Professional Documents
Culture Documents
أساس
التقديس
للمام فخر الدين
الرازي
محمد بن عمر بن الحسين المتوفى سنة
606هـ
تحقيق
أساس التقديس
للمام فخـر الدين الرازي
محمد بن عمر بن الحسين المتوفي سنة 606هـ
تحقيق
الدكتور أحمد حجازي السقا
الهداء
أهدى هذا الكتاب إلى
الستاذ الدكتور
يحيى هاشم حسن فرغل
تقديرا ً لعلمه وحسن خلقه
احمد حجازي السقا
-5-
التعريف بالكتاب:
الحمد لله رب العالمين ،والصلة والسلم على خاتم النبيين ،محمد .وعلى آله
وأصحابه ،وعلى النبياء السابقين ،ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعـــــد
ففي القرآن الكريم قوله تعالى " :إن الذين يبايعون الله .يد الله فوق أيديهم "
وهذا القول يفسره المام محمود بن عمر بقوله " :يريد أن يد رسول الله –
التي تعلو يد المباعين – هي يد الله .والله – تعالى_ منزه عن الجوارح ،وعن
صفات الجسام .وإنما المعنى :تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول ،كعقده مع
الله ،من غير تفاوت بينهما .كقوله تعالى " :من يطع الرسول ،فقد أطاع الله)"(1
يريد هذا الشيخ الجليل أن يقول أن " :يد الله" ل تعني أن لله يد جارحة كأيدي
البشر ،وإنما تعني أن العقد مع الرسول ،كالعقد مع الله .لن الله وعد بأن
يوفى المجاهدين أجرهم بغير حساب "ومن أوفى بعهده من الله" ؟ وقد التزم
الشيخ الجليل بهذا المعنى؛ لورود نصوص محكمة في القرآن ،تنفي المثل عن
الله عز وجل .منها قوله تعالى " :ليس كمثله شيء ،وهو السميع البصير"
والذين ل يحسنون التأويل من المسلمين ،يقولون :إن الله له يد ،لنه أثبت
لنفسه يدا ً في قوله " :يد الله" ويقولون ل مثل لليد ول لله ،نفى هذا نفسه
المثل في قوله " :ليس كمثله شيء".
وهذا الكتاب النفيس ،المسمى بـ " تأسيس التقديس " أو "أساس التقديس"
يثبت وجود الله عز وجل ،ويؤول الصفات التي توهم أعضاء لله عز وجل ،كاليد
والرجل والعين والذن ،ويؤول الصفات التي توهم أفعال ً لله عز وجل ،تليق
بغيره ول تليق به ،كالغضب والسخط والمكر والستحياء . .على نحو ما أول
الشيخ الجليل محمود بن عمر المتوفى سنة 538هـ في "يد الله فوق أيديهم"
وعلى نحو ما أول الشيخ الغزالي أبو حامد حجة السلم ،المتوفى سنة 505
هـ وعلى نحو ما أول الشيخ عبد الوهاب الشعراني ،الصوفي الشهير.
-5مناقب المام الشافعي ،واسمه أيضا ً :إرشاد الطالبين إلى المنهج القويم
في بيان مناقب المام الشافعي – وقد طبعته الكليات الزهرية بتحقيقنا سنة
– 1985
-6شرح عيون الحكمة – وعيون الحكمة من تأليف الفيلسوف بن سينا –
-7محصل أفكار المتقدمين .
- 8لوامع البينات في شرح أسماء الله والصفات .
- 9أساس التقديس .
- 10لباب الشارات والتنبيهات – وهو تهذيب ومختصر كتاب "الشارات
والتنبيهات" لبن سينا الفيلسوف .
واعلم :أن الجزء الثامن من كتاب "المطالب العالية" وعنوانه "النبوات وما
يتعلق بها" قد طبعته الكليات الزهرية ضمن كتاب المطالب ،وطبعته في كتاب
منفرد سنة . 1984وفي التقديم له ككتاب منفرد ؛ كتبنا في التقديم هذه
المباحث :
-2النبوة عند علماء بني إسرائيل . – 1إثبات النبوة
-4علم السحر – 3نسخ الشرائع
– 5كرامات الولياء .
ومثله سيكون الجزء السابع والتاسع في الطبع .وعنوان السابع " :الرواح
العالية والسافلة " وعنوان التاسع " القضاء والقدر " أو " الجبر " .
وقد حققت " أساس التقديس " بعون الله تعالى ن في " المملكة الردنية
الهاشمية " في شهر أكتوبر سنة ألف وتسعمائة وخمسة وثمانون من الميلد ،
ولمـا عدت إلى "مصر" كتبت مبحثا ً عن " تأويل صفات الله تعالى بين اليهودية
والسلم" ضمن بيان قضية هذا الكتاب ،لقوي به كلم المؤلف -رحمه الله –
و وضعته في تمام الكتاب .
وقد راجع المبحث ،ورتب عناصره :أستاذنا الجليل الشيخ محمود مصطفى
بدوي فله الشكر .
والله أسأل أن يوفقنا إلى خدمة العلم والدين.
د /أحمد حجازي أحمد السقا
الحمد ) (1لله الواجب وجوده وبقاؤه ،الممتنع تغيره وفناؤه .العظيم قدره
واستعلؤه ،العميم ) آلؤه ونعماؤه( ) (2الدال على وحدانيته :أرضه وسماؤه ،
المتعالي عن شوائب التشبيه والتعطيل :صفاته وأسماؤه .فاستواؤه ) : (3قهره
واستيلؤه ،ونزوله :بره وعطاؤه ،ومجيئه :حكمه
) ( 1أول ط :قال الشيخ المام فخر الدين محمد بن عمر ،الرازي – تغمده
الله بغفرانه – الحمـد لله . . .الخ وأول خ :قال المام علمة العالم استاذ
البشر ،الداعي إلى الله تعالى ،فخر الدين ،حجة السلم :محمد بن عمر
الرازي – تغمده الله برحمته – الحمـد لله . . .الخ
-7-
اجتباؤه ،وضحكه :عفوه ،أو إذنه وارتضاؤه ،ويده :إنعامه ،أو إكرامه
واصطفاؤه .ول يجرى في الدارين من أفعاله إل ما يريده ويشاؤه .والعظمة :
إزاره ،والكبرياء :رداؤه .
)أحمده على جزيل نعمه ،وجميل كرمه ،وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل
شريك له ) (6وأشهد أن محمدا ً عبده ورسوله ،أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره
على الدين كله ،ولو كره المشركون .طلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ن
وسلم تسليما ً كثيرا ً .
أما بعد
فإني وإن كنت ساكنا ً في أقاصي بلد المشرق ،إل أني سمعت ) (7أهل المشرق
والمغرب ،وطبقين متفقين ،على أن السلطان المعظم ،العالم العادل .
المجاهد ،سيف الدنيا والدين ،سلطان السلم والمسلمين ،أفضل سلطين
الحق واليقين "أبا بكر بن أيوب" – ل زالت آيات راياته في تقوية الدين والحق ن
والمذهب الصدق ،متصاعدة إلى عنان السماء ،وآثار أنوار قدرته و مكنته ،باقية
،بحسب تعاقب الصباح والمساء -أفضل الملوك ،وأكمل السلطين ن في
آيات الفضل ،وبينات الصدق ،وتقوية الدين القويم ن ونصرة الصراط المستقيم
،أردت ) (8أن أتحفه بتحفة سنية ،وهدية مرضية ،فأتحفته بهذا الكتاب ن الذي
سميته بـ "أساس التقديس" ) (9على بعد الدار وتبايـن القطـــار
القسم الول
في
الدلئل الدالة على أنه تعـالى
منزه عن الجسمية والحيز
الفصل الول
في
تقرير المقدمات التي يجب ايرادها
قبل الخوض في الدلئل
وهى ثلثـة:
المقـدمة الولى
في
اثبات موجود ل يشار اليه بالحس
أعلم ) : (1أنا ندعي وجود موجود ل يمكن أن يشار إليه بالحس ،أنه ههنا أو هناك
) (2أو نقول :إنا ندعي وجود موجود ) غير مختص بشيء من الحياز والجهات ،
)(4
أو نقول :إنا ندعي وجود مـوجود ( ) (3غير حال في العالم ،ول مباين )عنه(
في شيء من الجهات الست ،التي للعالم .
والمقصود من الكل شيء واحد . )(5
وهذه العبارات متفاوتة
)
ومن المخالفين من يدعي :أن فساد هذه المقدمات :معلوم بالضرورة ؛ قالوا
: (6لن العلم الضروري حاصل بأن كل موجودين ،فإنه
ل بد أن يكون أحدهما حال ً في الخر ،أو مباينا ً عنه ،مختصا ً بجهة من الجهات
الست المحيطة به .
وقالوا ) : (7وإثبات موجودين على خلف هذه القسام السبعة :باطل في بدائة
العقول .واعلم :أنه لو ثبت كون هذه المقدمة بديهية ،لم يكن الخوض في ذكر
الدلئل جائزا ً ،لن على تقدير أن يكون المر على ما قالوه ،كان الشروع في
الستدلل على كون الله تعالى غير حال في العالم ول مباين عنه بالجهة :إبطال ً
للضروريات .والقدح في الضروريات بالنظريات :يقتضي القدح في الصل
بالفرع ،وذلك يوجب تطرق الطعن إلى الصل والفرع معا ً ،وهو باطل .بل
يجب علينا :بيان أن هذه المقدمة ليست من المقدمات البديهية ،حتى يزول هذا
الشكال.
فنقول :الذي يدل على أن هذه المقدمات ليست بديهية ،وجوه :
الول :إن جمهور العقلء المعتبرين ،اتفقوا على أنه تعالى ليس بمتحيز ول
مختص بشيء من الجهات ،وأنه تعالى غير حال في العالم ،ول مباين عنه في
شيء من الجهات .ولو كان فساد هذه المقدمات معلوما ً بالبديهة ،لكان إطباق
أكثر العلماء على إنكارها ممتنعا ً ،لن الجمع العظيم من العقلء ل يجوز إطباقهم
على إنكار الضروريات .بل نقول :الفلسفة اتفقوا على إثبات موجودات ليست
بمتحيزة ول حالة في المتحيز .مثل العقول والنفوس والهيولى .بل زعموا :أن
الشيء الذي يشير إليه كل إنسان بقوله أنا :موجود ،وليس بجسم ول جسماني
.ولم يقل أحد بأنهم في هذه الدعوى ،منكرون للبديهيات ن بل جمع عظيم من
المسلمين ،اختاروا مذهبهم .مثل .معمر بن عباد السلمي من المعتزلة ،ومثل
محمد بن النعمان ) (8من الرافضة ،
الثالث :إنا إذا قلنا :الموجود إما أن يكون متحيزا ً ،أو حال ً في المتحيز ،أو ل
متحيز ول حال في المتحيز :وجدنا العقل قاطعا ً بصحة هذا التقسيم ،ولو قلنا :
الموجود إما أن يكون متحيزا ً ،أو حال ً في المتحيز ،واقتصرنا على هذا القدر :
- 10 -
علمنا بالضرورة .أن هذا التقسيم غير تام ،ول منحصر وأنه ل يتم إل بضم
القسم الثالث .وهو أن يقال :وإما أن
ل يكون متحيزا ً أو حال ً في المتحيز .وإذا كان المر كذلك ،علمنا بالضرورة :أن
احتمال هذا القسم ،وهو وجود موجود ،ل يكون متحيزا ً ،ول حال ً في المتحيز :
قائم في العقول من غير مدافعة ول منازعة ،وأنه ل يمكن الجزم بنفيه ول بإثباته
إل بدليل منفصل .
الرابع :إنا نعلم بالضرورة أن أشخاص الناس مشتركة في مفهوم النسانية .
ومتباينة بخصوصياتها وتعيناتها .وما به المشاركة غير ما به الممايزة .وهذا
يقتضي أن يقال :النسانية من حيث هي إنسانية ك مجردة عن الشكل المعين )
والحيز المعين ( ) (10فالنسانية من حيث هي هي ،معقول مجرد ) وإذا ثبت ذلك
( ) (11فقد أخرج البحث والتفتيش عن المحسوس :ما هو معقول مجرد .وإذا
كان كذلك ،فكيف يستبعد في العقل أن يكون خالق المحسوسات ،منزها ً عن
لواحق الحس وعلئق الخيال ؟
الخامس :إن كل ما هية ،إذا ) (12اعتبرناها بحدها وحقيقتها .فإنا قد نعقلها حال
غفلتنا عن الوضع) (13والحيز فكيف والنسان إذا كان مستغرق الفكر في تفهم أن
حد العلم ما هو ؟ وحد الطبيعة ما هو ؟ فإنه في تلك الحالة يكون غافل ً عن
حقيقة الحيز والمقدار .فضل ً عن أن يحكم بأن تلك الحقيقة ل بد وأن تكون
مختصة بمحل أو بجهة .وهذا يقتضي أنه يمكننا أن نعقل الماهيات حال ذهولنا
عن الحيز والشكل والمقدار .
السادس :وهو أن الواحد منا حال ما يكون مستغرق الفكر والرؤية ،في
استخراج مسألة معضلة ن قد يقول في نفسه :إني قد حكمت بكذا )أو عقلت
كذا ) ( (14فحال ما يقول في نفسه :إني )عقلت كذا ) : ( (15يكون عارفا ً
بنفسه .إذ لو لم يكن عارفا ً بنفسه ،لمتنع منه أن يحكم على ذاته بأنه حكم
بكذا ،أو عرف كذا ،مع أنه في تلك الحالة قد يكون غافل ً عن معنى الحيز
والجهة ،وعن معنى الشكل والمقدار ،فضل ً عن أن يعلم كون ذاته في الحيز ،
أو كون ذاته موصوفة بالشكل والمقدار .فثبت :أن العلم بالشيء قد يحصل
عند عدم العلم بحيزه وشكله ومقداره .وذلك يفيد القطع بأن الشيء المجرد
عن الوضع والجهة ،يصح أن يكون معقول ً .
السابع :إنا نبصر الشياء .إل أن القوة الباصرة ل تبصر بنفسها .وكذلك القوة
الخيالية تتخيل الشياء .إل أن هذه القوة ل يمكنها أن تتخيل نفسها .فوجود
القوة الباصرة يدل على أنه ل يجب أن يكون كل شيء متخيل ً .وذلك يفتح باب
الحتمال المذكور.
- 11 -
الثامن :إن خصومنا ل بد لهم من العتراف بوجود شيء على خلف حكم الحس
والخيال .وذلك لن خصومنا في هذا الباب إما الكرامية أو الحنابلة .
أما الكرامية .فإنا إذا قلنا لهم :لو كان الله تعالى مشارا ً إليه بالحس ،لكان ذلك
الشيء إما أن يكون منقسما ً فيكون مركبا – وأنتم ل تقولون بذلك – وإما أن
يكون غير منقسم ،فيكون في الصغر والحقارة
مثل النقطة التي ل تنقسم ،ومثل الجزء الذي ل يتجزأ – وأنتم ل تقولون بذلك –
وعند هذا الكلم قالوا :إنه واحد منزه عن التركيب والتأليف ،ومع هذا ،فإنه
ليس بصغير أو حقير .ومعلوم :أن هذا الذي التزموه مما ل يقبله الحس والخيال
،بل ل يقبله العقل أيضا ً .لن المشار إليه بحسب الحس ،إن حصل له امتداد
في الجهات والحياز ،كان أحد جانبيه مغايرا ً للجانب الثاني .وهذا يوجب
النقسام في بديهية العقل .وإن لم يحصل له امتداد في شيء من الجهات ،ل
في اليمين ول في اليسار ول في الفوق ول في التحت ،كان نقطة غير
منقسمة ،وكان في غاية الصغر والحقارة .وإذا لم يبعد عندهم التزام كونه غير
)
قابل للقسمة ،مع كونه عظيما ً ،غير متناه في المتداد )مع أن هذا الجمع بين
( (16النفي والثبات ،ومدفوع ) (17في بدائه العقول )فكيف حكموا بأن القول
بكونه – تعالى – غير حال ،ول مباين عنه بحسب الجهة :مدفوع في بدائه
العقول ) ( (18؟
وأما الحنابلة الذين التزموا الجزاء والبعاض ،فهم أيضا ً معترفون بأن ذاته تعالي
مخالف لذوات هذه المحسوسات .فإنه تعالى ل يساوي هذه الذوات في قبول
الجتماع والفتراق والتغير والفناء ن والصحة والمرض ،والحياة والموت .إذا لو
كانت ذاته – تعالى -مساوية لسائر الذوات في هذا الصفات ،لزم :إما افتقاره
إلى خالق آخر – وعلى هذا يلزم التسلسل ) - (19أو يلزم القول بأن المكان
والحدوث غير محوج إلى الخالق – وذلك يلزم منه نفي الصانع – فثبت :أنه لبد
لهم من العتراف بأن خصوصية ذاته – التي بها امتازت عن سائر الذوات (20) -ل
يصل الوهم والخيال إلى كنهها – وذلك اعتراف بثبوت أمر على خلف ما يحكم به
الوهم ويقضي به الخيال – وإذا كان المر كذلك ،فأي استبعاد في وجود موجود
غير حال في العالم ول مباين بالجهة للعالم ،وإن كان الوهم والخيال ل يمكنهما
إدراك هذا الموجود ؟
وأيضا ً :فعمدة مذهب الحنابلة أنهم متى تمسكوا بآية أو بخبر ) (21يوهم ظاهره
شيئا ً من العضاء والجوارح ،صرحوا بأنا نثبت هذا المعنى لله تعالى على خلف
ما هو ثابت للخلق .فأثبتوا لله -تعالى – وجها ً على خلف وجوه ) (22وجوه
الخلق ،ويدا ً على خلف أيدي الخلق .ومعلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي
ذكروه مما ل يقبله الخيال أو الوهم .فإذا عقل إثبات ذلك على خلف الوهم
والخيال .فأي استبعاد في القول بأنه تعالي موجود ،وليس داخل العالم ول
خارج العالم .وإن كان الوهم والخيال قاصرين عن إدراك هذا الموجود ؟
التاسع :إن أهل التشبيه قالوا :العالم والباري موجودان .وكل موجودين فإما
أن يكون أحدهما حال ً في الخر أو مباينا ً عنه .قالوا :والقول بوجوب ) (23هذا
ً مباينا الحصر معلوم بالضرورة .قالوا والقول بالحلول محال ) (24فتعين كونه
للعالم بالجهة .وبهذا الطريق احتجوا بونه تعالى مختصا ً بالحيز والجهة .وأهل
الدهر .قالوا :العالم والباري موجودان .وكل موجودين فإما أن يكون وجودهما
معا ً أو أحدهما قبل الخر .ومحال أن العالم والباري معا ً وإل لزم .إما قدم
العالم ،أو حدوث الباري .
وهما محالن .فثبت :أن الباري قبل العالم .ثم قالوا :والعلم الضروري حاصل
بأن هذه القبلية ل تكون إل بالزمان والمدة .وإذا ثبت هذا فتقدم الباري )على
العالم( ) (25إن كان بمدة متناهية لزم حدوث الباري .وإن كان بمدة ل أول لها ،
لزم كون المدة قديمة .فأنتجوا بهذا الطريق قدم المدة والزمان .
فنقول :حاصل هذا الكلم :أن المشبهة زعمت أن مباينة الباري تعالى عن
العالم ،ل يعقل حصولها إل بالجهة .وأنتجوا منه :كون الله في الجهة .وزعمت
الدهرية :أن تقدم الباري )تعالى( ) (26على العالم ل يعقل حصوله إل بالزمان .
وأنتجوا منه :قدم المدة .وإذا ثبت هذا فنقول :حكم الخيال في حق الله
تعالى ،إما أن يكون مقبول ً أو غير مقبول .فإن كان مقبول ً ،فالمشبهة يلزم
عليهم مذهب الدهرية ،وهو أن يكون الباري )تعالى( ) (27متقدما على العالم
بمدة غير متناهية ،ويلزمهم القول بكون الزمان أزليا ً .والمشبهة ل يقولون بذلك
.والدهرية يلوم عليهم مذهب المشبهة – وهو مباينة الباري )تعالى( ) (28عن
العالم بالجهة والمكان – فيلزمهم القول بكون الباري )تعالى( ) (29مكانيا ً -وهم ل
يقولون به – فصار هذا التناقض ) (30واردا ً على الفريقين.
وأما إن قلنا :حكم الوهم والخيال غير مقبول البتة في ذات الله تعالى وفي
صفاته .فحينئذ نقول :
قول المشبهة :إن كل موجودين فل بد وأن يكون أحدهما حال ً في الخر ،أو
مباينا ً عنه بالجهة :قول خيالي باطل ،وقول الدهرية ) (31بأن تقدم الباري
)تعالى( ) (32على العالم ،ل بد وأن يكون بالمدة
والزمان :قول خيالي باطل ،وهذا هو قول أصحابنا أهل التوحيد والتنزيه ،الذين
عزلوا حكم الوهم والخيال عن ) (33ذات الله تعالى وصفاته .وذلك هو المنهج
القويم ،والصراط المستقيم.
العاشر :إن معرفة أفعال الله نعالى وصفاته ،أقرب إلى العقول ،من معرفة
ذات الله تعالى .ثم المشبهة وافقونا على أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته
على خلف حكم الحس والخيال.
أما تقرير هذا المعنى في أفعال الله تعالى فذلك من وجوه :
أحدها :إن الذي شاهدناه هو تغير الصفات ،مثل انقلب الماء والتراب نباتًا،
وانقلب النبات جزء من بذر حيوان ) . (34فأما حدوث الدواب ) (35ابتداء ن من
غير سبق مادة وطينة ،فهذا شيء ما شاهدناه البتة ،ول يقضى بجوازه وهمنا
وخيالنا ،مع أنا سلمنا أنه تعالى هو المحدث للدواب ابتداء ،من غير سبق مادة
وطينة.
وثانيها :إنا ل نعقل حدوث شيء وتكونه ،إل في زمان مخصوص .ثم حكمنا بأن
الزمان حدث ل في زمان البتة .
وثالثها :إنا ل نعقل فاعل ً يفعل ،بعد ما لم يكن فاعل ً ،إل لتغير حالة وتبدل صفة
،ثم اعترفنا بأنه تعالى خلق العالم من غير شيء من ذلك ). (36
)ورابعها :إنا ل نعقل فاعل ً يفعل فعل ً ،إل لجلب منفعة ،أو لدفع مضرة .ثم إنا
اعترفنا :بأنه تعالى خالق العالم لغير شيء من هذا )( (37
الوهم والخيال .وقد ثبت :أن معرفة كنه الذات أعلى وأجل وأغمض ،من
معرفة كنه الصفات .ولما عزلنا الوهم والخيال في معرفة )الصفات )( (42
والفعال ،فلن نعزلهما في معرفة الذات )كان ) ( (43أولى وأحرى .
فهذه الدلئل العشرة :دالة على كونه -سبحانه وتعالى – منزه عن الحيز والجهة
:ليس أمرا ً يدفعه صريح العقل ن وذلك هو تمام المطلوب )وبالله التوفيق )( (44
ونختم هذا الباب :بما روي عن "أرسطاطاليس ) " (45أنه كتب في أول كتابه في
اللهيات " :من أراد أن يشرع في المعارف اللهية ،فليستحدث لنفسه فطرة
أخرى" ). (46
قال الشيخ ) - (47رضي الله عنه " : -وهذا الكلم موافق للوحي والنبوة .فإنه
ذكر مراتب تكون الجسد في قوله تعالى " :ولقد خلفنا النسان من سللة من
طين ) " (48فلما آل المر إلى تعلق الروح ) (49بالبدن .
المقدمة الثانيـة
في
أنه ليس كل موجود يجب أن يكون له نظير وشبيه ،
وأنه ليس يلزم من نـفي النظير والشبيه ،نفي ذلك الشيء
-----------------
عليه وجوه : )(51
ويدل
الحجة الولى :إن بديهة العقل ل تستبعد وجود موجود ،موصوف بصفات
مخصوصة ،بحيث يكون كل ما سواه مخالفا ً له في تلك الخصوصية .وإذا لم
يكن هذا مدفوعا ً في بدائه العقول ،علمنا أنه ل يلزم من عدم نظير الشيء .
عدم ذلك الشيء .
الحجة الثانية :هي أن وجود الشيء .إما أن يتوقف على وجود ما شابهه ،أو ل
يتوقف .والول باطل )لن الشيئين) ((52لو كانا متشابهين ،وجب استوائهما في
جميع اللوازم .فيزم من توقف وجود هذا ،على وجود الثاني ،توقف وجود
الثاني على وجود الول .بل توقف كل منهما على نفسه .وذلك محال في بدائه
العقول ) فثبت أنه ل يتوقف وجود الشيء على وجود نظير له .فل يلزم من نفي
النظير نفيه (). (53
الحجة الثالثة :هي أن تعين كل شيء من حيث أنه هو :ممتنع الحصول في غيره
.وإل لكان ذلك الشيء عين غيره .وذلك باطل في بدائه العقول .فثبت أن
تعين كل شيء من حيث أنه هو ،ممتنع الحصول في غيره .فعلمنا أن عدم
النظير والمساوي ،ل يوجب القول بعدم الشيء ،وظهر فساد قول من يقول :
أنه ل يمكننا أن نعقل وجود موجود ل يكون متصل ً بالعالم ن ول منفصل ً عنه ،إل
)
إذا وجدنا له نظيرا ً .فإن عندنا :الموصوف بهذه الصفة ليس إل الله )سبحانه و(
(54تعالى وبينا :أنه ل يلزم من عدم النظير والشبيه ،عدم الشيء .فثبت :أن
هذا الكلم ساقط بالكليـــــة )وبالله التوفيق().(55
المقدمة الثالثـة
في
اختلف القائلين بأن الله جسم
اعلم) : (56أن القائلين بأنه تعالى – جسم .اختلفوا .فمنهم من يقول أنه )تعالى(
) (57على صورة النسان .ثم المنقول عن مشبهة المة إنه على صورة )النسان
الشاب( ) (58وعن مشبهة اليهود أنه على صورة إنسان شيخ .وهم ل يجوزون
النتقال والذهاب والمجيء على الله تعالى .وأما المحققون من المشبهة .
فالمنقول عنهم أنه تعالى على صورة نور من النوار .وذكر أبو معشر المنجم أن
سبب إقدام )الناس( ) (59على اتخاذ عبادة الوثان دينا ً لنفسهم :هو أن القوم
في الدهر -الول ) (60كانوا على مذهب المشبهة ن وكانوا يعتقدون أن إله
العالم نور عظيم .فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنا ً -هو أكبر الوثان -على صورة
الله ،وأوثانا ً أخرى -أصغر) (61من ذلك الوثن على صورة الملئكة ،واشتغلوا
بعبادة هذه الوثان .على اعتقاد أنهم يعبدون الله والملئكة .فثبت أن )دين )((62
عبادة الصنام كالفرع على مذهب المشبهة ز واعلم أن كثيرا ً من هؤلء يمنع من
جواز الحركة والسكون على الله )سبحانه و) ( (63تعالى .
وأما الكرامية فهم ل يقولون بالعضاء والجوارح .بل يقولون :أنه مختص بما
فوق العرش .ثم إن هذا المذهب يحتمل وجوها ً ثلثة )فإنه تعالى) ( (64إما أن
يقال )إنه) ( (65ملق للعرش .وإما أن يقال :إنه مباين عنه ببعد متناه .وإما أن
يقال :إنه مباين )عنه) ( (66ببعد غير متناه .وقد ذهب إلى كل واحد من هذه
القسام الثلثة طائفة من الكرامية .واختلفوا أيضا :في أنه تعالى مخنص بتلك
الجهات لذاته ،أو لمعنى قديم ؟ بينهم اختلف في ذلك .
(. )(67
فهذا تمام الكلم في المقدمات )وبالله التوفيق
--------------
الفصل الثاني
في
تقرير الدلئل السمعية على أنه سبحانه وتعالى ،
منزه عن الجسمية والحيز والجهة
من الوجه الذي قررناه :على أنه تعالى ليس بجسم ول بجوهر ,وجب أن ل
يكون في شيء من الحياز والجهات .
لن كل ما كان مختصا ً بحيز وجهة ،فإن كان منقسما ً كان جسما ً -وقد بينا
إبطال ذلك -وإن لم يكن منقسما ً ،كان جوهرا ً فردا ً -وقد بينا أنه باطل -ولما
بطل القسمان ،ثبت أنه يمتنع أن يكون في جهة أصل ً ن فثبت :أن قوله تعالى
"أحد" :يدل على قطعية على أنه تعالى ليس بجسم ول بجوهر ،ول في حيز
وجهة أصل ً .
واعلم :أنه تعالى ،كما نص على أنه )تعالى( ) (9واحد ،فقد نص )أيضًا() (10على
البرهان الذي لجله يجب الحكم بأنه أحد .وذلك أنه قال " :هو الله أحد" وكونه
إلها يقتضي كونه غنيا ً عما سواه ،وكل مركب فإنه مفتقر إلى كل واحد من
أجزائه ،وكل واحد من أجزائه :غيره ،فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره ،وكونه
إلها يمنع من كونه مفتقرا ً إلى غيره .وذلك يوجب القطع بأنه أحدا ً .وكونه أحدا
يوجب القطع بأنه ليس بجسم ول جوهر ول في حيز وجهة .فثبت :أن قوله
تعالى ":هو الله أحد" :برهان قاطع على ثبوت هذه المطالب .
وأما قوله )سبحانه وتعالى()" : (11الله الصمد" فالصمد هو السيد المصمود إليه
في الحوائج ،وذلك يدل على أنه ليس بجسم ،وعلى أنه غير مختص بالحيز
والجهة.
أما بيان دللته على نفي الجسمية فمن وجوه :
الول :إن كل جسم فهو مركب ،وكل مركب فهو محتاج إلى كل واحد من
أجزائه ،وكل واحد من أجزائه غيره .فكل مركب فهو محتاج
فلم يكن صمدا ً إلى غيره ،والمحتاج إلى الغير ل يكون غنيا ُ محتاجا ً )إليه(
)(12
مطلقا ً .
الثاني :لو كان مركبا ً من الجوارح والعضاء ) (13لحتاج في البصار إلى العين ،
وفي الفعل إلى اليد ن وفي المشي إلى الرجل .وذلك ينافي كونه صمدا ً
مطلقا ً .
الثالث :إنا نقيم الدللة على أن الجسام متماثلة .والشياء المتماثلة يجب
اشتراكها في اللوازم ،فلو احتاج بعض الجسام إلى بعض ،لزم كون الكل
محتاجا ً إلى ذلك الجسم ،ولزم أيضا ً كونه محتاجا ً )ذلك الجسم ،ولزم أيضا ً كونه
محتاجًا( ) (14إلى نفسه .وكل ذلك محال ،ولما كان ذلك محال ،وجب أن ل يحتاج
إلى) (15شيء من الجسام .ولو كان كذلك ،لم يكن صمدا ً على الطلق .
وأمان بيان دللته على أنه سبحانه وتعالى منزه عن الحيز والجهة :فهو أنه
)سبحانه و() (16تعالى لو كان مختصا ً بالحيز والجهة ،لكان إما أن يكون حصوله
في الحيز المعين واجبا ً ،أو جائزا ً .فإن كان واجبا ً فحينئذ يكون ذاته تعالى
مفتقرا ً في الوجود والتحقق ،إلى ذلك الحيز المعين .وذلك) (17الحيز المعين ،
يكون غنيا ً عن ذاته المخصوص .لنا لو فرضنا عدم حصول
- 19 -
) (12إلى غيره :ط والمعنى :ل يكون غنيا ً يحتاج الناس إليه
) (13والعراض خ
) (14ما بين القوسين زيادة من خ
) (16من خ ) (15اليـه :ط
) (17وأما ذلك الحيز المعين فإنه :ص
ل .وعلى هذا ذات الله تعالى في ذلك الحيز المعين ،لم يبطل ذلك الحيز أص ً
التقدير يكون تعالى محتاجا ً إلى ذلك الحيز ،فل يكون) (16صمدا ً على الطلق .
وأما إن كان حصوله في الحيز المعين جائزا ً ل واجبا ً ،فحينئذ يفتقر إلى مخصص
يخصصه بالحيز المعين .وذلك يوجب كونه محتاجا ً ،وينافي كونه صمدا ً .
وأما قوله تعالى " :ولم يكن له كفوا ً أحد" فهذا أيضا ً يدل على أنه ليس بجسم
ول جوهر ن لنا سنقيم الدللة على أن الجواهر متماثلة .فلو كان تعالى جوهرا ً ،
لكان مثل ً لجميع الجواهر فكان كل واحد من الجواهر :كفؤا له .ولو كان جسما ً
لكان مؤلفا ًَ من الجواهر .لن الجسم يكون كذلك وحينئذ يعود اللزام المذكور .
فثبت :أن هذه السورة من أظهر الدلئل على أنه تعالى ليس بجسم ول بجوهر ،
)(19
ول حاصل في مكان وحيز
واعلم :أنه كما أن الكفار لما سألوا الرسول عن صفة ربه ،وأجاب الله بهذه
السورة ،الدالة على كونه تعالى منزها ً عن أن يكون جسما ً أو جوهرا ً أو مختصا
بالمكان ،فكذلك فرعون سأل موسى عليه السلم عن صفة الله تعالى .فقال :
"وما رب العالمين ") (20؟ ثم إن موسى لم يذكر الجواب عن هذا السؤال ،إل
بكونه تعالى خالقا ً للناس ومدبرا ً لهم ،وخالقا ً للسموات والرض ومدبرا ً لهما .
وهذا أيضا ً من أقوى الدلئل على أنه تعالى ليس بمتحيز ول في جهة .لنا سنبين
إن شاء الله تعالى أن كون الشيء حجما ً ومتحيزا ً ،هو عين الذات ونفسها
وحقيقتها ؛ ل أنه صفة قائمة بالذات ،وأما كونه خالقا ً للشياء ومدبرا ً لها فهو
صفة .
) (19وفي التوراة "ليس مثل الله " في ) (18فلم يكن :ص
ترجمة البروتستانت ،وفي ترجمة الكاثوليك " :ل كفء لله" )تث (33:26
) (20الشـعراء 22
ولفظة "ما" سؤال عن الماهية ،وطلب للحقيقة .فلو كان تعالى متحيزا ً ،
لكان الجواب عن قوله "وما رب العالمين" ؟ :بذكر كونه متحيزا ً :أولى من
الجواب عنه بذكر كونه خالقا ً .ولو كان )المر( ) (21كذلك ،لكان جواب موسى
عليه السلم خطأ ،ولكان طعن فرعون بأنه مجنون ل يفهم السؤال ،ول يذكر في
مقابلة السؤال ما يصلح أن يكون جوابا ً :متجها ً لزما .ولما بطل ذلك ،علمنا أنه
تعالى ما كان متحيزًا .فل جرم ما كان يمكن تعريف حقيقته سبحانه وتعالى إل
بأنه خالق مدبر .فل جرم كان جواب موسى عليه السلم صحيحا ً ،وكان سؤال
فرعون ساقطا ً فاسدا ً .فثبت :أنه كما أن جواب محمد عن سؤال الكفار عن
صفة الله تعالى :يدل عن تنزيه الله تعالى عن التحيز ،فكذلك جواب موسى
عليه السلم )عن سؤال فرعون عن صفة الله تعالى :يدل على تنزيه الله
تعالى( ). (22
- 20 -
)أما الخليل فقد حكى الله تعالى) ( (23عنه في كتابه :بأنه استدل بحصول
التغير) (24في أحوال الكواكب :على حدوثها .ثم قال عند تمام الستدلل " :
وجهت وجهي ،للذي فطر السموات والرض ،حنيفا ً)" (25
واعلم :أن هذه الواقعة تدل على تنزيه الله تعالى وتقديسه عن التحيز والجهة .
أما دللتها على تنزيه الله تعالى عن التحيز ،فمن وجوه :
أحدهما :إنا سنبين إن شاء الله تعالى :أن الجسام متماثلة وإذا ثبت ذلك ،
فنقول :ما صح على أحد المثلين ،وجب على أن يصح على المثل الخر .فلو
كان تعالى جسما ً أو جوهرا ً ،وجب أن يصح عليه كل ما صح على غيره .وأن
يصح على غيره كل ما صح عليه ز وذلك يقتضي جواز التغير عليه .ولما حكم
الخليل عليه السلم بأن المتغير من حال إلى حال ،ل يصلح لللهية ،وثبت أنه لو
كان جسما ً لصح عليه التغيير :لزم القطع بأنه تعالى ليس بمتحيز أصل ً .
الثاني :إنه عليه السلم قال عند تمام الستدلل " ،وجهت وجهي للذي فطر
السموات والرض" فلم يذكر من صفات الله تعالى إل كونه خالقا ً للعالم ،والله
تعالى مدحه على هذا الكلم ،وعظمه .فقال " :وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على
قومه ،نرفع درجات من نشاء ) " (26ولو كان إله العالم جسما موصوفا ً بمقدار
مخصوص ،لما كمل العلم به تعالى ،إل بعد العلم بكونه جسما ً متحيزا ً .ولو كان
كذلك لما كان مستحقا ً للمدح والتعظيم ،بمجرد معرفة كونه خالقا ً للعالم .ولما
كان هذا القدر من المعرفة كافيا ً في كمال معرفة الله تعالى :دل ذلك على أنه
تعالى ليس بمتحيز .
الثالث :إنه تعالى لو كان جسما ً ،لكان كل جسم مشاركا ً له في تمام الماهية .
فالقول بكونه تعالى جسما ً ،يقتضي إثبات الشريك لله تعالى .وذلك ينافي
قوله " :وما أنا من المشركين) "(27فثبت مما ذكرناه :أن العظماء من النبياء -
صلوات الله عليهم -كانوا قاطعين بتنزيه الله تعالى وتقديسه عن الجسمية
)(28
والجوهرية )والجهة وبالله التوفيق(
" )(29
الحجة الثانية من القرآن :قوله تعالى " :ليس كمثله شيء
ولو كان جسما ً ،لكان مثل ً لسائر الجسام في تمام الماهية .لنا سنبين )إن شاء
الله تعالى بالدلئل الباهرة) ( (30أن الجسام كلها متماثلة .وذلك كالمناقض لهذا
النص .فإن قيل :لم ل يجوز أن يقال :إنه تعالى ،وإن كان جسما ً ،إل أنه
مخالف لغيره من الجسام .كما أن النسان والفرس ،وإن اشتركا في الجسمية
- 21 -
وبين الكثرة في ذات الله تعالى .لن الجسمية مشترك فيها بين الله )تعالى(
)(37
غيره ،وخصوصية ذاته غير مشتركة فيما بين الله تعالى وبين غيره ،وما به
المشاركة غير ما به الممايزة .وذلك يقتضي وقوع التركيب في ذاته المخصوصة
.وكل مركب ممكن -ل واجب .على ما بيناه – فثبت ك أن هذا السؤال ساقط
)(38
)والله أعلم(
الحجة الثالثة :قوله تعالى " :والله الغني ،وأنتم الفقراء") (38دلت) (40هذه الية
على كونه تعالى عنيا ً ،ولو كان جسما ً لما كان هذه الية على كونه تعالى عنيا ً ،
ولو كان جسما ً لما كان غنيا ً .لن كل جسم مركب .وكل مركب محتاج إلى كل
واحد من أجزائه وأيضا ً :لو وجب اختصاصه بالجهة ،لكان محتاجا ً إلي الجهة .
وذلك يقدح في كونه غنيا ً على الطلق.
الحجة الرابعة :قوله تعالى " :ل إله إل هو الحي القيوم") (41والقيوم )مبالغة في
كونه ) (42غنيا ً عن كل ما سواه .وكونه مقوما ً لغيره :عبارة عن احتياج كل ما
سواه إليه .فلو كان جسما ً لكان هو مفتقرا ً إلى غيره .وهو جزؤه .ولكان غيره
- 22 -
غنيا ً عنه .وهو جزؤه .وحينئذ ل يكون قيوما ً .وأيضا ً :لو وجب حصوله في شيء
من الحياز ،لكان مفتقرا ً محتاجا ً إلى ذلك الحيز .فلم يكن قيوما ً على الطلق .
فإن قيل :ألستم تقولون :إنه )تعالى( ) : (43يجب أن يكون موصوفا ً بالعلم .ولم
يقدح ذلك عندكم في كونه قيوما ً ؟ فلم ل يجوز أيضا ً أن يقال :إنه يجب أن
يحصل في حيز معين ،ولم يقدح ذلك في كونه قيوما ً ؟
قيل :عندنا أن ذاته كالموجب لتلك الصفة ،وذلك )ل( يقدح) (44في وصف الذات
بكونه قيوما ً ،أما ههنا فل يمكن أن يقال :إن ذاته توجب ذلك الحيز المعين .لن
بتقدير أن ل يكون حاصل ً في ذلك الحيز .لم يلزم بطلن ذلك ول عدمه ،فكان
)(45
الحيز غنيا ً عنه ،وكان هو مفتقر إلى ذلك الحيز .فظهر الفرق )والله أعلم(
الحجة الخامسة :قوله تعالى " :هل تعلم له سميًا") (46؟ قال بن عباس )رضي
ل" ،ولو كان متحيزا ً ،لكان كل واحد من الجواهر
الله عنه( )" : (47هل تعلم له مث ً
)(48
مثل ً )له(
الحجة التاسعة :قوله تعالى « وإذا سألك عبادي عني ،فإني قريب .أجيب دعوة
الداع إذا دعاني ز فليستجيبوا لي ،وليؤمنوا بي ز لعلهم يرشدون » ) (55وسئل
البني صلى الله عليه) (56وسلم :أ قريب ربنا فنناجيه ،أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل
الله تعالى هذه الية .ولو كان تعالى في السماء أو في العرش ،لما صح القول
بأنه تعالى قريب من عباده .
الحجة العاشرة :لو كان تعالى في جهة فوق ،لكان سماء ،ولو كان سماء ،
لكان مخلوقا لنفسه .وذلك محال .فكونه في جهة فوق :محال .وإنما قلنا إنه
)تعالى) ( (57لو كان في جهة فوق لكان سماء لوجهين :
الول :إن السماء مشتق من السمو ،فكل شيء سماك فهو سماء .فهذا هو
الشتقاق الصلي اللغوي .وعرف القرآن أيضا ً :متقرر عليه .بدليل أنهم ذكروا
في تفسير قوله تعالى « :وينزل من السماء ،من جبال ،فيها من برد» ): (58
إنه السحاب .قالوا :وتسمية السحاب بالسماء جائـز ،لنه حصل فيه معنى
ً )
السمو .وذكروا أيضا ً في تفسير قوله تعالى « :وأنزلنا من السماء ماء طهورا»
، (59إنه من السحاب .فثبت :أن الشتقاق اللغوي ،والعلف القرآني متطابقان
على تسمية كل ما كان موصوفا ً بالسمو والعلو ) :بأنه( ) (60سماء .
- 24 -
الثاني :إنه تعالى لو كان فوق العرش ،لكان من جلس في العرش ونظر إلى
فوق ،لم ير إل نهاية ذات الله تعالى .فكانت نسبة نهاية السطح الخير من ذات
الله تعالى إلى سكان العرش ،كنسبة السطح الخير من السموات إلى سكان
الرض .وذلك يقتضي القطع بأنه لو كان فوق العرش لكان ذاته كالسماء لسكان
العرش .فثبت :أنه تعالى لو كان مختصا ً بجهة فوق ،لكان ذاته سماء .وإنما
قلنا :إنه لو كان ذاته سماء ،لكان ذاته مخلوقا ً ،لقوله تعالى « :تنزيل ً ممن خلق
الرض والسموات العلى » ) (61ولفظة « السموات » :لفظة جمع مقرونة
باللف واللم .وهذا يقتضي كون كل السموات مخلوقة لله تعالى .فلو كان هو
تعالى سماء ،لزم كونه خالقا ٌ لنفسه .وكذلك أيضـا ً :قولـه تعالى «إن ربكم الله
م» ) (62يدل على ما ذكرناه .فثبت :أنه الذي خلق السموات والرض في ستة أيا ً
تعالى لو كان مختصا ً بجهة فوق ،لكان سماء ،ولو كان سماء ،لكان مخلوقا ً
لنفسه .وهذا محال .فوجب أل يكون مختصا ً بجهة فوق.
فإن قيل :لفظ السماء مختص في العرف بهذه الجرام المستديرة .وأيضا ً :
فهب أن هذا اللفظ في أصل الوضع يتناول ذات الله تعالى ،إل أن تخصيص
العموم جائز .قلنا :أما الجواب عن الول :فهو أن هذا الفوق ) (63ممنوع .
وكيف ل نقول ذلك ،وقد دللنا على أن بتقدير أن يكون الله تعالى مختصا ً بجهة
فوق )إل أن ) ( (64نسبة ذاته تعالى إلى سكان العرش كنسبة السماء إلى سكان
الرض ؟ فوجب القطع بأنه لو كان مختصا ً بجهة فوق ،لكان سماء ز وأما
الجواب عن الثاني :فهو أن تخصيص العموم إنما يصار إليه عند الضرورة .فلو
قام دليل قاطع عقلي على كونه تعالى مختصا ً بجهة فوق ،لزمنا المصير إلى هذا
التخصيص .وإذا لم يقم) (65شيء من الدلئل على ذلك ،بل قامت القواطع
العقلية والنقلية على امتناع كونه تعالى في الجهة ،لم يكن بنا إلى التزام هذا
التخصيص :ضرورة .فسقط هذا الكلم .
الحجة الحادية عشر :قوله تعالى «قل :لمن ما في السموات والرض ؟ قل :
ه» ) (66مشعر) (67بأن المكان وكل ما فيه :ملك لله تعالى .وقوله «وله ما لل ً
على أن الزمان ،وكل ما فيه :ملك لله )(69
يدل )(68
سكن في الليل والنهاًر»
تعالى .ومجموع اليتين :يدلن على أن المكـان والمكانيات والزمان
والزمانيات :كلها ملك لله تعالى .وذلك يدل على تنزيهه عن المكان والزمان .
وهذا الوجه ذكره أبو مسلم الصبهاني) (70رحمه الله في تفسيره .واعلم :أن
في تقديم ذكر المكان على ذكر الزمان :سرا ً شريفا ً ،وحكمة عالية .
- 25 -
الحجة الثانية عشر :قوله تعالى «ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ :ثمانية»
)(71
ولو كان الخالق في العرش ،لكان حامل العرش حامل ً لمن في العرش .فيلزم
احتياج الخالق إلى المخلوق .ويقرب منه :قوله تعالى « :الذين يحملون
ش» ). (72
العر ً
الحجة الثالثة عشر :لو كان تعالى مستقرا ً على العرش ،لكان البتداء بتخليق
العرش ،أولى من البتداء بتخليق السموات .لن على تقدير ) (73القول أنه
مستقر على العرش ،يكون العرش مكانا ً له ،والسموات مكان عبيده .والقرب
إلى العقول :أن يكون تهيئة مكان نفسه ،مقدما ً على تهيئة مكان العبيد .لكن
من المعلوم :أن تخليق السموات مقدم على تخليق العرش .لقوله تعالى « :
إن ربكم الله الذي خلق السموات والرض في ستة أيام ،ثم استوى على
العرش» ) (74وكلمة "ثم " التراخي.
) ( 70الصفهاني :ط ولعل ذلك السر :أن الزمان هو مقدار حركة الفلك ،
وحركة الفلك إنما تكون بعد وجوده .
غافــر 7 )(72 ) (71الحــاقة 17
) (74العـراف 54 ) (73بتقديــر :ط
الحجة الرابعة عشر :قوله تعالى « كل شيء هالك إل وجهه » ) (75ظاهر الية
يقتضي فناء العرش ،وفناء جميع الحياز والجهات .وحينئذ يبقى الحق سبحانه
وتعالى منزها ً عن الحيز والجهة .وإذا ثبت ذلك ،امتنع أن يكون الن في جهة
)وحيز() (76وإل لزم وقوع التغير في الذات .فإن قيل :الحيز والجهة ليس شيئا
)(77
موجودا ً ،حتى يصير هالكا ً فانيا ً .قلنا :الحياز والجهات أمور متخالفة
بحقائقها ،متباينة بماهياتها .بدليل :أنكم قلتم :أنه يجب حصول ذات الله تعالى
في جهة فوق ،ويمتنع حصول ذاته في سائر الجهات .فلول أن جهة فوق مخالفة
بالماهية لسائر الجهات ) ،وإل() (78لما كان جهة فوق مخالفة لسائر الجهات في
هذه الخاصة ،وهذا الحكم .وأيضا :فلنا نقول :هذا الجسم حصل في هذا الحيز
،بعد أن كان حاصل ً في حيز آخر .فهذه الحياز معدودة متباينة متعاقبة ،والعدم
المحض ل يكون كذلك .فثبت :أن هذه الحياز أمور متخالفة بالحقائق ،متباينة
بالعدد .وكل ما كان كذلك ،امتنع أن يكون عدما ً محضا ً .فكان أمرا ً موجودا ً .
وإذا ثبت هذا ،دخل تحت قوله تعالى « :كل شيء هالك إل وجهه» ) (79وإذا هلك
الحيز والجهة ،بقى ذات الله تعالى منزهة عن الحيز )والجهة() (80وبقية الكلم
قد تقدمت .
الحجة الخامسة عشر :قوله تعالى « هو الول والخـر » ) (81فهو يقتضي أن
يكون ذاته متقدما ً في الوجود على كل ما سواه ،وأن يكون متأخرا ً في الوجود
عن كل ما سواه ،وذلك يقتضي أنه كان موجودا ً قبل
الحيز والجهة ،ويكون موجودا ً بعد فناء الحيز والجهة .وإذا ثبت هذا ،فالتقريب
ما ذكرناه في الحجة الثالثة عشرة ،والرابعة عشرة .
- 26 -
الحجة السادسة عشر :قوله تعالى « :واسجد واقترب » ) (82ولو كان في جهة
الفوق ،لكانت السجدة تفيد البعد من الله تعالى ،ل القرب منه .وذلك خلف
الصل .
)(83
الحجة السابعة عشر :قوله تعالى « :فل تجعلوا لله أندادا ً وأنتم تعلمون »
والند :المثل .ولو كان تعالى جسما ً لكان مثل ً لكل واحد من الجسام .لما
سنبين إن شاء الله :أن الجسام كلها متماثلة .وحينئذ يكون الند موجودا ً على
هذا التقدير .وذلك على مضادة هذا النص .
الحجة الثامنة عشر :الحديث المشهور :وهو ما روي أن عمران بن الحصين .
قال :يا رسول الله أخبرنا عن أول المر .فقال " :كان الله ،ولم يكن معه
شيء " وقد دللنا مرارا ً كثيرة على أنه تعالى لو كان مختصا ً بالحيز والجهة ،
لكان ذلك الحيز شيا ً موجودا ً معه .وذلك على نقيض هذا النص.
الحجة التاسعة عشر :روي أن الرسول قيل له :أين كان ربنا ؟ قال " :كان
في عماء ليس تحته ماء ،ول فوقه هواء " قيل العماء -بالمد -الغيم الرقيق.
