You are on page 1of 318

‫ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻛﺘﺐ ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ ﺷﻬﺮﻳﺔ ﻳﺼﺪرﻫﺎ‬

‫اﻟﻤﺠﻠﺲ اﻟﻮﻃﻨﻲ ﻟﻠﺜﻘﺎﻓﺔ واﻟﻔﻨﻮن واداب ‪ -‬اﻟﻜﻮﻳﺖ‬


‫ﺻﺪرت اﻟﺴﻠﺴﻠـﺔ  ﻳﻨﺎﻳﺮ ‪1978‬‬
‫أﺳﺴﻬﺎ أﺣﻤـﺪ ﻣﺸـﺎري اﻟﻌﺪوا
)‪ (1990-1923‬ود‪ .‬ﻓﺆاد زﻛﺮﻳﺎ )‪(2010-1927‬‬

‫اﻟﺜﻮرة اﻟﺮاﺑﻌﺔ‬
‫ﻛﻴﻒ ﻳﻌﻴﺪ اﻟﻐﻼف اﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎﺗﻲ‬
‫ﺗﺸﻜﻴﻞ اﻟﻮاﻗﻊ اﻧﺴﺎﻧﻲ‬

‫ﺗﺄﻟﻴﻒ‪ :‬ﻟﻮﺗﺸﻴﺎﻧﻮ ﻓﻠﻮرﻳﺪي‬


‫ﺗﺮﺟﻤﺔ‪ :‬ﻟﺆي ﻋﺒﺪاﻴﺪ اﻟﺴﻴﺪ‬

‫ﺳﺒﺘﻤﺒﺮ‪2017‬‬
‫‪452‬‬
‫سلسلة شهرية يصدرها‬
‫اجمللس الوطني للثقافة‬
‫والفنون واآلداب‬

‫أسسها‬
‫أحمد مشاري العدواني‬
‫د‪ .‬فــــؤاد زكـــريـــــا‬

‫املشرف العام‬
‫م‪ .‬علي حسني اليوحة‬

‫مستشار التحرير‬
‫د‪ .‬محمد غامن الرميحي‬
‫‪rumaihimg@gmail.com‬‬

‫هيئة التحرير‬
‫أ‪ .‬جاسـم خالد السعــدون‬
‫ترسل االقتراحات على العنوان التالي‪:‬‬
‫السيد األمني العام‬ ‫أ‪ .‬خليل علي حيدر‬
‫للمجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‬ ‫د‪ .‬علي زيد الزعبي‬
‫ص‪ .‬ب‪ - 28613 :‬الصفاة‬
‫أ‪ .‬د‪ .‬فريدة محمد العوضي‬
‫الرمز البريدي ‪13147‬‬
‫دولة الكويت‬ ‫أ‪ .‬د‪ .‬ناجي سعود الزيد‬
‫هاتف‪)965( 22431704 :‬‬
‫مديرة التحرير‬
‫‪www.kuwaitculture.org.kw‬‬
‫شروق عبداحملسن مظفر‬
‫التنضيد واإلخراج والتنفيذ‬ ‫‪a.almarifah@nccalkw.com‬‬
‫وحدة اإلنتاج في املجلس الوطني‬
‫سكرتيرة التحرير‬
‫‪ISBN 978 - 99906 - 0 - 564 - 8‬‬ ‫عالية مجيد الصراف‬
‫‪a.almarifah@nccal.gov.kw‬‬
‫العنوان األصلي للكتاب‬

The Fourth Revolution:


How the Infosphere Is Reshaping Human Reality

By
Luciano Floridi
Oxford University Press. UK, 2014

© Luciano Floridi 2014


The Fourth Revolution: How the Infosphere Is Reshaping Human
Reality, (First Edition) was originally published in English in
2014. This translation is published by arrangement with Oxford
University Press.

‫ُطبع من هذا الكتاب ثالثة وأربعون ألف نسخة‬

2017 ‫ هـ ــ سبتمبر‬1438 ‫ذو الحجة‬


‫المواد المنشورة في هذه السلسلة تعبر‬
‫عن رأي كاتبها وال تعبر بالضرورة عن رأي المجلس‬
‫احملتوى‬

‫‪9‬‬ ‫متهيد‬

‫‪17‬‬ ‫شكر وعرفان‬

‫الفصل األول‬
‫‪21‬‬ ‫الزمان‪ :‬التأريخ ُ‬
‫املفرط‬

‫الفصل الثاين‬
‫‪49‬‬ ‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫الفصل الثالث‬
‫‪89‬‬ ‫الهوية‪ :‬احلياة دائمة االتصال (أوناليف ‪)Onlife‬‬

‫الفصل الرابع‬
‫‪119‬‬ ‫َفهم الذات‪ :‬الثورات األربع‬

‫الفصل اخلامس‬
‫‪135‬‬ ‫اخلصوصية‪ :‬االحتكاك املعلوماتي‬

‫‪7‬‬
‫الفصل السادس‬
‫‪167‬‬ ‫الذكاء‪ :‬النقش يف كتاب الوجود‬

‫الفصل السابع‬
‫‪185‬‬ ‫ال َو َكالة‪ :‬تغليف العامل‬

‫الفصل الثامن‬
‫‪211‬‬ ‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫الفصل التاسع‬
‫‪253‬‬ ‫البيئة‪ :‬اخملاطرة الرقمية‬

‫الفصل العاشر‬
‫‪267‬‬ ‫األخالقيات‪ :‬احلفاظ على البيئة اإللكرتونية‬

‫‪271‬‬ ‫مزيد من القراءة‬

‫‪277‬‬ ‫الهوامش‬

‫‪289‬‬ ‫الببليوغرافيا‬

‫‪8‬‬
‫متهيد‬

‫متهيد‬

‫يعالج هذا الكتاب الكيفية التي يتأثر بها‬


‫إدراكنا لذواتنا مبا لدينا من تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت الرقمية‪ ،‬والكيفية التي نتواصل بها‬
‫بعضنا مع بعض‪ ،‬وكيف نش ّكل عاملنا ونتفاعل معه‪.‬‬
‫لقد ظهر حديثا العديد من التقنيات واملفاهيم‪،‬‬
‫مثل‪ :‬تكنولوجيا النانو ‪،Nanotechnology‬‬
‫وإنرتنت األشياء ‪ ،Internet of Things‬واإلصدار‬
‫الثاين لتقنيات الشبكة العنكبوتية العاملية (ويب‬
‫‪ ،)Web 2.0‬والويب ذي الدالالت اللفظية (الويب‬
‫الذيك) ‪ ،Semantic Web‬والحوسبة السحابية‬
‫‪ ،Cloud Computing‬واأللعاب املعتمدة عىل‬
‫التقاط الحركـــة ‪،Motion-Capturing Games‬‬
‫وتطبيقات الهواتف الذكية ‪،Smartphone Apps‬‬
‫والحاسب اللوحي والشاشات التي تعمل باللمس‬
‫‪ ،Tablets and Touch Screens‬ونظام تحديد‬
‫«نحن يف حاجة إىل فلسفة املعلومات‬
‫املواقـع (‪،Global Positioning System (GPS‬‬ ‫بوصفها فلسفة تخص عرصنا‪ ،‬من‬
‫والواقع ا ُملعزز ‪ ،Augmented Reality‬والرفقاء‬ ‫أجل عرصنا»‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫االصطناعيني ‪ ،Artificial Companions‬والطائرات من دون طيار ‪Unmanned‬‬


‫‪ ،Drones‬والسيارات من دون سائق ‪ ،Driverless Cars‬ومعدات الحوسبة القابلة‬
‫لالرتداء ‪ ،Wearable Computing Devices‬والطابعات ثالثية األبعاد ‪،3D Printers‬‬
‫ورسقة الهوية ‪ ،Identity Theft‬والدورات التدريبية عىل اإلنرتنت ‪،Online Courses‬‬
‫ووسائط اإلعالم االجتامعي ‪ ،Social Media‬والحرب السيربانية ‪ .Cyberwar‬وسوف‬
‫يطرح املولع بالتكنولوجيا‪ ،‬وكذلك من يرهبها‪ ،‬السؤال نفسه‪ :‬ماذا بعد؟ أما الفيلسوف‬
‫فسوف يتساءل متعجبا‪ :‬ماذا يكمن وراء كل هذا؟ هل هناك منظور موحد ميكن من‬
‫خالله تفسري كل هذه الظواهر عىل أنها جوانب مختلفة لتوجه واحد كبري وشامل؟ جزء‬
‫من صعوبة اإلجابة عن هذا السؤال يكمن يف أننا مازلنا معتادين النظر إىل تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت عىل أنها أدوات للتواصل والتفاعل مع العامل ومع بعضنا البعض‪.‬‬
‫والواقع أنها صارت قوى بيئية وأنرثوبولوجية واجتامعية وتفسريية‪َ ،‬تخلق و ُتشكل واقعنا‬
‫الفكري واملادي‪ ،‬و ُتغيرّ فهمنا لذواتنا‪ ،‬و ُتح ّور الكيفية التي تربطنا بعضنا ببعض‪ ،‬كام‬
‫تربطنا بذواتنا‪ ،‬و ُت َح ِّسن من كيفية تفسرينا للعامل من حولنا‪ ،‬وكل هذا يجري بصورة‬
‫واسعة االنتشار‪ ،‬وبعمق‪ ،‬وبال هوادة‪.‬‬
‫كتاب فلسفي‪ ،‬عىل رغم أنه ليس كتابا للفالسفة فقط‪ .‬إنه‬ ‫لذلك‪ ،‬فهذا الكتاب ٌ‬
‫يسعى إىل تحديد ورشح بعض القوى التكنولوجية العميقة التي تؤثر يف حياتنا‪ ،‬ويف‬
‫معتقداتنا‪ ،‬ويف أي يشء يحيط بنا؛ لكنه ليس أطروحة تقنية أو علمية‪ .‬عندما يستعرض‬
‫القارئ محتويات هذا الكتاب رسيعا‪ ،‬سوف يالحظ أنني أؤمن بأننا نشهد بداية ثورة‬
‫ثقافية شاملة مدفوعة إىل ح ٍد كبري بتكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ .‬أنا أعرف أن‬
‫كل جيل يظن أنه استثنايئ فقط ألنه عىل قيد الحياة ومن ثم هو يف مكانة فريدة؛‬
‫وبتأمل أكرث‪ ،‬هو يف مكانة بني املوىت والذين مل يولدوا بعد‪ .‬لذلك‪ ،‬أنا أقر بأهمية وضع‬
‫ٍ‬
‫األمور يف نصابها‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬فأحيانا يكون اليوم هو ‪ 16‬ديسمرب من العام ‪1773‬‬
‫وأنت يف بوسطن(٭)‪ ،‬أو يكون اليوم هو ‪ 14‬يوليو من العام ‪ 1789‬وأنت تكون موجودا‬
‫يف باريس(٭٭)‪ .‬ما أود تأكيده يف هذا الكتاب هو أنه أحيانا تكون ألفية جديدة سعيدة‪،‬‬
‫وأنت موجود يف اإلنفوسفري (الغالف املعلومايت) ‪.Infosphere‬‬
‫نظمه أبناء الحرية ضد الربيطانيني‪ ،‬وبداية التحرك إلطالق الثورة األمريكية‪[ .‬املحرر]‪.‬‬‫(٭) يوم حفل الشاي الذي ّ‬
‫(٭٭) يوم اقتحام سجن الباستيل وقيام الثورة الفرنسية‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫متهيد‬

‫وثورة املعلومات التي أناقشها هي فرصة عظيمة ملستقبلنا‪ .‬لذلك‪ ،‬فهذا الكتاب‬
‫هو أيضا كتاب متفائل نوعا ما‪ .‬أقول «نوعا ما» ألن االرتياب هنا يكمن يف مدى قدرتنا‬
‫عىل تحقيق أقىص استفادة مام لدينا من تكنولوجيات معلومات واتصاالت مع تجنب‬
‫سوء عواقبها‪ .‬كيف نضمن أننا سوف نجني منافعها؟ ما الذي ميكننا أن نفعله من‬
‫أجل تحديد‪ ،‬وتنسيق‪ ،‬وتشجيع ورعاية التحوالت التكنولوجية األفضل؟ ما املخاطر التي‬
‫تنشأ عن تحويل العامل‪ ،‬عىل نحو متزايد‪ ،‬إىل بيئة صديقة لتكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت؟ هل التكنولوجيات التي لدينا متيض باتجاه متكيننا وزيادة قدراتنا‪ ،‬أم أنها‬
‫سوف ُت َق ّيد وتحد ما لدينا من مساحات مادية وفكرية‪ ،‬وتجربنا بهدوء عىل التكيف معها‬
‫ألنها هي الوسيلة األفضل‪ ،‬أو رمبا الوسيلة الوحيدة‪ ،‬لتسيري األمور؟ هل ميكن أن تساعدنا‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت عىل حل مشاكلنا االجتامعية والبيئية األكرث إلحاحا‪،‬‬
‫أم أنها سوف تؤدي إىل تفاقمها؟ هذه التساؤالت ما هي إال بعض من األسئلة املثرية‬
‫للتحدي التي تطرحها ثورة املعلومات‪ .‬أميل أن هذا الكتاب رمبا ُيسهم يف الجهد األكرب‬
‫املستمر لتوضيح ومعالجة هذه التساؤالت‪ .‬كام آمل إمكانية التوصل إىل نهج مثمر وأكرث‬
‫فعالية لتناول املشكالت والفرص املتعلقة بتكنولوجيات املعلومات واالتصاالت؛ رمبا‬
‫يتحقق هذا عندما نكتسب فهام أعمق وأكرث إدراكا لتأثريات تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت يف حياتنا الحالية واملستقبلية‪.‬‬
‫تأيت الفرص العظيمة التي تقدمها تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت متالزمة مع‬
‫مسؤولية فكرية ضخمة من أجل فهمها واالستفادة منها بالطريقة املالمئة‪ .‬هذا هو أيضا‬
‫السبب يف أن هذا الكتاب ليس كتابا للمتخصصني‪ ،‬بل هو كتاب لكل من يهتم بتطور ما‬
‫لدينا من تكنولوجيات‪ ،‬وبكيفية تأثريها فينا ويف مستقبل البرشية املنظور‪ .‬وال يفرتض‬
‫الكتاب أي معرفة سابقة مبوضوعاته؛ عىل رغم ذلك‪ ،‬فهو ال يعد مرجعا أوليا للمبتدئني‪.‬‬
‫إذ إنه من املمكن تبسيط مفهوم الظواهر املعقدة‪ ،‬بيد أن هناك حدا فاصال يصبح‬
‫التبسيط‪ ،‬بعده‪ ،‬تشويها ال يعول عليه‪ ،‬ومن ثم يصري عديم الفائدة‪ .‬لقد حاولت قدر‬
‫اإلمكان أن أسري نحو ذلك الحد الفاصل من دون تخطيه‪ .‬وآمل أن يكون القارئ رؤوفا‬
‫عند الحكم عىل جهودي‪.‬‬
‫باعتبار هذا الكتاب لغري املتخصصني‪ ،‬فقد يكون مزدوج القيمة كمقدمة‪ .‬ألنه‬
‫جزء من مرشوع أوسع‪ ،‬عن أسس فلسفة املعلومات‪ ،‬يسعى إىل تحديث فلسفتنا‪،‬‬
‫‪11‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫وجعلها ذات صلة بعرصنا وتتجاوز األسوار األكادميية(‪ .)1‬نظرا إىل املستجدات غري‬
‫املسبوقة التي ُيحدثها فجر عرص املعلومات‪ ،‬فإنه من غري املستغرب أننا رمبا نحتاج‬
‫إىل تطوير واستكامل العديد من وجهات النظر الفلسفية األساسية التي ترسخت‬
‫لدينا عرب التاريخ‪ ،‬وبخاصة يف أثناء عرص الصناعة(٭)‪ ،‬بل رمبا نحتاج إىل استبدالها كليا‪.‬‬
‫هناك أجواء من الرتقب املرتبك املشوب بالقلق‪ ،‬رمبا مل يظهر هذا بعد يف األوساط‬
‫األكادميية وبيوت الخربة ومراكز البحوث أو يف دوائر البحوث والتطوير‪ ،‬بيد أن‬
‫هذا يبدو جليا يف الطرقات وعىل شبكة اإلنرتنت‪ .‬هناك أيضا إدراك للتغريات املثرية‬
‫والشاملة التي تحدث يف آرائنا بشأن العامل‪ ،‬وبشأن أنفسنا‪ ،‬وبشأن تعامالتنا مع العامل‬
‫وتعامالتنا بعضنا مع بعض‪ .‬هذه األجواء وهذا اإلدراك مل يأتيا نتيجة لربامج بحثية‪،‬‬
‫أو نتيجة لتأثري االستخدامات الناجحة للمنح‪ .‬بواقعية أكرث وبقوة أكرب‪ ،‬ولكن أيضا‬
‫مع حرية وتجريبية أكرث‪ ،‬فإن التغريات التي طرأت عىل آرائنا بشأن العامل هي نتيجة‬
‫ما نجريه يوميا من تضبيطات فكرية وسلوكية يف واقعنا الذي يتغري بسالسة أمام‬
‫أعيننا وتحت أقدامنا بصورة تصاعدية ومن دون توقف‪ .‬إننا نعرث عىل توازن جديد‬
‫بينام نحن مندفعون نحو املستقبل‪ ،‬عن طريق تشكيل الظروف الجديدة التي مل‬
‫ترق بعد إىل مرحلة النضج والتكيف معها‪ .‬مل تعد املستجدات تسفر عن اضطراب‬ ‫َ‬
‫مبديئ ما يلبث أن يتالىش ليصري يف النهاية أمناطا مستقرة من «املزيد من اليشء نفسه‬
‫تقريبا»‪ .‬ف ّكر يف صناعة السيارة أو صناعة الكتاب‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬وما انتهتا إليه من‬
‫استقرار بعد فرتة أولية من اضطرابات وتعديالت رسيعة‪ .‬يبدو جليا أن فلسفة جديدة‬
‫للتاريخ تحاول إيجاد معنى ومنطق لعرصنا باعتباره نهاية التاريخ وبداية التاريخ‬
‫ا ُملفرط ‪( hyperhistory‬مزيد عن هذا املفهوم يأيت يف الفصل األول)‪ .‬هذه الفلسفة‬
‫تدعو إىل وضع فلسفة جديدة للطبيعة وأنرثوبولوجيا فلسفية جديدة‪ ،‬وتدعو إىل‬
‫الحفاظ عىل البيئة الرتكيبية ‪ synthetic environmentalism‬كجرس بيننا وبني العامل‪،‬‬
‫وتدعو إىل فلسفة جديدة للسياسات بيننا‪ .‬إن «الثقافة السيربانية ‪»Cyberculture‬‬
‫(الثقافة الناشئة من استخدام شبكات الفضاء الحاسويب مثل اإلنرتنت)‪ ،‬و«ما بعد‬
‫اإلنسانية ‪ ،»posthumanism‬و«التفرد ‪ ،»singularity‬وغريها من األفكار العرصية‬
‫(٭) باعتبار أننا نعيش اليوم عرص املعلومات‪ ،‬فبوسعنا اإلشارة إىل عرص مىض نسميه عرص الصناعة‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫متهيد‬

‫املامثلة ميكن أن ُتفهم جميعها عىل أنها محاوالت إليجاد منطق ومعنى ملأزقنا الجديد‬
‫املتعلق بالتاريخ ا ُملفرط‪ .‬تبدو يل هذه األفكار العرصية ذات داللة وموحية أحيانا‪،‬‬
‫حتى إن كانت غري مقنعة‪ ،‬وكام يقولون يف الربازيل‪« :‬الجحر عميق إىل أبعد حد ‪O‬‬
‫‪ .»buraco é mais embaixo‬واملشكلة أعمق بكثري‪ ،‬إننا يف حاجة إىل القيام ببعض‬
‫التنقيب الفلسفي الجاد‪ ،‬وهذا هو السبب يف أن الدعوة إىل إعادة التفكري يف الحارض‬
‫واملستقبل‪ ،‬يف عامل يصبح معتمدا عىل التكنولوجيا بشكل متزايد‪ ،‬تصل إىل حد التامس‬
‫فلسفة جديدة للمعلومات ميكن تطبيقها يف مختلف مناحي حالة التاريخ ا ُملفرط التي‬
‫لدينا‪ .‬إننا يف حاجة إىل أن ننظر بإمعان يف جذور ثقافتنا‪ ،‬وإىل أن نرعاها‪ ،‬تحديدا ألننا‬
‫بحق معنيون بأوراقها وأزهارها‪.‬‬
‫نحن نعلم أن مجتمع املعلومات له جذوره العميقة يف اخرتاع الكتابة‪ ،‬والطباعة‪،‬‬
‫ووسائط اإلعالم االجتامعي‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬فهو مل يصبح واقعا إال يف اآلونة األخرية‪،‬‬
‫عندما تطورت وسائل تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت املستخدمة يف التسجيل‬
‫والنقل وأصبحت هذه الوسائل تتيح إمكانات املعالجة والتجهيز‪ .‬وقد سببت التحوالت‬
‫العميقة والواسعة النطاق التي أحدثتها تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت قصورا‬
‫مفاهيميا كبريا‪ .‬من الواضح أننا يف حاجة إىل الفلسفة لتضطلع وتلتزم‪ ،‬ألن املهام‬
‫املرتقبة جسام‪ .‬نحن يف حاجة إىل الفلسفة الستيعاب طبيعة املعلومات ذاتها عىل‬
‫نحو أفضل‪ .‬نحن يف حاجة إىل الفلسفة لنرتقب ونوجه األثر األخالقي لتكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت علينا وعىل بيئتنا‪ .‬نحن يف حاجة إىل الفلسفة لتحسني الديناميات‬
‫االقتصادية واالجتامعية والسياسية للمعلومات‪ .‬نحن يف حاجة إىل الفلسفة لبناء اإلطار‬
‫الفكري املناسب الذي ميكن أن يساعدنا عىل إدراك الدالالت ‪( semanticize‬إعطاء‬
‫معنى وإيجاد منطق) ملأزقنا الجديد‪ .‬باختصار‪ ،‬نحن يف حاجة إىل فلسفة املعلومات‬
‫بوصفها فلسفة تخص عرصنا‪ ،‬من أجل عرصنا‪.‬‬
‫أنا لست واهام بشأن املهمة العمالقة التي أمامنا‪ .‬يف هذا الكتاب‪ ،‬أنا فقط‬
‫أخط ُم َس َّودَة لبعض األفكار لفلسفة التاريخ‪ ،‬مبفاهيم فلسفة التاريخ ا ُملفرط؛‬
‫ولفلسفة الطبيعة‪ ،‬مبفاهيم فلسفة اإلنفوسفري (الغالف املعلومايت)؛ ولألنرثوبولوجيا‬
‫الفلسفية‪ ،‬مبفاهيم ثورة رابعة يف فهمنا الذايت‪ ،‬بعد الثورات الكوبرنيكية والداروينية‬
‫والفرويدية؛ ولفلسفة السياسة‪ ،‬مبفاهيم تصميم النظم متعددة الوكالء ‪multi-‬‬
‫‪13‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫‪ agent systems‬التي رمبا تكون أهال ملهمة التعامل مع القضايا العاملية‪ .‬كل هذا‬
‫ينبغي أن يؤدي إىل التوسع يف املخاوف واالهتاممات األخالقية والرعاية لجميع‬
‫البيئات‪ ،‬مبا فيها االصطناعية أو الرقمية أو التخليقية (الرتكيبية)‪ .‬إن مثل هذه‬
‫األخالقيات البيئية اإللكرتونية الجديدة ينبغي أن ترتكز عىل أخالقيات معلومات‬
‫لإلنفوسفري (الغالف املعلومايت) بأكمله ولجميع مكوناته وسكانه‪ .‬إنني يف الفصول‬
‫التالية فقط أالمس مثل هذه األفكار وأضع الخطوط العامة لالحتياج إىل بنية تحتية‬
‫أخالقية تتسق معها‪ .‬إن أمامنا كثريا من العمل‪ .‬وآمل كثريا أن يكون اآلخرون عىل‬
‫استعداد للمشاركة بجهودهم‪.‬‬
‫ختاما‪ ،‬سريى القارئ أن هذا الكتاب يحتوي عىل وفرة من املصطلحات األولية‪،‬‬
‫باإلضافة إىل الكلامت املستحدثة‪ ،‬والتسميات املخترصة‪ ،‬والتعبريات الفنية‪ .‬إن‬
‫محاوالت مامثلة إلعادة صياغة لغتنا ميكن أن تكون مزعجة ومستفزة‪ ،‬لكن ال‬
‫ميكن تجنبها دامئا‪ .‬إن الكفاح من أجل العثور عىل توازن بني املقروئية (السالسة يف‬
‫القراءة) والدقة واضح‪ ،‬وقد قررت أال أخفيه‪ .‬إلعادة صياغة تشبيه نابض بالحياة‬
‫كتبه فريدريش ڤايسامن )‪ ،Friedrich Waismann (1959 – 1896‬فيلسوف عضو‬
‫حلقة فيينا ‪ ،Vienna Circle‬فمثلام يستطيع السباح املاهر أن يسبح عكس التيار‪،‬‬
‫كذلك الفيلسوف الجيد رمبا من املفرتض أن يتقن الفن الصعب للتفكري «عكس ما‬
‫ُيت ََح َّدث به»‪ ،‬أي عكس العادات اللغوية السائدة(‪ .)2‬أنا أتفق متاما‪ ،‬ولكنني أيضا‬
‫ُأدرك أن جهودي لإلمساك باملستجدات الفكرية املتعمقة التي نواجهها تظل غري‬
‫كافية‪ .‬إن تحدي التصدي لتدفق األفكار القدمية هو تح ٍّد جا ٌّد ومهم للغاية‪ ،‬ألنه‬
‫من الصعب أن تكون هناك سياسات أفضل من دون وجود فهم أفضل‪ .‬نحن رمبا‬
‫نحتاج إىل إعادة النظر يف مفرداتنا املفاهيمية وإعادة تصميمها‪ ،‬كام أننا رمبا نحتاج‬
‫إىل إعادة النظر يف أساليبنا املتبعة إلعطاء معنى وإيجاد منطق للعامل (إجراءاتنا‬
‫ومامرساتنا إلضفاء ملسة داللية) من أجل أن نكتسب فهام واستيعابا أفضل لعرصنا‪،‬‬
‫ومن ثم فرصة أفضل لتشكيله بالطريقة األفضل والتعامل بنجاح مع مشاكله التي‬
‫مل تحسم بعد‪ .‬يف الوقت ذاته‪ ،‬هذا ال يعد ترخيصا بالتخيل عن الوضوح والتعقل‪،‬‬
‫وإيجاد األدلة ذات الصلة والحجج املقنعة‪ ،‬والتفسريات املنطقية‪ ،‬واالعرتافات‬
‫الرصيحة والنزيهة بعدم اليقني أو الجهل‪ .‬إن السباحة عكس التيار ال تعني أبدا‬
‫‪14‬‬
‫متهيد‬

‫تر ُاشق املاء حولنا يف هلع‪ .‬عىل العكس‪ ،‬يصري االنضباط أكرث رضورة‪ .‬إننا يف حاجة‬
‫إىل تحسني أحوالنا الفكرية وليس التخيل عنها‪ .‬لذلك فإنني أقتبس استعارة مائية‬
‫أخرى(‪ .)3‬هذه املرة قدمها أوتو نيوراث )‪ ،Otto Neurath (1945 – 1882‬وهو‬
‫أيضا فيلسوف عضو يف حلقة فيينا‪ :‬إننا حتى ليس لدينا طوف‪ ،‬لكن الغرق يف‬
‫الغموض ليس خيارا(‪ .)4‬إن التفكري املتكاسل يؤدي إىل تفاقم مشاكلنا‪ ،‬إننا يف حاجة‬
‫إىل بذل جهد عقالين رشيد لنبني طوفا بينام نحن مستمرون يف السباحة‪ .‬آمل أن‬
‫تقدم الفصول التالية بعض األلواح الخشبية‪.‬‬

‫‪15‬‬
318
‫شكر وعرفان‬

‫شكر وعرفان‬

‫لقد ساعدين العديد من األشخاص عند كتابة‬


‫نواح عديدة‪ ،‬ويف العديد من‬ ‫هذا الكتاب‪ ،‬يف ٍ‬
‫املناسبات‪ ،‬لذلك فأنا واثق بأنه إذا كان يل أن‬
‫أحاول ذكر اسم كل منهم فإنني سوف أنىس أن‬
‫أذكر شخصا مهام‪ ،‬مهام طالت القامئة‪ .‬لذا‪ ،‬فإنني‬
‫سأقترص عىل شكر أولئك الذين كانوا أكرث تأثريا يف‬
‫املرحلة األخرية من ماراثون البحث والكتابة‪.‬‬
‫أنا ممنت للغاية إىل الثا مينون ‪،Latha Menon‬‬
‫كبرية املحررين يف مطابع جامعة أكسفورد ‪Oxford‬‬
‫)‪ ،University Press (OUP‬ألنها شجعتني عىل‬
‫إلزام نفيس بهذا املرشوع الطموح‪ ،‬وإلسهاماتها يف‬
‫عدة مراحل من العمل‪ ،‬ولدعمها عىل مر السنني‪،‬‬
‫حتى عندما ظللت أطلب مزيدا من التمديدات‬
‫ملوعد التسليم‪ .‬وهي قرأت املسودة قبل األخرية‬
‫وجعلت قراءتها أسهل‪ ،‬بشكل مذهل‪.‬‬
‫العديد من املحادثات مع أنتوين بيفرز‬
‫‪ ،Anthony Beavers‬وتريي بينوم ‪،Terry Bynum‬‬
‫‪17‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫وماسيمو دورانتي‪ ،‬وتشارلز إيس ‪ ،Charles Ess‬وآموس غوالن ‪ ،Amos Golan‬ومرييل‬


‫هيلدبرانت ‪ ،Mireille Hildebrandt‬وهوسوك يل ‪ -‬ماكيامو ‪،Hosuk Lee-Makiyama‬‬
‫وماركو بانسيني ‪ ،Marco Pancini‬وأوغو باغالو‪ ،‬ومارياروزارو تاديو ‪Mariarosara‬‬
‫‪ ،Taddeo‬وماتيو توريليل ‪ ،Matteo Turilli‬ومينو فان دورن ‪،Menno van Doorn‬‬
‫وماريت ج‪ .‬وولف ‪ Marty J. Wolf‬يف أجزاء مختلفة من هذا الكتاب أدت إىل إدخال‬
‫تحسينات رئيسة‪ .‬إننا مل نهدر نبيذنا‪ ،‬لكني مازلت مدينا لهم بعدة أنخاب‪ .‬عىل وجه‬
‫الخصوص‪ ،‬ماسيمو دورانتي ‪ ،Massimo Durante‬وفيديريكو غوبو ‪،Federico Gobbo‬‬
‫وكارسون غروبف ‪ ،Carson Grubaugh‬وأوغو باغالو ‪ ،Ugo Pagallo‬وماريت ج‪ .‬وولف‬
‫‪ Marty J. Wolf‬إذ قرأوا ما ظننته املسودة األخرية وحولوها إىل املسودة قبل األخرية‪،‬‬
‫وذلك بفضل مالحظاتهم وتعليقاتهم الثاقبة جدا‪.‬‬
‫أنا مدين لزوجتي‪ ،‬آنا كريستينا (كيا) دي أوزوريو نوبري )‪Anna Christina (Kia‬‬
‫‪ ،De Ozorio Nobre‬ليس فقط بالحياة املمتلئة بالحب‪ ،‬ولكن أيضا بالفكرة املبدئية‬
‫لتكريس املزيد من االهتامم لـ «الثورة الرابعة»‪ ،‬واإلميان غري املحدود بقدرات زوجها عىل‬
‫أن يكون عىل مستوى توقعاتها ومعايريها العالية‪ .‬هي سمعتني يف كثري من األحيان أشكو‬
‫صعوبة إمتام هذا الكتاب‪ ،‬حتى أنني أشعر ببعض الخجل أنني متكنت من ذلك بالفعل‪.‬‬
‫قليل من األشياء ميكن أن تحفزك مبثل ما يحفزك اليقني الكامل‪ ،‬لدى شخص تحبه وتقدره‪،‬‬
‫بأنك سوف تنجح‪ .‬قدمت «كيا» العديد من االقرتاحات األساسية والثاقبة بشأن املسودة‬
‫األخرية‪ ،‬التي قرأتها لها يف أثناء بعض األمسيات الرائعة أمام مدفئتنا‪.‬‬
‫يف العام ‪ ،2012‬كان من دواعي رسوري وترشيفي أن أترأس مجموعة بحثية وهي‬
‫مبادرة «أوناليف ‪ »Onlife‬التي تنظمها املفوضية األوروبية بشأن تأثري تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت يف التحوالت الرقمية التي تحدث يف املجتمع األورويب‪ .‬بدأت نيكول‬
‫ديواندر ‪ ،Nicole Dewandre‬مستشار املدير العام‪ ،‬املديرة العامة لشبكات ومحتوى‬
‫وتكنولوجيا االتصاالت التابعة للمفوضية األوروبية‪ ،‬املرشوع بأكمله ودعمته بقوة‪ ،‬وأنا‬
‫مدين بالكثري لها ولروبرت مادلني ‪ Robert Madelin‬ملثل هذا التحدي الرائع للقيام‬
‫ببعض الفلسفة عىل أرض الواقع‪ .‬كان الناتج من أنشطة املجموعة هو بيان أوناليف‬
‫الرسمي (أوناليف مانيفستو) ‪ .)1(The Onlife Manifesto‬كان يل عظيم الرشف أن‬
‫تسمى املجموعة والبيان باسم بعض األفكار التي أقدمها يف هذا الكتاب‪ .‬إن كوين جزءا‬
‫‪18‬‬
‫شكر وعرفان‬

‫من املجموعة كان تجربة فكرية رائعة‪ .‬من خالل ذلك‪ ،‬رصت أفهم بشكل أفضل جوانب‬
‫كثرية من ثورة املعلومات التي رمبا كانت ستغيب عني لوال إسهام ومناقشة العديد من‬
‫الزمالء املتميزين‪ .‬لذلك‪ ،‬جزيل الشكر لزماليئ يف مبادرة أوناليف «‪ :»onlifers‬فرانكو‬
‫أكوردينو ‪ ،Franco Accordino‬وستيفانا برودبنت ‪ ،Stefana Broadbent‬ونيكول‬
‫ديواندر‪ ،‬وتشارلز إيس‪ ،‬وجان‪-‬غابرييل غاناشا ‪ ،Jean-Gabriel Ganascia‬ومرييل‬
‫هيلدبرانت‪ ،‬ويانيس الوريس ‪ ،Yiannis Laouris‬وكلري لوبيت ‪ ،Claire Lobet‬وسارة‬
‫أوتس ‪ ،Sarah Oates‬وأوغو باغالو‪ ،‬وجوديث ساميون ‪ ،Judith Simon‬وماي ثورسيث‬
‫‪ ،May Thorseth‬وبيرت بول فريبيك ‪.Peter Paul Verbeek‬‬
‫الكتاب يف صورته النهائية هو نتاج للتفاعالت املثمرة للغاية التي استمتعت بها‬
‫مع فريق التحرير يف مطابع جامعة أكسفورد‪ ،‬وبصفة خاصة مع إميا ما ‪.Emma Ma‬‬
‫إن املراجعني املجهولني الذين عينتهم مطابع جامعة أكسفورد أبقوين عىل الطريق‬
‫الصحيح‪ .‬دققت بيني دريسكول ‪ ،Penny Driscoll‬مساعديت الشخصية‪ ،‬املخطوطة‬
‫مبهارة‪ ،‬ما جعلها أكرث قابلية للقراءة‪ .‬قدمت دريسكول أيضا بعض املالحظات الفلسفية‬
‫املفيدة جدا عىل النسخة النهائية من الكتاب‪ .‬يجب أن أؤكد هنا ما كتبته بالفعل من‬
‫قبل‪ :‬من دون دعمها االستثنايئ ومهاراتها اإلدارية التي ال تشوبها شائبة‪ ،‬ما متكنت من‬
‫إنجاز هذا املرشوع‪.‬‬
‫يف النهاية‪ ،‬أود أن أشكر جامعة هريتفوردشاير ‪،University of Hertfordshire‬‬
‫وبريندان الرفور ‪ ،Brendan Larvor‬وجريميي ريدجامن ‪ Jeremy Ridgman‬لتقدميهم‬
‫كل الدعم الالزم ملتابعة بحثي يف مراحله املختلفة خالل السنوات القليلة املاضية؛‬
‫واملجلس الربيطاين لبحوث اآلداب والعلوم اإلنسانية ‪British Arts and Humanities‬‬
‫‪ Research Council‬وغوغل‪ ،‬عىل ثالث منح أكادميية‪ ،‬خالل السنوات الدراسية‬
‫‪ 11/2010‬و‪ ،12/2011‬التي دعمت بعض البحوث من أجل هذا الكتاب؛ وآموس غوالن‪،‬‬
‫الذي تفضل بدعويت لالنضامم كأستاذ مساعد مؤقت يف معهد قياسات املعلومات ‪Info-‬‬
‫‪ metrics Institute‬بقسم االقتصاد بالجامعة األمريكية يف واشنطن؛ وبيتي األكادميي‬
‫الجديد األخري‪ ،‬معهد أكسفورد لإلنرتنت ‪ .Oxford Internet Institute‬إن جهد الكتابة‬
‫األخرية تم بفضل فرتة زمنية هادئة‪ ،‬ومكرسة‪ ،‬ومنتظمة كان يل رشف قضائها يف الجامعة‬
‫األمريكية يف العام ‪.2013‬‬
‫‪19‬‬
318
‫الزمان‪ :‬التأريخ ُ‬
‫املفرط‬

‫‪1‬‬

‫الزمان‪ :‬التأريخ ُ‬
‫املفرط‬

‫العصور الثالثة لتطور البرشية‬


‫مل يشهد تاريخ البرشية عددا من الناس‬
‫عىل قيد الحياة مثل ما نراه اليوم‪ ،‬وبيننا اليوم‬
‫من املع َّمرين أكرث مام عرفه أي وقت مىض‪.‬‬
‫متوسط العمر املتوقع آخذ يف االزدياد (الشكل‬
‫الرقم ‪1‬؛ انظر أيضا الشكل الرقم ‪ )19‬والفقر‬
‫آخذ يف التناقص (الشكل الرقم ‪ ،)2‬عىل الرغم‬
‫من أن درجة عدم املساواة عامليا التزال ُمخزية‪.‬‬
‫واإلعاقة‪ ،‬بالتايل‪ ،‬تصبح أكرب قضايا البرشية‬
‫املتعلقة بالصحة‪.‬‬
‫ُرسمت الخطوط التي مُتثل االتجاهات‬
‫السائدة يف الشكل الرقم ‪ 1‬والشكل الرقم ‪،2‬‬
‫«التأريخ ا ُملفرط هو حقبة جديدة‬
‫إىل حد كبري‪ ،‬مستن َبطة مام لدينا من تكنولوجيا‪،‬‬ ‫يف تطور البرشية‪ ،‬لكنه ال يتجاوز‬
‫عىل األقل بقدر ما نطورها ونستخدمها بفطنة‬ ‫القيود املكانية والزمانية التي تتوىل‪،‬‬
‫عىل الدوام‪ ،‬تنظيم حياتنا عىل هذا‬
‫وبصورة سلمية وعىل نحو مستدام‪.‬‬ ‫الكوكب»‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫ننىس‪ ،‬يف بعض األحيان‪ ،‬كم نحن مدينون إىل أحجار الصوان والعجالت‪ ،‬إىل‬
‫الرشر واملحاريث‪ ،‬إىل املحركات والحواسب‪ .‬لكننا ننتبه إىل عمق ديوننا للتكنولوجيا‬
‫عندما نقسم حياة اإلنسان إىل ما قبل التاريخ ‪ prehistory‬والتاريخ ‪ .history‬مثل‬
‫هذا الحد الفاصل املهم هو مبنزلة إقرار بأن اخرتاع وتطوير تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت هو الذي أحدث كل الفرق بني من كنا‪ ،‬ومن نكون؛ وأيضا‪ ،‬كام سأناقش‬
‫يف هذا الكتاب‪ ،‬من ميكننا أن نكون‪ ،‬ومن سنصبح‪ .‬عندما أصبحت نظم تسجيل‬
‫األحداث متاحة‪ ،‬ومن ثم أصبح متاحا تراكم ونقل املعلومات لالستخدام الالحق‪،‬‬
‫حينئ ٍذ فقط‪ ،‬بدأ استنباط الدروس املستفادة من األجيال السابقة يتزايد وبصورة‬
‫مطردة‪ ،‬وبطريقة سلسة أو «الماركية» ‪ ،)1(Lamarckian‬وهكذا دخلت البرشية‬
‫يف التأريخ‪.‬‬

‫املصدر‪ :‬شعبة السكان التابعة إلدارة الشؤون االقتصادية واالجتامعية باألمانـة العامـة لألمـم املتحـدة‬
‫(‪ .)2005‬التوقعـات السكانية يف العامل‪ :‬تنقيح العام ‪ .2004‬املالمح الرئيسية‪ .‬نيويورك‪ ،‬األمم املتحدة‪.‬‬

‫الشكل (‪ :)1‬متوسط العمر املتوقع عند امليالد يف العامل ويف املجموعات اإلمنائية‬
‫الرئيسية خالل الفرتة ‪.2050 - 1950‬‬

‫‪22‬‬
‫‪23‬‬
‫املفرط‬
‫الزمان‪ :‬التأريخ ُ‬

‫املصدر‪ :‬البنك الدويل‪ © .World Bank.‬مجلة إيكونوميست املحدودة‪ ،‬لندن (‪ 29‬فرباير ‪The Economist Newspaper Limited, London (29 February 2012) )2012‬‬
‫الشكل (‪ :)2‬الفقر يف العامل ُمعرفا بعدد ونسبة السكان الذين يعيشون عىل أقل من ‪ 1,25‬دوالر أمرييك للفرد يف اليوم (بأسعار ‪ )2005‬خالل الفرتة ‪.2008-2005‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫التأريخ من ثم مرتادف مع عرص املعلومات‪ ،‬مثل هذا املنطق رمبا يوحي بأن‬
‫البرشية كانت تعيش يف أنواع مختلفة من مجتمعات املعلومات‪ ،‬عىل األقل منذ‬
‫العرص الربونزي‪ ،‬تلك الحقبة التي شهدت اخرتاع الكتابة يف بالد ما بني النهرين ويف‬
‫مناطق أخرى من العامل (األلفية الرابعة قبل امليالد)‪ .‬ويف الحقيقة‪ ،‬فقد مثلت مدينة‬
‫«أور»‪ ،‬عاصمة سومر (العراق) يف األلفية الثالثة قبل امليالد‪ ،‬الدولة البريوقراطية األكرث‬
‫تطورا ومركزية يف العامل؛ لدرجة أنه قبل حرب الخليج (‪ )1991‬وحرب العراق (‪2003‬‬
‫‪ ،)2011 -‬كانت التزال لدينا مكتبة فيها مئات اآلالف من األلواح الطينية‪ .‬تلك األلواح‬
‫الطينية مل تكن تحتوي عىل رسائل حب وال قصص عن قضاء العطالت‪ ،‬ولكنها احتوت‬
‫بشكل رئيس عىل قوائم جرد ومعامالت تجارية ووثائق إدارية‪ .‬وعىل الرغم من ذلك‪،‬‬
‫فإن أور ليست هي النموذج الذي يف أذهاننا عندما نتحدث عن مجتمع املعلومات‪.‬‬
‫رمبا تكون هناك عدة تفسريات‪ ،‬لكن التفسري الذي يبدو أكرث إقناعا هو أن التقدم‬
‫البرشي والرخاء قد أصبحا منذ عهد قريب جدا غري مرتبطني فقط‪ ،‬بل معتمدين عىل‬
‫اإلدارة الناجحة والفعالة لدورة حياة املعلومات‪ .‬سوف أتحدث أكرث عن مثل هذه‬
‫الدورة يف بقية هذا الفصل‪ ،‬ولكن‪ ،‬دعونا ن َر أوال ملاذا يعني هذا االعتامد أننا دخلنا‬
‫أخريا يف التاريخ ا ُملفرط‪( .‬الشكل الرقم ‪.)3‬‬
‫إن ما قبل التأريخ والتأريخ هام مثل الحال يف اللغة‪ ،‬إنهام ُيخربان عن كيف‬
‫يعيش الناس‪ ،‬وليس متى أو أين يعيشون‪ .‬من هذا املنظور‪ ،‬فإن املجتمعات البرشية‬
‫وفق أسلوب معيشتها يف الوقت الراهن متتد عرب ثالثة عصور‪ .‬ووفقا لتقارير عن عدد‬
‫غري محدد من القبائل املنعزلة عن العامل‪ ،‬التي تعيش يف منطقة األمازون(‪ ،)2‬فإنه يف‬
‫بداية األلفية الثانية كان اليزال هناك بعض املجتمعات التي رمبا تعيش بأسلوب ما‬
‫قبل التأريخ‪ ،‬أي من دون وثائق مسجلة‪ .‬وإذا اختفت هذه القبائل‪ ،‬أو باألحرى عندما‬
‫تختفي فسوف ُتكتب نهاية الفصل األول من كتابنا عن التطور‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫الزمان‪ :‬التأريخ ُ‬
‫املفرط‬

‫الشكل (‪ :)3‬من التاريخ إىل التاريخ ا ُملفرط‪.‬‬

‫التزال األغلبية العظمى من الناس تعيش اليوم بأسلوب التأريخ‪ ،‬يف مجتمعات‬
‫تعتمد عىل تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت لتسجيل ونقل واستخدام البيانات‬
‫بجميع أنواعها‪ .‬يف مثل هذه املجتمعات‪ ،‬فإن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت مل‬
‫تتخط بعد األهمية الحيوية التي لتكنولوجيات أخرى‪ ،‬وبخاصة تلك التكنولوجيات‬‫َ‬
‫املتعلقة بالطاقة‪ .‬يف املقابل‪ ،‬هناك بعض الناس يف أنحاء العامل يعيشون بالفعل‬
‫أسلوب التأريخ ا ُملفرط‪ ،‬يف مجتمعات وبيئات حيث تكون تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت وقدراتها عىل معالجة البيانات ليست مهمة فحسب‪ ،‬ولكنها تكون‬
‫رشطا أساسيا للحفاظ عىل الرخاء االجتامعي والرفاه الشخيص واالزدهار الشامل‬
‫ومواصلة النامء‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬فإن أعضاء مجموعة السبع ‪ -‬كندا وفرنسا وأملانيا‬
‫وإيطاليا واليابان واململكة املتحدة والواليات املتحدة األمريكية – جميعهم مؤهلون‬
‫كمجتمعات تأريخ ُمفرط‪ ،‬ألن ما ال يقل عن ‪ 70‬يف املائة من الناتج املحيل اإلجاميل‬
‫(قيمة السلع والخدمات املنتجة يف بلد) لهذه الدول يعتمد عىل السلع غري املادية‬
‫ذات الصلة باملعلومات بدال من السلع املادية الناتجة من العمليات الزراعية‬
‫‪25‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫أو الصناعية؛ وبشكل كبري‪ ،‬تعتمد اقتصادات هذه الدول عىل أصول قامئة عىل‬
‫املعلومات (اقتصاد قائم عىل املعرفة)‪ ،‬وعىل الخدمات كثيفة االستخدام للمعلومات‬
‫(بخاصة خدمات األعامل واملمتلكات‪ ،‬واالتصاالت‪ ،‬والتمويل‪ ،‬والتأمني‪ ،‬والرتفيه)‪،‬‬
‫وعىل القطاعات العامة املوجهة نحو املعلومات (بخاصة التعليم واإلدارة العامة‬
‫والرعاية الصحية)‪.‬‬
‫تقدم لنا طبيعة الرصاعات دليال مؤسفا عىل مصداقية هذا التفسري الثاليث‬
‫للتطور البرشي‪ .‬إن مجتمعا يعيش بأسلوب التأريخ ا ُملفرط هو املجتمع الوحيد‬
‫الذي ميكن تهديده معلوماتيا عن طريق هجوم سيرباين‪ ،‬وأولئك الذين يعيشون‬
‫باستخدام الرقم هم فقط الذين رمبا ميوتون باستخدام الرقم‪ ،‬كام سرنى يف‬
‫الفصل الثامن‪.‬‬
‫دعونا نعد إىل مدينة أور‪ .‬يرجع السبب يف أننا ال نعترب مدينة أور مجتمع‬
‫معلومات إىل أنها كانت تعيش بأسلوب التأريخ وليس بأسلوب التأريخ ا ُملفرط‪.‬‬
‫كانت تلك املدينة تعتمد عىل التكنولوجيات الزراعية‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬أكرث‬
‫من اعتامدها عىل األلواح الطينية‪ .‬قدمت تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫السومرية البنية التحتية للتسجيل والنقل التي جعلت من املمكن صعود‬
‫غريها من التكنولوجيات‪ ،‬مع النتيجة املبارشة املتمثلة يف زيادة اعتامدنا عىل‬
‫املزيد واملزيد من مستويات التكنولوجيا‪ .‬عىل الرغم من ذلك‪ ،‬مل تتطور وسائل‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت الخاصة بالتسجيــل والنقــــل إىل القدرة‬
‫عىل معالجة وتجهيـــز البيانات إال بعد عدة آالف من الســنني‪ ،‬خالل القرون‬
‫القليلــة بني يوهــان غوتنـــربج ‪ 1400( Johann Gutenberg‬تقريبا ‪)1468 -‬‬
‫وآالن تورنـــغ )‪ ،Alan Turing (1945 - 1912‬والجيل الحايل هو وحده الذي‬
‫يشهد التحوالت الجذرية التي أحدثتها تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬هذه‬
‫التحوالت التي ترسم حدا فاصال جديدا بني التأريخ والتأريخ ا ُملفرط‪.‬‬
‫ينبغي أال ندهش لطول الفرتة الزمنية التي استغرقها تطور تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت من أجل الوصول إىل مجتمعات معلومات تعيش‬
‫بأسلوب التاريخ ا ُملفرط‪ .‬فالدورة النموذجية لحياة املعلومات (انظر الشكل‬
‫الرقم ‪ )4‬تشتمل عىل املراحل التالية‪ :‬الوجود (اكتشاف‪ ،‬تصميم‪ ،‬تأليف‪ ...‬إلخ)‪،‬‬
‫‪26‬‬
‫الزمان‪ :‬التأريخ ُ‬
‫املفرط‬

‫والتسجيل‪ ،‬والنقل (الربط الشبيك‪ ،‬التوزيع‪ ،‬الوصول إىل املعلومات‪ ،‬االسرتجاع‪...‬‬


‫إلخ)‪ ،‬واملعالجة (التجميع‪ ،‬التأكد من صحة املعلومات‪ ،‬الدمج‪ ،‬التعديل‪ ،‬التنظيم‪،‬‬
‫الفهرسة‪ ،‬التصنيف‪ ،‬التصفية‪ ،‬التحديث‪ ،‬الفرز‪ ،‬التخزين‪ ،‬وغريها)‪ ،‬واالستخدام‬
‫(الرصد‪ ،‬النمذجة‪ ،‬التحليل‪ ،‬التفسري‪ ،‬التخطيط‪ ،‬التنبؤ‪ ،‬اتخاذ القرارات‪ ،‬إصدار‬
‫التعليامت‪ ،‬التعليم‪ ،‬التعلم‪ ،‬اللعب‪ ...‬إلخ)‪ .‬تخيل اآلن أن الشكل الرقم ‪ 4‬هو‬
‫مثل ساعة حائط‪ ،‬وتخيل أن مؤرخة تكتب يف املستقبل‪ ،‬بعد ماليني السنني‪،‬‬
‫مثال‪ .‬رمبا ترى هذه املؤرخة أنه من الطبيعي‪ ،‬ورمبا حتى من مظاهر السيميرتية‬
‫األنيقة‪ ،‬أن تكون الثورة الزراعية احتاجت ما يقرب من ‪ 6000‬سنة إلحداث‬
‫كامل تأثريها‪ ،‬منذ بدايتها يف العرص الحجري الحديث (األلفية العارشة قبل‬
‫امليالد) حتى العرص الربونزي؛ ثم ‪ 6000‬سنة أخرى‪ ،‬منذ العرص الربونزي حتى‬
‫نهاية األلفية الثانية بعد امليالد‪ ،‬حتى تؤيت ثورة املعلومات مثارها األوىل‪ .‬قد تجد‬
‫هذه املؤرخة أنه من املفيد تصوير التطور البرشي كصاروخ ذي ثالث مراحل‪،‬‬
‫هي‪ :‬يف عرص ما قبل التأريخ‪ ،‬ال وجود لتكنولوجيات املعلومات واالتصاالت؛ ويف‬
‫عرص التأريخ‪ ،‬توجد تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬وتقوم بتسجيل ونقل‬
‫املعلومات‪ ،‬ولكن املجتمعات البرشية تعتمد بشكل رئيس عىل أنواع أخرى‬
‫من التكنولوجيات تتعلق باملوارد األولية والطاقة؛ ويف عرص التأريخ ا ُملفرط‪،‬‬
‫توجد تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬وتقوم بتسجيل ونقل املعلومات‪،‬‬
‫وفوق كل ذلك‪ ،‬تعمل عىل معالجة وتجهيز املعلومات بشكل ذايت عىل نحو‬
‫متزايد‪ ،‬وتصري املجتمعات البرشية معتمدة عليها بشكل حيوي وعىل املعلومات‬
‫كمورد أساس لتحقيق ازدهارها‪ .‬قرابة بداية األلفية الثالثة‪ ،‬رمبا تخلص مؤرختنا‬
‫املستقبلية إىل أن االبتكار والرخاء والقيمة املضافة قد انتقلت من كونها ذات‬
‫عالقة بتكنولوجيا املعلومات واالتصاالت إىل كونها ُمع َت ِمدة عىل تكنولوجيا‬
‫املعلومات واالتصاالت‪ .‬وقد تفرتض مؤرختنا املستقبلية أن مثل هذه النقلة‬
‫تتطلب مستويات غري مسبوقة من قدرة املعالجة وكميات هائلة من البيانات‪،‬‬
‫ورمبا يساورها الشك يف أن الذاكرة والتوصيلية ال بد أن تكونا قد تسببتا يف‬
‫اختناقات من نوع ما‪ .‬مؤرختنا املستقبلية عىل حق يف كال التقديرين‪ ،‬كام سرنى‬
‫يف بقية هذا الفصل‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫الشكل (‪ :)4‬الدورة النموذجية لحياة للمعلومات‪.‬‬

‫التعليامت‬
‫انظر إىل املخططات البيانية املوضحة يف الشكل الرقم ‪ 5‬ويف الشكل الرقم‬
‫‪ .6‬الشكل الرقم ‪ 5‬يبني مخططا بيانيا شهريا وأيقونيا‪ ،‬إىل حد بعيد‪ .‬هذا املخطط‬
‫البياين ُيعرف باسم قانون مور ‪ ،Moore’s Law‬وهو يشري إىل أن عدد الرتانزستورات‬
‫(املقحالت) عىل الدوائر املتكاملة يتضاعف كل عامني تقريبا عىل مدى فرتة تطور‬
‫الحواسب الرقمية‪.‬‬
‫الشكل الرقم ‪ 6‬أقل شهرة من الشكل الرقم ‪ ،5‬لكنه ُمذهل بالدرجة نفسها‪ .‬إنه‬
‫يروي لنا قصة مامثلة‪ ،‬لكن فيام يخص انخفاض ُكلفة قدرة الحوسبة‪ .‬يف العام ‪،2010‬‬
‫‪28‬‬
‫الزمان‪ :‬التأريخ ُ‬
‫املفرط‬

‫املصدر‪ :‬ويكيبيديا‬
‫الشكل (‪ :)5‬قانون مور ‪.Moor’s Law‬‬

‫كان جهاز آيباد‪ )iPad2( 2‬ذا قدرة حوسبة تكفي ملعالجة ‪ 1600‬من ماليني التعليامت‬
‫يف الثانية (‪ .)MIPS‬إذا افرتضنا أن مثن مثل هذه القدرة الحوسبية هو ‪ 100‬دوالر‬
‫أمرييك‪ ،‬فإن الرسم البياين يف الشكل الرقم ‪ 6‬يوضح ما كان ميكن أن تكون عليه يف‬
‫العقود املاضية ُكلفة رشاء القدرة الحوسبية املتاحة حاليا يف جهاز آيباد‪ .2‬الحظ أن‬
‫املقياس الرأيس لوغاريتمي‪ ،‬لذلك فهو ينحدر مبضاعفات الرقم عرشة‪ ،‬إذ إن سعر‬
‫قدرة الحوسبة ينخفض بشكل كبري‪ .‬كل هذا يعني أن ‪ 1600‬من ماليني التعليامت يف‬
‫الثانية التي تحملها بني يديك ‪ -‬أو باألحرى التي حملتها يف العام ‪ ،2010‬ألنه بعد ثالث‬
‫سنوات سوف يقوم بالفعل آيباد‪ )iPad4( 4‬بتشغيل ‪ 17056‬من ماليني التعليامت‬
‫يف الثانية – كانت ستكلفك ‪ 100‬تريليون دوالر أمرييك يف الخمسينيات‪ ،‬هذا الرقم‬
‫‪29‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫ال يستطيع فهمه سوى املرصفيني والجرناالت‪ .‬لذلك‪ ،‬وملقارنة رسيعة‪ ،‬فكر يف الناتج‬
‫املحيل اإلجاميل لدولة قطر‪ .‬يف العام ‪ ،2010‬كانت قطر تحتل املرتبة ‪ 57‬بني ‪190‬‬
‫دولة يف العامل‪ ،‬وكان ناتجها املحيل اإلجاميل ال يكفي لرشاء ما يعادل جهاز آيباد‪ 2‬يف‬
‫الخمسينيات‪ ،‬ألن سعره كان فقطـ ‪ 98‬تريليون دوالر أمرييك‪.‬‬
‫سواء كان الشكل الرقم ‪ 5‬أو الشكل الرقم ‪ 6‬هو األكرث إقناعا لك‪ ،‬فإن االستنتاج‬
‫هو نفسه‪ :‬املزيد من القدرة أصبح متاحا عىل نحو متزايد بتكلفة متناقصة‪ ،‬وملزيد‬
‫من الناس‪ ،‬أكرث من أي وقت مىض‪ ،‬وبكميات مذهلة وبوترية مذهلة‪ .‬يبدو أن حدود‬
‫قدرة الحوسبة هي فيزيائية يف املقام األول‪ ،‬إنها تتعلق مبدى استطاعة ما لدينا‬
‫من تكنولوجيات معلومات واتصاالت عىل التخلص من الحرارة والتعايف من األعطال‬
‫التي ال مفر منها للمعدات املتزايدة يف الصغر‪ .‬استخداما للتشبيه السابق‪ ،‬هذا هو‬
‫الصاروخ الذي جعل اإلنسانية تسافر من عرص التأريخ إىل عرص التأريخ ا ُملفرط‪.‬‬
‫وهذا يفرس‪ ،‬أيضا‪ ،‬ملاذا التزال تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت من التكنولوجيات‬
‫املسببة لإلرباك والتي مل تستقر بعد‪ ،‬إذ تبقى األجيال الجديدة هي التي ُت َع ّلم األجيال‬
‫القدمية كيف يستخدمونها‪ ،‬عىل الرغم من أنهم اليزالون يتعلمون من األجيال السابقة‬
‫كيفية قيادة السيارات أو كيفية استخدام فرن امليكروويف‪.‬‬
‫عند هذه النقطة‪ ،‬يتبادر إىل الذهن سؤال عن أين تذهب كل هذه القدرة‬
‫الحوسبية‪ .‬نحن ال نقوم بانتظام بوضع ُأناس عىل القمر باستخدام هواتفنا الذكية أو‬
‫حاسباتنا اللوحية‪ .‬اإلجابة عن هذا السؤال هي‪ :‬التفاعالت‪ ،‬سواء كانت تفاعل آلة مع‬
‫آلة أو تفاعل إنسان مع حاسب (‪.)HCI‬‬
‫يف تفاعل آلة مع آلة‪ ،‬فإن نظام تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت ‪ -‬مثل جهاز‬
‫قياس أو أداة استشعار – يقوم برصد وتسجيل حدث ما‪ ،‬مثل حالة سطح الطريق‪،‬‬
‫ويقوم بنقل البيانات الناتجة عرب شبكة اتصال إىل تطبيق ما‪ ،‬الذي بدوره يقوم‬
‫مبعالجة البيانات وعىل أساس ذلك يتخذ إجراءات معينة‪ ،‬عىل سبيل املثال مواءمة‬
‫عملية كبح السيارة تلقائيا إذا لزم األمر‪ .‬رمبا تكون قد سمعت بوجود املزيد من قدرة‬
‫الحوسبة يف سيارة جديدة متوسطة‪ ،‬أكرث مام كان متاحا يف وكالة الفضاء األمريكية‬
‫(ناسا) إلرسال رواد فضاء إىل القمر (مهمة أبوللو يف العام ‪ .)1969‬هذا صحيح‪ ،‬هناك‬
‫ما يزيد عىل ‪ 50‬من أنظمة تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت يف سيارة عادية‪ ،‬هذه‬
‫‪30‬‬
‫الزمان‪ :‬التأريخ ُ‬
‫املفرط‬

‫املصدر‪ :‬مرشوع هاميلتون يف مؤسسة بروكنغز‪.‬‬


‫‪The Hamilton Project at the Brookings Institution‬‬
‫الشكل (‪ :)6‬تكلفة قدرة حوسبة مساوية لجهاز آيباد‪.2‬‬

‫‪31‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫النظم تتحكم يف أي يشء‪ ،‬من املالحة باألقامر االصطناعية إىل الشاشة عالية الجودة؛‬
‫من نظام منع انغالق املكابح (‪ )ABS‬إىل األقفال الكهربائية؛ من أنظمة الرتفيه إىل‬
‫متنام يف صناعة السيارات‪ ،‬عىل‬
‫جميع أجهزة االستشعار املدمجة يف املحرك‪ .‬إنه سوق ٍ‬
‫النحو الذي يبينه الشكل الرقم ‪ .7‬وفقا لرشكة إنتل‪ ،‬فإن السيارة املتصلة هي بالفعل‬
‫ثالثة األجهزة التكنولوجية األرسع منوا بعد الهواتف والحواسب اللوحية‪ .‬إنها فقط‬
‫مسألة وقت (قصري) قبل أن تصبح جميع السيارات الجديدة متصلة بشبكة اإلنرتنت‪،‬‬
‫وعىل سبيل املثال‪ ،‬تستطيع أن تجد مكانا مناسبا يف موقف السيارات‪ ،‬أو تستشعر‬
‫املركبات األخرى‪ ،‬أو تحدد أرخص أسعار وقود عىل الطريق‪ .‬بطبيعة الحال‪ ،‬السيارات‬
‫الكهربائية سوف تتطلب «حوسبة» أكرث وأكرث‪ ،‬وبحلول العام ‪ ،2015‬سوف تحتوي‬
‫هذه السيارات عىل ما يقارب ضعف عدد أشباه املوصالت املستخدمة يف السيارات‬
‫التقليدية‪ .‬امليكانيكيون يتحولون إىل مهنديس حاسب‪.‬‬
‫أما يف التفاعل البرشي الحاسويب‪ ،‬فإن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫ُتستخدم الستحداث وتيسري وتحسني التواصل بني النظم الحاسوبية ومستخدميها‬
‫من البرش‪ .‬وعندما نتحدث عن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت فمن السهل‬
‫أن ننىس أن الحواسب ال تحسب‪ ،‬وأن الهواتف ال ُتهاتف‪ ،‬إذا كان لنا أن نعرب عن‬
‫الحال تعبريا ينطوي عىل قدر من املفارقة‪ .‬وما تقوم به الحواسب والهواتف الذكية‬
‫والحواسب اللوحية وغريها من تجسيدات تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت هو‬
‫التعامل مع البيانات‪ .‬إن اعتامدنا عىل قدراتها عىل معالجة كميات ضخمة من‬
‫ماليني التعليامت يف الثانية لجمع أرقام أو لالتصال بأصدقائنا هو أقل بكثري من‬
‫اعتامدنا عليها لتحديث الحالة الخاصة بنا عىل فيسبوك‪ ،‬أو لطلب وقراءة أحدث‬
‫الكتب اإللكرتونية عرب اإلنرتنت‪ ،‬أو ملطالبة شخص ما بفاتورة‪ ،‬أو لرشاء تذكرة‬
‫طريان‪ ،‬أو لفحص البطاقة اإللكرتونية للصعود إىل الطائرة‪ ،‬أو ملشاهدة فيلم‪ ،‬أو‬
‫للمراقبة داخل متجر‪ ،‬أو للقيادة إىل مكان ما‪ ،‬أو‪ ،‬بالفعل‪ ،‬أي يشء آخر تقريبا‪ .‬هذا‬
‫هو سبب األهمية الكبرية للتفاعل البرشي الحاسويب‪ .‬والواقع أن التفاعل البرشي‬
‫الحاسويب‪ ،‬منذ منتصف التسعينيات‪ ،‬ال يتعني أن يتضمن حتى الشاشات أو لوحات‬
‫املفاتيح‪ ،‬فاملسألة رمبا تكون غرس جهاز عصبي تعوييض يف املخ‪ .‬بطبيعة الحال‪ ،‬يف‬
‫جميع التفاعالت البرشية الحاسوبية‪ ،‬كلام تحسنت قدرة املعالجة ُتصبح تكنولوجيا‬
‫‪32‬‬
‫الزمان‪ :‬التأريخ ُ‬
‫املفرط‬

‫املعلومات واالتصاالت املعنية أكرث رشاهة حوسبيا‪ ،‬وسوف يتطلب األمر الكثري‬
‫من ماليني التعليامت يف الثانية لجعل األمور سهلة‪ .‬هذا هو السبب يف أن أنظمة‬
‫التشغيل الحديثة تعمل بصعوبة عىل الحواسب القدمية‪.‬‬
‫إننا نعلم أن ما ميكن أن تراه أعيننا يف العامل – ما تدركه أبصارنا من ألوان قوس‬
‫قزح ‪ -‬ليس سوى جزء صغري جدا من الطيف الكهرومغناطييس الذي يتضمن أشعة‬
‫غاما واألشعة السينية واألشعة فوق البنفسجية واألشعة تحت الحمراء واملوجات‬
‫امليكروية وموجات الراديو‪ .‬وباملثل‪ ،‬فإن «طيف» معالجة البيانات الذي ميكننا إدراكه‬
‫ال يكاد يذكر باملقارنة مع ما يحدث فعليا يف تفاعل آلة مع آلة ويف التفاعل البرشي‬
‫الحاسويب‪ .‬هناك عدد هائل من تطبيقات تكنولوجيا املعلومات يشغل عددا ال‬
‫يحىص من التعليامت كل جزء من األلف من الثانية من حياتنا للحفاظ عىل استمرار‬
‫فعالية مجتمع املعلومات الذي يعيش بأسلوب التأريخ ا ُملفرط‪ .‬وتستهلك تكنولوجيا‬
‫املعلومات واالتصاالت معظم ما لديها من ماليني التعليامت يف الثانية للتحدث مع‬
‫بعضها البعض‪ ،‬وللتعاون‪ ،‬وتنسيق الجهود‪ ،‬ولوضعنا قدر اإلمكان مرتاحني داخل‬
‫الدائرة أو عىل حافتها‪ ،‬أو حتى خارجها‪ ،‬عند الرضورة‪ .‬وبحلول العام ‪ ،2015‬سوف‬
‫يكون هناك ‪ 25‬مليار جهاز متصل باإلنرتنت وسوف يصل العدد إىل ‪ 50‬مليار جهاز‬
‫بحلول العام ‪( 2020‬انظر الشكل الرقم ‪ ،)8‬وذلك وفقا لورقة بيضاء(٭) نرشتها أخريا‬
‫رشكة سيسكو (‪ ،CISCO IBSG)3‬وهي رشكة متعددة الجنسيات تشتهر بتصميم‬
‫وتصنيع وبيع معدات الربط الشبيك‪.‬‬
‫وسوف يرتفع عدد األجهزة املتصلة لكل فرد من ‪ 0,08‬يف العام ‪ 2003‬إىل ‪1,84‬‬
‫يف العام ‪ ،2010‬ثم إىل ‪ 3,47‬يف العام ‪ ،2015‬ثم إىل ‪ 6,58‬يف العام ‪ .2020‬وسوف تبدو‬
‫االتصاالت العاملية عىل كوكب األرض ملؤرختنا يف املستقبل ظاهرة غري إنسانية‪ ،‬إىل حد‬
‫بعيد‪ ،‬كام هو مبني يف الشكل الرقم ‪.9‬‬
‫وتكاد تكون ماليني التعليامت يف الثانية جميعها غري مرئية لنا‪ ،‬مثل األكسجني‬
‫الذي نتنفسه‪ ،‬لكنها ُتصبح عىل القدر نفسه من األهمية‪ ،‬وهي آخذة يف النمو باطراد‪.‬‬
‫(٭) ‪ white paper‬وثيقة رسمية تطرح فلسفة املؤسسة التي أصدرتها وتبني توجهاتها وسياساتها‪ ،‬وقد يكون أول‬
‫استخدام لهذه العبارة يف ‪ ،1922‬عندما أصدر وينستون تشريشل ورقة بيضاء حول اتصاالته مع العرب واليهود‬
‫بخصوص فلسطني‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫مصدر البيانات‪.IC Insights, 2012 :‬‬

‫الشكل (‪ :)7‬متوسط قيمة محتوى السيارات من أشباه املوصالت بالدوالر األمرييك‪.‬‬


‫‪ = F‬التوقعات‪.‬‬

‫وتتولد من األجهزة الحاسوبية بجميع أنواعها كميات هائلة من البيانات عىل نحو مل‬
‫تشهده البرشية مطلقا عرب تاريخها بأكمله (الشكل الرقم ‪ .)10‬هذا هو املورد اآلخر‬
‫الذي جعل التاريخ ا ُملفرط ممكنا‪ :‬الزيتابايت‪.‬‬
‫البيانات‬
‫قبل بضع سنوات‪َ ،‬قدَّر الباحثون يف كلية بريكيل للمعلومات(‪ )4‬أن ما يقرب من ‪12‬‬
‫إكسابايت(‪ )5‬من البيانات قد تراكم عرب تاريخ البرشية بأكمله إىل أن تحول الحاسب‬
‫إىل سلعة‪ ،‬لكن بحلول العام ‪ 2006‬كان حجم البيانات قد وصل بالفعل إىل ‪180‬‬
‫إكسابايت‪ .‬ووفقا لدراس ٍة أحدث(‪ ،)6‬زاد اإلجاميل إىل أكرث من ‪ 1600‬إكسابايت بني‬
‫العامني ‪ 2006‬و‪ ،2011‬وبالتايل اجتاز حاجز الزيتابايت (‪ 1000‬إكسابايت)‪ .‬يف الوقت‬
‫الحايل‪ ،‬من املتوقع أن يرتفع هذا الرقم إىل ما يقرب من أربعة أضعاف كل ثالث‬
‫سنوات‪ ،‬وبذلك سوف يكون لدينا ‪ 8‬زيتابايت من البيانات بحلول العام ‪ .2015‬كل‬
‫يوم تتولد بيانات جديدة تكفي مللء جميع مكتبات الواليات املتحدة مثاين مرات؛‬
‫وبطبيعة الحال‪ ،‬فإن جيوشا من أجهزة تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت تعمل‬
‫‪34‬‬
‫الزمان‪ :‬التأريخ ُ‬
‫املفرط‬

‫مصدر البيانات‪.Evans (2011) :‬‬


‫الشكل (‪ :)8‬منو عدد سكان العامل ومنو عدد األجهزة املتصلة‪ = F .‬التوقعات‪.‬‬

‫بشكل مستمر إلبقائنا طافني و ُمبحرين يف مثل هذا املحيط من البيانات‪ .‬يف املستقبل‬
‫املنظور‪ ،‬سوف تواصل كل هذه األرقام التزايد رسيعا وبانتظام‪ ،‬السيام أن تلك األجهزة‬
‫هي يف حد ذاتها من بني أكرب املصادر للمزيد من البيانات‪ ،‬والتي بدورها تتطلب‪،‬‬
‫أو ببساطة تجعل من املمكن وجود‪ ،‬املزيد من تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪.‬‬
‫إنها دورة مفرغة ذاتية الدفع‪ ،‬وسوف يكون من غري الطبيعي أال تشعر بأنك ُمثقل‪.‬‬
‫هو شعور ُمخ َت َلط من التوجس بشأن املخاطر‪ ،‬والحامس للفرص‪ ،‬والدهشة عند‬
‫اإلنجازات‪ ،‬أو ينبغي أن يكون كذلك‪ ،‬كام سرنى يف الفصول التالية‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫مصدر البيانات‪.Evans (2011) :‬‬

‫الشكل (‪ :)9‬إجاميل حيز (فضاء) االتصالية بالنسبة إىل منو عدد سكان العامل وزيادة‬
‫األجهزة املتصلة‪ = F .‬التوقعات‪.‬‬

‫ويرجع الفضل يف دخولنا عرص زيتابايت إىل تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪.‬‬


‫نحن أول جيل يشهد طوفان الزيتا ‪ ،zettaflood‬ونقصد هنا استحداث كلمة لوصف‬
‫هذا التسونامي من البايتات الذي يغمر بيئتنا؛ يف سياقات أخرى‪ ،‬يعرف هذا أيضا‬
‫باسم «البيانات الضخمة» ‪( Big Data‬الشكل الرقم ‪.)10‬‬
‫عىل الرغم من أهمية هذه الظاهرة‪ ،‬فإن املعنى الدقيق ملصطلح «البيانات‬
‫الضخمة» هو غري واضح‪ُ .‬تغري مثل هذه الحاالت بتبني النهج الذي ابتكره بوتر‬
‫‪36‬‬
‫الزمان‪ :‬التأريخ ُ‬
‫املفرط‬

‫ستيوارت ‪ – Potter Stewart‬القايض باملحكمة العليا للواليات املتحدة – ردا عىل‬


‫سؤال لوصف املواد اإلباحية حني قال‪ :‬من الصعب تعريفها‪ ،‬ولكني «أعرفها عندما‬
‫أشاهدها»‪ .‬االسرتاتيجيات األخرى كانت أقل نجاحا بكثري؛ فعىل سبيل املثال‪ ،‬يف برنامج‬
‫بحثي ملؤسسة العلوم الوطنية (‪ )NSF‬واملعاهد الصحية الوطنية (‪ )NIH‬بالواليات‬
‫املتحدة – تم اتخاذ البيانات الضخمة مجاال لرتكيز الربنامج البحثي‪ ،‬كام تعالج إحدى‬
‫املبادرات الرئيسية املشرتكة بني مؤسسة العلوم الوطنية واملعاهد الصحية الوطنية‬
‫الرئيسية املشرتكة الحاجة إىل األساليب والتكنولوجيات األساسية من أجل النهوض‬
‫بعلوم وهندسة البيانات الضخمة‪ .‬وعىل الرغم من ذلك‪ ،‬فقد أوضحت الوكالتان أن‬
‫عبارة «البيانات الضخمة»‪ ،‬يف هذا االلتامس‪ ،‬تشري إىل مجموعات بيانات ‪data sets‬‬
‫كبرية‪ ،‬و‪/‬أو متنوعة‪ ،‬و‪/‬أو معقدة‪ ،‬و‪/‬أو ممتدة عىل فرتات طويلة‪ ،‬و‪/‬أو موزعة؛ هذه‬
‫البيانات تتولد من أدوات‪ ،‬و‪/‬أو أجهزة استشعار‪ ،‬و‪/‬أو تعامالت عىل اإلنرتنت‪ ،‬و‪/‬‬
‫أو الربيد اإللكرتوين‪ ،‬و‪/‬أو فيديو‪ ،‬و‪/‬أو سلوك تدفق النقر‪ ،‬و‪/‬أو مصادر رقمية أخرى‬
‫متاحة اليوم ويف املستقبل(‪.)7‬‬

