن أ َْنتُ ْم } أيها المؤمنون { ِإال في َ‬
‫وهذا مما يدل على جهلهم العظيم‪ ،‬أو تجاهلهم الوخيم‪ ،‬فإن المشيئة‪ ،‬ليست حجة لعاص أبدا‪ ،‬فإنه‬
‫وإ ن كان ما شاء اللّه كان‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬فإنه تعالى َّ‬
‫مكن العباد‪ ،‬وأعطاهم من القوة ما‬
‫يقدرون على فعل األمر واجتناب النهي‪ ،‬فإذا تركوا ما أمروا به‪ ،‬كان ذلك اختيارا منهم‪ ،‬ال جبرا‬
‫لهم وال قهرا‪.‬‬
‫ين } قال اللّه تعالى‪:‬‬ ‫{ ويقُولُون } على وجه التكذيب واالستعجال‪ { :‬متَى َه َذا اْلو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ْخ ُذ ُه ْم‬
‫اح َدةً } وهي نفخة الصور { تَأ ُ‬ ‫ال يستبعدوا ذلك‪ ،‬فإنه [عن] قريب { ما ي ْنظُرون ِإال ص ْيحةً و ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫َ َ ُ َ‬
‫ون } أي‪ :‬وهم ال هون عنها‪ ،‬لم تخطر على قلوبهم في حال‬ ‫ِ‬
‫ِّم َ‬
‫} أي‪ :‬تصيبهم { َو ُه ْم َيخص ُ‬
‫خصومتهم‪ ،‬وتشاجرهم بينهم‪ ،‬الذي ال يوجد في الغالب إال وقت الغفلة‪.‬‬
‫صَيةً } أي‪ :‬ال قليلة‬‫وإ ذا أخذتهم وقت غفلتهم‪ ،‬فإنهم ال ينظرون وال يمهلون { فَال يستَ ِطيعون تَو ِ‬
‫َْ ُ َ ْ‬
‫وال كثيرة { وال ِإلَى أ ْ ِ‬
‫َهل ِه ْم َي ْر ِج ُع َ‬
‫ون }‬ ‫َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬في ‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬حين‪.‬‬

‫( ‪)1/696‬‬
‫ون (‪ )51‬قَالُوا َيا َوْيلََنا َم ْن َب َعثََنا ِم ْن َم ْرقَِدَنا‬ ‫ِ‬ ‫ُّور فَِإ َذا ُهم ِمن اأْل ْ ِ‬
‫َج َداث ِإلَى َرِّب ِه ْم َي ْنسلُ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َوُن ِف َخ ِفي الص ِ‬
‫اح َدةً فَِإ َذا ُه ْم َج ِميعٌ لَ َد ْيَنا‬
‫ت ِإاَّل ص ْيحةً و ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ون (‪ِ )52‬إ ْن َك َان ْ‬ ‫ق اْل ُم ْر َسلُ َ‬
‫ص َد َ‬
‫الر ْح َم ُن َو َ‬‫َه َذا َما َو َع َد َّ‬
‫اَّل‬
‫ون (‪)54‬‬ ‫ظلَ ُم َن ْف ٌس َش ْيًئا َواَل تُ ْج َز ْو َن ِإ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫ون (‪ )53‬فَاْلَي ْو َم اَل تُ ْ‬ ‫ض ُر َ‬ ‫ُم ْح َ‬

‫ِ‬ ‫ُّور فَِإ َذا ُهم ِمن ْ ِ‬ ‫{ ‪َ { } 54 - 51‬وُن ِف َخ ِفي الص ِ‬


‫ون * قَالُوا َيا َوْيلََنا َم ْن‬ ‫األج َداث ِإلَى َرِّب ِه ْم َي ْنسلُ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ت ِإال ص ْيحةً و ِ‬
‫اح َدةً فَِإ َذا ُه ْم‬ ‫ون * ِإ ْن َك َان ْ‬ ‫َب َعثََنا ِم ْن َم ْرقَِدَنا َه َذا َما َو َع َد َّ‬
‫َ َ َ‬ ‫ق اْل ُم ْر َسلُ َ‬
‫ص َد َ‬
‫الر ْح َم ُن َو َ‬
‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ظلَ ُم َن ْف ٌس َش ْيًئا َوال تُ ْج َز ْو َن ِإال َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫ون * فَاْلَي ْو َم ال تُ ْ‬
‫ض ُر َ‬ ‫َجميعٌ لَ َد ْيَنا ُم ْح َ‬
‫النفخة األولى‪ ،‬هي نفخة الفزع والموت‪ ،‬وهذه نفخة البعث والنشور‪ ،‬فإذا نفخ في الصور‪ ،‬خرجوا‬
‫من األجداث والقبور‪ ،‬ينسلون إلى ربهم‪ ،‬أي‪ :‬يسرعون للحضور بين يديه‪ ،‬ال يتمكنون من ِّ‬
‫التأني‬
‫والتأخر‪ ،‬وفي تلك الحال‪ ،‬يحزن المكذبون‪ ،‬ويظهرون الحسرة والندم‪ ،‬ويقولون‪َ { :‬يا َوْيلََنا َم ْن‬
‫َب َعثََنا ِم ْن َم ْرقَِدَنا } أي‪ :‬من رقدتنا في القبور‪ ،‬ألنه ورد في بعض األحاديث‪ ،‬أن ألهل القبور رقدة‬
‫ون } أي‪ :‬هذا‬
‫ق اْل ُم ْر َسلُ َ‬
‫ص َد َ‬
‫الر ْح َم ُن َو َ‬
‫قبيل النفخ في الصور‪ ،‬فيجابون‪ ،‬فيقال [لهم‪َ { ]:‬ه َذا َما َو َع َد َّ‬
‫ْي عين‪.‬‬ ‫الذي وعدكم اللّه به‪ ،‬ووعدتكم به الرسل‪ ،‬فظهر صدقهم َرأ َ‬
‫وال تحسب أن ذكر الرحمن في هذا الموضع‪ ،‬لمجرد الخبر عن وعده‪ ،‬وإ نما ذلك لإلخبار بأنه في‬
‫ذلك اليوم العظيم‪ ،‬سيرون من رحمته ما ال يخطر على الظنون‪ ،‬وال حسب به الحاسبون‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫ات ِل َّلر ْح َم ِن } ونحو ذلك‪ ،‬مما يذكر اسمه‬
‫األص َو ُ‬
‫ْ‬ ‫ق ِل َّلر ْح َم ِن } { َو َخ َش َع ِت‬
‫ك َي ْو َمئٍِذ اْل َح ُّ‬
‫{ اْل ُمْل ُ‬
‫الرحمن‪ ،‬في هذا‪.‬‬
‫اح َدةً } ينفخ فيها إسرافيل في الصور‪ ،‬فتحيا‬ ‫ت } البعثة من القبور { ِإال ص ْيحةً و ِ‬ ‫{ ِإ ْن َك َان ْ‬
‫َ َ َ‬
‫ِ‬
‫ون } األولون واآلخرون‪ ،‬واإلنس والجن‪ ،‬ليحاسبوا على‬ ‫ض ُر َ‬ ‫األجساد‪ { ،‬فَِإ َذا ُه ْم َجميعٌ لَ َد ْيَنا ُم ْح َ‬
‫أعمالهم‪.‬‬
‫ظلَ ُم َن ْف ٌس َش ْيًئا } ال ينقص من حسناتها‪ ،‬وال يزاد في سيئاتها‪َ { ،‬وال تُ ْج َز ْو َن ِإال َما‬
‫{ فَاْلَي ْو َم ال تُ ْ‬
‫ون } من خير أو شر‪ ،‬فمن وجد خيرا فليحمد اللّه على ذلك‪ ،‬ومن وجد غير ذلك فال‬ ‫ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫يلومن إال نفسه‪.‬‬

‫( ‪)1/697‬‬

‫ِِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫اجهُ ْم في ظاَل ٍل َعلَى اأْل ََرائك ُمتَّكُئ َ‬
‫ون (‬ ‫ون (‪ُ )55‬ه ْم َوأ َْز َو ُ‬ ‫اب اْل َجَّنة اْلَي ْو َم في ُش ُغ ٍل فَاكهُ َ‬
‫َص َح َ‬ ‫ِإ َّن أ ْ‬
‫ب َر ِح ٍيم (‪)58‬‬
‫ون (‪َ )57‬ساَل ٌم قَ ْواًل ِم ْن َر ٍّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ )56‬لَهُ ْم فيهَا فَاكهَةٌ َولَهُ ْم َما َي َّد ُع َ‬
‫اجهم ِفي ِظ ٍ‬
‫الل َعلَى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب اْل َجَّنة اْلَي ْو َم في ُش ُغ ٍل فَاكهُ َ‬ ‫{ ‪ِ { } 58 - 55‬إ َّن أ ْ‬
‫ون * ُه ْم َوأ َْز َو ُ ُ ْ‬ ‫َص َح َ‬
‫ب َر ِح ٍيم } ‪.‬‬‫الم قَ ْوال ِم ْن َر ٍّ‬
‫ون * َس ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون * لَهُ ْم فيهَا فَاكهَةٌ َولَهُ ْم َما َي َّد ُع َ‬
‫ِِ ِ‬
‫األرائك ُمتَّكُئ َ‬
‫َ‬
‫[لما ذكر تعالى] أن كل أحد ال يجازى إال ما عمله‪ ،‬ذكر جزاء الفريقين‪ ،‬فبدأ بجزاء أهل الجنة‪،‬‬
‫ون } أي‪ :‬في شغل مفكه للنفس‪ُ ،‬مِل ِّذ لها‪ ،‬من كل ما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وأخبر أنهم في ذلك اليوم { في ُش ُغ ٍل فَاكهُ َ‬
‫تهواه النفوس‪ ،‬وتلذه العيون‪ ،‬ويتمناه المتمنون‪.‬‬
‫اجهُ ْم } من الحور العين‪ ،‬الالتي قد [‬
‫ومن ذلك افتضاض العذارى الجميالت‪ ،‬كما قال‪ُ { :‬ه ْم َوأ َْز َو ُ‬
‫األرائِ ِك } أي‪ :‬على‬ ‫ِ ِ ٍ‬
‫ص ‪ ] 698‬جمعن حسن الوجوه واألبدان وحسن األخالق‪ { .‬في ظالل َعلَى َ‬
‫ِ‬
‫ون } عليها‪ ،‬اتكاء على كمال الراحة والطمأنينة‬ ‫السرر المزينة باللباس المزخرف الحسن‪ُ { .‬متَّكُئ َ‬
‫واللذة‪.‬‬
‫اكهَةٌ } كثيرة‪ ،‬من جميع أنواع الثمار اللذيذة‪ ،‬من عنب وتين ورمان‪ ،‬وغيرها‪َ { ،‬ولَهُ ْم‬ ‫{ لَهم ِفيها فَ ِ‬
‫ُْ َ‬
‫ون } أي‪ :‬يطلبون‪ ،‬فمهما طلبوه وتمنوه أدركوه‪.‬‬ ‫َما َي َّد ُع َ‬
‫ب َر ِح ٍيم } ففي هذا كالم الرب تعالى ألهل الجنة وسالمه‬ ‫الم } حاصل لهم { ِم ْن َر ٍّ‬
‫ولهم أيضا { َس ٌ‬
‫عليهم‪ ،‬وأكده بقوله‪ { :‬قَ ْوال } وإ ذا سلم عليهم الرب الرحيم‪ ،‬حصلت لهم السالمة التامة من جميع‬
‫الوجوه‪ ،‬وحصلت لهم التحية‪ ،‬التي ال تحية أعلى منها‪ ،‬وال نعيم مثلها‪ ،‬فما ظنك بتحية ملك‬
‫الملوك‪ ،‬الرب العظيم‪ ،‬الرءوف الرحيم‪ ،‬ألهل دار كرامته‪ ،‬الذي أحل عليهم رضوانه‪ ،‬فال يسخط‬
‫عليهم أبدا‪ ،‬فلوال أن اللّه تعالى قدر أن ال يموتوا‪ ،‬أو تزول قلوبهم عن أماكنها من الفرح والبهجة‬
‫والسرور‪ ،‬لحصل ذلك‪.‬‬
‫فنرجو ربنا أن ال يحرمنا ذلك النعيم‪ ،‬وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم‪.‬‬

‫( ‪)1/697‬‬

‫ان ِإَّنهُ لَ ُك ْم َع ُد ٌّو‬


‫ط َ‬ ‫َن اَل تَ ْعُب ُدوا َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َد َم أ ْ‬‫َعهَ ْد ِإلَْي ُك ْم َيا َبنِي آ َ‬
‫ون (‪ )59‬أَلَ ْم أ ْ‬ ‫امتَ ُازوا اْلَي ْو َم أَيُّهَا اْل ُم ْج ِر ُم َ‬
‫َو ْ‬
‫ونوا‬ ‫َض َّل ِم ْن ُك ْم ِجبِاًّل َكثِ ًيرا أَ َفلَ ْم تَ ُك ُ‬‫يم (‪َ )61‬ولَقَ ْد أ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اعُب ُدونِي َه َذا ص َراطٌ ُم ْستَق ٌ‬ ‫َن ْ‬ ‫ين (‪َ )60‬وأ ِ‬ ‫ُمبِ ٌ‬
‫ون (‪ )64‬اْلَي ْو َم َن ْختِ ُم‬ ‫اصلَ ْو َها اْلَي ْو َم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْكفُُر َ‬
‫ون (‪ْ )63‬‬ ‫وع ُد َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ون (‪َ )62‬هذه َجهََّن ُم التي ُك ْنتُ ْم تُ َ‬
‫ِ‬
‫تَ ْعقلُ َ‬
‫َعُينِ ِه ْم‬‫ط َم ْسَنا َعلَى أ ْ‬ ‫اء لَ َ‬
‫ون (‪َ )65‬ولَ ْو َن َش ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫َعلَى أَ ْف َواه ِه ْم َوتُ َكل ُمَنا أ َْيدي ِه ْم َوتَ ْشهَ ُد أ َْر ُجلُهُ ْم بِ َما َك ُانوا َي ْكسُب َ‬
‫طاعوا م ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضيًّا َواَل‬ ‫استَ َ ُ ُ‬ ‫اه ْم َعلَى َم َك َانت ِه ْم فَ َما ْ‬ ‫اء لَ َم َس ْخَن ُ‬
‫ون (‪َ )66‬ولَ ْو َن َش ُ‬ ‫ط فَأََّنى ُي ْبص ُر َ‬ ‫ِّرا َ‬ ‫استََبقُوا الص َ‬ ‫فَ ْ‬
‫ون (‪)67‬‬ ‫َي ْر ِج ُع َ‬
‫ان‬
‫ط َ‬ ‫َن ال تَ ْعُب ُدوا َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َعهَ ْد ِإلَْي ُك ْم َيا َبنِي َ‬
‫آد َم أ ْ‬ ‫ون * أَلَ ْم أ ْ‬ ‫امتَ ُازوا اْلَي ْو َم أَيُّهَا اْل ُم ْج ِر ُم َ‬ ‫{ ‪َ { } 67 - 59‬و ْ‬
‫ونوا‬ ‫َض َّل ِم ْن ُك ْم ِجبِال َكثِ ًيرا أَ َفلَ ْم تَ ُك ُ‬
‫يم * َولَقَ ْد أ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اعُب ُدونِي َه َذا ص َراطٌ ُم ْستَق ٌ‬ ‫ين * َوأ ِ‬
‫َن ْ‬ ‫ِإَّنهُ لَ ُك ْم َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ‬
‫ون * اْلَي ْو َم َن ْختِ ُم َعلَى‬ ‫اصلَ ْو َها اْلَي ْو َم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْكفُُر َ‬
‫ون * ْ‬ ‫وع ُد َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ون * َهذه َجهََّن ُم التي ُك ْنتُ ْم تُ َ‬
‫ِ‬
‫تَ ْعقلُ َ‬
‫طمسَنا علَى أ ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫َعُين ِه ْم فَ ْ‬
‫استََبقُوا‬ ‫اء لَ َ َ ْ َ‬ ‫ون * َولَ ْو َن َش ُ‬ ‫أَ ْف َواه ِه ْم َوتُ َكل ُمَنا أ َْيدي ِه ْم َوتَ ْشهَ ُد أ َْر ُجلُهُ ْم بِ َما َك ُانوا َي ْكسُب َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون‬‫اعوا ُمضيًّا َوال َي ْر ِج ُع َ‬ ‫ط ُ‬ ‫استَ َ‬‫اه ْم َعلَى َم َك َانت ِه ْم فَ َما ْ‬ ‫اء لَ َم َس ْخَن ُ‬
‫ون * َولَ ْو َن َش ُ‬ ‫ط فَأََّنى ُي ْبص ُر َ‬ ‫ِّرا َ‬‫الص َ‬
‫}‪.‬‬
‫امتَ ُازوا اْلَي ْو َم‬
‫لما ذكر تعالى جزاء المتقين‪ ،‬ذكر جزاء المجرمين { و } أنهم يقال لهم يوم القيامة { ْ‬
‫ون } أي‪ :‬تميزوا عن المؤمنين‪ ،‬وكونوا على حدة‪ ،‬ليوبخهم ويقرعهم على رءوس‬ ‫أَيُّهَا اْل ُم ْج ِر ُم َ‬
‫َعهَ ْد ِإلَْي ُك ْم } أي‪ :‬آمركم وأوصيكم‪ ،‬على ألسنة‬
‫األشهاد قبل أن يدخلهم النار‪ ،‬فيقول لهم‪ { :‬أَلَ ْم أ ْ‬
‫ان } أي‪ :‬ال تطيعوه؟ وهذا التوبيخ‪ ،‬يدخل‬
‫ط َ‬ ‫َن ال تَ ْعُب ُدوا َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫رسلي‪[ ،‬وأقول لكم‪َ { ]:‬يا َبنِي َ‬
‫آد َم أ ْ‬
‫فيه التوبيخ عن جميع أنواع الكفر والمعاصي‪ ،‬ألنها كلها طاعة للشيطان وعبادة له‪ِ { ،‬إَّنهُ لَ ُك ْم‬
‫ين } فحذرتكم منه غاية التحذير‪ ،‬وأنذرتكم عن طاعته‪ ،‬وأخبرتكم بما يدعوكم إليه‪ { ،‬و }‬ ‫َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ‬
‫اعُب ُدونِي } بامتثال أوامري وترك زواجري‪َ { ،‬ه َذا } أي‪ :‬عبادتي وطاعتي‪،‬‬ ‫أمرتكم { أ ِ‬
‫َن ْ‬
‫يم } فعلوم الصراط المستقيم وأعماله ترجع إلى هذين األمرين‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ومعصية الشيطان { ص َراطٌ ُم ْستَق ٌ‬
‫َض َّل ِم ْن ُك ْم ِجبِال َكثِ ًيرا } أي‪:‬‬
‫أي‪ :‬فلم تحفظوا عهدي‪ ،‬ولم تعملوا بوصيتي‪ ،‬فواليتم عدوكم‪ ،‬فـ { أ َ‬
‫خلقا كثيرا‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬فال كان لكم عقل يأمركم بمواالة ربكم ووليكم الحق‪ ،‬ويزجركم عن‬ ‫ِ‬
‫ونوا تَ ْعقلُ َ‬
‫{ أَ َفلَ ْم تَ ُك ُ‬
‫اتخاذ أعدى األعداء لكم وليا‪ ،‬فلو كان لكم عقل صحيح لما فعلتم ذلك‪ ،‬فإذا أطعتم الشيطان‪،‬‬
‫وعاديتم الرحمن‪ ،‬وكذبتم بلقائه‪ ،‬ووردتم القيامة دار الجزاء‪ ،‬وحق عليكم القول بالعذاب فـ { َه ِذ ِه‬
‫َّ ِ‬
‫ون } وتكذبون بها‪ ،‬فانظروا إليها عيانا‪ ،‬فهناك تنزعج منهم القلوب‪ ،‬وتزوغ‬ ‫َجهََّن ُم التي ُك ْنتُ ْم تُ َ‬
‫وع ُد َ‬
‫األبصار‪ ،‬ويحصل الفزع األكبر‪.‬‬
‫اصلَ ْو َها اْلَي ْو َم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْكفُُر َ‬
‫ون } أي‪:‬‬ ‫ثم يكمل ذلك‪ ،‬بأن يؤمر بهم إلى النار‪ ،‬ويقال لهم‪ْ { :‬‬
‫ادخلوها على وجه تصالكم‪ ،‬ويحيط بكم حرها‪ ،‬ويبلغ منكم كل مبلغ‪ ،‬بسبب كفركم بآيات اللّه‪،‬‬
‫وتكذيبكم لرسل اللّه‪.‬‬
‫اه ِه ْم } بأن نجعلهم‬ ‫قال اهلل تعالى في بيان وصفهم الفظيع في دار الشقاء‪ { :‬اْليوم َن ْختِم علَى أَ ْفو ِ‬
‫َ‬ ‫َْ َ ُ َ‬
‫خرسا فال يتكلمون‪ ،‬فال يقدرون على إنكار ما عملوه من الكفر والتكذيب‪َ { .‬وتُ َكلِّ ُمَنا أ َْي ِدي ِه ْم َوتَ ْشهَ ُد‬
‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬تشهد عليهم أعضاؤهم بما عملوه‪ ،‬وينطقها الذي أنطق كل‬ ‫أ َْر ُجلُهُ ْم بِ َما َك ُانوا َي ْكسُب َ‬
‫شيء‪.‬‬
‫ِ‬ ‫طمسَنا علَى أ ْ ِ‬
‫استََبقُوا‬
‫ب أبصارهم‪ ،‬كما طمسنا على نطقهم‪ { .‬فَ ْ‬ ‫َعُين ِه ْم } بأن ُن ْذه َ‬ ‫اء لَ َ َ ْ َ‬
‫{ َولَ ْو َن َش ُ‬
‫ِ‬
‫ون } وقد‬ ‫ط } أي‪ :‬فبادروا إليه‪ ،‬ألنه الطريق إلى الوصول إلى الجنة‪ { ،‬فَأََّنى ُي ْبص ُر َ‬ ‫ِّرا َ‬
‫الص َ‬
‫طمست أبصارهم‪.‬‬
‫طاعوا م ِ‬ ‫ِ‬
‫ضيًّا } إلى األمام‬ ‫اه ْم َعلَى َم َك َانت ِه ْم } أي‪ :‬ألذهبنا حركتهم { فَ َما ْ‬
‫استَ َ ُ ُ‬ ‫اء لَ َم َس ْخَن ُ‬
‫{ َولَ ْو َن َش ُ‬
‫ون } إلى ورائهم ليبعدوا عن النار‪ .‬والمعنى‪ :‬أن هؤالء الكفار‪ ،‬حقت عليهم كلمة‬ ‫{ َوال َي ْر ِج ُع َ‬
‫العذاب‪ ،‬ولم يكن ُب ٌّد من عقابهم‪.‬‬
‫وفي ذلك الموطن‪ ،‬ما ثََّم إال النار قد برزت‪ ،‬وليس ألحد نجاة إال بالعبور على الصراط‪ ،‬وهذا ال‬
‫يستطيعه إال أهل اإليمان‪ ،‬الذين يمشون في نورهم‪ ،‬وأما هؤالء‪ ،‬فليس لهم عند اللّه عهد في النجاة‬
‫من النار؛ فإن شاء طمس أعينهم وأبقى حركتهم‪ ،‬فلم يهتدوا إلى الصراط لو استبقوا إليه وبادروه‪،‬‬
‫وإ ن شاء أذهب حراكهم فلم يستطيعوا التقدم وال التأخر‪ .‬المقصود‪ :‬أنهم ال يعبرونه‪ ،‬فال تحصل‬
‫لهم النجاة‪.‬‬

‫( ‪)1/698‬‬

‫ون (‪)68‬‬ ‫ِ‬ ‫و َم ْن ُن َع ِّم ْرهُ ُنَن ِّك ْسهُ ِفي اْل َخْل ِ‬
‫ق أَفَاَل َي ْعقلُ َ‬ ‫َ‬

‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 68‬و َم ْن ُن َع ِّم ْرهُ ُنَن ِّك ْسهُ ِفي اْل َخْل ِ‬
‫ق أَفَال َي ْعقلُ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫يقول تعالى‪ { :‬و َم ْن ُن َع ِّم ْرهُ } من بني آدم { ُنَنك ْسهُ في اْل َخْل ِ‬
‫ق } أي‪ :‬يعود إلى الحالة التي ابتدأ‬ ‫َ‬
‫ون } أن اآلدمي ناقص من كل وجه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫حالة الضعف‪ ،‬ضعف العقل‪ ،‬وضعف القوة‪ { .‬أَفَال َي ْعقلُ َ‬
‫فيتداركوا قوتهم وعقولهم‪ ،‬فيستعملونها في طاعة ربهم‪.‬‬

‫( ‪)1/698‬‬

‫ان َحيًّا وَي ِح َّ‬


‫ق اْلقَ ْو ُل‬ ‫ِ ِ‬ ‫الش ْع َر َو َما َي ْنَب ِغي لَهُ ِإ ْن ُه َو ِإاَّل ِذ ْكٌر َوقُْرآ ٌ‬
‫َن ُمبِ ٌ‬
‫ين (‪ )69‬لُي ْنذ َر َم ْن َك َ‬ ‫وما َعلَّمَناهُ ِّ‬
‫ََ ْ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ين (‪)70‬‬ ‫َعلَى اْل َكاف ِر َ‬

‫ان‬ ‫آن مبِ ٌ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬


‫ين * لُي ْنذ َر َم ْن َك َ‬ ‫{ ‪َ { } 70 - 69‬و َما َعل ْمَناهُ الش ْع َر َو َما َي ْنَبغي لَهُ إ ْن ُه َو إال ذ ْكٌر َوقُْر ٌ ُ‬
‫ِ‬ ‫َحيًّا وَي ِح َّ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ق اْلقَ ْو ُل َعلَى اْل َكاف ِر َ‬ ‫َ‬
‫ينزه تعالى نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬عما رماه به المشركون‪ ،‬من أنه شاعر‪ ،‬وأن الذي‬
‫الش ْع َر َو َما َي ْنَب ِغي لَهُ } أن يكون شاعرا‪ ،‬أي‪ :‬هذا من [ ص ‪699‬‬
‫جاء به شعر فقال‪ { :‬وما َعلَّمَناهُ ِّ‬
‫ََ ْ‬
‫] جنس المحال أن يكون شاعرا‪ ،‬ألنه رشيد مهتد‪ ،‬والشعراء غاوون‪ ،‬يتبعهم الغاوون‪ ،‬وألن اللّه‬
‫تعالى حسم جميع الشبه التي يتعلق بها الضالون على رسوله‪ ،‬فحسم أن يكون يكتب أو يقرأ‪،‬‬
‫وأخبر أنه ما علمه الشعر وما ينبغي له‪ِ { ،‬إ ْن ُه َو ِإال ِذ ْكٌر َوقُْر ٌ‬
‫آن ُمبِ ٌ‬
‫ين } أي‪ :‬ما هذا الذي جاء به‬
‫إال ذكر يتذكر به أولو األلباب‪ ،‬جميع المطالب الدينية‪ ،‬فهو مشتمل عليها أتم اشتمال‪ ،‬وهو يذكر‬
‫العقول‪ ،‬ما ركز اللّه في فطرها من األمر بكل حسن‪ ،‬والنهي عن كل قبيح‪.‬‬
‫آن ُمبِ ٍ‬
‫ين } أي‪ :‬مبين لما يطلب بيانه‪ .‬ولهذا حذف المعمول‪ ،‬ليدل على أنه مبين لجميع‬ ‫{ َوقُْر ٍ‬
‫الحق‪ ،‬بأدلته التفصيلية واإلجمالية‪ ،‬والباطل وأدلة بطالنه‪ ،‬أنزله اللّه كذلك على رسوله‪.‬‬
‫ان َحيًّا } أي‪ :‬حي القلب واعيه‪ ،‬فهو الذي يزكو على هذا القرآن‪ ،‬وهو الذي يزداد‬ ‫ِ ِ‬
‫{ لُي ْنذ َر َم ْن َك َ‬
‫من العلم منه والعمل‪ ،‬ويكون القرآن لقلبه بمنزلة المطر لألرض الطيبة الزاكية‪ { .‬وَي ِح َّ‬
‫ق اْلقَ ْو ُل‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ين } ألنهم قامت عليهم به حجة اللّه‪ ،‬وانقطع احتجاجهم‪ ،‬فلم يبق لهم أدنى عذر وشبهة‬ ‫َعلَى اْل َكاف ِر َ‬
‫ون بها‪.‬‬
‫ُي ْدلُ َ‬

‫( ‪)1/698‬‬

‫ِ‬ ‫ون (‪َ )71‬و َذلَّْلَن َ‬


‫وبهُ ْم‬ ‫ِ‬ ‫أَولَم يروا أََّنا َخلَ ْقَنا لَهم ِم َّما ع ِملَ ْ ِ‬
‫اها لَهُ ْم فَم ْنهَا َر ُك ُ‬ ‫اما فَهُ ْم لَهَا َمال ُك َ‬
‫ت أ َْيد َينا أ َْن َع ً‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ ْ ََ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)73‬‬
‫ب أَفَاَل َي ْش ُك ُر َ‬‫ون (‪َ )72‬ولَهُ ْم فيهَا َمَنافعُ َو َم َش ِار ُ‬ ‫َو ِم ْنهَا َي ْأ ُكلُ َ‬

‫ون * َو َذلَّْلَن َ‬
‫اها لَهُ ْم‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 73 - 71‬أَولَم يروا أََّنا َخلَ ْقَنا لَهم ِم َّما ع ِملَ ْ ِ‬
‫اما فَهُ ْم لَهَا َمال ُك َ‬
‫ت أ َْيد َينا أ َْن َع ً‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ ْ ََ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬‫ب أَفَال َي ْش ُك ُر َ‬ ‫ون * َولَهُ ْم فيهَا َمَنافعُ َو َم َش ِار ُ‬ ‫وبهُ ْم َو ِم ْنهَا َي ْأ ُكلُ َ‬
‫فَم ْنهَا َر ُك ُ‬
‫يأمر تعالى العباد بالنظر إلى ما سخر لهم من األنعام وذللها‪ ،‬وجعلهم مالكين لها‪ ،‬مطاوعة لهم في‬
‫كل أمر يريدونه منها‪ ،‬وأنه جعل لهم فيها منافع كثيرة من حملهم وحمل أثقالهم ومحاملهم‬
‫وأمتعتهم من محل إلى محل‪ ،‬ومن أكلهم منها‪ ،‬وفيها دفء‪ ،‬ومن أوبارها وأشعارها وأصوافها‬
‫ون }‬
‫أثاثا ومتاعا إلى حين‪ ،‬وفيها زينة وجمال‪ ،‬وغير ذلك من المنافع المشاهدة منها‪ { ،‬أَفَال َي ْش ُك ُر َ‬
‫اللّه تعالى الذي أنعم بهذه النعم‪ ،‬ويخلصون له العبادة وال يتمتعون بها تمتعا خاليا من العبرة‬
‫والفكرة‪.‬‬

‫( ‪)1/699‬‬
‫ون (‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫واتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ َّ ِ ِ‬
‫ض ُر َ‬
‫ص َر ُه ْم َو ُه ْم لَهُ ْم ُج ْن ٌد ُم ْح َ‬
‫ون َن ْ‬
‫يع َ‬
‫ون (‪ )74‬اَل َي ْستَط ُ‬
‫ص ُر َ‬
‫ون الله آَلهَةً لَ َعلهُ ْم ُي ْن َ‬ ‫َ‬
‫‪)75‬‬

‫ص َر ُه ْم َو ُه ْم لَهُ ْم‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫{ ‪ { } 75 - 74‬واتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ َّ ِ ِ‬


‫ون َن ْ‬
‫يع َ‬
‫ون * ال َي ْستَط ُ‬
‫ص ُر َ‬
‫ون الله آلهَةً لَ َعلهُ ْم ُي ْن َ‬ ‫َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫ض ُر َ‬
‫ُج ْن ٌد ُم ْح َ‬
‫هذا بيان لبطالن آلهة المشركين‪ ،‬التي (‪ )1‬اتخذوها مع اللّه تعالى‪ ،‬ورجوا نصرها وشفعها‪ ،‬فإنها‬
‫ص َر ُه ْم } وال أنفسهم ينصرون‪ ،‬فإذا كانوا ال يستطيعون‬ ‫ِ‬
‫ون َن ْ‬
‫يع َ‬
‫في غاية العجز { ال َي ْستَط ُ‬
‫نصرهم‪ ،‬فكيف ينصرونهم؟ والنصر له شرطان‪ :‬االستطاعة [والقدرة] (‪ )2‬فإذا استطاع‪ ،‬يبقى‪:‬‬
‫ي االستطاعة‪ ،‬ينفي األمرين كليهما‪.‬‬
‫هل يريد نصرة من عبده أم ال؟ فََن ْف ُ‬
‫ون } أي‪ :‬محضرون هم وهم في العذاب‪ ،‬ومتبرئ بعضهم من بعض‪ ،‬أفال‬ ‫ض ُر َ‬
‫{ َو ُه ْم لَهُ ْم ُج ْن ٌد ُم ْح َ‬
‫تبرأوا في الدنيا من عبادة هؤالء‪ ،‬وأخلصوا العبادة للذي بيده الملك والنفع والضر‪ ،‬والعطاء‬
‫والمنع‪ ،‬وهو الولي النصير؟‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬الذي‪.‬‬
‫(‪ )2‬زيادة من هامش ب‪ ،‬ويبدو ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬أن الشرطين هما‪ :‬االستطاعة واإلرادة‪ ،‬وبقية كالم‬
‫الشيخ ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬يدل على ذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/699‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)76‬‬ ‫ك قَ ْولُهُ ْم ِإَّنا َن ْعلَ ُم َما ُيس ُّر َ‬
‫ون َو َما ُي ْعلُن َ‬ ‫فَاَل َي ْح ُز ْن َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ك قَ ْولُهُ ْم ِإَّنا َن ْعلَ ُم َما ُيس ُّر َ‬
‫ون َو َما ُي ْعلُن َ‬ ‫{ ‪ { } 76‬فَال َي ْح ُز ْن َ‬
‫أي‪ :‬فال يحزنك يا أيها الرسول‪ ،‬قول المكذبين‪ ،‬والمراد بالقول‪ :‬ما دل عليه السياق‪ ،‬كل قول‬
‫يقدحون فيه في الرسول‪ ،‬أو فيما جاء به‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون }‬ ‫أي‪ :‬فال تشغل قلبك بالحزن عليهم { ِإَّنا َن ْعلَ ُم َما ُيس ُّر َ‬
‫ون َو َما ُي ْعلُن َ‬
‫فنجازيهم على حسب علمنا بهم‪ ،‬وإ ال فقولهم ال يضرك شيئا‪.‬‬

‫( ‪)1/699‬‬
‫ب لََنا َمثَاًل َوَن ِس َي َخْلقَهُ قَا َل‬ ‫ض َر َ‬ ‫ين (‪َ )77‬و َ‬ ‫يم ُمبِ ٌ‬ ‫ِ‬
‫طفَة فَِإ َذا ُه َو َخص ٌ‬
‫أَولَم ير اإْلِ ْنسان أََّنا َخلَ ْقَناه ِم ْن ُن ْ ٍ‬
‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ْ ََ‬
‫َها أ ََّو َل م َّر ٍة و ُهو بِ ُك ِّل َخْل ٍ ِ‬
‫يم (‪)79‬‬ ‫ق َعل ٌ‬ ‫َ َ َ‬ ‫يم (‪ُ )78‬ق ْل ُي ْحيِيهَا الَِّذي أ َْن َشأ َ‬ ‫ظ َام َو ِه َي َر ِم ٌ‬ ‫َم ْن ُي ْحيِي اْل ِع َ‬
‫ق السَّماو ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫الَِّذي َج َع َل لَ ُكم ِم َن َّ‬
‫ات‬ ‫ون (‪ )80‬أ ََولَْي َس الذي َخلَ َ َ َ‬ ‫ض ِر َن ًارا فَِإ َذا أ َْنتُ ْم م ْنهُ تُو ِق ُد َ‬ ‫الش َج ِر اأْل ْ‬
‫َخ َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َن َيقُو َل‬‫يم (‪ِ )81‬إَّن َما أ َْم ُرهُ ِإ َذا أ ََر َاد َش ْيًئا أ ْ‬‫ق اْل َعل ُ‬
‫اَّل‬
‫ق مثْلَهُ ْم َبلَى َو ُه َو اْل َخ ُ‬ ‫ض بِقَ ِاد ٍر َعلَى أ ْ‬
‫َن َي ْخلُ َ‬ ‫َواأْل َْر َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ان الَِّذي بَِي ِد ِه َملَ ُك ُ‬
‫ون (‪)83‬‬ ‫وت ُك ِّل َش ْيء َوإِلَْيه تُْر َج ُع َ‬ ‫ون (‪ )82‬فَ ُس ْب َح َ‬ ‫لَهُ ُك ْن فََي ُك ُ‬

‫يم ُمبِ ٌ‬ ‫ِ‬ ‫اإلنسان أََّنا َخلَ ْقَناه ِم ْن ُن ْ ٍ‬


‫ب لََنا َمثَال‬ ‫ض َر َ‬ ‫ين * َو َ‬ ‫طفَة فَِإ َذا ُه َو َخص ٌ‬ ‫ُ‬ ‫{ ‪ { } 83 - 77‬أ ََولَ ْم َي َر ْ َ ُ‬
‫ق‬‫َها أ ََّو َل َم َّر ٍة و ُهو بِ ُك ِّل َخْل ٍ‬
‫َ َ‬ ‫يم * ُق ْل ُي ْحيِيهَا الَِّذي أ َْن َشأ َ‬ ‫ال َم ْن ُي ْحيِي اْل ِع َ‬
‫ظ َام َو ِه َي َر ِم ٌ‬ ‫َوَن ِس َي َخْلقَهُ قَ َ‬
‫ون * أ ََولَْي َس الَِّذي َخلَ َ‬
‫ق‬ ‫ِ‬
‫ض ِر َن ًارا فَِإ َذا أ َْنتُ ْم م ْنهُ تُو ِق ُد َ‬ ‫الش َج ِر ْ‬
‫األخ َ‬ ‫َعِليم * الَِّذي َج َع َل لَ ُكم ِم َن َّ‬
‫ْ‬ ‫ٌ‬
‫ق ِمثْلَهم بلَى و ُهو اْل َخ ُ ِ‬ ‫ض بِقَ ِاد ٍر َعلَى أ ْ‬
‫يم * ِإَّن َما أ َْم ُرهُ ِإ َذا أ ََر َاد َش ْيًئا‬ ‫ِ‬
‫الق اْل َعل ُ‬ ‫َن َي ْخلُ َ ُ ْ َ َ َ‬ ‫األر َ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫الس َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ان الَِّذي بَِي ِد ِه َملَ ُك ُ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫وت ُك ِّل َش ْيء َوإِلَْيه تُْر َج ُع َ‬ ‫ون * فَ ُس ْب َح َ‬‫ول لَهُ ُك ْن فََي ُك ُ‬
‫َن َيقُ َ‬
‫أْ‬
‫هذه اآليات الكريمات‪ ،‬فيها [ذكر] شبهة منكري البعث‪ ،‬والجواب عنها بأتم جواب وأحسنه‬
‫ان } المنكر للبعث و الشاك فيه‪ ،‬أمرا يفيده اليقين التام‬
‫اإلن َس ُ‬
‫وأوضحه‪ ،‬فقال تعالى‪ { :‬أ ََولَ ْم َي َر ْ‬
‫طفَ ٍة } ثم تنقله في األطوار شيئا فشيئا‪ ،‬حتى كبر وشب‪ ،‬وتم‬ ‫بوقوعه‪ ،‬وهو ابتداء خلقه { ِم ْن ُن ْ‬
‫يم ُمبِ ٌ‬ ‫ِ‬
‫ين } بعد أن كان ابتداء خلقه من نطفة‪ ،‬فلينظر التفاوت بين‬ ‫عقله واستتب‪ { ،‬فَِإ َذا ُه َو َخص ٌ‬
‫هاتين الحالتين‪ ،‬وليعلم أن الذي أنشأه من العدم‪ ،‬قادر على أن يعيده بعد ما تفرق وتمزق‪ ،‬من باب‬
‫أولى‪.‬‬
‫ب لََنا َمثَال } ال ينبغي ألحد أن يضربه‪ ،‬وهو قياس قدرة الخالق بقدرة المخلوق‪ ،‬وأن‬
‫ض َر َ‬
‫{ َو َ‬
‫ال }‬
‫األمر المستبعد على قدرة المخلوق مستبعد على قدرة الخالق‪ .‬فسر هذا المثل [بقوله]‪ { :‬قَ َ‬
‫يم } أي‪ :‬هل أحد يحييها؟ استفهام إنكار‪ ،‬أي‪ :‬ال أحد‬ ‫ذلك اإلنسان { َم ْن ُي ْحيِي اْل ِع َ‬
‫ظ َام َو ِه َي َر ِم ٌ‬
‫يحييها بعد ما بليت وتالشت‪.‬‬
‫هذا وجه الشبهة والمثل‪ ،‬وهو أن هذا أمر في غاية البعد على ما يعهد من قدرة البشر‪ ،‬وهذا القول‬
‫الذي صدر من هذا اإلنسان غفلة منه‪ ،‬ونسيان البتداء خلقه‪ ،‬فلو فطن لخلقه بعد أن لم يكن شيئا‬
‫مذكورا فوجد عيانا‪ ،‬لم يضرب هذا المثل‪.‬‬
‫فأجاب تعالى عن هذا االستبعاد بجواب شاف كاف‪ ،‬فقال‪ُ { :‬ق ْل ُي ْحيِيهَا الَِّذي أ َْن َشأ َ‬
‫َها أ ََّو َل َم َّر ٍة }‬
‫وهذا بمجرد تصوره‪ ،‬يعلم به علما يقينا ال شبهة فيه‪ ،‬أن الذي أنشأها أول مرة [ ص ‪ ] 700‬قادر‬
‫يم }‬ ‫على اإلعادة ثاني مرة‪ ،‬وهو أهون على القدرة إذا تصوره المتصور‪ { ،‬و ُهو بِ ُك ِّل َخْل ٍ ِ‬
‫ق َعل ٌ‬ ‫َ َ‬
‫هذا أيضا دليل ثان من صفات اللّه تعالى‪ ،‬وهو أن علمه تعالى محيط بجميع مخلوقاته في جميع‬
‫أحوالها‪ ،‬في جميع األوقات‪ ،‬ويعلم ما تنقص األرض من أجساد األموات وما يبقى‪ ،‬ويعلم الغيب‬
‫والشهادة‪ ،‬فإذا أقر العبد بهذا العلم العظيم‪ ،‬علم أنه أعظم وأجل من إحياء اللّه الموتى من قبورهم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ثم ذكر دليال ثالثا { الَِّذي َج َع َل لَ ُكم ِم َن َّ‬
‫ض ِر َن ًارا فَِإ َذا أ َْنتُ ْم م ْنهُ تُو ِق ُد َ‬
‫ون } فإذا أخرج‬ ‫الش َج ِر ْ‬
‫األخ َ‬ ‫ْ‬
‫[النار] اليابسة من الشجر األخضر‪ ،‬الذي هو في غاية الرطوبة‪ ،‬مع تضادهما وشدة تخالفهما‪،‬‬
‫فإخراجه الموتى من قبورهم مثل ذلك‪.‬‬
‫ض } على سعتهما وعظمهما‬ ‫ِ‬ ‫ثم ذكر دليال رابعا فقال‪ { :‬أ ََولَْي َس الَِّذي َخلَ َ‬
‫األر َ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ق الس َ‬
‫ق ِمثْلَهُ ْم } أي‪[ :‬أن] يعيدهم [بأعيانهم]‪َ { .‬بلَى } قادر على ذلك‪ ،‬فإن خلق‬ ‫{ بِقَ ِاد ٍر َعلَى أ ْ‬
‫َن َي ْخلُ َ‬
‫يم } وهذا دليل خامس‪ ،‬فإنه تعالى‬ ‫السماوات واألرض أكبر من خلق الناس‪ { .‬و ُهو اْل َخ ُ ِ‬
‫الق اْل َعل ُ‬ ‫َ َ‬
‫الخالق‪ ،‬الذي جميع المخلوقات‪ ،‬متقدمها ومتأخرها‪ ،‬صغيرها وكبيرها‪ ،‬كلها أثر من آثار خلقه‬
‫وقدرته‪ ،‬وأنه ال يستعصي عليه مخلوق أراد خلقه‪.‬‬
‫فإعادته لألموات‪ ،‬فرد من أفراد [آثار] خلقه‪ ،‬ولهذا قال‪ِ { :‬إَّن َما أ َْم ُرهُ ِإ َذا أ ََر َاد َش ْيًئا } نكرة في‬
‫ون } أي‪ :‬في الحال من غير تمانع‪.‬‬ ‫َن َيقُو َل لَهُ ُك ْن فََي ُك ُ‬
‫سياق الشرط‪ ،‬فتعم كل شيء‪ { .‬أ ْ‬
‫وت ُك ِّل َش ْي ٍء } وهذا دليل سادس‪ ،‬فإنه تعالى هو الملك المالك لكل شيء‪،‬‬ ‫ان الَِّذي بَِي ِد ِه َملَ ُك ُ‬
‫{ فَ ُس ْب َح َ‬
‫الذي جميع ما سكن في العالم العلوي والسفلي ملك له‪ ،‬وعبيد مسخرون ومدبرون‪ ،‬يتصرف فيهم‬
‫بأقداره الحكمية‪ ،‬وأحكامه الشرعية‪ ،‬وأحكامه الجزائية‪.‬‬
‫ون }‬ ‫ِ‬
‫فإعادته إياهم بعد موتهم‪ ،‬لينفذ فيهم حكم الجزاء‪ ،‬من تمام ملكه‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وإِلَْيه تُْر َج ُع َ‬
‫من غير امتراء وال شك‪ ،‬لتواتر البراهين القاطعة واألدلة الساطعة على ذلك‪ .‬فتبارك الذي جعل‬
‫في كالمه الهدى والشفاء والنور‪.‬‬
‫تم تفسير سورة يس‪ ،‬فللّه [تعالى] الحمد كما ينبغي لجالله‪ ،‬وله الثناء كما يليق بكماله‪ ،‬وله المجد‬
‫كما تستدعيه عظمته وكبرياؤه‪ ،‬وصلى اللّه على محمد وآله وسلم‪.‬‬

‫( ‪)1/699‬‬

‫تفسير سورة الصافات‪،‬‬


‫وهي مكية‬

‫( ‪)1/700‬‬

‫اح ٌد (‪َ )4‬ر ُّ‬


‫ب‬ ‫ات ِذ ْكرا (‪ِ )3‬إ َّن ِإلَه ُكم لَو ِ‬ ‫ات َز ْجرا (‪ )2‬فَالتَّ ِالي ِ‬ ‫اجر ِ‬ ‫صفًّا (‪ )1‬فَ َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َ ْ َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫الز َ‬ ‫َوالصَّافات َ‬
‫الد ْنيا بِ ِز َين ٍة اْل َكو ِ‬
‫اك ِب (‪)6‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫اء ُّ َ‬ ‫ق (‪ )5‬إَّنا َزيََّّنا الس َ‬
‫َّم َ‬ ‫ب اْل َم َش ِار ِ‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما َو َر ُّ‬ ‫َّم َاو َ‬
‫الس َ‬
‫ورا‬ ‫َعلَى وُي ْق َذفُ َ ِ ِّ ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّم ُع َ ِ‬‫ان َم ِار ٍد (‪ )7‬اَل َيس َّ‬
‫طٍ‬‫ظا ِم ْن ُك ِّل َش ْي َ‬ ‫َو ِح ْف ً‬
‫ون م ْن ُكل َجانب (‪ُ )8‬د ُح ً‬ ‫ون إلَى اْل َمإَل اأْل ْ َ‬
‫استَ ْفتِ ِه ْم أ ُ‬ ‫اب ثَ ِاق ٌ‬
‫طفَةَ فَأَتَْب َعهُ ِشهَ ٌ‬ ‫ب (‪ِ )9‬إاَّل َم ْن َخ ِط َ‬
‫َه ْم أَ َش ُّد َخْلقًا أ َْم‬ ‫اب و ِ‬
‫ب (‪ )10‬فَ ْ‬ ‫ف اْل َخ ْ‬ ‫اص ٌ‬ ‫َولَهُ ْم َع َذ ٌ َ‬
‫ين اَل ِز ٍب (‪)11‬‬ ‫اه ْم ِم ْن ِط ٍ‬
‫َم ْن َخلَ ْقَنا ِإَّنا َخلَ ْقَن ُ‬

‫ات ِذ ْك ًرا *‬ ‫ات َز ْجرا * فَالتَّ ِالي ِ‬


‫َ‬ ‫ً‬
‫اجر ِ‬ ‫صفًّا * فَ َّ ِ‬
‫الز َ‬
‫َّ ِ‬
‫الرحيم َوالصَّافات َ‬
‫الر ْحم ِن َّ ِ ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬
‫{ ‪ { } 11 - 1‬ب ْسم الله َّ َ‬
‫اء ُّ‬ ‫ب اْلم َش ِار ِ ِ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِإ َّن ِإلَه ُكم لَو ِ‬
‫الد ْنَيا‬ ‫ق * إَّنا َزيََّّنا الس َ‬
‫َّم َ‬ ‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما َو َر ُّ َ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ب الس َ‬ ‫اح ٌد * َر ُّ‬ ‫َ ْ َ‬
‫ِ‬
‫ون م ْن ُك ِّل‬ ‫ون ِإلَى اْل َمإل ْ‬ ‫ان َم ِار ٍد * ال َيس َّ‬‫طٍ‬ ‫ِ‬
‫ظا م ْن ُك ِّل َش ْي َ‬ ‫بِ ِز َين ٍة اْل َك َواك ِب * َوح ْف ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األعلَى َوُي ْق َذفُ َ‬ ‫َّم ُع َ‬
‫استَ ْفتِ ِه ْم أ ُ‬ ‫اب ثَ ِاق ٌ‬
‫طفَةَ فَأَتَْب َعهُ ِشهَ ٌ‬ ‫ب * ِإال َم ْن َخ ِط َ‬
‫َه ْم‬ ‫اب و ِ‬ ‫ٍِ‬
‫ب * فَ ْ‬ ‫ف اْل َخ ْ‬ ‫اص ٌ‬ ‫ورا َولَهُ ْم َع َذ ٌ َ‬ ‫َجانب * ُد ُح ً‬
‫الز ٍب } ‪.‬‬ ‫ين ِ‬‫اه ْم ِم ْن ِط ٍ‬ ‫أَ َش ُّد َخْلقًا أ َْم َم ْن َخلَ ْقَنا ِإَّنا َخلَ ْقَن ُ‬
‫هذا قسم منه تعالى بالمالئكة الكرام‪ ،‬في حال عبادتها وتدبيرها ما تدبره بإذن ربها‪ ،‬على ألوهيته‬
‫صفًّا } أي‪ :‬صفوفا في خدمة ربهم‪ ،‬وهم المالئكة‪.‬‬ ‫َّ ِ‬
‫تعالى وربوبيته‪ ،‬فقال‪َ { :‬والصَّافات َ‬
‫ات َز ْج ًرا } وهم المالئكة‪ ،‬يزجرون السحاب وغيره بأمر اللّه‪.‬‬ ‫اجر ِ‬
‫{ فَ َّ ِ‬
‫الز َ‬
‫ات ِذ ْك ًرا } وهم المالئكة الذين يتلون كالم اللّه تعالى‪.‬‬
‫{ فَالتَّ ِالي ِ‬
‫َ‬
‫فلما كانوا متألهين لربهم‪ ،‬ومتعبدين في خدمته‪ ،‬وال يعصونه طرفة عين‪ ،‬أقسم بهم على ألوهيته‬
‫اح ٌد } ليس له شريك في اإللهية‪ ،‬فأخلصوا له الحب والخوف والرجاء‪ ،‬وسائر‬ ‫فقال‪ِ { :‬إ َّن ِإلَه ُكم لَو ِ‬
‫َ ْ َ‬
‫أنواع العبادة‪.‬‬
‫ق } أي‪ :‬هو الخالق لهذه المخلوقات‪ ،‬والرازق‬‫ب اْل َم َش ِار ِ‬ ‫األر ِ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما َو َر ُّ‬ ‫ِ‬ ‫{ َر ُّ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ب الس َ‬
‫لها‪ ،‬المدبر لها‪،‬فكما أنه ال شريك له في ربوبيته إياها‪ ،‬فكذلك ال شريك له في ألوهيته‪ ،‬وكثيرا ما‬
‫يقرر تعالى توحيد اإللهية بتوحيد الربوبية‪ ،‬ألنه دال عليه‪ .‬وقد أقر به أيضا المشركون في‬
‫العبادة‪ ،‬فيلزمهم بما (‪ )1‬أقروا به على ما أنكروه‪.‬‬
‫وخص اللّه المشارق بالذكر‪ ،‬لداللتها على المغارب‪ ،‬أو ألنها مشارق النجوم التي سيذكرها‪ ،‬فلهذا‬
‫ون ِإلَى اْل َمإل‬ ‫ان َم ِار ٍد ال َيس َّ‬
‫َّم ُع َ‬ ‫طٍ‬ ‫ظا ِم ْن ُك ِّل َش ْي َ‬
‫اك ِب َو ِح ْف ً‬
‫الد ْنيا بِ ِز َين ٍة اْل َكو ِ‬
‫َ‬ ‫اء ُّ َ‬ ‫ِ‬
‫قال‪ { :‬إَّنا َزيََّّنا الس َ‬
‫َّم َ‬
‫األعلَى }‬
‫ْ‬
‫ذكر اللّه في الكواكب هاتين الفائدتين العظيمتين‪:‬‬
‫إحداهما‪ :‬كونها زينة للسماء‪ ،‬إذ لوالها‪ ،‬لكانت السماء جرما مظلما ال ضوء فيها‪ ،‬ولكن زينها‬
‫فيها لتستنير أرجاؤها‪ ،‬وتحسن صورتها‪ ،‬ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر‪ ،‬ويحصل فيها من‬
‫المصالح ما يحصل‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬حراسة السماء عن كل شيطان مارد‪ ،‬يصل بتمرده إلى استماع المأل األعلى‪ ،‬وهم‬
‫المالئكة‪ ،‬فإذا استمعت قذفتها بالشهب الثواقب { ِم ْن ُك ِّل َجانِ ٍب } طردا لهم‪ ،‬وإ بعادا عن استماع ما‬
‫يقول المأل األعلى‪.‬‬
‫[ ص ‪] 701‬‬
‫ب } أي‪ :‬دائم‪ ،‬معد لهم‪ ،‬لتمردهم عن طاعة ربهم‪.‬‬ ‫اب و ِ‬
‫اص ٌ‬ ‫{ َولَهُ ْم َع َذ ٌ َ‬
‫ولوال أنه [تعالى] استثنى‪ ،‬لكان ذلك دليال على أنهم ال يستمعون شيئا أصال ولكن قال‪ِ { :‬إال َم ْن‬
‫طفَةَ } أي‪ :‬إال من تلقف من الشياطين المردة‪ ،‬الكلمة الواحدة على وجه الخفية والسرقة‬ ‫َخ ِط َ‬
‫ف اْل َخ ْ‬
‫اب ثَ ِاق ٌ‬
‫ب } تارة يدركه قبل أن يوصلها إلى أوليائه‪ ،‬فينقطع خبر السماء‪ ،‬وتارة يخبر‬ ‫{ فَأَتَْب َعهُ ِشهَ ٌ‬
‫بها قبل أن يدركه الشهاب‪ ،‬فيكذبون معها مائة كذبة يروجونها بسبب الكلمة التي سمعت من‬
‫السماء‪.‬‬
‫استَ ْفتِ ِه ْم } أي‪ :‬اسأل منكري خلقهم بعد موتهم‪ { .‬أ ُ‬
‫َه ْم‬ ‫ولما بين هذه المخلوقات العظيمة قال‪ { :‬فَ ْ‬
‫أَ َش ُّد َخْلقًا } أي‪ :‬إيجادهم بعد موتهم‪ ،‬أشد خلقا وأشق؟‪ { .‬أ َْم َم ْن َخلَ ْقَنا } من [هذه] المخلوقات؟ فال‬
‫بد أن يقروا أن خلق السماوات واألرض أكبر من خلق الناس‪.‬‬
‫فيلزمهم إذا اإلقرار بالبعث‪ ،‬بل لو رجعوا إلى أنفسهم وفكروا فيها‪ ،‬لعلموا أن ابتداء خلقهم من‬
‫الز ٍب }‬
‫ين ِ‬‫اه ْم ِم ْن ِط ٍ‬
‫طين الزب‪ ،‬أصعب عند الفكر من إنشائهم بعد موتهم‪ ،‬ولهذا قال‪ِ { :‬إَّنا َخلَ ْقَن ُ‬
‫ال ِم ْن َح َمٍإ َم ْسُن ٍ‬
‫ون }‬ ‫ان ِم ْن صْلص ٍ‬
‫َ َ‬ ‫اإلن َس َ‬
‫أي‪ :‬قوي شديد كقوله تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد َخلَ ْقَنا ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬ما‪.‬‬

‫( ‪)1/700‬‬

‫ِ‬
‫ون (‪َ )14‬وقَالُوا‬ ‫ون (‪َ )13‬وإِ َذا َرأ َْوا آََيةً َي ْستَ ْسخ ُر َ‬ ‫ون (‪َ )12‬وإِ َذا ُذ ِّك ُروا اَل َي ْذ ُك ُر َ‬ ‫ت َوَي ْس َخ ُر َ‬ ‫َب ْل َع ِج ْب َ‬
‫ظ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِإ ْن َه َذا ِإاَّل ِس ْحٌر ُمبِ ٌ‬
‫ون (‬ ‫اؤَنا اأْل ََّولُ َ‬
‫ون (‪ )16‬أ ََوآََب ُ‬ ‫اما أَئَّنا لَ َم ْب ُعوثُ َ‬
‫ين (‪ )15‬أَئ َذا متَْنا َو ُكَّنا تَُر ًابا َوع َ ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪َ )19‬وقَالُوا َيا َوْيلََنا‬ ‫ون (‪ )18‬فَِإَّن َما ه َي َز ْج َرةٌ َواح َدةٌ فَِإ َذا ُه ْم َي ْنظُ ُر َ‬ ‫‪ُ )17‬ق ْل َن َع ْم َوأ َْنتُ ْم َداخ ُر َ‬
‫ِ ِّ‬ ‫َِّ‬
‫ون (‪)21‬‬ ‫ص ِل الذي ُك ْنتُ ْم بِه تُ َكذُب َ‬ ‫ين (‪َ )20‬ه َذا َي ْو ُم اْلفَ ْ‬ ‫َه َذا َي ْو ُم ِّ‬
‫الد ِ‬

‫ِ‬
‫ون *‬
‫ون * َوإِ َذا َرأ َْوا َآيةً َي ْستَ ْسخ ُر َ‬ ‫ون * َوإِ َذا ُذ ِّك ُروا ال َي ْذ ُك ُر َ‬ ‫ت َوَي ْس َخ ُر َ‬ ‫{ ‪َ { } 21 - 12‬ب ْل َع ِج ْب َ‬
‫ظ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وقَالُوا ِإ ْن َه َذا ِإال ِس ْحر مبِ ٌ ِ ِ‬
‫ون *‬ ‫األولُ َ‬
‫اؤَنا َّ‬ ‫ون * أ ََو َآب ُ‬‫اما أَئَّنا لَ َم ْب ُعوثُ َ‬
‫ين * أَئ َذا متَْنا َو ُكَّنا تَُر ًابا َوع َ ً‬ ‫ٌ ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون * َوقَالُوا َيا َوْيلََنا َه َذا َي ْو ُم ِّ‬
‫الد ِ‬
‫ين‬ ‫ون * فَِإَّن َما ه َي َز ْج َرةٌ َواح َدةٌ فَِإ َذا ُه ْم َي ْنظُ ُر َ‬ ‫ُق ْل َن َع ْم َوأ َْنتُ ْم َداخ ُر َ‬
‫ِ ِّ‬ ‫َِّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ص ِل الذي ُك ْنتُ ْم بِه تُ َكذُب َ‬ ‫* َه َذا َي ْو ُم اْلفَ ْ‬
‫ت } يا أيها الرسول وأيها اإلنسان‪ ،‬من تكذيب من كذب بالبعث‪ ،‬بعد أن أريتهم من‬ ‫{ َب ْل َع ِج ْب َ‬
‫اآليات العظيمة واألدلة المستقيمة‪ ،‬وهو حقيقة محل عجب واستغراب‪ ،‬ألنه مما ال يقبل اإلنكار‪{ ،‬‬
‫ون } ممن جاء بالخبر عن البعث‪ ،‬فلم يكفهم‬‫و } أعجب من إنكارهم وأبلغ منه‪ ،‬أنهم { َي ْس َخ ُر َ‬
‫مجرد اإلنكار‪ ،‬حتى زادوا السخرية بالقول الحق‪.‬‬
‫{ و } من العجب أيضا أنهم { ِإ َذا ُذ ِّك ُروا } ما يعرفون في فطرهم وعقولهم‪ ،‬وفطنوا له‪ ،‬وألفت‬
‫ون } ذلك‪ ،‬فإن كان جهال فهو من أدل الدالئل على شدة بالدتهم العظيمة‪،‬‬ ‫نظرهم إليه { ال َي ْذ ُك ُر َ‬
‫حيث ذكروا ما هو مستقر في الفطر‪ ،‬معلوم بالعقل‪ ،‬ال يقبل اإلشكال‪ ،‬وإ ن كان تجاهال وعنادا‪،‬‬
‫فهو أعجب وأغرب‪.‬‬
‫ومن العجب [أيضا] أنهم إذا أقيمت عليهم األدلة‪ ،‬وذكروا اآليات التي يخضع لها فحول الرجال‬
‫وألباب األلباء‪ ،‬يسخرون منها ويعجبون‪.‬‬
‫ومن العجب أيضا‪ ،‬قولهم للحق لما جاءهم‪ِ { :‬إ ْن َه َذا ِإال ِس ْحٌر ُمبِ ٌ‬
‫ين } فجعلوا أعلى األشياء‬
‫وأجلها‪ ،‬وهو الحق‪ ،‬في رتبة أخس األشياء وأحقرها‪.‬‬
‫ومن العجب أيضا‪ ،‬قياسهم قدرة رب األرض والسماوات‪ ،‬على قدرة اآلدمي الناقص من جميع‬
‫ظ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون }‬
‫األولُ َ‬
‫اؤَنا َّ‬ ‫اما أَئَّنا لَ َم ْب ُعوثُ َ‬
‫ون أ ََو َآب ُ‬ ‫الوجوه‪ ،‬فقالوا استبعادا وإ نكارا‪ { :‬أَئ َذا متَْنا َو ُكَّنا تَُر ًابا َوع َ ً‬
‫ولما كان هذا منتهى ما عندهم‪ ،‬وغاية ما لديهم‪ ،‬أمر اللّه رسوله أن يجيبهم بجواب مشتمل على‬
‫ون } ذليلون‬ ‫ِ‬
‫ترهيبهم (‪ )1‬فقال‪ُ { :‬ق ْل َن َع ْم } ستبعثون‪ ،‬أنتم وآباؤكم األولون { َوأ َْنتُ ْم َداخ ُر َ‬
‫صاغرون‪ ،‬ال تمتنعون‪ ،‬وال تستعصون على قدرة اللّه‪.‬‬
‫اح َدةٌ } ينفخ إسرافيل فيها في الصور { فَِإ َذا ُه ْم } مبعوثون من قبورهم‬ ‫{ فَِإَّنما ِهي َز ْجرةٌ و ِ‬
‫َ َ َ َ‬
‫ون } كما ابتدئ خلقهم‪ ،‬بعثوا بجميع أجزائهم‪ ،‬حفاة عراة غرال وفي تلك الحال‪ ،‬يظهرون‬ ‫ظ ُر َ‬
‫{ َي ْن َ‬
‫الندم والخزي والخسار‪ ،‬ويدعون بالويل والثبور‪.‬‬
‫{ َوقَالُوا َيا َوْيلََنا َه َذا َي ْو ُم ِّ‬
‫الد ِ‬
‫ين } فقد أقروا بما كانوا في الدنيا به يستهزءون‪.‬‬
‫ص ِل } بين العباد فيما بينهم وبين ربهم من الحقوق‪ ،‬وفيما بينهم وبين‬‫فيقال لهم‪َ { :‬ه َذا َي ْو ُم اْلفَ ْ‬
‫غيرهم من الخلق‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬تربيتهم‪.‬‬

‫( ‪)1/701‬‬

‫صر ِ‬‫ِ‬ ‫ون اللَّ ِه فَ ْ‬


‫ون (‪ِ )22‬م ْن ُد ِ‬ ‫َِّ‬
‫اط‬ ‫وه ْم ِإلَى َ‬
‫اه ُد ُ‬ ‫اجهُ ْم َو َما َك ُانوا َي ْعُب ُد َ‬
‫ظلَ ُموا َوأ َْز َو َ‬
‫ين َ‬ ‫اح ُش ُروا الذ َ‬
‫ْ‬
‫ون (‪)24‬‬ ‫اْل َج ِح ِيم (‪َ )23‬و ِقفُ ُ‬
‫وه ْم ِإَّنهُ ْم َم ْسُئولُ َ‬
‫وه ْم ِإلَى‬ ‫ون اللَّ ِه فَ ْ‬
‫اه ُد ُ‬ ‫ون * ِم ْن ُد ِ‬
‫اجهُ ْم َو َما َك ُانوا َي ْعُب ُد َ‬
‫ظلَ ُموا َوأ َْز َو َ‬
‫ين َ‬ ‫َِّ‬
‫اح ُش ُروا الذ َ‬ ‫{ ‪ْ { } 26 - 22‬‬
‫اط اْل َج ِح ِيم * َو ِقفُ ُ‬
‫صر ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫وه ْم ِإَّنهُ ْم َم ْسُئولُ َ‬ ‫َ‬
‫أي إذا أحضروا يوم القيامة‪ ،‬وعاينوا ما به يكذبون‪ ،‬ورأوا ما به يستسخرون‪ ،‬يؤمر بهم إلى‬
‫ظلَ ُموا } أنفسهم بالكفر والشرك والمعاصي‬ ‫ين َ‬ ‫َِّ‬
‫اح ُش ُروا الذ َ‬
‫النار‪ ،‬التي بها كانوا يكذبون‪ ،‬فيقال‪ْ { :‬‬
‫اجهُ ْم } الذين من جنس عملهم‪ ،‬كل يضم إلى من يجانسه في العمل‪.‬‬ ‫{ َوأ َْز َو َ‬
‫ون اللَّ ِه } من األصنام واألنداد التي زعموها‪ ،‬فاجمعوهم جميعا‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬
‫{ َو َما َك ُانوا َي ْعُب ُد َ‬
‫اط اْل َج ِح ِيم } أي‪ :‬سوقوهم سوقا عنيفا إلى جهنم‪.‬‬ ‫صر ِ‬ ‫ِ‬
‫وه ْم ِإلَى َ‬ ‫اه ُد ُ‬ ‫{ فَ ْ‬
‫وبعد ما يتعين أمرهم إلى النار‪ ،‬ويعرفون أنهم من أهل [ ص ‪ ] 702‬دار البوار‪ ،‬يقال‪َ { :‬و ِقفُ ُ‬
‫وه ْم‬
‫ون } عما كانوا يفترونه في الدنيا‪ ،‬ليظهر على رءوس‬ ‫} قبل أن توصلوهم إلى جهنم { ِإَّنهُ ْم َم ْسُئولُ َ‬
‫األشهاد كذبهم وفضيحتهم‪.‬‬

‫( ‪)1/701‬‬

‫ون (‪)26‬‬ ‫ِ‬


‫ون (‪َ )25‬ب ْل ُه ُم اْلَي ْو َم ُم ْستَ ْسل ُم َ‬
‫اص ُر َ‬
‫َما لَ ُك ْم اَل تََن َ‬

‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬


‫ون * َب ْل ُه ُم اْلَي ْو َم ُم ْستَ ْسل ُم َ‬
‫اص ُر َ‬ ‫{ َما لَ ُك ْم ال تََن َ‬
‫ون } أي‪ :‬ما الذي جرى عليكم اليوم؟ وما الذي طرقكم ال ينصر‬ ‫اص ُر َ‬‫فيقال لهم‪َ { :‬ما لَ ُك ْم ال تََن َ‬
‫بعضكم بعضا‪ ،‬وال يغيث بعضكم بعضا‪ ،‬بعدما كنتم تزعمون في الدنيا‪ ،‬أن آلهتكم ستدفع عنكم‬
‫العذاب‪ ،‬وتغيثكم وتشفع لكم عند اللّه‪ ،‬فكأنهم ال يجيبون هذا السؤال‪ ،‬ألنهم قد عالهم الذل‬
‫والصغار‪ ،‬واستسلموا لعذاب النار‪ ،‬وخشعوا وخضعوا وأبلسوا‪ ،‬فلم ينطقوا‪.‬‬
‫ون }‬ ‫ِ‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬ب ْل ُه ُم اْلَي ْو َم ُم ْستَ ْسل ُم َ‬

‫( ‪)1/702‬‬

‫ين (‪ )28‬قَالُوا َب ْل لَ ْم‬ ‫ونَنا َع ِن اْلَي ِم ِ‬‫ون (‪ )27‬قَالُوا ِإَّن ُك ْم ُك ْنتُ ْم تَأْتُ َ‬ ‫اءلُ َ‬
‫ض َيتَ َس َ‬ ‫ضهُ ْم َعلَى َب ْع ٍ‬ ‫َوأَ ْقَب َل َب ْع ُ‬
‫ان ب ْل ُك ْنتُم قَوما َ ِ‬ ‫ان لََنا َعلَْي ُك ْم ِم ْن ُسْل َ‬ ‫ِ‬
‫ق َعلَْيَنا قَ ْو ُل‬ ‫ين (‪ )30‬فَ َح َّ‬ ‫طاغ َ‬ ‫ْ ًْ‬ ‫طٍ َ‬ ‫ين (‪َ )29‬و َما َك َ‬ ‫ونوا ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫تَ ُك ُ‬
‫ون (‪ِ )33‬إَّنا‬ ‫ين (‪ )32‬فَِإَّنهم َيومئٍِذ ِفي اْل َع َذ ِ‬
‫اب ُم ْشتَ ِر ُك َ‬ ‫َغ َو ْيَنا ُك ْم ِإَّنا ُكَّنا َغ ِاو َ‬
‫ون (‪ )31‬فَأ ْ‬ ‫ِ‬
‫َربَِّنا ِإَّنا لَ َذائقُ َ‬
‫ُْ ْ َ‬
‫ون أَئَِّنا‬ ‫ون (‪َ )35‬وَيقُولُ َ‬
‫اَّل َّ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪ِ )34‬إَّنهُ ْم َك ُانوا ِإ َذا قي َل لَهُ ْم اَل ِإلَهَ ِإ اللهُ َي ْستَ ْكبِ ُر َ‬ ‫َك َذِل َ‬
‫ك َن ْف َع ُل بِاْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ين (‪ِ )37‬إَّن ُكم لَ َذائِقُو اْل َع َذ ِ‬
‫اب‬ ‫ِ‬ ‫ص َّد َ‬
‫ق اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫اء بِاْل َح ِّ‬
‫ق َو َ‬ ‫ون (‪َ )36‬ب ْل َج َ‬ ‫اع ٍر َم ْجُن ٍ‬‫لَتَ ِار ُكوا آَِلهتَِنا ِل َش ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫اَّل‬ ‫ِِ‬
‫ون (‪)39‬‬ ‫اأْل َليم (‪َ )38‬و َما تُ ْج َز ْو َن ِإ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬

‫ين * قَالُوا‬ ‫ونَنا َع ِن اْلَي ِم ِ‬ ‫ون * قَالُوا ِإَّن ُك ْم ُك ْنتُ ْم تَأْتُ َ‬ ‫اءلُ َ‬ ‫ضهُ ْم َعلَى َب ْع ٍ‬
‫ض َيتَ َس َ‬ ‫{ ‪َ { } 39 - 27‬وأَ ْقَب َل َب ْع ُ‬
‫ان ب ْل ُك ْنتُم قَوما َ ِ‬ ‫ان لََنا َعلَْي ُك ْم ِم ْن ُسْل َ‬ ‫ِ‬
‫ق َعلَْيَنا قَ ْو ُل َربَِّنا‬ ‫ين * فَ َح َّ‬‫طاغ َ‬ ‫ْ ًْ‬ ‫طٍ َ‬ ‫ين * َو َما َك َ‬ ‫ونوا ُم ْؤ ِمن َ‬‫َب ْل لَ ْم تَ ُك ُ‬
‫ك َن ْف َع ُل‬‫ون * ِإَّنا َك َذِل َ‬
‫اب ُم ْشتَ ِر ُك َ‬ ‫ين * فَِإَّنهم َيومئٍِذ ِفي اْل َع َذ ِ‬
‫ُْ ْ َ‬ ‫َغ َو ْيَنا ُك ْم ِإَّنا ُكَّنا َغ ِاو َ‬
‫ون * فَأ ْ‬ ‫ِ‬
‫ِإَّنا لَ َذائقُ َ‬
‫اع ٍر‬‫بِاْلم ْج ِر ِمين * ِإَّنهم َك ُانوا ِإ َذا ِقي َل لَهم ال ِإلَه ِإال اللَّه يستَ ْكبِرون * ويقُولُون أَئَِّنا لَتَ ِار ُكو ِآلهتَِنا ِل َش ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ْ ُ َ ََ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين * ِإَّن ُك ْم لَ َذائقُو اْل َع َذاب األليم * َو َما تُ ْج َز ْو َن ِإال َما ُك ْنتُ ْم‬ ‫ِ‬ ‫ص َّد َ‬ ‫اء بِاْل َح ِّ‬ ‫َم ْجُن ٍ‬
‫ق اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫ق َو َ‬ ‫ون * َب ْل َج َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫تَ ْع َملُ َ‬
‫لما جمعوا هم وأزواجهم وآلهتهم‪ ،‬وهدوا إلى صراط الجحيم‪ ،‬ووقفوا‪ ،‬فسئلوا‪ ،‬فلم يجيبوا‪ ،‬وأقبلوا‬
‫فيما بينهم‪ ،‬يلوم بعضهم بعضا على إضاللهم وضاللهم‪.‬‬
‫ونَنا َع ِن اْلَي ِم ِ‬
‫ين } أي‪ :‬بالقوة والغلبة‪ ،‬فتضلونا‪،‬‬ ‫فقال األتباع للمتبوعين الرؤساء‪ِ { :‬إَّن ُك ْم ُك ْنتُ ْم تَأْتُ َ‬
‫ولوال أنتم لكنا مؤمنين‪.‬‬
‫ِ‬
‫ين } أي‪ :‬ما زلتم مشركين‪ ،‬كما نحن مشركون‪ ،‬فأي‪ :‬شيء‬ ‫ونوا ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫{ قَالُوا } لهم { َب ْل لَ ْم تَ ُك ُ‬
‫فضلكم علينا؟ وأي‪ :‬شيء يوجب لومنا؟‬
‫طٍ‬
‫ان } أي‪ :‬قهر لكم على اختيار الكفر { َب ْل ُك ْنتُ ْم قَ ْو ًما‬ ‫ان لنا عليكم ِم ْن ُسْل َ‬ ‫{ و } الحال أنه { َما َك َ‬
‫ين } متجاوزين للحد (‪. )1‬‬ ‫َ ِ‬
‫طاغ َ‬
‫ِ‬
‫ون } العذاب‪،‬أي‪ :‬حق علينا قدر ربنا وقضاؤه‪ ،‬أنا وإ ياكم‬ ‫ق َعلَْيَنا } نحن وإ ياكم { ِإَّنا لَ َذائقُ َ‬ ‫{ فَ َح َّ‬
‫سنذوق العذاب‪ ،‬ونشترك في العقاب‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬دعوناكم إلى طريقتنا التي نحن عليها‪ ،‬وهي الغواية‪،‬‬ ‫َغ َو ْيَنا ُك ْم ِإَّنا ُكَّنا َغ ِاو َ‬
‫{ فـ } لذلك { أ ْ‬
‫فاستجبتم لنا‪ ،‬فال تلومونا ولوموا أنفسكم‪.‬‬
‫ون } وإ ن تفاوتت مقادير عذابهم‬ ‫اب ُم ْشتَ ِر ُك َ‬ ‫قال تعالى‪ { :‬فَِإَّنهم َيومئٍِذ } أي‪ :‬يوم القيامة { ِفي اْل َع َذ ِ‬
‫ُْ ْ َ‬
‫بحسب جرمهم‪.‬‬
‫كما اشتركوا في الدنيا على الكفر‪ ،‬اشتركوا في اآلخرة بجزائه‪ ،‬ولهذا قال‪ِ { :‬إَّنا َك َذِل َ‬
‫ك َن ْف َع ُل‬
‫ين }‬‫بِاْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫يل لَهُ ْم ال ِإلَهَ ِإال اللَّهُ }‬‫ثم ذكر أن إجرامهم‪ ،‬قد بلغ الغاية وجاوز النهاية فقال‪ِ { :‬إَّنهُ ْم َك ُانوا ِإ َذا ِق َ‬
‫ون } عنها وعلى من جاء بها‪.‬‬ ‫فدعوا إليها‪ ،‬وأمروا بترك إلهية ما سواه { َي ْستَ ْكبِ ُر َ‬
‫ون } معارضة لها { أَئَِّنا لَتَ ِار ُكوا ِآلهَتَِنا } التي لم نزل نعبدها نحن وآباؤنا { لـ } قول‬ ‫{ َوَيقُولُ َ‬
‫ون } يعنون محمدا صلى اللّه عليه وسلم‪ .‬فلم يكفهم ‪ -‬قبحهم اللّه ‪ -‬اإلعراض عنه‪،‬‬ ‫{ َش ِ‬
‫اع ٍر َم ْجُن ٍ‬
‫وال مجرد تكذيبه‪ ،‬حتى حكموا عليه بأظلم األحكام‪ ،‬وجعلوه شاعرا مجنونا‪ ،‬وهم يعلمون أنه ال‬
‫يعرف الشعر والشعراء‪ ،‬وال وصفه وصفهم‪ ،‬وأنه أعقل خلق اللّه‪ ،‬وأعظمهم رأيا‪.‬‬
‫ق } أي‪ :‬مجيئه حق‪ ،‬وما جاء به من‬‫اء } محمد { بِاْل َح ِّ‬
‫ولهذا قال تعالى‪ ،‬ناقضا لقولهم‪َ { :‬ب ْل َج َ‬
‫ين } [أي‪ :‬ومجيئه صدق المرسلين] فلوال مجيئه وإ رساله‬ ‫ِ‬ ‫ص َّد َ‬
‫ق اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫الشرع والكتاب حق‪َ { .‬و َ‬
‫لم يكن الرسل صادقين‪ ،‬فهو آية ومعجزة لكل رسول قبله‪ ،‬ألنهم أخبروا به وبشروا‪ ،‬وأخذ اللّه‬
‫عليهم العهد والميثاق‪ ،‬لئن جاءهم‪ ،‬ليؤمنن به ولينصرنه‪ ،‬وأخذوا ذلك على أممهم‪ ،‬فلما جاء ظهر‬
‫صدق الرسل الذين قبله‪ ،‬وتبين كذب من خالفهم‪. ،‬فلو قدر عدم مجيئه‪ ،‬وهم قد أخبروا به‪ ،‬لكان‬
‫ذلك قادحا في صدقهم‪.‬‬
‫وصدق أيضا المرسلين‪ ،‬بأن جاء بما جاءوا به‪ ،‬ودعا إلى ما دعوا إليه‪ ،‬وآمن بهم‪ ،‬وأخبر بصحة‬
‫رسالتهم ونبوتهم وشرعهم‪.‬‬
‫ِ‬
‫ون } قوال صادرا منهم‪ ،‬يحتمل أن يكون صدقا أو غيره‪ ،‬أخبر‬ ‫ولما كان قولهم السابق‪ِ { :‬إَّنا لَ َذائقُ َ‬
‫تعالى بالقول الفصل الذي ال يحتمل غير الصدق واليقين‪ ،‬وهو الخبر الصادر منه تعالى‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫األل ِيم } أي‪ :‬المؤلم الموجع‪.‬‬ ‫اب ِ‬‫{ ِإَّن ُكم لَ َذائِقُوا اْل َع َذ ِ‬
‫ْ‬
‫{ َو َما تُ ْج َز ْو َن } في إذاقة العذاب األليم { ِإال َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫ون } فلم نظلمكم‪ ،‬وإ نما عدلنا فيكم؟‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬للحق‪.‬‬

‫( ‪)1/702‬‬

‫اكه و ُهم م ْكرمون (‪ِ )42‬في جَّن ِ‬


‫ات‬ ‫ِ‬ ‫ين (‪ )40‬أُولَئِ َ‬
‫ك لَهُ ْم ِر ْز ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِإاَّل ِعب َ َّ ِ‬
‫َ‬ ‫وم (‪ )41‬فَ َو ُ َ ْ ُ َ ُ َ‬ ‫ق َم ْعلُ ٌ‬ ‫اد الله اْل ُم ْخلَص َ‬ ‫َ‬
‫لش ِاربِ َ‬
‫ين (‬ ‫اء لَ َّذ ٍة ِل َّ‬ ‫ْس ِم ْن َم ِع ٍ‬‫اف َعلَْي ِه ْم بِ َكأ ٍ‬ ‫ِ‬
‫النعيم (‪َ )43‬علَى ُس ُر ٍر ُمتَقَابِل َ‬
‫َّ ِ ِ‬
‫ض َ‬‫ين (‪َ )45‬ب ْي َ‬ ‫ط ُ‬ ‫ين (‪ُ )44‬ي َ‬
‫ف ِع ٌ‬ ‫ات الطَّر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض‬ ‫ين (‪َ )48‬كأََّنهُ َّن َب ْي ٌ‬ ‫ون (‪َ )47‬و ِع ْن َد ُه ْم قَاص َر ُ ْ‬ ‫‪ )46‬اَل فيهَا َغ ْو ٌل َواَل ُه ْم َع ْنهَا ُي ْن َزفُ َ‬
‫ون (‪)49‬‬
‫َم ْكُن ٌ‬

‫ولما كان هذا الخطاب لفظه عاما‪ ،‬والمراد به المشركون‪ ،‬استثنى تعالى المؤمنين فقال‪ [ :‬ص‬
‫‪] 703‬‬
‫ون * ِفي‬ ‫ِ‬
‫وم * فَ َواكهُ َو ُه ْم ُم ْك َر ُم َ‬ ‫ين * أُولَئِ َ‬
‫ك لَهُ ْم ِر ْز ٌ‬
‫ق َم ْعلُ ٌ‬
‫ِ‬ ‫{ ‪ِ { } 49 - 40‬إال ِعب َ َّ ِ‬
‫اد الله اْل ُم ْخلَص َ‬ ‫َ‬
‫اء لَ َّذ ٍة ِل َّ‬
‫لش ِاربِ َ‬
‫ين * ال‬ ‫ْس ِم ْن َم ِع ٍ‬
‫اف َعلَْي ِه ْم بِ َكأ ٍ‬ ‫ِ‬
‫النعيم * َعلَى ُس ُر ٍر ُمتَقَابِل َ‬
‫ات َّ ِ ِ‬ ‫جَّن ِ‬
‫ض َ‬‫ين * َب ْي َ‬ ‫ط ُ‬‫ين * ُي َ‬ ‫َ‬
‫ف ِع ٌ‬ ‫ات الطَّر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬‫ض َم ْكُن ٌ‬ ‫ين * َكأََّنهُ َّن َب ْي ٌ‬ ‫ون * َو ِع ْن َد ُه ْم قَاص َر ُ ْ‬ ‫فيهَا َغ ْو ٌل َوال ُه ْم َعْنهَا ُي ْن َزفُ َ‬
‫ين } فإنهم غير ذائقي العذاب األليم‪ ،‬ألنهم أخلصوا للّه‬ ‫ِ‬ ‫يقول تعالى‪ِ { :‬إال ِعب َ َّ ِ‬
‫اد الله اْل ُم ْخلَص َ‬ ‫َ‬
‫األعمال‪ ،‬فأخلصهم‪ ،‬واختصهم برحمته‪ ،‬وجاد عليهم بلطفه‪.‬‬
‫وم } أي‪ :‬غير مجهول‪ ،‬وإ نما هو رزق عظيم جليل‪ ،‬ال يجهل أمره‪ ،‬وال‬ ‫ق َم ْعلُ ٌ‬ ‫{ أُولَئِ َ‬
‫ك لَهُ ْم ِر ْز ٌ‬
‫يبلغ كنهه‪.‬‬
‫اكهُ } من جميع أنواع الفواكه التي تتفكه بها النفس‪ ،‬للذتها في لونها وطعمها‪.‬‬ ‫فسره بقوله‪ { :‬فَو ِ‬
‫َ‬
‫ون } ال مهانون محتقرون‪ ،‬بل معظمون مجلون موقرون‪ .‬قد أكرم بعضهم بعضا‪،‬‬ ‫{ َو ُه ْم ُم ْك َر ُم َ‬
‫وأكرمتهم المالئكة الكرام‪ ،‬وصاروا يدخلون عليهم من كل باب‪ ،‬ويهنئونهم ببلوغ أهنأ الثواب‪،‬‬
‫وأكرمهم أكرم األكرمين‪ ،‬وجاد عليهم بأنواع الكرامات‪ ،‬من نعيم القلوب واألرواح واألبدان‪.‬‬
‫الن ِع ِيم } أي‪ :‬الجنات التي النعيم وصفها‪ ،‬والسرور نعتها‪ ،‬وذلك لما جمعته‪ ،‬مما ال‬ ‫{ ِفي جَّن ِ‬
‫ات َّ‬ ‫َ‬
‫عين رأت‪ ،‬وال أذن سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب بشر‪ ،‬وسلمت من كل مخل بنعيمها‪ ،‬من جميع‬
‫المكدرات والمنغصات‪.‬‬
‫ومن كرامتهم عند ربهم‪ ،‬وإ كرام بعضهم بعضا‪ ،‬أنهم على { ُس ُر ٍر } وهي المجالس المرتفعة‪،‬‬
‫المزينة بأنواع األكسية الفاخرة‪ ،‬المزخرفة المجملة‪ ،‬فهم متكئون عليها‪ ،‬على وجه الراحة‬
‫والطمأنينة‪ ،‬والفرح‪.‬‬
‫ِ‬
‫{ ُمتَقَابِل َ‬
‫ين } فيما بينهم قد صفت قلوبهم‪ ،‬ومحبتهم فيما بينهم‪ ،‬ونعموا باجتماع بعضهم مع بعض‪،‬‬
‫فإن مقابلة وجوههم‪ ،‬تدل على تقابل قلوبهم‪ ،‬وتأدب بعضهم مع بعض فلم يستدبره‪ ،‬أو يجعله إلى‬
‫جانبه‪ ،‬بل من كمال السرور واألدب‪ ،‬ما دل عليه ذلك التقابل‪.‬‬
‫ْس ِم ْن َم ِع ٍ‬
‫ين } أي‪ :‬يتردد الولدان المستعدون لخدمتهم باألشربة اللذيذة‪،‬‬ ‫اف َعلَْي ِه ْم بِ َكأ ٍ‬
‫ط ُ‬‫{ ُي َ‬
‫بالكاسات الجميلة المنظر‪ ،‬المترعة من الرحيق المختوم بالمسك‪ ،‬وهي كاسات الخمر‪.‬‬
‫اء } من أحسن األلوان‪ ،‬وفي‬
‫ض َ‬
‫وتلك الخمر‪ ،‬تخالف خمر الدنيا من كل وجه‪ ،‬فإنها في لونها { َب ْي َ‬
‫ين } يتلذذ شاربها بها وقت شربها وبعده‪ ،‬وأنها سالمة من غول العقل وذهابه‪،‬‬ ‫طعمها { لَ َّذ ٍة ِل َّ‬
‫لش ِاربِ َ‬
‫ونزفه‪ ،‬ونزف مال صاحبها‪ ،‬وليس فيها صداع وال كدر‪ ،‬فلما ذكر طعامهم وشرابهم ومجالسهم‪،‬‬
‫الن ِع ِيم }‬ ‫وعموم النعيم وتفاصيله داخلة في قوله‪ { :‬جَّن ِ‬
‫ات َّ‬ ‫َ‬
‫ات‬ ‫لكن فصل هذه األشياء لتعلم فتشتاق النفوس إليها‪ ،‬ذكر أزواجهم فقال‪ { :‬و ِع ْن َد ُهم قَ ِ‬
‫اص َر ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ين } أي‪ :‬وعند أهل دار النعيم‪ ،‬في محالتهم القريبة‪ ،‬حور حسان‪ ،‬كامالت األوصاف‪،‬‬ ‫ف ِع ٌ‬‫الطَّر ِ‬
‫ْ‬
‫قاصرات الطرف‪ ،‬إما أنها قصرت طرفها على زوجها‪ ،‬لعفتها وعدم مجاوزته لغيره‪ ،‬ولجمال‬
‫زوجها وكماله‪ ،‬بحيث ال تطلب في الجنة سواه‪ ،‬وال ترغب إال به‪ ،‬وإ ما ألنها قصرت طرف‬
‫زوجها عليها‪ ،‬وذلك يدل على كمالها وجمالها الفائق‪ ،‬الذي أوجب لزوجها‪ ،‬أن يقصر طرفه‬
‫عليها‪ ،‬وقصر الطرف أيضا‪ ،‬يدل على قصر النفس والمحبة عليها‪ ،‬وكال المعنيين محتمل‪،‬‬
‫وكالهما صحيح‪ ،‬و [كل] هذا يدل على جمال الرجال والنساء في الجنة‪ ،‬ومحبة بعضهم بعضا‪،‬‬
‫محبة ال يطمح إلى غيره‪ ،‬وشدة عفتهم كلهم‪ ،‬وأنه ال حسد فيها وال تباغض‪ ،‬وال تشاحن‪ ،‬وذلك‬
‫النتفاء أسبابه‪.‬‬
‫{ ِع ٌ‬
‫ين } أي‪ :‬حسان األعين جميالتها‪ ،‬مالح الحدق‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬مستور‪ ،‬وذلك من حسنهن وصفائهن وكون ألوانهن‬ ‫{ َكأََّنهُ َّن } أي‪ :‬الحور { َب ْي ٌ‬
‫ض َم ْكُن ٌ‬
‫أحسن األلوان وأبهاها‪ ،‬ليس فيه كدر وال شين‪.‬‬

‫( ‪)1/702‬‬

‫ان ِلي قَ ِر ٌ‬
‫ين (‪)51‬‬ ‫ض يتَساءلُون (‪ )50‬قَ َ ِ ِ‬
‫ال قَائ ٌل م ْنهُ ْم ِإِّني َك َ‬ ‫ضهُ ْم َعلَى َب ْع ٍ َ َ َ َ‬
‫فَأَ ْقَب َل َب ْع ُ‬

‫ان ِلي قَ ِر ٌ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ض يتَساءلُون * قَ َ ِ ِ‬
‫ال قَائ ٌل م ْنهُ ْم ِإِّني َك َ‬ ‫ضهُ ْم َعلَى َب ْع ٍ َ َ َ َ‬
‫{ ‪ { } 61 - 50‬فَأَ ْقَب َل َب ْع ُ‬
‫لما ذكر تعالى نعيمهم‪ ،‬وتمام سرورهم‪ ،‬بالمآكل والمشارب‪ ،‬واألزواج الحسان‪ ،‬والمجالس‬
‫الحسنة‪ ،‬ذكر تذاكرهم فيما بينهم‪ ،‬ومطارحتهم لألحاديث‪ ،‬عن األمور الماضية‪ ،‬وأنهم ما زالوا في‬
‫ان ِلي قَ ِر ٌ‬
‫ين } في الدنيا‪،‬‬ ‫المحادثة والتساؤل‪ ،‬حتى أفضى ذلك بهم‪ ،‬إلى أن قال قائل منهم‪ِ { :‬إِّني َك َ‬
‫ينكر البعث‪ ،‬ويلومني على تصديقي به‪.‬‬

‫( ‪)1/703‬‬

‫ظ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ك لَ ِمن اْلم ِ‬ ‫ِ‬


‫ون (‪ )53‬قَا َل َه ْل أ َْنتُ ْم‬ ‫اما أَئَّنا لَ َمد ُين َ‬
‫ين (‪ )52‬أَئ َذا متَْنا َو ُكَّنا تَُر ًابا َوع َ ً‬ ‫ص ِّدق َ‬‫َيقُو ُل أَئَّن َ َ ُ َ‬
‫ين (‪َ )56‬ولَ ْواَل نِ ْع َمةُ‬ ‫اء اْل َج ِح ِيم (‪ )55‬قَا َل تَاللَّ ِه ِإ ْن ِك ْد َ‬
‫ت لَتُْر ِد ِ‬ ‫مطَِّلعون (‪ )54‬فَاطَّلَع فَرآَه ِفي سو ِ‬
‫ََ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ُ ُ َ‬
‫َّ‬ ‫اَّل‬ ‫ِ‬ ‫ربِّي لَ ُك ْن ُ ِ‬
‫ين (‬ ‫ين (‪ِ )58‬إ َم ْوتَتََنا اأْل ُولَى َو َما َن ْح ُن بِ ُم َعذبِ َ‬ ‫ين (‪ )57‬أَفَ َما َن ْح ُن بِ َميِّت َ‬
‫ض ِر َ‬ ‫ت م َن اْل ُم ْح َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)61‬‬ ‫يم (‪ )60‬لمثْ ِل َه َذا َفْلَي ْع َم ِل اْل َعاملُ َ‬ ‫ِ‬
‫‪ )59‬إ َّن َه َذا لَهَُو اْلفَ ْو ُز اْل َعظ ُ‬

‫َِّ‬ ‫ظ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ك لَ ِمن اْلم ِ‬ ‫ِ‬


‫ون *‬
‫ال َه ْل أ َْنتُ ْم ُمطل ُع َ‬ ‫ون * قَ َ‬ ‫اما أَئَّنا لَ َمد ُين َ‬
‫ين * أَئ َذا متَْنا َو ُكَّنا تَُر ًابا َوع َ ً‬ ‫ص ِّدق َ‬‫{ َيقُو ُل أَئَّن َ َ ُ َ‬
‫ت ِم َن‬‫ين * َولَ ْوال نِ ْع َمةُ َربِّي لَ ُك ْن ُ‬ ‫اء اْل َج ِح ِيم * قَا َل تَاللَّ ِه ِإ ْن ِك ْد َ‬
‫ت لَتُْر ِد ِ‬ ‫فَاطَّلَع فَرآه ِفي سو ِ‬
‫ََ‬ ‫َ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ين * ِإال موتَتََنا األولَى وما َن ْح ُن بِم َع َّذبِ َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين * إ َّن َه َذا لَهَُو اْلفَ ْو ُز اْل َعظ ُ‬
‫يم‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫َْ‬ ‫ين * أَفَ َما َن ْح ُن بِ َميِّت َ‬
‫ض ِر َ‬ ‫اْل ُم ْح َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫* لم ْث ِل َه َذا َفْلَي ْع َم ِل اْل َعاملُ َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫ظ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك لَ ِمن اْلمص ِّد ِق ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬مجازون‬ ‫اما أَئَّنا لَ َمد ُين َ‬
‫ين أَئ َذا متَْنا َو ُكَّنا تَُر ًابا َوع َ ً‬ ‫و { َيقُو ُل } لي { أَئَّن َ َ ُ َ َ‬
‫بأعمالنا؟ أي‪ :‬كيف تصدق بهذا األمر البعيد‪ ،‬الذي في غاية االستغراب‪ ،‬وهو أننا إذا تمزقنا‪،‬‬
‫فصرنا ترابا وعظاما‪ ،‬أننا نبعث ونعاد‪ ،‬ثم نحاسب ونجازى بأعمالنا؟"‪.‬‬
‫أي‪ :‬يقول صاحب الجنة إلخوانه‪ :‬هذه قصتي‪ ،‬وهذا خبري‪ ،‬أنا وقريني‪ ،‬ما زلت أنا مؤمنا‬
‫مصدقا‪ ،‬وهو ما زال مكذبا منكرا للبعث‪ ،‬حتى متنا‪ ،‬ثم بعثنا‪ ،‬فوصلت أنا إلى ما ترون‪ ،‬من‬
‫النعيم‪ ،‬الذي أخبرتنا به الرسل‪ ،‬وهو ال شك‪ ،‬أنه قد وصل إلى العذاب‪.‬‬
‫ْي عين؟‬ ‫َِّ‬
‫ون } لننظر إليه‪ ،‬فنزداد غبطة وسرورا بما نحن فيه‪ ،‬ويكون ذلك َرأ َ‬
‫فـ { َه ْل أ َْنتُ ْم ُمطل ُع َ‬
‫والظاهر من حال أهل الجنة‪ ،‬وسرور بعضهم [ ص ‪ ] 704‬ببعض‪ ،‬وموافقة بعضهم بعضا‪ ،‬أنهم‬
‫أجابوه لما قال‪ ،‬وذهبوا تبعا له‪ ،‬لالطالع على قرينه‪.‬‬
‫اء اْل َج ِح ِيم } أي‪ :‬في وسط العذاب وغمراته‪ ،‬والعذاب قد أحاط‬ ‫اطلَع } فرأى قرينه { ِفي سو ِ‬ ‫َّ‬
‫ََ‬ ‫{ فَ َ‬
‫به‪.‬‬
‫ين }‬ ‫ال } له الئما على حاله‪ ،‬وشاكرا للّه على نعمته أن نجاه من كيده‪ { :‬تَاللَّ ِه ِإ ْن ِك ْد َ‬
‫ت لَتُْر ِد ِ‬ ‫فـ { قَ َ‬
‫الشَبه بزعمك‪.‬‬ ‫علي من ُّ‬ ‫أي‪ :‬تهلكني بسبب ما أدخلت َّ‬
‫{ ولَوال نِعمةُ ربِّي } على أن ثبتني على اإلسالم { لَ ُك ْن ُ ِ‬
‫ين } في العذاب معك‪.‬‬ ‫ض ِر َ‬
‫ت م َن اْل ُم ْح َ‬ ‫َ ْ َْ َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ين } [أي‪ :‬يقوله المؤمن‪ ،‬مبتهجا بنعمة اللّه‬ ‫ين ِإال َم ْوتَتََنا األولَى َو َما َن ْح ُن بِ ُم َعذبِ َ‬
‫{ أَفَ َما َن ْح ُن بِ َميِّت َ‬
‫على أهل الجنة بالخلود الدائم فيها والسالمة من العذاب; استفهام بمعنى اإلثبات والتقرير] أي‪:‬‬
‫يقول لقرينه المعذب‪ :‬أفتزعم أننا لسنا نموت سوى الموتة األولى‪ ،‬وال بعث بعدها وال عذاب (‬
‫‪. )1‬‬
‫ون } وحذف المعمول‪ ،‬والمقام مقام لذة وسرور‪ ،‬فدل‬ ‫اءلُ َ‬ ‫ضهُ ْم َعلَى َب ْع ٍ‬
‫ض َيتَ َس َ‬ ‫وقوله‪ { :‬فَأَ ْقَب َل َب ْع ُ‬
‫ذلك على أنهم يتساءلون بكل ما يلتذون بالتحدث به‪ ،‬والمسائل التي وقع فيها النزاع واإلشكال‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن لذة أهل العلم بالتساؤل عن العلم‪ ،‬والبحث عنه‪ ،‬فوق اللذات الجارية في أحاديث‬
‫الدنيا‪ ،‬فلهم من هذا النوع النصيب الوافر‪ ،‬ويحصل لهم من انكشاف الحقائق العلمية في الجنة ما‬
‫ال يمكن التعبير عنه‪.‬‬
‫وشوق العاملين‪ ،‬وحثَّهم على‬
‫فلما ذكر تعالى نعيم الجنة‪ ،‬ووصفه بهذه األوصاف الجميلة‪ ،‬مدحه‪َّ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم } الذي حصل لهم به كل خير‪ ،‬وكل ما تهوى النفوس‬‫العمل فقال‪ { :‬إ َّن َه َذا لَهَُو اْلفَ ْو ُز اْل َعظ ُ‬
‫وتشتهي‪ ،‬واندفع عنهم به كل محذور ومكروه‪ ،‬فهل فوز يطلب فوقه؟ أم هو غاية الغايات‪ ،‬ونهاية‬
‫النهايات‪ ،‬حيث حل عليهم رضا رب األرض والسماوات‪ ،‬وفرحوا بقربه‪ ،‬وتنعموا بمعرفته‬
‫واستروا برؤيته‪ ،‬وطربوا لكالمه؟‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫{ لمثْ ِل َه َذا َفْلَي ْع َم ِل اْل َعاملُ َ‬
‫ون } فهو أحق ما أنفقت فيه نفائس األنفاس وأولى ما شمر إليه العارفون‬
‫األكياس‪ ،‬والحسرة كل الحسرة‪ ،‬أن يمضي على الحازم‪ ،‬وقت من أوقاته‪ ،‬وهو غير مشتغل‬
‫بالعمل‪ ،‬الذي يقرب لهذه الدار‪ ،‬فكيف إذا كان يسير بخطاياه إلى دار البوار؟"‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ما بين الخاصرتين زيادة من ب‪ ،‬وما بعد الحاصرة الثانية شطب عليه فيها‪ ،‬ورأيت إبقاءه‬
‫لعدم شطبه في أ‪.‬‬

‫( ‪)1/703‬‬

‫َص ِل‬ ‫ِ‬ ‫وم (‪ِ )62‬إَّنا جعْلَن َ ِ ِ َّ ِ ِ‬ ‫الزقُّ ِ‬ ‫أَ َذِل َ‬
‫ين (‪ِ )63‬إَّنهَا َش َج َرةٌ تَ ْخ ُر ُج في أ ْ‬ ‫اها فتَْنةً للظالم َ‬ ‫ََ‬ ‫ك َخ ْيٌر ُن ُزاًل أ َْم َش َج َرةُ َّ‬
‫ين (‪ )65‬فَِإَّنهم آَل َ ِكلُون ِم ْنها فَم ِالُئ ِ‬ ‫الشي ِ‬ ‫اْل َج ِح ِيم (‪َ )64‬‬
‫ون (‪)66‬‬ ‫ون م ْنهَا اْلُبطُ َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫ُْ‬ ‫اط ِ‬ ‫وس َّ َ‬
‫طْل ُعهَا َكأََّنهُ ُر ُء ُ‬
‫ين‬ ‫ثَُّم ِإ َّن لَهم َعلَْيها لَ َشوًبا ِم ْن َح ِم ٍيم (‪ )67‬ثَُّم ِإ َّن مر ِجعهم إَلِ لَى اْل َج ِح ِيم (‪ِ )68‬إَّنهم أَْلفَوا آََباء ُهم َ ِّ‬
‫ضال َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُْ ْ‬ ‫َ ْ َ ُْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُْ‬
‫ين (‪َ )71‬ولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ِفي ِه ْم‬ ‫ض َّل قَْبلَهُ ْم أَ ْكثَُر اأْل ََّوِل َ‬
‫ون (‪َ )70‬ولَقَ ْد َ‬‫(‪ )69‬فَهُ ْم َعلَى َآثَ ِار ِه ْم ُي ْه َر ُع َ‬
‫ِ‬ ‫ف َكان ع ِاقبةُ اْلم ْن َذ ِرين (‪ِ )73‬إاَّل ِعب َ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪)74‬‬ ‫اد الله اْل ُم ْخلَص َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ين (‪ )72‬فَ ْانظُ ْر َك ْي َ َ َ َ ُ‬ ‫ُم ْنذ ِر َ‬

‫ين * ِإَّنهَا َش َج َرةٌ‬ ‫وم * ِإَّنا جعْلَن َ ِ ِ َّ ِ ِ‬ ‫الزقُّ ِ‬


‫ك َخ ْيٌر ُن ُزال أ َْم َش َج َرةُ َّ‬ ‫{ ‪ { } 74 - 62‬أَ َذِل َ‬
‫اها فتَْنةً للظالم َ‬ ‫ََ‬
‫ون ِم ْنهَا‬ ‫ِ‬ ‫آلكلُ ِ‬
‫ون م ْنهَا فَ َمالُئ َ‬ ‫َ‬
‫ين * فَِإَّنهم ِ‬
‫ُْ‬ ‫اط ِ‬‫الشي ِ‬
‫وس َّ َ‬ ‫َص ِل اْل َج ِح ِيم * َ‬
‫طْل ُعهَا َكأََّنهُ ُر ُء ُ‬
‫ِ‬
‫تَ ْخ ُر ُج في أ ْ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ٍِ‬
‫ون * ثَُّم ِإ َّن لَهُ ْم َعلَْيهَا لَ َش ْوًبا م ْن َحميم * ثَُّم ِإ َّن َم ْر ِج َعهُ ْم إللَى اْل َجحيم * ِإَّنهُ ْم أَْلفَ ْوا َآب َ‬
‫اء ُه ْم‬ ‫اْلُبطُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض َّل قَْبلَهُ ْم أَ ْكثَُر َّ‬ ‫َ ِّ‬
‫ين * َولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا في ِه ْم ُم ْنذ ِر َ‬
‫ين‬ ‫األوِل َ‬ ‫ون * َولَقَ ْد َ‬ ‫ين * فَهُ ْم َعلَى آثَ ِار ِه ْم ُي ْه َر ُع َ‬‫ضال َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ف َكان ع ِاقبةُ اْلم ْن َذ ِرين * ِإال ِعب َ َّ ِ‬
‫اد الله اْل ُم ْخلَص َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫* فَ ْانظُ ْر َك ْي َ َ َ َ ُ‬
‫{ أَ َذِل َ‬
‫ك َخ ْيٌر نزال } أي‪ :‬ذلك النعيم الذي وصفناه ألهل الجنة خير‪ ،‬أم العذاب الذي يكون في‬
‫الجحيم من جميع أصناف العذاب؟ فأي الطعامين أولى؟ الذي وصف في الجنة { أ َْم } طعام أهل‬
‫ين } أنفسهم بالكفر‬ ‫ِ َّ ِ ِ‬ ‫وم ِإَّنا جعْلَن َ ِ‬
‫الزقُّ ِ‬
‫النار؟ وهو { َش َج َرةُ َّ‬
‫اها فتَْنةً } أي عذابا ونكاال { للظالم َ‬ ‫ََ‬
‫والمعاصي‪.‬‬
‫َص ِل اْل َج ِح ِيم } أي‪ :‬وسطه فهذا مخرجها‪ ،‬ومعدنها أشر المعادن‬ ‫ِ‬
‫{ ِإَّنهَا َش َج َرةٌ تَ ْخ ُر ُج في أ ْ‬
‫وأسوؤها‪ ،‬وشر المغرس‪ ،‬يدل على شر الغراس وخسته‪ ،‬ولهذا نبهنا اللّه على شرها بما ذكر أين‬
‫تنبت به‪ ،‬وبما ذكر من صفة ثمرتها‪.‬‬
‫الشي ِ‬
‫ين } فال تسأل بعد هذا عن طعمها‪ ،‬وما تفعل في أجوافهم وبطونهم‪،‬‬ ‫اط ِ‬ ‫وس َّ َ‬ ‫وأنها كـ { ُر ُء ُ‬
‫وليس لهم عنها مندوحة وال معدل (‪. )1‬‬
‫ون } فهذا طعام أهل النار‪ ،‬فبئس الطعام‬ ‫آلكلُون ِم ْنها فَم ِالُئ ِ‬
‫ولهذا قال‪ { :‬فَِإَّنهم ِ‬
‫ون م ْنهَا اْلُبطُ َ‬
‫َ َ َ َ‬ ‫ُْ‬
‫طعامهم‪ ،‬ثم ذكر شرابهم فقال‪ { :‬ثَُّم ِإ َّن لَهُ ْم َعلَْيهَا } أي‪ :‬على أثر هذا الطعام { لَ َش ْوًبا ِم ْن َح ِم ٍيم }‬
‫اء َكاْل ُم ْه ِل َي ْش ِوي اْل ُو ُجوهَ بِْئ َس‬ ‫أي‪ :‬ماء حارا‪ ،‬قد انتهى‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وإِ ْن يستَ ِغيثُوا ي َغاثُوا بِم ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َْ‬
‫اء ُه ْم }‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫يما فَقَط َع أ َْم َع َ‬
‫اء َحم ً‬‫ت ُم ْرتَفَقًا } وكما قال تعالى‪َ { :‬و ُسقُوا َم ً‬ ‫اء ْ‬
‫اب َو َس َ‬
‫الش َر ُ‬
‫{ ثَُّم ِإ َّن َم ْر ِج َعهُ ْم } أي‪ :‬مآلهم ومقرهم [ومأواهم] { إللَى اْل َج ِح ِيم } ليذوقوا من عذابه الشديد‪،‬‬
‫وحره العظيم‪ ،‬ما ليس عليه مزيد من الشقاء‪.‬‬
‫ين فَهُ ْم‬ ‫وكأنه قيل‪ :‬ما الذي أوصلهم إلى هذه الدار؟ فقال‪ِ { :‬إَّنهم أَْلفَوا } أي‪ :‬وجدوا { َآباء ُهم َ ِّ‬
‫ضال َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُْ ْ‬
‫ون } أي‪ :‬يسرعون في الضالل‪ ،‬فلم يلتفتوا إلى ما دعتهم إليه الرسل‪ ،‬وال إلى‬ ‫َعلَى آثَ ِار ِه ْم ُي ْه َر ُع َ‬
‫ما حذرتهم عنه الكتب‪ ،‬وال إلى أقوال الناصحين‪ ،‬بل عارضوهم بأن قالوا‪ِ { :‬إَّنا َو َج ْدَنا َآب َ‬
‫اءَنا‬
‫علَى أ َّ ٍ‬
‫ُمة َوإِ َّنا َعلَى آثَ ِار ِه ْم ُم ْقتَ ُد َ‬
‫ون }‬ ‫َ‬
‫ين } وقليل منهم آمن واهتدى‪.‬‬ ‫ض َّل قَْبلَهُ ْم } أي‪ :‬قبل هؤالء المخاطبين { أَ ْكثَُر َّ‬
‫األوِل َ‬ ‫{ َولَقَ ْد َ‬
‫[ ص ‪] 705‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } ينذرونهم عن غيهم وضاللهم‪.‬‬ ‫{ َولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا في ِه ْم ُم ْنذ ِر َ‬
‫ِ‬
‫ان َعاقَبةُ اْل ُم ْن َذ ِر َ‬
‫ين } كانت عاقبتهم الهالك‪ ،‬والخزي‪ ،‬والفضيحة‪ ،‬فليحذر هؤالء‬ ‫ف َك َ‬ ‫{ فَ ْانظُ ْر َك ْي َ‬
‫أن يستمروا على ضاللهم‪ ،‬فيصيبهم مثل ما أصابهم‪.‬‬
‫ولما كان المنذرون ليسوا (‪ )2‬كلهم ضالين‪ ،‬بل منهم من آمن وأخلص الدين للّه‪ ،‬استثناه اللّه من‬
‫ين } أي‪ :‬الذين أخلصهم اللّه‪ ،‬وخصهم برحمته إلخالصهم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الهالك فقال‪ِ { :‬إال ِعب َ َّ ِ‬
‫اد الله اْل ُم ْخلَص َ‬ ‫َ‬
‫فإن عواقبهم صارت حميدة‪.‬‬
‫ثم ذكر أنموذجا من عواقب األمم المكذبين فقال‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬معدن‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬ليس‪.‬‬

‫( ‪)1/704‬‬

‫َهلَهُ ِم َن اْل َك ْر ِب اْل َع ِظ ِيم (‪)76‬‬


‫َّيَناهُ َوأ ْ‬
‫ون (‪َ )75‬وَنج ْ‬ ‫اد َانا ُن ٌ ِ‬
‫وح َفلَن ْع َم اْل ُم ِج ُيب َ‬ ‫َولَقَ ْد َن َ‬

‫َهلَهُ ِم َن اْل َك ْر ِب اْل َع ِظ ِيم } ‪ .‬يخبر‬


‫َّيَناهُ َوأ ْ‬
‫ون * َوَنج ْ‬ ‫اد َانا ُن ٌ ِ‬
‫وح َفلَن ْع َم اْل ُم ِج ُيب َ‬ ‫{ ‪َ { } 82 - 75‬ولَقَ ْد َن َ‬
‫تعالى عن عبده ورسوله نوح عليه السالم‪ ،‬أول الرسل‪ ،‬أنه لما دعا قومه إلى اللّه‪ ،‬تلك المدة‬
‫ِ‬ ‫ب ال تَ َذر علَى األر ِ ِ‬
‫ض م َن اْل َكاف ِر َ‬
‫ين‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫الطويلة فلم يزدهم دعاؤه‪ ،‬إال فرارا‪ ،‬أنه نادى ربه فقال‪َ { :‬ر ِّ‬
‫َّارا } اآلية‪.‬‬
‫َدي ً‬
‫ين } فاستجاب اللّه له‪ ،‬ومدح تعالى نفسه فقال‪َ { :‬فلَنِ ْع َم‬ ‫ِِ‬
‫ص ْرنِي َعلَى اْلقَ ْوِم اْل ُم ْفسد َ‬
‫ب ْان ُ‬‫وقال‪َ { :‬ر ِّ‬
‫اْل ُم ِج ُيب َ‬
‫ون } لدعاء الداعين‪ ،‬وسماع تبتلهم وتضرعهم‪ ،‬أجابه إجابة طابق ما سأل‪ ،‬نجاه وأهله من‬
‫الكرب العظيم‪.‬‬

‫( ‪)1/705‬‬

‫ين (‪)79‬‬ ‫ِ‬ ‫وجعْلَنا ُذِّريَّتَه ُهم اْلب ِاقين (‪ )77‬وتَر ْكَنا علَْي ِه ِفي اآْل َ ِخ ِرين (‪ )78‬ساَل م علَى ُن ٍ ِ‬
‫وح في اْل َعالَم َ‬ ‫َ ٌ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ ُ َ َ‬ ‫َ ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِإَّنا َك َذِل َ‬
‫ين (‪)82‬‬ ‫َغ َر ْقَنا اآْل َ َخ ِر َ‬ ‫ين (‪ِ )80‬إَّنهُ م ْن عَبادَنا اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين (‪ )81‬ثَُّم أ ْ‬ ‫ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ‬

‫ين * ِإَّنا َك َذِل َ‬


‫ك‬ ‫ِ‬ ‫اآلخ ِرين * سالم علَى ُن ٍ ِ‬
‫وح في اْل َعالَم َ‬ ‫َ ٌ َ‬ ‫َ‬
‫{ وجعْلَنا ُذِّريَّتَه ُهم اْلب ِاقين * وتَر ْكَنا علَْي ِه ِفي ِ‬
‫َ‬ ‫ُ ُ َ َ َ َ‬ ‫َ ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫اآلخ ِر َ‬
‫ين }‬ ‫َغ َر ْقَنا َ‬ ‫ين * ِإَّنهُ م ْن عَبادَنا اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين * ثَُّم أ ْ‬ ‫َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ‬
‫وأغرق جميع الكافرين‪ ،‬وأبقى نسله وذريته متسلسلين‪ ،‬فجميع الناس من ذرية نوح عليه السالم‪،‬‬
‫وجعل له ثناء حسنا مستمرا إلى وقت اآلخرين‪ ،‬وذلك ألنه محسن في عبادة الخالق‪ ،‬محسن إلى‬
‫الخلق‪ ،‬وهذه سنته تعالى في المحسنين‪ ،‬أن ينشر لهم من الثناء على حسب إحسانهم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ودل قوله‪ِ { :‬إَّنهُ م ْن عَبادَنا اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين } أن اإليمان أرفع منازل العباد وأنه مشتمل على جميع‬
‫شرائع الدين وأصوله وفروعه‪ ،‬ألن اللّه مدح به خواص خلقه‪.‬‬

‫( ‪)1/705‬‬

‫ِ‬ ‫أِل ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫وإِ َّن ِم ْن ِش ِ ِ ِ ِ‬


‫ون (‪)85‬‬ ‫اء َربَّهُ بِ َقْل ٍب َسليم (‪ِ )84‬إ ْذ قَا َل َبِيه َوقَ ْو ِمه َما َذا تَ ْعُب ُد َ‬ ‫يم (‪ِ )83‬إ ْذ َج َ‬ ‫يعته إَل ْب َراه َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وم (‪)88‬‬ ‫الن ُج ِ‬ ‫ِ‬
‫ظ َرةً في ُّ‬ ‫ظ َر َن ْ‬ ‫ين (‪ )87‬فََن َ‬ ‫ِ‬ ‫ظُّن ُك ْم بَِر ِّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ون الله تُِر ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫ون (‪ )86‬فَ َما َ‬ ‫يد َ‬ ‫أَئ ْف ًكا آَلهَةً ُد َ‬
‫ون (‪َ )91‬ما لَ ُك ْم اَل‬ ‫ال أَاَل تَْأ ُكلُ َ‬ ‫غ ِإلَى آَِلهَتِ ِه ْم فَقَ َ‬ ‫ين (‪ )90‬فََرا َ‬ ‫َّ‬
‫يم (‪ )89‬فَتََول ْوا َعْنهُ ُم ْدبِ ِر َ‬
‫ِ‬
‫ال ِإِّني َسق ٌ‬ ‫فَقَ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ْرًبا بِاْلَي ِم ِ‬ ‫ِ‬
‫ون‬
‫ون َما تَْنحتُ َ‬ ‫ال أَتَ ْعُب ُد َ‬
‫ون (‪ )94‬قَ َ‬ ‫ين (‪ )93‬فَأَ ْقَبلُوا ِإلَْيه َي ِزفُّ َ‬ ‫غ َعلَْي ِه ْم َ‬ ‫ون (‪ )92‬فََرا َ‬ ‫تَْنطقُ َ‬
‫ادوا بِ ِه َك ْي ًدا‬ ‫ون (‪ )96‬قَالُوا ْابُنوا لَهُ ُب ْنَي ًانا فَأَْلقُوهُ ِفي اْل َج ِح ِيم (‪ )97‬فَأ ََر ُ‬ ‫َّ‬
‫(‪َ )95‬واللهُ َخلَقَ ُك ْم َو َما تَ ْع َملُ َ‬
‫ين (‬ ‫ِِ‬ ‫ب َه ْ ِ ِ‬ ‫ين (‪َ )99‬ر ِّ‬ ‫ب ِإلَى َربِّي َسَي ْه ِد ِ‬ ‫اهم اأْل َس َفِلين (‪ )98‬وقَا َل ِإِّني َذ ِ‬
‫ب لي م َن الصَّالح َ‬ ‫اه ٌ‬ ‫َ‬ ‫فَ َج َعْلَن ُ ُ ْ َ‬
‫َّع َي قَا َل َيا ُبَن َّي ِإِّني أ ََرى ِفي اْل َمَن ِام أَِّني أَ ْذَب ُح َ‬
‫ك‬ ‫ٍ ٍِ‬
‫‪ )100‬فََب َّش ْرَناهُ بِ ُغاَل م َحليم (‪َ )101‬فلَ َّما َبلَ َغ َم َعهُ الس ْ‬
‫فَ ْانظُر ما َذا تَرى قَا َل يا أَب ِت ا ْفع ْل ما تُؤمر ستَ ِج ُدنِي ِإ ْن َش َّ ِ‬
‫َسلَ َما‬‫ين (‪َ )102‬فلَ َّما أ ْ‬ ‫اء اللهُ م َن الصَّابِ ِر َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ َُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ِِ‬ ‫الر ْؤَيا ِإَّنا َك َذِل َ‬ ‫ص َّد ْق َ‬ ‫اد ْيَناه أ ْ ِ ِ‬ ‫َوتَلَّهُ ِلْل َجبِ ِ‬
‫ين (‬ ‫ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ‬ ‫ت ُّ‬ ‫يم (‪ )104‬قَ ْد َ‬ ‫َن َيا إ ْب َراه ُ‬ ‫ين (‪َ )103‬وَن َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‬ ‫ين (‪َ )106‬وفَ َد ْيَناهُ بِذ ْب ٍح َعظيم (‪َ )107‬وتََر ْكَنا َعلَْيه في اآْل َخ ِر َ‬ ‫‪ِ )105‬إ َّن َه َذا لَهَُو اْلَباَل ُء اْل ُمبِ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫يم (‪َ )109‬ك َذِل َ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين (‪)111‬‬ ‫ين (‪ِ )110‬إَّنهُ م ْن عَبادَنا اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ‬ ‫‪َ )108‬ساَل ٌم َعلَى إ ْب َراه َ‬
‫اق َو ِم ْن ُذِّريَّتِ ِه َما ُم ْح ِس ٌن‬
‫ين (‪َ )112‬وَب َار ْكَنا َعلَْي ِه َو َعلَى ِإ ْس َح َ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َوَب َّش ْرَناهُ بِِإ ْس َح َ‬
‫اق َنبِيًّا م َن الصَّالح َ‬
‫ين (‪)113‬‬ ‫ظ ِال ٌم ِلَن ْف ِس ِه ُمبِ ٌ‬
‫َو َ‬

‫يم } إلى آخر القصة ‪.‬‬ ‫{ ‪ { } 113 - 83‬وإِ َّن ِم ْن ِشيعتِ ِه ْ ِ‬


‫إلب َراه َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬وإ ن من شيعة نوح عليه السالم‪ ،‬ومن هو على طريقته في النبوة والرسالة‪ ،‬ودعوة الخلق إلى‬
‫اللّه‪ ،‬وإ جابة الدعاء‪ ،‬إبراهيم الخليل عليه السالم‪.‬‬
‫اء َربَّهُ بِ َقْل ٍب َسِل ٍيم } من الشرك والشبه‪ ،‬والشهوات المانعة من تصور الحق‪ ،‬والعمل به‪،‬‬
‫{ ِإ ْذ َج َ‬
‫وإ ذا كان قلب العبد سليما‪ ،‬سلم من كل شر‪ ،‬وحصل له كل خير‪ ،‬ومن سالمته أنه سليم من غش‬
‫الخلق وحسدهم‪ ،‬وغير ذلك من مساوئ األخالق‪ ،‬ولهذا نصح الخلق في اللّه‪ ،‬وبدأ بأبيه وقومه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فقال‪ِ { :‬إ ْذ قَا َل ألبِيه َوقَ ْو ِمه َما َذا تَ ْعُب ُد َ‬
‫ون } هذا استفهام بمعنى (‪ )1‬اإلنكار‪ ،‬وإ لزام لهم بالحجة‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬أتعبدون [من دونه] آلهة كذبا‪ ،‬ليست بآلهة‪ ،‬وال تصلح‬ ‫يد َ‬‫ون اللَّ ِه تُِر ُ‬ ‫ِ ِ‬
‫{ أَئ ْف ًكا آلهَةً ُد َ‬
‫للعبادة‪ ،‬فما ظنكم برب العالمين‪ ،‬أن يفعل بكم وقد عبدتم معه غيره؟ وهذا ترهيب لهم بالجزاء‬
‫بالعقاب على اإلقامة على شركهم‪.‬‬
‫وما الذي ظننتم برب العالمين‪ ،‬من النقص حتى جعلتم له أندادا وشركاء‪.‬‬
‫فأراد عليه السالم‪ ،‬أن يكسر أصنامهم‪ ،‬ويتمكن من ذلك‪ ،‬فانتهز الفرصة في حين غفلة منهم‪ ،‬لما‬
‫ذهبوا إلى عيد من أعيادهم‪ ،‬فخرج معهم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ظ َرةً ِفي ُّ‬
‫يم } في الحديث الصحيح‪" :‬لم يكذب إبراهيم عليه السالم إال‬ ‫وم فَقَا َل ِإِّني َسق ٌ‬
‫الن ُج ِ‬ ‫ظ َر َن ْ‬
‫{ فََن َ‬
‫يم } وقوله { َب ْل فَ َعلَهُ َكبِ ُير ُه ْم َه َذا } وقوله عن زوجته "إنها أختي"‬ ‫ِ‬
‫ثالث كذبات‪ :‬قوله { ِإِّني َسق ٌ‬
‫والقصد أنه تخلف عنهم‪ ،‬ليتم له الكيد بآلهتهم‪.‬‬
‫َّ‬
‫ين } فلما وجد الفرصة‪.‬‬ ‫{ فَـ } لهذا { تََول ْوا َع ْنهُ ُم ْدبِ ِر َ‬
‫غ ِإلَى ِآلهَتِ ِه ْم } أي‪ :‬أسرع إليها على وجه الخفية والمراوغة‪ { ،‬فَقَ َ‬
‫ال } متهكما بها { أَال‬ ‫{ فََرا َ‬
‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬فكيف يليق أن تعبد‪ ،‬وهي أنقص من الحيوانات‪ ،‬التي تأكل أو‬ ‫تَْأ ُكلُ َ‬
‫ون َما لَ ُك ْم ال تَْنطقُ َ‬
‫تكلم؟ فهذه جماد ال تأكل وال تكلم‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬جعل يضربها بقوته ونشاطه‪ ،‬حتى جعلها جذاذا‪ ،‬إال كبيرا‬‫ض ْرًبا بِاْلَي ِم ِ‬
‫غ َعلَْي ِه ْم َ‬‫{ فََرا َ‬
‫لهم‪ ،‬لعلهم إليه يرجعون‪.‬‬
‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬يسرعون ويهرعون‪ ،‬أي‪ :‬يريدون أن يوقعوا به‪ ،‬بعدما بحثوا وقالوا‪:‬‬ ‫{ فَأَ ْقَبلُوا ِإلَْيه َي ِزفُّ َ‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين }‬‫{ َم ْن فَ َع َل َه َذا بِآلهَتَنا ِإَّنهُ لَم َن الظالم َ‬
‫َن تَُولُّوا‬
‫ام ُك ْم َب ْع َد أ ْ‬ ‫يد َّن أ ْ‬
‫َصَن َ‬
‫اهيم } يقول‪ { :‬تَاللَّ ِه ِ‬
‫ألك َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫وقيل لهم { َسم ْعَنا فَتًى َي ْذ ُك ُر ُه ْم ُيقَا ُل لَهُ إ ْب َر ُ‬
‫ون فََر َج ُعوا ِإلَى‬ ‫ِ‬
‫وه ْم ِإ ْن َك ُانوا َينطقُ َ‬
‫ين } فوبخوه والموه‪ ،‬فقال‪َ { :‬ب ْل فَ َعلَهُ َكبِ ُير ُه ْم َه َذا فَ ْسَئلُ ُ‬ ‫ُم ْدبِ ِر َ‬
‫ون قَا َل‬ ‫ِ ِ‬ ‫وس ِه ْم لَقَ ْد َعِل ْم َ‬ ‫أَنفُ ِس ِهم فَقَالُوا ِإَّن ُكم أ َْنتُم الظَّ ِالمون ثَُّم ُن ِكسوا علَى رء ِ‬
‫ت َما َه ُؤالء َينطقُ َ‬ ‫ُ َ ُ ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْ‬
‫ض ُّر ُك ْم } اآلية‪.‬‬ ‫أَفَتَعب ُدون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون الله َما ال َينفَ ُع ُك ْم َش ْيًئا َوال َي ُ‬ ‫ُْ َ‬
‫ون } أي‪ :‬تنحتونه بأيديكم وتصنعونه؟ فكيف تعبدونهم‪ ،‬وأنتم‬ ‫ِ‬
‫ون َما تَْنحتُ َ‬ ‫و { قَا َل } هنا‪ { :‬أَتَ ْعُب ُد َ‬
‫ون قَالُوا ْابُنوا لَهُ ُب ْنَي ًانا } أي‪:‬‬
‫الذين صنعتموهم‪ ،‬وتتركون اإلخالص للّه؟ الذي { َخلَقَ ُك ْم َو َما تَ ْع َملُ َ‬
‫عاليا مرتفعا‪ ،‬وأوقدوا فيها النار [ ص ‪ { ] 706‬فَأَْلقُوهُ ِفي اْل َج ِح ِيم } جزاء على ما فعل‪ ،‬من‬
‫تكسير آلهتهم‪.‬‬
‫ِ‬
‫ين } رد اللّه كيدهم في نحورهم‪ ،‬وجعل‬ ‫األس َفل َ‬
‫اه ُم ْ‬‫ادوا بِ ِه َك ْي ًدا } ليقتلوه أشنع قتلة { فَ َج َعْلَن ُ‬ ‫{ فَأ ََر ُ‬
‫النار على إبراهيم بردا وسالما‪.‬‬
‫ب ِإلَى َربِّي } أي‪:‬‬ ‫{ و } لما فعلوا فيه هذا الفعل‪ ،‬وأقام عليهم الحجة‪ ،‬وأعذر منهم‪ { ،‬قال ِإِّني َذ ِ‬
‫اه ٌ‬ ‫َ‬
‫ين } يدلني إلى ما فيه الخير لي‪،‬‬ ‫ِ‬
‫مهاجر إليه‪ ،‬قاصد إلى األرض المباركة أرض الشام‪َ { .‬سَي ْهد ِ‬
‫ون اللَّ ِه َوأ َْد ُعو َربِّي‬
‫ون ِم ْن ُد ِ‬‫َعتَ ِزلُ ُك ْم َو َما تَ ْد ُع َ‬
‫من أمر ديني ودنياي‪ ،‬وقال في اآلية األخرى‪َ { :‬وأ ْ‬
‫اء َربِّي َش ِقيًّا }‬
‫عسى أَال أَ ُكون بِ ُدع ِ‬
‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫ين } وذلك عند ما أيس من قومه‪ ،‬ولم ير فيهم خيرا‪،‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ب َه ْ ِ‬ ‫{ َر ِّ‬
‫ب لي } ولدا يكون { م َن الصَّالح َ‬
‫دعا اللّه أن يهب له غالما صالحا‪ ،‬ينفع اللّه به في حياته‪ ،‬وبعد مماته‪ ،‬فاستجاب اللّه له وقال‪:‬‬
‫الم َحِل ٍيم } وهذا إسماعيل عليه السالم بال شك‪ ،‬فإنه ذكر بعده البشارة [بإسحاق‪،‬‬ ‫{ فََب َّشرَناه بِ ُغ ٍ‬
‫ْ ُ‬
‫اق و ِم ْن ور ِ‬
‫وب } فدل على‬ ‫اء ِإ ْس َح َ‬
‫اق َي ْعقُ َ‬ ‫وألن اللّه تعالى قال في بشراه بإسحاق { فََب َّش ْرَن َ‬
‫اها] بِِإ ْس َح َ َ َ َ‬
‫أن إسحاق غير الذبيح‪ ،‬ووصف اللّه إسماعيل‪ ،‬عليه السالم بالحلم ‪ ،‬وهو يتضمن الصبر‪ ،‬وحسن‬
‫الخلق‪ ،‬وسعة الصدر والعفو عمن جنى‪.‬‬
‫َّع َي } أي‪ :‬أدرك أن يسعى معه‪ ،‬وبلغ سنا يكون في الغالب‪ ،‬أحب ما‬ ‫{ َفلَ َّما َبلَ َغ } الغالم { َم َعهُ الس ْ‬
‫يكون لوالديه‪ ،‬قد ذهبت مشقته‪ ،‬وأقبلت منفعته‪ ،‬فقال له إبراهيم عليه السالم‪ِ { :‬إِّني أ ََرى ِفي اْل َمَن ِام‬
‫ك } أي‪ :‬قد رأيت في النوم والرؤيا‪ ،‬أن اللّه يأمرني بذبحك‪ ،‬ورؤيا (‪ )2‬األنبياء وحي‬ ‫أَِّني أَ ْذَب ُح َ‬
‫ال } إسماعيل صابرا محتسبا‪،‬‬ ‫{ فَ ْانظُ ْر َما َذا تََرى } فإن أمر اللّه تعالى‪ ،‬ال بد من تنفيذه‪ { ،‬قَ َ‬
‫مرضيا لربه‪ ،‬وبارا بوالده‪َ { :‬يا أََب ِت ا ْف َع ْل َما تُ ْؤ َم ُر } أي‪[ :‬امض] لما أمرك اللّه { َستَ ِج ُدنِي ِإ ْن‬
‫َش َّ ِ‬
‫ين } أخبر أباه أنه موطن نفسه على الصبر‪ ،‬وقرن ذلك بمشيئة اللّه تعالى‪،‬‬ ‫اء اللهُ م َن الصَّابِ ِر َ‬
‫َ‬
‫ألنه ال يكون شيء بدون مشيئة اللّه تعالى‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬على وجه‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬ورأي‪.‬‬

‫( ‪)1/705‬‬
‫َسلَ َما } أي‪ :‬إبراهيم وابنه إسماعيل‪ ،‬جازما بقتل ابنه وثمرة فؤاده‪ ،‬امتثاال ألمر ربه‪،‬‬
‫{ َفلَ َّما أ ْ‬
‫وخوفا من عقابه‪ ،‬واالبن قد وطَّن نفسه على الصبر‪ ،‬وهانت عليه في طاعة ربه‪ ،‬ورضا والده‪{ ،‬‬
‫َوتَلَّهُ ِلْل َجبِ ِ‬
‫ين } أي‪ :‬تل إبراهيم إسماعيل على جبينه‪ ،‬ليضجعه فيذبحه‪ ،‬وقد انكب لوجهه‪ ،‬لئال‬
‫ينظر وقت الذبح إلى وجهه‪.‬‬
‫ت } أي‪ :‬قد فعلت‬ ‫ص َّد ْق َ‬ ‫اد ْيَناه } في تلك الحال المزعجة‪ ،‬واألمر المدهش‪ { :‬أ ْ ِ ِ‬
‫يم قَ ْد َ‬
‫َن َيا إ ْب َراه ُ‬ ‫{ َوَن َ ُ‬
‫ما أمرت به‪ ،‬فإنك وطَّنت نفسك على ذلك‪ ،‬وفعلت كل سبب‪ ،‬ولم يبق إال إمرار السكين على حلقه‬
‫ِِ‬ ‫{ ِإَّنا َك َذِل َ‬
‫ين } في عبادتنا‪ ،‬المقدمين رضانا على شهوات أنفسهم‪.‬‬ ‫ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ‬
‫ين } أي‪ :‬الواضح‪ ،‬الذي تبين به‬ ‫الء اْل ُمبِ ُ‬
‫{ ِإ َّن َه َذا } الذي امتحنا به إبراهيم عليه السالم { لَهَُو اْلَب ُ‬
‫صفاء إبراهيم‪ ،‬وكمال محبته لربه وخلته‪ ،‬فإن إسماعيل عليه السالم لما وهبه اللّه إلبراهيم‪ ،‬أحبه‬
‫حبا شديدا‪ ،‬وهو خليل الرحمن‪ ،‬والخلة أعلى أنواع المحبة‪ ،‬وهو منصب ال يقبل المشاركة‬
‫ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب‪ ،‬فلما تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه‬
‫إسماعيل‪ ،‬أراد تعالى أن يصفي ُو َّده ويختبر خلته‪ ،‬فأمره أن يذبح من زاحم حبه حب ربه‪ ،‬فلما‬
‫قدم حب اللّه‪ ،‬وآثره على هواه‪ ،‬وعزم على ذبحه‪ ،‬وزال ما في القلب من المزاحم‪ ،‬بقي الذبح ال‬ ‫ّ‬
‫ين َوفَ َد ْيَناهُ بِِذ ْب ٍح َع ِظ ٍيم } أي‪ :‬صار بدله ذبح من الغنم‬
‫الء اْل ُمبِ ُ‬
‫فائدة فيه‪ ،‬فلهذا قال‪ِ { :‬إ َّن َه َذا لَهَُو اْلَب ُ‬
‫عظيم‪ ،‬ذبحه إبراهيم‪ ،‬فكان عظيما من جهة أنه كان فداء إلسماعيل‪ ،‬ومن جهة أنه من جملة‬
‫العبادات الجليلة‪ ،‬ومن جهة أنه كان قربانا وسنة إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫يم } أي‪ :‬وأبقينا عليه ثناء صادقا في اآلخرين‪ ،‬كما‬ ‫الم َعلَى إ ْب َراه َ‬
‫ين َس ٌ‬ ‫{ َوتََر ْكَنا َعلَْيه في اآلخ ِر َ‬
‫كان في األولين‪ ،‬فكل وقت بعد إبراهيم عليه السالم‪ ،‬فإنه [فيه] محبوب معظم مثني عليه‪.‬‬
‫طفَى }‬
‫اص َ‬ ‫ِ ِ ِ َِّ‬ ‫َِّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين ْ‬ ‫الم َعلَى عَباده الذ َ‬ ‫يم } أي‪ :‬تحيته عليه كقوله‪ُ { :‬قل اْل َح ْم ُد لله َو َس ٌ‬ ‫الم َعلَى إ ْب َراه َ‬ ‫{ َس ٌ‬
‫ِِ‬ ‫{ ِإَّنا َك َذِل َ‬
‫ين } في عبادة اللّه‪ ،‬ومعاملة خلقه‪ ،‬أن نفرج عنهم الشدائد‪ ،‬ونجعل لهم‬ ‫ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ‬
‫العاقبة‪ ،‬والثناء الحسن‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ين } بما أمر اللّه باإليمان به‪ ،‬الذين بلغ بهم اإليمان إلى درجة اليقين‪ ،‬كما‬ ‫{ ِإَّنهُ م ْن عَبادَنا اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ِ‬ ‫ض وِلي ُك ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬و َك َذِل َ‬
‫ون م َن اْل ُمو ِقن َ‬
‫ين }‬ ‫األر ِ َ َ َ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫وت الس َ‬
‫يم َملَ ُك َ‬‫ك ُن ِري إ ْب َراه َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫{ َوَب َّش ْرَناهُ بِِإ ْس َح َ‬
‫ين } هذه البشارة الثانية بإسحاق‪ ،‬الذي من ورائه يعقوب‪،‬‬ ‫اق َنبِيًّا م َن الصَّالح َ‬
‫فبشر بوجوده وبقائه‪ ،‬ووجود ذريته‪ ،‬وكونه نبيا من الصالحين‪ ،‬فهي بشارات متعددة‪.‬‬

‫( ‪)1/706‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫اه ْم‬ ‫اه َما َوقَ ْو َمهُ َما م َن اْل َك ْر ِب اْل َعظيم (‪َ )115‬وَن َ‬
‫ص ْرَن ُ‬ ‫َّيَن ُ‬‫ون (‪َ )114‬وَنج ْ‬ ‫وسى َو َه ُار َ‬ ‫َولَقَ ْد َمَنَّنا َعلَى ُم َ‬
‫ِ‬ ‫فَ َك ُانوا ُهم اْل َغ ِالبِين (‪ )116‬وآَتَْيَن ُ ِ‬
‫يم (‪)118‬‬ ‫ط اْل ُم ْستَق َ‬
‫ِّرا َ‬
‫اه َما الص َ‬ ‫ين (‪َ )117‬و َه َد ْيَن ُ‬ ‫اب اْل ُم ْستَبِ َ‬
‫اه َما اْلكتَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِِ‬ ‫ون (‪ِ )120‬إَّنا َك َذِل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‬‫ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ‬ ‫وسى َو َه ُار َ‬
‫ين (‪َ )119‬ساَل ٌم َعلَى ُم َ‬ ‫َوتََر ْكَنا َعلَْي ِه َما في اآْل َخ ِر َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ين (‪)122‬‬ ‫(‪ِ )121‬إَّنهُ َما م ْن عَبادَنا اْل ُم ْؤ ِمن َ‬

‫اق } أي‪ :‬أنزلنا عليهما البركة‪ ،‬التي هي النمو والزيادة في علمهما‬ ‫{ َوَب َار ْكَنا َعلَْي ِه َو َعلَى ِإ ْس َح َ‬
‫وعملهما وذريتهما‪ ،‬فنشر اللّه من ذريتهما ثالث أمم عظيمة‪ :‬أمة العرب من ذرية إسماعيل‪،‬‬
‫ين } أي‪:‬‬‫ظ ِال ٌم ِلَن ْف ِس ِه ُمبِ ٌ‬
‫وأمة بني إسرائيل‪ ،‬وأمة الروم من ذرية إسحاق‪َ { .‬و ِم ْن ُذِّريَّتِ ِه َما ُم ْح ِس ٌن َو َ‬
‫منهم الصالح والطالح‪ ،‬والعادل والظالم الذي تبين ظلمه‪ ،‬بكفره وشركه‪ ،‬ولعل هذا من باب دفع‬
‫اإليهام‪ ،‬فإنه لما قال‪َ { :‬وَب َار ْكَنا َعلَْي ِه وعلى إسحاق } اقتضى ذلك البركة في ذريتهما‪ ،‬وأن من‬
‫تمام البركة‪ ،‬أن تكون الذرية كلهم محسنين‪ ،‬فأخبر اللّه تعالى أن منهم محسنا وظالما‪ ،‬واللّه أعلم‪.‬‬
‫[ ص ‪] 707‬‬
‫ون } إلى آخر القصة‪.‬‬ ‫{ ‪َ { } 122 - 114‬ولَقَ ْد َمَنَّنا َعلَى ُم َ‬
‫وسى َو َه ُار َ‬
‫يذكر تعالى ِمَّنتهُ على عبديه ورسوليه‪ ،‬موسى‪ ،‬وهارون ابني عمران‪ ،‬بالنبوة والرسالة‪ ،‬والدعوة‬
‫إلى اللّه تعالى‪ ،‬ونجاتهما وقومهما من عدوهما فرعون‪ ،‬ونصرهما عليه‪ ،‬حتى أغرقه اللّه وهم‬
‫ينظرون‪ ،‬وإ نزال اللّه عليهما الكتاب المستبين‪ ،‬وهو التوراة التي فيها األحكام والمواعظ وتفصيل‬
‫كل شيء‪ ،‬وأن اللّه هداهما الصراط المستقيم‪ ،‬بأن شرع لهما دينا ذا أحكام وشرائع مستقيمة‬
‫وم َّن عليهما بسلوكه‪.‬‬
‫موصلة إلى اللّه‪َ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬أبقى عليهما ثناء حسنا‪ ،‬وتحية في‬ ‫وسى َو َه ُار َ‬ ‫الم َعلَى ُم َ‬ ‫{ َوتََر ْكَنا َعلَْي ِه َما في اآلخ ِر َ‬
‫ين َس ٌ‬
‫ين ِإَّنهُ َما ِم ْن ِعَب ِادَنا‬‫ِِ‬ ‫اآلخرين‪ ،‬ومن باب أولى وأحرى في األولين { ِإَّنا َك َذِل َ‬
‫ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ‬
‫ِ‬
‫اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين }‬

‫( ‪)1/706‬‬

‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َح َس َن‬
‫ون أ ْ‬
‫ون َب ْعاًل َوتَ َذ ُر َ‬ ‫ين (‪ِ )123‬إ ْذ قَا َل لقَ ْو ِمه أَاَل تَتَّقُ َ‬
‫ون (‪ )124‬أَتَ ْد ُع َ‬ ‫َوإِ َّن ِإْلَي َ‬
‫اس لَم َن اْل ُم ْر َسل َ‬
‫اْل َخ ِال ِقين (‪ )125‬اللَّه رَّب ُكم ور َّ ِ‬
‫ين (‪)126‬‬ ‫ب آََبائ ُك ُم اأْل ََّوِل َ‬ ‫ََ ْ ََ‬ ‫َ‬

‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون‬
‫ون َب ْعال َوتَ َذ ُر َ‬ ‫ين * ِإ ْذ قَا َل لقَ ْو ِمه أَال تَتَّقُ َ‬
‫ون * أَتَ ْد ُع َ‬ ‫اس لَم َن اْل ُم ْر َسل َ‬‫{ ‪َ { } 132 - 123‬وإِ َّن ِإْلَي َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ب َآبائِ ُك ُم َّ‬
‫األوِل َ‬ ‫ين * اللَّهَ َرَّب ُك ْم َو َر َّ‬ ‫ِِ‬
‫َح َس َن اْل َخالق َ‬
‫أْ‬
‫يمدح تعالى عبده ورسوله‪ ،‬إلياس عليه الصالة والسالم‪ ،‬بالنبوة والرسالة‪ ،‬والدعوة إلى اللّه‪ ،‬وأنه‬
‫أمر قومه بالتقوى‪ ،‬وعبادة اللّه وحده‪ ،‬ونهاهم عن عبادتهم‪ ،‬صنما لهم يقال له "بعل" وتركهم عبادة‬
‫وأدر عليهم النعم الظاهرة‬
‫اللّه‪ ،‬الذي خلق الخلق‪ ،‬وأحسن خلقهم‪ ،‬ورباهم فأحسن تربيتهم‪َّ ،‬‬
‫والباطنة‪ ،‬وأنكم كيف تركتم عبادة من هذا شأنه‪ ،‬إلى عبادة صنم‪ ،‬ال يضر‪ ،‬وال ينفع‪ ،‬وال يخلق‪،‬‬
‫وال يرزق‪ ،‬بل ال يأكل وال يتكلم؟" وهل هذا إال من أعظم الضالل والسفه والغي؟"‬

‫( ‪)1/707‬‬

‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫فَ َك َّذبوه فَِإَّنهم لَم ْحضرون (‪ِ )127‬إاَّل ِعب َ َّ ِ‬
‫ين (‬‫ين (‪َ )128‬وتََر ْكَنا َعلَْيه في اآْل َخ ِر َ‬‫اد الله اْل ُم ْخلَص َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ ُْ ُ َ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ين (‪ِ )130‬إَّنا َك َذِل َ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪ِ )131‬إَّنهُ م ْن عَبادَنا اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين (‬ ‫ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ‬ ‫‪َ )129‬ساَل ٌم َعلَى ِإ ْل َياس َ‬
‫‪)132‬‬

‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫{ فَ َك َّذبوه فَِإَّنهم لَم ْحضرون * ِإال ِعب َ َّ ِ‬


‫الم َعلَى‬ ‫ين * َوتََر ْكَنا َعلَْيه في اآلخ ِر َ‬
‫ين * َس ٌ‬ ‫اد الله اْل ُم ْخلَص َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ ُْ ُ َ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ين * ِإَّنا َك َذِل َ‬ ‫ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ين * ِإَّنهُ م ْن عَبادَنا اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ‬ ‫ِإ ْل َياس َ‬
‫َّ‬
‫ون } أي يوم‬ ‫{ فَ َكذُبوهُ } فيما دعاهم إليه‪ ،‬فلم ينقادوا له‪ ،‬قال اللّه متوعدا لهم‪ { :‬فَِإَّنهُ ْم لَ ُم ْح َ‬
‫ض ُر َ‬
‫القيامة في العذاب‪ ،‬ولم يذكر لهم عقوبة دنيوية‪.‬‬
‫ومن عليهم باتباع نبيهم‪ ،‬فإنهم غير‬ ‫ين } أي‪ :‬الذين أخلصهم اللّه‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫{ ِإال ِعب َ َّ ِ‬
‫اد الله اْل ُم ْخلَص َ‬ ‫َ‬
‫محضرين في العذاب‪ ،‬وإ نما لهم من اللّه جزيل الثواب‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } ثناء حسنا‪.‬‬ ‫{ َوتََر ْكَنا َعلَْيه } أي‪ :‬على إلياس { في اآلخ ِر َ‬
‫ِ‬
‫ين } أي‪ :‬تحية من اللّه‪ ،‬ومن عباده عليه‪.‬‬ ‫الم َعلَى ِإ ْل َياس َ‬ ‫{ َس ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫{ ِإَّنا َك َذِل َ‬
‫ين } فأثنى اللّه عليه كما أثنى على إخوانه‬ ‫ين ِإَّنهُ م ْن عَبادَنا اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ك َن ْج ِزي اْل ُم ْحسن َ‬
‫صلوات اللّه وسالمه عليهم أجمعين‪.‬‬

‫( ‪)1/707‬‬

‫َجم ِعين (‪ِ )134‬إاَّل عج ً ِ‬ ‫ِ‬ ‫وإِ َّن لُو ً ِ‬


‫وزا في اْل َغابِ ِر َ‬
‫ين (‪)135‬‬ ‫َُ‬ ‫َهلَهُ أ ْ َ َ‬ ‫ين (‪ِ )133‬إ ْذ َنج ْ‬
‫َّيَناهُ َوأ ْ‬ ‫طا لَم َن اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ثَُّم َد َّمرَنا اآْل َ َخ ِرين (‪ )136‬وإِ َّن ُكم لَتَم ُّرون علَْي ِهم م ِ‬
‫ون (‪)138‬‬ ‫ين (‪َ )137‬وبِاللْي ِل أَفَاَل تَ ْعقلُ َ‬
‫صبِح َ‬
‫َ ْ ُ َ َ ْ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬

‫وزا ِفي‬
‫ين * ِإال َع ُج ً‬ ‫َهلَه أ ْ ِ‬
‫َج َمع َ‬ ‫ين * ِإ ْذ َنج ْ‬
‫َّيَناهُ َوأ ْ ُ‬
‫ِ‬
‫طا لَم َن اْل ُم ْر َسل َ‬
‫{ ‪ { } 138 - 133‬وإِ َّن لُو ً ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫ين * َوباللْيل أَفَال تَ ْعقلُ َ‬
‫صبح َ‬ ‫ون َعلَْيه ْم ُم ْ‬ ‫اآلخ ِر َ‬
‫ين * َوإِ َّن ُك ْم لَتَ ُم ُّر َ‬ ‫اْل َغابِ ِر َ‬
‫ين * ثَُّم َد َّم ْرَنا َ‬
‫وهذا ثناء منه تعالى على عبده ورسوله‪ ،‬لوط بالنبوة والرسالة‪ ،‬ودعوته إلى اللّه قومه‪ ،‬ونهيهم‬
‫عن الشرك‪ ،‬وفعل الفاحشة‪.‬‬
‫فلما لم ينتهوا‪ ،‬نجاه اللّه وأهله أجمعين‪ ،‬فسروا ليال فنجوا‪.‬‬
‫{ ِإال عج ً ِ‬
‫ين } أي‪ :‬الباقين المعذبين‪ ،‬وهي زوجة لوط لم تكن على دينه‪.‬‬ ‫وزا في اْل َغابِ ِر َ‬ ‫َُ‬
‫ط ْرَنا َعلَْيهَا ِح َج َارةً ِم ْن‬
‫ين } بأن قلبنا عليهم ديارهم { فَ َج َعْلَنا َع ِالَيهَا َس ِافلَهَا َوأ َْم َ‬ ‫اآلخ ِر َ‬
‫{ ثَُّم َد َّم ْرَنا َ‬
‫ضو ٍد } حتى همدوا وخمدوا‪.‬‬ ‫ِسج ٍ‬
‫ِّيل َم ْن ُ‬
‫ين َوبِاللَّْي ِل } أي‪ :‬في هذه األوقات‪،‬‬ ‫{ وإِ َّن ُكم لَتَم ُّرون علَْي ِهم } أي‪ :‬على ديار قوم لوط { م ِ‬
‫صبِح َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ ْ ُ َ َ ْ‬
‫ون } اآليات والعبر‪،‬‬ ‫ِ‬
‫يكثر ترددكم إليها ومروركم بها‪ ،‬فلم تقبل الشك والمرية { أَفَال تَ ْعقلُ َ‬
‫وتنزجرون عما يوجب الهالك؟‬

‫( ‪)1/707‬‬

‫ين‬ ‫ِ‬ ‫اهم فَ َك ِ‬ ‫ق ِإلَى اْل ُفْل ِك اْل َم ْش ُح ِ‬ ‫ين (‪ِ )139‬إ ْذ أََب َ‬ ‫ِ‬ ‫وإِ َّن ي ُ ِ‬
‫ان م َن اْل ُم ْد َحض َ‬‫ون (‪ )140‬فَ َس َ َ َ‬ ‫ون َس لَم َن اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫َ ُ‬
‫طنِ ِه ِإلَى‬
‫ث ِفي َب ْ‬‫ين (‪ )143‬لَلَبِ َ‬ ‫ِ‬ ‫وت و ُهو مِليم (‪َ )142‬فلَواَل أََّنه َك ِ‬
‫ان م َن اْل ُم َسبِّح َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫(‪ )141‬فَاْلتَقَ َمهُ اْل ُح ُ َ َ ُ ٌ‬
‫ين (‪)146‬‬ ‫يم (‪َ )145‬وأ َْنَبتَْنا َعلَْي ِه َش َج َرةً ِم ْن َي ْق ِط ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪ )144‬فََنَب ْذَناهُ بِاْل َع َراء َو ُه َو َسق ٌ‬ ‫َي ْوِم ُي ْب َعثُ َ‬
‫ين (‪)148‬‬ ‫اه ْم ِإلَى ِح ٍ‬ ‫َمُنوا فَ َمتَّ ْعَن ُ‬
‫ون (‪ )147‬فَآ َ‬ ‫ف أ َْو َي ِز ُ‬
‫يد َ‬
‫وأَرسْلَناه ِإلَى ِمَئ ِة أَْل ٍ‬
‫َ ْ َ ُ‬

‫ين } إلى آخر القصة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 148 - 139‬وإِ َّن ي ُ ِ‬


‫ون َس لَم َن اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫َ ُ‬
‫وهذا ثناء منه تعالى‪ ،‬على عبده ورسوله‪ ،‬يونس بن متى‪ ،‬كما أثنى على إخوانه المرسلين‪ ،‬بالنبوة‬
‫والرسالة‪ ،‬والدعوة إلى اللّه‪ ،‬وذكر تعالى عنه‪ ،‬أنه عاقبه عقوبة دنيوية‪ ،‬أنجاه منها بسبب إيمانه‬
‫وأعماله الصالحة‪ ،‬فقال‪ِ { :‬إ ْذ أََب َ‬
‫ق}‬
‫أي‪ :‬من ربه مغاضبا له‪ ،‬ظانا أنه ال يقدر عليه‪ ،‬ويحبسه في بطن الحوت‪ ،‬ولم يذكر اللّه ما‬
‫غاضب عليه‪ ،‬وال ذنبه الذي ارتكبه‪ ،‬لعدم فائدتنا بذكره‪ ،‬وإ نما فائدتنا بما ُذ ِّكرنا عنه أنه أذنب‪،‬‬
‫وعاقبه اللّه مع كونه من الرسل الكرام‪ ،‬وأنه نجاه بعد ذلك‪ ،‬وأزال عنه المالم‪ ،‬وقيض له ما هو‬
‫سبب صالحه‪.‬‬
‫فلما أبق لجأ { ِإلَى اْل ُفْل ِك اْل َم ْش ُح ِ‬
‫ون } بالركاب واألمتعة‪ ،‬فلما ركب مع غيره‪ ،‬والفلك شاحن‪ ،‬ثقلت‬
‫السفينة‪ ،‬فاحتاجوا إلى إلقاء بعض الركبان‪ ،‬وكأنهم لم يجدوا ألحد مزية في ذلك‪ ،‬فاقترعوا على‬
‫أن من قرع وغلب‪ ،‬ألقي في البحر عدال من أهل السفينة‪ ،‬وإ ذا أراد اللّه أمرا هيأ أسبابه‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬المغلوبين‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫فلما [اقترعوا] أصابت القرعة يونس { فَ َك ِ‬
‫ان م َن اْل ُم ْد َحض َ‬
‫َ‬
‫يم } أي‪ :‬فاعل ما يالم عليه‪ ،‬وهو‬ ‫ِ‬
‫وت َو ُه َو } وقت التقامه { ُمل ٌ‬ ‫فألقي في البحر { فَاْلتَقَ َمهُ اْل ُح ُ‬
‫مغاضبته لربه‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬في وقته السابق بكثرة عبادته لربه‪ ،‬وتسبيحه‪ ،‬وتحميده‪ ،‬وفي‬ ‫ِ‬ ‫{ َفلَوال أََّنه َك ِ‬
‫ان م َن اْل ُم َسبِّح َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ين }‬
‫ت م َن الظالم َ‬ ‫ك ِإِّني ُك ْن ُ‬ ‫بطن الحوت حيث قال‪ { :‬ال ِإلَهَ ِإال أ َْن َ‬
‫ت ُس ْب َح َان َ‬
‫ث ِفي ب ْ ِ ِ‬
‫ون } أي‪ :‬لكانت مقبرته‪ ،‬ولكن بسبب تسبيحه وعبادته للّه‪ ،‬نجاه اللّه‬ ‫طنه ِإلَى َي ْوِم ُي ْب َعثُ َ‬ ‫َ‬ ‫{ لَلَبِ َ‬
‫تعالى‪ ،‬وكذلك ينجي اللّه المؤمنين‪ ،‬عند وقوعهم في الشدائد‪.‬‬
‫اء } بأن قذفه الحوت من بطنه بالعراء‪ ،‬وهي األرض الخالية العارية من كل أحد‪،‬‬ ‫{ فََنب ْذَناه بِاْلعر ِ‬
‫َ ُ ََ‬
‫يم } أي‪ :‬قد سقم ومرض‪ ،‬بسبب حبسه في‬ ‫ِ‬
‫بل ربما كانت عارية من األشجار والظالل‪َ { .‬و ُه َو َسق ٌ‬
‫بطن الحوت‪ ،‬حتى صار مثل الفرخ الممعوط من البيضة‪.‬‬
‫{ َوأ َْنَبتَْنا َعلَْي ِه َش َج َرةً ِم ْن َي ْق ِط ٍ‬
‫ين } تظله بظلها الظليل‪ ،‬ألنها بادرة باردة الظالل‪ ،‬وال يسقط عليها‬
‫ذباب‪ ،‬وهذا من لطفه به‪ ،‬وبره‪.‬‬
‫[ ص ‪] 708‬‬
‫ثم لطف به لطفا آخر‪ ،‬وامتَ َّن عليه ِمّنة عظمى‪ ،‬وهو أنه أرسله { ِإلَى ِم َائ ِة أَْل ٍ‬
‫ف } من الناس { أ َْو‬ ‫ْ‬
‫ون } عنها‪ ،‬والمعنى أنهم إن ما زادوا لم ينقصوا‪ ،‬فدعاهم إلى اللّه تعالى‪.‬‬ ‫َي ِز ُ‬
‫يد َ‬
‫آمُنوا } فصاروا في موازينه‪ ،‬ألنه الداعي لهم‪.‬‬ ‫{ فَ َ‬
‫ين } بأن صرف اللّه عنهم العذاب بعدما انعقدت أسبابه‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬فلَ ْوال‬ ‫اه ْم ِإلَى ِح ٍ‬
‫{ فَ َمتَّ ْعَن ُ‬
‫اب اْل ِخ ْز ِي ِفي اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫الد ْنَيا‬ ‫آمُنوا َك َش ْفَنا َعْنهُ ْم َع َذ َ‬ ‫يم ُانهَا ِإال قَ ْو َم ُي ُ‬
‫ون َس لَ َّما َ‬
‫ِ‬
‫ت فََنفَ َعهَا إ َ‬‫آمَن ْ‬
‫ت قَ ْرَيةٌ َ‬ ‫َك َان ْ‬
‫ين }‬ ‫اه ْم ِإلَى ِح ٍ‬
‫َو َمتَّ ْعَن ُ‬

‫( ‪)1/707‬‬

‫ون (‪ )150‬أَاَل ِإَّنهُ ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫استَ ْفتِ ِه ْم أَِل َرِّب َ‬
‫ون (‪ )149‬أ َْم َخلَ ْقَنا اْل َماَل ئ َكةَ ِإَناثًا َو ُه ْم َشاه ُد َ‬ ‫ات َولَهُ ُم اْلَبُن َ‬
‫ك اْلَبَن ُ‬ ‫فَ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين (‪)153‬‬ ‫طفَى اْلَبَنات َعلَى اْلَبن َ‬ ‫َص َ‬‫ون (‪ )152‬أ ْ‬ ‫ون (‪َ )151‬ولَ َد اللهُ َوإِ َّنهُ ْم لَ َكاذُب َ‬ ‫م ْن ِإ ْفك ِه ْم لََيقُولُ َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫استَ ْفتِ ِه ْم أَِل َرِّب َ‬


‫ون * أ َْم َخلَ ْقَنا اْل َمالئ َكةَ ِإَناثًا َو ُه ْم َشاه ُد َ‬
‫ون *‬ ‫ات َولَهُ ُم اْلَبُن َ‬
‫ك اْلَبَن ُ‬ ‫{ ‪ { } 157 - 149‬فَ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫طفَى اْلَبَنات َعلَى اْلَبن َ‬ ‫َص َ‬ ‫ون * أ ْ‬ ‫ون * َولَ َد اللهُ َوإِ َّنهُ ْم لَ َكاذُب َ‬ ‫أَال ِإَّنهُ ْم م ْن ِإ ْفك ِه ْم لََيقُولُ َ‬
‫استَ ْفتِ ِه ْم } أي‪ :‬اسأل المشركين باللّه غيره‪ ،‬الذين‬ ‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ { :‬فَ ْ‬
‫عبدوا المالئكة‪ ،‬وزعموا أنها بنات اللّه‪ ،‬فجمعوا بين الشرك باللّه‪ ،‬ووصفه بما ال يليق بجالله‪،‬‬
‫ون } أي‪ :‬هذه قسمة ضيزى‪ ،‬وقول جائر‪ ،‬من جهة جعلهم الولد للّه‬ ‫ات َولَهُ ُم اْلَبُن َ‬ ‫{ أَِل َرب َ‬
‫ِّك اْلَبَن ُ‬
‫تعالى‪ ،‬ومن جهة جعلهم أردأ القسمين وأخسهما له وهو البنات التي ال يرضونهن ألنفسهم‪ ،‬كما‬
‫ون } ومن جهة جعلهم المالئكة‬ ‫ِ‬ ‫قال في اآلية األخرى { وي ْجعلُ َِّ ِ‬
‫ون لله اْلَبَنات ُس ْب َح َانهُ َولَهُ ْم َما َي ْشتَهُ َ‬ ‫ََ َ َ‬
‫بنات اللّه‪ ،‬وحكمهم بذلك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } خلقهم؟ أي‪ :‬ليس األمر كذلك‪،‬‬ ‫قال تعالى في بيان كذبهم‪ { :‬أ َْم َخلَ ْقَنا اْل َمالئ َكةَ ِإَناثًا َو ُه ْم َشاه ُد َ‬
‫فإنهم ما شهدوا خلقهم‪ ،‬فدل على أنهم قالوا هذا القول‪ ،‬بال علم‪ ،‬بل افتراء على اللّه‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫{ أَال ِإَّنهُ ْم م ْن ِإ ْفك ِه ْم } أي‪ :‬كذبهم الواضح { لََيقُولُ َ‬
‫ون َولَ َد اللهُ َوإِ َّنهُ ْم لَ َكاذُب َ‬
‫ون }‬
‫طفَى } أي‪ :‬اختار ‪.‬‬
‫َص َ‬
‫{أ ْ‬

‫( ‪)1/708‬‬

‫ين (‪ )156‬فَأْتُوا بِ ِكتَابِ ُك ْم ِإ ْن‬


‫ان ُمبِ ٌ‬
‫طٌ‬ ‫ون (‪ )154‬أَفَاَل تَ َذ َّك ُر َ‬
‫ون (‪ )155‬أ َْم لَ ُك ْم ُسْل َ‬ ‫ف تَ ْح ُك ُم َ‬‫َما لَ ُك ْم َك ْي َ‬
‫ين (‪)157‬‬ ‫ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬

‫ين * فَأْتُوا بِ ِكتَابِ ُكم ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬


‫ين‬
‫صادق َ‬‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ان ُمبِ ٌ‬
‫طٌ‬ ‫ون * أَفَال تَ َذ َّك ُر َ‬
‫ون * أ َْم لَ ُك ْم ُسْل َ‬ ‫ف تَ ْح ُك ُم َ‬‫َما لَ ُك ْم َك ْي َ‬ ‫{‬
‫‪.‬‬ ‫}‬
‫ون } هذا الحكم الجائر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ف تَ ْح ُك ُم َ‬
‫ين * َما لَ ُك ْم َك ْي َ‬
‫اْلَبَنات َعلَى اْلَبن َ‬ ‫{‬
‫ون } وتميزون هذا القول الباطل الجائر فإنكم لو تذكرتم لم تقولوا هذا القول‬ ‫أَفَال تَ َذ َّك ُر َ‬ ‫{‬
‫ين } أي حجة ظاهرة على قولكم من كتاب أو رسول‬ ‫ان ُمبِ ٌ‬
‫طٌ‬ ‫{ أ َْم لَ ُك ْم ُسْل َ‬
‫ين } فإن من يقول قوال ال يقيم عليه‬ ‫وكل هذا غير واقع ولهذا قال { فَأْتُوا بِ ِكتَابِ ُكم ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬‫ْ َ‬ ‫ْ‬
‫حجة شرعية فإنه كاذب متعمد أو قائل على اللّه بال علم‬

‫( ‪)1/708‬‬

‫ون‬ ‫ِ‬ ‫وجعلُوا ب ْيَنه وب ْين اْل ِجَّن ِة َنسبا ولَقَ ْد عِلم ِت اْل ِجَّنةُ ِإَّنهم لَم ْحضرون (‪ )158‬س ْبح َّ ِ‬
‫ان الله َع َّما َيصفُ َ‬
‫ُ َ َ‬ ‫ُْ ُ َ ُ َ‬ ‫ًَ َ َ َ‬ ‫َ ََ َ ُ ََ َ‬
‫ين (‪)160‬‬ ‫ِ‬ ‫(‪ِ )159‬إاَّل ِعب َ َّ ِ‬
‫اد الله اْل ُم ْخلَص َ‬ ‫َ‬

‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان‬
‫ون * ُس ْب َح َ‬ ‫{ ‪َ { } 160 - 158‬و َج َعلُوا َب ْيَنهُ َوَب ْي َن اْل ِجَّنة َن َسًبا َولَقَ ْد َعل َمت اْل ِجَّنةُ ِإَّنهُ ْم لَ ُم ْح َ‬
‫ض ُر َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫صفُون * ِإال ِعب َ َّ ِ‬ ‫اللَّ ِه ع َّما ي ِ‬
‫اد الله اْل ُم ْخلَص َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫أي‪ :‬جعل هؤالء المشركون باللّه بين اللّه وبين الجنة نسبا‪ ،‬حيث زعموا أن المالئكة بنات اللّه‪،‬‬
‫وأن أمهاتهم سروات الجن‪ ،‬والحال أن الجنة قد علمت أنهم محضرون بين يدي اللّه‪[ ،‬ليجازيهم]‬
‫عبادا أذالء‪ ،‬فلو كان بينهم وبينه نسب‪ ،‬لم يكونوا (‪ )1‬كذلك‪.‬‬
‫ان اللَّ ِه } الملك العظيم‪ ،‬الكامل الحليم‪ ،‬عما يصفه به المشركون من كل وصف أوجبه‬ ‫{ ُس ْب َح َ‬
‫كفرهم وشركهم‪.‬‬
‫ين } فإنه لم ينزه نفسه عما وصفوه به‪ ،‬ألنهم لم يصفوه إال بما يليق‬ ‫ِ‬ ‫{ ِإال ِعب َ َّ ِ‬
‫اد الله اْل ُم ْخلَص َ‬ ‫َ‬
‫بجالله‪ ،‬وبذلك كانوا مخلصين‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬لم يكن‪.‬‬

‫( ‪)1/708‬‬

‫ال اْل َج ِح ِيم (‪)163‬‬


‫ين (‪ِ )162‬إاَّل م ْن ُهو ص ِ‬
‫َ َ َ‬
‫ِ ِِ‬
‫ون (‪َ )161‬ما أ َْنتُ ْم َعلَْيه بِفَاتن َ‬
‫فَِإَّن ُك ْم َو َما تَ ْعُب ُد َ‬

‫ص ِالي اْل َج ِح ِيم } ‪.‬‬


‫ين * ِإال َم ْن ُه َو َ‬
‫ِ ِِ‬
‫ون * َما أ َْنتُ ْم َعلَْيه بِفَاتن َ‬
‫{ ‪ { } 163 - 161‬فَِإَّن ُك ْم َو َما تَ ْعُب ُد َ‬
‫أي‪ :‬إنكم أيها المشركون ومن عبدتموه مع اللّه‪ ،‬ال تقدرون أن تفتنوا وتضلوا أحدا إال من قضى‬
‫اللّه أنه من أهل الجحيم‪ ،‬فينفذ فيه القضاء اإللهي‪ ،‬والمقصود من هذا‪ ،‬بيان عجزهم وعجز آلهتهم‬
‫عن إضالل أحد‪ ،‬وبيان كمال قدرة اللّه تعالى‪ ،‬أي‪ :‬فال تطمعوا بإضالل عباد اللّه المخلصين‬
‫وحزبه المفلحين‪.‬‬

‫( ‪)1/708‬‬

‫ِ اَّل‬
‫ون (‪)166‬‬
‫ِّح َ‬ ‫وم (‪َ )164‬وإِ َّنا لََن ْح ُن الصَّافُّ َ‬
‫ون (‪َ )165‬وإِ َّنا لََن ْح ُن اْل ُم َسب ُ‬ ‫َو َما مَّنا ِإ لَهُ َمقَ ٌ‬
‫ام َم ْعلُ ٌ‬

‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫ِّح َ‬ ‫وم * َوإِ َّنا لََن ْح ُن الصَّافُّ َ‬
‫ون * َوإِ َّنا لََن ْح ُن اْل ُم َسب ُ‬ ‫{ ‪َ { } 166 - 164‬و َما مَّنا ِإال لَهُ َمقَ ٌ‬
‫ام َم ْعلُ ٌ‬
‫هذا [فيه] بيان براءة المالئكة عليهم السالم‪ ،‬عما قاله فيهم المشركون‪ ،‬وأنهم عباد اللّه‪ ،‬ال‬
‫يعصونه طرفة عين‪ ،‬فما منهم من أحد إال له مقام وتدبير قد أمره اللّه به ال يتعداه وال يتجاوزه‪،‬‬
‫وليس لهم من األمر شيء‪.‬‬
‫{ َوإِ َّنا لََن ْح ُن الصَّافُّ َ‬
‫ون } في طاعة اللّه وخدمته‪.‬‬
‫ون } هلل عما ال يليق به‪ .‬فكيف ‪ -‬مع هذا ‪ -‬يصلحون أن يكونوا شركاء للّه؟!‬ ‫{ َوإِ َّنا لََن ْح ُن اْل ُم َسب ُ‬
‫ِّح َ‬
‫تعالى اهلل‪.‬‬

‫( ‪)1/708‬‬

‫ين (‪)169‬‬ ‫ِ‬ ‫َن ِعْن َدَنا ِذ ْكرا ِمن اأْل ََّوِلين (‪ )168‬لَ ُكَّنا ِعب َ َّ ِ‬ ‫ون (‪ )167‬لَ ْو أ َّ‬
‫اد الله اْل ُم ْخلَص َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً َ‬ ‫َوإِ ْن َك ُانوا لََيقُولُ َ‬
‫ين (‪ِ )171‬إَّنهُ ْم لَهُ ُم‬ ‫ِ‬ ‫ف يعلَمون (‪ )170‬ولَقَ ْد سبقَ ْ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ت َكل َمتَُنا لعَبادَنا اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫فَ َكفَ ُروا بِه فَ َس ْو َ َ ْ ُ َ‬
‫ين (‪ )174‬وأ َْب ِ‬ ‫ون (‪ )173‬فَتََو َّل َعْنهُ ْم َحتَّى ِح ٍ‬ ‫ِ‬
‫ص ْر ُه ْم‬ ‫َ‬ ‫ون (‪َ )172‬وإِ َّن ُج ْن َدَنا لَهُ ُم اْل َغالُب َ‬ ‫ور َ‬ ‫ص ُ‬‫اْل َم ْن ُ‬
‫صرون (‪ )175‬أَفَبِع َذابَِنا يستَع ِجلُون (‪ )176‬فَِإ َذا َن َز َل بِس ِ‬ ‫فَسو َ ِ‬
‫ين (‬ ‫اح اْل ُم ْن َذ ِر َ‬ ‫صَب ُ‬ ‫اء َ‬ ‫احت ِه ْم فَ َس َ‬
‫َ َ‬ ‫َْ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ف ُي ْب ُ َ‬ ‫َْ‬
‫ب اْل ِع َّز ِة‬‫ك َر ِّ‬ ‫ان َرِّب َ‬ ‫ون (‪ُ )179‬س ْب َح َ‬ ‫ف ُي ْبص ُر َ‬
‫صر فَسو َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪َ )178‬وأ َْب ْ َ ْ‬ ‫‪َ )177‬وتََو َّل َعْنهُ ْم َحتَّى ِح ٍ‬
‫ين (‪)182‬‬ ‫ِ‬ ‫ين (‪َ )181‬واْل َح ْم ُد ِللَّ ِه َر ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫ون (‪َ )180‬و َساَل ٌم َعلَى اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫َع َّما َيصفُ َ‬

‫اد اللَّ ِه‬


‫ين * لَ ُكَّنا ِعَب َ‬
‫األوِل َ‬‫َن ِعْن َدَنا ِذ ْك ًرا ِم َن َّ‬‫ون * لَ ْو أ َّ‬
‫{ ‪َ { } 182 - 167‬وإِ ْن َك ُانوا لََيقُولُ َ‬
‫ين * ِإَّنهُ ْم لَهُ ُم‬ ‫ِ‬ ‫ف يعلَمون * ولَقَ ْد سبقَ ْ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ت َكل َمتَُنا لعَبادَنا اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫ََ‬ ‫ين * فَ َكفَ ُروا به فَ َس ْو َ َ ْ ُ َ َ‬ ‫اْل ُم ْخلَص َ‬
‫ين } إلى آخر السورة‪.‬‬ ‫ون * فَتََو َّل َعْنهُ ْم َحتَّى ِح ٍ‬ ‫ِ‬
‫ون * َوإِ َّن ُج ْن َدَنا لَهُ ُم اْل َغالُب َ‬
‫ور َ‬‫ص ُ‬‫اْل َم ْن ُ‬
‫يخبر تعالى أن هؤالء المشركين‪ ،‬يظهرون التمني‪ ،‬ويقولون‪ :‬لو جاءنا من الذكر والكتب‪ ،‬ما جاء‬
‫[ ص ‪ ] 709‬األولين‪ ،‬ألخلصنا للّه العبادة‪ ،‬بل لكنا المخلصين على الحقيقة‪.‬‬
‫ف‬
‫وهم َك َذَبة في ذلك‪ ،‬فقد جاءهم أفضل الكتب فكفروا به‪ ،‬فعلم أنهم متمردون على الحق { فَ َس ْو َ‬
‫ون } العذاب حين يقع بهم‪ ،‬وال يحسبوا أيضا أنهم في الدنيا غالبون‪ ،‬بل قد سبقت كلمة اللّه‬‫َي ْعلَ ُم َ‬
‫التي ال مرد لها وال مخالف لها لعباده المرسلين وجنده المفلحين‪ ،‬أنهم الغالبون لغيرهم‪،‬‬
‫المنصورون من ربهم‪ ،‬نصرا عزيزا‪ ،‬يتمكنون فيه من إقامة دينهم‪ ،‬وهذه بشارة عظيمة لمن‬
‫اتصف بأنه من جند اللّه‪ ،‬بأن كانت أحواله مستقيمة‪ ،‬وقاتل من أمر بقتالهم‪ ،‬أنه غالب منصور‪.‬‬
‫ثم أمر رسوله باإلعراض عمن عاندوا‪ ،‬ولم يقبلوا الحق‪ ،‬وأنه ما بقي إال انتظار ما يحل بهم من‬
‫ون } من يحل به النكال‪ ،‬فإنه سيحل بهم‪.‬‬ ‫صر ُهم فَسو َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ف ُي ْبص ُر َ‬ ‫العذاب‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وأ َْب ْ ْ َ ْ‬
‫{ فَِإ َذا نز َل بِس ِ‬
‫اح اْل ُم ْن َذ ِر َ‬
‫ين } ألنه صباح الشر‬ ‫صَب ُ‬ ‫احت ِه ْم } أي‪ :‬نزل عليهم‪ ،‬وقريبا منهم { فَ َس َ‬
‫اء َ‬ ‫َ َ‬
‫والعقوبة‪ ،‬واالستئصال‪.‬‬
‫ثم كرر األمر بالتَّولي عنهم‪ ،‬وتهديدهم بوقوع العذاب‪.‬‬
‫ولما ذكر في هذه السورة‪ ،‬كثيرا من أقوالهم الشنيعة‪ ،‬التي وصفوه بها‪ ،‬نزه نفسه عنها فقال‪:‬‬
‫ب اْل ِع َّز ِة } [أي‪ ]:‬الذي عز فقهر كل شيء‪ ،‬واعتز عن كل‬
‫ك } أي‪ :‬تنزه وتعالى { َر ِّ‬
‫ان َرِّب َ‬
‫{ ُس ْب َح َ‬
‫سوء يصفونه به‪.‬‬
‫ين } لسالمتهم من الذنوب واآلفات‪ ،‬وسالمة ما وصفوا به فاطر األرض‬ ‫ِ‬
‫الم َعلَى اْل ُم ْر َسل َ‬ ‫{ َو َس ٌ‬
‫والسماوات‪.‬‬
‫ين } األلف والالم‪ ،‬لالستغراق‪ ،‬فجميع أنواع الحمد‪ ،‬من الصفات الكاملة‬ ‫ِ‬ ‫{ َواْل َح ْم ُد ِللَّ ِه َر ِّ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬
‫وأدر عليهم فيها النعم‪ ،‬وصرف عنهم بها النقم‪،‬‬
‫العظيمة‪ ،‬واألفعال التي ربى بها العالمين‪َّ ،‬‬
‫ودبرهم تعالى في حركاتهم وسكونهم‪ ،‬وفي جميع أحوالهم‪ ،‬كلها للّه تعالى‪ ،‬فهو المقدس عن‬
‫النقص‪ ،‬المحمود بكل كمال‪ ،‬المحبوب المعظم‪ ،‬ورسله سالمون مسلم عليهم‪ ،‬ومن اتبعهم في ذلك‬
‫له السالمة في الدنيا واآلخرة‪[ .‬وأعداؤه لهم الهالك والعطب في الدنيا واآلخرة] (‪. )1‬‬
‫تم تفسير سورة الصافات في ‪ 6‬شوال سنة ‪1343‬هـ على يد جامعه‪:‬عبد الرحمن بن ناصر‬
‫السعدي وصلى اللّه على سيدنا محمد وسلم تسليما والحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات‪ .‬المجلد‬
‫السابع من تيسير الكريم المنان في تفسير آيات القرآن لجامعه‪ :‬عبد الرحمن بن ناصر السعدي‬
‫غفر اهلل له ولوالديه وجميع المسلمين‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من ب‪.‬‬

‫( ‪)1/708‬‬

‫تفسير سورة ص‬
‫وهي مكية‬

‫( ‪)1/709‬‬

‫َهلَ ْكَنا ِم ْن قَْبِل ِه ْم ِم ْن قَ ْر ٍن‬


‫ق (‪َ )2‬ك ْم أ ْ‬ ‫ين َكفَ ُروا ِفي ِع َّز ٍة و ِشقَا ٍ‬
‫َ‬
‫َِّ‬ ‫ص واْلقُرآ ِ ِ ِّ‬
‫َن ذي الذ ْك ِر (‪َ )1‬ب ِل الذ َ‬ ‫َ ْ‬
‫اب (‪)4‬‬ ‫احٌر َك َّذ ٌ‬‫ال اْل َك ِافرون َه َذا س ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫اء ُه ْم ُم ْن ِذٌر ِم ْنهُ ْم َوقَ َ‬
‫َن َج َ‬‫اص (‪َ )3‬و َع ِجُبوا أ ْ‬ ‫ين َمَن ٍ‬ ‫تح َ‬
‫ادوا واَل َ ِ‬
‫فََن َ ْ َ‬
‫اصبِ ُروا َعلَى‬ ‫ام ُشوا َو ْ‬ ‫َن ْ‬ ‫ق اْل َمأَل ُ ِم ْنهُ ْم أ ِ‬‫طلَ َ‬
‫اب (‪َ )5‬و ْان َ‬ ‫أَجع َل اآْل َِلهةَ ِإلَها و ِ‬
‫اح ًدا ِإ َّن َه َذا لَ َش ْي ٌء ُع َج ٌ‬ ‫َ ً َ‬ ‫ََ‬
‫ق (‪ )7‬أ َُؤ ْن ِز َل َعلَْي ِه‬ ‫اختِاَل ٌ‬
‫اد (‪َ )6‬ما َس ِم ْعَنا بِهَ َذا ِفي اْل ِملَّ ِة اآْل َ ِخ َر ِة ِإ ْن َه َذا ِإاَّل ْ‬ ‫آَِلهَتِ ُك ْم ِإ َّن َه َذا لَ َش ْي ٌء ُي َر ُ‬
‫ك‬‫اب (‪ )8‬أ َْم ِع ْن َد ُه ْم َخ َزائِ ُن َر ْح َم ِة َرِّب َ‬ ‫ك ِم ْن ِذ ْك ِري َب ْل لَ َّما َي ُذوقُوا َع َذ ِ‬ ‫الذ ْكر ِم ْن َب ْينَِنا َب ْل ُهم ِفي َش ٍّ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ِّ‬
‫َسَب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات واأْل َْر ِ‬ ‫يز اْلو َّه ِ‬
‫اب (‪ُ )10‬ج ْن ٌد َما‬ ‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما َفْلَي ْرتَقُوا في اأْل ْ‬ ‫َّم َاو َ‬
‫ك الس َ‬
‫اب (‪ )9‬أ َْم لَهُ ْم ُمْل ُ‬ ‫اْل َع ِز ِ َ‬
‫اب (‪)11‬‬ ‫َح َز ِ‬ ‫وم ِم َن اأْل ْ‬ ‫ُهَن ِال َ‬
‫ك َم ْه ُز ٌ‬

‫ين َكفَ ُروا ِفي ِع َّز ٍة‬ ‫َِّ‬ ‫الر ِح ِيم ص واْلقُر ِ ِ ِّ‬
‫آن ذي الذ ْك ِر * َب ِل الذ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫الر ْح َم ِن َّ‬ ‫{ ‪ { } 11 - 1‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫اء ُه ْم ُم ْن ِذٌر ِم ْنهُ ْم‬ ‫اص * َو َع ِجُبوا أ ْ‬
‫َن َج َ‬ ‫ين َمَن ٍ‬ ‫ادوا و َ ِ‬
‫الت ح َ‬
‫ق * َكم أ ْ ِ ِ ِ ِ‬
‫َهلَ ْكَنا م ْن قَْبله ْم م ْن قَ ْر ٍن فََن َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫و ِشقَا ٍ‬
‫َ‬
‫ق اْل َمأل‬ ‫طلَ َ‬ ‫اب * َو ْان َ‬ ‫اآللهةَ ِإلَها و ِ‬
‫اح ًدا ِإ َّن َه َذا لَ َش ْي ٌء ُع َج ٌ‬ ‫ِ‬ ‫احٌر َك َّذ ٌ‬ ‫ال اْل َك ِافرون َه َذا س ِ‬
‫َج َع َل َ ً َ‬ ‫اب * أ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َوقَ َ‬
‫اآلخ َر ِة ِإ ْن َه َذا‬ ‫اد * ما س ِمعَنا بِه َذا ِفي اْل ِملَّ ِة ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِم ْنهُ ْم أ ِ‬
‫اصبِ ُروا َعلَى آلهَت ُك ْم ِإ َّن َه َذا لَ َش ْي ٌء ُي َر ُ َ َ ْ َ‬ ‫ام ُشوا َو ْ‬ ‫َن ْ‬
‫ك ِم ْن ِذ ْك ِري َب ْل لَ َّما َي ُذوقُوا َع َذ ِ‬‫الذ ْكر ِم ْن َب ْينَِنا َب ْل ُهم ِفي َش ٍّ‬‫ِ ِّ‬ ‫اختِ ٌ‬ ‫ِإال ْ‬
‫اب * أ َْم‬ ‫ْ‬ ‫الق * أ َُؤ ْن ِز َل َعلَْيه ُ‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫يز اْلو َّه ِ‬ ‫ِعْن َد ُه ْم َخ َزائِ ُن َر ْح َم ِة َرب َ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما َفْلَي ْرتَقُوا‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ك الس َ‬ ‫اب * أ َْم لَهُ ْم ُمْل ُ‬ ‫ِّك اْل َع ِز ِ َ‬
‫اب } ‪.‬‬ ‫وم ِم َن ْ‬
‫األح َز ِ‬
‫ك َم ْه ُز ٌ‬ ‫اب * ُج ْن ٌد َما ُهَن ِال َ‬ ‫األسَب ِ‬
‫في ْ‬
‫ِ‬
‫هذا بيان من اللّه تعالى لحال القرآن‪ ،‬وحال المكذبين به معه ومع من جاء به‪ ،‬فقال‪ { :‬ص‬
‫الم َذ ِّك ِر للعباد كل ما يحتاجون إليه من العلم‪،‬‬ ‫واْلقُر ِ ِ ِّ‬
‫آن ذي الذ ْك ِر } أي‪ :‬ذي القدر العظيم والشرف‪ُ ،‬‬ ‫َ ْ‬
‫بأسماء اللّه وصفاته وأفعاله‪ ،‬ومن العلم بأحكام اللّه الشرعية‪ ،‬ومن العلم بأحكام المعاد والجزاء‪،‬‬
‫فهو مذكر لهم في أصول دينهم وفروعه‪.‬‬
‫وهنا ال يحتاج إلى ذكر المقسم عليه‪ ،‬فإن حقيقة األمر‪ ،‬أن المقسم به وعليه شيء واحد‪ ،‬وهو هذا‬
‫القرآن‪ ،‬الموصوف بهذا الوصف الجليل‪ ،‬فإذا كان القرآن بهذا الوصف‪ ،‬علم ضرورة العباد إليه‪،‬‬
‫فوق كل ضرورة‪ ،‬وكان الواجب عليهم تَلقِّيه باإليمان والتصديق‪ ،‬واإلقبال على استخراج ما‬
‫يتذكر به منه‪.‬‬
‫ق } عزة‬‫فهدى اللّه من هدى لهذا‪ ،‬وأبى الكافرون به وبمن أنزله‪ ،‬وصار معهم { ِعَّز ٍة و ِشقَا ٍ‬
‫َ‬
‫وامتناع عن اإليمان به‪ ،‬واستكبار وشقاق له‪ ،‬أي‪ :‬مشاقة ومخاصمة في رده وإ بطاله‪ ،‬وفي القدح‬
‫بمن جاء به‪.‬‬
‫فتوعدهم بإهالك القرون الماضية المكذبة بالرسل‪ ،‬وأنهم حين جاءهم الهالك‪ ،‬نادوا واستغاثوا في‬
‫اص } أى‪ :‬وليس الوقت‪ ،‬وقت خالص مما وقعوا فيه‪،‬‬ ‫ين َمَن ٍ‬ ‫صرف العذاب عنهم ولكن { و َ ِ‬
‫الت ح َ‬ ‫َ‬
‫وال فرج لما أصابهم‪َ ،‬فْلَي ْح َذ ْر هؤالء أن يدوموا على عزتهم وشقاقهم‪ ،‬فيصيبهم ما أصابهم‪.‬‬
‫[ ص ‪] 710‬‬
‫اء ُه ْم ُم ْن ِذٌر ِم ْنهُ ْم } أي‪ :‬عجب هؤالء المكذبون في أمر ليس محل عجب‪ ،‬أن‬ ‫{ َو َع ِجُبوا أ ْ‬
‫َن َج َ‬
‫جاءهم منذر منهم‪ ،‬ليتمكنوا من التلقي عنه‪ ،‬وليعرفوه حق المعرفة‪ ،‬وألنه من قومهم‪ ،‬فال تأخذهم‬
‫النخوة القومية عن اتباعه‪ ،‬فهذا مما يوجب الشكر عليهم‪ ،‬وتمام االنقياد له‪.‬‬
‫احٌر َك َّذ ٌ‬
‫اب }‬ ‫ولكنهم عكسوا القضية‪ ،‬فتعجبوا تعجب إنكار وقَالُوا من كفرهم وظلمهم‪َ { :‬ه َذا س ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫اح ًدا } أى‪ :‬كيف ينهى عن اتخاذ الشركاء واألنداد‪،‬‬ ‫اآللهةَ ِإلَها و ِ‬
‫ِ‬
‫َج َع َل َ ً َ‬ ‫وذنبه ‪-‬عندهم‪ -‬أنه { أ َ‬
‫اب } أي‪ :‬يقضي منه‬ ‫ويأمر بإخالص العبادة للّه وحده‪ِ { .‬إ َّن َه َذا } الذي جاء به { لَ َش ْي ٌء ُع َج ٌ‬
‫العجب لبطالنه وفساده‪.‬‬
‫ق اْل َمأل ِم ْنهُ ْم } المقبول قولهم‪ ،‬محرضين قومهم على التمسك بما هم عليه من الشرك‪.‬‬ ‫طلَ َ‬
‫{ َو ْان َ‬
‫اصبِ ُروا َعلَى ِآلهَتِ ُك ْم } أى‪ :‬استمروا عليها‪ ،‬وجاهدوا نفوسكم في الصبر عليها‬ ‫ام ُشوا َو ْ‬
‫َن ْ‬ ‫{ أِ‬
‫وعلى عبادتها‪ ،‬وال يردكم عنها راد‪ ،‬وال يصدنكم عن عبادتها‪ ،‬صاد‪ِ { .‬إ َّن َه َذا } الذي جاء به‬
‫اد } أي‪ :‬يقصد‪ ،‬أي‪ :‬له قصد ونية غير صالحة في ذلك‪،‬‬‫محمد‪ ،‬من النهي عن عبادتها { لَ َش ْي ٌء ُي َر ُ‬
‫وهذه شبهة ال تروج إال على السفهاء‪ ،‬فإن من دعا إلى قول حق أو غير حق‪ ،‬ال يرد قوله بالقدح‬
‫في نيته‪ ،‬فنيته وعمله له‪ ،‬وإ نما يرد بمقابلته بما يبطله ويفسده‪ ،‬من الحجج والبراهين‪ ،‬وهم‬
‫قصدهم‪ ،‬أن محمدا‪ ،‬ما دعاكم إلى ما دعاكم‪ ،‬إال ليرأس فيكم‪ ،‬ويكون معظما عندكم‪ ،‬متبوعا‪.‬‬
‫{ ما س ِمعَنا بِه َذا } القول الذي قاله‪ ،‬والدين الذي دعا إليه { ِفي اْل ِملَّ ِة ِ‬
‫اآلخ َر ِة } أي‪ :‬في الوقت‬ ‫َ َ ْ َ‬
‫األخير‪ ،‬فال أدركنا عليه آباءنا‪ ،‬وال آباؤنا أدركوا آباءهم عليه‪ ،‬فامضوا على الذي مضى عليه‬
‫آباؤكم‪ ،‬فإنه الحق‪ ،‬وما هذا الذي دعا إليه محمد إال اختالق اختلقه‪ ،‬وكذب افتراه‪ ،‬وهذه أيضا‬
‫شبهة من جنس شبهتهم األولى‪ ،‬حيث ردوا الحق بما ليس بحجة لرد أدنى قول‪ ،‬وهو أنه قول‬
‫مخالف لما عليه آباؤهم الضالون‪ ،‬فأين في هذا ما يدل على بطالنه؟‪.‬‬
‫الذ ْك ُر ِم ْن َب ْينَِنا } أي‪ :‬ما الذي فضله علينا‪ ،‬حتى ينزل الذكر عليه من دوننا‪،‬‬
‫{ أَءنز َل َعلَْي ِه ِّ‬
‫ُ‬
‫ويخصه اللّه به؟ وهذه أيضا شبهة‪ ،‬أين البرهان فيها على رد ما قاله؟ وهل جميع الرسل إال بهذا‬
‫الوصف‪َ ،‬ي ُم ُّن اللّه عليهم برسالته‪ ،‬ويأمرهم بدعوة الخلق إلى اللّه‪ ،‬ولهذا‪ ،‬لما كانت هذه األقوال‬
‫الصادرة منهم ال يصلح شيء منها لرد ما جاء به الرسول‪ ،‬أخبر تعالى من أين صدرت‪ ،‬وأنهم‬
‫ك ِم ْن ِذ ْك ِري } ليس عندهم علم وال بينة‪.‬‬
‫{ ِفي َش ٍّ‬
‫فلما وقعوا في الشك وارتضوا به‪ ،‬وجاءهم الحق الواضح‪ ،‬وكانوا جازمين بإقامتهم على شكهم‪،‬‬
‫قالوا ما قالوا من تلك األقوال لدفع الحق‪ ،‬ال عن بينة من أمرهم‪ ،‬وإ نما ذلك من باب االئتفاك منهم‪.‬‬
‫ومن المعلوم‪ ،‬أن من هو بهذه الصفة يتكلم عن شك وعناد‪ ،‬إن قوله غير مقبول‪ ،‬وال قادح أدنى‬
‫قدح في الحق‪ ،‬وأنه يتوجه عليه الذم واللوم بمجرد كالمه‪ ،‬ولهذا توعدهم بالعذاب فقال‪َ { :‬ب ْل لَ َّما‬
‫َي ُذوقُوا َع َذ ِ‬
‫اب } أي‪ :‬قالوا هذه األقوال‪ ،‬وتجرأوا عليها‪ ،‬حيث كانوا ممتعين في الدنيا‪ ،‬لم يصبهم‬
‫من عذاب اللّه شيء‪ ،‬فلو ذاقوا عذابه‪ ،‬لم يتجرأوا‪.‬‬
‫اب } فيعطون منها من شاءوا‪ ،‬ويمنعون منها من‬ ‫يز اْلو َّه ِ‬
‫ِّك اْل َع ِز ِ َ‬ ‫{ أ َْم ِعْن َد ُه ْم َخ َزائِ ُن َر ْح َم ِة َرب َ‬
‫الذ ْك ُر ِم ْن َب ْينَِنا } أي‪ :‬هذا فضله تعالى ورحمته‪ ،‬وليس ذلك‬
‫شاءوا‪ ،‬حيث قالوا‪ { :‬أَءنز َل َعلَْي ِه ِّ‬
‫ُ‬
‫بأيديهم حتى يتحجروا على اللّه‪.‬‬
‫األر ِ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما } بحيث يكونون قادرين على ما يريدون‪َ { .‬فْلَي ْرتَقُوا‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ك الس َ‬ ‫{ أ َْم لَهُ ْم ُمْل ُ‬
‫اب } الموصلة لهم إلى السماء‪ ،‬فيقطعوا الرحمة عن رسول اللّه‪ ،‬فكيف يتكلمون‪ ،‬وهم‬ ‫األسَب ِ‬ ‫ِ‬
‫في ْ‬
‫أعجز خلق اللّه وأضعفهم بما تكلموا به؟! أم قصدهم التحزب والتجند‪ ،‬والتعاون على نصر‬
‫الباطل وخذالن الحق؟ وهو الواقع فإن هذا المقصود ال يتم لهم‪ ،‬بل سعيهم خائب‪ ،‬وجندهم‬
‫وم ِم َن ْ‬
‫األح َز ِ‬
‫اب }‬ ‫مهزوم‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬ج ْن ٌد َما ُهَن ِال َ‬
‫ك َم ْه ُز ٌ‬

‫( ‪)1/709‬‬

‫اب اأْل َْي َك ِة أُولَئِ َ‬


‫ك‬ ‫َص َح ُ‬
‫ٍ‬ ‫اد َو ِف ْر َع ْو ُن ُذو اأْل َْوتَ ِاد (‪َ )12‬وثَ ُم ُ‬
‫ود َوقَ ْو ُم لُوط َوأ ْ‬ ‫وح َو َع ٌ‬ ‫َك َّذَب ْ‬
‫ت قَْبلَهُ ْم قَ ْو ُم ُن ٍ‬
‫اب (‪ )14‬وما ي ْنظُر َهؤاَل ِء ِإاَّل ص ْيحةً و ِ‬ ‫ق ِعقَ ِ‬ ‫َّ‬
‫اح َدةً َما‬ ‫َ َ َ‬ ‫ََ َ ُ ُ‬ ‫الر ُس َل فَ َح َّ‬
‫ب ُّ‬ ‫اب (‪ِ )13‬إ ْن ُك ٌّل ِإاَّل َكذ َ‬ ‫َح َز ُ‬‫اأْل ْ‬
‫ق (‪)15‬‬ ‫لَهَا ِم ْن فَوا ٍ‬
‫َ‬

‫اب‬ ‫ٍ‬ ‫األوتَ ِاد * َوثَ ُم ُ‬ ‫وح و َع ٌ ِ‬ ‫{ ‪َ { } 15 - 12‬ك َّذَب ْ‬


‫َص َح ُ‬
‫ود َوقَ ْو ُم لُوط َوأ ْ‬ ‫اد َوف ْر َع ْو ُن ُذو ْ‬ ‫ت قَْبلَهُ ْم قَ ْو ُم ُن ٍ َ‬
‫الء ِإال ص ْيحةً و ِ‬
‫اب * وما ي ْنظُر َهؤ ِ‬ ‫الرس َل فَح َّ ِ‬ ‫َّ‬ ‫األي َك ِة أُولَئِ َ‬
‫اح َدةً‬ ‫َ َ َ‬ ‫ق عقَ ِ َ َ َ ُ ُ‬ ‫ب ُّ ُ َ‬ ‫اب * ِإ ْن ُك ٌّل ِإال َكذ َ‬ ‫األح َز ُ‬‫ك ْ‬ ‫ْ‬
‫ق}‪.‬‬ ‫َما لَهَا ِم ْن فَوا ٍ‬
‫َ‬
‫يحذرهم تعالى أن يفعل بهم ما فعل باألمم من قبلهم‪ ،‬الذين كانوا أعظم قوة منهم وتحزبا على‬
‫األوتَ ِاد } أى‪ :‬الجنود العظيمة‪ ،‬والقوة الهائلة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وح َو َعاد } قوم هود { َوف ْر َع ْو ُن ُذو ْ‬ ‫الباطل‪ { ،‬قَ ْوم ُن ٍ‬
‫األي َك ِة } أي‪ :‬األشجار والبساتين الملتفة‪ ،‬وهم قوم‬
‫اب ْ‬ ‫َص َح ُ‬
‫ٍ‬
‫{ َوثَ ُمود } قوم صالح‪َ { ،‬وقَ ْو ُم لُوط َوأ ْ‬
‫هم على رد الحق‪ ،‬فلم تغن عنهم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫شعيب‪ { ،‬أُولَئِ َ‬
‫وع َدد ْ‬
‫هم ُ‬
‫وع َدد ْ‬
‫اب } الذين اجتمعوا بقوتهم َ‬ ‫األح َز ُ‬
‫ك ْ‬
‫شيئا‪.‬‬
‫ق } عليهم { ِعقَ ِ‬
‫اب } اللّه‪ ،‬وهؤالء‪ ،‬ما الذي يطهرهم‬ ‫الر ُس َل فَ َح َّ‬
‫ب ُّ‬ ‫َّ‬
‫{ ِإ ْن ُك ُّل } من هؤالء { ِإال َكذ َ‬
‫ويزكيهم‪ ،‬أن ال يصيبهم ما أصاب أولئك‪.‬‬
‫ق } أي‪ :‬من رجوع ورد‪ ،‬تهلكهم [ ص ‪] 711‬‬ ‫اح َدةً َما لَهَا ِم ْن فَوا ٍ‬
‫فلينتظروا { ص ْيحةً و ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬
‫وتستأصلهم إن أقاموا على ما هم عليه‪.‬‬

‫( ‪)1/710‬‬

‫وقَالُوا ربََّنا َع ِّج ْل لََنا ِقطََّنا قَْب َل َيوِم اْل ِح َس ِ‬


‫اب (‪)16‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫{ ‪ { } 17 - 16‬وقَالُوا ربََّنا َع ِّج ْل لََنا ِقطََّنا قَْب َل َيوِم اْل ِح َس ِ‬


‫اب } ‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬قال هؤالء المكذبون‪ ،‬من جهلهم ومعاندتهم الحق‪ ،‬مستعجلين للعذاب‪َ { :‬ربََّنا َع ِّج ْل لََنا ِقطََّنا }‬
‫أي‪ :‬قسطنا وما قسم لنا من العذاب عاجال { قَْب َل َيوِم اْل ِح َس ِ‬
‫اب } ولَجُّوا في هذا القول‪ ،‬وزعموا أنك‬ ‫ْ‬
‫يا محمد‪ ،‬إن كنت صادقا‪ ،‬فعالمة صدقك أن تأتينا بالعذاب‪ ،‬فقال لرسوله‪:‬‬

‫( ‪)1/711‬‬

‫ِّح َن‬ ‫اب (‪ِ )17‬إَّنا َس َّخ ْرَنا اْل ِجَب َ‬


‫ال َم َعهُ ُي َسب ْ‬ ‫ود َذا اأْل َْي ِد ِإَّنهُ أ ََّو ٌ‬ ‫اصبِ ْر َعلَى َما َيقُولُ َ‬
‫ون َوا ْذ ُك ْر َع ْب َدَنا َد ُاو َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫بِاْل َع ِش ِّي واإْلِ ْش َرا ِ‬
‫ص َل‬‫اب (‪َ )19‬و َش َد ْدَنا ُمْل َكهُ َوآَتَْيَناهُ اْلح ْك َمةَ َوفَ ْ‬ ‫ورةً ُك ٌّل لَهُ أ ََّو ٌ‬ ‫ق (‪َ )18‬والط ْي َر َم ْح ُش َ‬ ‫َ‬
‫اب (‪)20‬‬ ‫ط ِ‬ ‫اْل ِخ َ‬

‫اصبِ ْر َعلَى َما َيقُولُ َ‬


‫ون } ‪.‬‬ ‫{ ْ‬
‫اصبِ ْر َعلَى َما َيقُولُ َ‬
‫ون } كما صبر َم ْن قبلك من الرسل‪ ،‬فإن قولهم ال يضر الحق شيئا‪ ،‬وال‬ ‫{ ْ‬
‫يضرونك في شيء‪ ،‬وإ نما يضرون أنفسهم‪.‬‬

‫( ‪)1/711‬‬

‫ِّح َن بِاْل َع ِش ِّي‬ ‫اب * ِإَّنا َس َّخ ْرَنا اْل ِجَب َ‬


‫ال َم َعهُ ُي َسب ْ‬ ‫األي ِد ِإَّنهُ أ ََّو ٌ‬
‫{ ‪َ { } 20 - 17‬وا ْذ ُك ْر َعْب َدَنا َد ُاو َد َذا ْ‬
‫ص َل اْل ِخ َ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫اب } ‪.‬‬ ‫ط ِ‬ ‫اب * َو َش َد ْدَنا ُمْل َكهُ َوآتَْيَناهُ اْلح ْك َمةَ َوفَ ْ‬ ‫ورةً ُك ٌّل لَهُ أ ََّو ٌ‬ ‫واإل ْش َرا ِ‬
‫ق * َوالط ْي َر َم ْح ُش َ‬ ‫َ‬
‫لما أمر اللّه رسوله بالصبر على قومه‪ ،‬أمره أن يستعين على الصبر بالعبادة للّه وحده‪ ،‬ويتذكر‬
‫وع‬ ‫ِّح بِ َح ْم ِد َرب َ‬
‫ِّك قَْب َل طُلُ ِ‬ ‫اصبِ ْر َعلَى َما َيقُولُ َ‬
‫ون َو َسب ْ‬ ‫حال العابدين‪ ،‬كما قال في اآلية األخرى‪ { :‬فَ ْ‬
‫س َوقَْب َل ُغ ُروبِهَا }‬ ‫َّ‬
‫الش ْم ِ‬
‫األي ِد } (‪ )1‬أي‪ :‬القوة العظيمة على‬ ‫ومن أعظم العابدين‪ ،‬نبي اللّه داود عليه الصالة والسالم { َذا ْ‬
‫عبادة اللّه تعالى‪ ،‬في بدنه وقلبه‪ِ { .‬إَّنهُ أ ََّو ٌ‬
‫اب } أي‪ :‬رجَّاع إلى اللّه في جميع األمور باإلنابة إليه‪،‬‬
‫بالحب والتأله‪ ،‬والخوف والرجاء‪ ،‬وكثرة التضرع والدعاء‪ ،‬رجاع إليه عندما يقع منه بعض‬
‫الخلل‪ ،‬باإلقالع والتوبة النصوح‪.‬‬
‫ومن شدة إنابته لربه وعبادته‪ ،‬أن سخر اللّه الجبال معه‪ ،‬تسبح معه بحمد ربها { بِاْل َع ِش ِّي‬
‫ق } أول النهار وآخره‪.‬‬ ‫واإل ْش َرا ِ‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫ورةً } معه مجموعة { ُك ٌّل } من الجبال والطير‪ ،‬هلل تعالى { أ ََّو ٌ‬
‫اب }‬ ‫{ و } سخر { الط ْي َر َم ْح ُش َ‬
‫امتثاال لقوله تعالى‪َ { :‬يا ِجَبا ُل أ َِّوبِي َم َعهُ َوالطَّ ْي َر } فهذه ِمَّنةُ اللّه عليه بالعبادة‪.‬‬
‫ثم ذكر منته عليه بالملك العظيم فقال‪َ { :‬و َش َد ْدَنا ُمْل َكهُ } أي‪ :‬قويناه بما أعطيناه من األسباب‬
‫قوى اللّه ملكه‪ ،‬ثم ذكر منته عليه بالعلم فقال‪َ { :‬وآتَْيَناهُ اْل ِح ْك َمةَ } أي‪:‬‬ ‫وكثرة اْل َع َدد واْل ُع َد ِد التي بها َّ‬
‫اب } أي‪ :‬الخصومات بين الناس‪.‬‬ ‫ص َل اْل ِخ َ‬
‫ط ِ‬ ‫النبوة والعلم العظيم‪َ { ،‬وفَ ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي األصل‪ :‬ذو األيد‪.‬‬

‫( ‪)1/711‬‬

‫ف‬‫ع ِم ْنهُ ْم قَالُوا اَل تَ َخ ْ‬ ‫اب (‪ِ )21‬إ ْذ َد َخلُوا َعلَى َد ُاو َ‬
‫ود فَفَ ِز َ‬ ‫ِ‬
‫صِم ِإ ْذ تَ َس َّو ُروا اْلم ْح َر َ‬
‫ك َنَبأُ اْل َخ ْ‬ ‫َو َه ْل أَتَا َ‬
‫اط (‪)22‬‬ ‫اء الصِّر ِ‬ ‫اه ِدَنا ِإلَى سو ِ‬‫ط َو ْ‬ ‫ق َواَل تُ ْش ِط ْ‬ ‫اح ُك ْم َب ْيَنَنا بِاْل َح ِّ‬ ‫ضَنا َعلَى َب ْع ٍ‬
‫ض فَ ْ‬ ‫ص َم ِ‬
‫َ‬ ‫ََ‬ ‫ان َب َغى َب ْع ُ‬ ‫َخ ْ‬
‫ال‬
‫اب (‪ )23‬قَ َ‬ ‫ط ِ‬‫اح َدةٌ فَقَا َل أَ ْك ِفْلنِيهَا َو َع َّزنِي ِفي اْل ِخ َ‬ ‫َخي لَه تِسع وتِسعون َنعجةً وِلي َنعجةٌ و ِ‬
‫ُ ٌَْ ُْ َ َْ َ َ َْ َ‬
‫ِإ َّن َه َذا أ ِ‬
‫اء لَي ْب ِغي بعضهم علَى بع ٍ اَّل َِّ‬ ‫اج ِه وإِ َّن َكثِيرا ِمن اْل ُخلَ َ ِ‬ ‫ال َن ْع َجتِ َ ِ ِ ِ‬ ‫ك بِسؤ ِ‬
‫ض ِإ الذ َ‬
‫ين‬ ‫َ ْ ُ ُْ َ َ ْ‬ ‫ط َ‬ ‫ً َ‬ ‫ك إلَى ن َع َ‬ ‫ظلَ َم َ ُ َ‬ ‫لَقَ ْد َ‬
‫ِ‬ ‫ات َو َقِلي ٌل َما ُه ْم َو َ‬
‫َّالح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب (‪)24‬‬ ‫ود أََّن َما فَتََّناهُ فَ ْ‬
‫استَ ْغفََر َربَّهُ َو َخ َّر َراك ًعا َوأََن َ‬ ‫ظ َّن َد ُاو ُ‬ ‫َمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫آَ‬
‫ض‬ ‫اك َخِليفَةً ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫ود ِإَّنا َج َعْلَن َ‬ ‫ك وإِ َّن لَهُ ِع ْن َدَنا لَ ُزْلفَى و ُح ْس َن مآ ٍ‬
‫َب (‪َ )25‬يا َد ُاو ُ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫فَ َغفَ ْرَنا لَهُ َذل َ َ‬
‫يل اللَّ ِه لَهُ ْم‬
‫ون َع ْن سبِ ِ‬
‫َ‬
‫ِ ُّ‬
‫ين َيضل َ‬
‫َِّ‬ ‫ك ع ْن سبِ ِ َّ ِ‬
‫يل الله ِإ َّن الذ َ‬
‫ِ َّ‬
‫ق َواَل تَتَّبِ ِع اْلهَ َوى فَُيضل َ َ َ‬ ‫اس بِاْل َح ِّ‬
‫الن ِ‬
‫اح ُك ْم َب ْي َن َّ‬
‫فَ ْ‬
‫اب (‪)26‬‬ ‫يد بِما َن ُسوا َيوم اْل ِح َس ِ‬ ‫ع َذ ٌ ِ‬
‫َْ‬ ‫اب َشد ٌ َ‬ ‫َ‬

‫ع ِم ْنهُ ْم‬‫اب * ِإ ْذ َد َخلُوا َعلَى َد ُاو َد فَفَ ِز َ‬ ‫ِ‬


‫صِم ِإ ْذ تَ َس َّو ُروا اْلم ْح َر َ‬ ‫ك َنَبأُ اْل َخ ْ‬‫{ ‪َ { } 26 - 21‬و َه ْل أَتَا َ‬
‫اه ِدَنا ِإلَى سو ِ‬
‫اء‬ ‫ط َو ْ‬ ‫ق َوال تُ ْش ِط ْ‬ ‫اح ُك ْم َب ْيَنَنا بِاْل َح ِّ‬ ‫ضَنا َعلَى َب ْع ٍ‬
‫ض فَ ْ‬ ‫ص َم ِ‬
‫ََ‬ ‫ان َب َغى َب ْع ُ‬ ‫ف َخ ْ‬ ‫قَالُوا ال تَ َخ ْ‬
‫ال أَ ْك ِفْلنِيهَا َو َع َّزنِي ِفي‬ ‫اح َدةٌ فَقَ َ‬ ‫َخي لَه تِسع وتِسعون َنعجةً وِلي َنعجةٌ و ِ‬
‫ُ ٌَْ ُْ َ َْ َ َ َْ َ‬
‫اط * ِإ َّن َه َذا أ ِ‬ ‫الصِّر ِ‬
‫َ‬
‫ضهُ ْم َعلَى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك ِإلَى ن َعا ِجه َوإِ َّن َكث ًيرا م َن اْل ُخلَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك بِ ُس َؤال َن ْع َجت َ‬ ‫ط ِ‬‫اْل ِخ َ‬
‫طاء لََي ْبغي َب ْع ُ‬ ‫ظلَ َم َ‬‫اب * قَا َل لَقَ ْد َ‬
‫استَ ْغفََر َربَّهُ َو َخ َّر‬ ‫ات َو َقِلي ٌل َما ُه ْم َو َ‬
‫ظ َّن َد ُاو ُد أََّن َما فَتََّناهُ فَ ْ‬
‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫ض ِإال الذ َ‬ ‫َب ْع ٍ‬
‫اك َخِليفَةً ِفي‬ ‫آب * َيا َد ُاو ُد ِإَّنا َج َعْلَن َ‬ ‫ك وإِ َّن لَهُ ِعْن َدَنا لَ ُزْلفَى و ُح ْس َن م ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫اب * فَ َغفَ ْرَنا لَهُ َذل َ َ‬
‫ِ‬
‫َراك ًعا َوأََن َ‬
‫ون َع ْن سبِ ِ‬ ‫ِ ُّ‬ ‫َِّ‬ ‫ك ع ْن سبِ ِ َّ ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫يل‬ ‫َ‬ ‫ين َيضل َ‬ ‫يل الله ِإ َّن الذ َ‬ ‫ق َوال تَتَّبِ ِع اْلهَ َوى فَُيضل َ َ َ‬ ‫اس بِاْل َح ِّ‬‫الن ِ‬ ‫اح ُك ْم َب ْي َن َّ‬
‫ض فَ ْ‬‫األر ِ‬‫ْ‬
‫اب } ‪.‬‬‫يد بِما َن ُسوا َيوم اْل ِح َس ِ‬ ‫اللَّ ِه لَهم ع َذ ٌ ِ‬
‫َْ‬ ‫اب َشد ٌ َ‬ ‫ُْ َ‬
‫لما ذكر تعالى أنه آتى نبيه داود الفصل في الخطاب بين الناس‪ ،‬وكان معروفا بذلك مقصودا‪ ،‬ذكر‬
‫تعالى نبأ خصمين اختصما عنده في قضية جعلهما اللّه فتنة لداود‪ ،‬وموعظة لخلل ارتكبه‪ ،‬فتاب‬
‫اك‬
‫اللّه عليه‪ ،‬وغفر له‪ ،‬وقيض له هذه القضية‪ ،‬فقال لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم‪َ { :‬و َه ْل أَتَ َ‬
‫ِ‬
‫اب } أي‪ :‬محل عبادته من غير‬ ‫صِم } فإنه نبأ عجيب { ِإ ْذ تَ َس َّو ُروا } على داود { اْلم ْح َر َ‬
‫َنَبأُ اْل َخ ْ‬
‫إذن وال استئذان‪ ،‬ولم يدخلوا عليه مع باب‪ ،‬فلذلك لما دخلوا عليه بهذه الصورة‪ ،‬فزع منهم‬
‫اح ُك ْم َب ْيَنَنا‬ ‫ضَنا َعلَى َب ْع ٍ‬
‫ض } بالظلم { فَ ْ‬ ‫ان } فال تخف { َب َغى َب ْع ُ‬ ‫ص َم ِ‬
‫وخاف‪ ،‬فقالوا له‪ :‬نحن { َخ ْ‬
‫اء الصِّر ِ‬
‫اط }‬ ‫اه ِدَنا ِإلَى سو ِ‬
‫ط َو ْ‬‫ق } أي‪ :‬بالعدل‪ ،‬وال تمل مع أحدنا { َوال تُ ْش ِط ْ‬ ‫بِاْل َح ِّ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫والمقصود من هذا‪ ،‬أن الخصمين قد عرف أن قصدهما الحق الواضح الصرف‪ ،‬وإ ذا كان ذلك‪،‬‬
‫فسيقصان (‪ )1‬عليه نبأهما بالحق‪ ،‬فلم يشمئز نبي اللّه داود من وعظهما له‪ ،‬ولم يؤنبهما‪.‬‬
‫َخي } نص على األخوة في الدين أو النسب أو الصداقة‪ ،‬القتضائها عدم‬ ‫فقال أحدهما‪ِ { :‬إ َّن َه َذا أ ِ‬
‫ِ‬
‫ون َن ْع َجةً } أي‪ :‬زوجة‪ ،‬وذلك خير‬ ‫البغي‪ ،‬وأن بغيه الصادر منه أعظم من غيره‪ { .‬لَهُ ت ْسعٌ َوتِ ْس ُع َ‬
‫كثير‪ ،‬يوجب عليه القناعة بما آتاه اللّه‪.‬‬
‫اح َدةٌ } فطمع فيها { فَقَا َل أَ ْك ِفْلنِيهَا } أي‪ :‬دعها لي‪ ،‬وخلها في كفالتي‪َ { .‬و َع َّزنِي ِفي‬
‫{ وِلي َنعجةٌ و ِ‬
‫َ َ َْ َ‬
‫اب } أي‪ :‬غلبني في القول‪ ،‬فلم يزل بي حتى أدركها أو كاد‪.‬‬ ‫اْل ِخ َ‬
‫ط ِ‬
‫فقال داود ‪ -‬لما سمع كالمه ‪ -‬ومن المعلوم من السياق السابق من كالمهما‪ ،‬أن هذا هو الواقع‪،‬‬
‫فلهذا لم يحتج أن يتكلم اآلخر‪ ،‬فال وجه لالعتراض بقول القائل‪ " :‬لم حكم داود‪ ،‬قبل أن يسمع‬
‫اج ِه } وهذه عادة الخلطاء‬ ‫ك ِإلَى نِ َع ِ‬
‫ال َن ْع َجتِ َ‬
‫ك بِسؤ ِ‬
‫ظلَ َم َ ُ َ‬
‫كالم الخصم اآلخر " ؟ [ ص ‪ { ] 712‬لَقَ ْد َ‬
‫ض } ألن الظلم من‬ ‫ضهُ ْم َعلَى َب ْع ٍ‬ ‫والقرناء الكثير منهم‪ ،‬فقال‪ { :‬وإِ َّن َكثِيرا ِمن اْل ُخلَ َ ِ ِ‬
‫طاء لََي ْبغي َب ْع ُ‬ ‫ً َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات } فإن ما معهم من اإليمان والعمل الصالح‪،‬‬ ‫صفة النفوس‪ِ { .‬إال الذ َ‬
‫ين َ‬
‫ظ َّن َد ُاو ُد }‬
‫ور } { َو َ‬ ‫يمنعهم من الظلم‪ { .‬و َقِلي ٌل ما ُهم } كما قال تعالى { و َقِلي ٌل ِم ْن ِعَب ِاد َ َّ‬
‫ي الش ُك ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫استَ ْغفََر َربَّهُ } لما‬ ‫حين حكم بينهما { أََّن َما فَتََّناهُ } أي‪ :‬اختبرناه ودبرنا عليه هذه القضية ليتنبه { فَ ْ‬
‫اب } للّه تعالى بالتوبة النصوح والعبادة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫صدر منه‪َ { ،‬و َخ َّر َراك ًعا } أي‪ :‬ساجدا { َوأََن َ‬
‫ك } الذي صدر منه‪ ،‬وأكرمه اللّه بأنواع الكرامات‪ ،‬فقال‪َ { :‬وإِ َّن لَهُ ِع ْن َدَنا لَ ُزْلفَى }‬ ‫{ فَ َغفَ ْرَنا لَهُ َذِل َ‬
‫آب } أي‪ :‬مرجع‪.‬‬ ‫أي‪ :‬منزلة عالية‪ ،‬وقربة منا‪ { ،‬و ُح ْس َن م ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وهذا الذنب الذي صدر من داود عليه السالم‪ ،‬لم يذكره اللّه لعدم الحاجة إلى ذكره‪ ،‬فالتعرض له‬
‫من باب التكلف‪ ،‬وإ نما الفائدة ما قصه اللّه علينا من لطفه به وتوبته وإ نابته‪ ،‬وأنه ارتفع محله‪،‬‬
‫فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها‪.‬‬
‫الن ِ‬
‫اس‬ ‫اح ُك ْم َب ْي َن َّ‬
‫ض } تنفذ فيها القضايا الدينية والدنيوية‪ { ،‬فَ ْ‬ ‫األر ِ‬ ‫{ يا َداو ُد ِإَّنا جعْلَنا َ ِ ِ‬
‫ك َخليفَةً في ْ‬ ‫ََ‬ ‫َ ُ‬
‫ق } أي‪ :‬العدل‪ ،‬وهذا ال يتمكن منه‪ ،‬إال بعلم بالواجب‪ ،‬وعلم بالواقع‪ ،‬وقدرة على تنفيذ الحق‪،‬‬ ‫بِاْل َح ِّ‬
‫ك } الهوى‬ ‫ضلَّ َ‬ ‫{ وال تَتَّبِ ِع اْلهوى } فتميل مع أحد‪ ،‬لقرابة أو صداقة أو محبة‪ ،‬أو بغض لآلخر { فَي ِ‬
‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫يل اللَّ ِه } خصوصا‬ ‫ون َع ْن سبِ ِ‬
‫َ‬
‫ِ ُّ‬ ‫َِّ‬
‫يل الله } ويخرجك عن الصراط المستقيم‪ِ { ،‬إ َّن الذ َ‬
‫ين َيضل َ‬
‫{ ع ْن سبِ ِ َّ ِ‬
‫َ َ‬
‫اب } فلو ذكروه ووقع خوفه في قلوبهم‪ ،‬لم‬ ‫يد بِما َن ُسوا َيوم اْل ِح َس ِ‬ ‫المتعمدين منهم‪ { ،‬لَهم ع َذ ٌ ِ‬
‫َْ‬ ‫اب َشد ٌ َ‬ ‫ُْ َ‬
‫يميلوا مع الهوى الفاتن‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين‪ :‬فسيقصون‪.‬‬

‫( ‪)1/711‬‬

‫ين َكفَ ُروا ِم َن َّ‬


‫الن ِار (‬ ‫َِِّ‬
‫ين َكفَ ُروا فَ َوْي ٌل للذ َ‬
‫ك َ َِّ‬
‫ظ ُّن الذ َ‬ ‫اطاًل َذِل َ‬‫وما َخلَ ْقَنا السَّماء واأْل َرض وما ب ْيَنهما ب ِ‬
‫َ َ َ ْ َ َ َ َ َُ َ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫َّار (‬ ‫ض أ َْم َن ْج َع ُل اْل ُمتَّق َ‬
‫ين َكاْلفُج ِ‬ ‫ين في اأْل َْر ِ‬ ‫َمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َكاْل ُم ْفسد َ‬ ‫ين آ َ‬ ‫‪ )27‬أ َْم َن ْج َع ُل الذ َ‬
‫اب (‪)29‬‬ ‫ك ِلَي َّدبَّروا آََياتِ ِه وِلَيتَ َذ َّكر أُولُو اأْل َْلَب ِ‬ ‫‪ِ )28‬كتَ ٌ‬
‫اب أ َْن َزْلَناهُ ِإلَْي َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك ُمَب َار ٌ ُ‬

‫َِِّ‬ ‫ك َ َِّ‬ ‫اطال َذِل َ‬ ‫{ ‪ { } 29 - 27‬وما َخلَ ْقَنا السَّماء واألرض وما ب ْيَنهما ب ِ‬
‫ين‬ ‫ظ ُّن الذ َ‬
‫ين َكفَ ُروا فَ َوْي ٌل للذ َ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ َ َ َُ َ‬ ‫ََ‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َكفَ ُروا ِم َن َّ‬
‫ض أ َْم َن ْج َع ُل‬ ‫ين في ْ‬ ‫آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َكاْل ُم ْفسد َ‬ ‫ين َ‬ ‫الن ِار * أ َْم َن ْج َع ُل الذ َ‬
‫ك ِلَي َّدبَّروا َآياتِ ِه وِلَيتَ َذ َّكر أُولُو األْلَب ِ‬
‫اب } ‪.‬‬ ‫َّار * ِكتَ ٌ‬
‫اب أ َْن َزْلَناهُ ِإلَْي َ‬ ‫ين َكاْلفُج ِ‬ ‫ِ‬
‫اْل ُمتَّق َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك ُمَب َار ٌ ُ‬
‫يخبر تعالى عن تمام حكمته في خلقه السماوات واألرض‪ ،‬وأنه لم يخلقهما باطال أي‪ :‬عبثا ولعبا‬
‫من غير فائدة وال مصلحة‪.‬‬
‫ين َكفَ ُروا ِم َن َّ‬
‫الن ِار }‬ ‫َِِّ‬ ‫ك َ َِّ‬
‫ظ ُّن الذ َ‬
‫ين َكفَ ُروا } بربهم‪ ،‬حيث ظنوا ما ال يليق بجالله‪ { .‬فَ َوْي ٌل للذ َ‬ ‫{ َذِل َ‬
‫فإنها التي تأخذ الحق منهم‪ ،‬وتبلغ منهم كل مبلغ‪.‬‬
‫وإ نما خلق اللّه السماوات واألرض بالحق وللحق‪ ،‬فخلقهما ليعلم العباد كمال علمه وقدرته وسعة‬
‫سلطانه‪ ،‬وأنه تعالى وحده المعبود‪ ،‬دون من لم يخلق مثقال ذرة من السماوات واألرض‪ ،‬وأن‬
‫البعث حق‪ ،‬وسيفصل اللّه بين أهل الخير والشر‪.‬‬
‫آمُنوا‬ ‫َِّ‬
‫ين َ‬
‫وال يظن الجاهل بحكمة اللّه أن يسوي اللّه بينهما في حكمه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬أ َْم َن ْج َع ُل الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ات َكاْلم ْف ِس ِد ِ‬‫َّالح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّار } هذا غير الئق بحكمتنا‬ ‫ض أ َْم َن ْج َع ُل اْل ُمتَّق َ‬
‫ين َكاْلفُج ِ‬ ‫األر ِ‬
‫ين في ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َو َعملُوا الص َ‬
‫وحكمنا‪.‬‬
‫ك } فيه خير كثير‪ ،‬وعلم غزير‪ ،‬فيه كل هدى من ضاللة‪ ،‬وشفاء من‬ ‫ك ُمَب َار ٌ‬ ‫{ ِكتَ ٌ‬
‫اب أَنزْلَناهُ ِإلَْي َ‬
‫داء‪ ،‬ونور يستضاء به في الظلمات‪ ،‬وكل حكم يحتاج إليه المكلفون‪ ،‬وفيه من األدلة القطعية على‬
‫كل مطلوب‪ ،‬ما كان به أجل كتاب طرق العالم منذ أنشأه اللّه‪.‬‬
‫{ ِلَي َّدب َُّروا َآياتِ ِه } أي‪ :‬هذه الحكمة من إنزاله‪ ،‬ليتدبر الناس آياته‪ ،‬فيستخرجوا علمها ويتأملوا‬
‫أسرارها وحكمها‪ ،‬فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه‪ ،‬وإ عادة الفكر فيها مرة بعد مرة‪ ،‬تدرك بركته‬
‫وخيره‪ ،‬وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن‪ ،‬وأنه من أفضل األعمال‪ ،‬وأن القراءة المشتملة‬
‫على التدبر أفضل من سرعة التالوة التي ال يحصل بها هذا المقصود‪.‬‬
‫{ وِلَيتَ َذ َّكر أُولُو األْلَب ِ‬
‫اب } أي‪ :‬أولو العقول الصحيحة‪ ،‬يتذكرون بتدبرهم لها كل علم ومطلوب‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فدل هذا على أنه بحسب لب اإلنسان وعقله يحصل له التذكر واالنتفاع بهذا الكتاب‪.‬‬

‫( ‪)1/712‬‬

‫اد (‪)31‬‬ ‫ات اْل ِجَي ُ‬ ‫اب (‪ِ )30‬إ ْذ ع ِرض علَْي ِه بِاْلع ِش ِّي الص ِ‬
‫َّافَن ُ‬ ‫ان نِ ْع َم اْل َع ْب ُد ِإَّنهُ أ ََّو ٌ‬ ‫َو َو َه ْبَنا ِل َد ُاو َ‬
‫َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫ود ُسلَْي َم َ‬
‫ق َم ْس ًحا‬ ‫ط ِف َ‬
‫وها َعلَ َّي فَ َ‬‫اب (‪ُ )32‬ر ُّد َ‬ ‫ت بِاْل ِح َج ِ‬‫ب اْل َخ ْي ِر َع ْن ِذ ْك ِر َربِّي َحتَّى تََو َار ْ‬ ‫ت ُح َّ‬ ‫ال ِإِّني أ ْ‬
‫َحَب ْب ُ‬ ‫فَقَ َ‬
‫اغ ِف ْر‬
‫ب ْ‬ ‫ال َر ِّ‬ ‫اب (‪ )34‬قَ َ‬ ‫ِ ِ‬
‫ان َوأَْلقَْيَنا َعلَى ُك ْرسيِّه َج َس ًدا ثَُّم أََن َ‬ ‫ق (‪َ )33‬ولَقَ ْد فَتََّنا ُسلَْي َم َ‬ ‫َعَنا ِ‬
‫ق َواأْل ْ‬ ‫بِالسُّو ِ‬
‫يح تَ ْج ِري بِأ َْم ِر ِه‬ ‫الر َ‬ ‫اب (‪ )35‬فَ َس َّخ ْرَنا لَهُ ِّ‬ ‫ت اْل َو َّه ُ‬ ‫َح ٍد ِم ْن َب ْع ِدي ِإَّن َ‬
‫ك أ َْن َ‬ ‫ِ‬
‫ب لي ُمْل ًكا اَل َي ْنَبغي أِل َ‬
‫ِلي و َه ْ ِ‬
‫َ‬
‫َصفَ ِاد (‪)38‬‬ ‫ين في اأْل ْ‬
‫َخ ِرين مقََّرنِ ِ‬
‫اص (‪َ )37‬وآ َ َ ُ َ‬ ‫اء و َغ َّو ٍ‬ ‫َّ ٍ‬
‫ين ُكل َبَّن َ‬
‫ث أَصاب (‪ )36‬و َّ ِ‬
‫الشَياط َ‬ ‫َ‬ ‫اء َح ْي ُ َ َ‬ ‫ُر َخ ً‬
‫َب (‪)40‬‬ ‫اب (‪ )39‬وإِ َّن لَهُ ِع ْن َدَنا لَ ُزْلفَى و ُح ْس َن مآ ٍ‬ ‫اؤَنا فَامُن ْن أَو أَم ِس ْك بِ َغ ْي ِر ِح َس ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫طُ ْ ْ ْ‬ ‫َه َذا َع َ‬

‫ات‬
‫َّافَن ُ‬‫اب * ِإ ْذ ع ِرض علَْي ِه بِاْلع ِش ِّي الص ِ‬ ‫ان نِ ْع َم اْل َع ْب ُد ِإَّنهُ أ ََّو ٌ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫{ ‪َ { } 40 - 30‬و َو َه ْبَنا ل َد ُاو َد ُسلَْي َم َ‬
‫ط ِف َ‬
‫ق‬ ‫وها َعلَ َّي فَ َ‬‫اب * ُر ُّد َ‬ ‫ت بِاْل ِح َج ِ‬ ‫ب اْل َخ ْي ِر َع ْن ِذ ْك ِر َربِّي َحتَّى تََو َار ْ‬ ‫ت ُح َّ‬ ‫َحَب ْب ُ‬‫اد * فَقَا َل ِإِّني أ ْ‬‫اْل ِجَي ُ‬
‫اغ ِف ْر‬
‫ب ْ‬ ‫ال َر ِّ‬
‫اب * قَ َ‬ ‫ِ ِ‬
‫ان َوأَْلقَْيَنا َعلَى ُك ْرسيِّه َج َس ًدا ثَُّم أََن َ‬ ‫ق * َولَقَ ْد فَتََّنا ُسلَْي َم َ‬ ‫األعَنا ِ‬
‫ق َو ْ‬ ‫َم ْس ًحا بِالسُّو ِ‬
‫يح تَ ْج ِري بِأ َْم ِر ِه‬ ‫اب * فَ َس َّخ ْرَنا لَهُ ِّ‬
‫الر َ‬ ‫ت اْل َو َّه ُ‬‫ك أ َْن َ‬ ‫ألح ٍد ِم ْن َب ْع ِدي ِإَّن َ‬ ‫ِ‬
‫ب لي ُمْل ًكا ال َي ْنَبغي َ‬
‫ِلي و َه ْ ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ين ُكل َبَّناء و َغ َّو ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫األصفَاد * َه َذا‬‫ْ‬ ‫ين في‬ ‫ين ُمقََّرن َ‬‫آخ ِر َ‬
‫اص * َو َ‬ ‫َ‬ ‫اب * َوالشَياط َ‬ ‫َص َ‬
‫ثأ َ‬ ‫اء َح ْي ُ‬
‫ُر َخ ً‬
‫آب } ‪.‬‬ ‫اب * وإِ َّن لَهُ ِع ْن َدَنا لَ ُزْلفَى و ُح ْس َن م ٍ‬ ‫اؤَنا فَامُن ْن أَو أَم ِس ْك بِ َغ ْي ِر ِح َس ٍ‬ ‫طُ‬ ‫َع َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ ْ‬
‫لما أثنى تعالى على داود‪ ،‬وذكر ما جرى له ومنه‪ ،‬أثنى على ابنه سليمان عليهما السالم فقال‪:‬‬
‫ان } أي‪ :‬أنعمنا به عليه‪ ،‬وأقررنا به عينه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫{ َو َو َه ْبَنا ل َد ُاو َد ُسلَْي َم َ‬
‫{ نِ ْع َم اْل َع ْب ُد } سليمان عليه السالم‪ ،‬فإنه اتصف بما يوجب المدح‪ ،‬وهو { ِإَّنهُ أ ََّو ٌ‬
‫اب } أي‪ :‬رجَّاع‬
‫إلى اللّه في جميع أحواله‪ ،‬بالتأله واإلنابة‪ ،‬والمحبة والذكر والدعاء والتضرع‪ ،‬واالجتهاد في‬
‫مرضاة اللّه‪ ،‬وتقديمها على كل شيء‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬لما عرضت عليه الخيل الجياد السبق الصافنات أي‪ :‬التي من وصفها الصفون‪ ،‬وهو رفع‬
‫إحدى قوائمها عند الوقوف‪ ،‬وكان لها منظر رائق‪ ،‬وجمال معجب‪ ،‬خصوصا للمحتاج إليها‬
‫كالملوك‪ ،‬فما زالت تعرض عليه حتى غابت الشمس في الحجاب‪ ،‬فألهته عن صالة المساء‬
‫وذكره‪.‬‬
‫فقال ندما على ما مضى منه‪ ،‬وتقربا إلى اللّه بما ألهاه عن ذكره‪ ،‬وتقديما لحب اللّه على حب‬
‫ب اْل َخ ْي ِر } وضمن { أحببت } معنى { آثرت } أي‪ :‬آثرت حب الخير‪،‬‬
‫ت ُح َّ‬ ‫غيره‪ِ { :‬إِّني أ ْ‬
‫َحَب ْب ُ‬
‫ت بِاْل ِح َج ِ‬
‫اب }‬ ‫الذي هو المال عموما‪ ،‬وفي هذا الموضع المراد الخيل { َع ْن ِذ ْك ِر َربِّي َحتَّى تََو َار ْ‬
‫[ ص ‪] 713‬‬
‫األعَنا ِ‬
‫ق } أي‪ :‬جعل يعقرها بسيفه‪ ،‬في‬ ‫ق َو ْ‬ ‫ط ِف َ‬
‫ق } فيها { َم ْس ًحا بِالسُّو ِ‬ ‫{ ُر ُّد َ‬
‫وها َعلَ َّي } فردوها { فَ َ‬
‫سوقها وأعناقها‪.‬‬
‫ان } أي‪ :‬ابتليناه واختبرناه بذهاب ملكه وانفصاله عنه بسبب خلل اقتضته الطبيعة‬ ‫{ َولَقَ ْد فَتََّنا ُسلَْي َم َ‬
‫ِّه َج َس ًدا } أي‪ :‬شيطانا قضى اللّه وقدر أن يجلس على كرسي ملكه‪،‬‬ ‫البشرية‪ { ،‬وأَْلقَْيَنا علَى ُكر ِسي ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اب } سليمان إلى اللّه تعالى وتاب‪.‬‬ ‫ويتصرف في الملك في مدة فتنة سليمان‪ { ،‬ثَُّم أََن َ‬
‫ت اْل َو َّه ُ‬
‫اب } فاستجاب اللّه له‬ ‫ألح ٍد ِم ْن َب ْع ِدي ِإَّن َ‬
‫ك أ َْن َ‬ ‫ِ‬ ‫اغ ِفر ِلي و َه ْ ِ‬
‫ب لي ُمْل ًكا ال َي ْنَبغي َ‬ ‫َ‬ ‫ب ْ ْ‬ ‫ال َر ِّ‬
‫فـ { قَ َ‬
‫وغفر له‪ ،‬ورد عليه ملكه‪ ،‬وزاده ملكا لم يحصل ألحد من بعده‪ ،‬وهو تسخير الشياطين له‪ ،‬يبنون‬
‫ما يريد‪ ،‬ويغوصون له في البحر‪ ،‬يستخرجون الدر والحلي‪ ،‬ومن عصاه منهم قرنه في األصفاد‬
‫وأوثقه‪.‬‬
‫امُن ْن } على من شئت‪ { ،‬أ َْو أ َْم ِس ْك } من شئت { بِ َغ ْي ِر‬
‫اؤَنا } فَقََّر به عينا { فَ ْ‬
‫طُ‬ ‫وقلنا له‪َ { :‬ه َذا َع َ‬
‫اب } أي‪ :‬ال حرج عليك في ذلك وال حساب‪ ،‬لعلمه تعالى بكمال عدله‪ ،‬وحسن أحكامه‪ ،‬وال‬ ‫ِح َس ٍ‬
‫تحسبن هذا لسليمان في الدنيا دون اآلخرة‪ ،‬بل له في اآلخرة خير عظيم‪.‬‬
‫ولهذا قال‪ { :‬وإِ َّن لَهُ ِعْن َدَنا لَ ُزْلفَى و ُح ْس َن م ٍ‬
‫آب } أي‪ :‬هو من المقربين عند اللّه المكرمين بأنواع‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الكرامات للّه‪.‬‬
‫فصل فيما تبين لنا من الفوائد والحكم في قصة داود وسليمان عليهما السالم‬
‫فمنها‪ :‬أن اللّه تعالى يقص على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم أخبار من قبله‪ ،‬ليثبت فؤاده‬
‫وتطمئن نفسه‪ ،‬ويذكر له من عباداتهم وشدة صبرهم وإ نابتهم‪ ،‬ما يشوقه إلى منافستهم‪ ،‬والتقرب‬
‫إلى اللّه الذي تقربوا له‪ ،‬والصبر على أذى قومه‪ ،‬ولهذا ‪ -‬في هذا الموضع ‪ -‬لما ذكر اللّه ما‬
‫ذكر من أذية قومه وكالمهم فيه وفيما جاء به‪ ،‬أمره بالصبر‪ ،‬وأن يذكر عبده داود فيتسلى به‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن اللّه تعالى يمدح ويحب القوة في طاعته‪ ،‬قوة القلب والبدن‪ ،‬فإنه يحصل منها من آثار‬
‫الطاعة وحسنها وكثرتها‪ ،‬ما ال يحصل مع الوهن وعدم القوة‪ ،‬وأن العبد ينبغي له تعاطي أسبابها‪،‬‬
‫وعدم الركون إلى الكسل والبطالة المخلة بالقوى المضعفة للنفس‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الرجوع إلى اللّه في جميع األمور‪ ،‬من أوصاف أنبياء اللّه وخواص خلقه‪ ،‬كما أثنى‬
‫ين َه َدى‬ ‫اللّه على داود وسليمان بذلك‪ ،‬فليقتد بهما المقتدون‪ ،‬وليهتد بهداهم السالكون { أُولَئِ َ َِّ‬
‫ك الذ َ‬
‫اه ُم ا ْقتَِد ِه }‬
‫اللَّهُ فَبِهُ َد ُ‬
‫ومنها‪ :‬ما أكرم اللّه به نبيه داود عليه السالم‪ ،‬من حسن الصوت العظيم‪ ،‬الذي جعل اللّه بسببه‬
‫الجبال الصم‪ ،‬والطيور البهم‪ ،‬يجاوبنه إذا رجَّع صوته بالتسبيح‪ ،‬ويسبحن معه بالعشي واإلشراق‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن من أكبر نعم اللّه على عبده‪ ،‬أن يرزقه العلم النافع‪ ،‬ويعرف الحكم والفصل بين الناس‪،‬‬
‫كما امتن اللّه به على عبده داود عليه السالم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬اعتناء اللّه تعالى بأنبيائه وأصفيائه عندما يقع منهم بعض الخلل بفتنته إياهم وابتالئهم بما‬
‫به يزول عنهم المحذور‪ ،‬ويعودون إلى أكمل من حالتهم األولى‪ ،‬كما جرى لداود وسليمان عليهما‬
‫السالم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن األنبياء صلوات اللّه وسالمه عليهم معصومون من الخطأ فيما يبلغون عن اللّه تعالى‪،‬‬
‫ألن مقصود الرسالة ال يحصل إال بذلك‪ ،‬وأنه قد يجري منهم بعض مقتضيات الطبيعة من‬
‫المعاصي‪ ،‬ولكن اللّه يتداركهم ويبادرهم بلطفه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن داود عليه السالم‪[ ،‬كان] في أغلب أحواله مالزما محرابه لخدمة ربه‪ ،‬ولهذا تسور‬
‫الخصمان عليه المحراب‪ ،‬ألنه كان إذا خال في محرابه ال يأتيه أحد‪ ،‬فلم يجعل كل وقته للناس‪،‬‬
‫مع كثرة ما يرد عليه من األحكام‪ ،‬بل جعل له وقتا يخلو فيه بربه‪ ،‬وتقر عينه بعبادته‪ ،‬وتعينه على‬
‫اإلخالص في جميع أموره‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي استعمال األدب في الدخول على الحكام وغيرهم‪ ،‬فإن الخصمين لما دخال على‬
‫داود في حالة غير معتادة ومن غير الباب المعهود‪ ،‬فزع منهم‪ ،‬واشتد عليه ذلك‪ ،‬ورآه غير الئق‬
‫بالحال‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه ال يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء أدب الخصم وفعله ما ال ينبغي‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬كمال حلم داود عليه السالم‪ ،‬فإنه ما غضب عليهما حين جاءاه بغير استئذان‪ ،‬وهو الملك‪،‬‬
‫وال انتهرهما‪ ،‬وال وبخهما‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬جواز قول المظلوم لمن ظلمه "أنت ظلمتني" أو "يا ظالم" ونحو ذلك أو باغ علي لقولهما‪:‬‬
‫ضَنا َعلَى َب ْع ٍ‬
‫ض}‬ ‫ص َم ِ‬
‫ان َب َغى َب ْع ُ‬ ‫{ َخ ْ‬
‫ومنها‪ :‬أن الموعوظ والمنصوح‪ ،‬ولو كان كبير القدر‪ ،‬جليل العلم‪ ،‬إذا نصحه أحد‪ ،‬أو وعظه‪ ،‬ال‬
‫يغضب‪ ،‬وال يشمئز‪ ،‬بل يبادره بالقبول والشكر‪ ،‬فإن الخصمين نصحا داود فلم يشمئز ولم يغضب‬
‫ولم يثنه ذلك عن الحق‪ ،‬بل حكم بالحق الصرف‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن المخالطة بين األقارب واألصحاب‪ ،‬وكثرة التعلقات الدنيوية المالية‪ ،‬موجبة للتعادي‬
‫بينهم‪ ،‬وبغي بعضهم على بعض‪ ،‬وأنه ال يرد عن ذلك إال استعمال تقوى اللّه‪ ،‬والصبر على‬
‫األمور‪ ،‬باإليمان والعمل الصالح‪ ،‬وأن هذا من أقل شيء في الناس‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن االستغفار والعبادة‪ ،‬خصوصا الصالة‪ ،‬من مكفرات الذنوب‪ ،‬فإن اللّه‪ ،‬رتب مغفرة‬
‫ذنب داود على استغفاره وسجوده‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬إكرام اللّه لعبده داود وسليمان‪ ،‬بالقرب منه‪ ،‬وحسن الثواب‪ ،‬وأن ال يظن أن ما جرى لهما‬
‫منقص لدرجتهما عند اللّه تعالى‪ ،‬وهذا من تمام لطفه بعباده المخلصين‪ ،‬أنه إذا غفر لهم وأزال‬
‫أثر ذنوبهم‪ ،‬أزال اآلثار المترتبة عليه كلها‪ ،‬حتى ما يقع في [ ص ‪ ] 714‬قلوب الخلق‪ ،‬فإنهم إذا‬
‫علموا ببعض ذنوبهم‪ ،‬وقع في قلوبهم نزولهم عن درجتهم األولى‪ ،‬فأزال اللّه تعالى هذه اآلثار‪،‬‬
‫وما ذاك بعزيز على الكريم الغفار‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الحكم بين الناس مرتبة دينية‪ ،‬توالها رسل اللّه وخواص خلقه‪ ،‬وأن وظيفة القائم بها‬
‫الحكم بالحق ومجانبة الهوى‪ ،‬فالحكم بالحق يقتضي العلم باألمور الشرعية‪ ،‬والعلم بصورة‬
‫القضية المحكوم بها‪ ،‬وكيفية إدخالها في الحكم الشرعي‪ ،‬فالجاهل بأحد األمرين ال يصلح للحكم‪،‬‬
‫وال يحل له اإلقدام عليه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي للحاكم أن يحذر الهوى‪ ،‬ويجعله منه على بال‪ ،‬فإن النفوس ال تخلو منه‪ ،‬بل‬
‫يجاهد نفسه بأن يكون الحق مقصوده‪ ،‬وأن يلقي عنه وقت الحكم كل محبة أو بغض ألحد‬
‫الخصمين‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن سليمان عليه السالم من فضائل داود‪ ،‬ومن منن اللّه عليه حيث وهبه له‪ ،‬وأن من أكبر‬
‫نعم اللّه على عبده‪ ،‬أن يهب له ولدا صالحا‪ ،‬فإن كان عالما‪ ،‬كان نورا على نور‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ثناء اللّه تعالى على سليمان ومدحه في قوله { نِ ْع َم اْل َع ْب ُد ِإَّنهُ أ ََّو ٌ‬
‫اب }‬
‫ومنها‪ :‬كثرة خير اللّه وبره بعبيده‪ ،‬أن يمن عليهم بصالح األعمال ومكارم األخالق‪ ،‬ثم يثني‬
‫عليهم بها‪ ،‬وهو المتفضل الوهاب‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬تقديم سليمان محبة اللّه تعالى على محبة كل شيء‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن كل ما أشغل العبد عن اللّه‪ ،‬فإنه مشئوم مذموم‪َ ،‬فْلُيفَ ِار ْقه وْلُي ْقبِ ْل على ما هو أنفع له‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬القاعدة المشهورة "من ترك شيئا هلل عوضه اللّه خيرا منه" فسليمان عليه السالم عقر‬
‫الجياد الصافنات المحبوبة للنفوس‪ ،‬تقديما لمحبة اللّه‪ ،‬فعوضه اللّه خيرا من ذلك‪ ،‬بأن سخر له‬
‫الريح الرخاء اللينة‪ ،‬التي تجري بأمره إلى حيث أراد وقصد‪ ،‬غدوها شهر‪ ،‬ورواحها شهر‪،‬‬
‫وسخر له الشياطين‪ ،‬أهل االقتدار على األعمال التي ال يقدر عليها اآلدميون‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن تسخير الشياطين ال يكون ألحد بعد سليمان عليه السالم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن سليمان عليه السالم‪ ،‬كان ملكا نبيا‪ ،‬يفعل ما أراد‪ ،‬ولكنه ال يريد إال العدل‪ ،‬بخالف‬
‫النبي العبد‪ ،‬فإنه تكون إرادته تابعة ألمر اللّه‪ ،‬فال يفعل وال يترك إال باألمر‪ ،‬كحال نبينا محمد‬
‫صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬وهذه الحال أكمل‪.‬‬

‫( ‪)1/712‬‬

‫ض بِ ِر ْجِل َ‬
‫ك َه َذا‬ ‫ص ٍب و َع َذ ٍ‬
‫اب (‪ْ )41‬ار ُك ْ‬ ‫ط ُ ِ‬
‫ان بُن ْ َ‬
‫ادى ربَّهُ أَِّني مسَّنِي َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُّوب ِإ ْذ َن َ َ‬
‫َوا ْذ ُك ْر َع ْب َدَنا أَي َ‬
‫ُم ْغتَ َس ٌل َب ِار ٌد َو َش َر ٌ‬
‫اب (‪)42‬‬
‫ص ٍب و َع َذ ٍ‬ ‫ط ُ ِ‬ ‫ادى ربَّهُ أَِّني مسَّنِي َّ‬
‫ض‬
‫اب * ْار ُك ْ‬ ‫ان بُن ْ َ‬ ‫الش ْي َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُّوب ِإ ْذ َن َ َ‬
‫{ ‪َ { } 44 - 41‬وا ْذ ُك ْر َعْب َدَنا أَي َ‬
‫بِ ِر ْجِل َ‬
‫ك َه َذا ُم ْغتَ َس ٌل َب ِار ٌد َو َش َر ٌ‬
‫اب } ‪.‬‬
‫ُّوب } بأحسن الذكر‪ ،‬وأثن عليه بأحسن الثناء‪،‬‬ ‫أي‪َ { :‬وا ْذ ُك ْر } في هذا الكتاب ذي الذكر { َعْب َدَنا أَي َ‬
‫حين أصابه الضر‪ ،‬فصبر على ضره‪ ،‬فلم يشتك لغير ربه‪ ،‬وال لجأ إال إليه‪.‬‬
‫ص ٍب و َع َذ ٍ‬
‫اب‬ ‫ط ُ ِ‬ ‫ادى ربَّهُ } داعيا‪ ،‬وإ ليه ال إلى غيره شاكيا‪ ،‬فقال‪ :‬رب { أَِّني مسَّنِي َّ‬
‫ان بُن ْ َ‬ ‫الش ْي َ‬ ‫َ َ‬ ‫فـ { َن َ َ‬
‫} أي‪ :‬بأمر مشق متعب معذب‪ ،‬وكان سلط على جسده فنفخ فيه حتى تقرح‪ ،‬ثم تقيح بعد ذلك‬
‫واشتد به األمر‪ ،‬وكذلك هلك أهله وماله‪.‬‬
‫ك } أي‪ :‬اضرب األرض بها‪ ،‬لينبع لك منها عين تغتسل منها وتشرب‪،‬‬ ‫ض بِ ِر ْجِل َ‬
‫فقيل له‪ْ { :‬ار ُك ْ‬
‫فيذهب عنك الضر واألذى‪ ،‬ففعل ذلك‪ ،‬فذهب عنه الضر‪ ،‬وشفاه اللّه تعالى‪.‬‬

‫( ‪)1/714‬‬

‫ب بِ ِه‬
‫اض ِر ْ‬ ‫ك ِ‬
‫ض ْغثًا فَ ْ‬ ‫اب (‪َ )43‬و ُخ ْذ بَِي ِد َ‬
‫َهلَهُ و ِمثْلَهم م َعهم ر ْحمةً ِمَّنا و ِذ ْكرى أِل ُوِلي اأْل َْلَب ِ‬
‫َ َ‬ ‫َو َو َه ْبَنا لَهُ أ ْ َ ُ ْ َ ُ ْ َ َ‬
‫اب (‪)44‬‬ ‫صابًِرا نِ ْع َم اْل َع ْب ُد ِإَّنهُ أ ََّو ٌ‬
‫ث ِإَّنا َو َج ْدَناهُ َ‬
‫َواَل تَ ْحَن ْ‬

‫ب بِ ِه‬
‫اض ِر ْ‬ ‫ك ِ‬
‫ض ْغثًا فَ ْ‬ ‫اب * َو ُخ ْذ بَِي ِد َ‬
‫َهلَهُ و ِمثْلَهم م َعهم ر ْحمةً ِمَّنا و ِذ ْكرى ألوِلي األْلَب ِ‬
‫َ َ‬ ‫{ َو َو َه ْبَنا لَهُ أ ْ َ ُ ْ َ ُ ْ َ َ‬
‫صابًِرا نِ ْع َم اْل َع ْب ُد ِإَّنهُ أ ََّو ٌ‬
‫اب } ‪.‬‬ ‫ث ِإَّنا َو َج ْدَناهُ َ‬
‫َوال تَ ْحَن ْ‬
‫َهلَهُ } قيل‪ :‬إن اللّه تعالى أحياهم له { َو ِمثْلَهُ ْم َم َعهُ ْم } في الدنيا‪ ،‬وأغناه اللّه‪ ،‬وأعطاه‬ ‫{ َو َو َه ْبَنا لَهُ أ ْ‬
‫ماال عظيما { َر ْح َمةً ِمَّنا } بعبدنا أيوب‪ ،‬حيث صبر فأثبناه من رحمتنا ثوابا عاجال وآجال‪.‬‬
‫اب } أي‪ :‬وليتذكر أولو العقول بحالة أيوب ويعتبروا‪ ،‬فيعلموا أن من صبر‬ ‫{ و ِذ ْكرى ألوِلي األْلَب ِ‬
‫َ َ‬
‫على الضر‪ ،‬أن اللّه تعالى يثيبه ثوابا عاجال وآجال ويستجيب دعاءه إذا دعاه‪.‬‬
‫ث}‬‫ب بِ ِه َوال تَ ْحَن ْ‬
‫اض ِر ْ‬ ‫ك ِ‬
‫ض ْغثًا } أي حزمة شماريخ { فَ ْ‬ ‫{ َو ُخ ْذ بَِي ِد َ‬
‫قال المفسرون‪ :‬وكان في مرضه وضره‪ ،‬قد غضب على زوجته في بعض األمور‪ ،‬فحلف‪ :‬لئن‬
‫شفاه اللّه ليضربنها مائة جلدة‪ ،‬فلما شفاه اللّه‪ ،‬وكانت امرأته صالحة محسنة إليه‪ ،‬رحمها اللّه‬
‫ورحمه‪ ،‬فأفتاه أن يضربها بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة‪ ،‬فيبر في يمينه‪.‬‬
‫صابًِرا } أي‪ :‬ابتليناه بالضر العظيم‪ ،‬فصبر لوجه اللّه تعالى‪ { .‬نِ ْع َم‬
‫{ ِإَّنا َو َج ْدَناهُ } أي‪ :‬أيوب { َ‬
‫اْل َع ْب ُد } الذي كمل مراتب العبودية‪ ،‬في حال السراء والضراء‪ ،‬والشدة والرخاء‪.‬‬
‫اب } أي‪ :‬كثير الرجوع إلى اللّه‪ ،‬في مطالبه الدينية والدنيوية‪ ،‬كثير الذكر لربه والدعاء‪،‬‬‫{ ِإَّنهُ أ ََّو ٌ‬
‫والمحبة والتأله‪.‬‬
‫( ‪)1/714‬‬

‫ص ٍة‬ ‫ِ‬
‫اه ْم بِ َخال َ‬
‫صَن ُ‬ ‫ص ِار (‪ِ )45‬إَّنا أ ْ‬
‫َخلَ ْ‬
‫ِ‬
‫وب أُوِلي اأْل َْيدي َواأْل َْب َ‬
‫اق َوَي ْعقُ َ‬ ‫يم َوإِ ْس َح َ‬ ‫وا ْذ ُكر ِعب َ ِ ِ‬
‫ادَنا إ ْب َراه َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫َخَي ِار (‪)47‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِذ ْك َرى َّ‬
‫طفَْي َن اأْل ْ‬
‫صَ‬‫الد ِار (‪َ )46‬وإِ َّنهُ ْم ع ْن َدَنا لَم َن اْل ُم ْ‬

‫اه ْم‬
‫صَن ُ‬ ‫ص ِار * ِإَّنا أ ْ‬
‫َخلَ ْ‬ ‫األي ِدي َو ْ‬
‫األب َ‬ ‫وب أُوِلي ْ‬ ‫اق َوَي ْعقُ َ‬
‫يم َوإِ ْس َح َ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪َ { } 47 - 45‬وا ْذ ُك ْر ِعَب َ‬
‫ادَنا ْإب َراه َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص ٍة ِذ ْك َرى َّ‬ ‫ِ‬
‫األخَي ِار } ‪.‬‬
‫طفَْي َن ْ‬ ‫صَ‬‫الد ِار * َوإِ َّنهُ ْم عْن َدَنا لَم َن اْل ُم ْ‬ ‫بِ َخال َ‬
‫يم } الخليل { و } ابنه‬ ‫ِ ِ‬ ‫يقول تعالى‪َ { :‬وا ْذ ُك ْر ِعَب َ‬
‫ادَنا } الذين أخلصوا لنا العبادة ذكرا حسنا‪ { ،‬إ ْب َراه َ‬
‫صار } أي‪:‬‬ ‫األي ِدي } أي‪ :‬القوة على عبادة اللّه تعالى { َو ْ‬
‫األب َ‬ ‫وب أُوِلي ْ‬ ‫اق َو } ابن ابنه { َي ْعقُ َ‬ ‫{ ِإ ْس َح َ‬
‫[ ص ‪ ] 715‬البصيرة في دين اللّه‪ .‬فوصفهم بالعلم النافع‪ ،‬والعمل الصالح الكثير‪.‬‬
‫الد ِار } جعلنا ذكرى الدار‬ ‫ص ٍة } عظيمة‪ ،‬وخصيصة جسيمة‪ ،‬وهي‪ِ { :‬ذ ْك َرى َّ‬ ‫ِ‬
‫اه ْم بِ َخال َ‬
‫صَن ُ‬ ‫{ ِإَّنا أ ْ‬
‫َخلَ ْ‬
‫اآلخرة في قلوبهم‪ ،‬والعمل لها صفوة وقتهم‪ ،‬واإلخالص والمراقبة للّه وصفهم الدائم‪ ،‬وجعلناهم‬
‫ذكرى الدار يتذكر بأحوالهم المتذكر‪ ،‬ويعتبر بهم المعتبر‪ ،‬ويذكرون بأحسن الذكر‪.‬‬
‫األخَي ِار } الذين لهم كل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫طفَْي َن } الذين اصطفاهم اللّه من صفوة خلقه‪ْ { ،‬‬
‫صَ‬ ‫{ َوإِ َّنهُ ْم ع ْن َدَنا لَم َن اْل ُم ْ‬
‫خلق كريم‪ ،‬وعمل مستقيم‪.‬‬

‫( ‪)1/714‬‬

‫يل َواْلَي َس َع َو َذا اْل ِك ْف ِل َو ُك ٌّل ِم َن اأْل ْ‬


‫َخَي ِار (‪)48‬‬ ‫وا ْذ ُكر ِإسم ِ‬
‫اع َ‬ ‫َ ْ َْ‬

‫األخَي ِار * َه َذا ِذ ْك ُر } ‪.‬‬


‫يل َواْلَي َس َع َو َذا اْل ِك ْف ِل َو ُك ٌّل ِم َن ْ‬ ‫{ ‪ { } 49 - 48‬وا ْذ ُكر ِإسم ِ‬
‫اع َ‬ ‫َ ْ َْ‬
‫أي‪ :‬واذكر هؤالء األنبياء بأحسن الذكر‪ ،‬وأثن عليهم أحسن الثناء‪ ،‬فإن كال منهم من األخيار‬
‫الذين اختارهم اللّه من الخلق‪ ،‬واختار لهم أكمل األحوال‪ ،‬من األعمال‪ ،‬واألخالق‪ ،‬والصفات‬
‫الحميدة‪ ،‬والخصال السديدة‪.‬‬
‫{ َه َذا } أي‪ :‬ذكر هؤالء األنبياء الصفوة وذكر أوصافهم‪ { ،‬ذكر } في هذا القرآن ذي الذكر‪،‬‬
‫يتذكر بأحوالهم المتذكرون‪ ،‬ويشتاق إلى االقتداء بأوصافهم الحميدة المقتدون‪ ،‬ويعرف ما َّ‬
‫من اللّه‬
‫عليهم به من األوصاف الزكية‪ ،‬وما نشر لهم من الثناء بين البرية‪.‬‬
‫فهذا نوع من أنواع الذكر‪ ،‬وهو ذكر أهل الخير‪ ،‬ومن أنواع الذكر‪ ،‬ذكر جزاء أهل الخير وأهل‬
‫الشر‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫( ‪)1/715‬‬

‫ات ع ْد ٍن مفَتَّحةً لَهم اأْل َْبواب (‪ )50‬متَّ ِكئِ ِ‬‫ِ‬ ‫ين لَ ُح ْس َن مآ ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون‬
‫ين فيهَا َي ْد ُع َ‬
‫ُ َ‬ ‫َب (‪َ )49‬جَّن َ ُ َ ُ ُ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َه َذا ذ ْكٌر َوإِ َّن لْل ُمتَّق َ‬
‫ون ِلَي ْوِم‬ ‫ات الطَّر ِ‬ ‫ِ‬ ‫اكه ٍة َكثِير ٍة و َشر ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وع ُد َ‬
‫اب (‪َ )52‬ه َذا َما تُ َ‬
‫ف أَتَْر ٌ‬ ‫اب (‪َ )51‬و ِع ْن َد ُه ْم قَاص َر ُ ْ‬ ‫َ َ َ‬ ‫فيهَا بِفَ َ‬
‫اب (‪ِ )53‬إ َّن َه َذا لَ ِر ْزقَُنا َما لَهُ ِم ْن َنفَ ٍاد (‪)54‬‬ ‫اْل ِح َس ِ‬

‫ين ِفيهَا‬‫ِِ‬
‫اب * ُمتَّكئ َ‬
‫آب * جَّن ِ‬
‫ات َع ْد ٍن ُمفَتَّ َحةً لَهُ ُم ْ‬
‫األب َو ُ‬ ‫َ‬ ‫ين لَ ُح ْس َن م ٍ‬
‫َ‬
‫ِ ِ‬
‫{ ‪َ { } 54 - 49‬وإِ َّن لْل ُمتَّق َ‬
‫ون ِلَي ْوِم‬ ‫ات الطَّر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ٍ ِ‬ ‫ي ْدع ِ‬
‫وع ُد َ‬
‫اب * َه َذا َما تُ َ‬‫ف أَتَْر ٌ‬ ‫ون فيهَا بِفَاكهَة َكث َير ٍة َو َش َراب * َو ِع ْن َد ُه ْم قَاص َر ُ ْ‬ ‫َ ُ َ‬
‫اب * ِإ َّن َه َذا لَ ِر ْزقَُنا َما لَهُ ِم ْن َنفَ ٍاد } ‪.‬‬ ‫اْل ِح َس ِ‬
‫ِ ِ‬
‫ين } ربهم‪ ،‬بامتثال األوامر واجتناب النواهي‪ ،‬من كل مؤمن ومؤمنة‪ { ،‬لَ ُح ْس َن‬ ‫أي‪َ { :‬وإِ َّن لْل ُمتَّق َ‬
‫آب } أي‪ :‬لمآبا حسنا‪ ،‬ومرجعا مستحسنا‪.‬‬ ‫م ٍ‬
‫َ‬
‫ات َع ْد ٍن } أي‪ :‬جنات إقامة‪ ،‬ال يبغي صاحبها بدال منها‪ ،‬من كمالها‬ ‫ثم فسره وفصله فقال‪ { :‬جَّن ِ‬
‫َ‬
‫وتمام نعيمها‪ ،‬وليسوا بخارجين منها وال بمخرجين‪.‬‬
‫اب } أي‪ :‬مفتحة ألجلهم أبواب منازلها ومساكنها‪ ،‬ال يحتاجون أن يفتحوها هم ‪،‬‬ ‫{ ُمفَتَّ َحةً لَهُ ُم ْ‬
‫األب َو ُ‬
‫بل هم مخدومون‪ ،‬وهذا دليل أيضا على األمان التام‪ ،‬وأنه ليس في جنات عدن‪ ،‬ما يوجب أن‬
‫تغلق ألجله أبوابها‪.‬‬
‫ون ِفيهَا } أي‪ :‬يأمرون‬
‫ين فيهَا } على األرائك المزينات‪ ،‬والمجالس المزخرفات‪َ { .‬ي ْد ُع َ‬
‫{ متَّ ِكئِ ِ‬
‫ُ َ‬
‫اكه ٍة َكثِير ٍة و َشر ٍ‬
‫ِ‬
‫اب } من كل ما تشتهيه نفوسهم‪ ،‬وتلذه أعينهم‪ ،‬وهذا يدل‬ ‫َ َ َ‬ ‫خدامهم‪ ،‬أن يأتوا { بِفَ َ‬
‫على كمال النعيم‪ ،‬وكمال الراحة والطمأنينة‪ ،‬وتمام اللذة‪.‬‬
‫ات } طرفهن على أزواجهن‪ ،‬وطرف أزواجهن‬ ‫{ و ِع ْن َد ُهم } من أزواجهم‪ ،‬الحور العين { قَ ِ‬
‫اص َر ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫عليهن‪ ،‬لجمالهم كلهم‪ ،‬ومحبة كل منهما لآلخر‪ ،‬وعدم طموحه لغيره‪ ،‬وأنه ال يبغي بصاحبه بدال‬
‫اب } أي‪ :‬على سن واحد‪ ،‬أعدل سن الشباب وأحسنه وألذه‪.‬‬ ‫وال عنه عوضا‪ { .‬أَتَْر ٌ‬
‫اب } جزاء على أعمالكم الصالحة‪.‬‬ ‫ون } أيها المتقون { ِلَيوِم اْل ِح َس ِ‬‫وع ُد َ‬
‫{ َه َذا َما تُ َ‬
‫ْ‬
‫{ ِإ َّن َه َذا لَ ِر ْزقَُنا } الذي أوردناه على أهل دار النعيم { َما لَهُ ِم ْن َنفَ ٍاد } أي‪ :‬انقطاع‪ ،‬بل هو دائم‬
‫مستقر في جميع األوقات‪ ،‬متزايد في جميع اآلنات‪.‬‬
‫وليس هذا بعظيم على الرب الكريم‪ ،‬الرءوف الرحيم‪ ،‬البر الجواد‪ ،‬الواسع الغني‪ ،‬الحميد اللطيف‬
‫الرحمن‪ ،‬الملك الديان‪ ،‬الجليل الجميل المنان‪ ،‬ذي الفضل الباهر‪ ،‬والكرم المتواتر‪ ،‬الذي ال‬
‫تحصى نعمه‪ ،‬وال يحاط ببعض بره‪.‬‬

‫( ‪)1/715‬‬

‫ِ‬ ‫صلَ ْوَنهَا فَبِْئ َس اْل ِمهَ ُ‬ ‫ين لَ َش َّر مآ ٍ‬ ‫ِ َّ ِ‬


‫َّاق (‬
‫يم َو َغس ٌ‬ ‫اد (‪َ )56‬ه َذا َفْلَي ُذوقُوهُ َحم ٌ‬ ‫َب (‪َ )55‬جهََّن َم َي ْ‬ ‫َ‬ ‫َه َذا َوإِ َّن للطاغ َ‬
‫ِ‬ ‫َخ ُر ِم ْن َش ْكِل ِه أ َْز َو ٌ‬
‫الن ِار (‪)59‬‬ ‫صالُوا َّ‬ ‫اج (‪َ )58‬ه َذا فَ ْو ٌج ُم ْقتَح ٌم َم َع ُك ْم اَل َم ْر َحًبا بِ ِه ْم ِإَّنهُ ْم َ‬ ‫‪َ )57‬وآ َ‬
‫قَالُوا َب ْل أ َْنتُ ْم اَل َم ْر َحًبا بِ ُك ْم أ َْنتُ ْم قَ َّد ْمتُ ُموهُ لََنا فَبِْئ َس اْلقََر ُار (‪ )60‬قَالُوا َربََّنا َم ْن قَ َّد َم لََنا َه َذا فَ ِز ْدهُ َع َذ ًابا‬
‫الن ِار (‪)61‬‬ ‫ض ْعفًا ِفي َّ‬ ‫ِ‬

‫ِ‬ ‫صلَ ْوَنهَا فَبِْئ َس اْل ِمهَ ُ‬ ‫ين لَ َش َّر م ٍ‬ ‫ِ َّ ِ‬


‫يم‬
‫اد * َه َذا َفْلَي ُذوقُوهُ َحم ٌ‬ ‫آب * َجهََّن َم َي ْ‬ ‫َ‬ ‫{ ‪َ { } 64 - 55‬ه َذا َوإِ َّن للطاغ َ‬
‫ِ‬ ‫آخ ُر ِم ْن َش ْكِل ِه أ َْز َو ٌ‬
‫الن ِار * قَالُوا‬
‫صالُوا َّ‬ ‫اج * َه َذا فَ ْو ٌج ُم ْقتَح ٌم َم َع ُك ْم ال َم ْر َحًبا بِ ِه ْم ِإَّنهُ ْم َ‬ ‫َّاق * َو َ‬
‫َو َغس ٌ‬
‫ب ْل أ َْنتُم ال مرحبا بِ ُكم أ َْنتُم قَ َّدمتُموه لََنا فَبِْئس اْلقَرار * قَالُوا ربََّنا م ْن قَ َّدم لََنا َه َذا فَ ِز ْده ع َذابا ِ‬
‫ض ْعفًا‬ ‫ُ َ ً‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ْ َْ ًَ ْ ْ ْ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫ِفي َّ‬
‫الن ِار } ‪.‬‬
‫ِ َّ ِ‬
‫{ َه َذا } الجزاء للمتقين ما وصفناه { َوإِ َّن للطاغ َ‬
‫ين } أي‪ :‬المتجاوزين للحد في الكفر والمعاصي {‬
‫آب } أي‪ :‬لشر مرجع ومنقلب‪.‬‬ ‫لَ َش َّر م ٍ‬
‫َ‬
‫ثم فصله فقال‪َ { :‬جهََّن َم } التي جمع فيها كل عذاب‪ ،‬واشتد حرها‪ ،‬وانتهى قرها { َي ْ‬
‫صلَ ْوَنهَا } أي‪:‬‬
‫يعذبون فيها عذابا يحيط بهم من كل وجه‪ ،‬لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل‪.‬‬
‫{ فَبِْئ َس اْل ِمهَ ُ‬
‫اد } المعد لهم مسكنا ومستقرا‪.‬‬
‫يم } ماء حار‪ ،‬قد‬ ‫ِ‬
‫{ َه َذا } المهاد‪ ،‬هذا العذاب الشديد‪ ،‬والخزي والفضيحة والنكال { َفْلَي ُذوقُوهُ َحم ٌ‬
‫َّاق } وهو أكره ما يكون من الشراب‪ ،‬من قيح‬ ‫اشتد حره‪ ،‬يشربونه فَيقَطعُ أمعاءهم‪َ { .‬و َغس ٌ‬
‫وصديد‪ ،‬مر المذاق‪ ،‬كريه الرائحة‪.‬‬
‫اج } أي‪ :‬عدة [ ص ‪ ] 716‬أصناف من أصناف‬ ‫آخ ُر ِم ْن َش ْكِل ِه } أي‪ :‬من نوعه { أ َْز َو ٌ‬ ‫{ َو َ‬
‫العذاب‪ ،‬يعذبون بها ويخزون بها‪.‬‬
‫وعند تواردهم على النار يشتم بعضهم بعضا‪ ،‬ويقول بعضهم لبعض‪َ { :‬ه َذا فَ ْو ٌج ُم ْقتَ ِح ٌم َم َع ُك ْم }‬
‫الن ِار }‬ ‫النار { ال َم ْر َحًبا بِ ِه ْم ِإَّنهُ ْم َ‬
‫صالُوا َّ‬
‫{ قَالُوا } أي‪ :‬الفوج المقبل المقتحم‪َ { :‬ب ْل أ َْنتُ ْم ال َم ْر َحًبا بِ ُك ْم أ َْنتُ ْم قَ َّد ْمتُ ُموهُ } أي‪ :‬العذاب { لََنا }‬
‫بدعوتكم لنا‪ ،‬وفتنتكم وإ ضاللكم وتسببكم‪ { .‬فَبِْئ َس اْلقََر ُار } قرار الجميع‪ ،‬قرار السوء والشر‪.‬‬
‫ض ْعفًا ِفي َّ‬
‫الن ِار }‬ ‫ثم دعوا على المغوين لهم‪ ،‬فـ { قَالُوا ربََّنا م ْن قَ َّدم لََنا َه َذا فَ ِز ْده ع َذابا ِ‬
‫ُ َ ً‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ضع ٌ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وقال في اآلية األخرى‪ { :‬قَ َ ِ‬
‫ون }‪.‬‬ ‫ف َولَك ْن ال تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ال ل ُك ٍّل ْ‬

‫( ‪)1/715‬‬

‫ت َع ْنهُ ُم‬ ‫اه ْم ِس ْخ ِريًّا أ َْم َز َ‬


‫اغ ْ‬ ‫َوقَالُوا َما لََنا اَل َن َرى ِر َجااًل ُكَّنا َن ُع ُّد ُه ْم ِم َن اأْل َ ْش َر ِار (‪ )62‬أَتَّ َخ ْذَن ُ‬
‫الن ِار (‪)64‬‬ ‫َه ِل َّ‬ ‫اص ُم أ ْ‬
‫ق تَ َخ ُ‬ ‫ص ُار (‪ِ )63‬إ َّن َذِل َ‬
‫ك لَ َح ٌّ‬ ‫اأْل َْب َ‬

‫ص ُار‬
‫األب َ‬
‫ت َع ْنهُ ُم ْ‬ ‫اه ْم ِس ْخ ِريًّا أ َْم َز َ‬
‫اغ ْ‬ ‫{ َوقَالُوا َما لََنا ال َن َرى ِر َجاال ُكَّنا َن ُع ُّد ُه ْم ِم َن األ ْش َر ِار * أَأَتَّ َخ ْذَن ُ‬
‫الن ِار } ‪.‬‬ ‫َه ِل َّ‬
‫اص ُم أ ْ‬
‫ق تَ َخ ُ‬ ‫* ِإ َّن َذِل َ‬
‫ك لَ َح ٌّ‬
‫{ َوقَالُوا } وهم في النار { َما لََنا ال َن َرى ِر َجاال ُكَّنا َن ُع ُّد ُه ْم ِم َن األ ْش َر ِار } أي‪ :‬كنا نزعم أنهم من‬
‫األشرار‪ ،‬المستحقين لعذاب النار‪ ،‬وهم المؤمنون‪ ،‬تفقدهم أهل النار ‪ -‬قبحهم اللّه ‪ -‬هل يرونهم‬
‫في النار؟‬
‫ص ُار } أي‪ :‬عدم رؤيتنا لهم دائر بين أمرين‪ :‬إما أننا‬ ‫األب َ‬
‫ت َعْنهُ ْم ْ‬
‫اغ ْ‬‫اه ْم ِس ْخ ِريًّا أ َْم َز َ‬
‫{ أَتَّ َخ ْذَن ُ‬
‫غالطون في عدنا إياهم من األشرار‪ ،‬بل هم من األخيار‪ ،‬وإ نما كالمنا لهم من باب السخرية‬
‫ون‬ ‫واالستهزاء بهم‪ ،‬وهذا هو الواقع‪ ،‬كما قال تعالى ألهل النار‪ِ { :‬إَّنه َكان فَ ِر ٌ ِ ِ ِ‬
‫يق م ْن عَبادي َيقُولُ َ‬ ‫ُ َ‬
‫وه ْم ِس ْخ ِريًّا َحتَّى أ َْن َس ْو ُك ْم ِذ ْك ِري َو ُك ْنتُ ْم‬
‫ين * فَاتَّ َخ ْذتُ ُم ُ‬ ‫ت َخ ْير َّ ِ ِ‬
‫الراحم َ‬
‫ربََّنا آمَّنا فَ ْ ِ‬
‫اغف ْر لََنا َو ْار َح ْمَنا َوأ َْن َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ون }‬‫ض َح ُك َ‬‫ِم ْنهُ ْم تَ ْ‬
‫واألمر الثاني أنهم لعلهم زاغت أبصارنا عن رؤيتهم معنا في العذاب وإ ال فهم معنا معذبون ولكن‬
‫تجاوزتهم أبصارنا فيحتمل أن هذا الذي في قلوبهم فتكون العقائد التي اعتقدوها في الدنيا وكثرة ما‬
‫حكموا ألهل اإليمان بالنار تمكنت من قلوبهم وصارت صبغة لها فدخلوا النار وهم بهذه الحالة‬
‫فقالوا ما قالوا‬
‫ويحتمل أن كالمهم هذا كالم تمويه كما موهوا في الدنيا موهوا حتى في النار ولهذا يقول أهل‬
‫ين أَ ْق َس ْمتُ ْم ال َيَنالُهُ ُم اللَّهُ بَِر ْح َم ٍة ْاد ُخلُوا اْل َجَّنةَ ال َخ ْو ٌ‬
‫ف َعلَْي ُك ْم َوال‬ ‫األعراف ألهل النار { أ َ ِ َِّ‬
‫َه ُؤالء الذ َ‬
‫ون }‬‫أ َْنتُ ْم تَ ْح َزُن َ‬
‫ق } ما فيه شك‬ ‫ك } الذي ذكرت لكم { لَ َح ٌّ‬ ‫قال تعالى مؤكدا ما أخبر به وهو أصدق القائلين { ِإ َّن َذِل َ‬
‫َه ِل َّ‬
‫الن ِار }‬ ‫اص ُم أ ْ‬
‫وال مرية { تَ َخ ُ‬

‫( ‪)1/716‬‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫اح ُد اْلقَهَّ ُار (‪َ )65‬ر ُّ‬ ‫ُق ْل ِإَّنما أََنا م ْن ِذر وما ِم ْن ِإلَ ٍه ِإاَّل اللَّه اْلو ِ‬
‫َّم َاو َ‬ ‫ب الس َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ ٌ ََ‬ ‫َ‬
‫ان ِلي ِم ْن ِعْلٍم بِاْلمإَل ِ‬ ‫يم (‪ )67‬أ َْنتُ ْم َع ْنهُ ُم ْع ِر ُ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫اْل َع ِز ُيز اْل َغف ُار (‪ُ )66‬ق ْل ُه َو َنَبأٌ َعظ ٌ‬
‫َ‬ ‫ون (‪َ )68‬ما َك َ َ‬ ‫ض َ‬
‫ُّك ِلْل َماَل ئِ َك ِة ِإِّني‬
‫ين (‪ِ )70‬إ ْذ قَا َل َرب َ‬ ‫وحى ِإلَ َّي ِإاَّل أََّن َما أََنا َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ‬ ‫ون (‪ِ )69‬إ ْن ُي َ‬
‫ِ‬
‫َعلَى ِإ ْذ َي ْختَص ُم َ‬ ‫اأْل ْ‬
‫ين (‪ )72‬فَ َس َج َد‬ ‫وحي فَقَعوا لَه س ِ ِ‬ ‫يه ِم ْن ر ِ‬ ‫ت ِف ِ‬ ‫ين (‪ )71‬فَِإ َذا َس َّو ْيتُهُ َوَنفَ ْخ ُ‬ ‫ق َب َش ًرا ِم ْن ِط ٍ‬ ‫َخ ِال ٌ‬
‫اجد َ‬ ‫ُ ُ َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َجمعون (‪ِ )73‬إاَّل ِإْبِليس استَ ْكبر و َك ِ‬ ‫ِ ُّ‬
‫َن‬
‫ك أْ‬ ‫يس َما َمَن َع َ‬ ‫ال َيا ِإْبل ُ‬ ‫ين (‪ )74‬قَ َ‬ ‫ان م َن اْل َكاف ِر َ‬ ‫َ ْ ََ َ َ‬ ‫اْل َماَل ئ َكةُ ُكلهُ ْم أ ْ َ ُ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت أَم ُك ْن َ ِ‬ ‫ت بَِي َد َّ‬ ‫تَ ْس ُج َد ِل َما َخلَ ْق ُ‬
‫ال أََنا َخ ْيٌر م ْنهُ َخلَ ْقتَني م ْن َن ٍار َو َخلَ ْقتَهُ‬ ‫ين (‪ )75‬قَ َ‬ ‫ت م َن اْل َعال َ‬ ‫َستَ ْكَب ْر َ ْ‬
‫يأْ‬
‫ب‬‫ال َر ِّ‬ ‫ين (‪ )78‬قَ َ‬ ‫الد ِ‬‫ك لَ ْعَنتِي ِإلَى َي ْوِم ِّ‬ ‫يم (‪َ )77‬وإِ َّن َعلَْي َ‬ ‫اخر ْج ِم ْنها فَِإَّن َ ِ‬
‫ك َرج ٌ‬ ‫َ‬ ‫ين (‪ )76‬قَا َل فَ ْ ُ‬ ‫ِم ْن ِط ٍ‬
‫وم (‪ )81‬قَا َل‬ ‫ين (‪ِ )80‬إلَى َي ْوِم اْلو ْق ِت اْل َم ْعلُ ِ‬ ‫ظ ِر َ‬‫ك ِم َن اْل ُم ْن َ‬ ‫ال فَِإَّن َ‬
‫ون (‪ )79‬قَ َ‬ ‫ِ‬
‫فَأ َْنظ ْرنِي ِإلَى َي ْوِم ُي ْب َعثُ َ‬
‫َ‬
‫ين (‪)83‬‬ ‫ِ‬ ‫اد َ ِ‬ ‫ين (‪ِ )82‬إاَّل ِعَب َ‬ ‫ُغ ِويَّنهم أ ْ ِ‬ ‫فَبِ ِع َّزتِ َ‬
‫ك م ْنهُ ُم اْل ُم ْخلَص َ‬ ‫َج َمع َ‬ ‫ك أَل ْ َ ُ ْ‬

‫األر ِ‬
‫ض‬ ‫ِ‬ ‫اح ُد اْلقَهَّ ُار * َر ُّ‬ ‫{ ‪ُ { } 88 - 65‬ق ْل ِإَّنما أََنا م ْن ِذر وما ِم ْن ِإلَ ٍه ِإال اللَّه اْلو ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ب الس َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ ٌ ََ‬ ‫َ‬
‫ان ِل َي ِم ْن ِعْلٍم بِاْل َمإل‬ ‫ون * َما َك َ‬ ‫ض َ‬ ‫يم * أ َْنتُ ْم َعْنهُ ُم ْع ِر ُ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫َو َما َب ْيَنهُ َما اْل َع ِز ُيز اْل َغف ُار * ُق ْل ُه َو َنَبأٌ َعظ ٌ‬
‫ُّك ِلْل َمالئِ َك ِة ِإِّني َخ ِال ٌ‬
‫ق‬ ‫ين * ِإ ْذ قَا َل َرب َ‬ ‫وحى ِإلَ َّي ِإال أََّن َما أََنا َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ‬ ‫ون * ِإ ْن ُي َ‬
‫ِ‬
‫األعلَى ِإ ْذ َي ْختَص ُم َ‬ ‫ْ‬
‫ين * فَ َس َج َد اْل َمالئِ َكةُ ُكلُّهُ ْم‬ ‫وحي فَقَعوا لَه س ِ ِ‬
‫اجد َ‬ ‫ُ ُ َ‬
‫يه ِم ْن ر ِ‬
‫ُ‬
‫ت ِف ِ‬ ‫ين * فَِإ َذا َس َّو ْيتُهُ َوَنفَ ْخ ُ‬ ‫َب َش ًرا ِم ْن ِط ٍ‬
‫ت‬‫َن تَ ْس ُج َد ِل َما َخلَ ْق ُ‬ ‫ك أْ‬ ‫يس َما َمَن َع َ‬ ‫ِ‬
‫ال َيا ِإْبل ُ‬ ‫ين * قَ َ‬ ‫ِ‬
‫ان م َن اْل َكاف ِر َ‬
‫َجمعون * ِإال ِإْبِليس استَ ْكبر و َك ِ‬
‫َ ْ ََ َ َ‬ ‫أَُْ َ‬
‫ال‬
‫ين * قَ َ‬ ‫ال أََنا َخ ْيٌر ِم ْنهُ َخلَ ْقتَنِي ِم ْن َن ٍار َو َخلَ ْقتَهُ ِم ْن ِط ٍ‬ ‫ين * قَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ت أَم ُك ْن َ ِ‬
‫ت م َن اْل َعال َ‬ ‫َستَ ْكَب ْر َ ْ‬ ‫يأْ‬ ‫بَِي َد َّ‬
‫ال ر ِّ ِ‬ ‫ك لَ ْعَنتِي ِإلَى َي ْوِم ِّ‬ ‫اخر ْج ِم ْنها فَِإَّن َ ِ‬
‫ب فَأ َْنظ ْرنِي ِإلَى َي ْوِم ُي ْب َعثُ َ‬
‫ون *‬ ‫ين * قَ َ َ‬ ‫الد ِ‬ ‫يم * َوإِ َّن َعلَْي َ‬ ‫ك َرج ٌ‬ ‫َ‬ ‫فَ ْ ُ‬
‫ك‬ ‫ين * ِإال ِعَب َ‬
‫اد َ‬ ‫ألغ ِويَّنهم أ ْ ِ‬
‫َج َمع َ‬ ‫ك ْ َ ُْ‬ ‫ال فَبِ ِع َّزتِ َ‬
‫وم * قَ َ‬ ‫ين * ِإلَى َي ْوِم اْلو ْق ِت اْل َم ْعلُ ِ‬
‫َ‬ ‫ظ ِر َ‬‫ك ِم َن اْل ُم ْن َ‬
‫ال فَِإَّن َ‬ ‫قَ َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْنهُ ُم اْل ُم ْخلَص َ‬
‫{ ُق ْل } يا أيها الرسول لهؤالء المكذبين‪ ،‬إن طلبوا منك ما ليس لك وال بيدك‪ِ { :‬إَّن َما أََنا ُم ْن ِذٌر } هذا‬
‫نهاية ما عندي‪ ،‬وأما األمر فلله تعالى‪ ،‬ولكني آمركم‪ ،‬وأنهاكم‪ ،‬وأحثكم على الخير وأزجركم عن‬
‫ض َّل فَ َعلَْيهَا { َو َما ِم ْن ِإلَ ٍه ِإال اللَّهُ } أي‪ :‬ما أحد يؤله ويعبد بحق إال‬ ‫ِ ِِ‬
‫اهتَ َدى َفلَن ْفسه َو َم ْن َ‬ ‫الشر فَ َم ِن ْ‬
‫اح ُد اْلقَهَّ ُار } هذا تقرير أللوهيته‪ ،‬بهذا البرهان القاطع‪ ،‬وهو وحدته تعالى‪ ،‬وقهره لكل‬ ‫اللّه { اْلو ِ‬
‫َ‬
‫شيء‪ ،‬فإن القهر مالزم للوحدة‪ ،‬فال يكون قهارين متساويين في قهرهما أبدا‪.‬‬
‫فالذي يقهر جميع األشياء هو الواحد الذي ال نظير له‪ ،‬وهو الذي يستحق أن يعبد وحده‪ ،‬كما كان‬
‫األر ِ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما } أي‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫قاهرا وحده‪ ،‬وقرر ذلك أيضا بتوحيد الربوبية فقال‪َ { :‬ر ُّ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ب الس َ‬
‫خالقهما‪ ،‬ومربيهما‪ ،‬ومدبرها (‪ )1‬بجميع أنواع التدابير‪ { .‬اْل َع ِز ُيز } الذي له القوة‪ ،‬التي بها خلق‬
‫المخلوقات العظيمة‪ { .‬اْل َغفَّ ُار } لجميع الذنوب‪ ،‬صغيرها‪ ،‬وكبيرها‪ ،‬لمن تاب إليه وأقلع منها‪.‬‬
‫فهذا الذي يحب ويستحق أن يعبد‪ ،‬دون من ال يخلق وال يرزق‪ ،‬وال يضر وال ينفع‪ ،‬وال يملك من‬
‫األمر شيئا‪ ،‬وليس له قوة االقتدار‪ ،‬وال بيده مغفرة الذنوب واألوزار‪.‬‬
‫ِ‬
‫{ ُق ْل } لهم‪ ،‬مخوفا ومحذرا‪ ،‬ومنهضا لهم ومنذرا‪ُ { :‬ه َو َنَبأٌ َعظ ٌ‬
‫يم } أي‪ :‬ما أنبأتكم به من البعث‬
‫والنشور والجزاء على األعمال‪ ،‬خبر عظيم ينبغي االهتمام الشديد بشأنه‪ ،‬وال ينبغي إغفاله‪.‬‬
‫ون } كأنه ليس أمامكم حساب وال عقاب وال ثواب‪ ،‬فإن شككتم في قولي‪،‬‬ ‫ولكن { أ َْنتُ ْم َع ْنهُ ُم ْع ِر ُ‬
‫ض َ‬
‫وامتريتم في خبري‪ ،‬فإني أخبركم بأخبار ال علم لي بها وال درستها في كتاب‪ ،‬فإخباري بها على‬
‫وجهها‪ ،‬من غير زيادة وال نقص‪ ،‬أكبر شاهد لصدقي‪ ،‬وأدل دليل على حق ما جئتكم به‪ ،‬ولهذا‬
‫ِ‬ ‫ان ِل َي ِم ْن ِعْلٍم بِاْل َمإل ْ‬
‫األعلَى } أي‪ :‬المالئكة { ِإ ْذ َي ْختَص ُم َ‬
‫ون } لوال تعليم اللّه إياي‪،‬‬ ‫قال‪َ { :‬ما َك َ‬
‫ين } أي‪ :‬ظاهر النذارة‪ ،‬جليها‪ ،‬فال‬ ‫وحى ِإلَ َّي ِإال أََّن َما أََنا َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ‬
‫وإ يحاؤه إلي‪ ،‬ولهذا قال‪ِ { :‬إ ْن ُي َ‬
‫نذير أبلغ من نذارته صلى اللّه عليه وسلم‪.‬‬
‫[ ص ‪] 717‬‬
‫ك ِلْل َمالئِ َك ِة } على وجه اإلخبار { ِإِّني َخ ِال ٌ‬
‫ق َب َش ًرا‬ ‫ثم ذكر اختصام المأل األعلى فقال‪ِ { :‬إ ْذ قَ َ‬
‫ال َرُّب َ‬
‫ين } أي‪ :‬مادته من طين‪.‬‬‫ِم ْن ِط ٍ‬
‫ين } فوطَّن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ فَِإ َذا س َّو ْيتُه } أي‪ :‬سويت جسمه وتم‪ { ،‬وَنفَ ْخ ُ ِ ِ ِ‬
‫ت فيه م ْن ُروحي فَقَ ُعوا لَهُ َسا ِجد َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫المالئكة الكرام أنفسهم على ذلك‪ ،‬حين يتم خلقه ونفخ الروح فيه‪ ،‬امتثاال لربهم‪ ،‬وإ كراما آلدم عليه‬
‫السالم‪ ،‬فلما تم خلقه في بدنه وروحه‪ ،‬وامتحن اللّه آدم والمالئكة في العلم‪ ،‬وظهر فضله عليهم‪،‬‬
‫أمرهم اللّه بالسجود‪.‬‬
‫ان ِم َن‬
‫استَ ْكَب َر } عن أمر ربه‪ ،‬واستكبر على آدم { َو َك َ‬ ‫فسجدوا كلهم أجمعون إال إبليس لم يسجد { ْ‬
‫ِ‬
‫اْل َكاف ِر َ‬
‫ين } في علم اللّه تعالى‪.‬‬
‫ي } أي‪ :‬شرفته وكرمته‬ ‫َن تَ ْس ُج َد ِل َما َخلَ ْق ُ‬
‫ت بَِي َد َّ‬ ‫ك أْ‬
‫ال } اللّه موبخا ومعاتبا‪َ { :‬ما َمَن َع َ‬
‫فـ { قَ َ‬
‫واختصصته بهذه الخصيصة‪ ،‬التي اختص بها عن سائر الخلق‪ ،‬وذلك يقتضي عدم التكبر عليه‪.‬‬
‫ين }‬ ‫ِ‬ ‫ت } في امتناعك { أَم ُك ْن َ ِ‬
‫ت م َن اْل َعال َ‬ ‫ْ‬ ‫أستَ ْكَب ْر َ‬
‫{ ْ‬
‫{ قَا َل } إبليس معارضا لربه ومناقضا‪ { :‬أََنا َخ ْيٌر ِم ْنهُ َخلَ ْقتَنِي ِم ْن َن ٍار َو َخلَ ْقتَهُ ِم ْن ِط ٍ‬
‫ين } وبزعمه‬
‫أن عنصر النار خير من عنصر الطين‪ ،‬وهذا من القياس الفاسد‪ ،‬فإن عنصر النار مادة الشر‬
‫والفساد‪ ،‬والعلو والطيش والخفة وعنصر الطين مادة الرزانة والتواضع وإ خراج أنواع األشجار‬
‫والنباتات وهو يغلب النار ويطفئها‪ ،‬والنار تحتاج إلى مادة تقوم بها‪ ،‬والطين قائم بنفسه‪ ،‬فهذا‬
‫قياس شيخ القوم‪ ،‬الذي عارض به األمر الشفاهي من اللّه‪ ،‬قد تبين غاية بطالنه وفساده‪ ،‬فما بالك‬
‫بأقيسة التالميذ الذين عارضوا الحق بأقيستهم؟ فإنها كلها أعظم بطالنا وفسادا من هذا القياس‪.‬‬
‫يم } أي‪ :‬مبعد‬ ‫اخر ْج ِم ْنها } أي‪ :‬من السماء والمحل الكريم‪ { .‬فَِإَّن َ ِ‬
‫ك َرج ٌ‬ ‫َ‬ ‫ال } اللّه له‪ { :‬فَ ْ ُ‬
‫فـ { قَ َ‬
‫مدحور‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬دائما أبدا‪.‬‬ ‫ك لَ ْعَنتِي } أي‪ :‬طردي وإ بعادي { ِإلَى َي ْوِم ِّ‬
‫الد ِ‬ ‫{ َوإِ َّن َعلَْي َ‬
‫{ قَا َل ر ِّ ِ‬
‫ون } لشدة عداوته آلدم وذريته‪ ،‬ليتمكن من إغواء من قدر اللّه‬ ‫ب فَأ َْنظ ْرنِي ِإلَى َي ْوِم ُي ْب َعثُ َ‬ ‫َ‬
‫أن يغويه‪.‬‬
‫ين ِإلَى َي ْوِم اْلو ْق ِت اْل َم ْعلُ ِ‬
‫وم‬ ‫ك ِم َن اْل ُم ْن َ‬
‫ظ ِر َ‬ ‫فـ(قال) اللّه مجيبا لدعوته‪ ،‬حيث اقتضت حكمته ذلك‪ { :‬فَِإَّن َ‬
‫َ‬
‫} حين تستكمل الذرية‪ ،‬يتم االمتحان‪.‬‬
‫ك‬‫فلما علم أنه منظر‪ ،‬بادى ربه‪ ،‬من خبثه‪ ،‬بشدة العداوة لربه وآلدم وذريته‪ ،‬فقال‪ { :‬فَبِ ِع َّزتِ َ‬
‫ين } يحتمل أن الباء للقسم‪ ،‬وأنه أقسم بعزة اللّه ليغوينهم كلهم أجمعين‪.‬‬ ‫ألغ ِويَّنهم أ ْ ِ‬
‫َج َمع َ‬ ‫ْ َ ُْ‬
‫ين } علم أن اهلل سيحفظهم من كيده‪ .‬ويحتمل أن الباء لالستعانة‪ ،‬وأنه‬ ‫ِ‬ ‫اد َ ِ‬
‫{ ِإال ِعَب َ‬
‫ك م ْنهُ ُم اْل ُم ْخلَص َ‬
‫لما علم أنه عاجز من كل وجه‪ ،‬وأنه ال يضل أحدا إال بمشيئة اللّه تعالى‪ ،‬فاستعان بعزة اللّه على‬
‫إغواء ذرية آدم هذا‪ ،‬وهو عدو اللّه حقا‪.‬‬
‫ونحن يا ربنا العاجزون المقصرون‪ ،‬المقرون لك بكل نعمة‪ ،‬ذرية من شرفته وكرمته‪ ،‬فنستعين‬
‫بعزتك العظيمة‪ ،‬وقدرتك‪ ،‬ورحمتك الواسعة لكل مخلوق‪ ،‬ورحمتك التي أوصلت إلينا بها‪ ،‬ما‬
‫أوصلت من النعم الدينية والدنيوية‪ ،‬وصرفت بها عنا ما صرفت من النقم‪ ،‬أن تعيننا على محاربته‬
‫وعداوته‪ ،‬والسالمة من شره وشركه‪ ،‬ونحسن الظن بك أن تجيب دعاءنا‪ ،‬ونؤمن بوعدك الذي‬
‫قلت لنا‪ { :‬وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } فقد دعوناك كما أمرتنا‪ ،‬فاستجب لنا كما وعدتنا‪.‬‬
‫{ إنك ال تخلف الميعاد } ‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في النسختين‬

‫( ‪)1/716‬‬

‫ك ِم ْنهم أ ْ ِ‬ ‫َن َجهََّن َم ِم ْن َ‬


‫َسأَلُ ُك ْم‬
‫ين (‪ُ )85‬ق ْل َما أ ْ‬ ‫َج َمع َ‬ ‫ك َو ِم َّم ْن تَبِ َع َ ُ ْ‬ ‫ق أَقُو ُل (‪ )84‬أَل َْمأَل َّ‬ ‫ق واْل َح َّ‬‫ُّ‬
‫ال فَاْل َح َ‬ ‫قَ َ‬
‫ين (‬‫ين (‪َ )87‬ولَتَ ْعلَ ُم َّن َنَبأَهُ َب ْع َد ِح ٍ‬ ‫اَّل ِ ِ ِ‬
‫ين (‪ِ )86‬إ ْن ُه َو ِإ ذ ْكٌر لْل َعالَم َ‬
‫ِِّ‬ ‫ِ‬ ‫َعلَْي ِه ِم ْن أ ْ‬
‫َج ٍر َو َما أََنا م َن اْل ُمتَ َكلف َ‬
‫‪)88‬‬

‫َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه ِم ْن‬


‫ين * ُق ْل َما أ ْ‬
‫ك ِم ْنهم أ ْ ِ‬
‫َج َمع َ‬ ‫ك َو ِم َّم ْن تَبِ َع َ ُ ْ‬ ‫ألن َجهََّن َم ِم ْن َ‬
‫ألم َّ‬ ‫ق أَقُو ُل * ْ‬ ‫ق واْل َح َّ‬ ‫ُّ‬
‫{ قَا َل فَاْل َح َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ين * َولَتَ ْعلَ ُم َّن َنَبأَهُ َب ْع َد ِح ٍ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ين * ِإ ْن ُه َو ِإال ذ ْكٌر لْل َعالَم َ‬
‫ِِّ‬ ‫ِ‬
‫َج ٍر َو َما أََنا م َن اْل ُمتَ َكلف َ‬
‫أْ‬
‫ق أَقُو ُل } أي‪ :‬الحق وصفي‪ ،‬والحق قولي‪.‬‬ ‫ق واْل َح َّ‬
‫ُّ‬
‫{ قَا َل } اللّه تعالى { فَاْل َح َ‬
‫ك ِم ْنهم أ ْ ِ‬ ‫ألن َجهََّن َم ِم ْن َ‬
‫ين } فلما بين الرسول للناس الدليل ووضح لهم السبيل‬ ‫َج َمع َ‬ ‫ك َو ِم َّم ْن تَبِ َع َ ُ ْ‬ ‫ألم َّ‬‫{ ْ‬
‫قال اهلل له‪:‬‬
‫ِِّ‬ ‫ِ‬ ‫َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه } أي‪ :‬على دعائي إياكم { ِم ْن أ ْ‬
‫َج ٍر َو َما أََنا م َن اْل ُمتَ َكلف َ‬
‫ين } أدعي أمرا ليس‬ ‫{ ُق ْل َما أ ْ‬
‫إلي‪.‬‬
‫لي‪ ،‬وأقفو ما ليس لي به علم‪ ،‬ال أتبع إال ما يوحى َّ‬
‫ِ ِ ِ‬
‫ين } يتذكرون به كل ما ينفعهم‪ ،‬من مصالح‬ ‫{ ِإ ْن ُه َو } أي‪ :‬هذا الوحي والقرآن { ِإال ذ ْكٌر لْل َعالَم َ‬
‫دينهم ودنياهم‪ ،‬فيكون شرفا ورفعة للعاملين به‪ ،‬وإ قامة حجة على المعاندين‪.‬‬
‫فهذه السورة العظيمة‪ ،‬مشتملة على الذكر الحكيم‪ ،‬والنبأ العظيم‪ ،‬وإ قامة الحجج والبراهين‪ ،‬على‬
‫من كذب بالقرآن وعارضه‪ ،‬وكذب من جاء به‪ ،‬واإلخبار عن عباد اللّه المخلصين‪ ،‬وجزاء‬
‫المتقين والطاغين‪ .‬فلهذا أقسم في أولها بأنه ذو الذكر‪ ،‬ووصفه في آخرها بأنه ذكر للعالمين‪.‬‬
‫وأكثر التذكير بها فيما بين ذلك‪ ،‬كقوله‪ { :‬واذكر عبدنا } ‪ { -‬واذكر عبادنا } ‪ { -‬رحمة من‬
‫عندنا وذكرى } { هذا ذكر }‬
‫اللّهم علمنا منه ما جهلنا‪ ،‬وذكرنا منه ما نسينا‪ ،‬نسيان غفلة ونسيان ترك‪.‬‬
‫{ َولَتَ ْعلَ ُم َّن َنَبأَهُ } أي‪ :‬خبره { َب ْع َد ِح ٍ‬
‫ين } وذلك حين يقع عليهم العذاب وتتقطع عنهم األسباب‪.‬‬
‫تم تفسير سورة ص بمنه تعالى وعونه‪.‬‬
‫تفسير سورة الزمر‬
‫وهي مكية‬

‫( ‪)1/717‬‬

‫صا لَهُ ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ق فَ ْ ِ َّ‬ ‫اب بِاْل َح ِّ‬ ‫يز اْلح ِك ِيم (‪ِ )1‬إَّنا أ َْن َزْلَنا ِإلَْي َ ِ‬ ‫تَْن ِزي ُل اْل ِكتَ ِ ِ َّ ِ‬
‫ين‬
‫الد َ‬ ‫اعُبد اللهَ ُم ْخل ً‬ ‫ك اْلكتَ َ‬ ‫اب م َن الله اْل َع ِز ِ َ‬
‫ونا ِإلَى اللَّ ِه ُزْلفَى ِإ َّن‬
‫اء َما َن ْعُب ُد ُه ْم ِإاَّل ِلُيقَِّرُب َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين اتَّ َخ ُذوا م ْن ُدونِه أ َْوِلَي َ‬
‫َِّ‬
‫ص َوالذ َ‬
‫ِ‬
‫ين اْل َخال ُ‬ ‫(‪ )2‬أَاَل ِللَّ ِه ِّ‬
‫الد ُ‬
‫ب َكفَّ ٌار (‪)3‬‬ ‫ون ِإ َّن اللَّهَ اَل َي ْه ِدي َم ْن ُه َو َك ِاذ ٌ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫اللهَ َي ْح ُك ُم َب ْيَنهُ ْم في َما ُه ْم فيه َي ْختَلفُ َ‬

‫ك‬‫يز اْل َح ِك ِيم * ِإَّنا أ َْن َزْلَنا ِإلَْي َ‬‫اب ِم َن اللَّ ِه اْل َع ِز ِ‬
‫الر ِح ِيم تَْن ِزي ُل اْل ِكتَ ِ‬ ‫{ ‪ { } 3 - 1‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ين * أَال ِللَّ ِه ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ق فَ ْ ِ َّ‬ ‫ِ‬
‫ين اتَّ َخ ُذوا م ْن ُدونِه أ َْوِلَي َ‬
‫اء‬ ‫ص َوالذ َ‬ ‫ين اْل َخال ُ‬ ‫الد ُ‬ ‫صا لَهُ ِّ‬
‫الد َ‬ ‫اعُبد اللهَ ُم ْخل ً‬ ‫اب بِاْل َح ِّ‬
‫اْلكتَ َ‬
‫ون ِإ َّن اللَّهَ ال َي ْه ِدي َم ْن‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫ونا ِإلَى الله ُزْلفَى ِإ َّن اللهَ َي ْح ُك ُم َب ْيَنهُ ْم في َما ُه ْم فيه َي ْختَلفُ َ‬ ‫َما َن ْعُب ُد ُه ْم ِإال ِلُيقَِّرُب َ‬
‫ب َكفَّ ٌار } ‪.‬‬ ‫ُه َو َك ِاذ ٌ‬
‫يخبر تعالى عن عظمة القرآن‪ ،‬وجاللة من تكلم به ونزل منه‪ ،‬وأنه نزل من اللّه العزيز الحكيم‪،‬‬
‫أي‪ :‬الذي وصفه األلوهية للخلق‪ ،‬وذلك لعظمته وكماله‪ ،‬والعزة التي قهر بها كل مخلوق‪ ،‬وذل له‬
‫كل شيء‪ ،‬والحكمة في خلقه وأمره‪.‬‬
‫فالقرآن نازل ممن هذا وصفه‪ ،‬والكالم وصف للمتكلم‪ ،‬والوصف يتبع الموصوف‪ ،‬فكما أن اللّه‬
‫تعالى [ ص ‪ ] 718‬هو الكامل من كل وجه‪ ،‬الذي ال مثيل له‪ ،‬فكذلك كالمه كامل من كل وجه ال‬
‫مثيل له‪ ،‬فهذا وحده كاف في وصف القرآن‪ ،‬دال على مرتبته‪.‬‬
‫ولكنه ‪ -‬مع هذا ‪ -‬زاد بيانا لكماله بمن نزل عليه‪ ،‬وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬الذي هو‬
‫أشرف الخلق فعلم أنه أشرف الكتب‪ ،‬وبما نزل به‪ ،‬وهو الحق‪ ،‬فنزل بالحق الذي ال مرية فيه‪،‬‬
‫إلخراج الخلق من الظلمات إلى النور‪ ،‬ونزل مشتمال على الحق في أخباره الصادقة‪ ،‬وأحكامه‬
‫العادلة‪ ،‬فكل ما دل عليه فهو أعظم أنواع الحق‪ ،‬من جميع المطالب العلمية‪ ،‬وما بعد الحق إال‬
‫الضالل‪.‬‬
‫ولما كان نازال من الحق‪ ،‬مشتمال على الحق لهداية الخلق‪ ،‬على أشرف الخلق‪ ،‬عظمت فيه‬
‫صا‬ ‫ِ‬ ‫النعمة‪ ،‬وجلَّت‪ ،‬ووجب القيام بشكرها‪ ،‬وذلك بإخالص الدين للّه‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬فَ ْ ِ َّ‬
‫اعُبد اللهَ ُم ْخل ً‬
‫ين } أي‪ :‬أخلص للّه تعالى جميع دينك‪ ،‬من الشرائع الظاهرة والشرائع الباطنة‪ :‬اإلسالم‬ ‫لَهُ ِّ‬
‫الد َ‬
‫واإليمان واإلحسان‪ ،‬بأن تفرد اللّه وحده بها‪ ،‬وتقصد به وجهه‪ ،‬ال غير ذلك من المقاصد‪.‬‬
‫ص } هذا تقرير لألمر باإلخالص‪ ،‬وبيان أنه تعالى كما أنه له الكمال كله‪ ،‬وله‬ ‫ِ‬ ‫{ أَال ِللَّ ِه ِّ‬
‫ين اْل َخال ُ‬
‫الد ُ‬
‫التفضل على عباده من جميع الوجوه‪ ،‬فكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب‪ ،‬فهو‬
‫الدين الذي ارتضاه لنفسه‪ ،‬وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به‪ ،‬ألنه متضمن للتأله للّه في حبه‬
‫وخوفه ورجائه‪ ،‬ولإلنابة إليه في عبوديته‪ ،‬واإلنابة إليه في تحصيل مطالب عباده‪.‬‬
‫وذلك الذي يصلح القلوب ويزكيها ويطهرها‪ ،‬دون الشرك به في شيء من العبادة‪ .‬فإن اللّه بريء‬
‫منه‪ ،‬وليس للّه فيه شيء‪ ،‬فهو أغنى الشركاء عن الشرك‪ ،‬وهو مفسد للقلوب واألرواح والدنيا‬
‫ق للنفوس غاية الشقاء‪ ،‬فلذلك لما أمر بالتوحيد واإلخالص‪ ،‬نهى عن الشرك به‪،‬‬ ‫واآلخرة‪ُ ،‬م ْش ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫اء } أي‪ :‬يتولونهم بعبادتهم ودعائهم‪،‬‬ ‫ين اتَّ َخ ُذوا م ْن ُدونِه أ َْوِلَي َ‬ ‫وأخبر بذم من أشرك به فقال‪َ { :‬والذ َ‬
‫ونا ِإلَى اللَّ ِه ُزْلفَى } أي‪ :‬لترفع حوائجنا‬
‫[معتذرين] (‪ )1‬عن أنفسهم وقائلين‪َ { :‬ما َن ْعُب ُد ُه ْم ِإال ِلُيقَِّرُب َ‬
‫للّه‪ ،‬وتشفع لنا عنده‪ ،‬وإ ال فنحن نعلم أنها‪ ،‬ال تخلق‪ ،‬وال ترزق‪ ،‬وال تملك من األمر شيئا‪.‬‬
‫أي‪ :‬فهؤالء‪ ،‬قد تركوا ما أمر اللّه به من اإلخالص‪ ،‬وتجرأوا على أعظم المحرمات‪ ،‬وهو‬
‫الشرك‪ ،‬وقاسوا الذي ليس كمثله شيء‪ ،‬الملك العظيم‪ ،‬بالملوك‪ ،‬وزعموا بعقولهم الفاسدة ورأيهم‬
‫السقيم‪ ،‬أن الملوك كما أنه ال يوصل إليهم إال بوجهاء‪ ،‬وشفعاء‪ ،‬ووزراء يرفعون إليهم حوائج‬
‫رعاياهم‪ ،‬ويستعطفونهم عليهم‪ ،‬ويمهدون لهم األمر في ذلك‪ ،‬أن اللّه تعالى كذلك‪.‬‬
‫وهذا القياس من أفسد األقيسة‪ ،‬وهو يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق‪ ،‬مع ثبوت الفرق‬
‫العظيم‪ ،‬عقال ونقال وفطرة‪ ،‬فإن الملوك‪ ،‬إنما احتاجوا للوساطة بينهم وبين رعاياهم‪ ،‬ألنهم ال‬
‫يعلمون أحوالهم‪ .‬فيحتاج من يعلمهم بأحوالهم‪ ،‬وربما ال يكون في قلوبهم رحمة لصاحب الحاجة‪،‬‬
‫فيحتاج من يعطفهم عليه [ويسترحمه لهم] (‪ )2‬ويحتاجون إلى الشفعاء والوزراء‪ ،‬ويخافون منهم‪،‬‬
‫فيقضون حوائج من توسطوا لهم‪ ،‬مراعاة لهم‪ ،‬ومداراة لخواطرهم‪ ،‬وهم أيضا فقراء‪ ،‬قد يمنعون‬
‫لما يخشون من الفقر‪.‬‬
‫وأما الرب تعالى‪ ،‬فهو الذي أحاط علمه بظواهر األمور وبواطنها‪ ،‬الذي ال يحتاج من يخبره‬
‫بأحوال رعيته وعباده‪ ،‬وهو تعالى أرحم الراحمين‪ ،‬وأجود األجودين‪ ،‬ال يحتاج إلى أحد من خلقه‬
‫يجعله راحما لعباده‪ ،‬بل هو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم‪ ،‬وهو الذي يحثهم ويدعوهم إلى‬
‫األسباب التي ينالون بها رحمته‪ ،‬وهو يريد من مصالحهم ما ال يريدونه ألنفسهم‪ ،‬وهو الغني‪،‬‬
‫الذي له الغنى التام المطلق‪ ،‬الذي لو اجتمع الخلق من أولهم وآخرهم في صعيد واحد فسألوه‪،‬‬
‫فأعطى كال منهم ما سأل وتمنى‪ ،‬لم ينقصوا من غناه شيئا‪ ،‬ولم ينقصوا مما عنده‪ ،‬إال كما ينقص‬
‫البحر إذا غمس فيه المخيط‪.‬‬
‫وجميع الشفعاء يخافونه‪ ،‬فال يشفع منهم أحد إال بإذنه‪ ،‬وله الشفاعة كلها‪.‬‬
‫فبهذه الفروق يعلم جهل المشركين به‪ ،‬وسفههم العظيم‪ ،‬وشدة جراءتهم عليه‪.‬‬
‫ويعلم أيضا الحكمة في كون الشرك ال يغفره اللّه تعالى‪ ،‬ألنه يتضمن القدح في اللّه تعالى‪ ،‬ولهذا‬
‫قال حاكما بين الفريقين‪ ،‬المخلصين والمشركين‪ ،‬وفي ضمنه التهديد للمشركين‪ِ { :-‬إ َّن اللَّهَ َي ْح ُك ُم‬
‫ون }‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يما ُه ْم فيه َي ْختَلفُ َ‬
‫َب ْيَنهُ ْم ف َ‬
‫وقد علم أن حكمه أن المؤمنين المخلصين في جنات النعيم‪ ،‬ومن [ ص ‪ ] 719‬يشرك باللّه فقد‬
‫حرم اللّه عليه الجنة‪ ،‬ومأواه النار‪ِ { .‬إ َّن اللَّهَ ال َي ْه ِدي } أي‪ :‬ال يوفق للهداية إلى الصراط‬
‫ب َكفَّ ٌار } أي‪ :‬وصفه الكذب أو الكفر‪ ،‬بحيث تأتيه المواعظ واآليات‪ ،‬وال‬ ‫المستقيم { َم ْن ُه َو َك ِاذ ٌ‬
‫يزول عنه ما اتصف به‪ ،‬ويريه اللّه اآليات‪ ،‬فيجحدها ويكفر بها ويكذب‪ ،‬فهذا َّأنى له الهدى وقد‬
‫سد على نفسه الباب‪ ،‬وعوقب بأن طبع اللّه على قلبه‪ ،‬فهو ال يؤمن؟"‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ‪ :‬متعذرين‪.‬‬
‫(‪ )2‬كذا في النسختين ولعل الصواب "ويسترحمهم له)‪.‬‬

‫( ‪)1/717‬‬

‫ق ما ي َشاء س ْبح َانه ُهو اللَّه اْلو ِ‬


‫اح ُد اْلقَهَّ ُار (‪)4‬‬ ‫َن يتَّ ِخ َذ ولَ ًدا اَل ص َ ِ‬ ‫َّ‬
‫طفَى م َّما َي ْخلُ ُ َ َ ُ ُ َ ُ َ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫لَ ْو أ ََر َاد اللهُ أ ْ َ َ‬

‫ق ما ي َشاء س ْبح َانه ُهو اللَّه اْلو ِ‬


‫اح ُد اْلقَهَّ ُار } ‪.‬‬ ‫َن يتَّ ِخ َذ ولَ ًدا الص َ ِ‬ ‫َّ‬
‫طفَى م َّما َي ْخلُ ُ َ َ ُ ُ َ ُ َ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫{ ‪ { } 4‬لَ ْو أ ََر َاد اللهُ أ ْ َ َ‬
‫طفَى ِم َّما‬ ‫َن َيتَّخ َذ َولَ ًدا } كما زعم ذلك من زعمه‪ ،‬من سفهاء الخلق‪ْ { .‬‬
‫الص َ‬ ‫أي‪ { :‬لَو أَر َاد اللَّه أ ْ ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ َ‬
‫اء } أي‪ :‬الصطفى بعض مخلوقاته التي يشاء اصطفاءه‪ ،‬واختصه لنفسه‪ ،‬وجعله‬ ‫ق َما َي َش ُ‬
‫َي ْخلُ ُ‬
‫بمنزلة الولد‪ ،‬ولم يكن حاجة إلى اتخاذ الصاحبة‪.‬‬
‫{ ُس ْب َح َانهُ } عما ظنه به الكافرون‪ ،‬أو نسبه إليه الملحدون‪.‬‬
‫{ ُهو اللَّه اْلو ِ‬
‫اح ُد اْلقَهَّ ُار } أي‪ :‬الواحد في ذاته‪ ،‬وفي أسمائه‪ ،‬وفي صفاته‪ ،‬وفي أفعاله‪ ،‬فال شبيه له‬ ‫َ ُ َ‬
‫في شيء من ذلك‪ ،‬وال مماثل‪ ،‬فلو كان له ولد‪ ،‬القتضى أن يكون شبيها له في وحدته‪ ،‬ألنه‬
‫بعضه‪ ،‬وجزء منه‪.‬‬
‫القهار لجميع العالم العلوي والسفلي‪ ،‬فلو كان له ولد لم يكن مقهورا‪ ،‬ولكان له إدالل على أبيه‬
‫ومناسبة منه‪.‬‬
‫ووحدته تعالى وقهره متالزمان‪ ،‬فالواحد ال يكون إال قهارا‪ ،‬والقهار ال يكون إال واحدا‪ ،‬وذلك‬
‫ينفي الشركة له من كل وجه‪.‬‬

‫( ‪)1/719‬‬

‫النهار َعلَى اللَّْي ِل و َس َّخر َّ‬ ‫ق ُي َك ِّو ُر اللَّْي َل َعلَى َّ‬ ‫ض بِاْل َح ِّ‬ ‫ِ‬
‫الش ْم َس‬ ‫َ َ‬ ‫النهَ ِار َوُي َك ِّو ُر َّ َ َ‬ ‫َّم َاوات َواأْل َْر َ‬‫ق الس َ‬ ‫َخلَ َ‬
‫َواْلقَ َم َر ُك ٌّل َي ْج ِري أِل َ‬
‫َج ٍل ُم َس ًّمى أَاَل ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َغفَّ ُار (‪)5‬‬

‫النهَ َار َعلَى اللَّْي ِل‬ ‫ق ُي َك ِّو ُر اللَّْي َل َعلَى َّ‬


‫النهَ ِار َوُي َك ِّو ُر َّ‬ ‫ض بِاْل َح ِّ‬
‫األر َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ق الس َ‬ ‫{ ‪َ { } 7 - 5‬خلَ َ‬
‫الش ْم َس َواْلقَ َم َر ُك ٌّل َي ْج ِري َ‬
‫ألج ٍل ُم َس ًّمى أَال ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َغفَّ ُار } ‪.‬‬ ‫و َس َّخر َّ‬
‫َ َ‬
‫ض } أي‪ :‬بالحكمة والمصلحة‪ ،‬وليأمر العباد وينهاهم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫األر َ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ق الس َ‬ ‫يخبر تعالى أنه { َخلَ َ‬
‫ويثيبهم ويعاقبهم‪.‬‬
‫النهَ َار َعلَى اللَّْي ِل } أي‪ :‬يدخل كال منهما على اآلخر‪ ،‬ويحله‬ ‫{ ُي َك ِّو ُر اللَّْي َل َعلَى َّ‬
‫النهَ ِار َوُي َك ِّو ُر َّ‬
‫محله‪ ،‬فال يجتمع هذا وهذا‪ ،‬بل إذا أتى أحدهما انعزل اآلخر عن سلطانه‪.‬‬
‫الش ْم َس َواْلقَ َم َر } بتسخير منظم‪ ،‬وسير مقنن‪ُ { .‬ك ٌّل } من الشمس والقمر { َي ْج ِري }‬ ‫{ و َس َّخر َّ‬
‫َ َ‬
‫ألج ٍل ُم َس ًّمى } وهو انقضاء هذه الدار وخرابها‪ ،‬فيخرب اللّه آالتها‬ ‫متأثرا عن تسخيره تعالى { َ‬
‫وشمسها وقمرها‪ ،‬وينشئ الخلق نشأة جديدة ليستقروا في دار القرار‪ ،‬الجنة أو النار‪.‬‬
‫{ أَال ُه َو اْل َع ِز ُيز } الذي ال يغالب‪ ،‬القاهر لكل شيء‪ ،‬الذي ال يستعصي عليه شيء‪ ،‬الذي من‬
‫عزته أوجد هذه المخلوقات العظيمة‪ ،‬وسخرها تجري بأمره‪ { .‬اْل َغفَّ ُار } لذنوب عباده التوابين‬
‫ص ِال ًحا ثَُّم ْ‬
‫اهتَ َدى } الغفار لمن‬ ‫ِ‬
‫آم َن َو َعم َل َ‬
‫ِ‬
‫المؤمنين‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬وإِ ِّني لَ َغفَّ ٌار ل َم ْن تَ َ‬
‫اب َو َ‬
‫أشرك به بعد ما رأى من آياته العظيمة‪ ،‬ثم تاب وأناب‪.‬‬
‫( ‪)1/719‬‬

‫اج َي ْخلُقُ ُك ْم ِفي ُبطُ ِ‬


‫ون‬ ‫اح َد ٍة ثَُّم َج َع َل ِم ْنهَا َز ْو َجهَا َوأ َْن َز َل لَ ُك ْم ِم َن اأْل َْن َع ِام ثَ َمانَِيةَ أ َْز َو ٍ‬
‫سو ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َخلَقَ ُك ْم م ْن َن ْف َ‬
‫ون (‬ ‫اَّل‬
‫ك اَل ِإلَهَ ِإ ُه َو فَأََّنى تُ ْ‬
‫ص َرفُ َ‬ ‫ات ثَاَل ٍث َذِل ُك ُم اللَّهُ َرُّب ُك ْم لَهُ اْل ُمْل ُ‬‫ق ِفي ظُلُم ٍ‬
‫َ‬ ‫ُمهَاتِ ُك ْم َخْلقًا ِم ْن َب ْع ِد َخْل ٍ‬
‫أ َّ‬
‫ِِ ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ضهُ لَ ُك ْم َواَل تَ ِز ُر‬‫ضى لعَباده اْل ُك ْف َر َوإِ ْن تَ ْش ُك ُروا َي ْر َ‬ ‫‪ِ )6‬إ ْن تَ ْكفُُروا فَِإ َّن اللهَ َغن ٌّي َع ْن ُك ْم َواَل َي ْر َ‬
‫ُخرى ثَُّم ِإلَى رِّب ُكم مر ِجع ُكم فَيَنبُِّئ ُكم بِما ُك ْنتُم تَعملُون ِإَّنه عِليم بِ َذ ِ‬
‫ور (‪)7‬‬ ‫ُّد ِ‬
‫ات الص ُ‬ ‫ْ َْ َ ُ َ ٌ‬ ‫َ ْ َْ ُ ْ ُ ْ َ‬ ‫َو ِاز َرةٌ ِو ْز َر أ ْ َ‬

‫اج َي ْخلُقُ ُك ْم ِفي‬


‫األن َع ِام ثَ َمانَِيةَ أ َْز َو ٍ‬
‫اح َد ٍة ثَُّم َج َع َل ِم ْنهَا َز ْو َجهَا َوأ َْن َز َل لَ ُك ْم ِم َن ْ‬ ‫سو ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫{ َخلَقَ ُك ْم م ْن َن ْف َ‬
‫ك ال ِإلَهَ ِإال ُه َو فَأََّنى‬ ‫الث َذِل ُك ُم اللَّهُ َرُّب ُك ْم لَهُ اْل ُمْل ُ‬
‫ات ثَ ٍ‬ ‫ق ِفي ظُلُم ٍ‬
‫َ‬ ‫ُمهَاتِ ُك ْم َخْلقًا ِم ْن َب ْع ِد َخْل ٍ‬ ‫ُبطُ ِ‬
‫ون أ َّ‬
‫ِِ ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ضهُ لَ ُك ْم َوال‬ ‫ضى لعَباده اْل ُك ْف َر َوإِ ْن تَ ْش ُك ُروا َي ْر َ‬ ‫ون * ِإ ْن تَ ْكفُُروا فَِإ َّن اللهَ َغن ٌّي َع ْن ُك ْم َوال َي ْر َ‬ ‫ص َرفُ َ‬
‫تُ ْ‬
‫ُخرى ثَُّم ِإلَى رِّب ُكم مر ِجع ُكم فَيَنبُِّئ ُكم بِما ُك ْنتُم تَعملُون ِإَّنه عِليم بِ َذ ِ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫ُّد ِ‬
‫ات الص ُ‬ ‫ْ َْ َ ُ َ ٌ‬ ‫َ ْ َْ ُ ْ ُ ْ َ‬ ‫تَ ِز ُر َو ِاز َرةٌ ِو ْز َر أ ْ َ‬
‫اح َد ٍة } على كثرتكم وانتشاركم‪ ،‬في أنحاء األرض‪ { ،‬ثَُّم َج َع َل‬ ‫سو ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ومن عزته أن { َخلَقَ ُك ْم م ْن َن ْف َ‬
‫األن َع ِام } أي‪:‬‬ ‫َنزل لَ ُك ْم ِم َن ْ‬
‫ِم ْنهَا َز ْو َجهَا } وذلك ليسكن إليها وتسكن إليه‪ ،‬وتتم بذلك النعمة‪َ { .‬وأ َ‬
‫اج } وهي التي ذكرها في سورة األنعام { ثمانية‬ ‫خلقها بقدر نازل منه‪ ،‬رحمة بكم‪ { .‬ثَ َمانَِيةَ أ َْز َو ٍ‬
‫أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } { ومن اإلبل اثنين ومن البقر اثنين }‬
‫وخصها بالذكر‪ ،‬مع أنه أنزل لمصالح عباده من البهائم غيرها‪ ،‬لكثرة نفعها‪ ،‬وعموم مصالحها‪،‬‬
‫ولشرفها‪ ،‬والختصاصها بأشياء ال يصلح غيرها‪ ،‬كاألضحية والهدي‪ ،‬والعقيقة‪ ،‬ووجوب الزكاة‬
‫فيها‪ ،‬واختصاصها بالدية‪.‬‬
‫ُمهَاتِ ُك ْم َخْلقًا ِم ْن َب ْع ِد َخْل ٍ‬
‫ق}‬ ‫ولما ذكر خلق أبينا وأمنا‪ ،‬ذكر ابتداء خلقنا‪ ،‬فقال‪َ { :‬ي ْخلُقُ ُك ْم ِفي ُبطُ ِ‬
‫ون أ َّ‬
‫أي‪ :‬طورا بعد طور‪ ،‬وأنتم في حال ال يد مخلوق تمسكم‪ ،‬وال عين تنظر إليكم‪ ،‬وهو قد رباكم في‬
‫الث } ظلمة البطن‪ ،‬ثم ظلمة الرحم‪ ،‬ثم ظلمة المشيمة‪َ { ،‬ذِل ُك ْم }‬
‫ات ثَ ٍ‬
‫ذلك المكان الضيق { ِفي ظُلُم ٍ‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫الذي خلق السماوات واألرض‪ ،‬وسخر الشمس والقمر‪ ،‬وخلقكم وخلق لكم األنعام والنعم { اللهُ‬
‫َرُّب ُك ْم } أي‪ :‬المألوه المعبود‪ ،‬الذي رباكم ودبركم‪ ،‬فكما أنه الواحد في خلقه وتربيته ال شريك له‬
‫ون } بعد‬ ‫في ذلك‪ ،‬فهو الواحد في ألوهيته‪ ،‬ال شريك له‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬ال ِإلَهَ ِإال ُه َو فَأََّنى تُ ْ‬
‫ص َرفُ َ‬
‫هذا البيان ببيان استحقاقه تعالى لإلخالص وحده إلى عبادة األوثان‪ ،‬التي ال تدبر شيئا‪ ،‬وليس لها‬
‫من األمر شيء‪.‬‬
‫{ ِإ ْن تَ ْكفُُروا فَِإ َّن اللَّهَ َغنِ ٌّي َع ْن ُك ْم } ال يضره كفركم‪ ،‬كما ال ينتفع بطاعتكم‪ ،‬ولكن أمره ونهيه لكم‬
‫محض فضله وإ حسانه عليكم‪.‬‬
‫ضى ِل ِعَب ِاد ِه اْل ُك ْف َر } لكمال إحسانه بهم‪ [ ،‬ص ‪ ] 720‬وعلمه أن الكفر يشقيهم شقاوة ال‬ ‫{ َوال َي ْر َ‬
‫يسعدون بعدها‪ ،‬وألنه خلقهم لعبادته‪ ،‬فهي الغاية التي خلق لها الخلق‪ ،‬فال يرضى أن يدعوا ما‬
‫خلقهم ألجله‪.‬‬
‫ضهُ لَ ُك ْم } لرحمته بكم‪ ،‬ومحبته‬
‫{ َوإِ ْن تَ ْش ُك ُروا } للّه تعالى بتوحيده‪ ،‬وإ خالص الدين له { َي ْر َ‬
‫لإلحسان عليكم‪ ،‬ولفعلكم ما خلقكم ألجله‪.‬‬
‫وكما أنه ال يتضرر بشرككم وال ينتفع بأعمالكم وتوحيدكم‪ ،‬كذلك كل أحد منكم له عمله‪ ،‬من خير‬
‫ُخ َرى } { ثَُّم ِإلَى َرِّب ُك ْم َم ْر ِج ُع ُك ْم } في يوم القيامة { فَُيَنبُِّئ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم‬
‫وشر { َوال تَ ِز ُر َو ِاز َرةٌ ِو ْز َر أ ْ‬
‫ون } إخبارا أحاط به علمه‪ ،‬وجرى عليه قلمه‪ ،‬وكتبته عليكم الحفظة الكرام‪ ،‬وشهدت به‬ ‫تَ ْع َملُ َ‬
‫عليكم الجوارح‪ ،‬فيجازي كال منكم ما يستحقه‪.‬‬
‫ور } أي‪ :‬بنفس الصدور‪ ،‬وما فيها من وصف ٍّبر أو فجور‪ ،‬والمقصود من‬ ‫ُّد ِ‬ ‫{ ِإَّنه عِليم بِ َذ ِ‬
‫ات الص ُ‬ ‫ُ َ ٌ‬
‫هذا‪ ،‬اإلخبار بالجزاء بالعدل التام‪.‬‬

‫( ‪)1/719‬‬

‫ان َي ْد ُعو ِإلَْي ِه ِم ْن قَْب ُل‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ضٌّر َد َعا َربَّهُ ُمن ًيبا ِإلَْيه ثَُّم ِإ َذا َخ َّولَهُ ن ْع َمةً م ْنهُ َنس َي َما َك َ‬ ‫ان ُ‬ ‫َوإِ َذا َم َّس اإْلِ ْن َس َ‬
‫الن ِار (‪)8‬‬‫اب َّ‬‫َص َح ِ‬ ‫ك َقِلياًل ِإَّن َ ِ‬ ‫ض َّل َع ْن َسبِ ِيل ِه ُق ْل تَ َمتَّ ْع بِ ُك ْف ِر َ‬‫وجع َل ِللَّ ِه أ َْن َد ًادا ِلي ِ‬
‫ك م ْن أ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ََ‬

‫ان َي ْد ُعو ِإلَْي ِه‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ضٌّر َد َعا َربَّهُ ُمن ًيبا ِإلَْيه ثَُّم ِإ َذا َخ َّولَهُ ن ْع َمةً م ْنهُ َنس َي َما َك َ‬ ‫ان ُ‬‫اإلن َس َ‬
‫{ ‪َ { } 8‬وإِ َذا َم َّس ْ‬
‫الن ِار } ‪.‬‬
‫اب َّ‬ ‫َص َح ِ‬ ‫ك َقِليال ِإَّن َ ِ‬ ‫ض َّل َع ْن َسبِ ِيل ِه ُق ْل تَ َمتَّ ْع بِ ُك ْف ِر َ‬
‫ِم ْن قَْب ُل وجع َل ِللَّ ِه أ َْن َد ًادا ِلي ِ‬
‫ك م ْن أ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ََ‬
‫يخبر تعالى عن كرمه بعبده وإ حسانه وبره‪ ،‬وقلة شكر عبده‪ ،‬وأنه حين يمسه الضر‪ ،‬من مرض‬
‫أو فقر‪ ،‬أو وقوع في كربة َب ْح ٍر أو غيره‪ ،‬أنه يعلم أنه ال ينجيه في هذه الحال إال اللّه‪ ،‬فيدعوه‬
‫متضرعا منيبا‪ ،‬ويستغيث به في كشف ما نزل به ويلح في ذلك‪.‬‬
‫ان َي ْد ُعو ِإلَْي ِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ ثَُّم ِإ َذا َخ َّولَهُ } اللّه { ن ْع َمةً م ْنهُ } بأن كشف ما به من الضر والكربة‪َ { ،‬نس َي َما َك َ‬
‫ِم ْن قَْب ُل } أي‪ :‬نسي ذلك الضر الذي دعا اللّه ألجله‪ ،‬ومر كأنه ما أصابه ضر‪ ،‬واستمر على‬
‫شركه‪.‬‬
‫ض َّل َع ْن َسبِ ِيل ِه } أي‪ :‬ليضل بنفسه‪ ،‬ويضل غيره‪ ،‬ألن اإلضالل فرع عن‬
‫{ وجع َل ِللَّ ِه أ َْن َد ًادا ِلي ِ‬
‫ُ‬ ‫َ ََ‬
‫الضالل‪ ،‬فأتى بالملزوم ليدل على الالزم‪.‬‬
‫الن ِار } فال‬ ‫َص َح ِ‬
‫اب َّ‬ ‫ك َقِليال ِإَّن َ ِ‬
‫{ ُق ْل } لهذا العاتي‪ ،‬الذي بدل نعمة اللّه كفرا‪ { :‬تَ َمتَّ ْع بِ ُك ْف ِر َ‬
‫ك م ْن أ ْ‬
‫يغنيك ما تتمتع به إذا كان المآل النار‪.‬‬
‫ت ِإ ْن متَّعَن ُ ِ ِ‬
‫َغَنى َعْنهُ ْم َما َك ُانوا ُي َمتَّ ُع َ‬
‫ون }‬ ‫ون َما أ ْ‬
‫وع ُد َ‬
‫اء ُه ْم َما َك ُانوا ُي َ‬
‫ين ثَُّم َج َ‬
‫اه ْم سن َ‬ ‫َ ْ‬ ‫{ أَفََرأ َْي َ‬
‫( ‪)1/720‬‬

‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت آََن َّ‬ ‫ِ‬


‫اء اللْي ِل َسا ِج ًدا َوقَائ ًما َي ْح َذ ُر اآْل َخ َرةَ َوَي ْر ُجو َر ْح َمةَ َربِّه ُق ْل َه ْل َي ْستَِوي الذ َ‬
‫ين‬ ‫أ َْم َم ْن ُه َو قَان ٌ َ‬
‫اب (‪)9‬‬ ‫ون ِإَّنما َيتَ َذ َّكر أُولُو اأْل َْلَب ِ‬ ‫َِّ‬
‫ُ‬ ‫ين اَل َي ْعلَ ُم َ َ‬
‫ون َوالذ َ‬
‫َي ْعلَ ُم َ‬

‫اآلخرةَ ويرجو ر ْحمةَ رب ِ‬


‫ِّه ُق ْل َه ْل َي ْستَِوي‬ ‫ت َآناء اللَّْي ِل سا ِج ًدا وقَائِما ي ْح َذر ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ َْ ُ َ َ َ‬ ‫َ ً َ ُ‬ ‫َ‬ ‫{ ‪ { } 9‬أ َْم َم ْن ُه َو قَان ٌ َ‬
‫ون ِإَّنما َيتَ َذ َّكر أُولُو األْلَب ِ‬
‫اب } ‪.‬‬ ‫َِّ‬ ‫َِّ‬
‫ُ‬ ‫ين ال َي ْعلَ ُم َ َ‬
‫ون َوالذ َ‬
‫ين َي ْعلَ ُم َ‬
‫الذ َ‬
‫هذه مقابلة بين العامل بطاعة اللّه وغيره‪ ،‬وبين العالم والجاهل‪ ،‬وأن هذا من األمور التي تقرر في‬
‫العقول تباينها‪ ،‬وعلم علما يقينا تفاوتها‪ ،‬فليس المعرض عن طاعة ربه‪ ،‬المتبع لهواه‪ ،‬كمن هو‬
‫قانت أي‪ :‬مطيع للّه بأفضل العبادات وهي الصالة‪ ،‬وأفضل األوقات وهو أوقات الليل‪ ،‬فوصفه‬
‫بكثرة العمل وأفضله‪ ،‬ثم وصفه بالخوف والرجاء‪ ،‬وذكر أن متعلق الخوف عذاب اآلخرة‪ ،‬على‬
‫ما سلف من الذنوب‪ ،‬وأن متعلق الرجاء‪ ،‬رحمة اللّه‪ ،‬فوصفه بالعمل الظاهر والباطن‪.‬‬
‫َِّ‬
‫ون } ربهم ويعلمون دينه الشرعي ودينه الجزائي‪ ،‬وما له في ذلك من‬ ‫{ ُق ْل َه ْل َي ْستَِوي الذ َ‬
‫ين َي ْعلَ ُم َ‬
‫ون } شيئا من ذلك؟ ال يستوي هؤالء وال هؤالء‪ ،‬كما ال يستوي‬ ‫َِّ‬
‫ين ال َي ْعلَ ُم َ‬‫األسرار والحكم { َوالذ َ‬
‫الليل والنهار‪ ،‬والضياء والظالم‪ ،‬والماء والنار‪.‬‬
‫{ ِإَّنما َيتَ َذ َّكر } إذا ذكروا { أُولُو األْلَب ِ‬
‫اب } أي‪ :‬أهل العقول الزكية الذكية‪ ،‬فهم الذين يؤثرون‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫األعلى على األدنى‪ ،‬فيؤثرون العلم على الجهل‪ ،‬وطاعة اللّه على مخالفته‪ ،‬ألن لهم عقوال‬
‫ترشدهم للنظر في العواقب‪ ،‬بخالف من ال لب له وال عقل‪ ،‬فإنه يتخذ إلهه هواه‪.‬‬

‫( ‪)1/720‬‬

‫الد ْنيا حسَنةٌ وأَرض اللَّ ِه و ِ‬


‫اس َعةٌ ِإَّن َما ُي َوفَّى‬ ‫ِ ِِ‬ ‫َِِّ‬ ‫ِ ِ َِّ‬
‫َ‬ ‫َح َسُنوا في َهذه ُّ َ َ َ َ ْ ُ‬ ‫َمُنوا اتَّقُوا َرَّب ُك ْم للذ َ‬
‫ين أ ْ‬ ‫ين آ َ‬
‫ُق ْل َيا عَباد الذ َ‬
‫اب (‪)10‬‬ ‫َجر ُهم بِ َغ ْي ِر ِح َس ٍ‬ ‫الصَّابِ ُر َ‬
‫ون أ ْ َ ْ‬

