You are on page 1of 175

‫‪-1-‬‬

‫أساس‬
‫التقديس‬
‫للمام فخر الدين‬
‫الرازي‬
‫محمد بن عمر بن الحسين المتوفى سنة‬
‫‪606‬هـ‬

‫تحقيق‬

‫الدكتور أحمد حجازي‬


‫السقا‬

‫ملتزم بالطبع والنشر‬


‫مكتبة الكليات الزهرية‬
‫حسين محمد امبابي وأولده‬
‫‪ 9‬شارع الصنادقية ميدان الزهر القاهرة ت ‪931296 :‬‬
‫ـ‬
-2-
‫‪-3-‬‬

‫من تراث الرازي‬

‫أساس التقديس‬
‫للمام فخـر الدين الرازي‬
‫محمد بن عمر بن الحسين المتوفي سنة ‪ 606‬هـ‬

‫تحقيق‬
‫الدكتور أحمد حجازي السقا‬

‫ملتزم الطبع والنشر‬


‫مكتبـة الكليات الزهرية بالقاهرة‬
‫‪-4-‬‬

‫الهداء‬
‫أهدى هذا الكتاب إلى‬
‫الستاذ الدكتور‬
‫يحيى هاشم حسن فرغل‬
‫تقديرا ً لعلمه وحسن خلقه‬
‫احمد حجازي السقا‬
‫‪-5-‬‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬

‫التعريف بالكتاب‪:‬‬
‫الحمد لله رب العالمين‪ ،‬والصلة والسلم على خاتم النبيين ‪ ،‬محمد ‪ .‬وعلى آله‬
‫وأصحابه ‪ ،‬وعلى النبياء السابقين ‪ ،‬ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين‪.‬‬
‫أما بعـــــد‬
‫ففي القرآن الكريم قوله تعالى ‪ " :‬إن الذين يبايعون الله‪ .‬يد الله فوق أيديهم "‬
‫وهذا القول يفسره المام محمود بن عمر بقوله ‪ " :‬يريد أن يد رسول الله –‬
‫التي تعلو يد المباعين – هي يد الله ‪ .‬والله – تعالى_ منزه عن الجوارح ‪ ،‬وعن‬
‫صفات الجسام ‪ .‬وإنما المعنى ‪ :‬تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول ‪ ،‬كعقده مع‬
‫الله‪ ،‬من غير تفاوت بينهما‪ .‬كقوله تعالى ‪" :‬من يطع الرسول‪ ،‬فقد أطاع الله)‪"(1‬‬
‫يريد هذا الشيخ الجليل أن يقول أن ‪" :‬يد الله" ل تعني أن لله يد جارحة كأيدي‬
‫البشر ‪ ،‬وإنما تعني أن العقد مع الرسول ‪ ،‬كالعقد مع الله‪ .‬لن الله وعد بأن‬
‫يوفى المجاهدين أجرهم بغير حساب "ومن أوفى بعهده من الله" ؟ وقد التزم‬
‫الشيخ الجليل بهذا المعنى؛ لورود نصوص محكمة في القرآن ‪ ،‬تنفي المثل عن‬
‫الله عز وجل‪ .‬منها قوله تعالى ‪" :‬ليس كمثله شيء ‪ ،‬وهو السميع البصير"‬
‫والذين ل يحسنون التأويل من المسلمين‪ ،‬يقولون ‪ :‬إن الله له يد‪ ،‬لنه أثبت‬
‫لنفسه يدا ً في قوله ‪" :‬يد الله" ويقولون ل مثل لليد ول لله ‪ ،‬نفى هذا نفسه‬
‫المثل في قوله ‪ " :‬ليس كمثله شيء"‪.‬‬

‫)‪ (1‬أنظر الكشاف في سورة الفتح‬

‫وهذا الكتاب النفيس ‪ ،‬المسمى بـ " تأسيس التقديس " أو "أساس التقديس"‬
‫يثبت وجود الله عز وجل ‪ ،‬ويؤول الصفات التي توهم أعضاء لله عز وجل ‪ ،‬كاليد‬
‫والرجل والعين والذن ‪ ،‬ويؤول الصفات التي توهم أفعال ً لله عز وجل ‪ ،‬تليق‬
‫بغيره ول تليق به ‪ ،‬كالغضب والسخط والمكر والستحياء ‪ . .‬على نحو ما أول‬
‫الشيخ الجليل محمود بن عمر المتوفى سنة ‪ 538‬هـ في "يد الله فوق أيديهم"‬
‫وعلى نحو ما أول الشيخ الغزالي أبو حامد حجة السلم ‪ ،‬المتوفى سنة ‪505‬‬
‫هـ وعلى نحو ما أول الشيخ عبد الوهاب الشعراني ‪ ،‬الصوفي الشهير‪.‬‬

‫ونطبعه على المخطوطة الموجودة في دار الكتب المصرية ‪23222‬ب‬


‫ميكروفيلم ‪ 20864‬ورمزها في التحقيق ‪) :‬خ( وعلى نسخة كردستان ‪1328‬‬
‫ورمزها في التحقيق ‪):‬ط( وإذا صححنا ‪ ،‬يكون الرمز )ص( إشارة إلى الصل‪.‬‬
‫ومؤلف الكتاب هو المام الجليل‪ ،‬فخر الدين الرازي ‪ .‬محمد بن عمر بن الحسين‬
‫‪ .‬المتوفى سنة ستمائة وست من الهجرة ‪ ،‬وهو أشعري العقيدة ‪ ،‬شافعي‬
‫المذهب – مثلنا – ومن كتبه‪:‬‬
‫‪ -1‬التفسير الكبير ‪ ،‬واسمه مفاتيح الغيب ‪.‬‬
‫‪ -2‬المحصول في أصول الفقه ‪.‬‬
‫‪ -3‬المطالب العالية من العلم اللهي – والعلم اللهي هو المسمى في لسان‬
‫اليونانيين باثولوجيا ‪ ،‬وفي لسان المسلمين علم الكلم أو الفلسفة السلمية –‬
‫وهو كتاب في تسعة أجزاء طبعته الكليات الزهرية ‪ ،‬بتحقيقنا سنة ‪– 1985‬‬
‫‪ -4‬الربعين في أصول الدين ‪.‬‬
‫‪-6-‬‬

‫‪ -5‬مناقب المام الشافعي ‪ ،‬واسمه أيضا ً ‪ :‬إرشاد الطالبين إلى المنهج القويم‬
‫في بيان مناقب المام الشافعي – وقد طبعته الكليات الزهرية بتحقيقنا سنة‬
‫‪– 1985‬‬
‫‪ -6‬شرح عيون الحكمة – وعيون الحكمة من تأليف الفيلسوف بن سينا –‬
‫‪ -7‬محصل أفكار المتقدمين ‪.‬‬
‫‪ - 8‬لوامع البينات في شرح أسماء الله والصفات ‪.‬‬
‫‪ - 9‬أساس التقديس ‪.‬‬
‫‪ - 10‬لباب الشارات والتنبيهات – وهو تهذيب ومختصر كتاب "الشارات‬
‫والتنبيهات" لبن سينا الفيلسوف ‪.‬‬
‫واعلم ‪ :‬أن الجزء الثامن من كتاب "المطالب العالية" وعنوانه "النبوات وما‬
‫يتعلق بها" قد طبعته الكليات الزهرية ضمن كتاب المطالب ‪ ،‬وطبعته في كتاب‬
‫منفرد سنة ‪ . 1984‬وفي التقديم له ككتاب منفرد ؛ كتبنا في التقديم هذه‬
‫المباحث ‪:‬‬
‫‪ -2‬النبوة عند علماء بني إسرائيل ‪.‬‬ ‫‪ – 1‬إثبات النبوة‬
‫‪ -4‬علم السحر‬ ‫‪ – 3‬نسخ الشرائع‬
‫‪ – 5‬كرامات الولياء ‪.‬‬
‫ومثله سيكون الجزء السابع والتاسع في الطبع ‪ .‬وعنوان السابع ‪ " :‬الرواح‬
‫العالية والسافلة " وعنوان التاسع " القضاء والقدر " أو " الجبر " ‪.‬‬
‫وقد حققت " أساس التقديس " بعون الله تعالى ن في " المملكة الردنية‬
‫الهاشمية " في شهر أكتوبر سنة ألف وتسعمائة وخمسة وثمانون من الميلد ‪،‬‬
‫ولمـا عدت إلى "مصر" كتبت مبحثا ً عن " تأويل صفات الله تعالى بين اليهودية‬
‫والسلم" ضمن بيان قضية هذا الكتاب ‪ ،‬لقوي به كلم المؤلف ‪ -‬رحمه الله –‬
‫و وضعته في تمام الكتاب ‪.‬‬
‫وقد راجع المبحث ‪ ،‬ورتب عناصره ‪ :‬أستاذنا الجليل الشيخ محمود مصطفى‬
‫بدوي فله الشكر ‪.‬‬
‫والله أسأل أن يوفقنا إلى خدمة العلم والدين‪.‬‬
‫د ‪ /‬أحمد حجازي أحمد السقا‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬

‫الحمد )‪ (1‬لله الواجب وجوده وبقاؤه ‪ ،‬الممتنع تغيره وفناؤه ‪ .‬العظيم قدره‬
‫واستعلؤه ‪ ،‬العميم ) آلؤه ونعماؤه( )‪ (2‬الدال على وحدانيته ‪ :‬أرضه وسماؤه ‪،‬‬
‫المتعالي عن شوائب التشبيه والتعطيل ‪ :‬صفاته وأسماؤه ‪ .‬فاستواؤه )‪ : (3‬قهره‬
‫واستيلؤه ‪ ،‬ونزوله ‪ :‬بره وعطاؤه ‪ ،‬ومجيئه ‪ :‬حكمه‬

‫) ‪ ( 1‬أول ط ‪ :‬قال الشيخ المام فخر الدين محمد بن عمر ‪ ،‬الرازي – تغمده‬
‫الله بغفرانه – الحمـد لله ‪ . . .‬الخ وأول خ ‪ :‬قال المام علمة العالم استاذ‬
‫البشر ‪ ،‬الداعي إلى الله تعالى ‪ ،‬فخر الدين ‪ ،‬حجة السلم ‪ :‬محمد بن عمر‬
‫الرازي – تغمده الله برحمته – الحمـد لله ‪ . . .‬الخ‬
‫‪-7-‬‬

‫)‪ (2‬في ط ‪ :‬نعماؤه آلؤه ‪.‬‬


‫) ‪ ( 3‬يريد المؤلف أن يقول ‪ :‬ان الحق في قوله تعالى ‪ " :‬الرحمن على‬
‫العرش استوى " أن يفسر الستواء بالقهر والستيلء على المعنى المجازي ‪ ،‬ول‬
‫يفسر بالجلوس على المعنى الحقيقي ‪ .‬لن الله ليس كمثله شيء ‪ .‬ثم يستمر‬
‫في بيان تأويل الصفات ‪ .‬فيقول ‪ :‬ان معنى نزول الله ‪ :‬نزوله ‪ ،‬ل النزول‬
‫الحقيقي ‪ ،‬لن النزول الحقيقي يستدعي مكانا ً وجهة ‪ .‬وهـكذا في سائر الصفات‬
‫الموهمة أن الله يشبه البشر في صفاتهم الجسمية والفعلية ‪ .‬ومذهب التأويل‬
‫هذا الذي يشرحه المام فخر الدين في أساس التقديس بعبارات واضحـة مطولة‬
‫‪ ،‬هو نفسه مذهب السلف ومذهب أهل التصوف ‪ ،‬فقد صرح به حجة السلم‬
‫محمد بن محمد الغزالي في "القتصاد في العتقاد" وصرح به الشيخ عبد‬
‫الوهاب الشعراني في "لطائف المنن والخلق" وهو مذهب الشيعة المامية ‪،‬‬
‫وهو مذهب علماء بني اسرائيل ‪ ،‬وهو مذهب المسيح عيسى بن مريم عليه‬
‫السلم ‪ .‬فإنه لما قال لبني اسرائيل ‪" :‬كل شيء يأتي من يد الله" )بر ‪(7 : 104‬‬
‫قال له تلميذ من تلميذه ‪ ،‬اسمه "متى" ‪" :‬يا معلم ‪ .‬انك لقد اعترفت أمام‬
‫اليهودية كلها ‪ .‬بأن ليس لله من شبه كالبشر ‪ ،‬وقلت الن ‪ :‬ان النسان ينال من‬
‫يد الله ‪ .‬فاذا كان للـه يدان ‪ ،‬فله اذا ً شبه بالبشر ؟ أجاب يسوع ‪" :‬انك لفي‬
‫ضلل يا متى ‪ .‬ولقد ضل كثيرون هكذا ‪ .‬اذ لم يفقهوا معنى الكلم لنه ل يجب‬
‫على النسان أن يلحظ ظاهر الكلم ‪ ،‬بل معناه ‪ . . .‬الخ " ‪.‬‬
‫وقضاؤه و وجهه ‪) :‬جوده أو جوده و حباؤه ( )‪ (4‬وعينه ‪ :‬حفظه ‪) ،‬وعونه(‬
‫)‪(5‬‬

‫اجتباؤه ‪ ،‬وضحكه ‪ :‬عفوه ‪ ،‬أو إذنه وارتضاؤه ‪ ،‬ويده ‪ :‬إنعامه ‪ ،‬أو إكرامه‬
‫واصطفاؤه ‪ .‬ول يجرى في الدارين من أفعاله إل ما يريده ويشاؤه ‪ .‬والعظمة ‪:‬‬
‫إزاره ‪ ،‬والكبرياء ‪ :‬رداؤه ‪.‬‬
‫)أحمده على جزيل نعمه ‪ ،‬وجميل كرمه ‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل‬
‫شريك له )‪ (6‬وأشهد أن محمدا ً عبده ورسوله ‪ ،‬أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره‬
‫على الدين كله ‪ ،‬ولو كره المشركون‪ .‬طلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ن‬
‫وسلم تسليما ً كثيرا ً ‪.‬‬

‫أما بعد‬
‫فإني وإن كنت ساكنا ً في أقاصي بلد المشرق ‪ ،‬إل أني سمعت )‪ (7‬أهل المشرق‬
‫والمغرب ‪ ،‬وطبقين متفقين ‪ ،‬على أن السلطان المعظم ‪ ،‬العالم العادل ‪.‬‬
‫المجاهد ‪ ،‬سيف الدنيا والدين ‪ ،‬سلطان السلم والمسلمين ‪ ،‬أفضل سلطين‬
‫الحق واليقين "أبا بكر بن أيوب" – ل زالت آيات راياته في تقوية الدين والحق ن‬
‫والمذهب الصدق ‪ ،‬متصاعدة إلى عنان السماء ‪ ،‬وآثار أنوار قدرته و مكنته ‪ ،‬باقية‬
‫‪ ،‬بحسب تعاقب الصباح والمساء ‪ -‬أفضل الملوك ‪ ،‬وأكمل السلطين ن في‬
‫آيات الفضل ‪ ،‬وبينات الصدق ‪ ،‬وتقوية الدين القويم ن ونصرة الصراط المستقيم‬
‫‪ ،‬أردت )‪ (8‬أن أتحفه بتحفة سنية ‪ ،‬وهدية مرضية ‪ ،‬فأتحفته بهذا الكتاب ن الذي‬
‫سميته بـ "أساس التقديس" )‪ (9‬على بعد الدار وتبايـن القطـــار‬

‫)‪ (5‬سقط خ‬ ‫)‪ (4‬من خ‬


‫)‪ (7‬ال أني سمعت ‪:‬‬ ‫)‪ (6‬سقط ‪ :‬خ‬
‫ص‬
‫)‪ (9‬في خ ‪ :‬بتأسيس‬ ‫)‪ (8‬فأردت ‪ :‬ص‬
‫التقديس‬
‫‪-8-‬‬

‫أن ينفعه به في الدارين ‪ ،‬بفضله وكرمه ‪.‬‬ ‫)‪(10‬‬


‫وسألت الله الكريم‬
‫ورتبته على أربعة أقسام ‪ .‬القسم الول ‪ :‬في الدلئل الدالة على أنه تعالى منزه‬
‫عن الجسمية والحيز )والقسم الثاني في تأويل التشابهات ‪ ،‬من الخبار واليات ‪.‬‬
‫والقسم الثالث ‪ :‬في تقرير مذهب السلف ‪ .‬والقسم الرابع ‪ :‬في بقية الكلم فى‬
‫)‪(11‬‬
‫بقية الكلم في هذا الباب(‬

‫)‪ (11‬زيادة‬ ‫)‪ (10‬تعــالى ‪ :‬خ‬

‫القسم الول‬
‫في‬
‫الدلئل الدالة على أنه تعـالى‬
‫منزه عن الجسمية والحيز‬

‫الفصل الول‬
‫في‬
‫تقرير المقدمات التي يجب ايرادها‬
‫قبل الخوض في الدلئل‬

‫وهى ثلثـة‪:‬‬
‫المقـدمة الولى‬
‫في‬
‫اثبات موجود ل يشار اليه بالحس‬

‫أعلم )‪ : (1‬أنا ندعي وجود موجود ل يمكن أن يشار إليه بالحس ‪ ،‬أنه ههنا أو هناك‬
‫)‪ (2‬أو نقول ‪ :‬إنا ندعي وجود موجود ) غير مختص بشيء من الحياز والجهات ‪،‬‬
‫)‪(4‬‬
‫أو نقول ‪ :‬إنا ندعي وجود مـوجود ( )‪ (3‬غير حال في العالم ‪ ،‬ول مباين )عنه(‬
‫في شيء من الجهات الست ‪ ،‬التي للعالم ‪.‬‬
‫والمقصود من الكل شيء واحد ‪.‬‬ ‫)‪(5‬‬
‫وهذه العبارات متفاوتة‬
‫)‬
‫ومن المخالفين من يدعي ‪ :‬أن فساد هذه المقدمات ‪ :‬معلوم بالضرورة ؛ قالوا‬
‫‪ : (6‬لن العلم الضروري حاصل بأن كل موجودين ‪ ،‬فإنه‬

‫)‪ (1‬المقدمة الولى ‪ :‬أعلم ‪ . . .‬الخ ‪ :‬الصل ‪.‬‬


‫)‪ (3‬سـقط ‪ :‬خ‬ ‫هنالك ‪ :‬خ‬
‫)‪ (5‬متقارنة ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (4‬سقط ‪ :‬خ‬
‫)‪ (6‬وقالوا ‪ :‬ص‬
‫‪-9-‬‬

‫ل بد أن يكون أحدهما حال ً في الخر ‪ ،‬أو مباينا ً عنه ‪ ،‬مختصا ً بجهة من الجهات‬
‫الست المحيطة به ‪.‬‬
‫وقالوا )‪ : (7‬وإثبات موجودين على خلف هذه القسام السبعة ‪ :‬باطل في بدائة‬
‫العقول ‪ .‬واعلم ‪ :‬أنه لو ثبت كون هذه المقدمة بديهية ‪ ،‬لم يكن الخوض في ذكر‬
‫الدلئل جائزا ً ‪ ،‬لن على تقدير أن يكون المر على ما قالوه ‪ ،‬كان الشروع في‬
‫الستدلل على كون الله تعالى غير حال في العالم ول مباين عنه بالجهة ‪ :‬إبطال ً‬
‫للضروريات ‪ .‬والقدح في الضروريات بالنظريات ‪ :‬يقتضي القدح في الصل‬
‫بالفرع ‪ ،‬وذلك يوجب تطرق الطعن إلى الصل والفرع معا ً ‪ ،‬وهو باطل ‪ .‬بل‬
‫يجب علينا ‪ :‬بيان أن هذه المقدمة ليست من المقدمات البديهية ‪ ،‬حتى يزول هذا‬
‫الشكال‪.‬‬
‫فنقول ‪ :‬الذي يدل على أن هذه المقدمات ليست بديهية ‪ ،‬وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إن جمهور العقلء المعتبرين ‪ ،‬اتفقوا على أنه تعالى ليس بمتحيز ول‬
‫مختص بشيء من الجهات ‪ ،‬وأنه تعالى غير حال في العالم ‪ ،‬ول مباين عنه في‬
‫شيء من الجهات ‪ .‬ولو كان فساد هذه المقدمات معلوما ً بالبديهة ‪ ،‬لكان إطباق‬
‫أكثر العلماء على إنكارها ممتنعا ً ‪ ،‬لن الجمع العظيم من العقلء ل يجوز إطباقهم‬
‫على إنكار الضروريات ‪ .‬بل نقول ‪ :‬الفلسفة اتفقوا على إثبات موجودات ليست‬
‫بمتحيزة ول حالة في المتحيز ‪ .‬مثل العقول والنفوس والهيولى ‪ .‬بل زعموا ‪ :‬أن‬
‫الشيء الذي يشير إليه كل إنسان بقوله أنا ‪ :‬موجود ‪ ،‬وليس بجسم ول جسماني‬
‫‪ .‬ولم يقل أحد بأنهم في هذه الدعوى ‪ ،‬منكرون للبديهيات ن بل جمع عظيم من‬
‫المسلمين ‪ ،‬اختاروا مذهبهم ‪ .‬مثل ‪ .‬معمر بن عباد السلمي من المعتزلة ‪ ،‬ومثل‬
‫محمد بن النعمان )‪ (8‬من الرافضة ‪،‬‬

‫نعمان ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (7‬قالوا ‪ :‬ص‬


‫ومثل أبي القاسم الراغب ‪ ،‬وأبي حامد الغزالي من أصحابنا ‪ .‬وإذا كان المر‬
‫كذلك ‪ ،‬فكيف يمكن أن يقال بأن القول بأن الله تعالى ليس بمتحيز ‪ ،‬ول حال‬
‫في المتحيز ‪ :‬قول مدفوع في العقول ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود ل يكون حال ً في العالم ول مباينا ً‬
‫عنه في شيء من الجهات الست ‪ ،‬وعرضا على العقل أيضا ً أن الواحد نصف‬
‫الثنين ‪ ،‬وأن النفي والثبات ل يجتمعان ‪ :‬وجدنا العقل متوقفا ً في المقدمة‬
‫الولى ‪ ،‬جازما ً في المقدمة الثانية ‪ .‬وهذا التفاوت معلوم بالضرورة ‪ .‬وذلك يدل‬
‫على أن العقل غير قاطع في المقدمة الولى ل بالنفي ول بالثبات ‪ .‬غاية ما في‬
‫الباب ‪ :‬إنا نجد من أنفسنا ميل ً إلى القول بأن كل ما سوى العالم ‪ ،‬ل بد وأن‬
‫يكون حال ً فيه ‪ ،‬أو مباينا ً عنه بالجهة والحيز ‪ .‬إل أن نقول ‪ :‬لما رأينا أن العقل لم‬
‫يجزم بهذه المقدمة ‪ ،‬مثل جزمه بأن الواحد نصف الثنين ‪ :‬علمنا أنه غير قاطع‬
‫بأن ما سوى العالم ‪ ،‬لبد وأن يكون حال ً فيه ‪ ،‬أو مباينا ً عنه بالجهة ‪ ،‬بل هو مجوز‬
‫لنقيضه ‪ .‬وإذا ثبت هذا فنقول ‪ :‬إن ذلك الظن إنما حصل بسبب لن الوهم‬
‫والخيال ل يتصرفان إل في المحسوسات ‪ .‬فل جرم كان من شأنها أنهما يقضيان‬
‫على كل شيء بالحكام اللئقة بالمحسوسات ‪ ،‬وهذا الميل )‪ (9‬إنما جاء بسبب‬
‫الوهم والخيال ‪ ،‬ل بسبب العقل البتة ‪.‬‬

‫الثالث ‪ :‬إنا إذا قلنا ‪ :‬الموجود إما أن يكون متحيزا ً ‪ ،‬أو حال ً في المتحيز ‪ ،‬أو ل‬
‫متحيز ول حال في المتحيز ‪ :‬وجدنا العقل قاطعا ً بصحة هذا التقسيم ‪ ،‬ولو قلنا ‪:‬‬
‫الموجود إما أن يكون متحيزا ً ‪ ،‬أو حال ً في المتحيز ‪ ،‬واقتصرنا على هذا القدر ‪:‬‬
‫‪- 10 -‬‬

‫علمنا بالضرورة ‪ .‬أن هذا التقسيم غير تام ‪ ،‬ول منحصر وأنه ل يتم إل بضم‬
‫القسم الثالث ‪ .‬وهو أن يقال ‪ :‬وإما أن‬

‫)‪ (9‬فهذا الميـل ‪ :‬ط وهذا المثل ‪ :‬خ‬

‫ل يكون متحيزا ً أو حال ً في المتحيز ‪ .‬وإذا كان المر كذلك ‪ ،‬علمنا بالضرورة ‪ :‬أن‬
‫احتمال هذا القسم ‪ ،‬وهو وجود موجود ‪ ،‬ل يكون متحيزا ً ‪ ،‬ول حال ً في المتحيز ‪:‬‬
‫قائم في العقول من غير مدافعة ول منازعة ‪ ،‬وأنه ل يمكن الجزم بنفيه ول بإثباته‬
‫إل بدليل منفصل ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬إنا نعلم بالضرورة أن أشخاص الناس مشتركة في مفهوم النسانية ‪.‬‬
‫ومتباينة بخصوصياتها وتعيناتها ‪ .‬وما به المشاركة غير ما به الممايزة ‪ .‬وهذا‬
‫يقتضي أن يقال ‪ :‬النسانية من حيث هي إنسانية ك مجردة عن الشكل المعين )‬
‫والحيز المعين ( )‪ (10‬فالنسانية من حيث هي هي ‪ ،‬معقول مجرد ) وإذا ثبت ذلك‬
‫( )‪ (11‬فقد أخرج البحث والتفتيش عن المحسوس ‪ :‬ما هو معقول مجرد ‪ .‬وإذا‬
‫كان كذلك ‪ ،‬فكيف يستبعد في العقل أن يكون خالق المحسوسات ‪ ،‬منزها ً عن‬
‫لواحق الحس وعلئق الخيال ؟‬
‫الخامس ‪ :‬إن كل ما هية ‪ ،‬إذا )‪ (12‬اعتبرناها بحدها وحقيقتها ‪ .‬فإنا قد نعقلها حال‬
‫غفلتنا عن الوضع)‪ (13‬والحيز فكيف والنسان إذا كان مستغرق الفكر في تفهم أن‬
‫حد العلم ما هو ؟ وحد الطبيعة ما هو ؟ فإنه في تلك الحالة يكون غافل ً عن‬
‫حقيقة الحيز والمقدار ‪ .‬فضل ً عن أن يحكم بأن تلك الحقيقة ل بد وأن تكون‬
‫مختصة بمحل أو بجهة ‪ .‬وهذا يقتضي أنه يمكننا أن نعقل الماهيات حال ذهولنا‬
‫عن الحيز والشكل والمقدار ‪.‬‬

‫السادس ‪ :‬وهو أن الواحد منا حال ما يكون مستغرق الفكر والرؤية ‪ ،‬في‬
‫استخراج مسألة معضلة ن قد يقول في نفسه ‪ :‬إني قد حكمت بكذا )أو عقلت‬
‫كذا )‪ ( (14‬فحال ما يقول في نفسه ‪ :‬إني )عقلت كذا )‪ : ( (15‬يكون عارفا ً‬
‫بنفسه ‪ .‬إذ لو لم يكن عارفا ً بنفسه ‪ ،‬لمتنع منه أن يحكم على ذاته بأنه حكم‬
‫بكذا ‪ ،‬أو عرف كذا ‪ ،‬مع أنه في تلك الحالة قد يكون غافل ً عن معنى الحيز‬
‫والجهة ‪ ،‬وعن معنى الشكل والمقدار ‪ ،‬فضل ً عن أن يعلم كون ذاته في الحيز ‪،‬‬
‫أو كون ذاته موصوفة بالشكل والمقدار ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن العلم بالشيء قد يحصل‬
‫عند عدم العلم بحيزه وشكله ومقداره ‪ .‬وذلك يفيد القطع بأن الشيء المجرد‬
‫عن الوضع والجهة ‪ ،‬يصح أن يكون معقول ً ‪.‬‬

‫)‪ (11‬زيادة‬ ‫)‪ ( 10‬زيادة من خ‬


‫)‪ (13‬الوضـع ‪ :‬ط الموضع ‪:‬‬ ‫)‪ (12‬فأنا إذا ً ‪ :‬ص‬
‫خ‬

‫السابع ‪ :‬إنا نبصر الشياء ‪ .‬إل أن القوة الباصرة ل تبصر بنفسها ‪ .‬وكذلك القوة‬
‫الخيالية تتخيل الشياء ‪ .‬إل أن هذه القوة ل يمكنها أن تتخيل نفسها ‪ .‬فوجود‬
‫القوة الباصرة يدل على أنه ل يجب أن يكون كل شيء متخيل ً ‪ .‬وذلك يفتح باب‬
‫الحتمال المذكور‪.‬‬
‫‪- 11 -‬‬

‫الثامن ‪ :‬إن خصومنا ل بد لهم من العتراف بوجود شيء على خلف حكم الحس‬
‫والخيال ‪ .‬وذلك لن خصومنا في هذا الباب إما الكرامية أو الحنابلة ‪.‬‬
‫أما الكرامية ‪ .‬فإنا إذا قلنا لهم ‪ :‬لو كان الله تعالى مشارا ً إليه بالحس ‪ ،‬لكان ذلك‬
‫الشيء إما أن يكون منقسما ً فيكون مركبا – وأنتم ل تقولون بذلك – وإما أن‬
‫يكون غير منقسم ‪ ،‬فيكون في الصغر والحقارة‬

‫)‪ (15‬غفلت عن كذا ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (14‬وغفلت عن كذا ‪ :‬خ‬

‫مثل النقطة التي ل تنقسم ‪ ،‬ومثل الجزء الذي ل يتجزأ – وأنتم ل تقولون بذلك –‬
‫وعند هذا الكلم قالوا ‪ :‬إنه واحد منزه عن التركيب والتأليف ‪ ،‬ومع هذا ‪ ،‬فإنه‬
‫ليس بصغير أو حقير ‪ .‬ومعلوم ‪ :‬أن هذا الذي التزموه مما ل يقبله الحس والخيال‬
‫‪ ،‬بل ل يقبله العقل أيضا ً ‪ .‬لن المشار إليه بحسب الحس ‪ ،‬إن حصل له امتداد‬
‫في الجهات والحياز ‪ ،‬كان أحد جانبيه مغايرا ً للجانب الثاني ‪ .‬وهذا يوجب‬
‫النقسام في بديهية العقل ‪ .‬وإن لم يحصل له امتداد في شيء من الجهات ‪ ،‬ل‬
‫في اليمين ول في اليسار ول في الفوق ول في التحت ‪ ،‬كان نقطة غير‬
‫منقسمة ‪ ،‬وكان في غاية الصغر والحقارة‪ .‬وإذا لم يبعد عندهم التزام كونه غير‬
‫)‬
‫قابل للقسمة ‪ ،‬مع كونه عظيما ً ‪ ،‬غير متناه في المتداد )مع أن هذا الجمع بين‬
‫‪ ( (16‬النفي والثبات ‪ ،‬ومدفوع )‪ (17‬في بدائه العقول )فكيف حكموا بأن القول‬
‫بكونه – تعالى – غير حال ‪ ،‬ول مباين عنه بحسب الجهة ‪ :‬مدفوع في بدائه‬
‫العقول )‪ ( (18‬؟‬

‫وأما الحنابلة الذين التزموا الجزاء والبعاض ‪ ،‬فهم أيضا ً معترفون بأن ذاته تعالي‬
‫مخالف لذوات هذه المحسوسات ‪ .‬فإنه تعالى ل يساوي هذه الذوات في قبول‬
‫الجتماع والفتراق والتغير والفناء ن والصحة والمرض ‪ ،‬والحياة والموت ‪ .‬إذا لو‬
‫كانت ذاته – تعالى ‪ -‬مساوية لسائر الذوات في هذا الصفات ‪ ،‬لزم ‪ :‬إما افتقاره‬
‫إلى خالق آخر – وعلى هذا يلزم التسلسل )‪ - (19‬أو يلزم القول بأن المكان‬
‫والحدوث غير محوج إلى الخالق – وذلك يلزم منه نفي الصانع – فثبت ‪ :‬أنه لبد‬
‫لهم من العتراف بأن خصوصية ذاته – التي بها امتازت عن سائر الذوات ‪ (20) -‬ل‬
‫يصل الوهم والخيال إلى كنهها – وذلك اعتراف بثبوت أمر على خلف ما يحكم به‬
‫الوهم ويقضي به الخيال – وإذا كان المر كذلك ‪ ،‬فأي استبعاد في وجود موجود‬
‫غير حال في العالم ول مباين بالجهة للعالم ‪ ،‬وإن كان الوهم والخيال ل يمكنهما‬
‫إدراك هذا الموجود ؟‬

‫)‪ (17‬ومدفوعا ً في‬ ‫)‪ (16‬كان هذا جمعا ً بين ‪ :‬ط‬


‫بداية العقول ‪ :‬ط‬
‫)‪ (19‬ولزم التسلسل‬ ‫)‪ (18‬زيادة من ‪ :‬ط‬
‫‪:‬ص‬
‫‪- 12 -‬‬

‫وأيضا ً ‪ :‬فعمدة مذهب الحنابلة أنهم متى تمسكوا بآية أو بخبر )‪ (21‬يوهم ظاهره‬
‫شيئا ً من العضاء والجوارح ‪ ،‬صرحوا بأنا نثبت هذا المعنى لله تعالى على خلف‬
‫ما هو ثابت للخلق ‪ .‬فأثبتوا لله ‪ -‬تعالى – وجها ً على خلف وجوه )‪ (22‬وجوه‬
‫الخلق ‪ ،‬ويدا ً على خلف أيدي الخلق ‪ .‬ومعلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي‬
‫ذكروه مما ل يقبله الخيال أو الوهم ‪ .‬فإذا عقل إثبات ذلك على خلف الوهم‬
‫والخيال ‪ .‬فأي استبعاد في القول بأنه تعالي موجود ‪ ،‬وليس داخل العالم ول‬
‫خارج العالم ‪ .‬وإن كان الوهم والخيال قاصرين عن إدراك هذا الموجود ؟‬

‫التاسع ‪ :‬إن أهل التشبيه قالوا ‪ :‬العالم والباري موجودان ‪ .‬وكل موجودين فإما‬
‫أن يكون أحدهما حال ً في الخر أو مباينا ً عنه ‪ .‬قالوا ‪ :‬والقول بوجوب )‪ (23‬هذا‬
‫ً‬ ‫مباينا‬ ‫الحصر معلوم بالضرورة ‪ .‬قالوا والقول بالحلول محال )‪ (24‬فتعين كونه‬
‫للعالم بالجهة ‪ .‬وبهذا الطريق احتجوا بونه تعالى مختصا ً بالحيز والجهة ‪ .‬وأهل‬
‫الدهر ‪ .‬قالوا ‪ :‬العالم والباري موجودان ‪ .‬وكل موجودين فإما أن يكون وجودهما‬
‫معا ً أو أحدهما قبل الخر ‪ .‬ومحال أن العالم والباري معا ً وإل لزم ‪ .‬إما قدم‬
‫العالم ‪ ،‬أو حدوث الباري ‪.‬‬

‫)‪ (20‬مال ‪ :‬ص‬


‫)‪ (22‬بخلف ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (21‬خبر ‪ :‬خ‬
‫)‪ (24‬القول بالحلول فمحال ‪ :‬خ‬ ‫) ‪ (23‬بوجود ‪ :‬خ‬

‫وهما محالن ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن الباري قبل العالم ‪ .‬ثم قالوا ‪ :‬والعلم الضروري حاصل‬
‫بأن هذه القبلية ل تكون إل بالزمان والمدة ‪ .‬وإذا ثبت هذا فتقدم الباري )على‬
‫العالم( )‪ (25‬إن كان بمدة متناهية لزم حدوث الباري ‪ .‬وإن كان بمدة ل أول لها ‪،‬‬
‫لزم كون المدة قديمة ‪ .‬فأنتجوا بهذا الطريق قدم المدة والزمان ‪.‬‬
‫فنقول ‪ :‬حاصل هذا الكلم ‪ :‬أن المشبهة زعمت أن مباينة الباري تعالى عن‬
‫العالم ‪ ،‬ل يعقل حصولها إل بالجهة ‪ .‬وأنتجوا منه ‪ :‬كون الله في الجهة ‪ .‬وزعمت‬
‫الدهرية ‪ :‬أن تقدم الباري )تعالى( )‪ (26‬على العالم ل يعقل حصوله إل بالزمان ‪.‬‬
‫وأنتجوا منه ‪ :‬قدم المدة ‪ .‬وإذا ثبت هذا فنقول ‪ :‬حكم الخيال في حق الله‬
‫تعالى ‪ ،‬إما أن يكون مقبول ً أو غير مقبول ‪ .‬فإن كان مقبول ً ‪ ،‬فالمشبهة يلزم‬
‫عليهم مذهب الدهرية ‪ ،‬وهو أن يكون الباري )تعالى( )‪ (27‬متقدما على العالم‬
‫بمدة غير متناهية ‪ ،‬ويلزمهم القول بكون الزمان أزليا ً ‪ .‬والمشبهة ل يقولون بذلك‬
‫‪ .‬والدهرية يلوم عليهم مذهب المشبهة – وهو مباينة الباري )تعالى( )‪ (28‬عن‬
‫العالم بالجهة والمكان – فيلزمهم القول بكون الباري )تعالى( )‪ (29‬مكانيا ً ‪ -‬وهم ل‬
‫يقولون به – فصار هذا التناقض )‪ (30‬واردا ً على الفريقين‪.‬‬
‫وأما إن قلنا ‪ :‬حكم الوهم والخيال غير مقبول البتة في ذات الله تعالى وفي‬
‫صفاته ‪ .‬فحينئذ نقول ‪:‬‬
‫قول المشبهة ‪ :‬إن كل موجودين فل بد وأن يكون أحدهما حال ً في الخر ‪ ،‬أو‬
‫مباينا ً عنه بالجهة ‪ :‬قول خيالي باطل ‪ ،‬وقول الدهرية )‪ (31‬بأن تقدم الباري‬
‫)تعالى( )‪ (32‬على العالم ‪ ،‬ل بد وأن يكون بالمدة‬

‫) ‪ (27‬من خ‬ ‫)‪ (26‬من خ‬ ‫)‪ (25‬زيادة من خ‬


‫)‪ (30‬النقض ‪:‬‬ ‫)‪ (29‬من خ‬ ‫)‪ (28‬من خ‬
‫ط‬
‫‪- 13 -‬‬

‫)‪ (32‬من خ‬ ‫)‪ (31‬الدهرى ‪ :‬ص‬

‫والزمان ‪ :‬قول خيالي باطل ‪ ،‬وهذا هو قول أصحابنا أهل التوحيد والتنزيه ‪ ،‬الذين‬
‫عزلوا حكم الوهم والخيال عن )‪ (33‬ذات الله تعالى وصفاته ‪ .‬وذلك هو المنهج‬
‫القويم ‪ ،‬والصراط المستقيم‪.‬‬
‫العاشر ‪ :‬إن معرفة أفعال الله نعالى وصفاته ‪ ،‬أقرب إلى العقول ‪ ،‬من معرفة‬
‫ذات الله تعالى ‪ .‬ثم المشبهة وافقونا على أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته‬
‫على خلف حكم الحس والخيال‪.‬‬
‫أما تقرير هذا المعنى في أفعال الله تعالى فذلك من وجوه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬إن الذي شاهدناه هو تغير الصفات ‪ ،‬مثل انقلب الماء والتراب نباتًا‪،‬‬
‫وانقلب النبات جزء من بذر حيوان )‪ . (34‬فأما حدوث الدواب )‪ (35‬ابتداء ن من‬
‫غير سبق مادة وطينة ‪ ،‬فهذا شيء ما شاهدناه البتة ‪ ،‬ول يقضى بجوازه وهمنا‬
‫وخيالنا ‪ ،‬مع أنا سلمنا أنه تعالى هو المحدث للدواب ابتداء ‪ ،‬من غير سبق مادة‬
‫وطينة‪.‬‬
‫وثانيها ‪ :‬إنا ل نعقل حدوث شيء وتكونه ‪ ،‬إل في زمان مخصوص ‪ .‬ثم حكمنا بأن‬
‫الزمان حدث ل في زمان البتة ‪.‬‬
‫وثالثها ‪ :‬إنا ل نعقل فاعل ً يفعل ‪ ،‬بعد ما لم يكن فاعل ً ‪ ،‬إل لتغير حالة وتبدل صفة‬
‫‪ ،‬ثم اعترفنا بأنه تعالى خلق العالم من غير شيء من ذلك )‪. (36‬‬
‫)ورابعها ‪ :‬إنا ل نعقل فاعل ً يفعل فعل ً ‪ ،‬إل لجلب منفعة ‪ ،‬أو لدفع مضرة ‪ .‬ثم إنا‬
‫اعترفنا ‪ :‬بأنه تعالى خالق العالم لغير شيء من هذا )‪( (37‬‬

‫)‪(35‬‬ ‫)‪ (34‬النسان ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (33‬في ‪ :‬خ‬


‫الذوات ‪ :‬ط‬
‫)‪ (37‬سقط ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (36‬هـذا ‪ :‬خ‬

‫وأما تقرير هذا المعتى في الصفات ‪ .‬فذلك من وجوه ‪:‬‬


‫أحدها ‪ :‬إنا ل نعقل ذاتا ً )تكون عالمة( )‪ (38‬بمعلومات ل نهاية لها على التفصيل‬
‫دفعة )واحدة( )‪ (39‬فإنا إذا جربنا أنفسنا ‪ ،‬وجدناها متى اشتغلت باستحضار معلوم‬
‫معين ‪ ،‬امتنع عليها )‪ (40‬في تلك الحالة ‪ ،‬استحضار معلوم آخر ‪ .‬ثم إنا مع ذلك‬
‫نعتقد ‪ :‬أنه ‪ -‬تعالى – عالم بما ل نهاية له من المعلومات على التفصيل من غير‬
‫أن يحصل فيه اشتباه والتباس ‪ .‬فكان كونه ‪ -‬تعالى – عالما ً بجميع المعلومات ‪:‬‬
‫أمرا ً على خلف مقتضى الوهم والخيال‪.‬‬
‫وثانيها ‪ :‬إنا نرى أن كل من فعل فعل ً ‪ ،‬فلبد له من آلة وأداة ‪ ،‬وأن الفعال‬
‫الشاقة تكون سببا ً للكللة والمشقة لذلك الفاعل ‪ .‬ثم إنا نعتقد أنه – تعالى –‬
‫يدبر من العرش إلى ما تحت الثرى ‪ ،‬مع أنه منزه عن المشقة واللغوب‬
‫والكللة ‪.‬‬
‫وثالثها ‪ :‬إنا نعتقد ‪ :‬أنه يسمع أصوات الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى ن‬
‫ويرى الصغير والكبير ‪ ،‬فوق اطباق السموات العلى ‪ ،‬وتحت الرضين السفلى ‪.‬‬
‫ومعلوم ‪ :‬أن الوهم البشري ‪ ،‬والخيال النساني ‪ ،‬قاصران عن العتراف بهذا‬
‫الموجود ‪ .‬مع أنا نعتقد أنه )سبحانه و )‪ ( (41‬تعالى ‪ :‬كذلك ‪.‬‬
‫‪- 14 -‬‬

‫فثبت أن الوهم والخيال قاصران عن معرفة أفعال الله ‪ -‬سبحانه وتعالى –‬


‫وصفاته ز ومع ذلك فإنا نثبت الفعال والصفات على مخالفة‬

‫)‪ (39‬من خ‬ ‫)‪ ( 38‬يكون عالما ً ‪ :‬ط‬


‫)‪ (41‬من خ‬ ‫)‪ (40‬عليه ‪ :‬خ‬

‫الوهم والخيال ‪ .‬وقد ثبت ‪ :‬أن معرفة كنه الذات أعلى وأجل وأغمض ‪ ،‬من‬
‫معرفة كنه الصفات ‪ .‬ولما عزلنا الوهم والخيال في معرفة )الصفات )‪( (42‬‬
‫والفعال ‪ ،‬فلن نعزلهما في معرفة الذات )كان )‪ ( (43‬أولى وأحرى ‪.‬‬
‫فهذه الدلئل العشرة ‪ :‬دالة على كونه ‪ -‬سبحانه وتعالى – منزه عن الحيز والجهة‬
‫‪ :‬ليس أمرا ً يدفعه صريح العقل ن وذلك هو تمام المطلوب )وبالله التوفيق )‪( (44‬‬
‫ونختم هذا الباب ‪ :‬بما روي عن "أرسطاطاليس )‪ " (45‬أنه كتب في أول كتابه في‬
‫اللهيات ‪" :‬من أراد أن يشرع في المعارف اللهية ‪ ،‬فليستحدث لنفسه فطرة‬
‫أخرى" )‪. (46‬‬
‫قال الشيخ )‪ - (47‬رضي الله عنه ‪" : -‬وهذا الكلم موافق للوحي والنبوة ‪ .‬فإنه‬
‫ذكر مراتب تكون الجسد في قوله تعالى ‪ " :‬ولقد خلفنا النسان من سللة من‬
‫طين )‪ " (48‬فلما آل المر إلى تعلق الروح )‪ (49‬بالبدن ‪.‬‬

‫)‪ (44‬سقط ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (43‬كان من ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (42‬سقط ‪ :‬خ‬


‫)‪ (45‬أرسطاليس ‪ :‬ط وهو أرسطو‬
‫)‪ (46‬إذا أوجب استحداث فطرة أخرى فلماذا إذن يدلل على وجوب الله ؟‬
‫)‪ (47‬الشيخ هو ابن سينا الرئيس ‪ .‬وفي المخطوطة هكذا ‪ :‬فطرة أخرى ‪ .‬قال‬
‫تغمده الله برحمته ‪ :‬هذا الكلم ‪ . . .‬الخ‬
‫)‪ (48‬المؤمنون ‪12‬‬
‫)‪ (49‬إذا كان الحيوان المنوي ميتا ً – أي خالي من الروح – فكيف تحبل النثى ؟‬
‫ومعنى "خلقا ً آخر" ‪ :‬أي خلقا ً مباينا ً للخلق الول ‪ .‬مثل ‪:‬أن صار حيوانا ً وكان‬
‫ة فأفرخت‬ ‫جمادا ً ‪ .‬وقد احتج به أبو حنيفة رحمه الله فيمن غصب بيض‬
‫عنده ‪ .‬قال ‪ :‬يضمن البيضة ‪ ،‬ول يرد الرخ ‪ ،‬لنه خلق آخر سوى البيضة ‪.‬‬
‫قال ‪" :‬ثم أنشأناه خلقا ً آخر" وذلك كالتنبيه على أن كيفية تعلق الروح بالبدن ‪،‬‬
‫ليس مثل انقلب النطفة من حال إلى حال ‪ ،‬بل هذا نوع آخر ‪ ،‬مخالف لتلك‬
‫النواع المتقدمة ‪ .‬فلهذا السبب قال ‪" :‬ثم أنشأناه خلقا ً آخر" وكذلك النسان إذا‬
‫تأمل في أحوال الجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها ‪ .‬فذلك له قانون ‪.‬‬
‫فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية ‪ .‬وجب أن يستحدث لنفسه فطرة‬
‫أخرى ‪ ،‬وعقل ً )‪ (50‬آخر ‪ ،‬بخلف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات ‪.‬‬

‫وهذا آخر الكلم في هذه المقدمة ‪ .‬وبالله التوفيق ‪.‬‬


‫‪- 15 -‬‬

‫المقدمة الثانيـة‬
‫في‬
‫أنه ليس كل موجود يجب أن يكون له نظير وشبيه ‪،‬‬
‫وأنه ليس يلزم من نـفي النظير والشبيه ‪ ،‬نفي ذلك الشيء‬
‫‪-----------------‬‬
‫عليه وجوه ‪:‬‬ ‫)‪(51‬‬
‫ويدل‬

‫الحجة الولى ‪ :‬إن بديهة العقل ل تستبعد وجود موجود ‪ ،‬موصوف بصفات‬
‫مخصوصة ‪ ،‬بحيث يكون كل ما سواه مخالفا ً له في تلك الخصوصية ‪ .‬وإذا لم‬
‫يكن هذا مدفوعا ً في بدائه العقول ‪ ،‬علمنا أنه ل يلزم من عدم نظير الشيء ‪.‬‬
‫عدم ذلك الشيء ‪.‬‬

‫)‪ (50‬ونهجا ‪ :‬خ‬


‫)‪ (51‬المقدمة الثانية ‪ :‬أنه ليس كل موجود ‪ . . .‬الخ ‪ :‬ط المقدمة الثانية ‪ :‬اعلم‬
‫أنه ليس ‪ . . .‬الخ ‪ :‬خ‬

‫الحجة الثانية ‪ :‬هي أن وجود الشيء ‪ .‬إما أن يتوقف على وجود ما شابهه ‪ ،‬أو ل‬
‫يتوقف ‪ .‬والول باطل )لن الشيئين)‪ ((52‬لو كانا متشابهين ‪ ،‬وجب استوائهما في‬
‫جميع اللوازم ‪ .‬فيزم من توقف وجود هذا ‪ ،‬على وجود الثاني ‪ ،‬توقف وجود‬
‫الثاني على وجود الول ‪ .‬بل توقف كل منهما على نفسه ‪ .‬وذلك محال في بدائه‬
‫العقول ) فثبت أنه ل يتوقف وجود الشيء على وجود نظير له ‪ .‬فل يلزم من نفي‬
‫النظير نفيه ()‪. (53‬‬

‫الحجة الثالثة ‪ :‬هي أن تعين كل شيء من حيث أنه هو ‪ :‬ممتنع الحصول في غيره‬
‫‪ .‬وإل لكان ذلك الشيء عين غيره ‪ .‬وذلك باطل في بدائه العقول ‪ .‬فثبت أن‬
‫تعين كل شيء من حيث أنه هو ‪ ،‬ممتنع الحصول في غيره ‪ .‬فعلمنا أن عدم‬
‫النظير والمساوي ‪ ،‬ل يوجب القول بعدم الشيء ‪ ،‬وظهر فساد قول من يقول ‪:‬‬
‫أنه ل يمكننا أن نعقل وجود موجود ل يكون متصل ً بالعالم ن ول منفصل ً عنه ‪ ،‬إل‬
‫)‬
‫إذا وجدنا له نظيرا ً ‪ .‬فإن عندنا ‪ :‬الموصوف بهذه الصفة ليس إل الله )سبحانه و(‬
‫‪ (54‬تعالى وبينا ‪ :‬أنه ل يلزم من عدم النظير والشبيه ‪ ،‬عدم الشيء ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن‬
‫هذا الكلم ساقط بالكليـــــة )وبالله التوفيق()‪.(55‬‬

‫)‪ (53‬ما بين القوسين ‪:‬‬ ‫)‪ (52‬لنهما ‪ :‬خ‬


‫ساقط من خ‬
‫)‪ (55‬سقط خ‬ ‫)‪ (54‬من خ‬
‫‪- 16 -‬‬

‫المقدمة الثالثـة‬
‫في‬
‫اختلف القائلين بأن الله جسم‬

‫اعلم)‪ : (56‬أن القائلين بأنه تعالى – جسم ‪ .‬اختلفوا ‪ .‬فمنهم من يقول أنه )تعالى(‬
‫)‪ (57‬على صورة النسان ‪ .‬ثم المنقول عن مشبهة المة إنه على صورة )النسان‬
‫الشاب( )‪ (58‬وعن مشبهة اليهود أنه على صورة إنسان شيخ ‪ .‬وهم ل يجوزون‬
‫النتقال والذهاب والمجيء على الله تعالى ‪ .‬وأما المحققون من المشبهة ‪.‬‬
‫فالمنقول عنهم أنه تعالى على صورة نور من النوار ‪ .‬وذكر أبو معشر المنجم أن‬
‫سبب إقدام )الناس( )‪ (59‬على اتخاذ عبادة الوثان دينا ً لنفسهم ‪ :‬هو أن القوم‬
‫في الدهر ‪ -‬الول )‪ (60‬كانوا على مذهب المشبهة ن وكانوا يعتقدون أن إله‬
‫العالم نور عظيم ‪ .‬فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنا ً ‪ -‬هو أكبر الوثان ‪ -‬على صورة‬
‫الله ‪ ،‬وأوثانا ً أخرى ‪ -‬أصغر)‪ (61‬من ذلك الوثن على صورة الملئكة ‪ ،‬واشتغلوا‬
‫بعبادة هذه الوثان ‪ .‬على اعتقاد أنهم يعبدون الله والملئكة‪ .‬فثبت أن )دين )‪((62‬‬
‫عبادة الصنام كالفرع على مذهب المشبهة ز واعلم أن كثيرا ً من هؤلء يمنع من‬
‫جواز الحركة والسكون على الله )سبحانه و)‪ ( (63‬تعالى ‪.‬‬

‫)‪ (56‬المقدمـة الثالثة ‪ :‬اعلم أن القائلين ‪ . . .‬الخ ‪ :‬ص‬


‫)‪ (57‬تعـالى ‪ :‬سقط خ‬
‫)‪ (58‬النسان الشاب ‪ :‬ط ‪ ،‬شاب ك خ‬
‫)‪ (60‬القدم ك ط‬ ‫)‪ (59‬الناس ‪ :‬سقط خ‬
‫)‪ (62‬دين ‪ :‬سقط خ‬ ‫على أصغر ‪ :‬ط‬ ‫)‪(61‬‬
‫)‪ (63‬من خ‬

‫وأما الكرامية فهم ل يقولون بالعضاء والجوارح ‪ .‬بل يقولون ‪ :‬أنه مختص بما‬
‫فوق العرش ‪ .‬ثم إن هذا المذهب يحتمل وجوها ً ثلثة )فإنه تعالى)‪ ( (64‬إما أن‬
‫يقال )إنه)‪ ( (65‬ملق للعرش ‪ .‬وإما أن يقال ‪ :‬إنه مباين عنه ببعد متناه ‪ .‬وإما أن‬
‫يقال ‪ :‬إنه مباين )عنه)‪ ( (66‬ببعد غير متناه ‪ .‬وقد ذهب إلى كل واحد من هذه‬
‫القسام الثلثة طائفة من الكرامية ‪ .‬واختلفوا أيضا ‪ :‬في أنه تعالى مخنص بتلك‬
‫الجهات لذاته ‪ ،‬أو لمعنى قديم ؟ بينهم اختلف في ذلك ‪.‬‬

‫(‪.‬‬ ‫)‪(67‬‬
‫فهذا تمام الكلم في المقدمات )وبالله التوفيق‬

‫‪--------------‬‬

‫)‪ (64‬فانه تعالى ‪:‬سقط خ‬


‫عنـه ‪ :‬خ‬ ‫)‪(66‬‬ ‫)‪ (65‬انه ‪ :‬من ط‬
‫)‪ (67‬وبالله التوفيق ك سقط خ‬
‫‪- 17 -‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫في‬
‫تقرير الدلئل السمعية على أنه سبحانه وتعالى ‪،‬‬
‫منزه عن الجسمية والحيز والجهة‬

‫ويدل عليه وجـوه ‪:‬‬


‫الحجة الولى ‪ :‬قوله تعـالى ‪:‬‬
‫)‪(1‬‬
‫"قل هو الله أحد ‪ ¤‬الله الصمد ‪ ¤‬لم يلد ولم يولد ‪ ¤‬ولم يكن له كفوا ً أحد"‬
‫واعلم ‪ :‬أنه قد اشتهر في التفسير ‪ :‬أن النبي ‪ ‬سئل عن ما هية ربه ‪ ،‬وعن‬
‫نعته وصفته ؟ فانتظر الجواب من الله فأنزل الله )سبحانه و()‪ (2‬تعالى هذه‬
‫الصورة ‪ .‬إذا عرفت هذا )‪ (3‬فنقول هذه السورة يجب أن تكون من المحكمات ‪،‬‬
‫ل من المتشابهات ‪ .‬لنه تعالى جعلها جوابا ً عن سؤال السائل)‪ (4‬وأنزلها عند‬
‫الحاجة ‪ .‬وذلك يقتضي كونها من المحكمات ن ل من المتشابهات وإذا ثبت هذا ‪،‬‬
‫وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه الصورة يكون)‪ (4‬باطل ً ‪ .‬فنقول ‪ :‬إن قوله‬
‫تعالى "أحد" يدل على نفي الجسمية ‪ ،‬ونفي الحيز والجهة ‪ .‬أما دللته على أنه‬
‫تعالى ليس بجسم ‪ ،‬فذلك لن الجسم أقله أن يكون مركبا ً من جوهرين ‪ ،‬وذلك‬

‫)‪ (2‬من خ‬ ‫سورة الخلص‬ ‫)‪(1‬‬


‫)‪ (4‬عن سؤال المتشابه ‪ ،‬بل وأنزلها‬ ‫)‪ (3‬ذلك ‪ :‬ط‬
‫‪ :‬ط‬
‫)‪ (5‬كان ‪ :‬خ‬

‫"أحد" ‪ :‬مبالغة في الوحدانية ‪ ،‬كان قوله "أحد"‬ ‫)‪(6‬‬


‫ينافي الوحدة )ولما كان( قوله‬
‫منافيا ً للجسمية‪.‬‬
‫وأما دللته على أنه ليس بجوهر ‪ .‬فنقول ‪ :‬أما الذين ينكرون الجوهر الفرد‬
‫)فإنهم( )‪ (7‬يقولون ‪ :‬إن كل متحيز ‪ ،‬فلبد وأن يتميز أحد جانبيه عن الثاني ‪ .‬وذلك‬
‫لنه لبد من أن يتميز يمينه عن يساره ‪ ،‬وقدامه عن خلفه ‪ ،‬وفوقه عن تحته ‪،‬‬
‫وكل ما يتميز فيه شيء عن شيء ‪ ،‬فهو منقسم ‪ ،‬لن يمينه موصوف بأنه يمين‬
‫ل يسار ‪ ،‬ويساره موصوف بأنه يسار ل يمين ‪ ،‬فلو كان يمينه عن يساره‪ ،‬لجتمع‬
‫في الشيء الواحد ك أنه يمين ‪ ،‬وليس بيمين ‪ ،‬ويسار ‪ ،‬وليس بيسار فيلزم‬
‫اجتماع النفي والثبات في الشيء الواحد ‪ .‬وهو محال ‪ ،‬قالوا ‪ :‬فثبت ‪ :‬أن كل‬
‫متحيز فهو منقسم ‪ ،‬وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد ز ولما كان الله‬
‫)سبحانه و( )‪ (8‬تعالى موصوفا ً بأنه أحد ‪ ،‬وجب أن ل يكون متحيزا ً أصل ً ‪ ،‬وذلك‬
‫ينفي كونه جوهرا ً ‪.‬‬
‫وأما الذين يثبتون الجوهر الفرد ‪ ،‬فإنه ل يمكنهم الستدلل على نفي كونه تعالى‬
‫جوهرا ً من هذا العتبار ن ويمكنهم أن يحتجوا بهذه الية على نفي كونـه جوهـرا ً ‪،‬‬
‫من وجه آخر وبيانه ‪ :‬هو أن الحد كما يراد به نفي التركيب والتأليف في الذات ‪،‬‬
‫فقد يراد به أيضا ً ‪ :‬نفي الضد والند ‪ .‬فلو كان تعالى جوهرا ً فردا ً ‪ ،‬لكان كل جوهر‬
‫فرد مثل ً له ‪ .‬وذلك ينفي كونه أحدا ً ‪ .‬ثم أكدوا هذا الوجه بقوله تعالى ‪":‬ولم يكن‬
‫له كفوا ً أحد" ولو كان جوهرا ً ‪ ،‬لكان كل جوهر فرد ك كفوا ً له ‪ .‬فدلت السورة‬
‫‪- 18 -‬‬

‫من الوجه الذي قررناه ‪ :‬على أنه تعالى ليس بجسم ول بجوهر ‪ ,‬وجب أن ل‬
‫يكون في شيء من الحياز والجهات ‪.‬‬

‫)‪ (8‬من خ‬ ‫)‪ (7‬فانهم ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (6‬وقوله ‪ :‬ص‬

‫لن كل ما كان مختصا ً بحيز وجهة ‪ ،‬فإن كان منقسما ً كان جسما ً ‪ -‬وقد بينا‬
‫إبطال ذلك ‪ -‬وإن لم يكن منقسما ً ‪ ،‬كان جوهرا ً فردا ً ‪ -‬وقد بينا أنه باطل ‪ -‬ولما‬
‫بطل القسمان ‪ ،‬ثبت أنه يمتنع أن يكون في جهة أصل ً ن فثبت ‪ :‬أن قوله تعالى‬
‫"أحد"‪ :‬يدل على قطعية على أنه تعالى ليس بجسم ول بجوهر ‪ ،‬ول في حيز‬
‫وجهة أصل ً ‪.‬‬
‫واعلم ‪ :‬أنه تعالى ‪ ،‬كما نص على أنه )تعالى( )‪ (9‬واحد ‪ ،‬فقد نص )أيضًا()‪ (10‬على‬
‫البرهان الذي لجله يجب الحكم بأنه أحد ‪ .‬وذلك أنه قال ‪" :‬هو الله أحد" وكونه‬
‫إلها يقتضي كونه غنيا ً عما سواه ‪ ،‬وكل مركب فإنه مفتقر إلى كل واحد من‬
‫أجزائه ‪ ،‬وكل واحد من أجزائه ‪ :‬غيره ‪ ،‬فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره ‪ ،‬وكونه‬
‫إلها يمنع من كونه مفتقرا ً إلى غيره ‪ .‬وذلك يوجب القطع بأنه أحدا ً ‪ .‬وكونه أحدا‬
‫يوجب القطع بأنه ليس بجسم ول جوهر ول في حيز وجهة ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن قوله‬
‫تعالى ‪":‬هو الله أحد" ‪ :‬برهان قاطع على ثبوت هذه المطالب ‪.‬‬
‫وأما قوله )سبحانه وتعالى()‪" : (11‬الله الصمد" فالصمد هو السيد المصمود إليه‬
‫في الحوائج ‪ ،‬وذلك يدل على أنه ليس بجسم ‪ ،‬وعلى أنه غير مختص بالحيز‬
‫والجهة‪.‬‬
‫أما بيان دللته على نفي الجسمية فمن وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إن كل جسم فهو مركب ‪ ،‬وكل مركب فهو محتاج إلى كل واحد من‬
‫أجزائه ‪ ،‬وكل واحد من أجزائه غيره ‪ .‬فكل مركب فهو محتاج‬

‫)‪ (11‬من خ‬ ‫)‪ (10‬أيضا ً من خ‬ ‫تعالى ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪(9‬‬

‫فلم يكن صمدا ً‬ ‫إلى غيره‪ ،‬والمحتاج إلى الغير ل يكون غنيا ُ محتاجا ً )إليه(‬
‫)‪(12‬‬

‫مطلقا ً ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬لو كان مركبا ً من الجوارح والعضاء )‪ (13‬لحتاج في البصار إلى العين ‪،‬‬
‫وفي الفعل إلى اليد ن وفي المشي إلى الرجل ‪ .‬وذلك ينافي كونه صمدا ً‬
‫مطلقا ً ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬إنا نقيم الدللة على أن الجسام متماثلة ‪ .‬والشياء المتماثلة يجب‬
‫اشتراكها في اللوازم ‪ ،‬فلو احتاج بعض الجسام إلى بعض ‪ ،‬لزم كون الكل‬
‫محتاجا ً إلى ذلك الجسم ‪ ،‬ولزم أيضا ً كونه محتاجا ً )ذلك الجسم ‪ ،‬ولزم أيضا ً كونه‬
‫محتاجًا( )‪ (14‬إلى نفسه‪ .‬وكل ذلك محال‪ ،‬ولما كان ذلك محال‪ ،‬وجب أن ل يحتاج‬
‫إلى)‪ (15‬شيء من الجسام ‪ .‬ولو كان كذلك ‪ ،‬لم يكن صمدا ً على الطلق ‪.‬‬
‫وأمان بيان دللته على أنه سبحانه وتعالى منزه عن الحيز والجهة ‪ :‬فهو أنه‬
‫)سبحانه و()‪ (16‬تعالى لو كان مختصا ً بالحيز والجهة ‪ ،‬لكان إما أن يكون حصوله‬
‫في الحيز المعين واجبا ً ‪ ،‬أو جائزا ً ‪ .‬فإن كان واجبا ً فحينئذ يكون ذاته تعالى‬
‫مفتقرا ً في الوجود والتحقق ‪ ،‬إلى ذلك الحيز المعين ‪ .‬وذلك)‪ (17‬الحيز المعين ‪،‬‬
‫يكون غنيا ً عن ذاته المخصوص ‪ .‬لنا لو فرضنا عدم حصول‬
‫‪- 19 -‬‬

‫)‪ (12‬إلى غيره ‪ :‬ط والمعنى ‪ :‬ل يكون غنيا ً يحتاج الناس إليه‬
‫)‪ (13‬والعراض خ‬
‫)‪ (14‬ما بين القوسين زيادة من خ‬
‫)‪ (16‬من خ‬ ‫)‪ (15‬اليـه ‪ :‬ط‬
‫)‪ (17‬وأما ذلك الحيز المعين فإنه ‪ :‬ص‬

‫ل‪ .‬وعلى هذا‬ ‫ذات الله تعالى في ذلك الحيز المعين‪ ،‬لم يبطل ذلك الحيز أص ً‬
‫التقدير يكون تعالى محتاجا ً إلى ذلك الحيز‪ ،‬فل يكون)‪ (16‬صمدا ً على الطلق ‪.‬‬
‫وأما إن كان حصوله في الحيز المعين جائزا ً ل واجبا ً ‪ ،‬فحينئذ يفتقر إلى مخصص‬
‫يخصصه بالحيز المعين ‪ .‬وذلك يوجب كونه محتاجا ً ‪ ،‬وينافي كونه صمدا ً ‪.‬‬
‫وأما قوله تعالى ‪" :‬ولم يكن له كفوا ً أحد" فهذا أيضا ً يدل على أنه ليس بجسم‬
‫ول جوهر ن لنا سنقيم الدللة على أن الجواهر متماثلة ‪ .‬فلو كان تعالى جوهرا ً ‪،‬‬
‫لكان مثل ً لجميع الجواهر فكان كل واحد من الجواهر ‪ :‬كفؤا له ‪ .‬ولو كان جسما ً‬
‫لكان مؤلفا ًَ من الجواهر ‪ .‬لن الجسم يكون كذلك وحينئذ يعود اللزام المذكور ‪.‬‬
‫فثبت ‪ :‬أن هذه السورة من أظهر الدلئل على أنه تعالى ليس بجسم ول بجوهر ‪،‬‬
‫)‪(19‬‬
‫ول حاصل في مكان وحيز‬
‫واعلم ‪ :‬أنه كما أن الكفار لما سألوا الرسول ‪ ‬عن صفة ربه ‪ ،‬وأجاب الله بهذه‬
‫السورة ‪ ،‬الدالة على كونه تعالى منزها ً عن أن يكون جسما ً أو جوهرا ً أو مختصا‬
‫بالمكان ‪ ،‬فكذلك فرعون سأل موسى عليه السلم عن صفة الله تعالى ‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫"وما رب العالمين ")‪ (20‬؟ ثم إن موسى لم يذكر الجواب عن هذا السؤال ‪ ،‬إل‬
‫بكونه تعالى خالقا ً للناس ومدبرا ً لهم ‪ ،‬وخالقا ً للسموات والرض ومدبرا ً لهما ‪.‬‬
‫وهذا أيضا ً من أقوى الدلئل على أنه تعالى ليس بمتحيز ول في جهة ‪ .‬لنا سنبين‬
‫إن شاء الله تعالى أن كون الشيء حجما ً ومتحيزا ً ‪ ،‬هو عين الذات ونفسها‬
‫وحقيقتها ؛ ل أنه صفة قائمة بالذات ‪ ،‬وأما كونه خالقا ً للشياء ومدبرا ً لها فهو‬
‫صفة ‪.‬‬

‫)‪ (19‬وفي التوراة "ليس مثل الله " في‬ ‫)‪ (18‬فلم يكن ‪ :‬ص‬
‫ترجمة البروتستانت ‪ ،‬وفي ترجمة الكاثوليك ‪" :‬ل كفء لله" )تث ‪(33:26‬‬
‫)‪ (20‬الشـعراء ‪22‬‬
‫ولفظة "ما" سؤال عن الماهية ‪ ،‬وطلب للحقيقة ‪ .‬فلو كان تعالى متحيزا ً ‪،‬‬
‫لكان الجواب عن قوله "وما رب العالمين" ؟ ‪ :‬بذكر كونه متحيزا ً ‪ :‬أولى من‬
‫الجواب عنه بذكر كونه خالقا ً ‪ .‬ولو كان )المر( )‪ (21‬كذلك ‪ ،‬لكان جواب موسى‬
‫عليه السلم خطأ‪ ،‬ولكان طعن فرعون بأنه مجنون ل يفهم السؤال‪ ،‬ول يذكر في‬
‫مقابلة السؤال ما يصلح أن يكون جوابا ً ‪ :‬متجها ً لزما ‪ .‬ولما بطل ذلك ‪ ،‬علمنا أنه‬
‫تعالى ما كان متحيزًا‪ .‬فل جرم ما كان يمكن تعريف حقيقته سبحانه وتعالى إل‬
‫بأنه خالق مدبر ‪ .‬فل جرم كان جواب موسى عليه السلم صحيحا ً ‪ ،‬وكان سؤال‬
‫فرعون ساقطا ً فاسدا ً ‪ .‬فثبت ‪ :‬أنه كما أن جواب محمد ‪ ‬عن سؤال الكفار عن‬
‫صفة الله تعالى ‪ :‬يدل عن تنزيه الله تعالى عن التحيز ‪ ،‬فكذلك جواب موسى‬
‫عليه السلم )عن سؤال فرعون عن صفة الله تعالى ‪ :‬يدل على تنزيه الله‬
‫تعالى( )‪. (22‬‬
‫‪- 20 -‬‬

‫)أما الخليل ‪ ‬فقد حكى الله تعالى)‪ ( (23‬عنه في كتابه ‪ :‬بأنه استدل بحصول‬
‫التغير)‪ (24‬في أحوال الكواكب ‪ :‬على حدوثها ‪ .‬ثم قال عند تمام الستدلل ‪" :‬‬
‫وجهت وجهي ‪ ،‬للذي فطر السموات والرض ‪ ،‬حنيفا ً)‪" (25‬‬
‫واعلم ‪ :‬أن هذه الواقعة تدل على تنزيه الله تعالى وتقديسه عن التحيز والجهة ‪.‬‬
‫أما دللتها على تنزيه الله تعالى عن التحيز ‪ ،‬فمن وجوه ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬إنا سنبين إن شاء الله تعالى ‪ :‬أن الجسام متماثلة وإذا ثبت ذلك ‪،‬‬

‫)‪ (22‬ما بين القوسين من خ‬ ‫)‪ (21‬المر من خ‬


‫)‪ (23‬مت أما الخليل إلى نهاية القوس ‪ :‬سقط خ‬
‫)‪ (24‬التحيز ‪ :‬خ‬
‫)‪ (25‬النعام ‪ 79‬وفي ط حنيفا ً مسلما ً وهما سقط من خ‬

‫فنقول ‪ :‬ما صح على أحد المثلين ‪ ،‬وجب على أن يصح على المثل الخر ‪ .‬فلو‬
‫كان تعالى جسما ً أو جوهرا ً ‪ ،‬وجب أن يصح عليه كل ما صح على غيره ‪ .‬وأن‬
‫يصح على غيره كل ما صح عليه ز وذلك يقتضي جواز التغير عليه ‪ .‬ولما حكم‬
‫الخليل عليه السلم بأن المتغير من حال إلى حال ‪ ،‬ل يصلح لللهية ‪ ،‬وثبت أنه لو‬
‫كان جسما ً لصح عليه التغيير ‪ :‬لزم القطع بأنه تعالى ليس بمتحيز أصل ً ‪.‬‬

‫الثاني ‪ :‬إنه عليه السلم قال عند تمام الستدلل ‪" ،‬وجهت وجهي للذي فطر‬
‫السموات والرض" فلم يذكر من صفات الله تعالى إل كونه خالقا ً للعالم ‪ ،‬والله‬
‫تعالى مدحه على هذا الكلم ‪ ،‬وعظمه‪ .‬فقال ‪ " :‬وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على‬
‫قومه ‪ ،‬نرفع درجات من نشاء )‪ " (26‬ولو كان إله العالم جسما موصوفا ً بمقدار‬
‫مخصوص ‪ ،‬لما كمل العلم به تعالى ‪ ،‬إل بعد العلم بكونه جسما ً متحيزا ً ‪ .‬ولو كان‬
‫كذلك لما كان مستحقا ً للمدح والتعظيم ‪ ،‬بمجرد معرفة كونه خالقا ً للعالم ‪ .‬ولما‬
‫كان هذا القدر من المعرفة كافيا ً في كمال معرفة الله تعالى ‪ :‬دل ذلك على أنه‬
‫تعالى ليس بمتحيز ‪.‬‬

‫الثالث ‪ :‬إنه تعالى لو كان جسما ً ‪ ،‬لكان كل جسم مشاركا ً له في تمام الماهية ‪.‬‬
‫فالقول بكونه تعالى جسما ً ‪ ،‬يقتضي إثبات الشريك لله تعالى ‪ .‬وذلك ينافي‬
‫قوله ‪" :‬وما أنا من المشركين)‪ "(27‬فثبت مما ذكرناه ‪ :‬أن العظماء من النبياء ‪-‬‬
‫صلوات الله عليهم ‪ -‬كانوا قاطعين بتنزيه الله تعالى وتقديسه عن الجسمية‬
‫)‪(28‬‬
‫والجوهرية )والجهة وبالله التوفيق(‬
‫"‬ ‫)‪(29‬‬
‫الحجة الثانية من القرآن ‪ :‬قوله تعالى ‪" :‬ليس كمثله شيء‬

‫)‪ (28‬سقط من خ‬ ‫)‪ (27‬النعام ‪79‬‬ ‫)‪ (26‬النعام ‪82‬‬


‫)‪ (29‬الشـورى ‪11‬‬

‫ولو كان جسما ً ‪ ،‬لكان مثل ً لسائر الجسام في تمام الماهية ‪ .‬لنا سنبين )إن شاء‬
‫الله تعالى بالدلئل الباهرة)‪ ( (30‬أن الجسام كلها متماثلة ‪ .‬وذلك كالمناقض لهذا‬
‫النص ‪ .‬فإن قيل ‪ :‬لم ل يجوز أن يقال ‪ :‬إنه تعالى ‪ ،‬وإن كان جسما ً ‪ ،‬إل أنه‬
‫مخالف لغيره من الجسام ‪ .‬كما أن النسان والفرس ‪ ،‬وإن اشتركا في الجسمية‬
‫‪- 21 -‬‬

‫ل يجوز أن يقال ‪ :‬الفرس مثل‬ ‫‪ ،‬لكنهما مختلفان في الحوال والصفات ز ولما‬


‫)‪(31‬‬

‫النسان ‪ ،‬فكذا هنا ؟‬


‫والجواب من وجهين ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إنا سنقيم الدللة )إن شاء الله تعالى)‪ ( (32‬على أن الجسام كلها متماثلة‬
‫في تمام الماهية )وعليه)‪ ( (33‬فلو كان تعالى جسما ً ‪ ،‬لكان ذاته مثل ً لسائر‬
‫الجسام ‪ .‬وذلك مخالف لهذا النص ‪ .‬والنسان والفرس ‪ .‬ذات كل منهما متماثلة‬
‫لذات الخر ‪ .‬والختلف إنما وقع في الصفات والعراض والذاتان إذا كانتا‬
‫من‬ ‫)‪(34‬‬
‫متماثلتين ن كان اختصاص كل واحدة منهما )بصفاتها المخصوصة يكون (‬
‫الجائزات ن ل من الواجبات ز لن الشياء المتماثلة في تمام الذات والماهية ‪ ،‬ل‬
‫يجوز اختلفها في اللوازم ‪ .‬فلو كان الباري تعالى جسما ً ن لوجب أن يكون‬
‫اختصاصه بصفاته المخصوصة من الجائزات ‪ .‬ولو كان كذلك لزم افتقاره إلى‬
‫المدبر والمخصص ‪ .‬وذلك يبطل القول بكونه تعالى إله العالم ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إن بتقدير أن يكون هو تعالى مشاركا ً لسائر الجسام في الجسمية‪،‬‬
‫ومخالفا ً لها في ما هته)‪ (35‬المخصوصة )فهذا يوجب( )‪ (36‬وقوع‬

‫)‪ (30‬بالدلئل الباهرة إن شاء الله تعالى ‪ :‬خ‬


‫)‪ (33‬زيادة‬ ‫)‪ (32‬من خ‬ ‫)‪ (31‬ول يجوز ‪ :‬ص‬
‫)‪ (34‬بصفاته المخصوصة من الجائزات ‪:‬‬
‫)‪ (36‬يجب ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (35‬الماهية ‪ :‬ط‬

‫وبين‬ ‫الكثرة في ذات الله تعالى ‪ .‬لن الجسمية مشترك فيها بين الله )تعالى(‬
‫)‪(37‬‬

‫غيره ‪ ،‬وخصوصية ذاته غير مشتركة فيما بين الله تعالى وبين غيره ‪ ،‬وما به‬
‫المشاركة غير ما به الممايزة ‪ .‬وذلك يقتضي وقوع التركيب في ذاته المخصوصة‬
‫‪ .‬وكل مركب ممكن ‪ -‬ل واجب ‪ .‬على ما بيناه – فثبت ك أن هذا السؤال ساقط‬
‫)‪(38‬‬
‫)والله أعلم(‬

‫الحجة الثالثة ‪ :‬قوله تعالى ‪" :‬والله الغني‪ ،‬وأنتم الفقراء")‪ (38‬دلت)‪ (40‬هذه الية‬
‫على كونه تعالى عنيا ً ‪ ،‬ولو كان جسما ً لما كان هذه الية على كونه تعالى عنيا ً ‪،‬‬
‫ولو كان جسما ً لما كان غنيا ً ‪ .‬لن كل جسم مركب ‪ .‬وكل مركب محتاج إلى كل‬
‫واحد من أجزائه وأيضا ً ‪ :‬لو وجب اختصاصه بالجهة ‪ ،‬لكان محتاجا ً إلي الجهة ‪.‬‬
‫وذلك يقدح في كونه غنيا ً على الطلق‪.‬‬

‫)‪ (39‬محمد ‪38‬‬ ‫)‪ (38‬سقط ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (37‬تعالى من خ‬

‫)‪ (41‬البقرة ‪255‬‬ ‫)‪ (40‬دل هـذه ‪ :‬ط‬


‫)‪ (43‬من خ‬ ‫من يكون ‪ :‬ط‬ ‫)‪(42‬‬

‫الحجة الرابعة ‪ :‬قوله تعالى ‪" :‬ل إله إل هو الحي القيوم")‪ (41‬والقيوم )مبالغة في‬
‫كونه )‪ (42‬غنيا ً عن كل ما سواه ‪ .‬وكونه مقوما ً لغيره ‪ :‬عبارة عن احتياج كل ما‬
‫سواه إليه ‪ .‬فلو كان جسما ً لكان هو مفتقرا ً إلى غيره ‪ .‬وهو جزؤه ‪ .‬ولكان غيره‬
‫‪- 22 -‬‬

‫غنيا ً عنه ‪ .‬وهو جزؤه ‪ .‬وحينئذ ل يكون قيوما ً ‪ .‬وأيضا ً ‪ :‬لو وجب حصوله في شيء‬
‫من الحياز ‪ ،‬لكان مفتقرا ً محتاجا ً إلى ذلك الحيز ‪ .‬فلم يكن قيوما ً على الطلق ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬ألستم تقولون ‪ :‬إنه )تعالى( )‪ : (43‬يجب أن يكون موصوفا ً بالعلم ‪ .‬ولم‬
‫يقدح ذلك عندكم في كونه قيوما ً ؟ فلم ل يجوز أيضا ً أن يقال ‪ :‬إنه يجب أن‬
‫يحصل في حيز معين‪ ،‬ولم يقدح ذلك في كونه قيوما ً ؟‬
‫قيل ‪ :‬عندنا أن ذاته كالموجب لتلك الصفة ‪ ،‬وذلك )ل( يقدح)‪ (44‬في وصف الذات‬
‫بكونه قيوما ً ‪ ،‬أما ههنا فل يمكن أن يقال ‪ :‬إن ذاته توجب ذلك الحيز المعين ‪ .‬لن‬
‫بتقدير أن ل يكون حاصل ً في ذلك الحيز ‪ .‬لم يلزم بطلن ذلك ول عدمه ‪ ،‬فكان‬
‫)‪(45‬‬
‫الحيز غنيا ً عنه ‪ ،‬وكان هو مفتقر إلى ذلك الحيز ‪ .‬فظهر الفرق )والله أعلم(‬

‫الحجة الخامسة ‪ :‬قوله تعالى ‪" :‬هل تعلم له سميًا")‪ (46‬؟ قال بن عباس )رضي‬
‫ل" ‪ ،‬ولو كان متحيزا ً ‪ ،‬لكان كل واحد من الجواهر‬
‫الله عنه( )‪" : (47‬هل تعلم له مث ً‬
‫)‪(48‬‬
‫مثل ً )له(‬

‫وذلك يقدح ‪ :‬خ‬ ‫)‪(44‬‬


‫)‪ (46‬مريم ‪65‬‬ ‫)‪ (45‬والله أعلم ‪ :‬سقط خ‬
‫)‪ (47‬رضي الله عنه ‪ :‬سقط خ‬
‫)‪ (48‬له من خ وقوله تعالى ‪" :‬هل تعلم له سميًا" ؟ معناه ‪:‬‬
‫‪ -1‬أن الكفار كانوا يسمون الصنام ‪ :‬آلهة ‪ .‬ويسمون الصنم ‪ :‬إله ولكن لم‬
‫يسموا أي صنم ‪ :‬الله ‪ .‬فيكون المعنى ‪ :‬ل أحد من الكفار سمى صنمه ‪ :‬الله‬
‫فهل تعلم له سميا ً ‪ ،‬أي ل يوجد اله ‪ :‬اسمه الله إل الله تعالى ‪ .‬كما قال عن‬
‫يحيى عليه السلم " لم نجعل له من قبل سميا ً " أي لم يسم به أحد من قبله ‪.‬‬
‫وهذا المعنى بعيد‪.‬‬
‫‪ -2‬إن أهل الحق لم يظهر فيهم من عبد غير الله وسماه باسم الله ‪ .‬وإذا ظهر‬
‫في أهل الباطل من عبد غير الله وسماه باسم الله ‪ .‬فلنه على باطل تكون‬
‫تسميته لغوا ً من القول ‪ ،‬فل يعتد بها – وهذا المعنى أيضا بعيد –‬
‫‪ " -3‬هل تعلم له سميا ً " أي مثل ً وتشبيها ً – وهذا هو المراد ‪ -‬أي ل إله مثل الله‬
‫يرجى نفعه ويخشى بأسه ‪ .‬أي ل إله إل الله ‪ .‬فسميا ً ليس من السم وإنما من‬
‫حقيقة الله ‪ .‬ولو كانت من السم ‪ .‬فكثير من الناس يسمون بمحمد ‪ . ‬وليسوا‬
‫شبها ً له إل في السم ‪.‬‬

‫الحجة السادسة ‪ :‬قوله تعالى « هو الله الخالق البارئ المصور » )‪ (49‬وجه‬


‫الستدلل به ‪ :‬إنا بينا في سائر كتبنا ‪ :‬أن الخالق في اللغة هو المقدر ‪ .‬ولو كان‬
‫تعالى جسما ً لكان متناهيا ً ‪ ،‬ولو كان متناهيا ً لكان مخصوصا ً بمقدار معين ن ولما‬
‫وصف نفسه بكونه خالقا ً ‪ ،‬وجب أن يكون تعالى هو المقدر لجميع المقدرات‬
‫بمقاديرها المخصوصة ‪ ،‬وإذا كان هو مقدرا ً في ذاته بمقدار مخصوص ‪ ،‬لزم كونه‬
‫مقدرا ً لنفسه ‪ ،‬وذلك محال وأيضا ً ‪ :‬لو كان جسما ً ‪ ،‬لكان متناهيا ً ‪ .‬وكل متناه ‪،‬‬
‫فإنه محيط به حد )واحد( )‪ (50‬أو حدود مختلفة ‪ .‬وكل ما كان كذلك ‪ ،‬فهو‬
‫مشكل ‪ .‬وكل مشكل فله صورة ‪ .‬فلو كان جسما ً لكان له صورة ‪ .‬ثم إنه تعالى‬
‫وصف نفسه بكونه مصورا ً ‪ ،‬فيلزم كونه مصورا ً لنفسه ‪ .‬وذلك محال ‪ .‬فيلزم أن‬
‫يكون منزها ً عن الصورة والجسمية ‪ .‬حتى ل يلزم هذا المحال ‪.‬‬
‫‪- 23 -‬‬

‫الحجة السابعة ‪ :‬قوله تعالى « هو الول والخر والظاهر والباطن » )‪ (51‬وصف‬


‫نفسه بكونه ظاهرا ً وباطنا ً ‪ .‬ولو كان جسما ً لكان ظاهره غير باطنه ‪ .‬فلم يكن‬
‫الشيء الواحد موصوفا ً بأنه ظاهر وبأنه باطن ‪ ،‬لن على تقدير كونه جسما ً ‪،‬‬
‫يكون الظاهر منه سطحه ‪ ،‬والباطن منه عمقه ‪ .‬فلم يكن الشيء الواحد ظاهرا ً‬
‫وباطنا ً ‪ ،‬وأيضا ً ‪ :‬فالمفسرون)‪ (52‬قالوا ‪ :‬إنه ظاهر بحسب الدلئل ‪ ،‬باطن بحسب‬
‫أنه ل يدركه الحس ‪ ،‬ول يصل إليه الخيال‪ .‬ولو كان جسما ً لما أمكن وصفه بأنه ل‬
‫يدركه الحس ‪ ،‬ول يصل إليه الخيال ‪.‬‬

‫)‪ (50‬واحد ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (49‬الحشر ‪24‬‬


‫)‪ (52‬المفسرون ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (51‬الحديـد ‪3‬‬
‫وقوله تعالى « ل تدركه‬ ‫)‪(53‬‬
‫الحجة الثامنة ‪ :‬قوله تعالى « ول يحيطون به علما ً »‬
‫البصار» )‪ (54‬وذلك يدل على كونه تعالى منزها ً عن المقدار والشكل والصورة ‪.‬‬
‫وإل لكان الدراك والعلم محيطين به ‪ .‬وذلك على خلف هذين النصين ‪ .‬فإن قيل‬
‫‪ :‬لم ل يجوز أن يقال ‪ :‬إنه وإن كان جسما ً ‪ ،‬لكنه جسم كبير ‪ ،‬فلهذا المعنى ل‬
‫يحيط به الدراك والعلم ؟ قلنا ‪ :‬لو كان المر كذلك ‪ ،‬لصح أن يقال ‪ :‬بأن علوم‬
‫الخلق وأبصارهم ل تحيط بالسموات ول بالجبال ول بالبحار ول بالمفاوز ‪ ،‬فإن‬
‫هذه الشياء ‪ :‬أجسام كبيرة ‪ ،‬والبصار ل تحيط بأطرافها ‪ ،‬والعلوم ل تصل إلى‬
‫تمام أجزائها ‪ ،‬ولو كان المر كذلك ‪ ،‬لما كان في تخصيص ذات الله تعالى بهذا‬
‫الوصف فائدة ‪.‬‬

‫الحجة التاسعة ‪ :‬قوله تعالى « وإذا سألك عبادي عني ‪ ،‬فإني قريب ‪ .‬أجيب دعوة‬
‫الداع إذا دعاني ز فليستجيبوا لي ‪ ،‬وليؤمنوا بي ز لعلهم يرشدون » )‪ (55‬وسئل‬
‫البني صلى الله عليه)‪ (56‬وسلم ‪ :‬أ قريب ربنا فنناجيه ‪ ،‬أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل‬
‫الله تعالى هذه الية ‪ .‬ولو كان تعالى في السماء أو في العرش ‪ ،‬لما صح القول‬
‫بأنه تعالى قريب من عباده ‪.‬‬

‫الحجة العاشرة ‪ :‬لو كان تعالى في جهة فوق ‪ ،‬لكان سماء ‪ ،‬ولو كان سماء ‪،‬‬
‫لكان مخلوقا لنفسه ‪ .‬وذلك محال ‪ .‬فكونه في جهة فوق ‪ :‬محال ‪ .‬وإنما قلنا إنه‬
‫)تعالى)‪ ( (57‬لو كان في جهة فوق لكان سماء لوجهين ‪:‬‬

‫)‪ (53‬طـه ‪110‬‬


‫)‪ (54‬النعــام ‪103‬‬
‫)‪ (56‬بدل وسلم في خ ‪ ،‬وآله في‬ ‫)‪ (55‬البقرة ‪186‬‬
‫ط‬
‫)‪ (57‬سقط خ‬

‫الول ‪ :‬إن السماء مشتق من السمو ‪ ،‬فكل شيء سماك فهو سماء ‪ .‬فهذا هو‬
‫الشتقاق الصلي اللغوي‪ .‬وعرف القرآن أيضا ً ‪ :‬متقرر عليه‪ .‬بدليل أنهم ذكروا‬
‫في تفسير قوله تعالى ‪ « :‬وينزل من السماء ‪ ،‬من جبال ‪ ،‬فيها من برد» )‪: (58‬‬
‫إنه السحاب ‪ .‬قالوا ‪ :‬وتسمية السحاب بالسماء جائـز ‪ ،‬لنه حصل فيه معنى‬
‫ً )‬
‫السمو‪ .‬وذكروا أيضا ً في تفسير قوله تعالى ‪« :‬وأنزلنا من السماء ماء طهورا»‬
‫‪ ، (59‬إنه من السحاب ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن الشتقاق اللغوي‪ ،‬والعلف القرآني متطابقان‬
‫على تسمية كل ما كان موصوفا ً بالسمو والعلو ‪) :‬بأنه( )‪ (60‬سماء ‪.‬‬
‫‪- 24 -‬‬

‫الثاني ‪ :‬إنه تعالى لو كان فوق العرش ‪ ،‬لكان من جلس في العرش ونظر إلى‬
‫فوق ‪ ،‬لم ير إل نهاية ذات الله تعالى ‪ .‬فكانت نسبة نهاية السطح الخير من ذات‬
‫الله تعالى إلى سكان العرش ‪ ،‬كنسبة السطح الخير من السموات إلى سكان‬
‫الرض‪ .‬وذلك يقتضي القطع بأنه لو كان فوق العرش لكان ذاته كالسماء لسكان‬
‫العرش ‪ .‬فثبت ‪ :‬أنه تعالى لو كان مختصا ً بجهة فوق ‪ ،‬لكان ذاته سماء ‪ .‬وإنما‬
‫قلنا ‪ :‬إنه لو كان ذاته سماء ‪ ،‬لكان ذاته مخلوقا ً ‪ ،‬لقوله تعالى ‪« :‬تنزيل ً ممن خلق‬
‫الرض والسموات العلى » )‪ (61‬ولفظة « السموات » ‪ :‬لفظة جمع مقرونة‬
‫باللف واللم ‪ .‬وهذا يقتضي كون كل السموات مخلوقة لله تعالى ‪ .‬فلو كان هو‬
‫تعالى سماء ‪ ،‬لزم كونه خالقا ٌ لنفسه ‪ .‬وكذلك أيضـا ً ‪ :‬قولـه تعالى «إن ربكم الله‬
‫م» )‪ (62‬يدل على ما ذكرناه ‪ .‬فثبت ‪ :‬أنه‬ ‫الذي خلق السموات والرض في ستة أيا ً‬

‫)‪ (59‬الفرقان ‪48‬‬ ‫)‪ (58‬النـور ‪43‬‬


‫)‪ (61‬طـه ‪4‬‬ ‫)‪ (60‬بأنه من خ‬
‫)‪ (62‬العـراف ‪54‬‬

‫تعالى لو كان مختصا ً بجهة فوق ‪ ،‬لكان سماء ‪ ،‬ولو كان سماء ‪ ،‬لكان مخلوقا ً‬
‫لنفسه ‪ .‬وهذا محال ‪ .‬فوجب أل يكون مختصا ً بجهة فوق‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬لفظ السماء مختص في العرف بهذه الجرام المستديرة ‪ .‬وأيضا ً ‪:‬‬
‫فهب أن هذا اللفظ في أصل الوضع يتناول ذات الله تعالى ‪ ،‬إل أن تخصيص‬
‫العموم جائز ‪ .‬قلنا ‪ :‬أما الجواب عن الول ‪ :‬فهو أن هذا الفوق )‪ (63‬ممنوع ‪.‬‬
‫وكيف ل نقول ذلك ‪ ،‬وقد دللنا على أن بتقدير أن يكون الله تعالى مختصا ً بجهة‬
‫فوق )إل أن )‪ ( (64‬نسبة ذاته تعالى إلى سكان العرش كنسبة السماء إلى سكان‬
‫الرض ؟ فوجب القطع بأنه لو كان مختصا ً بجهة فوق ‪ ،‬لكان سماء ز وأما‬
‫الجواب عن الثاني ‪ :‬فهو أن تخصيص العموم إنما يصار إليه عند الضرورة ‪ .‬فلو‬
‫قام دليل قاطع عقلي على كونه تعالى مختصا ً بجهة فوق ‪ ،‬لزمنا المصير إلى هذا‬
‫التخصيص ‪ .‬وإذا لم يقم)‪ (65‬شيء من الدلئل على ذلك ‪ ،‬بل قامت القواطع‬
‫العقلية والنقلية على امتناع كونه تعالى في الجهة ‪ ،‬لم يكن بنا إلى التزام هذا‬
‫التخصيص ‪ :‬ضرورة ‪ .‬فسقط هذا الكلم ‪.‬‬
‫الحجة الحادية عشر ‪ :‬قوله تعالى «قل ‪ :‬لمن ما في السموات والرض ؟ قل ‪:‬‬
‫ه» )‪ (66‬مشعر)‪ (67‬بأن المكان وكل ما فيه ‪ :‬ملك لله تعالى ‪ .‬وقوله «وله ما‬ ‫لل ً‬
‫على أن الزمان ‪ ،‬وكل ما فيه ‪ :‬ملك لله‬ ‫)‪(69‬‬
‫يدل‬ ‫)‪(68‬‬
‫سكن في الليل والنهاًر»‬
‫تعالى ‪ .‬ومجموع اليتين ‪ :‬يدلن على أن المكـان والمكانيات والزمان‬

‫)‪ (63‬الفـرق ‪ :‬ط‬


‫)‪ (65‬أما ما لم يقم ‪ :‬ص‬ ‫)‪ (64‬فأن ك ص‬
‫)‪ (67‬وهذا مشتهر ‪ :‬ص‬ ‫)‪ (66‬النعـام ‪12‬‬
‫)‪ (69‬وذلك يدل ‪ :‬ص‬ ‫)‪ (68‬النعــام ‪13‬‬

‫والزمانيات ‪ :‬كلها ملك لله تعالى ‪ .‬وذلك يدل على تنزيهه عن المكان والزمان ‪.‬‬
‫وهذا الوجه ذكره أبو مسلم الصبهاني)‪ (70‬رحمه الله في تفسيره ‪ .‬واعلم ‪ :‬أن‬
‫في تقديم ذكر المكان على ذكر الزمان ‪ :‬سرا ً شريفا ً ‪ ،‬وحكمة عالية ‪.‬‬
‫‪- 25 -‬‬

‫الحجة الثانية عشر ‪ :‬قوله تعالى «ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ‪ :‬ثمانية»‬
‫)‪(71‬‬