‫الشكل (‪ :)10‬منو البيانات الضخمة‬


‫‪37‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫ال حاجة بك إىل أن تكون عامل منطق لتجد أن هذا غامض ومبهم‪ .‬أيضا‪ ،‬وألول‬
‫َم ّرة‪ ،‬لن تكون ويكيبيديا مفيدة‪ ،‬ليس ألن املدخل املعني ال ُيعتمد عليه‪ ،‬ولكن ألنه‬
‫يقدم التعريف الشائع الذي يصف «البيانات الضخمة» عىل أنها حشد من مجموعات‬
‫بيانات كبرية للغاية ومعقدة لدرجة تصعب معها معالجتها باستخدام أدوات اإلدارة‬
‫املتاحة أو التطبيقات التقليدية املستخدمة ملعالجة البيانات‪ .‬وبرصف النظر عن‬
‫معضلة الحلقة املفرغة الناشئة عن تعريف «ضخمة» باستخدام «كبرية» (يبدو أنهم‬
‫يف مؤسسة العلوم الوطنية واملعاهد الصحية الوطنية راضون بها)‪ ،‬فإن فهم «البيانات‬
‫الضخمة» يف إطار «األدوات الصغرية» يوحي بأن البيانات ليست ضخمة أو كبرية‬
‫للغاية إال بالنسبة إىل ما هو متاح لدينا من قدرة حوسبة‪ ،‬وهذا ُم َض ِلل‪ .‬بطبيعة‬
‫الحال‪ ،‬فإن كلمة «ضخمة»‪ ،‬مثل مصطلحات عديدة أخرى‪ ،‬هي ُمسنَد ارتباطي‪ ،‬فمثال‬
‫رمبا يكون زوج من األحذية ضخام جدا بالنسبة إليك‪ ،‬ولكنه مناسب يل‪ .‬من البديهي‬
‫أيضا االعرتاف بأننا منيل إىل تقييم األشياء بشكل غري ارتباطي‪ ،‬وقتام يكون اإلطار‬
‫املرجعي واضحا مبا يكفي للتضمني‪ ،‬كام يف الحالة التي بني أيدينا لالستخدام املطلق‬
‫لكلمة ضخمة‪ .‬الحصان حيوان ضخم‪ ،‬بغض النظر عام تظنه الحيتان‪ .‬مع ذلك‪ ،‬رمبا‬
‫هاتان النقطتان البسيطتان تعطيان االنطباع بأنه ليست هناك مشكلة حقيقية مع‬
‫«البيانات الضخمة» كونه مصطلحا فضفاضا يشري إىل أن الحواسب الحالية ال ميكنها‬
‫معالجة مثل هذه األحجام الهائلة من البيانات بكفاءة‪ ،‬ومن هنا يظهر أمران يبعثان‬
‫عىل الحرية‪ .‬أوال‪ ،‬أن املشكلة اإلبستمولوجية (أي املرتبطة باملعرفة) يف البيانات‬
‫الضخمة هي أن هناك الكثري جدا منها (املشكلة األخالقية التي تتعلق بكيفية‬
‫استخدامنا لها‪ ،‬املزيد حول هذا توا)‪ .‬ثانيا‪ ،‬أن الحل لهذه املشكلة اإلبستمولوجية‬
‫هو حل تكنولوجي‪ :‬املزيد واألفضل من األساليب والتكنولوجيات التي تؤدي إىل‬
‫«انكامش» البيانات الضخمة إىل حجم ميكن التعامل معه‪ .‬املشكلة اإلبستمولوجية‬
‫مختلفة وتتطلب حال إبستمولوجيا‪.‬‬
‫بداية‪ ،‬تأمل املشكلة‪ .‬أتت صياغة «البيانات الضخمة» بعد عدة مصطلحات‬
‫رنانة أخرى‪ ،‬مثل «اإلغراق املعلومايت» ‪ Infoglut‬أو «التُخمة املعلوماتية»‪ ،‬بيد أن‬
‫الفكرة التزال كام هي‪ .‬إنها ُتشري إىل شعور غامر بأننا قضمنا أكرث مام ميكنه مضغه‪،‬‬
‫بأننا تتم تغذيتنا جربا مثل اإلوز‪ ،‬بأن أكبادنا الفكرية تنفجر‪ .‬إن هذا خطأ؛ نعم‪،‬‬
‫‪38‬‬
‫الزمان‪ :‬التأريخ ُ‬
‫املفرط‬

‫لقد رأينا بوضوح أن هناك منوا مطردا للبيانات يف العديد من املوضوعات‪ ،‬لكن‬
‫الشكوى من مثل هذه الوفرة سوف تكون مثل التذمر من مأدبة تقدم طعاما أكرث‬
‫مام نستطيع أكله‪ .‬البيانات تبقى كأصل ومورد ُيس َت َفاد به‪ ،‬ال أحد يجربنا عىل هضم‬
‫كل بايت متاح‪ .‬إننا نصبح يوما بعد يوم أكرث ثراء‪ ،‬بياناتيا‪ ،‬وال ميكن أن يكون هذا‬
‫هو املشكلة الجوهرية‪.‬‬
‫وحيث إن املشكلة ليست يف زيادة الرثوة من البيانات التي أصبحت متاحة‪،‬‬
‫فمن الواضح أن الحل يحتاج إىل إعادة نظر‪ ،‬إذ ال ميكن أن يكون مجرد كم من‬
‫البيانات ميكننا معالجته بوسائل تكنولوجية‪ .‬لقد رأينا أن املزيد واألفضل من األساليب‬
‫والتكنولوجيات‪ ،‬يف كل يشء‪ ،‬لن يؤدي إال إىل توليد املزيد من البيانات‪ .‬لذلك‪ ،‬إن‬
‫كانت املشكلة هي وجود الكثري من البيانات‪ ،‬فمزيد من تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت سوف يؤدي إىل تفاقمها‪ .‬فتزايد وجود أجهزة هضمية أكرب‪ ،‬إن جاز‬
‫التعبري‪ ،‬ليس هو الطريق للميض ُقدُ ما‪.‬‬
‫املشكلة اإلبستمولوجية الحقيقية مع البيانات الضخمة هي األمناط الصغرية‬
‫‪ .small patterns‬تحديدا ألن من املمكن يف الوقت الحايل أن يتولد الكثري من‬
‫البيانات وتتم معالجتها رسيعا جدا‪ ،‬وبسعر زهيد‪ ،‬وافرتاضيا عىل أي يشء؛ فإن كال‬
‫من حديثي الرثاء بالبيانات‪ ،‬مثل فيسبوك أو وول مارت‪ ،‬أو أمازون أو غوغل‪ ،‬وقدامى‬
‫أثرياء البيانات‪ ،‬مثل علم الوراثة أو الطب‪ ،‬والفيزياء التجريبية أو علوم األعصاب‪،‬‬
‫تصبح حاجتهم ا ُمللحة هي املقدرة عىل تحديد األمناط الجديدة ذات القيمة املضافة‬
‫الحقيقية‪ ،‬وتحديد أين تكمن يف قواعد بياناتهم الهائلة‪ ،‬وكيف ميكن استغاللها بأفضل‬
‫أسلوب إلحداث الرثاء‪ ،‬ولتحسني حياة اإلنسان‪ ،‬وللنهوض باملعرفة‪ .‬إنها مشكلة مقدرة‬
‫عقلية أكرث منها مشكلة مقدرة حوسبية‪.‬‬
‫يف عرص التأريخ ا ُملفرط‪ ،‬تنبع أهمية األمناط الصغرية من أنها مُتثل غايات جديدة‬
‫الحكم إىل السياسات‬ ‫لالبتكار والتنافس؛ من العلم إىل األعامل التجارية‪ ،‬من إدارة ُ‬
‫االجتامعية‪ ،‬من األمن إىل األمان‪ .‬إن سوق األفكار حر ومفتوح‪ ،‬فإذا سبقك غريك إىل‬
‫االستفادة من األمناط الصغرية وبنجاح أكرب مام تحققه‪ ،‬فرمبا تخرج رسيعا من األعامل‬
‫التجارية‪ ،‬أو رمبا يفوتك اكتشاف جوهري ويفوتك الحصول عىل جائزة نوبل‪ ،‬أو رمبا‬
‫تضع بلدك يف خطر حقيقي‪.‬‬
‫‪39‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫وقد تكون األمناط الصغرية أيضا محفوفة باملخاطر‪ ،‬ألنها ترفع الحد األقىص ملا‬
‫هي األحداث أو السلوكيات القابلة للتنبؤ‪ ،‬ومن ثم فقد يتيرس ترقبها‪ ،‬وهذه مشكلة‬
‫أخالقية‪ .‬رشكة «تارغت»‪ ،‬وهي رشكة أمريكية للبيع بالتجزئة‪ ،‬تعتمد عىل تحليل األمناط‬
‫الرشائية لعدد ‪ُ 25‬منتَجا بهدف إعطاء نقاط عن «توقع الحمل» لكل متسوق‪ ،‬وتقدير‬
‫املوعد املناسب للحمل‪ ،‬وإرسال قسائم بالتزامن مع مراحل معينة من الحمل‪ .‬سببت‬
‫الرشكة بعض املشاكل الحقيقية يف فضيحة شهرية(‪ ،)8‬عندما ُأ ِ‬
‫رس َلت القسائم إىل عائلة‬
‫لها ابنة مراهقة مل ُتبلغ والديها عن حالتها الجديدة‪ .‬سأعود إىل مثل هذه النوعية‬
‫من املشاكل يف الفصلني الثالث والرابع عند مناقشة الهوية الشخصية والخصوصية‪.‬‬
‫مع األسف‪ ،‬رمبا ال تكون األمناط الصغرية مؤثرة إال إذا جرى تجميعها ومضاهاتها‬
‫وتكاملها – عىل سبيل املثال فيام يتعلق ببطاقات الوالء واقرتاحات التسوق ‪-‬‬
‫ومقارنتها‪ ،‬عىل وجه صحيح‪ ،‬كام هي الحال عندما ُتستخدم البيانات الضخمة يف‬
‫البنوك ملكافحة املحتالني‪ ،‬ومعالجتها يف التوقيت املناسب‪ ،‬كام هي الحال يف األسواق‬
‫املالية‪ .‬وألن البيانات تكون ذات داللة أيضا عندما ال تكون موجودة (االفتقار إىل‬
‫بعض البيانات رمبا يكون يف حد ذاته أيضا مفيدا)‪ ،‬فاألمناط الصغرية ميكن أن تكون‬
‫مؤثرة أيضا إذا كانت غائبة‪ .‬إن شارلوك هوملز ‪ Sherlock Holmes‬يقوم بحل إحدى‬
‫قضاياه الشهرية بسبب صمت الكلب الذي كان ينبغي أن ينبح‪ .‬وعندما «ال تنبح»‬
‫البيانات الضخمة يف الوقت الذي ينبغي عليها أن تفعل فيه ذلك‪ ،‬فال بد أن شيئا ما‬
‫يحدث‪ ،‬كام (ينبغي أن) يعرف الرقباء املاليون‪ ،‬عىل سبيل املثال‪.‬‬
‫البيانات الضخمة وجدت لتنمو‪ ،‬والسبيل الوحيد للتصدي لها هو أن تعرف ما‬
‫الذي تبحث عنه‪ .‬ونحن ال نصنع العلم برتاكم البيانات فحسب‪ ،‬وأيضا ينبغي لنا‬
‫أال نؤدي األعامل ومنارس السياسة بتلك الطريقة‪ .‬يف الوقت الحايل‪ ،‬يجري تدريس‬
‫املهارات اإلبستمولوجية املطلوبة عن طريق سحر أسود ُيدعى التحليالت ‪.Analytics‬‬
‫وليس املقصود هنا‪ ،‬تحديدا‪ ،‬درجتك الجامعية العادية‪ .‬عىل الرغم من ذلك‪ ،‬فالكثري‬
‫من رفاهيتنا يعتمد عليها لدرجة أنه رمبا يكون الوقت قد حان لتطويرها عىل نحو‬
‫يجعل منها أسلوبا منهجيا‪ .‬من يدري‪ ،‬فقد ال يكون الفالسفة مجرد أناس لديهم ما‬
‫يدرسونه‪ ،‬بل وقد يكونون قادرين عىل أن يعلمونا بعض الدروس‪ .‬أفالطون كان‬
‫سيوافق عىل ذلك‪ .‬اليشء الذي رمبا يكون ُمخيبا لآلمال‪ ،‬هو حقيقة أن الذاكرة مل تعد‬
‫‪40‬‬
‫الزمان‪ :‬التأريخ ُ‬
‫املفرط‬

‫خيارا‪ .‬رمبا تتفوق الذاكرة عىل الذكاء‪ ،‬كام سوف نرى يف الفصل السابع‪ ،‬لكن لن ينجح‬
‫مجرد اكتناز البيانات بينام ننتظر الحواسب األكرث قوة‪ ،‬والربمجيات األذىك‪ ،‬واملهارات‬
‫البرشية الجديدة‪ ،‬عىل األقل ألننا ببساطة ال منتلك السعة التخزينية الكافية‪ .‬نستدعي‬
‫هنا مؤرختنا يف املستقبل‪ :‬هذا هو عنق الزجاجة األول الذي أشارت إليه يف تطور‬
‫التأريخ ا ُملفرط الذي يعاين فقدان الذاكرة الرقمية‪.‬‬

‫الذاكرة‬
‫يعتمد التأريخ ا ُملفرط عىل البيانات الضخمة‪ ،‬لكن يتعني أن نعرض يف هذا الفصل‬
‫اثنتني من األساطري حول إمكانية االعتامد عىل الذاكرة الرقمية‪.‬‬
‫تتصل األسطورة األوىل بنوعية الذاكرة الرقمية‪ .‬فلتكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت ذاكرة كثرية النسيان نوعا ما‪ .‬ذاكرة رسيعة التقادم‪ ،‬ومتطايرة‪ ،‬وميكن‬
‫إعادة التسجيل عليها‪ .‬وقد تصبح الوثائق الرقمية القدمية غري صالحة لالستخدام‬
‫بسبب غياب التكنولوجيا املالمئة‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬محركات األقراص املرنة أو برامج‬
‫املعالجة القدمية التي مل تعد متاحة‪ .‬وعىل شبكة اإلنرتنت املاليني من الصفحات‬
‫املهجورة‪ ،‬وهي الصفحات التي تم إنشاؤها وال يجري تحديثها أو تعديلها‪ .‬يف بداية‬
‫العام ‪ ،1998‬كان متوسط العمر للوثيقة التي مل تصبح مهجورة هو ‪ 75‬يوما‪ ،‬وهو‬
‫يقدر اآلن بنحو ‪ 45‬يوما‪ ،‬ينتج عن ذلك شيوع ما ُيعرف باسم انحالل الرابط ‪link‬‬
‫‪( decay‬روابط إىل موارد عىل اإلنرتنت مل تعد تعمل)‪ .‬يف ‪ 30‬أبريل ‪ ،1993‬أعلنت‬
‫املنظمة األوروبية لألبحاث النووية (‪ )CERN‬أن الشبكة العنكبوتية العاملية التي‬
‫أنشأتها سوف تكون متاحة للجميع ومن دون رسوم مستحقة‪ .‬بعد ذلك بعرشين‬
‫عاما‪ ،‬واحتفاال بالحدث‪ ،‬اضطر فريق من املنظمة األوروبية لألبحاث النووية إىل‬
‫إعادة إنشاء صفحة الويب األوىل (مستخدما العنوان األصيل لصفحة موقع اإلنرتنت‬
‫(‪ ...)URL‬إلخ)‪ ،‬ألنها مل تعد موجودة‪ .‬تبدو ذاكرتنا الرقمية متطايرة متاما مثلام‬
‫كانت ثقافتنا الشفهية‪ ،‬لكن رمبا تكون حتى أكرث منها تقلبا‪ ،‬ألنها تعطينا انطباعا‬
‫عكسيا‪ .‬هذه املعضلة التي تخص «ما قبل التأريخ» الرقمي ‪ -‬تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت ال تحفظ املايض الستخدامه يف املستقبل‪ ،‬ألنها تجعلنا نعيش يف حارض‬
‫دائم – سوف تصبح أكرث إلحاحا يف املستقبل القريب‪ .‬إن الذاكرة ليست مسألة سعة‬
‫‪41‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫تخزينية وإدارة بكفاءة فحسب؛ إنها أيضا مسألة متحيص دقيق للفروقات املؤثرة‪،‬‬
‫ومن ثم متحيص دقيق لرتسب املايض بشكل مستقر كسلسلة مرتبة من التغريات‪،‬‬
‫وهام اثنتان من العمليات التأريخية معرضتان لخطر حقيقي يف الوقت الحايل‪ .‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬تيد نيلسون ‪(Ted Nelson‬٭)‪ ،‬أحد رواد تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت‬
‫الذي صاغ مصطلحات «النص ا ُملفرط» (التشعبي) ‪ Hypertext‬و«الوسائط الفائقة»‬
‫‪ ،Hypermedia‬قد قام بتصميم زانادو ‪ Xanadu‬بحيث ال يحذف أبدا ُن َسخ امللفات‬
‫القدمية‪ .‬إن موقع ويب يتم ترقيته وتحديثه باستمرار‪ ،‬هو موقع من دون ذكرى عن‬
‫ماضيه؛ وباملثل النظام الدينامييك الذي يسمح بإعادة كتابة مستند آالف املرات‪،‬‬
‫يجعل أيضا من غري املرجح بقاء أي ذكرى عن اإلصدارات السابقة ميكن االطالع‬
‫عليها يف املستقبل‪« .‬احفظ هذا املستند» تعني «استبدل إصداره القديم»‪ ،‬مثل هذا‬
‫الطابع غري التأريخي رمبا يحرص عليه كل مستند رقمي من أي نوع‪ .‬يكمن الخطر‬
‫يف أن يتم محو الفروقات‪ ،‬ودمج البدائل‪ ،‬وإعادة كتابة املايض بشكل مستمر‪ ،‬وبذلك‬
‫ُيختزل التاريخ يف رسمدية هنا واآلن‪ .‬عندما تكون معظم معرفتنا يف يد هذه الذاكرة‬
‫كثرية النسيان‪ ،‬رمبا نجد أنفسنا أرسى الحارض األبدي‪ .‬هذا هو سبب أهمية املبادرات‬
‫الرامية إىل الحفاظ عىل تراثنا الثقايف الرقمي املتزايد من أجل أجيال املستقبل – مثل‬
‫التحالف الوطني للرعاية الرقمية (‪ )NDSA‬واالتحاد الدويل للحفاظ عىل اإلنرتنت‬
‫(‪ .)IIPC‬إن مهمة رعاة املعلومات تصري أكرث أهمية من قبل‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬هناك خطر كاريث محتمل بسبب ضخامة كميات البيانات التي ُتستحدث‬
‫آنيا‪ .‬نحن رأينا أن معظم ‪ -‬يف الواقع جميع ‪ -‬ما لدينا من بيانات استُحدث يف غضون‬
‫بضع سنوات‪ ،‬وهذه البيانات تتقادم معا‪ ،‬وسوف تصل معا إىل عتبة فشل النظام‪،‬‬
‫مثل جيل طفرة املواليد الذي يتقاعد يف الوقت ذاته‪ .‬لفهم املشكلة‪ ،‬اسرتجع الجدل‬
‫القديم بشأن مجموعتك من األقراص املدمجة املوسيقية وكيف أن جميعها صار‬
‫غري صالح لالستخدام يف غضون عرش سنوات‪ ،‬عىل العكس من أسطوانات الفينيل‪.‬‬
‫العمر االفرتايض لألقراص املدمجة وأقراص الفيديو الرقمية الجديدة وغري املسجل‬
‫عليها يقدر بتحفظ بنحو ‪ 5‬إىل ‪ 10‬سنوات‪ ،‬وذلك وفقا لجمعية تكنولوجيا التخزين‬
‫(٭) العامل األمرييك تيودور (تيد) هومل نيلسون املولود يف العام ‪[ .1937‬املحررة]‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫الزمان‪ :‬التأريخ ُ‬
‫املفرط‬

‫الضويئ ‪ .Optical Storage Technology Association‬أما وفقا إلدارة املحفوظات‬


‫والسجالت الوطنية ‪ ،)9(National Archives and Records Administration‬فإن‬
‫األقراص املدمجة وأقراص الفيديو الرقمية حاملا يتم التسجيل عليها‪ ،‬يصبح متوسط‬
‫عمرها املتوقع نحو ‪ 2‬إىل ‪ 5‬سنوات‪ ،‬عىل الرغم من أن عمرها املتوقع ا ُملعلن ُيشار‬
‫إليه عادة عىل أنه ‪ 10‬أعوام‪ ،‬أو ‪ 25‬عاما‪ ،‬أو أطول‪ .‬تكمن املشكلة يف أن املواد‬
‫املصنوعة منها تتدهور بشدة بعد سنوات قليلة مبا ال يضمن سهولة االستخدام‪.‬‬
‫ينطبق األمر نفسه عىل ما لدينا حاليا من وسائل دعم رقمية‪ ،‬مثل األقراص الصلبة‬
‫والذاكرة مبختلف أنواعها‪ .‬ويشري الرقم «متوسط العمر قبل اإلخفاق (‪ »)MTBF‬إىل‬
‫تقدير متوسط العمر املتوقع للنظام(‪)10‬؛ كلام زاد هذا الرقم‪ ،‬ينبغي أن يستمر النظام‬
‫لفرتة أطول‪ .‬من الشائع أن متوسط العمر قبل اإلخفاق لقرص صلب معياري يبلغ ‪50‬‬
‫ألف ساعة (‪ 5.7‬سنوات)‪ ،‬قِصرَ هذا العمر املتوقع هو بالفعل مشكلة‪ .‬لكن املسألة‬
‫الحقيقية التي أود التأكيد عليها هنا هي يشء آخر‪ ،‬فمتوسط العمر املتوقع لوسائل‬
‫دعم بياناتنا اليوم متزامن بصورة خطرية‪ ،‬عىل عكس ما شهدناه يف املايض‪ .‬هذا‬
‫هو السبب يف أنك رمبا تفكر يف هذا كنوع من «طفرة املواليد»‪ :‬البيانات الضخمة‬
‫سوف تهرم وتصبح معا بيانات ميتة‪ .‬من الواضح أن كميات هائلة من البيانات‬
‫سوف تحتاج إىل أن ُيعاد تسجيلها ونقلها إىل وسائل دعم جديدة عىل فرتات زمنية‬
‫منتظمة‪ ،‬وهذا ما يحدث يف الواقع بالفعل‪ .‬لكن‪ ،‬ما البيانات التي سوف تنتقل إىل‬
‫الجانب اآلخر من أي تحول تكنولوجي؟ للمقارنة‪ ،‬فكر يف نقل األفالم الصامتة إىل‬
‫أنواع جديدة من الدعائم‪ ،‬أو نقل املوسيقى املسجلة من أسطوانات الفينيل إىل‬
‫األقراص املدمجة‪ُ .‬تركت كميات هائلة من البيانات‪ ،‬أصبحت مفقودة‪ ،‬أو غري متاحة‪،‬‬
‫أو ال ميكن الوصول إليها‪.‬‬
‫وفقا لتقرير بحثي صادر عن مؤسسة آي يب آي إس وورلد للبحوث ‪IBIS World‬‬
‫يف العام ‪ ،2012‬فإن إجاميل إيرادات صناعة استعادة البيانات خالل خمس سنوات‬
‫حتى خريف العام ‪ 2012‬قد بلغ مليار دوالر أمرييك مبعدل سنوي قدره ‪ 0.9‬يف املائة‪،‬‬
‫مع انخفاض يف العام ‪ 2012‬بنسبة ‪ 0.6‬يف املائة(‪ .)11‬رمبا يبدو هذا مخالفا للبديهيات‪،‬‬
‫البيانات الضخمة تتزايد وبالتايل تتزايد املشاكل املتعلقة بامللفات ووسائط التخزين‬
‫التالفة أو املعيبة أو التي ال ميكن الوصول إليها‪ ،‬إذن ال بد أن تزدهر الصناعة التي‬
‫‪43‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫تعتني مبثل هذه املشاكل‪ .‬التفسري هو أن التخزين السحايب ‪ Cloud‬أو التخزين عرب‬
‫اإلنرتنت ‪ Online Storage‬أدى إىل اتساع نطاق الخيارات املتاحة الستعادة البيانات‬
‫ومنع فقدانها‪ .‬إذا كنت تستخدم دروب بوكس ‪ ،Dropbox‬أو محرر مستندات غوغل‬
‫‪ ،Google Docs‬أو أبل آي كالود ‪ ،Apple iCloud‬أو مايكروسوفت سكاي دريف‬
‫‪ ،Microsoft Skydrive‬عىل سبيل املثال‪ ،‬وحدث تلف يف الحاسب الخاص بك‪،‬‬
‫فامللفات التزال متاحة عرب اإلنرتنت وميكن استعادتها بسهولة‪ ،‬بالتايل لن تحتاج إىل‬
‫خدمة استعادة البيانات‪ .‬عىل الرغم من ذلك‪ ،‬يبدو أن هذه مسألة انتقالية فحسب‪،‬‬
‫وبالتايل مسألة وقت‪ .‬لقد مارست الحوسبة السحابية ضغطا عىل صناعة متخصصة‬
‫يف أجهزة الحاسب عىل مستوى ا ُملستهلك؛ فكلام تحولت أجهزتنا إىل محطات طرفية‬
‫فحسب‪ ،‬قل احتياجنا إىل أن نقلق بشأن البيانات‪ .‬لكن تخزين تلك البيانات ال يزال‬
‫يعتمد عىل بنيات تحتية مادية‪ ،‬وهذه بدورها سوف تحتاج إىل صيانة بشكل متزايد‪.‬‬
‫سوف تختفي صناعة استعادة البيانات‪ ،‬ولكن صناعة جديدة مخصصة إلخفاقات‬
‫الحوسبة السحابية آخذة يف الظهور بالفعل‪ .‬ليست هذه مسألة اعتامد عىل القوة‬
‫الغاشمة للتكرار (وجود أكرث من نسخة من نفس امللف)‪ .‬هذه االسرتاتيجية ليست‬
‫متاحة عىل الصعيد العاملي بسبب األسطورة الثانية املتعلقة مبوثوقية الذاكرة الرقمية‪،‬‬
‫تلك األسطورة التي تخص كمية الذاكرة الرقمية‪.‬‬
‫منذ العام ‪ُ ،2007‬ينتج العامل من البيانات ما يتجاوز السعة التخزينية املتاحة(‪.)12‬‬
‫هذا عىل الرغم من أنه وفقا لقانون كريدر ‪( Kryder‬تعميم آخر)‪ ،‬فإن كثافة تخزين‬
‫األقراص الصلبة آخذة يف التزايد أرسع من قانون مور‪ ،‬حتى أنه من املتوقع أنه بحلول‬
‫العام ‪ 2020‬سوف يكون مقاس قرص ذي سعة ‪ 14‬تريابايت هو ‪ 2,5‬بوصة وتكلفته‬
‫نحو ‪ 40‬دوالرا أمريكيا‪ .‬املؤسف أن هذا لن يكون كافيا‪ ،‬ألنه حتى النمو املتوقع‬
‫طبقا لقانون كريدر هو بطيء للغاية باملقارنة مع الرسعة التي ُن َولِّد بها البيانات‬
‫الجديدة‪ .‬فكر يف هاتفك الذيك الذي يصري ممتلئا للغاية ألنك التقطت الكثري من‬
‫الصور‪ ،‬ثم فكر يف هذا األمر كمشكلة عاملية‪ .‬يف التأريخ‪ ،‬كانت املشكلة هي مباذا‬
‫نحت يف الحجر‪ ،‬أي‬ ‫نحتفظ‪ :‬أي من القوانني أو األسامء سوف ُت َح َّمص يف الصلصال أو ُت َ‬
‫النصوص سوف ُتكتَب بخط اليد عىل أوراق الربدي أو عىل الجلد‪ ،‬أي األنباء جديرة‬
‫‪44‬‬
‫الزمان‪ :‬التأريخ ُ‬
‫املفرط‬

‫بالطباعة عىل الورق‪ .‬أما يف التأريخ ا ُملفرط‪ ،‬فقد أصبح االستبقاء هو الخيار االعتيادي‪.‬‬
‫صارت املشكلة هي ماذا منحو‪ .‬ألن السعة التخزينية غري كافية‪ ،‬فيجب أن يتم حذف‬
‫بعض األشياء‪ ،‬أو إعادة كتابتها‪ ،‬أو من البداية أال يتم تسجيلها أبدا‪ .‬اعتياديا‪ ،‬مييل‬
‫الحديث إىل طرد القديم‪ ،‬أو «ما يدخل أوال يخرج أوال»‪ ،‬فمثال صفحات الويب‬
‫التي يتم تحديثها متحو الصفحات القدمية‪ ،‬والصور الجديدة تجعل االستغناء عن‬
‫الصور القدمية ممكنا‪ ،‬والرسائل الجديدة ُتسجل عىل الرسائل القدمية‪ ،‬ورسائل الربيد‬
‫اإللكرتوين األخرية ُيحتفظ بها عىل حساب رسائل السنة السابقة‪.‬‬
‫استنفد التأريخ ا ُملفرط مساحة الذاكرة التي ُيكدس فيها بياناته منذ سنوات‬
‫عديدة‪ .‬ليس هناك اسم لهذا القانون الذي يتعلق بالعجز املتزايد يف الذاكرة‪ ،‬ولكن‬
‫يبدو أن الفجوة تتضاعف كل عام‪ .‬املسألة تزداد سوءا من الناحية الكمية‪ ،‬باستثناء‬
‫بعض التأثري الناتج عن طفرة تكنولوجية يف وسائط التخزين أو يف برمجيات ضغط‬
‫امللفات‪ .‬واألمر املبرش هو أنها ليست بالرضورة سيئة نوعيا بالقدر الذي تبدو عليه‪.‬‬
‫فبإعادة صياغة مقولة شائعة يف صناعة اإلعالن‪ ،‬ميكننا القول إن ِنصف ما لدينا من‬
‫بيانات هو نفايات غري مرغوب فيها‪ ،‬ونحن ببساطة ال نعرف أي ِنصف هو‪ .‬أنت تكون‬
‫َف ِرحا بالتقاط عرش صور ألنك تأمل أن تخرج واحدة منها صحيحة‪ ،‬والتسع األخريات‬
‫ميكن التخلص منها‪ .‬مل يكن القصد قط حفظ التسع األخريات من البداية‪ .‬هذا يعني‬
‫أننا يف حاجة إىل فهم أفضل للبيانات التي تستحق الحفاظ عليها ورعايتها‪ ،‬هذا بدوره‬
‫هو مسألة استيعاب ملا هي األسئلة التي تكون‪ ،‬أو سوف تكون‪ ،‬مثار اهتامم‪ ،‬ليس‬
‫اآلن فحسب ولكن يف املستقبل أيضا‪ ،‬كام رأينا يف القسم السابق‪ .‬هذا يؤدي إىل حلقة‬
‫إيجابية ُم َطم ِئنة بعض اليشء‪ ،‬إذ ينبغي أن نكون‪ ،‬يف وقت قريب‪ ،‬قادرين عىل أن‬
‫نسائل البيانات الضخمة عام هي البيانات التي تستحق الحفظ‪ .‬فكر يف تطبيق عىل‬
‫هاتفك الذيك‪ ،‬ال يقرتح عليك أيا من الصور العرش يستحق الحفظ فحسب‪ ،‬ولكن‬
‫أيضا يتعلم منك عندما تتخذ قرارك (رمبا أنت تفضل الصور الداكنة)‪ .‬إذن التحديات‬
‫الجديدة سوف تتعلق بالطريقة التي ميكننا بها تجنب سوء القرارات التي تعتمد‬
‫عىل اآللة‪ ،‬أو تحسني ما يسمى «تعلم اآللة»‪ ،‬أو يف الواقع ضامن أن اآلالت تتعلم‬
‫التفضيالت الجديدة (رمبا يف وقت الحق ينصب تفضيلك عىل الصور األكرث إرشاقا)‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫الشكل (‪ :)11‬قانون ميتكالف ‪ :Metcalfe's Law‬قيمة فائدة شبكة اتصال تحتوي‬


‫عىل ‪ n‬من نقاط االتصال = ‪.n2‬‬

‫وقد يساعدنا املزيد من املعلومات عىل تحديد أي من املعلومات نحتفظ بها ونرعاها‪.‬‬
‫وقد تفرس مؤرختنا املستقبلية عرص زيتابايت يف التأريخ ا ُملفرط بشكل أفضل عىل أنه‬
‫مرحلة انتقالية بني البيانات الضخمة العمياء والبيانات الضخمة املتبرصة‪.‬‬
‫كفانا حديثا عن املأزق األول‪ :‬نقص الذاكرة‪ .‬ليك نفهم املأزق اآلخر املتعلق‬
‫باالتصالية ‪ ،Connectivity‬يتعني علينا أن ننظر أوال يف بعض سامت الشبكات‪.‬‬

‫االتصالية‬
‫قد تكون الحواسب محدودة االستخدام ما مل تكن متصلة بحواسب أخرى‪.‬‬
‫هذا مل يكن دامئا واضحا‪ ،‬وأحيانا ال يزال موضع شك‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬كام يف حالة‬
‫‪46‬‬
‫الزمان‪ :‬التأريخ ُ‬
‫املفرط‬

‫احتياجك إىل أن تكون حواسبك قادرة عىل صد القراصنة ألنها تتحكم يف إطالق‬
‫صواريخ نووية‪ .‬لكن‪ ،‬وبشكل عام‪ ،‬اليوم أصبحت هذه املالحظة بديهية إىل حد‬
‫كبري‪ .‬يف العرص الذي مل تعد فيه كلمة ربط ‪ tethering‬تعني عقل دابة بحبل أو‬
‫سلسلة (عقال البعري)‪ ،‬ولكن أصبحت يف الواقع تعني اتصال أحد أجهزة تكنولوجيا‬
‫املعلومات واالتصاالت بجهاز أخر‪ ،‬ومل يعد السؤال هو ما إذا كانت للتوصيل‬
‫أهمية‪ ،‬ولكن السؤال أصبح هو ما قدر هذه األهمية‪ .‬لقد تم تقديم العديد من‬
‫النظريات والقوانني‪ ،‬منها عىل سبيل املثال قانون ريد ‪ ،Reed’s law‬وقانون سارنوف‬
‫‪ ،Sarnoff’s Law‬وقانون بيكسرتوم ‪ Beckstrom’s Law‬وغريها‪ ،‬لكن يبقى أشهرها‬
‫هو قانون ميتكالف ‪ .Metcalfe’s Law‬هو تعميم (هكذا تقريبا تسري األمور) مثل‬
‫القوانني التي ُذكرت من فورها ومثل قانون مور‪ ،‬فإن قانون ميتكالف أكرث من‬
‫كونه قانونا علميا؛ عىل الرغم من ذلك‪ ،‬فهو ُيعد قانونا تنويريا مفيدا‪ .‬ينص قانون‬
‫ميتكالف عىل أن قيمة فائدة شبكة اتصال تتناسب مع مربع عدد نقاط النظام‬
‫املتصلة (‪ .)n2‬بذلك‪ ،‬فإن شبكة اتصال تتكون من جهازي حاسب تكون فائدتها ‪22‬‬
‫= ‪ 4‬فقط‪ ،‬ولكن مضاعفة عدد أجهزة الحاسب املتصلة تعني بالفعل أربعة أضعاف‬
‫قيمة فائدة الشبكة التي تربطها ‪ ،16 = 42‬ويوضح الشكل الرقم ‪ 11‬ما يحدث بعد‬
‫مضاعفة عدد أجهزة الحاسب املتصلة إىل ‪ 20‬ضعفا‪ .‬الفكرة بسيطة‪ :‬كلام زاد عدد‬
‫نقاط االتصال‪ ،‬زادت قيمة فائدة أن تكون متصال بشبكة حاسوبية و ُيصبح مكلفا‬
‫أن تكون غري متصل بها‪ .‬يف الواقع‪ ،‬فاملسألة التي نأخذها يف االعتبار هي أبسط‬
‫من ذلك‪ ،‬فهناك تعميم أكرث شمولية‪ .‬فبعد مضاعفات محدودة سوف يبدو أي منو‬
‫يفوق النمو الخطي (النمو الخطي هو عند رضب «س» يف رقم ثابت‪ ،‬مثل رضب‬
‫راتبك يف ‪ 12‬شهرا)‪ ،‬أي النمو الرتبيعي‪ ،‬مثل قانون ميتكالف‪ ،‬أو النمو التكعيبي‬
‫األسيّ (‪ ،)ex‬سوف يبدو كخط عمودي مستقيم‪ ،‬مثل الحرف الالتيني‬ ‫(‪ )n3‬أو النمو ُ‬
‫«‪ »L‬الذي متت إدارته ‪ 180‬درجة حول محوره‪:‬‬
‫هذا «القانون ‪ »L‬هو كل ما عىل املرء أن يتذكره‪ ،‬فهذا هو شكل النمو الذي يود‬
‫تحقيقه أي عمل تجاري‪ .‬إنه شكل االتصالية ا ُملفرطة‪ .‬وفقا لتقرير صادر عن االتحاد‬
‫الدويل لالتصاالت (‪ ،)13()ITU‬فإن أكرث من ثلث سكان العامل يف العام ‪ 2013‬كان يرتبط‬
‫بشبكة اتصال ‪ .online‬وال عجب يف أن قيمة فائدة الشبكة ارتفعت ارتفاعا فلكيا‪،‬‬
‫‪47‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫باستقامة تامة‪ُ .‬ترى ما املشكلة؟؛ إن أي «قانون ‪ »L‬حقيقة ال يتناول االتصال داخل‬


‫الشبكة‪ ،‬ولكن يتناول مقدار تعقيدها (ما عدد الروابط املمكنة بني كم نقطة اتصال)‪.‬‬
‫االتصاالت تحتاج إىل وجود رابط‪ ،‬لكنها تعتمد عىل رسعة هذا الرابط‪ .‬فكر يف طريق‬
‫ما‪ ،‬والفرق الذي تصنعه الرسعة سواء كان هذا الطريق هو شارعا صغريا أو طريقا‬
‫رسيعا‪ ،‬به حركة مرور أو من دون حركة مرور‪ .‬هذا هو عنق الزجاجة الذي تعرفت‬
‫عليه مؤرختنا املستقبلية‪ ،‬وهو معروف باسم قانون نيلسن ‪ .Nielsen’s Law‬قبل بضع‬
‫سنوات‪ ،‬الحظ جيكوب نيلسن ‪(Jacob Nielsen‬٭) أن رسعة وصالت شبكة املستخدمني‬
‫املنزليني مثيل ومثلك تتزايد‪ ،‬بصفة عامة‪ ،‬بنحو ‪ 50‬يف املائة سنويا‪ ،‬وبالتايل تتضاعف‬
‫كل ‪ 21‬شهرا تقريبا‪ .‬هذا ُمبهر‪ ،‬ولكنه ليس باهرا بقدر الرسعة التي أوضحها قانون‬
‫مور‪ .‬وهذه الرسعة أيضا غري كافية‪ ،‬بالفعل‪ ،‬للتعامل مع «الوزن» املتنامي رسيعا (عدد‬
‫البتات) للملفات التي نرغب يف نقلها‪ .‬نتيجة لذلك‪ ،‬فإن تجربتنا يف الربط بشبكة اتصال‬
‫يف املستقبل املنظور سوف تحدها سعة ما لدينا من قنوات اتصال‪.‬‬

‫الخالصة‬
‫يشهد الجيل الحايل انتقاال من التأريخ إىل التأريخ ا ُملفرط‪ .‬فمجتمعات املعلومات‬
‫املتقدمة يتزايد اعتامدها أكرث فأكرث عىل تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت ألداء‬
‫عملها االعتيادي ولتحقيق النمو؛ وسوف تتزايد قدرة املعالجة‪ ،‬يف حني أن أسعارها‬
‫سوف تنخفض؛ وسوف يبلغ كم البيانات قدرا ال ميكن تصوره؛ وسوف تنمو قيمة‬
‫فائدة شبكتنا الحاسوبية منوا يكاد يكون عموديا‪ .‬عىل الرغم من ذلك‪ ،‬فقدرتنا عىل‬
‫التخزين (املكان) ورسعة اتصاالتنا (الزمان) تتخلفان عن الركب‪ .‬التأريخ ا ُملفرط هو‬
‫حقبة جديدة يف تطور البرشية‪ ،‬لكنه ال يتجاوز القيود املكانية والزمانية التي تتوىل‪،‬‬
‫عىل الدوام‪ ،‬تنظيم حياتنا عىل هذا الكوكب‪ .‬السؤال التايل الذي ينبغي التصدي له‪،‬‬
‫هو‪ :‬يف ضوء كل املتغريات التي رأيناها يف هذا الفصل‪ ،‬أي نوع من بيئة التأريخ ا ُملفرط‬
‫نبنيها ألنفسنا ولألجيال املقبلة؟ اإلجابة القصرية‪ ،‬هي‪ :‬اإلنفوسفري ‪infosphere‬‬
‫(الغالف املعلومايت)‪ ،‬أما اإلجابة املطولة فتأتيكم يف الفصل الثاين‪.‬‬

‫(٭) االستشاري الدمناريك يف استخدامات الحاسب املولود يف ‪ 1957‬والحاصل عىل دكتوراه يف التفاعل بني اإلنسان‬
‫والحاسب‪ ،‬من جامعة كوبنهاغن‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫‪2‬‬

‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫بينية التكنولوجيا‬
‫تعد البينية ‪ in-betweenness‬واحدة من‬
‫السامت األكرث وضوحا التي مُتيز أي تكنولوجيا‪.‬‬
‫افرتض أن «أليس»(٭) تعيش يف ريو دي جانريو‪،‬‬
‫وليس يف أكسفورد؛ فالقبعة هي تكنولوجيا بينها‬
‫وبني أشعة الشمس‪ ،‬وزوج من الصنادل هو‬
‫تكنولوجيا بينها وبني رمال الشاطئ الساخنة‬
‫التي متيش عليها‪ ،‬والنظارات الشمسية هي‬
‫تكنولوجيا بينها وبني الضوء الساطع املحيط بها‪.‬‬
‫إن فكرة مثل هذه البينية تبدو واضحة وغري‬
‫مثرية للجدل؛ عىل رغم ذلك‪ ،‬فإنها رسعان ما‬
‫تزداد تعقيدا‪.‬‬
‫بسبب اهتامماتنا التي تتمحور حول‬
‫اإلنسان‪ ،‬أصبح لدينا مصطلح معياري لوصف‬
‫«الثورة املقبلة لن تكون يف التطور‬
‫جانب واحد من بينية التكنولوجيا‪ ،‬وهو أن‬ ‫الرأيس لبعض التكنولوجيات الجديدة‬
‫التي مل يسبق تصورها‪ ،‬ولكنها سوف‬
‫(٭) الشخصية الرئيسة يف رواية «أليس يف بالد العجائب» (‪)1865‬‬ ‫تكون يف التطور األفقي‪ ،‬ألنها سوف‬
‫لتشارلز دورسون‪ ،‬املعروف باسمه املستعار لويس كارول‪[ .‬املحرر]‪.‬‬ ‫تكون بشأن ربط أي يشء بأي يشء»‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫«أليس» هي ا ُملستَخ ِدم املتفاعل ‪ .interacting user‬أما الذي يبدو أننا نفتقر‬
‫إليه‪ ،‬فهو مصطلح لوصف الجانب اآلخر من العالقة‪ ،‬ذلك الجانب الذي يستدعي‬
‫استخداما معينا أو مُي ّكن من التواصل بطريقة ما‪ .‬إن ما تقوم به الشمس هو التحفيز‬
‫عىل التطوير‪ ،‬من ثم يأيت ارتداء القبعة‪ .‬لذلك‪ ،‬دعونا نتفق عىل أن ُنشري إىل الجانب‬
‫الـم َلـ ِّقن ‪ .)1(the prompter‬برصف النظر عن‬ ‫اآلخر من بينية التكنولوجيا عىل أنه ُ‬
‫كون هذا املصطلح ينقل الفكرة الصحيحة الستدعاء أو استيحاء أو متكني وساطات‬
‫ويصعب الخلط بينها‬
‫تكنولوجية معينة‪ ،‬فهو أيضا كلمة بكر يف فلسفتنا للتكنولوجيا‪ُ ،‬‬
‫وبني معناها يف املرسح‪ ،‬كام أنه متناغم مع كلمة ُمستَخ ِدم ‪ .user‬بالنظر إىل الشكل‬
‫الـم َلـ ِّقن للقبعة‪ ،‬والرمال الساخنة هي‬
‫الرقم ‪ ،12‬فهذا يعني أن ضوء الشمس هو ُ‬
‫الـم َلـ ِّقن للنظارات الشمسية‪ .‬إن املخرتع‬
‫الـم َلـ ِّقن للصنادل‪ ،‬والضوء الساطع هو ُ‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫هو شخص يستحدث األداة التي رمبا تلبي حاجة أو رغبة لدى املستَخ ِدم ناشئة عن‬
‫“الـم َلـ ِّقن” قليال‪ ،‬آمال أال أمزقها‪.‬‬
‫ُم َلـ ِّقن ما‪ .‬كام ترون‪ ،‬أنا أ ُمط كلمة ُ‬

‫الشكل (‪ :)12‬مخطط بنية التكنولوجيا‬

‫الشكل (‪ :)13‬تكنولوجيا من الرتبة األوىل‬

‫عندما تكون التكنولوجيات بني ُمستَخ ِدمني من البرش و ُم َلـ ِّقنني من الطبيعة‪،‬‬
‫فإننا نصفها بأنها تكنولوجيات من الرتبة األوىل ‪first-order technologies‬‬
‫(الشكل الرقم ‪ .)13‬إنه ألمر بسيط أن نحرص تكنولوجيات الرتبة األوىل‪ ،‬فجميع‬
‫التكنولوجيات التي سبق ذكرها مؤهلة ألن تكون من الرتبة األوىل‪ ،‬وميكن بسهولة‬
‫إضافة مزيد إىل هذه القامئة‪ ،‬مثل املحراث أو عجلة القيادة أو املظلة‪ .‬الفأس‬
‫هي عىل األرجح أوىل وأقدم التكنولوجيات من الرتبة األوىل؛ ويف الوقت الحارض‪،‬‬
‫‪50‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫فإن فأس شطر األخشاب (البلطة) التزال ُتعد تكنولوجيا من الرتبة األوىل بينك‬
‫(ا ُملستَخ ِدم) وبني الخشب (الم ُ َلـ ِّقن)‪ ،‬والرسج هو بينك وبني الحصان‪ ،‬وقصافات‬
‫األظافر وأقواس الصيد هي أمثلة أخرى ملثل هذا النوع من تكنولوجيا الرتبة األوىل‬
‫التي ليست بالرضورة أن تكون تكنولوجيا بسيطة‪ .‬فمن املمكن أن تكون قامئة عىل‬
‫التكنولوجيا ومتطورة من الناحية الفنية‪ ،‬مثل البندقية الهجومية ‪،assault rifle‬‬
‫كمستَخ ِدم‬
‫التي هي تكنولوجيا من الرتبة األوىل لألسف بني اإلنسان عىل الجانبني‪ُ ،‬‬
‫وكم َلـ ِّقن من الجانب اآلخر‪.‬‬
‫من جانب ُ‬
‫عند هذه النقطة‪ ،‬رمبا تقفز إىل الذهن كلمة «أداة ‪ »tool‬عىل أنها مالمئة‪ ،‬لكن‬
‫هذا سيكون وصفا مشوها‪ ،‬ألن األدوات ال يتعني أن تكون تكنولوجيا من الرتبة األوىل‪،‬‬
‫كام سأتناول بالرشح فيام سييل‪.‬‬
‫صنع العديد من الحيوانات صورا بسيطة من تكنولوجيات الرتبة األوىل‪ ،‬مثل‬
‫العيص أو األصداف التي يجري إدخال تعديل عليها‪ ،‬واستخدامها ألداء مهام مثل‬
‫البحث عن الطعام‪ ،‬والتز ُّين عند التزاوج‪ ،‬والقتال‪ ،‬وحتى اللعب‪ .‬يف املايض‪ ،‬أنهى هذا‬
‫االكتشاف التفسري الساذج لإلنسان الصانع ‪ homo faber‬عىل أنه إنسان تكنولوجي‬
‫‪ .homo technologicus‬صحيح أننا النوع الذي يبني‪ ،‬لكن ا ُملراد اإلشارة إليه هو أدق‬
‫قليال‪ ،‬ألن عدة أنواع أخرى تستحدث وتستخدم أيضا مصنوعات يدوية لتتفاعل مع‬
‫بيئاتها‪ .‬االختالف بيننا وبني األنواع األخرى غري قابل للقياس‪ ،‬كام يف حالة استخدامنا‬
‫للغات طبيعية وألشكال التواصل الرمزي األخرى‪ ،‬أو استحداث اللغات االصطناعية‪،‬‬
‫السيام لربمجة اآلالت‪ .‬فليست املسألة ثنائية وجود أو غياب بعض القدرات األساسية‪،‬‬
‫لكن األمر يرجع إىل الدرجة الهائلة لتطور مثل هذه القدرات فينا ومرونة وجودها‪.‬‬
‫هذا هو الفرق بني كتاب التلوين الذي يلعب به الطفل ُمستَخ ِدما أقالم الشمع امللونة‬
‫وبني كنيسة سيستينا ‪(Sistine Chapel‬٭)‪ .‬واإلرصار عىل االستمرارية ليس خطأ‪،‬‬
‫إنه يحتمل الصواب والخطأ؛ ففي حالة التكنولوجيات‪ ،‬من األفضل أن نتحدث عن‬
‫اإلنسان الصانع ‪ homo faber‬عىل أنه اإلنسان التكنولوجي ‪،homo technologicus‬‬
‫مخرتع و ُمستَخ ِدم تكنولوجيات الرتبة الثانية والرتبة الثالثة‪ ،‬باملفهوم التايل‪.‬‬
‫(٭) كنيسة صغرية جميلة يف املقر البابوي بالفاتيكان‪ ،‬اشتهرت بالرسوم الرائعة عىل جدرانها وبلوحة «يوم الدينونة»‬
‫التي زين بها السقف مايكل آنجلو‪ .‬ويف هذه الكنيسة يلتئم املجمع املطراين النتخاب البابا‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫تكنولوجيات الرتبة الثانية هي تلك التي مل تعد تصل ا ُملستَخ ِدمني بالطبيعة‪ ،‬ولكنها‬
‫الـم َلـ ِّقن لها هو التكنولوجيات‬
‫تصلهم بغريها من التكنولوجيات‪ ،‬وهذا يعني أن ُ‬
‫األخرى (انظر الشكل الرقم ‪.)14‬‬

‫الشكل (‪ :)14‬تكنولوجيا من الرتبة الثانية‬


‫وهذا سبب وجيه لعدم النظر إىل مفهوم األداة ‪ tool‬أو إىل مفهوم السلعة‬
‫االستهالكية ‪ consumer good‬عىل أنها متساوية مع تكنولوجيا الرتبة األوىل‪ .‬فكر‬
‫يف مثال منزيل‪ ،‬مفك براغي بسيط‪ .‬بطبيعة الحال هو أداة‪ ،‬لكنه بينك وبني‪ ،‬ماذا؟‬
‫أنت حزرتها‪ ،‬بينك وبني املسامر امللولب (الربغي)‪ ،‬الذي هو يف الواقع قطعة أخرى‬
‫من التكنولوجيا‪ ،‬والذي بدوره يكون بني مفك الرباغي وقطعتني من الخشب عىل‬
‫سبيل املثال‪ .‬املفك ذاته ُيفهم بسهولة أكرث عىل أنه سلعة رأساملية ‪،capital good‬‬
‫وهي السلعة التي تساعد عىل إنتاج سلع أخرى‪ .‬أمثلة أخرى من تكنولوجيات الرتبة‬
‫الـم َلـ ِّقن لها هو األقفال‪ ،‬واملركبات التي‬
‫الثانية تشمل املفاتيح التي من الواضح أن ُ‬
‫والـم َلـ ِّقن لها هو الطرق املمهدة‪ ،‬التي هي قطعة أخرى‬
‫يستخدمها اإلنسان (واليزال) ُ‬
‫من التكنولوجيا‪.‬‬
‫بعض تكنولوجيات الرتبة األوىل ( َت َذ َّكر‪ :‬هي تلك التي ُتحقق مخطط إنسان‪-‬‬
‫تكنولوجيا ‪ -‬طبيعة ‪ )humanity–technology–nature‬تكون عدمية الفائدة من‬
‫دون تكنولوجيات الرتبة الثانية املناظرة التي تقرتن بها‪ .‬الطرق ال تتطلب سيارات حتى‬
‫تكون ذات فائدة‪ ،‬ولكن املسامر امللولب (الربغي) يتطلب وجود مفك الرباغي‪ .‬أما‬
‫تكنولوجيات الرتبة الثانية‪ ،‬فإنها تنطوي عىل مستوى اعتامد متبادل مع تكنولوجيات‬
‫الرتبة األوىل (املثقاب يكون عديم الجدوى دون رؤوس الثقب) التي هي السمة‬
‫املميزة لدرجة من التخصص‪ ،‬وبالتايل درجة من التنظيم‪ .‬إما أن يكون لديك الصواميل‬
‫واملسامري (الرباغي) وإما ال يكون لديك هذا وال ذاك‪.‬‬
‫مثل هذه االعتامدية املتبادلة‪ ،‬وما يناظرها من ظهور لتكنولوجيات الرتبة الثانية‪،‬‬
‫يتطلب وجود تجارة وعملة من نوع ما‪ ،‬وبالتايل فهي ترتبط‪ ،‬عادة‪ ،‬بظهور أشكال من‬
‫‪52‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫التنشئة االجتامعية اإلنسانية أكرث تعقيدا‪ ،‬ومن ثم فهي نوع من الحضارة‪ ،‬وما يعقبها‬
‫من تراكم لقدر من أوقات الفراغ واألنشطة الرتفيهية‪ ،‬ويف نهاية املطاف تنشأ ثقافة‬
‫مناظرة لها‪ .‬عىل رغم أن بعض الحيوانات إىل حد ما قادر عىل بناء املصنوعات اليدوية‬
‫الخاصة به‪ ،‬عن طريق شحذ عصا عىل سبيل املثال‪ ،‬فإن هذه الحيوانات ال تبدو قادرة‬
‫عىل بناء تكنولوجيات الرتبة الثانية بأي شكل من األشكال‪.‬‬
‫ُيعرف املحرك ‪ engine‬عىل أنه أي تكنولوجيا متد تكنولوجيات أخرى بالطاقة‪،‬‬
‫ورمبا يكون املحرك هو أهم تكنولوجيات الرتبة الثانية‪ .‬عىل مر آالف السنني‪،‬‬
‫ح َّولت الطواحني املائية والطواحني الهوائية الطاقة إىل حركة مفيدة‪ ،‬ولكن الثورة‬
‫الصناعية مل تتحول إىل حقيقة واقعة وواسعة االنتشار إال عندما أصبح البخار‪ ،‬وآلة‬
‫االحرتاق الداخيل‪ ،‬واملحرك الكهربايئ وسائل «نقالة» للتزود بالطاقة‪ ،‬ميكن وضعها بني‬
‫ا ُملستَخ ِدم وغريه من التكنولوجيات حيثام تكن هناك حاجة إليها‪.‬‬
‫وقد اكتسب جانب كبري من الحداثة يف اآلونة األخرية طابعه امليكانييك نتيجة‬
‫لكرثة تكنولوجيات الرتبة الثانية‪ ،‬وكان ذلك مدفوعا بزيادة املعرفة العلمية عن‬
‫املواد والطاقة وكيفية التحكم فيهام‪ .‬فلندن يف روايات شارلوك هوملز ‪Sherlock‬‬
‫‪(Holmes‬٭) هي عامل صاخب من الرتوس والساعات والعجالت واآلليات التي‬
‫تعمل بالطاقة‪ ،‬وتتسم ليس فقط بالعالقة الثالثية‪ :‬إنسان – تكنولوجيا ‪ -‬طبيعة‬
‫‪ ،humanity–technology–nature‬ولكنها تتسم‪ ،‬بقدر ملحوظ‪ ،‬بالعالقة الثالثية‪:‬‬
‫إنسان – تكنولوجيا ‪ -‬تكنولوجيا ‪ .humanity–technology–technology‬أما‬
‫الحداثة‪ ،‬باعتبارها مرحلة ما قبل التأريخ ا ُملفرط يف مراحل تطور اإلنسان‪ ،‬فهي‬
‫تتحول‪ ،‬وبرسعة بالغة‪ ،‬إىل عامل من التبعيات املعقدة واملتشابكة من سالسل تفاعالت‬
‫ميكانيكية‪ ،‬فضال عن الروابط املتالزمة‪ ،‬مثل‪ :‬ال قطارات من دون سكك حديد وفحم‪،‬‬
‫ال سيارات من دون محطات بنزين ونفط‪ ،‬وهكذا‪ ،‬يف دورة متينة و ُم َق ِّيدة ُي َع ِزز‬
‫بعضها بعضا‪.‬‬
‫كام يبني تاريخ األقراص املرنة ‪ ،floppy disks‬فعند مرحلة ما يكون استبدال‬
‫النظام بأكمله ‪ -‬تغيري املفاهيم‪ ،‬لصياغتها بصورة أكرث إدهاشا ‪ -‬أسهل من مواصلة‬
‫(٭) هو املخرب الرسي الذي ابتدعه السري آرثر كونان دويل ليكون بطال لسلسلة روايات وقصص قصرية بوليسية يف‬
‫الفرتة من ‪ 1887‬حتى ‪[ .1927‬املحرر]‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫تحسني جزء واحد منه‪ .‬ليست هناك جدوى من أن تكون لديك أقراص مرنة فائقة‬
‫القوة إذا كانت ماليني من محركات األقراص املوجودة هي بالفعل غري قادرة عىل‬
‫قراءتها‪ .‬هذا ما يفرس إحدى مزايا أي من القفزات التكنولوجية(‪ ،)2‬إذ إن املستهلك‬
‫الذي يتأخر يف اقتناء التكنولوجيا غري مضطر إىل التعامل مع إرث من أي حزمة‬
‫تكنولوجية إلزامية (اقرتان تكنولوجيا الرتبة األوىل مع تكنولوجيا الرتبة الثانية)‪ ،‬وله‬
‫مطلق الحرية يف االستفادة من الحل األحدث واألكرث إبداعا‪ .‬عىل رغم ذلك‪ ،‬هذا‬
‫أبسط مام يبدو‪ ،‬وتحديدا بسبب الطبيعة االقرتانية لتكنولوجيات الرتبة الثانية‪.‬‬
‫بالطبع‪ ،‬سوف يكون من األسهل إدخال املركبات الكهربائية أو املركبات الهجني‪،‬‬
‫عىل سبيل املثال‪ ،‬إذا مل يكن هناك سوى الطرق وال يوجد أي مركبات تعمل بآلة‬
‫االحرتاق الداخيل‪ .‬الصعوبة الواضحة هنا هي أن سبب وجود الطرق يف املقام األول‬
‫هو وجود مركبات تعمل بآلة االحرتاق الداخيل‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن مهمة الترشيعات التي‬
‫تتعامل مع ابتكار تكنولوجي هي أيضا تيسري عملية االنتقال من تكنولوجيات قدمية‬
‫إىل تكنولوجيات جديدة عن طريق فك االرتباط بني ما يتعني أن يبقى (عىل سبيل‬
‫املثال‪ ،‬الطرق) وما يحتاج إىل تغيري (عىل سبيل املثال‪ ،‬مركبات آلة االحرتاق الداخيل)‪،‬‬
‫وأحيانا يتم ذلك عن طريق الحوافز والعقوبات‪.‬‬
‫ومعظم األجهزة املريحة التي نتمتع بها يف منازلنا اليوم هي من حيث املفهوم‬
‫تنتمي إىل حداثة اآلونة األخرية‪ ،‬مثل‪ :‬الثالجة (الرباد)‪ ،‬آالت غسل الصحون‪ ،‬آالت غسل‬
‫املالبس‪ُ ،‬مجفف املالبس‪ ،‬التلفزيون‪ ،‬الهاتف‪ ،‬املكنسة الكهربائية‪ ،‬املكواة الكهربائية‪،‬‬
‫أنظمة الصوت ‪ ...‬جميعها إما تكنولوجيات من الرتبة األوىل وإما تكنولوجيات من‬
‫الرتبة الثانية‪ ،‬تعمل بني ا ُملستَخ ِدم اإلنسان ُ‬
‫والـم َلـ ِّقنات ذات الصلة‪ .‬إنها متثل عاملا‬
‫ُمهيأ للرتبة الثالثة‪ ،‬عاملا ُمهيأ لقفزة ثورية‪ ،‬لتبدأ تكنولوجيا يف النمو باطراد حاملا‬
‫تقوم بينيتها بربط تكنولوجيات بوصفها ُمستَخ ِدما مع تكنولوجيات أخرى بوصفها‬
‫ُم َلـ ِّقنا‪ ،‬يف مخطط تكنولوجيا – تكنولوجيا ‪ -‬تكنولوجيا –‪technology–technology‬‬
‫‪( technology‬انظر الشكل الرقم ‪ .)15‬من ثم‪ ،‬نحن من كنّا ا ُملستَخ ِدمني‪ ،‬مل نعد داخل‬
‫الدائرة‪ ،‬ولكن أصبحنا عىل األكرث عىل حافتها‪ ،‬إذ اليزال الطيارون يقودون بفعالية‬
‫الطائرات دون طيار باستخدام ذراع قيادة ودواسة وقود‪ ،‬ولكن املشغلني يتحكمون‬
‫فيها باستخدام الفأرة ولوحة املفاتيح فقط(‪ .)3‬رمبا ال نكون موجودين بشكل فعال‬
‫‪54‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫عىل اإلطالق‪ ،‬أي أننا نكون خارج الدائرة متاما‪ ،‬وننعم مبثل هذه التكنولوجيات‪ ،‬أو‬
‫ببساطة نعتمد عليها‪ ،‬باعتبارنا مستفيدين أو مستهلكني (محتمل من دون إدراك)‪.‬‬
‫هذه ليست ظاهرة غري مسبوقة متاما‪ ،‬فقد قال أرسطو إن العبيد كانوا «أدوات حية»‬
‫ألداء األعامل‪:‬‬

‫الشكل (‪ :)15‬تكنولوجيا من الرتبة الثالثة‬

‫الصنف اململوك هو أداة يتحقق بها غرض للعيش‪ ،‬والم ُ ْلكية يف عمومها‬
‫مجموعة أدوات‪ ،‬والعبد صنف حي من أصناف امللكية(‪ ]...[ .)4‬وبالتايل‪،‬‬
‫فهذه االعتبارات توضح طبيعة العبد وصفته الجوهرية؛ فالشخص الذي‪،‬‬
‫وإن بقي كائنا حيا‪ ،‬هو بطبيعته ال ينتمي إىل نفسه بل إىل غريه‪ ،‬هو‬
‫بالطبيعة عبد‪ ،‬والكائن البرشي ينتمي إىل غريه إذا كان‪ ،‬عىل آدميته‪ ،‬صنفا‬
‫مملوكا‪ ،‬والصنف اململوك هو أداة للعمل منفصلة عن مالكها(‪.)5‬‬
‫من الواضح أن هذه «األدوات الحية» ميكن أن « ُتستَخدَم» بوصفها تكنولوجيا‬
‫من الرتبة الثالثة وتضع السادة خارج الدائرة‪ .‬اليوم‪ ،‬هذا الرأي له صدى يف العديد‬
‫من تشبيهات الروبوتات وغريها من أجهزة تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت التي‬
‫ُتستَخدَم كعبيد ‪.slaves‬‬
‫بالطبع‪ ،‬التوقع الوحيد اآلمن فيام يخص التنبؤ باملستقبل هو أنه من السهل أن‬
‫يكون خطأ‪ .‬من كان يظن أنه بعد مرور عرشين عاما عىل فشل جهاز املساعد الرقمي‬
‫الشخيص املسمى «نيوتن» الذي طورته رشكة آبل‪ )6(،‬سوف يصطف الناس يف طوابري‬
‫لرشاء جهاز آيباد ‪ .iPad‬يف بعض األحيان‪ ،‬عليك أن تنتظر التفاحة املناسبة لتسقط‬
‫عىل رأسك‪ .‬إن «إنرتنت األشياء ‪ ،»the Internet of things‬حيث تعمل تكنولوجيا‬
‫الرتبة الثالثة بشكل مستقل عن ا ُملستَخ ِدمني اآلدميني‪ ،‬التزال تبدو كثامر دانية‬
‫نضجت مبا فيه الكفاية وتستحق املتابعة‪ .‬يف الوقت الحايل‪ ،‬يتحدث بعض الخرباء‬
‫قليال عن هذا األمر‪ .‬الثورة املقبلة لن تكون يف التطور الرأيس لبعض التكنولوجيات‬
‫الجديدة التي مل يسبق تصورها‪ ،‬ولكنها سوف تكون يف التطور األفقي‪ ،‬ألنها سوف‬
‫‪55‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫تكون بشأن ربط أي يشء بأي يشء )‪ ،anything to anything (a2a‬وليس فقط ربط‬
‫إنسان بإنسان‪ .‬يوما ما‪ ،‬سوف يصبح ما لدينا اآلن من تكنولوجيا باليا وقدميا‪ ،‬وسوف‬
‫نصبح مفتونني بتكنولوجيات تربط أي يشء بأي يشء (‪ .)a2a‬سأعود إىل هذه النقطة‬
‫يف الفصل السابع‪ .‬للحظة‪ ،‬كان اإلعالن عن جهاز املساعد الرقمي الشخيص «نيوتن»‬
‫باعتبار أنه ميكن توصيله بالطابعة مذهال جدا يف ذاك الوقت‪ ،‬ولكنه أصبح اليوم أمرا‬
‫بديهيا يسريا‪ .‬تخيل عاملا تفحص فيه سيار ُتك مفكر َتك اليومية اإللكرتونية ذاتيا‪ ،‬ومن‬
‫خالل جهاز التلفزيون الرقمي الخاص بك ُت َذ ِّكرك بأنك يف حاجة إىل الحصول عىل‬
‫بعض الوقود قبل رحلتك الطويلة إىل العمل غدا‪ .‬إن كل هذا وأكرث أصبح بالفعل‬
‫قابال للتنفيذ بسهولة‪ .‬كربى العقبات التي تحول دون تحقيق ذلك هي عدم وجود‬
‫معايري مشرتكة‪ ،‬ومحدودية الربوتوكوالت‪ ،‬وعدم تصميم األجهزة واملعدات يف شكل‬
‫وحدات منطية ميكن استخدامها للتعامل مع بقية اإلنفوسفري (الغالف املعلومايت)‪.‬‬
‫إن أي شخص سوف يتمكن من اخرتاع جهاز عاملي شامل ‪universal appliance‬‬
‫ميكن توصيله مبا لدينا من مليارات األجهزة لجعلها تتواصل بعضها مع بعض‬
‫ويكون سعره مناسبا‪ ،‬رسعان ما يصبح مليارديرا‪ .‬إنها مشكلة تكامل وإزالة التجزئة‬
‫‪ ،defragmentation‬هذه املشكلة التي نحلها حاليا عن طريق إجبار اإلنسان بانتظام‬
‫عىل العمل كواجهات بينية ‪ .interfaces‬نحن نشغل آالت توزيع الوقود يف محطات‬
‫الوقود‪ ،‬ونرتجم تعليامت نظام التموضع العاملي (‪ )GPS‬إىل مناورات قيادة‪ ،‬ونجعل‬
‫متاجر البقالة تتواصل مع الثالجة (ال ّرباد) الخاصة بنا‪.‬‬
‫إن تكنولوجيات الرتبة الثالثة (مبا يف ذلك إنرتنت األشياء) معنية‪ ،‬بصفة أساسية‪،‬‬
‫بإخراجنا‪ ،‬نحن البرش البينيني املزعجني‪ ،‬إىل خارج الدائرة‪ .‬يف إنفوسفري عديم التجزؤ‬
‫ومتكامل متاما‪ ،‬سوف يكون التنسيق غري املريئ بني األجهزة سلسا بقدر سالسة تفاعل‬
‫هاتفك الذيك مع حاسبك املحمول‪ ،‬الذي بدوره يتفاعل بسالسة مع الطابعة‪ .‬يصعب‬
‫التنبؤ مبا سوف يحدث عندما تتحدث األشياء بعضها مع بعض بصورة منتظمة‪ ،‬لكنني‬
‫لن أفاجأ إذا قامت رشكات الحاسب والربمجيات يف املستقبل القريب بتصميم وبيع‬
‫األجهزة املنزلية‪ ،‬مبا يف ذلك جهاز التلفزيون‪.‬‬
‫كم َلـ ِّقن‪ ،‬من‬
‫كمستَخ ِدم‪ ،‬تتفاعل مع تكنولوجيات أخرى ُ‬ ‫إن التكنولوجيات‪ُ ،‬‬
‫خالل تكنولوجيات أخرى بينية‪ :‬وهذه طريقة أخرى لوصف التأريخ ا ُملفرط عىل أنه‬
‫‪56‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫مرحلة يف تطور اإلنسان عندما تصبح عالقات تكنولوجيات الرتبة الثالثة هي الرشط‬
‫الرضوري لتحقيق التنمية واالبتكار والرخاء‪ .‬إنها أيضا وسيلة لتقديم مزيد من األدلة‬
‫عىل أننا دخلنا مرحلة التأريخ ا ُملفرط من تطورنا‪ .‬وينم تعبري «البيانات املقروءة آليا»‪،‬‬
‫يف حد ذاته‪ ،‬عن وجود مثل هذا الجيل من تكنولوجيات الرتبة الثالثة‪ .‬بكل بساطة‪،‬‬
‫الشفرة الخيطية (الباركود ‪ )barcodes‬هي ليست ألعيننا؛ كذلك التداول عايل الرتدد‬
‫)‪( )7(High-frequency Trading (HFT‬ثالثة أرباع حجم تداول األسهم يف الواليات‬
‫املتحدة هو من هذا النوع) عندما ُت ْشرتى األسهم و ُتباع برسعة عالية للغاية لدرجة أن‬
‫أجهزة الحاسب والخوارزميات الرسيعة هي فقط التي ميكنها التعامل معها‪ ،‬وفحص‬
‫العديد من األسواق يف وقت واحد‪ ،‬وتنفيذ املاليني من الطلبات يف الثانية الواحدة‪،‬‬
‫واعتامد وتطويع االسرتاتيجيات يف غضون زمن يقاس باملليل ثانية‪ .‬ينطبق اليشء‬
‫نفسه عىل أي تطبيق حساس للزمن‪ ،‬سواء كان هذا التطبيق مدنيا أو عسكريا‪.‬‬
‫أمثلة أخرى تشمل املركبات الذاتية ‪ ،autonomous vehicles‬مثل السيارات من‬
‫دون سائق ‪ driverless cars‬أو «األجهزة املنزلية الرئيسية الكبرية الحجم ‪domotic‬‬
‫‪ ،»appliances‬وهي تكنولوجيات تح ِّول املنزل إىل بيئة ذكية‪ ،‬عىل سبيل املثال عن‬
‫طريق رصد التدفئة املركزية ومصدر املاء الساخن وتنظيمها وضبطها بدقة وفقا‬
‫لعاداتنا‪ .‬سوف نصادف هذه األمثلة مجددا يف الفصول التالية‪.‬‬
‫كام هو واضح من األمثلة السابقة‪ ،‬فإن تكنولوجيا الرتبة الثالثة يف نهاية املطاف‬
‫ُتق َّدم بواسطة تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ .‬إن استخدام كلمة «املحرك‬
‫‪ »engine‬يف السياقات الحاسوبية (كام يف «محرك البحث ‪ »search engine‬أو‬
‫«محرك بناء لعبة ‪ )»game development engine‬يف حد ذاته ُي َذ ِّكرنا بأن تكنولوجيا‬
‫الرتبة الثانية ترتبط باملحرك كارتباط تكنولوجيا الرتبة الثالثة بالحاسوب‪ .‬تستطيع‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت معالجة البيانات بشكل ذايت وبطرق ذكية‪ ،‬ومن‬
‫ثم تكون مسؤولة عن سلوكياتها‪ ،‬ورمبا يصري ا ُملستَخ ِدم اآلدمي زائدا وال حاجة بنا‬
‫إليه‪ ،‬عندما ُتست َغل هذه امليزة بشكل كامل‪ .‬ومن الصعب أن تتخيل عاملا حديثا فيه‬
‫محركات ميكانيكية تواصل العمل وتصلح نفسها بنفسها حاملا يغادر آخر إنسان‬
‫كوكب األرض‪ ،‬تبقى الحداثة امليكانيكية تعتمد عىل اإلنسان‪ .‬عىل رغم هذا‪ ،‬ميكننا‬
‫بالفعل أن نتصور نظاما حاسوبيا مؤلال ‪ automated‬بالكامل‪ ،‬ورمبا ال يحتاج مطلقا‬
‫‪57‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫إىل تفاعالت برشية ليوجد وينمو‪ .‬إن مرشوعات بناء الطابعات ثالثية األبعاد ذاتية‬
‫التجميع ‪ self-assembling 3D printers‬التي تستطيع استخدام موارد القمر لبناء‬
‫مستعمرة اصطناعية عىل سطح القمر‪ ،‬رمبا التزال تبدو مرشوعات خيالية(‪ ،)8‬لكنها‬
‫توضح جيدا كيف يبدو املستقبل‪ .‬إن العنارص الوسيطة (الوكالء) الذكية واملستقلة‬
‫‪ Smart and autonomous agents‬مل تعد بحاجة إىل اإلنسان‪ ،‬ومجتمع التأريخ‬
‫ا ُملفرط الذي يعتمد بشكل كامل عىل تكنولوجيات الرتبة الثالثة‪ ،‬ميكنه من حيث‬
‫املبدأ أن يكون مستقال عن اإلنسان‪.‬‬
‫حان وقت اإليجاز‪ .‬نحن رأينا أن التكنولوجيات ميكن تحليلها اعتامدا عىل‬
‫طبيعتها كونها من الرتبة األوىل أو الثانية أو الثالثة‪ .‬واملسألة ميكن تنقيحها‪ ،‬ولكن‬
‫دون مكسب مفاهيمي كبري‪ .‬هل الساعة تعترب تكنولوجيا من الرتبة األوىل (بينك‬
‫وبني الزمن)‪ ،‬أم من الرتبة الثانية (بينك وبني حلة الطبخ بالضغط الخاصة بك)‪ ،‬أم‬
‫من الرتبة الثالثة (بني حاسبك وبعض املهام ا ُمل َجدْولة)؟؛ هل املقص يعترب تكنولوجيا‬
‫من الرتبة األوىل (بينك وبني ساق وردة)‪ ،‬أم من الرتبة الثانية (بينك وبني قطعة‬
‫من الورق)‪ ،‬أم من الرتبة الثالثة (بني روبوت وقطعة قامش يف أحد املصانع)؟؛ هل‬
‫الحاسب يعترب تكنولوجيا من الرتبة األوىل (بينك وبني مستوى املياه يف خزان)‪،‬‬
‫أم من الرتبة الثانية (بينك وبني حاسب آخر)‪ ،‬أم من الرتبة الثالثة (بني اثنني من‬
‫الحواسب األخرى)؟؛ من الواضح أن كل إجابة تعتمد عىل السياق‪ .‬عىل رغم ذلك‪،‬‬
‫فإن حقيقة عدم وجود إجابة واحدة غري مقرتنة بالسياق ال يقلل من قطعية‬
‫التمييز بينها‪ ،‬وال يرتتب عىل هذه الحقيقة إال أننا بحاجة إىل توخي الحذر عند‬
‫استخدامها‪ .‬ومن املهم أن أؤكد هنا أن هذا التمييز صائب وكامل‪ ،‬إذ إنه ليست‬
‫هناك تكنولوجيا من الرتبة الرابعة‪ .‬بطبيعة الحال‪ ،‬ميكن للمرء بقدر ما يرغب متديد‬
‫سلسلة تكنولوجيات تتفاعل مع تكنولوجيات أخرى‪ .‬عىل رغم ذلك‪ ،‬ميكن دامئا‬
‫اختزال تلك السلسلة إىل متتالية من الثالثيات‪ ،‬سوف تكون كل واحدة منها من‬
‫الرتبة األوىل أو الثانية أو الثالثة(‪.)9‬‬
‫ويطرح تطور التكنولوجيات‪ ،‬من الرتبة األوىل إىل الرتبة الثانية وانتهاء بالرتبة‬
‫الثالثة‪ ،‬العديد من التساؤالت‪ .‬اثنان من هذه التساؤالت هام األكرث أهمية يف سياق‬
‫استكشافاتنا الحالية‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫أوال‪ ،‬إذا كانت التكنولوجيا دامئا بينية‪ ،‬فام العنارص الجديدة ذات الصلة عندما‬
‫تعمل تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت كتكنولوجيات من الرتبة الثالثة؟ ليك أكون‬
‫أكرث دقة‪ ،‬يكون لدينا‪ ،‬ألول َم ّرة يف تطورنا‪ ،‬تكنولوجيات ميكنها أداء دور ا ُملستَخ ِدم‬
‫لتكنولوجيات أخرى بشكل مستقل وطبيعي وبانتظام‪ ،‬لكن ما هي إذن العالقة البينية‬
‫لتكنولوجيات املعلومات واالتصاالت بالنسبة إلينا‪ ،‬ليس باعتبارنا ُمستَخ ِدمني فحسب‬
‫ولكن باعتبارنا مستفيدين مرتقبني موجودين خارج الدائرة؟ اإلجابة الكاملة يجب أن‬
‫تؤجل إىل ما بعد الفصول التالية‪ .‬دعوين هنا أتوقع أن يعرتض أحد بأن السؤال نفسه‬
‫أصبح ال معنى له‪ ،‬تحديدا ألن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت أغلقت الدائرة‬
‫نهائيا‪ ،‬و َدعَت تكنولوجيا تتواصل بنفسها مع تكنولوجيا أخرى‪ .‬بظهور تكنولوجيات‬
‫الرتبة الثالثة‪ ،‬صارت البينية يف داخل التكنولوجيات‪ ،‬ومل يعد لنا شأن بها‪ .‬سوف نرى‬
‫أن مثل هذه العملية من «االستيعاب الداخيل» التكنولوجي قد أثارت القلق‪ ،‬إذ إن‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت رمبا تنتهي إىل أن تقوم بتشكيل وإعادة صياغة‪ ،‬بل‬
‫حتى السيطرة عىل‪ ،‬حياة اإلنسان‪ .‬يف الوقت نفسه‪ ،‬ميكن ألح ٍد الرد بأن تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت‪ ،‬باعتبارها من تكنولوجيات الرتبة الثالثة التي أغلقت الدائرة‪،‬‬
‫استوعبت البينية التكنولوجية‪ ،‬داخليا‪ ،‬ولكنها استحدثت «خارجا» جديدا‪ ،‬ألنها ُتنشئ‬
‫فضاء جديدا أصبح ممكنا بفعل هذه الدائرة (ف ِّكر يف الفضاء اإللكرتوين أو السيرباين‬
‫‪ cyberspace‬عىل سبيل املثال)‪ .‬إن استمرار وجود هذا الفضاء وازدهاره‪ ،‬يعتمد عىل‬
‫الدائرة‪ ،‬ولكن ال ينبغي الخلط بينه وبني الفضاء داخل الدائرة‪ .‬إن وجود مثل هذا‬
‫الفضاء ليس أمرا غري مسبوق اجتامعيا؛ ففي أزمنة مختلفة ويف مجتمعات مختلفة‪ ،‬كان‬
‫يجري تصميم املباين بحيث تكون هناك مناطق محددة يستخدمها العبيد أو الخدم‬
‫فقط‪ ،‬وذلك ليتم بشكل الئق حجب نظام تشغيل املنزل برمته لفصل املطبخ واملقصف‬
‫عن السالمل واملمرات‪ .‬إن مشاهدي الدراما التلفزيونية الشعبية «دير داونتون»(٭)‬