وأما العمى -بالقصر : -فهو عبارة عن الحالة المضادة للبصر .وقال بعض
العلماء :يجب أن تكون الرواية الصحيحة هي الرواية بالقصر ،وحينئذ تدل على
نفي الجهة .لن الجهة إذا لم تكن موجودة ،لم تكن
مرئية .فأمكن جعل العمى عبارة عن عدم الجهة .ويتأكد هذا بقوله عليه السلم
)(84
" :ليس تحته مـاء ،ول فوقه هواء "
واعلم :أن هذه الوجوه التي ذكرناها ،بعضها )قـوي ،وبعضها ضعيف(
)(85
وكيفما كان المر فقد ثبت أن في القرآن والخبار :دلئل كثيرة ،تدل على تنزيه
الله تعالى عن الحيز والجهة ز وبالله التوفيق .
------------
) (84قال عبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفى سنة 276هـفي كتابه " تأويل
مختلف الحديث " :
" قالوا :رويتم في حديث أبي رزين العقيلي ،من رواية حماد بن سلمة ،أنه
قال للنبي : أين كان ربنا ،قبل أن يخلق السموات والرض ؟ فقال " :كان
في عماء ،فوقه هواء ،وتحته هواء ط وقالوا :وهذا تحديد وتشبيه .قال أبو
محمد :ونحن نقول ك أن حديث أبي رزين هذا :مختلف فيه ،وقد جاء من غير
هذا الوجه بألفاظ تستشنع أيضًا ،والنقلة له :أعراب .ووكيع بن حدس – الذي
روي عنه حديث حماد بن سلمة أيضا ً – ل يعرف .غير أنه قد تكلم في تفسير هذا
الحديث :أبو عبيد ،القاسم بن سلم .حدثنا عنه أحمد بن سعيد اللحياني ن أنه
قال " :العماء" :السحاب ز وهو كما ذكر في كلم العرب ،إن كان الحرف
ممدودا ً .وان كان مقصورا ً ،كأنه كان في عمى .فانه أراد كان في عمى عن
معرفة الناس .كما نقول :عميت عن هذا المر ،فأنا أعمى عنه ن عمى :إذا
أشكل عليك ،فلم تعرفه ،ولم تعرف جهته .وكل شيء خفي عليك ،فهو في
عمى عنك .وأما قوله " :فوقه هواء ،وتحته هواء" فان قوما ً زادوا فيه "ما"
فقالوا " :ما فوقه هواء ،وما تحته هواء" استيحاشا ً من أن يكون فوقه هواء ،
وتحته هواء ،ويكون بينهما .والرواية هي الولى .والوحشة ل تزول بزيادة "ما"
لن فوق وتحت :باقيان .والله أعلم " .
- 27 -
الفصل الثالث
في
إقامة الدلئل العقلية على أنه تعالى ليس بمتحيز البتة
اعلم :أنا إذا دللنا على أنه تعالى ليس بمتحيز ،فقد دللنا على أنه تعالى ليس
بجسم ول جوهر )فرد) ((1لن المتحيز ،إن كان منقسما ً فهو الجسم ،وإن لم
يكن منقسما ً فهو الجوهر الفرد .
فنقول :الذي يدل على أنه تعالى ليس بمتحيز :وجوه .
البرهان الول :إنه تعالى لو كان متحيزا ً ،لكان مماثل ً لسائر المتحيزات في تمام
الماهية .وهذا ممتنع .فكونه متحيزا ً ممتنع .وإنما قلن إنه تعالى لو كان
متحيزا ً ،لكان مماثل ً لسائر المتحيزات في تمام الماهية :لنه لو كان متحيزاً،
لكان مساويا ً لسائر المتحيزات في كونه متحيزا ،ثم بعد هذا ل يخلو إما أن يقال:
إنه يخالف غيره من الجسام في ماهيته المخصوصة ،وإما أن ل يخالفه في
)ماهيته المخصوصة() (2والقسم الول باطل فتعين الثاني .وحينئذ يحصل منه :
أنه )تعالى) ((3لو كان متحيزا ً ،لكان مثل ً لسائر المتحيزات ،فيفتقر ههنا إلى بيان
أنه يمتنع أن يكون مساويا ً لسائر المتحيزات ،في عموم المتحيزية ،ومخالفا ً لها
في ماهيته المخصوصة .
فنقول :الدليل على أن ذلك ممتنع :هو أن بتقدير أن يكون مساويا ً
أما القسم الول فإنه يقتضي حصول المقصود .لنه إذا كان مجرد المتحيزية هي
الذات ،وثبت أن مجرد المتحيزية أمر مشترك فيه بينه وبين سائر المتحيزات .
وليس المطلوب إل ذلك .وأما القسم الثاني وهو أن يقال :أن الذات هي تلك
الخصوصية ،والصفة هي المتحيزية .فنقول :هذا محال .وذلك لن تلك
الخصوصية من حيث أنها هي هي ،مع قطع النظر عن المتحيزية .إما أن يكون
لها اختصاص بالحيز ،وإما أن ل يكون لها ذلك) (4والول محال .لن كل ما كان
حاصل ً في حيز وجهة على سبيل الستقلل ،كان متحيزا ً .فلو كانت تلك
- 28 -
الخصوصية التي فرضناها خالية عن التحيز ،حاصلة في الحيز ،لكان الخالي عن
التحيز متحيزا ً .وذلك محال .وأما القسم الثاني وهو أن يقال :أن تلك
الخصوصية غير مختصة بشيء من الحياز والجهات .فنقول :إنه يمتنع أن تكون
المتحيزة صفة قائمـة بها ،لن تلك الخصوصية غير مختصة بشيء من الحياز
ل() (5في الجهات .والشيءوالجهات ،والمتحيزة أمر ل يعقل إل أن )يكون حاص ً
الذي يجب أن يكون حاصل ً في الجهات ،يمتنع أن يكون حاصل في الشيء
ً
الثاني :أن المثلين يجب استواؤهما في جميع اللوازم .وكما صح على سائر
الجسام خلوها عن صفة العلم والقدرة والحياة ،وجب أن يصح على ذاته الخلو
عن هذه الصفات .وحينئذ يكون اتصاف ذاته بحياته وعلمه وقدرته ،من
الجائزات .وإذا كان المر كذلك ،امتنع كون تلك الذات موصوفا ً بالحياة والعلم
والقدرة ،إل بإيجاد موجد ،وتخصيص مخصص .وذلك يقتضي احتياجه إلى الله
ز وحينئذ كل ما كان جسما ً ،كان محتاجا ً إلى الله .وهذا يقتضي أن الله يمتنع
أن يكون جسما ً .
الثالث :إنه لما كان ذاته تعالى مساوية لذوات سائر المتحيزات ،وصح في سائر
المتحيزات كونها متحركة تارة وساكنة أخرى ،وجب أن تكون ذاته أيضا ً كذلك .
وعلى هذا التقدير يلزم أن تكون ذاته تعالى قابلة للحركة والسكون .وكل ما
كان كذلك ،وجب القول بكونه محدثا ً .
لما ثبت في تقرير هذه الدلئل في مسألة حدوث الجسام .ولما كان محدثا ً –
وحدوثه محال – فكونه جسما ً :محال .
الرابع :إنه لو كان جسما ً لكان مؤتلف الجزاء .وتلك الجزاء تكون متماثلة
بأعيانها ،وهي أيضا ً مماثلة لجزاء سائر الجسام .وعلى هذا التقدير ،كما صح
الجتماع والفتراق على سائر الجسام ،وجب أن يصح على تلك الجزاء .وعل
هذا التقدير ل بد له من مركب ومؤلف .وذلك على إله العالم محال .
هو أنه لو كان متحيزا ً ،لكان متناهيا ً .وكل متناه :ممكن .وكل ممكن :محدث .
فلو كان متحيزا ً لكان محدثا ً .وهذا محال .فذاك محال .
أما المقدمة الولى :وهي بيان أنه تعالى لو كان متحيز ،لكان متناهيا ً :
فالدليل عليه :أمن كل مقدار ،فإنه يقبل الزيادة والنقصان .وكل ما كان
كذلك ،فهو متناه .وهذا يدل على أن كل متحيز ،فهو متناه .وشرح هذا الدليل
قد قررناه في سائر كتبنا .
وأما المقدمة الثانية :وهي بيان أن كل متناه ،فهو ممكن :فذلك لن كل ما كان
متناهيا ً ،فإن فرض كونه أزيد قدرا ً أو أنقص قدرا ً :أمر ممكن .والعلم بثبوت
هذا المكان ضروري .فثبت أن كل متحيز ،فهو متناه .وشرح هذا الدليل قد
قررناه في سائر كتبنا .
وأما المقدمة الثالثة :وهي بيان أن كل ممكن محدث :فهو أنه لما كان الزائد
والناقص والمساوي متساوون) (7في المكان ،امتنع رجحان
بعضهم) (8على بعض ،إل لمرجح .والفتقار إلى المرجح .إما أن يكون حال
وجوده .أو حال عدمه .فإن كان حال وجوده )فإنه يكون إما( ) (9حال بقائه ،أو
حال حدوثه .ويمتنع أن يفتقر إلى المؤثر حال بقائه ،لن المؤثر ،تأثيره) :في
التكوين والتأثير( ) (10فلو افتقر حال بقائه إلى المؤثر ،لزم تكوين الكائن ،
وتحصيل الحاصل ،وذلك محال .فلم يبق إل أن يحصل الفتقار .إما حال حدوثه
أو حال عدمه .وعلى التقديرين فإنه يلزم أن يكون كل ممكن محدثًا .فثبت :أن
كل جسم متناه ،وكل ممكن محدث )فثبت :أن كل جسم محدث( ) (11وآله يمتنع
)(12
أن يكون محدثا ً )وبالله التوفيق(
البرهان الثالث :لو كان إله العالم متحيزا ً ،لكان محتاجا إلى الغير .وهذا محال ،
فكونه متحيزا ً محال .بيان الملزمة :إنه لو كان متحيزا ً ،لكان مساويا ً لغيره في
المتحيزات ،في مفهوم كونه متحيزا ً ،ولكان مخالفا ً لها في تعينه وتشخصه .ثم
نقول :إن بعد حصول المتياز بالتعين :إما أن يحصل المتياز في الحقيقة –
وعلى هذا التقدير ،يكون المتحيز جنسا ً ،تحته أنواع .أحدها :واجب الوجود –
وإما أن ل يحصل المتياز في الحقيقة – وعلى هذا التقدير ،يكون المتحيز نوعا ً ،
تحته أشخاص .أحدهما :واجب الوجود –
فنقول :الول باطل .لن على هذا التقدير تكون ذاته مركبة
من الجنس والفصل .وكل مركب فهو مفتقر إلى جزئه ،وجزؤه غيره .وكل
مركب فهو مفتقر إلى غيره ،فلو كان واجب الوجود متحيزا ً لكان مفتقرا ً إلى
غيره .والثاني )أيضا ً باطل) ( (13لن هذا التقدير يكون تعينه زائدا ً على ماهية
النوعية ،وذلك التعين ل بد له من مقتضى ،وليس هو تلك الماهية ،وإل لكان
- 30 -
نوعه )منحصرا ً ) ( (14في شخصه .وقد فرضنا أنه ليس كذلك ،فل بد وأن يكون
المقتضى لذلك التعين :شيئا ً غير تلـك
الماهية ،وغير لوازم تلك الماهية ،فيكون محتاجا ً إلى غيره .فثبت :أنه لو كان
متحيزا ً ،لكان محتاجا ً إلى غيره ،وذلك محال .لنه واجب الوجود لذاته .وواجب
الوجود لذاته ،ل يكون واجب الوجود لغيره .فثبت :أن كونه متحيزا ً :محال .
البرهان الرابع :لو كان إله العالم متحيزا ً ،لكان مركبا ً .وهذا محال فكونه
متحيزا ً محال .بيان الملزمة من وجهين :
أحدهما - :وهو على قول من ينكر الجوهر الفرد – إن كل متحيز فل بد وأن
يتميز أحد جانبيه عن الثاني ن وكل ما كان كذلك فهو منقسم :فثبت :أن كل
متحيز فهو منقسم ومركب .
الثاني :إن كل متحيز فإما أن يكون قابل ً للقسمة ،أو ل يكون .فإن كان قابل ً
للقسمة ،كان مركبا ً مؤلفا ً ،وإن كان غير قابل للقسمة ،فهو الجوهر الفرد –
وهو في غاية الصغر والحقارة – وليس في العقلء أحد يقول هذا القول .فثبت
أنه تعالى لو كان متحيزا ً ،لكان )منقسما ً
مؤلفا ً) ( (15وذلك محال ،لن كل ما كان كذلك ،فهو مفتقر في حقيقته إلى كل
واحد من أجزائه ،وكل واحد من أجزائه :غيره .فكل مركب فهو مفتقر في
الحقيقة إلى غيره .وكل ما كان كذلك ،فهو ممكن لذاته) (16فكل مركب :
ممكن لذاته .فيلزم أن يكوم الممكن لذاته :واجبا ً لذاته وذلك محال .فيمتنع أن
يكون متحيزًا.
البرهان الخامس :إنه لو كان متحيزا ً ،لكان مركبا ً من الجزاء .إذ ليس في
العقلء من يقول إنه في حجم الجوهر الفرد .ولو كان مركبا ً من الجزاء ،فإما
أن يكون الموصوف بالعلم والقدرة والحياة جزءا واحدا ً من ذلك المجموع ،أو أن
يكون الموصوف بهذه الصفات مجموع تلك الجزاء ،فإن كان الول كان إله
العالم هو ذلك الجزء الواحد .فيكون إله العالم في غاية الصغر والحقارة .وقد
بينا :أنه ليس في العقلء من يقول بذلك .وإن كان الثاني فإما أن يقال :القائم
بمجموع تلك الجزاء علم )واحد) ( (17وقدرة )واحدة) ( (18أو يقال :القائم بكل
واحد من تلك الجزاء :علم على حدة ،وقدرة على حدة ؟ والول محال لنه
يقتضي قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة .وذلك محال .وإن كان الثاني ،
لزم أن يكون كل واحد منها إلها ً قديما ً .وذلك يقتضي تكثر اللهة .وهو محال .
فإن قيل :هذا يشكل بالنسان .فإن ما ذكرتم قائم فيه بعينه ،فيلزم أن ل
يكون جسما ً .وهذه مكابرة )لنا) ( (19نعلم بالضرورة :أن النسان ليس إل هذه
البنية.
ثم نقول :لم ل يجوز أن يقال :قام علم واحد) (20بمجموع تلك الجزاء ،إل أنه
انقسم ذلك المجموع ،وقام بكل واحد من تلك الجزاء جزء من ذلك العلم ؟
وأيضا ً :لم ل يجوز أن يقال :قام بكل واحد من تلك الجزاء علم بمعلوم واحد ،
- 31 -
وقدرة على مقدور واحد .وبهذا الطريق كان مجموع الجزاء عالما ً بجملة
المعلومات ،قادرا ً على جملة المقدورات ؟
والجواب عن السؤال الول :أن نقول .أما الفلسفة فقد طردوا قولهم .
وزعموا :أن النسان ليس عبارة عن هذه البنية .فإن النسان عبارة عن الشيء
الذي يشير إليه كل إنسان بقوله :أنا .وذلك الشيء موجود ليس بجسم ول
بجسماني .
قالوا :وأما قول من يقول بأن هذا باطل بالضرورة .لن كل أحد يعلم أن
النسان ليس إل هذه البنية المخصوصة ن فقد أجابوا عنه :بأن النسان مغاير
لهذه البنية المشاهدة .ويدل عليه وجوه :
الول :إنا قد نعقل أنفسنا حال ما نكون غافلين عن جملة أعضائنا الظاهرة
والباطنة .والمعلوم مغاير لغير المعلوم .
الثاني :إني أعلم بالضرورة :أني أنا النسان الذي كنت موجودا ً قبل هذه المدة
بخمسين سنة ،وجملة أجزاء هذه البنية متبدلة بسبب )السمن والهزال)((21
والصحة والمرض .والباقي مغاير لما ليس بباق .
الثالث :إن المشاهد ليس إل السطح الموصوف باللون المخصوص .
وباتفاق العلماء ليس النسان عبارة عن هذا القدر .فثبت :أن النسان ليس
بمشاهد البتة .
وأما سائر الطوائف والفرق ز فقد ذكروا الفرق بين الشاهد والغائب من
وجهين :
أحدهما :قال الشعري :كل واحد من أجزاء النسان موصوف بعلم على حدة ،
وقدرة على حدة .وهذا يقتضي أن يكون هذا البدن مركبا ً من أشياء كثيرة ،وكل
واحد منها عالم قادر حي .وهذا مما ل نزاع فيه .وأما التزام ذلك في حق الله
)سبحانه) (22و( تعالى ن فإنه يقتضي تعدد اللهة .وذلك محال .فظهر الفرق ،
الثاني ك قال ابراهيم الراوندي :النسان جزء واحد ل يتجزئ في القلب .وهذا
يقتضي أن يكون النسان في غاية الحقارة .وذلك غير ممتنع .أما لو قلنا بمثله
في حق الله تعالى )فإنه يلزم منه كونه) ( (23في غاية الحقارة .وذلك لم يقل به
عاقل .
وأما السؤال الثاني :وهو قوله :لم ل يجوز أن يقال :العلم ينقسم .فقام بكل
واحد من تلك الجزاء :جزء واحد من ذلك ؟ فنقول :هذا محال لن كل واحد
من أجزاء العلم ،إما أن يكون علما ً ،وإما أن ل يكون ك )علما) ( (24فإن كان
الول ن كان القائم بكل واحد من تلك الجزاء علما ً على حده ز وذلك غير هذا
السؤال .وإن كان الثاني ،لم يكن شيء من تلك الجزاء موصوفا ً بالعلم .
والمجموع ليس إل تلك المور .فوجب أل يكون المجموع موصوفا ً بالعلم
والقدرة .
وأما السؤال الثالث :وهو قولهم :كل واحد من تلك الجزاء ،يكون موصوفا ً ،
بعلم متعلق بمعلوم معين ،وبقدرة متعلقة بمقدور معين .فنقول :هذا أيضا ً
محال .لنه يقتضي كون كل واحد من تلك الجزاء عالما ً بمعلومات معينة ،قادرا ً
على مقدورات معينة .فيرجع حاصل الكلم إلى إثبات آلهة كثيرة كل واحد منها
مخصوص بمعرفة بعض المعلومات ،وبالقدرة على بعض المقدورات .وذلك
يناقض ) (25القول بأن إله العالم موجود واحد )والله أعلم)( (26
البرهان السادس :إنه تعالى لو كان جسما ً ،لكانت الحركة )عليه( ) (27إما أن
تكون جائزةُ) (28أو ل تكون جائزة .
والقسم الول باطل .لنه لما لم يمتنع أن يكون الجسم الذي تكون الحركة عليه
جائزة :إلها ً .فلم ل يجوز أن يكون إله العالم هو الشمس أو القمر أو الفلك ؟
وذلك لن هذه الجسام ليس فيها عيب )يمنع( ) (29من إلهيتها إل أمور ثلثة .وهي
كزنها مركبة من الجزاء ،وكونها محدودة متناهية ،وكونها موصوفة بالحركة
والسكون .فإذا لم تكن هذه الشياء مانعة من اللهية ،فكيف يمكن الطعن في
إلهيتها ؟ وذلك عين الكفر واللحاد ،وإنكار الصانع – تعالى –
( جسم ن ولكن النتقال والحركة والقسم الثاني :وهو أن يقال :إنه )تعالى
)(30
الول :إن هذا يكون كالزمن المقعد ،الذي ل يقدر على الحركة .وهذه صفة
نقص ،وهو على الله تعالى :محال .
الثاني :إنه تعالى لما كان جسما ً ،كان مثل ً لسائر الجسام .فكانت الحركة
جائزة عليه .
الثالث :إن القائلين بكونه جسما ً مؤلفا ً من الجزاء والبعاض ل يمنعون من
جواز الحركة عليه .فإنهم يصفونه بالذهاب والمجيء .فتارة يقولون :إنه جالس
على العرش ،وقدماه على الكرسي -وهذا هو السكون -وتارة يقولون :إنه
ينزل إلى السماء) (31الدنيا -وهذا هو الحركة -
فهذا مجموع الدلئل على أنه تعالى ليس بجسم ول بجوهر .وبالجملة فليس
بمتحيز .
***
أما شبه الخصم .فمن وجوه :
الشبهة الولى :إن العالم موجود ،والباري تعالى موجود ز وكل موجودين فل بد
وأن يكون أحدهما ساريا ً في الخر ن أو مباينا ً عنه بالجهة والكون الباري تعالى
ساريا ً في العالم محال .فل بد وأن يكون مباينا ً عنه بالجهة .وكل ما كان كذلك
فهو متحيز .ثم إنه إما أن يكون غير منقسم ،فيكون في الصغر والحقارة
كالجوهر الفرد .وهو محال .وإما أن يكون شيئا ً كبيرا ً مركبا ً من الجزاء
والبعاض .وهو المقصود .
الشبهة الثانية :إنا لم نشاهد حيا ً عالما ً قادرا ً ،إل وهو جسم .وإثبات
- 33 -
شيء على خلف المشاهدة :ل يقبله العقل ،ول يقربه القلب .فوجب القول
بكونه تعالى جسما ً .
الشبهة الثالثة :إن إله العالم يجب أن يكون عالما ً بهذه الجسمانيات .والعالم
بها يجب أن يحصل في ذاته صورها .ومن كان كذلك ،يجب أن يكون جسما ً .
فهذه مقدمات ثلثة ،متى ظهرت ،لزم القول بأنه جسم .
أما المقدمة الولى ) :وهي أن إله العالم يجب أن يكون عالما ً بهذه الجسمانيات(
) (32فقد اتفق المسلمون عليها .وأيضا :فهذه الجسام الموصوفة بهذه
المقادير ،ل بد لها من خالق .وذلك الخالق هو الله تعالى .وخالق الشيء ل بد
وأن يكون عالما ً به .فثبت :أن خالق العالم :عالم بهذه الجسمانيات .
وأما المقدمة الثانية :وهي في بيان أن العالم بهذه الجسمانيات ،يجب أن
يحصل في ذاته صور الجسمانيات .فالدليل عليه :أن خالقها يجب أن يكون
عالما ً بها قبل وجودها ،وإل لم يصح منه خلقها وإيجادها .والعالم بالشيء يجب
أن يتميز ذلك في علمه عن سائر المعلومات ن وإل لم يكن عالما ً به .وإذا تميز
ذلك المعلوم عن غيره ،فذلك المعلوم ليس عدما ً محضا ً ،لن العدم المحض ل
يحصل فيه المتياز .وذلك المعلوم يجب أن يكون أمرا ً موجودا ً ،وهو غير
موجود في الخارج – لن الكلم فيما إذا علمها قبل وجودها – ولما لم يكن وجوده
في الخارج ،وجب أن يكون وجوده في علم صانع العالم .
وأما المقدمة الثالثة :وهي في بيان أن من يحصل في ذاته صور
) (31زيادة
***
- 34 -
والجواب عن الشبهة الولى :إنا بينا أن قولهم :كل موجودين فإما أن يكون
أحدهما حال ً في الخر أو مباينا ً عنه بالجهة :مقدمة غير بديهية ،بل مقدمة
محتاجة في النفي والثبات ،إلى برهان منفص .فسقط الكلم .
والجواب عن الشبهة الثانية :ما بيناه :أنه يلزم من عدم النظير للشيء ،عدم
ذلك الشيء .فسقطت هذه الشبهة .
والشبهة الثالثة :ساقطة )أيضًا() (38والدليل عليه :أنه يمكننا تخيل صورة الشجر
والخيل .وهذه الصورة لو كانت منتقشة في ذاتنا ،لكانت ذاتنا ،إما أن تكون
هي هذا الجسم وإما أن تكون جوهرا ً مجردا ً .والول محال .وأما الثاني فإنه
اعتراف بأن صور المحسوسات يمكن انطباعها فيما ل يكون جسما ً .وذلك
يوجب سقوط هذه الشبهة )وبالله التوفيق(). (39
الفصل الرابع
في
إقامة البراهين على أنه تعالى ليس مختصا ً
بحيز وجهة .بمعنى :أنه يصح أن يشار إليه
بالحس بأنه ههنا أو هناك
(: )(1
)ويدل عليه وجوه
)البرهان الول) : ( (2وذلك أنه لم يخل إما أن يكون منقسما ً أو غير منقسم .فإن
كان منقسما ً كان مركبا ً – وقد تقدم إبطاله – وإن لم يكن منقسما ً كان في
الصغر والحقارة ،كالجزء الذي ل يتجزأ .وذلك باطل باتفاق )كل) ( (3العقلء .
وأيضا ً :فلن من ينفي الجوهر الفرد يقول :إن كل ما كان مشارا ً إليه بحسب
الحس بأنه ههنا أو هناك .فإنه ل بد وأن يتميز أحد جانبيه عن الخر .وذلك كونه
منقسما) . (4فثبت :أن القول بأنه مشار إليه بحسب الحس ،يفضي إلى هذين
القسمين الباطلين .فوجب أن يكون القول به باطل ً .
فإن قيل :لم ل يجوز أن يقال :إنه تعالى واحد منزه عن التأليف والتركيب ،
ومع كونه كذلك ،فإنه يكون عظيما ً ؟ قوله " :العظيم يجب أن يكون مركبا ً
منقسما ً ،وذلك ينافي كونه أحدا ً ،قلنا :سلمنا أن العظيم يجب أن يكون
منقسما ً في الشاهد .فلم قلتم :إنه يجب أن يكون في الغائب كذلك ؟ فإن
قياس الغائب على الشاهد من غير جامع :باطل .وأيضا ً :فلم ل يجوز أن يكون
- 35 -
غير منقسم ،ويكون في غاية الصغر ؟ قوله " :إنه حقير وذلك على الله محال"
قلنا :الذي ل يمكن أن يشار إليه البتة ول يمكن أن يحس به ،يكون كالعدم
فيكون أشد حقارة .وإذا جاز هذا ،فلم ل يجوز ذلك ؟
ذلك الفوقاني مغايرا ً له .إذ لو جاز أن يقال :إن هذا المشار إليه عينه ل غيره ،
جاز أن يقال :هذا الجزء عين) (6ذلك الجزء .فيفضي إلى تجويز أن الجبل شيء
واحد ،وجزء ل يتجزأ ،مع كونه جبل ً .وذلك شك) (7في البدهيات .فثبت :أنه ل
بد من التزام التركيب والنقسام .وإما أن ل يحصل فوقها شيء آخر ول على
يمينها ول على يسارها ول من تحتها ،فحينئذ يكون نقطة غير منقسمة وجزءا ً ل
يتجزأ .وذلك باتفاق العقلء باطل .فثبت :أن هذا ليس من باب قياس الشاهد
على الغائب ،بل هو مبني على التقسيم الدائر بين النفي والثبات .
واعلم :أن الحنابلة القائلين بالتركيب والتأليف ،أسعد حال ً من هؤلء الكرامية .
وذلك لنهم اعترفوا بكونه مركبا ً من الجزاء والبعاض .أما هؤلء الكرامية فإنهم
زعموا أنه مشار إليه بحسب الحس ،وزعموا :أنه غير متناه ،ثم زعموا مع
ذلك :أنه واحد ،ل يقبل القسمة .فل جرم صار قولهم قول ً على خلف بديهة
العقل .أما قولهم " :الذي ل يحس به ول يشار إليه :أشد حقارة من الجزء
الذي ل يتجزأ " قلنا :كونه موصوفا ً بالحقارة ،إنما يلزم لو كان )ذا( ) (8حيز
ومقدار ،حتى يقال :إنه أصغر من غيره .أما إذا كان منزها ً عن الحيز والمقدار
- 36 -
ولم يحصل بينه وبين غيره مناسبة من الحيز والمقدار .فلم يلزم وصفه بالحقارة
؟
البرهان الثاني في بيان أنه يمتنع أن يكون مختصا ً بالحيز والجهة :
إنه لو كان مختصا ً بالحيز والجهة ،لكان محتاجا ً في وجوده إلى ذلك الحيز وتلك
الجهة .وهذا محال ،فكونه في الحيز والجهة محال .بيان الملزمة :
الول :هو أن الحياز الفوقانية مخالفة في الحقيقة والماهية ،للحياز التحتانية .
بدليل :أنهم قالوا يجب أن يكون الله تعالى مختصا ً بجهة فوق ،ويمتنع حصوله
في سائر الجهات والحياز – أعني) (10التحت واليمين واليسار – لول كونها مختلفة
في الحقائق والماهيات ،لمتنع القول بأنه يجب حصوله تعالى في جهة فوق ،
ويمتنع حصوله في سائر الجهات .وإذا ثبت أن هذه الحياز مختلفة في الماهية ،
وجب كونها أمور موجودة .لن العدم المحض ،يمتنع كونه كذلك .
الثاني :هو أن الجهات مختلفة بحسب الشارات .فإن جهة الفوق متميزة عن
جهة التحت في الشارة .والعدم المحض والنفي الصرف ،يمتنع تمييز بعضه عن
بعض في الشارة الحسية .
الثالث :إن الجوهر إذا انتقل من حيز إلى حيز ،فالمتروك مغاير ل محالة
للمطلوب ،والمنتقل عنه مغاير للمنتقل إليه .
فثبت بهذه الوجوه الثلثة :أن الحيز والجهة أمر موجود .ثم إن المسمى بالحيز
والجهة ،أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه .وأما الذي يكون
مختصا ً بالحيز والجهة ،فإنه يكون مفتقرا ً إلى الحيز والجهة .فإن الشيء الذي
يمكن حصوله في الحيز ،مستحيل عقل ً حصوله ل مختصا ً بالجهة .فثبت :انه
تعالى لو كان مختصا ً بالحيز والجهة ،لكان مفتقرا ً في وجوده إلى الغير). (11
الثالث :لو كان الباري تعالى أزل ً وأبدا ً مختصا ً بالحيز والجهة ،لكان الحيز والجهة
موجودا ً في الزل .فيلزم إثبات قديم غير الله تعالى .وذلك محال بإجماع
المسلمين .
هذه المحذورات . فثبت بهذه الوجوه :أنه لو كان في الحيز والجهة للزمت
)(12
كون البعض منفردا ً عن البعض وممتازا عنه .وإذا عقلنا هذا المعنى ههنا ،ل يجوز
مثله في كون الباري تعالى مختصا ً )بالجهة والحيز)((13؟
والجواب :أما قوله " :الحيز والجهة ليس أمرا ً موجودا ً " فجوابه :إنا بينا
بالبراهين القاطعة أنها أشياء موجودة وبعد قيام البراهين على صحته ،ل يبقى
في صحته شك .
وأما قوله " :المراد من كونه مختصا ً بالحيز والجهة ،كونه تعالى منفردا ً عن
العالم ،أو ممتازا ً عنه ط قلنا :هذه اللفاظ كلها مجملة .فإن النفراد والمتياز
والمباينة قد تذكر ويراد بها المخالفة في الحقيقة والماهية .وذلك مما ل نزاع
فيه .ولكنه ل يقتضي الجهة .والدليل على ذلك :هو أن حقيقة ذات الله تعالى
مخالفا ً لحقيقة الحيز والجهة ،وهذه المخالفة والمباينة ليست بالجهة .فإن
امتياز ذات الله تعالى عن الجهة ل يكون بجهة أخرى ،وإل لزم التسلسل .وقد
تذكر هذه اللفاظ ويراد بها المتياز في الجهة ن وهو كون ،وهو كون الشيء
بحيث يصح أن يشار إليه بأنه ههنا أو هناك .وهذا هو مراد الخصم من قوله " :
إنه )تعالى() (14مباين عن العالم أو منفرد عنه ،أو ممتاز عنه " إل أنا بينا
بالبراهين القاطعة أن هذا يقتضي كون ذلك الحيز أمرا ً موجودا ً ،ويقتضي أن
المتحيز محتاج إلى الحيز.
وقوله " :الجسام حاصلة في الحياز " فنقول :غاية ما في الباب أن يقال :
الجسام تحتاج إلى شيء آخر .وهذا غير ممتنع .أما كونه تعالى محتاجا ً في
)(15
وجوده إلى شيء آخر ،فممتنع .فظهر الفرق )وبالله التوفيق(
البرهان الثالث في بيان أنه امتنع أن يكون تعالى مختصا ً )بالحيز والجهة): ( (16
هو أنه لو كان – تعالى – مختصا ً بحيز وجهة لكان ل يخلو .إما أن يقال :إنه غير
متناه من جميع الجوانب ،أو يقال :إنه غير متناه من بعض الجوانب ،ومتناه من
)بعض() (17الجوانب ،أو يقال :إنه متناه من كل الجوانب .والقسام الثلثة
باطلة ،فالقول بكونه مختصا ً بجهة وحيز باطل .أما قولنا :إنه يمتنع أن يكون
غير متناه من جميع الجوانب .فيدل عليه وجوه :
- 38 -
الول :إن وجود بعد ل نهاية له :محال .والدليل عليه :أن فرض )بعد() (18غير
متناه يفضي إلى المحال ،فوجب أن يكون محال ً .وإنما قلنا :إنه يفضي إلى
المحال ،لنا إذا فرضنا بعدا ً غير متناه ،وفرضنا بعدا ً آخر متناهيا ً ،موازيا ً له ،ثم
زال الخط المتناهي الموازي من الموازاة إلى المسامتة .نقول .هذا يقتضي أن
يحصل في الخط الول الذي هو غير متناه :نقطة .هي أول نقط) (19المسامتة .
وذلك الخط المتناهي ما كان مسامتا ً للخط الغير المتناهي ،ثم صار مسامتا ً له .
فكانت هذه المسامتة هي أول أوان حدوثها ،ل بد وأن تكون مع نقطة معينة .
فتكون تلك النقطة هي أول نقط المسامتة .لكن كون ذلك الخط غير متناه .
يمنع من ذلك .لن المسامتة مع النقطة المسامتة ،تحصل قبل المسامتة مع
النقطة التحتانية .وإذا كان الخط غير متناه ،فل نقطة فيه) (20إل وفوقها نقطة
أخرى .وذلك يمنع من حصول المسامتة في المرة الولى ،مع نقطة معينة .
فثبت :أن هذا يقتضي أن يحصل في الخط الغير المتناهي نقطة ،هي أول نقط
المسامتة ،وأن ل يحصل .وهذا المحال إنما لزم من فرضنا أن ذلك الخط غير
متناه ،فوجب أن يكون ذلك محال ً .فثبت :أن القول بوجود بعد غير متناه :
محال .
الوجه الثاني :هو أنه إذا كان القول بوجود بعد غير متناه ليس محال ً ،فعند هذا ل
يمكن إقامة الدليل على أن العالم متناه بكليته ز وذلك )باطل() (21بالجماع .
الوجه الثالث :إنه لو كان )تعالى() (22غير متناه من جميع الجوانب ،وجب أل
يخلو شيء من الجهات والحياز عن ذاته ،وحينئذ يلزم أن يكون العالم مخالطا ً
بأجزاء) (23ذاته ،وأن تكون القاذورات والنجاسات كذلك ،وهذا ل يقوله عاقل .
ومتناه من )(24
أما القسم الثاني , :هو أن يقال :إنه غير متناه من بعض الجوانب
سائر الجوانب ،فهو أيضا ً باطل لوجهين :
الول :إن البرهان الذي ذكرناه عن امتناع بعد غير متناه :قائم .سواء )كان قد(
قيل :إنه غير متناه من كل الجوانب ،أو من بعض الجوانب .
الثاني :إن الجانب الذي فرض أنه غير متناه ،والجانب الذي فرض أنه متناه .
إما أن يكونا متساويين في الحقيقة والماهية ،وإما أل يكونا كذلك .أما القسم
الول فإنه يقتضي أن يصح على كل واحد من هذين
الجانبين ،ما صح على الجانب الخر .وذلك يقتضي أن ينقلب الجانب المتناهي
غير متناهي) (25والجانب الغير متناهي متناهيا ً .وذلك يقتضي جواز الفصل
والوصل والزيادة والنقصان في ذات الله تعالى .وهو محال .وأما القسم الثاني
- 39 -
– وهو القول بأن أحد الجانبين مخالف للجانب الثاني في الحقيقة والماهية –
فنقول :إن هذا محال من وجوه :
الول :إن هذا يقتضي كون ذاته مركبا ً .وهو باطل لما بينا .
الثاني :إنا بينا أنه ل معنى للمتحيز إل الشيء الممتد من الجهات ،المختص
بالحياز .وبينا أن المقدار يمتنع أن يكون صفة ،بل يجب أن يكون ذاتا ً .وبينا أن
المقدار يمتنع أن يكون صفة ،بل يجب أن يكون ذاتا ً ز وبينا أنه متى كان المر
كذلك كان جميع المتحيزات متساوية ،وإذا كان كذلك امتنع القول بأن أحد جانبي
ذلك الشيء مخالف للجانب الخر في الحقيقة والماهية .
وأما القسم الثالث – :وهو أن يقال :إنه متناه من كل الجوانب – فهذا أيضا ً
باطل من وجهين :
الول :إن كل ما كان متناهيا ً من جميع الجوانب ،كانت حقيقته قابلة للزيادة
والنقصان ،وكل ما كان كذلك ،كان محدثا ً .على ما بيناه .
الثاني :إنه لما كان متناهيا ً من جميع الجوانب ،فحينئذ يفرض فوقه أحياز خالية ،
وجهات فارغة ،فل يكون )الله() (26تعالى فوق الشياء ،بل تكون تلك الحياز
أشد فوقية من الله تعالى .وأيضا ً :
فهو تعالى قادر على خلق الجسم في الحيز الفارغ ،فلو فرض حيز خال ،لكان
قادرا ً على أن يخلق فيه جسما ً .وعلى هذا التقدير يكون ذلك الجسم فوق الله
تعالى ز وذلك عند الخصم محال .فثبت :أنه تعالى لو كان في جهة ،لم يخل
المر عن أحد من هذه القسام الثلثة ،وثبت :أن كل واحد منها باطل محال.
فكان القول بأن الله تعالى في الحيز والجهة ،محال ً .
فإن قيل :ألستم تقولون :إنه تعالى غير متناه في ذاته ،فيلزمكم جميع ما
ألزمتموه علينا ؟ قلنا :الشيء الذي يقال له :إنه غير متناه على وجهين :
أحدهما :إنه غير مختص بحيز وجهة ،ومتى كان كذلك ،امتنع أن يكون له طرف
ونهاية وحد .
والثاني :إنه مختص بجهة ) (27وحيز ،إل أنه مع ذلك ليس لذاته مقطع وحد ،
فنحن إذا قلنا :إنه ل نهاية لذات الله تعالى عنينا به التفسير الول .فإن كان
مرادكم ذلك ،فقد ارتفع الخلف بيننا ،وإن كان مرادكم هذا الوجه الثاني ،
فحينئذ يتوجه عليكم ما ذكرناه من الدليل ،ول ينقلب ذلك علينا .لنا ) (28ل نقول
إنه تعالى غير متناه – بهذا التفسير – حتى يلزمنا ذلك اللزام فظهر الفرق )والله
)(29
أعلم(
البرهان الرابع على أنه يمتنع أن يحصل في الجهة والحيز :هو أنه لو حصل في
شيء من الجهات والحياز ،لكان إما أن يحصل مع وجوب أن يحصل فيه ،أو ل
مع وجوب أن يحصل فيه .والقسمان باطلن ،فكان القول بأنه تعالى حاصل في
الجهة محال ً .
)(30
وإنما قلنا :إنه يمتنع أن يحصل فيه مع الوجوب )وهذا هو القسم الول(
لوجوه :
الول :إن ذاته مساوية لذوات سائر الجسام في كونه حاصل ً في الحيز .ممتدا ً
في الجهة ز وإذا ثبت التساوي من هذا الوجه .ثبت التساوي في تمام الذات .
على ما بيناه في البرهان الول في نفي كونه تعالى جسما ً .وإذا ثبت التساوي
مطلقا ً ،فكل ما صح على أحد
المتساويين وجب أن يصح على الخر .ولما لم يجب في سائر الذوات حصولها
في ذلك الحيز ،وجب أن ل يجب على تلك الذوات حصولها في ذلك الحيز .وهو
المطلوب .
الثاني :إنه لو وجب حصوله في تلك الجهة ،وامتنع حصوله في سائر الجهات ،
لكانت تلك الجهة مخالفة في الماهية لسائر الجهات ،وحينئذ تكون الجهات شيئا ً
موجودا ً .فإذا كان الله سبحانه وتعالى واجب الحصول في الجهة أزل ً وأبدا ً :
التزموا قديما ً آخر مع الله تعالى في الزل ز وذلك محال
الثالث :لو جاز في شيء مختص بجهة معينة أن يقال :إن اختصاصه بتلك الجهة
:واجب ،جاز أيضا ً :ادعاء أن بعض الجسام حصل في حيز معين على سبيل
الوجوب ن بحيث يمتنع خروجه عنه .وعلى هذا التقدير ل يتمشى دليل حدوث
الجسام في ذلك .فثبت :أن القائل بهذا القول ،ل يمكنه الجزم بحدوث كل
الجسام ،بل يلزمه تجويز أن يكون بعضها قديما ً .
الرابع :هو أنا نعلم بالضرورة :أن الحياز بأسرها متساوية .لنها فراغ محض ،
خلء صرف .وإذا كانت بأسرها متساوية يكون حكمها
واحدا ً .وذلك يمنع من القول بأنه تعالى واجب الختصاص ببعض الحياز على
التعيين .فإن قالوا :لم ل يكون أن يكون اختصاصه بجهة فوق :أولى ؟ قلنا :
هذا باطل لوجوه) : (31أحدهما :إن قبل خلق العالم ،ما كان إل الخلء الصرف
والعدم المحض .فلم يكن هناك فوق ول تحت .فبطل قولكم .الثاني :إنه لو
كان الفوق متميزا ً عن التحت بالتميز الذاتي ،لكانت )الجهات() (32أمورا ً
)موجودة() (33ممتدة قابلة للنقسام وذلك يقتضي تقدم الجسم .لنه ل معنى
للجسم إل ذلك ز الثالث ك هو أنه لو جاز أن تختص ذات الله تعالى ببعض
الجهات على سبيل الوجوب ن مع كون الحياز متساوية في العقل ،لجاز
اختصاص بعض الحوادث المعينة ببعض الوقات دون البعض على سبيل
الوجوب ،مع كونها متساوية في العقل .وعلى هذا التقدير يلزم استغناؤها عن
الصانع ،ولجاز أيضا ً اختصاص عدم القديم ببعض الوقات على سبيل الوجوب.
)(34
وعلى هذا التقدير ينسد باب إثبات مصانع ،وباب إثبات وجوبه وقدمه ز الرابع
:إنه لو حصل في حيز معين – مع انه ل يمكنه الخروج – لكان كالمفلوج الذي ل
يمكنه أن يتحرك ،أو كالمربوط الممنوع عن الحركة .وكل ذلك نقص .والنقص
على الله )تعالى() (35محال .
وأما القسم الثاني .وهو أن يقال :إنه تعالى لو حصل في الحيز ،مع جواز كونه
حاصل ً فيه .فنقول :هذا محال .لنه لو كان كذلك لما ترجح وجود
) (33وجودية ط
) (35تعالى :سقط خ ) (34الخامس :ض
ذلك الختصاص إل بفعل ) (36فاعل ،وتخصيص مخصص ،وكل ما كان كذلك ،
فالفاعل يتقدم عليه .فيلزم أن ل يكون حصول ذات الله تعالى في الحيز أزليا ً .
لن ما تأخر عن الغير ل يكون أزليا ً .وإذا كان الزلي معبرا ً عن الوضع والحيز ،
)
امتنع أن يصير بعد ذلك مختصا ً بالحيز ،وإل لزم وقوع النقلب في ذاته )تعالى(
)(38
(37وإنه محال )وبالله التوفيق(
البرهان الخامس :هو أن الرض كرة ،وإذا كان كذلك ،امتنع كونه تعالى في
الحيز والجهة .بيان الول :إنه إذا حصل خسوف قمري )فإنا إذا() (39سألنا سكان
أقصى المشرق عن ابتدائه ؟ قالوا :إنه حصل في أول الليل ،وإذا سألنا سكان ،
أقصى المغرب ؟ قالوا :إنه حصل آخر الليل .فعلمنا :أن أول الليل في أقصى
المشرق ،هو بعينه آخر الليل في أقصى المغرب ن وذلك يوجب كون الرض
كرة .وإنما قلنا لو كانت الرض كرة ،امتنع كون الخالق في شيء من الحياز .
وذلك لن الرض إذا كانت كرة ،فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلى سكان أهل
المشرق ،هي تحت بالنسبة لسكان )أهل() (40المغرب .وعلى العكس .فلو
اختص الباري تعالى بشيء من الجهات .لكان تعالى في جهة التحت بالنسبة
لبعض الناس )وعلى العكس() (41وذلك باطل بالتفاق بيننا وبين الخصم .فثبت :
أنه يمتنع كونه تعالى مختصا بالجهة .
البرهان السادس :لو كان تعالى مختصا بشيء من الحياز والجهات ،
لكان مساويا ً للمتحيزات .وهذا محال فذلك محال .بيان الملزمة :أنه تعالى لو
كان مختصا ً بحيز ،لكان معنى كونه شاغل ً لذلك الحيز :كونه بحيث يمنع غيره
من أن يكون بحيث هو .ولو كان كذلك لكان متحيزا ً ،وقد بينا في الفصل
المتقدم :أن المتحيزات بأسرها متماثلة في تمام الماهية .فثبت :أنه تعالى لو
كان متحيزا ً ،لكان مثل ً لسائر المتحيزات .وإنما قلنا :إن ذلك محال .لن ن
المثلين يجب تساويهما في جميع اللوازم ،فيلزم إما قدم الكل ،وإما حدوث
الكل ،وذلك محال .
فإن قيل :حصول الشيء في الحيز ،وكونه مانعا ً لغيره عن أن يحصل بحيث
هو :حكم من أحكام الذات .ول يلزم الستواء في الحكام واللوازم :الستواء
في الماهية .والجواب عنه من وجهين :
الول :إن المتحيز له أحكام ثلثة :
أحدها :أنه حاصل في الحيز ،شاغل له .
والثاني :كونه مانعا ً لغيره )من أن() (42يحصل بحيث هو .
والثالث :كونه بحال لو ضم إليه أمثاله ،حصل له حجم كبير ،ومقدار عظيم .ول
شك أن كل ما يحصل في حيز .فقد حصل له هذه المور الثلثة .إل أن الذات
الموصوفة بهذه الحكام الثلثة ،ل بد وأن يكون له في نفسه الحجمية )ويكون
- 42 -
له() (43في نفسه المقدار .وهذا المعنى معقول مشترك بين كل الحجام .ثم إنا
دللنا على أن هذا المفهوم المشترك يمتنع أن يكون صفة لشيء آخر .بل ل بد
وأن يكون ذاتا .وإذا كان كذلك
البرهان السابع :إنه لو كان )تعالى() (45مختصا ً بالجهة والحيز ،لكان عظيما ً .
لنه ليس في العقلء من يقول :إنه مختص بجهة ،ومع ذلك فإنه في الحقارة
مثل النقطة التي ل تنقسم ،ومثل الجزء الذي ل يتجزأ .بل كل من قال :إنه
مختص بالجهة والحيز ،قال :إنه عظيم في الذات .وإذا كان كذلك ،فنقول :
الجانب الذي منه يحاذي يمين العرش .إما أن يكون هو الجانب الذي منه يحاذي
يسار العرش أو غيره .والول باطل ،لنه إن عقل ذلك ،فلم ل يعقل أن يقال :
إن يمين العرش :عن يسار العرش .حتى يقال :العرش على عظمته ،مثل
الجوهر الفرد ،والجزء الذي ل يتجزأ ؟ وذلك ل يقوله عاقل .والثاني أيضا ً باطل ،
لن على هذا التقدير تكون ذات الله تعالى مركبة من الجزاء .
ثم تلك الجزاء إما أن تكون متماثلة الماهية ،أو مختلفة الماهية .والول :محال
.لن على هذا التقدير يكون بعض تلك الجزاء المتماثلة متباعدة ،وبعضها
متلقية .والمثلن يصح على كل واحد منهما ما يصح على الخر) . (46فعلى هذا
يلزم القطع بأنه يصح على المتلقين أن يصيرا متباعدين ،وعلى المتباعدين أن
يصيرا متلقين .وذلك يقتضي جواز الجتماع والفتراق على ذات الله تعالى ،
وهو محال .
وأما القسم الثاني :وهو أن يقال :إن تلك الجزاء مختلفة في الماهية .فل بد
أن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء ،يكون كل واحد منها مبرأ عن التركيب ،لن
)
التركيب عبارة عن اجتماع الوحدات .ولول حصول الوحدات لما عقل اجتماعهما
. (47إذا ثبت هذا فنقول :إن كل واحد من تلك الجزاء البسيطة ،ل بد وأن
يماس كل واحد منها بيمينه شيئا ً ،وبيساره شيئا ً آخر .لكن يمينه مثل يساره .
وإل لكان هو في نفسه مركبا ً .وقد فرضناه غير مركب .هذا خلف .وإذا ثبت أن
يمينه مثل يساره ،وثبت أن المثلين ل بد وأن يشتركا في جميع اللوازم ن لزم
القطع بأن ممسوس يمينه ،يصح أن يصير ممسوس يساره ،وبالعكس .ومتى
- 43 -
صح ذلك ،فقد صح التفرق والنحلل على تلك الجزاء .وحينئذ يعود المر إلى
جواز الجتماع والفتراق على ذات الله تعالى .وهو محال .فثبت :أن القول
بكونه في جهة من الجهات يفضي إلى هذه المحالت ،فيكون القول به محال ً .
)(48
)وبالله التوفيق(
البرهان الثامن :لو كان علو الباري تعالى على العالم بالحيز والجهة
الفصل الخامس
في حكاية الشبه العقلية في كونه تعالى مختصا ً بالحيز والجهة
الشبهة الولى :إنهم قالوا :العالم موجود ،والباري موجود .وكل موجودين فل
بد وأن يكون أحدهما محايثًا) (1للخر ،أو مباينا ً عنه بجهة من الجهات الست .
ولما لم يكن الباري تعالى محايثا ً للعالم .وجب كونه تعالى مباينا ً عن العالم بجهة
من الجهات الست .وإذا ثبت ذلك ،وجب كونه تعالى مختصا ً بجهة فوق .
أما قولهم :إن كل موجودين فلبد أن يكون أحدهما محايثا ً للخر ،أو مباينا ً عنه
بجهة .فلهم فيه طريقان :
الول :ادعاء البديهية فيه .إل أنه سبق الكلم على هذه الطريقة في أول الكتاب
.