‫ولو كان الخالق في العرش ‪ ،‬لكان حامل العرش حامل ً لمن في العرش ‪ .‬فيلزم‬
‫احتياج الخالق إلى المخلوق ‪ .‬ويقرب منه ‪ :‬قوله تعالى ‪« :‬الذين يحملون‬
‫ش» )‪. (72‬‬
‫العر ً‬
‫الحجة الثالثة عشر ‪ :‬لو كان تعالى مستقرا ً على العرش ‪ ،‬لكان البتداء بتخليق‬
‫العرش ‪ ،‬أولى من البتداء بتخليق السموات ‪ .‬لن على تقدير )‪ (73‬القول أنه‬
‫مستقر على العرش ‪ ،‬يكون العرش مكانا ً له ‪ ،‬والسموات مكان عبيده ‪ .‬والقرب‬
‫إلى العقول ‪ :‬أن يكون تهيئة مكان نفسه ‪ ،‬مقدما ً على تهيئة مكان العبيد ‪ .‬لكن‬
‫من المعلوم ‪ :‬أن تخليق السموات مقدم على تخليق العرش ‪ .‬لقوله تعالى ‪« :‬‬
‫إن ربكم الله الذي خلق السموات والرض في ستة أيام ‪ ،‬ثم استوى على‬
‫العرش» )‪ (74‬وكلمة "ثم " التراخي‪.‬‬

‫)‪ ( 70‬الصفهاني ‪ :‬ط ولعل ذلك السر ‪ :‬أن الزمان هو مقدار حركة الفلك ‪،‬‬
‫وحركة الفلك إنما تكون بعد وجوده ‪.‬‬
‫غافــر ‪7‬‬ ‫)‪(72‬‬ ‫)‪ (71‬الحــاقة ‪17‬‬
‫)‪ (74‬العـراف ‪54‬‬ ‫)‪ (73‬بتقديــر ‪ :‬ط‬

‫الحجة الرابعة عشر ‪ :‬قوله تعالى « كل شيء هالك إل وجهه » )‪ (75‬ظاهر الية‬
‫يقتضي فناء العرش ‪ ،‬وفناء جميع الحياز والجهات‪ .‬وحينئذ يبقى الحق سبحانه‬
‫وتعالى منزها ً عن الحيز والجهة ‪ .‬وإذا ثبت ذلك ‪ ،‬امتنع أن يكون الن في جهة‬
‫)وحيز()‪ (76‬وإل لزم وقوع التغير في الذات ‪ .‬فإن قيل ‪ :‬الحيز والجهة ليس شيئا‬
‫)‪(77‬‬
‫موجودا ً ‪ ،‬حتى يصير هالكا ً فانيا ً ‪ .‬قلنا ‪ :‬الحياز والجهات أمور متخالفة‬
‫بحقائقها ‪ ،‬متباينة بماهياتها ‪ .‬بدليل ‪ :‬أنكم قلتم ‪ :‬أنه يجب حصول ذات الله تعالى‬
‫في جهة فوق ‪ ،‬ويمتنع حصول ذاته في سائر الجهات ‪ .‬فلول أن جهة فوق مخالفة‬
‫بالماهية لسائر الجهات ‪) ،‬وإل()‪ (78‬لما كان جهة فوق مخالفة لسائر الجهات في‬
‫هذه الخاصة ‪ ،‬وهذا الحكم ‪ .‬وأيضا ‪ :‬فلنا نقول ‪ :‬هذا الجسم حصل في هذا الحيز‬
‫‪ ،‬بعد أن كان حاصل ً في حيز آخر ‪ .‬فهذه الحياز معدودة متباينة متعاقبة ‪ ،‬والعدم‬
‫المحض ل يكون كذلك ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن هذه الحياز أمور متخالفة بالحقائق ‪ ،‬متباينة‬
‫بالعدد ‪ .‬وكل ما كان كذلك ‪ ،‬امتنع أن يكون عدما ً محضا ً ‪ .‬فكان أمرا ً موجودا ً ‪.‬‬
‫وإذا ثبت هذا ‪ ،‬دخل تحت قوله تعالى ‪« :‬كل شيء هالك إل وجهه» )‪ (79‬وإذا هلك‬
‫الحيز والجهة ‪ ،‬بقى ذات الله تعالى منزهة عن الحيز )والجهة()‪ (80‬وبقية الكلم‬
‫قد تقدمت ‪.‬‬
‫الحجة الخامسة عشر ‪ :‬قوله تعالى « هو الول والخـر » )‪ (81‬فهو يقتضي أن‬
‫يكون ذاته متقدما ً في الوجود على كل ما سواه ‪ ،‬وأن يكون متأخرا ً في الوجود‬
‫عن كل ما سواه ‪ ،‬وذلك يقتضي أنه كان موجودا ً قبل‬

‫القصص ‪88‬‬ ‫)‪(75‬‬


‫)‪ (77‬مختلفة ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (76‬وجيز من خ‬
‫)‪ (79‬القصص ‪88‬‬ ‫))‪ (78‬وإل من خ‬
‫)‪ (81‬الحديد ‪3‬‬ ‫)‪ (80‬والجهـة من خ‬

‫الحيز والجهة ‪ ،‬ويكون موجودا ً بعد فناء الحيز والجهة ‪ .‬وإذا ثبت هذا ‪ ،‬فالتقريب‬
‫ما ذكرناه في الحجة الثالثة عشرة ‪ ،‬والرابعة عشرة ‪.‬‬
‫‪- 26 -‬‬

‫الحجة السادسة عشر ‪ :‬قوله تعالى ‪ « :‬واسجد واقترب » )‪ (82‬ولو كان في جهة‬
‫الفوق ‪ ،‬لكانت السجدة تفيد البعد من الله تعالى ‪ ،‬ل القرب منه ‪ .‬وذلك خلف‬
‫الصل ‪.‬‬
‫)‪(83‬‬
‫الحجة السابعة عشر ‪ :‬قوله تعالى ‪ « :‬فل تجعلوا لله أندادا ً وأنتم تعلمون »‬
‫والند ‪ :‬المثل ‪ .‬ولو كان تعالى جسما ً لكان مثل ً لكل واحد من الجسام ‪ .‬لما‬
‫سنبين إن شاء الله ‪ :‬أن الجسام كلها متماثلة ‪ .‬وحينئذ يكون الند موجودا ً على‬
‫هذا التقدير ‪ .‬وذلك على مضادة هذا النص ‪.‬‬
‫الحجة الثامنة عشر ‪ :‬الحديث المشهور ‪ :‬وهو ما روي أن عمران بن الحصين ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬يا رسول الله أخبرنا عن أول المر ‪ .‬فقال ‪ " :‬كان الله ‪ ،‬ولم يكن معه‬
‫شيء " وقد دللنا مرارا ً كثيرة على أنه تعالى لو كان مختصا ً بالحيز والجهة ‪،‬‬
‫لكان ذلك الحيز شيا ً موجودا ً معه‪ .‬وذلك على نقيض هذا النص‪.‬‬
‫الحجة التاسعة عشر ‪ :‬روي أن الرسول ‪ ‬قيل له ‪ :‬أين كان ربنا ؟ قال ‪ " :‬كان‬
‫في عماء ليس تحته ماء ‪ ،‬ول فوقه هواء " قيل العماء ‪ -‬بالمد ‪ -‬الغيم الرقيق‪.‬‬
‫وأما العمى ‪ -‬بالقصر ‪ : -‬فهو عبارة عن الحالة المضادة للبصر ‪ .‬وقال بعض‬
‫العلماء ‪ :‬يجب أن تكون الرواية الصحيحة هي الرواية بالقصر ‪ ،‬وحينئذ تدل على‬
‫نفي الجهة ‪ .‬لن الجهة إذا لم تكن موجودة ‪ ،‬لم تكن‬

‫)‪ (83‬البقرة ‪ 22‬وأنتم تعلمون في خ‬ ‫)‪ (82‬العلق ‪19‬‬

‫مرئية ‪ .‬فأمكن جعل العمى عبارة عن عدم الجهة ‪ .‬ويتأكد هذا بقوله عليه السلم‬
‫)‪(84‬‬
‫‪ " :‬ليس تحته مـاء ‪ ،‬ول فوقه هواء "‬
‫واعلم ‪ :‬أن هذه الوجوه التي ذكرناها ‪ ،‬بعضها )قـوي ‪ ،‬وبعضها ضعيف(‬
‫)‪(85‬‬

‫وكيفما كان المر فقد ثبت أن في القرآن والخبار ‪ :‬دلئل كثيرة ‪ ،‬تدل على تنزيه‬
‫الله تعالى عن الحيز والجهة ز وبالله التوفيق ‪.‬‬

‫‪------------‬‬

‫)‪ (84‬قال عبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفى سنة ‪ 276‬هـفي كتابه " تأويل‬
‫مختلف الحديث " ‪:‬‬
‫" قالوا ‪ :‬رويتم في حديث أبي رزين العقيلي ‪ ،‬من رواية حماد بن سلمة ‪ ،‬أنه‬
‫قال للنبي ‪ : ‬أين كان ربنا ‪ ،‬قبل أن يخلق السموات والرض ؟ فقال ‪ " :‬كان‬
‫في عماء ‪ ،‬فوقه هواء ‪ ،‬وتحته هواء ط وقالوا ‪ :‬وهذا تحديد وتشبيه ‪ .‬قال أبو‬
‫محمد ‪ :‬ونحن نقول ك أن حديث أبي رزين هذا ‪ :‬مختلف فيه ‪ ،‬وقد جاء من غير‬
‫هذا الوجه بألفاظ تستشنع أيضًا‪ ،‬والنقلة له ‪ :‬أعراب ‪ .‬ووكيع بن حدس – الذي‬
‫روي عنه حديث حماد بن سلمة أيضا ً – ل يعرف ‪ .‬غير أنه قد تكلم في تفسير هذا‬
‫الحديث ‪ :‬أبو عبيد ‪ ،‬القاسم بن سلم ‪ .‬حدثنا عنه أحمد بن سعيد اللحياني ن أنه‬
‫قال ‪" :‬العماء" ‪ :‬السحاب ز وهو كما ذكر في كلم العرب ‪ ،‬إن كان الحرف‬
‫ممدودا ً ‪ .‬وان كان مقصورا ً ‪ ،‬كأنه كان في عمى ‪ .‬فانه أراد كان في عمى عن‬
‫معرفة الناس ‪ .‬كما نقول ‪ :‬عميت عن هذا المر ‪ ،‬فأنا أعمى عنه ن عمى ‪ :‬إذا‬
‫أشكل عليك ‪ ،‬فلم تعرفه ‪ ،‬ولم تعرف جهته ‪ .‬وكل شيء خفي عليك ‪ ،‬فهو في‬
‫عمى عنك ‪ .‬وأما قوله ‪" :‬فوقه هواء ‪ ،‬وتحته هواء" فان قوما ً زادوا فيه "ما"‬
‫فقالوا ‪" :‬ما فوقه هواء ‪ ،‬وما تحته هواء" استيحاشا ً من أن يكون فوقه هواء ‪،‬‬
‫وتحته هواء ‪ ،‬ويكون بينهما ‪ .‬والرواية هي الولى ‪ .‬والوحشة ل تزول بزيادة "ما"‬
‫لن فوق وتحت ‪ :‬باقيان ‪ .‬والله أعلم " ‪.‬‬
‫‪- 27 -‬‬

‫)‪ (85‬أقوى من بعض ‪ :‬خ‬

‫الفصل الثالث‬
‫في‬
‫إقامة الدلئل العقلية على أنه تعالى ليس بمتحيز البتة‬

‫اعلم ‪ :‬أنا إذا دللنا على أنه تعالى ليس بمتحيز‪ ،‬فقد دللنا على أنه تعالى ليس‬
‫بجسم ول جوهر )فرد)‪ ((1‬لن المتحيز ‪ ،‬إن كان منقسما ً فهو الجسم ‪ ،‬وإن لم‬
‫يكن منقسما ً فهو الجوهر الفرد ‪.‬‬

‫فنقول ‪ :‬الذي يدل على أنه تعالى ليس بمتحيز ‪ :‬وجوه ‪.‬‬

‫البرهان الول ‪ :‬إنه تعالى لو كان متحيزا ً ‪ ،‬لكان مماثل ً لسائر المتحيزات في تمام‬
‫الماهية ‪ .‬وهذا ممتنع ‪ .‬فكونه متحيزا ً ممتنع ‪ .‬وإنما قلن إنه تعالى لو كان‬
‫متحيزا ً ‪ ،‬لكان مماثل ً لسائر المتحيزات في تمام الماهية ‪ :‬لنه لو كان متحيزا‪ً،‬‬
‫لكان مساويا ً لسائر المتحيزات في كونه متحيزا‪ ،‬ثم بعد هذا ل يخلو إما أن يقال‪:‬‬
‫إنه يخالف غيره من الجسام في ماهيته المخصوصة‪ ،‬وإما أن ل يخالفه في‬
‫)ماهيته المخصوصة()‪ (2‬والقسم الول باطل فتعين الثاني ‪ .‬وحينئذ يحصل منه ‪:‬‬
‫أنه )تعالى)‪ ((3‬لو كان متحيزا ً ‪ ،‬لكان مثل ً لسائر المتحيزات ‪ ،‬فيفتقر ههنا إلى بيان‬
‫أنه يمتنع أن يكون مساويا ً لسائر المتحيزات ‪ ،‬في عموم المتحيزية ‪ ،‬ومخالفا ً لها‬
‫في ماهيته المخصوصة ‪.‬‬
‫فنقول ‪ :‬الدليل على أن ذلك ممتنع ‪ :‬هو أن بتقدير أن يكون مساويا ً‬

‫)‪ (2‬الحقيـقة ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (1‬فـرد ‪ :‬سقط خ‬


‫)‪ (3‬سقط خ‬

‫لسائرها في المتحيزية ‪ ،‬ومخالفا ً لها في الخصوصي ‪ :‬كان ما به الشتراك مغايرا ً‬


‫– ل محالة – لما به المتياز ‪ .‬وحينئذ يكون عموم المتحيزية مغايرا ً لخصوص ذاته‬
‫المخصوصة ‪ .‬وحينئذ نقول ‪ :‬إما أن تكون الذات هي المتحيزية ‪ ،‬وتكون تلك‬
‫الخصوصية لتلك الذات ‪ ،‬وإما أن يقال ‪ :‬المتحيزية صفة ‪ ،‬وتلك الخصوصية هي‬
‫الذات‪.‬‬

‫أما القسم الول فإنه يقتضي حصول المقصود ‪ .‬لنه إذا كان مجرد المتحيزية هي‬
‫الذات ‪ ،‬وثبت أن مجرد المتحيزية أمر مشترك فيه بينه وبين سائر المتحيزات ‪.‬‬
‫وليس المطلوب إل ذلك ‪ .‬وأما القسم الثاني وهو أن يقال ‪ :‬أن الذات هي تلك‬
‫الخصوصية ‪ ،‬والصفة هي المتحيزية ‪ .‬فنقول ‪ :‬هذا محال ‪ .‬وذلك لن تلك‬
‫الخصوصية من حيث أنها هي هي ‪ ،‬مع قطع النظر عن المتحيزية ‪ .‬إما أن يكون‬
‫لها اختصاص بالحيز ‪ ،‬وإما أن ل يكون لها ذلك)‪ (4‬والول محال ‪ .‬لن كل ما كان‬
‫حاصل ً في حيز وجهة على سبيل الستقلل ‪ ،‬كان متحيزا ً ‪ .‬فلو كانت تلك‬
‫‪- 28 -‬‬

‫الخصوصية التي فرضناها خالية عن التحيز ‪ ،‬حاصلة في الحيز ‪ ،‬لكان الخالي عن‬
‫التحيز متحيزا ً ‪ .‬وذلك محال ‪ .‬وأما القسم الثاني وهو أن يقال ‪ :‬أن تلك‬
‫الخصوصية غير مختصة بشيء من الحياز والجهات ‪ .‬فنقول ‪ :‬إنه يمتنع أن تكون‬
‫المتحيزة صفة قائمـة بها ‪ ،‬لن تلك الخصوصية غير مختصة بشيء من الحياز‬
‫ل()‪ (5‬في الجهات ‪ .‬والشيء‬‫والجهات ‪ ،‬والمتحيزة أمر ل يعقل إل أن )يكون حاص ً‬
‫الذي يجب أن يكون حاصل ً في الجهات ‪ ،‬يمتنع أن يكون حاصل في الشيء‬
‫ً‬

‫)‪ (5‬يكون حاصلـه ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (4‬كذلك ك ص‬


‫الذي يمتنع حصوله في الجهة ‪ .‬وإذا لم تكن المتحيزية صفة للشيء ‪ ،‬كانت نفس‬
‫الذات ‪ .‬وحينئذ يلزم أن تكون الشياء المتساوية في المتحيزية ن متساوية في‬
‫)تمام()‪ (6‬الذات ‪ .‬فثبت بما ذكرنا ‪ :‬أن المتحيزات يجب أن تكون كلها متساوية‬
‫في تمام الماهية ن وهذا برهان قاطع في تقرير هذه المقدمة ‪.‬‬
‫وإنما قلنا ‪ :‬إنه يمتنع أن تكون ذات الله تعالى مساوية لذوات الجسام في تمام‬
‫الماهية لوجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إن من حكم المتماثلين ‪ :‬الستواء في جميع اللوازم ‪ .‬فيلزم من قدم ذات‬
‫الله تعالى ‪ ،‬قدم سائر الجسام‪ ،‬أو من حدوث سائر الجسام ‪ ،‬حدوث ذات الله‬
‫تعالى ‪ .‬وذلك محال ‪.‬‬

‫الثاني ‪ :‬أن المثلين يجب استواؤهما في جميع اللوازم ‪ .‬وكما صح على سائر‬
‫الجسام خلوها عن صفة العلم والقدرة والحياة ‪ ،‬وجب أن يصح على ذاته الخلو‬
‫عن هذه الصفات ‪ .‬وحينئذ يكون اتصاف ذاته بحياته وعلمه وقدرته ‪ ،‬من‬
‫الجائزات ‪ .‬وإذا كان المر كذلك ‪ ،‬امتنع كون تلك الذات موصوفا ً بالحياة والعلم‬
‫والقدرة ‪ ،‬إل بإيجاد موجد ‪ ،‬وتخصيص مخصص ‪ .‬وذلك يقتضي احتياجه إلى الله‬
‫ز وحينئذ كل ما كان جسما ً ‪ ،‬كان محتاجا ً إلى الله ‪ .‬وهذا يقتضي أن الله يمتنع‬
‫أن يكون جسما ً ‪.‬‬

‫الثالث ‪ :‬إنه لما كان ذاته تعالى مساوية لذوات سائر المتحيزات‪ ،‬وصح في سائر‬
‫المتحيزات كونها متحركة تارة وساكنة أخرى ‪ ،‬وجب أن تكون ذاته أيضا ً كذلك ‪.‬‬
‫وعلى هذا التقدير يلزم أن تكون ذاته تعالى قابلة للحركة والسكون ‪ .‬وكل ما‬
‫كان كذلك ‪ ،‬وجب القول بكونه محدثا ً ‪.‬‬

‫)‪ (6‬تمـام ‪ :‬سقط خ‬

‫لما ثبت في تقرير هذه الدلئل في مسألة حدوث الجسام ‪ .‬ولما كان محدثا ً –‬
‫وحدوثه محال – فكونه جسما ً ‪ :‬محال ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬إنه لو كان جسما ً لكان مؤتلف الجزاء ‪ .‬وتلك الجزاء تكون متماثلة‬
‫بأعيانها ‪ ،‬وهي أيضا ً مماثلة لجزاء سائر الجسام ‪ .‬وعلى هذا التقدير ‪ ،‬كما صح‬
‫الجتماع والفتراق على سائر الجسام ‪ ،‬وجب أن يصح على تلك الجزاء ‪ .‬وعل‬
‫هذا التقدير ل بد له من مركب ومؤلف ‪ .‬وذلك على إله العالم محال ‪.‬‬

‫البرهان الثاني في بيان أنه يمتنع أن يكون متحيزا ً ‪:‬‬


‫‪- 29 -‬‬

‫هو أنه لو كان متحيزا ً ‪ ،‬لكان متناهيا ً ‪ .‬وكل متناه ‪ :‬ممكن ‪ .‬وكل ممكن ‪ :‬محدث ‪.‬‬
‫فلو كان متحيزا ً لكان محدثا ً ‪ .‬وهذا محال ‪ .‬فذاك محال ‪.‬‬

‫أما المقدمة الولى ‪ :‬وهي بيان أنه تعالى لو كان متحيز ‪ ،‬لكان متناهيا ً ‪:‬‬
‫فالدليل عليه ‪ :‬أمن كل مقدار ‪ ،‬فإنه يقبل الزيادة والنقصان ‪ .‬وكل ما كان‬
‫كذلك ‪ ،‬فهو متناه ‪ .‬وهذا يدل على أن كل متحيز ‪ ،‬فهو متناه ‪ .‬وشرح هذا الدليل‬
‫قد قررناه في سائر كتبنا ‪.‬‬
‫وأما المقدمة الثانية ‪ :‬وهي بيان أن كل متناه ‪ ،‬فهو ممكن ‪ :‬فذلك لن كل ما كان‬
‫متناهيا ً ‪ ،‬فإن فرض كونه أزيد قدرا ً أو أنقص قدرا ً ‪ :‬أمر ممكن ‪ .‬والعلم بثبوت‬
‫هذا المكان ضروري‪ .‬فثبت أن كل متحيز ‪ ،‬فهو متناه ‪ .‬وشرح هذا الدليل قد‬
‫قررناه في سائر كتبنا ‪.‬‬
‫وأما المقدمة الثالثة ‪ :‬وهي بيان أن كل ممكن محدث ‪ :‬فهو أنه لما كان الزائد‬
‫والناقص والمساوي متساوون)‪ (7‬في المكان ‪ ،‬امتنع رجحان‬

‫متسـاوية ‪ :‬ص‬ ‫)‪(7‬‬

‫بعضهم)‪ (8‬على بعض ‪ ،‬إل لمرجح ‪ .‬والفتقار إلى المرجح ‪ .‬إما أن يكون حال‬
‫وجوده ‪ .‬أو حال عدمه‪ .‬فإن كان حال وجوده )فإنه يكون إما( )‪ (9‬حال بقائه ‪ ،‬أو‬
‫حال حدوثه ‪ .‬ويمتنع أن يفتقر إلى المؤثر حال بقائه ‪ ،‬لن المؤثر ‪ ،‬تأثيره‪) :‬في‬
‫التكوين والتأثير( )‪ (10‬فلو افتقر حال بقائه إلى المؤثر ‪ ،‬لزم تكوين الكائن ‪،‬‬
‫وتحصيل الحاصل ‪ ،‬وذلك محال ‪ .‬فلم يبق إل أن يحصل الفتقار ‪ .‬إما حال حدوثه‬
‫أو حال عدمه ‪ .‬وعلى التقديرين فإنه يلزم أن يكون كل ممكن محدثًا‪ .‬فثبت ‪ :‬أن‬
‫كل جسم متناه ‪ ،‬وكل ممكن محدث )فثبت ‪ :‬أن كل جسم محدث( )‪ (11‬وآله يمتنع‬
‫)‪(12‬‬
‫أن يكون محدثا ً )وبالله التوفيق(‬
‫البرهان الثالث ‪ :‬لو كان إله العالم متحيزا ً ‪ ،‬لكان محتاجا إلى الغير ‪ .‬وهذا محال ‪،‬‬
‫فكونه متحيزا ً محال ‪ .‬بيان الملزمة ‪ :‬إنه لو كان متحيزا ً ‪ ،‬لكان مساويا ً لغيره في‬
‫المتحيزات ‪ ،‬في مفهوم كونه متحيزا ً ‪ ،‬ولكان مخالفا ً لها في تعينه وتشخصه ‪ .‬ثم‬
‫نقول ‪ :‬إن بعد حصول المتياز بالتعين ‪ :‬إما أن يحصل المتياز في الحقيقة –‬
‫وعلى هذا التقدير ‪ ،‬يكون المتحيز جنسا ً ‪ ،‬تحته أنواع ‪ .‬أحدها ‪ :‬واجب الوجود –‬
‫وإما أن ل يحصل المتياز في الحقيقة – وعلى هذا التقدير ‪ ،‬يكون المتحيز نوعا ً ‪،‬‬
‫تحته أشخاص ‪ .‬أحدهما ‪ :‬واجب الوجود –‬
‫فنقول ‪ :‬الول باطل ‪ .‬لن على هذا التقدير تكون ذاته مركبة‬

‫)‪ (9‬فاما ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (8‬بعضهـا ‪ :‬ص‬


‫)‪ (11‬سقط خ‬ ‫)‪ (10‬بالتكوين ‪ :‬ط‬
‫)‪ (12‬سقط خ‬

‫من الجنس والفصل ‪ .‬وكل مركب فهو مفتقر إلى جزئه ‪ ،‬وجزؤه غيره ‪ .‬وكل‬
‫مركب فهو مفتقر إلى غيره ‪ ،‬فلو كان واجب الوجود متحيزا ً لكان مفتقرا ً إلى‬
‫غيره ‪ .‬والثاني )أيضا ً باطل)‪ ( (13‬لن هذا التقدير يكون تعينه زائدا ً على ماهية‬
‫النوعية ‪ ،‬وذلك التعين ل بد له من مقتضى ‪ ،‬وليس هو تلك الماهية ‪ ،‬وإل لكان‬
‫‪- 30 -‬‬

‫نوعه )منحصرا ً )‪ ( (14‬في شخصه ‪ .‬وقد فرضنا أنه ليس كذلك ‪ ،‬فل بد وأن يكون‬
‫المقتضى لذلك التعين ‪ :‬شيئا ً غير تلـك‬
‫الماهية ‪ ،‬وغير لوازم تلك الماهية ‪ ،‬فيكون محتاجا ً إلى غيره ‪ .‬فثبت ‪ :‬أنه لو كان‬
‫متحيزا ً ‪ ،‬لكان محتاجا ً إلى غيره ‪ ،‬وذلك محال ‪ .‬لنه واجب الوجود لذاته ‪ .‬وواجب‬
‫الوجود لذاته ‪ ،‬ل يكون واجب الوجود لغيره ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن كونه متحيزا ً ‪ :‬محال ‪.‬‬
‫البرهان الرابع ‪ :‬لو كان إله العالم متحيزا ً ‪ ،‬لكان مركبا ً ‪ .‬وهذا محال فكونه‬
‫متحيزا ً محال ‪ .‬بيان الملزمة من وجهين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ - :‬وهو على قول من ينكر الجوهر الفرد – إن كل متحيز فل بد وأن‬
‫يتميز أحد جانبيه عن الثاني ن وكل ما كان كذلك فهو منقسم ‪ :‬فثبت ‪ :‬أن كل‬
‫متحيز فهو منقسم ومركب ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إن كل متحيز فإما أن يكون قابل ً للقسمة ‪ ،‬أو ل يكون‪ .‬فإن كان قابل ً‬
‫للقسمة ‪ ،‬كان مركبا ً مؤلفا ً ‪ ،‬وإن كان غير قابل للقسمة ‪ ،‬فهو الجوهر الفرد –‬
‫وهو في غاية الصغر والحقارة – وليس في العقلء أحد يقول هذا القول ‪ .‬فثبت‬
‫أنه تعالى لو كان متحيزا ً ‪ ،‬لكان )منقسما ً‬

‫)‪ (14‬منحصرا ً ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (13‬باطل أيضا ً ‪ :‬خ‬

‫مؤلفا ً)‪ ( (15‬وذلك محال ‪ ،‬لن كل ما كان كذلك ‪ ،‬فهو مفتقر في حقيقته إلى كل‬
‫واحد من أجزائه ‪ ،‬وكل واحد من أجزائه ‪ :‬غيره ‪ .‬فكل مركب فهو مفتقر في‬
‫الحقيقة إلى غيره ‪ .‬وكل ما كان كذلك ‪ ،‬فهو ممكن لذاته)‪ (16‬فكل مركب ‪:‬‬
‫ممكن لذاته ‪ .‬فيلزم أن يكوم الممكن لذاته ‪ :‬واجبا ً لذاته وذلك محال ‪ .‬فيمتنع أن‬
‫يكون متحيزًا‪.‬‬
‫البرهان الخامس ‪ :‬إنه لو كان متحيزا ً ‪ ،‬لكان مركبا ً من الجزاء ‪ .‬إذ ليس في‬
‫العقلء من يقول إنه في حجم الجوهر الفرد ‪ .‬ولو كان مركبا ً من الجزاء ‪ ،‬فإما‬
‫أن يكون الموصوف بالعلم والقدرة والحياة جزءا واحدا ً من ذلك المجموع ‪ ،‬أو أن‬
‫يكون الموصوف بهذه الصفات مجموع تلك الجزاء ‪ ،‬فإن كان الول كان إله‬
‫العالم هو ذلك الجزء الواحد‪ .‬فيكون إله العالم في غاية الصغر والحقارة ‪ .‬وقد‬
‫بينا ‪ :‬أنه ليس في العقلء من يقول بذلك ‪ .‬وإن كان الثاني فإما أن يقال ‪ :‬القائم‬
‫بمجموع تلك الجزاء علم )واحد)‪ ( (17‬وقدرة )واحدة)‪ ( (18‬أو يقال ‪ :‬القائم بكل‬
‫واحد من تلك الجزاء ‪ :‬علم على حدة ‪ ،‬وقدرة على حدة ؟ والول محال لنه‬
‫يقتضي قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة ‪ .‬وذلك محال ‪ .‬وإن كان الثاني ‪،‬‬
‫لزم أن يكون كل واحد منها إلها ً قديما ً ‪ .‬وذلك يقتضي تكثر اللهة ‪ .‬وهو محال ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬هذا يشكل بالنسان ‪ .‬فإن ما ذكرتم قائم فيه بعينه ‪ ،‬فيلزم أن ل‬
‫يكون جسما ً ‪ .‬وهذه مكابرة )لنا)‪ ( (19‬نعلم بالضرورة ‪ :‬أن النسان ليس إل هذه‬
‫البنية‪.‬‬

‫)‪ (16‬لذاته ‪ :‬سقط خ‬ ‫مؤلفا ً منقسما ً ‪ :‬ط‬ ‫)‪(15‬‬


‫)‪ (18‬وقدره على حدة ك خ‬ ‫)‪ (17‬علم على حدة ‪ :‬خ‬
‫)‪ (19‬فأنا ‪ :‬ط‬

‫ثم نقول ‪ :‬لم ل يجوز أن يقال ‪ :‬قام علم واحد)‪ (20‬بمجموع تلك الجزاء ‪ ،‬إل أنه‬
‫انقسم ذلك المجموع‪ ،‬وقام بكل واحد من تلك الجزاء جزء من ذلك العلم ؟‬
‫وأيضا ً ‪ :‬لم ل يجوز أن يقال ‪ :‬قام بكل واحد من تلك الجزاء علم بمعلوم واحد ‪،‬‬
‫‪- 31 -‬‬

‫وقدرة على مقدور واحد ‪ .‬وبهذا الطريق كان مجموع الجزاء عالما ً بجملة‬
‫المعلومات ‪ ،‬قادرا ً على جملة المقدورات ؟‬
‫والجواب عن السؤال الول ‪ :‬أن نقول ‪ .‬أما الفلسفة فقد طردوا قولهم ‪.‬‬
‫وزعموا ‪ :‬أن النسان ليس عبارة عن هذه البنية ‪ .‬فإن النسان عبارة عن الشيء‬
‫الذي يشير إليه كل إنسان بقوله ‪ :‬أنا ‪ .‬وذلك الشيء موجود ليس بجسم ول‬
‫بجسماني ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬وأما قول من يقول بأن هذا باطل بالضرورة ‪ .‬لن كل أحد يعلم أن‬
‫النسان ليس إل هذه البنية المخصوصة ن فقد أجابوا عنه ‪ :‬بأن النسان مغاير‬
‫لهذه البنية المشاهدة ‪ .‬ويدل عليه وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إنا قد نعقل أنفسنا حال ما نكون غافلين عن جملة أعضائنا الظاهرة‬
‫والباطنة ‪ .‬والمعلوم مغاير لغير المعلوم ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إني أعلم بالضرورة ‪ :‬أني أنا النسان الذي كنت موجودا ً قبل هذه المدة‬
‫بخمسين سنة ‪ ،‬وجملة أجزاء هذه البنية متبدلة بسبب )السمن والهزال)‪((21‬‬
‫والصحة والمرض ‪ .‬والباقي مغاير لما ليس بباق ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬إن المشاهد ليس إل السطح الموصوف باللون المخصوص ‪.‬‬

‫)‪ (20‬الهزال والسمن ك خ‬

‫وباتفاق العلماء ليس النسان عبارة عن هذا القدر ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن النسان ليس‬
‫بمشاهد البتة ‪.‬‬
‫وأما سائر الطوائف والفرق ز فقد ذكروا الفرق بين الشاهد والغائب من‬
‫وجهين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬قال الشعري ‪ :‬كل واحد من أجزاء النسان موصوف بعلم على حدة ‪،‬‬
‫وقدرة على حدة ‪ .‬وهذا يقتضي أن يكون هذا البدن مركبا ً من أشياء كثيرة ‪ ،‬وكل‬
‫واحد منها عالم قادر حي ‪ .‬وهذا مما ل نزاع فيه ‪ .‬وأما التزام ذلك في حق الله‬
‫)سبحانه)‪ (22‬و( تعالى ن فإنه يقتضي تعدد اللهة ‪ .‬وذلك محال ‪ .‬فظهر الفرق ‪،‬‬
‫الثاني ك قال ابراهيم الراوندي ‪ :‬النسان جزء واحد ل يتجزئ في القلب ‪ .‬وهذا‬
‫يقتضي أن يكون النسان في غاية الحقارة ‪ .‬وذلك غير ممتنع ‪ .‬أما لو قلنا بمثله‬
‫في حق الله تعالى )فإنه يلزم منه كونه)‪ ( (23‬في غاية الحقارة ‪ .‬وذلك لم يقل به‬
‫عاقل ‪.‬‬
‫وأما السؤال الثاني ‪ :‬وهو قوله ‪ :‬لم ل يجوز أن يقال ‪ :‬العلم ينقسم ‪ .‬فقام بكل‬
‫واحد من تلك الجزاء ‪ :‬جزء واحد من ذلك ؟ فنقول ‪ :‬هذا محال لن كل واحد‬
‫من أجزاء العلم ‪ ،‬إما أن يكون علما ً ‪ ،‬وإما أن ل يكون ك )علما)‪ ( (24‬فإن كان‬
‫الول ن كان القائم بكل واحد من تلك الجزاء علما ً على حده ز وذلك غير هذا‬
‫السؤال ‪ .‬وإن كان الثاني ‪ ،‬لم يكن شيء من تلك الجزاء موصوفا ً بالعلم ‪.‬‬
‫والمجموع ليس إل تلك المور ‪ .‬فوجب أل يكون المجموع موصوفا ً بالعلم‬
‫والقدرة ‪.‬‬

‫)‪ (23‬يلزم كونه ‪ :‬ص‬ ‫) ‪ (22‬سبحانه وتعالى ‪ :‬ط‬


‫)‪ ( 24‬علما ً ‪ :‬سقط خ‬
‫‪- 32 -‬‬

‫وأما السؤال الثالث ‪ :‬وهو قولهم ‪ :‬كل واحد من تلك الجزاء ‪ ،‬يكون موصوفا ً ‪،‬‬
‫بعلم متعلق بمعلوم معين ‪ ،‬وبقدرة متعلقة بمقدور معين ‪ .‬فنقول ‪ :‬هذا أيضا ً‬
‫محال ‪ .‬لنه يقتضي كون كل واحد من تلك الجزاء عالما ً بمعلومات معينة ‪ ،‬قادرا ً‬
‫على مقدورات معينة ‪ .‬فيرجع حاصل الكلم إلى إثبات آلهة كثيرة كل واحد منها‬
‫مخصوص بمعرفة بعض المعلومات ‪ ،‬وبالقدرة على بعض المقدورات ‪ .‬وذلك‬
‫يناقض )‪ (25‬القول بأن إله العالم موجود واحد )والله أعلم)‪( (26‬‬
‫البرهان السادس ‪ :‬إنه تعالى لو كان جسما ً ‪ ،‬لكانت الحركة )عليه( )‪ (27‬إما أن‬
‫تكون جائزةُ)‪ (28‬أو ل تكون جائزة ‪.‬‬
‫والقسم الول باطل ‪ .‬لنه لما لم يمتنع أن يكون الجسم الذي تكون الحركة عليه‬
‫جائزة ‪ :‬إلها ً ‪ .‬فلم ل يجوز أن يكون إله العالم هو الشمس أو القمر أو الفلك ؟‬
‫وذلك لن هذه الجسام ليس فيها عيب )يمنع( )‪ (29‬من إلهيتها إل أمور ثلثة ‪ .‬وهي‬
‫كزنها مركبة من الجزاء ‪ ،‬وكونها محدودة متناهية ‪ ،‬وكونها موصوفة بالحركة‬
‫والسكون ‪ .‬فإذا لم تكن هذه الشياء مانعة من اللهية ‪ ،‬فكيف يمكن الطعن في‬
‫إلهيتها ؟ وذلك عين الكفر واللحاد ‪ ،‬وإنكار الصانع – تعالى –‬
‫( جسم ن ولكن النتقال والحركة‬ ‫والقسم الثاني ‪ :‬وهو أن يقال ‪ :‬إنه )تعالى‬
‫)‪(30‬‬

‫عليه ‪ :‬محال ‪ .‬فنقول ‪ :‬هذا باطل من وجوه ‪:‬‬

‫والله أعلم ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪(26‬‬ ‫)‪ (25‬يقتضي ‪ :‬خ‬


‫)‪ (28‬جائزة عليه ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (27‬يعليه ‪ :‬من خ‬
‫)‪ (30‬تعالى ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (29‬يمنع ‪ :‬سقط خ‬

‫الول ‪ :‬إن هذا يكون كالزمن المقعد ‪ ،‬الذي ل يقدر على الحركة ‪ .‬وهذه صفة‬
‫نقص ‪ ،‬وهو على الله تعالى ‪ :‬محال ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إنه تعالى لما كان جسما ً ‪ ،‬كان مثل ً لسائر الجسام ‪ .‬فكانت الحركة‬
‫جائزة عليه ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬إن القائلين بكونه جسما ً مؤلفا ً من الجزاء والبعاض ل يمنعون من‬
‫جواز الحركة عليه ‪ .‬فإنهم يصفونه بالذهاب والمجيء ‪ .‬فتارة يقولون ‪ :‬إنه جالس‬
‫على العرش ‪ ،‬وقدماه على الكرسي ‪ -‬وهذا هو السكون ‪ -‬وتارة يقولون ‪ :‬إنه‬
‫ينزل إلى السماء)‪ (31‬الدنيا ‪ -‬وهذا هو الحركة ‪-‬‬
‫فهذا مجموع الدلئل على أنه تعالى ليس بجسم ول بجوهر ‪ .‬وبالجملة فليس‬
‫بمتحيز ‪.‬‬

‫***‬
‫أما شبه الخصم ‪ .‬فمن وجوه ‪:‬‬
‫الشبهة الولى ‪ :‬إن العالم موجود ‪ ،‬والباري تعالى موجود ز وكل موجودين فل بد‬
‫وأن يكون أحدهما ساريا ً في الخر ن أو مباينا ً عنه بالجهة والكون الباري تعالى‬
‫ساريا ً في العالم محال ‪ .‬فل بد وأن يكون مباينا ً عنه بالجهة ‪ .‬وكل ما كان كذلك‬
‫فهو متحيز ‪ .‬ثم إنه إما أن يكون غير منقسم ‪ ،‬فيكون في الصغر والحقارة‬
‫كالجوهر الفرد ‪ .‬وهو محال ‪ .‬وإما أن يكون شيئا ً كبيرا ً مركبا ً من الجزاء‬
‫والبعاض ‪ .‬وهو المقصود ‪.‬‬
‫الشبهة الثانية ‪ :‬إنا لم نشاهد حيا ً عالما ً قادرا ً ‪ ،‬إل وهو جسم ‪ .‬وإثبات‬
‫‪- 33 -‬‬

‫السـماء ‪ :‬ط‬ ‫)‪(31‬‬

‫شيء على خلف المشاهدة ‪ :‬ل يقبله العقل ‪ ،‬ول يقربه القلب ‪ .‬فوجب القول‬
‫بكونه تعالى جسما ً ‪.‬‬
‫الشبهة الثالثة ‪ :‬إن إله العالم يجب أن يكون عالما ً بهذه الجسمانيات ‪ .‬والعالم‬
‫بها يجب أن يحصل في ذاته صورها ‪ .‬ومن كان كذلك ‪ ،‬يجب أن يكون جسما ً ‪.‬‬
‫فهذه مقدمات ثلثة ‪ ،‬متى ظهرت ‪ ،‬لزم القول بأنه جسم ‪.‬‬
‫أما المقدمة الولى ‪) :‬وهي أن إله العالم يجب أن يكون عالما ً بهذه الجسمانيات(‬
‫)‪ (32‬فقد اتفق المسلمون عليها ‪ .‬وأيضا ‪ :‬فهذه الجسام الموصوفة بهذه‬
‫المقادير ‪ ،‬ل بد لها من خالق ‪ .‬وذلك الخالق هو الله تعالى ‪ .‬وخالق الشيء ل بد‬
‫وأن يكون عالما ً به ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن خالق العالم ‪ :‬عالم بهذه الجسمانيات ‪.‬‬

‫وأما المقدمة الثانية ‪ :‬وهي في بيان أن العالم بهذه الجسمانيات ‪ ،‬يجب أن‬
‫يحصل في ذاته صور الجسمانيات ‪ .‬فالدليل عليه ‪ :‬أن خالقها يجب أن يكون‬
‫عالما ً بها قبل وجودها ‪ ،‬وإل لم يصح منه خلقها وإيجادها‪ .‬والعالم بالشيء يجب‬
‫أن يتميز ذلك في علمه عن سائر المعلومات ن وإل لم يكن عالما ً به ‪ .‬وإذا تميز‬
‫ذلك المعلوم عن غيره ‪ ،‬فذلك المعلوم ليس عدما ً محضا ً ‪ ،‬لن العدم المحض ل‬
‫يحصل فيه المتياز ‪ .‬وذلك المعلوم يجب أن يكون أمرا ً موجودا ً ‪ ،‬وهو غير‬
‫موجود في الخارج – لن الكلم فيما إذا علمها قبل وجودها – ولما لم يكن وجوده‬
‫في الخارج ‪ ،‬وجب أن يكون وجوده في علم صانع العالم ‪.‬‬
‫وأما المقدمة الثالثة ‪ :‬وهي في بيان أن من يحصل في ذاته صور‬

‫)‪ (31‬زيادة‬

‫الجسمانميات ‪ ،‬يجب أن)‪ (33‬يكون جسمًا‪ .‬فالدليل عليه ك أن من علم مربعا ً‬


‫مجنحا ً بمربعين متساويين‪ ،‬وجب أن يحصل هذا )العلم)‪ ( (34‬في ذات ذلك العالم ‪.‬‬
‫وذلك العالم ل بد أن يميز بين ذينك المربعين المتطرفين)‪ (35‬وذلك المتياز )لما‬
‫لم يكن)‪ ( (36‬في الماهية ول في لوازمها – لنهما متماثلن في الماهية – فلبد‬
‫وأن يكون بالعوارض ‪ .‬ولو كان محلهما واحدا ً – لمتنع امتياز أحدهما عن الخر‬
‫بشيء من العوارض‪ .‬لن المثلين إذا حصل في محل واحد ‪ ،‬فكل عارض يعرض‬
‫لحدهما ‪ ،‬فهو بعينه عارض للخر ‪ .‬وذلك يمنع من حصول المتياز ‪ .‬ولما بطل‬
‫هذا ‪ ،‬وجب أن يكون صورة)‪ (37‬أحد المربعين ‪ :‬مغايرا ً لمحل المربع الخر ن حتى‬
‫يكون امتياز أحد المحلين عن الثاني ‪ ،‬ل يحصل أي إذا كان ذلك المحل جسما ً‬
‫منقسما ً ز فثبت أن خالق العالم مدرك للجسمانيات ‪ ،‬وثبت ‪ :‬أن كل من كان‬
‫كذلك ‪ ،‬فهو جسم ‪ .‬فيلزم أن يكون إله العالم جسما ً ‪.‬‬

‫***‬
‫‪- 34 -‬‬

‫والجواب عن الشبهة الولى ‪ :‬إنا بينا أن قولهم ‪ :‬كل موجودين فإما أن يكون‬
‫أحدهما حال ً في الخر أو مباينا ً عنه بالجهة ‪ :‬مقدمة غير بديهية ‪ ،‬بل مقدمة‬
‫محتاجة في النفي والثبات ‪ ،‬إلى برهان منفص ‪ .‬فسقط الكلم ‪.‬‬
‫والجواب عن الشبهة الثانية ‪ :‬ما بيناه ‪ :‬أنه يلزم من عدم النظير للشيء ‪ ،‬عدم‬
‫ذلك الشيء ‪ .‬فسقطت هذه الشبهة ‪.‬‬

‫)‪ (34‬العلم ‪ :‬زيادة‬ ‫وجب ‪ :‬ص‬ ‫)‪(33‬‬


‫الطرفيين ‪ :‬خ وأنظر صورة المربعين المجنحين في كتاب المطالب‬ ‫)‪(35‬‬
‫العالية ‪.‬‬
‫محل ‪ :‬ط ‪ ،‬صورة ‪ :‬خ‬ ‫)‪(37‬‬ ‫)‪ (36‬ليس ‪ :‬ص‬

‫والشبهة الثالثة ‪ :‬ساقطة )أيضًا()‪ (38‬والدليل عليه ‪ :‬أنه يمكننا تخيل صورة الشجر‬
‫والخيل ‪ .‬وهذه الصورة لو كانت منتقشة في ذاتنا ‪ ،‬لكانت ذاتنا ‪ ،‬إما أن تكون‬
‫هي هذا الجسم وإما أن تكون جوهرا ً مجردا ً ‪ .‬والول محال ‪ .‬وأما الثاني فإنه‬
‫اعتراف بأن صور المحسوسات يمكن انطباعها فيما ل يكون جسما ً ‪ .‬وذلك‬
‫يوجب سقوط هذه الشبهة )وبالله التوفيق()‪. (39‬‬

‫)‪ (39‬وبالله التوفيق ‪ :‬سقط خ‬ ‫أيضا ً ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪(38‬‬

‫الفصل الرابع‬
‫في‬
‫إقامة البراهين على أنه تعالى ليس مختصا ً‬
‫بحيز وجهة ‪ .‬بمعنى ‪ :‬أنه يصح أن يشار إليه‬
‫بالحس بأنه ههنا أو هناك‬

‫(‪:‬‬ ‫)‪(1‬‬
‫)ويدل عليه وجوه‬
‫)البرهان الول)‪ : ( (2‬وذلك أنه لم يخل إما أن يكون منقسما ً أو غير منقسم ‪ .‬فإن‬
‫كان منقسما ً كان مركبا ً – وقد تقدم إبطاله – وإن لم يكن منقسما ً كان في‬
‫الصغر والحقارة ‪ ،‬كالجزء الذي ل يتجزأ ‪ .‬وذلك باطل باتفاق )كل)‪ ( (3‬العقلء ‪.‬‬
‫وأيضا ً ‪ :‬فلن من ينفي الجوهر الفرد يقول ‪ :‬إن كل ما كان مشارا ً إليه بحسب‬
‫الحس بأنه ههنا أو هناك ‪ .‬فإنه ل بد وأن يتميز أحد جانبيه عن الخر ‪ .‬وذلك كونه‬
‫منقسما)‪ . (4‬فثبت ‪ :‬أن القول بأنه مشار إليه بحسب الحس ‪ ،‬يفضي إلى هذين‬
‫القسمين الباطلين ‪ .‬فوجب أن يكون القول به باطل ً ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬لم ل يجوز أن يقال ‪ :‬إنه تعالى واحد منزه عن التأليف والتركيب ‪،‬‬
‫ومع كونه كذلك ‪ ،‬فإنه يكون عظيما ً ؟ قوله ‪" :‬العظيم يجب أن يكون مركبا ً‬
‫منقسما ً ‪ ،‬وذلك ينافي كونه أحدا ً ‪ ،‬قلنا ‪ :‬سلمنا أن العظيم يجب أن يكون‬
‫منقسما ً في الشاهد ‪ .‬فلم قلتم ‪ :‬إنه يجب أن يكون في الغائب كذلك ؟ فإن‬
‫قياس الغائب على الشاهد من غير جامع ‪ :‬باطل ‪ .‬وأيضا ً ‪ :‬فلم ل يجوز أن يكون‬
‫‪- 35 -‬‬

‫غير منقسم ‪ ،‬ويكون في غاية الصغر ؟ قوله ‪" :‬إنه حقير وذلك على الله محال"‬
‫قلنا ‪ :‬الذي ل يمكن أن يشار إليه البتة ول يمكن أن يحس به ‪ ،‬يكون كالعدم‬
‫فيكون أشد حقارة ‪ .‬وإذا جاز هذا ‪ ،‬فلم ل يجوز ذلك ؟‬

‫)‪ (3‬كل ‪ :‬سقط خ‬ ‫زيادة‬ ‫)‪(2‬‬ ‫زيادة‬ ‫)‪(1‬‬


‫)‪ (4‬من الطرق العقلية على نفي التجسيم واثبات الوحدانية ‪:‬‬
‫)‪ (1‬لو كان الهان ‪ ،‬للزم ضرورة أن يكون لهما معنى واحد يشتركان فيه ‪ -‬هو‬
‫المعنى الذي به استحق كل واحد منهما أن يكون إلها – ولهما معنى آخر ‪،‬‬
‫ضرورة ‪ ،‬به وقع التباين ‪ ،‬وصارا اثنين ‪ .‬فأما أن يكون في كل واحد منهما معنى ‪،‬‬
‫غير المعنى الذي في الخر ‪ ،‬فيكون كل واحد منهما مركبا ً من معنيين ‪ ،‬فل واحد‬
‫منهما سببا ً أول ً ‪ .‬ول لزم الوجود باعتبار ذاته ‪ ،‬بل كل واحد منهما ذو أسباب )لن‬
‫كل ما لوجوده سبب فهو ممكن الوجود باعتبار ذاته ‪ ،‬لنه أن حضرت أسبابه وجد‬
‫‪ ،‬وان لم تحضر أو عدمت أو تغيرت نسبتها الموجبة لوجوده ‪ ،‬لم يوجد ( وان كان‬
‫معنى التباين موجودا ً في أحدهما ‪ ،‬فذلك الذي فيه المعنيان ن غير واجب الوجود‬
‫بذاته ‪.‬‬
‫)‪ (2‬كل جسم مركب من معنيين ضرورة ‪ ،‬وتلحقه أعراض ضرورة ‪ ،‬أما‬
‫المعنيان المقومان له ‪ ،‬فمادته وصورته ‪ ،‬وأما العراض اللحقة له ‪ ،‬فالكم‬
‫والشكل والوضع ‪ .‬وكل مركب فل بد له من فاعل ‪ ،‬هو السبب لوجود صورته في‬
‫مادته ‪ .‬وبين هو جدا ‪ :‬أن كل جسم قابل للنقسام وله أبعاد ‪ .‬فهو محل للعراض‬
‫بل شك ‪ .‬فليس الجسم واحدا ً ل من جهة انقسامه ‪ ،‬ول من جهة تركيبه ‪ .‬أعني ‪:‬‬
‫كونه اثنين بالقول ‪ .‬لن كل جسم إنما هو جسم ما ‪ ،‬من أجل معنى زائد فيه ‪،‬‬
‫على كونه جسما ً ‪ .‬فهو ذو معنيين ضرورة ‪ .‬وقد يبرهن أن واجب الوجود ‪ ،‬ل‬
‫تركيب فيه بوجه من الوجوه ‪) .‬دللة الحائرين( ‪.‬‬
‫والجواب على الول ‪ :‬أن نقول ‪ :‬إنه إذا كان عظيما ً فل بد وأن يكون منقسما ً ز‬
‫وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد ‪ ،‬بل هذا بناء على البرهان‬
‫القطعي)‪ (5‬وذلك لنا إذا أشرنا إلى نقطة ل تنقسم ‪ .‬فإما أن يحصل فوقها شيء‬
‫آخر ‪ ،‬أو ل يحصل ‪ .‬فإن حصل فوقها شيء آخر ‪ ،‬كان‬

‫)‪ (5‬القاطع ‪ :‬خ‬

‫ذلك الفوقاني مغايرا ً له ‪ .‬إذ لو جاز أن يقال ‪ :‬إن هذا المشار إليه عينه ل غيره ‪،‬‬
‫جاز أن يقال ‪ :‬هذا الجزء عين)‪ (6‬ذلك الجزء ‪ .‬فيفضي إلى تجويز أن الجبل شيء‬
‫واحد ‪ ،‬وجزء ل يتجزأ ‪ ،‬مع كونه جبل ً ‪ .‬وذلك شك)‪ (7‬في البدهيات ‪ .‬فثبت ‪ :‬أنه ل‬
‫بد من التزام التركيب والنقسام ‪ .‬وإما أن ل يحصل فوقها شيء آخر ول على‬
‫يمينها ول على يسارها ول من تحتها ‪ ،‬فحينئذ يكون نقطة غير منقسمة وجزءا ً ل‬
‫يتجزأ ‪ .‬وذلك باتفاق العقلء باطل ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن هذا ليس من باب قياس الشاهد‬
‫على الغائب ‪ ،‬بل هو مبني على التقسيم الدائر بين النفي والثبات ‪.‬‬
‫واعلم ‪ :‬أن الحنابلة القائلين بالتركيب والتأليف ‪ ،‬أسعد حال ً من هؤلء الكرامية ‪.‬‬
‫وذلك لنهم اعترفوا بكونه مركبا ً من الجزاء والبعاض ‪ .‬أما هؤلء الكرامية فإنهم‬
‫زعموا أنه مشار إليه بحسب الحس ‪ ،‬وزعموا‪ :‬أنه غير متناه ‪ ،‬ثم زعموا مع‬
‫ذلك ‪ :‬أنه واحد ‪ ،‬ل يقبل القسمة ‪ .‬فل جرم صار قولهم قول ً على خلف بديهة‬
‫العقل ‪ .‬أما قولهم ‪ " :‬الذي ل يحس به ول يشار إليه ‪ :‬أشد حقارة من الجزء‬
‫الذي ل يتجزأ " قلنا ‪ :‬كونه موصوفا ً بالحقارة ‪ ،‬إنما يلزم لو كان )ذا( )‪ (8‬حيز‬
‫ومقدار ‪ ،‬حتى يقال ‪ :‬إنه أصغر من غيره ‪ .‬أما إذا كان منزها ً عن الحيز والمقدار‬
‫‪- 36 -‬‬

‫ولم يحصل بينه وبين غيره مناسبة من الحيز والمقدار ‪ .‬فلم يلزم وصفه بالحقارة‬
‫؟‬
‫البرهان الثاني في بيان أنه يمتنع أن يكون مختصا ً بالحيز والجهة ‪:‬‬
‫إنه لو كان مختصا ً بالحيز والجهة ‪ ،‬لكان محتاجا ً في وجوده إلى ذلك الحيز وتلك‬
‫الجهة ‪ .‬وهذا محال ‪ ،‬فكونه في الحيز والجهة محال ‪ .‬بيان الملزمة ‪:‬‬

‫)‪ (8‬ذا ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (7‬شكل ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (6‬غير ‪ :‬خ‬

‫وجوه ‪:‬‬ ‫)‪(9‬‬


‫أن الحيز والجهة أمر موجود ‪ .‬والدليل عليه )من(‬

‫الول ‪ :‬هو أن الحياز الفوقانية مخالفة في الحقيقة والماهية ‪ ،‬للحياز التحتانية ‪.‬‬
‫بدليل ‪ :‬أنهم قالوا يجب أن يكون الله تعالى مختصا ً بجهة فوق ‪ ،‬ويمتنع حصوله‬
‫في سائر الجهات والحياز – أعني)‪ (10‬التحت واليمين واليسار – لول كونها مختلفة‬
‫في الحقائق والماهيات ‪ ،‬لمتنع القول بأنه يجب حصوله تعالى في جهة فوق ‪،‬‬
‫ويمتنع حصوله في سائر الجهات ‪ .‬وإذا ثبت أن هذه الحياز مختلفة في الماهية ‪،‬‬
‫وجب كونها أمور موجودة ‪ .‬لن العدم المحض ‪ ،‬يمتنع كونه كذلك ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬هو أن الجهات مختلفة بحسب الشارات‪ .‬فإن جهة الفوق متميزة عن‬
‫جهة التحت في الشارة‪ .‬والعدم المحض والنفي الصرف‪ ،‬يمتنع تمييز بعضه عن‬
‫بعض في الشارة الحسية ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬إن الجوهر إذا انتقل من حيز إلى حيز ‪ ،‬فالمتروك مغاير ل محالة‬
‫للمطلوب ‪ ،‬والمنتقل عنه مغاير للمنتقل إليه ‪.‬‬
‫فثبت بهذه الوجوه الثلثة ‪ :‬أن الحيز والجهة أمر موجود ‪ .‬ثم إن المسمى بالحيز‬
‫والجهة ‪ ،‬أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه ‪ .‬وأما الذي يكون‬
‫مختصا ً بالحيز والجهة ‪ ،‬فإنه يكون مفتقرا ً إلى الحيز والجهة ‪ .‬فإن الشيء الذي‬
‫يمكن حصوله في الحيز ‪ ،‬مستحيل عقل ً حصوله ل مختصا ً بالجهة ‪ .‬فثبت ‪ :‬انه‬
‫تعالى لو كان مختصا ً بالحيز والجهة ‪ ،‬لكان مفتقرا ً في وجوده إلى الغير)‪. (11‬‬

‫)‪ (10‬يعني ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (9‬من ‪ :‬خ‬


‫)‪ (11‬لم ل يقول ‪ :‬إن نصوص القرآن هي التي نفت الحيز والجهة ؟‬

‫وإنما قلنا أن ذلك محال لوجوه ‪:‬‬


‫الول ‪ :‬إن المفتقر من وجوده إلى الغير ‪ ،‬يكون بحيث يلزم من عدم ذلك الغير ‪:‬‬
‫عدمه ‪ .‬وكل ما كان كذلك ‪ ،‬كان ممكنا ً لذاته ‪ .‬وذلك في حق واجب الوجود لذاته‬
‫‪ :‬محال ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إن المسمى بالحيز والجهة ‪ :‬أمر متركب من الجزاء والبعاض ‪ .‬لما بينا ‪:‬‬
‫أنه يمكن تقديره بالذراع والشبر ن ويمكن وصفة بالزائد والناقص وكل ما كان‬
‫كذلك ‪ ،‬كان مفتقرا ً إلى غيره ‪ ،‬والمفتقر إلى غيره ‪ :‬ممكن لذاته ‪ .‬فالشيء‬
‫المسمى بالحيز والجهة ‪ :‬ممكن لذاته ‪ .‬فلو كان الله تعالى مفتقرا ً إليه ‪ ،‬لكان‬
‫مفتقرا ً إلى الممكن ‪ ،‬والمفتقر إلى الممكن أولى أن يكون ممكنا ً لذاته ‪.‬‬
‫فالواجب لذاته ‪ :‬ممكن لذاته ‪ .‬وهو محال ‪.‬‬
‫‪- 37 -‬‬

‫الثالث ‪ :‬لو كان الباري تعالى أزل ً وأبدا ً مختصا ً بالحيز والجهة ‪ ،‬لكان الحيز والجهة‬
‫موجودا ً في الزل ‪ .‬فيلزم إثبات قديم غير الله تعالى ‪ .‬وذلك محال بإجماع‬
‫المسلمين ‪.‬‬
‫هذه المحذورات ‪.‬‬ ‫فثبت بهذه الوجوه ‪ :‬أنه لو كان في الحيز والجهة للزمت‬
‫)‪(12‬‬

‫فيلزم امتناع كونه تعالى في الحيز والجهة ‪.‬‬


‫فإن قيل ‪ :‬ل معنى لكونه تعالى مختصا ً بالحيز والجهة ‪ ،‬إل كونه تعالى مباينا ً عن‬
‫العالم ‪ ،‬منفردا ً عنه ‪ ،‬ممتازا ً عنه ‪ .‬وكونه تعالى كذلك ‪ ،‬ل يقتضي أمرا ً آخر سوى‬
‫ذات الله تعالى ‪ .‬فبطل قولكم ‪ " :‬لو كان تعالى في الجهة لكان مفتقرا ً إلى‬
‫الغير " والذي يدل على صحة ما ذكرناه ‪ :‬أن العالم ل نزاع في أنه مختص بالحيز‬
‫والجهة ‪ ،‬وكونه مختصا ً بالحيز والجهة ل معنى له إلا‬

‫)‪ (12‬يلزم ‪ :‬ص‬

‫كون البعض منفردا ً عن البعض وممتازا عنه‪ .‬وإذا عقلنا هذا المعنى ههنا‪ ،‬ل يجوز‬
‫مثله في كون الباري تعالى مختصا ً )بالجهة والحيز)‪((13‬؟‬
‫والجواب ‪ :‬أما قوله ‪ " :‬الحيز والجهة ليس أمرا ً موجودا ً " فجوابه ‪ :‬إنا بينا‬
‫بالبراهين القاطعة أنها أشياء موجودة وبعد قيام البراهين على صحته ‪ ،‬ل يبقى‬
‫في صحته شك ‪.‬‬
‫وأما قوله ‪ " :‬المراد من كونه مختصا ً بالحيز والجهة ‪ ،‬كونه تعالى منفردا ً عن‬
‫العالم ‪ ،‬أو ممتازا ً عنه ط قلنا ‪ :‬هذه اللفاظ كلها مجملة ‪ .‬فإن النفراد والمتياز‬
‫والمباينة قد تذكر ويراد بها المخالفة في الحقيقة والماهية ‪ .‬وذلك مما ل نزاع‬
‫فيه ‪ .‬ولكنه ل يقتضي الجهة ‪ .‬والدليل على ذلك ‪ :‬هو أن حقيقة ذات الله تعالى‬
‫مخالفا ً لحقيقة الحيز والجهة ‪ ،‬وهذه المخالفة والمباينة ليست بالجهة ‪ .‬فإن‬
‫امتياز ذات الله تعالى عن الجهة ل يكون بجهة أخرى ‪ ،‬وإل لزم التسلسل ‪ .‬وقد‬
‫تذكر هذه اللفاظ ويراد بها المتياز في الجهة ن وهو كون ‪،‬وهو كون الشيء‬
‫بحيث يصح أن يشار إليه بأنه ههنا أو هناك ‪ .‬وهذا هو مراد الخصم من قوله ‪" :‬‬
‫إنه )تعالى()‪ (14‬مباين عن العالم أو منفرد عنه ‪ ،‬أو ممتاز عنه " إل أنا بينا‬
‫بالبراهين القاطعة أن هذا يقتضي كون ذلك الحيز أمرا ً موجودا ً ‪ ،‬ويقتضي أن‬
‫المتحيز محتاج إلى الحيز‪.‬‬
‫وقوله ‪ " :‬الجسام حاصلة في الحياز " فنقول ‪ :‬غاية ما في الباب أن يقال ‪:‬‬
‫الجسام تحتاج إلى شيء آخر ‪ .‬وهذا غير ممتنع ‪ .‬أما كونه تعالى محتاجا ً في‬
‫)‪(15‬‬
‫وجوده إلى شيء آخر ‪ ،‬فممتنع ‪ .‬فظهر الفرق )وبالله التوفيق(‬

‫)‪ (13‬بالحيز والجهة خ‬


‫)‪ (15‬وبالله التوفيق ‪ :‬سقط خ‬ ‫تعالى ‪ :‬خ‬ ‫)‪(14‬‬

‫البرهان الثالث في بيان أنه امتنع أن يكون تعالى مختصا ً )بالحيز والجهة)‪: ( (16‬‬
‫هو أنه لو كان – تعالى – مختصا ً بحيز وجهة لكان ل يخلو ‪ .‬إما أن يقال ‪ :‬إنه غير‬
‫متناه من جميع الجوانب ‪ ،‬أو يقال ‪ :‬إنه غير متناه من بعض الجوانب ‪ ،‬ومتناه من‬
‫)بعض()‪ (17‬الجوانب ‪ ،‬أو يقال ‪ :‬إنه متناه من كل الجوانب ‪ .‬والقسام الثلثة‬
‫باطلة ‪ ،‬فالقول بكونه مختصا ً بجهة وحيز باطل ‪ .‬أما قولنا ‪ :‬إنه يمتنع أن يكون‬
‫غير متناه من جميع الجوانب ‪ .‬فيدل عليه وجوه ‪:‬‬
‫‪- 38 -‬‬

‫الول ‪ :‬إن وجود بعد ل نهاية له ‪ :‬محال ‪ .‬والدليل عليه ‪ :‬أن فرض )بعد()‪ (18‬غير‬
‫متناه يفضي إلى المحال ‪ ،‬فوجب أن يكون محال ً ‪ .‬وإنما قلنا ‪ :‬إنه يفضي إلى‬
‫المحال ‪ ،‬لنا إذا فرضنا بعدا ً غير متناه ‪ ،‬وفرضنا بعدا ً آخر متناهيا ً ‪ ،‬موازيا ً له ‪ ،‬ثم‬
‫زال الخط المتناهي الموازي من الموازاة إلى المسامتة ‪ .‬نقول ‪ .‬هذا يقتضي أن‬
‫يحصل في الخط الول الذي هو غير متناه ‪ :‬نقطة ‪ .‬هي أول نقط)‪ (19‬المسامتة ‪.‬‬
‫وذلك الخط المتناهي ما كان مسامتا ً للخط الغير المتناهي ‪ ،‬ثم صار مسامتا ً له ‪.‬‬
‫فكانت هذه المسامتة هي أول أوان حدوثها ‪ ،‬ل بد وأن تكون مع نقطة معينة ‪.‬‬
‫فتكون تلك النقطة هي أول نقط المسامتة ‪ .‬لكن كون ذلك الخط غير متناه ‪.‬‬
‫يمنع من ذلك ‪ .‬لن المسامتة مع النقطة المسامتة ‪ ،‬تحصل قبل المسامتة مع‬
‫النقطة التحتانية ‪ .‬وإذا كان الخط غير متناه ‪ ،‬فل نقطة فيه)‪ (20‬إل وفوقها نقطة‬
‫أخرى‪ .‬وذلك يمنع من حصول المسامتة في المرة الولى ‪ ،‬مع نقطة معينة ‪.‬‬
‫فثبت ‪ :‬أن هذا يقتضي أن يحصل في الخط الغير المتناهي نقطة ‪ ،‬هي أول نقط‬

‫)‪ (16‬بالجهة والحيز ك ط‬


‫بعض ‪ :‬خ ‪ ،‬وسائر ك ط‬ ‫)‪(17‬‬
‫بعـد ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪(18‬‬
‫)‪ (19‬نقطة ‪ :‬ط )‪ (20‬فيها ‪ :‬ص‬

‫المسامتة ‪ ،‬وأن ل يحصل ‪ .‬وهذا المحال إنما لزم من فرضنا أن ذلك الخط غير‬
‫متناه ‪ ،‬فوجب أن يكون ذلك محال ً ‪ .‬فثبت‪ :‬أن القول بوجود بعد غير متناه ‪:‬‬
‫محال ‪.‬‬
‫الوجه الثاني ‪ :‬هو أنه إذا كان القول بوجود بعد غير متناه ليس محال ً ‪ ،‬فعند هذا ل‬
‫يمكن إقامة الدليل على أن العالم متناه بكليته ز وذلك )باطل()‪ (21‬بالجماع ‪.‬‬
‫الوجه الثالث ‪ :‬إنه لو كان )تعالى()‪ (22‬غير متناه من جميع الجوانب ‪ ،‬وجب أل‬
‫يخلو شيء من الجهات والحياز عن ذاته ‪ ،‬وحينئذ يلزم أن يكون العالم مخالطا ً‬
‫بأجزاء)‪ (23‬ذاته ‪ ،‬وأن تكون القاذورات والنجاسات كذلك ‪ ،‬وهذا ل يقوله عاقل ‪.‬‬
‫ومتناه من‬ ‫)‪(24‬‬
‫أما القسم الثاني ‪, :‬هو أن يقال ‪ :‬إنه غير متناه من بعض الجوانب‬
‫سائر الجوانب ‪ ،‬فهو أيضا ً باطل لوجهين ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إن البرهان الذي ذكرناه عن امتناع بعد غير متناه ‪ :‬قائم ‪ .‬سواء )كان قد(‬
‫قيل ‪ :‬إنه غير متناه من كل الجوانب ‪ ،‬أو من بعض الجوانب ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إن الجانب الذي فرض أنه غير متناه ‪ ،‬والجانب الذي فرض أنه متناه ‪.‬‬
‫إما أن يكونا متساويين في الحقيقة والماهية ‪ ،‬وإما أل يكونا كذلك ‪ .‬أما القسم‬
‫الول فإنه يقتضي أن يصح على كل واحد من هذين‬

‫)‪ (22‬تعالى ‪ :‬من خ‬ ‫باطل ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪(21‬‬


‫)‪ (24‬أو متناه ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (23‬لجزاء ك ط‬
‫المتناهي ك خ‬ ‫)‪(25‬‬

‫الجانبين ‪ ،‬ما صح على الجانب الخر ‪ .‬وذلك يقتضي أن ينقلب الجانب المتناهي‬
‫غير متناهي)‪ (25‬والجانب الغير متناهي متناهيا ً ‪ .‬وذلك يقتضي جواز الفصل‬
‫والوصل والزيادة والنقصان في ذات الله تعالى ‪ .‬وهو محال ‪ .‬وأما القسم الثاني‬
‫‪- 39 -‬‬

‫– وهو القول بأن أحد الجانبين مخالف للجانب الثاني في الحقيقة والماهية –‬
‫فنقول ‪ :‬إن هذا محال من وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إن هذا يقتضي كون ذاته مركبا ً ‪ .‬وهو باطل لما بينا ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إنا بينا أنه ل معنى للمتحيز إل الشيء الممتد من الجهات ‪ ،‬المختص‬
‫بالحياز ‪ .‬وبينا أن المقدار يمتنع أن يكون صفة ‪ ،‬بل يجب أن يكون ذاتا ً ‪ .‬وبينا أن‬
‫المقدار يمتنع أن يكون صفة ‪ ،‬بل يجب أن يكون ذاتا ً ز وبينا أنه متى كان المر‬
‫كذلك كان جميع المتحيزات متساوية ‪ ،‬وإذا كان كذلك امتنع القول بأن أحد جانبي‬
‫ذلك الشيء مخالف للجانب الخر في الحقيقة والماهية ‪.‬‬
‫وأما القسم الثالث ‪ – :‬وهو أن يقال ‪ :‬إنه متناه من كل الجوانب – فهذا أيضا ً‬
‫باطل من وجهين ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إن كل ما كان متناهيا ً من جميع الجوانب ‪ ،‬كانت حقيقته قابلة للزيادة‬
‫والنقصان ‪ ،‬وكل ما كان كذلك ‪ ،‬كان محدثا ً ‪ .‬على ما بيناه ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إنه لما كان متناهيا ً من جميع الجوانب ‪ ،‬فحينئذ يفرض فوقه أحياز خالية ‪،‬‬
‫وجهات فارغة ‪ ،‬فل يكون )الله()‪ (26‬تعالى فوق الشياء ‪ ،‬بل تكون تلك الحياز‬
‫أشد فوقية من الله تعالى ‪ .‬وأيضا ً ‪:‬‬

‫)‪ (26‬هو ‪ :‬خ‬

‫فهو تعالى قادر على خلق الجسم في الحيز الفارغ ‪ ،‬فلو فرض حيز خال ‪ ،‬لكان‬
‫قادرا ً على أن يخلق فيه جسما ً ‪ .‬وعلى هذا التقدير يكون ذلك الجسم فوق الله‬
‫تعالى ز وذلك عند الخصم محال ‪ .‬فثبت ‪ :‬أنه تعالى لو كان في جهة ‪ ،‬لم يخل‬
‫المر عن أحد من هذه القسام الثلثة ‪ ،‬وثبت ‪ :‬أن كل واحد منها باطل محال‪.‬‬
‫فكان القول بأن الله تعالى في الحيز والجهة ‪ ،‬محال ً ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬ألستم تقولون ‪ :‬إنه تعالى غير متناه في ذاته ‪ ،‬فيلزمكم جميع ما‬
‫ألزمتموه علينا ؟ قلنا ‪ :‬الشيء الذي يقال له ‪ :‬إنه غير متناه على وجهين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬إنه غير مختص بحيز وجهة ‪ ،‬ومتى كان كذلك ‪ ،‬امتنع أن يكون له طرف‬
‫ونهاية وحد ‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬إنه مختص بجهة )‪ (27‬وحيز ‪ ،‬إل أنه مع ذلك ليس لذاته مقطع وحد ‪،‬‬
‫فنحن إذا قلنا ‪ :‬إنه ل نهاية لذات الله تعالى عنينا به التفسير الول ‪ .‬فإن كان‬
‫مرادكم ذلك ‪ ،‬فقد ارتفع الخلف بيننا ‪ ،‬وإن كان مرادكم هذا الوجه الثاني ‪،‬‬
‫فحينئذ يتوجه عليكم ما ذكرناه من الدليل ‪ ،‬ول ينقلب ذلك علينا ‪ .‬لنا )‪ (28‬ل نقول‬
‫إنه تعالى غير متناه – بهذا التفسير – حتى يلزمنا ذلك اللزام فظهر الفرق )والله‬
‫)‪(29‬‬
‫أعلم(‬
‫البرهان الرابع على أنه يمتنع أن يحصل في الجهة والحيز ‪ :‬هو أنه لو حصل في‬
‫شيء من الجهات والحياز ‪ ،‬لكان إما أن يحصل مع وجوب أن يحصل فيه ‪ ،‬أو ل‬
‫مع وجوب أن يحصل فيه ‪ .‬والقسمان باطلن ‪ ،‬فكان القول بأنه تعالى حاصل في‬
‫الجهة محال ً ‪.‬‬

‫)‪ (28‬لنا نقول ‪ :‬خ‬ ‫بحيز وجهة ‪ :‬خ‬ ‫)‪(27‬‬


‫)‪ (29‬والله أعلم ‪ :‬سقط خ‬
‫‪- 40 -‬‬

‫)‪(30‬‬
‫وإنما قلنا ‪ :‬إنه يمتنع أن يحصل فيه مع الوجوب )وهذا هو القسم الول(‬
‫لوجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إن ذاته مساوية لذوات سائر الجسام في كونه حاصل ً في الحيز ‪ .‬ممتدا ً‬
‫في الجهة ز وإذا ثبت التساوي من هذا الوجه ‪ .‬ثبت التساوي في تمام الذات ‪.‬‬
‫على ما بيناه في البرهان الول في نفي كونه تعالى جسما ً ‪ .‬وإذا ثبت التساوي‬
‫مطلقا ً ‪ ،‬فكل ما صح على أحد‬
‫المتساويين وجب أن يصح على الخر ‪ .‬ولما لم يجب في سائر الذوات حصولها‬
‫في ذلك الحيز ‪ ،‬وجب أن ل يجب على تلك الذوات حصولها في ذلك الحيز ‪ .‬وهو‬
‫المطلوب ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إنه لو وجب حصوله في تلك الجهة ‪ ،‬وامتنع حصوله في سائر الجهات ‪،‬‬
‫لكانت تلك الجهة مخالفة في الماهية لسائر الجهات‪ ،‬وحينئذ تكون الجهات شيئا ً‬
‫موجودا ً ‪ .‬فإذا كان الله سبحانه وتعالى واجب الحصول في الجهة أزل ً وأبدا ً ‪:‬‬
‫التزموا قديما ً آخر مع الله تعالى في الزل ز وذلك محال‬
‫الثالث ‪ :‬لو جاز في شيء مختص بجهة معينة أن يقال ‪ :‬إن اختصاصه بتلك الجهة‬
‫‪ :‬واجب ‪ ،‬جاز أيضا ً ‪ :‬ادعاء أن بعض الجسام حصل في حيز معين على سبيل‬
‫الوجوب ن بحيث يمتنع خروجه عنه ‪ .‬وعلى هذا التقدير ل يتمشى دليل حدوث‬
‫الجسام في ذلك ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن القائل بهذا القول ‪ ،‬ل يمكنه الجزم بحدوث كل‬
‫الجسام ‪ ،‬بل يلزمه تجويز أن يكون بعضها قديما ً ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬هو أنا نعلم بالضرورة ‪ :‬أن الحياز بأسرها متساوية ‪ .‬لنها فراغ محض ‪،‬‬
‫خلء صرف ‪ .‬وإذا كانت بأسرها متساوية يكون حكمها‬

‫)‪ (30‬وهذا هو القسم الول ‪ :‬زيادة‬

‫واحدا ً ‪ .‬وذلك يمنع من القول بأنه تعالى واجب الختصاص ببعض الحياز على‬
‫التعيين ‪ .‬فإن قالوا ‪ :‬لم ل يكون أن يكون اختصاصه بجهة فوق ‪ :‬أولى ؟ قلنا ‪:‬‬
‫هذا باطل لوجوه)‪ : (31‬أحدهما ‪ :‬إن قبل خلق العالم ‪ ،‬ما كان إل الخلء الصرف‬
‫والعدم المحض ‪ .‬فلم يكن هناك فوق ول تحت ‪ .‬فبطل قولكم ‪ .‬الثاني ‪ :‬إنه لو‬
‫كان الفوق متميزا ً عن التحت بالتميز الذاتي ‪ ،‬لكانت )الجهات()‪ (32‬أمورا ً‬
‫)موجودة()‪ (33‬ممتدة قابلة للنقسام وذلك يقتضي تقدم الجسم ‪ .‬لنه ل معنى‬
‫للجسم إل ذلك ز الثالث ك هو أنه لو جاز أن تختص ذات الله تعالى ببعض‬
‫الجهات على سبيل الوجوب ن مع كون الحياز متساوية في العقل ‪ ،‬لجاز‬
‫اختصاص بعض الحوادث المعينة ببعض الوقات دون البعض على سبيل‬
‫الوجوب ‪ ،‬مع كونها متساوية في العقل ‪ .‬وعلى هذا التقدير يلزم استغناؤها عن‬
‫الصانع ‪ ،‬ولجاز أيضا ً اختصاص عدم القديم ببعض الوقات على سبيل الوجوب‪.‬‬
‫)‪(34‬‬
‫وعلى هذا التقدير ينسد باب إثبات مصانع ‪ ،‬وباب إثبات وجوبه وقدمه ز الرابع‬
‫‪ :‬إنه لو حصل في حيز معين – مع انه ل يمكنه الخروج – لكان كالمفلوج الذي ل‬
‫يمكنه أن يتحرك ‪ ،‬أو كالمربوط الممنوع عن الحركة ‪ .‬وكل ذلك نقص ‪ .‬والنقص‬
‫على الله )تعالى()‪ (35‬محال ‪.‬‬
‫وأما القسم الثاني ‪ .‬وهو أن يقال ‪ :‬إنه تعالى لو حصل في الحيز ‪ ،‬مع جواز كونه‬
‫حاصل ً فيه ‪ .‬فنقول ‪ :‬هذا محال ‪ .‬لنه لو كان كذلك لما ترجح وجود‬

‫)‪ (32‬الوجهين ‪ :‬ط ‪ ،‬من وجهين ‪ :‬خ‬


‫)‪ (33‬الجهات ‪ :‬سقط خ‬
‫‪- 41 -‬‬

‫)‪ (33‬وجودية ط‬
‫)‪ (35‬تعالى ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (34‬الخامس ‪ :‬ض‬

‫ذلك الختصاص إل بفعل )‪ (36‬فاعل ‪ ،‬وتخصيص مخصص ‪ ،‬وكل ما كان كذلك ‪،‬‬
‫فالفاعل يتقدم عليه‪ .‬فيلزم أن ل يكون حصول ذات الله تعالى في الحيز أزليا ً ‪.‬‬
‫لن ما تأخر عن الغير ل يكون أزليا ً ‪ .‬وإذا كان الزلي معبرا ً عن الوضع والحيز ‪،‬‬
‫)‬
‫امتنع أن يصير بعد ذلك مختصا ً بالحيز ‪ ،‬وإل لزم وقوع النقلب في ذاته )تعالى(‬
‫)‪(38‬‬
‫‪ (37‬وإنه محال )وبالله التوفيق(‬
‫البرهان الخامس ‪ :‬هو أن الرض كرة ‪ ،‬وإذا كان كذلك ‪ ،‬امتنع كونه تعالى في‬
‫الحيز والجهة ‪ .‬بيان الول ‪ :‬إنه إذا حصل خسوف قمري )فإنا إذا()‪ (39‬سألنا سكان‬
‫أقصى المشرق عن ابتدائه ؟ قالوا ‪ :‬إنه حصل في أول الليل ‪ ،‬وإذا سألنا سكان ‪،‬‬
‫أقصى المغرب ؟ قالوا ‪ :‬إنه حصل آخر الليل ‪ .‬فعلمنا ‪ :‬أن أول الليل في أقصى‬
‫المشرق ‪ ،‬هو بعينه آخر الليل في أقصى المغرب ن وذلك يوجب كون الرض‬
‫كرة ‪ .‬وإنما قلنا لو كانت الرض كرة ‪ ،‬امتنع كون الخالق في شيء من الحياز ‪.‬‬
‫وذلك لن الرض إذا كانت كرة ‪ ،‬فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلى سكان أهل‬
‫المشرق ‪ ،‬هي تحت بالنسبة لسكان )أهل()‪ (40‬المغرب ‪ .‬وعلى العكس ‪ .‬فلو‬
‫اختص الباري تعالى بشيء من الجهات ‪ .‬لكان تعالى في جهة التحت بالنسبة‬
‫لبعض الناس )وعلى العكس()‪ (41‬وذلك باطل بالتفاق بيننا وبين الخصم ‪ .‬فثبت ‪:‬‬
‫أنه يمتنع كونه تعالى مختصا بالجهة ‪.‬‬
‫البرهان السادس ‪ :‬لو كان تعالى مختصا بشيء من الحياز والجهات ‪،‬‬

‫)‪ (37‬ذاته وهو محال خ‬ ‫)‪ (36‬بجعل ‪ :‬خ‬


‫)‪ (38‬وبالله التوفيق ‪ :‬سقط خ‬
‫)‪ (40‬أهل ‪ :‬سقط خ‬ ‫فإذا ‪ :‬ص‬ ‫)‪(39‬‬
‫)‪ (41‬وعلى العكس ‪ :‬سقط خ‬

‫لكان مساويا ً للمتحيزات ‪ .‬وهذا محال فذلك محال ‪ .‬بيان الملزمة ‪ :‬أنه تعالى لو‬
‫كان مختصا ً بحيز ‪ ،‬لكان معنى كونه شاغل ً لذلك الحيز ‪ :‬كونه بحيث يمنع غيره‬
‫من أن يكون بحيث هو ‪ .‬ولو كان كذلك لكان متحيزا ً ‪ ،‬وقد بينا في الفصل‬
‫المتقدم ‪ :‬أن المتحيزات بأسرها متماثلة في تمام الماهية ‪ .‬فثبت ‪ :‬أنه تعالى لو‬
‫كان متحيزا ً ‪ ،‬لكان مثل ً لسائر المتحيزات ‪ .‬وإنما قلنا ‪ :‬إن ذلك محال ‪ .‬لن ن‬
‫المثلين يجب تساويهما في جميع اللوازم ‪ ،‬فيلزم إما قدم الكل ‪ ،‬وإما حدوث‬
‫الكل ‪ ،‬وذلك محال ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬حصول الشيء في الحيز ‪ ،‬وكونه مانعا ً لغيره عن أن يحصل بحيث‬
‫هو ‪ :‬حكم من أحكام الذات ‪ .‬ول يلزم الستواء في الحكام واللوازم ‪ :‬الستواء‬
‫في الماهية ‪ .‬والجواب عنه من وجهين ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إن المتحيز له أحكام ثلثة ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أنه حاصل في الحيز ‪ ،‬شاغل له ‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬كونه مانعا ً لغيره )من أن()‪ (42‬يحصل بحيث هو ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬كونه بحال لو ضم إليه أمثاله ‪ ،‬حصل له حجم كبير‪ ،‬ومقدار عظيم ‪ .‬ول‬
‫شك أن كل ما يحصل في حيز ‪ .‬فقد حصل له هذه المور الثلثة ‪ .‬إل أن الذات‬
‫الموصوفة بهذه الحكام الثلثة ‪ ،‬ل بد وأن يكون له في نفسه الحجمية )ويكون‬
‫‪- 42 -‬‬

‫له()‪ (43‬في نفسه المقدار ‪ .‬وهذا المعنى معقول مشترك بين كل الحجام ‪ .‬ثم إنا‬
‫دللنا على أن هذا المفهوم المشترك يمتنع أن يكون صفة لشيء آخر ‪ .‬بل ل بد‬
‫وأن يكون ذاتا ‪ .‬وإذا كان كذلك‬

‫)‪ (43‬ويكون له ‪ :‬زيادة ‪.‬‬ ‫)‪ (42‬بأن ‪ :‬خ‬

‫فالتحيزات في ذواتها متماثلة ‪ ،‬والختلف إنما وقع في الصفات ‪ ،‬وحينئذ يحصل‬


‫التقريب المذكور‪.‬‬
‫والوجه الثاني ‪ :‬إن السؤال الذي ذكرتم – إن صح – فحينئذ ل يمكنكم القطع‬
‫بتماثل الجواهر ‪ ،‬لحتمال أن يقال ‪ :‬الجواهر ‪ ،‬وإن اشتركت في الحصول في‬
‫الحيز ‪ ،‬إل أن هذا الشتراك في حكم من الحكام ‪ .‬والشتراك في الحكم ل‬
‫يقتضي الشتراك في الماهية ‪ ،‬وإذا لم يثبت كون الجواهر متماثلة ‪ ،‬فحينئذ ل‬
‫يبعد في العقل وجود جواهر مختصة بأحيازها على سبيل الوجوب ‪ ،‬بحيث يمتنع‬
‫خروجها عن تلك الحياز ن وحينئذ ل يطرد دليل حدوث الجسام في تلك‬
‫)‬
‫الشياء ‪ .‬وعلى هذا التقدير ل يمكنكم القطع بحدوث كل الجسام )والله أعلم(‬
‫‪(44‬‬

‫البرهان السابع ‪ :‬إنه لو كان )تعالى()‪ (45‬مختصا ً بالجهة والحيز ‪ ،‬لكان عظيما ً ‪.‬‬
‫لنه ليس في العقلء من يقول ‪ :‬إنه مختص بجهة ‪ ،‬ومع ذلك فإنه في الحقارة‬
‫مثل النقطة التي ل تنقسم ‪ ،‬ومثل الجزء الذي ل يتجزأ ‪ .‬بل كل من قال ‪ :‬إنه‬
‫مختص بالجهة والحيز ‪ ،‬قال ‪ :‬إنه عظيم في الذات ‪ .‬وإذا كان كذلك ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫الجانب الذي منه يحاذي يمين العرش ‪ .‬إما أن يكون هو الجانب الذي منه يحاذي‬
‫يسار العرش أو غيره ‪ .‬والول باطل ‪ ،‬لنه إن عقل ذلك ‪ ،‬فلم ل يعقل أن يقال ‪:‬‬
‫إن يمين العرش ‪ :‬عن يسار العرش ‪ .‬حتى يقال ‪ :‬العرش على عظمته ‪ ،‬مثل‬
‫الجوهر الفرد‪ ،‬والجزء الذي ل يتجزأ ؟ وذلك ل يقوله عاقل ‪ .‬والثاني أيضا ً باطل ‪،‬‬
‫لن على هذا التقدير تكون ذات الله تعالى مركبة من الجزاء ‪.‬‬

‫)‪ (45‬تعالى ‪ :‬سقط ط‬ ‫)‪ (44‬والله أعلم ‪ :‬سقط خ‬

‫ثم تلك الجزاء إما أن تكون متماثلة الماهية ‪ ،‬أو مختلفة الماهية ‪ .‬والول ‪ :‬محال‬
‫‪ .‬لن على هذا التقدير يكون بعض تلك الجزاء المتماثلة متباعدة ‪ ،‬وبعضها‬
‫متلقية ‪ .‬والمثلن يصح على كل واحد منهما ما يصح على الخر)‪ . (46‬فعلى هذا‬
‫يلزم القطع بأنه يصح على المتلقين أن يصيرا متباعدين ‪ ،‬وعلى المتباعدين أن‬
‫يصيرا متلقين ‪ .‬وذلك يقتضي جواز الجتماع والفتراق على ذات الله تعالى ‪،‬‬
‫وهو محال ‪.‬‬

‫وأما القسم الثاني ‪ :‬وهو أن يقال ‪ :‬إن تلك الجزاء مختلفة في الماهية ‪ .‬فل بد‬
‫أن ينتهي تحليل تركيبه إلى أجزاء ‪ ،‬يكون كل واحد منها مبرأ عن التركيب ‪ ،‬لن‬
‫)‬
‫التركيب عبارة عن اجتماع الوحدات ‪ .‬ولول حصول الوحدات لما عقل اجتماعهما‬
‫‪ . (47‬إذا ثبت هذا فنقول ‪ :‬إن كل واحد من تلك الجزاء البسيطة ‪ ،‬ل بد وأن‬
‫يماس كل واحد منها بيمينه شيئا ً ‪ ،‬وبيساره شيئا ً آخر ‪ .‬لكن يمينه مثل يساره ‪.‬‬
‫وإل لكان هو في نفسه مركبا ً ‪ .‬وقد فرضناه غير مركب ‪ .‬هذا خلف ‪ .‬وإذا ثبت أن‬
‫يمينه مثل يساره ‪ ،‬وثبت أن المثلين ل بد وأن يشتركا في جميع اللوازم ن لزم‬
‫القطع بأن ممسوس يمينه ‪ ،‬يصح أن يصير ممسوس يساره ‪ ،‬وبالعكس ‪ .‬ومتى‬
‫‪- 43 -‬‬

‫صح ذلك ‪ ،‬فقد صح التفرق والنحلل على تلك الجزاء ‪ .‬وحينئذ يعود المر إلى‬
‫جواز الجتماع والفتراق على ذات الله تعالى ‪ .‬وهو محال ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن القول‬
‫بكونه في جهة من الجهات يفضي إلى هذه المحالت ‪ ،‬فيكون القول به محال ً ‪.‬‬
‫)‪(48‬‬
‫)وبالله التوفيق(‬

‫البرهان الثامن ‪ :‬لو كان علو الباري تعالى على العالم بالحيز والجهة‬

‫)‪ (46‬الجـزاء ‪ :‬ط‬


‫)‪ (48‬وبالله التوفيق ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (47‬اجتماعها ‪ :‬ط‬
‫لكان علو تلك الجهة أكمل من علو الباري تعالى ‪ .‬وذلك لن بتقدير أن تحصل‬
‫ذات الله تعالى في يمين العالم أو يساره ن لم يكــن موصوفا ً بالعلو على‬
‫العالم ‪ .‬أما تلك الجهة التي في جهة العلو ‪ ،‬فل يمكن فرض وجودها خالية)‪(49‬‬
‫عن هذا العلو ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن تلك الجهة عالية عن العالم لذاتها ‪ ،‬وثبت ‪ :‬أن الحاصل‬
‫في تلك الجهة يكون عاليا ً ‪ .‬ل لذاته ‪ ،‬لكن تبعا ً لكونه حاصل ً في تلك الجهة العالية‬
‫على العالم ‪ .‬وإذا كان كذلك‪ ،‬فحينئذ يلزم أن يكون الباري تعالى ناقصا ً لذاته‬
‫مستكمل ً بغيره ‪ .‬وذلك محال ‪ .‬فثبت ‪ :‬أنه يمتنع أن يكون علوه على العالم‬
‫بالجهة ‪ .‬والحيز وذلك هو المطلوب‪.‬‬

‫)‪ ( 49‬خاليـا ‪ :‬ص‬

‫الفصل الخامس‬
‫في حكاية الشبه العقلية في كونه تعالى مختصا ً بالحيز والجهة‬

‫الشبهة الولى ‪ :‬إنهم قالوا ‪ :‬العالم موجود ‪ ،‬والباري موجود ‪ .‬وكل موجودين فل‬
‫بد وأن يكون أحدهما محايثًا)‪ (1‬للخر ‪ ،‬أو مباينا ً عنه بجهة من الجهات الست ‪.‬‬
‫ولما لم يكن الباري تعالى محايثا ً للعالم ‪ .‬وجب كونه تعالى مباينا ً عن العالم بجهة‬
‫من الجهات الست ‪ .‬وإذا ثبت ذلك ‪ ،‬وجب كونه تعالى مختصا ً بجهة فوق ‪.‬‬

‫أما قولهم ‪ :‬إن كل موجودين فلبد أن يكون أحدهما محايثا ً للخر ‪ ،‬أو مباينا ً عنه‬
‫بجهة ‪ .‬فلهم فيه طريقان ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬ادعاء البديهية فيه ‪ .‬إل أنه سبق الكلم على هذه الطريقة في أول الكتاب‬
‫‪.‬‬
‫والطريق الثاني ‪ :‬إنهم يستدلون عليه ‪ .‬وهو الطريق الذي اختاره ابن الهيصم في‬
‫)‬
‫المناظرة التي حكاها عن نفسه مع ابن فورك )قال الشيخ – رحمه الله تعالى ‪(-‬‬
‫‪ (2‬وأنا أذكر محصل تلك الكلمات على الترتيب الصحيح ن ومن)‪ (3‬وعلى أحسن‬
‫وجه يمكن تقرير الشبهة به )وهو()‪ (4‬أن يقال ‪ :‬ل شك أن كل موجودين في‬
‫الشاهد ن فأحدهما ل بد وأن يكون محايثا ً للخر ‪ ،‬أو مباينا ً عنه بالجهة وكون كل‬
‫موجودين في الشاهد‬

‫محايثا ً ‪ :‬ط ‪ ،‬مجانيا ً ‪ :‬خ‬ ‫)‪(1‬‬


‫‪- 44 -‬‬

‫قال الشيخ رحمه الله تعالى ‪ :‬من خ‬ ‫)‪(2‬‬


‫)‪ (4‬وهو ‪ :‬سقط خ‬ ‫وعلى ط ‪ ،‬ومن ‪ :‬خ‬ ‫)‪(3‬‬

‫كذلك ‪ ،‬إما أن يكون لخصوص كونه جوهرا ً ‪ ،‬أو لخصوص كونه عرضا ً أو لمر‬
‫مشترك بين الجوهر والعرض ‪ .‬وذلك المشترك إما الحدوث أو الوجود ‪ .‬والكل‬
‫باطل سوى الوجود ‪ ،‬فوجب أن تكون العلة لهذا الحكم هي الوجود ‪ ،‬والباري‬
‫تعالى موجود ‪ ،‬فوجب الجزم بأنه تعالى لما أن يكون محايثا ً للعالم)‪ . (4‬أو مباينا‬
‫عنه بالجهة‪.‬‬

‫واعلم ‪ :‬أن هذا الكلم ل يتم إل بتقرير مقدمات‪ .‬نحن نذكرها ‪ ،‬ونذكر الوجوه‬
‫التي يمكن ذكرها)‪ (5‬في تقرير تلك المقدمات‪.‬‬

‫أما المقدمة الولى ‪) :‬فهي أن نقول ‪ :‬قولنا ‪ :‬إن القول بأن)‪ ( (6‬كل موجودين في‬
‫الشاهد ‪ ،‬ل بد وأن يكون أحدهما محايثا ً للخر أو مباينا ً عنه بجهة ‪ :‬حكم ل بد له‬
‫من علة )ويحتاج إلى دليل)‪ ( (7‬والدليل عليه ‪ .‬هو أن المعلومات ل يصح فيها‬
‫الحكم ‪ ،‬وهذه الموجودات يصح فيها هذا الحكم ‪ .‬فلو ل امتياز ما صح فيه‬
‫الحكم ‪ ،‬عما ل يصح فيه هذا الحكم بأمر من المور )وإل)‪ ( (8‬لما كان هذا المتياز‬
‫واقعا ً ُ‪.‬‬

‫أما المقدمة الثانية ‪ :‬وهي بيان أن هذا الحكم ل يمكن تعليله بخصوص كونه‬
‫جوهرا ً ‪ ،‬ول بخصوص كونه عرضا ً ‪.‬‬
‫فالدليل عليه ‪ .‬أن المقتضى لهذا الحكم ‪ .‬لو كان هو كونه جوهرا ً ‪ ،‬لصدق على‬
‫الجوهر أنه منقسم إلى ما يكون محايثا ً لغيره ‪ ،‬وإلى ما يكون‬