‫‪ Downton Abbey‬سوف يدركون سيناريو «الطابق العلوي والطابق السفيل»‪ .‬أما‬


‫األمر غري املسبوق‪ ،‬فهو ما نراه اآلن من اتساع انتشار ورسعة وترية هجرة املجتمع‬
‫اإلنساين ككل إىل هذا الفضاء الخارج عن الدائرة‪ ،‬كلام كان ذلك ممكنا‪.‬‬
‫(٭) دراما تلفزيونية مسلسلة (‪ )2015-2010‬عرضت لحياة أرسة أرستقراطية بريطانية يف بدايات القرن العرشين‪.‬‬
‫[املحرر]‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫ثانيا‪ ،‬إذا كانت التكنولوجيا دامئا بينية‪ ،‬فام الذي يتيح نجاح مثل هذه البينية؟‪،‬‬
‫وبصياغة مختلفة‪ ،‬نوعا ما‪ :‬كيف تتفاعل التكنولوجيا مع كل من ا ُملستَخ ِدم ُ‬
‫والـم َلـ ِّقن؟‪،‬‬
‫اإلجابة بكلمة واحدة هي‪ :‬الواجهات البينية ‪ ،interfaces‬وهي موضوع القسم التايل‪.‬‬

‫الواجهات البينية‬
‫اإلله الروماين يانوس ‪ Janus‬هو إله االنتقاالت والتحوالت‪ ،‬النهايات والبدايات‪،‬‬
‫سواء كانت مكانية (مثل العتبات أو البوابات أو املداخل أو الحدود)‪ ،‬أو كانت زمنية‬
‫(السيام نهاية عام وبداية عام جديد‪ ،‬ومن ثم جاء اسم شهر يناير ‪ ،January‬أو‬
‫املواسم املختلفة‪ ،‬أو أوقات السلم والحرب‪ ...‬إلخ)‪ .‬ميكن بسهولة التعرف عىل يانوس‬
‫بني اآللهة‪ ،‬ألنه ُم َم َّثل بأنه ذو وجهني‪ .‬يف الوقت الحارض‪ ،‬يانوس هو إله الواجهات‬
‫البينية ويرتأس جميع التكنولوجيات الرقمية‪ ،‬التي هي ذات وجهني بحكم تعريفها‪.‬‬
‫إن أحد وجهي تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬ذات الوجهني‪ ،‬ينظر إىل‬
‫ا ُملستَخ ِدم‪ ،‬ومن املتوقع أن يكون هذا الوجه ودودا محببا‪ .‬الوجه اآلخر يربط‬
‫الـم َلـ ِّقن لها‪ .‬وقد نطلق عىل هذا الوجه اسم الربوتوكول‬
‫التكنولوجيا املعنية مع ُ‬
‫‪ ،protocol‬عىل رغم أن هذا املصطلح‪ ،‬مبعناه الدقيق‪ ،‬ال ُيستَخدَم إال لإلشارة إىل‬
‫مجموعة القواعد التي تنظم نقل البيانات‪ .‬وألي رتبة من التكنولوجيا واجهتان؛ واجهة‬
‫ا ُملستَخ ِدم ‪ user interface‬والربوتوكول‪ .‬ف ِّكر يف هذين الوجهني بوصفهام الوصلتني‬
‫املوجودتني يف مخطط « ُمستَخ ِدم – تكنولوجيا ‪ُ -‬م َلـ ِّقن –‪user–technology‬‬
‫‪( »prompter‬انظر الشكل الرقم ‪.)16‬‬

‫الشكل (‪ :)16‬واجهات التكنولوجيا‬

‫‪60‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫بناء عىل رتبة البينية التكنولوجية‪ ،‬رمبا يصري وجه الربوتوكول أقل ظهورا بشكل‬
‫متزايد‪ ،‬ويف النهاية تصبح واجهة ا ُملستَخ ِدم هي التي ُيتَعامل معها عىل أنها الواجهة‬
‫البينية‪ ،‬حتى يكون واردا أن تختفي هي أيضا‪ .‬يبدأ يانوس يف إخفاء الجانب اآلخر‬
‫منه ويصري أكرث فأكرث أحادي الوجه‪ ،‬مثل أي إله روماين آخر‪ ،‬إىل أن ال يعد ممكنا‬
‫إدراك حتى هذا الوجه‪ .‬دعوين أرشح هذا االختفاء التدريجي ُمستَخ ِدما األمثلة التي‬
‫سبق عرضها‪.‬‬
‫رأينا أن البلطة مثال منوذجي لتكنولوجيا الرتبة األوىل‪ ،‬إنها تتسق مع مخطط‬
‫إنسان – تكنولوجيا ‪ -‬طبيعة ‪ ،humanity–technology–nature‬مقبضها هو الواجهة‬
‫البينية التي يألفها ا ُملستَخ ِدم‪ ،‬ونصلها وطريقة استعاملها يشكالن معا الربوتوكول‬
‫الـم َلـ ِّقن (الخشب) عن طريق نقل قوة الرضبة‪ .‬أنت‪،‬‬ ‫الذي يربط الواجهة البينية مع ُ‬
‫كمستَخ ِدم‪ ،‬تحتاج إىل التحكم يف تفاعلك مع هذه التكنولوجيا البينية‪ ،‬وأيضا تحتاج‬ ‫ُ‬
‫الـم َلـ ِّقن الطبيعي‪ .‬لذلك‪ ،‬أنت تستطيع‬‫إىل التحكم يف تفاعل هذه التكنولوجيا مع ُ‬
‫الوصول إىل كل من وجهي يانوس‪ ،‬واجهة ا ُملستَخ ِدم وواجهة الربوتوكول‪ ،‬إذ ميكنك‬
‫بسهولة شحذ شفرة النصل‪ ،‬عىل سبيل املثال‪.‬‬
‫ف ِّكر بعد ذلك يف املحرك بوصفه منوذجا مثاليا لتكنولوجيا الرتبة الثانية‪ .‬لدينا‬
‫اآلن حالة من املخطط إنسان – تكنولوجيا ‪ -‬تكنولوجيا –‪humanity–technology‬‬
‫‪ .technology‬رمبا تضمن الربوتوكوالت التكنولوجية اآلن أن تتكفل التكنولوجيا‬
‫الـم َلـ ِّقن‪ .‬يف بعض الحاالت‪ ،‬أنت التزال تحتاج‬‫البينية بالتكنولوجيا التي تلعب دور ُ‬
‫إىل الوصول إىل الربوتوكول‪ .‬فكر يف مفك الرباغي‪ ،‬وكيف أنك بحاجة إىل معرفة ما إذا‬
‫كان رأس نصله يناظر ويناسب نوع رأس املسامر (هل كالهام مشقوق‪ ،‬أم فيليبس‪،‬‬
‫أم روبرتسون وما إىل ذلك؟)‪ .‬لكن‪ ،‬وبصفتك التزال ا ُملستَخ ِدم‪ ،‬أنت عادة ال تحتاج إىل‬
‫أن تكون لديك إمكانية الوصول إىل الوجهني‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يف السيارة ذات ناقل‬
‫الحركة اليدوي‪ ،‬فإن كل ما نراه ونتفاعل معه هو ذراع نقل الرسعة ودواسة القابض‬
‫الـم َلـ ِّقن‬
‫(الدبرياج)؛ أما الربوتوكول‪ ،‬وهو كيفية تفاعل الوجه اآلخر للمحرك مع ُ‬
‫ممثال يف بقية نظام الدفع بالسيارة‪ ،‬فهو ليس مهام‪ ،‬مادام يعمل بصورة صحيحة‪.‬‬
‫لهذا السبب‪ ،‬فإننا مل نعد يف تكنولوجيات الرتبة الثانية منيل إىل التمييز بني الواجهة‬
‫بشكل عام (التي تتضمن أيضا الربوتوكول) وواجهة ا ُملستَخ ِدم‪ .‬عند هذه النقطة‪ ،‬فإن‬
‫‪61‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫«الواجهة» ببساطة ال تشري إال إىل واجهة ا ُملستَخ ِدم‪ ،‬ألن الربوتوكول مل يعد ظاهرا‬
‫متاما‪ ،‬ومل يعد الوصول إليه ممكنا‪ .‬أما إذا حدث خطأ ما‪ ،‬فالوصول إىل الربوتوكول وإىل‬
‫الـم َلـ ِّقن غالبا ما يتطلب شخصا متخصصا‪.‬‬
‫ُ‬
‫أخريا‪ ،‬ف ِّكر يف املودم (املضامن) ‪ modem‬كمثال لتكنولوجيا املرتبة الثالثة‪.‬‬
‫كام تشري الكلمة باللغة اإلنجليزية‪ ،‬هذا هو الجهاز الذي يقوم بعملية التضمني‬
‫رسل‪ ،‬ويف‬ ‫‪ Modulate‬لإلشارات التامثلية لرتميز املعلومات الرقمية يف الجانب ا ُمل ِ‬
‫الجانب املتلقي يقوم بعملية فك التضمني (الفضمنة) ‪ DeModulate‬لهذه اإلشارة‬
‫رسلت‪ ،‬وغالبا ما يحدث ذلك عرب خطوط الهاتف‪.‬‬ ‫لفك ترميز املعلومات التي ُأ ِ‬
‫لدينا اآلن حالة من مخطط تكنولوجيا – تكنولوجيا ‪ -‬تكنولوجيا –‪technology‬‬
‫‪( technology–technology‬إذا كنت ترى أن املودم قد عفى عليه الزمن‪ ،‬ففكر‬
‫يف جهاز املوجه «الراوتر أو املسيرّ » ‪ .)router‬ألن الواجهة البينية (الوصالت يف‬
‫املخطط) تقوم يف الوقت الحايل بربط تكنولوجيا إىل تكنولوجيا عن طريق بعض‬
‫التكنولوجيات األخرى‪ ،‬وألن تكنولوجيا الرتبة الثالثة تتطلب قدرات معالجة ذاتية‬
‫أصبحت ممكنة بفضل تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬يكون امليل نحو تفسري‬
‫الواجهة برمتها عىل أنها مجموعة من الربوتوكوالت‪ .‬الربوتوكوالت التكنولوجية‬
‫تضمن أن البينية‪ ،‬متمثلة يف جهازي املودم‪ ،‬ترعى كال من التكنولوجيا التي تلعب‬
‫دور ا ُملستَخ ِدم‪ ،‬دعنا نقل الحاسب الخاص بك‪ ،‬والتكنولوجيا التي تلعب دور‬
‫الـم َلـ ِّقن‪ ،‬دعنا نقل الحاسب الخاص يب‪ .‬تتفاوض الربوتوكوالت ‪negotiation of‬‬ ‫ُ‬
‫‪ protocols‬من خالل عملية ديناميكية مؤللة لتحديد املعامالت الرضورية والكافية‬
‫املطلوبة الستمرار االتصال‪ ،‬هذه العملية تعرف باسم املصافحة ‪،handshaking‬‬
‫وهي ما يحدث بني جهازين عندما «يرى» كل منهام اآلخر‪ ،‬بني الحاسب الخاص‬
‫بك والحاسب الخاص يب‪ ،‬أو بني الحاسب والطابعة؛ أو هي ما يحدث بني هاتفك‬
‫الذيك وحاسبك املحمول‪ ،‬قبل أن يتمكنا من االتفاق عىل مزامنة مفكرتك اليومية‬
‫الرقمية‪ .‬أنا وأنت لسنا مدعوين وال مشرتكني يف مثل هذه املصافحة‪ .‬رمبا يكون كال‬
‫وجهي يانوس ُمخفى عنا يف الوقت الحايل‪ ،‬إننا خارج الدائرة متاما‪ .‬أنت تذهب‬
‫إىل منزلك‪ ،‬ويرتبط هاتفك الذيك تلقائيا بالخدمة الالسلكية يف منزلك‪ ،‬ثم يحمل‬
‫بعض التحديثات‪ ،‬ويبدأ يف «التحدث» مع أجهزة تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت‬
‫‪62‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫األخرى املوجودة يف املنزل‪ ،‬مثل حاسبك اللوحي‪ .‬هذا هو الحال يف جميع أجهزة‬
‫«التوصيل والتشغيل ‪ ،»plug and play‬كل املصافحة املطلوبة وما ينبثق عنها‬
‫من معالجة للبيانات هي غري مرئية لنا‪ ،‬نحن املستفيد النهايئ‪ .‬مثلام كان الحال يف‬
‫منزل كالسييك من عرص النهضة‪ ،‬نحن اآلن نسكن يف الطابق النبيل ‪،piano nobile‬‬
‫الطابق الرئييس العلوي الخاص بال ُّن َبالء‪ ،‬وال نعرف حتى ما يحدث يف الطابق األريض‬
‫تحتنا‪ ،‬حيث أزيز التكنولوجيات يف غرف الخدمة‪ .‬نحن رمبا حتى ال نعرف أن تلك‬
‫التكنولوجيات موجودة ما مل تحدث أعطال؛ ولكن‪ ،‬إذا حدث خطأ ما‪ ،‬فإن املختص‬
‫هو الذي سوف يعتني بكال جانبي الواجهة‪ ،‬والنتيجة أن املتخصصني أصبحوا هم‬
‫الكهنة الجدد يف معبد يانوس‪ .‬سوف يصري املتخصصون أكرث قوة وتأثريا كلام تزايد‬
‫اعتامدنا عىل تكنولوجيات من رتب أعىل‪.‬‬

‫التصميم‬
‫تتطور الواجهات البينية‪ ،‬مثلام تتطور التكنولوجيات املرتبطة بها‪ .‬و ُيعد التصميم‬
‫واحدا من عدة أشياء تتيح مثل هذا التطور‪ ،‬الذي عادة يكون نتاج قصة نجاح‬
‫تحسينات‪ ،‬حتى عندما تكون التكنولوجيا املعنية بغيضة‪ ،‬عىل األقل بالنسبة إىل‬
‫شخص مسامل‪ .‬إذا قمت بزيارة إىل متحف حريب ونظرت إىل أسلحة البارود املحمولة‬
‫باليد القدمية جدا‪ ،‬سوف تالحظ أن األمر قد استغرق وقتا طويال بشكل مثري للدهشة‬
‫قبل أن تقوم الرشكات املصنعة بتطوير ما يبدو حاليا بديهيا متاما‪ ،‬مثل‪ :‬املقبض الذي‬
‫تألفه اليد ‪ .hand-friendly grip‬إن ما يعرف باسم مدافع اليد ‪)10(hand cannons‬‬

‫التي نشأت يف الصني وأصبحت منترشة يف أوروبا خالل عرص النهضة‪ ،‬تألفت من‬
‫جزء أسطواين (املاسورة) ميكن تصويبه إىل األعداء بطريقة تشبه التصويب باستخدام‬
‫القوس والسهم (النشاب)‪ .‬لفرتة طويلة‪ ،‬كانت املسدسات القدمية مستقيمة إىل حد‬
‫كبري مثل السيوف(‪)11‬؛ ثم عرب الزمن‪ ،‬بدأت يف االنحناء ببطء حتى اكتسبت أخريا‬
‫شكلها الحايل املألوف الذي يشبه حرف «‪ »L‬يف اللغة اإلنجليزية‪ .‬هذا مثري للدهشة‪،‬‬
‫ألن هذا التصميم يبدو اآلن بديهيا للغاية يف نظر أي طفل عندما يصوب نحوك‬
‫مسدسا بأصابعه‪ ،‬فإنه يرفع إبهامه فوق قبضته‪ ،‬مع وضع إصبع أو اثنتني بشكل‬
‫مستقيم لتكون مثل ماسورة املسدس‪.‬‬
‫‪63‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫يف بعض األحيان‪ ،‬ميكن أن يكون التصميم اسرتجاعيا ‪ retro‬عن عمد‪ .‬إن آي ماك‬
‫جي‪ ،iMac G3 3‬أول إصدار من رشكة آبل لسلسلة «آي ماك»‪ ،‬كان مثل اإلصدارات‬
‫التي تلته‪ ،‬جهاز حاسب الكل يف واحد‪ ،‬كان يضم كال من شاشة العرض ووحدة النظام‬
‫يف هيكل واحد‪ .‬كان من بني خصائصه املميزة أن غالفه مصنوع من بالستيك شفاف‬
‫زاهي األلوان‪ ،‬مام يعطيك انطباعا بأنك قادر عىل رؤية اآللة من الداخل‪ ،‬وهذا يعني‬
‫كال وجهي يانوس‪ ،‬واجهة ا ُملستَخ ِدم الخاصة بك والربوتوكوالت التي عىل الجانب‬
‫اآلخر‪ .‬لذلك‪ ،‬كان للجهاز مظهر ُم َح َّبب كتكنولوجيا من الرتبة األوىل ‪ -‬تذكر البلطة ‪-‬‬
‫بينام واقع األمر أنه ميكن استخدامه كنظام متطور من الرتبة الثانية يعمل فيام بني‬
‫اإلنسان ا ُملستَخ ِدم وبعض املصنوعات التكنولوجية األخرى‪ .‬مثلام هو الحال يف محرك‬
‫سيارتك‪ ،‬أنت ال تحتاج إىل رؤية ما بالداخل‪ ،‬وأنت بالفعل ال ترى الربوتوكوالت‪ ،‬وال‬
‫ميكنك أن تفعل لها شيئا حتى إذا رأيتها‪ .‬كانت نواحي جاملية حديثة‪ ،‬عدمية الجدوى‬
‫وظيفيا‪ .‬لذلك‪ ،‬هي مل تستمر‪.‬‬
‫يف بعض األحيان‪ ،‬رمبا يتقادم التصميم ببساطة ويصري إرثا من املايض‪ .‬إن آالت‬
‫غسل املالبس التي ُتعبأ من األمام ظهرت كتطوير ألنظمة الغسل امليكانيكية‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫فاليزال لها باب ذو نافذة شفافة للتحقق مام إذا كان بداخلها ماء ‪ -‬وهذا هو أحد‬
‫التفسريات األكرث قبوال عند مقارنتها مع آالت غسل املالبس التي تعبأ من أعىل‪ ،‬تلك‬
‫التي تفتقر إىل النوافذ الشفافة ‪ -‬حتى إن مل يعد بإمكانك فتح الباب فعليا إذا كان‬
‫هذا غري آمن‪ .‬أما آلة غسل األطباق التي ُطورت يف وقت الحق‪ ،‬فلم يكن لها باب‬
‫شفاف ميكن الرؤية من خالله مثل آلة غسل املالبس أبدا‪.‬‬
‫إن تصميم واجهات بينية جيدة يستغرق وقتا طويال‪ ،‬ويحتاج إىل إبداع ابتكاري‪.‬‬
‫رمبا يكون الهدف من التصميم هو تحقيق ما هو بديهي (مقبض تألفه اليد)‪ ،‬أو‬
‫إزالة ما هو عديم الجدوى (النافذة الشفافة التي مل تعد ذات فائدة)‪ .‬أنت ال تحتاج‬
‫إىل ضوء ساطع لبيان أن حاسبك يف وضعية التشغيل؛ لذلك‪ ،‬فالعديد من أجهزة‬
‫الحاسب ال يوجد بها مثل هذا املؤرش ذي الضوء الساطع‪ .‬لكنك هذه األيام التزال‬
‫تحتاج إىل سهولة الوصول إىل منفذ الناقل التسلسيل العام ‪Universal Serial Bus‬‬
‫)‪ (USB‬حتى ميكنك تشغيل ذاكرات التخزين الخارجية املحمولة (محرك ذاكرة‬
‫فالش) الخاصة بك‪ ،‬لكن وجود املنفذ يف خلفية جهاز الحاسوب‪ ،‬كام يف بعض أجهزة‬
‫‪64‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫الحاسوب‪ ،‬رمبا يكون أنيقا من الناحية البرصية ولكنه ُم َعر ِقل من الناحية الوظيفية‪.‬‬
‫االستنتاج هو‪ ،‬من حيث األداء الوظيفي للواجهات البينية (وهناك بالطبع حيثيات‬
‫أخرى منها عىل سبيل املثال‪ ،‬االستخدامية ‪ ،usability‬أو االقتصادية ‪،economic‬‬
‫أو الناحية الجاملية ‪ ،aesthetic‬أو الهندسة اإلنسانية (اإلرغونومية) ‪،ergonomic‬‬
‫أو ما يتعلق بالطاقة ‪ ،)energy-related‬والتصميم الجيد هو التصميم الذي يأخذ‬
‫بعني االعتبار رتب التكنولوجيا املعنية ويحقق أقىص استفادة منها‪ .‬يف تكنولوجيات‬
‫الرتبة األوىل‪ ،‬ينبغي أن يكون الوصول إىل كل من واجهة ا ُملستَخ ِدم والربوتوكول‬
‫للمستَخ ِدم‪ .‬أما يف تكنولوجيات الرتبة الثانية‪ ،‬فإن التصميم الجيد‬ ‫سهلني ومالمئني ُ‬
‫يحتاج إىل الرتكيز عىل جانب سهولة استخدام الواجهة فحسب‪ ،‬بينام ميكن أن يكون‬
‫الربوتوكول غري مريئ‪ .‬من غري املجدي أن يكون للساعة غالف شفاف إن مل تكن قابلة‬
‫لإلصالح‪ .‬أما يف تكنولوجيات الرتبة الثالثة‪ ،‬فإن كال جانبي الواجهة‪ ،‬جانب ا ُملستَخ ِدم‬
‫وجانب الربوتوكول‪ ،‬ينبغي أن يصبح غري مريئ وظيفيا بالنسبة إلينا‪ .‬لكن هذا اإلخفاء‬
‫الوظيفي يسهم يف أن يصري التساؤل عن بينية تكنولوجيات الرتبة الثالثة أكرث إلحاحا‪.‬‬
‫كونك خارج الدائرة رمبا يعني أن تكون خارج القدرة عىل السيطرة‪ ،‬ورسعان ما يتحول‬
‫مثل هذا الهاجس إىل قضية سياسية‪ ،‬كام سوف نرى يف الفصل الثامن‪ .‬دعوين هنا‬
‫أرسم فقط صورة كاريكاتورية باللونني األبيض واألسود‪ ،‬من دون أي ظالل‪ ،‬من أجل‬
‫إيضاح رسيع وبسيط‪.‬‬

‫سياسات التكنولوجيا‬
‫قد تتأرجح تفسريات سياسات بينية التكنولوجيا ‪ -‬بتعبريات أكرث رصاحة‪،‬‬
‫ديناميكيات البحث والتطوير التكنولوجي‪ ،‬وعمليات االنتشار‪ ،‬واالستخدام‪،‬‬
‫واالبتكارات‪ ،‬التي جميعها بشكل أو بآخر ُتصاغ نتيجة قرارات‪ ،‬وخيارات‪ ،‬وأفضليات‬
‫جمعية‪ ،‬أو مبجرد القصور الذايت‪ ،‬وما إىل ذلك ‪ -‬بني نقيضني‪ .‬ال يوجد عالِم جاد يدافع‬
‫عن أي منها‪ ،‬ولكن العلامء يساعدون عىل توصيل الفكرة األساسية‪.‬‬
‫من ناحية‪ ،‬رمبا يفرس املرء بينية التكنولوجيا عىل أنها نوع ضار من االنفصال‬
‫وفقدان االتصال الفطري مع ما هو طبيعي وحقيقي‪ .‬هذا املوضع رمبا يذهب إىل‬
‫حد إقران بينية التكنولوجيا مع التحررية (التجريد) ‪ ،disembodiment‬أو عىل أقل‬
‫‪65‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫تقدير تقليل من قيمة االحتواء‪ ،‬من ثم إىل عدم التوطن ‪( delocalization‬ال أحد‪،‬‬
‫ال مكان)‪ ،‬والعوملة ‪( globalization‬ال مكان‪ ،‬ال توطن)‪ ،‬ويف نهاية املطاف تقرتن‬
‫مع النزعة االستهالكية ‪ ،consumerism‬باعتبارها تقليال لقيمة َت َف ُّرد األشياء املادية‬
‫وعالقاتها الخاصة مع اإلنسان‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬فإن سياسات بينية تكنولوجية‪ ،‬عىل‬
‫أحسن تقدير‪ ،‬تفرتض مالمح خطأ عاملي مؤسف‪ ،‬وعىل أسوأ تقدير‪ ،‬تفرتض مالمح‬
‫خطة شيطانية يتبعها بإخالص وسطاء ُخبثاء وحاقدون من الدول ومن الرشكات‬
‫متعددة الجنسيات‪.‬‬
‫وباملقابل‪ ،‬هناك التأييد املتحمس واملتفائل للتحرر الذي تقدمه البينية التكنولوجية‪.‬‬
‫هذا التجريد ُيفرس عىل أنه مصد يعمل كوسيلة لخلق فضاء أكرب للتواصل ولتحقيق‬
‫الذات‪ .‬إن فكرة البينية التكنولوجية ال ينظر إليها عىل أنها مسار خطر نحو مامرسة‬
‫السلطة عىل اإلنسان من ِق َبل بعض األشخاص واألنظمة‪ ،‬أو حتى اآلالت‪ ،‬ولكن ينظر‬
‫إليها عىل أنها شكل من تقوية ومتكني السيطرة‪ .‬رمبا تكون املعادلة إىل حد ما كالتايل‪:‬‬
‫مساحة أكرب = مزيد من الحرية = مزيد من السيطرة = مزيد من الخيارات‪.‬‬
‫بشكل واضح‪ ،‬كال النقيضني غري جدير بأن يؤخذ عىل محمل الجد‪ .‬عىل رغم ذلك‪،‬‬
‫فإن توليفات متنوعة من هذين املكونني البسيطني تسود مناقشاتنا الحالية لسياسات‬
‫التكنولوجيا‪ .‬سوف نرى يف الفصول التالية أن الجدال رسعان ما يصبح أكرث فوىض‬
‫وأقل وضوحا‪.‬‬

‫وخ اَّلقة‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت باعتبارها تكنولوجيات ُم َف رِّسة َ‬
‫عندما نفكر اليوم يف التكنولوجيا بوجه عام‪ ،‬يتبادر إىل الذهن‪ ،‬عىل الفور‪،‬‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت وواجهاتها سهلة االستخدام التي يألفها ا ُملستَخ ِدم‬
‫واملنترشة يف كل مكان‪ .‬هذا أمر ُم َت َوقع يف مجتمعات التأريخ ا ُملفرط‪ ،‬حيث تصري‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت هي تكنولوجيات الرتبة األوىل والثانية والثالثة‬
‫املميزة لهذا املجتمع‪ .‬نحن نتفاعل بشكل متزايد مع العامل ومع ما لدينا من تكنولوجيا‬
‫عن طريق تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬التي هي التكنولوجيات التي ميكنها‪،‬‬
‫ومتيل إىل‪ ،‬التفاعل بعضها مع بعض‪ ،‬وبصورة غري مرئية‪ .‬األمر ا ُمل َت َوقع أيضا هو‪،‬‬
‫كام يف املايض‪ ،‬أن التكنولوجيا السائدة يف عرصنا لها تأثري مزدوج‪ .‬من ناحية‪ ،‬عن‬
‫‪66‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫طريق تشكيل وتوجيه تفاعلنا مع العامل‪ ،‬فإن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت من‬
‫الرتبة األوىل والرتبة الثانية تدعونا إىل تفسري العامل باستخدام املصطلحات املألوفة يف‬
‫تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت‪ ،‬أي تفسريه معلوماتيا ‪ .informationally‬من ناحية‬
‫أخرى‪ ،‬عن طريق خلق بيئات جديدة متاما لنسكنها نحن بعد ذلك (تجربة خارج‬
‫الدائرة‪ ،‬غري املرئية وظيفيا وفقا للتصميم)‪ ،‬فإن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫من الرتبة الثالثة تدعونا إىل النظر إىل الطبيعة األساسية ألجزاء متزايدة من عاملنا عىل‬
‫أنها يف األصل معلوماتية‪ .‬باختصار‪ ،‬تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت تجعلنا نفكر‬
‫يف العامل معلوماتيا‪ ،‬وتجعل العامل الذي نعيش فيه تجربة معلوماتية‪ .‬نتيجة هاتني‬
‫النزعتني هي أن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت تقود ثقافتنا إىل وضع اإلطار‬
‫املفاهيمي للواقع برمته وحياتنا داخله باستخدام مصطلحات مألوفة يف تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت‪ ،‬أي معلوماتيا‪ ،‬كام سأرشح يف هذا القسم‪.‬‬
‫ُتدخل تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت تعديالت عىل طبيعة الواقع ذاتها‪ ،‬ومن ثم‬
‫عىل مفهومنا لها‪ ،‬عرب تحويله إىل إنفوسفري (غالف معلومايت)‪ .‬اإلنفوسفري هو تعبري جديد‬
‫ابتُدع يف السبعينيات‪ ،‬يستند هذا التعبري إىل مصطلح «الغالف الحيوي ‪،»biosphere‬‬
‫وهو مصطلح يشري إىل تلك املنطقة املحدودة عىل كوكبنا التي تسمح بالحياة‪ ،‬وهو‬
‫أيضا مفهوم يتطور رسيعا‪ .‬كحد أدىن‪ ،‬يدل اإلنفوسفري عىل البيئة املعلوماتية برمتها‬
‫التي تتألف من جميع الكيانات املعلوماتية‪ ،‬وخصائصها‪ ،‬وتفاعالتها‪ ،‬وعملياتها‪ ،‬وعالقاتها‬
‫املتبادلة‪ .‬إنها بيئة تضاهي‪ ،‬لكن تختلف عن‪ ،‬الفضاء السيرباين (الفضاء اإللكرتوين)‬
‫‪ ،cyberspace‬الذي ال يتجاوز كونه إحدى مناطقها الفرعية‪ ،‬إن جاز التعبري؛ إذ إن‬
‫اإلنفوسفري يشمل أيضا فضاءات املعلومات غري املتصلة ‪ offline‬والتامثلية ‪.analogue‬‬
‫أما كحد أقىص‪ ،‬فاإلنفوسفري هو مفهوم ميكن أيضا استخدامه كمرادف للواقع‪ ،‬حاملا نفرس‬
‫الواقع معلوماتيا‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬اإليحاء هو أن ما هو حقيقي هو معلومايت وما هو‬
‫معلومايت هو حقيقي(‪ .)12‬إن هذا التكافؤ هو الذي يكمن داخله مصدر بعض التحوالت‬
‫األكرث عمقا والتحديات التكنولوجية التي سوف نواجهها يف املستقبل القريب‪.‬‬
‫األسلوب األكرث وضوحا الذي تستخدمه تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫لتحويل العامل إىل إنفوسفري هو االنتقال من النظام التامثيل ‪ analogue‬إىل النظام‬
‫الرقمي ‪ ،digital‬ومن ثم النمو املتزايد للفضاءات املعلوماتية التي نقيض فيها مزيدا‬
‫‪67‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫ومزيدا من أوقاتنا‪ .‬الظاهرتان مألوفتان وال تحتاج أي منهام إىل رشح‪ ،‬ولكن ال ضري‬
‫من تعليق مقتضب‪ .‬هذا التحول الجذري هو أيضا نتيجة للتقارب الجوهري بني‬
‫األدوات الرقمية ‪ digital tools‬واملوارد الرقمية ‪ .digital resources‬يف الوقت‬
‫الحايل‪ ،‬تتامثل الطبيعة املتأصلة لألدوات (الربمجيات ‪ ،software‬والخوارزميات‬
‫‪ ،algorithms‬وقواعد البيانات ‪ ،databases‬وقنوات االتصال ‪communication‬‬
‫‪ ،channels‬والربوتوكوالت ‪ ...protocols‬إلخ)‪ ،‬متام التامثل‪ ،‬مع الطبيعة املتأصلة‬
‫ملواردها من البيانات الخام التي ُتعالَج‪ ،‬ومن ثم هي متوافقة متاما معها‪ .‬وعىل سبيل‬
‫املجاز‪ ،‬فهي تشبه‪ ،‬إىل حد ما‪ ،‬نقل املياه باستخدام مضخات وأنابيب توصيل مصنوعة‬
‫من الجليد‪ :‬فمن الناحية الكيميائية‪ ،‬هذه كلها مياه (‪ .)H2O‬ولكن إذا وجدت هذا‬
‫موضع شك‪ ،‬ف ِّكر‪ ،‬من منظور مادي‪ ،‬أنه من املستحيل التمييز بني البيانات والربامج‬
‫عىل القرص الصلب الخاص بحاسبك الشخيص‪ ،‬فكلها أرقام ‪ digits‬عىل أي حال‪.‬‬
‫مثل هذا االتساق الرقمي بني البيانات والربامج هو أحد أهم أفكار تورينغ‬
‫‪ Turing‬وأكرثها تأثريا‪ .‬يف اإلنفوسفري املأهول بكيانات وعنارص وسيطة (وكالء)‬
‫جميعها متساوية معلوماتيا‪ ،‬حيث ال يوجد فرق فعيل بني ا ُمل َعالِ َجات ‪processors‬‬
‫وا ُمل َعالَج ‪ُ ،processed‬تصبح التفاعالت متساوية معلوماتيا‪ .‬تصري جميع التفاعالت‬
‫قابلة للتفسري عىل أنها مهام «قراءة ‪ read‬أو كتابة ‪( »write‬أي‪ ،‬وصول ‪ access‬أو‬
‫تعديل ‪ ،)alter‬باإلضافة إىل املهمة املتبقية من العملية وهي «تنفيذ ‪.»execute‬‬
‫عندما تتحدث «أليس» إىل «بوب»‪ ،‬فهذه عملية «كتابة»‪ ،‬واستامع «بوب» إليها هو‬
‫عملية «قراءة»‪ ،‬أما إذا تبادال القبالت‪ ،‬فهذه إحدى حاالت عملية «تنفيذ»‪ .‬هذا املثال‬
‫ليس رومانسيا مبا يكفي‪ ،‬لكنه عىل رغم ذلك دقيق‪.‬‬
‫األرقام تتعامل مع األرقام بسهولة وسالسة‪ ،‬هذا رمبا يزيل إحدى عقبات اإلنفوسفري‬
‫طويلة األمد؛ ونتيجة لذلك‪ ،‬يختفي تدريجيا االحتكاك املعلومايت ‪informational‬‬
‫‪ .friction‬أنا هنا أقدم فقط لهذا املوضوع‪ ،‬إذ إن الفصل الخامس مخصص له‬
‫بالكامل‪ .‬وعىل نحو مؤقت‪َ ،‬ف ِّكر يف «االحتكاك املعلومايت» عىل أنه إشارة إىل مدى‬
‫رسل إىل ا ُملستَق ِبل‪ .‬عىل سبيل املثال‪،‬‬
‫صعوبة السامح ببعض التدفق للمعلومات من ا ُمل ِ‬
‫عندما تتحدث وأنت يف بيئة صاخبة‪ ،‬مثل حانة أو حفل كوكتيل‪ ،‬فأنت تحتاج إىل‬
‫الصياح ورمبا حتى إىل استخدام بعض اإلشارات (أي‪ ،‬إضافة تكرار زائد ‪)redundancy‬‬
‫‪68‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫للتأكد من أن ما تقصده قد وصل‪ .‬إذا أردت أن تطلب مرشوبا‪ ،‬فرمبا تستخدم كال من‬
‫صوتك وبعض اإلشارات‪ .‬من املعروف جيدا أن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫هي من العوامل األكرث تأثريا يف تيسري تدفق املعلومات يف اإلنفوسفري‪ ،‬وذلك بسبب ما‬
‫لها من «موصلية فائقة للبيانات ‪ .»data superconductivity‬نقابل يوميا ما نعرف‬
‫أنه مظاهر اإلنفوسفري عديم االحتكاك‪ ،‬مثل رسائل الربيد اإللكرتوين غري املرغوبة‬
‫‪( spamming‬ألن كل رسالة بريد إلكرتوين بالفعل تتدفق بحرية) والقياس حتى جزء‬
‫من املليون (ألن كل كرس ضئيل من بنس واحد ميكن اآلن عده واحتسابه)‪ ،‬مثل هذه‬
‫«التوصيلية الفائقة للبيانات» لها عىل األقل أربع تبعات مهمة‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬نحن نشهد تآكال كبريا يف الحق يف التجاهل ‪ .right to ignore‬يف اإلنفوسفري‬
‫عديم االحتكاك بشكل متزايد‪ ،‬يتصاعد عدم معقولية أن يدعي أحد أنه مل يعرف‬
‫عندما يواجه باألحداث التي ميكن توقعها بسهولة وبالحقائق التي يصعب تجاهلها‪.‬‬
‫ثانيا‪ ،‬هناك زيادة ُمطردة يف املعرفة الشائعة ‪ .common knowledge‬وهذا‬
‫مصطلح فني من علم املنطق يشري يف األساس إىل الحاالت التي فيها يعلم الجميع أن‬
‫الجميع‪ ،‬وليس «س» وحده‪ ،‬يعلمون أن الجميع يعلمون‪ ،... ،‬أن «س» يعلم‪ .‬ف ِّكر يف‬
‫دائرة من األصدقاء يتشاركون بعض املعلومات عن طريق وسائط اإلعالم االجتامعي‪.‬‬
‫ثالثا‪ ،‬أثر الظاهرتني السابقتني هو أيضا يتزايد رسيعا بسبب الوفرة ا ُملفرطة‬
‫للمعلومات الوصفية عن َك ّم املعلومات الذي يكون‪ ،‬أو كان‪ ،‬أو ينبغي أن يكون‬
‫متاحا‪ .‬يرتتب عىل ذلك أننا نشهد زيادة مستمرة يف مسؤوليات العنارص الوسيطة‬
‫(الوكالء)‪ .‬وكلام اقرتبنا من لحظة نجد فيها أن أي جزء من املعلومات ال يفصلنا‬
‫عنه سوى نقرة يسرية‪ ،‬أصبحنا أقل تسامحا نحو عدم االطالع عليه‪ .‬إن تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت بشكل متزايد تجعل البرشية مسؤولة أدبيا عن أسلوب العامل؛‬
‫كيف يكون‪ ،‬وكيف سيكون‪ ،‬وكيف ينبغي أن يكون‪ .‬هذا متناقض بعض اليشء‪ ،‬ألن‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت هي أيضا جزء من ظاهرة أوسع تجعل اإلسناد‬
‫الرصيح للمسؤولية إىل وسطاء محددين أكرث صعوبة وغموضا‪.‬‬
‫أما آخر التبعات األربع للتوصيلية الفائقة للبيانات‪ ،‬فهي تتعلق بالخصوصية‬
‫املعلوماتية ‪ ،informational privacy‬لكن تحليلها غاية يف األهمية‪ ،‬لذا فإنني‬
‫سأؤجل الحديث عنها إىل الفصل الخامس‪.‬‬
‫‪69‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫الحياة يف اإلنفوسفري‬
‫خالل العقد املايض أو نحو ذلك‪ ،‬اعتدنا تفسري معيشتنا متصلني بشبكة‬
‫حاسوبية عىل أنها مزيج من َتك ُّيف عنارص وسيطة آدمية (وكالء آدميني) مع‬
‫ٌ‬
‫وشكل من‬ ‫بيئات رقمية (اإلنرتنت باعتبارها تحرر من القيود واملالحقات)‪،‬‬
‫أشكال ما بعد الحداثة الستعامر جديد لبيئات رقمية بواسطة عنارص وسيطة‬
‫آدمية (اإلنرتنت باعتبارها سيطرة)‪ .‬من املحتمل أن يكون هذا خطأ‪ .‬نحن رأينا‬
‫أن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت تقوم بتحوير عاملنا بقدر ما تخلق من‬
‫واقع جديد وبقدر ما تروج التفسري املعلومايت لكل جانب من جوانب عاملنا‬
‫ومعيشتنا فيه‪ .‬ونظرا إىل أن الواجهات البينية أصبحت تدريجيا غري مرئية‪ ،‬فإن‬
‫الحد الفاصل بني هنا (التامثيل ‪ ،analogue‬املعتمد عىل الكربون ‪carbon-‬‬
‫‪ ،based‬غري املتصل بشبكة حاسوبية ‪ )offline‬وهناك (الرقمي ‪ ،digital‬املعتمد‬
‫عىل السيليكون ‪ ،silicon-based‬املتصل بشبكة حاسوبية ‪ ،)online‬رسعان ما‬
‫يصبح ضبابيا وغري واضح‪ ،‬عىل رغم أن هذا ملصلحة هناك بقدر ما هو ملصلحة‬
‫هنا‪ .‬لتطويع العبارة الشهرية لشاعر الرومان «هوراس(٭) ‪« ،»Horace‬اإلنفوسفري‬
‫األسري يأرس من يغزوه»(‪ .)13‬إن العامل الرقمي املتصل بشبكات الحاسوب يترسب‬
‫إىل العامل التامثيل غري املتصل ويندمج معه‪ .‬هذه الظاهرة الحديثة ُتعرف يف أشكال‬
‫مختلفة عىل أنها «الحوسبة واسعة االنتشار ‪ ،»Ubiquitous Computing‬أو‬
‫«الذكاء املحيط ‪ ،»Ambient Intelligence‬أو «إنرتنت األشياء ‪The Internet‬‬
‫‪ ،»of Things‬أو «األشياء ا ُملعززة بالويب ‪ .»Web-augmented things‬أنا‬
‫ُأ َف ّضل أن ُأشري إليها عىل أنها تجربة الحياة دامئة االتصال ‪.Onlife experience‬‬
‫إنها‪ ،‬أو قريبا سوف تكون‪ ،‬املرحلة املقبلة يف تطور عرص املعلومات‪ .‬نحن نعيش‬
‫«أوناليف ‪ »onlife‬بشكل متزايد‪.‬‬
‫إن إشاعة املعلوماتية ‪ informatization‬تدريجيا لألشياء االصطناعية (األدوات)‬
‫وكامل البيئات (االجتامعية) تعني أنه يصبح من الصعب علينا فهم ما كانت عليه‬
‫حياتنا يف أزمنة ما قبل الرقمية‪ .‬يف املستقبل القريب‪ ،‬سوف يصبح التمييز بني كونك‬
‫(٭) ‪ Quintus Horatius Flaccus‬اشتهر باسم هوراس وتويف يف العام الثامن قبل ميالد املسيح‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫متصال بشبكة حاسوبية ‪ online‬وغري متصل ‪ offline‬أكرث ضبابية من أي وقت مىض‪،‬‬


‫ومن ثم يختفي‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬عندما يقود شخص سيارته متبعا تعليامت نظام‬
‫مالحة يتم تحديث قاعدة بياناته يف الوقت الحقيقي ‪ ،real time‬فال يبدو منطقيا أن‬
‫نسأل عام إذا كان هذا الشخص متصال بشبكة حاسوبية أو غري متصل‪ .‬السؤال نفسه‬
‫سوف يكون غري مفهوم لشخص يفحص بريده اإللكرتوين أثناء سفره داخل سيارة من‬
‫دون سائق‪ُ ،‬مسرتشدا بنظام التموضع العاملي (‪.)GPS‬‬
‫يتحدث علامء االجتامع عن الجيل إكس ‪ - Generation X‬األشخاص مواليد‬
‫أوائل الستينيات (من بينهم مؤلف هذا الكتاب) حتى أوائل الثامنينيات ‪ -‬وعن‬
‫الجيل واي ‪ ،Generation Y‬أو جيل األلفية‪ ،‬الذي يتضمن األشخاص مواليد أوائل‬
‫الثامنينيات حتى العام ‪ 2000‬أو نحو ذلك‪ .‬ولنفرتض أن املواليد بعد التسعينيات‬
‫الطويلة ‪ -‬هي طويلة ألنها استمرت حتى ‪ 11‬سبتمرب ‪ُ - 2001‬يشار إليهم عىل‬
‫أنهم الجيل زد ‪ ،Generation Z‬وهذا ليس فقط بسبب الرتتيب األبجدي للجيلني‬
‫السابقني «إكس ‪ »X‬و«واي ‪ ،»Y‬ولكن أيضا بسبب حجم البيانات املتاحة لهم‬
‫والتي ُتقاس بوحدة زيتابايت ‪ .Zettabyte‬بالنسبة إىل األشخاص الذين ينتمون‬
‫إىل الجيل زد‪ ،‬فالعامل دامئا السليك؛ وهجامت الحادي عرش من سبتمرب هي فصل‬
‫يف كتاب التاريخ يف مرحلة تعليمهم االبتدايئ؛ وكنيسة سيستينا ‪Sistine Chapel‬‬
‫هي بالنسبة إليهم مرشقة وملونة دامئا ( ُكشف النقاب عن ترميم الكنيسة يف‬
‫العام ‪ .)1999‬مل يكن هناك بالنسبة إليهم عامل من دون «غوغل»‪ ،‬و«تويرت»‪،‬‬
‫و«ويكيبيديا»‪ ،‬ليس فقط كخدمات لكنهم يستخدمونها أيضا كأفعال يف اللغة؛‬
‫مل يعرفوا عاملا من دون فيسبوك ‪ Facebook‬باعتباره وسيلة لإلعالم االجتامعي‪،‬‬
‫وليس باعتباره كتابا‪ ،‬أو كتبا غري متاحة عرب اإلنرتنت (تأسست رشكة أمازون‬
‫‪ Amazon‬يف العام ‪ .)1994‬إنهم عىل األرجح يظنون أن مرآة الجيب هي أحد‬
‫تطبيقات الهاتف الجوال‪ .‬إنهم يستخدمون ويكيبيديا ‪( Wikipedia‬تأسست يف‬
‫العام ‪ )2001‬عىل أنها مرادف للموسوعة‪ .‬بالنسبة إىل الجيل «زد»‪ ،‬وبصورة أكرث‬
‫شمولية‪ ،‬بالنسبة إىل من ينتمون إىل من أطلقت عليهم جنّا كويتني أندرسون(٭)‬
‫َ‬
‫(٭) أستاذة دراسات امليديا والصحافة الرقمية بجامعة إيلون األمريكية‪ ،‬منذ العام ‪[ .1999‬املحرر]‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫‪ Janna Quitney Anderson‬اسم الجيل إيه أوو ‪( Generation AO‬انظر‬


‫الشكل الرقم ‪ ،)17‬فإن القلقلة ا ُملميزة لجهاز املودم التقليدي وأصوات األزيز‬
‫التي يصدرها عند إجراء عملية املصافحة ‪ ،handshaking‬واملعروفة أيضا باسم‬
‫أغنية الحوت‪ ،‬هي بالنسبة إليهم مثل املخلوقات األثرية الغريبة‪ ،‬إنها يف آذانهم‬
‫مثل أصوات إشارات مورس يف آذان من ينتمون إىل الجيل إكس‪ .‬رمبا ال يتصور‬
‫الجيل زد الحياة خارج اإلنفوسفري ألن اإلنفوسفري يستحوذ تدريجيا‪ ،‬وهذه صياغة‬
‫درامية‪ ،‬عىل كل واقع آخر‪ .‬إن الجيل زد قد ولد أوناليف ‪ .onlife‬اسمحوا يل بأن‬
‫أوضح ذلك‪.‬‬
‫يف املستقبل (الذي يقرتب مرسعا)‪ ،‬فإن املزيد واملزيد من األشياء سوف‬
‫تكون كيانات تكنولوجيا معلومات ‪ ITentities‬من الرتبة الثالثة‪ ،‬قادرة عىل‬
‫الرصد‪ ،‬والتعلم‪ ،‬وتقديم املشورة‪ ،‬واالتصال بعضها ببعض‪ .‬املثال الجيد عىل‬
‫هذا هو الشارات التي ُتستخدم للتمييز بواسطة ترددات الراديو ‪Radio‬‬
‫‪ ،)Frequency IDentification (RFID‬التي ميكنها تخزين واسرتجاع بيانات‬
‫من كائن (غرض) ‪ object‬من ُبعد وإعطاؤه ُم ِم ّيزا فريدا ‪،unique identity‬‬
‫مثل الكود الرشيطي (الباركود)‪ .‬هذه الشارات مُيكن أن تكون ذات مقاس‬
‫‪ 0.4‬ملليمرت مربع وتكون أقل ُسمكا من الورق‪ .‬عندما تدمج هذه الرقاقة‬
‫الصغرية يف كل يشء‪ ،‬مبا يف ذلك البرش والحيوانات‪ ،‬تكون قد أوجدت كيانات‬
‫تكنولوجيا معلومات ‪ .ITentities‬هذا ليس خياال علميا‪ ،‬فوفقا لتقرير سابق‬
‫أصدرته مؤسسة إنستات ‪ In-Stat‬لبحوث السوق(‪ ،)14‬زاد اإلنتاج العاملي من‬
‫شارات التمييز بواسطة ترددات الراديو ‪ RFID‬إىل أكرث من ‪ 25‬ضعفا بني‬
‫العامني ‪ 2005‬و‪ 2010‬ليبلغ ‪ 33‬مليار شارة‪ .‬تقرير آخر أحدث أصدرته مؤسسة‬
‫‪ )15(IDTechEx‬يشري إىل أن قيمة السوق العاملي لنظام التمييز بواسطة ترددات‬
‫الراديو ‪ RFID‬قد بلغ ‪ 7.67‬مليار دوالر أمرييك يف العام ‪ ،2012‬بعد أن كان‬
‫‪ 6.51‬مليار دوالر أمرييك يف العام ‪ .2011‬من املتوقع أن يواصل سوق نظام‬
‫التمييز بواسطة ترددات الراديو ‪ RFID‬النمو بشكل مطرد عىل مدى العقد‬
‫املقبل‪ ،‬ومن املتوقع أن يرتفع يف هذه الفرتة بنسبة أربعة أضعاف ليبلغ ‪26.19‬‬
‫مليار دوالر أمرييك يف العام ‪.2022‬‬
‫‪72‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫املصدر‪ :‬اللجنة األوروبية‪ ،‬األجندة الرقمية ألوروبا‪European Commission, Digital Agenda .‬‬
‫‪.for Europe‬‬

‫الشكل (‪ :)17‬يف العام ‪ 21 ،2011‬يف املائة تقريبا من تعداد سكان االتحاد األورويب‬
‫قد استخدموا الحاسب املحمول لالتصال باإلنرتنت السلكيا يف أماكن غري املنزل أو‬
‫أماكن العمل‪.‬‬

‫تخيل الربط الشبيك لعرشات املليارات من كيانات تكنولوجيا معلومات‬


‫‪ ،ITentities‬باإلضافة إىل ما هو متاح بالفعل من املليارات األخرى من أجهزة‬
‫تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت بجميع أنواعها‪ ،‬وعندئذ سرتى أن اإلنفوسفري مل‬
‫يعد «هناك» ولكن «هنا»‪ ،‬وأنه هنا ليبقى‪ .‬إن األحذية التي تصنعها رشكة ‪Nike‬‬
‫وأجهزة آيبود ‪ iPod‬تتحدث بعضها لبعض منذ العام ‪ ،2006‬مع مشكالت تتعلق‬
‫بالخصوصية ميكن توقعها (لكن من املذهل أنها غري منظورة)؛ عىل سبيل املثال‪،‬‬
‫الطرازات القدمية من األحذية تبث رسائل باستخدام إشارات السلكية مل تكن ُمشفرة‬
‫ومن املمكن كشفها ورصدها بواسطة شخص آخر(‪ .)16‬نظام نيست ‪ Nest‬منظم حرارة‬
‫(ثريموستات) يتعلم أفضلياتك للتدفئة‪ ،‬فعندما تداوم عىل استخدام القرص املدرج‬
‫البسيط لتحديد درجة الحرارة املناسبة لك‪ ،‬يبدأ «نيست» بعد أسبوع يف ضبط درجة‬
‫‪73‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫الحرارة بنفسه‪ .‬ببساطة‪ ،‬أجهزة االستشعار الخاصة بالنظام تعرف أمناط معيشتك‬
‫وعاداتك وأفضلياتك‪ ،‬وكلام ازداد تفاعلك مع النظام‪ ،‬تعلم أكرث وقدم خدماته بشكل‬
‫أدق‪ .‬الثالجة (الرباد) الذكية الجديدة من سامسونج تعرف ما الذي يوجد بداخلها‪،‬‬
‫كام ميكنها أن تقرتح وصفات (اعتامدا عىل خدمة إبيكيورياس ‪ ،)Epicurious‬وميكنها‬
‫أيضا تذكريك باملواد الغذائية الطازجة املتاحة بها واألصناف التي قاربت صالحيتها‬
‫عىل االنتهاء‪ ،‬إنها تقوم بإجراء تزامن مع تطبيق إيفرنوت ‪ Evernote‬لتتبادل معه‬
‫قوائم البقالة‪ .‬من السهل أن تتخيل أنها رمبا تتعلم ما الذي تفضله وتعرف ما الذي‬
‫تفتقده‪ ،‬وترث من الثالجة السابقة أذواقك ورغباتك‪ ،‬متاما كام يستورد حاسبك‬
‫املحمول الجديد إعداداتك املفضلة من حاسبك املحمول القديم‪ .‬إنها تستطيع أن‬
‫تتفاعل مع أسلوبك الجديد يف الطهي‪ ،‬ومع موقع الويب الخاص بالسوبر ماركت‬
‫عىل اإلنرتنت‪ ،‬متاما مثلام يستطيع حاسبك املحمول أن يتحدث إىل الطابعة أو إىل‬
‫الهاتف الذيك‪ .‬هناك مظالت تستطيع أن تتلقى إشارات السلكية و ُتعطي إشارات‬
‫ملونة باستخدام صامم ثنايئ باعث للضوء )‪ Light-Emitting Diode (LED‬عندما‬
‫يكون هناك احتياج إليها‪ .‬هناك اآلن رقائق صغرية ُت َث َّبت يف القبعات لتساعد الناس يف‬
‫تنظيم تناول أدويتهم باستخدام التنبيهات ورسائل التذكري والطلب التلقايئ لتعويض‬
‫عبوات األدوية التي تنفد‪ ،‬هذه ليست سوى بعض من بني آالف األمثلة‪ .‬نحن عرفنا‬
‫كل هذا نظريا لبعض الوقت؛ الفرق هنا هو أنها اآلن موجودة بالفعل يف مطابخنا‪.‬‬
‫حتى النقود أصبحت افرتاضية عىل نحو متزايد‪ .‬إن أيا من أوراق النقد اإلسرتليني‬
‫التزال ُتكتَب عليها العبارة التالية‪« :‬أتعهد بأن أدفع لحاملها عند الطلب مبلغ‪،»...‬‬
‫لكن الحقيقة هي أن بريطانيا تخلت عن معيار الذهب يف العام ‪ .1931‬لذلك‪ ،‬يجب‬
‫أال تتوقع الحصول عىل أي من األشياء الصفراء الثمينة‪ .‬رمبا تالحظ أن اليورو ال يعد‬
‫بيشء عىل اإلطالق‪ .‬نظرا إىل أن هناك تعوميا حرا للعمالت يف الوقت الحارض‪ ،‬فرمبا‬
‫يكون من الجيد أن تصري النقود مجرد حفنة من األرقام‪ .‬يف الواقع‪ ،‬عندما انهار بنك‬
‫نورثرن روك ‪ Northern Rock‬يف العام ‪ ،2007‬لحق به العديد من البنوك يف َسكند‬
‫اليف (الحياة الثانية) ‪( Second Life‬العامل االفرتايض عىل اإلنرتنت الذي أنشأته‬
‫رشكة ليندن الب ‪ Linden Lab‬منذ العام ‪ .)17()2003‬حينئذ هرع الالعبون إلغالق‬
‫حساباتهم‪ ،‬ألن َسكند اليف (الحياة الثانية) مل تكن احتكارية‪ ،‬كان سعر الرصف (فنيا‪،‬‬
‫‪74‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫االسرتداد ‪ )redemption‬نحو ‪ 260‬دوالر ليندن إىل ‪ 1‬دوالر أمرييك‪ .‬باملثل‪ ،‬يف العام‬
‫‪ ،2013‬يف أثناء أزمة البنوك القربصية‪ ،‬التي تضمنت اليورو هذه املَ ّرة‪ ،‬انطلقت العملة‬
‫االفرتاضية «بيتكوين ‪ »Bitcoin‬لرتتفع إىل مستوى قيايس يقرتب من ‪ 147‬دوالرا‬
‫أمريكيا لكل بيتكوين‪ ،‬إذ التمس الناس فيها ما ُيزعم أنه مالذ آمن لنقودهم(‪.)18‬‬
‫ُكرس هذا الرقم القيايس عدة مرات منذ ذلك الحني‪ .‬إن كل هذا مثري لالهتامم‪،‬‬
‫ألنه ُي َحول مزودي عمالت األلعاب‪ ،‬مثل ليندن الب ‪ ،Linden Lab‬أو يف الواقع‬
‫شبكة اإلنرتنت‪ ،‬إىل ُمصدري نقود إلكرتونية؛ ونظرا إىل التآكل املستمر للحد الفاصل‬
‫بني كونك متصال بشبكة حاسوبية (اإلنرتنت) وغري متصل‪ ،‬يبقى التساؤل عن متى‬
‫ستُوضع قواعد لتنظيم مثل هذه العمالت اإللكرتونية‪ .‬إن املشكلة أكرث تعقيدا مام‬
‫تبدو عليه؛ ففي العام ‪ ،2013‬اعتقل مكتب التحقيقات الفدرايل ‪ FBI‬روس أولربيخت‬
‫‪ Ross Ulbricht‬بزعم أنه العقل املدبر وراء طريق الحرير‪ ،‬وهي سوق سوداء عرب‬
‫اإلنرتنت‪ ،‬وسعى مكتب التحقيقات الفدرايل إىل مصادرة ثروته التي بلغت ‪800‬‬
‫ألف بيتكوين ‪ ،Bitcoins‬تقدر قيمتها بنحو ‪ 80‬مليون دوالر أمرييك(‪ .)19‬ليك يتمكن‬
‫مكتب التحقيقات الفدرايل من نقل تلك البيتكوينات من حساب أولربيخت‪ ،‬فال بد‬
‫له من الوصول إىل املفاتيح الخاصة التي تحميها (كلامت املرور التي تسمح ألحد‬
‫باستخدام البيتكوينات)‪ .‬ولكن رأى العلامء يف الواليات املتحدة أن إجبار شخص ما‬
‫عىل تسليم مفاتيح التشفري الخاصة به ينتهك التعديل الخامس للحق يف الحامية من‬
‫إدانة النفس(‪ .)20‬رمبا يبدأ تطبيق اشرتاطات قانونية مختلفة عندما يتضاءل الفارق‬
‫بني «املال» و«املعلومات»‪.‬‬
‫املنطق ذاته ينطبق عىل «بطاقات الوالء ‪ ،»fidelity cards‬وعىل برامج «أميال‬
‫الطريان املجانية ‪ .»mileage programmes‬إن كبار تجار التجزئة يف الواليات‬
‫املتحدة‪ ،‬مثل بست باي ‪ Best Buy‬وسريز ‪ ،Sears‬لديهم برامج والء تقدم نقاطا‬
‫قابلة لالسرتداد‪ ،‬وخصومات‪ ،‬ومزايا أخرى مامثلة‪ .‬أيضا‪ ،‬تيسكو ‪ Tesco‬وسينسبريي‬
‫‪ ،Sainsbury‬وهام من أكرب سالسل التجزئة يف اململكة املتحدة‪ ،‬يقدمان لعمالئهام‬
‫برامج والء شهرية‪ .‬كام هي الحال يف برامج مامثلة‪ ،‬أنت تكسب النقاط عن طريق‬
‫اإلنفاق‪ ،‬يف حني أن األموال التي تنفقها رمبا ال تكون ملكك (لنفرتض أنه تعينت عليك‬
‫إعادة نفقات السفر الخاصة بك‪ ،‬املزيد عن هذا املوضوع تاليا)‪ ،‬فالنقاط هي مبنزلة‬
‫‪75‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫نقود‪ .‬رمبا يبدو أن هذا ال ينطبق إال عىل املهووسني أو «ربات البيوت اليائسات»‪،‬‬
‫لكن حتى ذوو القدرات الفذة ميكنهم استبدال األموال االفرتاضية‪ .‬إنهم فقط‬
‫يستخدمون النقاط املجانية مقابل األميال املقطوعة يف سفريات متكررة‪ .‬وفقا ملجلة‬
‫اإليكونوميست ‪ ،The Economist‬بالفعل يف يناير ‪« ،2005‬كان إجاميل رصيد األميال‬
‫التي مل ُتسرتد يفوق كل املتداول من أوراق الدوالر النقدية‪ ،‬وميكنك استبدالها مقابل‬
‫أي يشء تقريبا(‪ .)21‬إنه من ا ُملغري اختالس أميال اكت ُِس َبت بأموال شخص آخر‪ ،‬ففي‬
‫العام ‪ ،2008‬عىل سبيل املثال‪ ،‬تقدم مراقب املعايري الربملانية الربيطاين بشكوى يتهم‬
‫فيها رئيس مجلس العموم مايكل مارتن ‪ ،Michael Martin‬بأنه استخدم لعائلته‬
‫أمياال جوية اكت ُِس َبت عن طريق املال العام‪ ،‬وهذا هو الدليل القاطع (السيد مارتن‪،‬‬
‫وليس املراقب) عىل أن اململكة املتحدة هي مجتمع تأريخ ُمفرط(‪.)22‬‬
‫السيد مارتن (ولد يف العام ‪ ،)1945‬وبعض منا‪ ،‬ممن ينتمون إىل الجيل إكس‪ ،‬رمبا‬
‫اليزالون ينظرون إىل فضاء املعلومات عىل أنه يشء ندخل إليه ونخرج منه‪ .‬اليزال‬
‫البعض منا يعتقد أن ما يحدث عىل اإلنرتنت يبقى عىل اإلنرتنت‪ .‬إنه ألمر ذو مغزى‬
‫أن السيد مارتن‪ ،‬مبوجب قانون حرية املعلومات‪ ،‬حاول منع نرش معلومات عن نحو‬
‫‪ 5‬ماليني جنيه إسرتليني هي نفقات السفر السنوية ألعضاء الربملان الربيطاين(‪ .)23‬إن‬
‫وجهات نظرنا بشأن الطبيعة األساسية للواقع التزال نيوتونية ‪ Newtonian‬وتنتمي‬
‫إىل الحداثة؛ لقد نشأنا مع سيارات‪ ،‬ومبان‪ ،‬وأثاث‪ ،‬ومالبس‪ ،‬وأنواع مختلفة من‬
‫أدوات وتكنولوجيات كانت جميعها غري تفاعلية‪ ،‬وال تتجاوب‪ ،‬وغري قادرة عىل‬
‫التواصل‪ ،‬أو التعلم‪ ،‬أو التذكر‪ .‬عىل الرغم من ذلك‪ ،‬فإن اليشء الذي النزال نواجهه‬
‫هو أن يف بعض أرجاء العامل‪ ،‬شيئا فشيئا‪ ،‬يصــري العامل غري املتصــل بيئة تفاعليـــة‬
‫ومتجاوبــة بالكامل‪ ،‬بيئة مكونة من عمليات معلوماتيـــة من نوع «أي شـــيء‬
‫إىل أي شــيء )‪ ،»anything to anything (a2a‬وتعمل «يف أي مكان وألي وقت‬
‫)‪ ،»anywhere for anytime (a4a‬ويف الوقت الحقيقي‪ .‬لقد اقرتب اليوم الذي‬
‫يصبح فيه اعتياديا أن نبحث رقميا عن مكان األغراض املادية («أين هي مفاتيح‬
‫السيارة؟»‪« ،‬أين هي نظاريت؟»)‪ ،‬كام نحن بالفعل ُنشري إىل أين هم األصدقاء عىل‬
‫خريطة‪ .‬يف العام ‪ُ ،2008‬منحت جائزة «االخرتاع املنزيل للعام» ألربعة صبية يف عمر‬
‫‪ 12‬عاما‪ ،‬هم‪ :‬توماس شميت ‪ ،Thomas Schmidt‬وأليكس فرينش ‪،Alex French‬‬
‫‪76‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫وكامريون هيوز ‪ ،Cameron Hughes‬وانغوس هاينز ‪ ،Angus Haines‬من مدرسة‬


‫آشفولد االبتدائية يف مدينة دارتون باململكة املتحدة؛ وذلك الخرتاعهم جهاز الباحث‬
‫الرسيع ‪ ،Speed Searcher‬وهو جهاز ُيستَخدَم للعثور عىل األغراض املفقودة‪ ،‬إذ‬
‫ُتث َّبت شارات عىل األغراض الثمينة ثم يحدد الحاسب موضعها يف املنزل‪.‬‬
‫نتيجة لشيوع املعلوماتية يف بيئتنا املألوفة‪ ،‬فإن بعض الناس يف مجتمعات‬
‫التأريخ ا ُملفرط يعيشون بالفعل حياة متصلة دامئا (أوناليف ‪ ،)onlife‬يف إنفوسفري‬
‫يصري متزامنا بشكل متزايد وغري متوطن ومرتبطا بعضه ببعض‪ .‬عىل رغم أن هذا‬
‫ميكن تفسريه بتفاؤل عىل أنه الوجه الودود للعوملة‪ ،‬فال ينبغي لنا أن نتوهم معرفتنا‬
‫مبدى انتشار وشمولية تطور مجتمعات املعلومات‪ ،‬أو كيف ستكون‪ .‬إن مل نتمكن من‬
‫إيجاد حل للفجوة الرقمية(‪ ،)24‬فإنها رمبا تصبح هوة‪ ،‬تنشأ بسببها أمناط جديدة من‬
‫التمييز بني أولئك الذين ميكنهم اإلقامة يف اإلنفوسفري‪ ،‬وأولئك الذين ال يستطيعون‬
‫ذلك‪ ،‬بني الداخليني والخارجيني‪ ،‬بني األغنياء معلوماتيا والفقراء معلوماتيا‪ .‬سوف‬
‫ُتعيد رسم خريطة املجتمع يف جميع أنحاء العامل‪ ،‬وتؤدي إىل نشأة أو اتساع الفجوات‬
‫الجغرافية واالجتامعية واالقتصادية والثقافية‪ ،‬والفجوات بني األجيال‪ ،‬بني الجيل زد‪+‬‬
‫‪ ،Generation Z+‬والجيل زد‪ .Generation Z- -‬لذلك‪ ،‬ال ميكن اختزال هذه الفجوة‬
‫يف أنها ال ُبعد بني البلدان الغنية والبلدان الفقرية‪ ،‬ألنها باألحرى سوف تقسم املجتمع‬
‫الواحد‪ .‬لقد رأينا يف الفصل األول أن ثقافات ما قبل التأريخ تقريبا اختفت متاما‪ ،‬رمبا‬
‫باستثناء بعض القبائل الصغرية يف أرجاء بعيدة من العامل‪ .‬إن الفجوة الجديدة سوف‬
‫تكون بني مجتمعات التأريخ ومجتمعات التأريخ ا ُملفرط‪ .‬نحن رمبا منهد األرض ألحياء‬
‫الغد الفقرية معلوماتيا‪.‬‬
‫تدعونا التحوالت السابقة‪ ،‬بالفعل‪ ،‬إىل فهم العامل عىل أنه يشء «حي »‪. Alive‬‬
‫(‪)25‬‬

‫للمفارقة‪ ،‬فإن إضفاء مثل هذه الحيوية عىل العامل يجعل نظرتنا أقرب إىل تلك التي‬
‫كانت لدى الثقافات القدمية‪ ،‬التي فرست جميع مظاهر الطبيعة عىل أنها مسكونة‬
‫بقوى موجهة نحو هدف معني‪ .‬صادفنا يف الفصل األول ظاهرة ُمشابهة‪ ،‬عند مناقشة‬
‫موضوع الذاكرة ومعضلة «ما قبل التأريخ» الرقمي‪ .‬فعندما ينظر الجيل زد إىل شاشة‬
‫أحد أجهزة تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت يف هذه األيام‪ ،‬فإن أول يشء يفعله هو‬
‫أن ينقر عليها‪ ،‬بدال من أن يبحث عن لوحة املفاتيح؛ أو أن يل ّوح أمامها بالهاتف‬
‫‪77‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫الذيك متوقعا أن يتم بينهام اتصال ما(‪ .)26‬لسوء الحظ‪ ،‬فإضفاء مثل هذا «التحريك»‬
‫لألدوات يبدو أحيانا أنه يسري جنبا إىل جنب مع املعتقدات غري العقالنية عن قوة‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت التي ال حدود لها‪ .‬عندما جرى تركيب نظام‬
‫أيريس ‪( IRIS‬نظام التعرف عىل املسافرين بفحص قزحية العني ‪Iris Recognition‬‬
‫‪ )Immigration System‬يف مطار هيرثو‪ ،‬كانت إحدى املشكالت الرئيسة أن بعض‬
‫املسافرين الذين حاولوا استخدام الخدمة اعتقدوا أن نظام أيريس سيعمل بطريقة‬
‫أو بأخرى حتى إن مل يكونوا ابتداء قد سجلوا يف هذه الخدمة‪ .‬افرتضوا أن األخ األكرب‬
‫بالفعل موجود هنا‪ ،‬ألنه يسهل النظر إىل تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت عىل‬
‫أنها آلهة عاملة بكل يشء وقادرة عىل كل يشء‪ ،‬لكن بعقول خاصة بها‪.‬‬
‫الخطوة التالية هي إعادة التفكري يف تزايد مظاهر الواقع فيام يتعلق‬
‫باملعلوماتية‪ .‬فهذا يحدث أمام أعيننا‪ ،‬و ُيصبح اعتياديا أن ننظر إىل العامل عىل أنه‬
‫جزء من اإلنفوسفري‪ ،‬ليس باملعنى املروع الذي عرب عنه سيناريو فيلم ماتريكس(٭)‬

‫وصلبا‬
‫‪ ،Matrix‬حيث كان «الواقع الحقيقي» جامدا مثل اآلالت الحديثة التي تسكنه ُ‬
‫مثل معدنها؛ ولكن مبفهوم التأريخ ا ُملفرط املتطور الذي متثله بيئة مثل مدينة نيو‬
‫بورت ‪ ،New Port City‬العاصمة الخيالية يف عرص ما بعد السيربانية التي جاءت يف‬
‫انيمي ياباين رائد باسم «شبح يف القوقعة ‪(»Ghost in the Shell‬٭٭)‪« ،‬الفيلم الذي‬
‫قدم لنا رؤية اليوم للفضاء اإللكرتوين»(‪ .)27‬إن اإلنفوسفري لن يكون بيئة افرتاضية‬
‫مدعومة بعامل «مادي» خالص‪ .‬باألحرى‪ ،‬العامل ذاته هو الذي سوف يتزايد فهمه‬
‫معلوماتيا‪ ،‬كتعبري عن اإلنفوسفري‪ .‬إن تكنولوجيات الرتبة الثالثة الرقمية ُتغري تفسرينا‬
‫للتكنولوجيات امليكانيكية من الرتبة الثانية والرتبة األوىل‪ .‬يف نهاية هذا التغيري‪ ،‬سوف‬
‫ينتقل اإلنفوسفري من كونه وسيلة لإلشارة إىل فضاء املعلومات إىل أن يكون مرادفا‬
‫للواقع ذاته‪.‬‬
‫إننا ُنغري منظورنا اليومي عن الطبيعة األساسية للواقع من نظرة تأريخية ومادية‪،‬‬
‫تؤدي فيها األغراض املادية والعمليات امليكانيكية دورا رئيسا‪ ،‬إىل نظرة تأريخ ُمفرط‬
‫(٭) فيلم خيال علمي أمرييك أ ّلفه وأخرجه األختان واتشوسيك (‪[ .)1999‬املحرر]‪.‬‬
‫(٭٭) فيلم الرسوم املتحركة الياباين (‪ )1995‬األنيمي ‪ ،ANIME‬من تأليف ماسامون شريو وإخراج مامورو أويش‪.‬‬
‫[املحرر]‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫ومعلوماتية‪ .‬هذا التحول يعني أن الكائنات (األغراض) والعمليات تصري منزوعة‬