‫ض اللَّ ِه‬ ‫َح َسُنوا ِفي َه ِذ ِه ُّ‬


‫الد ْنَيا َح َسَنةٌ َوأ َْر ُ‬
‫َِِّ‬
‫آمُنوا اتَّقُوا َرَّب ُك ْم للذ َ‬
‫ين أ ْ‬ ‫ين َ‬
‫ِ ِ َِّ‬
‫{ ‪ُ { } 10‬ق ْل َيا عَبادي الذ َ‬
‫اب } ‪.‬‬‫َجر ُهم بِ َغ ْي ِر ِح َس ٍ‬ ‫ِ‬
‫َواس َعةٌ ِإَّن َما ُي َوفَّى الصَّابِ ُر َ‬
‫ون أ ْ َ ْ‬
‫أي‪ :‬قل مناديا ألشرف الخلق‪ ،‬وهم المؤمنون‪ ،‬آمرا لهم بأفضل األوامر‪ ،‬وهي التقوى‪ ،‬ذاكرا لهم‬
‫السبب الموجب للتقوى‪ ،‬وهو ربوبية اللّه لهم وإ نعامه عليهم‪ ،‬المقتضي ذلك منهم أن يتقوه‪ ،‬ومن‬
‫ذلك ما َم َّن اللّه عليهم به من اإليمان فإنه موجب للتقوى‪ ،‬كما تقول‪ :‬أيها الكريم تصدق‪ ،‬وأيها‬
‫الشجاع قاتل‪.‬‬
‫الد ْنَيا } بعبادة ربهم { َح َسَنة }‬ ‫َح َسُنوا ِفي َه ِذ ِه ُّ‬
‫ين أ ْ‬ ‫َِِّ‬
‫وذكر لهم الثواب المنشط في الدنيا فقال‪ { :‬للذ َ‬
‫ص ِال ًحا ِم ْن َذ َك ٍر أ َْو أ ُْنثَى‬ ‫ِ‬
‫ورزق واسع‪ ،‬ونفس مطمئنة‪ ،‬وقلب منشرح‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬م ْن َعم َل َ‬
‫َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن َفلَُن ْحيَِيَّنهُ َحَياةً َ‬
‫طيَِّبةً }‬
‫اس َعةٌ } إذا منعتم من عبادته في أرض‪ ،‬فهاجروا إلى غيرها‪ ،‬تعبدون فيها ربكم‪،‬‬ ‫{ وأَرض اللَّ ِه و ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫وتتمكنون من إقامة دينكم‪.‬‬
‫الد ْنَيا َح َسَنةٌ } كان لبعض النفوس مجال في هذا الموضع‪ ،‬وهو‬ ‫َح َسُنوا ِفي َه ِذ ِه ُّ‬ ‫ين أ ْ‬ ‫َِِّ‬
‫ولما قال‪ { :‬للذ َ‬
‫أن النص عام‪ ،‬أنه كل من أحسن فله في الدنيا حسنة‪ ،‬فما بال من آمن في أرض يضطهد فيها‬
‫اس َعةٌ } وهنا بشارة نص عليها‬ ‫ويمتهن‪ ،‬ال يحصل له ذلك‪ ،‬دفع هذا الظن بقوله‪ { :‬وأَرض اللَّ ِه و ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫النبي صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬بقوله " ال تزال طائفة من أمتي على [ ص ‪ ] 721‬الحق ظاهرين ال‬
‫يضرهم من خذلهم وال من خالفهم حتى يأتي أمر اللّه وهم على ذلك " تشير إليه هذه اآلية‪ ،‬وترمي‬
‫إليه من قريب‪ ،‬وهو أنه تعالى أخبر أن أرضه واسعة‪ ،‬فمهما منعتم من عبادته في موضع‬
‫فهاجروا إلى غيرها‪ ،‬وهذا عام في كل زمان ومكان‪ ،‬فال بد أن يكون لكل مهاجر‪ ،‬ملجأ من‬
‫المسلمين يلجأ إليه‪ ،‬وموضع يتمكن من إقامة دينه فيه‪.‬‬
‫اب } وهذا عام في جميع أنواع الصبر‪ ،‬الصبر على‬ ‫َجر ُهم بِ َغ ْي ِر ِح َس ٍ‬ ‫{ ِإَّن َما ُي َوفَّى الصَّابِ ُر َ‬
‫ون أ ْ َ ْ‬
‫أقدار اللّه المؤلمة فال يتسخطها‪ ،‬والصبر عن معاصيه فال يرتكبها‪ ،‬والصبر على طاعته حتى‬
‫يؤديها‪ ،‬فوعد اللّه الصابرين أجرهم بغير حساب‪ ،‬أي‪ :‬بغير حد وال عد وال مقدار‪ ،‬وما ذاك إال‬
‫لفضيلة الصبر ومحله عند اللّه‪ ،‬وأنه معين على كل األمور‪.‬‬

‫( ‪)1/720‬‬

‫ِِ‬ ‫الدين (‪ )11‬وأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َن أ ْ َّ‬ ‫ُق ْل ِإِّني أ ِ‬


‫ين (‪ُ )12‬ق ْل ِإِّني‬ ‫ون أ ََّو َل اْل ُم ْسلم َ‬
‫َن أَ ُك َ‬ ‫ت أِل ْ‬‫ُم ْر ُ‬ ‫َ‬ ‫صا لَهُ ِّ َ‬ ‫َعُب َد اللهَ ُم ْخل ً‬ ‫ت أْ‬ ‫ُم ْر ُ‬
‫صا لَهُ ِدينِي (‪ )14‬فَ ْ‬
‫اعُب ُدوا َما‬ ‫ِ‬
‫َعُب ُد ُم ْخل ً‬ ‫اب َي ْوٍم َع ِظ ٍيم (‪ُ )13‬ق ِل اللَّهَ أ ْ‬ ‫ت َربِّي َع َذ َ‬ ‫ص ْي ُ‬‫اف ِإ ْن َع َ‬
‫َخ ُ‬ ‫أَ‬
‫ان‬
‫ك ُه َو اْل ُخ ْس َر ُ‬‫ام ِة أَاَل َذِل َ‬ ‫ِ‬ ‫ين َخ ِس ُروا أ َْنفُ َسهُ ْم وأ ْ ِ ِ‬
‫َهليه ْم َي ْو َم اْلقَي َ‬ ‫َ‬
‫اس ِر َِّ‬
‫ين الذ َ‬‫َ‬
‫ِش ْئتُم ِم ْن ُدونِ ِه ُق ْل ِإ َّن اْل َخ ِ‬
‫ْ‬
‫ادهُ َيا ِعَب ِاد‬
‫ف اللَّهُ بِ ِه ِعَب َ‬ ‫ك ُي َخ ِّو ُ‬‫الن ِار َو ِم ْن تَ ْحتِ ِه ْم ظُلَ ٌل َذِل َ‬
‫ين (‪ )15‬لَهُ ْم ِم ْن فَ ْو ِق ِه ْم ظُلَ ٌل ِم َن َّ‬ ‫اْل ُمبِ ُ‬
‫ون (‪)16‬‬ ‫فَاتَّقُ ِ‬
‫ِِ‬ ‫الدين * وأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َن أ ْ َّ‬ ‫{ ‪ُ { } 16 - 11‬ق ْل ِإِّني أ ِ‬
‫ين‬
‫ون أ ََّو َل اْل ُم ْسلم َ‬
‫ألن أَ ُك َ‬
‫ت ْ‬ ‫ُم ْر ُ‬ ‫صا لَهُ ِّ َ َ‬ ‫َعُب َد اللهَ ُم ْخل ً‬ ‫ت أْ‬
‫ُم ْر ُ‬
‫صا لَهُ ِدينِي * فَ ْ‬
‫اعُب ُدوا َما‬ ‫ِ‬
‫َعُب ُد ُم ْخل ً‬‫اب َي ْوٍم َع ِظ ٍيم * ُق ِل اللَّهَ أ ْ‬ ‫ت َربِّي َع َذ َ‬ ‫اف ِإ ْن َع َ‬
‫ص ْي ُ‬ ‫َخ ُ‬‫* ُق ْل ِإِّني أ َ‬
‫ان‬
‫ك ُه َو اْل ُخ ْس َر ُ‬‫ام ِة أَال َذِل َ‬ ‫ِ‬ ‫ين َخ ِس ُروا أ َْنفُ َسهُ ْم وأ ْ ِ ِ‬
‫َهليه ْم َي ْو َم اْلقَي َ‬ ‫َ‬
‫اس ِر َِّ‬
‫ين الذ َ‬ ‫َ‬
‫ِش ْئتُم ِم ْن ُدونِ ِه ُق ْل ِإ َّن اْل َخ ِ‬
‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ادهُ َيا عَباد فَاتَّقُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ف اللهُ بِه عَب َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الن ِار َو ِم ْن تَ ْحت ِه ْم ظُلَ ٌل َذل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين * لَهُ ْم م ْن فَ ْو ِق ِه ْم ظُلَ ٌل م َن َّ‬
‫ون‬ ‫ك ُي َخ ِّو ُ‬ ‫اْل ُمبِ ُ‬
‫}‪.‬‬
‫أي { ُق ْل } يا أيها الرسول للناس‪ { :‬إني أمرت أن أعبد اهلل مخلصا له الدين } في قوله في أول‬
‫ين }‬ ‫صا لَهُ ِّ‬ ‫ِ‬ ‫السورة‪ { :‬فَ ْ ِ َّ‬
‫الد َ‬ ‫اعُبد اللهَ ُم ْخل ً‬
‫ين } ألني الداعي الهادي للخلق إلى ربهم‪ ،‬فيقتضي أني أول من‬ ‫ِِ‬ ‫{ وأ ِ‬
‫ون أ ََّو َل اْل ُم ْسلم َ‬
‫ألن أَ ُك َ‬
‫ت ْ‬ ‫ُم ْر ُ‬ ‫َ‬
‫ائتمر بما آمر به‪ ،‬وأول من أسلم‪ ،‬وهذا األمر ال بد من إيقاعه من محمد صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫وممن زعم أنه من أتباعه‪ ،‬فال بد من اإلسالم في األعمال الظاهرة‪ ،‬واإلخالص للّه في األعمال‬
‫الظاهرة والباطنة‪.‬‬
‫اب َي ْوٍم َع ِظ ٍيم }‬
‫ت َربِّي } في ما أمرني به من اإلخالص واإلسالم‪َ { .‬ع َذ َ‬ ‫اف ِإ ْن َع َ‬
‫ص ْي ُ‬ ‫{ ُق ْل ِإِّني أ َ‬
‫َخ ُ‬
‫يخلد فيه من أشرك‪ ،‬ويعاقب فيه من عصى‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫صا لَهُ ِدينِي فَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫{ ُق ِل اللَّهَ أ ْ‬
‫اعُب ُدوا َما ش ْئتُ ْم م ْن ُدونِه } كما قال تعالى‪ُ { :‬ق ْل َيا أَيُّهَا اْل َكاف ُر َ‬
‫ون‬ ‫َعُب ُد ُم ْخل ً‬
‫ون َما‬‫َعُب ُد * َوال أََنا َعابِ ٌد َما َعَب ْدتُ ْم * َوال أ َْنتُ ْم َعابِ ُد َ‬ ‫ون * َوال أ َْنتُ ْم َعابِ ُد َ‬
‫ون َما أ ْ‬ ‫َعُب ُد َما تَ ْعُب ُد َ‬
‫* ال أ ْ‬
‫ين }‬‫َعُب ُد * لَ ُك ْم ِد ُين ُك ْم َوِلي ِد ِ‬‫أْ‬
‫َ‬
‫ين َخ ِس ُروا أ َْنفُ َسهُ ْم } حيث حرموها الثواب واستحقت بسببهم‬ ‫َِّ‬
‫ين } حقيقة هم { الذ َ‬
‫ِ‬
‫{ ُق ْل ِإ َّن اْل َخاس ِر َ‬
‫ام ِة } أي فرق بينهم وبينهم واشتد عليهم الحزن وعظم الخسران‬ ‫ِ‬ ‫وخيم العقاب { وأ ْ ِ ِ‬
‫َهليه ْم َي ْو َم اْلقَي َ‬ ‫َ‬
‫ين } الذي ليس مثله خسران وهو خسران مستمر ال ربح بعده بل وال‬ ‫ان اْل ُمبِ ُ‬
‫ك ُه َو اْل ُخ ْس َر ُ‬ ‫{ أَال َذِل َ‬
‫سالمة‬
‫الن ِار } أي قطع عذاب‬ ‫ثم ذكر شدة ما يحصل لهم من الشقاء فقال { لَهُ ْم ِم ْن فَ ْو ِق ِه ْم ظُلَ ٌل ِم َن َّ‬
‫كالسحاب العظيم { َو ِم ْن تَ ْحتِ ِه ْم ظُلَ ٌل }‬
‫ف‬ ‫ك } الوصف الذي وصفنا به عذاب أهل النار سوط يسوق اهلل به عباده إلى رحمته { ُي َخ ِّو ُ‬ ‫{ َذِل َ‬
‫ون } أي جعل ما أعده ألهل الشقاء من العذاب داع يدعو عباده إلى‬ ‫ادهُ َيا ِعَب ِاد فَاتَّقُ ِ‬‫اللَّهُ بِ ِه ِعَب َ‬
‫التقوى وزاجر عما يوجب العذاب فسبحان من رحم عباده في كل شيء وسهل لهم الطرق‬
‫الموصلة إليه وحثهم على سلوكها ورغبهم بكل مرغب تشتاق له النفوس وتطمئن له القلوب‬
‫وحذرهم من العمل لغيره غاية التحذير وذكر لهم األسباب الزاجرة عن تركه‬

‫( ‪)1/721‬‬
‫ين‬ ‫َِّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫وها َوأََن ُابوا ِإلَى الله لَهُ ُم اْلُب ْش َرى فََب ِّش ْر عَباد (‪ )17‬الذ َ‬
‫َن َي ْعُب ُد َ‬‫وت أ ْ‬
‫اغ َ‬‫اجتََنُبوا الطَّ ُ‬ ‫ين ْ‬ ‫َِّ‬
‫َوالذ َ‬
‫ك ُهم أُولُو اأْل َْلَب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك الَِّذين َه َد ُ َّ‬ ‫َح َسَنهُ أُولَئِ َ‬ ‫ِ‬
‫اب (‪)18‬‬ ‫اه ُم اللهُ َوأُولَئ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ون اْلقَ ْو َل فََيتَّبِ ُع َ‬
‫ون أ ْ‬ ‫َي ْستَم ُع َ‬

‫وها َوأََن ُابوا ِإلَى اللَّ ِه لَهُ ُم اْلُب ْش َرى فََب ِّش ْر ِعَب ِاد *‬
‫َن َي ْعُب ُد َ‬
‫وت أ ْ‬
‫اغ َ‬ ‫اجتََنُبوا الطَّ ُ‬
‫ين ْ‬ ‫َِّ‬
‫{ ‪َ { } 18 - 17‬والذ َ‬
‫ك ُهم أُولُو األْلَب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك الَِّذين َه َد ُ َّ‬ ‫َح َسَنهُ أُولَئِ َ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫اب } ‪.‬‬ ‫اه ُم اللهُ َوأُولَئ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ون اْلقَ ْو َل فََيتَّبِ ُع َ‬
‫ون أ ْ‬ ‫ين َي ْستَم ُع َ‬
‫الذ َ‬
‫وها‬
‫َن َي ْعُب ُد َ‬
‫وت أ ْ‬‫اغ َ‬ ‫اجتََنُبوا الطَّ ُ‬ ‫ين ْ‬ ‫َِّ‬
‫لما ذكر حال المجرمين ذكر حال المنيبين وثوابهم‪ ،‬فقال‪َ { :‬والذ َ‬
‫} والمراد بالطاغوت في هذا الموضع‪ ،‬عبادة غير اللّه‪ ،‬فاجتنبوها في عبادتها‪ .‬وهذا من أحسن‬
‫االحتراز من الحكيم العليم‪ ،‬ألن المدح إنما يتناول المجتنب لها في عبادتها‪.‬‬
‫{ َوأََن ُابوا ِإلَى اللَّ ِه } بعبادته وإ خالص الدين له‪ ،‬فانصرفت دواعيهم من عبادة األصنام إلى عبادة‬
‫الملك العالم‪ ،‬ومن الشرك والمعاصي إلى التوحيد والطاعات‪ { ،‬لَهُ ُم اْلُب ْش َرى } التي ال يقادر‬
‫قدرها‪ ،‬وال يعلم وصفها‪ ،‬إال من أكرمهم بها‪ ،‬وهذا شامل للبشرى في الحياة الدنيا بالثناء الحسن‪،‬‬
‫والرؤيا الصالحة‪ ،‬والعناية الربانية من اللّه‪ ،‬التي يرون في خاللها‪ ،‬أنه مريد إلكرامهم في الدنيا‬
‫واآلخرة‪ ،‬ولهم البشرى في اآلخرة عند الموت‪ ،‬وفي القبر‪ ،‬وفي القيامة‪ ،‬وخاتمة البشرى ما‬
‫يبشرهم به الرب الكريم‪ ،‬من دوام رضوانه وبره وإ حسانه وحلول أمانه في الجنة‪.‬‬
‫ولما أخبر أن لهم البشرى‪ ،‬أمره اللّه ببشارتهم‪ ،‬وذكر الوصف الذي استحقوا به البشارة فقال‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ َِّ‬
‫ون اْلقَ ْو َل }‬ ‫{ فََب ِّش ْر عَباد الذ َ‬
‫ين َي ْستَم ُع َ‬
‫وهذا جنس يشمل كل قول فهم يستمعون جنس القول ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره [ ص ‪] 722‬‬
‫مما ينبغي اجتنابه‪ ،‬فلهذا من حزمهم وعقلهم أنهم يتبعون أحسنه‪ ،‬وأحسنه على اإلطالق كالم اللّه‬
‫يث ِكتَ ًابا ُمتَ َشابِهًا } اآلية‪.‬‬
‫َحسن اْلح ِد ِ‬ ‫َّ‬
‫وكالم رسوله‪ ،‬كما قال في هذه السورة‪ { :‬اللهُ نز َل أ ْ َ َ َ‬
‫وفي هذه اآلية نكتة‪ ،‬وهي‪ :‬أنه لما أخبر عن هؤالء الممدوحين أنهم يستمعون القول فيتبعون‬
‫أحسنه‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬هل من طريق إلى معرفة أحسنه حتى نتصف بصفات أولي األلباب‪ ،‬وحتى‬
‫نعرف أن من أثره علمنا أنه من أولي األلباب؟‬
‫يث ِكتَ ًابا ُمتَ َشابِهًا } اآلية‪.‬‬
‫َحسن اْلح ِد ِ‬ ‫َّ‬
‫قيل‪ :‬نعم‪ ،‬أحسنه ما نص اللّه عليه { اللهُ نز َل أ ْ َ َ َ‬
‫اه ُم اللَّهُ } ألحسن األخالق واألعمال‬ ‫ين َه َد ُ‬ ‫َحسَنه أُولَئِ َ َِّ‬
‫ك الذ َ‬ ‫ون اْلقَ ْو َل فََيتَّبِ ُع َ‬
‫ون أ ْ َ ُ‬
‫ِ‬
‫ين َي ْستَم ُع َ‬
‫َِّ‬
‫{ الذ َ‬
‫اب } أي‪ :‬العقول الزاكية‪.‬‬ ‫ك ُهم أُولُو األْلَب ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َوأُولَئ َ ْ‬
‫ومن لبهم وحزمهم‪ ،‬أنهم عرفوا الحسن من غيره‪ ،‬وآثروا ما ينبغي إيثاره‪ ،‬على ما سواه‪ ،‬وهذا‬
‫عالمة العقل‪ ،‬بل ال عالمة للعقل سوى ذلك‪ ،‬فإن الذي ال يميز بين األقوال‪ ،‬حسنها‪ ،‬وقبيحها‪ ،‬ليس‬
‫من أهل العقول الصحيحة‪ ،‬أو الذي يميز‪ ،‬لكن غلبت شهوته عقله‪ ،‬فبقي عقله تابعا لشهوته فلم‬
‫يؤثر األحسن‪ ،‬كان ناقص العقل‪.‬‬

‫( ‪)1/721‬‬

‫ف ِم ْن‬
‫ين اتَّقَ ْوا َربَّهُ ْم لَهُ ْم ُغَر ٌ‬ ‫ِ َِّ‬
‫الن ِار (‪ )19‬لَك ِن الذ َ‬‫ت تُْن ِق ُذ َم ْن ِفي َّ‬ ‫ق َعلَْي ِه َكِلمةُ اْل َع َذ ِ‬
‫اب أَفَأ َْن َ‬ ‫َ‬ ‫أَفَ َم ْن َح َّ‬
‫اد (‪)20‬‬ ‫يع َ‬ ‫ف م ْبنَِّيةٌ تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِها اأْل َْنهار و ْع َد اللَّ ِه اَل ي ْخِل ُ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ف اللهُ اْلم َ‬ ‫ُ‬ ‫َُ َ‬ ‫َ‬ ‫فَ ْوقهَا ُغَر ٌ َ‬

‫ين اتَّقَ ْوا َربَّهُ ْم لَهُ ْم‬ ‫ِ َِّ‬ ‫ت تُْن ِق ُذ َم ْن ِفي َّ‬ ‫ق َعلَْي ِه َكِلمةُ اْل َع َذ ِ‬
‫{ ‪ { } 20 - 19‬أَفَ َم ْن َح َّ‬
‫الن ِار * لَك ِن الذ َ‬ ‫اب أَفَأ َْن َ‬ ‫َ‬
‫األنهار و ْع َد اللَّ ِه ال ي ْخِل ُ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف ِم ْن فَو ِقها ُغر ٌ ِ‬
‫اد } ‪.‬‬ ‫يع َ‬
‫ف اللهُ اْلم َ‬ ‫ُ‬ ‫ف َم ْبنَّيةٌ تَ ْج ِري م ْن تَ ْحتهَا ْ َ ُ َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫ُغَر ٌ‬
‫أي‪ :‬أفمن وجبت عليه كلمة العذاب باستمراره على غيه وعناده وكفره‪ ،‬فإنه ال حيلة لك في‬
‫هدايته‪ ،‬وال تقدر تنقذ من في النار ال محالة‪.‬‬
‫لكن الغنى كل الغنى‪ ،‬والفوز كل الفوز‪ ،‬للمتقين الذين أعد لهم من الكرامة وأنواع النعيم‪ ،‬ما ال‬
‫يقادر قدره‪.‬‬
‫ف } أي‪ :‬منازل عالية مزخرفة‪ ،‬من حسنها وبهائها وصفائها‪ ،‬أنه يرى ظاهرها من‬ ‫{ لَهُ ْم ُغَر ٌ‬
‫باطنها وباطنها من ظاهرها‪ ،‬ومن علوها وارتفاعها‪[ ،‬أنها] (‪ )1‬ترى كما يرى الكوكب الغابر في‬
‫ف } أي‪ :‬بعضها فوق بعض { َم ْبنَِّيةٌ }‬
‫األفق الشرقي أو الغربي‪ ،‬ولهذا قال‪ِ { :‬م ْن فَ ْو ِقهَا ُغَر ٌ‬
‫بذهب وفضة‪ ،‬ومالطها المسك األذفر‪.‬‬
‫األنهَ ُار } المتدفقة‪ ،‬المسقية للبساتين الزاهرة واألشجار الطاهرة‪ ،‬فتغل بأنواع‬ ‫{ تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِهَا ْ‬
‫الثمار اللذيذة‪ ،‬والفاكهة النضيجة‪.‬‬
‫اد } وقد وعد المتقين هذا الثواب‪ ،‬فال بد من الوفاء به‪ ،‬فليوفوا‬ ‫يع َ‬ ‫{ و ْع َد اللَّ ِه ال ي ْخِل ُ َّ ِ‬
‫ف اللهُ اْلم َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫بخصال التقوى‪ ،‬ليوفيهم أجورهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬أنه‪.‬‬

‫( ‪)1/722‬‬
‫ض ثَُّم ُي ْخ ِر ُج بِ ِه َز ْر ًعا ُم ْختَِلفًا أَْل َو ُانهُ ثَُّم‬
‫يع ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫اء فَ َسلَ َكهُ َيَناب َ‬
‫َن اللَّه أ َْن َز َل ِمن الس ِ‬
‫َّماء َم ً‬
‫َ َ‬ ‫أَلَ ْم تََر أ َّ َ‬
‫ك لَِذ ْكرى أِل ُوِلي اأْل َْلَب ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اب (‪)21‬‬ ‫اما ِإ َّن في َذل َ َ‬ ‫طً‬‫صفًَّرا ثَُّم َي ْج َعلُهُ ُح َ‬ ‫َي ِه ُ‬
‫يج فَتََراهُ ُم ْ‬

‫ض ثَُّم ُي ْخ ِر ُج بِ ِه َز ْر ًعا ُم ْختَِلفًا‬


‫األر ِ‬ ‫اء ماء فَسلَ َكه يَنابِ ِ‬
‫يع في ْ‬‫َّم َ ً َ ُ َ َ‬
‫َن اللَّه أ َْن َز َل ِمن الس ِ‬
‫َ َ‬ ‫{ ‪ { } 21‬أَلَ ْم تََر أ َّ َ‬
‫ك لَِذ ْكرى ألوِلي األْلَب ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اب } ‪.‬‬ ‫اما ِإ َّن في َذل َ َ‬‫طً‬‫صفًَّرا ثَُّم َي ْج َعلُهُ ُح َ‬ ‫أَْل َو ُانهُ ثَُّم َي ِه ُ‬
‫يج فَتََراهُ ُم ْ‬
‫يذكر تعالى أولي األلباب‪ ،‬ما أنزله من السماء من الماء‪ ،‬وأنه سلكه ينابيع في األرض‪ ،‬أي‪:‬‬
‫أودعه فيها ينبوعا‪ ،‬يستخرج بسهولة ويسر‪ { ،‬ثَُّم ُي ْخ ِر ُج بِ ِه َز ْر ًعا ُم ْختَِلفًا أَْل َو ُانهُ } من بر وذرة‪،‬‬
‫صفًَّرا ثَُّم‬
‫يج } عند استكماله‪ ،‬أو عند حدوث آفة فيه { فَتََراهُ ُم ْ‬ ‫وشعير وأرز‪ ،‬وغير ذلك‪ { .‬ثَُّم َي ِه ُ‬
‫ك لَِذ ْكرى ألوِلي األْلَب ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اب } يذكرون بها عناية ربهم ورحمته‬ ‫اما } متكسرا { ِإ َّن في َذل َ َ‬‫طً‬
‫َي ْج َعلُهُ ُح َ‬
‫بعباده‪ ،‬حيث يسر لهم هذا الماء‪ ،‬وخزنه بخزائن األرض تبعا لمصالحهم‪.‬‬
‫ويذكرون به كمال قدرته‪ ،‬وأنه يحيي الموتى‪ ،‬كما أحيا األرض بعد موتها‪ ،‬ويذكرون به أن‬
‫الفاعل لذلك هو المستحق للعبادة‪.‬‬
‫اللّهم اجعلنا من أولي األلباب‪ ،‬الذين نوهت بذكرهم‪ ،‬وهديتهم بما أعطيتهم من العقول‪ ،‬وأريتهم‬
‫من أسرار كتابك وبديع آياتك ما لم يصل إليه غيرهم‪ ،‬إنك أنت الوهاب‪.‬‬

‫( ‪)1/722‬‬

‫ك ِفي‬
‫وبهُ ْم ِم ْن ِذ ْك ِر اللَّ ِه أُولَئِ َ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫أَفَم ْن َشرح اللَّه ص ْدره ِلإْل ِ ساَل ِم فَهو علَى ُن ٍ ِ‬
‫ور م ْن َربِّه فَ َوْي ٌل لْلقَاسَية ُقلُ ُ‬ ‫َُ َ‬ ‫َ َ َ ُ َ َُ ْ‬
‫ين (‪)22‬‬ ‫ضاَل ٍل ُمبِ ٍ‬
‫َ‬

‫وبهُ ْم ِم ْن ِذ ْك ِر اللَّ ِه‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الم فَهو علَى ُن ٍ ِ‬


‫ور م ْن َربِّه فَ َوْي ٌل لْلقَاسَية ُقلُ ُ‬ ‫إلس ِ َُ َ‬
‫ِ‬
‫ص ْد َرهُ ل ْ‬
‫َّ‬
‫{ ‪ { } 22‬أَفَ َم ْن َش َر َح اللهُ َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ض ٍ‬
‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫أُولَئِ َ ِ‬
‫ك في َ‬
‫أي‪ :‬أفيستوي من شرح اللّه صدره لإلسالم‪ ،‬فاتسع لتلقي أحكام اللّه والعمل بها‪ ،‬منشرحا قرير‬
‫ِّه } كمن ليس كذلك‪،‬‬ ‫ور ِم ْن رب ِ‬ ‫العين‪ ،‬على بصيرة من أمره‪ ،‬وهو المراد بقوله‪ { :‬فَهَُو َعلَى ُن ٍ‬
‫َ‬
‫وبهُ ْم ِم ْن ِذ ْك ِر اللَّ ِه } أي‪ :‬ال تلين لكتابه‪ ،‬وال تتذكر آياته‪ ،‬وال تطمئن‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫بدليل قوله‪ { :‬فَ َوْي ٌل لْلقَاسَية ُقلُ ُ‬
‫بذكره‪ ،‬بل هي معرضة عن ربها‪ ،‬ملتفتة إلى غيره‪ ،‬فهؤالء لهم الويل الشديد‪ ،‬والشر الكبير‪.‬‬
‫ين } وأي ضالل أعظم من ضالل من أعرض عن وليه؟ ومن كل السعادة‬ ‫ض ٍ‬
‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫{ أُولَئِ َ ِ‬
‫ك في َ‬
‫في اإلقبال عليه‪ ،‬وقسا قلبه عن ذكره‪ ،‬وأقبل على كل ما يضره؟"‬

‫( ‪)1/722‬‬
‫ِ‬ ‫يث ِكتَابا متَ َشابِها مثَانِي تَ ْق َش ِع ُّر ِم ْنه جلُ ُ َِّ‬ ‫َحسن اْلح ِد ِ‬ ‫َّ‬
‫ود ُه ْم‬
‫ين ُجلُ ُ‬
‫ين َي ْخ َش ْو َن َربَّهُ ْم ثَُّم تَل ُ‬
‫ود الذ َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ً ُ ً َ َ‬ ‫اللهُ َن َّز َل أ ْ َ َ َ‬
‫ضِل ِل اللَّهُ فَ َما لَهُ ِم ْن َه ٍاد (‪)23‬‬ ‫َّ ِ ِ ِ‬
‫ك ُه َدى الله َي ْهدي بِه َم ْن َي َش ُ‬
‫اء َو َم ْن ُي ْ‬ ‫وبهُ ْم ِإلَى ِذ ْك ِر اللَّ ِه َذِل َ‬
‫َو ُقلُ ُ‬

‫يث ِكتَابا متَ َشابِها مثَانِي تَ ْق َش ِع ُّر ِم ْنه جلُ ُ َِّ‬‫َحسن اْلح ِد ِ‬ ‫َّ‬
‫ين َي ْخ َش ْو َن َربَّهُ ْم ثَُّم‬
‫ود الذ َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ً ُ ً َ َ‬ ‫{ ‪ { } 23‬اللهُ َن َّز َل أ ْ َ َ َ‬
‫ضِل ِل اللَّهُ فَ َما لَهُ ِم ْن َه ٍاد‬ ‫َّ ِ ِ ِ‬
‫ك ُه َدى الله َي ْهدي بِه َم ْن َي َش ُ‬
‫اء َو َم ْن ُي ْ‬ ‫وبهُ ْم ِإلَى ِذ ْك ِر اللَّ ِه َذِل َ‬
‫ود ُه ْم َو ُقلُ ُ‬
‫ين ُجلُ ُ‬ ‫ِ‬
‫تَل ُ‬
‫}‪.‬‬
‫َحسن اْلح ِد ِ‬
‫يث } على اإلطالق‪ ،‬فأحسن الحديث كالم اللّه‪،‬‬ ‫يخبر تعالى عن كتابه الذي نزله أنه { أ ْ َ َ َ‬
‫وأحسن الكتب المنزلة من كالم اللّه هذا القرآن‪ ،‬وإ ذا كان هو األحسن‪ ،‬علم أن ألفاظه [ ص ‪723‬‬
‫] أفصح األلفاظ وأوضحها‪ ،‬وأن معانيه‪ ،‬أجل المعاني‪ ،‬ألنه أحسن الحديث في لفظه ومعناه‪،‬‬
‫متشابها في الحسن واالئتالف وعدم االختالف‪ ،‬بوجه من الوجوه‪ .‬حتى إنه كلما تدبره المتدبر‪،‬‬
‫وتفكر فيه المتفكر‪ ،‬رأى من اتفاقه‪ ،‬حتى في معانيه الغامضة‪ ،‬ما يبهر الناظرين‪ ،‬ويجزم بأنه ال‬
‫يصدر إال من حكيم عليم‪ ،‬هذا المراد بالتشابه في هذا الموضع‪.‬‬
‫ُخ ُر‬ ‫ات ُه َّن أ ُُّم اْل ِكتَ ِ‬
‫اب َوأ َ‬ ‫اب ِم ْنهُ َآي ٌ‬
‫ات ُم ْح َك َم ٌ‬ ‫َنزل علَْي َ ِ‬
‫ك اْلكتَ َ‬
‫َِّ‬
‫وأما في قوله تعالى‪ُ { :‬ه َو الذي أ َ َ‬
‫ات } فالمراد بها‪ ،‬التي تشتبه على فهوم كثير من الناس‪ ،‬وال يزول هذا االشتباه إال بردها‬ ‫ُمتَ َشابِهَ ٌ‬
‫ات } فجعل التشابه‬ ‫ُخ ُر ُمتَ َشابِهَ ٌ‬ ‫ات ُه َّن أ ُُّم اْل ِكتَ ِ‬
‫اب َوأ َ‬ ‫إلى المحكم‪ ،‬ولهذا قال‪ِ { :‬م ْنهُ َآي ٌ‬
‫ات ُم ْح َك َم ٌ‬
‫يث } وهو سور وآيات‪،‬‬ ‫َحسن اْلح ِد ِ‬
‫لبعضه‪ ،‬وهنا جعله كله متشابها‪ ،‬أي‪ :‬في حسنه‪ ،‬ألنه قال‪ { :‬أ ْ َ َ َ‬
‫والجميع يشبه بعضه بعضا كما ذكرنا‪.‬‬
‫{ َمثَانِ َي } أي‪ :‬تثنى فيه القصص واألحكام‪ ،‬والوعد والوعيد‪ ،‬وصفات أهل الخير‪ ،‬وصفات أهل‬
‫الشر‪ ،‬وتثنى فيه أسماء اللّه وصفاته‪ ،‬وهذا من جاللته‪ ،‬وحسنه‪ ،‬فإنه تعالى‪ ،‬لما علم احتياج الخلق‬
‫إلى معانيه المزكية للقلوب‪ ،‬المكملة لألخالق‪ ،‬وأن تلك المعاني للقلوب‪ ،‬بمنزلة الماء لسقي‬
‫األشجار‪ ،‬فكما أن األشجار كلما بعد عهدها بسقي الماء نقصت‪ ،‬بل ربما تلفت‪ ،‬وكلما تكرر سقيها‬
‫حسنت وأثمرت أنواع الثمار النافعة‪ ،‬فكذلك القلب يحتاج دائما إلى تكرر معاني كالم اللّه تعالى‬
‫عليه‪ ،‬وأنه لو تكرر عليه المعنى مرة واحدة في جميع القرآن‪ ،‬لم يقع منه موقعا‪ ،‬ولم تحصل‬
‫النتيجة منه‪ ،‬ولهذا سلكت في هذا التفسير هذا المسلك الكريم‪ ،‬اقتداء بما هو تفسير له‪ ،‬فال تجد فيه‬
‫الحوالة على موضع من المواضع‪ ،‬بل كل موضع تجد تفسيره كامل المعنى‪ ،‬غير مراع لما‬
‫مضى مما يشبهه‪ ،‬وإ ن كان بعض المواضع يكون أبسط من بعض وأكثر فائدة‪ ،‬وهكذا ينبغي‬
‫للقارئ للقرآن‪ ،‬المتدبر لمعانيه‪ ،‬أن ال يدع التدبر في جميع المواضع منه‪ ،‬فإنه يحصل له بسبب‬
‫ذلك خير كثير‪ ،‬ونفع غزير‪.‬‬
‫ولما كان القرآن العظيم بهذه الجاللة والعظمة‪ ،‬أثَّر في قلوب أولي األلباب المهتدين‪ ،‬فلهذا قال‬
‫ين َي ْخ َش ْو َن َربَّهُ ْم } لما فيه من التخويف والترهيب المزعج‪ { ،‬ثَُّم‬ ‫تعالى‪ { :‬تَ ْق َش ِع ُّر ِم ْنه جلُ ُ َِّ‬
‫ود الذ َ‬ ‫ُ ُ‬
‫وبهُ ْم ِإلَى ِذ ْك ِر اللَّ ِه } أي‪ :‬عند ذكر الرجاء والترغيب‪ ،‬فهو تارة يرغبهم لعمل‬ ‫ود ُه ْم َو ُقلُ ُ‬ ‫ين ُجلُ ُ‬ ‫ِ‬
‫تَل ُ‬
‫الخير‪ ،‬وتارة يرهبهم من عمل الشر‪.‬‬
‫ك } الذي ذكره اللّه من تأثير القرآن فيهم { ُه َدى اللَّ ِه } أي‪ :‬هداية منه لعباده‪ ،‬وهو من جملة‬ ‫{ َذِل َ‬
‫ِ ِ‬
‫اء } من عباده‪ .‬ويحتمل أن المراد‬ ‫فضله وإ حسانه عليهم‪َ { ،‬ي ْهدي بِه } أي‪ :‬بسبب ذلك { َم ْن َي َش ُ‬
‫ك } أي‪ :‬القرآن الذي وصفناه لكم‪.‬‬ ‫بقوله‪َ { :‬ذِل َ‬
‫اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه } ممن حسن‬ ‫ِ ِ‬
‫{ ُه َدى الله } الذي ال طريق يوصل إلى اللّه إال منه { َي ْهدي بِه َم ْن َي َش ُ‬
‫َّ ِ‬
‫ضو َانهُ سُب َل الس ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ ِ ِ َّ‬
‫َّالم }‬ ‫ُ‬ ‫قصده‪ ،‬كما قال تعالى { َي ْهدي به اللهُ َم ِن اتَب َع ِر ْ َ‬
‫ضِل ِل اللَّهُ فَ َما لَهُ ِم ْن َه ٍاد } ألنه ال طريق يوصل إليه إال توفيقه والتوفيق لإلقبال على‬ ‫{ َو َم ْن ُي ْ‬
‫كتابه‪ ،‬فإذا لم يحصل هذا‪ ،‬فال سبيل إلى الهدى‪ ،‬وما هو إال الضالل المبين والشقاء‪.‬‬

‫( ‪)1/722‬‬

‫يل ِللظَّ ِال ِمين ُذوقُوا ما ُك ْنتُم تَ ْك ِسبون (‪َ )24‬ك َّذ َِّ‬ ‫ام ِة َو ِق َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‬
‫ب الذ َ‬‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أَفَ َم ْن َيتَّقي بِ َو ْج ِهه ُس َ‬
‫وء اْل َع َذاب َي ْو َم اْلقَي َ‬
‫اب‬ ‫ي ِفي اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫الد ْنَيا َولَ َع َذ ُ‬
‫َّ ِ‬
‫ون (‪ )25‬فَأَ َذاقَهُ ُم اللهُ اْلخ ْز َ‬‫ث اَل َي ْش ُع ُر َ‬ ‫اب ِم ْن َح ْي ُ‬ ‫ِم ْن قَْبِل ِه ْم فَأَتَ ُ‬
‫اه ُم اْل َع َذ ُ‬
‫ِ‬
‫ون (‪)26‬‬ ‫اآْل َخ َر ِة أَ ْكَب ُر لَ ْو َك ُانوا َي ْعلَ ُم َ‬

‫ِ‬ ‫اب يوم اْل ِقيام ِة و ِق َ ِ َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ون‬
‫ين ُذوقُوا َما ُك ْنتُ ْم تَ ْكسُب َ‬
‫يل للظالم َ‬ ‫وء اْل َع َذ َ ْ َ َ َ َ‬ ‫{ ‪ { } 26 - 24‬أَفَ َم ْن َيتَّقي بِ َو ْج ِهه ُس َ‬
‫ي ِفي اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫الد ْنَيا‬ ‫َّ ِ‬
‫ون * فَأَ َذاقَهُ ُم اللهُ اْلخ ْز َ‬
‫ث ال َي ْش ُع ُر َ‬‫اب ِم ْن َح ْي ُ‬ ‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم فَأَتَ ُ‬
‫اه ُم اْل َع َذ ُ‬
‫* َك َّذ َِّ‬
‫ب الذ َ‬‫َ‬
‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬‫اب اآلخ َر ِة أَ ْكَب ُر لَ ْو َك ُانوا َي ْعلَ ُم َ‬
‫َولَ َع َذ ُ‬
‫أي‪ :‬أفيستوي هذا الذي هداه اللّه‪ ،‬ووفقه لسلوك الطريق الموصلة لدار كرامته‪ ،‬كمن كان في‬
‫الضالل واستمر على عناده حتى قدم القيامة‪ ،‬فجاءه العذاب العظيم فجعل يتقي بوجهه الذي هو‬
‫أشرف األعضاء‪ ،‬وأدنى شيء من العذاب يؤثر فيه‪ ،‬فهو يتقي فيه سوء العذاب ألنه قد غلت يداه‬
‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ ِ‬
‫ون‬
‫ين } أنفسهم‪ ،‬بالكفر والمعاصي‪ ،‬توبيخا وتقريعا‪ُ { :‬ذوقُوا َما ُك ْنتُ ْم تَ ْكسُب َ‬ ‫ورجاله‪َ { ،‬و ِقي َل للظالم َ‬
‫}‬
‫ون }‬‫ث ال َي ْش ُع ُر َ‬‫اب ِم ْن َح ْي ُ‬ ‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم } من األمم كما كذب هؤالء‪ { ،‬فَأَتَ ُ‬
‫اه ُم اْل َع َذ ُ‬
‫{ َك َّذ َِّ‬
‫ب الذ َ‬ ‫َ‬
‫جاءهم في غفلة أول نهار‪ ،‬أو هم قائلون‪.‬‬
‫اب‬
‫الد ْنَيا } فافتضحوا عند اللّه وعند خلقه { َولَ َع َذ ُ‬ ‫ي ِفي اْل َحَي ِاة ُّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫{ فَأَ َذاقَهُ ُم اللهُ } بذلك العذاب { اْلخ ْز َ‬
‫ِ‬
‫اآلخ َر ِة أَ ْكَب ُر لَ ْو َك ُانوا َي ْعلَ ُم َ‬
‫ون } فليحذر هؤالء من المقام على التكذيب‪ ،‬فيصيبهم ما أصاب أولئك‬
‫من التعذيب‪.‬‬

‫( ‪)1/723‬‬

‫ون (‪ )27‬قُْرآًَنا َع َربِيًّا َغْي َر ِذي ِع َو ٍج‬ ‫َّ‬ ‫اس ِفي َه َذا اْلقُرآ ِ ِ‬
‫َن م ْن ُك ِّل َمثَ ٍل لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ‬ ‫ْ‬ ‫ض َر ْبَنا ِل َّلن ِ‬
‫َولَقَ ْد َ‬
‫ون َو َر ُجاًل َسلَ ًما ِل َر ُج ٍل َه ْل َي ْستَِوَي ِ‬
‫ان‬ ‫ِ‬
‫اء ُمتَ َشاك ُس َ‬
‫ِِ‬
‫ب اللهُ َمثَاًل َر ُجاًل فيه ُش َر َك ُ‬
‫لَعلَّهم يتَّقُون (‪ )28‬ضر َّ‬
‫ََ َ‬ ‫َ ُْ َ َ‬
‫ام ِة ِعْن َد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪ )30‬ثَُّم إَّن ُك ْم َي ْو َم اْلقَي َ‬
‫ِّت َوإِ َّنهُ ْم َميِّتُ َ‬
‫ك َمي ٌ‬ ‫ون (‪ِ )29‬إَّن َ‬ ‫َِّ ِ‬
‫َمثَاًل اْل َح ْم ُد لله َب ْل أَ ْكثَُر ُه ْم اَل َي ْعلَ ُم َ‬
‫ِ‬
‫ون (‪)31‬‬ ‫َرِّب ُك ْم تَ ْختَص ُم َ‬

‫َّ‬ ‫اس ِفي ه َذا اْلقُر ِ ِ‬ ‫ض َر ْبَنا ِل َّلن ِ‬


‫ون * قُْر ًآنا َع َربًِّيا‬ ‫آن م ْن ُك ِّل َمثَ ٍل لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫{ ‪َ { } 31 - 27‬ولَقَ ْد َ‬
‫ون َو َر ُجال َسلَ ًما ِل َر ُج ٍل‬ ‫ِ‬
‫اء ُمتَ َشاك ُس َ‬
‫ِِ‬
‫ب اللهُ َمثَال َر ُجال فيه ُش َر َك ُ‬
‫َغْير ِذي ِعو ٍج لَعلَّهم يتَّقُون * ضر َّ‬
‫ََ َ‬ ‫َ َ ُْ َ َ‬ ‫َ‬
‫ام ِة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون * ثَُّم إَّن ُك ْم َي ْو َم اْلقَي َ‬ ‫ِّت َوإِ َّنهُ ْم َميِّتُ َ‬ ‫ك َمي ٌ‬ ‫ون * ِإَّن َ‬ ‫َِّ ِ‬ ‫َه ْل َي ْستَِوَي ِ‬
‫ان َمثَال اْل َح ْم ُد لله َب ْل أَ ْكثَُر ُه ْم ال َي ْعلَ ُم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫عْن َد َرِّب ُك ْم تَ ْختَص ُم َ‬
‫يخبر تعالى أنه ضرب في القرآن من جميع األمثال‪ ،‬أمثال أهل الخير وأمثال أهل الشر‪ ،‬وأمثال‬
‫َّ‬
‫ون } عندما‬ ‫التوحيد والشرك‪ ،‬وكل مثل يقرب حقائق األشياء‪ ،‬والحكمة في ذلك { لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ‬
‫نوضح لهم الحق فيعلمون ويعملون‪.‬‬
‫رآنا َع َربِيًّا َغْي َر ِذي ِع َو ٍج } أي‪ :‬جعلناه قرآنا عربيا‪ ،‬واضح األلفاظ‪ [ ،‬ص ‪ ] 724‬سهل‬ ‫{ قُ ً‬
‫المعاني‪ ،‬خصوصا على العرب‪َ { .‬غ ْي َر ِذي ِع َو ٍج } أي‪ :‬ليس فيه خلل وال نقص بوجه من‬
‫الوجوه‪ ،‬ال في ألفاظه وال في معانيه‪ ،‬وهذا يستلزم كمال اعتداله واستقامته كما قال تعالى‪:‬‬
‫ِّما }‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫َِّ ِ َِّ‬
‫اب َولَ ْم َي ْج َع ْل لَهُ ع َو َجا قَي ً‬
‫{ اْل َح ْم ُد لله الذي أَنز َل َعلَى َع ْبده اْلكتَ َ‬
‫َّ‬
‫ون } اهلل تعالى‪ ،‬حيث سهلنا عليهم طرق التقوى العلمية والعملية‪ ،‬بهذا القرآن العربي‬ ‫{ لَ َعلهُ ْم َيتَّقُ َ‬
‫المستقيم‪ ،‬الذي ضرب اللّه فيه من كل مثل‪.‬‬
‫اء‬ ‫ِِ‬ ‫ثم ضرب مثال للشرك والتوحيد فقال‪ { :‬ضر َّ‬
‫ب اللهُ َمثَال َر ُجال } أي‪ :‬عبدا { فيه ُش َر َك ُ‬ ‫ََ َ‬
‫ون } فهم كثيرون‪ ،‬وليسوا متفقين على أمر من األمور وحالة من الحاالت حتى تمكن‬ ‫ِ‬
‫ُمتَ َشاك ُس َ‬
‫راحته‪ ،‬بل هم متشاكسون متنازعون فيه‪ ،‬كل له مطلب يريد تنفيذه ويريد اآلخر غيره‪ ،‬فما تظن‬
‫حال هذا الرجل مع هؤالء الشركاء المتشاكسين؟‬
‫{ َو َر ُجال َسلَ ًما ِل َر ُج ٍل } أي‪ :‬خالصا له‪ ،‬قد عرف مقصود سيده‪ ،‬وحصلت له الراحة التامة‪َ { .‬ه ْل‬
‫ان } أي‪ :‬هذان الرجالن { َمثَال } ؟ ال يستويان‪.‬‬ ‫َي ْستَِوَي ِ‬
‫كذلك المشرك‪ ،‬فيه شركاء متشاكسون‪ ،‬يدعو هذا‪ ،‬ثم يدعو هذا‪ ،‬فتراه ال يستقر له قرار‪ ،‬وال‬
‫يطمئن قلبه في موضع‪ ،‬والموحد مخلص لربه‪ ،‬قد خلصه اللّه من الشركة لغيره‪ ،‬فهو في أتم‬
‫ان َمثَال اْل َح ْم ُد ِللَّ ِه } على تبيين الحق من الباطل‪ ،‬وإ رشاد‬ ‫راحة وأكمل طمأنينة‪ ،‬فـ { َه ْل َي ْستَِوَي ِ‬
‫ون }‬‫الجهال‪َ { .‬ب ْل أَ ْكثَُر ُه ْم ال َي ْعلَ ُم َ‬
‫ك اْل ُخْل َد أَفَِإ ْن ِم َّ‬
‫ت فَهُ ُم‬ ‫ون } أي‪ :‬كلكم ال بد أن يموت { َو َما َج َعْلَنا ِلَب َش ٍر ِم ْن قَْبِل َ‬ ‫ِّت َوإِ َّنهُ ْم َميِّتُ َ‬ ‫{ ِإَّن َ‬
‫ك َمي ٌ‬
‫ون }‬ ‫ِ‬
‫اْل َخال ُد َ‬
‫ِ‬ ‫{ ثَُّم ِإَّن ُكم يوم اْل ِقي ِ ِ‬
‫ون } فيما تنازعتم فيه‪ ،‬فيفصل بينكم بحكمه العادل‪،‬‬ ‫امة ع ْن َد َرِّب ُك ْم تَ ْختَص ُم َ‬ ‫ْ َْ َ َ َ‬
‫صاهُ اللَّهُ َوَن ُسوهُ }‬‫َح َ‬ ‫ويجازي ُكال ما عمله { أ ْ‬

‫( ‪)1/723‬‬

‫ين (‪َ )32‬والَِّذي‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫اءهُ أَلَْي َس في َجهََّن َم َمثًْوى لْل َكاف ِر َ‬ ‫ق ِإ ْذ َج َ‬ ‫ب بِالص ْ‬
‫ِّد ِ‬ ‫َّ ِ َّ‬
‫ب َعلَى الله َو َكذ َ‬
‫فَم ْن أَ ْ ِ‬
‫ظلَ ُم م َّم ْن َك َذ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون عْن َد َرِّب ِه ْم َذل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‬
‫اء اْل ُم ْحسن َ‬
‫ك َج َز ُ‬ ‫اء َ‬
‫ون (‪ )33‬لَهُ ْم َما َي َش ُ‬ ‫ك ُه ُم اْل ُمتَّقُ َ‬
‫ق بِه أُولَئ َ‬‫ص َّد َ‬
‫ق َو َ‬ ‫اء بِالص ْ‬
‫ِّد ِ‬ ‫َج َ‬
‫َِّ‬ ‫َس َوأَ الَِّذي َع ِملُوا َوَي ْج ِزَيهُ ْم أ ْ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)35‬‬ ‫َح َس ِن الذي َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬ ‫َج َر ُه ْم بِأ ْ‬ ‫‪ )34‬لُي َكفَِّر اللهُ َعْنهُ ْم أ ْ‬

‫اءهُ أَلَْي َس ِفي َجهََّن َم َمثًْوى‬ ‫ق ِإ ْذ َج َ‬ ‫ب بِالص ْ‬


‫ِّد ِ‬ ‫َّ ِ َّ‬
‫ب َعلَى الله َو َكذ َ‬
‫{ ‪ { } 35 - 32‬فَم ْن أَ ْ ِ‬
‫ظلَ ُم م َّم ْن َك َذ َ‬ ‫َ‬
‫ون ِع ْن َد َرِّب ِه ْم َذِل َ‬
‫ك‬ ‫اء َ‬
‫ون * لَهُ ْم َما َي َش ُ‬ ‫ق بِ ِه أُولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم اْل ُمتَّقُ َ‬ ‫ص َّد َ‬
‫ق َو َ‬ ‫اء بِالص ْ‬
‫ِّد ِ‬ ‫َِّ‬
‫ين * َوالذي َج َ‬
‫ِ ِ‬
‫لْل َكاف ِر َ‬
‫َِّ‬ ‫َس َوأَ الَِّذي َع ِملُوا َوَي ْج ِزَيهُ ْم أ ْ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َح َس ِن الذي َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫ون }‬ ‫َج َر ُه ْم بِأ ْ‬ ‫ين * لُي َكفَِّر اللهُ َعْنهُ ْم أ ْ‬ ‫اء اْل ُم ْحسن َ‬
‫َج َز ُ‬
‫‪.‬‬
‫ب َعلَى اللَّ ِه } إما بنسبته إلى ما ال‬ ‫ِ‬
‫يقول تعالى‪ ،‬محذرا ومخبرا‪ :‬أنه ال أظلم وأشد ظلما { م َّم ْن َك َذ َ‬
‫يليق بجالله‪ ،‬أو بادعاء النبوة‪ ،‬أو اإلخبار بأن اللّه تعالى قال كذا‪ ،‬أو أخبر بكذا‪ ،‬أو حكم بكذا وهو‬
‫ون } إن كان جاهال وإ ال فهو‬ ‫َّ ِ‬
‫َن تَقُولُوا َعلَى الله َما ال تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫كاذب‪ ،‬فهذا داخل في قوله تعالى‪َ { :‬وأ ْ‬
‫أشنع وأشنع‪.‬‬
‫َّ‬
‫اءهُ } (‪ )1‬أي‪ :‬ما أظلم ممن جاءه الحق المؤيد بالبينات فكذبه‪ ،‬فتكذيبه ظلم‬ ‫ق ِإ ْذ َج َ‬ ‫ب بِالص ْ‬
‫ِّد ِ‬ ‫{ َو َكذ َ‬
‫عظيم منه‪ ،‬ألنه رد الحق بعد ما تبين له‪ ،‬فإن كان جامعا بين الكذب على اللّه والتكذيب بالحق‪،‬‬
‫كان ظلما على ظلم‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫{ أَلَْي َس في َجهََّن َم َمثًْوى لْل َكاف ِر َ‬
‫ين } يحصل بها االشتفاء منهم‪ ،‬وأخذ حق اللّه من كل ظالم وكافر‪.‬‬
‫يم }‬ ‫ِ‬ ‫{ ِإ َّن ِّ‬
‫ك لَظُْل ٌم َعظ ٌ‬ ‫الش ْر َ‬
‫اء‬ ‫َِّ‬
‫ولما ذكر الكاذب المكذب وجنايته وعقوبته‪ ،‬ذكر الصادق المصدق وثوابه‪ ،‬فقال‪َ { :‬والذي َج َ‬
‫ق } في قوله وعمله‪ ،‬فدخل في ذلك األنبياء ومن قام مقامهم‪ ،‬ممن صدق فيما قاله عن خبر‬ ‫بِالص ْ‬
‫ِّد ِ‬
‫اللّه وأحكامه‪ ،‬وفيما فعله من خصال الصدق‪.‬‬
‫ق بِ ِه } أي‪ :‬بالصدق ألنه قد يجيء اإلنسان بالصدق‪ ،‬ولكن قد ال يصدق به‪ ،‬بسبب‬
‫ص َّد َ‬
‫{ َو َ‬
‫استكباره‪ ،‬أو احتقاره لمن قاله وأتى به‪ ،‬فال بد في المدح من الصدق والتصديق‪ ،‬فصدقه يدل على‬
‫علمه وعدله‪ ،‬وتصديقه يدل على تواضعه وعدم استكباره‪.‬‬
‫ون } فإن جميع خصال التقوى ترجع‬ ‫ك } أي‪ :‬الذين وفقوا للجمع بين األمرين { ُه ُم اْل ُمتَّقُ َ‬ ‫{ أُولَئِ َ‬
‫إلى الصدق بالحق والتصديق به‪.‬‬
‫ون ِعْن َد َرِّب ِه ْم } من الثواب‪ ،‬مما ال عين رأت‪ ،‬وال أذن سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب‬ ‫اء َ‬ ‫{ لَهُ ْم َما َي َش ُ‬
‫بشر‪ .‬فكل ما تعلقت به إرادتهم ومشيئتهم‪ ،‬من أصناف اللذات والمشتهيات‪ ،‬فإنه حاصل لهم‪ ،‬معد‬
‫ين } الذين يعبدون اللّه كأنهم يرونه‪ ،‬فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم‬ ‫ِِ‬ ‫مهيأ‪َ { ،‬ذِل َ‬
‫اء اْل ُم ْحسن َ‬‫ك َج َز ُ‬
‫ين } إلى عباد اللّه‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫{ اْل ُم ْحسن َ‬
‫َِّ‬ ‫َس َوأَ الَِّذي َع ِملُوا َوَي ْج ِزَيهُ ْم أ ْ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫َج َر ُه ْم بِأ ْ‬
‫َح َس ِن الذي َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫ون } عمل اإلنسان له‬ ‫{ لُي َكفَِّر اللهُ َع ْنهُ ْم أ ْ‬
‫ثالث حاالت‪ :‬إما أسوأ‪ ،‬أو أحسن‪ ،‬أو ال أسوأ‪ ،‬وال أحسن‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين‪ :‬أو كذب بالحق لما جاءه‪.‬‬

‫( ‪)1/724‬‬

‫ضِل ِل اللَّهُ فَ َما لَهُ ِم ْن َه ٍاد (‪َ )36‬و َم ْن َي ْه ِد‬


‫ين ِم ْن ُدونِ ِه َو َم ْن ُي ْ‬ ‫ون َ َِّ‬
‫ك بِالذ َ‬ ‫اف َع ْب َدهُ َوُي َخ ِّوفُ َ‬‫أَلَْيس اللَّه بِ َك ٍ‬
‫َ ُ‬
‫يز ِذي ْانتِقَ ٍام (‪)37‬‬ ‫ض ٍّل أَلَْي َس اللَّهُ بِ َع ِز ٍ‬ ‫اللَّه فَما لَه ِم ْن م ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ َ ُ‬

‫والقسم األخير قسم المباحات وما ال يتعلق به ثواب وال عقاب‪ ،‬واألسوأ‪ ،‬المعاصي كلها‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫واألحسن الطاعات كلها‪ ،‬فبهذا التفصيل‪ ،‬يتبين معنى اآلية‪ ،‬وأن قوله‪ { :‬لُي َكفَِّر اللهُ َعْنهُ ْم أ ْ‬
‫َس َوأَ‬
‫َح َس ِن الَِّذي‬ ‫الَِّذي َع ِملُوا } أي‪ :‬ذنوبهم الصغار‪ ،‬بسبب إحسانهم وتقواهم‪َ { ،‬وَي ْج ِزَيهُ ْم أ ْ‬
‫َج َر ُه ْم بِأ ْ‬
‫اع ْفهَا َوُي ْؤ ِت‬‫ك حسَنةً يض ِ‬ ‫َك ُانوا يعملُون } أي‪ :‬بحسناتهم كلها { ِإ َّن اللَّه ال ي ِْ ِ‬
‫ظل ُم مثْقَا َل َذ َّر ٍة َوإِ ْن تَ ُ َ َ ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ََْ َ‬
‫يما }‬ ‫ِ‬ ‫ِم ْن لَ ُد ْنهُ أ ْ‬
‫َج ًرا َعظ ً‬
‫[ ص ‪] 725‬‬
‫ضِل ِل اللَّهُ فَ َما لَهُ ِم ْن َه ٍاد‬
‫ين ِم ْن ُدونِ ِه َو َم ْن ُي ْ‬ ‫ون َ َِّ‬
‫ك بِالذ َ‬ ‫اف َعْب َدهُ َوُي َخ ِّوفُ َ‬‫{ ‪ { } 37 - 36‬أَلَْيس اللَّه بِ َك ٍ‬
‫َ ُ‬
‫يز ِذي ْانتِقَ ٍام } ‪.‬‬‫ض ٍّل أَلَْي َس اللَّهُ بِ َع ِز ٍ‬
‫* وم ْن يه ِد اللَّه فَما لَه ِم ْن م ِ‬
‫ُ‬ ‫ََ َْ ُ َ ُ‬
‫{ أَلَْيس اللَّه بِ َك ٍ‬
‫اف َعْب َدهُ } أي‪ :‬أليس من كرمه وجوده‪ ،‬وعنايته بعبده‪ ،‬الذي قام بعبوديته‪ ،‬وامتثل‬ ‫َ ُ‬
‫أمره واجتنب نهيه‪ ،‬خصوصا أكمل الخلق عبودية لربه‪ ،‬وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬فإن‬
‫اللّه تعالى سيكفيه في أمر دينه ودنياه‪ ،‬ويدفع عنه من ناوأه بسوء‪.‬‬
‫ين ِم ْن ُدونِ ِه } من األصنام واألنداد أن تنالك بسوء‪ ،‬وهذا من غيهم وضاللهم‪.‬‬ ‫ون َ َِّ‬
‫ك بِالذ َ‬ ‫{ َوُي َخ ِّوفُ َ‬
‫ض ٍّل } ألنه تعالى الذي بيده الهداية‬ ‫ضِل ِل اللَّه فَما لَه ِم ْن َه ٍاد وم ْن يه ِد اللَّه فَما لَه ِم ْن م ِ‬
‫{ َو َم ْن ُي ْ‬
‫ُ‬ ‫ََ َْ ُ َ ُ‬ ‫ُ َ ُ‬
‫واإلضالل‪ ،‬وهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن‪ { .‬أَلَْي َس اللَّهُ بِ َع ِز ٍ‬
‫يز } له العزة الكاملة التي‬
‫قهر بها كل شيء‪ ،‬وبعزته يكفي عبده ويدفع عنه مكرهم‪ِ { .‬ذي ْانتِقَ ٍام } ممن عصاه‪ ،‬فاحذروا‬
‫موجبات نقمته‪.‬‬

‫( ‪)1/724‬‬

‫ون اللَّ ِه ِإ ْن أ ََر َادنِ َي‬


‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫َّ‬
‫ض لََيقُولُ َّن اللهُ ُق ْل أَفََرأ َْيتُ ْم َما تَ ْد ُع َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َواأْل َْر َ‬ ‫َولَئِ ْن َسأَْلتَهُ ْم َم ْن َخلَ َ‬
‫ق الس َ‬
‫ات َر ْح َمتِ ِه ُق ْل َح ْسبِ َي اللَّهُ َعلَْي ِه‬
‫ضِّر ِه أ َْو أ ََر َادنِي بَِر ْح َم ٍة َه ْل ُه َّن ُم ْم ِس َك ُ‬
‫ات ُ‬
‫اللَّه بِضٍّر َه ْل ُه َّن َك ِ‬
‫اشفَ ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫ون (‪)38‬‬ ‫َيتََو َّك ُل اْل ُمتََو ِّكلُ َ‬

‫ون اللَّ ِه‬


‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫َّ‬
‫ض لََيقُولُ َّن اللهُ ُق ْل أَفََرأ َْيتُ ْم َما تَ ْد ُع َ‬‫األر َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ق الس َ‬ ‫{ ‪َ { } 38‬ولَئِ ْن َسأَْلتَهُ ْم َم ْن َخلَ َ‬
‫ات َر ْح َمتِ ِه ُق ْل َح ْسبِ َي‬‫ضِّر ِه أ َْو أ ََر َادنِي بَِر ْح َم ٍة َه ْل ُه َّن ُم ْم ِس َك ُ‬‫ات ُ‬
‫اشفَ ُ‬‫ِإ ْن أَر َادنِي اللَّه بِضٍّر َه ْل ُه َّن َك ِ‬
‫َ َ ُ ُ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫اللهُ َعلَْيه َيتََو َّك ُل اْل ُمتََو ِّكلُ َ‬
‫أي‪ :‬ولئن سألت هؤالء الضالل الذين يخوفونك بالذين من دونه‪ ،‬وأقمت عليهم دليال من أنفسهم‪،‬‬
‫ض } لم يثبتوا آللهتهم من خلقها شيئا‪ { .‬لََيقُولُ َّن اللَّهُ } الذي‬ ‫األر َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ق الس َ‬ ‫فقلت‪َ { :‬م ْن َخلَ َ‬
‫خلقها‪ .‬وحده‪ُ { .‬ق ْل } لهم مقررا عجز آلهتهم‪ ،‬بعد ما تبينت قدرة اللّه‪ { :‬أَفََرأ َْيتُ ْم } أي‪ :‬أخبروني‬
‫ِ َّ‬ ‫{ ما تَ ْدعون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫أي ضر كان‪.‬‬ ‫ضٍّر } َّ‬ ‫ون الله ِإ ْن أ ََر َادن َي اللهُ بِ ُ‬ ‫َ ُ َ‬
‫ضِّر ِه } بإزالته بالكلية‪ ،‬أو بتخفيفه من حال إلى حال؟‪ { .‬أ َْو أ ََر َادنِي بَِر ْح َم ٍة }‬ ‫ات ُ‬ ‫اشفَ ُ‬ ‫{ َه ْل ُه َّن َك ِ‬
‫ات َر ْح َمتِ ِه } ومانعاتها عني؟‪.‬سيقولون‪:‬‬ ‫إلي بها منفعة في ديني أو دنياي‪َ { .‬ه ْل ُه َّن ُم ْم ِس َك ُ‬ ‫يوصل َّ‬
‫ال يكشفون الضر وال يمسكون الرحمة‪.‬‬
‫قل لهم بعد ما تبين الدليل القاطع على أنه وحده المعبود‪ ،‬وأنه الخالق للمخلوقات‪ ،‬النافع الضار‬
‫وحده‪ ،‬وأن غيره عاجز من كل وجه‪.‬عن الخلق والنفع والضر‪ ،‬مستجلبا كفايته‪ ،‬مستدفعا مكرهم‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ون } أي‪ :‬عليه يعتمد المعتمدون في جلب مصالحهم‬ ‫وكيدهم‪ُ { :‬ق ْل َح ْسبِ َي اللهُ َعلَْيه َيتََو َّك ُل اْل ُمتََو ِّكلُ َ‬
‫ودفع مضارهم‪ ،‬فالذي بيده ‪ -‬وحده ‪ -‬الكفاية هو حسبي‪ ،‬سيكفيني كل ما أهمني وما ال أهتم به‪.‬‬
‫( ‪)1/725‬‬

‫يه َوَي ِح ُّل َعلَْي ِه‬


‫اب ي ْخ ِز ِ‬ ‫ِِ‬
‫ون (‪َ )39‬م ْن َيأْتيه َع َذ ٌ ُ‬
‫ف تَ ْعلَ ُم َ‬
‫اعملُوا علَى م َك َانتِ ُكم ِإِّني ع ِ‬
‫ام ٌل فَ َس ْو َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُق ْل َيا قَ ْوِم ْ َ َ َ‬
‫يم (‪)40‬‬ ‫ع َذ ٌ ِ‬
‫اب ُمق ٌ‬ ‫َ‬

‫ف تَعلَمون * م ْن يأْتِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫اب‬
‫يه َع َذ ٌ‬ ‫اع َملُوا َعلَى َم َك َانت ُك ْم ِإِّني َعام ٌل فَ َس ْو َ ْ ُ َ َ َ‬
‫{ ‪ُ { } 40 - 39‬ق ْل َيا قَ ْوِم ْ‬
‫يه وي ِح ُّل علَْي ِه ع َذ ٌ ِ‬
‫ِ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫اب ُمق ٌ‬ ‫َ َ‬ ‫ُي ْخ ِز َ َ‬
‫اع َملُوا َعلَى َم َك َانتِ ُك ْم } أي‪ :‬على حالتكم التي رضيتموها‬ ‫أي‪ُ { :‬ق ْل } لهم يا أيها الرسول‪َ { :‬يا قَ ْوِم ْ‬
‫ألنفسكم‪ ،‬من عبادة من ال يستحق من العبادة شيئا وال له من األمر شيء‪.‬‬
‫ون } لمن‬ ‫{ ِإِّني ع ِ‬
‫ف تَ ْعلَ ُم َ‬‫ام ٌل } على ما دعوتكم إليه‪ ،‬من إخالص الدين للّه تعالى وحده‪ { .‬فَ َس ْو َ‬ ‫َ‬
‫العاقبة‬
‫يم } ال يحول عنه‬ ‫يه } في الدنيا‪ { .‬وي ِح ُّل علَْي ِه } في األخرى { ع َذ ٌ ِ‬
‫اب ي ْخ ِز ِ‬ ‫ِِ‬
‫اب ُمق ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫و { َم ْن َيأْتيه َع َذ ٌ ُ‬
‫وال يزول‪ ،‬وهذا تهديد عظيم لهم‪ ،‬وهم يعلمون أنهم المستحقون للعذاب المقيم‪ ،‬ولكن الظلم والعناد‬
‫حال بينهم وبين اإليمان‪.‬‬

‫( ‪)1/725‬‬

‫اهتَ َدى َفِلَن ْف ِس ِه وم ْن ض َّل فَِإَّنما ي ِ‬


‫ض ُّل َعلَْيهَا َو َما أ َْن َ‬
‫ت َعلَْي ِه ْم‬ ‫اب ِل َّلن ِ‬
‫اس بِاْل َح ِّ‬
‫ق فَ َم ِن ْ‬ ‫ِإَّنا أ َْن َزْلَنا علَْي َ ِ‬
‫َ َ‬ ‫ََ َ‬ ‫ك اْلكتَ َ‬ ‫َ‬
‫يل (‪)41‬‬ ‫بِو ِك ٍ‬
‫َ‬

‫اهتَ َدى َفِلَن ْف ِس ِه وم ْن ض َّل فَِإَّنما ي ِ‬


‫ض ُّل َعلَْيهَا َو َما‬ ‫اب ِل َّلن ِ‬
‫اس بِاْل َح ِّ‬
‫ق فَ َم ِن ْ‬ ‫{ ‪ِ { } 41‬إَّنا أ َْن َزْلَنا علَْي َ ِ‬
‫َ َ‬ ‫ََ َ‬ ‫ك اْلكتَ َ‬ ‫َ‬
‫يل } ‪.‬‬ ‫ت َعلَْي ِهم بِو ِك ٍ‬‫أ َْن َ‬
‫ْ َ‬
‫يخبر تعالى أنه أنزل على رسوله الكتاب المشتمل على الحق‪ ،‬في أخباره وأوامره ونواهيه‪ ،‬الذي‬
‫هو مادة الهداية‪ ،‬وبالغ لمن أراد الوصول إلى اللّه وإ لى دار كرامته‪ ،‬وأنه قامت به الحجة على‬
‫العالمين‪.‬‬
‫ض َّل } بعدما تبين له‬
‫اهتَ َدى } بنوره واتبع أوامره فإن نفع ذلك يعود إلى نفسه { َو َم ْن َ‬ ‫{ فَ َم ِن ْ‬
‫يل } تحفظ عليهم أعمالهم‬ ‫ت َعلَْي ِهم بِو ِك ٍ‬ ‫الهدى { فَِإَّنما ي ِ‬
‫ض ُّل َعلَْيهَا } ال يضر اللّه شيئا‪َ { .‬و َما أ َْن َ‬ ‫َ َ‬
‫ْ َ‬
‫وتحاسبهم عليها‪ ،‬وتجبرهم على ما تشاء‪ ،‬وإ نما أنت مبلغ تؤدي إليهم ما أمرت به‪.‬‬
‫( ‪)1/725‬‬

‫ت َوُي ْر ِس ُل‬
‫ضى َعلَْيهَا اْل َم ْو َ‬ ‫امها فَيم ِس ُ َّ ِ‬
‫ك التي قَ َ‬
‫ِ‬
‫ت في َمَن َ ُ ْ‬
‫اللَّه يتَوفَّى اأْل َْنفُس ِحين موتِها والَّتِي لَم تَم ْ ِ‬
‫ْ ُ‬ ‫َ َْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ََُ‬
‫ٍ ِ‬ ‫َج ٍل ُم َس ًّمى ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ون (‪)42‬‬ ‫ك آَل ََيات لقَ ْوٍم َيتَفَ َّك ُر َ‬ ‫ُخ َرى ِإلَى أ َ‬
‫اأْل ْ‬

‫ت‬
‫ضى َعلَْيهَا اْل َم ْو َ‬ ‫امها فَيم ِس ُ َّ ِ‬
‫ِ‬ ‫األنفُس ِحين موتِها والَّتِي لَم تَم ْ ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ك التي قَ َ‬ ‫ت في َمَن َ ُ ْ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ َْ َ َ‬ ‫{ ‪ { } 42‬اللهُ َيتََوفى ْ َ‬
‫ٍ ِ‬ ‫َج ٍل ُم َس ًّمى ِإ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫َوُي ْر ِس ُل ْ‬
‫ون } ‪.‬‬‫آليات لقَ ْوٍم َيتَفَ َّك ُر َ‬
‫ك َ‬ ‫األخ َرى ِإلَى أ َ‬
‫يخبر تعالى أنه المتفرد بالتصرف بالعباد‪ ،‬في حال يقظتهم ونومهم‪ ،‬وفي حال حياتهم وموتهم‪،‬‬
‫ين َم ْوتِهَا } وهذه الوفاة الكبرى‪ ،‬وفاة الموت‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫فقال‪ { :‬اللَّهُ َيتََوفَّى ْ‬
‫األنفُ َس ح َ‬
‫وإ خباره أنه يتوفى األنفس وإ ضافة الفعل إلى نفسه‪ ،‬ال ينافي أنه قد وكل بذلك ملك الموت‬
‫ِّ‬ ‫ِ َِّ‬ ‫وأعوانه‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ { :‬ق ْل َيتََوفَّا ُك ْم َملَ ُ‬
‫ت‬
‫َح َد ُك ُم اْل َم ْو ُ‬ ‫ك اْل َم ْوت الذي ُوك َل بِ ُك ْم } { َحتَّى ِإ َذا َج َ‬
‫اء أ َ‬
‫ون } ألنه تعالى يضيف األشياء إلى نفسه‪ ،‬باعتبار أنه الخالق المدبر‪،‬‬ ‫تََوفَّتْهُ ُر ُسلَُنا َو ُه ْم ال ُيفَِّرطُ َ‬
‫ويضيفها إلى أسبابها‪ ،‬باعتبار أن من سننه تعالى وحكمته أن جعل لكل أمر من األمور سببا‪.‬‬
‫امهَا } وهذه الموتة الصغرى‪ ،‬أي‪ :‬ويمسك النفس التي لم تمت في‬ ‫ت ِفي مَن ِ‬ ‫وقوله‪َ { :‬والَّتِي لَ ْم تَ ُم ْ‬
‫َ‬
‫ت } وهي نفس [ ص ‪] 726‬‬ ‫ضى َعلَْيهَا اْل َم ْو َ‬ ‫َّ ِ‬ ‫منامها‪ { ،‬فَُي ْم ِس ُ‬
‫ك } من هاتين النفسين النفس { التي قَ َ‬
‫من كان مات‪ ،‬أو قضي أن يموت في منامه‪.‬‬
‫ك‬‫َج ٍل ُم َس ًّمى } أي‪ :‬إلى استكمال رزقها وأجلها‪ِ { .‬إ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫{ َوُي ْر ِس ُل } النفس { ْ‬
‫األخ َرى ِإلَى أ َ‬
‫ٍ ِ‬
‫ون } على كمال اقتداره‪ ،‬وإ حيائه الموتى بعد موتهم‪.‬‬ ‫آليات لقَ ْوٍم َيتَفَ َّك ُر َ‬
‫َ‬
‫وفي هذه اآلية دليل على أن الروح والنفس جسم قائم بنفسه‪ ،‬مخالف جوهره جوهر البدن‪ ،‬وأنها‬
‫مخلوقة مدبرة‪ ،‬يتصرف اللّه فيها في الوفاة واإلمساك واإلرسال‪ ،‬وأن أرواح األحياء واألموات‬
‫تتالقى في البرزخ‪ ،‬فتجتمع‪ ،‬فتتحادث‪ ،‬فيرسل اللّه أرواح األحياء‪ ،‬ويمسك أرواح األموات‪.‬‬

‫( ‪)1/725‬‬

‫اعةُ‬ ‫ون (‪ُ )43‬ق ْل ِللَّ ِه َّ‬


‫الشفَ َ‬
‫ِ‬
‫ون َش ْيًئا َواَل َي ْعقلُ َ‬
‫ِ‬
‫اء ُق ْل أ ََولَ ْو َك ُانوا اَل َي ْمل ُك َ‬
‫أَِم اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون الله ُشفَ َع َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)44‬‬ ‫ض ثَُّم ِإلَْيه تُْر َج ُع َ‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬
‫َّم َاو َ‬ ‫ك الس َ‬
‫يعا لَهُ ُمْل ُ‬
‫َجم ً‬
‫ون * ُق ْل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 44 - 43‬أَِم اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون َش ْيًئا َوال َي ْعقلُ َ‬
‫اء ُق ْل أ ََولَ ْو َك ُانوا ال َي ْمل ُك َ‬
‫ون الله ُشفَ َع َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِللَّ ِه َّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ض ثَُّم ِإلَْيه تُْر َج ُع َ‬ ‫األر ِ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ك الس َ‬‫يعا لَهُ ُمْل ُ‬ ‫اعةُ َجم ً‬
‫الشفَ َ‬
‫ينكر تعالى‪ ،‬على من اتخذ من دونه شفعاء يتعلق بهم ويسألهم ويعبدهم‪ُ { .‬ق ْل } لهم ‪ -‬مبينا‬
‫جهلهم‪ ،‬وأنها ال تستحق شيئا من العبادة‪ { :-‬أ ََولَ ْو َك ُانوا } أي‪ :‬من اتخذتم من الشفعاء { ال‬
‫ون َش ْيًئا } أي‪ :‬ال مثقال ذرة في السماوات وال في األرض‪ ،‬وال أصغر من ذلك وال أكبر‪ ،‬بل‬ ‫ِ‬
‫َي ْمل ُك َ‬
‫وليس لهم عقل‪ ،‬يستحقون أن يمدحوا به‪ ،‬ألنها جمادات من أحجار وأشجار وصور وأموات‪ ،‬فهل‬
‫يقال‪ :‬إن لمن اتخذها عقال؟ أم هو من أضل الناس وأجهلهم وأعظمهم ظلما؟‪.‬‬
‫يعا } ألن األمر كله للّه‪.‬وكل شفيع فهو يخافه‪ ،‬وال يقدر أن يشفع‬ ‫ِ‬ ‫{ ُق ْل } لهم‪ِ { :‬للَّ ِه َّ‬
‫اعةُ َجم ً‬
‫الشفَ َ‬
‫عنده أحد إال بإذنه‪ ،‬فإذا أراد رحمة عبده‪ ،‬أذن للشفيع الكريم عنده أن يشفع‪ ،‬رحمة باالثنين‪ .‬ثم‬
‫ض } أي‪ :‬جميع ما فيهما من الذوات‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ك الس َ‬
‫قرر أن الشفاعة كلها له بقوله { لَهُ ُمْل ُ‬
‫واألفعال والصفات‪ .‬فالواجب أن تطلب الشفاعة ممن يملكها‪ ،‬وتخلص له العبادة‪ { .‬ثَُّم ِإلَْي ِه‬
‫ون } فيجازي المخلص له بالثواب الجزيل‪ ،‬ومن أشرك به بالعذاب الوبيل‪.‬‬
‫تُْر َج ُع َ‬

‫( ‪)1/726‬‬

‫ين ِم ْن ُدونِ ِه ِإ َذا ُه ْم‬ ‫ِ َِّ‬ ‫ِ‬


‫ون بِاآْل َخ َر ِة َوإِ َذا ُذك َر الذ َ‬
‫ين اَل ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫َِّ‬
‫وب الذ َ‬
‫ت ُقلُ ُ‬‫َوإِ َذا ُذ ِك َر اللَّهُ َو ْح َدهُ ا ْش َمأ ََّز ْ‬
‫ت تَ ْح ُك ُم َب ْي َن ِعَب ِاد َ‬
‫ك‬ ‫اد ِة أ َْن َ‬ ‫ض َع ِالم اْل َغ ْي ِب و َّ‬
‫الشهَ َ‬ ‫َ‬ ‫َّم َاوات َواأْل َْر ِ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫ون (‪ُ )45‬قل اللهُ َّم فَاط َر الس َ‬
‫ِ‬
‫َي ْستَْبش ُر َ‬
‫ون (‪)46‬‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫في َما َك ُانوا فيه َي ْختَلفُ َ‬

‫ين ِم ْن‬ ‫ِ َِّ‬ ‫ِ‬


‫ون بِاآلخ َر ِة َوإِ َذا ُذك َر الذ َ‬ ‫ين ال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫َِّ‬
‫وب الذ َ‬ ‫{ ‪َ { } 46 - 45‬وإِ َذا ُذ ِك َر اللَّهُ َو ْح َدهُ ا ْش َمأ ََّز ْ‬
‫ت ُقلُ ُ‬
‫اد ِة أ َْن َ‬
‫ت تَ ْح ُك ُم َب ْي َن‬ ‫ض َع ِالم اْل َغ ْي ِب و َّ‬
‫الشهَ َ‬ ‫َ‬ ‫األر ِ َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫ون * ُقل اللهُ َّم فَاط َر الس َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُدونِه ِإ َذا ُه ْم َي ْستَْبش ُر َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِعب ِاد َ ِ‬
‫ك في َما َك ُانوا فيه َي ْختَلفُ َ‬ ‫َ‬
‫يذكر تعالى حالة المشركين‪ ،‬وما الذي اقتضاه شركهم أنهم { ِإ َذا ُذ ِك َر اللَّهُ } توحيدا له‪ ،‬وأمر‬
‫بإخالص الدين له‪ ،‬وترك ما يعبد من دونه‪ ،‬أنهم يشمئزون وينفرون‪ ،‬ويكرهون ذلك أشد‬
‫الكراهة‪.‬‬
‫ين ِم ْن ُدونِ ِه } من األصنام واألنداد‪ ،‬ودعا الداعي إلى عبادتها ومدحها‪ِ { ،‬إ َذا ُه ْم‬ ‫ِ َِّ‬
‫{ َوإِ َذا ُذك َر الذ َ‬
‫ون } بذلك‪ ،‬فرحا بذكر معبوداتهم‪ ،‬ولكون الشرك موافقا ألهوائهم‪ ،‬وهذه الحال أشر‬ ‫ِ‬
‫َي ْستَْبش ُر َ‬
‫الحاالت وأشنعها‪ ،‬ولكن موعدهم يوم الجزاء‪ .‬فهناك يؤخذ الحق منهم‪ ،‬وينظر‪ :‬هل تنفعهم آلهتهم‬
‫التي كانوا يدعون من دون اللّه شيئا؟‪.‬‬
‫ض } أي‪ :‬خالقهما ومدبرهما‪َ { .‬ع ِال َم اْل َغ ْي ِب } الذي‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫ولهذا قال { ُقل اللهُ َّم فَاط َر الس َ‬
‫اد ِة } الذي نشاهده‪.‬‬ ‫غاب عن أبصارنا وعلمنا { و َّ‬
‫الشهَ َ‬ ‫َ‬
‫ون } وإ ن من أعظم االختالف اختالف الموحدين‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ت تَ ْح ُكم ب ْين ِعب ِاد َ ِ‬
‫ك في َما َك ُانوا فيه َي ْختَلفُ َ‬ ‫َُ َ َ‬ ‫{ أ َْن َ‬
‫المخلصين القائلين‪ :‬إن ما هم عليه هو الحق‪ ،‬وإ ن لهم الحسنى في اآلخرة دون غيرهم‪،‬‬
‫والمشركين الذين اتخذوا من دونك األنداد واألوثان‪ ،‬وسووا فيك من ال يسوى شيئا‪ ،‬وتنقصوك‬
‫غاية التنقص‪ ،‬واستبشروا عند ذكر آلهتهم‪ ،‬واشمأزوا عند ذكرك‪ ،‬وزعموا مع هذا أنهم على‬
‫الحق وغيرهم على الباطل‪ ،‬وأن لهم الحسنى‪.‬‬
‫ين أَ ْش َر ُكوا ِإ َّن‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫َِّ‬
‫وس َوالذ َ‬ ‫ص َارى َواْل َم ُج َ‬ ‫الن َ‬‫ين َو َّ‬ ‫ادوا َوالصَّابِئ َ‬ ‫ين َه ُ‬‫آمُنوا َوالذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫قال تعالى‪ِ { :‬إ َّن الذ َ‬
‫ام ِة ِإ َّن اللَّهَ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه ٌ‬
‫يد }‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫اللهَ َي ْفص ُل َب ْيَنهُ ْم َي ْو َم اْلقَي َ‬
‫ين َكفَ ُروا قُطِّ َع ْ‬
‫ت‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫ص ُموا في َرِّب ِه ْم فَالذ َ‬ ‫اختَ َ‬
‫ان ْ‬ ‫ص َم ِ‬ ‫ان َخ ْ‬ ‫وقد أخبرنا بالفصل بينهم بعدها بقوله‪َ { :‬ه َذ ِ‬
‫ِ‬ ‫صهَ ُر بِ ِه َما ِفي ُبطُونِ ِه ْم َواْل ُجلُ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ب ِم ْن فَ ْو ِ‬ ‫لَهم ثِي ٌ ِ‬
‫ود َولَهُ ْم َمقَامعُ‬ ‫يم ُي ْ‬‫ق ُر ُءوسه ُم اْل َحم ُ‬ ‫اب م ْن َن ٍار ُي َ‬
‫ص ُّ‬ ‫ُْ َ‬
‫ات تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِهَا‬ ‫ات جَّن ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َح َ‬ ‫ين َ‬
‫َّ ِ َِّ‬
‫م ْن َحديد } إلى أن قال‪ِ { :‬إ َّن اللهَ ُي ْدخ ُل الذ َ‬
‫ِ ٍِ‬
‫اسهُ ْم ِفيهَا َح ِر ٌير }‬ ‫ِ‬
‫َس ِاو َر م ْن َذ َه ٍب َولُ ْؤلُ ًؤا َوِلَب ُ‬
‫َّ ِ ِ‬
‫األنهَ ُار ُي َحل ْو َن فيهَا م ْن أ َ‬ ‫ْ‬
‫ون } { ِإَّنهُ َم ْن‬
‫األم ُن َو ُه ْم ُم ْهتَ ُد َ‬
‫ك لَهُ ُم ْ‬ ‫يم َانهُ ْم بِظُْلٍم أُولَئِ َ‬ ‫ِ ِ‬
‫آمُنوا َولَ ْم َيْلب ُسوا إ َ‬ ‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫وقال تعالى‪ { :‬الذ َ‬
‫الن ُار } ففي هذه اآلية‪ ،‬بيان عموم خلقه تعالى وعموم‬ ‫ُي ْش ِر ْك بِاللَّ ِه فَقَ ْد َح َّر َم اللَّهُ َعلَْي ِه اْل َجَّنةَ َو َمأ َْواهُ َّ‬
‫علمه‪ ،‬وعموم حكمه بين عباده‪ ،‬فقدرته التي نشأت عنها المخلوقات‪ ،‬وعلمه المحيط بكل شيء‪،‬‬
‫دال على حكمه بين عباده وبعثهم‪ ،‬وعلمه بأعمالهم‪ ،‬خيرها وشرها‪ ،‬وبمقادير جزائها‪ ،‬وخلقه دال‬
‫ق}‬
‫على علمه { أَال َي ْعلَ ُم َم ْن َخلَ َ‬

‫( ‪)1/726‬‬

‫ام ِة َوَب َدا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ض َج ِم ً ِ‬


‫يعا َوم ْثلَهُ َم َعهُ اَل ْفتَ َد ْوا به م ْن ُسوء اْل َع َذاب َي ْو َم اْلقَي َ‬ ‫ظلَ ُموا َما ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫ين َ‬ ‫ولَو أ َّ َِِّ‬
‫َن للذ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ون (‪)47‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ونوا َي ْحتَسُب َ‬
‫لَهُ ْم م َن الله َما لَ ْم َي ُك ُ‬

‫يعا و ِم ْثلَهُ م َعهُ ال ْفتَ َدوا بِ ِه ِم ْن ُسو ِء اْل َع َذ ِ‬


‫اب‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 48 - 47‬ولَو أ َّ َِِّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫األرض َجم ً َ‬
‫ظلَ ُموا َما في ْ‬ ‫ين َ‬ ‫َن للذ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ام ِة َوَب َدا لَهُ ْم م َن الله َما لَ ْم َي ُك ُ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ونوا َي ْحتَسُب َ‬ ‫َي ْو َم اْلقَي َ‬
‫لما ذكر تعالى أنه الحاكم بين عباده‪ ،‬وذكر مقالة المشركين وشناعتها‪ ،‬كأن النفوس تشوقت إلى ما‬
‫وء اْل َع َذ ِ‬
‫اب } أي‪ :‬أشده وأفظعه‪ ،‬كما قالوا أشد الكفر‬ ‫يفعل اللّه بهم يوم القيامة‪ ،‬فأخبر أن لهم { ُس َ‬
‫وأشنعه‪ ،‬وأنهم على ‪ -‬الفرض والتقدير ‪ -‬لو كان لهم ما في األرض جميعا‪ ،‬من ذهبها وفضتها‬
‫ولؤلؤها وحيواناتها وأشجارها وزروعها وجميع أوانيها وأثاثها ومثله معه‪ ،‬ثم بذلوه يوم القيامة‬

‫ليفتدوا به من العذاب وينجوا منه‪ ،‬ما قبل منهم‪ ،‬وال أغنى عنهم من عذاب اللّه شيئا‪َ { ،‬ي ْو َم ال َي ْنفَعُ‬
‫ون ِإال َم ْن أَتَى اللَّهَ بِ َقْل ٍب َسِل ٍيم }‬ ‫َما ٌل َوال َبُن َ‬
‫ون } أي‪ :‬يظنون من السخط العظيم‪ ،‬والمقت الكبير‪ ،‬وقد‬ ‫ِ‬ ‫{ َوَب َدا لَهُ ْم ِم َن اللَّ ِه َما لَ ْم َي ُك ُ‬
‫ونوا َي ْحتَسُب َ‬
‫كانوا [ ص ‪ ] 727‬يحكمون ألنفسهم بغير ذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/726‬‬

‫ِ‬
‫اق بِ ِه ْم َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬
‫ون (‪)48‬‬ ‫ات َما َك َسُبوا َو َح َ‬
‫َوَب َدا لَهُ ْم َسيَِّئ ُ‬

‫ِ‬
‫اق بِ ِه ْم َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ات َما َك َسُبوا َو َح َ‬
‫{ َوَب َدا لَهُ ْم َسيَِّئ ُ‬
‫اق بِ ِه ْم َما‬
‫ات َما َك َسُبوا } أي‪ :‬األمور التي تسوؤهم‪ ،‬بسبب صنيعهم وكسبهم‪َ { .‬و َح َ‬ ‫{ َوَب َدا لَهُ ْم َسيَِّئ ُ‬
‫ِ‬
‫ون } من الوعيد والعذاب الذي نزل بهم‪ ،‬وما حل عليهم العقاب‪.‬‬ ‫َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬

‫( ‪)1/727‬‬

‫ضٌّر َد َع َانا ثَُّم ِإ َذا َخ َّوْلَناهُ نِ ْع َمةً ِمَّنا قَا َل ِإَّن َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِعْلٍم َب ْل ِه َي ِفتَْنةٌ َولَ ِك َّن‬
‫ان ُ‬‫فَِإ َذا َم َّس اإْلِ ْن َس َ‬
‫َص َابهُ ْم‬ ‫ِ‬ ‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم فَ َما أ ْ‬ ‫َِّ‬
‫ون (‪ )50‬فَأ َ‬ ‫َغَنى َعْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْكسُب َ‬ ‫ون (‪ )49‬قَ ْد قَالَهَا الذ َ‬ ‫أَ ْكثََر ُه ْم اَل َي ْعلَ ُم َ‬
‫ظلَموا ِم ْن َهؤاَل ِء سي ِ‬ ‫َِّ‬
‫ين (‪ )51‬أ ََولَ ْم‬ ‫ات َما َك َسُبوا َو َما ُه ْم بِ ُم ْع ِج ِز َ‬ ‫ص ُيبهُ ْم َسيَِّئ ُ‬ ‫َُ‬ ‫ُ‬ ‫ين َ ُ‬ ‫ات َما َك َسُبوا َوالذ َ‬ ‫َسيَِّئ ُ‬
‫ٍ ِ‬ ‫اء َوَي ْق ِد ُر ِإ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫الر ْز َ ِ‬ ‫َن اللَّهَ َي ْب ُسطُ ِّ‬
‫ون (‪)52‬‬ ‫ك آَل ََيات لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬ ‫ق ل َم ْن َي َش ُ‬ ‫َي ْعلَ ُموا أ َّ‬

‫ال ِإَّن َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِعْلٍم َب ْل‬ ‫ضٌّر َد َع َانا ثَُّم ِإ َذا َخ َّوْلَناهُ نِ ْع َمةً ِمَّنا قَ َ‬
‫ان ُ‬ ‫{ ‪ { } 52 - 49‬فَِإ َذا َم َّس ْ‬
‫اإلن َس َ‬
‫ِ‬ ‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم فَ َما أ ْ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون *‬ ‫َغَنى َع ْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْكسُب َ‬ ‫ون * قَ ْد قَالَهَا الذ َ‬ ‫ه َي فتَْنةٌ َولَك َّن أَ ْكثََر ُه ْم ال َي ْعلَ ُم َ‬
‫الء سي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ين *‬‫ات َما َك َسُبوا َو َما ُه ْم بِ ُم ْع ِج ِز َ‬ ‫ص ُيبهُ ْم َسيَِّئ ُ‬ ‫ظلَ ُموا م ْن َه ُؤ َ ُ‬ ‫ين َ‬ ‫ات َما َك َسُبوا َوالذ َ‬ ‫َص َابهُ ْم َسيَِّئ ُ‬‫فَأ َ‬
‫ٍ ِ‬ ‫اء َوَي ْق ِد ُر ِإ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫الر ْز َ ِ‬
‫َن اللَّهَ َي ْب ُسطُ ِّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫آليات لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬ ‫ك َ‬ ‫ق ل َم ْن َي َش ُ‬ ‫أ ََولَ ْم َي ْعلَ ُموا أ َّ‬
‫يخبر تعالى عن حالة اإلنسان وطبيعته‪ ،‬أنه حين يمسه ضر‪ ،‬من مرض أو شدة أو كرب‪َ { .‬د َع َانا‬
‫} ملحا في تفريج ما نزل به { ثَُّم ِإ َذا َخ َّوْلَناهُ نِ ْع َمةً ِمَّنا } فكشفنا ضره وأزلنا مشقته‪ ،‬عاد بربه‬
‫ال ِإَّن َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِعْلٍم } أي‪ :‬علم من اللّه‪ ،‬أني له أهل‪ ،‬وأني‬ ‫كافرا‪ ،‬ولمعروفه منكرا‪ .‬و { قَ َ‬
‫مستحق له‪ ،‬ألني كريم عليه‪ ،‬أو على علم مني بطرق تحصيله‪.‬‬
‫قال تعالى‪َ { :‬ب ْل ِه َي ِفتَْنةٌ } يبتلي اللّه به عباده‪ ،‬لينظر من يشكره ممن يكفره‪َ { .‬ولَ ِك َّن أَ ْكثََر ُه ْم ال‬
‫ون } فلذلك يعدون الفتنة منحة‪ ،‬ويشتبه عليهم الخير المحض‪ ،‬بما قد يكون سببا للخير أو‬ ‫َي ْعلَ ُم َ‬
‫للشر‪.‬‬
‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم } أي‪ :‬قولهم { ِإَّن َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِعْلٍم } فما زالت متوارثة عند‬ ‫َِّ‬
‫قال تعالى‪ { :‬قَ ْد قَالَهَا الذ َ‬
‫المكذبين‪ ،‬ال يقرون بنعمة ربهم‪ ،‬وال يرون له حقا‪ ،‬فلم يزل دأبهم حتى أهلكوا‪ ،‬ولم يغن { َعْنهُ ْم‬
‫ون } حين جاءهم العذاب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َما َك ُانوا َي ْكسُب َ‬
‫ات َما َك َسُبوا } والسيئات في هذا الموضع‪ :‬العقوبات‪ ،‬ألنها تسوء اإلنسان‬ ‫َص َابهُ ْم َسيَِّئ ُ‬
‫{ فَأ َ‬
‫ات َما َك َسُبوا } فليسوا خيرا من أولئك‪ ،‬ولم‬ ‫ظلَموا من هؤالء سي ِ‬
‫ص ُيبهُ ْم َسيَِّئ ُ‬ ‫َِّ‬
‫َُ‬ ‫ين َ ُ‬ ‫وتحزنه‪َ { .‬والذ َ‬
‫يكتب لهم براءة في الزبر‪.‬‬
‫ولما ذكر أنهم اغتروا بالمال‪ ،‬وزعموا ‪ -‬بجهلهم ‪ -‬أنه يدل على حسن حال صاحبه‪ ،‬أخبرهم‬
‫اء } من عباده‪ ،‬سواء كان صالحا‬ ‫الر ْز َ ِ‬
‫ق ل َم ْن َي َش ُ‬ ‫تعالى‪ ،‬أن رزقه‪ ،‬ال يدل على ذلك‪ ،‬وأنه { َي ْب ُسطُ ِّ‬
‫أو طالحا { َوَي ْق ِد ُر } الرزق‪ ،‬أي‪ :‬يضيقه على من يشاء‪ ،‬صالحا أو طالحا‪ ،‬فرزقه مشترك بين‬
‫ٍ ِ‬ ‫البرية‪ ،‬واإليمان والعمل الصالح يخص به خير البرية‪ِ { .‬إ َّن ِفي َذِل َ‬
‫آليات لقَ ْوٍم ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون } أي‪:‬‬ ‫ك َ‬
‫بسط الرزق وقبضه‪ ،‬لعلمهم أن مرجع ذلك‪ ،‬عائد إلى الحكمة والرحمة‪ ،‬وأنه أعلم بحال عبيده‪،‬‬
‫فقد يضيق عليهم الرزق لطفا بهم‪ ،‬ألنه لو بسطه لبغوا في األرض‪ ،‬فيكون تعالى مراعيا في ذلك‬
‫صالح دينهم الذي هو مادة سعادتهم وفالحهم‪ ،‬واللّه أعلم‪.‬‬

‫( ‪)1/727‬‬

‫ِ‬ ‫َّ ِ ُّ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُق ْل يا ِعب ِاد َِّ‬


‫يعا ِإَّنهُ‬
‫وب َجم ً‬ ‫َس َرفُوا َعلَى أ َْنفُس ِه ْم اَل تَ ْقَنطُوا م ْن َر ْح َمة الله ِإ َّن اللهَ َي ْغف ُر الذُن َ‬ ‫ين أ ْ‬
‫ي الذ َ‬‫َ َ َ‬
‫ون (‬ ‫الر ِحيم (‪ )53‬وأَنِيبوا ِإلَى رِّب ُكم وأَسِلموا لَه ِم ْن قَْب ِل أ ْ ِ‬
‫ص ُر َ‬ ‫اب ثَُّم اَل تُْن َ‬
‫َن َيأْتَي ُك ُم اْل َع َذ ُ‬ ‫َ ْ َ ْ ُ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ور َّ ُ‬ ‫ُه َو اْل َغفُ ُ‬
‫ون (‪)55‬‬ ‫َحسن ما أ ُْن ِز َل ِإلَْي ُكم ِم ْن رِّب ُكم ِم ْن قَْب ِل أ ْ ِ‬ ‫َِّ‬
‫اب َب ْغتَةً َوأ َْنتُ ْم اَل تَ ْش ُع ُر َ‬
‫َن َيأْتَي ُك ُم اْل َع َذ ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫‪َ )54‬واتب ُعوا أ ْ َ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ت ِفي ج ْن ِب اللَّ ِه وإِ ْن ُك ْن ُ ِ‬
‫ين (‪)56‬‬ ‫ت لَم َن السَّاخ ِر َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫طُ‬ ‫ول َن ْف ٌس َيا َح ْس َرتَا َعلَى َما فََّر ْ‬ ‫َن تَقُ َ‬‫أْ‬

‫َس َرفُوا َعلَى أ َْنفُ ِس ِه ْم ال تَ ْقَنطُوا ِم ْن َر ْح َم ِة اللَّ ِه ِإ َّن اللَّهَ َي ْغ ِف ُر‬


‫ين أ ْ‬‫ي الذ َ‬
‫{ ‪ُ { } 59 - 53‬ق ْل يا ِعب ِاد َِّ‬
‫َ َ َ‬
‫الر ِحيم * وأَنِيبوا ِإلَى رِّب ُكم وأَسِلموا لَه ِم ْن قَْب ِل أ ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬
‫اب ثَُّم‬
‫َن َيأْتَي ُك ُم اْل َع َذ ُ‬ ‫َ َْ ْ ُ ُ‬ ‫ور َّ ُ َ ُ‬ ‫يعا ِإَّنهُ ُه َو اْل َغفُ ُ‬
‫وب َجم ً‬
‫الذُن َ‬
‫اب َب ْغتَةً َوأ َْنتُ ْم ال‬ ‫َحسن ما أ ُْن ِز َل ِإلَْي ُكم ِم ْن رِّب ُكم ِم ْن قَْب ِل أ ْ ِ‬ ‫َِّ‬
‫َن َيأْتَي ُك ُم اْل َع َذ ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ون * َواتب ُعوا أ ْ َ َ َ‬ ‫ص ُر َ‬
‫ال تُْن َ‬
‫ِ‬ ‫ت ِفي ج ْن ِب اللَّ ِه وإِ ْن ُك ْن ُ ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ت لَم َن السَّاخ ِر َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫طُ‬‫َن تَقُو َل َن ْف ٌس َيا َح ْس َرتَا َعلَى َما فََّر ْ‬ ‫ون * أ ْ‬
‫تَ ْش ُع ُر َ‬
‫يخبر تعالى عباده المسرفين بسعة كرمه‪ ،‬ويحثهم على اإلنابة قبل أن ال يمكنهم ذلك فقال‪ُ { :‬ق ْل }‬
‫ين‬ ‫يا أيها الرسول ومن قام مقامه من الدعاة لدين اللّه‪ ،‬مخبرا للعباد عن ربهم‪ { :‬يا ِعب ِاد َِّ‬
‫ي الذ َ‬‫َ َ َ‬
‫َس َرفُوا َعلَى أ َْنفُ ِس ِه ْم } باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب‪ ،‬والسعي في مساخط عالم‬
‫أْ‬
‫الغيوب‪.‬‬
‫{ ال تَ ْقَنطُوا ِم ْن َر ْح َم ِة اللَّ ِه } أي‪ :‬ال تيأسوا منها‪ ،‬فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة‪ ،‬وتقولوا قد كثرت‬
‫ذنوبنا وتراكمت عيوبنا‪ ،‬فليس لها طريق يزيلها وال سبيل يصرفها‪ ،‬فتبقون بسبب ذلك مصرين‬
‫على العصيان‪ ،‬متزودين ما يغضب عليكم الرحمن‪ ،‬ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه‬
‫وجوده‪ ،‬واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعا من الشرك‪ ،‬والقتل‪ ،‬والزنا‪ ،‬والربا‪ ،‬والظلم‪ ،‬وغير ذلك‬
‫يم } أي‪ :‬وصفه المغفرة والرحمة‪ ،‬وصفان‬ ‫من الذنوب الكبار والصغار‪ِ { .‬إَّنه ُهو اْل َغفُور َّ ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫الزمان ذاتيان‪ ،‬ال تنفك ذاته عنهما‪ ،‬ولم تزل آثارهما سارية في الوجود‪ ،‬مالئة للموجود‪ ،‬تسح يداه‬
‫من الخيرات آناء الليل والنهار‪ ،‬ويوالي النعم على العباد والفواضل في السر والجهار‪ ،‬والعطاء‬
‫أحب إليه من المنع‪ ،‬والرحمة سبقت الغضب وغلبته‪. ،‬ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن‬
‫لم يأت بها العبد‪ ،‬فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة‪ ،‬أعظمها وأجلها‪ ،‬بل ال سبب لها‬
‫غيره‪ ،‬اإلنابة إلى اللّه تعالى بالتوبة النصوح‪ ،‬والدعاء والتضرع والتأله والتعبد‪ ،‬فهلم إلى هذا‬
‫السبب األجل‪ ،‬والطريق األعظم‪.‬‬
‫َسِل ُموا لَهُ }‬ ‫ِ‬
‫ولهذا أمر تعالى باإلنابة إليه‪ ،‬والمبادرة إليها فقال‪َ { :‬وأَن ُيبوا ِإلَى َرِّب ُك ْم } بقلوبكم { َوأ ْ‬
‫بجوارحكم‪ ،‬إذا أفردت اإلنابة‪ ،‬دخلت فيها أعمال الجوارح‪ ،‬وإ ذا جمع بينهما‪ ،‬كما في هذا‬
‫الموضع‪ ،‬كان المعنى ما ذكرنا‪.‬‬
‫َسِل ُموا لَهُ } دليل على اإلخالص‪ ،‬وأنه من دون إخالص‪ ،‬ال تفيد األعمال‬ ‫وفي قوله { ِإلَى َرِّب ُك ْم َوأ ْ‬
‫ون } فكأنه قيل‪:‬‬ ‫الظاهرة والباطنة شيئا‪ِ { .‬م ْن قَْب ِل أ ْ ِ‬
‫ص ُر َ‬
‫اب } مجيئا ال يدفع { ثَُّم ال تُْن َ‬
‫َن َيأْتَي ُك ُم اْل َع َذ ُ‬
‫ما هي اإلنابة واإلسالم؟ وما جزئياتها وأعمالها؟‬
‫َح َس َن َما أُنز َل ِإلَْي ُك ْم ِم ْن َرِّب ُك ْم } مما أمركم من األعمال الباطنة‪،‬‬
‫فأجاب تعالى بقوله‪َ { :‬واتَّبِ ُعوا أ ْ‬
‫كمحبة اللّه‪ ،‬وخشيته‪ ،‬وخوفه‪ ،‬ورجائه‪ ،‬والنصح لعباده‪ ،‬ومحبة الخير لهم‪ ،‬وترك ما يضاد ذلك‪.‬‬
‫ومن األعمال الظاهرة‪ ،‬كالصالة‪ [ ،‬ص ‪ ] 728‬والزكاة والصيام‪ ،‬والحج‪ ،‬والصدقة‪ ،‬وأنواع‬
‫اإلحسان‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬مما أمر اللّه به‪ ،‬وهو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا‪ ،‬فالمتبع ألوامر ربه في‬
‫ون } وكل‬ ‫هذه األمور ونحوها هو المنيب المسلم‪ِ { ،‬م ْن قَْب ِل أ ْ ِ‬
‫اب َب ْغتَةً َوأ َْنتُ ْم ال تَ ْش ُع ُر َ‬
‫َن َيأْتَي ُك ُم اْل َع َذ ُ‬
‫هذا ٌّ‬
‫حث على المبادرة وانتهاز الفرصة‪.‬‬
‫ول‬
‫ثم حذرهم { أَن } يستمروا على غفلتهم‪ ،‬حتى يأتيهم يوم يندمون فيه‪ ،‬وال تنفع الندامة‪.‬و { تَقُ َ‬
‫ت ِفي َج ْن ِب اللَّ ِه } أي‪ :‬في جانب حقه‪َ { .‬وإِ ْن ُك ْنت } في الدنيا { لَ ِم َن‬
‫طُ‬‫َن ْف ٌس َيا َح ْس َرتَى َعلَى َما فََّر ْ‬
‫ِ‬
‫ين } في إتيان الجزاء‪ ،‬حتى رأيته عيانا‪.‬‬ ‫السَّاخ ِر َ‬
‫( ‪)1/727‬‬

‫ون‬ ‫ت ِمن اْلمتَِّقين (‪ )57‬أَو تَقُو َل ِحين تَرى اْلع َذاب لَو أ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ول لَو أ َّ َّ‬
‫َن لي َك َّرةً فَأَ ُك َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َن اللهَ َه َداني لَ ُك ْن ُ َ ُ َ‬ ‫أ َْو تَقُ َ ْ‬
‫ِ‬ ‫ت و ُك ْن َ ِ‬ ‫ك آََياتِي فَ َك َّذ ْب َ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪)59‬‬ ‫ت م َن اْل َكاف ِر َ‬ ‫ت بِهَا َو ْ‬
‫استَ ْكَب ْر َ َ‬ ‫اءتْ َ‬
‫ين (‪َ )58‬بلَى قَ ْد َج َ‬‫م َن اْل ُم ْحسن َ‬

‫ول ِحين تَرى اْلع َذاب لَو أ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َن اللَّه َه َدانِي لَ ُك ْن ُ ِ‬
‫ون‬
‫َن لي َك َّرةً فَأَ ُك َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ين * أ َْو تَقُ َ َ َ‬ ‫ت م َن اْل ُمتَّق َ‬ ‫{ أ َْو تَقُو َل لَ ْو أ َّ َ‬
‫ِ‬ ‫ت و ُك ْن َ ِ‬ ‫ك َآياتِي فَ َك َّذ ْب َ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين } ‪.‬‬‫ت م َن اْل َكاف ِر َ‬ ‫ت بِهَا َو ْ‬
‫استَ ْكَب ْر َ َ‬ ‫اءتْ َ‬‫ين * َبلَى قَ ْد َج َ‬‫م َن اْل ُم ْحسن َ‬
‫ِ‬ ‫َن اللَّه َه َدانِي لَ ُك ْن ُ ِ‬
‫ين } و"لو" في هذا الموضع للتمني‪،‬أي‪ :‬ليت أن اللّه‬ ‫ت م َن اْل ُمتَّق َ‬ ‫{ أ َْو تَقُو َل لَ ْو أ َّ َ‬
‫هداني فأكون متقيا له‪ ،‬فأسلم من العقاب وأستحق الثواب‪ ،‬وليست "لو" هنا شرطية‪ ،‬ألنها لو كانت‬
‫شرطية‪ ،‬لكانوا محتجين بالقضاء والقدر على ضاللهم‪ ،‬وهو حجة باطلة‪ ،‬ويوم القيامة تضمحل‬
‫كل حجة باطلة‪.‬‬
‫َن ِلي َك َّرةً } أي‪ :‬رجعة إلى الدنيا لكنت { ِم َن‬
‫اب } وتجزم بوروده { لَ ْو أ َّ‬
‫ين تََرى اْل َع َذ َ‬
‫ِ‬
‫{ أ َْو تَقُو َل ح َ‬
‫ين } قال تعالى‪ :‬إن ذلك غير ممكن وال مفيد‪ ،‬وإ ن هذه أماني باطلة ال حقيقة لها‪ ،‬إذ ال‬ ‫ِِ‬
‫اْل ُم ْحسن َ‬
‫يتجدد للعبد لَ ْو ُر َّد‪ ،‬بيان بعد البيان األول‪.‬‬
‫ت } عن‬ ‫استَ ْكَب ْر َ‬ ‫ك َآياتِي } الدالة داللة ال يمترى فيها‪ .‬على الحق { فَ َك َّذ ْب َ‬
‫ت بِهَا َو ْ‬ ‫اءتْ َ‬
‫{ َبلَى قَ ْد َج َ‬
‫ت ِمن اْل َك ِاف ِرين } فسؤال الرد إلى الدنيا‪ ،‬نوع عبث‪ { ،‬ولَو ر ُّدوا لَع ُ ِ‬
‫ادوا ل َما ُنهُوا َع ْنهُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫اتباعها { َو ُك ْن َ َ‬
‫ِ‬
‫َوإِ َّنهُ ْم لَ َكاذُب َ‬
‫ون }‬

‫( ‪)1/728‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين َك َذُبوا َعلَى اللَّ ِه ُو ُج ُ‬ ‫َِّ‬ ‫ويوم اْل ِقي ِ‬
‫وههُ ْم ُم ْس َو َّدةٌ أَلَْي َس في َجهََّن َم َمثًْوى لْل ُمتَ َكب ِِّر َ‬
‫ين (‪)60‬‬ ‫امة تََرى الذ َ‬ ‫َ َْ َ َ َ‬
‫َّ َِّ‬
‫ون (‪)61‬‬ ‫ين اتَّقَ ْوا بِ َمفَ َازتِ ِه ْم اَل َي َمسُّهُ ُم الس ُ‬
‫ُّوء َواَل ُه ْم َي ْح َزُن َ‬ ‫َوُيَنجِّي اللهُ الذ َ‬

‫وههُ ْم ُم ْس َو َّدةٌ أَلَْي َس ِفي َجهََّن َم َمثًْوى‬


‫ين َك َذُبوا َعلَى اللَّ ِه ُو ُج ُ‬ ‫َِّ‬
‫امة تََرى الذ َ‬
‫{ ‪ { } 61 - 60‬ويوم اْل ِقي ِ‬
‫َ َْ َ َ َ‬
‫َّ َِّ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫ُّوء َوال ُه ْم َي ْح َزُن َ‬ ‫ين اتَّقَ ْوا بِ َمفَ َازتِ ِه ْم ال َي َمسُّهُ ُم الس ُ‬ ‫لْل ُمتَ َكب ِِّر َ‬
‫ين * َوُيَنجِّي اللهُ الذ َ‬
‫يخبر تعالى عن خزي الذين كذبوا عليه‪ ،‬وأن وجوههم يوم القيامة مسودة كأنها الليل البهيم‪،‬‬
‫سودوا وجه الحق بالكذب‪ ،‬سود‬
‫يعرفهم بذلك أهل الموقف‪ ،‬فالحق أبلج واضح كأنه الصبح‪ ،‬فكما َّ‬
‫اللّه وجوههم‪ ،‬جزاء من جنس عملهم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فلهم سواد الوجوه‪ ،‬ولهم العذاب الشديد في جهنم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬أَلَْي َس في َجهََّن َم َمثًْوى لْل ُمتَ َكب ِِّر َ‬
‫ين }‬
‫عن الحق‪ ،‬وعن عبادة ربهم‪ ،‬المفترين عليه؟ بلى واللّه‪ ،‬إن فيها لعقوبة وخزيا وسخطا‪ ،‬يبلغ من‬
‫المتكبرين كل مبلغ‪ ،‬ويؤخذ الحق منهم بها‪.‬‬
‫والكذب على اللّه يشمل الكذب عليه باتخاذ الشريك والولد والصاحبة‪ ،‬واإلخبار عنه بما ال يليق‬
‫بجالله‪ ،‬أو ادعاء النبوة‪ ،‬أو القول في شرعه بما لم يقله‪ ،‬واإلخبار بأنه قاله وشرعه‪.‬‬
‫ين اتَّقَ ْوا بِ َمفَ َازتِ ِه ْم } أي‪:‬‬ ‫َّ َِّ‬
‫ولما ذكر حالة المتكبرين‪ ،‬ذكر حالة المتقين‪ ،‬فقال‪َ { :‬وُيَنجِّي اللهُ الذ َ‬
‫بنجاتهم‪ ،‬وذلك ألن معهم آلة النجاة‪ ،‬وهي تقوى اللّه تعالى‪ ،‬التي هي العدة عند كل هول وشدة‪.‬‬
‫ون } فنفى عنهم مباشرة العذاب‬
‫ُّوء } أي‪ :‬العذاب الذي يسوؤهم { َوال ُه ْم َي ْح َزُن َ‬
‫{ ال َي َمسُّهُ ُم الس ُ‬
‫وخوفه‪ ،‬وهذا غاية األمان‪.‬‬
‫فلهم األمن التام‪ ،‬يصحبهم حتى يوصلهم إلى دار السالم‪ ،‬فحينئذ يأمنون من كل سوء ومكروه‪،‬‬
‫َِّ ِ َِّ‬
‫ور }‬ ‫ب َعَّنا اْل َح َز َن ِإ َّن َربََّنا لَ َغفُ ٌ‬
‫ور َش ُك ٌ‬ ‫وتجري عليهم نضرة النعيم‪ ،‬ويقولون { اْل َح ْم ُد لله الذي أَ ْذ َه َ‬

‫( ‪)1/728‬‬

‫ين َكفَ ُروا‬ ‫ات واأْل َر ِ َِّ‬


‫ِ‬ ‫ق ُك ِّل َش ْي ٍء َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َو ِكي ٌل (‪ )62‬لَهُ َمقَ ِال ُ‬‫اللَّهُ َخ ِال ُ‬
‫ض َوالذ َ‬ ‫َّم َاو َ ْ‬‫يد الس َ‬
‫ون (‪)63‬‬ ‫ِ‬ ‫ات اللَّ ِه أُولَئِ َ‬
‫بِآَي ِ‬
‫ك ُه ُم اْل َخاس ُر َ‬ ‫َ‬

‫األر ِ‬
‫ض‬ ‫ِ‬ ‫ق ُك ِّل َش ْي ٍء َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َو ِكي ٌل * لَهُ َمقَ ِال ُ‬ ‫{ ‪ { } 63 - 62‬اللَّهُ َخ ِال ُ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫يد الس َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ات اللَّ ِه أُولَئِ َ‬
‫والَِّذين َكفَروا بِآي ِ‬
‫ك ُه ُم اْل َخاس ُر َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫ق ُك ِّل َش ْي ٍء } هذه‬
‫يخبر تعالى عن عظمته وكماله‪ ،‬الموجب لخسران من كفر به فقال‪ { :‬اللَّهُ َخ ِال ُ‬
‫العبارة وما أشبهها‪ ،‬مما هو كثير في القرآن‪ ،‬تدل على أن جميع األشياء ‪ -‬غير اللّه ‪ -‬مخلوقة‪،‬‬
‫ففيها رد على كل من قال بقدم بعض المخلوقات‪ ،‬كالفالسفة القائلين بقدم األرض والسماوات‪،‬‬
‫وكالقائلين بقدم األرواح‪ ،‬ونحو ذلك من أقوال أهل الباطل‪ ،‬المتضمنة تعطيل الخالق عن خلقه‪.‬‬
‫وليس كالم اللّه من األشياء المخلوقة‪ ،‬ألن الكالم صفة المتكلم‪ ،‬واللّه تعالى بأسمائه وصفاته أول‬
‫ليس قبله شيء‪ ،‬فأخذ أهل االعتزال من هذه اآلية ونحوها أنه مخلوق‪ ،‬من أعظم الجهل‪ ،‬فإنه‬
‫تعالى لم يزل بأسمائه وصفاته‪ ،‬ولم يحدث له صفة من صفاته‪ ،‬ولم يكن معطال عنها بوقت من‬
‫األوقات‪ ،‬والشاهد من هذا‪ ،‬أن اللّه تعالى أخبر عن نفسه الكريمة أنه خالق لجميع العالم العلوي‬
‫والسفلي‪ ،‬وأنه على كل شيء وكيل‪ ،‬والوكالة التامة ال بد فيها من علم الوكيل‪ ،‬بما كان وكيال‬
‫عليه‪ ،‬وإ حاطته بتفاصيله‪ ،‬ومن قدرة تامة على ما هو وكيل عليه‪ ،‬ليتمكن من التصرف فيه‪ ،‬ومن‬
‫حفظ لما هو وكيل عليه‪ ،‬ومن حكمة‪ ،‬ومعرفة بوجوه التصرفات‪ ،‬ليصرفها ويدبرها على ما هو‬
‫األليق‪ ،‬فال تتم الوكالة إال بذلك كله‪ ،‬فما نقص من ذلك‪ ،‬فهو نقص فيها‪.‬‬
‫ومن المعلوم المتقرر‪ ،‬أن اللّه تعالى منزه عن كل نقص في صفة من صفاته‪ ،‬فإخباره بأنه على‬
‫كل شيء وكيل‪ ،‬يدل على إحاطة علمه بجميع األشياء‪ ،‬وكمال قدرته على تدبيرها‪ ،‬وكمال‬
‫تدبيره‪ ،‬وكمال حكمته التي يضع بها األشياء مواضعها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ لَهُ َمقَ ِال ُ‬
‫ض } أي‪ :‬مفاتيحها‪ ،‬علما [ ص ‪ ] 729‬وتدبيرا‪ ،‬فـ { َما َي ْفتَ ِح اللهُ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫يد الس َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اس ِم ْن َر ْح َم ٍة فَال ُم ْم ِس َ‬ ‫ِل َّلن ِ‬
‫يم } فلما بين‬ ‫ك لَهَا َو َما ُي ْمس ْك فَال ُم ْرس َل لَهُ م ْن َب ْعده َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬
‫من عظمته ما يقتضي أن تمتلئ القلوب له إجالال وإ كراما‪ ،‬ذكر حال من عكس القضية فلم يقدره‬
‫ات اللَّ ِه } الدالة على الحق اليقين والصراط المستقيم‪ { .‬أُولَئِ َ‬
‫ك‬ ‫حق قدره‪ ،‬فقال‪ { :‬والَِّذين َكفَروا بِآي ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫ون } خسروا ما به تصلح القلوب من التأله واإلخالص للّه‪ ،‬وما به تصلح األلسن من‬ ‫ِ‬
‫ُه ُم اْل َخاس ُر َ‬
‫إشغالها بذكر اللّه‪ ،‬وما تصلح به الجوارح من طاعة اللّه‪ ،‬وتعوضوا عن ذلك كل مفسد للقلوب‬
‫واألبدان‪ ،‬وخسروا جنات النعيم‪ ،‬وتعوضوا عنها بالعذاب األليم‪.‬‬

‫( ‪)1/728‬‬

‫ك لَئِ ْن‬
‫ين ِم ْن قَْبِل َ‬ ‫َِّ‬ ‫اهلُون (‪ )64‬ولَقَ ْد أ ِ‬
‫ُوح َي ِإلَْي َ‬
‫ك َوإِلَى الذ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫َعُب ُد أَيُّهَا اْل َج َ‬
‫وني أ ْ‬‫ْم ُر ِّ‬ ‫َّ ِ‬
‫ُق ْل أَفَ َغ ْي َر الله تَأ ُ‬
‫اعب ْد و ُك ْن ِمن َّ ِ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ك ولَتَ ُك َ ِ‬
‫ين (‪)66‬‬ ‫الشاك ِر َ‬ ‫َ‬ ‫ين (‪َ )65‬بل اللهَ فَ ْ ُ َ‬ ‫ون َّن م َن اْل َخاس ِر َ‬ ‫ط َّن َع َملُ َ َ‬
‫ت لََي ْحَب َ‬
‫أَ ْش َر ْك َ‬

‫ين ِم ْن‬ ‫َِّ‬


‫ك َوإِلَى الذ َ‬
‫اهلُون * ولَقَ ْد أ ِ‬
‫ُوح َي ِإلَْي َ‬ ‫ِ‬
‫َعُب ُد أَيُّهَا اْل َج َ َ‬
‫وني أ ْ‬‫ْم ُر ِّ‬ ‫َّ ِ‬
‫{ ‪ُ { } 66 - 64‬ق ْل أَفَ َغ ْي َر الله تَأ ُ‬
‫اعب ْد و ُك ْن ِمن َّ ِ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ك ولَتَ ُك َ ِ‬ ‫ك لَئِ ْن أَ ْش َر ْك َ‬
‫قَْبِل َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫الشاك ِر َ‬ ‫َ‬ ‫ين * َبل اللهَ فَ ْ ُ َ‬‫ون َّن م َن اْل َخاس ِر َ‬ ‫ط َّن َع َملُ َ َ‬ ‫ت لََي ْحَب َ‬
‫وني‬‫ْم ُر ِّ‬ ‫َّ ِ‬
‫{ ُق ْل } يا أيها الرسول لهؤالء الجاهلين‪ ،‬الذين دعوك إلى عبادة غير اللّه‪ { :‬أَفَ َغ ْي َر الله تَأ ُ‬
‫ون } أي‪ :‬هذا األمر صدر من جهلكم‪ ،‬وإ ال فلو كان لكم علم بأن اللّه تعالى الكامل‬ ‫ِ‬
‫َعُب ُد أَيُّهَا اْل َجاهلُ َ‬
‫أْ‬
‫من جميع الوجوه‪ ،‬مسدي جميع النعم‪ ،‬هو المستحق للعبادة‪ ،‬دون من كان ناقصا من كل وجه‪ ،‬ال‬
‫ينفع وال يضر‪ ،‬لم تأمروني بذلك‪.‬‬
‫ين‬ ‫َِّ‬ ‫وذلك ألن الشرك باللّه محبط لألعمال‪ ،‬مفسد لألحوال‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬ولَقَ ْد أ ِ‬
‫ُوح َي ِإلَْي َ‬
‫ك َوإِلَى الذ َ‬ ‫َ‬
‫ك } هذا مفرد مضاف‪ ،‬يعم كل عمل‪،‬‬ ‫ط َّن َع َملُ َ‬ ‫ك } من جميع األنبياء‪ { .‬لَئِ ْن أَ ْش َر ْك َ‬
‫ت لََي ْحَب َ‬ ‫ِم ْن قَْبِل َ‬
‫ففي نبوة جميع األنبياء‪ ،‬أن الشرك محبط لجميع األعمال‪ ،‬كما قال تعالى في سورة األنعام ‪ -‬لما‬
‫اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه َولَ ْو أَ ْش َر ُكوا‬ ‫َّ ِ ِ ِ‬ ‫عدد كثيرا من أنبيائه ورسله قال عنهم‪َ { :‬ذِل َ‬
‫ك ُه َدى الله َي ْهدي بِه َم ْن َي َش ُ‬
‫ون }‬ ‫لَ َحبِ َ‬
‫ط َعْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫ِ‬ ‫{ ولَتَ ُك َ ِ‬
‫ين } دينك وآخرتك‪ ،‬فبالشرك تحبط األعمال‪ ،‬ويستحق العقاب والنكال‪.‬‬ ‫ون َّن م َن اْل َخاس ِر َ‬ ‫َ‬
‫اعُب ْد } لما أخبر أن الجاهلين يأمرونه بالشرك‪ ،‬وأخبر عن شناعته‪ ،‬أمره‬ ‫ثم قال‪َ { :‬ب ِل اللَّهَ فَ ْ‬
‫اعب ْد } أي‪ :‬أخلص له العبادة وحده ال شريك له‪ { ،‬و ُك ْن ِمن َّ ِ‬ ‫َّ‬
‫الشاك ِر َ‬
‫ين‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫باإلخالص فقال‪َ { :‬ب ِل اللهَ فَ ْ ُ‬
‫} للّه على توفيق اللّه تعالى‪ ،‬فكما أنه تعالى يشكر على النعم الدنيوية‪ ،‬كصحة الجسم وعافيته‪،‬‬
‫وحصول الرزق وغير ذلك‪ ،‬كذلك يشكر ويثنى عليه بالنعم الدينية‪ ،‬كالتوفيق لإلخالص‪،‬‬
‫والتقوى‪ ،‬بل نعم الدين‪ ،‬هي النعم على الحقيقة‪ ،‬وفي تدبر أنها من اللّه تعالى والشكر للّه عليها‪،‬‬
‫سالمة من آفة العجب التي تعرض لكثير من العاملين‪ ،‬بسبب جهلهم‪ ،‬وإ ال فلو عرف العبد حقيقة‬
‫الحال‪ ،‬لم يعجب بنعمة تستحق عليه زيادة الشكر‪.‬‬

‫( ‪)1/729‬‬

‫ط ِوي ٌ ِ ِ ِ‬ ‫ق قَ ْد ِر ِه واأْل َرض ج ِميعا قَْبضتُه يوم اْل ِقي ِ‬


‫و َما قَ َد ُروا اللَّهَ َح َّ‬
‫َّات بَِيمينه ُس ْب َح َانهُ‬ ‫ات َم ْ‬
‫َّماو ُ‬
‫امة َوالس َ‬
‫َ ُ َْ َ َ َ‬ ‫َ ْ ُ َ ً‬ ‫َ‬
‫ون (‪)67‬‬ ‫َوتَ َعالَى َع َّما ُي ْش ِر ُك َ‬

‫ط ِوي ٌ‬
‫َّات‬ ‫ات َم ْ‬
‫َّماو ُ‬ ‫ق قَ ْد ِر ِه واألرض ج ِميعا قَْبضتُه يوم اْل ِقي ِ‬
‫{ ‪ { } 67‬و َما قَ َد ُروا اللَّهَ َح َّ‬
‫امة َوالس َ‬
‫َ ُ َْ َ َ َ‬ ‫َ ْ ُ َ ً‬ ‫َ‬
‫ِ ِِ‬
‫بَِيمينه ُس ْب َح َانهُ َوتَ َعالَى َع َّما ُي ْش ِر ُك َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫يقول تعالى‪ :‬وما قدر هؤالء المشركون ربهم حق قدره‪ ،‬وال عظموه حق تعظيمه‪ ،‬بل فعلوا ما‬
‫يناقض ذلك‪ ،‬من إشراكهم به من هو ناقص في أوصافه وأفعاله‪ ،‬فأوصافه ناقصة من كل وجه‪،‬‬
‫وأفعاله ليس عنده نفع وال ضر‪ ،‬وال عطاء وال منع‪ ،‬وال يملك من األمر شيئا‪.‬‬
‫فسووا هذا المخلوق الناقص بالخالق الرب العظيم‪ ،‬الذي من عظمته الباهرة‪ ،‬وقدرته القاهرة‪ ،‬أن‬
‫جميع األرض يوم القيامة قبضة للرحمن‪ ،‬وأن السماوات ‪ -‬على سعتها وعظمها ‪ -‬مطويات‬
‫سوى به غيره‪ ،‬وال أظلم منه‪.‬‬
‫بيمينه‪ ،‬فال عظمه حق عظمته من َّ‬
‫{ ُس ْب َح َانهُ َوتَ َعالَى َع َّما ُي ْش ِر ُك َ‬
‫ون } أي‪ :‬تنزه وتعاظم عن شركهم به‪.‬‬

‫( ‪)1/729‬‬
‫ُخ َرى فَِإ َذا‬
‫يه أ ْ‬‫ض ِإاَّل م ْن َشاء اللَّه ثَُّم ُن ِف َخ ِف ِ‬ ‫ات و َم ْن ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص ِع َ‬ ‫َوُن ِف َخ ِفي الص ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َّم َاو َ‬
‫ق َم ْن في الس َ‬ ‫ُّور فَ َ‬
‫الشه َد ِ‬
‫ُّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء‬ ‫ِّين َو َ‬ ‫النبِي َ‬ ‫اب َو ِج َ‬
‫يء بِ َّ‬ ‫ور َربِّهَا َو ُوض َع اْلكتَ ُ‬ ‫ض بُِن ِ‬‫ون (‪َ )68‬وأَ ْش َرقَت اأْل َْر ُ‬ ‫ام َي ْنظُ ُر َ‬ ‫ُه ْم قَي ٌ‬
‫ون (‪)70‬‬ ‫َعلَ ُم بِ َما َي ْف َعلُ َ‬ ‫س َما َع ِملَ ْ‬
‫ت َو ُه َو أ ْ‬ ‫ت ُك ُّل َن ْف ٍ‬
‫ون (‪َ )69‬و ُوفَِّي ْ‬ ‫ظلَ ُم َ‬ ‫ضي َب ْيَنهُ ْم بِاْل َح ِّ‬
‫ق َو ُه ْم اَل ُي ْ‬ ‫ِ‬
‫َوقُ َ‬

‫اء اللَّهُ ثَُّم‬


‫ض ِإال َم ْن َش َ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو َم ْن في ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ق َم ْن في الس َ‬ ‫ص ِع َ‬ ‫{ ‪َ { } 70 - 68‬وُن ِف َخ ِفي الص ِ‬
‫ُّور فَ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُن ِف َخ ِف ِ‬
‫النبِي َ‬
‫ِّين‬ ‫اب َو ِج َ‬
‫يء بِ َّ‬ ‫ور َربِّهَا َو ُوض َع اْلكتَ ُ‬ ‫ض بُِن ِ‬‫األر ُ‬ ‫ون * َوأَ ْش َرقَت ْ‬ ‫ام َي ْنظُ ُر َ‬‫ُخ َرى فَِإ َذا ُه ْم قَي ٌ‬
‫يه أ ْ‬
‫َعلَ ُم بِ َما َي ْف َعلُ َ‬
‫ون‬ ‫س َما َع ِملَ ْ‬
‫ت َو ُه َو أ ْ‬ ‫ت ُك ُّل َن ْف ٍ‬
‫ون * َو ُوفَِّي ْ‬‫ظلَ ُم َ‬
‫ُّ ِ ِ‬
‫ضي َب ْيَنهُ ْم بِاْل َح ِّ‬
‫ق َو ُه ْم ال ُي ْ‬ ‫َوالشهَ َداء َوقُ َ‬
‫}‪.‬‬
‫ورهبهم فقال‪َ { :‬وُن ِف َخ ِفي‬ ‫ورغبهم َّ‬ ‫لما خوفهم تعالى من عظمته‪ ،‬خوفهم بأحوال يوم القيامة‪َّ ،‬‬
‫ُّور } وهو قرن عظيم‪ ،‬ال يعلم عظمته إال خالقه‪ ،‬ومن أطلعه اللّه على علمه من خلقه‪ ،‬فينفخ‬ ‫الص ِ‬
‫فيه إسرافيل عليه السالم‪ ،‬أحد المالئكة المقربين‪ ،‬وأحد حملة عرش الرحمن‪.‬‬
‫ض}‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص ِع َ‬
‫َّم َاوات َو َم ْن في ْ‬
‫ق } أي‪ :‬غشي أو مات‪ ،‬على اختالف القولين‪َ { :‬م ْن في الس َ‬ ‫{ فَ َ‬
‫أي‪ :‬كلهم‪ ،‬لما سمعوا نفخة الصور أزعجتهم من شدتها وعظمها‪ ،‬وما يعلمون أنها مقدمة له‪.‬‬
‫اء اللَّهُ } ممن ثبته اللّه عند النفخة‪ ،‬فلم يصعق‪ ،‬كالشهداء أو بعضهم‪ ،‬وغيرهم‪ .‬وهذه‬ ‫{ ِإال َم ْن َش َ‬
‫النفخة األولى‪ ،‬نفخة الصعق‪ ،‬ونفخة الفزع‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫ام ينظرون } أي‪ :‬قد قاموا من قبورهم لبعثهم‬ ‫{ ثَُّم ُنف َخ فيه } النفخة الثانية نفخة البعث { فَِإ َذا ُه ْم قَي ٌ‬
‫ون } ماذا يفعل‬
‫وحسابهم‪ ،‬قد تمت منهم الخلقة الجسدية واألرواح‪ ،‬وشخصت أبصارهم { َي ْنظُ ُر َ‬
‫اللّه بهم‪.‬‬
‫ض بُِن ِ‬
‫ور َربِّهَا } علم من هذا‪ ،‬أن األنوار الموجودة تذهب يوم القيامة وتضمحل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫األر ُ‬
‫{ َوأَ ْش َرقَت ْ‬
‫وهو كذلك‪ ،‬فإن اللّه أخبر أن الشمس تكور‪ [ ،‬ص ‪ ] 730‬والقمر يخسف‪ ،‬والنجوم تندثر‪ ،‬ويكون‬
‫الناس في ظلمة‪ ،‬فتشرق عند ذلك األرض بنور ربها‪ ،‬عندما يتجلى وينزل للفصل بينهم‪ ،‬وذلك‬
‫اليوم يجعل اللّه للخلق قوة‪ ،‬وينشئهم نشأة َي ْق َو ْو َن على أن ال يحرقهم نوره‪ ،‬ويتمكنون أيضا من‬
‫رؤيته‪ ،‬وإ ال فنوره تعالى عظيم‪ ،‬لو كشفه‪ ،‬ألحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه‪.‬‬
‫اب } أي‪ :‬كتاب األعمال وديوانه‪ ،‬وضع ونشر‪ ،‬ليقرأ ما فيه من الحسنات‬ ‫ِ ِ‬
‫{ َو ُوض َع اْلكتَ ُ‬
‫ون َيا َوْيلَتََنا َما‬ ‫ضع اْل ِكتَاب فَتَرى اْلم ْج ِر ِمين م ْش ِف ِق ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين م َّما فيه َوَيقُولُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫والسيئات‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬و ُو َ‬
‫َح ًدا‬
‫كأَ‬ ‫ظِل ُم َرُّب َ‬
‫اض ًرا َوال َي ْ‬ ‫اها ووج ُدوا ما ع ِملُوا ح ِ‬
‫َ‬ ‫ص َ ََ َ َ َ‬ ‫َح َ‬ ‫ص ِغ َيرةً َوال َكبِ َيرةً ِإال أ ْ‬ ‫ِ‬
‫اب ال ُي َغاد ُر َ‬‫ِله َذا اْل ِكتَ ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ك َحس ًيبا }‬ ‫ك اْلَي ْو َم َعلَْي َ‬ ‫ِ‬
‫ك َكفَى بَِن ْفس َ‬ ‫ِ‬
‫} ويقال للعامل من تمام العدل واإلنصاف‪ { :‬ا ْق َرْأ كتَ َاب َ‬
‫الشه َد ِ‬
‫ُّ‬
‫اء } من المالئكة‪،‬‬ ‫ِّين } ليسألوا عن التبليغ‪ ،‬وعن أممهم‪ ،‬ويشهدوا عليهم‪َ { .‬و َ‬ ‫النبِي َ‬ ‫{ َو ِج َ‬
‫يء بِ َّ‬
‫ق } أي‪ :‬العدل التام والقسط العظيم‪ ،‬ألنه حساب‬ ‫ِ‬
‫ضي َب ْيَنهُ ْم بِاْل َح ِّ‬
‫واألعضاء واألرض‪َ { .‬وقُ َ‬
‫صادر ممن ال يظلم مثقال ذرة‪ ،‬ومن هو محيط بكل شيء‪ ،‬وكتابه الذي هو اللوح المحفوظ‪،‬‬
‫محيط بكل ما عملوه‪ ،‬والحفظة الكرام‪ ،‬والذين ال يعصون ربهم‪ ،‬قد كتبت عليهم ما عملوه‪ ،‬وأعدل‬
‫الشهداء قد شهدوا على ذلك الحكم‪ ،‬فحكم بذلك من يعلم مقادير األعمال ومقادير استحقاقها للثواب‬
‫والعقاب‪.‬‬
‫فيحصل حكم يقر به الخلق‪ ،‬ويعترفون للّه بالحمد والعدل‪ ،‬ويعرفون به من عظمته وعلمه‬
‫ت ُك ُّل َن ْف ٍ‬
‫س َما‬ ‫وحكمته ورحمته ما لم يخطر بقلوبهم‪ ،‬وال تعبر عنه ألسنتهم‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬و ُوفَِّي ْ‬
‫َعلَ ُم بِ َما َي ْف َعلُ َ‬
‫ون }‬ ‫َع ِملَ ْ‬
‫ت َو ُه َو أ ْ‬

‫( ‪)1/729‬‬

‫ال لَهُ ْم َخ َزَنتُهَا أَلَ ْم َيأْتِ ُك ْم ُر ُس ٌل‬ ‫وها فُتِ َح ْ‬


‫ت أ َْب َو ُابهَا َوقَ َ‬ ‫اء َ‬ ‫ين َكفَ ُروا ِإلَى َجهََّن َم ُز َم ًرا َحتَّى ِإ َذا َج ُ‬
‫و ِس َ َِّ‬
‫يق الذ َ‬ ‫َ‬
‫اب َعلَى‬ ‫ت َكِلمةُ اْل َع َذ ِ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ون ُك ْم ِلقَ َ ِ‬‫ات َرِّب ُك ْم َوُي ْن ِذ ُر َ‬
‫ِم ْن ُكم ي ْتلُون علَْي ُكم آَي ِ‬
‫اء َي ْوم ُك ْم َه َذا قَالُوا َبلَى َولَك ْن َحق ْ َ‬ ‫َْ َ َ ْ َ‬
‫يل ْاد ُخلُوا أ َْبواب جهَّنم َخ ِال ِدين ِفيها فَبِْئس مثْوى اْلمتَ َكب ِِّرين (‪ )72‬و ِس َ َِّ‬ ‫ين (‪ِ )71‬ق َ‬ ‫ِ‬
‫ين‬
‫يق الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َََ‬ ‫اْل َكاف ِر َ‬
‫ت أ َْب َو ُابهَا َوقَا َل لَهُ ْم َخ َزَنتُهَا َساَل ٌم َعلَْي ُك ْم ِط ْبتُ ْم‬
‫وها َوفُتِ َح ْ‬
‫اء َ‬ ‫ِ‬
‫اتَّقَ ْوا َربَّهُ ْم ِإلَى اْل َجَّنة ُز َم ًرا َحتَّى ِإ َذا َج ُ‬
‫ث‬‫ض َنتََب َّوأُ ِم َن اْل َجَّن ِة َح ْي ُ‬ ‫ص َدقََنا َو ْع َدهُ َوأ َْو َرثََنا اأْل َْر َ‬
‫َِّ ِ َِّ‬
‫ين (‪َ )73‬وقَالُوا اْل َح ْم ُد لله الذي َ‬
‫فَ ْاد ُخلُ َ ِ ِ‬
‫وها َخالد َ‬
‫ين (‪)74‬‬ ‫ِِ‬ ‫اء فَنِ ْع َم أ ْ‬
‫َج ُر اْل َعامل َ‬ ‫َن َش ُ‬

‫ال لَهُ ْم‬ ‫وها فُتِ َح ْ‬


‫ت أ َْب َو ُابهَا َوقَ َ‬ ‫اء َ‬ ‫ين َكفَ ُروا ِإلَى َجهََّن َم ُز َم ًرا َحتَّى ِإ َذا َج ُ‬
‫{ ‪ { } 75 - 71‬و ِس َ َِّ‬
‫يق الذ َ‬ ‫َ‬
‫اء َي ْو ِم ُك ْم َه َذا قَالُوا َبلَى َولَ ِك ْن‬ ‫ات رِّب ُكم وي ْن ِذر َ ِ‬
‫ون ُك ْم لقَ َ‬
‫ِ‬
‫ون َعلَْي ُك ْم َآي َ ْ َ ُ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َخ َزَنتُهَا أَلَ ْم َيأْت ُك ْم ُر ُس ٌل م ْن ُك ْم َي ْتلُ َ‬
‫اب علَى اْل َك ِاف ِرين * ِقي َل ْاد ُخلُوا أ َْبواب جهَّنم َخ ِال ِد ِ‬ ‫حقَّ ْ ِ‬
‫ين فيهَا فَبِْئ َس َمثَْوى اْل ُمتَ َكب ِِّر َ‬
‫ين *‬ ‫َ‬ ‫َ َ َََ‬ ‫َ‬ ‫ت َكل َمةُ اْل َع َذ ِ َ‬ ‫َ‬
‫الم‬
‫ال لَهُ ْم َخ َزَنتُهَا َس ٌ‬ ‫ت أ َْب َو ُابهَا َوقَ َ‬‫وها َوفُتِ َح ْ‬
‫اء َ‬ ‫ِ‬
‫ين اتَّقَ ْوا َربَّهُ ْم ِإلَى اْل َجَّنة ُز َم ًرا َحتَّى ِإ َذا َج ُ‬
‫و ِس َ َِّ‬
‫يق الذ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ض َنتََب َّوأُ م َن‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األر َ‬‫ص َدقََنا َو ْع َدهُ َوأ َْو َرثََنا ْ‬ ‫ين * َوقَالُوا اْل َح ْم ُد لله الذي َ‬ ‫وها َخالد َ‬ ‫َعلَْي ُك ْم ط ْبتُ ْم فَ ْاد ُخلُ َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫اء فَنِ ْع َم أ ْ‬ ‫اْل َجَّن ِة َح ْي ُ‬
‫َج ُر اْل َعامل َ‬ ‫ث َن َش ُ‬
‫لما ذكر تعالى حكمه بين عباده‪ ،‬الذين جمعهم في خلقه ورزقه وتدبيره‪ ،‬واجتماعهم في الدنيا‪،‬‬
‫واجتماعهم في موقف القيامة‪ ،‬فرقهم تعالى عند جزائهم‪ ،‬كما افترقوا في الدنيا باإليمان والكفر‪،‬‬
‫ين َكفَ ُروا ِإلَى َجهََّن َم } أي‪ :‬سوقا عنيفا‪ ،‬يضربون بالسياط‬ ‫والتقوى والفجور‪ ،‬فقال‪ { :‬و ِس َ َِّ‬
‫يق الذ َ‬ ‫َ‬
‫الموجعة‪ ،‬من الزبانية الغالظ الشداد‪ ،‬إلى شر محبس وأفظع موضع‪ ،‬وهي جهنم التي قد جمعت‬
‫ُّون ِإلَى َن ِار‬
‫كل عذاب‪ ،‬وحضرها كل شقاء‪ ،‬وزال عنها كل سرور‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ي ْو َم ُي َدع َ‬
‫َجهََّن َم َدعًّا } أي‪ :‬يدفعون إليها دفعا‪ ،‬وذلك المتناعهم من دخولها‪.‬‬
‫ويساقون إليها { ُز َم ًرا } أي‪ :‬فرقا متفرقة‪ ،‬كل زمرة مع الزمرة التي تناسب عملها‪ ،‬وتشاكل‬
‫وها } أي‪ :‬وصلوا إلى‬ ‫سعيها‪ ،‬يلعن بعضهم بعضا‪ ،‬ويبرأ بعضهم من بعض‪َ { .‬حتَّى ِإ َذا َج ُ‬
‫اء َ‬
‫ساحتها { فُتِ َح ْ‬
‫ت } لهم أي‪ :‬ألجلهم { أ َْب َو ُابهَا } لقدومهم و ِق ًرى لنزولهم‪.‬‬
‫{ َوقَا َل لَهُ ْم َخ َزَنتُهَا } مهنئين لهم بالشقاء األبدي‪ ،‬والعذاب السرمدي‪ ،‬وموبخين لهم على األعمال‬
‫التي أوصلتهم إلى هذا المحل الفظيع‪ { :‬أَلَ ْم َيأْتِ ُك ْم ُر ُس ٌل ِم ْن ُك ْم } أي‪ :‬من جنسكم تعرفونهم‬
‫وتعرفون صدقهم‪ ،‬وتتمكنون من التلقي عنهم؟‪ { .‬ي ْتلُون علَْي ُكم آي ِ‬
‫ات َرِّب ُك ْم } التي أرسلهم اللّه بها‪،‬‬ ‫َ َ َ ْ َ‬
‫الدالة على الحق اليقين بأوضح البراهين‪.‬‬
‫اء َي ْو ِم ُك ْم َه َذا } أي‪ :‬وهذا يوجب عليكم اتباعهم والحذر من عذاب هذا اليوم‪،‬‬ ‫{ وي ْن ِذر َ ِ‬
‫ون ُك ْم لقَ َ‬ ‫َُ ُ‬
‫باستعمال تقواه‪ ،‬وقد كانت حالكم بخالف هذه الحال؟‬
‫{ قَالُوا } مقرين بذنبهم‪ ،‬وأن حجة اللّه قامت عليهم‪َ { :‬بلَى } قد جاءتنا رسل ربنا بآياته وبيناته‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ت َكِلمةُ اْل َع َذ ِ‬‫ِ َّ‬
‫ين } أي‪:‬‬‫اب َعلَى اْل َكاف ِر َ‬ ‫وبينوا لنا غاية التبيين‪ ،‬وحذرونا من هذا اليوم‪َ { .‬ولَك ْن َحق ْ َ‬
‫بسبب كفرهم وجبت عليهم كلمة العذاب‪ ،‬التي هي لكل من كفر بآيات اللّه‪ ،‬وجحد ما جاءت به‬
‫المرسلون‪ ،‬فاعترفوا بذنبهم وقيام الحجة عليهم‪.‬‬
‫اب َجهََّن َم } كل طائفة تدخل من الباب الذي‬
‫يل } لهم على وجه اإلهانة واإلذالل‪ْ { :‬اد ُخلُوا أ َْب َو َ‬ ‫فـ { ِق َ‬
‫ين ِفيهَا } أبدا‪ ،‬ال يظعنون عنها‪ ،‬وال يفتر عنهم العذاب ساعة وال‬ ‫ِِ‬
‫يناسبها ويوافق عملها‪َ { .‬خالد َ‬
‫ين } أي‪ :‬بئس المقر‪ ،‬النار مقرهم‪ ،‬وذلك ألنهم تكبروا على‬ ‫ينظرون‪ { .‬فَبِْئ َس َمثَْوى اْل ُمتَ َكب ِِّر َ‬
‫الحق‪ ،‬فجازاهم اللّه من جنس عملهم‪ ،‬باإلهانة والذل‪ ،‬والخزي‪.‬‬
‫ين اتَّقَ ْوا َربَّهُ ْم } بتوحيده والعمل بطاعته‪ ،‬سوق إكرام وإ عزاز‪،‬‬ ‫ثم قال عن أهل الجنة‪ { :‬و ِس َ َِّ‬
‫يق الذ َ‬ ‫َ‬
‫يحشرون وفدا على النجائب‪ِ { .‬إلَى اْل َجَّن ِة ُز َم ًرا } فرحين مستبشرين‪ ،‬كل زمرة مع الزمرة‪ ،‬التي‬
‫وها } أي‪ :‬وصلوا لتلك الرحاب الرحيبة والمنازل األنيقة‪،‬‬ ‫اء َ‬ ‫تناسب عملها وتشاكله‪َ { .‬حتَّى ِإ َذا َج ُ‬
‫وهب عليهم ريحها ونسيمها‪ ،‬وآن خلودها ونعيمها‪َ { .‬وفُتِ َح ْ‬
‫ت } لهم { أ َْب َو ُابهَا } فتح إكرام‪ ،‬لكرام‬ ‫َّ‬
‫الم َعلَْي ُك ْم } أي‪ :‬سالم من كل‬ ‫الخلق‪ ،‬ليكرموا فيها‪َ { .‬وقَا َل لَهُ ْم َخ َزَنتُهَا } تهنئة لهم وترحيبا‪َ { :‬س ٌ‬
‫آفة وشر حال‪.‬عليكم { ِط ْبتُ ْم } أي‪ :‬طابت قلوبكم بمعرفة اللّه ومحبته وخشيته‪ ،‬وألسنتكم بذكره‪،‬‬
‫ين } [ ص ‪ ] 731‬ألنها الدار الطيبة‪ ،‬وال‬ ‫وجوارحكم بطاعته‪ { .‬فـ } بسبب طيبكم { ْاد ُخلُ َ ِ ِ‬
‫وها َخالد َ‬
‫يليق بها إال الطيبون‪.‬‬
‫ت } بالواو‪ ،‬إشارة إلى أن أهل النار‪ ،‬بمجرد‬ ‫ت أ َْب َو ُابهَا } وفي الجنة { َوفُتِ َح ْ‬
‫وقال في النار { فُتِ َح ْ‬
‫وصولهم إليها‪ ،‬فتحت لهم أبوابها من غير إنظار وال إمهال‪ ،‬وليكون فتحها في وجوههم‪ ،‬وعلى‬
‫وصولهم‪ ،‬أعظم لحرها‪ ،‬وأشد لعذابها‪.‬‬
‫وأما الجنة‪ ،‬فإنها الدار العالية الغالية‪ ،‬التي ال يوصل إليها وال ينالها كل أحد‪ ،‬إال من أتى بالوسائل‬
‫الموصلة إليها‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فيحتاجون لدخولها لشفاعة أكرم الشفعاء عليه‪ ،‬فلم تفتح لهم بمجرد ما‬
‫وصلوا إليها‪ ،‬بل يستشفعون إلى اللّه بمحمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬حتى يشفع‪ ،‬فيشفعه اللّه تعالى‪.‬‬
‫وفي اآليات دليل على أن النار والجنة لهما أبواب تفتح وتغلق‪ ،‬وأن لكل منهما خزنة‪ ،‬وهما‬
‫الداران الخالصتان‪ ،‬اللتان ال يدخل فيهما إال من استحقهما‪ ،‬بخالف سائر األمكنة والدور‪.‬‬
‫ومن عليهم وهداهم‪:‬‬ ‫{ َوقَالُوا } عند دخولهم فيها واستقرارهم‪ ،‬حامدين ربهم على ما أوالهم َّ‬
‫ص َدقََنا َو ْع َدهُ } أي‪ :‬وعدنا الجنة على ألسنة رسله‪ ،‬إن آمنا وصلحنا‪ ،‬فوفَّى لنا‬ ‫َِّ ِ َِّ‬
‫{ اْل َح ْم ُد لله الذي َ‬
‫اء‬ ‫ض } أي‪ :‬أرض الجنة { َنتََب َّوأُ ِم َن اْل َجَّن ِة َح ْي ُ‬
‫ث َن َش ُ‬ ‫األر َ‬ ‫بما وعدنا‪ ،‬وأنجز لنا ما َّ‬
‫منانا‪َ { .‬وأ َْو َرثََنا ْ‬
‫} أي‪ :‬ننزل منها أي مكان شئنا‪ ،‬ونتناول منها أي نعيم أردنا‪ ،‬ليس ممنوعا عنا شيء نريده‪.‬‬
‫ين } الذين اجتهدوا بطاعة ربهم‪ ،‬في زمن قليل منقطع‪ ،‬فنالوا بذلك خيرا عظيما‬ ‫ِِ‬ ‫{ فَنِ ْع َم أ ْ‬
‫َج ُر اْل َعامل َ‬
‫باقيا مستمرا‪.‬‬
‫وهذه الدار التي تستحق المدح على الحقيقة‪ ،‬التي يكرم اللّه فيها خواص خلقه‪ ،‬ورضيها الجواد‬
‫الكريم لهم نزال وبنى أعالها وأحسنها‪ ،‬وغرسها بيده‪ ،‬وحشاها من رحمته وكرامته ما ببعضه‬
‫يفرح الحزين‪ ،‬ويزول الكدر‪ ،‬ويتم الصفاء‪.‬‬

‫( ‪)1/730‬‬

‫يل اْل َح ْم ُد ِللَّ ِه‬


‫ق َو ِق َ‬ ‫ِ‬
‫ضي َب ْيَنهُ ْم بِاْل َح ِّ‬ ‫ِّح َ ِ ِ ِّ ِ‬ ‫ين ِم ْن َح ْو ِل اْل َع ْر ِ‬ ‫ِ‬
‫َوتََرى اْل َماَل ئ َكةَ َحافِّ َ‬
‫ون ب َح ْمد َربه ْم َوقُ َ‬ ‫ش ُي َسب ُ‬
‫ين (‪)75‬‬ ‫ِ‬ ‫َر ِّ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬

‫ق َو ِقي َل اْل َح ْم ُد ِللَّ ِه‬


‫ضي َب ْيَنهُ ْم بِاْل َح ِّ‬‫ِ‬ ‫ِّح َ ِ ِ ِّ ِ‬ ‫ين ِم ْن َح ْو ِل اْل َع ْر ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َوتََرى اْل َمالئ َكةَ َحافِّ َ‬
‫ون ب َح ْمد َربه ْم َوقُ َ‬ ‫ش ُي َسب ُ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َر ِّ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬
‫ش } أي‪ :‬قد قاموا في‬ ‫ين ِم ْن َح ْو ِل اْل َع ْر ِ‬‫{ َوتََرى اْل َمالئ َكةَ } أيها الرائي ذلك اليوم العظيم { َحافِّ َ‬
‫ِ‬
‫خدمة ربهم‪ ،‬واجتمعوا حول عرشه‪ ،‬خاضعين لجالله‪ ،‬معترفين بكماله‪ ،‬مستغرقين بجماله‪.‬‬
‫ون بِ َح ْم ِد َرِّب ِه ْم } أي‪ :‬ينزهونه عن كل ما ال يليق بجالله‪ ،‬مما نسب إليه المشركون وما لم‬ ‫ِّح َ‬
‫{ ُي َسب ُ‬
‫ينسبوا‪.‬‬
‫ق } الذي ال اشتباه فيه وال إنكار‪،‬‬ ‫ضي َب ْيَنهُ ْم } أي‪ :‬بين األولين واآلخرين من الخلق { بِاْل َح ِّ‬ ‫ِ‬
‫{ َوقُ َ‬
‫ين } لم يذكر القائل من هو‪ ،‬ليدل ذلك على أن جميع‬ ‫ِ‬ ‫يل اْل َح ْم ُد ِللَّ ِه َر ِّ‬
‫ممن عليه الحق‪َ { .‬و ِق َ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬
‫الخلق نطقوا بحمد ربهم وحكمته على ما قضى به على أهل الجنة وأهل النار‪ ،‬حمد فضل‬
‫وإ حسان‪ ،‬وحمد عدل وحكمة‪.‬‬
‫تم تفسير سورة الزمر بحمد اللّه وعونه‪.‬‬
‫تفسير سورة المؤمن‬
‫مكية‬

‫( ‪)1/731‬‬

‫اب ِذي‬
‫الذ ْن ِب وقَابِ ِل التَّو ِب َش ِد ِيد اْل ِعقَ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫يز اْلعِل ِيم (‪َ )2‬غ ِاف ِر َّ‬ ‫حم (‪ )1‬تَْن ِزي ُل اْل ِكتَ ِ ِ َّ ِ‬
‫اب م َن الله اْل َع ِز ِ َ‬
‫ص ُير (‪)3‬‬‫الطَّو ِل اَل ِإلَه ِإاَّل ُهو ِإلَْي ِه اْلم ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬

‫يز اْلعِل ِيم * َغ ِاف ِر َّ‬


‫الذ ْن ِب‬ ‫الر ِح ِيم حم * تَْن ِزي ُل اْل ِكتَ ِ ِ َّ ِ‬ ‫{ ‪ { } 3 - 1‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫اب م َن الله اْل َع ِز ِ َ‬ ‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫ص ُير } ‪.‬‬ ‫اب ِذي الطَّو ِل ال ِإلَه ِإال ُهو ِإلَْي ِه اْلم ِ‬ ‫وقَابِ ِل التَّو ِب َش ِد ِيد اْل ِعقَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫يخبر تعالى عن كتابه العظيم وبأنه صادر ومنزل من اهلل‪ ،‬المألوه المعبود‪ ،‬لكماله وانفراده‬
‫يز } الذي قهر بعزته كل مخلوق { اْل َعِل ِيم } بكل شيء‪.‬‬ ‫بأفعاله‪ { ،‬اْل َع ِز ِ‬
‫اب } على من تجرأ على‬ ‫الذ ْن ِب } للمذنبين { وقَابِ ِل التَّو ِب } من التائبين‪َ { ،‬ش ِد ِيد اْل ِعقَ ِ‬ ‫{ َغ ِاف ِر َّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫الط ْو ِل } أي‪ :‬التفضل واإلحسان الشامل‪.‬‬ ‫الذنوب ولم يتب منها‪ِ { ،‬ذي َّ‬
‫موجبا ألن يكون وحده‪ ،‬المألوه الذي تخلص له األعمال‬ ‫ً‬ ‫فلما قرر ما قرر من كماله وكان ذلك‬
‫ص ُير }‬‫قال‪ { :‬ال ِإلَه ِإال ُهو ِإلَْي ِه اْلم ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ووجه المناسبة بذكر نزول القرآن من اهلل الموصوف بهذه األوصاف أن هذه األوصاف مستلزمة‬
‫لجميع ما يشتمل عليه القرآن‪ ،‬من المعاني‪.‬‬
‫فإن القرآن‪ :‬إما إخبار عن أسماء اهلل‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬وهذه أسماء‪ ،‬وأوصاف‪ ،‬وأفعال‪.‬‬
‫وإ ما إخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة‪ ،‬فهي من تعليم العليم لعباده‪.‬‬
‫وإ ما إخبار عن نعمه العظيمة‪ ،‬وآالئه الجسيمة‪ ،‬وما يوصل إلى ذلك‪ ،‬من األوامر‪ ،‬فذلك يدل عليه‬
‫قوله‪ِ { :‬ذي الطَّ ْو ِل }‬
‫وإ ما إخبار عن نقمه الشديدة‪ ،‬وعما يوجبها ويقتضيها من المعاصي‪ ،‬فذلك يدل عليه قوله‪َ { :‬ش ِد ِيد‬
‫اْل ِعقَ ِ‬
‫اب }‬
‫وإ ما دعوة للمذنبين إلى التوبة واإلنابة‪ ،‬واالستغفار‪ ،‬فذلك يدل عليه قوله‪َ { :‬غ ِاف ِر َّ‬
‫الذ ْن ِب َوقَابِ ِل‬
‫التَّو ِب َش ِد ِيد اْل ِعقَ ِ‬
‫اب }‬ ‫ْ‬
‫وإ ما إخبار بأنه وحده المألوه المعبود‪ ،‬وإ قامة األدلة العقلية والنقلية على ذلك‪ ،‬والحث عليه‪،‬‬
‫والنهي عن عبادة ما سوى اهلل‪ ،‬وإ قامة األدلة العقلية والنقلية على فسادها والترهيب منها‪ ،‬فذلك‬
‫يدل عليه قوله تعالى‪ { :‬ال ِإلَهَ ِإال ُه َو }‬
‫وإ ما إخبار عن حكمه الجزائي العدل‪ ،‬وثواب المحسنين‪ ،‬وعقاب العاصين‪ ،‬فهذا يدل عليه قوله‪{ :‬‬
‫ِإلَْي ِه اْلم ِ‬
‫ص ُير }‬ ‫َ‬
‫فهذا جميع ما يشتمل عليه القرآن من المطالب العاليات‪.‬‬

‫( ‪)1/731‬‬

‫وح‬
‫ت قَْبلَهُ ْم قَ ْو ُم ُن ٍ‬‫ك تََقلُُّبهُ ْم ِفي اْلبِاَل ِد (‪َ )4‬ك َّذَب ْ‬‫ين َكفَ ُروا فَاَل َي ْغ ُر ْر َ‬ ‫ِ َّ ِ اَّل َِّ‬
‫َما ُي َجاد ُل في آََيات الله ِإ الذ َ‬
‫ِ ِ‬
‫ضوا بِ ِه اْل َح َّ‬
‫ق‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ادلُوا بِاْلَباط ِل لُي ْدح ُ‬ ‫ْخ ُذوهُ َو َج َ‬ ‫ُم ٍة بَِر ُسوِل ِه ْم ِلَيأ ُ‬
‫ت ُك ُّل أ َّ‬ ‫اب ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم َو َه َّم ْ‬‫َح َز ُ‬ ‫َواأْل ْ‬
‫الن ِار (‪)6‬‬
‫اب َّ‬ ‫َِّ‬ ‫ت َكِل َمةُ َرِّب َ‬ ‫اب (‪َ )5‬و َك َذِل َ‬
‫ك َحقَّ ْ‬ ‫ان ِعقَ ِ‬
‫َص َح ُ‬ ‫ين َكفَ ُروا أََّنهُ ْم أ ْ‬
‫ك َعلَى الذ َ‬ ‫ف َك َ‬ ‫َخ ْذتُهُ ْم فَ َك ْي َ‬
‫فَأ َ‬

‫ت قَْبلَهُ ْم‬‫الد * َك َّذَب ْ‬


‫ك تََقلُّبهم ِفي اْلبِ ِ‬
‫ين َكفَ ُروا فَال َي ْغ ُر ْر َ ُ ُ ْ‬
‫َِّ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫{ ‪َ { } 6 - 4‬ما ُي َجاد ُل في َآيات الله ِإال الذ َ‬
‫ضوا بِ ِه‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ادلُوا بِاْلَباط ِل لُي ْدح ُ‬ ‫ُم ٍة بَِر ُسوِل ِه ْم ِلَيأ ُ‬
‫ْخ ُذوهُ َو َج َ‬ ‫ت ُك ُّل أ َّ‬ ‫اب ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم َو َه َّم ْ‬
‫األح َز ُ‬‫وح َو ْ‬ ‫قَ ْو ُم ُن ٍ‬
‫الن ِار‬
‫اب َّ‬ ‫َِّ‬ ‫ت َكِل َمةُ َرِّب َ‬ ‫ك َحقَّ ْ‬ ‫اب * َو َك َذِل َ‬ ‫ان ِعقَ ِ‬ ‫اْل َح َّ‬
‫َص َح ُ‬ ‫ين َكفَ ُروا أََّنهُ ْم أ ْ‬‫ك َعلَى الذ َ‬ ‫ف َك َ‬ ‫َخ ْذتُهُ ْم فَ َك ْي َ‬
‫ق فَأ َ‬
‫}‪.‬‬
‫يخبر تبارك وتعالى أنه ما يجادل في آياته إال الذين كفروا والمراد بالمجادلة هنا‪ ،‬المجادلة لرد‬
‫آيات اهلل ومقابلتها بالباطل‪ ،‬فهذا من صنيع الكفار‪ ،‬وأما المؤمنون فيخضعون هلل تعالى الذي يلقي‬
‫الحق ليدحض به الباطل‪ ،‬وال ينبغي لإلنسان أن يغتر بحالة اإلنسان الدنيوية‪ ،‬ويظن أن إعطاء اهلل‬
‫ك تََقلُّبهم ِفي اْلبِ ِ‬
‫الد }‬ ‫إياه في الدنيا دليل على محبته له وأنه على الحق ولهذا قال‪ { :‬فَال َي ْغ ُر ْر َ ُ ُ ْ‬
‫[ ص ‪ ] 732‬أي‪ :‬ترددهم فيها بأنواع التجارات والمكاسب‪ ،‬بل الواجب على العبد‪ ،‬أن يعتبر‬
‫الناس بالحق‪ ،‬وينظر إلى الحقائق الشرعية ويزن بها الناس‪ ،‬وال يزن الحق بالناس‪ ،‬كما عليه من‬
‫ال علم وال عقل له‪.‬‬
‫ثم هدد من جادل بآيات اهلل ليبطلها‪ ،‬كما فعل من قبله من األمم من قوم نوح وعاد واألحزاب من‬
‫بعدهم‪ ،‬الذين تحزبوا وتجمعوا على الحق ليبطلوه‪ ،‬وعلى الباطل لينصروه‪ { ،‬و } أنه بلغت بهم‬
‫ُم ٍة } من األمم { بَِر ُسوِل ِه ْم ِلَيأ ُ‬
‫ْخ ُذوهُ } أي‪ :‬يقتلوه‪.‬‬ ‫ت ُك ُّل أ َّ‬
‫الحال‪ ،‬وآل بهم التحزب إلى أنه { َه َّم ْ‬
‫وهذا أبلغ ما يكون الرسل الذين هم قادة أهل الخير الذين معهم الحق الصرف الذي ال شك فيه وال‬
‫اشتباه‪ ،‬هموا بقتلهم‪ ،‬فهل بعد هذا البغي والضالل والشقاء إال العذاب العظيم الذي ال يخرجون‬
‫َخ ْذتُهُ ْم } أي‪ :‬بسبب تكذيبهم وتحزبهم‬
‫منه؟ ولهذا قال في عقوبتهم الدنيوية واألخروية‪ { :‬فَأ َ‬
‫اب } كان أشد العقاب وأفظعه‪ ،‬ما هو إال صيحة أو حاصب ينزل عليهم أو يأمر‬ ‫ان ِعقَ ِ‬
‫ف َك َ‬
‫{ فَ َك ْي َ‬
‫األرض أن تأخذهم‪ ،‬أو البحر أن يغرقهم فإذا هم خامدون‪.‬‬
‫ين َكفَ ُروا } أي‪ :‬كما حقت على أولئك‪ ،‬حقت عليهم كلمة‬ ‫َِّ‬ ‫ت َكِل َمةُ َرِّب َ‬ ‫{ َو َك َذِل َ‬
‫ك َحقَّ ْ‬
‫ك َعلَى الذ َ‬
‫الن ِار }‬
‫اب َّ‬ ‫الضالل التي نشأت عنها كلمة العذاب‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬أََّنهُ ْم أ ْ‬
‫َص َح ُ‬

‫( ‪)1/731‬‬

‫َمُنوا َربََّنا‬ ‫الَِّذين ي ْح ِملُون اْلعر َش وم ْن حولَه يسبِّحون بِحم ِد رِّب ِهم ويؤ ِمُنون بِ ِه ويستَ ْغ ِفر َِِّ‬
‫ين آ َ‬
‫ون للذ َ‬ ‫َ َْ َ َ َ ْ ُ ُ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُْ َ َ َ ْ ُ َ‬ ‫َ َ‬
‫اب اْل َج ِح ِيم (‪)7‬‬
‫ك َو ِق ِه ْم َع َذ َ‬
‫ين تَ ُابوا َواتََّب ُعوا َسبِيلَ َ‬ ‫ت ُك َّل َشي ٍء ر ْحمةً و ِعْلما فَ ْ ِ َِِّ‬
‫اغف ْر للذ َ‬ ‫ْ َ َ َ ً‬ ‫َو ِس ْع َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬


‫ون بِه َوَي ْستَ ْغف ُر َ‬
‫ون‬ ‫ون بِ َح ْمد َرِّب ِه ْم َوُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ِّح َ‬
‫ون اْل َع ْر َش َو َم ْن َح ْولَهُ ُي َسب ُ‬
‫ين َي ْحملُ َ‬
‫{ ‪ { } 9 - 7‬الذ َ‬
‫ت ُك َّل َشي ٍء ر ْحمةً و ِعْلما فَ ْ ِ َِِّ‬ ‫آمُنوا َربََّنا َو ِس ْع َ‬ ‫َِِّ‬
‫ك َو ِق ِه ْم َع َذ َ‬
‫اب‬ ‫ين تَ ُابوا َواتََّب ُعوا َسبِيلَ َ‬ ‫اغف ْر للذ َ‬ ‫ْ َ َ َ ً‬ ‫ين َ‬ ‫للذ َ‬
‫اْل َج ِح ِيم } ‪.‬‬
‫يخبر تعالى عن كمال لطفه تعالى بعباده المؤمنين‪ ،‬وما قيض ألسباب سعادتهم من األسباب‬
‫الخارجة عن قدرهم‪ ،‬من استغفار المالئكة المقربين لهم‪ ،‬ودعائهم لهم بما فيه صالح دينهم‬
‫وآخرتهم‪ ،‬وفي ضمن ذلك اإلخبار عن شرف حملة العرش ومن حوله‪ ،‬وقربهم من ربهم‪ ،‬وكثرة‬
‫ون اْل َع ْر َش } أي‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ين َي ْحملُ َ‬
‫عبادتهم ونصحهم لعباد اهلل‪ ،‬لعلمهم أن اهلل يحب ذلك منهم فقال‪ { :‬الذ َ‬
‫عرش الرحمن‪ ،‬الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها وأوسعها وأحسنها‪ ،‬وأقربها من اهلل تعالى‪،‬‬
‫الذي وسع األرض والسماوات والكرسي‪ ،‬وهؤالء المالئكة‪ ،‬قد وكلهم اهلل تعالى بحمل عرشه‬
‫العظيم‪ ،‬فال شك أنهم من أكبر المالئكة وأعظمهم وأقواهم‪ ،‬واختيار اهلل لهم لحمل عرشه‪،‬‬
‫وتقديمهم في الذكر‪ ،‬وقربهم منه‪ ،‬يدل على أنهم أفضل أجناس المالئكة عليهم السالم‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ِّك فَ ْوقَهُ ْم َي ْو َمئٍِذ ثَ َمانَِيةٌ }‬
‫{ َوَي ْح ِم ُل َع ْر َش َرب َ‬
‫ون بِ َح ْم ِد َرِّب ِه ْم } هذا مدح لهم‬
‫ِّح َ‬
‫{ َو َم ْن َح ْولَهُ } من المالئكة المقربين في المنزلة والفضيلة { ُي َسب ُ‬
‫وخصوصا التسبيح والتحميد‪ ،‬وسائر العبادات تدخل في تسبيح اهلل‬
‫ً‬ ‫بكثرة عبادتهم للّه تعالى‪،‬‬
‫وتحميده‪ ،‬ألنها تنزيه له عن كون العبد يصرفها لغيره‪ ،‬وحمد له تعالى‪ ،‬بل الحمد هو العبادة للّه‬
‫تعالى‪ ،‬وأما قول العبد‪" :‬سبحان اهلل وبحمده" فهو داخل في ذلك وهو من جملة العبادات‪.‬‬
‫جدا‪ ،‬أن المالئكة الذين‬
‫آمُنوا } وهذا من جملة فوائد اإليمان وفضائله الكثيرة ً‬ ‫{ ويستَ ْغ ِفر َِِّ‬
‫ين َ‬
‫ون للذ َ‬
‫ََ ْ ُ َ‬
‫ال ذنوب عليهم يستغفرون ألهل اإليمان‪ ،‬فالمؤمن بإيمانه تسبب لهذا الفضل العظيم‪.‬‬
‫ثم ولما كانت المغفرة لها لوازم ال تتم إال بها ‪-‬غير ما يتبادر إلى كثير من األذهان‪ ،‬أن سؤالها‬
‫وطلبها غايته مجرد مغفرة الذنوب‪ -‬ذكر تعالى صفة دعائهم لهم بالمغفرة‪ ،‬بذكر ما ال تتم إال به‪،‬‬
‫ت ُك َّل َش ْي ٍء َر ْح َمةً َو ِعْل ًما } فعلمك قد أحاط بكل شيء‪ ،‬ال يخفى عليك خافية‪،‬‬
‫فقال‪َ { :‬ربََّنا َو ِس ْع َ‬
‫وال يعزب عن علمك مثقال ذرة في األرض وال في السماء‪ ،‬وال أصغر من ذلك وال أكبر‪،‬‬
‫ورحمتك وسعت كل شيء‪ ،‬فالكون علويه وسفليه قد امتأل برحمة اهلل تعالى ووسعتهم‪ ،‬ووصل‬
‫إلى ما وصل إليه خلقه‪.‬‬
‫ين تَ ُابوا } من الشرك والمعاصي { َواتََّب ُعوا َسبِيلَ َ‬
‫ك } باتباع رسلك‪ ،‬بتوحيدك وطاعتك‪.‬‬ ‫{ فَ ْ ِ َِِّ‬
‫اغف ْر للذ َ‬
‫اب اْل َج ِح ِيم } أي‪ :‬قهم العذاب نفسه‪ ،‬وقهم أسباب العذاب‪.‬‬ ‫{ َو ِق ِه ْم َع َذ َ‬

‫( ‪)1/732‬‬

‫ت اْل َع ِز ُيز‬ ‫اج ِه ْم َو ُذِّريَّاتِ ِه ْم ِإَّن َ‬


‫ك أ َْن َ‬ ‫صلَ َح ِم ْن آََبائِ ِهم وأ َْزو ِ‬
‫َْ َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َربََّنا َوأ َْدخْلهُ ْم َجَّنات َع ْد ٍن التي َو َع ْدتَهُ ْم َو َم ْن َ‬
‫يم (‪)9‬‬ ‫ِ‬ ‫ات َي ْو َمئٍِذ فَقَ ْد َر ِح ْمتَهُ َو َذِل َ‬
‫ق السَّيَِّئ ِ‬
‫ات و َم ْن تَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ك ُه َو اْلفَ ْو ُز اْل َعظ ُ‬ ‫يم (‪َ )8‬وقه ُم السَّيَِّئ َ‬ ‫اْل َحك ُ‬

‫ت‬‫ك أ َْن َ‬‫اج ِه ْم َو ُذِّريَّاتِ ِه ْم ِإَّن َ‬


‫صلَ َح ِم ْن َآبائِ ِهم وأ َْزو ِ‬
‫َْ َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َربََّنا َوأ َْدخْلهُ ْم َجَّنات َع ْد ٍن التي َو َع ْدتَهُ ْم َو َم ْن َ‬
‫ِ‬ ‫ات َي ْو َمئٍِذ فَقَ ْد َر ِح ْمتَهُ َو َذِل َ‬
‫ق السَّيَِّئ ِ‬
‫ات و َم ْن تَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫ك ُه َو اْلفَ ْو ُز اْل َعظ ُ‬ ‫يم * َوقه ُم السَّيَِّئ َ‬ ‫اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صلَ َح } أي‪ :‬صلح باإليمان‬ ‫{ َربََّنا َوأ َْدخْلهُ ْم َجَّنات َع ْد ٍن التي َو َع ْدتَهُ ْم } على ألسنة رسلك { َو َم ْن َ‬
‫اج ِه ْم } زوجاتهم وأزواجهن وأصحابهم ورفقائهم { َو ُذِّريَّاتِ ِه ْم }‬ ‫والعمل الصالح { ِم ْن َآبائِ ِهم وأ َْزو ِ‬
‫ْ َ َ‬
‫ت اْل َع ِز ُيز } القاهر لكل شيء‪ ،‬فبعزتك تغفر ذنوبهم‪ ،‬وتكشف عنهم المحذور‪ ،‬وتوصلهم‬ ‫{ ِإَّن َ‬
‫ك أ َْن َ‬
‫يم } الذي يضع األشياء مواضعها‪ ،‬فال نسألك يا ربنا أمرا تقتضي حكمتك‬ ‫ِ‬
‫بها إلى كل خير { اْل َحك ُ‬
‫خالفه‪ ،‬بل من حكمتك التي أخبرت بها على ألسنة رسلك‪ ،‬واقتضاها فضلك‪ ،‬المغفرة للمؤمنين‪.‬‬
‫ات َي ْو َمئٍِذ‬‫ق السَّيَِّئ ِ‬ ‫ات } أي‪ :‬األعمال السيئة وجزاءها‪ ،‬ألنها تسوء صاحبها‪ { .‬و َم ْن تَ ِ‬
‫َ‬
‫{ و ِق ِهم السَّيَِّئ ِ‬
‫َ ُ‬
‫} أي‪ :‬يوم القيامة [ ص ‪ { ] 733‬فَقَ ْد َر ِح ْمتَهُ } ألن رحمتك لم تزل مستمرة على العباد‪ ،‬ال‬
‫ك}‬ ‫يمنعها إال ذنوب العباد وسيئاتهم‪ ،‬فمن وقيته السيئات وفقته للحسنات وجزائها الحسن‪َ { .‬و َذِل َ‬
‫يم }‬ ‫ِ‬
‫أي‪ :‬زوال المحذور بوقاية السيئات‪ ،‬وحصول المحبوب بحصول الرحمة‪ُ { ،‬ه َو اْلفَ ْو ُز اْل َعظ ُ‬
‫الذي ال فوز مثله‪ ،‬وال يتنافس المتنافسون بأحسن منه‪.‬‬
‫وقد تضمن هذا الدعاء من المالئكة كمال معرفتهم بربهم‪ ،‬والتوسل إلى اهلل بأسمائه الحسنى‪ ،‬التي‬
‫يحب من عباده التوسل بها إليه‪ ،‬والدعاء بما يناسب ما دعوا اهلل فيه‪ ،‬فلما كان دعاؤهم بحصول‬
‫الرحمة‪ ،‬وإ زالة أثر ما اقتضته النفوس البشرية التي علم اهلل نقصها واقتضاءها لما اقتضته من‬
‫علما توسلوا بالرحيم العليم‪.‬‬
‫المعاصي‪ ،‬ونحو ذلك من المبادئ واألسباب التي قد أحاط اهلل بها ً‬
‫وتضمن كمال أدبهم مع اهلل تعالى بإقرارهم بربوبيته لهم الربوبية العامة والخاصة‪ ،‬وأنه ليس لهم‬
‫من األمر شيء وإ نما دعاؤهم لربهم صدر من فقير بالذات من جميع الوجوه‪ ،‬ال ُي ْدِلي على ربه‬
‫بحالة من األحوال‪ ،‬إن هو إال فضل اهلل وكرمه وإ حسانه‪.‬‬
‫وتضمن موافقتهم لربهم تمام الموافقة‪ ،‬بمحبة ما يحبه من األعمال التي هي العبادات التي قاموا‬
‫بها‪ ،‬واجتهدوا اجتهاد المحبين‪ ،‬ومن العمال الذين هم المؤمنون الذين يحبهم اهلل تعالى من بين‬
‫خلقه‪ ،‬فسائر الخلق المكلفين يبغضهم اهلل إال المؤمنين منهم‪ ،‬فمن محبة المالئكة لهم دعوا اهلل‪،‬‬
‫واجتهدوا في صالح أحوالهم‪ ،‬ألن الدعاء للشخص من أدل الدالئل على محبته‪ ،‬ألنه ال يدعو إال‬
‫لمن يحبه‪.‬‬
‫آمُنوا } التنبيه اللطيف‬ ‫وتضمن ما شرحه اهلل وفصله من دعائهم بعد قوله‪ { :‬ويستَ ْغ ِفر َِِّ‬
‫ين َ‬
‫ون للذ َ‬
‫ََ ْ ُ َ‬
‫مقتصرا على مجرد معنى اللفظ بمفرده‪ ،‬بل ينبغي له‬ ‫ً‬ ‫على كيفية تدبر كتابه‪ ،‬وأن ال يكون المتدبر‬
‫صحيحا على وجهه‪ ،‬نظر بعقله إلى ذلك األمر والطرق‬
‫ً‬ ‫فهما‬
‫أن يتدبر معنى اللفظ‪ ،‬فإذا فهمه ً‬
‫الموصلة إليه وما ال يتم إال به وما يتوقف عليه‪ ،‬وجزم بأن اهلل أراده‪ ،‬كما يجزم أنه أراد المعنى‬
‫الخاص‪ ،‬الدال عليه اللفظ‪.‬‬
‫والذي يوجب له الجزم بأن اهلل أراده أمران‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬معرفته وجزمه بأنه من توابع المعنى والمتوقف عليه‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬علمه بأن اهلل بكل شيء عليم‪ ،‬وأن اهلل أمر عباده بالتدبر والتفكر في كتابه‪.‬‬
‫وقد علم تعالى ما يلزم من تلك المعاني‪ .‬وهو المخبر بأن كتابه هدى ونور وتبيان لكل شيء‪ ،‬وأنه‬
‫إيضاحا‪ ،‬فبذلك يحصل للعبد من العلم العظيم والخير الكثير‪ ،‬بحسب ما وفقه‬
‫ً‬ ‫أفصح الكالم وأجله‬
‫اهلل له وقد كان في تفسيرنا هذا‪ ،‬كثير من هذا من به اهلل علينا‪.‬‬
‫وقد يخفى في بعض اآليات مأخذه على غير المتأمل صحيح الفكرة‪ ،‬ونسأله تعالى أن يفتح علينا‬
‫سببا لصالح أحوالنا وأحوال المسلمين‪ ،‬فليس لنا إال التعلق بكرمه‪،‬‬
‫من خزائن رحمته ما يكون ً‬
‫والتوسل بإحسانه‪ ،‬الذي ال نزال نتقلب فيه في كل اآلنات‪ ،‬وفي جميع اللحظات‪ ،‬ونسأله من‬
‫فضله‪ ،‬أن يقينا شر أنفسنا المانع والمعوق لوصول رحمته‪ ،‬إنه الكريم الوهاب‪ ،‬الذي تفضل‬
‫باألسباب ومسبباتها‪.‬‬
‫سببا لخير‬
‫وتضمن ذلك‪ ،‬أن المقارن من زوج وولد وصاحب‪ ،‬يسعد بقرينه‪ ،‬ويكون اتصاله به ً‬
‫يحصل له‪ ،‬خارج عن عمله وسبب عمله كما كانت المالئكة تدعو للمؤمنين ولمن صلح من آبائهم‬
‫صلَ َح } فحينئذ يكون‬
‫وأزواجهم وذرياتهم‪ ،‬وقد يقال‪ :‬إنه ال بد من وجود صالحهم لقوله‪َ { :‬و َم ْن َ‬
‫ذلك من نتيجة عملهم واهلل أعلم‪.‬‬

‫( ‪)1/732‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ادون لَم ْق ُ َّ ِ‬ ‫َِّ‬
‫ون (‪)10‬‬ ‫يم ِ‬
‫ان فَتَ ْكفُُر َ‬ ‫ت الله أَ ْكَب ُر م ْن َم ْقت ُك ْم أ َْنفُ َس ُك ْم إ ْذ تُ ْد َع ْو َن إلَى اإْل َ‬ ‫ين َكفَ ُروا ُيَن َ ْ َ َ‬ ‫ِإ َّن الذ َ‬
‫ِ‬ ‫وج ِم ْن سبِ ٍ‬
‫يل (‪َ )11‬ذل ُك ْم بِأََّنهُ‬ ‫َ‬ ‫اعتََر ْفَنا بِ ُذُنوبَِنا فَهَ ْل ِإلَى ُخ ُر ٍ‬ ‫َمتََّنا اثَْنتَْي ِن َوأ ْ‬
‫َحَي ْيتََنا اثَْنتَْي ِن فَ ْ‬ ‫قَالُوا َربََّنا أ َ‬
‫ير (‪)12‬‬ ‫ِإ َذا ُد ِعي اللَّهُ َو ْح َدهُ َكفَ ْرتُ ْم َوإِ ْن ُي ْش َر ْك بِ ِه تُ ْؤ ِمُنوا فَاْل ُح ْك ُم ِللَّ ِه اْل َعِل ِّي اْل َكبِ ِ‬
‫َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ادون لَم ْق ُ َّ ِ‬ ‫َِّ‬


‫اإليم ِ‬
‫ان‬ ‫ت الله أَ ْكَب ُر م ْن َم ْقت ُك ْم أ َْنفُ َس ُك ْم إ ْذ تُ ْد َع ْو َن إلَى َ‬ ‫ين َكفَ ُروا ُيَن َ ْ َ َ‬ ‫{ ‪ِ { } 12 - 10‬إ َّن الذ َ‬
‫وج ِم ْن سبِ ٍ‬
‫يل *‬ ‫اعتََر ْفَنا بِ ُذُنوبَِنا فَهَ ْل ِإلَى ُخ ُر ٍ‬ ‫َمتََّنا اثَْنتَْي ِن َوأ ْ‬
‫َحَي ْيتََنا اثَْنتَْي ِن فَ ْ‬
‫َ‬ ‫ون * قَالُوا َربََّنا أ َ‬ ‫فَتَ ْكفُُر َ‬
‫َذِل ُك ْم بِأََّنهُ ِإ َذا ُد ِعي اللَّهُ َو ْح َدهُ َكفَ ْرتُ ْم َوإِ ْن ُي ْش َر ْك بِ ِه تُ ْؤ ِمُنوا فَاْل ُح ْك ُم ِللَّ ِه اْل َعِل ِّي اْل َكبِ ِ‬
‫ير } ‪.‬‬ ‫َ‬
‫يخبر تعالى عن الفضيحة والخزي الذي يصيب الكافرين‪ ،‬وسؤالهم الرجعة‪ ،‬والخروج من النار‪،‬‬
‫َِّ‬
‫وامتناع ذلك عليهم وتوبيخهم‪ ،‬فقال‪ِ { :‬إ َّن الذ َ‬
‫ين َكفَ ُروا } أطلقه ليشمل أنواع الكفر كلها‪ ،‬من الكفر‬
‫باهلل‪ ،‬أو بكتبه‪ ،‬أو برسله‪ ،‬أو باليوم اآلخر‪ ،‬حين يدخلون النار‪ ،‬ويقرون أنهم مستحقونها‪ ،‬لما‬
‫فعلوه من الذنوب واألوزار‪ ،‬فيمقتون أنفسهم لذلك أشد المقت‪ ،‬ويغضبون عليها غاية الغضب‪،‬‬
‫ون } أي‪:‬‬ ‫اإليم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فينادون عند ذلك‪ ،‬ويقال لهم‪ { :‬لَم ْق ُ َّ ِ‬
‫ان فَتَ ْكفُُر َ‬ ‫ت الله } أي‪ :‬إياكم { إ ْذ تُ ْد َع ْو َن إلَى َ‬ ‫َ‬
‫حين دعتكم الرسل وأتباعهم إلى اإليمان‪ ،‬وأقاموا لكم من البينات ما تبين به الحق‪ ،‬فكفرتم‬
‫وزهدتم في اإليمان الذي خلقكم اهلل له‪ ،‬وخرجتم من رحمته الواسعة‪ ،‬فمقتكم وأبغضكم‪ ،‬فهذا‬
‫مستمرا عليكم‪ ،‬والسخط من الكريم َحاال بكم‪،‬‬
‫ً‬ ‫{ أَ ْكَب ُر ِم ْن َم ْقتِ ُك ْم أ َْنفُ َس ُك ْم } أي‪ :‬فلم يزل هذا المقت‬
‫حل عليكم غضب اهلل وعقابه حين نال المؤمنون رضوان‬ ‫حتى آلت بكم الحال إلى ما آلت‪ ،‬فاليوم َّ‬
‫اهلل وثوابه‪.‬‬
‫َمتََّنا اثَْنتَْي ِن } يريدون الموتة األولى وما بين النفختين على ما قيل‬ ‫فتمنوا الرجوع و { قَالُوا َربََّنا أ َ‬
‫َحَي ْيتََنا اثَْنتَْي ِن } الحياة‬ ‫أو العدم [ ص ‪ ] 734‬المحض قبل إيجادهم‪ ،‬ثم أماتهم بعدما أوجدهم‪َ { ،‬وأ ْ‬
‫يل } أي‪ :‬تحسروا وقالوا ذلك‪،‬‬ ‫وج ِم ْن سبِ ٍ‬
‫اعتََر ْفَنا بِ ُذُنوبَِنا فَهَ ْل ِإلَى ُخ ُر ٍ‬
‫الدنيا والحياة األخرى‪ { ،‬فَ ْ‬
‫َ‬
‫فلم يفد ولم ينجع‪ ،‬ووبخوا على عدم فعل أسباب النجاة‪ ،‬فقيل لهم‪َ { :‬ذِل ُك ْم بِأََّنهُ ِإ َذا ُد ِع َي اللَّهُ َو ْح َدهُ }‬
‫أي‪ :‬إذا دعي لتوحيده‪ ،‬وإ خالص العمل له‪ ،‬ونهي عن الشرك به { َكفَ ْرتُ ْم } به واشمأزت لذلك‬
‫قلوبكم ونفرتم غاية النفور‪.‬‬
‫{ َوإِ ْن ُي ْش َر ْك بِ ِه تُ ْؤ ِمُنوا } أي‪ :‬هذا الذي أنزلكم هذا المنزل وبوأكم هذا المقيل والمحل‪ ،‬أنكم‬
‫تكفرون باإليمان‪ ،‬وتؤمنون بالكفر‪ ،‬ترضون بما هو شر وفساد في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وتكرهون ما‬
‫هو خير وصالح في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫تؤثرون سبب الشقاوة والذل والغضب وتزهدون بما هو سبب الفوز والفالح والظفر { َوإِ ْن َي َر ْوا‬
‫يل اْل َغ ِّي َيتَّ ِخ ُذوهُ َسبِيال }‬
‫الر ْش ِد ال َيتَّ ِخ ُذوهُ َسبِيال َوإِ ْن َي َر ْوا َسبِ َ‬ ‫َسبِي َل ُّ‬
‫ير } العلي‪ :‬الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه‪ ،‬علو الذات‪ ،‬وعلو‬ ‫{ فَاْل ُح ْك ُم ِللَّ ِه اْل َعِل ِّي اْل َكبِ ِ‬
‫القدر‪ ،‬وعلو القهر ومن علو قدره‪ ،‬كمال عدله تعالى‪ ،‬وأنه يضع األشياء مواضعها‪ ،‬وال يساوي‬
‫بين المتقين والفجار‪.‬‬
‫{ اْل َكبِير } الذي له الكبرياء والعظمة والمجد‪ ،‬في أسمائه وصفاته وأفعاله المتنزه عن كل آفة‬
‫وعيب ونقص‪ ،‬فإذا كان الحكم له تعالى‪ ،‬وقد حكم عليكم بالخلود الدائم‪ ،‬فحكمه ال يغير وال يبدل‪.‬‬

‫( ‪)1/733‬‬

‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ُهو الَِّذي ي ِري ُكم آَياتِ ِه ويَنِّز ُل لَ ُكم ِمن الس ِ‬
‫يب (‪ )13‬فَ ْاد ُعوا اللهَ‬ ‫َّماء ِر ْزقًا َو َما َيتَ َذ َّك ُر ِإاَّل َم ْن ُين ُ‬
‫ْ َ َ‬ ‫ُ ْ َ َُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫وح م ْن أ َْم ِر ِه َعلَى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الد َر َجات ُذو اْل َع ْر ِ‬ ‫ون (‪َ )14‬ر ِفيعُ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ين لَهُ ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الر َ‬ ‫ش ُيْلقي ُّ‬ ‫ين َولَ ْو َك ِرهَ اْل َكاف ُر َ‬ ‫الد َ‬ ‫ُم ْخلص َ‬
‫ون اَل َي ْخفَى َعلَى اللَّ ِه ِم ْنهُ ْم َش ْي ٌء ِل َم ِن‬‫ق (‪َ )15‬ي ْو َم ُه ْم َب ِار ُز َ‬ ‫اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه ِلُي ْن ِذ َر َي ْو َم التَّاَل ِ‬
‫َم ْن َي َش ُ‬
‫اح ِد اْلقَهَّ ِار (‪)16‬‬ ‫ك اْليوم ِللَّ ِه اْلو ِ‬
‫َ‬ ‫اْل ُمْل ُ َ ْ َ‬

‫ِ‬ ‫{ ‪ُ { } 17 - 13‬هو الَِّذي ي ِري ُكم آياتِ ِه ويَنِّز ُل لَ ُكم ِمن الس ِ‬
‫يب *‬‫َّماء ِر ْزقًا َو َما َيتَ َذ َّك ُر ِإال َم ْن ُين ُ‬
‫ْ َ َ‬ ‫ُ ْ َ َُ‬ ‫َ‬
‫وح ِم ْن‬
‫الر َ‬ ‫ش ُيْل ِقي ُّ‬ ‫الدرج ِ‬
‫ات ُذو اْل َع ْر ِ‬ ‫ون * َر ِفيعُ َّ َ َ‬
‫ِ‬
‫ين َولَ ْو َك ِرهَ اْل َكاف ُر َ‬ ‫الد َ‬ ‫ين لَهُ ِّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬
‫فَ ْاد ُعوا اللهَ ُم ْخلص َ‬
‫ون ال َي ْخفَى َعلَى اللَّ ِه ِم ْنهُ ْم َش ْي ٌء‬ ‫اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه ِلُي ْن ِذ َر َي ْو َم التَّال ِ‬
‫ق * َي ْو َم ُه ْم َب ِار ُز َ‬ ‫أ َْم ِر ِه َعلَى َم ْن َي َش ُ‬
‫اح ِد اْلقَهَّ ِار } ‪.‬‬ ‫ك اْليوم ِللَّ ِه اْلو ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ل َم ِن اْل ُمْل ُ َ ْ َ‬
‫يذكر تعالى نعمه العظيمة على عباده‪ ،‬بتبيين الحق من الباطل‪ ،‬بما ُي ِري عباده من آياته النفسية‬
‫واآلفاقية والقرآنية‪ ،‬الدالة على كل مطلوب مقصود‪ ،‬الموضحة للهدى من الضالل‪ ،‬بحيث ال يبقى‬
‫عند الناظر فيها والمتأمل لها أدنى شك في معرفة الحقائق‪ ،‬وهذا من أكبر نعمه على عباده‪ ،‬حيث‬
‫نوع الدالالت ووضح اآليات‪ ،‬ليهلك من هلك عن‬
‫ملتبسا‪ ،‬بل َّ‬
‫ً‬ ‫لم ُي ْب ِ‬
‫ق الحق مشتبهًا وال الصواب‬
‫بينة‪ ،‬ويحيا من حي عن بينة وكلما كانت المسائل أجل وأكبر‪ ،‬كانت الدالئل عليها أكثر وأيسر‪،‬‬
‫فانظر إلى التوحيد لما كانت مسألته من أكبر المسائل‪ ،‬بل أكبرها‪ ،‬كثرت األدلة عليها العقلية‬
‫والنقلية وتنوعت‪ ،‬وضرب اهلل لها األمثال وأكثر لها من االستدالل‪ ،‬ولهذا ذكرها في هذا‬
‫ين }‬ ‫ين لَهُ ِّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬
‫الد َ‬ ‫الموضع‪ ،‬ونبه على جملة من أدلتها فقال‪ { :‬فَ ْاد ُعوا اللهَ ُم ْخلص َ‬
‫ولما ذكر أنه ُي ِري عباده آياته‪ ،‬نبه على آية عظيمة فقال‪ { :‬وينزل لكم من السماء رزقا } أي‪:‬‬
‫مطرا به ترزقون وتعيشون أنتم وبهائمكم‪ ،‬وذلك يدل على أن النعم كلها منه‪ ،‬فمنه نعم الدين‪،‬‬
‫ً‬
‫وهي المسائل الدينية واألدلة عليها‪ ،‬وما يتبع ذلك من العمل بها‪ .‬والنعم الدنيوية كلها‪ ،‬كالنعم‬
‫الناشئة عن الغيث‪ ،‬الذي تحيا به البالد والعباد‪ .‬وهذا يدل داللة قاطعة أنه وحده هو المعبود‪ ،‬الذي‬
‫يتعين إخالص الدين له‪ ،‬كما أنه ‪-‬وحده‪ -‬المنعم‪.‬‬
‫ِ‬
‫{ َو َما َيتَ َذ َّك ُر } باآليات حين يذكر بها { ِإال َم ْن ُين ُ‬
‫يب } إلى اهلل تعالى‪ ،‬باإلقبال على محبته وخشيته‬
‫وطاعته والتضرع إليه‪ ،‬فهذا الذي ينتفع باآليات‪ ،‬وتصير رحمة في حقه‪ ،‬ويزداد بها بصيرة‪.‬‬
‫ولما كانت اآليات تثمر التذكر‪ ،‬والتذكر يوجب اإلخالص للّه‪ ،‬رتب األمر على ذلك بالفاء الدالة‬
‫ين } وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة‪،‬‬ ‫ين لَهُ ِّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬
‫الد َ‬ ‫على السببية فقال‪ { :‬فَ ْاد ُعوا اللهَ ُم ْخلص َ‬
‫واإلخالص معناه‪ :‬تخليص القصد للّه تعالى في جميع العبادات الواجبة والمستحبة‪ ،‬حقوق اهلل‬
‫وحقوق عباده‪ .‬أي‪ :‬أخلصوا للّه تعالى في كل ما تدينونه به وتتقربون به إليه‪.‬‬
‫ِ‬
‫ون } لذلك‪ ،‬فال تبالوا بهم‪ ،‬وال يثنكم ذلك عن دينكم‪ ،‬وال تأخذكم باهلل لومة الئم‪،‬‬ ‫{ َولَ ْو َك ِرهَ اْل َكاف ُر َ‬
‫ِ َّ‬
‫فإن الكافرين يكرهون اإلخالص هلل وحده غاية الكراهة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬وإِ َذا ُذك َر اللهُ َو ْح َدهُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اآلخر ِة وإِ َذا ُذ ِكر الَِّذ ِ‬
‫ت ُقلُوب الَِّذين ال يؤ ِمُن ِ ِ‬
‫ون }‬ ‫ين م ْن ُدونِه ِإ َذا ُه ْم َي ْستَْبش ُر َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ون ب َ َ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ا ْش َمأ ََّز ْ‬
‫الدرج ِ‬
‫ش } أي‪:‬‬ ‫ات ُذو اْل َع ْر ِ‬ ‫ثم ذكر من جالله وكماله ما يقتضي إخالص العبادة له فقال‪َ { :‬ر ِفيعُ َّ َ َ‬
‫ارتفاعا باين به مخلوقاته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫العلي األعلى‪ ،‬الذي استوى على العرش واختص به‪ ،‬وارتفعت درجاته‬
‫وارتفع به قدره‪ ،‬وجلت أوصافه‪ ،‬وتعالت ذاته‪ ،‬أن يتقرب إليه إال بالعمل الزكي الطاهر المطهر‪،‬‬
‫وهو اإلخالص‪ ،‬الذي يرفع درجات أصحابه ويقربهم إليه ويجعلهم فوق خلقه‪ ،‬ثم ذكر نعمته على‬
‫وح } أي‪ :‬الوحي الذي لألرواح والقلوب بمنزلة‬ ‫الر َ‬‫عباده بالرسالة والوحي‪ ،‬فقال‪ُ { :‬يْل ِقي ُّ‬
‫األرواح لألجساد‪ ،‬فكما أن الجسد بدون الروح ال يحيا وال يعيش‪ ،‬فالروح والقلب بدون روح‬
‫وح ِم ْن أ َْم ِر ِه } الذي فيه [ ص ‪ ] 735‬نفع العباد‬ ‫الر َ‬ ‫الوحي ال يصلح وال يفلح‪ ،‬فهو تعالى { ُيْل ِقي ُّ‬
‫ومصلحتهم‪.‬‬
‫اء ِم ْن ِعَب ِاد ِه } وهم الرسل الذين فضلهم اهلل واختصهم اهلل لوحيه ودعوة عباده‪.‬‬ ‫{ َعلَى َم ْن َي َش ُ‬
‫والفائدة في إرسال الرسل‪ ،‬هو تحصيل سعادة العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم‪ ،‬وإ زالة الشقاوة‬
‫ق}‬ ‫عنهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم‪ ،‬ولهذا قال‪ِ { :‬لُي ْن ِذ َر } من ألقى اهلل إليه الوحي { َي ْو َم التَّال ِ‬
‫أي‪ :‬يخوف العباد بذلك‪ ،‬ويحثهم على االستعداد له باألسباب المنجية مما يكون فيه‪.‬‬
‫وسماه { يوم التالق } ألنه يلتقي فيه الخالق والمخلوق والمخلوقون بعضهم مع بعض‪ ،‬والعاملون‬
‫وأعمالهم وجزاؤهم‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬ظاهرون على األرض‪ ،‬قد اجتمعوا في صعيد واحد ال عوج وال أمت‬ ‫{ َي ْو َم ُه ْم َب ِار ُز َ‬
‫فيه‪ ،‬يسمعهم الداعي وينفذهم البصر‪.‬‬
‫{ ال َي ْخفَى َعلَى اللَّ ِه ِم ْنهُ ْم َش ْي ٌء } ال من ذواتهم وال من أعمالهم‪ ،‬وال من جزاء تلك األعمال‪.‬‬
‫ك اْلَي ْو َم } أي‪ :‬من هو المالك لذلك اليوم العظيم الجامع لألولين واآلخرين‪ ،‬أهل‬ ‫{ ِل َم ِن اْل ُمْل ُ‬
‫السماوات وأهل األرض‪ ،‬الذي انقطعت فيه الشركة في الملك‪ ،‬وتقطعت األسباب‪ ،‬ولم يبق إال‬
‫اح ِد اْلقَهَّ ِار } أي‪ :‬المنفرد في ذاته وأسمائه وصفاته‬
‫األعمال الصالحة أو السيئة؟ الملك { ِللَّ ِه اْلو ِ‬
‫َ‬
‫وأفعاله‪ ،‬فال شريك له في شيء منها بوجه من الوجوه‪ { .‬اْلقَهَّ ِار } لجميع المخلوقات‪ ،‬الذي دانت‬
‫خصوصا في ذلك اليوم الذي عنت فيه الوجوه للحي القيوم‪ ،‬يومئذ‬
‫ً‬ ‫له المخلوقات وذلت وخضعت‪،‬‬
‫ال تَ َكلَّ ُم نفس إال بإذنه‪.‬‬

‫( ‪)1/734‬‬

‫ت اَل ظُْلم اْلَيوم ِإ َّن اللَّهَ َس ِريع اْل ِح َس ِ‬


‫اب (‪)17‬‬ ‫اْلَي ْو َم تُ ْج َزى ُك ُّل َن ْف ٍ‬
‫س بِ َما َك َسَب ْ‬
‫ُ‬ ‫َ َْ‬

‫ت ال ظُْلم اْلَيوم ِإ َّن اللَّهَ َس ِريع اْل ِح َس ِ‬


‫اب } ‪.‬‬ ‫{ اْلَي ْو َم تُ ْج َزى ُك ُّل َن ْف ٍ‬
‫س بِ َما َك َسَب ْ‬
‫ُ‬ ‫َ َْ‬
‫ت } في الدنيا‪ ،‬من خير وشر‪ ،‬قليل وكثير‪ { .‬ال ظُْل َم اْلَي ْو َم } على‬ ‫{ اْلَي ْو َم تُ ْج َزى ُك ُّل َن ْف ٍ‬
‫س بِ َما َك َسَب ْ‬
‫اب } أي‪ :‬ال تستبطئوا ذلك‬ ‫أحد‪ ،‬بزيادة في سيئاته‪ ،‬أو نقص من حسناته‪ِ { .‬إ َّن اللَّهَ َس ِريع اْل ِح َس ِ‬
‫ُ‬
‫اليوم فإنه آت‪ ،‬وكل آت قريب‪ .‬وهو أيضا سريع المحاسبة لعباده يوم القيامة‪ ،‬إلحاطة علمه‬
‫وكمال قدرته‪.‬‬

‫( ‪)1/735‬‬

‫ين ِم ْن َح ِم ٍيم َواَل َش ِف ٍ‬ ‫ِ َّ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫طاعُ (‪)18‬‬ ‫يع ُي َ‬ ‫ين َما للظالم َ‬ ‫وب لَ َدى اْل َحَنا ِج ِر َكاظم َ‬
‫َوأ َْنذ ْر ُه ْم َي ْو َم اآْل َ ِزفَة ِإذ اْل ُقلُ ُ‬
‫ون ِم ْن ُدونِ ِه اَل‬
‫ين َي ْد ُع َ‬
‫ضي بِاْلح ِّ َِّ‬
‫ق َوالذ َ‬ ‫َ‬
‫ُّدور (‪ )19‬واللَّه ي ْق ِ‬
‫َ َُ‬
‫ِ‬
‫َعُي ِن َو َما تُ ْخفي الص ُ ُ‬ ‫َي ْعلَ ُم َخائَِنةَ اأْل ْ‬
‫َّميع اْلب ِ‬‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫ص ُير (‪)20‬‬ ‫ون بِ َش ْيء ِإ َّن اللهَ ُه َو الس ُ َ‬ ‫ض َ‬ ‫َي ْق ُ‬

‫ين ِم ْن َح ِم ٍيم َوال‬ ‫ِ َّ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫وب لَ َدى اْل َحَن ِ‬ ‫{ ‪ { } 20 - 18‬وأ َْن ِذر ُهم يوم ِ ِ ِ‬
‫ين َما للظالم َ‬‫اج ِر َكاظم َ‬ ‫اآلزفَة ِإذ اْل ُقلُ ُ‬ ‫َ ْ ْ َْ َ‬
‫ون ِم ْن‬‫ين َي ْد ُع َ‬
‫ضي بِاْلح ِّ َِّ‬
‫ق َوالذ َ‬ ‫َ‬
‫ُّدور * واللَّه ي ْق ِ‬ ‫ِ‬
‫األعُي ِن َو َما تُ ْخفي الص ُ ُ َ ُ َ‬ ‫طاعُ * َي ْعلَ ُم َخائَِنةَ ْ‬ ‫َش ِف ٍ‬
‫يع ُي َ‬
‫َّميع اْلب ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ص ُير } ‪.‬‬ ‫ون بِ َش ْيء ِإ َّن اللهَ ُه َو الس ُ َ‬ ‫ض َ‬‫ُدونِه ال َي ْق ُ‬
‫اآلزفَ ِة } أي‪ :‬يوم القيامة التي قد‬ ‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى اهلل عليه وسلم‪َ { :‬وأ َْن ِذ ْر ُه ْم َي ْو َم ِ‬
‫وب لَ َدى اْل َحَنا ِج ِر } أي‪ :‬قد‬ ‫ِ‬
‫أزفت وقربت‪ ،‬وآن الوصول إلى أهوالها وقالقلها وزالزلها‪ِ { ،‬إذ اْل ُقلُ ُ‬
‫ارتفعت وبقيت أفئدتهم هواء‪ ،‬ووصلت القلوب من الروع والكرب إلى الحناجر‪ ،‬شاخصة‬
‫ين } ال يتكلمون إال من أذن له الرحمن وقال صوابا وكاظمين على ما في‬ ‫ِِ‬
‫أبصارهم‪َ { .‬كاظم َ‬
‫قلوبهم من الروع الشديد والمزعجات الهائلة‪.‬‬
‫طاعُ } ألن الشفعاء ال يشفعون في‬ ‫ين ِم ْن َح ِم ٍيم } أي‪ :‬قريب وال صاحب‪َ { ،‬وال َش ِف ٍ‬
‫يع ُي َ‬ ‫ِ َّ ِ ِ‬
‫{ َما للظالم َ‬
‫الظالم نفسه بالشرك‪ ،‬ولو قدرت شفاعتهم‪ ،‬فاهلل تعالى ال يرضى شفاعتهم‪ ،‬فال يقبلها‪.‬‬
‫األعُي ِن } وهو النظر الذي يخفيه العبد من جليسه ومقارنه‪ ،‬وهو نظر المسارقة‪،‬‬ ‫{ َي ْعلَ ُم َخائَِنةَ ْ‬
‫ور } مما لم يبينه العبد لغيره‪ ،‬فاهلل تعالى يعلم ذلك الخفي‪ ،‬فغيره من األمور‬ ‫{ َو َما تُ ْخ ِفي الص ُ‬
‫ُّد ُ‬
‫الظاهرة من باب أولى وأحرى‪.‬‬
‫ق } ألن قوله حق‪ ،‬وحكمه الشرعي حق‪ ،‬وحكمه الجزائي حق وهو المحيط‬ ‫{ واللَّه ي ْق ِ‬
‫ضي بِاْل َح ِّ‬ ‫َ َُ‬
‫علما وكتابة وحفظا بجميع األشياء‪ ،‬وهو المنزه عن الظلم والنقص وسائر العيوب‪ ،‬وهو الذي‬ ‫ً‬
‫شيئا كان وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬وهو الذي يقضي بين عباده‬
‫يقضي قضاءه القدري‪ ،‬الذي إذا شاء ً‬
‫المؤمنين والكافرين في الدنيا‪ ،‬ويفصل بينهم بفتح ينصر به أولياءه وأحبابه‪.‬‬
‫ون بِ َش ْي ٍء } لعجزهم‬
‫ض َ‬‫ون م ْن ُدونِه } وهذا شامل لكل ما عبد من دون اهلل { ال َي ْق ُ‬
‫ِ‬ ‫{ والَِّذين ي ْدع ِ‬
‫َ َ َ ُ َ‬
‫َّميعُ } لجميع األصوات‪ ،‬باختالف‬ ‫وعدم إرادتهم للخير واستطاعتهم لفعله‪ِ { .‬إ َّن اللَّه ُهو الس ِ‬
‫َ َ‬
‫ص ُير } (‪ )1‬بما كان وما يكون‪ ،‬وما نبصر وما ال نبصر‪ ،‬وما‬ ‫اللغات‪ ،‬على تفنن الحاجات‪ { .‬اْلب ِ‬
‫َ‬
‫يعلم العباد وما ال يعلمون‪.‬‬
‫اآلزفَ ِة } ثم وصفها بهذه األوصاف المقتضية لالستعداد‬ ‫قال في أول هاتين اآليتين { َوأ َْن ِذ ْر ُه ْم َي ْو َم ِ‬
‫لذلك اليوم العظيم‪ ،‬الشتمالها على الترغيب والترهيب‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين (العليم) وهو خطأ فالوارد في اآلية‪( :‬البصير)‪.‬‬

‫( ‪)1/735‬‬

‫ين َك ُانوا ِم ْن قَْبِل ِه ْم َك ُانوا ُه ْم أَ َش َّد ِم ْنهُ ْم قَُّوةً‬ ‫ِ َِّ‬


‫ان َعاقَبةُ الذ َ‬ ‫ف َك َ‬ ‫ض فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ‬ ‫أَولَ ْم َي ِس ُيروا ِفي اأْل َْر ِ‬
‫َ‬
‫ت تَأْتِي ِه ْم‬ ‫ك بِأََّنهُ ْم َك َان ْ‬ ‫ق (‪َ )21‬ذِل َ‬ ‫ان لَهُ ْم ِم َن اللَّ ِه ِم ْن وا ٍ‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫َخ َذ ُه ُم اللهُ بِ ُذُنوبِ ِه ْم َو َما َك َ‬‫ض فَأ َ‬‫وَآثَ ًارا ِفي اأْل َْر ِ‬
‫َ‬
‫اب (‪)22‬‬ ‫يد اْل ِعقَ ِ‬
‫ي َش ِد ُ‬
‫َخ َذ ُه ُم اللَّهُ ِإَّنهُ قَ ِو ٌّ‬ ‫رسلُهم بِاْلبيَِّن ِ‬
‫ات فَ َكفَ ُروا فَأ َ‬ ‫ُ ُ ُْ َ‬

‫ين َك ُانوا ِم ْن قَْبِل ِه ْم َك ُانوا ُه ْم‬ ‫ِ َِّ‬


‫ان َعاقَبةُ الذ َ‬ ‫ف َك َ‬‫ض فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪ { } 22 - 21‬أ ََولَ ْم َيس ُيروا في ْ‬
‫ق * َذِل َ‬
‫ك بِأََّنهُ ْم‬ ‫ان لَهُ ْم ِم َن اللَّ ِه ِم ْن وا ٍ‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫َخ َذ ُه ُم اللهُ بِ ُذُنوبِ ِه ْم َو َما َك َ‬ ‫األر ِ‬
‫ض فَأ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أَ َش َّد م ْنهُ ْم قَُّوةً َوآثَ ًارا في ْ‬
‫اب } ‪.‬‬ ‫يد اْل ِعقَ ِ‬
‫ي َش ِد ُ‬
‫َخ َذ ُه ُم اللَّهُ ِإَّنهُ قَ ِو ٌّ‬
‫ات فَ َكفَ ُروا فَأ َ‬‫ت تَأْتِي ِهم رسلُهم بِاْلبيَِّن ِ‬
‫ْ ُ ُ ُْ َ‬ ‫َك َان ْ‬
‫ض } أي‪ :‬بقلوبهم وأبدانهم سير نظر واعتبار‪ ،‬وتفكر في‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يقول تعالى‪ { :‬أ ََولَ ْم َيس ُيروا في ْ‬
‫ين َك ُانوا ِم ْن قَْبِل ِه ْم } من المكذبين‪ ،‬فسيجدونها شر العواقب‪،‬‬ ‫ِ َِّ‬
‫ان َعاقَبةُ الذ َ‬ ‫ف َك َ‬ ‫اآلثار‪ { ،‬فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ‬
‫عاقبة الهالك والدمار والخزي والفضيحة‪ ،‬وقد كانوا أشد قوة من هؤالء في اْل َع َدد واْل ُع َدد وكبر‬
‫األجسام‪ { .‬و } أشد { آثارا في األرض } [ ص ‪ ] 736‬من البناء والغرس‪ ،‬وقوة اآلثار تدل على‬
‫َخ َذ ُه ُم اللَّهُ } بعقوبته بذنوبهم حين أصروا واستمروا عليها‪.‬‬
‫قوة المؤثر فيها وعلى تمنعه بها‪ { .‬فَأ َ‬
‫شيئا‪ ،‬بل من أعظم األمم قوة‪ ،‬قوم عاد الذين‬
‫اب } فلم تغن قوتهم عند قوة اللّه ً‬ ‫يد اْل ِعقَ ِ‬
‫ي َش ِد ُ‬
‫{ ِإَّنهُ قَ ِو ٌّ‬
‫قالوا‪َ { :‬م ْن أَ َش ُّد ِمَّنا قَُّوةً } أرسل اللّه إليهم ريحا أضعفت قواهم‪ ،‬ودمرتهم كل تدمير‪.‬‬
‫ثم ذكر نموذجا من أحوال المكذبين بالرسل وهو فرعون وجنوده فقال‪:‬‬

‫( ‪)1/735‬‬

‫اب (‬ ‫احٌر َك َّذ ٌ‬ ‫ين (‪ِ )23‬إلَى ِفرعون و َهامان وقَارون فَقَالُوا س ِ‬
‫َ‬ ‫ْ َْ َ َ َ َ َ ُ َ‬ ‫ان ُمبِ ٍ‬ ‫طٍ‬ ‫وسى بِآََياتَِنا َو ُسْل َ‬ ‫َولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُم َ‬
‫اء ُه ْم َو َما َك ْي ُد‬ ‫ِ‬ ‫ق ِم ْن ِع ْن ِدَنا قَالُوا ا ْقتُلُوا أ َْبَن َِّ‬ ‫اء ُه ْم بِاْل َح ِّ‬
‫استَ ْحُيوا ن َس َ‬ ‫َمُنوا َم َعهُ َو ْ‬ ‫ين آ َ‬ ‫اء الذ َ‬ ‫َ‬ ‫‪َ )24‬فلَ َّما َج َ‬
‫وسى َوْلَي ْدعُ َربَّهُ ِإِّني أ َ‬ ‫ِ‬ ‫ين ِإاَّل ِفي َ ٍ‬ ‫ِ‬
‫َن ُيَب ِّد َل‬ ‫اف أ ْ‬ ‫َخ ُ‬ ‫ضاَل ل (‪َ )25‬وقَا َل ف ْر َع ْو ُن َذ ُرونِي أَ ْقتُ ْل ُم َ‬ ‫اْل َكاف ِر َ‬
‫ت بَِربِّي َو َرِّب ُك ْم ِم ْن ُك ِّل ُمتَ َكب ٍِّر اَل‬ ‫وسى ِإِّني ُع ْذ ُ‬ ‫اد (‪َ )26‬وقَا َل ُم َ‬ ‫ض اْلفَ َس َ‬ ‫ظ ِه َر ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫َن ُي ْ‬ ‫ِد َين ُك ْم أ َْو أ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َن َيقُو َل‬ ‫ون َر ُجاًل أ ْ‬ ‫ُي ْؤم ُن بَي ْوِم اْلح َساب (‪َ )27‬وقَا َل َر ُج ٌل ُم ْؤم ٌن م ْن آَل ف ْر َع ْو َن َي ْكتُُم إ َ‬
‫يم َانهُ أَتَ ْقتُلُ َ‬
‫ض‬ ‫ِ‬ ‫ك ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ات ِم ْن رِّب ُكم وإِ ْن ي ُ ِ‬ ‫ربِّي اللَّه وقَ ْد جاء ُكم بِاْلبيَِّن ِ‬
‫صادقًا ُيص ْب ُك ْم َب ْع ُ‬ ‫ك َكاذًبا فَ َعلَْيه َكذُبهُ َوإِ ْن َي ُ َ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫َ َ َُ َ َ ْ َ‬
‫ين ِفي‬ ‫ظاه ِر َ‬
‫ك اْليوم َ ِ‬ ‫ِ‬
‫اب (‪َ )28‬يا قَ ْوم لَ ُك ُم اْل ُمْل ُ َ ْ َ‬ ‫ف َك َّذ ٌ‬ ‫الَِّذي َي ِع ُد ُك ْم ِإ َّن اللَّهَ اَل َي ْه ِدي َم ْن ُه َو ُم ْس ِر ٌ‬
‫َه ِدي ُك ْم ِإاَّل َسبِ َ‬
‫يل‬ ‫اءَنا قَا َل ِف ْر َع ْو ُن َما أ ُِري ُك ْم ِإاَّل َما أ ََرى َو َما أ ْ‬ ‫ض فَم ْن ي ْنصرَنا ِم ْن بأ ِ َّ ِ‬
‫ْس الله ِإ ْن َج َ‬ ‫َ‬ ‫اأْل َْر ِ َ َ ُ ُ‬
‫ْب قَ ْوِم ُن ٍ‬
‫وح‬ ‫اب (‪ِ )30‬م ْث َل َدأ ِ‬ ‫َح َز ِ‬‫اف َعلَْي ُك ْم ِم ْث َل َي ْوِم اأْل ْ‬ ‫َخ ُ‬ ‫َم َن َيا قَ ْوِم ِإِّني أ َ‬ ‫َِّ‬ ‫َّ ِ‬
‫الر َشاد (‪َ )29‬وقَا َل الذي آ َ‬
‫اف َعلَْي ُك ْم َي ْو َم التََّن ِاد‬ ‫َخ ُ‬ ‫يد ظُْل ًما ِلْل ِعَب ِاد (‪َ )31‬وَيا قَ ْوِم ِإِّني أ َ‬ ‫ين ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم َو َما اللَّهُ ُي ِر ُ‬ ‫وع ٍاد وثَم َ َِّ‬
‫ود َوالذ َ‬ ‫َ َ َ ُ‬
‫ضِل ِل اللَّهُ فَ َما لَهُ ِم ْن َه ٍاد (‪َ )33‬ولَقَ ْد‬ ‫اصٍم َو َم ْن ُي ْ‬ ‫(‪ )32‬يوم تُولُّون م ْدبِ ِرين ما لَ ُكم ِمن اللَّ ِه ِم ْن ع ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ ْ َ‬ ‫َْ َ َ َ ُ‬
‫ث اللَّهُ ِم ْن‬ ‫ك ُقْلتُ ْم لَ ْن َي ْب َع َ‬‫اء ُك ْم بِ ِه َحتَّى ِإ َذا َهلَ َ‬‫ك م َّما َج َ‬
‫ات فَما ِزْلتُم ِفي َش ٍّ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ف ِم ْن قَْب ُل بِاْلبيَِّن ِ‬
‫َ‬ ‫وس ُ‬
‫اء ُك ْم ُي ُ‬ ‫َج َ‬
‫ات اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر‬ ‫اب (‪ )34‬الَِّذين يج ِادلُون ِفي آَي ِ‬
‫َ‬ ‫َ َُ َ‬ ‫ف ُم ْرتَ ٌ‬ ‫ض ُّل اللَّهُ َم ْن ُه َو ُم ْس ِر ٌ‬ ‫كي ِ‬ ‫ِ‬
‫َب ْعده َر ُسواًل َك َذل َ ُ‬
‫ِِ‬
‫َّار (‪)35‬‬ ‫طَبعُ اللَّهُ َعلَى ُك ِّل َقْل ِب ُمتَ َكب ٍِّر َجب ٍ‬ ‫ك َي ْ‬ ‫َمُنوا َك َذِل َ‬ ‫ين آ َ‬
‫َِّ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫اه ْم َكُب َر َم ْقتًا ع ْن َد الله َو ِع ْن َد الذ َ‬ ‫ان أَتَ ُ‬ ‫طٍ‬ ‫ُسْل َ‬
‫ات فَأَطَِّل َع ِإلَى ِإلَ ِه‬ ‫ال ِفرعون يا َهامان ْاب ِن ِلي صرحا لَعلِّي أَْبلُغُ اأْل َسباب (‪ )36‬أَسباب السَّماو ِ‬
‫َْ َ َ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َْ ً َ‬ ‫َوقَ َ ْ َ ْ ُ َ َ ُ‬
‫يل َو َما َك ْي ُد ِف ْر َع ْو َن ِإاَّل ِفي‬ ‫السبِ ِ‬
‫ص َّد َع ِن َّ‬ ‫ِِ‬
‫وء َع َمله َو ُ‬ ‫ِّن لف ْر َع ْو َن ُس ُ‬
‫ك ُزي ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وسى َوإِ ِّني أَل َظُُّنهُ َكاذًبا َو َك َذل َ َ‬ ‫ُم َ‬
‫الر َش ِاد (‪َ )38‬يا قَ ْوِم ِإَّن َما َه ِذ ِه اْل َحَياةُ ُّ‬
‫الد ْنَيا‬ ‫َه ِد ُك ْم َسبِي َل َّ‬ ‫ون أ ْ‬‫َم َن َيا قَ ْوِم اتَّبِ ُع ِ‬ ‫َِّ‬
‫تََباب (‪َ )37‬وقَا َل الذي آ َ‬
‫ٍ‬
‫ص ِال ًحا ِم ْن‬ ‫ِ‬ ‫اَّل ِ‬ ‫ِ‬
‫َمتَاعٌ َوإِ َّن اآْل َخ َرةَ ه َي َد ُار اْلقََر ِار (‪َ )39‬م ْن َعم َل َسيَِّئةً فَاَل ُي ْج َزى ِإ مثْلَهَا َو َم ْن َعم َل َ‬
‫ِ ِ‬
‫اب (‪َ )40‬وَيا قَ ْوِم َما ِلي‬ ‫ون ِفيها بِ َغ ْي ِر ِح َس ٍ‬
‫ون اْل َجَّنةَ ُي ْر َزقُ َ َ‬ ‫ك َي ْد ُخلُ َ‬ ‫َذ َك ٍر أ َْو أ ُْنثَى َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن فَأُولَئِ َ‬
‫ك بِ ِه َما لَْي َس ِلي بِ ِه ِعْل ٌم‬ ‫وننِي أِل َ ْكفَُر بِاللَّ ِه َوأُ ْش ِر َ‬
‫الن ِار (‪ )41‬تَ ْد ُع َ‬ ‫وننِي ِإلَى َّ‬ ‫الن َج ِاة َوتَ ْد ُع َ‬ ‫أ َْد ُعو ُك ْم ِإلَى َّ‬
‫الد ْنَيا َواَل ِفي‬ ‫وننِي ِإلَْي ِه لَْي َس لَهُ َد ْعوةٌ ِفي ُّ‬
‫َ‬ ‫يز اْل َغفَّ ِار (‪ )42‬اَل َج َر َم أََّن َما تَ ْد ُع َ‬ ‫َوأََنا أ َْد ُعو ُك ْم ِإلَى اْل َع ِز ِ‬
‫ون َما أَقُو ُل لَ ُك ْم‬ ‫الن ِار (‪ )43‬فَ َستَ ْذ ُك ُر َ‬ ‫اب َّ‬ ‫َص َح ُ‬ ‫ين ُه ْم أ ْ‬ ‫َن اْل ُم ْس ِر ِف َ‬‫َن َم َر َّدَنا ِإلَى اللَّ ِه َوأ َّ‬ ‫اآْل َ ِخ َر ِة َوأ َّ‬
‫َل ِف ْر َع ْو َن‬ ‫اق بِآ ِ‬
‫ات َما َم َك ُروا َو َح َ‬ ‫صير بِاْل ِعب ِاد (‪ )44‬فَوقَاه اللَّه سيَِّئ ِ‬
‫َ ُ ُ َ‬ ‫َ‬
‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ض أ َْم ِري ِإلَى الله ِإ َّن اللهَ َب ٌ‬‫َوأُفَ ِّو ُ‬
‫َّاعةُ أ َْد ِخلُوا َآ َل ِف ْر َع ْو َن أَ َش َّد‬
‫وم الس َ‬
‫ِ‬
‫ون َعلَْيهَا ُغ ُد ًّوا َو َعشيًّا َوَي ْو َم تَقُ ُ‬
‫ض َ‬ ‫اب (‪َّ )45‬‬
‫الن ُار ُي ْع َر ُ‬ ‫وء اْل َع َذ ِ‬
‫ُس ُ‬
‫اب (‪)46‬‬ ‫اْل َع َذ ِ‬

‫ان ُمبِ ٍ‬
‫ين } إلى آخر القصة‪.‬‬ ‫طٍ‬ ‫وسى بِ َآياتَِنا َو ُسْل َ‬
‫{ ‪َ { } 46 - 23‬ولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُم َ‬
‫وسى } ابن عمران‪ { ،‬بِ َآياتَِنا } العظيمة‪ ،‬الدالة‬
‫أي‪َ { :‬ولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا } إلى جنس هؤالء المكذبين { ُم َ‬
‫داللة قطعية‪ ،‬على حقية ما أرسل به‪ ،‬وبطالن ما عليه من أرسل إليهم من الشرك وما يتبعه‪.‬‬
‫ان ُمبِ ٍ‬
‫ين } أي‪ :‬حجة بينة‪ ،‬تتسلط على القلوب فتذعن لها‪ ،‬كالحية والعصا ونحوهما من‬ ‫طٍ‬ ‫{ َو ُسْل َ‬
‫اآليات البينات‪ ،‬التي أيد اهلل بها موسى‪ ،‬ومكنه مما دعا إليه من الحق‪.‬‬
‫ون } الذي كان من قوم موسى‪ ،‬فبغى عليهم‬ ‫ِ‬
‫ان } وزيره { َوقَ ُار َ‬ ‫ام َ‬
‫والمبعوث إليهم { ف ْر َع ْو َن َو َه َ‬
‫احٌر َك َّذ ٌ‬
‫اب }‬ ‫بماله‪ ،‬وكلهم ردوا عليه أشد الرد { فَقَالُوا س ِ‬
‫َ‬
‫ق ِم ْن ِعْن ِدَنا } وأيده اهلل بالمعجزات الباهرة‪ ،‬الموجبة لتمام اإلذعان‪ ،‬لم يقابلوها‬ ‫اء ُه ْم بِاْل َح ِّ‬
‫{ َفلَ َّما َج َ‬
‫بذلك‪ ،‬ولم يكفهم مجرد الترك واإلعراض‪ ،‬بل وال إنكارها ومعارضتها بباطلهم‪ ،‬بل وصلت بهم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الحال الشنيعة إلى أن { قَالُوا ا ْقتُلُوا أ َْبَن َِّ‬
‫اء ُه ْم َو َما َك ْي ُد اْل َكاف ِر َ‬
‫ين }‬ ‫استَ ْحُيوا ن َس َ‬
‫آمُنوا َم َعهُ َو ْ‬
‫ين َ‬
‫اء الذ َ‬
‫َ‬
‫حيث كادوا هذه المكيدة‪ ،‬وزعموا أنهم إذا قتلوا أبناءهم‪ ،‬لم يقووا‪ ،‬وبقوا في رقهم وتحت‬
‫عبوديتهم‪.‬‬
‫فما كيدهم إال في ضالل‪ ،‬حيث لم يتم لهم ما قصدوا‪ ،‬بل أصابهم ضد ما قصدوا‪ ،‬أهلكهم اهلل‬
‫وأبادهم عن آخرهم‪.‬‬
‫(‪ )1‬وتدبر هذه النكتة التي يكثر مرورها بكتاب اهلل تعالى‪ :‬إذا كان السياق في قصة معينة أو على‬
‫شيء معين‪ ،‬وأراد اهلل أن يحكم على ذلك المعين بحكم‪ ،‬ال يختص به ذكر الحكم‪ ،‬وعلقه على‬
‫الوصف العام ليكون أعم‪ ،‬وتندرج فيه الصورة التي سيق الكالم ألجلها‪ ،‬وليندفع اإليهام‬
‫باختصاص الحكم بذلك المعين‪.‬‬
‫ض ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الل } ‪.‬‬ ‫ين ِإال في َ‬
‫فلهذا لم يقل { وما كيدهم إال في ضالل }‪ .‬بل قال‪َ { :‬و َما َك ْي ُد اْل َكاف ِر َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في هامش األصل (قاعدة)‪.‬‬

‫( ‪)1/736‬‬
‫وسى َوْلَي ْدعُ َربَّهُ } أي‪:‬‬ ‫مغررا لقومه السفهاء‪َ { :‬ذ ُرونِي أَ ْقتُ ْل ُم َ‬ ‫ً‬ ‫متجبرا‬
‫ً‬ ‫متكبرا‬
‫ً‬ ‫{ وقَا َل ِف ْر َع ْو ُن }‬
‫زعم ‪-‬قبحه اهلل‪ -‬أنه لوال مراعاة خواطر قومه لقتله‪ ،‬وأنه ال يمنعه من دعاء ربه‪ ،‬ثم ذكر الحامل‬
‫َن ُيَب ِّد َل ِد َين ُك ْم }‬
‫اف أ ْ‬ ‫له على إرادة قتله‪ ،‬وأنه نصح لقومه‪ ،‬وإ زالة للشر في األرض فقال‪ِ { :‬إِّني أ َ‬
‫َخ ُ‬
‫َن ي ْ ِ‬
‫اد } وهذا من أعجب ما يكون‪ ،‬أن يكون شر الخلق‬ ‫ض اْلفَ َس َ‬‫األر ِ‬ ‫ظ ِه َر في ْ‬ ‫الذي أنتم عليه { أ َْو أ ْ ُ‬
‫ينصح الناس عن اتباع خير الخلق هذا من التمويه والترويج الذي ال يدخل إال عقل من قال اهلل‬
‫ِِ‬
‫اعوهُ ِإَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو ًما فَاسق َ‬
‫ين }‬ ‫ط ُ‬
‫ف قَ ْو َمهُ فَأَ َ‬‫استَ َخ َّ‬
‫فيهم‪ { :‬فَ ْ‬
‫وسى } حين قال فرعون تلك المقالة الشنيعة التي أوجبها له طغيانه‪ ،‬واستعان فيها بقوته‬ ‫{ َوقَا َل ُم َ‬
‫ت بَِربِّي َو َرِّب ُك ْم } أي‪ :‬امتنعت بربوبيته التي دبر بها جميع‬‫مستعينا بربه‪ِ { :‬إِّني ُع ْذ ُ‬ ‫ً‬ ‫واقتداره‪،‬‬
‫اب } أي‪ :‬يحمله تكبره وعدم إيمانه بيوم الحساب على‬ ‫األمور { ِم ْن ُك ِّل متَ َكب ٍِّر ال ُي ْؤ ِم ُن بَِيوِم اْل ِح َس ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫قريبا في القاعدة‪ ،‬فمنعه اهلل تعالى بلطفه من كل‬
‫الشر والفساد‪ ،‬يدخل فيه فرعون وغيره‪ ،‬كما تقدم ً‬
‫متكبر ال يؤمن بيوم الحساب‪ ،‬وقيض له من األسباب ما اندفع به عنه شر فرعون وملئه‪.‬‬
‫ومن جملة األسباب‪ ،‬هذا الرجل المؤمن‪ ،‬الذي من آل فرعون‪ ،‬من بيت المملكة‪ ،‬ال بد أن يكون له‬
‫وخصوصا إذا كان يظهر موافقتهم ويكتم إيمانه‪ ،‬فإنهم يراعونه في الغالب ما ال‬
‫ً‬ ‫كلمة مسموعة‪،‬‬
‫محمدا صلى اهلل عليه وسلم بعمه أبي طالب‬
‫ً‬ ‫يراعونه لو خالفهم في الظاهر‪ ،‬كما منع اهلل رسوله‬
‫مسلما لم يحصل‬
‫كبيرا عندهم‪ ،‬موافقًا لهم على دينهم‪ ،‬ولو كان ً‬
‫من قريش‪ ،‬حيث كان أبو طالب ً‬
‫منه ذلك المنع‪.‬‬
‫مقبحا فعل قومه‪ ،‬وشناعة ما عزموا عليه‪:‬‬ ‫فقال ذلك الرجل المؤمن الموفق العاقل الحازم‪ً ،‬‬
‫ِّي اللَّهُ } أي‪ :‬كيف تستحلون قتله‪ ،‬وهذا ذنبه وجرمه‪ ،‬أنه يقول ربي‬ ‫ول َرب َ‬
‫َن َيقُ َ‬
‫ون َر ُجال أ ْ‬
‫{ أَتَ ْقتُلُ َ‬
‫ات ِم ْن َرِّب ُك ْم } ألن‬
‫مجردا عن البينات‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وقَ ْد جاء ُكم بِاْلبيَِّن ِ‬
‫َ َ َ ْ َ‬ ‫ً‬ ‫اهلل‪ ،‬ولم يكن أيضا قوال‬
‫اشتهارا علم به الصغير والكبير‪ ،‬أي‪ :‬فهذا ال يوجب قتله‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بينته اشتهرت عندهم‬
‫فهال أبطلتم قبل ذلك ما جاء به من الحق‪ ،‬وقابلتم البرهان ببرهان يرده‪ ،‬ثم بعد ذلك نظرتم‪ :‬هل‬
‫يحل قتله إذا ظهرتم عليه بالحجة أم ال؟ فأما وقد ظهرت حجته‪ ،‬واستعلى برهانه‪ [ ،‬ص ‪] 737‬‬
‫فبينكم وبين حل قتله مفاوز تنقطع بها أعناق المطي‪.‬‬
‫ك َك ِاذًبا فَ َعلَْي ِه َك ِذُبهُ َوإِ ْن َي ُ‬
‫ك‬ ‫ثم قال لهم مقالة عقلية تقنع كل عاقل‪ ،‬بأي حالة قدرت‪ ،‬فقال‪َ { :‬وإِ ْن َي ُ‬
‫ض الَِّذي َي ِع ُد ُك ْم }‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صادقًا ُيص ْب ُك ْم َب ْع ُ‬
‫َ‬
‫كاذبا فكذبه عليه‪ ،‬وضرره‬
‫أي‪ :‬موسى بين أمرين‪ ،‬إما كاذب في دعواه أو صادق فيها‪ ،‬فإن كان ً‬
‫مختص به‪ ،‬وليس عليكم في ذلك ضرر حيث امتنعتم من إجابته وتصديقه‪ ،‬وإ ن كان صادقًا وقد‬
‫وعذابا في اآلخرة‪ ،‬فإنه ال‬
‫ً‬ ‫عذابا في الدنيا‬
‫جاءكم بالبينات‪ ،‬وأخبركم أنكم إن لم تجيبوه عذبكم اهلل ً‬
‫بد أن يصيبكم بعض الذي يعدكم‪ ،‬وهو عذاب الدنيا‪.‬‬
‫وهذا من حسن عقله‪ ،‬ولطف دفعه عن موسى‪ ،‬حيث أتى بهذا الجواب الذي ال تشويش فيه عليهم‪،‬‬
‫دائرا بين تينك الحالتين‪ ،‬وعلى كل تقدير فقتله سفه وجهل منكم‪.‬‬
‫وجعل األمر ً‬
‫ثم انتقل رضي اهلل عنه وأرضاه وغفر له ورحمه ‪ -‬إلى أمر أعلى من ذلك‪ ،‬وبيان قرب موسى‬
‫ف } أي‪ :‬متجاوز الحد بترك الحق واإلقبال على‬ ‫من الحق فقال‪ِ { :‬إ َّن اللَّهَ ال َي ْه ِدي َم ْن ُه َو ُم ْس ِر ٌ‬
‫اب } بنسبته ما أسرف فيه إلى اهلل‪ ،‬فهذا ال يهديه اهلل إلى طريق الصواب‪ ،‬ال في‬ ‫الباطل‪َ { .‬ك َّذ ٌ‬
‫مدلوله وال في دليله‪ ،‬وال يوفق للصراط المستقيم‪ ،‬أي‪ :‬وقد رأيتم ما دعا موسى إليه من الحق‪،‬‬
‫وما هداه اهلل إلى بيانه من البراهين العقلية والخوارق السماوية‪ ،‬فالذي اهتدى هذا الهدى ال يمكن‬
‫كاذبا‪ ،‬وهذا دليل على كمال علمه وعقله ومعرفته بربه‪.‬‬
‫أن يكون مسرفًا وال ً‬
‫ثم حذر قومه ونصحهم‪ ،‬وخوفهم عذاب اآلخرة‪ ،‬ونهاهم عن االغترار بالملك الظاهر‪ ،‬فقال‪َ { :‬يا‬
‫ض } على رعيتكم‪ ،‬تنفذون فيهم ما شئتم‬ ‫األر ِ‬ ‫اه ِر ِ‬
‫ظِ‬ ‫قَ ْوِم لَ ُك ُم اْل ُمْل ُ‬
‫ين في ْ‬ ‫َ‬ ‫ك اْلَي ْو َم } أي‪ :‬في الدنيا { َ‬
‫ْس اللَّ ِه } أي‪ :‬عذابه { ِإ ْن‬
‫ص ُرَنا ِم ْن َبأ ِ‬
‫من التدبير‪ ،‬فهبكم حصل لكم ذلك وتم‪ ،‬ولن يتم‪ { ،‬فَ َم ْن َي ْن ُ‬
‫ص ُرَنا }‬
‫اءَنا } ؟ وهذا من حسن دعوته‪ ،‬حيث جعل األمر مشتر ًكا بينه وبينهم بقوله‪ { :‬فَ َم ْن َي ْن ُ‬ ‫َج َ‬
‫اءَنا } ليفهمهم أنه ينصح لهم كما ينصح لنفسه‪ ،‬ويرضى لهم ما يرضى لنفسه‪.‬‬ ‫وقوله‪ِ { :‬إ ْن َج َ‬
‫ومغررا لقومه أن يتبعوا موسى‪َ { :‬ما أ ُِري ُك ْم ِإال َما أ ََرى‬
‫ً‬ ‫معارضا له في ذلك‪،‬‬
‫ً‬ ‫ال ِف ْر َع ْو ُن }‬
‫فـ { قَ َ‬
‫الر َش ِاد } وصدق في قوله‪َ { :‬ما أ ُِري ُك ْم ِإال َما أ ََرى } ولكن ما الذي رأى؟‬ ‫َه ِدي ُك ْم ِإال َسبِ َ‬
‫يل َّ‬ ‫َو َما أ ْ‬
‫رأى أن يستخف قومه فيتابعوه‪ ،‬ليقيم بهم رياسته‪ ،‬ولم ير الحق معه‪ ،‬بل رأى الحق مع موسى‪،‬‬
‫مستيقنا له‪.‬‬
‫ً‬ ‫وجحد به‬
‫اتباعا‬ ‫يل َّ ِ‬
‫َه ِدي ُك ْم ِإال َسبِ َ‬
‫الر َشاد } فإن هذا قلب للحق‪ ،‬فلو أمرهم باتباعه ً‬ ‫وكذب في قوله‪َ { :‬و َما أ ْ‬
‫مجردا على كفره وضالله‪ ،‬لكان الشر أهون‪ ،‬ولكنه أمرهم باتباعه‪ ،‬وزعم أن في اتباعه اتباع‬ ‫ً‬
‫الحق وفي اتباع الحق‪ ،‬اتباع الضالل‪.‬‬
‫مكررا دعوة قومه غير آيس من هدايتهم‪ ،‬كما هي حالة الدعاة إلى اهلل تعالى‪،‬‬ ‫آم َن }‬ ‫َِّ‬
‫ً‬ ‫{ َوقَا َل الذي َ‬
‫ال يزالون يدعون إلى ربهم‪ ،‬وال يردهم عن ذلك راد‪ ،‬وال يثنيهم عتو من دعوه عن تكرار الدعوة‬
‫اب } يعني األمم المكذبين‪ ،‬الذين تحزبوا على‬ ‫اف َعلَْي ُك ْم ِم ْث َل َي ْوِم ْ‬
‫األح َز ِ‬ ‫فقال لهم‪َ { :‬يا قَ ْوِم ِإِّني أ َ‬
‫َخ ُ‬
‫ين ِم ْن‬ ‫وح وع ٍاد وثَم َ َِّ‬
‫ود َوالذ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أنبيائهم‪ ،‬واجتمعوا على معارضتهم‪ ،‬ثم بينهم فقال‪ { :‬م ْث َل َدأْب قَ ْوِم ُن ٍ َ َ َ ُ‬
‫َب ْع ِد ِه ْم } أي‪ :‬مثل عادتهم في الكفر والتكذيب وعادة اهلل فيهم بالعقوبة العاجلة في الدنيا قبل‬
‫يد ظُْل ًما ِلْل ِعَب ِاد } فيعذبهم بغير ذنب أذنبوه‪ ،‬وال جرم أسلفوه‪.‬‬ ‫اآلخرة‪َ { ،‬و َما اللَّهُ ُي ِر ُ‬
‫اف َعلَْي ُك ْم َي ْوِم‬ ‫ولما خوفهم العقوبات الدنيوية‪ ،‬خوفهم العقوبات األخروية‪ ،‬فقال‪َ { :‬وَيا قَ ْوِم ِإِّني أ َ‬
‫َخ ُ‬
‫َن قَ ْد َو َج ْدَنا َما َو َع َدَنا َربَُّنا َحقًّا } إلى‬‫التََّن ِاد } أي‪ :‬يوم القيامة‪ ،‬حين ينادي أهل الجنة أهل النار‪ { :‬أ ْ‬
‫آخر اآليات‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الن ِار أَصحاب اْلجَّن ِة أ ْ ِ‬
‫يضوا َعلَْيَنا م َن اْل َماء أ َْو م َّما َر َزقَ ُك ُم اللهُ قَالُوا ِإ َّن اللهَ‬
‫َن أَف ُ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫اب َّ‬ ‫َص َح ُ‬
‫ادى أ ْ‬ ‫{ َوَن َ‬
‫ِ‬
‫َح َّر َمهُ َما َعلَى اْل َكاف ِر َ‬
‫ين }‬
‫ِ‬
‫ون } وحين ينادون ربهم‪{ :‬‬ ‫وحين ينادي أهل النار مال ًكا { ليقض علينا ربك } فيقول‪ِ { :‬إَّن ُك ْم َماكثُ َ‬
‫سؤوا ِفيهَا َوال تُ َكلِّ ُم ِ‬
‫ون } وحين يقال‬ ‫اخ ُ‬
‫ون } فيجيبهم‪ْ { :‬‬ ‫َخ ِر ْجَنا ِم ْنها فَِإ ْن ع ْدَنا فَِإَّنا َ ِ‬
‫ظال ُم َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َربََّنا أ ْ‬
‫اء ُك ْم فَ َد َع ْو ُه ْم َفلَ ْم َي ْستَ ِج ُيبوا لَهُ ْم }‬
‫للمشركين‪ْ { :‬اد ُعوا ُش َر َك َ‬
‫فخوفهم رضي اهلل عنه هذا اليوم المهول‪ ،‬وتوجع لهم أن أقاموا على شركهم بذلك‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫اصٍم } ال من أنفسكم قوة‬ ‫{ يوم تُولُّون م ْدبِ ِرين } أي‪ :‬قد ذهب بكم إلى النار { ما لَ ُكم ِمن اللَّ ِه ِم ْن ع ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َْ َ َ َ ُ‬
‫تدفعون بها عذاب اهلل‪ ،‬وال ينصركم من دونه من أحد { َي ْو َم تُْبلَى الس ََّرائِ ُر فَ َما لَهُ ِم ْن قَُّو ٍة َوال‬
‫َن ِ‬
‫اص ٍر }‬
‫ضِل ِل اللَّهُ فَ َما لَهُ ِم ْن َه ٍاد } ألن الهدى بيد اهلل تعالى‪ ،‬فإذا منع عبده الهدى لعلمه أنه غير‬
‫{ َو َم ْن ُي ْ‬
‫الئق به‪ ،‬لخبثه‪ ،‬فال سبيل إلى هدايته‪.‬‬

‫( ‪)1/736‬‬

‫ف } بن يعقوب عليهما السالم { ِم ْن قَْب ُل } إتيان موسى بالبينات الدالة على‬ ‫وس ُ‬‫اء ُك ْم ُي ُ‬
‫{ َولَقَ ْد َج َ‬
‫اء ُك ْم بِ ِه } [ ص ‪] 738‬‬ ‫صدقه‪ ،‬وأمركم بعبادة ربكم وحده ال شريك له‪ { ،‬فَما ِزْلتُم ِفي َش ٍّ ِ‬
‫ك م َّما َج َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ث اللَّهُ ِم ْن َب ْع ِد ِه َر ُسوال } أي‪:‬‬ ‫في حياته { َحتَّى ِإ َذا َهلَ َ‬
‫ك } ازداد شككم وشرككم‪ ،‬و { ُقْلتُ ْم لَ ْن َي ْب َع َ‬
‫هذا ظنكم الباطل‪ ،‬وحسبانكم الذي ال يليق باهلل تعالى‪ ،‬فإنه تعالى ال يترك خلقه سدى‪ ،‬ال يأمرهم‬
‫كي ِ‬
‫ض ُّل‬ ‫ِ‬
‫وينهاهم‪ ،‬ويرسل إليهم رسله‪ ،‬وظن أن اهلل ال يرسل رسوال ظن ضالل‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ك َذل َ ُ‬
‫ظلما وعلوا‪ ،‬فهم‬ ‫اب } وهذا هو وصفهم الحقيقي الذي وصفوا به موسى ً‬ ‫اللَّهُ َم ْن ُه َو ُم ْس ِر ٌ‬
‫ف ُم ْرتَ ٌ‬
‫المسرفون بتجاوزهم الحق وعدولهم عنه إلى الضالل‪ ،‬وهم الكذبة‪ ،‬حيث نسبوا ذلك إلى اهلل‪،‬‬
‫وكذبوا رسوله‪.‬‬
‫فالذي وصفه السرف والكذب‪ ،‬ال ينفك عنهما‪ ،‬ال يهديه اهلل‪ ،‬وال يوفقه للخير‪ ،‬ألنه رد الحق بعد‬
‫غ‬
‫اغوا أ ََزا َ‬
‫أن وصل إليه وعرفه‪ ،‬فجزاؤه أن يعاقبه اهلل‪ ،‬بأن يمنعه الهدى‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬فلَ َّما َز ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اللَّه ُقلُوبهم } { وُن َقلِّ ِ‬
‫ص َار ُه ْم َك َما لَ ْم ُي ْؤ ِمُنوا بِه أ ََّو َل َم َّر ٍة َوَن َذ ُر ُه ْم في طُ ْغَيان ِه ْم َي ْع َمهُ َ‬
‫ون‬ ‫ب أَ ْفئ َدتَهُ ْم َوأ َْب َ‬
‫َ ُ‬ ‫ُ َ ُْ‬
‫ين }‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫} { َواللهُ ال َي ْهدي اْلقَ ْو َم الظالم َ‬
‫ات اللَّ ِه } التي بينت الحق من‬ ‫ثم ذكر وصف المسرف الكذاب فقال‪ { :‬الَِّذين يج ِادلُون ِفي آي ِ‬
‫َ‬ ‫َ َُ َ‬
‫الباطل‪ ،‬وصارت ‪-‬من ظهورها‪ -‬بمنزلة الشمس للبصر‪ ،‬فهم يجادلون فيها على وضوحها‪،‬‬
‫اه ْم } أي‪ :‬بغير حجة وبرهان‪ ،‬وهذا وصف الزم لكل من‬ ‫طٍ‬
‫ان أَتَ ُ‬ ‫ليدفعوها ويبطلوها { بِ َغ ْي ِر ُسْل َ‬
‫جادل في آيات اهلل‪ ،‬فإنه من المحال أن يجادل بسلطان‪ ،‬ألن الحق ال يعارضه معارض‪ ،‬فال يمكن‬
‫أن يعارض بدليل شرعي أو عقلي أصال { َكُب َر } ذلك القول المتضمن لرد الحق بالباطل { َم ْقتًا‬
‫َِّ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫بغضا لصاحبه‪ ،‬ألنه تضمن التكذيب بالحق والتصديق‬‫آمُنوا } فاهلل أشد ً‬ ‫عْن َد الله َو ِع ْن َد الذ َ‬
‫ين َ‬
‫بالباطل ونسبته إليه‪ ،‬وهذه أمور يشتد بغض اهلل لها ولمن اتصف بها‪ ،‬وكذلك عباده المؤمنون‬
‫يمقتون على ذلك أشد المقت موافقة لربهم‪ ،‬وهؤالء خواص خلق اهلل تعالى‪ ،‬فمقتهم دليل على‬
‫طَبعُ اللَّهُ َعلَى ُك ِّل َقْل ِب ُمتَ َكب ٍِّر‬
‫ك } أي‪ :‬كما طبع على قلوب آل فرعون { َي ْ‬ ‫شناعة من مقتوه‪َ { ،‬ك َذِل َ‬
‫َّار } متكبر في نفسه على الحق برده وعلى الخلق باحتقارهم‪ ،‬جبار بكثرة ظلمه وعدوانه‪.‬‬ ‫َجب ٍ‬
‫ومكذبا له في دعوته إلى اإلقرار برب العالمين‪ ،‬الذي على‬ ‫ً‬ ‫معارضا لموسى‬
‫ً‬ ‫{ َوقَا َل ِف ْر َع ْو ُن }‬
‫ِ‬
‫مرتفعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫عظيما‬
‫ً‬ ‫ان ْاب ِن لي َ‬
‫ص ْر ًحا } أي‪ :‬بناء‬ ‫ام ُ‬
‫العرش استوى‪ ،‬وعلى الخلق اعتلى‪َ { :‬يا َه َ‬
‫ربا‪ ،‬وأنه فوق‬
‫كاذبا } في دعواه أن لنا ً‬
‫والقصد منه لعلي أطلع { إلى إله موسى وإ ني ألظنه ً‬
‫السماوات‪.‬‬
‫ولكنه يريد أن يحتاط فرعون‪ ،‬ويختبر األمر بنفسه‪ ،‬قال اهلل تعالى في بيان الذي حمله على هذا‬
‫وء َع َمِل ِه } فزين له العمل السيئ‪ ،‬فلم يزل الشيطان يزينه‪ ،‬وهو‬ ‫ك ُزي ِ ِ‬
‫ِّن لف ْر َع ْو َن ُس ُ‬
‫ِ‬
‫القول‪َ { :‬و َك َذل َ َ‬
‫حسنا ودعا إليه وناظر مناظرة المحقين‪ ،‬وهو من أعظم المفسدين‪{ ،‬‬ ‫يدعو إليه ويحسنه‪ ،‬حتى رآه ً‬
‫يل } الحق‪ ،‬بسبب الباطل الذي زين له‪َ { .‬و َما َك ْي ُد ِف ْر َع ْو َن } الذي أراد أن يكيد به‬ ‫السبِ ِ‬ ‫ص َّد َع ِن َّ‬ ‫َو ُ‬
‫اب } أي‪ :‬خسار وبوار‪ ،‬ال يفيده‬ ‫الحق‪ ،‬ويوهم به الناس أنه محق‪ ،‬وأن موسى مبطل { ِإال ِفي تََب ٍ‬
‫إال الشقاء في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫الر َش ِاد } ال كما يقول لكم‬ ‫َه ِد ُك ْم َسبِ َ‬
‫يل َّ‬ ‫ون أ ْ‬‫معيدا نصيحته لقومه‪َ { :‬يا قَ ْوِم اتَّبِ ُع ِ‬ ‫آم َن } ً‬ ‫َِّ‬
‫{ َوقَا َل الذي َ‬
‫فرعون‪ ،‬فإنه ال يهديكم إال طريق الغي والفساد‪.‬‬
‫الد ْنَيا َمتَاعٌ } يتمتع بها ويتنعم قليال ثم تنقطع وتضمحل‪ ،‬فال تغرنكم‬ ‫{ َيا قَ ْوِم ِإَّن َما َه ِذ ِه اْل َحَياةُ ُّ‬
‫اآلخ َرةَ ِه َي َد ُار اْلقََر ِار } التي هي محل اإلقامة‪ ،‬ومنزل السكون‬ ‫وتخدعنكم عما خلقتم له { وإِ َّن ِ‬
‫َ‬
‫واالستقرار‪ ،‬فينبغي لكم أن تؤثروها‪ ،‬وتعملوا لها عمال يسعدكم فيها‪.‬‬
‫{ َم ْن َع ِم َل َسيَِّئةً } من شرك أو فسوق أو عصيان { فَال ُي ْج َزى ِإال ِمثْلَهَا } أي‪ :‬ال يجازى إال بما‬
‫يسوؤه ويحزنه ألن جزاء السيئة السوء‪.‬‬
‫ص ِال ًحا ِم ْن َذ َك ٍر أ َْو أ ُْنثَى } من أعمال القلوب والجوارح‪ ،‬وأقوال اللسان { فَأُولَئِ َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬
‫{ َو َم ْن َعم َل َ‬
‫ون ِفيها بِ َغ ْي ِر ِح َس ٍ‬
‫اب } أي‪ :‬يعطون أجرهم بال حد وال عد‪ ،‬بل يعطيهم اهلل ما‬ ‫ون اْل َجَّنةَ ُي ْر َزقُ َ َ‬ ‫َي ْد ُخلُ َ‬
‫ال تبلغه أعمالهم‪.‬‬

‫( ‪)1/737‬‬
‫الن ِار } بترك اتباع نبي اهلل‬ ‫وننِي ِإلَى َّ‬ ‫الن َج ِاة } بما قلت لكم { َوتَ ْد ُع َ‬ ‫{ َوَيا قَ ْوِم َما ِلي أ َْد ُعو ُك ْم ِإلَى َّ‬
‫موسى عليه السالم‪.‬‬
‫ك بِ ِه َما لَْي َس ِلي بِ ِه ِعْل ٌم } أنه يستحق أن يعبد من‬ ‫وننِي أل ْكفَُر بِاللَّ ِه َوأُ ْش ِر َ‬
‫ثم فسر ذلك فقال‪ { :‬تَ ْد ُع َ‬
‫يز } الذي له‬‫دون اهلل‪ ،‬والقول على اهلل بال علم من أكبر الذنوب وأقبحها‪َ { ،‬وأََنا أ َْد ُعو ُك ْم ِإلَى اْل َع ِز ِ‬
‫القوة كلها‪ ،‬وغيره ليس بيده من األمر شيء‪ { .‬اْل َغفَّار } الذي يسرف العباد على أنفسهم‬
‫ويتجرؤون على مساخطه ثم إذا تابوا وأنابوا إليه‪ ،‬كفر عنهم السيئات والذنوب‪ ،‬ودفع موجباتها‬
‫من العقوبات الدنيوية واألخروية‪.‬‬
‫الد ْنيا وال ِفي ِ‬
‫اآلخ َر ِة } أي‪ :‬ال‬ ‫ِ ُّ‬ ‫يقينا { أََّنما تَ ْدع َ ِ ِ ِ‬
‫ونني إلَْيه لَْي َس لَهُ َد ْع َوةٌ في َ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫{ ال َج َر َم } أي‪ :‬حقًا ً‬
‫يستحق من الدعوة إليه‪ ،‬والحث على اللجأ إليه‪ ،‬في الدنيا وال في اآلخرة‪ ،‬لعجزه ونقصه‪ ،‬وأنه ال‬
‫نشورا‪.‬‬
‫ضرا وال موتًا وال حياة‪ ،‬وال ً‬
‫نفعا [ ص ‪ ] 739‬وال ً‬ ‫يملك ً‬
‫الن ِار }‬
‫اب َّ‬
‫َص َح ُ‬
‫ين ُه ْم أ ْ‬ ‫َن َم َر َّدَنا ِإلَى اللَّ ِه } تعالى فسيجازي كل عامل بعمله‪َ { .‬وأ َّ‬
‫َن اْل ُم ْس ِر ِف َ‬ ‫{ َوأ َّ‬
‫وهم الذين أسرفوا على أنفسهم بالتجرؤ (‪ )1‬على ربهم بمعاصيه والكفر به‪ ،‬دون غيرهم‪.‬‬
‫فلما نصحهم وحذرهم وأنذرهم ولم يطيعوه وال وافقوه قال لهم‪:‬‬
‫ون َما أَقُو ُل لَ ُك ْم } من هذه النصيحة‪ ،‬وسترون مغبة عدم قبولها حين يحل بكم العقاب‪،‬‬ ‫{ فَ َستَ ْذ ُك ُر َ‬
‫وتحرمون جزيل الثواب‪.‬‬
‫ض أ َْم ِري ِإلَى اللَّ ِه } أي‪ :‬ألجأ إليه وأعتصم‪ ،‬وألقي أموري كلها لديه‪ ،‬وأتوكل عليه في‬ ‫{ َوأُفَ ِّو ُ‬
‫ص ٌير بِاْل ِعَب ِاد } يعلم أحوالهم‬
‫مصالحي ودفع الضرر الذي يصيبني منكم أو من غيركم‪ِ { .‬إ َّن اللَّه ب ِ‬
‫ََ‬
‫وما يستحقون‪ ،‬يعلم حالي وضعفي فيمنعني منكم ويكفيني شركم‪ ،‬ويعلم أحوالكم فال تتصرفون إال‬
‫بإرادته ومشيئته‪ ،‬فإن سلطكم علي‪ َّ،‬فبحكمة منه تعالى‪ ،‬وعن إرادته ومشيئته صدر ذلك‪.‬‬
‫القوي الرحيم‪ ،‬ذلك الرجل المؤمن الموفق‪ ،‬عقوبات‬ ‫{ فَوقَاه اللَّه سيَِّئ ِ‬
‫ات َما َم َك ُروا } أي‪ :‬وقى اهلل‬
‫ّ‬ ‫َ ُ ُ َ‬
‫ما مكر فرعون وآله له‪ ،‬من إرادة إهالكه وإ تالفه‪ ،‬ألنه بادأهم بما يكرهون‪ ،‬وأظهر لهم الموافقة‬
‫التامة لموسى عليه السالم‪ ،‬ودعاهم إلى ما دعاهم إليه موسى‪ ،‬وهذا أمر ال يحتملونه وهم الذين‬
‫كيدا فحفظه اهلل من كيدهم ومكرهم‬ ‫لهم القدرة إذ ذاك‪ ،‬وقد أغضبهم واشتد حنقهم عليه‪ ،‬فأرادوا به ً‬
‫وء اْل َع َذ ِ‬ ‫وانقلب كيدهم ومكرهم‪ ،‬على أنفسهم‪ { ،‬وح َ ِ ِ‬
‫اب } أغرقهم اهلل تعالى في‬ ‫اق بِآل ف ْر َع ْو َن ُس ُ‬ ‫َ َ‬
‫صبيحة واحدة عن آخرهم‪.‬‬
‫آل ِف ْر َع ْو َن أَ َش َّد‬
‫َّاعةُ أ َْد ِخلُوا َ‬
‫وم الس َ‬
‫ِ‬
‫ون َعلَْيهَا ُغ ُد ًّوا َو َعشيًّا َوَي ْو َم تَقُ ُ‬
‫ض َ‬ ‫وفي البرزخ { َّ‬
‫الن ُار ُي ْع َر ُ‬
‫اب } فهذه العقوبات الشنيعة‪ ،‬التي تحل بالمكذبين لرسل اهلل‪ ،‬المعاندين ألمره‪.‬‬ ‫اْل َع َذ ِ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين (بالتجري)‪.‬‬
‫( ‪)1/738‬‬

‫الن ِار فَيقُو ُل الضُّعفَاء ِللَِّذين استَ ْكبروا ِإَّنا ُكَّنا لَ ُكم تَبعا فَه ْل أ َْنتُم م ْغُنون عَّنا َن ِ‬ ‫وإِ ْذ يتَحاج ِ‬
‫ص ًيبا‬ ‫ْ ُ َ َ‬ ‫ْ ًَ َ‬ ‫َ ُ َ ْ َُ‬ ‫ُّون في َّ َ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫ين ِفي‬ ‫الن ِار (‪ )47‬قَا َل الَِّذين استَ ْكبروا ِإَّنا ُك ٌّل ِفيها ِإ َّن اللَّه قَ ْد ح َكم ب ْين اْل ِعب ِاد (‪ )48‬وقَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ََ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َُ‬ ‫ِم َن َّ‬
‫اب (‪)49‬‬ ‫ف َعَّنا َيوما ِم َن اْل َع َذ ِ‬
‫الن ِار ِل َخ َزَن ِة َجهََّن َم ْاد ُعوا َرَّب ُك ْم ُي َخفِّ ْ‬
‫َّ‬
‫ًْ‬

‫استَ ْكَب ُروا ِإَّنا ُكَّنا لَ ُك ْم تََب ًعا فَهَ ْل أ َْنتُ ْم‬ ‫الن ِار فَيقُو ُل الضُّعفَ َِِّ‬ ‫{ ‪ { } 50 - 47‬وإِ ْذ يتَحاج ِ‬
‫ين ْ‬ ‫اء للذ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُّون في َّ َ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫استَ ْكَب ُروا ِإَّنا ُك ٌّل ِفيهَا ِإ َّن اللَّهَ قَ ْد َح َك َم َب ْي َن اْل ِعَب ِاد * َوقَا َل‬
‫ين ْ‬
‫الن ِار * قَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫ص ًيبا ِم َن َّ‬ ‫م ْغُنون عَّنا َن ِ‬
‫ُ َ َ‬
‫اب } ‪.‬‬ ‫ف َعَّنا َيوما ِم َن اْل َع َذ ِ‬‫الن ِار ِل َخ َزَن ِة َجهََّن َم ْاد ُعوا َرَّب ُك ْم ُي َخفِّ ْ‬
‫ين ِفي َّ‬
‫الذ َ‬
‫َِّ‬
‫ًْ‬
‫بعضا واستغاثتهم بخزنة النار‪ ،‬وعدم الفائدة‬ ‫يخبر تعالى عن تخاصم أهل النار‪ ،‬وعتاب بعضهم ً‬
‫الن ِار } يحتج التابعون بإغواء المتبوعين‪ ،‬ويتبرأ المتبوعون من‬ ‫ُّون ِفي َّ‬
‫في ذلك فقال‪َ { :‬وإِ ْذ َيتَ َحاج َ‬
‫استَ ْكَب ُروا } على الحق‪ ،‬ودعوهم إلى ما‬ ‫َِِّ‬
‫ين ْ‬ ‫اء } أي‪ :‬األتباع للقادة { للذ َ‬ ‫ُّعفَ ُ‬
‫التابعين‪ { ،‬فََيقُو ُل الض َ‬
‫استكبروا ألجله‪ِ { .‬إَّنا ُكَّنا لَ ُك ْم تََب ًعا } أنتم أغويتمونا وأضللتمونا وزينتم لنا الشرك والشر‪ { ،‬فَهَ ْل‬
‫ص ًيبا ِم َن َّ‬
‫الن ِار } أي‪ :‬ولو قليال‪.‬‬ ‫أ َْنتُم م ْغُنون عَّنا َن ِ‬
‫ْ ُ َ َ‬
‫استَ ْكَب ُروا } مبينين لعجزهم ونفوذ الحكم اإللهي في الجميع‪ِ { :‬إَّنا ُك ٌّل ِفيهَا ِإ َّن اللَّهَ قَ ْد‬ ‫ين ْ‬
‫َِّ‬
‫{ قَا َل الذ َ‬
‫َح َك َم َب ْي َن اْل ِعَب ِاد } وجعل لكل قسطه من العذاب‪ ،‬فال يزاد في ذلك وال ينقص منه‪ ،‬وال يغير ما حكم‬
‫به الحكيم‪.‬‬
‫ف َعَّنا َي ْو ًما ِم َن‬ ‫الن ِار } من المستكبرين والضعفاء { ِل َخ َزَن ِة َجهََّن َم ْاد ُعوا َرَّب ُك ْم ُي َخفِّ ْ‬ ‫ين ِفي َّ‬ ‫َِّ‬
‫{ َوقَا َل الذ َ‬
‫اب } لعله تحصل بعض الراحة‪.‬‬ ‫اْل َع َذ ِ‬
‫ك‬‫شيئا‪ { :‬أ ََو لَ ْم تَ ُ‬
‫فـ { قَالُوا } لهم موبخين ومبينين أن شفاعتهم ال تنفعهم‪ ،‬ودعاءهم ال يفيدهم ً‬
‫ات } التي تبينتم بها الحق والصراط المستقيم‪ ،‬وما يقرب من اهلل وما يبعد منه؟‬ ‫تَأْتِي ُكم رسلُ ُكم بِاْلبيَِّن ِ‬
‫ُْ ُ ْ َ‬

‫( ‪)1/739‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫قَالُوا أَولَم تَ ُ ِ‬


‫ين ِإاَّل في َ‬
‫ضاَل ٍل (‪)50‬‬ ‫ك تَأْتي ُك ْم ُر ُسلُ ُك ْم بِاْلَبيَِّنات قَالُوا َبلَى قَالُوا فَ ْاد ُعوا َو َما ُد َع ُ‬
‫اء اْل َكاف ِر َ‬ ‫َ ْ‬

‫ض ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ قَالُوا أَو لَم تَ ُ ِ‬


‫الل } ‪.‬‬ ‫ين ِإال في َ‬ ‫ك تَأْتي ُك ْم ُر ُسلُ ُك ْم بِاْلَبيَِّنات قَالُوا َبلَى قَالُوا فَ ْاد ُعوا َو َما ُد َع ُ‬
‫اء اْل َكاف ِر َ‬ ‫َ ْ‬
‫{ قَالُوا َبلَى } قد جاءونا بالبينات‪ ،‬وقامت علينا حجة اهلل البالغة فظلمنا وعاندنا الحق بعد ما تبين‪.‬‬
‫{ قَالُوا } أي‪ :‬الخزنة ألهل النار‪ ،‬متبرئين من الدعاء لهم والشفاعة‪ { :‬فَ ْاد ُعوا } أنتم ولكن هذا‬
‫الدعاء هل يغني شيئا أم ال؟‬
‫ض ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الل } أي‪ :‬باطل الغ‪ ،‬ألن الكفر محبط لجميع األعمال‬ ‫ين ِإال في َ‬
‫اء اْل َكاف ِر َ‬
‫قال تعالى‪َ { :‬و َما ُد َع ُ‬
‫صاد إلجابة الدعاء‪.‬‬ ‫ّ‬

‫( ‪)1/739‬‬

‫َّ ِ ِ‬ ‫َمُنوا ِفي اْل َحَي ِاة ُّ‬ ‫َِّ‬


‫ين‬
‫اد (‪َ )51‬ي ْو َم اَل َي ْنفَعُ الظالم َ‬
‫وم اأْل َ ْشهَ ُ‬
‫الد ْنَيا َوَي ْو َم َيقُ ُ‬ ‫ين آ َ‬
‫ص ُر ُر ُسلََنا َوالذ َ‬ ‫ِإَّنا لََن ْن ُ‬
‫الد ِار (‪)52‬‬ ‫وء َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫َم ْعذ َرتُهُ ْم َولَهُ ُم الل ْعَنةُ َولَهُ ْم ُس ُ‬

‫اد * َي ْو َم ال َي ْنفَعُ‬
‫وم األ ْشهَ ُ‬ ‫ِ ُّ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫{ ‪ِ { } 52 - 51‬إَّنا لََن ْن ُ‬
‫آمُنوا في اْل َحَياة الد ْنَيا َوَي ْو َم َيقُ ُ‬‫ين َ‬‫ص ُر ُر ُسلََنا َوالذ َ‬
‫وء َّ‬
‫الد ِار } ‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫ين َم ْعذ َرتُهُ ْم َولَهُ ُم الل ْعَنةُ َولَهُ ْم ُس ُ‬
‫الظالم َ‬
‫لما ذكر عقوبة آل فرعون في الدنيا‪ ،‬والبرزخ‪ ،‬ويوم القيامة‪ ،‬وذكر حالة أهل النار الفظيعة‪ ،‬الذين‬
‫الد ْنَيا } أي‪ :‬بالحجة‬ ‫آمُنوا ِفي اْل َحَي ِاة ُّ‬ ‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫نابذوا رسله وحاربوهم‪ ،‬قال‪ِ { :‬إَّنا لََن ْن ُ‬
‫ص ُر ُر ُسلََنا َوالذ َ‬
‫والبرهان والنصر‪ ،‬في اآلخرة بالحكم لهم وألتباعهم بالثواب‪ ،‬ولمن حاربهم بشدة العقاب‪.‬‬
‫الد ِار } أي‪ :‬الدار السيئة‬ ‫وء َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫ين َم ْعذ َرتُهُ ْم } حين يعتذرون { َولَهُ ُم الل ْعَنةُ َولَهُ ْم ُس ُ‬ ‫{ َي ْو َم ال َي ْنفَعُ الظالم َ‬
‫التي تسوء نازليها‪.‬‬

‫( ‪)1/739‬‬

‫اب (‪ُ )53‬ه ًدى و ِذ ْكرى أِل ُوِلي اأْل َْلَب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب (‪)54‬‬ ‫َ َ‬ ‫وسى اْلهُ َدى َوأ َْو َرثَْنا َبني ِإ ْس َرائي َل اْلكتَ َ‬ ‫َولَقَ ْد آَتَْيَنا ُم َ‬
‫ِّك بِاْل َع ِش ِّي َواإْلِ ْب َك ِار (‪)55‬‬
‫ِّح بِ َح ْم ِد َرب َ‬ ‫استَ ْغ ِف ْر ِل َذ ْنبِ َ‬
‫ك َو َسب ْ‬ ‫اصبِ ْر ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ‬
‫ق َو ْ‬ ‫َ‬ ‫فَ ْ‬

‫اب * ُه ًدى َو ِذ ْك َرى ألوِلي‬ ‫{ ‪ { } 55 - 53‬ولَقَ ْد آتَْيَنا موسى اْله َدى وأَورثَْنا بنِي ِإسرائِ َ ِ‬
‫يل اْلكتَ َ‬ ‫َْ‬ ‫ُ َ َْ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫ك بِاْل َع ِش ِّي َو ْ‬
‫اإلب َك ِار } ‪.‬‬ ‫ِّح بِ َح ْم ِد َرِّب َ‬ ‫استَ ْغ ِف ْر ِل َذ ْنبِ َ‬
‫ك َو َسب ْ‬ ‫اصبِ ْر ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ‬
‫ق َو ْ‬ ‫َ‬
‫األْلَب ِ‬
‫اب * فَ ْ‬
‫لما ذكر [ ص ‪ ] 740‬ما جرى لموسى وفرعون‪ ،‬وما آل إليه أمر فرعون وجنوده‪ ،‬ثم ذكر الحكم‬
‫العام الشامل له وألهل النار‪ ،‬ذكر أنه أعطى موسى { اْلهُ َدى } أي‪ :‬اآليات‪ ،‬والعلم الذي يهتدي به‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب } أي‪ :‬جعلناه متوارثًا بينهم‪ ،‬من قرن إلى آخر‪ ،‬وهو‬‫المهتدون‪َ { .‬وأ َْو َرثَْنا َبني ِإ ْس َرائي َل اْلكتَ َ‬
‫التوراة‪ ،‬وذلك الكتاب مشتمل على الهدى الذي هو‪ :‬العلم باألحكام الشرعية وغيرها‪ ،‬وعلى‬
‫التذكر للخير بالترغيب فيه‪ ،‬وعن الشر بالترهيب عنه‪ ،‬وليس ذلك لكل أحد‪ ،‬وإ نما هو { ألوِلي‬
‫األْلَب ِ‬
‫اب }‬
‫ق}‬ ‫اصبِ ْر } يا أيها الرسول كما صبر من قبلك من أولي العزم المرسلين‪ِ { .‬إ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ‬ ‫{ فَ ْ‬
‫َ‬
‫أي‪ :‬ليس مشكو ًكا فيه‪ ،‬أو فيه ريب أو كذب‪ ،‬حتى يعسر عليك الصبر‪ ،‬وإ نما هو الحق المحض‪،‬‬
‫والهدى الصرف‪ ،‬الذي يصبر عليه الصابرون‪ ،‬ويجتهد في التمسك به أهل البصائر‪.‬‬
‫ق } من األسباب التي تحث على الصبر على طاعة اهلل وعن ما يكره اهلل‪.‬‬ ‫فقوله‪ِ { :‬إ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ‬
‫َ‬
‫ك } المانع لك من تحصيل فوزك وسعادتك‪ ،‬فأمره بالصبر الذي فيه يحصل‬ ‫استَ ْغ ِف ْر ِل َذ ْنبِ َ‬
‫{ َو ْ‬
‫خصوصا { بِاْل َع ِش ِّي‬
‫ً‬ ‫المحبوب‪ ،‬وباالستغفار الذي فيه دفع المحذور‪ ،‬وبالتسبيح بحمد اهلل تعالى‬
‫اإلب َك ِار } اللذين هما أفضل األوقات‪ ،‬وفيهما من األوراد والوظائف الواجبة والمستحبة ما فيهما‪،‬‬
‫َو ْ‬
‫عونا على جميع األمور‪.‬‬
‫ألن في ذلك ً‬

‫( ‪)1/739‬‬

‫استَ ِع ْذ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫اهم ِإ ْن ِفي ص ُد ِ اَّل ِ‬


‫ور ِه ْم ِإ ك ْبٌر َما ُه ْم بَِبالغيه فَ ْ‬ ‫ُ‬ ‫طٍ‬
‫ان أَتَ ُ ْ‬ ‫ات اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر ُسْل َ‬
‫ِإ َّن الَِّذين يج ِادلُون ِفي آَي ِ‬
‫َ‬ ‫َ َُ َ‬
‫َّميع اْلب ِ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ص ُير (‪)56‬‬ ‫بِالله ِإَّنهُ ُه َو الس ُ َ‬

‫ور ِه ْم ِإال ِك ْبٌر َما ُه ْم‬


‫ص ُد ِ‬ ‫ِ‬
‫اه ْم ِإ ْن في ُ‬ ‫طٍ‬
‫ان أَتَ ُ‬ ‫ات اللَّ ِه بِ َغ ْي ِر ُسْل َ‬
‫{ ‪ِ { } 56‬إ َّن الَِّذين يج ِادلُون ِفي آي ِ‬
‫َ‬ ‫َ َُ َ‬
‫َّميع اْلب ِ‬
‫ِ‬ ‫يه فَ ِ َّ ِ‬ ‫بِب ِال ِغ ِ‬
‫ص ُير } ‪.‬‬ ‫استَع ْذ بِالله ِإَّنهُ ُه َو الس ُ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫يخبر تعالى أن من جادل في آياته ليبطلها بالباطل‪ ،‬بغير بينة من أمره وال حجة‪ ،‬إن هذا صادر‬
‫من كبر في صدورهم على الحق وعلى من جاء به‪ ،‬يريدون االستعالء عليه بما معهم من الباطل‪،‬‬
‫فهذا قصدهم ومرادهم‪.‬‬
‫ولكن هذا ال يتم لهم وليسوا ببالغيه‪ ،‬فهذا نص صريح‪ ،‬وبشارة‪ ،‬بأن كل من جادل الحق أنه‬
‫مغلوب‪ ،‬وكل من تكبر عليه فهو في نهايته ذليل‪.‬‬
‫استَ ِع ْذ } أي‪ :‬اعتصم والجأ { بِاللَّ ِه } ولم يذكر ما يستعيذ‪ ،‬إرادة للعموم‪ .‬أي‪ :‬استعذ باهلل من‬
‫{ فَ ْ‬
‫الكبر الذي يوجب التكبر على الحق‪ ،‬واستعذ باهلل من شياطين اإلنس والجن‪ ،‬واستعذ باهلل من‬
‫جميع الشرور‪.‬‬
‫َّميع } لجميع األصوات على اختالفها‪ { ،‬اْلب ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ُير } بجميع المرئيات‪ ،‬بأي محل‬ ‫َ‬ ‫{ إَّنهُ ُه َو الس ُ‬
‫وموضع وزمان كانت‪.‬‬

‫( ‪)1/740‬‬
‫ون (‪َ )57‬و َما َي ْستَِوي‬ ‫اس اَل َي ْعلَ ُم َ‬ ‫اس َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫الن ِ‬ ‫الن ِ‬ ‫ض أَ ْكَب ُر ِم ْن َخْل ِ‬
‫ق َّ‬ ‫ِ‬
‫ات واأْل َْر ِ‬
‫َّم َاو َ‬‫ق الس َ‬
‫لَ َخْل ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)58‬‬ ‫يء َقلياًل َما تَتَ َذ َّك ُر َ‬
‫َمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َواَل اْل ُمس ُ‬ ‫ين آ َ‬
‫ير َوالذ َ‬‫َع َمى َواْلَبص ُ‬
‫اأْل ْ‬

‫ون *‬
‫اس ال َي ْعلَ ُم َ‬ ‫اس َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫الن ِ‬ ‫الن ِ‬ ‫ض أَ ْكَب ُر ِم ْن َخْل ِ‬
‫ق َّ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ق الس َ‬‫{ ‪ { } 59 - 57‬لَ َخْل ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫يء َقليال َما تَتَ َذ َّك ُر َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َوال اْل ُمس ُ‬ ‫ين َ‬ ‫َو َما َي ْستَِوي ْ‬
‫األع َمى َواْلَبص ُير َوالذ َ‬
‫يخبر تعالى بما تقرر في العقول‪ ،‬أن خلق السماوات واألرض ‪-‬على عظمهما وسعتهما‪ -‬أعظم‬
‫وأكبر‪ ،‬من خلق الناس‪ ،‬فإن الناس بالنسبة إلى خلق السماوات واألرض من أصغر ما يكون‬
‫فالذي خلق األجرام العظيمة وأتقنها‪ ،‬قادر على إعادة الناس بعد موتهم من باب أولى وأحرى‪.‬‬
‫وهذا أحد األدلة العقلية الدالة على البعث‪ ،‬داللة قاطعة‪ ،‬بمجرد نظر العاقل إليها‪ ،‬يستدل بها‬
‫استدالال ال يقبل الشك والشبهة بوقوع ما أخبرت به الرسل من البعث‪.‬‬
‫ون } ولذلك‬
‫اس ال َي ْعلَ ُم َ‬ ‫وليس كل أحد يجعل فكره لذلك‪ ،‬ويقبل بتدبره‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫الن ِ‬
‫ال يعتبرون بذلك‪ ،‬وال يجعلونه منهم على بال‪.‬‬
‫يء } أي‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ثم قال تعالى‪َ { :‬و َما َي ْستَِوي ْ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َوال اْل ُمس ُ‬ ‫ين َ‬
‫ير َوالذ َ‬
‫األع َمى َواْلَبص ُ‬
‫كما ال يستوي األعمى والبصير‪ ،‬كذلك ال يستوي من آمن باهلل وعمل الصالحات‪ ،‬ومن كان‬
‫ِ‬
‫ساعيا في مساخطه‪َ { ،‬قليال َما تَتَ َذ َّك ُر َ‬
‫ون } أي‪:‬‬ ‫ً‬ ‫مقدما على معاصيه‪،‬‬ ‫مستكبرا على عبادة ربه‪ً ،‬‬ ‫ً‬
‫تذكركم قليل (‪ )1‬وإ ال فلو تذكرتم مراتب األمور‪ ،‬ومنازل الخير والشر‪ ،‬والفرق بين األبرار‬
‫والفجار‪ ،‬وكانت لكم همة عليه‪ ،‬آلثرتم النافع على الضار‪ ،‬والهدى على الضالل‪ ،‬والسعادة‬
‫الدائمة‪ ،‬على الدنيا الفانية‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين (قليالً)‪.‬‬

‫( ‪)1/740‬‬

‫اس اَل ُي ْؤ ِمُن َ‬


‫ون (‪)59‬‬ ‫ب ِفيهَا َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫الن ِ‬ ‫ِ‬
‫ِإ َّن الس َ‬
‫َّاعةَ آَل َتَيةٌ اَل َر ْي َ‬

‫اس ال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ب ِفيهَا َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫الن ِ‬ ‫ِ‬
‫{ ِإ َّن الس َ‬
‫َّاعةَ آلتَيةٌ ال َر ْي َ‬
‫ب ِفيهَا } قد أخبرت بها الرسل الذين هم أصدق الخلق ونطقت بها الكتب‬ ‫ِ‬
‫{ ِإ َّن الس َ‬
‫َّاعةَ آلتَيةٌ ال َر ْي َ‬
‫السماوية‪ ،‬التي جميع أخبارها أعلى مراتب الصدق‪ ،‬وقامت عليها الشواهد المرئية‪ ،‬واآليات‬
‫اس ال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون } مع هذه األمور‪ ،‬التي توجب كمال التصديق‪ ،‬واإلذعان‪.‬‬ ‫األفقية‪َ { .‬ولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫الن ِ‬

‫( ‪)1/740‬‬

‫ِ‬ ‫ب لَ ُكم ِإ َّن الَِّذين يستَ ْكبِرون ع ْن ِعب َ ِ‬ ‫ال رُّب ُكم ْاد ُعونِي أ ْ ِ‬
‫ون َجهََّن َم َداخ ِر َ‬
‫ين (‪)60‬‬ ‫ادتي َسَي ْد ُخلُ َ‬ ‫َ َْ ُ َ َ َ‬ ‫َستَج ْ ْ‬ ‫َوقَ َ َ ُ‬

‫ون َجهََّن َم‬ ‫ب لَ ُكم ِإ َّن الَِّذين يستَ ْكبِرون ع ْن ِعب َ ِ‬ ‫ال رُّب ُكم ْاد ُعونِي أ ْ ِ‬
‫ادتي َسَي ْد ُخلُ َ‬ ‫َ َْ ُ َ َ َ‬ ‫َستَج ْ ْ‬ ‫{ ‪َ { } 60‬وقَ َ َ ُ‬
‫ِ‬
‫َداخ ِر َ‬
‫ين } ‪.‬‬
‫هذا من لطفه بعباده‪ ،‬ونعمته العظيمة‪ ،‬حيث دعاهم إلى ما فيه صالح دينهم ودنياهم‪ ،‬وأمرهم‬
‫بدعائه‪ ،‬دعاء العبادة‪ ،‬ودعاء المسألة‪ ،‬ووعدهم أن يستجيب لهم‪ ،‬وتوعد من استكبر عنها فقال‪:‬‬
‫ِ‬ ‫{ ِإ َّن الَِّذين يستَ ْكبِرون ع ْن ِعب َ ِ‬
‫ون َجهََّن َم َداخ ِر َ‬
‫ين } أي‪ :‬ذليلين حقيرين‪ ،‬يجتمع عليهم‬ ‫ادتي َسَي ْد ُخلُ َ‬ ‫َ َْ ُ َ َ َ‬
‫العذاب [ ص ‪ ] 741‬واإلهانة‪ ،‬جزاء على استكبارهم‪.‬‬

‫( ‪)1/740‬‬

‫اس َولَ ِك َّن أَ ْكثََر‬


‫الن ِ‬‫ض ٍل َعلَى َّ‬ ‫ص ًرا ِإ َّن اللَّهَ لَ ُذو فَ ْ‬ ‫النهار م ْب ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ َِّ‬
‫اللهُ الذي َج َع َل لَ ُك ُم اللْي َل لتَ ْس ُكُنوا فيه َو َّ َ َ ُ‬
‫ون (‪َ )62‬ك َذِل َ‬
‫ك‬ ‫اَّل‬ ‫ٍ‬
‫ق ُك ِّل َش ْيء اَل ِإلَهَ ِإ ُه َو فَأََّنى تُ ْؤفَ ُك َ‬ ‫ون (‪َ )61‬ذِل ُك ُم اللَّهُ َرُّب ُك ْم َخ ِال ُ‬ ‫الن ِ‬
‫اس اَل َي ْش ُك ُر َ‬ ‫َّ‬
‫َّ َِّ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫يؤفَ ُ َِّ‬
‫اء بَِن ً‬
‫اء‬ ‫َّم َ‬ ‫ض قََر ًارا َوالس َ‬ ‫ون (‪ )63‬اللهُ الذي َج َع َل لَ ُك ُم اأْل َْر َ‬ ‫ين َك ُانوا بِآََيات الله َي ْج َح ُد َ‬
‫ك الذ َ‬ ‫ُْ‬
‫ين (‪)64‬‬ ‫ِ‬ ‫ك اللَّهُ َر ُّ‬‫ات َذِل ُك ُم اللَّهُ َرُّب ُك ْم فَتََب َار َ‬ ‫َحسن صور ُكم ور َزقَ ُكم ِمن الطَّيِّب ِ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫َ‬ ‫ص َّو َر ُك ْم فَأ ْ َ َ ُ َ َ ْ َ َ ْ َ‬ ‫َو َ‬
‫ِ‬ ‫ين اْل َح ْم ُد ِللَّ ِه َر ِّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اَّل‬
‫ين (‪)65‬‬ ‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫ين لَهُ ِّ‬
‫الد َ‬ ‫ُه َو اْل َح ُّي اَل ِإلَهَ ِإ ُه َو فَ ْاد ُعوهُ ُم ْخلص َ‬

‫ض ٍل َعلَى‬‫ص ًرا ِإ َّن اللَّهَ لَ ُذو فَ ْ‬‫النهار م ْب ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ َِّ‬
‫{ ‪ { } 65 - 61‬اللهُ الذي َج َع َل لَ ُك ُم اللْي َل لتَ ْس ُكُنوا فيه َو َّ َ َ ُ‬
‫ٍ‬ ‫ون * َذِل ُك ُم اللَّهُ َرُّب ُك ْم َخ ِال ُ‬ ‫اس َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫ق ُك ِّل َش ْيء ال ِإلَهَ ِإال ُه َو فَأََّنى تُ ْؤفَ ُك َ‬
‫ون‬ ‫اس ال َي ْش ُك ُر َ‬‫الن ِ‬ ‫الن ِ‬
‫َّ‬
‫َّ َِّ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ك يؤفَ ُ َِّ‬ ‫ِ‬
‫اء بَِن ً‬
‫اء‬ ‫َّم َ‬
‫ض قََر ًارا َوالس َ‬ ‫األر َ‬‫ون * اللهُ الذي َج َع َل لَ ُك ُم ْ‬ ‫ين َك ُانوا بِ َآيات الله َي ْج َح ُد َ‬‫ك الذ َ‬ ‫* َك َذل َ ُ ْ‬
‫ين * ُه َو‬ ‫ِ‬ ‫ك اللَّهُ َر ُّ‬
‫ات َذِل ُك ُم اللَّهُ َرُّب ُك ْم فَتََب َار َ‬ ‫َحسن صور ُكم ور َزقَ ُكم ِمن الطَّيِّب ِ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫َ‬ ‫ص َّو َر ُك ْم فَأ ْ َ َ ُ َ َ ْ َ َ ْ َ‬ ‫َو َ‬
‫ِ‬ ‫ين اْل َح ْم ُد ِللَّ ِه َر ِّ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫الد َ‬ ‫اْل َح ُّي ال ِإلَهَ ِإال ُه َو فَ ْاد ُعوهُ ُم ْخلص َ‬
‫ين لَهُ ِّ‬
‫تدبر هذه اآليات الكريمات‪ ،‬الدالة على سعة رحمة اهلل تعالى وجزيل فضله‪ ،‬ووجوب شكره‪،‬‬
‫وكمال قدرته‪ ،‬وعظيم سلطانه‪ ،‬وسعة ملكه‪ ،‬وعموم خلقه لجميع األشياء‪ ،‬وكمال حياته‪ ،‬واتصافه‬
‫بالحمد على كل ما اتصف به من الصفات الكاملة‪ ،‬وما فعله من األفعال الحسنة‪ ،‬وتمام ربوبيته‪،‬‬
‫وانفراده فيها‪ ،‬وأن جميع التدبير في العالم العلوي والسفلي في ماضي األوقات وحاضرها‪،‬‬
‫ومستقبلها بيد اهلل تعالى‪ ،‬ليس ألحد من األمر شىء‪ ،‬وال من القدرة شيء‪ ،‬فينتج من ذلك‪ ،‬أنه‬
‫شيئا‪ ،‬كما لم يستحق من الربوبية‬
‫تعالى المألوه المعبود وحده‪ ،‬الذي ال يستحق أحد من العبودية ً‬
‫شيئا‪ ،‬وينتج من ذلك‪ ،‬امتالء القلوب بمعرفة اهلل تعالى ومحبته وخوفه ورجائه‪ ،‬وهذان األمران‬
‫ً‬
‫‪-‬وهما معرفته وعبادته‪ -‬هما اللذان خلق اهلل الخلق ألجلهما‪ ،‬وهما الغاية المقصودة منه تعالى‬
‫لعباده‪ ،‬وهما الموصالن إلى كل خير وفالح وصالح‪ ،‬وسعادة دنيوية وأخروية‪ ،‬وهما اللذان هما‬
‫أشرف عطايا الكريم لعباده‪ ،‬وهما أشرف اللذات على اإلطالق‪ ،‬وهما اللذان إن فاتا‪ ،‬فات كل‬
‫خير‪ ،‬وحضر كل شر‪.‬‬
‫فنسأله تعالى أن يمأل قلوبنا بمعرفته ومحبته‪ ،‬وأن يجعل حركاتنا الباطنة والظاهرة‪ ،‬خالصة‬
‫لوجهه‪ ،‬تابعة ألمره‪ ،‬إنه ال يتعاظمه سؤال‪ ،‬وال يحفيه نوال‪.‬‬
‫فقوله تعالى‪ { :‬اللَّه الَِّذي جع َل لَ ُكم اللَّْي َل } أي‪ :‬ألجلكم جعل اهلل الليل مظلما‪ِ { ،‬لتَس ُكُنوا ِف ِ‬
‫يه } من‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ََ ُ‬ ‫ُ‬
‫حركاتكم‪ ،‬التي لو استمرت لضرت‪ ،‬فتأوون إلى فرشكم‪ ،‬ويلقي اهلل عليكم النوم الذي يستريح به‬
‫أيضا‪ ،‬كل حبيب إلى حبيبه‪،‬‬
‫القلب والبدن‪ ،‬وهو من ضروريات اآلدمي ال يعيش بدونه‪ ،‬ويسكن ً‬
‫ويجتمع الفكر‪ ،‬وتقل الشواغل‪.‬‬
‫منيرا بالشمس المستمرة في الفلك‪ ،‬فتقومون من فرشكم إلى‬ ‫ِ‬ ‫{ و } جعل تعالى { َّ‬
‫النهَ َار ُم ْبص ًرا } ً‬
‫أشغالكم الدينية والدنيوية‪ ،‬هذا لذكره وقراءته‪ ،‬وهذا لصالته‪ ،‬وهذا لطلبه العلم ودراسته‪ ،‬وهذا‬
‫وبحرا‪ ،‬وهذا‬
‫لبيعه وشرائه‪ ،‬وهذا لبنائه أو حدادته‪ ،‬أو نحوها من الصناعات‪ ،‬وهذا لسفره ًبرا ً‬
‫لفالحته‪ ،‬وهذا لتصليح حيواناته‪.‬‬
‫اس } حيث أنعم عليهم بهذه النعم‬ ‫ض ٍل } أي‪ :‬عظيم‪ ،‬كما يدل عليه التنكير { َعلَى َّ‬
‫الن ِ‬ ‫{ ِإ َّن اللَّهَ لَ ُذو فَ ْ‬
‫وغيرها‪ ،‬وصرف عنهم النقم‪ ،‬وهذا يوجب عليهم‪ ،‬تمام شكره وذكره‪َ { ،‬ولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫الن ِ‬
‫اس ال‬
‫ور } الذين يقرون بنعمة ربهم‪،‬‬ ‫ون } بسبب جهلهم وظلمهم‪ { .‬و َقِلي ٌل ِم ْن ِعَب ِاد َ َّ‬
‫ي الش ُك ُ‬ ‫َ‬ ‫َي ْش ُك ُر َ‬
‫ويخضعون للّه‪ ،‬ويحبونه‪ ،‬ويصرفونها في طاعة موالهم ورضاه‪.‬‬
‫{ َذِل ُك ُم } الذي فعل ما فعل { اللَّهُ َرُّب ُك ْم } أي‪ :‬المنفرد باإللهية‪ ،‬والمنفرد بالربوبية‪ ،‬ألن انفراده‬
‫بهذه النعم‪ ،‬من ربوبيته‪ ،‬وإ يجابها للشكر‪ ،‬من ألوهيته‪ { ،‬ال ِإلَهَ ِإال ُه َو } تقرير أنه المستحق للعبادة‬
‫ق ُك ِّل َش ْي ٍء } تقرير لربوبيته‪.‬‬ ‫وحده‪ ،‬ال شريك له‪َ { ،‬خ ِال ُ‬
‫ون } أي‪ :‬كيف تصرفون عن عبادته‪ ،‬وحده ال شريك‬ ‫ثم صرح باألمر بعبادته فقال‪ { :‬فَأََّنى تُ ْؤفَ ُك َ‬
‫له‪ ،‬بعد ما أبان لكم الدليل‪ ،‬وأنار لكم السبيل؟"‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫ك يؤفَ ُ َِّ‬ ‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬عقوبة على جحدهم آليات اهلل‪ ،‬وتعديهم على‬ ‫ين َك ُانوا بِ َآيات الله َي ْج َح ُد َ‬
‫ك الذ َ‬ ‫{ َك َذل َ ُ ْ‬
‫ضهُ ْم ِإلَى‬
‫ظ َر َب ْع ُ‬
‫ورةٌ َن َ‬
‫ت ُس َ‬
‫رسله‪ ،‬صرفوا عن التوحيد واإلخالص‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬وإِ َذا َما أُنزلَ ْ‬
‫ض َه ْل يرا ُكم ِم ْن أَح ٍد ثَُّم ْانصرفُوا صر َ َّ‬
‫وبهُ ْم بِأََّنهُ ْم قَ ْو ٌم ال َي ْفقَهُ َ‬
‫ون }‬ ‫ف اللهُ ُقلُ َ‬ ‫ََ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ‬ ‫َب ْع ٍ‬
‫ض قََر ًارا } أي‪ :‬قارة ساكنة‪ ،‬مهيأة لكل مصالحكم‪ ،‬تتمكنون من حرثها‬ ‫َّ َِّ‬
‫األر َ‬
‫{ اللهُ الذي َج َع َل لَ ُك ُم ْ‬
‫وغرسها‪ ،‬والبناء عليها‪ ،‬والسفر‪ ،‬واإلقامة فيها‪.‬‬
‫اء } سقفًا لألرض‪ ،‬التي أنتم فيها‪ ،‬قد جعل اهلل فيها ما تنتفعون به من األنوار‬ ‫اء بَِن ً‬
‫َّم َ‬
‫{ َوالس َ‬
‫ص َو َر ُك ْم } فليس في‬ ‫َح َس َن ُ‬ ‫ص َّو َر ُك ْم فَأ ْ‬
‫والعالمات‪ ،‬التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر‪َ { ،‬و َ‬
‫ان ِفي أ ْ‬
‫َح َس ِن تَ ْق ِو ٍيم‬ ‫اإلن َس َ‬
‫جنس الحيوانات‪ ،‬أحسن صورة من بني آدم‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬لَقَ ْد َخلَ ْقَنا ْ‬
‫}‬
‫عضوا‪ ،‬هل‬
‫ً‬ ‫عضوا‬
‫ً‬ ‫وإ ذا أردت أن تعرف حسن اآلدمي وكمال حكمة اهلل تعالى فيه‪ ،‬فانظر إليه‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬إلى الميل الذي‬
‫عضوا من أعضائه‪ ،‬يليق به‪ ،‬ويصلح أن يكون في غير محله؟ وانظر ً‬
‫ً‬ ‫تجد‬
‫في القلوب‪ ،‬بعضهم لبعض‪ ،‬هل تجد ذلك في غير اآلدمين؟ وانظر إلى ما خصه اهلل به من العقل‬
‫واإليمان‪ ،‬والمحبة والمعرفة‪ ،‬التي هي أحسن األخالق المناسبة ألجمل الصور‪.‬‬
‫ات } وهذا شامل لكل طيب‪ ،‬من مأكل‪ [ ،‬ص ‪ ] 742‬ومشرب‪ ،‬ومنكح‪،‬‬ ‫{ ور َزقَ ُكم ِمن َّ‬
‫الطيِّب ِ‬
‫َ‬ ‫ََ ْ َ‬
‫وملبس‪ ،‬ومنظر‪ ،‬ومسمع‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬من الطيبات التي يسرها اهلل لعباده‪ ،‬ويسر لهم أسبابها‪،‬‬
‫ومنعهم من الخبائث‪ ،‬التي تضادها‪ ،‬وتضر أبدانهم‪ ،‬وقلوبهم‪ ،‬وأديانهم‪َ { ،‬ذِل ُك ُم } الذي دبر‬
‫ين } أي‪ :‬تعاظم‪ ،‬وكثر‬ ‫ِ‬ ‫ك اللَّهُ َر ُّ‬
‫األمور‪ ،‬وأنعم عليكم بهذه النعم { اللَّهُ َرُّب ُك ْم } { فَتََب َار َ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬
‫خيره وإ حسانه‪ ،‬المربي جميع العالمين بنعمه‪.‬‬
‫{ ُه َو اْل َح ُّي } الذي له الحياة الكاملة التامة‪ ،‬المستلزمة لما تستلزمه من صفاته الذاتية‪ ،‬التي ال تتم‬
‫حياته إال بها‪ ،‬كالسمع‪ ،‬والبصر‪ ،‬والقدرة‪ ،‬والعلم‪ ،‬والكالم‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬من صفات كماله‪ ،‬ونعوت‬
‫جالله‪.‬‬
‫{ ال ِإلَهَ ِإال ُه َو } أي‪ :‬ال معبود بحق‪ ،‬إال وجهه الكريم‪ { .‬فَ ْاد ُعوهُ } وهذا شامل لدعاء العبادة‪،‬‬
‫ين } أي‪ :‬اقصدوا بكل عبادة ودعاء وعمل‪ ،‬وجه اهلل تعالى‪ ،‬فإن‬ ‫ين لَهُ ِّ‬ ‫ِ ِ‬
‫الد َ‬ ‫ودعاء المسألة { ُم ْخلص َ‬
‫ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء }‬
‫ين ُحَنفَ َ‬
‫الد َ‬ ‫اإلخالص‪ ،‬هو المأمور به كما قال تعالى‪َ { :‬و َما أُم ُروا ِإال لَي ْعُب ُدوا اللهَ ُم ْخلص َ‬
‫ين لَهُ ِّ‬
‫ين } أي‪ :‬جميع المحامد والمدائح والثناء‪ ،‬بالقول كنطق الخلق بذكره‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫{ اْل َح ْم ُد ِللَّ ِه َر ِّ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬
‫والفعل‪ ،‬كعبادتهم له‪ ،‬كل ذلك للّه تعالى وحده ال شريك له‪ ،‬لكماله في أوصافه وأفعاله‪ ،‬وتمام‬
‫نعمه‪.‬‬

‫( ‪)1/741‬‬
‫ُسِل َم ِل َر ِّ‬
‫ب‬ ‫َن أ ْ‬
‫ت أْ‬ ‫ات ِم ْن ربِّي وأ ِ‬
‫ُم ْر ُ‬ ‫َ َ‬ ‫اءنِ َي اْلَبيَِّن ُ‬ ‫َعب َد الَِّذين تَ ْدعون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون الله لَ َّما َج َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َن أ ْ ُ‬ ‫ُق ْل ِإِّني ُن ِه ُ‬
‫يت أ ْ‬
‫ين (‪)66‬‬ ‫ِ‬
‫اْل َعالَم َ‬

‫ات ِم ْن َربِّي‬
‫اءنِ َي اْلَبيَِّن ُ‬ ‫َعب َد الَِّذين تَ ْدعون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون الله لَ َّما َج َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َن أ ْ ُ‬ ‫{ ‪ُ { } 68 - 66‬ق ْل ِإِّني ُن ِه ُ‬
‫يت أ ْ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ُسِل َم ِل َر ِّ‬ ‫وأ ِ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫َن أ ْ‬
‫ت أْ‬
‫ُم ْر ُ‬ ‫َ‬
‫لما ذكر األمر بإخالص العبادة للّه وحده‪ ،‬وذكر األدلة على ذلك والبينات‪ ،‬صرح بالنهي عن‬
‫ون اللَّ ِه } من‬
‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫ين تَ ْد ُع َ‬
‫َن أ ْ َِّ‬
‫َعُب َد الذ َ‬ ‫عبادة ما سواه فقال‪ُ { :‬ق ْل } يا أيها النبي { ِإِّني ُن ِه ُ‬
‫يت أ ْ‬
‫األوثان واألصنام‪ ،‬وكل ما عبد من دون اهلل‪.‬‬
‫ات ِم ْن َربِّي‬‫اءنِ َي اْلَبيَِّن ُ‬
‫ولست على شك من أمري‪ ،‬بل على يقين وبصيرة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬لَ َّما َج َ‬
‫ين } بقلبي ولساني‪ ،‬وجوارحي‪ ،‬بحيث تكون منقادة لطاعته‪ ،‬مستسلمة‬ ‫ِ‬ ‫ُسِل َم ِل َر ِّ‬ ‫وأ ِ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫َن أ ْ‬
‫ت أْ‬
‫ُم ْر ُ‬ ‫َ‬
‫ألمره‪ ،‬وهذا أعظم مأمور به‪ ،‬على اإلطالق‪ ،‬كما أن النهي عن عبادة ما سواه‪ ،‬أعظم َم ْن ِه ٍّي عنه‪،‬‬
‫على اإلطالق‪.‬‬

‫( ‪)1/742‬‬

‫طفَ ٍة ثَُّم ِم ْن َعلَقَ ٍة ثَُّم ُي ْخ ِر ُج ُك ْم ِطفْاًل ثَُّم ِلتَْبلُ ُغوا أَ ُش َّد ُك ْم ثَُّم ِلتَ ُك ُ‬
‫ونوا‬ ‫اب ثَُّم ِم ْن ُن ْ‬
‫ُهو الَِّذي َخلَقَ ُكم ِم ْن تُر ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫يت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ون (‪ُ )67‬ه َو الذي ُي ْحيي َوُيم ُ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫َجاًل ُم َس ًّمى َولَ َعل ُك ْم تَ ْعقلُ َ‬ ‫وخا َوم ْن ُك ْم َم ْن ُيتََوفى م ْن قَْب ُل َولتَْبلُ ُغوا أ َ‬ ‫ُشُي ً‬
‫ون (‪)68‬‬ ‫ضى أ َْم ًرا فَِإَّن َما َيقُو ُل لَهُ ُك ْن فََي ُك ُ‬‫فَِإ َذا قَ َ‬

‫ونوا‬ ‫طفَ ٍة ثَُّم ِم ْن َعلَقَ ٍة ثَُّم ُي ْخ ِر ُج ُك ْم ِط ْفال ثَُّم ِلتَْبلُ ُغوا أَ ُش َّد ُك ْم ثَُّم ِلتَ ُك ُ‬
‫اب ثَُّم ِم ْن ُن ْ‬‫{ ُهو الَِّذي َخلَقَ ُكم ِم ْن تُر ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ون * ُه َو الَِّذي ُي ْحيِي َوُي ِم ُ‬
‫يت فَِإ َذا‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫َجال ُم َس ًّمى َولَ َعل ُك ْم تَ ْعقلُ َ‬
‫ِ‬
‫وخا َو ِم ْن ُك ْم َم ْن ُيتََوفَّى م ْن قَْب ُل َوِلتَْبلُ ُغوا أ َ‬‫ُشُي ً‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ضى أ َْم ًرا فَِإَّن َما َيقُو ُل لَهُ ُك ْن فََي ُك ُ‬ ‫قَ َ‬
‫ثم قرر هذا التوحيد‪ ،‬بأنه الخالق لكم والمطور لخلقتكم‪ ،‬فكما خلقكم وحده‪ ،‬فاعبدوه وحده فقال‪:‬‬
‫طفَ ٍة } وهذا‬
‫اب } وذلك بخلقه ألصلكم وأبيكم آدم عليه السالم‪ { .‬ثَُّم ِم ْن ُن ْ‬ ‫{ ُهو الَِّذي َخلَقَ ُكم ِم ْن تُر ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ابتداء خلق سائر النوع اإلنساني‪ ،‬ما دام في بطن أمه‪ ،‬فنبه باالبتداء‪ ،‬على بقية األطوار‪ ،‬من‬
‫العلقة‪ ،‬فالمضغة‪ ،‬فالعظام‪ ،‬فنفخ الروح‪ { ،‬ثَُّم ُي ْخ ِر ُج ُك ْم ِط ْفال } ثم هكذا تنتقلون في الخلقة اإللهية‬
‫حتى تبلغوا أشدكم من قوة العقل والبدن‪ ،‬وجميع قواه الظاهرة والباطنة‪.‬‬
‫وخا َو ِم ْن ُك ْم َم ْن ُيتََوفَّى ِم ْن قَْب ُل } بلوغ األشد { َوِلتَْبلُ ُغوا } بهذه األطوار المقدرة‬ ‫{ ثَُّم ِلتَ ُك ُ‬
‫ونوا ُشُي ً‬
‫ون } أحوالكم‪ ،‬فتعلمون أن المطور لكم في‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫َجال ُم َس ًّمى } تنتهي عنده أعماركم‪َ { .‬ولَ َعل ُك ْم تَ ْعقلُ َ‬ ‫{ أَ‬
‫هذه األطوار كامل االقتدار‪ ،‬وأنه الذي ال تنبغي العبادة إال له‪ ،‬وأنكم ناقصون من كل وجه‪.‬‬
‫يت } أي هو المنفرد باإلحياء واإلماتة‪ ،‬فال تموت نفس بسبب أو بغير سبب‪،‬‬ ‫{ ُه َو الَِّذي ُي ْحيِي َوُي ِم ُ‬
‫ك َعلَى اللَّ ِه َي ِس ٌير }‬
‫اب ِإ َّن َذِل َ‬
‫ص ِم ْن ُعم ِر ِه ِإال ِفي ِكتَ ٍ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫إال بإذنه‪َ { .‬و َما ُي َع َّم ُر م ْن ُم َع َّم ٍر َوال ُي ْنقَ ُ‬
‫ون } ال رد في ذلك‪ ،‬وال مثنوية‪ ،‬وال‬ ‫حقيرا { فَِإَّن َما َيقُو ُل لَهُ ُك ْن فََي ُك ُ‬
‫ضى أ َْم ًرا } جليال أو ً‬ ‫{ فَِإ َذا قَ َ‬
‫تمنع‪.‬‬

‫( ‪)1/742‬‬

‫اب َوبِ َما أ َْر َسْلَنا بِ ِه‬ ‫ين َك َّذُبوا بِاْل ِكتَ ِ‬ ‫َِّ‬
‫ون (‪ )69‬الذ َ‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫أَلَم تَر ِإلَى الَِّذين يج ِادلُ ِ‬
‫ون في آََيات الله أََّنى ُي ْ‬
‫ص َرفُ َ‬ ‫َ َُ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ون (‪ِ )71‬في اْل َح ِم ِيم ثَُّم ِفي‬ ‫َعَن ِاق ِهم و َّ ِ‬
‫الساَل س ُل ُي ْس َحُب َ‬ ‫َغاَل ُل في أ ْ ْ َ‬
‫ف يعلَمون (‪ِ )70‬إ ِذ اأْل ْ ِ‬
‫ُر ُسلََنا فَ َس ْو َ َ ْ ُ َ‬
‫ضلُّوا َعَّنا َب ْل لَ ْم‬ ‫ون الله قَالُوا َ‬
‫يل لَهم أ َْين ما ُك ْنتُم تُ ْش ِر ُكون (‪ِ )73‬م ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫ون (‪ )72‬ثَُّم ق َ ُ ْ َ َ‬ ‫الن ِار ُي ْس َج ُر َ‬
‫َّ‬
‫ض بِ َغ ْي ِر‬‫ون ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪َ )74‬ذل ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْف َر ُح َ‬
‫ِ‬ ‫َن ُك ْن َن ْدعو ِم ْن قَْب ُل َش ْيًئا َك َذِل َ ِ َّ‬
‫ك ُيض ُّل اللهُ اْل َكاف ِر َ‬ ‫ُ‬
‫ق وبِما ُك ْنتُم تَمرحون (‪ْ )75‬اد ُخلُوا أ َْبواب جهَّنم َخ ِال ِد ِ‬
‫ين (‪)76‬‬ ‫ين فيهَا فَبِْئ َس َمثَْوى اْل ُمتَ َكب ِِّر َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َََ‬ ‫ْ َْ ُ َ‬ ‫اْل َح ِّ َ َ‬

‫اب‬‫ين َك َّذُبوا بِاْل ِكتَ ِ‬ ‫َِّ‬


‫ون * الذ َ‬ ‫ص َرفُ َ‬
‫ِ َّ ِ‬
‫ون في َآيات الله أََّنى ُي ْ‬
‫{ ‪ { } 76 - 69‬أَلَم تَر ِإلَى الَِّذين يج ِادلُ ِ‬
‫َ َُ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ون * ِفي اْل َح ِم ِيم‬ ‫ِ‬ ‫األغال ُل ِفي أ ْ ِ‬
‫َعَناق ِه ْم َوالسَّالس ُل ُي ْس َحُب َ‬ ‫ون * ِإ ِذ ْ‬ ‫َوبِ َما أ َْر َسْلَنا بِ ِه ُر ُسلََنا فَ َس ْو َ‬
‫ف َي ْعلَ ُم َ‬
‫ضلُّوا َعَّنا َب ْل لَ ْم‬ ‫الن ِار يسجرون * ثَُّم ِقي َل لَهم أ َْين ما ُك ْنتُم تُ ْش ِر ُكون * ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون الله قَالُوا َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُْ َ َ‬ ‫ثَُّم في َّ ُ ْ َ ُ َ‬
‫ِ‬
‫ض بِ َغ ْي ِر اْل َح ِّ‬
‫ق‬ ‫األر ِ‬ ‫ض ُّل اللَّه اْل َك ِاف ِرين * َذِل ُكم بِما ُك ْنتُم تَ ْفرح ِ‬‫كي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون في ْ‬ ‫ْ َ ُ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َن ُك ْن َن ْد ُعو م ْن قَْب ُل َش ْيًئا َك َذل َ ُ‬
‫وبِما ُك ْنتُم تَمرحون * ْاد ُخلُوا أ َْبواب جهَّنم َخ ِال ِد ِ‬
‫ين فيهَا فَبِْئ َس َمثَْوى اْل ُمتَ َكب ِِّر َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ َ َََ‬ ‫ْ َْ ُ َ‬ ‫َ َ‬
‫متعجبا من حالهم الشنيعة‪ { .‬أََّنى‬ ‫ً‬ ‫ات اللَّ ِه } الواضحة البينة‬ ‫{ أَلَم تَر ِإلَى الَِّذين يج ِادلُون ِفي آي ِ‬
‫َ‬ ‫َ َُ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ون } أي‪ :‬كيف ينعدلون عنها؟ وإ لى أي شيء يذهبون بعد البيان التام؟ هل يجدون آيات‬‫ص َرفُ َ‬
‫ُي ْ‬
‫بينات تعارض آيات اهلل؟ ال واهلل‪ .‬أم يجدون شبهًا توافق أهواءهم‪ ،‬ويصولون بها ألجل باطلهم؟‬
‫فبئس ما استبدلوا واختاروا ألنفسهم‪ ،‬بتكذيبهم بالكتاب‪ ،‬الذي جاءهم من اهلل‪ ،‬وبما أرسل اهلل به‬
‫رسله‪ ،‬الذين هم خير الخلق وأصدقهم‪ ،‬وأعظمهم عقوال فهؤالء ال جزاء لهم سوى النار الحامية‪،‬‬
‫ون }‬
‫ف َي ْعلَ ُم َ‬
‫ولهذا توعدهم اهلل بعذابها فقال‪ { :‬فَ َس ْو َ‬
‫َعَن ِاق ِهم } التي ال يستطيعون معها حركة‪ { .‬والس ِ‬
‫َّالس ُل } التي يقرنون بها‪ ،‬هم‬ ‫{ ِإ ِذ ْ ِ‬
‫َ‬ ‫األغال ُل في أ ْ ْ‬
‫ون في الحميم }‬ ‫وشياطينهم { ُي ْس َحُب َ‬
‫أي‪ :‬الماء الذي اشتد غليانه وحره‪ { .‬ثَُّم ِفي َّ‬
‫الن ِار ُي ْس َج ُر َ‬
‫ون } يوقد عليهم اللهب العظيم‪ ،‬فيصلون‬
‫بها‪ ،‬ثم يوبخون على شركهم وكذبهم‪.‬‬
‫ون اللَّ ِه } هل نفعوكم‪ ،‬أو دفعوا عنكم بعض العذاب؟‪.‬‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬‫ويقال { لَهُ ْم أ َْي َن َما ُك ْنتُ ْم تُ ْش ِر ُك َ‬
‫ضلُّوا َعَّنا } أي‪ :‬غابوا ولم يحضروا‪ ،‬ولو حضروا‪ ،‬لم ينفعوا‪ ،‬ثم إنهم أنكروا فقالوا‪َ { :‬ب ْل‬ ‫{ قَالُوا َ‬
‫لَ ْم َن ُك ْن َن ْد ُعو ِم ْن قَْب ُل َش ْيًئا } يحتمل أن مرادهم بذلك‪ ،‬اإلنكار‪ ،‬وظنوا أنه ينفعهم ويفيدهم‪ ،‬ويحتمل‬
‫‪-‬وهو األظهر‪ -‬أن مرادهم بذلك‪ ،‬اإلقرار على بطالن إلهية ما كانوا يعبدون‪ ،‬وأنه ليس للّه‬
‫شريك في الحقيقة‪ ،‬وإ نما هم ضالون مخطئون‪ ،‬بعبادة معدوم اإللهية‪ ،‬ويدل على هذا قوله تعالى‪:‬‬
‫ِ‬ ‫{ َك َذِل َ ِ َّ‬
‫ين } [ ص ‪ ] 743‬أي‪ :‬كذلك الضالل الذي كانوا عليه في الدنيا‪،‬‬ ‫ك ُيض ُّل اللهُ اْل َكاف ِر َ‬
‫الضالل الواضح لكل أحد‪ ،‬حتى إنهم بأنفسهم‪ ،‬يقرون ببطالنه يوم القيامة‪ ،‬ويتبين لهم معنى قوله‬
‫ون اللَّ ِه ُشر َكاء ِإن يتَّبِعون ِإال َّ‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫َِّ‬
‫الظ َّن } ويدل عليه قوله تعالى‪:‬‬ ‫َ َ ْ َ ُ َ‬ ‫تعالى‪َ { :‬و َما َيتَّبِعُ الذ َ‬
‫ين َي ْد ُع َ‬
‫{ ويوم اْل ِقيام ِة ي ْكفُرون بِ ِشر ِك ُكم } { وم ْن أَض ُّل ِم َّم ْن ي ْدعو ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫يب لَهُ ِإلَى َي ْوِم‬ ‫ون الله َم ْن ال َي ْستَ ِج ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َْ َ َ َ َ ُ َ ْ ْ‬
‫ام ِة } اآليات‪.‬‬ ‫ِ‬
‫اْلقَي َ‬
‫ض بِ َغ ْي ِر اْل َح ِّ‬
‫ق‬ ‫األر ِ‬ ‫ويقال ألهل النار { َذِل ُكم } العذاب‪ ،‬الذي نوع عليكم { بِما ُك ْنتُم تَ ْفرح ِ‬
‫ون في ْ‬ ‫ْ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ون } أي‪ :‬تفرحون بالباطل الذي أنتم عليه‪ ،‬وبالعلوم التي خالفتم بها علوم الرسل‬ ‫َوبِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْم َر ُح َ‬
‫وعصيانا‪ ،‬كما قال تعالى في آخر هذه السورة‪{ :‬‬ ‫ً‬ ‫وظلما‪،‬‬
‫ً‬ ‫وعدوانا‪،‬‬
‫ً‬ ‫بغيا‬
‫وتمرحون على عباد اهلل‪ً ،‬‬
‫ات فَ ِر ُحوا بِ َما ِع ْن َد ُه ْم ِم َن اْل ِعْلِم }‬‫َفلَ َّما جاءتْهم رسلُهم بِاْلبيَِّن ِ‬
‫َ َ ُْ ُ ُ ُْ َ‬
‫ِ‬ ‫وكما قال قوم قارون له‪ { :‬ال تَ ْف َر ْح ِإ َّن اللَّهَ ال ُي ِح ُّ‬
‫ب اْلفَ ِرح َ‬
‫ين }‬
‫ض ِل‬
‫وهذا هو الفرح المذموم الموجب للعقاب‪ ،‬بخالف الفرح الممدوح الذي قال اهلل فيه‪ُ { :‬ق ْل بِفَ ْ‬
‫ك َفْلَي ْف َر ُحوا } وهو الفرح بالعلم النافع‪ ،‬والعمل الصالح‪.‬‬ ‫اللَّ ِه َوبَِر ْح َمتِ ِه فَبِ َذِل َ‬
‫ين ِفيهَا } ال يخرجون منها‬ ‫ِِ‬
‫اب َجهََّن َم } كل بطبقة من طبقاتها‪ ،‬على قدر عمله‪َ { .‬خالد َ‬ ‫{ ْاد ُخلُوا أ َْب َو َ‬
‫ين } مثوى يخزون فيه‪ ،‬ويهانون‪ ،‬ويحبسون‪ ،‬ويعذبون‪ ،‬ويترددون بين‬ ‫أبدا { فَبِْئ َس َمثَْوى اْل ُمتَ َكب ِِّر َ‬ ‫ً‬
‫حرها وزمهريرها‪.‬‬

‫( ‪)1/742‬‬

‫ون (‪)77‬‬ ‫ض الَِّذي َن ِع ُد ُه ْم أ َْو َنتََوفََّيَّن َ‬


‫ك فَِإلَْيَنا ُي ْر َج ُع َ‬ ‫ك َب ْع َ‬ ‫اصبِ ْر ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ‬
‫ق فَِإ َّما ُن ِرَيَّن َ‬ ‫َ‬ ‫فَ ْ‬

‫ك فَِإلَْيَنا ُي ْر َج ُع َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ض الَِّذي َن ِع ُد ُه ْم أ َْو َنتََوفََّيَّن َ‬
‫ك َب ْع َ‬ ‫اصبِ ْر ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ‬
‫ق فَِإ َّما ُن ِرَيَّن َ‬ ‫َ‬ ‫{ ‪ { } 77‬فَ ْ‬
‫اصبِ ْر } يا أيها الرسول‪ ،‬على دعوة قومك‪ ،‬وما ينالك منهم‪ ،‬من أذى‪ ،‬واستعن على صبرك‬ ‫أي { فَ ْ‬
‫وي ْعِلي كلمته‪ ،‬وينصر رسله في الدنيا واآلخرة‪،‬‬ ‫ق } سينصر دينه‪ُ ،‬‬ ‫بإيمانك { ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ‬
‫َ‬
‫ك‬‫أيضا‪ ،‬بتوقع العقوبة بأعدائك في الدنيا واآلخرة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَِإ َّما ُن ِرَيَّن َ‬ ‫واستعن على ذلك ً‬
‫ون } فنجازيهم‬ ‫ك } قبل عقوبتهم { فَِإلَْيَنا ُي ْر َج ُع َ‬ ‫ض الَِّذي َن ِع ُد ُه ْم } في الدنيا فذاك { أ َْو َنتََوفََّيَّن َ‬ ‫َب ْع َ‬
‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫بأعمالهم‪َ { ،‬وال تَ ْح َسَب َّن اللهَ َغافال َع َّما َي ْع َم ُل الظال ُم َ‬
‫ون } ثم ساله وصبَّره‪ ،‬بذكر إخوانه المرسلين‬
‫فقال‪:‬‬

‫( ‪)1/743‬‬

‫ان ِلرس ٍ‬ ‫ولَقَ ْد أَرسْلَنا رساًل ِم ْن قَْبِل َ ِ‬


‫ول‬ ‫ك َو َما َك َ َ ُ‬‫ص َعلَْي َ‬‫ص ْ‬ ‫ك َو ِم ْنهُ ْم َم ْن لَ ْم َن ْق ُ‬
‫صَنا َعلَْي َ‬
‫ص ْ‬ ‫ك م ْنهُ ْم َم ْن قَ َ‬ ‫ْ َ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫اء أ َْم ُر الله قُضي بِاْل َح ِّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫اَّل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)78‬‬ ‫ك اْل ُم ْبطلُ َ‬
‫ق َو َخس َر ُهَنال َ‬ ‫َ‬ ‫َن َيأْت َي بِآََية ِإ بِِإ ْذ ِن الله فَِإ َذا َج َ‬
‫أْ‬

‫{ ‪ { } 78‬ولَقَ ْد أَرسْلَنا رسال ِم ْن قَْبِل َ ِ‬


‫ك َو َما‬
‫ص َعلَْي َ‬ ‫ص ْ‬ ‫ك َو ِم ْنهُ ْم َم ْن لَ ْم َن ْق ُ‬
‫صَنا َعلَْي َ‬ ‫ص ْ‬
‫ك م ْنهُ ْم َم ْن قَ َ‬ ‫َ ْ َ ُ ُ‬
‫ِ‬ ‫ق َو َخ ِس َر ُهَن ِال َ‬ ‫ضي بِاْل َح ِّ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ول أ ْ ِ‬ ‫ان ِلرس ٍ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ك اْل ُم ْبطلُ َ‬ ‫اء أ َْم ُر الله قُ َ‬ ‫َن َيأْت َي بِ َآية ِإال بِِإ ْذ ِن الله فَِإ َذا َج َ‬ ‫َك َ َ ُ‬
‫ك } كثيرين إلى قومهم‪ ،‬يدعونهم ويصبرون على أذاهم‪ِ { .‬م ْنهُ ْم‬ ‫أي‪َ { :‬ولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُر ُسال ِم ْن قَْبِل َ‬
‫ك } وكل الرسل مدبرون‪ ،‬ليس بيدهم‬ ‫ص َعلَْي َ‬‫ص ْ‬‫ك } خبرهم { َو ِم ْنهُ ْم َم ْن لَ ْم َن ْق ُ‬ ‫صَنا َعلَْي َ‬ ‫ص ْ‬ ‫َم ْن قَ َ‬
‫شيء من األمر‪.‬‬
‫َن َيأْتِ َي بِ َآي ٍة } من اآليات السمعية والعقلية { ِإال بِِإ ْذ ِن اللَّ ِه } أي‪ :‬بمشيئته‬ ‫وما كان ألحد منهم { أ ْ‬
‫وأمره‪ ،‬فاقتراح المقترحين على الرسل اإلتيان باآليات‪ ،‬ظلم منهم‪ ،‬وتعنت‪ ،‬وتكذيب‪ ،‬بعد أن أيدهم‬
‫اء أ َْم ُر اللَّ ِه } بالفصل بين الرسل‬ ‫اللّه باآليات الدالة على صدقهم وصحة ما جاءوا به‪ { .‬فَِإ َذا َج َ‬
‫ق } الذي يقع الموقع‪ ،‬ويوافق الصواب بإنجاء الرسل‬ ‫ِ‬
‫ضى } بينهم { بِاْل َح ِّ‬
‫وأعدائهم‪ ،‬والفتح‪ { .‬قُ َ‬
‫ون‬ ‫ِ‬ ‫وأتباعهم‪ ،‬وإ هالك المكذبين‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬و َخ ِس َر ُهَن ِال َ‬
‫ك } أي‪ :‬وقت القضاء المذكور { اْل ُم ْبطلُ َ‬
‫} الذين وصفهم الباطل‪ ،‬وما جاءوا به من العلم والعمل‪ ،‬باطل‪ ،‬وغايتهم المقصودة لهم‪ ،‬باطلة‪،‬‬
‫َفْلَي ْح َذر هؤالء المخاطبون‪ ،‬أن يستمروا على باطلهم‪ ،‬فيخسروا‪ ،‬كما خسر أولئك‪ ،‬فإن هؤالء ال‬
‫خير منهم‪ ،‬وال لهم براءة في الكتب بالنجاة‪.‬‬

‫( ‪)1/743‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َِّ‬


‫ون (‪َ )79‬ولَ ُك ْم فيهَا َمَنافعُ َوِلتَْبلُ ُغوا َعلَْيهَا َح َ‬
‫اجةً‬ ‫اللهُ الذي َج َع َل لَ ُك ُم اأْل َْن َع َام لتَْر َكُبوا م ْنهَا َو ِم ْنهَا تَْأ ُكلُ َ‬
‫ور ُكم وعلَْيها وعلَى اْل ُفْل ِك تُ ْحملُون (‪ )80‬وي ِري ُكم آَياتِ ِه فَأ َّ ِ َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)81‬‬ ‫َي آََيات الله تُْنك ُر َ‬ ‫َُ ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ص ُد ِ ْ َ َ َ َ َ‬ ‫في ُ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 81 - 79‬اللَّه الَِّذي جع َل لَ ُكم ْ ِ‬


‫األن َع َام لتَْر َكُبوا م ْنهَا َو ِم ْنهَا تَْأ ُكلُ َ‬
‫ون * َولَ ُك ْم فيهَا َمَنافعُ‬ ‫ََ ُ‬ ‫ُ‬
‫ات اللَّ ِه‬
‫َي آي ِ‬ ‫ِِ‬
‫ون * َوُي ِري ُك ْم َآياته فَأ َّ َ‬
‫ِ‬ ‫ص ُد ِ‬
‫ور ُك ْم َو َعلَْيهَا َو َعلَى اْل ُفْلك تُ ْح َملُ َ‬
‫وِلتَْبلُ ُغوا علَْيها ح ِ‬
‫اجةً في ُ‬
‫َ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تُْنك ُر َ‬
‫يمتن تعالى على عباده‪ ،‬بما جعل لهم من األنعام‪ ،‬التي بها‪ ،‬جملة من اإلنعام‪:‬‬
‫منها‪ :‬منافع الركوب عليها‪ ،‬والحمل‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬منافع األكل من لحومها‪ ،‬والشرب من ألبانها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬منافع الدفء‪ ،‬واتخاذ اآلالت واألمتعة‪ ،‬من أصوافها‪ ،‬وأوبارها وأشعارها‪ ،‬إلى غير ذلك‬
‫من المنافع‪.‬‬
‫ور ُك ْم } من الوصول إلى األوطان البعيدة‪ ،‬وحصول السرور بها‪،‬‬ ‫ص ُد ِ‬ ‫{ وِلتَْبلُ ُغوا علَْيها ح ِ‬
‫اجةً في ُ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ون } أي‪ :‬على الرواحل البرية‪ ،‬والفلك البحرية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫والفرح عند أهلها‪َ { .‬و َعلَْيهَا َو َعلَى اْل ُفْلك تُ ْح َملُ َ‬
‫يحملكم اهلل الذي سخرها‪ ،‬وهيأ لها ما هيأ‪ ،‬من األسباب‪ ،‬التي ال تتم إال بها‪.‬‬
‫{ َوُي ِري ُك ْم َآياتِ ِه } الدالة على وحدانيته‪ ،‬وأسمائه‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وهذا من أكبر نعمه‪ ،‬حيث أشهد عباده‪،‬‬
‫آياته النفسية‪ ،‬وآياته األفقية‪ ،‬ونعمه الباهرة‪َّ ،‬‬
‫وعد َدها عليهم‪ ،‬ليعرفوه‪ ،‬ويشكروه‪ ،‬ويذكروه‪.‬‬

‫( ‪)1/743‬‬

‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم َك ُانوا أَ ْكثََر ِم ْنهُ ْم َوأَ َش َّد قَُّوةً َوَآثَ ًارا‬ ‫ِ َِّ‬
‫ان َعاقَبةُ الذ َ‬ ‫ف َك َ‬ ‫ض فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ‬ ‫أَ َفلَ ْم َي ِس ُيروا ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ات فَ ِر ُحوا بِ َما ِع ْن َد ُه ْم‬ ‫َغَنى ع ْنهم ما َك ُانوا ي ْك ِسبون (‪َ )82‬فلَ َّما جاءتْهم رسلُهم بِاْلبيَِّن ِ‬
‫َ َ ُْ ُ ُ ُْ َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ض فَ َما أ ْ َ ُ ْ َ‬ ‫ِفي اأْل َْر ِ‬
‫َمَّنا بِاللَّ ِه َو ْح َدهُ َو َكفَ ْرَنا بِ َما‬
‫ْسَنا قَالُوا آ َ‬
‫ون (‪َ )83‬فلَ َّما َرأ َْوا َبأ َ‬
‫ِ‬
‫اق بِ ِه ْم َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬ ‫ِم َن اْل ِعْلِم َو َح َ‬
‫ت ِفي ِعَب ِاد ِه َو َخ ِس َر‬ ‫ْسَنا ُسَّنةَ اللَّ ِه الَّتِي قَ ْد َخلَ ْ‬ ‫يم ُانهُ ْم لَ َّما َرأ َْوا َبأ َ‬ ‫ِ‬
‫ك َي ْنفَ ُعهُ ْم إ َ‬
‫ين (‪َ )84‬فلَ ْم َي ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُكَّنا بِه ُم ْش ِرك َ‬
‫ون (‪)85‬‬ ‫ُهَن ِال َ ِ‬
‫ك اْل َكاف ُر َ‬

‫ون } أي‪ :‬أي آية من آياته ال تعترفون بها؟ فإنكم‪ ،‬قد تقرر عندكم‪ ،‬أن جميع‬ ‫{ فَأ َّ ِ َّ ِ ِ‬
‫َي َآيات الله تُْنك ُر َ‬
‫اآليات والنعم‪ ،‬منه تعالى‪ ،‬فلم يبق لإلنكار محل‪ ،‬وال لإلعراض عنها موضع‪ ،‬بل أوجبت لذوي‬
‫األلباب‪ ،‬بذل الجهد‪ ،‬واستفراغ الوسع‪ ،‬لالجتهاد في طاعته‪ ،‬والتبتل في خدمته‪ ،‬واالنقطاع إليه‪.‬‬
‫[ ص ‪] 744‬‬
‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم َك ُانوا أَ ْكثََر‬ ‫ِ َِّ‬
‫ان َعاقَبةُ الذ َ‬ ‫ف َك َ‬ ‫ض فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪ { } 85 - 82‬أَ َفلَ ْم َيس ُيروا في ْ‬
‫َغَنى عْنهم ما َك ُانوا ي ْك ِسبون * َفلَ َّما جاءتْهم رسلُهم بِاْلبيَِّن ِ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات‬ ‫َ َ ُْ ُ ُ ُْ َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ض فَ َما أ ْ َ ُ ْ َ‬ ‫م ْنهُ ْم َوأَ َش َّد قَُّوةً َوآثَ ًارا في ْ‬
‫آمَّنا بِاللَّ ِه‬
‫ْسَنا قَالُوا َ‬ ‫ون * َفلَ َّما َرأ َْوا َبأ َ‬
‫ِ‬
‫اق بِ ِه ْم َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬ ‫فَ ِر ُحوا بِ َما ِعْن َد ُه ْم ِم َن اْل ِعْلِم َو َح َ‬
‫ت ِفي‬ ‫ْسَنا ُسَّنةَ اللَّ ِه الَّتِي قَ ْد َخلَ ْ‬ ‫يم ُانهُ ْم لَ َّما َرأ َْوا َبأ َ‬ ‫ِ‬
‫ك َي ْنفَ ُعهُ ْم إ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو ْح َدهُ َو َكفَ ْرَنا بِ َما ُكَّنا بِه ُم ْش ِرك َ‬
‫ين * َفلَ ْم َي ُ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِعب ِاد ِه و َخ ِسر ُهَن ِال َ ِ‬
‫ك اْل َكاف ُر َ‬ ‫َ َ َ‬
‫يحث تعالى‪ ،‬المكذبين لرسولهم‪ ،‬على السير في األرض‪ ،‬بأبدانهم‪ ،‬وقلوبهم‪ :‬وسؤال العالمين‪.‬‬
‫{ فََي ْنظُ ُروا } نظر فكر واستدالل‪ ،‬ال نظر غفلة وإ همال‪.‬‬
‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم } من األمم السالفة‪ ،‬كعاد‪ ،‬وثمود وغيرهم‪ ،‬ممن كانوا أعظم‬ ‫ِ َِّ‬
‫ان َعاقَبةُ الذ َ‬‫ف َك َ‬ ‫{ َك ْي َ‬
‫آثارا في األرض من األبنية الحصينة‪ ،‬والغراس األنيقة‪ ،‬والزروع‬ ‫منهم قوة وأكثر أمواال وأشد ً‬
‫ون } حين جاءهم أمر اهلل‪ ،‬فلم تغن عنهم قوتهم‪ ،‬وال افتدوا‬ ‫ِ‬
‫َغَنى َعْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْكسُب َ‬
‫الكثيرة { فَ َما أ ْ‬
‫بأموالهم‪ ،‬وال تحصنوا بحصونهم‪.‬‬
‫ات } من الكتب اإللهية‪ ،‬والخوارق‬ ‫ثم ذكر جرمهم الكبير فقال‪َ { :‬فلَ َّما جاءتْهم رسلُهم بِاْلبيَِّن ِ‬
‫َ َ ُْ ُ ُ ُْ َ‬
‫العظيمة‪ ،‬والعلم النافع المبين‪ ،‬للهدي من الضالل‪ ،‬والحق من الباطل { فَ ِر ُحوا بِ َما ِعْن َد ُه ْم ِم َن اْل ِعْلِم‬
‫} المناقض لدين الرسل‪.‬‬
‫ومن المعلوم‪ ،‬أن فرحهم به‪ ،‬يدل على شدة رضاهم به‪ ،‬وتمسكهم‪ ،‬ومعاداة الحق‪ ،‬الذي جاءت به‬
‫الرسل‪ ،‬وجعل باطلهم حقًا‪ ،‬وهذا عام لجميع العلوم‪ ،‬التي نوقض بها‪ ،‬ما جاءت به الرسل‪ ،‬ومن‬
‫أحقها بالدخول في هذا‪ ،‬علوم الفلسفة‪ ،‬والمنطق اليوناني‪ ،‬الذي ُر َّدت به كثير من آيات القرآن‪،‬‬
‫شيئا من اليقين‪ ،‬ويقدم‬
‫ونقصت قدره في القلوب‪ ،‬وجعلت أدلته اليقينية القاطعة‪ ،‬أدلة لفظية‪ ،‬ال تفيد ً‬
‫عليها عقول أهل السفه والباطل‪ ،‬وهذا من أعظم اإللحاد في آيات اهلل‪ ،‬والمعارضة لها‪،‬‬
‫والمناقضة‪ ،‬فاهلل المستعان‪.‬‬
‫ِ‬
‫اق بِ ِه ْم } أي‪ :‬نزل { َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬
‫ون } من العذاب‪.‬‬ ‫{ َو َح َ‬
‫آمَّنا بِاللَّ ِه َو ْح َدهُ َو َكفَ ْرَنا بِ َما‬
‫ْسَنا } أي‪ :‬عذابنا‪ ،‬أقروا حيث ال ينفعهم اإلقرار { قَالُوا َ‬ ‫{ َفلَ َّما َرأ َْوا َبأ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } من األصنام واألوثان‪ ،‬وتبرأنا من كل ما خالف الرسل‪ ،‬من علم أو عمل‪.‬‬ ‫ُكَّنا بِه ُم ْش ِرك َ‬
‫ْسَنا } أي‪ :‬في تلك الحال‪ ،‬وهذه { ُسَّنةَ اللَّ ِه } وعادته { الَّتِي قَ ْد‬ ‫يم ُانهُ ْم لَ َّما َرأ َْوا َبأ َ‬ ‫ِ‬
‫ك َي ْنفَ ُعهُ ْم إ َ‬
‫{ َفلَ ْم َي ُ‬
‫ت ِفي ِعَب ِاد ِه } أن المكذبين حين ينزل بهم بأس اهلل وعقابه إذا آمنوا‪ ،‬كان إيمانهم غير صحيح‪،‬‬ ‫َخلَ ْ‬
‫منجيا لهم من العذاب‪ ،‬وذلك ألنه إيمان ضرورة‪ ،‬قد اضطروا إليه‪ ،‬وإ يمان مشاهدة‪ ،‬وإ نما‬
‫وال ً‬
‫إيمانا بالغيب‪ ،‬وذلك قبل‬
‫اإليمان النافع الذي ينجي صاحبه‪ ،‬هو اإليمان االختياري‪ ،‬الذي يكون ً‬
‫وجود قرائن العذاب‪.‬‬
‫ون } دينهم ودنياهم وأخراهم‪ ،‬وال‬ ‫ِ‬ ‫{ َو َخ ِس َر ُهَن ِال َ‬
‫ك } أي‪ :‬وقت اإلهالك‪ ،‬وإ ذاقة البأس { اْل َكاف ُر َ‬
‫يكفي مجرد الخسارة‪ ،‬في تلك الدار‪ ،‬بل ال بد من خسران يشقي في العذاب الشديد‪ ،‬والخلود فيه‪،‬‬
‫أبدا‪.‬‬
‫دائما ً‬
‫تم تفسير سورة المؤمن بحمد اهلل ولطفه ومعونته‪ ،‬ال بحولنا وقوتنا‪ ،‬فله الشكر والثناء‬