‫)‪ (4‬المحايث ‪ :‬أي المتحد معه في الشارة الصحية ‪ .‬بأن يكون حال ً فيه ‪.‬‬
‫والمؤلف سيذكر معناه فيما بعد ‪.‬‬
‫وهي قولنا ‪ :‬أن ‪ :‬خ‬ ‫)‪(6‬‬ ‫)‪ (5‬ذكره ‪ :‬خ‬
‫يحتاج إلى دليل ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪(7‬‬
‫)‪ (8‬وإل لما ‪ :‬خ ‪ ،‬المور لما كان ك ط‬

‫مباينا ً عنه ‪ .‬ومعلوم أن ذلك محال ‪ .‬لن الجوهر يمتنع أن يكون محايثا ً لغيره ‪.‬‬
‫وبهذا الطريق تبين أن )المقتضى)‪ ( (9‬لهذا الحكم ‪ ،‬ليس كونه عرضا ً ‪ .‬لمتناع‬
‫أن يكون العرض مباينا ً لغيره بالجهة ‪.‬‬
‫المقدمة الثالثة ‪ :‬وهي بيان أن هذا الحكم غير معلل بالحدوث ‪ .‬ويدل عليه‬
‫وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إن الحدوث عبارة عن وجود سبقه العدم ‪ ،‬والعدم غير داخل في العلة ‪.‬‬
‫وإذا سقط العدم عن درجة العتبار ‪ ،‬لم يبق إل الوجود ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬وهو الذي عول عليه ابن الهيصم في المناظرة التي زعم أنها دارت بينه‬
‫وبين فورك – رحمهما الله تعالى – لو كان هذا الحكم معلل ً بالحدوث ‪ ،‬لكان‬
‫‪- 45 -‬‬

‫الجاهل بكون السماء محدثه ‪ ،‬ويجب أن يكون جاهل ً بأن السماء بالنسبة لسائر‬
‫الموجودات التي في هذا العالم ‪ ،‬إما أن تكون محايثة لها ‪ ،‬أو مباينة عنها‬
‫بالجهة ‪ .‬لن المقتضى للحكم إذا كان أمرا ً معينا ً ‪ ،‬فالجاهل بذلك المقتضى ‪،‬‬
‫يجب أن يكون جاهل ً بذلك الحكم ‪ .‬أل ترى أن الوجود لما كان هو المستدعي‬
‫للتقسيم إلى القديم والمحدث ‪ ،‬ل جرم كان اعتقاده أنه غير موجود ‪ .‬مانعا ً من‬
‫التقسيم بالقدم والحدوث ‪ .‬ولما كان التقسيم إلى السود والبيض معلقا ً بكونه‬
‫ملونا ً ‪ ،‬كان اعتقاد أن الشيء غير ملون مانعا ً من التقسيم إلى السود والبيض ‪.‬‬
‫ولما رأينا أن الدهري)‪ (10‬الذي يعتقد قدم السموات والرضين ‪ ،‬ل يمنعه ذلك من‬
‫العتقاد أن السموات والرضين ‪ ،‬إما أن تكون محايثة ‪ ،‬وإما أن تكون مباينة‬
‫بالجهة ‪ .‬علمنا ‪ :‬أن هذا الحكم غير معلل بالحدوث ‪.‬‬

‫)‪ (10‬الدهري ‪ :‬خ ‪ ،‬الذي ‪ :‬ط‬ ‫المقتضي ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪(9‬‬

‫الوجه الثالث في بيان أن المقتضى لهذا الحكم ليس هو الحدوث ‪ - :‬وقد ذكره‬
‫بن الهيصم أيضا ً في تلك المناظرة – وتقريره ‪ :‬أن كونه محدثا ‪ :‬وصف بعلم‬
‫الستدلل ‪ ،‬وكونه بحيث يجب أن يكون إما محايثا ً ‪ ،‬وإما مباينا ً بالجهة ‪ :‬حكم‬
‫معلوم بالضرورة ‪ ،‬والوصف المعلوم الثبوت بالستدلل ‪ :‬ل يجوز أن يكون أصل ً‬
‫للحكم الذي يعلم ثبوته بالضرورة ‪ .‬فثبت بهذه الوجوه ‪ :‬أن المقتضي لهذا الحكم‬
‫‪ :‬ليس الحدوث ‪.‬‬
‫المقدمة الرابعة ‪ :‬وهي في بيان أنه لما كان المقتضي لهذه الحكم في الشاهد‬
‫هو الوجود ‪ ،‬والباري تعالى موجود ‪ ،‬وكان المقتضى لكونه إما محايثا ً للعالم أو‬
‫مباينا ً عنه بالجهة ‪ :‬حاصل ً في حقه ‪ ،‬كان هذا الحكم أيضا حاصل ً هناك ‪.‬‬

‫أعلم ‪ :‬أنا نفتقر في هذه المقدمة إلى بيان ‪ :‬أن الوجود حقيقة واحدة في الشاهد‬
‫وفي الغائب ‪ ،‬وذلك يقتضي كون وجوده تعالى زائدا ً على حقيقته ‪ .‬فإنه ما لم‬
‫يثبت هذا الصل لم يحصل المقصود ‪ .‬فهذه غاية ما يمكن ذكره في تقري هذه‬
‫الشبهة ‪ .‬ومن نظـر في تقريرنا لهذه الشبهة وتقريرهم لها ‪ :‬علم )أن)‪( (11‬‬
‫التفاوت بينهما )كبير)‪( (12‬‬

‫الجــواب‬
‫‪:‬‬ ‫)‪(13‬‬
‫)السؤال الول(‬
‫إن مدار هذه الشبهة على أن كل موجودين في الشاهد ‪ ،‬فلبد أن يكون أحدهما‬
‫محايثا ً للخر ‪ ،‬أو مباينا عنه بالجهة ‪ .‬وهذه الطريقة ممنوعة ‪ .‬وبيانه من وجوه ‪:‬‬

‫على أن ‪ :‬خ علم التفاوت ‪ :‬ط‬ ‫)‪(11‬‬


‫بينهما كبير ‪ :‬خ ‪ .‬وكبير ‪:‬سقط ط‬ ‫)‪(12‬‬
‫)‪ (13‬السؤال الول ‪ :‬زيادة ‪.‬‬

‫الول ‪:‬‬
‫‪- 46 -‬‬

‫أن جمهور الفلسفة يثبتون موجودات غير محايثة لهذا العالم الجسماني ول‬
‫مباينة عنه بالجهة ‪ .‬وذلك لنهم يثبتون العقول ‪ ،‬والنفوس الفلكية ‪ ،‬والنفوس‬
‫الناطقة ‪ ،‬ويثبتون الهيولي ‪ .‬ويزعمون ‪ :‬أن هذه الشياء موجودات غير متحيزة‬
‫ول حالة في المتحيز ‪ ،‬ول يصدق عليها أنها محايثة لهذا العالم ول مباينة عنه‬
‫بالجهة ‪ .‬وما لم تبطلوا هذا المذهب بالدليل ‪ .‬ل يصح القول بأن كل موجودين‬
‫في الشاهد ‪ ،‬فإما أن يكون أحدهما محايثا ً للخر أو مباينا ً عنه ‪.‬‬
‫الثاني ‪:‬‬
‫إن جمهور المعتزلة يثبتون إرادات وكراهات موجودة ل في محل ‪ .‬ويثبتون فناء‬
‫ل في محل ‪ .‬وتلك الشياء ل يصدق عليها أنها محايثة للعالم أو مباينة عن العالم‬
‫بالجهة فما ‪ ،‬لم تبطلوا ذلك ‪ ،‬ل تتم دعواكم ‪.‬‬
‫الثالث ‪:‬‬
‫إنا نقيم الدللة على أن الضافات موجودات في العيان ‪ .‬ثم نبين أنها يمتنع أن‬
‫تكون)‪ (13‬محايثة للعالم ‪ ،‬أو مباينة عنه بالجهة ‪ ،‬وذلك يبطل كلمكم ‪ .‬وإنما قلنا‬
‫إن الضافات أعراض موجودات في العيان ‪ ،‬لن المعقول من كون النسان أبا ً‬
‫لغيره ‪ ،‬مغاير لذاته المخصوصة‪ .‬بدليل ‪ .‬أنه يمكن أن يعقل ذاته من الذهول عن‬
‫كونه أبا ً أو ابنا ً ‪ .‬والمعلوم غير ما هو معلوم ‪ .‬وأيضا ً ‪ :‬فإنه يمكن ثبوت ذات‬
‫منفكة عن البوة والبنوة ‪ .‬مثل ‪ :‬عيسى عليه السلم ‪ .‬فإنه ما كان أبا ً لحد ‪ ،‬ول‬
‫ابنا ً لحد ‪ .‬والثابت غير ما هو غير ثابت ‪ .‬فكونه أبا ً أو ابنا ً ‪ ،‬مغايرا ً ‪ ،‬مغايرا ً لذاته‬
‫المخصوصة ‪ .‬ثم صار هذا المغاير إما أن يكون وصفا ً سلبيا ً أو ثبوتيا ً ‪ .‬والول‬
‫باطل ‪ .‬لن عدم البوة هو الوصف السلبي ‪ .‬والبوة رافعة له ‪ .‬رافع العدم ‪:‬‬
‫وجود ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن البوة وصف وجودي مغاير لذات الب ‪ .‬إذا ثبت هذا ‪ .‬فنقول ‪:‬‬
‫إنه مستحيل‬

‫)‪ (13‬أن تكون ‪ :‬ط ‪ ،‬أنها ‪ :‬خ‬

‫أن يقال ‪ :‬البوة محايثة لذات الب ‪ .‬وإل لزم أن يقال ‪ :‬إنه قام بنصف الب‬
‫نصف البوة ن وبثلثه ثلث البوة ‪ :‬ومعلوم أن ذلك باطل ‪ .‬ومحال أن يقال ‪ :‬إنها‬
‫مباينة عن ذات الب ‪ ،‬مباينة بالجهة والحيز ‪ .‬وإل لزم كون البوة جوهرا ً قائما ً‬
‫بذاته مباينا ً عن ذات الب بالجهة ‪ .‬وذلك أيضا ً محال ‪ .‬فثبت بهذا الدليل ‪ :‬وجود‬
‫موجود ل يمكن أن يقال‪ :‬لنه محايث للعالم)‪ (14‬أو يقال إنه مباين عنه بالجهة ‪.‬‬
‫وإذا ثبت هذا ‪ .‬بطل قولهم ‪.‬‬

‫السؤال الثاني ‪:‬‬


‫سلمنا أن كل موجودين في الشاهد ‪ ،‬فل بد وأن يكون أحدهما محايثا ً للخر ‪ ,‬أو‬
‫مباينا ً عنه بالجهة ‪ .‬لكن كون الشيء بحيث يصدق عليه قولنا ‪ :‬إما أن يكون ‪،‬‬
‫وإما أن ل يكون ‪ :‬إشارة إلى كونه قابل ً للنقسام إليهما ‪ .‬لكن قبول القسمة‬
‫لن‬ ‫)‪(15‬‬
‫حكم عدمي ‪ ،‬والعدم ل يعلل ‪ .‬وإنما قلنا ‪ :‬إن قبول القسمة حكم )عدمي(‬
‫أصل القبول حكم عدمي ‪ ،‬فوجب أن يكون قبول القسمة حكما ً عدميا ً ‪ .‬وإنما‬
‫قلنا ‪ :‬إن أصل القبول حكم عدمي ‪ ،‬لنه لو كان أمرا ًً ثابتا ً ‪ ،‬لكان صفة من صفات‬
‫)‪(17‬‬
‫الشيء المحكوم عليه بكونه قابل ً )فتكون()‪ (16‬الذات قابلة )لتلك الصفة(‬
‫القائمة بها ‪ .‬فيكون قبول ذلك القبول زائدا ً عليه ‪ .‬ويلزم التسلسل ‪ .‬وإنما قلنا ‪:‬‬
‫إنه لما كان أصل القبول عدميا ً ‪ ،‬كان قبول القسمة أيضا ً كذلك ‪ .‬لن قبول‬
‫القسمة قبول مخصوص ‪ .‬فتلك الخصوصية إن كانت صفة موجودة ‪ ,‬لزم قيام‬
‫الوجود بالعدم ‪ .‬وهو محال ‪ .‬وإن كانت عدمية ‪ ,‬لزم القطع بأن قبول القسمة‬
‫‪- 47 -‬‬

‫عدمي ‪ .‬وإذا ثبت أنه حكم عدمي ‪ ،‬امتنع تعليله ‪ ،‬لن العدم تفي محض ‪ ،‬فكان‬
‫التأثير فيه محال ً ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن قبول القسمة ل يمكن تعليله ‪.‬‬

‫)‪ (14‬لعالم ‪ :‬خ ‪ ،‬لغيره ‪ :‬ط‬


‫)‪ (16‬فتكون ‪ :‬ط ‪ ،‬من ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (15‬عدمي ‪ :‬سقط خ‬
‫)‪ (17‬لتلك الصفة ‪ :‬ط ‪ ،‬للصفة ‪ :‬خ‬

‫السؤال الثالث ‪:‬‬


‫هب أنه من الحكام ‪ .‬فلم ل يجوز أن يكون ذلك معلل ً بخصوص كونه جوهرا ً أو‬
‫بخصوص كونه عرضا ً ؟ قوله ‪" :‬لن كونه جوهرا ً يمنع من المحايثة ‪ ،‬وكونه عرضا ً‬
‫يمنع من المباينة بالجهة ‪ .‬وما كان علة لقبول النقسام إلى قسمين يمتنع كونه‬
‫مانعا ً من أحد القسمين " ‪ ،‬قلنا ‪ :‬ما الذي تريدينه بقولكم ‪ .‬الموجود)‪ (18‬في‬
‫الشاهد منقسم من إلى المحايث )والمباين()‪ (19‬بالجهة ؟ إن أردتم به ‪ :‬أن‬
‫)الموجود()‪ (20‬في الشاهد قسمان ‪ :‬أحدهما ‪ .‬هو الذي يكون محايثا ً لغيره – وهو‬
‫العرض _ والثاني ‪) :‬هو الذي( )‪ (21‬يكون مباينا ً لغيره بالجهة – وهو الجوهر – فهذا‬
‫مسلم ‪ .‬لكنه في الحقيقة إشارة إلى حكمين مختلفين معللين بعلتين مختلفتين ‪.‬‬
‫فإن عندنا وجوب كونه محايثا ً لغيره ‪ :‬معلل بكونه عرضا ً ‪ ,‬ووجوب كون القسم‬
‫الثاني مباينا ً عن غيره بالجهة ‪ :‬معلل بكونه جوهرا ً ‪ .‬فبطل قولكم ‪ :‬إن خصوص‬
‫كونه عرضا ً وجوهرا ً ل يصلحان لعلية)‪ (22‬هذا الحكم ‪ .‬وإن أردتم به أن إمكان‬
‫النقسام إلى هذين القسمين حكم واحد ‪ ،‬وأنه ثابت في جميع الموجودات التي‬
‫في الشاهد ‪ ،‬فضل ً عن أن يثبت في جميعها ‪ .‬لن كل موجود في الشاهد فهو إما‬
‫جوهر وإما عرض ‪ .‬فإن كان جوهرا ً امتنع عن أن يكون محايثا ً لغيره ‪.‬فلم يكن‬
‫قابل ً لهذا النقسام‪ .‬فثبت بما ذكرنا ‪ :‬أن الذي قالوه مغالطة ‪ .‬والحاصل أن هذا‬
‫المستدل أوهم أن قوله ‪ " :‬الموجود في الشاهد إما أن‬

‫)‪ (19‬والى المباين ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (18‬الوجود ‪ :‬ط ‪ ،‬خ‬


‫الموجود ‪ :‬خ ‪ ،‬الوجود ‪ :‬ط‬ ‫)‪(19‬‬
‫)‪ (22‬لعلية ‪ :‬خ ‪ ،‬لعله ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (21‬يجب أن ‪ :‬ص‬

‫يكون محايثا ً لغيـره وإما أن يكون مباينا ً عنه بالجهة " ‪ :‬إشارة إلى حكم واحد ‪.‬‬
‫ثم بنى عليه أنه ل يمكن تعليل ذلك الحكم بخصوص كونه جوهرا ً ول بخصوص‬
‫كونه عرضا ً ‪ .‬ونحن بينا ‪ :‬أنه إشارة إلى حكمين مختلفين معللين بعلتين‬
‫مختلفتين ‪.‬‬
‫السؤال الرابع ‪:‬‬
‫سلمنا أته ل يمكن تعليل هذا الحكم بخصوص كونه جوهرا ً ‪ ،‬ول بخصوص كونه‬
‫عرضا ً ‪ .‬فلم قلتم ‪ :‬إنه ل بد من تعليله ‪ ،‬إما بالحدوث وإما بالوجود ؟ وما الدليل‬
‫على هذا الحصر ؟ أقصى ما في الباب أن يقال ‪ :‬سبرنا وبحثنا فلم نجد قسما ً‬
‫آخر ‪ ،‬إل أنا بينا في الكتب المطولة ‪ :‬أن عدم الوجدان ل يدل على عدم الوجود ‪،‬‬
‫وشرحنا أن هذا السؤال هادم لكل دليل مبني على تقسيمات منتشرة ‪ ،‬غير‬
‫منحصرة بين النفي والثبات ‪.‬‬
‫السؤال الخامس ‪:‬‬
‫‪- 48 -‬‬

‫سلمنا أن عدم الوجدان ‪ ،‬يدل على عدم الوجود ‪ ،‬لكن ل نسلم )قولكم‬
‫)‬

‫‪": ( (23‬إنا ما وجدنا لهذا الحكم علة سوى الحدوث والوجود" وبيانه ‪ :‬من وجهين ‪:‬‬
‫الول ‪:‬‬
‫إن من المحتمل أن يقال ‪ :‬المقتضى لقولنا ‪ :‬إن الشيء إما أن يكون محايثا ً‬
‫للعالم ‪ ،‬أو مباينا ً عنه ‪ :‬هو كونه بحيث تصح الشارة الحسية إليه ‪ .‬وذلك أن كل‬
‫شيئين تصح الشارة الحسية إليهما ‪ .‬إما أن تكون الشارة إلى أحدهما عين‬
‫الشارة إلى الخر ‪ .‬وذلك كما في اللون والمتلون – وهذا هو المحايثة – وإما أن‬
‫تكون الشارة إلى أحدهما غير الشارة إلى الخر – وهذا هو المباينة بالجهة –‬
‫فثبت ‪ :‬أن المقتضى لقبول هذه القسمة ‪:‬‬

‫)‪ (23‬قولكم ‪ :‬سقط خ‬

‫هو كون الشيء مشارا ً إليه بحسب الحس ‪ .‬وعلى هذا التقدير ما لم تقيموا‬
‫الدللة على أنه مشار إليه بحسب الحس ‪ ،‬ل يمكن أن يقال ‪ :‬إنه تعالى يجب أن‬
‫يكون محايثا ً للعالم أو مباينا ً عنه بالجهة ‪ .‬لكن كونه تعالى مشارا ً إليه بحسب‬
‫الحس هو مما وقع النزاع فيه ‪ ،‬وحينئذ يتوقف صحة الدليل على صحة‬
‫المطلوب ‪ .‬وذلك يفضي غلى الدور ‪ .‬وهو باطل ‪.‬‬
‫الثاني ‪:‬‬
‫ل شك ‪ :‬أن ما سوى الله تعالى ‪ .‬إما أن يكون محايثا ً لغيره ‪ ،‬أو مباينا ً‬ ‫)إنه‬
‫)‪(24‬‬

‫عن غيره بالجهة ‪ .‬ول شك ‪ :‬أن الله تعالى مخالف لهذين القسمين بحقيقته‬
‫المخصوصة إذ لو لم يكن مخالفا ً بحقيقته المخصوصة لكان إما مثل ً للجواهر أو‬
‫العراض ‪ .‬ويلزم منه كونه تعالى محدثا ً ‪ .‬كما أن الجواهر والعراض محدثة ‪.‬‬
‫وذلك محال ‪ .‬وإذا ثبت هذا فنقول ‪ :‬ل شك أن الجواهر والعراض مشتركان في‬
‫المر الذي به وقعت المخالفة بينهما ن وبين ذات الباري تعالى ‪ .‬فلم ل يجوز أن‬
‫يكون المقتضى لقبول النقسام إلى المحايث )والمباين)‪ ( (25‬هو ذلك المر ؟‬
‫وعلى هذا التقدير سقط هذا السؤال ‪ .‬لنه ل مشترك بين الجواهر والعراض إل‬
‫الحدوث ‪.‬‬

‫السؤال السادس ‪:‬‬


‫سلمنا الحصر ‪ .‬فلم ل يجوز أن يكون المقتضى لهذا الحكم هو الحدوث ؟ قوله‬
‫أول ً ‪ " :‬الحدوث )ماهية)‪) ( (26‬مركبة)‪ ( (27‬من العدم والوجود ‪ .‬قلنا ‪ :‬كل محدث‬
‫فإنه يصدق عليه كونه قابل ً للعدم والوجود ‪ .‬وأيضا ً ‪ :‬كون الشيء منقسما ً إلى‬
‫المحايث والمباين ‪ :‬معناه كونه‬

‫والمباين ‪ :‬خ ‪ ،‬والى المباين ‪ :‬ط‬ ‫)‪(25‬‬ ‫)‪ (24‬انه ‪ :‬سقط خ‬


‫)‪ (27‬مركب ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (26‬ماهيـة ‪ :‬سقط خ‬

‫قابل ً للنقسام غلى هذين القسمين ‪ .‬فالقابلية إن كانت صفة وجودية كانت في‬
‫الموضعين كذلك ن وإن كانت عدمية فكذلك ‪ .‬ول يبعد تعليل عدم بعدم ‪ .‬وقوله‬
‫ثانيا ً ‪ " :‬لو كان المقتضى لهذا الحكم هو الحدوث ‪ ،‬لكان الجهل بحدوث الشيء‬
‫يوجب الجهل بهذا الحكم " قلنا ‪ :‬الكلم عليه من وجهين ‪:‬‬
‫الول ‪:‬‬
‫‪- 49 -‬‬

‫لم قلتم ‪ :‬إن الجهل بالمؤثر يوجب الجهل بالثر ؟ أل ترى أن جهل الناس‬
‫بأسباب المرض والصحة ل يوجب جهلهم بحصول المرض والصحة ‪ ،‬وجهل نفاة‬
‫العراض بالمعاني الموجبة لتغير أحوال الجسام ل يوجب جهلهم بتلك التغيرات ‪.‬‬
‫وجهل الدهري بكونه تعالى قادرا ً على الخلق والتكوين ل يوجب جهله بوجود هذا‬
‫العالم ؟‬
‫الثاني ‪:‬‬
‫لو كان الجهل بالعلة يوجب الجهل بالمعلول ‪ ،‬لكان العلم بالعلة يوجب العلم‬
‫بالمعلول ‪ .‬وعلى هذا التقدير لو كان المقتضى لكون الموجودين في الشاهد ‪،‬‬
‫إما متحايثين أو متباينين بالجهة ‪ :‬هو الوجود ‪ .‬لزم أن من علم كون الشيء‬
‫موجودا ً ‪ ،‬أن يعلم وجوب كونه إما محايثا ً للعالم أو مباينا ً له ) بالجهة)‪ ( (28‬لكن‬
‫الجمهور العظم من أهل التوحيد يعتقدون أنه تعالى موجود ‪ ،‬ول يعلمون أنه‬
‫تعالى ل بد وأن يكون ) إما)‪ ( (29‬محايثا ً للعالم أو مباينا ً له ‪ .‬فوجب على هذا‬
‫المساق ‪ :‬أن ل يكون المقتضى لهذا الحكم هو كونه موجودا ً ‪.‬‬
‫وهذا السؤال قد أورده الستاذ ابن فورك – رحمه الله – من أصحابنا – على ابن‬
‫الهيصم ن ولم يقدر أن يذكر عنه جوابا ً سوى أن قال ‪:‬‬

‫)‪ (29‬أما ‪ :‬سقط خ ‪.‬‬ ‫)‪ (28‬بالبجهة ‪ :‬سقط ‪ :‬ط‬

‫" يمتنع أن يحصل العلم بالثر )ول يحصل العلم بالمؤثر ()‪) (30‬ول()‪ (31‬يمتنع أن‬
‫يحصل العلم بالمؤثر ‪ .‬مع الجهل بالثر ‪ ،‬وطال كلمه في تقرير هذا الفرق ‪ ،‬ولم‬
‫يظهر منه شيء معلوم يمكن حكايته ز وقوله ثالثا ً ك " وكونه محدثا ً وصف‬
‫استدللي ‪ ،‬وكونه إما محايثا ً أو مباينا ً ‪ :‬أمر معلوم بالبديهة ‪ ،‬قلنا ‪ :‬ممنوع ‪ .‬فإنا‬
‫بينا ‪ :‬أن المؤثر في كثير من الشياء استدللي ‪ ،‬والثر بديهي " ‪.‬‬

‫السؤال السابع ‪:‬‬


‫سلمنا أن المؤثر في هذا الحكم ليس هو الحدوث ‪ ،‬وأنه هو الوجود ‪ .‬لكن لم‬
‫قلتم ‪ :‬إنه يلزم حصوله في حق الله تعالى ؟ وبيانه هو ‪ :‬إن المطلوب إنما يلزم ‪،‬‬
‫لو كان الوجود أمرا ً واحدا ً في الشاهد وفي الغائب ز أما إذا لم يكن المر كذلك ‪،‬‬
‫بل كان وقوع اللفظ الموجود على الشاهد والغائب ن ليس إل بالشتراك اللفظي‬
‫ن كان هذا الدليل ساقطا ً بالكلية ‪.‬‬
‫ثم إن الكرامية ل يمكنهم أن يقولوا بأن الوجود في الغائب والشاهد ‪ :‬واحد ‪ .‬وإذا‬
‫كان كذلك لزمهم إما القول بكون الباري تعالى مثل ً للمحدثات من جميع الوجوه‬
‫ن أو القول بأن وجوده زائد على ماهيته ‪ ،‬والقوم ل يقولون بهذين الكلمين ‪.‬‬
‫السؤال الثامن ‪ :‬سلمنا أن ما ذكرتم يدل على أن الوجود هو العلة لهذا الحكم ز‬
‫لكن ههنا دليل آخر يمنع منه ‪ .‬وهو أن المقتضى لقبول النقسام في الجوهر‬
‫والعرض ن لو كان هو الوجود ‪ ،‬لزم في الجوهر وحده‬

‫)‪ (31‬إما ل ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (30‬ول يحصل العلم بالمؤثر ‪ :‬سقط خ‬

‫أن يقبل النقسام ‪ ،‬إلى الجوهر والعرض ‪ .‬وإنه محال ‪ .‬ولزم أيضا ً في العرض‬
‫وحده ‪ ،‬أن يقبل النقسام إلى الجوهر وإلى العرض ‪ .‬ومعلوم أن ذلك محال ‪.‬‬
‫‪- 50 -‬‬

‫فإن قالوا ‪ :‬إن كل جوهر وعرض فإنه يصبح كونه منقسما ً إلى هذين القسمين‬
‫نظرا ً إلى كونه موجودا ً ‪ ،‬وإنما يمتنع ذلك النقسام نظرا ً إلى مانع منفك وهو‬
‫خصوصية ماهيته ‪ .‬قلنا ك هذا اعتراف بأنه ل يلزم من كون الوجود علة لصحة‬
‫أمر من المور ‪ ،‬أن يصح ذلك الحكم على كل ما كان موصوفا ً بالوجود ن‬
‫لحتمال أن تكون ماهيته المخصوصة مانعة من ذلك الحكم ‪ .‬وإذا كان كذلك ‪،‬‬
‫فلم ل يجوز أن يقال ‪ :‬الوجود وإن اقتضى كون الشيء إما محايثا ً لغيره أو مباينا ً‬
‫عنه ‪ ،‬إل أن خصوصية ذاته تعالى كانت مانعة من هذا الحكم ‪ .‬فلم يلزم من كونه‬
‫تعالى موجودا ً ‪ ،‬كونه بحيث يكون إما محايثا ً للعالم أو مباينا ً عنه بالجهة ؟‬

‫السؤال التاسع ‪ :‬إن ما ذكرتموه من الدليل قائم في صور كثيرة ن مع أن النتيجة‬


‫اللزمة عنه ‪ :‬باطلة قطعا ً ‪ .‬وذلك يدل على أن هذا الدليل منقوض ‪ .‬وبيانه من‬
‫وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪:‬‬
‫إن كل ما سوى الله تعالى فهو محدث ‪ ،‬فتكون صحة الحدوث حكما ً مشتركا ً‬
‫بينهما ‪ .‬فنقول ‪ :‬هذه الصحة حكم مشترك فل بد من علة مشتركة‪ .‬والمشترك‬
‫إما الحدوث أو الوجود ‪ .‬ول يمكن أن يكون المقتضى لصحة )الحدوث()‪ (32‬هو‬
‫الحدوث لن صحة الحدوث سابقة على الحدوث بالرتبة ‪ ،‬والسابق بالرتبة على‬
‫الشيء ل يمكن تعليله بالمتأخر عن الشيء ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن صحة الحدوث غير معللة‬
‫بالحدوث ‪ ،‬فوجب كونها معللة بالوجود ‪ ،‬والله تعالى موجود ‪ ،‬فوجب أن يثبت‬
‫في حقه تعالى صحة الحدوث ‪ .‬وهو محال ‪.‬‬

‫)‪ (32‬الحدوث ‪ :‬سقط خ‬

‫الثاني ‪ :‬إن كل موجود)‪ (33‬في الشاهد ‪ .‬فهو إما حجم وإما قائم بالحجم ‪ .‬ثم نذكر‬
‫التقسيم إلى آخره ‪ ،‬حتى يلزم أن يكون الباري تعالى إما حجما ً وإما قائما ً‬
‫بالحجم ‪ ،‬والقوم ل يقولون بذلك ‪.‬‬

‫الثالث ‪ :‬إن كل موجودين في الشاهد ‪ ،‬فل بد وأن يكون أحدهما محايثا ً للخر ‪ ،‬أو‬
‫مباينا ً عنه في أي جهة كان ‪ .‬ثم نذكر التقسيم المتقدم )‪ (34‬حتى يظهر أن هذا‬
‫الحكم معلل بالوجود ‪ ،‬والباري تعـالى‬
‫موجود ‪ ،‬فيلزم أن يصح على الباري تعالى كونه )إما()‪ (35‬محايثا ً للعالم أو مباينا ً‬
‫عنه في أي جهة كانت ‪ ،‬من الجوانب التي للعالم ‪ .‬وذلك يقتضي أن ل يكون‬
‫اختصاص الله تعالى بجهة فوق ‪ :‬واجبا ً ‪ ،‬بل يلزم صحة الحركة على ذات الله‬
‫تعالى من الفوق إلى أسفل)‪ (36‬وكل ذلك عند القوم محال ‪.‬‬
‫الرابع ‪:‬‬
‫إن كل موجودين في الشاهد ‪ ،‬فإنه يجب أن يكون أحدهما محايثا ً للخر ‪ ،‬أو‬
‫مباينا ً عنه بالجهة ‪ .‬والمباين بالجهة ل بد وأن يكون جوهرا ً فردا ً ‪ ،‬أو يكون مركبا ً‬
‫من الجواهر ن وكون كل موجود في الشاهد على أحد هذه القسام الثلثة –‬
‫أعني ‪ :‬كونه عرضا ً ‪ ،‬أو جوهرا ً فردا ً ‪ ،‬أو جسما ً مؤلفا ً)‪) – (37‬ل بد وأن يكون معلل ً‬
‫بالوجود()‪ (38‬فوجب أن يكون الباري تعالى على أحد هذه القسام الثلثة ‪ .‬والقوم‬
‫ينكرون ذلك ‪ .‬لنه تعالى عندهم ليس بعرض ول بجوهر ول بجسم مؤتلف مركب‬
‫من الجزاء والبعاض‪.‬‬
‫‪- 51 -‬‬

‫)‪ (33‬موجودين ‪ :‬خ‬


‫)‪ (35‬إما ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (34‬الول ‪ :‬خ ‪ ،‬المتقدم ‪ :‬ط‬
‫اسـفل ‪ :‬ط‬ ‫)‪(36‬‬
‫)‪ (37‬مؤتلفا ً ‪ :‬ط‬
‫)‪ (38‬لبد وأن يكون معلل بالوجود ‪ :‬سقط خ‬

‫الخامس ‪:‬‬
‫إن كل موجود يفرض مع العالم ‪ .‬فهو إما مساوي للعالم ‪ .‬وإما أزيد منه في‬
‫المقدار ‪ ،‬وإما أنقص منه في المقدار ‪ .‬فانقسام الموجود )‪ (39‬في الشاهد إلى‬
‫هذه القسام الثلثة ‪ :‬حكم ل بد له من علة ‪ .‬ول علة إل للوجود ‪ .‬والباري تعالى‬
‫موجود ‪ ،‬فوجب أن يكون الباري تعالى على أحد هذه القسام الثلثة)‪ . (40‬والقوم‬
‫ل يقولون به ‪ .‬فثبت ما ذكرنا ‪ :‬أن الشبهة منقوضة‪.‬‬
‫واعلم ‪:‬‬
‫أنا إنما طولنا في الكلم على هذه الشبهة ‪ ،‬لن القوم يعولون عليها ‪ ،‬ويظنون‬
‫أنها حجة قوية قاهرة ‪ ،‬ونحن بعد أن بالغنا في تنقيحها وتقريرها ‪ ،‬أوردنا عليها‬
‫هذه السئلة القاهرة ‪ ،‬والعتراضات القادحة ‪ ،‬ونسأل الله العظيم أن يجعل هذه‬
‫التحقيقات والتدقيقات سببا ً )لمزيد الجر()‪ (41‬والثواب بمنه وفضله ‪.‬‬
‫الشبهة الثالثة للكرامية في إثبات كونه تعالى في الجهة ‪ :‬قالوا ‪ :‬ثبت أنه تعالى‬
‫تجوز رؤيته ‪ .‬والرؤية تقتضي مواجهة المرئي أو شيئا هو في حكم مقابلته ‪ .‬وذلك‬
‫يقتضي كونه تعالى مخصوصا ً بجهة ‪ .‬والجواب ‪ :‬اعلم أن المعتزلة والكرامية‬
‫توافقتا)‪ (42‬في أن كل مرئي ‪ ،‬ل بد وأن يكون في جهة إل المعتزلة قالوا ‪ :‬لكنه‬
‫ً )‪(43‬‬
‫ليس في الجهة فوجب أن ل يكون مرئيا‬

‫الربعة ‪ :‬خ‬ ‫)‪(40‬‬ ‫)‪ (39‬الوجود ‪ :‬ط‬


‫)‪ (41‬لمزيد من الجر ‪ :‬ط ‪ ،‬للجر ‪ :‬خ )‪ (42‬توافقا ‪ :‬خ‬
‫)‪ (43‬في الخبار ما يدل ظاهره على "مكان" لله وجهة – تعالى عن المكان‬
‫والجهة – وهذه الخبار يجب أن تؤول لئل تدل على مكان وجهة لقوله تعالى "‬
‫وهو الذي في السماء اله ‪ ،‬وفي الرض اله" )الزخرف ‪ (84‬ولقوله تعالى "وهو‬
‫معكم أينما كنتم " )الحديد ‪ (4‬وكيفية تأويل المكان هكذا ‪ :‬المكان على الحقيقة ‪:‬‬
‫اسم على الحيز والجهة ‪ .‬وعلى المجاز يكون بمعنى الرتبة والدرجة ‪ .‬كما تقول ‪:‬‬
‫محمد مكان أبيه ‪ ،‬أي بدله في ريبته ودرجته ‪ .‬وقد جاء في التوراة أن حزقيال‬
‫النبي قال عن الله عز وجل ‪" :‬مبارك مجد الرب من مكان" )حز ‪ (12 : 3‬وفسر‬
‫المفسرون من علماء بني إسرائيل قواه هذا ‪" :‬بحسب مرتبته وعظم حظه في‬
‫الوجود ‪ .‬وكذلك كل ذكر مكان جاء في الله ‪ :‬إنما المراد به ‪ :‬مرتبة وجوده تعالى‬
‫‪ ،‬التي ل مثيل لها ول شبيه" وكذلك قالوا في قول الله لموسى ‪" :‬هو ذا عندي‬
‫موضع" )خر ‪ (21 : 33‬قالوا ‪ :‬إن المراد بالموضع ‪ " :‬مرتبة نظر وتطلع عقل ‪ ،‬ل‬
‫تطلع عين " ‪.‬‬

‫و "الكرسي" الذي يدل على المكان ‪ ،‬على الحقيقة ‪ :‬اسم لموضع جلوس في‬
‫مكان عالي ‪ .‬وعلى المجاز ‪ :‬الجللة والعظمة ‪ .‬لن الذي ارتفع عن الرض‬
‫وجلس على الكرسي ‪ ،‬صار عظيما ً بالنسبة لمن جلسوا على التراب ‪ .‬وقد جاء‬
‫في التوراة أن الله له "كرسي" وجاء فيها أن السماء عرش الله "هكذا قال‬
‫‪- 52 -‬‬

‫الرب ‪ :‬السماء عرشي" )أش ‪ (1 : 66‬والمفسرون من علماء بني إسرائيل‬


‫يقولون ‪" :‬هي تدل على وجودي وعظمتي ‪ ،‬كدللة الكرسي على عظم من أهل‬
‫له ‪ .‬هذا هو الذي يجب أن يعتقده المحققون ‪ ،‬ل أن ثم جسما ً يرتفع الله عليه‬
‫تعالى علوا ً كبيرًا" ‪.‬‬
‫و "الجلوس" على الحقيقة يدل على القعود ‪ .‬وعلى المجاز يدل على الستقرار‬
‫والثبات على أكمل الحالت ‪ .‬وقد جاء في التوراة عن الله تعالى "الساكن في‬
‫السموات" )مز ‪ (4 : 2‬أي ‪ :‬الله الثابت الذي ل يتغير بنحو من أنحاء التغير ‪ ،‬لنه‬
‫قال عن نفسه ‪" :‬إني أنا الرب ل أتغير" )مل ‪ (6 : 3‬وعبر بالسماء عن الثبات‬
‫والستقرار "لكون السماء هي التي ل تغير فيها ول اختلف أعني ‪ :‬أنه ل تتغير‬
‫أشخاصها كما تتغير أشخاص كائنات الرض وفاسديها" كما يقول موسى بن‬
‫ميمون ‪ .‬وإذا كان الشيء عظيما ً ثابتا ً مثل "كرة الرض" فإنه يقاس على السماء‬
‫في المعنى ‪ .‬ولما فسدت الرض بطوفان نوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬واستقر الطوفان‬
‫على الرض قالت التوراة ك "جلس الرب على الطوفان" ) مز ‪ ( 10 : 28‬أي‬
‫أنه هو الله الوحيد الذي عمله ‪ ،‬وهو الذي يملك أمره ‪ ،‬ل غير ‪.‬‬

‫وهذا التأويل الذي عند علماء بني إسرائيل في الكرسي له تأويل يشبهه عند‬
‫كثيرين من أهل السلم ‪ .‬ومنهم المام فخر الدين الرازي ‪ ،‬والمام محمود بن‬
‫عمر ‪ -‬أنعم الله عليهما – يقول بن عمر ‪ ،‬في الكشاف ‪" :‬الكرسي ‪ :‬ما يجلس‬
‫عليه ول يفضل عن مقعد القاعد ‪ ،‬وفي قوله "وسع كرسيه " أربعة أوجه ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن كرسيه لم يضق عن السموات والرض ‪ ،‬لبسطته وسعته ‪ ،‬وما هو‬
‫إل تصوير لعظمته وتخييل قط ‪ ،‬ول كرسي ثمة ول قعود ول قاعد ‪ .‬كقوله ‪ " :‬وما‬
‫قدروا الله حق قدره ‪ ،‬والرض جميعا ً قبضته يوم القيامة ‪ .‬والسموات مطويات‬
‫بيمينه" من غير تصور قبضة وطي ويمين ‪ ،‬وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل‬
‫حسي ‪ .‬أل ترى إلى قوله ‪ " :‬وما قدروا الله حق قدره " ‪ .‬والثاني ‪ :‬وسع علمه ‪.‬‬
‫وسمي العلم كرسيا ً ‪ ،‬تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم ‪ .‬والثالث ‪ :‬وسع‬
‫ملكه ‪ ،‬تسمية ‪ .‬بمكانه الذي هو كرسي الملك ‪ .‬والرابع ‪ :‬ما روي أنه خلق كرسيا ً‬
‫‪ ،‬هو بين يدي العرش دونه السموات والرض ‪ .‬وهو إلى العرش كأصغر شيء ز‬
‫وعن الحسن ‪" :‬الكرسي هو العرش" أ‪.‬هـ ‪.‬‬
‫و "صعد" و "هبط" يدلن على المكان بالرتفاع والنحطاط على الحقيقة ‪ .‬وعلى‬
‫المجاز تدل كلمة صعد على علو المنزلة ‪ ،‬وتدل كلمة هبط على انحطاط المنزلة‬
‫‪ .‬فقد قال الله للسرائيلي الغبي ‪":‬يستعلي عليك الغريب الذي فيما بينكم‬
‫متصاعدا ً ن وأنت تنحط متنازل ً " )تث ‪ (43 : 28‬ويقول علماء بني إسرائيل فيما‬
‫ورد في التوراة عن صعود الله ونزوله ‪" :‬ولما كان معشر الدميين في أسفل‬
‫السافلين بالموضع وبمرتبة الوجود ‪ ،‬بالضافة للمحيط ‪ .‬وكان هو في أعلى‬
‫عليين على حقيقة وجود ‪ ،‬وجللة وعظمة ‪ .‬ل علو مكان ‪ .‬وشاء تعالى ‪ :‬إيصال‬
‫علم منه ‪ ،‬وإفاضة وحي على بعضنا ‪ .‬عبر بنزول الوحي على النبي ‪ ،‬أو بحلول‬
‫سكينة في موضع ك بالنزول ‪ .‬وعبر بارتفاع حالة النبوة ‪ -‬تلك ‪ -‬من الشخص ‪،‬‬
‫أو إزالة السكينة من الموضع ‪ :‬بالرفع ‪ .‬فكل نزلة ورفعة تجدها منسوبة للباري‬
‫تعالى ‪ :‬إنما أراد بهذا المعنى ‪ .‬وكذلك إذا نزلت آفة بأمة أو إقليم – بحسب‬
‫مشيئته القديمة – التي تصف الكتب النبوية – قبل أن تصدر تلك النازلة – بأن‬
‫أولئك افتقد الله أعمالهم ‪ ،‬ثم بعد ذلك أنزل بهم العذاب ز فإنه يكني عن هذا‬
‫المعنى أيضا ً ‪ :‬بالنزول لكون النسان أقل من أن تفتقد أعماله ‪ ،‬ويعاقب عليها –‬
‫لول المشيئة – وقد بين ذلك في كتب النبوة ‪ .‬وقيل ‪" :‬ما النسان حتى تذكره ‪،‬‬
‫وابن البشر حتى تفتقده "؟ )مز ‪ (5 : 8‬يشير إلى هذا المعنى ‪ .‬ولذلك كنى عن‬
‫هذا بالنزول ‪ .‬فقال ‪" :‬هلم نهبط ونبلبل هناك لغتهم )تك ‪" . ( 7 : 11‬فنزل‬
‫الرب لينظر" )تك ‪" ( 5 : 11‬أنزل وأرى" )تك ‪ ( 21 : 18‬والمعنى كله حول‬
‫العقاب بأهل السفل ‪ ،‬أ‪ .‬هـ‪.‬‬
‫‪- 53 -‬‬

‫واعلم ‪ :‬أن "رأى" على الحقيقة تدل على رؤية العين ‪ .‬وعلى المجاز تدل على‬
‫العلم ‪ ،‬وعلى إدراك العقل ‪ ،‬ففي القرآن الكريم ‪" :‬ألم تر كيف فعل ربك‬
‫بأصحاب الفيل"؟ أي ‪ :‬ألم تعلم ‪ .‬وفيه ‪" :‬ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ؟" أي‬
‫لم تدرك ذلك بعقلك ز وفي التوراة ‪" :‬وقلبي رأى كثيرا ً من الحكمة والعلم " )جا‬
‫‪ ( 16 : 1‬فرأى بمعنى أدرك بعقله ‪ .‬وكل ما في التوراة عن "رأيت الرب" ) ‪1‬‬
‫مل ‪" ( 19 : 22‬رأوا إله إسرائيل " )خر ‪ ( 10 : 24‬يحمل على هذا المجاز ‪ :‬أي‬
‫على الدراك العقلي ‪ ،‬ل على رؤية العين ‪.‬‬
‫واعلم ‪ :‬أن "نظر" على الحقيقة تدل على اللتفات بالعين للشيء ‪ .‬وعلى المجاز‬
‫تدل على التفات الذهن وإقباله على تأمل الشيء حتى يدركه ‪ .‬مثل ما جاء في‬
‫التوراة أن الله تعالى "لم ير إثما ً في يعقوب" )عدد ‪ ( 21 : 23‬لن الثم ل يرى‬
‫بالعين ‪ .‬ومثل قول الله تعالى عن بني إسرائيل أنهم "ينظرون إلى موسى" )حز‬
‫‪ ( 8 : 33‬أي أنهم يتعقبون أفعاله وأقواله ويتأملونها ‪ .‬ويقول علماء بني‬
‫إسرائيل ‪ :‬إن كل لفظة تدل على أن الله ينظر أو نظر أحد إليه ‪ ،‬فإنها تدل على‬
‫التفات الذهن وإقباله على تأمل الشيء ‪ .‬ل على رؤية العين ‪.‬‬
‫وقد جاء في التوراة أن موسى عليه السلم ستر وجهه لنه خاف أن ينظر إلى‬
‫الله ‪ .‬وجاء فيها أنه عاين صورة الرب ‪ .‬ويفسر علماء التوراة هذين النصين‬
‫بقولهم ‪ :‬إن موسى استحيا من الله بسبب خوفه من نظر نور الله ‪ ،‬ل من النظر‬
‫إلى الله نفسه ‪ .‬ولما رأى الله استحياءه ‪ ،‬أفاض عليه تعالى من جوده وخيره ‪،‬‬
‫ما قدر ‪ ،‬على مشاهدة شبه الرب ‪ .‬وذلك جزاء له على أنه ستر وجهه لئل ينظر‬
‫إلى الرب ‪ .‬وتفسيرهم هذين النصين – بهذا المعنى شبيه بقول رئيس الفلسفة ‪:‬‬
‫" انه ل ينبغي للناظر في كتبه أن ينسبه فيما يبحث عنه لقحة أو تجاسر وتهجم‬
‫للكلم في ما ل علم له به ‪ .‬بل ينبغي أن ينسبه للعرص والجتهاد في إيجاد‬
‫وتحصيل اعتقادات صحيحة ‪ ،‬حسب مقدرة النسان " وشبيه بقول موسى بن‬
‫ميمون ‪ " :‬انه ل ينبغي للنسان أن ل يتهجم لهذا المر العظيم الجليل من أول‬
‫وهلة ‪ ،‬دون أن يروض نفسه في العلوم والمعارف ويهذب أخلقه حق التهذيب‬
‫ويقتل شهواته ‪ ،‬وتشوقاته الخيالية ‪ ،‬فإذا حصل مقدمات يقينية وعلمها علم‬
‫قوانين القياس والستدلل وعلم وجوه التحفظ من أغاليط الذهن ‪ ،‬حينئذ يقدم‬
‫للبحث في هذا المعنى ‪ ،‬ول يقطع بأول رأي يقع له ول يمد أفكاره أول ويسلطها‬
‫نحو إدراك الله ‪ .‬بل يستحيي ويكف ويقف حتى يستنهض أول " وبعد هذا الكلم‬
‫مباشرة يقول موسى بن ميمون ‪" :‬وعن هذا المعنى ‪ .‬قيل ‪ :‬فسر موسى وجهه‬
‫إذ يخاف أن ينظر إلى الله " )خر ‪ ( 6 : 3‬مضافا ً إلى ما يدل عليه الظاهر من‬
‫خوفه من نظر النور المتجلي ل أن الله تدركه العين – تعالى عن كل نقص علوا ً‬
‫كبيرا ً – وحمد له – عليه السلم – ذلك ‪ ،‬وأفاض عليه – تعالى – من جوده وخيره‬
‫‪ ،‬ما أوجب له أن قيل فيه أخيرا ً ‪" :‬صورة الرب يعاين" ) عد ‪ ( 8 : 1‬وذكر‬
‫الحكماء – عليهم السلم – أن ذلك لكونه ساترا ً وجهه أول ً ‪ ،‬لئل ينظر إلى الرب ‪.‬‬

‫أما مختاري بني إسرائيل )خر ‪ ( 11 : 24‬فانهم تهجموا ومدوا أفكارهم وأدركوا ‪.‬‬
‫لكن إدراكا ً ليس بكامل ‪ .‬ولذلك قال عنهم ‪ " :‬فرأوا إله إسرائيل وتحت رجليه "‬
‫) خر ‪ ( 10 : 24‬ولم يقل ‪ " :‬فرأوا إله إسرائيل " فقط ‪ .‬إذ معرض القول إنما‬
‫انتقد عليهم صورة إدراكهم التي ضمنوها من الجسمانية ما ضمنوها ‪ .‬والتي‬
‫أوجبت عليهم تهجمهم قبل كمالهم فاستحقوا الهلك " ‪.‬‬

‫والكرامية قالوا ‪ :‬لكنـه مــرئي ‪ ،‬فوجب أن يكون في الجهة ‪ .‬وأصحابنا – رحمهم‬


‫الله – نازعوا في هذه المقدمة ‪ .‬وقالوا ‪ :‬ل نسلم أن كل مرئي فإنه مختص‬
‫بالجهة ‪ .‬بل ل نزاع )في()‪ (44‬أن المر في الشاهد كذلك ‪ .‬لكن لم قلتم ‪ :‬إن )ما‬
‫‪- 54 -‬‬

‫كان()‪ (45‬في الشاهد كذلك ‪ ،‬وجب أن يكون في الغائب كذلك ؟ وتقريره ‪ :‬إن‬
‫هذه المقدمة إما أن تكون مقدمة بديهية أو استدللية ‪ .‬فإن كانت بديهية لم يكن‬
‫في إثبات كونه تعالى مختصا ً بالجهة حاجة إلى هذا الدليل ‪ .‬ذلك لنه ثبت في‬
‫الشاهد أن كل قائم بالنفس‬

‫)‪ (45‬ما كان كذلك ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (44‬في ‪ :‬سقط خ‬

‫فهو مختص بالجهة ) وثبت أن الباري – تعالى – قائم بالنفس ()‪ (46‬فوجب القطع‬
‫بأنه مختص بالجهة لن العلم الضروري حاصل بأن كل ما ثبت في الشاهد وجب‬
‫أن يكون في الغائب كذلك ‪ .‬فإذا كان هذا الوجه حاصل ً في إثبات كونه تعالى في‬
‫الجهة ‪ ،‬كان إثبات كونه تعالى في الجهة بكونه مرئيا ً ‪ ،‬ثم إثبات أن كل ما كان‬
‫مرئيا ً فهو مختص بالجهة ‪ ،‬تطويل من غير فائدة ‪ ،‬ومن غير مزيد شرح وبيان ‪.‬‬
‫وأما إن قلنا ‪ :‬إن قولنا إن كل مرئي فهو مختص بالجهة ‪ :‬ليست مقدمة بديهية ‪،‬‬
‫بل هي مقدمة استدللية ‪ .‬فحينئذ ما لم يذكروا على صحتها دليل ً ‪ ،‬ل تصير هذه‬
‫المقدمة يقينية ‪ .‬وأيضا ً )إنا كما()‪ (47‬ل نعقل مرئيا ً في الشاهد ‪ ،‬إل إذا كان مقابل ‪ً،‬‬
‫أو في حكم المقابل للرائي ‪ .‬فكذلك ل نعقل مرئيا ً إل إذا كان صغيرا ً ‪ ،‬أو كبيرا ً أو‬
‫ممتدا ً في الجهات ‪ ،‬أو مؤتلفا ً من الجزاء ‪ .‬وهم يقولون ‪ :‬إنه تعالى يرى ‪ ،‬ل‬
‫صغيرا ً ول كبيرا ً ‪ ،‬ول ممتدا ً في الجهات والجوانب والحياز ‪ .‬فإذا جاز لكم أن‬
‫تحكموا بأن الغائب مخالف للشاهد في هذا الباب ‪ ،‬فلم ل يجوز أيضا ً أن المرئي‬
‫في الشاهد – وإن وجب كونه مقابل ً للرائي إل أن المرئي في الغائب – ل يجوز‬
‫أن يكون كذلك ؟‬

‫الشبهة الرابعة ‪:‬‬


‫تمسكوا برفع اليدي إلى السماء ‪ .‬قالوا ‪ :‬وهذا شيء يفعله أرباب النحل ‪ .‬فدل‬
‫ذلك على أنه تقرر في جميع عقول الخلق كون الله في جهة فوق ‪ .‬الجواب ‪ :‬إن‬
‫هذا معارض بما تقرر في جميع عقول الخلق ‪ :‬أنهم عند تعظيم خالق العالم‬
‫يضعون جباههم على الرض ‪ .‬ولما لم‬

‫)‪ (46‬وثبت أن الباري تعالى قائم بالنفس ‪ :‬سقط خ‬


‫)‪ (47‬فكما أنا ‪ :‬خ‬

‫ما ذكروه على أنه في‬ ‫يدل هذا على أن خالق العالم في الرض ‪ ،‬لم يدل‬
‫)‪(48‬‬

‫السماء ‪.‬‬
‫وأيضا ً ‪ :‬فالخلق إنما يقدمون على رفع اليدي إلى السماء ‪ ،‬لوجوه أخرى وراء‬
‫اعتقادهم أن خالق العالم في السماء ‪:‬‬
‫فالول ‪ :‬إن معظم الشياء نفعا ً للخلق ‪ ،‬ظهور النوار ‪ .‬وأنها )إنما)‪ ( (49‬تظهر من‬
‫جانب السموات ‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬إن مبنى حياة الخلق على استنشاق النفس ‪ .‬وليس ذلك الستنشاق إل‬
‫من الهواء ‪ .‬والهواء ليس )إل موجودا ً فوق الرض)‪ ( (50‬فلهذا السبب كان فوق‬
‫الرض أشرف مما تحت الرض‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬إن نزول الغيث من جهة الفوق ‪.‬‬
‫‪- 55 -‬‬

‫ولما كانت هذه الشياء التي هي منافع الخلق ‪ ،‬إنما تنزل من جانب السموات ‪ ،‬ل‬
‫جرم كان ذلك الجانب عندهم أشرف ‪ .‬وتعلق الخاطر بالشرف أقوى من تعلقه‬
‫بالخس ‪ .‬وهذا هو السبب في رفع اليدي إلى السماء‪.‬‬
‫وأيضا ً ‪ :‬إنه تعالى جعل العرش قبلة لدعائنا ‪ ،‬كما جعل الكعبة قبلة لصلتنا ‪.‬‬
‫وأيضا ً ‪ :‬إنه تعالى جعل الملئكة وسائط في مصالح هذا العالم ‪ .‬قال تعالى ‪" :‬‬
‫فالمدبرات أمرا ً)‪ " (51‬وقال تعالى ‪ " :‬فالمقسمات‬

‫)‪ (49‬إنما ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (48‬لم يدل على ما ذكروه ‪ :‬خ‬


‫)‪ (50‬بموجود إل فوق الرض ‪ :‬خ )‪ (51‬النازعات ‪5‬‬

‫أمرا ً)‪ . " (52‬وأجمعوا أن جبريل عليه السلم ملك الوحي والتنزيل والنبوة ‪،‬‬
‫وميكائيل ملك الرزاق ‪ ،‬وملك الموت ملك الوفاة ‪ .‬وكذا القول في سائر المور‬
‫ز وإذا كان المر كذلك ‪ ،‬لم يبعد أن يكون الغرض من رفع اليدي إلى السماء ‪:‬‬
‫رفع اليدي إلى الملئكة ‪) .‬وبالله التوفيق)‪( (53‬‬

‫)‪ (53‬وبالله التوفيق ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (52‬الذاريات ‪4‬‬

‫الفصل السادس‬
‫في‬
‫الرد على الكرامية القائلين بأنه تعالى جسم‬
‫بمعنى كونه تعالى غنيا ً عن المحل قائما ً بالنفس‬

‫اعلم ‪ :‬أن المشهور عن قدماء الكرامية ‪ :‬إطلق لفظ الجسم على الله تعالى ‪.‬‬
‫إل أنهم يقولون ‪ :‬ل نريد به كونه تعالى مؤلفا ً من الجزاء ‪ ،‬ومركبا ً من البعاض ‪.‬‬
‫بل نريد به كونه تعالى غنيا ً عن المحل ‪ ،‬قائما ً بالنفس وعلى هذا التقدير ‪ ،‬فإنه‬
‫يصير النزاع في أنه تعالى جسم أو ل ؟ ‪ :‬نزاعا ً لفظيا ً ‪ .‬هذا حاصل ما قيل في‬
‫هذا الباب ‪ .‬إل إنا نقول ‪ :‬كل ما كان مختصا ً بحيز أو جهة ‪ ،‬ويمكن أن يشار إليه‬
‫بالحس ‪ .‬فذلك المشار إليه إما أن ل يبقى من شيء من جوانبه الست ‪ ،‬وإما أن‬
‫يبقى ‪ .‬فإن لم يبقى منه شيء من جوانبه الست ‪ ،‬فهذا يكون كالجوهر الفرد ‪،‬‬
‫وكالنقطة التي ل تتجزأ ‪ ،‬ويكون في غاية الصغر والحقارة ‪ .‬ول أظن أن عاقل ً‬
‫يرضى أن يقول ‪ :‬أن إله العالم كذلك ‪ .‬وإما أغن بقى شيء من جوانبه الست ‪،‬‬
‫أو في أحد هذه الجوانب ‪ .‬فهذا يقتضي كونه مؤلفا ً من جزأين)‪ (2‬و أكثر ‪.‬‬

‫وأقصى ما في الباب ‪ :‬أن يقول قائل ‪ :‬إن تلك الجزاء ل تقبل التفرق والنحلل ‪.‬‬
‫إل أن هذا ل يمنع من كونه في نفسه مركبا ً مؤلفا ً ن كما أن الفيلسوفي)‪ (3‬يقول ‪:‬‬
‫"الفلك جسم ‪ ،‬إل أنه ل يقبل الخرق واللتئام"‬
‫‪- 56 -‬‬

‫)‪ (1‬الفصل السادس ‪ :‬اعلم أن المشهور ‪ ......‬الخ ‪ :‬ص‬


‫)‪ (3‬الفلسفي ‪ :‬ط الفيلسوفي ك خ‬ ‫الجزأين أو أكثر ‪ :‬ط‬

‫فإن ذلك ل يمنعه من اعتقاد كونه جسما ً طويل ً عريضا ً عميقا ً ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن هؤلء‬
‫الكرامية لما اعتقدوا كونه تعالى مختصا ً بالحيز والجهة ومشارا ً إليه بحسب‬
‫الحس ‪ ،‬واعتقدوا أنه تعالى أنه تعالى ليس في الصغر والحقارة مثل الجوهر‬
‫الفرد والنقطة التي ل تتجزأ ‪ :‬وجب أن يكونوا قد اعتقدوا أنه تعالى ممتد في‬
‫الجوانب ‪ ،‬أو في بعض الجوانب ‪ .‬ومن قال ذلك فقد اعتقد كونه مركبا ً مؤلفا ً ‪،‬‬
‫فكان امتناعه عن إطلق لفظ المؤلف والمركب ‪ ،‬امتناعا ً عن مجرد هذا اللفظ ‪،‬‬
‫مع كونه معتقدا ً لمعناه ‪ .‬فثبت ‪ :‬أنهم أطلقوا عليه لفظ الجسم ‪ :‬لجل أنهم‬
‫اعتقدوا كونه تعالى طويل ً عريضا ً عميقا ً ممتدا ً في الجهات ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن امتناعهم‬
‫عن هذا الكلم ‪ :‬لمحض التقية والخوف ‪ ،‬وإل فهم يعتقدون كونه تعالى مركبا ً‬
‫مؤلفًا‪.‬‬

‫فهذا تمام الكلم في القسم الول من هذا الكتاب )وهذا هو)‪ ( (4‬القسم‬
‫المشتمل على الوجوه العقلية ‪ .‬وبالله التوفيق ‪.‬‬

‫)‪ (4‬وهو ‪ :‬ط ‪ ،‬وهذا هو ‪ :‬خ‬


‫مقصود الناس في العلم اللهي ثلثة مقاصد ‪:‬‬ ‫)‪(5‬‬
‫الول ‪ :‬إثبات وجود الله تعالى ‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬إثبات أنه ليس بجسم ول قوة في جسم ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬كونه واحدا ً ‪ .‬وللوصول إلى هذه المقاصد يتحدثون في مقدمات تسهل‬
‫لهم إثبات هذه المقاصد ‪ .‬والمؤلف رحمه الله بعد ما ذكر الدلة السمعية من‬
‫القرآن والسنة على أن الله ليس بجسم ‪ ،‬ذكر الدلة العقلية على أن الله ليس‬
‫بجسم ‪ .‬وإذا نفى الجهة والحيز عن الله تعالى ‪ ،‬فقد نفى وجهه جسما ً وأتم‬
‫القسم الول على نفي الجسمية بالسمع والعقل ‪ .‬وكلمه هو كلم العلماء‬
‫النابهين فقد قال محمد بن أبي بكر بن محمد التبريزي رحمة الله عليه ‪" :‬‬
‫ونشرح لفظة الجسم والقوة ‪ .‬فنقول ‪ :‬أما الجسم فهو عبارة في اصطلحهم عن‬
‫الجوهر المتحيز ‪ ،‬أي الذي يمكن أن يشار إليه أنه ههنا بالحس ‪ ،‬وثم بذاته ‪ ،‬ل‬
‫بتبعية غيره ويمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلثة متقاطعة على زوايا قوائم ‪ .‬وهي‬
‫القطار الثلثة أعني ‪ :‬الطول والعرض والعمق ‪ .‬وأما القوة فهي لفظة مشتركة‬
‫بين القوة الفعلية والقوة النفعالية ‪ .‬أما القوة النفعالية فهي عبارة عما يكون‬
‫مبدأ التغير من آخر في آخر ‪ .‬من حيث أنه آخر ‪ .‬ومعناه ‪ :‬أن الشيء ‪ :‬الحال‬
‫في الجسم إذا صدر منه أثر في جسم آخر ‪ ،‬يقال لذلك الشيء ‪ :‬أنه قوة مثل‬
‫الحرارة الحاصلة في الجسم ‪ ،‬فإنها إذا صادفت جسما ً آخر مهيأ لقبول‬
‫السخونة ‪ ،‬سخنته ‪ .‬فيقال ‪ :‬أنها قوة باعتبار حصول ذلك الثر عنها‪.‬‬

‫وهي – أعني القوة ‪ : -‬فقد تكون عرضا ً في الموضوع ‪ ،‬وقد تكون صورة في‬
‫الهيولي‪.‬‬
‫‪- 57 -‬‬

‫والفرق بينهما ‪ :‬أن العرض يكون متقوما ً بمحله الذي هو الموضوع ‪ ،‬والمحل‬
‫مقوما ً له ‪ .‬والصورة بالعكس من ذلك ‪ .‬أي تكون الصورة مقومة لمحله الذي هو‬
‫الهيولي ‪ ،‬والمحل متقوما ً بها ‪ .‬فالصورة من الجواهر ‪ ،‬ل من العراض ‪ ،‬واسم‬
‫القوة يجمعها جميعا ً ‪ .‬فمثال القوة التي تكون عرضا ً ‪ :‬الحرارة والبرودة ‪ .‬ومثال‬
‫القوة التي تكون صورة ‪ :‬الصورة النارية والهوائية والمائية والرضية كالرطوبة ‪،‬‬
‫أو بالعسر كاليبوسة ‪ ،‬فالمراد بأنه ليس بجسم ول قوة في جسم بعد الشتراك‬
‫في كونها أجساما ً ‪ .‬وأما القوة النعالية ‪ ،‬فهي عبارة عن الصفة التي بها يصير‬
‫الشيء قابل ً لشيء آخر ‪ .‬كما يقال للرطوبة أو اليبوسة‪ :‬أنها قوة انفعالية ‪ ،‬لنها‬
‫تجعل الجسم يتغير عن الدافع ‪ .‬إما بالسهولة كالرطوبة أو بالعسر كاليبوسة ‪.‬‬
‫فالمراد بأنه ليس بجسم ول قوة في جسم هو أنه تعالى ليس موجودا ً بالصفة‬
‫التي وصفناها في معنى الجسم والقوة ‪ ،‬فهو منزه عن أن يكون في الجهة‬
‫والحيز ‪ ،‬أو حال ً فيما يكون في الجهة والحيز " ‪0‬ص ‪ 235‬ج ‪ 2‬دللة الحائرين (‬

‫القسم الثاني من هذا الكتاب‬

‫في‬

‫تأويل المتشابهات من الخبار واليات‬

‫والكلم فيه مرتب على مقدمة وفصول ‪:‬‬

‫المقدمـة‬
‫في‬
‫بيان أن جميع فرق السلم مقرون بأنه‬
‫ل بد من التأويل في بعض ظواهر القرآن والخبار‬

‫أما في القرآن فبيانه في وجوه ‪:‬‬


‫الول ‪:‬‬
‫هو أنه ورد في القرآن ذكر الوجه ‪ ،‬و)ذكر)‪ ( (1‬العين ‪ ،‬وذكر الجنب الواحد ‪ ،‬وذكر‬
‫اليدي ‪ ،‬وذكر الساق الواحدة ‪ .‬فلو أخذنا بالظاهر ‪ ،‬يلزمنا إثبات شخص له وجه‬
‫واحد ‪ .‬وعلى ذلك الوجه أعين كثيرة ‪ .‬وله جنب واحد ‪ ،‬وعليه أيد كثيرة ‪ ،‬وله‬
‫‪- 58 -‬‬

‫ساق واحدة ‪ .‬ول نرى في الدنيا شخصا ً أقبح صورة من هذه الصورة المتخيلة‪،‬‬
‫ول أعتقد أن عاقل ً يرضى بأن يصف ربه بهذه الصفة‪.‬‬
‫الثاني ‪:‬‬
‫إنه ورد في القرآن أنه )تعالى)‪ " ( (2‬نور السموات والرض)‪ " (3‬وأن كل عاقل‬
‫يعلم بالبديهية ‪ :‬أن إله العالم ليس هو هذا الشيء المنبسط على الجدران‬
‫والحيطان ‪ ،‬وليس هو هذا النور الفائض من جرم الشمس والقمر والنار ‪ ،‬فل بد‬
‫لكل واحد منا ‪ ،‬من أن يفسر قوله تعالى "الله نور السموات والرض)‪ " (4‬بأنه‬
‫منور السموات والرض أو بأنه هاد لهل السموات والرض ‪ ،‬أو بأنه مصلح‬
‫السموات والرض ‪ .‬وكل ذلك تأويل ‪.‬‬

‫)‪ (3‬النور ‪35‬‬ ‫)‪ (2‬تعالى ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (1‬وذكر ‪ :‬سقط خ‬


‫)‪ (4‬النور ‪35‬‬

‫الثالث ‪ :‬قال الله تعالى ‪" :‬وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد)‪ " (5‬ومعلوم ‪ :‬أن الحديد‬
‫ما نزل جرمه من السماء إلى الرض ‪ .‬وقال ‪ " :‬وأنزل لكم من النعام ثمانية‬
‫أزواج)‪ " (6‬ومعلوم ‪ :‬أن النعام ما نزلت من السماء إلى الرض ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬قوله تعالى ‪ " :‬وهو معكم أينما كنتم)‪ " (7‬وقوله تعالى ‪" :‬ونحن أقرب إليه‬
‫)‪(9‬‬
‫من حبل الوريد)‪ " (8‬وقوله تعالى ‪ " :‬ما يكون من نجوى ثلثة إل هو رابعهم‬
‫"وكل عاقل يعلم ‪ :‬أن المراد منه ‪ :‬القرب بالعلم ‪ ،‬والقدرة اللهية ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬قوله تعالى ‪ " :‬واسجد واقترب)‪ " (10‬فإن هذا القرب ليس إل بالطاعة‬
‫والعبودية ز فأما القرب بالجهة ‪ :‬فمعلوم بالضرورة ‪ :‬أنه ل يحصل بسبب السجود‬
‫‪.‬‬
‫" وقال تعالى " ونحن‬ ‫السادس ‪ :‬قوله تعالى ‪" :‬فأينما تولوا ن فثم وجه الله‬
‫)‪(11‬‬

‫أقرب إليه منكم ‪ .‬ولكن ل تبصرون)‪" (12‬‬


‫السابع ‪ :‬قال تعالى ‪" :‬من ذا الذي يقرض الله قرضا ً حسنا ً)‪ (13‬؟" ول شك أنه ل‬
‫بد من التأويل‪.‬‬

‫" ول بد فيه من التأويل ‪.‬‬ ‫)‪(14‬‬


‫الثامن ‪ :‬قوله تعالى ‪" :‬فأتى الله بنيانهم من القواعد‬

‫)‪ (5‬الحديد ‪25‬‬


‫)‪ (8‬ق‬ ‫)‪ (7‬الحديد ‪4‬‬ ‫)‪ (6‬الزمر ‪6‬‬
‫‪16‬‬
‫)‪(11‬‬ ‫)‪ (10‬آخر العلق‬ ‫)‪ (9‬المجادلة ‪7‬‬
‫البقرة ‪115‬‬
‫)‪ (13‬البقرة ‪245‬‬ ‫)‪ (12‬الواقعة ‪85‬‬
‫)‪ (14‬النحل ‪26‬‬

‫ى)‪ " (15‬وهذه‬‫التاسع ‪ :‬قال تعالى لموسى وهارون ‪ " :‬إنني معكما أسمع وأر ُ‬
‫المعية ليست إل بالحفظ والعلم والرحمة)‪ . (16‬فهذه وأمثالها من المور التي ل‬
‫بد لكل عاقل من العتراف بحملها على التأويل )وبالله التوفيق)‪( (17‬‬
‫‪- 59 -‬‬

‫‪.‬‬ ‫)‪(18‬‬
‫أما الخبار ‪ :‬فهذا النوع فيه كثرةُ‬

‫فالول ‪ :‬قوله – عليه السلم – حكاية عن الله – )سبحانه)‪ (19‬و( تعالى‪ " :‬مرضت‬
‫فلم تعدني ‪ ،‬استطعمتك فما أطعمتني ‪ ،‬استسقيتك فما سقيتني " ول يشك‬
‫عاقل ‪ :‬أن المراد منه التمثيل فقط‪.‬‬

‫الثاني ‪ :‬قوله ‪) ‬حكاية عن ربه)‪ " ( (20‬من أتاني يمشي ‪ ،‬أتيته هرولة " ول يشك‬
‫عاقل في أن المراد منه ‪ :‬التمثيل والتصوير ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬نقل الشيخ الغزالي – رحمه الله – عن أحمد بن حنبل – رحمه الله – أنه‬
‫أقر بالتأويل في ثلثة أحاديث ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬قوله عليه السلم ‪ " :‬الحجر السود ‪ :‬يمين الله في الرض"‬
‫وثانيها ‪ :‬قوله عليه السلم ‪" :‬إني لجد نفس الرحمن من جهة اليمين "‬
‫وجل ( ‪ " :‬أنا جليس من‬ ‫وثالثها ‪ :‬قوله عليه السلم ‪)" :‬حكاية عن الله عز‬
‫)‪(21‬‬

‫ذكرني "‬

‫)‪ (15‬طـه ‪46‬‬


‫)‪ (17‬وبالله التوفيق ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (16‬والرحمة والعلم ‪ :‬خ‬
‫فيها كثير ‪ :‬ط فيها كثرة ‪ :‬خ‬ ‫)‪(18‬‬
‫)‪ (19‬سبحانه و ‪ :‬خ هذا الحديث له شبه في إنجيل متى ‪39 : 25‬‬
‫)‪ (20‬حكاية عن ربه ‪ :‬سقط خ‬
‫)‪ (21‬حكاية عن الله عز وجل ‪ :‬سقط خ‬

‫الرابع ‪ :‬حكى أن المعتزلة تمسكوا في خلق القرآن ‪ ،‬بما روي عنه عليه السلم‬
‫أنه تأتى سورة البقرة وآل عمران كذا وكذا )يوم القيامة)‪ ( (22‬كأنهما غمامتان ز‬
‫فأجاب أحمد بن حنبل )رحمه الله)‪ ( (23‬وقال ‪ " :‬يعني ثواب قارئيهما " وهذا‬
‫تصريح )منه)‪ ( (24‬بالتأويل ‪.‬‬

‫الخامس ‪ :‬قوله)‪ (25‬عليه السلم ‪ " :‬إن الرحم يتعلق بحقوتي الرحمن ‪ ،‬فيقول‬
‫سبحانه وتعالى)‪" : (26‬أصل من وصلك" وهذا ل بد له من التأويل ‪.‬‬
‫السادس ‪ :‬قال عليه السلم ‪" :‬إن المسجد لينزوي من النخامة ‪ ،‬كما تنزوي‬
‫الجلدة من النار" ول بد فيه من التأويل ‪.‬‬
‫السابع ‪ :‬قال عليه السلم ‪ " :‬قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن "‬
‫وهذا ل بد فيه من التأويل ‪ ،‬لنا نعلم بالضرورة ‪ :‬أنه ليس في صدورنا إصبعان‬
‫بينهما قلوبنا‬

‫الثامن ‪ :‬قوله عليه السلم – حكاية عن الله تعالى ‪ " : -‬أنا عند المنكسرة قلوبهم‬
‫" ليست هذه العندية إل بالرحمة ‪ .‬وأيضا ً ‪ :‬قال ‪ – ‬حكاية عن الله تعالى في‬
‫صفة الولياء ‪" : -‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ‪ ،‬وبصره الذي يبصر به "‬
‫‪- 60 -‬‬

‫ومن المعلوم بالضرورة ‪ :‬أن القوة الباصرة التي بها يرى الشياء ليست هي الله‬
‫)سبحانه)‪ (27‬و( تعالى ‪.‬‬

‫التاسع ‪ :‬قال عليه السلم – حكاية عن الله سبحانه وتعالى ‪" : -‬الكبرياء ردائي ‪،‬‬
‫والعظمة إزاري" والعاقل ل يثبت لله تعالى إزارا ً ورداء ‪.‬‬

‫)‪ (23‬رحمه الله ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (22‬يوم القيامة ‪ :‬سقط خ‬


‫)‪(26‬‬ ‫)‪ (25‬قال ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (24‬منه ‪ :‬من خ‬
‫وتعالى ‪ :‬خ‬
‫)‪ ( 27‬سبحانه و ‪ :‬خ‬

‫العاشر ‪:‬‬
‫قال عليه السلم لبي بن كعب ‪ " :‬يا أب المنذر ‪ .‬أية آية في كتاب الله تعالى‬
‫أعظم ؟ فتردد فيه مرتين ‪ .‬ثم قال في الثالثة ‪ :‬آية الكرسي ‪ .‬فضرب يده – عليه‬
‫السلم – على صدره ‪ ،‬وقال ‪" :‬أصبت ‪ .‬والذي نفسي بيده ‪ .‬إن لها لسانا ً يقدس‬
‫الله تعالى عند العرش ‪ ،‬ول بد فيه من التأويل)‪ . (28‬فثبت بكل ما ذكرنا ‪ :‬أن‬
‫المصير إلى التأويل ‪ :‬أمر ل بد منه لكل عاقل ‪ .‬وعند هذا قال المتكلمون ‪ :‬لما‬
‫ثبت بالدليل أنه سبحانه وتعالى منزه عن الجهة والجسمية ‪ ،‬وجب علينا أن نضع‬
‫لهذه اللفاظ الواردة في القرآن والخبار ‪ :‬محمل صحيحا ً ‪ ،‬لئل يصير ذلك سببا ً‬
‫للطعن فيها ‪.‬‬
‫فهذا تمام القول في المقدمة )وبالله التوفيق)‪((29‬‬

‫)‪ ( 28‬في تفسير القرطبي المتوفى سنة ‪ 571‬هـ ما نصه ‪:‬‬


‫‪ -1‬أسند الدرامي أبو محمد في مسنده عن أبي هريرة – رضي الله عنه –‬
‫قال ‪ :‬قال رسول الله ‪ « : ‬ان الله تبارك وتعالى قرأ « طـه » و « يـس »‬
‫قبل أن يخلق السموات والرض بألفي عام ‪ ،‬فلما سمعت الملئكة ‪ :‬القرآن ‪،‬‬
‫قالت ‪ :‬طوبى لمة ينزل هذا عليها ‪ ،‬وطوبى لجواف تحمل هذا ‪ ،‬وطوبى للسنة‬
‫تتكلم بهذا » ‪.‬‬
‫قال ابن فورك ‪ :‬معنى قوله ‪ « :‬أن الله – تبارك وتعالى – قرأ « طـه » و «‬
‫يس » أي ‪ :‬أظهر وأسمع وأفهم كلمه من أراد من خلقه من الملئكة في ذلك‬
‫الوقت ‪ .‬فقد أول « ابن فورك » قراءة الله بمعنى مجازي هو « أظهر وأسمع‬
‫وأفهم » ‪.‬‬
‫‪ -2‬وقال ابن عباس في قوله تعالى ‪ « :‬الرحمن على العرش استوى » قال ‪:‬‬
‫« يريد خلق ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ‪ ،‬وبعد القيامة » فقد أول ابن‬
‫عباس استواء الله بمعنى مجازي هو خلق ما كان وما هو كائن ‪.‬‬
‫‪ -3‬وقال الطبري في قوله تعالى ‪ « :‬وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على‬
‫عيني » قال ‪ « :‬محبة مني » أي ألقيت عليك رحمتي ‪ .‬فقد فسر المحبة‬
‫بالمعنى المجازي وهو الرحمة ‪ .‬وأبعد الحبة عن المعنى الحقيقي ‪ .‬وقيل في «‬
‫ولتصنع على عيني » أي تربى وتغذى على مرأى مني ‪ .‬أي له عناية خاصة من‬
‫الله ‪.‬‬
‫)‪ (28‬سقط خ‬
‫‪- 61 -‬‬

‫الفصل الول‬
‫في‬
‫اثبــات الصــورة‬

‫اعلم ‪ :‬أن هذه اللفظة ما وردت في القرآن ‪ .‬لكنها واردة في الخبار ‪:‬‬

‫الخبر الول ‪ :‬ما روي عن النبي ‪) ‬أنه قال()‪ « : (1‬أن الله تعالى )‪ (2‬خلق آدم‬
‫على صورته » )‪ (3‬وروى ابن خزيمة عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي‬
‫‪ ‬أنه قال ‪ « :‬ل يقولن أحدكم لعبده ‪ :‬قبح الله وجهك ‪ ،‬ووجه من أشبه وجهك‬
‫)فإن الله خلق آدم على صورته ( » ‪.‬‬

‫والجواب )‪ (4‬اعلم ‪ :‬أن الهاء في قوله « على صورته » يحتمل أن يكون عائدا ً‬
‫إلى شيء غير صورة آدم عليه السلم ‪ .‬وغير الله تعالى ‪ ،‬ويحتمل أن يكون عائدا ً‬
‫إلى آدم ‪ ،‬ويحتمل أن يكون عائدا ً إلى الله تعالى ‪ .‬فهذه طرق ثلثة ‪:‬‬

‫)‪ (2‬تعالى ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (1‬أنه قال ‪ :‬سقط خ‬


‫)‪ (3‬في الصحاح الول من سفر التكوين في التوراة ‪ « :‬فخلق الله النسان‬
‫على صورته ‪ .‬على صورة الله خلقه ذكرا ً وأنثى خلقهم » )تك ‪ « ( 27 : 1‬وقال‬
‫الله نعمل النسان على صورتنا كشبهنا » )تك ‪ ( 26 : 1‬ويقول موسى بن‬
‫ميمون في دللة الحائرين ‪ :‬ان ذلك ل يؤدي إلى التجسيم ‪ .‬بل المعنى ‪ :‬أن‬
‫العقل اللهي المتصل به ‪ ،‬أنه هو على صورة الله وشاكلته « ل أن الله تعالى‬
‫جسم ‪ ،‬فيكون ذا شكل » )ص ‪ 28‬ج ‪(1‬‬
‫)‪ (4‬ما بين القوسين ‪ :‬سقط خ‬

‫الطريق الول ‪ :‬أن يكون هذا الضمير عائدا ً إلى غير آدم ‪ ،‬وإلى غير الله تعالى ‪.‬‬
‫وعلى هذا التقدير ففي تأويل الخبر وجهان ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬هو أن من قال لنسان ‪ :‬قبح الله وجهك ‪ ،‬ووجه من أشبه وجهك ‪ ،‬فهذا‬
‫يكون شتما ً لدم عليه السلم ‪ ،‬فإنه لما كانت صورة هذا النسان مشابهة لصورة‬
‫آدم ‪ ،‬كان قوله ‪ :‬قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك ‪ :‬شتما ً لدم عليه السلم‬
‫‪ ،‬ولجميع النبياء – عليم السلم – وذلك غير جائز ن فل جرم نهى النبي ‪ ‬عن‬
‫ذلك ‪ .‬وإنما خص آدم بالذكر ‪ ،‬لنه عليه السلم هو الذي ابتدئت خلقه وجهه على‬
‫)‪(5‬‬
‫هذه الصورة‬

‫)‪ (5‬يقول موسى بن ميمون في دللة الحائرين ‪ ،‬ما نصه ‪:‬‬


‫« قد ظن الناس ‪ :‬أن الصورة في اللسان العبراني تدل على شكل الشيء‬
‫وتخطيطه ‪ .‬فأدى ذلك إلى التجسيم المحض ‪ .‬لقوله ‪ " :‬لنصنع النسان على‬
‫صورتنا كمثالنا » )تك ‪ ( 26: 1‬وظنوا ‪ :‬أن الله على صورة انسان – أعني شكله‬
‫وتخطيطه – فلزم التجسيم المحض ‪ ،‬فاعتقدوه ‪ ،‬ورأوا أنهم إن فارقوا هذا‬
‫‪- 62 -‬‬

‫العتقاد ‪ ،‬كذبوا النص ‪ ،‬بل يعدمون الله إن لم يكن جسما ً ذا وجه ويد مثلهم في‬
‫الشكل والتخطيط ‪.‬‬
‫لكنه أكبر وأبهى – بزعمهم – ومادته أيضا ً ليست بدم ولحم ‪ .‬هذه غاية ما رأوا أنه‬
‫يكون تنزيها ً في حق الله ‪ .‬أما ما ينبغي أن يقال في نفي الجسمانية ‪ ،‬واثبات‬
‫الوحدانية الحقيقية التي ل حقيقة لها إل بدفع الجسمانية ‪ ،‬فستعرف برهان ذلك‬
‫كله من هذه المقالة ‪ ،‬وإنما التنبيه هنا في هذا الفصل على تبيين معنى الصورة‬
‫والمثال ‪ .‬فأقول ‪ :‬إن الصورة المشهورة عند الجمهور التي هي شكل الشيء‬
‫وتخطيطه ‪ ،‬اسمها تخصيص بها في اللسان العـبراني « صفة » قال ‪ « :‬حسن‬
‫الهيئة ‪ ،‬جميل المنظر » )تك ‪ « (6 : 39‬ما هي هيئته » ؟ ) ‪ 1‬مل ‪« ( 14 : 28‬‬
‫هيئة أبناء الملوك » )قض ‪ ( 18 : 8‬وقيل في الصورة الصناعية ‪ « :‬ويسويه‬
‫بالمنحت ويرسمه بالبركار » ) أش ‪ ( 13 : 44‬وهذه اسميه لم تقع على الله‬
‫قط – وحاشا وكل – أما الصورة ‪ .‬فهي تقع على الصورة الطبيعية – أعني على‬
‫المعنى الذي به تجوهر الشيء وصار ما هو ؟ وهو حقيقته من حيث هو ذلك‬
‫الموجود الذي ذلك المعنى في النسان هو الذي عنده يكون الدراك النساني ‪.‬‬
‫ومن أجل هذا الدراك العقلي قيل فيه ‪ « :‬على صورة الله خلقه » )تك ‪: 1‬‬
‫‪ ( 17‬ولذلك قيل « تحتقر خيالهم » ) مز ‪ ( 60 : 72‬لن الحتقار لحق للنفس‬
‫التي هي الصورة النوعية ‪ ،‬ل لشكال العضاء وتخطيطها ‪ .‬وكذلك أقول ‪ :‬إن‬
‫العلة في تسمية الصنام صورا ً ‪ :‬كون المطلوب منها ‪ :‬معناها المظنون به ‪ ،‬ل‬
‫شكلها وتخطيطها ‪ ،‬وكذلك أقول في مثال ‪ « :‬تماثيل بواسيركم » ) ‪ 1‬صم ‪: 6‬‬
‫‪ ( 5‬لنه كان المراد منها ‪ :‬معنى دفع أذية البواسير ‪ ،‬ل شكل البواسير ‪ .‬فإن لم‬
‫يكن بد من أن تكون « صور بواسيركم » من أجل الشكل والتخطيط ‪ ،‬فتكون‬
‫الصورة اسما ً مشتركا ً ‪ ،‬أو مشككا ً ز يقال على الصورة النوعية ‪ ،‬وعلى الصورة‬
‫الصناعية ‪ ،‬وما ماثلها من أشكال الجسام الطبيعية وتخاطيطها ‪ .‬ويكون المراد‬
‫به في قوله ‪ « :‬نخلق آدم على صورتنا » ‪ :‬الصورة النوعية ‪ ،‬التي هي الدراك‬
‫العقلي ‪ ،‬ل الشكل والتخطيط – قد بينا لك الفرق بين الصورة والهيئة وبينا معنى‬
‫الصورة ‪.‬‬

‫أما المثال ‪ :‬فهو اسم من مثل ‪ .‬وهو أيضا ً ‪ :‬شبه في المعنى ‪ .‬لن قوله ‪« :‬‬
‫شابهت قوق البرية » ) مزمور ‪ ( 7 : 101‬ليس أنه شابه أجنحتها وريشها ‪ ،‬به‬
‫شابه حزنه حزنها ‪ .‬وكذلك كل شجرة في جنة الله‪ ،‬لم يماثلها في بهجته ن شبه‬
‫في معنى الحسن )مثاله(‪ « :‬لهم حمة مثل حمة الحية» ) مز ‪ « ( 5 : 57‬مثله‬
‫كالسد الذي يقوم إلى الفريسة » ) مز ‪ ( 12 : 16‬كلها شبه في المعنى ‪ ،‬ل في‬
‫الشكل والتخطيط ‪ .‬وكذلك قيل ‪ « :‬شبه العرش ك شبه عرش » )مز ‪( 27 : 1‬‬
‫شبه في معنى الرفعة والجللة ‪ ،‬ل في تربيعه وغلظه وطول رجليه – كما يظن‬
‫المساكين – وكذلك شبه الحيوانات ‪ .‬فلما خص النسان بمعنى فيه غريب جدا ً –‬
‫ليس في شيء من الموجودات من لدن فلك القمر – هو الدراك العقلي ‪ ،‬الذي‬
‫ل تتصرف فيه حاسة ول جارحة ول جانحة ‪ ،‬شبه بادراك الله الذي ليس هو بآلة ‪.‬‬
‫وإن كان ل شبه في الحقيقة – لكن على بادي الرأي – وقيل في النسان ‪ :‬من‬
‫أجل هذا المعنى ‪ -‬أعني ‪ :‬من أجل العقل اللهي المتصل به ‪ -‬إنه على صورة الله‬
‫وشاكلته ‪ .‬لل أن الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬جسم ‪ .‬فيكون ذا شكل " ) دللة الحائرين ج ‪1‬‬
‫ص ‪. (28 -26‬‬

‫الثاني ‪ :‬إن لمراد منه ك إبطال قول من يقول ‪ :‬إن آدم كان على صورة أخرى ‪.‬‬
‫مثل ما يقال ك إنه كان عظيم الجثة ن طويل القامة ن بحيث يكون رأسه قريبا ً‬
‫من السماء ‪ .‬فالنبي ‪ ‬أشار إلى إنسان معين وقال‪ « :‬إن الله خلق آدم على‬
‫صورته » أي كان شكل آدم مثل شكل هذا النسان ‪ ،‬من غير تفاوت البته ‪.‬‬
‫‪- 63 -‬‬

‫فأبطل هذا البيان ‪ :‬وهم من توهم أن آدم – عليه السلم – كان على صورة‬
‫أخرى ‪ ،‬غير هذه الصورة ‪.‬‬

‫الطريق الثاني ‪ :‬أن يكون الضمير عائدا ً على آدم – عليه السلم – وهذا أولى‬
‫الوجوه الثلثة‪ .‬لنعود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب ‪ .‬وفي هذا الحديث ‪:‬‬
‫أقرب الشياء المذكورة هو آدم عليه السلم ‪ .‬فكان عود الضمير إليه أولى ‪ .‬ثم‬
‫على هذا الطريق ففي تأويل الخبر وجوه ‪:‬‬

‫الول ‪:‬‬
‫إنه تعالى لما عظم أمر آدم ‪ ،‬بجعله مسجود الملئكة ‪ .‬ثم إنه أتى بتلك الزلة ‪.‬‬
‫فالله تعالى لم يعاقبه بمثل ما عاقب به غيره ‪ ،‬فإنه نقل ‪ :‬أن الله تعالى أخرجه‬
‫من الجنة ‪ ،‬وأخرج معه الحية والطاووس ن وغير تعالى خلقهما مع أنه لم يغير‬
‫خلقة )‪ (6‬آدم عليه السلم ‪ ،‬بل تركه على الخلقة الولى إكراما ً له وصونا ً له من‬
‫عذاب المسخ ‪ .‬فقوله ‪ « ‬إن الله تعالى خلق آدم على صورته » معناه خلق‬
‫آدم على )هذه الصورة()‪ (7‬التي هي الن باقية من غيـر وقوع التبديل فيها ‪.‬‬
‫والفرق بين هذا الجواب ‪ ،‬والذي قبله ‪ :‬أن المقصود من هذا ‪ :‬بيان أنــه‬

‫)‪ (7‬صورته ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (6‬خلق ‪ :‬خ‬

‫عليه السلم كان مصونا ً عن المسخ ‪ .‬والجواب الول ليس فيه ‪ ،‬إل بيان أن هذه‬
‫الصورة الموجودة ‪ ،‬ليست إل هي التي كانت موجودة من قبل ‪ ،‬من غير تعرض‬
‫لبيان أنه جعل مصونا ً عن المسخ ‪ ،‬بسبب زلته ‪ ،‬مع أن غيره صار ممسوخا ً ‪.‬‬

‫الثاني ‪:‬‬
‫المراد منه ‪ :‬إبطال قول الدهرية ‪ .‬الذين يقولون « إن النسان ل يتولد إل‬
‫بواسطة النطفة ‪ ،‬ودم الطمث » فقال عليه الصلة والسلم « إن الله خلق آدم‬
‫على صورته » ابتداء من غير تقدم نطفة وعلقة ومضغة ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬إن النسان ل يتكون إل في مدة طويلة ‪ ،‬وزمان مديد ‪ ،‬بواسطة الفلك‬
‫والعناصر ‪ .‬فقال عليه السلم ‪ « :‬إن الله خلق آدم على صورته » أي من غير‬
‫هذه الوسائط ‪ .‬والمقصود منه ‪ :‬الرد على الفلسفة ‪.‬‬

‫الرابع ‪ :‬المقصود منه ‪ :‬بيان أن هذه الصورة النسانية إنما حصلت بتخليق الله‬
‫تعالى ‪ .‬وإيجاده ‪ .‬ل بتأثير القوة المصورة والمولدة ‪ .‬على ما تذكره الطباء‬
‫والفلسفة ‪ .‬ولهذا قال الله تعالى ‪ « :‬هو الله الخالق البارئ المصور)‪ »(8‬فهو‬
‫"الخالق" أي فهو العالم بأحوال الممكنات والمحدثات ‪ ،‬و "البارئ" أي هو‬
‫المحدث للجسام والذوات بعد عدمها ‪ ،‬و "المصور" أي هو الذي يركب‬
‫تلكالذوات على صورها المخصوصة وتركيباتها المخصوصة ‪.‬‬

‫الخامس ‪ :‬قد تذكر الصورة ويراد بها الصفة ‪ .‬يقال ‪ :‬شرحت له صورة هذه‬
‫الواقعة ‪ ،‬وذكرت له صورة هذه المسألة ‪ .‬والمراد من الصورة في كل هذه‬
‫المواضع ‪ :‬الصفة ‪ .‬فقوله عليه السلم ‪ « :‬إن الله خلق آدم على صورته » أي‬
‫على جملة صفاته وأحواله ‪ .‬وذلك لن النسان حين يحدث ‪ ،‬يكون في غاية‬
‫‪- 64 -‬‬

‫الجهل والعجز ‪ ،‬ثم ل يزال يزداد علمه وقدرته ‪ ،‬إلى أن يصل إلى حد الكمال ‪.‬‬
‫فبين النبي ‪ ‬أن آدم خلق من أول المر كامل ً‬

‫)‪ (8‬الحشر ‪24‬‬

‫تاما ً في علمه وقدرته ‪ .‬وقوله ‪ « :‬إن الله خلق آدم على صورته » معناه ‪ :‬أنه‬
‫خلقه في أول المر على صفته ‪ ،‬التي كانت حاصلة له في آخر المر ‪.‬‬
‫وأيضا ً ‪:‬‬
‫ل يبعد أن يدخل في لفظة الصورة ‪ ،‬كونه سعيدا ً أو شقيًا‪ .‬كما قال عليه‬
‫السلم ‪« :‬السعيد من سعد في بطن أمه ‪ ،‬والشقي من شقي في بطن أمه »‬
‫فقوله عليه الصلة والسلم « إن الله خلق آدم على صورته » أي على جميع‬
‫صفاته من كونه سعيدا ً أو عارفا ً أو تائبا ً أو مقبول ً من عند الله تعالى ‪.‬‬

‫الطريق الثالث ‪ :‬أن يكون ذلك الضمير عائدا ً إلى الله تعالى ‪ .‬وفيه وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪:‬‬
‫المراد من الصورة ‪ :‬الصفة – كما بيناه – فيكون المعنى ‪ :‬أن آدم امتاز عن‬
‫سائر الشخاص والجسام بكونه عالما ً بالمعقولت ‪ ،‬قادرا ً على استنباط‬
‫الحرف والصناعات ‪ .‬وهذه صفات شريغة مناسبة لصفات الله تعالى من بعض‬
‫الوجوه ‪ .‬فصح قوله عليه السلم ‪ « :‬إن الله خلق آدم على صورته » بناء على‬
‫هذا التأويل ‪ .‬فإن قيل ‪ :‬المشاركة في فات الكمال تقتضي المشاركة في‬
‫اللهية ‪ .‬قلنا ‪ :‬المشاركة في بعض اللوازم البعيدة مع حصول المخالفة في‬
‫المور الكثيرة ‪ ،‬ل تقتضي المساواة في اللهية ‪ .‬ولهذا المعن ‪ ،‬قال تعالى ‪« :‬‬
‫وله المثل العلى)‪ » (9‬وقال عليه السلم‪ «:‬تخلقوا بأخلق الله »‬
‫الثاني ‪ :‬إنه كما يصح إضافة الصفة إلى الموصوف ‪ ،‬فقد يصح إضافتها إلى‬
‫الخالق والموجد ‪ .‬فيكون الغرض من هذه الضافة ‪ :‬الدللة على أن هذه الصورة‬
‫ممتازة من سائر الصور بمزيد الكرامة والجللة‪.‬‬