‫املادية‪ ،‬مبعنى أنها متيل إىل اعتبارها مستقلة‪ .‬فكر يف ملفات املوسيقى‪ ،‬إنها ملفات‬
‫ُم َن َّمطة ‪ ،typified‬مبعنى أنها حالة (و ُتعرف أيضا باسم رمز ُم َم ّيز) ‪ token‬من كائن‬
‫(غرض) ‪ -‬عىل سبيل املثال نسختي من ملف املوسيقى ‪ -‬تكون يف ذات جودة‬
‫نوعها‪ ،‬يف املثال ملف املوسيقى الخاص بك الذي منه نسختي تكون حالة‪ .‬ويفرتض‬
‫أن تكون‪ ،‬اعتياديا‪ ،‬قابلة لالستنساخ بإتقان‪ ،‬مبعنى أنه يستحيل التمييز بني نسختي‬
‫عطيت اثنني من‬ ‫وملفك األصيل‪ ،‬ومن ثم ميكن أن تحل أي منهام محل األخرى‪ .‬إذا ُأ ِ‬
‫الكائنات الرقمية‪ ،‬فإنه من املستحيل تحديد أيهام هو املصدر األصيل وأيهام النسخة‬
‫من خالل فحص خصائصهام فقط‪ ،‬من دون االعتامد عىل بعض البيانات الواصفة‬
‫‪ ،metadata‬مثل ختم الوقت أو خربتك الشخصية (أنت تعرف أنك ج ّهزت هذه‬
‫النسخة من ذلك امللف)‪.‬‬
‫إن قلة التشديد عىل الطبيعة املادية للكائنات والعمليات تعني أن حق االستخدام‬
‫ُينظر إليه عىل أنه‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬له القدر نفسه من أهمية الحق يف امللكية‪ ،‬بتحريف‬
‫مثري لالهتامم‪ .‬وميكن أن ُيط َلق عليه مادية افرتاضية‪ .‬إن التكنولوجيات التي تدعو‬
‫إىل «حرية» االستخدام ‪ -‬من وسائط اإلعالم االجتامعي إىل محركات البحث‪ ،‬من‬
‫الخدمات عرب اإلنرتنت مثل الربيد اإللكرتوين املجاين وأدوات الرتاسل إىل تطبيقات‬
‫الويب ‪ 2.0‬جميعها تعتمد عىل اإلعالنات‪ ،‬ومن ثم تعتمد عىل بعض التنقيب يف‬
‫البيانات وعىل بعض التعديل وفقا للطلب عىل املنتجات لتتوافق مع ا ُملستَخ ِدمني‪.‬‬
‫لكن مثل هذا االعتامد يعني ثقافة (توقعات) ما بعد املادية‪ ،‬إن استخدام الخدمات‬
‫مجانا ( َمن سوف يدفع يف مقابل حصوله عىل حساب بريد إلكرتوين أو حصوله عىل‬
‫مساحة يف خدمة وسائط اإلعالم االجتامعي؟) مييل إىل الرتويج لسوق ليست فقط‬
‫للخدمات‪ ،‬التي تحتاج إىل أن تدفع يف مقابلها (العطلة التالية‪ ،‬عىل سبيل املثال)‪،‬‬
‫ولكنه يروج أيضا لسوق ألشياء أنت ُتدعى إىل رشائها (القميص التايل‪ ،‬عىل سبيل‬
‫املثال)؛ لكن هذا بدوره يشجع ثقافة امللكية (ملكية القميص الذي اشرتيتَه)‪ .‬لكن‪،‬‬
‫ليك تنجح ثقافة امللكية هذه‪ ،‬فهي تحتاج إىل تسويق األغراض ا ُملر َتقبة باعتبارها‬
‫أغراضا متجددة عىل الدوام حتى تكون مجدية اقتصاديا (عىل سبيل املثال‪ ،‬من‬
‫املتوقع أن يشرتي املستهلك قميصا جديدا مرارا وتكرارا)‪ .‬إذن هذا يغلق الدائرة‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫األشياء املادية تتحول إىل أشياء مُيكن التخلص منها ألنها قابلة لالستبدال بسهولة من‬
‫خالل الخدمات املجانية‪ ،‬التي ُيدفع مثنها عن طريق ما مُيكن اإلعالن عنه‪.‬‬
‫الخدمات املجانية عرب اإلنرتنت النزع َة االستهالكية للمنتجات املادية‬
‫ُ‬ ‫عندما تروج‬
‫التي ميكن رشاؤها من خالل اإلعالن‪ ،‬هذه العملية ميكن بسهولة أن تسبب التباسا‬
‫أو توقعات خاطئة بشأن ما هو مجاين وما هو غري ذلك‪ ،‬أو حتى ما إذا كان ينبغي‬
‫أن يكون مجانيا‪ .‬هذا االلتباس يسهم يف تفسري شعبية تشارك املحتوى عرب اإلنرتنت‬
‫املرشوع نوعا ما‪ .‬يف العام ‪ ،2013‬احتفل موقع بايرت باي ‪ ،Pirate Bay‬موقع تشارك‬
‫امللفات الشهري‪ ،‬مبرور عرش سنوات عىل إنشائه(‪ .)28‬إن شهرة املواقع املشابهة‪ ،‬التي‬
‫توفر ملفات تورنت ‪ torrent files‬وتوفر روابط لتسهيل تبادل امللفات بني النظراء‬
‫(نظري – إىل ‪ -‬نظري)‪ ،‬تبدو عالمة عىل ثقافة جديدة أكرث مام هي دليل دامغ عىل‬
‫اإلنسانية الفاسدة‪ .‬إن أي شخص يجادل ويقول‪« :‬ما كنت لترسق قرص موسيقى‬
‫ُمدمجا من متجر»‪ ،‬هو شخص مل يستوعب جيدا صعوبة ذلك‪ .‬عندما نتعامل مع‬
‫املعلومات عىل أنها سلعة‪ ،‬تصري لها ثالث سامت رئيسة مُتيزها عن السلع العادية‬
‫األخرى‪ ،‬مبا يف ذلك األقراص ا ُملد َمجة والكتب املطبوعة‪ .‬أوال‪ ،‬املعلومات غري ُمتنازع‬
‫عليها‪ ،‬فاستهالك «أليس» لبعض معلومات ال مينع «بوب» من استهالك املعلومات‬
‫نفسها يف الوقت ذاته‪ .‬قارن هذا مع تناول بيتزا أو استعارة قرص ُمد َمج‪ .‬ثانيا‪ ،‬متيل‬
‫املعلومات إىل أن تكون غري قابلة لإلبعاد أو للحرمان منها‪ .‬عادة ما ُتحمى بعض‬
‫املعلومات مثل امللكية الفكرية‪ ،‬أو البيانات الحساسة وغري املتاحة للعامة‪ ،‬أو األرسار‬
‫العسكرية‪ ،‬لكن هذا يتطلب جهدا إيجابيا تحديدا‪ ،‬ألن الحرمان‪ ،‬اعتياديا‪ ،‬ليس‬
‫خاصية طبيعية للمعلومات‪ ،‬التي متيل إىل أن يكون إفشاؤها وتشاركها سهال‪ .‬يف‬
‫النهاية‪ ،‬عندما تكون بعض املعلومات متاحة‪ ،‬فإن تكلفة استنساخها تكون زهيدة‬
‫للغاية (التكلفة الحدية مساوية للصفر)‪ ،‬وبالطبع ال يكون الحال كذلك مع العديد‬
‫من السلع‪ .‬لكل هذه األسباب‪ ،‬ميكن أحيانا أن ُينظر إىل املعلومات عىل أنها سلعة‬
‫عامة‪ ،‬هذه النظرة التي بدورها تربر إنشاء مكتبات عامة أو مرشوعات مثل ويكيبيديا‬
‫التي ميكن ألي شخص أن يطالعها مجانا‪ .‬كل هذه السامت تؤدي إىل بطالن املقارنة‬
‫السابقة مع رسقة قرص مدمج من متجر‪ .‬إنها تعد خلطا ملا هو مادي مع ما هو‬
‫معلومايت‪ .‬املقارنة األجدر هي عندما يتعلق األمر بتنزيل ‪ downloading‬محتوى غري‬
‫‪80‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫قانوين‪ ،‬والتي رمبا تكون‪« :‬أنت ما كنت لتلتقط صورة بالكامريا الرقمية الخاصة بك يف‬
‫معرض فني حيث ال ُيسمح بهذا»‪ .‬إنك عىل الفور ترى أن هذا أكرث تعقيدا‪ .‬أنا حقيقة‬
‫ما كنت أللتقط الصورة‪ ،‬ولكن عىل مضض‪ ،‬وإذا حدث إن التقطتها‪ ،‬فإنني كنت سأرى‬
‫هذا مختلفا للغاية عن رسقة بطاقة بريدية مناظرة من املتجر‪ .‬باملنطق نفسه‪ ،‬ومن‬
‫منظور التأريخ ا ُملفرط‪ ،‬فإن استخدام املحتوى بتطويعه ألغراض أخرى‪ ،‬أو تحديثه‪،‬‬
‫أو تطويره‪ ،‬ال يلزم أن يكون مظهرا من مظاهر االنتحال األديب أو األخالق الدنيئة‪،‬‬
‫بل قد يكون من أساليب االستحسان والتقدير للطبيعة الطيعة للكائنات املعلوماتية‪.‬‬
‫ينبغي عىل مجتمعنا وما لدينا من نظم تعليم اللحاق مبثل هذه التحوالت‪.‬‬
‫عىل رغم ذلك‪ ،‬هناك بعض النامذج التجارية الجديدة تتناول بالفعل مثل هذه‬
‫املستجدات من خالل إعادة التفكري يف كيفية إعداد وبيع املحتوى يف القرن الحادي‬
‫والعرشين‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يف العام ‪ 2013‬بدأت رشكة أمازون يف تقديم عرض‬
‫ملشرتي الكتب املطبوعة للحصول عىل نسخة إلكرتونية مناظرة من الكتاب مجانا أو‬
‫بسعر ُم َخ َّفض؛ ويف متجر يدعى ماتش بوك ‪ُ ،Matchbook‬يطبق النظام ذاته بأثر‬
‫رجعي عىل أي عنوان تم رشاؤه من املتجر منذ افتتاحه يف العام ‪ .)29(1995‬ينطبق‬
‫النظام ذاته عىل ملفات املوسيقى‪ ،‬فهناك خدمة أوتوريب ‪ AutoRip‬التي تقدمها‬
‫أمازون لتُتيح الحصول عىل نسخة أم يب ‪ )MP3( 3‬مجانية عند رشاء قرص ُمدمج أو‬
‫أسطوانة فينيل ألحد األلبومات املوسيقية(‪ ،)30‬وهذا أيضا بأثر رجعي‪ .‬كلتا الخدمتني‬
‫تحد من التبادل غري املرشوع للمحتوى الرقمي‪ .‬إنها اسرتاتيجية لها ما مياثلها يف‬
‫َجنَبات أخرى من الصناعة الرتويحية‪ .‬وفقا ملا ذكره ريد هاستينغز ‪،Reed Hastings‬‬
‫الرئيس التنفيذي لرشكة نيتفليكس ‪ ،Netflix‬فإن تقديم خدمات الفيديو عند الطلب‬
‫‪ video on demand‬بأسعار معقولة رمبا َيرصف الناس عن استخدام مواقع القرصنة‪،‬‬
‫ألن استخدام هذه الخدمة أسهل‪ ،‬وهي بالطبع مرشوعة قانونا ومن ثم أقل مجازفة‪.‬‬
‫ويف مقابلة تلفزيونية يف العام ‪ ،2013‬علق هاستينغز قائال‪« :‬انخفض استخدام بت‬
‫تورنت ‪ BitTorrent‬يف كندا بنسبة ‪ 50‬يف املائة منذ إطالق خدمات نيتفليكس قبل‬
‫ثالث سنوات(‪ .)31‬إنه تعليق مثري لالهتامم‪ ،‬حتى إن لزم القول‪ ،‬من أجل التوضيح‪ ،‬إن‬
‫بت تورنت هو يف حقيقته أحد بروتوكوالت اإلنرتنت(‪ ،)32‬مثل بروتوكول نقل النصوص‬
‫التشعبية )‪ ،Hypertext Transfer Protocol (HTTP‬وعىل هذا النحو ُيعتمد عىل‬
‫‪81‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫نطاق واسع للعديد من األغراض املرشوعة متاما‪ .‬إن بت تورنت رمبا مل تصبح مرادفا‬
‫للقرصنة عىل اإلنرتنت إال بسبب انتشار استخدامها يف التبادل غري املرشوع للمحتوى‬
‫الخاضع لحقوق التأليف والنرش‪.‬‬
‫أخريا‪ ،‬إن دليل الوجود ‪ -‬ما يعني أن شيئا ما يكون حقيقيا متاما وبشكل قطعي ‪-‬‬
‫هو أيضا يتغري‪ .‬للمبالغة يف التبسيط‪ ،‬ظن الفالسفة القدماء وفالسفة القرون الوسطى‬
‫أن ما هو غري قابل للتغري‪ ،‬أي اإلله‪ ،‬هو وحده الذي ميكن أن ُيقال عنه إنه تام‬
‫الوجود‪ .‬أما أي يشء يتغري‪ ،‬كالحيوان مثال‪ ،‬فإنه ينتقل من العدم (قبل أن تكون هناك‬
‫أي حيوانات)‪ ،‬ثم إىل الوجود (يولد الحيوان)‪ ،‬ثم إىل العدم (ميوت الحيوان)‪َ .‬ف َّضل‬
‫الفالسفة املعارصون ربط الوجود بإمكانية الخضوع لإلدراك‪ .‬أما التفكري التجريبي‬
‫املتشدد‪ ،‬فقد أرص عىل أنه ينبغي أن ُيدرك اليشء بالحواس الخمس حتى يكون‬
‫مؤهال ألن يعد موجودا‪ .‬اليوم‪ ،‬تنضم القدرة عىل التفاعل إىل كل من القدرة عىل‬
‫الثبات وعدم التغري‪ ،‬والقدرة عىل الخضوع لإلدراك‪ .‬يبدو أن فلسفتنا توحي بأن‬
‫«كينونتك هي أن يكون التفاعل ممكنا معك»‪ ،‬حتى إن كان هذا الذي نتفاعل معه‬
‫هو عابرا وافرتاضيا فقط‪ .‬وينبغي أن تساعد األمثلة التالية عىل جعل النقاط السابقة‬
‫أكرث وضوحا وتجسيدا‪.‬‬
‫يف السنوات األخرية‪ ،‬اتبع العديد من الدول نهج الواليات املتحدة يف عدم احتساب‬
‫اقتناء الربمجيات عىل أنها مرصوفات جارية‪ ،‬ولكن عىل أنها استثامرات‪ ،‬وأن ُيتَعامل‬
‫معها مثل بقية املدخالت الرأساملية األخرى التي ُتستخدم لإلنتاج بشكل متكرر مع‬
‫مرور الزمن‪ ،‬مثل املصانع(‪ .)33‬يف الوقت الحايل‪ ،‬اإلنفاق عىل الربمجيات ُيسهم بشكل‬
‫منتظم يف الناتج املحيل اإلجاميل‪ .‬لذلك‪ُ ،‬يعرتف بالربمجيات عىل أنها سلعة (رقمية)‪،‬‬
‫حتى إن كانت غري ملموسة إىل حد كبري‪ .‬ينبغي أال يكون صعبا للغاية قبول أن أصوال‬
‫افرتاضية رمبا أيضا مُتثل استثامرات مهمة‪.‬‬
‫عادة ما يجري اإلمداد مبوارد الحوسبة ذاتها عن طريق األجهزة واملعدات‪ ،‬التي‬
‫من ثم مُتثل العقبة الرئيسة أمام مرونة نرشها‪ .‬عىل رغم ذلك‪ ،‬نحن نسري برسعة‬
‫نحو مرحلة تصري فيها الحوسبة السحابية(‪ cloud computing )34‬مبنزلة «تليني‬
‫‪ »softening‬لألجهزة واملعدات التي لدينا من خالل «االفرتاضية ‪،»virtualization‬‬
‫العملية التي ميكن من خاللها تقديم موارد الحوسبة ‪ -‬مثل وحدة معالجة مركزية‬
‫‪82‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫ذات مواصفات محددة‪ ،‬أو إمكانيات تخزين‪ ،‬أو بنية تحتية للشبكة ‪ -‬عن طريق‬
‫الربمجيات‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ميكن تبني االفرتاضية ‪ virtual lization‬لتشغيل أنظمة‬
‫تشغيل متعددة عىل جهاز حاسب مادي واحد‪ ،‬بحيث إذا أصبحت هناك حاجة‬
‫إىل مزيد من األجهزة‪ ،‬فيمكن إنشاؤها باعتبارها قطعة برمجيات ‪ -‬هذا ما يعرف‬
‫باسم املاكينات االفرتاضية ‪ - virtual machines‬وال يتم رشاء أي أجهزة أو معدات‬
‫مادية‪ .‬إن الفارق هائل بني استخدام ماكينة افرتاضية واستخدام ماكينة مادية‪.‬‬
‫مبجرد أن ُتجهز البنية التحتية االفرتاضية‪ ،‬ميكن ملزود األجهزة االفرتاضية أن يلبي‬
‫طلبات ا ُملستَخ ِدمني يف غضون دقائق معدودة‪ ،‬ورمبا عىل نطاق واسع جدا‪ .‬باملثل‪،‬‬
‫ميكن يف الحال إنهاء أو تعليق مثل هذا التجهيز‪ ،‬فاملاكينات االفرتاضية ُتغ َلق بكل‬
‫بساطة من دون أن ترتك وراءها أي مكونات مادية من أجهزة أو معدات تحتاج إىل‬
‫إعادة تخصيص أو تفكيك‪ .‬من الواضح أن هذا سوف يزيد من تغيري مفهومنا عن‬
‫ماهية اآللة‪ ،‬من مفهوم تأريخي‪ ،‬قائم عىل الرؤى املادية وامليكانيكية‪ ،‬إىل مفهوم‬
‫التأريخ ا ُملفرط املوجه نحو االستخدام والقائم عىل املنفعة‪ .‬منذ فرتة وحتى اآلن‪،‬‬
‫ُتقدم يوميا خدمات الحوسبة السحابية إىل ماليني املستخدمني عن طريق دروب‬
‫بوكس ‪ ،Dropbox‬أو محرر مستندات غوغل ‪ ،Google Docs‬أو آي كالود من‬
‫رشكة آبل ‪ ،Apple iCloud‬أو سكاي درايف من رشكة مايكروسوفت ‪Microsoft‬‬
‫‪ .Skydrive‬إن االختفاء الرسيع ألي نوع من أنواع «محرك األقراص ‪ »drive‬ملصلحة‬
‫«املنافذ ‪( »ports‬الناقل التسلسيل العام ‪ ،USB‬وما إىل ذلك) هو إشارة واضحة لحركة‬
‫االفرتاضية‪ .‬يف الفصل األول صادفنا بالفعل محرك األقراص املرنة القديم‪ .‬الضحايا‬
‫األحدث هم محركات القرص ا ُملدمج ‪ CD drives‬ومحركات قرص الفيديو الرقمي‬
‫‪.DVD drives‬‬
‫«السخرة االفرتاضية»‪ .‬إنها أماكن يقوم العاملون‬‫فيام ييل‪ ،‬تأمل ما ُيعرف باسم ُ‬
‫فيها مبامرسة اللعب بألعاب اإلنرتنت لفرتات تصل إىل اثنتي عرشة ساعة يوميا‪،‬‬
‫بهدف إنشاء سلع افرتاضية‪ ،‬مثل شخصيات‪ ،‬أو معدات‪ ،‬أو نقود االنخراط يف اللعبة‬
‫‪ ،in-game currency‬أو للتعامل مع الخطوات األقل تسلية يف لعبة ما‪ ،‬عىل سبيل‬
‫املثال عن طريق قتل آالف الوحوش لالنتقال إىل املستوى التايل املثري‪ .‬كل هذا وأكرث‬
‫«السخرة االفرتاضية» موجودة بيننا منذ أكرث‬ ‫ُيباع بعد ذلك إىل العبني آخرين‪ .‬إن ُ‬
‫‪83‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫من عقد من الزمان‪ .‬إنها قدمية ك ِقدَم ألعاب الحاسب عىل اإلنرتنت(‪ .)35‬يف وقت‬
‫كتابة هذه السطور‪ ،‬وطبقا التفاقيات ترخيص ا ُملستَخ ِدم النهايئ (‪( )EULA‬هذا‬
‫هو العقد الذي يقبله كل ُمستَخ ِدم للربمجيات التجارية عند تثبيتها)‪ ،‬اليزال غري‬
‫مسموح بيع األصول االفرتاضية يف ألعاب تقمص األدوار كثيفة الالعبني عىل اإلنرتنت‬
‫(‪ ،)MMORPG‬مثل لعبة وورلد أوف ووركرافت ‪ .)36(World of Warcraft‬سيكون‬
‫هذا مثل اتفاقية ترخيص ا ُملستَخ ِدم النهايئ (‪ )EULA‬الخاصة باستخدام برمجية‬
‫مايكروسوفت أوفيس ‪ MS-Office‬تحجب عن ا ُملستَخ ِدمني ملكية املستندات‬
‫الرقمية التي ُتنشأ بواسطة الربمجية‪ .‬من املحتمل أن تتغري الحال كلام زاد عدد الناس‬
‫الذين يستثمرون مئات اآلالف من الساعات لبناء التجسيدات (أفاتار) ‪avatars‬‬
‫واألصول الخاصة بهم‪ .‬سوف ترث األجيال املقبلة كيانات رقمية رمبا يرغبون يف‬
‫امتالكها ويستطيعون توريثها‪ .‬يف الواقع‪ ،‬وعىل رغم أنه محظور‪ ،‬من املعتاد أن‬
‫تكون هناك اآلالف من األصول االفرتاضية معروضة للبيع عىل موقع إيباي ‪eBay‬‬
‫قبل العام ‪ .)37(2007‬بدهاء أكرث‪ ،‬قدمت رشكة سوين خدمة «محطة التبادل ‪Station‬‬
‫‪ ،»Exchange‬وهي خدمة مزايدة رسمية تتيح لالعبني طريقة آمنة الستخدام الدوالر‬
‫يف بيع ورشاء حق استخدام نقود األلعاب‪ ،‬واألغراض‪ ،‬والشخصيات‪ ،‬وذلك وفقا‬
‫لقواعد وإرشادات اتفاقية الرتخيص‪ .‬شهدت محطة التبادل معامالت بأكرث من ‪80‬‬
‫ألف دوالر أمرييك يف أول ‪ 30‬يوما من تشغيلها(‪.)38‬‬
‫حاملا يجري إقرار االعتامد القانوين مللكية األصول االفرتاضية‪ ،‬فالخطوة التالية هي‬
‫التحقق من ظهور نزاعات قضائية بشأن ملكيتها‪ .‬ومن بني أقدم األدلة عىل ظهور‬
‫نزاعات كهذه‪ ،‬أن أحد املحامني يف والية بنسلفانيا قد قام مبقاضاة نارش َسكند اليف‬
‫(الحياة الثانية) ‪ ،Second Life‬يف مايو ‪ 2006‬بزعم وجود مصادرة غري عادلة لعرشات‬
‫اآلالف من الدوالرات قيمة أرضه االفرتاضية وغريها من املمتلكات(‪.)39‬‬
‫رمبا يكون التايل هو وثائق تأمني تقدم حامية من املخاطر التي تتعرض لها‬
‫التجسيدات (األفاتار)‪ ،‬مامثلة للتأمني عىل الحيوانات األليفة الذي ميكنك رشاؤه من‬
‫املتاجر الكربى (السوبر ماركت) املحلية‪ُ .‬م َجددا‪ ،‬تقدم لعبة الفيديو «وورلد أوف‬
‫ووركرافت ‪ »World of Warcraft‬مثاال ممتازا‪ .‬رمبا تكون «وورلد أوف ووركرافت»‬
‫قد بلغت أوجها‪ ،‬بعدد مشرتكني بلغ ‪ 11.1‬مليون مشرتك يف يونيو ‪ ،2011‬و‪ 10‬ماليني‬
‫‪84‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫مشرتك يف أكتوبر ‪ ،2012‬و‪ 8.3‬مليون مشرتك يف مايو ‪ .)40(2013‬جدير بالذكر أن هذه‬


‫اللعبة تواجه تحديا من ألعاب أخرى‪ ،‬مثل لعبة سكايالندرز ‪ ،Skylanders‬التي تقوم‬
‫عىل تجربة أوناليف ‪ onlife‬للعب مع دمى حقيقية تتفاعل مع لعبة الفيديو من‬
‫خالل «بوابة الطاقة ‪ ،»portal of power‬التي تقرأ الشارات الخاصة بهم من خالل‬
‫تكنولوجيا االتصال قريب املدى (‪ .)NFC‬عىل رغم ذلك‪ ،‬تظل لعبة «وورلد أوف‬
‫ووركرافت» هي أكرث ألعاب هذه النوعية (‪ )MMORPG‬جذبا للمشرتكني‪ ،‬يف العامل‪.‬‬
‫هذه اللعبة‪ ،‬من حيث عدد السكان‪ ،‬سوف تحتل املرتبة ‪ 91‬بني ‪ 221‬بلدا وإقليام‬
‫مستقال‪ .‬إن ُمستَخ ِدميها‪ ،‬الذين أمضوا فيها (وسوف مُيضون) مليارات الساعات من‬
‫أوقاتهم من أجل بناء‪ ،‬وإثراء‪ ،‬وتحسني ممتلكاتهم الرقمية‪ ،‬سوف يكونون عىل أتم‬
‫استعداد إلنفاق بضعة دوالرات للتأمني عىل تلك املمتلكات‪.‬‬
‫ويقدم مزيج األصول االفرتاضية وتقديم الخدمات بصورة افرتاضية فرصة غري‬
‫مسبوقة‪ .‬يف الوقت الحارض‪ ،‬اليزال شائعا وسهال أن ُن َؤ ِّمن عىل جهاز ما‪ ،‬مثل جهاز‬
‫الحاسب املحمول‪ ،‬الذي ُت َخزَّن عليه البيانات‪ ،‬ولكن ليس عىل البيانات ا ُمل َخ َّز َنة‪ .‬عىل رغم‬
‫أن البيانات رمبا ال تقدر بثمن وال ُت َع َّوض‪ ،‬فإنه من الواضح أنها مُيكن أيضا استنساخها بدقة‬
‫وبتكلفة زهيدة‪ ،‬بعكس األشياء (األغراض) املادية؛ لذلك‪ ،‬سوف يكون من الصعب عىل‬
‫الضامن أن يتيقن من تعذر اسرتجاع املعلومات املفقودة أو أن املعلومات قد تشوهت‬
‫بالفعل وأصبحت َم ِعي َبة‪.‬عىل رغم ذلك‪ ،‬أدت الحوسبة السحابية إىل فصل الحيازة املادية‬
‫للبيانات (عن طريق ُمقدِّم الخدمة) عن ملكية البيانات (عن طريق ا ُملستَخ ِدم)‪ ،‬وحاملا‬
‫يصري ُمقدِّم الخدمة مسؤوال عن املحافظة عىل البيانات التي أصبحت ماديا يف حيازته‪،‬‬
‫يكون ُم َّربرا ُملستَخ ِدم أو مالك مثل هذه البيانات أن يتوقع أنها ُم َؤ َّمنة‪ ،‬مبقابل بالطبع‪،‬‬
‫ويتوقع أيضا أن يحصل عىل تعويض يف حالة حدوث تلف أو فقد أو توقف للخدمة‪.‬‬
‫ينبغي أن يتمكن ا ُملستَخ ِدمون من ضامن البيانات الخاصة بهم‪ ،‬تحديدا ألنهم ميتلكونها‬
‫ولكنها ماديا ليست يف حيازتهم‪ .‬كان «التأمني السيرباين (الحاسويب) ‪»Cyber insurance‬‬
‫موجودا لعدة سنوات(‪ ،)41‬إنه اليشء الصحيح الذي ينبغي فعله‪ ،‬ولكنه رمبا ال يصبح‬
‫مالمئا متاما إال يف حالة الحوسبة السحابية‪ .‬إننا عىل األرجح نشهد تحوال ُم َر َّحبا به يف‬
‫اسرتاتيجيات التأمني املستخدمة للتحوط ضد مخاطر الخسائر أو األرضار التي يتعذر‬
‫اسرتجاعها‪ ،‬وهو تحول من التأمني عىل األجهزة والتجهيزات إىل التأمني عىل البيانات‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫الخالصة‬
‫عىل الرغم من بعض االستثناءات املهمة – ال سيام املزهريات واألدوات املعدنية‬
‫يف الحضارات القدمية‪ ،‬والنقوش‪ ،‬ومن ثم الكتب بعد غوتنربج ‪ - Gutenberg‬كانت‬
‫الثورة الصناعية عالمة فارقة ميزت االنتقال من عامل ينتمي إىل مذهب االسمية‬
‫‪ nominalist‬ألشياء (ألغراض) متفردة‪ ،‬إىل عامل أفالطوين ‪ Platonic‬به أنواع من‬
‫األشياء (األغراض)‪ .‬إن جميع سلعنا الصناعية قابلة إلعادة اإلنتاج بدقة تصل إىل‬
‫التطابق بني بعضها وبعض‪ ،‬وبالتايل يتعذر التمييز بينها؛ من ثم‪ ،‬عمليا وبشكل‬
‫براغاميت بحت‪ ،‬فمن املمكن االستغناء عنها ألنها ميكن استعاضتها دون أي خسارة‬
‫يف مدى التفاعالت الذي تسمح به‪ .‬هذا جانب كبري من ثقافتنا نتوقع أن ُتطبق فيه‬
‫معايري منوذجية واتساق صارم لألنواع‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يف صناعة املواد الغذائية يف‬
‫اململكة املتحدة‪ ،‬نحو ‪ 40‬يف املائة من املنتجات الغذائية ال تصل إىل السوق أبدا‪ ،‬ولكن‬
‫ُيتَخلص منها بسبب املعايري الجاملية‪ ،‬مثل‪ ،‬الحجم والشكل وعدم توافر مواصفات‬
‫العوار يف الفواكه والخرضاوات‪ .‬يحدث هذا ألن تجار التجزئة يعلمون أننا‪ ،‬املتسوقني‪،‬‬
‫لن نشرتي املنتجات القبيحة(‪ .)42‬باملثل‪ ،‬يف مجال صناعة األزياء‪ ،‬عندما يكون جسم‬
‫اإلنسان هو املعني‪ ،‬فإن جدلية كونك متفردا مثل كل شخص آخر تتضافر مع الطبيعة‬
‫الطيعة ملا هو رقمي لتؤدي إىل اتساع انتشار ظاهرة «التنميق ‪ُ .»airbrushing‬تجرى‬
‫دامئا وبشكل روتيني عملية تنميق للصور الرقمية من أجل مواءمة مظهر األشخاص‬
‫يف الصورة مع مناذج منطية غري واقعية ومضللة‪ ،‬مام يكون له أثر ضار يف توقعات‬
‫العمالء‪ ،‬وبخاصة املراهقون منهم‪ .‬ومنذ عدة سنوات‪ ،‬واملناقشات دائرة يف فرنسا‬
‫واململكة املتحدة حول مقرتحات قانونية من أجل تقييد مثل هذه املامرسات‪ ،‬فيام‬
‫يتواصل الجدل حول الدليل عىل أن البطاقات التحذيرية وإبراء الذمة سوف ُتح ِدث‬
‫َفرقا يف الرأي العام(‪.)43‬‬
‫عندما كان أسالفنا يشرتون حصانا‪ ،‬فإنهم كانوا يشرتون هذا الحصان أو ذاك ‪،‬‬
‫وليس الحصان فقط‪ .‬اليوم‪ ،‬نجد أنه واضح متاما وال محل لالختالف عليه‪ ،‬أن ندعى‬
‫إىل تجربة قيادة سيارتني رمبا هام متطابقتان ظاهريا‪ ،‬ونشرتي النموذج بدال من أن‬
‫نشرتي «تجسيدا ‪ »incarnation‬مفردا له‪ .‬إننا نشرتي النموذج (املوديل) وليس الرمز‬
‫املم ّيز‪ .‬عندما يكون هناك خطأ ما جوهري يف سيارتك‪ ،‬فقد يكون مشكلة يف النموذج‬
‫‪86‬‬
‫املكان‪ :‬اإلنفوسفري‬

‫(املوديل)‪ ،‬يؤثر هذا يف ماليني العمالء‪ .‬يف العام ‪ ،1981‬سجلت صناعة السيارات أسوأ‬
‫عملية َسحب لسيارة حتى اآلن‪ ،‬تلك العملية تضمنت سحب ‪ 21‬مليون مركبة فورد‬
‫ومريكوري ولينكولن‪ .‬عىل نحو متسق متاما‪ ،‬نحن نسري برسعة نحو تسليع األشياء‬
‫(األغراض) التي تنظر إىل اإلصالح عىل أنه مرادف لالستبدال(‪ ،)44‬حتى إن كان هذا‬
‫متعلقا ببناية بأكملها‪.‬‬
‫إن مثل هذا التحول ملصلحة أنواع من األشياء (األغراض)‪ ،‬قد أدى‪ ،‬من باب‬
‫التعويض‪ ،‬إىل إعالء أولويات الدمغ (بالعالمة التجارية) املعلومايت ‪ -‬وهو عملية‬
‫مامثلة الستحداث كامليات ثقافية وفلسفات شخصية(‪ - )45‬وأدى إىل إعادة املالءمة‪.‬‬
‫والشخص الذي يضع ملصقا عىل زجاج سيارته‪ ،‬التي هي من دونه تكون مطابقة‬
‫متاما آلالف األخريات‪ ،‬هو شخص يحارب يف معركة ضد األفالطونية ملصلحة فلسفة‬
‫املذهب االسمي ‪ ،nominalist‬ويصدق اليشء نفسه عىل الطالب الذي ُي َل ِّطخ حاسبه‬
‫املحمول مبلصقات ل ُيضفي عليه طابعا شخصيا‪ .‬تؤدي ثورة املعلومات إىل تفاقم‬
‫هذه العملية بصورة أكرب‪ ،‬عندما يتحول تسوقنا ملشاهدة واجهات العرض الزجاجية‬
‫للمتاجر ل ُيصبح تسوقا من خالل نظام التشغيل ويندوز ‪ ،Windows-shopping‬فلم‬
‫يعد التسوق‪ ،‬يف هذه الحالة‪ ،‬يعني التجوال يف الشوارع ولكن أصبح يعني تصفح‬
‫الويب‪ .‬إن عمليات نزع مادية األشخاص وتنميطهم‪ ،‬وهم كيانات فريدة وغري قابلة‬
‫لالستبدال‪ ،‬رمبا تبدأ يف أن تؤدي إىل تآكل شعورنا بالهوية الشخصية‪ .‬ورمبا كنا ُنع ِّرض‬
‫أن ُف َسنا للخطر عندما نترصف‪ ،‬وعندما نتصور أنفسنا‪ ،‬عىل أننا كيانات مجهولة ُتنتَج‬
‫بكميات هائلة من بني كيانات مجهولة أخرى‪ ،‬ومفضوحون عىل اإلنرتنت ملليارات‬
‫من األشخاص اآلخرين املامثلني‪ .‬رمبا يتصور بعضنا البعض عىل أننا ِحزَم من أصناف‪،‬‬
‫من الجنسانية إىل الدين‪ ،‬من الدور األُسرْ ي إىل املنصب الوظيفي‪ ،‬من التعليم إىل‬
‫الطبقة االجتامعية‪ .‬باعتبارنا ُمستَخ ِدمني يف اإلنفوسفري‪ ،‬يدعونا األمر أكرث فأكرث‪ ،‬إذا مل‬
‫يكن يضطرنا‪ ،‬إىل االعتامد عىل مؤرشات بدال من املصادر الفعلية ‪ -‬ال ميكننا تجربة‬
‫جميع مطاعم املدينة‪ ،‬املصادر‪ ،‬لذلك نثق بالتزكية املتاحة عىل اإلنرتنت ‪ -‬إننا نتشارك‬
‫ثقافة ا ُمل َف َوضني ‪ culture of proxies‬ونروج لها‪ .‬إن امللفات الشخصية ‪ profiles‬يف‬
‫«لينكد إن ‪ُ »LinkedIn‬تعَبرِّ عن األشخاص‪ ،‬وعدد الصفحات املرتبطة ُتعَبرِّ عن املكانة‬
‫واألهمية‪ ،‬و«اإلعجابات ‪ »likes‬تنوب عن اللطافة‪ ،‬وموقع اإلنرتنت «تريب أدفايزر‬
‫‪87‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫‪ »TripAdvisor‬يصري دليال لقضاء أوقات االستجامم‪ .‬بطبيعة الحال‪ ،‬تغذي هذه‬


‫العملية وقود صناعة اإلعالن وجدليتها الجديدة حول املادية االفرتاضية‪ .‬وبطبيعة‬
‫الحال وباملثل‪ُ ،‬ت َط َّبق هذه العملية يف نهايتها علينا أيضا‪ .‬يف ثقافة ا ُمل َف َوضني‪ ،‬رمبا‬
‫ُتنزع الفردية منا بسهولة و ُنعامل عىل أننا نوع (نوع زبون‪ ،‬نوع سائق‪ ،‬نوع مواطن‪،‬‬
‫نوع مريض‪ ،‬نوع لشخص يعيش يف ذلك الرمز الربيدي‪ ،‬الذي يقود ذلك النوع من‬
‫السيارات‪ ،‬الذي يذهب إىل ذلك النوع من املطاعم‪ ...‬إلخ)‪ .‬مثل هذا التفويض رمبا‬
‫كمستَه ِلكني ُم َح َّددين من أجل أغراض التعديل‬ ‫ُيستخدم أكرث من أجل إعادة تعريفنا ُ‬
‫وفقا للمطالب‪ .‬أنا ال أعرف ما إذا كان هناك بالرضورة أي يشء غري أخالقي يف كل هذا‪،‬‬
‫لكن يبدو أنه من األهمية مبكان أن نفهم كيف تؤثر فينا تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت بصورة ملموسة‪ ،‬وتؤثر يف هوياتنا‪ ،‬ويف فهمنا ألنفسنا (فهمنا الذايت)‪ ،‬كام‬
‫سرنى يف الفصل الثالث‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫الهوية‪ :‬احلياة دائمة االتصال (أون اليف ‪)Onlife‬‬

‫‪3‬‬

‫الهوي��ة‪ :‬احلياة دائمة االتصال‬


‫(أوناليف ‪)Onlife‬‬

‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬


‫بوصفها تكنولوجيات للذات‬
‫قبل فرتة من الزمن‪ ،‬التقيت طالبة دراسات عليا‬
‫تتمتع باإلرشاق والحيوية‪ ،‬كانت قد سجلت‬
‫عىل فيسبوك خالل العام الدرايس ‪2004-2003‬‬
‫عندما كانت طالبة يف جامعة هارفارد‪ .‬كان‬
‫رقمها التعريفي عىل فيسبوك هو ‪ ،246‬مثريا‬
‫لإلعجاب‪ ،‬وكأنها الشخص الرقم ‪ 246‬الذي يهبط‬
‫عىل كوكب جديد‪ .‬يف العام ‪ ،2009‬اختفت عىل‬
‫فيسبوك مثل هذه األرقام التعريفية)‪ .(1‬حينام‬
‫للمستَخ ِدمني‬
‫اعتمد فيسبوك األسامء املألوفة ُ‬
‫حتى ميكن العثور عىل األشخاص بسهولة أكرث‪.‬‬
‫كان هذا التغيري رضوريا ألنه يف غضون سنوات‬ ‫«لنعد اآلن إىل أسئلتنا األصلية‪ :‬من‬
‫ُ‬
‫قليلة أصبح كوكب فيسبوك أكرث ازدحاما‪،‬‬ ‫نحن‪ ،‬ومن سنصبح‪ ،‬ومن الذي ميكن‬
‫أن نكونه عندما يتزايد ما نقضيه من‬
‫ورسعان ما انضم إىل الطالبة املذكورة مئات‬ ‫وقتنا يف اإلنفوسفري؟»‬

‫‪89‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫املاليني من ا ُملستَخ ِدمني من جميع أنحاء العامل‪ ،‬ووصل عدد ُمستَخ ِدمي فيسبوك إىل‬
‫نصف مليار يف يوليو ‪ ،2010‬وتخطى حاجز املليار ُمستَخ ِدم يف أكتوبر ‪.2012‬‬
‫ُتعد القصة السابقة َت ْذ ِك َرة جيدة عن كيف أن عددا متزايدا من الناس يقضون‬
‫قدرا متزايدا من وقتهم يف إذاعة ما يتصل بذواتهم‪ ،‬ويتواصلون رقميا بعضهم مع‬
‫بعض (بتذكر العمليات األساسية الثالث‪ :‬قراءة‪ ،‬كتابة‪ ،‬تنفيذ)‪ ،‬يتواصلون داخل‬
‫إنفوسفري هو ليس افرتاضيا بالكامل وال ماديا فحسب‪ .‬القصة أيضا َت ْذ ِك َرة جيدة‬
‫عن كيف أصبحت تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت ذات تأثري يف تشكيل هوياتنا‬
‫الشخصية‪ .‬إنها تكنولوجيات الذات(‪ )2‬األشد سطوة والتي مل نتعرض ملثلها من قبل‪،‬‬
‫ومن الواضح أنه ينبغي علينا التعامل معها بحذر‪ ،‬ألنها تقوم بتعديل مهم وملموس‬
‫يف املجاالت واملامرسات التي من خاللها ُنش ِّكل أنفسنا‪ .‬دعوين أرشح‪.‬‬
‫نسم هذا هوياتنا‬ ‫يف فلسفة العقل‪ ،‬هناك متييز محدد جيدا بني من نحن ‪ -‬دعونا ِّ‬
‫سم هذا تصوراتنا الذاتية‪ .‬غني عن القول أن‬ ‫الشخصية ‪ -‬وبني من نظن أنه نحن ‪ِّ -‬‬
‫هناك فرقا حاسام بني أن يكون الشخص هو نابليون وبني أن يظن شخص أنه نابليون‪.‬‬
‫هاتان الذاتان ‪ -‬هوياتنا الشخصية وتصوراتنا الذاتية – ال تزدهران إال عندما تدعم‬
‫كل منهام األخرى يف عالقة صحية متبادلة‪ .‬ليس فقط تصوراتنا الذاتية هي التي‬
‫ينبغي أن تكون قريبة ممن نحن واقعيا ومسرتشدة به‪ ،‬وإمنا أيضا هوياتنا الشخصية‬
‫الفعلية ينبغي أن تكون مرنة مبا فيه الكفاية لتتأثر بشكل كبري مبن نظن أننا نكونه‪،‬‬
‫أو نرغب يف أن نكونه‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬إذا كنت تظن أنك واثق من نفسك‪ ،‬فمن‬
‫املرجح أن تصبح كذلك‪.‬‬
‫األمور تزداد تعقيدا ألن تصوراتنا الذاتية هي‪ ،‬بدورها‪ ،‬مرنة مبا فيه الكفاية‬
‫لتتشكل مبا يمُ ىل علينا أن نكونه‪ ،‬وكيف نرغب يف أن ُينظر إلينا‪ .‬وهذا معنى ثالث‬
‫نتحدث عنه فيام يخص «الذات»‪ .‬إنها الذات االجتامعية‪ ،‬التي وصفها مارسيل‬
‫بروست ‪ )3(Marcel Proust‬بشكل رائع جدا يف املقطع التايل‪:‬‬
‫غري أنه‪ ،‬وحتى يف أكرث األمور تفاهة من حياتنا اليومية‪ ،‬ال يوجد بيننا‬
‫من ُيقال عنه إنه يؤلف كال ماديا متطابقا يف نظر الجميع‪ ،‬وفقط يحتاج‬
‫إىل أن يظهر كأنه صفحة يف دفرت حسابات أو سجل يف وصية؛ ذلك أن‬
‫شخصيتنا االجتامعية من ابتداع فكر آخر‪ :‬حتى الفعل البسيط جدا الذي‬

‫‪90‬‬
‫الهوية‪ :‬احلياة دائمة االتصال (أون اليف ‪)Onlife‬‬

‫ندعوه «رؤية شخص نعرفه» هو إىل حد ما فعل فكري‪ .‬إننا منأل املظهر‬
‫املادي للكائن الذي نراه بجميع األفكار التي نحن بالفعل نحملها عنه‪،‬‬
‫وهذه األفكار بالتأكيد تحتل القسم األكرب يف الصورة الكاملة التي نكونها‬
‫يف عقولنا عن هذا الشخص‪ .‬إنها متأل متاما منحنى وجنتيه‪ ،‬وتتسق بدقة‬
‫مع خط أنفه‪ ،‬ومتتزج بشكل متناغم يف نربة صوته كأن هذا الشخص ليس‬
‫سوى غالف شفاف‪ ،‬حتى إننا يف كل مرة نرى هذا الوجه أو نسمع هذا‬
‫الصوت فإن ما ندركه ونسمعه حينئذ هو أفكارنا الخاصة عن هذا الشخص‪.‬‬
‫الذات االجتامعية هي القناة الرئيسة التي من خاللها متارس تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت‪ ،‬وبخاصة وسائط اإلعالم االجتامعي‪ ،‬تأثريا عميقا يف هوياتنا‬
‫الشخصية‪ .‬إنها ُتغري الظروف االجتامعية التي تعيش فيها‪ ،‬و ُت َعدّل ما تتمتع به من‬
‫شبكة عالقات وتدفق للمعلومات‪ ،‬وبشكل غري مبارش ُتعيد تشكيل طبيعة ونطاق‬
‫القيود والقدرات التي تحكم تقديم ذاتك إىل العامل وإىل نفسك‪ ،‬ومن ثم رمبا يجري‬
‫تحديث جذري لذاتك االجتامعية‪ ،‬ينعكس عىل تصوراتك الذهنية عن ذاتك‪ ،‬وهو ما‬
‫يفيض إىل تشكيل هويتك الشخصية‪ .‬باستخدام املثال السابق‪ :‬إذا كان الناس يظنون‬
‫ويقولون إنك وا ِثق وأنت ترغب يف أن يراك الناس وا ِثقا‪ ،‬من ثم تزداد احتامالت أن‬
‫تتصور نفسك عىل أنك وا ِثق‪ ،‬ورمبا تصبح بالفعل وا ِثقا‪.‬‬
‫هناك بعض ا ُملعضالت التقليدية بشأن الهوية الشخصية‪ ،‬تتعلق هذه ا ُملعضالت‬
‫باالستمرارية عرب الزمن أو عرب السيناريوهات املحتملة‪ ،‬مثل‪ :‬هل أنت نفس الشخص‬
‫الذي كنته يف العام املايض؟ هل سوف تكون نفس الشخص إذا كنت قد نشأت يف‬
‫مكان مختلف؟ َك ْم سوف يتبقى من ذاتك إذا ما ُغرس عقلك يف جسد مختلف؟‬
‫بالنسبة إىل شخص اعتاد اجرتار مثل هذه األسئلة‪ ،‬فإن ظاهرة بناء الهويات الشخصية‬
‫عىل اإلنرتنت رمبا تبدو برمتها عبثية و ُم َش ِتتة‪ ،‬نوعا من «الفلسفة للمبتدئني»‪ ،‬وال‬
‫تستحق التأمل الجاد‪ .‬ولكن يف العامل الحقيقي‪ ،‬فإن عملية البناء هذه هي واقع‬
‫ملموس وقضية ُم ِل َّحة لعدد يتزايد رسيعا من الناس الذين عاشوا كل حياتهم الراشدة‬
‫منغمسني بالفعل يف فيسبوك‪ ،‬وغوغل بلس‪ ،‬ولينكد إن‪ ،‬وتويرت‪ ،‬واملدونات‪ ،‬ويوتيوب‪،‬‬
‫وفليكر‪ ،‬وغري ذلك‪ .‬هؤالء الناس يرون التساؤل عن هوياتهم الشخصية عىل اإلنرتنت‬
‫أمرا طبيعيا‪ ،‬ويتعاملون مع شخصياتهم عىل أنها قيد التطوير‪ ،‬ويجتهدون يوميا‬
‫‪91‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫لتشكيلها وتحديثها‪ .‬إنه جيل ُمفرط يف االنشغال بالذات‪ ،‬جيل يستخدم فيسبوك‬
‫وتويرت وسكايب‪ ،‬والرسائل الفورية ليبث يف تدفق مستمر وجهات نظره الذاتية‬
‫وأذواقه الشخصية‪ ،‬وتفاصيل حياته الخاصة وحتى تجاربه الحميمة‪.‬‬

‫اإلفراط يف االنشغال بالذات‬


‫إن الحفاظ عىل وجود ُم َحدَّث ودقيق عىل اإلنرتنت ليس باملهمة السهلة وال‬
‫ُيستهان بها‪ .‬ووفقا لدراسة أجراها مركز بيو لألبحاث(‪Pew Research Center )4‬‬
‫ُنرشت يف العام ‪ 2012‬يف الواليات املتحدة‪ ،‬فالفتيات يف سن املراهقة يرسلن يف‬
‫املتوسط ‪ 80‬نصا يوميا‪ ،‬يليهن الذكور مبتوسط يومي ‪ 30‬نصا «فقط»‪ .‬إذا كنت تظن‬
‫أن رسائل الربيد اإللكرتوين قد عفى عليها الزمن ألن كل يشء يتم‪ ،‬يف زمننا هذا‪،‬‬
‫عرب الرسائل النصية القصرية ‪ ،SMS‬إذن حان الوقت لتطوير إضايف آخر‪ .‬يف العام‬
‫‪ ،2012‬تفوقت لل َم َّرة األوىل الرسائل الفورية عىل تطبيقات الدردشة مثل واتس آب‬
‫‪ WhatsApp‬عىل الرسائل النصية القصرية‪ ،‬وبفارق كبري‪ ،‬إذ ُأرسل ‪ 19‬مليار رسالة‬
‫فورية يوميا يف املتوسط‪ ،‬مقارنة مع ‪ 17,6‬مليار رسالة نصية قصرية‪ .‬يف وقت كتابة‬
‫هذا الكتاب‪ ،‬كان من املتوقع أن ُيرسل ما يقرب من ‪ 50‬مليار رسالة فورية يوميا‪،‬‬
‫مقارنة مع ما يزيد قليال عىل ‪ 21‬مليار رسالة نصية قصرية تقليدية(‪.)5‬‬
‫مل يحدث من قبل يف تاريخ البرشية أن قام مثل هذا العدد الكبري من الناس‬
‫وج يِ ّ‬
‫ل‬ ‫برصد وتسجيل وذكر تفاصيل كثرية عن أنفسهم أمام مثل هذا الجمهور الكبري‪َ .‬‬
‫بالفعل تأثري هذا العدد الهائل من الرسود الجزئية الصغرية املتنوعة والتي تتناول‬
‫جميع املوضوعات‪ .‬عىل سبيل املثال‪َ ،‬غيرَّ هذا بالفعل من الكيفية التي نتواعد بها‬
‫غراميا ونقع يف الحب‪ .‬لقد اتسعت شهرة وشعبية تطبيقات الشبكات االجتامعية‬
‫الجغرافية التي تسمح ُلمستَخ ِدميها بتحديد موقع ُمستَخ ِدمني آخرين عىل مقربة‬
‫منهم‪ ،‬وعىل أساس سامت شخصية وتفضيالت ‪ -‬مثل تطبيق غريندر ‪( Grindr‬للعثور‬
‫واملخنَثني‪ ،‬والرجال ذوي الفضول املثيل ومواعدتهم وإقامة عالقات‬ ‫عىل امل ِثليني‪َ ،‬‬
‫صداقة معهم)‪ ،‬وتطبيق تيندر ‪( Tinder‬تطبيق للمواءمة ُي َس ِّهل اتصاالت من دون‬
‫ذكر أسامء للمواعدة الغرامية والتواصل عرب شبكات الحاسب)‪ .‬وفقا لدراسة أجرتها‬
‫متاجر اإللكرتونيات بيكسامنيا ‪ PIXmania‬يف العام ‪ .)6(2013‬فإن التغريدات ‪tweets‬‬
‫‪92‬‬
‫الهوية‪ :‬احلياة دائمة االتصال (أون اليف ‪)Onlife‬‬

‫هي الطريقة املفضلة لبدء عالقة يف اململكة املتحدة‪ .‬إن بدء عالقة يستغرق يف‬
‫املتوسط ‪ 224‬تغريدة‪ ،‬باملقارنة مع ‪ 163‬رسالة نصية‪ ،‬أو ‪ 70‬رسالة فيسبوك‪ ،‬أو‬
‫‪ 37‬رسالة بريد إلكرتوين‪ ،‬أو ‪ 30‬مكاملة هاتفية‪ .‬أكرث من ثلث الثنائيات الذين جرت‬
‫مقابالتهم أقروا بأنهم مبجرد الدخول يف عالقة‪ ،‬يتبادلون النصوص البذيئة والصور‬
‫الفاضحة بعضهم مع بعض‪ ،‬فيام يعرف باسم مامرسة الجنس عرب الرسائل النصية‪.‬‬
‫إن كل يشء يبدأ وينتهي من ُبعد‪ ،‬إذ إن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت هي‬
‫أيضا الوسيلة املفضلة إلنهاء عالقة‪ ،‬فعىل سبيل املثال‪ 36 ،‬يف املائة يفعلون ذلك عرب‬
‫الهاتف‪ ،‬و‪ 27‬يف املائة عن طريق رسالة نصية‪ ،‬و‪ 13‬يف املائة عن طريق وسائط اإلعالم‬
‫االجتامعي‪ .‬لقد أصبح اللقاء الفعيل يف واقع الحياة ليك نقول وداعا طرازا قدميا‪.‬‬
‫األهم من ذلك‪ ،‬وأخذا يف االعتبار موضوع هذا الفصل‪ ،‬فإن الرسود الجزئية‬
‫الصغرية التي ننتجها ونستهلكها هي أيضا ُتغيرّ ذواتنا االجتامعية‪ ،‬ومن ثم ُتغيرّ من‬
‫الكيفية التي نرى بها أنفسنا‪ .‬إنها تمُ َ ِثل تيار شعور هائال يأتينا من الخارج‪ ،‬وهو ما‬
‫كان الفيلسوف وعامل النفس وليم جيمس )‪ William James (1910-1842‬سيجده‬
‫مثريا للفضول‪:‬‬
‫الشعور‪ ،‬إ َذن‪ ،‬ال يظهر لنفسه عىل أنه ُم َق َّطع إىل ُج َذا َذات [‪ ]...‬إنه يشء‬
‫غري موصول؛ إنه يتدفق‪ .‬إن كلمة «نهر» أو «تيار» هي االستعارات األكرث‬
‫تلقائية التي يوصف بها الشعور‪ .‬عند التحدث عنه فيام ييل‪ ،‬دعونا ُنسمه‬
‫تيار الفكر أو الوعي أو الحياة الشخصية(‪.)7‬‬
‫اليوم‪ ،‬اليزال الوعي تيارا (مزيد من االستعارات املائية‪ ،‬تذكر تلك املستخدمة يف‬
‫الفصل التمهيدي؟)‪ ،‬ولكنه يظهر كقطع صغرية‪ ،‬بطبيعة الحال هي ليست القطع‬
‫الصغرية التي قصدها جيمس‪ ،‬ولكن بدال من ذلك هي تلك القطع الصغرية الرقمية‬
‫(بتات ‪ )Bits‬من وسائط اإلعالم االجتامعي‪ .‬ليس هناك حتى يشء صغري جدا‪ ،‬أو‬
‫غري ذي صلة‪ ،‬أو خصويص بالفعل ليبقى من دون أن تخرب به أحدا‪ .‬إن أي قطرة‬
‫بيانات ميكن أن تسهم يف وصف الهوية الشخصية الخاصة بأحد ما‪ ،‬وكل بت ‪Bit‬‬
‫من املعلومات رمبا ُت َخ ّلف وراءها يف مكان ما أثرا لحظيا خاطفا‪ ،‬مبا يف ذلك الصور‬
‫املحرجة التي نرشها زميل دراسة منذ سنوات‪ ،‬والتي بالطبع سوف تختفي‪ ،‬مثل كل‬
‫يشء آخر عىل هذا الكوكب‪ ،‬ولكن فقط بأسلوب أبطأ من اختفاء ذواتنا السابقة‪.‬‬
‫‪93‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫بعض األشخاص الذين عادة ما يستنكرون املجتمع املعارص وينذرونه بالويل‬


‫والثبور (النواحون) يأسون لحال جيل فيسبوك ا ُملفرط يف االنشغال بذاته‪ ،‬الجيل الذي‬
‫يداوم عىل أن يسأل ويجيب عن «أين أنت؟» عىل خريطة غوغل الحياتية‪ ،‬الجيل‬
‫الذي فقد االتصال مع الواقع‪ .‬إنهم يشتكون من أن مثل هذا الجيل الجديد يعيش يف‬
‫فقاعات افرتاضية حيث الرثثرة األكرث ضحالة هي العملة الوحيدة؛ إنه جيل ال ميكنه‬
‫االنخراط يف الحقيقي واألصيل؛ إنه جيل مفتون باالصطناعي والزائف؛ إنه جيل ال‬
‫ميكنه أن يتحمل أي يشء بطيء الخطى أو يستمر لفرتة أطول من زمن حديث «تيد»‬
‫‪TED talk‬؛(‪ )8‬إنه جيل يتألف من صور ذاتية ‪( selfies‬صور يلتقطها الشخص لنفسه‬
‫وعادة ما يرسلها وينرشها عىل اإلنرتنت) نرجسية ومتمركزة حول الذات؛ إنه جيل غري‬
‫قادر عىل املسؤولية ألنه يتوقع أن كل يشء قابل للمحو والتعديل وقابل ألن ُيع َكس‬
‫بطريقة أو بأخرى (أحد أساليب فهم «الحق يف أن تكون منسيا»)‪.‬‬
‫بعض من الحقيقة يف كل هذا‪ .‬يف العام ‪ ،2013‬احتوى إنستاغرام‬ ‫رمبا يكون هناك ٌ‬
‫عىل أكرث من ‪ 23‬مليون صورة موسومة «‪#‬سيلفي ‪( »#selfie‬هاشتاج سيلفي)‪ ،‬و‪51‬‬
‫مليون صورة موسومة «‪#‬مي ‪ .)9(»#em‬يف وقت كتابة هذه السطور‪ ،‬أشار محرك‬
‫بحث مثل ستاتيغرام ‪ Statigram‬إىل أن الوسم «‪#‬سيلفي ‪ »#selfie‬كان أكرث من‬
‫الضعف (‪ 52‬مليونا) والوسم «‪#‬مي ‪ »#me‬بلغ ثالثة أضعاف تقريبا (‪ 144‬مليونا)‪.‬‬
‫عىل الرغم من ذلك‪ ،‬ويف نهاية املطاف‪ ،‬فأنا غري مقتنع بهؤالء الذين يستنكرون‬
‫املجتمع املعارص وينذرونه بالويل والثبور (النواحني)‪ ،‬لسببني رئيسني‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬ألن ما ُيفترَ ض أنه حقيقي وأصيل‪ ،‬هو أيضا مييل إىل أن يكون منتجات ثقافية‬
‫ُمصنَّعة للغاية‪ .‬إن ما نعتربه طبيعيا يكون غالبا نتيجة تالعب برشي أقل وضوحا‪،‬‬
‫مثل حديقة جيدة الرعاية‪ .‬لدينا يف الواقع مثل هذا التأثري يف كوكبنا لدرجة أن‬
‫الجيولوجيني يتحدثون اآلن عن حقبة «األنرثوبوسني ‪ ،»anthropocene‬وهو موضوع‬
‫من األفضل تركه للفصل التاسع‪ .‬يف كثري من األحيان تكون «الطبيعة» هي كيفية فهم‬
‫ثقافة ما للوسط املحيط بها‪.‬‬
‫وثانيا‪ ،‬ألن الوسائط االجتامعية متثل أيضا فرصة غري مسبوقة لنكون مسؤولني‬
‫األناس اآلخرون الذين تخلق‬ ‫عن تطور ذواتنا االجتامعية‪ ،‬نختار مبرونة أكرث من هم ُ‬
‫أفكارهم والتواصل معهم شخصيتنا االجتامعية‪ ،‬إلعادة صياغة بروست‪ ،‬ومن ثم‪،‬‬
‫‪94‬‬
‫الهوية‪ :‬احلياة دائمة االتصال (أون اليف ‪)Onlife‬‬

‫بشكل غري مبارش‪ ،‬لتحديد هوياتنا الشخصية‪َ .‬ت َذ ّكر كيف أن بناء ذاتك االجتامعية (ما‬
‫يظن الناس أنه أنت) يرتد ل ُيغذي تطور تصوراتك عن ذاتك (ما تظن أنه أنت)‪ ،‬الذي‬
‫من ثم يرتد ل ُيغذي قولبة هويتك الشخصية (من أنت)‪ .‬مزيد من الحرية عىل الجانب‬
‫االجتامعي يعني أيضا مزيدا من الحرية لتشكيل الذات‪.‬‬
‫مل تعد الحرية يف بناء هوياتنا الشخصية عىل شبكة اإلنرتنت هي الحرية يف أن‬
‫تبقى مجهوال كام عرب عنها بيرت شتايرن ‪ Peter Steiner‬يف الكاريكاتري الشهري الذي‬
‫فيه يقوم كلب بكتابة رسالة بريد إلكرتوين عىل الحاسب‪ ،‬ويعرتف لكلب آخر بأنه‬
‫«عىل شبكة اإلنرتنت‪ ،‬ال أحد يعرف أنك كلب»‪ .‬تلك كانت التسعينيات(‪ .)10‬اليوم‪ ،‬إذا‬
‫كان أحد ما كلبا أو يترصف مثل كلب‪ ،‬فإن فيسبوك أو غوغل أو عىل األقل إحدى‬
‫املؤسسات املعنية باألمن من املحتمل أن تعرف باألمر‪ .‬باألحرى‪ ،‬إنها الحرية املرتبطة‬
‫بتقرير املصري واالستقاللية‪ .‬رمبا مل تعد تستطيع الكذب بسهولة بخصوص من أنت‪،‬‬
‫عندما يراقبك مئات املاليني من الناس‪ .‬لكنك من دون شك رمبا تبذل قصارى جهدك‬
‫لتبني لهم بشكل معقول من أنت‪ ،‬أو من ترغب يف أن تكون‪ ،‬وهذا من شأنه أن يروي‬
‫قصة مختلفة عنك‪ ،‬وعىل املدى الطويل‪ ،‬سوف يؤثر بدوره عىل من أنت‪ ،‬سواء كنت‬
‫عىل اإلنرتنت أو غري متصل بها‪ .‬بالتايل فإن تجربة الحياة املتصلة دامئا (أون اليف‬
‫‪ )onlife‬تشبه‪ ،‬بعض اليشء‪ ،‬دفرت الحسابات الشخصية الذي ذكره بروست يف روايته‪،‬‬
‫ولكن باعتبارنا مشاركني يف التأليف‪.‬‬
‫رمبا التزال هناك نقطة أخرية لدى من يستنكرون املجتمع املعارص وينذرونه‬
‫بالويل والثبور‪ .‬رمبا يكونون عىل صواب يف تربمهم من أننا نهدر فرصة عظيمة‪ ،‬ألن ما‬
‫نكتبه ال يستحق القراءة‪ ،‬والنزال هنا نعتمد عىل االستعارة التي صاغها بروست‪ .‬إنهم‬
‫يشعرون بخيبة أمل بسبب أدائنا بوصفنا مؤلفني لرواياتنا الذاتية‪ .‬لكن‪ ،‬هم لديهم‬
‫صورة عن املايض رمبا تكون وردية للغاية‪ .‬كان األشخاص الغاية يف الكسل يالزمون‬
‫أرائكهم كأكياس البطاطا ملشاهدة الصور والحديث قليال عن قططهم وعطالتهم التي‬
‫قضوها أخريا‪ ،‬أمام جدار كهف أفالطون(‪ .)11‬أو شاشات التلفزيون‪ ،‬هذا قبل أن ُي َبينّ‬
‫فيسبوك بصورة ُمخزية أن هذه هي الطريقة التي يرغب أكرث البرشية يف أن يقضوا‬
‫بها وقت فراغهم الذي حصلوا عليه بصعوبة بالغة‪ .‬عرف أرسطو ‪ Aristotle‬أن الحياة‬
‫الفلسفية تتطلب الرتفيه؛ ومع األسف‪ ،‬العكس ليس بالرضورة صحيحا‪ ،‬إذ إن الرتفيه‬
‫‪95‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫ال يتطلب الفلسفة ورمبا يؤدي بسهولة إىل التسلية فحسب‪ .‬النتيجة هي‪ ،‬كام نتعلم‬
‫من الجوقة الغنائية يف بداية أوبرا ال ترافياتا ‪ La Traviata‬التي كتبها جوزيبى فريدي‬
‫(‪:Giuseppe Verdi )1901-1813‬‬
‫‪Giocammo da Flora.‬‬
‫‪E giocando quell’ore volar.‬‬
‫[لعبنا عند فلورا وباللعب‪ ،‬طار الوقت] ‪.‬‬
‫(‪)12‬‬

‫يف بقية هذا الفصل‪ ،‬أنا لن أنضم إىل من يستنكرون املجتمع املعارص‪ .‬لن‬
‫أناقش كيف ُيزعَم أن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت تجعلنا أكرث عُ زلة‬
‫أو تمُ كننا من الرتفيه عن أنفسنا حتى املوت‪ ،‬إىل أن يفوت أوان مغادرة حفل‬
‫فلورا‪ ،‬عىل الرغم من أنني سوف أعود إىل هذه النقطة يف نهاية الكتاب‪ .‬إنني‬
‫باألحرى سوف أنظر اىل الجانب األكرث إرشاقا بعض اليشء‪ ،‬وأستكشف كيف أن‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت ذاتها ميكنها تشكيل فهمنا لذواتنا باعتبارنا‬
‫كيانات معلوماتية‪.‬‬

‫معضلة الهوية‬
‫األسئلة بشأن هوياتنا الشخصية‪ ،‬وتصوراتنا الذاتية‪ ،‬وذواتنا االجتامعية هي بالطبع‬
‫أسئلة قدمية قدم السؤال الفلسفي «من أنا؟»‪ .‬لذلك ميكن للمرء أن يظن أنه ال ميكن‬
‫أن يقال يشء جديد معقول بشأن هذا املوضوع‪ .‬لكن هذا السلوك س ُيعد متجاهال‬
‫متاما للتغريات الحالية‪ .‬لقد رأينا كيف تصبح حياة اإلنسان رسيعا مسألة تجربة‬
‫حياة متصلة دامئا (أون اليف ‪ ،)onlife‬تعيد تشكيل القيود واملحددات و ُتتيح قدرات‬
‫جديدة يف تطور هوياتنا‪ ،‬واكتسابها الواعي‪ ،‬وتعيد تشكيل فهمنا الشخيص والجمعي‬
‫للذات‪ .‬اليوم‪ ،‬نحن نعرتف بشكل متزايد بأهمية ظاهرة شائعة غري مسبوقة‪ ،‬ظاهرة‬
‫ميكن وصفها بأنها بناء الهويات الشخصية عىل اإلنرتنت‪ .‬من نحن‪ ،‬ومن سنصبح‪ ،‬ومن‬
‫الذي ميكن أن نكونه‪ ،‬عندما يتزايد ما نقضيه من وقتنا يف اإلنفوسفري؟ هذه األسئلة‬
‫منطقية‪ ،‬لكنها تخفي تناقضا‪ ،‬معروفا باسم سفينة ثيسيوس ‪ .Theseus’ ship‬لذا‪ ،‬قبل‬
‫التصدي لهذه األسئلة‪ ،‬رمبا يكون من األفضل أن نلقي نظرة عىل ذلك التناقض لرنى‬
‫ما إذا كنا نستطيع تجنبه‪.‬‬
‫‪96‬‬
‫الهوية‪ :‬احلياة دائمة االتصال (أون اليف ‪)Onlife‬‬

‫إليكم وصف املؤرخ الكبري القديم بلوتارك (فلوطرخس) ‪( Plutarch‬نحو ‪-46‬‬


‫‪ 120‬بعد امليالد) للمشكلة‪:‬‬
‫حافظ األثينيون عىل السفينة [ثيسيوس] حتى عرص دميرتيوس‬
‫فالرييوس ‪ ،Demetrius Phalereus‬بأنهم كانوا يخلعون األلواح القدمية‬
‫كلام تحللت‪ ،‬ويستبدلونها بأخشاب جديدة أقوى‪ ،‬ولطاملا أصبحت هذه‬
‫السفينة مثاال بني الفالسفة‪ ،‬يطرحونه عند تناول السؤال املنطقي عن‬
‫األشياء التي تنمو؛ فجانب من الفالسفة يعترب أن السفينة بقيت عىل حالها‪،‬‬
‫والجانب اآلخر يعترب أنها ليست هي نفسها(‪.)13‬‬
‫رمبا تكون قد صادفت هذه املشكلة القدمية يف متويهات مختلفة‪ .‬تذكر هنا‬
‫البلطة التي صادفناها يف الفصل الثاين؟ هل هي التزال بلطة جدك‪ ،‬إذا استبدل أبوك‬
‫املقبض‪ ،‬وقمت أنت باستبدال الرأس؟ إن سفينة ثيسيوس وبلطة جدك هام نظامان‪،‬‬
‫وليس من السهل أن تحدد بالضبط ما الذي يبقي كل نظام منهام محافظا عىل كيانه‬
‫ويف حالة صالحة للعمل‪ ،‬وكذلك ما الذي يجعل منهام تلك السفينة بعينها وتلك‬
‫البلطة بعينها عرب الزمن وعىل رغم التغريات‪ .‬يصدق اليشء نفسه عىل هذا النظام‬
‫االستثنايئ املتمثل فيك أنت‪.‬‬
‫يبدو أنه من املقبول أن نفرتض أن سفينة ثيسيوس والبلطة وأنت نفسك تتألفون‬
‫من مكونات متفاعلة ومتناسقة‪ ،‬لكن املشكلة تتعلق بالتغريات التي مرت بها هذه‬
‫املكونات‪ .‬تأمل جسمك الذي ُيستَبدل معظم خالياه مع مرور الوقت‪ ،‬مع بقاء بعض‬
‫األمناط األساسية‪ .‬لذلك‪ ،‬رمبا ال يكون االستبدال مبكونات متطابقة هو الذي يهمنا‪،‬‬
‫لكن باألحرى عالقتها بعضها مع بعض وطبيعة تفاعالتها التي ُيحافظ عليها‪ .‬عىل رغم‬
‫ذلك‪ ،‬ما هو هذا «الغراء» الذي يضمن وحدة وتنسيق نظام مثلك‪ ،‬من ثم يتيح له أن‬
‫يكون ما هو عليه‪ ،‬وأن يصمد‪ ،‬وأن يترصف ككيان واحد متامسك ومستمر يف أماكن‬
‫مختلفة‪ ،‬وأوقات مختلفة‪ ،‬وعرب مجموعة متنوعة من التجارب؟ هنا تبدأ معضلة‬
‫سفينة ثيسيوس يف الطنني‪ .‬إذا أردنا أن نتجنبها‪ ،‬فنحن بحاجة إىل االعتامد عىل مفهوم‬
‫آخر ُقدم يف الفصل الثاين‪ ،‬أال وهو الواجهة البينية ‪.interface‬‬
‫ورمبا تصبح األسئلة بشأن هوية يشء ما متناقضة إذا ُسئلت من دون تحديد‬
‫الواجهة البينية ذات الصلة الالزمة لإلجابة عنها‪ .‬تأمل املثال التايل؛ إذا تحول مستشفى‬
‫‪97‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫إىل مدرسة‪ ،‬فإن السؤال عام إذا كان املبنى اليزال هو نفسه سوف يبدو سؤاال عقيام‬
‫ما مل ُيحدد أحدٌ السياق والغرض اللذين يف إطارهام صيغ السؤال‪ ،‬ومن ثم تحديد‬
‫الواجهة البينية املناسبة التي من خاللها ُتقدم اإلجابة بشكل صائب‪ .‬إذا ُطرح السؤال‬
‫بغرض الوصول إىل هناك‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يكون «املوقع» هو الواجهة البينية ذات‬
‫الصلة واإلجابة الصحيحة هي‪ :‬نعم‪ ،‬هام نفس املبنى‪ .‬أما إذا ُطرح السؤال بغرض فهم‬
‫ما يحدث بالداخل‪ ،‬تكون «الوظيفة االجتامعية» هي الواجهة البينية ذات الصلة‪،‬‬
‫وبالتايل من الواضح أن اإلجابة الصحيحة هي‪ :‬ال‪ ،‬فهام مختلفتان متام االختالف‪ .‬بناء‬
‫عىل ذلك‪ ،‬فهل اختلف املبنى أم اليزال هو هو؟ التوهم بأنه رمبا تكون هناك إجابة‬
‫واحدة صحيحة مطلقة‪ ،‬برصف النظر عن السياق والغرض واملنظور ‪ -‬أي‪ ،‬برصف‬
‫النظر عن الواجهة البينية ذات الصلة ‪ -‬يؤدي إىل ترهات متناقضة‪.‬‬
‫رمبا اليزال يف وسع أحد ما أن يرد رسيعا بأنه حتى إذا كان كل ما قلته من فوري‬
‫صحيحا‪ ،‬فيجب أن متتاز بعض الواجهات البينية عندما تكون الهويات الشخصية‬
‫هي املعنية‪ .‬لكن ليس لهذا الرد وزن كبري‪ ،‬ألن التحليل نفسه يظل صحيحا عندما‬
‫يكون الكيان املَ ْف ُحوص هو الشاب شاؤول ‪ ،Saul‬أو بول الطرسويس ‪Paul of Tarsus‬‬
‫ا ُملسن‪ ،‬كام سمي شاؤول بعد اعتناقه املسيحية‪ ،‬الذي كان يحرس عباءات أولئك‬
‫الذين وضعوها جانبا أثناء رجم الشامس استفانوس ‪ .)14(Stephen‬شاؤول وبول هام‬
‫الشخص نفسه وهام مختلفان؛ الفراشة هي الريقة وهي ليست الريقة؛ روما هي‬
‫وليست هي املدينة نفسها التي ُقتل فيها قيرص والتي قمت أنت بزيارتها يف العام‬
‫املايض؛ أنت اآلن مل تعد الشخص ذاته الذي ذهب إىل هناك؛ أنت ملفك التعريفي‬
‫عىل فيسبوك وأنت لست هذا امللف‪ .‬إن هذا يعتمد عىل ملاذا أنت تسأل‪ ،‬وبالتايل‬
‫يعتمد عىل الواجهة البينية املناسبة الالزمة لإلجابة عن السؤال‪.‬‬
‫هذه ليست النظرية النسبية‪ .‬بالنظر إىل هدف معني‪ ،‬تكون واجهة ما أفضل‬
‫من األخرى‪ ،‬وسوف تتلقى األسئلة إجابات أفضل أو أسوأ‪ .‬سوف تكون السفينة ِملكا‬
‫لثيسيوس‪ ،‬بغض النظر عن عدد األجزاء التي استُبدلت‪ ،‬إذا كان السؤال بشأن امللكية‬
‫القانونية‪ ،‬جرب حيلة ثيسيوس مع رجل الرضائب‪ .‬عىل رغم ذلك‪ ،‬هي بالفعل سفينة‬
‫مختلفة‪ ،‬ولن يدفع جامع التحف السعر نفسه‪ ،‬كمقابل لها‪ ،‬إذا كان كل ما يهتم به‬
‫هو األلواح األصلية‪ .‬األسئلة حول الهوية والتامثل عرب األوقات أو الظروف املختلفة‬
‫‪98‬‬
‫الهوية‪ :‬احلياة دائمة االتصال (أون اليف ‪)Onlife‬‬