‫( ‪)1/743‬‬
‫سورة فصلت‬
‫مكية‬

‫( ‪)1/744‬‬

‫ون (‪َ )3‬ب ِش ًيرا‬ ‫ِ‬


‫ت آََياتُهُ قُْرآًَنا َعَربِيًّا لقَ ْوٍم َي ْعلَ ُم َ‬ ‫صلَ ْ‬‫اب فُ ِّ‬‫الر ِح ِيم (‪ِ )2‬كتَ ٌ‬ ‫الر ْح َم ِن َّ‬‫حم (‪ )1‬تَْن ِزي ٌل ِم َن َّ‬
‫ونا ِإلَْي ِه َو ِفي َآ َذانَِنا َو ْقٌر‬ ‫َكَّن ٍة ِم َّما تَ ْد ُع َ‬
‫َعرض أَ ْكثَر ُهم فَهم اَل يسمعون (‪ )4‬وقَالُوا ُقلُوبَنا ِفي أ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َوَنذ ًيرا فَأ ْ َ َ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ َ‬
‫ِ‬

‫وحى ِإلَ َّي أََّن َما ِإلَهُ ُك ْم ِإلَهٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك ِح َج ٌ‬ ‫َو ِم ْن َب ْينَِنا َوَب ْينِ َ‬
‫ون (‪ُ )5‬ق ْل ِإَّن َما أََنا َب َشٌر م ْثلُ ُك ْم ُي َ‬ ‫اع َم ْل ِإَّنَنا َعاملُ َ‬
‫اب فَ ْ‬
‫الز َكاةَ َو ُه ْم بِاآْل َ ِخ َر ِة ُه ْم‬‫ون َّ‬ ‫ين اَل ُي ْؤتُ َ‬
‫َِّ‬
‫ين (‪ )6‬الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اح ٌد فَاستَِقيموا ِإلَْي ِه و ِ‬
‫استَ ْغف ُروهُ َو َوْي ٌل لْل ُم ْش ِرك َ‬
‫َ ْ‬ ‫ْ ُ‬
‫و ِ‬
‫َ‬
‫َجٌر َغ ْي ُر َم ْمُن ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)8‬‬ ‫َمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات لَهُ ْم أ ْ‬ ‫ون (‪ )7‬إ َّن الذ َ‬
‫ين آ َ‬ ‫َكاف ُر َ‬

‫ت َآياتُهُ‬ ‫صلَ ْ‬ ‫الر ِح ِيم * ِكتَ ٌ‬


‫اب فُ ِّ‬ ‫الر ِح ِيم حم * تَْن ِزي ٌل ِم َن َّ‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬ ‫الر ْح َم ِن َّ‬ ‫{ ‪ { } 8 - 1‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫وبَنا ِفي‬ ‫ون * َوقَالُوا ُقلُ ُ‬ ‫ض أَ ْكثَُر ُه ْم فَهُ ْم ال َي ْس َم ُع َ‬ ‫َع َر َ‬ ‫ون * َب ِش ًيرا َوَن ِذ ًيرا فَأ ْ‬ ‫ِ‬
‫قُْر ًآنا َعَربِيًّا لقَ ْوٍم َي ْعلَ ُم َ‬
‫ون * ُق ْل ِإَّن َما أََنا َب َشٌر‬ ‫ِ‬ ‫ك ِح َج ٌ‬ ‫ونا ِإلَْي ِه َو ِفي آ َذانَِنا َو ْقٌر َو ِم ْن َب ْينَِنا َوَب ْينِ َ‬
‫َكَّن ٍة ِم َّما تَ ْد ُع َ‬
‫أِ‬
‫اع َم ْل ِإَّنَنا َعاملُ َ‬‫اب فَ ْ‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اح ٌد فَاستَِقيموا ِإلَْي ِه و ِ‬ ‫ِمثْلُ ُكم يوحى ِإلَ َّي أََّنما ِإلَه ُكم ِإلَهٌ و ِ‬
‫ون‬
‫ين ال ُي ْؤتُ َ‬ ‫ين * الذ َ‬ ‫استَ ْغف ُروهُ َو َوْي ٌل لْل ُم ْش ِرك َ‬‫َ ْ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ ُ ْ َ‬ ‫ُْ َ‬
‫َّالح ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫َجٌر َغ ْي ُر َم ْمُن ٍ‬ ‫ات لَهُ ْم أ ْ‬ ‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين َ‬ ‫ون * ِإ َّن الذ َ‬ ‫الز َكاةَ َو ُه ْم بِاآلخ َر ِة ُه ْم َكاف ُر َ‬ ‫َّ‬
‫الر ِح ِيم }‬‫الر ْح َم ِن َّ‬ ‫يخبر تعالى عباده أن هذا الكتاب الجليل والقرآن الجميل { تَنزي ُل } صادر { ِم َن َّ‬
‫الذي وسعت رحمته كل شيء‪ ،‬الذي من أعظم رحمته وأجلها‪ ،‬إنزال هذا الكتاب‪ ،‬الذي حصل به‪،‬‬
‫من العلم والهدى‪ ،‬والنور‪ ،‬والشفاء‪ ،‬والرحمة‪ ،‬والخير الكثير‪ ،‬ما هو من أجل نعمه على العباد‪،‬‬
‫وهو الطريق للسعادة في الدارين‪.‬‬
‫ت َآياتُهُ } أي‪ :‬فصل كل شيء من أنواعه على‬ ‫صلَ ْ‬
‫ثم أثنى على الكتاب بتمام البيان فقال‪ { :‬فُ ِّ‬
‫حدته‪ ،‬وهذا يستلزم البيان التام‪ ،‬والتفريق بين كل شيء‪ ،‬وتمييز الحقائق‪ { .‬قُْر ًآنا َع َربِيًّا } أي‪:‬‬
‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬ألجل أن يتبين لهم‬ ‫عربيا‪ { .‬لقَ ْوٍم َي ْعلَ ُم َ‬
‫ً‬ ‫باللغة الفصحى أكمل اللغات‪ ،‬فصلت آياته وجعل‬
‫معناه‪ ،‬كما تبين لفظه‪ ،‬ويتضح لهم الهدى من الضالل‪ ،‬واْل َغ ِّي من الرشاد‪.‬‬
‫وأما الجاهلون‪ ،‬الذين ال يزيدهم الهدى إال ضالال وال البيان إال َع ًمى فهؤالء لم ُي َس ِ‬
‫ق الكالم‬
‫ِ‬
‫اء َعلَْي ِه ْم أَأ َْن َذ ْرتَهُ ْم أ َْم لَ ْم تُْنذ ْر ُه ْم ال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون }‬ ‫ألجلهم‪َ { ،‬س َو ٌ‬
‫ونذيرا بالعقاب العاجل واآلجل‪ ،‬وذكر‬ ‫بشيرا بالثواب العاجل واآلجل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫{ َبش ًيرا َوَنذ ًيرا } أي‪ً :‬‬
‫تفصيلهما‪ ،‬وذكر األسباب واألوصاف التي تحصل بها البشارة والنذارة‪ ،‬وهذه األوصاف للكتاب‪،‬‬
‫مما يوجب أن ُيتَلقَّى بالقبول‪ ،‬واإلذعان‪ ،‬واإليمان‪ ،‬والعمل به‪ ،‬ولكن أعرض أكثر الخلق عنه‬
‫ون } [ ص ‪ ] 745‬له سماع قبول وإ جابة‪ ،‬وإ ن كانوا قد‬
‫إعراض المستكبرين‪ { ،‬فَهُ ْم ال َي ْس َم ُع َ‬
‫سماعا‪ ،‬تقوم عليهم به الحجة الشرعية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫سمعوه‬
‫{ َوقَالُوا } أي‪ :‬هؤالء المعرضون عنه‪ ،‬مبينين عدم انتفاعهم به‪ ،‬بسد األبواب الموصلة إليه‪:‬‬
‫ونا ِإلَْي ِه َو ِفي آ َذانَِنا َو ْقٌر } أي‪ :‬صمم فال نسمع لك‬
‫َكَّن ٍة } أي‪ :‬أغطية مغشاة { ِم َّما تَ ْد ُع َ‬ ‫{ ُقلُوبَنا ِفي أ ِ‬
‫ُ‬
‫ك ِح َج ٌ‬
‫اب } فال نراك‪.‬‬ ‫{ َو ِم ْن َب ْينَِنا َوَب ْينِ َ‬
‫القصد من ذلك‪ ،‬أنهم أظهروا اإلعراض عنه‪ ،‬من كل وجه‪ ،‬وأظهروا بغضه‪ ،‬والرضا بما هم‬
‫ِ‬
‫اع َم ْل ِإَّنَنا َعاملُ َ‬
‫ون } أي‪ :‬كما رضيت بالعمل بدينك‪ ،‬فإننا راضون كل‬ ‫عليه‪ ،‬ولهذا قالوا‪ { :‬فَ ْ‬
‫الرضا‪ ،‬بالعمل في ديننا‪ ،‬وهذا من أعظم الخذالن‪ ،‬حيث رضوا بالضالل عن الهدى‪ ،‬واستبدلوا‬
‫الكفر باإليمان‪ ،‬وباعوا اآلخرة بالدنيا‪.‬‬
‫وحى ِإلَ َّي } أي‪ :‬هذه صفتي ووظيفتي‪ ،‬أني بشر‬ ‫ِ‬
‫{ ُق ْل } لهم يا أيها النبي‪ِ { :‬إَّن َما أََنا َب َشٌر مثْلُ ُك ْم ُي َ‬
‫مثلكم‪ ،‬ليس بيدي من األمر شيء‪ ،‬وال عندي ما تستعجلون به‪ ،‬وإ نما فضلني اللّه عليكم‪ ،‬وميَّزني‪،‬‬
‫إلي وأمرني باتباعه‪ ،‬ودعوتكم إليه‪.‬‬
‫وخصَّني‪ ،‬بالوحي الذي أوحاه َّ‬
‫يموا ِإلَْي ِه } أي‪ .‬اسلكوا الصراط الموصل إلى اللّه تعالى‪ ،‬بتصديق الخبر الذي أخبر به‪،‬‬ ‫{ فَ ِ‬
‫استَق ُ‬
‫ْ‬
‫واتباع األمر‪ ،‬واجتناب النهي‪ ،‬هذه حقيقة االستقامة‪ ،‬ثم الدوام على ذلك‪ ،‬وفي قوله‪ِ { :‬إلَْي ِه } تنبيه‬
‫على اإلخالص‪ ،‬وأن العامل ينبغي له أن يجعل مقصوده وغايته‪ ،‬التي يعمل ألجلها‪ ،‬الوصول إلى‬
‫نافعا‪ ،‬وبفواته‪ ،‬يكون عمله باطال‪.‬‬
‫صالحا ً‬
‫ً‬ ‫خالصا‬
‫ً‬ ‫اللّه‪ ،‬وإ لى دار كرامته‪ ،‬فبذلك يكون عمله‬
‫ولما كان العبد‪- ،‬ولو حرص على االستقامة‪ -‬ال بد أن يحصل منه خلل بتقصير بمأمور‪ ،‬أو‬
‫استَ ْغ ِف ُروهُ } ثم َّ‬
‫توعد من‬ ‫ارتكاب منهي‪ ،‬أمره بدواء ذلك باالستغفار المتضمن للتوبة فقال‪َ { :‬و ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين الذين ال يؤتون الزكاة } أي‪ :‬الذين عبدوا من دونه من ال‬ ‫ترك االستقامة فقال‪َ { :‬و َوْي ٌل لْل ُم ْش ِرك َ‬
‫نشورا ودنسوا أنفسهم‪ ،‬فلم يزكوها بتوحيد ربهم‬
‫ضرا‪ ،‬وال موتًا‪ ،‬وال حياة‪ ،‬وال ً‬
‫نفعا وال ً‬
‫يملك ً‬
‫واإلخالص له‪ ،‬ولم يصلوا وال زكوا‪ ،‬فال إخالص للخالق بالتوحيد والصالة‪ ،‬وال نفع للخلق‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬ال يؤمنون بالبعث‪ ،‬وال بالجنة والنار‪ ،‬فلذلك‬ ‫بالزكاة وغيرها‪َ { .‬و ُه ْم بِاآلخ َر ِة هم َكاف ُر َ‬
‫لما زال الخوف من قلوبهم‪ ،‬أقدموا على ما أقدموا عليه‪ ،‬مما يضرهم في اآلخرة‪.‬‬
‫َِّ‬
‫آمُنوا } بهذا الكتاب‪،‬‬ ‫ولما ذكر الكافرين‪ ،‬ذكر المؤمنين‪ ،‬ووصفهم وجزاءهم‪ ،‬فقال‪ِ { :‬إ َّن الذ َ‬
‫ين َ‬
‫وما اشتمل عليه مما دعا إليه من اإليمان‪ ،‬وصدقوا إيمانهم باألعمال الصالحة الجامعة لإلخالص‪،‬‬
‫َجٌر } أي‪ :‬عظيم { َغ ْي ُر َم ْمُن ٍ‬
‫ون } أي‪ :‬غير مقطوع وال نافد‪ ،‬بل هو مستمر‬ ‫والمتابعة‪ { .‬لَهُ ْم أ ْ‬
‫مدى األوقات‪ ،‬متزايد على الساعات‪ ،‬مشتمل على جميع اللذات والمشتهيات‪.‬‬

‫( ‪)1/744‬‬
‫ِ‬ ‫ون لَهُ أ َْن َد ًادا َذِل َ‬ ‫ق اأْل َر ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪َ )9‬و َج َع َل‬
‫ب اْل َعالَم َ‬‫ك َر ُّ‬ ‫ض في َي ْو َم ْي ِن َوتَ ْج َعلُ َ‬‫ون بِالذي َخلَ َ ْ َ‬ ‫ُق ْل أَئَّن ُك ْم لَتَ ْكفُُر َ‬
‫َّام سو ِ ِِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اسي ِم ْن فَو ِقها وبار َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫استََوى‬ ‫ين (‪ )10‬ثَُّم ْ‬‫اء للسَّائل َ‬ ‫ك فيهَا َوقَ َّد َر فيهَا أَ ْق َواتَهَا في أ َْرَب َعة أَي َ َ ً‬ ‫ْ َ ََ َ‬ ‫فيهَا َر َو َ‬
‫ين (‪)11‬‬ ‫طوعا أَو َكر ًها قَالَتَا أَتَْيَنا َ ِ ِ‬ ‫ان فَقَا َل لَها وِلأْل َر ِ ِ ِ‬ ‫ِإلَى السَّم ِ‬
‫اء َو ِه َي ُد َخ ٌ‬
‫طائع َ‬ ‫ض ا ْئتَيا َ ْ ً ْ ْ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ‬

‫ب‬‫ك َر ُّ‬ ‫ون لَهُ أ َْن َد ًادا َذِل َ‬ ‫ق األر ِ‬


‫ض في َي ْو َم ْي ِن َوتَ ْج َعلُ َ‬ ‫ون بِالذي َخلَ َ ْ َ‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪ُ { } 12 - 9‬ق ْل أَئَّن ُك ْم لَتَ ْكفُُر َ‬
‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اسي ِم ْن فَو ِقها وبار َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك فيهَا َوقَ َّد َر فيهَا أَ ْق َواتَهَا في أ َْرَب َعة أَيَّام َس َو ً‬
‫اء‬ ‫ْ َ ََ َ‬ ‫ين * َو َج َع َل فيهَا َر َو َ‬ ‫اْل َعالَم َ‬
‫ض ِا ْئتَِيا َ‬
‫ط ْو ًعا أ َْو َك ْر ًها قَالَتَا أَتَْيَنا‬ ‫ألر ِ‬ ‫ان فَقَا َل لَهَا َوِل ْ‬
‫ِللسَّائِِلين * ثَُّم استَوى ِإلَى السَّم ِ‬
‫اء َو ِه َي ُد َخ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫َ ِِ‬
‫طائع َ‬
‫ِّ‬
‫ويعجب‪ ،‬من كفر الكافرين به‪ ،‬الذين جعلوا معه أندادا يشركونهم معه‪ ،‬ويبذلون لهم ما‬ ‫ينكر تعالى‬
‫يشاؤون من عباداتهم‪ ،‬ويسوونهم بالرب العظيم‪ ،‬الملك الكريم‪ ،‬الذي خلق األرض الكثيفة‬
‫العظيمة‪ ،‬في يومين‪ ،‬ثم دحاها في يومين‪ ،‬بأن جعل فيها رواسي من فوقها‪ ،‬ترسيها عن الزوال‬
‫والتزلزل وعدم االستقرار‪.‬‬
‫ين } عن ذلك‪ ،‬فال‬ ‫َّام سو ِ ِِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫اء للسَّائل َ‬‫فكمل خلقها‪ ،‬ودحاها‪ ،‬وأخرج أقواتها‪ ،‬وتوابع ذلك { في أ َْرَب َعة أَي َ َ ً‬
‫ينبئك مثل خبير‪ ،‬فهذا الخبر الصادق الذي ال زيادة فيه وال نقص‪.‬‬
‫{ ثَُّم } بعد أن خلق األرض { استَوى } أي‪ :‬قصد { ِإلَى } خلق { السَّم ِ‬
‫اء َو ِه َي ُد َخ ٌ‬
‫ان } قد ثار على‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫وجه الماء‪ { ،‬فَقَا َل لَهَا } ولما كان هذا التخصيص يوهم االختصاص‪ ،‬عطف عليه بقوله‪:‬‬
‫ط ْو ًعا أ َْو َك ْر ًها } أي‪ :‬انقادا ألمري‪ ،‬طائعتين أو مكرهتين‪ ،‬فال بد من نفوذه‪.‬‬‫ض ِا ْئتَِيا َ‬
‫ألر ِ‬‫{ َوِل ْ‬
‫ين } ليس لنا إرادة تخالف إرادتك‪.‬‬ ‫{ قَالَتَا أَتَْيَنا َ ِ ِ‬
‫طائع َ‬

‫( ‪)1/745‬‬

‫يح َو ِح ْف ً‬
‫ظا‬ ‫صابِ َ‬
‫الد ْنَيا بِ َم َ‬
‫اء ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِّ‬ ‫ٍ ِ‬
‫اه َّن َس ْب َع َس َم َوات في َي ْو َم ْي ِن َوأ َْو َحى في ُكل َس َماء أ َْم َر َها َو َزيََّّنا الس َ‬
‫َّم َ‬ ‫ض ُ‬ ‫فَقَ َ‬
‫يز اْل َعِل ِيم (‪)12‬‬‫ك تَ ْق ِد ُير اْل َع ِز ِ‬
‫َذِل َ‬

‫ٍ‬ ‫ِ ِّ‬ ‫ٍ ِ‬
‫صابِ َ‬
‫يح‬ ‫الد ْنَيا بِ َم َ‬
‫اء ُّ‬ ‫اه َّن َس ْب َع َس َم َاوات في َي ْو َم ْي ِن َوأ َْو َحى في ُكل َس َماء أ َْم َر َها َو َزيََّّنا الس َ‬
‫َّم َ‬ ‫ض ُ‬ ‫{ فَقَ َ‬
‫يز اْل َعِل ِيم } ‪.‬‬
‫ك تَ ْق ِد ُير اْل َع ِز ِ‬
‫ظا َذِل َ‬
‫َو ِح ْف ً‬
‫ات ِفي َي ْو َم ْي ِن } فَتَ َّم خلق السماوات واألرض في ستة أيام‪ ،‬أولها يوم األحد‪،‬‬ ‫اه َّن س ْبع سماو ٍ‬
‫ض ُ َ َ ََ َ‬ ‫{ فَقَ َ‬
‫وآخرها يوم الجمعة‪ ،‬مع أن قدرة اللّه ومشيئته صالحة لخلق الجميع في لحظة واحدة‪ ،‬ولكن مع‬
‫أنه قدير‪ ،‬فهو حكيم رفيق‪ ،‬فمن حكمته ورفقه‪ ،‬أن جعل خلقها في هذه المدة المقدرة‪.‬‬
‫ض‬
‫األر َ‬
‫واعلم أن ظاهر هذه اآلية‪ ،‬مع قوله تعالى في النازعات‪ ،‬لما ذكر خلق السماوات قال‪َ { :‬و ْ‬
‫اها } يظهر منهما التعارض‪ ،‬مع أن كتاب اللّه‪ ،‬ال تعارض فيه وال اختالف‪.‬‬ ‫َب ْع َد َذِل َ‬
‫ك َد َح َ‬
‫والجواب عن ذلك‪ ،‬ما قاله كثير من السلف‪ ،‬أن خلق األرض وصورتها [ ص ‪ ] 746‬متقدم على‬
‫اها }‬ ‫اها َواْل ِجَب َ‬ ‫ِ‬
‫ال أ َْر َس َ‬ ‫اء َها َو َم ْر َع َ‬
‫َخ َر َج م ْنهَا َم َ‬
‫خلق السماوات كما هنا‪ ،‬ودحي األرض بأن { أ ْ‬
‫اها‬ ‫ض َب ْع َد َذِل َ‬
‫ك َد َح َ‬ ‫األر َ‬‫متأخر عن خلق السماوات كما في سورة النازعات‪ ،‬ولهذا قال فيها‪َ { :‬و ْ‬
‫َخ َر َج ِم ْنهَا } إلى آخره ولم يقل‪" :‬واألرض بعد ذلك خلقها"‬‫أْ‬
‫اء أ َْم َر َها } أي‪ :‬األمر والتدبير الالئق بها‪ ،‬الذي اقتضته حكمة أحكم‬ ‫وقوله‪ { :‬وأَوحى ِفي ُك ِّل سم ٍ‬
‫ََ‬ ‫َ ْ َ‬
‫الحاكمين‪.‬‬
‫يح } هي‪ :‬النجوم‪ ،‬يستنار‪ ،‬بها‪ ،‬ويهتدى‪ ،‬وتكون زينة وجماال للسماء‬ ‫صابِ َ‬
‫الد ْنَيا بِ َم َ‬
‫اء ُّ‬ ‫{ َو َزيََّّنا الس َ‬
‫َّم َ‬
‫ك } المذكور‪،‬‬‫رجوما للشياطين‪ ،‬لئال يسترق السمع فيها‪َ { .‬ذِل َ‬ ‫ً‬ ‫باطنا‪ ،‬بجعلها‬
‫ظاهرا‪ ،‬وجماال لها‪ً ،‬‬ ‫ً‬
‫يز } الذي عزته‪ ،‬قهر بها األشياء ودبرها‪،‬‬ ‫من األرض وما فيها‪ ،‬والسماء وما فيها { تَ ْق ِد ُير اْل َع ِز ِ‬
‫وخلق بها المخلوقات‪ { .‬اْل َعِل ِيم } الذي أحاط علمه بالمخلوقات‪ ،‬الغائب والشاهد‪.‬‬
‫ك المشركين اإلخالص لهذا الرب العظيم الواحد القهار‪ ،‬الذي انقادت المخلوقات ألمره ونفذ‬
‫فَتَْر ُ‬
‫أندادا يسوونهم به‪ ،‬وهم ناقصون في أوصافهم‬
‫فيها قدره‪ ،‬من أعجب األشياء‪ ،‬واتخاذهم له ً‬
‫وأفعالهم‪ ،‬أعجب‪ ،‬وأعجب‪ ،‬وال دواء لهؤالء‪ ،‬إن استمر إعراضهم‪ ،‬إال العقوبات الدنيوية‬
‫واألخروية‪ ،‬فلهذا خوفهم بقوله‪:‬‬

‫( ‪)1/745‬‬

‫الر ُس ُل ِم ْن َب ْي ِن أ َْي ِدي ِه ْم‬ ‫ود (‪ِ )13‬إ ْذ َج َ‬


‫اءتْهُ ُم ُّ‬ ‫اعقَ ِة َع ٍاد َوثَ ُم َ‬ ‫اعقَةً ِم ْث َل ص ِ‬
‫َ‬
‫َعرضوا فَ ُق ْل أ َْن َذرتُ ُكم ص ِ‬
‫ْ ْ َ‬ ‫فَِإ ْن أ ْ َ ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اَّل َّ‬ ‫ِ اَّل‬
‫ون (‪)14‬‬ ‫اء َربَُّنا أَل َْن َز َل َماَل ئ َكةً فَِإَّنا بِ َما أ ُْرسْلتُ ْم بِه َكاف ُر َ‬
‫َو ِم ْن َخْلف ِه ْم أَ تَ ْعُب ُدوا ِإ اللهَ قَالُوا لَ ْو َش َ‬

‫الر ُس ُل‬‫اءتْهُ ُم ُّ‬ ‫ود * ِإ ْذ َج َ‬ ‫اعقَ ِة َع ٍاد َوثَ ُم َ‬


‫اعقَةً ِم ْث َل ص ِ‬
‫َ‬
‫َعرضوا فَ ُق ْل أ َْن َذرتُ ُكم ص ِ‬
‫ْ ْ َ‬ ‫{ ‪ { } 14 - 13‬فَِإ ْن أ ْ َ ُ‬
‫ألن َز َل َمالئِ َكةً فَِإَّنا بِ َما أ ُْر ِسْلتُ ْم بِ ِه‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن َب ْي ِن أ َْيدي ِه ْم َو ِم ْن َخْلف ِه ْم أَال تَ ْعُب ُدوا ِإال اللهَ قَالُوا لَ ْو َش َ‬
‫اء َربَُّنا ْ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َكاف ُر َ‬
‫أي‪ :‬فإن أعرض هؤالء المكذبون بعد ما بين لهم من أوصاف القرآن الحميدة‪ ،‬ومن صفات اإلله‬
‫ود }‬‫اعقَ ِة َع ٍاد َوثَ ُم َ‬ ‫اعقَةً } أي‪ :‬عذابا يستأصلكم ويجتاحكم‪ِ { ،‬مثْ َل ص ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫العظيم { فَ ُق ْل أ َْن َذرتُ ُكم ص ِ‬
‫ْ ْ َ‬
‫القبيلتين المعروفتين‪ ،‬حيث اجتاحهم العذاب‪ ،‬وحل عليهم‪ ،‬وبيل العقاب‪ ،‬وذلك بظلمهم وكفرهم‪.‬‬
‫الر ُس ُل ِم ْن َب ْي ِن أ َْي ِدي ِه ْم َو ِم ْن َخْل ِف ِه ْم } أي‪ :‬يتبع بعضهم بعضا متوالين‪ ،‬ودعوتهم‬
‫اءتْهُ ُم ُّ‬
‫حيث { َج َ‬
‫َن ال تَ ْعُب ُدوا ِإال اللَّهَ } أي‪ :‬يأمرونهم باإلخالص للّه‪ ،‬وينهونهم عن الشرك‪،‬‬ ‫جميعا واحدة‪ { .‬أ ْ‬
‫ألنزل َمالئِ َكةً } أي‪ :‬وأما أنتم فبشر مثلنا { فَِإَّنا بِ َما‬
‫َ‬ ‫اء َربَُّنا‬
‫فردوا رسالتهم وكذبوهم‪ { ،‬قَالُوا لَ ْو َش َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } وهذه الشبهة لم تزل متوارثة بين المكذبين‪] ،‬من األمم[ (‪ )1‬وهي من أوهى‬ ‫أ ُْرسْلتُ ْم بِه َكاف ُر َ‬
‫الشَب ِه‪ ،‬فإنه ليس من شرط اإلرسال‪ ،‬أن يكون المرسل َملَ ًكا‪ ،‬وإ نما شرط الرسالة‪ ،‬أن يأتي الرسول‬ ‫ُّ‬
‫بما يدل على صدقه‪َ ،‬فْلَي ْق َد ُحوا‪ ،‬إن استطاعوا بصدقهم‪ ،‬بقادح عقلي أو شرعي‪ ،‬ولن يستطيعوا إلى‬
‫ذلك سبيال‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين (باألمم)‪.‬‬

‫( ‪)1/746‬‬

‫َن اللَّهَ الَِّذي َخلَقَهُ ْم‬


‫ق َوقَالُوا َم ْن أَ َش ُّد ِمَّنا قَُّوةً أ ََولَ ْم َي َر ْوا أ َّ‬ ‫استَ ْكَب ُروا ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ض بِ َغ ْي ِر اْل َح ِّ‬ ‫اد فَ ْ‬ ‫َما َع ٌ‬ ‫فَأ َّ‬
‫َّام َن ِحس ٍ‬‫يحا صرصرا ِفي أَي ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات‬ ‫َ‬ ‫ون (‪ )15‬فَأ َْر َسْلَنا َعلَْي ِه ْم ِر ً َ ْ َ ً‬ ‫ُه َو أَ َش ُّد م ْنهُ ْم قَُّوةً َو َك ُانوا بِآََياتَنا َي ْج َح ُد َ‬
‫ون (‪)16‬‬ ‫ص ُر َ‬ ‫َخ َزى َو ُه ْم اَل ُي ْن َ‬ ‫اب اآْل َ ِخ َر ِة أ ْ‬ ‫اب اْل ِخ ْز ِي ِفي اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫الد ْنَيا َولَ َع َذ ُ‬ ‫لُنذيقَهُ ْم َع َذ َ‬
‫ِِ‬

‫ق َوقَالُوا َم ْن أَ َش ُّد ِمَّنا قَُّوةً أ ََولَ ْم َي َر ْوا أ َّ‬


‫َن‬ ‫ض بِ َغ ْي ِر اْل َح ِّ‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫استَ ْكَب ُروا في ْ‬ ‫اد فَ ْ‬ ‫َما َع ٌ‬ ‫{ ‪ { } 16 - 15‬فَأ َّ‬
‫يحا صرصرا ِفي أَي ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َِّ‬
‫َّام‬ ‫ون * فَأ َْر َسْلَنا َعلَْي ِه ْم ِر ً َ ْ َ ً‬ ‫اللهَ الذي َخلَقَهُ ْم ُه َو أَ َش ُّد م ْنهُ ْم قَُّوةً َو َك ُانوا بِ َآياتَنا َي ْج َح ُد َ‬
‫الد ْنيا ولَع َذاب ِ‬
‫اآلخ َر ِة أ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ ِِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ص ُر َ‬ ‫َخ َزى َو ُه ْم ال ُي ْن َ‬ ‫اب اْلخ ْز ِي في اْل َحَياة ُّ َ َ َ ُ‬ ‫َنح َسات لُنذيقَهُ ْم َع َذ َ‬
‫اد } فكانوا ‪-‬مع كفرهم باللّه‪ ،‬وجحدهم‬ ‫َما َع ٌ‬ ‫هذا تفصيل لقصة هاتين األمتين‪ ،‬عاد‪ ،‬وثمود‪ { .‬فَأ َّ‬
‫بآيات اللّه‪ ،‬وكفرهم برسله‪ -‬مستكبرين في األرض‪ ،‬قاهرين لمن حولهم من العباد‪ ،‬ظالمين لهم‪،‬‬
‫قد أعجبتهم قوتهم‪َ { .‬وقَالُوا َم ْن أَ َش ُّد ِمَّنا قَُّوةً } قال تعالى ً‬
‫ردا عليهم‪ ،‬بما يعرفه كل أحد‪ { :‬أ ََولَ ْم‬
‫َن اللَّهَ الَِّذي َخلَقَهُ ْم ُه َو أَ َش ُّد ِم ْنهُ ْم قَُّوةً } فلوال خلقه إياهم‪ ،‬لم يوجدوا فلو نظروا إلى هذه الحال‬
‫َي َر ْوا أ َّ‬
‫صحيحا‪ ،‬لم يغتروا بقوتهم‪ ،‬فعاقبهم اللّه عقوبة‪ ،‬تناسب قوتهم‪ ،‬التي اغتروا بها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫نظرا‬
‫ً‬
‫ريحا عظيمة‪ ،‬من قوتها وشدتها‪ ،‬لها صوت مزعج‪،‬‬ ‫ص ًرا } أي‪ً :‬‬ ‫ص ْر َ‬‫يحا َ‬ ‫{ فَأ َْر َسْلَنا َعلَْي ِه ْم ِر ً‬
‫ص ْر َعى‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫وما فَتََرى اْلقَ ْو َم فيهَا َ‬
‫كالرعد القاصف‪ .‬فسخرها اللّه عليهم { َس ْب َع لََيال َوثَ َمانَيةَ أَيَّام ُح ُس ً‬
‫َع َج ُاز َن ْخ ٍل َخ ِاوَي ٍة } { نحسات } فدمرتهم وأهلكتهم‪ ،‬فأصبحوا ال يرى إال مساكنهم‪ .‬وقال‬ ‫َكأََّنهُ ْم أ ْ‬
‫اب‬
‫الد ْنَيا } الذي اختزوا به وافتضحوا بين الخليقة‪َ { .‬ولَ َع َذ ُ‬ ‫اب اْل ِخ ْز ِي ِفي اْل َحَي ِاة ُّ‬ ‫ِِ‬
‫هنا‪ { :‬لُنذيقَهُ ْم َع َذ َ‬
‫ون } أي‪ :‬ال يمنعون من عذاب اللّه‪ ،‬وال ينفعون أنفسهم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫اآلخ َر ِة أ ْ‬
‫ص ُر َ‬‫َخ َزى َو ُه ْم ال ُي ْن َ‬
‫( ‪)1/746‬‬

‫ِ‬ ‫َخ َذتْهم ص ِ‬


‫اعقَةُ اْل َع َذ ِ‬
‫ون بِ َما َك ُانوا َي ْكسُب َ‬
‫ون‬ ‫اب اْلهُ ِ‬ ‫استَ َحبُّوا اْل َع َمى َعلَى اْلهُ َدى فَأ َ ُ ْ َ‬
‫اه ْم فَ ْ‬
‫ود فَهَ َد ْيَن ُ‬
‫َما ثَ ُم ُ‬
‫َوأ َّ‬
‫(‪ )17‬وَنج ْ َِّ‬
‫ون (‪)18‬‬ ‫َمُنوا َو َك ُانوا َيتَّقُ َ‬
‫ين آ َ‬
‫َّيَنا الذ َ‬ ‫َ‬

‫اب اْلهُ ِ‬
‫ون‬ ‫َخ َذتْهم ص ِ‬
‫اعقَةُ اْل َع َذ ِ‬ ‫استَ َحبُّوا اْل َع َمى َعلَى اْلهُ َدى فَأ َ ُ ْ َ‬
‫اه ْم فَ ْ‬
‫ود فَهَ َد ْيَن ُ‬
‫َما ثَ ُم ُ‬
‫{ ‪َ { } 18 - 17‬وأ َّ‬
‫بِما َك ُانوا ي ْك ِسبون * وَنج ْ َِّ‬
‫آمُنوا َو َك ُانوا َيتَّقُ َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ين َ‬ ‫َّيَنا الذ َ‬ ‫َ ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫صالحا عليه‬
‫ً‬ ‫وأما ثمود وهم القبيلة المعروفة الذين سكنوا الحجر وحواليه‪ ،‬الذين أرسل اللّه إليهم‬
‫السالم‪ ،‬يدعوهم إلى توحيد ربهم‪ ،‬وينهاهم عن الشرك وآتاهم اللّه الناقة‪ ،‬آية عظيمة‪ ،‬لها شرب‬
‫يوما‪ ،‬وليسوا ينفقون عليها‪ ،‬بل‬
‫يوما ويشربون من الماء ً‬
‫ولهم شرب يوم معلوم‪ ،‬يشربون لبنها ً‬
‫اه ْم } أي‪ [ :‬ص ‪ ] 747‬هداية بيان‪ ،‬وإ نما‬
‫ود فَهَ َد ْيَن ُ‬
‫َما ثَ ُم ُ‬
‫تأكل من أرض اللّه‪ ،‬ولهذا قال هنا‪َ { :‬وأ َّ‬
‫نص عليهم‪ ،‬وإ ن كان جميع األمم المهلكة‪ ،‬قد قامت عليهم الحجة‪ ،‬وحصل لهم البيان‪ ،‬ألن آية‬
‫ثمود‪ ،‬آية باهرة‪ ،‬قد رآها صغيرهم وكبيرهم‪ ،‬وذكرهم وأنثاهم‪ ،‬وكانت آية مبصرة‪ ،‬فلهذا خصهم‬
‫بزيادة البيان والهدى‪.‬‬
‫ولكنهم ‪-‬من ظلمهم وشرهم‪ -‬استحبوا العمى ‪-‬الذي هو الكفر والضالل‪ -‬على الهدى ‪-‬الذي هو‪:‬‬
‫ِ‬ ‫َخ َذتْهم ص ِ‬
‫اعقَةُ اْل َع َذ ِ‬
‫ظلما من اللّه لهم‪.‬‬ ‫ون بِ َما َك ُانوا َي ْكسُب َ‬
‫ون } ال ً‬ ‫اب اْلهُ ِ‬ ‫العلم واإليمان‪ { -‬فَأ َ ُ ْ َ‬
‫{ وَنج ْ َِّ‬
‫صالحا عليه السالم ومن اتبعه من المؤمنين‬ ‫ً‬ ‫ون } أي نجى اللّه‬ ‫آمُنوا َو َك ُانوا َيتَّقُ َ‬
‫ين َ‬
‫َّيَنا الذ َ‬ ‫َ‬
‫المتقين للشرك‪ ،‬والمعاصي‪.‬‬

‫( ‪)1/746‬‬

‫وها َش ِه َد َعلَْي ِه ْم َس ْم ُعهُ ْم‬ ‫ون (‪َ )19‬حتَّى ِإ َذا َما َج ُ‬


‫اء َ‬ ‫وز ُع َ‬ ‫اء اللَّ ِه ِإلَى َّ‬
‫الن ِار فَهُ ْم ُي َ‬ ‫َع َد ُ‬
‫َوَي ْو َم ُي ْح َش ُر أ ْ‬
‫ون (‪)20‬‬ ‫ود ُه ْم بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫ص ُار ُه ْم َو ُجلُ ُ‬
‫َوأ َْب َ‬

‫وها َش ِه َد َعلَْي ِه ْم‬ ‫ون * َحتَّى ِإ َذا َما َج ُ‬


‫اء َ‬ ‫وز ُع َ‬ ‫اء اللَّ ِه ِإلَى َّ‬
‫الن ِار فَهُ ْم ُي َ‬ ‫َع َد ُ‬‫{ ‪َ { } 24 - 19‬وَي ْو َم ُي ْح َش ُر أ ْ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ود ُه ْم بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫ص ُار ُه ْم َو ُجلُ ُ‬
‫َس ْم ُعهُ ْم َوأ َْب َ‬
‫يخبر تعالى عن أعدائه‪ ،‬الذين بارزوه بالكفر به وبآياته‪ ،‬وتكذيب رسله ومعاداتهم ومحاربتهم‪،‬‬
‫ون } [أي]‪ :‬يرد أولهم على‬
‫وز ُع َ‬ ‫وحالهم الشنيعة حين يحشرون‪ ،‬أي‪ :‬يجمعون‪ِ { .‬إلَى َّ‬
‫الن ِار فَهُ ْم ُي َ‬
‫امتناعا‪ ،‬وال ينصرون‬
‫ً‬ ‫آخرهم‪ ،‬ويتبع آخرهم أولهم‪ ،‬ويساقون إليها سوقا عنيفًا‪ ،‬ال يستطيعون‬
‫أنفسهم‪ ،‬وال هم ينصرون‪.‬‬
‫وها } أي‪ :‬حتى إذا وردوا على النار‪ ،‬وأرادوا اإلنكار‪ ،‬أو أنكروا ما عملوه من‬ ‫اء َ‬‫{ َحتَّى ِإ َذا َما َج ُ‬
‫ود ُه ْم } عموم بعد خصوص‪ { [ .‬بِ َما َك ُانوا‬ ‫المعاصي‪َ { ،‬ش ِه َد َعلَْي ِه ْم َس ْم ُعهُ ْم َوأ َْب َ‬
‫ص ُار ُه ْم َو ُجلُ ُ‬
‫ون } ] أي‪ :‬شهد عليهم كل عضو من أعضائهم‪ ،‬فكل عضو يقول‪ :‬أنا فعلت كذا وكذا‪ ،‬يوم‬ ‫َي ْع َملُ َ‬
‫كذا وكذا‪ .‬وخص هذه األعضاء الثالثة‪ ،‬ألن أكثر الذنوب‪ ،‬إنما تقع بها‪ ،‬أو بسببها‪.‬‬

‫( ‪)1/747‬‬

‫ق ُك َّل َش ْي ٍء َو ُه َو َخلَقَ ُك ْم أ ََّو َل َم َّر ٍة َوإِلَْي ِه‬ ‫طَ‬‫طقََنا اللَّهُ الَِّذي أ َْن َ‬‫َوقَالُوا ِل ُجلُو ِد ِه ْم ِل َم َش ِه ْدتُ ْم َعلَْيَنا قَالُوا أ َْن َ‬
‫ود ُك ْم َولَ ِك ْن َ‬
‫ظَن ْنتُ ْم‬ ‫ص ُار ُك ْم َواَل ُجلُ ُ‬ ‫َن َي ْشهَ َد َعلَْي ُك ْم َس ْم ُع ُك ْم َواَل أ َْب َ‬‫ون أ ْ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪َ )21‬و َما ُك ْنتُ ْم تَ ْستَت ُر َ‬ ‫تُْر َج ُع َ‬
‫َصَب ْحتُ ْم ِم َن‬ ‫ظُّن ُك ُم الَِّذي َ‬
‫ظَن ْنتُ ْم بَِرِّب ُك ْم أ َْر َدا ُك ْم فَأ ْ‬ ‫ون (‪َ )22‬و َذِل ُك ْم َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫أ َّ َّ‬
‫َن اللهَ اَل َي ْعلَ ُم َكث ًيرا م َّما تَ ْع َملُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪)24‬‬ ‫الن ُار َمثًْوى لَهُ ْم َوإِ ْن َي ْستَ ْعتُبوا فَ َما ُه ْم م َن اْل ُم ْعتَبِ َ‬ ‫صبِ ُروا فَ َّ‬ ‫ين (‪ )23‬فَِإ ْن َي ْ‬ ‫اْل َخاس ِر َ‬

‫ق ُك َّل َش ْي ٍء َو ُه َو َخلَقَ ُك ْم أ ََّو َل َم َّر ٍة َوإِلَْي ِه‬ ‫طَ‬ ‫طقََنا اللَّهُ الَِّذي أ َْن َ‬‫{ َوقَالُوا ِل ُجلُو ِد ِه ْم ِل َم َش ِه ْدتُ ْم َعلَْيَنا قَالُوا أ َْن َ‬
‫َن‬ ‫ود ُك ْم َولَ ِك ْن َ‬
‫ظَن ْنتُ ْم أ َّ‬ ‫ص ُار ُك ْم َوال ُجلُ ُ‬ ‫َن َي ْشهَ َد َعلَْي ُك ْم َس ْم ُع ُك ْم َوال أ َْب َ‬ ‫ون أ ْ‬ ‫ِ‬
‫ون * َو َما ُك ْنتُ ْم تَ ْستَت ُر َ‬ ‫تُْر َج ُع َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ظُّن ُك ُم الَِّذي َ‬
‫ون * َو َذِل ُك ْم َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬
‫ين *‬ ‫َصَب ْحتُ ْم م َن اْل َخاس ِر َ‬ ‫ظَن ْنتُ ْم بَِرِّب ُك ْم أ َْر َدا ُك ْم فَأ ْ‬ ‫اللهَ ال َي ْعلَ ُم َكث ًيرا م َّما تَ ْع َملُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫الن ُار َمثًْوى لَهُ ْم َوإِ ْن َي ْستَ ْعتُبوا فَ َما ُه ْم م َن اْل ُم ْعتَبِ َ‬ ‫صبِ ُروا فَ َّ‬ ‫فَِإ ْن َي ْ‬
‫فإذا شهدت عليهم عاتبوها‪َ { ،‬وقَالُوا ِل ُجلُو ِد ِه ْم } هذا دليل عل أن الشهادة تقع من كل عضو كما‬
‫ق ُك َّل َش ْي ٍء } فليس في‬ ‫طَ‬ ‫طقََنا اللَّهُ الَِّذي أ َْن َ‬ ‫ذكرنا‪ِ { :‬ل َم َش ِه ْدتُ ْم َعلَْيَنا } ونحن ندافع عنكن؟ { قَالُوا أ َْن َ‬
‫إمكاننا‪ ،‬االمتناع عن الشهادة حين أنطقنا الذي ال يستعصي عن مشيئته أحد‪.‬‬
‫{ َو ُه َو َخلَقَ ُك ْم أ ََّو َل َم َّر ٍة } فكما خلقكم بذواتكم‪ ،‬وأجسامكم‪ ،‬خلق أيضا صفاتكم‪ ،‬ومن ذلك‪،‬‬
‫ون } في اآلخرة‪ ،‬فيجزيكم بما عملتم‪ ،‬ويحتمل أن المراد بذلك‪ ،‬االستدالل‬ ‫ِ‬
‫اإلنطاق‪َ { .‬وإِلَْيه تُْر َج ُع َ‬
‫على البعث بالخلق األول‪ ،‬كما هو طريقة القرآن‪.‬‬
‫ود ُك ْم } أي‪ :‬وما كنتم تختفون‬
‫ص ُار ُك ْم َوال ُجلُ ُ‬ ‫ِ‬
‫َن َي ْشهَ َد َعلَْي ُك ْم َس ْم ُع ُك ْم َوال أ َْب َ‬ ‫ون أ ْ‬
‫{ َو َما ُك ْنتُ ْم تَ ْستَت ُر َ‬
‫عن شهادة أعضائكم عليكم‪ ،‬وال تحاذرون من ذلك‪َ { .‬ولَ ِك ْن َ‬
‫ظَن ْنتُ ْم } بإقدامكم على المعاصي { أ َّ‬
‫َن‬
‫ون } فلذلك صدر منكم ما صدر‪ ،‬وهذا الظن‪ ،‬صار سبب هالكهم‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬
‫اللهَ ال َي ْعلَ ُم َكث ًيرا م َّما تَ ْع َملُ َ‬
‫ظَن ْنتُ ْم بَِرِّب ُك ْم } الظن السيئ‪ ،‬حيث ظننتم به‪ ،‬ما ال يليق‬ ‫ظُّن ُك ُم الَِّذي َ‬ ‫وشقائهم ولهذا قال‪َ { :‬و َذِل ُك ْم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } ألنفسهم وأهليهم وأديانهم بسبب‬ ‫َصَب ْحتُ ْم م َن اْل َخاس ِر َ‬ ‫بجالله‪ { .‬أ َْر َدا ُك ْم } أي‪ :‬أهلككم { فَأ ْ‬
‫األعمال التي أوجبها لكم ظنكم القبيح بربكم‪ ،‬فحقت عليكم كلمة العقاب والشقاء‪ ،‬ووجب عليكم‬
‫الخلود الدائم‪ ،‬في العذاب‪ ،‬الذي ال يفتر عنهم ساعة‪:‬‬
‫صبِ ُروا فَ َّ‬
‫الن ُار َمثًْوى لَهُ ْم } فال َجلَ َد عليها‪ ،‬وال صبر‪ ،‬وكل حالة قُ ِّدر إمكان الصبر عليها‪،‬‬ ‫{ فَِإ ْن َي ْ‬
‫فالنار ال يمكن الصبر عليها‪ ،‬وكيف الصبر على نار‪ ،‬قد اشتد حرها‪ ،‬وزادت على نار الدنيا‪،‬‬
‫بسبعين ضعفًا‪ ،‬وعظم غليان حميمها‪ ،‬وزاد نتن صديدها‪ ،‬وتضاعف برد زمهريرها وعظمت‬
‫سالسلها وأغاللها‪ ،‬وكبرت مقامعها‪ ،‬وغلظ ُخ َّزانها‪ ،‬وزال ما في قلوبهم من رحمتهم‪ ،‬وختام ذلك‬
‫ون }‬ ‫اخ َسُئوا ِفيهَا َوال تُ َكلِّ ُم ِ‬ ‫سخط الجبار‪ ،‬وقوله لهم حين يدعونه ويستغيثون‪ْ { :‬‬
‫{ َوإِ ْن َي ْستَ ْعتُِبوا } أي‪ :‬يطلبوا أن يزال عنهم العتب‪ ،‬ويرجعوا إلى الدنيا‪ ،‬ليستأنفوا العمل‪ { .‬فَ َما‬
‫ِ‬
‫ين } ألنه ذهب وقته‪ ،‬وعمروا‪ ،‬ما يعمر فيه من تذكر وجاءهم النذير وانقطعت‬ ‫ُه ْم م َن اْل ُم ْعتَبِ َ‬
‫ِ‬ ‫حجتهم‪ ،‬مع أن استعتابهم‪ ،‬كذب منهم { ولَو ر ُّدوا لَع ُ ِ‬
‫ادوا ل َما ُنهُوا َعْنهُ َوإِ َّنهُ ْم لَ َكاذُب َ‬
‫ون }‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ‬

‫( ‪)1/747‬‬

‫ت ِم ْن قَْبِل ِه ْم‬
‫ُمٍم قَ ْد َخلَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫اء فََزيَُّنوا لَهُ ْم ما َب ْي َن أ َْي ِدي ِه ْم وما َخْلفَهُ ْم و َح َّ ِ‬
‫ق َعلَْيه ُم اْلقَ ْو ُل في أ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫َّضَنا لَهُ ْم قَُرَن َ‬
‫َوقَي ْ‬
‫ِ‬ ‫ِم َن اْل ِج ِّن واإْلِ ْن ِ‬
‫ين (‪)25‬‬ ‫س ِإَّنهُ ْم َك ُانوا َخاس ِر َ‬ ‫َ‬

‫ُمٍم قَ ْد‬ ‫ِ‬ ‫اء فََزيَُّنوا لَهُ ْم ما َب ْي َن أ َْي ِدي ِه ْم وما َخْلفَهُ ْم و َح َّ ِ‬
‫ق َعلَْيه ُم اْلقَ ْو ُل في أ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫َّضَنا لَهُ ْم قَُرَن َ‬
‫{ ‪َ { } 25‬وقَي ْ‬
‫ِ‬ ‫ت ِم ْن قَْبِل ِه ْم ِم َن اْل ِج ِّن َو ْ‬
‫ين } ‪.‬‬‫س ِإَّنهُ ْم َك ُانوا َخاس ِر َ‬ ‫اإلن ِ‬ ‫َخلَ ْ‬
‫اء } من الشياطين‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬أَلَ ْم تََر أََّنا‬
‫أي‪ :‬وقضينا لهؤالء الظالمين الجاحدين للحق { قَُرَن َ‬
‫ين تَ ُؤ ُّز ُه ْم أ ًَّزا } أي تزعجهم إلى المعاصي وتحثهم عليها‪ ،‬بسبب ما‬ ‫ِ‬ ‫أَرسْلَنا َّ ِ‬
‫ين َعلَى اْل َكاف ِر َ‬ ‫الشَياط َ‬ ‫ْ َ‬
‫زينوا { لَهُ ْم َما َب ْي َن أ َْي ِدي ِه ْم َو َما َخْلفَهُ ْم } فالدنيا زخرفوها بأعينهم‪ ،‬ودعوهم إلى لذاتها وشهواتها‬
‫المحرمة حتى افتتنوا‪ ،‬فأقدموا على معاصي اللّه‪ ،‬وسلكوا ما شاءوا من محاربة اللّه ورسله‬
‫واآلخرة َب ّع ُدوها [ ص ‪ ] 748‬عليهم وأنسوهم ذكرها‪ ،‬وربما أوقعوا عليهم ُّ‬
‫الشبه‪ ،‬بعدم وقوعها‪،‬‬
‫فترحَّل خوفها من قلوبهم‪ ،‬فقادوهم إلى الكفر‪ ،‬والبدع‪ ،‬والمعاصي‪.‬‬
‫وهذا التسليط والتقييض من اللّه للمكذبين الشياطين‪ ،‬بسبب إعراضهم عن ذكر اللّه وآياته‪،‬‬
‫ط ًانا فَهَُو لَهُ قَ ِر ٌ‬
‫ين‬ ‫ِّض لَهُ َش ْي َ‬ ‫ش َع ْن ِذ ْك ِر َّ‬
‫الر ْح َم ِن ُنقَي ْ‬ ‫وجحودهم الحق كما قال تعالى‪َ { :‬و َم ْن َي ْع ُ‬
‫ون أََّنهُ ْم ُم ْهتَ ُد َ‬ ‫السبِ ِ‬ ‫ص ُّد َ‬
‫ونهُ ْم َع ِن َّ‬
‫ون }‬ ‫يل َوَي ْح َسُب َ‬ ‫َوإِ َّنهُ ْم لََي ُ‬
‫ُمٍم قَ ْد‬ ‫ِ‬ ‫{ و َح َّ ِ‬
‫ق َعلَْيه ُم اْلقَ ْو ُل } أي‪ :‬وجب عليهم‪ ،‬ونزل القضاء والقدر بعذابهم { في } جملة { أ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ت ِم ْن قَْبِل ِه ْم ِم َن اْل ِج ِّن َو ْ‬
‫س ِإَّنهُ ْم َك ُانوا َخاس ِر َ‬
‫ين } ألديانهم وآخرتهم‪ ،‬ومن خسر‪ ،‬فال بد أن‬ ‫اإلن ِ‬ ‫َخلَ ْ‬
‫يذل ويشقى ويعذب‪.‬‬

‫( ‪)1/747‬‬

‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ َّ‬ ‫ين َكفَ ُروا اَل تَ ْس َم ُعوا ِلهَ َذا اْلقُْرآ ِ‬ ‫وقَ َ َِّ‬
‫ين َكفَ ُروا َع َذ ًابا‬ ‫ون (‪َ )26‬فلَُنذيقَ َّن الذ َ‬ ‫َن َواْل َغ ْوا فيه لَ َعل ُك ْم تَ ْغلُب َ‬ ‫ال الذ َ‬ ‫َ‬
‫النار لَهم ِفيها َدار اْل ُخْلدِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫َع َداء الله َّ ُ ُ ْ َ ُ‬ ‫اء أ ْ‬
‫ك َج َز ُ‬ ‫ون (‪َ )27‬ذل َ‬ ‫َس َوأَ الذي َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬ ‫يدا َولََن ْج ِزَيَّنهُ ْم أ ْ‬
‫َشد ً‬
‫َضاَّل َنا ِم َن اْل ِج ِّن واإْلِ ْن ِ‬
‫س‬ ‫َّ‬
‫ين َكفَ ُروا َربََّنا أ َِرَنا ال َذ ْي ِن أ َ‬
‫ج َزاء بِما َك ُانوا بِآَياتَِنا ي ْجح ُدون (‪ )28‬وقَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫َ ً َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ين (‪)29‬‬ ‫ونا ِمن اأْل ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َس َفل َ‬
‫ت أَ ْق َدامَنا لَي ُك َ َ ْ‬ ‫َن ْج َعْلهُ َما تَ ْح َ‬

‫ون * َفلَُن ِذيقَ َّن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ َّ‬ ‫ين َكفَ ُروا ال تَ ْس َم ُعوا ِلهَ َذا اْلقُْر ِ‬
‫آن َواْل َغ ْوا فيه لَ َعل ُك ْم تَ ْغلُب َ‬
‫{ ‪ { } 29 - 26‬وقَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫الن ُار لَهُ ْم فيهَا‬ ‫َع َداء الله َّ‬ ‫اء أ ْ‬
‫ك َج َز ُ‬ ‫ون * َذل َ‬ ‫َس َوأَ الذي َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬ ‫يدا َولََن ْج ِزَيَّنهُ ْم أ ْ‬ ‫ين َكفَ ُروا َع َذ ًابا َشد ً‬‫الذ َ‬
‫النا ِم َن اْل ِج ِّن‬‫َض َ‬ ‫َّ‬
‫ين َكفَ ُروا َربََّنا أ َِرَنا ال َذ ْي ِن أ َ‬
‫َدار اْل ُخْل ِد ج َزاء بِما َك ُانوا بِآياتَِنا ي ْجح ُدون * وقَ َ َِّ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ َ َ َ َ‬ ‫َ ً َ‬ ‫ُ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫امَنا ِلي ُك َ ِ‬ ‫ت أَ ْق َد ِ‬ ‫اإلن ِ‬
‫األس َفل َ‬
‫ونا م َن ْ‬ ‫َ‬ ‫س َن ْج َعْلهُ َما تَ ْح َ‬ ‫َو ْ‬
‫ين َكفَ ُروا ال‬ ‫َِّ‬
‫يخبر تعالى عن إعراض الكفار عن القرآن‪ ،‬وتواصيهم بذلك‪ ،‬فقال‪َ { :‬وقَا َل الذ َ‬
‫آن } أي‪ :‬أعرضوا عنه بأسماعكم‪ ،‬وإ ياكم أن تلتفتوا‪ ،‬أو تصغوا إليه وال إلى من‬ ‫تَ ْس َم ُعوا ِلهَ َذا اْلقُْر ِ‬
‫يه } أي‪ :‬تكلموا بالكالم‬ ‫جاء به‪ ،‬فإن اتفق أنكم سمعتموه‪ ،‬أو سمعتم الدعوة إلى أحكامه‪ ،‬فـ { اْل َغوا ِف ِ‬
‫ْ‬
‫أحدا يملك عليكم الكالم به‪ ،‬وتالوة‬ ‫الذي ال فائدة فيه‪ ،‬بل فيه المضرة‪ ،‬وال تمكنوا ‪-‬مع قدرتكم‪ً -‬‬
‫ألفاظه ومعانيه‪ ،‬هذا لسان حالهم‪ ،‬ولسان مقالهم‪ ،‬في اإلعراض عن هذا القرآن‪ { ،‬لَ َعلَّ ُك ْم } إن‬
‫ون } ]وهذه[ (‪ )1‬شهادة من األعداء‪ ،‬وأوضح الحق‪ ،‬ما شهدت به األعداء‪ ،‬فإنهم‬ ‫ِ‬
‫فعلتم ذلك { تَ ْغلُب َ‬
‫لم يحكموا بغلبتهم لمن جاء بالحق إال في حال اإلعراض عنه والتواصي بذلك‪ ،‬ومفهوم كالمهم‪،‬‬
‫أنهم إن لم يلغوا فيه‪ ،‬بل استمعوا إليه‪ ،‬وألقوا أذهانهم‪ ،‬أنهم ال يغلبون‪ ،‬فإن الحق‪ ،‬غالب غير‬
‫مغلوب‪ ،‬يعرف هذا‪ ،‬أصحاب الحق وأعداؤه‪.‬‬
‫وعنادا‪ ،‬لم يبق فيهم مطمع للهداية‪ ،‬فلم يبق إال عذابهم ونكالهم‪ ،‬ولهذا‬ ‫ً‬ ‫ظلما منهم‬ ‫ولما كان هذا ً‬
‫َِّ‬ ‫ين َكفَ ُروا َع َذ ًابا َش ِد ً‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫ون } وهو الكفر‬ ‫يدا َولََن ْج ِزَيَّنهُ ْم أ ْ‬
‫َس َوأَ الذي َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬ ‫قال‪َ { :‬فلَُنذيقَ َّن الذ َ‬
‫والمعاصي‪ ،‬فإنها أسوأ ما كانوا يعملون‪ ،‬لكونهم يعملون المعاصي وغيرها‪ ،‬فالجزاء بالعقوبة‪،‬‬
‫َح ًدا }‬
‫ُّك أ َ‬ ‫ظِل ُم َرب َ‬ ‫إنما هو على عمل الشرك (‪َ { )2‬وال َي ْ‬
‫اء اللَّ ِه } الذين حاربوه‪ ،‬وحاربوا أولياءه‪ ،‬بالكفر والتكذيب‪ ،‬والمجادلة والمجالدة‪.‬‬ ‫َع َد ِ‬
‫اء أ ْ‬
‫ك َج َز ُ‬ ‫{ َذِل َ‬
‫الن ُار لَهُ ْم ِفيهَا َد ُار اْل ُخْل ِد } أي‪ :‬الخلود الدائم‪ ،‬الذي ال يفتر عنهم العذاب ساعة‪ ،‬وال هم‬ ‫{ َّ‬
‫ِ‬
‫ون } فإنها آيات واضحة‪ ،‬وأدلة قاطعة مفيدة‬‫اء بِ َما َك ُانوا بِ َآياتَنا َي ْج َح ُد َ‬
‫ينصرون‪ ،‬وذلك { َج َز ً‬
‫لليقين‪ ،‬فأعظم الظلم وأكبر العناد‪ ،‬جحدها‪ ،‬والكفر بها‪.‬‬
‫ين َكفَ ُروا } أي‪ :‬األتباع منهم‪ ،‬بدليل ما بعده‪ ،‬على وجه الحنق‪ ،‬على من أضلهم‪َ { :‬ربََّنا‬ ‫َِّ‬
‫{ َوقَا َل الذ َ‬
‫س } أي‪ :‬الصنفين اللذين‪ ،‬قادانا إلى الضالل والعذاب‪ ،‬من‬ ‫النا ِم َن اْل ِج ِّن َو ْ‬
‫اإلن ِ‬ ‫َّ‬
‫أ َِرَنا ال َذ ْي ِن أ َ‬
‫َض َ‬
‫شياطين الجن‪ ،‬وشياطين اإلنس‪ ،‬الدعاة إلى جهنم‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬األذلين المهانين كما أضلونا‪ ،‬وفتنونا‪ ،‬وصاروا‬ ‫ِ‬ ‫امَنا ِلي ُك َ ِ‬‫ت أَ ْق َد ِ‬
‫األس َفل َ‬
‫ونا م َن ْ‬ ‫َ‬ ‫{ َن ْج َعْلهُ َما تَ ْح َ‬
‫وتبري بعضهم من بعض‪.‬‬ ‫سببا لنزولنا‪ .‬ففي هذا‪ ،‬بيان حنق بعضهم على بعض‪ِّ ،‬‬ ‫ً‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين (وهذا)‪.‬‬
‫(‪ )2‬في (ب) (الشرك)‪.‬‬

‫( ‪)1/748‬‬

‫اموا تَتََن َّز ُل َعلَْي ِه ُم اْل َماَل ئِ َكةُ أَاَّل تَ َخافُوا َواَل تَ ْح َزُنوا َوأ َْب ِش ُروا بِاْل َجَّن ِة‬‫استَقَ ُ‬
‫َّ‬ ‫َِّ‬
‫ِإ َّن الذ َ‬
‫ين قَالُوا َربَُّنا اللهُ ثَُّم ْ‬
‫الد ْنَيا َو ِفي اآْل َ ِخ َر ِة َولَ ُك ْم ِفيهَا َما تَ ْشتَ ِهي أ َْنفُ ُس ُك ْم‬
‫اؤ ُك ْم ِفي اْل َحَي ِاة ُّ‬ ‫ون (‪َ )30‬ن ْح ُن أ َْوِلَي ُ‬ ‫وع ُد َ‬ ‫التي ُك ْنتُ ْم تُ َ‬
‫َّ ِ‬
‫ور َر ِح ٍيم (‪)32‬‬ ‫ون (‪ُ )31‬ن ُزاًل ِم ْن َغفُ ٍ‬ ‫ِ‬
‫َولَ ُك ْم فيهَا َما تَ َّد ُع َ‬

‫اموا تَتََن َّز ُل َعلَْي ِه ُم اْل َمالئِ َكةُ أَال تَ َخافُوا َوال تَ ْح َزُنوا‬‫استَقَ ُ‬
‫َّ‬
‫ين قَالُوا َربَُّنا اللهُ ثَُّم ْ‬
‫َِّ‬
‫{ ‪ِ { } 32 - 30‬إ َّن الذ َ‬
‫اآلخ َر ِة َولَ ُك ْم ِفيهَا َما‬
‫الد ْنيا و ِفي ِ‬ ‫ِ ُّ‬
‫اؤ ُك ْم في اْل َحَياة َ َ‬
‫ِ‬
‫ون * َن ْح ُن أ َْوِلَي ُ‬ ‫وع ُد َ‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َوأ َْبش ُروا بِاْل َجَّنة التي ُك ْنتُ ْم تُ َ‬
‫ور َر ِح ٍيم } ‪.‬‬ ‫ون * ُن ُزال ِم ْن َغفُ ٍ‬ ‫ِ‬
‫تَ ْشتَ ِهي أ َْنفُ ُس ُك ْم َولَ ُك ْم فيهَا َما تَ َّد ُع َ‬
‫َِّ‬
‫يخبر تعالى عن أوليائه‪ ،‬وفي ضمن ذلك‪ ،‬تنشيطهم‪ ،‬والحث على االقتداء بهم‪ ،‬فقال‪ِ { :‬إ َّن الذ َ‬
‫ين‬
‫اموا } أي‪ :‬اعترفوا ونطقوا ورضوا بربوبية اهلل تعالى‪ ،‬واستسلموا ألمره‪،‬‬ ‫َّ‬
‫استَقَ ُ‬
‫قَالُوا َربَُّنا اللهُ ثَُّم ْ‬
‫علما وعمال فلهم البشرى في الحياة الدنيا وفي اآلخرة‪.‬‬ ‫ثم استقاموا على الصراط المستقيم‪ً ،‬‬
‫{ تَتَنز ُل َعلَْي ِه ُم اْل َمالئِ َكةُ } الكرام‪ ،‬أي‪ :‬يتكرر نزولهم عليهم‪ ،‬مبشرين لهم عند االحتضار‪ { .‬أَال‬
‫تَ َخافُوا } على ما يستقبل من أمركم‪َ { ،‬وال تَ ْح َزُنوا } على ما مضى‪ ،‬فنفوا عنهم المكروه الماضي‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } فإنها قد وجبت لكم وثبتت‪ ،‬وكان وعد اهلل‬ ‫وع ُد َ‬ ‫والمستقبل‪َ { ،‬وأ َْبش ُروا بِاْل َجَّنة التي ُك ْنتُ ْم تُ َ‬
‫الد ْنيا و ِفي ِ‬
‫اآلخ َر ِة‬ ‫ِ ُّ‬ ‫ِ‬
‫اؤ ُك ْم في اْل َحَياة َ َ‬ ‫مفعوال ويقولون لهم أيضا ‪ -‬مثبتين لهم‪ ،‬ومبشرين‪َ { :‬ن ْح ُن أ َْوِلَي ُ‬
‫} يحثونهم في الدنيا على الخير‪ ،‬ويزينونه لهم‪ ،‬ويرهبونهم عن الشر‪ ،‬ويقبحونه في قلوبهم‪،‬‬
‫وخصوصا عند الموت وشدته‪ ،‬والقبر‬
‫ً‬ ‫ويدعون اهلل لهم‪ ،‬ويثبتونهم عند المصائب والمخاوف‪،‬‬
‫وظلمته‪ ،‬وفي القيامة وأهوالها‪ ،‬وعلى الصراط‪ ،‬وفي الجنة يهنئونهم بكرامة ربهم‪ ،‬ويدخلون‬
‫الد ِار } ويقولون لهم أيضا‪:‬‬ ‫صَب ْرتُ ْم فَنِ ْع َم ُع ْقَبى َّ‬
‫الم َعلَْي ُك ْم بِ َما َ‬
‫[ ص ‪ ] 749‬عليهم من كل باب { َس ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َولَ ُك ْم فيهَا } أي‪ :‬في الجنة { َما تَ ْشتَ ِهي أ َْنفُ ُس ُك ْم } قد أعد وهيئ‪َ { .‬ولَ ُك ْم فيهَا َما تَ َّد ُع َ‬
‫ون } أي‪:‬‬
‫تطلبون من كل ما تتعلق به إرادتكم وتطلبونه من أنواع اللذات والمشتهيات‪ ،‬مما ال عين رأت‪،‬‬
‫وال أذن سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب بشر‪.‬‬
‫ور َر ِح ٍيم } أي‪ :‬هذا الثواب الجزيل‪ ،‬والنعيم المقيم‪ ،‬نز ٌل وضيافة { ِم ْن َغفُ ٍ‬
‫ور }‬ ‫{ نزال ِم ْن َغفُ ٍ‬
‫غفر لكم السيئات‪َ { ،‬ر ِح ٍيم } حيث وفقكم لفعل الحسنات‪ ،‬ثم قبلها منكم‪ .‬فبمغفرته أزال عنكم‬
‫المحذور‪ ،‬وبرحمته‪ ،‬أنالكم المطلوب‪.‬‬

‫( ‪)1/748‬‬

‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َحسن قَواًل ِم َّم ْن َدعا ِإلَى اللَّ ِه وع ِم َل ِ‬


‫صال ًحا َوقَا َل ِإَّنني م َن اْل ُم ْسلم َ‬
‫ين (‪)33‬‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َو َم ْن أ ْ َ ُ ْ‬

‫ِِ‬ ‫َحسن قَوال ِم َّم ْن َدعا ِإلَى اللَّ ِه وع ِم َل ص ِالحا وقَ َ ِ ِ‬


‫ال ِإَّنني م َن اْل ُم ْسلم َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫َ ً َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫{ ‪َ { } 33‬و َم ْن أ ْ َ ُ ْ‬
‫كالما وطريقة‪ ،‬وحالة { ِم َّم ْن َد َعا‬ ‫هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر أي‪ :‬ال أحد أحسن قوال‪ .‬أي‪ً :‬‬
‫ِإلَى اللَّ ِه } بتعليم الجاهلين‪ ،‬ووعظ الغافلين والمعرضين‪ ،‬ومجادلة المبطلين‪ ،‬باألمر بعبادة اهلل‪،‬‬
‫بجميع أنواعها‪،‬والحث عليها‪ ،‬وتحسينها مهما أمكن‪ ،‬والزجر عما نهى اهلل عنه‪ ،‬وتقبيحه بكل‬
‫خصوصا من هذه الدعوة إلى أصل دين اإلسالم وتحسينه‪ ،‬ومجادلة أعدائه‬
‫ً‬ ‫طريق يوجب تركه‪،‬‬
‫بالتي هي أحسن‪ ،‬والنهي عما يضاده من الكفر والشرك‪ ،‬واألمر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫ومن الدعوة إلى اهلل‪ ،‬تحبيبه إلى عباده‪ ،‬بذكر تفاصيل نعمه‪ ،‬وسعة جوده‪ ،‬وكمال رحمته‪ ،‬وذكر‬
‫أوصاف كماله‪ ،‬ونعوت جالله‪.‬‬
‫ومن الدعوة إلى اهلل‪ ،‬الترغيب في اقتباس العلم والهدى من كتاب اهلل وسنة رسوله‪ ،‬والحث على‬
‫ذلك‪ ،‬بكل طريق موصل إليه‪ ،‬ومن ذلك‪ ،‬الحث على مكارم األخالق‪ ،‬واإلحسان إلى عموم‬
‫الخلق‪ ،‬ومقابلة المسيء باإلحسان‪ ،‬واألمر بصلة األرحام‪ ،‬وبر الوالدين‪.‬‬
‫ومن ذلك‪ ،‬الوعظ لعموم الناس‪ ،‬في أوقات المواسم‪ ،‬والعوارض‪ ،‬والمصائب‪ ،‬بما يناسب ذلك‬
‫الحال‪ ،‬إلى غير ذلك‪ ،‬مما ال تنحصر أفراده‪ ،‬مما تشمله الدعوة إلى الخير كله‪ ،‬والترهيب من‬
‫جميع الشر‪.‬‬
‫ص ِال ًحا } أي‪ :‬مع دعوته الخلق إلى اهلل‪ ،‬بادر هو بنفسه‪ ،‬إلى امتثال أمر‬ ‫ِ‬
‫ثم قال تعالى‪َ { :‬و َعم َل َ‬
‫ِِ‬ ‫ضي ربه‪ { .‬وقَ َ ِ ِ‬
‫اهلل‪ ،‬بالعمل الصالح‪ ،‬الذي ير ِ‬
‫ال ِإَّنني م َن اْل ُم ْسلم َ‬
‫ين } أي‪ :‬المنقادين ألمره‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬
‫السالكين في طريقه‪ ،‬وهذه المرتبة‪ ،‬تمامها للصديقين‪ ،‬الذين عملوا على تكميل أنفسهم وتكميل‬
‫غيرهم‪ ،‬وحصلت لهم الوراثة التامة من الرسل‪ ،‬كما أن من أشر الناس‪ ،‬قوال من كان من دعاة‬
‫الضالين (‪ )1‬السالكين لسبله‪.‬‬
‫وبين هاتين المرتبتين المتباينتين‪ ،‬اللتين ارتفعت إحداهما إلى أعلى عليين‪ ،‬ونزلت األخرى‪ ،‬إلى‬
‫ات ِم َّما َع ِملُوا َو َما‬
‫أسفل سافلين‪ ،‬مراتب‪ ،‬ال يعلمها إال اهلل‪ ،‬وكلها معمورة بالخلق { َوِل ُك ٍّل َد َر َج ٌ‬
‫رُّب َ ِ‬
‫ك بِ َغاف ٍل َع َّما َي ْع َملُ َ‬
‫ون }‬ ‫َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في النسختين ولعل الصواب (من دعاة الضالل)‪.‬‬

‫( ‪)1/749‬‬

‫ِ‬ ‫َح َس ُن فَِإ َذا الَِّذي َب ْيَن َ‬


‫َواَل تَ ْستَِوي اْل َح َسَنةُ َواَل السَّيَِّئةُ ْادفَ ْع بِالَّتِي ِه َي أ ْ‬
‫ك َوَب ْيَنهُ َع َد َاوةٌ َكأََّنهُ َوِل ٌّي َحم ٌ‬
‫يم (‬
‫ظ َع ِظ ٍيم (‪)35‬‬ ‫‪ )34‬وما يلَقَّاها ِإاَّل الَِّذين صبروا وما يلَقَّاها ِإاَّل ُذو ح ٍّ‬
‫َ‬ ‫َ َ َُ َ َ ُ َ‬ ‫ََ ُ َ‬

‫َح َس ُن فَِإ َذا الَِّذي َب ْيَن َ‬


‫ك َوَب ْيَنهُ َع َد َاوةٌ‬ ‫{ ‪َ { } 35 - 34‬وال تَ ْستَِوي اْل َح َسَنةُ َوال السَّيَِّئةُ ْادفَ ْع بِالَّتِي ِه َي أ ْ‬
‫ظ َع ِظ ٍيم } ‪.‬‬ ‫َكأََّنه وِل ٌّي ح ِميم * وما يلَقَّاها ِإال الَِّذين صبروا وما يلَقَّاها ِإال ُذو ح ٍّ‬
‫َ‬ ‫َ َ َُ َ َ ُ َ‬ ‫َُ َ ٌ ََ ُ َ‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬وال تَ ْستَِوي اْل َح َسَنةُ َوال السَّيَِّئةُ } أي‪ :‬ال يستوي فعل الحسنات والطاعات ألجل‬
‫رضا اهلل تعالى‪ ،‬وال فعل السيئات والمعاصي التي تسخطه وال ترضيه‪ ،‬وال يستوي اإلحسان إلى‬
‫ان ِإال‬
‫اإلح َس ِ‬
‫اء ْ‬ ‫الخلق‪ ،‬وال اإلساءة إليهم‪ ،‬ال في ذاتها‪ ،‬وال في وصفها‪ ،‬وال في جزائها { َه ْل َج َز ُ‬
‫ان }‬
‫اإلح َس ُ‬
‫ْ‬
‫ثم أمر بإحسان خاص‪ ،‬له موقع كبير‪ ،‬وهو اإلحسان إلى من أساء إليك‪ ،‬فقال‪ْ { :‬ادفَ ْع بِالَّتِي ِه َي‬
‫خصوصا من له حق كبير عليك‪ ،‬كاألقارب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫َح َس ُن } أي‪ :‬فإذا أساء إليك مسيء من الخلق‪،‬‬
‫أْ‬
‫واألصحاب‪ ،‬ونحوهم‪ ،‬إساءة بالقول أو بالفعل‪ ،‬فقابله باإلحسان إليه‪ ،‬فإن قطعك فَصْلهُ‪ ،‬وإ ن‬
‫حاضرا‪ ،‬فال تقابله‪ ،‬بل اعف عنه‪ ،‬وعامله بالقول‬
‫ً‬ ‫غائبا أو‬
‫ظلمك‪ ،‬فاعف عنه‪ ،‬وإ ن تكلم فيك‪ً ،‬‬
‫ِّب له الكالم‪ ،‬وابذل له السالم‪ ،‬فإذا قابلت اإلساءة‬
‫اللين‪ .‬وإ ن هجرك‪ ،‬وترك خطابك‪ ،‬فَطي ْ‬
‫باإلحسان‪ ،‬حصل فائدة عظيمة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫{ فَِإ َذا الَِّذي َب ْيَن َ‬
‫يم } أي‪ :‬كأنه قريب شفيق‪.‬‬ ‫ك َوَب ْيَنهُ َع َد َاوةٌ َكأََّنهُ َوِل ٌّي َحم ٌ‬
‫َِّ‬
‫صَب ُروا } نفوسهم على ما تكره‪،‬‬ ‫اها } أي‪ :‬وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة { ِإال الذ َ‬
‫ين َ‬ ‫{ َو َما ُيلَقَّ َ‬
‫وأجبروها على ما يحبه اهلل‪ ،‬فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته وعدم العفو عنه‪،‬‬
‫فكيف باإلحسان؟"‪.‬‬
‫فإذا صبر اإلنسان نفسه‪ ،‬وامتثل أمر ربه‪ ،‬وعرف جزيل الثواب‪ ،‬وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس‬
‫شيئا‪ ،‬وال يزيد العداوة إال شدة‪ ،‬وأن إحسانه إليه‪ ،‬ليس بواضع قدره‪ ،‬بل من‬
‫عمله‪ ،‬ال يفيده ً‬
‫مستحليا له‪.‬‬
‫ً‬ ‫تواضع للّه رفعه‪ ،‬هان عليه األمر‪ ،‬وفعل ذلك‪ ،‬متلذ ًذا‬
‫ظ َع ِظ ٍيم } [ ص ‪ ] 750‬لكونها من خصال خواص الخلق‪ ،‬التي ينال بها‬ ‫{ وما يلَقَّاها ِإال ُذو ح ٍّ‬
‫َ‬ ‫ََ ُ َ‬
‫العبد الرفعة في الدنيا واآلخرة‪ ،‬التي هي من أكبر خصال مكارم األخالق‪.‬‬

‫( ‪)1/749‬‬

‫يم (‪َ )36‬و ِم ْن آََياتِ ِه اللَّْي ُل َو َّ‬


‫النهَ ُار‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ان َن ْزغٌ فَ ْ ِ ِ َّ ِ ِ‬
‫استَع ْذ بالله إَّنهُ ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ‬ ‫طِ‬ ‫ك ِم َن َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َوإِ َّما َي ْن َز َغَّن َ‬
‫َِّ ِ َِّ‬ ‫ِ‬ ‫الشم ُس واْلقَمر اَل تَ ْس ُج ُدوا ِل َّ‬ ‫َّ‬
‫ون (‪)37‬‬ ‫اس ُج ُدوا لله الذي َخلَقَهُ َّن ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ِإيَّاهُ تَ ْعُب ُد َ‬ ‫س َواَل لْلقَ َم ِر َو ْ‬‫لش ْم ِ‬ ‫َو ْ َ َ ُ‬
‫ون (‪)38‬‬ ‫َم َ‬ ‫ون لَهُ بِاللَّْي ِل َو َّ‬
‫النهَ ِار َو ُه ْم اَل َي ْسأ ُ‬ ‫ِّح َ‬
‫ك ُي َسب ُ‬‫ين ِعْن َد َرِّب َ‬ ‫َِّ‬
‫فَِإ ِن ْ‬
‫استَ ْكَب ُروا فَالذ َ‬

‫يم * َو ِم ْن َآياتِ ِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ان َن ْزغٌ فَ ْ ِ ِ َّ ِ ِ‬


‫استَع ْذ بالله إَّنهُ ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ‬ ‫طِ‬ ‫ك ِم َن َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫{ ‪َ { } 39 - 36‬وإِ َّما َي ْن َز َغَّن َ‬
‫َِّ ِ َِّ‬ ‫ِ‬ ‫الشم ُس واْلقَمر ال تَ ْس ُج ُدوا ِل َّ‬ ‫َّ‬ ‫اللَّْي ُل َو َّ‬
‫اس ُج ُدوا لله الذي َخلَقَهُ َّن ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ِإيَّاهُ‬ ‫س َوال لْلقَ َم ِر َو ْ‬ ‫لش ْم ِ‬ ‫النهَ ُار َو ْ َ َ ُ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫َم َ‬ ‫ون لَهُ بِاللَّْي ِل َو َّ‬
‫النهَ ِار َو ُه ْم ال َي ْسأ ُ‬ ‫ِّح َ‬ ‫ين ِعْن َد َرِّب َ‬
‫ك ُي َسب ُ‬
‫َِّ‬
‫استَ ْكَب ُروا فَالذ َ‬ ‫ون * فَِإ ِن ْ‬‫تَ ْعُب ُد َ‬
‫لما ذكر تعالى ما يقابل به العدو من اإلنس‪ ،‬وهو مقابلة إساءته باإلحسان‪ ،‬ذكر ما يدفع به العدو‬
‫الجني‪ ،‬وهو االستعاذة باهلل‪ ،‬واالحتماء من شره فقال‪:‬‬
‫ان نزغٌ } أي‪ :‬أي وقت من األوقات‪ ،‬أحسست بشيء من نزغات‬ ‫طِ‬ ‫ك ِم َن َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫نزغَّن َ‬
‫{ َوإِ َّما َي َ‬
‫الشيطان‪ ،‬أي‪ :‬من وساوسه وتزيينه للشر‪ ،‬وتكسيله عن الخير‪ ،‬وإ صابة ببعض الذنوب‪ ،‬وإ طاعة‬
‫مفتقرا إليه‪ ،‬أن يعيذك ويعصمك منه‪ِ { ،‬إَّنهُ ُه َو‬ ‫له ببعض ما يأمر به { فَ ِ َّ ِ‬
‫استَع ْذ بِالله } أي‪ :‬اسأله‪ً ،‬‬ ‫ْ‬
‫يم } فإنه يسمع قولك وتضرعك‪ ،‬ويعلم حالك واضطرارك إلى عصمته وحمايته‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫السَّميعُ اْل َعل ُ‬
‫ثم ذكر تعالى أن { ِم ْن َآياتِ ِه } الدالة على كمال قدرته‪ ،‬ونفوذ مشيئته‪ ،‬وسعة سلطانه‪ ،‬ورحمته‬
‫النهَ ُار } هذا بمنفعة ضيائه‪ ،‬وتصرف العباد فيه‪ ،‬وهذا‬ ‫بعباده‪ ،‬وأنه اهلل وحده ال شريك له { اللَّْي ُل َو َّ‬
‫بمنفعه ظلمه‪ ،‬وسكون الخلق فيه‪ { .‬و َّ‬
‫الش ْم ُس َواْلقَ َم ُر } اللذان ال تستقيم معايش العباد‪ ،‬وال أبدانهم‪،‬‬ ‫َ‬
‫وال أبدان حيواناتهم‪ ،‬إال بهما‪ ،‬وبهما من المصالح ما ال يحصى عدده‪.‬‬
‫اس ُج ُدوا ِللَّ ِه الذي خلقهن }‬ ‫ِ‬ ‫{ ال تَ ْس ُج ُدوا ِل َّ‬
‫لش ْم ِ‬
‫س َوال لْلقَ َم ِر } فإنهما مدبران مسخران مخلوقان‪َ { .‬و ْ‬
‫أي‪ :‬اعبدوه وحده‪ ،‬ألنه الخالق العظيم‪ ،‬ودعوا عبادة ما سواه‪ ،‬من المخلوقات‪ ،‬وإ ن كبر‪ ،‬جرمه‬
‫وكثرت مصالحه‪ ،‬فإن ذلك ليس منه‪ ،‬وإ نما هو من خالقه‪ ،‬تبارك وتعالى‪ِ { .‬إ ْن ُك ْنتُ ْم ِإيَّاهُ تَ ْعُب ُد َ‬
‫ون }‬
‫فخصوه بالعبادة وإ خالص الدين له‪.‬‬
‫شيئا‪ ،‬واهلل غني‬
‫استَ ْكَب ُروا } عن عبادة اهلل تعالى‪ ،‬ولم ينقادوا لها‪ ،‬فإنهم لن يضروا اهلل ً‬ ‫{ فَِإ ِن ْ‬
‫ين‬ ‫َِّ‬
‫عنهم‪ ،‬وله عباد مكرمون‪ ،‬ال يعصون اهلل ما أمرهم‪ ،‬ويفعلون ما يؤمرون‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَالذ َ‬
‫ون } أي‪ :‬ال يملون‬‫َم َ‬ ‫ون لَهُ بِاللَّْي ِل َو َّ‬
‫النهَ ِار َو ُه ْم ال َي ْسأ ُ‬ ‫ِّح َ‬ ‫ِعْن َد َرِّب َ‬
‫ك } يعني‪ :‬المالئكة المقربين { ُي َسب ُ‬
‫من عبادته‪ ،‬لقوتهم‪ ،‬وشدة الداعي القوي منهم إلى ذلك‪.‬‬

‫( ‪)1/750‬‬

‫اها لَ ُم ْحيِي‬ ‫ت ِإ َّن الَِّذي أ ْ‬


‫َحَي َ‬ ‫اهتََّز ْ‬
‫ت َو َرَب ْ‬ ‫اء ْ‬ ‫ِ‬
‫ض َخاش َعةً فَِإ َذا أ َْن َزْلَنا َعلَْيهَا اْل َم َ‬
‫ك تََرى اأْل َْر َ‬ ‫َو ِم ْن آََياتِ ِه أََّن َ‬
‫اْل َم ْوتَى ِإَّنهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير (‪)39‬‬

‫اها لَ ُم ْحيِي‬ ‫ت ِإ َّن الَِّذي أ ْ‬


‫َحَي َ‬ ‫اهتََّز ْ‬
‫ت َو َرَب ْ‬ ‫اء ْ‬ ‫ِ‬
‫ض َخاش َعةً فَِإ َذا أ َْن َزْلَنا َعلَْيهَا اْل َم َ‬ ‫األر َ‬‫ك تََرى ْ‬ ‫{ َو ِم ْن َآياتِ ِه أََّن َ‬
‫اْل َم ْوتَى ِإَّنهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير } ‪.‬‬
‫ض‬ ‫األر َ‬ ‫ك تََرى ْ‬ ‫{ َو ِم ْن َآياتِ ِه } الدالة على كمال قدرته‪ ،‬وانفراده بالملك والتدبير والوحدانية‪ { ،‬أََّن َ‬
‫ِ‬
‫ت } أي‪ :‬تحركت بالنبات‬ ‫اهتََّز ْ‬
‫اء } أي‪ :‬المطر { ْ‬ ‫َخاش َعةً } أي‪ :‬ال نبات فيها { فَِإ َذا أَنزْلَنا َعلَْيهَا اْل َم َ‬
‫ت } ثم‪ :‬أنبتت من كل زوج بهيج‪ ،‬فيحيي به العباد والبالد‪.‬‬ ‫{ َو َرَب ْ‬
‫اها } بعد موتها وهمودها‪ { ،‬لَ ُم ْحيِي اْل َم ْوتَى } من قبورهم إلى يوم بعثهم‪ ،‬ونشورهم‬ ‫{ ِإ َّن الَِّذي أ ْ‬
‫َحَي َ‬
‫{ ِإَّنهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير } فكما لم تعجز قدرته عن إحياء األرض بعد موتها‪ ،‬ال تعجز عن إحياء‬
‫الموتى‪.‬‬

‫( ‪)1/750‬‬

‫ام ِة‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬


‫الن ِار َخ ْيٌر أ َْم َم ْن َيأْتي آَمًنا َي ْو َم اْلقَي َ‬‫ون ِفي آََياتَِنا اَل َي ْخفَ ْو َن َعلَْيَنا أَفَ َم ْن ُيْلقَى ِفي َّ‬ ‫ِ‬
‫ين ُيْلح ُد َ‬
‫َِّ‬
‫ِإ َّن الذ َ‬
‫اب َع ِز ٌيز (‬ ‫اء ُه ْم َوإِ َّنهُ لَ ِكتَ ٌ‬ ‫ِّ‬
‫ين َكفَ ُروا بِالذ ْك ِر لَ َّما َج َ‬
‫َِّ‬
‫ون َبص ٌير (‪ِ )40‬إ َّن الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اع َملُوا َما ش ْئتُ ْم ِإَّنهُ بِ َما تَ ْع َملُ َ‬
‫ْ‬
‫اط ُل ِم ْن َب ْي ِن َي َد ْي ِه َواَل ِم ْن َخْل ِف ِه تَْن ِزي ٌل ِم ْن َح ِك ٍيم َح ِم ٍيد (‪)42‬‬
‫يه اْلب ِ‬ ‫ِِ‬
‫‪ )41‬اَل َيأْت َ‬

‫الن ِار َخ ْيٌر أ َْم َم ْن َيأْتِي‬ ‫ون ِفي َآياتَِنا ال َي ْخفَ ْو َن َعلَْيَنا أَفَ َم ْن ُيْلقَى ِفي َّ‬ ‫ِ‬
‫ين ُيْلح ُد َ‬
‫َِّ‬
‫{ ‪ِ { } 40-42‬إ َّن الذ َ‬
‫ِّ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ام ِة ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َكفَ ُروا بِالذ ْك ِر لَ َّما َج َ‬
‫اء ُه ْم َوإِ َّنهُ‬ ‫ون َبص ٌير * ِإ َّن الذ َ‬ ‫اع َملُوا َما ش ْئتُ ْم ِإَّنهُ بِ َما تَ ْع َملُ َ‬ ‫آمًنا َي ْو َم اْلقَي َ‬
‫اط ُل ِم ْن َب ْي ِن َي َد ْي ِه َوال ِم ْن َخْل ِف ِه تَْن ِزي ٌل ِم ْن َح ِك ٍيم َح ِم ٍيد } ‪.‬‬ ‫يه اْلب ِ‬
‫ِِ‬
‫اب َع ِز ٌيز * ال َيأْت َ‬ ‫لَ ِكتَ ٌ‬
‫اإللحاد في آيات اهلل‪ :‬الميل بها عن الصواب‪ ،‬بأي وجه كان‪ :‬إما بإنكارها وجحودها‪ ،‬وتكذيب من‬
‫جاء بها‪ ،‬وإ ما بتحريفها وتصريفها عن معناها الحقيقي‪ ،‬وإ ثبات معان لها‪ ،‬ما أرادها اهلل منها‪.‬‬
‫فتوعَّد تعالى من ألحد فيها بأنه ال يخفى عليه‪ ،‬بل هو مطلع على ظاهره وباطنه‪ ،‬وسيجازيه على‬
‫الن ِار } مثل الملحد بآيات اهلل { َخ ْيٌر أ َْم َم ْن َيأْتِي‬
‫إلحاده بما كان يعمل‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬أَفَ َم ْن ُيْلقَى ِفي َّ‬
‫ام ِة } من عذاب اهلل مستحقًا لثوابه؟ من المعلوم أن هذا خير‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمًنا َي ْو َم اْلقَي َ‬
‫اع َملُوا َما ِش ْئتُ ْم‬
‫لما تبين الحق من الباطل‪ ،‬والطريق المنجي من عذابه من الطريق المهلك قال‪ْ { :‬‬
‫} إن شئتم‪ ،‬فاسلكوا طريق الرشد الموصلة إلى رضا ربكم وجنته‪ ،‬وإ ن شئتم‪ ،‬فاسلكوا طريق‬
‫الغي المسخطة لربكم‪ ،‬الموصلة إلى دار الشقاء‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫ق ِم ْن َرِّب ُك ْم‬
‫ص ٌير } يجازيكم بحسب أحوالكم وأعمالكم‪ ،‬كقوله تعالى‪ { :‬و ُق ِل اْل َح ُّ‬
‫َ‬
‫{ ِإَّنه بِما تَعملُون ب ِ‬
‫ُ َ َْ َ َ‬
‫اء َفْلُي ْؤ ِم ْن َو َم ْن َش َ‬
‫اء َفْلَي ْكفُْر }‬ ‫فَ َم ْن َش َ‬
‫الذ ْك ِر } أي‪ :‬يجحدون القرآن الكريم المذكر للعباد جميع‬ ‫ثم قال تعالى‪ِ { :‬إ َّن الَِّذين َكفَروا بِ ِّ‬
‫َ ُ‬
‫اء ُه ْم } نعمة من ربهم على‬ ‫المعلي لقدر من اتبعه‪ { ،‬لَ َّما َج َ‬ ‫مصالحهم الدينية والدنيوية واألخروية‪ُ ،‬‬
‫اب } جامع ألوصاف الكمال { َع ِز ٌيز } أي‪ :‬منيع‬ ‫يد أفضل الخلق وأكملهم‪ { .‬و } الحال { ِإَّنهُ لَ ِكتَ ٌ‬
‫اط ُل ِم ْن َب ْي ِن َي َد ْي ِه َوال ِم ْن َخْل ِف ِه } أي‪:‬‬
‫يه اْلب ِ‬
‫ِِ‬
‫من كل من أراده بتحريف أو سوء‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬ال َيأْت َ‬
‫ال يقربه شيطان من شياطين اإلنس والجن‪ ،‬ال بسرقة‪ ،‬وال بإدخال ما ليس منه به‪ ،‬وال بزيادة وال‬
‫نقص‪ ،‬فهو محفوظ في تنزيله‪ ،‬محفوظة ألفاظه ومعانيه‪ ،‬قد تكفل من أنزله بحفظه كما قال تعالى‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫{ ِإَّنا َن ْح ُن نزْلَنا الذ ْك َر َوإِ َّنا لَهُ لَ َحافظُ َ‬
‫ون }‬

‫( ‪)1/750‬‬

‫اب أَِل ٍيم (‪)43‬‬


‫ك لَ ُذو م ْغ ِفر ٍة و ُذو ِعقَ ٍ‬
‫َ َ َ‬ ‫ك ِإاَّل َما قَ ْد ِقي َل ِل ُّلر ُس ِل ِم ْن قَْبِل َ‬
‫ك ِإ َّن َرَّب َ‬ ‫َما ُيقَا ُل لَ َ‬

‫{ تَنزي ٌل ِم ْن َح ِك ٍيم } في خلقه وأمره‪ ،‬يضع كل شيء موضعه‪ ،‬وينزله منزله‪َ { .‬ح ِم ٌ‬
‫يد } على ما له‬
‫من صفات الكمال‪ ،‬ونعوت الجالل‪ ،‬وعلى ما له من العدل واإلفضال‪ ،‬فلهذا كان كتابه‪ ،‬مشتمال‬
‫على تمام الحكمة‪ ،‬وعلى تحصيل المصالح والمنافع‪ ،‬ودفع المفاسد والمضار‪ ،‬التي يحمد عليها‪.‬‬
‫[ ص ‪] 751‬‬
‫اب أَِل ٍيم } ‪.‬‬‫َّك لَ ُذو م ْغ ِفر ٍة و ُذو ِعقَ ٍ‬
‫َ َ َ‬ ‫يل ِل ُّلر ُس ِل ِم ْن قَْبِل َ‬
‫ك ِإ َّن َرب َ‬ ‫ك ِإال َما قَ ْد ِق َ‬
‫{ ‪َ { } 43‬ما ُيقَا ُل لَ َ‬
‫يل ِل ُّلر ُس ِل‬
‫ك } أيها الرسول من األقوال الصادرة‪ ،‬ممن كذبك وعاندك { ِإال َما قَ ْد ِق َ‬ ‫أي‪َ { :‬ما ُيقَا ُل لَ َ‬
‫ك } أي‪ :‬من جنسها‪ ،‬بل ربما إنهم تكلموا بكالم واحد‪ ،‬كتعجب جميع األمم المكذبة للرسل‪،‬‬ ‫ِم ْن قَْبِل َ‬
‫من دعوتهم إلى اإلخالص للّه وعبادته وحده ال شريك له‪ ،‬وردهم هذا بكل طريق يقدرون عليه‪،‬‬
‫وقولهم‪َ { :‬ما أ َْنتُ ْم ِإال َب َشٌر ِم ْثلَُنا }‬
‫واقتراحهم على رسلهم اآليات‪ ،‬التي ال يلزمهم اإلتيان بها‪ ،‬ونحو ذلك من أقوال أهل التكذيب‪ ،‬لما‬
‫تشابهت قلوبهم في الكفر‪ ،‬تشابهت أقوالهم‪ ،‬وصبر الرسل عليهم السالم على أذاهم وتكذيبهم‪،‬‬
‫فاصبر كما صبر من قبلك‪.‬‬
‫الغي فقال‪ِ { :‬إ َّن َرب َ‬
‫َّك‬ ‫ثم دعاهم إلى التوبة واإلتيان بأسباب المغفرة‪ ،‬وحذرهم من االستمرار على ّ‬
‫اب أَِل ٍيم } لمن‪ :‬أصر‬
‫لَ ُذو م ْغ ِفر ٍة } أي‪ :‬عظيمة‪ ،‬يمحو بها كل ذنب لمن أقلع وتاب { و ُذو ِعقَ ٍ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫واستكبر‪.‬‬

‫( ‪)1/750‬‬

‫ِ‬ ‫َِِّ‬ ‫ت آَياتُه أَأ ْ ِ‬ ‫َع َج ِميًّا لَقَالُوا لَ ْواَل فُ ِّ‬


‫اء‬
‫َمُنوا ُه ًدى َوشفَ ٌ‬ ‫َع َجم ٌّي َو َع َربِ ٌّي ُق ْل ُه َو للذ َ‬
‫ين آ َ‬ ‫صلَ ْ َ ُ‬ ‫َولَ ْو َج َعْلَناهُ قُْرآًَنا أ ْ‬
‫ان َب ِع ٍيد (‪)44‬‬ ‫اد ْو َن ِم ْن َم َك ٍ‬ ‫ون ِفي َآ َذانِ ِه ْم َو ْقٌر َو ُه َو َعلَْي ِه ْم َع ًمى أُولَئِ َ‬
‫ك ُيَن َ‬ ‫ين اَل ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫َِّ‬
‫َوالذ َ‬

‫َِِّ‬ ‫ت آياتُه أَأ ْ ِ‬ ‫َع َج ِميًّا لَقَالُوا لَ ْوال فُ ِّ‬


‫آمُنوا‬
‫ين َ‬ ‫َع َجم ٌّي َو َع َربِ ٌّي ُق ْل ُه َو للذ َ‬ ‫صلَ ْ َ ُ‬ ‫{ ‪َ { } 44‬ولَ ْو َج َعْلَناهُ قُْر ًآنا أ ْ‬
‫ان َب ِع ٍيد } ‪.‬‬
‫اد ْو َن ِم ْن َم َك ٍ‬
‫ك ُيَن َ‬‫ون ِفي آ َذانِ ِه ْم َو ْقٌر َو ُه َو َعلَْي ِه ْم َع ًمى أُولَئِ َ‬
‫ين ال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫َِّ‬
‫اء َوالذ َ‬
‫ِ‬
‫ُه ًدى َوشفَ ٌ‬
‫عربيا‪ ،‬على الرسول العربي‪ ،‬بلسان قومه‪ ،‬ليبين‬ ‫ً‬ ‫يخبر تعالى عن فضله وكرمه‪ ،‬حيث أنزل كتابا‬
‫أعجميا‪ ،‬بلغة‬
‫ً‬ ‫لهم‪ ،‬وهذا مما يوجب لهم زيادة االغتناء به‪ ،‬والتلقي له والتسليم‪ ،‬وأنه لو جعله قرآنا‬
‫ت َآياتُهُ } أي‪ :‬هال بينت آياته‪ ،‬ووضحت‬
‫صلَ ْ‬‫غير العرب‪ ،‬العترض‪ ،‬المكذبون وقالوا‪ { :‬لَ ْوال فُ ِّ‬
‫عربيا‪ ،‬والكتاب أعجمي؟ هذا ال يكون فنفى‬
‫ً‬ ‫َع َج ِم ٌّي َو َع َربِ ٌّي } أي‪ :‬كيف يكون محمد‬
‫وفسرت‪ { .‬أَأ ْ‬
‫اهلل تعالى كل أمر‪ ،‬يكون فيه شبهة ألهل الباطل‪ ،‬عن كتابه‪ ،‬ووصفه بكل وصف‪ ،‬يوجب لهم‬
‫االنقياد‪ ،‬ولكن المؤمنون الموفقون‪ ،‬انتفعوا به‪ ،‬وارتفعوا‪ ،‬وغيرهم بالعكس من أحوالهم‪.‬‬
‫اء } أي‪ :‬يهديهم لطريق الرشد والصراط المستقيم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َِِّ‬
‫آمُنوا ُه ًدى َوشفَ ٌ‬
‫ين َ‬
‫ولهذا قال‪ُ { :‬ق ْل ُه َو للذ َ‬
‫ويعلمهم من العلوم النافعة‪ ،‬ما به تحصل الهداية التامة وشفاء لهم من األسقام البدنية‪ ،‬واألسقام‬
‫القلبية‪ ،‬ألنه يزجر عن مساوئ األخالق وأقبح األعمال‪ ،‬ويحث على التوبة النصوح‪ ،‬التي تغسل‬
‫الذنوب وتشفي القلب‪.‬‬
‫ون } بالقرآن { ِفي آ َذانِ ِه ْم َو ْقٌر } أي‪ :‬صمم عن استماعه وإ عراض‪َ { ،‬و ُه َو‬
‫ين ال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫َِّ‬
‫{ َوالذ َ‬
‫رشدا‪ ،‬وال يهتدون به‪ ،‬وال يزيدهم إال ضالال فإنهم إذا ردوا‬ ‫َعلَْي ِه ْم َع ًمى } أي‪ :‬ال يبصرون به ً‬
‫الحق‪ ،‬ازدادوا عمى إلى عماهم‪ ،‬وغيًّا إلى غيَّهم‪.‬‬
‫ان َب ِع ٍيد } أي‪ :‬ينادون إلى اإليمان‪ ،‬ويدعون إليه‪ ،‬فال يستجيبون‪ ،‬بمنزلة‬
‫اد ْو َن ِم ْن َم َك ٍ‬ ‫{ أُولَئِ َ‬
‫ك ُيَن َ‬
‫مناديا‪ .‬والمقصود‪ :‬أن الذين ال‬
‫داعيا وال يجيب ً‬
‫الذي ينادي‪ ،‬وهو في مكان بعيد‪ ،‬ال يسمع ً‬
‫خيرا‪ ،‬ألنهم سدوا‬
‫يؤمنون بالقرآن‪ ،‬ال ينتفعون بهداه‪ ،‬وال يبصرون بنوره‪ ،‬وال يستفيدون منه ً‬
‫على أنفسهم أبواب الهدى‪ ،‬بإعراضهم وكفرهم‪.‬‬

‫( ‪)1/751‬‬

‫ضي ب ْيَنهم وإِ َّنهم لَِفي َش ٍّ ِ‬ ‫ت ِم ْن رب َ ِ‬ ‫يه َولَ ْواَل َكِل َمةٌ َسَبقَ ْ‬
‫ف ِف ِ‬ ‫اختُِل َ‬ ‫ِ‬
‫ك م ْنهُ‬ ‫ِّك لَقُ َ َ ُ ْ َ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫اب فَ ْ‬
‫وسى اْلكتَ َ‬
‫َولَقَ ْد آَتَْيَنا ُم َ‬
‫ظاَّل ٍم ِلْل َعبِ ِيد (‪)46‬‬
‫ُّك بِ َ‬
‫اء فَ َعلَْيهَا َو َما َرب َ‬
‫َس َ‬
‫يب (‪ )45‬م ْن ع ِم َل ِ ِ ِ ِ‬
‫صال ًحا َفلَن ْفسه َو َم ْن أ َ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫م ِر ٍ‬
‫ُ‬

‫ِّك لَقُ ِ‬
‫ض َي َب ْيَنهُ ْم َوإِ َّنهُ ْم‬ ‫ت ِم ْن َرب َ‬ ‫يه َولَ ْوال َكِل َمةٌ َسَبقَ ْ‬
‫ف ِف ِ‬ ‫اختُِل َ‬
‫اب فَ ْ‬ ‫ِ‬
‫وسى اْلكتَ َ‬
‫{ ‪َ { } 45-46‬ولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ‬
‫الم ِلْل َعبِ ِيد } ‪.‬‬
‫ظ ٍ‬ ‫ك بِ َ‬
‫اء فَ َعلَْيهَا َو َما َرُّب َ‬
‫َس َ‬
‫يب * م ْن ع ِم َل ِ ِ ِ ِ‬
‫صال ًحا َفلَن ْفسه َو َم ْن أ َ‬ ‫َ‬ ‫ك م ْنهُ ُم ِر ٍ َ َ‬
‫لَِفي َش ٍّ ِ‬
‫اب } كما آتيناك الكتاب‪ ،‬فصنع به الناس ما صنعوا معك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وسى اْلكتَ َ‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد آتَْيَنا ُم َ‬
‫اختلفوا فيه‪ :‬فمنهم من آمن به واهتدى وانتفع‪ ،‬ومنهم من كذبه ولم ينتفع به‪ ،‬وإ ن اللّه تعالى‪ ،‬لوال‬
‫حلمه وكلمته السابقة‪ ،‬بتأخير العذاب إلى أجل مسمى ال يتقدم عليه وال يتأخر { لَقُ ِ‬
‫ض َي َب ْيَنهُ ْم }‬
‫بمجرد ما يتميز المؤمنون من الكافرين‪ ،‬بإهالك الكافرين في الحال‪ ،‬ألن سبب الهالك قد وجب‬
‫يب } أي‪ :‬قد بلغ بهم إلى الريب الذي يقلقهم‪ ،‬فلذلك كذبوه‬ ‫ك ِم ْنهُ م ِر ٍ‬‫وحق‪ { .‬وإِ َّنهم لَِفي َش ٍّ‬
‫ُ‬ ‫َ ُْ‬
‫وجحدوه‪.‬‬
‫ص ِال ًحا } وهو العمل الذي أمر اللّه به‪ ،‬ورسوله { َفِلَن ْف ِس ِه } نفعه وثوابه في الدنيا‬ ‫ِ‬
‫{ َم ْن َعم َل َ‬
‫حث على فعل الخير‪،‬‬ ‫واآلخرة { وم ْن أَساء فَعلَْيها } ضرره وعقابه‪ ،‬في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وفي هذا‪ٌّ ،‬‬
‫ََ َ َ َ َ‬
‫وترك الشر‪ ،‬وانتفاع العاملين‪ ،‬بأعمالهم الحسنة‪ ،‬وضررهم بأعمالهم السيئة‪ ،‬وأنه ال تزر وازرة‬
‫أحدا فوق سيئاتهم‪.‬‬ ‫حمل ً‬ ‫الم ِلْل َعبِ ِيد } فَُي ِّ‬
‫ظ ٍ‬ ‫ك بِ َ‬
‫وزر أخرى‪َ { .‬و َما َرُّب َ‬

‫( ‪)1/751‬‬

‫ضعُ ِإاَّل بِ ِعْل ِم ِه‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِإلَْي ِه ير ُّد ِعْلم الس ِ‬
‫َّاعة َو َما تَ ْخ ُر ُج م ْن ثَ َم َرات م ْن أَ ْك َمامهَا َو َما تَ ْحم ُل م ْن أ ُْنثَى َواَل تَ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َُ‬
‫ون ِم ْن قَْب ُل‬ ‫ض َّل َع ْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْد ُع َ‬
‫ٍ‬ ‫ويوم يَن ِادي ِهم أ َْين ُشر َكائِي قَالُوا َآ َذَّنا َ ِ ِ‬
‫ك َما مَّنا م ْن َش ِهيد (‪َ )47‬و َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ َْ َ ُ‬
‫يص (‪)48‬‬ ‫ظُّنوا َما لَهُ ْم ِم ْن َم ِح ٍ‬
‫َو َ‬
‫امهَا َو َما تَ ْح ِم ُل ِم ْن أ ُْنثَى َوال‬
‫ات ِم ْن أَ ْكم ِ‬
‫َ‬
‫{ ‪ِ { } 47-48‬إلَْي ِه ير ُّد ِعْلم السَّاع ِة وما تَ ْخرج ِم ْن ثَمر ٍ‬
‫ََ‬ ‫َ ََ ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َُ‬
‫ض َّل َعْنهُ ْم َما َك ُانوا‬ ‫ٍ‬ ‫تَضع ِإال بِ ِعْل ِم ِه ويوم يَن ِادي ِهم أ َْين ُشر َكائِي قَالُوا آ َذَّنا َ ِ ِ‬
‫ك َما مَّنا م ْن َش ِهيد * َو َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ َْ َ ُ‬ ‫َُ‬
‫ظُّنوا َما لَهُ ْم ِم ْن َم ِح ٍ‬
‫يص } ‪.‬‬ ‫ون ِم ْن قَْب ُل َو َ‬
‫َي ْد ُع َ‬
‫هذا إخبار عن سعة علمه تعالى واختصاصه بالعلم الذي ال يطلع عليه سواه فقال‪ِ { :‬إلَْي ِه ُي َر ُّد ِعْل ُم‬
‫َّاع ِة } أي‪ :‬جميع الخلق ترد علمهم إلى اهلل تعالى‪ ،‬ويقرون بالعجز عنه‪ ،‬الرسل‪ ،‬والمالئكة‪،‬‬ ‫الس َ‬
‫وغيرهم‪.‬‬
‫امهَا } أي‪ :‬وعائها الذي تخرج منه‪ ،‬وهذا شامل لثمرات جميع‬ ‫ات ِم ْن أَ ْكم ِ‬‫{ وما تَ ْخرج ِم ْن ثَمر ٍ‬
‫َ‬ ‫ََ‬ ‫ََ ُ ُ‬
‫األشجار التي في البلدان والبراري‪ ،‬فال تخرج ثمرة شجرة من األشجار‪ ،‬إال وهو يعلمها علما‬
‫تفصيليا‪.‬‬
‫ً‬
‫ضعُ } أنثى‬ ‫ِ ِ‬
‫{ َو َما تَ ْحم ُل م ْن أ ُْنثَى } من بني آدم وغيرهم‪ ،‬من أنواع الحيوانات‪ ،‬إال بعلمه { َوال تَ َ‬
‫سوى المشركون به تعالى‪ ،‬من ال علم عنده وال سمع وال بصر؟‪.‬‬ ‫حملها { ِإال بِ ِعْل ِم ِه } فكيف َّ‬
‫ظهارا لكذبهم‪ ،‬فيقول لهم‪ { :‬أ َْي َن ُش َر َكائِ َي‬
‫توبيخا وإ ً‬
‫ً‬ ‫{ َوَي ْو َم ُيَن ِادي ِه ْم } أي‪ :‬المشركين به يوم القيامة‬
‫} الذين زعمتم أنهم شركائي‪ ،‬فعبدتموهم‪ ،‬وجادلتم على ذلك‪ ،‬وعاديتم الرسل ألجلهم؟ { قَالُوا }‬
‫اك َما ِمَّنا ِم ْن َش ِه ٍيد } أي‪ :‬أعلمناك يا ربنا‪ ،‬واشهد‬
‫مقرين ببطالن إلهيتهم‪ ،‬وشركتهم مع اهلل‪ { :‬آ َذَّن َ‬
‫علينا أنه ما منا أحد يشهد بصحة إلهيتهم وشركتهم‪ ،‬فكلنا اآلن قد رجعنا إلى بطالن عبادتها‪،‬‬
‫ون } من دون اهلل‪ ،‬أي‪ [ :‬ص ‪ ] 752‬ذهبت‬ ‫ض َّل َعْنهُ ْم َما َك ُانوا َي ْد ُع َ‬
‫وتبرأنا منها‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬و َ‬
‫عقائدهم وأعمالهم‪ ،‬التي أفنوا فيها أعمارهم على عبادة غير اهلل‪ ،‬وظنوا أنها تفيدهم‪ ،‬وتدفع عنهم‬
‫ظُّنوا‬
‫شيئا { َو َ‬
‫العذاب‪ ،‬وتشفع لهم عند اهلل‪ ،‬فخاب سعيهم‪ ،‬وانتقض ظنهم‪ ،‬ولم تغن عنهم شركاؤهم ً‬
‫} أي‪ :‬أيقنوا في تلك الحال { َما لَهُ ْم ِم ْن َم ِح ٍ‬
‫يص } أي‪ :‬منقذ ينقذهم‪ ،‬وال مغيث‪ ،‬وال ملجأ‪ ،‬فهذه‬
‫عاقبة من أشرك باهلل غيره‪ ،‬بينها اهلل لعباده‪ ،‬ليحذروا الشرك به‪.‬‬

‫( ‪)1/751‬‬

‫وس قَُنوطٌ (‪َ )49‬ولَئِ ْن أَ َذ ْقَناهُ َر ْح َمةً ِمَّنا ِم ْن َب ْع ِد‬ ‫اء اْل َخ ْي ِر وإِ ْن مسَّهُ َّ‬
‫الش ُّر فََيُئ ٌ‬ ‫َ َ‬
‫اَل يسأَم اإْلِ ْنسان ِم ْن ُدع ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َُْ‬
‫ت ِإلَى َربِّي ِإ َّن ِلي ِع ْن َدهُ لَْل ُح ْسَنى‬ ‫َّاعةَ قَائِ َمةً َولَئِ ْن ُر ِج ْع ُ‬ ‫ِ‬
‫اء َمسَّتْهُ لََيقُولَ َّن َه َذا لي َو َما أَظُ ُّن الس َ‬
‫ض َّر َ‬
‫َ‬
‫يظ (‪َ )50‬وإِ َذا أ َْن َع ْمَنا َعلَى اإْلِ ْن َس ِ‬ ‫اب َغِل ٍ‬ ‫ين َكفَروا بِما َع ِملُوا ولَُن ِذيقََّنهم ِم ْن َع َذ ٍ‬ ‫َِّ‬
‫ض‬ ‫َع َر َ‬ ‫ان أ ْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫َفلَُنَنبَِّئ َّن الذ َ ُ َ‬
‫يض (‪)51‬‬ ‫اء َع ِر ٍ‬ ‫الش ُّر فَ ُذو ُدع ٍ‬
‫وَنأَى بِ َجانِبِ ِه وإِ َذا مسَّهُ َّ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫وس قَُنوطٌ * َولَئِ ْن أَ َذ ْقَناهُ َر ْح َمةً‬ ‫اء اْل َخ ْي ِر وإِ ْن مسَّهُ َّ‬
‫الش ُّر فََيُئ ٌ‬ ‫َ َ‬
‫اإلنسان ِم ْن ُدع ِ‬
‫َ‬ ‫{ ‪ { } 49-51‬ال َي ْسأ َُم ْ َ ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫َّاعةَ قَائِ َمةً َولَئِ ْن ُر ِج ْع ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ت ِإلَى َربِّي ِإ َّن لي ع ْن َدهُ‬ ‫اء َمسَّتْهُ لََيقُولَ َّن َه َذا لي َو َما أَظُ ُّن الس َ‬ ‫مَّنا م ْن َب ْعد َ‬
‫ض َّر َ‬
‫اإلن َس ِ‬ ‫اب َغِل ٍ‬ ‫ين َكفَروا بِما َع ِملُوا ولَُن ِذيقََّنهم ِم ْن َع َذ ٍ‬ ‫َِّ‬
‫ان‬ ‫يظ * َوإِ َذا أ َْن َع ْمَنا َعلَى ْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫لَْل ُح ْسَنى َفلَُنَنبَِّئ َّن الذ َ ُ َ‬
‫يض } ‪.‬‬ ‫اء َع ِر ٍ‬ ‫الش ُّر فَ ُذو ُدع ٍ‬‫ض وَنأَى بِ َجانِبِ ِه وإِ َذا مسَّهُ َّ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َع َر َ َ‬
‫أْ‬
‫هذا إخبار عن طبيعة اإلنسان‪ ،‬من حيث هو‪ ،‬وعدم صبره وجلده‪ ،‬ال على الخير وال على الشر‪،‬‬
‫اء اْل َخ ْي ِر } أي‪ :‬ال‬ ‫اإلنسان ِم ْن ُدع ِ‬
‫َ‬ ‫إال من نقله اهلل من هذه الحال إلى حال الكمال‪ ،‬فقال‪ { :‬ال َي ْسأ َُم ْ َ ُ‬
‫دائما‪ ،‬من دعاء اهلل‪ ،‬في الغنى والمال والولد‪ ،‬وغير ذلك من مطالب الدنيا‪ ،‬وال يزال يعمل‬ ‫يمل ً‬
‫طالبا‬
‫على ذلك‪ ،‬وال يقتنع بقليل‪ ،‬وال كثير منها‪ ،‬فلو حصل له من الدنيا‪ ،‬ما حصل‪ ،‬لم يزل ً‬
‫للزيادة‪.‬‬
‫وس قَُنوطٌ } أي‪ :‬ييأس‬ ‫{ وإِ ْن مسَّهُ َّ‬
‫الش ُّر } أي‪ :‬المكروه‪ ،‬كالمرض‪ ،‬والفقر‪ ،‬وأنواع الباليا { فََيُئ ٌ‬ ‫َ َ‬
‫من رحمة اهلل تعالى‪ ،‬ويظن أن هذا البالء هو القاضي عليه بالهالك‪ ،‬ويتشوش من إتيان األسباب‪،‬‬
‫على غير ما يحب ويطلب‪.‬‬
‫إال الذين آمنوا وعملوا الصالحات‪ ،‬فإنهم إذا أصابهم الخير والنعمة والمحاب‪ ،‬شكروا اهلل تعالى‪،‬‬
‫استدراجا وإ مهاال وإ ن أصابتهم مصيبة‪ ،‬في أنفسهم وأموالهم‪،‬‬
‫ً‬ ‫وخافوا أن تكون نعم اهلل عليهم‪،‬‬
‫وأوالدهم‪ ،‬صبروا‪ ،‬ورجوا فضل ربهم‪ ،‬فلم ييأسوا‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪َ { :‬ولَئِ ْن أَ َذ ْقَناهُ } أي‪ :‬اإلنسان الذي يسأم من دعاء الخير‪ ،‬وإ ن مسه الشر فيئوس‬
‫قنوط { َر ْح َمةً ِمَّنا } أي‪ :‬بعد ذلك الشر الذي أصابه‪ ،‬بأن عافاه اهلل من مرضه‪ ،‬أو أغناه من فقره‪،‬‬
‫فإنه ال يشكر اهلل تعالى‪ ،‬بل يبغى‪ ،‬ويطغى‪ ،‬ويقول‪َ { :‬ه َذا ِلي } أي‪ :‬أتاني ألني له أهل‪ ،‬وأنا‬
‫َّاعةَ قَائِ َمةً } وهذا إنكار منه للبعث‪ ،‬وكفر للنعمة والرحمة‪ ،‬التي أذاقها‬ ‫مستحق له { َو َما أَظُ ُّن الس َ‬
‫ت ِإلَى َربِّي ِإ َّن ِلي ِعْن َدهُ لَْل ُح ْسَنى } أي‪ :‬على تقدير إتيان الساعة‪ ،‬وأني‬
‫اهلل له‪َ { .‬ولَئِ ْن ُر ِج ْع ُ‬
‫سأرجع إلى ربي‪ ،‬إن لي عنده‪ ،‬للحسنى‪ ،‬فكما حصلت لي النعمة في الدنيا‪ ،‬فإنها ستحصل ]‬
‫لي[ في اآلخرة وهذا من أعظم الجراءة والقول على اهلل بال علم‪ ،‬فلهذا توعده بقوله‪َ { :‬فلَُنَنبَِّئ َّن‬
‫جدا‪.‬‬
‫يظ } أي‪ :‬شديد ً‬ ‫اب َغِل ٍ‬‫ين َكفَروا بِما َع ِملُوا ولَُن ِذيقََّنهم ِم ْن َع َذ ٍ‬ ‫َِّ‬
‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫الذ َ ُ َ‬
‫ض } عن ربه وعن شكره‬ ‫َع َر َ‬
‫ان } بصحة‪ ،‬أو رزق‪ ،‬أو غيرهما { أ ْ‬ ‫اإلن َس ِ‬
‫{ َوإِ َذا أ َْن َع ْمَنا َعلَى ْ‬
‫الش ُّر } أي‪ :‬المرض‪ ،‬أو الفقر‪ ،‬أو غيرهما {‬ ‫{ وَنأَى } ترفع { بِ َجانِبِ ِه } عجبا وتكبرا‪ { .‬وإِ ْن مسَّهُ َّ‬
‫َ َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫جدا‪ ،‬لعدم صبره‪ ،‬فال صبر في الضراء‪ ،‬وال شكر في الرخاء‪ ،‬إال‬ ‫يض } أي‪ :‬كثير ً‬ ‫فَ ُذو ُدع ٍ‬
‫اء َع ِر ٍ‬ ‫َ‬
‫ومن عليه‪.‬‬ ‫من هداه اهلل َّ‬

‫( ‪)1/752‬‬
‫ق َب ِع ٍيد (‪َ )52‬سُن ِري ِه ْم آََياتَِنا‬‫َض ُّل ِم َّم ْن ُهو ِفي ِشقَا ٍ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ُق ْل أَرأ َْيتُم ِإ ْن َك ِ ِ ِ َّ ِ‬
‫ان م ْن عْند الله ثَُّم َكفَ ْرتُ ْم بِه َم ْن أ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫يد (‪ )53‬أَاَل‬ ‫ِّك أََّنهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه ٌ‬ ‫ق أَولَم ي ْك ِ‬
‫ف بَِرب َ‬ ‫ِ‬
‫ق َو ِفي أ َْنفُس ِه ْم َحتَّى َيتََبي َ‬
‫َّن لَهُ ْم أََّنهُ اْل َح ُّ َ ْ َ‬ ‫ِفي اآْل َفَا ِ‬
‫اء َرِّب ِه ْم أَاَل ِإَّنهُ بِ ُك ِّل َش ْي ٍء ُم ِحيطٌ (‪)54‬‬
‫ِإَّنهم ِفي ِمري ٍة ِم ْن ِلقَ ِ‬
‫َْ‬ ‫ُْ‬

‫ق َب ِع ٍيد *‬
‫َض ُّل ِم َّم ْن ُهو ِفي ِشقَا ٍ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫{ ‪ُ { } 52-54‬ق ْل أَرأ َْيتُم ِإ ْن َك ِ ِ ِ َّ ِ‬
‫ان م ْن عْند الله ثَُّم َكفَ ْرتُ ْم بِه َم ْن أ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫ِّك أََّنهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء‬
‫ف بَِرب َ‬‫ق أَولَم ي ْك ِ‬
‫َّن لَهُ ْم أََّنهُ اْل َح ُّ َ ْ َ‬
‫ِ‬
‫ق َو ِفي أ َْنفُس ِه ْم َحتَّى َيتََبي َ‬‫َسُن ِري ِه ْم َآياتَِنا ِفي اآلفَا ِ‬
‫اء َرِّب ِه ْم أَال ِإَّنهُ بِ ُك ِّل َش ْي ٍء ُم ِحيطٌ } ‪.‬‬ ‫يد * أَال ِإَّنهم ِفي ِمري ٍة ِم ْن ِلقَ ِ‬
‫َْ‬ ‫ُْ‬ ‫َش ِه ٌ‬
‫ان } هذا القرآن { ِم ْن‬ ‫أي { ُق ْل } لهؤالء المكذبين بالقرآن المسارعين إلى الكفران { أ ََرأ َْيتُ ْم ِإ ْن َك َ‬
‫ق َب ِع ٍيد } أي‪ :‬معاندة‬ ‫َض ُّل ِم َّم ْن ُهو ِفي ِشقَا ٍ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫عْند الله } من غير شك وال ارتياب‪ { ،‬ثَُّم َكفَ ْرتُ ْم بِه َم ْن أ َ‬
‫ِ ِ َّ ِ‬
‫للّه ولرسوله‪ ،‬ألنه تبين لكم الحق والصواب‪ ،‬ثم عدلتم عنه‪ ،‬ال إلى حق‪ ،‬بل إلى باطل وجهل‪ ،‬فإذا‬
‫تكونون أضل الناس وأظلمهم‪.‬‬
‫فإن قلتم‪ ،‬أو شككتم بصحته وحقيقته‪ ،‬فسيقيم اللّه لكم‪ ،‬ويريكم من آياته في اآلفاق كاآليات التي في‬
‫السماء وفي األرض‪ ،‬وما يحدثه اللّه تعالى من الحوادث العظيمة‪ ،‬الدالة للمستبصر على الحق‪.‬‬
‫{ َو ِفي أ َْنفُ ِس ِه ْم } مما اشتملت عليه أبدانهم‪ ،‬من بديع آيات اللّه وعجائب صنعته‪ ،‬وباهر قدرته‪،‬‬
‫وفي حلول العقوبات والمثالت في المكذبين‪ ،‬ونصر المؤمنين‪َ { .‬حتَّى َيتََبي َ‬
‫َّن لَهُ ْم } من تلك‬
‫بيانا ال يقبل الشك { أََّنهُ اْل َح ُّ‬
‫ق } وما اشتمل عليه حق‪.‬‬ ‫اآليات‪ً ،‬‬
‫وقد فعل تعالى‪ ،‬فإنه أرى عباده من اآليات‪ ،‬ما به تبين لهم أنه الحق‪ ،‬ولكن اللّه هو الموفق‬
‫لإليمان من شاء‪ ،‬والخاذل لمن يشاء‪.‬‬
‫ك أََّنهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه ٌ‬
‫يد } أي‪ :‬أولم يكفهم على أن القرآن حق‪ ،‬ومن جاء به‬ ‫{ أَولَم ي ْك ِ‬
‫ف بَِرِّب َ‬ ‫َ َْ‬
‫صادق‪ ،‬بشهادة اللّه تعالى‪ ،‬فإنه قد شهد له بالتصديق‪ ،‬وهو أصدق الشاهدين‪ ،‬وأيده‪ ،‬ونصره‬
‫متضمنا لشهادته القولية‪ ،‬عند من شك فيها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫نصرا‬
‫ً‬
‫اء َرِّب ِه ْم } أي‪ :‬في شك من البعث والقيامة‪ ،‬وليس عندهم دار سوى الدار‬ ‫{ أَال ِإَّنهم ِفي ِمري ٍة ِم ْن ِلقَ ِ‬
‫َْ‬ ‫ُْ‬
‫الدنيا‪ ،‬فلذلك لم يعملوا لآلخرة‪ ،‬ولم يلتفتوا لها‪ { .‬أَال ِإَّنهُ بِ ُك ِّل َش ْي ٍء ُم ِحيطٌ } علما وقدرة وعزة‪.‬‬
‫تم تفسير سورة فصلت‬
‫‪-‬بمنه تعالى‪-‬‬

‫( ‪)1/752‬‬
‫تفسير سورة الشورى‬
‫مكية‬

‫( ‪)1/752‬‬

‫يم (‪ )3‬لَهُ َما ِفي‬ ‫ِ‬


‫ك اللهُ اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬
‫ك وإِلَى الَِّذين ِم ْن قَْبِل َ َّ‬
‫َ‬ ‫حم (‪ )1‬عسق (‪َ )2‬ك َذِل َ ِ ِ‬
‫ك ُيوحي إلَْي َ َ‬
‫ات َيتَفَطَّ ْر َن ِم ْن فَ ْو ِق ِه َّن َواْل َماَل ئِ َكةُ‬ ‫َّم َو ُ‬ ‫اد الس َ‬
‫يم (‪ )4‬تَ َك ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َو ُه َو اْل َعل ُّي اْل َعظ ُ‬ ‫ات و َما ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاو َ‬ ‫الس َ‬
‫ين اتَّ َخ ُذوا‬ ‫َِّ‬ ‫ض أَاَل ِإ َّن اللَّه ُهو اْل َغفُور َّ ِ‬ ‫ون ِل َم ْن ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪َ )5‬والذ َ‬ ‫الرح ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ون بِ َح ْمد َرِّب ِه ْم َوَي ْستَ ْغف ُر َ‬ ‫ِّح َ‬‫ُي َسب ُ‬
‫ك قُْرآًَنا َعَربِيًّا ِلتُْن ِذ َر‬ ‫يل (‪َ )6‬و َك َذِل َ‬
‫ك أ َْو َح ْيَنا ِإلَْي َ‬ ‫ت َعلَْي ِهم بِو ِك ٍ‬
‫ْ َ‬ ‫اء اللَّهُ َح ِفيظٌ َعلَْي ِه ْم َو َما أ َْن َ‬ ‫ِ‬
‫م ْن ُدونِه أ َْوِلَي َ‬
‫ِ‬
‫ير (‪َ )7‬ولَ ْو‬ ‫َّع ِ‬‫يق ِفي الس ِ‬ ‫يق ِفي اْل َجَّن ِة َوفَ ِر ٌ‬ ‫يه فَ ِر ٌ‬ ‫أ َُّم اْلقُرى وم ْن حولَها وتُْن ِذر يوم اْلجم ِع اَل ر ْيب ِف ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ َ َ َْ َ َ ْ‬
‫صٍ‬
‫ير‬ ‫اح َدةً ولَ ِك ْن ي ْد ِخ ُل م ْن ي َشاء ِفي ر ْحمتِ ِه والظَّ ِالمون ما لَهم ِم ْن وِل ٍّي واَل َن ِ‬ ‫ُمةً و ِ‬ ‫َش َّ‬
‫َ َ‬ ‫ُ َ َ ُْ‬ ‫َ َ ُ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫اء اللهُ لَ َج َعلَهُ ْم أ َّ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫اء فَاللهُ ُه َو اْل َوِل ُّي َو ُه َو ُي ْحيِي اْل َم ْوتَى َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْيء قَد ٌير (‪)9‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(‪ )8‬أَم اتَّ َخ ُذوا م ْن ُدونِه أ َْوِلَي َ‬

‫ك وإِلَى الَِّذين ِم ْن قَْبِل َ َّ‬ ‫الر ِح ِيم حم * عسق * َك َذِل َ ِ ِ‬ ‫{ ‪ { } 1-9‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫ك اللهُ‬ ‫َ‬ ‫ك ُيوحي إلَْي َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات‬
‫َّم َاو ُ‬‫اد الس َ‬ ‫يم * تَ َك ُ‬
‫ض َو ُه َو اْل َعل ُّي اْل َعظ ُ‬ ‫َّم َاوات َو َما في ْ‬ ‫يم * لَهُ َما في الس َ‬ ‫اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬
‫ض أَال ِإ َّن اللَّهَ ُه َو‬‫األر ِ‬ ‫يتَفَطَّرن ِم ْن فَو ِق ِه َّن واْلمالئِ َكةُ يسبِّحون بِحم ِد رِّب ِهم ويستَ ْغ ِفر ِ ِ‬
‫ون ل َم ْن في ْ‬ ‫ُ َ ُ َ َْ َ ْ ََ ْ ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ‬
‫يل * َو َك َذِل َ‬
‫ك‬ ‫ت َعلَْي ِهم بِو ِك ٍ‬
‫ْ َ‬ ‫اء اللَّهُ َح ِفيظٌ َعلَْي ِه ْم َو َما أ َْن َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين اتَّ َخ ُذوا م ْن ُدونِه أَوِلَي َ‬
‫َِّ‬
‫يم * َوالذ َ‬
‫اْل َغفُور َّ ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫ُ‬
‫يق ِفي اْل َجَّن ِة‬ ‫يه فَ ِر ٌ‬ ‫ك قُر ًآنا عربِيًّا ِلتُْن ِذر أ َُّم اْلقُرى وم ْن حولَها وتُْن ِذر يوم اْلجم ِع ال ر ْيب ِف ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ َ َ َْ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫أ َْو َح ْيَنا ِإلَْي َ ْ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫اح َدةً ولَ ِك ْن ي ْد ِخ ُل م ْن ي َش ِ‬ ‫ُمةً و ِ‬ ‫ير * ولَو َش َّ‬ ‫ِ‬ ‫وفَ ِر ٌ ِ‬
‫ون‬
‫اء في َر ْح َمته َوالظال ُم َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫اء اللهُ لَ َج َعلَهُ ْم أ َّ َ‬ ‫يق في السَّع ِ َ ْ َ‬ ‫َ‬
‫اء فَاللَّهُ ُه َو اْل َوِل ُّي َو ُه َو ُي ْحيِي اْل َم ْوتَى َو ُه َو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ير * أَم اتَّ َخ ُذوا م ْن ُدونِه أ َْوِلَي َ‬ ‫صٍ‬ ‫ما لَهم ِم ْن وِل ٍّي وال َن ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ ُْ‬
‫ِ‬
‫َعلَى ُك ِّل َش ْيء قَد ٌير } ‪ [ .‬ص ‪] 753‬‬ ‫ٍ‬
‫يخبر تعالى أنه أوحى هذا القرآن العظيم إلى النبي الكريم‪ ،‬كما أوحى إلى من قبله من األنبياء‬
‫والمرسلين‪ ،‬ففيه بيان فضله‪ ،‬بإنزال الكتب‪ ،‬وإ رسال الرسل‪ ،‬سابقا والحقا‪ ،‬وأن محمدا صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ليس ببدع من الرسل‪ ،‬وأن طريقته طريقة من قبله‪ ،‬وأحواله تناسب أحوال من قبله من‬
‫المرسلين‪ .‬وما جاء به يشابه ما جاءوا به‪ ،‬ألن الجميع حق وصدق‪ ،‬وهو تنزيل من اتصف‬
‫باأللوهية والعزة العظيمة والحكمة البالغة‪ ،‬وأن جميع العالم العلوي والسفلي ملكه وتحت تدبيره‬
‫القدري والشرعي‪.‬‬
‫يم } الذي من عظمته‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وأنه { اْل َعل ُّي } بذاته وقدره وقهره‪ { .‬اْل َعظ ُ‬
‫ات َيتَفَطَّ ْر َن ِم ْن فَ ْو ِق ِه َّن } على عظمها وكونها جمادا‪َ { ،‬واْل َمالئِ َكةُ } الكرام المقربون‬
‫َّم َاو ُ‬
‫اد الس َ‬
‫{ تَ َك ُ‬
‫ون بِ َح ْم ِد َرِّب ِه ْم } ويعظمونه عن‬
‫ِّح َ‬
‫خاضعون لعظمته‪ ،‬مستكينون لعزته‪ ،‬مذعنون بربوبيته‪ُ { .‬ي َسب ُ‬
‫ض } عما يصدر منهم‪ ،‬مما ال يليق‬ ‫األر ِ‬ ‫كل نقص‪ ،‬ويصفونه بكل كمال‪ { ،‬ويستَ ْغ ِفر ِ ِ‬
‫ون ل َم ْن في ْ‬
‫ََ ْ ُ َ‬
‫يم } الذي لوال مغفرته ورحمته‪ ،‬لعاجل‬ ‫بعظمة ربهم وكبريائه‪ ،‬مع أنه تعالى هو { اْل َغفُور َّ ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫ُ‬
‫الخلق بالعقوبة المستأصلة‪.‬‬
‫وفي وصفه تعالى بهذه األوصاف‪ ،‬بعد أن ذكر أنه أوحى إلى الرسل كلهم عموما‪ ،‬وإ لى محمد ‪-‬‬
‫صلى اهلل عليهم أجمعين‪ -‬خصوصا‪ ،‬إشارة إلى أن هذا القرآن الكريم‪ ،‬فيه من األدلة والبراهين‪،‬‬
‫واآليات الدالة على كمال الباري تعالى‪ ،‬ووصفه بهذه األسماء العظيمة الموجبة المتالء القلوب‬
‫من معرفته ومحبته وتعظيمه وإ جالله وإ كرامه‪ ،‬وصرف جميع أنواع العبودية الظاهرة والباطنة‬
‫له تعالى‪ ،‬وأن من أكبر الظلم وأفحش القول‪ ،‬اتخاذ أنداد للّه من دونه‪ ،‬ليس بيدهم نفع وال ضرر‪،‬‬
‫ين اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُدونِ ِه‬ ‫َِّ‬
‫بل هم مخلوقون مفتقرون إلى اهلل في جميع أحوالهم‪ ،‬ولهذا عقبه بقوله‪َ { :‬والذ َ‬
‫أ َْوِلَي َ‬
‫اء }‬
‫يتولونهم بالعبادة والطاعة‪ ،‬كما يعبدون اهلل ويطيعونه‪ ،‬فإنما اتخذوا الباطل‪ ،‬وليسوا بأولياء على‬
‫ت َعلَْي ِه ْم‬‫الحقيقة‪ { .‬اللَّهُ َح ِفيظٌ َعلَْي ِه ْم } يحفظ عليهم أعمالهم‪ ،‬فيجازيهم بخيرها وشرها‪َ { .‬و َما أ َْن َ‬
‫يل } فتسأل عن أعمالهم‪ ،‬وإ نما أنت مبلغ أديت وظيفتك‪.‬‬ ‫بِو ِك ٍ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ثم ذكر منته على رسوله وعلى الناس‪ ،‬حيث أنزل اهلل { قُْر ًآنا َع َربيًّا } بين األلفاظ والمعاني‬
‫{ ِلتُْن ِذ َر أ َُّم اْلقَُرى } وهي مكة المكرمة { َو َم ْن َح ْولَهَا } من قرى العرب‪ ،‬ثم يسري هذا اإلنذار إلى‬
‫سائر الخلق‪َ { .‬وتُْن ِذ َر } الناس { َي ْو َم اْل َج ْم ِع } الذي يجمع اهلل به األولين واآلخرين‪ ،‬وتخبرهم أنه {‬
‫يق ِفي اْل َجَّن ِة } وهم الذين آمنوا باهلل‪ ،‬وصدقوا‬ ‫يه } وأن الخلق ينقسمون فيه فريقين { فَ ِر ٌ‬ ‫ال ر ْيب ِف ِ‬
‫َ َ‬
‫ير } وهم أصناف الكفرة المكذبين‪.‬‬ ‫يق ِفي الس ِ‬
‫َّع ِ‬ ‫المرسلين‪َ { ،‬وفَ ِر ٌ‬
‫اح َدةً } على الهدى‪ ،‬ألنه‬ ‫ُمةً و ِ‬ ‫{ و } مع هذا { لَو َش َّ‬
‫اء اللهُ } لجعل الناس‪ ،‬أي‪ :‬جعل الناس { أ َّ َ‬ ‫ْ َ‬
‫القادر الذي ال يمتنع عليه شيء‪ ،‬ولكنه أراد أن يدخل في رحمته من شاء من خواص خلقه‪.‬‬
‫وأما الظالمون الذين ال يصلحون لصالح‪ ،‬فإنهم محرومون من الرحمة‪ ،‬فـ { َما لَهُ ْم } من دون اهلل‬
‫ير } يدفع عنهم المكروه‪.‬‬‫صٍ‬‫{ ِم ْن وِل ٍّي } يتوالهم‪ ،‬فيحصل لهم المحبوب { وال َن ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء } يتولونهم بعبادتهم إياهم‪ ،‬فقد غلطوا أقبح غلط‪ .‬فاهلل هو الولي‬‫والذين { اتَّ َخ ُذوا م ْن ُدونِه أ َْوِلَي َ‬
‫الذي يتواله عبده بعبادته وطاعته‪ ،‬والتقرب إليه بما أمكن من أنواع التقربات‪ ،‬ويتولى عباده‬
‫عموما بتدبيره‪ ،‬ونفوذ القدر فيهم‪ ،‬ويتولى عباده المؤمنين خصوصا‪ ،‬بإخراجهم من الظلمات إلى‬
‫النور‪ ،‬وتربيتهم بلطفه‪ ،‬وإ عانتهم في جميع أمورهم‪.‬‬
‫{ َو ُه َو ُي ْحيِي اْل َم ْوتَى َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير } أي‪ :‬هو المتصرف باإلحياء واإلماتة‪ ،‬ونفوذ‬
‫المشيئة والقدرة‪ ،‬فهو الذي يستحق أن يعبد وحده ال شريك له‪.‬‬
‫( ‪)1/752‬‬

‫يب (‪)10‬‬‫ِ ِ‬ ‫يه ِم ْن َش ْي ٍء فَ ُح ْك ُمهُ ِإلَى اللَّ ِه َذِل ُك ُم اللَّهُ َربِّي َعلَْي ِه تََو َّكْل ُ‬
‫اختَلَ ْفتُم ِف ِ‬
‫ت َوإِلَْيه أُن ُ‬ ‫َو َما ْ ْ‬

‫يب‬ ‫ِ ِ‬ ‫يه ِم ْن َش ْي ٍء فَ ُح ْك ُمهُ ِإلَى اللَّ ِه َذِل ُك ُم اللَّهُ َربِّي َعلَْي ِه تََو َّكْل ُ‬
‫اختَلَ ْفتُم ِف ِ‬
‫ت َوإِلَْيه أُن ُ‬ ‫{ ‪َ { } 10-12‬و َما ْ ْ‬
‫*}‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ِِ ِ‬
‫اختَلَ ْفتُ ْم فيه م ْن َش ْيء } من أصول دينكم وفروعه‪ ،‬مما لم تتفقوا عليه { فَ ُح ْك ُمهُ‬ ‫يقول تعالى‪َ { :‬و َما ْ‬
‫ِإلَى اللَّ ِه } يرد إلى كتابه‪ ،‬وإ لى سنة رسوله‪ ،‬فما حكما به فهو الحق‪ ،‬وما خالف ذلك فباطل‪.‬‬
‫{ َذِل ُك ُم اللَّهُ َربِّي } أي‪ :‬فكما أنه تعالى الرب الخالق الرازق المدبر‪ ،‬فهو تعالى الحاكم بين عباده‬
‫بشرعه في جميع أمورهم‪.‬‬
‫ومفهوم اآلية الكريمة‪ ،‬أن اتفاق األمة حجة قاطعة‪ ،‬ألن اللّه تعالى لم يأمرنا أن نرد إليه إال ما‬
‫اختلفنا فيه‪ ،‬فما اتفقنا عليه‪ ،‬يكفي اتفاق األمة عليه‪ ،‬ألنها معصومة عن الخطأ‪ ،‬وال بد أن يكون‬
‫اتفاقها موافقا لما في كتاب اللّه وسنة رسوله‪.‬‬
‫ت } أي‪ :‬اعتمدت بقلبي عليه في جلب المنافع ودفع المضار‪ ،‬واثقا به تعالى‬ ‫وقوله‪َ { :‬علَْي ِه تََو َّكْل ُ‬
‫يب } أي‪ :‬أتوجه بقلبي وبدني إليه‪ ،‬وإ لى طاعته وعبادته‪.‬‬‫ِ ِ‬
‫في اإلسعاف بذلك‪َ { .‬وإِلَْيه أُن ُ‬
‫وهذان األصالن‪ ،‬كثيرا ما يذكرهما اللّه في كتابه‪ ،‬ألنهما يحصل بمجموعهما كمال العبد‪ ،‬ويفوته‬
‫ين } وقوله‪:‬‬ ‫َّاك َنعب ُد وإِي َ ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاك َن ْستَع ُ‬ ‫[ ص ‪ ] 754‬الكمال بفوتهما أو فوت أحدهما‪ ،‬كقوله تعالى‪ { :‬إي َ ْ ُ َ‬
‫اعُب ْدهُ َوتََو َّك ْل َعلَْي ِه } ‪.‬‬
‫{ فَ ْ‬

‫( ‪)1/753‬‬

‫يه لَْي َس َك ِمثِْل ِه‬ ‫ض جع َل لَ ُكم ِم ْن أ َْنفُ ِس ُكم أ َْزواجا و ِمن اأْل َْنع ِام أ َْزواجا ي ْذرؤ ُكم ِف ِ‬
‫َ ً ََُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ً َ َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َواأْل َْر ِ َ َ ْ‬
‫ِ‬
‫فَاط ُر الس َ‬
‫ِ‬ ‫الر ْز َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص ُير (‪ )11‬لَهُ َمقَ ِال ُ‬‫َّميع اْلب ِ‬
‫ِ‬
‫اء َوَي ْقد ُر ِإَّنهُ‬
‫ق ل َم ْن َي َش ُ‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬
‫ض َي ْب ُسطُ ِّ‬ ‫َّم َاو َ‬
‫يد الس َ‬ ‫َش ْي ٌء َو ُه َو الس ُ َ‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِّ‬
‫يم (‪)12‬‬ ‫بِ ُكل َش ْيء َعل ٌ‬

‫األنع ِام أ َْزواجا ي ْذرؤ ُكم ِف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫يه لَْي َس‬ ‫َ ً ََُ ْ‬ ‫اجا َو ِم َن ْ َ‬
‫ض َج َع َل لَ ُك ْم م ْن أ َْنفُس ُك ْم أ َْز َو ً‬‫األر ِ‬‫َّم َاوات َو ْ‬
‫{ فَاط ُر الس َ‬
‫اء َوَي ْق ِد ُر‬ ‫الر ْز َ ِ‬
‫ق ل َم ْن َي َش ُ‬ ‫األر ِ‬
‫ض َي ْب ُسطُ ِّ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫يد الس َ‬ ‫ص ُير * لَهُ َمقَ ِال ُ‬ ‫َّميع اْلب ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫َكمثْله َش ْي ٌء َو ُه َو الس ُ َ‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِّ‬
‫ِإَّنهُ بِ ُكل َش ْيء َعل ٌ‬
‫يم } ‪.‬‬
‫ض } أي‪ :‬خالقهما بقدرته ومشيئته وحكمته‪َ { .‬ج َع َل لَ ُك ْم ِم ْن أ َْنفُ ِس ُك ْم‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ِ‬
‫{ فَاط ُر الس َ‬
‫اجا } لتسكنوا إليها‪ ،‬وتنتشر منكم الذرية‪ ،‬ويحصل لكم من النفع ما يحصل‪.‬‬ ‫أ َْز َو ً‬
‫اجا } أي‪ :‬ومن جميع أصنافها نوعين‪ ،‬ذكرا وأنثى‪ ،‬لتبقى وتنمو لمنافعكم‬ ‫األن َع ِام أ َْز َو ً‬
‫{ َو ِم َن ْ‬
‫الكثيرة‪ ،‬ولهذا عداها بالالم الدالة على التعليل‪ ،‬أي‪ :‬جعل ذلك ألجلكم‪ ،‬وألجل النعمة عليكم‪ ،‬ولهذا‬
‫قال‪ { :‬يذرؤكم فيه } أي‪ :‬يبثكم ويكثركم ويكثر مواشيكم‪ ،‬بسبب أن جعل لكم من أنفسكم‪ ،‬وجعل‬
‫لكم من األنعام أزواجا‪.‬‬
‫{ لَْي َس َك ِم ْثِل ِه َش ْي ٌء } أي‪ :‬ليس يشبهه تعالى وال يماثله شيء من مخلوقاته‪ ،‬ال في ذاته‪ ،‬وال في‬
‫أسمائه‪ ،‬وال في صفاته‪ ،‬وال في أفعاله‪ ،‬ألن أسماءه كلها حسنى‪ ،‬وصفاته صفة (‪ )1‬كمال‬
‫وعظمة‪ ،‬وأفعاله تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك‪ ،‬فليس كمثله شيء‪،‬‬
‫النفراده وتوحده بالكمال من كل وجه‪ { .‬و ُهو الس ِ‬
‫َّميعُ } لجميع األصوات‪ ،‬باختالف اللغات‪ ،‬على‬ ‫َ َ‬
‫تفنن الحاجات‪ { .‬اْلب ِ‬
‫ص ُير } يرى دبيب النملة السوداء‪ ،‬في الليلة الظلماء‪ ،‬على الصخرة الصماء‪،‬‬ ‫َ‬
‫ويرى سريان القوت في أعضاء الحيوانات الصغيرة جدا‪ ،‬وسريان الماء في األغصان الدقيقة‪.‬‬
‫وهذه اآلية ونحوها‪ ،‬دليل لمذهب أهل السنة والجماعة‪ ،‬من إثبات الصفات‪ ،‬ونفي مماثلة‬
‫المخلوقات‪ .‬وفيها رد على المشبهة في قوله‪ { :‬لَْي َس َك ِمثِْل ِه َش ْي ٌء } وعلى المعطلة في قوله‪:‬‬
‫َّميع اْلب ِ‬
‫ص ُير }‬ ‫ِ‬
‫{ َو ُه َو الس ُ َ‬
‫ض } أي‪ :‬له ملك السماوات واألرض‪ ،‬وبيده مفاتيح الرحمة‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫وقوله‪ { :‬لَهُ َمقَ ِال ُ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫يد الس َ‬
‫واألرزاق‪ ،‬والنعم الظاهرة والباطنة‪ .‬فكل الخلق مفتقرون إلى اللّه‪ ،‬في جلب مصالحهم‪ ،‬ودفع‬
‫المضار عنهم‪ ،‬في كل األحوال‪ ،‬ليس بيد أحد من األمر شيء‪.‬‬
‫واللّه تعالى هو المعطي المانع‪ ،‬الضار النافع‪ ،‬الذي ما بالعباد من نعمة إال منه‪ ،‬وال يدفع الشر إال‬
‫ك لَهَا َو َما ُي ْم ِس ْك فَال ُم ْر ِس َل لَهُ ِم ْن َب ْع ِد ِه }‬
‫اس ِم ْن َر ْح َم ٍة فَال ُم ْم ِس َ‬
‫هو‪ ،‬و { َما َي ْفتَ ِح اللَّهُ ِل َّلن ِ‬
‫اء } أي‪ :‬يوسعه ويعطيه من أصناف الرزق ما شاء‪،‬‬ ‫الر ْز َ ِ‬
‫ق ل َم ْن َي َش ُ‬ ‫ولهذا قال هنا‪َ { :‬ي ْب ُسطُ ِّ‬
‫{ َوَي ْق ِد ُر } أي‪ :‬يضيق على من يشاء‪ ،‬حتى يكون بقدر حاجته‪ ،‬ال يزيد عنها‪ ،‬وكل هذا تابع لعلمه‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِّ‬
‫يم } فيعلم أحوال عباده‪ ،‬فيعطي كال ما يليق بحكمته‬ ‫وحكمته‪ ،‬فلهذا قال‪ِ { :‬إَّنهُ بِ ُكل َش ْيء َعل ٌ‬
‫وتقتضيه مشيئته‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كذا في النسختين ولعل الصواب‪( :‬صفات)‪.‬‬

‫( ‪)1/754‬‬
‫ك وما وص ْ ِ ِ ِ ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ع لَ ُك ْم ِم َن ِّ‬
‫وسى َو ِع َ‬
‫يسى‬ ‫يم َو ُم َ‬ ‫َّيَنا به إ ْب َراه َ‬
‫ِ‬ ‫ين َما َوصَّى بِه ُن ً‬
‫وحا َوالذي أ َْو َح ْيَنا إلَْي َ َ َ َ‬ ‫الد ِ‬ ‫َش َر َ‬
‫ِ‬ ‫يه َكبر علَى اْلم ْش ِر ِكين ما تَ ْدع ُ ِ َّ‬ ‫ِِ‬ ‫أْ ِ‬
‫وه ْم ِإلَْيه اللهُ َي ْجتَبِي ِإلَْيه َم ْن َي َش ُ‬
‫اء‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ين َواَل تَتَفََّرقُوا ف ُ َ َ‬ ‫يموا ِّ‬
‫الد َ‬ ‫َن أَق ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يب (‪)13‬‬ ‫َوَي ْهدي ِإلَْيه َم ْن ُين ُ‬

‫ك وما وص ْ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ع لَ ُك ْم ِم َن ِّ‬


‫وسى‬
‫يم َو ُم َ‬ ‫َّيَنا به إ ْب َراه َ‬ ‫وحا َوالذي أ َْو َح ْيَنا إلَْي َ َ َ َ‬‫ين َما َوصَّى بِه ُن ً‬ ‫الد ِ‬ ‫{ ‪َ { } 13‬ش َر َ‬
‫وه ْم ِإلَْي ِه اللَّهُ َي ْجتَبِي ِإلَْي ِه َم ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين َوال تَتَفََّرقُوا فيه َكُب َر َعلَى اْل ُم ْش ِرك َ‬
‫ين َما تَ ْد ُع ُ‬ ‫يموا ِّ‬
‫الد َ‬
‫و ِعيسى أ ْ ِ‬
‫َن أَق ُ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يب } ‪.‬‬ ‫اء َوَي ْهدي ِإلَْيه َم ْن ُين ُ‬
‫َي َش ُ‬
‫هذه أكبر منة أنعم اهلل بها على عباده‪ ،‬أن شرع لهم من الدين خير األديان وأفضلها‪ ،‬وأزكاها‬
‫وأطهرها‪ ،‬دين اإلسالم‪ ،‬الذي شرعه اهلل للمصطفين المختارين من عباده‪ ،‬بل شرعه اهلل لخيار‬
‫الخيار‪ ،‬وصفوة الصفوة‪ ،‬وهم أولو العزم من المرسلين المذكورون في هذه اآلية‪ ،‬أعلى الخلق‬
‫درجة‪ ،‬وأكملهم من كل وجه‪ ،‬فالدين الذي شرعه اهلل لهم‪ ،‬ال بد أن يكون مناسبا ألحوالهم‪ ،‬موافقا‬
‫لكمالهم‪ ،‬بل إنما كملهم اهلل واصطفاهم‪ ،‬بسبب قيامهم به‪ ،‬فلوال الدين اإلسالمي‪ ،‬ما ارتفع أحد من‬
‫الخلق‪ ،‬فهو روح السعادة‪ ،‬وقطب رحى الكمال‪ ،‬وهو ما تضمنه هذا الكتاب الكريم‪ ،‬ودعا إليه من‬
‫التوحيد واألعمال واألخالق واآلداب‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أصوله وفروعه‪ ،‬تقيمونه‬ ‫يموا ِّ‬ ‫ولهذا قال‪ { :‬أ ْ ِ‬
‫الد َ‬ ‫َن أَق ُ‬
‫بأنفسكم‪ ،‬وتجتهدون في إقامته على غيركم‪ ،‬وتعاونون على البر والتقوى وال تعاونون على اإلثم‬
‫يه } أي‪ :‬ليحصل منكم االتفاق على أصول الدين وفروعه‪ ،‬واحرصوا‬ ‫والعدوان‪ { .‬وال تَتَفََّرقُوا ِف ِ‬
‫َ‬
‫على أن ال تفرقكم المسائل وتحزبكم أحزابا‪ ،‬وتكونون شيعا يعادي بعضكم بعضا مع اتفاقكم على‬
‫أصل دينكم‪.‬‬
‫ومن أنواع االجتماع على الدين وعدم التفرق فيه‪ ،‬ما أمر به الشارع من االجتماعات العامة‪،‬‬
‫كاجتماع الحج واألعياد‪ ،‬والجمع والصلوات الخمس والجهاد‪ ،‬وغير ذلك من العبادات التي ال تتم‬
‫وال تكمل إال باالجتماع لها وعدم التفرق‪.‬‬
‫وه ْم ِإلَْي ِه } أي‪ :‬شق عليهم غاية المشقة‪ ،‬حيث دعوتهم إلى اإلخالص‬ ‫ِ‬
‫{ َكُب َر َعلَى اْل ُم ْش ِرك َ‬
‫ين َما تَ ْد ُع ُ‬
‫اآلخ َر ِة َوإِ َذا ُذ ِك َر‬
‫ت ُقلُوب الَِّذين ال يؤ ِمُنون بِ ِ‬
‫َ ُْ َ‬ ‫ُ‬ ‫للّه وحده‪ ،‬كما قال عنهم‪َ { :‬وإِ َذا ُذ ِك َر اللَّهُ َو ْح َدهُ ا ْش َمأ ََّز ْ‬
‫اآللهةَ ِإلَها و ِ‬
‫اح ًدا ِإ َّن َه َذا لَ َش ْي ٌء ُع َج ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الَِّذ ِ‬
‫اب }‬ ‫َج َع َل َ ً َ‬ ‫ون } وقولهم‪ { :‬أ َ‬ ‫ين م ْن ُدونِه ِإ َذا ُه ْم َي ْستَْبش ُر َ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫اء } أي يختار من خليقته من يعلم أنه يصلح لالجتباء‬ ‫[ ص ‪ { ] 755‬اللهُ َي ْجتَبِي ِإلَْيه َم ْن َي َش ُ‬
‫لرسالته وواليته ومنه أن اجتبى هذه األمة وفضلها على سائر األمم‪ ،‬واختار لها أفضل األديان‬
‫وخيرها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َوَي ْهدي ِإلَْيه َم ْن ُين ُ‬
‫يب } هذا السبب الذي من العبد‪ ،‬يتوصل به إلى هداية اهلل تعالى‪ ،‬وهو إنابته‬
‫لربه‪ ،‬وانجذاب دواعي قلبه إليه‪ ،‬وكونه قاصدا وجهه‪ ،‬فحسن مقصد العبد مع اجتهاده في طلب‬
‫ضو َانهُ سُب َل الس ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ ِ ِ َّ‬
‫َّالم }‬ ‫ُ‬ ‫الهداية‪ ،‬من أسباب التيسير لها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ي ْهدي به اللهُ َم ِن اتَب َع ِر ْ َ‬
‫اب ِإلَ َّي } مع العلم‬ ‫يب } مع قوله‪َ { :‬واتَّبِ ْع َسبِ َ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يل َم ْن أََن َ‬ ‫وفي هذه اآلية‪ ،‬أن اهلل { َي ْهدي ِإلَْيه َم ْن ُين ُ‬
‫بأحوال الصحابة رضي اهلل عنهم‪ ،‬وشدة إنابتهم‪ ،‬دليل على أن قولهم حجة‪ ،‬خصوصا الخلفاء‬
‫الراشدين‪ ،‬رضي اهلل عنهم أجمعين‪.‬‬

‫( ‪)1/754‬‬

‫َج ٍل ُم َس ًّمى‬ ‫ِّك ِإلَى أ َ‬ ‫ت ِم ْن َرب َ‬ ‫اء ُه ُم اْل ِعْل ُم َب ْغًيا َب ْيَنهُ ْم َولَ ْواَل َكِل َمةٌ َسَبقَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫اَّل ِ‬
‫َو َما تَفََّرقُوا ِإ م ْن َب ْعد َما َج َ‬
‫استَِق ْم َك َما‬‫ك فَ ْادعُ َو ْ‬ ‫يب (‪َ )14‬فِل َذِل َ‬ ‫ك ِم ْنهُ م ِر ٍ‬
‫ُ‬
‫اب ِم ْن َب ْع ِد ِهم لَِفي َش ٍّ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫ُورثُوا اْلكتَ َ‬ ‫ين أ ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫لَقُض َي َب ْيَنهُ ْم َوإِ َّن الذ َ‬
‫َع ِد َل َب ْيَن ُك ُم اللَّهُ َربَُّنا َو َرُّب ُك ْم‬
‫ت أِل ْ‬
‫ُم ْر ُ‬ ‫اب وأ ِ‬ ‫َّ ِ ِ ٍ‬
‫ت ب َما أ َْن َز َل اللهُ م ْن كتَ َ‬
‫اء ُه ْم و ُق ْل آَم ْن ُ ِ‬
‫َ‬ ‫َه َو َ َ‬ ‫ت َواَل تَتَّبِ ْع أ ْ‬ ‫أِ‬
‫ُم ْر َ‬
‫ص ُير (‪)15‬‬ ‫َعمالُ ُكم اَل ح َّجةَ ب ْيَنَنا وب ْيَن ُكم اللَّه ي ْجمع ب ْيَنَنا وإِلَْي ِه اْلم ِ‬
‫َ‬ ‫َع َمالَُنا َولَ ُك ْم أ ْ َ ْ ُ َ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ َ‬ ‫لََنا أ ْ‬

‫ك ِإلَى‬ ‫ت ِم ْن َرِّب َ‬ ‫اء ُه ُم اْل ِعْل ُم َب ْغًيا َب ْيَنهُ ْم َولَ ْوال َكِل َمةٌ َسَبقَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪َ { } 14-15‬و َما تَفََّرقُوا ِإال م ْن َب ْعد َما َج َ‬
‫ك فَ ْادعُ‬‫يب * َفِل َذِل َ‬‫ك ِم ْنهُ م ِر ٍ‬
‫ُ‬
‫اب ِم ْن َب ْع ِد ِهم لَِفي َش ٍّ‬
‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ين أ ِ‬
‫ُورثُوا اْلكتَ َ‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫َج ٍل ُم َس ًّمى لَقُض َي َب ْيَنهُ ْم َوإِ َّن الذ َ‬ ‫أَ‬
‫َّ‬ ‫ت ِْ‬ ‫اب وأ ِ‬ ‫َّ ِ ِ ٍ‬ ‫اء ُه ْم و ُق ْل آم ْن ُ ِ‬ ‫ت َوال تَتَّبِ ْع أ ْ‬ ‫واستَِقم َكما أ ِ‬
‫ألعد َل َب ْيَن ُك ُم اللهُ‬ ‫ُم ْر ُ‬ ‫ت ب َما أ َْن َز َل اللهُ م ْن كتَ َ‬ ‫َ‬ ‫َه َو َ َ‬ ‫ُم ْر َ‬ ‫َ ْ ْ َ‬
‫ص ُير } ‪.‬‬ ‫َعمالُ ُكم ال ح َّجةَ ب ْيَنَنا وب ْيَن ُكم اللَّه ي ْجمع ب ْيَنَنا وإِلَْي ِه اْلم ِ‬ ‫َربَُّنا َو َرُّب ُك ْم لََنا أ ْ‬
‫َ‬ ‫َع َمالَُنا َولَ ُك ْم أ ْ َ ْ ُ َ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ َ‬
‫لما أمر تعالى باجتماع المسلمين على دينهم‪ ،‬ونهاهم عن التفرق‪ ،‬أخبرهم‬
‫أنكم ال تغتروا بما أنزل اهلل عليكم من الكتاب‪ ،‬فإن أهل الكتاب لم يتفرقوا حتى أنزل اهلل عليهم‬
‫الكتاب الموجب لالجتماع‪ ،‬ففعلوا ضد ما يأمر به كتابهم‪ ،‬وذلك كله بغيا وعدوانا منهم‪ ،‬فإنهم‬
‫تباغضوا وتحاسدوا‪ ،‬وحصلت بينهم المشاحنة والعداوة‪ ،‬فوقع االختالف‪ ،‬فاحذروا أيها المسلمون‬
‫أن تكونوا مثلهم‪.‬‬
‫ِّك } أي‪ :‬بتأخير العذاب القاضي { إلى أجل مسمى لَقُ ِ‬
‫ض َي َب ْيَنهُ ْم }‬ ‫ت ِم ْن َرب َ‬
‫{ َولَ ْوال َكِل َمةٌ َسَبقَ ْ‬
‫اب ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم } أي‪ :‬الذين‬ ‫ِ‬
‫ُورثُوا اْلكتَ َ‬‫ين أ ِ‬ ‫َِّ‬
‫ولكن حكمته وحلمه‪ ،‬اقتضى تأخير ذلك عنهم‪َ { .‬وإِ َّن الذ َ‬
‫يب } أي‪ :‬لفي اشتباه‬ ‫ك ِم ْنهُ م ِر ٍ‬
‫ورثوهم وصاروا خلفا لهم ممن ينتسب إلى العلم منهم { لَِفي َش ٍّ‬
‫ُ‬
‫كثير يوقع في االختالف‪ ،‬حيث اختلف سلفهم بغيا وعنادا‪ ،‬فإن خلفهم اختلفوا شكا وارتيابا‪،‬‬
‫والجميع مشتركون في االختالف المذموم‪.‬‬
‫{ َفِل َذِل َ‬
‫ك فَ ْادعُ } أي‪ :‬فللدين القويم والصراط المستقيم‪ ،‬الذي أنزل اهلل به كتبه وأرسل رسله‪ ،‬فادع‬
‫ت } أي‪ :‬استقامة‬ ‫إليه أمتك وحضهم عليه‪ ،‬وجاهد عليه‪ ،‬من لم يقبله‪ { ،‬واستَِقم } بنفسك { َكما أ ِ‬
‫ُم ْر َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ْ‬
‫موافقة ألمر اهلل‪ ،‬ال تفريط وال إفراط‪ ،‬بل امتثاال ألوامر اهلل واجتنابا لنواهيه‪ ،‬على وجه‬
‫االستمرار على ذلك‪ ،‬فأمره بتكميل نفسه بلزوم االستقامة‪ ،‬وبتكميل غيره بالدعوة إلى ذلك‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن أمر الرسول صلى اهلل عليه وسلم أمر ألمته إذا لم يرد تخصيص له‪.‬‬
‫اء ُه ْم } أي‪ :‬أهواء المنحرفين عن الدين‪ ،‬من الكفرة والمنافقين إما باتباعهم على‬ ‫{ َوال تَتَّبِ ْع أ ْ‬
‫َه َو َ‬
‫بعض دينهم‪ ،‬أو بترك الدعوة إلى اهلل‪ ،‬أو بترك االستقامة‪ ،‬فإنك إن اتبعت أهواءهم من بعد ما‬
‫جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين‪ ،‬ولم يقل‪" :‬وال تتبع دينهم" ألن حقيقة دينهم الذي شرعه اهلل‬
‫لهم‪ ،‬هو دين الرسل كلهم‪ ،‬ولكنهم لم يتبعوه‪ ،‬بل اتبعوا أهواءهم‪ ،‬واتخذوا دينهم لهوا ولعبا‪.‬‬
‫اب } أي‪ :‬لتكن مناظرتك لهم‬ ‫َنزل اللَّهُ ِم ْن ِكتَ ٍ‬
‫ت بِ َما أ َ‬
‫آم ْن ُ‬
‫{ َو ُق ْل } لهم عند جدالهم ومناظرتهم‪َ { :‬‬
‫مبنية على هذا األصل العظيم‪ ،‬الدال على شرف اإلسالم وجاللته وهيمنته على سائر األديان‪،‬‬
‫وأن الدين الذي يزعم أهل الكتاب أنهم عليه جزء من اإلسالم‪ ،‬وفي هذا إرشاد إلى أن أهل الكتاب‬
‫إن ناظروا مناظرة مبنية على اإليمان ببعض الكتب‪ ،‬أو ببعض الرسل دون غيره‪ ،‬فال يسلم لهم‬
‫ذلك‪ ،‬ألن الكتاب الذي يدعون إليه‪ ،‬والرسول الذي ينتسبون إليه‪ ،‬من شرطه أن يكون مصدقا بهذا‬
‫القرآن وبمن جاء به‪ ،‬فكتابنا ورسولنا لم يأمرنا إال باإليمان بموسى وعيسى والتوراة واإلنجيل‪،‬‬
‫التي أخبر بها وصدق بها‪ ،‬وأخبر أنها مصدقة له ومقرة بصحته‪.‬‬
‫وأما مجرد التوراة واإلنجيل‪ ،‬وموسى وعيسى‪ ،‬الذين لم يوصفوا لنا‪ ،‬ولم يوافقوا لكتابنا‪ ،‬فلم‬
‫يأمرنا باإليمان بهم‪.‬‬
‫ألع ِد َل َب ْيَن ُك ُم } أي‪ :‬في الحكم فيما اختلفتم فيه‪ ،‬فال تمنعني عداوتكم وبغضكم‪ ،‬يا‬ ‫ت ْ‬ ‫وقوله‪ { :‬وأ ِ‬
‫ُم ْر ُ‬ ‫َ‬
‫أهل الكتاب من العدل بينكم‪ ،‬ومن العدل في الحكم‪ ،‬بين أهل األقوال المختلفة‪ ،‬من أهل الكتاب‬
‫وغيرهم‪ ،‬أن يقبل ما معهم من الحق‪ ،‬ويرد ما معهم من الباطل‪ { ،‬اللَّهُ َربَُّنا َو َرُّب ُك ْم } أي‪ :‬هو رب‬
‫َع َمالُ ُك ْم } من خير وشر { ال ُح َّجةَ َب ْيَنَنا َوَب ْيَن ُك ُم }‬
‫َع َمالَُنا َولَ ُك ْم أ ْ‬
‫الجميع‪ ،‬لستم بأحق به منا‪ { .‬لََنا أ ْ‬
‫أي‪ :‬بعد ما تبينت الحقائق‪ ،‬واتضح الحق من الباطل‪ ،‬والهدى من الضالل‪ ،‬لم يبق للجدال‬
‫والمنازعة محل‪ ،‬ألن المقصود من الجدال‪ ،‬إنما هو بيان الحق من الباطل‪ ،‬ليهتدي الراشد‪ ،‬ولتقوم‬
‫الحجة على الغاوي‪ ،‬وليس المراد بهذا أن أهل الكتاب ال يجادلون‪ ،‬كيف واهلل يقول‪َ { :‬وال تُ َج ِادلُوا‬
‫اب ِإال بِالَّتِي ِه َي أ ْ‬
‫َح َس ُن } وإ نما المراد ما ذكرنا‪.‬‬ ‫َه َل اْل ِكتَ ِ‬
‫أْ‬
‫[ ص ‪] 756‬‬
‫ص ُير } يوم القيامة‪ ،‬فيجزي كال بعمله‪ ،‬ويتبين حينئذ الصادق من‬ ‫{ اللَّه ي ْجمع ب ْيَنَنا وإِلَْي ِه اْلم ِ‬
‫َ‬ ‫َُ ََُ َ‬
‫الكاذب‪.‬‬