والطريق الثاني :إنهم يستدلون عليه .وهو الطريق الذي اختاره ابن الهيصم في
)
المناظرة التي حكاها عن نفسه مع ابن فورك )قال الشيخ – رحمه الله تعالى (-
(2وأنا أذكر محصل تلك الكلمات على الترتيب الصحيح ن ومن) (3وعلى أحسن
وجه يمكن تقرير الشبهة به )وهو() (4أن يقال :ل شك أن كل موجودين في
الشاهد ن فأحدهما ل بد وأن يكون محايثا ً للخر ،أو مباينا ً عنه بالجهة وكون كل
موجودين في الشاهد
كذلك ،إما أن يكون لخصوص كونه جوهرا ً ،أو لخصوص كونه عرضا ً أو لمر
مشترك بين الجوهر والعرض .وذلك المشترك إما الحدوث أو الوجود .والكل
باطل سوى الوجود ،فوجب أن تكون العلة لهذا الحكم هي الوجود ،والباري
تعالى موجود ،فوجب الجزم بأنه تعالى لما أن يكون محايثا ً للعالم) . (4أو مباينا
عنه بالجهة.
واعلم :أن هذا الكلم ل يتم إل بتقرير مقدمات .نحن نذكرها ،ونذكر الوجوه
التي يمكن ذكرها) (5في تقرير تلك المقدمات.
أما المقدمة الولى ) :فهي أن نقول :قولنا :إن القول بأن) ( (6كل موجودين في
الشاهد ،ل بد وأن يكون أحدهما محايثا ً للخر أو مباينا ً عنه بجهة :حكم ل بد له
من علة )ويحتاج إلى دليل) ( (7والدليل عليه .هو أن المعلومات ل يصح فيها
الحكم ،وهذه الموجودات يصح فيها هذا الحكم .فلو ل امتياز ما صح فيه
الحكم ،عما ل يصح فيه هذا الحكم بأمر من المور )وإل) ( (8لما كان هذا المتياز
واقعا ً ُ.
أما المقدمة الثانية :وهي بيان أن هذا الحكم ل يمكن تعليله بخصوص كونه
جوهرا ً ،ول بخصوص كونه عرضا ً .
فالدليل عليه .أن المقتضى لهذا الحكم .لو كان هو كونه جوهرا ً ،لصدق على
الجوهر أنه منقسم إلى ما يكون محايثا ً لغيره ،وإلى ما يكون
) (4المحايث :أي المتحد معه في الشارة الصحية .بأن يكون حال ً فيه .
والمؤلف سيذكر معناه فيما بعد .
وهي قولنا :أن :خ )(6 ) (5ذكره :خ
يحتاج إلى دليل :سقط خ )(7
) (8وإل لما :خ ،المور لما كان ك ط
مباينا ً عنه .ومعلوم أن ذلك محال .لن الجوهر يمتنع أن يكون محايثا ً لغيره .
وبهذا الطريق تبين أن )المقتضى) ( (9لهذا الحكم ،ليس كونه عرضا ً .لمتناع
أن يكون العرض مباينا ً لغيره بالجهة .
المقدمة الثالثة :وهي بيان أن هذا الحكم غير معلل بالحدوث .ويدل عليه
وجوه :
الول :إن الحدوث عبارة عن وجود سبقه العدم ،والعدم غير داخل في العلة .
وإذا سقط العدم عن درجة العتبار ،لم يبق إل الوجود .
الثاني :وهو الذي عول عليه ابن الهيصم في المناظرة التي زعم أنها دارت بينه
وبين فورك – رحمهما الله تعالى – لو كان هذا الحكم معلل ً بالحدوث ،لكان
- 45 -
الجاهل بكون السماء محدثه ،ويجب أن يكون جاهل ً بأن السماء بالنسبة لسائر
الموجودات التي في هذا العالم ،إما أن تكون محايثة لها ،أو مباينة عنها
بالجهة .لن المقتضى للحكم إذا كان أمرا ً معينا ً ،فالجاهل بذلك المقتضى ،
يجب أن يكون جاهل ً بذلك الحكم .أل ترى أن الوجود لما كان هو المستدعي
للتقسيم إلى القديم والمحدث ،ل جرم كان اعتقاده أنه غير موجود .مانعا ً من
التقسيم بالقدم والحدوث .ولما كان التقسيم إلى السود والبيض معلقا ً بكونه
ملونا ً ،كان اعتقاد أن الشيء غير ملون مانعا ً من التقسيم إلى السود والبيض .
ولما رأينا أن الدهري) (10الذي يعتقد قدم السموات والرضين ،ل يمنعه ذلك من
العتقاد أن السموات والرضين ،إما أن تكون محايثة ،وإما أن تكون مباينة
بالجهة .علمنا :أن هذا الحكم غير معلل بالحدوث .
الوجه الثالث في بيان أن المقتضى لهذا الحكم ليس هو الحدوث - :وقد ذكره
بن الهيصم أيضا ً في تلك المناظرة – وتقريره :أن كونه محدثا :وصف بعلم
الستدلل ،وكونه بحيث يجب أن يكون إما محايثا ً ،وإما مباينا ً بالجهة :حكم
معلوم بالضرورة ،والوصف المعلوم الثبوت بالستدلل :ل يجوز أن يكون أصل ً
للحكم الذي يعلم ثبوته بالضرورة .فثبت بهذه الوجوه :أن المقتضي لهذا الحكم
:ليس الحدوث .
المقدمة الرابعة :وهي في بيان أنه لما كان المقتضي لهذه الحكم في الشاهد
هو الوجود ،والباري تعالى موجود ،وكان المقتضى لكونه إما محايثا ً للعالم أو
مباينا ً عنه بالجهة :حاصل ً في حقه ،كان هذا الحكم أيضا حاصل ً هناك .
أعلم :أنا نفتقر في هذه المقدمة إلى بيان :أن الوجود حقيقة واحدة في الشاهد
وفي الغائب ،وذلك يقتضي كون وجوده تعالى زائدا ً على حقيقته .فإنه ما لم
يثبت هذا الصل لم يحصل المقصود .فهذه غاية ما يمكن ذكره في تقري هذه
الشبهة .ومن نظـر في تقريرنا لهذه الشبهة وتقريرهم لها :علم )أن)( (11
التفاوت بينهما )كبير)( (12
الجــواب
: )(13
)السؤال الول(
إن مدار هذه الشبهة على أن كل موجودين في الشاهد ،فلبد أن يكون أحدهما
محايثا ً للخر ،أو مباينا عنه بالجهة .وهذه الطريقة ممنوعة .وبيانه من وجوه :
الول :
- 46 -
أن جمهور الفلسفة يثبتون موجودات غير محايثة لهذا العالم الجسماني ول
مباينة عنه بالجهة .وذلك لنهم يثبتون العقول ،والنفوس الفلكية ،والنفوس
الناطقة ،ويثبتون الهيولي .ويزعمون :أن هذه الشياء موجودات غير متحيزة
ول حالة في المتحيز ،ول يصدق عليها أنها محايثة لهذا العالم ول مباينة عنه
بالجهة .وما لم تبطلوا هذا المذهب بالدليل .ل يصح القول بأن كل موجودين
في الشاهد ،فإما أن يكون أحدهما محايثا ً للخر أو مباينا ً عنه .
الثاني :
إن جمهور المعتزلة يثبتون إرادات وكراهات موجودة ل في محل .ويثبتون فناء
ل في محل .وتلك الشياء ل يصدق عليها أنها محايثة للعالم أو مباينة عن العالم
بالجهة فما ،لم تبطلوا ذلك ،ل تتم دعواكم .
الثالث :
إنا نقيم الدللة على أن الضافات موجودات في العيان .ثم نبين أنها يمتنع أن
تكون) (13محايثة للعالم ،أو مباينة عنه بالجهة ،وذلك يبطل كلمكم .وإنما قلنا
إن الضافات أعراض موجودات في العيان ،لن المعقول من كون النسان أبا ً
لغيره ،مغاير لذاته المخصوصة .بدليل .أنه يمكن أن يعقل ذاته من الذهول عن
كونه أبا ً أو ابنا ً .والمعلوم غير ما هو معلوم .وأيضا ً :فإنه يمكن ثبوت ذات
منفكة عن البوة والبنوة .مثل :عيسى عليه السلم .فإنه ما كان أبا ً لحد ،ول
ابنا ً لحد .والثابت غير ما هو غير ثابت .فكونه أبا ً أو ابنا ً ،مغايرا ً ،مغايرا ً لذاته
المخصوصة .ثم صار هذا المغاير إما أن يكون وصفا ً سلبيا ً أو ثبوتيا ً .والول
باطل .لن عدم البوة هو الوصف السلبي .والبوة رافعة له .رافع العدم :
وجود .فثبت :أن البوة وصف وجودي مغاير لذات الب .إذا ثبت هذا .فنقول :
إنه مستحيل
أن يقال :البوة محايثة لذات الب .وإل لزم أن يقال :إنه قام بنصف الب
نصف البوة ن وبثلثه ثلث البوة :ومعلوم أن ذلك باطل .ومحال أن يقال :إنها
مباينة عن ذات الب ،مباينة بالجهة والحيز .وإل لزم كون البوة جوهرا ً قائما ً
بذاته مباينا ً عن ذات الب بالجهة .وذلك أيضا ً محال .فثبت بهذا الدليل :وجود
موجود ل يمكن أن يقال :لنه محايث للعالم) (14أو يقال إنه مباين عنه بالجهة .
وإذا ثبت هذا .بطل قولهم .
عدمي .وإذا ثبت أنه حكم عدمي ،امتنع تعليله ،لن العدم تفي محض ،فكان
التأثير فيه محال ً .فثبت :أن قبول القسمة ل يمكن تعليله .
يكون محايثا ً لغيـره وإما أن يكون مباينا ً عنه بالجهة " :إشارة إلى حكم واحد .
ثم بنى عليه أنه ل يمكن تعليل ذلك الحكم بخصوص كونه جوهرا ً ول بخصوص
كونه عرضا ً .ونحن بينا :أنه إشارة إلى حكمين مختلفين معللين بعلتين
مختلفتين .
السؤال الرابع :
سلمنا أته ل يمكن تعليل هذا الحكم بخصوص كونه جوهرا ً ،ول بخصوص كونه
عرضا ً .فلم قلتم :إنه ل بد من تعليله ،إما بالحدوث وإما بالوجود ؟ وما الدليل
على هذا الحصر ؟ أقصى ما في الباب أن يقال :سبرنا وبحثنا فلم نجد قسما ً
آخر ،إل أنا بينا في الكتب المطولة :أن عدم الوجدان ل يدل على عدم الوجود ،
وشرحنا أن هذا السؤال هادم لكل دليل مبني على تقسيمات منتشرة ،غير
منحصرة بين النفي والثبات .
السؤال الخامس :
- 48 -
سلمنا أن عدم الوجدان ،يدل على عدم الوجود ،لكن ل نسلم )قولكم
)
": ( (23إنا ما وجدنا لهذا الحكم علة سوى الحدوث والوجود" وبيانه :من وجهين :
الول :
إن من المحتمل أن يقال :المقتضى لقولنا :إن الشيء إما أن يكون محايثا ً
للعالم ،أو مباينا ً عنه :هو كونه بحيث تصح الشارة الحسية إليه .وذلك أن كل
شيئين تصح الشارة الحسية إليهما .إما أن تكون الشارة إلى أحدهما عين
الشارة إلى الخر .وذلك كما في اللون والمتلون – وهذا هو المحايثة – وإما أن
تكون الشارة إلى أحدهما غير الشارة إلى الخر – وهذا هو المباينة بالجهة –
فثبت :أن المقتضى لقبول هذه القسمة :
هو كون الشيء مشارا ً إليه بحسب الحس .وعلى هذا التقدير ما لم تقيموا
الدللة على أنه مشار إليه بحسب الحس ،ل يمكن أن يقال :إنه تعالى يجب أن
يكون محايثا ً للعالم أو مباينا ً عنه بالجهة .لكن كونه تعالى مشارا ً إليه بحسب
الحس هو مما وقع النزاع فيه ،وحينئذ يتوقف صحة الدليل على صحة
المطلوب .وذلك يفضي غلى الدور .وهو باطل .
الثاني :
ل شك :أن ما سوى الله تعالى .إما أن يكون محايثا ً لغيره ،أو مباينا ً )إنه
)(24
عن غيره بالجهة .ول شك :أن الله تعالى مخالف لهذين القسمين بحقيقته
المخصوصة إذ لو لم يكن مخالفا ً بحقيقته المخصوصة لكان إما مثل ً للجواهر أو
العراض .ويلزم منه كونه تعالى محدثا ً .كما أن الجواهر والعراض محدثة .
وذلك محال .وإذا ثبت هذا فنقول :ل شك أن الجواهر والعراض مشتركان في
المر الذي به وقعت المخالفة بينهما ن وبين ذات الباري تعالى .فلم ل يجوز أن
يكون المقتضى لقبول النقسام إلى المحايث )والمباين) ( (25هو ذلك المر ؟
وعلى هذا التقدير سقط هذا السؤال .لنه ل مشترك بين الجواهر والعراض إل
الحدوث .
قابل ً للنقسام غلى هذين القسمين .فالقابلية إن كانت صفة وجودية كانت في
الموضعين كذلك ن وإن كانت عدمية فكذلك .ول يبعد تعليل عدم بعدم .وقوله
ثانيا ً " :لو كان المقتضى لهذا الحكم هو الحدوث ،لكان الجهل بحدوث الشيء
يوجب الجهل بهذا الحكم " قلنا :الكلم عليه من وجهين :
الول :
- 49 -
لم قلتم :إن الجهل بالمؤثر يوجب الجهل بالثر ؟ أل ترى أن جهل الناس
بأسباب المرض والصحة ل يوجب جهلهم بحصول المرض والصحة ،وجهل نفاة
العراض بالمعاني الموجبة لتغير أحوال الجسام ل يوجب جهلهم بتلك التغيرات .
وجهل الدهري بكونه تعالى قادرا ً على الخلق والتكوين ل يوجب جهله بوجود هذا
العالم ؟
الثاني :
لو كان الجهل بالعلة يوجب الجهل بالمعلول ،لكان العلم بالعلة يوجب العلم
بالمعلول .وعلى هذا التقدير لو كان المقتضى لكون الموجودين في الشاهد ،
إما متحايثين أو متباينين بالجهة :هو الوجود .لزم أن من علم كون الشيء
موجودا ً ،أن يعلم وجوب كونه إما محايثا ً للعالم أو مباينا ً له ) بالجهة) ( (28لكن
الجمهور العظم من أهل التوحيد يعتقدون أنه تعالى موجود ،ول يعلمون أنه
تعالى ل بد وأن يكون ) إما) ( (29محايثا ً للعالم أو مباينا ً له .فوجب على هذا
المساق :أن ل يكون المقتضى لهذا الحكم هو كونه موجودا ً .
وهذا السؤال قد أورده الستاذ ابن فورك – رحمه الله – من أصحابنا – على ابن
الهيصم ن ولم يقدر أن يذكر عنه جوابا ً سوى أن قال :
" يمتنع أن يحصل العلم بالثر )ول يحصل العلم بالمؤثر ()) (30ول() (31يمتنع أن
يحصل العلم بالمؤثر .مع الجهل بالثر ،وطال كلمه في تقرير هذا الفرق ،ولم
يظهر منه شيء معلوم يمكن حكايته ز وقوله ثالثا ً ك " وكونه محدثا ً وصف
استدللي ،وكونه إما محايثا ً أو مباينا ً :أمر معلوم بالبديهة ،قلنا :ممنوع .فإنا
بينا :أن المؤثر في كثير من الشياء استدللي ،والثر بديهي " .
أن يقبل النقسام ،إلى الجوهر والعرض .وإنه محال .ولزم أيضا ً في العرض
وحده ،أن يقبل النقسام إلى الجوهر وإلى العرض .ومعلوم أن ذلك محال .
- 50 -
فإن قالوا :إن كل جوهر وعرض فإنه يصبح كونه منقسما ً إلى هذين القسمين
نظرا ً إلى كونه موجودا ً ،وإنما يمتنع ذلك النقسام نظرا ً إلى مانع منفك وهو
خصوصية ماهيته .قلنا ك هذا اعتراف بأنه ل يلزم من كون الوجود علة لصحة
أمر من المور ،أن يصح ذلك الحكم على كل ما كان موصوفا ً بالوجود ن
لحتمال أن تكون ماهيته المخصوصة مانعة من ذلك الحكم .وإذا كان كذلك ،
فلم ل يجوز أن يقال :الوجود وإن اقتضى كون الشيء إما محايثا ً لغيره أو مباينا ً
عنه ،إل أن خصوصية ذاته تعالى كانت مانعة من هذا الحكم .فلم يلزم من كونه
تعالى موجودا ً ،كونه بحيث يكون إما محايثا ً للعالم أو مباينا ً عنه بالجهة ؟
الثاني :إن كل موجود) (33في الشاهد .فهو إما حجم وإما قائم بالحجم .ثم نذكر
التقسيم إلى آخره ،حتى يلزم أن يكون الباري تعالى إما حجما ً وإما قائما ً
بالحجم ،والقوم ل يقولون بذلك .
الثالث :إن كل موجودين في الشاهد ،فل بد وأن يكون أحدهما محايثا ً للخر ،أو
مباينا ً عنه في أي جهة كان .ثم نذكر التقسيم المتقدم ) (34حتى يظهر أن هذا
الحكم معلل بالوجود ،والباري تعـالى
موجود ،فيلزم أن يصح على الباري تعالى كونه )إما() (35محايثا ً للعالم أو مباينا ً
عنه في أي جهة كانت ،من الجوانب التي للعالم .وذلك يقتضي أن ل يكون
اختصاص الله تعالى بجهة فوق :واجبا ً ،بل يلزم صحة الحركة على ذات الله
تعالى من الفوق إلى أسفل) (36وكل ذلك عند القوم محال .
الرابع :
إن كل موجودين في الشاهد ،فإنه يجب أن يكون أحدهما محايثا ً للخر ،أو
مباينا ً عنه بالجهة .والمباين بالجهة ل بد وأن يكون جوهرا ً فردا ً ،أو يكون مركبا ً
من الجواهر ن وكون كل موجود في الشاهد على أحد هذه القسام الثلثة –
أعني :كونه عرضا ً ،أو جوهرا ً فردا ً ،أو جسما ً مؤلفا ً)) – (37ل بد وأن يكون معلل ً
بالوجود() (38فوجب أن يكون الباري تعالى على أحد هذه القسام الثلثة .والقوم
ينكرون ذلك .لنه تعالى عندهم ليس بعرض ول بجوهر ول بجسم مؤتلف مركب
من الجزاء والبعاض.
- 51 -
الخامس :
إن كل موجود يفرض مع العالم .فهو إما مساوي للعالم .وإما أزيد منه في
المقدار ،وإما أنقص منه في المقدار .فانقسام الموجود ) (39في الشاهد إلى
هذه القسام الثلثة :حكم ل بد له من علة .ول علة إل للوجود .والباري تعالى
موجود ،فوجب أن يكون الباري تعالى على أحد هذه القسام الثلثة) . (40والقوم
ل يقولون به .فثبت ما ذكرنا :أن الشبهة منقوضة.
واعلم :
أنا إنما طولنا في الكلم على هذه الشبهة ،لن القوم يعولون عليها ،ويظنون
أنها حجة قوية قاهرة ،ونحن بعد أن بالغنا في تنقيحها وتقريرها ،أوردنا عليها
هذه السئلة القاهرة ،والعتراضات القادحة ،ونسأل الله العظيم أن يجعل هذه
التحقيقات والتدقيقات سببا ً )لمزيد الجر() (41والثواب بمنه وفضله .
الشبهة الثالثة للكرامية في إثبات كونه تعالى في الجهة :قالوا :ثبت أنه تعالى
تجوز رؤيته .والرؤية تقتضي مواجهة المرئي أو شيئا هو في حكم مقابلته .وذلك
يقتضي كونه تعالى مخصوصا ً بجهة .والجواب :اعلم أن المعتزلة والكرامية
توافقتا) (42في أن كل مرئي ،ل بد وأن يكون في جهة إل المعتزلة قالوا :لكنه
ً )(43
ليس في الجهة فوجب أن ل يكون مرئيا
و "الكرسي" الذي يدل على المكان ،على الحقيقة :اسم لموضع جلوس في
مكان عالي .وعلى المجاز :الجللة والعظمة .لن الذي ارتفع عن الرض
وجلس على الكرسي ،صار عظيما ً بالنسبة لمن جلسوا على التراب .وقد جاء
في التوراة أن الله له "كرسي" وجاء فيها أن السماء عرش الله "هكذا قال
- 52 -
وهذا التأويل الذي عند علماء بني إسرائيل في الكرسي له تأويل يشبهه عند
كثيرين من أهل السلم .ومنهم المام فخر الدين الرازي ،والمام محمود بن
عمر -أنعم الله عليهما – يقول بن عمر ،في الكشاف " :الكرسي :ما يجلس
عليه ول يفضل عن مقعد القاعد ،وفي قوله "وسع كرسيه " أربعة أوجه :
أحدهما :أن كرسيه لم يضق عن السموات والرض ،لبسطته وسعته ،وما هو
إل تصوير لعظمته وتخييل قط ،ول كرسي ثمة ول قعود ول قاعد .كقوله " :وما
قدروا الله حق قدره ،والرض جميعا ً قبضته يوم القيامة .والسموات مطويات
بيمينه" من غير تصور قبضة وطي ويمين ،وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل
حسي .أل ترى إلى قوله " :وما قدروا الله حق قدره " .والثاني :وسع علمه .
وسمي العلم كرسيا ً ،تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم .والثالث :وسع
ملكه ،تسمية .بمكانه الذي هو كرسي الملك .والرابع :ما روي أنه خلق كرسيا ً
،هو بين يدي العرش دونه السموات والرض .وهو إلى العرش كأصغر شيء ز
وعن الحسن " :الكرسي هو العرش" أ.هـ .
و "صعد" و "هبط" يدلن على المكان بالرتفاع والنحطاط على الحقيقة .وعلى
المجاز تدل كلمة صعد على علو المنزلة ،وتدل كلمة هبط على انحطاط المنزلة
.فقد قال الله للسرائيلي الغبي ":يستعلي عليك الغريب الذي فيما بينكم
متصاعدا ً ن وأنت تنحط متنازل ً " )تث (43 : 28ويقول علماء بني إسرائيل فيما
ورد في التوراة عن صعود الله ونزوله " :ولما كان معشر الدميين في أسفل
السافلين بالموضع وبمرتبة الوجود ،بالضافة للمحيط .وكان هو في أعلى
عليين على حقيقة وجود ،وجللة وعظمة .ل علو مكان .وشاء تعالى :إيصال
علم منه ،وإفاضة وحي على بعضنا .عبر بنزول الوحي على النبي ،أو بحلول
سكينة في موضع ك بالنزول .وعبر بارتفاع حالة النبوة -تلك -من الشخص ،
أو إزالة السكينة من الموضع :بالرفع .فكل نزلة ورفعة تجدها منسوبة للباري
تعالى :إنما أراد بهذا المعنى .وكذلك إذا نزلت آفة بأمة أو إقليم – بحسب
مشيئته القديمة – التي تصف الكتب النبوية – قبل أن تصدر تلك النازلة – بأن
أولئك افتقد الله أعمالهم ،ثم بعد ذلك أنزل بهم العذاب ز فإنه يكني عن هذا
المعنى أيضا ً :بالنزول لكون النسان أقل من أن تفتقد أعماله ،ويعاقب عليها –
لول المشيئة – وقد بين ذلك في كتب النبوة .وقيل " :ما النسان حتى تذكره ،
وابن البشر حتى تفتقده "؟ )مز (5 : 8يشير إلى هذا المعنى .ولذلك كنى عن
هذا بالنزول .فقال " :هلم نهبط ونبلبل هناك لغتهم )تك " . ( 7 : 11فنزل
الرب لينظر" )تك " ( 5 : 11أنزل وأرى" )تك ( 21 : 18والمعنى كله حول
العقاب بأهل السفل ،أ .هـ.
- 53 -
واعلم :أن "رأى" على الحقيقة تدل على رؤية العين .وعلى المجاز تدل على
العلم ،وعلى إدراك العقل ،ففي القرآن الكريم " :ألم تر كيف فعل ربك
بأصحاب الفيل"؟ أي :ألم تعلم .وفيه " :ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ؟" أي
لم تدرك ذلك بعقلك ز وفي التوراة " :وقلبي رأى كثيرا ً من الحكمة والعلم " )جا
( 16 : 1فرأى بمعنى أدرك بعقله .وكل ما في التوراة عن "رأيت الرب" ) 1
مل " ( 19 : 22رأوا إله إسرائيل " )خر ( 10 : 24يحمل على هذا المجاز :أي
على الدراك العقلي ،ل على رؤية العين .
واعلم :أن "نظر" على الحقيقة تدل على اللتفات بالعين للشيء .وعلى المجاز
تدل على التفات الذهن وإقباله على تأمل الشيء حتى يدركه .مثل ما جاء في
التوراة أن الله تعالى "لم ير إثما ً في يعقوب" )عدد ( 21 : 23لن الثم ل يرى
بالعين .ومثل قول الله تعالى عن بني إسرائيل أنهم "ينظرون إلى موسى" )حز
( 8 : 33أي أنهم يتعقبون أفعاله وأقواله ويتأملونها .ويقول علماء بني
إسرائيل :إن كل لفظة تدل على أن الله ينظر أو نظر أحد إليه ،فإنها تدل على
التفات الذهن وإقباله على تأمل الشيء .ل على رؤية العين .
وقد جاء في التوراة أن موسى عليه السلم ستر وجهه لنه خاف أن ينظر إلى
الله .وجاء فيها أنه عاين صورة الرب .ويفسر علماء التوراة هذين النصين
بقولهم :إن موسى استحيا من الله بسبب خوفه من نظر نور الله ،ل من النظر
إلى الله نفسه .ولما رأى الله استحياءه ،أفاض عليه تعالى من جوده وخيره ،
ما قدر ،على مشاهدة شبه الرب .وذلك جزاء له على أنه ستر وجهه لئل ينظر
إلى الرب .وتفسيرهم هذين النصين – بهذا المعنى شبيه بقول رئيس الفلسفة :
" انه ل ينبغي للناظر في كتبه أن ينسبه فيما يبحث عنه لقحة أو تجاسر وتهجم
للكلم في ما ل علم له به .بل ينبغي أن ينسبه للعرص والجتهاد في إيجاد
وتحصيل اعتقادات صحيحة ،حسب مقدرة النسان " وشبيه بقول موسى بن
ميمون " :انه ل ينبغي للنسان أن ل يتهجم لهذا المر العظيم الجليل من أول
وهلة ،دون أن يروض نفسه في العلوم والمعارف ويهذب أخلقه حق التهذيب
ويقتل شهواته ،وتشوقاته الخيالية ،فإذا حصل مقدمات يقينية وعلمها علم
قوانين القياس والستدلل وعلم وجوه التحفظ من أغاليط الذهن ،حينئذ يقدم
للبحث في هذا المعنى ،ول يقطع بأول رأي يقع له ول يمد أفكاره أول ويسلطها
نحو إدراك الله .بل يستحيي ويكف ويقف حتى يستنهض أول " وبعد هذا الكلم
مباشرة يقول موسى بن ميمون " :وعن هذا المعنى .قيل :فسر موسى وجهه
إذ يخاف أن ينظر إلى الله " )خر ( 6 : 3مضافا ً إلى ما يدل عليه الظاهر من
خوفه من نظر النور المتجلي ل أن الله تدركه العين – تعالى عن كل نقص علوا ً
كبيرا ً – وحمد له – عليه السلم – ذلك ،وأفاض عليه – تعالى – من جوده وخيره
،ما أوجب له أن قيل فيه أخيرا ً " :صورة الرب يعاين" ) عد ( 8 : 1وذكر
الحكماء – عليهم السلم – أن ذلك لكونه ساترا ً وجهه أول ً ،لئل ينظر إلى الرب .
أما مختاري بني إسرائيل )خر ( 11 : 24فانهم تهجموا ومدوا أفكارهم وأدركوا .
لكن إدراكا ً ليس بكامل .ولذلك قال عنهم " :فرأوا إله إسرائيل وتحت رجليه "
) خر ( 10 : 24ولم يقل " :فرأوا إله إسرائيل " فقط .إذ معرض القول إنما
انتقد عليهم صورة إدراكهم التي ضمنوها من الجسمانية ما ضمنوها .والتي
أوجبت عليهم تهجمهم قبل كمالهم فاستحقوا الهلك " .
كان() (45في الشاهد كذلك ،وجب أن يكون في الغائب كذلك ؟ وتقريره :إن
هذه المقدمة إما أن تكون مقدمة بديهية أو استدللية .فإن كانت بديهية لم يكن
في إثبات كونه تعالى مختصا ً بالجهة حاجة إلى هذا الدليل .ذلك لنه ثبت في
الشاهد أن كل قائم بالنفس
فهو مختص بالجهة ) وثبت أن الباري – تعالى – قائم بالنفس () (46فوجب القطع
بأنه مختص بالجهة لن العلم الضروري حاصل بأن كل ما ثبت في الشاهد وجب
أن يكون في الغائب كذلك .فإذا كان هذا الوجه حاصل ً في إثبات كونه تعالى في
الجهة ،كان إثبات كونه تعالى في الجهة بكونه مرئيا ً ،ثم إثبات أن كل ما كان
مرئيا ً فهو مختص بالجهة ،تطويل من غير فائدة ،ومن غير مزيد شرح وبيان .
وأما إن قلنا :إن قولنا إن كل مرئي فهو مختص بالجهة :ليست مقدمة بديهية ،
بل هي مقدمة استدللية .فحينئذ ما لم يذكروا على صحتها دليل ً ،ل تصير هذه
المقدمة يقينية .وأيضا ً )إنا كما() (47ل نعقل مرئيا ً في الشاهد ،إل إذا كان مقابل ً،
أو في حكم المقابل للرائي .فكذلك ل نعقل مرئيا ً إل إذا كان صغيرا ً ،أو كبيرا ً أو
ممتدا ً في الجهات ،أو مؤتلفا ً من الجزاء .وهم يقولون :إنه تعالى يرى ،ل
صغيرا ً ول كبيرا ً ،ول ممتدا ً في الجهات والجوانب والحياز .فإذا جاز لكم أن
تحكموا بأن الغائب مخالف للشاهد في هذا الباب ،فلم ل يجوز أيضا ً أن المرئي
في الشاهد – وإن وجب كونه مقابل ً للرائي إل أن المرئي في الغائب – ل يجوز
أن يكون كذلك ؟
ما ذكروه على أنه في يدل هذا على أن خالق العالم في الرض ،لم يدل
)(48
السماء .
وأيضا ً :فالخلق إنما يقدمون على رفع اليدي إلى السماء ،لوجوه أخرى وراء
اعتقادهم أن خالق العالم في السماء :
فالول :إن معظم الشياء نفعا ً للخلق ،ظهور النوار .وأنها )إنما) ( (49تظهر من
جانب السموات .
والثاني :إن مبنى حياة الخلق على استنشاق النفس .وليس ذلك الستنشاق إل
من الهواء .والهواء ليس )إل موجودا ً فوق الرض) ( (50فلهذا السبب كان فوق
الرض أشرف مما تحت الرض.
الثالث :إن نزول الغيث من جهة الفوق .
- 55 -
ولما كانت هذه الشياء التي هي منافع الخلق ،إنما تنزل من جانب السموات ،ل
جرم كان ذلك الجانب عندهم أشرف .وتعلق الخاطر بالشرف أقوى من تعلقه
بالخس .وهذا هو السبب في رفع اليدي إلى السماء.
وأيضا ً :إنه تعالى جعل العرش قبلة لدعائنا ،كما جعل الكعبة قبلة لصلتنا .
وأيضا ً :إنه تعالى جعل الملئكة وسائط في مصالح هذا العالم .قال تعالى " :
فالمدبرات أمرا ً) " (51وقال تعالى " :فالمقسمات
أمرا ً) . " (52وأجمعوا أن جبريل عليه السلم ملك الوحي والتنزيل والنبوة ،
وميكائيل ملك الرزاق ،وملك الموت ملك الوفاة .وكذا القول في سائر المور
ز وإذا كان المر كذلك ،لم يبعد أن يكون الغرض من رفع اليدي إلى السماء :
رفع اليدي إلى الملئكة ) .وبالله التوفيق)( (53
الفصل السادس
في
الرد على الكرامية القائلين بأنه تعالى جسم
بمعنى كونه تعالى غنيا ً عن المحل قائما ً بالنفس
اعلم :أن المشهور عن قدماء الكرامية :إطلق لفظ الجسم على الله تعالى .
إل أنهم يقولون :ل نريد به كونه تعالى مؤلفا ً من الجزاء ،ومركبا ً من البعاض .
بل نريد به كونه تعالى غنيا ً عن المحل ،قائما ً بالنفس وعلى هذا التقدير ،فإنه
يصير النزاع في أنه تعالى جسم أو ل ؟ :نزاعا ً لفظيا ً .هذا حاصل ما قيل في
هذا الباب .إل إنا نقول :كل ما كان مختصا ً بحيز أو جهة ،ويمكن أن يشار إليه
بالحس .فذلك المشار إليه إما أن ل يبقى من شيء من جوانبه الست ،وإما أن
يبقى .فإن لم يبقى منه شيء من جوانبه الست ،فهذا يكون كالجوهر الفرد ،
وكالنقطة التي ل تتجزأ ،ويكون في غاية الصغر والحقارة .ول أظن أن عاقل ً
يرضى أن يقول :أن إله العالم كذلك .وإما أغن بقى شيء من جوانبه الست ،
أو في أحد هذه الجوانب .فهذا يقتضي كونه مؤلفا ً من جزأين) (2و أكثر .
وأقصى ما في الباب :أن يقول قائل :إن تلك الجزاء ل تقبل التفرق والنحلل .
إل أن هذا ل يمنع من كونه في نفسه مركبا ً مؤلفا ً ن كما أن الفيلسوفي) (3يقول :
"الفلك جسم ،إل أنه ل يقبل الخرق واللتئام"
- 56 -
فإن ذلك ل يمنعه من اعتقاد كونه جسما ً طويل ً عريضا ً عميقا ً .فثبت :أن هؤلء
الكرامية لما اعتقدوا كونه تعالى مختصا ً بالحيز والجهة ومشارا ً إليه بحسب
الحس ،واعتقدوا أنه تعالى أنه تعالى ليس في الصغر والحقارة مثل الجوهر
الفرد والنقطة التي ل تتجزأ :وجب أن يكونوا قد اعتقدوا أنه تعالى ممتد في
الجوانب ،أو في بعض الجوانب .ومن قال ذلك فقد اعتقد كونه مركبا ً مؤلفا ً ،
فكان امتناعه عن إطلق لفظ المؤلف والمركب ،امتناعا ً عن مجرد هذا اللفظ ،
مع كونه معتقدا ً لمعناه .فثبت :أنهم أطلقوا عليه لفظ الجسم :لجل أنهم
اعتقدوا كونه تعالى طويل ً عريضا ً عميقا ً ممتدا ً في الجهات .فثبت :أن امتناعهم
عن هذا الكلم :لمحض التقية والخوف ،وإل فهم يعتقدون كونه تعالى مركبا ً
مؤلفًا.
فهذا تمام الكلم في القسم الول من هذا الكتاب )وهذا هو) ( (4القسم
المشتمل على الوجوه العقلية .وبالله التوفيق .
وهي – أعني القوة : -فقد تكون عرضا ً في الموضوع ،وقد تكون صورة في
الهيولي.
- 57 -
والفرق بينهما :أن العرض يكون متقوما ً بمحله الذي هو الموضوع ،والمحل
مقوما ً له .والصورة بالعكس من ذلك .أي تكون الصورة مقومة لمحله الذي هو
الهيولي ،والمحل متقوما ً بها .فالصورة من الجواهر ،ل من العراض ،واسم
القوة يجمعها جميعا ً .فمثال القوة التي تكون عرضا ً :الحرارة والبرودة .ومثال
القوة التي تكون صورة :الصورة النارية والهوائية والمائية والرضية كالرطوبة ،
أو بالعسر كاليبوسة ،فالمراد بأنه ليس بجسم ول قوة في جسم بعد الشتراك
في كونها أجساما ً .وأما القوة النعالية ،فهي عبارة عن الصفة التي بها يصير
الشيء قابل ً لشيء آخر .كما يقال للرطوبة أو اليبوسة :أنها قوة انفعالية ،لنها
تجعل الجسم يتغير عن الدافع .إما بالسهولة كالرطوبة أو بالعسر كاليبوسة .
فالمراد بأنه ليس بجسم ول قوة في جسم هو أنه تعالى ليس موجودا ً بالصفة
التي وصفناها في معنى الجسم والقوة ،فهو منزه عن أن يكون في الجهة
والحيز ،أو حال ً فيما يكون في الجهة والحيز " 0ص 235ج 2دللة الحائرين (
في
المقدمـة
في
بيان أن جميع فرق السلم مقرون بأنه
ل بد من التأويل في بعض ظواهر القرآن والخبار
ساق واحدة .ول نرى في الدنيا شخصا ً أقبح صورة من هذه الصورة المتخيلة،
ول أعتقد أن عاقل ً يرضى بأن يصف ربه بهذه الصفة.
الثاني :
إنه ورد في القرآن أنه )تعالى) " ( (2نور السموات والرض) " (3وأن كل عاقل
يعلم بالبديهية :أن إله العالم ليس هو هذا الشيء المنبسط على الجدران
والحيطان ،وليس هو هذا النور الفائض من جرم الشمس والقمر والنار ،فل بد
لكل واحد منا ،من أن يفسر قوله تعالى "الله نور السموات والرض) " (4بأنه
منور السموات والرض أو بأنه هاد لهل السموات والرض ،أو بأنه مصلح
السموات والرض .وكل ذلك تأويل .
الثالث :قال الله تعالى " :وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) " (5ومعلوم :أن الحديد
ما نزل جرمه من السماء إلى الرض .وقال " :وأنزل لكم من النعام ثمانية
أزواج) " (6ومعلوم :أن النعام ما نزلت من السماء إلى الرض .
الرابع :قوله تعالى " :وهو معكم أينما كنتم) " (7وقوله تعالى " :ونحن أقرب إليه
)(9
من حبل الوريد) " (8وقوله تعالى " :ما يكون من نجوى ثلثة إل هو رابعهم
"وكل عاقل يعلم :أن المراد منه :القرب بالعلم ،والقدرة اللهية .
الخامس :قوله تعالى " :واسجد واقترب) " (10فإن هذا القرب ليس إل بالطاعة
والعبودية ز فأما القرب بالجهة :فمعلوم بالضرورة :أنه ل يحصل بسبب السجود
.
" وقال تعالى " ونحن السادس :قوله تعالى " :فأينما تولوا ن فثم وجه الله
)(11
ى) " (15وهذهالتاسع :قال تعالى لموسى وهارون " :إنني معكما أسمع وأر ُ
المعية ليست إل بالحفظ والعلم والرحمة) . (16فهذه وأمثالها من المور التي ل
بد لكل عاقل من العتراف بحملها على التأويل )وبالله التوفيق)( (17
- 59 -
. )(18
أما الخبار :فهذا النوع فيه كثرةُ
فالول :قوله – عليه السلم – حكاية عن الله – )سبحانه) (19و( تعالى " :مرضت
فلم تعدني ،استطعمتك فما أطعمتني ،استسقيتك فما سقيتني " ول يشك
عاقل :أن المراد منه التمثيل فقط.
الثاني :قوله ) حكاية عن ربه) " ( (20من أتاني يمشي ،أتيته هرولة " ول يشك
عاقل في أن المراد منه :التمثيل والتصوير .
الثالث :نقل الشيخ الغزالي – رحمه الله – عن أحمد بن حنبل – رحمه الله – أنه
أقر بالتأويل في ثلثة أحاديث :
أحدها :قوله عليه السلم " :الحجر السود :يمين الله في الرض"
وثانيها :قوله عليه السلم " :إني لجد نفس الرحمن من جهة اليمين "
وجل ( " :أنا جليس من وثالثها :قوله عليه السلم )" :حكاية عن الله عز
)(21
ذكرني "
الرابع :حكى أن المعتزلة تمسكوا في خلق القرآن ،بما روي عنه عليه السلم
أنه تأتى سورة البقرة وآل عمران كذا وكذا )يوم القيامة) ( (22كأنهما غمامتان ز
فأجاب أحمد بن حنبل )رحمه الله) ( (23وقال " :يعني ثواب قارئيهما " وهذا
تصريح )منه) ( (24بالتأويل .
الخامس :قوله) (25عليه السلم " :إن الرحم يتعلق بحقوتي الرحمن ،فيقول
سبحانه وتعالى)" : (26أصل من وصلك" وهذا ل بد له من التأويل .
السادس :قال عليه السلم " :إن المسجد لينزوي من النخامة ،كما تنزوي
الجلدة من النار" ول بد فيه من التأويل .
السابع :قال عليه السلم " :قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن "
وهذا ل بد فيه من التأويل ،لنا نعلم بالضرورة :أنه ليس في صدورنا إصبعان
بينهما قلوبنا
الثامن :قوله عليه السلم – حكاية عن الله تعالى " : -أنا عند المنكسرة قلوبهم
" ليست هذه العندية إل بالرحمة .وأيضا ً :قال – حكاية عن الله تعالى في
صفة الولياء " : -فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ،وبصره الذي يبصر به "
- 60 -
ومن المعلوم بالضرورة :أن القوة الباصرة التي بها يرى الشياء ليست هي الله
)سبحانه) (27و( تعالى .
التاسع :قال عليه السلم – حكاية عن الله سبحانه وتعالى " : -الكبرياء ردائي ،
والعظمة إزاري" والعاقل ل يثبت لله تعالى إزارا ً ورداء .
العاشر :
قال عليه السلم لبي بن كعب " :يا أب المنذر .أية آية في كتاب الله تعالى
أعظم ؟ فتردد فيه مرتين .ثم قال في الثالثة :آية الكرسي .فضرب يده – عليه
السلم – على صدره ،وقال " :أصبت .والذي نفسي بيده .إن لها لسانا ً يقدس
الله تعالى عند العرش ،ول بد فيه من التأويل) . (28فثبت بكل ما ذكرنا :أن
المصير إلى التأويل :أمر ل بد منه لكل عاقل .وعند هذا قال المتكلمون :لما
ثبت بالدليل أنه سبحانه وتعالى منزه عن الجهة والجسمية ،وجب علينا أن نضع
لهذه اللفاظ الواردة في القرآن والخبار :محمل صحيحا ً ،لئل يصير ذلك سببا ً
للطعن فيها .
فهذا تمام القول في المقدمة )وبالله التوفيق)((29
الفصل الول
في
اثبــات الصــورة
اعلم :أن هذه اللفظة ما وردت في القرآن .لكنها واردة في الخبار :
الخبر الول :ما روي عن النبي ) أنه قال() « : (1أن الله تعالى ) (2خلق آدم
على صورته » ) (3وروى ابن خزيمة عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي
أنه قال « :ل يقولن أحدكم لعبده :قبح الله وجهك ،ووجه من أشبه وجهك
)فإن الله خلق آدم على صورته ( » .
والجواب ) (4اعلم :أن الهاء في قوله « على صورته » يحتمل أن يكون عائدا ً
إلى شيء غير صورة آدم عليه السلم .وغير الله تعالى ،ويحتمل أن يكون عائدا ً
إلى آدم ،ويحتمل أن يكون عائدا ً إلى الله تعالى .فهذه طرق ثلثة :
الطريق الول :أن يكون هذا الضمير عائدا ً إلى غير آدم ،وإلى غير الله تعالى .
وعلى هذا التقدير ففي تأويل الخبر وجهان :
الول :هو أن من قال لنسان :قبح الله وجهك ،ووجه من أشبه وجهك ،فهذا
يكون شتما ً لدم عليه السلم ،فإنه لما كانت صورة هذا النسان مشابهة لصورة
آدم ،كان قوله :قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك :شتما ً لدم عليه السلم
،ولجميع النبياء – عليم السلم – وذلك غير جائز ن فل جرم نهى النبي عن
ذلك .وإنما خص آدم بالذكر ،لنه عليه السلم هو الذي ابتدئت خلقه وجهه على
)(5
هذه الصورة
العتقاد ،كذبوا النص ،بل يعدمون الله إن لم يكن جسما ً ذا وجه ويد مثلهم في
الشكل والتخطيط .
لكنه أكبر وأبهى – بزعمهم – ومادته أيضا ً ليست بدم ولحم .هذه غاية ما رأوا أنه
يكون تنزيها ً في حق الله .أما ما ينبغي أن يقال في نفي الجسمانية ،واثبات
الوحدانية الحقيقية التي ل حقيقة لها إل بدفع الجسمانية ،فستعرف برهان ذلك
كله من هذه المقالة ،وإنما التنبيه هنا في هذا الفصل على تبيين معنى الصورة
والمثال .فأقول :إن الصورة المشهورة عند الجمهور التي هي شكل الشيء
وتخطيطه ،اسمها تخصيص بها في اللسان العـبراني « صفة » قال « :حسن
الهيئة ،جميل المنظر » )تك « (6 : 39ما هي هيئته » ؟ ) 1مل « ( 14 : 28
هيئة أبناء الملوك » )قض ( 18 : 8وقيل في الصورة الصناعية « :ويسويه
بالمنحت ويرسمه بالبركار » ) أش ( 13 : 44وهذه اسميه لم تقع على الله
قط – وحاشا وكل – أما الصورة .فهي تقع على الصورة الطبيعية – أعني على
المعنى الذي به تجوهر الشيء وصار ما هو ؟ وهو حقيقته من حيث هو ذلك
الموجود الذي ذلك المعنى في النسان هو الذي عنده يكون الدراك النساني .
ومن أجل هذا الدراك العقلي قيل فيه « :على صورة الله خلقه » )تك : 1
( 17ولذلك قيل « تحتقر خيالهم » ) مز ( 60 : 72لن الحتقار لحق للنفس
التي هي الصورة النوعية ،ل لشكال العضاء وتخطيطها .وكذلك أقول :إن
العلة في تسمية الصنام صورا ً :كون المطلوب منها :معناها المظنون به ،ل
شكلها وتخطيطها ،وكذلك أقول في مثال « :تماثيل بواسيركم » ) 1صم : 6
( 5لنه كان المراد منها :معنى دفع أذية البواسير ،ل شكل البواسير .فإن لم
يكن بد من أن تكون « صور بواسيركم » من أجل الشكل والتخطيط ،فتكون
الصورة اسما ً مشتركا ً ،أو مشككا ً ز يقال على الصورة النوعية ،وعلى الصورة
الصناعية ،وما ماثلها من أشكال الجسام الطبيعية وتخاطيطها .ويكون المراد
به في قوله « :نخلق آدم على صورتنا » :الصورة النوعية ،التي هي الدراك
العقلي ،ل الشكل والتخطيط – قد بينا لك الفرق بين الصورة والهيئة وبينا معنى
الصورة .
أما المثال :فهو اسم من مثل .وهو أيضا ً :شبه في المعنى .لن قوله « :
شابهت قوق البرية » ) مزمور ( 7 : 101ليس أنه شابه أجنحتها وريشها ،به
شابه حزنه حزنها .وكذلك كل شجرة في جنة الله ،لم يماثلها في بهجته ن شبه
في معنى الحسن )مثاله( « :لهم حمة مثل حمة الحية» ) مز « ( 5 : 57مثله
كالسد الذي يقوم إلى الفريسة » ) مز ( 12 : 16كلها شبه في المعنى ،ل في
الشكل والتخطيط .وكذلك قيل « :شبه العرش ك شبه عرش » )مز ( 27 : 1
شبه في معنى الرفعة والجللة ،ل في تربيعه وغلظه وطول رجليه – كما يظن
المساكين – وكذلك شبه الحيوانات .فلما خص النسان بمعنى فيه غريب جدا ً –
ليس في شيء من الموجودات من لدن فلك القمر – هو الدراك العقلي ،الذي
ل تتصرف فيه حاسة ول جارحة ول جانحة ،شبه بادراك الله الذي ليس هو بآلة .
وإن كان ل شبه في الحقيقة – لكن على بادي الرأي – وقيل في النسان :من
أجل هذا المعنى -أعني :من أجل العقل اللهي المتصل به -إنه على صورة الله
وشاكلته .لل أن الله -تعالى -جسم .فيكون ذا شكل " ) دللة الحائرين ج 1
ص . (28 -26
الثاني :إن لمراد منه ك إبطال قول من يقول :إن آدم كان على صورة أخرى .
مثل ما يقال ك إنه كان عظيم الجثة ن طويل القامة ن بحيث يكون رأسه قريبا ً
من السماء .فالنبي أشار إلى إنسان معين وقال « :إن الله خلق آدم على
صورته » أي كان شكل آدم مثل شكل هذا النسان ،من غير تفاوت البته .
- 63 -
فأبطل هذا البيان :وهم من توهم أن آدم – عليه السلم – كان على صورة
أخرى ،غير هذه الصورة .
الطريق الثاني :أن يكون الضمير عائدا ً على آدم – عليه السلم – وهذا أولى
الوجوه الثلثة .لنعود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب .وفي هذا الحديث :
أقرب الشياء المذكورة هو آدم عليه السلم .فكان عود الضمير إليه أولى .ثم
على هذا الطريق ففي تأويل الخبر وجوه :
الول :
إنه تعالى لما عظم أمر آدم ،بجعله مسجود الملئكة .ثم إنه أتى بتلك الزلة .
فالله تعالى لم يعاقبه بمثل ما عاقب به غيره ،فإنه نقل :أن الله تعالى أخرجه
من الجنة ،وأخرج معه الحية والطاووس ن وغير تعالى خلقهما مع أنه لم يغير
خلقة ) (6آدم عليه السلم ،بل تركه على الخلقة الولى إكراما ً له وصونا ً له من
عذاب المسخ .فقوله « إن الله تعالى خلق آدم على صورته » معناه خلق
آدم على )هذه الصورة() (7التي هي الن باقية من غيـر وقوع التبديل فيها .
والفرق بين هذا الجواب ،والذي قبله :أن المقصود من هذا :بيان أنــه
عليه السلم كان مصونا ً عن المسخ .والجواب الول ليس فيه ،إل بيان أن هذه
الصورة الموجودة ،ليست إل هي التي كانت موجودة من قبل ،من غير تعرض
لبيان أنه جعل مصونا ً عن المسخ ،بسبب زلته ،مع أن غيره صار ممسوخا ً .
الثاني :
المراد منه :إبطال قول الدهرية .الذين يقولون « إن النسان ل يتولد إل
بواسطة النطفة ،ودم الطمث » فقال عليه الصلة والسلم « إن الله خلق آدم
على صورته » ابتداء من غير تقدم نطفة وعلقة ومضغة .
الثالث :إن النسان ل يتكون إل في مدة طويلة ،وزمان مديد ،بواسطة الفلك
والعناصر .فقال عليه السلم « :إن الله خلق آدم على صورته » أي من غير
هذه الوسائط .والمقصود منه :الرد على الفلسفة .
الرابع :المقصود منه :بيان أن هذه الصورة النسانية إنما حصلت بتخليق الله
تعالى .وإيجاده .ل بتأثير القوة المصورة والمولدة .على ما تذكره الطباء
والفلسفة .ولهذا قال الله تعالى « :هو الله الخالق البارئ المصور) »(8فهو
"الخالق" أي فهو العالم بأحوال الممكنات والمحدثات ،و "البارئ" أي هو
المحدث للجسام والذوات بعد عدمها ،و "المصور" أي هو الذي يركب
تلكالذوات على صورها المخصوصة وتركيباتها المخصوصة .