‫)‪ (9‬الروم ‪27‬‬

‫الثالث ‪:‬‬
‫قال الشيخ الغزالي – رحمه الله ‪" : -‬ليس النسان)‪ (10‬عبارة عن هذه البنية ‪ ،‬بل‬
‫هو موجود ليس بجسم ول بجسماني ن ول تعلق له بهذا البدن ‪ ،‬إل على سبيل‬
‫التدبير أو التصرف" فقوله عليه السلم ‪ « :‬إن الله خلق آدم على صورته » أي‬
‫أن نسبة ذات آدم عليه السلم إلى هذا البدن ‪ ،‬كنسبة الباري تعالى إلى العالم ‪،‬‬
‫من حيث أن كل واحد منهما ‪ ،‬غير حال في هذا الجسم ‪ ،‬وإن كان مؤثرا ً فيه‬
‫بالتصرف والتدبير ‪ ،‬والله أعلم ‪.‬‬
‫الخبر الثاني ‪ :‬ما رواه ابن خزيمة في كتابه الذي سماه بـ "التوحيد" بإسناده عن‬
‫ابن عمر – رضي الله عنه – عن النبي ‪ ‬أنه قال ‪ « :‬ل تقبحوا الوجه ‪ ،‬فإن الله‬
‫خلق آدم على صورة الرحمن »‬
‫‪- 65 -‬‬

‫واعلم ‪ :‬أن ابن خزيمة ضعف هذه الرواية ‪ ،‬ويقول ‪ :‬إن صحت هذه الرواية ‪ ،‬فلها‬
‫تأويلن ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬أن يكون المراد من الصورة ‪ :‬الصفة – على ما بيناه –‬
‫الثاني ‪ :‬أن يكون المراد من هذه الضافة ‪ :‬بيان شرف هذه الصورة كما في‬
‫قوله ‪ :‬بيت الله ‪ ،‬وناقة الله ‪.‬‬
‫الخبر الثالث ‪:‬‬
‫ما روى صاحب "شرح السنة" – رحمه الله – في كتابه ‪ ،‬في باب "آخر من يخرج‬
‫من النار" عن أبي هريرة )رضي الله عنه)‪ ( (11‬في حديث طويل ‪ ،‬عن رسول الله‬
‫‪ ‬أنه قال ‪ « :‬فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون ‪ .‬فيقول ك أنا ربكم ‪.‬‬
‫فيقولون ‪ :‬نعوذ بالله ‪ .‬هذا مكاننا ‪ ،‬حتى يأتينا ربنا ن فإن بيننا وبينه علمة ‪ .‬فإذا‬
‫أتانا ربنا‬

‫)‪ (11‬من خ‬ ‫)‪ (10‬أي الروح‬

‫عرفناه ‪ .‬فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون ‪ .‬فيقولون ‪ :‬أنت ربنا ‪ ،‬فيتبعونه‬
‫»‬
‫واعلم ‪ :‬أن الكلم على هذا الحديث من وجهين ‪:‬‬

‫الول ‪:‬‬
‫أن تكون "في" بمعنى الباء ‪ .‬والتقدير ‪ :‬فيأتيهم الله بصورة غير الصورة التي‬
‫عرفوه بها في الدنيا و ذلك بأن يريهم ملكا ً من الملئكة ‪ .‬ونظيره ‪ :‬قول ابن‬
‫عباس رضي الله عنه في قوله تعالى ‪ « :‬هل تنظرون إل أن يأتيهم الله في ظل‬
‫من الغمام)‪ » (12‬أي بظلل من الغمام ‪ .‬ثم إن تلك الصورة تقول ‪ :‬أنا ربكم ‪.‬‬
‫وكأن ذلك آخر محنة تقع للمكلفين في دار الخرة ‪ .‬وتكون الفائدة فيه ‪ :‬تثبيت‬
‫المؤمنين على القول الصالح ‪ .‬وإنما يقال ‪ :‬الدنيا دار محنة ن والخرة دار‬
‫الجزاء ‪ :‬على العم والغلب ‪ ،‬وإن كان يقع في كل واحدة منهما ما يقع في‬
‫الخرى نادرا ً ‪.‬‬

‫أما قوله عليه السلم ‪ « :‬إذا جاء ربنا عرفناه » فيحمل على أن يكون المراد ‪:‬‬
‫فإذا جاء إحسان ربنا ‪ ،‬عرفناه ‪ .‬وقوله ‪ « :‬فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفونها‬
‫» فمعناه ‪ :‬يأتيهم بالصورة التي يعرفون أنها من أمارات الحسان‪.‬‬

‫وأما قوله عليه السلم ‪ « :‬فيقولون)‪ : (13‬بيننا وبينه علمة» ‪ ،‬فيحتمل أن تكون‬
‫تلك العلمة ‪ :‬كونه تعالى في حقيقته مخالفا ً للجواهر والعراض ‪ .‬فإذا رأوا تلك‬
‫الحقيقة عرفوا أنه هو الله ‪.‬‬
‫التأويل الثاني ‪ :‬أن يكون المراد من الصورة ‪ :‬الصفة ‪ .‬والمعنى ‪ :‬أن يظهر لهم‬
‫من بطش الله وشدة بأسه ‪ ،‬ما لم يألفوه ولم يعتادوه من معاملة‬

‫)‪ (13‬فيقولون ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (12‬البقرة ‪210‬‬


‫‪- 66 -‬‬

‫الله تعالى معهم ‪ .‬ثم تأتيهم بعد ذلك أنواع الرحمة والكرامة ‪ ،‬على الوجه الذي‬
‫اعتادوه وألفوه ‪.‬‬
‫الخبر الرابع ‪:‬‬
‫ما روي عنه عليه السلم أنه قال ‪ « :‬رأيت ربي في أحسن صورة » واعلم ‪ :‬أن‬
‫قوله )عليه السلم)‪ « : ( (14‬في أحسن صورة » يحتمل أن يكون من صفات‬
‫الرائي ‪ .‬كما يقال ‪ :‬دخلت على المير على)‪ (15‬أحسن هيئة ‪ .‬أي ‪ :‬وأنا كنت على‬
‫أحسن هيئة ‪ ،‬ويحتمل أن يكون ذلك من صفات المرئي ‪.‬‬
‫فإن كان ذلك من صفات الرائي ‪ .‬كان قوله ‪ « :‬على أحسن صورة » عائدا ً إلى‬
‫)الرسول)‪ ε ( (16‬وفيه وجهان ‪:‬‬
‫‪:‬‬ ‫)‪(17‬‬
‫الول‬
‫أن يكون المراد من الصورة ‪ :‬نفس الصورة ‪ .‬فيكون المعنى ‪ :‬أن الله تعالى‬
‫زين خلقه وجمل صورته عندما رأى ربه ‪ .‬وذلك يكون سببا ً لمزيد الكرام في حق‬
‫الرسول عليه السلم ‪.‬‬
‫الثاني ‪:‬‬
‫أن يكون المراد من الصورة ‪ :‬الصفة ‪ ,‬ويكون المعنى ‪ :‬الخبار عن حسن حاله‬
‫عند الله ن وأنه أنعم عليه بوجوه عظيمة من النعام )كما كان )‪ ( (18‬وذلك لن‬
‫الرائي قد يكون بحيث يتلقاه المرئي بالكرام والتعظيم ‪ ،‬وقد يكون بخلفه ‪.‬‬
‫فعرفنا الرسول عليه السلم أن ) حالته كانت )‪ ( (19‬من القسم الول‪.‬‬

‫)‪ (14‬عليه السلم ‪ :‬خ‬


‫)‪ (16‬رسول الله ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (15‬في ‪ :‬ط‬
‫)‪ (18‬كما كان ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (17‬أحدهما ‪ :‬خ‬
‫)‪ (19‬حاله كان ‪ :‬ط‬

‫وأما إن كان عائدا ً إلى المرئي ‪ .‬ففيه وجوه ‪:‬‬


‫الول ‪ :‬أن يكون عليه السلم رأى ربه في المنام ‪ ،‬في صورة مخصوصة وذلك‬
‫جائز ‪ ،‬لن الرؤيا من تصرفات الخيال ‪ ،‬ول ينفك ذلك عن صورة متخيلة ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن يكون المراد من الصورة ‪ :‬الصفة ‪ .‬وذلك لنه تعالى)‪ (20‬لما خص‬
‫بمزيد من الكرام والنعام في الوقت الذي رآه ‪ .‬صح أن يقال – في العرف‬
‫المعتاد ‪ : -‬إني رأيته على أحسن صورة وأجمل هيئة ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬لعله عليه السلم لما رآه ‪ ،‬اطلع على نوع من صفات الجلل والعزة‬
‫والعظمة ‪ ،‬ما كان مطلعا ً عليه قبل ذلك ‪.‬‬

‫الخبر الخامس ‪ :‬ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه ‪ ،‬عن النبي ‪ ‬أنه قــال ‪:‬‬
‫« رأيت ربي في أحسن صورة » قال ‪ « :‬فوضع يده بين كتفي ‪ ،‬فوجدت بردها‬
‫بين ثديي فعلمت ما بين السماء والرض ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬يا محمد ‪ .‬قلت ‪ :‬لبيك‬
‫وسعديك ‪ .‬قال ‪ :‬فيم يختصم المل العلى؟ فقلت ‪ :‬يا رب ل )أدري ‪ .‬فقال)‪( (21‬‬
‫في أداء الكفارات ‪ ،‬والمشي على القدام إلى)‪ (22‬الجماعات ‪ ،‬وإسباغ الوضوء‬
‫)على الكراهات)‪ ( (23‬وانتظار الصلة بعد الصلة »‬
‫واعلم ‪ :‬أن قوله ‪ « :‬رأيت ربي في أحسن صورة » قد تقدم تأويله ‪.‬‬
‫‪- 67 -‬‬

‫وأما قوله ‪ « :‬وضع يده بين كتفي » ففيه وجهان ‪:‬‬

‫تعالى ‪ :‬خ يقال ‪ :‬ط‬ ‫)‪(20‬‬


‫)‪ (22‬الى ‪ :‬ط ‪ ،‬في ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (21‬ل يدرون ما ‪ :‬خ‬
‫)‪ (23‬في السبرات ‪ :‬خ‬

‫الول ‪ :‬المراد منه ‪ :‬المبالغة في الهتمام بحاله ‪ ،‬والعتناء بشأنه ‪ .‬يقال ‪ :‬لفلن‬
‫يد في هذه الصنعة ‪ ،‬أي هو كامل فيها‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن يكون المراد من اليد النعمة ‪ :‬يقال ‪ .‬لفلن يد بيضاء ‪ ،‬ويقال ‪ :‬إن‬
‫أيادي فلن كثيرة ‪.‬‬
‫وأما قوله ‪ « :‬بين كتفي » فإن صح ‪ .‬فالمراد منه ‪ :‬أته أوصل إلى قلبه من أنواع‬
‫اللطف والرحمة ‪ .‬وقد روى « بين كتفي » والمراد )منه ‪:‬مثل()‪ (24‬ما يقال ‪:‬‬
‫أنا في كنف فلن ‪ ،‬وفي ظل إنعامه ‪.‬‬

‫وأما قوله ‪ « :‬فوجدت بردها » فيحتمل أن المعنى ‪ :‬برد النعمة وروحها‬


‫وراحتها ‪ .‬من قولهم ‪ :‬عيش بارد ‪ ،‬إذا كان رغدا ً )ويحتمل كمال المعارف()‪(25‬‬
‫والذي يدل على أن المراد منه ‪ :‬كمال المعارف ‪ :‬قوله عليه السلم في آخر‬
‫الحديث « فعلمت ما بين المشرق والمغرب » وما ذلك إل لن الله تعالى أنار‬
‫قلبه وشرح صدره بالمعارف ‪ .‬وفي بعض الروايات ‪ « :‬فوجدت برد أنامله »‬
‫وسيأتي الكلم فيه إن شاء الله تعالى ‪.‬‬

‫)‪ (25‬زيادة‬ ‫)‪ (24‬زيادة‬

‫الفصل الثاني‬
‫في‬
‫لفظ الشخص‬

‫هذا اللفظ ما ورد في القرآن ‪ .‬لكنه روي أن النبي ‪ ‬قال‪ « :‬ل شخص أحب‬
‫للغيرة من الله » )عز وجل)‪ ( (1‬وفي هذا الخبر لفظان يجب تأويلهما ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬الشخص ‪ .‬والمراد منه ‪ :‬الذات المعينة والحقيقة المخصوصة ‪ .‬لن‬
‫الجسم الذي له شخص وحجمية ‪ ،‬يلزم أن يكون واحدا ً ‪ .‬فإطلق اسم الشخصية‬
‫على الحدة إطلق اسم أحد المتلزمين على الخر ‪.‬‬

‫والثاني ‪ :‬لفظ الغيرة ‪ .‬ومعناه ‪ :‬الزجر ‪ .‬لن الغيرة حالة نفسانية مقتضية للزجر‬
‫والمنع ‪ .‬فكنى بالسبب عن المسبب ههنا )والله أعلم()‪(2‬‬
‫‪- 68 -‬‬

‫)‪ (2‬سقط خ‬ ‫)‪ (1‬تعالى ‪ :‬خ‬

‫الفصـل الثالث‬
‫في‬
‫لفظ النفس‬

‫احتجوا على إطلق هذا اللفظ بالقرآن وبالخبار ‪.‬‬

‫»‬ ‫أما القرآن ‪ :‬فقوله تعالى في حق موسى عليه السلم « واصطنعتك لنفسي‬
‫)‪(1‬‬

‫وقال حاكيا ً عن عيسى عليه السلم « تعلم ما في نفسي ‪ ،‬ول أعلم ما في‬
‫نفسك)‪ »(2‬وقال في صفة أهل الثواب ‪ « :‬كتب ربكم على نفسه الرحمة)‪»(3‬‬
‫وقال في تخويف العصاة « ويحذركم الله نفسه)‪»(4‬‬
‫وأما الخبار ‪ .‬فكثيرة ‪:‬‬

‫الخبر الول ‪ :‬ما روى أبو صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫أن قال ‪ « :‬يقول الله تعالى ‪ :‬أنا مع عبدي حين يذكرني ‪ .‬فإن ذكرني في نفسه‬
‫ذكرته في نفسي ‪ ،‬وإن ذكرني في مل ذكرته في مل خير منه »‬
‫الخبر الثاني ‪ :‬قوله عليه السلم ‪ « :‬سبحان الله وبحمده ‪ ،‬عدد خلقه ‪ ،‬ورضاء‬
‫نفسه ‪ ،‬وزنة عرشه »‬

‫الخبر الثالث ‪ :‬عن أبي هريرة عن النبي ‪ ‬أنه قال ‪« :‬لما قضى الله الخلق ‪،‬‬
‫كتب في كتابه على نفسه فهو عنده)‪ : (5‬إن رحمتي سبقت غضبي »‬

‫)‪ (2‬المـائدة ‪116‬‬ ‫)‪ (1‬طــه ‪41‬‬


‫)‪ (4‬آل عمران ‪30‬‬ ‫)‪ (3‬النعـام ‪54‬‬
‫)‪ (5‬فهو عنده ‪ :‬خ‬

‫واعم ‪ :‬أن النفس جاء في اللغة على وجوه ‪:‬‬


‫» ويقول القائل ‪:‬‬ ‫أحدها ‪ :‬البدن ‪ .‬قال الله تعالى ‪ « :‬كل نفس ذائقة الموت‬
‫)‪(6‬‬

‫كيف أنت في نفسك ؟ يريد ‪ :‬كيف أنت في بدنك ؟‬


‫وثانيها ‪ :‬الدم ‪ .‬يقال هذا حيوان له نفس سائلة ‪ .‬أي ‪ :‬دم سائل ‪ ،‬ويقال للمرأة‬
‫عند الولدة ‪ :‬إنها نفست بخروج الدم منها عقيب الولدة ‪.‬‬
‫»‬ ‫وثالثها ‪ :‬الروح ‪ .‬قال الله نعالى ‪ « :‬الله يتوفى النفس حين موتها‬
‫)‪(7‬‬
‫‪- 69 -‬‬

‫ورابعها ‪ :‬العقل ‪ .‬قال تعالى ‪« :‬وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار‬
‫»)‪ (8‬وذلك لن الحوال بأسرها باقية حالة النوم ‪ ،‬إل العقل ‪ .‬فإنه هو الذي يختلف‬
‫الحال فيه عند النوم واليقظة‪.‬‬
‫وخامسها ‪:‬‬
‫ذات الشيء وعينه ‪ .‬قال الله تعالى ‪ « :‬وما يخدعون إل أنفسهم)‪-- » (9‬‬
‫«فاقتلــوا أنفسكم)‪ « - » (10‬ولكن ظلموا أنفسهم)‪ . » (11‬إذا عرفت هذا فنقول ‪:‬‬
‫لفظ النفس في حق الله تعالى ‪ ،‬ليس إل الذات والحقيقة ‪ .‬فقوله « واصطنعتك‬
‫لنفسي)‪ » (12‬كالتأكيد الدال على مزيد المبالغة ‪ .‬فإن النسان إذا قال ‪ :‬جعلت‬
‫هذه الدار لنفسي ‪ ،‬وعمرتها لنفسي ‪ ،‬فهم منه المبالغة ‪ .‬وقوله تعالى « تعلم ما‬
‫في نفسي ‪ ،‬ول أعلم ما في نفسك )‪ » (13‬المراد ‪ :‬تعلم معلومي ‪ ،‬ول أعلم‬
‫معلومك ‪ .‬وكذا القول في بقية اليات ‪.‬‬
‫وأما قوله عليه السلم – حكاية عن رب العزة ‪ « -‬فإن ذكرني في نفسه ‪ ،‬ذكرته‬
‫في نفسي » فالمراد ‪ :‬أنه إن يذكرني بحيث ل يطلع غيره على ذلك‬

‫)‪ (7‬الزمر ‪42‬‬ ‫)‪ (6‬آل عمران ‪185‬‬


‫)‪ (9‬البقـرة ‪9‬‬ ‫)‪ (8‬النعام ‪ 60‬ويعلم ‪ . .‬الخ من خ‬
‫)‪ (11‬هـو ‪101‬‬ ‫)‪ (10‬البقـرة ‪54‬‬
‫)‪ (13‬المــائدة ‪116‬‬ ‫)‪ (12‬طــه ‪41‬‬

‫‪ ،‬ذكرته بإنعامي وإحساني ‪ ،‬من غير أن يطاع عليه أحد من عبيدي ‪ .‬لن الذكر‬
‫في النفس ‪ ،‬عبارة عن الكلم الخفي ‪ ،‬والذكر الكامن في النفس ‪ .‬وذلك على‬
‫الله تعالى محال ‪.‬‬
‫وأما قوله ‪ « :‬سبحان الله ‪ ،‬زنة ز عرشه ن ورضاء نفسه » فالمراد ‪ :‬ما يرتضيه‬
‫الله تعالى لنفسه ولذاته ‪ .‬أي تسبيحا ً يليق به ‪ .‬وأما قوله ‪« : ‬كتب كتابا ً على‬
‫نفسه » فالمراد به ‪ :‬كتب كتابا ً وأوجب العمل به ‪ .‬والمراد من قوله « على‬
‫نفسه » ‪ :‬التأكيد والمبالغة في الوجوب واللزوم ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن المراد بالنفس في‬
‫هذه المواضع ‪ :‬هو الذات ‪ .‬وأن الغرض من ذكر هذا اللفظ ‪ :‬المبالغة والتأكيد ‪.‬‬
‫وبالله التوفيق ‪.‬‬

‫الفصـل الرابـع‬
‫في‬
‫لفظ الصمد‬

‫قال الله تعالى ‪ « :‬الله ‪ .‬الصمد » ذكر بعضهم في تفسير الصمد ‪ :‬أنه الجسم‬
‫الذي ل جوف له ‪ .‬ومنه قول من يقول لسداد القارورة ‪ :‬الصماد ‪ .‬وشيء مصمد‬
‫أي صلب ‪ ،‬ليس فيه رخاوة ‪ .‬قال بن قتيبه ‪ « :‬وعلى هذا التفسير تكون)‪ (1‬الدال‬
‫‪- 70 -‬‬

‫مبدلة بالتاء » وقال بعضهم ‪ « :‬الصمد)‪ (2‬الملس » من الحجر الذي ل يقبل‬


‫الغبار ‪ ،‬ول يدخل فيه شيء ‪ ،‬ول يخرج منه شيء ‪.‬‬

‫واحتج قوم من جهال المشبهة بهذه الية في إثبات أنه تعالى جسم ‪ .‬وهذا‬
‫باطل ‪ .‬لنا بينا ‪ :‬أنه كونه أحدا ً ‪ ،‬ينافي كونه جسما ً ‪ ،‬فمقدمة هذه الية دالة على‬
‫أنه ل يمكن أن يكون المراد من الصمد ‪ :‬هذا المعنى ‪ ،‬ولن الصمد بهذا‬
‫التفسير ‪ ،‬صفة الجسام الغليظة ‪ .‬وتعاى الله عن ذلك‪.‬‬
‫والجواب عنه من وجهين ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إن الصمد فعل بمعنى مفعول ‪ ،‬من صمد إليه أي قصد ‪ .‬والمعنى ‪ :‬أنه‬
‫المصمود إليه في الحوائج ‪ .‬قال الشاعر ‪:‬‬
‫بن مسعود ‪ .‬وبالسيد الصمد‬ ‫)‪(3‬‬
‫بعمرو‬ ‫أل بكر الناعى بخيري بن أسد‬

‫)‪ (2‬هو ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (1‬زيادة‬


‫)‪ (3‬نعم وابن مسعود ‪ :‬ط ‪ ،‬بعرو بن مسعود ‪ :‬خ‬

‫وقال آخر‬
‫علوته بحسامي ‪ ،‬ثم قلت له ‪:‬‬
‫خذها حذيف ‪ ،‬فأنت الصيد الصمد‬

‫والذي يدل على صحة هذا الوجة ‪ :‬ما روى بن عباس _ رضي الله عنه – أنه لما‬
‫نزلت هذه )الية()‪ (4‬قالوا ‪ :‬ما الصمد ؟ فقال عليه الصلة والسلم ‪ « :‬السيد‬
‫الذي يصمد إليه في الحوائج » قال أبو الليث صمدت صمد هذا المر ‪ ،‬أي‬
‫قصدت قصده‪.‬‬
‫الوجه الثاني في الجواب ‪ :‬إنا سلمنا أن الصمد في أصل اللغة ‪ :‬المصمت الذي ل‬
‫يدخل فيه شيء غيره ‪ .‬إل أنا نقول ‪ :‬قد دللنا على أنه ل يمكن ثبوت هذا المعنى‬
‫في حق الله تعالى ‪ ،‬فوجب حمل هذا اللفظ على مجازه‪ .‬وذلك لن الجسم الذي‬
‫يكون هذا شأنه ‪ ،‬يكون مبرأ عن النفصال والتباين والتأثر عن الغير ‪ .‬وهو –‬
‫سبحانه وتعالى _ واجب الوجود لذاته ‪ .‬وذلك يقتضي أن يكون تعالى غير قابل‬
‫للزيادة والنقصان ‪ .‬فكان المراد من الصمد في حقه نعالى ‪ :‬هذا المعنى )وبالله‬
‫التوفيق)‪( (5‬‬

‫)‪ (5‬وبالله التوفيق ‪ :‬سقط خ‬ ‫الية ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪(4‬‬

‫الفصـل الخامس‬
‫في‬
‫لفظ اللقــاء‬
‫‪- 71 -‬‬

‫أما القرآن ‪ :‬فقد قال الله تعالى ‪ « :‬الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم)‪ » (1‬وقال ‪:‬‬
‫« فمن كان يرجو لقاء)‪ (2‬ربه » وقال « بل هم بلقاء ربهم كافرون)‪ (3‬الدال مبدلة‬
‫بالتاء » وأما الحديث فقد قال عليه السلم ‪ « :‬من أحب لقاء الله ‪ ،‬أحب الله‬
‫لقاءه ‪ ،‬ومن كره لقاء الله ‪ ،‬كره الله لقاءه » قالوا ‪ :‬واللقاء من صفات‬
‫الجسام ‪ ،‬يقال ‪ :‬التقى الجيشان ‪ .‬إذا قرب أحدهما من الخر في المكان‪.‬‬
‫واعلم ‪ :‬أنه لما ثبت بالدليل أنه تعالى ليس بجسم ‪ ،‬وجب حمل هذا اللفظ على‬
‫أحد وجهين ‪:‬‬

‫أحدهما ‪ :‬أن من لقي إنسانا ً ‪ ،‬فقد)‪ (4‬أدركه وأبصره ‪ ،‬فكان المراد من اللقاء ‪:‬‬
‫هو الرؤية ‪ .‬إطلقا ً ل سم السبب على المسبب ‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬أن الرجل إذا حضر عند ملك ‪ ،‬ولقيه ‪ ،‬دخل هناك تحت حكمه وقهره ‪،‬‬
‫دخول ً ل حيلة في دفعه ‪ .‬فكان ذلك اللقاء سببا ً لظهور قدرة الملك عليه – على‬
‫هذا الوجه – فلما ظهرت قدرته وقوته وقهره‬

‫)‪(3‬‬ ‫)‪ (2‬الكهف ‪110‬‬ ‫)‪ (1‬البقـرة ‪46‬‬


‫السـجدة ‪10‬‬
‫فقد ‪ :‬زيادة‬ ‫)‪(4‬‬

‫وشدة بأسه في ذلك اليوم ‪ ،‬عبر عن تلك الحالة باللقاء ‪ .‬والذي يدل على صحة‬
‫قولنا ‪ :‬أن أحدا ً ل يقول بأن الخلئق تتلقى ذواتهم في ذات الله تعالى على‬
‫سبيل المماسة ‪ .‬ولما بطل حمل اللقاء على المماسة والمجاورة ‪ ،‬لم يبقى إل ما‬
‫)‪(5‬‬
‫ذكرناه )وبالله التوفيق(‬

‫)‪ (5‬وبالله التوفيق ‪ :‬سقط خ‬

‫الفصـل السادس‬
‫في‬
‫لفظ النـور‬

‫قال الله تعالى ‪ « :‬الله نور السموات والرض ‪ .‬مثل نوره ‪ :‬كمشكاة »)‪ (1‬وروى‬
‫ابن خزيمة في كتابه عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه ‪ :‬أن النبي ‪‬‬
‫كان يقول في دعائه ‪ « :‬اللهم لك الحمد ز أنت نور السموات والرض ‪ ،‬ومن‬
‫فيهن ‪ .‬فلك الحمد ‪ .‬أنت قيوم السموات والرض ومن فيهن »‬
‫واعلم ‪ :‬أنه ل يصح القول بأنه تعالى هو هذا النور المحسوس بالبصر ‪ .‬ويدل عليه‬
‫وجوه ‪ :‬الول ‪ :‬إنه تعالى لم يق إنه نور ‪ ،‬بل قال ‪ :‬إنه « نور السموات والرض‬
‫» ولو كان نورا ً في ذاته ‪ ،‬لم يكن لهذه الضافة فائدة ‪ .‬الثاني ‪ :‬لو كان كونه‬
‫تعالى نور السموات والرض ‪ ،‬بمعنى الضوء المحسوس ‪ ،‬لوجوب أن ل يكون‬
‫في شيء من السموات والرض ‪ ،‬ظلمة البتة ‪ .‬لنه تعالى دائم ل يزال ول‬
‫يزول ‪ .‬الثالث ‪ :‬لو كان تعالى نورا ً بمعنى الضوء ‪ ،‬لوجب أن يكون هذا الضوء‬
‫‪- 72 -‬‬

‫مغنيا ً عن ضوء الشمس والقمر والنار ‪ .‬والحس دال على خلف )ذلك()‪ (2‬الرابع ‪:‬‬
‫إنه تعالى أزال هذه الشبهة ‪ ،‬بقوله تعالى ‪ « :‬مثل نوره » فقد أضاف النور إلى‬
‫نفسه ‪ ،‬ولو كان تعالى نفس النور وذاته ‪ ،‬لمتنعت هذه الضافة ‪ .‬لن إضافة‬
‫)‪(3‬‬
‫الشيء إلى نفسه ممتنعة ‪ .‬وكذلك قوله تعالى ‪ « :‬يهدي الله لنوره من يشاء»‬
‫الخامس ‪ :‬إنه تعالى قال ‪ « :‬وجعل الظلمات والنور »)‪ (4‬فتبين بهذا ‪ :‬أنه تعالى‬
‫خالق النوار ‪.‬‬

‫)‪ (2‬ذلك ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (1‬النـور ‪35‬‬


‫)‪ (4‬النعــام ‪1‬‬ ‫)‪ (3‬النـور ‪35‬‬

‫السادس ‪ :‬إن النور يزول بالظلمة ‪ .‬ولو كان تعالى عين هذا النور المحسوس‬
‫لكان قابل ً للعدم ‪ .‬وذلك يقدح في كونه قديما ً واجب الوجود ‪ .‬السابع ‪ :‬إن‬
‫الجسام كلها متماثلة – على ما سبق تقريره ‪ .‬ثم إنها بعد تساويها في الماهية ‪،‬‬
‫تراها مختلفة في النور والظلمة ‪ ،‬فوجب أن يكون الضوء عرضا ً قائما ً بالجسام‬
‫والعرض يمتنع أن يكون إلها ً ‪.‬‬
‫فثبت بهذه الوجوه ‪ :‬أنه ل يمكن حمل النور على ما ذكروه ‪ .‬بل معناه ‪ :‬منور‬
‫السموات والرض على الوجه الحسن ‪ ،‬والتدبير الكمل ‪ .‬كما يقال ‪ :‬فلن نور‬
‫هذه البلدة ‪ .‬إذا كان سببا ً لصلحها ‪ .‬وقد قرأ بعضهم « لله نور السموات والرض‬
‫)‪(5‬‬
‫» ) وبالله التوفيق(‬

‫__________‬

‫)‪ (5‬من خ‬

‫الفصل السابع‬
‫في‬
‫الحجاب‬
‫ــــ‬
‫» قالوا ‪ :‬والحجاب ل يعقل إل‬ ‫)‪(1‬‬
‫قال تعالى ‪ « :‬إنهم عند ربهم يومئذ لمحجوبون‬
‫في الجسام ‪.‬‬

‫وتمسكوا أيضا ً ‪ :‬بأخبار كثيرة ‪:‬‬

‫الخبر الول ‪ :‬ما روى صاحب شرح السنة – رحمه الله – في باب « الرد على‬
‫الجهمية » ‪ .‬قال ‪ :‬قام فينا رسول الله ‪ ‬بخمس كلمات ‪ ،‬فقال ‪ « :‬إن الله‬
‫تعالى ل ينام ‪ ،‬ول ينبغي أن ينام ‪ ،‬ولكنه يخفض القسط ‪ ،‬ويرفعه ‪ ،‬يرفع إليه‬
‫عمل الليل قبل النهار ‪ ،‬وعمل النهار قبا الليل ‪ ،‬حجابه من)‪ (2‬نور ‪ ،‬لو كشفه‬
‫لحرقت سبحات وجهه ‪ ،‬ما انتهى إليه بصره من خلقه » فقال المصنف ‪ :‬هذا‬
‫حديث أقر به الشيخان ‪ .‬وقوله « يخفض القسط ويرفعه » أراد ‪ :‬أنه يراعي‬
‫العدل في أعمال عباده ‪ .‬كما قال )تعالى()‪ « : (3‬وما ننزله إل بقدر معلوم»‬
‫‪- 73 -‬‬

‫(‬ ‫الخبر الثاني ‪ :‬ما يروى في الكتب المشهورة عن النبي ‪ « : ‬أن لله )تعالى‬
‫)‪(4‬‬

‫سبعين حجابا من نور ‪ ،‬لو كشفها لحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره ً »‬
‫الخبر الثالث ‪ :‬روي في تفسير قوله تعالى ‪ « :‬للذين أحسنوا ‪:‬‬

‫)‪ (2‬من ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (1‬المطففين ‪15‬‬


‫)‪ (4‬تعالى ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (3‬تالي ‪ :‬من ط‬

‫» ‪ .‬إنه تعالى يرفع الحجاب ‪ ،‬فينظرون إلى وجهه تعالى ‪.‬‬ ‫)‪(5‬‬
‫الحسنى ‪ ،‬وزيادة‬
‫واعلم ‪ :‬أن الكلم في الية هو ‪ :‬أن أصحابنا – رحمهم الله – قالوا ‪ :‬إنه يجوز أن‬
‫يقال ‪ :‬إنه تعالى محتجب عن الخلق ن ول يجوز أن يقال ‪ :‬إنه محجوب عنهم ‪.‬‬
‫لن لفظة الحتجاب مشعرة بالقوة والقدرة ‪ ،‬والحجاب)‪ (6‬مشعر بالعجز‬
‫والذلة ‪ .‬يقال ‪ :‬احتجب السلطان عن عبيده ‪ .‬ويقال فلن حجب عن الدخول على‬
‫السلطان ‪ :‬وحقيقة الحجاب بالنسبة إلى الله تعالى ‪ :‬محال ‪ .‬لنه عبارة عن‬
‫الجسم المتوسط بين جسمين آخرين ‪ .‬بل هو محمول عندنا ‪ :‬على أن ل يخلق‬
‫الله تعالى في العين رؤية متعلقة به وعند من ينكر الرؤية على أنه تعالى يمنع‬
‫وصول آثار إحسانه وفضله من إنسان ‪.‬‬

‫وأما الخبر الول ‪ :‬وهو قوله عليه السلم ‪ « :‬حجابه ‪ :‬النور » فاعلم ‪ :‬أن كل‬
‫شيء يفرض مؤثرا ً في شيء آخر ‪ .‬فكل كمال يحصل للثر ‪ ،‬فهو مستفاد من‬
‫المؤثر ‪ .‬ول شك أن ثبوت ذلك الكمال لذلك المؤثر ‪ ،‬أولى من ثبوته في ذلك‬
‫الثر ‪ ،‬وأقوى وأكمل‪ .‬ول شك أن معطي الكمالت بأسرها هو الحق تعالى )فكان‬
‫كل)‪ ( (7‬كمالت الممكنات بالنسبة إلى كمال الله تعالى كالعدم ‪ .‬ول شك أن‬
‫جملة الممكنات ليست إل عالم الجسام وعالم الرواح ‪ .‬ولشك أن جملة‬
‫كمالت عالم العناصر بالنسبة إلى كمال العناصر كالعدم ‪ .‬ثم الشخص المعين‬
‫بالنسبة إلى كمالت الربع المسكون كالعدم ‪.‬‬

‫)‪ (6‬الحجب ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (5‬يونس ‪26‬‬


‫)‪ (7‬وكل ‪ :‬ط‬

‫فيظهر من هذا ‪ :‬أن كمال النسان المعين بالنسبة إلى كما الله نعالى ‪ :‬أولى بأن‬
‫يقال ‪ :‬إنه كالعدم ‪ .‬ول شك أن روح النسان وحده ‪ .‬ل تطيق قبول ذلك الكمال ‪.‬‬
‫ول يمكنه مطالعته ‪ .‬بل الرواح البشرية تضمحل في أدنى مرتبه من مراتب تلك‬
‫الكمالت ‪ .‬فهذا هو المراد بقوله عليه السلم ‪« :‬لو كشفها لحرقت سبحات‬
‫وجهه كل شيء ‪ ،‬أدركه بصره »‬

‫ــــــ‬

‫الفصـل الثامن‬
‫‪- 74 -‬‬

‫في‬
‫القرب‬
‫ـــ‬
‫قال الله تعالى ‪« :‬ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)‪ » (1‬وقال عليه السلم‬
‫)حكاية عن الله()‪ « (2‬من تقرب إلى شبرا ً تقربت إليه ذراعا ً ‪ ،‬ومن تقرب إلي‬
‫ذراعا ً ‪ ،‬تقربت إليه باعا ً ‪ ،‬ومن أتاني يمشي ‪ ،‬أتيته هرولة » وروى الستاذ ابن‬
‫فورك – رحمه الله – في كتاب « المتشابهات » عن ابن عمر – رضي الله عنهما‬
‫– عن رسول الله ‪ ‬أنه قال ‪ « :‬يدنو المؤمن من ربه )يوم القيامه()‪ (3‬حتى يضع‬
‫الجبار كنفه عليه ‪ ،‬فيقر بذنوبه ‪ ،‬فيقول ‪ :‬أعرف – ثلث مرات – فيقول تعالى ‪:‬‬
‫إني سترتها عليك في الدنيا ‪ ،‬وإني أغفرها لك ‪ .‬فيعطى صحيفة حسناته ‪ .‬وأما‬
‫الكفار والمنافقين ‪ ،‬فينادى بهم على رؤوس الشهاد ‪ :‬هؤلء الذين كذبوا على‬
‫ربهم)‪» (4‬‬

‫واعلم أن المراد من قربه ومن دنوه ‪ :‬قرب رحمته ودنوها من العبد ‪ .‬وأما قوله ‪:‬‬
‫« فيضع الجبار كنفه عليه » فهو أيضا ً مستفاد من قرب الرحمة ‪ .‬يقال ‪ :‬أنا في‬
‫كنف فلن ‪ ،‬أي في إنعامه ‪ ،‬وأما ما رواه بعضهم « فيضع الجبار كتفه » فاتفقوا‬
‫على أنه تصحيف ‪ ،‬والرواه ضبطوها بالنون ثم إن صحت تلك الرواية فهي‬
‫)‪(5‬‬
‫محمولة على التقريب والغفران )والله أعلم (‬

‫ــــــ‬

‫)‪ (2‬حكاية عن الله ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (1‬ق ‪16‬‬


‫)‪ (4‬هـود ‪18‬‬ ‫)‪ (3‬يوم القيامة ‪ :‬سقط خ‬
‫)‪ (5‬والله أعلم ‪ :‬من ط‬

‫الفصـل التاسع‬
‫في‬
‫المجيء والنزول‬
‫ـــــ‬

‫)‪(1‬‬
‫احتجوا بقوله تعالى ‪ « :‬هل ينظرون إل أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام »‬
‫وبقوله تعال ‪ « :‬أو يأتي ربك »)‪ (2‬وبقوله ‪ « :‬وجاء ربك »)‪ ، (3‬واحتجوا بالخبار ‪،‬‬
‫فمنها ‪ :‬ما رواه صاحب شرح السنة – رحمه الله – في باب "إحياء آخر الليل‬
‫وفضله" )عن أبى هريرة وأبي سعد الخدري رضي الله عنهما()‪(4‬‬
‫عن النبي)‪ ε (5‬أنه قال ‪ « :‬ما اجتمع قوم يذكرون الله ‪ ،‬إل حفتهم الملئكة ‪،‬‬
‫وغشيتهم الرحمة ‪ ،‬وتنزلت عليهم السكينة ‪ ،‬وذكرهم الله فيمن عنده » ثم قال ‪:‬‬
‫إن الله تعالى بمهل حتى إذا كان ثلث الليل الخير ‪ ،‬ينزل إلى هذه السماء الدنيا‬
‫‪- 75 -‬‬

‫فينادي هل من مذنب يتوب ؟ هل من مستغفر ؟ هل من داع ؟ هل من سائل ؟‬


‫إلى الفجر » قال صاحب ) هذا ()‪ (6‬الكتاب ‪ :‬هذا حديث متفق على صحته ‪.‬‬
‫وفي هذا الباب أيضا ً )عن()‪ (7‬أبي هريرة أن النبي ‪ ‬قال ‪ « :‬ينزل ربنا كل ليلة‬
‫إلى سماء الدنيا ‪ :‬حيث يبقى ثلث الليل الخير ن فيقول من يدعوني فأستجيب‬
‫له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ »‬

‫)‪ (2‬النعام ‪158‬‬ ‫)‪ (1‬البقرة ‪210‬‬


‫)‪ (4‬عن أبي هريرة ‪ ..‬عنهما ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (3‬الفجر‬
‫)‪ (5‬النبي ‪ :‬ط ‪ ،‬رسول الله ‪ :‬خ )‪ (6‬هذا ‪ :‬من ط‬
‫)‪ (7‬عن ‪ :‬ط ‪ ،‬من حديث ‪ :‬خ‬

‫ثم قال ‪ :‬هذا حديث متفق على صحته ‪ ،‬وروى أيضا ً عن أبي هريرة عن رسول‬
‫الله ‪ : ‬الحديث المذكور ‪ ،‬وزاد فيه ‪ « :‬ثم يبسط يديه )تبارك()‪ (8‬وتعالى‬
‫)فيقول()‪ : (9‬من يقرض غير عديم ول ظلوم ؟ » وروى صاحب هذا الكتاب في‬
‫باب "ليلة النصف من شعبان" عن عروة عن عائشة – رضي الله عنهما – قالت ‪:‬‬
‫فقدت رسول الله ‪ ‬ليلة ‪ ،‬فخرجت فإذا هو بالبقيع ‪ .‬فقال ‪ « :‬أكنت تخافين أن‬
‫يحيف الله ورسوله ؟ فقلت ‪ :‬يا رسول الله ظننت أنك أتيت بعض نسائك ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬إن الله ينزل ليلة النصف من شعبان ‪ ،‬فيغفر لكثر من عدد شعر غنم‬
‫)بني( كلب » والبخاري ضعف هذا الحديث ‪.‬‬
‫واعلم ‪ :‬أن الكلم في قوله ‪ « :‬هل ينظرون إل أن يأتيهم الله في ظل من‬
‫الغمام » من نوعين)‪: (10‬‬
‫الول ‪ :‬أن نبين بالدلئل القاهرة أنه سبحانه وتعالى منزه عن )المجيء والذهاب(‬
‫)‪(11‬‬

‫والثاني ‪ :‬أن نذكر التأويلت في هذه اليات ‪.‬‬


‫أما النوع الول ‪ :‬فنقول ‪ :‬الذي يدل على امتناع المجيء والذهاب على الله‬
‫)سبحانه و()‪ (12‬تعالى وجوه ‪:‬‬
‫الول ما ثبت في علم الصول ‪ :‬أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب ‪ ،‬فإنه ل‬
‫ينفك عن المحدث ‪ .‬وما ل ينفك عن المحدث ‪ ،‬فهو محدث ‪ .‬فيلزم ‪ :‬أن كل ما‬
‫يصح عليه المجيء والذهاب ‪ ،‬وجب ‪ :‬أن يكون محدثا ً مخلوقا ﴿محلوفا ًُ﴾ ‪ .‬والله‬
‫القديم يستحيل أن يكون كذلك ‪.‬‬

‫سبحانه ك خ‬ ‫)‪(8‬‬
‫)‪ (10‬وجهين ‪ :‬ص‬ ‫)‪ (9‬فيقول ‪ :‬من ط‬
‫)‪ (12‬سبحانه و ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (11‬الذهاب والمجيء ك خ‬

‫والثاني ‪ :‬إن كل ما يصح عليه النتقال والمجيء ‪ ،‬من مكان إلى مكان ‪ ،‬فهو‬
‫محدود متناه فيكون مختصا ً بمقدار معين ‪ ،‬مع أنه كان يجوز في العقل وقوعه‬
‫على مقدار أزيد منه أو أنقص منه ‪ ،‬وحينئذ يكون اختصاصه بذلك المقدار ‪ ،‬لجل‬
‫تخصيص خصص ‪ ،‬وترجيح مرجح ‪ ،‬وذلك على الله القديم محال‪.‬‬
‫‪- 76 -‬‬

‫والثالث ‪ :‬وهو أنا لو جوزنا ‪ ،‬فيما يصح عليه المجيء والذهاب ‪ ،‬أن يكون إلها ً‬
‫قديما ً أزليا ً ‪ ،‬فحينئذ ل يمكننا أن نحكم بنفي إلهية الشمس والقمر ‪ .‬خصص ‪،‬‬
‫وترجيح مرجح ‪ ،‬وذلك على الله القديم محال‪.‬‬

‫الرابع ‪ :‬إنه تعالى حكى عن الخليل عليه السلم ‪ :‬أنه طعن في إلهية الكواكب‬
‫والقمر والشمس ‪ ،‬بقوله « ل أحب الفلين »)‪ (13‬ول معنى للفول إل الغيبة‬
‫والحضور ‪ .‬فمن جوز الغيبة والحضور على الله تعالى ‪ ،‬فقد طعن في دليل‬
‫الخليل )وكذب الله في تصديق الخليل()‪ (14‬في ذلك ‪ .‬حيث قال ‪ « :‬وتلك حجتنا‬
‫آتيناها إبراهيم على قومه »‬
‫وأما النوع الثاني )وهو( في بيان التأويلت المذكورة في هذه الية ‪ :‬فنقول ‪ :‬فيه‬
‫وجوه)‪: (15‬‬
‫الول ‪:‬‬
‫المراد ‪ :‬هل ينظرون إل أن تأتيهم آيات الله ‪ .‬فجعل ميء آيات الله مجيئا ً له ‪.‬‬
‫على التفخيم لشأن اليات ‪ .‬كما يقال ‪ :‬جاء الملك ‪ .‬إذا جاء جيش عظيم من‬
‫جهته ‪ .‬والذي يدل على صحة هذا التأويل ‪ :‬أنه تعالى قال في الية المتقدمة ‪« :‬‬
‫فإن ذللتم من بعد ما جاءتكم البينات ‪ ،‬فاعلموا ‪ :‬أن الله عزيز حكيم »)‪ (16‬فذكر‬
‫ذلك في معرض الزجر والتهديد ‪ .‬ثم إنه تعالى أكد‬

‫)‪ (14‬وكذب ‪ ..‬الخليل ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (13‬النعام ‪76‬‬


‫)‪ (16‬البقرة ‪209‬‬ ‫)‪ (15‬وجهان ‪ :‬ط‬

‫ذلك بقوله ‪ « :‬هل ينظرون ‪ ،‬إل أن يأتيهم الله » ومن المعلوم ‪ :‬أن بتقدير أن‬
‫يصح المجيء والذهاب على الله تعالى ‪ ،‬لم يكن مجرد حضوره سببا ً للزجر‬
‫والتهديد ن لنه عند الحضور كما يزجر قوما ً ويعاقبهم ‪ ،‬قد يثيب قوما ً ويكرمهم ‪.‬‬
‫فثبت أن مجرد الحضور ‪ ،‬ل يكون سببا ً للزجر والتهديد والوعيد ‪ .‬ولما كان‬
‫المقصود من الية ‪ ،‬إنما هو التهديد ‪ ،‬وجب أن يضمر في الية مجيء الهيبة‬
‫والقهر والتهديد ‪ .‬ومتى أضمرنا ذلك ‪ ،‬زالت الشبهة بالكلية ‪ .‬وهذا تأويل حسن‬
‫موافق لنظم الية ‪.‬‬
‫الوجه الثاني ‪ :‬أن يكون المراد ‪ :‬هل ينظرون ‪ ،‬إل أن يأتيهم أمر الله ز ومدار‬
‫الكلم في هذا الباب ‪ :‬أنه تعالى إذا أضاف فعل ً إلى شيء ‪ .‬فإن كان ظاهر تلك‬
‫الضافة ممتنعا ً ‪ .‬فالواجب صرف ذلك الظاهر إلى التأويل ‪ .‬كما قال العلماء في‬
‫قوله تعالى ‪ « :‬إن الذين يحادون الله »)‪ (17‬والمراد ‪ :‬يحادون أولياءه‬
‫وقد قال الله تعالى‪ « :‬واسأل القرية)‪ » (18‬والمراد ‪ :‬أهل القرية‪ .‬فكذا قوله تعال‬
‫‪ «:‬يأتيهم الله)‪ » (19‬أي يأتيهم أمر الله ‪ .‬وليس فيه إل حذف المضاف إليه‬
‫مقامه ‪ ،‬وذلك مجاز مشهور ‪ .‬يقال ‪ :‬ضرب المير فلنا ً ‪ ،‬وأعطاه ‪ .‬والمراد ‪ :‬أنه‬
‫أمر بذلك ‪.‬‬
‫والذي يؤكد صحة هذا التأويل وجهان ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إن قوله تعالى ‪ « :‬يأتيهم الله » وقوله ‪ « :‬وجاء ربك)‪ » (20‬إخبار عن حال‬
‫القيامة ‪ .‬ثم إن الله تعالى ذكر هذه الواقعة بعينها في سورة النحل‬

‫)‪ (17‬المجادلـة ‪20‬‬


‫‪- 77 -‬‬

‫)‪ (18‬يوسف ‪82‬‬


‫)‪ (20‬الفجر ‪22‬‬ ‫)‪ (19‬البقرة ‪210‬‬

‫فقال ‪ « :‬هل ينظرون إل أن تأتيهم الملئكة أو يأتي أمر ربك)‪ » (21‬فصار هذا‬
‫مفسرا ً لذلك التشابه ن لن كل هذه اليات لما وردت في واقعة واحدة ‪ ،‬لم يبعد‬
‫حمل بعضها على البعض ‪.‬‬

‫والثاني ‪ :‬إنه تعالى قال بعد هذه الية ‪ « :‬وقضي المر)‪ » (22‬ول شك أن اللف‬
‫واللم للمعهود السابق ‪ .‬وهذا يستدعي أن يكون قد جرى ذكره من قبل ذلك‬
‫حتى تكون اللف واللم إشارة إليه‪ .‬وما ذلك إل الذي أضمرناه من أن قوله ‪« :‬‬
‫يأتيهم الله » أي يأتيهم )‪ (23‬أمر الله ‪.‬‬

‫فإن قيل ‪ :‬أمر الله – عندكم ‪ -‬صفة قديمة ‪ .‬فالتيان عليها ‪ :‬محال ‪ .‬قلنا ‪ :‬المر‬
‫في اللغة له معنيان ‪ :‬أحدهما ‪ :‬الفعل ‪ .‬والثاني ‪ :‬الطريق ‪ .‬قال تعالى ‪ « :‬وما‬
‫أمرنا إل واحدة كلمح البصر)‪ » (24‬وقال ‪ « :‬وما أمر فرعون برشيد)‪ » (25‬فيشمل‬
‫المر في هذه الية على الفعل وهو ما يليق بتلك المواقف من الهوال ‪ ،‬وإظهار‬
‫اليات المهيبة ‪ ،‬وهذا هو التأويل )الول()‪ (26‬الذي ذكرناه ‪.‬‬

‫وأما إن حملنا المر ‪ ،‬على المر الذي هو ضد النهي ‪.‬ففيه وجهان ‪:‬‬
‫الول ‪:‬‬
‫أن يكون التقدير هو أن مناديا ً ينادي يوم القيامة ‪ :‬أل إن الله يأمركم بكذا وكذا ‪،‬‬
‫فيكون إتيان المر ‪ :‬هو وصول ذلك النداء ‪ ،‬إليهم ‪ .‬وقوله ‪ « :‬في ظلل الغمام »‬
‫أي مع ظلل ‪ .‬والتقدير ‪ :‬أن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل ‪ :‬يكون)‪ (27‬في‬
‫زمان واحد ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن يمون المراد من إتيان أمر الله تعالى في ظلل ‪ :‬حصول‬

‫)‪ (22‬البقرة ‪209‬‬ ‫)‪ (21‬النحل ‪33‬‬


‫)‪ (24‬القمر ‪15‬‬ ‫)‪ (23‬يأتي ‪ :‬ط‬
‫)‪ (26‬الول ‪ :‬سقط خ‬ ‫هـود ‪97‬‬ ‫)‪(25‬‬
‫)‪ (27‬يكون ‪ :‬زيادة‬

‫أصوات متقطعة مخصوصة في تلك الغمامات ‪ ،‬دالة على حكم الله تعالى على‬
‫كل واحد ‪ ،‬مما يليق به من السعادة والشقاوة ‪ .‬أو يكون المراد ‪ :‬أنه تعالى خلق‬
‫نقوشا ً منظومة في ظلل من الغمام ‪ ،‬وتكون النقوش جلية ظاهرة ‪ ،‬لجل شدة‬
‫بياض ذلك الغمام ‪ ،‬وسواد تلك الكتابة ‪ .‬وهي دالة على أحوال أهل الموقف في‬
‫الوعد والوعيد وغيرهما ‪ .‬وتكون فائدة الظل من الغمام ‪ :‬أنه تعالى جعلها أمارة‬
‫لما يريد إنزاله بالقوم فيعلمون ‪ :‬أن المر قد قرب وحضر ‪.‬‬
‫الوجه الثالث في التأويل ‪ :‬أن يكون المعنى ‪ :‬هل ينظرون إل أن يأتيهم الله بما‬
‫وعد من العذاب والحساب ؟ فحذف ما يأتي )به()‪ (28‬تعويل ً على الفهم ‪ .‬إذ لو‬
‫ذكر ذلك العذاب الذي يأتيهم به ‪ ،‬لكان ذلك أسهل عليهم في باب الوعيد ‪.‬‬
‫‪- 78 -‬‬

‫وأما إذا لم يذكره كان أبلغ في التهويل ‪ ،‬لنه حينئذ تنقسم خواطرهم ‪ ،‬وتذهب‬
‫أفكارهم في كل وجه ‪ .‬ومثله قوله تعالى ‪ « :‬فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ‪،‬‬
‫)‪(29‬‬
‫وقذف في قلوبهم الرعب ‪ ،‬يخربون بيوتهم بأيديهم ‪ ،‬وأيدي المؤمنين »‬
‫والمعنى ‪ :‬وأتاهم الله بخذلنه من حيث لم يحتسبوا ‪ .‬وكذا قوله تعالى ‪ « :‬فأتى‬
‫الله بنيانهم من القواعد »)‪ (30‬ويقال في الكلم المتعارف المشهور ‪ ،‬إذا سمع‬
‫بولية رجل ‪ :‬جاءنا فلن بجوره وظلمه ‪ .‬ول شك أنه مجاز مشهور ‪.‬‬

‫الوجه الرابع في التأويل ‪ :‬أن تكون « في » بمعنى الباء – وحروف الجر يقام‬
‫بعضها مقام البعض – وتقديره ‪ :‬هل ينظرون أن‬

‫)‪ (28‬به ‪ :‬من خ‬


‫)‪ (30‬النحل ‪26‬‬ ‫)‪ (29) (29‬الحشـر ‪2‬‬

‫يأتيهم الله بظلل من الغمام والملئكة ‪ .‬والمراد ‪ :‬أنه يأتيهم الله بالغمام مع‬
‫الملئكة ‪.‬‬
‫الوجه الخامس ‪ - :‬وهو أقوى من كل ما سبق – إنا ذكرنا في « التفسير الكبير »‬
‫أن قوله تعالى ‪ « :‬يا أيها الذين آمنوا ‪ .‬ادخلوا في السلم كافة »)‪ (31‬إنما نزل في‬
‫حق اليهود ‪ .‬وعلى هذا التقدير يكون قوله تعالى ‪ « :‬فإن زللتم من بعد ما‬
‫جاءتكم البينات »)‪ (32‬خطابا ً مع اليهود ‪ .‬فيكون قوله ‪ « :‬هل ينظرون إل أن يأتيهم‬
‫الله في ظلل من الغمام ؟ » )‪ (33‬حكاية عنهم ‪ .‬والمعنى ‪ :‬أنهم ل يقبلون دينكم ‪،‬‬
‫إل لنهم ينتظرون أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ‪ .‬ومما يدل على أن المراد‬
‫ذلك ‪ :‬أنهم فعلوا ذلك مع موسى عليه السلم ن فقالوا ‪ « :‬لن نؤمن لك ‪ ،‬حتى‬
‫نرى الله جهرة » )‪ (34‬وإذا ثبت أن هذه الية حكاية عن حال اليهود واعتقادهم ‪،‬‬
‫لم يمتنع إجراء الية على ظاهرها ‪ .‬وذلك لن اليهود كانوا على دين التشبيه ‪.‬‬
‫وكانوا يجوزون المجيء والذهاب على الله تعالى ‪ ،‬وكانوا يقولون ‪ :‬إنه تعالى‬
‫تجلى لموسى عليه السلم على الطور في ظلل من الغمام ‪ ،‬فظنوا مثل ذلك‬
‫في زمان محمد عليه السلم ‪ .‬ومعلوم ‪ :‬أن مذهبهم ليس بحجة ‪.‬‬

‫وبالجملة ‪ :‬فإنه يدل على أن قوما ً ينتظرون أن يأتيهم الله ‪ .‬وليس في الية دللة‬
‫على أن أولئــك القوام محقون أو مبطلون ‪ .‬وعلى هذا التقدير زال الشكال ‪.‬‬
‫)‪(35‬‬
‫وهذا هو الجواب المعتمد عن تمسكهم بالية المذكورة في سورة النعام‬

‫)‪ (32‬البقرة ‪209‬‬ ‫)‪ (31‬البقرة ‪208‬‬


‫)‪ (34‬البقرة ‪55‬‬ ‫)‪ (33‬البقرة ‪210‬‬
‫النعام ‪158‬‬ ‫)‪(35‬‬

‫فإن قيل‪ :‬هذا التأويل كيف يتعلق بهذه الية ‪ ،‬لنه قال في آخرها‪ « :‬وإلى الله‬
‫ترجع المور » )‪ (36‬؟ قلنا ‪ :‬إنه تعالى حكى عنادهم وتوقيفهم قبول الدين الحق ‪،‬‬
‫على الشرط الفاسد ‪ .‬ثم ذكر بعده ما يجري مجرى التهديد لهم ‪ ،‬فقال ‪ « :‬وإلى‬
‫الله ترجع المور»‬
‫وأما قوله تعالى ‪ « :‬وجاء ربك ‪ ،‬والملك صفا ً صفا ً » )‪ (37‬فالكلم فيه أيضا ً على‬
‫وجهين ‪:‬‬
‫‪- 79 -‬‬

‫الول ‪ :‬أن تحمل هذه الية على باب حذف المضاف ‪ .‬وعلى هذا الوجه ‪ ،‬ففي‬
‫الية وجوه ‪:‬‬

‫أحدها ‪ :‬وجاء أمر ربك بالمحاسبة والمجازاة ‪.‬‬


‫وثانيهما ‪ :‬وجاء قهر ربك ‪ .‬كما يقال ‪ :‬جاءنا الملك القاهر ‪ .‬إذا جاء عسكره ‪.‬‬
‫وثالثها ‪ :‬وجاء ظهور معرفة الله تعالى بالضرورة في ذلك اليوم ‪ ،‬فصار ذلك‬
‫جاريا ً مجرى مجيئه وظهوره ‪.‬‬
‫الوجه الثاني ‪ :‬إنا ل نحمل هذه الية على حذف المضاف ‪ .‬ثم فيه وجهان ‪:‬‬

‫الول ‪ :‬أن يكون المراد من هذه الية ‪ :‬التمسك بظهور آيات الله تعالى ‪ ،‬وسر‬
‫آثار قدرته وقهره وسلطانه ‪ .‬والمقصود ‪ :‬ثمثيل تلك الحالة بحال الملك إذا‬
‫)‬
‫حضر ‪ ،‬فإنه يظهر بمجرد حضوره من آثار الهيبة والسياسة ‪ ،‬ما ل يظهر بحضور‬
‫‪ (38‬عساكره كلها ‪.‬‬

‫)‪ (36‬البقرة ‪210‬‬


‫)‪ (38‬بظهور ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (37‬الفجر ‪22‬‬

‫الثاني ‪ :‬إن الرب هو المربي ‪ .‬فلعل ملكا ً عظيما ً هو أعظم الملئكة ‪ ،‬كان مربيا ً‬
‫للنبي ‪ ، ‬وكان هو المراد من قوله ‪ « :‬وجاء ربك ‪ ،‬والملك صفا ً صفا ً » ‪.‬‬
‫)‬
‫وأما الحديث المشتمل على النزول إلى السماء الدنيا ‪ .‬فالكلم عليه من نوعين‬
‫‪: (39‬‬
‫أن النزول قد يستعمل في غير النتقال ‪ .‬وتقريره‬ ‫الول ‪ :‬بيان )النزول ‪ .‬وهو(‬
‫)‪(40‬‬

‫من وجوه ‪:‬‬


‫أحدها ‪ :‬قوله )تعالى()‪ « (41‬وأنزل لكم من النعام ثمانية أزواج »)‪ (42‬ونحن نعلم‬
‫بالضرورة ‪ :‬أن الجمل أو البقر ‪ ،‬ما نزل من السماء إلى الرض ‪ ،‬على سبيل‬
‫النتقال ‪ .‬وقال الله تعالى ‪ « :‬فأنزل الله سكينته على رسوله »)‪ (43‬والنتقال‬
‫)‪(44‬‬
‫على السكينة محال ز وقال الله تعالى ‪ « :‬نزل به الروح المين على قلبك»‬
‫والقرآن سواء قلنا ‪ :‬إنه عبارة عن صفة قديمة ‪ ،‬أو قلنا ‪ :‬إنه عبارة عن الحــرف‬
‫والصوت ‪ ،‬فالنتقال عليه محال ‪ .‬وقال الشافعي المطلبي – رضي الله عنه ‪« :‬‬
‫دخلت مصر فلم يفهموا كلمي ‪ .‬فنزلت ثم نزلت » ولم يكن المراد من هذا‬
‫النزول‪ :‬النتقال‪.‬‬

‫الثاني ‪ :‬إنه )إن()‪ (45‬كان المقصود من النزول من العرش إلى السماء الدنيا ‪ ،‬أن‬
‫يسمع نداؤه ‪ ،‬فهذا المقصود ما حصل ‪ .‬وإن كان المقصود مجرد النداء ‪ ،‬سواء‬
‫سمعناه أو لم نسمعه ‪ ،‬فهذا مما ل حاجة فيه إلى النزول من العرش‬

‫)‪ (40‬النزول وهو ‪ :‬من خ‬ ‫)‪ (39‬وجهين ‪ :‬ص‬


‫)‪ (42‬الفتح ‪26‬‬ ‫)‪ (41‬تعالى ‪ :‬ط‬
‫)‪ (44‬الشعراء ‪194 - 193‬‬ ‫)‪ (43‬الفتح ‪26‬‬
‫‪- 80 -‬‬

‫)‪ (45‬ان ‪ :‬ط ‪ ،‬لو ‪ :‬خ‬

‫إلى السماء الدنيا ن بل كان يمكنه أن ينادينا وهو على العرش ‪ .‬ومثله ‪ .‬أن يريد‬
‫من المشرق )‪ (46‬إسماع من في المغرب ومناداته ‪ ،‬فيتقدم إلى جهة المغرب ‪،‬‬
‫ٌبأقدام معدودة ‪ .‬ثم يناديه ‪ ،‬وهو يعلم أنه ل يسمعه البتة ‪ .‬فههنا تكون تلك‬
‫الخطوات عمل ً باطل ً ‪ ،‬وعبثا ً فاسدا ً ‪ .‬فيكون كفعل المجانين فعلمنا ك أن ذلك‬
‫غير لئق بحكمة الله تعالى ‪.‬‬

‫الثالث ‪ :‬إن القوم رأوا أن كل سماء في مقابلة السماء التي فوقها )تكون(‬
‫)‪(47‬‬

‫كقطرة في بحر ‪ ،‬وكدرهم في مفازة ‪ .‬ثم كل السموات في مقابلة الكرسي ‪،‬‬


‫كقطرة في البحر ‪ ،‬والكرسي في مقابلة العرش كذلك ‪ ،‬ثم يقولون إن العرش‬
‫مملوء منه ‪ ،‬والكرسي موضع )قدمه()‪ (48‬فإذا نزل إلى السماء الدنيا وهي غاية‬
‫في الصغر ‪ ،‬بالنسبة إلى هذا الجسم العظيم ‪ ،‬فإما أن يقال ‪ :‬إن أجزاء ذلك‬
‫الجسم العظيم ‪ .‬يدخل بعضها في بعض ‪ ،‬وذلك يقتضي )جواز()‪ (49‬تداخل جملة‬
‫العالم في خردلة واحدة ن وهو محال ‪ .‬وإما أن يقال ‪ :‬إن تلك الجزاء بليت عند‬
‫النزول إلى السماء الدنيا ‪ ،‬وذلك قول بأنه قابل للعدم والوجود ‪ .‬وذلك مما ل‬
‫يقوله عاقل في صفة الله تعالى ‪ .‬فثبت بهذا البرهان القاهر ‪ :‬أن القول بالنزول‬
‫على الوجه الذي قالوه باطل ‪.‬‬

‫الرابع ‪ :‬أنه قد دللنا على أن العالم كرة ‪ .‬وإذا كان كذلك ‪ ،‬وجب القطع بأنه أبدا ً‬
‫يكون الحاصل في أحد نصفي الرض هو الليل ‪ ،‬وفي النصف الخر هو النهار ‪.‬‬
‫فإذا وجب نزوله إلى السماء الدنيا في الليل – وقد دللنا على أن الليل حاصل‬
‫أبدا ً – فهذا يقتضي أن يبقى في السماء الدنيا ن إل أنه يستدير على ظهر الفلك‬
‫بحسب استدارة الفلك ‪ ،‬وبحسب انتقال الليل ‪،‬‬

‫الشرق ‪ :‬ط المشرق ‪ :‬خ‬ ‫)‪(45‬‬


‫)‪ (48‬قدمه ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (47‬تكون ‪ :‬من خ‬
‫)‪ (49‬جواز ‪ :‬من ط‬

‫من جانب من الرض إلى جانب آخر ‪ .‬ولوجاز أن يكون الشيء المستدير مع‬
‫الفلك أبدا ً ‪ :‬إلها ً للعالم ‪ .‬فلم ل يجوز أن يكون إله العالم هو الفلك ؟ ومعلوم أن‬
‫ذلك ل يقوله عاقل ‪.‬‬

‫النوع الثاني من الكلم في هذا الحديث ‪ :‬بناؤه على التأويل)‪ (50‬على سبيل‬
‫التفصيل ‪ ،‬وهو أن يحمل هذا النزول على نزول رحمته إلى الرض ‪ .‬في ذلك‬
‫الوقت ‪ .‬والسبب في تخصيص ذلك الوقت بهذا الفعل وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إن التوبة التي يؤتى بها في قلب الليل ‪ :‬الظاهر أنها تكون خاليـة من‬
‫شوائب الدنيـا ‪ ،‬لن الغيار ل يطلعون عليها فتكون أقرب إلى القبول ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إن الغالب على النسان في قلب الليل الكسل والنوم والبطالة ‪ ،‬فلول‬
‫الجد العظيم في طلب الدين ‪ ،‬والرغبة الشديدة في تحققه ‪ ،‬لما تحمل مشاق‬
‫السهر ‪ ،‬ولما أعرض عن اللذات الجسمانية ‪ ،‬ومتى كان الجد والرغبة والخلص ‪،‬‬
‫أتم وأكمل ‪ ،‬كان الثواب أوفر ‪.‬‬
‫‪- 81 -‬‬

‫الثالث ‪ :‬إن الليل وقت الكسل والفتور ‪ ،‬فاحتيج في الترغيب في الشتغال‬


‫بالعبادة في الليل إلى مزيد أمور تؤثر في تحريك دواعي الشتغال والتهجد ‪،‬‬
‫فيحسن أن الشارع )إنما خص()‪ (51‬هذا الوقت بمثل هذا الكلم ‪ .‬ليكون توفر‬
‫الدواعي على التهجد ‪ :‬أتم فهذه الجهات الثلثة تصلح أن تكون سببا ً لتخصيص‬
‫الشرع هذا الوقت بهذا التشريف‪ .‬ولجلها قال الله تعال‪ « :‬وبالسـحار هـم‬
‫)‪(53‬‬
‫يستغفرون» )‪ (52‬وقال ‪ « :‬والمستغفرين بالسحار »‬

‫)‪ (50‬التأويل ‪ :‬ط ‪ ،‬الدليل ‪ :‬خ‬


‫)‪ (52‬الذاريات ‪18‬‬ ‫)‪ (51‬يخص ‪ :‬ط‬
‫)‪ (53‬آل عمران ‪17‬‬

‫الوجه الرابع ‪ :‬إن جمعا ً من أشراف الملئكة ينزلون في ذلك الوقت بأمر الله‬
‫تعالى كما يقال ‪ :‬بنى المير دارا ً ‪ ،‬وضرب دينارا ً ‪ .‬وممن ذهب إلى هذا التأويل ‪:‬‬
‫من يروي الخبر بضم مياء تحقيقا ً لهذا المعنى ‪.‬‬
‫واعلم ‪ :‬أن تمام التقرير في تأويل هذا الخبر ‪ :‬أن من نزل من الملوك عند‬
‫إنسان لصلح شأنه ‪ ،‬والهتمام بأمره فإنه يكرمه جدا ً ‪ .‬بل يكون نزوله عنده‬
‫مبالغة في إكرامه)‪ (54‬ولما كان النزول موجبا ً للكرام ‪ ،‬أو موجبا ً له ‪ ،‬أطلق اسم‬
‫النزول على الكرام ‪ .‬وهذا أيضا ً هو المراد بقوله تعالى ‪ « :‬وجاء ربك ‪ ،‬والملك ‪،‬‬
‫صفا ً صفا ً » )‪ (55‬وذلك أن الملك إذا جاء وحضر لفصل الخصومات ‪ ،‬عظم وقعه‬
‫)‪(56‬‬
‫واشتدت هيبته ‪) .‬والله أعلم(‬

‫)‪ (54‬الكرامة ‪ :‬خ‬


‫)‪ (56‬والله أعلم ‪ :‬من ط‬ ‫)‪ (55‬الفجر ‪22‬‬

‫الفصل العاشـر‬
‫في‬
‫الخروج والبروز والتجلي والظهور‬
‫ــــــ‬
‫قال عليه السلم ‪ « :‬سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ‪ .‬ل تضامون في‬
‫رؤيته » وفي رواية « ل تضارون » والتأويل ‪ :‬أن المقصود ‪ :‬تشبيه الرؤية‬
‫بالرؤية ‪ ،‬ل تشبيه المرئي بالمرئي ‪ .‬ومعنى قوله « ل تضامون » ‪ :‬أي ل ينضم‬
‫بعضكم إلى بعض ن كما تتضمون في رؤية الهلل رأس الشهر ‪ ،‬بل رؤية جهرة‬
‫من غير تكلفة لطلبه ن كما ترون البدر ‪ .‬وقوله ‪ « :‬ل تضارون » أي ل يلحقكم‬
‫ضرر في طلب رؤيته ‪ .‬بل ترونه من غير تكلف الطلب ‪ .‬وما روى « تضامون »‬
‫مخففا ً فالمراد منه ‪ :‬الضيم ‪ .‬أي ل يلحقكم فيه ضيم ‪.‬‬

‫وقال أيضا ً عليه السلم ‪ « :‬إن الله يبرز كل يوم جمعة لهل الجنة على كثيب من‬
‫كافور ‪ ،‬فيكون في القرب على تبكيرهم إلى الجمعة ‪ .‬أل فسارعوا إلى الخيرات‬
‫» واعلم ‪ :‬أنه قيل ‪ :‬إن هذا الخبر ضعيف ‪ .‬وإن صح ‪ .‬فالتأويل )فيه)‪ : ( (1‬أن أهل‬
‫‪- 82 -‬‬

‫الجنة يرون على مقادير أوقات الدنيا فيما سبق من أعمالهم الحسنة ‪ .‬وأما‬
‫بروزه لهل الجنة – وبذلك يتخيل لهم – فهو أن يخلق لهم رؤية متعلقة ن وهم‬
‫على كثيب من كافور ‪ .‬وأما قربه منهم فمعناه ‪ :‬القرب بالرحمة ‪ .‬كما قال ‪« :‬‬
‫من تقرب إلي شبرا ً تقربت إليه ذراعا ً » ويقال للفاسق ‪ :‬إنه بعيد من الله‪ .‬وأيضا ً‬
‫ما روى‬

‫)‪ (1‬فيه ‪ :‬خ‬

‫أنه عليه السلم قال‪« :‬ما منكم من أحد إل سيخلو به ربه يوم القيامه ‪ .‬ويكلمه ‪،‬‬
‫وليس بينه وبينه ترجمان » فنقول ‪ .‬وجه التأويل ليه )أن)‪ ( (2‬من أراد أن يتوجه‬
‫إليه منهم ‪ ،‬فإنه يخلو به ‪.‬فهبر به عنه ‪ .‬وأيضا ً ك لما كان قادرا ً ‪ ،‬أراد)‪ (3‬أن يسمع‬
‫كل واحد ‪ ،‬أنه ل يتكلم مع غيره )والله أعلم()‪. (4‬‬

‫‪----------------‬‬

‫)‪ (2‬ان ‪ :‬خ‬


‫)‪ (3‬وأيضا ً كم كان قادرا ً على ‪ ..‬الخ‪ :‬ط وفي خ ‪ :‬لما‬
‫سقط خ‬ ‫)‪(4‬‬

‫الفصل الحادي عشر‬


‫في‬
‫الظواهر التي توهم كونه قابل ً للتجزيء‬
‫والتبعيض – تعالى الله عنه علوا ً كبيرا ً‬
‫ــــ‬
‫أما الذي ورد من في القرآن ‪ .‬فقوله تعالى في حق آدم عليه السلم ‪ « :‬فإذا‬
‫سويته ونفخت فيه من روحي)‪ » (1‬وقال في مريم عليها السلم ‪ « :‬ونفخنا فيها‬
‫من روحنا)‪ » (2‬وقوله تعالى في حق عيسى عليه السلم ‪ « :‬وروح منه)‪» (3‬‬

‫وأما الخبر ‪ :‬فما روى أبو هريرة – رضي الله عنه – أنه ‪ ‬قال ‪ « :‬لما خلق‬
‫)الله)‪ ( (4‬آدم ونفخ فيه من روحه ‪ ،‬عطس آدم ‪ ،‬وشكر الله ‪ .‬فقال له ربه ‪:‬‬
‫يرحمك ربك » ثم قال ‪ « :‬هذه تحيتك وتحية ذريتك » والتأويل ‪ :‬أن نقول ‪ :‬أما‬
‫لضافة الروح إلى نفسه ‪ ،‬فهو إضافة التشريف ‪ .‬وأما النفخ )فإنه عبر)‪( (5‬‬
‫بالسبب عن المسبب ‪ .‬وهذا ما يجب المصير إليه ‪ ،‬لمتناع أن يكون تعالى قابل ً‬
‫للتجزيء والتبعيض ‪.‬‬
‫‪-------------‬‬

‫)‪(3‬‬ ‫)‪ (2‬النبياء ‪91 :‬‬ ‫)‪ (1‬ص ‪72‬‬


‫النساء ‪171‬‬
‫‪- 83 -‬‬

‫)‪ (5‬فالتعبير ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (4‬والله ‪ :‬ط‬

‫الفصل الثاني عشر‬


‫في‬
‫الجواب عن استدللهم بقوله تعالى‬
‫« ألهم أرجل يمشون بها ؟ أم لهم أيد يبطشون بها ؟‬
‫أم لهم أعين يبصرون بها ؟ أم لهم آذان يسمعون بها ؟ »‬
‫ـــــ‬

‫قالوا)‪ : (1‬فإنه تعالى عاب هذه الصنام ‪ ،‬وطعن في كونها آلهة ‪ ،‬بناء على عدم‬
‫هذه العضاء لها ‪ .‬فلو لم تكن هذه العضاء حاصلة لله تعالى ‪ ،‬لتوجه الطعن‬
‫هناك ‪ .‬وذلك باطل ‪ .‬والجواب عنه ‪ .‬أن يقال ‪ :‬المقصود من هذه اليدي ‪ :‬شيء‬
‫آخر ‪ ،‬سوى ما ذكرتم ‪ .‬وبيانه ‪ :‬هو أن الكفار الذين كانوا يعبدون الصنام كانت‬
‫لهم أرجل يمشون بها ‪ ،‬وأيد يبطشون بها ‪ ،‬وأعين يبصرون بها ‪ ،‬وآذان يسمعون‬
‫بها ‪ .‬ولن المقصود من الرجل واليد والعين والذن ‪ :‬هو هذه القوى المتحركة‬
‫والمدركة ‪ .‬ولن هذه العضاء كانت حاصلة لكم)‪ ، (2‬وغير حاصلة لها ‪ .‬كنتم‬
‫)‪(3‬‬
‫أشرف وأعلى منها ‪ .‬يليق بالعقل أقدامكم على عبادتها ؟ )وبالله التوفيق(‬
‫ـــــ‬
‫)‪ (1‬الية ‪ 135‬من سورة العراف‬
‫)‪ (2‬وكانت هذه العضاء حاصلة ك ص‬
‫)‪ (3‬سقط ك خ‬

‫الفصل الثالث عشر‬


‫في‬
‫الوجــه ‪:‬‬
‫ــــ‬
‫احتجوا على إثباته لله تعالى باليات والخبار)‪: (1‬‬
‫أما اليات فكثيرة ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬قوله تعالى ‪ « :‬كل من عليها فان ‪ .‬ويبقى وجه ربك ذو الجلل والكرام‬
‫»)‪ (2‬قالوا ‪ :‬وامتنع أن يكون وجه الرب ‪ ،‬هو الرب ‪ ،‬ويدل عليه وجهات ‪ :‬الول ‪:‬‬
‫إنه تعالى أضاف الوجه إلى نفسه ‪ .‬وإضافة الشيء إلى نفسه ‪ :‬ممتنعة ‪ .‬والثاني‬
‫)أنه)‪ ( (3‬لو كان ذو الجلل صفة الرب ‪ ،‬لوجب أن يقال ذي الجلل ‪ ،‬لن صفة‬
‫المجرور مجرورة "وثانيها" قوله تعالى ‪ « :‬كل شيء هالك إل وجهه » )‪ . (4‬وثالثها‬
‫‪ :‬قوله تعالى ‪ « :‬واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ‪ ،‬يريدون‬
‫وجهه » )‪ (5‬ورابعها ‪ :‬قوله تعالى ‪ « :‬ول تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة‬
‫والعشي ن يريدون وجهه » )‪ (6‬وخامستها ‪ :‬قوله تعالى ك « ولله المشرق‬
‫والمغرب ‪ .‬فأينما كنتم فثم وجه )‪ (7‬الله » وسادستها ‪ :‬قوله تعالى )في سورة‬
‫الروم()‪ « (8‬يريدون وجه الله » )‪ (9‬وسابعتها ‪ :‬قوله تعالى ‪« :‬وما آتيتم من زكاة‬
‫‪- 84 -‬‬

‫الله» ‪.‬‬ ‫تريدون وجه الله)‪ » (10‬وثامنتها ك قوله تعالى ‪ « :‬إنما نطعمكم لوجه‬
‫)‪(11‬‬

‫وتاسعتها ‪ :‬قوله تعالى‬

‫)‪ (1‬باليات والخبار ‪ :‬خ باليات والخبار‬


‫)‪ (3‬إنه ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (2‬الرحمن ‪27 - 26‬‬
‫)‪ (5‬الكهف ‪28‬‬ ‫)‪ (4‬القصص ‪88‬‬
‫)‪ (7‬البقرة ‪115‬‬ ‫)‪ (6‬النعام ‪52‬‬
‫)‪ (8‬في سورة الروم ‪ :‬سقط خ )‪ (9‬الروم ‪38‬‬
‫)‪ (11‬النسان ‪9‬‬ ‫)‪ (10‬الروم‬

‫)‪(12‬‬
‫‪ « :‬إل ابتغاء وجه ربه العلى»‬
‫وأما الخبار فكثيرة ‪:‬‬
‫الول ‪:‬‬
‫ما روى ابن)‪ (13‬خزيمة عن جابر ‪ .‬قال لما نزل قوله تعالى ‪ « :‬قل ‪ :‬هو القادر‬
‫على أن يبعث عليكم عذابا ً من فوقكم» )‪ (14‬قال النبي ‪« : ε‬أعوذ بوجهك » ‪ ،‬ثم‬
‫قال ‪ « :‬أو من تحت أرجلكم» )قال عليه السلم ‪" :‬أعوذ)‪ (15‬بوجهك (" ثم‬
‫قال ‪ « :‬أو يلبسكم شيعا ً ‪ ،‬ويذيق بعضكم بأس بعض » قال عليه السلم ‪ :‬هاتان‬
‫أهون وأيسر» ‪ .‬الثاني ‪ :‬روى عمار ابن ياسر ‪ ،‬عن النبي ‪ ε‬أنه قال ‪ « :‬اللهم‬
‫بعلمك الغيب والشهادة ‪ ،‬وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خير لي ‪،‬‬
‫وتوفني إذا كانت الوفاة خير لي ‪ .‬اللهم أسألك خشيتك في الغيب والشهادة ‪،‬‬
‫وكلمة الحق والعدل في الغضب والرضى ‪ ،‬وأسألك الرضا)‪ (16‬في الفقر‬
‫والغنـاء ‪ ،‬وأسألك نعيـما ً ل يتبدل ‪ ،‬وأسألك قرة عين ل تنقطع ‪ ،‬وأسألك الرضاء‬
‫بعد القضاء ‪ ،‬وأسألك برد العيش بعد الموت ‪ ،‬وأسألك لذة النظر إلى وجهك ‪،‬‬
‫وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ول فتنة مضلة ‪ .‬اللهم زينا بزينة‬
‫اليمان ‪ ،‬واجعلنا هداة مهتدين» الثالث ‪ :‬قال عليه السلم ‪ :‬من صام يوما ً في‬
‫سبيل الله ‪ ،‬ابتغاء وجه الله ز باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا» الرابع ‪:‬‬
‫عن ابن عباس عن النبي ‪ ε‬أنه قال ‪ « :‬من استعاذكم بالله فأعيذوه ‪ ،‬ومن‬
‫سألكم بوجه الله فعظموه» الخامس ‪ :‬عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن‬
‫النبي ‪ ε‬أنه قال ‪ « :‬مثل المجاهد في سبيل الله ‪ ،‬ابتغاء وجه الله ‪ ،‬مثل القائم‬
‫المصلي حتى يرجع من جهاده » السادس ‪ :‬قال عبد الله ‪ :‬قسم رسول الله ‪ε‬‬
‫فقال رجل ‪ :‬إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله ‪ .‬فأتيت‬

‫)‪ (13‬ابن ‪ :‬زيادة‬ ‫)‪ (12‬الليل ‪20‬‬


‫)‪ (15‬قال عليه الصلة والسلم أعوذ بوجهك ‪ :‬سقط‬ ‫)‪ (14‬النعام ‪65‬‬
‫ط‬
‫)‪ (16‬الرضا ‪ :‬خ القضاء ‪ :‬ط‬

‫النبي ‪ ε‬فذكرت ذلك له ‪ ،‬فاحمر وجهه حتى وددت أني لم أخبره ‪ .‬فقال ‪ « :‬رحم‬
‫الله موسى)‪ (17‬قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» السابع ‪ :‬عن حذيفة عن النبي ‪ε‬‬
‫‪- 85 -‬‬

‫أنه قال ‪ « :‬إن المسلم إذا دخل في صلته ‪ ،‬أقبل الله إليه بوجهه ‪ ،‬ول ينصرف‬
‫عنه حتى ينصرف عنه ‪ ،‬أو يحدث حدثا ً » الثامن ‪ :‬عن الحارث الشقري أن النبي‬
‫‪ ε‬قال ‪ « :‬إن الله تعالى )أوحى()‪ (18‬إلى يحيى بن زكريا ‪ .‬أن يقول لبني‬
‫إسرائيل ‪:‬إذا قمنم إلى الصلة فل تلتفتوا ‪ ،‬فإن الله يقبل بوجهه إلى عبده »‬
‫التاسع ‪ :‬الحديث المشهور وهو أنه عليه السلم قال في قوله تعــالى ‪ « :‬للذين‬
‫أحسنوا الحسنى وزيادة»)‪ (19‬قال ‪ « :‬هي النظر إلى وجه الله » وقال أيضا ً ‪« :‬‬
‫جنتان من فضة ‪ .‬أبنيتهما )وما فيهما()‪ (20‬وجنتان من ذهب )أبنيتهما()‪ (21‬وما فيهما‬
‫وما بين القدم)‪ (22‬وبين أن ينظروا إلى وجه ربهم في جنة عدن إل رداء الكبرياء‬
‫على وجهه » العاشر ‪ :‬عت عبد الله بن مسعود )رضي الله عنه()‪ (23‬عن النبي ‪ε‬‬
‫عليه وسلم )أنه قال( ‪ « :‬المرأة عورة ‪ .‬فإذا خرجت يستبشر بها الشيطان ‪.‬‬
‫وأقرب ما تكون من وجه ربها ‪ .‬إذا كانت في قعر بيتها »‬

‫واعلم ‪ :‬أنه ل يمكن أن يكون الوجه المذكور في هذه اليات ‪ ،‬وهذه الخبار ‪ :‬هو‬
‫الوجه ‪ .‬بمعنى العضو والجارحة ويدل عليه وجوه ‪ :‬الول ‪ :‬قوله تعالى ‪ « :‬كل‬
‫شيء هالك إل وجهه »)‪ (24‬وذلك لنه لو كان الوجه هو العضو المخصوص ‪ ،‬لزم‬
‫أن يفنى جميع الجسد والبدن ‪ ،‬وأن تفنى العين التي على الوجه ‪ ،‬وأن ل يبقى إل‬
‫مجرد الوجه ‪ .‬وقد التزم بعض حمقى المشبهة ‪ :‬ذلك ‪ .‬وهو جهل عظيم ‪.‬‬

‫)‪ (18‬أوحى ‪ :‬من ط‬ ‫)‪ (17‬رحمنا الله وموسى ‪ :‬ط‬


‫)‪ (20‬وما فيهما ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (19‬يونس ‪26‬‬
‫)‪ (22‬القدم ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (21‬ابنيتهما ‪ :‬ط‬
‫)‪ (24‬القصص ‪88‬‬ ‫)‪ (23‬رضي الله عنه ‪ :‬خ‬

‫الثاني ‪ :‬إن قوله تعالى ‪ « :‬ويبقى وجه ربك ذو الجلل والكرام »)‪ (25‬ظاهرة ‪:‬‬
‫يقتضي وصـف الوجه بالجلل والكرام ‪ .‬ومعلوم ‪ :‬أن الموصوف بالجلل والكرام‬
‫‪ :‬هو الله تعالى ‪ .‬وذلك يقتضي أن يكون الوجه ‪ ،‬كناية عن الذات ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬قوله تعالى ‪ « :‬فأينما تولوا فثم وجه الله)‪ » (26‬وليس المراد من الوجه‬
‫ههنا ‪ :‬هو العضو المخصوص ‪ ،‬فإنا ندرك بالحس ‪ :‬ـن العضو المسمى بالوجه ‪،‬‬
‫غير موجود في )جميع)‪ ( (27‬جوانب العالم‪ .‬وأيضا ً ‪ :‬فلو حصل ذلك العضو في‬
‫جميع الجوانب ‪ ،‬لزم حصول الجسم الواحد دفعة واحدة ‪ ،‬في أمكنة كثيرة ‪،‬‬
‫وذلك ل يقوله عاقل ‪.‬‬
‫الرابع ‪:‬‬
‫إن قوله تعالى ‪ « :‬يريدون وجهه »)‪ (28‬وقوله ‪ « :‬إل ابتغاء وجه ربه العلى)‪» (29‬‬
‫ل يمكن حمل شيء منهما على الظاهر ‪ .‬لن وجهه تعالى – على مذهبهم – قديم‬
‫أزلي ‪ ،‬والقديم الزلي ل يراد ‪ .‬لن الشيء الذي يراد ‪ :‬معناه أنه يراد حصوله‬
‫ودخوله في الوجود ‪ .‬وذلك في القديم الزلي‪ :‬محال ‪ :‬وأيضا ً ‪ :‬فهؤلء كانوا‬
‫يعبدون الله تعالى ‪ ،‬وما كانوا يريدون وجه الله ‪ .‬كيف كان ؟ لنه لو كان غضبانا ً‬
‫عليهم فهم ل يريدونه ‪ .‬وإنما يريدون منه كونه راضيا ً عنهم ‪ ،‬وذلك يدل على أنه‬
‫ليس المراد من الوجه في هذه اليات ‪ :‬نفس الجارحة المخصوصة ‪ ،‬بل المراد‬
‫منه شيء آخر وهو كونه راضيا ً عنهم‬

‫)‪ (26‬البقرة ‪115‬‬ ‫)‪ (25‬الرحمن ‪27‬‬


‫)‪ (28‬الكهف ‪28‬‬ ‫)‪ (27‬جميع ‪ :‬من ط‬
‫‪- 86 -‬‬

‫)‪ (29‬الليل ‪20‬‬

‫الخامس ‪:‬‬
‫الخبر الذي رويناه ‪ .‬وهو قوله عليه السلم ‪ « :‬أقرب ما تكون المرأة من وجه‬
‫ربها ‪ ،‬إذا كانت في قعر بيتها » ومعلوم ‪ :‬إنه لو كان المراد من الوجه ‪ :‬العضو‬
‫المخصوص ‪ ،‬لم يختلف الحال في القرب والبعد ‪ .‬بسبب أن تكون في بيتها أو لم‬
‫تكن ‪ .‬أما إذا حملنا الوجه على الرضاء ‪ ،‬استقام ذلك ‪ .‬فثبت بهذه الدلئل ‪ :‬أنه ل‬
‫يمكن أن يكون الوجه المذكور في هذه اليات والخبار بمعنى العضو والجارحة ‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا ‪ ،‬فنقول ‪ :‬لفظ الوجه قد يجعل كناية عن الذات تارة ‪ ،‬وعن‬
‫الرضى أخرى ‪.‬‬
‫وجوه ‪:‬‬ ‫أما الول فنقول ‪ :‬السبب في وجوب جعل الوجه كناية عن الذات‬
‫)‪(30‬‬

‫الول ‪ :‬إن المرئي من النسان في أكثر الوقات ليس إل وجهه ‪ ،‬وبوجهه يتميز‬
‫ذلك النسان ‪ ،‬عن غيره ‪ ،‬فالوجه كأنه العضو الذي به يتحقق وجود ذلك‬
‫النسان ‪ ،‬وبه يعرف كونه موجودا ً ز ولما كان المر كذلك ن ل جرم حسن جعل‬
‫الوجه اسما ً لكل الذات ‪ .‬ومما يقوي ذلك ‪ :‬أن القوم إذا كان معهم إنسان يرتب‬
‫أحوالهم ‪ .‬ويقوم بإصلح أمورهم ‪ ،‬سمى وجه القوم ‪ ،‬و وجيههم ‪ .‬والسبب فيه ما‬
‫ذكرنا ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إن المقصود من النسان ظهور آثار عقله وحسه وفهمه وفكره ‪ .‬ومعلوم‬
‫‪ :‬أن معدن هذه الحوال هو الرأس ‪ ،‬ومظهر آثار هذه القوى هو الوجه ‪ .‬ولما كان‬
‫معظم المقصود من خلق النسان إنما يظهر في الوجه ‪ ،‬ل جرم حسن إطلق‬
‫اسم الوجه على كل الذات ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬إن الوجه مخصوص بمزيد الحسن واللطافة ‪ ،‬والتركيب‬

‫)‪ (30‬الرضى ‪ :‬ص‬

‫العجيب ‪ .‬والتأليف الغريب ‪ .‬وكل ما في القلب من الحوال ‪ ،‬فإنه يظهر على‬


‫الوجه ‪ ،‬فلما امتاز الوجه عن سائر العضاء بهذه الخواص ‪ ،‬ل جرم حسن إطلق‬
‫لفظ الوجه على كل الذات ‪.‬‬

‫وأما بيان السبب في جواز جعل لفظ الوجه كناية عن الرضى ‪ :‬فهو أن النسان‬
‫إذا مال قلبه إلى الشيء أقبل بوجهه عليه ز وإذا كره شيئا ً أعرض بوجهه )عنه(‬
‫)‬

‫‪ (31‬فلما كان إقبال النسان بوجهه عليه ن لوازم كونه مائل ً إليه ‪ ،‬ل جرم حسن‬
‫جعل لفظ الوجه كناية عن الرضى ‪ .‬إذا عرفت هذه المقدمة ‪ ،‬فنقول ‪ :‬أما قوله‬
‫)‪(33‬‬
‫تعالى ‪ « :‬كل شيء هالك إل وجهه »)‪ (32‬وقوله ‪ « :‬ويبقى وجهه ربك »‬
‫فالمراد منه ‪ :‬الذات ‪ .‬والمقصود من ذكره ‪ :‬التأكيد والمبالغة ‪ .‬فإنه يقال ‪ :‬وجه‬
‫هذا المر ‪ :‬كذا وكذا ‪ ،‬ووجه هذا الدليل ‪ :‬هو كذا وكذا ن والمراد منه ‪ :‬هو نفس‬
‫ذلك الشيء ‪ ،‬ونفس ذلك الدليل ‪ .‬فكذا هذا ‪.‬‬
‫وأما قوله تعالى ‪ « :‬فثم وجه الله»)‪ « - (34‬إنما نطعمكم لوجه الله »)‪ « - (35‬إل‬
‫ابتغاء وجه ربه العلى » فالمراد من الكل ‪ :‬رضى الله تعالى ‪ .‬وهكذا القول في‬
‫)‪(36‬‬
‫تلك الحاديث ) وبالله التوفيق(‬
‫‪- 87 -‬‬

‫ـــــــ‬

‫)‪ (32‬القصص ‪88‬‬ ‫)‪ (31‬عنه ‪ :‬ط‬


‫)‪ (34‬البقرة ‪115‬‬ ‫)‪ (33‬الرحمن ‪27‬‬
‫)‪ (36‬الليل ‪20‬‬ ‫)‪ (35‬النسان ‪9 :‬‬

‫الفصل الرابع عشر‬


‫في‬
‫العــين‬
‫ــــ‬
‫احتجوا على ثبوتها بالقرآن ‪ ،‬والخبار ‪.‬‬

‫أما القرآن ‪ :‬فقوله تعالى لنوح عليه السلم ‪ « :‬واصنع الفلك بأعيننا»‬
‫)‪(1‬‬

‫ولموسى عليـه السلم ‪« :‬ولتصنع على عيني»)‪ (2‬ولمحمد ُ ‪«ُ : ε‬واصبر لحكم ربك‬
‫)‪(3‬‬
‫فإنك بأعيننا»‬
‫وأما الخبار ‪ :‬فروى صاحب شرح السنة – رحمه الله – في باب "ذكر الدجال"‬
‫عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال ‪ :‬قام رسول الله ‪ ε‬في الناس فأثنى‬
‫على الله بما هو أهله ‪ ،‬ثم ذكر الدجال ‪ ،‬فقال ‪«ُ :‬إني لنذركموه ‪ .‬وما من نبي إل‬
‫أنذر قومه ‪ .‬لقد أنذر نوح قومه ‪ ،‬ولكني سأقول فيه قول ً لم يقله نبي لقومه ‪ :‬إنه‬
‫أعور ‪ ،‬وإن الله ليس بأعور »)‪ (4‬ثم قال صاحب الكتاب ‪" :‬هذا حديث صحيح‬
‫أخرجه البخاري في كتابه" وروى أيضا ً عن ابن عباس )رضي الله عنه()‪ (5‬أنه ذكر‬
‫الدجال عند النبي ُ ‪ ε‬فقال ‪« :‬إن الله ل يخفى عليكم ‪ ،‬إنه ليس بأعور» ‪ -‬وأشار‬
‫بيده إلى عينيه ‪« -‬إن المسيح الدجال أعور عينه)‪ (6‬اليمنى ‪ .‬كأن عينه عنبة طافية‬
‫» ثم قال ‪" :‬هذا حديث اتفق الشيخان على صحته ‪ ،‬ومما يدل‬

‫)‪ (1‬هـود ‪37‬‬


‫)‪ (3‬الطور ‪48‬‬ ‫)‪ (2‬طـه ‪39‬‬
‫)‪ (4‬حديث أن الله ليس بأعور أورده محمد بن اسحاق بن خزيمة في كتاب‬
‫التوحيد ص ‪44 – 43‬‬
‫)‪ (6‬عين ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (5‬رضي الله عنه ‪ :‬سقط خ‬

‫أيضا ً على إثبات العين لله تعالى ‪ :‬ما روي في الدعوات ‪ « :‬احفظنا بعينك التي ل‬
‫تنام» وأيضا ً يقال في العرق ‪ :‬عين الله عليك ‪.‬‬
‫ل يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه ‪:‬‬ ‫)‪(7‬‬
‫واعلم ‪ :‬أن )النصوص من القرآن(‬
‫الول ‪ :‬إن ظاهر قوله تعالى ‪ « :‬ولتصنع على عيني»)‪ (8‬يقتضي أن يكون موسى‬
‫‪ -‬عليه السلم – مستقرا ً على تلك العين ن ملتصقا ً بها ‪ .‬مستعليا ً عليها ‪ .‬وذلك ل‬
‫يقوله عاقل ‪.‬‬
‫‪- 88 -‬‬