‫( ‪)1/755‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫والَِّذين يحاج ِ َّ ِ ِ‬
‫ب َولَهُ ْم‬
‫ضٌ‬‫ضةٌ عْن َد َرِّب ِه ْم َو َعلَْي ِه ْم َغ َ‬ ‫استُ ِج َ‬
‫يب لَهُ ُحجَّتُهُ ْم َداح َ‬ ‫ُّون في الله م ْن َب ْعد َما ْ‬
‫َ َ َُ َ‬
‫اب َش ِد ٌ‬
‫يد (‪)16‬‬ ‫َع َذ ٌ‬

‫ضةٌ ِعْن َد َرِّب ِه ْم َو َعلَْي ِه ْم‬ ‫ِ‬


‫استُ ِج َ‬
‫يب لَهُ ُحجَّتُهُ ْم َداح َ‬
‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 16‬والَِّذين يحاج ِ َّ ِ ِ‬
‫ُّون في الله م ْن َب ْعد َما ْ‬
‫َ َ َُ َ‬
‫يد } ‪.‬‬ ‫اب َش ِد ٌ‬
‫ب َولَهُ ْم َع َذ ٌ‬
‫ضٌ‬‫َغ َ‬
‫ُّون ِفي اللَّ ِه } بالحجج الباطلة‪،‬‬ ‫ين ُي َحاج َ‬
‫َِّ‬
‫وهذا تقرير لقوله‪ :‬ال حجة بيننا وبينكم‪ ،‬فأخبر هنا أن { الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يب لَهُ } أي‪ :‬من بعد ما استجاب للّه أولو األلباب والعقول‪،‬‬ ‫استُ ِج َ‬
‫والشبه المتناقضة { م ْن َب ْعد َما ْ‬
‫لما بين لهم من اآليات القاطعة‪ ،‬والبراهين الساطعة‪ ،‬فهؤالء المجادلون للحق من بعد ما تبين‬
‫ضةٌ } أي‪ :‬باطلة مدفوعة { ِع ْن َد َرِّب ِه ْم } ألنها مشتملة على رد الحق وكل ما خالف‬ ‫ِ‬
‫{ ُحجَّتُهُ ْم َداح َ‬
‫الحق‪ ،‬فهو باطل‪.‬‬
‫اب َش ِد ٌ‬
‫يد }‬ ‫ب } لعصيانهم وإ عراضهم عن حجج اللّه وبيناته وتكذيبها‪َ { .‬ولَهُ ْم َع َذ ٌ‬ ‫ضٌ‬‫{ َو َعلَْي ِه ْم َغ َ‬
‫هو أثر غضب اللّه عليهم‪ ،‬فهذه عقوبة كل مجادل للحق بالباطل‪.‬‬

‫( ‪)1/756‬‬

‫َِّ‬ ‫اللَّه الَِّذي أ َْن َز َل اْل ِكتَاب بِاْلح ِّ ِ‬


‫يب (‪َ )17‬ي ْستَ ْع ِج ُل بِهَا الذ َ‬
‫ين اَل‬ ‫ك لَ َع َّل الس َ‬
‫َّاعةَ قَ ِر ٌ‬ ‫ان َو َما ُي ْد ِري َ‬
‫ق َواْلم َيز َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫َّاع ِة لَِفي‬
‫ون في الس َ‬
‫ق أَاَل ِإ َّن الَِّذين يمار ِ‬
‫َ َُ ُ َ‬ ‫ون أََّنهَا اْل َح ُّ‬ ‫يؤ ِمُنون بِها والَِّذين آَمُنوا م ْش ِفقُ ِ‬
‫ون م ْنهَا َوَي ْعلَ ُم َ‬
‫َ‬ ‫ُْ َ َ َ َ َ ُ‬
‫ضاَل ٍل َب ِع ٍيد (‪)18‬‬ ‫َ‬

‫{ ‪ { } 17-18‬اللَّه الَِّذي أ َْن َز َل اْل ِكتَاب بِاْلح ِّ ِ‬


‫يب * َي ْستَ ْع ِج ُل‬ ‫ك لَ َع َّل الس َ‬
‫َّاعةَ قَ ِر ٌ‬ ‫ان َو َما ُي ْد ِري َ‬
‫ق َواْلم َيز َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫ون ِفي‬ ‫ين ُي َم ُار َ‬
‫َِّ‬
‫ق أَال ِإ َّن الذ َ‬
‫ون أََّنهَا اْل َح ُّ‬ ‫بِها الَِّذين ال يؤ ِمُنون بِها والَِّذين آمُنوا م ْش ِفقُ ِ‬
‫ون م ْنهَا َوَي ْعلَ ُم َ‬
‫َ‬ ‫َ ُْ َ َ َ َ َ ُ‬ ‫َ‬
‫الل َب ِع ٍيد } ‪.‬‬‫ض ٍ‬ ‫الس ِ ِ‬
‫َّاعة لَفي َ‬
‫َ‬
‫لما ذكر تعالى أن حججه واضحة بينة‪ ،‬بحيث استجاب لها كل من فيه خير‪ ،‬ذكر أصلها وقاعدتها‪،‬‬
‫ان }‬ ‫َنزل اْل ِكتَاب بِاْلح ِّ ِ‬ ‫بل جميع الحجج التي أوصلها إلى العباد‪ ،‬فقال‪ { :‬اللَّهُ الَِّذي أ َ‬
‫ق َواْلم َيز َ‬ ‫َ َ‬
‫فالكتاب هو هذا القرآن العظيم‪ ،‬نزل بالحق‪ ،‬واشتمل على الحق والصدق واليقين‪ ،‬وكله آيات‬
‫بينات‪ ،‬وأدلة واضحات‪ ،‬على جميع المطالب اإللهية والعقائد الدينية‪ ،‬فجاء بأحسن المسائل‬
‫وأوضح الدالئل‪.‬‬
‫وأما الميزان‪ ،‬فهو العدل واالعتبار بالقياس الصحيح والعقل الرجيح‪ ،‬فكل الدالئل العقلية‪ ،‬من‬
‫اآليات اآلفاقية والنفسية‪ ،‬واالعتبارات الشرعية‪ ،‬والمناسبات والعلل‪ ،‬واألحكام والحكم‪ ،‬داخلة في‬
‫الميزان الذي أنزله اهلل تعالى ووضعه بين عباده‪ ،‬ليزنوا به ما اشتبه من األمور‪ ،‬ويعرفوا به‬
‫صدق ما أخبر به وأخبرت رسله‪ ،‬مما خرج عن هذين األمرين عن الكتاب والميزان مما قيل إنه‬
‫حجة أو برهان أو دليل أو نحو ذلك من العبارات‪ ،‬فإنه باطل متناقض‪ ،‬قد فسدت أصوله‪،‬‬
‫وانهدمت مبانيه وفروعه‪ ،‬يعرف ذلك من خبر المسائل ومآخذها‪ ،‬وعرف التمييز بين راجح‬
‫األدلة من مرجوحها‪ ،‬والفرق بين الحجج والشبه‪ ،‬وأما من اغتر بالعبارات المزخرفة‪ ،‬واأللفاظ‬
‫المموهة‪ ،‬ولم تنفذ بصيرته إلى المعنى المراد‪ ،‬فإنه ليس من أهل هذا الشأن‪ ،‬وال من فرسان هذا‬
‫الميدان‪ ،‬فوفاقه وخالفه سيان‪.‬‬
‫يب‬ ‫يك لَ َع َّل الس َ‬
‫َّاعةَ قَ ِر ٌ‬ ‫ثم قال تعالى مخوفا للمستعجلين لقيام الساعة المنكرين لها‪ ،‬فقال‪َ { :‬و َما ُي ْد ِر َ‬
‫} أي‪ :‬ليس بمعلوم بعدها‪ ،‬وال متى تقوم‪ ،‬فهي في كل وقت متوقع وقوعها‪ ،‬مخوف وجبتها‪.‬‬
‫ون ِم ْنهَا‬ ‫ِ‬
‫آمُنوا ُم ْشفقُ َ‬
‫َِّ‬
‫ون بِهَا } عنادا وتكذيبا‪ ،‬وتعجيزا لربهم‪َ { .‬والذ َ‬
‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫{ َي ْستَ ْع ِج ُل بِهَا الذ َ‬
‫ين ال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫} أي‪ :‬خائفون‪ ،‬إليمانهم بها‪ ،‬وعلمهم بما تشتمل عليه من الجزاء باألعمال‪ ،‬وخوفهم‪ ،‬لمعرفتهم‬
‫ون أََّنهَا اْل َح ُّ‬
‫ق } الذي ال‬ ‫بربهم‪ ،‬أن ال تكون أعمالهم منجية لهم وال مسعدة‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وَي ْعلَ ُم َ‬
‫َّاع ِة } أي‪ :‬بعد ما امتروا فيها‪ ،‬ماروا‬ ‫مرية فيه‪ ،‬وال شك يعتريه { أَال ِإ َّن الَِّذين يمار ِ‬
‫ون في الس َ‬‫َ َُ ُ َ‬
‫الرسل وأتباعهم بإثباتها فهم في شقاق بعيد‪ ،‬أي‪ :‬معاندة ومخاصمة غير قريبة من الصواب‪ ،‬بل‬
‫وأي بعد أبعد ممن كذب بالدار التي هي الدار على الحقيقة‪ ،‬وهي الدار‬
‫في غاية البعد عن الحق‪ُّ ،‬‬
‫التي خلقت للبقاء الدائم والخلود السرمد‪ ،‬وهي دار الجزاء التي يظهر اهلل فيها عدله وفضله وإ نما‬
‫هذه الدار بالنسبة إليها‪ ،‬كراكب قال في ظل شجرة ثم رحل وتركها‪ ،‬وهي دار عبور وممر‪ ،‬ال‬
‫محل استقرار‪.‬‬
‫فصدقوا بالدار المضمحلة الفانية‪ ،‬حيث رأوها وشاهدوها‪ ،‬وكذبوا بالدار اآلخرة‪ ،‬التي تواترت‬
‫باإلخبار عنها الكتب اإللهية‪ ،‬والرسل الكرام وأتباعهم‪ ،‬الذين هم أكمل الخلق عقوال وأغزرهم‬
‫علما‪ ،‬وأعظمهم فطنة وفهما‪.‬‬

‫( ‪)1/756‬‬

‫ث اآْل َ ِخ َر ِة َن ِز ْد لَهُ ِفي‬ ‫ان ُي ِر ُ‬


‫يد َح ْر َ‬ ‫ي اْل َع ِز ُيز (‪َ )19‬م ْن َك َ‬ ‫اء َو ُه َو اْلقَ ِو ُّ‬ ‫يف بِ ِعَب ِاد ِه َي ْر ُز ُ‬
‫ق َم ْن َي َش ُ‬ ‫اللَّهُ لَ ِط ٌ‬
‫ص ٍ‬ ‫الد ْنيا ُنؤتِ ِه ِم ْنها وما لَه ِفي اآْل َ ِخر ِة ِم ْن َن ِ‬ ‫ِ‬
‫يب (‪)20‬‬ ‫َ‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫ث ُّ َ ْ‬ ‫ان ُي ِر ُ‬
‫يد َح ْر َ‬ ‫َح ْرثِه َو َم ْن َك َ‬

‫ث‬ ‫ان ُي ِر ُ‬
‫يد َح ْر َ‬ ‫اء َو ُه َو اْلقَ ِو ُّ‬
‫ي اْل َع ِز ُيز * َم ْن َك َ‬ ‫يف بِ ِعَب ِاد ِه َي ْر ُز ُ‬
‫ق َم ْن َي َش ُ‬ ‫{ ‪ { } 19-20‬اللَّهُ لَ ِط ٌ‬
‫ص ٍ‬ ‫اآلخر ِة ِم ْن َن ِ‬
‫الد ْنيا ُنؤتِ ِه ِم ْنها وما لَه ِفي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يب } ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫ث ُّ َ ْ‬ ‫يد َح ْر َ‬ ‫اآلخ َر ِة َن ِز ْد لَهُ في َح ْرثِه َو َم ْن َك َ‬
‫ان ُي ِر ُ‬
‫يخبر تعالى بلطفه بعباده ليعرفوه ويحبوه‪ ،‬ويتعرضوا للطفه وكرمه‪ ،‬واللطف من أوصافه تعالى‬
‫معناه‪ :‬الذي يدرك الضمائر والسرائر‪ ،‬الذي يوصل عباده ‪-‬وخصوصا المؤمنين‪ -‬إلى ما فيه‬
‫الخير لهم من حيث ال يعلمون وال يحتسبون‪.‬‬
‫فمن لطفه بعبده المؤمن‪ ،‬أن هداه إلى الخير هداية ال تخطر بباله‪ ،‬بما يسر له من األسباب الداعية‬
‫إلى ذلك‪ ،‬من فطرته على محبة الحق واالنقياد له وإ يزاعه تعالى لمالئكته الكرام‪ ،‬أن يثبتوا عباده‬
‫المؤمنين‪ ،‬ويحثوهم على الخير‪ ،‬ويلقوا في قلوبهم من تزيين الحق ما يكون داعيا التباعه‪.‬‬
‫ومن لطفه أن أمر المؤمنين‪ ،‬بالعبادات االجتماعية‪ ،‬التي بها تقوى عزائمهم وتنبعث هممهم‪،‬‬
‫ويحصل منهم التنافس [ ص ‪ ] 757‬على الخير والرغبة فيه‪ ،‬واقتداء بعضهم ببعض‪.‬‬
‫ومن لطفه‪ ،‬أن قيض لعبده كل سبب يعوقه ويحول بينه وبين المعاصي‪ ،‬حتى إنه تعالى إذا علم أن‬
‫الدنيا والمال والرياسة ونحوها مما يتنافس فيه أهل الدنيا‪ ،‬تقطع عبده عن طاعته‪ ،‬أو تحمله على‬
‫اء }‬
‫ق َم ْن َي َش ُ‬
‫الغفلة عنه‪ ،‬أو على معصية صرفها عنه‪ ،‬وقدر عليه رزقه‪ ،‬ولهذا قال هنا‪َ { :‬ي ْر ُز ُ‬
‫ي اْل َع ِز ُيز } الذي له القوة كلها‪ ،‬فال حول وال قوة ألحد‬ ‫بحسب اقتضاء حكمته ولطفه { َو ُه َو اْلقَ ِو ُّ‬
‫من المخلوقين إال به‪ ،‬الذي دانت له جميع األشياء‪.‬‬
‫اآلخ َر ِة } أي‪ :‬أجرها وثوابها‪ ،‬فآمن بها وصدق‪ ،‬وسعى لها‬ ‫ث ِ‬ ‫يد َح ْر َ‬‫ان ُي ِر ُ‬‫ثم قال تعالى‪َ { :‬م ْن َك َ‬
‫نزد لَهُ ِفي َح ْرثِ ِه } بأن نضاعف عمله وجزاءه أضعافا كثيرة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬و َم ْن‬ ‫سعيها { ْ‬
‫ورا } ومع ذلك‪ ،‬فنصيبه من‬ ‫ان َس ْعُيهُ ْم َم ْش ُك ً‬ ‫اآلخ َرةَ َو َس َعى لَهَا َس ْعَيهَا َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن فَأُولَئِ َ‬
‫ك َك َ‬
‫أَر َاد ِ‬
‫َ‬
‫الدنيا ال بد أن يأتيه‪.‬‬
‫الد ْنَيا } بأن‪ :‬كانت الدنيا هي مقصوده وغاية مطلوبه‪ ،‬فلم يقدم آلخرته‪،‬‬ ‫ث ُّ‬ ‫ان ُي ِر ُ‬
‫يد َح ْر َ‬ ‫{ َو َم ْن َك َ‬
‫اآلخ َر ِة ِم ْن‬
‫وال رجا ثوابها‪ ،‬ولم يخش عقابها‪ُ { .‬نؤتِ ِه ِم ْنها } نصيبه الذي قسم له‪ { ،‬وما لَه ِفي ِ‬
‫ََ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫يب } قد حرم الجنة ونعيمها‪ ،‬واستحق النار وجحيمها‪.‬‬ ‫ص ٍ‬ ‫َن ِ‬
‫َع َمالَهُ ْم ِفيهَا َو ُه ْم‬
‫ف ِإلَْي ِه ْم أ ْ‬ ‫يد اْل َحَياةَ ُّ‬
‫الد ْنَيا َو ِز َينتَهَا ُن َو ِّ‬ ‫ان ُي ِر ُ‬
‫وهذه اآلية‪ ،‬شبيهة بقوله تعالى‪َ { :‬م ْن َك َ‬
‫ون } إلى آخر اآليات‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فيهَا ال ُي ْب َخ ُس َ‬

‫( ‪)1/756‬‬

‫ين ما لَم ي ْأ َذ ْن بِ ِه اللَّه ولَواَل َكِلمةُ اْلفَص ِل لَقُ ِ‬ ‫اء َش َر ُعوا لَهُ ْم ِم َن ِّ‬
‫ض َي َب ْيَنهُ ْم َوإِ َّن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َُ ْ‬ ‫الد ِ َ ْ َ‬ ‫أ َْم لَهُ ْم ُش َر َك ُ‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫اب أَِليم (‪ )21‬تَرى الظَّ ِال ِمين م ْش ِف ِق ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫َمُنوا‬‫ين آ َ‬‫ين م َّما َك َسُبوا َو ُه َو َواقعٌ بِ ِه ْم َوالذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ين لَهُ ْم َع َذ ٌ ٌ‬ ‫الظالم َ‬
‫ض ُل اْل َكبِ ُير (‪)22‬‬ ‫ون ِع ْن َد َرِّب ِه ْم َذِل َ‬
‫ك ُه َو اْلفَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ات ِفي رو ِ‬
‫ضات اْل َجَّنات لَهُ ْم َما َي َش ُ‬
‫اء َ‬ ‫َْ َ‬
‫َّالح ِ‬
‫ِ‬
‫َو َعملُوا الص َ‬
‫ِ‬
‫ين ما لَم ي ْأ َذ ْن بِ ِه اللَّه ولَوال َكِلمةُ اْلفَص ِل لَقُ ِ‬ ‫اء َش َر ُعوا لَهُ ْم ِم َن ِّ‬
‫ض َي‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َُ ْ‬ ‫الد ِ َ ْ َ‬ ‫{ ‪ { } 21-23‬أ َْم لَهُ ْم ُش َر َك ُ‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫اب أَِليم * تَرى الظَّ ِال ِمين م ْش ِف ِق ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫ين م َّما َك َسُبوا َو ُه َو َواقعٌ بِ ِه ْم َوالذ َ‬
‫ين‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ين لَهُ ْم َع َذ ٌ ٌ َ‬ ‫َب ْيَنهُ ْم َوإِ َّن الظالم َ‬
‫ض ُل اْل َكبِ ُير‬ ‫ون ِعْن َد َرِّب ِه ْم َذِل َ‬
‫ك ُه َو اْلفَ ْ‬ ‫اء َ‬
‫ِ‬ ‫ات ِفي رو ِ‬
‫ضات اْل َجَّنات لَهُ ْم َما َي َش ُ‬ ‫َْ َ‬
‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫َ‬
‫*}‪.‬‬
‫يخبر تعالى أن المشركين اتخذوا شركاء يوالونهم ويشتركون هم وإ ياهم في الكفر وأعماله‪ ،‬من‬
‫ين َما لَ ْم َي ْأ َذ ْن بِ ِه اللَّهُ } من الشرك والبدع‪،‬‬ ‫شياطين اإلنس‪ ،‬الدعاة إلى الكفر { َش َر ُعوا لَهُ ْم ِم َن ِّ‬
‫الد ِ‬
‫وتحريم ما أحل اهلل‪ ،‬وتحليل ما حرم اهلل ونحو ذلك مما اقتضته أهواؤهم‪.‬‬
‫مع أن الدين ال يكون إال ما شرعه اهلل تعالى‪ ،‬ليدين به العباد ويتقربوا به إليه‪ ،‬فاألصل الحجر‬
‫على كل أحد أن يشرع شيئا ما جاء عن اهلل وعن رسوله‪ ،‬فكيف بهؤالء الفسقة المشتركين هم‬
‫وآباؤهم على الكفر‪.‬‬
‫{ ولَوال َكِلمةُ اْلفَص ِل لَقُ ِ‬
‫ض َي َب ْيَنهُ ْم } أي‪ :‬لوال األجل المسمى الذي ضربه اهلل فاصال بين الطوائف‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫المختلفة‪ ،‬وأنه سيؤخرهم إليه‪ ،‬لقضي بينهم في الوقت الحاضر بسعادة المحق وإ هالك المبطل‪،‬‬
‫ألن المقتضي لإلهالك موجود‪ ،‬ولكن أمامهم العذاب األليم في اآلخرة‪ ،‬هؤالء وكل ظالم‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬خائفين وجلين { ِم َّما‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫ين } أنفسهم بالكفر والمعاصي { ُم ْشفق َ‬
‫وفي ذلك اليوم { تََرى الظالم َ‬
‫َك َسُبوا } أن يعاقبوا عليه‪.‬‬
‫ولما كان الخائف قد يقع به ما أشفق منه وخافه‪ ،‬وقد ال يقع‪ ،‬أخبر أنه { َو ِاقعٌ بِ ِه ْم } العقاب الذي‬
‫خافوه‪ ،‬ألنهم أتوا بالسبب التام الموجب للعقاب‪ ،‬من غير معارض‪ ،‬من توبة وال غيرها‪ ،‬ووصلوا‬
‫موضعا فات فيه اإلنظار واإلمهال‪.‬‬
‫ات } يشمل كل عمل‬ ‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫آمُنوا } بقلوبهم باهلل وبكتبه ورسله وما جاءوا به‪َ { ،‬و َعملُوا الص َ‬
‫ين َ‬
‫{ َوالذ َ‬
‫صالح من أعمال القلوب‪ ،‬وأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات‪ ،‬فهؤالء { ِفي روض ِ‬
‫ات‬ ‫َْ َ‬
‫ات } أي‪ :‬الروضات المضافة إلى الجنات‪ ،‬والمضاف يكون بحسب المضاف إليه‪ ،‬فال تسأل‬ ‫اْلجَّن ِ‬
‫َ‬
‫عن بهجة تلك الرياض المونقة‪ ،‬وما فيها من األنهار المتدفقة‪ ،‬والفياض المعشبة‪ ،‬والمناظر‬
‫الحسنة‪ ،‬واألشجار المثمرة‪ ،‬والطيور المغردة‪ ،‬واألصوات الشجية المطربة‪ ،‬واالجتماع بكل‬
‫حبيب‪ ،‬واألخذ من المعاشرة والمنادمة بأكمل نصيب‪ ،‬رياض ال تزداد على طول المدى إال حسنا‬
‫ون } فيها‪ ،‬أي‪ :‬في الجنات‪،‬‬
‫اء َ‬
‫وبهاء‪ ،‬وال يزداد أهلها إال اشتياقا إلى لذاتها وودادا‪ { ،‬لَهُ ْم َما َي َش ُ‬
‫فمهما أرادوا فهو حاصل‪ ،‬ومهما طلبوا حصل‪ ،‬مما ال عين رأت‪ ،‬وال أذن سمعت‪ ،‬وال خطر‬
‫ض ُل اْل َكبِ ُير } وهل فوز أكبر من الفوز برضا اهلل تعالى‪ ،‬والتنعم‬ ‫على قلب بشر‪َ { .‬ذِل َ‬
‫ك ُه َو اْلفَ ْ‬
‫بقربه في دار كرامته؟‬

‫( ‪)1/757‬‬
‫َج ًرا ِإاَّل اْل َم َو َّدةَ ِفي‬
‫َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه أ ْ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات ُق ْل اَل أ ْ‬ ‫ين آ َ‬
‫ك الَِّذي يب ِّشر اللَّه ِعب َ َِّ‬
‫ادهُ الذ َ‬ ‫َُ ُ ُ َ‬ ‫َذِل َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ور (‪)23‬‬ ‫ور َش ُك ٌ‬ ‫ف َح َسَنةً َن ِز ْد لَهُ فيهَا ُح ْسًنا ِإ َّن اللهَ َغفُ ٌ‬
‫اْلقُْرَبى َو َم ْن َي ْقتَ ِر ْ‬

‫َج ًرا ِإال اْل َم َو َّدةَ ِفي‬


‫َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه أ ْ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات ُق ْل ال أ ْ‬ ‫ين َ‬
‫ك الَِّذي يب ِّشر اللَّه ِعب َ َِّ‬
‫ادهُ الذ َ‬ ‫َُ ُ ُ َ‬ ‫{ َذِل َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫ف َح َسَنةً َن ِز ْد لَهُ فيهَا ُح ْسًنا ِإ َّن اللهَ َغفُ ٌ‬
‫ور َش ُك ٌ‬ ‫اْلقُْرَبى َو َم ْن َي ْقتَ ِر ْ‬
‫ات } أي‪ :‬هذه البشارة العظيمة‪ ،‬التي هي‬ ‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك الَِّذي يب ِّشر اللَّه ِعب َ َِّ‬ ‫{ َذِل َ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين َ‬‫ادهُ الذ َ‬ ‫َُ ُ ُ َ‬
‫أكبر البشائر على اإلطالق‪ ،‬بشر بها الرحيم الرحمن‪ ،‬على يد أفضل خلقه ألهل اإليمان والعمل‬
‫الصالح‪ ،‬فهي أجل الغايات‪ ،‬والوسيلة الموصلة إليها أفضل الوسائل‪.‬‬
‫َج ًرا } فلست‬ ‫َسأَلُ ُك ْم َعلَْي ِه } أي‪ :‬على تبليغي إياكم هذا القرآن ودعوتكم إلى أحكامه‪ { .‬أ ْ‬
‫{ ُق ْل ال أ ْ‬
‫أريد أخذ أموالكم‪ ،‬وال التولي عليكم والترأس‪ ،‬وال غير ذلك من األغراض { ِإال اْل َم َو َّدةَ ِفي اْلقُْرَبى‬
‫}‬
‫يحتمل أن المراد‪ :‬ال أسألكم عليه أجرا إال أجرا واحدا هو لكم‪ ،‬وعائد نفعه إليكم‪ ،‬وهو أن تودوني‬
‫وتحبوني [ ص ‪ ] 758‬في القرابة‪ ،‬أي‪ :‬ألجل القرابة‪ .‬ويكون على هذا المودة الزائدة على مودة‬
‫اإليمان‪ ،‬فإن مودة اإليمان بالرسول‪ ،‬وتقديم محبته على جميع المحاب بعد محبة اهلل‪ ،‬فرض على‬
‫كل مسلم‪ ،‬وهؤالء طلب منهم زيادة على ذلك أن يحبوه ألجل القرابة‪ ،‬ألنه صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫قد باشر بدعوته أقرب الناس إليه‪ ،‬حتى إنه قيل‪ :‬إنه ليس في بطون قريش أحد‪ ،‬إال ولرسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فيه قرابة‪.‬‬
‫ويحتمل أن المراد إال مودة اهلل تعالى الصادقة‪ ،‬وهي التي يصحبها التقرب إلى اهلل‪ ،‬والتوسل‬
‫بطاعته الدالة على صحتها وصدقها‪ ،‬ولهذا قال‪ِ { :‬إال اْل َم َو َّدةَ ِفي اْلقُْرَبى } أي‪ :‬في التقرب إلى‬
‫اهلل‪ ،‬وعلى كال القولين‪ ،‬فهذا االستثناء دليل على أنه ال يسألهم عليه أجرا بالكلية‪ ،‬إال أن يكون‬
‫شيئا يعود نفعه إليهم‪ ،‬فهذا ليس من األجر في شيء‪ ،‬بل هو من األجر منه لهم صلى اهلل عليه‬
‫يز اْل َح ِم ِيد } وقولهم‪" :‬ما لفالن ذنب‬
‫َن ُي ْؤ ِمُنوا بِاللَّ ِه اْل َع ِز ِ‬
‫وسلم‪ ،‬كقوله تعالى‪َ { :‬و َما َنقَ ُموا ِم ْنهُ ْم ِإال أ ْ‬
‫عندك‪ ،‬إال أنه محسن إليك"‬
‫نزد لَهُ ِفيهَا ُح ْسًنا }‬
‫ف َح َسَنةً } من صالة‪ ،‬أو صوم‪ ،‬أو حج‪ ،‬أو إحسان إلى الخلق { ْ‬ ‫{ َو َم ْن َي ْقتَ ِر ْ‬
‫بأن يشرح اهلل صدره‪ ،‬وييسر أمره‪ ،‬وتكون سببا للتوفيق لعمل آخر‪ ،‬ويزداد بها عمل المؤمن‪،‬‬
‫ويرتفع عند اهلل وعند خلقه‪ ،‬ويحصل له الثواب العاجل واآلجل‪.‬‬
‫َّ‬
‫ور } يغفر الذنوب العظيمة ولو بلغت ما بلغت عند التوبة منها‪ ،‬ويشكر على‬ ‫{ ِإ َّن اللهَ َغفُ ٌ‬
‫ور َش ُك ٌ‬
‫العمل القليل باألجر الكثير‪ ،‬فبمغفرته يغفر الذنوب ويستر العيوب‪ ،‬وبشكره يتقبل الحسنات‬
‫ويضاعفها أضعافا كثيرة‪.‬‬

‫( ‪)1/757‬‬

‫ق بِ َكِل َماتِ ِه‬ ‫اط َل وُي ِح ُّ‬


‫ك ويمح اللَّه اْلب ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫ق اْل َح َّ‬
‫َ‬ ‫ون ا ْفتََرى َعلَى الله َكذًبا فَِإ ْن َي َشأ اللهُ َي ْخت ْم َعلَى َقْلبِ َ َ َ ْ ُ ُ َ‬
‫أ َْم َيقُولُ َ‬
‫ور (‪)24‬‬ ‫ُّد ِ‬ ‫ِإَّنه عِليم بِ َذ ِ‬
‫ات الص ُ‬ ‫ُ َ ٌ‬

‫اط َل وُي ِح ُّ‬ ‫ك ويمح اللَّه اْلب ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬


‫ق‬ ‫َ‬ ‫ون ا ْفتََرى َعلَى الله َكذًبا فَِإ ْن َي َشأ اللهُ َي ْخت ْم َعلَى َقْلبِ َ َ َ ْ ُ ُ َ‬
‫{ ‪ { } 24‬أ َْم َيقُولُ َ‬
‫ق بِ َكِلماتِ ِه ِإَّنه عِليم بِ َذ ِ‬
‫ور } ‪.‬‬‫ُّد ِ‬
‫ات الص ُ‬ ‫ُ َ ٌ‬ ‫اْل َح َّ َ‬
‫يعني أم يقول المكذبون للرسول صلى اهلل عليه وسلم جرأة منهم وكذبا‪ { :‬ا ْفتََرى َعلَى اللَّ ِه َك ِذًبا }‬
‫فرموك بأشنع األمور وأقبحها‪ ،‬وهو االفتراء على اهلل بادعاء النبوة والنسبة إلى اهلل ما هو بريء‬
‫منه‪ ،‬وهم يعلمون صدقك وأمانتك‪ ،‬فكيف يتجرأون على هذا الكذب الصراح؟‬
‫بل تجرأوا بذلك على اهلل تعالى‪ ،‬فإنه قدح في اهلل‪ ،‬حيث مكنك من هذه الدعوة العظيمة‪ ،‬المتضمنة‬
‫‪-‬على موجب زعمهم‪ -‬أكبر الفساد في األرض‪ ،‬حيث مكنه اهلل من التصريح بالدعوة‪ ،‬ثم بنسبتها‬
‫إليه‪ ،‬ثم يؤيده بالمعجزات الظاهرات‪ ،‬واألدلة القاهرات‪ ،‬والنصر المبين‪ ،‬واالستيالء على من‬
‫خالفه‪ ،‬وهو تعالى قادر على حسم هذه الدعوة من أصلها ومادتها‪ ،‬وهو أن يختم على قلب‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم فال يعي شيئا وال يدخل إليه خير‪ ،‬وإ ذا ختم على قلبه انحسم األمر‬
‫كله وانقطع‪.‬‬
‫فهذا دليل قاطع على صحة ما جاء به الرسول‪ ،‬وأقوى شهادة من اهلل له على ما قال‪ ،‬وال يوجد‬
‫شهادة أعظم منها وال أكبر‪ ،‬ولهذا من حكمته ورحمته‪ ،‬وسنته الجارية‪ ،‬أنه يمحو الباطل ويزيله‪،‬‬
‫وإ ن كان له صولة في بعض األوقات‪ ،‬فإن عاقبته االضمحالل‪.‬‬
‫ق بِ َكِل َماتِ ِه } الكونية‪ ،‬التي ال تغير وال تبدل‪ ،‬ووعده الصادق‪ ،‬وكلماته الدينية التي‬ ‫{ وُي ِح ُّ‬
‫ق اْل َح َّ‬
‫َ‬
‫تحقق ما شرعه من الحق‪ ،‬وتثبته في القلوب‪ ،‬وتبصر أولي األلباب‪ ،‬حتى إن من جملة إحقاقه‬
‫ِّض له الباطل ليقاومه‪ ،‬فإذا قاومه‪ ،‬صال عليه الحق ببراهينه وبيناته‪ ،‬فظهر‬
‫تعالى الحق‪ ،‬أن ُيقَي َ‬
‫من نوره وهداه ما به يضمحل الباطل وينقمع‪ ،‬ويتبين بطالنه لكل أحد‪ ،‬ويظهر الحق كل الظهور‬
‫لكل أحد‪.‬‬
‫ُّد ِ‬
‫ور } أي‪ :‬بما فيها‪ ،‬وما اتصفت به من خير وشر‪ ،‬وما أكنته ولم تبده‪.‬‬ ‫{ ِإَّنه عِليم بِ َذ ِ‬
‫ات الص ُ‬ ‫ُ َ ٌ‬

‫( ‪)1/758‬‬
‫ات ويعلَم ما تَ ْفعلُون (‪ )25‬ويستَ ِج َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫َِّ‬
‫َمُنوا‬
‫ين آ َ‬ ‫يب الذ َ‬ ‫ََ ْ ُ‬ ‫َو ُه َو الذي َي ْقَب ُل التَّْوَبةَ َع ْن عَباده َوَي ْعفُو َع ِن السَّيَِّئ َ َ ْ ُ َ َ َ‬
‫ق‬‫الر ْز َ‬‫ط اللَّهُ ِّ‬ ‫اب َش ِد ٌ‬
‫يد (‪َ )26‬ولَ ْو َب َس َ‬ ‫ون لَهُ ْم َع َذ ٌ‬ ‫ِ‬
‫ضله َواْل َكاف ُر َ‬
‫يد ُهم ِم ْن فَ ْ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َو َعملُوا الصَّال َحات َوَي ِز ُ ْ‬
‫ِ‬
‫ص ٌير (‪َ )27‬و ُه َو الَِّذي ُيَنِّز ُل‬ ‫ض ولَ ِك ْن يَنِّز ُل بِقَ َد ٍر ما ي َشاء ِإَّنه بِ ِعب ِاد ِه َخبِير ب ِ‬
‫ٌ َ‬ ‫َ َ ُ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لعَباده لََب َغ ْوا في اأْل َْر َ‬
‫ِِ ِ ِ‬
‫يد (‪)28‬‬ ‫ث ِم ْن َب ْع ِد َما قََنطُوا َوَي ْن ُش ُر َر ْح َمتَهُ َو ُه َو اْل َوِل ُّي اْل َح ِم ُ‬ ‫اْل َغ ْي َ‬

‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫َِّ‬


‫ون * َوَي ْستَ ِج ُ‬
‫يب‬ ‫{ ‪َ { } 25-28‬و ُه َو الذي َي ْقَب ُل التَّْوَبةَ َع ْن عَباده َوَي ْعفُو َع ِن السَّيَِّئات َوَي ْعلَ ُم َما تَ ْف َعلُ َ‬
‫يد * ولَو بس َ َّ‬ ‫ضِل ِه واْل َك ِافرون لَهم ع َذ ٌ ِ‬ ‫ات وي ِز ُ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ط اللهُ‬ ‫اب َشد ٌ َ ْ َ َ‬ ‫ُ َ ُْ َ‬ ‫يد ُه ْم م ْن فَ ْ َ‬ ‫آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َح َ َ‬ ‫ين َ‬ ‫الذ َ‬
‫ص ٌير * َو ُه َو الَِّذي‬ ‫ض ولَ ِك ْن يَنِّز ُل بِقَ َد ٍر ما ي َشاء ِإَّنه بِ ِعب ِاد ِه َخبِير ب ِ‬
‫ٌ َ‬ ‫َ َ ُ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ق ِل ِعَب ِاد ِه لََب َغ ْوا ِفي ْ ِ‬
‫األر َ‬ ‫الر ْز َ‬
‫ِّ‬
‫يد } ‪.‬‬‫ث ِم ْن َب ْع ِد َما قََنطُوا َوَي ْن ُش ُر َر ْح َمتَهُ َو ُه َو اْل َوِل ُّي اْل َح ِم ُ‬
‫ُيَنِّز ُل اْل َغ ْي َ‬
‫هذا بيان لكمال كرم اهلل تعالى وسعة جوده وتمام لطفه‪ ،‬بقبول التوبة الصادرة من عباده حين‬
‫يقلعون عن ذنوبهم ويندمون عليها‪ ،‬ويعزمون على أن ال يعاودوها‪ ،‬إذا قصدوا بذلك وجه ربهم‪،‬‬
‫فإن اهلل يقبلها بعد ما انعقدت سببا للهالك‪ ،‬ووقوع العقوبات الدنيوية والدينية‪.‬‬
‫ات } ويمحوها‪ ،‬ويمحو أثرها من العيوب‪ ،‬وما اقتضته من العقوبات‪ ،‬ويعود‬ ‫{ ويعفُو ع ِن السَّيَِّئ ِ‬
‫ََْ َ‬
‫التائب عنده كريما‪ ،‬كأنه ما عمل سوءا قط‪ ،‬ويحبه ويوفقه لما يقر به إليه‪.‬‬
‫ولما كانت التوبة من األعمال العظيمة‪ ،‬التي قد تكون كاملة بسبب تمام اإلخالص والصدق فيها‪،‬‬
‫وقد تكون ناقصة عند نقصهما‪ ،‬وقد تكون فاسدة إذا كان القصد منها بلوغ غرض من األغراض‬
‫ون }‬
‫الدنيوية‪ ،‬وكان محل ذلك القلب الذي ال يعلمه إال اهلل‪ ،‬ختم هذه اآلية بقوله‪َ { :‬وَي ْعلَ ُم َما تَ ْف َعلُ َ‬
‫فاهلل تعالى‪ ،‬دعا جميع العباد إلى اإلنابة إليه والتوبة من التقصير‪ ،‬فانقسموا ‪-‬بحسب االستجابة‬
‫َّالح ِ‬
‫ات }‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫له‪ -‬إلى قسمين‪ :‬مستجيبين وصفهم بقوله { ويستَ ِج َِّ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬
‫ين َ‬
‫يب الذ َ‬
‫ََ ْ ُ‬
‫أي‪ :‬يستجيبون لربهم لما دعاهم إليه وينقادون له ويلبون دعوته‪ ،‬ألن ما معهم من اإليمان والعمل‬
‫الصالح يحملهم على ذلك‪ ،‬فإذا استجابوا له‪ ،‬شكر اهلل لهم‪ ،‬وهو الغفور الشكور‪.‬‬
‫وزادهم من فضله توفيقا ونشاطا على العمل‪ ،‬وزادهم مضاعفة في األجر زيادة عن ما تستحقه‬
‫أعمالهم من الثواب والفوز العظيم‪.‬‬
‫يد } في الدنيا‬ ‫اب َش ِد ٌ‬
‫وأما غير المستجيبين للّه وهم المعاندون الذين كفروا به وبرسله‪ ،‬فـ { لَهُ ْم َع َذ ٌ‬
‫واآلخرة‪ ،‬ثم ذكر أن من لطفه بعباده‪ ،‬أنه ال يوسع عليهم الدنيا سعة‪ ،‬تضر بأديانهم فقال‪َ { :‬ولَ ْو‬
‫ض}‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫الر ْز َ ِ ِ ِ ِ‬
‫ط اللَّهُ ِّ‬
‫ق لعَباده لََب َغ ْوا في ْ‬ ‫َب َس َ‬
‫أي‪ :‬لغفلوا [ ص ‪ ] 759‬عن طاعة اهلل‪ ،‬وأقبلوا على التمتع بشهوات الدنيا‪ ،‬فأوجبت لهم اإلكباب‬
‫على ما تشتهيه نفوسهم‪ ،‬ولو كان معصية وظلما‪.‬‬
‫{ ولَ ِك ْن ينز ُل بِقَ َد ٍر ما ي َشاء } بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته { ِإَّنه بِ ِعب ِاد ِه َخبِير ب ِ‬
‫ص ٌير } كما في‬ ‫ٌ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫بعض اآلثار أن اهلل تعالى يقول‪" :‬إن من عبادي من ال يصلح إيمانه إال الغنى‪ ،‬ولو أفقرته ألفسده‬
‫ذلك‪ ،‬وإ ن من عبادي من ال يصلح إيمانه إال الفقر‪ ،‬ولو أغنيته ألفسده ذلك‪ ،‬وإ ن من عبادي من ال‬
‫يصلح إيمانه إال الصحة‪ ،‬ولو أمرضته ألفسده ذلك‪ ،‬وإ ن من عبادي من ال يصلح إيمانه إال‬
‫المرض ولو عافيته ألفسده ذلك‪ ،‬إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم‪ ،‬إني خبير بصير "‬
‫ث } أي‪ :‬المطر الغزير الذي به يغيث البالد والعباد‪ِ { ،‬م ْن َب ْع ِد َما قََنطُوا }‬
‫{ َو ُه َو الَِّذي ُينز ُل اْل َغ ْي َ‬
‫وانقطع عنهم مدة ظنوا أنه ال يأتيهم‪ ،‬وأيسوا وعملوا لذلك الجدب أعماال فينزل اهلل الغيث‬
‫{ َوَي ْن ُش ُر } به { َر ْح َمتَهُ } من إخراج األقوات لآلدميين وبهائمهم‪ ،‬فيقع عندهم موقعا عظيما‪،‬‬
‫ويستبشرون بذلك ويفرحون‪َ { .‬و ُه َو اْل َوِل ُّي } الذي يتولى عباده بأنواع التدبير‪ ،‬ويتولى القيام‬
‫يد } في واليته وتدبيره‪ ،‬الحميد على ما له من الكمال‪ ،‬وما أوصله‬ ‫بمصالح دينهم ودنياهم‪ { .‬اْل َح ِم ُ‬
‫إلى خلقه من أنواع اإلفضال‪.‬‬

‫( ‪)1/758‬‬

‫اء قَِد ٌير (‪)29‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬


‫ض َو َما َبث في ِه َما م ْن َدابَّة َو ُه َو َعلَى َج ْمع ِه ْم ِإ َذا َي َش ُ‬
‫ِ‬
‫ات واأْل َْر ِ‬
‫َّم َاو َ‬ ‫َو ِم ْن آََياتِ ِه َخْل ُ‬
‫ق الس َ‬

‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪َ { } 29‬و ِم ْن َآياتِ ِه َخْل ُ‬


‫ض َو َما َبث في ِه َما م ْن َدابَّة َو ُه َو َعلَى َج ْمع ِه ْم ِإ َذا َي َش ُ‬
‫اء‬ ‫األر ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ق الس َ‬
‫قَِد ٌير } ‪.‬‬
‫ات‬‫ق } هذه { السَّماو ِ‬ ‫أي‪ :‬ومن أدلة قدرته العظيمة‪ ،‬وأنه سيحيي الموتى بعد موتهم‪َ { ،‬خْل ُ‬
‫ََ‬
‫ض } على عظمهما وسعتهما‪ ،‬الدال على قدرته وسعة سلطانه‪ ،‬وما فيهما من اإلتقان‬ ‫األر ِ‬
‫َو ْ‬
‫واإلحكام دال على حكمته وما فيهما من المنافع والمصالح دال على رحمته‪ ،‬وذلك يدل على أنه‬
‫المستحق ألنواع العبادة كلها‪ ،‬وأن إلهية ما سواه باطلة‪.‬‬
‫ث ِفي ِه َما } أي‪ :‬نشر في السماوات واألرض من أصناف الدواب التي جعلها اللّه مصالح‬ ‫{ وما َب َّ‬
‫ََ‬
‫اء قَِد ٌير }‬ ‫ِ‬
‫ومنافع لعباده‪َ { .‬و ُه َو َعلَى َج ْمع ِه ْم } أي‪ :‬جمع الخلق بعد موتهم لموقف القيامة { ِإ َذا َي َش ُ‬
‫فقدرته ومشيئته صالحان لذلك‪ ،‬ويتوقف وقوعه على وجود الخبر الصادق‪ ،‬وقد علم أنه قد‬
‫تواترت أخبار المرسلين وكتبهم بوقوعه‪.‬‬

‫( ‪)1/759‬‬
‫ين ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ض‬ ‫ت أ َْي ِدي ُك ْم َوَي ْعفُو َع ْن َكثِ ٍ‬
‫ير (‪َ )30‬و َما أ َْنتُ ْم بِ ُم ْع ِج ِز َ‬ ‫ص َيب ٍة فَبِ َما َك َسَب ْ‬
‫وما أَصاب ُكم ِم ْن م ِ‬
‫ُ‬ ‫ََ ََ ْ‬
‫ير (‪)31‬‬ ‫صٍ‬ ‫ون اللَّ ِه ِم ْن وِل ٍّي واَل َن ِ‬ ‫َو َما لَ ُك ْم ِم ْن ُد ِ‬
‫َ َ‬

‫ت أ َْي ِدي ُك ْم َوَي ْعفُو َع ْن َكثِ ٍ‬


‫ير * َو َما أ َْنتُ ْم بِ ُم ْع ِج ِز َ‬
‫ين‬ ‫ص َيب ٍة فَبِ َما َك َسَب ْ‬
‫{ ‪ { } 30-31‬وما أَصاب ُكم ِم ْن م ِ‬
‫ُ‬ ‫ََ ََ ْ‬
‫ير } ‪.‬‬ ‫صٍ‬‫ون اللَّ ِه ِم ْن وِل ٍّي وال َن ِ‬ ‫ض َو َما لَ ُك ْم ِم ْن ُد ِ‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫في ْ‬
‫يخبر تعالى‪ ،‬أنه ما أصاب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأوالدهم وفيما يحبون ويكون‬
‫عزيزا عليهم‪ ،‬إال بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات‪ ،‬وأن ما يعفو اللّه عنه أكثر‪ ،‬فإن اللّه ال يظلم‬
‫ظه ِر َها ِم ْن َداب ٍ‬
‫َّة }‬ ‫اس بِ َما َك َسُبوا َما تََر َ‬ ‫اخ ُذ اللَّهُ َّ‬‫العباد‪ ،‬ولكن أنفسهم يظلمون { ولَو يؤ ِ‬
‫ك َعلَى َ ْ‬ ‫الن َ‬ ‫َ ْ َُ‬
‫وليس إهماال منه تعالى تأخير العقوبات وال عجزا‪.‬‬
‫ض } أي‪ :‬معجزين قدرة اللّه عليكم‪ ،‬بل أنتم عاجزون في األرض‪،‬‬ ‫األر ِ‬ ‫{ وما أ َْنتُم بِمع ِج ِز ِ‬
‫ين في ْ‬ ‫ََ ْ ُْ َ‬
‫ون اللَّ ِه ِم ْن َوِل ٍّي } يتوالكم‪ ،‬فيحصل لكم‬ ‫ليس عندكم امتناع عما ينفذه اللّه فيكم‪َ { .‬و َما لَ ُك ْم ِم ْن ُد ِ‬
‫ير } يدفع عنكم المضار‪.‬‬ ‫المنافع { وال َن ِ‬
‫صٍ‬ ‫َ‬

‫( ‪)1/759‬‬

‫ظ ْه ِر ِه ِإ َّن ِفي‬ ‫ظلَْلن رو ِ‬


‫اك َد َعلَى َ‬ ‫يح فََي ْ َ َ َ‬ ‫َعاَل ِم (‪ِ )32‬إ ْن َي َش ْأ ُي ْس ِك ِن ِّ‬
‫الر َ‬ ‫َو ِم ْن آََياتِ ِه اْل َج َو ِار ِفي اْلَب ْح ِر َكاأْل ْ‬
‫َِّ‬ ‫ف َع ْن َكثِ ٍ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫َذِل َ‬
‫ين‬‫ير (‪َ )34‬وَي ْعلَ َم الذ َ‬ ‫ور (‪ )33‬أ َْو ُيوبِ ْقهُ َّن بِ َما َك َسُبوا َوَي ْع ُ‬ ‫َّار َش ُك ٍ‬ ‫ك آَل ََيات ل ُك ِّل َ‬
‫صب ٍ‬
‫يص (‪)35‬‬ ‫ون ِفي آََياتَِنا َما لَهُ ْم ِم ْن َم ِح ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُي َجادلُ َ‬

‫اك َد َعلَى‬‫ظلَْلن رو ِ‬ ‫الم * ِإ ْن َي َش ْأ ُي ْس ِك ِن ِّ‬


‫األع ِ‬‫{ ‪َ { } 32-35‬و ِم ْن َآياتِ ِه اْل َج َو ِار ِفي اْلَب ْح ِر َك ْ‬
‫يح فََي ْ َ َ َ‬ ‫الر َ‬
‫َِّ‬ ‫ف َع ْن َكثِ ٍ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ظ ْه ِر ِه ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫ين‬
‫ير * َوَي ْعلَ َم الذ َ‬ ‫ور * أ َْو ُيوبِ ْقهُ َّن بِ َما َك َسُبوا َوَي ْع ُ‬
‫َّار َش ُك ٍ‬
‫صب ٍ‬‫آليات ل ُك ِّل َ‬ ‫ك َ‬ ‫َ‬
‫يص } ‪.‬‬ ‫ون ِفي َآياتَِنا َما لَهُ ْم ِم ْن َم ِح ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُي َجادلُ َ‬
‫أي‪ :‬ومن أدلة رحمته وعنايته بعباده { اْل َج َوار ِفي اْلَب ْح ِر } من السفن‪ ،‬والمراكب النارية‬
‫الم } وهي الجبال الكبار‪ ،‬التي سخر لها البحر العجاج‪،‬‬ ‫األع ِ‬
‫والشراعية‪ ،‬التي من عظمها { َك ْ‬
‫وحفظها من التطام األمواج‪ ،‬وجعلها تحملكم وتحمل أمتعتكم الكثيرة إلى البلدان واألقطار البعيدة‪،‬‬
‫وسخر لها من األسباب ما كان معونة على ذلك‪.‬‬
‫ظلَْل َن }‬
‫يح } التي جعلها اهلل سببا لمشيها‪ { ،‬فََي ْ‬ ‫ثم نبه على هذه األسباب بقوله‪ِ { :‬إ ْن َي َش ْأ ُي ْس ِك ِن ِّ‬
‫الر َ‬
‫اك َد } على ظهر البحر‪ ،‬ال تتقدم وال تتأخر‪ ،‬وال ينتقض هذا بالمراكب النارية‪،‬‬ ‫أي‪ :‬الجوار { رو ِ‬
‫ََ‬
‫فإن من شرط مشيها وجود الريح‪.‬‬
‫وإ ن شاء اهلل تعالى أوبق الجوار بما كسب أهلها‪ ،‬أي‪ :‬أغرقها في البحر وأتلفها‪ ،‬ولكنه يحلم ويعفو‬
‫عن كثير‪.‬‬
‫ٍ ِ‬ ‫{ ِإ َّن ِفي َذِل َ‬
‫َّار َش ُك ٍ‬
‫ور } أي‪ :‬كثير الصبر على ما تكرهه نفسه ويشق عليها‪،‬‬ ‫صب ٍ‬ ‫آليات ل ُك ِّل َ‬
‫ك َ‬
‫فيكرهها عليه‪ ،‬من مشقة طاعة‪ ،‬أو ردع داع إلى معصية‪ ،‬أو ردع نفسه عند المصائب عن‬
‫التسخط‪َ { ،‬ش ُك ٍ‬
‫ور } في الرخاء وعند النعم‪ ،‬يعترف بنعمة ربه ويخضع له‪ ،‬ويصرفها في‬
‫مرضاته‪ ،‬فهذا الذي ينتفع بآيات اهلل‪.‬‬
‫وأما الذي ال صبر عنده‪ ،‬وال شكر له على نعم اهلل‪ ،‬فإنه معرض أو معاند ال ينتفع باآليات‪.‬‬
‫ون ِفي َآياتَِنا } ليبطلوها بباطلهم‪َ { .‬ما لَهُ ْم ِم ْن َم ِح ٍ‬
‫يص } أي‪ :‬ال‬ ‫ِ‬
‫ين ُي َجادلُ َ‬
‫َِّ‬
‫ثم قال تعالى‪َ { :‬وَي ْعلَ َم الذ َ‬
‫ينقذهم منقذ مما حل بهم من العقوبة‪.‬‬

‫( ‪)1/759‬‬

‫َِِّ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫فَ َما أُوتِيتُ ْم ِم ْن َشي ٍء فَ َمتَاعُ اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫ون (‬‫َمُنوا َو َعلَى َرِّب ِه ْم َيتََو َّكلُ َ‬
‫ين آ َ‬
‫الد ْنَيا َو َما ع ْن َد الله َخ ْيٌر َوأ َْبقَى للذ َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫استَ َج ُابوا‬
‫ين ْ‬ ‫ون (‪َ )37‬والذ َ‬ ‫ون َكَبائ َر اإْلِ ثْم َواْلفَ َواح َش َوإِ َذا َما َغضُبوا ُه ْم َي ْغف ُر َ‬ ‫ين َي ْجتَنُب َ‬
‫‪َ )36‬والذ َ‬
‫َِّ‬ ‫الصاَل ةَ وأَمر ُهم ُشورى ب ْيَنهم و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ي‬ ‫ين ِإ َذا أ َ‬
‫َص َابهُ ُم اْلَب ْغ ُ‬ ‫ون (‪َ )38‬والذ َ‬ ‫اه ْم ُي ْنفقُ َ‬ ‫اموا َّ َ ْ ُ ْ َ َ ُ ْ َ َ‬ ‫ل َرِّبه ْم َوأَقَ ُ‬
‫ون (‪)39‬‬ ‫ِ‬
‫ُه ْم َي ْنتَص ُر َ‬

‫آمُنوا َو َعلَى‬ ‫َِِّ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫{ ‪ { } 36-39‬فَ َما أُوتِيتُ ْم ِم ْن َشي ٍء فَ َمتَاعُ اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫ين َ‬ ‫الد ْنَيا َو َما ع ْن َد الله َخ ْيٌر َوأ َْبقَى للذ َ‬ ‫ْ‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ين‬
‫ون * َوالذ َ‬ ‫ون َكَبائ َر اإلثْم َواْلفَ َواح َش َوإِ َذا َما َغضُبوا ُه ْم َي ْغف ُر َ‬ ‫ين َي ْجتَنُب َ‬
‫ون * َوالذ َ‬ ‫َرِّب ِه ْم َيتََو َّكلُ َ‬
‫َِّ‬ ‫استَجابوا ِلرِّب ِهم وأَقَاموا الصَّالةَ وأَمر ُهم ُشورى ب ْيَنهم و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ‬
‫ين ِإ َذا أ َ‬
‫َص َابهُ ُم‬ ‫ون * َوالذ َ‬ ‫اه ْم ُي ْنفقُ َ‬ ‫َ ْ ُ ْ َ َ ُْ َ َ‬ ‫ْ َُ َ ْ َ ُ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ي ُه ْم َي ْنتَص ُر َ‬ ‫اْلَب ْغ ُ‬
‫هذا تزهيد في الدنيا وترغيب في اآلخرة‪ ،‬وذكر األعمال الموصلة إليها فقال‪ { :‬فَ َما أُوتِيتُ ْم ِم ْن‬
‫الد ْنَيا } لذة منغصة‬ ‫َشي ٍء } من ملك ورياسة‪ ،‬وأموال وبنين‪ ،‬وصحة وعافية بدنية‪ { .‬فَ َمتَاعُ اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫ْ‬
‫منقطعة‪َ { .‬و َما ِع ْن َد اللَّ ِه } من الثواب الجزيل‪ ،‬واألجر الجليل‪ ،‬والنعيم المقيم { َخ ْيٌر } من لذات‬
‫الدنيا‪ ،‬خيرية ال نسبة بينهما { َوأ َْبقَى } [ ص ‪ ] 760‬ألنه نعيم ال منغص فيه وال كدر‪ ،‬وال انتقال‪.‬‬
‫َِِّ‬
‫آمُنوا َو َعلَى َرِّب ِه ْم َيتََو َّكلُ َ‬
‫ون } أي‪ :‬جمعوا بين اإليمان‬ ‫ين َ‬
‫ثم ذكر لمن هذا الثواب فقال‪ { :‬للذ َ‬
‫الصحيح‪ ،‬المستلزم ألعمال اإليمان الظاهرة والباطنة‪ ،‬وبين التوكل الذي هو اآللة لكل عمل‪ ،‬فكل‬
‫عمل ال يصحبه التوكل فغير تام‪ ،‬وهو االعتماد بالقلب على اهلل في جلب ما يحبه العبد‪ ،‬ودفع ما‬
‫يكرهه مع الثقة به تعالى‪.‬‬
‫{ والَِّذين ي ْجتَنِبون َكبائِر اإلثِْم واْلفَو ِ‬
‫اح َش } والفرق بين الكبائر والفواحش ‪-‬مع أن جميعهما‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ ُ َ َ َ‬
‫كبائر‪ -‬أن الفواحش هي الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها‪ ،‬كالزنا ونحوه‪ ،‬والكبائر ما ليس‬
‫كذلك‪ ،‬هذا عند االقتران‪ ،‬وأما مع إفراد كل منهما عن اآلخر فإن اآلخر يدخل فيه‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬قد تخلقوا بمكارم األخالق ومحاسن الشيم‪ ،‬فصار الحلم لهم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َوإِ َذا َما َغضُبوا ُه ْم َي ْغف ُر َ‬
‫سجية‪ ،‬وحسن الخلق لهم طبيعة حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله‪ ،‬كظموا ذلك الغضب فلم‬
‫ينفذوه‪ ،‬بل غفروه‪ ،‬ولم يقابلوا المسيء إال باإلحسان والعفو والصفح‪.‬‬
‫فترتب على هذا العفو والصفح‪ ،‬من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير‪ ،‬كما‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫َح َس ُن فَِإ َذا الَِّذي َب ْيَن َ‬
‫قال تعالى‪ْ { :‬ادفَ ْع بِالَّتِي ِه َي أ ْ‬
‫ين‬ ‫يم َو َما ُيلَقَّ َ‬
‫اها ِإال الذ َ‬ ‫ك َوَب ْيَنهُ َع َد َاوةٌ َكأََّنهُ َوِل ٌّي َحم ٌ‬
‫ظ َع ِظ ٍيم }‬ ‫صبروا وما يلَقَّاها ِإال ُذو ح ٍّ‬
‫َ‬ ‫َ َُ َ َ ُ َ‬
‫استَ َج ُابوا ِل َرِّب ِه ْم } أي‪ :‬انقادوا لطاعته‪ ،‬ولب َّْوا دعوته‪ ،‬وصار قصدهم رضوانه‪ ،‬وغايتهم‬ ‫ين ْ‬
‫َِّ‬
‫{ َوالذ َ‬
‫الفوز بقربه‪.‬‬
‫ومن االستجابة للّه‪ ،‬إقامة الصالة وإ يتاء الزكاة‪ ،‬فلذلك عطفهما على ذلك‪ ،‬من باب عطف العام‬
‫اموا الصَّالةَ } أي‪ :‬ظاهرها وباطنها‪ ،‬فرضها‬
‫على الخاص‪ ،‬الدال على شرفه وفضله فقال‪َ { :‬وأَقَ ُ‬
‫ون } من النفقات الواجبة‪ ،‬كالزكاة والنفقة على األقارب ونحوهم‪،‬‬ ‫ونفلها‪ { .‬و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ‬
‫اه ْم ُي ْنفقُ َ‬ ‫َ َ‬
‫والمستحبة‪ ،‬كالصدقات على عموم الخلق‪.‬‬
‫ورى َب ْيَنهُ ْم } أي‪ :‬ال يستبد أحد منهم برأيه في أمر من األمور‬
‫{ َوأ َْم ُر ُه ْم } الديني والدنيوي { ُش َ‬
‫المشتركة بينهم‪ ،‬وهذا ال يكون إال فرعا عن اجتماعهم وتوالفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال‬
‫عقولهم‪ ،‬أنهم إذا أرادوا أمرا من األمور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها‪ ،‬اجتمعوا لها‬
‫وتشاوروا وبحثوا فيها‪ ،‬حتى إذا تبينت لهم المصلحة‪ ،‬انتهزوها وبادروها‪ ،‬وذلك كالرأي في‬
‫الغزو والجهاد‪ ،‬وتولية الموظفين إلمارة أو قضاء‪ ،‬أو غيره‪ ،‬وكالبحث في المسائل الدينية عموما‪،‬‬
‫فإنها من األمور المشتركة‪ ،‬والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه اهلل‪ ،‬وهو داخل في هذه اآلية‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ون } لقوتهم وعزتهم‪ ،‬ولم‬
‫ي } أي‪ :‬وصل إليهم من أعدائهم { ُه ْم َي ْنتَص ُر َ‬ ‫ين ِإ َذا أ َ‬
‫َص َابهُ ُم اْلَب ْغ ُ‬ ‫{ َوالذ َ‬
‫يكونوا أذالء عاجزين عن االنتصار‪.‬‬
‫فوصفهم باإليمان‪ ،‬وعلى اهلل‪ ،‬واجتناب الكبائر والفواحش الذي تكفر به الصغائر‪ ،‬واالنقياد التام‪،‬‬
‫واالستجابة لربهم‪ ،‬وإ قامة الصالة‪ ،‬واإلنفاق في وجوه اإلحسان‪ ،‬والمشاورة في أمورهم‪ ،‬والقوة‬
‫واالنتصار على أعدائهم‪ ،‬فهذه خصال الكمال قد جمعوها‪ ،‬ويلزم من قيامها فيهم‪ ،‬فعل ما هو‬
‫دونها‪ ،‬وانتفاء ضدها‪.‬‬

‫( ‪)1/759‬‬
‫ين (‪َ )40‬ولَ َم ِن‬ ‫َجره علَى اللَّ ِه ِإَّنه اَل ي ِح ُّ َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ب الظالم َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َصلَ َح فَأ ْ ُ ُ َ‬
‫اء َسيَِّئة َسيَِّئةٌ مثْلُهَا فَ َم ْن َعفَا َوأ ْ‬
‫َو َج َز ُ‬
‫ون‬ ‫ون َّ‬ ‫السبِي ُل علَى الَِّذين ي ِْ‬
‫يل (‪ِ )41‬إَّن َما َّ‬ ‫ك ما َعلَْي ِهم ِم ْن سبِ ٍ‬ ‫ِِ ِ‬
‫اس َوَي ْب ُغ َ‬ ‫الن َ‬ ‫ظل ُم َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ص َر َب ْع َد ظُْلمه فَأُولَئ َ َ‬ ‫ْانتَ َ‬
‫اب أَِليم (‪ )42‬ولَم ْن صبر و َغفَر ِإ َّن َذِل َ ِ‬ ‫ق أُولَئِ َ‬
‫ض بِ َغ ْي ِر اْل َح ِّ‬‫ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ُم ِ‬
‫ور (‬ ‫ك لَم ْن َع ْزِم اأْل ُ‬ ‫َ َ َ ََ َ َ‬ ‫ك لَهُ ْم َع َذ ٌ ٌ‬
‫‪)43‬‬

‫ين *‬ ‫َجره علَى اللَّ ِه ِإَّنه ال ي ِح ُّ َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬


‫ب الظالم َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َصلَ َح فَأ ْ ُ ُ َ‬
‫اء َسيَِّئة َسيَِّئةٌ م ْثلُهَا فَ َم ْن َعفَا َوأ ْ‬
‫{ ‪َ { } 40-43‬و َج َز ُ‬
‫السبِي ُل علَى الَِّذين ي ِْ‬‫يل * ِإَّن َما َّ‬ ‫ك ما َعلَْي ِهم ِم ْن سبِ ٍ‬ ‫ِِ ِ‬
‫اس‬ ‫ون َّ‬
‫الن َ‬ ‫ظل ُم َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َولَ َم ِن ْانتَ َ‬
‫ص َر َب ْع َد ظُْلمه فَأُولَئ َ َ‬
‫ك لَ ِم ْن َع ْزِم‬
‫صَب َر َو َغفََر ِإ َّن َذِل َ‬
‫يم * َولَ َم ْن َ‬
‫ك لَهم ع َذ ٌ ِ‬
‫اب أَل ٌ‬ ‫ق أُولَئ َ ُ ْ َ‬
‫ض بِ َغ ْي ِر اْلح ِّ ِ‬
‫َ‬ ‫األر ِ‬ ‫وي ْب ُغ ِ‬
‫ون في ْ‬ ‫ََ َ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫األم ِ‬
‫ُ‬
‫ذكر اهلل في هذه اآلية‪ ،‬مراتب العقوبات‪ ،‬وأنها على ثالث مراتب‪ :‬عدل وفضل وظلم‪.‬‬
‫فمرتبة العدل‪ ،‬جزاء السيئة بسيئة مثلها‪ ،‬ال زيادة وال نقص‪ ،‬فالنفس بالنفس‪ ،‬وكل جارحة‬
‫بالجارحة المماثلة لها‪ ،‬والمال يضمن بمثله‪.‬‬
‫َج ُرهُ َعلَى اللَّ ِه }‬
‫َصلَ َح فَأ ْ‬
‫ومرتبة الفضل‪ :‬العفو واإلصالح عن المسيء‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَ َم ْن َعفَا َوأ ْ‬
‫يجزيه أجرا عظيما‪ ،‬وثوابا كثيرا‪ ،‬وشرط اهلل في العفو اإلصالح فيه‪ ،‬ليدل ذلك على أنه إذا كان‬
‫الجاني ال يليق العفو عنه‪ ،‬وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته‪ ،‬فإنه في هذه الحال ال يكون‬
‫مأمورا به‪.‬‬
‫وفي جعل أجر العافي على اهلل ما يهيج على العفو‪ ،‬وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله اهلل‬
‫ف عنهم‪ ،‬وكما يحب أن يسامحه اهلل‪ ،‬فليسامحهم‪ ،‬فإن الجزاء‬
‫به‪ ،‬فكما يحب أن يعفو اهلل عنه‪َ ،‬فْلَي ْع ُ‬
‫من جنس العمل‪.‬‬
‫ين } الذين يجنون على غيرهم ابتداء‪ ،‬أو‬ ‫وأما مرتبة الظلم فقد ذكرها بقوله‪ِ { :‬إَّنه ال ي ِح ُّ َّ ِ ِ‬
‫ب الظالم َ‬ ‫ُ ُ‬
‫يقابلون الجاني بأكثر من جنايته‪ ،‬فالزيادة ظلم‪.‬‬
‫ك َما َعلَْي ِه ْم ِم ْن‬
‫ص َر َب ْع َد ظُْل ِم ِه } أي‪ :‬انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه { فَأُولَئِ َ‬ ‫{ َولَ َم ِن ْانتَ َ‬
‫يل } أي‪ :‬ال حرج عليهم في ذلك‪.‬‬ ‫سبِ ٍ‬
‫َ‬
‫ص َر َب ْع َد ظُْل ِم ِه } أنه ال بد من إصابة‬ ‫ي } وقوله‪َ { :‬ولَ َم ِن ْانتَ َ‬ ‫ين ِإ َذا أ َ‬
‫َِّ‬
‫َص َابهُ ُم اْلَب ْغ ُ‬ ‫ودل قوله‪َ { :‬والذ َ‬
‫البغي والظلم ووقوعه‪.‬‬
‫وأما إرادة البغي على الغير‪ ،‬وإ رادة [ ص ‪ ] 761‬ظلمه من غير أن يقع منه شيء‪ ،‬فهذا ال‬
‫يجازى بمثله‪ ،‬وإ نما يؤدب تأديبا يردعه عن قول أو فعل صدر منه‪.‬‬
‫ون ِفي‬
‫اس َوَي ْب ُغ َ‬ ‫ون َّ‬
‫الن َ‬
‫السبِي ُل } أي‪ :‬إنما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية { علَى الَِّذين ي ِْ‬
‫ظل ُم َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫{ ِإَّن َما َّ‬
‫ق } وهذا شامل للظلم والبغي على الناس‪ ،‬في دمائهم وأموالهم وأعراضهم‪.‬‬ ‫ض بِ َغ ْي ِر اْل َح ِّ‬
‫األر ِ‬‫ْ‬
‫يم } أي‪ :‬موجع للقلوب واألبدان‪ ،‬بحسب ظلمهم وبغيهم‪.‬‬ ‫ك لَهم ع َذ ٌ ِ‬ ‫ِ‬
‫اب أَل ٌ‬ ‫{ أُولَئ َ ُ ْ َ‬
‫صَب َر } على ما يناله من أذى الخلق { َو َغفََر } لهم‪ ،‬بأن سمح لهم عما يصدر منهم‪ِ { ،‬إ َّن‬
‫{ َولَ َم ْن َ‬
‫َذِل َ ِ‬
‫ور } أي‪ :‬لمن األمور التي حث اهلل عليها وأكدها‪ ،‬وأخبر أنه ال يلقاها إال أهل‬ ‫ك لَم ْن َع ْزِم ُ‬
‫األم ِ‬
‫الصبر والحظوظ العظيمة‪ ،‬ومن األمور التي ال يوفق لها إال أولو العزائم والهمم‪ ،‬وذوو األلباب‬
‫والبصائر‪.‬‬
‫فإن ترك االنتصار للنفس بالقول أو الفعل‪ ،‬من أشق شيء عليها‪ ،‬والصبر على األذى‪ ،‬والصفح‬
‫عنه‪ ،‬ومغفرته‪ ،‬ومقابلته باإلحسان‪ ،‬أشق وأشق‪ ،‬ولكنه يسير على من يسره اهلل عليه‪ ،‬وجاهد نفسه‬
‫على االتصاف به‪ ،‬واستعان اهلل على ذلك‪ ،‬ثم إذا ذاق العبد حالوته‪ ،‬ووجد آثاره‪ ،‬تلقاه برحب‬
‫الصدر‪ ،‬وسعة الخلق‪ ،‬والتلذذ فيه‪.‬‬

‫( ‪)1/760‬‬

‫ون َه ْل ِإلَى َم َر ٍّد ِم ْن‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وم ْن ي ْ ِ َّ‬
‫اب َيقُولُ َ‬ ‫ضل ِل اللهُ فَ َما لَهُ م ْن َوِل ٍّي م ْن َب ْعده َوتََرى الظالم َ‬
‫ين لَ َّما َرأ َُوا اْل َع َذ َ‬ ‫ََ ُ‬
‫يل (‪)44‬‬‫سبِ ٍ‬
‫َ‬

‫َّ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 44-46‬وم ْن ي ْ ِ َّ‬


‫ون‬
‫اب َيقُولُ َ‬ ‫ضل ِل اللهُ فَ َما لَهُ م ْن َوِل ٍّي م ْن َب ْعده َوتََرى الظالم َ‬
‫ين لَ َّما َرأ َُوا اْل َع َذ َ‬ ‫ََ ُ‬
‫يل * } ‪.‬‬ ‫َه ْل ِإلَى مر ٍّد ِم ْن سبِ ٍ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫ضِل ِل اللَّهُ } بسبب ظلمه { فَ َما لَهُ ِم ْن َوِل ٍّي‬ ‫يخبر تعالى أنه المنفرد بالهداية واإلضالل‪ ،‬وأنه { َم ْن ُي ْ‬
‫ِم ْن َب ْع ِد ِه } يتولى أمره ويهديه‪.‬‬
‫اب } مرأى ومنظرا فظيعا‪ ،‬صعبا شنيعا‪ ،‬يظهرون الندم العظيم‪،‬‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫ين لَ َّما َرأ َُوا اْل َع َذ َ‬
‫{ َوتََرى الظالم َ‬
‫يل } أي‪ :‬هل لنا طريق أو حيلة إلى‬ ‫ون َه ْل ِإلَى مر ٍّد ِم ْن سبِ ٍ‬
‫والحزن على ما سلف منهم‪ ،‬و { َيقُولُ َ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫رجوعنا إلى الدنيا‪ ،‬لنعمل غير الذي كنا نعمل‪ ،‬وهذا طلب لألمر المحال الذي ال يمكن‪.‬‬

‫( ‪)1/761‬‬

‫َمُنوا ِإ َّن‬ ‫َِّ‬ ‫الذ ِّل ي ْنظُرون ِم ْن َ ٍ ِ‬ ‫اش ِعين ِمن ُّ‬ ‫اهم يعرضون علَْيها َخ ِ‬
‫ين آ َ‬
‫ط ْرف َخف ٍّي َوقَا َل الذ َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َوتََر ُ ْ ُ ْ َ ُ َ َ َ‬
‫ان‬ ‫َهِلي ِهم َيوم اْل ِقَيام ِة أَاَل ِإ َّن الظَّ ِال ِمين ِفي َع َذ ٍ ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫اس ِر َِّ‬ ‫اْل َخ ِ‬
‫اب ُمقيم (‪َ )45‬و َما َك َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ين َخس ُروا أ َْنفُ َسهُ ْم َوأ ْ ْ ْ َ‬ ‫ين الذ َ‬ ‫َ‬
‫ضِل ِل اللَّهُ فَما لَهُ ِم ْن سبِ ٍ‬
‫ون اللَّ ِه َو َم ْن ُي ْ‬
‫ونهُ ْم ِم ْن ُد ِ‬ ‫ِ‬
‫يل (‪)46‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ص ُر َ‬ ‫لَهُ ْم م ْن أ َْوِلَي َ‬
‫اء َي ْن ُ‬
‫آمُنوا ِإ َّن‬ ‫ف َخ ِف ٍّي وقَ َ َِّ‬ ‫طر ٍ‬ ‫الذ ِّل ي ْنظُر ِ‬ ‫اش ِعين ِمن ُّ‬ ‫اهم يعرضون علَْيها َخ ِ‬
‫ين َ‬‫ال الذ َ‬ ‫َ‬ ‫ون م ْن َ ْ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫{ َوتََر ُ ْ ُ ْ َ ُ َ َ َ‬
‫ان لَهُ ْم‬ ‫الظ ِال ِمين ِفي َع َذ ٍ ِ ٍ‬‫اس ِرين الَِّذين َخ ِسروا أ َْنفُسهم وأَهِلي ِهم يوم اْل ِقيام ِة أَال ِإ َّن َّ‬ ‫اْل َخ ِ‬
‫اب ُمقيم * َو َما َك َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُْ َ ْ ْ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫ضِل ِل اللَّهُ فَما لَهُ ِم ْن سبِ ٍ‬ ‫ون اللَّ ِه َو َم ْن ُي ْ‬‫ونهُ ْم ِم ْن ُد ِ‬ ‫ِ‬
‫يل } ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ص ُر َ‬ ‫م ْن أ َْوِلَي َ‬
‫اء َي ْن ُ‬
‫الذ ِّل } أي‪ :‬ترى أجسامهم خاشعة للذل‬ ‫اش ِعين ِمن ُّ‬ ‫اهم يعرضون علَْيها } أي‪ :‬على النار { َخ ِ‬
‫َ َ‬ ‫{ َوتََر ُ ْ ُ ْ َ ُ َ َ َ‬
‫ف َخ ِف ٍّي } أي‪ :‬ينظرون إلى النار مسارقة وشزرا‪ ،‬من هيبتها‬ ‫طر ٍ‬
‫ون م ْن َ ْ‬
‫الذي في قلوبهم‪ { ،‬ي ْنظُر ِ‬
‫َ ُ َ‬
‫وخوفها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ين‬‫آمُنوا } حيث ظهرت عواقب الخلق‪ ،‬وتبين أهل الصدق من غيرهم‪ِ { :‬إ َّن اْل َخاس ِر َ‬ ‫ين َ‬ ‫{ َوقَا َل الذ َ‬
‫ام ِة } حيث فوتوا أنفسهم جزيل الثواب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ين َخ ِس ُروا أ َْنفُ َسهُ ْم وأ ْ ِ ِ‬
‫َهليه ْم َي ْو َم اْلقَي َ‬ ‫َ‬
‫َِّ‬
‫} على الحقيقة { الذ َ‬
‫وحصلوا على أليم العقاب وفرق بينهم وبين أهليهم‪ ،‬فلم يجتمعوا بهم‪ ،‬آخر ما عليهم‪ { .‬أَال ِإ َّن‬
‫اب ُم ِق ٍيم } أي‪ :‬في سوائه ووسطه‪ ،‬منغمرين ال‬ ‫ين } أنفسهم بالكفر والمعاصي { ِفي َع َذ ٍ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫الظالم َ‬
‫يخرجون منه أبدا‪ ،‬وال يفتر عنهم وهم فيه مبلسون‪.‬‬
‫ون اللَّ ِه } كما كانوا في الدنيا يمنون بذلك أنفسهم‪ ،‬ففي‬ ‫ونهُ ْم ِم ْن ُد ِ‬‫ص ُر َ‬ ‫ِ‬
‫ان لَهُ ْم م ْن أ َْوِلَي َ‬
‫اء َي ْن ُ‬ ‫{ َو َما َك َ‬
‫القيامة يتبين لهم ولغيرهم أن أسبابهم التي أملوها تقطعت‪ ،‬وأنه حين جاءهم عذاب اهلل لم يدفع‬
‫يل } تحصل به هدايته‪ ،‬فهؤالء ضلوا حيث زعموا في‬ ‫ضِل ِل اللَّهُ فَما لَهُ ِم ْن سبِ ٍ‬ ‫عنهم‪َ { .‬و َم ْن ُي ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫شركائهم النفع ودفع الضر‪ ،‬فتبين حينئذ ضاللهم‪.‬‬

‫( ‪)1/761‬‬

‫ير (‬ ‫َن َيأْتِي َي ْو ٌم اَل َم َر َّد لَهُ ِم َن اللَّ ِه َما لَ ُك ْم ِم ْن َمْل َجٍأ َي ْو َمئٍِذ َو َما لَ ُك ْم ِم ْن َن ِك ٍ‬ ‫ْ ِ ِ ِّ ِ ِ‬
‫استَج ُيبوا ل َرب ُك ْم م ْن قَْبل أ ْ َ‬
‫ان ِمَّنا َر ْح َمةً‬ ‫ظا ِإ ْن َعلَْي َ اَّل‬
‫ك ِإ اْلَباَل غُ َوإِ َّنا ِإ َذا أَ َذ ْقَنا اإْلِ ْن َس َ‬ ‫ك َعلَْي ِه ْم َح ِفي ً‬
‫ضوا فَ َما أ َْر َسْلَنا َ‬ ‫‪ )47‬فَِإ ْن أ ْ‬
‫َع َر ُ‬
‫ص ْبهم سيَِّئةٌ بِما قَ َّدم ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫ور (‪)48‬‬ ‫ان َكفُ ٌ‬ ‫ت أ َْيدي ِه ْم فَِإ َّن اإْلِ ْن َس َ‬ ‫َ َ‬ ‫فَ ِر َح بِهَا َوإِ ْن تُ ُ ْ َ‬

‫َن َيأْتِ َي َي ْو ٌم ال َم َر َّد لَهُ ِم َن اللَّ ِه َما لَ ُك ْم ِم ْن َمْل َجٍإ َي ْو َمئٍِذ َو َما‬ ‫استَ ِج ُيبوا ِل َرِّب ُك ْم ِم ْن قَْب ِل أ ْ‬
‫{ ‪ْ { } 47-48‬‬
‫ان‬ ‫ك ِإال اْلَبالغُ َوإِ َّنا ِإ َذا أَ َذ ْقَنا ْ‬
‫اإلن َس َ‬ ‫ظا ِإ ْن َعلَْي َ‬ ‫ك َعلَْي ِه ْم َح ِفي ً‬ ‫ضوا فَ َما أ َْر َسْلَنا َ‬ ‫َع َر ُ‬ ‫لَ ُك ْم ِم ْن َن ِك ٍ‬
‫ير * فَِإ ْن أ ْ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫ان َكفُ ٌ‬ ‫ت أ َْي ِدي ِه ْم فَِإ َّن ْ‬
‫اإلن َس َ‬ ‫ص ْبهُ ْم َسيَِّئةٌ بِ َما قَ َّد َم ْ‬‫ِمَّنا ر ْحمةً فَ ِرح بِها وإِ ْن تُ ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫يأمر تعالى عباده باالستجابة له‪ ،‬بامتثال ما أمر به‪ ،‬واجتناب ما نهى عنه‪ ،‬وبالمبادرة بذلك وعدم‬
‫َن َيأْتِ َي َي ْوم القيامة الذي إذا جاء ال يمكن رده واستدراك الفائت‪ ،‬وليس للعبد‬
‫التسويف‪ِ ،‬م ْن قَْب ِل أ ْ‬
‫في ذلك اليوم ملجأ يلجأ إليه‪ ،‬فيفوت ربه‪ ،‬ويهرب منه‪.‬‬
‫َن تَْنفُ ُذوا‬
‫ط ْعتُ ْم أ ْ‬ ‫س ِإ ِن ْ‬
‫استَ َ‬ ‫بل قد أحاطت المالئكة بالخليقة من خلفهم‪ ،‬ونودوا { َيا َم ْع َش َر اْل ِج ِّن َو ْ‬
‫اإلن ِ‬
‫طٍ‬ ‫ون ِإال بِ ُسْل َ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِم ْن أَ ْق َ‬
‫ان } وليس للعبد في ذلك اليوم نكير لما‬ ‫ض فَ ْانفُ ُذوا ال تَْنفُ ُذ َ‬ ‫ط ِار الس َ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫اقترفه وأجرمه‪ ،‬بل لو أنكر لشهدت عليه جوارحه‪.‬‬
‫وهذه اآلية ونحوها‪ ،‬فيها ذم األمل‪ ،‬واألمر بانتهاز الفرصة في كل عمل يعرض للعبد‪ ،‬فإن‬
‫للتأخير آفات‪.‬‬
‫اك َعلَْي ِه ْم َح ِفي ً‬
‫ظا } تحفظ أعمالهم‬ ‫ضوا } عما جئتهم به بعد البيان التام { فَ َما أ َْر َسْلَن َ‬ ‫{ فَِإ ْن أ ْ‬
‫َع َر ُ‬
‫ك ِإال اْلَبالغُ } فإذا أديت ما عليك‪ ،‬فقد وجب أجرك على اللّه‪ ،‬سواء‬ ‫وتسأل عنها‪ِ { ،‬إ ْن َعلَْي َ‬
‫استجابوا أم أعرضوا‪ ،‬وحسابهم على اللّه الذي يحفظ عليهم صغير أعمالهم وكبيرها‪ ،‬وظاهرها‬
‫وباطنها‪.‬‬
‫ثم ذكر تعالى حالة اإلنسان‪ ،‬وأنه إذا أذاقه اهلل رحمة‪ ،‬من صحة بدن‪ ،‬ورزق رغد‪ ،‬وجاه ونحوه {‬
‫فَ ِر َح بِهَا } أي‪ :‬فرح فرحا مقصورا عليها‪ ،‬ال يتعداها‪ ،‬ويلزم من ذلك طمأنينته بها‪ ،‬وإ عراضه‬
‫عن المنعم‪.‬‬
‫[ ص ‪] 762‬‬
‫ور } أي‪:‬‬
‫ان َكفُ ٌ‬ ‫ت أ َْي ِدي ِه ْم فَِإ َّن ْ‬
‫اإلن َس َ‬
‫{ وإِ ْن تُ ِ‬
‫ص ْبهُ ْم َسيَِّئةٌ } أي‪ :‬مرض أو فقر‪ ،‬أو نحوهما { بِ َما قَ َّد َم ْ‬ ‫َ‬
‫طبيعته كفران النعمة السابقة‪ ،‬والتسخط لما أصابه من السيئة‪.‬‬

‫( ‪)1/761‬‬

‫ور (‪ )49‬أ َْو‬ ‫ق ما ي َشاء يهب ِلم ْن ي َشاء ِإَناثًا ويهب ِلم ْن ي َش ُّ‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِللَّ ِه ُمْل ُ‬
‫اء الذ ُك َ‬
‫َََ ُ َ َ ُ‬ ‫ض َي ْخلُ ُ َ َ ُ َ َ ُ َ َ ُ‬ ‫َّم َاو َ‬ ‫ك الس َ‬
‫يم قَِد ٌير (‪)50‬‬ ‫ِ‬
‫يما ِإَّنهُ َعل ٌ‬
‫ي َز ِّوجهم ُذ ْكر ًانا وإِ َناثًا وي ْجع ُل م ْن ي َش ِ‬
‫اء َعق ً‬
‫ََ َ َ َ ُ‬ ‫ُ ُ ُْ َ َ‬

‫اء‬ ‫ق ما ي َشاء يهب ِلم ْن ي َشاء ِإَناثًا ويه ِ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ِ { } 49-50‬للَّ ِه ُمْل ُ‬
‫ب ل َم ْن َي َش ُ‬
‫َََ ُ‬ ‫ض َي ْخلُ ُ َ َ ُ َ َ ُ َ َ ُ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ك الس َ‬
‫يم قَِد ٌير } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫يما ِإَّنهُ َعل ٌ‬
‫الذ ُكور * أَو ي َز ِّوجهم ُذ ْكر ًانا وإِ َناثًا وي ْجع ُل م ْن ي َش ِ‬
‫اء َعق ً‬
‫ََ َ َ َ ُ‬ ‫ْ ُ ُ ُْ َ َ‬ ‫َ‬
‫ُّ‬
‫هذه اآلية فيها اإلخبار عن سعة ملكه تعالى‪ ،‬ونفوذ تصرفه في الملك في الخلق لما يشاء‪ ،‬والتدبير‬
‫لجميع األمور‪ ،‬حتى إن تدبيره تعالى‪ ،‬من عمومه‪ ،‬أنه يتناول المخلوقة عن األسباب التي يباشرها‬
‫العباد‪ ،‬فإن النكاح من األسباب لوالدة األوالد‪ ،‬فاللّه تعالى هو الذي يعطيهم من األوالد ما يشاء‪.‬‬
‫فمن الخلق من يهب له إناثا‪ ،‬ومنهم من يهب له ذكورا‪ ،‬ومنهم من يزوجه‪ ،‬أي‪ :‬يجمع له ذكورا‬
‫وإ ناثا‪ ،‬ومنهم من يجعله عقيما ال يولد له‪.‬‬
‫يم } بكل شيء { قَِد ٌير } على كل شيء‪ ،‬فيتصرف بعلمه وإ تقانه األشياء‪ ،‬وبقدرته في‬ ‫ِ‬
‫{ ِإَّنهُ َعل ٌ‬
‫مخلوقاته‪.‬‬
‫( ‪)1/762‬‬

‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اء ِح َج ٍ‬


‫َن ي َكلِّمه اللَّه ِإاَّل و ْحيا أَو ِم ْن ور ِ‬ ‫وما َك ِ‬
‫اب أ َْو ُي ْرس َل َر ُسواًل فَُيوح َي بِِإ ْذنه َما َي َش ُ‬
‫اء‬ ‫ََ‬ ‫ان لَب َش ٍر أ ْ ُ َ ُ ُ َ ً ْ‬ ‫ََ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم (‪)51‬‬ ‫ِإَّنهُ َعل ٌّي َحك ٌ‬

‫اب أَو ير ِس َل رسوال فَي ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 51-53‬وما َكان ِلب َش ٍر أ ْ ِّ َّ‬


‫وح َي‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َن ُي َكل َمهُ اللهُ ِإال َو ْحًيا أ َْو م ْن َو َراء ح َج ٍ ْ ُ ْ‬ ‫ََ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫اء ِإَّنهُ َعل ٌّي َحك ٌ‬
‫يم * } ‪.‬‬ ‫بِِإ ْذنه َما َي َش ُ‬
‫لما قال المكذبون لرسل اهلل‪ ،‬الكافرون باهلل‪ { :‬لَ ْوال ُي َكلِّ ُمَنا اللَّهُ أ َْو تَأْتِ َينا َآيةٌ } من كبرهم وتجبرهم‪،‬‬
‫رد اهلل عليهم بهذه اآلية الكريمة‪ ،‬وأن تكليمه تعالى ال يكون إال لخواص خلقه‪ ،‬لألنبياء‬
‫والمرسلين‪ ،‬وصفوته من العالمين‪ ،‬وأنه يكون على أحد هذه األوجه‪.‬‬
‫َن ُي َكلِّ َمهُ اللَّهُ َو ْحًيا بأن يلقي الوحي في قلب الرسول‪ ،‬من غير إرسال ملك‪ ،‬وال مخاطبة منه‬
‫إما أ ْ‬
‫شفاها‪.‬‬
‫اب } كما حصل لموسى بن عمران‪ ،‬كليم الرحمن‪.‬‬ ‫اء ِح َج ٍ‬
‫{ أَو } يكلمه منه شفاها‪ ،‬لكن { ِم ْن ور ِ‬
‫ََ‬ ‫ْ‬
‫{ أ َْو } يكلمه اهلل بواسطة الرسول الملكي‪ ،‬فـ { ُي ْر ِس َل َر ُسوال } كجبريل أو غيره من المالئكة‪.‬‬
‫وح َي بِِإ ْذنِ ِه } أي‪ :‬بإذن ربه‪ ،‬ال بمجرد هواه‪ِ { ،‬إَّنهُ } تعالى علي الذات‪ ،‬علي األوصاف‪،‬‬
‫{ فَي ِ‬
‫ُ‬
‫عظيمها‪ ،‬علي األفعال‪ ،‬قد قهر كل شيء‪ ،‬ودانت له المخلوقات‪ .‬حكيم في وضعه كل شيء في‬
‫موضعه‪ ،‬من المخلوقات والشرائع‪.‬‬

‫( ‪)1/762‬‬

‫ورا َن ْه ِدي‬ ‫ِ‬


‫ان َولَك ْن َج َعْلَناهُ ُن ً‬
‫يم ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وحا ِم ْن أ َْم ِرَنا َما ُك ْن َ‬
‫ت تَ ْد ِري َما اْلكتَ ُ‬
‫اب َواَل اإْل َ‬ ‫ك ُر ً‬ ‫َو َك َذِل َ‬
‫ك أ َْو َح ْيَنا ِإلَْي َ‬
‫اط اللَّ ِه الَِّذي لَه ما ِفي السَّماو ِ‬ ‫صر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫بِ ِه م ْن َن َشاء ِم ْن ِعب ِادَنا وإِ َّن َ ِ‬
‫ات‬ ‫ََ‬ ‫َُ‬ ‫ك لَتَ ْهدي ِإلَى ص َراط ُم ْستَقيم (‪َ )52‬‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ور (‪)53‬‬ ‫وما ِفي اأْل َر ِ ِ َّ ِ ِ‬
‫ُم ُ‬ ‫ض أَاَل إلَى الله تَص ُير اأْل ُ‬ ‫ْ‬ ‫ََ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وحا ِم ْن أ َْم ِرَنا َما ُك ْن َ‬ ‫ك أ َْو َح ْيَنا ِإلَْي َ‬‫{ َو َك َذِل َ‬
‫ورا‬
‫ان َولَك ْن َج َعْلَناهُ ُن ً‬
‫اإليم ُ‬ ‫ت تَ ْد ِري َما اْلكتَ ُ‬
‫اب َوال َ‬ ‫ك ُر ً‬
‫اط اللَّ ِه الَِّذي لَهُ َما ِفي‬
‫صر ِ‬‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫ك لَتَ ْهدي ِإلَى ص َراط ُم ْستَقيم * َ‬
‫َنه ِدي بِ ِه م ْن َن َشاء ِم ْن ِعب ِادَنا وإِ َّن َ ِ‬
‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫ات وما ِفي األر ِ ِ َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫األم ُ‬‫ض أَال إلَى الله تَص ُير ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّم َاو َ َ‬ ‫الس َ‬
‫وحا ِم ْن أ َْم ِرَنا } وهو هذا القرآن الكريم‪،‬‬ ‫ك ُر ً‬ ‫ك } حين أوحينا إلى الرسل قبلك { أ َْو َح ْيَنا ِإلَْي َ‬ ‫{ َو َك َذِل َ‬
‫سماه روحا‪ ،‬ألن الروح يحيا به الجسد‪ ،‬والقرآن تحيا به القلوب واألرواح‪ ،‬وتحيا به مصالح الدنيا‬
‫والدين‪ ،‬لما فيه من الخير الكثير والعلم الغزير‪.‬‬
‫ت‬
‫وهو محض منة اهلل على رسوله وعباده المؤمنين‪ ،‬من غير سبب منهم‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ما ُك ْن َ‬
‫ِ‬
‫ان } أي‪ :‬ليس عندك علم بأخبار الكتب‬ ‫اإليم ُ‬ ‫تَ ْد ِري } أي‪ :‬قبل نزوله عليك { َما اْلكتَ ُ‬
‫اب َوال َ‬
‫السابقة‪ ،‬وال إيمان وعمل بالشرائع اإللهية‪ ،‬بل كنت أميا ال تخط وال تقرأ‪ ،‬فجاءك هذا الكتاب‬
‫اء ِم ْن ِعَب ِادَنا } يستضيئون به في ظلمات الكفر والبدع‪،‬‬ ‫ِ ِ‬
‫ورا َن ْهدي بِه َم ْن َن َش ُ‬
‫الذي { َج َعْلَناهُ ُن ً‬
‫واألهواء المردية‪ ،‬ويعرفون به الحقائق‪ ،‬ويهتدون به إلى الصراط المستقيم‪.‬‬
‫اط ُم ْستَِق ٍيم } أي‪ :‬تبينه لهم وتوضحه‪ ،‬وتنيره وترغبهم فيه‪ ،‬وتنهاهم عن‬ ‫صر ٍ‬ ‫ِ‬ ‫{ وإِ َّن َ ِ‬
‫ك لَتَ ْهدي ِإلَى َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َو َما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضده‪ ،‬وترهبهم منه‪ ،‬ثم فسر الصراط المستقيم فقال‪ { :‬ص َراط الله الذي لَهُ َما في الس َ‬
‫ض}‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫في ْ‬
‫أي‪ :‬الصراط الذي نصبه اهلل لعباده‪ ،‬وأخبرهم أنه موصل إليه وإ لى دار كرامته‪ { ،‬أَال ِإلَى اللَّ ِه‬
‫ور } أي‪ :‬ترجع جميع أمور الخير والشر‪ ،‬فيجازي ُكال بحسب عمله‪ ،‬إن خيرا فخير‪،‬‬ ‫ِ‬
‫األم ُ‬
‫تَص ُير ُ‬
‫وإ ن شرا فشر‪.‬‬
‫تم تفسير سورة الشورى‪ ،‬والحمد للّه أوال وآخرا‪ ،‬وظاهرا وباطنا‪ ،‬على تيسيره وتسهيله‪.‬‬
‫تفسير سورة الزخرف‬
‫مكية‬

‫( ‪)1/762‬‬

‫ون (‪ )3‬وإِ َّنهُ ِفي أ ُِّم اْل ِكتَ ِ‬


‫اب لَ َد ْيَنا‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ين (‪ِ )2‬إَّنا َج َعْلَناهُ قُْرآًَنا َعَربِيًّا لَ َعل ُك ْم تَ ْعقلُ َ‬ ‫حم (‪ )1‬واْل ِكتَ ِ‬
‫اب اْل ُمبِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َن ُك ْنتُ ْم قَ ْو ًما ُم ْس ِر ِف َ‬
‫ين (‪)5‬‬ ‫ص ْف ًحا أ ْ‬
‫ب َعْن ُك ُم الذ ْك َر َ‬ ‫ض ِر ُ‬
‫يم (‪ )4‬أَفََن ْ‬ ‫لَ َعل ٌّي َحك ٌ‬

‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫الر ِح ِيم حم * واْل ِكتَ ِ‬ ‫{ ‪ { } 1-5‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫ين * ِإَّنا َج َعْلَناهُ قُْر ًآنا َعَربِيًّا لَ َعل ُك ْم تَ ْعقلُ َ‬
‫ون‬ ‫اب اْل ُمبِ ِ‬ ‫َ‬ ‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫َن ُك ْنتُ ْم قَ ْو ًما ُم ْس ِر ِف َ‬
‫ص ْف ًحا أ ْ‬‫ب َعْن ُك ُم الذ ْك َر َ‬ ‫ض ِر ُ‬ ‫* َوإِ َّنهُ في أ ُِّم اْلكتَاب لَ َد ْيَنا لَ َعل ٌّي َحك ٌ‬
‫يم * أَفََن ْ‬
‫هذا قسم بالقرآن على القرآن‪ ،‬فأقسم بالكتاب المبين وأطلق‪ ،‬ولم يذكر المتعلق‪ ،‬ليدل على أنه مبين‬
‫لكل ما يحتاج إليه العباد من أمور الدنيا والدين واآلخرة‪.‬‬
‫{ ِإَّنا َج َعْلَناهُ قُْر ًآنا َعَربِيًّا } هذا المقسم عليه‪ ،‬أنه جعل بأفصح اللغات وأوضحها وأبينها‪ ،‬وهذا من‬
‫ون } ألفاظه ومعانيه لتيسرها وقربها من األذهان‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫بيانه‪ .‬وذكر الحكمة في ذلك فقال‪ { :‬لَ َعل ُك ْم تَ ْعقلُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َوإِ َّنهُ } أي‪ :‬هذا الكتاب { لَ َد ْيَنا } في المأل األعلى في أعلى الرتب وأفضلها { لَ َعل ٌّي َحك ٌ‬
‫يم } أي‪:‬‬
‫لعلي في قدره وشرفه ومحله‪ ،‬حكيم فيما يشتمل عليه من األوامر والنواهي واألخبار‪ ،‬فليس فيه‬
‫حكم مخالف للحكمة والعدل والميزان‪.‬‬
‫ثم أخبر تعالى أن حكمته وفضله يقتضي أن ال يترك عباده همال ال يرسل إليهم رسوال وال ينزل‬
‫عليهم كتابا‪ ،‬ولو كانوا مسرفين ظالمين فقال‪:‬‬

‫( ‪)1/762‬‬

‫ِ‬ ‫اَّل‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫َهلَ ْكَنا أَ َش َّد‬ ‫ين (‪َ )6‬و َما َيأْتي ِه ْم م ْن َنبِ ٍّي ِإ َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬
‫ون (‪ )7‬فَأ ْ‬ ‫َو َك ْم أ َْر َسْلَنا م ْن َنبِ ٍّي في اأْل ََّوِل َ‬
‫ضى َمثَ ُل اأْل ََّوِل َ‬
‫ين (‪)8‬‬ ‫ط ًشا َو َم َ‬ ‫ِم ْنهُ ْم َب ْ‬

‫ص ْف ًحا } أي‪ :‬أفنعرض عنكم‪ ،‬ونترك إنزال الذكر إليكم‪ ،‬ونضرب عنكم‬ ‫ِّ‬ ‫ض ِر ُ‬
‫ب َعْن ُك ُم الذ ْك َر َ‬ ‫{ أَفََن ْ‬
‫صفحا‪ ،‬ألجل إعراضكم‪ ،‬وعدم انقيادكم له؟ بل ننزل عليكم الكتاب‪ ،‬ونوضح لكم فيه كل شيء‪،‬‬
‫فإن آمنتم به واهتديتم‪ ،‬فهو من توفيقكم‪ ،‬وإ ال قامت عليكم الحجة‪ ،‬وكنتم على بينة من أمركم‪.‬‬
‫[ ص ‪] 763‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫{ ‪َ { } 6-8‬و َك ْم أ َْر َسْلَنا ِم ْن َنبِ ٍّي ِفي َّ‬
‫ين * َو َما َيأْتي ِه ْم م ْن َنبِ ٍّي ِإال َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬
‫ون *‬ ‫األوِل َ‬
‫األوِل َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ضى َمثَ ُل َّ‬ ‫ط ًشا َو َم َ‬ ‫َهلَ ْكَنا أَ َش َّد ِم ْنهُ ْم َب ْ‬
‫فَأ ْ‬
‫يقول تعالى‪ :‬إن هذه سنتنا في الخلق‪ ،‬أن ال نتركهم همال فكم { أ َْر َسْلَنا ِم ْن َنبِ ٍّي ِفي َّ‬
‫األوِل َ‬
‫ين }‬
‫يأمرونهم بعبادة اللّه وحده ال شريك له‪ ،‬ولم يزل التكذيب موجودا في األمم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون } جحدا لما جاء به‪ ،‬وتكبرا على الحق‪.‬‬ ‫{ َو َما َيأْتي ِه ْم م ْن َنبِ ٍّي ِإال َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬
‫األوِل َ‬
‫ين }‬ ‫ضى َمثَ ُل َّ‬ ‫ط ًشا } أي‪ :‬قوة وأفعاال وآثارا في األرض‪َ { ،‬و َم َ‬ ‫َهلَ ْكَنا أَ َش ّد } من هؤالء { َب ْ‬ ‫{ فَأ ْ‬
‫أي‪ :‬مضت أمثالهم وأخبارهم‪ ،‬وبينا لكم منها ما فيه عبرة ومزدجر عن التكذيب واإلنكار‪.‬‬

‫( ‪)1/762‬‬

‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َولَئِ ْن َسأَْلتَهُ ْم َم ْن َخلَ َ‬


‫ض‬ ‫ض لََيقُولُ َّن َخلَقَهُ َّن اْل َع ِز ُيز اْل َعل ُ‬
‫يم (‪ )9‬الذي َج َع َل لَ ُك ُم اأْل َْر َ‬ ‫َّم َاوات َواأْل َْر َ‬ ‫ق الس َ‬
‫ون (‪)10‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫َم ْه ًدا َو َج َع َل لَ ُك ْم فيهَا ُسُباًل لَ َعل ُك ْم تَ ْهتَ ُد َ‬

‫يم * الَِّذي َج َع َل‬ ‫ِ‬


‫ض لََيقُولُ َّن َخلَقَهُ َّن اْل َع ِز ُيز اْل َعل ُ‬
‫األر َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ق الس َ‬ ‫{ ‪َ { } 9-14‬ولَئِ ْن َسأَْلتَهُ ْم َم ْن َخلَ َ‬
‫ون * } ‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ض َم ْه ًدا َو َج َع َل لَ ُك ْم فيهَا ُسُبال لَ َعل ُك ْم تَ ْهتَ ُد َ‬‫األر َ‬
‫لَ ُك ُم ْ‬
‫ض لََيقُولُ َّن } اهلل وحده ال‬ ‫ِ‬
‫األر َ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ق الس َ‬
‫يخبر تعالى عن المشركين‪ ،‬أنك لو { َسأَْلتَهُ ْم َم ْن َخلَ َ‬
‫شريك له‪ ،‬العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات‪ ،‬العليم بظواهر األمور وبواطنها‪ ،‬وأوائلها‬
‫وأواخرها‪ ،‬فإذا كانوا مقرين بذلك‪ ،‬فكيف يجعلون له الولد والصاحبة والشريك؟! وكيف يشركون‬
‫به من ال يخلق وال يرزق‪ ،‬وال يميت وال يحيي؟!‬
‫ثم ذكر أيضا من األدلة الدالة على كمال نعمته واقتداره‪ ،‬بما خلقه لعباده من األرض التي مهدها‬
‫وجعلها قرارا للعباد‪ ،‬يتمكنون فيها من كل ما يريدون‪.‬‬
‫{ َو َج َع َل لَ ُك ْم ِفيهَا ُسُبال } أي‪ :‬جعل منافذ بين سالسل الجبال المتصلة‪ ،‬تنفذون منها إلى ما وراءها‬
‫ون } في السير في الطرق وال تضيعون‪ ،‬ولعلكم تهتدون أيضا في‬ ‫َّ‬
‫من األقطار‪ { .‬لَ َعل ُك ْم تَ ْهتَ ُد َ‬
‫االعتبار بذلك واالدكار فيه‪.‬‬

‫( ‪)1/763‬‬

‫اج‬
‫ق اأْل َْز َو َ‬ ‫ون (‪َ )11‬والَِّذي َخلَ َ‬ ‫ك تُ ْخ َر ُج َ‬ ‫اء بِقَ َد ٍر فَأ َْن َش ْرَنا بِ ِه َبْل َدةً َم ْيتًا َك َذِل َ‬ ‫والَِّذي َن َّز َل ِمن الس ِ‬
‫َّماء َم ً‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ور ِه ثَُّم تَ ْذ ُك ُروا نِ ْع َمةَ َرِّب ُك ْم ِإ َذا‬
‫ون (‪ِ )12‬لتَ ْستَُووا َعلَى ظُهُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ُكلهَا َو َج َع َل لَ ُك ْم م َن اْل ُفْلك َواأْل َْن َعام َما تَْر َكُب َ‬
‫ِ‬ ‫استَو ْيتُم علَْي ِه وتَقُولُوا س ْبح َِّ‬
‫ون (‬ ‫ين (‪َ )13‬وإِ َّنا ِإلَى َربَِّنا لَ ُم ْن َقلُب َ‬ ‫ان الذي َس َّخ َر لََنا َه َذا َو َما ُكَّنا لَهُ ُم ْق ِرنِ َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َْ ْ َ َ‬
‫‪)14‬‬

‫اج‬
‫األز َو َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ون * َوالَِّذي َخلَ َ‬ ‫ك تُ ْخ َر ُج َ‬ ‫اء بِقَ َد ٍر فَأ َْن َش ْرَنا بِ ِه َبْل َدةً َم ْيتًا َك َذِل َ‬ ‫{ والَِّذي َن َّز َل ِمن الس ِ‬
‫َّماء َم ً‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ور ِه ثَُّم تَ ْذ ُك ُروا نِ ْع َمةَ َرِّب ُك ْم ِإ َذا‬
‫ون * ِلتَ ْستَُووا َعلَى ظُهُ ِ‬ ‫ُكلَّها و َجع َل لَ ُكم ِمن اْل ُفْل ِك و ْ ِ‬
‫األن َعام َما تَْر َكُب َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ِ‬ ‫استَو ْيتُم علَْي ِه وتَقُولُوا س ْبح َِّ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ين * َوإِ َّنا ِإلَى َربَِّنا لَ ُم ْن َقلُب َ‬ ‫ان الذي َس َّخ َر لََنا َه َذا َو َما ُكَّنا لَهُ ُم ْق ِرنِ َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َْ ْ َ َ‬
‫اء بِقَ َد ٍر } ال يزيد وال ينقص‪ ،‬ويكون أيضا بمقدار الحاجة‪ ،‬ال ينقص‬ ‫نزل ِمن الس ِ‬ ‫َِّ‬
‫َّماء َم ً‬
‫{ َوالذي َ َ َ‬
‫بحيث ال يكون فيه نفع‪ ،‬وال يزيد بحيث يضر العباد والبالد‪ ،‬بل أغاث به العباد‪ ،‬وأنقذ به البالد‬
‫ون } أي‪:‬‬ ‫ك تُ ْخ َر ُج َ‬ ‫من الشدة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَأ َْن َش ْرَنا بِ ِه َبْل َدةً َم ْيتًا } أي‪ :‬أحييناها بعد موتها‪َ { ،‬ك َذِل َ‬
‫فكما أحيا األرض الميتة الهامدة بالماء‪ ،‬كذلك يحييكم بعد ما تستكملون في البرزخ‪ ،‬ليجازيكم‬
‫بأعمالكم‪.‬‬
‫اج ُكلَّهَا } أي‪ :‬األصناف جميعها‪ ،‬مما تنبت األرض ومن أنفسهم ومما ال‬ ‫األز َو َ‬
‫ق ْ‬ ‫{ َوالَِّذي َخلَ َ‬
‫يعلمون‪ ،‬من ليل ونهار‪ ،‬وحر وبرد‪ ،‬وذكر وأنثى‪ ،‬وغير ذلك‪َ { .‬و َج َع َل لَ ُك ْم ِم َن اْل ُفْل ِك } أي‪:‬‬
‫ون { و } من { األنعام ما تركبون ِلتَ ْستَُووا َعلَى‬ ‫السفن البحرية‪ ،‬الشراعية والنارية‪َ ،‬ما تَْر َكُب َ‬
‫ور ِه }‬
‫ظُهُ ِ‬
‫وهذا شامل لظهور الفلك ولظهور األنعام‪ ،‬أي‪ :‬لتستقروا عليها‪ { ،‬ثَُّم تَ ْذ ُك ُروا نِ ْع َمةَ َرِّب ُك ْم ِإ َذا‬
‫استََو ْيتُ ْم َعلَْي ِه } باالعتراف بالنعمة لمن سخرها‪ ،‬والثناء عليه تعالى بذلك‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وتَقُولُوا‬ ‫ْ‬
‫س ْبح َِّ‬
‫ين } أي‪ :‬لوال تسخيره لنا ما سخر من الفلك‪ ،‬واألنعام‪،‬‬ ‫ان الذي َس َّخ َر لََنا َه َذا َو َما ُكَّنا لَهُ ُم ْق ِرنِ َ‬
‫ُ َ َ‬
‫ما كنا مطيقين لذلك وقادرين عليه‪ ،‬ولكن من لطفه وكرمه تعالى‪ ،‬سخرها وذللها ويسر أسبابها‪.‬‬

‫( ‪)1/763‬‬

‫ِ‬ ‫ين (‪ )15‬أَِم اتَّ َخ َذ ِم َّما ي ْخلُ ُ ٍ‬ ‫ِ ِ ِِ‬


‫َصفَا ُك ْم بِاْلَبن َ‬
‫ين‬ ‫ق َبَنات َوأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ور ُمبِ ٌ‬ ‫َو َج َعلُوا لَهُ م ْن عَباده ُج ْز ًءا ِإ َّن اإْلِ ْن َس َ‬
‫ان لَ َكفُ ٌ‬
‫يم (‪ )17‬أ ََو َم ْن ُيَن َّشأُ ِفي‬ ‫ِ‬
‫ظل َو ْجهُهُ ُم ْس َو ًّدا َو ُه َو َكظ ٌ‬
‫ب ِل َّلر ْحم ِن مثَاًل َ َّ‬
‫َ َ‬ ‫ض َر َ‬ ‫َح ُد ُه ْم بِ َما َ‬‫(‪َ )16‬وإِ َذا ُب ِّش َر أ َ‬
‫الر ْح َم ِن ِإَناثًا أَ َش ِه ُدوا‬ ‫اد َّ‬‫ين ُه ْم ِعَب ُ‬ ‫ِ َِّ‬
‫ين (‪َ )18‬و َج َعلُوا اْل َماَل ئ َكةَ الذ َ‬ ‫ص ِام َغْي ُر ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اْلحْلَية َو ُه َو في اْلخ َ‬
‫ِ ِ‬
‫ك ِم ْن ِعْلٍم ِإ ْن‬ ‫اه ْم َما لَهُ ْم بِ َذِل َ‬
‫الر ْح َم ُن َما َعَب ْدَن ُ‬
‫اء َّ‬‫ون (‪َ )19‬وقَالُوا لَ ْو َش َ‬ ‫ادتُهُ ْم َوُي ْسأَلُ َ‬
‫ب َشهَ َ‬ ‫َخْلقَهُ ْم َستُ ْكتَ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُهم ِإاَّل ي ْخرصون (‪ )20‬أَم آَتَْيَن ُ ِ ِ ِ ِ‬
‫ون (‪َ )21‬ب ْل قَالُوا ِإَّنا َو َج ْدَنا آََب َ‬
‫اءَنا‬ ‫اه ْم كتَ ًابا م ْن قَْبله فَهُ ْم بِه ُم ْستَ ْمس ُك َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ ُ ُ َ‬
‫علَى أ َّ ٍ‬
‫ون (‪)22‬‬ ‫ُمة َوإِ َّنا َعلَى َآثَ ِار ِه ْم ُم ْهتَ ُد َ‬ ‫َ‬

‫والمقصود من هذا‪ ،‬بيان أن الرب الموصوف بما ذكره‪ ،‬من إفاضة النعم على العباد‪ ،‬هو الذي‬
‫ور‬
‫ان لَ َكفُ ٌ‬ ‫يستحق أن يعبد‪ ،‬ويصلى له ويسجد‪َ { } 25-15 { .‬و َج َعلُوا لَهُ ِم ْن ِعَب ِاد ِه ُج ْز ًءا ِإ َّن ْ‬
‫اإلن َس َ‬
‫ظ َّل‬‫ب ِل َّلر ْح َم ِن َمثَال َ‬‫ض َر َ‬ ‫ين * َوإِ َذا ُب ِّش َر أ َ‬
‫َح ُد ُه ْم بِ َما َ‬
‫ِ‬
‫َصفَا ُك ْم بِاْلَبن َ‬
‫ين * أَِم اتَّ َخ َذ ِم َّما ي ْخلُ ُ ٍ‬
‫ق َبَنات َوأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُمبِ ٌ‬
‫ين * َو َج َعلُوا اْل َمالئِ َكةَ‬ ‫ص ِام َغ ْي ُر ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم * أ ََو َم ْن ُيَن َّشأُ في اْلحْلَية َو ُه َو في اْلخ َ‬
‫ِ‬
‫َو ْجهُهُ ُم ْس َو ًّدا َو ُه َو َكظ ٌ‬
‫الر ْح َم ُن َما‬‫اء َّ‬
‫ون * َوقَالُوا لَ ْو َش َ‬ ‫ادتُهُ ْم َوُي ْسأَلُ َ‬
‫ب َشهَ َ‬ ‫الر ْح َم ِن ِإَناثًا أَ َش ِه ُدوا َخْلقَهُ ْم َستُ ْكتَ ُ‬
‫اد َّ‬ ‫ين ُه ْم ِعَب ُ‬
‫الذ َ‬
‫َِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك ِم ْن ِعْلٍم ِإ ْن ُهم ِإال ي ْخرصون * أَم آتَْيَن ُ ِ ِ ِ ِ‬ ‫اه ْم َما لَهُ ْم بِ َذِل َ‬
‫ون *‬ ‫اه ْم كتَ ًابا م ْن قَْبله فَهُ ْم بِه ُم ْستَ ْمس ُك َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ ُ ُ َ‬ ‫َعَب ْدَن ُ‬
‫ب ْل قَالُوا ِإَّنا وج ْدَنا آباءَنا علَى أ َّ ٍ‬
‫ون * } ‪.‬‬ ‫ُمة َوإِ َّنا َعلَى آثَ ِار ِه ْم ُم ْهتَ ُد َ‬ ‫َ َ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫يخبر تعالى عن شناعة قول المشركين‪ ،‬الذين جعلوا للّه تعالى ولدا‪ ،‬وهو الواحد األحد‪ ،‬الفرد‬
‫الصمد‪ ،‬الذي لم يتخذ صاحبة وال ولدا‪ ،‬ولم يكن له كفوا أحد‪ ،‬وإ ن ذلك باطل من عدة أوجه‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن الخلق كلهم عباده‪ ،‬والعبودية تنافي الوالدة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الولد جزء من والده‪ ،‬واللّه تعالى بائن من خلقه‪ ،‬مباين لهم في صفاته ونعوت جالله‪،‬‬
‫والولد جزء من الوالد‪ ،‬فمحال أن يكون للّه تعالى ولد‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنهم يزعمون أن المالئكة بنات اللّه‪ ،‬ومن المعلوم أن البنات أدون الصنفين‪ ،‬فكيف يكون‬
‫هلل البنات‪ ،‬ويصطفيهم بالبنين‪ ،‬ويفضلهم بها؟! فإذا يكونون أفضل من اللّه‪ ،‬تعالى اللّه عن ذلك‬
‫علوا كبيرا‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الصنف الذي نسبوه للّه‪ ،‬وهو البنات‪ ،‬أدون الصنفين‪ ،‬وأكرههما لهم‪ ،‬حتى إنهم من‬
‫ب ِل َّلر ْح َم ِن َمثَال َ‬
‫ظ َّل َو ْجهُهُ ُم ْس َو ًّدا } من كراهته وشدة‬ ‫َح ُد ُه ْم بِ َما َ‬
‫ض َر َ‬ ‫كراهتهم لذلك { ِإ َذا ُب ّش َر أ َ‬
‫بغضه‪ ،‬فكيف يجعلون للّه ما يكرهون؟‬
‫ومنها‪ :‬أن األنثى ناقصة في [ ص ‪ ] 764‬وصفها‪ ،‬وفي منطقها وبيانها‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪:‬‬
‫{ أ ََو َم ْن ُيَن َّشأُ ِفي اْل ِحْلَي ِة } أي‪ :‬يجمل فيها‪ ،‬لنقص جماله‪ ،‬فيجمل بأمر خارج عنه؟ { َو ُه َو ِفي‬
‫ين } أي‪ :‬غير‬ ‫ص ِام } أي‪ :‬عند الخصام الموجب إلظهار ما عند الشخص من الكالم‪َ { ،‬غْي ُر ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫اْلخ َ‬
‫مبين لحجته‪ ،‬وال مفصح عما احتوى عليه ضميره‪ ،‬فكيف ينسبونهن للّه تعالى؟‬
‫ين ُه ْم ِعَب ُ‬
‫اد اهلل ِإَناثًا‪ ،‬فتجرأوا على المالئكة‪ ،‬العباد المقربين‪،‬‬ ‫ِ َِّ‬
‫ومنها‪ :‬أنهم َج َعلُوا اْل َمالئ َكةَ الذ َ‬
‫ورقوهم عن مرتبة العبادة والذل‪ ،‬إلى مرتبة المشاركة للّه‪ ،‬في شيء من خواصه‪ ،‬ثم نزلوا بهم‬
‫عن مرتبة الذكورية إلى مرتبة األنوثية‪ ،‬فسبحان من أظهر تناقض من كذب عليه وعاند رسله‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن اللّه رد عليهم بأنهم لم يشهدوا خلق اللّه لمالئكته‪ ،‬فكيف يتكلمون بأمر من المعلوم عند‬
‫كل أحد‪ ،‬أنه ليس لهم به علم؟! ولكن ال بد أن يسألوا عن هذه الشهادة‪ ،‬وستكتب عليهم‪ ،‬ويعاقبون‬
‫عليها‪.‬‬
‫اه ْم } فاحتجوا على عبادتهم المالئكة بالمشيئة‪،‬‬
‫الر ْح َم ُن َما َعَب ْدَن ُ‬
‫اء َّ‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬وقَالُوا لَ ْو َش َ‬
‫وهي حجة لم يزل المشركون يطرقونها‪ ،‬وهي حجة باطلة في نفسها‪ ،‬عقال وشرعا‪ .‬فكل عاقل ال‬
‫يقبل االحتجاج بالقدر‪ ،‬ولو سلكه في حالة من أحواله لم يثبت عليها قدمه‪.‬‬
‫وأما شرعا‪ ،‬فإن اللّه تعالى أبطل االحتجاج به‪ ،‬ولم يذكره عن غير المشركين به المكذبين لرسله‪،‬‬
‫فإن اللّه تعالى قد أقام الحجة على العباد‪ ،‬فلم يبق ألحد عليه حجة أصال ولهذا قال هنا‪َ { :‬ما لَهُ ْم‬
‫بِ َذِل َ ِ ِ ٍ‬
‫ون } أي‪ :‬يتخرصون تخرصا ال دليل عليه‪ ،‬ويتخبطون خبط‬ ‫ك م ْن عْلم ِإ ْن ُه ْم ِإال َي ْخ ُر ُ‬
‫ص َ‬
‫عشواء‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ثم قال‪ { :‬أَم آتَْيَن ُ ِ ِ ِ ِ‬
‫ون } يخبرهم بصحة أفعالهم‪ ،‬وصدق أقوالهم؟‬ ‫اه ْم كتَ ًابا م ْن قَْبله فَهُ ْم بِه ُم ْستَ ْمس ُك َ‬ ‫ْ‬
‫ليس األمر كذلك‪ ،‬فإن اللّه أرسل محمدا نذيرا إليهم‪ ،‬وهم لم يأتهم نذير غيره‪ ،‬أي‪ :‬فال عقل وال‬
‫نقل‪ ،‬وإ ذا انتفى األمران‪ ،‬فال ثََّم إال الباطل‪.‬‬
‫الشَبه‪ ،‬وهي تقليد آبائهم الضالين‪ ،‬الذين ما زال الكفرة يردون بتقليدهم‬ ‫نعم‪ ،‬لهم شبهة من أوهى ُّ‬
‫ُم ٍة } أي‪ :‬على دين وملة { َوإِ َّنا‬ ‫دعوة الرسل‪ ،‬ولهذا قال هنا‪َ { :‬ب ْل قَالُوا ِإَّنا َو َج ْدَنا َآب َ‬
‫اءَنا َعلَى أ َّ‬
‫ون } أي‪ :‬فال نتبع ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم‪.‬‬ ‫َعلَى آثَ ِار ِه ْم ُم ْهتَ ُد َ‬

‫( ‪)1/763‬‬
‫ُم ٍة َوإِ َّنا َعلَى‬
‫اءَنا َعلَى أ َّ‬ ‫وها ِإَّنا َو َج ْدَنا آََب َ‬
‫ال ُمتَْرفُ َ‬ ‫ك ِفي قَ ْرَي ٍة ِم ْن َن ِذ ٍ‬
‫ير ِإاَّل قَ َ‬ ‫ك َما أ َْر َسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ‬
‫َو َك َذِل َ‬
‫اء ُك ْم قَالُوا ِإَّنا بِ َما أ ُْر ِسْلتُ ْم بِ ِه‬ ‫ِ‬ ‫َآثَ ِار ِهم م ْقتَ ُدون (‪ )23‬قَا َل أَولَو ِج ْئتُ ُكم بِأ ْ ِ‬
‫َه َدى م َّما َو َج ْدتُ ْم َعلَْيه آََب َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ون (‪ )24‬فَ ْانتَقَ ْمَنا ِم ْنهُ ْم فَ ْانظُ ْر َك ْي َ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪)25‬‬ ‫ان َعاقَبةُ اْل ُم َكذبِ َ‬ ‫ف َك َ‬ ‫َكاف ُر َ‬

‫ُم ٍة َوإِ َّنا َعلَى‬ ‫وها ِإَّنا َو َج ْدَنا َآب َ‬


‫اءَنا َعلَى أ َّ‬ ‫ال ُمتَْرفُ َ‬‫ير ِإال قَ َ‬ ‫ك ِفي قَ ْرَي ٍة ِم ْن َن ِذ ٍ‬
‫ك َما أ َْر َسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ‬‫{ َو َك َذِل َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫آثَ ِار ِهم م ْقتَ ُدون * قَا َل أَولَو ِج ْئتُ ُكم بِأ ْ ِ‬
‫ون *‬‫اء ُك ْم قَالُوا ِإَّنا بِ َما أ ُْرسْلتُ ْم بِه َكاف ُر َ‬
‫َه َدى م َّما َو َج ْدتُ ْم َعلَْيه َآب َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫فَ ْانتَقَ ْمَنا ِم ْنهُ ْم فَ ْانظُ ْر َك ْي َ‬
‫ين } ‪.‬‬‫ان َعاقَبةُ اْل ُم َكذبِ َ‬ ‫ف َك َ‬
‫وها } أي‪ :‬منعموها‪ ،‬ومألها الذين‬ ‫ك ِفي قَ ْرَي ٍة ِم ْن َن ِذ ٍ‬
‫ير ِإال قَ َ‬
‫ال ُمتَْرفُ َ‬ ‫ك َما أ َْر َسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ‬ ‫{ َو َك َذِل َ‬
‫ُم ٍة َوإِ َّنا َعلَى‬ ‫أطغتهم الدنيا‪ ،‬وغرتهم األموال‪ ،‬واستكبروا على الحق‪ِ { .‬إَّنا َو َج ْدَنا َآب َ‬
‫اءَنا َعلَى أ َّ‬
‫ون } أي‪ :‬فهؤالء ليسوا ببدع منهم‪ ،‬وليسوا بأول من قال هذه المقالة‪.‬‬ ‫آثَ ِار ِه ْم ُم ْقتَ ُد َ‬
‫وهذا االحتجاج من هؤالء المشركين الضالين‪ ،‬بتقليدهم آلبائهم الضالين‪ ،‬ليس المقصود به اتباع‬
‫الحق والهدى‪ ،‬وإ نما هو تعصب محض‪ ،‬يراد به نصرة ما معهم من الباطل‪.‬‬
‫َه َدى ِم َّما َو َج ْدتُ ْم َعلَْي ِه‬ ‫ولهذا كل رسول يقول لمن عارضه بهذه الشبهة الباطلة‪ { :‬أ ََولَ ْو ِج ْئتُ ُك ْم بِأ ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } فعلم بهذا‪ ،‬أنهم ما‬ ‫اء ُك ْم } أي‪ :‬فهل تتبعوني ألجل الهدى؟ { قَالُوا ِإَّنا بِ َما أ ُْرسْلتُ ْم بِه َكاف ُر َ‬
‫َآب َ‬
‫أرادوا اتباع الحق والهدى‪ ،‬وإ نما قصدهم اتباع الباطل والهوى‪.‬‬
‫ان َع ِاقَبةُ‬
‫ف َك َ‬ ‫{ فَ ْانتَقَ ْمَنا ِم ْنهُ ْم } بتكذيبهم الحق‪ ،‬وردهم إياه بهذه الشبهة الباطلة‪ { .‬فَ ْانظُ ْر َك ْي َ‬
‫ِّ‬
‫ين } فليحذر هؤالء أن يستمروا على تكذيبهم‪ ،‬فيصيبهم ما أصابهم‪.‬‬ ‫اْل ُم َكذبِ َ‬

‫( ‪)1/764‬‬

‫ين (‪)27‬‬ ‫ط َرنِي فَِإَّنهُ َسَي ْه ِد ِ‬ ‫ون (‪ِ )26‬إاَّل الَِّذي فَ َ‬ ‫يه وقَو ِم ِه ِإَّننِي بر ِ‬
‫اء م َّما تَ ْعُب ُد َ‬
‫ََ ٌ‬
‫اه أِل ِ ِ‬
‫يم َب َ ْ‬
‫وإِ ْذ قَ َ ِ ِ‬
‫ال إ ْب َر ُ‬ ‫َ‬
‫اء ُه ُم اْل َح ُّ‬
‫ق‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء ُه ْم َحتى َج َ‬ ‫ت َه ُؤاَل ء َوآََب َ‬ ‫ون (‪َ )28‬ب ْل َمت ْع ُ‬ ‫َو َج َعلَهَا َكل َمةً َباقَيةً في َعقبه لَ َعلهُ ْم َي ْرج ُع َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪َ )30‬وقَالُوا لَ ْواَل ُنِّز َل َه َذا‬ ‫ق قَالُوا َه َذا س ْحٌر َوإِ َّنا بِه َكاف ُر َ‬ ‫اء ُه ُم اْل َح ُّ‬‫ين (‪َ )29‬ولَ َّما َج َ‬ ‫َو َر ُسو ٌل ُمبِ ٌ‬
‫ِّك َن ْح ُن قَ َس ْمَنا َب ْيَنهُ ْم َم ِعي َشتَهُ ْم‬
‫ون َر ْح َمةَ َرب َ‬ ‫اْلقُرآَن علَى رج ٍل ِمن اْلقَريتَْي ِن ع ِظ ٍيم (‪ )31‬أ ُ ِ‬
‫َه ْم َي ْقس ُم َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ َ َ ُ َ َْ‬
‫ٍ ِ ِ‬ ‫ِفي اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫ك َخ ْيٌر‬ ‫ضا ُس ْخ ِريًّا َو َر ْح َمةُ َرِّب َ‬ ‫ض َد َر َجات لَيتَّخ َذ َب ْع ُ‬
‫ضهُ ْم َب ْع ً‬ ‫ق َب ْع ٍ‬ ‫ضهُ ْم فَ ْو َ‬ ‫الد ْنَيا َو َرفَ ْعَنا َب ْع َ‬
‫ون (‪)32‬‬ ‫ِ‬
‫م َّما َي ْج َم ُع َ‬

‫ون * ِإال الَِّذي فَ َ‬


‫ط َرنِي فَِإَّنهُ‬
‫يه وقَو ِم ِه ِإَّننِي بر ِ‬
‫اء م َّما تَ ْعُب ُد َ‬
‫ََ ٌ‬
‫اه ِ ِ‬
‫يم ألب َ ْ‬
‫ِ ِ‬
‫{ ‪َ { } 26-32‬وإِ ْذ قَا َل إ ْب َر ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫َسَي ْه ِد ِ‬
‫اء ُه ْم َحتَّى َج َ‬
‫اء ُه ُم‬ ‫ت َه ُؤالء َو َآب َ‬‫ون * َب ْل َمتَّ ْع ُ‬‫ين * َو َج َعلَهَا َكل َمةً َباقَيةً في َعقبِه لَ َعلهُ ْم َي ْر ِج ُع َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون * َوقَالُوا لَ ْوال ُنِّز َل َه َذا‬‫ق قَالُوا َه َذا س ْحٌر َوإِ َّنا بِه َكاف ُر َ‬ ‫اء ُه ُم اْل َح ُّ‬
‫ين * َولَ َّما َج َ‬‫ق َو َر ُسو ٌل ُمبِ ٌ‬
‫اْل َح ُّ‬
‫ِّك َن ْح ُن قَ َس ْمَنا َب ْيَنهُ ْم َم ِعي َشتَهُ ْم ِفي‬
‫ون َر ْح َمةَ َرب َ‬ ‫اْلقُرآن علَى رج ٍل ِمن اْلقَريتَْي ِن ع ِظ ٍيم * أ ُ ِ‬
‫َه ْم َي ْقس ُم َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ َ َ ُ َ َْ‬
‫ِّك َخ ْيٌر ِم َّما‬
‫ضا ُس ْخ ِريًّا َو َر ْح َمةُ َرب َ‬ ‫ضهُ ْم َب ْع ً‬
‫ٍ ِ ِ‬
‫ض َد َر َجات لَيتَّخ َذ َب ْع ُ‬
‫ق َب ْع ٍ‬‫ضهُ ْم فَ ْو َ‬ ‫اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫الد ْنَيا َو َرفَ ْعَنا َب ْع َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫َي ْج َم ُع َ‬
‫يخبر تعالى عن ملة إبراهيم الخليل عليه السالم‪ ،‬الذي ينتسب إليه أهل الكتاب والمشركون‪ ،‬وكلهم‬
‫يه َوقَ ْو ِم ِه‬
‫اهيم ألبِ ِ‬
‫يزعم أنه على طريقته‪ ،‬فأخبر عن دينه الذي ورثه في ذريته فقال‪ { :‬وإِ ْذ قَ َ ِ ِ‬
‫ال إ ْب َر ُ‬ ‫َ‬
‫} الذين اتخذوا من دون اللّه آلهة يعبدونهم ويتقربون إليهم‪:‬‬
‫ط َرنِي } فإني أتواله‪،‬‬ ‫ون } أي‪ :‬مبغض له‪ ،‬مجتنب معاد ألهله‪ِ { ،‬إال الَِّذي فَ َ‬ ‫{ ِإَّننِي بر ِ‬
‫اء م َّما تَ ْعُب ُد َ‬
‫ََ ٌ‬
‫وأرجو أن يهديني للعلم بالحق والعمل به‪ ،‬فكما فطرني ودبرني بما يصلح بدني ودنياي‪ ،‬فـ‬
‫ين } لما يصلح ديني وآخرتي‪.‬‬ ‫{ َسَي ْه ِد ِ‬
‫{ َو َج َعلَهَا } أي‪ :‬هذه الخصلة الحميدة‪ ،‬التي هي أم الخصال وأساسها‪ ،‬وهي إخالص العبادة للّه‬
‫والتبري من عبادة ما سواه‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫وحده‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫ون } لشهرتها عنه‪ ،‬وتوصيته لذريته‪،‬‬ ‫{ َكل َمةً َباقَيةً في َعقبِه } أي‪ :‬ذريته { لَ َعلهُ ْم } إليها { َي ْر ِج ُع َ‬
‫يم‬ ‫ِ َّ ِ ِ ِ‬
‫ب َع ْن ملة إ ْب َراه َ‬‫وتوصية بعض بنيه ‪-‬كإسحاق ويعقوب‪ -‬لبعض‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬و َم ْن َي ْر َغ ُ‬
‫ِإال َم ْن َس ِفهَ َن ْف َسهُ } إلى آخر اآليات‪.‬‬
‫فلم تزل هذه الكلمة موجودة في ذريته عليه السالم حتى دخلهم الترف والطغيان‪.‬‬
‫[ ص ‪] 765‬‬
‫اء ُه ْم } بأنواع الشهوات‪ ،‬حتى صارت هي غايتهم ونهاية‬ ‫ِ‬ ‫فقال تعالى‪َ { :‬ب ْل َمتَّ ْع ُ‬
‫ت َه ُؤالء َو َآب َ‬
‫مقصودهم‪ ،‬فلم تزل يتربى حبها في قلوبهم‪ ،‬حتى صارت صفات راسخة‪ ،‬وعقائد متأصلة‪.‬‬
‫ق } الذي ال شك فيه وال مرية وال اشتباه‪َ { .‬و َر ُسو ٌل ُمبِ ٌ‬
‫ين } أي‪ :‬بين الرسالة‪،‬‬ ‫{ َحتَّى َج َ‬
‫اء ُه ُم اْل َح ُّ‬
‫قامت أدلة رسالته قياما باهرا‪ ،‬بأخالقه ومعجزاته‪ ،‬وبما جاء به‪ ،‬وبما صدق به المرسلين‪ ،‬وبنفس‬
‫دعوته صلى اللّه عليه وسلم‪.‬‬
‫اء ُه ُم اْل َح ُّ‬
‫ق } الذي يوجب على من له أدنى دين ومعقول أن يقبله وينقاد له‪ { .‬قَالُوا َه َذا‬ ‫{ َولَ َّما َج َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } وهذا من أعظم المعاندة والمشاقة‪ ،‬فإنهم لم يكتفوا بمجرد اإلعراض عنه‪،‬‬ ‫س ْحٌر َوإِ َّنا بِه َكاف ُر َ‬
‫بل وال جحده‪ ،‬فلم يرضوا حتى قدحوا به قدحا شنيعا‪ ،‬وجعلوه بمنزلة السحر الباطل‪ ،‬الذي ال يأتي‬
‫به إال أخبث الخلق وأعظمهم افتراء‪ ،‬والذي حملهم على ذلك‪ ،‬طغيانهم بما متعهم اللّه به وآباءهم‪.‬‬
‫آن َعلَى َر ُج ٍل ِم َن اْلقَ ْرَيتَْي ِن‬
‫{ َوقَالُوا } مقترحين على اللّه بعقولهم الفاسدة‪ { :‬لَ ْوال نز َل َه َذا اْلقُْر ُ‬
‫َع ِظ ٍيم } أي‪ :‬معظم عندهم‪ ،‬مبجل من أهل مكة‪ ،‬أو أهل الطائف‪ ،‬كالوليد بن المغيرة ونحوه‪ ،‬ممن‬
‫هو عندهم عظيم‪.‬‬
‫ون َر ْح َمةَ َرِّب َ‬
‫ك } أي‪ :‬أهم الخزان لرحمة اللّه‪ ،‬وبيدهم‬ ‫قال اللّه ردا القتراحهم‪ { :‬أ ُ ِ‬
‫َه ْم َي ْقس ُم َ‬
‫تدبيرها‪ ،‬فيعطون النبوة والرسالة من يشاءون‪ ،‬ويمنعونها ممن يشاءون؟‬
‫ض َدرج ٍ‬ ‫{ َن ْح ُن قَ َس ْمَنا َب ْيَنهُ ْم َم ِعي َشتَهُ ْم ِفي اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫ات } أي‪ :‬في الحياة‬ ‫ق َب ْع ٍ َ َ‬
‫ضهُ ْم فَ ْو َ‬‫الد ْنَيا َو َرفَ ْعَنا َب ْع َ‬
‫ون من الدنيا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الدنيا‪ ،‬والحال أن َر ْح َمةَ َرِّب َ‬
‫ك َخ ْيٌر م َّما َي ْج َم ُع َ‬
‫فإذا كانت معايش العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد اللّه تعالى‪ ،‬وهو الذي يقسمها بين عباده‪ ،‬فيبسط‬
‫الرزق على من يشاء‪ ،‬ويضيقه على من يشاء‪ ،‬بحسب حكمته‪ ،‬فرحمته الدينية‪ ،‬التي أعالها النبوة‬
‫والرسالة‪ ،‬أولى وأحرى أن تكون بيد اللّه تعالى‪ ،‬فاللّه أعلم حيث يجعل رسالته‪.‬‬
‫فعلم أن اقتراحهم ساقط الغ‪ ،‬وأن التدبير لألمور كلها‪ ،‬دينيها ودنيويها‪ ،‬بيد اللّه وحده‪ .‬هذا إقناع‬
‫لهم‪ ،‬من جهة غلطهم في االقتراح‪ ،‬الذي ليس في أيديهم منه شيء‪ ،‬إن هو إال ظلم منهم ورد‬
‫للحق‪.‬‬
‫آن َعلَى َر ُج ٍل ِم َن اْلقَ ْرَيتَْي ِن َع ِظ ٍيم } لو عرفوا حقائق الرجال‪،‬‬
‫نزل َه َذا اْلقُْر ُ‬
‫وقولهم‪ { :‬لَ ْوال َ‬
‫والصفات التي بها يعرف علو قدر الرجل‪ ،‬وعظم منزلته عند اللّه وعند خلقه‪ ،‬لعلموا أن محمد بن‬
‫عبد اللّه بن عبد المطلب صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬هو أعظم الرجال قدرا‪ ،‬وأعالهم فخرا‪ ،‬وأكملهم‬
‫عقال وأغزرهم علما‪ ،‬وأجلهم رأيا وعزما وحزما‪ ،‬وأكملهم خلقا‪ ،‬وأوسعهم رحمة‪ ،‬وأشدهم شفقة‪،‬‬
‫وأهداهم وأتقاهم‪.‬‬
‫وهو قطب دائرة الكمال‪ ،‬وإ ليه المنتهى في أوصاف الرجال‪ ،‬أال وهو رجل العالم على اإلطالق‪،‬‬
‫يعرف ذلك أولياؤه وأعداؤه‪ ،‬فكيف يفضل عليه المشركون من لم يشم مثقال ذرة من كماله؟!‪،‬‬
‫ومن جرمه ومنتهى حمقه أن جعل إلهه الذي يعبده ويدعوه ويتقرب إليه صنما‪ ،‬أو شجرا‪ ،‬أو‬
‫حجرا‪ ،‬ال يضر وال ينفع‪ ،‬وال يعطي وال يمنع‪ ،‬وهو كل على مواله‪ ،‬يحتاج لمن يقوم بمصالحه‪،‬‬
‫فهل هذا إال من فعل السفهاء والمجانين؟‬
‫فكيف يجعل مثل هذا عظيما؟ أم كيف يفضل على خاتم الرسل وسيد ولد آدم صلى اللّه عليه‬
‫وسلم؟ ولكن الذين كفروا ال يعقلون‪.‬‬
‫وفي هذه اآلية تنبيه على حكمة اللّه تعالى في تفضيل اللّه بعض العباد على بعض في الدنيا‬
‫ِ ِ‬
‫ضا ُس ْخ ِريًّا } أي‪ :‬ليسخر بعضهم بعضا‪ ،‬في األعمال والحرف والصنائع‪.‬‬ ‫{ لَيتَّخ َذ َب ْع ُ‬
‫ضهُ ْم َب ْع ً‬
‫فلو تساوى الناس في الغنى‪ ،‬ولم يحتج بعضهم إلى بعض‪ ،‬لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم‪.‬‬
‫وفيها دليل على أن نعمته الدينية خير من النعمة الدنيوية كما قال تعالى في اآلية األخرى‪ُ { :‬ق ْل‬
‫ون }‬ ‫ِ‬ ‫ض ِل اللَّ ِه َوبَِر ْح َمتِ ِه فَبِ َذِل َ‬
‫بِفَ ْ‬
‫ك َفْلَي ْف َر ُحوا ُه َو َخ ْيٌر م َّما َي ْج َم ُع َ‬

‫( ‪)1/764‬‬
‫الر ْحم ِن ِلبيوتِ ِهم سقُفًا ِم ْن ِفض ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّة َو َم َع ِار َج َعلَْيهَا‬ ‫ُمةً َواح َدةً لَ َج َعْلَنا ل َم ْن َي ْكفُُر بِ َّ َ ُ ُ ْ ُ‬
‫اس أ َّ‬ ‫ون َّ‬
‫الن ُ‬ ‫َن َي ُك َ‬
‫َولَ ْواَل أ ْ‬
‫ون (‪)33‬‬ ‫ظهَ ُر َ‬‫َي ْ‬

‫الر ْحم ِن ِلبيوتِ ِهم سقُفًا ِم ْن فَض ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫َّة‬ ‫ُمةً َواح َدةً لَ َج َعْلَنا ل َم ْن َي ْكفُُر بِ َّ َ ُ ُ ْ ُ‬
‫اس أ َّ‬ ‫ون َّ‬
‫الن ُ‬ ‫َن َي ُك َ‬
‫{ ‪َ { } 33-35‬ولَ ْوال أ ْ‬
‫ون * } ‪.‬‬ ‫َو َم َع ِار َج َعلَْيهَا َي ْ‬
‫ظهَ ُر َ‬
‫يخبر تعالى بأن الدنيا ال تسوى عنده شيئا‪ ،‬وأنه لوال لطفه ورحمته بعباده‪ ،‬التي ال يقدم عليها‬
‫شيئا‪ ،‬لوسَّع الدنيا على الذين كفروا توسيعا عظيما‪ ،‬ولجعل { ِلبيوتِ ِهم سقُفًا ِم ْن فَض ٍ‬
‫َّة َو َم َع ِار َج }‬ ‫ُُ ْ ُ‬
‫ون } على سطوحهم‪.‬‬‫ظهَ ُر َ‬
‫أي‪ :‬درجا من فضة { َعلَْيهَا َي ْ‬

‫( ‪)1/765‬‬

‫الد ْنَيا َواآْل َ ِخ َرةُ‬


‫ك لَ َّما َمتَاعُ اْل َحَي ِاة ُّ‬
‫ون (‪َ )34‬و ُز ْخ ُرفًا َوإِ ْن ُك ُّل َذِل َ‬ ‫ِ‬
‫َوِلُبُيوتِ ِه ْم أ َْب َو ًابا َو ُس ُر ًرا َعلَْيهَا َيتَّكُئ َ‬
‫ِعْن َد رِّب َ ِ ِ‬
‫ين (‪)35‬‬ ‫ك لْل ُمتَّق َ‬ ‫َ‬

‫اآلخ َرةُ ِع ْن َد‬


‫الد ْنيا و ِ‬
‫ِ ُّ‬ ‫ون * َو ُز ْخ ُرفًا َوإِ ْن ُك ُّل َذِل َ‬
‫ك لَ َّما َمتَاعُ اْل َحَياة َ َ‬
‫ِ‬
‫{ َوِلُبُيوتِ ِه ْم أ َْب َو ًابا َو ُس ُر ًرا َعلَْيهَا َيتَّكُئ َ‬
‫رِّب َ ِ ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ك لْل ُمتَّق َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ون } من فضة‪ ،‬ولجعل لهم { زخرفا }‬ ‫{ َوِلُبُيوتِ ِه ْم أ َْب َو ًابا َو ُس ُر ًرا َعلَْيهَا َيتَّكُئ َ‬
‫أي‪ :‬لزخرف لهم دنياهم بأنواع الزخارف‪ ،‬وأعطاهم ما يشتهون‪ ،‬ولكن منعه من ذلك رحمته‬
‫بعباده خوفا عليهم من التسارع في الكفر وكثرة المعاصي بسبب حب الدنيا‪ ،‬ففي هذا دليل على‬
‫أنه يمنع العباد بعض أمور الدنيا منعا عاما أو خاصا لمصالحهم‪ ،‬وأن الدنيا ال تزن عند اللّه جناح‬
‫بعوضة‪ ،‬وأن كل هذه المذكورات متاع الحياة الدنيا‪ ،‬منغصة‪ ،‬مكدرة‪ ،‬فانية‪ ،‬وأن اآلخرة عند اللّه‬
‫تعالى خير للمتقين لربهم بامتثال أوامره [ ص ‪ ] 766‬واجتناب نواهيه‪ ،‬ألن نعيمها تام كامل من‬
‫كل وجه‪ ،‬وفي الجنة ما تشتهيه األنفس وتلذ األعين‪ ،‬وهم فيها خالدون‪ ،‬فما أشد الفرق بين‬
‫الدارين"‪.‬‬

‫( ‪)1/765‬‬
‫السبِ ِ‬
‫يل‬ ‫ونهُ ْم َع ِن َّ‬ ‫ص ُّد َ‬‫ين (‪َ )36‬وإِ َّنهُ ْم لََي ُ‬ ‫ط ًانا فَهَُو لَهُ قَ ِر ٌ‬ ‫ش َع ْن ِذ ْك ِر َّ‬
‫الر ْح َم ِن ُنقَي ْ‬
‫ِّض لَهُ َش ْي َ‬ ‫َو َم ْن َي ْع ُ‬
‫ك ُب ْع َد اْل َم ْش ِرقَْي ِن فَبِْئ َس اْلقَ ِر ُ‬
‫ين (‬ ‫ت َب ْينِي َوَب ْيَن َ‬ ‫ون (‪َ )37‬حتَّى ِإ َذا َج َ‬
‫اءَنا قَا َل َيا لَْي َ‬ ‫ون أََّنهُ ْم ُم ْهتَ ُد َ‬
‫َوَي ْح َسُب َ‬
‫ظلَمتُم أََّن ُكم ِفي اْل َع َذ ِ‬
‫ون (‪)39‬‬ ‫اب ُم ْشتَ ِر ُك َ‬ ‫‪َ )38‬ولَ ْن َي ْنفَ َع ُك ُم اْلَي ْو َم ِإ ْذ َ ْ ْ ْ‬

‫ص ُّد َ‬
‫ونهُ ْم‬ ‫ين * َوإِ َّنهُ ْم لََي ُ‬ ‫ط ًانا فَهَُو لَهُ قَ ِر ٌ‬ ‫ِّض لَهُ َش ْي َ‬ ‫ش َع ْن ِذ ْك ِر َّ‬
‫الر ْح َم ِن ُنقَي ْ‬ ‫{ ‪َ { } 36-39‬و َم ْن َي ْع ُ‬
‫ت َب ْينِي َوَب ْيَن َ‬
‫ك ُب ْع َد اْل َم ْش ِرقَْي ِن فَبِْئ َس‬ ‫ون * َحتَّى ِإ َذا َج َ‬
‫اءَنا قَا َل َيا لَْي َ‬ ‫ون أََّنهُ ْم ُم ْهتَ ُد َ‬ ‫السبِ ِ‬
‫يل َوَي ْح َسُب َ‬ ‫َع ِن َّ‬
‫ظلَمتُم أََّن ُكم ِفي اْل َع َذ ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫اب ُم ْشتَ ِر ُك َ‬ ‫ين * َولَ ْن َي ْنفَ َع ُك ُم اْلَي ْو َم ِإ ْذ َ ْ ْ ْ‬ ‫اْلقَ ِر ُ‬
‫ش } أي‪ :‬يعرض ويصد‬ ‫يخبر تعالى عن عقوبته البليغة‪ ،‬لمن أعرض عن ذكره‪ ،‬فقال‪َ { :‬و َم ْن َي ْع ُ‬
‫الر ْح َم ِن } الذي هو القرآن العظيم‪ ،‬الذي هو أعظم رحمة رحم بها الرحمن عباده‪ ،‬فمن‬‫{ َع ْن ِذ ْك ِر َّ‬
‫قبلها‪ ،‬فقد قبل خير المواهب‪ ،‬وفاز بأعظم المطالب والرغائب‪ ،‬ومن أعرض عنها وردها‪ ،‬فقد‬
‫خاب وخسر خسارة ال يسعد بعدها أبدا‪ ،‬وقيَّض له الرحمن شيطانا مريدا‪ ،‬يقارنه ويصاحبه‪،‬‬
‫ويعده ويمنيه‪ ،‬ويؤزه إلى المعاصي أزا‪،‬‬
‫ون أََّنهُ ْم ُم ْهتَ ُد َ‬ ‫السبِ ِ‬ ‫ص ُّد َ‬
‫ونهُ ْم َع ِن َّ‬
‫ون‬ ‫يل } أي‪ :‬الصراط المستقيم‪ ،‬والدين القويم‪َ { .‬وَي ْح َسُب َ‬ ‫{ َوإِ َّنهُ ْم لََي ُ‬
‫} بسبب تزيين الشيطان للباطل وتحسينه له‪ ،‬وإ عراضهم عن الحق‪ ،‬فاجتمع هذا وهذا‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فهل لهذا من عذر‪ ،‬من حيث إنه ظن أنه مهتد‪ ،‬وليس كذلك؟‬
‫قيل‪ :‬ال عذر لهذا وأمثاله‪ ،‬الذين مصدر جهلهم اإلعراض عن ذكر اللّه‪ ،‬مع تمكنهم على االهتداء‪،‬‬
‫فزهدوا في الهدى مع القدرة عليه‪ ،‬ورغبوا في الباطل‪ ،‬فالذنب ذنبهم‪ ،‬والجرم جرمهم‪.‬‬
‫والغي‪ ،‬وانقالب‬
‫ّ‬ ‫فهذه حالة هذا المعرض عن ذكر اللّه في الدنيا‪ ،‬مع قرينه‪ ،‬وهو الضالل‬
‫الحقائق‪.‬‬
‫وأما حاله‪ ،‬إذا جاء ربه في اآلخرة‪ ،‬فهو شر األحوال‪ ،‬وهو‪ :‬إظهار الندم والتحسر‪ ،‬والحزن الذي‬
‫ك‬‫ت َب ْينِي َوَب ْيَن َ‬ ‫والتبري من قرينه‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪َ { :‬حتَّى ِإ َذا َج َ‬
‫اءَنا قَا َل َيا لَْي َ‬ ‫ِّ‬ ‫ال يجبر مصابه‪،‬‬
‫ُب ْع َد اْل َم ْش ِرقَْي ِن فَبِْئ َس اْلقَ ِر ُ‬
‫ين }‬
‫كما في قوله تعالى‪ { :‬ويوم يع ُّ َّ‬
‫ول َسبِيال َيا‬ ‫الرس ِ‬
‫ت َم َع َّ ُ‬ ‫ض الظ ِال ُم َعلَى َي َد ْي ِه َيقُو ُل َيا لَْيتَنِي اتَّ َخ ْذ ُ‬ ‫َ َْ َ َ َ‬
‫ان َخ ُذوال‬ ‫ان ِل ْ‬
‫إلن َس ِ‬ ‫ط ُ‬ ‫ان َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫اءني َو َك َ‬
‫الذ ْك ِر بع َد ِإ ْذ ج ِ‬
‫َ َ‬ ‫َْ‬
‫َضلَّنِي َع ِن ِّ‬ ‫وْيلَتَى لَْيتَنِي لَم أَتَّ ِخ ْذ فُ ً ِ‬
‫النا َخليال لَقَ ْد أ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫}‬
‫ظلَمتُم أََّن ُكم ِفي اْل َع َذ ِ‬
‫ون } أي‪ :‬وال ينفعكم يوم‬ ‫اب ُم ْشتَ ِر ُك َ‬ ‫وقوله تعالى‪َ { :‬ولَ ْن َي ْنفَ َع ُك ُم اْلَي ْو َم ِإ ْذ َ ْ ْ ْ‬
‫القيامة اشتراككم في العذاب‪ ،‬أنتم وقرناؤكم وأخالؤكم‪ ،‬وذلك ألنكم اشتركتم في الظلم‪ ،‬فاشتركتم‬
‫في عقابه وعذابه‪.‬‬
‫ولن ينفعكم أيضا‪ ،‬روح التسلي في المصيبة‪ ،‬فإن المصيبة إذا وقعت في الدنيا‪ ،‬واشترك فيها‬
‫المعاقبون‪ ،‬هان عليهم بعض الهون‪ ،‬وتسلَّى بعضهم ببعض‪ ،‬وأما مصيبة اآلخرة‪ ،‬فإنها جمعت‬
‫كل عقاب‪ ،‬ما فيه أدنى راحة‪ ،‬حتى وال هذه الراحة‪ .‬نسألك يا ربنا العافية‪ ،‬وأن تريحنا برحمتك‪.‬‬

‫( ‪)1/766‬‬

‫ك فَِإَّنا ِم ْنهُ ْم‬‫ين (‪ )40‬فَِإ َّما َن ْذ َهَب َّن بِ َ‬ ‫ضاَل ٍل ُمبِ ٍ‬‫ان في َ‬
‫ُّم أَو تَه ِدي اْلعمي وم ْن َك ِ‬
‫َ‬ ‫ُْ َ َ َ‬ ‫ت تُ ْسمعُ الص َّ ْ ْ‬
‫أَفَأ َْن َ ِ‬

‫ُوح َي ِإلَْي َ‬
‫ك‬ ‫اهم فَِإَّنا علَْي ِهم م ْقتَِدرون (‪ )42‬فَاستَم ِس ْك بِالَِّذي أ ِ‬ ‫م ْنتَِقمون (‪ )41‬أَو ُن ِريَّن َ َِّ‬
‫ْ ْ‬ ‫َ ْ ُ ُ َ‬ ‫ك الذي َو َع ْدَن ُ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ ُ َ‬
‫َل َم ْن أ َْر َسْلَنا ِم ْن‬ ‫اسأ ْ‬
‫ون (‪َ )44‬و ْ‬ ‫ف تُ ْسأَلُ َ‬ ‫ك َوِلقَ ْو ِم َ‬
‫ك َو َس ْو َ‬ ‫اط ُم ْستَِق ٍيم (‪َ )43‬وإِ َّنهُ لَِذ ْكٌر لَ َ‬ ‫صر ٍ‬ ‫ِ‬
‫ك َعلَى َ‬ ‫ِإَّن َ‬
‫ِ‬ ‫َج َعْلَنا ِم ْن ُد ِ‬ ‫ِ‬ ‫قَْبِل َ ِ‬
‫ون (‪)45‬‬ ‫الر ْح َم ِن آَلهَةً ُي ْعَب ُد َ‬ ‫ون َّ‬ ‫ك م ْن ُر ُسلَنا أ َ‬

‫ك فَِإَّنا‬ ‫ين * فَِإ َّما َن ْذ َهَب َّن بِ َ‬ ‫ض ٍ‬


‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫ُّم أَو تَه ِدي اْلعمي ومن َك ِ‬ ‫{ ‪ { } 40-45‬أَفَأ َْن َ ِ‬
‫ان في َ‬ ‫ُْ َ َ َ ْ َ‬ ‫ت تُ ْسمعُ الص َّ ْ ْ‬
‫ك‬‫ك ِإَّن َ‬‫ُوح َي ِإلَْي َ‬‫اهم فَِإَّنا علَْي ِهم م ْقتَِدرون * فَاستَم ِس ْك بِالَِّذي أ ِ‬ ‫ِم ْنهم م ْنتَِقمون * أَو ُن ِريَّن َ َِّ‬
‫ْ ْ‬ ‫َ ْ ُ ُ َ‬ ‫ك الذي َو َع ْدَن ُ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُْ ُ ُ َ‬
‫ك ِم ْن‬ ‫َل َم ْن أ َْر َسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ‬
‫اسأ ْ‬
‫ون * َو ْ‬
‫ف تُ ْسأَلُ َ‬ ‫اط ُم ْستَِق ٍيم * َوإِ َّنهُ لَِذ ْكٌر لَ َ‬
‫ك َوِلقَ ْو ِم َ‬
‫ك َو َس ْو َ‬ ‫صر ٍ‬ ‫ِ‬
‫َعلَى َ‬
‫ِ‬ ‫َج َعْلَنا ِم ْن ُد ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬‫الر ْح َم ِن آلهَةً ُي ْعَب ُد َ‬ ‫ون َّ‬ ‫ُر ُسلَنا أ َ‬
‫يقول تعالى لرسوله صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬مسليا له عن امتناع المكذبين عن االستجابة له‪ ،‬وأنهم‬
‫ت تُ ْس ِمعُ الص َّ‬
‫ُّم } أي‪ :‬الذين ال يسمعون‬ ‫ال خير فيهم‪ ،‬وال فيهم زكاء يدعوهم إلى الهدى‪ { :‬أَفَأ َْن َ‬
‫{ أ َْو تَ ْه ِدي اْل ُع ْم َي } الذين ال يبصرون‪،‬‬
‫ِّن واضح‪ ،‬لعلمه بضالله‪ ،‬ورضاه به‪.‬‬ ‫ض ٍ‬
‫الل ُمبِ ٍ‬
‫ين } أي‪َ :‬بي ٌ‬ ‫أو تهدي { م ْن َك ِ‬
‫ان في َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫فكما أن األصم ال يسمع األصوات‪ ،‬واألعمى ال يبصر‪ ،‬والضال ضالال مبينا ال يهتدي‪ ،‬فهؤالء‬
‫قد فسدت فطرهم وعقولهم‪ ،‬بإعراضهم عن الذكر‪ ،‬واستحدثوا عقائد فاسدة‪ ،‬وصفات خبيثة‪،‬‬
‫تمنعهم وتحول بينهم وبين الهدى‪ ،‬وتوجب لهم االزدياد من الردى‪ ،‬فهؤالء لم يبق إال عذابهم‬
‫ونكالهم‪ ،‬إما في الدنيا‪ ،‬أو في اآلخرة‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬فإن ذهبنا بك قبل أن نريك ما نعدهم من العذاب‪ ،‬فاعلم‬ ‫ك فَِإَّنا م ْنهُ ْم ُم ْنتَق ُم َ‬
‫{ فَِإ َّما َن ْذ َهَب َّن بِ َ‬
‫بخبرنا الصادق أنا منهم منتقمون‪.‬‬
‫ِ‬
‫ون } ولكن ذلك متوقف على اقتضاء‬ ‫اه ْم } من العذاب { فَِإَّنا َعلَْي ِه ْم ُم ْقتَد ُر َ‬ ‫ك الَِّذي َو َع ْدَن ُ‬ ‫{ أ َْو ُن ِرَيَّن َ‬
‫الحكمة لتعجيله أو تأخيره‪ ،‬فهذه حالك وحال هؤالء المكذبين‪.‬‬
‫ك } فعال واتصافا‪ ،‬بما يأمر باالتصاف به ودعوة إليه‪،‬‬ ‫وأما أنت { فَاستَم ِس ْك بِالَِّذي أ ِ‬
‫ُوح َي ِإلَْي َ‬ ‫ْ ْ‬
‫اط ُم ْستَِق ٍيم } موصل إلى اهلل وإ لى دار‬
‫صر ٍ‬‫ِ‬
‫ك َعلَى َ‬ ‫وحرصا على تنفيذه في نفسك وفي غيرك‪ِ { .‬إَّن َ‬
‫كرامته‪ ،‬وهذا مما يوجب عليك زيادة التمسك به واالهتداء إذا علمت أنه حق وعدل وصدق‪،‬‬
‫تكون بانيا على أصل أصيل‪ ،‬إذا بنى غيرك على الشكوك واألوهام‪ ،‬والظلم والجور‪.‬‬
‫{ َوإِ َّنهُ } أي‪ :‬هذا القرآن الكريم { لَِذ ْكٌر لَ َ‬
‫ك َوِلقَ ْو ِم َ‬
‫ك } أي‪ :‬فخر لكم‪ ،‬ومنقبة جليلة‪ ،‬ونعمة ال يقادر‬
‫قدرها‪ ،‬وال يعرف وصفها‪ ،‬ويذكركم أيضا ما فيه الخير الدنيوي واألخروي‪ ،‬ويحثكم [ ص ‪767‬‬
‫ون } عنه‪ ،‬هل قمتم به فارتفعتم وانتفعتم‪ ،‬أم‬ ‫ف تُ ْسأَلُ َ‬
‫] عليه‪ ،‬ويذكركم الشر ويرهبكم عنه‪َ { ،‬و َس ْو َ‬
‫لم تقوموا به فيكون حجة عليكم‪ ،‬وكفرا منكم بهذه النعمة؟‬
‫ِ‬ ‫َج َعْلَنا ِم ْن ُد ِ‬ ‫ِ‬ ‫َل م ْن أَرسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ ِ‬
‫ون } حتى يكون‬ ‫الر ْح َم ِن آلهَةً ُي ْعَب ُد َ‬
‫ون َّ‬ ‫ك م ْن ُر ُسلَنا أ َ‬ ‫اسأ ْ َ ْ َ‬ ‫{ َو ْ‬
‫للمشركين نوع حجة‪ ،‬يتبعون فيها أحدا من الرسل‪ ،‬فإنك لو سألتهم واستخبرتهم عن أحوالهم‪ ،‬لم‬
‫تجد أحدا منهم يدعو إلى اتخاذ إله آخر مع اهلل مع أن كل الرسل‪ ،‬من أولهم إلى آخرهم‪ ،‬يدعون‬
‫َّ‬ ‫ُم ٍة َر ُسوال أ ِ‬
‫إلى عبادة اهلل وحده ال شريك له‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد َب َعثَْنا ِفي ُك ِّل أ َّ‬
‫َن اُ ْعُب ُدوا اللهَ‬
‫وت } وكل رسول بعثه اهلل‪ ،‬يقول لقومه‪ :‬اعبدوا اهلل ما لكم من إله غيره‪ ،‬فدل هذا‬ ‫اجتَنُِبوا الطَّ ُ‬
‫اغ َ‬ ‫َو ْ‬
‫أن المشركين ليس لهم مستند في شركهم‪ ،‬ال من عقل صحيح‪ ،‬وال نقل عن الرسل‪.‬‬

‫( ‪)1/766‬‬

‫اء ُه ْم‬ ‫ِ‬ ‫وسى بِآََياتَِنا ِإلَى ِف ْر َع ْو َن َو َملَئِ ِه فَقَا َل ِإِّني َر ُسو ُل َر ِّ‬
‫ين (‪َ )46‬فلَ َّما َج َ‬ ‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫َولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُم َ‬
‫اب‬‫اهم بِاْل َع َذ ِ‬ ‫ُختِهَا َوأ َ‬
‫َخ ْذَن ُ ْ‬ ‫ون (‪َ )47‬و َما ُن ِري ِه ْم ِم ْن آََي ٍة ِإاَّل ِه َي أَ ْكَب ُر ِم ْن أ ْ‬ ‫ض َح ُك َ‬ ‫بِآََياتَِنا ِإ َذا ُه ْم ِم ْنهَا َي ْ‬
‫ون (‪َ )49‬فلَ َّما‬ ‫ك ِإَّنَنا لَ ُم ْهتَ ُد َ‬‫ك بِ َما َع ِه َد ِعْن َد َ‬ ‫لَعلَّهم ير ِجعون (‪ )48‬وقَالُوا يا أَيُّها الس ِ‬
‫َّاح ُر ْادعُ لََنا َرَّب َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُْ َْ ُ َ‬
‫ص َر‬ ‫ال يا قَوِم أَلَْيس ِلي مْل ُ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َك َش ْفَنا ع ْنهم اْلع َذاب ِإ َذا ُهم ي ْن ُكثُون (‪ )50‬وَن َ ِ‬
‫كم ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ادى ف ْر َع ْو ُن في قَ ْومه قَ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ ُُ َ َ‬
‫اد‬
‫ين َواَل َي َك ُ‬ ‫ون (‪ )51‬أ َْم أََنا َخ ْيٌر ِم ْن َه َذا الَِّذي ُه َو َم ِه ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َهذه اأْل َْنهَ ُار تَ ْج ِري م ْن تَ ْحتي أَفَاَل تُْبص ُر َ‬
‫ِِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ف قَ ْو َمهُ‬ ‫استَ َخ َّ‬
‫ين (‪ )53‬فَ ْ‬ ‫اء َم َعهُ اْل َماَل ئ َكةُ ُم ْقتَ ِرنِ َ‬ ‫َس ِو َرةٌ م ْن َذ َه ٍب أ َْو َج َ‬
‫ين (‪َ )52‬فلَ ْواَل أُْلق َي َعلَْيه أ ْ‬ ‫ُيبِ ُ‬
‫اهم أ ْ ِ‬ ‫ونا ْانتَقَ ْمَنا ِم ْنهُ ْم فَأ ْ‬ ‫ِِ‬
‫اه ْم‬
‫ين (‪ )55‬فَ َج َعْلَن ُ‬ ‫َج َمع َ‬ ‫َغ َر ْقَن ُ ْ‬ ‫َسفُ َ‬
‫ين (‪َ )54‬فلَ َّما آ َ‬ ‫اعوهُ ِإَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو ًما فَاسق َ‬ ‫ط ُ‬ ‫فَأَ َ‬
‫ِ ِ‬
‫ين (‪)56‬‬ ‫َسلَفًا َو َمثَاًل لآْل َخ ِر َ‬

‫وسى بِ َآياتَِنا ِإلَى ِف ْر َع ْو َن َو َملَئِ ِه } ‪ .‬إلى آخر القصة‪)1( .‬‬ ‫{ ‪َ { } 46-56‬ولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُم َ‬
‫ِ‬ ‫َج َعْلَنا ِم ْن ُد ِ‬ ‫ِ‬ ‫َل م ْن أَرسْلَنا ِم ْن قَْبِل َ ِ‬
‫الر ْح َم ِن آلهَةً ُي ْعَب ُد َ‬
‫ون } بين‬ ‫ون َّ‬ ‫ك م ْن ُر ُسلَنا أ َ‬ ‫اسأ ْ َ ْ َ‬ ‫لما قال تعالى‪َ { :‬و ْ‬
‫تعالى حال موسى ودعوته‪ ،‬التي هي أشهر ما يكون من دعوات الرسل‪ ،‬وألن اللّه تعالى أكثر من‬
‫وسى بِ َآياتَِنا } التي دلت داللة‬ ‫ذكرها في كتابه‪ ،‬فذكر حاله مع فرعون‪ ،‬فقال‪َ { :‬ولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُم َ‬
‫قاطعة على صحة ما جاء به‪ ،‬كالعصا‪ ،‬والحية‪ ،‬وإ رسال الجراد‪ ،‬والقمل‪ ،‬إلى آخر اآليات‪.‬‬
‫ين } فدعاهم إلى اإلقرار بربهم‪ ،‬ونهاهم عن عبادة‬ ‫ِ‬ ‫{ ِإلَى ِف ْر َع ْو َن َو َملَئِ ِه فَقَا َل ِإِّني َر ُسو ُل َر ِّ‬
‫ب اْل َعالَم َ‬
‫ما سواه‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬ردوها وأنكروها‪ ،‬واستهزأوا بها‪ ،‬ظلما وعلوا‪،‬‬ ‫اء ُه ْم بِ َآياتَِنا ِإ َذا ُه ْم ِم ْنهَا َي ْ‬
‫ض َح ُك َ‬ ‫{ َفلَ َّما َج َ‬
‫فلم يكن لقصور باآليات‪ ،‬وعدم وضوح فيها‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬وفي [ب]‪ :‬ذكر اآليات إلى آخرها‪.‬‬