الخامس :قد تذكر الصورة ويراد بها الصفة .يقال :شرحت له صورة هذه
الواقعة ،وذكرت له صورة هذه المسألة .والمراد من الصورة في كل هذه
المواضع :الصفة .فقوله عليه السلم « :إن الله خلق آدم على صورته » أي
على جملة صفاته وأحواله .وذلك لن النسان حين يحدث ،يكون في غاية
- 64 -
الجهل والعجز ،ثم ل يزال يزداد علمه وقدرته ،إلى أن يصل إلى حد الكمال .
فبين النبي أن آدم خلق من أول المر كامل ً
تاما ً في علمه وقدرته .وقوله « :إن الله خلق آدم على صورته » معناه :أنه
خلقه في أول المر على صفته ،التي كانت حاصلة له في آخر المر .
وأيضا ً :
ل يبعد أن يدخل في لفظة الصورة ،كونه سعيدا ً أو شقيًا .كما قال عليه
السلم « :السعيد من سعد في بطن أمه ،والشقي من شقي في بطن أمه »
فقوله عليه الصلة والسلم « إن الله خلق آدم على صورته » أي على جميع
صفاته من كونه سعيدا ً أو عارفا ً أو تائبا ً أو مقبول ً من عند الله تعالى .
الطريق الثالث :أن يكون ذلك الضمير عائدا ً إلى الله تعالى .وفيه وجوه :
الول :
المراد من الصورة :الصفة – كما بيناه – فيكون المعنى :أن آدم امتاز عن
سائر الشخاص والجسام بكونه عالما ً بالمعقولت ،قادرا ً على استنباط
الحرف والصناعات .وهذه صفات شريغة مناسبة لصفات الله تعالى من بعض
الوجوه .فصح قوله عليه السلم « :إن الله خلق آدم على صورته » بناء على
هذا التأويل .فإن قيل :المشاركة في فات الكمال تقتضي المشاركة في
اللهية .قلنا :المشاركة في بعض اللوازم البعيدة مع حصول المخالفة في
المور الكثيرة ،ل تقتضي المساواة في اللهية .ولهذا المعن ،قال تعالى « :
وله المثل العلى) » (9وقال عليه السلم «:تخلقوا بأخلق الله »
الثاني :إنه كما يصح إضافة الصفة إلى الموصوف ،فقد يصح إضافتها إلى
الخالق والموجد .فيكون الغرض من هذه الضافة :الدللة على أن هذه الصورة
ممتازة من سائر الصور بمزيد الكرامة والجللة.
الثالث :
قال الشيخ الغزالي – رحمه الله " : -ليس النسان) (10عبارة عن هذه البنية ،بل
هو موجود ليس بجسم ول بجسماني ن ول تعلق له بهذا البدن ،إل على سبيل
التدبير أو التصرف" فقوله عليه السلم « :إن الله خلق آدم على صورته » أي
أن نسبة ذات آدم عليه السلم إلى هذا البدن ،كنسبة الباري تعالى إلى العالم ،
من حيث أن كل واحد منهما ،غير حال في هذا الجسم ،وإن كان مؤثرا ً فيه
بالتصرف والتدبير ،والله أعلم .
الخبر الثاني :ما رواه ابن خزيمة في كتابه الذي سماه بـ "التوحيد" بإسناده عن
ابن عمر – رضي الله عنه – عن النبي أنه قال « :ل تقبحوا الوجه ،فإن الله
خلق آدم على صورة الرحمن »
- 65 -
واعلم :أن ابن خزيمة ضعف هذه الرواية ،ويقول :إن صحت هذه الرواية ،فلها
تأويلن :
الول :أن يكون المراد من الصورة :الصفة – على ما بيناه –
الثاني :أن يكون المراد من هذه الضافة :بيان شرف هذه الصورة كما في
قوله :بيت الله ،وناقة الله .
الخبر الثالث :
ما روى صاحب "شرح السنة" – رحمه الله – في كتابه ،في باب "آخر من يخرج
من النار" عن أبي هريرة )رضي الله عنه) ( (11في حديث طويل ،عن رسول الله
أنه قال « :فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون .فيقول ك أنا ربكم .
فيقولون :نعوذ بالله .هذا مكاننا ،حتى يأتينا ربنا ن فإن بيننا وبينه علمة .فإذا
أتانا ربنا
عرفناه .فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون .فيقولون :أنت ربنا ،فيتبعونه
»
واعلم :أن الكلم على هذا الحديث من وجهين :
الول :
أن تكون "في" بمعنى الباء .والتقدير :فيأتيهم الله بصورة غير الصورة التي
عرفوه بها في الدنيا و ذلك بأن يريهم ملكا ً من الملئكة .ونظيره :قول ابن
عباس رضي الله عنه في قوله تعالى « :هل تنظرون إل أن يأتيهم الله في ظل
من الغمام) » (12أي بظلل من الغمام .ثم إن تلك الصورة تقول :أنا ربكم .
وكأن ذلك آخر محنة تقع للمكلفين في دار الخرة .وتكون الفائدة فيه :تثبيت
المؤمنين على القول الصالح .وإنما يقال :الدنيا دار محنة ن والخرة دار
الجزاء :على العم والغلب ،وإن كان يقع في كل واحدة منهما ما يقع في
الخرى نادرا ً .
أما قوله عليه السلم « :إذا جاء ربنا عرفناه » فيحمل على أن يكون المراد :
فإذا جاء إحسان ربنا ،عرفناه .وقوله « :فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفونها
» فمعناه :يأتيهم بالصورة التي يعرفون أنها من أمارات الحسان.
وأما قوله عليه السلم « :فيقولون) : (13بيننا وبينه علمة» ،فيحتمل أن تكون
تلك العلمة :كونه تعالى في حقيقته مخالفا ً للجواهر والعراض .فإذا رأوا تلك
الحقيقة عرفوا أنه هو الله .
التأويل الثاني :أن يكون المراد من الصورة :الصفة .والمعنى :أن يظهر لهم
من بطش الله وشدة بأسه ،ما لم يألفوه ولم يعتادوه من معاملة
الله تعالى معهم .ثم تأتيهم بعد ذلك أنواع الرحمة والكرامة ،على الوجه الذي
اعتادوه وألفوه .
الخبر الرابع :
ما روي عنه عليه السلم أنه قال « :رأيت ربي في أحسن صورة » واعلم :أن
قوله )عليه السلم) « : ( (14في أحسن صورة » يحتمل أن يكون من صفات
الرائي .كما يقال :دخلت على المير على) (15أحسن هيئة .أي :وأنا كنت على
أحسن هيئة ،ويحتمل أن يكون ذلك من صفات المرئي .
فإن كان ذلك من صفات الرائي .كان قوله « :على أحسن صورة » عائدا ً إلى
)الرسول) ε ( (16وفيه وجهان :
: )(17
الول
أن يكون المراد من الصورة :نفس الصورة .فيكون المعنى :أن الله تعالى
زين خلقه وجمل صورته عندما رأى ربه .وذلك يكون سببا ً لمزيد الكرام في حق
الرسول عليه السلم .
الثاني :
أن يكون المراد من الصورة :الصفة ,ويكون المعنى :الخبار عن حسن حاله
عند الله ن وأنه أنعم عليه بوجوه عظيمة من النعام )كما كان ) ( (18وذلك لن
الرائي قد يكون بحيث يتلقاه المرئي بالكرام والتعظيم ،وقد يكون بخلفه .
فعرفنا الرسول عليه السلم أن ) حالته كانت ) ( (19من القسم الول.
الخبر الخامس :ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه ،عن النبي أنه قــال :
« رأيت ربي في أحسن صورة » قال « :فوضع يده بين كتفي ،فوجدت بردها
بين ثديي فعلمت ما بين السماء والرض ،ثم قال :يا محمد .قلت :لبيك
وسعديك .قال :فيم يختصم المل العلى؟ فقلت :يا رب ل )أدري .فقال)( (21
في أداء الكفارات ،والمشي على القدام إلى) (22الجماعات ،وإسباغ الوضوء
)على الكراهات) ( (23وانتظار الصلة بعد الصلة »
واعلم :أن قوله « :رأيت ربي في أحسن صورة » قد تقدم تأويله .
- 67 -
الول :المراد منه :المبالغة في الهتمام بحاله ،والعتناء بشأنه .يقال :لفلن
يد في هذه الصنعة ،أي هو كامل فيها.
الثاني :أن يكون المراد من اليد النعمة :يقال .لفلن يد بيضاء ،ويقال :إن
أيادي فلن كثيرة .
وأما قوله « :بين كتفي » فإن صح .فالمراد منه :أته أوصل إلى قلبه من أنواع
اللطف والرحمة .وقد روى « بين كتفي » والمراد )منه :مثل() (24ما يقال :
أنا في كنف فلن ،وفي ظل إنعامه .
الفصل الثاني
في
لفظ الشخص
هذا اللفظ ما ورد في القرآن .لكنه روي أن النبي قال « :ل شخص أحب
للغيرة من الله » )عز وجل) ( (1وفي هذا الخبر لفظان يجب تأويلهما :
الول :الشخص .والمراد منه :الذات المعينة والحقيقة المخصوصة .لن
الجسم الذي له شخص وحجمية ،يلزم أن يكون واحدا ً .فإطلق اسم الشخصية
على الحدة إطلق اسم أحد المتلزمين على الخر .
والثاني :لفظ الغيرة .ومعناه :الزجر .لن الغيرة حالة نفسانية مقتضية للزجر
والمنع .فكنى بالسبب عن المسبب ههنا )والله أعلم()(2
- 68 -
الفصـل الثالث
في
لفظ النفس
» أما القرآن :فقوله تعالى في حق موسى عليه السلم « واصطنعتك لنفسي
)(1
وقال حاكيا ً عن عيسى عليه السلم « تعلم ما في نفسي ،ول أعلم ما في
نفسك) »(2وقال في صفة أهل الثواب « :كتب ربكم على نفسه الرحمة)»(3
وقال في تخويف العصاة « ويحذركم الله نفسه)»(4
وأما الخبار .فكثيرة :
الخبر الول :ما روى أبو صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
أن قال « :يقول الله تعالى :أنا مع عبدي حين يذكرني .فإن ذكرني في نفسه
ذكرته في نفسي ،وإن ذكرني في مل ذكرته في مل خير منه »
الخبر الثاني :قوله عليه السلم « :سبحان الله وبحمده ،عدد خلقه ،ورضاء
نفسه ،وزنة عرشه »
الخبر الثالث :عن أبي هريرة عن النبي أنه قال « :لما قضى الله الخلق ،
كتب في كتابه على نفسه فهو عنده) : (5إن رحمتي سبقت غضبي »
ورابعها :العقل .قال تعالى « :وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار
») (8وذلك لن الحوال بأسرها باقية حالة النوم ،إل العقل .فإنه هو الذي يختلف
الحال فيه عند النوم واليقظة.
وخامسها :
ذات الشيء وعينه .قال الله تعالى « :وما يخدعون إل أنفسهم)-- » (9
«فاقتلــوا أنفسكم) « - » (10ولكن ظلموا أنفسهم) . » (11إذا عرفت هذا فنقول :
لفظ النفس في حق الله تعالى ،ليس إل الذات والحقيقة .فقوله « واصطنعتك
لنفسي) » (12كالتأكيد الدال على مزيد المبالغة .فإن النسان إذا قال :جعلت
هذه الدار لنفسي ،وعمرتها لنفسي ،فهم منه المبالغة .وقوله تعالى « تعلم ما
في نفسي ،ول أعلم ما في نفسك ) » (13المراد :تعلم معلومي ،ول أعلم
معلومك .وكذا القول في بقية اليات .
وأما قوله عليه السلم – حكاية عن رب العزة « -فإن ذكرني في نفسه ،ذكرته
في نفسي » فالمراد :أنه إن يذكرني بحيث ل يطلع غيره على ذلك
،ذكرته بإنعامي وإحساني ،من غير أن يطاع عليه أحد من عبيدي .لن الذكر
في النفس ،عبارة عن الكلم الخفي ،والذكر الكامن في النفس .وذلك على
الله تعالى محال .
وأما قوله « :سبحان الله ،زنة ز عرشه ن ورضاء نفسه » فالمراد :ما يرتضيه
الله تعالى لنفسه ولذاته .أي تسبيحا ً يليق به .وأما قوله « : كتب كتابا ً على
نفسه » فالمراد به :كتب كتابا ً وأوجب العمل به .والمراد من قوله « على
نفسه » :التأكيد والمبالغة في الوجوب واللزوم .فثبت :أن المراد بالنفس في
هذه المواضع :هو الذات .وأن الغرض من ذكر هذا اللفظ :المبالغة والتأكيد .
وبالله التوفيق .
الفصـل الرابـع
في
لفظ الصمد
قال الله تعالى « :الله .الصمد » ذكر بعضهم في تفسير الصمد :أنه الجسم
الذي ل جوف له .ومنه قول من يقول لسداد القارورة :الصماد .وشيء مصمد
أي صلب ،ليس فيه رخاوة .قال بن قتيبه « :وعلى هذا التفسير تكون) (1الدال
- 70 -
واحتج قوم من جهال المشبهة بهذه الية في إثبات أنه تعالى جسم .وهذا
باطل .لنا بينا :أنه كونه أحدا ً ،ينافي كونه جسما ً ،فمقدمة هذه الية دالة على
أنه ل يمكن أن يكون المراد من الصمد :هذا المعنى ،ولن الصمد بهذا
التفسير ،صفة الجسام الغليظة .وتعاى الله عن ذلك.
والجواب عنه من وجهين :
الول :إن الصمد فعل بمعنى مفعول ،من صمد إليه أي قصد .والمعنى :أنه
المصمود إليه في الحوائج .قال الشاعر :
بن مسعود .وبالسيد الصمد )(3
بعمرو أل بكر الناعى بخيري بن أسد
وقال آخر
علوته بحسامي ،ثم قلت له :
خذها حذيف ،فأنت الصيد الصمد
والذي يدل على صحة هذا الوجة :ما روى بن عباس _ رضي الله عنه – أنه لما
نزلت هذه )الية() (4قالوا :ما الصمد ؟ فقال عليه الصلة والسلم « :السيد
الذي يصمد إليه في الحوائج » قال أبو الليث صمدت صمد هذا المر ،أي
قصدت قصده.
الوجه الثاني في الجواب :إنا سلمنا أن الصمد في أصل اللغة :المصمت الذي ل
يدخل فيه شيء غيره .إل أنا نقول :قد دللنا على أنه ل يمكن ثبوت هذا المعنى
في حق الله تعالى ،فوجب حمل هذا اللفظ على مجازه .وذلك لن الجسم الذي
يكون هذا شأنه ،يكون مبرأ عن النفصال والتباين والتأثر عن الغير .وهو –
سبحانه وتعالى _ واجب الوجود لذاته .وذلك يقتضي أن يكون تعالى غير قابل
للزيادة والنقصان .فكان المراد من الصمد في حقه نعالى :هذا المعنى )وبالله
التوفيق)( (5
الفصـل الخامس
في
لفظ اللقــاء
- 71 -
أما القرآن :فقد قال الله تعالى « :الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم) » (1وقال :
« فمن كان يرجو لقاء) (2ربه » وقال « بل هم بلقاء ربهم كافرون) (3الدال مبدلة
بالتاء » وأما الحديث فقد قال عليه السلم « :من أحب لقاء الله ،أحب الله
لقاءه ،ومن كره لقاء الله ،كره الله لقاءه » قالوا :واللقاء من صفات
الجسام ،يقال :التقى الجيشان .إذا قرب أحدهما من الخر في المكان.
واعلم :أنه لما ثبت بالدليل أنه تعالى ليس بجسم ،وجب حمل هذا اللفظ على
أحد وجهين :
أحدهما :أن من لقي إنسانا ً ،فقد) (4أدركه وأبصره ،فكان المراد من اللقاء :
هو الرؤية .إطلقا ً ل سم السبب على المسبب .
والثاني :أن الرجل إذا حضر عند ملك ،ولقيه ،دخل هناك تحت حكمه وقهره ،
دخول ً ل حيلة في دفعه .فكان ذلك اللقاء سببا ً لظهور قدرة الملك عليه – على
هذا الوجه – فلما ظهرت قدرته وقوته وقهره
وشدة بأسه في ذلك اليوم ،عبر عن تلك الحالة باللقاء .والذي يدل على صحة
قولنا :أن أحدا ً ل يقول بأن الخلئق تتلقى ذواتهم في ذات الله تعالى على
سبيل المماسة .ولما بطل حمل اللقاء على المماسة والمجاورة ،لم يبقى إل ما
)(5
ذكرناه )وبالله التوفيق(
الفصـل السادس
في
لفظ النـور
قال الله تعالى « :الله نور السموات والرض .مثل نوره :كمشكاة ») (1وروى
ابن خزيمة في كتابه عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه :أن النبي
كان يقول في دعائه « :اللهم لك الحمد ز أنت نور السموات والرض ،ومن
فيهن .فلك الحمد .أنت قيوم السموات والرض ومن فيهن »
واعلم :أنه ل يصح القول بأنه تعالى هو هذا النور المحسوس بالبصر .ويدل عليه
وجوه :الول :إنه تعالى لم يق إنه نور ،بل قال :إنه « نور السموات والرض
» ولو كان نورا ً في ذاته ،لم يكن لهذه الضافة فائدة .الثاني :لو كان كونه
تعالى نور السموات والرض ،بمعنى الضوء المحسوس ،لوجوب أن ل يكون
في شيء من السموات والرض ،ظلمة البتة .لنه تعالى دائم ل يزال ول
يزول .الثالث :لو كان تعالى نورا ً بمعنى الضوء ،لوجب أن يكون هذا الضوء
- 72 -
مغنيا ً عن ضوء الشمس والقمر والنار .والحس دال على خلف )ذلك() (2الرابع :
إنه تعالى أزال هذه الشبهة ،بقوله تعالى « :مثل نوره » فقد أضاف النور إلى
نفسه ،ولو كان تعالى نفس النور وذاته ،لمتنعت هذه الضافة .لن إضافة
)(3
الشيء إلى نفسه ممتنعة .وكذلك قوله تعالى « :يهدي الله لنوره من يشاء»
الخامس :إنه تعالى قال « :وجعل الظلمات والنور ») (4فتبين بهذا :أنه تعالى
خالق النوار .
السادس :إن النور يزول بالظلمة .ولو كان تعالى عين هذا النور المحسوس
لكان قابل ً للعدم .وذلك يقدح في كونه قديما ً واجب الوجود .السابع :إن
الجسام كلها متماثلة – على ما سبق تقريره .ثم إنها بعد تساويها في الماهية ،
تراها مختلفة في النور والظلمة ،فوجب أن يكون الضوء عرضا ً قائما ً بالجسام
والعرض يمتنع أن يكون إلها ً .
فثبت بهذه الوجوه :أنه ل يمكن حمل النور على ما ذكروه .بل معناه :منور
السموات والرض على الوجه الحسن ،والتدبير الكمل .كما يقال :فلن نور
هذه البلدة .إذا كان سببا ً لصلحها .وقد قرأ بعضهم « لله نور السموات والرض
)(5
» ) وبالله التوفيق(
__________
) (5من خ
الفصل السابع
في
الحجاب
ــــ
» قالوا :والحجاب ل يعقل إل )(1
قال تعالى « :إنهم عند ربهم يومئذ لمحجوبون
في الجسام .
الخبر الول :ما روى صاحب شرح السنة – رحمه الله – في باب « الرد على
الجهمية » .قال :قام فينا رسول الله بخمس كلمات ،فقال « :إن الله
تعالى ل ينام ،ول ينبغي أن ينام ،ولكنه يخفض القسط ،ويرفعه ،يرفع إليه
عمل الليل قبل النهار ،وعمل النهار قبا الليل ،حجابه من) (2نور ،لو كشفه
لحرقت سبحات وجهه ،ما انتهى إليه بصره من خلقه » فقال المصنف :هذا
حديث أقر به الشيخان .وقوله « يخفض القسط ويرفعه » أراد :أنه يراعي
العدل في أعمال عباده .كما قال )تعالى() « : (3وما ننزله إل بقدر معلوم»
- 73 -
( الخبر الثاني :ما يروى في الكتب المشهورة عن النبي « : أن لله )تعالى
)(4
سبعين حجابا من نور ،لو كشفها لحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره ً »
الخبر الثالث :روي في تفسير قوله تعالى « :للذين أحسنوا :
» .إنه تعالى يرفع الحجاب ،فينظرون إلى وجهه تعالى . )(5
الحسنى ،وزيادة
واعلم :أن الكلم في الية هو :أن أصحابنا – رحمهم الله – قالوا :إنه يجوز أن
يقال :إنه تعالى محتجب عن الخلق ن ول يجوز أن يقال :إنه محجوب عنهم .
لن لفظة الحتجاب مشعرة بالقوة والقدرة ،والحجاب) (6مشعر بالعجز
والذلة .يقال :احتجب السلطان عن عبيده .ويقال فلن حجب عن الدخول على
السلطان :وحقيقة الحجاب بالنسبة إلى الله تعالى :محال .لنه عبارة عن
الجسم المتوسط بين جسمين آخرين .بل هو محمول عندنا :على أن ل يخلق
الله تعالى في العين رؤية متعلقة به وعند من ينكر الرؤية على أنه تعالى يمنع
وصول آثار إحسانه وفضله من إنسان .
وأما الخبر الول :وهو قوله عليه السلم « :حجابه :النور » فاعلم :أن كل
شيء يفرض مؤثرا ً في شيء آخر .فكل كمال يحصل للثر ،فهو مستفاد من
المؤثر .ول شك أن ثبوت ذلك الكمال لذلك المؤثر ،أولى من ثبوته في ذلك
الثر ،وأقوى وأكمل .ول شك أن معطي الكمالت بأسرها هو الحق تعالى )فكان
كل) ( (7كمالت الممكنات بالنسبة إلى كمال الله تعالى كالعدم .ول شك أن
جملة الممكنات ليست إل عالم الجسام وعالم الرواح .ولشك أن جملة
كمالت عالم العناصر بالنسبة إلى كمال العناصر كالعدم .ثم الشخص المعين
بالنسبة إلى كمالت الربع المسكون كالعدم .
فيظهر من هذا :أن كمال النسان المعين بالنسبة إلى كما الله نعالى :أولى بأن
يقال :إنه كالعدم .ول شك أن روح النسان وحده .ل تطيق قبول ذلك الكمال .
ول يمكنه مطالعته .بل الرواح البشرية تضمحل في أدنى مرتبه من مراتب تلك
الكمالت .فهذا هو المراد بقوله عليه السلم « :لو كشفها لحرقت سبحات
وجهه كل شيء ،أدركه بصره »
ــــــ
الفصـل الثامن
- 74 -
في
القرب
ـــ
قال الله تعالى « :ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) » (1وقال عليه السلم
)حكاية عن الله() « (2من تقرب إلى شبرا ً تقربت إليه ذراعا ً ،ومن تقرب إلي
ذراعا ً ،تقربت إليه باعا ً ،ومن أتاني يمشي ،أتيته هرولة » وروى الستاذ ابن
فورك – رحمه الله – في كتاب « المتشابهات » عن ابن عمر – رضي الله عنهما
– عن رسول الله أنه قال « :يدنو المؤمن من ربه )يوم القيامه() (3حتى يضع
الجبار كنفه عليه ،فيقر بذنوبه ،فيقول :أعرف – ثلث مرات – فيقول تعالى :
إني سترتها عليك في الدنيا ،وإني أغفرها لك .فيعطى صحيفة حسناته .وأما
الكفار والمنافقين ،فينادى بهم على رؤوس الشهاد :هؤلء الذين كذبوا على
ربهم)» (4
واعلم أن المراد من قربه ومن دنوه :قرب رحمته ودنوها من العبد .وأما قوله :
« فيضع الجبار كنفه عليه » فهو أيضا ً مستفاد من قرب الرحمة .يقال :أنا في
كنف فلن ،أي في إنعامه ،وأما ما رواه بعضهم « فيضع الجبار كتفه » فاتفقوا
على أنه تصحيف ،والرواه ضبطوها بالنون ثم إن صحت تلك الرواية فهي
)(5
محمولة على التقريب والغفران )والله أعلم (
ــــــ
الفصـل التاسع
في
المجيء والنزول
ـــــ
)(1
احتجوا بقوله تعالى « :هل ينظرون إل أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام »
وبقوله تعال « :أو يأتي ربك ») (2وبقوله « :وجاء ربك ») ، (3واحتجوا بالخبار ،
فمنها :ما رواه صاحب شرح السنة – رحمه الله – في باب "إحياء آخر الليل
وفضله" )عن أبى هريرة وأبي سعد الخدري رضي الله عنهما()(4
عن النبي) ε (5أنه قال « :ما اجتمع قوم يذكرون الله ،إل حفتهم الملئكة ،
وغشيتهم الرحمة ،وتنزلت عليهم السكينة ،وذكرهم الله فيمن عنده » ثم قال :
إن الله تعالى بمهل حتى إذا كان ثلث الليل الخير ،ينزل إلى هذه السماء الدنيا
- 75 -
ثم قال :هذا حديث متفق على صحته ،وروى أيضا ً عن أبي هريرة عن رسول
الله : الحديث المذكور ،وزاد فيه « :ثم يبسط يديه )تبارك() (8وتعالى
)فيقول() : (9من يقرض غير عديم ول ظلوم ؟ » وروى صاحب هذا الكتاب في
باب "ليلة النصف من شعبان" عن عروة عن عائشة – رضي الله عنهما – قالت :
فقدت رسول الله ليلة ،فخرجت فإذا هو بالبقيع .فقال « :أكنت تخافين أن
يحيف الله ورسوله ؟ فقلت :يا رسول الله ظننت أنك أتيت بعض نسائك .
فقال :إن الله ينزل ليلة النصف من شعبان ،فيغفر لكثر من عدد شعر غنم
)بني( كلب » والبخاري ضعف هذا الحديث .
واعلم :أن الكلم في قوله « :هل ينظرون إل أن يأتيهم الله في ظل من
الغمام » من نوعين): (10
الول :أن نبين بالدلئل القاهرة أنه سبحانه وتعالى منزه عن )المجيء والذهاب(
)(11
سبحانه ك خ )(8
) (10وجهين :ص ) (9فيقول :من ط
) (12سبحانه و :خ ) (11الذهاب والمجيء ك خ
والثاني :إن كل ما يصح عليه النتقال والمجيء ،من مكان إلى مكان ،فهو
محدود متناه فيكون مختصا ً بمقدار معين ،مع أنه كان يجوز في العقل وقوعه
على مقدار أزيد منه أو أنقص منه ،وحينئذ يكون اختصاصه بذلك المقدار ،لجل
تخصيص خصص ،وترجيح مرجح ،وذلك على الله القديم محال.
- 76 -
والثالث :وهو أنا لو جوزنا ،فيما يصح عليه المجيء والذهاب ،أن يكون إلها ً
قديما ً أزليا ً ،فحينئذ ل يمكننا أن نحكم بنفي إلهية الشمس والقمر .خصص ،
وترجيح مرجح ،وذلك على الله القديم محال.
الرابع :إنه تعالى حكى عن الخليل عليه السلم :أنه طعن في إلهية الكواكب
والقمر والشمس ،بقوله « ل أحب الفلين ») (13ول معنى للفول إل الغيبة
والحضور .فمن جوز الغيبة والحضور على الله تعالى ،فقد طعن في دليل
الخليل )وكذب الله في تصديق الخليل() (14في ذلك .حيث قال « :وتلك حجتنا
آتيناها إبراهيم على قومه »
وأما النوع الثاني )وهو( في بيان التأويلت المذكورة في هذه الية :فنقول :فيه
وجوه): (15
الول :
المراد :هل ينظرون إل أن تأتيهم آيات الله .فجعل ميء آيات الله مجيئا ً له .
على التفخيم لشأن اليات .كما يقال :جاء الملك .إذا جاء جيش عظيم من
جهته .والذي يدل على صحة هذا التأويل :أنه تعالى قال في الية المتقدمة « :
فإن ذللتم من بعد ما جاءتكم البينات ،فاعلموا :أن الله عزيز حكيم ») (16فذكر
ذلك في معرض الزجر والتهديد .ثم إنه تعالى أكد
ذلك بقوله « :هل ينظرون ،إل أن يأتيهم الله » ومن المعلوم :أن بتقدير أن
يصح المجيء والذهاب على الله تعالى ،لم يكن مجرد حضوره سببا ً للزجر
والتهديد ن لنه عند الحضور كما يزجر قوما ً ويعاقبهم ،قد يثيب قوما ً ويكرمهم .
فثبت أن مجرد الحضور ،ل يكون سببا ً للزجر والتهديد والوعيد .ولما كان
المقصود من الية ،إنما هو التهديد ،وجب أن يضمر في الية مجيء الهيبة
والقهر والتهديد .ومتى أضمرنا ذلك ،زالت الشبهة بالكلية .وهذا تأويل حسن
موافق لنظم الية .
الوجه الثاني :أن يكون المراد :هل ينظرون ،إل أن يأتيهم أمر الله ز ومدار
الكلم في هذا الباب :أنه تعالى إذا أضاف فعل ً إلى شيء .فإن كان ظاهر تلك
الضافة ممتنعا ً .فالواجب صرف ذلك الظاهر إلى التأويل .كما قال العلماء في
قوله تعالى « :إن الذين يحادون الله ») (17والمراد :يحادون أولياءه
وقد قال الله تعالى « :واسأل القرية) » (18والمراد :أهل القرية .فكذا قوله تعال
«:يأتيهم الله) » (19أي يأتيهم أمر الله .وليس فيه إل حذف المضاف إليه
مقامه ،وذلك مجاز مشهور .يقال :ضرب المير فلنا ً ،وأعطاه .والمراد :أنه
أمر بذلك .
والذي يؤكد صحة هذا التأويل وجهان :
الول :إن قوله تعالى « :يأتيهم الله » وقوله « :وجاء ربك) » (20إخبار عن حال
القيامة .ثم إن الله تعالى ذكر هذه الواقعة بعينها في سورة النحل
فقال « :هل ينظرون إل أن تأتيهم الملئكة أو يأتي أمر ربك) » (21فصار هذا
مفسرا ً لذلك التشابه ن لن كل هذه اليات لما وردت في واقعة واحدة ،لم يبعد
حمل بعضها على البعض .
والثاني :إنه تعالى قال بعد هذه الية « :وقضي المر) » (22ول شك أن اللف
واللم للمعهود السابق .وهذا يستدعي أن يكون قد جرى ذكره من قبل ذلك
حتى تكون اللف واللم إشارة إليه .وما ذلك إل الذي أضمرناه من أن قوله « :
يأتيهم الله » أي يأتيهم ) (23أمر الله .
فإن قيل :أمر الله – عندكم -صفة قديمة .فالتيان عليها :محال .قلنا :المر
في اللغة له معنيان :أحدهما :الفعل .والثاني :الطريق .قال تعالى « :وما
أمرنا إل واحدة كلمح البصر) » (24وقال « :وما أمر فرعون برشيد) » (25فيشمل
المر في هذه الية على الفعل وهو ما يليق بتلك المواقف من الهوال ،وإظهار
اليات المهيبة ،وهذا هو التأويل )الول() (26الذي ذكرناه .
وأما إن حملنا المر ،على المر الذي هو ضد النهي .ففيه وجهان :
الول :
أن يكون التقدير هو أن مناديا ً ينادي يوم القيامة :أل إن الله يأمركم بكذا وكذا ،
فيكون إتيان المر :هو وصول ذلك النداء ،إليهم .وقوله « :في ظلل الغمام »
أي مع ظلل .والتقدير :أن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل :يكون) (27في
زمان واحد .
الثاني :أن يمون المراد من إتيان أمر الله تعالى في ظلل :حصول
أصوات متقطعة مخصوصة في تلك الغمامات ،دالة على حكم الله تعالى على
كل واحد ،مما يليق به من السعادة والشقاوة .أو يكون المراد :أنه تعالى خلق
نقوشا ً منظومة في ظلل من الغمام ،وتكون النقوش جلية ظاهرة ،لجل شدة
بياض ذلك الغمام ،وسواد تلك الكتابة .وهي دالة على أحوال أهل الموقف في
الوعد والوعيد وغيرهما .وتكون فائدة الظل من الغمام :أنه تعالى جعلها أمارة
لما يريد إنزاله بالقوم فيعلمون :أن المر قد قرب وحضر .
الوجه الثالث في التأويل :أن يكون المعنى :هل ينظرون إل أن يأتيهم الله بما
وعد من العذاب والحساب ؟ فحذف ما يأتي )به() (28تعويل ً على الفهم .إذ لو
ذكر ذلك العذاب الذي يأتيهم به ،لكان ذلك أسهل عليهم في باب الوعيد .
- 78 -
وأما إذا لم يذكره كان أبلغ في التهويل ،لنه حينئذ تنقسم خواطرهم ،وتذهب
أفكارهم في كل وجه .ومثله قوله تعالى « :فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ،
)(29
وقذف في قلوبهم الرعب ،يخربون بيوتهم بأيديهم ،وأيدي المؤمنين »
والمعنى :وأتاهم الله بخذلنه من حيث لم يحتسبوا .وكذا قوله تعالى « :فأتى
الله بنيانهم من القواعد ») (30ويقال في الكلم المتعارف المشهور ،إذا سمع
بولية رجل :جاءنا فلن بجوره وظلمه .ول شك أنه مجاز مشهور .
الوجه الرابع في التأويل :أن تكون « في » بمعنى الباء – وحروف الجر يقام
بعضها مقام البعض – وتقديره :هل ينظرون أن
يأتيهم الله بظلل من الغمام والملئكة .والمراد :أنه يأتيهم الله بالغمام مع
الملئكة .
الوجه الخامس - :وهو أقوى من كل ما سبق – إنا ذكرنا في « التفسير الكبير »
أن قوله تعالى « :يا أيها الذين آمنوا .ادخلوا في السلم كافة ») (31إنما نزل في
حق اليهود .وعلى هذا التقدير يكون قوله تعالى « :فإن زللتم من بعد ما
جاءتكم البينات ») (32خطابا ً مع اليهود .فيكون قوله « :هل ينظرون إل أن يأتيهم
الله في ظلل من الغمام ؟ » ) (33حكاية عنهم .والمعنى :أنهم ل يقبلون دينكم ،
إل لنهم ينتظرون أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام .ومما يدل على أن المراد
ذلك :أنهم فعلوا ذلك مع موسى عليه السلم ن فقالوا « :لن نؤمن لك ،حتى
نرى الله جهرة » ) (34وإذا ثبت أن هذه الية حكاية عن حال اليهود واعتقادهم ،
لم يمتنع إجراء الية على ظاهرها .وذلك لن اليهود كانوا على دين التشبيه .
وكانوا يجوزون المجيء والذهاب على الله تعالى ،وكانوا يقولون :إنه تعالى
تجلى لموسى عليه السلم على الطور في ظلل من الغمام ،فظنوا مثل ذلك
في زمان محمد عليه السلم .ومعلوم :أن مذهبهم ليس بحجة .
وبالجملة :فإنه يدل على أن قوما ً ينتظرون أن يأتيهم الله .وليس في الية دللة
على أن أولئــك القوام محقون أو مبطلون .وعلى هذا التقدير زال الشكال .
)(35
وهذا هو الجواب المعتمد عن تمسكهم بالية المذكورة في سورة النعام
فإن قيل :هذا التأويل كيف يتعلق بهذه الية ،لنه قال في آخرها « :وإلى الله
ترجع المور » ) (36؟ قلنا :إنه تعالى حكى عنادهم وتوقيفهم قبول الدين الحق ،
على الشرط الفاسد .ثم ذكر بعده ما يجري مجرى التهديد لهم ،فقال « :وإلى
الله ترجع المور»
وأما قوله تعالى « :وجاء ربك ،والملك صفا ً صفا ً » ) (37فالكلم فيه أيضا ً على
وجهين :
- 79 -
الول :أن تحمل هذه الية على باب حذف المضاف .وعلى هذا الوجه ،ففي
الية وجوه :
الول :أن يكون المراد من هذه الية :التمسك بظهور آيات الله تعالى ،وسر
آثار قدرته وقهره وسلطانه .والمقصود :ثمثيل تلك الحالة بحال الملك إذا
)
حضر ،فإنه يظهر بمجرد حضوره من آثار الهيبة والسياسة ،ما ل يظهر بحضور
(38عساكره كلها .
الثاني :إن الرب هو المربي .فلعل ملكا ً عظيما ً هو أعظم الملئكة ،كان مربيا ً
للنبي ، وكان هو المراد من قوله « :وجاء ربك ،والملك صفا ً صفا ً » .
)
وأما الحديث المشتمل على النزول إلى السماء الدنيا .فالكلم عليه من نوعين
: (39
أن النزول قد يستعمل في غير النتقال .وتقريره الول :بيان )النزول .وهو(
)(40
الثاني :إنه )إن() (45كان المقصود من النزول من العرش إلى السماء الدنيا ،أن
يسمع نداؤه ،فهذا المقصود ما حصل .وإن كان المقصود مجرد النداء ،سواء
سمعناه أو لم نسمعه ،فهذا مما ل حاجة فيه إلى النزول من العرش
إلى السماء الدنيا ن بل كان يمكنه أن ينادينا وهو على العرش .ومثله .أن يريد
من المشرق ) (46إسماع من في المغرب ومناداته ،فيتقدم إلى جهة المغرب ،
ٌبأقدام معدودة .ثم يناديه ،وهو يعلم أنه ل يسمعه البتة .فههنا تكون تلك
الخطوات عمل ً باطل ً ،وعبثا ً فاسدا ً .فيكون كفعل المجانين فعلمنا ك أن ذلك
غير لئق بحكمة الله تعالى .
الثالث :إن القوم رأوا أن كل سماء في مقابلة السماء التي فوقها )تكون(
)(47
الرابع :أنه قد دللنا على أن العالم كرة .وإذا كان كذلك ،وجب القطع بأنه أبدا ً
يكون الحاصل في أحد نصفي الرض هو الليل ،وفي النصف الخر هو النهار .
فإذا وجب نزوله إلى السماء الدنيا في الليل – وقد دللنا على أن الليل حاصل
أبدا ً – فهذا يقتضي أن يبقى في السماء الدنيا ن إل أنه يستدير على ظهر الفلك
بحسب استدارة الفلك ،وبحسب انتقال الليل ،
من جانب من الرض إلى جانب آخر .ولوجاز أن يكون الشيء المستدير مع
الفلك أبدا ً :إلها ً للعالم .فلم ل يجوز أن يكون إله العالم هو الفلك ؟ ومعلوم أن
ذلك ل يقوله عاقل .
النوع الثاني من الكلم في هذا الحديث :بناؤه على التأويل) (50على سبيل
التفصيل ،وهو أن يحمل هذا النزول على نزول رحمته إلى الرض .في ذلك
الوقت .والسبب في تخصيص ذلك الوقت بهذا الفعل وجوه :
الول :إن التوبة التي يؤتى بها في قلب الليل :الظاهر أنها تكون خاليـة من
شوائب الدنيـا ،لن الغيار ل يطلعون عليها فتكون أقرب إلى القبول .
الثاني :إن الغالب على النسان في قلب الليل الكسل والنوم والبطالة ،فلول
الجد العظيم في طلب الدين ،والرغبة الشديدة في تحققه ،لما تحمل مشاق
السهر ،ولما أعرض عن اللذات الجسمانية ،ومتى كان الجد والرغبة والخلص ،
أتم وأكمل ،كان الثواب أوفر .
- 81 -
الوجه الرابع :إن جمعا ً من أشراف الملئكة ينزلون في ذلك الوقت بأمر الله
تعالى كما يقال :بنى المير دارا ً ،وضرب دينارا ً .وممن ذهب إلى هذا التأويل :
من يروي الخبر بضم مياء تحقيقا ً لهذا المعنى .
واعلم :أن تمام التقرير في تأويل هذا الخبر :أن من نزل من الملوك عند
إنسان لصلح شأنه ،والهتمام بأمره فإنه يكرمه جدا ً .بل يكون نزوله عنده
مبالغة في إكرامه) (54ولما كان النزول موجبا ً للكرام ،أو موجبا ً له ،أطلق اسم
النزول على الكرام .وهذا أيضا ً هو المراد بقوله تعالى « :وجاء ربك ،والملك ،
صفا ً صفا ً » ) (55وذلك أن الملك إذا جاء وحضر لفصل الخصومات ،عظم وقعه
)(56
واشتدت هيبته ) .والله أعلم(
الفصل العاشـر
في
الخروج والبروز والتجلي والظهور
ــــــ
قال عليه السلم « :سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر .ل تضامون في
رؤيته » وفي رواية « ل تضارون » والتأويل :أن المقصود :تشبيه الرؤية
بالرؤية ،ل تشبيه المرئي بالمرئي .ومعنى قوله « ل تضامون » :أي ل ينضم
بعضكم إلى بعض ن كما تتضمون في رؤية الهلل رأس الشهر ،بل رؤية جهرة
من غير تكلفة لطلبه ن كما ترون البدر .وقوله « :ل تضارون » أي ل يلحقكم
ضرر في طلب رؤيته .بل ترونه من غير تكلف الطلب .وما روى « تضامون »
مخففا ً فالمراد منه :الضيم .أي ل يلحقكم فيه ضيم .
وقال أيضا ً عليه السلم « :إن الله يبرز كل يوم جمعة لهل الجنة على كثيب من
كافور ،فيكون في القرب على تبكيرهم إلى الجمعة .أل فسارعوا إلى الخيرات
» واعلم :أنه قيل :إن هذا الخبر ضعيف .وإن صح .فالتأويل )فيه) : ( (1أن أهل
- 82 -
الجنة يرون على مقادير أوقات الدنيا فيما سبق من أعمالهم الحسنة .وأما
بروزه لهل الجنة – وبذلك يتخيل لهم – فهو أن يخلق لهم رؤية متعلقة ن وهم
على كثيب من كافور .وأما قربه منهم فمعناه :القرب بالرحمة .كما قال « :
من تقرب إلي شبرا ً تقربت إليه ذراعا ً » ويقال للفاسق :إنه بعيد من الله .وأيضا ً
ما روى
أنه عليه السلم قال« :ما منكم من أحد إل سيخلو به ربه يوم القيامه .ويكلمه ،
وليس بينه وبينه ترجمان » فنقول .وجه التأويل ليه )أن) ( (2من أراد أن يتوجه
إليه منهم ،فإنه يخلو به .فهبر به عنه .وأيضا ً ك لما كان قادرا ً ،أراد) (3أن يسمع
كل واحد ،أنه ل يتكلم مع غيره )والله أعلم(). (4
----------------
وأما الخبر :فما روى أبو هريرة – رضي الله عنه – أنه قال « :لما خلق
)الله) ( (4آدم ونفخ فيه من روحه ،عطس آدم ،وشكر الله .فقال له ربه :
يرحمك ربك » ثم قال « :هذه تحيتك وتحية ذريتك » والتأويل :أن نقول :أما
لضافة الروح إلى نفسه ،فهو إضافة التشريف .وأما النفخ )فإنه عبر)( (5
بالسبب عن المسبب .وهذا ما يجب المصير إليه ،لمتناع أن يكون تعالى قابل ً
للتجزيء والتبعيض .
-------------
قالوا) : (1فإنه تعالى عاب هذه الصنام ،وطعن في كونها آلهة ،بناء على عدم
هذه العضاء لها .فلو لم تكن هذه العضاء حاصلة لله تعالى ،لتوجه الطعن
هناك .وذلك باطل .والجواب عنه .أن يقال :المقصود من هذه اليدي :شيء
آخر ،سوى ما ذكرتم .وبيانه :هو أن الكفار الذين كانوا يعبدون الصنام كانت
لهم أرجل يمشون بها ،وأيد يبطشون بها ،وأعين يبصرون بها ،وآذان يسمعون
بها .ولن المقصود من الرجل واليد والعين والذن :هو هذه القوى المتحركة
والمدركة .ولن هذه العضاء كانت حاصلة لكم) ، (2وغير حاصلة لها .كنتم
)(3
أشرف وأعلى منها .يليق بالعقل أقدامكم على عبادتها ؟ )وبالله التوفيق(
ـــــ
) (1الية 135من سورة العراف
) (2وكانت هذه العضاء حاصلة ك ص
) (3سقط ك خ
الله» . تريدون وجه الله) » (10وثامنتها ك قوله تعالى « :إنما نطعمكم لوجه
)(11
)(12
« :إل ابتغاء وجه ربه العلى»
وأما الخبار فكثيرة :
الول :
ما روى ابن) (13خزيمة عن جابر .قال لما نزل قوله تعالى « :قل :هو القادر
على أن يبعث عليكم عذابا ً من فوقكم» ) (14قال النبي « : εأعوذ بوجهك » ،ثم
قال « :أو من تحت أرجلكم» )قال عليه السلم " :أعوذ) (15بوجهك (" ثم
قال « :أو يلبسكم شيعا ً ،ويذيق بعضكم بأس بعض » قال عليه السلم :هاتان
أهون وأيسر» .الثاني :روى عمار ابن ياسر ،عن النبي εأنه قال « :اللهم
بعلمك الغيب والشهادة ،وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خير لي ،
وتوفني إذا كانت الوفاة خير لي .اللهم أسألك خشيتك في الغيب والشهادة ،
وكلمة الحق والعدل في الغضب والرضى ،وأسألك الرضا) (16في الفقر
والغنـاء ،وأسألك نعيـما ً ل يتبدل ،وأسألك قرة عين ل تنقطع ،وأسألك الرضاء
بعد القضاء ،وأسألك برد العيش بعد الموت ،وأسألك لذة النظر إلى وجهك ،
وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ول فتنة مضلة .اللهم زينا بزينة
اليمان ،واجعلنا هداة مهتدين» الثالث :قال عليه السلم :من صام يوما ً في
سبيل الله ،ابتغاء وجه الله ز باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا» الرابع :
عن ابن عباس عن النبي εأنه قال « :من استعاذكم بالله فأعيذوه ،ومن
سألكم بوجه الله فعظموه» الخامس :عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن
النبي εأنه قال « :مثل المجاهد في سبيل الله ،ابتغاء وجه الله ،مثل القائم
المصلي حتى يرجع من جهاده » السادس :قال عبد الله :قسم رسول الله ε
فقال رجل :إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله .فأتيت
النبي εفذكرت ذلك له ،فاحمر وجهه حتى وددت أني لم أخبره .فقال « :رحم
الله موسى) (17قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» السابع :عن حذيفة عن النبي ε
- 85 -
أنه قال « :إن المسلم إذا دخل في صلته ،أقبل الله إليه بوجهه ،ول ينصرف
عنه حتى ينصرف عنه ،أو يحدث حدثا ً » الثامن :عن الحارث الشقري أن النبي
εقال « :إن الله تعالى )أوحى() (18إلى يحيى بن زكريا .أن يقول لبني
إسرائيل :إذا قمنم إلى الصلة فل تلتفتوا ،فإن الله يقبل بوجهه إلى عبده »
التاسع :الحديث المشهور وهو أنه عليه السلم قال في قوله تعــالى « :للذين
أحسنوا الحسنى وزيادة») (19قال « :هي النظر إلى وجه الله » وقال أيضا ً « :
جنتان من فضة .أبنيتهما )وما فيهما() (20وجنتان من ذهب )أبنيتهما() (21وما فيهما
وما بين القدم) (22وبين أن ينظروا إلى وجه ربهم في جنة عدن إل رداء الكبرياء
على وجهه » العاشر :عت عبد الله بن مسعود )رضي الله عنه() (23عن النبي ε
عليه وسلم )أنه قال( « :المرأة عورة .فإذا خرجت يستبشر بها الشيطان .
وأقرب ما تكون من وجه ربها .إذا كانت في قعر بيتها »
واعلم :أنه ل يمكن أن يكون الوجه المذكور في هذه اليات ،وهذه الخبار :هو
الوجه .بمعنى العضو والجارحة ويدل عليه وجوه :الول :قوله تعالى « :كل
شيء هالك إل وجهه ») (24وذلك لنه لو كان الوجه هو العضو المخصوص ،لزم
أن يفنى جميع الجسد والبدن ،وأن تفنى العين التي على الوجه ،وأن ل يبقى إل
مجرد الوجه .وقد التزم بعض حمقى المشبهة :ذلك .وهو جهل عظيم .
الثاني :إن قوله تعالى « :ويبقى وجه ربك ذو الجلل والكرام ») (25ظاهرة :
يقتضي وصـف الوجه بالجلل والكرام .ومعلوم :أن الموصوف بالجلل والكرام
:هو الله تعالى .وذلك يقتضي أن يكون الوجه ،كناية عن الذات .
الثالث :قوله تعالى « :فأينما تولوا فثم وجه الله) » (26وليس المراد من الوجه
ههنا :هو العضو المخصوص ،فإنا ندرك بالحس :ـن العضو المسمى بالوجه ،
غير موجود في )جميع) ( (27جوانب العالم .وأيضا ً :فلو حصل ذلك العضو في
جميع الجوانب ،لزم حصول الجسم الواحد دفعة واحدة ،في أمكنة كثيرة ،
وذلك ل يقوله عاقل .
الرابع :
إن قوله تعالى « :يريدون وجهه ») (28وقوله « :إل ابتغاء وجه ربه العلى)» (29
ل يمكن حمل شيء منهما على الظاهر .لن وجهه تعالى – على مذهبهم – قديم
أزلي ،والقديم الزلي ل يراد .لن الشيء الذي يراد :معناه أنه يراد حصوله
ودخوله في الوجود .وذلك في القديم الزلي :محال :وأيضا ً :فهؤلء كانوا
يعبدون الله تعالى ،وما كانوا يريدون وجه الله .كيف كان ؟ لنه لو كان غضبانا ً
عليهم فهم ل يريدونه .وإنما يريدون منه كونه راضيا ً عنهم ،وذلك يدل على أنه
ليس المراد من الوجه في هذه اليات :نفس الجارحة المخصوصة ،بل المراد
منه شيء آخر وهو كونه راضيا ً عنهم
الخامس :
الخبر الذي رويناه .وهو قوله عليه السلم « :أقرب ما تكون المرأة من وجه
ربها ،إذا كانت في قعر بيتها » ومعلوم :إنه لو كان المراد من الوجه :العضو
المخصوص ،لم يختلف الحال في القرب والبعد .بسبب أن تكون في بيتها أو لم
تكن .أما إذا حملنا الوجه على الرضاء ،استقام ذلك .فثبت بهذه الدلئل :أنه ل
يمكن أن يكون الوجه المذكور في هذه اليات والخبار بمعنى العضو والجارحة .
إذا عرفت هذا ،فنقول :لفظ الوجه قد يجعل كناية عن الذات تارة ،وعن
الرضى أخرى .