‫يقتضي أن يكون آلة تلك‬ ‫)‪(9‬‬


‫الثاني ‪ :‬إن قوله تعالى ‪ « :‬واصنع الفلك بأعيننا»‬
‫الصنعة هي تلك العين ‪.‬‬

‫إثبات العين في الوجه الواحد ‪ ،‬قبيح‪.‬‬ ‫الثالث ‪) :‬إن(‬


‫)‪(10‬‬

‫قثبت ‪ :‬أنه ل بد من المصير إلى التأويل ‪ ،‬وذلك هو أن تحمل هذه اللفاظ على‬
‫شدة العناية والحراسة ‪ .‬والوجه في حسن هذا المجاز ‪ :‬أن من عظمت عنايته‬
‫بشيء ‪ ،‬وميله إليه ‪ .‬ورغبته فيه ‪ ،‬كان كثير النظر إليه ‪ .‬فجعل لفظ العين – التي‬
‫هي آلة لذلك النظر – كناية عن شدة العناية ‪.‬‬
‫وأما هذا الخبر الذي رويته ‪ .‬فمشكل ‪ ،‬لن ظاهره يقتضي أن النبي ُُ ‪ ε‬أظهر‬
‫الفرق بين الله تعالى ‪ ،‬وبين الدجال ‪ .‬بكون الدجال أعور ‪ ،‬وكون الله تعالى‬
‫ليس بأعور ز وذلك بعيد ‪ .‬وخبر الواحد إذا بلغ هذه الدرجة في ضعف المعنى ‪،‬‬
‫وجب أن يعتقد أن الكلم كان مسبوقا ً بمقدمة ‪ ،‬لو ذكرت ‪ ،‬لزال هذا الشكال ‪.‬‬
‫أليس راوي هذا الحديث هو ابن عمر ؟‬

‫)‪ (7‬نصوص القرآن ‪ :‬ط‬


‫)‪ (9‬الطور ‪48‬‬ ‫)‪ (8‬طـه ‪39‬‬
‫)‪ (10‬ان ‪ :‬سقط خ‬

‫ومن المشهور أن ابن عمر )رضي الله عنهما()‪ (11‬لما روى قوله ُُ ‪ « ε‬إن الميت‬
‫ليعذب ببكاء أهله» طعنت عائشة – رضي الله عنها – فيه ‪ .‬وذكرت أن هذا‬
‫الكلم من الرسول كان مسبوقا ً بكلم آخر – واحتجت على ذلك بقوله تعالى ‪« :‬‬
‫ول تزر وازرة وزر أخرى»)‪ - (12‬لو حكى لزال هذا الشكال ‪ ،‬فكذا ههنا ‪ .‬إنه من‬
‫البعد صدور مثل هذا الكلم عن الرسول )صلى الله عليه وسلم()‪ (13‬الذي‬
‫)‪(14‬‬
‫اصطفاه الله تعالى لرسالته ‪ ،‬وأمره ببيان شريعته )وبالله التوفيق(‬

‫ـــــــ‬

‫من خ ثم إن المشهور ‪ :‬ص‬ ‫)‪(11‬‬


‫)‪ (13‬من خ‬ ‫)‪ (12‬فاطر ‪18‬‬
‫)‪ (14‬وبالله التوفيق ‪ :‬من ط‬

‫الفصل الخامس عشر‬


‫في‬
‫النفس‬
‫ــــ‬
‫هذا اللفظ غير وارد في القرآن ‪ .‬لكنه روى عن النبي ُُ ‪ ε‬أنه قال ‪ « :‬ل تسبوا‬
‫الريح ‪ ،‬فإنها من نفس الرحمن» وقال أيضا ً ‪ « :‬إني لجد نفس الرحمن من‬
‫جانب اليمن» والتأويل ‪ :‬إنه مأخوذ من قوله ‪ :‬نفست عن فلن ‪ .‬أي فرجت عنه ‪.‬‬
‫ونفس)‪ (1‬الله عن فلن ‪ ،‬أي فرج عنه ‪ ،‬والريح إذا كانت طيبة ‪ ،‬فقد زالت هذه‬
‫‪- 89 -‬‬

‫المكاره ‪ ،‬فلما وجدها من قبل اليمن فقد حصل المقصود ‪ .‬فالمقرون بالمكروه ‪،‬‬
‫مكروه )والمقرون بالمحبوب()‪ (2‬محبوب ‪ .‬فلما وجد النبي ُُ ‪ ε‬النصرة من قبل‬
‫اليمن ‪ ،‬فقد وجد النفس من المكروهات من ذلك الجانب ‪ ،‬فل جرم صدق قوله ‪:‬‬
‫« إني لجد نفس الرحمن من جانب اليمن» ولهذا قال النبي ُُ ‪ « : ε‬اليمان يمان‬
‫والحكمة يمانية » وهذا هو المراد من قوله ‪ :‬إن اليح من نفس الرحمن ‪ .‬أي هي‬
‫)‪(4‬‬
‫مما جعل الله فيها )من()‪ (3‬التفريج والتنفيس )وبالله التوفيق(‬

‫)‪ (2‬وبالمحبوب ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (1‬وانفس ‪ :‬ط‬


‫)‪ (4‬سقط خ‬ ‫)‪ (3‬من ‪ :‬من خ‬

‫الفصل السادس عشر‬


‫في‬
‫اليــد‬
‫ــــ‬
‫اعلم ‪ :‬أن هذه النقطة وردت في القرآن ‪ ،‬والخبار ‪.‬‬
‫أما القرآن ‪ :‬فقد وردت هذه الصيغة بصيغة الوحدان تارة ‪ ،‬وبصيغة التثنية أخرى ‪.‬‬
‫كقوله تعالى ‪« :‬ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)‪ »(1‬وقوله « بل يداه‬
‫)‪(2‬‬
‫مبسوطتان»‬
‫وأما الخبار ‪ :‬فكثيرة ‪ :‬الول ‪ :‬ما روي أن النبي ُ ‪ ε‬قال ‪ « :‬التقى آدم وموسى ‪.‬‬
‫فقال موسى ‪ :‬أنت الذي خلقك الله بيده ‪ ،‬وأسجد لك ملئكته ‪ ،‬ونفخ فيك من‬
‫روحه ‪ ،‬وأمرك بأمر فعصيته ‪ ،‬فأخرجك من الجنة ‪ .‬فقا آدم ‪ :‬يا موسى اصطفاك‬
‫الله بكلمه ‪ ،‬وخط لك التوراة بيده ‪ .‬أفتلومني على أمر قد قدره الله علي ‪ ،‬قبل‬
‫أن يخلقني بأربعين سنة ؟ فقال ‪ :‬فحج آدم موسى » وهذا الخبر اشتمل على أن‬
‫موسى )عليه السلم)‪ ( (3‬أثبت)‪ (4‬لله تعالى اليد ‪ ،‬وكذلك آدم قال بذلك ‪ .‬الثاني ‪:‬‬
‫روى لبو هريرة – رضي الله عنه – أن النبي ‪ ε‬قال ‪ « :‬لما خلق الله تعالى‬
‫الخلق كتب بيده على نفسه ‪ :‬إن رحمتي سبقت غضبي » الثالث ‪ : :‬روى عبد‬
‫الله بن عمر عن النبي ‪ ε‬أنه قال ‪ « :‬إن الله)‪ (5‬يفتح أبواب السماء في ثلث الليل‬
‫الباقي فيبسط‬

‫)‪ (2‬المـائدة ‪64‬‬ ‫)‪ (1‬ص ‪75‬‬


‫)‪ (4‬أثبت اليد ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (3‬عليه السلم ‪ :‬سقط خ‬
‫)‪ (5‬انه يفتح ‪ :‬ط‬

‫يده ‪ ،‬فيقول ‪ :‬أل عبد يسألني فأعطيه ‪ .‬ول يزال)‪ (6‬كذلك حتى يطلع الفجر »‬
‫الرابع ك روى أبو هريرة عن النبي ‪ ε‬أنه قال ‪ « :‬إن الصدقة تقع في يد‬
‫الرحمن ‪ ،‬قبل أن تقع في يد الفقير » السادس ‪ :‬ما تواتر النقل عن النبي ‪ ε‬أنه‬
‫كان يقول ‪ « :‬والذي نفسي بيده » السابع ‪ :‬قوله عليه السلم ‪ « :‬إن الله خمر‬
‫طينة آدم بيده أربعين صباحا ً » والحاديث في هذا الباب كثيرة ‪.‬‬
‫واعلم ‪ :‬أن لفظ اليد حقيقة في هذه الجارحة المخصوصة ‪ ،‬إل أنه يستعمل على‬
‫سبيل المجاز ‪ ،‬في أمور غيرها ك فالول ‪ :‬إنه يستعمل لفظ اليد في القدرة يقال‬
‫‪ :‬يد السلطان فوق يد الرعية ‪ .‬أي ‪ :‬قدرته غالبة على قدرتهم ‪ .‬والسبب في‬
‫‪- 90 -‬‬

‫حسن هذا المجاز ‪ :‬أن كمال حال هذا العضو ‪ ،‬إنما يظهر بالصفة المسماة‬
‫بالقدرة ‪ .‬ولما كان المقصود من اليد حصول القدرة ‪ ،‬أطلق اسم القدرة على‬
‫اليد ‪ .‬وقد يقال ‪ :‬هذه البلدة في يد المير ‪ ،‬وإن كان المير مقطوع اليد ‪ .‬ويقال ‪:‬‬
‫فلن في يده المر والنهي ‪ ،‬والحل والعقد ‪ .‬والمراد ‪ :‬ما ذكرناه ‪ :‬والثاني ك إن‬
‫اليد قد يراد بها النعمة ‪ ،‬وإنما حسن هذا المجاز ‪ ،‬لن آلة إعطاء النعمة اليد‬
‫‪.‬فإطلق اسم اليد على النعمة ‪ ،‬إطلق لسم السبب على المسبب‪ .‬الثالث‪ :‬إنه‬
‫قد يذكر لفظ اليد صلة للكلم على سبيل التأكيد ‪ .‬كقولهم ‪ :‬يداك أو كتا ‪ .‬ويقرب‬
‫منه ‪ :‬قوله تعالى ‪ « :‬فقدموا بين يدي نجواكم صدقة)‪ »(7‬وقوله ‪ « :‬بين يدي‬
‫رحمته)‪ »(8‬فإن النجوى من الرحمة ‪ .‬ول يكون لها هذان العضوان المسميان‬
‫باليدين ‪.‬‬

‫)‪(8‬‬ ‫)‪ (7‬المجادلة ‪12‬‬ ‫)‪ (6‬ول ‪ :‬ط ‪ ،‬فما ‪ :‬خ‬


‫الفرقان ‪48‬‬

‫إذا عرفت هذه المقدمة ‪ .‬فنقول ‪ :‬أما قوله تعالى ‪ « :‬يد الله فوق أيديهم)‪»(9‬‬
‫فالمعنى ‪ :‬إن قدرة الله تعالى غالبة على قدرة الخلق‪ .‬وأما قوله‪ :‬تعالى حكاية‬
‫عن اليهود – أنهم قالوا ‪ « :‬يد الله مغلولة»)‪ – (10‬فاليد ههنا بمعنى النعمة ‪.‬‬
‫والدليل عليه ‪ :‬أن اليهود إما أن يقال ‪ :‬إنهم مقرون بإثبات الخالق ‪ ،‬أو يقال ‪:‬‬
‫بأنهم منكرون له ‪ .‬فإن أقروا به ‪ ،‬امتنع أن نقول ‪ :‬إن خالق العالم جعل مغلول ً‬
‫مقيدًا)‪ . (11‬فإن ذلك ل يقوله عاقل ‪ .‬وإن أنكروه لم يكن للقول بكونه مغلول ً‬
‫فائدة ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن المراد ‪ :‬أنهم كانوا يعتقدون أن نعم الله تعالى محبوسة عن‬
‫الخلق ‪ ،‬ممنوعة عنهم ‪ ،‬فصارت هذه الية من أقوى الدلئل على أن لفظة اليد‬
‫قد يراد بها النعمة ‪ .‬وأما قوله تعالى ‪ « :‬بل يداه مبسوطتان»)‪ (12‬فالمراد منه‬
‫أيضا ً ‪ :‬النعمة ‪ .‬ويدل عليه وجهان ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬أن هذا ورد في معرض الجواب عن قول اليهود ‪ « :‬يد الله مغلولة» ‪،‬‬
‫ولما بينا بالدليل أن قولهم ‪ « :‬يد الله مغلولة» ليس معناه الغل والحبس ‪ ،‬بل‬
‫معناه ‪ :‬احتباس نعم الله تعالى عنهم ‪ ،‬وجب أن يكون قوله ‪ « :‬بل يداه‬
‫مبسوطتان» عبارة عن كثرة نعم الله تعالى وشمولها للخلق ‪ ،‬حتى يكون‬
‫الجواب مطابقا ً للسؤال ‪.‬‬

‫الثاني ‪ :‬إن قوله ‪ « :‬بل يداه مبسوطتان» لو حملناه على ظاهره ‪ ،‬لزم كون يديه‬
‫مبسوطين ‪ ،‬مثل يد صاحب التشنيج)‪ – (13‬تعالى الله عنه – فثبت ‪ :‬أن المراد‬
‫منه ‪ :‬إفاضة النعم ‪.‬‬

‫)‪ (10‬المـائدة ‪64‬‬ ‫)‪ (9‬الفتح ‪10‬‬


‫)‪ (12‬المائدة ‪64‬‬ ‫)‪ (11‬مقهورا ً ‪ :‬ط ‪ ،‬مقيدا ً ‪ :‬خ‬
‫)‪ (13‬التسنج ‪ :‬ط‪ ،‬التشنيج ‪ :‬خ‬

‫فنقول ‪ :‬للعلماء فيه‬ ‫وأما قوله تعالى ‪ «:‬ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي »‬
‫)‪(14‬‬

‫قولن ‪:‬‬
‫القول الول ‪ :‬إن اليدين صفتان قائمتان بذات الله تعالى يحصل بهما التخلق‬
‫على وجه التكريم والصطفاء ‪ ،‬كما في حق آدم عليه السلم ‪.‬‬
‫‪- 91 -‬‬

‫واحتج القائلون بهذا الوجه ‪ .‬بوجوه ‪ :‬الول ‪ :‬إن قوله تعالى ‪ « :‬ما منعك أن‬
‫تسجد لما خلقت بيدي » مشعر بأنه تعالى إنما جعل آدم مسجود للملئكة ‪ ،‬لنه‬
‫تعالى خلقه بيديه ‪ .‬فلو كانت اليد عبارة عن القدرة ‪ ،‬لكانت علة المسجودية ‪،‬‬
‫حاصلة في كل المخلوقات ‪ ،‬فوجب هذا الحكم في الكل ‪ .‬وحيث لم يحصل ‪،‬‬
‫علمنا أن اليد صفة سوى القدرة ‪ .‬والثاني ‪ :‬إن قدرة الله تعالى واحدة ‪ ،‬واليد‬
‫موصوفة بالثنية ‪ .‬والثالث ‪ :‬إن قوله )تعالى()‪ « : (15‬لما خلقت بيدي » يدل على‬
‫كونه مخصوصـا ً بأنه مخلوق ‪ .‬والتخصيص بالذكر يدل على نفي الحكم عما‬
‫عداه ‪ .‬فوجب في كل من سوى آدم عليه السلم ‪ ،‬أن ل يكونوا مخلوقين باليدين‬
‫ن ول يشك في أنهم مخلوقين بالقدرة ‪ .‬وذلك يقتضي أن تكون اليد شيئا ً سوى‬
‫القدرة ‪.‬‬
‫القول الثاني ‪ :‬إن اليد ههنا هي القدرة ‪ .‬ويدل عليه وجوه ‪ :‬الول ‪ :‬إن القدرة‬
‫عبارة عن الصفة التي يكون الموصوف بها متمكنا ً من اليجاد والتكوين ‪ .‬ونقل‬
‫الشيء من العدم إلى الوجود ‪ .‬ولما كان المسمى باليد كذلك ‪ ،‬كان ذلك المعنى‬
‫نفس القدرة ‪ .‬والثاني ‪ :‬إن قدرة الله تعالى صفة قديمة ‪ ،‬واجبة الوجود ‪ ،‬فيجب‬
‫تعلقها بكل ما يصح أن يكون مقدورا ً ‪ .‬وإل لزم افتقارها في ذلك الختصاص إلى‬
‫)‪(16‬‬
‫المخصص ‪ .‬لكن المخصص‬

‫)‪ (15‬تعالى ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (14‬ص ‪65‬‬


‫)‪ (16‬المصحح ك ط ‪ ،‬المخصص ‪ :‬خ‬

‫للمقدورية هو المكان وهذا يقتضي أن يكون كل ممكن مقدورا ً لله تعالى ‪ .‬ول‬
‫شك أن وجود آدم – عليه السلم – من الممكنات ‪ ،‬فيكون وجود آدم من جملة‬
‫متعلقات قدرة الله – تعالى – فلو فرضنا صفة)‪ (17‬أخرى مستقلة بإيجاد هذا‬
‫الممكن ‪ .‬لزم أن يجتمع على الثر الواحد مؤثران مستقلن ‪ .‬وذلك محال ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬إن إثبات صفة سوى القدرة مؤثرة في وجود آدم ‪ ،‬مما ل دليل على‬
‫ثبوتها ‪ .‬فلم يجز إثباتها ‪ .‬لنعقاد الجماع على أن إثبات صفة من صفات الله‬
‫تعالى ‪ ،‬من غير دليل ‪ ،‬ل يجوز‪.‬‬

‫***‬

‫والجواب عن القول)‪ (18‬الول ‪ :‬أما ما تمسكوا به أول ‪ :‬فهو أنه لو كان تخليق آدم‬
‫باليدين يوجب مزيد الصطفاء ‪ ،‬لكان تخليق البهائم والنعام باليدي ‪ ،‬يوجب‬
‫رجحانها على آدم ‪ ،‬في هذه الصطفاء لقوله تعالى في صفة تخليقها ‪ « :‬مما‬
‫عملت أيدينا أنعاما ً فهم لها مالكون»)‪ (19‬ثم نقول ‪ :‬لم ل يجوز أن يكون معنى‬
‫قوله تعالى ‪ « :‬خلقت بيدي» ‪ :‬هو بيان لكثرة عناية الله تعالى في إيجاده‬
‫وتكوينه ‪ .‬فإن النسان إذا أراد المبالغة في إصلح بعض المهمات ‪ ،‬وفي تكميله ‪،‬‬
‫فقد يقول ‪ :‬هذا الشيء أعمله بيدي ‪ .‬ومن المعلوم أن التخليق بغير هذا النوع‬
‫من العناية ‪ ،‬ما كان حاصل ً في حق غير آدم عليه السلم ‪.‬‬
‫والجواب عما تمسكوا به ثانيا ً ‪ :‬إن التثنية ل تدل على حصول العدد ‪ ،‬بدليل ‪:‬‬
‫)‪(21‬‬
‫قوله تعالى ‪« :‬فقدموا بين يدي نجواكم صدقة»)‪ . (20‬وله ‪ « :‬يدي رحمته»‬
‫والجواب عما تمسكوا به ثالثا ً ‪ :‬إن التخصيص بالذكر هنا ‪،‬‬

‫)‪ (17‬جهة ‪ :‬ط ‪ ،‬صفة ‪ :‬خ‬


‫‪- 92 -‬‬

‫)‪ (19‬يس ‪71‬‬ ‫)‪ (18‬الوجه ‪ :‬ص‬


‫)‪ (21‬الفرقان ‪48‬‬ ‫)‪ (20‬المجادلة ‪12‬‬

‫لم يدل على نفي حكمه فيما عداه للناس )لكنا()‪ (22‬بينا ‪ :‬أن التخليق باليدين ‪:‬‬
‫عبارة عن التخليق المخصوص بمزيد الكرامات والتشريفات)‪ (23‬وهذا المجموع ما‬
‫كان حاصل ً في )حق()‪ (24‬غير آدم – عليه السلم –‬
‫وأما الحاديث‪ .‬فتقول ك أما قوله ُ ‪ « : ε‬خلق آدم بيده ‪ ،‬وكتب التوراة بيده » ‪،‬‬
‫فذلك حق يدل على أن المراد ‪ :‬التخصيص بمزيد من الكرامات)‪ (25‬وكذا قوله ‪:‬‬
‫« كتب بيده على نفسه أن رحمتي سبقت غضبي » وأما قوله ‪ « : ε‬إن الله يفتح‬
‫أبواب السماء في ثلث الليل الباقي فيبسط يده » فالمراد ‪ :‬إفاضة النعمة ‪،‬‬
‫وإيصال الرحمة والمغفرة إلى المحتاجين ‪ ،‬وأما قوله ‪ « : ε‬الصدقة تقع في يد‬
‫الرحمن » فالمراد منه ‪ :‬شدة العناية بقبول تلك الصدقات ‪ ،‬وتكثير الثواب‬
‫عليها ‪ .‬وكذا المراد بقوله )عليه السلم()‪ « : (26‬والذي نفسي بيده » فالمراد‬
‫باليد هنا ‪ .‬القدرة ‪.‬‬
‫والذي يدل على أن هذه اللفاظ يجب تأويلها ‪ :‬أن قوله ُ ‪ « : ε‬الصدقة تقع في يد‬
‫)‬

‫‪ (27‬الرحمن » ليس المراد منه اليد بمعنى العضو والجارحة ‪ .‬ويدل عليه وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إنا نشاهد أن تلك الصدقة ما وقعت إل في يد الفقير ‪ .‬فالقول بأنها وقعت‬
‫في يد أخرى ‪ ،‬هي عضو مركب من الجزاء والبعاض ‪ ،‬مع أنا ل نراها ول نحس‬
‫بها ‪ ،‬تشكيك في الضروريات ‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬هذا يقتضي أن تكون يد الله ظرفا ً لصدقات العباد‪ .‬وذلك على خلف‬
‫ظاهر قوله تعال ‪ «:‬بل يداه مبسوطتان »‬

‫)‪ (23‬والتشريف ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (22‬لكن ‪ :‬من خ‬


‫)‪ (25‬الكرامة ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (24‬حق ‪ :‬خ‬
‫)‪ (27‬يدى ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (26‬عليه السلم ‪ :‬خ‬

‫الثالث ‪ :‬إن ذلك يقتضي أن تكون يد المعطي فوق يد المعبود ‪ ،‬حتى يمكنه أن‬
‫يوقع الصدقة في يد الرحمن ‪ .‬وذلك مناقض لظاهر قوله تعالى ُ‪ « :‬يد الله فوق‬
‫أيديهم »‬
‫الرابع ‪ :‬إن ذلك يقتضي أن يكون هو على العرش ‪ ،‬ويده على الرض ‪ .‬وذلك ل‬
‫)‪(28‬‬
‫يقوله عاقل ‪ .‬فثبت ‪ :‬أنه ل بد في هذه الظواهر من التأويلت )وبالله التوفيق(‬

‫ــــــــ‬
‫)‪ (28‬سقط خ‬

‫الفصل السابع عشر‬


‫في‬
‫‪- 93 -‬‬

‫اثبات القبضـة‬
‫ـــــ‬
‫هذه اللفظة قد وردت)‪ (1‬في الخبار والقرآن‪.‬‬
‫)‪(2‬‬
‫أما القرآن ‪ .‬فقوله تعالى ‪ « :‬الرض جميعا ً قبضته يوم القيامة»‬
‫وأما الخبار ‪ .‬فكثيرة ‪ :‬الخبر الول ‪) :‬ما()‪ (3‬روى )بن()‪ (4‬خزيمة في كتابه الذي‬
‫سماه بـ "التوحيد" ن عن أبي موسى الشعري )رضي الله عنه()‪ (5‬عن النبي ‪ε‬‬
‫)أنه()‪ (6‬قال ‪ « :‬إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الرض ‪ ،‬فجاء بنو‬
‫آدم على قدر الرض ‪ ،‬فجاء منهم الحمر والسود ‪ ،‬والسهل والجبل ‪ ،‬والخبيث‬
‫والطيب » الخبر الثاني ‪) :‬ما()‪ (7‬روى )بن()‪ (8‬خزيمة في كتابه عن أنس بن مالك‬
‫)رضي الله عنه()‪ (9‬عن النبي ُ ‪ ε‬أن الله قبض)‪ (10‬قبضة وقال ‪ « :‬إلى الجنة‬
‫برحمتي» وقبض قبضة وقال ‪ « :‬إلى النار ول أبالي » والخبر الثالث ‪ :‬عن أبي‬
‫سعيد الخدري – رضي اللع عنه – عن النبي ُ ‪ ε‬في القبضتين ‪ « :‬هذه في الجن ة‬
‫ول أبالي ‪ ،‬وهذه في النار ول أبالي » واعلم ‪ :‬أن ظاهر الية يقتضي أن تكون‬
‫الرض قبضته‪ .‬وذلك محال ‪ .‬لن الرض محتوية على النجاسات ‪ .‬فكيف يقول‬
‫)‪(11‬‬
‫القائل ‪ :‬إنها قبضة إله العالم ؟ ولن )القرآن مملوء من أن الرض مخلوقة (‬
‫وقبضة الخالق ل تكون مخلوقة ‪ .‬ولن الرض تقبل الجتماع والفتراق‬

‫)‪ (2‬الزمر ‪67‬‬ ‫)‪ (1‬افردت ‪ :‬ط‬


‫)‪ (4‬بن ‪ :‬من خ‬ ‫)‪ (3‬ما ‪ :‬سقط خ‬
‫)‪ (6‬أنه ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (5‬رضي الله عنه ‪ :‬من خ‬
‫)‪ (8‬ابن ‪ :‬من خ‬ ‫)‪ (7‬ما ‪ :‬سقط خ‬
‫)‪ (10‬قد قبض ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (9‬رضي الله عنه ‪ :‬من خ‬
‫)‪ (11‬ولن التراب مخلوق من الرض ‪ :‬ط‬

‫والعمارة والتخريب)‪ ، (12‬وقبضة الخالق ل تكون كذلك ‪ .‬فإذا ً ل بد من التأويل ‪.‬‬


‫وهو أن يقال ‪ :‬إن الرض في قبضته ‪ .‬إل أن هذا الكلم كم يذكر ‪ ،‬ويراد به احتواء‬
‫النامل على الشيء ‪ ،‬فقد يذكر ويراد به كون الشيء في قدرته وتصرفه‬
‫وملكه ‪ .‬يقال ‪ :‬هذه البلدة في قبضة السلطان ‪ .‬والمراد ما ذكرناه ‪ .‬وأما القبضة‬
‫المذكورة في الخبر فالمراد ‪ :‬أنه تعالى ميز)‪ (13‬من تراب الرض مقدار القبضة ‪.‬‬
‫وهذا مجاز مشهور ‪ .‬يقال للشيء القليل ‪ :‬إنه قبضة وحفنة ‪ .‬والمراد ‪ :‬أن‬
‫)‪(14‬‬
‫مقداره مثل ذلك )وبالله التوفيق(‬

‫)‪ (12‬والتفريق ‪ :‬ط ‪ ،‬والتخريب ‪ :‬خ‬


‫)‪ (14‬وبالله التوفيق ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (13‬ميز ‪ :‬ط ‪ ،‬بين ‪ :‬خ‬

‫الفصل الثامن عشر‬


‫في‬
‫ما تمسكوا به في إثبات اليدين لله عز وجل‬
‫_______‬
‫احتجوا بالقرآن ‪ ،‬وبالخبار ‪.‬‬
‫‪- 94 -‬‬

‫؟» وقوله‬ ‫أما القرآن ‪ :‬فقوله تعالى ‪ « :‬ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي‬
‫)‪(1‬‬

‫تعالى ‪ « :‬بل يداه مبسوطتان)‪. »(2‬‬


‫وأما الخبر ‪ :‬فما روى ابن خزيمة عن أبي هريرة )رضي الله عنه)‪ ( (3‬قال ‪ :‬قال‬
‫رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‪ « :‬لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح ‪:‬‬
‫عطس ‪ .‬فقال ‪ :‬الحمد لله ‪ ،‬فحمد الله ‪ ،‬بإذن الله ‪ .‬فقال له ربه)‪ (4‬يرحمك ربك‬
‫يا آدم ‪ .‬ثم قال له ‪ :‬يا آدم اذهب إلى الملئكة فقل ‪ :‬السلم عليكم )فلما ذهب‬
‫وقال)‪ ( (5‬قالوا ‪ :‬عليكم السلم ورحمة الله )ثم رجع إلى ربه ‪ .‬فقال ‪ :‬هذه تحيتك‬
‫وتحية بنيك وبنيهم ‪ .‬فقال الله تعالى)‪ – ( (6‬ويداه مقبوضتان – اختر أيهما شئت‬
‫فقال ‪ :‬اخترت يمين ربي – وكلتا يديه يمين مباركة – ثم بسطها فإذا فيها آدم‬
‫وذريته ‪ .‬فقال ‪ .‬أي رب ما هؤلء ؟ فقال ‪ :‬هؤلء ذريتك ‪ ،‬فإذا كل إنسان مكتوب‬
‫عمره بين عينيه)‪»(7‬‬
‫واعلم ‪ :‬ـن هذا الحديث طويل ‪ .‬ومقصودنا هنا ‪ :‬هذا القدر ‪ .‬وقد‬

‫)‪ (2‬المائدة ‪64‬‬ ‫)‪ (1‬ص ‪75‬‬


‫)‪ (4‬ربه ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (3‬رضي الله عنه ‪ :‬من خ‬
‫)‪ (5‬فلما ذهب وقال ‪ :‬سقط خ‬
‫)‪ (6‬ما بين القوسين ‪ :‬من خ‬
‫)‪ (7‬بين عقبة ‪ :‬ط بين عينيه ‪ :‬خ وهذا يدل على أن النسان مجبر والقرآن‬
‫مصرح بأنه مختار‬

‫عرفت ‪ :‬أنه ل يمكن حمل لفظ اليد في حق الله تعالى على الجارحة ‪ .‬وتدل‬
‫ههنا وجوه أخرى ‪:‬‬
‫فالول ‪ :‬إن ظاهر الحديث يدل على أن كلتا يديه يمين ‪ .‬واليدين بمعنى‬
‫الجارحة ‪ ،‬إذا كانت كلتاهما يمينا ً ‪ ،‬كان ذلك في غاية القبح ‪ ،‬وتشويه الخلقة –‬
‫تعالى الله عن ذلك علوا ً كبيرا ً –‬
‫والثاني ‪ :‬أن إحدي اليدين إذا كانت غير وافية بالعمل ‪ ،‬كانت ناقصة )وجل إلهنا‬
‫عنه ‪ ،‬وإن كانت وافية بالعمل كانت ناقصة()‪ (8‬وذلك يوجب نقصانا ً في الصورة ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬إن ظاهر الخبر الذي رويناه ن يدل على أنه كان يلعب مع آدم )عليه‬
‫السلم()‪ (9‬كما يلعب الصبيان بعضهم مع بعض حين )‪ (10‬يقبضون أيديهم على‬
‫الزوج والفرد ‪ .‬والصبيان إذا فعلوا ذلك ضربهم المعام وأدبهم ‪ .‬فكيف ينسب ذلك‬
‫)‬
‫إلى رب العالمين ‪ ،‬وأحكم الحاكمين ؟ فثبت ‪ :‬أنه يجب حمل ذلك على المبالغة‬
‫‪ (11‬في الحفظ والحراسة ‪ ،‬وشدة العناية )وبالله التوفيق(‬

‫)‪ (9‬عليه السلم ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (8‬ما بين القوسين ‪ :‬من خ‬


‫)‪ (11‬الباكورة ‪ :‬ط ‪ ،‬المبالغة ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (10‬حتى ‪ :‬ط ‪ ،‬حين ‪ :‬خ‬

‫الفصل التاسع عشر‬


‫في‬
‫إثبات اليمين لله تعالى‬
‫______‬
‫‪- 95 -‬‬

‫( بالقرآن ‪ ،‬والخبار ‪.‬‬ ‫)‪(1‬‬


‫احتجوا )عليه‬
‫؟» وقولـه تعالى ‪« :‬‬ ‫)‪(2‬‬
‫أما القرآن ‪ :‬فقوله تعالى ‪ « : :‬السموات مطويات بيمينه‬
‫)‪(3‬‬
‫لخذنا منه باليمن»‬
‫وأما الخبار ‪ :‬فكثيرة ‪ :‬الول ‪ :‬قوله عليه السلم ; ‪ « :‬كلتا يديه يمين» والثاني ‪:‬‬
‫ل ‪ « : (ε )(4‬يقبض الله الرض يوم القيامة ‪،‬‬‫عن أبي هريرة أنه قال ‪ :‬قال )رسو ُ‬
‫ويطوي السموات بيمينه ‪ .‬ثم يقول ‪ :‬أنا الملك ‪ .‬فأين ملوك الرض ؟»‬
‫الثالث ‪ :‬روى صاحب شرح السنة )رحمه الله( )‪ (5‬في باب " اليمان بالقدر" عن‬
‫عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال ‪ :‬سمعت )النبي)‪ ε ُ ( (6‬يقول ‪ « :‬إن الله‬
‫خلق آدم ‪ ،‬ثم مسح ظهره بيمينه ‪ ،‬ثم استخرج منه ذرية)‪ (7‬فقال ‪ :‬خلقت هؤلء‬
‫للجنة ‪ ،‬وبعمل أهل الجنة يعملون ‪ .‬ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫خلقت هؤلء للنار ‪ ،‬وبعمل أهل النار يعملون»‬

‫)‪ (2‬الزمر ‪67‬‬ ‫)‪ (1‬عليه ‪ :‬من خ‬


‫)‪ (4‬عليه السلم ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (3‬الحاقة ‪45‬‬
‫)‪ (6‬رسول الله ك‬ ‫)‪ (5‬رحمه الله ‪ :‬من خ‬
‫)‪ (7‬ذريته ‪ :‬ط‬

‫الرابع ‪ :‬روى ابن خزيمة في كتابه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ‪« :‬‬
‫أن أحدكم يتصدق بالتمرة من )كسب)‪ ( (8‬طيب – ول يقبل الله إل طيبا ً – فيجعلها‬
‫في يده اليمين ‪ ،‬ثم يربيها كما يربي أحدكم فلوه وفصيله ‪ ،‬حتى يصير مثل أحد»‬
‫واعلم ‪ :‬أن اليمين عبارة عن القوة والقدرة ‪ .‬والدليل عليه ‪ :‬أنه سمى الجانب‬
‫اليمن ‪ ،‬باليمين ‪ ،‬لنه أقوى الجانبين ‪ ،‬وسمى الحلف ‪ ،‬باليمين ‪ ،‬لنه يقوي عزم‬
‫النسان على الفعل أو الترك قال الشاعر ‪:‬‬
‫إذا ما رأيه رفعت لمجد‬
‫تلقاها عرابـة باليمين‬

‫إذا عرفت هذا )فنقول)‪ : ( (9‬ظهر الوجه في قوله تعالى ‪ « :‬والسموات مطويات‬
‫بيمينه» أما قوله تعالى ‪ « :‬لخذنا منه باليمين» فالمراد منه ‪ .‬يمين المأخوذ )أي‬
‫ثم أخذنا بيمين()‪ (10‬ذلك النسان وهو كما يقال ‪ :‬أخذت بيمين الصبي ‪ ،‬وذهبت به‬
‫إلى المكتب ‪ .‬وإن كان المراد يمين الخذ فالمراد منه ‪ :‬القوة والقدرة وإذا‬
‫عرفت ذلك في الية ‪ .‬فاعرف مثله في الخبار ‪.‬‬
‫‪------------------‬‬

‫كسب ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪(8‬‬


‫)‪ (9‬فنقول ‪ :‬خ‬
‫)‪ (10‬أي أخذنا منه ‪ :‬ط والمراد ‪ :‬أهلكنا المكذب‬

‫الفصل العشرون‬
‫في‬
‫‪- 96 -‬‬

‫الكـف‬

‫هذا اللفظ غير وارد في القرآن‪ .‬لكنه مذكور في الخبر ‪ .‬روى ابن خزيمة في‬
‫كتابه الذي سماه بـ "التوحيد" عن أبي هريرة )رضي الله عنه)‪ ( (1‬عن النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم)‪ (2‬أنه قال‪ « :‬من تصدق بصدقة من كسب طيب – ول يقبل الله‬
‫إل طيبا ً ‪ ،‬ول يصعد إلى السماء إل الطيب – تقع في كف الرحمن فيربيه كما‬
‫يربي أحدكم فصيلة ‪ ،‬حتى أن التمرة لتعود مثل الجبل العظيم » وروى هذا‬
‫الحديث برواية أخرى عن أبي هريرة ‪ .‬وفيه ‪ « :‬إن الرجل ليتصدق باللقمة ‪.‬‬
‫فتربو في يد الله تعالى» أو قال ‪ « :‬في كف الله تعالى ‪ ،‬حتى يكون مثل الجبل‬
‫)‪(3‬‬
‫‪ .‬فتصدقوا»‬
‫واعلم ‪ :‬أن هذا يدل على أن أبا هريرة كان مترددا ً في أنه سمع لفظ اليد أو لفظ‬
‫الكف ؟ ويمكن أن يقال ‪ :‬سمعهما معا ً في مجلسين مختلفين ‪ .‬وروى ابن خزيمة‬
‫في آخر هذا الباب ن عن أبي الحباب)‪ . (4‬أنه سمع أبا هريرة يذكر هذا الحديث‬
‫موقوفا ً ‪ .‬فثبت بطريق الضعف ‪ :‬هذا الحديث ‪ .‬وبتقدير الصحة ‪ :‬فهو كناية عن‬
‫زيادة الهتمام بذلك الفعل ‪ ،‬وقوة العناية به – كما تقدم مثله سائر اللفاظ –‬
‫)‪(5‬‬
‫)وبالله التوفيق(‬
‫)‪ (2‬وسلم ‪ :‬خ وآله ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (1‬من خ‬
‫)‪ (3‬هذا الحديث مروي بروايات مختلفة ‪ ،‬ذكرها ابن خزيمة في التوحيد واثبات‬
‫صفات الرب ص ‪62-60‬‬
‫)‪ (4‬ابن حبان ‪ ،‬ط ‪ ،‬أبي الحباب ‪ :‬خ وهو سعيد بن يسار ) ص ‪ 63‬التوحيد(‬
‫)‪ (5‬سقط خ‬

‫الفصـل الحادي والعشرون‬


‫في‬
‫الســاعد‬
‫ـــــ‬
‫آخر طويل ‪ « :‬ساعد الله ‪ :‬أشـد من ساعدك»‬ ‫)‪(1‬‬
‫وذكر في حديث‬

‫)قال الداعي إلى الله المصنف رضي الله عنه()‪ : (2‬إذا صح هذا الحديث فمحمول‬
‫على كمال القدرة ‪ .‬ونظيره ‪ :‬قوله تعالى ‪ « :‬إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين‬
‫)‬

‫‪»(3‬‬

‫ـــــــــ‬

‫)‪ (2‬قال المصنف رحمه الله تعالى ‪:‬‬ ‫)‪ (1‬آخر حديث ‪ :‬ط‬
‫ح‬
‫)‪ (3‬الذاريات ‪58‬‬

‫الفصل الثاني والعشرون‬


‫‪- 97 -‬‬

‫في‬
‫الصبـع‬
‫ــــ‬
‫هذه اللفظة غير مذكورة في القرآن ‪ .‬لكنها مذكورة في الخبار ‪:‬‬
‫فالخبر الول ‪ :‬روى القشيري عن مسلم بن الحجاج عن أنس بن مالك – رضي‬
‫الله عنه – قال كان النبي ‪ (ε (1‬يكثر أن يقول ‪ « :‬يا مقلب القلوب ثبت قلبي على‬
‫دينك» قالوا ‪ :‬يا رسول الله )آمنا بك وبما جئت به ‪ .‬فهل تخاف علينا ؟)‪( (2‬‬
‫فقال ‪ « :‬القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها )كيف شاء)‪»( (3‬‬
‫الخبر الثاني ‪) :‬ما()‪ (4‬روى صاحب شرح السنة في باب قوله تعالى‪ « :‬ونقلب‬
‫أفئدتهم وأبصارهم)‪ »(5‬أن النبي ‪ (ε (6‬قال ‪ « :‬ما من قلب إل وهو بين إصبعين من‬
‫أصابع رب العالمين )إذا شاء أن يقيمه أقامه ‪ ،‬وإذا شاء يزيغه أزاغه ()‪ (7‬قال‬
‫وكان )النبي()‪ ε (8‬يقول ‪ " :‬يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك" – "والميزان‬
‫بين يدي الرحمن يرفع أقواما ً ‪ ،‬ويضع آخرين إلى يوم القيامة" »‬

‫)‪ (1‬وآله وسلم ‪ :‬ط‬


‫)‪ (2‬أما أنبئك غفران ما أتيته ؟ فهل تخاف بعد ؟ ‪:‬ط‬
‫)‪(5‬‬ ‫)‪ (4‬ما ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (3‬سقط ‪ :‬خ‬
‫النعـام ‪110‬‬
‫)‪ (6‬وآله وسلم ‪ :‬ط‬
‫إذا شاء عصمه واذدا شاء غير بريقه غذا غر ‪ :‬ط‬ ‫)‪(6‬‬
‫)‪ (8‬النبأ ‪ :‬من خ‬

‫والخبر الثالث ‪ :‬روى ابن خزيمة في كتابه عن علقمة عن عبد الله بن مسعود –‬
‫رضي الله عنه – قال ‪ :‬أتى النبي ‪ ε‬رجل من أهل الكتاب ‪ .‬فقال ‪ :‬يا أبا القاسم ‪،‬‬
‫أبلغك أن الله )تعالى()‪ (9‬يحمل الخلئق على إصبع والسموات )علىإصبع)‪( (10‬‬
‫و)الرضين على إصبع ‪ ،‬والشجر على إصبع)‪ ( (11‬والثرى على إصبع ؟ قال ‪:‬‬
‫فضحك النبي ‪ ε‬حتى بدت نواجذه ‪ .‬فأنزل الله تعالى ‪ « :‬وما قدروا الله حق‬
‫قدره)‪ »(12‬إلى آخر الية ‪ .‬ثم ذكر ابن خزيمة هذا الحديث برواية أخرى عن عبجد‬
‫الله )بإسناد حسن)‪ ( (13‬وقال ‪ :‬فضحك )النبي)‪ ε (14‬تعجبا ً وتصديقا ً له ‪.‬‬
‫واعلم ‪ :‬أنه ليس المراد من الصبع ‪ :‬العضو الجسماني ‪ ،‬ويدل عليه وجوه ‪:‬‬
‫الول‪ :‬إنه يلزم أن يكون لله تعالى بحسب كل قلب‪ :‬إصبعان‪ ،‬أو يلزم أن يكون‬
‫)‬
‫لله إصبعان )فقط)‪ ( (15‬وهما حاصلن في بطن كل إنسان ‪ ،‬حتى يكون ) الجسم‬
‫‪ ( (16‬الواحد حاصل ً في أمكنة كثيرة ‪ .‬وذلك كله سخيف وباطل ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إنه يلزم ـن يكون إصبعاه في أجوافنا ‪ .‬مع أنه تعالى على العرش _ عند‬
‫المجسمة – وذلك أيضا ً محال ‪.‬‬

‫الثالث ‪ :‬إنه يقتضي أن ل يصح منه التصرف إل بالصابع وهو عجز‬

‫)‪ (10‬على اصبع ‪ :‬من خ‬ ‫)‪ (9‬تعالى ‪ :‬خ‬


‫‪- 98 -‬‬

‫)‪ (12‬الزمر ‪67‬‬ ‫)‪ (11‬ما بين القوسين ‪ :‬سقط خ‬


‫بن حسن ‪ :‬خ وانظر الحديث في ص ‪ 76‬من كتاب التوحيد‬ ‫)‪(12‬‬
‫)‪ (15‬فقط ‪ :‬خ يعدان ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (14‬النبي ‪ :‬من ط‬
‫)‪ (16‬الجسـم ‪ :‬من ط‬

‫وحاجة ‪ .‬وذلك على الله تعالى محال ‪ .‬والتأويل الصحيح فيه ‪ :‬إن الشيء الذي‬
‫يأخذه النسان بأصابعه يكون مقدور قدرته ‪ .‬ومحل تصرفه على وجه السهولة ‪،‬‬
‫من غير ممانعة أصل ً ‪ .‬ولما كانت الصبع سببا ً لهذه المكنة والقدرة ‪ ،‬جعل لفظ‬
‫الصبع كناية عن تلك القدرة الكاملة ‪.‬‬
‫إذا عرفت هذه المقدمة ‪ .‬فنقول ‪ :‬أما الحديث الول ففيه سر لطيف وذلك لن‬
‫المتصرف في البدن ‪ ،‬هو القلب‪ .‬والقلب ل ينفك عن الفعل وعن الترك ‪ .‬والفعل‬
‫)‪(17‬‬
‫موقوف على حصول الدواعي إلى الفعل ‪ ،‬والترك موقوف على )عدم(‬
‫حصول تلك الدواعي ‪ .‬ول خروج عن هاتين الحالتين ‪ ،‬لن الخروج عن طرفي‬
‫النقيض محال ‪ .‬ثم إن حصول الداعي إلى الفعل من الله تعالى ‪ ،‬ول حصول له‬
‫من العبد ‪ .‬وإل لفتقر العبد في تحصيل ذلك الداعي إلى داع آخر ز ويلزم‬
‫التسلسل وهو محال ‪ .‬فثبت أن القلب واقع بين هاتين الحالتين ‪ .‬فإن حصل فيه‬
‫ما يدعوه إلى الفعل ‪ .‬أقدم)‪ (18‬على الفعل ‪ .‬وإن لم يحصل فيه ذلك ‪ .‬بقى على‬
‫الترك ‪ .‬فحصول هاتين الحالتين في قلوب المؤمنين للفعل والترك ‪ ،‬كالصبعين‬
‫المؤثرين في تقليب الشياء ‪ .‬وتقليب القلب بسبب هاتين الداعيتين ن يشبه‬
‫تقليب الشيء المأخوذ بالصبعين من حال إلى حال ‪ .‬وكم أن النسان يتصرف‬
‫في الشيء المأخوذ بإصبعه بتلك الصابع ‪ ،‬فالحق سبحانه )وتعالى()‪ (19‬يتصرف‬
‫في قلوب عباده بواسطة خلق تلك الدواعي ‪ .‬وتلك النكته هي السر العظم ‪،‬‬
‫والقانون الشرف في مسألة القضاء والقدر ‪ .‬وقد عبر النبي ‪ ε‬بهذه اللفظة‬
‫الوجيزة ‪ ،‬والنكتة اللطيفة ‪ ،‬عن هذا السر اللطيف ‪.‬‬

‫على حصول ضد تلك الدواعي ‪ :‬ط‬ ‫)‪(17‬‬


‫أقـدم ‪ :‬خ ‪ ،‬عزم ‪ :‬ط‬ ‫)‪(18‬‬
‫)‪ (19‬وتعالـى ‪ :‬من خ‬

‫ومما يدل على أن المراد ما ذكرناه ‪ :‬ما روينا في الخبر أنه ‪ ε‬كان كثيرا ً ما‬
‫يقول ‪« :‬اللهم ثبت قلبي على دينك »‬
‫وأما الخبر الذي رواه عبد الله عن اليهود ‪ :‬فالكلم فيه من وجهين ‪ :‬الول ‪ :‬إن‬
‫هذا الكلم )كلم اليهود()‪ (20‬فل يكون حجة ‪ .‬ولعل النبي ‪ ε‬ضحك عند هذا الكلم‬
‫استخفافا ً به ‪ ،‬فإن النسان العاقل إذا سمع كلما ً ‪ ،‬قد يضحك عليه استخفافا ً به ‪.‬‬
‫بقى أن يقال ‪ :‬أن عبد الله نقل أنه ‪ ε‬ضحك في كلمه تصديقا ً له ‪ .‬إل أنا نقول ‪:‬‬
‫هذا تمسك بمجرد الظن ‪ ،‬فل يكون حجة أصل ً ‪ .‬ثم إنه روي في الخبر أنه ‪ ε‬قرأ‬
‫عند ذلك قوله تعالى ‪ « :‬وما قدروا الله حق قدره » وهذا مشعر بأنه عليه‬
‫السلم كان منكرا ً لكلمه ‪ .‬الوجه الثاني ‪ :‬إنه إن صح هذا الخبر فهو محمول على‬
‫كونه تعالى قادرا ً على التصرف في هذه الجسام العظيمة ‪ ،‬بقدرة ل يدفها‬
‫دافع ‪ ،‬ول يعارضها مانع وذلك لنا بينا أن الشيء الذي يأخذه النسان بإصبعيه‬
‫يكون قادرا ً على التصرف فيه على أسهل)‪ (21‬الوجوه ‪ ،‬فكان ذلك الصبع هنا‬
‫لتعريف كمال قدرة الله تعالى ‪ .‬ونفاذ تصرفه في هذه الجسام العظيمة ‪.‬‬
‫‪- 99 -‬‬

‫ونظيره قولهم في وصف فعل من الفعال بالسهولة واليسر ‪ :‬هذا العمل في‬
‫)‪(22‬‬
‫كفة ‪ ،‬بل على رأس إصبعه ‪ .‬والمراد ‪ :‬ما ذكرنا )وبالله التوفيق(‬

‫)‪ (20‬كلم اليهود ‪ :‬من خ‬


‫)‪ (21‬أسـهل ‪ :‬خ ‪ ،‬أكمـل ‪ :‬ط‬
‫)‪ (22‬وباللـه التوفيق ‪ :‬سقط خ‬

‫القصل الثالث والعشرون‬


‫في‬
‫النامل‬
‫ــــ‬
‫( ولكنها واردة في الخبر ‪.‬‬ ‫)‪(1‬‬
‫هذه اللفظة غير واردة )في القرآن‬
‫وهو ما روى عن النبي ‪ ε‬أنه قال ‪ « :‬وضع يده على كتفي» )وفي رواية ‪ :‬وضع‬
‫كفه على كتفي()‪ (2‬فوجدت برد أنامله فعلمت ما كان وما يكون» والتأويل ‪) :‬مثل‬
‫أن يقال()‪ (3‬للملك الكبير ‪ :‬ضع يدك على رأس فلن‪ .‬والمراد ‪ :‬اصرف عنايتك‬
‫إليه ‪ .‬فقوله ‪ « :‬وضع يده على كتفي» معناه ‪ :‬صرف العناية إلى ‪ .‬وقوله ‪« :‬‬
‫فوجدت برد أنامله » معناه ‪ :‬وجدت أثر تلك العناية ‪ .‬فإن العرب تعبر عن وجدان‬
‫الراحة واللذة ‪ ،‬بوجدان البرد ‪ .‬وإذا أرادوا الدعاء قالوا ‪ :‬برد الله تلك الديار‪.‬‬

‫ــــ‬

‫)‪ (2‬زيادة ‪ :‬من خ‬ ‫)‪ (1‬في القرآن ‪ :‬من خ‬


‫)‪ (3‬أن يقال ‪ :‬ص‬

‫الفصل الرابع والعشرون‬


‫في‬
‫الجنب‬
‫____‬
‫قال الله تعالى ‪ « :‬يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله)‪»(1‬‬
‫واعلم ‪ :‬أن المراد ههنا من الجنب ‪ :‬الوحي)‪ . (2‬والسبب في حسن المجاز ‪ :‬أن‬
‫جنب الشيء إنما يسمى جنبا ً لنه )به)‪ ( (3‬يصير ذلك الشيء مجانبا ً لغيره ‪ .‬فمن‬
‫أتى بعمل على سبيل الخلص في حق الله تعالى‪ ،‬فقد جانب في ذلك العمل‬
‫غير الله ‪ .‬فيصح أن يقال ‪) :‬إنه أتى بذلك()‪ (4‬العمل في جنب الله ‪ .‬وهذه‬
‫)‪(5‬‬
‫الستعارة معروفة معتادة في العرف )وبالله التوفيق(‬
‫ـــــ‬
‫‪- 100 -‬‬

‫)‪ (1‬الزمـر ‪56‬‬


‫)‪ (3‬به ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (2‬الوجه ‪ :‬ط ‪ ،‬الوحي ‪ :‬خ‬
‫( وبلله التوفيق ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (4‬يقال ذلك العمل ‪ :‬ط‬

‫الفصل الخامس والعشرون‬


‫في‬
‫السـاق‬

‫احتجوا على الساق بالقرآن والخبر ‪.‬‬


‫أما القرآن ‪ :‬فقوله تعالى ‪ « :‬يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود)‪»(1‬‬

‫وأما الخبر ‪ :‬فقط روى صاحب شرح السنة )رحمه الله()‪ (2‬في قوله تعالى ‪ « :‬إن‬
‫زلزلة الساعة شيء عظيم)‪ »(3‬عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أنه قال‬
‫‪ :‬سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ‪ « :‬يكشف ربنا عن ساقه ‪ ،‬فيسجد‬
‫)له)‪ ( (4‬كل مؤمن ومؤمنة ‪ ،‬ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة ‪.‬‬
‫فيذهب ليسجد له ‪ ،‬فيعود )على()‪ (5‬ظهره طبقا ً »‬
‫واعلم ‪ :‬أنه ل حجة للقوم في هذه الية ‪ ،‬وفي هذا الخبر ‪ ،‬ويدل عليه وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إنه ليس في الية أن الله تعالى "يكشف عن ساق )‪ " (6‬بلفظ ما لم‬
‫يسمى فاعله ‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬إن إثبات الساق الواحد للحيوان نقص ‪ .‬وتعلى الله عنه ‪.‬‬

‫)‪ (1‬القلم ‪ 42‬ويدعون إلى السجود ك من ط‬


‫)‪ (3‬أول الحج‬ ‫)‪ (2‬رحمه الله ‪ :‬ط‬
‫)‪ (5‬على ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (4‬له ‪ :‬ط‬
‫)‪ (6‬القلم ‪ 42‬ويكشف ‪ :‬من ط‬

‫الثالث ‪ :‬إن الكشف عن الساق إنما يكون عند الحتراز عن تلوث الثوب بشيء‬
‫محذور – وجل إله العالم عنه – بل نقول ‪ :‬المراد بالساق ‪ :‬شدة أهوال القيامة ‪.‬‬
‫يقام قامت الحرب على ساقها‪ .‬أي شدتها ‪ .‬فقوله ُ« يكشف عن ساق » أي عن‬
‫شدة القيامة ‪ ،‬وعن أهوالها ‪ ،‬وأنواع عذابها ‪ .‬وأضافه إلى نفسه لنها شدة ل يقدر‬
‫عليها إل الله تعالى ‪.‬‬

‫الفصل السادس والعشرون‬


‫في‬
‫الرجل والقدم‬
‫____‬
‫أما الرجل ‪ .‬فقد روى صاحب شرح السنة –رحمه الله – في آخر كتابه ‪ ،‬عن أبي‬
‫هريرة – رضي الله عنه – قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪« :‬‬
‫‪- 101 -‬‬

‫تحاجت الجنة والنار ‪ .‬فقالت النار ‪ :‬إوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ‪ ،‬وقالت الجنة‬
‫فما لي ل يدخلني ‪ ،‬إل ضعفاء المسلمين وسقطهم ‪ .‬فقال تعالى للجنة ‪ :‬إنما‬
‫أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ن وقال للنار ‪ :‬إنما أنت عذابي أعذب‬
‫بك من أشاء من عبادي ‪ .‬ولكل واحدة منكما ملؤها ‪ .‬فأما النار فل تمتلئ حتى‬
‫يضع )الله تعالى()‪ (1‬فيها رجله ن فتقول ‪ :‬قط قط ‪ .‬فهناك )تمتلئ)‪ ( (2‬ويزوي‬
‫بعضها إلى بعض ‪ ،‬ول يظلم الله أحدا ً من خلقه ‪ .‬وأما الجنة فإن الله ينشئ لها‬
‫خلقًا» قال صاحب شرح السنة )رحمه الله)‪ : ( (3‬هذا حديث متفق على صحته ‪،‬‬
‫أخرجه الشيخان ‪.‬‬

‫وأما القدم ‪ :‬فروى صاحب هذا الكتاب ‪ ،‬عن أنس )رضي الله عنه)‪ ( (4‬قال ‪ :‬قال‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ « :‬ل تزال جهنم تقول ‪" :‬هل من مزيد " ؟‬
‫حتى يضع رب العزة قدمه فيها ‪ ،‬فتقول ‪ .‬قط )قط()‪ (5‬وعزتك ‪ .‬ويزوي بعضها‬
‫إلى بعض ‪ .‬ول يزال في الجنة‬

‫)‪ (1‬الله تعالى ك ط ‪ ،‬الجبار ‪ :‬خ‬


‫)‪ (3‬رحمه الله ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (2‬تمتلئ ‪ :‬خ‬
‫)‪ (5‬قط قط ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (4‬رضي الله عنه ‪ :‬ط‬

‫فضل ‪ ،‬حتى ينشي الله تعالى خلقا ‪ ،‬فيسكنهم فضول الجنة » قال صحب شرح‬
‫السنة « هذا حديث متفق على صحته ‪ ،‬أخرجه الشيخان »‬
‫واعلم ‪ .‬أن هذه الحاديث ل يمكن إجراؤها على ظاهرها ‪ .‬ويدل عليه وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إن الجنة والنار جمادان ‪ .‬فكيف يتصور منها المحاجة والمخاصمة ؟ فإن‬
‫قالوا ‪ :‬إن الله تعالى يجعلهما من الحياء ‪ ،‬فنقول ‪ :‬إذا حصلت هذه الحالة ‪،‬‬
‫وعرفا ربهما ‪ ،‬امتنعت حصول هذه المحاجة ‪ .‬لنهما يعرفان أن كل ما يفعله إله‬
‫العالم فهو عدل وصواب ‪ .‬وعلى هذا التقدير ل تبقى هذه المحاجة ‪ .‬وأيضا ً ‪ :‬إذا‬
‫علم الله أنه إذا خلق الحياة فيهما ‪ ،‬فإنهما يقدمان على المحاجة ‪ ،‬ول تنقطع تلك‬
‫المحاجة إل إذا وضع قدمه في النار ‪ .‬كان يجب أن ل يخلق الحياة فيهما ‪ ،‬لئل‬
‫تحصل هذه الفتنة ‪.‬‬

‫والثاني ‪ :‬إن هذا الحديث يقتضي أنه تعالى ما كان عالما ً بمقدار أهل الثواب‬
‫والعقاب ‪ ،‬فل جرم خلق‬
‫الله الجنة والنار ‪ ،‬أوسع من قدر الحاجة ول جرم احتاج إلى أن يخلق للجنة خلقا ً‬
‫آخر ‪ .‬وأن قدمه في النار ‪.‬‬

‫والثالث ‪ :‬إنه إذا كان له رجل ‪ .‬فالظاهر أنه ل يضع تلك الرجل في النار ‪ ،‬لنه لو‬
‫وضع رجله في النار وانطفئت النار‪ ،‬فقد زال العذاب عن أهل النار – وهو غير‬
‫جائز – وإن بقيت النار مشتعلة ‪ ،‬لزم وقوع الحتراق في تلك الرجل – وتعالى‬
‫الله عن ذلك علوا ً كبيرا ً – فإن قالوا ‪ :‬لم ل يجوز أن يبقى الحتراق في أبدان‬
‫)‬
‫الكفار ‪ .‬ويصون نفسه عن النار والحتراق ؟ فنقول ‪ :‬إذا قدر على ذلك فلم )لم‬
‫‪ ( (6‬يقدر‬

‫)‪ (6‬فلم لم ‪ :‬خ‬


‫‪- 102 -‬‬

‫على أن ينفي المواقع الخالية من جهنم ‪ ،‬حتى ل تصير ملجأ إلى وضع القدم‬
‫فيها‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬إن النار إنما تطلب بقولها ‪" :‬هل من مزيد" ؟ ‪ :‬الذين يستحقون‬
‫العذاب ‪ .‬ولذلك إذا لم يكن مستحقا ً للعذاب ‪ ،‬لم يكن وضع تلك الرجل جوابا ً عن‬
‫قولها ‪" :‬هل من مزيد" ؟‬

‫الخامس ‪ :‬إنه تعالى إن قدر على إسكات جهنم من تلك المطالبة ‪ ،‬فلم يسكت؟‬
‫وإن )لم يقدر)‪ ( (7‬على إسكاتها فهذا يوهم أنه تعالى جعل رجل نفسه فداء لغيره‬
‫‪ .‬وذلك ل يفعله )إل()‪ (8‬أعجز الناس وأجبنهم)‪. (9‬‬
‫السادس ‪ :‬إن نص القرآن يدل على أن جهنم تمتلئ من المكلفين ‪ .‬قال الله‬
‫تعالى ‪ « :‬لملن جهنم منك ‪ ،‬وممن تبعك منهم أجمعين »)‪ (10‬وقال ‪ « :‬لملن‬
‫)‬
‫جهنم من الجنة ‪ ،‬ومن الناس أجمعين »)‪ (11‬وهذا على خلف قولهم )إن حهنم‬
‫‪ ( (12‬تمتلئ من رجل الله – تعالى الله عنه علوا ً كبيرا ً – فثبت بهذه الوجوه ‪ :‬أن‬
‫هذه الخبار ضعيفة جدا ً ‪.‬‬

‫ثم نقول ‪ :‬إن قلنا بتقدير صحة هذه اللفاظ )فهي)‪ ( (13‬محتملة للتأويل ‪ .‬فإن من‬
‫سعى لزالة خصومة ‪ ،‬وتسكين فتنة ‪ ،‬صح أن يقال ‪ :‬إن فلنا ً وضع رجله في هذه‬
‫الواقعة ‪ ،‬ووضع قدمه فيها ‪ .‬ويقال في المجاز المتعارف الظاهر ‪ :‬لك قدم مبارك‬
‫‪ ،‬وضع قدمك فيها حتى يصلح ويزول‬

‫لم يقدر ‪ :‬ط ‪ ،‬قدر ‪ :‬خ‬ ‫)‪(7‬‬


‫)‪ (9‬واجبنهم ‪ :‬ط ‪ ،‬وأخسهم ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (8‬ال ‪ :‬من ط‬
‫)‪ (11‬هـود ‪119‬‬ ‫)‪ (10‬ص ‪85‬‬
‫)‪ (13‬فهي ‪ :‬من ط‬ ‫)‪ (12‬ان جهنم ‪ :‬من خ‬

‫الشر ‪ .‬فهذا مجاز سائغ ‪ .‬وحمل اللفظ عليه محتمل ‪ .‬ومن هذا الباب ‪ :‬ما روى‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم قال ‪« :‬لما قضى الله بين خلقه استلقى على قفاه ‪.‬‬
‫ثم وضع إحدى رجليه على الخرى ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬ل ينبغي لحد أن يفعل مثل هذا »‬
‫والتأويل ‪ :‬أن المباشر لعمل إذا أتمه استلقي على قفاه ‪ .‬فعبر النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم عن تتميم المر بهذه العبارة ‪ .‬وكذا القول في وضع إحدى الرجلين‬
‫على الخرى )وبلله التوفيق)‪( (14‬‬

‫‪---------------------‬‬

‫)‪ 149‬وبالله التوفيق ‪ :‬سقط خ‬

‫الفصـل السابع والعشرون‬


‫في‬
‫الضـحك‬
‫‪- 103 -‬‬

‫ــــ‬
‫هذا الوصف لم يرد في القرآن ‪ .‬لكنه ورد في الخبر ‪ .‬روى صاحب شرح السنة ‪-‬‬
‫رحمه الله – في باب "آخر من يخرج من النار " عن ابن مسعود – رضي الله عنه‬
‫– حديتا ً طويل ً في صفة من أخرجهم الله بفضله من النار قال ‪ « :‬فيسمع أصوات‬
‫أهل الجنة فيقول ‪ :‬أي رب أدخلنيها ‪ .‬فيقول الله ‪ :‬يا ابن آدم ‪ ،‬أيرضيك أن‬
‫أعطيك الدنيا ومثلها ؟ فيقول ‪ :‬أي رب ‪ ،‬أتستهزئ مني ‪ ،‬وأنت رب العالمين ؟‬
‫فضحك ابن مسعود وقال ‪ :‬أل تسألوني مم أضحك ؟ فقالوا ‪ :‬مم تضحك ؟‬
‫فقال ‪ .‬هكذا ضحك رسول الله ‪ ε‬فقالوا ‪ :‬ومم يضحك رسول الله ‪ ε‬؟ فقال ‪ :‬من‬
‫ضحك رب العالمين ‪ .‬فيقول الله ‪ :‬إني ل أستهزئ بك ‪ ،‬وانا على ما أشاء قدير »‬
‫وذكر أيضا ً في أول هذا الباب ‪ ،‬حديثا ً طويل ً ‪ ،‬عن أبي هريرة – رضي الله عنه –‬
‫إلى أن قال ‪ «ُ :‬ثم يقول ‪ :‬يا رب ادخاني الجنة ‪ .‬فيقول الله ‪ :‬أو لست قد‬
‫زعمت أن ل تسألني غيره ؟ ويلك يا ابن آدم ‪ ،‬ما أغدرك ‪ .‬فيقول ‪ :‬يا رب ل‬
‫تجعلني أشقى خلقك‪ .‬فل يزال يدعو حتى يضحك ‪ .‬فإذا ضحك منه ‪ ،‬أذن الله له‬
‫بالدخول في الجنة»‬

‫واعلم ‪ :‬أن حقيقة الضحك على الله تعالى محال ‪ .‬ويدل عليه وجوه ‪:‬‬

‫الول ‪ :‬قوله تعالى ‪ «ُ :‬وأنه هو أضحك وأبكى)‪ »(2‬يبين أن اللئق به أن يضحك‬


‫ويبكي ‪ .‬فأما الضحك والبكاء ‪ ،‬فل يليقان به ‪ .‬والثاني ‪ :‬إن‬

‫)‪ (2‬النجم ‪43‬‬ ‫)‪ (1‬هنـا ‪ :‬ط هكذا ‪ :‬خ‬

‫الضحك سنح يحصل في جلد الوجه ‪ ،‬مع حصول الفرح في القلب وهو على الله‬
‫محال ‪ .‬والثالث ‪ :‬لو جاز الضحك عليه لجاز البكاء عليه ‪ .‬وقد التزمه بعض‬
‫الحمقى ن وزعم ‪ :‬أنه بكى على أهل طوفان نوح عليه السلم ‪ .‬وهذا جهل شديد‬
‫‪ .‬فإنه تعالى هو الذي خلق الطوفان ‪ .‬فإن كرهه فلم خلقه ؟ وإن لم يكرهه ‪،‬‬
‫فلم ينكر عليه ؟ الرابع ‪ :‬إن الضحك إنما يتولد من التعجب ‪ ،‬والتعجب حالة‬
‫تحصل لنسان عند الجهل بالسبب ‪ .‬وذلك في حق عالم الغيب والشهادة محال‪.‬‬

‫إذا ثبت هذا ‪ ،‬فنقول ‪ :‬وجه التأويل فيه من وجوه ‪ :‬أحدها ‪ :‬إن المصدر كما‬
‫يحسن إضافته إلى المفعول ‪ ،‬فكذلك يحسن إضافته إلى الفاعل ‪ .‬فقوله ‪«ُ :‬‬
‫ضحكت من ضحك الرب» أي من الضحك الحاصل في ذاتي ‪ ،‬بسبب أن الرب‬
‫خلق ذلك الضحك ‪ .‬الثاني ‪ :‬أن يكون المراد ‪ :‬أنه تعالى لو كان )‪ (4‬ممن يضحك‬
‫كالملوك ‪ .‬كان هذا القول مضحكا ً له ‪ .‬الثالث ‪ :‬أن يحمل الضحك علـى حصول‬
‫الرضى والذن ‪ .‬وهذا نوع مشهور من الستعارة ‪.‬‬
‫وأما حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – وهو أن العبد يقول ‪" :‬ل تجعلني أشقى‬
‫خلقك ‪ ،‬فيضحك الله منه " فيجوز أن يكون قد وقع الغلط في العراب ز وكان‬
‫الحق ‪ " :‬فيضحك الله منه " أي يضحك الله الملئكة من ذلك القول ‪ .‬والذي يدل‬
‫على أن ما ذكرناه ‪ ،‬محتمل ‪ :‬أن أبا هريرة ‪ ،‬وأبا سعيد الخدري – رضي الله‬
‫عنهما – اختلفا في قدر عطية ذلك الرجل ‪ .‬فقال أبو سعيد ‪ :‬يعطيه الله ذلك‬
‫المطلوب ‪ ،‬وعشرة أمثاله ‪ .‬وقال أبو هريرة ‪ :‬يعطيه الله ذلك ومثله معه ز وهذا‬
‫الختلف بينهما في الحديث مذكور في كل كتب الحاديث ‪ .‬ولما لم يضبط هذا‬
‫)‪(5‬‬
‫الموضع من الخبر ‪ ،‬تجوز عدم الضبط في ذلك العراب )وبالله التوفيق(‬
‫‪- 104 -‬‬

‫)‪ (4‬ممن ‪ :‬ط ‪ ،‬يمكن ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (3‬سنح ‪ :‬ط ‪ .‬شنج ‪ :‬خ‬
‫)‪ (5‬وبالله التوفيق ‪ :‬من ط‬

‫الفصـل الثامن والعشرون‬


‫في‬
‫الفـرح‬
‫ـــ‬

‫عن النعمان بن بشير – رضي الله عنه – عن النبي ‪ ε‬أنه قال ‪ «ُ :‬الله أفرح بتوبة‬
‫العبد من العبد ‪ ،‬إذا ضلت راحلته في أرض فلة في يوم قائظ ‪ ،‬وراحلته عليها‬
‫زاده ومزاده ‪ .‬إذا ضلت )راحلته أيقن بالهلك()‪ (1‬وإذا وجدها فرح بذلك ‪ .‬فالله‬
‫أشد فرحا ً بتوبة العبد من هذا العبد» وقال ‪ «ُ : ε‬ل يطأ الرجل المساجد للصلة‬
‫والذكر ‪ ،‬إل تبشبش الله تعالى إليه ‪ ،‬كم يتبشبش أهل الغائب بغائبهم ‪ ،‬إذا قدم‬
‫عليهم » والتأويل ‪ :‬هو أن من يرضى بالشيء يقرح به ‪ ،‬فيسمى الرضا ‪ :‬بالفرح‬
‫‪ .‬وهذا هو الكلم في البشاشة ‪ .‬ومن هذا الباب قوله ‪ «ُ : ε‬عجب ربكم من شاب‬
‫ليس له صبوة » وفي حديث آخر ‪ «ُ :‬عجب ربكم من ثلثة ‪ :‬القوم إذا اصطفوا‬
‫في الصلة ‪ ،‬والقوم إذا صلوا في قتال المشركين ‪ ،‬ورجل يقوم إلى الصلة في‬
‫جوف الليل » وقرأ ‪ « :‬بل عجبت ويسخرون » ‪ -‬بضم التاء – وذلك يدل على‬
‫ثبوت هذا المعنى في حق الله تعالى ‪ .‬واعلم أن التأويل هو ‪ :‬أن التعجب حالة‬
‫تحصل عند استظام المر ‪ .‬فإذا عظم الله تعالى فعل ً ‪ ،‬أما في كثرة ثوابه أو في‬
‫كثرة عقابه ‪ .‬جاز إطلق لفظ التعجب عليه )وبالله التوفيق()‪(2‬‬

‫ـــــ‬
‫)‪ (1‬البعيـر بالفلة ‪ :‬خ‬
‫)‪ (2‬من ط‬

‫الفصـل التاسع والعشرون‬


‫في‬
‫الحيــاء‬
‫ــــ‬

‫قال الله تعالى ‪ «ُ :‬إن الله ل يستحي أن يضرب مثل ً)‪ (1‬ما » وروى سليمان –‬
‫رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ «ُ :‬إن الله حي كريم ‪،‬‬
‫يستحي إذا)‪ (2‬رفع العبد يديه إليه ‪ ،‬أن يردهما صفرا ً ‪ .‬حتى يضع فيهما خيرا ً »‬
‫واعلم ك أن الحياء ‪ :‬تغير وانكسار يعتري النسان في خوف ما يعاتب ويذم به ‪.‬‬
‫واشتقاقه من الحياة‪ .‬يقال حيى الرجل ‪ .‬كما يقال ‪ :‬نسى الرجل وخشي ‪،‬‬
‫وسطى القوس ‪ ،‬إذا أغفلت هذه العضاء ‪ .‬جعل الحياء لما يعتريه)‪ (3‬من‬
‫النكسار ‪ .‬والتغير متنكس القوة ‪ ،‬منتقص الحياة ‪ .‬ولهذا يقال ‪ :‬فلن هلك حياء‬
‫من كذا )ومات حياء من كذا()‪ (4‬ورأيت الهلل في وجهه من شدة الحياء ‪.‬‬
‫وذاب حياء ‪.‬‬
‫‪- 105 -‬‬

‫إذا ثبت هذا ‪ .‬فنقول ‪ :‬ل بد من تأويله ‪ .‬وفيه وجهان ‪:‬‬


‫الول ‪:‬‬
‫وهو أن القانون الكلي في أمثال هذه الصفات ‪ :‬أن كل صفة تثبت للعبد مما‬
‫يختص بالجسام‪ .‬إذا وصف الله تعالى بذلك ‪ ،‬فهو محمول على نهايات‬
‫الغراض ‪ ،‬ل على بدايات العراض ‪ .‬مثاله ‪ :‬أن الحياء حالة تحصل للنسان ‪ ،‬ولها‬
‫مبدأ ونهاية ‪ .‬أما البداية فيها فهو التغير‬

‫)‪ (3‬يقربه ‪ :‬ط ‪،‬‬ ‫)‪ (2‬رفع ‪ :‬ط ‪ ،‬مد ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (1‬البقرة ‪26‬‬
‫يعتريه ‪ :‬خ )‪ (4‬ومات حيلء من كذا ‪ :‬خ‬

‫الجسماني ‪ ،‬الذي يلحق النسان من خوف أن ينسب إلى القبيح ‪ .‬وأما النهاية‬
‫فهي لن يترك النسان ذلك الفعل ‪ ،‬فإذا ورد الحياء في حق الله تعالى ‪ ،‬فليس‬
‫المراد منه ‪ :‬ذلك اللحوق)‪ (5‬الذي هو مبدأ الحياء وتقدمته‪ .‬بل المراد ‪ :‬هو ترك‬
‫الفعل الذي هو منتهاه وغايته ‪ .‬وكذلك الغضب له مبدأ وهو غليان دم القلب‬
‫وشهوة النتقام ‪ ،‬وله غاية وهو إيصال العقاب إلى المغضوب عليه ‪ .‬فإذا وصفنا‬
‫الله تعالى بالغضب ‪ ،‬فليس المراد هو ذلك المبدأ – أعني غليان دم القلب‬
‫وشهوة النتقام – بل المراد ‪ :‬تلك النهاية ‪ ،‬وهي إنزال العقاب ‪ .‬فهذا هو‬
‫القانون ‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬إن الذي ل يجوز على الله )تعالى)‪ ( (6‬من جنس هذه الوصاف ‪ ،‬فهل‬
‫يجوز ذكره على سبيل النفي عن الله تعالى ؟ قال بعضهم ‪ :‬إنه ل يجوز إطلق‬
‫هذه اللفاظ على طريقة النفي ‪ ،‬بل يجب أن يقال ‪ :‬إنه تعالى ل يوصف )بها(‬
‫فأما أن يقال ‪ :‬إنه ل يستحي ويطلق ذلك ‪ .‬فمحال ‪ .‬لنه يوهم نفي ما يجوز عليه‬
‫‪ .‬وما ذكره الله تعالى في كتابه من قولـه ‪ «ُ :‬ل تأخذه سنة ول نوم)‪ُ- »(7‬‬
‫« لم يلد ولم يولد)‪ »(8‬فهو وإن كان في صورة النفي ‪ ،‬لكنه ليس في الحقيقة بل‬
‫المراد منه ‪ :‬نفي صحة التصاف ‪ .‬وكذا قوله ‪ «ُ :‬ما كان لله أن يتخذ من)‪ (9‬ولد»‬
‫وقوله ‪ «ُ :‬ما اتخذ الله من )‪ (10‬ولد » وقوله ‪ « :‬وهو يطعم ول يطعم )‪ » (11‬وليس‬
‫فيما ورد في القرآن إطلقه ‪ ،‬جاز أن يطلق في المخاطبات ‪ ،‬بل الحق ‪ :‬أنه ل‬
‫يجوز إطلق ذلك إل مع بيان ـنه محال ممتنع في حق الله تعالى ‪.‬‬

‫)‪ (6‬تعالـى ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (5‬اللحوق ‪ :‬خ ‪ ،‬الجواب ‪ :‬ط‬


‫)‪ (8‬الخلص ‪3‬‬ ‫)‪ (7‬البقرة ‪255‬‬
‫)‪ (10‬المؤمنون ‪91‬‬ ‫)‪ (9‬مريم ‪39‬‬
‫)‪ (11‬وهو يطعم وهو ل يطعم النعام ‪14 :‬‬

‫وقال آخرون ‪ :‬ل بأس بإطلق هذا النفي ‪ .‬لن هذه الصفات منتفية عن الله‬
‫)‪(12‬‬
‫تعالى‪ .‬فكان الخبار عد عدمها ‪ :‬صدقا ً ‪ ،‬فوجب أن يجوز ذلك )النفي(‬
‫)بقى أن()‪ (13‬يقال ‪ :‬إن الخبار عن انتفائها ‪ .‬يقتضي )صحة إطلقها()‪ (14‬عليه ‪ .‬إل‬
‫أنا نقول ‪ :‬هذه الدللة ممنوعة ‪ .‬فإن الخبار عن عدم الشيء ل دللة فيه على أن‬
‫ذلك الشيءجائز عليه أم ممتنع )عنه()‪ (15‬بل لو قرن باللفظ ما يدل على انتفاء‬
‫الصحة أيضا ً ‪ ،‬كان ذلك أحسن من حيث إنه يكون مبالغة في البيان في إزالة‬
‫)‪(16‬‬
‫البهام ‪ .‬وليس يلزم من كونه في نفسه قبيحا ً )والله أعلم(‬
‫‪- 106 -‬‬

‫ـــــــــــــــــ‬

‫النفي ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪(13‬‬


‫)‪ (13‬بقى أن ‪ :‬خ وقد يقال ‪ :‬ط‬
‫)‪ (15‬عنه ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (14‬سحتها ‪ :‬خ‬
‫)‪ (16‬والله أعلم ‪ :‬سقط خ‬

‫الفصل الثلثون‬
‫في‬
‫ما يتمسكون به في إثبات الجهة لله تعالى‬
‫ــــــ‬
‫تمسكوا في ذلك بالقرآن والخبار )والمعقول ‪ .‬والوجوه المركبة من السمع‬
‫)‪(1‬‬
‫والعقل(‬
‫أما القرآن ‪ :‬فمن عشرة أوجه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬التمسك باليات الست الواردة بلفظ الستواء على العرش)‪(2‬‬
‫الثاني ‪ :‬التمسك ‪ .‬باليات المشتملة على لفظ الفوق ‪ .‬فقد قال تعالى ‪ «ُ :‬وهو‬
‫القاهر فوق عباده ‪ ،‬وهو الحكيم الخبير )‪ » (3‬وقال ‪ «ُ :‬وهو القاهر فوق عباده ‪،‬‬
‫ويرسل عليكم حفظة )‪ » (4‬وقال ‪ «ُ :‬يخافون ربهم من فوقهم )‪» (5‬‬
‫)‬
‫الثالث ‪ :‬اليات المشتملة على لفظ العلو ‪ .‬كقوله تعالى ‪ «ُ :‬وهو العلي العظيم‬
‫)‬
‫‪ » (6‬وقوله تعالى ‪ «ُ :‬وهو العلي الكبير )‪ » (7‬وقوله ‪ «ُ :‬سبحك اسم ربك العلى‬
‫‪ » (8‬وقوله ك ُ« إل ابتغاء وجه ربه العلى )‪ » (9‬وأيضا تواتر النقل في قوله‬
‫تعالى ‪ «ُ :‬سبحان العلى )‪» (10‬‬

‫)‪ (1‬زيادة‬
‫)‪ (2‬منها ‪" :‬ثم استوى على العرش " )العراف ‪(54‬‬
‫)‪ (4‬النعـام ‪61‬‬ ‫)‪ (3‬النعام ‪18‬‬
‫)‪ (6‬البقـرة ‪255‬‬ ‫)‪ (5‬النحـل ‪50‬‬
‫)‪ (8‬العلى ‪1‬‬ ‫)‪ (7‬سـبأ ‪23‬‬
‫الليـل ‪20‬‬ ‫)‪(9‬‬
‫)‪ (10‬قراءة بدل "سبح" وفي ط ‪ :‬سبحان ربي العلى‬

‫الرابع ‪ :‬اليات المشتملة على لفظ العروج إليه والصعود ‪ .‬قال تعالى ‪ «ُ :‬تعرج‬
‫الملئكة والروح )‪ (11‬إليه » وقال ‪ «ُ :‬إليه يصعد الكلم الطيب )‪» (12‬‬
‫الخامس ‪ :‬اليات المشتملة على لفظ النزال والتنزيل ‪ .‬قالوا ‪ :‬وهي كثيرة تزيد‬
‫على المائتين في حق القرآن المبين والروح والملئكة المقربين والتوراة‬
‫والنجيل ‪.‬‬
‫‪- 107 -‬‬

‫السادس ‪ :‬اليات المقرونة بحرف "إلى" مع أنها لنتهاء الغاية ‪ .‬منها‪ :‬قوله‬
‫تعالى ‪ «ُ :‬إلى ربهــا ناظرة )‪ » (13‬وذلك يقتضي انتهاء النظر إليه ‪ .‬وقوله ‪ «ُ :‬ثم‬
‫إلى ربكم ترجعون )‪ » (14‬وقوله ‪ «ُ :‬وإلى المصير )‪ » (15‬وقوله ك ُ« ارجعي إلى‬
‫ربك )‪» (16‬‬
‫السابع ‪ :‬قوله تعالى ‪ «ُ :‬طل إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون )‪ » (17‬والحجاب إنما‬
‫يصح في حق من يكون جسما ً ن وفي جهة ‪ .‬حتى يصير محجوبا ً بسبب شيء‬
‫آخر ‪.‬‬
‫)‪(18‬‬
‫الثامن ‪ :‬اليات الدالة على أنه في السماء ‪ .‬قال ‪ «ُ :‬أم أمنتم من في السماء‬
‫» ؟ وقال ‪ «ُ :‬قل ‪ :‬ل يعلم من في السموات والرض الغيب إل الله )‪» (19‬‬
‫التاسع ‪ :‬اليات المشتملة على الرفع إليه ‪ .‬قال تعالى في حق عيسى عليه‬
‫السلم ‪ «ُ :‬إني متوفيك ورافعك إلي )‪ » (20‬وقوله ‪ «ُ :‬وما قتلوه يقينا ً ‪.‬‬

‫)‪ (12‬فاطـر ‪10‬‬ ‫)‪ (11‬المعـارج ‪4‬‬


‫)‪ (14‬السـجدة ‪11‬‬ ‫)‪ (13‬القيـامة ‪23‬‬
‫)‪ (16‬الفجـر ‪28‬‬ ‫)‪ (15‬الحـج ‪48‬‬
‫)‪ (18‬الملـك ‪17‬‬ ‫)‪ (17‬المطففين ‪15‬‬
‫)‪ (20‬آل عمران ‪55‬‬ ‫)‪ (19‬النمـل ‪65‬‬

‫»‬ ‫)‪(21‬‬
‫بل رفعه الله إليه‬
‫العاشر ‪ :‬اليات المشتملة على العندية ‪ ،‬كقوله ‪ «ُ :‬إن الذين عند ربك )‪» (22‬‬
‫)‪(25‬‬
‫وقوله ‪ «ُ :‬عند مليك مقتدر )‪ » (23‬وقوله ‪ «ُ :‬رب ابن لي عندك بيت في الجنة‬
‫» وقوله ‪ «ُ :‬فالذين عند ربك )‪ » (24‬وقوله ‪ «ُ :‬ومن عنده ل يستكبرون عن عبادته‬
‫)‪» (26‬‬
‫فهذا بيان وجوه تمسكاتهم من القرآن في إثبات الجهة لله تعالى‪ :‬قالوا والذي‬
‫يدل على أنها محكمة غير متشابهة ‪ :‬أنها في غاية الكثرة ‪ ،‬وقوة الدللة ‪ .‬ولو‬
‫كانت من المتشابهات ‪ ،‬لتكلم فيها أحد من الصحابة والتابعين وذكروا تأويلتها ‪،‬‬
‫وحيث لم ينقل عن أحد منهم ذلك ‪ ،‬علمنا أنها محكمة ل متشابهة‪.‬‬
‫وأما الخبار فكثيرة ‪:‬‬
‫الخبر الول ‪ :‬ما رواه أبو داود في باب "الرد على الجهمية والمعتزلة" عن حسن‬
‫بن محمد بن مطعم ‪ .‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده ‪ .‬قال ‪ :‬جاء إعرابي إلى النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم فقال ‪ :‬يا رسول الله هلكت النفس ‪ ،‬وجاع العيال ‪ ،‬وهلكت‬
‫الموال ‪ .‬فاستسق لنا ربد ‪ .‬فإننا نستشفع بالله عليك وبك ‪ ،‬على الله ‪ .‬فقال‬
‫عليه السلم ‪ «ُ :‬سبحان الله ‪ .‬سبحان الله » فما زال يسبح حتى عرف ذلك في‬
‫وجوه أصحابه ‪ .‬ثم قال ‪«ُ :‬ويحك أما تدري أن الله شأنه أعظم من ذلك ؟ إنه ل‬
‫يستشفع به على أحد ‪ .‬إنه لفوق‬

‫)‪ (22‬العراف ‪206‬‬ ‫)‪ (21‬النساء ‪158 – 157‬‬


‫)‪ (24‬التحـريم ‪11‬‬ ‫)‪ (23‬القمـر ‪55‬‬
‫)‪ (26‬النبيـاء ‪19‬‬ ‫)‪ (25‬فصلت ‪38‬‬
‫‪- 108 -‬‬

‫سمواته على عرشه ‪ ،‬وإنه عليه لهكذا » وأشار وقبب بيده مثل القبة عليه وأشار‬
‫أبو الزهر أيضا ً ‪ «ُ :‬يأط به أطيط الرحل)‪ (27‬بالراكب »‬
‫الخبر الثاني ‪ :‬ما روى صاحب شرح السنة في باب "سعة رحمة الله تعالى" عن‬
‫أبي هريرة )رضي الله عنه)‪ ( (28‬عن النبي ‪ «ُ ε‬لما قضى الله الخلق كتب كتابا ً ‪،‬‬
‫فهو عنده فوق العرش ‪ :‬إن رحمتي سبقت غضبي »‬
‫الثالث ‪ :‬ما أخرج في الصحيح عن عمر بن الحكم ‪ .‬أنه قال ‪ :‬كنت عند النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ‪ :‬إن لي جارية كانت ترعى غنما ً ‪،‬‬
‫فجئنها ‪ .‬ففدت شاة ‪ ،‬فسألتها ‪ .‬فقالت ‪ :‬أكلها الذئب‪ .‬فاستبقت)‪ (29‬عليها‬
‫فلطمت وجهها ‪ .‬وعلى رقبة ‪ .‬أفأعتقها ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ «ُ :‬أين الله » ؟ فقالت في السماء ‪ .‬فقال ‪ «ُ :‬من أنا ؟ » قالت ‪ :‬أنت‬
‫رسول الله ‪ .‬فقال عليه السلم‪ «ُ :‬أعتقها فإنها مؤمنة » قالوا ‪ :‬وهذا يدل على‬
‫التصريح من )رسول الله()‪ (3‬صلى الله عليه وسلم بأن الله في السماء‪.‬‬
‫وأما المعقول ‪ :‬فقد تقدم من قولهم ‪ :‬إنا نعلم بالضرورة ‪ :‬ان كل موجودين ‪ ،‬فل‬
‫بد وأن يكون أحدهما حال ً في الخر ‪ ،‬أو مباينا ً عنه بجهة من الجهات ‪ .‬وتقدم‬
‫الستقصاء في الجواب عنها ‪ .‬وبالله التوفيق ‪.‬‬
‫وأما الوجوه المركبة من السمع والعقل فوجهان ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬قصة المعراج‪ .‬تدل على أن المعبود مختص بجهة فوق‪ ،‬وربما تمسكوا‬
‫في هذا المقام بقوله ‪ «ُ :‬ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى »‬

‫)‪ (28‬رضي الله عنه ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (27‬المرجل ‪ ، :‬الرجل ‪ :‬خ‬


‫فأسفت ‪:‬ط ‪ ،‬فاستبقت‪ :‬خ‬ ‫)‪(29‬‬
‫)‪ (30‬الرسـول ‪ :‬خ‬

‫وهذا يدل على أن ذلك الدنو بالجهة ‪ .‬ثم قال ‪ «ُ :‬فأوحى إلى عبده ما أوحى »‬
‫وهذا يدل على أن ذلك الدنو إنما كان من الله تعالى ‪ .‬وهذا يدل على أنه مختص‬
‫بجهة فوق‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬تمسكوا بقول فرعون ‪ «ُ :‬يا هامان ابن لي صرحا ً ‪ ،‬لعلي أبلغ السباب ‪.‬‬
‫)‪(32‬‬
‫أسباب السموات ‪ .‬فأطلع إلى إله موسى »)‪ (31‬ثم إن موسى عليه السلم )ما‬
‫( أنكر عليه هذا الكلم ‪ .‬فدل ذلك‪ :‬على أن الله في السماء ‪.‬‬
‫فهذا جملة ما يتمسكون به في هذا الباب ‪.‬‬

‫واعلم ‪ :‬أن لنا في الجواب عن هذه الكلمات ‪ :‬نوعان من الجواب ‪:‬‬


‫النوع الول ‪ :‬أن نقول للكرامية ‪ :‬أنتم ساعدتمونا على أن ظواهر القرآن ‪ .‬وإن‬
‫دلت على إثبات العضاء والجوارح لله تعالى ‪ .‬فإنه يجب القطع بنفيها عن الله‬
‫تعالى ‪ .‬والجزم بأنه منزه عنها ‪ .‬وما ذاك إل أنه لما قامت الدلئل القطعية على‬
‫استحالة العضاء والجوارح على الله تعالى ‪ ،‬وجب القطع بتنزيه الله عنها ‪،‬‬
‫والجزم بأن مراد الله تعالى من تلك الظواهر ‪ ،‬شيء آخر ‪ .‬فكذا في هذه‬
‫المسألة ‪ :‬نحن ذكرنا الدلئل العقلية القاطعة في أنه تعالى يمتنع أن يكون‬
‫مختصا ً بالمكان والجهة والحيز ‪ .‬وإذا كان المر كذلك ‪ ،‬وجب القطع بأن مراد‬
‫الله تعالى من هذه الظواهر التي تمسكتم بها ‪ ،‬شيء آخر سوى إثبات الجهة لله‬
‫تعالى ‪ .‬وهذا إلزام قاطع ‪ ،‬وكلم قوي ‪ .‬إل أن نقول ‪ :‬إن تلك الدلئل العقلية‬
‫‪- 109 -‬‬

‫التي تمسكتم بها ‪ ،‬ليست قطعية ‪ .‬بل محتملة ‪ .‬فنحن إذا ً يجب علينا أن نتكلم‬
‫معكم في تقرير تلك الدلئل ‪،‬‬

‫)‪ (32‬ما ‪ :‬زيادة‬ ‫)‪ (31‬غافـر ‪37 – 36‬‬

‫ودفع وجوه الحتمال عنها ‪ .‬فثبت بهذا الطريق ‪ :‬أنا متى بينا أن تلك الدلئل‬
‫العقلية قاطعة يقينية لم تقدر الكرامية على معارضة تلك العقليات اليقينية بهذه‬
‫الظواهر ‪ .‬وهذا كلم في غاية القوة ‪ .‬وعند هذا نختار مذهب السلف ‪ ،‬ونقول ‪:‬‬
‫لما عرفنا بتلك القواطع العقلية ‪ :‬أنه ليس مراد الله تعالى من هذه اليات ‪:‬‬
‫إثبات الجهة لله تعالى ‪ ،‬فل حاجة بنا بعد ذلك إلى بيان أن مراد الله تعالى من‬
‫هذه اليات ‪ .‬ما هو ؟ وهذا الطريق أسلم في ذوق النظر ‪ ،‬وعن الشغب أبعد ‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬أن نتكلم عن كل واحد من هذه الوجوه على سبيل التفصيل ‪:‬‬
‫أما الذي تمسكوا به أول ً ‪ .‬وهو اليات الستة الدالة على استواء الله تعالى)‪(33‬‬
‫على العرش ‪ .‬فنقول‪ :‬إنه ل يجوز أن يكون مراد الله تعالى من ذلك الستواء ‪:‬‬
‫هو الستقرار على العرش ‪ ،‬ويدل عليه وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إن ما قبل هذه الية ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ «ُ :‬تنزيل ً ممن خلق الرض‬
‫والسموات العلى » قد بينا أن هذه الية تدل على أنه تعالى غير مختص بشيء‬
‫من الحياز والجهان ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إن ما بعد هذه الية ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ «ُ :‬له ما في السموات وما في‬
‫الرض » قد بينا ‪ :‬أن السماء هو الذي فيه سمو وفوقية ‪ ،‬فكل ما كتن في جة‬
‫فوق ‪ ،‬فهو سماء ‪ .‬وإذا كان كذلك ‪ ،‬فقوله ‪ «ُ :‬له ما في السموات وما في‬
‫الرض» يقتضي أن كل ما كان‬

‫تعالى ‪ :‬من ط‬ ‫)‪(33‬‬

‫حاصل ً في جهة فوق ‪ ،‬كان في السماء ‪ .‬وإذا كان كذلك فقوله ‪ «ُ :‬له ما في‬
‫السموات وما في الرض» يقتضي أن كل ما كان حاصل ً في جهة فوق ‪ ،‬فهو‬
‫ملك لله تعالى ومملوك له ‪ .‬فلو كان تعالى مختصا ً بجهة فوق ‪ ،‬لزم كونه مملوكا ً‬
‫لنفسه )من غير محل()‪ (34‬وهو محـال ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن ما قبل قوله‪ «ُ :‬الرحمن على‬
‫العرش استوى »)‪ (35‬وما بعده ‪ .‬ينفي كونه سبحانه وتعالى مختصا ً بشيء من‬
‫الحياز والجهات ‪ .‬وإذا كان كذلك امتنع أن يكون المراد بقوله ‪ « :‬الرحمن على‬
‫العرش استوى » ‪ :‬هو كونه مستقرا ً على العرش‪.‬‬
‫الثالث ‪:‬‬
‫أن ما قبل هذه الية وما بعدها ‪ :‬مذكور لبيان كمال قدرة الله تعالى ‪ ،‬وغاية‬
‫عظمته في اللهية ‪ ،‬وكمال التصرف ‪ ،‬لن قوله ‪« :‬تنزيل ً ممن خلق الرض‬
‫والسموات العى »)‪ (36‬ل شك أن المفهوم منه ‪ :‬بيان كمال قدرة الله تعالى‪،‬‬
‫وكمال إلهيته ‪ .‬وقوله ‪ « :‬له ما في السموات وما في الرض وما بينهما وما تخت‬
‫الثرى »)‪ (37‬بيان أيضا ً لكمال ملكه)‪ (38‬وإلهيته ‪ .‬وإذا كان المر كذلك‪ ،‬وجب أن‬
‫يكون قوله ‪ « :‬الرحمن على العرش استوى » كذلك ‪ .‬وإل لزم أن يكون ذلك‬
‫كلما ً أجنبيا ً عما قبله وعما بعده ‪ .‬وذلك غير جائز فأما إذا حملناه على كمال‬
‫استيلئه على العرش ‪ ،‬الذي هو أعظم المخلوقات في الموجودات المحدثة ‪،‬‬
‫كان ذلك موافقا ً لما قبل هذه الية ولما بعدها ‪ ،‬فكان هذا الوجه أولى ‪.‬‬
‫‪- 110 -‬‬

‫الرابع ‪ :‬أن الجالس على العرش ل بد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين‬
‫العرش ‪ ،‬غير الحاصل منه في يسار العرش ‪ :‬فيلزم كونه في نفسه مؤلفا ً‬
‫ومركبا ً ‪ .‬وذلك على الله تعالى محال ‪.‬‬