‫هي يف الواقع أسئلة موجهة بالهدف‪ُ ،‬تسأل من أجل تحديد املسؤولية‪ ،‬أو وضع خطة‬
‫لرحلة ما‪ ،‬أو جمع رضائب‪ ،‬أو إسناد ملكية أو حق تأليف‪ ،‬أو الوثوق يف شخص ما‪،‬‬
‫أو تفويض شخص آخر‪ ،‬وما شابه ذلك‪ .‬هي أسئلة ال تستحق أن تؤخذ عىل محمل‬
‫الجد بقدر ما ُيتَعامل معها بشكل مطلق‪ ،‬ألنها ال معنى لها يف سياق بال هدف ومن‬
‫دون واجهة بينية‪ ،‬عىل رغم أن اللعب معها باسرتخاء رمبا يكون متعة فكرية‪ ،‬متاما‬
‫َ‬
‫محيط الدائرة‬ ‫بنفس طريقة أنه من غري املنطقي أن نتساءل حول توسط نقطة ما‬
‫من دون أن يتحدد املحيط‪ ،‬أو أن يقال لك سعر صنف ما من دون ذكر العملة التي‬
‫يتم السداد بها‪.‬‬

‫طبيعتنا املعلوماتية‬
‫لنعد اآلن إىل أسئلتنا األصلية‪ :‬من نحن‪ ،‬ومن سنصبح‪ ،‬ومن الذي ميكن أن‬ ‫ُ‬
‫نكونه عندما يتزايد ما نقضيه من وقتنا يف اإلنفوسفري؟؛ نحن رأينا من فورنا أن‬
‫عملية تعريفك وإعادة تعريفك لتكون أنت‪ ،‬هي عملية بحاجة إىل الفهم بطريقة‬
‫معلوماتية‪ ،‬من خالل تحليل دقيق للواجهة البينية املطلوبة لتقديم إجابة عقالنية‬
‫تناسب غرضا محددا‪ .‬وهدفنا اآلن هو أن نتبني ما إذا كانت تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت تؤثر يف هوياتنا الشخصية وكيف يكون هذا التأثري‪ .‬لذلك‪ ،‬يبدو أن تقديم‬
‫الواجهة البينية املناسبة يتم عن طريق تصور معلومايت للذات‪ُ .‬مجددا‪ ،‬ميكن أن‬
‫تساعدنا فلسفة العقل يف هذا املوضع‪ .‬هناك العديد من ال ُنهُج التي تبتغي تحديد‬
‫طبيعة الذات‪ ،‬يربز منها نهجان شائعان وواعدان للمهمة التالية‪.‬‬
‫أحد تلك ال ُنهُج يعود إىل الفيلسوف التجريبي الكبري جون لوك ‪John Locke‬‬
‫)‪ .(1704-1632‬باختصار‪ ،‬طبقا لهذا النهج تقوم هويتك عىل وحدة وعيك واستمرارية‬
‫ذكرياتك‪ .‬إذا كان هذا يبدو بعض اليشء مشابها ملا تجده عند ديكارت ‪،Descartes‬‬
‫فألنه يسري عىل خطى نقاشه يف ُح ّجة «كوغيتو ‪( »cogito‬الشك املنطقي)‪ :‬مادام أنك‬
‫كيان ُمفكر‪ ،‬فأنت الكيان ا ُملفكر املحدد الذي مير عرب مثل هذه العمليات العقلية‬
‫املحددة‪ .‬اسمح باخرتاق وعيك أو ذكرياتك بشكل كبري وسوف تتوقف عن أن تكون‬
‫أنت نفسك‪ .‬هذا هو السبب يف أنك رمبا تكون عىل استعداد أن ُيغرس عقلك يف جسد‬
‫شخص آخر‪ ،‬ولكن ال تقبل أن ُيغرس عقل آخر يف جسدك‪.‬‬
‫‪99‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫ثم هناك النهج الثاين األكرث حداثة‪ ،‬واملعروف باسم النظرية الرسدية حول الذات‬
‫‪ .the Narrative theory of the self‬وفقا لهذه النظرية‪ ،‬فإن هويتك هي «حكاية»‪،‬‬
‫ُتفهم عىل أنها يشء مصنوع يعرب عن سرية شخصية ذاتية أو اجتامعية‪ .‬تذكر ما قاله‬
‫بروست عن النفس االجتامعية‪ .‬نحن « ُنحدد» (نعطي هوية إىل) بعضنا بعضا‪ ،‬وهذا هو‬
‫املتغري الحاسم‪ ،‬عىل رغم أنه ليس الوحيد‪ ،‬يف اللعبة املعقدة لبناء الهويات الشخصية‪،‬‬
‫السيام عندما تتضاعف وتتغري فرص االنخراط يف املجتمع بفعل تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت الجديدة‪ .‬افرتض أنك عندما تستيقظ كل صباح يتعامل معك الجميع عىل‬
‫أنك شخص مختلف متاما‪ ،‬حينئذ ميكنك أن ترى كيف أنك سوف تصاب بالجنون رسيعا‪.‬‬
‫برصف النظر عام إذا كنت تفضل نهج جون لوك ‪ Lockean‬أم النهج الرسدي‬
‫‪ ،Narrative‬فمن الواضح أن كليهام يقدم تفسريا معلوماتيا للذات‪ُ .‬ينظر إىل الذات‬
‫عىل أنها نظام معلومات معقد‪ ،‬مصنوع من أنشطة واعية أو ذكريات أو حكايا‪.‬‬
‫من مثل هذا املنظور‪ ،‬أنت عبارة عن املعلومات الخاصة بك؛ وألن تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت ميكنها أن تؤثر بعمق يف هذه األمناط املعلوماتية‪ ،‬فهي حقيقة‬
‫تكنولوجيات نافذة للذات‪ ،‬كام توضح األمثلة التالية التي تتناول االحتواء‪ ،‬واملكان‪،‬‬
‫والزمان‪ ،‬والذاكرة والتفاعالت املتبادلة (التآثر)‪ ،‬واإلدراك‪ ،‬والصحة‪ ،‬وأخريا التعليم‪.‬‬

‫االحتواء‪ :‬الذات بوصفها تطبيقا لتكنولوجيا معلومات‬


‫رمبا متيل املفاهيم املعلوماتية عن الذات إىل تفضيل وجهة نظر م ْثنَو ّية (تتبع‬
‫املدرسة امل ْثنَو ّية أو األثنينية) ‪ dualist‬للعالقة بني العقل والجسم‪ ،‬إىل حد ما مثل‬
‫التمييز بني األجهزة والربمجيات‪ .‬إن ثقافتنا مشبعة للغاية بأفكار تكنولوجيا املعلومات‬
‫واالتصاالت‪ ،‬لدرجة أنه ميكن متاما تصور سيناريوهات الخيال العلمي التي تقوم فيها‬
‫باستبدال جسدك القديم بجسد آخر جديد‪ ،‬أو تلك السيناريوهات التي توحي بأن‬
‫الذات رمبا تكون بنية عابرة للنظم األساسية‪ ،‬مثل تطبيقات تكنولوجيا املعلومات‬
‫‪ .apps‬نشهد يف فلسفة العقل الجدل الدائر حول «تحميل العقل عىل الحاسب‬
‫‪ »mind uploading‬و«مبادلة الجسد ‪ .»body swap‬املثري لالهتامم هنا هو ليس‬
‫الطبيعة الهزلية والخيالية ملثل هذه التجارب الظنية ‪ -‬إنها يف كثري من الحاالت متيل‬
‫إىل أن تكون ُمشتتة ومدرسية (اسكوالئية) من دون جدوى ‪ -‬ولكن املثري لالهتامم‬
‫‪100‬‬
‫الهوية‪ :‬احلياة دائمة االتصال (أون اليف ‪)Onlife‬‬

‫هنا هو استعدادنا لالنخراط فيها‪ ،‬ألن هذا يدل عىل التأثري النوعي لتكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت يف كيفية تصورنا لذواتنا‪.‬‬
‫يبدو أنه ال جدال يف أن الجسد‪ ،‬سامته ووظائفه وأنشطته املعرفية ‪ -‬أقصد بذلك‬
‫أيضا عواطفنا والوعي املصاحب لها ‪ -‬جميعها مختلطة معا عىل نحو ال ينفصم لتنشأ‬
‫عنها الذات‪ .‬إن أجسادنا وإدراكنا رضوريان لجعل أرواحنا وذواتنا العقلية ممكنة‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فإن أي شكل من أشكال امل ْثنَو ّية (األثنينية) املتطرفة يبدو غري مربر؛ لكن هذه‬
‫البديهية ُتخفي وراءها حقيقة وفرضية‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬الحقيقة‪ .‬إذا كان وجود سبب ما رضوريا ليحدث أثر ما‪ ،‬فهذا ال يعني أنه‬
‫حاملا يحدث فعليا األثر فيجب أن يظل السبب موجودا‪ .‬قياسا عىل ذلك‪ ،‬ليست هناك‬
‫فراشة من دون يرقة‪ ،‬ولكن من الخطأ أن ترص عىل أنه حاملا تولد الفراشة‪ ،‬يجب‬
‫أن تبقى الريقة ليك تعيش الفراشة وتزدهر‪ .‬باملثل‪ ،‬يبدو أن ثقافتنا املعلوماتية تنظر‬
‫بإيجابية إىل الفكرة التالية‪ .‬ال يوجد أي تنمية للذات من دون الجسد‪ ،‬ولكن مبجرد أن‬
‫ُينشئ الجسد وعيا‪ ،‬رمبا تكون حياة الذات بالكامل داخلية ومستقلة عن جسد بعينه‬
‫وملكات ُم َح ّددة تجعل الذات ممكنة‪ .‬قياس آخر‪ ،‬بينام تكون معلقا يف الهواء‪ ،‬أنت‬
‫مل تعد بحاجة إىل منصة الوثب‪ ،‬حتى إن كانت منصة الوثب مكنتك من القفز عاليا‬
‫جدا‪ ،‬والزمن الذي تقضيه محموال يف الهواء يتحدد بقوة الجاذبية(‪ .)15‬ال يعني هذا أن‬
‫الذات ال تتطلب ُمر َت َكزا ماديا‪ .‬هناك حاجة إىل ُمر َت َكز ما الستدامة الذات التي ُبنيت‪،‬‬
‫وهذا ال يعني أيضا أن أي ُمر َت َكز سوف يؤدي الغرض‪ ،‬ولكنه يفتح اإلمكانية الختيار‬
‫أوسع والستقرار مؤقت للذات الدامئة حتى عندما يتغري ا ُملر َت َكز‪.‬‬
‫بعد ذلك‪ ،‬الفرضية‪ .‬ليست الذات فحسب‪ ،‬الجسد نفسه رمبا ُيفهم أيضا بشكل‬
‫أفضل مبصطلحات معلوماتية‪ .‬هناك العديد من الصيغ من وجهة النظر هذه‪ ،‬لكن‬
‫أكرثها شهرة يوجز يف فرضية «اليشء من البت ‪ »it from bit‬التي صاغها عامل الفيزياء‬
‫األمرييك جون أرتشيبالد ويلر)‪ ،John Archibald Wheeler (2008-1911‬وهو عىل‬
‫االرجح أكرث شهرة البتداعه مصطلح «الثقب األسود»‪ .‬عىل حد تعبريه‪:‬‬
‫اليشء من البت ‪ .it from bit‬بصياغة أخرى‪ ،‬كل «يشء» ‪ -‬كل‬
‫جسيم‪ ،‬كل مجال قوة‪ ،‬حتى متسلسلة الزمكان (الزمان‪-‬املكان) نفسها‬
‫[وبالتايل أي جسم‪ ،‬طبقا لتوصيفي] ‪ -‬يستمد وظيفته‪ ،‬ومعناه‪ ،‬ووجوده‬

‫‪101‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫بالكامل ‪ -‬حتى إن كان بشكل غري مبارش يف بعض السياقات ‪ -‬من إجابات‬
‫مستنبطة باألجهزة ألسئلة نعم أم ال‪ ،‬خيارات ثنائية‪ ،‬بتات ‪ .bits‬اليشء‬
‫من البت ‪ it from bit‬يرمز إىل فكرة أن كل ُم ْف َردَة من العامل املادي‬
‫لديها يف القاع ‪ -‬يف معظم الحاالت قاع عميقة جدا – مصدر غري مادي‬
‫وتفسري؛ والذي نسميه الواقع يظهر يف التحليل النهايئ لطرح أسئلة نعم‬
‫أم ال وتسجيل االستجابات املستحرضة باألجهزة؛ باختصار‪ ،‬فكل األشياء‬
‫املادية هي‪ ،‬نظريا‪ ،‬معلومات يف األصل‪ ،‬وهذا هو الكون التشاريك(‪.)16‬‬
‫وفقا لفرضية «اليشء من البت ‪ ،»it from bit‬فأيضا أعامق أجسادنا مصنوعة من‬
‫معلومات‪ ،‬وليس من قوام أسايس مادي مختلف عام هو غري مادي‪ .‬هذه ليست األثنينية‬
‫‪ dualism‬ولكنها شكل للنزعة الواحدية ‪ monism‬يستند إىل الحالة‪ .‬فكر يف مختلف‬
‫الحاالت التي ميكنك أن تجد عليها املاء‪ ،‬بخار أو سائل أو مادة صلبة‪ .‬إذا كانت فرضية‬
‫«اليشء من البت ‪ »it from bit‬صحيحة‪ ،‬فمن ثم العقول واألنفس من جهة‪ ،‬واألمخاخ‬
‫واألجساد من جهة أخرى‪ ،‬سوف تكون أشبه بحاالت مختلفة من املعلومات‪ ،‬أو أمناط‬
‫معلوماتية مختلفة‪ .‬والقول بأن التقابل بني املادي والالمادي قد يكون تقابال بني تجليني‬
‫رسخ من خالل نقاش بشأن املوضع مقابل الوجود‪.‬‬ ‫لجوهر معلومايت كامن ما‪ ،‬هو نقطة ُت َّ‬

‫كينونتك يف املكان‪ :‬املوضع مقابل الوجود‬


‫ُتضخم تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت التمييز بني وجود الذات وموضعها‪.‬‬
‫إن كائنا حيا مثل العنكبوت ال ُيدرك وجوده إال حيث يوضع كنظام متجسد وغري‬
‫متجزئ ملعالجة املعلومات‪ .‬إن أي كائن حي ُمدرك لعملياته املعلوماتية‪ ،‬عىل سبيل‬
‫املثال كلب يحلم‪ ،‬ميكن أن يكون موجودا يف إطار مثل هذه العمليات (يحلم مبطاردة‬
‫األرانب) بينام موضعه يف مكان آخر (يف املنزل)‪ .‬ولكن ذاتا ما ‪ -‬أيْ كائنا حيا ُمدركا‪،‬‬
‫بذاته‪ ،‬لعملياته املعلوماتية الخاصة و ُمدركا لوجوده يف إطارها ‪ -‬ميكنها أن تختار‬
‫أين تكون‪ .‬الذات‪ ،‬والحياة العقلية بشكل عام‪ ،‬موضعها يف املخ (الدماغ) ولكنها غري‬
‫موجودة يف املخ (الدماغ)‪ .‬هذا هو السبب يف أن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫ميكنها بسهولة جدا أن تجعلنا نقيض الكثري من وقتنا الواعي موجودين يف مكان آخر‬
‫غري املوضع الذي نحن فيه جسديا‪.‬‬
‫‪102‬‬
‫الهوية‪ :‬احلياة دائمة االتصال (أون اليف ‪)Onlife‬‬

‫كينونتك يف الزمان‪ :‬ال ِقدَم مقابل ال ِه َرم‬


‫أدت تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت إىل زيادة تأثري البقاء‪ ،‬ففي البيئات‬
‫الرقمية يكون من السهل تحديد وإعادة تحديد اليشء نفسه عىل وجه الدقة عرب‬
‫الزمن‪ .‬املشكلة هي أن االفرتايض رمبا يعمل أو رمبا ال يعمل بشكل مناسب‪ ،‬رمبا يكون‬
‫قدميا أو ُمحدَثا‪ ،‬لكنه ال يتقدم يف السن؛ إنه يصري قدميا وال َيه َرم‪ .‬عندما تفكر يف ذلك‪،‬‬
‫ال يشء يتقادم يستطيع أن يتقادم بدرجات متفاوتة‪ .‬عىل النقيض‪ ،‬فإن الذات تتقدم‬
‫يف السن‪ ،‬وقد يحدث لها ذلك بقدر أقل قسوة ‪ .‬والتأثري‪ ،‬الذي بدأنا نشهده والذي‬
‫مازلنا نتعلم كيف نتعايش معه‪ ،‬هو عدم االتساق الزمني بني الذات وموطنها عىل‬
‫اإلنرتنت‪ ،‬بني أجزاء من الذات تتقدم يف السن (مثل وجهي) وأجزاء تصري ببساطة‬
‫قدمية (عىل سبيل املثال صورة وجهي عىل رخصة القيادة الخاصة يب)‪ .‬عدم التزامن‬
‫يكتسب معنى جديدا يف ظروف الحياة املتصلة دامئا (أون اليف ‪.)onlife‬‬

‫الذكريات والتفاعالت‪ :‬تثبيت الذات‬


‫رأينا كيف تؤدي الذاكرة دورا بالغ األهمية يف بناء الهوية الشخصية‪ .‬من الواضح‬
‫أن أي تكنولوجيا يكون هدفها األساس هو تدبري الذاكرة‪ ،‬سوف يكون لها تأثري كبري يف‬
‫كيفية تطوير األفراد وتشكيل هوياتهم الشخصية‪ .‬ليست املسألة مسألة َك ّم فحسب؛‬
‫فجودة الذاكرة الشخصية‪ ،‬وإتاحيتها‪ ،‬وإمكانية الوصول إليها‪ ،‬واستدعاؤها رمبا يؤثر‬
‫بعمق يف َمنْ نظن أنه نحن و َمنْ ميكن أن نصبح‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬كانت الحرب‬
‫الكورية أول مواجهة رئيسة مع موسيقى تصويرية‪ ،‬إذ كان الجنود يستطيعون سامع‬
‫األغاين نفسها يف املنزل‪ ،‬أو يف الثكنات‪ ،‬أو أثناء املعركة(‪ .)17‬الذكريات املتامثلة «القابلة‬
‫للتكرار» ال ميكن إال أن تكون ذات تأثري عميق يف تشكيل الكيفية التي يفهم بها‬
‫األشخاص الذين يتعرضون لها ماضيهم‪ ،‬ويفرسون ما حدث لهم‪ ،‬ومن ثم فهي ذات‬
‫تأثري عميق يف الكيفية التي يفهمون بها معنى وجودهم‪ .‬الجيل «إكس» كان أول‬
‫جيل يعيش «إعادة العرض ‪ »replay‬يف كل مكان‪ .‬اليوم‪ ،‬حلوى املادلني ‪madeleines‬‬
‫التي تستحرض ذكرياتنا أصبحت رقمية(‪.)18‬‬
‫حتى وقت قريب‪ ،‬كانت النظرة املتفائلة هي أن تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت َم َّكن َْت األشخاص من قولبة هوياتهم الشخصية‪ ،‬لكن املستقبل يبدو‬
‫‪103‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫مختلفا بعض اليشء‪ .‬الذكريات ا ُمل َس َّجلة متيل إىل تجميد وتعزيز طبيعة موضوعاتها‪.‬‬
‫كلام زادت الذكريات التي ُنراكمها و ُنخرجها‪ ،‬زادت القيود الرسدية التي نضعها‬
‫عىل بناء وتطور هوياتنا الشخصية‪ .‬إن زيادة ذاكرتنا تعني أيضا انخفاض درجة‬
‫الحرية التي رمبا نتمتع بها يف إعادة تعريف أنفسنا‪ ،‬فالنسيان هو جزء من عملية‬
‫بناء الذات‪ .‬رمبا يكون الحل املحتمل لألجيال القادمة هو أال يرسفوا يف أي يشء‬
‫مييل إىل بلورة طبيعة الذات‪ ،‬ويصريوا أكرث براعة يف التعامل مع مهارات جديدة‬
‫أو ُم َح َّسنة لبناء الذات‪ .‬إن التقاط‪ ،‬وتنقيح‪ ،‬وحفظ‪ ،‬وإدارة الذكريات الخاصة‬
‫بشخص ما لالستهالك الشخيص والعام‪ ،‬سوف تتزايد أهميتها ليس فقط فيام يخص‬
‫حامية الخصوصية املعلوماتية‪ ،‬كام سرنى يف الفصل الرابع‪ ،‬ولكن أيضا فيام يخص‬
‫بناء هوية شخصية بشكل صحي أكرث‪ .‬ينطبق اليشء نفسه عىل التفاعالت‪ .‬إن‬
‫تجربة الحياة دامئة االتصال (أون اليف ‪ )onlife‬ال تراعي الحدود بني البيئة املتصلة‬
‫باإلنرتنت ‪ online‬والبيئة غري املتصلة ‪ offline‬املختلفتني‪ .‬نتيجة لذلك‪ ،‬وكام سبق‬
‫أن ذكرت‪ ،‬يتزايد انخفاض نطاق األكاذيب الساذجة عن ذات ما عىل فيسبوك‪.‬‬
‫يف هذه الحالة‪ ،‬رمبا يكمن الحل يف خلق مزيد من القدرات والفضاءات األكرث‬
‫أمنا للتعبري عن الذات وبنائها (انظر عىل سبيل املثال دياسبورا ‪ ،Diaspora‬وهي‬
‫فيسبوك مفتوح املصدر)‪.‬‬

‫التصور‪ :‬النظرة املحدقة الرقمية‬


‫النظرة املحدقة هي ظاهرة مركبة‪ ،‬لها تاريخ عريق وتراث مثني من الدراسات‬
‫التحليلية(‪ .)19‬الفكرة مبارشة إىل حد ما‪ :‬إنها مشابهة لرؤية املرء نفسه كام يراه‬
‫اآلخرون‪ ،‬باستخدام مرآة («ماذا يرى الناس عندما يروين؟»)‪ .‬عىل رغم ذلك‪ ،‬الحظ أنه‬
‫ينبغي عدم الخلط بني هذا وبني أن يرى املرء نفسه يف مرآة (تصفح األنا أو الخيالء)‪.‬‬
‫باألحرى‪ُ ،‬تراقب الذات «مشاهدة نفسها» بواسطة أنفس أخرى (مبا يف ذلك‪ ،‬أو يف‬
‫بعض األحيان يكون يف املقام األول هي نفسها) من خالل وسط ما‪ .‬يف مجال تنمية‬
‫الطفل‪ ،‬يجري تنظري مرحلة التحديق عىل أنها مرحلة صحية وطبيعية متاما‪ ،‬يتعلم‬
‫خاللها الفرد أن يرى نفسه ُيقلد‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬كرسيا («كيف يراين الكريس؟»)‪ ،‬أو‬
‫ببساطة يضع نفسه مكان شخص آخر‪.‬‬
‫‪104‬‬
‫الهوية‪ :‬احلياة دائمة االتصال (أون اليف ‪)Onlife‬‬

‫النظرة املحدقة الرقمية هي نقل تلك الظاهرة إىل اإلنفوسفري‪ .‬تحاول الذات‬
‫أن ترى نفسها كام يراها اآلخرون‪ ،‬عن طريق االعتامد عىل تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت التي تسهل كثريا من اكتساب خربة التحديق‪ .‬يف النهاية‪ ،‬تستخدم الذات‬
‫التمثيل الرقمي لها بواسطة اآلخرين لتبني الهوية االفرتاضية التي تسعى من خاللها‬
‫إىل استيعاب الهوية الشخصية الخاصة بها (السؤال «من أنا بالنسبة إليك؟» يصري‬
‫«من أنا عىل اإلنرتنت؟»)‪ ،‬من املرجح أن تكون يف حلقة تغذية مرتدة متكررة من‬
‫التحسينات والتعديالت التي تؤدي إىل حالة اتزان أون اليف بني الذات غري املتصلة‬
‫وتلك املتصلة باإلنرتنت‪ .‬عملية املراقبة هي بشكل طبيعي دفينة وهي من دون‬
‫شك غري ُمعلنة‪ .‬عىل رغم ذلك‪ ،‬وبحكم طبيعتها‪ ،‬ينبغي أن ُتفهم النظرة املحدقة‬
‫الرقمية عىل أنها حالة مام يفرتض أنه املعرفة العامة للمراقبة ‪ -‬عرفنا بالفعل هذا‬
‫عرفت أنك تعرف أنني أعرف‪ ..‬إلخ‪ ...‬أن هذه هي‬ ‫َ‬ ‫املفهوم؛ إنه ما يحدث عندما‬
‫الطريقة التي أنت تراين بها ‪ -‬وباعتبارها تجربة خاصة ‪ -‬فإنها التزال مشاهديت‬
‫الخاصة يب لنفيس‪ ،‬حتى إذا أنا حاولت ‪ -‬قدر طاقتي ‪ -‬أن أتأكد من أن مثل هذه‬
‫املشاهدة تشبه ‪ -‬إىل حد كبري ‪ -‬رؤيتك يل‪ .‬إن الرتجمة الرقمية للنظرة املحدقة لها‬
‫آثار مهمة يف منو الهويات الشخصية‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬هناك التكبري‪ ،‬والتأجيل (فيام يتعلق بالسن)‪ ،‬وإطالة األمد (من حيث‬
‫الفرتة) لتجربة التحديق‪ .‬هذا يعني أن ميل النظرة املحدقة إىل أن تغري طبيعة‬
‫الذات التي تخضع لها يصبح سمة دامئة من سامت خربة الحياة دامئة االتصال‬
‫(أوناليف ‪ .)onlife‬الذات ُمفرطة الوعي ال تتوقف أبدا عن محاولة فهم الكيفية‬
‫التي ينظر بها اآلخرون إليها‪ .‬ثانيا‪ ،‬من خالل النظرة املحدقة الرقمية‪ ،‬ترى الذات‬
‫نفسها من منظور شخص ثالث‪ ،‬عن طريق مراقبة نفسها يف بديل مقيد بطبيعة‬
‫الوسط الرقمي‪ ،‬هذا البديل الذي يتيح انعكاسا جزئيا ومحددا فحسب‪ .‬وسوف‬
‫يبدو املرء كام لو أنه محصور يف النظر إىل نفسه من خالل مرآة مشوهة ال ُتتيح‬
‫الوصول إىل صور أخرى للذات‪ .‬ثالثا‪ ،‬قد يرتتب عىل تزايد قوة‪ ،‬وانتشار‪ ،‬وإتاحة‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬أن تصبح النظرة املحدقة الرقمية أكرث فتنة‪،‬‬
‫ورمبا يتوه املرء يف تصوره الخاص به لذاته‪ ،‬كام يحددها آخرون يف اإلنفوسفري‪.‬‬
‫وأخريا‪ ،‬فإن تجربة النظرة املحدقة الرقمية رمبا تبدأ من َت َع ُّرض أو استكشاف صحي‬
‫‪105‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫وم َت َع َمد من ِق َبل الذات لنفسها‪ ،‬من خالل وسيط‪ ،‬لكن اإللحاح االجتامعي قد‬
‫يفرضها عىل ذوات تتأثر بها عىل نحو سلبي‪ ،‬مام يؤدي بهم إىل تغيري أنفسهم‬
‫بطريقة ميكن أن تفرض بعض القواعد الخارجية والغريبة عىل عملية بناء هوية‬
‫املرء‪ .‬إن كنت ترى أنني أراك بطريقة ال تحبها‪ ،‬فإنك رمبا متيل إىل مواءمة وتعديل‬
‫ذاتك إىل أن ترضيك يف النهاية الطريقة التي ترى أنني أراك بها‪ ،‬وهذا رمبا ال يكون‬
‫صحيا بالرضورة‪.‬‬

‫أبدان من معلومات‪ :‬الصحة اإللكرتونية‬


‫السيد هوميه ‪ Homais‬هو إحدى الشخصيات غري املحبوبة يف الرواية الشهرية‬
‫«مدام بوفــــــاري» ‪ Madame Bovary‬التـــي كتبـــها غوستـاف فلوبـري‬
‫)‪ .Gustave Flaubert (1880 - 1821‬إنه الصيديل املخادع الذي تظاهر مبودة‬
‫عميقة لتشارلز بوفاري‪ ،‬زوج إميا‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬هو يدمر سمعته مع مرضاه باستمرار‪،‬‬
‫وبالتايل ُيسهم يف تدمري تشارلز‪ .‬السيد هوميه ليس مجرد رشير فقط‪ ،‬فهو رجل‬
‫أملعي‪ ،‬سبق أن أدين ملامرسته الطب من دون ترخيص؛ لذلك‪ ،‬فإنه يشعر بقدر من‬
‫القلق من أن ُيبلغ تشارلز السلطات عنه؛ بسبب أعامله غري املرشوعة‪ :‬من نصائح‬
‫صحية واستشارات شخصية كان يجريها بانتظام يف صيدليته‪ .‬ليس من املستغرب أن‬
‫تنجح ‪ -‬يف النهاية ‪ -‬مخططات الصيديل املخادعة‪ .‬يف تلك األيام كان معتادا أن يعمل‬
‫الحدادون والحالقون أطباء أسنان وأطباء برشيني (عىل أي حال‪ ،‬تشارلز أيضا مل يكن‬
‫طبيبا‪ ،‬ولكنه كان «موظف صحة» فحسب)‪ .‬كان يجب عىل املرىض واألطباء املقابلة‬
‫وجها لوجه للتواصل‪ ،‬وكان الوصول إىل املعلومات الصحية امتيازا للقالئل‪ .‬بطبيعة‬
‫الحال‪ ،‬كانت رسائل الربيد والتلغراف متاحة للعامة‪ ،‬ولكن مل يكن أي منهام يسمح‬
‫باملحادثات الفعلية‪.‬‬
‫ُنرشت رواية «مدام بوفاري» ‪ Madame Bovary‬عىل حلقات‪ ،‬يف العام‬
‫‪ ،1856‬وتحديدا قبل عرشين عامــــا من حصــــول ألكسنـــدر غراهام بيــــل‬
‫)‪ Alexander Graham Bell (1922 - 1847‬عىل براءة اخرتاع الهاتف الكهريب من‬
‫مكتب الواليات املتحدة لرباءات االخرتاع والعالمات التجارية‪ .‬مبجرد أن بدأت جميع‬
‫أنواع تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت ُتتيح إمكان إجراء االستشارات الرسيعة‬
‫‪106‬‬
‫الهوية‪ :‬احلياة دائمة االتصال (أون اليف ‪)Onlife‬‬

‫واالستجابات العاجلة‪ ،‬اكتسب كونك «رهن االستدعاء» ‪ on call‬معنى جديدا‪ ،‬ونشأ‬


‫ما ُيع َرف باسم التطبيب من ُبعد ‪ ،telemedicine‬وبدأ أمثال هوميه يف جميع‬
‫أنحاء العامل يجدون صعوبة متزايدة لكسب أرزاقهم‪ .‬إن النجاح الذي حققه الطب‪،‬‬
‫واستقرار الحالة الصحية‪ ،‬بناء عىل تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت‪ ،‬تكمن وراءهام‬
‫ظاهرتان وثالثة اتجاهات سائدة‪ ،‬تتفق مع نزع مادية األشخاص وتنميطهم‪ ،‬عىل‬
‫النحو الذي عرضناه يف الفصل الثاين‪.‬‬
‫الظاهرة األوىل‪ :‬هذه الظاهرة ميكن تسميتها «البدن الشفاف» ‪the transparent‬‬
‫‪ .body‬إن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت تمُ كننا من قياس‪ ،‬ومنذجة‪ ،‬ومحاكاة‪،‬‬
‫ومراقبة‪ ،‬وإدارة أجسامنا بعمق ودقة أكرث من أي وقت مىض‪ ،‬ومن دون جراحة؛‬
‫لذلك‪ ،‬هي أساسية ملنع أو لعالج مجموعة متنوعة ومتزايدة من األمراض‪ .‬ال غرابة‬
‫يف أنه من املتوقع أن تنمو اإليرادات العاملية ألجهزة املستهلك الطبية يف السنوات‬
‫املقبلة بشكل ُمطرد (كام هو مبني يف الشكل ‪.)18‬‬
‫ال ترتبط ظاهرة «البدن الشفاف» باألمراض فحسب‪ ،‬ولكنها ترتبط أيضا‬
‫بالرفاهــية بشكــــل عـــام؛ فوفقـــا لتقريــر صــادر عن أبحــاث جونيــرب‬
‫‪ ،)20(Juniper Research‬فإن السوق العاملي لألجهزة الذكية التي ميكن ارتداؤها‬
‫لرتاقب أنشطتنا الرياضية ومستويات لياقتنا البدنية‪ ،‬وتستطيع اقرتاح برامج‬
‫تدريبية جديدة‪ ،‬سوف تنمو مبيعاتها من ‪ 1,4‬مليار دوالر أمرييك يف العام ‪2013‬؛‬
‫لتبلغ ‪ 19‬مليار دوالر بحلول العام ‪ .2018‬والرصاع حول معصمك بني «ميكوتش»‬
‫‪ Micoach‬من أديداس ‪ ،Adidas‬و«فيول باند» ‪ Fuelband‬من ناييك ‪،Nike‬‬
‫و«موتواكتف» ‪ Motoactv‬من موتوروال ‪ ،Motorola‬وغريها من األدوات املامثلة‬
‫له ركيزة قوية تتعلق بالصحة‪ .‬رمبا ُيفرس هذا الرصاع عىل أنه تنافس عىل من‬
‫سوف ينجح يف أن يجعل أجسادنا شفافة وواضحة لنا بصورة أكرث فائدة وبهجة‪.‬‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت متكننا من استكشافنا بسهولة أكرب‪ ،‬وأدت‬
‫إىل زيادة نطاق التفاعالت املمكنة من خارج أجسادنا ومن داخلها (تكنولوجيا‬
‫النانو)‪ ،‬وإىل تزايد شفافية الحدود بني البدن والبيئة‪ ،‬من األشعة السينية إىل الرنني‬
‫املغناطييس الوظيفي ‪ .FMRI‬وبعد أن كنا صناديق سوداء‪ ،‬فإننا نتحول رسيعا إىل‬
‫صناديق بيضاء ميكننا أن نرى من خاللها‪.‬‬
‫‪107‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫املصدر‪ ,IHS Inc :‬سبتمرب ‪.2013‬‬


‫الشكل (‪ :)18‬توقعات اإليرادات العاملية ألجهزة املستهلك الطبية‪.‬‬

‫الظاهرة الثانية‪ :‬هذه الظاهرة ميكن تسميتها «البدن التشاريك» ‪the shared‬‬
‫‪ .body‬يف الوقت الحايل‪ ،‬ميكن أن ُينظر بسهولة إىل «بدين» عىل أنه «نوع» من‬
‫األبدان‪ ،‬وبالتايل يسهل التحول من «الظروف الصحية الخاصة يب» إىل «الظروف‬
‫الصحية التي أتشاركها مع اآلخرين»‪ .‬يصبح مقبوال‪ ،‬كأمر طبيعي‪ ،‬أكرث فأكرث‪ ،‬اعتبار‬
‫أحد ما أنه ليس فقط مصدر املعلومات (ما تخرب به الطبيب)‪ ،‬أو مالك املعلومات عن‬
‫نفسه (ملفك الشخيص لحالتك الصحية)‪ ،‬ولكن أيضا أنه قناة تنقل معلومات الحمض‬
‫النووي ‪ DNA‬والسامت البيولوجية املناظرة لها بني أجيال املايض واألجيال املقبلة‬
‫(إنك الجرس البيولوجي بني والديك وأبنائك)‪ .‬حاليا‪ ،‬يتاح الفحص الورايث الرسيع‬
‫بسهولة مقابل ‪ 99‬دوالرا أمريكيا‪.‬‬
‫ومن املزايا الواضحة التي متيز «البدن التشاريك» أنه رمبا يكون أقل شعورا‬
‫بالوحدة‪ ،‬وأعرض أمال‪ ،‬مع مزيد من السهولة يف انتشار أفضل املامرسات‪ ،‬ومزيد‬
‫‪108‬‬
‫الهوية‪ :‬احلياة دائمة االتصال (أون اليف ‪)Onlife‬‬

‫من الوقاية‪ ،‬والتخطيط األفضل‪ .‬أما الخطر الجدي‪ ،‬فهو ُمعامل أن «الجميع يفعل‬
‫ذلك»‪ :‬رمبا نقبل بأمر ما باعتباره طبيعيا‪ ،‬بناء عىل األرقام‪ ،‬ونتحول من الطابع الطبي‬
‫إىل التداول االجتامعي للخيارات أو العادات غري الصحية‪ .‬إذا أمكنني االنضامم إىل‬
‫مجموعة تؤيد قضم األظافر‪ ،‬فرمبا ينتهي يب األمر إىل الظن أن قضم األظافر ليس‬
‫اضطرابا يف السيطرة عىل االنفعاالت يحتاج إىل عالج‪ .‬من املثري لالهتامم أن هذه‬
‫الظواهر ُتغذي قضية الوعي ا ُملفرط («هوية من؟») التي عرضناها من قبل‪ ،‬ومشكلة‬
‫خصوصية املعلومات («معلومات من؟») التي سوف نتناولها يف الفصل الخامس‪،‬‬
‫فضال عىل احتامالت التمكني («خيارات من؟») التي سوف نتناولها بالتحليل يف‬
‫الفصلني السادس والسابع‪.‬‬
‫يتالزم «البدن الشفاف» و«البدن التشاريك» مع ثالثة اتجاهات سائدة رئيسية‪،‬‬
‫هي‪« :‬دمقرطة» ‪ Democratization‬املعلومات الصحية‪ ،‬وزيادة إتاحة املحتويات‬
‫املتعلقة بالصحة املتولدة من املستخدمني‪ ،‬والتداول االجتامعي للظروف الصحية‪.‬‬
‫الدمقرطة هنا تعني أن مزيدا ومزيدا من املعلومات تصبح متاحة‪ ،‬وميكن الوصول‬
‫إليها‪ ،‬ومملوكة لعدد متزايد من الناس‪ .‬لكن املرىض ليسوا مجرد مستهلكني متعطشني‬
‫للمعلومات الطبية‪ ،‬إنهم أيضا منتجون ناشطون ومتشاركون بكميات كبرية من‬
‫املحتوى املتعلق بالصحة‪ .‬واستخدام أسلوب وييك ‪ wikification‬للمعلومات الطبية‬
‫هو بالفعل ظاهرة مهمة وملموسة ذات آثار عاملية(‪ .)21‬كنتيجة إضافية‪ ،‬نحن نشهد‬
‫تداوال اجتامعيا للظروف الصحية بصورة غري مسبوقة‪ .‬وسبق أن ذكرت بالفعل خطرا‬
‫رئيسيا يتبع ذلك‪ .‬املزايا ميكن أن تكون عىل القدر نفسه من األهمية‪ ،‬إنك فقط تحتاج‬
‫إىل االطالع عىل «التصلب املتعدد» ‪ multiple sclerosis‬عىل موقع يوتيوب‪ ،‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬حتى ُتقدّر مدى سهولة وأهمية تأثري تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫يف تشكيل وتغيري شعورنا باالنتامء إىل مجتمع املرىض والقامئني عىل رعايتهم‪.‬‬
‫بالنظر إىل التحليل السابق‪ ،‬من الواضح ملاذا ذكر تقرير كنيدي ‪Kennedy‬‬
‫‪ Report‬يف اململكة املتحدة يف العام ‪ 2001‬أن‪:‬‬
‫كل الرعاية الصحية ُمنساقة باملعلومات‪ ،‬وبالتايل فإن التهديد‬
‫املصاحب للمعلومات الرديئة يشكل خطرا مبارشا عىل جودة خدمات‬
‫الرعاية الصحية وحوكمة خدمة الصحة الوطنية ‪.NHS‬‬

‫‪109‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫بحلول العام ‪ ،2018‬فإن عدد سكان العامل يف الفئة العمرية أكرب من ‪ 65‬عاما سوف‬
‫يفوق‪ ،‬ألول مرة يف تاريخ البرشية‪ ،‬عدد األطفال دون سن الخامسة (انظر الشكل ‪.)22()19‬‬

‫املصدر‪ :‬غري معروف (مجهول)‪.‬‬


‫الشكل (‪ :)19‬عامل آخد يف ال ِه َرم‪.‬‬

‫إننا نتقدم يف السن‪ ،‬ونصبح أكرث تعليام وأكرث ثراء؛ لذلك فإن الصحة اإللكرتونية‬
‫ال ميكن إال أن تصري بشكل متزايد مامرسة يومية شائعة‪ ،‬وتصري يف املستقبل واحدة‬
‫من ركائز الرعاية الطبية‪ ،‬ومن الواضح أنها سوف تكون مجال أعامل تقدر قيمتها‬
‫مبليارات الدوالرات‪ ،‬وحتام سوف يكون بعضها احتياال‪ .‬إن صندوق الرسائل الواردة يف‬
‫بريدك اإللكرتوين مملوء بالنصائح الطبية وباملنتجات الصيدالنية املريبة‪ ،‬التي بالطبع‬
‫مجدَدا إىل السيد هوميه الذي تعلمت منه إميا كيف تحصل عىل الزرنيخ الذي‬ ‫تقودنا َ‬
‫ستنفذ به انتحارها‪ .‬يف أثناء عذابها الرهيب‪ ،‬حاول زوجها يائسا «البحث يف قاموسه‬
‫الطبي‪ ،‬لكنه مل يستطع قراءته»‪ .‬يف الوقت الحارض‪ ،‬أنت لست يف حاجة إال إىل‬
‫ويكيبيديا املعتادة‪ ،‬ما عليك إال أن تبحث تحت عنوان «التسمم بالزرنيخ»‪ ،‬وسوف‬
‫تجد هناك التشخيص والعالج‪.‬‬
‫‪110‬‬
‫الهوية‪ :‬احلياة دائمة االتصال (أون اليف ‪)Onlife‬‬

‫التعليم اإللكرتوين‬
‫املوضوع األخري الذي أود أن أتطرق إليه يف هذا الفصل يستحق مساحة أكرب‪.‬‬
‫القليل من األشياء يؤثر فينا بقدر تفاعلنا بعضنا مع بعض‪ ،‬وهذا التأثري يكون أكرب‬
‫عندما تتعلق هذه التفاعالت بالنواحي الرتبوية‪ .‬الفكرة ليست جديدة‪ ،‬الجديد هو‬
‫التحدي الذي نواجهه عندما تحدث التفاعالت الرتبوية يف مجتمعات التأريخ ا ُملفرط‪،‬‬
‫أوناليف ‪.Onlife‬‬
‫رمبا كان هناك زمن تعاملنا فيه عىل نحو صحيح مع مفاهيم مثل‪:‬‬
‫« ُم َتحضرِّ »‪ ، civilized‬و« ُم َث َّقف»‪ ، cultured‬و« ُم َت َع ِّلم» ‪ educated‬عىل أنها‬
‫مرتادفة‪ .‬رمبا يتبادر إىل الذهن ثوسيديدس ‪( Thucydides‬نحو ‪ 395 - 460‬قبل‬
‫امليالد)‪ ،‬وشيشريون ‪ 34 - 106( Cicero‬قبل امليالد)‪ .‬يبدو أن بعض الشخصيـــات يف‬
‫روايــــات جني أوســــــنت ‪ ،)1817 - 1775( Jane Austen‬أو هـــــرني جيـــمـس‬
‫)‪ Henry James (1916 – 1843‬الروايئ (شقيق ويليام جيمس ‪William James‬‬
‫الذي التقيناه من قبل)‪ ،‬أو إديث وارتون )‪ Edith Wharton (1937 - 1862‬كانت‬
‫متيز‪ ،‬متييزا ضئيال‪ ،‬بني املفاهيم الثالثة املناظرة‪ .‬لكن مل تعد هذه الكلامت الثالث‬
‫تتداخل معا مطلقا‪ .‬إن كلمة « ُم َتحضرِّ » تشري إىل أخالق وسلوكيات شخص ما‪.‬‬
‫و« ُم َث َّقف» تطلق عىل شخص ما منشغل بالفنون واآلداب واألنشطة الفكرية األخرى‪.‬‬
‫أما « ُم َت َع ِّلم»‪ ،‬فتنطبق عادة عىل األشخاص الذين حرضوا وأمتوا بنجاح دورات تعليمية‬
‫أو تدريبية تقدمها مؤسسات التعليم االبتدايئ (األويل) أو الثانوي أو العايل‪ .‬ميكن‬
‫للمرء أن يكون أيا من الثالثة‪ ،‬من دون أن يكون أيا من االثنني اآلخرين‪.‬‬
‫ساهمت العوملة ‪ -‬إىل حد كبري ‪ -‬يف هذا التمييز‪ ،‬حتى إن كانت تدفعه يف‬
‫اتجاهني متعاكسني‪ ،‬محيل وعاملي‪ .‬عرف ميشيل دي مونتني(٭) (‪،)1592 - 1553‬‬
‫بالفعل أن كلمتي « ُم َتحضرِّ » و« ُم َث َّقف» لهام تفسريات محلية‪ .‬الفرق هو أننا اليوم‬
‫يتزايد شعورنا بأننا ليس لدينا مربر يف تفضيل «محلية» ما عىل األخريات‪ ،‬سواء‬
‫اتصلت هذه املحلية بريو دي جانريو أو نيودلهي أو بكني أو طوكيو‪ .‬نعرف أن مسألة‬
‫أن يخلع املرء نعليه أو يبقي عليهام يف قدميه‪ ،‬وهو داخل إىل مكان ما‪ ،‬هي مسألة‬

‫(٭) أحد أهم فالسفة عرص النهضة الفرنيس‪ ،‬روج لفن املقالة األدبية‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫سلوك حضاري‪ ،‬يتوقف عىل أين نحن ومن نزور‪ .‬نحن نقبل أن «أليس» رمبا تكون‬
‫ُم َث َّقفة رغم أنها ليس لديها أدىن فكرة عن موسيقى بوسا نوفا ‪ ،bossa nova‬أو رقصة‬
‫ساتريا ‪ ، Sattriya‬أو األوبرا السيتشوانية ‪ ،Sichuanese opera‬أو مرسح نوه ‪Noh‬‬
‫‪(theatre‬٭)‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬ليس بالرضورة أن يتمحور التعليم حول أي يشء من هذا‪.‬‬
‫منذ زمن بعيد‪ ،‬بدأ كل من التعليم اإللزامي‪ ،‬والتنظيم املؤسيس للتعليم والتعلم‪،‬‬
‫واملبادئ الرتبوية العاملية‪ ،‬وعوملة سوق العمل الفصل بني التعليم والتنشئة‪ .‬واليوم‪،‬‬
‫يتزايد االتجاه إىل تقييم مهندس إلكرتونيات الطريان‪ ،‬أو الباحث يف األدب املكسييك‪،‬‬
‫أو الطبيب النفساين‪ ،‬أو املتخصص يف االقتصاد الكيل‪ ،‬وفقا ملعايري عاملية دولية‪.‬‬
‫أدت تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت إىل مزيد من تضخيم وتسارع كال‬
‫االتجاهني؛ فهي بقدر ما تكشفنا بعضنا لبعض‪ ،‬تجعلنا ندرك أن كوننا ُم َتحضرِّ ين‬
‫أو ُم َث َّقفني هي مسألة نسبية‪ .‬إن اإلنفوسفري له كثري من النقاط (العقد)‪ ،‬ولكن ال‬
‫مركز أساسيا له؛ لذلك ال ميكن للمرء إال أن يكون إقليميا بصورة أو بأخرى‪ .‬لكن‬
‫بجعلنا نتشارك االحتياجات والتوقعات عىل نطاق عاملي‪ ،‬فإن تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت أيضا تجعلنا ُنقبل عىل مجموعات متامثلة من الحد األدىن للمعايري‬
‫التعليمية‪ .‬يف اإلنفوسفري‪ ،‬كونك متعلام أصبحت‪ ،‬عىل نحو متزايد‪ ،‬ظاهرة غري محلية‬
‫ومتجانسة وعاملية‪ .‬ليست املسألة نسبية ولكنها عالئقية‪ ،‬باملفهوم التايل‪.‬‬
‫يتعلق التعليم‪ ،‬إىل حد كبري‪ ،‬بنقل املعرفة وكيفية تنميتها‪ .‬مبفهوم أوسع‪ ،‬املعرفة‬
‫املعنية ال تشمل فقط االكتساب الرضوري للحقائق واملعادالت‪ ،‬ولكن تشمل أيضا فهم‬
‫وتثمني القيم والتفسريات‪ ،‬وأساليب املعيشة والتقاليد‪ ،‬والقدرات واملهارات‪ .‬هذه القامئة‬
‫غري مكتملة‪ ،‬لكن‪ ،‬يف كل حالة‪ ،‬يوجد التعليم حتام عالقة بني ا ُمل َت َع ِّلم ويشء آخر‪ .‬رمبا‬
‫تكون املعرفة املنقولة هي عن مكان ما أو مامرسة ما‪ ،‬أو هي أن هذا وذاك هام أو ليس‬
‫هام الحالة‪ ،‬أو هي ملاذا رمبا تكون أو رمبا ال تكون خالف ذلك‪ ،‬أو عن الكيفية التي يعمل‬
‫بها يشء ما‪ .‬و ُت ْخ َتبرَ صالبة العالقة بني ا ُمل َت َع ِّلم واملعرفة التي ُتن َقل‪ ،‬يف نهاية املطاف‪ ،‬عن‬
‫طريق سامت َت َع ُّقب الحقيقة وتوليد الحقيقة‪ .‬برصف النظر عن متى أو أين عاشت‬
‫(٭) بوسا نوفا‪ ،‬هي موسيقى برازيلية ظهرت يف الخمسينيات والستينيات من القرن العرشين‪ .‬وسرتيا‪ :‬موسيقى‬
‫هندية كالسيكية نشأت يف والية آسام‪ .‬وأوبرا سيتشوان ظهرت يف الصني يف القرن الثامن عرش‪ .‬ومرسح نوه أو نوغاكو‬
‫هو دراما موسيقية يابانية ظهرت يف القرن الخامس عرش‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫الهوية‪ :‬احلياة دائمة االتصال (أون اليف ‪)Onlife‬‬

‫«أليس»؟ ال ميكن القول إنها تعرف لوس أنجلوس إذا مل تكن يوما هناك‪ ،‬وإذا كانت‬
‫تعتقد أنها قرية إيطالية صغرية؛ وال ميكن القول إنها تعرف أن كوكب األرض منبسط؛ وال‬
‫ميكن القول إنها تعرف كيف تقود سيارة‪ ،‬إذا مل تكن قادت سيارة يف حياتها قط‪.‬‬
‫بطبيعة الحال‪ ،‬التاريخ أو الجغرافيا اللذان ُيد َّر َسان يف الصني رمبا يكونان مختلفني‬
‫متاما عن التاريخ أو الجغرافيا اللذين ُيد َّر َسان يف اليابان أو كوريا الجنوبية(‪ ،)23‬كام أن‬
‫بعض مقررات علم األحياء (البيولوجيا) يف الواليات املتحدة رمبا ال تكون دامئا مامثلة‬
‫للمقررات التعليمية نفسها التي تد َّرس يف أوروبا(‪ ،)24‬لذلك‪ ،‬فإن «أليس» و«بوب»‬
‫رمبا يتلقيان التعليم بشكل مختلف متاما‪ ،‬متناسبا مع البيئة التي نشآ فيها‪ .‬رغم ذلك‪،‬‬
‫ليست هذه هي املسألة‪ ،‬املسألة هي أن تقديرات أن املرء ُم َث َّقف و ُم َتحضرِّ يجب أن‬
‫يجري تنسيبها بدقة‪ ،‬بينام تقديرات أن املرء ُم َت َع ِّلم يجب أن تكون مطلقة‪ .‬هذا هو‬
‫السبب يف أنه من املنطقي أن نقارن نجاح تالميذ املدارس يف بلدان مختلفة‪ ،‬ولكن‬
‫ليس مستوى تطورهم الثقايف؛ كام متكن مقارنة جودة الجامعات يف العامل‪ ،‬ولكن ليس‬
‫درجة تحرض طالبها‪.‬‬
‫ومادام التعليم يقرتن باملعرفة‪ ،‬فعندما تتغري املعرفة‪ ،‬ينبغي أن يحذو التعليم‬
‫حذوها‪ .‬يف الوقت الحايل‪ ،‬يشهد مجتمع املعلومات منوا معرفيا هو األرسع يف تاريخ‬
‫البرشية‪ .‬إنه منو نوعي وكمي‪ ،‬يف كل من النطاق والوترية (اتساعا ورسعة)‪ .‬رأينا يف‬
‫الفصل األول بعض األدلة فيام يتعلق بالنمو الهائل للبيانات املتاحة‪ .‬ال يثري الدهشة‬
‫أن الزيادة املطردة (األسية) ملا ميكن أن ُينقل قد سببت أزمة كبرية يف كيفية تصورنا‬
‫للتعليم‪ ،‬وكيفية تنسيق نظمنا الرتبوية‪ .‬كان أحد ردود األفعال الشهرية الذي انترش‬
‫عىل نطاق واسع هو محاولة تحويل تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت من كونها‬
‫جزءا من املشكلة إىل أن تكون جزءا من الحل‪ ،‬وهذا ُم َث َّمن‪ ،‬ولكنه أيضا ُمش ِتت‪ .‬إن‬
‫التحدي الحقيقي للتعليم يف مجتمعات التأريخ ا ُملفرط هو بشكل متزايد ماذا نضع‬
‫يف املناهج الدراسية وليس كيف ُند ِّرسه؟‬
‫الكيفية سهلة‪ ،‬ليس ألنها من املمكن تنفيذها عمليا‪ ،‬بشكل بسيط ومبارش‪ ،‬ولكن‬
‫ألنها مفهومة بوضوح أكرث‪ .‬التكنولوجيات الرقمية يف الفصول الدراسية ظاهرة قدمية‪.‬‬
‫بعد قرن من مولد تورينغ‪ ،‬سارعت الجامعات إىل وضع مقرراتها (املساقات) عىل‬
‫شبكة اإلنرتنت‪ ،‬وازدهر سوق التعليم اإللكرتوين‪ .‬هناك كثري ميكن قوله ملصلحة التعلم‬
‫‪113‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫اإللكرتوين (من ُبعد)‪ ،‬عندما ال يكون شكال من أشكال «التعليم من دون ُمعلم»‪ ،‬أو‬
‫فقط شكال من أشكال االستعانة مبصادر خارجية (من التعهيد ‪ )outsourcing‬رخيصة‬
‫الثمن‪ .‬وكام يؤكد مؤيدوه محقني‪ ،‬فقد أتاح مخزونا هائال من املحتوى التعليمي‬
‫ملاليني من الناس‪ ،‬كام أنه يبرش بتقديم مزيد لعدد أكرب من أي وقت مىض‪ .‬إن‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت رمبا تسمح‪ ،‬بدرجة من التعديل وفقا للطلب‬
‫(التخصيص)‪ ،‬للتعليم بشكل غري مسبوق يف البيئات غري النخبوية‪ ،‬أي بإضفاء طابع‬
‫شخيص عىل الخربة التعليمية ملاليني األفراد‪ .‬لكن كل هذا هو مسألة سياسات‪ ،‬وطرق‪،‬‬
‫وأساليب‪ ،‬وتكنولوجيات توصيل‪ .‬وهذه‪ ،‬إذا جرى اتخاذها لتكون حال لكيفية تعليم‬
‫الجيل «زد» وغريه من األجيال التي تليه‪ ،‬فإننا بذلك نظن أن ُمس ِّكن األمل هو عالج‬
‫شاف‪ .‬ال يكمن املأزق الحقيقي يف الكيفية‪ .‬فنحن منذ أواخر الثامنينيات متحمسون‬
‫ملا ُيعرف باسم مووس ‪( MOOs‬نظم الواقع االفرتايض عىل اإلنرتنت القامئة عىل النص‬
‫والتي يتصل به آنيا عدة مستخدمني)‪ ،‬والنصوص التشعبية ‪ ،hypertexts‬ونظم الواقع‬
‫وسكند اليف‬ ‫االفرتايض التي تستخدم القفازات والنظارات‪ ،‬وهايربكارد ‪َ ،HyperCard‬‬
‫(الحياة الثانية)‪ ،‬واآلن املقررات (املساقات) الهائلة املفتوحة عرب اإلنرتنت (مووكس)‬
‫)‪ .Massive Open Online Courses (MOOCs‬وسوف يتبعها مزيد من الطرز‪،‬‬
‫ومزيد من االختصارات‪ .‬رغم ذلك فإن املأزق الحقيقي هو ماذا وليس كيف؟‬
‫ال توجد إجابة واضحة وثابتة عن سؤال ماذا؟ املتعلق بالتعليم يف مجتمعات‬
‫التأريخ ا ُملفرط‪ .‬ليس فقط ألننا مل نعش هذا العرص من قبل‪ ،‬ولكن أيضا ألن اإلجابة‪،‬‬
‫كام يف السابق‪ ،‬التزال تعتمد عىل اإلجابة عن سؤال آخر هو‪ :‬ملاذا التعليم؟ رغم‬
‫ذلك‪ ،‬ميكن لبعض االعتبارات ترسيم النطاق الذي ميكننا البحث فيه عن حل‪ .‬دعني‬
‫استخدم مثاال بسيطا من أجل تقديم هذه االعتبارات‪.‬‬
‫افرتض أن «أليس» متارس لعبة عىل الحاسب‪ .‬هناك أشياء هي تعرفها‪ ،‬مثل أن‬
‫هناك وحشا ُمختبئا‪ ،‬وهذه هي املعرفة التي لديها‪ .‬هناك أمور أخرى هي تعرف أنها‬
‫ال تعرفها‪ ،‬مثل املكان الذي يختبئ فيه الوحش‪ ،‬وهذا هو سبب أنها تبحث عنه‪.‬‬
‫هذا افتقار إىل املعرفة‪ ،‬أو ببساطة افتقار إىل الحكمة‪ .‬هناك مزيد من األشياء التي‬
‫هي ليست متأكدة متاما أنها تعرفها‪ ،‬مثل ما إذا كانت أسلحتها قوية مبا يكفي لقتل‬
‫الوحش‪ ،‬وهذا هو السبب يف أنها تحاول الحصول عىل مزيد منها‪ ،‬هذا هو ما لديها‬
‫‪114‬‬
‫الهوية‪ :‬احلياة دائمة االتصال (أون اليف ‪)Onlife‬‬

‫من عدم يقني‪ .‬أخريا‪ ،‬هناك أشياء هي ال تعرف حتى أنها ال تعرفها‪ ،‬مثل أن هناك سيفا‬
‫سحريا ميكن أن يقتل الوحش‪ ،‬هذا هو ما لديها من جهالة‪ .‬ميكننا أن نرتجم املثال إىل‬
‫مصطلحات معلوماتية‪ ،‬عىل النحو التايل‪:‬‬
‫‪ - 1‬معرفة‪ :‬معلومات لدى «أليس» (هناك وحش)‪.‬‬
‫‪ - 2‬افتقار إىل الحكمة‪ :‬معلومات تدري «أليس» أنها تنقصها (أين يختبئ‬
‫الوحش؟)‪.‬‬
‫‪ - 3‬عدم يقني‪ :‬معلومات «أليس» ليست عىل يقني منها (هل أسلحتي كافية‬
‫لقتل الوحش؟)‪.‬‬
‫‪ - 4‬جهالة‪ :‬معلومات ال تدري «أليس» أنها تنقصها (إذا علمت أنها ال ينقصها إال‬
‫حقيقة أن هناك سيفا سحريا!)‪.‬‬
‫دامئا هدف التعليم هو زيادة (‪ )1‬وخفض (‪ )2‬و(‪ )3‬و(‪.)4‬‬
‫فيام يتعلق بالعنرص (‪ ،)1‬يف عامل مغمور باملعلومات التي ميكن الوصول إليها‬
‫بسهولة‪ ،‬وبتكنولوجيات املعلومات واالتصاالت منخفضة السعر‪ ،‬وبقوى عاملة ُم َث َّقفة‬
‫وفرية‪ ،‬يصري من السهل زيادة املعارف األساسية‪ ،‬ومن ثم يسهل نجاح املقررات‬
‫(املساقات) الهائلة املفتوحة عرب اإلنرتنت (مووكس ‪ )MOOCs‬اعتامدا عىل املشاركة‬
‫التفاعلية والوصول املشاع من خالل الويب‪ .‬املشكلة التعليمية يف (‪ )1‬هي أن‬
‫املعلومات الجديدة تتطلب دامئا بعض املعلومات األساسية القدمية ليك تصبح ذات‬
‫معنى ومفيدة‪ ،‬وحتى ميكن اكتسابها بشكل حاسم‪ .‬لذلك‪ ،‬نحن يف حاجة إىل فهم َك ّم‬
‫ونوع املعلومات األساسية – أشياء يحتاج املرء إىل معرفتها‪ ،‬برصف النظر عن إمكان‬
‫االطالع عليها يف ويكيبيديا إذا لزم األمر‪ ،‬التي تحتاج «أليس» إىل اكتسابها ليك تكون‬
‫اليوم ُم َت َع ِّلمة‪.‬‬
‫فيام يتعلق بالعنرص (‪ ،)2‬ينبغي أن يبني لنا التعليم حدود معرفتنا‪ ،‬وما نوع‬
‫املعلومات الذي ليس لدينا‪ ،‬وإن كنا نرغب يف الحصول عليه‪ ،‬وبالتايل ذوق رفيع‬
‫للنوعية املناسبة من األسئلة التي ينبغي طرحها‪ .‬نحن جميعا نفتقر إىل الحكمة‪،‬‬
‫واليشء الذي ُيحدث فرقا هو كيف ميكننا التعامل مع درجة افتقارنا إىل الحكمة‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬تصري املشكلة التعليمية يف العنرص (‪ )2‬هي‪ :‬ما األشياء املجهولة التي يجب أن‬
‫تدرسها «أليس» لتكون اليوم عىل دراية؟‬
‫‪115‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫فيام يتعلق بالعنرص (‪ ،)3‬ينبغي أن يجعلنا التعليم حذرين بخصوص ما نعتقد‬


‫أننا نعرفه‪ ،‬ومن ثم يأيت دور فن التشكيك وتوجيه االنتقادات‪ ،‬حتى فيام يبدو أنه‬
‫مؤكد‪ .‬إننا جميعا غري معصومني وعرضة للخطأ‪ ،‬واليشء الذي ُيح ِدث فرقا هو كيف‬
‫ميكننا التعامل مع درجات قابلياتنا للخطأ‪ .‬لذلك‪ ،‬تصري املشكلة التعليمية يف العنرص‬
‫(‪ )3‬يف تحديد ما هي نواحي عدم التيقن التي يجب أن تدرسها «أليس» اليوم؟‬
‫أما بالنسبة إىل العنرص (‪ ،)4‬فهو مشكلة داخلية‪ ،‬ولهذا السبب ال ميكننا توصيفها‬
‫إال بالنسبة إىل «أليس» فقط‪ .‬إذا َع ِرفت «أليس» ما الذي ال تعرف أنه ينقصها‪ ،‬فإنها‬
‫سوف تصري يف النهاية مفتقرة إىل الحكمة أو غري متيقنة منه‪ ،‬وليست جاهلة به‪ .‬اآلن‪،‬‬
‫تخيل أننا ميكننا التحدث إىل «أليس»‪ :‬يف رضبة واحدة‪ ،‬ميكن أن نخربها أنها تفتقر‬
‫إىل بعض املعلومات عن وجود سيف سحري‪ ،‬بحيث يتم محو حالة معينة مام لديها‬
‫من جهالة‪ .‬هذا هو ما ميكن أن يقوم به التعليم اإللكرتوين األكرث عوملة عرب الحدود‬
‫الجغرافية والحواجز األكادميية‪ .‬ال ميكنه محو جهل البرشية‪ ،‬ولكن يمُ كنه أن يضع‬
‫كل إنسان عىل جانب واحد من الفجوة نفسها‪ ،‬حتى إذا كنا نجهل كبرش‪ ،‬وبحكم‬
‫التعريف‪ ،‬أين هي هذه الفجوة‪ .‬دعني أوضح باستخدام املثال نفسه‪.‬‬
‫لنفرتض أن «بوب» يعلم أنه ال يعرف أين السيف السحري‪ ،‬لكنه ال يدرك حتى‬
‫أنه تنقصه معلومة أن هناك وحشا يف الجوار‪ .‬إذا تشارك كل من «أليس» و«بوب»‬
‫افتقارهام إىل الحكمة‪ ،‬بذلك ميكنهام تقليل ما لديهام من جهالة‪ ،‬إذ إنهام معا سوف‬
‫يعلامن أنهام ال يعرفان أين الوحش‪ ،‬وأين السيف السحري؟ رمبا يبدو هذا هزليا‪،‬‬
‫ولكنه َت َح ُّسن كبري‪ .‬جرى تقليل الجهالة الداخلية (الباطنية)‪ ،‬حتى إن كان ذلك مل‬
‫يحدث للجهالة الخارجية (ما ال يدرك «أليس» و«بوب»‪ ،‬معا‪ ،‬أنه ينقصهام ‪ -‬تخيل أن‬
‫كال منهام يجهل وجود حكيم)‪.‬‬
‫فيام ذكرته حتى اآلن‪ ،‬تبقى املشكلة قامئة بني الحقائق واملهارات‪ .‬هل األكرث‬
‫أهمية هو تعليم «أليس» أن الوحش له سبعة رؤوس‪ ،‬وأنها تحتاج إىل قطع تلك‬
‫الرؤوس بالرتتيب حتى تقتل الوحش؟ أم تعليم «أليس» كيفية قطع تلك الرؤوس؟‬
‫إنك عىل الفور ترى الطبيعة املضللة لثنائية الحقائق مقابل املهارات‪ .‬إن «أليس» يف‬
‫حاجة إىل كال نوعي املعرفة‪ ،‬أو أنها لن تفوز يف اللعبة‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬اليوم‪ ،‬وألن كثريا من‬
‫املعلومات هي عىل بعد نقرة‪ ،‬يبدو أن هناك ميال إىل تفضيل «تعرف كيف ‪know-‬‬
‫‪116‬‬
‫الهوية‪ :‬احلياة دائمة االتصال (أون اليف ‪)Onlife‬‬

‫‪( how‬الدراية بالتطبيقات)» عىل «تعرف َّأن ‪( know-that‬املعرفة الذهنية)»‪ .‬إن‬


‫هذا سخيف‪ ،‬السيام إذا تذكرنا أهمية املعلومات األساسية التي جرى التأكيد عليها من‬
‫قبل‪ .‬إنه مضلل أيضا‪ ،‬إذا أدى تفضيل الدراية بالتطبيقات إىل ترويج ثقافة املستخدمني‬
‫واملستهلكني فقط‪ ،‬بدال من ثقافة املصممني واملنتجني أيضا‪ .‬إن مجتمع املعلومات‬
‫هو مجتمع تصنيعي حديث فيه املعلومات هي املادة الخام التي ُننتجها و ُنشغلها‪،‬‬
‫وهي أيضا ا ُملنتَج النهايئ الذي نستهلكه‪ .‬يف مثل هذا املجتمع‪ ،‬عندما يتعلق األمر‬
‫باملهارات‪ ،‬فإننا حقا بحاجة إىل وضع مزيد من االهتامم مبا يشار إليه باسم «معرفة‬
‫الصانع» ‪ ،maker’s knowledge‬وهي املعرفة التي يتمتع بها أولئك الذين يعرفون‬
‫كيفية تصميم وإنتاج املصنوعات اليدوية‪ ،‬أي أولئك الذين لديهم معرفة كيفية إيجاد‬
‫وتصميم وتحويل املعلومات‪ .‬هذا قوله أسهل من فعله‪ ،‬ألن ثقافتنا الغربية تعتمد‬
‫عىل فجوة يونانية عميقة متأصلة بني إبيستم (اإلبيستمولوجيا) ‪( episteme‬العلم‬
‫و«املعرفة الذهنية») التي هي قيمة عالية ومحرتمة‪ ،‬وبني تقني ‪( techne‬التكنولوجيا‬
‫و«الدراية بالتطبيقيات») التي ُينظر إليها عىل أنها ثانوية‪ .‬فكر يف كيفية تقييم‬
‫مجتمعنا للمهارات «املهنية» والتدريب «املهني»‪ .‬كام رأينا من فورنا مع «أليس»‬
‫والوحش‪ ،‬إنها ثنائية زائفة‪ .‬إنها أيضا تركز كثريا عىل الجانب الخطأ من العملة‪.‬‬
‫باستخدام مثالنا السابق‪ ،‬لعبة املعرفة تشتمل عىل العبني‪ ،‬ومشاهدين‪ ،‬ومصممني؛‬
‫فالتعليم القائم عىل الحقائق والتعليم القائم عىل املهارات هام إسرتاتيجيتان تخصان‬
‫الالعبني‪ .‬كالهام يخاطب «أليس» عىل أنها مستخدم للمعلومات‪ ،‬وليس باعتبارها‬
‫منتجا للمعلومات‪ .‬يكمن الخطر يف تنمية ردة فعل تعرف باسم «املقصورة الفاخرة»‬
‫‪ luxury box‬التي فيها يستمتع مشاهدو لعبة املعرفة من دون أن يلعبوا فعليا‪.‬‬
‫جرت العادة عىل أن ُيطلق عليها اسم الربج العاجي‪ .‬يف الوقت ذاته‪ ،‬فإن جزءا مهام‬
‫من العمل الحقيقي للتعليم يجري عىل مستوى مصمم اللعبة‪.‬‬
‫إننا يف حاجة إىل تعليم «أليس» ا ُلمستَخ ِدمة كيف تلعب لعبة املعرفة بنجاح‪،‬‬
‫وتعليم «أليس» ا ُمل َث َّقفة كيفية مالحظة ودراسة اللعبة بدقة وبطريقة انتقادية‪،‬‬
‫وتعليم «أليس» املصممة كيف تبتكر اللعبة بأكملها بشكل مالئم‪ .‬لذلك يصبح‬
‫السؤال‪ :‬أي نوع من القدرات يجب علينا تفضيله وتعليمه لجيل الغد من أمناء‬
‫ومنتجي ومصممي املعلومات؟ الجواب يبدو واضحا جدا بالنسبة إ َّيل‪ ،‬وهو‪ :‬اللغات‬
‫‪117‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫التي يتم بها إيجاد املعلومات ومعالجتها‪ ،‬والوصول إليها‪ ،‬واستهالكها‪ .‬أنا ال أعني‬
‫بهذا‪ ،‬فقط‪ ،‬اللغة األم للمرء‪ ،‬تلك التي ُي َعد التمكن التام منها أوىل الخطى األساسية‬
‫الرضورية ألي شكل آخر من التعليم‪ .‬أنا أعني أيضا اللغة اإلنجليزية (أو أي لغة سوف‬
‫تكون يوما ما الوسيط الدويل لالتصال)‪ ،‬والرياضيات‪ ،‬والربمجة‪ ،‬واملوسيقى‪ ،‬والغرافيك‬
‫(الرسم والتصوير)‪ ،‬وجميع تلك اللغات الطبيعية واالصطناعية التي تحتاج «أليس»‬
‫واألجيال الجديدة إىل أن تتقنها و َت َربع فيها يف مرحلة مبكرة من تنميتهم‪ ،‬من أجل‬
‫أن يكونوا قادرين عىل الفهم الدقيق للمعلومات املمكن الوصول إليها‪ ،‬وقادرين عىل‬
‫إيجاد وتصميم معلومات جديدة‪ ،‬وتشاركها مع اآلخرين‪.‬‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت لديها قدرة هائلة عىل إتاحة املعلومات؛‬
‫وهي أقل نجاحا يف التمكني من الوصول إىل املعلومات‪ ،‬وهي حتى أقل من ذلك‬
‫نجاحا يف متكيننا من استخدامها‪ .‬جرب القراءة عن ُمفردة علمية (انتق تخصصك‬
‫العلمي) يف ويكيبيديا‪ ،‬واالحتامل األكرب هو أن قدرا كبريا مام تقرأ سيكون ُمبهام‪،‬‬
‫إذا كنت ال تتحدث اللغة املناسبة‪ .‬إن مزيدا من إتاحة املعلومات وإمكان الوصول‬
‫إليها بشكل أفضل هو قضايا تقع عىل عاتق مقدمي املعلومات‪ ،‬لكن إنتاج وتصميم‬
‫املعلومات يف بداية عملية اإلتاحة‪ ،‬وسهولة استخدام وفهم املعلومات التي ميكن‬
‫الوصول إليها يف نهاية عملية اإلتاحة‪ ،‬هي قضايا تنطوي عىل قدر تعليم «أليس»‪ .‬إن‬
‫تعلم اللغات يكون أفضل ونحن صغار السن‪ .‬وإجادة اللغة ليست مسألة حقائق‬
‫ُحفظت يف الذاكرة‪ ،‬أو مهارات ُمورست‪ ،‬ولكنها قدرات جرى صقلها بعناية‪ .‬تحتاج‬
‫«أليس» إىل تعلم لغات املعلومات يف سن ُمبكرة قدر اإلمكان‪.‬‬

‫الخالصة‬
‫يف هذا الفصل‪ ،‬ويف الفصلني األول والثاين‪ ،‬أوضحت كيف أحدثت تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت بعض التحوالت املهمة يف تأريخنا (تأريخ ُمفرط)‪ ،‬ويف بيئتنا‬
‫(إنفوسفري)‪ ،‬ويف منو ذواتنا (تجربة الحياة املتصلة دامئا – أوناليف ‪ .)onlife‬يبدو‬
‫أن يف جذور مثل هذه التحوالت تغريا فلسفيا عميقا يف وجهات نظرنا بشأن مكاننا‬
‫«املتميز» ودورنا يف الكون‪ .‬إنها ثورة رابعة يف فهمنا لذواتنا‪ ،‬كام سأناقشها يف‬
‫الفصل الرابع‪.‬‬
‫‪118‬‬
‫َفهم الذات‪ :‬الثورات األربع‬

‫‪4‬‬

‫َفهم الذات‪ :‬الثورات األربع‬

‫الثورات الثالث األوىل‬


‫ُيغري العلم من فهمنا بطريقتني أساسيتني‪،‬‬
‫ميكن أن ُتسمى إحداهام ُمنفتحة (انبساطية)‬
‫‪ ،extrovert‬أو عن العامل‪ ،‬واألخرى انطوائية‬
‫( ُمنغلقة) ‪ ،introvert‬أو عن أنفسنا‪ .‬حدثت‬
‫يف املايض ثالث ثورات علمية كان لها أثر‬
‫كبري يف ال ُبعدين ا ُملنفتح واالنطوايئ عىل حد‬
‫السواء‪ .‬تلك الثورات أثرت يف تغيري فهمنا للعامل‬
‫الخارجي‪ ،‬كام أنها غريت مفهومنا بشأن من‬
‫نكون‪ ،‬أي فهمنا لذاتنا‪ .‬القصة معروفة‪ ،‬لذلك‬
‫«حدثت يف املايض ثالث ثورات‬
‫سوف أرسدها رسيعا بعض اليشء‪.‬‬ ‫علمية كان لها أثر كبري يف ال ُبعدين‬
‫ا ُملنفتح واالنطوايئ عىل حد السواء‪.‬‬
‫نحن اعتدنا أن نظن أننا يف مركز الكون‪،‬‬ ‫تلك الثورات أثرت يف تغيري فهمنا‬
‫حيث وضعنا الخالق يف هذا املوضع الرائع‪.‬‬ ‫للعامل الخارجي‪ ،‬كام أنها غريت‬
‫مفهومنا بشأن من نكون‪ ،‬أي فهمنا‬
‫كان احتالل ذلك املوضع مبعث راحة واطمئنان‬ ‫لذاتنا»‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫عظيمـــــني‪ ..‬يف العـــام ‪ 1543‬نشـــر نيكــــوالس كوبرنيكـــــوس ‪Nicolaus‬‬