وجوه : أما الول فنقول :السبب في وجوب جعل الوجه كناية عن الذات
)(30
الول :إن المرئي من النسان في أكثر الوقات ليس إل وجهه ،وبوجهه يتميز
ذلك النسان ،عن غيره ،فالوجه كأنه العضو الذي به يتحقق وجود ذلك
النسان ،وبه يعرف كونه موجودا ً ز ولما كان المر كذلك ن ل جرم حسن جعل
الوجه اسما ً لكل الذات .ومما يقوي ذلك :أن القوم إذا كان معهم إنسان يرتب
أحوالهم .ويقوم بإصلح أمورهم ،سمى وجه القوم ،و وجيههم .والسبب فيه ما
ذكرنا .
الثاني :إن المقصود من النسان ظهور آثار عقله وحسه وفهمه وفكره .ومعلوم
:أن معدن هذه الحوال هو الرأس ،ومظهر آثار هذه القوى هو الوجه .ولما كان
معظم المقصود من خلق النسان إنما يظهر في الوجه ،ل جرم حسن إطلق
اسم الوجه على كل الذات .
الثالث :إن الوجه مخصوص بمزيد الحسن واللطافة ،والتركيب
وأما بيان السبب في جواز جعل لفظ الوجه كناية عن الرضى :فهو أن النسان
إذا مال قلبه إلى الشيء أقبل بوجهه عليه ز وإذا كره شيئا ً أعرض بوجهه )عنه(
)
(31فلما كان إقبال النسان بوجهه عليه ن لوازم كونه مائل ً إليه ،ل جرم حسن
جعل لفظ الوجه كناية عن الرضى .إذا عرفت هذه المقدمة ،فنقول :أما قوله
)(33
تعالى « :كل شيء هالك إل وجهه ») (32وقوله « :ويبقى وجهه ربك »
فالمراد منه :الذات .والمقصود من ذكره :التأكيد والمبالغة .فإنه يقال :وجه
هذا المر :كذا وكذا ،ووجه هذا الدليل :هو كذا وكذا ن والمراد منه :هو نفس
ذلك الشيء ،ونفس ذلك الدليل .فكذا هذا .
وأما قوله تعالى « :فثم وجه الله») « - (34إنما نطعمكم لوجه الله ») « - (35إل
ابتغاء وجه ربه العلى » فالمراد من الكل :رضى الله تعالى .وهكذا القول في
)(36
تلك الحاديث ) وبالله التوفيق(
- 87 -
ـــــــ
أما القرآن :فقوله تعالى لنوح عليه السلم « :واصنع الفلك بأعيننا»
)(1
ولموسى عليـه السلم « :ولتصنع على عيني») (2ولمحمد ُ «ُ : εواصبر لحكم ربك
)(3
فإنك بأعيننا»
وأما الخبار :فروى صاحب شرح السنة – رحمه الله – في باب "ذكر الدجال"
عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال :قام رسول الله εفي الناس فأثنى
على الله بما هو أهله ،ثم ذكر الدجال ،فقال «ُ :إني لنذركموه .وما من نبي إل
أنذر قومه .لقد أنذر نوح قومه ،ولكني سأقول فيه قول ً لم يقله نبي لقومه :إنه
أعور ،وإن الله ليس بأعور ») (4ثم قال صاحب الكتاب " :هذا حديث صحيح
أخرجه البخاري في كتابه" وروى أيضا ً عن ابن عباس )رضي الله عنه() (5أنه ذكر
الدجال عند النبي ُ εفقال « :إن الله ل يخفى عليكم ،إنه ليس بأعور» -وأشار
بيده إلى عينيه « -إن المسيح الدجال أعور عينه) (6اليمنى .كأن عينه عنبة طافية
» ثم قال " :هذا حديث اتفق الشيخان على صحته ،ومما يدل
أيضا ً على إثبات العين لله تعالى :ما روي في الدعوات « :احفظنا بعينك التي ل
تنام» وأيضا ً يقال في العرق :عين الله عليك .
ل يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه : )(7
واعلم :أن )النصوص من القرآن(
الول :إن ظاهر قوله تعالى « :ولتصنع على عيني») (8يقتضي أن يكون موسى
-عليه السلم – مستقرا ً على تلك العين ن ملتصقا ً بها .مستعليا ً عليها .وذلك ل
يقوله عاقل .
- 88 -
قثبت :أنه ل بد من المصير إلى التأويل ،وذلك هو أن تحمل هذه اللفاظ على
شدة العناية والحراسة .والوجه في حسن هذا المجاز :أن من عظمت عنايته
بشيء ،وميله إليه .ورغبته فيه ،كان كثير النظر إليه .فجعل لفظ العين – التي
هي آلة لذلك النظر – كناية عن شدة العناية .
وأما هذا الخبر الذي رويته .فمشكل ،لن ظاهره يقتضي أن النبي ُُ εأظهر
الفرق بين الله تعالى ،وبين الدجال .بكون الدجال أعور ،وكون الله تعالى
ليس بأعور ز وذلك بعيد .وخبر الواحد إذا بلغ هذه الدرجة في ضعف المعنى ،
وجب أن يعتقد أن الكلم كان مسبوقا ً بمقدمة ،لو ذكرت ،لزال هذا الشكال .
أليس راوي هذا الحديث هو ابن عمر ؟
ومن المشهور أن ابن عمر )رضي الله عنهما() (11لما روى قوله ُُ « εإن الميت
ليعذب ببكاء أهله» طعنت عائشة – رضي الله عنها – فيه .وذكرت أن هذا
الكلم من الرسول كان مسبوقا ً بكلم آخر – واحتجت على ذلك بقوله تعالى « :
ول تزر وازرة وزر أخرى») - (12لو حكى لزال هذا الشكال ،فكذا ههنا .إنه من
البعد صدور مثل هذا الكلم عن الرسول )صلى الله عليه وسلم() (13الذي
)(14
اصطفاه الله تعالى لرسالته ،وأمره ببيان شريعته )وبالله التوفيق(
ـــــــ
المكاره ،فلما وجدها من قبل اليمن فقد حصل المقصود .فالمقرون بالمكروه ،
مكروه )والمقرون بالمحبوب() (2محبوب .فلما وجد النبي ُُ εالنصرة من قبل
اليمن ،فقد وجد النفس من المكروهات من ذلك الجانب ،فل جرم صدق قوله :
« إني لجد نفس الرحمن من جانب اليمن» ولهذا قال النبي ُُ « : εاليمان يمان
والحكمة يمانية » وهذا هو المراد من قوله :إن اليح من نفس الرحمن .أي هي
)(4
مما جعل الله فيها )من() (3التفريج والتنفيس )وبالله التوفيق(
يده ،فيقول :أل عبد يسألني فأعطيه .ول يزال) (6كذلك حتى يطلع الفجر »
الرابع ك روى أبو هريرة عن النبي εأنه قال « :إن الصدقة تقع في يد
الرحمن ،قبل أن تقع في يد الفقير » السادس :ما تواتر النقل عن النبي εأنه
كان يقول « :والذي نفسي بيده » السابع :قوله عليه السلم « :إن الله خمر
طينة آدم بيده أربعين صباحا ً » والحاديث في هذا الباب كثيرة .
واعلم :أن لفظ اليد حقيقة في هذه الجارحة المخصوصة ،إل أنه يستعمل على
سبيل المجاز ،في أمور غيرها ك فالول :إنه يستعمل لفظ اليد في القدرة يقال
:يد السلطان فوق يد الرعية .أي :قدرته غالبة على قدرتهم .والسبب في
- 90 -
حسن هذا المجاز :أن كمال حال هذا العضو ،إنما يظهر بالصفة المسماة
بالقدرة .ولما كان المقصود من اليد حصول القدرة ،أطلق اسم القدرة على
اليد .وقد يقال :هذه البلدة في يد المير ،وإن كان المير مقطوع اليد .ويقال :
فلن في يده المر والنهي ،والحل والعقد .والمراد :ما ذكرناه :والثاني ك إن
اليد قد يراد بها النعمة ،وإنما حسن هذا المجاز ،لن آلة إعطاء النعمة اليد
.فإطلق اسم اليد على النعمة ،إطلق لسم السبب على المسبب .الثالث :إنه
قد يذكر لفظ اليد صلة للكلم على سبيل التأكيد .كقولهم :يداك أو كتا .ويقرب
منه :قوله تعالى « :فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) »(7وقوله « :بين يدي
رحمته) »(8فإن النجوى من الرحمة .ول يكون لها هذان العضوان المسميان
باليدين .
إذا عرفت هذه المقدمة .فنقول :أما قوله تعالى « :يد الله فوق أيديهم)»(9
فالمعنى :إن قدرة الله تعالى غالبة على قدرة الخلق .وأما قوله :تعالى حكاية
عن اليهود – أنهم قالوا « :يد الله مغلولة») – (10فاليد ههنا بمعنى النعمة .
والدليل عليه :أن اليهود إما أن يقال :إنهم مقرون بإثبات الخالق ،أو يقال :
بأنهم منكرون له .فإن أقروا به ،امتنع أن نقول :إن خالق العالم جعل مغلول ً
مقيدًا) . (11فإن ذلك ل يقوله عاقل .وإن أنكروه لم يكن للقول بكونه مغلول ً
فائدة .فثبت :أن المراد :أنهم كانوا يعتقدون أن نعم الله تعالى محبوسة عن
الخلق ،ممنوعة عنهم ،فصارت هذه الية من أقوى الدلئل على أن لفظة اليد
قد يراد بها النعمة .وأما قوله تعالى « :بل يداه مبسوطتان») (12فالمراد منه
أيضا ً :النعمة .ويدل عليه وجهان :
الول :أن هذا ورد في معرض الجواب عن قول اليهود « :يد الله مغلولة» ،
ولما بينا بالدليل أن قولهم « :يد الله مغلولة» ليس معناه الغل والحبس ،بل
معناه :احتباس نعم الله تعالى عنهم ،وجب أن يكون قوله « :بل يداه
مبسوطتان» عبارة عن كثرة نعم الله تعالى وشمولها للخلق ،حتى يكون
الجواب مطابقا ً للسؤال .
الثاني :إن قوله « :بل يداه مبسوطتان» لو حملناه على ظاهره ،لزم كون يديه
مبسوطين ،مثل يد صاحب التشنيج) – (13تعالى الله عنه – فثبت :أن المراد
منه :إفاضة النعم .
فنقول :للعلماء فيه وأما قوله تعالى «:ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي »
)(14
قولن :
القول الول :إن اليدين صفتان قائمتان بذات الله تعالى يحصل بهما التخلق
على وجه التكريم والصطفاء ،كما في حق آدم عليه السلم .
- 91 -
واحتج القائلون بهذا الوجه .بوجوه :الول :إن قوله تعالى « :ما منعك أن
تسجد لما خلقت بيدي » مشعر بأنه تعالى إنما جعل آدم مسجود للملئكة ،لنه
تعالى خلقه بيديه .فلو كانت اليد عبارة عن القدرة ،لكانت علة المسجودية ،
حاصلة في كل المخلوقات ،فوجب هذا الحكم في الكل .وحيث لم يحصل ،
علمنا أن اليد صفة سوى القدرة .والثاني :إن قدرة الله تعالى واحدة ،واليد
موصوفة بالثنية .والثالث :إن قوله )تعالى() « : (15لما خلقت بيدي » يدل على
كونه مخصوصـا ً بأنه مخلوق .والتخصيص بالذكر يدل على نفي الحكم عما
عداه .فوجب في كل من سوى آدم عليه السلم ،أن ل يكونوا مخلوقين باليدين
ن ول يشك في أنهم مخلوقين بالقدرة .وذلك يقتضي أن تكون اليد شيئا ً سوى
القدرة .
القول الثاني :إن اليد ههنا هي القدرة .ويدل عليه وجوه :الول :إن القدرة
عبارة عن الصفة التي يكون الموصوف بها متمكنا ً من اليجاد والتكوين .ونقل
الشيء من العدم إلى الوجود .ولما كان المسمى باليد كذلك ،كان ذلك المعنى
نفس القدرة .والثاني :إن قدرة الله تعالى صفة قديمة ،واجبة الوجود ،فيجب
تعلقها بكل ما يصح أن يكون مقدورا ً .وإل لزم افتقارها في ذلك الختصاص إلى
)(16
المخصص .لكن المخصص
للمقدورية هو المكان وهذا يقتضي أن يكون كل ممكن مقدورا ً لله تعالى .ول
شك أن وجود آدم – عليه السلم – من الممكنات ،فيكون وجود آدم من جملة
متعلقات قدرة الله – تعالى – فلو فرضنا صفة) (17أخرى مستقلة بإيجاد هذا
الممكن .لزم أن يجتمع على الثر الواحد مؤثران مستقلن .وذلك محال .
الثالث :إن إثبات صفة سوى القدرة مؤثرة في وجود آدم ،مما ل دليل على
ثبوتها .فلم يجز إثباتها .لنعقاد الجماع على أن إثبات صفة من صفات الله
تعالى ،من غير دليل ،ل يجوز.
***
والجواب عن القول) (18الول :أما ما تمسكوا به أول :فهو أنه لو كان تخليق آدم
باليدين يوجب مزيد الصطفاء ،لكان تخليق البهائم والنعام باليدي ،يوجب
رجحانها على آدم ،في هذه الصطفاء لقوله تعالى في صفة تخليقها « :مما
عملت أيدينا أنعاما ً فهم لها مالكون») (19ثم نقول :لم ل يجوز أن يكون معنى
قوله تعالى « :خلقت بيدي» :هو بيان لكثرة عناية الله تعالى في إيجاده
وتكوينه .فإن النسان إذا أراد المبالغة في إصلح بعض المهمات ،وفي تكميله ،
فقد يقول :هذا الشيء أعمله بيدي .ومن المعلوم أن التخليق بغير هذا النوع
من العناية ،ما كان حاصل ً في حق غير آدم عليه السلم .
والجواب عما تمسكوا به ثانيا ً :إن التثنية ل تدل على حصول العدد ،بدليل :
)(21
قوله تعالى « :فقدموا بين يدي نجواكم صدقة») . (20وله « :يدي رحمته»
والجواب عما تمسكوا به ثالثا ً :إن التخصيص بالذكر هنا ،
لم يدل على نفي حكمه فيما عداه للناس )لكنا() (22بينا :أن التخليق باليدين :
عبارة عن التخليق المخصوص بمزيد الكرامات والتشريفات) (23وهذا المجموع ما
كان حاصل ً في )حق() (24غير آدم – عليه السلم –
وأما الحاديث .فتقول ك أما قوله ُ « : εخلق آدم بيده ،وكتب التوراة بيده » ،
فذلك حق يدل على أن المراد :التخصيص بمزيد من الكرامات) (25وكذا قوله :
« كتب بيده على نفسه أن رحمتي سبقت غضبي » وأما قوله « : εإن الله يفتح
أبواب السماء في ثلث الليل الباقي فيبسط يده » فالمراد :إفاضة النعمة ،
وإيصال الرحمة والمغفرة إلى المحتاجين ،وأما قوله « : εالصدقة تقع في يد
الرحمن » فالمراد منه :شدة العناية بقبول تلك الصدقات ،وتكثير الثواب
عليها .وكذا المراد بقوله )عليه السلم() « : (26والذي نفسي بيده » فالمراد
باليد هنا .القدرة .
والذي يدل على أن هذه اللفاظ يجب تأويلها :أن قوله ُ « : εالصدقة تقع في يد
)
(27الرحمن » ليس المراد منه اليد بمعنى العضو والجارحة .ويدل عليه وجوه :
الول :إنا نشاهد أن تلك الصدقة ما وقعت إل في يد الفقير .فالقول بأنها وقعت
في يد أخرى ،هي عضو مركب من الجزاء والبعاض ،مع أنا ل نراها ول نحس
بها ،تشكيك في الضروريات .
الثاني :هذا يقتضي أن تكون يد الله ظرفا ً لصدقات العباد .وذلك على خلف
ظاهر قوله تعال «:بل يداه مبسوطتان »
الثالث :إن ذلك يقتضي أن تكون يد المعطي فوق يد المعبود ،حتى يمكنه أن
يوقع الصدقة في يد الرحمن .وذلك مناقض لظاهر قوله تعالى ُ « :يد الله فوق
أيديهم »
الرابع :إن ذلك يقتضي أن يكون هو على العرش ،ويده على الرض .وذلك ل
)(28
يقوله عاقل .فثبت :أنه ل بد في هذه الظواهر من التأويلت )وبالله التوفيق(
ــــــــ
) (28سقط خ
اثبات القبضـة
ـــــ
هذه اللفظة قد وردت) (1في الخبار والقرآن.
)(2
أما القرآن .فقوله تعالى « :الرض جميعا ً قبضته يوم القيامة»
وأما الخبار .فكثيرة :الخبر الول ) :ما() (3روى )بن() (4خزيمة في كتابه الذي
سماه بـ "التوحيد" ن عن أبي موسى الشعري )رضي الله عنه() (5عن النبي ε
)أنه() (6قال « :إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الرض ،فجاء بنو
آدم على قدر الرض ،فجاء منهم الحمر والسود ،والسهل والجبل ،والخبيث
والطيب » الخبر الثاني ) :ما() (7روى )بن() (8خزيمة في كتابه عن أنس بن مالك
)رضي الله عنه() (9عن النبي ُ εأن الله قبض) (10قبضة وقال « :إلى الجنة
برحمتي» وقبض قبضة وقال « :إلى النار ول أبالي » والخبر الثالث :عن أبي
سعيد الخدري – رضي اللع عنه – عن النبي ُ εفي القبضتين « :هذه في الجن ة
ول أبالي ،وهذه في النار ول أبالي » واعلم :أن ظاهر الية يقتضي أن تكون
الرض قبضته .وذلك محال .لن الرض محتوية على النجاسات .فكيف يقول
)(11
القائل :إنها قبضة إله العالم ؟ ولن )القرآن مملوء من أن الرض مخلوقة (
وقبضة الخالق ل تكون مخلوقة .ولن الرض تقبل الجتماع والفتراق
؟» وقوله أما القرآن :فقوله تعالى « :ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي
)(1
عرفت :أنه ل يمكن حمل لفظ اليد في حق الله تعالى على الجارحة .وتدل
ههنا وجوه أخرى :
فالول :إن ظاهر الحديث يدل على أن كلتا يديه يمين .واليدين بمعنى
الجارحة ،إذا كانت كلتاهما يمينا ً ،كان ذلك في غاية القبح ،وتشويه الخلقة –
تعالى الله عن ذلك علوا ً كبيرا ً –
والثاني :أن إحدي اليدين إذا كانت غير وافية بالعمل ،كانت ناقصة )وجل إلهنا
عنه ،وإن كانت وافية بالعمل كانت ناقصة() (8وذلك يوجب نقصانا ً في الصورة .
والثالث :إن ظاهر الخبر الذي رويناه ن يدل على أنه كان يلعب مع آدم )عليه
السلم() (9كما يلعب الصبيان بعضهم مع بعض حين ) (10يقبضون أيديهم على
الزوج والفرد .والصبيان إذا فعلوا ذلك ضربهم المعام وأدبهم .فكيف ينسب ذلك
)
إلى رب العالمين ،وأحكم الحاكمين ؟ فثبت :أنه يجب حمل ذلك على المبالغة
(11في الحفظ والحراسة ،وشدة العناية )وبالله التوفيق(
الرابع :روى ابن خزيمة في كتابه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال « :
أن أحدكم يتصدق بالتمرة من )كسب) ( (8طيب – ول يقبل الله إل طيبا ً – فيجعلها
في يده اليمين ،ثم يربيها كما يربي أحدكم فلوه وفصيله ،حتى يصير مثل أحد»
واعلم :أن اليمين عبارة عن القوة والقدرة .والدليل عليه :أنه سمى الجانب
اليمن ،باليمين ،لنه أقوى الجانبين ،وسمى الحلف ،باليمين ،لنه يقوي عزم
النسان على الفعل أو الترك قال الشاعر :
إذا ما رأيه رفعت لمجد
تلقاها عرابـة باليمين
إذا عرفت هذا )فنقول) : ( (9ظهر الوجه في قوله تعالى « :والسموات مطويات
بيمينه» أما قوله تعالى « :لخذنا منه باليمين» فالمراد منه .يمين المأخوذ )أي
ثم أخذنا بيمين() (10ذلك النسان وهو كما يقال :أخذت بيمين الصبي ،وذهبت به
إلى المكتب .وإن كان المراد يمين الخذ فالمراد منه :القوة والقدرة وإذا
عرفت ذلك في الية .فاعرف مثله في الخبار .
------------------
الفصل العشرون
في
- 96 -
الكـف
هذا اللفظ غير وارد في القرآن .لكنه مذكور في الخبر .روى ابن خزيمة في
كتابه الذي سماه بـ "التوحيد" عن أبي هريرة )رضي الله عنه) ( (1عن النبي صلى
الله عليه وسلم) (2أنه قال « :من تصدق بصدقة من كسب طيب – ول يقبل الله
إل طيبا ً ،ول يصعد إلى السماء إل الطيب – تقع في كف الرحمن فيربيه كما
يربي أحدكم فصيلة ،حتى أن التمرة لتعود مثل الجبل العظيم » وروى هذا
الحديث برواية أخرى عن أبي هريرة .وفيه « :إن الرجل ليتصدق باللقمة .
فتربو في يد الله تعالى» أو قال « :في كف الله تعالى ،حتى يكون مثل الجبل
)(3
.فتصدقوا»
واعلم :أن هذا يدل على أن أبا هريرة كان مترددا ً في أنه سمع لفظ اليد أو لفظ
الكف ؟ ويمكن أن يقال :سمعهما معا ً في مجلسين مختلفين .وروى ابن خزيمة
في آخر هذا الباب ن عن أبي الحباب) . (4أنه سمع أبا هريرة يذكر هذا الحديث
موقوفا ً .فثبت بطريق الضعف :هذا الحديث .وبتقدير الصحة :فهو كناية عن
زيادة الهتمام بذلك الفعل ،وقوة العناية به – كما تقدم مثله سائر اللفاظ –
)(5
)وبالله التوفيق(
) (2وسلم :خ وآله :ط ) (1من خ
) (3هذا الحديث مروي بروايات مختلفة ،ذكرها ابن خزيمة في التوحيد واثبات
صفات الرب ص 62-60
) (4ابن حبان ،ط ،أبي الحباب :خ وهو سعيد بن يسار ) ص 63التوحيد(
) (5سقط خ
)قال الداعي إلى الله المصنف رضي الله عنه() : (2إذا صح هذا الحديث فمحمول
على كمال القدرة .ونظيره :قوله تعالى « :إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين
)
»(3
ـــــــــ
) (2قال المصنف رحمه الله تعالى : ) (1آخر حديث :ط
ح
) (3الذاريات 58
في
الصبـع
ــــ
هذه اللفظة غير مذكورة في القرآن .لكنها مذكورة في الخبار :
فالخبر الول :روى القشيري عن مسلم بن الحجاج عن أنس بن مالك – رضي
الله عنه – قال كان النبي (ε (1يكثر أن يقول « :يا مقلب القلوب ثبت قلبي على
دينك» قالوا :يا رسول الله )آمنا بك وبما جئت به .فهل تخاف علينا ؟)( (2
فقال « :القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها )كيف شاء)»( (3
الخبر الثاني ) :ما() (4روى صاحب شرح السنة في باب قوله تعالى « :ونقلب
أفئدتهم وأبصارهم) »(5أن النبي (ε (6قال « :ما من قلب إل وهو بين إصبعين من
أصابع رب العالمين )إذا شاء أن يقيمه أقامه ،وإذا شاء يزيغه أزاغه () (7قال
وكان )النبي() ε (8يقول " :يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك" – "والميزان
بين يدي الرحمن يرفع أقواما ً ،ويضع آخرين إلى يوم القيامة" »
والخبر الثالث :روى ابن خزيمة في كتابه عن علقمة عن عبد الله بن مسعود –
رضي الله عنه – قال :أتى النبي εرجل من أهل الكتاب .فقال :يا أبا القاسم ،
أبلغك أن الله )تعالى() (9يحمل الخلئق على إصبع والسموات )علىإصبع)( (10
و)الرضين على إصبع ،والشجر على إصبع) ( (11والثرى على إصبع ؟ قال :
فضحك النبي εحتى بدت نواجذه .فأنزل الله تعالى « :وما قدروا الله حق
قدره) »(12إلى آخر الية .ثم ذكر ابن خزيمة هذا الحديث برواية أخرى عن عبجد
الله )بإسناد حسن) ( (13وقال :فضحك )النبي) ε (14تعجبا ً وتصديقا ً له .
واعلم :أنه ليس المراد من الصبع :العضو الجسماني ،ويدل عليه وجوه :
الول :إنه يلزم أن يكون لله تعالى بحسب كل قلب :إصبعان ،أو يلزم أن يكون
)
لله إصبعان )فقط) ( (15وهما حاصلن في بطن كل إنسان ،حتى يكون ) الجسم
( (16الواحد حاصل ً في أمكنة كثيرة .وذلك كله سخيف وباطل .
الثاني :إنه يلزم ـن يكون إصبعاه في أجوافنا .مع أنه تعالى على العرش _ عند
المجسمة – وذلك أيضا ً محال .
وحاجة .وذلك على الله تعالى محال .والتأويل الصحيح فيه :إن الشيء الذي
يأخذه النسان بأصابعه يكون مقدور قدرته .ومحل تصرفه على وجه السهولة ،
من غير ممانعة أصل ً .ولما كانت الصبع سببا ً لهذه المكنة والقدرة ،جعل لفظ
الصبع كناية عن تلك القدرة الكاملة .
إذا عرفت هذه المقدمة .فنقول :أما الحديث الول ففيه سر لطيف وذلك لن
المتصرف في البدن ،هو القلب .والقلب ل ينفك عن الفعل وعن الترك .والفعل
)(17
موقوف على حصول الدواعي إلى الفعل ،والترك موقوف على )عدم(
حصول تلك الدواعي .ول خروج عن هاتين الحالتين ،لن الخروج عن طرفي
النقيض محال .ثم إن حصول الداعي إلى الفعل من الله تعالى ،ول حصول له
من العبد .وإل لفتقر العبد في تحصيل ذلك الداعي إلى داع آخر ز ويلزم
التسلسل وهو محال .فثبت أن القلب واقع بين هاتين الحالتين .فإن حصل فيه
ما يدعوه إلى الفعل .أقدم) (18على الفعل .وإن لم يحصل فيه ذلك .بقى على
الترك .فحصول هاتين الحالتين في قلوب المؤمنين للفعل والترك ،كالصبعين
المؤثرين في تقليب الشياء .وتقليب القلب بسبب هاتين الداعيتين ن يشبه
تقليب الشيء المأخوذ بالصبعين من حال إلى حال .وكم أن النسان يتصرف
في الشيء المأخوذ بإصبعه بتلك الصابع ،فالحق سبحانه )وتعالى() (19يتصرف
في قلوب عباده بواسطة خلق تلك الدواعي .وتلك النكته هي السر العظم ،
والقانون الشرف في مسألة القضاء والقدر .وقد عبر النبي εبهذه اللفظة
الوجيزة ،والنكتة اللطيفة ،عن هذا السر اللطيف .
ومما يدل على أن المراد ما ذكرناه :ما روينا في الخبر أنه εكان كثيرا ً ما
يقول « :اللهم ثبت قلبي على دينك »
وأما الخبر الذي رواه عبد الله عن اليهود :فالكلم فيه من وجهين :الول :إن
هذا الكلم )كلم اليهود() (20فل يكون حجة .ولعل النبي εضحك عند هذا الكلم
استخفافا ً به ،فإن النسان العاقل إذا سمع كلما ً ،قد يضحك عليه استخفافا ً به .
بقى أن يقال :أن عبد الله نقل أنه εضحك في كلمه تصديقا ً له .إل أنا نقول :
هذا تمسك بمجرد الظن ،فل يكون حجة أصل ً .ثم إنه روي في الخبر أنه εقرأ
عند ذلك قوله تعالى « :وما قدروا الله حق قدره » وهذا مشعر بأنه عليه
السلم كان منكرا ً لكلمه .الوجه الثاني :إنه إن صح هذا الخبر فهو محمول على
كونه تعالى قادرا ً على التصرف في هذه الجسام العظيمة ،بقدرة ل يدفها
دافع ،ول يعارضها مانع وذلك لنا بينا أن الشيء الذي يأخذه النسان بإصبعيه
يكون قادرا ً على التصرف فيه على أسهل) (21الوجوه ،فكان ذلك الصبع هنا
لتعريف كمال قدرة الله تعالى .ونفاذ تصرفه في هذه الجسام العظيمة .
- 99 -
ونظيره قولهم في وصف فعل من الفعال بالسهولة واليسر :هذا العمل في
)(22
كفة ،بل على رأس إصبعه .والمراد :ما ذكرنا )وبالله التوفيق(
ــــ
وأما الخبر :فقط روى صاحب شرح السنة )رحمه الله() (2في قوله تعالى « :إن
زلزلة الساعة شيء عظيم) »(3عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أنه قال
:سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول « :يكشف ربنا عن ساقه ،فيسجد
)له) ( (4كل مؤمن ومؤمنة ،ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة .
فيذهب ليسجد له ،فيعود )على() (5ظهره طبقا ً »
واعلم :أنه ل حجة للقوم في هذه الية ،وفي هذا الخبر ،ويدل عليه وجوه :
الول :إنه ليس في الية أن الله تعالى "يكشف عن ساق ) " (6بلفظ ما لم
يسمى فاعله .
والثاني :إن إثبات الساق الواحد للحيوان نقص .وتعلى الله عنه .
الثالث :إن الكشف عن الساق إنما يكون عند الحتراز عن تلوث الثوب بشيء
محذور – وجل إله العالم عنه – بل نقول :المراد بالساق :شدة أهوال القيامة .
يقام قامت الحرب على ساقها .أي شدتها .فقوله ُ« يكشف عن ساق » أي عن
شدة القيامة ،وعن أهوالها ،وأنواع عذابها .وأضافه إلى نفسه لنها شدة ل يقدر
عليها إل الله تعالى .
تحاجت الجنة والنار .فقالت النار :إوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ،وقالت الجنة
فما لي ل يدخلني ،إل ضعفاء المسلمين وسقطهم .فقال تعالى للجنة :إنما
أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ن وقال للنار :إنما أنت عذابي أعذب
بك من أشاء من عبادي .ولكل واحدة منكما ملؤها .فأما النار فل تمتلئ حتى
يضع )الله تعالى() (1فيها رجله ن فتقول :قط قط .فهناك )تمتلئ) ( (2ويزوي
بعضها إلى بعض ،ول يظلم الله أحدا ً من خلقه .وأما الجنة فإن الله ينشئ لها
خلقًا» قال صاحب شرح السنة )رحمه الله) : ( (3هذا حديث متفق على صحته ،
أخرجه الشيخان .
وأما القدم :فروى صاحب هذا الكتاب ،عن أنس )رضي الله عنه) ( (4قال :قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم « :ل تزال جهنم تقول " :هل من مزيد " ؟
حتى يضع رب العزة قدمه فيها ،فتقول .قط )قط() (5وعزتك .ويزوي بعضها
إلى بعض .ول يزال في الجنة
فضل ،حتى ينشي الله تعالى خلقا ،فيسكنهم فضول الجنة » قال صحب شرح
السنة « هذا حديث متفق على صحته ،أخرجه الشيخان »
واعلم .أن هذه الحاديث ل يمكن إجراؤها على ظاهرها .ويدل عليه وجوه :
الول :إن الجنة والنار جمادان .فكيف يتصور منها المحاجة والمخاصمة ؟ فإن
قالوا :إن الله تعالى يجعلهما من الحياء ،فنقول :إذا حصلت هذه الحالة ،
وعرفا ربهما ،امتنعت حصول هذه المحاجة .لنهما يعرفان أن كل ما يفعله إله
العالم فهو عدل وصواب .وعلى هذا التقدير ل تبقى هذه المحاجة .وأيضا ً :إذا
علم الله أنه إذا خلق الحياة فيهما ،فإنهما يقدمان على المحاجة ،ول تنقطع تلك
المحاجة إل إذا وضع قدمه في النار .كان يجب أن ل يخلق الحياة فيهما ،لئل
تحصل هذه الفتنة .
والثاني :إن هذا الحديث يقتضي أنه تعالى ما كان عالما ً بمقدار أهل الثواب
والعقاب ،فل جرم خلق
الله الجنة والنار ،أوسع من قدر الحاجة ول جرم احتاج إلى أن يخلق للجنة خلقا ً
آخر .وأن قدمه في النار .
والثالث :إنه إذا كان له رجل .فالظاهر أنه ل يضع تلك الرجل في النار ،لنه لو
وضع رجله في النار وانطفئت النار ،فقد زال العذاب عن أهل النار – وهو غير
جائز – وإن بقيت النار مشتعلة ،لزم وقوع الحتراق في تلك الرجل – وتعالى
الله عن ذلك علوا ً كبيرا ً – فإن قالوا :لم ل يجوز أن يبقى الحتراق في أبدان
)
الكفار .ويصون نفسه عن النار والحتراق ؟ فنقول :إذا قدر على ذلك فلم )لم
( (6يقدر
على أن ينفي المواقع الخالية من جهنم ،حتى ل تصير ملجأ إلى وضع القدم
فيها.
الرابع :إن النار إنما تطلب بقولها " :هل من مزيد" ؟ :الذين يستحقون
العذاب .ولذلك إذا لم يكن مستحقا ً للعذاب ،لم يكن وضع تلك الرجل جوابا ً عن
قولها " :هل من مزيد" ؟
الخامس :إنه تعالى إن قدر على إسكات جهنم من تلك المطالبة ،فلم يسكت؟
وإن )لم يقدر) ( (7على إسكاتها فهذا يوهم أنه تعالى جعل رجل نفسه فداء لغيره
.وذلك ل يفعله )إل() (8أعجز الناس وأجبنهم). (9
السادس :إن نص القرآن يدل على أن جهنم تمتلئ من المكلفين .قال الله
تعالى « :لملن جهنم منك ،وممن تبعك منهم أجمعين ») (10وقال « :لملن
)
جهنم من الجنة ،ومن الناس أجمعين ») (11وهذا على خلف قولهم )إن حهنم
( (12تمتلئ من رجل الله – تعالى الله عنه علوا ً كبيرا ً – فثبت بهذه الوجوه :أن
هذه الخبار ضعيفة جدا ً .
ثم نقول :إن قلنا بتقدير صحة هذه اللفاظ )فهي) ( (13محتملة للتأويل .فإن من
سعى لزالة خصومة ،وتسكين فتنة ،صح أن يقال :إن فلنا ً وضع رجله في هذه
الواقعة ،ووضع قدمه فيها .ويقال في المجاز المتعارف الظاهر :لك قدم مبارك
،وضع قدمك فيها حتى يصلح ويزول
الشر .فهذا مجاز سائغ .وحمل اللفظ عليه محتمل .ومن هذا الباب :ما روى
النبي صلى الله عليه وسلم قال « :لما قضى الله بين خلقه استلقى على قفاه .
ثم وضع إحدى رجليه على الخرى ،ثم قال :ل ينبغي لحد أن يفعل مثل هذا »
والتأويل :أن المباشر لعمل إذا أتمه استلقي على قفاه .فعبر النبي صلى الله
عليه وسلم عن تتميم المر بهذه العبارة .وكذا القول في وضع إحدى الرجلين
على الخرى )وبلله التوفيق)( (14
---------------------
ــــ
هذا الوصف لم يرد في القرآن .لكنه ورد في الخبر .روى صاحب شرح السنة -
رحمه الله – في باب "آخر من يخرج من النار " عن ابن مسعود – رضي الله عنه
– حديتا ً طويل ً في صفة من أخرجهم الله بفضله من النار قال « :فيسمع أصوات
أهل الجنة فيقول :أي رب أدخلنيها .فيقول الله :يا ابن آدم ،أيرضيك أن
أعطيك الدنيا ومثلها ؟ فيقول :أي رب ،أتستهزئ مني ،وأنت رب العالمين ؟
فضحك ابن مسعود وقال :أل تسألوني مم أضحك ؟ فقالوا :مم تضحك ؟
فقال .هكذا ضحك رسول الله εفقالوا :ومم يضحك رسول الله ε؟ فقال :من
ضحك رب العالمين .فيقول الله :إني ل أستهزئ بك ،وانا على ما أشاء قدير »
وذكر أيضا ً في أول هذا الباب ،حديثا ً طويل ً ،عن أبي هريرة – رضي الله عنه –
إلى أن قال «ُ :ثم يقول :يا رب ادخاني الجنة .فيقول الله :أو لست قد
زعمت أن ل تسألني غيره ؟ ويلك يا ابن آدم ،ما أغدرك .فيقول :يا رب ل
تجعلني أشقى خلقك .فل يزال يدعو حتى يضحك .فإذا ضحك منه ،أذن الله له
بالدخول في الجنة»
واعلم :أن حقيقة الضحك على الله تعالى محال .ويدل عليه وجوه :
الضحك سنح يحصل في جلد الوجه ،مع حصول الفرح في القلب وهو على الله
محال .والثالث :لو جاز الضحك عليه لجاز البكاء عليه .وقد التزمه بعض
الحمقى ن وزعم :أنه بكى على أهل طوفان نوح عليه السلم .وهذا جهل شديد
.فإنه تعالى هو الذي خلق الطوفان .فإن كرهه فلم خلقه ؟ وإن لم يكرهه ،
فلم ينكر عليه ؟ الرابع :إن الضحك إنما يتولد من التعجب ،والتعجب حالة
تحصل لنسان عند الجهل بالسبب .وذلك في حق عالم الغيب والشهادة محال.
إذا ثبت هذا ،فنقول :وجه التأويل فيه من وجوه :أحدها :إن المصدر كما
يحسن إضافته إلى المفعول ،فكذلك يحسن إضافته إلى الفاعل .فقوله «ُ :
ضحكت من ضحك الرب» أي من الضحك الحاصل في ذاتي ،بسبب أن الرب
خلق ذلك الضحك .الثاني :أن يكون المراد :أنه تعالى لو كان ) (4ممن يضحك
كالملوك .كان هذا القول مضحكا ً له .الثالث :أن يحمل الضحك علـى حصول
الرضى والذن .وهذا نوع مشهور من الستعارة .
وأما حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – وهو أن العبد يقول " :ل تجعلني أشقى
خلقك ،فيضحك الله منه " فيجوز أن يكون قد وقع الغلط في العراب ز وكان
الحق " :فيضحك الله منه " أي يضحك الله الملئكة من ذلك القول .والذي يدل
على أن ما ذكرناه ،محتمل :أن أبا هريرة ،وأبا سعيد الخدري – رضي الله
عنهما – اختلفا في قدر عطية ذلك الرجل .فقال أبو سعيد :يعطيه الله ذلك
المطلوب ،وعشرة أمثاله .وقال أبو هريرة :يعطيه الله ذلك ومثله معه ز وهذا
الختلف بينهما في الحديث مذكور في كل كتب الحاديث .ولما لم يضبط هذا
)(5
الموضع من الخبر ،تجوز عدم الضبط في ذلك العراب )وبالله التوفيق(
- 104 -
) (4ممن :ط ،يمكن :خ ) (3سنح :ط .شنج :خ
) (5وبالله التوفيق :من ط
عن النعمان بن بشير – رضي الله عنه – عن النبي εأنه قال «ُ :الله أفرح بتوبة
العبد من العبد ،إذا ضلت راحلته في أرض فلة في يوم قائظ ،وراحلته عليها
زاده ومزاده .إذا ضلت )راحلته أيقن بالهلك() (1وإذا وجدها فرح بذلك .فالله
أشد فرحا ً بتوبة العبد من هذا العبد» وقال «ُ : εل يطأ الرجل المساجد للصلة
والذكر ،إل تبشبش الله تعالى إليه ،كم يتبشبش أهل الغائب بغائبهم ،إذا قدم
عليهم » والتأويل :هو أن من يرضى بالشيء يقرح به ،فيسمى الرضا :بالفرح
.وهذا هو الكلم في البشاشة .ومن هذا الباب قوله «ُ : εعجب ربكم من شاب
ليس له صبوة » وفي حديث آخر «ُ :عجب ربكم من ثلثة :القوم إذا اصطفوا
في الصلة ،والقوم إذا صلوا في قتال المشركين ،ورجل يقوم إلى الصلة في
جوف الليل » وقرأ « :بل عجبت ويسخرون » -بضم التاء – وذلك يدل على
ثبوت هذا المعنى في حق الله تعالى .واعلم أن التأويل هو :أن التعجب حالة
تحصل عند استظام المر .فإذا عظم الله تعالى فعل ً ،أما في كثرة ثوابه أو في
كثرة عقابه .جاز إطلق لفظ التعجب عليه )وبالله التوفيق()(2
ـــــ
) (1البعيـر بالفلة :خ
) (2من ط
قال الله تعالى «ُ :إن الله ل يستحي أن يضرب مثل ً) (1ما » وروى سليمان –
رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ُ :إن الله حي كريم ،
يستحي إذا) (2رفع العبد يديه إليه ،أن يردهما صفرا ً .حتى يضع فيهما خيرا ً »
واعلم ك أن الحياء :تغير وانكسار يعتري النسان في خوف ما يعاتب ويذم به .
واشتقاقه من الحياة .يقال حيى الرجل .كما يقال :نسى الرجل وخشي ،
وسطى القوس ،إذا أغفلت هذه العضاء .جعل الحياء لما يعتريه) (3من
النكسار .والتغير متنكس القوة ،منتقص الحياة .ولهذا يقال :فلن هلك حياء
من كذا )ومات حياء من كذا() (4ورأيت الهلل في وجهه من شدة الحياء .
وذاب حياء .
- 105 -
) (3يقربه :ط ، ) (2رفع :ط ،مد :خ ) (1البقرة 26
يعتريه :خ ) (4ومات حيلء من كذا :خ
الجسماني ،الذي يلحق النسان من خوف أن ينسب إلى القبيح .وأما النهاية
فهي لن يترك النسان ذلك الفعل ،فإذا ورد الحياء في حق الله تعالى ،فليس
المراد منه :ذلك اللحوق) (5الذي هو مبدأ الحياء وتقدمته .بل المراد :هو ترك
الفعل الذي هو منتهاه وغايته .وكذلك الغضب له مبدأ وهو غليان دم القلب
وشهوة النتقام ،وله غاية وهو إيصال العقاب إلى المغضوب عليه .فإذا وصفنا
الله تعالى بالغضب ،فليس المراد هو ذلك المبدأ – أعني غليان دم القلب
وشهوة النتقام – بل المراد :تلك النهاية ،وهي إنزال العقاب .فهذا هو
القانون .
والثاني :إن الذي ل يجوز على الله )تعالى) ( (6من جنس هذه الوصاف ،فهل
يجوز ذكره على سبيل النفي عن الله تعالى ؟ قال بعضهم :إنه ل يجوز إطلق
هذه اللفاظ على طريقة النفي ،بل يجب أن يقال :إنه تعالى ل يوصف )بها(
فأما أن يقال :إنه ل يستحي ويطلق ذلك .فمحال .لنه يوهم نفي ما يجوز عليه
.وما ذكره الله تعالى في كتابه من قولـه «ُ :ل تأخذه سنة ول نوم)ُ- »(7
« لم يلد ولم يولد) »(8فهو وإن كان في صورة النفي ،لكنه ليس في الحقيقة بل
المراد منه :نفي صحة التصاف .وكذا قوله «ُ :ما كان لله أن يتخذ من) (9ولد»
وقوله «ُ :ما اتخذ الله من ) (10ولد » وقوله « :وهو يطعم ول يطعم ) » (11وليس
فيما ورد في القرآن إطلقه ،جاز أن يطلق في المخاطبات ،بل الحق :أنه ل
يجوز إطلق ذلك إل مع بيان ـنه محال ممتنع في حق الله تعالى .
وقال آخرون :ل بأس بإطلق هذا النفي .لن هذه الصفات منتفية عن الله
)(12
تعالى .فكان الخبار عد عدمها :صدقا ً ،فوجب أن يجوز ذلك )النفي(
)بقى أن() (13يقال :إن الخبار عن انتفائها .يقتضي )صحة إطلقها() (14عليه .إل
أنا نقول :هذه الدللة ممنوعة .فإن الخبار عن عدم الشيء ل دللة فيه على أن
ذلك الشيءجائز عليه أم ممتنع )عنه() (15بل لو قرن باللفظ ما يدل على انتفاء
الصحة أيضا ً ،كان ذلك أحسن من حيث إنه يكون مبالغة في البيان في إزالة
)(16
البهام .وليس يلزم من كونه في نفسه قبيحا ً )والله أعلم(
- 106 -
ـــــــــــــــــ
الفصل الثلثون
في
ما يتمسكون به في إثبات الجهة لله تعالى
ــــــ
تمسكوا في ذلك بالقرآن والخبار )والمعقول .والوجوه المركبة من السمع
)(1
والعقل(
أما القرآن :فمن عشرة أوجه :
الول :التمسك باليات الست الواردة بلفظ الستواء على العرش)(2
الثاني :التمسك .باليات المشتملة على لفظ الفوق .فقد قال تعالى «ُ :وهو
القاهر فوق عباده ،وهو الحكيم الخبير ) » (3وقال «ُ :وهو القاهر فوق عباده ،
ويرسل عليكم حفظة ) » (4وقال «ُ :يخافون ربهم من فوقهم )» (5
)
الثالث :اليات المشتملة على لفظ العلو .كقوله تعالى «ُ :وهو العلي العظيم
)
» (6وقوله تعالى «ُ :وهو العلي الكبير ) » (7وقوله «ُ :سبحك اسم ربك العلى
» (8وقوله ك ُ« إل ابتغاء وجه ربه العلى ) » (9وأيضا تواتر النقل في قوله
تعالى «ُ :سبحان العلى )» (10
) (1زيادة
) (2منها " :ثم استوى على العرش " )العراف (54
) (4النعـام 61 ) (3النعام 18
) (6البقـرة 255 ) (5النحـل 50
) (8العلى 1 ) (7سـبأ 23
الليـل 20 )(9
) (10قراءة بدل "سبح" وفي ط :سبحان ربي العلى
الرابع :اليات المشتملة على لفظ العروج إليه والصعود .قال تعالى «ُ :تعرج
الملئكة والروح ) (11إليه » وقال «ُ :إليه يصعد الكلم الطيب )» (12
الخامس :اليات المشتملة على لفظ النزال والتنزيل .قالوا :وهي كثيرة تزيد
على المائتين في حق القرآن المبين والروح والملئكة المقربين والتوراة
والنجيل .
- 107 -
السادس :اليات المقرونة بحرف "إلى" مع أنها لنتهاء الغاية .منها :قوله
تعالى «ُ :إلى ربهــا ناظرة ) » (13وذلك يقتضي انتهاء النظر إليه .وقوله «ُ :ثم
إلى ربكم ترجعون ) » (14وقوله «ُ :وإلى المصير ) » (15وقوله ك ُ« ارجعي إلى
ربك )» (16
السابع :قوله تعالى «ُ :طل إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) » (17والحجاب إنما
يصح في حق من يكون جسما ً ن وفي جهة .حتى يصير محجوبا ً بسبب شيء
آخر .
)(18
الثامن :اليات الدالة على أنه في السماء .قال «ُ :أم أمنتم من في السماء
» ؟ وقال «ُ :قل :ل يعلم من في السموات والرض الغيب إل الله )» (19
التاسع :اليات المشتملة على الرفع إليه .قال تعالى في حق عيسى عليه
السلم «ُ :إني متوفيك ورافعك إلي ) » (20وقوله «ُ :وما قتلوه يقينا ً .
» )(21
بل رفعه الله إليه
العاشر :اليات المشتملة على العندية ،كقوله «ُ :إن الذين عند ربك )» (22
)(25
وقوله «ُ :عند مليك مقتدر ) » (23وقوله «ُ :رب ابن لي عندك بيت في الجنة
» وقوله «ُ :فالذين عند ربك ) » (24وقوله «ُ :ومن عنده ل يستكبرون عن عبادته
)» (26
فهذا بيان وجوه تمسكاتهم من القرآن في إثبات الجهة لله تعالى :قالوا والذي
يدل على أنها محكمة غير متشابهة :أنها في غاية الكثرة ،وقوة الدللة .ولو
كانت من المتشابهات ،لتكلم فيها أحد من الصحابة والتابعين وذكروا تأويلتها ،
وحيث لم ينقل عن أحد منهم ذلك ،علمنا أنها محكمة ل متشابهة.
وأما الخبار فكثيرة :
الخبر الول :ما رواه أبو داود في باب "الرد على الجهمية والمعتزلة" عن حسن
بن محمد بن مطعم .عن أبيه ،عن جده .قال :جاء إعرابي إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال :يا رسول الله هلكت النفس ،وجاع العيال ،وهلكت
الموال .فاستسق لنا ربد .فإننا نستشفع بالله عليك وبك ،على الله .فقال
عليه السلم «ُ :سبحان الله .سبحان الله » فما زال يسبح حتى عرف ذلك في
وجوه أصحابه .ثم قال «ُ :ويحك أما تدري أن الله شأنه أعظم من ذلك ؟ إنه ل
يستشفع به على أحد .إنه لفوق
سمواته على عرشه ،وإنه عليه لهكذا » وأشار وقبب بيده مثل القبة عليه وأشار
أبو الزهر أيضا ً «ُ :يأط به أطيط الرحل) (27بالراكب »
الخبر الثاني :ما روى صاحب شرح السنة في باب "سعة رحمة الله تعالى" عن
أبي هريرة )رضي الله عنه) ( (28عن النبي «ُ εلما قضى الله الخلق كتب كتابا ً ،
فهو عنده فوق العرش :إن رحمتي سبقت غضبي »
الثالث :ما أخرج في الصحيح عن عمر بن الحكم .أنه قال :كنت عند النبي
صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله :إن لي جارية كانت ترعى غنما ً ،
فجئنها .ففدت شاة ،فسألتها .فقالت :أكلها الذئب .فاستبقت) (29عليها
فلطمت وجهها .وعلى رقبة .أفأعتقها ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه
وسلم «ُ :أين الله » ؟ فقالت في السماء .فقال «ُ :من أنا ؟ » قالت :أنت
رسول الله .فقال عليه السلم «ُ :أعتقها فإنها مؤمنة » قالوا :وهذا يدل على
التصريح من )رسول الله() (3صلى الله عليه وسلم بأن الله في السماء.
وأما المعقول :فقد تقدم من قولهم :إنا نعلم بالضرورة :ان كل موجودين ،فل
بد وأن يكون أحدهما حال ً في الخر ،أو مباينا ً عنه بجهة من الجهات .وتقدم
الستقصاء في الجواب عنها .وبالله التوفيق .
وأما الوجوه المركبة من السمع والعقل فوجهان :
الول :قصة المعراج .تدل على أن المعبود مختص بجهة فوق ،وربما تمسكوا
في هذا المقام بقوله «ُ :ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى »
وهذا يدل على أن ذلك الدنو بالجهة .ثم قال «ُ :فأوحى إلى عبده ما أوحى »
وهذا يدل على أن ذلك الدنو إنما كان من الله تعالى .وهذا يدل على أنه مختص
بجهة فوق.