‫)‪ (35‬طـه ‪5‬‬ ‫)‪ (34‬من غير محل ‪ :‬خ‬


‫)‪ (37‬طـه ‪6‬‬ ‫)‪ (36‬طـه ‪4‬‬
‫)‪ (38‬ملكه ‪ :‬ط ‪ ،‬شأنه ‪ :‬خ‬

‫الخامس ‪ :‬إن الجالس على العرش إن قدر على الحركة والنتقال كان محدثا ُ ‪.‬‬
‫لن ما ل ينفك عـن الحركة والسكون ‪ ،‬كان محدثا ً ‪ .‬وإن لم يقدر على الحركة ‪.‬‬
‫كان كالمربوط ‪ ،‬بل كان كالزمن ‪ ،‬بل أسوأ حال ً منهما ‪ ،‬فإن الزمن إذا أراد)‪(39‬‬
‫الحركة في رأسه أو حدقتيه ‪ ،‬أمكنه ذلك ‪ ،‬وكذا المربوط وهو غير ممكن في الله‬
‫تعالى ‪.‬‬
‫السادس ‪ :‬إنه لو حصل في العرش )فإن حصل()‪ (40‬في سائر الحياز يلزم منه‬
‫كونه مخالطا ً للقاذورات والنجاسات ‪ ،‬وإن لم يكن كذلك ‪ ،‬كان له طرف ونهاية‬
‫وزيادة ونقصان ‪ .‬وكل ذلك على الله تعالى محال ‪.‬‬
‫السابع ‪:‬‬
‫قوله تعالى ‪ « :‬يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية » فلو كان العرش مكانا ً‬
‫لمعبودهم ‪ ،‬لكانت الملئكة الذين يحملون العرش حاملين إله العالم ‪ .‬وذلك غير‬
‫معقول ‪ ،‬لن الخالق هو الذي يحفظ المخلوق ‪ .‬أما المخلوق فل يحفظ الخالق‬
‫ول يحمله ‪ .‬ول يقال ‪ :‬هذا إنما يلزم إذا كان الله معتمدا ً على العرش متكئا ً‬
‫عليه ‪ ،‬ونحن ل نقول ذلك ‪ ،‬لنا نقول على هذا التقدير ‪ :‬ل يكون الله تعالى‬
‫مستقرا ً على العرش‪ ،‬لن الستقرار على الشيء ‪ ،‬إنما يحصل إذا كان معتمدا ً‬
‫عليه ‪ .‬أل ترى إنا إذا وضعنا جسما ً على الرض ‪ ،‬قلنا ‪ :‬إنه مستقر على الرض ‪،‬‬
‫ول نقول ‪ :‬الرض مستقرة عليه ‪ .‬وما ذاك إل لن الشيء معتمدا ً على الرض ‪،‬‬
‫والرض غير معتمدة عليه ‪ .‬ولو لم يكن اإله معتمدا ً على العرش ‪ ،‬فحينئذ ل‬
‫يكون مستقرا ً على العرش ‪ ،‬وعلى هذا التقدير ‪ ،‬يلزمهم ترك ظاهر الية ‪.‬‬
‫وحينئذ تخرج الية عن كونها حجة ‪.‬‬
‫الثامن ‪ :‬إنه تعالى كان ول عرش ول مكان ‪ .‬ولما خلق الخلق ‪ ،‬يستحيل‬

‫)‪ (39‬شاء ‪ :‬خ ‪ ،‬أراد ‪ :‬ط )‪ (40‬لكان حاصل ً ‪ :‬ط‬

‫أن يقال أنه تعالى صار مستقرا ً على العرش ‪ ،‬بعد أن لم يكن كذلك ‪ .‬لنه تعالى‬
‫قال ‪ « :‬ثم استوى على العرش » وكلمة "ثم " للتراخي ‪.‬‬
‫التاسع ‪ :‬إن ظاهر قوله تعالى ‪ « :‬ونحن أقرب إليه من حبل الوريد »)‪ (41‬وقوله ‪:‬‬
‫)‪(43‬‬
‫ض‬
‫وقوله ‪« :‬وهو الذي في السماء إله ‪ ،‬وفي الر ُ‬
‫)‪(42‬‬
‫« وهو معكم أينما كنتم »‬
‫إله » ينفي كونه مستقرا ً على العرش ‪ ،‬وليس تأويل هذه اليات لنفي اليات‬
‫التي تمسكوا بها على ظاهرها ‪ :‬أولى من العكس ‪.‬‬
‫العاشر ‪ :‬إن الدلئل العقلية القاطعة التي قدمنا ذكرها ‪ ،‬تبطل كونه تعالى مختصا ً‬
‫بشيء من الجهات ‪ .‬وإذا ثبت هذا ‪ ،‬ظهر أنه ليس المراد من الستواء ‪:‬‬
‫الستقرار ‪ .‬فوجب أن يكون المراد ‪ :‬هو الستيلء ‪ ،‬والقهر ونفاذ القدر ‪ ،‬وجريان‬
‫الحكام اللهية ‪ .‬وهذا مستقيم على قانون اللغة ‪ .‬فقد قال الشاعر‪:‬‬
‫‪- 111 -‬‬

‫من غير سيف ودم مهراق‬ ‫∴‬ ‫قد استوى بشر على العراق‬
‫والذي يقرر ذلك ‪ :‬أن الله ‪ -‬تعالى – إنما أنزل القرآن بحسب عرف أهل اللسان‬
‫وعاداتهم ‪ .‬أل ترى أنه تعالى قال ‪ « :‬وهو خادعهم »)‪ (44‬وقال‪ « :‬وهو أهون عليه‬
‫»)‪ (45‬وقال‪ « :‬ومكروا ومكر)‪ (46‬الله » وقال ‪ « :‬الله يستهزئ بهم »)‪ (47‬والمراد‬
‫في الكل ‪ :‬أنه تعالى يعاملهم معاملة الخادعين والماكرين والمستهزئين ‪ .‬فكذا‬
‫ههنا ‪ ،‬المراد من الستواء على العرش ‪ :‬التدبير بأمر الملك والملكوت ‪.‬‬
‫ونظيره ‪ :‬أن القيام أصله النتصاب ‪ ،‬ثم يذكر بمعنى الشروع في المر ‪ ،‬كما‬
‫يقال ‪ :‬قام بالملك ‪.‬‬

‫)‪ (42‬الحديد ‪4‬‬ ‫)‪ (41‬ق ‪16‬‬


‫)‪ (44‬النساء ‪142‬‬ ‫)‪ (43‬الزخرف ‪84‬‬
‫)‪ (46‬آل عمران ‪54‬‬ ‫)‪ (45‬الروم ‪27‬‬
‫)‪ (47‬البقرة ‪15‬‬

‫فإن قيل‪ :‬هذا التأويل غير جائز ‪ .‬لوجوه ‪ :‬الول ‪ :‬أن الستيلء عبارة عن حصول‬
‫الغلبة بعد العجز ‪ .‬وذلك في حق الله تعالى محال‪ .‬الثاني‪ :‬إنه إنما يقال ‪ :‬فلن‬
‫استوى على كذا إذا كان له منازع ينازعه وذلك في حق الله تعالى محال‪ .‬الثالث‪:‬‬
‫إنه إنما يقال فلن استولى على كذا ‪ :‬إذا كان المستولى عليه موجودا ً )قبل ذلك(‬
‫)‪ (48‬وهذا في حق الله تعالى محال‪ .‬لن العرش إنما حدث بتكوينه وتخليقه‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إن الستيلء بهذا المعنى حاصل بالنسبة إلى كل المخلوقات‪ .‬فل يبقى‬
‫لتخصيص العرش بالذكر فائدة ‪.‬‬
‫والجواب ‪ :‬إن مرادنا بالستيلء القدرة التامة الخالية من المنازع والمعارض‬
‫والمدافع ‪ .‬وعلى هذا التقدير ‪ ،‬فقد زالت هذه المطاعن بأسرها‪.‬‬
‫وأما تخصيص العرش بالذكر‪ .‬ففيه وجهان ‪ :‬الول ‪ :‬إنه أعظم المخلوقات ‪،‬‬
‫فخص بالذكر لهذا السبب ‪ ،‬كما أنه خصه بالذكر في قوله ‪ « :‬هو رب العرش‬
‫العظيم »)‪ (49‬لهذا المعنى‪ .‬قال الشيخ الغزالي – رحمه الله – في كناب "إلجام‬
‫العوام" ‪" :‬السبب في هذا التخصيص ‪ :‬هو أنه تعالى يتصرف في جميع العالم ‪،‬‬
‫ويدبر المر من السماء إلى الرض ‪ ،‬بواسطة العرش‪ .‬فإنه تعالى ل يحدث صورة‬
‫في العالم ما لم يحدثها في العرش ‪ ،‬كما ل يحدث النقاش والكاتب صورة البناء‬
‫)على البياض ‪ ،‬ما لم يحدثها في الدماغ ‪ ،‬بل ل يحدث صورة البناء ()‪ (50‬بواسطة‬
‫القلب والدماغ يدبر الروح أمر عالمه الذي هو يدبر ‪ .‬فكذا بواسطة العرش يدبر‬
‫)‪(51‬‬
‫الله أمر كل العالم‬

‫)‪ (48‬قبل ذلك ‪ :‬سقط خ‬


‫)‪ (50‬ما بين القوسين ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (49‬المؤمنون ‪116‬‬
‫)‪ (51‬العبارة في الجام العوام ص ‪75‬‬

‫واعلم ‪ :‬أن هذا الكلم مبني على أصول الحكماء )في أن تأثير()‪ (52‬الباري‬
‫تعالى في العقل ‪ ،‬وتأثير العقل في تدبير العالم العلوي ‪ ،‬وتأثير تدبير العالم‬
‫العلوي في السفلي ‪ .‬وقد تكلمنا عليه في الكتب العقلية المحضة ‪.‬‬
‫أما الذي ذكروه ثانيا ً وهو التمسك باليات المشتملة على ذكر الفوقية ‪ .‬فجوابه ‪:‬‬
‫أن لفظ الفوق )يستعمل( في الرتبة والقدرة ‪ .‬فقد قال الله تعالى ‪ « :‬وفوق كل‬
‫‪- 112 -‬‬

‫ذي علم عليم »)‪ « - (53‬وإنا فوقهم قاهرون »)‪ « - (54‬يد الله فوق أيديهم »‬
‫)‪(55‬‬

‫والمراد بالفوقية في هذه اليات ‪ :‬الفوقية بالقهر والقدرة )ويستعمل في الفوق‬


‫الذي هو بمعنى الجهة()‪ (56‬قال تعالى ‪ « :‬بعوضة فما فوقها »)‪ (57‬أي أزيد منها في‬
‫صفة الصغر والحقارة ‪ .‬وإذا كان لفظ الفوق محتمل ً للفوق في الرتبة ‪ ،‬والفوق‬
‫في الجهة ‪ ،‬فلم حملتوه على الفوق في الجهة ؟‬
‫والذي يدل على أن المراد بلفظ الفوق ههنا ‪ :‬الفوق بالقدرة والمكنة وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إنه قال ‪ « :‬وهو القاهر فوق عباده »)‪ (58‬والفوقية المقرونة بالقهر ‪ ،‬هي‬
‫الفوقية بالقدرة والمكنة‪ ،‬ل بمعنى الجهة‪ .‬بدليل ‪ :‬أن الحارس قد يكون فوق‬
‫)‪.(59‬‬
‫السلطان في الجهة‪ .‬ول يقال إنه فوق السلطان‬

‫)‪ (53‬يوسف ‪76‬‬ ‫)‪ (52‬وهو أن تأثير ‪ :‬ص‬


‫)‪ (55‬الفتح ‪10‬‬ ‫)‪ (54‬الفتح ‪10‬‬
‫)‪ (57‬البقـرة ‪26‬‬ ‫)‪ (56‬زيادة‬
‫)‪ (58‬النعـام ‪61‬‬
‫)‪ (59‬السلطان فقط ‪ :‬خ‬
‫الثاني ‪ :‬أنه تعالى وصف نفسه بأنه مع عبيده فقــال ‪ « :‬إن الله مع الذين اتقوا‪،‬‬
‫والذين هم محسنون»)‪) (60‬وقال ‪ « :‬إن الله مع الصابرين »)‪ (61‬وقال ‪ « :‬وهو‬
‫معكم أينما كنتم »)‪ (62‬وقال‪ « :‬ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)‪ » (63‬وقال‪«:‬‬
‫وإذا سألك عبادي عني ؟ فإني قريب)‪ » (64‬وقال ‪ « :‬ما يكون من نجوى ثلثة إل‬
‫هو رابعهم)‪ » (65‬وإذا جاز حمل المعية في هذه اليات ‪ :‬على المعية بمعنى العلم‬
‫والحفظ والحراسة فلم ل يجوز حمل الفوقية في اليات التي ذكرتم على‬
‫الفوقية بالقهر والقدرة والسلطنة ؟‬

‫الثالث ‪ :‬إن الفوقية الحاصلة بسبب الجهة ‪ ،‬ليست صفة المدح ‪ ،‬لن تلك الفوقية‬
‫حاصلة للجهة والحيز بعينها وذاتها ‪ ،‬وحاصلة للمتكن في ذلك الحيز بسبب ذلك‬
‫الحيز ولو كانت الفوقية بالجهة صفة مدح ‪ ،‬لزم أن تكون الجهة أفضل وأمل من‬
‫الله تعالى ‪ .‬ول يقال ‪ :‬يلزمكم أن تقولوا ‪ :‬بأن القدرة أفضل وأكمل من الله‬
‫تعالى ‪ .‬لنا نقول ‪ :‬القدرة صفة القادر ‪ ،‬وممتنعة الوجود بدونه ‪ ،‬بخلف الحيز‬
‫والجهة ‪ .‬فإنه غنى عن الممكن ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن الكمال والفضيلة إنما يحصلن بسبب‬
‫الفوقية ‪ ،‬بمعنى القدرة والسلطنة ‪ .‬فكان حمل الية عليه أولى ‪.‬‬
‫أما قوله تعالى في صفة الملئكة ‪ « :‬يخافون ربهم من فوقهم)‪ » (63‬ففيه جواب‬
‫آخر ‪ :‬وهو أنه يحتمل أن يكون قوله ‪ « :‬من فوقهم » صلة لقوله ‪ « :‬يخافون »‬
‫أي يخافون من فوقهم ربهم ‪ .‬وذلك لنهم يخافون نزول العذاب عليهم من جانب‬
‫فوقهم ‪.‬‬

‫)‪ (60‬النحـل ‪ (61) 128‬النفال ‪ 46‬وفي خ ومع الصابرين‬


‫)‪ (63‬ق ‪16‬‬ ‫)‪ (62‬الحديـد ‪4‬‬
‫)‪ (64‬البقـرة ‪ (65) 186‬المجادلـة ‪7‬‬
‫)‪ (66‬النحـل ‪50‬‬
‫‪- 113 -‬‬

‫وأما الذي ذكروه ثالثا ً ‪ .‬وهو التمسك باليات المشتملة على لفظ العلو ‪:‬‬
‫فالجواب ‪ :‬أن لفظ العلو يسبب الجهة ‪ .‬فقد يستعمل أيضا في العلو بسبب‬
‫القدرة ‪ .‬فإنه يقال ‪ :‬السلطان أعلى من غيره ‪ ،‬ويكتب في أمثلة السلطين ‪:‬‬
‫الديوان العلى ‪ .‬ويقال لمرهم)‪ (67‬المر العلى )ويقال)‪ ( (68‬لمجالسهم ‪:‬‬
‫المجلس العلى ‪ .‬والمراد في الكل ‪ :‬العلو ‪ ،‬بمعنى ‪ :‬القهر والقدرة ‪ .‬ل بسبب‬
‫المكان والجهة‪.‬‬
‫وأيضا ً ‪ :‬قال الله تعالى لموسى) ‪ «(70:‬ل تخف إنك أنت العل ُ‬
‫ى» )‪ (69‬وقال ‪ « :‬ول‬
‫» وقال ‪ « :‬وكلمة الله هي العليا » وقال‬
‫)‪(71‬‬
‫تهنوا ول تحزنوا ‪ ،‬وأنتم العلون‬
‫فرعون ‪ « :‬أنا ربكم العلى)‪ » (72‬والعلو في هذه المواضع بمعنى العلو بالقدرة ‪،‬‬
‫ل بمعنى العلو بالجهة ‪.‬‬
‫والذي يدل على أن المراد ما ذكرناه ‪ :‬وجوه ‪:‬‬
‫» فحكم بأنه تعالى أعلى من‬ ‫)‪(73‬‬
‫الول ‪ :‬أنه تعالى قال ‪ « :‬سبح اسم ربك العلى‬
‫كل ما سواه ‪.‬‬
‫والجهة شيء سواه ‪ .‬فوجب أن تكون ذاته أعلى من الجهة ‪ .‬وما كان أعلى من‬
‫الجهة امتنع أن يكون علوه بسبب الجهة ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن علوه لنفس ذاته ‪ ،‬ل بسبب‬
‫الجهة ‪ .‬ول يقال ‪ :‬الجهة ليست بشيء موجود حتى تدخل تحت قوله ‪ « :‬سبح‬
‫اسم ربك العلى » لنا نقول ‪ :‬قد بينا في باب الدلئل العقلية ‪ :‬أنها ل بد وأن‬
‫تكون أمرا ً موجودا ً ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬هو أنه تعالى لو كان في جهة فوق ‪ .‬فأما أن يكون له في جهة‬

‫)‪ (67‬لمرهم ‪ :‬خ‬


‫)‪ (68‬يقال ‪ :‬سقط خ‬
‫)‪ (70‬آل عمران ‪139‬‬ ‫)‪ (69‬طـه ‪68‬‬
‫)‪ (72‬النـازعات ‪24‬‬ ‫)‪ (71‬التـوبة ‪40‬‬
‫)‪ (73‬أول العلى ‪.‬‬

‫فوق ‪ :‬نهاية ‪ ،‬وإما أن ل يكون له في تلك الجهة ‪ :‬نهاية ‪ ،‬فإن كان الول لم يكن‬
‫أعلى الشياء لن الحياز الخالية فوقه تكون أعلى منه ‪ ،‬ولنه قادر على خلق‬
‫الجسام في جميع الحياز ‪ .‬فيكون قادرا ً على خلق عالم في تلك الحياز التي‬
‫هي فوقه ‪ ،‬فيكون ذلك العالم على ذلك التقدير أعلى منه ‪ .‬وإنما قلنا ‪ :‬ل نهاية‬
‫لذات الله تعالى من جهة فوق ‪ ،‬لن هذا الجانب المتناهي منه ‪ .‬مخالف في‬
‫الماهية للجانب الذي هو غير متناه ‪ .‬ول يصح على كل واحد منهما ما صح على‬
‫الخر ‪ ،‬وصح أن ينقلب غير المتناهي متناهيا ً ‪ ،‬والمتناهي غير متناه ‪ .‬وذلك‬
‫يقتضي جواز الفصل والوصل في ذات الله تعالى ‪ .‬وهو محال ‪.‬‬
‫الثالث ‪:‬‬
‫إنه إذا كان غير متناه من جانب الفوق ‪ ،‬فل جزء إل وفوقه جزء آخر ‪ .‬وكل ما‬
‫فوقه غيره ‪ :‬لم يكن أعلى الموجودات ‪ .‬فإذن ليس في تلك الجزاء شيء هو‬
‫أعلى الموجودات ‪ .‬فثبت بما ذكرنا ‪ :‬أن كل ما كان مختصا ً بالجهة ‪ ،‬فإنه ل يمكن‬
‫وصفه بأنه أعلى الموجودات ‪ .‬وإذا كان كذلك وجب أن يكون علوه – تعالى – ل‬
‫بالجهة والحيز ‪ .‬وهو المطلوب ‪.‬‬
‫‪- 114 -‬‬

‫وأما الذي تمسكوا به رابعا ً ‪ :‬وهو اليات المشتملة على لفظ العروج ‪ .‬كقوله‬
‫تعالى ‪ « :‬يدبر الرض من السماء إلى الرض ‪ .‬ثم يعرج إليه)‪ » (74‬وقولـه ‪ « :‬ذي‬
‫المعارج ‪ .‬تعرج الملئكة والروح)‪ (75‬إليه» فجوابه ‪ :‬إن المعارج جمع معرج ‪ ،‬وهو‬
‫المصعد ‪ ،‬ومنه قولـه تعالى ‪ « :‬ومعارج عليها يظهرون)‪ » (73‬وليس في هذه‬
‫اليات)‪ (77‬بيان أن تلك المعارج ‪ :‬معارج لي شيء ؟ فسقطت حجتهم في هذا‬
‫الباب ‪ .‬بل يجوز أن تكون تلك‬

‫)‪ (75‬المعارج ‪3 – 2‬‬ ‫)‪ (74‬السجدة ‪5‬‬


‫الزخرف ‪33‬‬ ‫)‪(76‬‬
‫)‪ (77‬الية خ‬

‫المعارج ‪ .‬معارج لنعم الله تعالى ‪ ،‬أو معارج للملئكة ‪ ،‬أو معارج لهل الثواب ‪.‬‬
‫وأما قوله تعالى ‪ « :‬تعرج الملئكة والروح إليه » فنقول ‪ :‬ليس المراد من حرف‬
‫"إلى" في قوله "إليه" ‪ :‬المكان ‪ .‬بل المراد ‪ :‬انتهاء المور إلى مراده ‪ .‬ونظيره ‪:‬‬
‫قوله تعالى ‪ « :‬وإليه يرجع المر كله)‪ » (78‬والمراد ‪ :‬انتهاء أهل الثواب إلى منازل‬
‫العز والكرامة ‪ .‬كقول إبراهيم ‪ « :‬إني ذاهب إلى ربي سيهدين)‪ » (79‬ويكون هذا‬
‫إشارة إلى أن دار الثواب أعلى المكنة وأرفعها ‪ ،‬بالنسبة إلى أكثر المخلوقات ‪.‬‬
‫وأما الذي تمسكوا به خامسا ً ‪ :‬وهو لفظ النزال والتنزيل ‪ .‬فجوابه ‪ :‬إن مذهب‬
‫الخصم ‪ :‬أن القرآن حروف وأصوات ‪ .‬فيكون النتقال عليها محال ً ‪ .‬فكان إطلق‬
‫لفظ النزال والتنزيل عليها مجازا ً بالتفاق ‪ .‬فلم يجز التمسك به ‪ .‬وأيضا ً ‪ :‬فقد‬
‫يضاف الفعل إلى المر به ‪ .‬كما يضاف إلى المباشر ‪ .‬أل ترى أنه تعالى أضاف‬
‫قبض الرواح إلى نفسه ‪ .‬فقال تعالى‪ «:‬الله يتوفى النفس حين موتها)‪ » (80‬ثم‬
‫أضافه إلى ملك الموت ‪ .‬فقال ‪ « :‬قل ‪ :‬هل يتوفاكم ملك الموت)‪ » (81‬ثم أضافه‬
‫إلى الملئكة ‪ .‬فقال ‪ « :‬حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا)‪ » (82‬وأيضا ً‬
‫قال‪ «:‬ورسلنا لديهم يكتبون)‪ » (83‬ثم قال ‪ « :‬وإنا له كاتبون)‪ » (84‬وأيضا ً ‪ :‬قال‬
‫تعالى ‪ « :‬يؤذون الله)‪ » (85‬أي أولياءه ‪ .‬وقــال ‪ « :‬فلما آسفونا)‪ » (86‬أي )آذوا(‬
‫أولياءنا وقال ‪ « :‬يخادعون الله)‪ » (87‬أي رسوله والمؤمنين ‪ .‬وبالله التوفيق ‪.‬‬

‫)‪ (78‬هـود ‪122‬‬


‫)‪ (80‬الزمر ‪42‬‬ ‫)‪ (79‬الصافات ‪99‬‬
‫)‪ (81‬السـجدة ‪11‬‬
‫)‪ (83‬الزخرف ‪80‬‬ ‫)‪ (82‬النعام ‪62‬‬
‫)‪ (85‬الحزاب ‪57‬‬ ‫)‪ (84‬النبياء ‪94‬‬
‫)‪ (86‬الزخرف ‪55‬‬
‫)‪ (87‬البقـرة ‪9‬‬

‫وأما الذي تمسكوا به سادسا ً وهو التمسك بصيغة "إلى" في حق الله تعالى ‪.‬‬
‫كقوله ‪ « :‬إلى ربها ناظرة)‪ » (88‬والنظر إلى الشيء يوجب رؤيته ‪ ،‬فجاز أن يكون‬
‫المراد من النظر هو الرؤيه ‪ .‬على سبيل إطلق اسم السبب على المسبب ‪.‬‬
‫وأيضا ً ‪ :‬حكى الله تعالى عن الخليل عليه السلم أنه قال ‪ « :‬إني ذاهب إلى ربي‬
‫سيهدين)‪ » (89‬وليس المراد منه ‪ :‬القرب بالجهة ‪ .‬فكذا ههنا ‪ .‬والله أعلم ‪.‬‬
‫‪- 115 -‬‬

‫وأما الذي تمسكوا به سابعا ً ‪ .‬وهو قوله تعالى ‪ « :‬أم أمنتم من في السماء‬
‫)‪(90‬‬

‫» ؟ فجوابه ‪ :‬إنه ل يمكن إجراء هذه الية على ظاهرها ‪ .‬ويدل عليه وجهان ‪:‬‬
‫الول ‪:‬‬
‫إنه قال ‪ « :‬وهو الذي في السماء إله وفي الرض)‪ (91‬إله» وهذا يقتضي أن يكون‬
‫ى واحدا ً ‪ .‬ولما كان كونه‬
‫المراد من كونه في السماء ‪ ،‬ومن كونه في الرض معن ً‬
‫في الرض ليس بمعنى الستقرار ‪ ،‬فكذلك كونه في السماء ‪ ،‬يجب أن ل يكون‬
‫بمعنى الستقرار ‪ .‬سلمنا ‪ .‬أنه يمكن إجراء هذه الية على ظاهرها ‪ .‬لكنا نقول‬
‫بموجبه ‪ :‬فلم ل يجوز أن يكون المراد من « أم أمنتم من في السماء)‪ » (92‬؟‬
‫الملئكة الذين هم في السماء ؟ لنه ليس في الية)‪ (93‬ما يدل على أن الذي‬
‫في السماء هو الله ل الملئكة ز ول شك أن الملئكة أعداء الكفار والفساق ‪.‬‬
‫سلمنا ‪ .‬أن المراد هو الله تعالى ‪ .‬فلم ل يجوز أن يكون المراد من « أم أمنتم‬
‫من في السماء » ‪:‬‬

‫)‪ (89‬الصافات ‪99‬‬ ‫)‪ (88‬القيامة ‪23‬‬


‫)‪ (91‬الزخرف )‪(84‬‬ ‫)‪ (90‬الملك ‪17‬‬
‫)‪ (92‬الملك ‪ : 11‬وفي خ بدل "أم امنتم من في السماء" ‪ :‬أم‬
‫)‪ (93‬الكلم ‪ :‬ط ‪ ،‬الية ‪ :‬خ‬

‫ملكه ؟ وخص السماء بالذكر لنها أعظم من الرض تفخيما ً للشأن ‪.‬‬
‫وأما الذي تمسكوا به ثامنا ً ‪ .‬وهو لفظ الحجاب ‪ .‬فجوابه ‪ :‬لم ل يجوز أن يكون‬
‫المراد من الحجاب يقتضي عدم الرؤية ‪ ،‬فكان إطلق لفظ الحجاب على المنع‬
‫من الرؤية ‪ :‬مجازا ً من باب إطلق اسم السبب على المسبب ‪.‬‬
‫وأما الذي تمسكوا به تاسعا ً ‪ .‬وهو اليات المشتملة على الرفع كقوله تعالى‪ «:‬بل‬
‫رفعه الله إليه)‪ » (94‬وقوله ‪ « :‬والعمل الصالح يرفعه)‪ » (95‬فالجواب ‪ :‬إن الله‬
‫تعالى لما رفعه إلى موضع الكرامة ‪ ،‬ومكان آخر ‪ ،‬صح – على سبيل المجاز – أن‬
‫يقال ‪ :‬إن الله تعالى رفعه إليه ‪ .‬كما أن الملك إذا عظم منصب إنسان)‪ (96‬حسن‬
‫أن يقال ‪ :‬إنه رفعه من تلك الدرجة إلى درجة عالية ‪ ،‬وأنه قربه)‪ (97‬من نفسه‪.‬‬
‫ومنه قوله تعالى ‪ « :‬والسابقون السابقون أولئك المقربون)‪» (98‬‬

‫وأما الذي تمسكوا به عاشرا ً ‪ .‬وهو اليات المشتملة على )لفظ)‪ (99‬العندية ‪) :‬فلم‬
‫ل يجوز أن يكون المراد بالعندية ‪ :‬العندية بالشرف)‪ ( (100‬والدليل عليه ‪ :‬قوله‬
‫عليه السلم – حكاية عن رب العزة ‪ « : -‬أنا عند المنكسرة قلوبهم لجلي »‬
‫وقوله « أنا عند ظن عبدي بي » بل هذا أقوى لن النصوص التي ذكروها تدل‬
‫على أن الملئكة عند الله )وهذه النصوص‬

‫)‪ (94‬النساء ‪158‬‬


‫)‪ (96‬انسانا ‪ :‬ط ‪ ،‬منصب انسان ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (95‬فاطر ‪10‬‬
‫)‪ (97‬يريه ‪ :‬ط ‪ ،‬قربه ‪ :‬خ‬
‫)‪ (99‬لفظ ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (98‬الواقعة ‪11-10‬‬
‫)‪ (100‬فل يجوز أن يكون المراد بالعندية ‪ :‬الحيز ‪ .‬بل المراد بها الشرف ‪:‬ط‬
‫‪- 116 -‬‬

‫تدل على أن الله تعالى عند العبد ‪ .‬وأيضا ً قال()‪ (101‬تعالى ‪ « :‬وإن له عندنا‬
‫لزلفى »)‪ (102‬وليس المراد بهذه العندية )العندية(‪ 103‬بالجهة فكذا ههنا ‪ .‬فهذا هو‬
‫الشارة إلى الجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها من القرآن في إثبات الجهة لله‬
‫تعالى ‪ .‬وبالله التوفيق ‪.‬‬
‫وأما الخبار التي تمسكوا بها ‪ .‬فنقول ‪:‬‬
‫أما الخبر الول ‪:‬‬
‫فاعلم أن من الناس من روى هذا الخبر على وجه آخر ‪ .‬فقال أنه عليه السلم‬
‫قال ‪ « :‬وضع عرشه على السموات ‪ .‬هكذا » وقبب بإصبعه مثل القبة" فإن‬
‫حملنا الرواية على هذا الوجه ‪ ،‬فل إشكال فيه البتة )وأما أن أخذنا بتلك الرواية ‪.‬‬
‫فقال الشيخ أبو سلمان الخطابي ‪ :‬إن الكيفية عند الله تعالى ‪ ،‬وعن صفاته ‪:‬‬
‫منتفية)‪ (104‬والمقصود من هذا الكلم ‪ :‬التقريب والتفهيم وشرح عظمة الله تعالى‬
‫من حيث يدركه فهم النسان)‪ . (105‬وقوله ‪ « :‬وإنه يئط به » معناه إنه ليعجز عن‬
‫جلله وعظمته ‪ ،‬حتى يئط به ‪ ،‬إذا كان مغلوبا ً)‪ (106‬وذلك لن أطيط الرحل‬
‫)‬
‫بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه ‪ ،‬ولعجزه عن احتماله فهو عليه السلم يقرب‬
‫‪ (107‬بهذا النوع )من التمسك عنده ‪ :‬معنى عظمته تعالى)‪ (108‬وارتفاع عرشه ‪،‬‬
‫ليعلم المخاطب أنه تعالى أجل وأعلى من أن يجعل شبيها ً لحد من خلقه ‪.‬‬
‫وأقول ‪ :‬إن ظاهر هذا الحديث يدل على كونه جعل متناهيا ً )في‬

‫)‪ (101‬ما بين القوسين ‪ :‬من خ‬


‫‪ (03‬ص ‪40‬‬ ‫)‪ (102‬من خ‬
‫)‪ (105‬السائل ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (104‬الزيادة من خ‬
‫)‪ (106‬معلول ً ‪ :‬ط‬
‫)‪ (107‬قريب ‪ :‬ط )‪ (108‬من عظمة الله تعالى ‪ :‬ط‬

‫القوة)‪ ((109‬وإل لما )ينسبه بالقوة وعلى كونه معتمدا ً على عرشه محتاجا ً إليه ‪،‬‬
‫وإل لما)‪ ( (110‬حصل الطيط ‪ .‬وكل ذلك ينافي اللهية ‪ .‬فعلمنا ‪ :‬أنه ل بد فيه من‬
‫حمل اللفظ على غير ظاهره ‪.‬‬
‫وأما الخبر الثاني ‪ :‬وهو قوله عليه السلم‪ « :‬لما قضى الله الخلق‪ .‬كتب كتابا ً‬
‫فهو عنده فوق العرش » فالجواب عنه ‪ :‬ما تقدم من لفظ « عند » في القرآن‬
‫‪.‬‬
‫وأما الخبر الثالث ‪:‬‬
‫فجوابه ‪ :‬إن لفظ « أين ؟ » كما يجعل سؤال ً عن المكان فقد يجعل سؤال ً عن‬
‫المنزلة والدرجة يقال ‪ :‬أين فلن من فلن ؟ فلعل السؤال كان عن المنزلة ‪،‬‬
‫وإشارتها إلى السماء ‪ .‬أي هو رفيع القدر جدا ً ‪ .‬وإنما اكتفى منها بتلك الشارة‬
‫لقصور عقلها ‪ ،‬وقلة فهمها ‪ .‬وهذا الجواب يصلح أن يكون جوابا ً عن تمسكهم‬
‫بالخبر الثاني ‪ ،‬وهو لفظ « عنده » لن لفظ « عند » يذكر لبيان المنزلة‬
‫والدرجة ‪.‬‬
‫ومن هذا الباب أيضا ً ‪ :‬أن رجل ً قال للنبي ‪ : ε‬أين كان ربنا قبل أن يخلق‬
‫السماء ؟ فقال عليه السلم ‪ « :‬في عماء تحته هواء ‪ ،‬وفوقه هواء » وهذا يروى‬
‫على وجهين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬بالمد وهو السحاب الرقيق ‪.‬‬
‫‪- 117 -‬‬

‫والثاني ‪ :‬بالقصر ‪ .‬فإذا روي مقصورا ً كان المعنى أنه تعالى كان وحده ولم يكن‬
‫معه غيره ‪ .‬شبه العدم بالعمى ‪ .‬فكأنه قال ‪ :‬لم يكن شيء سواه ‪ ،‬ل فوق ول‬
‫تحت ) ولشمال ول يمين) ‪ ( (111‬فإذا قيل ‪ :‬كان في‬

‫)‪ (110‬من خ‬ ‫)‪ (109‬في القـوة ‪ :‬ط‬


‫)‪ (111‬من ط‬

‫عمى ‪ .‬فالمعنى)‪ (112‬أنه تعالى كان فيه بمعنى القدرة والتدبير ‪ .‬والرواية‬
‫الولى ‪ :‬أولى‪ .‬لما روي عن « عمران بن الحصين »)‪ (113‬قال ‪ :‬قال )رجل‬
‫لرسول الله ‪ ( (ε (114‬أخبنا عن أول هذا المر ؟ قال ‪ « :‬كان الله ولم يكن معه‬
‫شيء » وهذا يدل على أن رواية العمى – بالقصر – أولى من المد ‪.‬‬

‫ومن هذا الباب أيضا ً ‪ :‬ما روى أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال ‪ :‬كان‬
‫جبريل عن النبي ‪ ε‬فأتاه ملك ‪ .‬فقال أين تركت ربنا ؟ فقال ‪ :‬في الرضين فجاء‬
‫آخر ‪ .‬فقال ‪ :‬أين تركت ربنا ؟ فقال ‪ :‬في سبع سموات فجاءه آخر ‪ .‬فسأله عنه‬
‫؟ فقال ‪ :‬في المشرق ‪ .‬وآخر في المغرب ‪ .‬والتأويل ‪ :‬إنه على وفق قوله‬
‫تعالى ‪ « :‬وهو الذي في السماء إله ‪ ،‬وفي الرض إله)‪ » (115‬وقوله ‪ « :‬وهو الله‬
‫في السموات وفي الرض)‪ » (116‬وقوله ك « فأينما تولوا فثم وجه الله)‪ » (117‬أي‬
‫أنه تعالى في كل مكان بالحفظ والتدبير واللهية ‪.‬‬
‫وأما قصة المعراج‪ .‬فالمقصود ‪ :‬أنه يريه الله – تعالى ‪ -‬أنواع مخلوقاته في‬
‫العالم العلوي والعالم السفلي ‪ ،‬لتكون مشاهداته للدلئل أكثر ‪ ،‬فتصير نفسه‬
‫أقوى وأكمل ‪ .‬كما في حق الخليل – عليه السلم –‬

‫» ففيه وجوه ‪:‬‬ ‫)‪(118‬‬


‫وأما قوله ‪ « :‬ثم داى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى‬

‫)‪ (112‬معناه ‪ :‬ط‬


‫)‪ (114‬زيادة‬ ‫)‪ (113‬خصين ‪ :‬خ‬
‫)‪ (116‬النعام ‪3‬‬ ‫)‪ (115‬الزخرف ‪84‬‬
‫)‪ (117‬البقـرة ‪115‬‬
‫)‪ (118‬النجـم ‪9-8‬‬

‫الول ‪ :‬إن هذا الدنو دنو المنزلة والكرامة ‪ .‬كقوله تعالى ‪ « :‬واسجد واقترب‬
‫)‪(119‬‬

‫» وقال عليه السلم – حكاية عن الله تعالى ‪ « : -‬من تقرب إلي شبرا ً ‪ ،‬تقربت‬
‫إليه ذراعا ً »‬
‫الثاني ‪ « :‬ثم دنا فتدلى » أي جبريل دنا من محمد – عليهما السلم – والدليل‬
‫عليه ‪ :‬قوله تعالى في آية أخرى ‪ « :‬ولقد رآه بالفق المبين)‪ » (120‬ثم لما دنا‬
‫)‬
‫جبريل من محمد – عليهما السلم – حصل الوحي من الله تعالى إليه ولهذا قال‬
‫‪ « : (121‬فأوحى إلى عبده ما أوحى)‪» (121‬‬
‫وأما الجواب عن التمسك بقول فرعون « يا هامان ابن لي صرحا ً ُ‬
‫» )‪ (122‬فهو‬
‫أن هذا الكلم من فرعون ‪ .‬وهو معارض بأن موسى – عليه السلم – لم ‪ :‬يقل‬
‫‪- 118 -‬‬

‫الرب في السماء ‪ ،‬بل قال ‪ « :‬رب السماء)‪ » (123‬ثم إن فرعون كان قد ظن فيه‬
‫)‬
‫أن الله مستقر في السماء ‪ .‬فهذا هو الجواب عن هذه الشبهة )وبالله التوفيق‬
‫‪( (124‬‬

‫ـــــــــ‬

‫)‪ (119‬آخر العلق‬


‫)‪ (121‬النجم ‪10‬‬ ‫)‪ (120‬التكوير ‪23‬‬
‫)‪ (123‬الشعراء‬ ‫)‪ (122‬غافـر ‪36‬‬
‫)‪ (124‬سقط خ‬

‫الفصـل الحـادي والثلثون‬


‫في‬
‫كلم كلي في أخبار الحاد‬
‫ـــــ‬
‫نقول ‪ :‬أم التمسك بخير الواحد في معرفة الله تعالى فغير جائز ‪ .‬ويدل عليه‬
‫وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪:‬‬
‫إن أخبار الحاد مظنونة ‪ .‬فل يجوز التمسك بها في معرفة الله تعالى وصفاته ‪.‬‬
‫وإنما قلنا ‪ .‬إنها مظنونة ‪ .‬وذلك لنا أجمعنا على أن الرواة ليسوا معصومين ‪.‬‬
‫وكيف ؟ "والروافض" لما اتفقوا على عصمة « علي » ) رضي الله عنه)‪( (1‬‬
‫وحده ‪ .‬هؤلء المحدثون كفروهم ‪ .‬وإذا كان القول بعصمة « علي » ‪ -‬كرم الله‬
‫وجهه – يوجب عليهم تكفير القائلين بعصمة « علي » فكيف يمكنهم القول‬
‫بعصمة هؤلء الرواة ؟ وإذا لم يكونوا معصومين ‪ ،‬كان الخطأ عليهم جائزا ً ‪،‬‬
‫والكذب عليهم جائزا ً ‪ .‬وحينئذ ل يكون صدقهم معلوما ً ‪ ،‬بل مظنونا ً ‪ .‬فثبت أن‬
‫خبر الواحد مظنون ‪ .‬فوجب أن ل يجوز التمسك به لقوله تعالى ‪ « :‬إن الظن ل‬
‫)‬
‫» )‪ (2‬ولقوله تعالى في صفة الكفار‪ « :‬إن يتبعون إل الظن»ُ‬ ‫يغني عن الحق شيئا ً ُ‬
‫ولقوله ‪ « :‬وأن تقولوا على الله ما‬ ‫)‪(4‬‬
‫م ُ‬
‫»‬ ‫ولقوله ‪ « :‬ول تقف ما ليس به عل ً‬
‫‪(3‬‬

‫» )‪ (5‬ترك العمل في فروع الشريعة – لن المطلوب فيها الظن –‬ ‫ل تعلمون ُ‬


‫فوجب أن يبقى في مسائل الصول على هذا الصل ‪.‬‬

‫)‪ (2‬النجم ‪28‬‬ ‫)‪ (1‬سقط خ‬


‫)‪ (4‬السراء ‪36‬‬ ‫)‪ (3‬النجم ‪28‬‬
‫)‪ (5‬العـراف ‪33‬‬

‫والعجب من الحشوية ‪ .‬أنهم يقولون ‪ :‬الشتغال بتأويل اليات المتشابهة ‪ .‬غي‬


‫(‬ ‫جائز ‪ .‬لن تعيين ذلك التأويل ‪ :‬مظنون ‪ .‬والقول بالظن في القرآن ) ل يجوز‬
‫)‪(6‬‬

‫ثم إنهم يتكلمون في ذات الله تعالى وصفاته بأخبار الحاد ‪ ،‬مع أنها في غاية‬
‫البعد عن القطع واليقين ‪ ،‬وإذا لم يجوزوا تفسير ألفاظ القرآن بالطريق‬
‫‪- 119 -‬‬

‫المظنون ‪ ،‬فلن يمتنعوا عن الكلم في ذات الحق تعالى ‪ ،‬وفي صفاته ‪ ،‬بمجرد‬
‫الروايات الضعيفة أولى ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إن أجل طبقات الرواة قدرا ً ‪ ،‬وأعلهم منصبا ً ‪ :‬الصحابة – رضي الله‬
‫عنهم – ثم إنا نعلم ‪ ،‬أن رواياتهم ل تفيد القطع واليقين ‪ .‬والدليل عليه ‪ :‬أن هؤلء‬
‫المحدثين رووا عنهم ‪ :‬أن كل واحد منهم طعن في الخر ‪ ،‬ونسبه إلى ما ل ينبغي‬
‫‪.‬‬
‫أليس من المشهور ‪ :‬أن عمر طعن في خالد بن الوليد ؟ وأن ابن مسعود وأبا ذر‬
‫‪ ،‬كانا يبالغان في الطعن في عثمان ؟ ونقل عن عائشة – رضي الله عنها – أنها‬
‫بالغت في الطعن في عثمان ‪.‬‬
‫وأليس أن عمر قال في عثمان ‪ :‬إنه يحلف بأقاربه ؟ وقال في طلحة والزبير‬
‫أشياء أخر ‪ ،‬تجري هذا المجرى ‪.‬‬
‫أليس أن عليا ً ) كرم الله وجهه ()‪ (7‬سمع أبا هريرة يوما ً كان يقول ‪ :‬أخبرني‬
‫خليلي أبو القاسم ‪ .‬فقال له علي ‪ :‬متى كان خليلك ؟‬
‫أليس أن عمر – رضي الله عنه – نهى أبا هريرة عن كثرة الرواية ؟‬
‫أليس أن ابن عباس )رضي الله عنهما()‪ (8‬طعن في خبر أبي سعيد في الهرق ‪،‬‬
‫وطعن في خبر أبي هريرة في غسل اليدين ‪ .‬وقال كيف يصنع )بمهر أمنا ()‪ (9‬؟‬

‫)‪ (7‬كرم الله وجهه ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (6‬غير جائز ‪ :‬خ‬


‫)‪ (9‬طهرا منا ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (8‬من خ‬

‫أليس أن أبا هريرة لما روى ‪ « :‬من أصبح جنبا ً فل صوم له ُ‬


‫» طعنوا فيه ؟‪.‬‬
‫» ‪ :‬طعنت‬
‫أليس أن ابن عمر لما روى ‪ « :‬إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ُ‬
‫)‪(10‬‬
‫عائشة فيه ‪ ،‬بقوله تعالى ‪ « :‬ول تزر وازرة وزر أخرىً ُ‬
‫»‬
‫أليس أنهم طعنوا في خبر فاطمة بنت قيس ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬ل ندع كتاب ربنا ‪ ،‬وسنة‬
‫نبينا ‪ ،‬لخبر امرأة ‪ ،‬ل ندري أ صدقت أم كذبت ؟‬
‫أليس أن عمر طالب أبا موسى الشعري في خبر الستئذان بالشاهد وغلظ المر‬
‫عليه ؟‬
‫أليس أن عليا ً كان يستحلف الرواة ؟‬
‫في بعض الوقائع ‪ :‬إن قاربوك فقد‬ ‫أليس أن عليا ً قال لعمر )رضي الله عنهما(‬
‫)‪(11‬‬

‫غشوك ؟‬
‫واعلم ‪ :‬أنك إذا طالعت كتب الحديث ‪ ،‬وجدت في هذا الباب ما ل يعد ول‬
‫يحصى ‪.‬‬
‫وإذا ثبت هذا فنقول ‪ :‬الطاعن ‪ .‬إن صدق ‪ ،‬فقد توجه الطعن على المطعون ‪،‬‬
‫وإن كذب فقد توجه على الطاعن ‪ .‬فكيف كان فتوجه الطعن)‪ (12‬لزم إل أنا قلنا‪:‬‬
‫إن الله تعالى أثنى على الصحابة – رضي الله عنهم – في القرآن على سبيل‬
‫العموم ‪ .‬وذلك يفيد ظن الصدق ‪ .‬ولهذا الترجيح قبلنا رواياتهم في فروع‬
‫)‪(13‬‬
‫الشريعة ‪ .‬أما الكلم في ذلت الله وصفاته ‪ ،‬فكيف يمكن بناؤه على )هذه(‬
‫الروايات الضعيفة ؟‬

‫الثالث ‪ :‬وهو أنه اشتهر فيما بين المة ‪ :‬أن جماعة من الملحدة ‪ ،‬وضعوا أخبارا ً‬
‫منكرة ‪ ،‬واحتالوا في ترويجها على المحدثين ‪ .‬والمحدثون‬
‫‪- 120 -‬‬

‫)‪ (11‬من خ‬ ‫)‪ (10‬فاطـر ‪18‬‬


‫)‪ (13‬على الرواية ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (12‬فالطعن ‪ :‬خ‬

‫لسلمة قلوبهم ما عرفوها ‪ ،‬بل قبلوها ‪ .‬وأي منكر فوق وصف الله تعالى بما‬
‫يقدح اللهية ‪ ،‬ويبطل الربوية ؟ فوجب القطع في أمثال هذه الخبار بأنها‬
‫موضوعة ‪ .‬وأما البخاري والقشيري فهما ما كانا عالمين بالغيوب ‪ ،‬بل اجتهدا‬
‫واحتاطا بمقدار طاقتهما ‪ .‬وأما اعتقاد أنهما علما جميع الحوال الواقعة في زمان‬
‫الرسول ‪ ε‬إلى زماننا ‪ ،‬فذلك ل يقوله عاقل ‪ ،‬وغاية ما في الباب ‪ :‬أنا نحسن‬
‫الظن بهما ‪ ،‬وبالذين رويا عنهم ‪ .‬إل أنا )إذا()‪ (14‬شاهدنا خبرا ً مشتمل ً على منكر ‪،‬‬
‫ل يمكن إسناده إلى الرسول ‪ ε‬قطعنا بأنه من أوضاع الملحدة ‪ ،‬ومن ترويجاتهم‬
‫على أولئك المحدثين ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬إن هؤلء المحدثين يخرجون الروايات بأقل العلل ‪ .‬مثل ‪ :‬إنه كان مائل ً‬
‫» فكان رافضيا ً ‪ ،‬فل تقبل روايته ‪ .‬ومثل ‪ :‬كان « معبد الجهني»ُ‬ ‫إلى حب « على ُ‬
‫قائل ً بالقدر ‪ ،‬فل تقبل روايته ‪ .‬وما كان فيهم عاقل يقول ‪ :‬إنه وصف الله تعالى‬
‫بما يبطل إلهيته وربوبيته ‪ ،‬فل تقبل روايته )إن()‪ (15‬هذا من العجائب ‪.‬‬
‫الخامس ‪:‬‬
‫إن الرواة الذين سمعوا هذه الخبار من الرسول ‪ ε‬ما كتبوها عن لفظ الرسول ‪،‬‬
‫بل سمعوا شيئا ً في مجلس ‪ ،‬ثم أنهم رووا تلك الشياء بعد عشرين سنة أو‬
‫أكثر ‪ .‬ومن سمع شيئا ً في مجلس مرة واحدة ‪ ،‬ثم رواه بعد العشرين والثلثين ‪،‬‬
‫ل يمكنه رواية تلك اللفاظ بأعيانها ‪ .‬وهذا كالمعلوم بالضرورة ‪ .‬وإذا كان المر‬
‫كذلك ‪ ،‬كان القطع حاصل ً بأن شيئا ً من هذه اللفاظ ‪ :‬ليس من ألفاظ الرسول ‪ε‬‬
‫)‪(16‬‬
‫بل ليس ذلك إل من ألفاظ الراوي وكيف يقطع بأن هذا الراوي )ما(‬

‫)‪ (14‬إذا ‪ :‬سقط ‪ :‬خ‬


‫)‪ (15‬ان ‪ :‬ط واعلم أن الشيخ "زاهد الكوثري" كان يقول بذلك ‪ ،‬فقد طعن في‬
‫بعض المفسرين بأنه مجسم‬
‫)‪ (16‬ما ‪ :‬خ‬

‫سمع ما جرى في ذلك المجلس ؟ فإن من سمع كلما ً في مجلس واحد ‪ ،‬ثم إنه‬
‫ما كتبه ‪ ،‬وما كرر عليه كل يوم ‪ ،‬بل ذكره بعد عشرين سنة أو ثلثين ‪ .‬فالظاهر ‪:‬‬
‫أنه ينسى منه شيئا ً كثيرا ً ‪ ،‬أو يتشوش عليه نظم الكلم وترتيبه وتركيبه ‪ .‬ومع هذا‬
‫الحتمال فكيف يمكن التمسك به في معرفة ذات الله تعالى وصفاته ؟‬
‫واعلم ‪ :‬أن هذا الباب كثير الكلم ‪ .‬إل أن القدر الذي أوردناه كاف في بيان أنه ل‬
‫)‪(17‬‬
‫يجوز التمسك في أصول الدين بأخبار الحاد )والله أعلم(‬
‫‪---------------‬‬

‫)‪ (17‬والله أعلم ‪ :‬ط‬

‫الفصل الثاني والثلثون‬


‫‪- 121 -‬‬

‫في‬
‫أن البراهين العقلية إذا صارت معارضة بالظواهر النـقلية‬
‫فكيف يكون الحال فيها ؟‬
‫ـــــ‬

‫اعلم ‪ :‬أن الدلئل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ‪ ،‬ثم وجدنا أدلة‬
‫نقلية يشعر ظاهرها بخلف ذلك ‪ .‬فهناك ل يخلو الحال من أحد أمور أربعة ‪ :‬إما‬
‫أن يصدق مقتضى العقل والمنطق – فيلزم تصديق النقيضين وهو محال _ وإما‬
‫أن نبطلها)‪ – (1‬فيلزم تكذيب النقيضين ‪ .‬وهو محال – )وإما أن نكذب الظواهر‬
‫النقلية ‪ ،‬ونصدق الظواهر العقلية()‪ (2‬وإما أن تصدق الظواهر النقلية وتكذب‬
‫الظواهر العقلية – وذلك باطل – لنه ل يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية ‪.‬‬
‫إل إذا عرفنا بالدلئل العقلية ‪ :‬إثبات الصانع ‪ ،‬وصفاته ‪ ،‬وكيفية دللة المعجزة‬
‫على صدق الرسول ‪ ε‬وظهور المعجزات على )يد()‪ (3‬محمد ‪ ε‬ولو صار القدح‬
‫في الدلئل العقلية القطعية ‪ ،‬صار العقل متهما ً ‪ ،‬غير مقبول القول ‪ ،‬ولو كان‬
‫كذلك لخرج عن أن يكون مقبول القول في هذه الصول ‪ .‬وإذا لم تثبت هذه‬
‫الصول ‪ ،‬خرجت الدلئل النقلية عن كونها مفيدة ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن القدح في العقل‬
‫لتصحيح النقل ‪ ،‬يفضي إلى القدح في العقل والنقل معا ً ‪ .‬وإنه باطل ز ولما‬
‫بطلت القسام الربعة لم يبق إل أ‪) ،‬يقطع بمقتضى()‪ (4‬الدلئل العقلية)‪(5‬‬
‫القاطعة ‪ :‬بأن هذه الدلئل‬

‫)‪(3‬‬ ‫)‪ (2‬زيادة خ‬ ‫)‪ (1‬نبطل ‪ :‬ط‬


‫يـد ‪ :‬خ‬
‫)‪ (5‬النقلية ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (4‬نقطع بنقيض ‪ :‬خ‬

‫النقلية إما أن يقال أنها غير صحيحة ‪ ،‬أو )يقال ‪ :‬إنها صحيحة()‪ (6‬إل أن المراد‬
‫منها غير ظواهرها ‪ .‬ثم إن جوزنا التأويل ‪ :‬اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك‬
‫التأويلت على التفصيل ‪ .‬وإن لم تجوز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى ‪.‬‬
‫فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات )وبالله التوفيق()‪(7‬‬

‫‪---------------‬‬

‫)‪ (6‬إن كانت صحيحة‬


‫)‪ (7‬من ط – واعلم ‪ :‬أن القانون الكلي الذي يقول به المام فخر الدين – وهو‬
‫القانون الصحيح – لم يأخذه عن الغزالي والجويني وغيرهما من علماء المدرسة‬
‫الشعرية فحسب ‪ ،‬بل هذا القانون مفصل في كتاب "الفصل" لبن حازم‬
‫الندلسي ‪ ،‬في الجزء الول ‪ .‬وابن حزم – رحمه الله متعصب له أكثر من تعصب‬
‫المام فخر الدين‪ ،‬وقد نظم صاحب " المنتخب الجليل" شعرا ً في هذا القانون‬
‫هو‪:‬‬
‫نؤله ‪ .‬فنكسـبه‬ ‫إذا ما النقل خالف حكم عقل‬
‫رجوعا‬
‫يخالف‬ ‫لن العقل أصل النقل مهمـا‬
‫أصله ‪ ،‬سقطا ً جميعا ً‬
‫‪- 122 -‬‬

‫والشيخ ابن تيمية يقول في "درء تعارض العقل والنقل" ‪" :‬إذا تعارض الشرع‬
‫والعقل وجب تقديم الشرع" وقوله صحيح في تعليل أحكام الشريعة ‪ .‬فلو قال‬
‫إنسان ما ‪ :‬ما الحكمة في تحريم لحم الجمل على بني اسرائيل ‪ .‬لن لحم‬
‫الجمل كسائر لحوم النعام غير مضر للصحة ؟ من الممكن أن يقول الشيخ ابن‬
‫تيمية في هذا وشبهه ‪ :‬إن الشرع يقدم لن أحكام الله ل تعلل لن مشرعها أحكم‬
‫من بني البشر ‪ .‬وقوله غير صحيح في آيات الكتاب – وما القانون إل في آيات‬
‫الكتاب وابن تيمية يشاغب ليمنع المجاز في آيات الكتاب – فإن قول الله تعالى‬
‫ان المنافقين "نسوا الله فنسيهم" قول شرعي والنسيان غير جائز على الله ‪.‬‬
‫وهذا قول عقلي ‪ .‬والتعارض هنا حاصل بين ظاهر النص الشرعي الذي يثبت‬
‫نسيلنا ً لله الذي ل ينسى ‪ .‬وبين الحكم العقلي الذي يمنع النسيان عن الله الذي‬
‫ل ينسى ‪ .‬وعليه فل بد من التأويل ‪ .‬ويتعين أن يقدم الحكم العقلي الذي هو عدم‬
‫النسيان ‪،‬‬
‫على ظاهر الحكم الشرعي الذي يثبت النسيان ‪ .‬هذا هو قانون المام فخر الدين‬
‫‪ .‬وعلى قانونه نقول في هذا النص ‪ :‬ان النسيان على المجاز هو الهمال ‪ .‬أي‬
‫تعاليم الله فأهملهم الله ونزع منهم عنايته ورحمته‪.‬‬

‫القسم الثالث من هذا الكتاب‬

‫في‬

‫تقرير مذهب السلف‬

‫وفيه فصـول ‪:‬‬

‫الفصل الول‬
‫في‬
‫أنه هل يجوز أن يحصل في كتاب الله‬
‫تعالى ‪ ،‬ما ل سبيل إلى العلم به ؟‬
‫ـــــ‬
‫اعلم ‪ :‬أن كثيرا ً من الفقهاء والمحدثين والصوفية ‪ ،‬يجوزون ذلك ‪ .‬والمتكلمون‬
‫ينكرونه ‪ .‬واحتجوا باليات والخبار )والمعقول )‪. ( (1‬‬
‫أما اليات فكثيرة ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬قوله تعالى ‪ « :‬أفل يتدبرون القرآن ‪ ،‬أم على قلوب أقفالها)‪ » (2‬أمر‬
‫الناس بالتدبر في القرآن ‪ .‬ولو كان القرآن غير مفهوم ‪ ،‬فكيف يأمرنا بالتدبر فيه‬
‫؟‬
‫‪- 123 -‬‬

‫الثاني ‪ :‬قوله تعالى‪ «:‬أفل يتدبرون القرآن ؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا‬
‫فيه اختلفا ً كثيرا ً)‪ » (3‬فكيف يأمنا بالتدبر فيه ‪ ،‬لمعرفة نفي التناقض في الختلف‬
‫‪ ،‬مع أنه غير مفهوم للخلق ؟‬
‫الثالث ‪ :‬قوله تعالى‪ «:‬وإنه لتنزيل رب العالمين ‪ ،‬نزل به الروح المين ‪ ،‬على‬
‫ن)‪ » (4‬ول لم يكن مفهوما ً ‪ ،‬فكيف‬
‫قلبك ‪ .‬لتكون من المنذرين ‪ ،‬بلسان عربي مبي ً‬
‫يمكن أن يكون الرسول منذرا ً به ؟‬

‫)‪ (1‬سقط خ‬
‫)‪ (3‬النساء ‪82‬‬ ‫)‪ (2‬محمد ‪24‬‬
‫)‪ (4‬الشعراء ‪195-192‬‬

‫» يدل على أنه نازل بلغة العرب ‪ ،‬وإذا‬ ‫ن‬‫وأيضا ً ‪ :‬قوله ‪ «:‬بلسان عربي مبي ً‬
‫)‪(5‬‬

‫كان كذلك ‪ ،‬وجب أن يكون معلوما ً ‪.‬‬


‫» والستنباط منه ل يمكن‬ ‫)‪(6‬‬
‫م‬
‫الرابع ‪ :‬قوله تعالى‪ «:‬لعلمه الذين يستنبطونه منه ً‬
‫إل بعد الحاطة بمعناه ‪.‬‬
‫» وقوله ‪ « :‬ما فرطنا في الكتاب من‬ ‫الخامس ‪ :‬قوله تعالى‪ «:‬تبيانا لكل شيًء‬
‫)‪(7‬‬

‫)‪(8‬‬
‫شيء »‬
‫» وما ل يكون معلوما ً ل يكون هدى ‪.‬‬ ‫)‪(9‬‬
‫السادس ‪ :‬قوله تعالى‪ «:‬هدى للمتقين‬
‫السابع‪:‬قوله تعالى‪ «:‬حكمة بالغة)‪ »(10‬وقوله‪ «:‬وشفاء لما في الصدور وهدى‬
‫ورحمة للمؤمنين)‪ » (11‬وكل هذه الصفات ل تحصل في غير المعلوم ‪.‬‬
‫» ول يكون مبينا ً‬ ‫)‪(12‬‬
‫الثامن ‪ :‬قوله تعالى‪ «:‬قد جاءكم من الله نور ‪ ،‬وكتاب مبين‬
‫إل وأن يكون معلوما ً ‪.‬‬
‫التاسع ‪ :‬قولـه تعالى‪ «:‬أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؟ إن في‬
‫ذلك لرحمة وذكرى)‪ » (13‬فكيف يكون الكتاب كافيا ً ‪ ،‬وكيف يكون ذكرى ‪ ،‬مع أنه‬
‫غير مفهوم ؟‬

‫» فكيف‬ ‫العاشر ‪ :‬قوله تعالى‪ «:‬هذا بلغ للناس ‪ ،‬ولينذروا به‬


‫)‪(14‬‬

‫)‪ (5‬الشـعراء ‪195‬‬


‫)‪ (7‬النحـل ‪89‬‬ ‫)‪ (6‬النسـاء ‪83‬‬
‫)‪ (9‬البقـرة ‪2‬‬ ‫)‪ (8‬النعـام ‪38‬‬
‫)‪ (11‬يونس ‪57‬‬ ‫)‪ (10‬القمـر )‪(5‬‬
‫)‪ (13‬العنكبوت ‪51‬‬ ‫)‪ (12‬المـائدة ‪15‬‬
‫)‪ (14‬ابراهيم ‪52‬‬

‫يكون بلغا ً ‪ ،‬وكيف يقع النذار به ‪ ،‬وهو غير معلوم ؟ وقال في آخر الية ‪« :‬‬
‫وليذكر أولو اللباب)‪ » (15‬وإنما يكون كذلك إذا كان معلوما ً ‪.‬‬
‫‪- 124 -‬‬

‫الحادي عشر ‪ :‬قوله تعالى‪ «:‬قد جاءكم برهان من ربكم ‪ ،‬وأنزلنا إليكم نورا ُ مبينا‬
‫)‬

‫‪ » (16‬فكيف يكون برهانا ً ونورا ً مبينا ً ‪ ،‬مع أنه غير معلوم ‪.‬‬
‫الثاني عشر ‪ :‬قوله تعالى‪ «:‬فمن اتبع هداي ‪ ،‬فل يضل ول يشقى ‪ .‬ومن أعرض‬
‫عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ً)‪ » (17‬وكيف يمكن اتباعه تارة ‪ ،‬والعراض عنه‬
‫أخرى ‪ ،‬مع أنه غير معلوم ؟‬
‫» وكيف‬ ‫الثالث عشر ‪ :‬قوله تعالى‪ «:‬إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم‬
‫)‪(18‬‬

‫يكون هاديا ً ‪ ،‬مع أنه غير معلوم للبشر ؟‬


‫الرابع عشر ‪ :‬قوله عز وجل‪ «:‬آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه)‪ » (19‬إلى قوله‬
‫‪ « :‬سمعنا وأطعنا » والطاعة ل تمكن إل بعد وجب كون القرآن مفهوما ً ‪.‬‬

‫***‬
‫وأما الخبار ‪ .‬فقوله ‪ : ε‬إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به ‪ .‬لن تضلوا ز كتاب‬
‫الله وعترتي )‪ (20‬وكيف يمكن التمسك بع ‪ ،‬وهو غير معلوم ؟ وعن على – رضي‬
‫الله عنه – عن النبي ‪ ε‬أنه قال ‪ « :‬عليكم بكتاب الله ‪ .‬فيه نبأ ما قبلكم ‪ ،‬وخبر ما‬
‫بعدكم ‪ ،‬وحكم ما بينكم ‪ ،‬هو الفصل ليس بالهزل ‪ .‬من تركه من جبار قصمه الله‬
‫‪ ،‬ومن ابتغى الهدى‬

‫)‪ (15‬ابراهيم ‪52‬‬


‫)‪ (17‬طـه ‪124-123‬‬ ‫)‪ (16‬النساء ‪174‬‬
‫)‪ (19‬البقرة ‪285‬‬ ‫)‪ (18‬السراء ‪9‬‬
‫)‪ (20‬وسنتي وعترتي‬

‫في غيره ‪ ،‬أضله الله ‪ .‬هو حبل الله المتين ‪ ،‬والذكر الحكيم ‪ ،‬والصراط‬
‫المستقيم ‪ .‬هو الذي ل تزيغ به الهواء ‪ ،‬ول يشبع منه العلماء ‪ ،‬ول يخلق على‬
‫كثرة الرد ‪ ،‬ول تنقضي عجائبه ‪ .‬من قال به صدق ‪ ،‬ومن حكم به عدل ومن‬
‫خاصم به أفلح ‪ ،‬ومن دعى إليه هدى إلى صراط مستقيم »‬

‫وأما المعقول ‪ .‬فمن وجوه ‪:‬‬

‫***‬

‫الول ‪ :‬إنه لو ورد في القرآن شيء ل سبيل لنا إلى العلم به ‪ .‬لكانت تلك‬
‫المخاطبة تجـري مجرى‬
‫الثاني ‪ :‬المقصود من الكلم ‪ :‬الفهام ‪ ،‬ولو لم يكن مفهوما ً ‪ ،‬لكان عبثا ً ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬إن التحدي وقع بالقرآن ‪ .‬وما لم يكن معلوما ً ‪ ،‬لم يجز ‪ ،‬التحدي به ‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(21‬‬
‫فهذا مجموع كلم المتكلمين )وبالله التوفيق(‬
‫***‬
‫‪- 125 -‬‬

‫احتج مخالفوهم بالية ‪ ،‬والخبر ‪ ،‬والمعقول ‪.‬‬


‫أما الية ‪ :‬فمن وجهين ‪.‬‬
‫»‬ ‫)‪(22‬‬
‫الول ‪ :‬قوله تعالى في صفة المتشابهات ‪ « :‬وما يعلم تأويله إل الله‬
‫والوقوف ههنا لزم ‪ .‬وسيأتي دليله إن شاء الله ‪،‬‬
‫في أوائل السور ‪.‬‬ ‫)‪(23‬‬
‫الثاني ‪ :‬الحروف المقطعة المسطورة‬
‫وأما الخبر ‪ :‬فقوله عليه السلم ‪ « :‬إن من العلم كهيئة المكون ‪ ،‬ل يعلمها إل‬
‫العلماء بالله ‪ .‬فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله ُ‬
‫»‬

‫)‪ (22‬آل عمران ‪7‬‬ ‫)‪ (21‬من ط‬


‫)‪ (23‬المذكورة ‪ :‬ط‬

‫وأما المعقول ‪:‬‬


‫فهو أن الفعال التي كلفنا بها قسمان ‪ :‬منها ما نعرف وجه الحكمة فيه على‬
‫الجملة بعقولنا ‪ ،‬كالصلة والزكاة والصوم ‪ .‬فإن الصلة تواضع وتضرع للخالق ‪،‬‬
‫والزكاة إحسان إلى المحتاجين ‪ ،‬والصوم قهر للنفس ‪ .‬ومنها ما ل نعرف وجه‬
‫الحكمة فيه ‪ ،‬كأفعال الحج ‪ .‬فإنا ل نعرف وجه الحكمة في رمي الجمرات ‪،‬‬
‫والسعي بين الصفا والمروة ‪ .‬ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من‬
‫الحكيم تعالى أن يأمر عباده بالنوع الول ‪ .‬فكذا يحسن بالنوع الثاني ‪ .‬لن‬
‫الطاعة من النوع الول ل تدل على كمال النقياد ‪ ،‬لحتمال أن المأمور ‪ ،‬إنما أتى‬
‫بها لما عرفه بعقله من وجه المصلحة فيه ‪ .‬أما الطاعة في النوع الثاني فإنها‬
‫تدل على كمال النقياد ‪ ،‬ونهاية التسليم ‪ ،‬لنه لما لم يعرف فيه وجه المصلحة‬
‫البتة ‪ ،‬لم يكن إتيانه به ن إل لمحض النقياد والتسليم ‪ .‬وإذا كان المر كذلك في‬
‫الفعال ‪ ،‬فلم ل يجوز المر كذلك في القوال ؟ وهو الذي أنزله الله علينا ‪،‬‬
‫وأمرنا بتعظيمه في قرآنه ‪ ،‬ينقسم غلى قسمين ‪ :‬منه ما يعرف معناه )ونحيط)‬
‫‪ ( (24‬بفحواه ‪ ،‬ومنه ما ل نعرف معناه البتة ‪ ،‬ويكون المقصود من إنزاله‬
‫والتكليف بقراءته وتعظيمه ‪ :‬ظهور كمال العبودية والنقياد لوامر الله تعالى‪.‬‬
‫بل ههنا فائدة أخرى ‪ :‬وهي أن النسان إذا وقف على المعنى ‪ ،‬وأحاط به ‪ ،‬سقط‬
‫وقعه في القلب ‪ .‬وإذا لم يقف على المقصود مع جزمه بأن المتكلم بذلك أحكم‬
‫الحاكمين ‪ ،‬فإنه يبقى قلبه ملتفتا ً إليه أبدا ً ‪ ،‬ومفتكرا ً فيه أبدا ً ‪.‬‬

‫ولباب التكليف ‪ :‬اشتغال السر بذكر الله تعالى ‪ ،‬والتفكر في كلمه‬

‫)‪24‬ول نحيط ‪ :‬ط‬

‫فل يبعد أن يقال ‪ :‬إن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبدا ً ‪:‬‬
‫مصلحة عظيمة له ‪ .‬فيتعبد الله تعالى بذلك ‪ ،‬تحصيل ً لهذه المصلحة ‪.‬‬
‫(‬ ‫)‪(25‬‬
‫فهذا ما عندي من كلم الفريقين في هذا الباب )وبالله التوفيق‬
‫ـــــ‬

‫)‪ (25‬سقط خ‬
‫‪- 126 -‬‬

‫الفصـل الثـاني‬
‫في‬
‫وصف القرآن بأنه محكم ومتشابه‬
‫ـــــ‬
‫اعلم ‪ :‬أن كتاب الله تعالى ‪ :‬دل علـى أنــه بكليتـه محكـم ‪ ،‬ودل علــى أنـه بكليتـه‬
‫متشابه ‪ ،‬ودل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه ‪.‬‬
‫أما الذي يدل على أنه بكليته محكم ‪ :‬فهو قوله تعالى ‪ « :‬آلر ‪ .‬كتاب أحكمت‬
‫آياته)‪ « - » (1‬آلر ‪ .‬تلك آيات الكتاب الحكيم»)‪ (2‬قد ذكر في هاتين اليتين ‪ :‬أن‬
‫جميعه محكم ‪ .‬والمراد بهذا المعنى ‪ :‬كونه حقا ً في ألفاظه ‪ ،‬وكونه حقا ً في‬
‫معانيه ‪ .‬وكل كلم سوى القرآن ‪ ،‬فالقرآن أفضل منه في لفظه ومعناه ‪ .‬وأن‬
‫أحدا ً من الخلق ل يقدر على )التيان بكلم()‪ (3‬يساوي القرآن في لفظه ومعناه ‪.‬‬
‫والعرب تقول في البناء الوثيق ‪ ،‬والعهد الوثيق ‪ ،‬الذي ل يمكن حله)‪ : (4‬إنه محكم‬
‫‪ .‬فهذا معنى وصف كل القرآن بأنه محكم ‪.‬‬
‫ً )‪(5‬‬
‫وأما الذي يدل على أن بكليته متشابه ‪ :‬فهو قوله تعالى ‪ « :‬كتابا ً متشابها»‬
‫والمعنى ‪ :‬أنه يشبه بعضه بعضا ً في الحسن والفصاحة ‪ ،‬ويصدق بعضه بعضا ً ‪.‬‬
‫وإليه الشارة بقوله تعالى ‪ « :‬ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلفا ً كثيرا ً‬
‫» أي لكان بعضه واردا ً على نقيض الخر ‪ ،‬ولتفاوت نسق الكلم في الجزالة‬
‫والفصاحة ‪.‬‬
‫وأما الذي يدل على أن بعضه محكم ‪ ،‬وبعضه متشابه ‪ .‬فهو قوله تعالى ‪:‬‬

‫)‪ (3‬كلم ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (2‬أول لقمان‬ ‫)‪ (1‬أول هود‬


‫)‪ (5‬الزمر ‪23‬‬ ‫)‪ (4‬نقضه ‪ :‬ط‬

‫« هو الذي أنزل عليك الكتاب ‪ .‬منه آيات محكمات _ هن أم الكتاب – وأخر‬


‫متشابهات »)‪ (6‬ول بد لنا من تفسير المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة ‪ ،‬ثم‬
‫من تفسيرها في عرف الشريعة ‪ .‬أما المحكم في اللغة ‪ :‬فالعرب تقول حكمت‬
‫وأحكمت ‪ ،‬بمعنى رددت )ومنعت()‪ (7‬والحاكم يمنع الظالم عن الظلم ‪ ،‬وحكمة‬
‫اللجام تمنع الفرس من الضطراب ‪ .‬وفي حديث النخعي ‪ « :‬أحكم اليتيم كما‬
‫تحكم ولدك » أي امنعه من الفساد ‪ .‬وقوله ‪ « :‬ـحكموا سفهاءكم » أي امنعوهم‬
‫‪ .‬وبناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له ‪ .‬وسميت الحكمة حكمة ‪ ،‬لنها تمنع‬
‫الموصوف بها عما ل ينبغي‪.‬‬
‫وأما المتشابه ‪ :‬فهو أن يكون أحد الشيئين متشابها ً للخر ‪ ،‬بحيث يعجز الذهن‬
‫عن التمييز ‪ .‬قال )الله()‪ (8‬تعالى ‪ « :‬إن البقر تشابه علينا»)‪ (9‬وقال ‪ « :‬تشابهت‬
‫قلوبهم »)‪ (10‬ومنه اشتبه المر إذا لم يفرق بينهما ‪ .‬ويقال لصحاب المخاريق ‪:‬‬
‫أصحاب الشبهات ‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪ « :‬الحلل بين والحرام بين ‪.‬‬
‫وبينهمـا أمور متشابهات» وفي رواية )أخرى()‪ « (11‬متشابهات » ‪ .‬فهذا تحقيق‬
‫الكلم في المحكم والتشابه ‪ ،‬بحسب أصل اللغة ‪.‬‬
‫وأما في عرف العلماء ‪ .‬فاعلم ‪ :‬أن الناس قد أكثروا في تفسير المحكم‬
‫والمتشابه ‪ ،‬وكتب من تقدمنا مشتملة عليهما ‪ .‬والذي عندي فيه ‪ :‬أن اللفظ‬
‫الذي جعل موضوعا ً لمعنى ‪ .‬إما أن يكون محتمل ً لغير ذلك المعنى ‪ ،‬أو ل يكون ؟‬
‫‪- 127 -‬‬

‫فإن كان موضوعا ً لمعنى ولم يكم محتمل ً لغيره فهو النص ‪ .‬وإن كان محتمل ً‬
‫لغير ذلك المعنى ‪ .‬فإما أن يكون احتماله لحدهما راجحا ً على الخر ‪ ،‬وإما أن‬
‫أل ‪ .‬بل يكون احتماله لهما السوية ‪ .‬فإن كان‬

‫)‪ (7‬سقط خ‬ ‫)‪ (6‬آل عمران‬


‫)‪ (9‬البقرة ‪70‬‬ ‫)‪ (8‬الله ‪ :‬خ‬
‫)‪ (11‬أخرى ‪ :‬سقط خ‬ ‫)‪ (10‬البقرة ‪118‬‬

‫احتماله لحدهما راجحا ً على احتماله للخر ‪ ،‬كان ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح‬
‫ظاهرا ً ‪ ،‬وبالنسبة إلى الرجوح مؤول ً ‪ ،‬وأما إن كان احتماله لهما على السوية ‪.‬‬
‫كان اللفظ بالنسبة إليهما معا ً مشتركا ً ‪ ،‬وبالنسبة إلى كل واحد منهما على‬
‫ً‬
‫التعيين)‪ (12‬مجمل)‪ (13‬فخرج من هذا التقسيم ‪ :‬أن اللفظ إما أن يكون نصا أو‬
‫ظاهرا ً أو مجمل ً ‪ ،‬أو مؤول ً ‪ .‬فالنص والظاهر يشتركان في حصول الترجيح ‪ ،‬إل‬
‫أن النص راجح مانع من النقيض ‪ ،‬والظاهر راجح غير مانع من النقيض ) فالنص‬
‫والظاهر يشتركان في حصول الترجيح ()‪ (14‬وهذا القدر هو المسمى بالمحكم ‪.‬‬
‫وأما المجمل والمؤول ‪ .‬فهما يشتركان في أن دللة اللفظ غير راجحة ‪ .‬إل أن‬
‫المجمل ل رجحان فيه بالنسبة إلى كل واحد من الطرفين ) والمؤول فيه رجحان‬
‫بالنسبة إلى طرف المشترك ‪ ،‬وهو عدم ()‪ (15‬الرجحان بالنسبة إليه ‪ ،‬وهو‬
‫المسمى بالمتشابه ‪ ،‬لن عدم الفهم حاصل فيه‬
‫ثم اعلم ‪ :‬أن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية ‪ .‬فههنا يتوقف‬
‫الذهن ‪ .‬مثل القرء بالنسبة للحيض والطهر ‪ .‬وإنما الصعب المشكل ‪ :‬أن يكون‬
‫اللفظ بأصل وضعه راجحا ً في أحد المفهومين ‪ ،‬ومرجوحا ً في الخر ‪ .‬ثم إن‬
‫الراجح يكون باطل ً ‪ ،‬والمرجوح حقا ً ‪ .‬مثاله من القران ‪ :‬قوله تعالى ‪ « :‬وإذا‬
‫أردنا أن نهلك قرية ‪ .‬أمرنا مترفيها ففسقوا فيهًا»)‪ (16‬فظاهر هذا الكلم ‪ :‬أنهم‬
‫)‪(17‬‬
‫يؤمرون بأن يفسقوا ‪ .‬ومحكمة ‪ :‬قوله تعالى ‪ « :‬إن الله ل يأمر بالفحشاء »‬
‫)ردا ً على الكفار‬

‫)‪ (13‬محتمل ً ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (12‬المعنيين ‪ :‬ط‬


‫)‪ (14‬ما بين القوسين ‪ :‬سقط خ‬
‫)‪ (15‬ما بين القوسين ‪ :‬سقط خ )‪ (16‬السراء ‪16‬‬
‫)‪ (17‬العراف ‪28‬‬

‫فيما حكى عنهم ‪ « :‬وإذا فعلوا فاحشة ‪ .‬قالوا ‪ .‬وجدنا عليها آباءنا ‪ .‬والله أمرنا‬
‫)‪(18‬‬
‫بهًا»(‬
‫وكذلك قوله تعالى ‪ « :‬نسوا الله فنسيهم »)‪ ) (19‬وظاهر النسيان ما كان عند‬
‫العلم ‪ ،‬ومرجوحه الترك في قوله تعالى ‪ « :‬فأنساهم أنفسه »)‪ ( (20‬ومحكمة‬
‫ًً )‪(21‬‬
‫)‪(22‬‬
‫ى»‬
‫وقوله ‪ « :‬ل يضل ربي ول ينس ً‬ ‫قوله ‪ « :‬وما كان ربك نسيا»‬
‫فهذا تلخيص الكلم في تفسير المحكم والمتشابه ‪ .‬وبالله التوفيق ‪.‬‬

‫)‪ (18‬العراف ‪ (19) 28‬التوبة ‪67‬‬


‫)‪ (21‬مريم ‪64‬‬ ‫)‪ (20‬الحشر ‪19‬‬
‫‪- 128 -‬‬

‫)‪ (22‬طه ‪52‬‬

‫الفصـل الثالث‬
‫في‬
‫الطريق الذي يعرف به كون الية محكمة أو متشابهة‬
‫ـــــ‬

‫اعلم ‪ :‬أن هذا موضع عظيم وذلك لن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن‬
‫اليات الموافقة )لمذهبه ‪ :‬محكمة ‪ ،‬واليات الموافقة()‪ (1‬لمذهب الخصم ‪:‬‬
‫متشابهة ‪ .‬فالمعتزلي يقول ‪ :‬إن قوله ‪ « :‬فمن شاء فليؤمن ‪ ،‬ومن شاء فليكفر‬
‫ً» ‪ :‬محكم ‪ .‬وقوله ‪ « :‬وما تشاءون إل أن يشاء الله » متشابه ‪ .‬والسني يقلب‬
‫القضية في هذا الباب ‪ .‬والمثلة كثيرة ‪ .‬فل بد ههنا من قانون أصلي يرجع إليه‬
‫في هذا الباب ‪ .‬فنقول ‪ .‬إذا كان لفظ الية والخبر ظاهرا ً في معنى ‪ .‬فإنما يجوز‬
‫لنا ترك هذا الظاهر بدليل منفصل ‪ ،‬وإل لخرج الكلم عن أن يكون مفيدا ً ‪،‬‬
‫ولخرج القرآن عن أن يكون حجة ‪ .‬ثم ذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظيا ً‬
‫أو عقليا ً ‪.‬‬

‫أما )القسم)‪ ( (2‬الول‪ .‬فنقول هذا إنما يتم إذا حصل من ذينك الدليلين‬
‫اللفظيين ‪ :‬تعارض ‪ .‬وإذا وقع التعارض بينهما ‪ ،‬فليس ترك أحدهما لبقاء الخر ‪،‬‬
‫أولى من العكس ‪ .‬اللهم إل أن يقال ‪ :‬أحد الدليلين قاطع ‪ ،‬والخر ظاهر ‪.‬‬
‫والقاطع راجح على الظاهر ‪ .‬أو يقال ‪ :‬كل واحد منهما ‪ ،‬وإن كان ظاهرا ً ‪ ،‬إل أن‬
‫أحدهما أقوى ‪ .‬إل أنا نقول ‪ :‬أما الول فباطل ‪ .‬لن الدلئل اللفظية ل تكون‬
‫قطعية ‪ ،‬لنها موقوفة على نقل اللغات ‪ ،‬ونقل وجوه النحو والتصريف ‪ ،‬وعلى‬
‫عدم الشتراك ‪ ،‬والمجاز ‪،‬‬

‫)‪ (2‬القسم الول ‪ :‬ط – القسم ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (1‬زيادة من خ‬

‫والتخصيص ‪ ،‬والضمار ‪ ،‬وعلى عدم المعارض النقلي والعقلي ‪ .‬وكل واحدة من‬
‫هذه المقدمات ‪ .‬مظنونة ‪ .‬والموقوف على المظنون ‪ .‬أولى أن يكون مظنونا ً ‪.‬‬
‫فثبت ‪ :‬أن شيئا ً من الدلئل اللفظية ل يمكن أن يكون قطعيا ً ‪.‬‬

‫وأما الثاني ‪ :‬وهو أن يقال ‪ :‬أحد الظاهرين أقوى من الخر ‪ ،‬إل أن على هذا‬
‫التقدير يصير ترك أحد الظاهرين لتقرير الظاهر الثاني ‪ :‬مقدمة ظنية ‪ .‬والظنون‬
‫ل يجوز التعويل عليها في المسائل العقلية القطعية ‪ .‬فثبت بما ذكرنا ‪ :‬أن صرف‬
‫اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح ‪ .‬ل يجوز إل عند قيام الدليل القاطع على‬
‫أن ظاهره محال ممتنع ‪ .‬وإذا حصل هذا المعنى ‪ ،‬فعند ذلك يجب على المكلف‬
‫أن يقطع بأن مراد الله تعالى من هذا اللفظ ‪ ،‬ليس ما أشعر به ظاهره ‪ .‬ثم عند‬
‫هذا المقام ‪ :‬من جوز التأويل عدل إليه ‪ ،‬ومن لم يجوزه ‪ ،‬فوض علمه على الله‬
‫تعالى )وبالله التوفيق)‪. ( (3‬‬

‫)‪ (3‬سقط خ‬
‫‪- 129 -‬‬

‫الفصل الرابع‬
‫في‬
‫تقرير مذهب السلف‬
‫ـــــ‬

‫حاصل هذا المذهب ‪ :‬أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى‬
‫منها شيء غير ظاهرها ‪ ،‬ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ‪ ،‬ول يجوز‬
‫الخوض في تفسيرها ‪ .‬وقال جمهور المتكلمين ‪ :‬بل يجب الخوض في تأويل تلك‬
‫المتشابهان ‪.‬‬
‫واحتج السلف على صحة مذهبهم بوجوه ‪:‬‬
‫»‪.‬‬ ‫)‪(1‬‬
‫الول ‪ :‬التمسك بوجوب الوقف على قوله تعالى ‪ « :‬وما يعلم تأويله إل هو‬
‫والذي يدل على أن الوقف واجب وجوه ‪:‬‬
‫الول ‪:‬‬
‫إن ما قبل هذه الية يدل على أن طلب المتشابه مذموم حيث قال ‪ « :‬فأما‬
‫الذين في قلوبهم زيغ ‪ ،‬فيتبعون ما تشابه منه ‪ ،‬ابتغاء الفتنة ن وابتغاء تأويله »‬
‫)‪(2‬‬

‫فلو كان طلب المتشابه جائزا ً ‪ ،‬لما ذم الله تعالى على ذلك فإن قيل ‪ :‬لم ل‬
‫يجوز أن يكون المراد منه ‪ :‬طلب وقت قيام الساعة ‪ ،‬كما في قوله تعالى ‪« :‬‬
‫يسئلونك عن الساعة أيان مرساها ؟ قل ‪ :‬إنما علمها عند ربي)‪ » (3‬ويحتمل أن‬
‫يكون المراد منه ‪ :‬طلب العلم بمقادير الثواب والعقاب ‪ ،‬وطلب الوقات التي‬
‫يظهر فيها الفتح والنصر ‪ .‬كما قالوا ‪ « :‬لو ما تأتينا‬

‫)‪ (3‬العراف ‪181‬‬ ‫)‪ (2‬آل عمران ‪7‬‬ ‫)‪ (1‬آل عمران ‪7‬‬

‫بالملئكة)‪ . » (4‬قيل ‪ :‬إنه تعالى لما قسم الكتاب إلى قسمين ‪ :‬محكم ومتشابه ‪.‬‬
‫ودل العقل على صحة هذه القسمة – من حيث إن حمل اللفظ على معناه‬
‫الراجح هو المحكم ‪ ،‬وحمله على معناه الذي ليس راجحا ً ‪ :‬هو المتشابه – كان‬
‫تخصيص ذلك ببعض المتشابهات دون البعض ‪ :‬تركا ً للظاهر ‪.‬‬
‫الثاني ‪:‬‬
‫إن الله تعالى مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون ‪ « :‬آمنا به)‪ » (5‬وقال في‬
‫سورة البقرة ‪ « :‬فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم)‪ » (6‬فهؤلء‬
‫الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل ‪ ،‬لما كان لهم في‬
‫اليمان به مزيد)‪ (7‬مدح ‪ .‬لن كل من عرف شيئا ً على سبيل التفصيل آمن به ‪ .‬أما‬
‫الراسخون في العلم فهم الذين علموا بالدلئل القطعية العقلية أنه تعالى عالم‬
‫بما ل نهاية له من المعلومات ‪ ،‬وعلموا أن القرآن كلم الله تعالى ‪ ،‬وعلموا أنه ل‬
‫يتكلم بالباطل ول بالعبث ‪ .‬فإذا سمعوا آية دلت القواطع على أنه ل يجوز أن‬
‫يكون ظاهرها مراد الله تعالى ‪ ،‬بل مراد الله تعالى منها غير ذلك الظاهر ‪ .‬ثم‬
‫فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه ‪ ،‬وقطعوا بأن ذلك المعنى – أي معنى كان‬
‫‪ -‬؟ هو الحق والصواب ‪ .‬فهؤلء هم الراسخون في العلم حيث )يبعدون)‪ ( (8‬أمثال‬
‫هـذه المتشابهات عن اليمان والجزم بصحة القرآن ‪.‬‬
‫‪- 130 -‬‬

‫الثالث ‪ :‬إنه لو كان قوله تعالى ‪ « :‬والراسخون في العلم» معطوفا ً على قوله‬
‫ُ« إل الله» لصار قوله ‪ « :‬يقولون آمنا به» ‪ :‬ابتداء ‪ .‬وإنه بعيد عن‬

‫)‪ (4‬الحجر ‪4‬‬


‫)‪ (6‬البقرة ‪26‬‬ ‫)‪ (5‬آل عمران ‪7‬‬
‫)‪ (8‬يدركون ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (7‬مزيد ‪:‬خ ‪ ،‬من ‪ :‬ط‬

‫الفصاحة ‪ .‬لنه كان الولى أن يقال ‪ :‬وهم يقولون آمنا به ‪ ،‬أو يقال ‪ .‬ويقولون‬
‫آمنا به ‪.‬‬
‫فإن قيل في تصحيحه وجهان ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬أن يكون التقدير ‪ :‬هؤلء القائلون بالتأويل ‪ ،‬و « يقولون آمنا به»‬
‫والثاني ‪ :‬أن يقولون حال ً من « الراسخين» قبل ‪.‬‬
‫أما الول فمدفوع ‪ .‬لن تفسير كلم الله تعالى بما ل يحتاج معه إلى الضمار ‪،‬‬
‫أولى من تفسيره بما يحتاج معه الضمار ‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬ضعيف أيضا ً ‪ .‬لن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره ‪ ،‬وههنا تقدم ذكر الله‬
‫)تعالى)‪( (9‬وذكر الراسخين في العلم ‪ ،‬فوجب أن يكون قوله ‪ « :‬يقولون آمنا به»‬
‫‪ :‬حال ً من الراسخين ‪ ،‬ل مــن « الله» تعالى ‪ .‬فيكون ذلك تركا ً للظاهر ‪ .‬من‬
‫حيث أن الظاهر يقتضي أن يكون ذلك حال ً عن كل من تقدم ذكره ‪ .‬فثبت ‪ :‬أن‬
‫القول بجواز التأويل محوج إلى الضمار في هذه الية ‪ ،‬والقول بعدم جوازه ل‬
‫يحوج إليه ‪ .‬فكان أولى ‪.‬‬

‫الرابع ‪ :‬قوله تعالى ‪ « :‬كل من عند ربنا» يعني ‪ :‬أنهم آمنوا بما عرفوه على‬
‫التفصيل ) وبما لم يعرفوا تفصيله وتأويله ‪ .‬إذ لو كانوا عالمين بالتفصيل)‪ ( (10‬في‬
‫الكلم ‪ ،‬لم يبق لهذا الكلم فائدة ‪ .‬فهذا أجمل وجوه الستدلل بهذه الية في‬
‫نصرة مذهب السلف ‪.‬‬

‫فإن قيل ‪ :‬إن هذا الستدلل إنما يتم بإقامة الدليل على أن الوقف عند قوله‬
‫تعالى ‪ « :‬وم يعلم تأويله إل الله » ‪ :‬واجب ‪ ،‬والعطف )غير)‪( (11‬‬

‫)‪ (10‬سقط خ‬ ‫)‪ (9‬من ط‬


‫)‪ (11‬غير ‪ :‬خ‬

‫جائز ‪ .‬لن العطف قراءة مشهورة منقولة بالنقل المتواتر ‪ ،‬فإقامة الدليل على‬
‫فساده طعن في النقل المتواتر ‪ ،‬وذلك ل يجوز ‪ ،‬قيل ‪ :‬نحن ل نجعل هذه‬
‫المسألة قطعية ‪ ،‬بل ظنية احتمالية ‪ .‬وعلى هذا التقدير يزول السؤال ‪.‬‬
‫الحجة الثانية على صحة مذهب السلف ‪ :‬التمسك بإجماع الصحابة – رضي الله‬
‫عنهم – أن هذه المتشابهات في القرآن والخبار ‪ :‬كثيرة‪ .‬والدواعي إلى البحث‬
‫عنها ‪ ،‬والوقوف على حقائقها ‪ :‬متوفرة ‪ .‬فلو كان البحث عن تأويلها على سبيل‬
‫التفصيل جائزا ً ‪ ،‬لكان أولى الخلق بذلك الصحابة والتابعون – رضي الله عنهم –‬
‫‪- 131 -‬‬

‫ولو فعلوا ذلك لشتهر ‪ ،‬ونقل بالتواتر ‪ ،‬وحيث لم ينقل عن واحد من الصحابة‬
‫والتابعين الخوض فيها ‪ ،‬علمنا أن الخوض فيها غير جائز ‪.‬‬
‫الحجة الثالثة ‪:‬‬
‫إنا قد ذكرنا أن اللفظ المتشابه قسمان ‪ :‬المجمل والمؤول أما المجمل ‪ :‬فهو‬
‫الذي يحتمل معنيين فصاعدا ً ‪ ،‬احتمال ً على التسوية ‪ .‬فنقول ‪ :‬إنه إما أن يكون‬
‫محتمل ً لمعنيين فقط ‪ ،‬أو لمعان أكثر من اثنين فإن كان محتمل ً لمعنيين فقط ‪،‬‬
‫ثم دل الدليل على عدم أحدهما ‪ ،‬فحينئذ يتعين أن المراد هو الثاني ‪ .‬مثل ‪ :‬أن‬
‫الفوق ‪ .‬إما أن يراد به الفوق في الجهة ‪ ،‬أو في الرتبة ‪ .‬ولما بطل حمله على‬
‫الجهة ‪ .‬تعينت الرتبة ‪ .‬أما إذا كان اللفظ لمفهومات ثلثة)‪ (12‬لم يلزم من )بطلن‬
‫واحد منها)‪ ( (13‬تعين الثاني والثالث بعينه ‪ .‬ول يمكن أيضا ً حمل اللفظ عليهما معا ً‬
‫‪ ،‬لما ثبت أن اللفظ المشترك ‪ ،‬ل يجوز استعماله في مفهوميه)‪ (14‬معا ً ‪.‬‬

‫)‪ (12‬مثله ‪ :‬ط‬


‫)‪ (13‬من عدم واحد منها ‪:‬ط )‪ (14‬مفهومين ‪ :‬ط‬

‫وأما المؤول)‪ . (15‬فنقول ‪ :‬اللفظ إذا كانت له حقيقة واحدة ‪ ،‬ثم دل على أنها غير‬
‫مراده ‪ ،‬وجب حمل اللفظ على مجازه ‪ .‬ثم ذلك المجاز إن كان واحدا ً ‪ ،‬تعين‬
‫صرف اللفظ إليه ‪ ،‬صونا ً عن التعطيل ‪ .‬وإن لم يكن )متعينا ً ‪ ،‬بقى)‪ ( (16‬اللفظ‬
‫مترددا ً)‪ (17‬في تلك المجازات ‪ .‬وحينئذ فذلك الكلم الذي ذكرناه في المجمل ‪،‬‬
‫عائد ههنا بعينه ‪ .‬فثبت بما ذكرنا ‪ :‬أن تأويل المتشابه قد يكون معلوما ً ‪ ،‬وقد‬
‫يكون مظنونا ً ‪ .‬والقول بالظن غير جائز)‪ – (18‬على ما سبق تقريره في باب أن‬
‫التمسك بخبر الواحد في معرفة الله ) تعالى)‪ ( (19‬غير جائز –‬
‫الكلم في تقرير مذهب السلف ‪.‬‬ ‫)‪(20‬‬
‫فهذا هو جملة‬
‫وأما المتكلمون القائلون بالتأويلت المفصلة ‪ .‬فحجتهم ما تقدم ‪ :‬من أن القرآن‬
‫يجب أن يكون مفهوما ً ‪ ،‬ول سبيل إليه في اليات)‪ (21‬المتشابهة ‪ ،‬إل بذكر‬
‫التأويلت ‪ .‬فكان المصير إليه واجبا ً )والله أعلم)‪( (22‬‬

‫‪-------------‬‬

‫)‪ (16‬معينا ً نفى ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (15‬الول ‪ :‬ط‬