‫)‪ Copernicus (1543-1473‬أطروحته عن حركات الكواكب حول الشمس‪ ،‬بعنوان‬
‫«عن دوران األجرام الساموية ‪On the Revolutions of Celestial Bodies (De‬‬
‫‪ .»)Revolutionibus Orbium Coelestium‬رمبا مل يكن يقصد كوبرنيكوس أن‬
‫يبدأ «ثورة» يف فهمنا لذاتنا أيضا‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬فإن تأسيسه لعلم الكونيات‬
‫املتمركز حول الشمس أزاح إىل األبد األرض من مركز الكون‪ ،‬وجعلنا ُنعيد النظر‪ ،‬بكل‬
‫ما تحمله الكلمة من معنى‪ ،‬يف مكاننا ودورنا يف هذا الكون‪ .‬سبب ذلك إحداث تغيري‬
‫عميق يف وجهات نظرنا تجاه الكون‪ ،‬حتى أصبحت كلمة «ثورة(٭) ‪»revolution‬‬
‫مقرتنة بالتحول العلمي الجذري‪.‬‬
‫نحن نتعامل مع تبعات الثورة الكوبرنيكية منذ وقوعها‪ .‬يف الواقع‪ ،‬كثريا ما يقال‬
‫إن أحد أهم اإلنجازات الستكشافاتنا الفضائية كان التأمل من الخارج‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫تأمل ظروفنا اإلنسانية‪ .‬لقد مكنتنا مثل هذه االستكشافات من أن نرى من الفضاء‬
‫الخارجي كوكب األرض وسكانه مثل كوكب صغري وهش‪ .‬بالطبع‪ ،‬مل يكن هذا ممكنا‬
‫إال بفضل تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ .‬يبني الشكل الرقم ‪ 20‬صورة طبق‬
‫األصل ملا هو عىل األرجح أول صورة لكوكبنا التقطها القمر االصطناعي األمرييك‬
‫«إكسبلورر ‪ »6‬يف ‪ 14‬أغسطس ‪.1959‬‬
‫بعد الثورة الكوبرنيكية‪ ،‬تراجعنا عن التشبث بإمياننا مبحوريتنا عىل األقل عىل‬
‫كوكب األرض‪ .‬أما الثورة الثانية‪ ،‬فقد حدثت يف العام ‪ ،1859‬عندما نرش تشارلز‬
‫داروين )‪ Charles Darwin (1882 - 1809‬كتابه أصل األنواع عن طريق االنتخاب‬
‫الطبيعي ‪ ،On the Origin of Species by Means of Natural Selection‬أو‬
‫بقاء السالالت املفضلة يف الرصاع من أجل الحياة ‪Preservation of Favoured‬‬
‫‪ .Races in the Struggle for Life‬نّبي داروين يف عمله أن جميع سالالت الحياة‬
‫تطورت عىل مر السنني من أسالف مشرتكة عن طريق االنتخاب الطبيعي‪ .‬هذه‬
‫املَ ّرة‪ ،‬كانت كلمة «تطور ‪ »evolution‬هي التي اكتسبت معنى جديدا‪.‬‬
‫(٭) الكلمة يف عنوان أطروحة كوبرنيكوس تعني «دوران»‪ ،‬وهو ما أصبح يشري‪ ،‬منذ القرن الخامس عرش‪ ،‬يف اللغة‬
‫الفرنسية‪ ،‬إىل تحول أو انقالب جذري من حال إىل حال يف الشؤون العامة‪ ،‬ثم بدأ الفرنسيون‪ ،‬والعامل من ورائهم‬
‫يستخدمونها لإلشارة إىل تحول سيايس شامل‪ ،‬منذ إنهاء حكم آل ستيوارت يف إنجلرتا‪ ،‬يف ‪[ .1688‬املحرر]‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫َفهم الذات‪ :‬الثورات األربع‬

‫بإذن من وكالة الفضاء األمريكية (ناسا)‪ ،‬الصورة الرقم ‪ ،59-EX-16A-VI‬بتاريخ ‪ 14‬أغسطس ‪.1959‬‬

‫الشكل (‪ :)20‬أول صورة لكوكب األرض‪ ،‬التقطت بالقمر االصطناعي األمرييك‬


‫إكسبلورر ‪ُ .6‬تبني الصورة منطقة من املحيط الهادي األوسط ُمضاءة بضوء الشمس‬
‫وغطاءها السحايب‪ .‬اإلشارات ُأرسلت إىل النقطة الجنوبية‪ ،‬محطة هاواي للتتبع‪،‬‬
‫عندما كان القمر االصطناعي مير فوق املكسيك‪.‬‬
‫أدت النتائج العلمية الجديدة إىل إزاحتنا من مركز اململكة البيولوجية‪ .‬كام هي‬
‫الحال مع الثورة الكوبرنيكية‪ ،‬يجد كثري من الناس أن هذا غري سار‪ .‬يف الواقع‪ ،‬اليزال‬
‫بعض الناس يقاوم فكرة التطور‪ ،‬السيام عىل أسس دينية‪ .‬لكن معظمنا قد تخطاها‪،‬‬
‫وواسينا أنفسنا بنوع مختلف من األهمية ودور مركزي جديد يف مكان مختلف‪،‬‬
‫دور يتعلق بحياتنا العقلية‪.‬‬
‫‪121‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫وعىل رغم أننا مل نعد يف مركز الكون وال يف مركز اململكة الحيوانية‪ ،‬فقد كنا‬
‫نظن أننا النزال نتحكم يف محتويات عقولنا‪ ،‬كنا نظن أننا الساللة املسؤولة متاما عن‬
‫األفكار الخاصة بها‪ .‬يرجع تاريخ هذا الدفاع إىل محوريتنا يف فضاء الوعي‪ ،‬ببساطة‬
‫شديدة‪ ،‬إىل عمل رينيه ديكارت )‪ .René Descartes (1650 - 1596‬فمقولته‬
‫فس عىل أنها تعني أيضا أن مكانتنا‬ ‫املشهورة «أنا أفكر‪ ،‬إذن أنا موجود» ميكن أن ُت رَّ‬
‫الخاصة يف الكون ينبغي تحديدها عقليا وليس فلكيا أو بيولوجيا‪ ،‬بقدرتنا عىل‬
‫التأمل الواعي لذاتنا‪ ،‬بشفافية تامة لها‪ ،‬وبسيطرة عليها‪ .‬عىل الرغم من كوبرنيكوس‬
‫وداروين‪ ،‬رمبا اليزال ميكننا إعادة االحتشاد ثانية خلف حصن الديكارتية‪ .‬يف هذا‬
‫املوضع‪ ،‬ميكننا أن نتباهى بأن لدينا منفذا واضحا وتاما إىل محتويات عقولنا‪ ،‬من‬
‫األفكار إىل الدوافع‪ ،‬من العواطف إىل املعتقدات‪ .‬ظن علامء النفس أن التأمل هو‬
‫نوع من رحلة داخلية الكتشاف مساحات عقلية‪ .‬وبقي وليام جيمس ‪William‬‬
‫‪ James‬يعترب التأمل منهجية علمية ميكن االعتامد عليها‪ .‬كان العقل مثل صندوق‪،‬‬
‫وكل ما كان يلزمك القيام به ملعرفة محتوياته هو أن تنظر يف داخله‪.‬‬
‫حطم هذا‬ ‫إن سيغموند فرويد )‪ Sigmund Freud (1939 - 1856‬هو الذي ّ‬
‫الوهم من خالل عمله يف التحليل النفيس‪ .‬كانت هذه هي الثورة الثالثة‪ .‬دفع‬
‫فرويد بأن العقل هو الشعوري أيضا ويخضع آلليات دفاعية مثل الكبت‪ .‬يف الوقت‬
‫الحارض‪ ،‬نحن نعرتف بأن معظم ما نقوم به هو الشعوري‪ ،‬وكثريا ما يقوم العقل‬
‫الواعي بعد ذلك ببناء الروايات املنطقية لتربير أفعالنا‪ .‬نحن نعلم أنه ال يسعنا‬
‫فحص محتويات عقولنا بالطريقة نفسها التي نفحص بها محتويات ما لدينا من‬
‫أقراص صلبة‪ .‬جرت إزاحتنا من مركز مملكة الوعي ال َب ْحت والشفاف‪ .‬نحن ُنقر بأننا‬
‫ُمعتَمون ألنفسنا‪.‬‬
‫بطبيعة الحال‪ ،‬هناك كثري من الشكوك حول التحليل النفيس باعتباره مدرسة‬
‫علمية‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬ومن الناحية الثقافية‪ ،‬ميكن للمرء أن يتقبل أن فرويد كان‬
‫ذا تأثري يف الرشوع بإزاحة ثوابتنا الديكارتية جذريا‪ .‬مل َي ُعد «الوعي» بعد فرويد‪،‬‬
‫أبدا‪ ،‬مثلام كان عليه قبله‪ ،‬ولكننا رمبا نكون مدينني له فلسفيا أكرث منا علميا‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫رمبا ُنفضل استبدال التحليل النفيس بالعلوم العصبية املعارصة كمرشح أرجح ملثل‬
‫هذا الدور العلمي الثوري‪ .‬يف كلتا الحالتني‪ ،‬نحن ُنقر اليوم بأننا لسنا ثابتني يف مركز‬
‫‪122‬‬
‫َفهم الذات‪ :‬الثورات األربع‬

‫الكون (الثورة الكوبرنيكية)‪ ،‬وأننا لسنا منفصلني بصورة غري طبيعية ومختلفني عن‬
‫بقية اململكة الحيوانية (الثورة الداروينية)‪ ،‬وأننا بعيدون عن أن نكون ذوي عقول‬
‫ديكارتية واضحة متاما ألنفسنا (الثورة الفرويدية أو ثورة العلوم العصبية)‪.‬‬
‫رمبا يتساءل املرء ببساطة عن قيمة تفسري هذه الثورات الثالث يف فهمنا لذاتنا‪.‬‬
‫يف نهاية األمر‪ ،‬كان فرويد نفسه هو أول من فرسها عىل أنها جزء من عملية واحدة‬
‫إلعادة تقييم الطبيعة اإلنسانية بشكل تدريجي‪ .‬كان تفسريه‪ ،‬باعرتاف الجميع‪،‬‬
‫باألحرى لخدمة الذات‪ .‬عىل رغم ذلك‪ ،‬فإن هذا الخط من التفكري يصيب مالحظة‬
‫قيمة‪ ،‬وميكن أن يكون مفيدا لفهم ثورة املعلومات يف سياق مامثل‪ .‬يف أيامنا هذه‪،‬‬
‫عندما ندرك أن هناك شيئا مهام جدا وعميقا يحدث لحياة اإلنسان‪ ،‬فأنا أزعم أن‬
‫حدسنا سيكون حاد اإلدراك‪ ،‬ألننا نواجه ما ميكن وصفه بأنه ثورة رابعة يف عملية‬
‫خلع وإعادة تقييم جوهر طبيعتنا ودورنا األسايس يف الكون‪.‬‬

‫الثورة الرابعة‬
‫بعد الثورات الثالث‪ ،‬أهناك أي موضع حيث ميكننا أن نتحصن ونحن ُمعتدّون‬
‫بأنفسنا؟ كان الفيلسوف الفرنيس وعامل الالهوت بليز باسكال ‪Blaise Pascal‬‬
‫)‪ (1662 - 1623‬قد أشار شعريا إىل واحد من هذه املواضع‪ .‬ففي إحدى مقوالته‬
‫الشهرية‪ ،‬أشار إىل أن‬
‫اإلنسان ما هو إال ريشة‪ ،‬أوهن يشء يف الطبيعة‪ ،‬لكنه ريشة ُتفكر‪ .‬الكون‬
‫بأكمله ال يحتاج إىل أن يتسلح ليك يسحقه‪ .‬البخار‪ ،‬قطرة ماء واحدة تكفي‬
‫لقتله‪ .‬لكن‪ ،‬إذا كان الكون ليسحقه‪ ،‬سوف يظل اإلنسان أنبل من هذا الذي‬
‫قتله‪ ،‬ألنه يعلم أنه ميوت والكون ال يعرف شيئا عن امليزة التي هو يتفوق‬
‫بها عليه‪ .‬إذن كل عزتنا تتمثل يف التفكري؛ الذي ينبغي علينا رفع أنفسنا به‪،‬‬
‫وليس باملكان والزمان اللذين ال ميكننا ملؤهام‪[ .‬اإلبراز مضاف](‪.)1‬‬
‫بعد ذلك بقرون‪ ،‬بقيت ِعزة باسكال القامئة عىل التفكري بال منازع من الثورات‬
‫الثالث التي صادفناها آنفا‪ .‬رمبا اليزال بإمكاننا أن نتمسك بالرأي القائل إن مكانتنا‬
‫الخاصة يف الكون مل تكن يف علم الفلك‪ ،‬أو يف علم األحياء‪ ،‬أو يف الوضوح العقيل‪،‬‬
‫ولكنها تكمن يف قدراتنا العليا عىل التفكري‪ .‬لقد كان هذا هو خط الدفاع الضمني‪،‬‬
‫‪123‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫الذي اليزال قامئا‪ ،‬عن مكاننا االستثنايئ يف هذا الكون‪ .‬كان الذكاء‪ ،‬واليزال‪ ،‬خاصية‬
‫غامضة إىل حد ما‪ ،‬ويصعب تعريفه‪ ،‬ولكننا كنا عىل ثقة بأنه ليس هناك مخلوق‬
‫آخر عىل وجه كوكب األرض يفوقنا ذكاء‪ .‬وكلام برزت مهمة تطلبت قدرا من التفكري‬
‫الذيك‪ ،‬كنا نحن األفضل إىل حد بعيد‪ ،‬وال تنافس يف ذلك إال فيام بيننا‪ .‬كنا نظن أن‬
‫الحيوانات غبية‪ ،‬وأننا أذكياء‪ ،‬وبدا هذا كنهاية ُم َط ْم ِئنة للقصة‪ .‬وبكل ثقة‪ ،‬افرتضنا‬
‫أننا يف مركز اإلنفوسفري‪ ،‬وال يشاركنا فيه أي مخلوق أريض آخر‪.‬‬
‫كان هذا خط دفاع خطريا‪ ،‬واملفارقة أن باسكال ذاته ساعد عىل تقويضه‪ ،‬إذ‬
‫نرش يف العام ‪« ،1645‬رسالة إهداء» قصرية كان قد أرسلها إىل بيري سيغويه ‪Pierre‬‬
‫)‪ ،Séguier (1672 - 1588‬املستشار العديل للدولة الفرنسية‪ .‬رمبا يقرع هذا االسم‬
‫ناقوسا ألن سيغويه يظهر يف رواية «الفرسان الثالثة» ‪،The Three Musketeers‬‬
‫ويتعامل مع رسالة رقيقة‪ ،‬لكنها رسالة مختلفة‪ .‬كانت وثيقة باسكال بعنوان‬
‫«اآللة الحسابية» ‪،)2()Machine d’arithmétique) Arithmetical Machine‬‬
‫ووصف فيها جهازا حسابيا جديدا كان قد بناه لوالده ملساعدته عىل التعامل‬
‫مع الحسابات املرهقة التي تقتضيها وظيفته كمرشف عىل الرضائب يف روان‬
‫‪ .Rouen‬متكنت اآللة من تنفيذ العمليات الحسابية األربع بشكل تام بفضل بعض‬
‫الحلول الذكية(‪ .)3‬هذه اآللة ُتعرف اليوم باسم «باسكالينا ‪ ،»Pascalina‬وكانت‬
‫اآللة الحاسبة امليكانيكية الوحيدة العاملة يف القرن السابع عرش‪ .‬كانت تجسيدا‬
‫لنجاح مؤكد‪ ،‬والتزال تسع آالت منها باقية‪ .‬كان لهذه اآللة تأثري هائل يف تاريخ‬
‫اآلالت الحاسبة وعىل غوتفريد اليبنتز )‪ ،Gottfried Leibniz (1716 - 1646‬عامل‬
‫الرياضيات والفيلسوف األملاين الكبري الذي ابتكر النظام الرقمي الثنايئ الحديث‪،‬‬
‫الذي يعترب‪ ،‬بحق‪ ،‬أول عامل يف مجال الحاسب وواضع نظريات املعلومات‪ .‬كتب‬
‫باسكال يف رسالته‪:‬‬
‫عزيزي القارئ‪ ،‬أوجه إليك هذا اإلخطار ألبلغك بأين أقدم للجمهور آلة‬
‫صغرية من اخرتاعي‪ ،‬ميكنك بواسطتها القيام بجميع العمليات الحسابية‬
‫من دون أي عناء‪ ،‬وتخفف عنك العمل الذي يكون يف كثري من األحيان‬
‫متعبا لعقلك (روحك ‪ ،)esprit‬عندما كنت تعمل باستخدام عالمة ‪token‬‬
‫(فيشة ‪ )4()jeton‬أو بالقلم(‪.)5‬‬

‫‪124‬‬
‫َفهم الذات‪ :‬الثورات األربع‬

‫رمبا ألن باسكال كان رجال متدينا‪ ،‬فإنه مل ير أي تعارض بني وجهة نظره أن «كل‬
‫عزتنا تتمثل يف التفكري» وبني قدرات آلته الحسابية‪ .‬ومل يسعه إال أن يتصور التعاون‬
‫املثمر بني والده وآلته باسكالينا‪ .‬فرتك مهمة تقديم الحلقة املفقودة لفيلسوف غريه‬
‫عىل الجانب اآلخر من بحر املانش‪.‬‬
‫بعد مرور ست سنوات عىل نرش باسكال لرسالته‪ ،‬ويف العام ‪ ،1651‬نرش توماس‬
‫هوبز )‪ ،Thomas Hobbes (1679 - 1588‬أحد املفكرين السياسيني األكرث تأثريا يف‬
‫كل العصور‪ ،‬رائعته‪« :‬اللفياثان» (التنني) أو «مادة وشكل وسلطة الجمهورية الدينية‬
‫واملدنية» ‪Leviathan or The Matter, Forme and Power of a Common‬‬
‫)‪ .Wealth Ecclesiasticall and Civil(6‬ليس هذا بالكتاب الذي تتوقع أن تجد‬
‫فيه جذور مجتمعنا املعلومايت بصورة محددة‪ ،‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬ويف الفصل الخامس‬
‫منه‪ ،‬برزت فكرة رائدة دخلت ثقافتنا ألول مرة‪:‬‬
‫ألن «التدبر» بهذا املفهوم ليس إال «حسابا»‪ ،‬بالجمع والطرح‪ ،‬لنتائج‬
‫تسميات عامة ُم ّت َفق عليها «لوسم» و«تبيان» أفكارنا‪ .‬أقول «لوسم» عندما‬
‫نقوم بالحساب بأنفسنا‪ ،‬و«تبيان» حني نوضح حساباتنا أو نقرها أمام آخرين‪.‬‬
‫التفكري كان التدبر‪ ،‬والتدبر كان الحساب‪ ،‬والحساب كان ممكنا بفضل‬
‫باسكالينا‪ .‬لقد ُغرست بذور الثورة الرابعة‪ .‬أعفتنا أجيال باسكالينا التالية ليس فقط‬
‫من أعاملنا املرهقة ذهنيا‪ ،‬ولكنها أعفتنا أيضا من دورنا املحوري باعتبارنا العنارص‬
‫الذكية الوحيدة يف اإلنفوسفري‪.‬‬
‫مل يأخذ باسكال يف اعتباره احتامل أننا سوف نقوم بهندسة وتصميم آالت‬
‫مستقلة ذاتيا تستطيع أن تتفوق علينا يف معالجة املعلومات بصورة منطقية‪ ،‬ومن‬
‫ثم تكون سلوكيا أكرث منا ذكاء كلام كانت معالجة املعلومات هي كل املطلوب إلنجاز‬
‫مهمة ما‪ .‬صار اإلغفال جليا مع عمل آالن تورينغ ‪ ،Alan Turing‬أيب الثورة الرابعة‪.‬‬
‫خلعنا تورينغ من مكانتنا املتميزة والفريدة يف مملكة التفكري املنطقي‪،‬‬
‫ومعالجة املعلومات‪ ،‬والسلوك الذيك‪ .‬مل نعد سادة اإلنفوسفري بال منازع‪ .‬فأجهزتنا‬
‫الرقمية تنفذ مزيدا ومزيدا من املهام التي تتطلب منا بعض التفكري عندما نكون‬
‫يف موضع املسؤولية‪ُ .‬أرغمنا مجددا عىل التخيل عن موضع كنا نظن أنه «فريد من‬
‫نوعه»‪ .‬إن لتاريخ كلمة «حاسب ‪ »computer‬داللته‪ .‬فبني القرنني السابع عرش‬
‫‪125‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫والتاسع عرش‪ ،‬كانت هذه الكلمة مرادفا لـ «شخص ُيجري العمليات الحسابية»‪،‬‬
‫ألنه ببساطة مل يكن هناك أي يشء آخر يف الكون ميكنه إجراء العمليات الحسابية‬
‫ذاتيا‪ .‬يف العام ‪ ،1890‬عىل سبيل املثال‪ ،‬أجرت الخدمة املدنية األمريكية اختبارا‬
‫تنافسيا لشغل منصب «حاسب» اشتمل عىل أقسام «قواعد اإلمالء والتهجئة‪ ،‬وفن‬
‫الخط والكتابة‪ ،‬والنسخ‪ ،‬وكتابة الخطابات‪ ،‬والجرب‪ ،‬والهندسة‪ ،‬واللوغاريتامت‪،‬‬
‫وعلم حساب املثلثات(‪ .)7‬كانت فكرة هوبز حول أن التفكري هو الحساب التزال‬
‫مسيطرة‪ .‬لكن بحلول الوقت الذي نرش فيه تورينغ أطروحته الكالسيكية بعنوان‬
‫«آالت الحوسبــــة والذكاء »‪،)8(Computing Machinery and Intelligence‬‬
‫كان يتحتم عليه يف بعض الحاالت أن يحدد أنه يتحدث عن «حاسب إنسان»‪،‬‬
‫فبحلول العام ‪ 1950‬كان قد علم أن كلمة «حاسب» مل تعد تستخدم‪ ،‬فقط‪ ،‬لإلشارة‬
‫إىل الشخص الذي يجري العمليات الحسابية‪ .‬يف أعقاب تورينغ‪ ،‬فقدت متاما كلمة‬
‫«حاسب» دالالتها األنرثوبولوجية‪ ،‬وبالطبع أصبحت مرادفا لآللة العامة األغراض‪،‬‬
‫والقابلة للربمجة‪ ،‬التي نسميها اآلن آلة تورينغ ‪.Turing machine‬‬
‫بعد العمل الرائد الذي قام به تورينغ‪ ،‬مارست علوم الحاسب وتكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت ذات الصلة عىل فهمنا تأثريا ُمنفتحا (انبساطيا) وانطوائيا‬
‫(منغلقا) معا‪ .‬فهي قدمت إىل وقائعنا املادية واالصطناعية رؤى علمية غري مسبوقة‪،‬‬
‫وكذلك قدمت قوى هندسية للتحكم فيها‪ .‬كام أنها سلطت ضوءا جديدا عىل من‬
‫نكون نحن‪ ،‬وكيف نرتبط بالعامل وبعضنا ببعض‪ ،‬ومن ثم كيف نتصور أنفسنا‪.‬‬
‫ومثلام فعلت الثورات الثالث السابقة‪ ،‬أزالت الثورة الرابعة اعتقادا خاطئا بشأن‬
‫تفردنا‪ ،‬وقدمت أيضا الوسيلة املفاهيمية ملراجعة فهمنا لذاتنا‪ .‬إننا نتقبل بروية‬
‫فكرة ما بعد تورينغ يف أننا لسنا عنارص نيوتونية‪ ،‬ومستقلة‪ ،‬وفريدة من نوعها‪،‬‬
‫أو ما يشبه روبنسون كروزو(٭) ‪ Robinson Crusoe‬عىل جزيرته‪ .‬نحن باألحرى‬
‫كائنات حية معلوماتية (إنفورغز ‪ ،)inforgs‬متصلة بعضها ببعض وجز ٌء ال يتجزأ من‬
‫بيئة معلوماتية (اإلنفوسفري) نتشاركها مع عنارص وسيطة (وكالء) معلوماتية أخرى‪،‬‬
‫طبيعية واصطناعية‪ ،‬هي أيضا تعالج املعلومات بصورة منطقية وبشكل مستقل‪.‬‬
‫(٭) بطل رواية دانييل ديفو التي صدرت بهذا االسم يف العام ‪[ .1719‬املحرر]‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫َفهم الذات‪ :‬الثورات األربع‬

‫سوف نرى يف الفصل السادس أن مثل هذه العنارص الوسيطة (الوكالء) ليست ذكية‬
‫مثلنا‪ ،‬ولكنها تستطيع بسهولة أن تفوقنا براعة يف عدد متزايد من املهام‪.‬‬

‫اإلنفورغات‬
‫ذكرنا آنفا أننا من املحتمل أن نكون الجيل األخري الذي يشهد فرقا واضحا بني‬
‫بيئة متصلة بشبكة حاسوبية ‪ online‬وأخرى غري متصلة ‪ .offline‬فبعض الناس‬
‫يقضون بالفعل معظم أوقاتهم يف حياة دامئة االتصال بشبكة حاسوبية (أوناليف‬
‫‪ ،)onlife‬وبعض املجتمعات تعيش بالفعل بأسلوب التأريخ ا ُملفرط‪ .‬إذا كان بيتك‬
‫هو حيث توجد البيانات الخاصة بك‪ ،‬فمن املحتمل أنك تعيش بالفعل يف غوغل‬
‫إيرث ‪ Google Earth‬ويف السحابة ‪ .cloud‬فالعديد من العنارص الوسيطة (الوكالء)‬
‫االصطناعية والهجني (مزيج من االصطناعي والبرشي؛ خذ يف االعتبار املرصف‪ ،‬عىل‬
‫سبيل املثال)‪ ،‬تتفاعل بالفعل مع البيئات الرقمية كعنارص وسيطة (وكالء) رقمية‪،‬‬
‫وألن هذه العنارص الوسيطة (الوكالء) لها طبيعة البيئة نفسها‪ ،‬فبوسعها أن تعمل‬
‫داخلها بكثري من الحرية والسيطرة‪ .‬إننا‪ ،‬عىل نحو متزايد‪ُ ،‬ن َف ِّوض أو َنع َهد إىل عنارص‬
‫وسيطة (وكالء) اصطناعية بذاكراتنا وقراراتنا واملهام الروتينية التي نقوم بها‪ ،‬وغري‬
‫ذلك من األنشطة بأساليب من شأنها أن تصبح تدريجيا متكاملة معنا‪ .‬كل هذا‬
‫معروف جيدا وذو صلة بفهم اإلزاحة الناجمة عن الثورة الرابعة‪ ،‬فيام يتعلق مبا‬
‫نحن ال نكونه‪ .‬عىل رغم ذلك‪ ،‬فليس هذا ما أشري إليه عند التحدث عن اإلنفورغات‬
‫‪ ،inforgs‬الذي تدعونا الثورة الرابعة لنظن أننا رمبا نكونه‪ .‬يف الواقع‪ ،‬ينبغي أن‬
‫أحذركم من أنه هناك عىل األقل ثالث حاالت أخرى مرجحة لالعتقادات الخاطئة‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬الثورة الرابعة معنية‪ ،‬بشكل سلبي‪ ،‬بـ «تفردنا» املفقود أخريا (نحن مل‬
‫نعد يف مركز اإلنفوسفري)‪ ،‬وبشكل إيجايب‪ ،‬هي معنية بأسلوبنا الجديد لفهم أنفسنا‬
‫باعتبارنا إنفورغات‪ .‬ينبغي عدم الخلط بني الثورة الرابعة والرؤية الخاصة بالبرشية‬
‫«السايبورغية»(٭)‪ .‬هذا خيال علمي‪ .‬أن تتجول وقد انغرس يف أذنك يشء ما مثل‬
‫(٭) من كلمة ‪ Cyborg‬وهو الشخص االفرتايض الذي يعتمد أداء وظائفه الفسيولوجية عىل أدوات أو تجهيزات‬
‫ميكانيكية أو إلكرتونية تصبح جزءا من جسمه‪ ،‬كمنظم نبضات القلب أو الركبة الصناعية أو العدسات عىل اختالفها‪.‬‬
‫[املحرر]‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫سامعة الرأس الالسلكية التي تعمل بتكنولوجيا بلوتوث ال يبدو أنه أفضل طريقة‬
‫للميض قدما‪ ،‬ألسباب ليس أقلها أنها تتعارض مع الرسالة االجتامعية التي هي أيضا‬
‫معنية بتوجيهها‪ :‬إن كونك رهن االستدعاء ‪ 24‬ساعة يف اليوم سبعة أيام يف األسبوع‬
‫هو شكل من أشكال العبودية‪ ،‬وأي شخص مشغول ومهم للغاية ينبغي أن يكون‬
‫لديه مساعده الشخيص بدال من ذلك‪ .‬ميكن تطبيق منطق مامثل عىل األجهزة‬
‫األخرى التي ميكن ارتداؤها‪ ،‬مبا يف ذلك نظارات غوغل ‪ .Google Glass‬الحقيقة‬
‫باألحرى هي أن الناس لن ُي ْق ِبلوا عىل أن يكونوا نوعا من سايبورغ ‪ ،cyborg‬ولكن‬
‫عىل العكس‪ ،‬هذا ما سوف يحاولون تجنبه‪ ،‬إال إذا كان ال مفر منه‪ .‬إذا مل يكن‬
‫هذا واضحا‪ ،‬فتأمل املحاوالت الجارية للتخلص من شاشات العرض ملصلحة عرض‬
‫الصورة عىل الجسد‪ ،‬إىل درجة أنه ميكنك طلب رقم هاتف باستخدام لوحة مفاتيح‬
‫افرتاضية تظهر عىل راحة يدك‪ .‬هذا سيناريو واقعي‪ ،‬لكنه ليس ما أعنيه عندما‬
‫أشري إىل تطور اإلنفورغات‪ .‬تخيل يف املقابل تجربتك الحالية لطلب رقم مبجرد أن‬
‫تنطقه ألن هاتفك «يفهمك»‪ .‬أنت وهاتفك اآلن تتشاركان البيئة نفسها باعتباركام‬
‫اثنني من العنارص املعلوماتية‪.‬‬
‫ثانيا‪ ،‬عند تفسري أنفسنا عىل أننا كائنات حية معلوماتية‪ ،‬فأنا ال أشري إىل ظاهرة‬
‫«االستعانة مبصادر عقلية خارجية ‪ »mental outsourcing‬الواسعة االنتشار‪،‬‬
‫والتكامل مع تكنولوجياتنا اليومية‪ .‬نحن بالطبع نعتمد بشكل متزايد عىل مجموعة‬
‫متنوعة من األجهزة ألداء مهام حياتنا اليومية‪ ،‬وهذا يشء مثري لالهتامم‪ .‬عىل رغم‬
‫ذلك‪ ،‬فالنظرة التي وفقا لها رمبا ُتد َرج األجهزة‪ ،‬واألدوات‪ ،‬واملعاونات أو الركائز‬
‫البيئية األخرى كأجزاء مالمئة من «عقولنا املوسعة ‪ »extended minds‬قد عفى‬
‫عليها الزمن‪ .‬إنها التزال قامئة عىل عنرص ديكاريت‪ ،‬مستقل بذاته ومسؤول متاما عن‬
‫البيئة اإلدراكية التي يحكمها ويستخدمها من خالل بديالت ذهنية تعويضية‪ ،‬من‬
‫الورقة والقلم الرصاص إىل الهاتف الذيك‪ ،‬من ا ُملفكرات اليومية إىل الحاسب اللوحي‪،‬‬
‫من عقدة يف منديل إىل جهاز الحاسب‪.‬‬
‫وأخريا‪ ،‬فأنا ال أشري إىل البرشية املعدلة وراثيا‪ ،‬املسؤولة عن الحمض النووي‬
‫املعلومايت الخاص بها‪ ،‬واملسؤولة‪ ،‬بالتايل‪ ،‬عن تجسيداتها املستقبلية‪ .‬هذه النزعة‬
‫ال َبعد إنسانية هي يشء رمبا نراه يف املستقبل‪ ،‬عندما ُتزال عنها ادعاءاتها األكرث‬
‫‪128‬‬
‫َفهم الذات‪ :‬الثورات األربع‬

‫خيالية وأسطورية‪ ،‬ولكنها مل تظهر بعد‪ ،‬سواء من الناحية الفنية (قابلية التنفيذ‬
‫اآلمن) أو من الناحية األخالقية (القبول األديب)‪ .‬إنه منظور مستقبيل‪.‬‬
‫ما يدور يف ذهني هو باألحرى أكرث هدوءا‪ ،‬وأقل إبهارا‪ ،‬لكنه تغري أكرث أهمية‬
‫وعمقا يف مفهومنا ملا يعنيه كونك إنسانا‪ .‬فتكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫املتاحة لدينا بشكل اعتيادي تفوقنا ذكاء وأداء‪ .‬إنها «تحسب» أفضل منا‪ .‬ولهذا‬
‫السبب‪ ،‬فهي تعدِّل أو تستحدث البيئة التي نعيش فيها‪ .‬لقد بدأنا نفهم أنفسنا‬
‫عىل أننا إنفورغات‪ ،‬ليس من خالل بعض التحوالت البيوتكنولوجية (التكنولوجية‬
‫الحيوية) يف أجسامنا؛ لكن‪ ،‬وبصورة أكرث جدية وواقعية‪ ،‬من خالل التحول الجذري‬
‫يف بيئتنا والعنارص الوسيطة (الوكالء) التي تعمل بداخلها‪ .‬كام سوف نرى يف الفصل‬
‫السابع‪ ،‬لقد بدأت تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬يف العديد من املجاالت‪،‬‬
‫بالفعل‪ ،‬اللعب معنا يف اإلنفوسفري باعتبارها الفريق «ا ُملضيف» وباعتبارنا نحن‬
‫الفريق «الزائر»‪.‬‬

‫تكنولوجيات التحسني واالزدياد وإعادة الهندسة‬


‫أخرجت الثورة الرابعة إىل النور الطبيعة املعلوماتية ا ُملتأصلة يف هوية‬
‫بعض‬
‫اإلنسان‪ .‬وهذا أمر يشعرنا بالتواضع‪ ،‬فنحن نتقاسم هذا الطابع مع ٍ‬
‫من األدوات األذىك التي صنعناها بأيدينا‪ .‬أيا كان اليشء الذي ُيع ّرفنا عىل أننا‬
‫متفردون‪ ،‬فهو مل يعد أننا أفضل من بعض تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫يف لعب الشطرنج‪ ،‬أو التدقيق اإلماليئ ملستند أو ترجمته إىل لغة أخرى‪ ،‬أو‬
‫حساب املدار لقمر اصطناعي‪ ،‬أو إيقاف سيارة يف محل االنتظار‪ ،‬أو الهبوط‬
‫بطائرة‪ .‬ال ميكنك الفوز عىل تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت‪ ،‬حتى يف لعبة‬
‫عشوائية مثل لعبة «طوبة ورقة مقص»‪ ،‬ألن الروبوت رسيع جدا ويستطيع يف‬
‫واحد من األلف من الثانية أن يتعرف عىل الشكل الذي تصنعه بيدك‪ ،‬ويختار‬
‫حركة الفوز‪ ،‬ويكمل ذلك آنيا تقريبا‪ .‬ولو مل يكن لديك ما يكفي من املعرفة‪،‬‬
‫لظننت أنه يقرأ أفكارك‪.‬‬
‫الثورة الرابعة تنويرية أيضا‪ ،‬ألنها متكننا من فهم أنفسنا بشكل أفضل‪ ،‬عىل‬
‫أننا كائنات حية معلوماتية من نوع خاص‪ .‬هذا ال يعني أن لدى الواحد منا أنا‬
‫‪129‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫بديلة رقمية ُمتحولة‪ ،‬أو أننا زمرة من السادة هايد(٭) الذين متثلهم عالمات @‪ ،‬أو‬
‫املدونات‪ ،‬أو التغريدات‪ ،‬أو ‪(https‬٭٭)‪ .‬هذه النقطة البديهية ال ُتشجعنا إال عىل أن‬
‫نخطئ تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت لنحسبها مجرد تكنولوجيات للتحسني‪،‬‬
‫مع بقائنا يف مركز اإلنفوسفري‪ .‬ينبغي أيضا عدم الخلط بني طبيعتنا املعلوماتية‬
‫و«الظل البيانايت ‪ ،»data shadow‬الذي هو بطريقة أخرى مصطلح مفيد لتوصيف‬
‫ملف تعريف رقمي ‪ digital profile‬يتولد من البيانات املتعلقة بعادات املستخدم‬
‫عىل اإلنرتنت‪ .‬إن التغيري أعمق‪ ،‬وليك نفهمه‪ ،‬يتعني أن نتأمل التمييز بني تكنولوجيات‬
‫التحسني ‪ enhancing‬وتكنولوجيات االزدياد ‪.augmenting‬‬
‫إن مقابض أو مفاتيح التبديل أو األقراص ذات التدريج التي ُتستخدم لتحسني‬
‫تكنولوجيات مثل الفؤوس والبنادق وآالت الحفر‪ ،‬هي واجهات بينية تهدف إىل‬
‫وصل الجهاز يف جسم ا ُملستَخ ِدم بطريقة إرغونومية(٭٭٭) مريحة‪ .‬هذا أقرب إىل‬
‫فكرة السايبورغ‪ .‬يف املقابل‪ ،‬فإن لوحات البيانات ولوحات التحكم املستخدمة يف‬
‫تكنولوجيات االزدياد هي واجهات بني بيئات مختلفة‪ .‬عىل أحد جانبي الواجهة‪،‬‬
‫هناك البيئة الخارجية لإلنسان ُمستَخ ِدم التكنولوجيا؛ وعىل الجانب اآلخر‪ ،‬هناك‬
‫البيئة الخاصة بالتكنولوجيا‪ .‬بعض األمثلة هي بيئة آلة غسل الصحون التي هي‬
‫ديناميكية ومائية وصابونية وساخنة ومظلمة؛ أو ما يمُ اثلها من بيئة مائية وصابونية‬
‫وساخنة و ُمظلمة لكنها أيضا بيئة دوارة يف آلة غسل املالبس؛ أو بيئة الرباد التي‬
‫تكون ثابتة ومعقمة وغري صابونية وباردة ومن املحتمل أن تكون مضيئة‪ .‬هذه‬
‫التكنولوجيات ميكن أن تكون ناجحة ألن لها بيئات «ملفوفة (مغلفة)» ومضبوطة‬
‫متاما حول قدراتها‪ .‬هذه هي ظاهرة «تغليف العامل ‪»enveloping the world‬‬
‫التي سوف أحللها يف الفصل السابع‪ .‬اآلن‪ ،‬عىل رغم بعض املظاهر السطحية‪،‬‬
‫فإن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت ليست مجرد تكنولوجيات تحسني أو‬

‫(٭) السيد هايد هو ‪ Mr. Edward Hyde‬الوجه الخفي الرشير لشخص عصايب طيب املظهر هو الدكتور جيكل يف‬
‫رواية «الحالة الغريبة للدكتور جيكل ومسرت هايد ‪،)The Strange Case of Dr. Jekyll and Mr. Hyde (1886‬‬
‫التي سيتحدث عنها املؤلف يف الفصل الخامس من هذا الكتاب‪[ .‬املحرر]‪.‬‬
‫(٭٭) بروتوكول نقل النصوص التشعبية امل َؤ َّمن‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬
‫(٭٭٭) اإلرغونوميا ‪ ،Ergonomics‬أو الهندسة اإلنسانية هي املختصة بدراسة التفاعل بني الجسم البرشي‪،‬‬
‫واملكونات األخرى املحيطة‪ ،‬بهدف تحقيق حياة آمنة وأداء أفضل‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫َفهم الذات‪ :‬الثورات األربع‬

‫تكنولوجيات ازدياد باملعنى الذى رُشح منذ قليل‪ .‬إنها قوى ُت َغيرّ جوهر عاملنا ألنها‬
‫تستحدث و ُتعيد هندسة الواقع بأرسه الذي يمُ َكن بعد ذلك أن يسكنه ا ُملستَخ ِدم‪،‬‬
‫وتكون واجهاتها البينية الرقمية مبنزلة بوابات (عادة ما تكون مألوفة وسهلة‬
‫االستخدام)‪ .‬دعني أرضب لك مثاال‪.‬‬
‫بالنظر إىل تاريخ فأرة الكمبيوتر ‪ ،mouse‬يكتشف املرء أن تكنولوجياتنا ليست‬
‫كمستَخ ِدمني‪ .‬أخربين دوغالس‬ ‫كمستَخ ِدمني‪ ،‬ولكنها أيضا تعلمنا ُ‬
‫فقط تتكيف معنا ُ‬
‫إنغلربت )‪ ،Douglas Engelbart (2013 - 1925‬مخرتع الفأرة‪ ،‬ذات َم ّرة أنه قد‬
‫قام بتجربة لوضع الفأرة أسفل املكتب‪ ،‬بحيث يقوم ا ُملستَخ ِدم بتشغيلها مستخدما‬
‫ماض حيث‬ ‫ركبته‪ ،‬وذلك بهدف أن تبقى يداه حرتني‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬نحن قادمون من ٍ‬
‫كانت اآلالت الكاتبة ُتستَخدَم بنجاح أكرث باالعتامد عىل كلتا اليدين‪ .‬لحسن الحظ‪،‬‬
‫مل تسلك قصة الفأرة الطريق ذاتها التي سلكتها لوحة املفاتيح كويريت ‪،QWERTY‬‬
‫التي مل تتغلب عىل القيود األوىل التي فرضتها اآلالت الكاتبة القدمية(‪ .)9‬ونحن نتوقع‬
‫اليوم أن نتمكن من ملس الشاشة مبارشة‪ .‬إن التفاعل بني اإلنسان والحاسب هو‬
‫عالقة متامثلة‪.‬‬
‫بالعودة إىل التمييز املبديئ‪ ،‬فإن الواجهة البينية آللة غسل الصحون هي لوحة‬
‫تدخل اآللة من خاللها إىل بيئة ا ُملستَخ ِدم‪ ،‬يف حني أن الواجهة البينية لتكنولوجيا‬
‫املعلومات واالتصاالت هي بوابة يدخل ا ُملستَخ ِدم من خاللها إىل منطقة من‬
‫اإلنفوسفري وميكنه الوجود بها(‪ .)10‬هذه الخاصية األساسية إليجاد وفتح فضاءات‬
‫جديدة هي أساس العديد من االستعارات املكانية مثل «الفضاء اإللكرتوين أو‬
‫السيرباين ‪ ،»cyberspace‬و«الواقع االفرتايض ‪ ،»virtual reality‬و«وجودك متصل‬
‫باإلنرتنت ‪ ،»being online‬و«ركمجة الويب ‪ ،»surfing the Web‬و«بوابة‬
‫‪ ،»gateway‬وغري ذلك‪.‬‬
‫نحن نشهد هجرة تاريخية غري مسبوقة و ُتنبئ ببزوغ عهد جديد‪ ،‬هجرة للبرشية‬
‫من فضائها النيوتوين املادي إىل اإلنفوسفري ذاته كبيئة جديدة لها‪ ،‬وذلك ألسباب‬
‫ليس أقلها أن اإلنفوسفري يستحوذ عىل املجال النيوتوين املادي‪ .‬نحن باعتبارنا‬
‫مهاجرين رقميني‪ ،‬مثل الجيل «إكس» والجيل «واي»‪ُ ،‬نستَبدل باملواطنني الرقميني‬
‫األصليني‪ ،‬مثل الجيل «زد»‪ ،‬هذا الجيل الذي سوف يأيت ليأنس عدم وجود فرق‬
‫‪131‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫جوهري بني اإلنفوسفري والعامل املادي‪ ،‬ليس سوى تغيري يف املنظور‪ .‬وعندما تكتمل‬
‫الهجرة‪ ،‬حديس هو أن الجيل «زد» سوف يزداد شعوره بأنه محروم‪ ،‬أو ُمستَب َعد‪ ،‬أو‬
‫ُم َع َّوق‪ ،‬أو فقري إىل درجة الشلل والصدمة النفسية كلام انقطع اتصاله باإلنفوسفري‪،‬‬
‫متاما مثل سمكة خرجت من املاء‪ .‬يف يوم من األيام‪ ،‬سوف يصبح من الطبيعي جدا‬
‫أن نكون إنفورغات‪ ،‬إىل درجة أن أي اضطراب يف التدفق الطبيعي للمعلومات‬
‫سوف يجعلنا ُم ْع َت ّلني‪.‬‬

‫الخالصة‬
‫يف ضوء الثورة الرابعة‪ ،‬رصنا نفهم أنفسنا عىل أننا كائنات تعيش مع مثيالتها من‬
‫الكائنات الحية املعلوماتية‪ .‬رأينا يف الفصل الثاين أن اإلنفورغات املنزوعة الفردية‬
‫(أنت تصبح «نوعا من») وا ُملعاد تعريفها (أنت ُينظر إليك عىل أنك نقطة تقاطع‬
‫محددة بني أنواع عديدة من «نوع من») رمبا عىل املدى الطويل يجري التعامل‬
‫معها عىل أنها سلع يمُ كن أن ُتعرض يف سوق اإلعالنات لتباع وتشرتى‪ .‬قد نصبح مثل‬
‫«األنفس امليتة» يف رواية غوغول(٭)‪ ،‬ولكن معنا حافظات نقود(‪ .)11‬قيمتنا تعتمد‬
‫عىل قدرتنا الرشائية كأعضاء يف مجموعة العمالء‪ ،‬وهذا يتم بنقرة واحدة فقط‪ .‬كل‬
‫هذا غاية يف املساواة‪ ،‬إذ ال أحد عىل الويب يهمه من تكون مادام رقمك التعريفي‬
‫يدل عىل أنك من النوع املناسب من املتسوقني‪.‬‬
‫ال توجد بورصة عىل اإلنرتنت لهذه األنفس امليتة‪ ،‬ولكن هناك وفرة من أمثال‬
‫تشيتشكوف ‪( Chichikovs‬الشخصية الرئيسة يف رواية غوغول) الذين يرغبون‬
‫يف رشائها‪ ،‬فام القيمة الدوالرية لإلنفورغ؟ كام جرت العادة‪ ،‬ميكن أن تحصل عىل‬
‫نلق عليها نظرة يف سوق الجملة‪.‬‬
‫خصم إذا قمت برشاء كميات كبرية؛ لذا‪ ،‬دعونا ِ‬
‫يف العام ‪ ،2007‬أبرمت رشكة فوكس لوسائط اإلعالم التفاعلية ‪Fox Interactive‬‬
‫‪ Media‬صفقة مع رشكة غوغل لتثبيت محرك البحث الشهري (وما يتبعه من نظام‬
‫دعاية) عرب شبكتها من مواقع اإلنرتنت‪ ،‬مبا يف ذلك موقع «ماي سبايس ‪»MySpace‬‬
‫ذو الشعبية الكبرية (يف ذاك الوقت)‪ .‬كانت قيمة هذه الصفقة ‪ 900‬مليون دوالر‬
‫(٭) نيكوالي غوغول (‪ ،)1852 – 1809‬أحد أكرب األدباء الروسيني‪ .‬اشتهر بقصته القصرية‪« ،‬املعطف»‪ ،‬ومرسحياته‬
‫من قبيل «املفتش العام» و«خطبة»‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫َفهم الذات‪ :‬الثورات األربع‬

‫أمرييك(‪ ،)12‬و ُقدّر عدد ملفات تعريف املستخدمني يف ماي سبيس بنحو ‪100‬‬
‫مليون ُمستَخ ِدم يف ذاك الوقت‪ .‬بذلك‪ ،‬يكون متوسط قيمة النفس الرقمية هو ‪9‬‬
‫دوالرات أمريكية عىل األكرث‪ ،‬ولكن هذا فقط إذا كانت النفس مؤهلة لتكون ضمن‬
‫مستخدمي نطاق ماي سبايس ‪ MySpace.com‬رفيعي املستوى‪ .‬كام كان سيقول‬
‫سوباكيفيتش ‪ ،Sobakievich‬إحدى شخصيات رواية غوغول‪:‬‬
‫حقا إن الثمن ليس بباهظ‪ ،‬فأي غشاش آخر سيخدعك وسيبيعك‬
‫النفاية ال األنفس‪ ،‬أما ما هو عندي فهو َغ ّض مثل جوز ناضج‪ُ ،‬يصطفى‬
‫كله‪ ،‬إنهم جميعا إما حرفيني أو مزارعني أقوياء(‪.)13‬‬
‫«الجوز الناضج» هو الذي يهم حقا‪ ،‬ويف ماي سبايس ‪ ،MySpace‬كانوا ببساطة‬
‫منتقني بدقة‪ :‬عرشات املاليني من املتعلمني‪ ،‬وممن لديهم وقت كاف (وإال ما كانوا‬
‫هناك)‪ ،‬وأثرياء مبا فيه الكفاية‪ ،‬ويتحدثون اإلنجليزية‪ ،‬ممن لديهم بطاقات ائتامن‬
‫وعناوين يف أماكن ميكن التوصيل إليها‪ ،...‬كل هذا ُيسيل لعاب أي معلن‪ .‬نرسع إىل‬
‫األمام خمس سنوات‪ ،‬السوق أكرب‪ ،‬والجوز أقل نضجا‪ ،‬وبالتايل فإن األسعار أقل‪ .‬يف‬
‫العام ‪ ،2012‬تقدمت رشكة فيسبوك لطرح أسهمها لالكتتاب العام األويل بقيمة ‪5‬‬
‫مليارات دوالر أمرييك(‪ .)14‬بقسمة هذا الرقم عىل عدد ُمستَخ ِدمي فيسبوك‪ ،‬الذي‬
‫كان يف ذاك الوقت نحو ‪ 1‬مليار مستخدم‪ ،‬يكون السعر هو ‪ 5‬دوالرات أمريكية لكل‬
‫نفس رقمية‪ .‬خصم يقرتب من ‪ 50‬يف املئة‪ ،‬ومع ذلك التزال األمثان باهظة نوعا ما‪.‬‬
‫نأخذ يف االعتبار أنه‪ ،‬وفقا ملا ذكرته صحيفة فايننشال تاميز ‪،)15(Financial Times‬‬
‫يف العام ‪ ،2013‬فإن معلومات ملف التعريف (الذي يشتمل عىل العمر‪ ،‬والنوع‪،‬‬
‫والتاريخ الوظيفي‪ ،‬واألمراض الشخصية‪ ،‬والجدارة االئتامنية‪ ،‬وتفاصيل الدخل‪،‬‬
‫والتاريخ‪ ،‬واألماكن‪ ،‬وخيارات الرتفيه‪ ،‬والعنوان‪ ،‬وغري ذلك)‪ ،‬كانت ُتباع بأقل من‬
‫دوالر أمرييك واحد للشخص الواحد‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬بيعت تفاصيل الدخل وتاريخ‬
‫التسوق مببلغ ‪ 0,001‬دوالر أمرييك لكل منها‪ .‬ينخفض سعر السجل الواحد أكرث‬
‫من ذلك للمشرتين بالجملة‪ .‬عندما استخدمت اآللة الحاسبة التي تقدمها صحيفة‬
‫فايننشال تاميز ‪ Financial Times‬عىل اإلنرتنت‪ ،‬أظهرت املحاكاة أن «ا ُمل َس ِّوقني‬
‫سوف يدفعون ما يقرب من ‪ 0,3723‬دوالر أمرييك مقابل بياناتك الشخصية‪ .‬أنا‪،‬‬
‫باعتباري نفسا رقمية‪ ،‬كنت يف العام ‪ُ 2013‬أقدر بنحو ثلث مثن أغنية عىل آي تيونز‬
‫‪133‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫‪ .iTunes‬ميكنك أن تتخيل دهشتي عندما اشرتت ياهو ‪ Yahoo‬يف العام ‪ 2013‬متبلر‬


‫‪( Tumblr‬منصة أو نظام أسايس للتدوين) مببلغ ‪ 1.1‬مليار دوالر أمرييك‪ :‬مع ‪100‬‬
‫مليون ُمستَخ ِدم‪ ،‬هذا يعني ‪ 11‬دوالرا أمريكيا لكل نفس رقمية‪ ،‬وأنا أظن أن هذا‬
‫سعر رمبا يكون ُم َبالغا فيه(‪.)16‬‬
‫من غوغول إىل غوغل‪ ،‬من الطبيعي إضفاء الطابع الشخيص ‪ -‬تذكر الشخص‬
‫الذي يضع ملصقات عىل زجاج سيارته‪ ،‬يف نهاية الفصل الثاين ‪ -‬عىل ردة الفعل تجاه‬
‫مثل هذا التعديل وفقا للطلب (التخصيص) الواسع النطاق‪ ،‬ولكن هذا أيضا محري‪.‬‬
‫لقد رأينا أننا نستطيع بناء وإعادة توسيم أنفسنا يف اإلنفوسفري باستخدام املد ّونات‬
‫وإدخاالت فيسبوك‪ ،‬وصفحات غوغل التعريفية‪ ،‬ومقاطع فيديو يوتيوب‪ ،‬وألبومات‬
‫فليكر؛ من خالل تشارك اختياراتنا من األطعمة‪ ،‬واألحذية‪ ،‬والحيوانات األليفة‪،‬‬
‫واألماكن التي زرناها أو التي نفضلها‪ ،‬وأنواع العطالت التي نقضيها‪ ،‬والسيارات التي‬
‫نقودها‪ ،‬وإنستغرام‪ ،‬وما إىل ذلك؛ من خالل تصنيف وتحديد رتبة أي يشء وكل يشء‬
‫ننقر عليه‪ .‬من املنطقي جدا أن سكند اليف (الحياة الثانية) ينبغي أن تكون جنة‬
‫لعشاق صيحات املوضة من جميع ُّ‬
‫الط ُرز‪ ،‬ليس فقط ألنها توفر نظاما أساسيا مرنا‬
‫ليستخدمه املصممون والفنانون املبدعون‪ ،‬بل ألنها أيضا السياق املناسب حيث‬
‫يكون لدى النفس الرقمية (التجسيد أو األفاتار) شعور شديد بأهمية الحصول عىل‬
‫دالئل مرئية للهوية الذاتية‪ .‬يف نهاية املطاف‪ ،‬فإن الصورة الرمزية (أفاتار) املجانية‬
‫تظهر مثل أي شخص آخر‪ .‬بعد سنوات من إطالق سكند اليف (الحياة الثانية)‪ ،‬يظل‬
‫هناك عدم اتساق بني مجتمع معني للغاية بشأن حقوق الخصوصية وبني نجاح‬
‫الخدمات االجتامعية مثل فيسبوك‪ .‬نحن نستخدم ونكشف معلومات عن أنفسنا‬
‫للتقليل من كوننا‪ ،‬معلوماتيا‪ ،‬مجهويل االسم وال ميكن متييزنا‪ .‬نحن نود املحافظة عىل‬
‫مستوى عال من الخصوصية املعلوماتية كأنها السبيل الوحيد إلنقاذ رأس املال الثمني‬
‫الذي من ثم ميكن أن نستثمره بصورة علنية (أو نهدره‪ ،‬كام سوف يقول املتشامئون)‬
‫من أجل بناء أنفسنا كأشخاص ميكن متييزهم بسهولة وميكن إعادة تحديدهم بشكل‬
‫فريد‪ .‬مل يحدث من قبل أن مارست الخصوصية املعلوماتية مثل هذا الدور بالغ‬
‫األهمية يف حياة املاليني من الناس‪ .‬إنها إحدى القضايا املهمة يف عرصنا‪ .‬لقد حان‬
‫الوقت إللقاء نظرة من كثب عىل ما نعنيه حقيقة بالخصوصية بعد الثورة الرابعة‪.‬‬
‫‪134‬‬
‫اخلصوصية‪ :‬االحتكاك املعلوماتي‬

‫‪5‬‬

‫اخلصوصية‪:‬‬
‫االحتكاك املعلوماتي‬

‫أ َع ُّز ما منلك‬
‫قالت «بيغي»‪ ،‬وهي تستيقظ‬
‫من نومها‪« :‬أتظنني أنه سيتسنى‬
‫لك يف يوم من األيام أن تري أشياء‬
‫ِ‬
‫عىل الطرف اآلخر من الهاتف؟»‪.‬‬
‫لن تعود بيغي إىل هذا السؤال مجددا يف‬
‫الصفحات املتبقية من رواية «السنوات»‬
‫‪ The Years‬التـي كتبتــها فريجينيـا وولـف‬
‫‪ ،)1(Virginia Woolf‬و ُنرشت يف العام ‪.1937‬‬
‫قبل ذلك بعام واحد فقط‪ ،‬أطلقت هيئة‬
‫اإلذاعة الربيطانية يف لندن أول خدمة تلفزيونية‬
‫عامة يف العامل‪ ،‬ونرش تورينغ عمله الرائد عن‬
‫اآلالت الحاسوبية)‪ .(2‬كانت األمور تسري نحو‬ ‫«املشكلــة األخالقيـــة للخصوصيـة‬
‫واحدة من أخطر قضايا عرص التأريخ‬
‫تغيري جذري‪.‬‬ ‫ا ُملفرط الذي نعيشه»‬

‫‪135‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫بانرصافها إىل التكنولوجيا التي ُتشجع عىل االستخدام التطبيقي أكرث‬


‫من كونها تدعو إىل التأمل النقدي‪ ،‬أدركت «بيغي»‪ ،‬جزئيا‪ ،‬أن تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت تقوم بتحويل املجتمع بعمق‪ ،‬وبصورة ال رجعة فيها‪.‬‬
‫ُأ ْرسيت أسس مجتمعنا املعلومايت يف الثالثينيات‪ ،‬وكان من الصعب أن َنعي‬
‫بشكل كامل هذا التغري املهم يف تاريخ البرشية‪ ،‬وهو اليزال يف املرحلة املبكرة‬
‫من تطوره‪ .‬واليوم‪ ،‬يشكل تسليع تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت الرقمية‬
‫الذي بدأ يف السبعينيات‪ ،‬وما ترتب عليه من انتشار مجتمع املعلومات العاملي‬
‫منذ الثامنينيات‪ ،‬يشكل تحديا متصاعدا للحق يف الخصوصية املعلوماتية‪،‬‬
‫عىل األقل كام اليزال يتصورها الغربيون يف أزمنة فرجينيا وولف‪ .‬نحن‬
‫بصفتنا إنفورغات نسكن اإلنفوسفري‪ ،‬فإننا آخذون يف االعتياد عىل انتشار‬
‫تدفق املعلومات وتجاوزها كل الحدود؛ لذلك‪ ،‬وكام كتبت وولف عن مونتني‬
‫‪ Montaigne‬يف مقال نرشته يف «القارئ العادي» ‪The Common Reader‬‬
‫يف العام ‪:)3(1925‬‬
‫نحن‪ ]...[ ،‬منتلك حياة خاصة [و] نتشبث بها إىل ما ال نهاية؛ ألنها‬
‫أعز ما منلك‪.‬‬
‫اليوم‪ ،‬نجد أن حامية هذا الذي يعد أعز ما منلك صارت أكرث صعوبة من أي وقت‬
‫مىض‪ ،‬يف بيئة اجتامعية تعتمد بشكل متزايد عىل تكنولوجيا «بيغي» املستقبلية‪.‬‬
‫املشكلة ُم ِل ّحة بالقدر الذي دفع إىل سيل من األبحاث األكادميية والعلمية‪،‬‬
‫ومل يكن هناك أي نقص يف القرارات السياسية والتدابري القانونية القابلة للتنفيذ‬
‫للتصدي لها‪ .‬املشكلة األخالقية للخصوصية واحدة من أخطر قضايا عرص التأريخ‬
‫ا ُملفرط الذي نعيشه‪ .‬استعرض مراجع الفلسفة األخالقية عرب العقود القليلة املاضية‪،‬‬
‫وسوف تجد أن اإلشارة إىل هذه املشكلة قليلة أو غري موجودة‪ .‬ال يهدف هذا‬
‫الفصل إىل مراجعة املجموعة الواسعة من املؤلفات املعنية بالخصوصية املعلوماتية‬
‫وحاميتها القانونية‪ .‬هذا الفصل باألحرى يطرح وجهة نظر تدعم تفسري الخصوصية‬
‫املعلوماتية باعتبارها ذاتية التكوين‪ ،‬وهو تفسري يتسق مع‪ ،‬ويتمم‪ ،‬الحقائق‬
‫واألفكار التي طرحت يف الفصول السابقة‪ .‬باختصار‪ ،‬مهمتنا يف هذا الفصل هي أن‬
‫نفهم الخصوصية املعلوماتية بعد الثورة الرابعة‪.‬‬
‫‪136‬‬
‫اخلصوصية‪ :‬االحتكاك املعلوماتي‬

‫الخصوصيات باعتبارها تحررات من‪...‬‬


‫من الشائع التمييز بني أربعة أنواع من الخصوصية‪ ،‬وجميعها ميكن صياغته يف‬
‫شكل «تحرر من‪ .» ...‬دعوين أستعرضها رسيعا برتتيب ال يعني أهميتها‪ .‬أوال‪ ،‬هناك‬
‫الخصوصية املادية لـدى «أليس»‪ ،‬وهي تحررها من التدخل أو االعتداء املحسوس‪،‬‬
‫بتقييد قدرة اآلخرين عىل التعامل معها جسديا‪ ،‬أو غزو الحيز الشخيص الخاص بها‪.‬‬
‫ثانيا‪ ،‬هناك الخصوصية العقلية لـدى «أليس»‪ ،‬وهذه تشري إىل تحررها من التدخل‬
‫أو االعتداء النفيس‪ ،‬بتقييد قدرة اآلخرين عىل الوصول إىل حياتها العقلية والتالعب‬
‫بها‪ .‬ثالثا‪ ،‬هناك خصوصية اتخاذ القرار لـدى «أليس»‪ ،‬بتحررها من التدخل أو‬
‫االعتداء اإلجرايئ‪ ،‬باستبعاد اآلخرين من القرارات التي تتخذها «أليس» ومجموعتها‬
‫من األصدقاء املقربني ـ خصوصا‪ ،‬ولكن ليس فقط تلك القرارات املتعلقة بالتعليم‪،‬‬
‫والرعاية الصحية واملهنية‪ ،‬والعمل‪ ،‬والزواج‪ ،‬واالعتقاد‪ .‬وأخريا‪ ،‬هناك الخصوصية‬
‫املعلوماتية لـدى «أليس»‪ ،‬وهذه تعني تحررها من التدخل أو االخرتاق املعلومايت‪،‬‬
‫بحجب حقائق عنها‪ ،‬غري معروفة أو ال متكن معرفتها‪.‬‬
‫عادة ما تتداخل هذه األشكال األربعة من الخصوصية‪ ،‬لكن ال ينبغي الخلط بينها‪.‬‬
‫للتبسيط‪ ،‬سوف أتعامل مع كل منها بشكل منفصل‪ ،‬ألنني يف هذا الفصل سأتناول‬
‫فقط النوع املعلومايت‪ .‬لذلك‪ ،‬عند ذكر الخصوصية‪ ،‬سوف أعني الخصوصية املعلوماتية‪.‬‬
‫سؤاالن سوف يوجهان الغارة التي سنشنها‪ .‬األول هو‪ :‬ملاذا أدت تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت إىل أن تكون الخصوصية واحدة من أكرث القضايا وضوحا‬
‫وإلحاحا يف مجتمعنا؟ والسؤال الثاين هو‪ :‬ما الخصوصية بعد الثورة الرابعة؟ اإلجابة‬
‫عن السؤال الثاين ينبغي أن تنتظر اإلجابة عن السؤال األول‪ ،‬التي بدورها يجب أن‬
‫تنتظر حتى يكون لدينا فهم أفضل ملفهوم قدمته بإيجاز يف الفصل األول‪ ،‬أال وهو‬
‫«االحتكاك املعلومايت»‪.‬‬

‫االحتكاك املعلومايت‬
‫يشري االحتكاك املعلومايت إىل القوى التي تعارض تدفق املعلومات داخل منطقة‬
‫ما من اإلنفوسفري‪ .‬ويرتبط مع مقدار الجهد املطلوب لعنرص وسيط (وكيل) من‬
‫أجل الحصول عىل‪ ،‬أو تصفية‪ ،‬أو منع معلومات عن عنارص وسيطة (وكالء) أخرى‬
‫‪137‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫يف بيئة معينة‪ ،‬عن طريق خفض‪ ،‬أو تشكيل‪ ،‬أو زيادة االحتكاك املعلومايت‪ .‬لرتى‬
‫كيف‪ ،‬تأمل السيناريو التايل‪:‬‬
‫أربعة طالب‪« ،‬أليس» و«بوب» و«كارول» و«ديف»‪ ،‬ميثلون لنا إنفورغات‪،‬‬
‫يعيشون يف منزل واحد‪ ،‬منطقة من اإلنفوسفري‪ .‬من البديهي أنه كلام اتسعت‬
‫الفجوة املعلوماتية فيام بينهم‪َ ،‬ق َّل ما يعرفونه بعضهم عن بعض‪ ،‬وازدادت‬
‫إمكانية أن تتسم حياتهم بالخصوصية‪ .‬تعتمد الفجوة املعلوماتية عىل درجة‬
‫إمكانية الوصول إىل معلوماتهم الشخصية‪ .‬يف املثال الذي بني أيدينا‪ ،‬ستكون‬
‫هناك خصوصية ‪ -‬إىل حد ما ‪ -‬اعتامدا عىل ما إذا كان الطالب لهم غرفهم‬
‫الخاصة بحاممها الخاص‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ .‬يف املقابل‪ ،‬تعتمد إمكانية الوصول‬
‫عىل طبيعة اإلنفورغات‪ ،‬وعىل البيئة التي ُيدمجون فيها‪ ،‬وعىل تفاعالتهم التي‬
‫ميكن أن تحدث يف تلك البيئة‪ .‬إذا كانت الجدران يف املنزل قليلة ورقيقة‪ ،‬وكانت‬
‫لدى جميع الطالب حاسة سمع ممتازة‪ ،‬فمن ثم تزداد درجة الوصول وتقل‬
‫الفجوة املعلوماتية‪ ،‬وتصري حامية الخصوصية أكرث صعوبة‪ .‬رمبا يتأثر أسلوب‬
‫حياة الطالب بشكل عميق بفعل الطراز الياباين للمنزل الذي اختاروا أن يعيشوا‬
‫فيه معا‪ .‬أو لنفرتض أن كل الجدران واألثاثات يف منزل الطلبة تحولت إىل زجاج‬
‫شفاف متاما‪ ،‬وأن جميع الطالب يتمتعون ببرص حاد‪ .‬يف هذا الفضاء الذي يشبه‬
‫البانوبتيكون(٭) الذي صممه بنثام ‪)4(Bentham‬؛ فإن أي خصوصية سوف تكون‬
‫مستحيلة تقريبا‪ .‬تأمل‪ ،‬يف النهاية‪ ،‬سيناريو الخيال العلمي فيام يخص الزمن‪ .‬يف‬
‫رواية «املايض امليت» ‪ ،)5(The Dead Past‬يصف مؤلف الرواية أزميوف ‪Asimov‬‬
‫الكرونوسكوب ‪ ،chronoscope‬وهو جهاز يسمح باملشاهدة املبارشة ألحداث‬
‫املايض‪ .‬أصبح استخدام الكرونوسكوب محصورا يف علامء اآلثار فقط‪ ،‬ألنه ال يسمح‬
‫إال مبشاهدة بضعة قرون من املايض‪ .‬عىل رغم ذلك‪ ،‬رسعان ما يكتشف الناس أنه‬
‫ميكن بسهولة ضبطه عىل املايض القريب‪ ،‬بفارق زمني يعادل كسور الثواين‪ ،‬وهذا‬
‫يعني قليال من االحتكاك املعلومايت‪ .‬إذا استطاع طالبنا استخدام جهاز أزميوف‬
‫(الكرونوسكوب)‪ ،‬فسوف يستطيعون رصد أي حدث يف الوقت الحقيقي تقريبا‪.‬‬
‫(٭) البانوبتيكون هو مكان مصمم بحيث يكون مرئيا متاما من نقطة واحدة‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫اخلصوصية‪ :‬االحتكاك املعلوماتي‬

‫هذا أيضا سوف يكون نهاية الخصوصية‪ ،‬ألن املايض امليـت ليــس سـوى مرادف‬
‫لـ «الحارض الحي»‪ ،‬كام عقبت إحدى شخصيات رواية أزميوف بطريقة فلسفية إىل‬
‫حد ما‪ .‬من الواضح أن القدرات والقيود املعلوماتية التي تتيحها بيئة ما‪ ،‬ال تتعلق‬
‫إال بعنارص وسيطة (وكالء) ذات قدرات معلوماتية خاصة‪ .‬ويقدم الجدل الدائر(‪)6‬‬

‫بشأن قضايا الخصوصية‪ ،‬فيام يتعلق بتصميم املسـاحات املكتبية – من املكاتب‬


‫الخاصة املغلقة إىل أنظمة املكاتب املفتوحة املقسمة باستخدام األلواح‪ ،‬إىل‬
‫بيئات العمل املفتوحة متاما – مثاال مهام ملدى ارتباطه بتباين درجات االحتكاك‬
‫املعلومايت يف بيئات اجتامعية‪ .‬يف املرة املقبلة‪ ،‬عندما ُتسدل الستائر يف غرفة‬
‫املعيشة الخاصة بك‪ ،‬اعرف أنك ُتزيد االحتكاك املعلومايت يف البيئة‪.‬‬
‫ُ‬
‫نحن اآلن عىل استعداد لصياغة معادلة من طراز مختلف نوعيا؛ إذا أعطيت‬
‫بعض من املعلومات الشخصية املتاحة يف منطقة ما من اإلنفوسفري‪ ،‬فإنه كلام‬
‫انخفض االحتكاك املعلومايت يف تلك املنطقة‪ ،‬ارتفع إمكان الوصول إىل معلومات‬
‫شخصية عن عنارص وسيطة (وكالء) ُمدمجة يف تلك املنطقة‪ ،‬وقلت الفجوة‬
‫املعلوماتية بينهم‪ ،‬وانخفضت درجة الخصوصية التي ميكن توقعها‪ .‬بشكل‬
‫مبسط وأكرث عمومية‪ ،‬الخصوصية هي دالة يف االحتكاك املعلومايت يف اإلنفوسفري‪.‬‬
‫وسوف يؤثر أي عامل يؤدي إىل انخفاض أو زيادة االحتكاك املعلومايت‪ ،‬أيضا‪ ،‬يف‬
‫الخصوصية‪ .‬لذلك‪ ،‬رمبا يبدو أنه لدينا إجابة عن السؤال األول؛ فتكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت جعلت الخصوصية واحدة من القضايا األكرث وضوحا‬
‫وإلحاحا يف مجتمعنا‪ ،‬ألنها ‪ -‬من دون شك ‪ -‬ذات تأثري نافذ يف االحتكاك‬
‫املعلومايت‪ .‬ولألسف‪ ،‬األمور أكرث تعقيدا بعض اليشء‪ .‬اإلجابة السابقة هي نقطة‬
‫انطالق جيدة‪ ،‬لكنها التزال تخفق يف تفسري ظاهرتني مهمتني‪ ،‬تصعب اإلجابة من‬
‫دونهام عن سؤالنا الثاين‪ .‬إن كال من هاتني الظاهرتني تستحق أن يخصص لها قسم‬
‫بعينه‪ ،‬ولكن دعوين بداية أقدم هنا نبذة موجزة عنهام‪ .‬أوال‪ ،‬عىل الرغم من أن‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت رمبا تؤدي إىل تآكل االحتكاك املعلومايت‪ ،‬فإن‬
‫املجهولية (إخفاء الهوية) ‪ Anonymity‬رمبا تعادل هذا التأثري‪ .‬ثانيا‪ ،‬القديم من‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬مثل اإلذاعة والتلفزيون‪ ،‬يؤثر يف االحتكاك‬
‫املعلومايت يف اتجاه واحد فقط‪ ،‬عن طريق خفضه‪ ،‬بينام الجديد من تكنولوجيات‬
‫‪139‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫املعلومات واالتصاالت يعمل يف كال االتجاهني‪ ،‬وهذا يعني أن هذه التكنولوجيات‬


‫تستطيع خفضه أو زيادته‪ ،‬لذلك فهي تستطيع أن تحد من درجة الخصوصية التي‬
‫نتمتع بها‪ ،‬أو أن تعززها‪ .‬القسامن التاليان مخصصان لهاتني الظاهرتني‪ ،‬وسوف‬
‫نراجع يف نهايتهام إجابتنا عن سؤالنا األول‪ ،‬ونكون عىل استعداد لالنتقال إىل‬
‫السؤال الثاين‪.‬‬

‫املجهولية‬
‫يف أثناء القرنني التاسع عرش والعرشين‪ ،‬بينام كانت تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت القدمية‪ ،‬مثل التلغراف (الربق)‪ ،‬واإلذاعة‪ ،‬والتصوير‪ ،‬والهاتف‪ ،‬والتلفزيون‪،‬‬
‫متحو االحتكاك املعلومايت تدريجيا‪ ،‬كانت الظاهرة االجتامعية للحارضة الجديدة‬
‫تتصدى آلثارها؛ إذ يرست البيئات الحرضية طرازا من الخصوصية قامئا عىل املجهولية‪،‬‬
‫التي قد ُتفهم عىل أنها عدم توافر املعلومات الشخصية‪ ،‬وذلك بسبب صعوبة جمع‬
‫أو مضاهاة أجزاء مختلفة من املعلومات عن شخص ما‪ .‬إنه نوع الخصوصية الذي‬
‫تتمتع به ورقة شجر يف الغابة‪ ،‬وهو اليزال غري ُمت ََص َّور يف الوقت الحارض يف املناطق‬
‫الريفية أو القرى الصغرية‪ ،‬حيث مييل الجميع إىل أن يعرف الجميع‪.‬‬
‫املجهولية جعلت املجتمعات الحديثة تتمتع بدرجة غري مسبوقة من‬
‫الخصوصية‪ ،‬حتى إن كانت من خالل مندوب ‪ ،proxy‬عىل الرغم من االنخفاض‬
‫املتنامي لالحتكاك املعلومايت الناجم عن تطور تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫القدمية‪ .‬يف مقال كالسييك بعنوان «الحق يف الخصوصية» ‪،The Right to Privacy‬‬
‫ُنرش يف مجلة هارفارد للقانون ‪ Harvard Law Review‬يف العام ‪ ،1890‬حذر‬
‫صامويل د‪ .‬وارن ‪ ،Samuel D. Warren‬ولويس برانديز ‪ Louis Brandeis‬من أن‬
‫الخصوصية كان يجري تقويضها عن طريق‪:‬‬
‫االخرتاعات الحديثة واألساليب التجارية [‪ ]...‬والصور الفورية‬
‫واملؤسسة الصحافية [‪ ]...‬والعديد من األجهزة امليكانيكية(‪.)7‬‬
‫عىل الرغم من ذلك‪ ،‬فإن قوة هذه التكنولوجيات كانت تعادلها قوى مضادة‪.‬‬
‫ُنرشت رواية «الحالة الغريبة للدكتور جيكل والسيد هايد»‪The Strange Case of‬‬
‫‪ Dr Jekyll and Mr Hyde‬لستيفنسون ‪ ،Stevenson‬ألول مرة يف العام ‪ .1886‬بعد‬
‫‪140‬‬
‫اخلصوصية‪ :‬االحتكاك املعلوماتي‬