‫( ‪)1/767‬‬

‫ُختِهَا }‬
‫{ َو َما ُن ِري ِه ْم ِم ْن َآي ٍة ِإال ِه َي أَ ْكَب ُر ِم ْن أ ْ‬
‫اب } كالجراد‪ ،‬والقمل‪ ،‬والضفادع‪ ،‬والدم‪،‬‬ ‫اهم بِاْل َع َذ ِ‬
‫َخ ْذَن ُ ْ‬
‫أي‪ :‬اآلية المتأخرة أعظم من السابقة‪َ { ،‬وأ َ‬
‫َّ‬
‫ون } إلى اإلسالم‪ ،‬ويذعنون له‪ ،‬ليزول شركهم وشرهم‪.‬‬ ‫آيات مفصالت‪ { .‬لَ َعلهُ ْم َي ْر ِج ُع َ‬
‫َّاح ُر } يعنون موسى عليه السالم‪ ،‬وهذا‪ ،‬إما من‬ ‫{ وقَالُوا } عندما نزل عليهم العذاب‪ { :‬يا أَيُّها الس ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫باب التهكم به‪ ،‬وإ ما أن يكون هذا الخطاب عندهم مدحا‪ ،‬فتضرعوا إليه بأن خاطبوه بما يخاطبون‬
‫َّك بِ َما َع ِه َد ِع ْن َد َ‬
‫ك‬ ‫به من يزعمون أنهم علماؤهم‪ ،‬وهم السحرة‪ ،‬فقالوا‪ { :‬يا أَيُّها الس ِ‬
‫َّاح ُر ْادعُ لََنا َرب َ‬ ‫َ َ‬
‫} أي‪ :‬بما خصك اللّه به‪ ،‬وفضلك به‪ ،‬من الفضائل والمناقب‪ ،‬أن يكشف عنا العذاب { ِإَّنَنا‬
‫ون } إن كشف اللّه عنا ذلك‪.‬‬ ‫لَ ُم ْهتَ ُد َ‬
‫ون } أي‪ :‬لم يفوا بما قالوا‪ ،‬بل غدروا‪ ،‬واستمروا على‬ ‫اب ِإ َذا ُه ْم َي ْن ُكثُ َ‬ ‫{ َفلَ َّما َك َش ْفَنا َعْنهُ ُم اْل َع َذ َ‬
‫الدم آي ٍ‬ ‫ان َواْل َج َر َاد َواْلقُ َّم َل َوالضَّفَ ِاد َ‬ ‫ُّ‬
‫ات‬ ‫ع َو َّ َ َ‬ ‫كفرهم‪ .‬وهذا كقوله تعالى‪ { :‬فَأ َْر َسْلَنا َعلَْي ِه ُم الطوفَ َ‬
‫ك بِ َما‬ ‫ين َولَ َّما َوقَ َع َعلَْي ِه ُم ِّ‬ ‫ٍ‬
‫وسى ْادعُ لََنا َرَّب َ‬ ‫الر ْج ُز قَالُوا َيا ُم َ‬ ‫استَ ْكَب ُروا َو َك ُانوا قَ ْو ًما ُم ْج ِر ِم َ‬ ‫ُمفَصَّالت فَ ْ‬
‫الر ْج َز‬ ‫ك َبنِي ِإ ْس َرائِ َ‬
‫يل َفلَ َّما َك َش ْفَنا َعْنهُ ُم ِّ‬ ‫ك َولَُن ْر ِسلَ َّن َم َع َ‬‫الر ْج َز لَُن ْؤ ِمَن َّن لَ َ‬
‫ت َعَّنا ِّ‬ ‫ك لَئِ ْن َك َش ْف َ‬ ‫َع ِه َد ِعْن َد َ‬
‫ِ‬
‫ون }‬‫َج ٍل ُه ْم َبال ُغوهُ ِإ َذا ُه ْم َي ْن ُكثُ َ‬ ‫ِإلَى أ َ‬
‫ادى ِف ْر َع ْو ُن ِفي قَ ْو ِم ِه قَا َل } مستعليا بباطله‪ ،‬قد غره ملكه‪ ،‬وأطغاه ماله وجنوده‪َ { :‬يا قَ ْوِم‬ ‫{ َوَن َ‬
‫األنهَ ُار تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِي }‬ ‫ص َر } أي‪ :‬ألست المالك لذلك‪ ،‬المتصرف فيه‪َ { ،‬و َه ِذ ِه ْ‬ ‫كم ْ‬
‫أَلَْيس ِلي مْل ُ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ون } هذا الملك‬ ‫ِ‬
‫أي‪ :‬األنهار المنسحبة من النيل‪ ،‬في وسط القصور والبساتين‪ { .‬أَفَال تُْبص ُر َ‬
‫الطويل العريض‪ ،‬وهذا من جهله البليغ‪ ،‬حيث افتخر بأمر خارج عن ذاته‪ ،‬ولم يفخر بأوصاف‬
‫حميدة‪ ،‬وال أفعال سديدة‪.‬‬
‫ين } يعني ‪-‬قبحه اللّه‪ -‬بالمهين‪ ،‬موسى بن عمران‪ ،‬كليم‬ ‫{ أ َْم أََنا َخ ْيٌر ِم ْن َه َذا الَِّذي ُه َو َم ِه ٌ‬
‫الرحمن‪ ،‬الوجيه عند اللّه‪ ،‬أي‪ :‬أنا العزيز‪ ،‬وهو الذليل المهان المحتقر‪ ،‬فأينا خير؟ { و } مع هذا‬
‫اد ُيبِ ُ‬
‫ين } عما في ضميره بالكالم‪ ،‬ألنه ليس بفصيح اللسان‪ ،‬وهذا ليس من العيوب في‬ ‫فـ { ال َي َك ُ‬
‫شيء‪ ،‬إذا كان يبين ما في قلبه‪ ،‬ولو كان ثقيال عليه الكالم‪.‬‬
‫َس ِو َرةٌ ِم ْن َذ َه ٍب } أي‪ :‬فهال كان موسى بهذه الحالة‪ ،‬أن يكون‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ثم قال فرعون‪َ { :‬فلَ ْوال أُْلق َي َعلَْيه أ ْ‬
‫ِ‬
‫اء َم َعهُ اْل َمالئ َكةُ ُم ْقتَ ِرنِ َ‬
‫ين } يعاونونه على دعوته‪،‬‬ ‫مزينا مجمال بالحلي واألساور؟ { أ َْو َج َ‬
‫ويؤيدونه على قوله‪.‬‬
‫اعوهُ } أي‪ :‬استخف عقولهم بما أبدى لهم من هذه الشبه‪ ،‬التي ال تسمن وال‬
‫ط ُ‬ ‫استَ َخ َّ‬
‫ف قَ ْو َمهُ فَأَ َ‬ ‫{ فَ ْ‬
‫تغني من جوع‪ ،‬وال حقيقة تحتها‪ ،‬وليست دليال على حق وال على باطل‪ ،‬وال تروج إال على‬
‫ضعفاء العقول‪.‬‬
‫فأي دليل يدل على أن فرعون محق‪ ،‬لكون ملك مصر له‪ ،‬وأنهاره تجري من تحته؟‬
‫وأي دليل يدل على بطالن ما جاء به موسى لقلة أتباعه‪ ،‬وثقل لسانه‪ ،‬وعدم تحلية اهلل له‪ ،‬ولكنه‬
‫ِِ‬
‫ين } فبسبب‬ ‫لقي مأل ال معقول عندهم‪ ،‬فمهما قال اتبعوه‪ ،‬من حق وباطل‪ِ { .‬إَّنهُ ْم َك ُانوا قَ ْو ًما فَاسق َ‬
‫فسقهم‪ ،‬قيض لهم [ ص ‪ ] 768‬فرعون‪ ،‬يزين لهم الشرك والشر‪.‬‬
‫اه ْم َسلَفًا َو َمثَال‬ ‫اهم أ ْ ِ‬ ‫ونا } أي‪ :‬أغضبونا بأفعالهم { ْانتَقَ ْمَنا ِم ْنهُ ْم فَأ ْ‬
‫ين فَ َج َعْلَن ُ‬
‫َج َمع َ‬ ‫َغ َر ْقَن ُ ْ‬ ‫آسفُ َ‬
‫{ َفلَ َّما َ‬
‫ِ ِ‬
‫ين } ليعتبر بهم المعتبرون‪ ،‬ويتعظ بأحوالهم المتعظون‪.‬‬ ‫لآلخ ِر َ‬

‫( ‪)1/767‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ولَ َّما ض ِرب ْابن مريم مثَاًل ِإ َذا قَوم َ ِ‬
‫ك‬‫ض َرُبوهُ لَ َ‬
‫ون (‪َ )57‬وقَالُوا أَآَلهَتَُنا َخ ْيٌر أ َْم ُه َو َما َ‬ ‫ك م ْنهُ َيص ُّد َ‬ ‫ُْ‬ ‫ُ َ ُ َ ْ ََ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اَّل‬
‫ون (‪ِ )58‬إ ْن ُه َو ِإ َعْب ٌد أ َْن َع ْمَنا َعلَْيه َو َج َعْلَناهُ َمثَاًل لَبني ِإ ْس َرائ َ‬ ‫ِ‬ ‫اَّل‬
‫يل (‪)59‬‬ ‫ِإ َج َداًل َب ْل ُه ْم قَ ْو ٌم َخص ُم َ‬
‫ون (‪)60‬‬ ‫اء لَ َج َعْلَنا ِم ْن ُك ْم َماَل ئِ َكةً ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ض َي ْخلُفُ َ‬ ‫َولَ ْو َن َش ُ‬

‫ص ُّدون * وقَالُوا أ ِ‬ ‫ك ِم ْنه ي ِ‬


‫َآلهَتَُنا َخ ْيٌر أ َْم ُه َو َما‬ ‫َ َ‬ ‫ب ْاب ُن َم ْرَي َم َمثَال ِإ َذا قَ ْو ُم َ ُ َ‬ ‫ض ِر َ‬ ‫{ ‪َ { } 57-65‬ولَ َّما ُ‬
‫ون * ِإ ْن ُه َو ِإال َع ْب ٌد أ َْن َع ْمَنا َعلَْي ِه َو َج َعْلَناهُ َمثَال ِلَبنِي ِإ ْس َرائِي َل‬ ‫ِ‬
‫ك ِإال َج َدال َب ْل ُه ْم قَ ْو ٌم َخص ُم َ‬ ‫ض َرُبوهُ لَ َ‬‫َ‬
‫ون *} ‪.‬‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َي ْخلُفُ َ‬ ‫اء لَ َج َعْلَنا م ْن ُك ْم َمالئ َكةً في ْ‬ ‫* َولَ ْو َن َش ُ‬
‫ب ْاب ُن َم ْرَي َم َمثَال } أي‪ :‬نهي عن عبادته‪ ،‬وجعلت عبادته بمنزلة عبادة‬ ‫ض ِر َ‬ ‫يقول تعالى‪َ { :‬ولَ َّما ُ‬
‫ك } المكذبون لك { ِم ْنهُ } أي‪ :‬من أجل هذا المثل المضروب‪،‬‬ ‫األصنام واألنداد‪ِ { .‬إ َذا قَ ْو ُم َ‬
‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬يستلجون في خصومتهم لك‪ ،‬ويصيحون‪ ،‬ويزعمون أنهم قد غلبوا في حجتهم‪،‬‬ ‫{ َيص ُّد َ‬
‫وأفلجوا‪.‬‬
‫َآلهَتَُنا َخ ْيٌر أ َْم ُه َو } يعني‪ :‬عيسى‪ ،‬حيث نهي عن عبادة الجميع‪ ،‬وشورك بينهم بالوعيد‬ ‫{ وقَالُوا أ ِ‬
‫َ‬
‫ب َجهََّن َم أ َْنتُ ْم لَهَا‬ ‫على من عبدهم‪ ،‬ونزل أيضا قوله تعالى‪ِ { :‬إَّن ُكم وما تَعب ُدون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫صُ‬‫ون الله َح َ‬ ‫ْ َ َ ُْ َ‬
‫َو ِار ُد َ‬
‫ون }‬
‫ووجه حجتهم الظالمة‪ ،‬أنهم قالوا‪ :‬قد تقرر عندنا وعندك يا محمد‪ ،‬أن عيسى من عباد اهلل‬
‫المقربين‪ ،‬الذين لهم العاقبة الحسنة‪ ،‬فلم سويت بينه وبينها في النهي عن عبادة الجميع؟ فلوال أن‬
‫حجتك باطلة لم تتناقض‪.‬‬
‫ولم قلت‪ِ { :‬إَّن ُكم وما تَعب ُدون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ب َجهََّن َم أ َْنتُ ْم لَهَا َو ِار ُد َ‬
‫ون } وهذا اللفظ بزعمهم‪،‬‬ ‫صُ‬‫ون الله َح َ‬ ‫ْ َ َ ُْ َ‬
‫يعم األصنام‪ ،‬وعيسى‪ ،‬فهل هذا إال تناقض؟ وتناقض الحجة دليل على بطالنها‪ ،‬هذا أنهى ما‬
‫يقررون به هذه الشبهة [الذي] (‪ )1‬فرحوا بها واستبشروا‪ ،‬وجعلوا يصدون ويتباشرون‪.‬‬
‫وهي ‪-‬وللّه الحمد‪ -‬من أضعف الشبه وأبطلها‪ ،‬فإن تسوية اهلل بين النهي عن عبادة المسيح‪ ،‬وبين‬
‫النهي عن عبادة األصنام‪ ،‬ألن العبادة حق للّه تعالى‪ ،‬ال يستحقها أحد من الخلق‪ ،‬ال المالئكة‬
‫المقربون‪ ،‬وال األنبياء المرسلون‪ ،‬وال من سواهم من الخلق‪ ،‬فأي شبهة في تسوية النهي عن‬
‫عبادة عيسى وغيره؟‬
‫وليس تفضيل عيسى عليه السالم‪ ،‬وكونه مقربا عند ربه ما يدل على الفرق بينه وبينها في هذا‬
‫الموضع‪ ،‬وإ نما هو كما قال تعالى‪ِ { :‬إ ْن ُه َو ِإال َعْب ٌد أ َْن َع ْمَنا َعلَْي ِه }‬
‫يل } يعرفون به قدرة اهلل تعالى على‬ ‫بالنبوة والحكمة والعلم والعمل‪َ { ،‬و َج َعْلَناهُ َمثَال ِلَبنِي ِإ ْس َرائِ َ‬
‫إيجاده من دون أب‪.‬‬
‫وأما قوله تعالى‪ِ { :‬إَّن ُكم وما تَعب ُدون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون } فالجواب عنها‬ ‫ب َجهََّن َم أ َْنتُ ْم لَهَا َو ِار ُد َ‬‫صُ‬ ‫ون الله َح َ‬ ‫ْ َ َ ُْ َ‬
‫من ثالثة أوجه‪:‬‬
‫ون اللَّ ِه } أن { ما } اسم لما ال يعقل‪ ،‬ال يدخل فيه‬ ‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫أحدها‪ :‬أن قوله‪ِ { :‬إَّن ُك ْم َو َما تَ ْعُب ُد َ‬
‫المسيح ونحوه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن الخطاب للمشركين‪ ،‬الذين بمكة وما حولها‪ ،‬وهم إنما يعبدون أصناما وأوثانا وال‬
‫يعبدون المسيح‪.‬‬
‫ون } فال شك‬ ‫ت لَهُ ْم ِمَّنا اْل ُح ْسَنى أُولَئِ َ‬
‫ك َع ْنهَا ُم ْب َع ُد َ‬ ‫ين َسَبقَ ْ‬ ‫َِّ‬
‫الثالث‪ :‬أن اهلل قال بعد هذه اآلية‪ِ { :‬إ َّن الذ َ‬
‫أن عيسى وغيره من األنبياء واألولياء‪ ،‬داخلون في هذه اآلية‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬لجعلنا بدلكم مالئكة‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َي ْخلُفُ َ‬ ‫اء لَ َج َعْلَنا م ْن ُك ْم َمالئ َكةً في ْ‬
‫ثم قال تعالى‪َ { :‬ولَ ْو َن َش ُ‬
‫يخلفونكم في األرض‪ ،‬ويكونون في األرض حتى نرسل إليهم مالئكة من جنسهم‪ ،‬وأما أنتم يا‬
‫معشر البشر‪ ،‬فال تطيقون أن ترسل إليكم المالئكة‪ ،‬فمن رحمة اهلل بكم‪ ،‬أن أرسل إليكم رسال من‬
‫جنسكم‪ ،‬تتمكنون من األخذ عنهم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين (الذي) ولعل الصواب (التي)‪.‬‬
‫( ‪)1/768‬‬

‫ان ِإَّنهُ لَ ُك ْم‬ ‫ص َّدَّن ُكم َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّاع ِة فَاَل تَ ْمتَُر َّن بِهَا َواتَّبِ ُع ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ط ُ‬‫الش ْي َ‬ ‫يم (‪َ )61‬واَل َي ُ ُ‬ ‫ون َه َذا ص َراطٌ ُم ْستَق ٌ‬ ‫َوإِ َّنهُ لَعْل ٌم للس َ‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ين (‪ )62‬ولَ َّما جاء ِعيسى بِاْلبيَِّن ِ‬
‫ون‬
‫ض الذي تَ ْختَلفُ َ‬ ‫ال قَ ْد ِج ْئتُ ُك ْم بِاْلح ْك َمة َوأِل َُبي َ‬
‫ِّن لَ ُك ْم َب ْع َ‬ ‫ات قَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون (‪ِ )63‬إ َّن اللَّهَ ُه َو َربِّي َو َرُّب ُك ْم فَ ْ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ف‬
‫اختَلَ َ‬ ‫يم (‪ )64‬فَ ْ‬ ‫اعُب ُدوهُ َه َذا ص َراطٌ ُم ْستَق ٌ‬ ‫يع ِ‬‫فيه فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ‬
‫اب َي ْوٍم أَِل ٍيم (‪)65‬‬ ‫ظلَموا ِم ْن َع َذ ِ‬
‫ين َ ُ‬
‫َِِّ‬ ‫َح َز ِ ِ‬
‫اب م ْن َب ْين ِه ْم فَ َوْي ٌل للذ َ‬
‫اأْل ْ ُ‬

‫ان ِإَّنهُ لَ ُك ْم‬ ‫ص َّدَّن ُكم َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّاع ِة فَال تَ ْمتَُر َّن بِهَا َواتَّبِ ُع ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ط ُ‬‫الش ْي َ‬ ‫يم * َوال َي ُ ُ‬ ‫ون َه َذا ص َراطٌ ُم ْستَق ٌ‬ ‫{ َوإِ َّنهُ لَعْل ٌم للس َ‬
‫ال قَ ْد ِج ْئتُ ُكم بِاْل ِح ْكم ِة وألبيِّن لَ ُكم بعض الَِّذي تَ ْختَِلفُون ِف ِ‬ ‫ين * ولَ َّما جاء ِعيسى بِاْلبيَِّن ِ‬
‫يه‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ْ َْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ات قَ َ‬ ‫َ‬ ‫َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ َ َ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون * ِإ َّن اللَّهَ ُه َو َربِّي َو َرُّب ُك ْم فَ ْ‬ ‫َّ ِ‬
‫اب‬
‫األح َز ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫اختَلَ َ‬‫يم * فَ ْ‬ ‫اعُب ُدوهُ َه َذا ص َراطٌ ُم ْستَق ٌ‬ ‫يع ِ‬‫فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ‬
‫اب َي ْوٍم أَِل ٍيم } ‪.‬‬‫ظلَموا ِم ْن َع َذ ِ‬
‫ين َ ُ‬
‫َِِّ‬ ‫ِ ِ‬
‫م ْن َب ْين ِه ْم فَ َوْي ٌل للذ َ‬
‫َّاع ِة } أي‪ :‬وإ ن عيسى عليه السالم‪ ،‬لدليل على الساعة‪ ،‬وأن القادر على إيجاده من‬ ‫ِ ِ‬
‫{ َوإِ َّنهُ لَعْل ٌم للس َ‬
‫أم بال أب‪ ،‬قادر على بعث الموتى من قبورهم‪ ،‬أو وإ ن عيسى عليه السالم‪ ،‬سينزل في آخر‬
‫الزمان‪ ،‬ويكون نزوله عالمة من عالمات الساعة { فَال تَ ْمتَُر َّن بِهَا } أي‪ :‬ال تشكن في قيام‬
‫ون } بامتثال ما أمرتكم‪ ،‬واجتناب ما نهيتكم‪َ { ،‬ه َذا ِ‬
‫ص َراطٌ‬ ‫الساعة‪ ،‬فإن الشك فيها كفر‪َ { .‬واتَّبِ ُع ِ‬
‫يم } موصل إلى اهلل عز وجل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ُم ْستَق ٌ‬
‫ان } عما أمركم اهلل به‪ ،‬فإن الشيطان { لَ ُك ْم َع ُد ٌّو } حريص على إغوائكم‪،‬‬ ‫ط ُ‬ ‫ص َّدَّن ُكم َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫{ َوال َي ُ ُ‬
‫باذل جهده في ذلك‪.‬‬
‫ات } الدالة على صدق نبوته وصحة ما جاءهم به‪ [ ،‬ص ‪ ] 769‬من‬ ‫{ ولَ َّما جاء ِعيسى بِاْلبيَِّن ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ال } لبني إسرائيل‪ { :‬قَ ْد‬ ‫إحياء الموتى‪ ،‬وإ براء األكمه واألبرص‪ ،‬ونحو ذلك من اآليات‪ { .‬قَ َ‬
‫ض الَِّذي‬
‫ِّن لَ ُك ْم َب ْع َ‬
‫ِ ِ‬
‫ِج ْئتُ ُك ْم بِاْلح ْك َمة } النبوة والعلم‪ ،‬بما ينبغي على الوجه الذي ينبغي‪َ { .‬و َ‬
‫ألبي َ‬
‫يه } أي‪ :‬أبين لكم صوابه وجوابه‪ ،‬فيزول عنكم بذلك اللبس‪ ،‬فجاء عليه السالم مكمال‬ ‫تَ ْختَِلفُون ِف ِ‬
‫َ‬
‫ومتمما لشريعة موسى عليه السالم‪ ،‬وألحكام التوراة‪ .‬وأتى ببعض التسهيالت الموجبة لالنقياد‬
‫َّ ِ‬
‫ون } أي‪ :‬اعبدوا اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وامتثلوا‬ ‫له‪ ،‬وقبول ما جاءهم به‪ { .‬فَاتَّقُوا اللهَ َوأَط ُ‬
‫يع ِ‬
‫أمره‪ ،‬واجتنبوا نهيه‪ ،‬وآمنوا بي وصدقوني وأطيعون‪.‬‬
‫يم } ففيه اإلقرار بتوحيد الربوبية‪ ،‬بأن اهلل هو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ِإ َّن اللَّهَ ُه َو َربِّي َو َرُّب ُك ْم فَ ْ‬
‫اعُب ُدوهُ َه َذا ص َراطٌ ُم ْستَق ٌ‬
‫المربي جميع خلقه بأنواع النعم الظاهرة والباطنة‪ ،‬واإلقرار بتوحيد العبودية‪ ،‬باألمر بعبادة اهلل‬
‫وحده ال شريك له‪ ،‬وإ خبار عيسى عليه السالم أنه عبد من عباد اهلل‪ ،‬ليس كما قال فيه النصارى‪:‬‬
‫"إنه ابن اهلل أو ثالث ثالثة" واإلخبار بأن هذا المذكور صراط مستقيم‪ ،‬موصل إلى اهلل وإ لى جنته‪.‬‬
‫اب } المتحزبون على التكذيب { ِم ْن َب ْينِ ِه ْم }‬
‫األح َز ُ‬
‫ف ْ‬ ‫اختَلَ َ‬
‫فلما جاءهم عيسى عليه السالم بهذا { ْ‬
‫كل قال بعيسى عليه السالم مقالة باطلة‪ ،‬ورد ما جاء به‪ ،‬إال من هدى اهلل من المؤمنين‪ ،‬الذين‬
‫شهدوا له بالرسالة‪ ،‬وصدقوا بكل ما جاء به‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنه عبد اهلل ورسوله‪.‬‬
‫ظلَ ُموا من عذاب يوم أليم } أي‪ :‬ما أشد حزن الظالمين وما أعظم خسارهم في ذلك‬
‫ين َ‬ ‫َِِّ‬
‫{ فَ َوْي ٌل للذ َ‬
‫اليوم"‪.‬‬

‫( ‪)1/768‬‬

‫ض َع ُد ٌّو‬ ‫ضهُ ْم ِلَب ْع ٍ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ‬


‫ون (‪ )66‬اأْل َخاَّل ُء َي ْو َمئذ َب ْع ُ‬
‫َه ْل ي ْنظُرون ِإاَّل السَّاعةَ أ ْ ِ‬
‫َن تَأْتَيهُ ْم َب ْغتَةً َو ُه ْم اَل َي ْش ُع ُر َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫َمُنوا بِآََياتَِنا َو َك ُانوا‬
‫ين آ َ‬
‫َِّ‬
‫ون (‪ )68‬الذ َ‬ ‫ف َعلَْي ُك ُم اْلَي ْو َم َواَل أ َْنتُ ْم تَ ْح َزُن َ‬ ‫ين (‪َ )67‬يا ِعَب ِاد اَل َخ ْو ٌ‬ ‫ِ‬
‫ِإ اْل ُمتَّق َ‬
‫اَّل‬
‫اف ِم ْن َذ َه ٍب‬ ‫صح ٍ‬ ‫ِ‬
‫اف َعلَْي ِه ْم بِ َ‬ ‫ط ُ‬ ‫ون (‪ُ )70‬ي َ‬ ‫ين (‪ْ )69‬اد ُخلُوا اْل َجَّنةَ أ َْنتُ ْم َوأ َْز َو ُ‬
‫اج ُك ْم تُ ْحَب ُر َ‬
‫ِِ‬
‫ُم ْسلم َ‬
‫وها‬
‫ُورثْتُ ُم َ‬ ‫ك اْل َجَّنةُ الَّتِي أ ِ‬ ‫ون (‪َ )71‬وتِْل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعُي ُن َوأ َْنتُ ْم فيهَا َخال ُد َ‬ ‫يه اأْل َْنفُ ُس َوتَلَ ُّذ اأْل ْ‬‫اب و ِفيها ما تَ ْشتَ ِه ِ‬
‫َوأَ ْك َو َ َ َ‬
‫ٍ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)73‬‬ ‫ون (‪ )72‬لَ ُك ْم فيهَا فَاكهَةٌ َكث َيرةٌ م ْنهَا تَْأ ُكلُ َ‬ ‫بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬

‫ضهُ ْم‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪َ { } 66-73‬ه ْل ي ْنظُرون ِإال السَّاعةَ أ ْ ِ‬


‫الء َي ْو َمئذ َب ْع ُ‬
‫ون * األخ ُ‬ ‫َن تَأْتَيهُ ْم َب ْغتَةً َو ُه ْم ال َي ْش ُع ُر َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫آمُنوا بِ َآياتَِنا‬
‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫ون * الذ َ‬ ‫ف َعلَْي ُك ُم اْلَي ْو َم َوال أ َْنتُ ْم تَ ْح َزُن َ‬‫ين * َيا ِعَب ِاد ال َخ ْو ٌ‬ ‫ِ‬
‫ض َع ُد ٌّو ِإال اْل ُمتَّق َ‬ ‫ِلَب ْع ٍ‬
‫اف ِم ْن َذ َه ٍب‬
‫صح ٍ‬ ‫ِ‬
‫اف َعلَْي ِه ْم بِ َ‬ ‫ط ُ‬ ‫ون * ُي َ‬ ‫اج ُك ْم تُ ْحَب ُر َ‬ ‫ين * ْاد ُخلُوا اْل َجَّنةَ أ َْنتُ ْم َوأ َْز َو ُ‬
‫ِِ‬
‫َو َك ُانوا ُم ْسلم َ‬
‫وها بِ َما‬
‫ُورثْتُ ُم َ‬ ‫ك اْل َجَّنةُ الَّتِي أ ِ‬
‫ون * َوتِْل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األعُي ُن َوأ َْنتُ ْم فيهَا َخال ُد َ‬ ‫األنفُ ُس َوتَلَ ُّذ ْ‬ ‫يه ْ‬ ‫اب و ِفيها ما تَ ْشتَ ِه ِ‬
‫َوأَ ْك َو َ َ َ‬
‫ٍ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ون * لَ ُك ْم فيهَا فَاكهَةٌ َكث َيرةٌ م ْنهَا تَْأ ُكلُ َ‬ ‫ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫ون }‬ ‫يقول تعالى‪ :‬ما ينتظر المكذبون‪ ،‬وهل يتوقعون { ِإال السَّاعةَ أ ْ ِ‬
‫َن تَأْتَيهُ ْم َب ْغتَةً َو ُه ْم ال َي ْش ُع ُر َ‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬فإذا جاءت‪ ،‬فال تسأل عن أحوال من كذب بها‪ ،‬واستهزأ بمن جاء بها‪.‬‬
‫ضهُ ْم‬ ‫وإ ن األخالء يومئذ‪ ،‬أي‪ :‬يوم القيامة‪ ،‬المتخالين على الكفر والتكذيب ومعصية اللّه‪َ { ،‬ب ْع ُ‬
‫ِ‬ ‫ِلَب ْع ٍ‬
‫ض َع ُد ٌّو } ألن خلتهم ومحبتهم في الدنيا لغير اللّه‪ ،‬فانقلبت يوم القيامة عداوة‪ِ { .‬إال اْل ُمتَّق َ‬
‫ين }‬
‫للشرك والمعاصي‪ ،‬فإن محبتهم تدوم وتتصل‪ ،‬بدوام من كانت المحبة ألجله‪ ،‬ثم ذكر ثواب‬
‫المتقين‪ ،‬وأن اللّه تعالى يناديهم يوم القيامة بما يسر قلوبهم‪ ،‬ويذهب عنهم كل آفة وشر‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫ون }‬ ‫{ َيا ِعَب ِاد ال َخ ْو ٌ‬
‫ف َعلَْي ُك ُم اْلَي ْو َم َوال أ َْنتُ ْم تَ ْح َزُن َ‬
‫أي‪ :‬ال خوف يلحقكم فيما تستقبلونه من األمور‪ ،‬وال حزن يصيبكم فيما مضى منها‪ ،‬وإ ذا انتفى‬
‫المكروه من كل وجه‪ ،‬ثبت المحبوب المطلوب‪.‬‬
‫آمُنوا بِ َآياتَِنا وكانوا مسلمين } أي‪ :‬وصفهم اإليمان بآيات اللّه‪ ،‬وذلك ليشمل التصديق بها‪،‬‬ ‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫{ الذ َ‬
‫ين } للّه منقادين له‬ ‫ِِ‬
‫وما ال يتم التصديق إال به‪ ،‬من العلم بمعناها والعمل بمقتضاها‪َ { .‬و َك ُانوا ُم ْسلم َ‬
‫في جميع أحوالهم‪ ،‬فجمعوا بين االتصاف بعمل الظاهر والباطن‪.‬‬
‫اج ُك ْم } أي‪ :‬من كان على مثل عملكم‪ ،‬من كل‬ ‫{ ْاد ُخلُوا اْل َجَّنةَ } التي هي دار القرار { أ َْنتُ ْم َوأ َْز َو ُ‬
‫ون } أي‪ :‬تنعمون وتكرمون‪ ،‬ويأتيكم‬‫مقارن لكم‪ ،‬من زوجة‪ ،‬وولد‪ ،‬وصاحب‪ ،‬وغيرهم‪ { .‬تُ ْحَب ُر َ‬
‫من فضل ربكم من الخيرات والسرور واألفراح واللذات‪ ،‬ما ال تعبر األلسن عن وصفه‪.‬‬
‫اب } أي‪ :‬تدور عليهم خدامهم‪ ،‬من الولدان المخلدين‬ ‫اف ِم ْن َذ َه ٍب وأَ ْكو ٍ‬
‫صح ٍ‬‫ِ‬
‫اف َعلَْي ِه ْم بِ َ‬
‫ط ُ‬‫{ ُي َ‬
‫َ َ‬
‫بطعامهم‪ ،‬بأحسن األواني وأفخرها‪ ،‬وهي صحاف الذهب وشرابهم‪ ،‬بألطف األواني‪ ،‬وهي‬
‫األكواب التي ال عرى لها‪ ،‬وهي من أصفى األواني‪ ،‬من فضة أعظم من صفاء القوارير‪.‬‬
‫األنفُ ُس َوتَلَ ُّذ ْ‬
‫األعُي ُن } وهذا لفظ جامع‪ ،‬يأتي على كل نعيم‬ ‫يه ْ‬ ‫{ و ِفيها } أي‪ :‬الجنة { ما تَ ْشتَ ِه ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫وفرح‪ ،‬وقرة عين‪ ،‬وسرور قلب‪ ،‬فكل ما اشتهته النفوس‪ ،‬من مطاعم‪ ،‬ومشارب‪ ،‬ومالبس‪،‬‬
‫ومناكح‪ ،‬ولذته العيون‪ ،‬من مناظر حسنة‪ ،‬وأشجار محدقة‪ ،‬ونعم مونقة‪ ،‬ومبان مزخرفة‪ ،‬فإنه‬
‫حاصل فيها‪ ،‬معد ألهلها‪ ،‬على أكمل الوجوه وأفضلها‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬لَهم ِفيها فَ ِ‬
‫اكهَةٌ َولَهُ ْم َما‬ ‫ُْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } وهذا هو تمام نعيم أهل الجنة‪ ،‬وهو الخلد الدائم فيها‪ ،‬الذي‬ ‫َي َّد ُع َ‬
‫ون } { َوأ َْنتُ ْم فيهَا َخال ُد َ‬
‫يتضمن دوام نعيمها وزيادته‪ ،‬وعدم انقطاعه‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬أورثكم‬ ‫وها بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬ ‫ك اْل َجَّنةُ } الموصوفة بأكمل الصفات‪ ،‬هي { الَّتِي أ ِ‬
‫ُورثْتُ ُم َ‬ ‫{ َوتِْل َ‬
‫اللّه إياها بأعمالكم‪ ،‬وجعلها من فضله جزاء لها‪ ،‬وأودع فيها من رحمته ما أودع‪.‬‬
‫ِ‬ ‫اكهَ ٍة َز ْو َج ِ‬ ‫اكهةٌ َكثِيرةٌ } كما في اآلية األخرى‪ِ { :‬في ِهما ِم ْن ُك ِّل فَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ان } { م ْنهَا تَْأ ُكلُ َ‬
‫ون‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫[ { لَ ُك ْم فيهَا فَ َ‬
‫} أي‪ :‬مما تتخيرون من تلك الفواكه الشهية‪ [ ،‬ص ‪ ] 770‬والثمار اللذيذة تأكلون] (‪ )1‬ولما ذكر‬
‫نعيم الجنة‪ ،‬عقبه بذكر عذاب جهنم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬ما بين الحاصرتين جاء في نسخة (أ) مقدما على تفسير اآلية السابقة (وتلك الجنة التي‬
‫أورثتموها بما كنتم تعملون)‪.‬‬

‫( ‪)1/769‬‬

‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين ِفي َع َذ ِ‬


‫اه ْم‬
‫ظلَ ْمَن ُ‬‫ون (‪َ )75‬و َما َ‬‫ون (‪ )74‬اَل ُيفَتَُّر َع ْنهُ ْم َو ُه ْم فيه ُمْبل ُس َ‬ ‫اب َجهََّن َم َخال ُد َ‬ ‫ِإ َّن اْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ون (‪ )77‬لَقَ ْد ِج ْئَنا ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫ك ِلَي ْق ِ‬ ‫اد ْوا َيا َم ِال ُ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ال ِإَّن ُك ْم َماكثُ َ‬
‫ُّك قَ َ‬
‫ض َعلَْيَنا َرب َ‬ ‫ين (‪َ )76‬وَن َ‬ ‫َولَك ْن َك ُانوا ُه ُم الظالم َ‬
‫ون (‪)78‬‬ ‫ق َك ِار ُه َ‬ ‫ق َولَ ِك َّن أَ ْكثََر ُك ْم ِلْل َح ِّ‬
‫بِاْل َح ِّ‬
‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين ِفي َع َذ ِ‬
‫ون * َو َما‬ ‫ون * ال ُيفَتَُّر َع ْنهُ ْم َو ُه ْم فيه ُمْبل ُس َ‬
‫اب َجهََّن َم َخال ُد َ‬ ‫{ ‪ِ { } 74-78‬إ َّن اْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ِ‬ ‫ك ِلَي ْق ِ‬
‫ام ِال ُ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ظلَمَن ُ ِ‬
‫ال ِإَّن ُك ْم َماكثُ َ‬
‫ون * لَقَ ْد‬ ‫ُّك قَ َ‬
‫ض َعلَْيَنا َرب َ‬ ‫اد ْوا َي َ‬
‫ين * َوَن َ‬ ‫اه ْم َولَك ْن َك ُانوا ُه ُم الظالم َ‬ ‫َْ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ق َك ِار ُه َ‬‫ق َولَ ِك َّن أَ ْكثََر ُك ْم ِلْل َح ِّ‬
‫ِج ْئَنا ُك ْم بِاْل َح ِّ‬
‫اب َجهََّن َم } أي‪ :‬منغمرون فيه‪ ،‬محيط‬ ‫ين } الذين أجرموا بكفرهم وتكذيبهم { ِفي َع َذ ِ‬ ‫{ ِإ َّن اْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ون } فيه‪ ،‬ال يخرجون منه أبدا‬ ‫ِ‬
‫بهم العذاب من كل جانب‪َ { ،‬خال ُد َ‬
‫ِِ ِ‬
‫ون } أي‪ :‬آيسون‬ ‫و { ال ُيفَتَُّر َع ْنهُ ْم } العذاب ساعة‪ ،‬بإزالته‪ ،‬وال بتهوين عذابه‪َ { ،‬و ُه ْم فيه ُمْبل ُس َ‬
‫َخ ِر ْجَنا ِم ْنهَا فَِإ ْن ُع ْدَنا‬
‫من كل خير‪ ،‬غير راجين للفرج‪ ،‬وذلك أنهم ينادون ربهم فيقولون‪َ { :‬ربََّنا أ ْ‬
‫ون } وهذا العذاب العظيم‪ ،‬بما قدمت أيديهم‪ ،‬وبما ظلموا به‬ ‫اخ َسُئوا ِفيهَا َوال تُ َكلِّ ُم ِ‬
‫ون قَا َل ْ‬
‫ظال ُم َ‬
‫فَِإَّنا َ ِ‬
‫أنفسهم‪.‬واللّه لم يظلمهم ولم يعاقبهم بال ذنب وال جرم‪.‬‬
‫ُّك } أي‪ :‬ليمتنا‬ ‫ض َعلَْيَنا َرب َ‬ ‫ك ِلَي ْق ِ‬
‫اد ْوا } وهم في النار‪ ،‬لعلهم يحصل لهم استراحة‪َ { ،‬يا َم ِال ُ‬ ‫{ َوَن َ‬
‫ال } لهم مالك خازن‬ ‫فنستريح‪ ،‬فإننا في غم شديد‪ ،‬وعذاب غليظ‪ ،‬ال صبر لنا عليه وال جلد‪ .‬فـ { قَ َ‬
‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬مقيمون فيها‪ ،‬ال‬ ‫النار ‪-‬حين طلبوا منه أن يدعو اللّه لهم أن يقضي عليهم‪ِ { :-‬إَّن ُك ْم َماكثُ َ‬
‫تخرجون عنها أبدا‪ ،‬فلم يحصل لهم ما قصدوه‪ ،‬بل أجابهم بنقيض قصدهم‪ ،‬وزادهم غما إلى‬
‫غمهم‪.‬‬
‫ق } الذي يوجب عليكم أن تتبعوه فلو تبعتموه‪ ،‬لفزتم‬‫ثم وبخهم بما فعلوا فقال‪ { :‬لَقَ ْد ِج ْئَنا ُك ْم بِاْل َح ِّ‬
‫ون } فلذلك شقيتم شقاوة ال سعادة بعدها‪.‬‬ ‫ق َك ِار ُه َ‬ ‫وسعدتم‪َ { ،‬ولَ ِك َّن أَ ْكثََر ُك ْم ِلْل َح ِّ‬

‫( ‪)1/770‬‬

‫ون أََّنا اَل َن ْس َمعُ ِس َّر ُه ْم َوَن ْج َو ُ‬


‫اه ْم َبلَى َو ُر ُسلَُنا لَ َد ْي ِه ْم‬ ‫أ َْم أ َْب َر ُموا أ َْم ًرا فَِإَّنا ُم ْب ِر ُم َ‬
‫ون (‪ )79‬أ َْم َي ْح َسُب َ‬
‫ون (‪)80‬‬ ‫َي ْكتُُب َ‬

‫ون أََّنا ال َن ْس َمعُ ِس َّر ُه ْم َوَن ْج َو ُ‬


‫اه ْم َبلَى‬ ‫{ ‪ { } 79-80‬أ َْم أ َْب َر ُموا أ َْم ًرا فَِإَّنا ُم ْب ِر ُم َ‬
‫ون * أ َْم َي ْح َسُب َ‬
‫ون } ‪.‬‬‫َو ُر ُسلَُنا لَ َد ْي ِه ْم َي ْكتُُب َ‬
‫يقول تعالى‪ :‬أم أبرم المكذبون بالحق المعاندون له { أ َْم ًرا } أي‪ :‬كادوا كيدا‪ ،‬ومكروا للحق ولمن‬
‫ون } أي‪ :‬محكمون‬ ‫جاء بالحق‪ ،‬ليدحضوه‪ ،‬بما موهوا من الباطل المزخرف المزوق‪ { ،‬فَِإَّنا ُم ْب ِر ُم َ‬
‫أمرا‪ ،‬ومدبرون تدبيرا يعلو تدبيرهم‪ ،‬وينقضه ويبطله‪ ،‬وهو ما قيضه اللّه من األسباب واألدلة‬
‫ق علَى اْلب ِ‬
‫اط ِل فََي ْد َم ُغهُ }‬ ‫إلحقاق الحق وإ بطال الباطل‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ب ْل َن ْق ِذ ُ‬
‫َ‬ ‫ف بِاْل َح ِّ َ‬
‫ون } بجهلهم وظلمهم { أََّنا ال َن ْس َمعُ ِس َّر ُه ْم } الذي لم يتكلموا به‪ ،‬بل هو سر في قلوبهم {‬ ‫{ أ َْم َي ْح َسُب َ‬
‫اه ْم } أي‪ :‬كالمهم الخفي الذي يتناجون به‪ ،‬أي‪ :‬فلذلك أقدموا على المعاصي‪ ،‬وظنوا أنها ال‬
‫َوَن ْج َو ُ‬
‫تبعة لها وال مجازاة على ما خفي منها‪.‬‬
‫فرد اللّه عليهم بقوله‪َ { :‬بلَى } أي‪ :‬إنا نعلم سرهم ونجواهم‪َ { ،‬و ُر ُسلَُنا } المالئكة الكرام‪ { ،‬لَ َد ْي ِه ْم‬
‫ون } كل ما عملوه‪ ،‬وسيحفظ ذلك عليهم‪ ،‬حتى يردوا القيامة‪ ،‬فيجدوا ما عملوا حاضرا‪ ،‬وال‬ ‫َي ْكتُُب َ‬
‫يظلم ربك أحدا‪.‬‬

‫( ‪)1/770‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُق ْل ِإ ْن َك ِ‬


‫ب اْل َع ْر ِ‬
‫ش َع َّما‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬
‫ض َر ِّ‬ ‫َّم َاو َ‬
‫ب الس َ‬ ‫ان َر ِّ‬
‫ين (‪ُ )81‬س ْب َح َ‬ ‫ان ل َّلر ْح َم ِن َولَ ٌد فَأََنا أ ََّو ُل اْل َعابِد َ‬
‫َ‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪)83‬‬ ‫وضوا َوَيْل َعُبوا َحتَّى ُياَل قُوا َي ْو َمهُ ُم الذي ُي َ‬
‫وع ُد َ‬ ‫ون (‪ )82‬فَ َذ ْر ُه ْم َي ُخ ُ‬ ‫َيصفُ َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ُ { } 81-83‬ق ْل ِإ ْن َك ِ‬


‫ب‬ ‫األر ِ‬
‫ض َر ِّ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ب الس َ‬ ‫ان َر ِّ‬ ‫ين * ُس ْب َح َ‬ ‫ان ل َّلر ْح َم ِن َولَ ٌد فَأََنا أ ََّو ُل اْل َعابِد َ‬
‫َ‬
‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫وع ُد َ‬ ‫وضوا َوَيْل َعُبوا َحتَّى ُيالقُوا َي ْو َمهُ ُم الذي ُي َ‬ ‫ون * فَ َذ ْر ُه ْم َي ُخ ُ‬ ‫اْل َع ْر ِ‬
‫ش َع َّما َيصفُ َ‬
‫أي‪ :‬قل يا أيها الرسول الكريم‪ ،‬للذين جعلوا للّه ولدا‪ ،‬وهو الواحد األحد الفرد الصمد‪ ،‬الذي لم‬
‫ِ‬ ‫يتخذ صاحبة وال ولدا‪ ،‬ولم يكن له كفوا أحد‪ُ { .‬ق ْل ِإ ْن َك ِ‬
‫ان ل َّلر ْح َم ِن َولَ ٌد فَأََنا أ ََّو ُل اْل َعابِد َ‬
‫ين } لذلك‬ ‫َ‬
‫الولد‪ ،‬ألنه جزء من والده‪ ،‬وأنا أول الخلق انقيادا لألمور المحبوبة للّه‪ ،‬ولكني أول المنكرين‬
‫لذلك‪ ،‬وأشدهم له نفيا‪ ،‬فعلم بذلك بطالنه‪ ،‬فهذا احتجاج عظيم عند من عرف أحوال الرسل‪ ،‬وأنه‬
‫إذا علم أنهم أكمل الخلق‪ ،‬وأن كل خير فهم أول الناس سبقا إليه وتكميال له‪ ،‬وكل شر فهم أول‬
‫الناس تركا له وإ نكارا له وبعدا منه‪ ،‬فلو كان على هذا للرحمن ولد وهو الحق‪ ،‬لكان محمد بن عبد‬
‫اللّه‪ ،‬أفضل الرسل أول من عبده‪ ،‬ولم يسبقه إليه المشركون‪.‬‬
‫ويحتمل أن معنى اآلية‪ :‬لو كان للرحمن ولد‪ ،‬فأنا أول العابدين للّه‪ ،‬ومن عبادتي للّه‪ ،‬إثبات ما‬
‫أثبته‪ ،‬ونفي ما نفاه‪ ،‬فهذا من العبادة القولية االعتقادية‪ ،‬ويلزم من هذا‪ ،‬لو كان حقا‪ ،‬لكنت أول‬
‫مثبت له‪ ،‬فعلم بذلك بطالن دعوى المشركين وفسادها‪ ،‬عقال ونقال‪.‬‬
‫ون } من الشريك والظهير‪ ،‬والعوين‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ب اْل َع ْر ِ‬ ‫األر ِ‬
‫ض َر ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ان َر ِّ‬
‫ش َع َّما َيصفُ َ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ب الس َ‬ ‫{ ُس ْب َح َ‬
‫والولد‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬مما نسبه إليه المشركون‪.‬‬
‫وضوا َوَيْل َعُبوا } أي‪ :‬يخوضوا بالباطل‪ ،‬ويلعبوا بالمحال‪ ،‬فعلومهم ضارة غير نافعة‪،‬‬
‫{ فَ َذ ْر ُه ْم َي ُخ ُ‬
‫وهي الخوض والبحث بالعلوم التي يعارضون بها الحق وما جاءت به الرسل‪ ،‬وأعمالهم لعب‬
‫وسفاهة‪ ،‬ال تزكي النفوس‪ ،‬وال تثمر المعارف‪.‬‬
‫َِّ‬
‫ون } فسيعلمون‬ ‫ولهذا توعدهم بما أمامهم من يوم القيامة فقال‪َ { :‬حتَّى ُيالقُوا َي ْو َمهُ ُم الذي ُي َ‬
‫وع ُد َ‬
‫فيه ماذا حصلوا‪ ،‬وما حصلوا عليه من الشقاء الدائم‪ ،‬والعذاب المستمر‪.‬‬

‫( ‪)1/770‬‬

‫ك‬‫ك الَِّذي لَهُ ُمْل ُ‬ ‫يم (‪َ )84‬وتََب َار َ‬ ‫ِ‬


‫يم اْل َعل ُ‬
‫ِ‬
‫ض إلَهٌ َو ُه َو اْل َحك ُ‬
‫اء ِإلَهٌ و ِفي اأْل َْر ِ ِ‬
‫َ‬
‫و ُهو الَِّذي ِفي السَّم ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون‬
‫ين َي ْد ُع َ‬ ‫ك الذ َ‬ ‫ون (‪َ )85‬واَل َي ْمل ُ‬ ‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما َو ِع ْن َدهُ عْل ُم الس َ‬
‫َّاعة َوإِلَْيه تُْر َج ُع َ‬ ‫َّماوات واأْل َْر ِ‬
‫الس َ َ َ‬
‫ون (‪َ )86‬ولَئِ ْن َسأَْلتَهُ ْم َم ْن َخلَقَهُ ْم لََيقُولُ َّن اللَّهُ فَأََّنى‬ ‫ق َو ُه ْم َي ْعلَ ُم َ‬‫اعةَ ِإاَّل َم ْن َش ِه َد بِاْل َح ِّ‬ ‫ِم ْن ُدونِ ِه َّ‬
‫الشفَ َ‬
‫ِ‬ ‫ون (‪َ )87‬و ِق ِيل ِه َيا َر ِّ‬
‫ف‬
‫اصفَ ْح َع ْنهُ ْم َو ُق ْل َساَل ٌم فَ َس ْو َ‬ ‫ون (‪ )88‬فَ ْ‬ ‫ب ِإ َّن َه ُؤاَل ء قَ ْو ٌم اَل ُي ْؤ ِمُن َ‬ ‫ُي ْؤفَ ُك َ‬
‫ون (‪)89‬‬
‫َي ْعلَ ُم َ‬

‫ض ِإلَهٌ و ُهو اْلح ِكيم اْلعِليم * وتَبار َ َِّ‬ ‫{ ‪ { } 84-89‬و ُهو الَِّذي ِفي الس ِ‬
‫ك الذي لَهُ‬ ‫َ َ َ ُ َ ُ َ ََ‬ ‫َّماء ِإلَهٌ َو ِفي ْ‬
‫األر ِ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ض وما ب ْيَنهما و ِع ْن َده ِعْلم السَّاع ِة وإِلَْي ِه تُرجعون * وال يمِل ُ َِّ‬ ‫ِ‬
‫ون‬
‫ين َي ْد ُع َ‬
‫ك الذ َ‬ ‫ْ َ ُ َ َ َْ‬ ‫َ َ‬ ‫األر ِ َ َ َ ُ َ َ ُ ُ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ك الس َ‬ ‫ُمْل ُ‬
‫ون * َولَئِ ْن َسأَْلتَهُ ْم َم ْن َخلَقَهُ ْم لََيقُولُ َّن اللَّهُ فَأََّنى‬
‫ق َو ُه ْم َي ْعلَ ُم َ‬‫اعةَ ِإال َم ْن َش ِه َد بِاْل َح ِّ‬
‫الشفَ َ‬ ‫ِم ْن ُدونِ ِه َّ‬
‫ِ‬ ‫ون * َو ِق ِيل ِه َيا َر ِّ‬
‫ون } ‪.‬‬‫ف َي ْعلَ ُم َ‬ ‫الم فَ َس ْو َ‬‫اصفَ ْح َعْنهُ ْم َو ُق ْل َس ٌ‬ ‫ون * فَ ْ‬ ‫ب ِإ َّن َه ُؤالء قَ ْو ٌم ال ُي ْؤ ِمُن َ‬ ‫ُي ْؤفَ ُك َ‬
‫يخبر تعالى‪ ،‬أنه وحده المألوه المعبود في السماوات واألرض فأهل السماوات كلهم‪ ،‬والمؤمنون‬
‫من أهل األرض‪ ،‬يعبدونه‪ ،‬ويعظمونه‪ ،‬ويخضعون [ ص ‪ ] 771‬لجالله‪ ،‬ويفتقرون لكماله‪.‬‬
‫ِّح بِ َح ْم ِد ِه } { َوِللَّ ِه َي ْس ُج ُد َم ْن‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َو َم ْن في ِه َّن َوإِ ْن م ْن َش ْيء ِإال ُي َسب ُ‬‫األر ُ‬ ‫ات الس َّْبعُ َو ْ‬
‫َّم َاو ُ‬
‫ِّح لَهُ الس َ‬
‫{ تُ َسب ُ‬
‫ط ْو ًعا َو َك ْر ًها }‬
‫ض َ‬‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫في الس َ‬
‫فهو تعالى المألوه المعبود‪ ،‬الذي يألهه الخالئق كلهم‪ ،‬طائعين مختارين‪ ،‬وكارهين‪ .‬وهذه كقوله‬
‫تعالى‪ { :‬وهو اللّه في السماوات وفي األرض } أي‪ :‬ألوهيته ومحبته فيهما‪ .‬وأما هو فهو فوق‬
‫يم } الذي أحكم ما خلقه‪ ،‬وأتقن‬ ‫ِ‬
‫عرشه‪ ،‬بائن من خلقه‪ ،‬متوحد بجالله‪ ،‬متمجد بكماله‪َ { ،‬و ُه َو اْل َحك ُ‬
‫ما شرعه‪ ،‬فما خلق شيئا إال لحكمة‪ ،‬وال شرع شيئا إال لحكمة‪ ،‬وحكمه القدري والشرعي‬
‫يم } بكل شيء‪ ،‬يعلم السر وأخفى‪ ،‬وال يعزب عنه مثقال‬ ‫ِ‬
‫والجزائي مشتمل على الحكمة‪ { .‬اْل َعل ُ‬
‫ذرة في العالم العلوي والسفلي‪ ،‬وال أصغر منها وال أكبر‪.‬‬
‫األر ِ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما } تبارك بمعنى تعالى وتعاظم‪ ،‬وكثر‬ ‫ِ‬ ‫ك الَِّذي لَهُ ُمْل ُ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬‫ك الس َ‬ ‫{ َوتََب َار َ‬
‫خيره‪ ،‬واتسعت صفاته‪ ،‬وعظم ملكه‪ .‬ولهذا ذكر سعة ملكه للسموات واألرض وما بينهما‪ ،‬وسعة‬
‫علمه‪ ،‬وأنه بكل شيء عليم‪ ،‬حتى إنه تعالى‪ ،‬انفرد بعلم كثير من الغيوب‪ ،‬التي لم يطلع عليها أحد‬
‫َّاع ِة } قدم الظرف‪ ،‬ليفيد‬ ‫ِ‬
‫من الخلق‪ ،‬ال نبي مرسل‪ ،‬وال ملك مقرب‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬و ِع ْن َدهُ عْل ُم الس َ‬
‫الحصر‪ ،‬أي‪ :‬ال يعلم متى تجيء الساعة إال هو‪ ،‬ومن تمام ملكه وسعته‪ ،‬أنه مالك الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫ون } أي‪ :‬في اآلخرة فيحكم بينكم بحكمه العدل‪ ،‬ومن تمام ملكه‪ ،‬أنه ال‬ ‫ِ‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬وإِلَْيه تُْر َج ُع َ‬
‫يملك أحد من خلقه من األمر شيئا‪ ،‬وال يقدم على الشفاعة عنده أحد إال بإذنه‪.‬‬
‫اعةَ } أي‪ :‬كل من دعي من دون اللّه‪ ،‬من األنبياء‬ ‫ون ِم ْن ُدونِ ِه َّ‬
‫الشفَ َ‬ ‫ين َي ْد ُع َ‬
‫{ وال يمِل ُ َِّ‬
‫ك الذ َ‬ ‫َ َْ‬
‫والمالئكة وغيرهم‪ ،‬ال يملكون الشفاعة‪ ،‬وال يشفعون إال بإذن اللّه‪ ،‬وال يشفعون إال لمن ارتضى‪،‬‬
‫ق } أي‪ :‬نطق بلسانه‪ ،‬مقرا بقلبه‪ ،‬عالما بما شهد به‪ ،‬ويشترط أن‬ ‫ولهذا قال‪ِ { :‬إال َم ْن َش ِه َد بِاْل َح ِّ‬
‫تكون شهادته بالحق‪ ،‬وهو الشهادة للّه تعالى بالوحدانية‪ ،‬ولرسله بالنبوة والرسالة‪ ،‬وصحة ما‬
‫جاءوا به‪ ،‬من أصول الدين وفروعه‪ ،‬وحقائقه وشرائعه‪ ،‬فهؤالء الذين تنفع فيهم شفاعة الشافعين‪،‬‬
‫وهؤالء الناجون من عذاب اللّه‪ ،‬الحائزون لثوابه‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪َ { :‬ولَئِ ْن َسأَْلتَهُ ْم َم ْن َخلَقهم لََيقُولُ َّن اللَّهُ } أي‪ :‬ولئن سألت المشركين عن توحيد‬
‫الربوبية‪ ،‬ومن هو الخالق‪ ،‬ألقروا أنه اللّه وحده ال شريك له‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬فكيف يصرفون عن عبادة اللّه واإلخالص له وحده؟!‬ ‫{ فَأََّنى ُي ْؤفَ ُك َ‬
‫فإقرارهم بتوحيد الربوبية‪ ،‬يلزمهم به اإلقرار بتوحيد األلوهية‪ ،‬وهو من أكبر األدلة على بطالن‬
‫الشرك‪.‬‬
‫َّاع ِة } أي‪:‬‬ ‫ِ‬
‫ون } هذا معطوف على قوله‪َ { :‬و ِع ْن َدهُ عْل ُم الس َ‬
‫ِ‬ ‫{ َو ِق ِيل ِه َيا َر ِّ‬
‫ب ِإ َّن َه ُؤالء قَ ْو ٌم ال ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫وعنده علم قيله‪ ،‬أي‪ :‬الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬شاكيا لربه تكذيب قومه‪ ،‬متحزنا على ذلك‪،‬‬
‫متحسرا على عدم إيمانهم‪ ،‬فاللّه تعالى عالم بهذه الحال‪ ،‬قادر على معاجلتهم بالعقوبة‪ ،‬ولكنه‬
‫اصفَ ْح َع ْنهُ ْم َو ُق ْل‬
‫تعالى حليم‪ ،‬يمهل العباد ويستأني بهم‪ ،‬لعلهم يتوبون ويرجعون‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَ ْ‬
‫الم } أي‪ :‬اصفح عنهم ما يأتيك من أذيتهم القولية والفعلية‪ ،‬واعف عنهم‪ ،‬وال يبدر منك لهم إال‬ ‫َس ٌ‬
‫السالم الذي يقابل به أولو األلباب والبصائر الجاهلين‪ ،‬كما قال تعالى عن عباده الصالحين‪ { :‬وإ ذا‬
‫خاطبهم الجاهلون } أي‪ :‬خطابا بمقتضى جهلهم { قالوا سالما } فامتثل صلى اللّه عليه وسلم‪،‬‬
‫ألمر ربه‪ ،‬وتلقى ما يصدر إليه من قومه وغيرهم من األذى‪ ،‬بالعفو والصفح‪ ،‬ولم يقابلهم عليه إال‬
‫باإلحسان إليهم والخطاب الجميل‪.‬‬
‫فصلوات اللّه وسالمه على من خصه اللّه بالخلق العظيم‪ ،‬الذي فضل به أهل األرض والسماء‪،‬‬
‫وارتفع به أعلى من كواكب الجوزاء‪.‬‬
‫ون } أي‪ِ :‬غ َّ‬
‫ب ذنوبهم‪ ،‬وعاقبة جرمهم‪.‬‬ ‫ف َي ْعلَ ُم َ‬
‫وقوله‪ { :‬فَ َس ْو َ‬
‫تم تفسير سورة الزخرف‬

‫( ‪)1/770‬‬
‫تفسير سورة الدخان‬
‫مكية‬

‫( ‪)1/771‬‬

‫ق ُك ُّل أ َْم ٍر‬‫ين (‪ِ )3‬فيهَا ُي ْف َر ُ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬


‫ين (‪ِ )2‬إَّنا أ َْن َزْلَناهُ في لَْيلَة ُمَب َار َكة ِإَّنا ُكَّنا ُم ْنذ ِر َ‬ ‫حم (‪ )1‬واْل ِكتَ ِ‬
‫اب اْل ُمبِ ِ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين (‪َ )5‬ر ْحمةً ِم ْن َرب َ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ٍِ‬
‫يم (‪َ )6‬ر ِّ‬
‫ب‬ ‫ِّك إَّنهُ ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ‬ ‫َ‬ ‫َحكيم (‪ )4‬أ َْم ًرا م ْن ع ْندَنا ِإَّنا ُكَّنا ُم ْرسل َ‬
‫ب آََبائِ ُك ُم‬ ‫ين (‪ )7‬اَل ِإلَهَ ِإاَّل ُه َو ُي ْحيِي َوُي ِم ُ‬
‫يت َرُّب ُك ْم َو َر ُّ‬ ‫ِ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ُمو ِقن َ‬‫ات واأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاو َ‬ ‫الس َ‬
‫ان ُمبِ ٍ‬ ‫اء بِ ُد َخ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ون (‪ )9‬فَ ْارتَِق ْ‬ ‫ين (‪َ )8‬ب ْل ُهم ِفي َش ٍّ‬
‫اس‬ ‫الن َ‬ ‫ين (‪َ )10‬ي ْغ َشى َّ‬ ‫َّم ُ‬
‫ب َي ْو َم تَأْتي الس َ‬ ‫ك َيْل َعُب َ‬ ‫ْ‬ ‫اأْل ََّوِل َ‬
‫ِّ‬
‫ون (‪ )12‬أََّنى لَهُ ُم الذ ْك َرى َوقَ ْد َج َ‬
‫اء ُه ْم‬ ‫اب ِإَّنا ُم ْؤ ِمُن َ‬‫ف َعَّنا اْل َع َذ َ‬ ‫يم (‪َ )11‬ربََّنا ا ْك ِش ْ‬ ‫َه َذا ع َذ ٌ ِ‬
‫اب أَل ٌ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫اشفُوا اْلع َذ ِ ِ‬ ‫ون (‪ِ )14‬إَّنا َك ِ‬ ‫ين (‪ )13‬ثَُّم تََولَّ ْوا َعْنهُ َوقَالُوا ُم َعلٌَّم َم ْجُن ٌ‬
‫ون (‬ ‫اب َقلياًل ِإَّن ُك ْم َعائ ُد َ‬ ‫َ‬ ‫َر ُسو ٌل ُمبِ ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪َ )15‬ي ْو َم َن ْب ِط ُ‬
‫اء ُه ْم َر ُسو ٌل‬ ‫ون (‪َ )16‬ولَقَ ْد فَتََّنا قَْبلَهُ ْم قَ ْو َم ف ْر َع ْو َن َو َج َ‬ ‫ط َشةَ اْل ُك ْب َرى ِإَّنا ُم ْنتَق ُم َ‬ ‫ش اْلَب ْ‬
‫اد اللَّ ِه ِإِّني لَ ُكم رسو ٌل أ ِ‬ ‫َن أ َُّدوا ِإلَ َّي ِعَب َ‬
‫ين (‪)18‬‬ ‫َم ٌ‬ ‫َْ ُ‬ ‫يم (‪ )17‬أ ْ‬ ‫َك ِر ٌ‬

‫ين * ِإَّنا أ َْن َزْلَناهُ ِفي لَْيلَ ٍة ُمَب َار َك ٍة ِإَّنا ُكَّنا‬
‫اب اْل ُمبِ ِ‬ ‫الر ِح ِيم حم * واْل ِكتَ ِ‬
‫َ‬ ‫{ ‪ { } 1-16‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫ك ِإَّنهُ ُه َو‬ ‫ين * َر ْح َمةً ِم ْن َرِّب َ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ٍِ‬
‫ق ُك ُّل أ َْم ٍر َحكيم * أ َْم ًرا م ْن عْندَنا ِإَّنا ُكَّنا ُم ْرسل َ‬ ‫ين * ِفيهَا ُي ْف َر ُ‬ ‫ِ‬
‫ُم ْنذ ِر َ‬
‫ين * ال ِإلَهَ ِإال ُه َو ُي ْحيِي َوُي ِم ُ‬
‫يت‬ ‫ِ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ُمو ِقن َ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ب الس َ‬ ‫يم * َر ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫السَّميعُ اْل َعل ُ‬
‫ان ُمبِ ٍ‬
‫اء بِ ُد َخ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ون * فَ ْارتَِق ْ‬ ‫ين * َب ْل ُهم ِفي َش ٍّ‬ ‫ب َآبائِ ُك ُم َّ‬
‫ين *‬ ‫َّم ُ‬
‫ب َي ْو َم تَأْتي الس َ‬ ‫ك َيْل َعُب َ‬ ‫ْ‬ ‫األوِل َ‬ ‫َرُّب ُك ْم َو َر ُّ‬
‫اء ُه ْم‬ ‫ِّ‬
‫ون * أََّنى لَهُ ُم الذ ْك َرى َوقَ ْد َج َ‬ ‫اب ِإَّنا ُم ْؤ ِمُن َ‬‫ف َعَّنا اْل َع َذ َ‬ ‫يم * َربََّنا ا ْك ِش ْ‬ ‫الناس َه َذا ع َذ ٌ ِ‬
‫اب أَل ٌ‬ ‫َ‬ ‫َي ْغ َشى َّ َ‬
‫ِ‬ ‫اشفُوا اْلع َذ ِ ِ‬ ‫ون * ِإَّنا َك ِ‬ ‫ين * ثَُّم تََولَّ ْوا َع ْنهُ َوقَالُوا ُم َعلٌَّم َم ْجُن ٌ‬
‫ون * َي ْو َم‬ ‫اب َقليال ِإَّن ُك ْم َعائ ُد َ‬ ‫َ‬ ‫َر ُسو ٌل ُمبِ ٌ‬
‫ِ‬ ‫َن ْب ِط ُ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ط َشةَ اْل ُك ْب َرى ِإَّنا ُم ْنتَق ُم َ‬‫ش اْلَب ْ‬
‫هذا قسم بالقرآن على القرآن‪ ،‬فأقسم بالكتاب المبين لكل ما يحتاج إلى بيانه أنه أنزله { ِفي لَْيلَ ٍة‬
‫ُمَب َار َك ٍة } أي‪ :‬كثيرة الخير والبركة وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر‪ ،‬فأنزل أفضل‬
‫الكالم بأفضل الليالي واأليام على أفضل األنام‪ ،‬بلغة العرب الكرام لينذر به قوما عمتهم الجهالة‬
‫وغلبت عليهم الشقاوة فيستضيئوا بنوره ويقتبسوا من هداه ويسيروا وراءه فيحصل لهم الخير‬
‫ين ِفيهَا } أي‪ :‬في تلك الليل الفاضلة التي نزل‬ ‫ِ‬
‫الدنيوي والخير األخروي ولهذا قال‪ِ { :‬إَّنا ُكَّنا ُم ْنذ ِر َ‬
‫ق ُك ُّل أ َْم ٍر َح ِك ٍيم } أي‪ :‬يفصل ويميز ويكتب كل أمر قدري وشرعي حكم اهلل به‪،‬‬ ‫فيها القرآن { ُي ْف َر ُ‬
‫وهذه الكتابة والفرقان‪ [ ،‬ص ‪ ] 772‬الذي يكون في ليلة القدر أحد (‪ )1‬الكتابات التي تكتب‬
‫وتميز فتطابق الكتاب األول الذي كتب اهلل به مقادير الخالئق وآجالهم وأرزاقهم وأعمالهم‬
‫وأحوالهم‪ ،‬ثم إن اهلل تعالى قد وكل مالئكة تكتب ما سيجري على العبد وهو في بطن أمه‪ ،‬ثم‬
‫وكلهم بعد وجوده إلى الدنيا وكل به كراما كاتبين يكتبون ويحفظون عليه أعماله‪ ،‬ثم إنه تعالى‬
‫يقدر في ليلة القدر ما يكون في السنة‪ ،‬وكل هذا من تمام علمه وكمال حكمته وإ تقان حفظه‬
‫واعتنائه تعالى بخلقه‪.‬‬
‫{ أ َْم ًرا ِم ْن ِعْن ِدَنا } أي‪ :‬هذا األمر الحكيم أمر صادر من عندنا‪.‬‬
‫ِِ‬
‫ين } للرسل ومنزلين للكتب والرسل تبلغ أوامر المرسل وتخبر بأقداره‪َ { ،‬ر ْح َمةً‬ ‫{ ِإَّنا ُكَّنا ُم ْرسل َ‬
‫ِّك } أي‪ :‬إن إرسال الرسل وإ نزال الكتب التي أفضلها القرآن رحمة من رب العباد بالعباد‪،‬‬ ‫ِم ْن َرب َ‬
‫فما رحم اهلل عباده برحمة أجل من هدايتهم بالكتب والرسل‪ ،‬وكل خير ينالونه في الدنيا واآلخرة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم } أي‪ :‬يسمع جميع األصوات ويعلم جميع األمور‬ ‫فإنه من أجل ذلك وسببه‪ { ،‬إَّنهُ ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ‬
‫الظاهرة والباطنة وقد علم تعالى ضرورة العباد إلى رسله وكتبه فرحمهم بذلك ومن عليهم فله‬
‫تعالى الحمد والمنة واإلحسان‪.‬‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما } أي‪ :‬خالق ذلك ومدبره والمتصرف فيه بما شاء‪ِ { .‬إ ْن‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ َر ِّ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ب الس َ‬
‫ِ‬
‫ين } أي‪ :‬عالمين بذلك علما مفيدا لليقين فاعلموا أن الرب للمخلوقات هو إلهها الحق‬ ‫ُك ْنتُ ْم ُمو ِقن َ‬
‫يت } أي‪ :‬هو المتصرف وحده‬ ‫ولهذا قال‪ { :‬ال ِإلَهَ ِإال ُه َو } أي‪ :‬ال معبود إال وجهه‪ُ { ،‬ي ْحيِي َوُي ِم ُ‬
‫باإلحياء واإلماتة وسيجمعكم بعد موتكم فيجزيكم بعملكم إن خيرا فخير وإ ن شرا فشر‪َ { ،‬رُّب ُك ْم‬
‫ين } أي‪ :‬رب األولين واآلخرين مربيهم بالنعم الدافع عنهم النقم‪.‬‬ ‫ب َآبائِ ُك ُم َّ‬
‫األوِل َ‬ ‫َو َر ُّ‬
‫فلما قرر تعالى ربوبيته وألوهيته بما يوجب العلم التام ويدفع الشك أخبر أن الكافرين مع هذا‬
‫ون } أي‪ :‬منغمرون في الشكوك والشبهات غافلون عما خلقوا له قد اشتغلوا‬ ‫ك َيْل َعُب َ‬ ‫البيان { ِفي َش ٍّ‬
‫باللعب الباطل‪ ،‬الذي ال يجدي عليهم إال الضرر‪.‬‬
‫ين َي ْغ َشى‬ ‫ان ُمبِ ٍ‬
‫اء بِ ُد َخ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫{ فَ ْارتَِق ْ‬
‫َّم ُ‬
‫ب } أي‪ :‬انتظر فيهم العذاب فإنه قد قرب وآن أوانه‪َ { ،‬ي ْو َم تَأْتي الس َ‬
‫الناس } أي‪ :‬يعمهم ذلك الدخان ويقال لهم‪َ { :‬ه َذا ع َذ ٌ ِ‬
‫يم }‬
‫اب أَل ٌ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬
‫واختلف المفسرون في المراد بهذا الدخان‪ ،‬فقيل‪ :‬إنه الدخان الذي يغشى الناس ويعمهم حين‬
‫تقرب النار من المجرمين في يوم القيامة وأن اهلل توعدهم بعذاب يوم القيامة وأمر نبيه أن ينتظر‬
‫بهم ذلك اليوم‪.‬‬
‫ويؤيد هذا المعنى أن هذه الطريقة هي طريقة القرآن في توعد الكفار والتأني بهم وترهيبهم بذلك‬
‫اليوم وعذابه وتسلية الرسول والمؤمنين باالنتظار بمن آذاهم‪.‬‬
‫اء ُه ْم َر ُسو ٌل ُمبِ ٌ‬ ‫ِّ‬
‫ين } وهذا يقال يوم‬ ‫ويؤيده أيضا أنه قال في هذه اآلية‪ { :‬أََّنى لَهُ ُم الذ ْك َرى َوقَ ْد َج َ‬
‫القيامة للكفار حين يطلبون الرجوع إلى الدنيا فيقال‪ :‬قد ذهب وقت الرجوع‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن المراد بذلك ما أصاب كفار قريش حين امتنعوا من اإليمان واستكبروا على الحق فدعا‬
‫عليهم النبي صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ { :‬اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف } فأرسل اهلل‬
‫عليهم الجوع العظيم حتى أكلوا الميتات والعظام وصاروا يرون الذي بين السماء واألرض كهيئة‬
‫الدخان وليس به‪ ،‬وذلك من شدة الجوع‪.‬‬
‫اء بِ ُد َخ ٍ‬
‫ان } أن ذلك بالنسبة إلى أبصارهم وما يشاهدون‬ ‫ِ‬
‫َّم ُ‬
‫فيكون ‪-‬على هذا‪ -‬قوله‪َ { :‬ي ْو َم تَأْتي الس َ‬
‫وليس بدخان حقيقة‪.‬‬
‫ولم يزالوا بهذه الحالة حتى استرحموا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وسألوه أن يدعو اهلل لهم أن‬
‫اب َقِليال ِإَّن ُك ْم‬ ‫يكشفه اهلل عنهم فدعا ربه فكشفه اهلل عنهم‪ ،‬وعلى هذا فيكون قوله‪ِ { :‬إَّنا َك ِ‬
‫اشفُوا اْل َع َذ ِ‬
‫ون } إخبار بأن اهلل سيصرفه عنكم وتوعد لهم أن يعودوا إلى االستكبار والتكذيب وإ خبار‬ ‫ِ‬
‫َعائ ُد َ‬
‫بوقوعه فوقع وأن اهلل سيعاقبهم بالبطشة الكبرى‪ ،‬قالوا‪ :‬وهي وقعة بدر وفي هذا القول نظر‬
‫ظاهر‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن المراد بذلك أن ذلك من أشراط الساعة وأنه يكون في آخر الزمان دخان يأخذ بأنفاس‬
‫الناس ويصيب المؤمنين منهم كهيئة الدخان‪ ،‬والقول هو األول‪ ،‬وفي اآلية احتمال أن المراد‬
‫ين } أن هذا كله يكون يوم القيامة ‪ [ .‬ص ‪] 773‬‬ ‫ان ُمبِ ٍ‬ ‫اء بِ ُد َخ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫بقوله‪ { :‬فَ ْارتَِق ْ‬
‫َّم ُ‬
‫ب َي ْو َم تَأْتي الس َ‬
‫ِ‬ ‫ون * َي ْو َم َن ْب ِط ُ‬ ‫ِ‬ ‫اشفُوا اْلع َذ ِ ِ‬ ‫وأن قوله تعالى { ِإَّنا َك ِ‬
‫ط َشةَ اْل ُك ْب َرى ِإَّنا ُم ْنتَق ُم َ‬
‫ون }‬ ‫ش اْلَب ْ‬ ‫اب َقليال ِإَّن ُك ْم َعائ ُد َ‬ ‫َ‬
‫أن هذا ما وقع لقريش كما تقدم وإ ذا نزلت هذه اآليات على هذين المعنيين لم تجد في اللفظ ما يمنع‬
‫من ذلك‬
‫بل تجدها مطابقة لهما أتم المطابقة وهذا الذي يظهر عندي ويترجح واهلل أعلم‬
‫{ ‪َ { } 17-33‬ولَقَ ْد فَتََّنا قَْبلَهُ ْم قَ ْو َم ِف ْر َع ْو َن } إلى آخر القصة‪.‬‬
‫(‪ )2‬لما ذكر تعالى تكذيب من كذب الرسول محمدا صلى اهلل عليه وسلم ذكر أن لهم سلفا من‬
‫المكذبين‪ ،‬فذكر قصتهم مع موسى وما أحل اهلل بهم ليرتدع هؤالء المكذبون عن ما هم عليه فقال‪:‬‬
‫{ َولَقَ ْد فَتََّنا قَْبلَهُ ْم قَ ْو َم ِف ْر َع ْو َن } أي‪ :‬ابتليناهم واختبرناهم بإرسال رسولنا موسى بن عمران إليهم‬
‫الرسول الكريم الذي فيه من الكرم ومكارم األخالق ما ليس في غيره‪.‬‬
‫اد اللَّ ِه } أي‪ :‬قال لفرعون وملئه‪ :‬أدوا إلي عباد اهلل‪ ،‬يعني بهم‪ :‬بني إسرائيل أي‪:‬‬ ‫َن أ َُّدوا ِإلَ َّي ِعَب َ‬ ‫{ أْ‬
‫أرسلوهم وأطلقوهم من عذابكم وسومكم إياهم سوء العذاب فإنهم عشيرتي وأفضل العالمين في‬
‫زمانهم‪.‬‬
‫ين } أي‪:‬‬ ‫وأنتم قد ظلمتموهم واستعبدتموهم بغير حق فأرسلوهم ليعبدوا ربهم‪ِ { ،‬إِّني لَ ُكم رسو ٌل أ ِ‬
‫َم ٌ‬ ‫َْ ُ‬
‫رسول من رب العالمين أمين على ما أرسلني به ال أكتمكم منه شيئا وال أزيد فيه وال أنقص وهذا‬
‫يوجب تمام االنقياد له‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين (أحد) ولعل الصواب (إحدى)‪.‬‬
‫(‪ )2‬في نسخة (ب) ذكر اآليات كاملة‪.‬‬

‫( ‪)1/771‬‬

‫ون (‪)20‬‬ ‫َن تَْر ُج ُم ِ‬ ‫ت بَِربِّي َو َرِّب ُك ْم أ ْ‬ ‫ين (‪َ )19‬وإِ ِّني ُع ْذ ُ‬ ‫ان ُمبِ ٍ‬ ‫طٍ‬ ‫َن اَل تَ ْعلُوا َعلَى اللَّ ِه ِإِّني آَتِي ُك ْم بِ ُسْل َ‬
‫َوأ ْ‬
‫َس ِر بِ ِعَب ِادي لَْياًل ِإَّن ُك ْم‬
‫ون (‪ )22‬فَأ ْ‬
‫ِ‬
‫َن َه ُؤاَل ء قَ ْو ٌم ُم ْج ِر ُم َ‬
‫ون (‪ )21‬فَ َد َعا َربَّهُ أ َّ‬ ‫َوإِ ْن لَ ْم تُ ْؤ ِمُنوا ِلي فَ ْ‬
‫اعتَ ِزلُ ِ‬
‫ون (‪)25‬‬ ‫ات َو ُعُي ٍ‬ ‫متَّبعون (‪ )23‬واتْر ِك اْلب ْحر ر ْهوا ِإَّنهم ج ْن ٌد م ْغرقُون (‪َ )24‬كم تَر ُكوا ِم ْن جَّن ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ َ ً ُْ ُ ُ َ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َُ َ‬
‫ين (‪ )28‬فَ َما‬ ‫َخ ِر َ‬ ‫اها قَ ْو ًما آ َ‬ ‫ك َوأ َْو َرثَْن َ‬‫ين (‪َ )27‬ك َذِل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وع َو َمقَام َك ِريم (‪َ )26‬وَن ْع َمة َك ُانوا فيهَا فَاك ِه َ‬
‫ٍ‬ ‫َو ُز ُر ٍ‬
‫ين‬‫اب اْل ُم ِه ِ‬ ‫يل ِم َن اْل َع َذ ِ‬‫َّيَنا َبنِي ِإ ْس َرائِ َ‬ ‫ين (‪َ )29‬ولَقَ ْد َنج ْ‬ ‫ظ ِر َ‬ ‫ض َو َما َك ُانوا ُم ْن َ‬ ‫اء َواأْل َْر ُ‬ ‫َّم ُ‬ ‫ِ‬
‫ت َعلَْيه ُم الس َ‬ ‫َب َك ْ‬
‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ين (‪َ )31‬ولَقَِد ْ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين (‪)32‬‬ ‫اه ْم َعلَى عْلم َعلَى اْل َعالَم َ‬ ‫اختَْرَن ُ‬ ‫ان َعالًيا م َن اْل ُم ْس ِر ِف َ‬ ‫(‪ )30‬م ْن ف ْر َع ْو َن ِإَّنهُ َك َ‬
‫ين (‪)33‬‬ ‫يه َباَل ٌء ُمبِ ٌ‬ ‫ات ما ِف ِ‬ ‫ِ‬ ‫وآَتَْيَن ُ ِ‬
‫اه ْم م َن اآْل ََي َ‬ ‫َ‬

‫ان ُمبِ ٍ‬
‫ين‬ ‫طٍ‬ ‫َن ال تَ ْعلُوا َعلَى اللَّ ِه } باالستكبار عن عبادته والعلو على عباد اهلل‪ِ { ،‬إِّني آتِي ُك ْم بِ ُسْل َ‬
‫{ َوأ ْ‬
‫} أي‪ :‬بحجة بينة ظاهرة وهو ما أتى به من المعجزات الباهرات واألدلة القاهرات‪ ،‬فكذبوه وهموا‬
‫ون } أي‪ :‬تقتلوني أشر‬ ‫ت بَِربِّي َو َرِّب ُك ْم أ ْ‬
‫َن تَْر ُج ُم ِ‬ ‫بقتله فلجأ باهلل من شرهم فقال‪َ { :‬وإِ ِّني ُع ْذ ُ‬
‫القتالت بالرجم بالحجارة‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬لكم ثالث مراتب‪ :‬اإليمان بي وهو مقصودي منكم فإن لم‬ ‫{ َوإِ ْن لَ ْم تُ ْؤ ِمُنوا ِلي فَ ْ‬
‫اعتَ ِزلُ ِ‬
‫تحصل منكم هذه المرتبة فاعتزلوني ال علي وال لي‪ ،‬فاكفوني شركم‪ .‬فلم تحصل منهم المرتبة‬
‫األولى وال الثانية بل لم يزالوا متمردين عاتين على اهلل محاربين لنبيه موسى عليه السالم غير‬
‫ِ‬
‫َن َه ُؤالء قَ ْو ٌم ُم ْج ِر ُم َ‬
‫ون } أي‪ :‬قد أجرموا جرما‬ ‫ممكنين له من قومه بني إسرائيل‪ { .‬فَ َد َعا َربَّهُ أ َّ‬
‫يوجب تعجيل العقوبة‪.‬‬
‫فأخبر عليه السالم بحالهم وهذا دعاء بالحال التي هي أبلغ من المقال‪ ،‬كما قال عن نفسه عليه‬
‫ت ِإلَ َّي ِم ْن َخ ْي ٍر فَِق ٌير } فأمره اهلل أن يسري بعباده ليال وأخبره أن‬
‫ب ِإِّني ِل َما أَنزْل َ‬
‫السالم { َر ِّ‬
‫فرعون وقومه سيتبعونه‪َ { .‬واتْ ُر ِك اْلَب ْح َر َر ْه ًوا } أي‪ :‬بحاله وذلك أنه لما سرى موسى ببني‬
‫إسرائيل كما أمره اهلل ثم تبعهم فرعون فأمر اهلل موسى أن يضرب البحر فضربه فصار اثنى‬
‫عشر طريقا وصار الماء من بين تلك الطرق كالجبال العظيمة فسلكه موسى وقومه‪.‬‬
‫فلما خرجوا منه أمره اهلل أن يتركه رهوا أي‪ :‬بحاله ليسلكه فرعون وجنوده { ِإَّنهُ ْم ُج ْن ٌد ُم ْغ َرقُ َ‬
‫ون }‬
‫فلما تكامل قوم موسى خارجين منه وقوم فرعون داخلين فيه أمره اهلل تعالى أن يلتطم عليهم‬
‫فغرقوا عن آخرهم وتركوا ما متعوا به من الحياة الدنيا وأورثه اهلل بني إسرائيل الذين كانوا‬
‫وع َو َمقَ ٍام َك ِر ٍيم * َوَن ْع َم ٍة َك ُانوا‬
‫ون * َو ُز ُر ٍ‬ ‫مستعبدين لهم ولهذا قال‪َ { :‬كم تَر ُكوا ِم ْن جَّن ٍ‬
‫ات َو ُعُي ٍ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫ين } وفي اآلية األخرى‬ ‫آخ ِر َ‬ ‫اها } أي هذه النعمة المذكورة { قَ ْو ًما َ‬ ‫ين * َك َذِل َ‬
‫ك َوأ َْو َرثَْن َ‬ ‫ِ‬
‫فيهَا فَاك ِه َ‬
‫ِ‬
‫اها َبنِي ِإ ْس َرائِي َل }‬‫ك َوأ َْو َرثَْن َ‬‫{ َك َذِل َ‬
‫ض } أي لما أتلفهم اهلل وأهلكهم لم تبك عليهم السماء واألرض أي‬
‫األر ُ‬
‫اء َو ْ‬
‫َّم ُ‬ ‫ِ‬
‫ت َعلَْيه ُم الس َ‬
‫{ فَ َما َب َك ْ‬
‫لم يحزن عليهم ولم يؤس على فراقهم بل كل استبشر بهالكهم وتلفهم حتى السماء واألرض ألنهم‬
‫ما خلفوا من آثارهم إال ما يسود وجوههم ويوجب عليهم اللعنة والمقت من العالمين‬
‫ين } أي ممهلين عن العقوبة بل اصطلمتهم في الحال ثم امتن تعالى على بني‬ ‫ظ ِر َ‬ ‫{ َو َما َك ُانوا ُم ْن َ‬
‫ين } الذي كانوا فيه { ِم ْن ِف ْر َع ْو َن } إذ‬ ‫َّيَنا َبنِي ِإ ْسرائِي َل ِم َن اْل َع َذ ِ‬
‫اب اْل ُم ِه ِ‬ ‫َ‬ ‫إسرائيل فقال { َولَقَ ْد َنج ْ‬
‫ان َع ِالًيا } أي مستكبرا في األرض بغير الحق { ِم َن‬ ‫يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم { ِإَّنهُ َك َ‬
‫ين } المتجاوزين لحدود اهلل المتجرئين على محارمه‬ ‫اْل ُم ْس ِر ِف َ‬
‫اه ْم } أي اصطفيناهم وانتقيناهم { َعلَى ِعْلٍم } منا بهم وباستحقاقهم لذلك الفضل‬ ‫{ َولَقَِد ْ‬
‫اختَْرَن ُ‬
‫ين } أي عالمي زمانهم ومن قبلهم وبعدهم حتى أتى اهلل بأمة محمد صلى اهلل عليه‬ ‫ِ‬
‫{ َعلَى اْل َعالَم َ‬
‫وسلم ففضلوا العالمين كلهم وجعلهم اهلل خير أمة أخرجت للناس وامتن عليهم بما لم يمتن به على‬
‫غيرهم‬
‫الء ُمبِ ٌ‬
‫ين }‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اآليات } الباهرة والمعجزات الظاهرة { َما فيه َب ٌ‬
‫اه ْم } أي بني إسرائيل { م َن َ‬
‫{ َوآتَْيَن ُ‬
‫أي [ ص ‪ ] 774‬إحسان كثير ظاهر منا عليهم وحجة عليهم على صحة ما جاءهم به نبيهم‬
‫موسى عليه السالم‬

‫( ‪)1/773‬‬

‫ين (‪ )35‬فَأْتُوا بِآََبائَِنا ِإ ْن ُك ْنتُ ْم‬ ‫ِ اَّل‬


‫ون (‪ِ )34‬إ ْن ه َي ِإ َم ْوتَتَُنا اأْل ُولَى َو َما َن ْح ُن بِ ُم ْن َش ِر َ‬
‫ِ‬
‫ِإ َّن َه ُؤاَل ء لََيقُولُ َ‬
‫ين (‪)37‬‬ ‫اه ْم ِإَّنهُ ْم َك ُانوا ُم ْج ِر ِم َ‬ ‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم أ ْ‬
‫َهلَ ْكَن ُ‬ ‫َهم َخ ْير أَم قَوم تُب ٍ َِّ‬
‫َّع َوالذ َ‬ ‫ين (‪ )36‬أ ُ ْ ٌ ْ ْ ُ‬
‫ِِ‬
‫صادق َ‬ ‫َ‬

‫ين * فَأْتُوا بِ َآبائَِنا‬ ‫ِ‬


‫ون * ِإ ْن ه َي ِإال َم ْوتَتَُنا األولَى َو َما َن ْح ُن بِ ُم ْن َش ِر َ‬
‫ِ‬
‫{ ‪ِ { } 34-37‬إ َّن َه ُؤالء لََيقُولُ َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫اه ْم ِإَّنهُ ْم َك ُانوا ُم ْج ِر ِم َ‬ ‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم أ ْ‬
‫َهلَ ْكَن ُ‬ ‫َهم َخ ْير أَم قَوم تُب ٍ َِّ‬
‫َّع َوالذ َ‬ ‫ين * أ ُ ْ ٌ ْ ْ ُ‬
‫ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬
‫الء } المكذبين يقولون مستبعدين للبعث والنشور‪ِ { :‬إ ْن ِه َي ِإال َم ْوتَتَُنا األولَى‬ ‫يخبر تعالى { ِإ َّن َهؤ ِ‬
‫ُ‬
‫ين } أي‪ :‬ما هي إال الحياة الدنيا فال بعث وال نشور وال جنة وال نار‪ .‬ثم قالوا‬ ‫َو َما َن ْح ُن بِ ُم ْن َش ِر َ‬
‫ين } وهذا من اقتراح الجهلة‬ ‫‪-‬متجرئين على ربهم معجزين له‪ { :-‬فَأْتُوا بِآبائَِنا ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫المعاندين في مكان سحيق‪ ،‬فأي مالزمة بين صدق الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأنه متوقف‬
‫على اإلتيان بآبائهم؟ فإن اآليات قد قامت على صدق ما جاءهم به وتواترت تواترا عظيما من كل‬
‫وجه‪.‬‬
‫اه ْم ِإَّنهُ ْم َك ُانوا‬ ‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم أ ْ‬
‫َهلَ ْكَن ُ‬ ‫َهم َخ ْير } أي‪ :‬هؤالء المخاطبون { أَم قَوم تُب ٍ َِّ‬
‫َّع َوالذ َ‬ ‫ْ ُْ‬ ‫قال تعالى‪ { :‬أ ُ ْ ٌ‬
‫ين } فإنهم ليسوا خيرا منهم وقد اشتركوا في اإلجرام فليتوقعوا من الهالك ما أصاب‬ ‫ُم ْج ِر ِم َ‬
‫إخوانهم المجرمين‪.‬‬

‫( ‪)1/774‬‬

‫ق َولَ ِك َّن أَ ْكثََر ُه ْم اَل‬


‫اه َما ِإاَّل بِاْل َح ِّ‬ ‫ِ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما اَل عبِ َ‬
‫ين (‪َ )38‬ما َخلَ ْقَن ُ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاوات َواأْل َْر َ‬
‫َو َما َخلَ ْقَنا الس َ‬
‫ون (‪)39‬‬ ‫َي ْعلَ ُم َ‬

‫ق َولَ ِك َّن‬
‫اه َما ِإال بِاْل َح ِّ‬ ‫ِ‬
‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما العبِ َ‬
‫ين * َما َخلَ ْقَن ُ‬ ‫األر َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫{ ‪َ { } 38-42‬و َما َخلَ ْقَنا الس َ‬
‫ون * } ‪.‬‬ ‫أَ ْكثََر ُه ْم ال َي ْعلَ ُم َ‬
‫يخبر تعالى عن كمال قدرته وتمام حكمته وأنه ما خلق السماوات واألرض لعبا وال لهوا أو سدى‬
‫من غير فائدة وأنه ما خلقهما إال بالحق أي‪ :‬نفس خلقهما بالحق وخلقهما مشتمل على الحق‪ ،‬وأنه‬
‫أوجدهما ليعبدوه وحده ال شريك له وليأمر العباد وينهاهم ويثيبهم ويعاقبهم‪َ { .‬ولَ ِك َّن أَ ْكثََر ُه ْم ال‬
‫ون } فلذلك لم يتفكروا في خلق السماوات واألرض‪.‬‬ ‫َي ْعلَ ُم َ‬

‫( ‪)1/774‬‬

‫ون (‪)41‬‬ ‫ِ‬ ‫ِإ َّن يوم اْلفَص ِل ِميقَاتُهم أ ْ ِ‬


‫ص ُر َ‬
‫ين (‪َ )40‬ي ْو َم اَل ُي ْغني َم ْولًى َع ْن َم ْولًى َش ْيًئا َواَل ُه ْم ُي ْن َ‬‫َج َمع َ‬ ‫ُْ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َ‬
‫يم (‪)42‬‬ ‫ِإاَّل م ْن ر ِحم اللَّه ِإَّنه ُهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫َ َ َ ُ ُ َ َ‬

‫ون * ِإال َم ْن‬ ‫ِ‬ ‫{ ِإ َّن يوم اْلفَص ِل ِميقَاتُهم أ ْ ِ‬


‫ص ُر َ‬
‫ين * َي ْو َم ال ُي ْغني َم ْولًى َع ْن َم ْولًى َش ْيًئا َوال ُه ْم ُي ْن َ‬
‫َج َمع َ‬ ‫ُْ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫ر ِحم اللَّه ِإَّنه ُهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫َ َ ُ ُ َ َ‬
‫ص ِل } وهو يوم القيامة الذي يفصل اهلل به بين األولين واآلخرين وبين كل مختلفين‬ ‫{ ِإ َّن َي ْو َم اْلفَ ْ‬
‫ين }‬ ‫{ ِميقَاتُهم } أي‪ :‬الخالئق { أ ْ ِ‬
‫َج َمع َ‬ ‫ُْ‬
‫كلهم سيجمعهم اهلل فيه ويحضرهم ويحضر أعمالهم ويكون الجزاء عليها وال ينفع مولى عن‬
‫ون } أي‪ :‬يمنعون من‬ ‫ص ُر َ‬
‫مولى شيئا ال قريب عن قريبه وال صديق عن صديقه‪َ { ،‬وال ُه ْم ُي ْن َ‬
‫عذاب اهلل عز وجل ألن أحدا من الخلق ال يملك من األمر شيئا‪.‬‬
‫يم } فإنه هو الذي ينتفع ويرتفع برحمة اهلل تعالى التي‬ ‫{ ِإال م ْن ر ِحم اللَّه ِإَّنه ُهو اْلع ِز ُيز َّ ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫َ َ َ ُ ُ َ َ‬
‫تسبب إليها وسعى لها سعيها في الدنيا‪ .‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫( ‪)1/774‬‬

‫ون (‪َ )45‬ك َغْل ِي اْل َح ِم ِيم (‪)46‬‬ ‫ام اأْل َثِ ِيم (‪َ )44‬كاْل ُم ْه ِل َي ْغِلي ِفي اْلُبطُ ِ‬ ‫ط َع ُ‬
‫وم (‪َ )43‬‬ ‫الزقُّ ِ‬
‫ِإ َّن َش َج َرةَ َّ‬
‫ت‬ ‫اب اْل َح ِم ِيم (‪ُ )48‬ذ ْق ِإَّن َ‬
‫ك أ َْن َ‬ ‫ْس ِه ِم ْن َع َذ ِ‬
‫ق رأ ِ‬
‫صبُّوا فَ ْو َ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫اعتلُوهُ ِإلَى َس َواء اْل َجحيم (‪ )47‬ثَُّم ُ‬
‫ُخ ُذوه فَ ْ ِ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫ون (‪)50‬‬ ‫يم (‪ِ )49‬إ َّن َه َذا َما ُك ْنتُ ْم بِه تَ ْمتَُر َ‬ ‫اْل َع ِز ُيز اْل َك ِر ُ‬

‫ون * َك َغْل ِي اْل َح ِم ِيم *‬ ‫ام األثِ ِيم * َكاْل ُم ْه ِل َي ْغِلي ِفي اْلُبطُ ِ‬‫ط َع ُ‬
‫الزقُّ ِ‬
‫وم * َ‬ ‫{ ‪ِ { } 43-50‬إ َّن َش َج َرةَ َّ‬
‫ت اْل َع ِز ُيز‬ ‫اب اْل َح ِم ِيم * ُذ ْق ِإَّن َ‬
‫ك أ َْن َ‬ ‫ْس ِه ِم ْن َع َذ ِ‬
‫ق رأ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫اعتلُوهُ ِإلَى َس َواء اْل َجحيم * ثَُّم ُ‬
‫صبُّوا فَ ْو َ َ‬
‫ُخ ُذوه فَ ْ ِ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬‫يم * ِإ َّن َه َذا َما ُك ْنتُ ْم بِه تَ ْمتَُر َ‬‫اْل َك ِر ُ‬
‫لما ذكر يوم القيامة وأنه يفصل بين عباده فيه ذكر افتراقهم إلى فريقين‪ :‬فريق في الجنة‪ ،‬وفريق‬
‫وم } شر األشجار‬ ‫الزقُّ ِ‬
‫في السعير وهم‪ :‬اآلثمون بعمل الكفر والمعاصي وأن طعامهم { َش َج َرةَ َّ‬
‫وأفظعها وأن طعمها { َكاْل ُم ْه ِل } أي‪ :‬كالصديد المنتن خبيث الريح والطعم شديد الحرارة يغلي في‬
‫ت‬ ‫ك أ َْن َ‬ ‫بطونهم { َك َغْل ِي اْل َح ِم ِيم } ويقال للمعذب‪ُ { :‬ذ ْق } هذا العذاب األليم والعقاب الوخيم { ِإَّن َ‬
‫يم } أي‪ :‬بزعمك أنك عزيز ستمتنع من عذاب اهلل وأنك كريم على اهلل ال يصيبك‬ ‫اْل َع ِز ُيز اْل َك ِر ُ‬
‫بعذاب‪ ،‬فاليوم تبين لك أنك أنت الذليل المهان الخسيس‪ِ { .‬إ َّن َه َذا } العذاب العظيم { َما ُك ْنتُ ْم بِ ِه‬
‫ون } أي‪ :‬تشكون فاآلن صار عندكم حق اليقين‪.‬‬ ‫تَ ْمتَُر َ‬

‫( ‪)1/774‬‬

‫ِ‬ ‫ون (‪ )52‬يْلبس ِ‬ ‫ين (‪ِ )51‬في جَّن ٍ‬ ‫ِإ َّن اْلمتَِّقين ِفي مقَ ٍام أ ِ‬
‫ق ُمتَقَابِل َ‬
‫ين (‬ ‫س وإِ ْستَْب َر ٍ‬‫ٍ‬
‫ون م ْن ُس ْن ُد َ‬ ‫ََُ َ‬ ‫ات َو ُعُي ٍ‬ ‫َ‬ ‫َم ٍ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫ون ِفيهَا‬‫ين (‪ )55‬اَل َي ُذوقُ َ‬
‫ِ ٍ ِِ‬
‫ون فيهَا بِ ُك ِّل فَاكهَة آَمن َ‬
‫ين (‪ )54‬ي ْدع ِ‬
‫َ ُ َ‬ ‫ور ِع ٍ‬ ‫اه ْم بِ ُح ٍ‬ ‫‪َ )53‬ك َذِل َ‬
‫ك َو َز َّو ْجَن ُ‬
‫ِ‬ ‫ك َذِل َ‬‫ضاًل ِم ْن َرِّب َ‬
‫اب اْل َج ِح ِيم (‪ )56‬فَ ْ‬
‫يم (‪)57‬‬‫ك ُه َو اْلفَ ْو ُز اْل َعظ ُ‬ ‫ت ِإاَّل اْل َم ْوتَةَ اأْل ُولَى َو َوقَ ُ‬
‫اه ْم َع َذ َ‬ ‫اْل َم ْو َ‬
‫ِ‬ ‫ون (‪ )58‬فَ ْارتَِق ْ‬ ‫فَِإَّنما يسَّرَناه بِِلسانِ َ َّ‬
‫ون (‪)59‬‬ ‫ب ِإَّنهُ ْم ُم ْرتَقُب َ‬ ‫ك لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ‬ ‫َ َ ْ ُ َ‬
‫س وإِ ْستَْب َر ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ون * يْلبس ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َم ٍ ِ‬ ‫{ ‪ِ { } 51-59‬إ َّن اْلمتَِّقين ِفي مقَ ٍام أ ِ‬
‫ق‬ ‫ين * في َجَّنات َو ُعُي ٍ َ َ ُ َ‬
‫ون م ْن ُس ْن ُد َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫ون ِفيهَا اْل َم ْو َ‬
‫ت‬ ‫ين * ال َي ُذوقُ َ‬
‫ِ ٍ ِِ‬
‫ون فيهَا بِ ُك ِّل فَاكهَة آمن َ‬
‫ين * ي ْدع ِ‬
‫ور ع ٍ َ ُ َ‬
‫اهم بِح ٍ ِ‬
‫ك َو َز َّو ْجَن ُ ْ ُ‬ ‫ين * َك َذِل َ‬ ‫ِ‬
‫ُمتَقَابِل َ‬
‫ِ‬ ‫ِّك َذِل َ‬
‫ضال ِم ْن َرب َ‬‫اب اْل َج ِح ِيم * فَ ْ‬
‫يم * فَِإَّن َما َيس َّْرَناهُ‬
‫ك ُه َو اْلفَ ْو ُز اْل َعظ ُ‬ ‫ِإال اْل َم ْوتَةَ األولَى َو َوقَ ُ‬
‫اه ْم َع َذ َ‬
‫ِ‬ ‫ون * فَ ْارتَِق ْ‬ ‫بِِلسانِ َ َّ‬
‫ون } ‪.‬‬‫ب ِإَّنهُ ْم ُم ْرتَقُب َ‬ ‫ك لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ‬ ‫َ‬
‫هذا جزاء المتقين هلل الذين اتقوا سخطه وعذابه بتركهم المعاصي وفعلهم الطاعات‪ ،‬فلما انتفى‬
‫السخط عنهم والعذاب ثبت لهم الرضا من اهلل والثواب العظيم في ظل ظليل من كثرة األشجار‬
‫والفواكه وعيون سارحة تجري من تحتهم األنهار يفجرونها تفجيرا في جنات النعيم‪.‬‬
‫فأضاف الجنات إلى النعيم ألن كل ما اشتملت عليه كله نعيم وسرور‪ ،‬كامل من كل وجه ما فيه‬
‫منغص وال مكدر بوجه من الوجوه‪.‬‬
‫ولباسهم من الحرير األخضر من السندس واإلستبرق أي‪ :‬غليظ الحرير ورقيقه مما تشتهيه‬
‫ِ‬
‫ين } في قلوبهم ووجوههم في كمال الراحة والطمأنينة والمحبة والعشرة الحسنة‬ ‫أنفسهم‪ُ { .‬متَقَابِل َ‬
‫واآلداب المستحسنة‪.‬‬
‫ور عين } أي‪ :‬نساء جميالت من جمالهن‬ ‫اه ْم بِ ُح ٍ‬
‫ك } النعيم التام والسرور الكامل { َو َز َّو ْجَن ُ‬ ‫{ َك َذِل َ‬
‫وحسنهن أنه [ ص ‪ ] 775‬يحار الطرف في حسنهن وينبهر العقل بجمالهن وينخلب اللب‬
‫عين } أي‪ :‬ضخام األعين حسانها‪.‬‬ ‫لكمالهن { ٍ‬
‫اكهَ ٍة } مما له اسم في الدنيا ومما ال يوجد له اسم وال نظير في‬ ‫{ ي ْدعون ِفيها } أي‪ :‬الجنة { بِ ُك ِّل فَ ِ‬
‫َ ُ َ َ‬
‫الدنيا‪ ،‬فمهما طلبوه من أنواع الفاكهة وأجناسها أحضر لهم في الحال من غير تعب وال كلفة‪،‬‬
‫ين } من انقطاع ذلك وآمنين من مضرته وآمنين من كل مكدر‪ ،‬وآمنين من الخروج منها‬ ‫ِِ‬
‫{ آمن َ‬
‫ون ِفيهَا اْل َم ْو َ‬
‫ت ِإال اْل َم ْوتَةَ األولَى } أي‪ :‬ليس فيها موت بالكلية‪ ،‬ولو‬ ‫والموت ولهذا قال‪ { :‬ال َي ُذوقُ َ‬
‫كان فيها موت يستثنى لم يستثن الموتة األولى التي هي الموتة في الدنيا فتم لهم كل محبوب‬
‫ك } أي‪ :‬حصول النعيم واندفاع العذاب عنهم من‬ ‫ضال ِم ْن َرِّب َ‬ ‫اب اْل َج ِح ِيم فَ ْ‬
‫اه ْم َع َذ َ‬
‫مطلوب‪َ { ،‬و َوقَ ُ‬
‫فضل اهلل عليهم وكرمه فإنه تعالى هو الذي وفقهم لألعمال الصالحة التي بها نالوا خير اآلخرة‬
‫يم } وأي فوز أعظم من نيل رضوان‬ ‫ِ‬ ‫وأعطاهم أيضا ما لم تبلغه أعمالهم‪َ { ،‬ذِل َ‬
‫ك ُه َو اْلفَ ْو ُز اْل َعظ ُ‬
‫اهلل وجنته والسالمة من عذابه وسخطه؟‬
‫ك } أي‪ :‬سهلناه بلسانك الذي هو أفصح األلسنة على اإلطالق‬ ‫{ فَِإَّن َما َيس َّْرَناهُ } أي‪ :‬القرآن { بِِل َسانِ َ‬
‫َّ‬
‫ون } ما فيه نفعهم فيفعلونه وما فيه ضررهم‬ ‫وأجلها فتيسر به لفظه وتيسر معناه‪ { .‬لَ َعلهُ ْم َيتَ َذ َّك ُر َ‬
‫فيتركونه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫{ فَ ْارتَِق ْ‬
‫ب } أي‪ :‬انتظر ما وعدك ربك من الخير والنصر { ِإَّنهُ ْم ُم ْرتَقُب َ‬
‫ون } ما يحل بهم من‬
‫العذاب وفرق بين االرتقابين‪ :‬رسول اهلل وأتباعه يرتقبون الخير في الدينا واآلخرة‪ ،‬وضدهم‬
‫يرتقبون الشر في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫تم تفسير سورة الدخان‪ ،‬وهلل الحمد والمنة‬

‫( ‪)1/774‬‬

‫تفسير سورة الجاثية‬


‫مكية‬

‫( ‪)1/775‬‬

‫ٍ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫اب ِم َن اللَّ ِه اْل َع ِز ِ‬ ‫حم (‪ )1‬تَْن ِزي ُل اْل ِكتَ ِ‬
‫ين (‪)3‬‬ ‫ض آَل ََيات لْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬
‫َّم َاو َ‬ ‫يز اْل َحكيم (‪ )2‬إ َّن في الس َ‬
‫النهَ ِار َو َما أ َْن َز َل اللَّهُ ِم َن‬
‫ف اللَّْي ِل َو َّ‬
‫اختِاَل ِ‬ ‫ون (‪َ )4‬و ْ‬ ‫َّة آَي ٌ ِ‬
‫ات لقَ ْوٍم ُيو ِقُن َ‬
‫ٍ‬
‫ث م ْن َداب َ‬
‫و ِفي َخْل ِق ُكم وما يب ُّ ِ‬
‫ْ َ َ َُ‬ ‫َ‬
‫ات‬
‫ك آََي ُ‬ ‫ون (‪ )5‬تِْل َ‬ ‫ِ‬ ‫اح آَي ٌ ِ‬
‫ات لقَ ْوٍم َي ْعقلُ َ‬ ‫الرَي ِ َ‬‫يف ِّ‬ ‫َحيا بِ ِه اأْل َرض بع َد موتِها وتَص ِر ِ‬
‫ْ َ َ ْ َْ َ َ ْ‬ ‫ق فَأ ْ َ‬ ‫اء ِم ْن ِر ْز ٍ‬ ‫السَّم ِ‬
‫َ‬
‫ِ ِّ َّ ٍ ِ ٍ‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ق فَبِأ ِّ ِ ٍ‬ ‫اللَّ ِه َن ْتلُ َ‬
‫ون (‪َ )6‬وْي ٌل ل ُكل أَفاك أَثيم (‪َ )7‬ي ْس َمعُ‬ ‫َي َحديث َب ْع َد الله َوآََياته ُي ْؤ ِمُن َ‬ ‫ك بِاْل َح ِّ‬ ‫وها َعلَْي َ‬
‫اب أَِل ٍيم (‪َ )8‬وإِ َذا َعِل َم ِم ْن آََياتَِنا‬‫َن لَم َي ْسم ْعها فََب ِّش ْرهُ بِ َع َذ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آََيات الله تُْتلَى َعلَْيه ثَُّم ُيص ُّر ُم ْستَ ْكبًِرا َكأ ْ ْ َ َ‬
‫ِ َّ ِ‬

‫ين (‪ِ )9‬م ْن َو َرائِ ِه ْم َجهََّن ُم َواَل ُي ْغنِي َعْنهُ ْم َما َك َسُبوا َش ْيًئا َواَل‬ ‫اب ُم ِه ٌ‬‫ك لَهُ ْم َع َذ ٌ‬ ‫َش ْيًئا اتَّ َخ َذ َها ُه ُز ًوا أُولَئِ َ‬
‫اب ع ِظيم (‪َ )10‬ه َذا ُه ًدى والَِّذين َكفَروا بِآَي ِ‬
‫ات َرِّب ِه ْم لَهُ ْم‬ ‫ما اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫اء َولَهُ ْم َع َذ ٌ َ ٌ‬ ‫ون الله أ َْوِلَي َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ع َذ ٌ ِ‬
‫يم (‪)11‬‬ ‫اب م ْن ِر ْج ٍز أَل ٌ‬ ‫َ‬

‫يز اْل َح ِك ِيم * ِإ َّن ِفي‬ ‫اب ِم َن اللَّ ِه اْل َع ِز ِ‬ ‫الر ِح ِيم حم * تَْن ِزي ُل اْل ِكتَ ِ‬ ‫الر ْح َم ِن َّ‬ ‫{ ‪ { } 1-11‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫َّة آي ٌ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ات ِلْلمؤ ِمنِين * و ِفي َخْل ِق ُكم وما يب ُّ ِ‬ ‫ض آلي ٍ‬ ‫ِ‬
‫ون *‬ ‫ات لقَ ْوٍم ُيو ِقُن َ‬ ‫ث م ْن َداب َ‬ ‫ْ َ َ َُ‬ ‫ُْ َ َ‬ ‫األر ِ َ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫الس َ‬
‫َحيا بِ ِه األرض بع َد موتِها وتَص ِر ِ‬ ‫اء ِم ْن ِر ْز ٍ‬ ‫النه ِار وما أ َْن َز َل اللَّه ِمن السَّم ِ‬ ‫و ْ ِ ِ َّ ِ‬
‫يف‬ ‫ْ َ َ ْ َْ َ َ ْ‬ ‫ق فَأ ْ َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫اختالف اللْيل َو َّ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ق فَبِأ ِّ ِ ٍ‬ ‫ات اللَّ ِه َن ْتلُ َ‬ ‫ون * تِْل َ‬ ‫ِ‬ ‫اح آي ٌ ِ‬
‫َي َحديث َب ْع َد الله َو َآياته ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ون‬ ‫ك بِاْل َح ِّ‬
‫وها َعلَْي َ‬ ‫ك َآي ُ‬ ‫ات لقَ ْوٍم َي ْعقلُ َ‬ ‫الرَي ِ َ‬ ‫ِّ‬
‫َن لَم َي ْسم ْعها فََب ِّش ْرهُ بِ َع َذ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ ِّ َّ ٍ ِ ٍ‬
‫اب‬ ‫* َوْي ٌل ل ُكل أَفاك أَثيم * َي ْس َمعُ َآيات الله تُْتلَى َعلَْيه ثَُّم ُيص ُّر ُم ْستَ ْكبًِرا َكأ ْ ْ َ َ‬
‫ين * ِم ْن َو َرائِ ِه ْم َجهََّن ُم َوال ُي ْغنِي‬ ‫اب ُم ِه ٌ‬ ‫ك لَهُ ْم َع َذ ٌ‬ ‫أَِل ٍيم * َوإِ َذا َعِل َم ِم ْن َآياتَِنا َش ْيًئا اتَّ َخ َذ َها ُه ُز ًوا أُولَئِ َ‬
‫ين‬ ‫َِّ‬ ‫ون اللَّ ِه أَوِلياء ولَهم ع َذ ٌ ِ‬ ‫َعْنهُ ْم َما َك َسُبوا َش ْيًئا َوال َما اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ‬
‫يم * َه َذا ُه ًدى َوالذ َ‬ ‫اب َعظ ٌ‬ ‫ْ َ َ َ ُْ َ‬
‫ِ‬ ‫ات رِّب ِهم لَهم ع َذ ٌ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم } ‪.‬‬‫اب م ْن ِر ْج ٍز أَل ٌ‬ ‫َكفَ ُروا بِ َآي َ ْ ُ ْ َ‬
‫يخبر تعالى خبرا يتضمن األمر بتعظيم القرآن واالعتناء به وأنه { تَنزي ُل } { ِم َن اللَّ ِه } المألوه‬
‫المعبود لما اتصف به من صفات الكمال وانفرد به من النعم الذي له العزة الكاملة والحكمة التامة‪.‬‬
‫ثم أيد ذلك بما ذكره من اآليات األفقية والنفسية من خلق السماوات واألرض وما بث فيهما من‬
‫الدواب وما أودع فيهما من المنافع وما أنزل اهلل من الماء الذي يحيي به اهلل البالد والعباد‪.‬‬
‫فهذه كلها آيات بينات وأدلة واضحات على صدق هذا القرآن العظيم وصحة ما اشتمل عليه من‬
‫الحكم واألحكام‪ ،‬وداالت أيضا على ما هلل تعالى من الكمال وعلى البعث والنشور‪.‬‬
‫ثم قسم تعالى الناس بالنسبة إلى االنتفاع بآياته وعدمه إلى قسمين‪:‬‬
‫قسم يستدلون بها ويتفكرون بها وينتفعون فيرتفعون وهم المؤمنون باهلل ومالئكته وكتبه ورسله‬
‫واليوم اآلخر إيمانا تاما وصل بهم إلى درجة اليقين‪ ،‬فزكى منهم العقول وازدادت به معارفهم‬
‫وألبابهم وعلومهم‪.‬‬
‫وقسم يسمع آيات اهلل سماعا تقوم به الحجة عليه ثم يعرض عنها ويستكبر‪ ،‬كأنه ما سمعها ألنها لم‬
‫تزك قلبه وال طهرته بل بسبب استكباره عنها ازداد طغيانه‪.‬‬
‫وأنه إذا علم من آيات اهلل شيئا اتخذها هزوا فتوعده اهلل تعالى بالويل فقال‪:‬‬
‫اك أَثِ ٍيم } أي‪ :‬كذاب في مقاله أثيم في فعاله‪.‬‬‫{ وْي ٌل ِل ُك ِّل أَفَّ ٍ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وأخبر أن له عذابا أليما وأن { م ْن َو َرائ ِه ْم َجهََّن ُم } تكفي في عقوبتهم البليغة‪.‬‬
‫وأنه { ال ي ْغنِي ع ْنهم ما َكسبوا } من األموال { وال ما اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون الله أ َْوِلَي َ‬
‫اء } يستنصرون‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُْ َ َ ُ‬ ‫ُ‬
‫بهم فخذلوهم أحوج ما كانوا إليهم لو نفعوا‪.‬‬
‫فلما بين آياته القرآنية والعيانية وأن الناس فيها على قسمين أخبر أن القرآن المشتمل على هذه‬
‫المطالب العالية أنه هدى فقال‪َ { :‬ه َذا ُه ًدى } وهذا وصف عام لجميع القرآن فإنه يهدي إلى‬
‫معرفة اهلل تعالى بصفاته المقدسة وأفعاله الحميدة‪ ،‬ويهدي إلى معرفة رسله وأوليائه وأعدائه‪،‬‬
‫وأوصافهم‪ ،‬ويهدي إلى األعمال الصالحة ويدعو إليها ويبين األعمال السيئة وينهى عنها‪ ،‬ويهدي‬
‫إلى بيان الجزاء على األعمال ويبين الجزاء الدنيوي واألخروي‪ ،‬فالمهتدون اهتدوا به فأفلحوا‬
‫وسعدوا‪ [ ،‬ص ‪ { ] 776‬والَِّذين َكفَروا بِآي ِ‬
‫ات َرِّب ِه ْم } الواضحة القاطعة التي ال يكفر بها إال من‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫اشتد ظلمه وتضاعف طغيانه‪ { ،‬لَهم ع َذ ٌ ِ‬
‫اب م ْن ِر ْج ٍز أَل ٌ‬
‫يم }‬ ‫ُْ َ‬

‫( ‪)1/775‬‬

‫ون (‪)12‬‬ ‫يه بِأَم ِر ِه وِلتَْبتَ ُغوا ِم ْن فَ ْ ِ ِ َّ‬


‫اللَّه الَِّذي س َّخر لَ ُكم اْلب ْحر ِلتَ ْج ِري اْل ُفْل ُ ِ ِ‬
‫ضله َولَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ‬ ‫كف ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ َ َ‬ ‫ُ‬
‫ٍ ِ‬ ‫يعا ِم ْنهُ ِإ َّن ِفي َذِل َ‬ ‫ات وما ِفي اأْل َر ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك آَل ََيات لقَ ْوٍم َيتَفَ َّك ُر َ‬
‫ون (‪)13‬‬ ‫ض َجم ً‬ ‫ْ‬ ‫َّم َاو َ َ‬ ‫َو َس َّخ َر لَ ُك ْم َما في الس َ‬
‫ضِل ِه َولَ َعلَّ ُك ْم‬
‫يه بِأ َْم ِر ِه َوِلتَْبتَ ُغوا ِم ْن فَ ْ‬
‫ك ِف ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َِّ‬
‫{ ‪ { } 12-13‬اللهُ الذي َس َّخ َر لَ ُك ُم اْلَب ْح َر لتَ ْج ِر َ‬
‫ي اْل ُفْل ُ‬
‫ات ِلقَ ْوٍم‬ ‫ك آلي ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫يعا م ْنهُ ِإ َّن في َذل َ َ‬
‫ض ج ِم ِ‬
‫األر ِ َ ً‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َو َما في ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون * َو َس َّخ َر لَ ُك ْم َما في الس َ‬ ‫تَ ْش ُك ُر َ‬
‫َيتَفَ َّك ُر َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫يخبر تعالى بفضله على عباده وإ حسانه إليهم بتسخير البحر لسير المراكب والسفن بأمره‬
‫ون } اهلل تعالى فإنكم‬ ‫َّ‬ ‫وتيسيره‪ِ { ،‬لتَْبتَ ُغوا ِم ْن فَ ْ ِ ِ‬
‫ضله } بأنواع التجارات والمكاسب‪َ { ،‬ولَ َعل ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ‬
‫إذا شكرتموه زادكم من نعمه وأثابكم على شكركم أجرا جزيال‪.‬‬
‫يعا ِم ْنهُ } أي‪ :‬من فضله وإ حسانه‪ ،‬وهذا شامل‬ ‫ات وما ِفي األر ِ ِ‬
‫ض َجم ً‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َو َس َّخ َر لَ ُك ْم َما في الس َ‬
‫َّم َاو َ َ‬
‫ألجرام السماوات واألرض ولما أودع اهلل فيهما من الشمس والقمر والكواكب والثوابت‬
‫والسيارات وأنواع الحيوانات وأصناف األشجار والثمرات وأجناس المعادن وغير ذلك مما هو‬
‫معد لمصالح بني آدم ومصالح ما هو من ضروراته‪ ،‬فهذا يوجب عليهم أن يبذلوا غاية جهدهم في‬
‫ات ِلقَ ْوٍم‬
‫ك آلي ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫شكر نعمته وأن تتغلغل أفكارهم في تدبر آياته وحكمه ولهذا قال‪ِ { :‬إ َّن في َذل َ َ‬
‫ون } وجملة ذلك أن خلقها وتدبيرها وتسخيرها دال على نفوذ مشيئة اهلل وكمال قدرته‪ ،‬وما‬ ‫َيتَفَ َّك ُر َ‬
‫فيها من اإلحكام واإلتقان وبديع الصنعة وحسن الخلقة دال على كمال حكمته وعلمه‪ ،‬وما فيها من‬
‫السعة والعظمة والكثرة دال على سعة ملكه وسلطانه‪ ،‬وما فيها من التخصيصات واألشياء‬
‫المتضادات دليل على أنه الفعال لما يريد‪ ،‬وما فيها من المنافع والمصالح الدينية والدنيوية دليل‬
‫على سعة رحمته‪ ،‬وشمول فضله وإ حسانه وبديع لطفه وبره‪ ،‬وكل ذلك دال على أنه وحده المألوه‬
‫المعبود الذي ال تنبغي العبادة والذل والمحبة إال له وأن رسله صادقون فيما جاءوا به‪ ،‬فهذه أدلة‬
‫عقلية واضحة ال تقبل ريبا وال شكا‪.‬‬

‫( ‪)1/776‬‬

‫ون (‪َ )14‬م ْن َع ِم َل‬ ‫ِ‬


‫ي قَ ْو ًما بِ َما َك ُانوا َي ْكسُب َ‬
‫ُق ْل ِللَِّذين آَمُنوا ي ْغ ِفروا ِللَِّذين اَل يرجون أَي َّ ِ ِ‬
‫َّام الله لَي ْج ِز َ‬
‫َ َْ ُ َ َ‬ ‫َ َ َ ُ‬
‫ِ ِ ِِ‬
‫ون (‪)15‬‬ ‫اء فَ َعلَْيهَا ثَُّم ِإلَى َرِّب ُك ْم تُْر َج ُع َ‬
‫َس َ‬
‫صال ًحا َفلَن ْفسه َو َم ْن أ َ‬
‫َ‬

‫ِ‬ ‫{ ‪ُ { } 14-15‬ق ْل ِللَِّذين آمُنوا ي ْغ ِفروا ِللَِّذين ال يرجون أَي َّ ِ ِ‬


‫ون *‬‫ي قَ ْو ًما بِ َما َك ُانوا َي ْكسُب َ‬
‫َّام الله لَي ْج ِز َ‬
‫َ َْ ُ َ َ‬ ‫َ َ َ ُ‬
‫م ْن ع ِم َل ِ ِ ِ ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫اء فَ َعلَْيهَا ثَُّم ِإلَى َرِّب ُك ْم تُْر َج ُع َ‬
‫َس َ‬
‫صال ًحا َفلَن ْفسه َو َم ْن أ َ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫يأمر تعالى عباده المؤمنين بحسن الخلق والصبر على أذية المشركين به‪ ،‬الذين ال يرجون أيام اهلل‬
‫أي‪ :‬ال يرجون ثوابه وال يخافون وقائعه في العاصين فإنه تعالى سيجزي كل قوم بما كانوا‬
‫يكسبون‪ .‬فأنتم يا معشر المؤمنين يجزيكم على إيمانكم وصفحكم وصبركم‪ ،‬ثوابا جزيال‪.‬‬
‫وهم إن استمروا على تكذيبهم فال يحل بكم (‪ )1‬ما حل بهم من العذاب الشديد والخزي ولهذا قال‪:‬‬
‫{ م ْن ع ِم َل ِ ِ ِ ِ‬
‫اء فَ َعلَْيهَا ثَُّم ِإلَى َرِّب ُك ْم تُْر َج ُع َ‬
‫ون }‬ ‫َس َ‬
‫صال ًحا َفلَن ْفسه َو َم ْن أ َ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في أ‪ :‬هذه الجملة غير واضحة وفيها شطب وتصويبه من‪ :‬ب‪.‬‬

‫( ‪)1/776‬‬

‫ِ‬ ‫اهم ِمن الطَّيِّب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ين (‬
‫اه ْم َعلَى اْل َعالَم َ‬
‫ضْلَن ُ‬ ‫ات َوفَ َّ‬ ‫َ‬ ‫النُب َّوةَ َو َر َز ْقَن ُ ْ َ‬ ‫َولَقَ ْد آَتَْيَنا َبني ِإ ْس َرائي َل اْلكتَ َ‬
‫اب َواْل ُح ْك َم َو ُّ‬
‫َّك ي ْق ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اَّل ِ‬ ‫ات ِم َن اأْل َْم ِر فَ َما ْ‬
‫اهم بيَِّن ٍ‬
‫ضي‬ ‫اء ُه ُم اْلعْل ُم َب ْغًيا َب ْيَنهُ ْم ِإ َّن َرب َ َ‬
‫اختَلَفُوا ِإ م ْن َب ْعد َما َج َ‬ ‫‪َ )16‬وآَتَْيَن ُ ْ َ‬
‫ون (‪)17‬‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ب ْيَنهم يوم اْل ِقي ِ ِ‬
‫يما َك ُانوا فيه َي ْختَلفُ َ‬ ‫امة ف َ‬ ‫َ ُْ َ ْ َ َ َ‬

‫اه ْم‬ ‫ات َوفَ َّ‬ ‫اهم ِمن الطَّيِّب ِ‬ ‫اب َواْل ُح ْك َم َو ُّ‬ ‫{ ‪ { } 16-17‬ولَقَ ْد آتَْيَنا بنِي ِإسرائِ َ ِ‬
‫ضْلَن ُ‬ ‫َ‬ ‫النُب َّوةَ َو َر َز ْقَن ُ ْ َ‬ ‫يل اْلكتَ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اء ُه ُم اْل ِعْل ُم َب ْغًيا َب ْيَنهُ ْم ِإ َّن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اختَلَفُوا ِإال م ْن َب ْعد َما َج َ‬ ‫األم ِر فَ َما ْ‬ ‫ٍ ِ‬
‫اه ْم َبيَِّنات م َن ْ‬
‫ين * َوآتَْيَن ُ‬ ‫ِ‬
‫َعلَى اْل َعالَم َ‬
‫ِِ ِ‬ ‫ضي ب ْيَنهم يوم اْل ِقي ِ ِ‬ ‫ك ي ْق ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫يما َك ُانوا فيه َي ْختَلفُ َ‬
‫امة ف َ‬
‫َ ُْ َ ْ َ َ َ‬ ‫َرَّب َ َ‬
‫أي‪ :‬ولقد أنعمنا على بني إسرائيل نعما لم تحصل لغيرهم من الناس‪ ،‬وآتيناهم { الكتاب } أي‪:‬‬
‫التوراة واإلنجيل { والحكم } بين الناس { والنبوة } التي امتازوا بها وصارت النبوة في ذرية‬
‫ات } من المآكل والمشارب‬‫اهم ِمن الطَّيِّب ِ‬
‫َ‬ ‫إبراهيم عليه السالم‪ ،‬أكثرهم من بني إسرائيل‪َ { ،‬و َر َز ْقَن ُ ْ َ‬
‫ين } أي‪ :‬على الخلق بهذه النعم‬ ‫ِ‬ ‫والمالبس وإ نزال المن والسلوى عليهم { َوفَ َّ‬
‫اه ْم َعلَى اْل َعالَم َ‬
‫ضْلَن ُ‬
‫ويخرج من هذا العموم اللفظي هذه األمة فإنهم خير أمة أخرجت للناس‪.‬‬
‫والسياق يدل على أن المراد غير هذه األمة فإن اهلل يقص علينا ما امتن به على بني إسرائيل‬
‫وميزهم عن غيرهم‪ ،‬وأيضا فإن الفضائل التي فاق بها بنو إسرائيل من الكتاب والحكم والنبوة‬
‫وغيرها من النعوت قد حصلت كلها لهذه األمة‪ ،‬وزادت عليهم هذه األمة فضائل كثيرة فهذه‬
‫الشريعة شريعة بني إسرائيل جزء منها‪ ،‬فإن هذا الكتاب مهيمن على سائر الكتب السابقة‪ ،‬ومحمد‬
‫صلى اهلل عليه وسلم مصدق لجميع المرسلين‪.‬‬
‫األم ِر }‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫اه ْم } أي‪ :‬آتينا بني إسرائيل { َبيَِّنات } أي‪ :‬دالالت تبين الحق من الباطل { م َن ْ‬
‫{ َوآتَْيَن ُ‬
‫القدري الذي أوصله اهلل إليهم‪.‬‬
‫وتلك اآليات هي المعجزات التي رأوها على يد موسى عليه السالم‪ ،‬فهذه النعم التي أنعم اهلل بها‬
‫على بني إسرائيل تقتضي الحال أن يقوموا بها على أكمل الوجوه وأن يجتمعوا على الحق الذي‬
‫بينه اهلل لهم‪ ،‬ولكن انعكس األمر فعاملوها بعكس ما يجب‪.‬‬
‫اء ُه ُم اْل ِعْل ُم } أي‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اختَلَفُوا ِإال م ْن َب ْعد َما َج َ‬
‫وافترقوا فيما أمروا باالجتماع به ولهذا قال‪ { :‬فَ َما ْ‬
‫الموجب لعدم [ ص ‪ ] 777‬االختالف‪ ،‬وإ نما حملهم على االختالف البغي من بعضهم على بعض‬
‫والظلم‪.‬‬
‫ِِ ِ‬ ‫ضي ب ْيَنهم يوم اْل ِقي ِ ِ‬
‫َّك ي ْق ِ‬
‫ون } فيميز المحق من المبطل والذي حمله‬
‫يما َك ُانوا فيه َي ْختَلفُ َ‬
‫امة ف َ‬
‫َ ُْ َ ْ َ َ َ‬ ‫{ ِإ َّن َرب َ َ‬
‫على االختالف الهوى أو غيره‪.‬‬

‫( ‪)1/776‬‬

‫ون (‪ِ )18‬إَّنهُ ْم لَ ْن ُي ْغُنوا َع ْن َ‬ ‫َهو َِّ‬ ‫اك علَى َش ِر ٍ ِ‬


‫ك‬ ‫ين اَل َي ْعلَ ُم َ‬‫اء الذ َ‬ ‫يعة م َن اأْل َْم ِر فَاتَّبِ ْعهَا َواَل تَتَّبِ ْع أ ْ َ َ‬
‫َ‬ ‫ثَُّم َج َعْلَن َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِمن اللَّ ِه َش ْيًئا وإِ َّن الظَّ ِال ِمين بعضهم أَوِلياء بع ٍ َّ‬
‫ين (‪)19‬‬ ‫ض َواللهُ َوِل ُّي اْل ُمتَّق َ‬ ‫َ َ ْ ُ ُْ ْ َ ُ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫ون * ِإَّنهُ ْم‬ ‫َهو َِّ‬ ‫اك علَى َش ِر ٍ ِ‬


‫ين ال َي ْعلَ ُم َ‬‫اء الذ َ‬ ‫األم ِر فَاتَّبِ ْعهَا َوال تَتَّبِ ْع أ ْ َ َ‬
‫يعة م َن ْ‬
‫َ‬ ‫{ ‪ { } 18-19‬ثَُّم َج َعْلَن َ َ‬
‫ِ‬ ‫ك ِمن اللَّ ِه َش ْيًئا وإِ َّن الظَّ ِال ِمين بعضهم أَوِلياء بع ٍ َّ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ض َواللهُ َوِل ُّي اْل ُمتَّق َ‬ ‫َ َ ْ ُ ُْ ْ َ ُ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫لَ ْن ُي ْغُنوا َع ْن َ َ‬
‫أي‪ :‬ثم شرعنا لك شريعة كاملة تدعو إلى كل خير وتنهى عن كل شر من أمرنا الشرعي‬
‫َهو َِّ‬
‫ون }‬
‫ين ال َي ْعلَ ُم َ‬ ‫{ فَاتَّبِ ْعهَا } فإن في اتباعها السعادة األبدية والصالح والفالح‪َ { ،‬وال تَتَّبِ ْع أ ْ َ َ‬
‫اء الذ َ‬
‫أي‪ :‬الذين تكون أهويتهم غير تابعة للعلم وال ماشية خلفه‪ ،‬وهم كل من خالف شريعة الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم هواه وإ رادته فإنه من أهواء الذين ال يعلمون‪.‬‬
‫ك ِم َن اللَّ ِه َش ْيًئا } أي‪ :‬ال ينفعونك عند اهلل فيحصلوا لك الخير ويدفعوا عنك‬ ‫{ ِإَّنهُ ْم لَ ْن ُي ْغُنوا َع ْن َ‬
‫الشر إن اتبعتهم على أهوائهم‪ ،‬وال تصلح أن توافقهم وتواليهم فإنك وإ ياهم متباينون‪ ،‬وبعضهم‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ين } يخرجهم من الظلمات إلى النور بسبب تقواهم وعملهم بطاعته‪.‬‬ ‫ولي لبعض { واللهُ َوِل ُّي اْل ُمتَّق َ‬

‫( ‪)1/777‬‬

‫ِ‬ ‫صائِ ُر ِل َّلن ِ‬


‫اس َو ُه ًدى َو َر ْح َمةٌ لقَ ْوٍم ُيو ِقُن َ‬
‫ون (‪)20‬‬ ‫َه َذا َب َ‬

‫ِ‬ ‫صائِ ُر ِل َّلن ِ‬


‫اس َو ُه ًدى َو َر ْح َمةٌ لقَ ْوٍم ُيو ِقُن َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫{ ‪َ { } 20‬ه َذا َب َ‬
‫صائِر ِل َّلن ِ‬
‫اس } أي‪ :‬يحصل به التبصرة في جميع‬ ‫أي‪َ { :‬ه َذا } القرآن الكريم والذكر الحكيم { َب َ‬
‫األمور للناس فيحصل به االنتفاع للمؤمنين‪ ،‬والهدى والرحمة‪.‬‬
‫ِ‬
‫{ لقَ ْوٍم ُيو ِقُن َ‬
‫ون } فيهتدون به إلى الصراط المستقيم في أصول الدين وفروعه ويحصل به الخير‬
‫والسرور والسعادة في الدنيا واآلخرة وهي الرحمة‪ .‬فتزكو به نفوسهم وتزداد به عقولهم ويزيد به‬
‫إيمانهم ويقينهم‪ ،‬وتقوم به الحجة على من أصر وعاند‪.‬‬

‫( ‪)1/777‬‬

‫اه ْم‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫اجتَرحوا السَّيَِّئ ِ‬ ‫أَم ح ِس َِّ‬


‫اء َم ْحَي ُ‬
‫َمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َس َو ً‬
‫ين آ َ‬
‫َن َن ْج َعلَهُ ْم َكالذ َ‬
‫ات أ ْ‬ ‫ين ْ َ ُ‬ ‫ب الذ َ‬
‫ْ َ َ‬
‫ون (‪)21‬‬ ‫اء َما َي ْح ُك ُم َ‬
‫َو َم َماتُهُ ْم َس َ‬

‫اء‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫اجتَرحوا السَّيَِّئ ِ‬ ‫{ ‪ { } 21‬أَم ح ِس َِّ‬


‫آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َس َو ً‬
‫ين َ‬
‫َن َن ْج َعلَهُ ْم َكالذ َ‬
‫ات أ ْ‬ ‫ين ْ َ ُ‬ ‫ب الذ َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫اء َما َي ْح ُك ُم َ‬‫اه ْم َو َم َماتُهُ ْم َس َ‬
‫َم ْحَي ُ‬
‫أي‪ :‬أم حسب المسيئون المكثرون من الذنوب المقصرون في حقوق ربهم‪.‬‬
‫ات } بأن قاموا بحقوق ربهم‪ ،‬واجتنبوا مساخطه ولم‬ ‫َّالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين َ‬ ‫َن َن ْج َعلَهُ ْم َكالذ َ‬
‫{ أْ‬
‫اء } في الدنيا واآلخرة؟‬ ‫يزالوا مؤثرين رضاه على هوى أنفسهم؟ أي‪ :‬أحسبوا أن يكونوا { َس َو ً‬
‫ساء ما ظنوا وحسبوا وساء ما حكموا به‪ ،‬فإنه حكم يخالف حكمة أحكم الحاكمين وخير العادلين‬
‫ويناقض العقول السليمة والفطر المستقيمة‪ ،‬ويضاد ما نزلت به الكتب وأخبرت به الرسل‪ ،‬بل‬
‫الحكم الواقع القطعي أن المؤمنين العاملين الصالحات لهم النصر والفالح والسعادة والثواب في‬
‫العاجل واآلجل كل على قدر إحسانه‪ ،‬وأن المسيئين لهم الغضب واإلهانة والعذاب والشقاء في‬
‫الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫( ‪)1/777‬‬

‫ق وِلتُ ْج َزى ُك ُّل َن ْف ٍ‬


‫س بِ َما َك َسَب ْ‬ ‫ِ‬
‫ات واأْل َْر َ ِ‬ ‫و َخلَ َ َّ‬
‫ون (‪)22‬‬
‫ظلَ ُم َ‬
‫ت َو ُه ْم اَل ُي ْ‬ ‫ض باْل َح ِّ َ‬ ‫َّم َاو َ‬
‫ق اللهُ الس َ‬ ‫َ‬

‫ق وِلتُ ْج َزى ُك ُّل َن ْف ٍ‬


‫س بِ َما َك َسَب ْ‬ ‫األر َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ { } 22‬و َخلَ َ َّ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫ظلَ ُم َ‬
‫ت َو ُه ْم ال ُي ْ‬ ‫ض باْل َح ِّ َ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ق اللهُ الس َ‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬خلق اهلل السماوات واألرض بالحكمة وليعبد وحده ال شريك له‪ ،‬ثم يجازي بعد ذلك من‬
‫أمرهم بعبادته وأنعم عليم بالنعم الظاهرة والباطنة هل شكروا اهلل تعالى وقاموا بالمأمور؟ أم‬
‫كفروا فاستحقوا جزاء الكفور؟‬

‫( ‪)1/777‬‬
‫ص ِر ِه ِغ َش َاوةً‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ٍِ‬
‫َضلهُ اللهُ َعلَى عْلم َو َختَ َم َعلَى َس ْمعه َو َقْلبِه َو َج َع َل َعلَى َب َ‬
‫ت م ِن اتَّ َخ َذ ِإلَهه َهواه وأ َّ َّ‬
‫َُ َ ُ َ َ‬ ‫أَفََرأ َْي َ َ‬
‫وت َوَن ْحَيا َو َما ُي ْهِل ُكَنا‬‫الد ْنَيا َن ُم ُ‬ ‫ون (‪ )23‬وقَالُوا َما ِهي ِإاَّل َحَياتَُنا ُّ‬
‫َ‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫فَ َم ْن َي ْهديه م ْن َب ْعد الله أَفَاَل تَ َذ َّك ُر َ‬
‫َ‬
‫ٍ‬ ‫اَّل‬ ‫الد ْهر وما لَهم بِ َذِل َ ِ ِ ٍ‬ ‫اَّل‬
‫ان‬‫ون (‪َ )24‬وإِ َذا تُْتلَى َعلَْي ِه ْم آََياتَُنا َبيَِّنات َما َك َ‬ ‫ك م ْن عْلم ِإ ْن ُه ْم ِإ َيظُُّن َ‬ ‫ِإ َّ ُ َ َ ُ ْ‬
‫ين (‪ُ )25‬ق ِل اللَّهُ ُي ْحيِي ُك ْم ثَُّم ُي ِميتُ ُك ْم ثَُّم َي ْج َم ُع ُك ْم ِإلَى َي ْوِم‬ ‫َن قَالُوا ا ْئتُوا بِآَبائَِنا ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُحجَّتَهُ ْم ِإاَّل أ ْ‬
‫ون (‪)26‬‬
‫اس اَل َي ْعلَ ُم َ‬ ‫يه َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫الن ِ‬ ‫اْل ِقيام ِة اَل ر ْيب ِف ِ‬
‫َ َ‬ ‫ََ‬

‫َضلَّهُ اللَّهُ َعلَى ِعْلٍم َو َختَ َم َعلَى َس ْم ِع ِه َو َقْلبِ ِه َو َج َع َل‬


‫ت َم ِن اتَّ َخ َذ ِإلَهَهُ َه َواهُ َوأ َ‬ ‫{ ‪ { } 23-26‬أَفََرأ َْي َ‬
‫ون * وقَالُوا َما ِهي ِإال َحَياتَُنا ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫علَى ب ِ ِ‬
‫وت‬
‫الد ْنَيا َن ُم ُ‬ ‫َ‬ ‫ص ِره غ َش َاوةً فَ َم ْن َي ْهديه م ْن َب ْعد الله أَفَال تَ َذك ُر َ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ك ِم ْن ِعْلٍم ِإ ْن ُهم ِإال يظُُّنون * وإِ َذا تُْتلَى علَْي ِهم آياتَُنا بيَِّن ٍ‬
‫ات‬ ‫الد ْه ُر َو َما لَهُ ْم بِ َذِل َ‬
‫وَن ْحَيا و َما ُي ْهِل ُكَنا ِإال َّ‬
‫َ ْ َ َ‬ ‫ْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ين * ُقل اللهُ ُي ْحيي ُك ْم ثَُّم ُيميتُ ُك ْم ثَُّم َي ْج َم ُع ُك ْم إلَى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صادق َ‬ ‫َن قَالُوا ا ْئتُوا ب َآبائَنا إ ْن ُك ْنتُ ْم َ‬ ‫ان ُحجَّتَهُ ْم إال أ ْ‬‫َما َك َ‬
‫ون } ‪.‬‬‫اس ال َي ْعلَ ُم َ‬ ‫الن ِ‬‫يه َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬ ‫يوِم اْل ِقيام ِة ال ر ْيب ِف ِ‬
‫َ َ‬ ‫َْ َ َ‬
‫ت } الرجل الضال الذي { اتَّ َخ َذ ِإلَهَهُ َه َواهُ } فما هويه سلكه سواء كان يرضي‬ ‫يقول تعالى‪ { :‬أَفََرأ َْي َ‬
‫َضلَّهُ اللَّهُ َعلَى ِعْلٍم } من اهلل تعالى أنه ال تليق به الهداية وال يزكو عليها‪.‬‬ ‫اهلل أو يسخطه‪َ { .‬وأ َ‬
‫ص ِر ِه ِغ َش َاوةً }‬ ‫ِ‬
‫{ َو َختَ َم َعلَى َس ْمعه } فال يسمع ما ينفعه‪َ { ،‬و َقْلبِه } فال يعي الخير { َو َج َع َل َعلَى َب َ‬
‫ِِ‬
‫يه ِم ْن َب ْع ِد اللَّ ِه } أي‪ :‬ال أحد يهديه وقد سد اهلل عليه أبواب الهداية‬ ‫تمنعه من نظر الحق‪ { ،‬فَم ْن يه ِد ِ‬
‫َ َْ‬
‫وفتح له أبواب الغواية‪ ،‬وما ظلمه اهلل ولكن هو الذي ظلم نفسه وتسبب لمنع رحمة اهلل عليه { أَفَال‬
‫ون } ما ينفعكم فتسلكونه وما يضركم فتجتنبونه‪.‬‬ ‫تَ َذ َّك ُر َ‬
‫وت وَن ْحَيا و َما ُي ْهِل ُكَنا ِإال َّ‬
‫الد ْه ُر } أي‪ :‬إن‬ ‫ُّ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫{ َوقَالُوا } أي‪ :‬منكرو البعث { َما ه َي إال َحَياتَُنا الد ْنَيا َن ُم ُ َ‬
‫هي إال عادات وجري على رسوم الليل والنهار يموت أناس ويحيا أناس وما مات فليس براجع‬
‫إلى اهلل وال مجازى بعمله‪.‬‬
‫ون } فأنكروا المعاد وكذبوا الرسل الصادقين من‬ ‫وقولهم هذا صادر عن غير علم { ِإ ْن ُه ْم ِإال َيظُُّن َ‬
‫غير دليل دلهم على ذلك وال برهان‪.‬‬
‫إن هي إال ظنون واستبعادات خالية عن الحقيقة ولهذا قال تعالى‪ { :‬وإِ َذا تُْتلَى علَْي ِهم آياتَُنا بيَِّن ٍ‬
‫ات‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫َن قَالُوا ا ْئتُوا بِآبائَِنا ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫ين } وهذا جراءة منهم على اهلل‪ [ ،‬ص‬ ‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ان ُحجَّتَهُ ْم ِإال أ ْ‬
‫َما َك َ‬
‫‪ ] 778‬حيث اقترحوا هذا االقتراح وزعموا أن صدق رسل اهلل متوقف على اإلتيان بآبائهم‪،‬‬
‫وأنهم لو جاءوهم بكل آية لم يؤمنوا إال إن تبعتهم الرسل على ما قالوا‪ ،‬وهم كذبة فيما قالوا وإ نما‬
‫قصدهم دفع دعوة الرسل ال بيان الحق‪ ،‬قال تعالى‪ُ { :‬ق ِل اللَّهُ ُي ْحيِي ُك ْم ثَُّم ُي ِميتُ ُك ْم ثَُّم َي ْج َم ُع ُك ْم ِإلَى َي ْوِم‬
‫ون } وإ ال فلو وصل العلم باليوم اآلخر إلى قلوبهم‪،‬‬
‫اس ال َي ْعلَ ُم َ‬ ‫يه َولَ ِك َّن أَ ْكثََر َّ‬
‫الن ِ‬ ‫اْل ِقيام ِة ال ر ْيب ِف ِ‬
‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫لعملوا له أعماال وتهيئوا له‪.‬‬

‫( ‪)1/777‬‬

‫ُم ٍة‬
‫ون (‪َ )27‬وتََرى ُك َّل أ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ‬
‫َّاعةُ َي ْو َمئذ َي ْخ َس ُر اْل ُم ْبطلُ َ‬ ‫وم الس َ‬ ‫ض َوَي ْو َم تَقُ ُ‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم َاو َ‬ ‫ك الس َ‬ ‫َوِللَّ ِه ُمْل ُ‬
‫ق َعلَْي ُك ْم بِاْل َح ِّ‬
‫ق‬ ‫ون (‪َ )28‬ه َذا ِكتَ ُابَنا َي ْن ِط ُ‬ ‫ِ‬
‫ُمة تُ ْد َعى ِإلَى كتَابِهَا اْلَي ْو َم تُ ْج َز ْو َن َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫جاثِيةً ُك ُّل أ َّ ٍ‬
‫َ َ‬
‫ات فَُي ْد ِخلُهُ ْم َربُّهُ ْم ِفي َر ْح َمتِ ِه‬ ‫َّالح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين آ َ‬
‫ِإَّنا ُكَّنا َنستَْن ِس ُخ ما ُك ْنتُم تَعملُون (‪ )29‬فَأ َّ َِّ‬
‫َما الذ َ‬ ‫ْ َْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫استَ ْكَب ْرتُ ْم َو ُك ْنتُ ْم قَ ْو ًما‬ ‫ِ‬ ‫ك ُهو اْلفَو ُز اْلمبِين (‪ )30‬وأ َّ َِّ‬ ‫ِ‬
‫ين َكفَ ُروا أَ َفلَ ْم تَ ُك ْن آََياتي تُْتلَى َعلَْي ُك ْم فَ ْ‬ ‫َما الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َذل َ َ ْ ُ ُ‬
‫َّاعةُ ِإ ْن َنظُ ُّن‬ ‫ق والسَّاعةُ اَل ر ْي ِ‬ ‫َّ ِ ٌّ‬ ‫ِ ِ‬
‫ب فيهَا ُقْلتُ ْم َما َن ْد ِري َما الس َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ين (‪َ )31‬وإِ َذا قي َل إ َّن َو ْع َد الله َح َ‬ ‫ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ِِ‬ ‫ِإاَّل َ‬
‫ين (‪)32‬‬ ‫ظًّنا َو َما َن ْح ُن بِ ُم ْستَْيقن َ‬

‫ون * َوتََرى‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪َ { } 27-37‬وِللَّ ِه ُمْل ُ‬


‫َّاعةُ َي ْو َمئذ َي ْخ َس ُر اْل ُم ْبطلُ َ‬ ‫وم الس َ‬ ‫ض َوَي ْو َم تَقُ ُ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ك الس َ‬
‫ق َعلَْي ُك ْم‬ ‫ون * َه َذا ِكتَ ُابَنا َي ْن ِط ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُم ٍة جاثِيةً ُك ُّل أ َّ ٍ‬
‫ُمة تُ ْد َعى ِإلَى كتَابِهَا اْلَي ْو َم تُ ْج َز ْو َن َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬ ‫ُك َّل أ َّ َ َ‬
‫ات فَُي ْد ِخلُهُ ْم َربُّهُ ْم ِفي‬ ‫َّالح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين َ‬
‫ق ِإَّنا ُكَّنا َنستَْن ِس ُخ ما ُك ْنتُم تَعملُون * فَأ َّ َِّ‬
‫َما الذ َ‬ ‫ْ َْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫بِاْل َح ِّ‬
‫استَ ْكَب ْرتُ ْم َو ُك ْنتُ ْم قَ ْو ًما‬ ‫ِ‬ ‫ك ُهو اْلفَو ُز اْلمبِين * وأ َّ َِّ‬ ‫ِِ ِ‬
‫ين َكفَ ُروا أَ َفلَ ْم تَ ُك ْن َآياتي تُْتلَى َعلَْي ُك ْم فَ ْ‬ ‫َما الذ َ‬ ‫َر ْح َمته َذل َ َ ْ ُ ُ َ‬
‫َّاعةُ ِإ ْن َنظُ ُّن ِإال‬ ‫ق والسَّاعةُ ال ر ْي ِ‬ ‫َّ ِ ٌّ‬ ‫ين * وإِ َذا ِق َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ب فيهَا ُقْلتُ ْم َما َن ْد ِري َما الس َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫يل إ َّن َو ْع َد الله َح َ‬ ‫ُم ْج ِرم َ َ‬
‫ِِ‬
‫ين } ‪.‬‬‫ظًّنا َو َما َن ْح ُن بِ ُم ْستَْيقن َ‬
‫َ‬
‫َّاعةُ‬
‫وم الس َ‬ ‫يخبر تعالى عن سعة ملكه وانفراده بالتصرف والتدبير في جميع األوقات وأنه { يوم تَقُ ُ‬
‫} ويجمع الخالئق لموقف القيامة يحصل الخسار على المبطلين الذين أتوا بالباطل ليدحضوا به‬
‫الحق‪ ،‬وكانت أعمالهم باطلة ألنها متعلقه بالباطل فبطلت في يوم القيامة‪ ،‬اليوم الذي تستبين به‬
‫الحقائق‪ ،‬واضمحلت عنهم وفاتهم الثواب وحصلوا على أليم العقاب‪.‬‬
‫ثم وصف تعالى شدة يوم القيامة وهوله ليحذره العباد ويستعد له العباد‬
‫ُم ٍة َجاثَِيةً } على ركبها خوفا وذعرا وانتظارا لحكم‬
‫فقال‪َ { :‬وتََرى } أيها الرائي لذلك اليوم { ُك َّل أ َّ‬
‫الملك الرحمن‪.‬‬
‫ُم ٍة تُ ْد َعى ِإلَى ِكتَابِهَا } أي‪ :‬إلى شريعة نبيهم الذي جاءهم من عند اهلل‪ ،‬وهل قاموا بها‬‫{ ُك ُّل أ َّ‬
‫فيحصل لهم الثواب والنجاة؟ أم ضيعوها فيحصل لهم الخسران؟ فأمة موسى يدعون إلى شريعة‬
‫موسى وأمة عيسى كذلك وأمة محمد كذلك‪ ،‬وهكذا غيرهم كل أمة تدعى إلى شرعها الذي كلفت‬
‫به‪ ،‬هذا أحد االحتماالت في اآلية وهو معنى صحيح في نفسه غير مشكوك فيه‪ ،‬ويحتمل أن‬
‫ُم ٍة تُ ْد َعى ِإلَى ِكتَابِهَا } أي‪ :‬إلى كتاب أعمالها وما سطر عليها من خير وشر‬ ‫المراد بقوله‪ُ { :‬ك ُّل أ َّ‬
‫اء فَ َعلَْيهَا }‬ ‫وأن كل أحد يجازى بما عمله بنفسه كقوله تعالى‪ { :‬م ْن ع ِم َل ِ ِ ِ ِ‬
‫َس َ‬ ‫صال ًحا َفلَن ْفسه َو َم ْن أ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ق َعلَْي ُك ْم بِاْل َح ِّ‬
‫ق}‬ ‫ويحتمل أن المعنيين كليهما مراد من اآلية ويدل على هذا قوله‪َ { :‬ه َذا ِكتَ ُابَنا َي ْن ِط ُ‬
‫أي‪ :‬هذا كتابنا الذي أنزلنا عليكم‪ ،‬يفصل بينكم بالحق الذي هو العدل‪ِ { ،‬إَّنا ُكَّنا َن ْستَْن ِس ُخ َما ُك ْنتُ ْم‬
‫ون } فهذا كتاب األعمال‪.‬‬ ‫تَ ْع َملُ َ‬
‫ات } إيمانا صحيحا‬ ‫َّالح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ولهذا فصل ما يفعل اهلل بالفريقين فقال‪ { :‬فَأ َّ َِّ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الص َ‬ ‫ين َ‬‫َما الذ َ‬
‫وصدقوا إيمانهم باألعمال الصالحة من واجبات ومستحبات { فَُي ْد ِخلُهُ ْم َربُّهُ ْم ِفي َر ْح َمتِ ِه } التي‬
‫ين } أي‪ :‬المفاز‬ ‫محلها الجنة وما فيها من النعيم المقيم والعيش السليم‪َ { ،‬ذِل َ‬
‫ك ُه َو اْلفَ ْو ُز اْل ُمبِ ُ‬
‫والنجاة والربح والفالح الواضح البين الذي إذا حصل للعبد حصل له كل خير واندفع عنه كل‬
‫شر‪.‬‬
‫ين َكفَ ُروا } باهلل فيقال لهم توبيخا وتقريعا‪ { :‬أَ َفلَ ْم تَ ُك ْن َآياتِي تُْتلَى َعلَْي ُك ْم } وقد دلتكم على‬ ‫{ وأ َّ َِّ‬
‫َما الذ َ‬ ‫َ‬
‫ما فيه صالحكم ونهتكم عما فيه ضرركم وهي أكبر نعمة وصلت إليكم لو وفقتم لها‪ ،‬ولكن‬
‫استكبرتم عنها وأعرضتم وكفرتم بها فجنيتم أكبر جناية وأجرمتم أشد الجرم فاليوم تجزون ما‬
‫كنتم تعملون‪.‬‬
‫ب ِفيهَا ُقْلتُ ْم } منكرين لذلك‪:‬‬
‫َّاعةُ ال َر ْي َ‬
‫ق َوالس َ‬ ‫ويوبخون أيضا بقوله‪ { :‬وإِ َذا ِقي َل ِإ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِِ‬
‫ظًّنا َو َما َن ْح ُن بِ ُم ْستَْيقن َ‬
‫ين }‬ ‫َّاعةُ ِإ ْن َنظُ ُّن ِإال َ‬
‫{ َما َن ْد ِري َما الس َ‬
‫فهذه حالهم في الدنيا وحال البعث اإلنكار له ورد قول من جاء به قال تعالى‪:‬‬

‫( ‪)1/778‬‬

‫يل اْلَي ْو َم َن ْن َسا ُك ْم َك َما َن ِسيتُ ْم‬‫ون (‪َ )33‬و ِق َ‬ ‫ِ‬ ‫ات َما َع ِملُوا َو َح َ‬
‫اق بِ ِه ْم َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬ ‫َوَب َدا لَهُ ْم َسيَِّئ ُ‬
‫ات اللَّ ِه ُه ُز ًوا‬‫اص ِرين (‪َ )34‬ذِل ُكم بِأََّن ُكم اتَّ َخ ْذتُم آَي ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫النار وما لَ ُكم ِم ْن َن ِ‬
‫اء َي ْو ِم ُك ْم َه َذا َو َمأ َْوا ُك ُم َّ ُ َ َ ْ‬
‫ِ‬
‫لقَ َ‬
‫ب السَّماو ِ‬ ‫َِّ ِ‬ ‫الد ْنيا فَاْليوم اَل ي ْخرج ِ‬
‫ات‬ ‫ون (‪َ )35‬فلله اْل َح ْم ُد َر ِّ َ َ‬ ‫ون م ْنهَا َواَل ُه ْم ُي ْستَ ْعتَُب َ‬ ‫َو َغ َّرتْ ُك ُم اْل َحَياةُ ُّ َ َ ْ َ ُ َ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ات واأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب اْلعالَ ِمين (‪ )36‬ولَه اْل ِك ْب ِري ِ‬ ‫ب اأْل َْر ِ‬
‫يم (‪)37‬‬ ‫ض َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬ ‫َّم َاو َ‬ ‫اء في الس َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ض َر ِّ َ َ‬ ‫َو َر ِّ‬

‫ِ ِ‬ ‫ون * َو ِق َ‬ ‫ِ‬ ‫ات َما َع ِملُوا َو َح َ‬


‫اء‬
‫يل اْلَي ْو َم َن ْن َسا ُك ْم َك َما َنسيتُ ْم لقَ َ‬ ‫اق بِ ِه ْم َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬ ‫{ َوَب َدا لَهُ ْم َسيَِّئ ُ‬
‫ات اللَّ ِه ُه ُز ًوا َو َغ َّرتْ ُك ُم اْل َحَياةُ‬
‫اص ِرين * َذِل ُكم بِأََّن ُكم اتَّ َخ ْذتُم آي ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫النار وما لَ ُكم ِم ْن َن ِ‬
‫َي ْو ِم ُك ْم َه َذا َو َمأ َْوا ُك ُم َّ ُ َ َ ْ‬
‫األر ِ‬ ‫ب السَّماو ِ‬ ‫َِّ ِ‬ ‫الد ْنيا فَاْليوم ال ي ْخرج ِ‬
‫ب‬‫ض َر ِّ‬ ‫ب ْ‬ ‫ات َو َر ِّ‬ ‫ون * َفلله اْل َح ْم ُد َر ِّ َ َ‬ ‫ُّ َ َ ْ َ ُ َ ُ َ‬
‫ون م ْنهَا َوال ُه ْم ُي ْستَ ْعتَُب َ‬
‫ِ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫اْلعالَ ِمين * ولَه اْل ِك ْب ِري ِ‬
‫ض َو ُه َو اْل َع ِز ُيز اْل َحك ُ‬
‫يم }‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫اء في الس َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ َ ُ‬
‫ات َما َع ِملُوا } أي‪ :‬وظهر لهم يوم القيامة عقوبات أعمالهم‪َ { ،‬و َح َ‬
‫اق بِ ِه ْم } أي‪:‬‬ ‫{ َوَب َدا لَهُ ْم َسيَِّئ ُ‬
‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬نزل بهم العذاب الذي كانوا في الدنيا يستهزئون به وبوقوعه‬ ‫نزل { َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬
‫وبمن جاء به‪.‬‬
‫اء َي ْو ِم ُك ْم َه َذا } فإن الجزاء من جنس‬ ‫ِ ِ‬
‫{ َو ِقي َل اْلَي ْو َم َن ْن َسا ُك ْم } أي‪ :‬نترككم في العذاب { َك َما َنسيتُ ْم لقَ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين } ينصرونكم من‬‫الن ُار } أي‪ :‬هي مقركم ومصيركم‪َ { ،‬و َما لَ ُك ْم م ْن َناص ِر َ‬ ‫العمل { َو َمأ َْوا ُك ُم َّ‬
‫عذاب اهلل ويدفعون عنكم عقابه‪.‬‬
‫ات اللَّ ِه ُه ُز ًوا } مع أنها موجبة‬
‫{ َذِل ُكم } الذي حصل لكم من العذاب { بـ } سبب { أنكم اتَّ َخ ْذتُم آي ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ْ‬
‫للجد واالجتهاد وتلقيها بالسرور واالستبشار والفرح‪.‬‬
‫الد ْنَيا } بزخارفها ولذاتها وشهواتها فاطمأننتم إليها‪ ،‬وعملتم لها وتركتم العمل‬ ‫{ و َغ َّرتْ ُك ُم اْل َحَياةُ ُّ‬
‫َ‬
‫للدار الباقية‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬وال يمهلون وال يردون إلى الدنيا ليعملوا‬ ‫{ فَاْليوم ال ي ْخرج ِ‬
‫ون م ْنهَا َوال ُه ْم ُي ْستَ ْعتَُب َ‬
‫َْ َ ُ َ ُ َ‬
‫صالحا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫األر ِ‬
‫ض َر ِّ‬ ‫ب السَّماو ِ‬
‫ات َو َر ِّ‬ ‫َِّ ِ‬
‫ين }‬
‫ب اْل َعالَم َ‬ ‫ب ْ‬ ‫{ َفلله اْل َح ْم ُد } كما ينبغي لجالله وعظيم سلطانه { َر ِّ َ َ‬
‫أي‪ :‬له الحمد على ربوبيته لسائر الخالئق حيث خلقهم ورباهم وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة‬
‫والباطنة‪.‬‬
‫األر ِ‬
‫ض } أي‪ :‬له الجالل والعظمة والمجد‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫{ ولَه اْل ِك ْب ِري ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫اء في الس َ‬
‫َ ُ‬ ‫َ ُ‬
‫فالحمد فيه الثناء على اهلل بصفات الكمال ومحبته تعالى وإ كرامه‪ [ ،‬ص ‪ ] 779‬والكبرياء فيها‬
‫عظمته وجالله والعبادة مبنية على ركنين‪ ،‬محبة اهلل والذل له‪ ،‬وهما ناشئان عن العلم بمحامد اهلل‬
‫وجالله وكبريائه‪.‬‬
‫ِ‬
‫يم } الذي يضع األشياء مواضعها‪ ،‬فال يشرع ما يشرعه‬‫{ َو ُه َو اْل َع ِز ُيز } القاهر لكل شيء‪ { ،‬اْل َحك ُ‬
‫إال لحكمة ومصلحة وال يخلق ما يخلقه إال لفائدة ومنفعة‪.‬‬
‫تم تفسير سورة الجاثية‪ ،‬وهلل الحمد والنعمة والفضل‬
‫تفسير سورة األحقاف‬
‫مكية‬

‫( ‪)1/778‬‬

‫ض وما َب ْيَنهما ِإاَّل‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫اب ِم َن اللَّ ِه اْل َع ِز ِ‬


‫حم (‪ )1‬تَْن ِزي ُل اْل ِكتَ ِ‬
‫َّم َاوات َواأْل َْر َ َ َ ُ َ‬
‫يز اْل َحكيم (‪َ )2‬ما َخلَ ْقَنا الس َ‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ون (‪)3‬‬ ‫ض َ‬ ‫ين َكفَ ُروا َع َّما أ ُْنذ ُروا ُم ْع ِر ُ‬ ‫َج ٍل ُم َس ًّمى َوالذ َ‬ ‫بِاْل َح ِّ‬
‫ق َوأ َ‬
‫يز اْل َح ِك ِيم * َما َخلَ ْقَنا‬ ‫اب ِم َن اللَّ ِه اْل َع ِز ِ‬‫الر ِح ِيم حم * تَْن ِزي ُل اْل ِكتَ ِ‬ ‫الر ْح َم ِن َّ‬ ‫{ ‪ { } 1-3‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬
‫ض َ‬ ‫ين َكفَ ُروا َع َّما أ ُْنذ ُروا ُم ْع ِر ُ‬ ‫َج ٍل ُم َس ًّمى َوالذ َ‬ ‫ض َو َما َب ْيَنهُ َما ِإال بِاْل َح ِّ‬
‫ق َوأ َ‬ ‫األر َ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫الس َ‬
‫هذا ثناء منه تعالى على كتابه العزيز وتعظيم له‪ ،‬وفي ضمن ذلك إرشاد العباد إلى االهتداء بنوره‬
‫واإلقبال على تدبر آياته واستخراج كنوزه‪.‬‬
‫ولما بين إنزال كتابه المتضمن لألمر والنهي ذكر خلقه السماوات واألرض فجمع بين الخلق‬
‫ٍ‬ ‫األم ُر } كما قال تعالى‪ { :‬اللَّهُ الَِّذي َخلَ َ‬
‫األر ِ‬
‫ض‬ ‫ق َس ْب َع َس َم َاوات َو ِم َن ْ‬ ‫ق َو ْ‬ ‫واألمر { أَال لَهُ اْل َخْل ُ‬
‫اء ِم ْن‬ ‫الر ِ ِ‬
‫وح م ْن أ َْم ِر ِه َعلَى َم ْن َي َش ُ‬ ‫األم ُر َب ْيَنهُ َّن } وكما قال تعالى‪ُ { :‬ينز ُل اْل َمالئِ َكةَ بِ ُّ‬ ‫م ْثلَهُ َّن َيتَنز ُل ْ‬
‫ِ‬
‫ِ‬ ‫َن أ َْن ِذ ُروا أََّنهُ ال ِإلَهَ ِإال أََنا فَاتَّقُ ِ‬
‫ق } فاهلل تعالى هو الذي‬ ‫ض بِاْل َح ّ‬ ‫األر َ‬‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫ق الس َ‬
‫ون َخلَ َ‬ ‫ِعَب ِاد ِه أ ْ‬
‫خلق المكلفين وخلق مساكنهم وسخر لهم ما في السماوات وما في األرض ثم أرسل إليهم رسله‬
‫وأنزل عليهم كتبه وأمرهم ونهاهم وأخبرهم أن هذه الدار دار أعمال وممر للعمال ال دار إقامة ال‬
‫يرحل عنها أهلها‪ ،‬وأنهم سينتقلون منها إلى دار اإلقامة والقرار وموطن الخلود والدوام‪ ،‬وإ نما‬
‫أعمالهم التي عملوها في هذه الدار سيجدون ثوابها في تلك الدار كامال موفرا‪.‬‬
‫وأقام تعالى األدلة على تلك الدار وأذاق العباد نموذجا من الثواب والعقاب العاجل ليكون أدعى‬
‫ض َو َما‬ ‫ِ‬
‫األر َ‬ ‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫لهم إلى طلب المحبوب والهرب من المرهوب‪ ،‬ولهذا قال هنا‪َ { :‬ما َخلَ ْقَنا الس َ‬
‫ق } أي‪ :‬ال عبثا وال سدى بل ليعرف العباد عظمة خالقهما ويستدلوا على كماله‬ ‫َب ْيَنهُ َما ِإال بِاْل َح ّ‬
‫ويعلموا أن الذي خلقهما على عظمهما قادر على أن يعيد العباد بعد موتهم للجزاء وأن خلقهما‬
‫َج ٍل ُم َس ًّمى }‬
‫وبقاءهما مقدر إلى { أ َ‬
‫فلما أخبر بذلك ‪-‬وهو أصدق القائلين وأقام الدليل وأنار السبيل أخبر ‪-‬مع ذلك‪ -‬أن طائفة من‬
‫ين َكفَ ُروا َع َّما أ ُْن ِذ ُروا‬ ‫َِّ‬
‫الخلق قد أبوا إال إعراضا عن الحق‪ ،‬وصدوفا عن دعوة الرسل فقال‪َ { :‬والذ َ‬
‫ون } وأما الذين آمنوا فلما علموا حقيقة الحال قبلوا وصايا ربهم‪ ،‬وتلقوها بالقبول والتسليم‬ ‫ض َ‬ ‫ُم ْع ِر ُ‬
‫وقابلوها باالنقياد والتعظيم ففازوا بكل خير‪ ،‬واندفع عنهم كل شر‪.‬‬

‫( ‪)1/779‬‬

‫ات ا ْئتُونِي‬ ‫ك ِفي السَّماو ِ‬ ‫ض أ َْم لَهُ ْم ِش ْر ٌ‬


‫ون اللَّ ِه أ َُرونِي َما َذا َخلَقُوا ِم َن اأْل َْر ِ‬
‫ون ِم ْن ُد ِ‬
‫ََ‬ ‫ُق ْل أ ََرأ َْيتُ ْم َما تَ ْد ُع َ‬
‫ون اللَّ ِه َم ْن‬
‫َض ُّل ِم َّم ْن َي ْد ُعو ِم ْن ُد ِ‬
‫ين (‪َ )4‬و َم ْن أ َ‬
‫اب ِم ْن قَْب ِل َه َذا أَو أَثَار ٍة ِم ْن ِعْلٍم ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ َ‬
‫بِ ِكتَ ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اَل يستَ ِجيب لَه ِإلَى يوِم اْل ِقي ِ‬
‫امة َو ُه ْم َع ْن ُد َعائ ِه ْم َغافلُ َ‬
‫ون (‪)5‬‬ ‫َْ َ َ‬ ‫َْ ُ ُ‬
‫ك ِفي‬ ‫ض أ َْم لَهُ ْم ِش ْر ٌ‬
‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ ‪ُ { } 4-6‬ق ْل أَرأ َْيتُم ما تَ ْدعون ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون الله أ َُرونِي َما َذا َخلَقُوا م َن ْ‬ ‫َ ْ َ ُ َ‬
‫َض ُّل ِم َّم ْن َي ْد ُعو‬
‫ين * َو َم ْن أ َ‬
‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ات ِا ْئتُونِي بِ ِكتَ ٍ‬
‫اب ِم ْن قَْب ِل َه َذا أَو أَثَار ٍة ِم ْن ِعْلٍم ِإ ْن ُك ْنتُم ِ ِ‬ ‫السَّماو ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون اللَّ ِه م ْن ال يستَ ِجيب لَه ِإلَى يوِم اْل ِقي ِ‬ ‫ِم ْن ُد ِ‬
‫امة َو ُه ْم َع ْن ُد َعائ ِه ْم َغافلُ َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫َْ َ َ‬ ‫َْ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫أي‪ُ { :‬ق ْل } لهؤالء الذين أشركوا باهلل أوثانا وأندادا ال تملك نفعا وال ضرا وال موتا وال حياة وال‬
‫نشورا‪ ،‬قل لهم ‪-‬مبينا عجز أوثانهم وأنها ال تستحق شيئا من العبادة‪ { :-‬أ َُرونِي َما َذا َخلَقُوا ِم َن‬
‫ات } هل خلقوا من أجرام السماوات واألرض شيئا؟ هل خلقوا‬ ‫ك ِفي السَّماو ِ‬ ‫ض أ َْم لَهُ ْم ِش ْر ٌ‬‫األر ِ‬
‫ََ‬ ‫ْ‬
‫جباال؟ هل أجروا أنهارا؟ هل نشروا حيوانا؟ هل أنبتوا أشجارا؟ هل كان منهم معاونة على خلق‬
‫شيء من ذلك؟‬
‫ال شيء من ذلك بإقرارهم على أنفسهم فضال عن غيرهم‪ ،‬فهذا دليل عقلي قاطع على أن كل من‬
‫سوى اهلل فعبادته باطلة‪.‬‬
‫اب ِم ْن قَْب ِل َه َذا } الكتاب يدعو إلى الشرك { أ َْو‬
‫ثم ذكر انتفاء الدليل النقلي فقال‪ { :‬ا ْئتُونِي بِ ِكتَ ٍ‬
‫أَثَ َار ٍة ِم ْن ِعْلٍم } موروث عن الرسل يأمر بذلك‪ .‬من المعلوم أنهم عاجزون أن يأتوا عن أحد من‬
‫الرسل بدليل يدل على ذلك‪ ،‬بل نجزم ونتيقن أن جميع الرسل دعوا إلى توحيد ربهم ونهوا عن‬
‫ُم ٍة َر ُسوال أ ِ‬
‫َن‬ ‫الشرك به‪ ،‬وهي أعظم ما يؤثر عنهم من العلم قال تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد َب َعثَْنا ِفي ُك ِّل أ َّ‬
‫اعُب ُدوا اللَّهَ َما لَ ُك ْم ِم ْن ِإلَ ٍه َغ ْي ُرهُ } فعلم‬‫وت } وكل رسول قال لقومه‪ْ { :‬‬ ‫اجتَنُِبوا الطَّ ُ‬
‫اغ َ‬ ‫اُ ْعُب ُدوا اللَّهَ َو ْ‬
‫أن جدال المشركين في شركهم غير مستندين فيه على برهان وال دليل وإ نما اعتمدوا على ظنون‬
‫كاذبة وآراء كاسدة وعقول فاسدة‪ .‬يدلك على فسادها استقراء أحوالهم وتتبع علومهم وأعمالهم‬
‫والنظر في حال من أفنوا أعمارهم بعبادته هل أفادهم شيئا في الدنيا أو في اآلخرة؟‬
‫ام ِة } أي‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ون اللَّ ِه م ْن ال َي ْستَ ِج ُ ِ‬
‫يب لَهُ إلَى َي ْوِم اْلقَي َ‬ ‫َ‬ ‫َض ُّل ِم َّم ْن َي ْد ُعو ِم ْن ُد ِ‬
‫ولهذا قال تعالى‪َ { :‬و َم ْن أ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون } ال يسمعون منهم دعاء وال‬ ‫مدة مقامه في الدنيا ال ينتفع به بمثقال ذرة { َو ُه ْم َع ْن ُد َعائ ِه ْم َغافلُ َ‬
‫يجيبون لهم نداء هذا حالهم في الدنيا‪ ،‬ويوم القيامة يكفرون بشركهم‪.‬‬