‫)‪ (18‬حاصل ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (17‬مطرودا ً ‪ :‬ط‬
‫)‪ (20‬من خ‬ ‫)‪ (19‬هو ‪ :‬ط‬
‫)‪ (22‬سقط ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (21‬الروايات ‪ :‬ط‬

‫الفصـل الخامس‬
‫في‬
‫تفاريع مذهب السلف‬
‫ــــــ‬
‫وهي أربعة ‪:‬‬
‫‪- 132 -‬‬

‫الول ‪:‬‬
‫إنه ل يجوز تبديل لفظ من اللفاظ المتشابهة ‪ ،‬بلفظ آخر متشابه)‪ ، (1‬سواء كان‬
‫بالعربية أو بالفارسية ‪ .‬وذلك لن اللفاظ المتشابهة قد يكون بعضها أكثر إيهاما ً‬
‫للباطل من البعض ‪ .‬والزيادة في اليهام ) من غير حاجة إليها ل يجوز ‪ .‬بلى ‪ .‬قد‬
‫تكون زيادة اليهام)‪ (2‬حاصلة )في اللفظين()‪ (3‬إل أن التمييز بين هذا القسم ‪،‬‬
‫والقسم الول )فيه()‪ (4‬عسر‪ .‬فالحتياط ‪ :‬المتناع من الكل ‪ .‬أل ترى أن الشرع‬
‫أوجب العدة على المطوءة ‪ ،‬لبراءة الرحم ‪ ،‬لحكم النسب ‪ ،‬ثم قالوا ‪ :‬تجب‬
‫العدة على العقيم ‪ ،‬واليسة ‪ ،‬وعند العزل ‪ .‬لن )بواطن)‪ ( (5‬الرحام ‪ ،‬ل يعلمها‬
‫إل علم الغيوب ؟ فإيجاب العدة أهون من ركوب الخطر ‪ .‬إل أن الخطر في‬
‫معرفة )ذات)‪ ( (6‬الله تعالى وصفاته ‪ ،‬أعظم من الخطر في العدة ‪ .‬فإذا راعينا‬
‫الحتياط به ‪ ،‬فلن نراعيه ههنا أولى ‪.‬‬
‫الفرع الثاني ‪ :‬إنه يجب الحتراز عن التصريف ) فل نقول في قوله‬

‫)‪ (2‬زيادة من ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (1‬غير متشابهة‬


‫)‪ (4‬فيه ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (3‬سقط ‪ :‬خ‬
‫)‪ (6‬ذات ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (5‬البواطن من ‪ :‬ط‬

‫تعالى ‪ « :‬استوى)‪ » (7‬أنه مستوى( لما ثبت في علم البيان ‪ :‬أن اسم الفاعل‬
‫يدل على أن المشتق منه متمكنا ً ثابتا ً ومستقرا ً ‪ .‬أما لفظ الفعل ‪ .‬فدللته على‬
‫هذا المعنى ضعيفة ‪ .‬والذي يؤكده ‪ :‬أنه ورد في القرآن أنه تعالى علم العباد‬
‫فقال‪ « :‬الرحمن علم القرآن)‪ « - »(8‬وعلمك ما لم تكن تعلم)‪ « » (9‬وعلمناه من‬
‫لدنا علما ً)‪ « - » (10‬وعلم آدم السماء كلها)‪ » (11‬ثم أجمعنا على أنه ل يجوز أن‬
‫يقال لله تعالى ‪ :‬يا معلم ‪ .‬فكذا ههنا ‪.‬‬

‫الفرع الثالث ‪ :‬إنه ل يجوز جمع اللفاظ المتشابهة ‪ ،‬وذلك لن التلفظ باللفظ‬
‫الواحد أو اللفظين ‪ ،‬قد يحمل على المجاز ‪ .‬لن الستقراء دل على أن الغالب‬
‫على الكلم ‪ :‬التكلم بالحقيقة ‪ .‬فإذا جمعنا اللفاظ المتشابهة ورويناها دفعة‬
‫واحدة ‪ ،‬أوهمت كثرتها ‪ :‬أن المراد منها ظواهرها ‪ .‬فكان ذلك الجمع سببا ً ليهام‬
‫زيادة الباطل ‪ .‬وإنه ل يجوز ‪.‬‬
‫الفرع الرابع ‪:‬‬
‫إنه كما ل يجوز الجمع بين متفرقة ‪ ،‬فكذلك ل يجوز التفرق بين مجتمعة ‪ .‬فقوله‬
‫تعالى ‪ « :‬وهو القاهر فوق عباده)‪ » (12‬ل يدل على جواز أن يقال ‪ :‬إنه تعالى‬
‫فوق ز لنه تعالى لما ذكـر القاهر قبله ‪ ،‬ظهر أن المراد بهذه الفوقية ‪ :‬الفوقية‬
‫بمعنى القهر ‪ ،‬ل بمعنى الجهة ‪ .‬بل ل يجوز أن يقال ‪ :‬وهو القاهر فوق غيره ‪ ،‬بل‬
‫ينبغي أن يقال ‪ « :‬فوق عباده » لن ذكر العبودية عند وصف الله تعالى‬
‫بالفوقية ‪ ،‬يدل على أن المراد من تلك الفوقية ‪ :‬فوقية السيادة واللهية ‪.‬‬

‫طه ‪ 5‬وفي خ ‪ :‬فاذا أوردنا قولنا "استوى" فل ينبغــي أن نقــول انــه تعــالى‬ ‫)‪(7‬‬
‫مستو‬
‫)‪ (8‬الرحمن ‪2-1‬‬
‫‪- 133 -‬‬

‫)‪ (10‬الكهف ‪65‬‬ ‫)‪ (9‬النسـاء ‪13‬‬


‫)‪ (12‬النعام ‪61‬‬ ‫)‪ (11‬البقرة ‪31‬‬

‫واعلم ‪ :‬أن الله تعاى لم يذكر لفظة المتشابهات ‪ ،‬إل وقرن بها قرينة تدل على‬
‫زوال الوهم الباطل ‪ .‬مثاله ‪ :‬أنه تعالى لما قال ‪ « :‬الله نور السموات والرض‬
‫)‪(13‬‬

‫» ذكر بعده « مثل نوره » فأضاف النور إلى نفسه ‪.‬لو كان هو تعالى نفس النور‬
‫‪ ،‬لما أضاف النور إلى نفسه ‪ .‬لن لضافة الشيء إلى نفسه ممتنعة ‪ .‬ولما قال‬
‫تعالى ‪ « :‬الرحمن على العرش استوى)‪ » (14‬ذكر قبله « تنزيل ً ممن خلق الرض‬
‫والسموات العلى » وذكر بعده قوله ‪ « :‬له ما في السموات وما في الرض وما‬
‫بينهما ‪ ،‬وما تحت الثرى » وقد ذكرنا أن هاتين اليتين تدلن على أن كل ما كان‬
‫مختصا ً بجهة فوق ‪ :‬مخلوق محدث ‪ .‬فثبت بما ذكرنا ‪ :‬أن الطريق في هذه‬
‫المتشابهات )هو التأويل في تلك اللفاظ تأدبا ً في حق واجب الوجود ‪ .‬وبالله‬
‫التوفيق)‪( (15‬‬

‫)‪ (14‬طـه ‪5‬‬ ‫)‪ (13‬النور ‪35‬‬


‫)‪ (15‬في تلك اللفاظ وعدم تلك اللفاظ وعدم التصرف فيها يوجب الوجود ‪ :‬خ‬

‫القسم الرابع من هذا الكتاب‬

‫في‬

‫بقية الكلم في هذا الباب‬

‫وفيه فصـول ‪:‬‬

‫الفصل الول‬
‫في‬
‫حكم ذكـر هـذه المتشابهات‬
‫ـــــ‬
‫اعلم ‪ :‬أن ذكر هذه المتشابهات ‪ ،‬صار شبهة عظيمة للخلق في اللهيات وفي‬
‫النبوات ‪ ،‬وفي الشرائع ‪ .‬أما في اللهيات‬
‫‪- 134 -‬‬

‫فلن المصدقين بالقرآن ‪ ،‬اعتقدوا في الله تعالى اعتقادات باطلة ‪ ،‬حتى صاروا‬
‫جاهلين بالله تعالى ‪ ،‬وواصفين له سبحانه وتعالى بما ينافي اللهية والقدم)‪. (1‬‬
‫وأما في النبوات ‪ .‬فلن العارفين بوجوب تنزيه الله تعالى عن هذه الصفات ‪،‬‬
‫جعلوا هذا طعنا ً في نبوة محمد ‪ ε‬وقالوا ‪ :‬لو كان رسول ً حقا ً من عند الله تعالى‬
‫لكان أولى المراتب أن يكون عارفا ً بربه ‪ ،‬وحيث لم يعرف ربه)‪ (2‬بل وصفه‬
‫بصفات المحدثات ‪ ،‬امتنع كونه رسول ً حقا ً ‪.‬‬
‫وأما في الشرائع ‪ .‬فلن فيهم من )توسل)‪ ( (3‬بذلك إلى الطعن في القرآن‬
‫وقالوا ‪ :‬إن القرآن قد غير وبدل)‪ (4‬والقرآن الذي أنزل على محمد ‪ ε‬كان خاليا ً‬
‫عن هذه الشبهات ‪ .‬واحتجوا عليه ‪ :‬بأن هذا القرآن مملوء من وصف القرآن‬
‫دى وتبيانا ً وحكمة وشفاًء ونورا ً ‪ .‬ومن المعلوم بالضرورة ‪ :‬أن هذه اليات‬ ‫بكونه ه ً‬
‫المتشابهات سبب عظيم لضلل الخلق ‪ .‬و وقوعهم في التجسيم والتشبيه ‪ .‬فإما‬
‫أن تكون اليات الدالة على كون القرآن نورا ً ‪ ،‬وشفاًء ‪ :‬كاذبة ‪ .‬وإما أن تكون‬
‫اليات الدالة على التجسيم والتشبيه ‪ :‬باطلة كاذبة ‪.‬‬

‫)‪ (2‬به ‪ :‬ط ‪ ،‬ربه ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (1‬والقدم ‪ :‬ط ‪ ،‬والقدر ‪ :‬خ‬
‫)‪ (4‬ونقل ‪ :‬خ‬ ‫)‪ (3‬لو سئل ‪ :‬ط‬

‫( هذه‬ ‫)‪(5‬‬
‫وعلى التقديرين ‪) :‬فالطعن في القرآن لزم ‪ .‬وأيضا ً ‪ :‬فهب أنا نحمل‬
‫اليات المتشابهة على الكلم بالمجاز ‪.‬‬
‫)لكن من الكلم مجاز موهم لقول باطل ‪ ،‬واعتقاد فاسد ‪ ،‬وعليه فإنه كان يجب‬
‫أن نتكلم بذلك الحق على وجه التصريح به ‪ ،‬ل بالمتشابهات ‪ .‬ليصير ذلك سببا‬
‫لزوال اليهام الباطل ‪ .‬ول يوجد في القرآن ألفاظ قد تدل)‪ ( (6‬على التنزيه‬
‫والتوحيد – على سبيل التصريح – فإن قوله‪ « :‬قل هو الله أحد)‪ » (7‬وقله ‪« :‬‬
‫ليس كمثله شيء ‪ .‬وهو السميع البصير)‪ » (8‬ل يدلن على التنزيه ‪ ،‬إل دللة‬
‫ضعيفة ‪ .‬وكل ذلك يوجب الطعن في القرآن ‪.‬‬

‫***‬
‫فهذه حكاية هذه الشبهة في هذا الباب‪.‬‬
‫واعلم ‪ :‬أن العلماء المحققون ذكروا أنواعا ً من الفوائد في إنزال المتشابهات ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬إنه متى كانت المتشابهات موجودة ‪ ،‬كان الوصول إلى الحق أصعب‬
‫وأشق ‪ .‬فزيادة المشقة توجب زيادة الثواب ‪ .‬قال الله تعالى ‪ « :‬أم حسبتم أن‬
‫تدخلوا الجنة ؟ ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ‪ ،‬ويعلم الصابرين)‪» (9‬‬
‫الثاني ‪ :‬لو كان القرآن كله محكما ً ‪ ،‬لما كان مطابقا ً إل لمذهب واحد فكان على‬
‫هذا التقدير تصريحه مبطل ً لكل ما سوى هذا المذهب ‪ .‬وذلك‬

‫)‪ (5‬في القرآن طعن لزم ‪ .‬فثبت ‪ :‬انا نحمل لي‬


‫)‪ (6‬العبارة ركيكة في خ‬
‫)‪ (8‬الشـورى ‪11‬‬ ‫)‪ (7‬الخلص ‪1‬‬
‫)‪ (9‬آل عمران ‪ 142‬وأم حسبتم من خ‬
‫‪- 135 -‬‬

‫مما ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله ‪ ،‬وعن النظر فيه ‪ ،‬والنتفاع به أما لما‬
‫ل( )‪ (10‬على المحكم والمتشابه ‪ ،‬فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب ‪ ،‬أن‬ ‫كان )مشتم ً‬
‫يجد فيه ما يقوي مذهبه ‪ ،‬ويؤيد مقالته ‪ .‬وحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب ‪.‬‬
‫ويجتهد في التأويل كل صاحب مذهب ‪ .‬وإذا بالغوا في ذلك التأزيل ‪ ،‬صارت‬
‫المحكمات مفسر بالمتشابهات ‪ .‬وبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ‪،‬‬
‫فيصل إلى الحق ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬إن القرآن إذا كان مشتمل ً على المحكم والمتشابه ‪ ،‬افتقر الناظر فيه‬
‫إلى الستعانة بدلئل العقل ‪ ،‬والستكثار من سائر العلوم ‪ .‬وحينئذ يتخلص من‬
‫ظلمة التقليد ‪ ،‬ويصل إلى ضياء الستدلل والحجة ‪ .‬أما لو كان كله محكما ً ‪ .‬لم‬
‫يفتقر إلى التمسك بالدلئل العقلية ‪ ،‬وحينئذ يبقى في الجهل والتقليد ‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬إن القرآن لما كان مشتمل ً على المحكم والمتشابه ‪ ،‬افتقر إلى تعلم‬
‫طريق التأويلت ‪ ،‬وترجيح بعضها على بعض ‪ ،‬وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل‬
‫علوم كثيرة ‪ ،‬من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه ‪ ،‬ومعرفة طريق‬
‫الترجيحات ‪ .‬ولو لم يكن القرآن مشتمل ً على هذه المتشابهات ‪ ،‬لم يفتقر إلى‬
‫شيء من ذلك ‪ .‬فكان ليراد المتشابهات هذه الفوائد ‪.‬‬
‫الخامس ‪ - :‬وهو السبب القوى – أن القرآن مشتمل على دعوة الخواص‬
‫والعوام )والعوام تنبو في أكثر)‪ ( (11‬المور عن إدراك الحقائق العقلية المحضة ‪.‬‬
‫فمن سمع من العوام في أول المر إثبات موجود لي بجسم ول متحيز ول مشار‬
‫إليه ‪ ،‬ظن أن هذا عدم محض ‪ ،‬فوقع‬

‫)‪ (11‬سواء في أكثر‪ :‬خ‬ ‫)‪ (10‬مشتمل ً ‪ :‬خ‬

‫في التعطيل ‪ .‬فكان الصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما‬
‫تخيلوه وتوهموه ‪ .‬ويكون ذلك مخلوطا ً بما يدل على الحق الصريح ‪.‬‬
‫فالقسم الول ‪ :‬وهو الذي يخاطبون به في أول المر ‪ ،‬يكون من باب‬
‫المتشابهات ‪.‬‬
‫والقسم الثاني ‪ :‬هو الذي يكشف لهم في آخر المر ‪ ،‬هو من المحكمات ‪ .‬فهذا‬
‫ما لخصناه في هذا الباب )وبالله التوفيق)‪( (12‬‬
‫‪-----------‬‬

‫)‪ (12‬سقط خ‬

‫الفصل الثاني‬
‫في‬
‫أن المجسم هل يوصف بأنه مشبه أم ل ؟‬
‫ـــــ‬
‫قال المجسم ‪ :‬إنا وإن قلنا ‪ :‬إنه تعالى جسم مختص بالحيز والجهة ‪ .‬إل أنا‬
‫نعتقد ‪ :‬أنه بخلف سائر الجسام في ذاته وحقيقته ‪ .‬وذلك يمنع من القول‬
‫بالتشبيه ‪ .‬فإن لثبات المساواة في ‪ ،‬الصور)‪ (1‬ل يوجب إثبات التشبيه ‪ .‬ويدل‬
‫عليه ‪ :‬أنه تعالى صرح في كتابه بالمساواة في الصفات الكثيرة ‪ ،‬ولم يقل أحد‬
‫بأن ذلك يوجب التشبيه ‪.‬‬
‫‪- 136 -‬‬

‫» وقال في صفة‬ ‫فالول ‪ :‬قال في صفة نفسه ‪ « :‬إنني معكما ‪ :‬أسمع وأرى‬
‫)‪(2‬‬

‫النسان ‪ « :‬فجعلناه سميعا ً بصيرا ً)‪» (3‬‬


‫» وقال في النسان ‪ « :‬ترى‬ ‫الثاني ‪ :‬قال تعالى ‪ « :‬واصنع الفلك بأعيننا‬
‫)‪(4‬‬

‫أعينهم تفيـض من الدمع)‪» (5‬‬


‫الثالث ‪ :‬قال تعالى ‪ « :‬بل يداه مبسوطتان)‪ » (6‬وفي النسان ‪ « :‬ذلك بما قدمت‬
‫يداك )‪ » (7‬وقال في نفسه ‪ « :‬مما عملت أيدينا أنعاما ً)‪ » (8‬وفي النسان ‪ « :‬يد‬
‫الله فوق أيديهم)‪» (9‬‬

‫)‪ (2‬طـه ‪46‬‬ ‫)‪ (1‬المور ‪ :‬ط‬


‫)‪ (4‬هـود ‪37‬‬ ‫)‪ (3‬النسان ‪2‬‬
‫)‪ (6‬المـائدة ‪64‬‬ ‫)‪ (5‬المـائدة ‪83‬‬
‫)‪ (8‬ياسين ‪71‬‬ ‫)‪ (7‬الحج ‪ 10‬وذلك ح‬
‫)‪ (9‬الفتـح ‪10‬‬

‫» وفي النسان ‪«:‬‬ ‫)‪(10‬‬


‫الرابع ‪ :‬قال تعالى ‪ « :‬الرحمن على العرش استوى‬
‫ظهوره)‪» (11‬‬ ‫لتستووا على‬
‫الخامس ‪ :‬قال تعالى ‪) :‬في صفة نفسه( ‪ « :‬العزيز الوهاب)‪ » (12‬ووصف الخلق‬
‫بذلك ‪ ،‬فقل ‪ :‬إخزة يوسف ‪ « :‬أيها العزيز)‪ » (13‬وقال ‪ « :‬فأما الذين آمنوا‬
‫فيعلمون أنه الحق من ربهم)‪» (14‬‬
‫والسادس ‪ :‬سمى نفسه بالعظيم ‪ ،‬ثم وصف العرش به ‪ ،‬فقال ‪ « :‬رب العرش‬
‫العظيم)‪» (15‬‬
‫والسابع ‪ :‬وصف نفسه بالحفيظ العليم ‪ ،‬ووصف يوسف نفسه بهما فقال ‪ « :‬إني‬
‫حفيظ عليم)‪» (16‬‬
‫»‬ ‫)‪(17‬‬
‫وقال ‪ « :‬وبشرناه بغلم حليم‬
‫»‬
‫وقال في آية أخرى ‪ « :‬بغلم عليم‬
‫)‪(18‬‬

‫الثامن ‪ :‬سمى تحيتنا سلما ً فقال ‪ « :‬تحيتهم يوم يلقونه ‪ :‬سلم)‪ » (19‬وسمى‬
‫نفسه سلما ً ‪ .‬كما )كان‬
‫يقول النبي( )‪ ε (20‬بعد فراغه من الصلوة ‪ « :‬اللهم أنت السلم ‪ ،‬ومنك السلم ‪،‬‬
‫تباركت ياذا الجلل والكرام »‬
‫»‬ ‫)‪(21‬‬
‫التاسع ‪ :‬المؤمن قال الله تعالى ‪ « :‬وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا‬
‫ووصف به نفسه فقـال ‪ « :‬السلم المؤمن)‪» (22‬‬

‫)‪ (11‬الزخرف ‪13‬‬ ‫)‪ (10‬طـه ‪5‬‬


‫)‪ (13‬يوسـف ‪78‬‬ ‫)‪ (12‬ص ‪ 9‬وفي صفة نفسه ‪ :‬ط‬
‫)‪ (15‬النمـل ‪26‬‬ ‫)‪ (14‬غافـر ‪35‬‬
‫)‪ (17‬الصافات ‪101‬‬ ‫)‪ (16‬يوسـف ‪55‬‬
‫)‪ (19‬الحزاب ‪44‬‬ ‫)‪ (18‬الذاريات ‪28‬‬
‫)‪ (21‬الحجرات ‪9‬‬ ‫)‪ (20‬قال ‪ :‬ط‬
‫‪- 137 -‬‬

‫)‪ (22‬الحشر ‪23‬‬

‫» ووصفنا به ‪ ،‬فقال ‪« :‬‬ ‫العاشر ‪ « :‬الحكم » قال تعالى ‪ « :‬أل له الحكم‬


‫)‪(23‬‬

‫فابعثوا حكما ً من أهله ‪ ،‬وحكما ً من أهلها)‪» (24‬‬


‫الحادي عشر ‪ :‬الراحم والرحيم ‪ .‬وهذا ظاهر‪.‬‬
‫»‬ ‫الثاني عشر ‪ :‬الشكور قال ‪ « :‬إن ربنا لغفور شكور‬
‫)‪(25‬‬

‫الثالث عشر ‪ :‬العلي ‪ .‬والنسان يسمي نفسه بذلك ومنه ‪ « :‬على » ‪ -‬رضي الله‬
‫عنه ‪-‬‬
‫الرابع عشر ‪ :‬الكبير ‪ .‬قال عن نفسه ‪ « :‬وهو العلي الكبير)‪ » (26‬وقال‪ «:‬إن له أبا ً‬
‫شيخا كبيرا ً)‪ »(27‬وقال حكاية عن المرأتين ‪ « :‬وأبونا شيخ كبير)‪» (28‬‬
‫والخامس عشر ‪ :‬الحكيم‪ .‬والله تعالى وصف نفسه في كتابه به )فقال‪« :‬تنزيل‬
‫من حكيم حميد()‪» (29‬‬
‫السادس عشر ‪ :‬الشهيد قال في حق الخلق ‪ « :‬فكيف إذا جئنا من كل أمة‬
‫بشهيد)‪) » (30‬وقال في نفسه ‪ « :‬أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد » (‬
‫» ‪ « -‬وبالحق‬ ‫)‪(31‬‬
‫والسابع عشر ‪:‬الحق ‪ .‬قال ‪ « :‬فتعالى الله الملك الحق‬

‫)‪ (23‬النعام ‪63‬‬


‫)‪ (25‬فاطر ‪34‬‬ ‫)‪ (24‬النساء ‪35‬‬
‫)‪ (27‬يوسف ‪78‬‬ ‫)‪ (26‬سـبأ ‪23‬‬
‫)‪ (29‬فصلت ‪42‬‬ ‫)‪ (28‬القصص ‪23‬‬
‫)‪ (31‬طـه ‪114‬‬ ‫)‪ (30‬النسـاء ‪41‬‬
‫وقال في نفسه الخ القوس من خ والية ‪ 43‬فصلت‬

‫أنزلناه ‪ ،‬وبالحق نزل)‪ « - » (32‬الملك يومئذ الحق للرحمن)‪ « - » (33‬ول يأتونك‬


‫بمثل إل جئناك بالحق)‪ « - » (34‬وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ‪ ،‬ودين الحق‬
‫)‪(35‬‬

‫»‬
‫» وقد‬ ‫)‪(36‬‬
‫الثامن عشر ‪ :‬الوكيل ‪ .‬قال الله تعالى ‪ « :‬وهو على كل شيء وكيل‬
‫يوصف الخلق بذلك فيقال ‪ :‬فلن وكيل فلن ‪.‬‬
‫التاسع عشر ‪ :‬المولى ‪ .‬قال تعالى‪ « :‬ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا ‪ ،‬وأن‬
‫الكافرين ل مولى لهم)‪ »(37‬ثم قال في حقنا ‪ « :‬ولكل جعلنا مولى)‪ » (38‬والنبي ‪ε‬‬
‫قال‪ « :‬من كنت موله ‪ ،‬فعلي موله)‪» (39‬‬
‫العشرون ‪ :‬الولي ‪ .‬قال الله تعالى ‪ « :‬إنما وليكم الله ورسوله ‪ ،‬والذين آمنوا‬
‫)‪(40‬‬

‫»‬ ‫» وقال النبي ‪ « : ε‬أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها ‪ .‬فنكاحها باطل‬
‫)‪(41‬‬

‫وقال تعالى ‪ « :‬والمؤمنـــون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض )‪» (42‬‬


‫الحادي والعشرون ‪ :‬الحي ‪ .‬قال تعالى ‪ « :‬هو الحي ل إله إل هو)‪ « - » (43‬ألم ‪.‬‬
‫الله ل إله إل هو الحي القيوم)‪ » (44‬وقال ‪ « :‬وجعلنا من الماء كل شيء حي)‪» (45‬‬
‫‪- 138 -‬‬

‫)‪ (33‬الفرقان ‪26‬‬ ‫)‪ (32‬السراء ‪105‬‬


‫)‪ (35‬الفتح ‪28‬‬ ‫)‪ (34‬الفرقان ‪33‬‬
‫)‪ (37‬محمـد ‪11‬‬ ‫)‪ (36‬النعــام ‪102‬‬
‫)‪ (38‬النسـاء ‪33‬‬
‫)‪ (40‬المائدة ‪55‬‬ ‫)‪ (39‬أحاديث الفرق هي أحاديث الحاد‬
‫)‪ (41‬انظر مناقب الشافعي لفخر الدين الرازي – طبع الكليات الزهرية‬
‫)‪ (43‬غـافر ‪65‬‬ ‫)‪(42‬التـوبة ‪71‬‬
‫)‪ (45‬النبيـاء ‪30‬‬ ‫)‪ (44‬أول آل عمران‬

‫» ويقع هذا‬ ‫)‪(46‬‬


‫الثاني والعشرون ‪ :‬الواحد ز قال تعالى ‪ « :‬قل ‪ :‬إنما هو إله واحد‬
‫الوصف على أكثر الشياء ‪ .‬فيقال ‪ :‬ثوب واحد ‪ ،‬وإنسان واحد ‪.‬‬
‫ً)‪(47‬‬
‫»‬ ‫الثالث والعشرون ‪ :‬التواب ‪ .‬قال تعالى ‪ « :‬إن الله كان توابا ً رحيما‬
‫ويسمي الخلق به ‪ ،‬فقال ‪ « :‬إن الله يحب التوابين)‪» (48‬‬
‫الرابع والعشرون ‪ :‬الغني ‪ .‬قال تعالى ‪ « :‬والله الغني)‪ - » (49‬وقال ‪ « :‬إنما‬
‫السبيل على الذين يستأذنوك ‪ ،‬وهم أغنياء)‪ » (50‬وقال في الثر « خذها من‬
‫أغنيائهم ‪ ،‬وردها في فقرائهم »‬
‫»‬ ‫)‪(51‬‬
‫الخامس والعشرون ‪ :‬النور ‪ .‬قال الله تعالى ‪ « :‬الله نور السموات والرض‬
‫وقال ‪ « :‬نورهم يسعى بين أيديهم)‪» (52‬‬
‫)‪(53‬‬
‫السادس والعشرون ‪ :‬الهادي ‪ .‬قال الله تعالى ‪ « :‬ولكن الله يهدي من يشاء‬
‫» وقال ‪ « :‬إنما أنت منذر ‪ ،‬ولكل قوم هاد)‪» (54‬‬
‫السابع والعشرون ‪ :‬المستمع ‪ .‬قال الله تعالى ‪ « :‬فاذهبا بآياتنا ‪ ،‬إنا معكم‬
‫مستمعون)‪ » (55‬وقال لموسى عليه السلم ‪ « :‬ماستمع لما يوحى)‪» (56‬‬
‫»‬ ‫الثامن والعشرون ‪ :‬القديم ‪ .‬قال تعالى ‪ « :‬حتى عاد كالعرجون القديم‬
‫)‪(57‬‬

‫)‪ (47‬النسـاء ‪16‬‬ ‫)‪ (46‬النعـام ‪19‬‬


‫)‪ (49‬آخر محمد‬ ‫)‪ (48‬البقرة ‪222‬‬
‫)‪ (51‬النـور ‪35‬‬ ‫)‪ (50‬التـوبة ‪93‬‬
‫)‪ (53‬القصص ‪56‬‬ ‫)‪ (52‬التحـريم ‪8‬‬
‫)‪ (55‬الشـعراء ‪15‬‬ ‫)‪ (54‬الرعـد ‪7‬‬
‫)‪ (57‬ياسين ‪39‬‬ ‫)‪ (56‬طـه ‪13‬‬
‫‪- 139 -‬‬

‫واعلم ‪ :‬أنه ل نزاع في أن لفظ ‪ :‬الموجود ‪ ،‬والشيء الواحد ‪ ،‬والذات ‪ ،‬والمعلوم‬


‫‪ ،‬والمذكور ‪ ،‬والعالم ‪ ،‬والقادر ‪ ،‬والحي ‪ ،‬والمريد ‪ ،‬والسميع ‪ ،‬والبصير ‪ ،‬والمتكلم‬
‫‪ ،‬والباقي ‪ :‬واقع على الحق سبحانه وتعالى ‪ ،‬وعلى خلقه‪.‬‬
‫فثبت بما ذكرنا ‪ :‬أن المشابهة من بعض الوجوه ل توجب أن يكون قائله موصوفا ً‬
‫‪ :‬بأنه مشبه الله تعالى بالخلق ‪ ،‬وبأنه مشبه ‪ ،‬ونحن ل نثبت المشابهة بينه وبين‬
‫خلقه ‪ ،‬إل في بعض الصور )‪ (58‬والصفات إل أنا نعتقد أنه تعالى ‪ ،‬وإن كان جسما ً ‪،‬‬
‫إل أنه بخلف سائر الجسام في ذاته وحقيقته ‪ .‬فثبت أن إطلق المشبه على‬
‫هذه الطائفة ‪ :‬كذب وزور ‪.‬‬
‫هذا جملة كلمهم في هذا الباب ‪.‬‬
‫* * *‬

‫واعلم ‪ :‬أن حاصل هذا الكلم من جانبنا ‪ :‬أنا قد دللنا في القسم الول من هذا‬
‫الكتاب على أن الجسام متماثلة في تمام الماهية ) فلو كان الباري تعالى جسما ً‬
‫‪ ،‬لزم أن يكون مثل ً لهذه الجسام في تمام الماهية )‪ ( (59‬وحينئذ يكون القول‬
‫بالتشبيه لزما ً ‪ .‬أما ما لم يدل الدليل على الشيء الموجود به والعالمية‬
‫والقادرية ‪ ،‬فإنه )ل )‪ ( (60‬يوجب تماثلها في تمام الماهية ‪ .‬فظهر الفرق )وبالله‬
‫)‪(61‬‬
‫التوفيق(‬

‫)‪ (58‬الحوال ‪ :‬ط‬


‫)‪ (61‬وبالله التوفيق ‪ :‬سقط‬ ‫)‪ (59‬الحوال ‪ :‬ط‬
‫خ‬

‫الفصل الثالث‬
‫في‬
‫أن من يثبت كونه تعالى جسما ً متحيزا ً مختصا ً‬
‫بجهة معينة ‪ .‬هل يحكم بكفره أم ل ؟‬
‫ــــــ‬
‫للعلماء فيه قولن ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أنه كافر – وهو الظهر – وهذا لن مذهبنا ‪ :‬أن كل شيء يكون مختصا ً‬
‫بجهة وحيز ‪ ،‬فإنه مخلوق محدث ‪ ،‬وله إله أحدثه وخلقه ‪.‬‬
‫)‬
‫وأما القائلون بالجسمية والجهة )الذين )‪ ( (1‬أنكروا وجود موجود آخر سوى )هذه‬
‫‪ ( (2‬الشياء التي يمكن الشارة إليها ‪ ،‬فهم منكرون لذات الموجود ‪ ،‬الذي يعتقد‬
‫أنه هو الله ‪ .‬وإذا كانوا )‪ (3‬منكرين لذاته ‪ ،‬كانوا كفارا ً ل محالة ‪ .‬وهذا بخلف‬
‫المعتز لي )‪ (4‬فإنه يثبت موجودا ً ‪ ،‬وراء هذه الشياء التي يشار إليها بالحس ‪ ،‬إل‬
‫أنه خالفنا في صفات ذلك الموجود ‪ .‬والمجسمة يخلفوننا في إثبات ذات المعبود‬
‫ووجوده ‪ ،‬فكان هذا الخلف أعظم ‪ .‬فيلزمهم الكفر ‪ ،‬لكونهم منكرين لذات‬
‫المعبود الحق ولوجوده ‪ .‬والمعتزلة في صفته ل في ذاته ‪.‬‬
‫والقول الثاني ‪ :‬إنا ل نكفرهم ‪ .‬لن معرفة التنزيه ‪ ،‬لو كانت شرطا ً لصحة‬
‫اليمان لوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬أن ل يحكم بإيمان‬
‫‪- 140 -‬‬

‫)‪ (2‬من ط‬ ‫)‪ (1‬من ط‬


‫)‪ (4‬المعتزلة ‪ :‬ط‬ ‫)‪ (3‬من ط‬

‫أحد إل بعد أن يتفحص ‪ :‬أن ذلك النسان ‪ .‬هل عرف الله تعالى بصفات التنزيه ‪،‬‬
‫أو ل ؟ وحيث حكم بإيمان الخلق من غير هذا التفحص ‪ ،‬علمنا ‪ :‬أن ذلك ليس‬
‫شرطا ً لليمان )‪. (5‬‬

‫***‬
‫وهذا آخر الكلم في هذا الكتاب ‪ .‬ونحن نسأل الله العظيم أن يجعله في الدنيا‬
‫والخرة ‪ .‬سببا ً للفوز والسرور والنجاة واستحقاق الدرجات برحمته إنه أرحم‬
‫الراحمين ‪ .‬والحمد لله رب العالمين )والصلة والسلم على سيدنا محمد أشرف‬
‫المرسلين زخاتم النبيين ‪ ،‬وعلى آله وأصحابه أجمعين ‪ ،‬وعلينا يارب العاملين ‪.‬‬
‫غفر الله لكاتبه وقارئه ومصححه ولمن قال ‪ :‬آمين ‪ ،‬ولجميع المسلمين( )‪. (6‬‬
‫ــــــ‬

‫)‪ (5‬اعلم ‪ :‬أن القول الثاني هو القول الصحيح ‪ .‬لن تكفير المسلم ليس هو‬
‫بالشيء الهين ‪ .‬لن الله تعالى لم يجعل عقول الناس على درجة سواء في الغهم‬
‫‪ .‬فمنهم العامي ومنهم العالم ‪.‬‬
‫)‪ (6‬ما بين القوسين من خ‬

‫قَ ِ‬
‫ضّية الكتاب‬

‫لحظ ‪:‬‬
‫أول ً ‪ :‬إن محمد بن إسحاق بن خزيمة ‪ ،‬المتوفى سنة ‪311‬هـ الذي يكرهه المام‬
‫فخر الدين الرازي – كراهة تحريم ‪ ،‬قد ألف كتابه « التوحيد واثبات صفات الرب‬
‫» ليعلم الناس ‪ :‬أن لله – عز وجل – وجها ً ويدين – وكلتا يديه يمين – ورجلين‬
‫وأذنين وعينين ‪ ....‬وهكذا ‪ .‬وأنه – عز وجل – يستوي على العرش في السماء ‪.‬‬
‫ومن ل يثبت ذلك لله عز وجل يعتبر كافرا ً ‪ .‬يقول ابن خزيمة ‪:‬‬
‫« واجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ‪ ،‬ما أثبت الخالق البارئ لنفسه ‪،‬‬
‫من العين ‪ .‬وغير مؤمن من ينفي عن الله – تبارك وتعالى – ما قد أنزله في‬
‫» ومن المسلمين من يفسر وجه الله ‪ . . .‬الخ هذه الصفات التي‬ ‫محكم تنزيله)‪ُ (1‬‬
‫توهم أن الله جسم ‪ ،‬بمعنى مجازي ‪ .‬كما تقول العرب ‪ :‬وجه الكلم و وجه‬
‫الثوب ‪ .‬وابن خزيمة يصف هؤلء المسلمين بالجهل ‪ ،‬وبعدم التحري في العلم ‪،‬‬
‫ويأتي بأحاديث كثيرة ‪ .‬ويفسرها على ظاهرها بدون تأويل ‪ .‬مثل ‪ « :‬أتى النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم رجل من أهل الكتاب ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا أبا القاسم ‪ .‬أبلغك أن‬
‫الله عز وجل يحمل الخلئق على إصبع ‪ ،‬والسموات على إصبع ‪ ،‬والرضين على‬
‫إصبع ‪ ،‬والشجر على إصبع ‪ ،‬والثرى على إصبع ؟ قال ‪ :‬فضحك النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم حتى بدت نواجذه ‪ .‬قال ‪ :‬فأنزل الله تعالى « وما قدروا الله حق‬
‫» إلى آخر الية ‪ُ .‬‬
‫»‬ ‫قدره ‪ .‬والرض جميعا ً قبضته يوم القيامة ُ‬
‫‪- 141 -‬‬

‫وقد ألف المام فخر الدين الرازي المتوفى في سنة ‪606‬هـ كتابه‬

‫)‪ (1‬ص ‪ 42‬التوحيد – لبن خزيمة‬

‫« أساس التقديس»ُ للرد على ابن خزيمة ‪ ،‬حتى ل يؤمن الناس بكلمه ‪ .‬وانتصر‬
‫عليه بالشيخ الغزالي أبي حامد حجة السلم ‪ ،‬وبغيره من العلماء الراسخين في‬
‫العلم ‪ .‬ولم يترك حديثا ً أتى به ابن خزيمة من غير أن يذكره ‪ ،‬ويبين تأويله على‬
‫الحقيقة وعلى المجاز ‪ .‬ومن ينظر في الكتابين يجد أن كل الحاديث التي ذكرها‬
‫المام فخر الدين في أساس التقديس ‪ ،‬قد نقلها بنصها من كتاب ابن خزيمة هذا‬
‫‪ ،‬ليرد كيده إلى نحره ‪ ،‬وفي نهاية كتابه ل يحكم عليه بالجهل ‪ ،‬بل يحكم عليه‬
‫بالكفر والخروج من الدين ‪.‬‬

‫ثانيا ‪:‬‬
‫إن الله – عز وجل – بين في القرآن الكريم ‪ :‬أنه إله واحد ‪ ،‬ول إله غيره ‪.‬‬
‫وبين ‪ :‬أنه ليس كمثله شيء ‪ .‬والمسلمون ل يختلفون في الوحدانية ‪ ،‬وفي‬
‫التنزيه لله _ عز وجل – وإنما يقول بعضهم ‪ :‬هو واحد ‪ ،‬له يد ‪ ،‬ليست كأيدينا –‬
‫ومنهم الشيخ ابن خزيمة – ورجـل ‪ ،‬ليسـت كأرجـلنا ‪ ،‬ويستوي على العرش ‪،‬‬
‫بدون تمثيل لكيفية الستواء ‪ .‬وهكذا يثبتون الصفات الخبرية ‪ ،‬الواردة في القرآن‬
‫والحديث عن الله ‪ .‬وهذا الثبات لظاهر الخبار التي تثبتها ‪ .‬مثل ‪ « :‬يد الله فوق‬
‫أيديهم»ُ وينفون التشبيه والتمثيل ‪ .‬وهذا النفي لظاهر الخبار التي تنفيها ‪ .‬مثل ‪:‬‬
‫» أي ليس له مثل ل كفء ول نظير ز ويقول بعض‬ ‫« ولم يكن له كفوا ً أحد ُ‬
‫المسلمين ك هو واحد ليس له جسم ‪ ،‬لن الجسم يتخيله العقل على أي شبه‬
‫كان ‪ .‬وحيث نفي عن نفسه التشبيه ‪ .‬فإذن ل يكون جسما ً وما ورد في الخبار‬
‫عن يده ورجله وعينه ‪ ،‬وسائر العضاء التي تدل على أن الله جسم ‪ :‬تؤول على‬
‫معنى ‪ :‬القدرة ومجيء المر ‪ ،‬وأنه يسمع ويرى ‪ ،‬وما شابه ذلك ‪ .‬ومن هؤلء‬
‫المسلمين الشيخ محمد بن عمر مؤلف « أساس التقديس»ُ – في علم الكلم –‬
‫وهؤلء يقولون أيضا ً ‪ :‬إن الذي ورد في القرآن وفي الحاديث من أن الله له‬
‫صفات تشبه صفات البشر‪ ،‬من المكر والخداع والستحياء والغضب والرضا‬
‫والمحبة والكره ‪ ،‬وما شابه ذلك ‪.‬ليس على الحقيقة ‪ .‬وإنما معناه ‪ :‬أن الله‬
‫يتحدث عن نفسه للبشر ‪ ،‬كأنه واحد منهم ‪ ،‬ليقرب ذاته إلى عقولهم ‪ .‬وهو ليس‬
‫مثلهم ‪ ،‬ول مثل أي شيء‬
‫« وقد أسندت هذه الفعال إلى الله من باب المشاكلة ‪ .‬وهي تسمية الجزاء‬
‫»)‪. (2‬‬
‫على الشيء ‪ ،‬باسم ذلك الشيء ُ‬
‫وقال المام الشافعي – رضي الله عنه ‪ -‬في هذه الصفات ‪ ،‬كلما ً معناه ‪ :‬إن‬
‫القرآن يحدث عن الله وصفاته لسان بني آدم ‪ .‬قال يرحمه الله في قوله تعالى ‪:‬‬
‫« وهو أهون عليه»ُ ‪ :‬معناه ‪ :‬في العبرة عندكم ‪ .‬لنه لما كل للعدم « كن»ُ‬
‫فيخرج تاما ً ‪ ،‬كامل ً بعينيه وأذنيه وبصره وأنفه وسمعه ومفاصله ‪ .‬فهذا في العبرة‬
‫أشد من أن يقول لشيء قد كان وفى ‪ :‬عد إلى ما كنت ‪ .‬فالمراد من الية ‪ :‬وهو‬
‫أهون عليه بحسب عرفكم ‪ ،‬ل أن شيئا ً يكون أهون على الله تعالى من شيء‬
‫)‪(3‬‬
‫آخر »ُ‬
‫وبعد رحيل المام فخر الدين الرازي ‪ ،‬ظهر الشيخ ابن تيمية الحراني ‪ ،‬ليرد‬
‫عليه ‪ ،‬منتصًر بابن خزيمة ‪ .‬وأمثاله من علماء في المسلمين ‪ .‬وفي عصرنا هذا‬
‫علماء معجبون بابن تيمية ‪ ،‬وآخرون معجبون بفخر الدين ‪ ،‬وعلماء يفوضون المر‬
‫لله ول يتحدثون في هذا الخلف ‪ .‬وهؤلء ل يحفل بهم ول يلتفت إليهم ‪.‬‬
‫‪- 142 -‬‬

‫)‪ (2‬نص عبارة الدكتور محمد عبد المنعم القيعي ‪ ،‬أستاذ ورئيس قسم التفسير ‪.‬‬
‫بجامعة الزهر ‪ .‬من ص ‪) 51‬عقيدة المسلمين( – طبع المجلس العلى للشئون‬
‫السلمية سنة ‪1986‬‬
‫)‪ (3‬مناقب المام الشافعي ص ‪ 208‬نشر مكتبة الكليات الزهرية ‪.‬‬

‫ثالثا ً ‪ :‬إن المام فخر الدين الرازي المتوفى سنة ‪ 606‬هـ هو أستاذ لبن تيمية‬
‫المتوفى سنة ‪ 728‬هـ‪ .‬وابن تيمية تلميذ له ‪ .‬وليس التلميذ أفضل من الستاذ ‪.‬‬
‫أما أن ابن تيمية تلميذ للمام فخر الدين الرازي ‪ .‬فمن الدلة على أنه تلميذه ‪:‬‬
‫أنه كان يدرس كتب المام فخر الديـن لطلب العــلم العلم ويتكسب من وراء‬
‫التدريس ‪ ،‬لنه هو وأسرته كانوا غرباء في « دمشق»ُ لما هربوا من حاران أيام‬
‫التتار‪ .‬يقول ابن رجب مؤلف « العقود الدرية في مناقب شيخ السلم أخمد بن‬
‫تيمية »ُ وهو ابن قدامة المقدسي الحنبلي المتوفى سنة سبعمائة وأربعة وأربعين‬
‫‪.‬‬
‫يقول ابن رجب ‪ ،‬عنه ‪ ،‬ما نصه ‪ « :‬و لزم الشيخ تقي الدين بن تيمية مدة ‪ ،‬وقرأ‬
‫عليه قطعة من "الربعين في أصول الدين " للرازي)‪ ُ»"(4‬وأما أن التلميذ ليس‬
‫أفضل من الستاذ ‪ :‬فلقول المسيح عيسى عليه السلم ‪ « :‬ليس التلميذ بأفضل‬
‫من المعلم ‪ ،‬ول العبد أفضل من سيده ‪ .‬يكفي التلميذ أن يكون كمعلمه ‪ ،‬والعبد‬
‫» )متى ‪ (25-24 :10‬ولما شاع على ألسنة الناس ‪ :‬من علمني حرفا ً ‪،‬‬ ‫كسيده ُ‬
‫ً‬
‫صرت له عبدا ‪.‬‬

‫وأقول لطلب العلم ‪ :‬من أراد منكم أن يفهم كتب المام فخر الدين بسهولة‬
‫ويسر ‪ ،‬فليقرأ كتب ابن تيمية ‪ .‬لنه يأتي بالضد لكثير من آراء المام – ول بتيسر‬
‫له الفحام – ومن أراد منكم أن يفهم آراء ابن تيمية بسهولة ويسر ‪ ،‬فليقرأ كتب‬
‫المام فخر الدين ‪.‬‬

‫***‬

‫)‪(4‬ص ‪ 14‬العقود الدرية ‪ .‬لبن عبد الهادي – تحقيق الشيخ محمد حامد الفقي –‬
‫رحمه الله – مطبعة حجازي بالقاهرة سنة ‪1938‬‬

‫وسأوضح رأي الفريقين على النحو التالي ‪:‬‬


‫‪ -1‬يقول المام فخر الدين الرازي ‪ :‬إن الله ليس جسما ً ‪ ،‬وليس كمثله شيء‪.‬‬
‫وهو في السماء بالعلم ‪ ،‬وفي الرض بالعلم ‪ .‬وليس للذات اللهية مكان يشار‬
‫إليه ‪ .‬وما ورد في الخبار من اليد والرجل ‪ ،‬يؤول إلى القدرة ومجيء المر ‪.‬‬
‫وهكذا ‪.‬‬
‫‪ -2‬ويقول ابن تيمية ‪ :‬إن الله ليس جسما ً ‪ ،‬وليس كمثله شيء ‪ .‬وهو في الرض‬
‫بالعلم ‪ ،‬وفي السماء فوق العرش ‪ ،‬بدون تشبيه ‪ .‬وما ورد في الخبار من اليد‬
‫والرجل نأخذه على ظاهره ‪ ،‬بل كيف ‪ ،‬ول نؤوله ‪.‬‬
‫وبيان رأي المام فخر الدين هكذا ‪:‬‬
‫)ب( « ليس كمثله شيء ُ‬
‫»‬ ‫) أ ( « يد الله فوق أيديهم ُ‬
‫»‬
‫‪- 143 -‬‬

‫قوله ‪ « :‬ليس كمثله شيء»ُ قول محكم ‪ ،‬له معنى واحد ‪ ،‬وهو نفي الشبيه‬
‫والنظير ‪ ،‬عن الله عز وجل ‪ .‬وقوله « يد الله»ُ ‪ :‬قول متشابه يحتمل معنيين ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬اليد الجارحة ‪ .‬والثاني ‪ :‬اليد ‪ .‬كناية عن القدرة ‪ .‬وحيث أنه متشابه ‪.‬‬
‫يتعين الرجوع للمحكم ‪ .‬والمحكم وهو « ليس كمثله شيء»ُ ل يدل على معنيين‬
‫كالمتشابه ‪ .‬بل يدل على معنى واحد ‪ ،‬وهو نفي التشبيه ‪ .‬ويسأل المام فخر‬
‫الدين هذا السؤال ‪ :‬أي المعنيين من معنيي المتشابه هو الذي يتفق مع‬
‫المحكم ؟ إذا عرفته فقد عـرفت مـراد الله تعالى من قوله ‪ « :‬يد الله فوق‬
‫أيديهم»ُ ويجيب بقوله ‪ :‬إن المعنى المتفق مع المحكم هو أن اليد كناية عن‬
‫القدرة ‪ .‬لن اليد الجارحة ل تتفق مع نفي التشبيه ‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪ « :‬هو الذي أنزل عليك الكتاب ‪ .‬منه آيات محكمات ‪ .‬هن أم‬
‫الكتاب ‪ .‬وأخر متشابهات ‪ .‬فأما الذين في قلوبهم زيغ ‪ ،‬فيتبعون ما تشابه منه‬
‫ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ‪ .‬وما يعلم تأويله إل الله ‪ .‬والراسخون في العلم‬
‫يقولون ‪ :‬آمنا به كل من عند ربنا ُ‬
‫»‬
‫‪ -1‬يدل على أن في القرآن المحكم والمتشابه ‪ .‬كما ذكرنا في يد الله « يد الله‬
‫»ُ وفي « ليس كمثله شيء»ُ‬
‫‪ -2‬ويدل على أن الذين في قلوبهم زيغ ‪ ،‬أي بعد عن الحق ‪ .‬يأخذون التشابه‬
‫للفتنة ‪ ،‬ولتأويله تأويل ً فاسدا ً ‪ .‬فمثال أخذهم التشابه للفتنة ‪ .‬أن أهل الكتاب‬
‫قالوا في قوله تعالى ‪ « :‬إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور»ُ ‪ :‬إن القرآن شهد‬
‫بصحة التوراة ‪ ،‬وأنها تكفي في هداية الناس إلى الحق ‪ .‬ومثال أخذهم المتشابه‬
‫للتأويل الفاسد ‪ :‬إن النصارى قالوا في قوله تعـــالى ‪ « :‬وكلمته ألقاها إلى مريم‬
‫وروح منه»ُ أن القرآن اعترف بصحة أقنوم البن الذي هو الكلمة ‪ ،‬وصحة أقنوم‬
‫الروح القدس ‪.‬‬
‫‪ -3‬وأما الراسخون في العلم اللهي ‪ ،‬لتأكدهم من الله بالبراهين والحجج ‪،‬‬
‫وخشيتهم منه ‪ ،‬فإنهم إذا فهموا المعنى حمدوا الله ‪ ،‬وإذا لم يفهموه انهموا‬
‫أنفسهم بالتقصير في العلم ‪ ،‬أو طلبوا الفتوح من الله ‪ .‬ويقولون ما فهموه وفي‬
‫ما ل يفهموه ‪ « :‬كل من عند ربنا»ُ‬

‫وبيان رأي المام ابن تيمية هكذا ‪:‬‬


‫)ب( « ليس كمثله شيء ُ‬
‫»‬ ‫) أ ( « يد الله فوق أيديهم ُ‬
‫»‬
‫» قول على‬‫قوله ‪ « :‬يد الله »ُ قول على الحقيقة ‪ .‬وقوله « ليس كمثله شيء ُ‬
‫الحقيقة ‪ .‬وعلى ذلك ‪ :‬فالله عز وجل له يد ‪ .‬ولكنها ليست كأيدي أي مخلوق كان‬
‫‪ .‬لنه أثبت اليد ونفي التشبيه ‪ .‬ولماذا قال ابن تيمية بالحقيقة في اليد ‪ ،‬ولم يقل‬
‫إنها مجاز عن القدرة ؟ لن تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز – كما يدعي –‬
‫اصطلح محدث بعد القرون الثلثة الولى ‪ ،‬وحيث أنه محدث ل ينبغي أن نخضع‬
‫له لغة القرآن ‪ .‬وعلى ذلك فإن جميع الصفات اللهية يجب أن تحمل على‬
‫الحقيقة ‪ ،‬ل على المجاز ‪ ،‬ول حاجة إلى تأويلها ‪ .‬هذه حجته ‪.‬‬
‫والذين ردوا عليه ‪ ،‬من ردودهم ما يلي ‪:‬‬
‫أول ً ‪:‬‬
‫قال ابن تيمية في بعض كتبه في معنى الحديث الشريف ‪ « :‬الحجر السود يمين‬
‫الله في الرض»ُ قال ‪ :‬اليمين مجاز هنا ‪ ،‬وليس حقيقة في اليد اليمنى الجارحة ‪.‬‬
‫وهو مجاز ليس في لفظ « يمين»ُ بل هو مجاز لن سياق العبارة يدل على أنه‬
‫مجاز ‪ .‬أي أن لفظ « يمين»ُ ل يستعمل ككلمة مفردة إل غلى الحقيقة ‪ .‬وأما في‬
‫الجملة فإنه يستعمل مجازا ً للقوة ‪ .‬وعلى قوله هذا ‪ .‬فإن سياق العبارات في‬
‫إيراد بعض ألفاظ الصفات الخبرية عن الله عز وجل تدل على المجاز ‪ ،‬ول تدل‬
‫» يفسره ابن‬‫على الحقيقة ‪ .‬ومثال ذلك قوله تعالى ‪ « :‬وهو معكم أينما كنتم ُ‬
‫‪- 144 -‬‬

‫تيمية بقوله ‪ :‬دل سياق الية على أنها معية علم ‪ ،‬حيث بدئت الية بالعلم وختمت‬
‫بالعلم ‪ .‬وقوله « ما يكون من نجوى ثلثة ‪ ،‬إل هو رابعهم »ُ إلى قوله ‪ « :‬إل هو‬
‫معهم أينما كانوا»ُ يدل على أنه معهم بعلمه ل بجسمه ‪ .‬وعلى قوله هذا ‪ .‬إذا‬
‫ثبت التأويل في موضع ‪ ،‬فلماذا ينتفي في موضع آخر إذا كان متشابها ً له ؟‬

‫وعلى قوله هذا يقال له ‪ :‬إن سياق العبارة وضح الحقيقة أو المجاز من النص ‪.‬‬
‫كما تقول ‪ .‬فلماذا تستبعد المحكم من تعيين أحد معنى المتشابه ‪ ،‬وعلى المحكم‬
‫والمتشابه دليل من القرآن ‪ ،‬وليس على سياق العبارات دليل ‪ .‬اللهم ‪ :‬إل‬
‫القرينة العقلية ؟‬
‫» كلفظ مفرد هو حقيقة على الحيوان‬ ‫وعلماء البلغة يقولون ‪ :‬إن لفظ « السد ُ‬
‫المفترس ‪ .‬وكلفظ مفرد ل يدل مجازا ً على رجل شجاع ‪ .‬وإنما يدل على رجل‬
‫شجاع إذا كان في عبارة ‪ ،‬وفي العبارة قرينة تدل على ذلك ‪ ،‬أي أن سياق‬
‫» مجازا ً ‪ .‬ل أن لفـــظ « السد ُ‬
‫» في ذاته‬ ‫العبارة هو الذي يجعل لفظ « السد ُ‬
‫حقيقة ومجاز معا ً ‪ .‬وابن تيمية معترف بذلك ‪ .‬فأي فرق بينه وبين علماء‬
‫البلغة ؟ ولماذا يمنع المجاز في القرآن وفي الصفات ؟‬
‫ثانيا ً ‪:‬‬
‫إن قوله بتقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز ‪ ،‬هو اصطلح محدث ‪ .‬ينفيه أن اللغة‬
‫العربية موجودة في العالم ‪ ،‬قبل الصطلح المحدث‪ ،‬وقبل نزول القرآن ‪ .‬أي أن‬
‫قوله تعالى ‪ « :‬نورهم يسعى بين أيديهم»ُ على سبيل المثال موجودة قبل وجود‬
‫أبي عبيده معمر بن المثني ‪ .‬والنور ل يسعى ‪ .‬وإنما شبه النور برجل يمشي‬
‫أمامهم ‪ ،‬ليدلهم على الطريق ‪ .‬وكلمة « يسعى»ُ إن كانت مفردة فهي حقيقة‬
‫في المشي ‪ .‬وهي في القول الكريم مجاز ‪ ،‬بحسب سياق العبارة ‪ .‬وذلك معلوم‬
‫من قبل ظهور معمر بن المثني وأحمد ابن تيمية ‪ .‬ولو أخذنا بالصطلحات‬
‫المحدثة ‪ .‬لمنعنا إعجاز القرآن باليات العلمية في الكون ‪ .‬لن الصطلحات‬
‫العلمية محدثة ‪ .‬وهذا القول ل يقول به عاقل وفاهم‬

‫ثالثا ً ‪:‬‬
‫إن ابن تيمية قال في )الجواب الصحيح( إن النصارى وقعوا في الضلل لنهم‬
‫قالوا بالب والبن على الحقيقة ‪ .‬ولو أنهم أخذوا بالتأويل ‪ ،‬وردوا المتشابه من‬
‫آيات كتبهم إلى المحكم منها ‪ ،‬لما وقعوا في التثليث ‪ .‬والسؤال الن ؟ لماذا‬
‫توافق على التأويل في موضع ‪ ،‬ولماذا تمنع التأويل في موضع ؟ إنه إذا لم يكن‬
‫» ل أكثر ول أقل ‪ ،‬وذلك بإيراد فكر مضاد لفكرهم‬ ‫الغرض مخالفة « المامية ُ‬
‫بالحق أو بالباطل ‪ .‬فإن هذا السؤال سيظل بل جواب ‪.‬‬

‫قال بن تيمية ‪ « :‬لفظ البن يعبر به عمن ولد الولدة المعروفة ‪ ،‬ويعبر به عمن‬
‫كان سببا ً في وجوده ‪ .‬كما يقال ابن السبيل لمن ولدته الطريق ‪ .‬فإنه لما جاء‬
‫من جهة الطريق ‪ ،‬جعل كأنه ولده ‪ .‬ويقال لبعض الطير ‪ :‬ابن الماء ‪ ،‬لنه يجيء‬
‫من جهة الماء ‪ .‬ويقال ‪ :‬كونوا من أبناء الخرة ول تكونوا من أبناء الدنيا ‪ .‬فإن‬
‫البن ينتسب إلى أبيه ويحبه ويضاف إليه ‪ .‬أي كونوا ممن ينتسب إلى الخرة‬
‫ويحبها ويضاف إليها ‪ .‬وهذا اللفظ موجود في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب في‬
‫حق الصالحين الذين يحبهم الله ويربيهم ‪ .‬كما ذكروا أن المسيح قال ‪« :‬أبي‬
‫» وفي التوراة ‪ :‬أن الله قال ليعقوب ‪" :‬أنت ابني بكرى"‬ ‫وأبيكم وإلهي وإلهكم ُ‬
‫ونحو ذلك مما يراد به _ إذا كان صحيحا ً ‪ ،‬له معنى صحيح وهو – المحبة له‬
‫والصطفاء والرحمة له ‪ .‬وكان المعنى مفهوما ً عند النبياء – عليهم السلم –‬
‫‪- 145 -‬‬

‫ومن يخاطبونه وهو من اللفاظ المتشابهة ‪ ،‬فصار كثير من أتباعهم يريدون به‬
‫»ا هـ‪.‬‬
‫المعنى بالباطل)‪ُ (5‬‬

‫وقال ابن تيمية في رده على النصارى ‪ « :‬إنكم إنما ضللتم بعدولكم عن صريح‬
‫كلم النبياء وظاهره ‪ ،‬إلى ما تأو لتموه عليه من التأويلت التي ل يدل عليها‬
‫لفظه ل نصا ً ول ظاهرا ً ‪ .‬فعدلتم عن المحكم واتبعتم المتشابه ابتغاء الفتنة‬
‫وابتغاء تأويله ‪ .‬فلو تمسكتم بظاهر هذا الكلم لم تضلوا ‪ .‬فإن البن ظاهره – في‬
‫كلم النبياء – ل يراد به شيء من صفات الله ‪ ،‬بل يراد به ‪ :‬وليه وحبيبه ‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك ‪ .‬وروح القدس ل يراد به صفته ‪ ،‬بل يراد به ‪ :‬وحيه وملكه ونحو ذلك ‪،‬‬
‫فعدلتم عن ظاهر اللفظ ومفهومه إلى معنى ل يدل عليه اللفظ البتة ‪ .‬فكيف‬
‫» ؟ وعبارته غير واضحة الدللة على ما يريد‬ ‫تدعون أنكم اتبعتم نصوص النبياء)‪ُ (6‬‬
‫إثباته ‪ .‬إل أنها واضحة الدللة على قوله بالتأويل الصحيح ‪.‬‬

‫)‪ (5‬ص ‪ 346‬ج ‪ 2‬الجواب الصحيح‬


‫)‪ (6‬ص ‪ 165‬ج ‪ 3‬الجواب الصحيح‬

‫رابعا ً ‪:‬‬
‫إن أخذ ابن تيمية بظاهر اللفظ ‪ ،‬يوقعه في سوء الدب مع النبياء – عليهم‬
‫السلم – فقد قال – على سبيل المثال – في قوله تعالى عن شعيب عليه‬
‫السلم ‪ « :‬لقد افترينا على الله كذبا ً ‪ :‬إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها»ُ‬
‫أن شعيبا ً كان على الكفر قبل أن ينجيه الله منه ‪ .‬أخذا ً بظاهر اللفظ ‪ .‬وليس‬
‫المعنى كما قال ‪ .‬بل المعنى هو ‪ :‬أن الذين آمنوا به كانوا من قبل كفارا ً ‪ .‬ولما‬
‫آمنوا ‪ ،‬قال لهم « المل الذين استكبروا من قومه ‪ :‬لنخر جنك يا شعيب والذين‬
‫آمنوا معك من قريتنا ‪ ،‬أو لتعودن في ملتنا»ُ فدخل شعيب مع المؤمنين به في‬
‫الخطاب ‪ .‬ولما رد بقوله ‪ « :‬إن عدنا»ُ رد على أنه يتحدث عن جماعة المؤمنين‬
‫به ‪ ،‬لنه قائد هم ورئيسهم ونبيهم ورسولهم ‪ .‬ل على شخصه بمفرده ‪ .‬وهذا‬
‫التأويل ل بد منه لثبات عصمة النبياء من الكبائر والكفر ‪ ،‬قبل النبوة وبعدها ‪.‬‬

‫والذين قالوا بالتأويل ‪ -‬ومنهم المام فخر الدين – انقسموا في ما ورد في‬
‫القرآن وفي الحاديث عن الله – عز وجل – أنه يمكر ويخدع ويستحي ويغضب‬
‫ويرضى ويحب ويكره ‪ ،‬وما شابه ذلك ‪ :‬انقسموا إلى فريقين في هذه الصفات ‪.‬‬
‫ففريق يرى أن هذه الوصاف قد أطلقها الله على نفسه ‪ ،‬ليقرب ذاته بها إلى‬
‫عقول البشر ‪ ،‬على سبيل المشاكلة – كما يقول علماء البلغة – وهو ل يتصف‬
‫بها على الحقيقة ‪ .‬لن المكر يدل على العجز والضعف ‪ ،‬فالماكر إنما يمكر‬
‫ليتخلص مما هو فيه من الشدة ‪ ،‬أو ليحصل على شيء يحبه بطريق الحيلة ‪.‬‬
‫والله تعالى منزه عن العجز والضعف والحاجة ‪ .‬ولن الستحياء يدل على‬
‫الخجل ‪ ،‬والخجل يدل على التغير والنفعال ‪ .‬والله تعالى منزه عن التغير‬
‫والنفعال ‪ .‬وهكذا في سائر الصفات ‪ .‬ول يؤولون صفة الحضك )الضحك(‬
‫بحصول الرضى والذن ‪ .‬وهكذا ‪ .‬لن قولهم فيها ‪ :‬بأن الله يقرب بها ذاته إلى‬
‫عقول البشر هو التأويل الذي ما بعده تأويل ‪ .‬وقولهم هذا هو الصحيح فيها ‪ .‬لن‬
‫تأويل الصفة ‪ ،‬يستلزم إثبات صفة أخرى مكانها ‪ ،‬وفيق يرى تأويل الصفة –‬
‫ومنهم المام فخر الدين – فيؤولون صفة الفرح لله تعالى بالرضا ‪ .‬ويؤولون صفة‬
‫الحياء بإنزال العقاب ‪ .‬وهكذا ‪.‬‬
‫‪- 146 -‬‬

‫***‬

‫يقول اللوسي البغدادي في تفسيره المسمى بروح المعاني عن رأي الفريقين‬


‫في قوله تعالي ‪ « :‬إن الله ل يستحي»ُ ‪ :‬وللناس في ذلك مذهبان فبعض يقول‬
‫بالتأويل ‪ .‬إنه النقباض النفساني مما ل يحوم حول حظائر قدسه – سبحانه –‬
‫فالمراد بالحياء عنده ‪ :‬الترك اللزم للنقباض ‪ .‬وجوز جعل ما هنا بخصوصه من‬
‫باب المقابلة ‪ ،‬لما وقع في كلم الكفرة ‪ ،‬بناًء على ما روي أنهم قالوا ‪ :‬ما‬
‫يستحيي رب محمد أن يضرب المثال بالذباب والعنكبوت ‪ .‬وبعض – وإنا والحمد‬
‫لله منهم – ل يقول بالتأويل ‪ ،‬بل يمر هذا وأمثاله ‪ -.‬مما جاء عنه سبحانه في‬
‫اليات والحاديث – على ما جاءت ‪ ،‬ويكل علمها بعد التنزيه عما في الشاهد إلى‬
‫عالم الغيب والشهادة ‪.‬‬

‫والمام الجليل محمود بن عمر – يرحمه الله – في تفسيره المسمى بالكشاف‬


‫على نقيض رأي اللوسي البغدادي في صفة الستحياء لله ‪ .‬فيقول ‪ « :‬فإن قلت‬
‫ك كيف جاز وصف القديم – سبحانه – به ‪ .‬ول يجوز عليه التغير والخوف والذم ؟‬
‫قلت ‪ :‬هو جاز على سبيل التمثيل ُ‬
‫»‬

‫ويقول المام الجليل الخطيب الشربيني – يرحمه الله – في تفسيره المسمى‬


‫بالسراج المنير في قوله تعالى ‪ « :‬إن الله ل يستحي»ُ ‪ " :‬والحياء انقباض‬
‫النفس عن القبيح ‪ ،‬مخافة الذم ‪ .‬وهو الوسط بين الوقاحة – التي هي الجراءة‬
‫عن القبائح وعدم المبالة بها – وبين الخجل ‪ ،‬الذي هو انحصار النفس عن الفعل‬
‫مطلقا ً ‪ .‬فإذا وصف البري – سبحانه وتعالى – كما جاء في الحديث ‪ « :‬إن الله‬
‫» ‪ « -‬إن الله حي كريم يستحي إذا رفع‬ ‫يستحي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه ُ‬
‫العبد يديه ‪ ،‬أن يردهما صفرا ً ‪ ،‬حتى يضع فيهما خيرا »ُ ‪ ،‬فالمراد به ‪ :‬الترك ‪ ،‬كما‬
‫ً‬
‫قدرته اللزم للنقباض ‪ .‬كما أن المراد من رحمته وغضبه ‪ :‬إصابة المعروف‬
‫والمكروه اللزمين لمعنييهما ‪ ،‬وتحتمل الية خاصة ‪ :‬أن يكون مجيء الحياء فيها‬
‫للمشاكلة ‪ .‬وهو أن يذكر الشيء بلفظ غيره ‪ ،‬لوقوعه في صحبته ‪ .‬ولو تقديرا ً –‬
‫كما هنا – وهو قول الكفرة ‪ :‬أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثل ً بالذباب‬
‫والعنكبوت ‪ .‬ولما كان التمثيل يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ‪ ،‬ورفع‬
‫الحجاب عنه ‪ ،‬وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ‪ ،‬ليساعد فيه الوهم ‪:‬‬
‫العقل ‪ ،‬ويصالحه عليه فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل ‪ ،‬مع منازعة من‬
‫الوهم ‪ ،‬لن من طبعه ميل الحس وحب المحاكاة "‬

‫» ‪ « :‬قال ابن عباس ك بمعونتي ‪،‬‬‫ويقول في قوله تعالى ‪ « :‬فاذكروني أذكركم ُ‬


‫وقال سعيد بن جبير بمغفرتي ‪ .‬وقيل ‪ :‬اذكروني في النعمة والرخاء ‪ ،‬أذكركم‬
‫في الشدة والبلء »ُ أي أن الله لم يكن قد نسيهم حتى يذكرهم وقت ذكرهم له ‪.‬‬
‫» ‪ « :‬خير الماكرين ُ‬
‫»‬ ‫ويقول في قوله تعالى ‪ « :‬ومكر الله ‪ .‬والله خير الماكرين ُ‬
‫أي أعلمهم بالمكر ‪ ،‬وقال الزجاج ‪ :‬في قوله أي مجازاتهم على مكرهم ‪ .‬فسمي‬
‫» «‬‫الجزاء باسم البتداء ‪ .‬لنه في مقابلته ‪ .‬كقوله تعالى ‪ « :‬الله يستهزئ بهم ُ‬
‫وهو خادعهم ُ‬
‫»‬
‫والزهر في مصر يعلم الطلب ‪:‬‬
‫أوله ‪ ،‬أو فوض ‪ .‬ورم تنزيها‬ ‫وكل نص أوهم التشبيها‬
‫‪- 147 -‬‬

‫« أي أنه إذا ورد في القرآن أو السنة ما يشعر بإثبات الجهة أو الجسمية أو‬
‫الصورة أو الجوارح ‪ ،‬اتفق أهل الحق وغيرهم – ما عدا المجسمة والمشبهة –‬
‫على تأويل ذلك ‪ .‬لوجوب تنزيهه تعالى عما دل عليه ما ذكر ‪ ،‬بحسب ظاهره ‪.‬‬
‫فمم يوهم الجهة قوله تعالى‪" :‬ويخافون ربهم من فوقهم " فالسلف يقولون ‪:‬‬
‫فوقية ل نعلمها ‪ ،‬والخلف يقولون ‪ :‬المراد بالفوقية ‪ :‬التعالي في العظمة ‪.‬‬
‫)‬
‫فالمعنى "يخافون" أي الملئكة "ربهم" من أجل تعاليه في العظمة ‪ ،‬أي ارتفاعه‬
‫» الخ‬‫‪ (7‬فيها ‪ُ . . .‬‬

‫والكثيرون من علماء الزهر على رأي المام الرازي ‪ .‬ويتركون الحرية للطلب‬
‫والناس في اختيار أحد الرأيين ‪ .‬والكثيرون من علماء المملكة العربية السعودية‬
‫على رأي المام ابن تيمية ‪ ،‬ويلزمون الطلب والناس برأيه ‪.‬‬

‫***‬
‫وللمام محمد بن محمد الغزالي ‪ ،‬المتوفى سنة ‪ 505‬هـ رأي في يد الله وعين‬
‫الله ‪ ،‬وما شابه ذلك من الصفات التي توهم أن الله جسم ‪ .‬أورده في « إلجام‬
‫» هكذا ‪:‬‬
‫العوام عن الكلم ُ‬
‫أول ً ‪ :‬يجب على جميع المسلمين أن ينزهوا الله عن الجسمية والجهة‪.‬‬
‫ثانيا ً ‪ :‬إذا سمع العامي كلمة « يد الله »ُ فليعتقد أول ً أن الله ليس جسما ً وليست‬
‫له يد جارحة ‪ .‬وليفسر اليد ثانيا ً بأي معنى من المعاني التي تبعد اليد عن‬
‫الجسمية ‪ .‬كالقدرة مثل ً ‪ .‬فإذا لم يحسن العامي أن يأتي لليد بمعنى يبعدها‬

‫)‪ (7‬ص ‪ 110‬تحفة المريد على جوهرة التوحيد للبيجوري – طبعة الزهـر ‪.‬‬

‫عن الجسمية فليسكت عن التفسير ‪ .‬وعدم علمه عذر له أمام الله عز وجل ‪.‬‬
‫ثالثا ً ‪ :‬التأويل واجب على العلماء في « يد الله»ُ وسائر الخبار التي توهم أن الله‬
‫جسم ‪ ،‬على سبيل فرض الكفاية ‪ .‬والعلماء في نظره هم أهل التصوف ‪.‬‬
‫يقول الغزالي أبو حامد ‪ « :‬إنه إذا سمع اليد والصبع ‪ ،‬وقوله ‪ " : ε‬إن الله خمر‬
‫طينة آدم بيده" و "إ‪ ،‬قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن" فينبغي أن‬
‫يعلم أن اليد تطلق لمعنيين‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬هو الموضع الصلي ‪ ،‬وهو عضو مركب من لحم وعظم وعصب ‪.‬‬
‫واللحم والعظم والعصب ‪ :‬جسم مخصوص ‪ ،‬وصفات مخصوصة ‪ .‬وأعني بالجسم‬
‫‪ :‬عبارة عن مقدار له طول وعرض وعمق ‪ ،‬يمنع غيره من أن يوجد حيث هو ‪ :‬إل‬
‫بأن يتنحى عن ذلك المكان ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬وقد يستعار هذا اللفظ – أعني اليد – لمعنى آخر ‪ ،‬ليس ذلك المعنى‬
‫بجسم أصل ً ‪ .‬كما يقال ‪ :‬البلدة في يد المير ‪ .‬فإن ذلك مفهوم ‪ .‬وإن كان المير‬
‫مقطوع اليد مثل ً‬

‫فعلى العامي وغير العامي ‪ :‬أن يتحقق قطعا ً ويقينا ً أن الرسول – عليه السلم –‬
‫لم يرد بذلك جسما ً ‪ ،‬هو عضو مركب من لحم ودم وعظم ‪ ،‬وأن ذلك في حق‬
‫الله تعالى محال ‪ ،‬وهو عنه مقدس ‪ .‬فإن خطر بباله ‪ :‬أن الله جسم مركب من‬
‫أعضاءه ‪ ،‬فهو عابد صنم ‪ . . .‬ومن نفي الجسمية عنه وعن يده وإصبعه ‪ ،‬فقد‬
‫نفى العضوية واللحم والعصب ‪ ،‬وقدس الرب – جل جلله – عما يوجب‬
‫‪- 148 -‬‬

‫الحدوث ‪ .‬وليعتقد بعده ‪ :‬أنه عبارة عن معنى من المعاني ليس بجسم ول عرض‬
‫في جسم ‪ ،‬يليق ذلك المعنى بالله تعالى ‪ .‬فإن كان ل يدري ذلك المعنى ول‬
‫يفهم كنه حقيقته فليس عليه في ذلك تكليف أصل ً ‪ .‬فمعرفة تأويله ليس بواجب‬
‫»ا هـ‬
‫عليه)‪ُ (1‬‬

‫ويقول أبو حامد الغزالي ‪ « :‬وفي معنى العوام ‪ :‬الديب والنحوي والمحدث‬
‫والمفسر والفقيه والمتكلم ‪ .‬بل كل عالم سوى المتجردين لتعلم السباحة في‬
‫بحار المعرفة ‪ ،‬القاصرين أعمارهم عليه ‪ ،‬الصارفين وجوههم عن الدنيا‬
‫»‬
‫والشهوات ‪ ،‬المعرضين عن المال والجاه والخلق وسائر اللذات ‪ . . .‬الخ)‪ُ (2‬‬
‫ونقول لبي حامد ‪ :‬هؤلء العارفين الذين تنصبهم أئمة على العلماء ‪ ،‬فيهم‬
‫العامي ‪ ،‬والغبي ‪ ،‬والبائس‬
‫‪ ،‬والذي ضاقت به الدنيا ‪ ،‬والمستهتر ‪ ،‬والمرائي ‪ ،‬والصادق اليمان ‪ ،‬والغاش‬
‫لدينه ‪ .‬فمن من هؤلء‬
‫هو المام ؟ وإذا أخرجت الراسخين في العلم من المامة ‪ ،‬ووضعت بدلهم هؤلء‬
‫العوام – وإن كانوا صادقي اليمان – فماذا تقول في قول الله تعالى ‪ « :‬إنما‬
‫يخشى الله من عباده العلماء»ُ ؟ وعلى رأيك هذا ‪ .‬هل نغلق المدارس‬
‫والجامعات ؟‬

‫إلجام العوام‬ ‫)‪ (1‬ص ‪64-63‬‬


‫)‪ (2‬ص ‪ 74‬إلجام العوام‬
‫)‪ (3‬من سيئات الغزالي أبي حامد ‪ :‬دفاعه عن التصوف‬

‫ويعتقد أبو حامد الغزالي في التأويل ويصرح به ‪ ،‬وهذا يدل على معرفته‬
‫الصحيحة في الله وصفاته ‪ ،‬وتصريحه بالتأويل حسنة من حسناته)‪ (3‬على‬
‫السلم ‪ ،‬يجزيه الله عليها خير الجزاء ‪ .‬يقول – رحمه الله – في قوله تعالى ‪« :‬‬
‫وهو القاهر فوق عباده»ُ وفي قوله تعالى ‪ « :‬يخافون ربهم من فوقهم»ُ ‪ :‬إن‬
‫الفرق على الحقيقة نسبة جسم إلى جسم ‪ .‬بأن يكون أحدهما أعلى والخر‬
‫أسفل ‪ .‬والفرق في المجاز يستعمل في فوقية الرتبة ‪ ،‬مثل ‪ :‬الخليفة فوق‬
‫السلطان ‪ .‬والمعنى حقيقي يدل على جسم ‪ ،‬والمعنى المجازي ينفي الجسمية ‪.‬‬

‫ويقول بعد هذا ما نصه ‪ « :‬فليعتقد المؤمن قطعا ً ‪ :‬أن الول – وهو المعنى‬
‫الحقيقي – غير مراد ‪ ،‬وأنه على الله محال ‪ ،‬فإنه من لوازم الجسام ‪ ،‬أو لوازم‬
‫»)‪ (4‬ويقول أيضا ً – رحمه الله ‪" : -‬تأويل لفظ الفوق بالعلو‬ ‫أعراض الجسام ُ‬
‫المعنوي ‪ ،‬الذي هو المراد بقولنا ‪ :‬السلطان فوق الوزير ‪ .‬فإنا ل نشك في ثبوت‬
‫معناه لله تعالى")‪ (5‬وكتاب " القتصاد في العتقاد" للمام الغزالي ‪ ،‬كتاب‬
‫نفيس ‪ ،‬ككتاب "أساس التقديس" للمام فخر الدين الرازي ‪ .‬وفيه يعظم الله‬
‫وينزهه ‪ .‬ويتأول الخبار الموهمة للجسمية بمعان معنوية تنفي الجسمية ‪ .‬ومن‬
‫كلمه – رحمه الله – " ندعي أن الله تعالى منزه عن أن يوصف بالستقرار على‬
‫العرش ‪ .‬فإن كل متمكن على جسم ‪ ،‬والمستقر عليه ‪ :‬مقدر ل محالة ‪.‬فإنه إما‬
‫أن يكون أكبر منه أو أصغر أو مساويا ً ‪ . . .‬فإن قيل ‪ :‬فما معنى قوله تعالى ‪« :‬‬
‫» وما معنى قوله عليه الصلة والسلم ‪ « :‬ينزل الله‬ ‫الرحمن على العرش استوى ُ‬
‫» ؟ قلنا ‪ :‬الكلم على الظواهر الواردة في هذا الباب‬ ‫كل ليلة إلى السماء الدنيا ُ‬
‫طويل ‪ .‬ولكن نذكر منهجا ً في هذين الظاهرين ‪ ،‬يرشد إلى ما عداه ‪ .‬وهو إنا‬
‫نقول ‪ :‬الناس في هذا فريقان ‪ :‬عوام وعلماء ‪ .‬والذي نراه هو اللئق بعوام‬
‫‪- 149 -‬‬

‫الخلق ‪ :‬هو أن ل يخاض بهم في التأويلت بل ننزع عن عقائدهم كل ما يوجب‬


‫التشبيه ‪ ،‬ويدل على الحدوث ‪ ،‬ونحقق عندهم أنه موجود « ليس كمثله شيء‬
‫» ‪ . . .‬أما العلماء فاللئق بهم تعريف ذلك وتفهمه ز ولست‬‫وهو السميع البصير ُ‬
‫أقول ‪ :‬إن ذلك فرض عين – إذ لم يرد به تكليف – بل التكليف ك هو التنزيه به‬
‫عن كل ما يشبهه بغيره ‪ .‬فأما معاني القرآن ‪ ،‬فلم يكلف العيان فهم جميعها‬
‫أصل ً)‪" (6‬‬

‫)‪ (4‬ص ‪ 66‬إلجام العوام‬


‫) ‪ ( 5‬ص ‪ 75‬إلجام العوام‬
‫)‪ (6‬ص ‪ 53-52‬القتصاد في العتقاد‬

‫والصوفية من المسلمين ز ل نرضى إيمانهم بالتصوف ‪ ،‬وحديثهم عنه ‪ .‬وإنما‬


‫نرضى عن عقيدتهم الصحيحة في ذات الله وصفاته على نحو ما يقوله الشيخ‬
‫عبد الوهاب بن أحمد بن على الشعراني في "لطائف المنن والخلق في وجوب‬
‫التحدث بنعمة الله على الطلق" ‪ :‬في هذا النص ‪" :‬وقد أجمع أهل الحق على‬
‫وجوب تأويل أحاديث الصفات ‪ .‬كحديث "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا" وخالف في‬
‫ذلك الكرامية المجسمة ‪ ،‬والحشوية المشبهة ‪ ،‬فمنعوا تأويلها وحملوها على‬
‫الوجه المستحيل في حقه تعالى من التشبيه والتكيف ‪ ،‬حتى أن بعضهم كان على‬
‫المنبر فنزل درجا ً منه ‪ ،‬وقال ينزل ربكم عن كرسيه إلى سماء الدنيا ‪ ،‬كنزولي‬
‫عن منبري هذا )‪ . (1‬وهذا جهل ليس فوقه جهل ‪ .‬وكل هؤلء محجوجون بالكتاب‬
‫والسنة ودلئل العقول ‪ .‬وإذا تعددت وجوه الحمل ليات الصفات ‪ ،‬وجب الخذ‬
‫بالوجه الراجح عند الشيخ أبي الحسن الشعري ‪ .‬لقوله تعالى ‪ « :‬فاعتبروا يا‬
‫أولي البصار»ُ )الحشر ‪ (2‬ولقوله تعالى ‪ « :‬فبشر عباد ‪ ،‬الذين يستمعون القول‬
‫» )الزمر ‪ (18-17‬وذهب سفيان الثوري والوزاعي وغيرهما إلى‬ ‫فيتبعون أحسنه ُ‬
‫)‪(2‬‬
‫أنه يطرح التشبيه والتكييف ‪ ،‬ويوقف عند تعيين وجه التأويل‬

‫والمام محمد بن أحمد القرطبي ‪ ،‬صاحب الجامع لحكام القرآن ‪ ،‬المتوفى سنة‬
‫» ‪" :‬والكثرون‬
‫‪ 671‬هـ يقول في تفسير قوله تعالى ‪ « :‬ثم استوى على العرش ُ‬
‫من المتقدمين والمتأخرين ‪ :‬أنه إذا وجب تنزيه الباري –‬

‫)‪ (2‬يقصد ابن تيمية كما في رواية ابن بطوطة ‪ .‬وزعم محقق كتاب ابن بطوطة‬
‫أن هذا على سبيل الظن ‪ .‬ودفاعه باطل لن كتب ابن تيمية تصرح بالنزول كل‬
‫ليلة على حسب ظاهر النص ‪ .‬وعلماء زمانه كفروه من أجل هذا ومسائل أخرى‬
‫)‪ (3‬لطائف المنن ص ‪ 392-391‬نشر عالم الفكر بمصر‬

‫سبحانه – عن الجهة والتحيز ‪ ،‬فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللزمة عليه عند عامة‬
‫العلماء المتقدمين ‪ ،‬وقادتهم من المتأخرين ‪ :‬تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة ‪:‬‬
‫فليس بجهة فوق عندهم ‪ ،‬لنه يلزم من ذلك عندهم متي اختص بجهة أن يكون‬
‫في مكان أو حيز ‪ ،‬ويلزم على المكان والحيز ‪ :‬الحركة والسكون للمتحيز ‪،‬‬
‫والتغير والحدوث" ثم يقول – رحمه الله تعالى – "قلت ‪ :‬فعلو الله تعالى‬
‫وارتفاعه ‪ :‬عبارة عن علو مجده وصفاته وملكوته" أ‪.‬هـ‬
‫‪- 150 -‬‬

‫ويقول المام الجليل علي بي أحمد صاحب "الفصل في الملل والهواء والنحل"‬
‫في قول الله تعالى ‪ « :‬ما يكون من نجوى ثلثة ‪ ،‬إل هو رابعهم ول خمسة إل هو‬
‫سادسهم ول أدنى من ذلك ول أكثر إل هو معهم أينما كانوا»ُ ‪ :‬معنى قوله تعالى ‪:‬‬
‫« هو رابعهم»ُ و « هو سادسهم»ُ ‪ " :‬غنما هو فعل فعله فيهم ‪ ،‬وهو أن ربعهم‬
‫بإحاطته بهم ل بذاته وسدسهم بإحاطته ل بذاته وقد يربعهم بملك يشرف عليهم‬
‫ويسدسهم كذلك ‪ .‬وبرهان هذا القول ‪ :‬إن الله تبارك وتعالى إنما عنى بهذه الية‬
‫بل خلف بل بضرورة العقل من كل سامع أل تخفى عليه نجواهم ‪ .‬وهذا معنى‬
‫الية ‪ .‬لنه تعالى افتتحها بذكر نجوى المتناجين ‪ ،‬وإنما أراد عز وجل علمه‬
‫بنجواهم ‪ .‬ل أنه معدود معهم بذاته إلى ذواتهم حاش لله مـن ذلك إذ من المحال‬
‫الممتنع الخارج عن رتبة العداد والمعدودين إن يكون الله عز وجل معدودا ً بذاته‬
‫مع ثلثة بالهند ومع ثلثة بالسند ومع ثلثة بالعراق ومع ثلثة بالصين ن في وقت‬
‫واحد ‪ ،‬لنه لو كان ذلك لكان الذين هو رابعهم بالهند ومع ثلثة بالسند ومع ثلثة‬
‫بالعراق ومع ثلثة بالصين في وقت واحد ‪ .‬لنه لو كان ذلك لكان الذين هو‬
‫رابعهم بالهند مع الثلثة الذين هو رابعهم بالصين ثمانية كلهم لنهم أربعة وأربعة ‪.‬‬
‫بل شك ‪ .‬فكان تعالى حينئذ يكون اثنين وأكثر وهذا محال ‪ .‬وكذلك إذا كان بذاته‬
‫سادسا ً لخمسة ههنا فهم ستة ورابعا ً لثلثة هنالك فهم أربعة ‪ .‬فهم كلهم بل شك‬
‫عشرة ‪ .‬فهو لذن اثنان ‪ .‬وكذلك قوله تعالى في الية نفسها « إل هو معهم أينما‬
‫» إنما أضاف تعالى الينية إليهم ل إلى نفسه تعالى ‪ .‬معناه ‪ :‬أينما كانوا فهو‬‫كانوا ُ‬
‫تعالى معهم بإحاطته ‪ .‬ومحال أن يكون بذاته في مكانين‪.‬‬

‫***‬

‫والمجسمون بل كيف ‪ ،‬يسخرون من الذين ينزهون الله – عز وجل – عن المكان‬


‫الحسي والجهة ‪ ،‬ويصفونهم بأنهم مجانين ‪ .‬فعلى بن أبي العز الذرعي يقول في‬
‫شرحه على أصول العقيدة السلمية لحمد بن سلمة الطحاوي ‪" :‬وأما من‬
‫حرف كلم الله ‪ ،‬وجعل العرش عبارة عن الملك ‪ ،‬كيف يصنع بقوله تعالى ‪« :‬‬
‫ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية »ُ ؟ وبقوله تعالى ‪ « :‬وكان عرشه على‬
‫الماء»ُ ؟ أيقول ‪ :‬ويحمل ملكه يومئذ ثمانية – وكان ملكه على الماء – ويكون‬
‫موسى ‪ -‬عليه السلم – آخذا بقائمة من قوائم الملك ؟ هل يقول هذا عاقل يدري‬
‫ما يقول)‪ " (1‬يريد أن يقول ‪ :‬إن العرش على الحقيقة هو الكرسي ‪ .‬ويستعمل‬
‫مجازا ً للدللة على الملك والعظمة ‪ .‬ويقول ‪ :‬إن حمله على الحقيقة في حق الله‬
‫هو الصواب لن العرش كان مستقرا ً بالله على الماء ‪ ،‬من قبل أن يخلق الله‬
‫الرض والسماء ‪ .‬أليس هذا هو التجسيم بعينه أيها السفيه ؟ إن معنى « وكان‬
‫عرشه على الماء »ُ )هود ‪ (7‬ل يريد به كرسيا ً حسيا ً ول ملكا ً ‪ ،‬وإنما يبين كيف‬
‫كان الحال قبل خلق الرض والسماوات ‪ .‬يريد أن يقول ‪ :‬قبل خلق الرض‬
‫والسموات لم يكن إل الماء ‪ .‬والماء كان على متن الريح – كما جاء عن ابن‬
‫عباس رضي الله عنهما – والدليل على ذلك ‪ :‬أنه بعد خلق الرض والسماوات ‪،‬‬
‫استوى على العرش ‪ .‬فإذا كان هو مستويا ً قبل الخلق على عرش فوق الماء ‪،‬‬
‫فما فائدة أن يستوي على هذا العرش نفسه بعد الخلق ؟‬

‫)‪ (1‬أصول العقيدة السلمية ‪ ،‬طبعة دار الوفاء بالمنصورة‬

‫قال تعالى ‪ « :‬إن ربكم الله الذي خلق السموات والرض في ستة أيام ‪ ،‬ثم‬
‫» )العراف ‪(54‬‬ ‫استوى على العرش ُ‬
‫‪- 151 -‬‬

‫ومعنى « ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية»ُ )الحاقة ‪ (17‬إذا فسرته على‬
‫ظاهره ‪ ،‬يكـون الله محتاجا ً إلى الكرسي ‪ ،‬والكرسي محتاج إلى الثمانية ‪،‬‬
‫والكرسي مخلوق ومحتاج ‪ ،‬والثمانية مخلوقون ومحتاجون ‪ .‬فهل يعقل أحد أن‬
‫يكون الخالق محتاجا ً إلى المخلوقين ؟ إن المعنى المراد من النص الكريم ‪ :‬هو‬
‫أن الله تعالى يقرب ذاته إلى عقول البشر ‪ ،‬حسبما يألفون في حياتهم من‬
‫عادات الملوك ‪ ،‬وحسبما يفهمون باللغة التي يتخاطبون بها ‪ .‬فعبر عن نفسه‬
‫كملك ‪ ،‬أما هو فليس كمثله شيء ‪.‬‬

‫ومعنى أن موسى – عليه السلم – يأخذ بقائمة من قوائم العرش ‪ ،‬كالمعنى من‬
‫حديث الوعال الذي فيه ‪ « :‬إن فوق السماء السابعة ثمانية أوعال ‪ ،‬بين‬
‫أظلفهن وركبهن ‪ ،‬مثل ما بين سماء إلى سماء ‪ ،‬وفوق ظهورهن العرش»ُ وفي‬
‫رواية ‪" :‬إن حملة العرش ثمانية أملك على صورة الوعال ‪ ،‬ما بين أظلفها إلى‬
‫ركبها مسيرة سبعين عاما ً ‪ ،‬للطائر المسرع" وهذه الحاديث مروية بطريق الحاد‬
‫‪ .‬وهى ل تثبت عقائد غيبية ‪ .‬وإذا قلنا بأنها تثبت عقائد ‪ ،‬فإنها تؤول إلى معنى‬
‫ينفي التجسيم عن الله عز وجل ‪ ،‬كما وضح الشيخ الغزالي أبو حامد ‪ .‬والقرطبي‬
‫المفسر يؤولها بقوله ‪" :‬إضافة العرش إلى الله تعالى ‪ ،‬كإضافة البيت ‪ ،‬وليس‬
‫البيت للكنى ‪ .‬فكذلك العرش"‬

‫الحقيقة والمجاز في أخبار صفات‬


‫الله تعالى في أسفار التوراة‬

‫وكلم المام فخر الدين الرازي – أنعم الله عليه – شبيه بكلم المسيح عيسى بن‬
‫مريم عليه السلم – في ذات الله تعالى وصفاته – والمسيح نبي عظيم – فقد‬
‫حكى برنابا في إنجيله ‪ :‬أن الرومان لما رأوا معجزات المسيح ظنوا أنه الله أو‬
‫ابن الله ‪ ،‬وأثاروا شغبا ً في بلد فلسطين ‪ .‬ومن أجل ذلك تقدم إليه رئيس علماء‬
‫بني إسرائيل والولي وهيرودس ليزيل الفتنة التي ثارت بسببه ‪ ،‬وتوسلوا إليه أن‬
‫يرتقي مكانا ً مرتفعا ً ‪ ،‬ويكلم الشعب تسكينا ً لهم ‪.‬‬

‫النص ‪:‬‬
‫« حينئذ ارتقى يسوع أحد الحجارة الثنى عشر التي أمر يشوع الثنى عشر‬
‫سبطا ‪ ،‬أن يأخذوها من وسط الردن ‪ ،‬عندما عبر إسرائيل من هناك دون أن‬
‫تبتل أحذيتهم وقال بصوت عال ‪ :‬ليصعد كاهننا إلى محل مرتفع حيث يتمكن من‬
‫تحقيق كلمي فصعد من ثم الكاهن إلى هناك ‪ .‬فقال له يسوع بوضوح يتمكن‬
‫كل واحد من سماعه ‪ :‬قد كتب في عهد الله الحي )‪ ، (1‬وميثاقه ‪ :‬أن ليس للهنا‬
‫بداية ‪ ،‬ول يكون له نهاية ‪ .‬أجاب الكاهن ‪ :‬لقد كتب هكذا هناك ‪ .‬فقال يسوع ‪:‬‬
‫إنه كتب هناك ‪ :‬إن إلهنا قد برأ كل شيء‬

‫)‪ (1‬الزبور التسعون – الية الثانية‬

‫بكلمته فقط )‪ . (1‬فأجاب الكاهن ‪ :‬إنه لكذلك ‪ .‬فقال يسوع ‪ :‬إنه مكتوب هناك ‪:‬‬
‫أن الله ل يري )‪ (2‬وأنه محجوب عن عقل النسان ‪ ،‬لنه غير متجسد وغير مركب‬
‫وغير متغير ‪ .‬فقال الكاهن ‪ :‬إنه لكذلك حقا ً ‪ .‬فقال يسوع ‪ :‬إنه مكتوب هناك ‪:‬‬
‫كيف أن سماء السموات ل تسعه )‪ . (3‬لن إلهنا غير محدود ‪ .‬فقال الكاهن ‪ :‬هكذا‬
‫‪- 152 -‬‬

‫قال سليمان النبي يا يسوع ‪ .‬قال يسوع ‪ :‬إنه مكتوب هناك ‪ :‬أن ليس لله حاجة ‪.‬‬
‫لنه ل يأكل ول ينام ول يعتريه نقص ‪ .‬قال الكاهن ‪ :‬إنه لكذلك ‪ .‬قال يسوع ‪ :‬إنه‬
‫مكتوب هناك أن إلهنا في كل مكان ‪ ،‬وأن ل إله سواه ‪ ،‬الذي يضرب ويشفي ‪،‬‬
‫ويفعل كل ما يريد )‪ . (4‬قال الكاهن ‪ :‬هكذا كتب ‪ .‬حينئذ رفع يسوع يديه ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫أيها الرب إلهنا ‪ .‬هذا هو إيماني الذي آتي به إلى دينونتك ‪ ،‬شاهدا ً على كل من‬
‫» )برنابا ‪(17-2 : 95‬‬‫يؤمن بخلف ذلك ُ‬