‫ذلك بعام‪ ،‬نرش كونان دويل ‪(Conan Doyle‬٭) رواية «دراسة يف اللون القرمزي»‬
‫‪ .A Study in Scarlet‬يف الفرتة ذاتها التي كان وارن وبرانديز يعمالن فيها عىل‬
‫مقالهام الكالسييك‪ ،‬فإن أدنربه دكتور جيكل‪ ،‬ولندن شارلوك هوملز قدمتا بالفعل‬
‫فرصا متزايدة للخصوصية من خالل املجهولية‪ ،‬برغم حداثة توافر تكنولوجيات‬
‫جديدة‪ .‬يف بعض األحيان‪ ،‬يبدو أن الخصوصية التي نفتقدها يف الوقت الحارض‪ ،‬هي‬
‫يف الحقيقة مجهولية القرن التاسع عرش‪.‬‬
‫تغي بيئتنا املعلوماتية‪،‬‬
‫وألن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت الرقمية رِّ‬
‫وتفاعالتنا‪ ،‬وذواتنا‪ ،‬فسوف يكون من السذاجة أن نتوقع أن الخصوصية يف‬
‫املستقبل سوف تعني متاما ما كانت تعنيه يف العامل الغريب الصناعي يف منتصف‬
‫القرن املايض(‪ .)8‬لقد عدل مجتمع املعلومات عتبة االحتكاك املعلومايت‪ ،‬وقدم بالتايل‬
‫منطقا مختلفا لتقدير مواطنيه لخصوصيتهم‪ .‬بطريقة ما‪ ،‬فإن نوعية مختلفة من‬
‫الخصوصية تكون هي الثمن الذي ندفعه للدخول إىل التأريخ ا ُملفرط‪ .‬ال ميكن‬
‫ملجتمع أن يعتمد عىل تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت عىل هذا النطاق الواسع‪،‬‬
‫وبهذا العمق‪ ،‬من دون السامح لها بإعادة تشكيل البيئة وما يحدث داخلها‪ .‬هناك‬
‫بالفعل اختالف ملموس يف كيفية إدراك الجيل «زد» والجيل «واي» للخصوصية‪.‬‬
‫ونجد يف تقرير بعنوان «املراهقون والخصوصية والشبكات االجتامعية عىل‬
‫اإلنرتنت» ‪ ،Teens, Privacy and Online Social Networks‬صادر عن مرشوع‬
‫بيو لإلنرتنت والحياة األمريكية ‪ ، Pew Internet & American Life Project‬أنه‪:‬‬
‫بالنسبة إىل املراهقني‪ ،‬فجميع املعلومات الشخصية ليست متامثلة‪ .‬إنهم‬
‫يقولون إنه من املهم جدا أن نفهم السياق الذي يتم يف إطاره تبادل املعلومات(‪.)9‬‬
‫ويؤكد تقرير أحدث صدر من مركز بريكامن لإلنرتنت واملجتمع ‪Berkman‬‬
‫‪ ،Center for Internet & Society‬عىل نحو صحيح‪ ،‬أنه‪:‬‬
‫بالنسبة إىل الشباب‪ ،‬فإن «الخصوصية» ليست متغريا ُمفردا‪ .‬تختلف‬
‫أنواع املعلومات التي ُينظر إليها عىل أنها خاصة نوعا ما؛ اختيار ما ُيخفى‬
‫(٭) رواية ستيفنسون‪ ،‬التي سبقت اإلشارة إليها‪ ،‬تعالج الفصام‪ ،‬ورواية دويل تكشف عن قاتل‪ ،‬ويف الحالتني هام‬
‫معالجة ملجهولية يؤمنها زحام املدينة الحديثة‪ ،‬يف القرن التاسع عرش‪ ،‬وقد يكون مفيدا أن نالحظ التوازي بني‬
‫ازدواجية جيكل‪ /‬هايد يف الرواية األوىل‪ ،‬وازدواجية هوملز‪ /‬واطسن يف الثانية‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫أو ُيكشف هو عملية مكثفة ومستمرة [‪ .]...‬بدال من النظر يف تقسيم‬


‫واضح بني «الخاص» و«العام»‪ ،‬يرى الشباب السياقات االجتامعية عىل‬
‫أنها متعددة ومتداخلة‪ ]...[ .‬يف الواقع‪ ،‬التمييز بني «العام» و «الخاص»‬
‫تحديدا يسبب مشكلة لكثري من الشباب الذين مييلون إىل رؤية الخصوصية‬
‫بطرق أكرث دقة‪ ،‬أو تصور فضاءات اإلنرتنت عىل أنها «شبه عامة»‪ ،‬أو‬
‫صنع فروقات بني مجموعات مختلفة من «األصدقاء» […]‪ .‬يف العديد‬
‫من الدراسات عن الشباب والخصوصية‪ ،‬تكون «الخصوصية» غري محددة‪،‬‬
‫أو تؤخذ عىل أنها منفعة تلقائية‪ .‬عىل رغم ذلك‪ ،‬فالكشف عن املعلومات‬
‫ليس بالرضورة خطريا أو يسبب مشكلة؛ فله العديد من الفوائد االجتامعية‬
‫التي متر عادة من دون ذكرها(‪.)10‬‬
‫من املحتمل أن الجيل «زد» يتحرك إىل أبعد مام يراه متوسطو العمر من‬
‫األكادمييني الحاليني أنه ضمنيا معنى واضح وقطعي للخصوصية املعلوماتية‪ ،‬ألنه‬
‫جيل يرتىب بالفعل يف إنفوسفري مزدوج اإلنكار‪ ،‬إنفوسفري الالمجهولية‪.‬‬
‫لقد رأينا ‪ -‬يف نهاية القرن التاسع عرش ‪ -‬أن االحتكاك املعلومايت يف اإلنفوسفري‬
‫الذي انخفض بالفعل‪ ،‬بفضل القديم من التكنولوجيات للمعلومات واالتصاالت‪،‬‬
‫قد ارتفع بفعل الظروف االجتامعية التي تفضل املجهولية‪ ،‬ومن ثم شكال جديدا‬
‫من الخصوصية بوصفها املجهولية‪ .‬يف هذا الصدد‪ ،‬فإن انتشار تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت الجديدة أدى أخريا إىل استكامل العملية التي بدأت مع‬
‫اخرتاع الطباعة‪ .‬نحن نعود اآلن ‪ -‬مرة أخرى ‪ -‬إىل املجتمع الرقمي‪ ،‬حيث مل يعد من‬
‫املمكن اعتبار املجهولية أمرا مفروغا منه‪ ،‬ومن ثم حيث ميكن النخفاض االحتكاك‬
‫املعلومايت الناجم عن القديم والجديد من تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت أن‬
‫ُيظهر آثاره الشاملة عىل الخصوصية‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يف اململكة املتحدة‪ ،‬سمحت‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت الرقمية لإلرهابيني بالتواصل من دون عائق عرب‬
‫شبكة اإلنرتنت‪ ،‬وكانت يف العام ‪ 2005‬أيضا مسؤولة عن تحديد منفذي تفجريات‬
‫لندن يف غضون ساعات‪ .‬لألسف‪ ،‬حدث اليشء نفسه مجددا مع تفجري بوسطن يف‬
‫العام ‪ .2013‬باملثل‪ ،‬الهواتف املحمولة نافعة بشكل متزايد يف األدلة الجنائية يف‬
‫املحاكامت‪ .‬ففي اململكة املتحدة‪ ،‬ساعد تحليل موقع الخلية (شكل من أشكال‬
‫‪142‬‬
‫اخلصوصية‪ :‬االحتكاك املعلوماتي‬

‫حساب املثلثات الذي ميكن به تقدير مكان وجود الهاتف املحمول عند استخدامه)‬
‫يف دحض ُح َّجة إيان هنتيل ‪ ،Ian Huntley‬وأدانه بقتل هويل ويلز ‪Holly Wells‬‬
‫وجيسيكا تشامبان ‪ .Jessica Chapman‬إن شارلوك هوملز لديه من الوسائل ما‬
‫يحارب بها السيد هايد‪.‬‬
‫إن املتاجر الكربى (السوبر ماركت) التي تتعامل معها تعرف متاما ما الذي‬
‫تفضله‪ ،‬وكذلك صاحب محل البقالة‪ ،‬حيث اعتاد أجدادك أن يتسوقوا‪ .‬ولدى البنك‬
‫الذي تتعامل معه سجالت تفصيلية عن جميع زياراتك وعن موقفك املايل‪ ،‬لكن‬
‫كيف يختلف هذا عن الخدمة القدمية عىل وجه الدقة؟ ميكن لرشكة الهاتف تحليل‬
‫بيانات املكاملات التي ُجمعت ألغراض إصدار الفواتري وتحويلها إىل ملف شخيص‬
‫تفصييل عن ا ُملشرتك‪ ،‬يشتمل عىل‪ :‬الشبكة االجتامعية (أسامء وعناوين الزمالء أو‬
‫األصدقاء أو األقارب الذين تم االتصال بهم)‪ ،‬والجنسية املحتملة (أنواع املكاملات‬
‫الدولية)‪ ،‬واألوقات التي غالبا ُيوجد فيها شخص يف منزله‪ ،‬ومن ثم أمناط عمله‪،‬‬
‫والوضع املايل (النفقات)‪ ،‬وغري ذلك‪ .‬بوضع بيانات السوبر ماركت‪ ،‬والبنوك‪ ،‬ورشكة‬
‫الهاتف معا‪ ،‬ميكن استخالص استدالالت من كل نوع بغرض تصنيفك االئتامين‪.‬‬
‫وهو باملثل ما حدث بالفعــــل‪ ،‬يف روايــة «الكونـــت دي مونت كريستـــو»‬
‫)‪ The Count of Monte Cristo (1844‬أللكسندر دوماس ‪.Alexandre Dumas‬‬
‫فبعض الخطوات التي متيض بنا ُقدُ ما إىل مجتمع املعلومات هي يف الواقع خطوات‬
‫عودة إىل مجتمع صغري‪ ،‬وإىل ما مييزه من مناخ خانق عىل نحو ال ميكن إنكاره‪.‬‬
‫كم هو صعب أن تعيش يف إنفوسفري زجاجي؟ العنارص الوسيطة (الوكالء)‬
‫البرشية متيل إىل أن تألف البيئات املختلفة التي لها درجات متفاوتة من االحتكاك‬
‫املعلومايت‪ ،‬ومن ثم تكون أفضل يف تطويع ذواتها وفقا لذلك‪ .‬وكام هي الحال‬
‫مع غريها من أشكال التوازنات الدقيقة‪ ،‬فإنه من الصعب تحديد حد أدىن عام‬
‫لالحتكاك املعلومايت يناسب جميع العنارص الوسيطة (الوكالء) يف أي بيئة وتحت أي‬
‫ظروف‪ ،‬الحد الذي من دونه تصبح حياة اإلنسان غري سارة بشكل متزايد‪ ،‬ويف نهاية‬
‫املطاف تصبح غري محتملة‪ ،‬عىل رغم أن أورويل ‪ Orwell‬رمبا وصفها بشكل جيد‬
‫يف روايته «ألف وتسعامئة وأربعة ومثانون» ‪ .)11(Nineteen Eighty-Four‬عىل‬
‫الرغم من ذلك‪ ،‬من الواضح أنه يتم بلوغ حد معني عندما تكون العنارص الوسيطة‬
‫‪143‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫(الوكالء) عىل استعداد لتوظيف املوارد‪ ،‬أو مواجهة املخاطر‪ ،‬أو بذل الجهد من أجل‬
‫استعادته‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬عن طريق بناء سور أعىل‪ ،‬أو عن طريق نبذ خدمة‬
‫منشودة‪ ،‬أو عن طريق استثامر الوقت يف مراجعة ملف العميل‪ .‬فلدى العنارص‬
‫الوسيطة (الوكالء) املختلفة درجات تأثر مختلفة‪ .‬يحتاج املرء إىل أن يتذكر أن هناك‬
‫عدة عوامل (الطابع والثقافة والتنشئة والخربات السابقة‪ ،‬وما إىل ذلك) تجعل‬
‫كل واحد منا شخصا فريدا من نوعه‪ .‬بالنسبة إىل أحدنا‪ ،‬فإن جارا قادرا عىل رؤية‬
‫القاممة يف حديقته قد ميثل انتهاكا للخصوصية ال يطاق‪ ،‬وهو أمر يستحق أي نفقات‬
‫وجهد الستعادتها؛ بالنسبة إىل شخص آخر‪ ،‬فاملعيشة يف غرفة واحدة مع العديد من‬
‫أفراد األرسة اآلخرين رمبا ال يسبب له أي إشكالية مطلقا‪ .‬وبوسع العنارص الوسيطة‬
‫(الوكالء) البرشية التكيف مع مستويات منخفضة جدا من االحتكاك املعلومايت‪.‬‬
‫ويناقش مقال فرجينيا وولف عن مونتني االفتقار إىل االحتكاك املعلومايت الذي‬
‫تتسم به الشخصيات العامة يف سياقات عامة‪ ،‬وهذه مسألة اكتست أهمية بالغة‬
‫يف اململكة املتحدة بسبب فضيحة التجسس عىل الهواتف التي أدت إىل إغالق‬
‫صحيفة نيوز أوف ذي وورلد ‪ .News of the World‬اعتاد السياسيون واملمثلون‬
‫عىل البيئات التي تكون فيها الخصوصية سلعة نادرة‪ ،‬واالحتكاك املعلومايت ُيعترب‬
‫غري موجود‪ .‬باملثل‪ُ ،‬ي ْظهر األشخاص الذين شاركوا يف الربامج التي عىل غرار برنامج‬
‫«األخ الكبري» ‪(Big Brother‬٭) (رغم أن «عرض ترومان» ‪(Truman Show‬٭٭)‬

‫سوف يكون تسمية أكرث مالءمة) قدرة فائقة عىل التكيف مع الظروف‪ ،‬حيث‬
‫ُيخ َّفض بشكل ممنهج أي احتكاك معلومايت بينهم وبني الجمهور‪ ،‬وظاهر األمر باسم‬
‫الرتفيه‪ .‬يف سياقات أخرى واقعية وأكرث مأساوية‪ ،‬فالسجناء يف معسكرات االعتقال‬
‫يخضعون لضغوط قاهرة بسبب االنخفاض املتعمد والحتمي لالحتكاك املعلومايت‪.‬‬
‫يف بداية تاريخ الويب‪ ،‬تقريبا عندما كان نتسكيب مرادفا ملتصفح اإلنرتنت‪،‬‬
‫اعتقد ا ُملستَخ ِدمون أن كونهم عىل اإلنرتنت يعني أنهم مجهولون متاما‪ .‬فقدت‬
‫األفعال مصادرها املحددة‪ ،‬واستُش ِعر انعدام القدرة عىل التعقب كأنه خصوصية‪.‬‬
‫إن حاسبا متصال بالشبكة كان مثل «خاتم غيغيس» ‪ ،Gyges’ ring‬األداة السحرية‬
‫(٭) أحد برامج تلفزيون الواقع‪ ،‬بدأ يف هولندا ثم صعد إىل العاملية‪[ .‬املحرر]‪.‬‬
‫(٭٭) فيلم سيناميئ أخرجه بيرت وير وجسد دور البطولة فيه جيم كريي‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫اخلصوصية‪ :‬االحتكاك املعلوماتي‬

‫التي تمُ ِّكن صاحبها من أن يصبح غري مريئ وقتام يرغب‪ .‬استخدمه أفالطون يف‬
‫كتابه «الجمهورية» ‪ Republic‬ملناقشة ما قد يفعله شخص عادي إذا متكن من أن‬
‫يترصف من دون أي خوف من االعتقال والعقاب‪ .‬ومل يكن متفائال‪:‬‬
‫افرتض اآلن أنه كان هناك اثنان من مثل هذه الخواتم السحرية‪ ،‬وأن‬
‫العدل لبس أحدهام‪ ،‬والظلم لبس اآلخر؛ ال ميكن تخيل أن هناك إنسانا‬
‫لديه طبيعة حديدية بحيث يقف صامدا مع العدل‪ .‬ليس هناك إنسان‬
‫سوف ُيبقي يديه بعيدتني عام ليس ملكا خاصا له وقتام يستطيع بأمان أن‬
‫يأخذ ما يحب من السوق‪ ،‬أو أن يدخل إىل البيوت‪ ،‬ويضاجع أيا كان إرضاء‬
‫ملتعته‪ ،‬أو يقتل من يرغب‪ ،‬أو يطلق رساح من يرغب من السجن‪ .‬ومن‬
‫جميع النواحي يكون مثل إله بني الرجال(‪.)12‬‬
‫ما فعلناه هو أننا أجرينا تجربة أفالطون االجتامعية عىل اإلنرتنت لعدة سنوات‪.‬‬
‫النتيجة كانت قريبة مام ظنه أفالطون‪ :‬لقد ترصف مستخدمو اإلنرتنت رمبا بصورة‬
‫أقل مسؤولية من الناحية االجتامعية‪ .‬وقد تغريت األمور‪ .‬من دون شك‪ ،‬تورينغ كان‬
‫سوف ُي َقدِّر الكاريكاتري الذي رسمه بيرت شتايرن الذي نوقش يف الفصل الثالث‪ ،‬والذي‬
‫فيه اثنان من الكالب كل منهام يتباهى مبجهوليته‪ .‬نحن رأينا أنه مل يعد مضحكا يف‬
‫هذه األيام‪ ،‬فقد عفى عليه الزمن‪.‬‬
‫إن ملفات تعريف االرتباط (الكوكيز ‪ ،)13()Cookies‬وبرمجيات الرصد‬
‫‪ ،monitoring software‬والربمجيات الخبيثة ‪( malware‬الربامج الضارة‪ ،‬مثل‬
‫برامج التجسس ‪ )spyware‬جعلت املزيد واملزيد منا يدرك أن الشاشة التي أمامنا‬
‫ليست درعا واقية لخصوصيتنا‪ ،‬أو عباءة هاري بوتر ‪(Harry Potter‬٭) للتخفي‪،‬‬
‫ولكنها نافذة عىل حياتنا عرب اإلنرتنت‪ ،‬ميكن من خاللها رؤية أي يشء تقريبا‪ .‬ليست‬
‫هناك معادلة سحرية‪ .‬إن التقنيات املثرية للجدل املعروفة باسم «إعادة اإلحياء»‬
‫‪ Respawning‬ميكن أن تستنسخ كوكيز للتتبع؛ حتى بعد أن يحذفها ا ُملستَخ ِدم‬
‫بالتحديد(‪ .)14‬نحن نتوقع أن مواقع الويب ترصد أنشطتنا وتسجلها‪ ،‬وال يبدو أننا‬
‫حتى ُنبايل مبا هو الغرض من ذلك‪ .‬هذا ال يعني أننا ال نهتم بالخصوصية‪ ،‬لكننا َنق َبل‬
‫(٭) العباءة السحرية التي تخفي البسها يف سلسلة روايات هاري بوتر التي كتبتها جوان رولينغ‪ ،‬ابتداء من العام‬
‫‪[ .1997‬املحرر]‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫بأن كوننا عىل اإلنرتنت رمبا يكون واحدا من أقل األشياء خصوصية يف حياتنا‪ .‬وشاشة‬
‫الحاسب هي راصد يعمل عىل رصدك‪« .‬إنك ُمرا َقب» بواسطة «اآللة» طوال الوقت‬
‫(‪ ،24 /7‬أربع وعرشون ساعة يف اليوم‪ ،‬سبعة أيام يف األسبوع)‪ ،‬كام ُي َذ ِّكرنا هارولد‬
‫فينش ‪ ،Harold Finch‬امللياردير املنعزل عبقري الحاسب‪ ،‬يف بداية كل حلقة من‬
‫مسلسل دراما الجرمية «شخص ذو أهمية» ‪ ،Person of Interest‬الذي يذاع يف‬
‫تلفزيون يس يب إس ‪.CBS‬‬
‫يف العام ‪ ،1999‬أجرى صحايف يف اإليكونوميست ‪ The Economist‬تجربة‬
‫التزال تستحق اإلشارة إليها اليوم(‪ .)15‬طلب الصحايف من املحقق الخاص «سام» أن‬
‫يبني له املعلومات التي من املمكن جمعها حول شخص ما‪ .‬الصحايف نفسه كان هو‬
‫موضوع التجربة‪ ،‬والبلد كان اململكة املتحدة‪ ،‬حيث كان يعيش الصحايف‪ .‬أعطى‬
‫الصحايف إىل «سام» اسمه األول واألخري فقط‪ُ .‬وأخرب «سام» بعدم استخدام‪:‬‬
‫أي تحايل حقيقي (املراقبة‪ ،‬تفقد القاممة املنزلية‪ ،‬التنصت عىل‬
‫الهاتف‪ ،‬القرصنة‪ ،‬يشء من هذا القبيل)‪.‬‬
‫النتيجة؟ باستخدام عدة قواعد بيانات ومختلف تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪:‬‬
‫من دون حتى التحدث إىل أي شخص يعرفني‪ ،‬عرث «سام» عىل بعض‬
‫األمور عني‪ .‬كانت لديه فكرة معقولة عن أموري املالية الشخصية ‪ -‬قيمة‬
‫منزيل وراتبي واملبلغ املستحق عيل لدى الرهن العقاري‪ .‬عرف عنواين‪،‬‬
‫ورقم هاتفي‪ ،‬واسم رشييك‪ ،‬واسم رشيكتي السابقة‪ ،‬واسم والديت وعنوانها‪،‬‬
‫وأسامء ثالثة أشخاص آخرين كانوا قد عاشوا يف منزيل‪ .‬عرث عىل اسم رب‬
‫عميل‪ .‬وتوصل أيضا إىل أسامء وعناوين كانت معي ألربعة أشخاص كانوا‬
‫مديرين إلحدى الرشكات‪ .‬عرف أسامء جرياين‪.‬‬
‫صادم؟ نعم‪ ،‬يف األزمنة الحديثة ملجتمع املجهولية الصناعي‪ ،‬ولكن ليس حقا يف قرية‬
‫ما قبل الثورة الصناعية التي سبقته‪ ،‬أو يف مجتمع املعلومات والتأريخ ا ُملفرط الذي أىت‬
‫بعده‪ .‬يف قرية غوارتشينو ‪ Guarcino‬الصغرية يف جنويب روما‪ ،‬حيث يسكن ما يقرب من‬
‫‪ 1000‬شخص‪ ،‬كل شخص يعرف كل يشء عن كل شخص آخر «الحياة واملوت واملعجزات»‬
‫‪ ،vita, morte e miracoli‬كام يقولون يف إيطاليا‪ .‬االحتكاك املعلومايت منخفض للغاية‪،‬‬
‫واملجهولية ال تصلح التوازن‪ ،‬وبالتايل يكون هناك قليل من الخصوصية الثمينة‪.‬‬
‫‪146‬‬
‫اخلصوصية‪ :‬االحتكاك املعلوماتي‬

‫بطبيعة الحال‪ ،‬هناك كثري من االختالفات بني تلك القرية املحلية الصغرية‬
‫والقرية الرقمية العاملية‪ .‬رمبا يعيد التاريخ نفسه‪ ،‬ولكنه أبدا ال يكون منتظام‬
‫جدا‪ .‬يف التجمعات الصغرية تجد درجة عالية من الشفافية يف العالقات بني أفراد‬
‫كل تجمع (مثل بيت مشرتك)‪ ،‬ودرجة منخفضة من الشفافية بني تجمع وآخر‬
‫(إنها ليست مرئية للمشاهدين الخارجيني‪ ،‬مثل منزل برنامج بيغ براذر)‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫فإن انتهاك الخصوصية متبادل يف تلك التجمعات‪ ،‬لكن هناك قدرا محدودا من‬
‫انتهاكات الخصوصية عرب حدود املجتمع‪ .‬هذا يختلف متاما عن مجتمع املعلومات‬
‫اليوم‪ ،‬إذ ميكن أن تكون هناك شفافية قليلة داخل املجتمعات التي نعيش أو‬
‫نعمل فيها (نحن ال نكاد نعرف جرياننا‪ ،‬وزمالؤنا يف العمل لهم خصوصيتهم‬
‫املحمية برصامة)‪ ،‬لكن املنقبني عن البيانات وقراصنة الحاسب واملؤسسات ميكن‬
‫أن يكونوا عىل دراية جيدة بشؤوننا‪ .‬ال يوجد متاثل‪ ،‬فانتهاكات الخصوصية من‬
‫الخارج شائعة‪ .‬ما هو أكرث من ذلك‪ ،‬نحن حتى ال نعرف ما إذا كانوا يعرفون أعاملنا‬
‫التجارية‪ .‬إن جزءا من قيمة املقارنة بني املايض والحارض يكمن يف حجم املجتمع‬
‫املعني‪ .‬هناك سمة خاصة ملجتمع املعلومات هي تحديدا افتقاره إىل الحدود‪،‬‬
‫أي طابعه العاملي‪ .‬نحن نعيش يف إنفوسفري واحد ليس له «خارج»‪ ،‬وحيث تزداد‬
‫صعوبة متييز العالقات بني املجتمعـــات عن العالقات داخل املجتمع‪ .‬إن أنواع‬
‫غزو الخصوصية هي أيضا مختلفة متاما‪ ،‬ففي املجتمع الصغري‪ ،‬انتهاك الخصوصية‬
‫السمعـة‪ .‬جدير بالذكــــر‪ ،‬أن الفيلســـوف أبا‬ ‫يجلب عليك العار أو تشويه ُّ‬
‫الكنيســـة أوغسطينــوس )‪ Augustine of Hippo (430 - 354‬عادة ما كان‬
‫يتحدث عن الخصوصية فيام يتعلق بالجامع الجنيس بني الزوجني‪ ،‬وكان دامئا يقرن‬
‫ذلك بالرسية‪ ،‬ومن ثم يقرن الرسية بالخجل والحرج‪ .‬أو رمبا تكشف انتهاكات‬
‫الخصوصية عن هويتك الحقيقية‪ ،‬أو طابعك الحقيقي‪ .‬إن األشياء الخاصة أصبحت‬
‫معرفة عامة‪ .‬يف مجتمع املعلومات‪ ،‬مثل هذه االنتهاكات تتضمن جمع املعلومات‬
‫غري املرصح به‪ ،‬وليس بالرضورة نرشها‪ .‬األشياء الخاصة رمبا ال تصبح مطلقا عامة؛‬
‫بل ميكن فقط الوصول إليها واستخدامها بواسطة آخرين ذوي امتيازات‪ .‬فالقرية‬
‫الصغرية ذاتية االنضباط‪ ،‬وهذا يحد من انتهاكات الخصوصية‪ .‬كل شخص يعرف‬
‫أنه يخضع للتفحص مثل كل شخص آخر‪ ،‬وهذا يضع حدا غري معلن لشغفهم‬
‫‪147‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫باقتحام شؤون اآلخرين‪ .‬ليس هناك مثل هذا القيد االجتامعي يف القرية الرقمية‬
‫العاملية‪ ،‬ولكن دفاعات أخرى أصبحت متاحة‪ .‬لدى مجتمع املعلومات اليوم‬
‫الوسائل الرقمية لحامية ما ينبغـــي أن تهملــه ‪ -‬بالرضورة ‪ -‬القرية الصغرية‪ ،‬كام‬
‫سرنى يف القسم التايل‪.‬‬

‫التمكني‬
‫لقد وعدت آنفا بأن أحلل ظاهرتني‪ .‬نحن رأينا من فورنا كيف أن انخفاض‬
‫االحتكاك املعلومايت الناجم عن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت ميكن موازنته‬
‫بواسطة عوامل أخرى‪ ،‬السيام املجهولية الحديثة‪ .‬الظاهرة الثانية‪ ،‬موضوع هذا‬
‫القسم‪ ،‬تتعلق بالفرق بني القديم والجديد يف تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪.‬‬
‫متيل تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت القدمية دامئا إىل خفض ما تعتربه‬
‫العنارص الوسيطة (الوكالء) درجة االحتكاك املعلومايت املعتادة يف بيئتهم‪ .‬يبقى‬
‫هذا بالفعل صحيحا بالنسبة إىل اخرتاع األبجدية أو النتشار الطباعة‪ .‬يف العام ‪1890‬‬
‫رأينا أن وارن وبرانديز ‪ Warren and Brandeis‬قد اشتكيا من أن التصوير وظهور‬
‫الصحف اليومية يعززان هذا االتجاه‪ .‬وال يسع تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫ذات البادئة تييل ‪( Tele‬وهي تعني من ُبعد)‪ ،‬من التليسكوب إىل التلفزيون‪،‬‬
‫وتكنولوجيات املعلومات واالتصاالت الخاصة بالتسجيل‪ ،‬من األبجدية إىل تطبيقات‬
‫الهاتف الذيك‪ ،‬إال أن تقلل من االحتكاك املعلومايت يف اإلنفوسفري‪ .‬تجد مثاال رائعا‬
‫عىل ذلك يف الفيلم الكالسييك «النافذة الخلفية» ‪ ،Rear Window‬الذي أخرجه‬
‫ألفريد هيتشكوك )‪ Alfred Hitchcock (1980 - 1899‬يف العام ‪ .1954‬صحايف‬
‫يدعى ل‪ .‬ب‪ .‬جيفريز (جيف) ‪( ‘Jeff’ L. B. Jefferies‬أدى دوره املمثل جيمس‬
‫ستيوارت ‪ ،)James Stewart‬يتمكن من التجسس عىل جريانه وحل جرمية بفضل‬
‫مجموعة متنوعة من التكنولوجيات‪ ،‬بينام هو رهني كريس متحرك بسبب كرس يف‬
‫ساقه‪ .‬بعد ذلك بعرشين عاما‪ ،‬فإن فضيحة ووترغيت‪ ،‬واستقالة نيكسون يف العام‬
‫‪ ،1974‬تدينان بالكثري لتكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪.‬‬
‫من يسيطرون عىل تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت القدمية قبل الرقمية‬
‫يسيطرون عىل االحتكاك املعلومايت‪ ،‬ومن ثم يسيطرون عىل تدفق املعلومـات‪.‬‬
‫‪148‬‬
‫اخلصوصية‪ :‬االحتكاك املعلوماتي‬

‫مثل هذا التفسري التمكيني لتكنولوجيات املعلومات واالتصاالت تصوره بشكل جيد‬
‫اآلراء املتشامئة للعنارص الوسيطة (الوكالء) ذات النفوذ املعلومايت غري املحدود‪،‬‬
‫القادرة عىل التغلب عىل أي احتكاك معلومايت‪ ،‬والقادرة عىل السيطرة عىل جميع‬
‫جوانب تدفق املعلومات‪ ،‬والقادرة عىل الحصول عىل أي بيانات شخصية‪ ،‬ومن ثم‬
‫تطبيق نظام املراقبة األعظم‪ ،‬وبالتايل تدمري كل الخصوصية‪ .‬إن فقدان «أعز ما‬
‫منلك» هو مشكلة منذ عرص ما قبل الرقمية‪َ .‬ت َذ ّكر أن رواية أورويل ‪« Orwell‬ألف‬
‫وتسعامئة وأربعة ومثانون» ‪ ،Nineteen Eighty-Four‬التي ُنرشت للمرة األوىل يف‬
‫العام ‪ ،1949‬مل تتضمن أي إشارة إىل حواسب أو آالت رقمية‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬وبناء عىل هذه الصورة اإلجاملية‪ ،‬ميكن فهم أن تفسري التغريات‬
‫التكنولوجية عىل أنها مستمرة ومتصلة من دون انقطاع سوف يوحي بأن الجديد‬
‫من تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت الرقمية ينبغي أن يتم التعامل معه عىل‬
‫أنه مجرد حالة إضافية ملا هو معروف جيدا من تحسني أو تعزيز للقديم من‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ .‬ولكن ‪ -‬يستمر االستدالل ‪ -‬إذا مل يكن هناك‬
‫اختالف جذري بني القديم والجديد من تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬فمن‬
‫املنطقي أيضا القول إن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت الجديدة تسبب ازدياد‬
‫مشكالت الخصوصية ملجرد أنها أقوى‪ ،‬أضعافا مضاعفة‪ ،‬من تكنولوجيات املايض‪،‬‬
‫فيام يتعلق بتمكني العنارص يف اإلنفوسفري‪ .‬إن شخصية «األخ األكرب»‪ ،‬يف رواية «ألف‬
‫وتسعامئة وأربعة ومثانون» ‪ Nineteen Eighty-Four‬التي كتبها جورج أورويل‬
‫)‪ُ George Orwell (1950 - 1903‬تق َرن بسهولة اليوم مع قاعدة البيانات األساسية‪.‬‬
‫مشكلة هذا االستدالل هي أن الجديد من تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪،‬‬
‫خالفا للقديم منها‪ ،‬يؤدي إىل متكني ا ُملستَخ ِدمني يف كال االتجاهني‪ ،‬نظرا إىل أنه يف‬
‫وسعهم زيادة االحتكاك املعلومايت وإنقاصه‪.‬‬
‫يأيت التمكني يف نكهتني رئيسيتني‪ ،‬كلتاهام ُتحسب ألغراضنا الحالية‪ .‬التمكني‬
‫رمبا يعني «تكافؤ الفرص»‪ .‬هذا هو التمكني باعتباره إرشاكا يف عمليات صنع القرار‪،‬‬
‫يف مقابل التهميش‪ ،‬أو اإلقصاء‪ ،‬أو التمييز‪ .‬هذا ما يكون يف أذهاننا عند الحديث‬
‫عن التمكني الجندري أو متكني األقلية‪ .‬هذا النوع من التمكني غري رضوري يف‬
‫الدميوقراطيات الراقية‪ ،‬أو ينبغي أن يصري كذلك قريبا‪ .‬ثم هناك مفهوم «مزيد من‬
‫‪149‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫الفرص»‪ .‬وهذا هو التمكني باعتباره تحسينا يف َك ّم ونوع الخيارات املتاحة‪ .‬عىل‬


‫سبيل املثال‪ ،‬هذا هو نوع التمكني الذي نعنيه عندما نناقش تجارب املستهلكني‬
‫أو تفاعالتهم‪ .‬حتى يف دميوقراطية مثالية‪ ،‬ليس هناك حد للمدى الذي ينبغي أن‬
‫يذهب إليه هذا النوع من التمكني‪ ،‬ألنه ليس هناك حد لطبيعة الفرص التي ميكن‬
‫أن ُت َقدَّم وعددها‪ ،‬ألن هذه الفرص ‪ -‬عىل األقل ‪ -‬هي مسألة تتعلق بتنمية اإلنسان‪.‬‬
‫يف الوقت الحايل‪ ،‬كال شكيل التمكني يرتبط بصورة متزايدة باملعلومات املتاحة والتي‬
‫ميكن الوصول إليها‪ ،‬وكالهام مطلوب من أجل ضامن مزيد من املساواة‪ ،‬ومن‬
‫مستويات املعيشة األفضل‪ .‬يف بعض الحاالت‪ ،‬يجري دمج نوعي التمكني يف مفهوم‬
‫واحد‪ ،‬كام هي الحال عندما يكون ما نعنيه هو متكني املرىض‪ ،‬أو متكني إنفورغات‬
‫بواسطة تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬كام سأناقش اآلن‪.‬‬
‫يف اإلنفوسفري‪ ،‬يجري متكيننا‪ ،‬باعتبارنا إنفورغات‪ ،‬عىل نحو متزايد (مزيد‬
‫من اإلرشاك ومزيد من التحسني) عن طريق الجديد من تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت‪ ،‬ليس فقط لجمع ومعالجة البيانات الشخصية‪ ،‬ولكن أيضا للتحكم فيها‬
‫وحاميتها‪َ .‬تذ َّكر أن ما هو رقمي يف الوقت الحايل يتعامل من دون جهد مع ما هو‬
‫رقمي‪ .‬هذه الظاهرة تفعل فعلها يف كال االتجاهني‪ ،‬لقد أدت ‪ -‬ليس فقط إىل توسع‬
‫هائل يف تدفق املعلومات الشخصية التي يجري تسجيلها ومعالجتها واستغاللها‬
‫‪ -‬ولكنها أدت أيضا إىل زيادة كبرية يف أنواع ومستويات التحكم الذي ميكن أن‬
‫تبارشه العنارص الوسيطة (الوكالء) عىل بياناتها الشخصية‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يتكاثر‬
‫رسيعا عدد رشكات إدارة السمعة التي ُترا ِقب و ُت َح ِّسن املعلومات حول شخص ما‬
‫أو عالمة تجارية ما عىل اإلنرتنت‪ .‬يف العام ‪ ،2013‬إحدى هذه الرشكات‪ ،‬و ُتدعى‬
‫‪ ،Reputation.com‬كان لديها أكرث من مليون عميل يف أكرث من مائة دولة‪ .‬وعىل‬
‫الرغم من أنه ال يوجد سوى قدر معني من املعلومات الشخصية التي رمبا يهتم املرء‬
‫بحاميتها‪ ،‬فال يبدو أن هناك حدا منظورا للنمو املتوقع للوسائل والتدابري الرقمية‬
‫التي تستخدم للتحكم يف دورة حياة تلك املعلومات‪ .‬افرتض أن الخصوصية هي حق‬
‫األفراد (سواء أشخاص أو جامعات أو مؤسسات) يف التحكم يف دورة حياة املعلومات‬
‫الخاصة بهم (خاصة إنشاءها‪ ،‬والوصول إليها‪ ،‬والتسجيل‪ ،‬واالستخدام)‪ ،‬وتحديد‬
‫متى‪ ،‬وكيف‪ ،‬وإىل أي مدى تتم معالجتها بواسطة اآلخرين؛ من ثم ينبغي عىل املرء‬
‫‪150‬‬
‫اخلصوصية‪ :‬االحتكاك املعلوماتي‬

‫أن يقر بأن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت الرقمية رمبا ُت َح ِّسن‪ ،‬وكذلك ُتعيق‪،‬‬
‫إمكان فرض مثل هذا الحق‪.‬‬
‫يف مرحلة إنشاء (توليد) البيانات‪ ،‬ميكن لتكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫الرقمية أن ُتيرس حامية البيانات الشخصية‪ ،‬السيام عن طريق التشفري‪ ،‬وإخفاء هوية‬
‫صاحبها‪ ،‬وترميز كلمة الرس‪ ،‬والجدران النارية‪ ،‬والربوتوكوالت أو الخدمات املبتكرة‬
‫تحديدا لهذا الغرض‪ ،‬ونظم التحذير يف حالة االستيالء عىل البيانات من الخارج‪.‬‬
‫أما يف مرحلة تخزين البيانات‪ ،‬فإن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت الرقمية‬
‫ُتصدر الترشيعات املمكنة‪ ،‬مثل توجيه حامية البيانات الذي جرى متريره بالفعل‬
‫من ِق َبل االتحاد األورويب يف العام ‪ ،1995‬والذي ميكن أن يضمن أن أي احتكاك‬
‫معلومايت‪ُ ،‬أ ِزيل بالفعل بواسطة تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت الرقمية‪ ،‬ال‬
‫تجري إعادته خلسة ملنع العنارص الوسيطة (الوكالء) من اكتشاف وجود سجالت‬
‫البيانات الشخصية‪ ،‬وملنعهم من الوصول إليها‪ ،‬أو التحقق من دقتها‪ ،‬أو تصحيحها‬
‫أو تحديثها‪ ،‬أو املطالبة مبحوها‪ .‬ويف مرحلة إدارة البيانات – ال سيام عن طريق‬
‫التنقيب يف البيانات‪ ،‬وتشاركها‪ ،‬ومطابقتها‪ ،‬ودمجها ‪ -‬ميكن لتكنولوجيا املعلومات‬
‫واالتصاالت الرقمية أن تساعد العنارص الوسيطة (الوكالء) عىل مراقبة وتنظيم‬
‫استخدام البيانات الخاصة بهم عن طريق تسهيل تحديد وتنظيم ا ُملستَخ ِدمني‬
‫املعنيني ذوي الصلة‪ .‬يف كل مرحلة من هذه املراحل الثالث‪ ،‬ميكن أن تكمن الحلول‬
‫ملشكلة حامية الخصوصية ليست فقط يف التنظيم الذايت والترشيعات‪ ،‬ولكنها تكون‬
‫أيضا حلوال تكنولوجية‪ ،‬ألسباب ليس أقلها أن انتهاكات الخصوصية ميكن تحديدها‬
‫وعالجها بسهولة أكرث بفضل تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت الرقمية أيضا‪.‬‬
‫ال يعني كل هذا أننا حتام نتجه نحو سيناريو مثايل حامل‪ ،‬حيث تقوم تكنولوجيات‬
‫تحسني الخصوصية ‪ PETs‬بتوفري الحامية الكاملة لحياتنا الخاصة وملعلوماتنا الخاصة‬
‫من أرضار تكنولوجيات اقتحام الخصوصية ‪ .PITs‬هذا التفاؤل غري مربر‪ ،‬ألن الحلول‬
‫لن تنشأ من تلقاء نفسها من دون بعض الجهد من جانبنا؛ لكن هذا التفاؤل يعني‬
‫أن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت الرقمية تقدم بالفعل بعض الوسائل ملواجهة‬
‫املخاطر والتحديات التي ُتسببها للخصوصية‪ ،‬ومن ثم وفوق كل ذلك فإن التشاؤم‬
‫وكأنه أمر قدري محتوم ليس له ما يربره‪ .‬ليس بالرضورة أن تؤدي تكنولوجيات‬
‫‪151‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫املعلومات واالتصاالت الرقمية إىل تآكل الخصوصية؛ فهي أيضا ميكن أن ُت َح ّسنها‬
‫وتحميها‪ .‬رمبا تكون قد أدت إىل تآكل املجهولية باعتبارها بديال للخصوصية‪ ،‬لكنها‬
‫قدمت الخصوصية من خالل تصميم تكنولوجياتنا وبيئاتنا االجتامعية بصورة مالمئة‪.‬‬
‫لقد وصلنا إىل نهاية غارتينا‪ ،‬وكام وعدت‪ ،‬نحن اآلن مستعدون إلعادة النظر‬
‫يف إجابتنا عن السؤال األول‪ .‬الجديد من تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت جعل‬
‫الخصوصية واحدة من القضايا األكرث وضوحا وإلحاحا يف مجتمعنا‪ ،‬ليس فقط‬
‫ألنها تسببت يف استمرار تآكل االحتكاكات املعلوماتية‪ ،‬مثلام فعلت تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت القدمية‪ ،‬ولكن أيضا ألنها قوضت شكال موازنا من الخصوصية‬
‫يستند إىل املجهولية‪ ،‬وألنها مكنت العنارص الوسيطة (الوكالء) يف كال االتجاهني‪ ،‬من‬
‫أن يقوموا بتقليل وزيادة االحتكاك املعلومايت‪.‬‬
‫لقد حان الوقت ألنتقل إىل السؤال الثاين‪ :‬ما الخصوصية بعد الثورة الرابعة؟‬

‫ما يجعل الخصوصية مهمة‬


‫هناك بالتحديد نظريتان شائعتان بشأن قيمة خصوصيتنا‪ ،‬هام‪ :‬التفسري‬
‫االختزايل والتفسري القائم عىل امللكية‪.‬‬
‫يقوم التفسري االختزايل عىل مبدأ أن قيمة الخصوصية ترتكز إىل مجموعة‬
‫متنوعة من العواقب غري املرغوب فيها التي رمبا تنجم عن انتهاكها‪ ،‬إما عىل املستوى‬
‫الشخيص‪ ،‬مثل االبتئاس‪ ،‬وإما بشكل اجتامعي‪ ،‬مثل اإلجحاف‪ .‬الخصوصية هي أداة‬
‫مساعدة‪ ،‬أيضا مبفهوم تقديم الظروف الالزمة لحدوث تفاعالت إنسانية جيدة‪ ،‬من‬
‫خالل الحفاظ عىل الكرامة اإلنسانية أو من خالل ضامن ضوابط وتوازنات سياسية‪،‬‬
‫عىل سبيل املثال‪.‬‬
‫أما التفسري القائم عىل امللكية فيذهب إىل أن الخصوصية املعلوماتية ينبغي أن‬
‫ُتحترَ َم ألن لكل شخص الحق يف األمان واالمتالك يف وقت واحد‪ ،‬حيث إن «ممتلكات‬
‫الشخص س» ُتف َهم تقليديا عىل أنها حق االستخدام الحرصي للشخص س‪ .‬ويقال إن‬
‫شخصا ما ميتلك معلوماته (معلومات عن ذاته أو عن ذاتها) ‪ -‬تذكر مقولة فرجينيا‬
‫وولف «أعز ما منتلك إىل ما ال نهاية» ‪ -‬ومن ثم يحق له التحكم يف دورة الحياة‬
‫بأكملها‪ ،‬من اإلنشاء إىل املحو مرورا باالستخدام‪.‬‬
‫‪152‬‬
‫اخلصوصية‪ :‬االحتكاك املعلوماتي‬

‫والتفسريان غري متضاربني‪ ،‬لكن كال منهام يؤكد جانبا مختلفا لقيمة الخصوصية‪.‬‬
‫التفسري االختزايل ُم َو َّجه أكرث نحو التقييم العواقبي للخصوصية مبفهوم تحليالت‬
‫التكلفة والعائد لحاميتها أو انتهاكها‪ .‬أما التفسري القائم عىل امللكية فهو ُم َو َّجه أكرث‬
‫نحو فهم «الحقوق الطبيعية» لقيمة الخصوصية ذاتها‪ ،‬مبفهوم امللكية الخاصة أو‬
‫امللكية الفكرية‪ .‬هذا ال يثري الدهشة‪ ،‬ألن كال منهام ينتمي إىل «عقلية تاريخية»‪،‬‬
‫كالهام يقارن انتهاك الخصوصية بالتعدي أو الغزو غري الرشعي‪ ،‬أو التدخل‪ ،‬يف فضاء‬
‫أو مجال مجازي من املعلومات الشخصية‪ ،‬التي ينبغي أن تكون إمكانية الوصول‬
‫إليها واستخدامها تحت السيطرة التامة ملالكها ومن ثم تبقى خاصة‪.‬‬
‫كال التفسريين غري ُمرض بشكل كامل‪ .‬التفسري االختزايل يدافع عن رضورة احرتام‬
‫الخصوصية يف ضوء احتامل سوء استخدام املعلومات التي تم الحصول عليها‪.‬‬
‫هذا مقبول من دون شك‪ ،‬ال سيام من املنظور العواقبي‪ ،‬لكنه رمبا يكون غري‬
‫متسق مع مواصلة وتطور املصالح االجتامعية والرخاء االجتامعي‪ .‬رغم أنه من‬
‫الواضح أن بعض املعلومات الشخصية العامة رمبا تحتاج إىل أن تكون محمية –‬
‫ال سيام ضد جمع املعلومات الشخصية أو املراقبة اإللكرتونية الفجة – فإنه عىل‬
‫أسس اختزالية بحتة‪ ،‬اليزال غري واضح ما إذا كان املجتمع الذي يخلو من أي‬
‫خصوصية ليس يف نهاية املطاف مجتمعا أفضل مع رفاهية عامة أعىل‪ .‬يف الواقع‪،‬‬
‫لقد سيقت حجج مقنعة بأن الدفاع عن الخصوصية يف املنزل رمبا ُيستخدم‬
‫فعليا كذريعة إلخفاء الجانب املظلم من الخصوصية‪ ،‬مثل‪ :‬العنف املنزيل‪ ،‬أو‬
‫اإلهامل‪ ،‬أو سوء املعاملة)‪ .(16‬وتحديدا بسبب اعتبارات اختزالية فقط‪ ،‬فإننا‬
‫حتى يف املجتمعات الدميوقراطية منيل إىل أن نقر بأنه ميكن تجاوز الحق يف‬
‫الخصوصية عندما تصري اهتاممات وأولويات أخرى أكرث إلحاحا‪ ،‬مثل السلم العام‬
‫أو األمن القومي‪ .‬كل هذا عن طريق وضع قدر كبري من الضغط التفسريي عىل‬
‫الرشط «التعسفي» الذي يك ّيف املادة ‪ 12‬من اإلعالن العاملي لحقوق اإلنسان‬
‫التي تنص عىل أنه‬
‫ال يتعرض أحد لتدخل تعسفي [اإلبراز مضاف] يف حياته الخاصة‪ ،‬أو‬
‫أرسته‪ ،‬أو مسكنه‪ ،‬أو مراسالته‪ ،‬وال لحمالت عىل رشفه وسمعته‪ .‬كل شخص‬
‫له الحق يف الحامية القانونية من مثل هذا التدخل أو تلك الحمالت‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫أيضا التفسري القائم عىل امللكية ال يرقى إىل أن يكون ُمرضيا متاما‪ ،‬لثالثة أسباب‬
‫عىل األقل‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬قد يقوض التلوث (اإلفساد) املعلومايت الخصوصية املعلوماتية السلبية‪.‬‬
‫أي تلقي معلومات أو بيانات بصورة غري مرغوب فيها‪ ،‬مبا يف ذلك مجرد التشويش‬
‫الذي ُيفرض عىل شخص ما عن طريق مصادر خارجية‪ .‬رمبا ال يحدث عادة غسيل‬
‫للمخ‪ ،‬لكن رسائل الربيد اإللكرتوين غري املرغوب فيها‪ ،‬أو الحالة املتمثلة بشخص‬
‫قريب يتحدث عىل الهاتف بصوت عال‪ ،‬هي لألسف تجارب شائعة لالنتهاك السلبي‬
‫للخصوصية‪ ،‬لكن هذا ال يبدو انتهاكا للملكية املعلوماتية‪.‬‬
‫ثانيا‪ ،‬هناك مشكلة الخصوصية يف األماكن العامة‪ .‬الخصوصية غالبا ما تمُ ارس‬
‫بشكل علني‪ ،‬أي يف األماكن املشرتكة اجتامعيا وماديا وإعالميا‪ ،‬ففي منطقة وسط‬
‫املدينة يستطيع أي شخص أن يرى ما يقوم به أي شخص آخر‪ .‬كيف ميكن أن يكون‬
‫نظام الدائرة التلفزيونية املغلقة انتهاكا لخصوصية شخص ما‪ ،‬إذا كان الشخص‬
‫املعني يدخل عىل أي حال إىل مكان يتصف بأنه عام طبقا لكل املفاهيم املمكنة؟‬
‫التفسري القائم عىل امللكية ال ميكنه تقديم إجابة ُمرضية‪.‬‬
‫وأخريا‪ ،‬هناك استخدام مجازي وغري دقيق ملفهوم «ملكية املعلومات»‪ ،‬هذا‬
‫التفسري ال ميكنه أن ُي َفسرّ متاما اكتساب أو استخدام املعلومات من دون فقد‪ .‬نحن‬
‫رأينا يف الفصل الثاين أن املعلومات ليست مثل البيتزا أو القرص ا ُملدمج‪ ،‬فمعلومات‬
‫املرء الشخصية‪ ،‬خالفا لغريها من األشياء التي ميلكها املرء‪ ،‬ال ُتفقد عندما يحصل‬
‫عليها شخص آخر‪ .‬إن تحليالت الخصوصية استنادا إىل «ملكية» لـ «فضاء معلومايت»‬
‫هي مجازية للغاية‪ .‬نحن يف حاجة إىل بديل أفضل‪ ،‬لذلك إليك هذا املقرتح‪.‬‬

‫القيمة الذاتية التكوين للخصوصية‬


‫ال يعرتف التفسري االختزايل‪ ،‬وال التفسري القائم عىل امللكية‪ ،‬بالتغريات املهمة‬
‫التي أحدثتها تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت الرقمية‪ .‬كالهام ينتمي إىل ثقافة‬
‫صناعية مرتبطة بالسلع املادية والعالقات الصناعية أو التجارية‪ .‬كالهام يعتمد عىل‬
‫األطر املفاهيمية التي هي «تاريخية» أكرث منها «مفرطة التأريخ»‪ .‬لذلك‪ ،‬فمحاولة‬
‫التعامل مع التحديات الجديدة التي أدخلتها ثقافة املعلوماتية إىل الخدمات‬
‫‪154‬‬
‫اخلصوصية‪ :‬االحتكاك املعلوماتي‬

‫واالستخدامية تفوق طاقة أي منهام‪ .‬من املثري لالهتامم‪ ،‬أن «وارن» و«برانديز» قد‬
‫أدركا بالفعل هذا الحد بفطنة باهرة‪:‬‬
‫حيث وجد أن قيمة إنتاج [بعض املعلومات] ليست يف الحق يف‬
‫الحصول عىل األرباح الناشئة عن النرش‪ ،‬ولكن يف الطأمنينة أو االرتياح الذي‬
‫متنحه القدرة عىل منع أي نرش ُمطلقا‪ ،‬يكون من الصعب اعتبار الحق عىل‬
‫أنه أحد املمتلكات‪ ،‬من حيث القبول العام للمصطلح [اإلبراز مضاف](‪.)17‬‬
‫بعد ذلك بأكرث من قرن من الزمان‪ ،‬وكام أن ثورة املعلومات ُتفهم بشكل أفضل‬
‫باعتبارها ثورة رابعة يف فهمنا الذايت‪ ،‬فالخصوصية تتطلب إعادة تفسري جذرية‬
‫مامثلة‪ ،‬تتطلب تفسريا يأخذ يف االعتبار الطبيعة املعلوماتية لذواتنا وتفاعالتنا‬
‫باعتبارنا إنفورغات‪.‬‬
‫مثل هذا التفسري يتحقق من خالل النظر إىل كل شخص عىل أنه يتألف من‬
‫معلوماته‪ ،‬ومن ثم من خالل فهم انتهاك الخصوصية املعلوماتية ألحد ما عىل أنها‬
‫شكل من أشكال العدوان عىل هويته الشخصية‪ .‬هذا التفسري للخصوصية عىل أنها‬
‫لها قيمة تشكيل الذات يتسق مع حقيقة أن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫ميكنها عىل حد السواء تقويض وتعزيز الخصوصية املعلوماتية‪ ،‬ومن ثم ينبغي‬
‫بذل جهد إيجايب ليس فقط من أجل دعم تكنولوجيات تحسني الخصوصية ولكن‬
‫أيضا تطبيقات بنائها‪ ،‬التي رمبا تسمح للمستخدمني بتصميم وتشكيل هوياتهم‪،‬‬
‫والحفاظ عليها‪ ،‬بوصفها عنارص وسيطة (وكالء) معلوماتية‪ .‬إن قيمة الخصوصية‬
‫هي يف الدفاع عنها وتحسينها عىل حد السواء‪.‬‬
‫يحتاج تدفق املعلومات إىل بعض االحتكاك من أجل الحفاظ عىل التمييز‬
‫الراسخ بني النظام الكيل املتعدد العنارص (الوكالء) ‪( -‬املجتمع)‪ ،‬وهوية النظم‬
‫الجزئية املتعددة العنارص (الوكالء) ‪( -‬األفراد) املكونة له‪ .‬إن أي مجتمع (حتى لو‬
‫كان هو املدينة الفاضلة) تغيب عنه الخصوصية املعلوماتية‪ ،‬هو مجتمع ال ميكن‬
‫أن تحدث فيه عملية التكوين الذايت‪ ،‬ال ميكن فيه بناء الهوية الشخصية والحفاظ‬
‫عليها‪ ،‬ومن ثم ال ميكن أن يتحقق الرخاء‪ ،‬إذ إن الرخاء االجتامعي ما هو إال حاصل‬
‫جمع األفراد الذين يتضمنهم‪ .‬إن «الشفافية» التامة لإلنفوسفري التي رمبا ينادي بها‬
‫بعض االختزاليني ‪ -‬تذكر مثال املنزل وطالبنا الذين يعيشون يف داخله – ال تتحقق‬
‫‪155‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫الحامية للمجتمع إال من خالل محو كل الهوية الشخصية والفردانية‪ ،‬هذا «حل‬
‫نهايئ» من دون شك‪ ،‬ولكنه حل يصعب أن يسعد بتبنيه األفراد أنفسهم الذين‬
‫يشكلون املجتمع املزمع حاميته‪ .‬كام متت اإلشارة إليه بشكل صحيح‪:‬‬
‫ُتنذر حالة عدم الخصوصية ليس فقط بتثبيط التعبري عن الفردانية‬
‫الغريبة األطوار‪ ،‬ولكن أيضا‪ ،‬تدريجيا‪ُ ،‬تنذر بكبح قوة طموحنا إليها (‪.)18‬‬
‫ويتميز تفسري التكوين الذايت عن التفسري االختزايل بأن املخاوف العواقبية رمبا‬
‫تلغي احرتام الخصوصية‪ ،‬بينام تفسري التكوين الذايت‪ ،‬مبساواته حامية الخصوصية‬
‫مع حامية الهوية الشخصية‪ ،‬يعترب الخصوصية حقا من الحقوق األساسية‪ .‬اعتياديا‪،‬‬
‫ينبغي أن تكون الفرضية دامئا يف مصلحة احرتام الخصوصية‪ .‬وكام سرنى‪ ،‬هذا ال‬
‫يعني أن الخصوصية غري قابلة أبدا للتفاوض بأي درجة‪.‬‬
‫يفيد النظر إىل طبيعة شخص ما عىل أنها تتألف من معلوماته يف فهم الحق يف‬
‫الخصوصية عىل أنه الحق يف الحصانة الشخصية من التغريات غري املعروفة‪ ،‬أو غري‬
‫املرغوب فيها‪ ،‬أو غري املقصودة يف هوية املرء باعتباره كيانا معلوماتيا‪ ،‬سواء كانت‬
‫هذه التغريات بشكل مبارش أو بشكل غري مبارش‪ .‬بشكل مبارش‪ ،‬ألن ما يتم من‬
‫جمع‪ ،‬وتخزين‪ ،‬وإعادة إنتاج‪ ،‬ومعالجة‪ ،‬وما إىل ذلك ملعلومات «أليس» يصل يف‬
‫الوقت الحايل إىل مراحل رسقة أو استنساخ هويتها الشخصية؛ وبشكل غري مبارش‪،‬‬
‫ألن انتهاك خصوصية «أليس» رمبا يف الوقت الحايل يكون يف إجبارها عىل الحصول‬
‫عىل بيانات غري مرغوب فيها‪ ،‬وبالتايل تغيري طبيعتها بوصفها كيانا معلوماتيا من‬
‫دون موافقتها‪ .‬إن غسل املخ هو انتهاك للخصوصية بنفس قدر ما تفعله قراءة‬
‫األفكار من انتهاك للخصوصية‪ .‬بذلك تم تجنب العقبة األوىل التي تواجه التفسري‬
‫القائم عىل امللكية‪ .‬يوحي تفسري التكوين الذايت بأن املجال املعلومايت الخاص بك‬
‫وهويتك الشخصية هام مرجعية جرى تشاركها‪ ،‬أو وجهان لعملة واحدة‪ .‬ليس‬
‫هناك فرق بناء عىل حقيقة أنك «أنت تكون معلوماتك»‪ ،‬لذلك فإن أي يشء يحدث‬
‫ملعلوماتك هو يشء يحدث لك‪ ،‬وليس ملتعلقات خاصة بك‪ .‬يرتتب عىل ذلك أن‬
‫الحق يف الخصوصية‪ ،‬سواء باملعنى املبارش أو غري املبارش الذي رأيناه من فورنا‪،‬‬
‫يحمي الهوية الشخصية للمرء‪ .‬هذا هو السبب يف أن الخصوصية مثينة للغاية‬
‫وينبغي أن ُتحرتم‪.‬‬
‫‪156‬‬
‫اخلصوصية‪ :‬االحتكاك املعلوماتي‬

‫املشكلة الثانية التي تؤثر يف التفسري القائم عىل امللكية هي أيضا تم حلها‪ ،‬ألن‬
‫انتهاكات الخصوصية املعلوماتية‪ ،‬وبشكل مثمر أكرث‪ُ ،‬تقارن اآلن باالختطاف بدال‬
‫من التعدي‪ .‬إن ميزة هذا التغيري يف املنظور هو أن يصري من املمكن التخلص من‬
‫الثنائية الكاذبة التي تتصف بها الخصوصية يف السياقات العامة أو الخاصة‪ .‬إن‬
‫بعض املعلومات التي تشكل «أليس» ال تعتمد عىل السياق‪ ،‬ومن ثم «أليس» ُمحقة‬
‫متاما يف رغبتها يف الحفاظ عىل تكاملها وتفردها حتى يف األماكن العامة‪ .‬إن التعدي‬
‫ال معنى له يف مكان عام‪ ،‬ولكن االختطاف جرمية أينام يتم ارتكابه‪.‬‬
‫أما بالنسبة إىل املشكلة الثالثة‪ ،‬فاليزال بوسع املرء أن يدعي أن عنرصا وسيطا‬
‫(وكيال) «ميلك» معلوماته‪ ،‬ولكن ذلك مل يعد باملعنى املجازي الذي رأيته من فوري‪،‬‬
‫ولكن باملعنى الدقيق الذي يكون فيه العنرص الوسيط (الوكيل) هو املعلومات‬
‫الخاصة به أو بها‪ .‬إن حرف الكاف الدال عىل «امللكية» يف «معلوماتك» ليس‬
‫هو نفسه كام يف «سيارتك»‪ ،‬لكنه هو نفسه كام يف «جسدك»‪ ،‬و«مشاعرك»‪،‬‬
‫و«ذكرياتك»‪ ،‬و«أفكارك»‪ ،‬و«اختياراتك»‪ ،‬وما شابه ذلك‪ ،‬وهو يعرب عن مفهوم‬
‫متعلقات تكوينية‪ ،‬وليس عن ملكية أشياء خارجية‪ ،‬املفهوم الذي يجعل من‬
‫جسدك‪ ،‬ومشاعرك‪ ،‬ومعلوماتك أجزاء منك‪ ،‬ولكن ليس من ممتلكاتك باملفهوم‬
‫القانوين‪ُ .‬م َج َّددا‪ ،‬يجدر هنا االقتباس من «وارن» و«برانديز»‪ ،‬اقتباسا مطوال هذه‬
‫املَ ّرة يف‪:‬‬
‫الحامية املمنوحة لألفكار واملشاعر والعواطف [‪ ]...‬هي مجرد حالة‬
‫إلنفاذ الحق األعم للفرد يف أن ُيرتك وشأنه‪ .‬إنه مثل الحق يف عدم التعرض‬
‫لالعتداء أو الرضب‪ ،‬أو الحق يف عدم التعرض للسجن‪ ،‬أو الحق يف عدم‬
‫التعرض لالضطهاد بشكل ضار‪ ،‬أو الحق يف عدم التعرض للتشهري [أو الحق‬
‫يف عدم التعرض لالختطاف‪ ،‬إضافة خاصة يب]‪ .‬يف كل من هذه الحقوق‬
‫[‪ ]...‬هناك تأصيل لكيفية امتالك الفرد أو االستحواذ عليه [‪ ]...‬رمبا يكون‬
‫الص َواب يف الحديث عن تلك الحقوق عىل أنها ممتلكات‪ .‬لكن‪،‬‬ ‫هناك بعض َ‬
‫من الواضح‪ ،‬أنها تنطوي عىل قدر من الشبه مبا ُيفهم عادة مبقتىض هذا‬
‫املصطلح‪ .‬إن املبدأ [‪ ]...‬هو يف الواقع ليس مبدأ َص َواب خاص لكنه مبدأ‬
‫شخصية ال ميكن انتهاكها [اإلبراز مضاف](‪ ]...[ .)19‬الحق يف الخصوصية‪،‬‬

‫‪157‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫كجزء من الحق األعم يف حامية الفرد‪[ ،‬يكون] هو حق الفرد يف شخصيته‬


‫[اإلبراز مضاف] (‪.)20‬‬
‫بدأ مفهوم التكوين الذايت للخصوصية وما له من قيمة يلقى التقدير من‬
‫مجتمعات التأريخ ا ُملفرط األكرث تقدما‪ ،‬املجتمعات التي فيها رسقة الهوية هي‬
‫واحدة من الجرائم التي تتزايد رسيعا‪ .‬إن الخصوصية هي الجانب اآلخر من رسقة‬
‫الهوية‪ ،‬إىل درجة أنه‪ ،‬ويا للمفارقة‪ ،‬لكل شخص ُترسق هويته (نحو ‪ 10‬ماليني أمرييك‬
‫يقعون ضحية سنويا) هناك شخص آخر (اللص) يتم «تحسني» هويته‪.‬‬
‫وتعرب املشاكل التي تؤثر يف رشكات مثل غوغل أو فيسبوك وسياساتها للخصوصية عن‬
‫صورة مامثلة‪ .‬كام أشار ذات مرة كيفن بانكستون ‪ ،Kevin Bankston‬محامي املوظفني‬
‫يف مؤسسة الجبهة اإللكرتونية ‪ Electronic Frontier Foundation‬إىل أن‪(21):‬‬

‫تاريخ البحث الخاص بك ُي َبينّ روابطك‪ ،‬ومعتقداتك‪ ،‬ورمبا مشاكلك‬


‫الصحية‪ .‬إن األشياء التي تبحث عنها مستخدما غوغل ُت َع ِّرفك [اإلبراز مضاف]‪.‬‬
‫[‪ ]...‬البيانات هي عمليا نسخة مطبوعة مام يدور يف عقلك‪ :‬ما الذي تفكر يف‬
‫رشائه‪ ،‬من الذي تتحدث معه‪ ،‬من الذي يتحدث معك‪ ،‬ما الذي تتحدث عنه‪.‬‬
‫تحدد األسئلة التي تسألها‪ ،‬وما تبحث عنه‪ ،‬من تكون بشكل أفضل من اإلجابات‬
‫التي تقدمها‪ ،‬ألنها أسئلتك تنطوي عىل احتامل كذب أقل بكثري جدا مام تنطوي‬
‫عليه إجاباتك‪.‬‬
‫كام هو متوقع‪ ،‬فإن تفسري التكوين الذايت يعيد صياغة بعض الفرضيات وراء‬
‫مفهوم الخصوصية الذي اليزال «صناعيا»‪ ،‬أو «حديثا»‪ ،‬أو «نيوتنيا»‪ .‬مثل هذا‬
‫التحول توضحه االعتبارات التالية‪.‬‬
‫إذا تم أخريا اإلقرار بأن املعلومات الشخصية هي جزء من مكونات الهوية‬
‫الشخصية لشخص ما وتفرده‪ ،‬من ثم رمبا يوما ما يصري من غري القانوين االتجار‬
‫يف بعض أنواع املعلومات الشخصية‪ ،‬متاما مثلام هو غري قانوين االتجار يف األعضاء‬
‫البرشية (مبا يف ذلك أعضاء الشخص نفسه) أو الرقيق‪ .‬يف ضوء تفسري التكوين‬
‫الذايت للخصوصية‪ ،‬ميكن أيضا إعادة النظر يف مشاكل اإلباحية والعنف‪ .‬أيا كان ما‬
‫تتعرض له‪ ،‬فإنه يشكل خطر أن ينتهي بأن يدخل يف تكوينك‪ .‬فكر فيه عىل أنه‬
‫غذاء يمُ تص يف جسمك ويصبح جزءا منك‪ ،‬فإذا مل تكن حذرا‪ ،‬وإذا مل يكن لديك‬
‫‪158‬‬
‫اخلصوصية‪ :‬االحتكاك املعلوماتي‬

‫دفاعات‪ ،‬فرمبا يكون التعرض املبكر فتاكا أو يسبب لك رضرا أبديا‪ .‬كم هناك‬
‫من األشياء التي تتمنى أنك مل ترها قط‪ ،‬أو أن تعرفها‪ ،‬أو تسمعها؟ يجب علينا‬
‫حامية خصوصية األطفال تحديدا ألن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت هي‬
‫تكنولوجيات تشكل الذات‪ .‬يف الوقت نفسه‪ ،‬نحن رمبا نتلطف يف موقفنا تجاه‬
‫بعض أنواع من «املعلومات الشخصية امليتة» التي هي‪ ،‬مثل «قطعة ميتة من‬
‫ذات ما»‪ ،‬ليست بالفعل‪ ،‬أو مل تعد‪ُ ،‬م َك ِّونة ألنفسنا‪ .‬من الناحية القانونية‪ ،‬رمبا ال‬
‫تبيع «أليس» كليتها‪ ،‬لكنها قد تبيع شعرها أو ُتكافأ عىل تربعها بالدم‪ .‬تذكر تجربة‬
‫صحايف اإليكونوميست‪ .‬إن بعض ما اكتشفه «سام» ميكن اعتباره من مكونات‬
‫الشخص املعني‪ .‬نحن دامئا نرتك وراءنا آثارا من البيانات‪ ،‬إىل حد كبري بنفس معنى‬
‫استغنائنا عن آثار هائلة من الخاليا امليتة‪ .‬إن حقيقة أن تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت الرقمية يف هذه األيام تسمح بأن يتم تسجيل ورصد ومعالجة آثار‬
‫بياناتنا‪ ،‬واستخدامها ألغراض اجتامعية أو سياسية أو تجارية‪ ،‬هي تذكري قوي‬
‫بطبيعتنا املعلوماتية كأفراد‪ .‬رمبا ميكن أن ُينظر إليها عىل أنها مستوى جديد من‬
‫الوعي البيئي‪ ،‬عىل اعتبار أنها زيادة ملا تتم إعادة تدويره وتقليل ملا يتم هدره‪.‬‬
‫كل هذا هو مجرد تكهنات يف الوقت الراهن‪ ،‬ويف املستقبل من املحتمل أن‬
‫يكون مسألة تضبيطات طفيفة يف أحاسيس أخالقية‪ ،‬لكن اتفاقية جنيف الثالثة‬
‫(‪ )1949‬تقدم بالفعل اختبارا واضحا ملا ميكن اعتباره «معلومات شخصية ميتة»‪.‬‬
‫إن أسري الحرب يحتاج فقط إىل إعطاء االسم‪ ،‬والرتبة العسكرية‪ ،‬وتاريخ امليالد‪،‬‬
‫والرقم التسلسيل‪ ،‬وأال يمُ ارس عليه أو عليها أي شكل من أشكال اإلكراه الستخالص‬
‫معلومات إضافية من أي نوع‪ .‬إذا حظينا جميعا مبعاملة عادلة عىل أننا «أرسى‬
‫مجتمع املعلومات»‪ ،‬فسوف تكون خصوصيتنا محمية بشكل جيد‪ ،‬ورغم هذا‬
‫سيبقى هناك بعض البيانات الشخصية التي ال ضري من تشاركها مع أي عنرص‬
‫وسيط (وكيل) آخر‪ ،‬حتى وإن كان معاديا‪ .‬ليست املسألة ثنائية مؤداها كل يشء‬
‫أو ال يشء‪ ،‬لكنها مسألة تشابه التوازن الدقيق والدرجة‪.‬‬
‫مثة مسألة أخرى رمبا تتضح من خالل النظر إىل الخصوصية من منظور‬
‫التكوين الذايت‪ ،‬أال وهي الرسية‪ .‬إن تشارك معلومات خاصة مع شخص ما‪ ،‬بشكل‬
‫ضمني‪ ،‬السيام عن طريق فعل أشياء سويا‪ ،‬أو بشكل رصيح‪ ،‬يعتمد عىل عالقة‬
‫‪159‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫ثقة عميقة تربط العنارص الوسيطة (الوكالء) املعنية بشكل حميمي‪ .‬هذا الربط‬
‫يتحقق عن طريق السامح للعنارص الوسيطة (الوكالء) بأن ُتشكل ذواتها جزئيا من‬
‫خالل املعلومات ذاتها‪ .‬بشكل مريئ‪ ،‬تتداخل يف الوقت الحايل الهويات املعلوماتية‬
‫للعنارص الوسيطة (الوكالء) املعنية‪ ،‬عىل األقل بشكل جزيئ‪ .‬ويشكل اتحاد العنارص‬
‫الوسيطة (الوكالء) بوحدة واحدة هي العنرص‪ -‬الفوقي (فوق الوكيل)‪ ،‬أو فرد جديد‬
‫متعدد الوكالء‪ .‬بالتحديد ألن الدخول إىل عنرص‪ -‬فوقي (فوق وكيل) جديد هو‬
‫عملية حساسة وخطرة‪ ،‬لذا ينبغي الحرص قبل أن «ميزج» املرء ذاته ما مع أفراد‬
‫آخرين عن طريق تشارك املعلومات الشخصية أو مصدرها‪ ،‬مثل الخربات املشرتكة‪.‬‬
‫هذه هي الطريقة التي أفرس بها الجملة الختامية من الرواية الشهرية «الحارس يف‬
‫حقـــل الشوفـــان ‪ »The Catcher in the Rye‬التـــي كتبهـــا ج‪ .‬د‪ .‬سالينجــر‬
‫)‪J. D. Salinger (2010 - 1919‬‬
‫ال تر ِو ما حدث لك ألي إنسان‪ .‬إن فعلت‪ ،‬فلسوف تبدأ فقدان كل الناس(‪.)22‬‬
‫الرسية هي رابطة حميمة تتكون يف شكلها الصحيح بصعوبة وروية‪ ،‬عىل الرغم‬
‫من هذا فهي عندما توجد تصمد أمام العديد من القوى الخارجية‪ ،‬مثلام يكون‬
‫العنرص ‪ -‬الفوقي (فوق الوكيل) أقوى من العنارص املكونة له ذاتها‪ .‬رمبا األقارب‪،‬‬
‫واألصدقاء‪ ،‬وزمالء الدراسة‪ ،‬واملعارف‪ ،‬وزمالء العمل‪ ،‬والرفاق‪ ،‬والصحبة‪ ،‬والرشكاء‪،‬‬
‫وأعضاء الفريق‪ ،‬والزوجان‪ ،‬وما إىل ذلك خاضوا جميعا تجربة الشعور بطبيعة مثل‬
‫هذه الرابطة‪ ،‬املذاق األقوى لـ «نحن»‪ .‬لكنها أيضا عالقة هشة وصعبة االستعادة‬
‫عندما يصل األمر إىل الخيانة الداخلية‪ ،‬ألن اإلفشاء‪ ،‬املتعمد أو غري املتعمد‪ ،‬لبعض‬
‫املعلومات الشخصية ُيعد خرقا للثقة ميكن أن يدمر متاما خصوصية العنرص‪-‬الفوقي‬
‫(فوق الوكيل) الجديد املولود من العنارص املرتابطة‪ ،‬تدمريا بصورة ال رجعة فيها‪،‬‬
‫من خالل متزيقهم املؤمل إىل أشالء‪ .‬إن «نحن» مدرعة بقوة ضد «اآلخر»‪ ،‬لكنها هشة‬
‫للغاية ضد الخيانة الداخلية من «واحد منا»‪.‬‬
‫قضية أخرية ميكن ذكرها بإيجاز إىل حد ما‪ ،‬فقد سبق ذكرها بالفعل‪ ،‬وهي أن‬
‫تفسري التكوين الذايت شدد عىل أن الخصوصية هي أيضا مسألة بناء هوية املرء‪ .‬إن‬
‫حقك يف أن ُترتك وشأنك هو أيضا حقك يف أن ُيسمح لك بالتجربة يف حياتك الخاصة‪،‬‬
‫حقك يف أن تبدأ من جديد‪ ،‬من دون أن يكون لك سجالت ُت َحنِّط هويتك الشخصية‬
‫‪160‬‬
‫اخلصوصية‪ :‬االحتكاك املعلوماتي‬

‫إىل األبد‪ ،‬وتسلبك القدرة عىل تشكيل وقولبة من تكون أنت‪ ،‬ومن تستطيع أن‬
‫تكون‪ .‬رمبا يرغب الشخص يوميا يف بناء «أنا» مختلفة‪ ،‬ومن املحتمل أن تكون‬
‫أفضل‪ .‬نحن ال نتوقف أبدا عن أن نصبح أنفسنا؛ لذلك‪ ،‬فإن حامية خصوصية شخص‬
‫ما تعني أيضا منحه حرية بناء وتغيري ذاته بعمق‪ .‬الحق يف الخصوصية هو أيضا‬
‫الحق يف هوية متجددة‪.‬‬