‫( ‪)1/779‬‬

‫ِ‬ ‫َع َداء و َك ُانوا بِ ِعب َ ِ‬ ‫َوإِ َذا ُح ِش َر َّ‬


‫ادت ِه ْم َكاف ِر َ‬
‫ين (‪)6‬‬ ‫َ‬ ‫اس َك ُانوا لَهُ ْم أ ْ ً َ‬
‫الن ُ‬

‫ِ‬ ‫َع َداء و َك ُانوا بِ ِعب َ ِ‬ ‫{ َوإِ َذا ُح ِش َر َّ‬


‫ادت ِه ْم َكاف ِر َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫اس َك ُانوا لَهُ ْم أ ْ ً َ‬
‫الن ُ‬

‫( ‪)1/779‬‬
‫ون‬
‫ين (‪ )7‬أ َْم َيقُولُ َ‬ ‫اء ُه ْم َه َذا ِس ْحٌر ُمبِ ٌ‬‫ق لَ َّما َج َ‬‫ين َكفَ ُروا ِلْل َح ِّ‬ ‫َِّ‬ ‫ٍ‬
‫َوإِ َذا تُْتلَى َعلَْي ِه ْم آََياتَُنا َبيَِّنات قَا َل الذ َ‬
‫يدا َب ْينِي‬
‫يه َكفَى بِ ِه َش ِه ً‬‫َعلَم بِما تُِفيضون ِف ِ‬
‫ُ َ‬
‫ا ْفتَراه ُق ْل ِإ ِن ا ْفتَر ْيتُه فَاَل تَمِل ُك ِ ِ َّ ِ‬
‫ون لي م َن الله َش ْيًئا ُه َو أ ْ ُ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ُ‬
‫ِ ِ َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ت بِ ْد ًعا ِم َن ُّ ِ‬ ‫وب ْيَن ُكم و ُهو اْل َغفُور َّ ِ‬
‫الر ُسل َو َما أ َْد ِري َما ُي ْف َع ُل بي َواَل ب ُك ْم إ ْن أَتبعُ‬ ‫يم (‪ُ )8‬ق ْل َما ُك ْن ُ‬ ‫الرح ُ‬ ‫ُ‬ ‫ََ ْ َ َ‬
‫ين (‪ُ )9‬ق ْل أَرأ َْيتُم ِإ ْن َكان ِم ْن ِع ْن ِد اللَّ ِه و َكفَرتُم بِ ِه و َش ِه َد َش ِ‬ ‫وحى ِإلَ َّي َو َما أََنا ِإاَّل َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ‬
‫اه ٌد‬ ‫َ ْ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ِإاَّل َما ُي َ‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫ين (‪)10‬‬ ‫استَ ْكَب ْرتُ ْم ِإ َّن اللهَ اَل َي ْهدي اْلقَ ْو َم الظالم َ‬
‫َم َن َو ْ‬
‫م ْن َبني إ ْس َرائي َل َعلَى م ْثله فَآ َ‬

‫اء } يلعن بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض { َو َك ُانوا‬ ‫َع َد ً‬


‫اس َك ُانوا لَهُ ْم أ ْ‬ ‫شر َّ‬
‫الن ُ‬ ‫{ َوإِ َذا ُح َ‬
‫ِ‬ ‫بِ ِعب َ ِ‬
‫ين } [ ص ‪] 780‬‬ ‫ادت ِه ْم َكاف ِر َ‬ ‫َ‬
‫ين * أ َْم‬ ‫اء ُه ْم َه َذا ِس ْحٌر ُمبِ ٌ‬ ‫ق لَ َّما َج َ‬‫ين َكفَ ُروا ِلْل َح ِّ‬ ‫َِّ‬ ‫ٍ‬
‫{ ‪َ { } 7-10‬وإِ َذا تُْتلَى َعلَْي ِه ْم َآياتَُنا َبيَِّنات قَا َل الذ َ‬
‫يدا‬‫يه َكفَى بِ ِه َش ِه ً‬ ‫َعلَم بِما تُِفيضون ِف ِ‬
‫ُ َ‬
‫يقُولُون ا ْفتَراه ُق ْل ِإ ِن ا ْفتَر ْيتُه فَال تَمِل ُك ِ ِ َّ ِ‬
‫ون لي م َن الله َش ْيًئا ُه َو أ ْ ُ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ‬
‫الر ُس ِل َو َما أ َْد ِري َما ُي ْف َع ُل بِي َوال بِ ُك ْم ِإ ْن‬ ‫ت بِ ْد ًعا ِم َن ُّ‬ ‫يم * ُق ْل َما ُك ْن ُ‬ ‫ب ْينِي وب ْيَن ُكم و ُهو اْل َغفُور َّ ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ََ ْ َ َ‬
‫ان ِم ْن ِعْن ِد اللَّ ِه َو َكفَ ْرتُ ْم بِ ِه َو َش ِه َد‬‫ين * ُق ْل أ ََرأ َْيتُ ْم ِإ ْن َك َ‬ ‫وحى ِإلَ َّي َو َما أََنا ِإال َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ‬‫أَتَّبِعُ ِإال َما ُي َ‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫استَ ْكَب ْرتُ ْم ِإ َّن اللهَ ال َي ْهدي اْلقَ ْو َم الظالم َ‬ ‫آم َن َو ْ‬‫َشاه ٌد م ْن َبني إ ْس َرائي َل َعلَى م ْثله فَ َ‬
‫ات } بحيث تكون على وجه ال يمترى بها وال يشك في‬ ‫أي‪ :‬وإ ذا تتلى على المكذبين { آياتَُنا بيَِّن ٍ‬
‫َ َ‬
‫ق‬‫وقوعها وحقها لم تفدهم خيرا بل قامت عليهم بذلك الحجة‪ ،‬ويقولون من إفكهم وافترائهم { ِلْل َح ِّ‬
‫ين } أي‪ :‬ظاهر ال شك فيه وهذا من باب قلب الحقائق الذي ال يروج إال‬ ‫اء ُه ْم َه َذا ِس ْحٌر ُمبِ ٌ‬
‫لَ َّما َج َ‬
‫على ضعفاء العقول‪ ،‬وإ ال فبين الحق الذي جاء به الرسول صلى اهلل عليه وسلم وبين السحر من‬
‫المنافاة والمخالفة أعظم مما بين السماء واألرض‪ ،‬وكيف يقاس الحق ‪-‬الذي عال وارتفع ارتفاعا‬
‫على األفالك وفاق بضوئه ونوره نور الشمس وقامت األدلة األفقية والنفسية عليه‪ ،‬وأقرت به‬
‫وأذعنت أولو البصائر والعقول الرزينة‪ -‬بالباطل الذي هو السحر الذي ال يصدر إال من ضال‬
‫ظالم خبيث النفس خبيث العمل؟! فهو مناسب له وموافق لحاله وهل هذا إال من البهرجة؟‬
‫ون ا ْفتََراهُ } أي‪ :‬افترى محمد هذا القرآن من عند نفسه فليس هو من عند اهلل‪.‬‬ ‫{ أ َْم َيقُولُ َ‬
‫{ ُق ْل } لهم‪ِ { :‬إ ِن ا ْفتََر ْيتُهُ } فاهلل علي قادر وبما تفيضون فيه عالم‪ ،‬فكيف لم يعاقبني على افترائي‬
‫الذي زعمتم؟‬
‫يدا َب ْينِي‬
‫ون ِلي ِم َن اللَّ ِه َش ْيًئا } إن أرادني اهلل بضر أو أرادني برحمة { َكفَى بِ ِه َش ِه ً‬ ‫ِ‬
‫فهل { تَ ْمل ُك َ‬
‫َوَب ْيَن ُك ْم } فلو كنت متقوال عليه ألخذ مني باليمين ولعاقبني عقابا يراه كل أحد ألن هذا أعظم أنواع‬
‫االفتراء لو كنت متقوال ثم دعاهم إلى التوبة مع ما صدر منهم من معاندة الحق ومخاصمته فقال‪:‬‬
‫يم } أي‪ :‬فتوبوا إليه وأقلعوا عما أنتم فيه يغفر لكم ذنوبكم ويرحمكم فيوفقكم‬ ‫{ و ُهو اْل َغفُور َّ ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫للخير ويثيبكم جزيل األجر‪.‬‬
‫ت بِ ْد ًعا ِم َن ُّ‬
‫الر ُس ِل } أي‪ :‬لست بأول رسول جاءكم حتى تستغربوا رسالتي وتستنكروا‬ ‫{ ُق ْل َما ُك ْن ُ‬
‫دعوتي فقد تقدم من الرسل واألنبياء من وافقت دعوتي دعوتهم فألي شيء تنكرون رسالتي؟‬
‫{ َو َما أ َْد ِري َما ُي ْف َع ُل بِي َوال بِ ُك ْم } أي‪ :‬لست إال بشرا ليس بيدي من األمر شيء واهلل تعالى هو‬
‫المتصرف بي وبكم الحاكم علي وعليكم‪ ،‬ولست اآلتي بالشيء من عندي‪َ { ،‬و َما أََنا ِإال َن ِذ ٌير ُمبِ ٌ‬
‫ين‬
‫} فإن قبلتم رسالتي وأجبتم دعوتي فهو حظكم ونصيبكم في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وإ ن رددتم ذلك علي‬
‫فحسابكم على اهلل وقد أنذرتكم ومن أنذر فقد أعذر‪.‬‬
‫آم َن‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫{ ُق ْل أَرأ َْيتُم ِإ ْن َك ِ ِ ِ َّ ِ‬
‫ان م ْن ع ْند الله َو َكفَ ْرتُ ْم به َو َشه َد َشاه ٌد م ْن َبني إ ْس َرائي َل َعلَى م ْثله فَ َ‬‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫استَ ْكَب ْرتُ ْم } أي‪ :‬أخبروني لو كان هذا القرآن من عند اهلل وشهد على صحته الموفقون من أهل‬ ‫َو ْ‬
‫الكتاب الذين عندهم من الحق ما يعرفون أنه الحق فآمنوا به واهتدوا فتطابقت أنباء األنبياء‬
‫َّ‬
‫وأتباعهم النبالء واستكبرتم أيها الجهالء األغبياء فهل هذا إال أعظم الظلم وأشد الكفر؟ { ِإ َّن اللهَ‬
‫ين } ومن الظلم االستكبار عن الحق بعد التمكن منه‪.‬‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ال َي ْهدي اْلقَ ْو َم الظالم َ‬

‫( ‪)1/779‬‬

‫يم‬ ‫ونا ِإلَْي ِه وإِ ْذ لَم يهتَ ُدوا بِ ِه فَسيقُولُون َه َذا ِإ ْف ٌ ِ‬ ‫َِِّ‬ ‫وقَ َ َِّ‬
‫ك قَد ٌ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ ْ َْ‬ ‫ان َخ ْي ًرا َما َسَبقُ َ‬‫َمُنوا لَ ْو َك َ‬
‫ين آ َ‬
‫ين َكفَ ُروا للذ َ‬
‫ال الذ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ظلَ ُموا‬
‫ين َ‬ ‫ق ل َس ًانا َعَربِيًّا لُي ْنذ َر الذ َ‬
‫ص ِّد ٌ‬
‫اب ُم َ‬
‫اما َو َر ْح َمةً َو َه َذا كتَ ٌ‬ ‫اب م َ ِ‬
‫وسى إ َم ً‬
‫ِ‬
‫(‪َ )11‬وم ْن قَْبله كتَ ُ ُ‬
‫ين (‪)12‬‬ ‫ِ ِِ‬
‫َوُب ْش َرى لْل ُم ْحسن َ‬

‫ونا ِإلَْي ِه َوإِ ْذ لَ ْم َي ْهتَ ُدوا بِ ِه‬


‫ان َخ ْي ًرا َما َسَبقُ َ‬
‫آمُنوا لَ ْو َك َ‬
‫ين َ‬
‫َِِّ‬
‫ين َكفَ ُروا للذ َ‬
‫َِّ‬
‫{ ‪َ { } 11-12‬وقَا َل الذ َ‬
‫ق ِل َس ًانا َع َربِيًّا‬ ‫ص ِّد ٌ‬
‫اب ُم َ‬ ‫اما َو َر ْح َمةً َو َه َذا ِكتَ ٌ‬ ‫اب م َ ِ‬
‫وسى إ َم ً‬
‫ِ ِِ ِ‬
‫يم * َوم ْن قَْبله كتَ ُ ُ‬
‫فَسيقُولُون َه َذا ِإ ْف ٌ ِ‬
‫ك قَد ٌ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ َِّ‬
‫ظلَ ُموا َوُب ْش َرى لْل ُم ْحسن َ‬
‫ين َ‬ ‫لُي ْنذ َر الذ َ‬
‫ونا ِإلَْي ِه } أي‪ :‬ما سبقنا‬ ‫ان َخ ْي ًرا َما َسَبقُ َ‬ ‫أي‪ :‬قال الكفار بالحق معاندين له ورادين لدعوته‪ { :‬لَ ْو َك َ‬
‫إليه المؤمنون أي‪ :‬لكنا أول مبادر به وسابق إليه وهذا من البهرجة في مكان‪ ،‬فأي دليل يدل على‬
‫أن عالمة الحق سبق المكذبين به للمؤمنين؟ هل هم أزكى نفوسا؟ أم أكمل عقوال؟ أم الهدى‬
‫بأيديهم؟ ولكن هذا الكالم الذي صدر منهم يعزون به أنفسهم بمنزلة من لم يقدر على الشيء ثم‬
‫يم } أي‪ :‬هذا السبب الذي دعاهم‬ ‫طفق يذمه ولهذا قال‪ { :‬وإِ ْذ لَم يهتَ ُدوا بِ ِه فَسيقُولُون َه َذا ِإ ْف ٌ ِ‬
‫ك قَد ٌ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ ْ َْ‬
‫إليه أنهم لما لم يهتدوا بهذا القرآن وفاتهم أعظم المواهب وأجل الرغائب قدحوا فيه بأنه كذب وهو‬
‫الحق الذي ال شك فيه وال امتراء يعتريه‪.‬‬
‫الذي قد وافق الكتب السماوية خصوصا أكملها وأفضلها بعد القرآن وهي التوراة التي أنزلها اهلل‬
‫اما َو َر ْح َمةً } أي‪ :‬يقتدي بها بنو إسرائيل ويهتدون بها فيحصل لهم خير الدنيا‬ ‫ِ‬
‫على موسى { إ َم ً‬
‫َّ‬
‫وصدقها بموافقته لها‬ ‫ق } للكتب السابقة شهد بصدقها‬ ‫ص ِّد ٌ‬ ‫واآلخرة‪َ { .‬و َه َذا } القرآن { ِكتَ ٌ‬
‫اب ُم َ‬
‫ِ ِ َِّ‬ ‫ِ‬
‫ظلَ ُموا } أنفسهم بالكفر‬ ‫وجعله اهلل { ل َس ًانا َع َربِيًّا } ليسهل تناوله ويتيسر تذكره‪ { ،‬لُي ْنذ َر الذ َ‬
‫ين َ‬
‫والفسوق والعصيان إن استمروا على ظلمهم بالعذاب الوبيل ويبشر المحسنين في عبادة الخالق‬
‫وفي نفع المخلوقين بالثواب الجزيل في الدنيا واآلخرة ويذكر األعمال التي ينذر عنها واألعمال‬
‫التي يبشر بها‪.‬‬

‫( ‪)1/780‬‬

‫اب اْل َجَّن ِة‬


‫َص َح ُ‬ ‫ون (‪ )13‬أُولَئِ َ‬
‫كأ ْ‬ ‫ف َعلَْي ِه ْم َواَل ُه ْم َي ْح َزُن َ‬
‫اموا فَاَل َخ ْو ٌ‬
‫استَقَ ُ‬
‫َّ‬ ‫َِّ‬
‫ِإ َّن الذ َ‬
‫ين قَالُوا َربَُّنا اللهُ ثَُّم ْ‬
‫َخ ِال ِد ِ‬
‫ون (‪)14‬‬ ‫اء بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫ين فيهَا َج َز ً‬ ‫َ‬

‫ون * أُولَئِ َ‬
‫ك‬ ‫ف َعلَْي ِه ْم َوال ُه ْم َي ْح َزُن َ‬
‫اموا فَال َخ ْو ٌ‬
‫استَقَ ُ‬
‫َّ‬ ‫َِّ‬
‫{ ‪ِ { } 13-14‬إ َّن الذ َ‬
‫ين قَالُوا َربَُّنا اللهُ ثَُّم ْ‬
‫أَصحاب اْلجَّن ِة َخ ِال ِد ِ‬
‫اء بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫ون }‬ ‫ين فيهَا َج َز ً‬
‫َ‬ ‫َْ ُ َ‬
‫أي‪ :‬إن الذين أقروا بربهم وشهدوا له بالوحدانية والتزموا طاعته‬
‫[ ص ‪] 781‬‬
‫ف َعلَْي ِه ْم } من كل شر أمامهم‪َ { ،‬وال ُه ْم‬
‫اموا } مدة حياتهم { فَال َخ ْو ٌ‬ ‫استَقَ ُ‬
‫وداموا على ذلك‪ ،‬و { ْ‬
‫ون } على ما خلفوا وراءهم‪.‬‬ ‫َي ْح َزُن َ‬
‫اب اْل َجَّن ِة } أي‪ :‬أهلها المالزمون لها الذين ال يبغون عنها حوال وال يريدون بها بدال‬ ‫َص َح ُ‬‫كأ ْ‬ ‫{ أُولَئِ َ‬
‫{ َخ ِال ِد ِ‬
‫ون } من اإليمان باهلل المقتضى لألعمال الصالحة التي استقاموا‬ ‫اء بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫ين فيهَا َج َز ً‬
‫َ‬
‫عليها‪.‬‬

‫( ‪)1/780‬‬

‫ون َش ْه ًرا‬
‫صالُهُ ثَاَل ثُ َ‬‫ض َعتْهُ ُك ْر ًها َو َح ْملُهُ َو ِف َ‬ ‫ان بِ َو ِال َد ْي ِه ِإ ْح َس ًانا َح َملَتْهُ أ ُّ‬
‫ُمهُ ُك ْر ًها َو َو َ‬ ‫َّيَنا اإْلِ ْن َس َ‬
‫َو َوص ْ‬
‫ت َعلَ َّي َو َعلَى‬ ‫ك الَّتِي أ َْن َع ْم َ‬
‫َن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ َ‬
‫ب أ َْو ِز ْعنِي أ ْ‬
‫ال َر ِّ‬‫ين َسَنةً قَ َ‬ ‫ِ‬
‫َحتَّى ِإ َذا َبلَ َغ أَ ُش َّدهُ َوَبلَ َغ أ َْرَبع َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ت ِإلَْي َ‬‫َصِل ْح ِلي ِفي ُذِّريَّتِي ِإِّني تُْب ُ‬ ‫َعم َل ِ‬ ‫َو ِال َد َّ‬
‫ين (‪)15‬‬ ‫ك َوإِ ِّني م َن اْل ُم ْسلم َ‬ ‫ضاهُ َوأ ْ‬ ‫صال ًحا تَْر َ‬ ‫َن أ ْ َ َ‬ ‫ي َوأ ْ‬
‫اب اْل َجَّن ِة َو ْع َد الص ْ‬
‫ِّد ِ‬
‫ق‬ ‫َص َح ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫جاو ُز َع ْن َسيَِّئات ِه ْم في أ ْ‬
‫ِ‬ ‫ين َنتَقََّب ُل َعْنهُ ْم أ ْ‬
‫َح َس َن َما َعملُوا َوَنتَ َ‬
‫أُولَئِ َ َِّ‬
‫ك الذ َ‬
‫ون (‪)16‬‬ ‫َِّ‬
‫وع ُد َ‬
‫الذي َك ُانوا ُي َ‬

‫ض َعتْهُ ُك ْر ًها َو َح ْملُهُ َو ِف َ‬


‫صالُهُ‬ ‫ان بِ َو ِال َد ْي ِه ِإ ْح َس ًانا َح َملَتْهُ أ ُّ‬
‫ُمهُ ُك ْر ًها َو َو َ‬ ‫اإلن َس َ‬
‫َّيَنا ْ‬ ‫{ ‪َ { } 15-16‬و َوص ْ‬
‫ك الَّتِي أ َْن َع ْم َ‬
‫ت‬ ‫َن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ َ‬
‫ب أ َْو ِز ْعنِي أ ْ‬
‫ين َسَنةً قَا َل َر ِّ‬ ‫ِ‬
‫ون َش ْه ًرا َحتَّى ِإ َذا َبلَ َغ أَ ُش َّدهُ َوَبلَ َغ أ َْرَبع َ‬ ‫ثَالثُ َ‬
‫ك َوإِ ِّني ِم َن‬‫ت ِإلَْي َ‬‫َصِل ْح ِلي ِفي ُذِّريَّتِي ِإِّني تُْب ُ‬ ‫ضاهُ َوأ ْ‬ ‫صال ًحا تَْر َ‬
‫َعم َل ِ‬
‫َن أ ْ َ َ‬ ‫ي َوأ ْ‬‫َعلَ َّي َو َعلَى َو ِال َد َّ‬
‫اب اْل َجَّن ِة َو ْع َد‬
‫َص َح ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫جاو ُز َع ْن َسيَِّئات ِه ْم في أ ْ‬
‫ِ‬
‫َح َس َن َما َعملُوا َوَنتَ َ‬ ‫ين َنتَقََّب ُل َع ْنهُ ْم أ ْ‬ ‫اْلمسِل ِمين * أُولَئِ َ َِّ‬
‫ك الذ َ‬ ‫ُْ َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِّد ِ َِّ‬
‫وع ُد َ‬‫ق الذي َك ُانوا ُي َ‬ ‫الص ْ‬
‫هذا من لطفه تعالى بعباده وشكره للوالدين أن وصى األوالد وعهد إليهم أن يحسنوا إلى والديهم‬
‫بالقول اللطيف والكالم اللين وبذل المال والنفقة وغير ذلك من وجوه اإلحسان‪.‬‬
‫ثم نبه على ذكر السبب الموجب لذلك فذكر ما تحملته األم من ولدها وما قاسته من المكاره وقت‬
‫حملها ثم مشقة والدتها المشقة الكبيرة ثم مشقة الرضاع وخدمة الحضانة‪ ،‬وليست المذكورات مدة‬
‫يسيرة ساعة أو ساعتين‪،‬‬
‫ون َش ْه ًرا } للحمل تسعة أشهر ونحوها والباقي للرضاع هذا هو‬ ‫وإ نما ذلك مدة طويلة قدرها { ثَالثُ َ‬
‫الغالب‪.‬‬
‫املَْي ِن } أن أقل مدة الحمل‬ ‫الد ُه َّن حولَْي ِن َك ِ‬ ‫ات ير ِ‬
‫ض ْع َن أ َْو َ‬ ‫ِ‬
‫َْ‬ ‫ويستدل بهذه اآلية مع قوله‪َ { :‬واْل َوال َد ُ ُ ْ‬
‫ستة أشهر ألن مدة الرضاع ‪-‬وهي سنتان‪ -‬إذا سقطت منها السنتان بقي ستة أشهر مدة للحمل‪{ ،‬‬
‫ب أ َْو ِز ْعنِي }‬ ‫ِ‬
‫َحتَّى ِإ َذا َبلَ َغ أَ ُش َّدهُ } أي‪ :‬نهاية قوته وشبابه وكمال عقله‪َ { ،‬وَبلَ َغ أ َْرَبع َ‬
‫ين َسَنةً قَا َل َر ِّ‬
‫ي } أي‪ :‬نعم الدين ونعم‬ ‫ت َعلَ َّي َو َعلَى َو ِال َد َّ‬
‫ك الَّتِي أ َْن َع ْم َ‬
‫َن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ َ‬
‫أي‪ :‬ألهمني ووفقني { أ ْ‬
‫الدنيا‪ ،‬وشكره بصرف النعم في طاعة مسديها وموليها ومقابلته منته باالعتراف والعجز عن‬
‫الشكر واالجتهاد في الثناء بها على اهلل‪ ،‬والنعم على الوالدين نعم على أوالدهم وذريتهم ألنهم ال‬
‫بد أن ينالهم منها ومن أسبابها وآثارها‪ ،‬خصوصا نعم الدين فإن صالح الوالدين بالعلم والعمل من‬
‫أعظم األسباب لصالح أوالدهم‪.‬‬
‫ضاهُ } بأن يكون جامعا لما يصلحه سالما مما يفسده‪ ،‬فهذا العمل الذي‬ ‫َعم َل ِ‬
‫صال ًحا تَْر َ‬
‫َن أ ْ َ َ‬ ‫{ َوأ ْ‬
‫َصِل ْح ِلي ِفي ُذِّريَّتِي } لما دعا لنفسه بالصالح دعا لذريته أن‬ ‫يرضاه اهلل ويقبله ويثيب عليه‪َ { .‬وأ ْ‬
‫َصِل ْح ِلي }‬
‫يصلح اهلل أحوالهم‪ ،‬وذكر أن صالحهم يعود نفعه على والديهم لقوله‪َ { :‬وأ ْ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ت ِإلَْي َ‬
‫{ ِإِّني تُْب ُ‬
‫ك } من الذنوب والمعاصي ورجعت إلى طاعتك { َوإِ ِّني م َن اْل ُم ْسلم َ‬
‫ين }‬
‫َح َس َن َما َع ِملُوا } وهو الطاعات ألنهم‬ ‫ين َنتَقََّب ُل َعْنهُ ْم أ ْ‬ ‫َِّ‬
‫ك } الذين ذكرت أوصافهم { الذ َ‬ ‫{ أُولَئِ َ‬
‫اب اْل َجَّن ِة } فحصل لهم الخير‬ ‫َص َح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫جاو ُز َع ْن َسيَِّئات ِه ْم } في جملة { أ ْ‬ ‫يعملون أيضا غيرها‪َ { .‬وَنتَ َ‬
‫والمحبوب وزال عنهم الشر والمكروه‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬هذا الوعد الذي وعدناهم هو وعد صادق من أصدق‬ ‫ِّد ِ َِّ‬
‫وع ُد َ‬
‫ق الذي َك ُانوا ُي َ‬ ‫{ َو ْع َد الص ْ‬
‫القائلين الذي ال يخلف الميعاد‪.‬‬

‫( ‪)1/781‬‬

‫ك‬‫ان اللَّهَ َوْيلَ َ‬ ‫ون ِم ْن قَْبِلي َو ُه َما َي ْستَ ِغيثَ ِ‬ ‫ِ‬


‫ُخ َر َج َوقَ ْد َخلَت اْلقُُر ُ‬ ‫ُف لَ ُك َما أَتَ ِع َدانِنِي أ ْ‬
‫َن أ ْ‬ ‫ال ِل َو ِال َد ْي ِه أ ٍّ‬
‫َوالَِّذي قَ َ‬
‫ُمٍم‬ ‫ِ‬ ‫ين َح َّ ِ‬ ‫اطير اأْل ََّوِلين (‪ )17‬أُولَئِ َ َِّ‬ ‫ق فَيقُو ُل ما َه َذا ِإاَّل أ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ق َعلَْيه ُم اْلقَ ْو ُل في أ َ‬ ‫ك الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َس ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫آَم ْن ِإ َّن َو ْع َد الله َح ٌّ َ‬
‫ات ِم َّما َع ِملُوا َوِلُي َوفَِّيهُ ْم‬ ‫ين (‪َ )18‬وِل ُك ٍّل َد َر َج ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ت ِم ْن قَْبِل ِه ْم ِم َن اْل ِج ِّن واإْلِ ْن ِ‬
‫س ِإَّنهُ ْم َك ُانوا َخاس ِر َ‬ ‫َ‬ ‫قَ ْد َخلَ ْ‬
‫ون (‪)19‬‬ ‫ظلَ ُم َ‬
‫َع َمالَهُ ْم َو ُه ْم اَل ُي ْ‬
‫أْ‬

‫ون ِم ْن قَْبِلي َو ُه َما‬ ‫ِ‬


‫ُخ َر َج َوقَ ْد َخلَت اْلقُُر ُ‬
‫َن أ ْ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ال ِل َو ِال َد ْي ِه أ ٍّ‬
‫ُف لَ ُك َما أَتَع َدانني أ ْ‬ ‫{ ‪َ { } 17-19‬والَِّذي قَ َ‬
‫األوِلين * أُولَئِ َ َِّ‬ ‫ق فَيقُو ُل ما َه َذا ِإال أ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ان اللَّه وْيلَ َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َح َّ‬
‫ق‬ ‫ك الذ َ‬ ‫َساط ُير َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك آم ْن ِإ َّن َو ْع َد الله َح ٌّ َ‬ ‫َي ْستَغيثَ ِ َ َ‬
‫ات ِم َّما‬ ‫ين * َوِل ُك ٍّل َد َر َج ٌ‬ ‫ِ‬
‫س ِإَّنهُ ْم َك ُانوا َخاس ِر َ‬ ‫ت ِم ْن قَْبِل ِه ْم ِم َن اْل ِج ِّن َو ْ‬
‫اإلن ِ‬ ‫ُمٍم قَ ْد َخلَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعلَْيه ُم اْلقَ ْو ُل في أ َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ظلَ ُم َ‬ ‫َع َمالَهُ ْم َو ُه ْم ال ُي ْ‬ ‫َع ِملُوا َوِلُي َوفَِّيهُ ْم أ ْ‬
‫لما ذكر تعالى حال الصالح البار لوالديه ذكر حالة العاق وأنها شر الحاالت فقال‪َ { :‬والَِّذي قَ َ‬
‫ال‬
‫ِل َو ِال َد ْي ِه } إذ دعواه (‪ )1‬إلى اإليمان باهلل واليوم اآلخر وخوفاه الجزاء‪.‬‬
‫وهذا أعظم إحسان يصدر من الوالدين لولدهما أن يدعواه إلى ما فيه سعادته األبدية وفالحه‬
‫ُف لَ ُك َما } أي‪ :‬تبا لكما ولما جئتما به‪.‬‬ ‫السرمدي فقابلهما بأقبح مقابلة فقال‪ { :‬أ ٍّ‬
‫ُخ َر َج } من قبري إلى يوم القيامة { َوقَ ْد‬ ‫ثم ذكر وجه استبعاده وإ نكاره لذلك فقال‪ { :‬أَتَ ِع َدانِنِي أ ْ‬
‫َن أ ْ‬
‫ون ِم ْن قَْبِلي } على التكذيب وسلفوا على الكفر وهم األئمة المقتدى بهم لكل كفور‬ ‫ِ‬
‫َخلَت اْلقُُر ُ‬
‫ك ِ‬
‫آم ْن } أي‪:‬‬ ‫ان اللَّهَ } عليه ويقوالن له‪َ { :‬وْيلَ َ‬
‫وجهول ومعاند؟ { َو ُه َما } أي‪ :‬والداه { َي ْستَ ِغيثَ ِ‬
‫يبذالن غاية جهدهما ويسعيان في هدايته أشد السعي حتى إنهما ‪-‬من حرصهما عليه‪ -‬أنهما‬
‫يستغيثان اهلل له استغاثة الغريق ويسأالنه سؤال الشريق ويعذالن ولدهما ويتوجعان له ويبينان له‬
‫ق } ثم يقيمان عليه من األدلة ما أمكنهما‪ ،‬وولدهما ال يزداد [ ص‬ ‫الحق فيقوالن‪ِ { :‬إ َّن و ْع َد اللَّ ِه َح ٌّ‬
‫َ‬
‫‪ ] 782‬إال عتوا ونفورا واستكبارا عن الحق وقدحا فيه‪ { ،‬فَيقُو ُل ما َه َذا ِإال أَس ِ‬
‫األوِل َ‬
‫ين }‬ ‫اط ُير َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬إال منقول من كتب المتقدمين ليس من عند اهلل وال أوحاه اهلل إلى رسوله‪ ،‬وكل أحد يعلم أن‬
‫محمدا صلى اهلل عليه وسلم أمي ال يكتب وال يقرأ وال تعلم من أحد‪ ،‬فمن أين يتعلمه؟ وأنى للخلق‬
‫أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا؟‪.‬‬
‫ق َعلَْي ِه ُم اْلقَ ْو ُل } أي‪ :‬حقت عليهم كلمة العذاب { ِفي }‬
‫ين } بهذه الحالة الذميمة { َح َّ‬ ‫{ أُولَئِ َ َِّ‬
‫ك الذ َ‬
‫ت ِم ْن قَْبِل ِه ْم ِم َن اْل ِج ِّن َو ْ‬
‫اإلن ِ‬
‫س } على الكفر والتكذيب فسيدخل هؤالء في‬ ‫ُمٍم قَ ْد َخلَ ْ‬
‫جملة { أ َ‬
‫غمارهم وسيغرقون في تيارهم‪.‬‬
‫ِ‬
‫{ ِإَّنهُ ْم َك ُانوا َخاس ِر َ‬
‫ين } والخسران فوات رأس مال اإلنسان‪ ،‬وإ ذا فقد رأس ماله فاألرباح من باب‬
‫أولى وأحرى‪ ،‬فهم قد فاتهم اإليمان ولم يحصلوا على شيء من النعيم وال سلموا من عذاب‬
‫الجحيم‪.‬‬
‫ات ِم َّما َع ِملُوا } أي‪ :‬كل على حسب مرتبته من الخير‬ ‫{ َوِل ُك ٍّل } من أهل الخير وأهل الشر { َد َر َج ٌ‬
‫والشر ومنازلهم في الدار اآلخرة على قدر أعمالهم ولهذا قال‪َ { :‬وِلُي َوفَِّيهُ ْم أ ْ‬
‫َع َمالَهُ ْم َو ُه ْم ال‬
‫ون } بأن ال يزاد في سيئاتهم وال ينقص من حسناتهم‪.‬‬
‫ظلَ ُم َ‬
‫ُي ْ‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في النسختين‪ :‬دعياه‪.‬‬

‫( ‪)1/781‬‬

‫استَ ْمتَ ْعتُ ْم بِهَا فَاْلَي ْو َم تُ ْج َز ْو َن‬ ‫طيَِّباتِ ُك ْم ِفي َحَياتِ ُك ُم ُّ‬
‫الد ْنَيا َو ْ‬ ‫الن ِار أَ ْذ َه ْبتُ ْم َ‬
‫ين َكفَ ُروا َعلَى َّ‬ ‫َِّ‬
‫ض الذ َ‬ ‫َوَي ْو َم ُي ْع َر ُ‬
‫ون (‪)20‬‬ ‫ق َوبِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْف ُسقُ َ‬ ‫ون ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ض بِ َغ ْي ِر اْل َح ِّ‬ ‫ون بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْستَ ْكبِ ُر َ‬
‫اب اْلهُ ِ‬‫َع َذ َ‬

‫استَ ْمتَ ْعتُ ْم بِهَا‬ ‫طيَِّباتِ ُك ْم ِفي َحَياتِ ُك ُم ُّ‬


‫الد ْنَيا َو ْ‬ ‫الن ِار أَ ْذ َه ْبتُ ْم َ‬
‫ين َكفَ ُروا َعلَى َّ‬ ‫َِّ‬
‫ض الذ َ‬
‫{ ‪َ { } 20‬وَي ْو َم ُي ْع َر ُ‬
‫ون بِما ُك ْنتُم تَستَ ْكبِر ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ق َوبِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْف ُسقُ َ‬‫ض بِ َغ ْي ِر اْل َح ِّ‬
‫األر ِ‬
‫ون في ْ‬ ‫ْ ْ ُ َ‬ ‫اب اْلهُ ِ َ‬
‫فَاْلَي ْو َم تُ ْج َز ْو َن َع َذ َ‬
‫يذكر تعالى حال الكفار عند عرضهم على النار حين يوبخون ويقرعون فيقال لهم‪ { :‬أَ ْذ َه ْبتُ ْم‬
‫طيَِّباتِ ُك ْم ِفي َحَياتِ ُك ُم ُّ‬
‫الد ْنَيا } حيث اطمأننتم إلى الدنيا‪ ،‬واغتررتم بلذاتها ورضيتم بشهواتها وألهتكم‬ ‫َ‬
‫طيباتها عن السعي آلخرتكم وتمتعتم تمتع األنعام السارحة فهي حظكم من آخرتكم‪ { ،‬فَاْلَي ْو َم‬
‫ون } أي‪ :‬العذاب الشديد الذي يهينكم ويفضحكم بما كنتم تقولون على اهلل غير‬ ‫اب اْلهُ ِ‬
‫تُ ْج َز ْو َن َع َذ َ‬
‫الحق‪ ،‬أي‪ :‬تنسبون الطريق الضالة التي أنتم عليها إلى اهلل وإ لى حكمه وأنتم كذبة في ذلك‪َ { ،‬وبِ َما‬
‫ون } أي‪ :‬تتكبرون عن طاعته‪ ،‬فجمعوا بين قول الباطل والعمل بالباطل والكذب على‬
‫ُك ْنتُ ْم تَ ْف ُسقُ َ‬
‫اهلل بنسبته إلى رضاه والقدح في الحق واالستكبار عنه فعوقبوا أشد العقوبة‪.‬‬

‫( ‪)1/782‬‬
‫َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫اف وقَ ْد َخلَ ِت ُّ ِ‬ ‫َخا ع ٍاد ِإ ْذ أ َْن َذر قَومه بِاأْل ْ ِ‬
‫الن ُذ ُر م ْن َب ْي ِن َي َد ْيه َو ِم ْن َخْلفه أَاَّل تَ ْعُب ُدوا ِإاَّل اللهَ‬ ‫َحقَ َ‬ ‫َ َُْ‬ ‫َوا ْذ ُك ْر أ َ َ‬
‫ت ِم َن‬ ‫اب َي ْوٍم َع ِظ ٍيم (‪ )21‬قَالُوا أَ ِج ْئتََنا ِلتَأ ِْف َكَنا َع ْن آَِلهَتَِنا فَأْتَِنا بِ َما تَ ِع ُدَنا ِإ ْن ُك ْن َ‬ ‫اف َعلَْي ُك ْم َع َذ َ‬
‫َخ ُ‬ ‫ِإِّني أ َ‬
‫ال ِإَّنما اْل ِعْلم ِعْن َد اللَّ ِه وأُبلِّ ُغ ُكم ما أُر ِسْل ُ ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ون (‪)23‬‬ ‫ت بِه َولَكِّني أ ََرا ُك ْم قَ ْو ًما تَ ْجهَلُ َ‬ ‫ََ ْ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ين (‪ )22‬قَ َ َ‬ ‫الصَّادق َ‬
‫يح ِفيهَا‬ ‫استَ ْع َجْلتُ ْم بِ ِه ِر ٌ‬ ‫ِ‬
‫ض ُم ْمط ُرَنا َب ْل ُه َو َما ْ‬ ‫ضا ُم ْستَ ْقبِ َل أ َْو ِدَيتِ ِه ْم قَالُوا َه َذا َع ِار ٌ‬
‫َفلَ َّما َرأ َْوهُ َع ِار ً‬
‫ك َن ْج ِزي اْلقَ ْو َم‬ ‫اكُنهُ ْم َك َذِل َ‬
‫اب أَِليم (‪ )24‬تُ َد ِّمر ُك َّل َشي ٍء بِأَم ِر ربِّها فَأَصبحوا اَل يرى ِإاَّل مس ِ‬
‫ََ‬ ‫َُ‬ ‫َْ ُ‬ ‫ْ ْ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َع َذ ٌ ٌ‬
‫َغَنى َعْنهُ ْم‬ ‫ص ًارا َوأَ ْفئِ َدةً فَ َما أ ْ‬ ‫ِِ‬ ‫َّ‬
‫يما ِإ ْن َمكَّنا ُك ْم فيه َو َج َعْلَنا لَهُ ْم َس ْم ًعا َوأ َْب َ‬
‫اْلم ْج ِر ِمين (‪ )25‬ولَقَ ْد م َّكَّن ُ ِ‬
‫اه ْم ف َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫اق بِ ِه ْم َما َك ُانوا بِ ِه‬ ‫ات اللَّ ِه َو َح َ‬ ‫سمعهم واَل أ َْبصار ُهم واَل أَ ْفئِ َدتُهم ِم ْن َشي ٍء ِإ ْذ َك ُانوا ي ْجح ُدون بِآَي ِ‬
‫َ َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُْ‬ ‫َُ َْ‬ ‫َ ْ ُ ُْ َ‬
‫ون (‪)26‬‬ ‫َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬

‫األحقَ ِ‬
‫اف } إلى آخر القصة (‪)1‬‬ ‫َخا َع ٍاد ِإ ْذ أ َْن َذ َر قَ ْو َمهُ بِ ْ‬
‫{ ‪َ { } 21-26‬وا ْذ ُك ْر أ َ‬
‫َخا َع ٍاد } وهو هود عليه السالم‪ ،‬حيث كان من الرسل الكرام‬ ‫أي‪َ { :‬وا ْذ ُك ْر } بالثناء الجميل { أ َ‬
‫الذين فضلهم اهلل تعالى بالدعوة إلى دينه وإ رشاد الخلق إليه‪.‬‬
‫اف } أي‪ :‬في منازلهم المعروفة باألحقاف وهي‪ :‬الرمال‬ ‫األحقَ ِ‬ ‫{ ِإ ْذ أ َْن َذ َر قَ ْو َمهُ } وهم عاد { بِ ْ‬
‫الكثيرة في أرض اليمن‪.‬‬
‫الن ُذ ُر ِم ْن َب ْي ِن َي َد ْي ِه َو ِم ْن َخْل ِف ِه } فلم يكن بدعا منهم وال مخالفا لهم‪ ،‬قائال لهم‪ { :‬أَال‬
‫{ َوقَ ْد َخلَ ِت ُّ‬
‫اب َي ْوٍم َع ِظ ٍيم }‬
‫اف َعلَْي ُك ْم َع َذ َ‬‫َخ ُ‬ ‫تَ ْعُب ُدوا ِإال اللَّهَ ِإِّني أ َ‬
‫فأمرهم بعبادة اهلل الجامعة لكل قول سديد وعمل حميد‪ ،‬ونهاهم عن الشرك والتنديد وخوفهم ‪-‬إن‬
‫لم يطيعوه‪ -‬العذاب الشديد فلم تفد فيهم تلك الدعوة‪.‬‬
‫{ قَالُوا أَ ِج ْئتََنا ِلتَأ ِْف َكَنا َع ْن ِآلهَتَِنا } أي‪ :‬ليس لك من القصد وال معك من الحق إال أنك حسدتنا على‬
‫آلهتنا فأردت أن تصرفنا عنها‪.‬‬
‫ين } وهذا غاية الجهل والعناد‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫{ فَأْتَِنا بِما تَ ِع ُدَنا ِإ ْن ُك ْن َ ِ‬
‫ت م َن الصَّادق َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫{ قَا َل ِإَّن َما اْلعْل ُم عْن َد الله } فهو الذي بيده أزمة األمور ومقاليدها وهو الذي يأتيكم بالعذاب إن شاء‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ِ‬ ‫{ وأُبلِّ ُغ ُكم ما أُر ِسْل ُ ِ‬
‫ت بِه } أي‪ :‬ليس علي إال البالغ المبين‪َ { ،‬ولَكِّني أ ََرا ُك ْم قَ ْو ًما تَ ْجهَلُ َ‬
‫ون } فلذلك‬ ‫ََ ْ َ ْ‬
‫صدر منكم ما صدر من هذه الجرأة الشديدة‪ ،‬فأرسل اهلل عليهم العذاب العظيم وهو الريح التي‬
‫دمرتهم وأهلكتهم‪.‬‬
‫ضا ُم ْستَ ْقبِ َل أ َْو ِدَيتِ ِه ْم } أي‪ :‬معترضا كالسحاب قد‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬فلَ َّما َرأ َْوهُ } أي‪ :‬العذاب { َع ِار ً‬
‫أقبل على أوديتهم التي تسيل فتسقي نوابتهم ويشربون من آبارها وغدرانها‪.‬‬
‫ض ُم ْم ِط ُرَنا } أي‪ :‬هذا السحاب سيمطرنا‪.‬‬ ‫{ قَالُوا } مستبشرين‪َ { :‬ه َذا َع ِار ٌ‬
‫استَ ْع َجْلتُ ْم بِ ِه } أي‪ :‬هذا الذي جنيتم به على أنفسكم حيث قلتم‪ { :‬فَأْتَِنا بِ َما‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬ب ْل ُه َو َما ْ‬
‫يح ِفيها ع َذ ٌ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫تَ ِع ُدَنا ِإ ْن ُك ْن َ ِ‬
‫يم }‬ ‫اب أَل ٌ‬ ‫ين } { ِر ٌ َ َ‬ ‫ت م َن الصَّادق َ‬
‫{ تُ َد ِّم ُر ُك َّل َش ْي ٍء } تمر عليه من شدتها ونحسها‪.‬‬
‫فسلطها اهلل عليهم { سبع ليالي وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل‬
‫خاوية } [ { بِأَم ِر ربِّها } أي‪ :‬بإذنه ومشيئته]‪ { .‬فَأَصبحوا ال يرى ِإال مس ِ‬
‫اكُنهُ ْم } قد تلفت‬ ‫ََ‬ ‫َُ‬ ‫َْ ُ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ِ‬
‫ين } بسبب جرمهم وظلمهم‪.‬‬ ‫ك َن ْج ِزي اْلقَ ْو َم اْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫مواشيهم وأموالهم وأنفسهم‪َ { .‬ك َذل َ‬
‫هذا مع أن اهلل تعالى قد أدر عليهم النعم العظيمة فلم يشكروه وال ذكروه ولهذا قال‪َ { :‬ولَقَ ْد َم َّكَّن ُ‬
‫اه ْم‬
‫يه } أي‪ :‬مكناهم في األرض يتناولون طيباتها ويتمتعون بشهواتها‬ ‫ِفيما ِإ ْن م َّكَّنا ُكم ِف ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫[ ص ‪] 783‬‬
‫وعمرناهم عمرا يتذكر فيه من تذكر‪ ،‬ويتعظ فيه المهتدي‪ ،‬أي‪ :‬ولقد مكنا عادا كما مكناكم يا‬
‫هؤالء المخاطبون أي‪ :‬فال تحسبوا أن ما مكناكم فيه مختص بكم وأنه سيدفع عنكم من عذاب اهلل‬
‫شيئا‪ ،‬بل غيركم أعظم منكم تمكينا فلم تغن عنهم أموالهم وال أوالدهم وال جنودهم من اهلل شيئا‪.‬‬
‫ص ًارا َوأَ ْفئِ َدةً } أي‪ :‬ال قصور في أسماعهم وال أبصارهم وال أذهانهم حتى‬ ‫{ َو َج َعْلَنا لَهُ ْم َس ْم ًعا َوأ َْب َ‬
‫يقال إنهم تركوا الحق جهال منهم وعدم تمكن من العلم به وال خلل في عقولهم ولكن التوفيق بيد‬
‫ص ُار ُه ْم َوال أَ ْفئِ َدتُهُ ْم ِم ْن َش ْي ٍء } ال قليل وال كثير‪ ،‬وذلك بسبب‬
‫َغَنى َع ْنهُ ْم َس ْم ُعهُ ْم َوال أ َْب َ‬‫اهلل‪ { .‬فَ َما أ ْ‬
‫ات اللَّ ِه } الدالة على توحيده وإ فراده بالعبادة‪.‬‬ ‫أنهم { ي ْجح ُدون بِآي ِ‬
‫َ َ َ َ‬
‫ِ‬
‫ون } أي‪ :‬نزل بهم العذاب الذي يكذبون بوقوعه ويستهزئون‬ ‫اق بِ ِه ْم َما َك ُانوا بِه َي ْستَ ْه ِزُئ َ‬‫{ َو َح َ‬
‫بالرسل الذين حذروهم منه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬ذكر اآليات كاملة إلى قوله تعالى‪" :‬وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون"‪.‬‬

‫( ‪)1/782‬‬

‫َِّ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬


‫ين اتَّ َخ ُذوا‬
‫ص َر ُه ُم الذ َ‬
‫ون (‪َ )27‬فلَ ْواَل َن َ‬ ‫ص َّر ْفَنا اآْل ََيات لَ َعلهُ ْم َي ْر ِج ُع َ‬‫َهلَ ْكَنا َما َح ْولَ ُك ْم م َن اْلقَُرى َو َ‬
‫َولَقَ ْد أ ْ‬
‫ون (‪)28‬‬ ‫ضلُّوا َع ْنهُ ْم َو َذِل َ‬
‫ك ِإ ْف ُكهُ ْم َو َما َك ُانوا َي ْفتَُر َ‬
‫ِ‬ ‫ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون الله قُْرَب ًانا آَلهَةً َب ْل َ‬

‫ِ َّ‬ ‫ِ‬
‫ص َر ُه ُم‬ ‫اآليات لَ َعلهُ ْم َي ْر ِج ُع َ‬
‫ون * َفلَ ْوال َن َ‬ ‫ص َّر ْفَنا َ‬ ‫َهلَ ْكَنا َما َح ْولَ ُك ْم م َن اْلقَُرى َو َ‬
‫{ ‪َ { } 27-28‬ولَقَ ْد أ ْ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ضلُّوا َع ْنهُ ْم َو َذِل َ‬
‫ك ِإ ْف ُكهُ ْم َو َما َك ُانوا َي ْفتَُر َ‬
‫ِ‬ ‫الَِّذين اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون الله قُْرَب ًانا آلهَةً َب ْل َ‬ ‫َ‬
‫يحذر تعالى مشركي العرب وغيرهم بإهالك األمم المكذبين الذين هم حول ديارهم‪ ،‬بل كثير منهم‬
‫في جزيرة العرب كعاد وثمود ونحوهم وأن اهلل تعالى صرف لهم اآليات أي‪ :‬نوعها من كل‬
‫َّ‬
‫وجه‪ { ،‬لَ َعلهُ ْم َي ْر ِج ُع َ‬
‫ون } عماهم عليه من الكفر والتكذيب‪.‬‬
‫فلما لم يؤمنوا أخذهم اهلل أخذ عزيز مقتدر ولم تنفعهم آلهتهم التي يدعون من دون اهلل من شيء‬
‫ون اللَّ ِه قُْرَب ًانا ِآلهَةً } أي‪ :‬يتقربون إليهم‬ ‫ين اتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُد ِ‬ ‫َِّ‬
‫ص َر ُه ُم الذ َ‬
‫ولهذا قال هنا‪َ { :‬فلَ ْوال َن َ‬
‫ويتألهونهم لرجاء نفعهم‪.‬‬
‫ون } من الكذب‬ ‫ضلُّوا َع ْنهُ ْم } فلم يجيبوهم وال دفعوا عنهم‪َ { ،‬و َذِل َ‬
‫ك ِإ ْف ُكهُ ْم َو َما َك ُانوا َي ْفتَُر َ‬ ‫{ َب ْل َ‬
‫الذي يمنون به أنفسهم حيث يزعمون أنهم على الحق وأن أعمالهم ستنفعهم فضلت وبطلت‪.‬‬

‫( ‪)1/783‬‬

‫ض َي َولَّ ْوا ِإلَى‬ ‫صتُوا َفلَ َّما قُ ِ‬ ‫ك َنفَرا ِمن اْل ِج ِّن يستَ ِمعون اْلقُرآَن َفلَ َّما حضروه قَالُوا أ َْن ِ‬
‫َ َُ ُ‬ ‫َْ ُ َ ْ َ‬ ‫ص َر ْفَنا ِإلَْي َ ً َ‬ ‫َوإِ ْذ َ‬
‫ص ِّدقًا ِل َما َب ْي َن َي َد ْي ِه َي ْه ِدي‬
‫وسى ُم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين (‪ )29‬قَالُوا َيا قَ ْو َمَنا ِإَّنا َسم ْعَنا كتَ ًابا أ ُْن ِز َل م ْن َب ْعد ُم َ‬
‫ِ‬
‫قَ ْو ِم ِه ْم ُم ْنذ ِر َ‬
‫َمُنوا بِ ِه َي ْغ ِف ْر لَ ُك ْم ِم ْن ُذُنوبِ ُك ْم‬
‫اعي اللَّ ِه وآ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ق وإِلَى َ ِ ٍ‬
‫إلَى اْل َح ِّ َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫طريق ُم ْستَقيم (‪َ )30‬يا قَ ْو َمَنا أَج ُيبوا َد َ‬
‫ض َولَْي َس لَهُ ِم ْن ُدونِ ِه‬ ‫اعي اللَّ ِه َفلَْي َس بِ ُم ْع ِج ٍز ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫اب أَِل ٍيم (‪ )31‬وم ْن اَل ي ِج ْ ِ‬ ‫وُي ِج ْر ُكم ِم ْن َع َذ ٍ‬
‫ب َد َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫ضاَل ل ُمبِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪)32‬‬ ‫ك في َ‬ ‫اء أُولَئ َ‬‫أ َْوِلَي ُ‬

‫ك َنفَرا ِمن اْل ِج ِّن يستَ ِمعون اْلقُرآن َفلَ َّما حضروه قَالُوا أ َْن ِ‬
‫صتُوا َفلَ َّما‬ ‫َ َُ ُ‬ ‫َْ ُ َ ْ َ‬ ‫ص َر ْفَنا ِإلَْي َ ً َ‬ ‫{ ‪َ { } 29-32‬وإِ ْذ َ‬
‫ص ِّدقًا ِل َما َب ْي َن‬‫وسى ُم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين * قَالُوا َيا قَ ْو َمَنا ِإَّنا َسم ْعَنا كتَ ًابا أ ُْن ِز َل م ْن َب ْعد ُم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫قُض َي َول ْوا ِإلَى قَ ْو ِم ِه ْم ُم ْنذ ِر َ‬
‫آمُنوا بِ ِه َي ْغ ِف ْر لَ ُك ْم ِم ْن‬
‫اعي اللَّ ِه و ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ق وإِلَى َ ِ ٍ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َي َد ْيه َي ْهدي إلَى اْل َح ِّ َ‬
‫َ‬ ‫طريق ُم ْستَقيم * َيا قَ ْو َمَنا أَج ُيبوا َد َ‬
‫ض َولَْي َس لَهُ ِم ْن‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب أَِل ٍيم * وم ْن ال ي ِج ْ ِ َّ ِ‬
‫ب َداع َي الله َفلَْي َس بِ ُم ْع ِج ٍز في ْ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬
‫ُذُنوبِ ُكم وُي ِج ْر ُكم ِم ْن َع َذ ٍ‬
‫ْ‬ ‫ْ َ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ض ٍ‬
‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫ُدونِ ِه أَوِلياء أُولَئِ َ ِ‬
‫ك في َ‬ ‫َ ُ‬
‫كان اهلل تعالى قد أرسل رسوله محمدا صلى اهلل عليه وسلم إلى الخلق إنسهم وجنهم وكان ال بد‬
‫من إبالغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة‪.‬‬
‫فاإلنس يمكنه عليه الصالة والسالم دعوتهم وإ نذارهم‪ ،‬وأما الجن فصرفهم اهلل إليه بقدرته وأرسل‬
‫صتُوا } أي‪ :‬وصى بعضهم بعضا‬ ‫إليه { َنفَرا ِمن اْل ِج ِّن يستَ ِمعون اْلقُرآن َفلَ َّما حضروه قَالُوا أ َْن ِ‬
‫َ َُ ُ‬ ‫َْ ُ َ ْ َ‬ ‫ً َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ين } نصحا منهم لهم وإ قامة‬ ‫بذلك‪َ { ،‬فلَ َّما قُضي } وقد وعوه وأثر ذلك فيهم { َول ْوا ِإلَى قَ ْو ِم ِه ْم ُم ْنذ ِر َ‬
‫لحجة اهلل عليهم وقيضهم اهلل معونة لرسوله صلى اهلل عليه وسلم في نشر دعوته في الجن‪.‬‬
‫وسى } ألن كتاب موسى أصل لإلنجيل وعمدة لبني‬ ‫ِ‬ ‫{ قَالُوا يا قَومَنا ِإَّنا س ِمعَنا ِكتَابا أ َ ِ‬
‫ُنزل م ْن َب ْعد ُم َ‬ ‫ً‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َْ‬
‫إسرائيل في أحكام الشرع‪ ،‬وإ نما اإلنجيل متمم ومكمل ومغير لبعض األحكام‪.‬‬
‫ق } وهو الصواب في كل‬ ‫ص ِّدقًا ِل َما َب ْي َن َي َد ْي ِه َي ْه ِدي } هذا الكتاب الذي سمعناه { ِإلَى اْل َح ِّ‬
‫{ ُم َ‬
‫ق ُم ْستَِق ٍيم } موصل إلى اهلل وإ لى جنته من العلم باهلل وبأحكامه الدينية‬ ‫ط ِري ٍ‬
‫مطلوب وخبر { َوإِلَى َ‬
‫وأحكام الجزاء‪.‬‬
‫َجيبوا َد ِ‬
‫اع َي‬ ‫فلما مدحوا القرآن وبينوا محله ومرتبته دعوهم إلى اإليمان به‪ ،‬فقالوا‪َ { :‬يا قَ ْو َمَنا أ ِ ُ‬
‫اللَّ ِه } أي‪ :‬الذي ال يدعو إال إلى ربه ال يدعوكم إلى غرض من أغراضه وال هوى وإ نما يدعوكم‬
‫إلى ربكم ليثيبكم ويزيل عنكم كل شر ومكروه‪ ،‬ولهذا قالوا‪َ { :‬ي ْغ ِف ْر لَ ُك ْم ِم ْن ُذُنوبِ ُك ْم َوُي ِج ْر ُك ْم ِم ْن‬
‫اب أَِل ٍيم } وإ ذا أجارهم من العذاب األليم فما ثم بعد ذلك إال النعيم فهذا جزاء من أجاب داعي‬ ‫َع َذ ٍ‬
‫اهلل‪.‬‬
‫ِ‬ ‫{ وم ْن ال ي ِج ْ ِ َّ ِ‬
‫ض } فإن اهلل على كل شيء قدير فال يفوته هارب‬ ‫األر ِ‬ ‫ب َداع َي الله َفلَْي َس بِ ُم ْع ِج ٍز في ْ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬
‫ين } وأي ضالل أبلغ من‬ ‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫ض ٍ‬ ‫وال يغالبه مغالب‪ { .‬ولَْيس لَه ِم ْن ُدونِ ِه أَوِلياء أُولَئِ َ ِ‬
‫ك في َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ ُ‬
‫ضالل من نادته الرسل ووصلت إليه النذر باآليات البينات‪ ،‬والحجج المتواترات فأعرض‬
‫واستكبر؟"‬

‫( ‪)1/783‬‬

‫ض َولَ ْم َي ْع َي بِ َخْل ِق ِه َّن بِقَ ِاد ٍر َعلَى أ ْ‬


‫َن ُي ْحيِ َي اْل َم ْوتَى َبلَى‬ ‫ِ‬ ‫َن اللَّهَ الَِّذي َخلَ َ‬
‫أ ََولَ ْم َي َر ْوا أ َّ‬
‫َّم َاوات َواأْل َْر َ‬
‫ق الس َ‬
‫ِإَّنهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير (‪)33‬‬

‫ض َولَ ْم َي ْع َي بِ َخْل ِق ِه َّن بِقَ ِاد ٍر َعلَى أ ْ‬


‫َن ُي ْحيِ َي‬ ‫ِ‬ ‫َن اللَّهَ الَِّذي َخلَ َ‬
‫{ ‪ { } 33‬أ ََولَ ْم َي َر ْوا أ َّ‬
‫األر َ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬
‫ق الس َ‬
‫اْل َم ْوتَى َبلَى ِإَّنهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَِد ٌير } ‪.‬‬

‫( ‪)1/783‬‬

‫اب بِ َما ُك ْنتُ ْم‬ ‫الن ِار أَلَْي َس َه َذا بِاْل َح ِّ‬
‫ين َكفَ ُروا َعلَى َّ‬ ‫َِّ‬
‫ق قَالُوا َبلَى َو َربَِّنا قَا َل فَ ُذوقُوا اْل َع َذ َ‬ ‫ض الذ َ‬ ‫َوَي ْو َم ُي ْع َر ُ‬
‫الر ُس ِل َواَل تَ ْستَ ْع ِج ْل لَهُ ْم َكأََّنهُ ْم َي ْو َم َي َر ْو َن َما‬‫صَب َر أُولُو اْل َع ْزِم ِم َن ُّ‬
‫اصبِ ْر َك َما َ‬
‫ون (‪ )34‬فَ ْ‬ ‫تَ ْكفُُر َ‬
‫ِ‬ ‫اعةً ِم ْن َنه ٍار َباَل غٌ فَه ْل ُيهلَ ُ اَّل‬
‫ون (‪)35‬‬ ‫ك ِإ اْلقَ ْو ُم اْلفَاسقُ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ون لَ ْم َيْلَبثُوا ِإاَّل َس َ‬
‫وع ُد َ‬‫ُي َ‬

‫هذا استدالل منه تعالى على اإلعادة بعد الموت بما هو أبلغ منها‪ ،‬وهو أنه الذي خلق السماوات‬
‫واألرض على عظمهما وسعتهما وإ تقان خلقهما من دون أن يكترث بذلك ولم يعي بخلقهن فكيف‬
‫تعجزه إعادتكم بعد موتكم وهو على كل شيء قدير؟"‬
‫[ ص ‪] 784‬‬
‫ال فَ ُذوقُوا‬ ‫ق قَالُوا َبلَى َو َربَِّنا قَ َ‬ ‫الن ِار أَلَْي َس َه َذا بِاْل َح ِّ‬
‫ين َكفَ ُروا َعلَى َّ‬ ‫َِّ‬
‫ض الذ َ‬‫{ ‪َ { } 34-35‬وَي ْو َم ُي ْع َر ُ‬
‫الر ُس ِل َوال تَ ْستَ ْع ِج ْل لَهُ ْم َكأََّنهُ ْم َي ْو َم‬ ‫صَب َر أُولُو اْل َع ْزِم ِم َن ُّ‬ ‫اصبِ ْر َك َما َ‬
‫ون * فَ ْ‬ ‫اب بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْكفُُر َ‬
‫اْل َع َذ َ‬
‫ِ‬ ‫اعةً ِم ْن َنهَ ٍار َبالغٌ فَهَ ْل ُي ْهلَ ُ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ك ِإال اْلقَ ْو ُم اْلفَاسقُ َ‬ ‫ون لَ ْم َيْلَبثُوا ِإال َس َ‬
‫وع ُد َ‬
‫َي َر ْو َن َما ُي َ‬
‫يخبر تعالى عن حال الكفار الفظيعة عند عرضهم على النار التي كانوا يكذبون بها وأنهم يوبخون‬
‫ق } فقد حضرتموه وشاهدتموه عيانا؟ { قَالُوا َبلَى َو َربَِّنا } فاعترفوا‬ ‫ويقال لهم‪ { :‬أَلَْي َس َه َذا بِاْل َح ِّ‬
‫ون } أي‪ :‬عذابا الزما دائما كما كان كفركم‬ ‫اب بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْكفُُر َ‬
‫بذنبهم وتبين كذبهم { قَا َل فَ ُذوقُوا اْل َع َذ َ‬
‫صفة الزمة‪.‬‬
‫ثم أمر تعالى رسوله أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له وأن ال يزال داعيا لهم إلى اهلل وأن‬
‫يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين سادات الخلق أولي العزائم والهمم العالية الذين عظم‬
‫صبرهم‪ ،‬وتم يقينهم‪ ،‬فهم أحق الخلق باألسوة بهم والقفو آلثارهم واالهتداء بمنارهم‪.‬‬
‫فامتثل صلى اهلل عليه وسلم ألمر ربه فصبر صبرا لم يصبره نبي قبله حتى رماه المعادون له عن‬
‫قوس واحدة‪ ،‬وقاموا جميعا بصده عن الدعوة إلى اهلل وفعلوا ما يمكنهم من المعاداة والمحاربة‪،‬‬
‫وهو صلى اهلل عليه وسلم لم يزل صادعا بأمر اهلل مقيما على جهاد أعداء اهلل صابرا على ما يناله‬
‫من األذى‪ ،‬حتى مكن اهلل له في األرض وأظهر دينه على سائر األديان وأمته على األمم‪ ،‬فصلى‬
‫اهلل عليه وسلم تسليما‪.‬‬
‫وقوله‪َ { :‬وال تَ ْستَ ْع ِج ْل لَهُ ْم } أي‪ :‬لهؤالء المكذبين المستعجلين للعذاب فإن هذا من جهلهم وحمقهم‬
‫فال يستخفنك بجهلهم وال يحملك ما ترى من استعجالهم على أن تدعو اهلل عليهم بذلك فإن كل ما‬
‫اعةً ِم ْن َنهَ ٍار } فال‬
‫ون لَ ْم َيْلَبثُوا } في الدنيا { ِإال َس َ‬ ‫هو آت قريب‪ ،‬و { َكأََّنهُ ْم َي ْو َم َي َر ْو َن َما ُي َ‬
‫وع ُد َ‬
‫يحزنك تمتعهم القليل وهم صائرون إلى العذاب الوبيل‪.‬‬
‫{ َبالغٌ } أي‪ :‬هذه الدنيا متاعها وشهوتها ولذاتها بلغة منغصة ودفع وقت حاضر قليل‪.‬‬
‫أو هذا القرآن العظيم الذي بينا لكم فيه البيان التام بالغ لكم‪ ،‬وزاد إلى الدار اآلخرة‪ ،‬ونعم الزاد‬
‫والبلغة زاد يوصل إلى دار النعيم ويعصم من العذاب األليم‪ ،‬فهو أفضل زاد يتزوده الخالئق‬
‫وأجل نعمة أنعم اهلل بها عليهم‪.‬‬
‫ِ‬
‫ك } بالعقوبات { ِإال اْلقَ ْو ُم اْلفَاسقُ َ‬
‫ون } أي‪ :‬الذين ال خير فيهم وقد خرجوا عن طاعة‬ ‫{ فَهَ ْل ُي ْهلَ ُ‬
‫ربهم ولم يقبلوا الحق الذي جاءتهم به الرسل‪.‬‬
‫وأعذر اهلل لهم وأنذرهم فبعد ذلك إذ يستمرون على تكذيبهم وكفرهم نسأل‬
‫اهلل العصمة‪.‬‬
‫آخر تفسير سورة األحقاف‪ ،‬والحمد هلل رب العالمين‬

‫( ‪)1/783‬‬
‫تفسير سورة القتال‬
‫وهي مدنية‬

‫( ‪)1/784‬‬

‫َمُنوا بِ َما‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫َض َّل أ ْ‬ ‫الَِّذين َكفَروا وص ُّدوا ع ْن سبِ ِ َّ ِ‬
‫َمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َوآ َ‬ ‫ين آ َ‬
‫َع َمالَهُ ْم (‪َ )1‬والذ َ‬ ‫يل الله أ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُ َ َ‬
‫ك بِأ َّ َِّ‬ ‫َصلَ َح َبالَهُ ْم (‪َ )2‬ذِل َ‬ ‫ِ‬ ‫ُنِّز َل علَى مح َّم ٍد و ُهو اْلح ُّ ِ‬
‫ين َكفَ ُروا‬‫َن الذ َ‬ ‫ق م ْن َرِّب ِه ْم َكفََّر َع ْنهُ ْم َسيَِّئات ِه ْم َوأ ْ‬ ‫َ َُ َ َ َ‬
‫ب اللَّهُ ِل َّلن ِ‬
‫اس أ َْمثَالَهُ ْم (‪)3‬‬ ‫ض ِر ُ‬
‫ك َي ْ‬‫ق ِم ْن َرِّب ِه ْم َك َذِل َ‬‫َمُنوا اتََّب ُعوا اْل َح َّ‬
‫ين آ َ‬
‫اط َل وأ َّ َِّ‬
‫َن الذ َ‬
‫اتَّبعوا اْلب ِ‬
‫َُ َ‬
‫َ‬

‫ين‬ ‫َِّ‬ ‫َض َّل أ ْ‬ ‫الر ِح ِيم الَِّذين َكفَروا وص ُّدوا ع ْن سبِ ِ َّ ِ‬ ‫{ ‪ { } 1-3‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫َع َمالَهُ ْم * َوالذ َ‬ ‫يل الله أ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُ َ َ‬
‫ق ِم ْن َرِّب ِه ْم َكفََّر َع ْنهُ ْم َسيَِّئاتِ ِه ْم‬
‫آمُنوا بِ َما ُنِّز َل َعلَى ُم َح َّم ٍد و ُهو اْل َح ُّ‬
‫َ َ‬
‫ِ ِ‬
‫آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َو َ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬
‫ق م ْن َرِّب ِه ْم َك َذل َ‬ ‫ِ‬ ‫آمُنوا اتََّب ُعوا اْل َح َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ين َكفَ ُروا اتََّب ُعوا اْلَباط َل َوأ َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ك بِأ َّ‬ ‫ِ‬
‫ين َ‬‫َن الذ َ‬ ‫َن الذ َ‬ ‫َصلَ َح َبالَهُ ْم * َذل َ‬
‫َوأ ْ‬
‫ب اللَّهُ ِل َّلن ِ‬
‫اس أ َْمثَالَهُ ْم } ‪.‬‬ ‫ض ِر ُ‬
‫َي ْ‬
‫هذه اآليات مشتمالت على ذكر ثواب المؤمنين وعقاب العاصين‪ ،‬والسبب في ذلك‪ ،‬ودعوة الخلق‬
‫يل اللَّ ِه } وهؤالء رؤساء الكفر‪ ،‬وأئمة‬
‫ين َكفَروا وص ُّدوا َع ْن سبِ ِ‬
‫َ‬
‫َِّ‬
‫إلى االعتبار بذلك‪ ،‬فقال‪ { :‬الذ َ ُ َ َ‬
‫الضالل‪ ،‬الذين جمعوا بين الكفر باهلل وآياته‪ ،‬والصد ألنفسهم وغيرهم عن سبيل اهلل‪ ،‬التي هي‬
‫اإليمان بما دعت إليه الرسل واتباعه‪.‬‬
‫َض َّل } اهلل { أ ْ‬
‫َع َمالَهُ ْم } أي‪ :‬أبطلها وأشقاهم بسببها‪ ،‬وهذا يشمل أعمالهم التي عملوها‬ ‫فهؤالء { أ َ‬
‫ليكيدوا بها الحق وأولياء اهلل‪ ،‬أن اهلل جعل كيدهم في نحورهم‪ ،‬فلم يدركوا مما قصدوا شيئا‪،‬‬
‫وأعمالهم التي يرجون أن يثابوا عليها‪ ،‬أن اهلل سيحبطها عليهم‪ ،‬والسبب في ذلك أنهم اتبعوا‬
‫الباطل‪ ،‬وهو كل غاية ال يراد بها وجه اهلل من عبادة األصنام واألوثان‪ ،‬واألعمال التي في نصر‬
‫الباطل لما كانت باطلة‪ ،‬كانت األعمال ألجلها باطلة‪.‬‬
‫آمُنوا } بما أنزل اهلل على رسله عموما‪ ،‬وعلى محمد صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫َِّ‬
‫ين َ‬ ‫وأما { َوالذ َ‬
‫َّالح ِ‬
‫ات } بأن قاموا بما عليهم من حقوق اهلل‪ ،‬وحقوق العباد الواجبة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫خصوصا‪َ { ،‬و َعملُوا الص َ‬
‫والمستحبة‪.‬‬
‫{ َكفََّر } اهلل { َع ْنهُ ْم َسيَِّئاتِ ِه ْم } صغارها وكبارها‪ ،‬وإ ذا كفرت سيئاتهم‪ ،‬نجوا من عذاب الدنيا‬
‫َصلَ َح َبالَهُ ْم } أي‪ :‬أصلح دينهم ودنياهم‪ ،‬وقلوبهم وأعمالهم‪ ،‬وأصلح ثوابهم‪ ،‬بتنميته‬ ‫واآلخرة‪َ { .‬وأ ْ‬
‫وتزكيته‪ ،‬وأصلح جميع أحوالهم‪ ،‬والسبب في ذلك أنهم‪ { :‬اتبعوا اْل َح ُّ‬
‫ق } الذي هو الصدق‬
‫واليقين‪ ،‬وما اشتمل عليه هذا القرآن العظيم‪ ،‬الصادر { ِم ْن َرِّب ِه ْم } الذي رباهم بنعمته‪ ،‬ودبرهم‬
‫بلطفه فرباهم تعالى بالحق فاتبعوه‪ ،‬فصلحت أمورهم‪ ،‬فلما كانت الغاية المقصودة لهم‪ ،‬متعلقة‬
‫بالحق المنسوب إلى اهلل الباقي الحق المبين‪ ،‬كانت الوسيلة صالحة باقية‪ ،‬باقيا ثوابها‪.‬‬

‫( ‪)1/784‬‬

‫ِ‬ ‫الرقَ ِ‬ ‫ِ َِّ‬


‫اق فَِإ َّما َمًّنا َب ْع ُد َوإِ َّما ف َد ً‬
‫اء‬ ‫اب َحتَّى ِإ َذا أَثْ َخ ْنتُ ُم ُ‬
‫وه ْم فَ ُش ُّدوا اْل َوثَ َ‬ ‫ب ِّ‬ ‫ض ْر َ‬
‫ين َكفَ ُروا فَ َ‬ ‫فَِإ َذا لَقيتُُم الذ َ‬
‫ك ولَو ي َشاء اللَّه اَل ْنتَصر ِم ْنهم ولَ ِك ْن ِليْبلُو بعض ُكم بِبع ٍ َِّ‬ ‫ِ‬
‫ين‬
‫ض َوالذ َ‬ ‫َ َ َْ َ ْ َْ‬ ‫َ َ ُْ َ‬ ‫ب أ َْو َز َار َها َذل َ َ ْ َ ُ ُ‬ ‫َحتَّى تَ َ‬
‫ض َع اْل َح ْر ُ‬
‫صِل ُح َبالَهُ ْم (‪َ )5‬وُي ْد ِخلُهُ ُم اْل َجَّنةَ َع َّرفَهَا لَهُ ْم (‬ ‫ِ‬
‫َع َمالَهُ ْم (‪َ )4‬سَي ْهدي ِه ْم َوُي ْ‬
‫يل اللَّ ِه َفلَ ْن ي ِ‬
‫ض َّل أ ْ‬ ‫ُ‬ ‫قُتِلُوا ِفي سبِ ِ‬
‫َ‬
‫‪)6‬‬

‫ب اللَّهُ ِل َّلن ِ‬
‫اس أ َْمثَالَهُ ْم } حيث بين لهم تعالى أهل الخير وأهل الشر‪ ،‬وذكر لكل منهم‬ ‫ض ِر ُ‬ ‫{ َك َذِل َ‬
‫ك َي ْ‬
‫صفة يعرفون بها ويتميزون { ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة }‬
‫[ ص ‪] 785‬‬
‫اق فَِإ َّما َمًّنا َب ْع ُد‬ ‫الرقَ ِ‬ ‫ِ َِّ‬
‫اب َحتَّى ِإ َذا أَثْ َخ ْنتُ ُم ُ‬
‫وه ْم فَ ُش ُّدوا اْل َوثَ َ‬ ‫ب ِّ‬ ‫ض ْر َ‬ ‫ين َكفَ ُروا فَ َ‬ ‫{ ‪ { } 4-6‬فَِإذا لَقيتُُم الذ َ‬
‫ض ُك ْم بَِب ْع ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اء اللَّهُ ْ‬ ‫ب أ َْو َز َار َها َذِل َ‬ ‫ِ‬
‫ض‬ ‫ص َر م ْنهُ ْم َولَك ْن لَيْبلَُو َب ْع َ‬ ‫النتَ َ‬ ‫ك َولَ ْو َي َش ُ‬ ‫اء َحتَّى تَ َ‬
‫ض َع اْل َح ْر ُ‬ ‫َوإِ َّما ف َد ً‬
‫صِل ُح َبالَهُ ْم * َوُي ْد ِخلُهُ ُم اْل َجَّنةَ َعَّرفَهَا‬ ‫ِ‬
‫َع َمالَهُ ْم * َسَي ْهدي ِه ْم َوُي ْ‬
‫يل اللَّ ِه َفلَ ْن ي ِ‬
‫ض َّل أ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ين قُتِلُوا ِفي سبِ ِ‬
‫َ‬
‫َِّ‬
‫َوالذ َ‬
‫لَهُ ْم } ‪.‬‬
‫ِ َِّ‬
‫يقول تعالى ‪-‬مرشدا عباده إلى ما فيه صالحهم‪ ،‬ونصرهم على أعدائهم‪ { :-‬فَِإذا لَقيتُُم الذ َ‬
‫ين‬
‫َكفَ ُروا } في الحرب والقتال‪ ،‬فاصدقوهم القتال‪ ،‬واضربوا منهم األعناق‪َ ،‬حتَّى تثخنوهم وتكسروا‬
‫اق } أي‪:‬‬ ‫شوكتهم وتبطلوا شرتهم‪ ،‬فإذا فعلتم ذلك‪ ،‬ورأيتم األسر أولى وأصلح‪ { ،‬فَ ُش ُّدوا اْل َوثَ َ‬
‫الرباط‪ ،‬وهذا احتياط ألسرهم لئال يهربوا‪ ،‬فإذا شد منهم الوثاق اطمأن المسلمون من هربهم ومن‬
‫شرهم‪ ،‬فإذا كانوا تحت أسركم‪ ،‬فأنتم بالخيار بين المن عليهم‪ ،‬وإ طالقهم بال مال وال فداء‪ ،‬وإ ما أن‬
‫تفدوهم بأن ال تطلقوهم حتى يشتروا أنفسهم‪ ،‬أو يشتريهم أصحابهم بمال‪ ،‬أو بأسير مسلم عندهم‪.‬‬
‫ب أ َْو َز َار َها } أي‪ :‬حتى ال يبقى حرب‪ ،‬وتبقون في المسألة‬ ‫وهذا األمر مستمر { َحتَّى تَ َ‬
‫ض َع اْل َح ْر ُ‬
‫والمهادنة‪ ،‬فإن لكل مقام مقاال ولكل حال حكما‪ ،‬فالحال المتقدمة‪ ،‬إنما هي إذا كان قتال وحرب‪.‬‬
‫فإذا كان في بعض األوقات‪ ،‬ال حرب فيه لسبب من األسباب‪ ،‬فال قتل وال أسر‪.‬‬
‫{ َذِل َ‬
‫ك } الحكم المذكور في ابتالء المؤمنين بالكافرين‪ ،‬ومداولة األيام بينهم‪ ،‬وانتصار بعضهم‬
‫ص َر ِم ْنهُ ْم } فإنه تعالى على كل شيء قدير‪ ،‬وقادر على أن ال‬ ‫اء اللَّهُ ْ‬
‫النتَ َ‬ ‫على بعض { َولَ ْو َي َش ُ‬
‫ينتصر الكفار في موضع واحد أبدا‪ ،‬حتى يبيد المسلمون خضراءهم‪.‬‬
‫ض } ليقوم سوق الجهاد‪ ،‬ويتبين بذلك أحوال العباد‪ ،‬الصادق من‬ ‫ض ُك ْم بَِب ْع ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫{ َولَك ْن لَيْبلَُو َب ْع َ‬
‫الكاذب‪ ،‬وليؤمن من آمن إيمانا صحيحا عن بصيرة‪ ،‬ال إيمانا مبنيا على متابعة أهل الغلبة‪ ،‬فإنه‬
‫إيمان ضعيف جدا‪ ،‬ال يكاد يستمر لصاحبه عند المحن والباليا‪.‬‬
‫يل اللَّ ِه } لهم ثواب جزيل‪ ،‬وأجر جميل‪ ،‬وهم الذين قاتلوا من أمروا بقتالهم‪،‬‬
‫ين قُتِلُوا ِفي سبِ ِ‬
‫َ‬
‫َِّ‬
‫{ َوالذ َ‬
‫لتكون كلمة اهلل هي العليا‪.‬‬
‫فهؤالء لن يضل اهلل أعمالهم‪ ،‬أي‪ :‬لن يحبطها ويبطلها‪ ،‬بل يتقبلها وينميها لهم‪ ،‬ويظهر من‬
‫أعمالهم نتائجها‪ ،‬في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫صِل ُح َبالَهُ ْم } أي‪ :‬حالهم وأمورهم‪،‬‬
‫{ َسَي ْهدي ِه ْم } إلى سلوك الطريق الموصلة إلى الجنة‪َ { ،‬وُي ْ‬
‫ِ‬
‫وثوابهم يكون صالحا كامال ال نكد فيه‪ ،‬وال تنغيص بوجه من الوجوه‪.‬‬
‫{ َوُي ْد ِخلُهُ ُم اْل َجَّنةَ َع َّرفَهَا لَهُ ْم } أي‪ :‬عرفها أوال بأن شوقهم إليها‪ ،‬ونعتها لهم‪ ،‬وذكر لهم األعمال‬
‫الموصلة إليها‪ ،‬التي من جملتها القتل في سبيله‪ ،‬ووفقهم للقيام بما أمرهم به ورغبهم فيه‪ ،‬ثم إذا‬
‫دخلوا الجنة‪ ،‬عرفهم منازلهم‪ ،‬وما احتوت عليه من النعيم المقيم‪ ،‬والعيش السليم‪.‬‬

‫( ‪)1/784‬‬

‫َض َّل‬ ‫َِّ‬ ‫َّ‬ ‫َِّ‬


‫ين َكفَ ُروا فَتَ ْع ًسا لَهُ ْم َوأ َ‬
‫ام ُك ْم (‪َ )7‬والذ َ‬
‫ِّت أَ ْق َد َ‬
‫ص ْر ُك ْم َوُيثَب ْ‬
‫ص ُروا اللهَ َي ْن ُ‬ ‫َمُنوا ِإ ْن تَْن ُ‬ ‫ين آ َ‬
‫َيا أَيُّهَا الذ َ‬
‫َع َمالَهُ ْم (‪)9‬‬
‫طأْ‬ ‫ك بِأََّنهُ ْم َك ِر ُهوا َما أ َْن َز َل اللَّهُ فَأ ْ‬
‫َحَب َ‬ ‫َع َمالَهُ ْم (‪َ )8‬ذِل َ‬
‫أْ‬

‫َِّ‬ ‫َّ‬ ‫َِّ‬


‫ين َكفَ ُروا فَتَ ْع ًسا لَهُ ْم‬
‫ام ُك ْم * َوالذ َ‬
‫ِّت أَ ْق َد َ‬
‫ص ْر ُك ْم َوُيثَب ْ‬
‫ص ُروا اللهَ َي ْن ُ‬ ‫آمُنوا ِإ ْن تَْن ُ‬‫ين َ‬ ‫{ ‪َ { } 7-9‬يا أَيُّهَا الذ َ‬
‫َع َمالَهُ ْم } ‪.‬‬‫طأْ‬ ‫َحَب َ‬‫ك بِأََّنهُ ْم َك ِر ُهوا َما أ َْن َز َل اللَّهُ فَأ ْ‬
‫َع َمالَهُ ْم * َذِل َ‬
‫َض َّل أ ْ‬
‫َوأ َ‬
‫هذا أمر منه تعالى للمؤمنين‪ ،‬أن ينصروا اهلل بالقيام بدينه‪ ،‬والدعوة إليه‪ ،‬وجهاد أعدائه‪ ،‬والقصد‬
‫بذلك وجه اهلل‪ ،‬فإنهم إذا فعلوا ذلك‪ ،‬نصرهم اهلل وثبت أقدامهم‪ ،‬أي‪ :‬يربط على قلوبهم بالصبر‬
‫والطمأنينة والثبات‪ ،‬ويصبر أجسامهم على ذلك‪ ،‬ويعينهم على أعدائهم‪ ،‬فهذا وعد من كريم‬
‫صادق الوعد‪ ،‬أن الذي ينصره باألقوال واألفعال سينصره مواله‪ ،‬وييسر له أسباب النصر‪ ،‬من‬
‫الثبات وغيره‪.‬‬
‫وأما الذين كفروا بربهم‪ ،‬ونصروا الباطل‪ ،‬فإنهم في تعس‪ ،‬أي‪ :‬انتكاس من أمرهم وخذالن‪.‬‬
‫َض َّل أ ْ‬
‫َع َمالَهُ ْم } أي‪ :‬أبطل أعمالهم التي يكيدون بها الحق‪ ،‬فرجع كيدهم في نحورهم‪ ،‬وبطلت‬ ‫{ َوأ َ‬
‫أعمالهم التي يزعمون أنهم يريدون بها وجه اهلل‪.‬‬
‫َنزل اللَّهُ } من القرآن الذي أنزله اهلل‪،‬‬‫ذلك اإلضالل والتعس للذين كفروا‪ ،‬بسبب أنهم { َك ِر ُهوا َما أ َ‬
‫َع َمالَهُ ْم }‬
‫طأْ‬‫َحَب َ‬
‫صالحا للعباد‪ ،‬وفالحا لهم‪ ،‬فلم يقبلوه‪ ،‬بل أبغضوه وكرهوه‪ { ،‬فَأ ْ‬

‫( ‪)1/785‬‬

‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ف َكان ع ِاقبةُ الَِّذ ِ ِ‬ ‫أَ َفلَ ْم َي ِس ُيروا ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ين م ْن قَْبل ِه ْم َد َّم َر اللهُ َعلَْي ِه ْم َوِلْل َكاف ِر َ‬
‫ين أ َْمثَالُهَا‬ ‫َ‬ ‫ض فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ َ َ َ‬
‫َن اللَّه مولَى الَِّذين آَمُنوا وأ َّ ِ‬ ‫(‪َ )10‬ذِل َ ِ‬
‫ين اَل َم ْولَى لَهُ ْم (‪)11‬‬ ‫َن اْل َكاف ِر َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ك بأ َّ َ َ ْ‬

‫ين ِم ْن قَْبِل ِه ْم َد َّم َر اللَّهُ َعلَْي ِه ْم‬ ‫ِ َِّ‬


‫ان َعاقَبةُ الذ َ‬‫ف َك َ‬ ‫األر ِ‬
‫ض فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪ { } 10-11‬أَ َفلَ ْم َيس ُيروا في ْ‬
‫َن اللَّه مولَى الَِّذين آمُنوا وأ َّ ِ‬ ‫ين أ َْمثَالُهَا * َذِل َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ال َم ْولَى لَهُ ْم } ‪.‬‬ ‫َن اْل َكاف ِر َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ك بأ َّ َ َ ْ‬ ‫َوِلْل َكاف ِر َ‬
‫ين‬ ‫ِ َِّ‬
‫ان َعاقَبةُ الذ َ‬ ‫ف َك َ‬ ‫أي‪ :‬أفال يسير هؤالء المكذبون بالرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ { ،‬فََي ْنظُ ُروا َك ْي َ‬
‫ِم ْن قَْبِل ِه ْم } فإنهم ال يجدون عاقبتهم إال شر العواقب‪ ،‬فإنهم ال يلتفتون يمنة وال يسرة إال وجدوا ما‬
‫حولهم‪ ،‬قد بادوا وهلكوا‪ ،‬واستأصلهم التكذيب والكفر‪ ،‬فخمدوا‪ ،‬ودمر اهلل عليهم أموالهم وديارهم‪،‬‬
‫بل دمر أعمالهم ومكرهم‪ ،‬وللكافرين في كل زمان ومكان‪ ،‬أمثال هذه العواقب الوخيمة‪،‬‬
‫والعقوبات الذميمة‪.‬‬
‫وأما المؤمنون‪ ،‬فإن اهلل تعالى ينجيهم من العذاب‪ ،‬ويجزل لهم كثير الثواب‪.‬‬
‫[ ص ‪] 786‬‬
‫{ ذلك بأن اهلل مولى الذين آمنوا } فتوالهم برحمته‪ ،‬فأخرجهم من الظلمات إلى النور‪ ،‬وتولى‬
‫جزاءهم ونصرهم‪ { ،‬وأ َّ ِ‬
‫َن اْل َكاف ِر َ‬
‫ين } باهلل تعالى‪ ،‬حيث قطعوا عنهم والية اهلل‪ ،‬وسدوا على‬ ‫َ‬
‫أنفسهم رحمته { ال َم ْولَى لَهُ ْم } يهديهم إلى سبل السالم‪ ،‬وال ينجيهم من عذاب اهلل وعقابه‪ ،‬بل‬
‫أولياؤهم الطاغوت‪ ،‬يخرجونهم من النور إلى الظلمات‪ ،‬أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‪.‬‬

‫( ‪)1/785‬‬

‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ َِّ‬


‫َمُنوا َو َعملُوا الصَّال َحات َجَّنات تَ ْج ِري م ْن تَ ْحتهَا اأْل َْنهَ ُار َوالذ َ‬
‫ين َكفَ ُروا‬ ‫ِإ َّن اللهَ ُي ْدخ ُل الذ َ‬
‫ين آ َ‬
‫ام َو َّ‬
‫الن ُار َمثًْوى لَهُ ْم (‪)12‬‬ ‫ون َك َما تَْأ ُك ُل اأْل َْن َع ُ‬ ‫َيتَ َمتَّ ُع َ‬
‫ون َوَي ْأ ُكلُ َ‬

‫َِّ‬ ‫ات تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِهَا ْ‬


‫ات جَّن ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ َِّ‬
‫ين‬
‫األنهَ ُار َوالذ َ‬ ‫آمُنوا َو َعملُوا الصَّال َح َ‬ ‫ين َ‬ ‫{ ‪ِ { } 12‬إ َّن اللهَ ُي ْدخ ُل الذ َ‬
‫ام َو َّ‬
‫الن ُار َمثًْوى لَهُ ْم } ‪.‬‬ ‫ون َك َما تَْأ ُك ُل ْ‬
‫األن َع ُ‬ ‫َكفَ ُروا َيتَ َمتَّ ُع َ‬
‫ون َوَي ْأ ُكلُ َ‬
‫لما ذكر تعالى أنه ولي المؤمنين‪ ،‬ذكر ما يفعل بهم في اآلخرة‪ ،‬من دخول الجنات‪ ،‬التي تجري‬
‫من تحتها األنهار‪ ،‬التي تسقي تلك البساتين الزاهرة‪ ،‬واألشجار الناظرة المثمرة‪ ،‬لكل زوج بهيج‪،‬‬
‫وكل فاكهة لذيذة‪.‬‬
‫ولما ذكر أن الكافرين ال مولى لهم‪ ،‬ذكر أنهم ُو ِكلُوا إلى أنفسهم‪ ،‬فلم يتصفوا بصفات المروءة‪ ،‬وال‬
‫الصفات اإلنسانية‪ ،‬بل نزلوا عنها دركات‪ ،‬وصاروا كاألنعام‪ ،‬التي ال عقل لها وال فضل‪ ،‬بل جل‬
‫همهم ومقصدهم التمتع بلذات الدنيا وشهواتها‪ ،‬فترى حركاتهم الظاهرة والباطنة دائرة حولها‪،‬‬
‫غير متعدية لها إلى ما فيه الخير والسعادة‪ ،‬ولهذا كانت النار مثوى لهم‪ ،‬أي‪ :‬منزال معدا‪ ،‬ال‬
‫يخرجون منها‪ ،‬وال يفتر عنهم من عذابها‪.‬‬

‫( ‪)1/786‬‬

‫اهم فَاَل َن ِ‬
‫اص َر لَهُ ْم (‪)13‬‬ ‫ك الَّتِي أ ْ‬
‫ِّن ِم ْن قَ ْرَي ٍة ِه َي أَ َش ُّد قَُّوةً ِم ْن قَ ْرَيتِ َ‬
‫َهلَ ْكَن ُ ْ‬
‫كأْ‬‫َخ َر َجتْ َ‬ ‫َو َكأَي ْ‬

‫اهم فَال َن ِ‬
‫اص َر لَهُ ْم } ‪.‬‬ ‫ك الَّتِي أ ْ‬
‫ِّن ِم ْن قَ ْرَي ٍة ِه َي أَ َش ُّد قَُّوةً ِم ْن قَ ْرَيتِ َ‬
‫َهلَ ْكَن ُ ْ‬
‫كأْ‬‫َخ َر َجتْ َ‬ ‫{ ‪َ { } 13‬و َكأَي ْ‬
‫أي‪ :‬وكم من قرية من قرى المكذبين‪ ،‬هي أشد قوة من قريتك‪ ،‬في األموال واألوالد واألعوان‪،‬‬
‫واألبنية واآلالت‪.‬‬
‫{ أهلكناهم } حين كذبوا رسلنا‪ ،‬ولم تفد فيهم المواعظ‪ ،‬فال نجد لهم (‪ )1‬ناصرا‪ ،‬ولم تغن عنهم‬
‫قوتهم من عذاب اهلل شيئا‪.‬‬
‫فكيف حال هؤالء الضعفاء‪ ،‬أهل قريتك‪ ،‬إذ أخرجوك عن وطنك وكذبوك‪ ،‬وعادوك‪ ،‬وأنت أفضل‬
‫المرسلين‪ ،‬وخير األولين واآلخرين؟!‬
‫أليسوا بأحق من غيرهم باإلهالك والعقوبة‪ ،‬لوال أن اهلل تعالى بعث رسوله بالرحمة والتأني بكل‬
‫كافر وجاحد؟‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب فال تجد لهم ناصرا‪.‬‬

‫( ‪)1/786‬‬

‫اء ُه ْم (‪)14‬‬ ‫وء َع َمِل ِه َواتََّب ُعوا أ ْ‬


‫َه َو َ‬ ‫ِّن لَهُ ُس ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬
‫ان َعلَى َبيَِّنة م ْن َربِّه َك َم ْن ُزي َ‬
‫أَفَ َم ْن َك َ‬
‫اء ُه ْم } ‪.‬‬ ‫وء َع َمِل ِه َواتََّب ُعوا أ ْ‬
‫َه َو َ‬ ‫ِّن لَهُ ُس ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬
‫ان َعلَى َبيَِّنة م ْن َربِّه َك َم ْن ُزي َ‬
‫{ ‪ { } 14‬أَفَ َم ْن َك َ‬
‫أي‪ :‬ال يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه‪ ،‬علما وعمال قد علم الحق واتبعه‪ ،‬ورجا ما‬
‫وعده اهلل ألهل الحق‪ ،‬كمن هو أعمى القلب‪ ،‬قد رفض الحق وأضله‪ ،‬واتبع هواه بغير هدى من‬
‫اهلل‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬يرى أن ما هو عليه من الحق‪ ،‬فما أبعد الفرق بين الفريقين! وما أعظم التفاوت‬
‫بين الطائفتين‪ ،‬أهل الحق وأهل الغي! (‪. )1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬زيادة من هامش ب بخط المؤلف ‪-‬رحمه اهلل‪.-‬‬

‫( ‪)1/786‬‬

‫َس ٍن َوأ َْنهَ ٌار ِم ْن لََب ٍن لَ ْم َيتَ َغي َّْر َ‬


‫ط ْع ُمهُ َوأ َْنهَ ٌار‬ ‫اء َغ ْي ِر آ ِ‬
‫مثَ ُل اْلجَّن ِة الَّتِي و ِع َد اْلمتَّقُون ِفيها أ َْنهار ِم ْن م ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ َ َ ٌَ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صفًّى َولَهُ ْم فيهَا م ْن ُك ِّل الث َم َرات َو َم ْغف َرةٌ م ْن َرِّب ِه ْم َك َم ْن‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِم ْن َخم ٍر لَذة ل َّ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫لش ِاربِ َ‬
‫ين َوأ َْنهَ ٌار م ْن َع َسل ُم َ‬ ‫ْ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ُه َو َخ ِال ٌد ِفي َّ‬
‫اء ُه ْم (‪)15‬‬ ‫يما فَقَط َع أ َْم َع َ‬ ‫الن ِار َو ُسقُوا َم ً‬
‫اء َحم ً‬

‫آس ٍن َوأ َْنهَ ٌار ِم ْن لََب ٍن لَ ْم َيتَ َغي َّْر‬


‫اء َغْي ِر ِ‬ ‫{ ‪ { } 15‬مثَ ُل اْلجَّن ِة الَّتِي و ِع َد اْلمتَّقُون ِفيها أ َْنهار ِم ْن م ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ َ َ ٌَ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صفًّى َولَهُ ْم فيهَا م ْن ُك ِّل الث َم َرات َو َم ْغف َرةٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ط ْعمهُ وأ َْنهار م ْن َخم ٍر لَذة ل َّ‬
‫لش ِاربِ َ‬
‫ين َوأ َْنهَ ٌار م ْن َع َسل ُم َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ َ ٌَ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِم ْن َرِّب ِه ْم َك َم ْن ُه َو َخ ِال ٌد ِفي َّ‬
‫اء ُه ْم } ‪.‬‬
‫يما فَقَط َع أ َْم َع َ‬
‫اء َحم ً‬‫الن ِار َو ُسقُوا َم ً‬
‫أي‪ :‬مثل الجنة التي أعدها اهلل لعباده‪ ،‬الذين اتقوا سخطه‪ ،‬واتبعوا رضوانه‪ ،‬أي‪ :‬نعتها وصفتها‬
‫الجميلة‪.‬‬
‫آس ٍن } أي‪ :‬غير متغير‪ ،‬ال بوخم وال بريح منتنة‪ ،‬وال بمرارة‪ ،‬وال‬ ‫اء َغ ْي ِر ِ‬ ‫{ ِفيها أ َْنهار ِم ْن م ٍ‬
‫َ‬ ‫َ ٌَ‬
‫بكدورة‪ ،‬بل هو أعذب المياه وأصفاها‪ ،‬وأطيبها ريحا‪ ،‬وألذها شربا‪.‬‬
‫ط ْعمهُ } بحموضة وال غيرها‪ { ،‬وأ َْنهار ِم ْن َخم ٍر لَ َّذ ٍة ِل َّ‬
‫لش ِاربِ َ‬
‫ِ‬
‫ين } أي‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫َ ٌَ‬ ‫{ َوأ َْنهَ ٌار م ْن لََب ٍن لَ ْم َيتَ َغي َّْر َ ُ‬
‫يلتذ به شاربه لذة عظيمة‪ ،‬ال كخمر الدنيا الذي يكره مذاقه ويصدع الرأس‪ ،‬ويغول العقل‪.‬‬
‫صفًّى } من شمعه‪ ،‬وسائر أوساخه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫{ َوأ َْنهَ ٌار م ْن َع َسل ُم َ‬
‫ات } من نخيل‪ ،‬وعنب‪ ،‬وتفاح‪ ،‬ورمان‪ ،‬وأترج‪ ،‬وتين‪ ،‬وغير ذلك مما ال‬ ‫{ ولَهم ِفيها ِم ْن ُك ِّل الثَّمر ِ‬
‫ََ‬ ‫َ ُْ َ‬
‫نظير له في الدنيا‪ ،‬فهذا المحبوب المطلوب قد حصل لهم‪.‬‬
‫ثم قال‪َ { :‬و َم ْغ ِف َرةٌ ِم ْن َرِّب ِه ْم } يزول بها عنهم المرهوب‪ ،‬فأي هؤالء خير أم من هو خالد في النار‬
‫يما } أي‪ :‬حارا جدا‪ { ،‬فَقَطَّ َع‬ ‫ِ‬
‫اء َحم ً‬
‫التي اشتد حرها‪ ،‬وتضاعف عذابها‪َ { ،‬و ُسقُوا } فيها { َم ً‬
‫اء ُه ْم }‬
‫أ َْم َع َ‬
‫فسبحان من فاوت بين الدارين والجزاءين‪ ،‬والعاملين والعملين‪.‬‬

‫( ‪)1/786‬‬

‫ين‬ ‫ال آَنِفًا أُولَئِ َ َِّ‬


‫ين أُوتُوا اْل ِعْل َم َما َذا قَ َ‬ ‫َِِّ‬ ‫ك َحتَّى ِإ َذا َخ َر ُجوا ِم ْن ِع ْن ِد َ‬ ‫َو ِم ْنهُ ْم َم ْن َي ْستَ ِمعُ ِإلَْي َ‬
‫ك الذ َ‬ ‫ك قَالُوا للذ َ‬
‫اه ْم (‪)17‬‬ ‫َِّ‬ ‫طَب َع اللَّهُ َعلَى ُقلُوبِ ِه ْم َواتََّب ُعوا أ ْ‬
‫اه ْم تَ ْق َو ُ‬
‫اهتَ َد ْوا َز َاد ُه ْم ُه ًدى َوآَتَ ُ‬
‫ين ْ‬
‫اء ُه ْم (‪َ )16‬والذ َ‬ ‫َه َو َ‬ ‫َ‬

‫ين أُوتُوا اْل ِعْل َم َما َذا قَا َل‬ ‫َِِّ‬


‫ك قَالُوا للذ َ‬ ‫ك َحتَّى ِإ َذا َخ َر ُجوا ِم ْن ِع ْن ِد َ‬ ‫{ ‪َ { } 16-17‬و ِم ْنهُ ْم َم ْن َي ْستَ ِمعُ ِإلَْي َ‬
‫اه ْم‬ ‫َِّ‬ ‫طَب َع اللَّهُ َعلَى ُقلُوبِ ِه ْم َواتََّب ُعوا أ ْ‬ ‫آنِفًا أُولَئِ َ َِّ‬
‫اه ْم تَ ْق َو ُ‬
‫اهتَ َد ْوا َز َاد ُه ْم ُه ًدى َوآتَ ُ‬
‫ين ْ‬‫اء ُه ْم * َوالذ َ‬ ‫َه َو َ‬ ‫ين َ‬ ‫ك الذ َ‬
‫}‪.‬‬
‫ك } ما تقول استماعا‪ ،‬ال عن قبول وانقياد‪ ،‬بل‬ ‫يقول تعالى‪ :‬ومن المنافقين { َم ْن َي ْستَ ِمعُ ِإلَْي َ‬
‫ين أُوتُوا اْل ِعْل َم } مستفهمين‬ ‫َِِّ‬ ‫معرضة قلوبهم عنه‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬حتَّى ِإ َذا َخ َر ُجوا ِم ْن ِع ْن ِد َ‬
‫ك قَالُوا للذ َ‬
‫ال آنِفًا } أي‪ :‬قريبا‪ ،‬وهذا في غاية الذم‬ ‫عما قلت‪ ،‬وما سمعوا‪ ،‬مما لم يكن لهم فيه رغبة { َما َذا قَ َ‬
‫لهم‪ ،‬فإنهم لو كانوا حريصين على الخير أللقوا إليه [ ص ‪ ] 787‬أسماعهم‪ ،‬ووعته قلوبهم‪،‬‬
‫طَب َع اللَّهُ َعلَى ُقلُوبِ ِه ْم }‬
‫ين َ‬ ‫وانقادت له جوارحهم‪ ،‬ولكنهم بعكس هذه الحال‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬أُولَئِ َ َِّ‬
‫ك الذ َ‬
‫أي‪ :‬ختم عليها‪ ،‬وسد أبواب الخير التي تصل إليها بسبب اتباعهم أهواءهم‪ ،‬التي ال يهوون فيها إال‬
‫الباطل‪.‬‬
‫اهتَ َد ْوا } باإليمان واالنقياد‪ ،‬واتباع ما يرضي اهلل { َز َاد ُه ْم‬ ‫ين ْ‬ ‫َِّ‬
‫ثم بين حال المهتدين‪ ،‬فقال‪َ { :‬والذ َ‬
‫اه ْم } أي‪ :‬وفقهم للخير‪ ،‬وحفظهم من الشر‪،‬‬ ‫اه ْم تَ ْق َو ُ‬
‫ُه ًدى } شكرا منه تعالى لهم على ذلك‪َ { ،‬وآتَ ُ‬
‫فذكر للمهتدين جزاءين‪ :‬العلم النافع‪ ،‬والعمل الصالح‪.‬‬

‫( ‪)1/786‬‬

‫اءتْهُ ْم ِذ ْك َر ُ‬ ‫فَه ْل ي ْنظُرون ِإاَّل السَّاعةَ أ ْ ِ‬


‫اه ْم (‪)18‬‬ ‫اء أَ ْش َراطُهَا فَأََّنى لَهُ ْم ِإ َذا َج َ‬
‫َن تَأْتَيهُ ْم َب ْغتَةً فَقَ ْد َج َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ َ‬

‫اءتْهُ ْم ِذ ْك َر ُ‬ ‫{ ‪ { } 18‬فَه ْل ي ْنظُرون ِإال السَّاعةَ أ ْ ِ‬


‫اه ْم }‬ ‫اء أَ ْش َراطُهَا فَأََّنى لَهُ ْم ِإ َذا َج َ‬
‫َن تَأْتَيهُ ْم َب ْغتَةً فَقَ ْد َج َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ َ‬
‫‪.‬‬
‫َن تَأْتَِيهُ ْم َب ْغتَةً } أي‪ :‬فجأة‪ ،‬وهم ال‬ ‫أي‪ :‬فهل ينظر هؤالء المكذبون أو ينتظرون { ِإال الس َ‬
‫َّاعةَ أ ْ‬
‫اء أَ ْش َراطُهَا } أي‪ :‬عالماتها الدالة على قربها‪.‬‬ ‫يشعرون { فَقَ ْد َج َ‬
‫اءتْهُ ْم ِذ ْك َر ُ‬
‫اه ْم } أي‪ :‬من أين لهم‪ ،‬إذا جاءتهم الساعة وانقطعت آجالهم أن يتذكروا‬ ‫{ فَأََّنى لَهُ ْم ِإ َذا َج َ‬
‫ويستعتبوا؟ قد فات ذلك‪ ،‬وذهب وقت التذكر‪ ،‬فقد عمروا ما يتذكر فيه من تذكر‪ ،‬وجاءهم النذير‪.‬‬
‫ففي هذا الحث على االستعداد قبل مفاجأة الموت‪ ،‬فإن موت اإلنسان قيام ساعته‪.‬‬

‫( ‪)1/787‬‬

‫ات َواللَّهُ َي ْعلَ ُم ُمتََقلََّب ُك ْم َو َمثَْوا ُك ْم (‪)19‬‬


‫ك وِلْلمؤ ِمنِين واْلمؤ ِمَن ِ‬ ‫اعلَم أََّنه اَل ِإلَه ِإاَّل اللَّه و ِ ِ‬
‫استَ ْغف ْر ل َذ ْنبِ َ َ ُ ْ َ َ ُ ْ‬
‫َُ ْ‬ ‫َ‬ ‫فَ ْ ْ ُ‬

‫ات َواللَّهُ َي ْعلَ ُم ُمتََقلََّب ُك ْم‬


‫ك وِلْلمؤ ِمنِين واْلمؤ ِمَن ِ‬ ‫اعلَم أََّنه ال ِإلَه ِإال اللَّه و ِ ِ‬
‫استَ ْغف ْر ل َذ ْنبِ َ َ ُ ْ َ َ ُ ْ‬
‫َُ ْ‬ ‫َ‬ ‫{ ‪ { } 19‬فَ ْ ْ ُ‬
‫َو َمثَْوا ُك ْم } ‪.‬‬
‫العلم ال بد فيه من إقرار القلب ومعرفته‪ ،‬بمعنى ما طلب منه علمه‪ ،‬وتمامه أن يعمل بمقتضاه‪.‬‬
‫وهذا العلم الذي أمر اهلل به ‪-‬وهو العلم بتوحيد اهلل‪ -‬فرض عين على كل إنسان‪ ،‬ال يسقط عن‬
‫أحد‪ ،‬كائنا من كان‪ ،‬بل كل مضطر إلى ذلك‪ .‬والطريق إلى العلم بأنه ال إله إال هو أمور‪ :‬أحدها‬
‫بل أعظمها‪ :‬تدبر أسمائه وصفاته‪ ،‬وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجاللته (‪ )1‬فإنها توجب‬
‫بذل الجهد في التأله له‪ ،‬والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجالل وجمال‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير‪ ،‬فيعلم بذلك أنه المنفرد باأللوهية‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة‪ ،‬الدينية والدنيوية‪ ،‬فإن ذلك يوجب تعلق القلب‬
‫به ومحبته‪ ،‬والتأله له وحده ال شريك له‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬ما نراه ونسمعه من الثواب ألوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة‪ ،‬ومن‬
‫عقوبته ألعدائه المشركين به‪ ،‬فإن هذا داع إلى العلم‪ ،‬بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬معرفة أوصاف األوثان واألنداد التي عبدت مع اهلل‪ ،‬واتخذت آلهة‪ ،‬وأنها ناقصة من‬
‫جميع الوجوه‪ ،‬فقيرة بالذات‪ ،‬ال تملك لنفسها وال لعابديها نفعا وال ضرا‪ ،‬وال موتا وال حياة وال‬
‫نشورا‪ ،‬وال ينصرون من عبدهم‪ ،‬وال ينفعونهم بمثقال ذرة‪ ،‬من جلب خير أو دفع شر‪ ،‬فإن العلم‬
‫بذلك يوجب العلم بأنه ال إله إال هو وبطالن إلهية ما سواه‪.‬‬
‫السادس‪ :‬اتفاق كتب اهلل على ذلك‪ ،‬وتواطؤها عليه‪.‬‬
‫السابع‪ :‬أن خواص الخلق‪ ،‬الذين هم أكمل الخليقة أخالقا وعقوال ورأيا وصوابا‪ ،‬وعلما ‪-‬وهم‬
‫الرسل واألنبياء والعلماء الربانيون‪ -‬قد شهدوا هلل بذلك‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬ما أقامه اهلل من األدلة األفقية والنفسية‪ ،‬التي تدل على التوحيد أعظم داللة‪ ،‬وتنادي عليه‬
‫بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته‪ ،‬وبديع حكمته‪ ،‬وغرائب خلقه‪.‬‬
‫فهذه الطرق التي أكثر اهلل من دعوة الخلق بها إلى أنه ال إله إال اهلل‪ ،‬وأبداها في كتابه وأعادها عند‬
‫تأمل العبد في بعضها‪ ،‬ال بد أن يكون عنده يقين وعلم بذلك‪ ،‬فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت‪،‬‬
‫وقامت أدلة التوحيد من كل جانب‪ ،‬فهناك يرسخ اإليمان والعلم بذلك في قلب العبد‪ ،‬بحيث يكون‬
‫كالجبال الرواسي‪ ،‬ال تزلزله الشبه والخياالت‪ ،‬وال يزداد ‪-‬على تكرر الباطل والشبه‪ -‬إال نموا‬
‫وكماال‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وإ ن نظرت إلى الدليل العظيم‪ ،‬واألمر الكبير ‪-‬وهو تدبر هذا القرآن العظيم‪ ،‬والتأمل في‬
‫آياته‪ -‬فإنه الباب األعظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل به من تفاصيله وجمله ما ال يحصل في‬
‫غيره‪.‬‬
‫استَ ْغ ِف ْر ِل َذ ْنبِ َ‬
‫ك } أي‪ :‬اطلب من اهلل المغفرة لذنبك‪ ،‬بأن تفعل أسباب المغفرة من التوبة‬ ‫وقوله‪َ { :‬و ْ‬
‫والدعاء بالمغفرة‪ ،‬والحسنات الماحية‪ ،‬وترك الذنوب والعفو عن الجرائم‪.‬‬
‫{ و } استغفر أيضا { للمؤمنين َواْل ُم ْؤ ِمَنات } فإنهم ‪-‬بسبب إيمانهم‪ -‬كان لهم حق على كل مسلم‬
‫ومسلمة‪.‬‬
‫ومن جملة حقوقهم أن يدعو لهم ويستغفر لذنوبهم‪ ،‬وإ ذا كان مأمورا باالستغفار لهم المتضمن‬
‫إلزالة الذنوب وعقوباتها عنهم‪ ،‬فإن من لوازم ذلك النصح لهم‪ ،‬وأن يحب لهم من الخير ما [ ص‬
‫‪ ] 788‬يحب لنفسه‪ ،‬ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه‪ ،‬ويأمرهم بما فيه الخير لهم‪ ،‬وينهاهم عما‬
‫فيه ضررهم‪ ،‬ويعفو عن مساويهم ومعايبهم‪ ،‬ويحرص على اجتماعهم اجتماعا تتألف به قلوبهم‪،‬‬
‫ويزول ما بينهم من األحقاد المفضية للمعاداة والشقاق‪ ،‬الذي به تكثر ذنوبهم ومعاصيهم‪.‬‬
‫{ َواللَّهُ َي ْعلَ ُم ُمتََقلََّب ُك ْم } أي‪ :‬تصرفاتكم وحركاتكم‪ ،‬وذهابكم ومجيئكم‪َ { ،‬و َمثَْوا ُك ْم } الذي به‬
‫تستقرون‪ ،‬فهو يعلمكم في الحركات والسكنات‪ ،‬فيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬وجالله‪.‬‬

‫( ‪)1/787‬‬

‫ين ِفي‬ ‫ت سورةٌ م ْح َكمةٌ و ُذ ِكر ِفيها اْل ِقتَا ُل رأ َْي َ َِّ‬
‫ت الذ َ‬ ‫َ‬ ‫ورةٌ فَِإ َذا أ ُْن ِزلَ ْ ُ َ ُ َ َ َ َ‬ ‫ت ُس َ‬ ‫َمُنوا لَ ْواَل ُنِّزلَ ْ‬
‫ين آ َ‬
‫َِّ‬
‫َوَيقُو ُل الذ َ‬
‫وف‬
‫اعةٌ َوقَ ْو ٌل َم ْع ُر ٌ‬
‫ط َ‬ ‫ظ َر اْل َم ْغ ِش ِّي َعلَْي ِه ِم َن اْل َم ْو ِت فَأ َْولَى لَهُ ْم (‪َ )20‬‬ ‫ك َن َ‬ ‫ون ِإلَْي َ‬
‫ض َي ْنظُ ُر َ‬ ‫ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬
‫َن تُ ْف ِس ُدوا ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ض‬ ‫ان َخ ْي ًرا لَهُ ْم (‪ )21‬فَهَ ْل َع َس ْيتُ ْم ِإ ْن تََولَّْيتُ ْم أ ْ‬ ‫َّ‬
‫ص َدقُوا اللهَ لَ َك َ‬ ‫فَِإ َذا َعَز َم اأْل َْم ُر َفلَ ْو َ‬
‫ص َار ُه ْم (‪)23‬‬ ‫َّ‬ ‫وتُقَطِّعوا أَرحام ُكم (‪ )22‬أُولَئِ َ َِّ‬
‫َع َمى أ َْب َ‬ ‫َص َّمهُ ْم َوأ ْ‬
‫ين لَ َعَنهُ ُم اللهُ فَأ َ‬
‫ك الذ َ‬ ‫َ ُ ْ َ َ ْ‬
‫ورةٌ ُم ْح َك َمةٌ َو ُذ ِك َر ِفيهَا اْل ِقتَا ُل‬ ‫ت ُس َ‬ ‫ورةٌ فَِإ َذا أ ُْن ِزلَ ْ‬
‫ت ُس َ‬ ‫آمُنوا لَ ْوال ُنِّزلَ ْ‬
‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫{ ‪َ { } 20-23‬وَيقُو ُل الذ َ‬
‫اعةٌ‬
‫ط َ‬ ‫ظ َر اْل َم ْغ ِش ِّي َعلَْي ِه ِم َن اْل َم ْو ِت فَأ َْولَى لَهُ ْم * َ‬ ‫ك َن َ‬‫ون ِإلَْي َ‬
‫ض َي ْنظُ ُر َ‬ ‫ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬ ‫رأ َْي َ َِّ‬
‫ت الذ َ‬ ‫َ‬
‫َن تُ ْف ِس ُدوا‬‫ان َخ ْي ًرا لَهُ ْم * فَهَ ْل َع َس ْيتُ ْم ِإ ْن تََولَّْيتُ ْم أ ْ‬ ‫َّ‬
‫ص َدقُوا اللهَ لَ َك َ‬ ‫وف فَِإ َذا َعَز َم ْ‬
‫األم ُر َفلَ ْو َ‬ ‫َوقَ ْو ٌل َم ْع ُر ٌ‬
‫َّ‬ ‫ض وتُقَطِّعوا أَرحام ُكم * أُولَئِ َ َِّ‬ ‫ِ‬
‫ص َار ُه ْم } ‪.‬‬ ‫َع َمى أ َْب َ‬ ‫َص َّمهُ ْم َوأ ْ‬
‫ين لَ َعَنهُ ُم اللهُ فَأ َ‬ ‫ك الذ َ‬ ‫األر ِ َ ُ ْ َ َ ْ‬ ‫في ْ‬
‫ورةٌ } أي‪:‬‬ ‫َِّ‬
‫ت ُس َ‬ ‫آمُنوا } استعجاال ومبادرة لألوامر الشاقة‪ { :‬لَ ْوال نزلَ ْ‬ ‫ين َ‬‫يقول تعالى‪َ { :‬وَيقُو ُل الذ َ‬
‫فيها األمر بالقتال‪.‬‬
‫ورةٌ ُم ْح َك َمةٌ } أي‪ :‬ملزم العمل بها‪َ { ،‬و ُذ ِك َر ِفيهَا اْل ِقتَا ُل } الذي هو أشق شيء على‬ ‫ت ُس َ‬ ‫{ فَِإ َذا أُنزلَ ْ‬
‫ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم‬ ‫النفوس‪ ،‬لم يثبت ضعفاء اإليمان على امتثال هذه األوامر‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬رأ َْي َ َِّ‬
‫ت الذ َ‬ ‫َ‬
‫ظ َر اْل َم ْغ ِش ِّي َعلَْي ِه ِم َن اْل َم ْو ِت } من كراهتهم لذلك‪ ،‬وشدته عليهم‪.‬‬ ‫ك َن َ‬ ‫ون ِإلَْي َ‬
‫ض َي ْنظُ ُر َ‬ ‫َم َر ٌ‬
‫ب‬ ‫ِ‬ ‫يموا الصَّالةَ وآتُوا َّ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ ِ‬ ‫وهذا كقوله تعالى‪ { :‬أَلَم تَر ِإلَى الَِّذ ِ‬
‫الز َكاةَ َفلَ َّما ُكت َ‬ ‫َ‬ ‫ين قي َل لَهُ ْم ُكفوا أ َْيدَي ُك ْم َوأَق ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫اس َك َخ ْشَي ِة اللَّ ِه أ َْو أَ َش َّد َخ ْشَيةً }‬ ‫يق ِم ْنهُ ْم َي ْخ َش ْو َن َّ‬
‫الن َ‬ ‫َعلَْي ِه ُم اْل ِقتَا ُل ِإ َذا فَ ِر ٌ‬
‫وف } أي‪ :‬فأولى‬ ‫اعةٌ َوقَ ْو ٌل َم ْع ُر ٌ‬
‫ط َ‬ ‫ثم ندبهم تعالى إلى ما هو األليق بحالهم‪ ،‬فقال‪ { :‬فَأ َْولَى لَهُ ْم َ‬
‫لهم أن يمتثلوا األمر الحاضر المحتم عليهم‪ ،‬ويجمعوا عليه هممهم‪ ،‬وال يطلبوا أن يشرع لهم ما‬
‫هو شاق عليهم‪ ،‬وليفرحوا بعافية اهلل تعالى وعفوه‪.‬‬
‫األم ُر } أي‪ :‬جاءهم األمر جد‪ ،‬وأمر محتم‪ ،‬ففي هذه الحال لو صدقوا اهلل باالستعانة‬ ‫{ فَِإ َذا َع َز َم ْ‬
‫ان َخ ْي ًرا لَهُ ْم } من حالهم األولى‪ ،‬وذلك من وجوه‪:‬‬
‫به‪ ،‬وبذل الجهد في امتثاله { لَ َك َ‬
‫منها‪ :‬أن العبد ناقص من كل وجه‪ ،‬ال قدرة له إال إن أعانه اهلل‪ ،‬فال يطلب زيادة على ما هو قائم‬
‫بصدده‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه إذا تعلقت نفسه بالمستقبل‪ ،‬ضعف عن العمل‪ ،‬بوظيفة وقته‪ ،‬وبوظيفة المستقبل‪ ،‬أما‬
‫الحال‪ ،‬فألن الهمة انتقلت عنه إلى غيره‪ ،‬والعمل تبع للهمة‪ ،‬وأما المستقبل‪ ،‬فإنه ال يجيء حتى‬
‫تفتر الهمة عن نشاطها فال يعان عليه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن العبد المؤمل لآلمال المستقبلة‪ ،‬مع كسله عن عمل الوقت الحاضر‪ ،‬شبيه بالمتألي الذي‬
‫يجزم بقدرته‪ ،‬على ما يستقبل من أموره‪ ،‬فأحرى به أن يخذل وال يقوم بما هم به ووطن نفسه (‪)1‬‬
‫عليه‪ ،‬فالذي ينبغي أن يجمع العبد همه وفكرته ونشاطه على وقته الحاضر‪ ،‬ويؤدي وظيفته‬
‫بحسب قدرته‪ ،‬ثم كلما جاء وقت استقبله بنشاط وهمة عالية مجتمعة غير متفرقة‪ ،‬مستعينا بربه‬
‫في ذلك‪ ،‬فهذا حري بالتوفيق والتسديد في جميع أموره‪.‬‬
‫ثم ذكر تعالى حال المتولي عن طاعة ربه‪ ،‬وأنه ال يتولى إلى خير‪ ،‬بل إلى شر‪ ،‬فقال‪ { :‬فَهَ ْل‬
‫ام ُك ْم } أي‪ :‬فهما أمران‪ ،‬إما التزام لطاعة‬ ‫ِّ‬ ‫األر ِ‬ ‫عس ْيتُم ِإ ْن تَولَّْيتُم أ ْ ِ ِ‬
‫ض َوتُقَط ُعوا أ َْر َح َ‬ ‫َن تُ ْفس ُدوا في ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ََ ْ‬
‫وتول عن طاعة اهلل‪،‬‬ ‫اهلل‪ ،‬وامتثال ألوامره‪ ،‬فثم الخير والرشد والفالح‪ ،‬وإ ما إعراض عن ذلك‪ٍ ،‬‬
‫فما ثم إال الفساد في األرض بالعمل بالمعاصي وقطيعة األرحام‪.‬‬
‫ين } أفسدوا في األرض‪ ،‬وقطعوا أرحامهم { لَ َعَنهُ ُم اللَّهُ } بأن أبعدهم عن رحمته‪،‬‬ ‫{ أُولَئِ َ َِّ‬
‫ك الذ َ‬
‫وقربوا من سخط اهلل‪.‬‬
‫ص َار ُه ْم } أي‪ :‬جعلهم ال يسمعون ما ينفعهم وال يبصرونه‪ ،‬فلهم آذان‪ ،‬ولكن‬
‫َع َمى أ َْب َ‬
‫َص َّمهُ ْم َوأ ْ‬
‫{ فَأ َ‬
‫ال تسمع سماع إذعان وقبول‪ ،‬وإ نما تسمع سماعا تقوم به حجة اهلل عليها‪ ،‬ولهم أعين‪ ،‬ولكن ال‬
‫يبصرون بها العبر واآليات‪ ،‬وال يلتفتون بها إلى البراهين والبينات‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬وتوعد نفسه‪ ،‬وكذلك كانت في أ من قبل ثم شطبها الشيخ ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬وعدلها إلى‪:‬‬
‫وطن نفسه‪.‬‬

‫( ‪)1/788‬‬

‫َن أَم َعلَى ُقلُ ٍ‬


‫وب أَ ْقفَالُهَا (‪)24‬‬ ‫ون اْلقُْرآ َ ْ‬
‫أَفَاَل َيتَ َدب َُّر َ‬

‫آن أَم َعلَى ُقلُ ٍ‬


‫وب أَ ْقفَالُهَا } ‪.‬‬ ‫ون اْلقُْر َ ْ‬
‫{ ‪ { } 24‬أَفَال َيتَ َدب َُّر َ‬
‫أي‪ :‬فهال يتدبر هؤالء المعرضون لكتاب اهلل‪ ،‬ويتأملونه حق التأمل‪ ،‬فإنهم لو تدبروه‪ ،‬لدلهم على‬
‫كل خير‪ ،‬ولحذرهم من كل شر‪ ،‬ولمأل قلوبهم من اإليمان‪ ،‬وأفئدتهم من اإليقان‪ ،‬وألوصلهم إلى‬
‫المطالب العالية‪ ،‬والمواهب الغالية‪ ،‬ولبين لهم الطريق الموصلة إلى اهلل‪ ،‬وإ لى جنته ومكمالتها‬
‫ومفسداتها‪ ،‬والطريق الموصلة إلى العذاب‪ ،‬وبأي شيء تحذر‪ ،‬ولعرفهم بربهم‪ ،‬وأسمائه وصفاته‬
‫وإ حسانه‪ ،‬ولشوقهم إلى الثواب الجزيل‪ ،‬ورهبهم من العقاب الوبيل‪.‬‬
‫{ أَم َعلَى ُقلُ ٍ‬
‫وب أَ ْقفَالُهَا } أي‪ :‬قد أغلق على ما فيها من الشر وأقفلت‪ [ ،‬ص ‪ ] 789‬فال يدخلها‬ ‫ْ‬
‫خير أبدا؟ هذا هو الواقع‪.‬‬

‫( ‪)1/788‬‬

‫ان َس َّو َل لَهُ ْم َوأ َْملَى لَهُ ْم (‪َ )25‬ذِل َ‬


‫ك‬ ‫ط ُ‬ ‫َّن لَهم اْله َدى َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ْارتَ ُّدوا َعلَى أ َْدَب ِار ِه ْم م ْن َب ْعد َما تََبي َ ُ ُ ُ‬
‫َِّ‬
‫ِإ َّن الذ َ‬
‫ف‬‫ض اأْل َْم ِر َواللَّهُ َي ْعلَ ُم ِإ ْس َر َار ُه ْم (‪ )26‬فَ َك ْي َ‬‫يع ُك ْم ِفي َب ْع ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ين َك ِر ُهوا َما َن َّز َل اللهُ َسُنط ُ‬
‫َِِّ‬
‫بِأََّنهُ ْم قَالُوا للذ َ‬
‫ط اللَّهَ َو َك ِر ُهوا‬ ‫ك بِأََّنهُ ُم اتََّب ُعوا َما أ ْ‬
‫َس َخ َ‬ ‫وههُ ْم َوأ َْدَب َار ُه ْم (‪َ )27‬ذِل َ‬ ‫ِإ َذا تََوفَّتْهُ ُم اْل َماَل ئِ َكةُ َي ْ‬
‫ض ِرُب َ‬
‫ون ُو ُج َ‬
‫َع َمالَهُ ْم (‪)28‬‬
‫طأْ‬ ‫َحَب َ‬‫ض َو َانهُ فَأ ْ‬ ‫ِر ْ‬
‫َّن لَهم اْله َدى َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ان َس َّو َل لَهُ ْم َوأ َْملَى‬‫ط ُ‬‫الش ْي َ‬ ‫ين ْارتَ ُّدوا َعلَى أ َْدَب ِار ِه ْم م ْن َب ْعد َما تََبي َ ُ ُ ُ‬ ‫{ ‪ِ { } 25-28‬إ َّن الذ َ‬
‫األم ِر َواللَّهُ َي ْعلَ ُم ِإ ْس َر َار ُه ْم *‬
‫ض ْ‬ ‫يع ُك ْم ِفي َب ْع ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ين َك ِر ُهوا َما َن َّز َل اللهُ َسُنط ُ‬
‫َِِّ‬
‫ك بِأََّنهُ ْم قَالُوا للذ َ‬ ‫لَهُ ْم * َذِل َ‬
‫ط اللَّهَ َو َك ِر ُهوا‬ ‫َس َخ َ‬ ‫وههُ ْم َوأ َْدَب َار ُه ْم * َذِل َ‬
‫ك بِأََّنهُ ُم اتََّب ُعوا َما أ ْ‬ ‫ف ِإ َذا تََوفَّتْهُ ُم اْل َمالئِ َكةُ َي ْ‬
‫ض ِرُب َ‬
‫ون ُو ُج َ‬ ‫فَ َك ْي َ‬
‫َع َمالَهُ ْم } ‪.‬‬
‫طأْ‬ ‫َحَب َ‬ ‫ِر ْ‬
‫ض َو َانهُ فَأ ْ‬
‫يخبر تعالى عن حالة المرتدين عن الهدى واإليمان على أعقابهم إلى الضالل والكفران‪ ،‬ذلك ال‬
‫عن دليل دلهم وال برهان‪ ،‬وإ نما هو تسويل من عدوهم الشيطان وتزيين لهم‪ ،‬وإ مالء منه لهم‪:‬‬
‫{ َي ِع ُد ُهم وُيمِّني ِهم وما َي ِع ُد ُهم َّ‬
‫ورا }‬‫ان ِإال ُغ ُر ً‬‫ط ُ‬
‫الش ْي َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ َ ْ ََ‬
‫نزل اللَّهُ } من‬
‫ين َك ِر ُهوا َما َ‬ ‫َِِّ‬
‫وذلك أنهم قد تبين لهم الهدى‪ ،‬فزهدوا فيه ورفضوه‪ ،‬و { قَالُوا للذ َ‬
‫األم ِر } أي‪ :‬الذي يوافق أهواءهم‪ ،‬فلذلك‬ ‫ض ْ‬ ‫يع ُك ْم ِفي َب ْع ِ‬ ‫ِ‬
‫المبارزين العداوة هلل ولرسوله { َسُنط ُ‬
‫عاقبهم اهلل بالضالل‪ ،‬واإلقامة على ما يوصلهم إلى الشقاء األبدي‪ ،‬والعذاب السرمدي‪.‬‬
‫{ َواللَّهُ َي ْعلَ ُم ِإ ْس َر َار ُه ْم } فلذلك فضحهم‪ ،‬وبينها لعباده المؤمنين‪ ،‬لئال يغتروا بها‪.‬‬
‫ف } ترى حالهم الشنيعة‪ ،‬ورؤيتهم الفظيعة { ِإ َذا تََوفَّتْهُ ُم اْل َمالئِ َكة } الموكلون بقبض‬ ‫{ فَ َك ْي َ‬
‫وههُ ْم َوأ َْدَب َار ُه ْم } بالمقامع الشديدة؟!‪.‬‬ ‫ض ِرُب َ‬
‫ون ُو ُج َ‬ ‫أرواحهم‪َ { ،‬ي ْ‬
‫ط اللَّهَ } من كل كفر‬ ‫ك } العذاب الذي استحقوه ونالوه { بـ } سبب { أنهم اتََّب ُعوا َما أ ْ‬
‫َس َخ َ‬ ‫{ َذِل َ‬
‫وفسوق وعصيان‪.‬‬
‫َع َمالَهُ ْم } أي‪:‬‬
‫طأْ‬‫َحَب َ‬ ‫{ َو َك ِر ُهوا ِر ْ‬
‫ض َو َانهُ } فلم يكن لهم رغبة فيما يقربهم إليه‪ ،‬وال يدنيهم منه‪ { ،‬فَأ ْ‬
‫أبطلها وأذهبها‪ ،‬وهذا بخالف من اتبع ما يرضي اهلل وكره سخطه‪ ،‬فإنه سيكفر عنه سيئاته‪،‬‬
‫ويضاعف أجره وثوابه‪.‬‬

‫( ‪)1/789‬‬

‫َن لَ ْن ُي ْخ ِر َج اللَّهُ أ ْ‬
‫َض َغ َانهُ ْم (‪)29‬‬ ‫ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬
‫ض أْ‬ ‫أَم ح ِس َِّ‬
‫ب الذ َ‬‫ْ َ َ‬

‫َن لَ ْن ُي ْخ ِر َج اللَّهُ أ ْ‬
‫َض َغ َانهُ ْم } ‪.‬‬ ‫ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬
‫ض أْ‬ ‫{ ‪ { } 29-31‬أَم ح ِس َِّ‬
‫ب الذ َ‬‫ْ َ َ‬
‫ض } من شبهة أو شهوة‪ ،‬بحيث تخرج القلب عن‬ ‫ين ِفي ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬ ‫يقول تعالى‪ { :‬أَم ح ِس َِّ‬
‫ب الذ َ‬‫ْ َ َ‬
‫حال صحته واعتداله‪ ،‬أن اهلل ال يخرج ما في قلوبهم من األضغان والعداوة لإلسالم وأهله؟ هذا‬
‫ظن ال يليق بحكمة اهلل‪ ،‬فإنه ال بد أن يميز الصادق من الكاذب‪ ،‬وذلك باالبتالء بالمحن‪ ،‬التي من‬
‫ثبت عليها‪ ،‬ودام إيمانه فيها‪ ،‬فهو المؤمن حقيقة‪ ،‬ومن ردته على عقبيه فلم يصبر عليها‪ ،‬وحين‬
‫أتاه االمتحان‪ ،‬جزع وضعف إيمانه‪ ،‬وخرج ما في قلبه من الضغن‪ ،‬وتبين نفاقه‪ ،‬هذا مقتضى‬
‫الحكمة اإللهية‪ ،‬مع أنه تعالى قال‪:‬‬

‫( ‪)1/789‬‬

‫اه ْم َولَتَ ْع ِرفََّنهُ ْم ِفي لَ ْح ِن اْلقَ ْو ِل َواللَّهُ َي ْعلَ ُم أ ْ‬


‫َع َمالَ ُك ْم (‪)30‬‬ ‫يم ُ‬ ‫ِِ‬
‫اء أَل ََر ْيَنا َكهُ ْم َفلَ َع َر ْفتَهُ ْم بس َ‬
‫َولَ ْو َن َش ُ‬
‫اه ِد ِ‬ ‫ِ‬
‫َخَب َار ُك ْم (‪)31‬‬ ‫ين م ْن ُك ْم َوالصَّابِ ِر َ‬
‫ين َوَنْبلَُو أ ْ‬ ‫َولََنْبلَُوَّن ُك ْم َحتَّى َن ْعلَ َم اْل ُم َج َ‬

‫اه ْم َولَتَ ْع ِرفََّنهُ ْم ِفي لَ ْح ِن اْلقَ ْو ِل َواللَّهُ َي ْعلَ ُم أ ْ‬


‫َع َمالَ ُك ْم * َولََنْبلَُوَّن ُك ْم‬ ‫يم ُ‬ ‫ِِ‬
‫ألر ْيَنا َكهُ ْم َفلَ َع َر ْفتَهُ ْم بس َ‬
‫اء َ‬
‫{ َولَ ْو َن َش ُ‬
‫اه ِد ِ‬ ‫ِ‬
‫َخَب َار ُك ْم } ‪.‬‬‫ين َوَنْبلَُو أ ْ‬‫ين م ْن ُك ْم َوالصَّابِ ِر َ‬ ‫َحتَّى َن ْعلَ َم اْل ُم َج َ‬
‫اه ْم }‬ ‫ِِ‬
‫يم ُ‬‫ألر ْيَنا َكهُ ْم َفلَ َع َر ْفتَهُ ْم بس َ‬
‫اء َ‬
‫{ َولَ ْو َن َش ُ‬
‫أي‪ :‬بعالماتهم التي هي كالوسم في وجوههم‪َ { .‬ولَتَ ْع ِرفََّنهُ ْم ِفي لَ ْح ِن اْلقَ ْو ِل } أي‪ :‬ال بد أن يظهر‬
‫ما في قلوبهم‪ ،‬ويتبين بفلتات ألسنتهم‪ ،‬فإن األلسن مغارف القلوب‪ ،‬يظهر منها ما في القلوب من‬
‫َع َمالَ ُك ْم } فيجازيكم عليها‪.‬‬ ‫الخير والشر { َواللَّهُ َي ْعلَ ُم أ ْ‬
‫ثم ذكر أعظم امتحان يمتحن به عباده‪ ،‬وهو الجهاد في سبيل اهلل‪ ،‬فقال‪َ { :‬ولََنْبلَُوَّن ُك ْم } أي‪ :‬نختبر‬
‫اه ِد ِ‬ ‫ِ‬
‫َخَب َار ُك ْم } فمن امتثل أمر اهلل‬ ‫ين َوَنْبلَُو أ ْ‬‫ين م ْن ُك ْم َوالصَّابِ ِر َ‬ ‫إيمانكم وصبركم‪َ { ،‬حتَّى َن ْعلَ َم اْل ُم َج َ‬
‫وجاهد في سبيل اهلل لنصر دينه وإ عالء كلمته فهو المؤمن حقا‪ ،‬ومن تكاسل عن ذلك‪ ،‬كان ذلك‬
‫نقصا في إيمانه‪.‬‬

‫( ‪)1/789‬‬

‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫الرس َ ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫َِّ‬


‫ض ُّروا اللهَ‬
‫َّن لَهُ ُم اْلهُ َدى لَ ْن َي ُ‬
‫ول م ْن َب ْعد َما تََبي َ‬ ‫ص ُّدوا َع ْن َسبِيل الله َو َشاقوا َّ ُ‬
‫ين َكفَ ُروا َو َ‬ ‫ِإ َّن الذ َ‬
‫َش ْيًئا َو َسُي ْحبِطُ أ ْ‬
‫َع َمالَهُ ْم (‪)32‬‬

‫ِ‬ ‫الرس َ ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫َِّ‬


‫َّن لَهُ ُم اْلهُ َدى لَ ْن‬
‫ول م ْن َب ْعد َما تََبي َ‬ ‫ص ُّدوا َع ْن َسبِيل الله َو َشاقوا َّ ُ‬
‫ين َكفَ ُروا َو َ‬ ‫{ ‪ِ { } 32‬إ َّن الذ َ‬
‫ض ُّروا اللَّهَ َش ْيًئا َو َسُي ْحبِطُ أ ْ‬
‫َع َمالَهُ ْم } ‪.‬‬ ‫َي ُ‬
‫هذا وعيد شديد لمن جمع أنواع الشر كلها‪ ،‬من الكفر باهلل‪ ،‬وصد الخلق عن سبيل اهلل الذي نصبه‬
‫موصال إليه‪.‬‬
‫َّن لَهُ ُم اْلهُ َدى } أي‪ :‬عاندوه وخالفوه عن عمد وعناد‪ ،‬ال عن جهل‬ ‫ِ‬ ‫الرس َ ِ‬ ‫ُّ‬
‫ول م ْن َب ْعد َما تََبي َ‬ ‫{ َو َشاقوا َّ ُ‬
‫ض ُّروا اللَّهَ َش ْيًئا } فال ينقص به ملكه‪.‬‬
‫وغي وضالل‪ ،‬فإنهم { لَ ْن َي ُ‬
‫َع َمالَهُ ْم } أي‪ :‬مساعيهم التي بذلوها في نصر الباطل‪ ،‬بأن ال تثمر لهم إال الخيبة‬ ‫{ َو َسُي ْحبِطُ أ ْ‬
‫والخسران‪ ،‬وأعمالهم التي يرجون بها الثواب‪ ،‬ال تقبل لعدم وجود شرطها‪.‬‬

‫( ‪)1/789‬‬

‫الر ُسو َل َواَل تُْب ِطلُوا أ ْ‬


‫َع َمالَ ُك ْم (‪)33‬‬ ‫يعوا َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫يعوا اللهَ َوأَط ُ‬
‫ِ‬
‫َمُنوا أَط ُ‬
‫ين آ َ‬
‫َِّ‬
‫َيا أَيُّهَا الذ َ‬

‫ول َوال تُْب ِطلُوا أ ْ‬


‫َع َمالَ ُك ْم } ‪.‬‬ ‫الر ُس َ‬
‫يعوا َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫يعوا اللهَ َوأَط ُ‬
‫ِ‬
‫آمُنوا أَط ُ‬
‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫{ ‪َ { } 33‬يا أَيُّهَا الذ َ‬
‫يأمر تعالى المؤمنين بأمر به تتم أمورهم‪ ،‬وتحصل سعادتهم الدينية والدنيوية‪ ،‬وهو‪ :‬طاعته‬
‫وطاعة رسوله في أصول الدين وفروعه‪ ،‬والطاعة هي امتثال األمر‪ ،‬واجتناب النهي على الوجه‬
‫المأمور به باإلخالص وتمام المتابعة‪.‬‬
‫وقوله‪َ { :‬وال تُْب ِطلُوا أ ْ‬
‫َع َمالَ ُك ْم } يشمل النهي عن إبطالها بعد عملها‪ ،‬بما يفسدها‪ ،‬من من بها‬
‫وإ عجاب‪ ،‬وفخر وسمعة‪ ،‬ومن عمل بالمعاصي التي تضمحل معها األعمال‪ ،‬ويحبط أجرها‪،‬‬
‫ويشمل النهي عن إفسادها حال وقوعها بقطعها‪ ،‬أو اإلتيان بمفسد من مفسداتها‪.‬‬
‫فمبطالت الصالة والصيام والحج ونحوها‪ ،‬كلها داخلة في هذا‪ ،‬ومنهي عنها‪ ،‬ويستدل الفقهاء بهذه‬
‫اآلية على تحريم قطع الفرض‪ ،‬وكراهة قطع [ ص ‪ ] 790‬النفل‪ ،‬من غير موجب لذلك‪ ،‬وإ ذا‬
‫كان اهلل قد نهى عن إبطال األعمال‪ ،‬فهو أمر بإصالحها‪ ،‬وإ كمالها وإ تمامها‪ ،‬واإلتيان بها‪ ،‬على‬
‫الوجه الذي تصلح به علما وعمال‪.‬‬

‫( ‪)1/789‬‬

‫يل اللَّ ِه ثَُّم َماتُوا َو ُه ْم ُكفَّ ٌار َفلَ ْن َي ْغ ِف َر اللَّهُ لَهُ ْم (‪ )34‬فَاَل تَ ِهُنوا‬ ‫ين َكفَروا وص ُّدوا َع ْن سبِ ِ‬
‫َ‬ ‫ِإ َّن الذ َ ُ َ َ‬
‫َِّ‬
‫َع َمالَ ُك ْم (‪)35‬‬ ‫َعلَ ْو َن َواللَّهُ َم َع ُك ْم َولَ ْن َيتَِر ُك ْم أ ْ‬
‫السْلِم َوأ َْنتُُم اأْل ْ‬
‫َوتَ ْد ُعوا ِإلَى َّ‬

‫يل اللَّ ِه ثَُّم َماتُوا َو ُه ْم ُكفَّ ٌار َفلَ ْن َي ْغ ِف َر اللَّهُ لَهُ ْم * فَال‬‫ين َكفَروا وص ُّدوا َع ْن سبِ ِ‬
‫َ‬
‫َِّ‬
‫{ ‪ِ { } 34-35‬إ َّن الذ َ ُ َ َ‬
‫َع َمالَ ُك ْم } ‪.‬‬‫األعلَ ْو َن َواللَّهُ َم َع ُك ْم َولَ ْن َيتَِر ُك ْم أ ْ‬
‫السْلِم َوأ َْنتُُم ْ‬
‫تَ ِهُنوا َوتَ ْد ُعوا ِإلَى َّ‬
‫ت‬
‫طْ‬ ‫ك َحبِ َ‬ ‫ت َو ُه َو َك ِافٌر فَأُولَئِ َ‬ ‫هذه اآلية والتي في البقرة قوله‪َ { :‬و َم ْن َي ْرتَِد ْد ِم ْن ُك ْم َع ْن ِدينِ ِه فََي ُم ْ‬
‫اآلخ َر ِة } مقيدتان‪ ،‬لكل نص مطلق‪ ،‬فيه إحباط العمل بالكفر‪ ،‬فإنه مقيد بالموت‬ ‫الد ْنيا و ِ‬
‫ِ ُّ‬
‫َع َمالُهُ ْم في َ َ‬ ‫أْ‬
‫َِّ‬
‫ص ُّدوا } الخلق‬ ‫عليه‪ ،‬فقال هنا‪ِ { :‬إ َّن الذ َ‬
‫ين َكفَ ُروا } باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر { َو َ‬
‫يل اللَّ ِه } بتزهيدهم إياهم بالحق‪ ،‬ودعوتهم إلى الباطل‪ ،‬وتزيينه‪ { ،‬ثَُّم َماتُوا َو ُه ْم ُكفَّ ٌار }‬‫{ َع ْن سبِ ِ‬
‫َ‬
‫لم يتوبوا منه‪َ { ،‬فلَ ْن َي ْغ ِف َر اللَّهُ لَهُ ْم } ال بشفاعة وال بغيرها‪ ،‬ألنه قد تحتم عليهم العقاب‪ ،‬وفاتهم‬
‫الثواب‪ ،‬ووجب عليهم الخلود في النار‪ ،‬وسدت عليهم رحمة الرحيم الغفار‪.‬‬
‫ومفهوم اآلية الكريمة أنهم إن تابوا من ذلك قبل موتهم‪ ،‬فإن اهلل يغفر لهم ويرحمهم‪ ،‬ويدخلهم‬
‫الجنة‪ ،‬ولو كانوا مفنين أعمارهم في الكفر به والصد عن سبيله‪ ،‬واإلقدام على معاصيه‪ ،‬فسبحان‬
‫من فتح لعباده أبواب الرحمة‪ ،‬ولم يغلقها عن أحد‪ ،‬ما دام حيا متمكنا من التوبة‪.‬‬
‫وسبحان الحليم‪ ،‬الذي ال يعاجل العاصين بالعقوبة‪ ،‬بل يعافيهم‪ ،‬ويرزقهم‪ ،‬كأنهم ما عصوه مع‬
‫قدرته عليهم‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪ { :‬فَال تَ ِهُنوا } أي‪ :‬ال تضعفوا عن قتال عدوكم‪ ،‬ويستولي عليكم الخوف‪ ،‬بل‬
‫اصبروا واثبتوا‪ ،‬ووطنوا أنفسكم على القتال والجالد‪ ،‬طلبا لمرضاة ربكم‪ ،‬ونصحا لإلسالم‪،‬‬
‫وإ غضابا للشيطان‪.‬‬
‫وال تدعوا إلى المسالمة والمتاركة بينكم وبين أعدائكم‪ ،‬طلبا للراحة‪ { ،‬و } الحال أنكم { أنتم‬
‫األعلَ ْو َن َواللَّهُ َم َع ُك ْم َولَ ْن َيتَِر ُك ْم } أي‪ :‬ينقصكم { أ ْ‬
‫َع َمال ُكم }‬ ‫ْ‬
‫فهذه األمور الثالثة‪ ،‬كل منها مقتض للصبر وعدم الوهن كونهم األعلين‪ ،‬أي‪ :‬قد توفرت لهم‬
‫أسباب النصر‪ ،‬ووعدوا من اهلل بالوعد الصادق‪ ،‬فإن اإلنسان‪ ،‬ال يهن إال إذا كان أذل من غيره‬
‫وأضعف عددا‪ ،‬وعددا‪ ،‬وقوة داخلية وخارجية‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن اهلل معهم‪ ،‬فإنهم مؤمنون‪ ،‬واهلل مع المؤمنين‪ ،‬بالعون‪ ،‬والنصر‪ ،‬والتأييد‪ ،‬وذلك موجب‬
‫لقوة قلوبهم‪ ،‬وإ قدامهم على عدوهم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن اهلل ال ينقصهم من أعمالهم شيئا‪ ،‬بل سيوفيهم أجورهم‪ ،‬ويزيدهم من فضله‪ ،‬خصوصا‬
‫عبادة الجهاد‪ ،‬فإن النفقة تضاعف فيه‪ ،‬إلى سبع مائة ضعف‪ ،‬إلى أضعاف كثيرة‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬
‫ون َم ْو ِطًئا َي ِغيظُ اْل ُكفَّ َار‬‫طُئ َ‬‫يل اللَّ ِه َوال َي َ‬ ‫ب وال م ْخمصةٌ ِفي سبِ ِ‬
‫َ‬ ‫صٌ َ َ َ َ‬ ‫ظ َمأٌ َوال َن َ‬
‫ص ُيبهُ ْم َ‬ ‫ك بِأََّنهم ال ي ِ‬
‫{ َذل َ ُ ْ ُ‬
‫ِ‬
‫ون‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫وال يَنالُون ِم ْن ع ُد ٍّو َن ْيال ِإال ُكتِب لَهم بِ ِه عم ٌل ص ِال ٌح ِإ َّن اللَّه ال ي ِ‬
‫ين َوال ُي ْنفقُ َ‬ ‫َج َر اْل ُم ْحسن َ‬‫ضيعُ أ ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ُْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ون }‬ ‫ب لَهُ ْم ِلَي ْج ِزَيهُ ُم اللَّهُ أ ْ‬
‫َح َس َن َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون َوادًيا ِإال ُكت َ‬ ‫ص ِغ َيرةً َوال َكبِ َيرةً َوال َي ْق َ‬
‫ط ُع َ‬ ‫َنفَقَةً َ‬
‫فإذا عرف اإلنسان أن اهلل تعالى ال يضيع عمله وجهاده‪ ،‬أوجب له ذلك النشاط‪ ،‬وبذل الجهد فيما‬
‫يترتب عليه األجر والثواب‪ ،‬فكيف إذا اجتمعت هذه األمور الثالثة فإن ذلك يوجب النشاط التام‪،‬‬
‫فهذا من ترغيب اهلل لعباده‪ ،‬وتنشيطهم‪ ،‬وتقوية أنفسهم على ما فيه صالحهم وفالحهم‪.‬‬

‫( ‪)1/790‬‬
‫ور ُك ْم َواَل َي ْسأَْل ُك ْم أ َْم َوالَ ُك ْم (‪ِ )36‬إ ْن‬ ‫ُج َ‬ ‫الد ْنَيا لَ ِع ٌ‬
‫ب َولَ ْهٌو َوإِ ْن تُ ْؤ ِمُنوا َوتَتَّقُوا ُي ْؤتِ ُك ْم أ ُ‬ ‫ِإَّن َما اْل َحَياةُ ُّ‬
‫يل اللَّ ِه‬‫َض َغ َان ُكم (‪َ )37‬ها أ َْنتُم َهؤاَل ِء تُ ْد َعو َن ِلتُْن ِفقُوا ِفي سبِ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ‬
‫ِ‬
‫وها فَُي ْحف ُك ْم تَْب َخلُوا َوُي ْخ ِر ْج أ ْ ْ‬ ‫َي ْسأَْل ُك ُم َ‬
‫اء َوإِ ْن تَتََولَّ ْوا َي ْستَْب ِد ْل قَ ْو ًما‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫فَم ْن ُك ْم َم ْن َي ْب َخ ُل َو َم ْن َي ْب َخ ْل فَِإَّن َما َي ْب َخ ُل َع ْن َن ْفسه َواللهُ اْل َغن ُّي َوأ َْنتُُم اْلفُقََر ُ‬
‫ونوا أ َْمثَالَ ُك ْم (‪)38‬‬ ‫َغْي َر ُك ْم ثَُّم اَل َي ُك ُ‬

‫ور ُك ْم َوال َي ْسأَْل ُك ْم أ َْم َوالَ ُك ْم‬


‫ُج َ‬ ‫الد ْنَيا لَ ِع ٌ‬
‫ب َولَ ْهٌو َوإِ ْن تُ ْؤ ِمُنوا َوتَتَّقُوا ُي ْؤتِ ُك ْم أ ُ‬ ‫{ ‪ِ { } 36-38‬إَّن َما اْل َحَياةُ ُّ‬
‫يل اللَّ ِه‬
‫الء تُ ْد َعو َن ِلتُْن ِفقُوا ِفي سبِ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫َض َغ َان ُكم * َهاأ َْنتُم َهؤ ِ‬
‫ْ ُ‬
‫ِ‬
‫وها فَُي ْحف ُك ْم تَْب َخلُوا َوُي ْخ ِر ْج أ ْ ْ‬ ‫* ِإ ْن َي ْسأَْل ُك ُم َ‬
‫اء َوإِ ْن تَتََولَّ ْوا َي ْستَْب ِد ْل قَ ْو ًما‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫فَم ْن ُك ْم َم ْن َي ْب َخ ُل َو َم ْن َي ْب َخ ْل فَِإَّن َما َي ْب َخ ُل َع ْن َن ْفسه َواللهُ اْل َغن ُّي َوأ َْنتُُم اْلفُقََر ُ‬
‫ونوا أ َْمثَالَ ُك ْم } ‪.‬‬ ‫َغْي َر ُك ْم ثَُّم ال َي ُك ُ‬
‫هذا تزهيد منه لعباده في الحياة الدنيا بإخبارهم عن حقيقة أمرها‪ ،‬بأنها لعب ولهو‪ ،‬لعب في‬
‫األبدان ولهو في القلوب‪ ،‬فال يزال العبد الهيا في ماله‪ ،‬وأوالده‪ ،‬وزينته‪ ،‬ولذاته من النساء‪،‬‬
‫والمآكل والمشارب‪ ،‬والمساكن والمجالس‪ ،‬والمناظر والرياسات‪ ،‬العبا في كل عمل ال فائدة فيه‪،‬‬
‫بل هو دائر بين البطالة والغفلة والمعاصي‪ ،‬حتى تستكمل دنياه‪ ،‬ويحضره أجله‪ ،‬فإذا هذه األمور‬
‫قد ولت وفارقت‪ ،‬ولم يحصل العبد منها على طائل‪ ،‬بل قد تبين له خسرانه وحرمانه‪ ،‬وحضر‬
‫عذابه‪ ،‬فهذا موجب للعاقل الزهد فيها‪ ،‬وعدم الرغبة فيها‪ ،‬واالهتمام بشأنها‪ ،‬وإ نما الذي ينبغي أن‬
‫يهتم به ما ذكره بقوله‪َ { :‬وإِ ْن تُ ْؤ ِمُنوا َوتَتَّقُوا } بأن تؤمنوا باهلل‪ ،‬ومالئكته وكتبه ورسله واليوم‬
‫اآلخر‪ ،‬وتقوموا بتقواه التي هي من لوازم اإليمان ومقتضياته‪ ،‬وهي العمل بمرضاته على الدوام‪،‬‬
‫مع ترك معاصيه‪ ،‬فهذا الذي ينفع العبد‪ ،‬وهو الذي ينبغي أن يتنافس فيه‪ ،‬وتبذل الهمم واألعمال‬
‫في طلبه‪ ،‬وهو مقصود اهلل من عباده رحمة بهم ولطفا‪ ،‬ليثيبهم الثواب الجزيل‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وإِ ْن‬
‫ور ُك ْم َوال َي ْسأَْل ُك ْم أ َْم َوالَ ُك ْم } أي‪ :‬ال يريد تعالى أن يكلفكم ما يشق عليكم‪،‬‬ ‫تُ ْؤ ِمُنوا َوتَتَّقُوا ُي ْؤتِ ُك ْم أ ُ‬
‫ُج َ‬
‫ويعنتكم من أخذ أموالكم‪ ،‬وبقائكم بال مال‪ ،‬أو ينقصكم نقصا يضركم‪ ،‬ولهذا قال‪ِ { :‬إ ْن َي ْسأَْل ُك ُم َ‬
‫وها‬
‫فَُي ْح ِف ُك ْم تَْب َخلُوا َوُي ْخ ِر ْج أ ْ‬
‫َض َغ َان ُك ْم }‬
‫أي‪ :‬ما في قلوبكم من الضغن‪ ،‬إذا طلب منكم ما تكرهون بذله‪.‬‬
‫والدليل على أن اهلل لو طلب منكم أموالكم وأحفاكم بسؤالها‪ ،‬أنكم تمتنعون منها‪ ،‬أنكم { تُ ْد َع ْو َن‬
‫يل اللَّ ِه } على هذا الوجه‪ ،‬الذي فيه مصلحتكم الدينية والدنيوية‪.‬‬ ‫ِلتُْن ِفقُوا ِفي سبِ ِ‬
‫َ‬
‫{ فَ ِم ْن ُك ْم َم ْن َي ْب َخ ُل } أي‪ :‬فكيف لو سألكم‪ ،‬وطلب منكم أموالكم في غير أمر ترونه مصلحة‬
‫عاجلة؟ أليس من باب أولى وأحرى امتناعكم من ذلك‪.‬‬
‫[ ص ‪ ] 791‬ثم قال‪َ { :‬و َم ْن َي ْب َخ ْل فَِإَّن َما َي ْب َخ ُل َع ْن َن ْف ِس ِه } ألنه حرم نفسه ثواب اهلل تعالى‪ ،‬وفاته‬
‫خير كثير‪ ،‬ولن يضر اهلل بترك اإلنفاق شيئا‪.‬‬
‫اء } تحتاجون إليه في جميع أوقاتكم‪ ،‬لجميع أموركم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فإن اهلل هو { اْل َغن ُّي َوأ َْنتُُم اْلفُقََر ُ‬
‫ونوا أ َْمثَالَ ُك ْم‬‫{ َوإِ ْن تَتََولَّ ْوا } عن اإليمان باهلل‪ ،‬وامتثال ما يأمركم به { َي ْستَْب ِد ْل قَ ْو ًما َغْي َر ُك ْم ثَُّم ال َي ُك ُ‬
‫آمُنوا‬ ‫َِّ‬
‫ين َ‬ ‫} في التولي‪ ،‬بل يطيعون اهلل ورسوله‪ ،‬ويحبون اهلل ورسوله‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬يا أَيُّهَا الذ َ‬
‫ُّونهُ }‬ ‫ف َيأْتِي اللَّهُ بِقَ ْوٍم ُي ِحبُّهُ ْم َوُي ِحب َ‬
‫َم ْن َي ْرتَ َّد ِم ْن ُك ْم َع ْن ِدينِ ِه فَ َس ْو َ‬
‫تم تفسير سورة القتال‪ ،‬والحمد هلل رب العالمين‪.‬‬

‫( ‪)1/790‬‬

‫تفسير سورة الفتح‬


‫وهي مدنية‬

‫( ‪)1/791‬‬

‫ك َوَي ْه ِدَي َ‬
‫ك‬ ‫َخ َر َوُيتِ َّم نِ ْع َمتَهُ َعلَْي َ‬
‫ك و َما تَأ َّ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ك فَتْحا مبِ ًينا (‪ِ )1‬لي ْغ ِفر لَ َ َّ‬
‫ك اللهُ َما تَقَد َم م ْن َذ ْنب َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ‬
‫إَّنا فَتَ ْحَنا لَ َ ً ُ‬
‫ص ًرا َع ِز ًيزا (‪)3‬‬ ‫طا مستَِقيما (‪ )2‬وي ْنصر َ َّ‬ ‫ِ‬
‫ك اللهُ َن ْ‬ ‫َ َ َُ‬ ‫ص َرا ً ُ ْ ً‬

‫ك َو َما‬‫ك اللَّهُ َما تَقَ َّد َم ِم ْن َذ ْنبِ َ‬


‫ك فَتْ ًحا ُمبِ ًينا * ِلَي ْغ ِف َر لَ َ‬
‫الر ِح ِيم ِإَّنا فَتَ ْحَنا لَ َ‬ ‫{ ‪ { } 1-3‬بِ ْسِم اللَّ ِه َّ‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫ص ًرا َع ِز ًيزا } ‪.‬‬ ‫طا مستَِقيما * وي ْنصر َ َّ‬ ‫ك ويه ِدي َ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫تَأ َّ‬
‫ك اللهُ َن ْ‬ ‫ك ص َرا ً ُ ْ ً َ َ ُ َ‬ ‫َخ َر َوُيت َّم ن ْع َمتَهُ َعلَْي َ َ َ ْ َ‬
‫هذا الفتح المذكور هو صلح الحديبية‪ ،‬حين صد المشركون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لما‬
‫جاء معتمرا في قصة طويلة‪ ،‬صار آخر أمرها أن صالحهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على‬
‫وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين‪ ،‬وعلى أن يعتمر من العام المقبل‪ ،‬وعلى أن من أراد أن‬
‫يدخل في عهد قريش وحلفهم دخل‪ ،‬ومن أحب أن يدخل في عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وعقده فعل‪.‬‬
‫وبسبب ذلك لما أمن الناس بعضهم بعضا‪ ،‬اتسعت دائرة الدعوة لدين اهلل عز وجل‪ ،‬وصار كل‬
‫مؤمن بأي محل كان من تلك األقطار‪ ،‬يتمكن من ذلك‪ ،‬وأمكن الحريص على الوقوف على حقيقة‬
‫اإلسالم‪ ،‬فدخل الناس في تلك المدة في دين اهلل أفواجا‪ ،‬فلذلك سماه اهلل فتحا‪ ،‬ووصفه بأنه فتح‬
‫مبين أي‪ :‬ظاهر جلي‪ ،‬وذلك ألن المقصود في فتح بلدان المشركين إعزاز دين اهلل‪ ،‬وانتصار‬
‫المسلمين‪ ،‬وهذا حصل بذلك (‪ )1‬الفتح‪ ،‬ورتب اهلل على هذا الفتح عدة أمور‪ ،‬فقال‪ِ { :‬لَي ْغ ِف َر لَ َ‬
‫ك‬
‫ك و َما تَأ َّ‬
‫َخ َر }‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫َّ‬
‫اللهُ َما تَقَد َم م ْن َذ ْنب َ َ‬
‫وذلك ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬بسبب ما حصل بسببه من الطاعات الكثيرة‪ ،‬والدخول في الدين بكثرة‪ ،‬وبما‬
‫تحمل صلى اهلل عليه وسلم من تلك الشروط التي ال يصبر عليها إال أولو العزم من المرسلين‪،‬‬
‫وهذا من أعظم مناقبه وكراماته صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬أن غفر اهلل له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‪.‬‬
‫طا‬ ‫ك ِ‬
‫ص َرا ً‬ ‫ك } بإعزاز دينك‪ ،‬ونصرك على أعدائك‪ ،‬واتساع كلمتك‪َ { ،‬وَي ْه ِدَي َ‬ ‫{ َوُيتِ ُّم نِ ْع َمتَهُ َعلَْي َ‬
‫يما } تنال به السعادة األبدية‪ ،‬والفالح السرمدي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُم ْستَق ً‬
‫ص ًرا َع ِز ًيزا } أي‪ :‬قويا ال يتضعضع فيه اإلسالم‪ ،‬بل يحصل االنتصار التام‪،‬‬ ‫{ وي ْنصر َ َّ‬
‫ك اللهُ َن ْ‬ ‫َ َ َُ‬
‫وقمع الكافرين‪ ،‬وذلهم ونقصهم‪ ،‬مع توفر قوى المسلمين ونموهم‪ ،‬ونمو أموالهم‪.‬‬
‫ثم ذكر آثار هذا الفتح على المؤمنين فقال‪:‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬في ب‪ :‬به‪.‬‬

‫( ‪)1/791‬‬

‫ود السَّماو ِ‬ ‫ادوا ِإيم ًانا مع ِإ ِ ِ َِّ ِ‬ ‫ين ِلَي ْز َد ُ‬ ‫ِ‬ ‫َّك َينةَ ِفي ُقلُ ِ‬ ‫ُهو الَِّذي أ َْن َز َل الس ِ‬
‫ات‬ ‫يمانه ْم َولله ُجُن ُ َ َ‬ ‫َ ََ َ‬ ‫وب اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ين َواْل ُم ْؤ ِمَنات َجَّنات تَ ْج ِري م ْن تَ ْحتهَا اأْل َْنهَ ُار‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫يما (‪ )4‬لُي ْدخ َل اْل ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫يما َحك ً‬ ‫ان اللهُ َعل ً‬ ‫ض َو َك َ‬ ‫واأْل َْر ِ‬
‫َ‬
‫ك ِع ْن َد اللَّ ِه فَو ًزا ع ِظيما (‪ )5‬ويع ِّذب اْلمَن ِاف ِقين واْلمَن ِافقَاتِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ََُ َ ُ َ َ ُ‬ ‫ْ َ ً‬ ‫ان َذل َ‬‫ين فيهَا َوُي َكفَِّر َع ْنهُ ْم َسيَِّئات ِه ْم َو َك َ‬ ‫َخالد َ‬
‫ب اللَّهُ َعلَْي ِه ْم َولَ َعَنهُ ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين بِاللَّ ِه َ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬
‫ظ َّن الس َّْو ِء َعلَْي ِه ْم َدائ َرةُ الس َّْو ِء َو َغض َ‬ ‫ين َواْل ُم ْش ِر َكات الظ ِّان َ‬ ‫َواْل ُم ْش ِرك َ‬
‫تم ِ‬
‫ص ًيرا (‪)6‬‬ ‫اء ْ َ‬ ‫َع َّد لَهُ ْم َجهََّن َم َو َس َ‬
‫َوأ َ‬

‫يمانِ ِه ْم َوِللَّ ِه ُجُن ُ‬


‫ود‬ ‫ِ‬
‫يم ًانا َم َع إ َ‬
‫ين ِلَي ْز َد ُ ِ‬
‫ادوا إ َ‬
‫ِ‬ ‫َّك َينةَ ِفي ُقلُ ِ‬
‫وب اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫{ ‪ُ { } 4-6‬هو الَِّذي أ َْن َز َل الس ِ‬
‫َ‬
‫ات تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِهَا‬ ‫ات جَّن ٍ‬ ‫ِ‬
‫ين َواْل ُم ْؤ ِمَن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يما * لُي ْدخ َل اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ِ‬
‫يما َحك ً‬
‫ض و َك َّ ِ‬
‫ان اللهُ َعل ً‬ ‫األر ِ َ َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاوات َو ْ‬ ‫الس َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫األنهار َخ ِال ِدين ِفيها وي َكفِّر ع ْنهم سيَِّئاتِ ِهم و َكان َذِل َ ِ َّ ِ‬
‫ين‬
‫ب اْل ُمَنافق َ‬ ‫يما * َوُي َع ِّذ َ‬ ‫ك ع ْن َد الله فَ ْو ًزا َعظ ً‬ ‫َ َ َ ُ َ َ ُْ َ ْ َ َ‬ ‫َُْ‬
‫ض َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين بِاللَّ ِه َ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ب اللهُ‬ ‫ظ َّن الس َّْو ِء َعلَْي ِه ْم َدائ َرةُ الس َّْو ِء َو َغ َ‬ ‫ين َواْل ُم ْش ِر َكات الظ ِّان َ‬‫َواْل ُمَنافقَات َواْل ُم ْش ِرك َ‬
‫تم ِ‬
‫ص ًيرا } ‪.‬‬ ‫اء ْ َ‬ ‫َعلَْي ِه ْم َولَ َعَنهُ ْم َوأ َ‬
‫َع َّد لَهُ ْم َجهََّن َم َو َس َ‬
‫يخبر تعالى عن منته على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم‪ ،‬وهي السكون والطمأنينة‪ ،‬والثبات‬
‫عند نزول المحن المقلقة‪ ،‬واألمور الصعبة‪ ،‬التي تشوش القلوب‪ ،‬وتزعج األلباب‪ ،‬وتضعف‬
‫النفوس‪ ،‬فمن نعمة اهلل على عبده في هذه الحال أن يثبته ويربط على قلبه‪ ،‬وينزل عليه السكينة‪،‬‬
‫ليتلقى هذه المشقات بقلب ثابت ونفس مطمئنة‪ ،‬فيستعد بذلك إلقامة أمر اهلل في هذه الحال‪ ،‬فيزداد‬
‫بذلك إيمانه‪ ،‬ويتم إيقانه‪ ،‬فالصحابة رضي اهلل عنهم لما جرى ما جرى بين رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم والمشركين‪ ،‬من تلك الشروط التي ظاهرها أنها غضاضة عليهم‪ ،‬وحط من أقدارهم‪،‬‬
‫وتلك ال تكاد تصبر عليها النفوس‪ ،‬فلما صبروا عليها ووطنوا أنفسهم

You might also like