الثاني :تمسكوا بقول فرعون «ُ :يا هامان ابن لي صرحا ً ،لعلي أبلغ السباب .
)(32
أسباب السموات .فأطلع إلى إله موسى ») (31ثم إن موسى عليه السلم )ما
( أنكر عليه هذا الكلم .فدل ذلك :على أن الله في السماء .
فهذا جملة ما يتمسكون به في هذا الباب .
التي تمسكتم بها ،ليست قطعية .بل محتملة .فنحن إذا ً يجب علينا أن نتكلم
معكم في تقرير تلك الدلئل ،
ودفع وجوه الحتمال عنها .فثبت بهذا الطريق :أنا متى بينا أن تلك الدلئل
العقلية قاطعة يقينية لم تقدر الكرامية على معارضة تلك العقليات اليقينية بهذه
الظواهر .وهذا كلم في غاية القوة .وعند هذا نختار مذهب السلف ،ونقول :
لما عرفنا بتلك القواطع العقلية :أنه ليس مراد الله تعالى من هذه اليات :
إثبات الجهة لله تعالى ،فل حاجة بنا بعد ذلك إلى بيان أن مراد الله تعالى من
هذه اليات .ما هو ؟ وهذا الطريق أسلم في ذوق النظر ،وعن الشغب أبعد .
النوع الثاني :أن نتكلم عن كل واحد من هذه الوجوه على سبيل التفصيل :
أما الذي تمسكوا به أول ً .وهو اليات الستة الدالة على استواء الله تعالى)(33
على العرش .فنقول :إنه ل يجوز أن يكون مراد الله تعالى من ذلك الستواء :
هو الستقرار على العرش ،ويدل عليه وجوه :
الول :إن ما قبل هذه الية ،وهو قوله تعالى «ُ :تنزيل ً ممن خلق الرض
والسموات العلى » قد بينا أن هذه الية تدل على أنه تعالى غير مختص بشيء
من الحياز والجهان .
الثاني :إن ما بعد هذه الية ،وهو قوله تعالى «ُ :له ما في السموات وما في
الرض » قد بينا :أن السماء هو الذي فيه سمو وفوقية ،فكل ما كتن في جة
فوق ،فهو سماء .وإذا كان كذلك ،فقوله «ُ :له ما في السموات وما في
الرض» يقتضي أن كل ما كان
حاصل ً في جهة فوق ،كان في السماء .وإذا كان كذلك فقوله «ُ :له ما في
السموات وما في الرض» يقتضي أن كل ما كان حاصل ً في جهة فوق ،فهو
ملك لله تعالى ومملوك له .فلو كان تعالى مختصا ً بجهة فوق ،لزم كونه مملوكا ً
لنفسه )من غير محل() (34وهو محـال .فثبت :أن ما قبل قوله «ُ :الرحمن على
العرش استوى ») (35وما بعده .ينفي كونه سبحانه وتعالى مختصا ً بشيء من
الحياز والجهات .وإذا كان كذلك امتنع أن يكون المراد بقوله « :الرحمن على
العرش استوى » :هو كونه مستقرا ً على العرش.
الثالث :
أن ما قبل هذه الية وما بعدها :مذكور لبيان كمال قدرة الله تعالى ،وغاية
عظمته في اللهية ،وكمال التصرف ،لن قوله « :تنزيل ً ممن خلق الرض
والسموات العى ») (36ل شك أن المفهوم منه :بيان كمال قدرة الله تعالى،
وكمال إلهيته .وقوله « :له ما في السموات وما في الرض وما بينهما وما تخت
الثرى ») (37بيان أيضا ً لكمال ملكه) (38وإلهيته .وإذا كان المر كذلك ،وجب أن
يكون قوله « :الرحمن على العرش استوى » كذلك .وإل لزم أن يكون ذلك
كلما ً أجنبيا ً عما قبله وعما بعده .وذلك غير جائز فأما إذا حملناه على كمال
استيلئه على العرش ،الذي هو أعظم المخلوقات في الموجودات المحدثة ،
كان ذلك موافقا ً لما قبل هذه الية ولما بعدها ،فكان هذا الوجه أولى .
- 110 -
الرابع :أن الجالس على العرش ل بد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين
العرش ،غير الحاصل منه في يسار العرش :فيلزم كونه في نفسه مؤلفا ً
ومركبا ً .وذلك على الله تعالى محال .
الخامس :إن الجالس على العرش إن قدر على الحركة والنتقال كان محدثا ُ .
لن ما ل ينفك عـن الحركة والسكون ،كان محدثا ً .وإن لم يقدر على الحركة .
كان كالمربوط ،بل كان كالزمن ،بل أسوأ حال ً منهما ،فإن الزمن إذا أراد)(39
الحركة في رأسه أو حدقتيه ،أمكنه ذلك ،وكذا المربوط وهو غير ممكن في الله
تعالى .
السادس :إنه لو حصل في العرش )فإن حصل() (40في سائر الحياز يلزم منه
كونه مخالطا ً للقاذورات والنجاسات ،وإن لم يكن كذلك ،كان له طرف ونهاية
وزيادة ونقصان .وكل ذلك على الله تعالى محال .
السابع :
قوله تعالى « :يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية » فلو كان العرش مكانا ً
لمعبودهم ،لكانت الملئكة الذين يحملون العرش حاملين إله العالم .وذلك غير
معقول ،لن الخالق هو الذي يحفظ المخلوق .أما المخلوق فل يحفظ الخالق
ول يحمله .ول يقال :هذا إنما يلزم إذا كان الله معتمدا ً على العرش متكئا ً
عليه ،ونحن ل نقول ذلك ،لنا نقول على هذا التقدير :ل يكون الله تعالى
مستقرا ً على العرش ،لن الستقرار على الشيء ،إنما يحصل إذا كان معتمدا ً
عليه .أل ترى إنا إذا وضعنا جسما ً على الرض ،قلنا :إنه مستقر على الرض ،
ول نقول :الرض مستقرة عليه .وما ذاك إل لن الشيء معتمدا ً على الرض ،
والرض غير معتمدة عليه .ولو لم يكن اإله معتمدا ً على العرش ،فحينئذ ل
يكون مستقرا ً على العرش ،وعلى هذا التقدير ،يلزمهم ترك ظاهر الية .
وحينئذ تخرج الية عن كونها حجة .
الثامن :إنه تعالى كان ول عرش ول مكان .ولما خلق الخلق ،يستحيل
أن يقال أنه تعالى صار مستقرا ً على العرش ،بعد أن لم يكن كذلك .لنه تعالى
قال « :ثم استوى على العرش » وكلمة "ثم " للتراخي .
التاسع :إن ظاهر قوله تعالى « :ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ») (41وقوله :
)(43
ض
وقوله « :وهو الذي في السماء إله ،وفي الر ُ
)(42
« وهو معكم أينما كنتم »
إله » ينفي كونه مستقرا ً على العرش ،وليس تأويل هذه اليات لنفي اليات
التي تمسكوا بها على ظاهرها :أولى من العكس .
العاشر :إن الدلئل العقلية القاطعة التي قدمنا ذكرها ،تبطل كونه تعالى مختصا ً
بشيء من الجهات .وإذا ثبت هذا ،ظهر أنه ليس المراد من الستواء :
الستقرار .فوجب أن يكون المراد :هو الستيلء ،والقهر ونفاذ القدر ،وجريان
الحكام اللهية .وهذا مستقيم على قانون اللغة .فقد قال الشاعر:
- 111 -
من غير سيف ودم مهراق ∴ قد استوى بشر على العراق
والذي يقرر ذلك :أن الله -تعالى – إنما أنزل القرآن بحسب عرف أهل اللسان
وعاداتهم .أل ترى أنه تعالى قال « :وهو خادعهم ») (44وقال « :وهو أهون عليه
») (45وقال « :ومكروا ومكر) (46الله » وقال « :الله يستهزئ بهم ») (47والمراد
في الكل :أنه تعالى يعاملهم معاملة الخادعين والماكرين والمستهزئين .فكذا
ههنا ،المراد من الستواء على العرش :التدبير بأمر الملك والملكوت .
ونظيره :أن القيام أصله النتصاب ،ثم يذكر بمعنى الشروع في المر ،كما
يقال :قام بالملك .
فإن قيل :هذا التأويل غير جائز .لوجوه :الول :أن الستيلء عبارة عن حصول
الغلبة بعد العجز .وذلك في حق الله تعالى محال .الثاني :إنه إنما يقال :فلن
استوى على كذا إذا كان له منازع ينازعه وذلك في حق الله تعالى محال .الثالث:
إنه إنما يقال فلن استولى على كذا :إذا كان المستولى عليه موجودا ً )قبل ذلك(
) (48وهذا في حق الله تعالى محال .لن العرش إنما حدث بتكوينه وتخليقه.
الرابع :إن الستيلء بهذا المعنى حاصل بالنسبة إلى كل المخلوقات .فل يبقى
لتخصيص العرش بالذكر فائدة .
والجواب :إن مرادنا بالستيلء القدرة التامة الخالية من المنازع والمعارض
والمدافع .وعلى هذا التقدير ،فقد زالت هذه المطاعن بأسرها.
وأما تخصيص العرش بالذكر .ففيه وجهان :الول :إنه أعظم المخلوقات ،
فخص بالذكر لهذا السبب ،كما أنه خصه بالذكر في قوله « :هو رب العرش
العظيم ») (49لهذا المعنى .قال الشيخ الغزالي – رحمه الله – في كناب "إلجام
العوام" " :السبب في هذا التخصيص :هو أنه تعالى يتصرف في جميع العالم ،
ويدبر المر من السماء إلى الرض ،بواسطة العرش .فإنه تعالى ل يحدث صورة
في العالم ما لم يحدثها في العرش ،كما ل يحدث النقاش والكاتب صورة البناء
)على البياض ،ما لم يحدثها في الدماغ ،بل ل يحدث صورة البناء () (50بواسطة
القلب والدماغ يدبر الروح أمر عالمه الذي هو يدبر .فكذا بواسطة العرش يدبر
)(51
الله أمر كل العالم
واعلم :أن هذا الكلم مبني على أصول الحكماء )في أن تأثير() (52الباري
تعالى في العقل ،وتأثير العقل في تدبير العالم العلوي ،وتأثير تدبير العالم
العلوي في السفلي .وقد تكلمنا عليه في الكتب العقلية المحضة .
أما الذي ذكروه ثانيا ً وهو التمسك باليات المشتملة على ذكر الفوقية .فجوابه :
أن لفظ الفوق )يستعمل( في الرتبة والقدرة .فقد قال الله تعالى « :وفوق كل
- 112 -
ذي علم عليم ») « - (53وإنا فوقهم قاهرون ») « - (54يد الله فوق أيديهم »
)(55
الثالث :إن الفوقية الحاصلة بسبب الجهة ،ليست صفة المدح ،لن تلك الفوقية
حاصلة للجهة والحيز بعينها وذاتها ،وحاصلة للمتكن في ذلك الحيز بسبب ذلك
الحيز ولو كانت الفوقية بالجهة صفة مدح ،لزم أن تكون الجهة أفضل وأمل من
الله تعالى .ول يقال :يلزمكم أن تقولوا :بأن القدرة أفضل وأكمل من الله
تعالى .لنا نقول :القدرة صفة القادر ،وممتنعة الوجود بدونه ،بخلف الحيز
والجهة .فإنه غنى عن الممكن .فثبت :أن الكمال والفضيلة إنما يحصلن بسبب
الفوقية ،بمعنى القدرة والسلطنة .فكان حمل الية عليه أولى .
أما قوله تعالى في صفة الملئكة « :يخافون ربهم من فوقهم) » (63ففيه جواب
آخر :وهو أنه يحتمل أن يكون قوله « :من فوقهم » صلة لقوله « :يخافون »
أي يخافون من فوقهم ربهم .وذلك لنهم يخافون نزول العذاب عليهم من جانب
فوقهم .
وأما الذي ذكروه ثالثا ً .وهو التمسك باليات المشتملة على لفظ العلو :
فالجواب :أن لفظ العلو يسبب الجهة .فقد يستعمل أيضا في العلو بسبب
القدرة .فإنه يقال :السلطان أعلى من غيره ،ويكتب في أمثلة السلطين :
الديوان العلى .ويقال لمرهم) (67المر العلى )ويقال) ( (68لمجالسهم :
المجلس العلى .والمراد في الكل :العلو ،بمعنى :القهر والقدرة .ل بسبب
المكان والجهة.
وأيضا ً :قال الله تعالى لموسى) «(70:ل تخف إنك أنت العل ُ
ى» ) (69وقال « :ول
» وقال « :وكلمة الله هي العليا » وقال
)(71
تهنوا ول تحزنوا ،وأنتم العلون
فرعون « :أنا ربكم العلى) » (72والعلو في هذه المواضع بمعنى العلو بالقدرة ،
ل بمعنى العلو بالجهة .
والذي يدل على أن المراد ما ذكرناه :وجوه :
» فحكم بأنه تعالى أعلى من )(73
الول :أنه تعالى قال « :سبح اسم ربك العلى
كل ما سواه .
والجهة شيء سواه .فوجب أن تكون ذاته أعلى من الجهة .وما كان أعلى من
الجهة امتنع أن يكون علوه بسبب الجهة .فثبت :أن علوه لنفس ذاته ،ل بسبب
الجهة .ول يقال :الجهة ليست بشيء موجود حتى تدخل تحت قوله « :سبح
اسم ربك العلى » لنا نقول :قد بينا في باب الدلئل العقلية :أنها ل بد وأن
تكون أمرا ً موجودا ً .
الثاني :هو أنه تعالى لو كان في جهة فوق .فأما أن يكون له في جهة
فوق :نهاية ،وإما أن ل يكون له في تلك الجهة :نهاية ،فإن كان الول لم يكن
أعلى الشياء لن الحياز الخالية فوقه تكون أعلى منه ،ولنه قادر على خلق
الجسام في جميع الحياز .فيكون قادرا ً على خلق عالم في تلك الحياز التي
هي فوقه ،فيكون ذلك العالم على ذلك التقدير أعلى منه .وإنما قلنا :ل نهاية
لذات الله تعالى من جهة فوق ،لن هذا الجانب المتناهي منه .مخالف في
الماهية للجانب الذي هو غير متناه .ول يصح على كل واحد منهما ما صح على
الخر ،وصح أن ينقلب غير المتناهي متناهيا ً ،والمتناهي غير متناه .وذلك
يقتضي جواز الفصل والوصل في ذات الله تعالى .وهو محال .
الثالث :
إنه إذا كان غير متناه من جانب الفوق ،فل جزء إل وفوقه جزء آخر .وكل ما
فوقه غيره :لم يكن أعلى الموجودات .فإذن ليس في تلك الجزاء شيء هو
أعلى الموجودات .فثبت بما ذكرنا :أن كل ما كان مختصا ً بالجهة ،فإنه ل يمكن
وصفه بأنه أعلى الموجودات .وإذا كان كذلك وجب أن يكون علوه – تعالى – ل
بالجهة والحيز .وهو المطلوب .
- 114 -
وأما الذي تمسكوا به رابعا ً :وهو اليات المشتملة على لفظ العروج .كقوله
تعالى « :يدبر الرض من السماء إلى الرض .ثم يعرج إليه) » (74وقولـه « :ذي
المعارج .تعرج الملئكة والروح) (75إليه» فجوابه :إن المعارج جمع معرج ،وهو
المصعد ،ومنه قولـه تعالى « :ومعارج عليها يظهرون) » (73وليس في هذه
اليات) (77بيان أن تلك المعارج :معارج لي شيء ؟ فسقطت حجتهم في هذا
الباب .بل يجوز أن تكون تلك
المعارج .معارج لنعم الله تعالى ،أو معارج للملئكة ،أو معارج لهل الثواب .
وأما قوله تعالى « :تعرج الملئكة والروح إليه » فنقول :ليس المراد من حرف
"إلى" في قوله "إليه" :المكان .بل المراد :انتهاء المور إلى مراده .ونظيره :
قوله تعالى « :وإليه يرجع المر كله) » (78والمراد :انتهاء أهل الثواب إلى منازل
العز والكرامة .كقول إبراهيم « :إني ذاهب إلى ربي سيهدين) » (79ويكون هذا
إشارة إلى أن دار الثواب أعلى المكنة وأرفعها ،بالنسبة إلى أكثر المخلوقات .
وأما الذي تمسكوا به خامسا ً :وهو لفظ النزال والتنزيل .فجوابه :إن مذهب
الخصم :أن القرآن حروف وأصوات .فيكون النتقال عليها محال ً .فكان إطلق
لفظ النزال والتنزيل عليها مجازا ً بالتفاق .فلم يجز التمسك به .وأيضا ً :فقد
يضاف الفعل إلى المر به .كما يضاف إلى المباشر .أل ترى أنه تعالى أضاف
قبض الرواح إلى نفسه .فقال تعالى «:الله يتوفى النفس حين موتها) » (80ثم
أضافه إلى ملك الموت .فقال « :قل :هل يتوفاكم ملك الموت) » (81ثم أضافه
إلى الملئكة .فقال « :حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا) » (82وأيضا ً
قال «:ورسلنا لديهم يكتبون) » (83ثم قال « :وإنا له كاتبون) » (84وأيضا ً :قال
تعالى « :يؤذون الله) » (85أي أولياءه .وقــال « :فلما آسفونا) » (86أي )آذوا(
أولياءنا وقال « :يخادعون الله) » (87أي رسوله والمؤمنين .وبالله التوفيق .
وأما الذي تمسكوا به سادسا ً وهو التمسك بصيغة "إلى" في حق الله تعالى .
كقوله « :إلى ربها ناظرة) » (88والنظر إلى الشيء يوجب رؤيته ،فجاز أن يكون
المراد من النظر هو الرؤيه .على سبيل إطلق اسم السبب على المسبب .
وأيضا ً :حكى الله تعالى عن الخليل عليه السلم أنه قال « :إني ذاهب إلى ربي
سيهدين) » (89وليس المراد منه :القرب بالجهة .فكذا ههنا .والله أعلم .
- 115 -
وأما الذي تمسكوا به سابعا ً .وهو قوله تعالى « :أم أمنتم من في السماء
)(90
» ؟ فجوابه :إنه ل يمكن إجراء هذه الية على ظاهرها .ويدل عليه وجهان :
الول :
إنه قال « :وهو الذي في السماء إله وفي الرض) (91إله» وهذا يقتضي أن يكون
ى واحدا ً .ولما كان كونه
المراد من كونه في السماء ،ومن كونه في الرض معن ً
في الرض ليس بمعنى الستقرار ،فكذلك كونه في السماء ،يجب أن ل يكون
بمعنى الستقرار .سلمنا .أنه يمكن إجراء هذه الية على ظاهرها .لكنا نقول
بموجبه :فلم ل يجوز أن يكون المراد من « أم أمنتم من في السماء) » (92؟
الملئكة الذين هم في السماء ؟ لنه ليس في الية) (93ما يدل على أن الذي
في السماء هو الله ل الملئكة ز ول شك أن الملئكة أعداء الكفار والفساق .
سلمنا .أن المراد هو الله تعالى .فلم ل يجوز أن يكون المراد من « أم أمنتم
من في السماء » :
ملكه ؟ وخص السماء بالذكر لنها أعظم من الرض تفخيما ً للشأن .
وأما الذي تمسكوا به ثامنا ً .وهو لفظ الحجاب .فجوابه :لم ل يجوز أن يكون
المراد من الحجاب يقتضي عدم الرؤية ،فكان إطلق لفظ الحجاب على المنع
من الرؤية :مجازا ً من باب إطلق اسم السبب على المسبب .
وأما الذي تمسكوا به تاسعا ً .وهو اليات المشتملة على الرفع كقوله تعالى «:بل
رفعه الله إليه) » (94وقوله « :والعمل الصالح يرفعه) » (95فالجواب :إن الله
تعالى لما رفعه إلى موضع الكرامة ،ومكان آخر ،صح – على سبيل المجاز – أن
يقال :إن الله تعالى رفعه إليه .كما أن الملك إذا عظم منصب إنسان) (96حسن
أن يقال :إنه رفعه من تلك الدرجة إلى درجة عالية ،وأنه قربه) (97من نفسه.
ومنه قوله تعالى « :والسابقون السابقون أولئك المقربون)» (98
وأما الذي تمسكوا به عاشرا ً .وهو اليات المشتملة على )لفظ) (99العندية ) :فلم
ل يجوز أن يكون المراد بالعندية :العندية بالشرف) ( (100والدليل عليه :قوله
عليه السلم – حكاية عن رب العزة « : -أنا عند المنكسرة قلوبهم لجلي »
وقوله « أنا عند ظن عبدي بي » بل هذا أقوى لن النصوص التي ذكروها تدل
على أن الملئكة عند الله )وهذه النصوص
تدل على أن الله تعالى عند العبد .وأيضا ً قال() (101تعالى « :وإن له عندنا
لزلفى ») (102وليس المراد بهذه العندية )العندية( 103بالجهة فكذا ههنا .فهذا هو
الشارة إلى الجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها من القرآن في إثبات الجهة لله
تعالى .وبالله التوفيق .
وأما الخبار التي تمسكوا بها .فنقول :
أما الخبر الول :
فاعلم أن من الناس من روى هذا الخبر على وجه آخر .فقال أنه عليه السلم
قال « :وضع عرشه على السموات .هكذا » وقبب بإصبعه مثل القبة" فإن
حملنا الرواية على هذا الوجه ،فل إشكال فيه البتة )وأما أن أخذنا بتلك الرواية .
فقال الشيخ أبو سلمان الخطابي :إن الكيفية عند الله تعالى ،وعن صفاته :
منتفية) (104والمقصود من هذا الكلم :التقريب والتفهيم وشرح عظمة الله تعالى
من حيث يدركه فهم النسان) . (105وقوله « :وإنه يئط به » معناه إنه ليعجز عن
جلله وعظمته ،حتى يئط به ،إذا كان مغلوبا ً) (106وذلك لن أطيط الرحل
)
بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه ،ولعجزه عن احتماله فهو عليه السلم يقرب
(107بهذا النوع )من التمسك عنده :معنى عظمته تعالى) (108وارتفاع عرشه ،
ليعلم المخاطب أنه تعالى أجل وأعلى من أن يجعل شبيها ً لحد من خلقه .
وأقول :إن ظاهر هذا الحديث يدل على كونه جعل متناهيا ً )في
القوة) ((109وإل لما )ينسبه بالقوة وعلى كونه معتمدا ً على عرشه محتاجا ً إليه ،
وإل لما) ( (110حصل الطيط .وكل ذلك ينافي اللهية .فعلمنا :أنه ل بد فيه من
حمل اللفظ على غير ظاهره .
وأما الخبر الثاني :وهو قوله عليه السلم « :لما قضى الله الخلق .كتب كتابا ً
فهو عنده فوق العرش » فالجواب عنه :ما تقدم من لفظ « عند » في القرآن
.
وأما الخبر الثالث :
فجوابه :إن لفظ « أين ؟ » كما يجعل سؤال ً عن المكان فقد يجعل سؤال ً عن
المنزلة والدرجة يقال :أين فلن من فلن ؟ فلعل السؤال كان عن المنزلة ،
وإشارتها إلى السماء .أي هو رفيع القدر جدا ً .وإنما اكتفى منها بتلك الشارة
لقصور عقلها ،وقلة فهمها .وهذا الجواب يصلح أن يكون جوابا ً عن تمسكهم
بالخبر الثاني ،وهو لفظ « عنده » لن لفظ « عند » يذكر لبيان المنزلة
والدرجة .
ومن هذا الباب أيضا ً :أن رجل ً قال للنبي : εأين كان ربنا قبل أن يخلق
السماء ؟ فقال عليه السلم « :في عماء تحته هواء ،وفوقه هواء » وهذا يروى
على وجهين :
أحدهما :بالمد وهو السحاب الرقيق .
- 117 -
والثاني :بالقصر .فإذا روي مقصورا ً كان المعنى أنه تعالى كان وحده ولم يكن
معه غيره .شبه العدم بالعمى .فكأنه قال :لم يكن شيء سواه ،ل فوق ول
تحت ) ولشمال ول يمين) ( (111فإذا قيل :كان في
عمى .فالمعنى) (112أنه تعالى كان فيه بمعنى القدرة والتدبير .والرواية
الولى :أولى .لما روي عن « عمران بن الحصين ») (113قال :قال )رجل
لرسول الله ( (ε (114أخبنا عن أول هذا المر ؟ قال « :كان الله ولم يكن معه
شيء » وهذا يدل على أن رواية العمى – بالقصر – أولى من المد .
ومن هذا الباب أيضا ً :ما روى أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال :كان
جبريل عن النبي εفأتاه ملك .فقال أين تركت ربنا ؟ فقال :في الرضين فجاء
آخر .فقال :أين تركت ربنا ؟ فقال :في سبع سموات فجاءه آخر .فسأله عنه
؟ فقال :في المشرق .وآخر في المغرب .والتأويل :إنه على وفق قوله
تعالى « :وهو الذي في السماء إله ،وفي الرض إله) » (115وقوله « :وهو الله
في السموات وفي الرض) » (116وقوله ك « فأينما تولوا فثم وجه الله) » (117أي
أنه تعالى في كل مكان بالحفظ والتدبير واللهية .
وأما قصة المعراج .فالمقصود :أنه يريه الله – تعالى -أنواع مخلوقاته في
العالم العلوي والعالم السفلي ،لتكون مشاهداته للدلئل أكثر ،فتصير نفسه
أقوى وأكمل .كما في حق الخليل – عليه السلم –
الول :إن هذا الدنو دنو المنزلة والكرامة .كقوله تعالى « :واسجد واقترب
)(119
» وقال عليه السلم – حكاية عن الله تعالى « : -من تقرب إلي شبرا ً ،تقربت
إليه ذراعا ً »
الثاني « :ثم دنا فتدلى » أي جبريل دنا من محمد – عليهما السلم – والدليل
عليه :قوله تعالى في آية أخرى « :ولقد رآه بالفق المبين) » (120ثم لما دنا
)
جبريل من محمد – عليهما السلم – حصل الوحي من الله تعالى إليه ولهذا قال
« : (121فأوحى إلى عبده ما أوحى)» (121
وأما الجواب عن التمسك بقول فرعون « يا هامان ابن لي صرحا ً ُ
» ) (122فهو
أن هذا الكلم من فرعون .وهو معارض بأن موسى – عليه السلم – لم :يقل
- 118 -
الرب في السماء ،بل قال « :رب السماء) » (123ثم إن فرعون كان قد ظن فيه
)
أن الله مستقر في السماء .فهذا هو الجواب عن هذه الشبهة )وبالله التوفيق
( (124
ـــــــــ
ثم إنهم يتكلمون في ذات الله تعالى وصفاته بأخبار الحاد ،مع أنها في غاية
البعد عن القطع واليقين ،وإذا لم يجوزوا تفسير ألفاظ القرآن بالطريق
- 119 -
المظنون ،فلن يمتنعوا عن الكلم في ذات الحق تعالى ،وفي صفاته ،بمجرد
الروايات الضعيفة أولى .
الثاني :إن أجل طبقات الرواة قدرا ً ،وأعلهم منصبا ً :الصحابة – رضي الله
عنهم – ثم إنا نعلم ،أن رواياتهم ل تفيد القطع واليقين .والدليل عليه :أن هؤلء
المحدثين رووا عنهم :أن كل واحد منهم طعن في الخر ،ونسبه إلى ما ل ينبغي
.
أليس من المشهور :أن عمر طعن في خالد بن الوليد ؟ وأن ابن مسعود وأبا ذر
،كانا يبالغان في الطعن في عثمان ؟ ونقل عن عائشة – رضي الله عنها – أنها
بالغت في الطعن في عثمان .
وأليس أن عمر قال في عثمان :إنه يحلف بأقاربه ؟ وقال في طلحة والزبير
أشياء أخر ،تجري هذا المجرى .
أليس أن عليا ً ) كرم الله وجهه () (7سمع أبا هريرة يوما ً كان يقول :أخبرني
خليلي أبو القاسم .فقال له علي :متى كان خليلك ؟
أليس أن عمر – رضي الله عنه – نهى أبا هريرة عن كثرة الرواية ؟
أليس أن ابن عباس )رضي الله عنهما() (8طعن في خبر أبي سعيد في الهرق ،
وطعن في خبر أبي هريرة في غسل اليدين .وقال كيف يصنع )بمهر أمنا () (9؟
غشوك ؟
واعلم :أنك إذا طالعت كتب الحديث ،وجدت في هذا الباب ما ل يعد ول
يحصى .
وإذا ثبت هذا فنقول :الطاعن .إن صدق ،فقد توجه الطعن على المطعون ،
وإن كذب فقد توجه على الطاعن .فكيف كان فتوجه الطعن) (12لزم إل أنا قلنا:
إن الله تعالى أثنى على الصحابة – رضي الله عنهم – في القرآن على سبيل
العموم .وذلك يفيد ظن الصدق .ولهذا الترجيح قبلنا رواياتهم في فروع
)(13
الشريعة .أما الكلم في ذلت الله وصفاته ،فكيف يمكن بناؤه على )هذه(
الروايات الضعيفة ؟
الثالث :وهو أنه اشتهر فيما بين المة :أن جماعة من الملحدة ،وضعوا أخبارا ً
منكرة ،واحتالوا في ترويجها على المحدثين .والمحدثون
- 120 -
لسلمة قلوبهم ما عرفوها ،بل قبلوها .وأي منكر فوق وصف الله تعالى بما
يقدح اللهية ،ويبطل الربوية ؟ فوجب القطع في أمثال هذه الخبار بأنها
موضوعة .وأما البخاري والقشيري فهما ما كانا عالمين بالغيوب ،بل اجتهدا
واحتاطا بمقدار طاقتهما .وأما اعتقاد أنهما علما جميع الحوال الواقعة في زمان
الرسول εإلى زماننا ،فذلك ل يقوله عاقل ،وغاية ما في الباب :أنا نحسن
الظن بهما ،وبالذين رويا عنهم .إل أنا )إذا() (14شاهدنا خبرا ً مشتمل ً على منكر ،
ل يمكن إسناده إلى الرسول εقطعنا بأنه من أوضاع الملحدة ،ومن ترويجاتهم
على أولئك المحدثين .
الرابع :إن هؤلء المحدثين يخرجون الروايات بأقل العلل .مثل :إنه كان مائل ً
» فكان رافضيا ً ،فل تقبل روايته .ومثل :كان « معبد الجهني»ُ إلى حب « على ُ
قائل ً بالقدر ،فل تقبل روايته .وما كان فيهم عاقل يقول :إنه وصف الله تعالى
بما يبطل إلهيته وربوبيته ،فل تقبل روايته )إن() (15هذا من العجائب .
الخامس :
إن الرواة الذين سمعوا هذه الخبار من الرسول εما كتبوها عن لفظ الرسول ،
بل سمعوا شيئا ً في مجلس ،ثم أنهم رووا تلك الشياء بعد عشرين سنة أو
أكثر .ومن سمع شيئا ً في مجلس مرة واحدة ،ثم رواه بعد العشرين والثلثين ،
ل يمكنه رواية تلك اللفاظ بأعيانها .وهذا كالمعلوم بالضرورة .وإذا كان المر
كذلك ،كان القطع حاصل ً بأن شيئا ً من هذه اللفاظ :ليس من ألفاظ الرسول ε
)(16
بل ليس ذلك إل من ألفاظ الراوي وكيف يقطع بأن هذا الراوي )ما(
سمع ما جرى في ذلك المجلس ؟ فإن من سمع كلما ً في مجلس واحد ،ثم إنه
ما كتبه ،وما كرر عليه كل يوم ،بل ذكره بعد عشرين سنة أو ثلثين .فالظاهر :
أنه ينسى منه شيئا ً كثيرا ً ،أو يتشوش عليه نظم الكلم وترتيبه وتركيبه .ومع هذا
الحتمال فكيف يمكن التمسك به في معرفة ذات الله تعالى وصفاته ؟
واعلم :أن هذا الباب كثير الكلم .إل أن القدر الذي أوردناه كاف في بيان أنه ل
)(17
يجوز التمسك في أصول الدين بأخبار الحاد )والله أعلم(
---------------
في
أن البراهين العقلية إذا صارت معارضة بالظواهر النـقلية
فكيف يكون الحال فيها ؟
ـــــ
اعلم :أن الدلئل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ،ثم وجدنا أدلة
نقلية يشعر ظاهرها بخلف ذلك .فهناك ل يخلو الحال من أحد أمور أربعة :إما
أن يصدق مقتضى العقل والمنطق – فيلزم تصديق النقيضين وهو محال _ وإما
أن نبطلها) – (1فيلزم تكذيب النقيضين .وهو محال – )وإما أن نكذب الظواهر
النقلية ،ونصدق الظواهر العقلية() (2وإما أن تصدق الظواهر النقلية وتكذب
الظواهر العقلية – وذلك باطل – لنه ل يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية .
إل إذا عرفنا بالدلئل العقلية :إثبات الصانع ،وصفاته ،وكيفية دللة المعجزة
على صدق الرسول εوظهور المعجزات على )يد() (3محمد εولو صار القدح
في الدلئل العقلية القطعية ،صار العقل متهما ً ،غير مقبول القول ،ولو كان
كذلك لخرج عن أن يكون مقبول القول في هذه الصول .وإذا لم تثبت هذه
الصول ،خرجت الدلئل النقلية عن كونها مفيدة .فثبت :أن القدح في العقل
لتصحيح النقل ،يفضي إلى القدح في العقل والنقل معا ً .وإنه باطل ز ولما
بطلت القسام الربعة لم يبق إل أ) ،يقطع بمقتضى() (4الدلئل العقلية)(5
القاطعة :بأن هذه الدلئل
النقلية إما أن يقال أنها غير صحيحة ،أو )يقال :إنها صحيحة() (6إل أن المراد
منها غير ظواهرها .ثم إن جوزنا التأويل :اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك
التأويلت على التفصيل .وإن لم تجوز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى .
فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات )وبالله التوفيق()(7
---------------
والشيخ ابن تيمية يقول في "درء تعارض العقل والنقل" " :إذا تعارض الشرع
والعقل وجب تقديم الشرع" وقوله صحيح في تعليل أحكام الشريعة .فلو قال
إنسان ما :ما الحكمة في تحريم لحم الجمل على بني اسرائيل .لن لحم
الجمل كسائر لحوم النعام غير مضر للصحة ؟ من الممكن أن يقول الشيخ ابن
تيمية في هذا وشبهه :إن الشرع يقدم لن أحكام الله ل تعلل لن مشرعها أحكم
من بني البشر .وقوله غير صحيح في آيات الكتاب – وما القانون إل في آيات
الكتاب وابن تيمية يشاغب ليمنع المجاز في آيات الكتاب – فإن قول الله تعالى
ان المنافقين "نسوا الله فنسيهم" قول شرعي والنسيان غير جائز على الله .
وهذا قول عقلي .والتعارض هنا حاصل بين ظاهر النص الشرعي الذي يثبت
نسيلنا ً لله الذي ل ينسى .وبين الحكم العقلي الذي يمنع النسيان عن الله الذي
ل ينسى .وعليه فل بد من التأويل .ويتعين أن يقدم الحكم العقلي الذي هو عدم
النسيان ،
على ظاهر الحكم الشرعي الذي يثبت النسيان .هذا هو قانون المام فخر الدين
.وعلى قانونه نقول في هذا النص :ان النسيان على المجاز هو الهمال .أي
تعاليم الله فأهملهم الله ونزع منهم عنايته ورحمته.
في
الفصل الول
في
أنه هل يجوز أن يحصل في كتاب الله
تعالى ،ما ل سبيل إلى العلم به ؟
ـــــ
اعلم :أن كثيرا ً من الفقهاء والمحدثين والصوفية ،يجوزون ذلك .والمتكلمون
ينكرونه .واحتجوا باليات والخبار )والمعقول ). ( (1
أما اليات فكثيرة :
أحدها :قوله تعالى « :أفل يتدبرون القرآن ،أم على قلوب أقفالها) » (2أمر
الناس بالتدبر في القرآن .ولو كان القرآن غير مفهوم ،فكيف يأمرنا بالتدبر فيه
؟
- 123 -
الثاني :قوله تعالى «:أفل يتدبرون القرآن ؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا
فيه اختلفا ً كثيرا ً) » (3فكيف يأمنا بالتدبر فيه ،لمعرفة نفي التناقض في الختلف
،مع أنه غير مفهوم للخلق ؟
الثالث :قوله تعالى «:وإنه لتنزيل رب العالمين ،نزل به الروح المين ،على
ن) » (4ول لم يكن مفهوما ً ،فكيف
قلبك .لتكون من المنذرين ،بلسان عربي مبي ً
يمكن أن يكون الرسول منذرا ً به ؟
) (1سقط خ
) (3النساء 82 ) (2محمد 24
) (4الشعراء 195-192
» يدل على أنه نازل بلغة العرب ،وإذا نوأيضا ً :قوله «:بلسان عربي مبي ً
)(5
)(8
شيء »
» وما ل يكون معلوما ً ل يكون هدى . )(9
السادس :قوله تعالى «:هدى للمتقين
السابع:قوله تعالى «:حكمة بالغة) »(10وقوله «:وشفاء لما في الصدور وهدى
ورحمة للمؤمنين) » (11وكل هذه الصفات ل تحصل في غير المعلوم .
» ول يكون مبينا ً )(12
الثامن :قوله تعالى «:قد جاءكم من الله نور ،وكتاب مبين
إل وأن يكون معلوما ً .
التاسع :قولـه تعالى «:أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؟ إن في
ذلك لرحمة وذكرى) » (13فكيف يكون الكتاب كافيا ً ،وكيف يكون ذكرى ،مع أنه
غير مفهوم ؟
يكون بلغا ً ،وكيف يقع النذار به ،وهو غير معلوم ؟ وقال في آخر الية « :
وليذكر أولو اللباب) » (15وإنما يكون كذلك إذا كان معلوما ً .
- 124 -
الحادي عشر :قوله تعالى «:قد جاءكم برهان من ربكم ،وأنزلنا إليكم نورا ُ مبينا
)
» (16فكيف يكون برهانا ً ونورا ً مبينا ً ،مع أنه غير معلوم .
الثاني عشر :قوله تعالى «:فمن اتبع هداي ،فل يضل ول يشقى .ومن أعرض
عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ً) » (17وكيف يمكن اتباعه تارة ،والعراض عنه
أخرى ،مع أنه غير معلوم ؟
» وكيف الثالث عشر :قوله تعالى «:إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
)(18
***
وأما الخبار .فقوله : εإني تركت فيكم ما إن تمسكتم به .لن تضلوا ز كتاب
الله وعترتي ) (20وكيف يمكن التمسك بع ،وهو غير معلوم ؟ وعن على – رضي
الله عنه – عن النبي εأنه قال « :عليكم بكتاب الله .فيه نبأ ما قبلكم ،وخبر ما
بعدكم ،وحكم ما بينكم ،هو الفصل ليس بالهزل .من تركه من جبار قصمه الله
،ومن ابتغى الهدى
في غيره ،أضله الله .هو حبل الله المتين ،والذكر الحكيم ،والصراط
المستقيم .هو الذي ل تزيغ به الهواء ،ول يشبع منه العلماء ،ول يخلق على
كثرة الرد ،ول تنقضي عجائبه .من قال به صدق ،ومن حكم به عدل ومن
خاصم به أفلح ،ومن دعى إليه هدى إلى صراط مستقيم »
***
الول :إنه لو ورد في القرآن شيء ل سبيل لنا إلى العلم به .لكانت تلك
المخاطبة تجـري مجرى
الثاني :المقصود من الكلم :الفهام ،ولو لم يكن مفهوما ً ،لكان عبثا ً .
الثالث :إن التحدي وقع بالقرآن .وما لم يكن معلوما ً ،لم يجز ،التحدي به .
. )(21
فهذا مجموع كلم المتكلمين )وبالله التوفيق(
***
- 125 -
فل يبعد أن يقال :إن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبدا ً :
مصلحة عظيمة له .فيتعبد الله تعالى بذلك ،تحصيل ً لهذه المصلحة .
( )(25
فهذا ما عندي من كلم الفريقين في هذا الباب )وبالله التوفيق
ـــــ
) (25سقط خ
- 126 -
الفصـل الثـاني
في
وصف القرآن بأنه محكم ومتشابه
ـــــ
اعلم :أن كتاب الله تعالى :دل علـى أنــه بكليتـه محكـم ،ودل علــى أنـه بكليتـه
متشابه ،ودل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه .
أما الذي يدل على أنه بكليته محكم :فهو قوله تعالى « :آلر .كتاب أحكمت
آياته) « - » (1آلر .تلك آيات الكتاب الحكيم») (2قد ذكر في هاتين اليتين :أن
جميعه محكم .والمراد بهذا المعنى :كونه حقا ً في ألفاظه ،وكونه حقا ً في
معانيه .وكل كلم سوى القرآن ،فالقرآن أفضل منه في لفظه ومعناه .وأن
أحدا ً من الخلق ل يقدر على )التيان بكلم() (3يساوي القرآن في لفظه ومعناه .
والعرب تقول في البناء الوثيق ،والعهد الوثيق ،الذي ل يمكن حله) : (4إنه محكم
.فهذا معنى وصف كل القرآن بأنه محكم .
ً )(5
وأما الذي يدل على أن بكليته متشابه :فهو قوله تعالى « :كتابا ً متشابها»
والمعنى :أنه يشبه بعضه بعضا ً في الحسن والفصاحة ،ويصدق بعضه بعضا ً .
وإليه الشارة بقوله تعالى « :ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلفا ً كثيرا ً
» أي لكان بعضه واردا ً على نقيض الخر ،ولتفاوت نسق الكلم في الجزالة
والفصاحة .
وأما الذي يدل على أن بعضه محكم ،وبعضه متشابه .فهو قوله تعالى :
فإن كان موضوعا ً لمعنى ولم يكم محتمل ً لغيره فهو النص .وإن كان محتمل ً
لغير ذلك المعنى .فإما أن يكون احتماله لحدهما راجحا ً على الخر ،وإما أن
أل .بل يكون احتماله لهما السوية .فإن كان
احتماله لحدهما راجحا ً على احتماله للخر ،كان ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح
ظاهرا ً ،وبالنسبة إلى الرجوح مؤول ً ،وأما إن كان احتماله لهما على السوية .
كان اللفظ بالنسبة إليهما معا ً مشتركا ً ،وبالنسبة إلى كل واحد منهما على
ً
التعيين) (12مجمل) (13فخرج من هذا التقسيم :أن اللفظ إما أن يكون نصا أو
ظاهرا ً أو مجمل ً ،أو مؤول ً .فالنص والظاهر يشتركان في حصول الترجيح ،إل
أن النص راجح مانع من النقيض ،والظاهر راجح غير مانع من النقيض ) فالنص
والظاهر يشتركان في حصول الترجيح () (14وهذا القدر هو المسمى بالمحكم .
وأما المجمل والمؤول .فهما يشتركان في أن دللة اللفظ غير راجحة .إل أن
المجمل ل رجحان فيه بالنسبة إلى كل واحد من الطرفين ) والمؤول فيه رجحان
بالنسبة إلى طرف المشترك ،وهو عدم () (15الرجحان بالنسبة إليه ،وهو
المسمى بالمتشابه ،لن عدم الفهم حاصل فيه
ثم اعلم :أن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية .فههنا يتوقف
الذهن .مثل القرء بالنسبة للحيض والطهر .وإنما الصعب المشكل :أن يكون
اللفظ بأصل وضعه راجحا ً في أحد المفهومين ،ومرجوحا ً في الخر .ثم إن
الراجح يكون باطل ً ،والمرجوح حقا ً .مثاله من القران :قوله تعالى « :وإذا
أردنا أن نهلك قرية .أمرنا مترفيها ففسقوا فيهًا») (16فظاهر هذا الكلم :أنهم
)(17
يؤمرون بأن يفسقوا .ومحكمة :قوله تعالى « :إن الله ل يأمر بالفحشاء »
)ردا ً على الكفار
فيما حكى عنهم « :وإذا فعلوا فاحشة .قالوا .وجدنا عليها آباءنا .والله أمرنا
)(18
بهًا»(
وكذلك قوله تعالى « :نسوا الله فنسيهم ») ) (19وظاهر النسيان ما كان عند
العلم ،ومرجوحه الترك في قوله تعالى « :فأنساهم أنفسه ») ( (20ومحكمة
ًً )(21
)(22
ى»
وقوله « :ل يضل ربي ول ينس ً قوله « :وما كان ربك نسيا»
فهذا تلخيص الكلم في تفسير المحكم والمتشابه .وبالله التوفيق .
الفصـل الثالث
في
الطريق الذي يعرف به كون الية محكمة أو متشابهة
ـــــ
اعلم :أن هذا موضع عظيم وذلك لن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن
اليات الموافقة )لمذهبه :محكمة ،واليات الموافقة() (1لمذهب الخصم :
متشابهة .فالمعتزلي يقول :إن قوله « :فمن شاء فليؤمن ،ومن شاء فليكفر
ً» :محكم .وقوله « :وما تشاءون إل أن يشاء الله » متشابه .والسني يقلب
القضية في هذا الباب .والمثلة كثيرة .فل بد ههنا من قانون أصلي يرجع إليه
في هذا الباب .فنقول .إذا كان لفظ الية والخبر ظاهرا ً في معنى .فإنما يجوز
لنا ترك هذا الظاهر بدليل منفصل ،وإل لخرج الكلم عن أن يكون مفيدا ً ،
ولخرج القرآن عن أن يكون حجة .ثم ذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظيا ً
أو عقليا ً .
أما )القسم) ( (2الول .فنقول هذا إنما يتم إذا حصل من ذينك الدليلين
اللفظيين :تعارض .وإذا وقع التعارض بينهما ،فليس ترك أحدهما لبقاء الخر ،
أولى من العكس .اللهم إل أن يقال :أحد الدليلين قاطع ،والخر ظاهر .
والقاطع راجح على الظاهر .أو يقال :كل واحد منهما ،وإن كان ظاهرا ً ،إل أن
أحدهما أقوى .إل أنا نقول :أما الول فباطل .لن الدلئل اللفظية ل تكون
قطعية ،لنها موقوفة على نقل اللغات ،ونقل وجوه النحو والتصريف ،وعلى
عدم الشتراك ،والمجاز ،
والتخصيص ،والضمار ،وعلى عدم المعارض النقلي والعقلي .وكل واحدة من
هذه المقدمات .مظنونة .والموقوف على المظنون .أولى أن يكون مظنونا ً .
فثبت :أن شيئا ً من الدلئل اللفظية ل يمكن أن يكون قطعيا ً .
وأما الثاني :وهو أن يقال :أحد الظاهرين أقوى من الخر ،إل أن على هذا
التقدير يصير ترك أحد الظاهرين لتقرير الظاهر الثاني :مقدمة ظنية .والظنون
ل يجوز التعويل عليها في المسائل العقلية القطعية .فثبت بما ذكرنا :أن صرف
اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح .ل يجوز إل عند قيام الدليل القاطع على
أن ظاهره محال ممتنع .وإذا حصل هذا المعنى ،فعند ذلك يجب على المكلف
أن يقطع بأن مراد الله تعالى من هذا اللفظ ،ليس ما أشعر به ظاهره .ثم عند
هذا المقام :من جوز التأويل عدل إليه ،ومن لم يجوزه ،فوض علمه على الله
تعالى )وبالله التوفيق). ( (3
) (3سقط خ
- 129 -
الفصل الرابع
في
تقرير مذهب السلف
ـــــ
حاصل هذا المذهب :أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى
منها شيء غير ظاهرها ،ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ،ول يجوز
الخوض في تفسيرها .وقال جمهور المتكلمين :بل يجب الخوض في تأويل تلك
المتشابهان .
واحتج السلف على صحة مذهبهم بوجوه :
». )(1
الول :التمسك بوجوب الوقف على قوله تعالى « :وما يعلم تأويله إل هو
والذي يدل على أن الوقف واجب وجوه :
الول :
إن ما قبل هذه الية يدل على أن طلب المتشابه مذموم حيث قال « :فأما
الذين في قلوبهم زيغ ،فيتبعون ما تشابه منه ،ابتغاء الفتنة ن وابتغاء تأويله »
)(2
فلو كان طلب المتشابه جائزا ً ،لما ذم الله تعالى على ذلك فإن قيل :لم ل
يجوز أن يكون المراد منه :طلب وقت قيام الساعة ،كما في قوله تعالى « :
يسئلونك عن الساعة أيان مرساها ؟ قل :إنما علمها عند ربي) » (3ويحتمل أن
يكون المراد منه :طلب العلم بمقادير الثواب والعقاب ،وطلب الوقات التي
يظهر فيها الفتح والنصر .كما قالوا « :لو ما تأتينا
) (3العراف 181 ) (2آل عمران 7 ) (1آل عمران 7
بالملئكة) . » (4قيل :إنه تعالى لما قسم الكتاب إلى قسمين :محكم ومتشابه .
ودل العقل على صحة هذه القسمة – من حيث إن حمل اللفظ على معناه
الراجح هو المحكم ،وحمله على معناه الذي ليس راجحا ً :هو المتشابه – كان
تخصيص ذلك ببعض المتشابهات دون البعض :تركا ً للظاهر .
الثاني :
إن الله تعالى مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون « :آمنا به) » (5وقال في
سورة البقرة « :فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم) » (6فهؤلء
الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل ،لما كان لهم في
اليمان به مزيد) (7مدح .لن كل من عرف شيئا ً على سبيل التفصيل آمن به .أما
الراسخون في العلم فهم الذين علموا بالدلئل القطعية العقلية أنه تعالى عالم
بما ل نهاية له من المعلومات ،وعلموا أن القرآن كلم الله تعالى ،وعلموا أنه ل
يتكلم بالباطل ول بالعبث .فإذا سمعوا آية دلت القواطع على أنه ل يجوز أن
يكون ظاهرها مراد الله تعالى ،بل مراد الله تعالى منها غير ذلك الظاهر .ثم
فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه ،وقطعوا بأن ذلك المعنى – أي معنى كان
-؟ هو الحق والصواب .فهؤلء هم الراسخون في العلم حيث )يبعدون) ( (8أمثال
هـذه المتشابهات عن اليمان والجزم بصحة القرآن .
- 130 -
الثالث :إنه لو كان قوله تعالى « :والراسخون في العلم» معطوفا ً على قوله
ُ« إل الله» لصار قوله « :يقولون آمنا به» :ابتداء .وإنه بعيد عن
الفصاحة .لنه كان الولى أن يقال :وهم يقولون آمنا به ،أو يقال .ويقولون
آمنا به .
فإن قيل في تصحيحه وجهان :
الول :أن يكون التقدير :هؤلء القائلون بالتأويل ،و « يقولون آمنا به»
والثاني :أن يقولون حال ً من « الراسخين» قبل .
أما الول فمدفوع .لن تفسير كلم الله تعالى بما ل يحتاج معه إلى الضمار ،
أولى من تفسيره بما يحتاج معه الضمار .