‫هذا هو كلم بني من أنبياء الله ‪ ،‬ورسول من رسل الله ‪ .‬عن الله وصفاته ‪ ،‬شبيه‬
‫بكلم المام الغزالي أبي حامد ‪ ،‬والمام فخر الدين ‪ .‬فماذا يقول فيه المجسمون‬
‫‪ ،‬والمجسمون بل كيف ؟ وليس هو كلم المسيح وحده ‪ ،‬بل هو كلم النبيين‬
‫والمرسلين من قبله ‪ .‬فإنه – كما هو واضح من النص _ يستشهد على كلمه عن‬
‫الله وصفاته بآيات مكتوبة في التوراة وفي الزبور ‪ ،‬وفي أسفار النبياء – ذكرنا‬
‫مواقعها في التعليقات _‬

‫)‪ (1‬مزمور ‪6 : 33‬‬


‫)‪ (2‬يقول أشعياء ‪" :‬حقا ً أنت إله محتجب يا اله إسرائيل" اشى ‪10 : 45‬‬
‫)‪ (2‬الملوك الول ‪27 : 8‬‬
‫)‪ (4‬التثنية ‪39 : 32‬‬

‫» أي في الصفات‬ ‫وماذا قال المسيح عيسي بن مريم عليه السلم في « يد الله ُ‬


‫الخبرية كاليد والرجل والعين وما شابه ذلك ؟ إنه لما قال لبني إسرائيل ‪ « :‬كل‬
‫شيء يأتي من يد الله»ُ )بر ‪ (7 : 104‬قال له تلميذ من تلميذه ‪ ،‬اسمه "متى" ‪:‬‬
‫"يا معلم ‪ .‬إنك قد اعترفت أمام اليهودية كلها ‪ .‬بأن ليس لله من شبه كالبشر ‪.‬‬
‫وقلت الن ‪ :‬إن النسان ينال من يد الله ‪ .‬فإذا كان لله يدان ن فله إذن شبه‬
‫بالبشر ؟ أجاب يسوع ك إنك لفي ضلل يا متى ‪ .‬ولقد ضل كثيرون هكذا ن إذ لم‬
‫يفقهوا معنى الكلم ‪ .‬لنه ل يجب على النسان أن يلحظ ظاهره الكلم ‪ ،‬بل‬
‫معناه ‪ .‬إذ الكلم البشري بمثابة ترجمان بيننا وبين الله ‪ .‬أل تعلم أنه لما أراد الله‬
‫أن يكلم آباءنا من جبل سيناء ‪ ،‬صرخ آباؤنا)‪ : (1‬كلمنا أنت يا موسى ‪ ،‬ول يكلمنا‬
‫الله ‪ ،‬لئل نموت ؟ وماذا قال الله على لسان أشعياء النبي)‪ : (2‬أليس كما بعدت‬
‫السموات عن الرض ‪ ،‬هكذا بعدت طرق الله عن طرق الناس ‪ ،‬وأفكار الله عن‬
‫أفكار الناس ؟ إن الله ل يدركه قياس ‪ ،‬إلى حد أني أرتجف من وصفه "‬

‫ويبين المسيح عيسى – عليه السلم – أن الله يعبر عن ذاته بأوصاف البشر ‪،‬‬
‫على سبيل التمثيل والمشاكلة والمقابلة ‪ .‬أما هو – عز وجل – فليس مثل‬
‫البشر ‪ ،‬ول مثل أي شيء ‪ .‬فيقول ك "لعمر الله الذي تقف نفسي في حضرته ‪:‬‬
‫إن الكون أمام الله لصغير )الصغير( ‪ ،‬كحبة رمل ‪ ،‬كحبة رمل ‪ ،‬والله أعظم من‬
‫ذلك بمقدار ما يلزم من حبوب الرمل ‪ ،‬لملء كل السموات والجنة ‪ ،‬بل أكثر ‪.‬‬
‫فانظروا الن ‪ .‬إذا كانت هنالك نسبة بين الله والنسان ‪ ،‬الذي ليس سوى كتلة‬
‫صغيرة من طين ‪ ،‬واقفة على الرض ‪ .‬فانتبهوا إذن ‪،‬‬

‫)‪ (2‬أشعياء ‪9: 55‬‬ ‫)‪ (1‬خروج ‪19 : 20‬‬


‫‪- 153 -‬‬

‫لتأخذوا المعنى ‪ ،‬ل لمجرد الكلم ‪ .‬إذا أردتم أن تنالوا الحياة البدية‪ .‬فأجاب‬
‫التلميذ ك إن الله وحده يقدر أن يعرف نفسه ‪ .‬وأنه حقا ً لكما قال أشعياء)‪(1‬‬
‫النبي «هو محتجب عن الحواس البشرية ُ‬
‫»‬

‫***‬

‫وتبين التوراة أن الله ليس كمثله شيء ‪ ،‬وهذه آيات تدل على ذلك ‪:‬‬
‫‪ « -1‬فاحتفظوا جدا ً لنفسكم ‪ .‬فإنكم لم تروا صورة ما يوم كلمكم الرب في‬
‫حوريب من وسط النار لئل تفسدوا وتعملوا لنفسكم تمثال ً منحوتا ً ز صورة مثال‬
‫» )تثنية ‪(16 – 15 : 4‬‬
‫ما ‪ ،‬شبه ذكر ‪ ،‬أو أنثى ُ‬
‫» )تثنية ‪(26 : 33‬‬
‫‪ « -2‬ليس مثل الله ُ‬
‫» ) ‪ 2‬صم‬
‫‪ « -3‬قد عظمت أيها الرب الله ‪ .‬لنه ليس مثلك ‪ ،‬وليس إله غيرك ُ‬
‫‪( 22 : 7‬‬
‫» ) ‪ 1‬أخ ‪( 20 : 17‬‬
‫‪ « - 4‬يا رب ليس مثلك ‪ ،‬ول إله غيرك ُ‬
‫‪ -5‬يقول أيوب عليه السلم عن الله عز وجل ‪ « :‬لنه ليس هو إنسانا ً مثلي ‪.‬‬
‫فأجاوبه ‪ .‬فنأتي جميعا ً إلى المحاكمة ُ‬
‫» )أي ‪( 32 : 9‬‬
‫‪ - 6‬يقول داوود عليه السلم ‪ « :‬يا ألله ‪ .‬من مثلك»ُ ؟ )مز ‪( 19 : 71‬‬
‫» )مز ‪( 8 : 86‬‬
‫‪ - 7‬ويقول داود ‪ « :‬ل مثل لك بين اللهة يا رب ‪ ،‬ول مثل أعمالك ُ‬
‫» )مز ‪: 89‬‬
‫‪ -8‬وويقول داود ‪ « :‬من في السماء يعادل الرب ؟ من يشبه الرب ؟ ُ‬
‫‪(6‬‬

‫)‪ (1‬أشعياء ‪15 : 45‬‬

‫‪ -9‬ويقول داود ‪ « :‬ليكن اسم الرب مباركا ً من الن وإلى البد ‪ .‬من مشرق‬
‫الشمس إلى مغربها ‪ :‬اسم الرب مسبح ‪ .‬الرب عال فوق كل المم ‪ .‬فوق‬
‫السموات مجده ‪ .‬من مثل الرب إلهنا ؟ الساكن في العالي ‪ ،‬الناظر السافل‬
‫في السموات وفي الرض ‪ .‬المقيم المسكين من التراب الرافع البائس من‬
‫المزبلة»ُ )مز ‪( 7 – 2 : 113‬‬
‫‪ « - 10‬فبمن تشبهون الله ؟ وأي شبه تعادلون به ؟»ُ )اش ‪(18 : 40‬‬
‫‪ « -11‬هكذا يقول الرب ملك إسرائيل وفاديه رب الجنود ‪ :‬أنا الول وأنا الخر ‪،‬‬
‫ول إله غيري ‪ .‬ومن مثلي؟»ُ ) لش ‪( 7 – 6 : 44‬‬
‫‪ -12‬يقول الله لبني إسرائيل ‪ « :‬بمن تشبهونني وتسوونني لنتشابه ؟»ُ )أش ‪46‬‬
‫‪(5:‬‬
‫‪ « -13‬اذكروا الولويات منذ القديم ‪ .‬لني أنا الله وليس آخر ‪ .‬الله وليس مثلي ُ‬
‫»‬
‫) أش ‪(9 : 46‬‬
‫‪" - 14‬ل مثل لك يا رب ‪ .‬عظيم أنت ‪ ،‬وعظيم اسمك فبي الجبروت ز من ل‬
‫يخافك يا ملك الشعوب ؟ لنه بك يليق ‪ .‬لنه في جميع حكماء الشعوب وفي كل‬
‫)إر ‪( 7 – 6 : 10‬‬ ‫ممالكهم ليس مثلك "‬
‫‪ « - 15‬لنه من مثلي»ُ )إر ‪( 19 : 49‬‬
‫‪- 154 -‬‬

‫‪ « - 16‬لنه من مثلي»ُ )إر ‪(44 : 50‬‬

‫لقد ذكرت ستة عشر نصا ً من نصوص التوراة وأسفار النبياء على أن الله ليس‬
‫كمثله شيء ‪ .‬والذين كتبوا من المسلمين في الله وصفاته طبقا ً لنصوص‬
‫التوراة ‪ .‬انقسموا إلى فريقين ‪ .‬فريق يرى ‪ :‬أن التوراة تجسم الله عز وجل ‪.‬‬
‫لن فيها نصوص يدل ظاهرها على التجسيم ‪ ،‬وهؤلء غفلوا عن نصوص مشابهة‬
‫لها قي القرآن ‪ ،‬مثل ‪ :‬مكر الله وغضبه ومجيئه ‪ ،‬وقوله « فليعلمن»ُ وما شابه‬
‫ذلك ‪ .‬وغفلوا أيضا عن نصوص التنزيه فيها ‪ ،‬النصوص التي أوردناها منها هنا ستة‬
‫عشر نصا ً ‪ .‬وفريق يرى أن التوراة تنفي التجسيم – وقولهم هو الصحيح – لن‬
‫نصوص التنزيه فيها محكمة ل تحتمل غير نفي التشبيه والتمثيل ‪.‬‬

‫وقد عمل الشيخ رحمت الله الهندي في "إظهار الحق" فصل ً عن المحكم‬
‫والمتشابه ‪ .‬وذكر من نصوص التوراة آيتين يدلن على التنزيه ‪.‬‬
‫وقد سخر الشيخ ابن حزم الندلسي من علماء اليهود الذين لم يفطنوا إلى‬
‫اليات التي تنفي المثل والنظير ‪ ،‬في كتابه « الفصل في الملل والهواء‬
‫والنحل ُ‬
‫»‬

‫***‬

‫وعلماء بني إسرائيل ينفون التجسيم المطلق والتجسيم بل كيف ‪ ،‬عن الله ‪،‬‬
‫ويصرحون بالتنزيه ‪ .‬ومن هؤلء ‪ :‬أنقولوس المتهود ‪ ،‬ويوناتان بن عازيلئيل ‪،‬‬
‫وسيبنوزا ‪ ،‬وابن كمونة ‪ ،‬وموسى بن ميمون ‪ .‬يقول ابن ميمون المتوفى سنة‬
‫‪ 602‬هـ في "دللة الحائرين" ‪ :‬إن التوراة تكلمت عن الله بلسان بني آدم – أي‬
‫وصفته بصفات البشر ليفهم بنو آدم – وأن معتقد التجسيم لم يدعه إلى التجسيم‬
‫نظر عقلي ‪ ،‬بل تبع ظواهر نصوص الكتب )فصل ‪ (53‬ويقول ابن ميمون ‪ :‬إن‬
‫كل ما يؤدي إلى الجسمانية ‪ ،‬أو ما يؤدي لنفعال وتغير ‪ ،‬أو ما يؤدي لعدم – مثل‬
‫أن ل يكون له شيء بالفعل ثم يصير بالفعل – أو ما يؤدي لشبه شيء من‬
‫مخلوقاته ‪ .‬يلزم نفيه عن الله بالبرهان الواضح ‪.‬‬

‫وقد صرح في كتب النبياء بنفي التشبيه ‪ .‬فقال ‪ :‬؟ فبمن تشبهونني فأساويه"‬
‫)أش ‪ ( 25 : 40‬وقال ‪" :‬فبمن تشبهون الله ‪ ،‬وأي شبه تعادلونه به" ؟ )أش‬
‫‪ ( 18 : 40‬وقال ‪" :‬إنه ل نظير لك يا رب " )إر ‪ ( 60 : 10‬وهذا كثير )فصل ‪(55‬‬

‫وأي فرق بيننا نحن المسلمين ‪ ،‬وبين اليهود ‪ .‬إذا كنا جميعا ً متفقين على ‪-1 :‬‬
‫التوحيد ‪ -2‬وعلى التنزيه ؟ ل فرق بين المسلمين وبين اليهود في توحيد الله‬
‫عز وجل وفي تنزيهه عن المشابهة للحوادث ‪ .‬لن اليهودي يؤمن بالله الذي‬
‫يؤمن به المسلم ‪ ،‬ويؤمن باليوم الخر الذي يؤمن به المسلم ‪ ،‬وإنما الفرق بين‬
‫المسلمين وبين اليهود هو أن اليهود قالوا سنتقرب إلى الله بشريعة موسى عليه‬
‫السلم ‪ -‬وهي التوراة ‪ -‬ولن نتقرب إليه بشريعة محمد نبي المسلمين ‪ ،‬لننا‬
‫لسنا متأكدين من نبوته ‪ .‬وأن المسلمين قالوا ‪ :‬نحن نؤمن بنبوة موسى – عليه‬
‫السلم – ولكن لن نتقرب إلى الله بشريعة موسى ‪ .‬لن نبوة محمد ‪: ε‬قد ثبتت‬
‫عندنا ‪ ،‬وقد أمرنا الله – على لسانه أن ل نعمل بشريعة موسى ‪ .‬فالخلف بين‬
‫المسلمين وبين اليهود هو في الشريعة وليس في التوحيد وفي التنزيه ‪ .‬فقد قال‬
‫تعالى ‪ :‬قل ‪ :‬يا أهل الكتاب ‪ .‬تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ‪ :‬أل نعبد إل‬
‫‪- 155 -‬‬

‫الله ‪ ،‬ول نشرك به شيئا ً ‪ ،‬ول يتخذ بعضنا بعضا ً أربابا ً من دون الله ‪ .‬فإن تولوا‬
‫فقولوا ‪ :‬اشهدوا بأنا مسلمون" )آل عمران ‪(64‬‬
‫وقد شهد القرآن بأن اليهود يكفرون بآيات الله ‪ ،‬ول يكفرون بالله ‪ .‬قي قوله‬
‫» )آل عمران‬‫تعالى ‪ « :‬يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ‪ ،‬وأنتم تشهدون ؟ ُ‬
‫‪ (70‬أي تكفرون بالقرآن ودلئل نبوة الرسول « وأنتم تشهدون»ُ نعته في‬
‫الكتابين ‪ ،‬أي في التوراة وفي النجيل ‪ .‬وفي تفسير القرطبي ‪ « :‬وأنتم تشهدون‬
‫»ُ "بمثلها من آيات النبياء التي أنتم مقرون بها "‬

‫***‬

‫أما عن اسم الله ‪ ،‬عز وجل في كتاب التوراة ‪ ،‬فهو « يهوه»ُ وهو الذي يقابل‬
‫كلمة « الله »ُ في القرآن الكريم ‪ .‬ويطيب أحيانا ً « أهوه»ُ وعلماء بني إسرائيل‬
‫يخافون من كتابته ‪ ،‬ككلمة متصلة الحروف ‪ ،‬من هيبتهم لله وخشيتهم منه ‪ .‬ومن‬
‫أجل خوفهم يكتبونه بحروف متقطعة ‪ .‬هكذا ك ياء – هاء – واو – هاء ‪ .‬وهذا‬
‫السم هو الذي نطق به الله عن نفسه أمام موسى عليه السلم ‪ ،‬فإن الله تعالى‬
‫»‪،‬‬
‫لما قال ‪ « :‬هلم فأرسلك إلى فرعون ‪ ،‬ونخرج شعبي بني إسرائيل من مصر ُ‬
‫قال به موسى ‪ « :‬ها أنا آتي إلى بني إسرائيل ‪ ،‬وأقول لهم ‪ :‬إله آبائكم أرسلني‬
‫إليكم ‪ .‬فإذا قالوا لي ‪ :‬ما اسمه ؟ فماذا أقول لهم ؟ فقال الله لموسى ‪ :‬أهيه‬
‫الذي أهية ‪ .‬وقال ‪ :‬هكذا تقول لبني إسرائيل ‪ :‬أهيه أرسلني إليكم ‪ .‬وقال الله‬
‫أيضا ً لموسى ‪ :‬هكذا تقول لبني إسرائيل ‪ :‬أهيه أرسلني إليكم ‪ .‬وقال الله أيضا ً‬
‫» ) خر ‪( 15-10 : 3‬‬ ‫لموسى ‪ :‬وإله يعقوب ‪ .‬أرسلني إليكم ُ‬

‫« وأهية الذي أهية »ُ معناه ك أنا الكائن ‪ .‬والكائن اسم مشتق من هيه ‪ ،‬وهيه‬
‫معناها ‪:‬كان ‪ .‬والسر في تكرير « أهيه»ُ مرتين ‪ :‬انه يريد أن يبين لهم ‪ :‬إن‬
‫الموصوف هو الصفة بعينها ‪ ،‬أي الله ‪ .‬وصفاته كشيء واحد‪ .‬فكأنه يريد أن يقول‬
‫‪ :‬أنا الموجود الذي هو الموجود ‪ ،‬أو الموجود الذي هو واجب الوجود‪.‬‬

‫وأسماء الله الحسنى ‪ ،‬غير اسم الله ‪ ،‬تدل على أسماء من صفات ‪ ،‬فيها‬
‫اشتراك بين الله الخالق وبين المخلوقين ‪ ،‬ولكنها في « الله »ُ أكمل منها في‬
‫المخلوقين ‪ ،‬فالرحيم وهو اسم من أسماء الله الحسنى قد يطلق على غير الله ‪.‬‬
‫فيقال رجل رحيم ‪ .‬ويلق على الله دللة على أنه الكامل في الرحمة ‪ .‬ومن‬
‫» اسم «‬ ‫أسماء الله الحسنى عند بني إسرائيل ‪ ،‬وهو السم الثاني بعد « يهوه ُ‬
‫أدوناي»ُ ويترجم في اللغة العربية بالرب ‪ .‬ففي يهوه توحيد اللوهية ‪ ،‬وفي‬
‫أدوناي توحيد الربوبية ‪ .‬والفرق بينهما ‪ :‬أن يهوه علم على الذات اللهية ول يسم‬
‫به غيره ‪ ،‬وأن أدوناي يطلق على الرب عز وجل ‪ ،‬ويطلق على السيد العظيم‬
‫أيضا ً ‪ .‬بقول موسى بن ميمون ‪ « :‬جميع أسمائه تعالى الموجودة في الكتب كلها‬
‫مشتقة من الفعال ‪ .‬وهذا ما ل خفاء به إل اسم واحد ‪ ،‬وهو ‪ :‬الياء والهاء والواو‬
‫والهاء )يهوه( فإنه اسم مرتجل له – تعالى – ولذلك سمي السم العظم ‪.‬‬
‫ومعناه ‪ :‬أنه يدل على ذاته – تعالى – دللة بينة ‪ ،‬ل اشتراك فيها ‪ .‬أما سائر‬
‫أسمائه المعظمة ‪ ،‬فتدل باشتراك ‪ ،‬لكونها مشتقة من أفعال يوجد مثلها لنا –‬
‫كما بينا – حتى أن السم المكني به عن اللف والدال والنون والياء في )آدني(‬
‫» )تك ‪30: 42‬‬ ‫هو أيضا ً مشتق من السيادة‪ .‬مثل ‪ :‬وقد خاطبنا الرجل سيد الرض ُ‬
‫(‬
‫‪- 156 -‬‬

‫ويقول ابن ميمون ‪ :‬إن اسم يهوه لنه لم يكن معلوما ً عند كل أحد كيف ينطق به‬
‫‪ .‬كان أهل العلم يتناقلون صفة النطق به ‪ ،‬ول يعلمون لحد ‪ ،‬إل لتلميذ مستأهل ‪،‬‬
‫مرة واحدة في السبوع ‪ ،‬وكان لدى أهل العلم اسم معادل ليهوه ‪ ،‬مكون من‬
‫أثنى عشر حرفا ً في أكثر من كلمة ‪ ،‬ما كان ممنوعا ً ول مضنونا ً به على أحد ‪.‬‬
‫ولما صار أقوام سفهاء ‪ ،‬يتعلمون هذا السم ‪ ،‬ذا أل ثنى عشر حرفا ً ‪ ،‬ويجدفون‬
‫به على الله ‪ ،‬اضطر أهل العلم إلى إعطائه للحصفاء فقط ‪ ،‬وإلى كتمانه عن‬
‫العامة ‪ .‬وكان لدى أهل العلم بعد ذلك ‪ :‬اسم معادل ليهوه مكون من اثنين‬
‫وأربعين حرفا ً في أكثر من كلمة ‪ .‬جاء عنه في التلمود ‪ :‬اسم ذو اثنين وأربعين‬
‫حرفا ً ‪ ،‬قدسي ومقدس ‪ ،‬ويعطى فقط للحصيف ‪ ،‬الذي وصل إلى نصف عمره‬
‫وليس عرضة للغضب ول للسكر ول يثير طعنا ً في أخلقه ‪ ،‬ويتكلم مع الناس‬
‫بهدوء ‪ 0‬وكل من يعلمه فهو حريص عليه ويحفظه في طهارة – ومحبوب لمن‬
‫فوقه ‪ ،‬ومحمود لمن دونه ‪ ،‬ومهيب عند الناس ‪ ،‬وتعلمه قائم في يده ‪ .‬وارث‬
‫العالمين ‪ :‬هذا العالم وعالم الخرة " )قد وشيم ‪(171‬‬

‫» يترجم في العبرانية ‪ « :‬شم همفورش»ُوقد دخل «‬ ‫و« السم العظم ُ‬


‫همفورش»ُ في كتب المسلمين عن طريق كتب السحر والطلسمات ودخل في‬
‫الكتب أن لله اسما ً إذا دعي به أجاب ‪ ،‬وإذا سئل به أعطى ‪ .‬هو السم العظم ‪.‬‬
‫» عند بني إسرائيل المعادل لسم «‬
‫وهذا ل أصل له ‪ ،‬فل اسم أعظم إل « يهوه ُ‬
‫الله»ُ عند المسلمين‪.‬‬
‫والله يجيب المضطر إذا دعاه باسمه المتعارف عليه ‪ ،‬ل بما يخفى من أسمائه‬
‫في كتب السحر‪.‬‬

‫وقد ترجمت التوراة إلى اللغة العربية ‪ .‬وفيها أن الخالق للرض وللسموات هو‬
‫» بدل « يهوه»ُ فأول‬‫الله رب العالمين ‪ .‬كما في القرآن الكريم ‪ ،‬ويكتبون « الله ُ‬
‫آيات التوراة نصها ‪ « :‬وفي البدء خلق الله السموات والرض ‪ ،‬وكانت الرض‬
‫خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة ‪ ،‬وريح الله يرف على وجه المياه ‪ .‬وقال‬
‫الله ‪ :‬ليكن نور فكان نور ‪ ،‬ورأى الله النور أنه حسن ‪ ،‬وفصل الله بين النور‬
‫والظلمة ‪) ،‬ورى الله النور أنه حسن وفصل لله بين النور والظلمة( ودعا الله‬
‫النور نهارا ً ‪ ،‬والظلمة دعاها ليل ‪ ،‬وكان صباح يوما ً واحدا ًً»ُ )تك ‪(5- :1‬‬
‫وقد ترجم الزبور إلى اللغة العربية ‪ .‬وفيه يتحدث داود عليه السلم عن الله عز‬
‫وجل باسم الله ‪ ،‬ل باسم يهوه ‪ ،‬فيقول ‪ « :‬إن فاحص القلوب والكلى ‪ :‬الله البار‬
‫» )مز ‪(11-9 : 7‬‬ ‫‪ .‬ترسي عند الله ‪ ،‬مخلص مستقيمي القلوب ‪ .‬الله قاض عادل ُ‬
‫وقد ترجم النجيل غلى اللغة العربية ‪ .‬وفيه يتحدث عيسى عليه السلم عن الله‬
‫عز وجل باسم الله ‪ ،‬ل باسم يهوه ‪ .‬فيقول لتلميذه « تأتي ساعة فيها يظن من‬
‫يقتلكم أنه يقدم خدمة لله»ُ )يو ‪(2 : 16‬‬

‫***‬

‫ولن المام فخر الدين صرح في « أساس التقديس»ُ بما نصه ‪:‬‬
‫« إن اليهود كانوا على دين التشبيه ‪ ،‬وكانوا يجوزون المجيء والذهاب على الله‬
‫– تعالى – وكانوا يقولون ‪ :‬إنه – تعالى‪ -‬تجلى لموسى – عليه السلم – على‬
‫"الطور" في ظل الغمام ‪ ،‬فظنوا مثل ذلك في زمن محمد – عليه السلم –‬
‫ومعلوم أن مذهبهم ليس بحجة »ُ‬
‫‪- 157 -‬‬

‫لنه صرح بذلك ‪ ،‬رأيت أن أورد هنا كلمات من التوراة ‪ :‬كلمات ‪ ،‬استعملت على‬
‫الحقيقة تارة ‪ ،‬واستعملت على المجاز تارة أخرى ‪ ،‬لبين له ‪ .‬أن الحقيقة‬
‫والمجاز موجودان عند بني إسرائيل ‪ ،‬في كتبهم المقدسة لديهم ‪ ،‬وأن التأويل‬
‫الذي يؤمن به قد سبقه إليه غيره قبل ولدته ‪ .‬وسأورد هذه الكلمات على النحو‬
‫الذي صرح به الشيخ الغزالي أبو حامد في هذا النص ‪:‬‬
‫يقول الشيخ الغزالي في معنى ‪ « :‬ينزل الله ‪ -‬تعالى – كل ليلة إلى السماء‬
‫الدنيا ‪ .‬فيقول ‪ :‬هل من داع فاستجيب له ؟ هل من مستغفر ‪ ،‬فاغفر له ؟ »ُ ‪:‬‬
‫هذا الحديث سبق لنهاية الترغيب في قيام الليل ‪ .‬وليس فيه إل إيهام لفظ‬
‫النزول عند الصبي ‪ ،‬والعامي – الجاري مجرى الصبي – ومن السهل على العالم‬
‫أن يقنع العامي أن النزول ليس على حقيقته ‪ .‬بأن يقول له مثل ً ‪ :‬إن كان نزول‬
‫الله إلى السماء الدنيا ‪ ،‬ليسمعنا نداءه ‪ ،‬فما أسمعنا ‪ .‬فأي فائدة في نزوله ؟ ولو‬
‫كان يريد أن يسمعنا نداءه ‪ ،‬فهو قادر على أن يسمعنا إياه وهو على العرش ‪،‬‬
‫فلماذا ينزل ؟ فيفهم العامي ‪ :‬أن ظاهر النزول باطل ‪ ،‬ويتيقن نفي صورة‬
‫النزول")‪.(1‬‬

‫وهذه الكلمات هي التي محل نظر وجدل وأخذ ورد بين شراح التوراة ‪ .‬وقد‬
‫ً‬
‫رفعت بعضها من ههنا ‪ ،‬ووضعته في التعليقات ‪ .‬فعلى من يريد البحث كامل أن‬
‫ينقل الكلمات التي وضعتها في التعليقات إلى ههنا ‪ .‬ويخيل إلى أن من يقرأ ما‬
‫كتبته في تأويل الكلمات ‪ ،‬ثم يقرأ كتاب موسى بي ميممون ‪ ،‬المسمى بدللة‬
‫الحائرين ‪ ،‬لن يجد صعوبة في فهم كلم ابن ميمون ‪.‬‬
‫اجتاز – وعبر ‪:‬‬
‫في التوراة هذا النص ‪ « :‬نزل الرب في السحاب ‪ .‬فوقف عنده هناك ‪ ،‬ونادى‬
‫باسم الرب ‪ .‬فاجتاز الرب قدامه ‪ .‬ونادى ‪ :‬الرب الرب ‪ .‬إله رحيم ورؤوف ‪،‬‬
‫بطيء الغضب وكثير الحسان والوفاء ‪ ،‬حافظ الحسان إلى ألوف ‪ ،‬غافر‬
‫الثم ‪ . . .‬الخ »ُ )خر ‪(7-5 : 34‬‬
‫» وتترجم « عبر»ُ وعبر على الحقيقة تدل على‬ ‫في هذا النص كلمة « اجتاز ُ‬
‫انتقال جسم من مكان إلى مكان ‪ .‬وعلى المجاز تدل على المعاني التالية ‪:‬‬
‫‪ -1‬امتداد الصوات في الهواء ‪ .‬مثل ‪ « :‬اسمع إنكم تبعثون شعب الرب على‬
‫المعصية»ُ )‪1‬ضم ‪(34 :2‬‬
‫‪ -2‬حلول نور يراه النبياء في مرأى النبوة في حلم الليل ‪ .‬ومثاله ‪ :‬أن إبراهيم‬
‫عليه السلم وقع عليه سبات « وإذا وإذا رعبة مظلمة عظيمة واقعة عليه»ُ وفي‬
‫» )تك ‪: 15‬‬‫الحلم أثناء الظلمة « إذ تنور دخان ومصباح نار ‪ ،‬يجوز بين تلك القطع ُ‬
‫‪ ( 17‬ومثله ‪ « :‬وأنا أجتاز في أرض مصر»ُ )خر ‪( 12 – 12‬‬

‫)‪ (1‬أنظر ‪ :‬لجام العوام وانظر القتصاد في العتقاد وانظر نفخ الروح والتسوية‬

‫‪ -2‬وتستعمل عبر مجازا ً لمن ترك قصدا ً ‪ ،‬وقصد غيره ‪ .‬مثل « عرض له عارض»ُ‬
‫)‪1‬صم ‪(36 : 20‬‬
‫والمعنى المجازي الثالث هو المراد ‪ .‬عند موسى بن ميمون ‪ ،‬في تفسير « اجتاز‬
‫الرب قدامه»ُ ويشرحه هكذا ‪ :‬إن الهاء في قدامه تعود إلى الله تعالى ‪ .‬وأن‬
‫موسى – عليه السلم – طلب إدراك وجه الله ‪ ،‬فوعده الله برؤية الوراء ‪ .‬أي أن‬
‫الله تعالى حجب عنه إدراك الوجه وتجاوزه لمعنى الوراء ‪ .‬والدليل على أن‬
‫‪- 158 -‬‬

‫موسى عليه السلم طلب رؤية الوجه ‪ :‬أن الله تعالى قال له ‪ « :‬وجهي ل يرى ُ‬
‫»‬
‫)خر ‪ (23 : 33‬والدليل على أن الله تعالى وعده برؤية الوراء ‪ :‬أن الله تعالى‬
‫قال له ‪ « :‬فتنظر قفاي»ُ )خر ‪. (23 : 33‬‬

‫هذا تفسيره ‪ .‬وهو تفسير بعيد ‪ .‬لن الهاء في قدامه تعود إلى موسى ول تعود‬
‫إلى الله ‪ .‬وما جاء في الترجوم هو أحسن من تفسير ابن ميمون ‪ .‬لن الترجوم‬
‫إذا وجد أمرا ً منسوبا ً غلى الله تعالى يلحقه منه تجسيم أو لواحق تجسيم ‪ ،‬فإنه‬
‫يقدره بحذف المضاف ‪ ،‬أي يجعل تلك النسبة لمر ما ‪ ،‬مضاف لله ‪ ،‬محذوف ‪.‬‬
‫فيقول في « فاجتاز الرب قدامه» ُ‪ :‬إن الرب قد جعل سكينته تعبر قدامه ‪.‬‬
‫فالذي عبر واجتاز – على حسب الترجوم – هو السكينة ‪ :‬ومعنى « قدامه»ُ –‬
‫على رأي الترجوم – أي بمحضره ‪ .‬والسكينة عنده جسم ‪ ،‬ل بمعنى اطمئنان‬
‫القلب ‪.‬‬

‫و « انقولوس المتهود»ُ يقدر المحذوف – في الترجوم – المجد ‪ ،‬والسكينة ‪،‬‬


‫القول ‪ .‬بحسب كل موقع ‪ .‬ورأي انقولوس هذا في الكتب السلمية ‪ ،‬فإن فيها‬
‫من يفسر « وجاء ربك والملك صفا ً صفا ً»ُ بقوله جاء أمر ربك ‪ .‬وموسى بن‬
‫ميمون يقول عن تأويله ‪ :‬إنه جيد مستحسن ‪ ،‬ويقول ‪ :‬من الممكن أن نقدر‬
‫المحذوف بكلمة الصوت بدل المجد والسكينة والقول ‪ .‬ويكون التقدير ‪ .‬وعبر‬
‫صوت الربمن أمامه ونادى ‪ .‬أو ‪ :‬وعبر صوت من قبل الله بمحضره ‪ ،‬فنادى ‪:‬‬
‫الله الله ‪ .‬ويكون تكرير الله للنداء‪ .‬لنه تعالى المنادى – بفتح الدال – مثل ‪:‬‬
‫موسى موسى ‪ ،‬إبراهيم إبراهيم ‪ .‬وخلصة الكلم‪:‬‬
‫‪ -1‬أن مرأى النبوة مثل الحلم ففيه إدراكات عقلية ل وجود لها في الخارج ‪.‬‬
‫‪ -2‬أنه أدرك في اليقظة مخلوقا ً بحس البصر هو المجد أو السكينة أو القول ‪.‬‬
‫يساعد على كمال الدراك العقلي ‪.‬‬
‫‪ - 3‬أو يكون الصوت هو الذي مر قدامه في اليقظة ‪.‬‬
‫وقد أجهد ابن ميمون نفسه ‪ ،‬هو و أنقولوس في التأويل ‪ .‬ولو أنهما قال – على‬
‫فرض صحة النص – أن الله يكلم البشر على قدر عقولهم ‪ ،‬أما هو فليس كمثله‬
‫شيء ‪ ،‬لكان هذا القول مغنيا ً عن التأويل ‪ .‬والتلمود قد ذكر قولنا هذا في‬
‫)بياموت ‪ 71‬أ ( وهو قولهم ‪ « :‬عبرت عنها التوراة بلسان بني آدم»ُ ومعناه ‪ :‬أن‬
‫كل ما يمكن للناس أجمعين ‪ ،‬فهمه وتصوره ‪ ،‬بأول فكرة على نحو الكمال ‪ ،‬هو‬
‫الذي يجب لله تعالى ‪ .‬ولذلك وصف بأوصاف تدل على الجسمانية لتدل على أنه‬
‫تعالى موجود ‪ .‬إذ ل يدرك الجمهور بأول وهلة إل وجودا ً للجسم خاصة ‪ ،‬وما ليس‬
‫بجسم أو موجود في جسم فليس هو موجودا ً عندهم ‪ .‬ويقول ابن ميمون بعد ما‬
‫ذكر ما قدمنا خلصته عن التلمود ‪ :‬إنه مع ارتفاع الجسمانية عن الله ‪ ،‬يرتفع‬
‫ظاهر النص في نزل – صعد – سار – انتصب – وقف – دار – جلس – سكن –‬
‫خرج – جاء – عبر ‪ ،‬وما شابه ذلك‪.‬‬

‫جاء ‪ :‬تستعمل )نستعمل( على الحقيقة في إقبال الحيوان على موضع ما ‪.‬‬
‫وتستعمل مجازا ً في حلول المر الذي ليس بجسم أصل ً ‪ .‬مثل « مما هو آت‬
‫عليك»ُ )أش ‪ ( 15 : 47‬وعلى هذا المعنى المجازي تستعمل كلمة جاء في حق‬
‫الله تعالى ‪ .‬إما لحلول أمره ‪ ،‬أو لحلول سكينته ‪ .‬مثل ‪ « :‬ها أنا آت إليك في‬
‫» )خر ‪( 6 : 19‬‬
‫ظلمة الغمام ُ‬
‫أي تحل سكينته ‪ .‬ومثل ‪ « :‬ويأتي الرب إلهي ‪ ،‬وجميع القديسين معك»ُ )ز ك‬
‫‪( 5 : 14‬‬
‫‪- 159 -‬‬

‫أي يحل أمره وثبات مواعيده التي وعد بها على يد أنبيائه ‪.‬‬

‫الخروج ‪:‬‬
‫على الحقيقة يستعمل في خروج جسم من موضع كان مستقرا ً فيه لموضع‬
‫آخر ‪ .‬وعلى المجاز يستعمل في ظهور أمر مستوي ليس بجسم أصل ً مثل ‪« :‬‬
‫خرجت الكلمة من فم الملك»ُ ) أ س ‪ ( 8 : 7‬وهذا يعني نفاذ المر ‪ .‬وعلى‬
‫المجاز تفسر كلمة ) هو الرب يخرج من مكانه»ُ )أ ش ‪ ( 21 : 26‬أي يظهر أمره‬
‫المستور الن عنا ‪ .‬أعني ‪ :‬حدوث ما يحدث بعد أن لم يكن ‪ .‬إذ كل حادث من‬
‫قبله تعالى ينسب لمره ‪ .‬مثل ‪ « :‬بكلمة الرب صنعت السموات ‪ ،‬وبروح فيه ‪.‬‬
‫كل جنودها»ُ )مز ‪ ( 6 : 22‬تشبيها ً بالفعال الصادرة عن الملوك التي آلتهم في‬
‫تنفيذ إرادتهم ‪ :‬الكلم ‪ .‬وهو تعالى غير مفتقر للة يفعل بها ‪ ،‬بل فعل بمجرد‬
‫إرادته فقط ‪ .‬فل كلم أيضا ً بوجه ‪ ،‬ولما استعير لظهور فعل من أفعاله ‪:‬‬
‫الخروج ‪ ،‬استعير الرجوع لرتفاع ذلك الفعل بحسب الرادة أيضا ً ‪ .‬مثل ‪« :‬‬
‫» ) هو ‪ ( 15 : 5‬أي يرفع سكينته عن الناس ‪ ،‬وإذا‬ ‫امضي وأرجع إلى موضعي ُ‬
‫ً‬
‫رفع سكينته بثى الناس هدفا لكل ما عسى لن يعرض ويتفق ‪ ،‬فيكون الخير‬
‫الذي يصيبهم والشر بحسب التفاق ‪ .‬وهذا أمر عسير ‪ ،‬لن الله إذا حجب وجهه‬
‫عن إنسان فليقل هذا النسان ‪ :‬على الدنيا السلم ‪.‬‬

‫السير أو المشي ‪:‬‬


‫على الحقيقة موضوع لحركات مخصوصة تصدر من الحيوان ‪ .‬وعلى المجاز‬
‫يستعمل المشي لنتشار أمر ما وظهوره ‪ ،‬وإن كان ذلك ليس بجسم أصل ً ‪.‬‬
‫» ) إ ر ‪ ( 22: 46‬ومثل ‪ « :‬أصوت الرب الله‬ ‫مثل ‪ « :‬صوتها كالحية يسري ُ‬
‫وهو متمشي في الجنة»ُ ) تك ‪ ( 8 : 3‬فالصوت هو الذي يسير ويمشي ‪ ،‬ل الرب‬
‫نفسه – كما يقول ابن ميمون – ويستعمل لرفع العناية عن الشيء ‪ .‬مثل انصرف‬
‫عن هذا المر ووله ظهره ‪ .‬ومن المعنى « اشتد غضب الرب عليهما ومضى»ُ‬
‫) عدد ‪ ( 9 : 12‬فمضى تعني رفع الله عنايته عنهما ‪ ،‬ل أنه سار ومشى على‬
‫الحقيقة ‪ .‬ويستعمل أيضا ً للسير بالسيرة الفاضلة دون تحرك جسم أصل ً ‪ .‬مثل ‪:‬‬
‫« هلم انسلك في نور الرب»ُ )أ ش ‪ ( 5 : 2‬أي لنعمل بالشريعة ‪.‬‬

‫السكن ‪:‬‬
‫على الحقيقة هو دوام المقيم في مكان ما ‪ ،‬في ذلك المكان ‪ .‬فإنه بطول إقامة‬
‫الحيوان في مكان ما ‪ ،‬عاما ً كان أو خاصا ً ‪ .‬يقال فيه ‪ :‬إنه سكن في ذلك الموضع‬
‫‪ ،‬وإن كان هو متحركا ً فيه بل شك ‪ .‬وعلى المجاز يستعمل السكن لكل أمر ثبت‬
‫ولزم شيئا ً آخر مثل ‪ « :‬ليته هلك اليوم الذي ولدت فيه والليل الذي قال ‪ :‬قد‬
‫حبل برجل ‪ ،‬ليكن ذلك اليوم ظلما ً ‪ ،‬ل يعتن به الله من فوق ‪ ،‬ول يشرق عليه‬
‫نهار ‪ ،‬ليملكه الظلم وظل الموت ‪ .‬ليحل عليه سحاب ‪ ،‬لترعبه كاسفات النهار ُ‬
‫»‬
‫)أي ‪ ( 5 – 3 : 3‬فاليوم في النص ليس جسما ً ‪ ،‬والسحاب ليس حيوانا ً ليحل‬
‫على اليوم ‪.‬‬

‫وعلى هذا المجاز إذا قيل سكن الله فإن معناه ‪ :‬دامت سكينته أو عنايته في أي‬
‫موضع ‪ ،‬أو معناه ‪ :‬دامت عنايته في أي أمر‪ .‬مثل« وحل مجد الرب»ُ )خر ‪: 24‬‬
‫» )خر ‪( 45 : 29‬‬
‫‪ « (16‬وأسكن فيما بين بني إسرائيل ُ‬
‫‪- 160 -‬‬

‫القيام على الحقيقة ‪ :‬هو الوقوف الذي يقابل الجلوس ‪ .‬وعلى المجاز ‪ :‬يعني‬
‫النهوض والضطلع بالشيء ‪ .‬يقال فلن قام بالمر أي نهض به واضطلع به ‪.‬‬
‫وفيه معنى ثبات المر ‪ .‬فإن من نهض لمر واضطلع به فقد ثبته ‪ ،‬فمن يقول مثل ً‬
‫‪ :‬أقوم على رعاية هؤلء ‪ .‬يعني أنه ثابت على رعايتهم ‪ .‬وقول الله في التوراة ‪:‬‬
‫« أقوم الن ‪ .‬يقول الرب»ُ )مز ‪ ( 6 : 11‬يريد به ‪ :‬الن أثبت أمري ووعدي‬
‫ووعيدي ‪.‬‬

‫ويقال لكل من ثأر لي أمر ‪ :‬إنه قام ‪ .‬مثل ‪ « .‬إن ابني قد أثار على عبدي»ُ‬
‫)اصم ‪ ( 8 : 22‬واستعير هذا المعنى لنفوذ أمر الله على قوم استحقوا العقاب‬
‫مثل ‪ « :‬ويقوم على بيت الشرار»ُ ) أ ش ‪ ( 2 : 31‬أي ليهلكهم ‪ .‬يقول ابن‬
‫ميمون ‪ « :‬ومن هذا المعنى جاءت نصوص كثيرة ل أن ثم قياما ً أو قعودا ً – تعالى‬
‫الله عن ذلك – فقد قالوا – عليهم السلم – ل يوجد في العالم العلوي ‪ :‬حلوس‬
‫» ) حجيجة ‪( 1 : 15‬‬ ‫ول وقوف ‪ .‬لن الوقوف يجيء بمعنى القيام ُ‬

‫الوقوف على الحقيقة ‪ :‬هو القيام الذي يقابل الجلوس ‪ .‬وعلى المجاز يأتي‬
‫» ‪ 0‬أي ‪« ( 15 : 32‬‬‫بمعنى النسكول والكف ‪ .‬مثل « توقفوا لم يجيبوا من بعد ُ‬
‫كم توقفت الولدة»ُ ) تك ‪ ( 35 : 29‬ويأتي بمعنى الثبات والبقاء مثل « وأمكنك‬
‫القيام»ُ ) خر ‪( 23 : 18‬‬

‫يقول ابن ميمون ‪ « :‬وكل وقفة جاءت في الله تعالى هي من هذا المعنى‬
‫الخير ‪ ،‬فقول التوراة عن الله تعالى ‪" :‬وتقف قدماه" في ذلك اليوم على جبل‬
‫الزيتون" ) زك ‪ ( 4 : 14‬أي تثبت أسبابه ‪ ،‬أعني‪ :‬مسبباته ُ‬
‫»‬

‫القرب على الحقيقة ‪ :‬هو الدنو من الشيء ‪ .‬وعلى المجاز قد يكون بمعنى‬
‫اتصال العلم بالمعلوم ‪ .‬فكأنه شبه بقرب جسم من جسم ‪ .‬مثل ‪ « :‬فإن قضاءها‬
‫» ) تث ‪1‬‬‫بلغ إلى السموات»ُ )إر ‪ « ( 9 : 51‬وأي أمر صعب عليكم فارفعوه إلي ُ‬
‫»)أش‬ ‫‪ ( 17 :‬أي أعلموني به « إن الشعب يتقرب إلي بفيه ويكرمني بشفتيه ُ‬
‫‪ ( 13 : 28‬وليس المعنى أن اليهود يتقربون إلى ذات الله تعالى بأفواههم على‬
‫الحقيقة ‪.‬‬
‫يقول موسى بن ميمون ‪ « :‬فكل لفظة من القرب والتقدم ‪ ،‬تجدها جاءت في‬
‫كتب النبوة بين الله تعالى وبين مخلوق من المخلوقات ‪ .‬فهي كلها من هذا‬
‫المعنى الخير )المجازي( لن الله تعالى ليس هو جسما ً ‪ .‬فل هو تعالى يدنو ول‬
‫يقرب من شيء ‪ .‬ول شيء من الشياء يقرب منه ‪ ،‬أو يدنو به – تعالى – إذ‬
‫بارتفاع الجسمانية يرتفع المكان ويبطل كل قرب ودنو ‪ .‬أو بعد أو اتصال ‪ ،‬أو‬
‫انفصال ‪ ،‬أو تماس ‪ ،‬أو تنال ‪ .‬وما أراك تشك ول يلتبس عليك قوله ‪ -‬أي قول‬
‫الله في التوراة – ‪ « :‬الرب جميع من جميع دعاته»ُ )مز ‪ ( 1 : 145‬فالمراد ‪:‬‬
‫قرب علم ‪ .‬أعني ‪ :‬إدراك علمي ل قرب مكان »ُ‬

‫» على الحقيقة ‪ :‬تدل على جسم يحل في جسم فيمله ‪ :‬مثل ‪« :‬‬ ‫كلمة « مل ُ‬
‫ملت جرتها»ُ أي أن جسم الماء حل في جسم الجرة ‪ ،‬وعلى هذا المجاز‬
‫» ) تك ‪: 25‬‬‫يستعمل في معنى انقضاء زمان ما ‪ ،‬مقدر ‪ .‬مثـل « كملت أيامها ُ‬
‫‪ ( 24‬ويستعمل أيضا ً في معنى الكمال في الفضيلة ‪ ،‬والغاية فيها ‪ .‬مثل ‪« :‬‬
‫وكان ممتلئا ً حكمة وفهما ً ومعرفة»ُ ) ‪ 1‬مل ‪( 14 : 7‬‬
‫‪- 161 -‬‬

‫يقول ابن ميمون ‪ « :‬وكل لفظة ملن تجدها منسوبة لله فهي من هذا المعنى ‪،‬‬
‫ل أن ثم جسما ً يمل مكانا ً ‪ .‬إل أن تريد أن تجعل « مجد الرب ُ‬
‫» ‪ :‬النور المخلوق‬
‫الذي يسمى مجدا ً في كل موضع ‪ ،‬وهو الذي مل المسكن ‪ .‬فل ضير في ذلك ُ‬
‫»‬
‫يريد ان يقول ‪ :‬ل ضير في أن تفسر مجد الرب بنور الرب ‪ .‬وهذا النور هو الذي‬
‫مل مسكن الرب ‪ ،‬ل ذات الرب نفسه ‪.‬‬

‫لفظ « العلو»ُ‬
‫على الحقيقة ‪ :‬هو لرتفاع المكان ‪ .‬وعلى المجاز هو لرتفاع الدرجة والمنزلة‬
‫» ) ‪ 1‬صم‬‫والجللة والكرامة والعزة ‪ .‬مثل ‪ « :‬من أجل أني رفعتك عن التراب ُ‬
‫‪ ( 2 : 16‬وما جاء في التوراة عن ارتفاع الله وعلوه فهو محمول على المجاز ‪.‬‬
‫» ) مز ‪ « (6: 56‬هكذا قال العلي الرفيع»ُ )‬‫مثل ‪ « :‬اللهم ارتفع على السموات ُ‬
‫أ ش ‪( 17 : 57‬‬

‫وفي هذا الموضع يقول ابن ميمون ‪ « :‬إن الله تعالى عند المدركين الكاملين ل‬
‫يوصف بأوصاف كثيرة ‪ ،‬وأن هذه الوصاف المتعددة كلها التي تدل على التعظيم‬
‫والعزة والقدرة والكمال والجود ‪ ،‬وغيرها‪ .‬كلها ترجع لمعنى واحد ‪ .‬وذلك المعنى‬
‫» ثم يقول ‪ « :‬إن العلو والرفع ليس معناه‬‫هو ذاته ‪ ،‬ل شيء خارج عن الذات ُ‬
‫ومفهومه ‪ :‬علو المكان ن بل علو منزلة ُ‬
‫»‬

‫غضب ‪:‬‬
‫على الحقيقة يدل على الوجع واللم ‪ .‬مثل ك « باللم تلدين البنين»ُ ) تك ‪: 3‬‬
‫‪ ( 16‬وعلى المجاز ‪ – 1‬يأتي بمعنى الغم ‪ .‬مثل ك « ولم يكن ابوه يغمه في‬
‫أيامه»ُ ) ‪ 1‬صم ‪ ( 6 : 1‬أي يغضبه ‪ -2‬ويأتي بمعنى الخلف والعصيان ‪ .‬مثل ‪« :‬‬
‫» ) مز ‪ (6 : 55‬ومن تتعرقل أموره يغضب ‪.‬‬ ‫في النهار كله يعرقلون أموري ُ‬
‫» )تك ‪( 6 : 6‬‬ ‫وعلى المجاز قال الله عن نفسه في التوراة ‪ « :‬ونأسف في قلبه ُ‬
‫وتأويله على المعنى المجازي الول ‪ :‬أن الله غضب عليهم لسوء فعلهم ‪ .‬وقال ‪:‬‬
‫« في قلبه » ُلنه لم يقله لنبي في ذلك الوقت الذي نفذ فيه ذلك الفعل ‪ .‬ومثل‬
‫ذلك – ولله المثل العلى – مثل النسان إذا ظهرت له فكرة لم يخبر بها أحد ن‬
‫يقول ‪ :‬كان في قلبي كذا ‪ .‬ولن الله يكلم الناس على قدر عقولهم عبر عن‬
‫نفسه هكذا ‪ .‬أما هو فليس كمثله شيء ‪ .‬وتأويله على المعنى المجازي الثاني ‪:‬‬
‫إنهم خالفوا إرادة الله ‪ ،‬لن القلب في نظر الناس محل للرادة ‪.‬‬

‫» ) ‪ 2‬مل ‪ ( 15 : 10‬أي إرادتك‬


‫ومن ذلك ‪ « :‬هل قلبك مستقيم نظير قلبي ؟ ُ‬
‫في الستقامة كإرادتي ‪.‬‬
‫أكل ‪ :‬على الحقيقة تدل على تناول الطعام ‪ .‬ثم إن اللغة لحظت في الكل‬
‫معنيين ‪ :‬المعنى الول ‪ :‬هو تلف الشيء المأكول وذهابه ‪ .‬والمعنى الخر ‪ :‬هو‬
‫نمو الحيوان بما يتناوله من الغذاء ‪ .‬وبحسب المعنى الول يكون لفظ الكل‬
‫» )عد ‪: 13‬‬ ‫مجازا ً مستعمل ً في كمل ما فيه تلف وإبادة مثل ‪ « :‬أرض تأكل أهلها ُ‬
‫‪ (33‬وبحسب المعنى الثاني يكون لفظ الكل مجازا ً مستعمل ً في كل ما فيه نفع‬
‫للنسان ‪ .‬كتعلم العلم والحكمة ‪ .‬مثل ‪ « :‬تعالى كل لحما ً دسما ً في بيت الربى»ُ‬
‫)بابا بنشرا ‪ 22‬ا (‬

‫وجـه ‪ :‬على الحقيقة اسم لوجه الحيوان ‪ .‬وعلى المجاز يأتي بمعان منها ‪:‬‬
‫‪- 162 -‬‬

‫‪ -1‬الغضب ‪ .‬مثل ‪ « :‬ولم يتغير وجهها أيضا ً»ُ )تك ‪ ( 7 : 40‬أي لم تغضب ‪.‬‬
‫وعلى هذا المعنى المجازي يفسر غضب الله وسخطه ‪ .‬مثل « وجه الرب‬
‫فرقهم»ُ ) إ ر ‪ ( 16 : 4‬أي غضب الله عليهم ففرقهم ‪ -2 .‬ويأتي الوجه مجازا ً‬
‫» ؟ )أ ي ‪11 : 1‬‬ ‫عن حضرة الشخص ومقامه ‪ .‬مثل « أل يجدف عليك في وجهك ُ‬
‫( أي يكذب عليك في وجودك ‪ .‬وعلى هذا المعنى المجازي يفسر أن الله كلم‬
‫» )خر ‪( 11 : 33‬‬ ‫موسى وجها ً لوجه ن في قوله « وكلم الرب موسى وجها ً لوجه ُ‬
‫أي بدون واسطة ‪ -3‬يأتي الوجه مجازا ً بمعنى العناية ‪ .‬مثل « يرفع الرب وجهه‬
‫نحوك»ُ ) عدد ‪(26 : 6‬‬

‫أخر ‪ :‬على الحقيقة هو اسم للظهر ‪ .‬وعلى الجاز يأتي ظرف زمان بمعنى بعد ‪.‬‬
‫مثل « ول قام بعده مثله»ُ ) ‪ 2‬مل ‪ « ( 25 : 23‬بعد هذه المور»ُ ) تك ‪( 1 : 15‬‬
‫وبأتي مجازا ً بمعنى التبع واقتفاء الثر في السير ‪ ،‬يسيره شخص ما ‪ .‬مثل «‬
‫الرب إلهكم تتبعون »ُ ) تث ‪ ( 4 : 13‬وعلى هذا المعنى المجازي يفسر قول الله‬
‫تعالى لموسى ‪ « :‬فتنظر قفاي»ُ )خر ‪ ( 3 : 33‬أي ترك ما تبعني ‪.‬‬

‫قلب ‪:‬‬
‫على الحقيقة هو اسم لعضو الحيوان الذي فيه مبدأ حيلة كل ذي قلب ‪ .‬وعلى‬
‫» ) تث‬
‫المجاز يأتي بمعان كثيرة منها ‪ -1 :‬وسط الشيء مثل ‪ « :‬إلى كبد السماء ُ‬
‫» ) ‪ 2‬مل ‪ ( 26 : 5‬يعني‬‫‪ -2 ( 11 : 4‬الفكرة ‪ .‬مثـل ‪« :‬ألم يكن قلبي هناك ؟ ُ‬
‫كنت حاضرا ً بفكرتي عندا جرى كذا وكذا ‪ -3‬الرأي ‪ :‬مثل ‪ « :‬كل سائر إسرائيل‬
‫» )‪ 1‬أخ ‪ ( 39 : 12‬أي على رأي واحد ‪-4‬‬ ‫كانوا قلبا ً واحدا ‪ ،‬ليقيموا داود ملكا ًً ُ‬
‫تلرادة ‪ .‬مثل ‪ « :‬أعطيكم رعاة على وفق قلبي »ُ ) إر ‪ ( 15 : 3‬وعلى المعنى‬
‫المجازي هذا يفسر قول الله تعالى عن نفسه « ستكون عيناي وقلبي هناك كل‬
‫اليام»ُ ) امل ‪ ( 3 : 9‬بمعنى عنايتي وإرادتي ‪ – 5‬العقل ‪ .‬مثل « قلب الحكيم‬
‫عن يمينه»ُ ) جا ‪ ( 2 : 10‬أى عقاه كامل في كل المور ‪.‬‬

‫روح ‪:‬‬
‫» )تك ‪ ( 2 : 1‬وعلى‬ ‫على الحقيقة هو موضوع للهواء ‪ .‬مثل ‪ « :‬وريح الله يرف ُ‬
‫» ) تك ‪15 : 7‬‬ ‫المجاز يستعمل بمعنى ‪ -1 :‬روح الحيوان ز مثل ‪ « :‬فيه روح حياة ُ‬
‫( ‪ -2‬صعود روح الميت إلى الله ‪ .‬مثل « يعود الروح إلى الله الذي وهبه»ُ ) جا‬
‫» ) ‪ 2‬سم ‪-4 ( 2 : 3‬‬ ‫‪ -3 ( 7 : 12‬فيوضات الله ‪ .‬مثل ‪ « :‬روح الرب تكلم في ُ‬
‫» )أ ش‬ ‫الغرض والرادة ‪ .‬مثل ‪ « :‬ويهراق روح مصر في داخلها وأبيد مشورتها ُ‬
‫‪ ( 3 : 19‬أي تتشتت أغراضها ‪ ،‬ويخفى تدبيرها‪.‬‬

‫رجل ‪ :‬على الحقيقة اسم عضو من الحيوان يمشي عليه ‪ .‬وعلى المجاز تكون‬
‫الرجل ‪.‬‬
‫‪ -1‬بمعنى التبع ‪ ،‬مثل ‪ « :‬أخرج أنت وجميع الشعب في عقبك»ُ )خر ‪( 8 : 11‬‬
‫أي الشعب التابع لك ‪.‬‬
‫‪ - 2‬بمعنى ‪ :‬السببية ‪ .‬مثل قول يعقوب لخاله « ما كان لك قبلي قليل ‪ ،‬فقد‬
‫» )تكوين ‪ ( 30 : 30‬وفي أثري تترجم «‬ ‫اتسع إلى كثير ‪ .‬وباركك الرب في أثري ُ‬
‫لرجلي»ُ أي باركك بسببي ‪ .‬لن المر الذي يكون من أجل شيء ‪ .‬يكون هذا‬
‫الشيء سببا ً في حصول المر ‪ :‬وعلى هذا المعنى تقول التوراة عن الله ‪« :‬‬
‫» )زك ‪ ( 4 : 14‬تريد به ثبات‬
‫وتقف رجله في ذلك اليوم على جبل الزيتون ُ‬
‫‪- 163 -‬‬

‫أسبابه ‪ .‬أعني ‪ :‬العجائب التي تظهر حينئذ في ذلك – الموضع ‪ ،‬العجائب التي‬
‫سببها _ أي فاعلها ‪ -‬هو الله ‪.‬‬

‫وقد جاء عن الله في التوراة ‪ « :‬ثم صعد موسى وهرون وناداب وأبيهو ‪،‬‬
‫وسبعون من شيوخ إسرائيل ‪ ،‬ورأوا غله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من‬
‫العقيق الزرق الشفاف‪ ،‬وكذلك السماء في النقاوة »ُ ) خر ‪(10-9 : 24‬‬

‫وقد تأوله « أنقلوس»ُ بأن جعل الهاء في رجليه عائدة على الكرسي ‪ ،‬أي وتحت‬
‫» ويقول « أنقلوس»ُ إنه لم يقل‬
‫رجلي الكرسي لقوله ‪ « :‬وتحت كرسي مجده ُ‬
‫وتحت كرسيه فقط ن وإنما قــال ‪ «:‬وتحت كرسيه فقط»ُ لنه لو قال وتحت‬
‫كرسه فقط ن لزم كونه – تعالى‪ -‬جسما ً ن ومستويا ً على جسم هو الكرسي ‪.‬‬
‫» فل يلزم منه التجسيم ‪ ,‬لن المجد يؤول حينئذ‬
‫أما نسبته الكرس إلى « مجده ُ‬
‫بالسكينة ‪ ،‬وهي نور مخلوق ‪.‬‬

‫وفي تأوله ابن ميمون بأن « تحت رجليه»ُ يريد به ‪ :‬من سببه ومن أجله ‪ .‬والذي‬
‫أدركوه ‪ :‬هو حقيقة المادة الولي للرض ‪ ،‬التي هي من خلقه تعالى وهو سبب‬
‫وجودها ‪.‬‬

‫وما هي المادة الولي ؟ إن حجر العقيق ويترجم بحجر الياقوت عبارة عن «‬


‫» ل عن اللون الزرق ‪ ،‬ويترجم باللون البيض ‪ .‬والشفاف عادم اللوان‬ ‫الشفاف ُ‬
‫كلها ‪ ،‬ولذلك يقبل اللوان كلها بالتعاقب ن وتقبل أن تتشكل كما يريد الله ‪ .‬وقد‬
‫شبه الله المادة الولى التي خلق منها الرض بالشفاف ‪ ،‬لن المادة الولى‬
‫عديمة الصور وهي تقبل الصور بالتعاقب ‪ ،‬وتقبل أن تتشكل كما يريد الله ‪.‬‬
‫وقد أراهم الله الشفاف الذي هو شبيه بمادة الرض الولى القابلة للتشكل‬
‫والبقاء والفساد ‪ .‬ليعلموا أن المبدع والخالق هو الله ل غير ‪.‬‬

‫ويقول أبن ميمون ‪ :‬إن التأويل الذي ذهبت إليه ‪ ،‬قد نبهني عليه « الربي أليعازار‬
‫بن هورقلنوس»ُ في قوله ‪ « :‬من أين خلقت السماء ؟ من نور ردائه أخذه‬
‫» ‪ « -‬أنت الملتحف بالنور‬‫وبسطه كالثوب »ُ ‪ .‬وكما قيل ‪ « :‬استمروا منبسطين ُ‬
‫» ) مز ‪( 2 : 104‬‬
‫كرداء ‪ .‬الباسط السماء كسجف ُ‬

‫من أين خلقت الرض ؟ من الثلج الذي تحت كرسي مجده ‪ .‬وكما قيل ‪ « :‬أخذ‬
‫» )أي ‪ (6 :36‬هذا‬ ‫"قسما ً منه" ورماه »ُ يقول للثلج ‪ « :‬اسقط على الرض ُ‬
‫قول الربي أليعازار بن هورقانوس بنصه ‪ .‬وقد عقي عليه ابن ميمون بما نصه ‪:‬‬
‫« يا ليت شعري ‪ .‬هذا الحكيم ‪ .‬أي شيء اعتقد ؟ هل اعتقد أنه من المحال أن‬
‫يوجد شيء من ل شيء ؟ أو ل بد من مادة يتكون منها ما يتكون ؟ ولذلك طلب‬
‫للسماء والرض ‪ « :‬من اين خلقا ؟ وأي شيء حصل من هذا الجواب ؟ يلزم أن‬
‫يقال ‪ :‬من أين خلق نور ردائه ؟ ومن اين خلق الثلج الذي تحت كرسي المجد ؟‬
‫ومن أي شيء خلق كرسي المجد نفسه ؟ فإن كان يريد بنور ردائه شيئا ً غير‬
‫مخلوق ‪ ،‬وكذلك كرسي المجد غي مخلوق ‪ .‬فهذا شنيع جدا ً ‪ .‬فيكون قد اقر‬
‫بقدم العالم ‪ .‬غير أنه على رأي أفلطون ‪ .‬أما كون كرسي المجد من المخلوقات‬
‫‪ .‬فالحكماء ينصون بذلك ‪ ،‬على على وجه عجيب ‪ .‬قالوا ‪ :‬إنه خلق قبل خلق‬
‫العالم )ندريم ‪ 39‬ب( أما نصوص الكتب فلم تذكر فيه خلقا ً بوجه ‪ ،‬سوى قول‬
‫داود ‪ « :‬الرب أقر عرشه في السماء »ُ )من ‪ ( 19 : 102‬وهو قول يحتمل‬
‫‪- 164 -‬‬

‫التأويل جدا ً ‪ .‬أما التأييد فيه ‪ :‬فمنصوص ‪ « :‬أنت الرب تجلس عرشك أبدا ً من‬
‫جيل إلى جيل »ُ ) مي ‪ ( 19 :5‬فإن كان الربي أليعازار يعتقد قدم العرش ‪.‬‬
‫فيكون إذا ً صفة لله ل جسما ً مخلوقا ً ‪ .‬فكيف يمكن أن يتكون شيء من صفة ؟‬
‫وأجب شيء قوله ‪ « :‬نور ردائه»ُ ا ‪ .‬هـ‪.‬‬

‫ثم يقول ابن ميمون ‪ :‬إنه يستفاد من كلم الربي أليعازار ‪ :‬أن مادة السماء غير‬
‫مادة الرض ‪ .‬فمادة السماء من نور الرداء ‪ ،‬ومادة الرض من الثلج الذي تحت‬
‫كرسي المجد ‪ .‬ولذلك أراهم « الشفاف»ُ ليدل به على مادة الرض‪.‬‬

‫نفس ‪:‬‬
‫على الحقيقة اسم للنفس الحيوانية الحساسة ‪ .‬وعلى المجاز تأتي بمعنى ‪-1‬‬
‫» ) تث ‪ -2 ( 23 : 12‬صورة النسان‪.‬‬ ‫الدم ‪ .‬مثل ‪ « :‬فل تأكل النفس مع اللحم ُ‬
‫» )ار ‪: 38‬‬‫أي النفس الناطقة ‪ .‬مثل « حتى الرب الذي صنع لنا هذه النفس ُ‬
‫‪ -3 ( 16‬الباقي من النسان بعد الموت ‪ .‬مثل ‪ « :‬نفس سيدي محزومة في‬
‫» ) ‪ 1‬صم ‪ -4 (29 : 25‬الرادة ‪ .‬مثل ‪ « :‬ول يسلمه إلى نفوس‬ ‫حزمة الحياء ُ‬
‫أعدائه »ُ )مز ‪ ( 3 :40‬أي ل يسلمهم لرادتهم ‪ .‬وكل ما جاء في التوراة عن «‬
‫نفس الله »ُ يكون مجازا ً عن إرادته عن إشقاء بني إسرائيل ‪ .‬و « يوناتان بن‬
‫» أخذ « فرف قلبه »ُ على المعنى الحقيقي ‪ ،‬وامتنع من شرحه ‪ ،‬وابن‬ ‫عزبائيل ُ‬
‫ميمون أخذه على المعنى المجازي كناية عن الرادة ‪ .‬ولو أنهما قال ‪ :‬إن التوراة‬
‫عبرت عن الله بلسان بني آدم ‪ ،‬وكفا عن الشرح بالحقيقة أو المجاز ‪ ،‬لكانا على‬
‫درجة قصوى من الصواب ‪.‬‬

‫حي ‪:‬‬
‫على الحقيقة اسم للنامي الحساس ‪ .‬وعلى المجاز يأتي بمعان منها ‪ -1 :‬لو‬
‫مرض إنسان مرضا ً شديدا ً ‪ .‬يعبر عن المرض الشديد بالموت مجازا ً ‪ .‬مثل ‪« :‬‬
‫فمات قلبه في جوفه وصار كحجر »ُ )اصم ‪ (37 :25‬أي مرض مرضا ً شديدا ً ‪.‬‬
‫ولو أن إنسانا ً برء من مرضه ‪ ،‬يعبر عن البرء بالحياة مجازا ً ‪ .‬مثل ‪ « :‬وأفاق من‬
‫مرضه »ُ )أش ‪ -2 ( 9 : 38‬اقتناء العم والحكمة ‪ .‬مثل ‪ :‬قول الحكمة في سفر‬
‫المثال ‪ « :‬فالن أيها البنون اسمعوا لي ‪ .‬فطوبى للذين يحفظون طرقي ‪.‬‬
‫اسمعوا التعليم وكونوا حكماء ول ترفضوه ‪ .‬طوبي للنسان الذي يسمع لي‬
‫ساهرا ً كل يوم عند مصاريعي ‪ ،‬حافظا ً قوائم أبوابي ‪ .‬لنه من يجدني يجد‬
‫الحياة ‪ ،‬وينال رضى من الرب ن ومن يخطئ عني يضر نفسه ‪ .‬كل مبغضي‬
‫يحبون الموت »ُ )أم ‪ ( 36 - 33 :8‬أي أن الحكمة حياة للذين يصادفونها ‪ .‬ولن‬
‫الحكمة حياة مجازا ً ‪ ،‬يعبر عن الراء الصحيحة بالحياة وعن الراء الفاسدة‬
‫بالموت ‪ .‬مثل « انظر ‪ :‬إني جعلت اليوم بين يديك الحياة والخير ‪ ،‬والموت‬
‫» ) تث ‪ ( 15 :30‬فقد صرح بأن الخير هو الحياة ‪ ،‬وبأن الشر هو الموت ‪.‬‬ ‫والشر ُ‬

‫جناح ‪ :‬على الحقيقة اسم لجناح الحيوان الطائر ‪ .‬وعلى المجاز يستعمل بمعنى‬
‫» ) را ‪ ( 13 : 2‬معناه ‪:‬‬
‫الستر والتغطية ‪ « .‬الذي جئت لتحتمي تحت جناحه ُ‬
‫لتستكني تحت ستره ‪.‬‬
‫عين ‪ :‬على الحقيقة اسم لعين الحيوان ‪ .‬وعلى المجاز يستعمل في ‪ -1‬عين‬
‫الماء ‪ .‬مثل ‪ « :‬على عين ماء في البرية »ُ ) تك ‪ -2 ( 7 : 16‬العناية ‪ .‬مثل ‪« :‬‬
‫خذه واجعل عينيك عليه»ُ ) إر ‪ ( 12 :39‬إي اجعل عنايتك به ‪ .‬وعلى المعنى‬
‫المجازي يفسر ما جاء عن الله ي التوراة ‪ ،‬وهو « وستكون عيناي وقلبي هناك‬
‫» ) ‪ 1‬مل ‪ (3 : 9‬يفسر بعنايته وإرادته ‪ -3‬وإذا اقترن بالعينين لفظ‬
‫كل اليام ُ‬
‫‪- 165 -‬‬

‫رؤية مثل ‪ « : :‬افتح عينيك وانظر »ُ ) ‪ 2‬مل ‪ (16 : 19‬فمعناه ‪ :‬الدراك‬


‫العقلي ‪ ،‬وليس الدراك الحسي ‪.‬‬
‫سماع ‪:‬‬
‫على الحقيقة بمعنى السمع على الذن ‪ .‬وعلى المجاز يأتي بمعنى القبول ‪ .‬مثل‬
‫» ) خر ‪ ( 9 : 6‬ويأتي بمعنى العلم والمعرفة ‪ .‬مثل ‪« :‬‬
‫‪ « :‬فلم يسمعوا لموسى ُ‬
‫أمة ل تفهم لغتها »ُ ) تث ‪ ( 49 : 28‬وما جاء في التوراة عن سماع الله لكلم‬
‫الناس إن كان مثل « فسمع ربك »ُ ) عد ‪ ( 1 : 11‬فمعناه ‪ :‬إدرك بالعلم مرادهم‬
‫‪ ،‬وإن كان مثل « فإني أسمع صراخها»ُ ) خر ‪ ( 22 : 23‬فمعناه ‪ :‬أجاب‬
‫دعائهما ‪.‬‬
‫ركب ‪:‬‬
‫على الحقيقة يستعمل في ركوب النسان على البهائم ‪ .‬وعلى المجاز يستعمل‬
‫للستيلء على الشيء ‪ ،‬لن الراكب مستولى على مركوبه ‪ .‬مثل ‪ « :‬اركبه على‬
‫هضاب الرض »ُ ) تث ‪ (13 :32‬وعلى هذا المعنى المجازي قيل في الله تعالى ‪:‬‬
‫» ) تث ‪ (26 : 33‬ومعناه ‪ :‬أنه مستولى على السماء ‪.‬‬ ‫« راكب السماء لنصرتك ُ‬
‫ويعبر عن السماء في التوراة بالبراري ‪ .‬والبراري عندهم هو الفلك العلى‬
‫المحيط بالكل ‪ .‬ذلك لن السموات سبعة ‪ ،‬والبراري هو العلى المحيط بالكل ‪.‬‬
‫والدليل على أن البراري هي السموات ‪ :‬أنه في موضع مكتوب « راكب‬
‫» ) مز ‪ ( 5 :68‬وفي موضع مكتوب « راكب السموات»ُ ) حجيجه ‪ 13‬ب‬ ‫البراري ُ‬
‫( وقد بلغني ‪ :‬أن السماء الولى في كلم اليهود اسمها فيلون ‪ ،‬والثانية رقيع ‪،‬‬
‫والثالثة شحاقيم ‪ ،‬والرابعة زبول ‪ ،‬والخامسة ماعون ‪ ،‬والسادسة ماكون ‪،‬‬
‫والسابعة عرفات – وفي تفسير القرطبي أن الولى اسمها رقيع – وبلغني أن ابن‬
‫ميمون عبر عن السماء السابعة بعرفات ‪ .‬والنسخة العربية التي معي من دلئل‬
‫الحائرين فيها أنه يقصد بالبراري الفلك العلى المحيط بالكل ‪ ،‬ل أنه يقصد جبل‬
‫عرفات في أرض "مكة المكرمة" وقد فهم غيري – كما قال من بلغني – أنه‬
‫» ‪ « :‬الروكب‬ ‫يقصد " جبل عرفات " لن في بعض مخطوطات « دللة الحائرين ُ‬
‫بعربوت »ُ بدل « الراكب في البراري »ُ )مز ‪ ( 5 : 68‬أو « للراكب في القفار ُ‬
‫»‬
‫أم « للراكب على الغمام ُ‬
‫»‬

‫تم الكلم في قضية كتاب « أساس التقديس »ُ‬

‫ــــــ‬
‫فهــرس كتــاب‬
‫أساس التقـديس في علم الكلم‬
‫تأليف‬
‫المام فخـر الدين الرازي‬
‫ـــ‬

‫الصف‬
‫الموضــوع‬
‫حة‬
‫اهداء الكتاب للسـتاذ الدكتـور « يحيى هاشم حسن فرغل »ُ‬
‫‪3‬‬
‫وكيل كليـة أصول الدين بطنطا – جامعة الزهر‬
‫‪- 166 -‬‬

‫‪5‬‬ ‫التعريف بالكتـاب‬

‫‪6‬‬ ‫مؤلف الكتـاب‬

‫‪9‬‬ ‫مقدمـة الكتــاب‬

‫‪9‬‬ ‫المسيح عليه السلم يفسر كيف أن "النسان ينال من يد الله"‬

‫المؤلف يهدي الكتاب لفضل سلطين الحق واليقين ‪ ،‬السلطان‬


‫‪10‬‬
‫"أبو بكر بن أيوب" سلطان السلم والمسلمين‬
‫القسم الول في الدلئل الدالة على أنه تعالى منزه عن الجسمية‬
‫‪13‬‬
‫والحيز‬
‫الفصل الول ‪ :‬في تقرير المقدمات التي يجب إيرادها قبل الخوض‬
‫‪15‬‬
‫في الدلئل‬

‫‪15‬‬ ‫المقدمة الولى ‪ :‬في إثبات موجود ل يشار إليه بالحس‬

‫المقدمة الثانية ‪ :‬في أنه ليس كل موجود ‪ ،‬يجب أن يكون له نظير‬


‫‪26‬‬ ‫وشـبيه ‪ ،‬وأنه ليس يلزم من نفي النظير والشـبيه ‪ ،‬نفي ذلك‬
‫الشيء‬

‫‪28‬‬ ‫المقدمة الثالثة ‪ :‬في اختلف القائلين بأن الله جسم‬

‫الفصل الثاني ‪ :‬في تقرير الدلئل السمعية على أنه سبحانه‬


‫‪30‬‬
‫وتعالى منزه عن الجسمية والحيز والجهة‬

‫‪39‬‬ ‫« هل تعلم له سميا ً »ُ أي مثل ً‬

‫شرح ابن قتيبة لحديث ‪ :‬أن اللـه كان في عماء ليس تحته ماء ول‬
‫‪47‬‬
‫فوقه هواء‬
‫الفصل الثالث ‪ :‬في إقامة الدلئل العقلية على أنه تعالى ليس‬
‫‪48‬‬
‫بمتحيز البتة‬
‫الصف‬
‫الموضــوع‬
‫حة‬
‫الفصل الرابع ‪ :‬في إقامة البراهين على أنه تعالى ليس مختصا ً‬
‫‪62‬‬ ‫بحيز وجهة ‪ ،‬بمعنى أنه يصح أن يشار إليه بالحس بأنه ههنا أو‬
‫هناك‬

‫‪62‬‬ ‫من الطرق العقلنية في نفي التجسيم واثبات الوحدانية‬


‫الفصل الخامس ‪ :‬في حكاية الشبه العقلية في كونه تعالى مختصا ً‬
‫‪79‬‬
‫بالحيز والجهة‬
‫الحقيقة والمجـاز في المكان والكرسي والجلوس والصعود‬
‫‪92‬‬
‫والهبوط والرؤية والنظر في أسفار التوراة‬
‫الفصل السادس ‪ :‬في الرد على الكرامية القائلين بأنه تعالى‬
‫‪100‬‬
‫جسم بمعنى كونه تعالى غنيا ً عن المحل ‪ ،‬قائما ً بالنفس‬
‫‪101‬‬ ‫مقصود الناس في العلم اللهي ‪ :‬ثلثة مقاصد ‪ :‬الول ‪ :‬إثبات وجود‬
‫‪- 167 -‬‬

‫الله تعالى والثاني ‪ :‬إثبات أنه ليس بجسم ول قوة في جسم‬


‫والثالث ‪ :‬كونه واحدا ً‬

‫***‬

‫القسم الثاني من هذا الكتاب في تأويل المتشابهات من الخبـار‬


‫‪103‬‬
‫واليـات‬
‫المقـدمة ‪ :‬في بيان أن جميع فرق السلم مقرون بأنه ل بد من‬
‫‪105‬‬
‫التأويل في بعض ظواهر القرآن والخبار‬
‫معنى أن الله تعالى قـرأ "طـه" و "يس" قبل أن يخلق السموات‬
‫‪109‬‬
‫والرض بألفي عام‬

‫‪109‬‬ ‫تأويل ابن عباس لقوله تعالى ‪ « :‬الرحمن على العرش استوى »ُ‬

‫‪109‬‬ ‫تأويل الطبري لقوله تعالى ‪ « :‬وألقيت عليك محبة مني ُ‬


‫»‬

‫‪110‬‬ ‫الفصل الول ‪ :‬في اثبات الصورة‬

‫تأويل الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون – لعنه الله – لقول‬


‫‪111‬‬ ‫الله – تعالى – في التوراة – كما كتبوا ‪ « -‬لنصنع النسان على‬
‫صورتنا كمثالنا»ُ )تك ‪( 26 : 1‬‬

‫‪121‬‬ ‫الفصل الثاني ‪ :‬في لفظ الشخص‬

‫‪122‬‬ ‫الفصل الثالث ‪ :‬في لفظ النفس‬

‫‪125‬‬ ‫الفصل الرابع ‪ :‬في لفظ الصمد‬

‫‪127‬‬ ‫الفصل الخامس ‪ :‬في لفظ اللقـاء‬

‫الصف‬
‫الوضــوع‬
‫حة‬

‫‪129‬‬ ‫الفصل السادس ‪ :‬في لفظ النـور‬

‫‪131‬‬ ‫الفصل السابع ‪ :‬في الحجاب‬

‫‪134‬‬ ‫الفصل الثامن ‪ :‬في القـرب‬

‫‪135‬‬ ‫الفصل التاسـع ‪ :‬في المجيء والنزول‬

‫‪147‬‬ ‫الفصل العاشـر ‪ :‬في الخروج والبروز والتجلي والظهور‬

‫الفصل الحادي عشر ‪ :‬في الظواهر التي توهم كونه قابل ً للتجزيء‬
‫‪149‬‬ ‫والتبعيض‬
‫‪ -‬تعالى الله عنه علوا ً كبيرا ً ‪-‬‬
‫‪- 168 -‬‬

‫الفصل الثاني عشر ‪ :‬في الجواب عن استدللهم بقوله تعـالى ‪:‬‬


‫‪150‬‬
‫« ألهم أرجل يمشون بها»ُ ؟ ‪ . . .‬الخ‬

‫‪151‬‬ ‫الفصل الثالث عشر ‪ :‬في الوجه‬

‫‪157‬‬ ‫الفصل الرابع عشر ‪ :‬في العين‬

‫‪160‬‬ ‫الفصل الخامس عشر ‪ :‬في النفس‬

‫‪161‬‬ ‫الفصل السادس عشر ‪ :‬في اليـد‬

‫‪168‬‬ ‫الفصل السابع عشر ‪ :‬في إثبات القبضة‬

‫الفصل الثامن عشر ‪ :‬في ما تمسكوا به في إثبات اليدين لله عـز‬


‫‪170‬‬
‫وجـل‬

‫‪172‬‬ ‫الفصل التاسع عشر ‪ :‬في إثبات اليمين لله تعالى‬

‫‪174‬‬ ‫الفصل العشرون ‪ :‬في الكف‬

‫‪175‬‬ ‫الفصل الحادي والعشرون ‪ :‬في السـاعد‬

‫‪176‬‬ ‫الفصل الثاني والعشرون ‪ :‬في الصـبع‬

‫‪180‬‬ ‫الفصل الثالث والعشرون ‪ :‬في النامل‬

‫‪181‬‬ ‫الفصل الرابع والعشرون ‪ :‬في الجنب‬

‫‪182‬‬ ‫الفصل الخامس والعشرون ‪ :‬في السـاق‬

‫الفصل السادس والعشرون ‪ :‬في الرجل والقدم‬


‫‪184‬‬

‫الصف‬
‫الموضــوع‬
‫حة‬

‫‪188‬‬ ‫الفصل السابع والعشرون ‪ :‬في الضحك‬

‫‪190‬‬ ‫الفصل الثامن والعشرون ‪ :‬في الفـرح‬

‫‪191‬‬ ‫الفصل التاسع والعشرون ‪ :‬في الحيـاء‬

‫‪194‬‬ ‫الفصل الثلثون ‪ :‬في ما يتمسكون به في إثبات الجهة للـه تعالى‬

‫‪215‬‬ ‫الفصل الحادي والثلثون ‪ :‬في كلم كلي في أخبار الحاد‬

‫الفصل الثاني والثلثون ‪ :‬في أن البراهين العقـلية إذا صارت‬


‫‪220‬‬
‫معارضة بالظواهر النقلية ‪ .‬فكيف يكون الحال فيها ؟‬

‫‪221‬‬ ‫قانون التـأويل بين المام فخر الدين وبين المام أحمد بن تيمية‬
‫‪- 169 -‬‬

‫***‬

‫‪222‬‬ ‫القسم الثالث من هذا الكتاب ‪ :‬في تقرير مذهب السلف‬

‫الفصل الول ‪ :‬في أنه هل يجوز أن يحصل في كتاب الله تعالى ما‬
‫‪224‬‬
‫ل سبيل لنا إلى العلم به ؟‬

‫‪230‬‬ ‫الفصل الثاني ‪ :‬في وصف القرآن بأنه محكم ومتشابه‬

‫الفصل الثالث ‪ :‬في الطريق الذي يعرف به كون الية محكمة أو‬
‫‪234‬‬
‫متشابهة‬

‫‪236‬‬ ‫الفصل الربع ‪ :‬في تقـرير مذهب السلف‬

‫‪241‬‬ ‫الفصل الخامس ‪ :‬في تفاريع مذهب السلف‬

‫‪245‬‬ ‫القسم الرابع من هذا الكتاب ‪ :‬في بقية الكلم في هذا الباب‬

‫‪247‬‬ ‫الفصل الول ‪ :‬في حكم ذكر هذه المتشابهات‬

‫‪251‬‬ ‫الفصل الثاني ‪ :‬في أن المجسم هل يوصف بأنه مشتبه أم ل ؟‬


‫الفصل الثالث ‪ :‬في أن من يثبت كونه – تعالى – جسما ً متحيزا ً‬
‫‪257‬‬
‫مختصا ً بجهة معينة هل يحكم بكفره أم ل‬
‫***‬

‫الصف‬
‫الموضــوع‬
‫حة‬

‫‪259‬‬ ‫قضــية الكتــاب‬

‫» ليعلم الناس أن لله – عز‬


‫» يؤلف كتاب « التوحيد ُ‬
‫« ابن خزيمة ُ‬
‫‪259‬‬ ‫وجل – وجها ً ويدين ‪ ،‬بل كيف ‪ .‬والمام فخر الدين يكرهه ويرد‬
‫عليه‬
‫المام الشافعي رضي الله عنه – على مذهب المام فخر الدين‬
‫‪261‬‬ ‫في تأويـل أخبـار صفات الله تعالى التي يدل ظاهرها على أن للـه‬
‫جسم‬

‫‪262‬‬ ‫ابن تيمية كان يدرس كتب المام فخر الدين الرازي لطلب العلم‬
‫‪- 170 -‬‬

‫ابن قدامة المقدسي لزم الشيخ ابن تيمية مـدة ‪ ،‬وقرأ عليه قطعة‬
‫‪262‬‬ ‫من كتاب‬
‫« الربعين في أصول الدين»ُ للرازي‬
‫رأي المام فخر الدين في ‪ ) :‬أ ( « يد الله فوق أيديهم ُ‬
‫»‬
‫‪263‬‬
‫)ب( « ليس كمثله شيء ُ‬
‫»‬
‫رأي المام ابن تيمية في ‪ ) :‬أ ( « يد الله فوق أيديهم ُ‬
‫»‬
‫‪264‬‬
‫)ب( « ليس كمثله شيء ُ‬
‫»‬

‫‪265‬‬ ‫من ردود العلماء على شيخ السلم ابن تيمية‬

‫» في « الحجر السود يمين الله‬‫ابن تيمية يقول أن لفظ « يمين ُ‬


‫‪265‬‬ ‫ً‬
‫في الرض»ُ هو مجاز من سياق العبارة ‪ .‬وليس هو محازا من لفظ‬
‫« يمين»ُ‬
‫تقسيم اللفظ إلى حقيقو ومجاز موجود في اللغة العربية من قبل‬
‫‪266‬‬
‫وجود « معمرين المثني»ُ و أحمد بن عبد الحليم‬
‫الشيخ ابن تيمية يصرح بالتأويل في كتابه « الجواب الصحيح لمن‬
‫‪266‬‬
‫» كما صرح به المام فخر الدين سواء بسواء‬ ‫بدل دين المسيح ُ‬
‫الشيخ أحمد بن عبد الحليم يشتم شعيبا ً النبي عليع السلم في‬
‫‪267‬‬
‫مجموع الفتاوي لبن قاسم‬
‫الشيخ اللوسي في تفسيره روح المعاني يقول بما قال به ابن‬
‫‪269‬‬
‫تيمية‬
‫الشيخ محمود بن عمر في تفسيره الكشـاف يقول بما قال به‬
‫‪269‬‬
‫المام فخر الدين‬
‫الخطيب الشربيني المفسر في تفسيره السراج المنير يقول بما‬
‫‪270‬‬
‫قال به المام فخر الدين‬
‫الزهر يعلم الطلب‬
‫‪270‬‬
‫وكل نص أوهم التشبيها ‪ . . .‬أوله ‪ ،‬أو فوض ‪ ،‬ورم تنزيها‬

‫الصف‬
‫الموضــوع‬
‫حة‬

‫‪271‬‬ ‫المام الغزالي حجة السلم يقول بما قال به المام فخر الدين‬

‫‪275‬‬ ‫أهل التصوف يقولون بما قال به المام فخر الدين‬

‫» يقول بما قال‬


‫الشيخ عبد الوهاب الشعراني في « لطائف المنن ُ‬
‫‪275‬‬
‫به المام فخر الدين‬
‫المام القرطبي في تفسيره الجامع لحكام القـرآن يقول بما قال‬
‫‪275‬‬
‫به المام فخر الدين‬
‫‪- 171 -‬‬

‫ابن بطـوطة يقول أن الشيخ ابن تيمية نزل درجة من على منبر‬
‫‪275‬‬
‫دمشق ‪ .‬وقال أن الله ينزل كل ليـلة إلى سـماء الدنيا كنزولي هذا‬
‫الشيخ عل بن أحمد في كتاب الفصل في المل والهواء والنحـل‬
‫‪276‬‬
‫يقول بما قال به المام فخر الدين‬
‫علي ابن أبي العز يصف المنزهين لله على التجسيم حتى ولو بل‬
‫‪277‬‬
‫كيف بأنهم مجانين‬

‫‪277‬‬ ‫سـفيه المسلمين‬

‫‪279‬‬ ‫الحقيقة والمجاز في أخبار صفات الله تعالى في أسفار التوراة‬

‫كلم المام فخر الدين شبيه بكلم عيسى عليه السلم في ذات‬
‫‪279‬‬
‫الله تعــالى وصفاته‬
‫عيسى عليه السلم يصعد على حجارة يشوع بن نون ويصرح بأن‬
‫‪279‬‬
‫اللـه واحـد‬
‫عيسى عليه السلم يستشهد بالتوراة على أن الله هو رب‬
‫‪280‬‬
‫العـالمين ‪ ،‬وليس كمثله شيء‬
‫عيسى عليه السلم يبين أن الله يعبر عن ذاته بأوصاف البشر على‬
‫‪282‬‬
‫سبيل التمثيل والمشاكلة‬
‫ستة عشر آية من آيات التوراة وأسفار النبياء على أن الله ليس‬
‫‪282‬‬
‫كمثله شيء‬
‫بعض المسلمين يقولون أن التوراة تصف الله بأنه جسم ‪ .‬وبعض‬
‫‪283‬‬
‫المسلمين يقولون بأن التوراة تنزه الله عن الجسمية‬
‫علماء من بني اسرائيل ينزهون الله عن الجسمية منهم ‪:‬‬
‫‪284‬‬
‫انقولوس – يوناتان – سبينوزا – ابن كمونة – ابن ميمون‬

‫‪285‬‬ ‫اليهـود يكفرون بآيات الله ول يكفرون بالله‬

‫اسم الله العظم عند اليهود هو « يهوه»ُ والسم العظم في‬


‫‪286‬‬
‫العبرانية « شم همفورش»ُ‬
‫اسم « أدوناي»ُ عند اليهود يطلق على اللـه ‪ ،‬ويطلق على السيد‬
‫‪287‬‬
‫العظيم من النـاس‬
‫الصف‬
‫الموضــوع‬
‫حة‬
‫الرد على المام فخر الدين في قوله أن اليهود كانوا على دين‬
‫‪289‬‬
‫التشبيه ‪ ،‬وكانوا يجوزون المجيء والذهاب على الله تعالى‬
‫الشيخ الغزالي حجة السلم في )إلجام العوام ص ‪ (80‬يشرح‬
‫‪289‬‬ ‫معنى ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا ‪ .‬على طريق‬
‫التأويل‬
‫ذكـر كلمات من التوراة استعملت في التوراة على الحقيقة وعلى‬
‫المجاز ‪ .‬وكيفية التأويل على المعنى المجازي ‪ .‬وهي ‪ :‬عبر ‪- -‬جاء‬
‫‪290‬‬ ‫– الخروج – السير أو المشي – السكن – القيام – الوقوف –‬
‫القرب – مل – غضب – أكل – وجه – آخر – قلب – روح – رجـل –‬
‫نفس – حي – جناح – عين – سماع – ركب‬
‫‪- 172 -‬‬

‫‪306‬‬ ‫صــور المخطوطة‬

‫تم فهرس كتاب أساس التقديس في علم الكلم‬


‫)للمام فخـر الدين الرازي(‬
‫‪- 173 -‬‬

‫خطــأ وصـواب‬

‫رقم‬ ‫رقم‬
‫الصـواب‬ ‫الخطـأ‬ ‫السط‬ ‫الصفح‬
‫ر‬ ‫ة‬

‫البصير‬ ‫للبصير‬ ‫‪17‬‬ ‫‪5‬‬

‫الصفات‬ ‫والصفات‬ ‫‪5‬‬ ‫‪6‬‬

‫والستحياء‬ ‫والستيحاء‬ ‫‪7‬‬ ‫‪6‬‬

‫الوحدة‬ ‫الوحدة‬ ‫‪1‬‬ ‫‪31‬‬

‫إحداهما ‪:‬‬ ‫احدهما‬ ‫‪18‬‬ ‫‪35‬‬

‫الدراك‬ ‫الدواك‬ ‫‪5‬‬ ‫‪41‬‬

‫المتحيزة‬ ‫المتحيز‬ ‫‪18‬‬ ‫‪49‬‬

‫تقرير‬ ‫ققرير‬ ‫‪4‬‬ ‫‪50‬‬

‫بالجهة‬ ‫بالجمهة‬ ‫‪13‬‬ ‫‪58‬‬

‫ولول‬ ‫لول‬ ‫‪5‬‬ ‫‪65‬‬

‫وخلء‬ ‫خلء‬ ‫‪21‬‬ ‫‪72‬‬

‫‪ -‬تعالى ‪-‬‬ ‫تغالى‬ ‫‪1‬‬ ‫‪73‬‬

‫الصانع‬ ‫مصانع‬ ‫‪13‬‬ ‫‪73‬‬

‫الخامس‬ ‫الخادس‬ ‫‪6‬‬ ‫‪74‬‬


‫)‪(3‬‬
‫وعلى‬ ‫ومن)(وعلى‬ ‫‪15‬‬ ‫‪79‬‬

‫تكون‬ ‫تكرن‬ ‫‪12‬‬ ‫‪81‬‬

‫تقريرنا‬ ‫تقربونا‬ ‫‪14‬‬ ‫‪82‬‬

‫محايثا ً‬ ‫محاديثا ً‬ ‫‪6‬‬ ‫‪83‬‬

‫ورافع‬ ‫وافع‬ ‫‪20‬‬ ‫‪83‬‬

‫بديهي‬ ‫بديهيء ء‬ ‫‪7‬‬ ‫‪89‬‬

‫يصـح‬ ‫يصبح‬ ‫‪2‬‬ ‫‪90‬‬


‫‪- 174 -‬‬

‫لكنه‬ ‫لسكنه‬ ‫‪10‬‬ ‫‪92‬‬

‫رقم‬ ‫رقم‬
‫الصـواب‬ ‫الخطـأ‬ ‫السط‬ ‫الصفح‬
‫ر‬ ‫ة‬

‫قائـم‬ ‫قاتم‬ ‫‪7‬‬ ‫‪96‬‬


‫)‪(5‬‬
‫التوفيق‬ ‫التوفيق‬ ‫‪12‬‬ ‫‪101‬‬

‫خلقة‬ ‫خلقه‬ ‫‪8‬‬ ‫‪111‬‬

‫فلن‬ ‫فل‬ ‫‪7‬‬ ‫‪120‬‬

‫محال‬ ‫مجال‬ ‫‪3‬‬ ‫‪124‬‬

‫بخيري‬ ‫بحيرى‬ ‫‪17‬‬ ‫‪125‬‬

‫مخلوقا ً‬ ‫محوفا‬ ‫‪19‬‬ ‫‪136‬‬

‫الحتراز‬ ‫الحتزاز‬ ‫‪1‬‬ ‫‪183‬‬

‫وأنا‬ ‫ونا‬ ‫‪12‬‬ ‫‪188‬‬

‫متنقص‬ ‫منتقص‬ ‫‪11‬‬ ‫‪191‬‬

‫ففقدت‬ ‫فقدت‬ ‫‪8‬‬ ‫‪197‬‬

‫السط‬
‫وسنتي‬ ‫دسنتى‬ ‫ر‬ ‫‪226‬‬
‫الخير‬

‫‪ 15،16‬غلى ‪22‬‬ ‫‪ 20 – 18‬الخ‬ ‫‪240‬‬

‫موالي‬ ‫موالى‬ ‫‪7‬‬ ‫‪254‬‬

‫يستأذنونك‬ ‫يستأذنوك‬ ‫‪6‬‬ ‫‪250‬‬

‫هو جسم‬ ‫ليس جسما ً‬ ‫‪6‬‬ ‫‪263‬‬


- 175 -

ISLAM_LIGHT

You might also like