والثاني :ضعيف أيضا ً .لن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره ،وههنا تقدم ذكر الله
)تعالى)( (9وذكر الراسخين في العلم ،فوجب أن يكون قوله « :يقولون آمنا به»
:حال ً من الراسخين ،ل مــن « الله» تعالى .فيكون ذلك تركا ً للظاهر .من
حيث أن الظاهر يقتضي أن يكون ذلك حال ً عن كل من تقدم ذكره .فثبت :أن
القول بجواز التأويل محوج إلى الضمار في هذه الية ،والقول بعدم جوازه ل
يحوج إليه .فكان أولى .
الرابع :قوله تعالى « :كل من عند ربنا» يعني :أنهم آمنوا بما عرفوه على
التفصيل ) وبما لم يعرفوا تفصيله وتأويله .إذ لو كانوا عالمين بالتفصيل) ( (10في
الكلم ،لم يبق لهذا الكلم فائدة .فهذا أجمل وجوه الستدلل بهذه الية في
نصرة مذهب السلف .
فإن قيل :إن هذا الستدلل إنما يتم بإقامة الدليل على أن الوقف عند قوله
تعالى « :وم يعلم تأويله إل الله » :واجب ،والعطف )غير)( (11
جائز .لن العطف قراءة مشهورة منقولة بالنقل المتواتر ،فإقامة الدليل على
فساده طعن في النقل المتواتر ،وذلك ل يجوز ،قيل :نحن ل نجعل هذه
المسألة قطعية ،بل ظنية احتمالية .وعلى هذا التقدير يزول السؤال .
الحجة الثانية على صحة مذهب السلف :التمسك بإجماع الصحابة – رضي الله
عنهم – أن هذه المتشابهات في القرآن والخبار :كثيرة .والدواعي إلى البحث
عنها ،والوقوف على حقائقها :متوفرة .فلو كان البحث عن تأويلها على سبيل
التفصيل جائزا ً ،لكان أولى الخلق بذلك الصحابة والتابعون – رضي الله عنهم –
- 131 -
ولو فعلوا ذلك لشتهر ،ونقل بالتواتر ،وحيث لم ينقل عن واحد من الصحابة
والتابعين الخوض فيها ،علمنا أن الخوض فيها غير جائز .
الحجة الثالثة :
إنا قد ذكرنا أن اللفظ المتشابه قسمان :المجمل والمؤول أما المجمل :فهو
الذي يحتمل معنيين فصاعدا ً ،احتمال ً على التسوية .فنقول :إنه إما أن يكون
محتمل ً لمعنيين فقط ،أو لمعان أكثر من اثنين فإن كان محتمل ً لمعنيين فقط ،
ثم دل الدليل على عدم أحدهما ،فحينئذ يتعين أن المراد هو الثاني .مثل :أن
الفوق .إما أن يراد به الفوق في الجهة ،أو في الرتبة .ولما بطل حمله على
الجهة .تعينت الرتبة .أما إذا كان اللفظ لمفهومات ثلثة) (12لم يلزم من )بطلن
واحد منها) ( (13تعين الثاني والثالث بعينه .ول يمكن أيضا ً حمل اللفظ عليهما معا ً
،لما ثبت أن اللفظ المشترك ،ل يجوز استعماله في مفهوميه) (14معا ً .
وأما المؤول) . (15فنقول :اللفظ إذا كانت له حقيقة واحدة ،ثم دل على أنها غير
مراده ،وجب حمل اللفظ على مجازه .ثم ذلك المجاز إن كان واحدا ً ،تعين
صرف اللفظ إليه ،صونا ً عن التعطيل .وإن لم يكن )متعينا ً ،بقى) ( (16اللفظ
مترددا ً) (17في تلك المجازات .وحينئذ فذلك الكلم الذي ذكرناه في المجمل ،
عائد ههنا بعينه .فثبت بما ذكرنا :أن تأويل المتشابه قد يكون معلوما ً ،وقد
يكون مظنونا ً .والقول بالظن غير جائز) – (18على ما سبق تقريره في باب أن
التمسك بخبر الواحد في معرفة الله ) تعالى) ( (19غير جائز –
الكلم في تقرير مذهب السلف . )(20
فهذا هو جملة
وأما المتكلمون القائلون بالتأويلت المفصلة .فحجتهم ما تقدم :من أن القرآن
يجب أن يكون مفهوما ً ،ول سبيل إليه في اليات) (21المتشابهة ،إل بذكر
التأويلت .فكان المصير إليه واجبا ً )والله أعلم)( (22
-------------
الفصـل الخامس
في
تفاريع مذهب السلف
ــــــ
وهي أربعة :
- 132 -
الول :
إنه ل يجوز تبديل لفظ من اللفاظ المتشابهة ،بلفظ آخر متشابه) ، (1سواء كان
بالعربية أو بالفارسية .وذلك لن اللفاظ المتشابهة قد يكون بعضها أكثر إيهاما ً
للباطل من البعض .والزيادة في اليهام ) من غير حاجة إليها ل يجوز .بلى .قد
تكون زيادة اليهام) (2حاصلة )في اللفظين() (3إل أن التمييز بين هذا القسم ،
والقسم الول )فيه() (4عسر .فالحتياط :المتناع من الكل .أل ترى أن الشرع
أوجب العدة على المطوءة ،لبراءة الرحم ،لحكم النسب ،ثم قالوا :تجب
العدة على العقيم ،واليسة ،وعند العزل .لن )بواطن) ( (5الرحام ،ل يعلمها
إل علم الغيوب ؟ فإيجاب العدة أهون من ركوب الخطر .إل أن الخطر في
معرفة )ذات) ( (6الله تعالى وصفاته ،أعظم من الخطر في العدة .فإذا راعينا
الحتياط به ،فلن نراعيه ههنا أولى .
الفرع الثاني :إنه يجب الحتراز عن التصريف ) فل نقول في قوله
تعالى « :استوى) » (7أنه مستوى( لما ثبت في علم البيان :أن اسم الفاعل
يدل على أن المشتق منه متمكنا ً ثابتا ً ومستقرا ً .أما لفظ الفعل .فدللته على
هذا المعنى ضعيفة .والذي يؤكده :أنه ورد في القرآن أنه تعالى علم العباد
فقال « :الرحمن علم القرآن) « - »(8وعلمك ما لم تكن تعلم) « » (9وعلمناه من
لدنا علما ً) « - » (10وعلم آدم السماء كلها) » (11ثم أجمعنا على أنه ل يجوز أن
يقال لله تعالى :يا معلم .فكذا ههنا .
الفرع الثالث :إنه ل يجوز جمع اللفاظ المتشابهة ،وذلك لن التلفظ باللفظ
الواحد أو اللفظين ،قد يحمل على المجاز .لن الستقراء دل على أن الغالب
على الكلم :التكلم بالحقيقة .فإذا جمعنا اللفاظ المتشابهة ورويناها دفعة
واحدة ،أوهمت كثرتها :أن المراد منها ظواهرها .فكان ذلك الجمع سببا ً ليهام
زيادة الباطل .وإنه ل يجوز .
الفرع الرابع :
إنه كما ل يجوز الجمع بين متفرقة ،فكذلك ل يجوز التفرق بين مجتمعة .فقوله
تعالى « :وهو القاهر فوق عباده) » (12ل يدل على جواز أن يقال :إنه تعالى
فوق ز لنه تعالى لما ذكـر القاهر قبله ،ظهر أن المراد بهذه الفوقية :الفوقية
بمعنى القهر ،ل بمعنى الجهة .بل ل يجوز أن يقال :وهو القاهر فوق غيره ،بل
ينبغي أن يقال « :فوق عباده » لن ذكر العبودية عند وصف الله تعالى
بالفوقية ،يدل على أن المراد من تلك الفوقية :فوقية السيادة واللهية .
طه 5وفي خ :فاذا أوردنا قولنا "استوى" فل ينبغــي أن نقــول انــه تعــالى )(7
مستو
) (8الرحمن 2-1
- 133 -
واعلم :أن الله تعاى لم يذكر لفظة المتشابهات ،إل وقرن بها قرينة تدل على
زوال الوهم الباطل .مثاله :أنه تعالى لما قال « :الله نور السموات والرض
)(13
» ذكر بعده « مثل نوره » فأضاف النور إلى نفسه .لو كان هو تعالى نفس النور
،لما أضاف النور إلى نفسه .لن لضافة الشيء إلى نفسه ممتنعة .ولما قال
تعالى « :الرحمن على العرش استوى) » (14ذكر قبله « تنزيل ً ممن خلق الرض
والسموات العلى » وذكر بعده قوله « :له ما في السموات وما في الرض وما
بينهما ،وما تحت الثرى » وقد ذكرنا أن هاتين اليتين تدلن على أن كل ما كان
مختصا ً بجهة فوق :مخلوق محدث .فثبت بما ذكرنا :أن الطريق في هذه
المتشابهات )هو التأويل في تلك اللفاظ تأدبا ً في حق واجب الوجود .وبالله
التوفيق)( (15
في
الفصل الول
في
حكم ذكـر هـذه المتشابهات
ـــــ
اعلم :أن ذكر هذه المتشابهات ،صار شبهة عظيمة للخلق في اللهيات وفي
النبوات ،وفي الشرائع .أما في اللهيات
- 134 -
فلن المصدقين بالقرآن ،اعتقدوا في الله تعالى اعتقادات باطلة ،حتى صاروا
جاهلين بالله تعالى ،وواصفين له سبحانه وتعالى بما ينافي اللهية والقدم). (1
وأما في النبوات .فلن العارفين بوجوب تنزيه الله تعالى عن هذه الصفات ،
جعلوا هذا طعنا ً في نبوة محمد εوقالوا :لو كان رسول ً حقا ً من عند الله تعالى
لكان أولى المراتب أن يكون عارفا ً بربه ،وحيث لم يعرف ربه) (2بل وصفه
بصفات المحدثات ،امتنع كونه رسول ً حقا ً .
وأما في الشرائع .فلن فيهم من )توسل) ( (3بذلك إلى الطعن في القرآن
وقالوا :إن القرآن قد غير وبدل) (4والقرآن الذي أنزل على محمد εكان خاليا ً
عن هذه الشبهات .واحتجوا عليه :بأن هذا القرآن مملوء من وصف القرآن
دى وتبيانا ً وحكمة وشفاًء ونورا ً .ومن المعلوم بالضرورة :أن هذه اليات بكونه ه ً
المتشابهات سبب عظيم لضلل الخلق .و وقوعهم في التجسيم والتشبيه .فإما
أن تكون اليات الدالة على كون القرآن نورا ً ،وشفاًء :كاذبة .وإما أن تكون
اليات الدالة على التجسيم والتشبيه :باطلة كاذبة .
) (2به :ط ،ربه :خ ) (1والقدم :ط ،والقدر :خ
) (4ونقل :خ ) (3لو سئل :ط
( هذه )(5
وعلى التقديرين ) :فالطعن في القرآن لزم .وأيضا ً :فهب أنا نحمل
اليات المتشابهة على الكلم بالمجاز .
)لكن من الكلم مجاز موهم لقول باطل ،واعتقاد فاسد ،وعليه فإنه كان يجب
أن نتكلم بذلك الحق على وجه التصريح به ،ل بالمتشابهات .ليصير ذلك سببا
لزوال اليهام الباطل .ول يوجد في القرآن ألفاظ قد تدل) ( (6على التنزيه
والتوحيد – على سبيل التصريح – فإن قوله « :قل هو الله أحد) » (7وقله « :
ليس كمثله شيء .وهو السميع البصير) » (8ل يدلن على التنزيه ،إل دللة
ضعيفة .وكل ذلك يوجب الطعن في القرآن .
***
فهذه حكاية هذه الشبهة في هذا الباب.
واعلم :أن العلماء المحققون ذكروا أنواعا ً من الفوائد في إنزال المتشابهات :
الول :إنه متى كانت المتشابهات موجودة ،كان الوصول إلى الحق أصعب
وأشق .فزيادة المشقة توجب زيادة الثواب .قال الله تعالى « :أم حسبتم أن
تدخلوا الجنة ؟ ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ،ويعلم الصابرين)» (9
الثاني :لو كان القرآن كله محكما ً ،لما كان مطابقا ً إل لمذهب واحد فكان على
هذا التقدير تصريحه مبطل ً لكل ما سوى هذا المذهب .وذلك
مما ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله ،وعن النظر فيه ،والنتفاع به أما لما
ل( ) (10على المحكم والمتشابه ،فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب ،أن كان )مشتم ً
يجد فيه ما يقوي مذهبه ،ويؤيد مقالته .وحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب .
ويجتهد في التأويل كل صاحب مذهب .وإذا بالغوا في ذلك التأزيل ،صارت
المحكمات مفسر بالمتشابهات .وبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ،
فيصل إلى الحق .
والثالث :إن القرآن إذا كان مشتمل ً على المحكم والمتشابه ،افتقر الناظر فيه
إلى الستعانة بدلئل العقل ،والستكثار من سائر العلوم .وحينئذ يتخلص من
ظلمة التقليد ،ويصل إلى ضياء الستدلل والحجة .أما لو كان كله محكما ً .لم
يفتقر إلى التمسك بالدلئل العقلية ،وحينئذ يبقى في الجهل والتقليد .
والرابع :إن القرآن لما كان مشتمل ً على المحكم والمتشابه ،افتقر إلى تعلم
طريق التأويلت ،وترجيح بعضها على بعض ،وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل
علوم كثيرة ،من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه ،ومعرفة طريق
الترجيحات .ولو لم يكن القرآن مشتمل ً على هذه المتشابهات ،لم يفتقر إلى
شيء من ذلك .فكان ليراد المتشابهات هذه الفوائد .
الخامس - :وهو السبب القوى – أن القرآن مشتمل على دعوة الخواص
والعوام )والعوام تنبو في أكثر) ( (11المور عن إدراك الحقائق العقلية المحضة .
فمن سمع من العوام في أول المر إثبات موجود لي بجسم ول متحيز ول مشار
إليه ،ظن أن هذا عدم محض ،فوقع
في التعطيل .فكان الصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما
تخيلوه وتوهموه .ويكون ذلك مخلوطا ً بما يدل على الحق الصريح .
فالقسم الول :وهو الذي يخاطبون به في أول المر ،يكون من باب
المتشابهات .
والقسم الثاني :هو الذي يكشف لهم في آخر المر ،هو من المحكمات .فهذا
ما لخصناه في هذا الباب )وبالله التوفيق)( (12
-----------
) (12سقط خ
الفصل الثاني
في
أن المجسم هل يوصف بأنه مشبه أم ل ؟
ـــــ
قال المجسم :إنا وإن قلنا :إنه تعالى جسم مختص بالحيز والجهة .إل أنا
نعتقد :أنه بخلف سائر الجسام في ذاته وحقيقته .وذلك يمنع من القول
بالتشبيه .فإن لثبات المساواة في ،الصور) (1ل يوجب إثبات التشبيه .ويدل
عليه :أنه تعالى صرح في كتابه بالمساواة في الصفات الكثيرة ،ولم يقل أحد
بأن ذلك يوجب التشبيه .
- 136 -
» وقال في صفة فالول :قال في صفة نفسه « :إنني معكما :أسمع وأرى
)(2
الثامن :سمى تحيتنا سلما ً فقال « :تحيتهم يوم يلقونه :سلم) » (19وسمى
نفسه سلما ً .كما )كان
يقول النبي( ) ε (20بعد فراغه من الصلوة « :اللهم أنت السلم ،ومنك السلم ،
تباركت ياذا الجلل والكرام »
» )(21
التاسع :المؤمن قال الله تعالى « :وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
ووصف به نفسه فقـال « :السلم المؤمن)» (22
الثالث عشر :العلي .والنسان يسمي نفسه بذلك ومنه « :على » -رضي الله
عنه -
الرابع عشر :الكبير .قال عن نفسه « :وهو العلي الكبير) » (26وقال «:إن له أبا ً
شيخا كبيرا ً) »(27وقال حكاية عن المرأتين « :وأبونا شيخ كبير)» (28
والخامس عشر :الحكيم .والله تعالى وصف نفسه في كتابه به )فقال« :تنزيل
من حكيم حميد()» (29
السادس عشر :الشهيد قال في حق الخلق « :فكيف إذا جئنا من كل أمة
بشهيد)) » (30وقال في نفسه « :أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد » (
» « -وبالحق )(31
والسابع عشر :الحق .قال « :فتعالى الله الملك الحق
»
» وقد )(36
الثامن عشر :الوكيل .قال الله تعالى « :وهو على كل شيء وكيل
يوصف الخلق بذلك فيقال :فلن وكيل فلن .
التاسع عشر :المولى .قال تعالى « :ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا ،وأن
الكافرين ل مولى لهم) »(37ثم قال في حقنا « :ولكل جعلنا مولى) » (38والنبي ε
قال « :من كنت موله ،فعلي موله)» (39
العشرون :الولي .قال الله تعالى « :إنما وليكم الله ورسوله ،والذين آمنوا
)(40
» » وقال النبي « : εأيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها .فنكاحها باطل
)(41
واعلم :أن حاصل هذا الكلم من جانبنا :أنا قد دللنا في القسم الول من هذا
الكتاب على أن الجسام متماثلة في تمام الماهية ) فلو كان الباري تعالى جسما ً
،لزم أن يكون مثل ً لهذه الجسام في تمام الماهية ) ( (59وحينئذ يكون القول
بالتشبيه لزما ً .أما ما لم يدل الدليل على الشيء الموجود به والعالمية
والقادرية ،فإنه )ل ) ( (60يوجب تماثلها في تمام الماهية .فظهر الفرق )وبالله
)(61
التوفيق(
الفصل الثالث
في
أن من يثبت كونه تعالى جسما ً متحيزا ً مختصا ً
بجهة معينة .هل يحكم بكفره أم ل ؟
ــــــ
للعلماء فيه قولن :
أحدهما :أنه كافر – وهو الظهر – وهذا لن مذهبنا :أن كل شيء يكون مختصا ً
بجهة وحيز ،فإنه مخلوق محدث ،وله إله أحدثه وخلقه .
)
وأما القائلون بالجسمية والجهة )الذين ) ( (1أنكروا وجود موجود آخر سوى )هذه
( (2الشياء التي يمكن الشارة إليها ،فهم منكرون لذات الموجود ،الذي يعتقد
أنه هو الله .وإذا كانوا ) (3منكرين لذاته ،كانوا كفارا ً ل محالة .وهذا بخلف
المعتز لي ) (4فإنه يثبت موجودا ً ،وراء هذه الشياء التي يشار إليها بالحس ،إل
أنه خالفنا في صفات ذلك الموجود .والمجسمة يخلفوننا في إثبات ذات المعبود
ووجوده ،فكان هذا الخلف أعظم .فيلزمهم الكفر ،لكونهم منكرين لذات
المعبود الحق ولوجوده .والمعتزلة في صفته ل في ذاته .
والقول الثاني :إنا ل نكفرهم .لن معرفة التنزيه ،لو كانت شرطا ً لصحة
اليمان لوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم ،أن ل يحكم بإيمان
- 140 -
أحد إل بعد أن يتفحص :أن ذلك النسان .هل عرف الله تعالى بصفات التنزيه ،
أو ل ؟ وحيث حكم بإيمان الخلق من غير هذا التفحص ،علمنا :أن ذلك ليس
شرطا ً لليمان ). (5
***
وهذا آخر الكلم في هذا الكتاب .ونحن نسأل الله العظيم أن يجعله في الدنيا
والخرة .سببا ً للفوز والسرور والنجاة واستحقاق الدرجات برحمته إنه أرحم
الراحمين .والحمد لله رب العالمين )والصلة والسلم على سيدنا محمد أشرف
المرسلين زخاتم النبيين ،وعلى آله وأصحابه أجمعين ،وعلينا يارب العاملين .
غفر الله لكاتبه وقارئه ومصححه ولمن قال :آمين ،ولجميع المسلمين( ). (6
ــــــ
) (5اعلم :أن القول الثاني هو القول الصحيح .لن تكفير المسلم ليس هو
بالشيء الهين .لن الله تعالى لم يجعل عقول الناس على درجة سواء في الغهم
.فمنهم العامي ومنهم العالم .
) (6ما بين القوسين من خ
قَ ِ
ضّية الكتاب
لحظ :
أول ً :إن محمد بن إسحاق بن خزيمة ،المتوفى سنة 311هـ الذي يكرهه المام
فخر الدين الرازي – كراهة تحريم ،قد ألف كتابه « التوحيد واثبات صفات الرب
» ليعلم الناس :أن لله – عز وجل – وجها ً ويدين – وكلتا يديه يمين – ورجلين
وأذنين وعينين ....وهكذا .وأنه – عز وجل – يستوي على العرش في السماء .
ومن ل يثبت ذلك لله عز وجل يعتبر كافرا ً .يقول ابن خزيمة :
« واجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ،ما أثبت الخالق البارئ لنفسه ،
من العين .وغير مؤمن من ينفي عن الله – تبارك وتعالى – ما قد أنزله في
» ومن المسلمين من يفسر وجه الله . . .الخ هذه الصفات التي محكم تنزيله)ُ (1
توهم أن الله جسم ،بمعنى مجازي .كما تقول العرب :وجه الكلم و وجه
الثوب .وابن خزيمة يصف هؤلء المسلمين بالجهل ،وبعدم التحري في العلم ،
ويأتي بأحاديث كثيرة .ويفسرها على ظاهرها بدون تأويل .مثل « :أتى النبي
صلى الله عليه وسلم رجل من أهل الكتاب ،فقال :يا أبا القاسم .أبلغك أن
الله عز وجل يحمل الخلئق على إصبع ،والسموات على إصبع ،والرضين على
إصبع ،والشجر على إصبع ،والثرى على إصبع ؟ قال :فضحك النبي صلى الله
عليه وسلم حتى بدت نواجذه .قال :فأنزل الله تعالى « وما قدروا الله حق
» إلى آخر الية ُ .
» قدره .والرض جميعا ً قبضته يوم القيامة ُ
- 141 -
وقد ألف المام فخر الدين الرازي المتوفى في سنة 606هـ كتابه
« أساس التقديس»ُ للرد على ابن خزيمة ،حتى ل يؤمن الناس بكلمه .وانتصر
عليه بالشيخ الغزالي أبي حامد حجة السلم ،وبغيره من العلماء الراسخين في
العلم .ولم يترك حديثا ً أتى به ابن خزيمة من غير أن يذكره ،ويبين تأويله على
الحقيقة وعلى المجاز .ومن ينظر في الكتابين يجد أن كل الحاديث التي ذكرها
المام فخر الدين في أساس التقديس ،قد نقلها بنصها من كتاب ابن خزيمة هذا
،ليرد كيده إلى نحره ،وفي نهاية كتابه ل يحكم عليه بالجهل ،بل يحكم عليه
بالكفر والخروج من الدين .
ثانيا :
إن الله – عز وجل – بين في القرآن الكريم :أنه إله واحد ،ول إله غيره .
وبين :أنه ليس كمثله شيء .والمسلمون ل يختلفون في الوحدانية ،وفي
التنزيه لله _ عز وجل – وإنما يقول بعضهم :هو واحد ،له يد ،ليست كأيدينا –
ومنهم الشيخ ابن خزيمة – ورجـل ،ليسـت كأرجـلنا ،ويستوي على العرش ،
بدون تمثيل لكيفية الستواء .وهكذا يثبتون الصفات الخبرية ،الواردة في القرآن
والحديث عن الله .وهذا الثبات لظاهر الخبار التي تثبتها .مثل « :يد الله فوق
أيديهم»ُ وينفون التشبيه والتمثيل .وهذا النفي لظاهر الخبار التي تنفيها .مثل :
» أي ليس له مثل ل كفء ول نظير ز ويقول بعض « ولم يكن له كفوا ً أحد ُ
المسلمين ك هو واحد ليس له جسم ،لن الجسم يتخيله العقل على أي شبه
كان .وحيث نفي عن نفسه التشبيه .فإذن ل يكون جسما ً وما ورد في الخبار
عن يده ورجله وعينه ،وسائر العضاء التي تدل على أن الله جسم :تؤول على
معنى :القدرة ومجيء المر ،وأنه يسمع ويرى ،وما شابه ذلك .ومن هؤلء
المسلمين الشيخ محمد بن عمر مؤلف « أساس التقديس»ُ – في علم الكلم –
وهؤلء يقولون أيضا ً :إن الذي ورد في القرآن وفي الحاديث من أن الله له
صفات تشبه صفات البشر ،من المكر والخداع والستحياء والغضب والرضا
والمحبة والكره ،وما شابه ذلك .ليس على الحقيقة .وإنما معناه :أن الله
يتحدث عن نفسه للبشر ،كأنه واحد منهم ،ليقرب ذاته إلى عقولهم .وهو ليس
مثلهم ،ول مثل أي شيء
« وقد أسندت هذه الفعال إلى الله من باب المشاكلة .وهي تسمية الجزاء
»). (2
على الشيء ،باسم ذلك الشيء ُ
وقال المام الشافعي – رضي الله عنه -في هذه الصفات ،كلما ً معناه :إن
القرآن يحدث عن الله وصفاته لسان بني آدم .قال يرحمه الله في قوله تعالى :
« وهو أهون عليه»ُ :معناه :في العبرة عندكم .لنه لما كل للعدم « كن»ُ
فيخرج تاما ً ،كامل ً بعينيه وأذنيه وبصره وأنفه وسمعه ومفاصله .فهذا في العبرة
أشد من أن يقول لشيء قد كان وفى :عد إلى ما كنت .فالمراد من الية :وهو
أهون عليه بحسب عرفكم ،ل أن شيئا ً يكون أهون على الله تعالى من شيء
)(3
آخر »ُ
وبعد رحيل المام فخر الدين الرازي ،ظهر الشيخ ابن تيمية الحراني ،ليرد
عليه ،منتصًر بابن خزيمة .وأمثاله من علماء في المسلمين .وفي عصرنا هذا
علماء معجبون بابن تيمية ،وآخرون معجبون بفخر الدين ،وعلماء يفوضون المر
لله ول يتحدثون في هذا الخلف .وهؤلء ل يحفل بهم ول يلتفت إليهم .
- 142 -
) (2نص عبارة الدكتور محمد عبد المنعم القيعي ،أستاذ ورئيس قسم التفسير .
بجامعة الزهر .من ص ) 51عقيدة المسلمين( – طبع المجلس العلى للشئون
السلمية سنة 1986
) (3مناقب المام الشافعي ص 208نشر مكتبة الكليات الزهرية .
ثالثا ً :إن المام فخر الدين الرازي المتوفى سنة 606هـ هو أستاذ لبن تيمية
المتوفى سنة 728هـ .وابن تيمية تلميذ له .وليس التلميذ أفضل من الستاذ .
أما أن ابن تيمية تلميذ للمام فخر الدين الرازي .فمن الدلة على أنه تلميذه :
أنه كان يدرس كتب المام فخر الديـن لطلب العــلم العلم ويتكسب من وراء
التدريس ،لنه هو وأسرته كانوا غرباء في « دمشق»ُ لما هربوا من حاران أيام
التتار .يقول ابن رجب مؤلف « العقود الدرية في مناقب شيخ السلم أخمد بن
تيمية »ُ وهو ابن قدامة المقدسي الحنبلي المتوفى سنة سبعمائة وأربعة وأربعين
.
يقول ابن رجب ،عنه ،ما نصه « :و لزم الشيخ تقي الدين بن تيمية مدة ،وقرأ
عليه قطعة من "الربعين في أصول الدين " للرازي) ُ»"(4وأما أن التلميذ ليس
أفضل من الستاذ :فلقول المسيح عيسى عليه السلم « :ليس التلميذ بأفضل
من المعلم ،ول العبد أفضل من سيده .يكفي التلميذ أن يكون كمعلمه ،والعبد
» )متى (25-24 :10ولما شاع على ألسنة الناس :من علمني حرفا ً ، كسيده ُ
ً
صرت له عبدا .
وأقول لطلب العلم :من أراد منكم أن يفهم كتب المام فخر الدين بسهولة
ويسر ،فليقرأ كتب ابن تيمية .لنه يأتي بالضد لكثير من آراء المام – ول بتيسر
له الفحام – ومن أراد منكم أن يفهم آراء ابن تيمية بسهولة ويسر ،فليقرأ كتب
المام فخر الدين .
***
)(4ص 14العقود الدرية .لبن عبد الهادي – تحقيق الشيخ محمد حامد الفقي –
رحمه الله – مطبعة حجازي بالقاهرة سنة 1938
قوله « :ليس كمثله شيء»ُ قول محكم ،له معنى واحد ،وهو نفي الشبيه
والنظير ،عن الله عز وجل .وقوله « يد الله»ُ :قول متشابه يحتمل معنيين :
الول :اليد الجارحة .والثاني :اليد .كناية عن القدرة .وحيث أنه متشابه .
يتعين الرجوع للمحكم .والمحكم وهو « ليس كمثله شيء»ُ ل يدل على معنيين
كالمتشابه .بل يدل على معنى واحد ،وهو نفي التشبيه .ويسأل المام فخر
الدين هذا السؤال :أي المعنيين من معنيي المتشابه هو الذي يتفق مع
المحكم ؟ إذا عرفته فقد عـرفت مـراد الله تعالى من قوله « :يد الله فوق
أيديهم»ُ ويجيب بقوله :إن المعنى المتفق مع المحكم هو أن اليد كناية عن
القدرة .لن اليد الجارحة ل تتفق مع نفي التشبيه .
وقوله تعالى « :هو الذي أنزل عليك الكتاب .منه آيات محكمات .هن أم
الكتاب .وأخر متشابهات .فأما الذين في قلوبهم زيغ ،فيتبعون ما تشابه منه
ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله .وما يعلم تأويله إل الله .والراسخون في العلم
يقولون :آمنا به كل من عند ربنا ُ
»
-1يدل على أن في القرآن المحكم والمتشابه .كما ذكرنا في يد الله « يد الله
»ُ وفي « ليس كمثله شيء»ُ
-2ويدل على أن الذين في قلوبهم زيغ ،أي بعد عن الحق .يأخذون التشابه
للفتنة ،ولتأويله تأويل ً فاسدا ً .فمثال أخذهم التشابه للفتنة .أن أهل الكتاب
قالوا في قوله تعالى « :إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور»ُ :إن القرآن شهد
بصحة التوراة ،وأنها تكفي في هداية الناس إلى الحق .ومثال أخذهم المتشابه
للتأويل الفاسد :إن النصارى قالوا في قوله تعـــالى « :وكلمته ألقاها إلى مريم
وروح منه»ُ أن القرآن اعترف بصحة أقنوم البن الذي هو الكلمة ،وصحة أقنوم
الروح القدس .
-3وأما الراسخون في العلم اللهي ،لتأكدهم من الله بالبراهين والحجج ،
وخشيتهم منه ،فإنهم إذا فهموا المعنى حمدوا الله ،وإذا لم يفهموه انهموا
أنفسهم بالتقصير في العلم ،أو طلبوا الفتوح من الله .ويقولون ما فهموه وفي
ما ل يفهموه « :كل من عند ربنا»ُ
تيمية بقوله :دل سياق الية على أنها معية علم ،حيث بدئت الية بالعلم وختمت
بالعلم .وقوله « ما يكون من نجوى ثلثة ،إل هو رابعهم »ُ إلى قوله « :إل هو
معهم أينما كانوا»ُ يدل على أنه معهم بعلمه ل بجسمه .وعلى قوله هذا .إذا
ثبت التأويل في موضع ،فلماذا ينتفي في موضع آخر إذا كان متشابها ً له ؟
وعلى قوله هذا يقال له :إن سياق العبارة وضح الحقيقة أو المجاز من النص .
كما تقول .فلماذا تستبعد المحكم من تعيين أحد معنى المتشابه ،وعلى المحكم
والمتشابه دليل من القرآن ،وليس على سياق العبارات دليل .اللهم :إل
القرينة العقلية ؟
» كلفظ مفرد هو حقيقة على الحيوان وعلماء البلغة يقولون :إن لفظ « السد ُ
المفترس .وكلفظ مفرد ل يدل مجازا ً على رجل شجاع .وإنما يدل على رجل
شجاع إذا كان في عبارة ،وفي العبارة قرينة تدل على ذلك ،أي أن سياق
» مجازا ً .ل أن لفـــظ « السد ُ
» في ذاته العبارة هو الذي يجعل لفظ « السد ُ
حقيقة ومجاز معا ً .وابن تيمية معترف بذلك .فأي فرق بينه وبين علماء
البلغة ؟ ولماذا يمنع المجاز في القرآن وفي الصفات ؟
ثانيا ً :
إن قوله بتقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز ،هو اصطلح محدث .ينفيه أن اللغة
العربية موجودة في العالم ،قبل الصطلح المحدث ،وقبل نزول القرآن .أي أن
قوله تعالى « :نورهم يسعى بين أيديهم»ُ على سبيل المثال موجودة قبل وجود
أبي عبيده معمر بن المثني .والنور ل يسعى .وإنما شبه النور برجل يمشي
أمامهم ،ليدلهم على الطريق .وكلمة « يسعى»ُ إن كانت مفردة فهي حقيقة
في المشي .وهي في القول الكريم مجاز ،بحسب سياق العبارة .وذلك معلوم
من قبل ظهور معمر بن المثني وأحمد ابن تيمية .ولو أخذنا بالصطلحات
المحدثة .لمنعنا إعجاز القرآن باليات العلمية في الكون .لن الصطلحات
العلمية محدثة .وهذا القول ل يقول به عاقل وفاهم
ثالثا ً :
إن ابن تيمية قال في )الجواب الصحيح( إن النصارى وقعوا في الضلل لنهم
قالوا بالب والبن على الحقيقة .ولو أنهم أخذوا بالتأويل ،وردوا المتشابه من
آيات كتبهم إلى المحكم منها ،لما وقعوا في التثليث .والسؤال الن ؟ لماذا
توافق على التأويل في موضع ،ولماذا تمنع التأويل في موضع ؟ إنه إذا لم يكن
» ل أكثر ول أقل ،وذلك بإيراد فكر مضاد لفكرهم الغرض مخالفة « المامية ُ
بالحق أو بالباطل .فإن هذا السؤال سيظل بل جواب .
قال بن تيمية « :لفظ البن يعبر به عمن ولد الولدة المعروفة ،ويعبر به عمن
كان سببا ً في وجوده .كما يقال ابن السبيل لمن ولدته الطريق .فإنه لما جاء
من جهة الطريق ،جعل كأنه ولده .ويقال لبعض الطير :ابن الماء ،لنه يجيء
من جهة الماء .ويقال :كونوا من أبناء الخرة ول تكونوا من أبناء الدنيا .فإن
البن ينتسب إلى أبيه ويحبه ويضاف إليه .أي كونوا ممن ينتسب إلى الخرة
ويحبها ويضاف إليها .وهذا اللفظ موجود في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب في
حق الصالحين الذين يحبهم الله ويربيهم .كما ذكروا أن المسيح قال « :أبي
» وفي التوراة :أن الله قال ليعقوب " :أنت ابني بكرى" وأبيكم وإلهي وإلهكم ُ
ونحو ذلك مما يراد به _ إذا كان صحيحا ً ،له معنى صحيح وهو – المحبة له
والصطفاء والرحمة له .وكان المعنى مفهوما ً عند النبياء – عليهم السلم –
- 145 -
ومن يخاطبونه وهو من اللفاظ المتشابهة ،فصار كثير من أتباعهم يريدون به
»ا هـ.
المعنى بالباطل)ُ (5
وقال ابن تيمية في رده على النصارى « :إنكم إنما ضللتم بعدولكم عن صريح
كلم النبياء وظاهره ،إلى ما تأو لتموه عليه من التأويلت التي ل يدل عليها
لفظه ل نصا ً ول ظاهرا ً .فعدلتم عن المحكم واتبعتم المتشابه ابتغاء الفتنة
وابتغاء تأويله .فلو تمسكتم بظاهر هذا الكلم لم تضلوا .فإن البن ظاهره – في
كلم النبياء – ل يراد به شيء من صفات الله ،بل يراد به :وليه وحبيبه ،ونحو
ذلك .وروح القدس ل يراد به صفته ،بل يراد به :وحيه وملكه ونحو ذلك ،
فعدلتم عن ظاهر اللفظ ومفهومه إلى معنى ل يدل عليه اللفظ البتة .فكيف
» ؟ وعبارته غير واضحة الدللة على ما يريد تدعون أنكم اتبعتم نصوص النبياء)ُ (6
إثباته .إل أنها واضحة الدللة على قوله بالتأويل الصحيح .
رابعا ً :
إن أخذ ابن تيمية بظاهر اللفظ ،يوقعه في سوء الدب مع النبياء – عليهم
السلم – فقد قال – على سبيل المثال – في قوله تعالى عن شعيب عليه
السلم « :لقد افترينا على الله كذبا ً :إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها»ُ
أن شعيبا ً كان على الكفر قبل أن ينجيه الله منه .أخذا ً بظاهر اللفظ .وليس
المعنى كما قال .بل المعنى هو :أن الذين آمنوا به كانوا من قبل كفارا ً .ولما
آمنوا ،قال لهم « المل الذين استكبروا من قومه :لنخر جنك يا شعيب والذين
آمنوا معك من قريتنا ،أو لتعودن في ملتنا»ُ فدخل شعيب مع المؤمنين به في
الخطاب .ولما رد بقوله « :إن عدنا»ُ رد على أنه يتحدث عن جماعة المؤمنين
به ،لنه قائد هم ورئيسهم ونبيهم ورسولهم .ل على شخصه بمفرده .وهذا
التأويل ل بد منه لثبات عصمة النبياء من الكبائر والكفر ،قبل النبوة وبعدها .
والذين قالوا بالتأويل -ومنهم المام فخر الدين – انقسموا في ما ورد في
القرآن وفي الحاديث عن الله – عز وجل – أنه يمكر ويخدع ويستحي ويغضب
ويرضى ويحب ويكره ،وما شابه ذلك :انقسموا إلى فريقين في هذه الصفات .
ففريق يرى أن هذه الوصاف قد أطلقها الله على نفسه ،ليقرب ذاته بها إلى
عقول البشر ،على سبيل المشاكلة – كما يقول علماء البلغة – وهو ل يتصف
بها على الحقيقة .لن المكر يدل على العجز والضعف ،فالماكر إنما يمكر
ليتخلص مما هو فيه من الشدة ،أو ليحصل على شيء يحبه بطريق الحيلة .
والله تعالى منزه عن العجز والضعف والحاجة .ولن الستحياء يدل على
الخجل ،والخجل يدل على التغير والنفعال .والله تعالى منزه عن التغير
والنفعال .وهكذا في سائر الصفات .ول يؤولون صفة الحضك )الضحك(
بحصول الرضى والذن .وهكذا .لن قولهم فيها :بأن الله يقرب بها ذاته إلى
عقول البشر هو التأويل الذي ما بعده تأويل .وقولهم هذا هو الصحيح فيها .لن
تأويل الصفة ،يستلزم إثبات صفة أخرى مكانها ،وفيق يرى تأويل الصفة –
ومنهم المام فخر الدين – فيؤولون صفة الفرح لله تعالى بالرضا .ويؤولون صفة
الحياء بإنزال العقاب .وهكذا .
- 146 -
***
« أي أنه إذا ورد في القرآن أو السنة ما يشعر بإثبات الجهة أو الجسمية أو
الصورة أو الجوارح ،اتفق أهل الحق وغيرهم – ما عدا المجسمة والمشبهة –
على تأويل ذلك .لوجوب تنزيهه تعالى عما دل عليه ما ذكر ،بحسب ظاهره .
فمم يوهم الجهة قوله تعالى" :ويخافون ربهم من فوقهم " فالسلف يقولون :
فوقية ل نعلمها ،والخلف يقولون :المراد بالفوقية :التعالي في العظمة .
)
فالمعنى "يخافون" أي الملئكة "ربهم" من أجل تعاليه في العظمة ،أي ارتفاعه
» الخ (7فيها ُ . . .
والكثيرون من علماء الزهر على رأي المام الرازي .ويتركون الحرية للطلب
والناس في اختيار أحد الرأيين .والكثيرون من علماء المملكة العربية السعودية
على رأي المام ابن تيمية ،ويلزمون الطلب والناس برأيه .
***
وللمام محمد بن محمد الغزالي ،المتوفى سنة 505هـ رأي في يد الله وعين
الله ،وما شابه ذلك من الصفات التي توهم أن الله جسم .أورده في « إلجام
» هكذا :
العوام عن الكلم ُ
أول ً :يجب على جميع المسلمين أن ينزهوا الله عن الجسمية والجهة.
ثانيا ً :إذا سمع العامي كلمة « يد الله »ُ فليعتقد أول ً أن الله ليس جسما ً وليست
له يد جارحة .وليفسر اليد ثانيا ً بأي معنى من المعاني التي تبعد اليد عن
الجسمية .كالقدرة مثل ً .فإذا لم يحسن العامي أن يأتي لليد بمعنى يبعدها
) (7ص 110تحفة المريد على جوهرة التوحيد للبيجوري – طبعة الزهـر .
عن الجسمية فليسكت عن التفسير .وعدم علمه عذر له أمام الله عز وجل .
ثالثا ً :التأويل واجب على العلماء في « يد الله»ُ وسائر الخبار التي توهم أن الله
جسم ،على سبيل فرض الكفاية .والعلماء في نظره هم أهل التصوف .
يقول الغزالي أبو حامد « :إنه إذا سمع اليد والصبع ،وقوله " : εإن الله خمر
طينة آدم بيده" و "إ ،قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن" فينبغي أن
يعلم أن اليد تطلق لمعنيين:
أحدهما :هو الموضع الصلي ،وهو عضو مركب من لحم وعظم وعصب .
واللحم والعظم والعصب :جسم مخصوص ،وصفات مخصوصة .وأعني بالجسم
:عبارة عن مقدار له طول وعرض وعمق ،يمنع غيره من أن يوجد حيث هو :إل
بأن يتنحى عن ذلك المكان .
الثاني :وقد يستعار هذا اللفظ – أعني اليد – لمعنى آخر ،ليس ذلك المعنى
بجسم أصل ً .كما يقال :البلدة في يد المير .فإن ذلك مفهوم .وإن كان المير
مقطوع اليد مثل ً
فعلى العامي وغير العامي :أن يتحقق قطعا ً ويقينا ً أن الرسول – عليه السلم –
لم يرد بذلك جسما ً ،هو عضو مركب من لحم ودم وعظم ،وأن ذلك في حق
الله تعالى محال ،وهو عنه مقدس .فإن خطر بباله :أن الله جسم مركب من
أعضاءه ،فهو عابد صنم . . .ومن نفي الجسمية عنه وعن يده وإصبعه ،فقد
نفى العضوية واللحم والعصب ،وقدس الرب – جل جلله – عما يوجب
- 148 -
الحدوث .وليعتقد بعده :أنه عبارة عن معنى من المعاني ليس بجسم ول عرض
في جسم ،يليق ذلك المعنى بالله تعالى .فإن كان ل يدري ذلك المعنى ول
يفهم كنه حقيقته فليس عليه في ذلك تكليف أصل ً .فمعرفة تأويله ليس بواجب
»ا هـ
عليه)ُ (1
ويقول أبو حامد الغزالي « :وفي معنى العوام :الديب والنحوي والمحدث
والمفسر والفقيه والمتكلم .بل كل عالم سوى المتجردين لتعلم السباحة في
بحار المعرفة ،القاصرين أعمارهم عليه ،الصارفين وجوههم عن الدنيا
»
والشهوات ،المعرضين عن المال والجاه والخلق وسائر اللذات . . .الخ)ُ (2
ونقول لبي حامد :هؤلء العارفين الذين تنصبهم أئمة على العلماء ،فيهم
العامي ،والغبي ،والبائس
،والذي ضاقت به الدنيا ،والمستهتر ،والمرائي ،والصادق اليمان ،والغاش
لدينه .فمن من هؤلء
هو المام ؟ وإذا أخرجت الراسخين في العلم من المامة ،ووضعت بدلهم هؤلء
العوام – وإن كانوا صادقي اليمان – فماذا تقول في قول الله تعالى « :إنما
يخشى الله من عباده العلماء»ُ ؟ وعلى رأيك هذا .هل نغلق المدارس
والجامعات ؟
ويعتقد أبو حامد الغزالي في التأويل ويصرح به ،وهذا يدل على معرفته
الصحيحة في الله وصفاته ،وتصريحه بالتأويل حسنة من حسناته) (3على
السلم ،يجزيه الله عليها خير الجزاء .يقول – رحمه الله – في قوله تعالى « :
وهو القاهر فوق عباده»ُ وفي قوله تعالى « :يخافون ربهم من فوقهم»ُ :إن
الفرق على الحقيقة نسبة جسم إلى جسم .بأن يكون أحدهما أعلى والخر
أسفل .والفرق في المجاز يستعمل في فوقية الرتبة ،مثل :الخليفة فوق
السلطان .والمعنى حقيقي يدل على جسم ،والمعنى المجازي ينفي الجسمية .
ويقول بعد هذا ما نصه « :فليعتقد المؤمن قطعا ً :أن الول – وهو المعنى
الحقيقي – غير مراد ،وأنه على الله محال ،فإنه من لوازم الجسام ،أو لوازم
») (4ويقول أيضا ً – رحمه الله " : -تأويل لفظ الفوق بالعلو أعراض الجسام ُ
المعنوي ،الذي هو المراد بقولنا :السلطان فوق الوزير .فإنا ل نشك في ثبوت
معناه لله تعالى") (5وكتاب " القتصاد في العتقاد" للمام الغزالي ،كتاب
نفيس ،ككتاب "أساس التقديس" للمام فخر الدين الرازي .وفيه يعظم الله
وينزهه .ويتأول الخبار الموهمة للجسمية بمعان معنوية تنفي الجسمية .ومن
كلمه – رحمه الله – " ندعي أن الله تعالى منزه عن أن يوصف بالستقرار على
العرش .فإن كل متمكن على جسم ،والمستقر عليه :مقدر ل محالة .فإنه إما
أن يكون أكبر منه أو أصغر أو مساويا ً . . .فإن قيل :فما معنى قوله تعالى « :
» وما معنى قوله عليه الصلة والسلم « :ينزل الله الرحمن على العرش استوى ُ
» ؟ قلنا :الكلم على الظواهر الواردة في هذا الباب كل ليلة إلى السماء الدنيا ُ
طويل .ولكن نذكر منهجا ً في هذين الظاهرين ،يرشد إلى ما عداه .وهو إنا
نقول :الناس في هذا فريقان :عوام وعلماء .والذي نراه هو اللئق بعوام
- 149 -
والمام محمد بن أحمد القرطبي ،صاحب الجامع لحكام القرآن ،المتوفى سنة
» " :والكثرون
671هـ يقول في تفسير قوله تعالى « :ثم استوى على العرش ُ
من المتقدمين والمتأخرين :أنه إذا وجب تنزيه الباري –
) (2يقصد ابن تيمية كما في رواية ابن بطوطة .وزعم محقق كتاب ابن بطوطة
أن هذا على سبيل الظن .ودفاعه باطل لن كتب ابن تيمية تصرح بالنزول كل
ليلة على حسب ظاهر النص .وعلماء زمانه كفروه من أجل هذا ومسائل أخرى
) (3لطائف المنن ص 392-391نشر عالم الفكر بمصر
سبحانه – عن الجهة والتحيز ،فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللزمة عليه عند عامة
العلماء المتقدمين ،وقادتهم من المتأخرين :تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة :
فليس بجهة فوق عندهم ،لنه يلزم من ذلك عندهم متي اختص بجهة أن يكون
في مكان أو حيز ،ويلزم على المكان والحيز :الحركة والسكون للمتحيز ،
والتغير والحدوث" ثم يقول – رحمه الله تعالى – "قلت :فعلو الله تعالى
وارتفاعه :عبارة عن علو مجده وصفاته وملكوته" أ.هـ
- 150 -
ويقول المام الجليل علي بي أحمد صاحب "الفصل في الملل والهواء والنحل"
في قول الله تعالى « :ما يكون من نجوى ثلثة ،إل هو رابعهم ول خمسة إل هو
سادسهم ول أدنى من ذلك ول أكثر إل هو معهم أينما كانوا»ُ :معنى قوله تعالى :
« هو رابعهم»ُ و « هو سادسهم»ُ " :غنما هو فعل فعله فيهم ،وهو أن ربعهم
بإحاطته بهم ل بذاته وسدسهم بإحاطته ل بذاته وقد يربعهم بملك يشرف عليهم
ويسدسهم كذلك .وبرهان هذا القول :إن الله تبارك وتعالى إنما عنى بهذه الية
بل خلف بل بضرورة العقل من كل سامع أل تخفى عليه نجواهم .وهذا معنى
الية .لنه تعالى افتتحها بذكر نجوى المتناجين ،وإنما أراد عز وجل علمه
بنجواهم .ل أنه معدود معهم بذاته إلى ذواتهم حاش لله مـن ذلك إذ من المحال
الممتنع الخارج عن رتبة العداد والمعدودين إن يكون الله عز وجل معدودا ً بذاته
مع ثلثة بالهند ومع ثلثة بالسند ومع ثلثة بالعراق ومع ثلثة بالصين ن في وقت
واحد ،لنه لو كان ذلك لكان الذين هو رابعهم بالهند ومع ثلثة بالسند ومع ثلثة
بالعراق ومع ثلثة بالصين في وقت واحد .لنه لو كان ذلك لكان الذين هو
رابعهم بالهند مع الثلثة الذين هو رابعهم بالصين ثمانية كلهم لنهم أربعة وأربعة .
بل شك .فكان تعالى حينئذ يكون اثنين وأكثر وهذا محال .وكذلك إذا كان بذاته
سادسا ً لخمسة ههنا فهم ستة ورابعا ً لثلثة هنالك فهم أربعة .فهم كلهم بل شك
عشرة .فهو لذن اثنان .وكذلك قوله تعالى في الية نفسها « إل هو معهم أينما
» إنما أضاف تعالى الينية إليهم ل إلى نفسه تعالى .معناه :أينما كانوا فهوكانوا ُ
تعالى معهم بإحاطته .ومحال أن يكون بذاته في مكانين.
***
قال تعالى « :إن ربكم الله الذي خلق السموات والرض في ستة أيام ،ثم
» )العراف (54 استوى على العرش ُ
- 151 -
ومعنى « ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية»ُ )الحاقة (17إذا فسرته على
ظاهره ،يكـون الله محتاجا ً إلى الكرسي ،والكرسي محتاج إلى الثمانية ،
والكرسي مخلوق ومحتاج ،والثمانية مخلوقون ومحتاجون .فهل يعقل أحد أن
يكون الخالق محتاجا ً إلى المخلوقين ؟ إن المعنى المراد من النص الكريم :هو
أن الله تعالى يقرب ذاته إلى عقول البشر ،حسبما يألفون في حياتهم من
عادات الملوك ،وحسبما يفهمون باللغة التي يتخاطبون بها .فعبر عن نفسه
كملك ،أما هو فليس كمثله شيء .
ومعنى أن موسى – عليه السلم – يأخذ بقائمة من قوائم العرش ،كالمعنى من
حديث الوعال الذي فيه « :إن فوق السماء السابعة ثمانية أوعال ،بين
أظلفهن وركبهن ،مثل ما بين سماء إلى سماء ،وفوق ظهورهن العرش»ُ وفي
رواية " :إن حملة العرش ثمانية أملك على صورة الوعال ،ما بين أظلفها إلى
ركبها مسيرة سبعين عاما ً ،للطائر المسرع" وهذه الحاديث مروية بطريق الحاد
.وهى ل تثبت عقائد غيبية .وإذا قلنا بأنها تثبت عقائد ،فإنها تؤول إلى معنى
ينفي التجسيم عن الله عز وجل ،كما وضح الشيخ الغزالي أبو حامد .والقرطبي
المفسر يؤولها بقوله " :إضافة العرش إلى الله تعالى ،كإضافة البيت ،وليس
البيت للكنى .فكذلك العرش"
وكلم المام فخر الدين الرازي – أنعم الله عليه – شبيه بكلم المسيح عيسى بن
مريم عليه السلم – في ذات الله تعالى وصفاته – والمسيح نبي عظيم – فقد
حكى برنابا في إنجيله :أن الرومان لما رأوا معجزات المسيح ظنوا أنه الله أو
ابن الله ،وأثاروا شغبا ً في بلد فلسطين .ومن أجل ذلك تقدم إليه رئيس علماء
بني إسرائيل والولي وهيرودس ليزيل الفتنة التي ثارت بسببه ،وتوسلوا إليه أن
يرتقي مكانا ً مرتفعا ً ،ويكلم الشعب تسكينا ً لهم .
النص :
« حينئذ ارتقى يسوع أحد الحجارة الثنى عشر التي أمر يشوع الثنى عشر
سبطا ،أن يأخذوها من وسط الردن ،عندما عبر إسرائيل من هناك دون أن
تبتل أحذيتهم وقال بصوت عال :ليصعد كاهننا إلى محل مرتفع حيث يتمكن من
تحقيق كلمي فصعد من ثم الكاهن إلى هناك .فقال له يسوع بوضوح يتمكن
كل واحد من سماعه :قد كتب في عهد الله الحي ) ، (1وميثاقه :أن ليس للهنا
بداية ،ول يكون له نهاية .أجاب الكاهن :لقد كتب هكذا هناك .فقال يسوع :
إنه كتب هناك :إن إلهنا قد برأ كل شيء
بكلمته فقط ) . (1فأجاب الكاهن :إنه لكذلك .فقال يسوع :إنه مكتوب هناك :
أن الله ل يري ) (2وأنه محجوب عن عقل النسان ،لنه غير متجسد وغير مركب
وغير متغير .فقال الكاهن :إنه لكذلك حقا ً .فقال يسوع :إنه مكتوب هناك :
كيف أن سماء السموات ل تسعه ) . (3لن إلهنا غير محدود .فقال الكاهن :هكذا
- 152 -
قال سليمان النبي يا يسوع .قال يسوع :إنه مكتوب هناك :أن ليس لله حاجة .
لنه ل يأكل ول ينام ول يعتريه نقص .قال الكاهن :إنه لكذلك .قال يسوع :إنه
مكتوب هناك أن إلهنا في كل مكان ،وأن ل إله سواه ،الذي يضرب ويشفي ،
ويفعل كل ما يريد ) . (4قال الكاهن :هكذا كتب .حينئذ رفع يسوع يديه ،وقال :
أيها الرب إلهنا .هذا هو إيماني الذي آتي به إلى دينونتك ،شاهدا ً على كل من
» )برنابا (17-2 : 95يؤمن بخلف ذلك ُ
هذا هو كلم بني من أنبياء الله ،ورسول من رسل الله .عن الله وصفاته ،شبيه
بكلم المام الغزالي أبي حامد ،والمام فخر الدين .فماذا يقول فيه المجسمون
،والمجسمون بل كيف ؟ وليس هو كلم المسيح وحده ،بل هو كلم النبيين
والمرسلين من قبله .فإنه – كما هو واضح من النص _ يستشهد على كلمه عن
الله وصفاته بآيات مكتوبة في التوراة وفي الزبور ،وفي أسفار النبياء – ذكرنا
مواقعها في التعليقات _
ويبين المسيح عيسى – عليه السلم – أن الله يعبر عن ذاته بأوصاف البشر ،
على سبيل التمثيل والمشاكلة والمقابلة .أما هو – عز وجل – فليس مثل
البشر ،ول مثل أي شيء .فيقول ك "لعمر الله الذي تقف نفسي في حضرته :
إن الكون أمام الله لصغير )الصغير( ،كحبة رمل ،كحبة رمل ،والله أعظم من
ذلك بمقدار ما يلزم من حبوب الرمل ،لملء كل السموات والجنة ،بل أكثر .
فانظروا الن .إذا كانت هنالك نسبة بين الله والنسان ،الذي ليس سوى كتلة
صغيرة من طين ،واقفة على الرض .فانتبهوا إذن ،
لتأخذوا المعنى ،ل لمجرد الكلم .إذا أردتم أن تنالوا الحياة البدية .فأجاب
التلميذ ك إن الله وحده يقدر أن يعرف نفسه .وأنه حقا ً لكما قال أشعياء)(1
النبي «هو محتجب عن الحواس البشرية ُ
»
***
وتبين التوراة أن الله ليس كمثله شيء ،وهذه آيات تدل على ذلك :
« -1فاحتفظوا جدا ً لنفسكم .فإنكم لم تروا صورة ما يوم كلمكم الرب في
حوريب من وسط النار لئل تفسدوا وتعملوا لنفسكم تمثال ً منحوتا ً ز صورة مثال
» )تثنية (16 – 15 : 4
ما ،شبه ذكر ،أو أنثى ُ
» )تثنية (26 : 33
« -2ليس مثل الله ُ
» ) 2صم
« -3قد عظمت أيها الرب الله .لنه ليس مثلك ،وليس إله غيرك ُ
( 22 : 7
» ) 1أخ ( 20 : 17
« - 4يا رب ليس مثلك ،ول إله غيرك ُ
-5يقول أيوب عليه السلم عن الله عز وجل « :لنه ليس هو إنسانا ً مثلي .
فأجاوبه .فنأتي جميعا ً إلى المحاكمة ُ
» )أي ( 32 : 9
- 6يقول داوود عليه السلم « :يا ألله .من مثلك»ُ ؟ )مز ( 19 : 71
» )مز ( 8 : 86
- 7ويقول داود « :ل مثل لك بين اللهة يا رب ،ول مثل أعمالك ُ
» )مز : 89
-8وويقول داود « :من في السماء يعادل الرب ؟ من يشبه الرب ؟ ُ
(6
-9ويقول داود « :ليكن اسم الرب مباركا ً من الن وإلى البد .من مشرق
الشمس إلى مغربها :اسم الرب مسبح .الرب عال فوق كل المم .فوق
السموات مجده .من مثل الرب إلهنا ؟ الساكن في العالي ،الناظر السافل
في السموات وفي الرض .المقيم المسكين من التراب الرافع البائس من
المزبلة»ُ )مز ( 7 – 2 : 113
« - 10فبمن تشبهون الله ؟ وأي شبه تعادلون به ؟»ُ )اش (18 : 40
« -11هكذا يقول الرب ملك إسرائيل وفاديه رب الجنود :أنا الول وأنا الخر ،
ول إله غيري .ومن مثلي؟»ُ ) لش ( 7 – 6 : 44
-12يقول الله لبني إسرائيل « :بمن تشبهونني وتسوونني لنتشابه ؟»ُ )أش 46
(5:
« -13اذكروا الولويات منذ القديم .لني أنا الله وليس آخر .الله وليس مثلي ُ
»
) أش (9 : 46
" - 14ل مثل لك يا رب .عظيم أنت ،وعظيم اسمك فبي الجبروت ز من ل
يخافك يا ملك الشعوب ؟ لنه بك يليق .لنه في جميع حكماء الشعوب وفي كل
)إر ( 7 – 6 : 10 ممالكهم ليس مثلك "
« - 15لنه من مثلي»ُ )إر ( 19 : 49
- 154 -
لقد ذكرت ستة عشر نصا ً من نصوص التوراة وأسفار النبياء على أن الله ليس
كمثله شيء .والذين كتبوا من المسلمين في الله وصفاته طبقا ً لنصوص
التوراة .انقسموا إلى فريقين .فريق يرى :أن التوراة تجسم الله عز وجل .
لن فيها نصوص يدل ظاهرها على التجسيم ،وهؤلء غفلوا عن نصوص مشابهة
لها قي القرآن ،مثل :مكر الله وغضبه ومجيئه ،وقوله « فليعلمن»ُ وما شابه
ذلك .وغفلوا أيضا عن نصوص التنزيه فيها ،النصوص التي أوردناها منها هنا ستة
عشر نصا ً .وفريق يرى أن التوراة تنفي التجسيم – وقولهم هو الصحيح – لن
نصوص التنزيه فيها محكمة ل تحتمل غير نفي التشبيه والتمثيل .
وقد عمل الشيخ رحمت الله الهندي في "إظهار الحق" فصل ً عن المحكم
والمتشابه .وذكر من نصوص التوراة آيتين يدلن على التنزيه .
وقد سخر الشيخ ابن حزم الندلسي من علماء اليهود الذين لم يفطنوا إلى
اليات التي تنفي المثل والنظير ،في كتابه « الفصل في الملل والهواء
والنحل ُ
»
***
وعلماء بني إسرائيل ينفون التجسيم المطلق والتجسيم بل كيف ،عن الله ،
ويصرحون بالتنزيه .ومن هؤلء :أنقولوس المتهود ،ويوناتان بن عازيلئيل ،
وسيبنوزا ،وابن كمونة ،وموسى بن ميمون .يقول ابن ميمون المتوفى سنة
602هـ في "دللة الحائرين" :إن التوراة تكلمت عن الله بلسان بني آدم – أي
وصفته بصفات البشر ليفهم بنو آدم – وأن معتقد التجسيم لم يدعه إلى التجسيم
نظر عقلي ،بل تبع ظواهر نصوص الكتب )فصل (53ويقول ابن ميمون :إن
كل ما يؤدي إلى الجسمانية ،أو ما يؤدي لنفعال وتغير ،أو ما يؤدي لعدم – مثل
أن ل يكون له شيء بالفعل ثم يصير بالفعل – أو ما يؤدي لشبه شيء من
مخلوقاته .يلزم نفيه عن الله بالبرهان الواضح .
وقد صرح في كتب النبياء بنفي التشبيه .فقال :؟ فبمن تشبهونني فأساويه"
)أش ( 25 : 40وقال " :فبمن تشبهون الله ،وأي شبه تعادلونه به" ؟ )أش
( 18 : 40وقال " :إنه ل نظير لك يا رب " )إر ( 60 : 10وهذا كثير )فصل (55
وأي فرق بيننا نحن المسلمين ،وبين اليهود .إذا كنا جميعا ً متفقين على -1 :
التوحيد -2وعلى التنزيه ؟ ل فرق بين المسلمين وبين اليهود في توحيد الله
عز وجل وفي تنزيهه عن المشابهة للحوادث .لن اليهودي يؤمن بالله الذي
يؤمن به المسلم ،ويؤمن باليوم الخر الذي يؤمن به المسلم ،وإنما الفرق بين
المسلمين وبين اليهود هو أن اليهود قالوا سنتقرب إلى الله بشريعة موسى عليه
السلم -وهي التوراة -ولن نتقرب إليه بشريعة محمد نبي المسلمين ،لننا
لسنا متأكدين من نبوته .وأن المسلمين قالوا :نحن نؤمن بنبوة موسى – عليه
السلم – ولكن لن نتقرب إلى الله بشريعة موسى .لن نبوة محمد : εقد ثبتت
عندنا ،وقد أمرنا الله – على لسانه أن ل نعمل بشريعة موسى .فالخلف بين
المسلمين وبين اليهود هو في الشريعة وليس في التوحيد وفي التنزيه .فقد قال
تعالى :قل :يا أهل الكتاب .تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم :أل نعبد إل
- 155 -
الله ،ول نشرك به شيئا ً ،ول يتخذ بعضنا بعضا ً أربابا ً من دون الله .فإن تولوا
فقولوا :اشهدوا بأنا مسلمون" )آل عمران (64
وقد شهد القرآن بأن اليهود يكفرون بآيات الله ،ول يكفرون بالله .قي قوله
» )آل عمرانتعالى « :يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ،وأنتم تشهدون ؟ ُ
(70أي تكفرون بالقرآن ودلئل نبوة الرسول « وأنتم تشهدون»ُ نعته في
الكتابين ،أي في التوراة وفي النجيل .وفي تفسير القرطبي « :وأنتم تشهدون
»ُ "بمثلها من آيات النبياء التي أنتم مقرون بها "
***
أما عن اسم الله ،عز وجل في كتاب التوراة ،فهو « يهوه»ُ وهو الذي يقابل
كلمة « الله »ُ في القرآن الكريم .ويطيب أحيانا ً « أهوه»ُ وعلماء بني إسرائيل
يخافون من كتابته ،ككلمة متصلة الحروف ،من هيبتهم لله وخشيتهم منه .ومن
أجل خوفهم يكتبونه بحروف متقطعة .هكذا ك ياء – هاء – واو – هاء .وهذا
السم هو الذي نطق به الله عن نفسه أمام موسى عليه السلم ،فإن الله تعالى
»،
لما قال « :هلم فأرسلك إلى فرعون ،ونخرج شعبي بني إسرائيل من مصر ُ
قال به موسى « :ها أنا آتي إلى بني إسرائيل ،وأقول لهم :إله آبائكم أرسلني
إليكم .فإذا قالوا لي :ما اسمه ؟ فماذا أقول لهم ؟ فقال الله لموسى :أهيه
الذي أهية .وقال :هكذا تقول لبني إسرائيل :أهيه أرسلني إليكم .وقال الله
أيضا ً لموسى :هكذا تقول لبني إسرائيل :أهيه أرسلني إليكم .وقال الله أيضا ً
» ) خر ( 15-10 : 3 لموسى :وإله يعقوب .أرسلني إليكم ُ
« وأهية الذي أهية »ُ معناه ك أنا الكائن .والكائن اسم مشتق من هيه ،وهيه
معناها :كان .والسر في تكرير « أهيه»ُ مرتين :انه يريد أن يبين لهم :إن
الموصوف هو الصفة بعينها ،أي الله .وصفاته كشيء واحد .فكأنه يريد أن يقول
:أنا الموجود الذي هو الموجود ،أو الموجود الذي هو واجب الوجود.
وأسماء الله الحسنى ،غير اسم الله ،تدل على أسماء من صفات ،فيها
اشتراك بين الله الخالق وبين المخلوقين ،ولكنها في « الله »ُ أكمل منها في
المخلوقين ،فالرحيم وهو اسم من أسماء الله الحسنى قد يطلق على غير الله .
فيقال رجل رحيم .ويلق على الله دللة على أنه الكامل في الرحمة .ومن
» اسم « أسماء الله الحسنى عند بني إسرائيل ،وهو السم الثاني بعد « يهوه ُ
أدوناي»ُ ويترجم في اللغة العربية بالرب .ففي يهوه توحيد اللوهية ،وفي
أدوناي توحيد الربوبية .والفرق بينهما :أن يهوه علم على الذات اللهية ول يسم
به غيره ،وأن أدوناي يطلق على الرب عز وجل ،ويطلق على السيد العظيم
أيضا ً .بقول موسى بن ميمون « :جميع أسمائه تعالى الموجودة في الكتب كلها
مشتقة من الفعال .وهذا ما ل خفاء به إل اسم واحد ،وهو :الياء والهاء والواو
والهاء )يهوه( فإنه اسم مرتجل له – تعالى – ولذلك سمي السم العظم .
ومعناه :أنه يدل على ذاته – تعالى – دللة بينة ،ل اشتراك فيها .أما سائر
أسمائه المعظمة ،فتدل باشتراك ،لكونها مشتقة من أفعال يوجد مثلها لنا –
كما بينا – حتى أن السم المكني به عن اللف والدال والنون والياء في )آدني(
» )تك 30: 42 هو أيضا ً مشتق من السيادة .مثل :وقد خاطبنا الرجل سيد الرض ُ
(
- 156 -
ويقول ابن ميمون :إن اسم يهوه لنه لم يكن معلوما ً عند كل أحد كيف ينطق به
.كان أهل العلم يتناقلون صفة النطق به ،ول يعلمون لحد ،إل لتلميذ مستأهل ،
مرة واحدة في السبوع ،وكان لدى أهل العلم اسم معادل ليهوه ،مكون من
أثنى عشر حرفا ً في أكثر من كلمة ،ما كان ممنوعا ً ول مضنونا ً به على أحد .
ولما صار أقوام سفهاء ،يتعلمون هذا السم ،ذا أل ثنى عشر حرفا ً ،ويجدفون
به على الله ،اضطر أهل العلم إلى إعطائه للحصفاء فقط ،وإلى كتمانه عن
العامة .وكان لدى أهل العلم بعد ذلك :اسم معادل ليهوه مكون من اثنين
وأربعين حرفا ً في أكثر من كلمة .جاء عنه في التلمود :اسم ذو اثنين وأربعين
حرفا ً ،قدسي ومقدس ،ويعطى فقط للحصيف ،الذي وصل إلى نصف عمره
وليس عرضة للغضب ول للسكر ول يثير طعنا ً في أخلقه ،ويتكلم مع الناس
بهدوء 0وكل من يعلمه فهو حريص عليه ويحفظه في طهارة – ومحبوب لمن
فوقه ،ومحمود لمن دونه ،ومهيب عند الناس ،وتعلمه قائم في يده .وارث
العالمين :هذا العالم وعالم الخرة " )قد وشيم (171
وقد ترجمت التوراة إلى اللغة العربية .وفيها أن الخالق للرض وللسموات هو
» بدل « يهوه»ُ فأولالله رب العالمين .كما في القرآن الكريم ،ويكتبون « الله ُ
آيات التوراة نصها « :وفي البدء خلق الله السموات والرض ،وكانت الرض
خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة ،وريح الله يرف على وجه المياه .وقال
الله :ليكن نور فكان نور ،ورأى الله النور أنه حسن ،وفصل الله بين النور
والظلمة ) ،ورى الله النور أنه حسن وفصل لله بين النور والظلمة( ودعا الله
النور نهارا ً ،والظلمة دعاها ليل ،وكان صباح يوما ً واحدا ًً»ُ )تك (5- :1
وقد ترجم الزبور إلى اللغة العربية .وفيه يتحدث داود عليه السلم عن الله عز
وجل باسم الله ،ل باسم يهوه ،فيقول « :إن فاحص القلوب والكلى :الله البار
» )مز (11-9 : 7 .ترسي عند الله ،مخلص مستقيمي القلوب .الله قاض عادل ُ
وقد ترجم النجيل غلى اللغة العربية .وفيه يتحدث عيسى عليه السلم عن الله
عز وجل باسم الله ،ل باسم يهوه .فيقول لتلميذه « تأتي ساعة فيها يظن من
يقتلكم أنه يقدم خدمة لله»ُ )يو (2 : 16
***
ولن المام فخر الدين صرح في « أساس التقديس»ُ بما نصه :
« إن اليهود كانوا على دين التشبيه ،وكانوا يجوزون المجيء والذهاب على الله
– تعالى – وكانوا يقولون :إنه – تعالى -تجلى لموسى – عليه السلم – على
"الطور" في ظل الغمام ،فظنوا مثل ذلك في زمن محمد – عليه السلم –
ومعلوم أن مذهبهم ليس بحجة »ُ
- 157 -
لنه صرح بذلك ،رأيت أن أورد هنا كلمات من التوراة :كلمات ،استعملت على
الحقيقة تارة ،واستعملت على المجاز تارة أخرى ،لبين له .أن الحقيقة
والمجاز موجودان عند بني إسرائيل ،في كتبهم المقدسة لديهم ،وأن التأويل
الذي يؤمن به قد سبقه إليه غيره قبل ولدته .وسأورد هذه الكلمات على النحو
الذي صرح به الشيخ الغزالي أبو حامد في هذا النص :
يقول الشيخ الغزالي في معنى « :ينزل الله -تعالى – كل ليلة إلى السماء
الدنيا .فيقول :هل من داع فاستجيب له ؟ هل من مستغفر ،فاغفر له ؟ »ُ :
هذا الحديث سبق لنهاية الترغيب في قيام الليل .وليس فيه إل إيهام لفظ
النزول عند الصبي ،والعامي – الجاري مجرى الصبي – ومن السهل على العالم
أن يقنع العامي أن النزول ليس على حقيقته .بأن يقول له مثل ً :إن كان نزول
الله إلى السماء الدنيا ،ليسمعنا نداءه ،فما أسمعنا .فأي فائدة في نزوله ؟ ولو
كان يريد أن يسمعنا نداءه ،فهو قادر على أن يسمعنا إياه وهو على العرش ،
فلماذا ينزل ؟ فيفهم العامي :أن ظاهر النزول باطل ،ويتيقن نفي صورة
النزول").(1
وهذه الكلمات هي التي محل نظر وجدل وأخذ ورد بين شراح التوراة .وقد
ً
رفعت بعضها من ههنا ،ووضعته في التعليقات .فعلى من يريد البحث كامل أن
ينقل الكلمات التي وضعتها في التعليقات إلى ههنا .ويخيل إلى أن من يقرأ ما
كتبته في تأويل الكلمات ،ثم يقرأ كتاب موسى بي ميممون ،المسمى بدللة
الحائرين ،لن يجد صعوبة في فهم كلم ابن ميمون .
اجتاز – وعبر :
في التوراة هذا النص « :نزل الرب في السحاب .فوقف عنده هناك ،ونادى
باسم الرب .فاجتاز الرب قدامه .ونادى :الرب الرب .إله رحيم ورؤوف ،
بطيء الغضب وكثير الحسان والوفاء ،حافظ الحسان إلى ألوف ،غافر
الثم . . .الخ »ُ )خر (7-5 : 34
» وتترجم « عبر»ُ وعبر على الحقيقة تدل على في هذا النص كلمة « اجتاز ُ
انتقال جسم من مكان إلى مكان .وعلى المجاز تدل على المعاني التالية :
-1امتداد الصوات في الهواء .مثل « :اسمع إنكم تبعثون شعب الرب على
المعصية»ُ )1ضم (34 :2
-2حلول نور يراه النبياء في مرأى النبوة في حلم الليل .ومثاله :أن إبراهيم
عليه السلم وقع عليه سبات « وإذا وإذا رعبة مظلمة عظيمة واقعة عليه»ُ وفي
» )تك : 15الحلم أثناء الظلمة « إذ تنور دخان ومصباح نار ،يجوز بين تلك القطع ُ
( 17ومثله « :وأنا أجتاز في أرض مصر»ُ )خر ( 12 – 12
) (1أنظر :لجام العوام وانظر القتصاد في العتقاد وانظر نفخ الروح والتسوية
-2وتستعمل عبر مجازا ً لمن ترك قصدا ً ،وقصد غيره .مثل « عرض له عارض»ُ
)1صم (36 : 20
والمعنى المجازي الثالث هو المراد .عند موسى بن ميمون ،في تفسير « اجتاز
الرب قدامه»ُ ويشرحه هكذا :إن الهاء في قدامه تعود إلى الله تعالى .وأن
موسى – عليه السلم – طلب إدراك وجه الله ،فوعده الله برؤية الوراء .أي أن
الله تعالى حجب عنه إدراك الوجه وتجاوزه لمعنى الوراء .والدليل على أن
- 158 -
موسى عليه السلم طلب رؤية الوجه :أن الله تعالى قال له « :وجهي ل يرى ُ
»
)خر (23 : 33والدليل على أن الله تعالى وعده برؤية الوراء :أن الله تعالى
قال له « :فتنظر قفاي»ُ )خر . (23 : 33
هذا تفسيره .وهو تفسير بعيد .لن الهاء في قدامه تعود إلى موسى ول تعود
إلى الله .وما جاء في الترجوم هو أحسن من تفسير ابن ميمون .لن الترجوم
إذا وجد أمرا ً منسوبا ً غلى الله تعالى يلحقه منه تجسيم أو لواحق تجسيم ،فإنه
يقدره بحذف المضاف ،أي يجعل تلك النسبة لمر ما ،مضاف لله ،محذوف .
فيقول في « فاجتاز الرب قدامه» ُ :إن الرب قد جعل سكينته تعبر قدامه .
فالذي عبر واجتاز – على حسب الترجوم – هو السكينة :ومعنى « قدامه»ُ –
على رأي الترجوم – أي بمحضره .والسكينة عنده جسم ،ل بمعنى اطمئنان
القلب .
جاء :تستعمل )نستعمل( على الحقيقة في إقبال الحيوان على موضع ما .
وتستعمل مجازا ً في حلول المر الذي ليس بجسم أصل ً .مثل « مما هو آت
عليك»ُ )أش ( 15 : 47وعلى هذا المعنى المجازي تستعمل كلمة جاء في حق
الله تعالى .إما لحلول أمره ،أو لحلول سكينته .مثل « :ها أنا آت إليك في
» )خر ( 6 : 19
ظلمة الغمام ُ
أي تحل سكينته .ومثل « :ويأتي الرب إلهي ،وجميع القديسين معك»ُ )ز ك
( 5 : 14
- 159 -
أي يحل أمره وثبات مواعيده التي وعد بها على يد أنبيائه .
الخروج :
على الحقيقة يستعمل في خروج جسم من موضع كان مستقرا ً فيه لموضع
آخر .وعلى المجاز يستعمل في ظهور أمر مستوي ليس بجسم أصل ً مثل « :
خرجت الكلمة من فم الملك»ُ ) أ س ( 8 : 7وهذا يعني نفاذ المر .وعلى
المجاز تفسر كلمة ) هو الرب يخرج من مكانه»ُ )أ ش ( 21 : 26أي يظهر أمره
المستور الن عنا .أعني :حدوث ما يحدث بعد أن لم يكن .إذ كل حادث من
قبله تعالى ينسب لمره .مثل « :بكلمة الرب صنعت السموات ،وبروح فيه .
كل جنودها»ُ )مز ( 6 : 22تشبيها ً بالفعال الصادرة عن الملوك التي آلتهم في
تنفيذ إرادتهم :الكلم .وهو تعالى غير مفتقر للة يفعل بها ،بل فعل بمجرد
إرادته فقط .فل كلم أيضا ً بوجه ،ولما استعير لظهور فعل من أفعاله :
الخروج ،استعير الرجوع لرتفاع ذلك الفعل بحسب الرادة أيضا ً .مثل « :
» ) هو ( 15 : 5أي يرفع سكينته عن الناس ،وإذا امضي وأرجع إلى موضعي ُ
ً
رفع سكينته بثى الناس هدفا لكل ما عسى لن يعرض ويتفق ،فيكون الخير
الذي يصيبهم والشر بحسب التفاق .وهذا أمر عسير ،لن الله إذا حجب وجهه
عن إنسان فليقل هذا النسان :على الدنيا السلم .
السكن :
على الحقيقة هو دوام المقيم في مكان ما ،في ذلك المكان .فإنه بطول إقامة
الحيوان في مكان ما ،عاما ً كان أو خاصا ً .يقال فيه :إنه سكن في ذلك الموضع
،وإن كان هو متحركا ً فيه بل شك .وعلى المجاز يستعمل السكن لكل أمر ثبت
ولزم شيئا ً آخر مثل « :ليته هلك اليوم الذي ولدت فيه والليل الذي قال :قد
حبل برجل ،ليكن ذلك اليوم ظلما ً ،ل يعتن به الله من فوق ،ول يشرق عليه
نهار ،ليملكه الظلم وظل الموت .ليحل عليه سحاب ،لترعبه كاسفات النهار ُ
»
)أي ( 5 – 3 : 3فاليوم في النص ليس جسما ً ،والسحاب ليس حيوانا ً ليحل
على اليوم .
وعلى هذا المجاز إذا قيل سكن الله فإن معناه :دامت سكينته أو عنايته في أي
موضع ،أو معناه :دامت عنايته في أي أمر .مثل« وحل مجد الرب»ُ )خر : 24
» )خر ( 45 : 29
« (16وأسكن فيما بين بني إسرائيل ُ
- 160 -
القيام على الحقيقة :هو الوقوف الذي يقابل الجلوس .وعلى المجاز :يعني
النهوض والضطلع بالشيء .يقال فلن قام بالمر أي نهض به واضطلع به .
وفيه معنى ثبات المر .فإن من نهض لمر واضطلع به فقد ثبته ،فمن يقول مثل ً
:أقوم على رعاية هؤلء .يعني أنه ثابت على رعايتهم .وقول الله في التوراة :
« أقوم الن .يقول الرب»ُ )مز ( 6 : 11يريد به :الن أثبت أمري ووعدي
ووعيدي .
ويقال لكل من ثأر لي أمر :إنه قام .مثل « .إن ابني قد أثار على عبدي»ُ
)اصم ( 8 : 22واستعير هذا المعنى لنفوذ أمر الله على قوم استحقوا العقاب
مثل « :ويقوم على بيت الشرار»ُ ) أ ش ( 2 : 31أي ليهلكهم .يقول ابن
ميمون « :ومن هذا المعنى جاءت نصوص كثيرة ل أن ثم قياما ً أو قعودا ً – تعالى
الله عن ذلك – فقد قالوا – عليهم السلم – ل يوجد في العالم العلوي :حلوس
» ) حجيجة ( 1 : 15 ول وقوف .لن الوقوف يجيء بمعنى القيام ُ
الوقوف على الحقيقة :هو القيام الذي يقابل الجلوس .وعلى المجاز يأتي
» 0أي « ( 15 : 32بمعنى النسكول والكف .مثل « توقفوا لم يجيبوا من بعد ُ
كم توقفت الولدة»ُ ) تك ( 35 : 29ويأتي بمعنى الثبات والبقاء مثل « وأمكنك
القيام»ُ ) خر ( 23 : 18
يقول ابن ميمون « :وكل وقفة جاءت في الله تعالى هي من هذا المعنى
الخير ،فقول التوراة عن الله تعالى " :وتقف قدماه" في ذلك اليوم على جبل
الزيتون" ) زك ( 4 : 14أي تثبت أسبابه ،أعني :مسبباته ُ
»
القرب على الحقيقة :هو الدنو من الشيء .وعلى المجاز قد يكون بمعنى
اتصال العلم بالمعلوم .فكأنه شبه بقرب جسم من جسم .مثل « :فإن قضاءها
» ) تث 1بلغ إلى السموات»ُ )إر « ( 9 : 51وأي أمر صعب عليكم فارفعوه إلي ُ
»)أش ( 17 :أي أعلموني به « إن الشعب يتقرب إلي بفيه ويكرمني بشفتيه ُ
( 13 : 28وليس المعنى أن اليهود يتقربون إلى ذات الله تعالى بأفواههم على
الحقيقة .
يقول موسى بن ميمون « :فكل لفظة من القرب والتقدم ،تجدها جاءت في
كتب النبوة بين الله تعالى وبين مخلوق من المخلوقات .فهي كلها من هذا
المعنى الخير )المجازي( لن الله تعالى ليس هو جسما ً .فل هو تعالى يدنو ول
يقرب من شيء .ول شيء من الشياء يقرب منه ،أو يدنو به – تعالى – إذ
بارتفاع الجسمانية يرتفع المكان ويبطل كل قرب ودنو .أو بعد أو اتصال ،أو
انفصال ،أو تماس ،أو تنال .وما أراك تشك ول يلتبس عليك قوله -أي قول
الله في التوراة – « :الرب جميع من جميع دعاته»ُ )مز ( 1 : 145فالمراد :
قرب علم .أعني :إدراك علمي ل قرب مكان »ُ
» على الحقيقة :تدل على جسم يحل في جسم فيمله :مثل « : كلمة « مل ُ
ملت جرتها»ُ أي أن جسم الماء حل في جسم الجرة ،وعلى هذا المجاز
» ) تك : 25يستعمل في معنى انقضاء زمان ما ،مقدر .مثـل « كملت أيامها ُ
( 24ويستعمل أيضا ً في معنى الكمال في الفضيلة ،والغاية فيها .مثل « :
وكان ممتلئا ً حكمة وفهما ً ومعرفة»ُ ) 1مل ( 14 : 7
- 161 -
يقول ابن ميمون « :وكل لفظة ملن تجدها منسوبة لله فهي من هذا المعنى ،
ل أن ثم جسما ً يمل مكانا ً .إل أن تريد أن تجعل « مجد الرب ُ
» :النور المخلوق
الذي يسمى مجدا ً في كل موضع ،وهو الذي مل المسكن .فل ضير في ذلك ُ
»
يريد ان يقول :ل ضير في أن تفسر مجد الرب بنور الرب .وهذا النور هو الذي
مل مسكن الرب ،ل ذات الرب نفسه .
لفظ « العلو»ُ
على الحقيقة :هو لرتفاع المكان .وعلى المجاز هو لرتفاع الدرجة والمنزلة
» ) 1صموالجللة والكرامة والعزة .مثل « :من أجل أني رفعتك عن التراب ُ
( 2 : 16وما جاء في التوراة عن ارتفاع الله وعلوه فهو محمول على المجاز .
» ) مز « (6: 56هكذا قال العلي الرفيع»ُ )مثل « :اللهم ارتفع على السموات ُ
أ ش ( 17 : 57
وفي هذا الموضع يقول ابن ميمون « :إن الله تعالى عند المدركين الكاملين ل
يوصف بأوصاف كثيرة ،وأن هذه الوصاف المتعددة كلها التي تدل على التعظيم
والعزة والقدرة والكمال والجود ،وغيرها .كلها ترجع لمعنى واحد .وذلك المعنى
» ثم يقول « :إن العلو والرفع ليس معناههو ذاته ،ل شيء خارج عن الذات ُ
ومفهومه :علو المكان ن بل علو منزلة ُ
»
غضب :
على الحقيقة يدل على الوجع واللم .مثل ك « باللم تلدين البنين»ُ ) تك : 3
( 16وعلى المجاز – 1يأتي بمعنى الغم .مثل ك « ولم يكن ابوه يغمه في
أيامه»ُ ) 1صم ( 6 : 1أي يغضبه -2ويأتي بمعنى الخلف والعصيان .مثل « :
» ) مز (6 : 55ومن تتعرقل أموره يغضب . في النهار كله يعرقلون أموري ُ
» )تك ( 6 : 6 وعلى المجاز قال الله عن نفسه في التوراة « :ونأسف في قلبه ُ
وتأويله على المعنى المجازي الول :أن الله غضب عليهم لسوء فعلهم .وقال :
« في قلبه » ُلنه لم يقله لنبي في ذلك الوقت الذي نفذ فيه ذلك الفعل .ومثل
ذلك – ولله المثل العلى – مثل النسان إذا ظهرت له فكرة لم يخبر بها أحد ن
يقول :كان في قلبي كذا .ولن الله يكلم الناس على قدر عقولهم عبر عن
نفسه هكذا .أما هو فليس كمثله شيء .وتأويله على المعنى المجازي الثاني :
إنهم خالفوا إرادة الله ،لن القلب في نظر الناس محل للرادة .
وجـه :على الحقيقة اسم لوجه الحيوان .وعلى المجاز يأتي بمعان منها :
- 162 -
-1الغضب .مثل « :ولم يتغير وجهها أيضا ً»ُ )تك ( 7 : 40أي لم تغضب .
وعلى هذا المعنى المجازي يفسر غضب الله وسخطه .مثل « وجه الرب
فرقهم»ُ ) إ ر ( 16 : 4أي غضب الله عليهم ففرقهم -2 .ويأتي الوجه مجازا ً
» ؟ )أ ي 11 : 1 عن حضرة الشخص ومقامه .مثل « أل يجدف عليك في وجهك ُ
( أي يكذب عليك في وجودك .وعلى هذا المعنى المجازي يفسر أن الله كلم
» )خر ( 11 : 33 موسى وجها ً لوجه ن في قوله « وكلم الرب موسى وجها ً لوجه ُ
أي بدون واسطة -3يأتي الوجه مجازا ً بمعنى العناية .مثل « يرفع الرب وجهه
نحوك»ُ ) عدد (26 : 6
أخر :على الحقيقة هو اسم للظهر .وعلى الجاز يأتي ظرف زمان بمعنى بعد .
مثل « ول قام بعده مثله»ُ ) 2مل « ( 25 : 23بعد هذه المور»ُ ) تك ( 1 : 15
وبأتي مجازا ً بمعنى التبع واقتفاء الثر في السير ،يسيره شخص ما .مثل «
الرب إلهكم تتبعون »ُ ) تث ( 4 : 13وعلى هذا المعنى المجازي يفسر قول الله
تعالى لموسى « :فتنظر قفاي»ُ )خر ( 3 : 33أي ترك ما تبعني .
قلب :
على الحقيقة هو اسم لعضو الحيوان الذي فيه مبدأ حيلة كل ذي قلب .وعلى
» ) تث
المجاز يأتي بمعان كثيرة منها -1 :وسط الشيء مثل « :إلى كبد السماء ُ
» ) 2مل ( 26 : 5يعني -2 ( 11 : 4الفكرة .مثـل « :ألم يكن قلبي هناك ؟ ُ
كنت حاضرا ً بفكرتي عندا جرى كذا وكذا -3الرأي :مثل « :كل سائر إسرائيل
» ) 1أخ ( 39 : 12أي على رأي واحد -4 كانوا قلبا ً واحدا ،ليقيموا داود ملكا ًً ُ
تلرادة .مثل « :أعطيكم رعاة على وفق قلبي »ُ ) إر ( 15 : 3وعلى المعنى
المجازي هذا يفسر قول الله تعالى عن نفسه « ستكون عيناي وقلبي هناك كل
اليام»ُ ) امل ( 3 : 9بمعنى عنايتي وإرادتي – 5العقل .مثل « قلب الحكيم
عن يمينه»ُ ) جا ( 2 : 10أى عقاه كامل في كل المور .
روح :
» )تك ( 2 : 1وعلى على الحقيقة هو موضوع للهواء .مثل « :وريح الله يرف ُ
» ) تك 15 : 7 المجاز يستعمل بمعنى -1 :روح الحيوان ز مثل « :فيه روح حياة ُ
( -2صعود روح الميت إلى الله .مثل « يعود الروح إلى الله الذي وهبه»ُ ) جا
» ) 2سم -4 ( 2 : 3 -3 ( 7 : 12فيوضات الله .مثل « :روح الرب تكلم في ُ
» )أ ش الغرض والرادة .مثل « :ويهراق روح مصر في داخلها وأبيد مشورتها ُ
( 3 : 19أي تتشتت أغراضها ،ويخفى تدبيرها.
رجل :على الحقيقة اسم عضو من الحيوان يمشي عليه .وعلى المجاز تكون
الرجل .
-1بمعنى التبع ،مثل « :أخرج أنت وجميع الشعب في عقبك»ُ )خر ( 8 : 11
أي الشعب التابع لك .
- 2بمعنى :السببية .مثل قول يعقوب لخاله « ما كان لك قبلي قليل ،فقد
» )تكوين ( 30 : 30وفي أثري تترجم « اتسع إلى كثير .وباركك الرب في أثري ُ
لرجلي»ُ أي باركك بسببي .لن المر الذي يكون من أجل شيء .يكون هذا
الشيء سببا ً في حصول المر :وعلى هذا المعنى تقول التوراة عن الله « :
» )زك ( 4 : 14تريد به ثبات
وتقف رجله في ذلك اليوم على جبل الزيتون ُ
- 163 -
أسبابه .أعني :العجائب التي تظهر حينئذ في ذلك – الموضع ،العجائب التي
سببها _ أي فاعلها -هو الله .
وقد جاء عن الله في التوراة « :ثم صعد موسى وهرون وناداب وأبيهو ،
وسبعون من شيوخ إسرائيل ،ورأوا غله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من
العقيق الزرق الشفاف ،وكذلك السماء في النقاوة »ُ ) خر (10-9 : 24
وقد تأوله « أنقلوس»ُ بأن جعل الهاء في رجليه عائدة على الكرسي ،أي وتحت
» ويقول « أنقلوس»ُ إنه لم يقل
رجلي الكرسي لقوله « :وتحت كرسي مجده ُ
وتحت كرسيه فقط ن وإنما قــال «:وتحت كرسيه فقط»ُ لنه لو قال وتحت
كرسه فقط ن لزم كونه – تعالى -جسما ً ن ومستويا ً على جسم هو الكرسي .
» فل يلزم منه التجسيم ,لن المجد يؤول حينئذ
أما نسبته الكرس إلى « مجده ُ
بالسكينة ،وهي نور مخلوق .
وفي تأوله ابن ميمون بأن « تحت رجليه»ُ يريد به :من سببه ومن أجله .والذي
أدركوه :هو حقيقة المادة الولي للرض ،التي هي من خلقه تعالى وهو سبب
وجودها .
ويقول أبن ميمون :إن التأويل الذي ذهبت إليه ،قد نبهني عليه « الربي أليعازار
بن هورقلنوس»ُ في قوله « :من أين خلقت السماء ؟ من نور ردائه أخذه
» « -أنت الملتحف بالنوروبسطه كالثوب »ُ .وكما قيل « :استمروا منبسطين ُ
» ) مز ( 2 : 104
كرداء .الباسط السماء كسجف ُ
من أين خلقت الرض ؟ من الثلج الذي تحت كرسي مجده .وكما قيل « :أخذ
» )أي (6 :36هذا "قسما ً منه" ورماه »ُ يقول للثلج « :اسقط على الرض ُ
قول الربي أليعازار بن هورقانوس بنصه .وقد عقي عليه ابن ميمون بما نصه :
« يا ليت شعري .هذا الحكيم .أي شيء اعتقد ؟ هل اعتقد أنه من المحال أن
يوجد شيء من ل شيء ؟ أو ل بد من مادة يتكون منها ما يتكون ؟ ولذلك طلب
للسماء والرض « :من اين خلقا ؟ وأي شيء حصل من هذا الجواب ؟ يلزم أن
يقال :من أين خلق نور ردائه ؟ ومن اين خلق الثلج الذي تحت كرسي المجد ؟
ومن أي شيء خلق كرسي المجد نفسه ؟ فإن كان يريد بنور ردائه شيئا ً غير
مخلوق ،وكذلك كرسي المجد غي مخلوق .فهذا شنيع جدا ً .فيكون قد اقر
بقدم العالم .غير أنه على رأي أفلطون .أما كون كرسي المجد من المخلوقات
.فالحكماء ينصون بذلك ،على على وجه عجيب .قالوا :إنه خلق قبل خلق
العالم )ندريم 39ب( أما نصوص الكتب فلم تذكر فيه خلقا ً بوجه ،سوى قول
داود « :الرب أقر عرشه في السماء »ُ )من ( 19 : 102وهو قول يحتمل
- 164 -
التأويل جدا ً .أما التأييد فيه :فمنصوص « :أنت الرب تجلس عرشك أبدا ً من
جيل إلى جيل »ُ ) مي ( 19 :5فإن كان الربي أليعازار يعتقد قدم العرش .
فيكون إذا ً صفة لله ل جسما ً مخلوقا ً .فكيف يمكن أن يتكون شيء من صفة ؟
وأجب شيء قوله « :نور ردائه»ُ ا .هـ.
ثم يقول ابن ميمون :إنه يستفاد من كلم الربي أليعازار :أن مادة السماء غير
مادة الرض .فمادة السماء من نور الرداء ،ومادة الرض من الثلج الذي تحت
كرسي المجد .ولذلك أراهم « الشفاف»ُ ليدل به على مادة الرض.
نفس :
على الحقيقة اسم للنفس الحيوانية الحساسة .وعلى المجاز تأتي بمعنى -1
» ) تث -2 ( 23 : 12صورة النسان. الدم .مثل « :فل تأكل النفس مع اللحم ُ
» )ار : 38أي النفس الناطقة .مثل « حتى الرب الذي صنع لنا هذه النفس ُ
-3 ( 16الباقي من النسان بعد الموت .مثل « :نفس سيدي محزومة في
» ) 1صم -4 (29 : 25الرادة .مثل « :ول يسلمه إلى نفوس حزمة الحياء ُ
أعدائه »ُ )مز ( 3 :40أي ل يسلمهم لرادتهم .وكل ما جاء في التوراة عن «
نفس الله »ُ يكون مجازا ً عن إرادته عن إشقاء بني إسرائيل .و « يوناتان بن
» أخذ « فرف قلبه »ُ على المعنى الحقيقي ،وامتنع من شرحه ،وابن عزبائيل ُ
ميمون أخذه على المعنى المجازي كناية عن الرادة .ولو أنهما قال :إن التوراة
عبرت عن الله بلسان بني آدم ،وكفا عن الشرح بالحقيقة أو المجاز ،لكانا على
درجة قصوى من الصواب .
حي :
على الحقيقة اسم للنامي الحساس .وعلى المجاز يأتي بمعان منها -1 :لو
مرض إنسان مرضا ً شديدا ً .يعبر عن المرض الشديد بالموت مجازا ً .مثل « :
فمات قلبه في جوفه وصار كحجر »ُ )اصم (37 :25أي مرض مرضا ً شديدا ً .
ولو أن إنسانا ً برء من مرضه ،يعبر عن البرء بالحياة مجازا ً .مثل « :وأفاق من
مرضه »ُ )أش -2 ( 9 : 38اقتناء العم والحكمة .مثل :قول الحكمة في سفر
المثال « :فالن أيها البنون اسمعوا لي .فطوبى للذين يحفظون طرقي .
اسمعوا التعليم وكونوا حكماء ول ترفضوه .طوبي للنسان الذي يسمع لي
ساهرا ً كل يوم عند مصاريعي ،حافظا ً قوائم أبوابي .لنه من يجدني يجد
الحياة ،وينال رضى من الرب ن ومن يخطئ عني يضر نفسه .كل مبغضي
يحبون الموت »ُ )أم ( 36 - 33 :8أي أن الحكمة حياة للذين يصادفونها .ولن
الحكمة حياة مجازا ً ،يعبر عن الراء الصحيحة بالحياة وعن الراء الفاسدة
بالموت .مثل « انظر :إني جعلت اليوم بين يديك الحياة والخير ،والموت
» ) تث ( 15 :30فقد صرح بأن الخير هو الحياة ،وبأن الشر هو الموت . والشر ُ
جناح :على الحقيقة اسم لجناح الحيوان الطائر .وعلى المجاز يستعمل بمعنى
» ) را ( 13 : 2معناه :
الستر والتغطية « .الذي جئت لتحتمي تحت جناحه ُ
لتستكني تحت ستره .
عين :على الحقيقة اسم لعين الحيوان .وعلى المجاز يستعمل في -1عين
الماء .مثل « :على عين ماء في البرية »ُ ) تك -2 ( 7 : 16العناية .مثل « :
خذه واجعل عينيك عليه»ُ ) إر ( 12 :39إي اجعل عنايتك به .وعلى المعنى
المجازي يفسر ما جاء عن الله ي التوراة ،وهو « وستكون عيناي وقلبي هناك
» ) 1مل (3 : 9يفسر بعنايته وإرادته -3وإذا اقترن بالعينين لفظ
كل اليام ُ
- 165 -
ــــــ
فهــرس كتــاب
أساس التقـديس في علم الكلم
تأليف
المام فخـر الدين الرازي
ـــ
الصف
الموضــوع
حة
اهداء الكتاب للسـتاذ الدكتـور « يحيى هاشم حسن فرغل »ُ
3
وكيل كليـة أصول الدين بطنطا – جامعة الزهر
- 166 -
شرح ابن قتيبة لحديث :أن اللـه كان في عماء ليس تحته ماء ول
47
فوقه هواء
الفصل الثالث :في إقامة الدلئل العقلية على أنه تعالى ليس
48
بمتحيز البتة
الصف
الموضــوع
حة
الفصل الرابع :في إقامة البراهين على أنه تعالى ليس مختصا ً
62 بحيز وجهة ،بمعنى أنه يصح أن يشار إليه بالحس بأنه ههنا أو
هناك
***
109 تأويل ابن عباس لقوله تعالى « :الرحمن على العرش استوى »ُ
الصف
الوضــوع
حة
الفصل الحادي عشر :في الظواهر التي توهم كونه قابل ً للتجزيء
149 والتبعيض
-تعالى الله عنه علوا ً كبيرا ً -
- 168 -
الصف
الموضــوع
حة
221 قانون التـأويل بين المام فخر الدين وبين المام أحمد بن تيمية
- 169 -
***
الفصل الول :في أنه هل يجوز أن يحصل في كتاب الله تعالى ما
224
ل سبيل لنا إلى العلم به ؟
الفصل الثالث :في الطريق الذي يعرف به كون الية محكمة أو
234
متشابهة
245 القسم الرابع من هذا الكتاب :في بقية الكلم في هذا الباب
الصف
الموضــوع
حة
262 ابن تيمية كان يدرس كتب المام فخر الدين الرازي لطلب العلم
- 170 -
ابن قدامة المقدسي لزم الشيخ ابن تيمية مـدة ،وقرأ عليه قطعة
262 من كتاب
« الربعين في أصول الدين»ُ للرازي
رأي المام فخر الدين في ) :أ ( « يد الله فوق أيديهم ُ
»
263
)ب( « ليس كمثله شيء ُ
»
رأي المام ابن تيمية في ) :أ ( « يد الله فوق أيديهم ُ
»
264
)ب( « ليس كمثله شيء ُ
»
الصف
الموضــوع
حة
271 المام الغزالي حجة السلم يقول بما قال به المام فخر الدين
ابن بطـوطة يقول أن الشيخ ابن تيمية نزل درجة من على منبر
275
دمشق .وقال أن الله ينزل كل ليـلة إلى سـماء الدنيا كنزولي هذا
الشيخ عل بن أحمد في كتاب الفصل في المل والهواء والنحـل
276
يقول بما قال به المام فخر الدين
علي ابن أبي العز يصف المنزهين لله على التجسيم حتى ولو بل
277
كيف بأنهم مجانين
كلم المام فخر الدين شبيه بكلم عيسى عليه السلم في ذات
279
الله تعــالى وصفاته
عيسى عليه السلم يصعد على حجارة يشوع بن نون ويصرح بأن
279
اللـه واحـد
عيسى عليه السلم يستشهد بالتوراة على أن الله هو رب
280
العـالمين ،وليس كمثله شيء
عيسى عليه السلم يبين أن الله يعبر عن ذاته بأوصاف البشر على
282
سبيل التمثيل والمشاكلة
ستة عشر آية من آيات التوراة وأسفار النبياء على أن الله ليس
282
كمثله شيء
بعض المسلمين يقولون أن التوراة تصف الله بأنه جسم .وبعض
283
المسلمين يقولون بأن التوراة تنزه الله عن الجسمية
علماء من بني اسرائيل ينزهون الله عن الجسمية منهم :
284
انقولوس – يوناتان – سبينوزا – ابن كمونة – ابن ميمون
خطــأ وصـواب
رقم رقم
الصـواب الخطـأ السط الصفح
ر ة
رقم رقم
الصـواب الخطـأ السط الصفح
ر ة
السط
وسنتي دسنتى ر 226
الخير
ISLAM_LIGHT