‫القياسات الحيوية‬
‫يف يوم ‪ 12‬سبتمرب من العام ‪ 1560‬حرض الشاب مونتني املحاكمة العلنية آلرنو‬
‫دو تيل ‪ ،Arnaud du Tilh‬الدجال الذي ُحكم عليه باإلعدام بتهمة انتحال شخصية‪.‬‬
‫كان العديد من معارفه وأفراد أرسته‪ ،‬مبا يف ذلك زوجته بريتراند ‪ ،Bertrande‬فيام‬
‫يبدو مقتنعني فرتة طويلة بأنه مارتن غري ‪ Martin Guerre‬الذي عاد إىل الوطن‬
‫بعد سنوات طويلة من الغياب‪ .‬يف النهاية‪ ،‬مل تتأكد هوية آرنو الفعلية إال عندما‬
‫ظهر مارتن غري الحقيقي‪.‬‬
‫لو أن مارتن غري كان قادرا عىل حامية معلوماته الشخصية بصفة دامئة‪،‬‬
‫لكان آرنو دو تيل غري قادر عىل رسقة هويته‪ .‬من الواضح أنه كلام زادت حامية‬
‫خصوصية شخص ما‪ ،‬تزداد إمكانية حامية هويته الشخصية‪ .‬هذه املعادلة النوعية‬
‫الجديدة هي نتيجة مبارشة لتفسري التكوين الذايت‪ .‬الهوية الشخصية تعتمد أيضا‬
‫عىل الخصوصية املعلوماتية‪ .‬إن الصعوبة التي تواجه مجتمعنا املعارص هي كيفية‬
‫دمج املعادلة الجديدة مع املعادلة األخرى التي ُقدمت آنفا‪ ،‬التي وفقا لها تكون‬
‫الخصوصية املعلوماتية دالة يف االحتكاك املعلومايت يف اإلنفوسفري‪ .‬من الناحية‬
‫املثالية‪ ،‬سوف يود املرء أن يجني كل الفوائد من‬
‫‪ .1‬أعىل مستوى من تدفق املعلومات؛ وبالتايل من‬
‫‪ .2‬أدىن مستوى من االحتكاك املعلومايت‪ .‬يف حني يتمتع بـ‬
‫‪ .3‬أعىل مستوى من حامية الخصوصية املعلوماتية‪ .‬وبالتايل‬
‫‪ .4‬أعىل مستوى لحامية الهوية الشخصية‪.‬‬
‫املشكلة هي أن (‪ )1‬و (‪ )4‬يبدوان غري متوافقني‪ .‬إذا يرست وعززت تدفق‬
‫املعلومات من خالل تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت الرقمية‪ ،‬فمن املحتم أن‬
‫‪161‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫حامية الهوية الشخصية ستخضع لضغط متزايد‪ .‬ال ميكن أن تكون لك هوية من‬
‫دون أن يكون لك رسم يبني مالمح الوجه‪.‬‬
‫تبدو املشكلة أقل صعوبة حاملا ندرك اختالفا مهام‪ .‬املعلومات املتدفقة يف‬
‫(‪ )1‬تتكون من جميع أنواع البيانات‪ ،‬مبا يف ذلك البيانات الرسمية بشأن ذات ما‬
‫(مثل االسم واللقب‪ ،‬والرقم التأميني القومي‪ ...‬إلخ) التي هي يف الواقع ميكن‬
‫تشاركها من دون أي رضر عىل تكوين الذات‪ .‬تذكر ما تصفه اتفاقية جنيف‬
‫بخصوص املعلومات التي ميكن استخالصها من أي أسري حرب‪ .‬عىل رغم ذلك‪،‬‬
‫املعلومات املطلوبة لحامية (‪ُ )4‬تشري إىل البيانات التكوينية‪ ،‬أي البيانات التي‬
‫تجعلك أنت ذاتك‪ ،‬مثل معتقداتك الشخصية‪ ،‬أو تعامالتك العاطفية الفريدة‪.‬‬
‫هذه هي أنواع البيانات التي تحتاج إىل أن تكون ُم َؤ َّمنة من أجل حامية الفرد‬
‫الذي يجسدها‪ .‬التمييز يصبح أكرث وضوحا وأكرث إلحاحا عند مناقشة الخصوصية‬
‫والقياسات الحيوية‪ ،‬كام سرنى يف هذا القسم‪.‬‬
‫الهوية الشخصية هي الحلقة األضعف والعنرص األكرث حساسية يف املشكلة‬
‫التي لدينا‪ .‬حتى يف الوقت الحارض‪ ،‬تتم حامية وتوثيق الهوية الشخصية‬
‫عىل نحو نظامي عن طريق بعض البيانات الرسمية‪ ،‬التي ترتبط بحاملها أو‬
‫مبستخدمها بشكل عشوايئ ‪ randomly‬أو بشكل تقليدي‪ ،‬مثل مجرد بطاقة‪:‬‬
‫اسم‪ ،‬وعنوان‪ ،‬ورقم ضامن اجتامعي‪ ،‬ورقم حساب مرصيف‪ ،‬ورقم بطاقة ائتامن‪،‬‬
‫ورقم رخصة قيادة‪ ،‬ورقم تعريف شخيص‪ ،‬وما إىل ذلك‪ .‬ال يدخل أي من هذا يف‬
‫تكوينك‪ ،‬فكل تسمية يف القامئة ليس لها ارتباط وثيق مع حاملها‪ ،‬ال تعدو كونها‬
‫مقرتنة بهويتك وميكن بسهولة فصلها عنها من دون التأثري يف ذاتك‪ .‬ما يتبقى‬
‫هو مجرد نتيجة لهذه «القدرة عىل الفصل»‪ .‬كلام انخفض االحتكاك املعلومايت‬
‫يف اإلنفوسفري‪ ،‬كان تدفق هذه البطاقات هنا وهناك أرسع‪ ،‬وأصبح من السهل‬
‫انتزاعها ورسقتها واستخدامها ألغراض غري مرشوعة‪ .‬لقد رسق آرنو دو تيل اسم‬
‫وهيئة مارتن غري ونجح يف انتحال شخصيته سنوات عديدة يف قرية صغرية إىل‬
‫حد ما‪ ،‬ويف إطار مجتمع عرفه جيدا‪ ،‬خدع حتى زوجة مارتن (عىل ما يبدو)‪.‬‬
‫تخلص من جميع التعامالت الشخصية‪ ،‬وروج ثقافة اإلنابة‪ ،‬تصري رسقة الهوية‬
‫أسهل يشء يف العامل‪.‬‬
‫‪162‬‬
‫اخلصوصية‪ :‬االحتكاك املعلوماتي‬

‫تتمثل الطريقة الرسيعة والقذرة لعالج هذه املشكلة يف عرقلة اإلنفوسفري‬


‫عن طريق إبطاء تدفق املعلومات؛ كأننا نستخدم بعض الوسائل لتهدئة حركة‬
‫املرور‪ .‬يبدو أن هذا هو نوع السياسات الشائع بني بعض مسؤويل تكنولوجيا‬
‫املعلومات وموظفي املستوى األوسط‪ ،‬الذين هم ألسباب أمنية حريصون عىل‬
‫عدم السامح بهذه العملية أو تلك‪ .‬عىل رغم من ذلك‪ ،‬وكام هي الحال مع جميع‬
‫األساليب املضادة للثورة واملضادة للتأريخ (املضادة للتأريخ ا ُملفرط‪ ،‬عىل وجه‬
‫الدقة)‪ ،‬فإن «املقاومة ال تفيد»‪ .‬محاولة الصمود يف وجه تطور اإلنفوسفري ال ترض‬
‫إال ا ُملستَخ ِدمني الحاليني وعىل املدى الطويل تفشل يف تحقيق حل فعال‪.‬‬
‫النهج األفضل كثريا هو أن تكفل استمرار انخفاض االحتكاك املعلومايت‪ ،‬هكذا تعود‬
‫الفائدة عىل جميع سكان اإلنفوسفري‪ ،‬يف حني ُت َؤ َّمن الهوية الشخصية من خالل بيانات‬
‫هي ليست تسميات رسمية بشأنها‪ ،‬ولكنها باألحرى صفات تكوينية للشخص املعني‪.‬‬
‫بدا أن آرنو دو تيل ومارتن غري متامثلني‪ ،‬ولكن هذا كان بقدر ما وصلت إليه القياسات‬
‫الحيوية يف القرن السادس عرش‪ .‬اليوم‪ ،‬يتزايد استخدام تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت الرقمية للقياسات الحيوية لتوثيق هوية الشخص‪ ،‬وذلك عن طريق قياس‬
‫الصفات الفسيولوجية للشخص ‪ -‬مثل بصامت األصابع وشبكية وقزحية العني‪ ،‬وبصمة‬
‫الصوت‪ ،‬واألمناط الوجهية‪ ،‬وقياسات اليد‪ ،‬وأخذ عينات الحمض النووي ‪ -‬أو الخصائص‬
‫السلوكية‪ ،‬مثل منط الكتابة أو منط امليش‪ .‬تؤ ّمن نظم القياسات الحيوية طريقة موثوقا‬
‫بها لضامن أن الشخص هو بالفعل من يدعي أنه يكون‪ ،‬وذلك ألنها تتطلب أيضا أن‬
‫يكون الشخص الذي يكشف عن هويته حارضا بذاته عند نقطة التعريف‪ .‬هذا بالطبع‬
‫ال ينجح يف جميع األوقات وال هو دامئا مبنأى عن الخطأ‪ .‬يف نهاية املطاف استخدم‬
‫مونتني قضية مارتن غري االستثنائية ليتحدى جميع املحاوالت البرشية من أجل الوصول‬
‫إىل اليقني املطلق‪ .‬لكنها تعمل اآلن بشكل أكرث نجاحا مام ميكن أن تحققه أي بطاقة‬
‫رسمية‪ُ .‬م َجدَدا‪ُ ،‬تعلمنا الحكمة أن هذه أيضا هي مسألة درجة‪.‬‬
‫ال يعني كل هذا أننا ينبغي أن نتبنى القياسات الحيوية باعتبارها الرتياق غري املثري‬
‫للمشاكل‪ .‬هناك العديد من املخاطر والقيود يف استخدام هذه التكنولوجيات أيضا‪ .‬لقد‬
‫تصور الناس سيناريوهات عنيفة يتم فيها برت أطراف الضحايا أو اقتالع أعينهم من أجل‬
‫تخطي ماسحات القياسات الحيوية‪ ،‬لكن املهم أن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫‪163‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫الرقمية‪ ،‬يف تحويلها مجتمع املعلومات إىل عصبة رقمية‪ ،‬ترمم جزئيا‪ ،‬و ُتحسن جزئيا‪،‬‬
‫االعتامد عىل املحاباة التي ميزت عالقات الثقة يف أي قرية صغرية‪ .‬بالتخيل قليال عن‬
‫املعلومات التي تتكون منها ذاتك‪ ،‬تستطيع حامية هويتك ومن ثم حامية خصوصيتك‬
‫املعلوماتية عىل نحو أكرث فعالية‪ ،‬بينام تستفيد من التفاعالت التي ُتخصص لك وفقا‬
‫لتفضيالت مستمدة من عاداتك‪ ،‬أو سلوكياتك‪ ،‬أو اختياراتك املعلنة‪ .‬يف العصبة الرقمية‪،‬‬
‫أنت نوع اعتيادي من األفراد‪ ،‬يكون ذوقه‪ ،‬وميوله‪ ،‬وعاداته‪ ،‬وأفضلياته‪ ،‬وخياراته‪ ،‬وما‬
‫إىل ذلك معروفة للعنارص األخرى‪ ،‬الذين ميكنهم مواءمة سلوكهم وفقا لذلك‪.‬‬
‫أما بالنسبة إىل حامية خصوصية بيانات القياسات الحيوية‪ُ ،‬مجددا‪ ،‬فيجب أال‬
‫نرسم أي صورة وردية‪ ،‬ولكن إذا َط َّبق أحد اختبار «اتفاقية جنيف» الذي سبق‬
‫عرضه‪ ،‬يبدو أنه حتى ألد األعداء ميكن أن ُيسمح له بتوثيق هوية شخص ما عن‬
‫طريق فحص بصامت أصابعه أو شبكية عينيه‪ .‬يبدو أن هذه هي البيانات الشخصية‬
‫الجديرة بالتضحية بسبب ما ميكن أن تقدمه من حامية إضافية للهوية الشخصية‬
‫للمرء ولحياته الخاصة‪.‬‬
‫حاملا ُتؤخذ املزايا والعيوب يف االعتبار‪ ،‬فمن املنطقي االعتامد عىل نظم التوثيق‬
‫التي يسهل تعرضها لسوء االستخدام‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يف العام ‪ ،2013‬طورت رشكة‬
‫باي تاتش ‪ ،PayTouch‬نظام دفع يعتمد عىل بصامت أصابع ا ُملستَخ ِدمني‪ُ .‬ينشأ‬
‫كمستَخ ِدم عن طريق ربط بصامت أصابعك إىل واحد أو أكرث‬ ‫الحساب الخاص بك ُ‬
‫من بطاقات االئتامن أو بطاقة املدين الخاصة بك‪ُ .‬تنفذ عملية الدفع من خالل‬
‫هذه البطاقات‪ ،‬ولكن ُيتحقق منها بأن تضع أصابعك عىل املاسح الضويئ لطرفية‬
‫باي تاتش‪ ،‬من دون أي حاجة إىل بطاقات‪ ،‬أو أرقام تعريف شخصية‪ ،‬أو رموز‪ .‬يف‬
‫اإلنفوسفري‪ ،‬أنت عبارة عن املعلومات الخاصة بك وميكن التعرف عليك وتحديد‬
‫ما إذا كنت أنت هو أنت باستخدام القياسات الحيوية كأنك يف القرية الصغرية‪.‬‬
‫و ُي َذ ّكرنا وجود قضية مارتن غري بأن األخطاء التزال محتملة‪ ،‬ولكن احتامل وقوعها‬
‫يقل بشكل كبري كلام زادت بيانات القياسات الحيوية التي يكون املرء عىل استعداد‬
‫لفحصها‪ ،‬كام تبني بوضوح قضية أوديسيوس(٭) ‪ Odysseus‬يف الخالصة‪.‬‬
‫(٭) بطل ملحمة املؤلف األسطوري اليوناين القديم هومريوس «األوديسة»‪ ،‬ويعرف هذا البطل العائد إىل مدينته‬
‫إيثاكا باسم آخر هو أوليسيوس (عولس‪ ،‬يف بعض الرتجامت العربية)‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫اخلصوصية‪ :‬االحتكاك املعلوماتي‬

‫الخالصة‬
‫عندما يعود أوديسيوس إىل إيثاكا‪ ،‬يتم التعرف عليه أربع مرات‪ .‬أرغوس‪ ،‬كلبه‬
‫العجوز‪ ،‬ال ينخدع ويعرفه من رائحته‪ ،‬رغم تنكره يف هيئة متسول‪ .‬ثم مربيته‬
‫يوريكليا‪ ،‬بينام كانت تحممه تعرفت عليه من ندبة يف ساقه كان قد ُأصيب بها‬
‫من خنزير بري يف أثناء الصيد‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬هو يربهن عىل أنه الرجل الوحيد القادر‬
‫عىل تركيب وتر قوس أوديسيوس‪ .‬هذه كلها اختبارات قياسات حيوية مل مير بها‬
‫آرنو دو تيل‪ .‬من الناحية الثانية‪ ،‬فزوجته بنلويب هي أيضا ليست بريتراند‪ .‬إنها ال‬
‫تعتمد عىل أي « ُم َع ِّرف فريد» ولكنها عىل نحو حاسم اختربت أوديسيوس بأن‬
‫طلبت من يوريكليا تحريك الفراش يف غرفة الزفاف الخاصة بهام‪ .‬يسمع أوديسيوس‬
‫هذا ويحتج ألنها مهمة مستحيلة‪ ،‬إذ إنه هو ذاته كان قد بنى الفراش حول شجرة‬
‫الزيتون التي هي اآلن واحدة من أرجل الفراش‪ .‬هذه جزئية حاسمة من املعلومات‪،‬‬
‫إذ ال يتشاركها إال بنلويب وأوديسيوس‪ .‬استعاد أوديسيوس ثقة بنلويب الكاملة عن‬
‫طريق االعتامد عليها بشكل طبيعي‪ .‬إنها تعرفت عليه ليس بسبب من هو أو كيف‬
‫يبدو‪ ،‬لكن مبنطق بنيوي‪ ،‬بسبب املعلومات املشرتكة بينهام فقط‪ ،‬والتي ُتشكل كال‬
‫منهام كزوج متف ّرد‪ .‬من خالل تشارك هذه الجزئية الحميمة من املعلومات‪ ،‬التي‬
‫ممن هام كزوجني‪ُ ،‬تستعاد الهوية و ُيجمع شمل العنرص‪ -‬الفوقي‪ .‬هناك‬ ‫هي جزء َّ‬
‫خط استمرارية بني جذور شجرة الزيتون والزوجني‪ .‬بالنسبة إىل هومريوس‪ ،‬كانت‬
‫رابطتهام هي تشابه العقول؛ وبالنسبة إىل شيكسبري‪ ،‬كانت رابطتهام هي اقرتان‬
‫العقول الحقيقية‪ .‬بالنسبة إلينا‪ ،‬رابطتهام هي الخصوصية املعلوماتية التي ال ُتجيز‬
‫أي احتكاك معلومايت‪.‬‬

‫‪165‬‬
318
‫الذكاء‪ :‬النقش يف كتاب الوجود‬

‫‪6‬‬

‫ال��ذكاء‪ :‬النق��ش يف كتاب‬


‫الوجود‬

‫تزحزح وتناقص الذكاء‬


‫يف صيف العام ‪ُ ،2008‬نرش مقاالن‬
‫يتحديان رصاحة ثقتنا بذكائنا‪ .‬ببساطة‪ ،‬كان‬
‫الدرس ا ُملج َمع عليه منهام هو أن تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت تصبح أكرث ذكاء يف حني‬
‫تجعلنا أكرث غباء‪.‬‬
‫يف مقال بعنوان «نهاية نظرية‪ :‬طوفان‬
‫البيانات يبطل املنهج العلمي ‪The end of‬‬ ‫«الحــس السليــم‪ ،‬والخــربة‪ ،‬والتعلم‪،‬‬
‫‪theory: The data deluge makes the‬‬ ‫والقدرات الرشيدة‪ ،‬ومهارات االتصال‪،‬‬
‫والذاكرة‪ ،‬والقدرة عىل رؤية يشء ما‬
‫»‪ )1(scientific method obsolete‬دفع كريس‬ ‫عىل أنه يشء آخر وإعادة استخدامه‬
‫لغرض آخر‪ ،‬والفطنة االستنباطية‪ ،‬قدرة‬
‫أندرسون ‪ Chris Anderson‬بأن البيانات سوف‬ ‫شخص ما عىل أن يضع نفسه مكان‬
‫شخص آخر‪ :‬هذه ليست سوى بعض‬
‫تتحدث عن نفسها‪ ،‬وال حاجة إىل آدميني قد‬ ‫املكونات األساسية التي ميكن أن تجعل‬
‫يطرحون أسئلة فطنة‪:‬‬ ‫سلوكا ما يتصف بأنه سلوك ذيك»‬

‫‪167‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫مع وجود بيانات كافية‪ ،‬تتحدث األرقام عن نفسها‪ ]...[ .‬لقد بني‬
‫األسلوب العلمي حول فرضيات قابلة لالختبار‪ .‬الجزء األكرب من هذه النامذج‬
‫هو أنظمة ُمتخيلة يف عقول العلامء‪ .‬ثم يجري اختبار النامذج‪ ،‬لتؤكد التجارب‬
‫أو تدحض النامذج النظرية التي تفرس الكيفية التي يعمل بها العامل‪ .‬هذه‬
‫هي الطريقة التي عمل بها العلم ملئات السنني‪ .‬العلامء مدربون عىل إدراك‬
‫أن االرتباط ليس عالقة سببية‪ ،‬وأنه ما من استنتاجات ينبغي استخالصها‬
‫ببساطة عىل أسس االرتباط بني [س] و [ص] (فقد تكون مجرد مصادفة)‪.‬‬
‫باألحرى‪ ،‬ينبغي أن نفهم اآلليات الكامنة التي تربط بينهام‪ .‬حاملا يكون لديك‬
‫منوذج‪ ،‬ميكنك بثقة ربط مجموعات البيانات‪ .‬والبيانات من دون منوذج هي‬
‫مجرد ضجيج‪ .‬ولكن عندما تواجه بكم هائل من البيانات‪ ،‬فإن هذا األسلوب‬
‫العلمي ‪ -‬فرضيات‪ ،‬منذجة‪ ،‬اختبار ‪ -‬يصبح عتيقا وعفى عليه الزمن‪.‬‬
‫مع اختالفات يف بعض املفردات‪ ،‬ميكن أن تكون الفقرة قد كتبها الفيلسوف‬
‫اإلنجليزي فرانسيس بيكون )‪ .Francis Bacon (1626 - 1561‬كان بيكون مؤيدا‬
‫كبريا لجمع مقادير هائلة من الحقائق‪ ،‬معتقدا أنها إذا تراكمت لدى أحد بالقدر‬
‫الكايف‪ ،‬فإنها سوف تتحدث عن نفسها‪ ،‬وكان بيكون مرتابا من الفرضيات‪ .‬ولقد‬
‫استهان بنقطة أساسية كانت واضحة ألفالطون‪ ،‬وهي أن املعرفة أكرب من املعلومات‪،‬‬
‫ألنها تتطلب تفسريات وفهام‪ ،‬وليس حقائق أو ارتباطات فحسب‪ .‬رأينا يف الفصل‬
‫األول أن التيارات متزايدة القيمة‪ ،‬الكامنة يف محيطات البيانات اآلخذة يف التوسع‪،‬‬
‫تكون غري مرئية للعني املجردة حاسوبيا‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن املزيد واألفضل من تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت ومن وسائل استغالل مثل هذه البيانات سوف يساعد بشكل‬
‫كبري‪ .‬عىل رغم ذلك‪ ،‬فإنها يف حد ذاتها لن تكون كافية‪ .‬إن كنت تتذكر‪ ،‬فاملشكلة مع‬
‫البيانات الضخمة ‪ big data‬هي األمناط الصغرية‪ .‬لذلك‪ ،‬ففي نهاية املطاف سيبقى‬
‫الفوز يف مباراة املعرفة من نصيب أولئك الذين‪ ،‬كام يصفهم أفالطون يف أحد حواراته‬
‫الشهرية(‪« ،)2‬يعرفون كيف يسألون وكيف يجيبون عن األسئلة» بشكل انتقادي‪،‬‬
‫وبالتايل يعرفون أيا من البيانات ميكن أن يكون مفيدا وذا صلة‪ ،‬ومن ثم يستحق‬
‫الحصول عليه واالحتفاظ به من أجل استغالل أمناطه ذات القيمة‪ .‬نحن بحاجة إىل‬
‫املزيد واألفضل من التكنولوجيات واألساليب لرؤية أمناط البيانات الصغرية‪ ،‬لكننا‬
‫‪168‬‬
‫الذكاء‪ :‬النقش يف كتاب الوجود‬

‫بحاجة إىل املزيد واألفضل من اإلبستيمولوجيا لغربلة الثمني منها‪ .‬إن جزءا من‬
‫التحدي هو تأسيس أشكال جديدة من التعليم‪ ،‬كام رأينا يف الفصل الثالث‪ .‬ولكن‬
‫البيكونية الجديدة وىل زمانها‪ ،‬فعال‪ .‬البيانات ال تتحدث من تلقاء نفسها‪ ،‬نحن بحاجة‬
‫إىل من يسأل أسئلة ذكية‪.‬‬
‫يف صيف العام ‪ 2008‬أيضا‪ ،‬اقرتح نيكوالس كار ‪ Nicholas Carr‬إجابة لهذا‬
‫السؤال مختلفة بعض اليشء‪ ،‬ولكنها عىل ما يبدو إيجابية‪« ،‬هل يجعلنا غوغل أغبياء؟‬
‫ما الذي تفعله اإلنرتنت بعقولنا»(‪ .)3‬يف الجملة األخرية من مقاله كتب أنه‪:‬‬
‫ونحن بسبيلنا إىل أن نصبح معتمدين عىل أجهزة الحاسب للوساطة‬
‫يف فهمنا للعامل‪ ،‬فإن ذكاءنا يفقد من كثافته ما يصل به إىل أن يكون ذكاء‬
‫اصطناعيا (‪.)AI‬‬
‫يبدو أن تشاؤمه غري مربر‪ .‬أنا آخر من ميكنه أن ينكر أن أشكاال مختلفة من‬
‫معالجة املعلومات تش ِّكل ذواتنا وقدراتنا الفكرية‪ .‬وهي تفعل ذلك‪ ،‬لكن بأساليب‬
‫عديدة مختلفة وال ُتحىص‪ ،‬عىل كل حال‪ .‬ولوم تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫عىل ما أصاب ثقافتنا من تسطيح أو عقولنا من تبلد هو بشكل ما مثل إلقاء اللوم‬
‫عىل السيارات بسبب بدانتنا‪ .‬مل يكن نيكوالس كار مخطئا متاما‪ ،‬ولكن سطحي‪ .‬إنها‬
‫السيارة نفسها التي ميكن أن ُتقلك إىل السوبر ماركت املجاور أو إىل صالة األلعاب‬
‫الرياضية؛ باملثل‪ ،‬فقد رأينا أن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت تساعد يف تحسني‬
‫تعليم املاليني من الناس عىل اإلنرتنت‪.‬‬
‫كان «أندرسون» و«كار» محقني يف مخاوفهام بشأن مستقبل ذكائنا وبشأن ما قد‬
‫يحل محله‪ .‬عىل رغم ذلك‪ ،‬فسوف أدفع يف هذا الفصل بأن تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت ال تصري أكرث ذكاء‪ ،‬وبأننا ال نصري أكرث غباء‪ ،‬بل أشياء أخرى هي التي تتغري‪.‬‬

‫الغبي الذكاء‬
‫ُّ‬
‫الوقت صيفا‪ ،‬وزجاجة عصري ُملقاة عىل العشب نصف فارغة‪ .‬تدخل الزنابري إىل‬
‫الزجاجة منجذبة بالرائحة‪ ،‬لكنها ال تستطيع الخروج منها‪ ،‬ويف النهاية تغرق‪ .‬إن سلوكها‬
‫غبي يف العديد من الجوانب‪ .‬فهي تحاول الطريان من خالل السطح نفسه الذي متيش‬
‫عليه‪ .‬إنها تستمر يف صدم الزجاج‪ ،‬حتى تصاب باإلعياء‪ .‬ترى الجثث األخرى داخل‬
‫‪169‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫الزجاجة ومع ذلك تفشل يف استخالص أي نتيجة‪ .‬ال ميكنها أن تتبادل املعلومات حول‬
‫الخطر‪ ،‬عىل رغم قدرتها عىل التواصل‪ .‬وحتى إذا فرت من الخطر‪ ،‬فإنها ال تسجله‪،‬‬
‫وتعود إىل الزجاجة مجددا‪ .‬الزنابري ال تستطيع استخدام أي وسيلة ملساعدة الزنابري‬
‫األخرى‪ .‬إذا كنت تجهل‪ ،‬فإنك سوف تظن أن الزنابري (‪ )espula vulgariss‬هي نوع‬
‫من الروبوت عديم العقل‪ .‬وكان ديكارت سيوافقك الرأي بالتأكيد‪.‬‬
‫حالف الزناب َري الحظ باعتبارها من فصيلة الحرشات‪ .‬مل تكن لتتطور لو أن يف‬
‫الطبيعة زهورا مثل زجاجة العصري‪ .‬الزنابري وبيئتها تناغام معا عن طريق االنتخاب‬
‫الطبيعي‪ .‬الزهور تحتاج إىل أن تحلق حولها زنابري صحيحة‪ .‬وبالنسبة إلينا‪ ،‬تذكرنا‬
‫الزنابري يف الزجاجة بأن الغباء القاتل يأيت يف مجموعة من األشكال متنوعة ومحرية‪.‬‬
‫لألسف‪ ،‬كذلك يفعل الذكاء‪.‬‬
‫الحس السليم‪ ،‬والخربة‪ ،‬والتعلم‪ ،‬والقدرات الرشيدة‪ ،‬ومهارات االتصال‪ ،‬والذاكرة‪،‬‬
‫والقدرة عىل رؤية يشء ما عىل أنه يشء آخر وإعادة استخدامه لغرض آخر‪ ،‬والفطنة‬
‫االستنباطية‪ ،‬وقدرة شخص ما عىل أن يضع نفسه مكان شخص آخر‪ :‬هذه ليست‬
‫سوى بعض املكونات األساسية التي ميكن أن تجعل سلوكا ما يتصف بأنه سلوك ذيك‪.‬‬
‫إذا فكرت فيها‪ ،‬فسوف تتبني أنها جميعا ُسبل للتعامل مع املعلومات‪ ،‬ومع العقل‪،‬‬
‫ليست إشارات أو رموزا أو بيانات غري ُمفرسة فحسب‪ ،‬لكن معلومات؛ مبعنى أنها‬
‫أمناط ذات مغزى (مزيد حول هذا فيام ييل)‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فهل ميكن أن يكون السلوك‬
‫الغبي أو الذيك دالة يف بعض العمليات املعلوماتية املسترتة؟ والسؤال «عديم املعنى‬
‫لدرجة أنه ال يستحق املناقشة»‪ ،‬عىل حد تعبري تورينغ ‪ ،)4(Turing‬لكنه ُيشري إىل‬
‫االتجاه الصحيح‪ :‬املعلومات هي املفتاح‪.‬‬
‫لنفرتض أن املعالجة الالزمة للمعلومات موجودة بالفعل‪ .‬وعىل رغم أن السلوك‬
‫الذيك ال ميكن تعريفه فيام يتعلق بالرشوط الرضورية والكافية‪ ،‬فرمبا اليزال من‬
‫املمكن اختباره من حيث السياق وعىل نحو مقارن‪ .‬لقد فهم تورينغ كل هذا عىل‬
‫نحو صحيح عندما قدم اختباره الشهري(‪ُ .)5‬خذ «بوب» ( ُمستَج ِوب آدمي)‪ ،‬وجهاز‬
‫حاسب‪ ،‬و«أليس» (نعم‪ ،‬سيدة‪ ،‬كام يف تجربة تورينغ الفكرية األصلية)؛ ضع االثنني‬
‫األخريين يف غرفتني منفصلتني‪ ،‬وتأكد من أن كليهام ال ميكنه التواصل إال مع «بوب»‬
‫وعرب الربيد اإللكرتوين (الطابعة من بعد يف تجربة تورينغ) فقط‪« .‬بوب» ميكنه اآلن‬
‫‪170‬‬
‫الذكاء‪ :‬النقش يف كتاب الوجود‬

‫أن يوجه كل أنواع األسئلة إىل كل من الحاسب و«أليس»‪ .‬حدد ُمهلة زمنية معقولة‬
‫أو حدد عدد األسئلة واألجوبة‪ .‬إذا فشل «بوب» يف اكتشاف الهوية الصحيحة لكل‬
‫من املتحاور ْين اعتامدا عىل إجاباتهام‪ ،‬فمن ثم يكون من الواضح أن كال من الحاسب‬
‫و«أليس» غري قادر عىل إظهار اختالف كاف‪ ،‬أي سلوك ذيك‪ .‬بقدر ما يعرف «بوب»‪،‬‬
‫إنهام ميكن أن يحل كل منهام محل اآلخر‪ .‬يجتاز الحاسب اختبار تورينغ‪.‬‬
‫ال يتفق الفالسفة والعلامء عىل القيمة الحقيقية الختبار تورينغ‪ .‬لكن بعض الناس‬
‫أكرث تفاؤال من غريهم‪ .‬أشار إريك شميدت ‪ ،Eric Schmidt‬الرئيس التنفيذي لرشكة‬
‫غوغل‪ ،‬متحدثا يف معهد أسنب ‪ Aspen Institute‬يف ‪ 16‬يوليو من العام ‪،2013‬‬
‫إىل أن كثريا من املنخرطني يف مجال الذكاء االصطناعي يؤمنون بأننا نقرتب‬
‫من [حاسب يجتاز اختبار تورينغ] يف غضون السنوات الخمس املقبلة(‪.)6‬‬
‫إذا كان هذا ما يؤمن به كثري من الناس‪ ،‬فهم مخطئون‪ .‬إن أقرب ما ميكننا‬
‫الوصول إليه من اختبار تورينغ هو جائزة لوبنري ‪ Loebner Prize‬السنوية‪ .‬هذه‬
‫املسابقة متنح جوائز ألنظمة الذكاء االصطناعي‪ ،‬عادة روبوتات دردشة (تشات بوتات‬
‫‪ ،)chatterbots‬يعتربها املحكمون األكرث شبها باإلنسان‪ .‬دعوين أخربكم كيف سارت‬
‫األمور عندما كنت أحد املحكمني يف هذه املسابقة‪.‬‬

‫اختبار تورينغ وجائزة لوبنري‬


‫يف العام ‪ ،2008‬جاءت مسابقة جائزة لوبنري إىل اململكة املتحدة للمرة األوىل‪ ،‬يف‬
‫جامعة ريدينغ ‪ University of Reading‬عىل وجه التحديد‪ .‬كانت التوقعات كبرية‪،‬‬
‫ُوأع ِلن عنها بصخب أيضا‪ .‬بدا أن كيفن واريك(٭) ‪ ،Kevin Warwick‬منظم املسابقة‪،‬‬
‫يعتقد بأن هذا رمبا يكون الوقت الذي سوف تجتاز فيه اآلالت اختبار تورينغ‪:‬‬
‫املسابقة برمتها تدور حول ما إذا كانت اآللة تستطيع اآلن اجتياز‬
‫اختبار تورينغ‪ ،‬العالمة الفارقة يف الذكاء االصطناعي‪ .‬إنني مؤمن بأن اآلالت‬
‫تقرتب من ذلك للغاية ‪ -‬سوف يكون من املثري جدا إذا كان مثل هذا‬
‫يحدث ألول مرة يف العامل يف اململكة املتحدة‪ ،‬يف جامعة ريدينغ يف العام‬
‫‪ .2008‬هذا احتامل قائم(‪.)7‬‬

‫(٭) من مواليد ‪ 1954‬وهو نائب رئيس جامعة كوفنرتي الربيطانية حاليا‪ ،‬ويدعى أيضا «كابنت سايبورغ»‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫دعيت إىل املشاركة كأحد املحكمني‪ ،‬كنت متحمسا ولكن أيضا متشككا للغاية‪.‬‬
‫كنت أشك يف أن اآلالت ميكن أن تجتاز حتى اختبار تورينغ مبسطا‪.‬‬
‫كام توقعت‪ ،‬وعىل رغم اقتضاب محادثاتنا‪ ،‬بضعة أسئلة وأجوبة كانت عادة‬
‫تكفي للتأكيد أن األنظمة األفضل التزال بعيدة عن أدىن درجة من الذكاء‪ ،‬مهام‬
‫تساهلنا يف تعريف الذكاء‪ .‬وهذه بعض األمثلة‪ .‬بدأ أحدنا دردشته بسؤال‪« :‬إذا‬
‫تصافحنا‪ ،‬يد من التي أمسك بها؟»‪ ،‬عىل الفور‪ ،‬فإن اآلدمي ا ُملت ََحاور أجاب بأسلوب ما‬
‫وراء اللغة‪ ،‬قائال إن املحادثة ينبغي أال ُيذكر فيها التواصل الجسدي‪ .‬تبني فيام بعد أنه‬
‫أندرو هودجز ‪ ،Andrew Hodges‬كاتب السرية الذاتية لتورينغ‪ ،‬الذي ُاختري يف موقع‬
‫إجراء املسابقة للتواصل مع املحكمني عىل الجانب اآلخر من الشاشة‪ .‬فشل جهاز‬
‫الحاسب يف التعامل مع هذا السؤال وتحدث عن يشء آخر‪ ،‬خدعة يستخدمها العديد‬
‫من اآلالت التي ُتخترب‪« :‬نحن نعيش يف األبدية‪ .‬لذلك‪ ،‬نعم‪ ،‬ال‪ .‬نحن ال نعتقد»‪ .‬كان‬
‫ذلك اإلفشاء املعتاد اسرتاتيجية مملة‪ ،‬نراها ُتستخدم عىل مدى عقود(‪ .)8‬تأكيد آخر‪،‬‬
‫إذا كنا النزال بحاجة إىل تأكيد آخر‪ ،‬أنه يف حني أن سلوكا شبه داليل ومختال وظيفيا‬
‫ميكن أن يخدع بعض املتحاورين اآلدميني يف ظروف خاصة جدا‪ ،‬فإنه ال ينجح عىل‬
‫اإلطالق يف حوار مفتوح عمومي األغراض‪ .‬السؤال الثاين أكد االنطباع األول فحسب‪:‬‬
‫«لدي صندوق ُحيل يف يدي‪ ،‬كم عدد األقراص املدمجة التي ميكنني وضعها فيه؟»‬
‫ُم َجدَدا‪ ،‬قدم املتحاور اآلدمي بعض التفسري‪ ،‬ولكن جهاز الحاسب فشل بشكل مز ٍر‪.‬‬
‫جاء السؤال الثالث يف نهاية الخمس دقائق‪« :‬العواصم األربع للمملكة املتحدة هي‬
‫ثالث‪ ،‬مانشسرت وليفربول‪ .‬ما هو الخطأ يف هذه العبارة؟»‪ُ ،‬م َجدَدا‪ ،‬ليس لدى جهاز‬
‫الحاسب إجابة تستحق الذكر‪.‬‬
‫سارت جميع املحادثات األخرى عىل نحو مامثل إىل حد كبري‪ .‬عىل رغم أن‬
‫محكمني آخرين طرحوا أسئلة مختلفة‪ ،‬فاإلجابات املقابلة كشفت عىل الفور كال من‬
‫اآلدميني واآلالت‪ ،‬مام يجعل أي تواصالت أو اختبارات إضافية أخرى أمرا غري رضوري‪،‬‬
‫مثل ربط أسئلة متعددة‪ ،‬أو « َت َذ ُّكر» إجابات سابقة‪ ،‬أو مراجعة عبارات سابقة عىل‬
‫أساس برهان جديد‪.‬‬
‫إذا كان اختبار تورينغ يف جامعة ريدينغ قد سار بدرجة من السوء أقل مام كان‬
‫ميكن أن يكون عليها (متكنت بعض اآلالت من خداع بعض القضاة بضع مرات)‪،‬‬
‫‪172‬‬
‫الذكاء‪ :‬النقش يف كتاب الوجود‬

‫فهذا عىل األرجح كان بسبب أن بعض القضاة وجهوا أسئلة غري غنية باملعلومات‪،‬‬
‫مثل «هل أنت جهاز حاسب؟» أو «هل تؤمن بوجود إله؟» (هذه أمثلة حقيقية)‪.‬‬
‫كان هذا عالمة عىل أن نقطتني أساسيتني من العملية بأكملها قد فاتتهم (القضاة‪،‬‬
‫وليس اآلالت)‪ .‬أوال‪ ،‬وبخاصة يف ضوء التواصل القصري‪ ،‬ينبغي أن تكون اإلجابات غنية‬
‫باملعلومات قدر اإلمكان‪ ،‬مام يعني أنه ينبغي أن يكون املرء قادرا عىل تعظيم كمية‬
‫األدلة املفيدة التي ميكن استخالصها من الرسالة املتسلمة‪ .‬إنها القاعدة نفسها التي‬
‫ُت َط َّبق يف لعبة األسئلة العرشين(٭)‪ ،‬إذ إن كل سؤال يجب أن يستدعي إجابة ميكن أن‬
‫ُتحدث فرقا ملموسا يف حالتك املعلوماتية‪ ،‬وكلام كرب الفرق كان ذلك أفضل‪ .‬لكن يف‬
‫األمثلة املذكورة السابقة‪ ،‬فإن «نعم» أو «ال» سوف ُتبقيك تجهل متاما من هو ُمحدثك‪.‬‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬هي رصاصة ضائعة‪ .‬ثانيا‪ ،‬ينبغي أن تتحدى األسئلة محرك قواعد اللغة‬
‫الذي عىل الجانب اآلخر‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن أسئلة أخـــرى مثل «ما الذي تفعلــه اليــوم؟‬
‫?‪ »what have you been up to today‬أو «ماذا تفعل من أجل لقمة العيــش؟‬
‫?‪ُ ( »what do you do for a living‬م َجدَدا‪ ،‬هام مثاالن حقيقيان) هي أيضا عدمية‬
‫الفائدة إىل حد كبري‪ .‬كلام كان السؤال ال ميكن إجابته إال إذا كان املحاور حقيقة يفهم‬
‫معناه أو سياقه أو اآلثار املرتتبة عليه‪ ،‬زادت فرصة أن يكون السؤال حال سحريا‪.‬‬
‫رمبا ُتجادل بأن ذلك كان يف العام ‪ .2008‬بالتأكيد ينبغي أن تكون األمور قد‬
‫تحسنت بشكل كبري‪ .‬لكنها مل تتحسن‪ .‬ستيف ورسيك ‪ ،Steve Worswick‬مبتكر‬
‫روبوت الدردشة «ميتسوكو ‪ ،»Mitsuku‬فاز يف مسابقة لوبنري يف العام ‪2013‬‬
‫بامليدالية الربونزية (‪ 4000‬دوالر أمرييك) للحاسب األكرث شبها باإلنسان‪ُ .‬حجبت‬
‫جائزة امليدالية الفضية (‪ 25,000‬دوالر أمرييك‪ +‬ميدالية فضية تمُ نح إذا خدع أي‬
‫برنامج اثنني أو أكرث من املحكمني عند مقارنته مع اثنني أو أكرث من اآلدميني)‪ .‬أما‬
‫امليدالية الذهبية‪ ،‬فهي يف الوقت الحايل رضب من الخيال العلمي‪ .‬أنت لست مضطرا‬
‫إىل أن تصدقني‪ ،‬فقط شغل االختبار عىل اإلنرتنت يف »‪ «http://mitsuku.com‬حتى‬
‫تقتنع بأننا مل نتقدم خطوة واحدة إىل األمام‪ .‬هذه عينة من أحدث حوارايت‪:‬‬

‫(٭) ‪ Twenty Questions Game‬لعبة جامعية ظهرت يف الواليات املتحدة يف القرن التاسع عرش يُختار فيها شخص‬
‫واحد ليكون املجيب ويسأله الباقون أسئلة ال يرد عليها سوى بـ «نعم» أو «ال» ليتوصل السائلون بالنهاية إىل تحديد‬
‫الفكرة التي أضمرها «املجيب» يف نفسه‪ .‬والقصد من اللعبة تحفيز التفكري االستداليل‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫?‪What can someone do with a pair of shoes‬‬ ‫ما الذي ميكن أن يفعله شخص ما بزوج‬
‫‪Quite a lot of things.‬‬ ‫من األحذية؟ الكثري جدا من األشياء‪.‬‬
‫‪Such as...‬‬ ‫مثل‪...‬‬
‫‪For example, a tomato.‬‬ ‫طامطم‪.‬‬ ‫املثال‪،‬‬ ‫سبيل‬ ‫عىل‬
‫?‪Anything else‬‬ ‫أي يشء آخر؟‬
‫‪That is all I have for you right now.‬‬ ‫هذا هو كل يشء عندي لك اآلن‪.‬‬
‫‪What’s wrong with the following sentence:‬‬ ‫ما هو الخطأ يف العبارة التالية‪:‬‬
‫‪the four capitals of France are three, Lyons‬‬ ‫ومرسيليا؟‬ ‫ليون‬ ‫ثالث‪،‬‬ ‫العواصم األربع لفرنسا هي‬
‫?‪and Marseilles‬‬
‫كيف ميكن أن تكون هناك «مجموعات» مساعدة ذاتية؟ ?»‪How can there be self-help «groups‬‬
‫?‪Are you sure‬‬ ‫هل أنت متأكد؟‬
‫‪Well, I used to be indecisive, but now I’m‬‬ ‫اآلن‬ ‫ولكن‬ ‫حاسم‪،‬‬ ‫غري‬ ‫أكون‬ ‫أن‬ ‫حسنا‪ ،‬اعتدت‬
‫‪not so sure‬‬ ‫أنا لست عىل يقني من ذلك‪..‬‬
‫‪Thank you computer.‬‬ ‫شكرا لك أيها الحاسب‪.‬‬
‫‪You are quite welcome! What sort of‬‬ ‫عىل الرحب! أي نوع من الحاسب لديك؟‬
‫?‪computer do you have‬‬

‫مشاكل اإلحاطة باملعارف املتصلة باإلطار والرمز‬


‫ُتبني روبوتات الدردشة مثل ميتسوكو ‪ Mitsuku‬أنه أيا كانت املعالجة املعلوماتية‬
‫الرضورية للحصول عىل سلوك ذيك‪ ،‬فإنها ليست موجودة بعد‪ .‬فهل ميكننا هندستها؟‬
‫إذا استطعنا‪ ،‬فرمبا نجري لها اختبار تورينغ‪ ،‬كام هو مبني آنفا‪ .‬لكن‪ ،‬التزال إمكانية‬
‫هندستها مجرد تخمني‪ ،‬أو باألحرى تسليام بفكرة‪ ،‬عىل رغم أكرث من نصف قرن‬
‫من األبحاث يف مجال الذكاء االصطناعي‪ .‬يشء واحد هو الذي يبدو أنه جيل‪ ،‬وهو‬
‫أن الحديث عن معالجة املعلومات يساعد عىل تفسري السبب يف أن ما لدينا يف‬
‫الوقت الحايل من أنظمة الذكاء االصطناعي هي بشكل عام أكرث غباء من الزنابري‬
‫يف الزجاجة‪ .‬ما لدينا يف الوقت الحايل من تكنولوجيات هي فعليا غري قادرة عىل‬
‫معالجة أي نوع من معلومات لها معنى‪ ،‬كونها ال تكرتث بالدالالت اللفظية‪ ،‬أي‬
‫املعنى والتفسري للبيانات التي يجري التعامل معها‪ .‬واإلشارة إليها باسم تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت هي تسمية مضللة متاما مثل «األسلحة الذكية»‪ .‬إن كنت تجد‬
‫هذا محريا‪ ،‬فانظر إىل املثال التايل‪.‬‬
‫‪174‬‬
‫الذكاء‪ :‬النقش يف كتاب الوجود‬

‫الزنابري ميكنها التنقل بنجاح‪ .‬تستطيع أن تجد طريقها يف أرجاء الحديقة‪ ،‬وتتجنب‬
‫العقبات‪ ،‬وتجمع الغذاء‪ ،‬و ُتقاتل الحيوانات األخرى أو تفر منها‪ ،‬وتتعاون بدرجة‬
‫محدودة‪ ،‬وما شابه ذلك‪ .‬هذا بالفعل أكرب بكثري مام ميكن أن يحققه أي من نظم‬
‫الذكاء االصطناعي الحالية‪ .‬ال يوجد روبوت ميكنه فعليا أن يقوم بكل ذلك بنجاح‪ ،‬عىل‬
‫األقل حتى اآلن‪ .‬العبارة األخرية مهمة‪ .‬فقد ننىس أحيانا أن أنظمة الذكاء االصطناعي‬
‫األكرث نجاحا هي تلك التي يحالفها الحظ لتكون لديها بيئاتها التي تشكلت وفقا‬
‫إلمكانياتها‪ .‬خري مثال عىل ذلك هو جزازات العشب الروبوتية؛ وهي‪ ،‬كام يشري اسمها‪،‬‬
‫آالت ذاتية ميكنها جز العشب‪ .‬إنها غبية مثل الرباد القديم‪ .‬وليك تعمل بشكل صحيح‪،‬‬
‫فإنك تحتاج إىل إقامة سلك حدودي ُيع ّرف املنطقة التي سيجري جزها‪ .‬بعد ذلك‪،‬‬
‫ميكن للروبوت استخدام هذا السلك الحدودي ملعرفة موضع حدود العشب وأحيانا‬
‫لتحديد موضع محطة إعادة شحنه‪ .‬وال بد لك من تهيئة البيئة للروبوت للتأكد من‬
‫أنه يستطيع أن يتواصل معها بنجاح‪ .‬باملثل‪ ،‬ضع عنارص وسيطة (وكالء) اصطناعية يف‬
‫حسائها الرقمي‪ ،‬اإلنرتنت‪ ،‬وسوف تجدها تطنطن بسعادة‪ .‬الصعوبة الحقيقية هي أن‬
‫تتأقلم‪ ،‬مثل الزنابري‪ ،‬مع العامل الذي ال ميكن التنبؤ مبا فيه‪ ،‬العامل الذي رمبا يكون أيضا‬
‫مملوءا بالفخاخ والعنارص الوسيطة (الوكالء) األخرى املتعاونة أو املنافسة‪ .‬يعرف هذا‬
‫باسم مشكلة اإلطار‪ :‬كيف يستطيع عنرص وسيط (وكيل) أن يعرب عن بيئة متغرية‬
‫ُو ِضع فيها وكيف ميكنه أن يتواصل معها بنجاح عرب الزمن‪ .‬ال أحد لديه أدىن فكرة عن‬
‫الكيفية التي يستطيع بها الذكاء االصطناعي أن يحل مشكلة اإلطار‪ ،‬لذلك فالتدخل‬
‫البرشي مطلوب بصفة دامئة‪ ،‬كام هي الحال مع الروبوتات عىل كوكب املريخ‪ .‬إن‬
‫الوكالء االصطناعيني األكرث نجاحا لدينا‪ ،‬العاملني يف العامل الحقيقي‪ ،‬هم الذين نرتبط‬
‫بهم كأقزام برشية جرى تخليقها(٭) لتكون بداخلها‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬تأمل تفسري إخفاق الذكاء االصطناعي‪ ،‬تحديدا افتقاره إىل قدرات معالجة‬
‫املعلومات‪ .‬إن الحواسب التي لدينا يف الوقت الحايل ‪ -‬من أي بنية معامرية ومن أي‬
‫جيل وأي تصنيع؛ تناظرية أو رقمية؛ نيوتونية أو كمية؛ متتابعة أو موزعة أو متوازية؛‬
‫بأي عدد معالجات أو بأي سعة ذاكرة؛ سواء متجسدة ‪ ،embodied‬أو متموضعة‬
‫(٭) ‪( Homunculus‬والجمع ‪ )homunculi‬هو الرجل الصغري الذي زعم السحرة يف القرن السادس عرش أن لديهم‬
‫القدرة عىل تخليقه‪ ،‬ويحتل هذا الكائن مكانة مهمة يف روايات القرن التاسع عرش يف الغرب الصناعي‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫‪ ،situated‬أو مقلدة باملحاكاة‪ ،‬أو نظريا فقط ‪ -‬هي حواسب ال تتعامل أبدا مع‬
‫معلومات لها معنى‪ ،‬إنها ال تتعامل إال مع بيانات غري ُم َفسرَّ ة‪ .‬هذا ليس تقسيام‬
‫فلسفيا فائق الدقة‪ .‬البيانات هي مجرد أمناط من اختالفات وتطابقات مادية‪ .‬إنها‬
‫غري ُم َفسرَّ ة ومتيل إىل أن تبقى هكذا‪ ،‬بغض النظر عن مدى سحقها أو عجنها‪ .‬نحن‬
‫رأينا يف الفصل األول أننا يف هذه األيام نفكر يف البيانات مبنطق بولياين(٭) ‪Boolean‬‬
‫‪ -‬واحد مقابل صفر‪ ،‬جهد مرتفع مقابل جهد منخفض‪ ،‬وجود مغناطيسية مقابل‬
‫عدم وجودها‪ ،‬صعود وهبوط يف دوران اإللكرتون ‪ -‬لكن األجهزة االصطناعية بالطبع‬
‫تستطيع جيدا اكتشاف وتسجيل البيانات التامثلية‪ .‬ال تنحرص املسألة يف الطبيعة‬
‫الثنائية للمفردات‪ ،‬لكنها حقيقة أن سالسل البيانات ميكن أن تكون إىل حد ما ذات‬
‫بنية صحيحة وفقا لبعض القواعد‪ ،‬ومن ثم ميكن للحاسب أن يتعامل بنجاح مع كل‬
‫من البيانات والقواعد من خالل الحساب‪ .‬إن فهم ما يجري غري مطلوب‪ .‬لذلك‪ ،‬وقتام‬
‫يكون السلوك املعني قابال لالختزال إىل مسألة تحويل‪ ،‬أو ترميز‪ ،‬أو فك رموز‪ ،‬أو‬
‫تعديل أمناط بيانات غري ُم َفسرَّ ة وفقا ملجموعة ما من القواعد (هذا معروف بالنحو)‪،‬‬
‫فمن املرجح أن تنجح الحواسب‪.‬‬
‫هذا هو سبب أن الحواسب عادة ما توصف وعن جدارة بأنها آالت نحوية بحتة‬
‫‪ .syntactic‬إن تعبري «نحوية بحتة» هو تجريد نسبي‪ ،‬مثل «شبه خال من الدهون‬
‫‪ .»virtually fat-free‬واملقصود هو أن القليل جدا من معلومات ذات مغزى أمر ال‬
‫يستحق أن يذكر‪ ،‬وليس أنها غري موجودة متاما‪ .‬فأجهزة الحاسب تستطيع بحق أن‬
‫تتعامل مع متييزات أولية‪ .‬تستطيع الكشف عن تطابقات باعتبارها متساويات (هذه‬
‫الخلية من الذاكرة متاثل تلك) واالختالفات باعتبارها افتقارا بسيطا إىل التطابق بني‬
‫العنارص ذات الصلة (هذه اإلشارة تختلف عن تلك)‪ .‬لكنها ال تستطيع تقييم السامت‬
‫الداللية للكيانات املعنية وعالقاتها‪ .‬من ا ُمل َس َّلم به أن هذا الكشف عن التطابقات‬
‫واالختالفات هو بالفعل عمل داليل أويل ‪ .proto-semantic‬لذلك‪ ،‬فإن تسمية جهاز‬
‫الحاسب بأنه آلة نحوية (متعلقة بالرتكيب اللغوي) هي للتأكيد عىل أن التمييز هو‬
‫عملية أضعف من أن يتولد عنها أي يشء يشبه فهم املعنى‪ .‬إنها فقط تكفي لضامن‬

‫(٭) املنطق الذي يعتمد استخدام الجمع والطرح عند استخدام آليات البحث‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫الذكاء‪ :‬النقش يف كتاب الوجود‬

‫وجود معالجة بشكل أكرث كفاءة للبيانات التي تحكمها قواعد‪ .‬نظرا إىل أن هذا أيضا‬
‫يكاد يكون العمل الداليل األويل الوحيد الذي تستطيع أن تؤديه أجهزة الحاسب‬
‫املوجودة واملنظورة يف الوقت الحارض باعتبارها «نظام معرفية»‪ ،‬فإن أي تح ٍد داليل‬
‫كبري يف الوقت الراهن يكاد يكون مهمة مستحيلة‪ .‬إال إذا استطعنا‪ ،‬كام ذكرت آنفا‪ ،‬أن‬
‫نجعل البيئة أو املشكلة سهلة حاسوبيا‪ ،‬أي إذا استطعنا استبعاد الداليل من التحدي‬
‫الكبري‪ ،‬كام سوف أوضح الحقا‪.‬‬
‫عىل الفور تصبح املشاكل صعبة التخطي عندما تتطلب حلولها معالجة ملعلومات‬
‫بشكل مثمر‪ ،‬أي املعالجة الناجحة لبيانات ذات بنية صحيحة وأيضا ذات معنى‪.‬‬
‫العقبة هي الدالالت اللفظية‪ .‬كيف تكتسب البيانات معناها؟ يعرف هذا يف الذكاء‬
‫االصطناعي عىل أنه مشكلة اإلحاطة بالحقائق األساسية املحيطة بالرمز‪ .‬ومن شأن‬
‫حل هذه املشكلة بطريقة ميكن هندستها عىل نحو فعال أن يكون خطوة بالغة‬
‫األهمية باتجاه حل مشكلة اإلطار‪ .‬لألسف‪ ،‬نحن النزال نفتقر إىل فهم واضح ودقيق‬
‫لكيفية حل مشكلة اإلحاطة بالحقائق األساسية للرمز عند الحيوانات‪ ،‬مبا فيها‬
‫الرئيسات (الثدييات العليا) مثلنا‪ ،‬فضال عن افتقارنا إىل وجود منوذج لنهج قابل‬
‫للتطبيق عمليا‪ .‬ما نعرفه متاما هو أن معالجة معلومات لها معنى هي تحديدا ما‬
‫تتفوق فيه عنارص ذكية مثلنا‪ ،‬لدرجة أن كائنات برشية متطورة بشكل كامل وطبيعي‬
‫تبدو أنها مترشنقة يف الفضاء الداليل الخاص بها‪ .‬برصاحة تامة‪ ،‬نحن ال ندرك بشكل‬
‫واع البيانات البحتة التي ال معنى لها‪ .‬وقد يكون اإلدراك السليم للبيانات غري ا ُمل َفسرَّ ة‬
‫ٍ‬
‫نهائيا أمرا ممكنا يف ظروف خاصة جدا‪ ،‬لكنه ليس املعتاد‪ ،‬وال ميكن أن يكون جزءا‬
‫من خربة واعية مستدامة من دون انقطاع‪ .‬نحن ال نفهم أبدا البيانات البحتة يف عزلة‬
‫ولكن دامئا يف سياق داليل‪ ،‬وهو ما يفرض عليها‪ ،‬حتام‪ ،‬معنى ما‪ .‬وما يندرج تحت اسم‬
‫«البيانات الخام»‪ ،‬هي بيانات تفتقر إىل تفسري محدد وذي صلة‪ ،‬وليس أي تفسري‪.‬‬
‫هناك حد فاصل داليل (عتبة داللية) بيننا وبني ما لدينا من آالت‪ ،‬ونحن ال‬
‫نعرف كيف نجعلها تتجاوزه‪ .‬يف الواقع‪ ،‬إننا نعرف القليل عن كيف أننا أنفسنا نبني‬
‫الرسود املعلوماتية ا ُملحكمة والناجحة التي نعيشها‪ .‬إن كان هذا صحيحا‪ ،‬فالعنارص‬
‫االصطناعية والعنارص اآلدمية‪ ،‬بالتايل‪ ،‬تنتمي إىل عاملني مختلفني‪ ،‬ورمبا يتوقع املرء أنها‬
‫ليست فقط لديها مهارات مختلفة ولكنها أيضا ترتكب أنواعا مختلفة من األخطاء‪.‬‬
‫‪177‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫ميكن تقديم بعض األدلة يف هذا الصدد من خالل مهمة االختيار عند واسون ‪Wason‬‬
‫‪(Selection Task‬٭)‪.‬‬
‫تخيل مجموعة من البطاقات‪ ،‬كل بطاقة ُكتب عىل أحد وجهيها حرف‬
‫هجايئ و ُكتب عىل الوجه اآلخـر عدد‪ .‬عُ رضت عليك البطاقات األربع التالية‪:‬‬
‫]‪ .[E]، [T]، [4]، [7‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬افرتض أنه قيل لك إنه إذا كان عىل أحد‬
‫وجهي البطاقة حرف هجايئ متحرك‪ ،‬إذن وجهها اآلخر يحتوي عىل عدد زوجي‪.‬‬
‫أي البطاقات ‪ -‬أقل عدد ممكن منها ‪ -‬سوف تقلبها‪ ،‬من أجل التحقق مام إذا‬
‫كانت القاعدة صحيحة؟‬
‫بينام أنت تفكر يف ذلك‪ ،‬فإنه ميكن أن يواسيك أن تعرف أن نحو ‪ 5‬يف املائة‬
‫فقط من األشخاص املتعلمني يعطي اإلجابة الصحيحة‪ ،‬التي هي [‪ ]E‬و [‪ .]7‬يبدو‬
‫أن جزءا من الصعوبة ُيعزى إىل طبيعة الرموز يف أنها غري ُم َفسرَّ ة‪ .‬وال يجد معظم‬
‫الناس مشاكل مع النسخة الداللية من االختبار نفسه‪ ،‬حيث تكون القاعدة هي‬
‫«إذا استعرت سياريت‪ ،‬إ َذن عليك ملء خزان الوقود»‪ ،‬وتقول البطاقات‪[ :‬استعرت‬
‫السيارة]‪[ ،‬مل تقم باستعارة السيارة]‪[ ،‬خزان الوقود مملوء]‪[ ،‬خزان الوقود فارغ]‪.‬‬
‫هناك عدة تفسريات لحقيقة أن املهمة أسهل يف هذه الحالة(‪ ،)9‬لكنها جميعا‬
‫تفرتض مسبقا أننا نجد التعامل مع معلومات داللية سياقية أسهل من التعامل‬
‫مع مجرد سالسل من بيانات غري ُم َفسرَّ ة(‪ .)10‬عىل الرغم من ذلك‪ ،‬ليس هناك فرق‬
‫بالنسبة إىل الحاسب‪ ،‬إذ إنه يحصل عىل اإلجابة الصحيحة عن طريق معالجة كل‬
‫مشكلة وفقا للرتكيب اللغوي‪ُ .‬ي َذ ّكرنا االختبار بأن السلوك الذيك يعتمد عىل فهم‬
‫املعاين أكرث مام يعتمد عىل معالجة الرموز وفقا للرتكيب اللغوي‪ ،‬كام ُي َذ ّكرنا بأن‬
‫العنارص الوسيطة (الوكالء) التي تعتمد عىل الداللة وتلك التي تعتمد عىل الرتكيب‬
‫اللغوي كالهام عرضة ألنواع مختلفة من األخطاء املحتملة‪ ،‬يف حني أن كليهام‬
‫يستطيع بسهولة تحقيق األهداف نفسها بكفاءة ونجاح‪ .‬نحن ال ُنجيد التعامل مع‬
‫مشاكل مثل مسألة مهمة االختيار عند واسون؛ والحواسب ال ُتجيد التعامل مع‬
‫مشكلة اإلطار‪.‬‬
‫(٭) تسمى أيضا مشكلة الورقات األربع‪ ،‬وهي أحجية منطقية ابتكرها عامل النفس الربيطاين بيرت كاتكارت واسون‬
‫(‪ )2003 – 1924‬يف العام ‪ ،1966‬وتستخدم يف دراسة التفكري االستداليل‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫الذكاء‪ :‬النقش يف كتاب الوجود‬

‫ينبغي أن يكون كل هذا بديهيا وبسيطا إىل حد ما‪ ،‬بيد أنه اليزال من الشائع أن تجد‬
‫ُأناسا يعقدون مقارنة بني العبي الشطرنج اآلدميني واالصطناعيني‪ .‬يف العام ‪ ،1965‬الحظ‬
‫عامل الرياضيات الرويس ألكسندر كرونرود ‪ Alexander Kronrod‬أن لعبة الشطرنج‬
‫كانت مبنزلة ذبابة الفاكهة(٭) يف الذكاء االصطناعي‪ .‬رمبا يبقى هذا وجهة نظر مقبولة‬
‫مادام الذكاء االصطناعي يحاول كسب بطوالت شطرنج عن طريق بناء أجهزة حاسب‬
‫تتعلم كيف تلعب الشطرنج بأسلوب اإلنسان‪ .‬لكن هذا مل يحدث‪ ،‬ونتيجة لهذا أصبحت‬
‫لعبة الشطرنج أشبه بالرماد يف العيون (تشتيت) الذي سبب بعض الخلط املفاهيمي‪.‬‬
‫إن إتقان لعب الشطرنج يتطلب الكثري جدا من الذكاء إذا كان الالعب إنسانا‪،‬‬
‫ولكنه ال يتطلب ذكا ًء عىل اإلطالق إذا كان اللعب حوسبيا‪ .‬يف العام ‪ ،1997‬فاز‬
‫الحاسب «ديب بلو ‪ »Deep Blue‬الذي صنعته رشكة آي يب إم ‪ IBM‬عىل بطل العامل‬
‫يف الشطرنج غاري كاسباروف ‪ ،Garry Kasparov‬كان هذا الفوز نوعا من االنتصار‬
‫باهظ الثمن للذكاء االصطناعي التقليدي (الكالسييك)‪ .‬إن «ديب بلو» ليس سوى‬
‫محرك نحوي مذهل‪ ،‬ذي ذاكرة‪ ،‬وخوارزميات‪ ،‬ومعدات حاسوبية مخصصة عظيمة‪،‬‬
‫ولكنه من دون أدىن ذكاء‪ ،‬أو إذا فضلت‪ ،‬له ذكاء اآللة الحاسبة التي تضعها يف‬
‫جيبك‪ .‬لدرجة أن جون مكاريث )‪ ،John McCarthy (2011 - 1927‬أحد آباء الذكاء‬
‫االصطناعي ومؤيد قوي لقدرته عىل أن يتحقق‪ ،‬سلم عىل الفور بأن «ديب بلو»‬
‫أخربنا عن طبيعة لعبة الشطرنج أكرث مام أخربنا عن السلوك الذيك(‪ .)11‬إنه ُمحق يف‬
‫تربمه من َخ َذالن للفكرة األصلية‪ ،‬لكنه االستنتاج خطأ‪ .‬عىل العكس من اقرتاحه‪ ،‬ال‬
‫ينبغي للذكاء االصطناعي أن يحاول محاكاة ‪ simulate‬السلوك الذيك البرشي‪ .‬هذا هو‬
‫الجدار الزجاجي الذي يجب علينا التوقف عن صدمه(‪ .)12‬الذكاء االصطناعي يجب أن‬
‫يحاول ُم َضا َرعَة (تقليد) ‪ emulate‬نتائجه‪ ،‬كام سأرشح يف القسم التايل‪.‬‬

‫قصة نوعني من الذكاء االصطناعي‬


‫تسعى أبحاث الذكاء االصطناعي إىل إعادة إنتاج (توالد) محصلة سلوكنا الذيك‪ ،‬كام‬
‫تسعى إىل إنتاج ما يكافئ ذكاءنا‪ .‬كان الذكاء االصطناعي التوالدي ‪reproductive Al‬‬
‫(٭) ‪ Fruit fly‬تستخدم يف العامية‪ ،‬من باب اإلهانة‪ ،‬كإشارة إىل امرأة تحب مخالطة الرجال املثليني‪ ،‬ويعني هذا‬
‫التعبري هنا «الظاهرة التي ال معنى لها»‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫ناجحا بشكل مذهل‪ ،‬بوصفه فرعا من الهندسة يهتم بإعادة إنتاج السلوك الذيك‪ .‬نحن‬
‫يف الوقت الحارض نعتمد بشكل متزايد عىل تطبيقات تنتمي إىل الذكاء االصطناعي‬
‫يف أداء العديد من املهامت التي هي ببساطة ستكون مستحيلة عن طريق الذكاء‬
‫البرشي املجرد أو غري ا ُملعزز‪ .‬إن الذكاء االصطناعي التوالدي يتفوق بانتظام عىل‬
‫الذكاء البرشي ويحل محله يف عدد من املجاالت أكرث من أي وقت مىض‪ .‬ولعامل‬
‫الحاسبات الهولندي ادسكر دبليو ديكسرتا )‪Edsger W. Dijkstra (2002 - 1930‬‬
‫تعليق شهري يقول‪:‬‬
‫سؤال ما إذا كان الحاسب ميكنه أن يفكر ليس أكرث تشويقا من سؤال ما‬
‫إذا كانت غواصة ميكنها أن تسبح(‪.)13‬‬
‫هذا التعليق يدل عىل النهج التطبيقي الذي يتشاركه الذكاء االصطناعي التوالدي‪.‬‬
‫يف املَ َّرة املقبلة التي تعاين فيها من هبوط الطائرة بشكل مضطرب‪ ،‬تذكر أن ذلك‬
‫سببه‪ ،‬عىل األرجح‪ ،‬أن الطيار هو الذي يتوىل القيادة‪ ،‬وليس الحاسب‪.‬‬
‫عىل الرغم من ذلك‪ ،‬وباعتباره فرعا من علوم اإلدراك يهتم بإنتاج الذكاء‪ ،‬كان‬
‫الذكاء االصطناعي ا ُمل ْن ِتج مصدر خيبة أمل ُمحزنة‪ .‬فلم يكن فقط دون املستوى‬
‫مقارنة بالذكاء البرشي‪ ،‬بل إنه حتى مل يرق بعد إىل مستوى املنافسة‪ .‬فلآلالت الحالية‬
‫ذكاء محمصة خبز كهربائية‪ ،‬ونحن حقيقة ليس لدينا أدىن فكرة عن كيفية التقدم من‬
‫هذه النقطة‪ .‬رمبا يكون مزعجا أن يظهر تحذير «الطابعة غري موجودة» عىل شاشة‬
‫جهاز الحاسب الخاص بك‪ ،‬ولكنه نادرا ما يثري الدهشة‪ ،‬عىل رغم حقيقة أن الطابعة‬
‫املعنية هي يف الواقع بجوار الحاسب مبارشة‪ .‬إن حقيقة أن واتسون ‪ - Watson‬نظام‬
‫آي يب إم ‪ IBM‬القادر عىل اإلجابة عن أسئلة تطرح باستخدام اللغة الطبيعية – فاز‬
‫يف العام ‪ 2011‬عىل منافسيه اآلدميني يف برنامج املسابقات «املحك» ‪ ،!Jeopardy‬ال‬
‫توضح إال أن املصنوعات اليدوية ميكن أن تكون ماهرة من دون أن تكون ذكية‪ .‬ومن‬
‫يعمل يف مجال تنقيب البيانات ال يحتاج إىل أن يكون ذكيا ليك يكون ناجحا‪.‬‬
‫وللذكاء االصطناعي روحان‪ ،‬إحداهام هندسية واألخرى معرفية‪ ،‬وهام كثريا ما‬
‫يشتبكان يف نزاعات أخوية من أجل الهيمنة الفكرية‪ ،‬والسلطة األكادميية‪ ،‬واملوارد‬
‫املالية‪ .‬ويعود ذلك جزئيا إىل أن كال منهام َيدَّعي أسالفا مشرتكة وإرثا فكريا واحدا‪:‬‬
‫الحدث املؤسس‪ ،‬مؤمتر دارمتوث البحثي الصيفي عن الذكاء االصطناعي يف العام‬
‫‪180‬‬
‫الذكاء‪ :‬النقش يف كتاب الوجود‬

‫‪ ،1956‬واألب املؤسس‪ ،‬تورينغ‪ ،‬بآلته وحدودها الحوسبية‪ ،‬ومن بعدها اختباره‬


‫الشهري‪ .‬مل يساعد أنه رمبا ميكن استخدام املحاكاة للتحقق مام إذا كان املصدر الذي‬
‫يجري محاكاته قد ُأنتج‪ ،‬وللتحقق مام إذا كان ما تم هو فقط مطابقة لسلوك أو أداء‬
‫مثل هذا املصدر الذيك‪ ،‬أو رمبا حتى التفوق عليه‪.‬‬
‫وحي الذكاء االصطناعي تسميات مختلفة‪ ،‬وهي ليست دامئا متسقة‪ .‬يف‬ ‫تطلق عىل َر َ‬
‫بعض األحيان ُيستخدم الذكاء االصطناعي الضعيف مقابل القوي‪ ،‬أو الذكاء االصطناعي‬
‫قديم الطراز مقابل الجديد أو الحديث كتمييز إلظهار الفارق‪ .‬أنا أفضل أن أستخدم‬
‫متييزا أقل حدة وهو الذكاء االصطناعي البسيط مقابل القوي‪ .‬لقد أدى عدم اتساق‬
‫أهدافهام ونتائجهام إىل مساجالت ال نهاية لها ومعظمها عديم الجدوى‪ .‬يشري املدافعون‬
‫عن الذكاء االصطناعي إىل النتائج القوية للذكاء االصطناعي التوالدي الهنديس‪ ،‬الذي‬
‫هو حقيقة ذكاء اصطناعي ضعيف أو بسيط فيام يتعلق باألهداف؛ بينام يشري منتقدو‬
‫الذكاء االصطناعي إىل النتائج املتواضعة للذكاء االصطناعي ا ُمل ْن ِتج‪ ،‬املعريف‪ ،‬الذي هو‬
‫حقيقة ذكاء اصطناعي قوي فيام يتعلق باألهداف‪ .‬إن العديد من التكهنات عدمية‬
‫الجدوى بشأن ما يطلق عليه قضية التفرد ‪ -‬لحظة نظرية يف الزمن عندها يكون الذكاء‬
‫االصطناعي قد فاق الذكاء البرشي ‪ -‬لها جذورها يف مثل هذا االلتباس‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬التقليد ‪ emulation‬ال يلتبس مع الوظائفية ‪ ،functionalism‬حيث إن‬
‫الوظيفة نفسها ‪ -‬جز العشب‪ ،‬غسل الصحون‪ ،‬لعب الشطرنج ‪ُ -‬تن َّفذ بواسطة أنظمة‬
‫مادية أخرى مختلفة‪ .‬يرتبط التقليد بالنتائج‪ ،‬إذ إن العنارص التي يقلد بعضها بعضا‬
‫تستطيع تحقيق النتيجة نفسها ‪ُ -‬يجز العشب‪ُ ،‬تنظف األطباق‪ ،‬يتم الفوز يف املباراة‬
‫‪ -‬عن طريق اسرتاتيجيات وعمليات مختلفة جذريا‪ .‬الغاية ينقصها اإلثبات بالوسائل‪.‬‬
‫مثل هذا الرتكيز عىل النتيجة هو مذهل من الناحية التكنولوجية وهو باألحرى ناجح؛‬
‫يشهد عىل ذلك انتشار تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت يف مجتمعنا‪ .‬لألسف‪ ،‬وهذا‬
‫أمر ممل للغاية بدرجة تسبب حول العني عندما يتعلق األمر بآثاره الفلسفية‪ ،‬التي‬
‫ميكن تلخيصها يف كلمتني‪« :‬صفقة كبرية»‪ .‬لذلك‪ ،‬هل ينبغي أن تكون هذه غاية‬
‫اهتاممنا بفلسفة الذكاء االصطناعي؟ ال عىل اإلطالق‪ ،‬عىل األقل لسببني رئيسني‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬ألن الذكاء االصطناعي‪ ،‬عرب محاولة التحايل عىل العتبة الداللية واعتصار‬
‫املعدات الحاسوبية والقواعد اللغوية الستخالص بعض املعالجة للمعلومات‪ ،‬فتح‬
‫‪181‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫مجموعة متنوعة وواسعة وثرية من املجاالت البحثية التي هي يف حد ذاتها متثل‬


‫تحديا مثريا لالهتامم من الناحية النظرية بسبب آثارها وتطبيقاتها املحتملة‪ .‬جزء‬
‫من هذا اإلبداع يندرج تحت اسم الذكاء االصطناعي الجديد‪ .‬تأمل‪ ،‬عىل سبيل املثال‪،‬‬
‫الروبوتات ا ُمل َثبتة‪ ،‬والشبكات العصبية‪ ،‬والنظم املتعددة الوكالء‪ ،‬والنظم البايزية(٭)‬
‫ّ‬
‫‪ ،Bayesian systems‬و َت َع ُّلم اآللة‪ ،‬والخاليا ذاتية السلوك‪ ،‬ونظم الحياة االصطناعية‪،‬‬
‫وأنواع عديدة من املنطقيات املتخصصة‪ .‬العديد من القضايا املفاهيمية والعلمية مل‬
‫تعد تبدو كام هي حاملا يجري تناول أي من هذه املجاالت‪.‬‬
‫ثانيا‪ ،‬واألكرث أهمية‪ ،‬من أجل الهروب من الثنائية املذكورة من فورها ‪ -‬الهندسة‬
‫مقابل علوم اإلدراك‪ ،‬والتقليد مقابل املحاكاة ‪ -‬يحتاج املرء إىل أن يدرك أن الذكاء‬
‫االصطناعي ال ميكن أن ُيخ َتزَل يف أنه «علم الطبيعة»‪ ،‬أو أنه «علم الثقافة»‪ ،‬ألنه‬
‫«علم االصطناعية»‪ ،‬كام وصفه الباحث االجتامعي الحائز جائزة نوبل هربرت سيمون‬
‫)‪ .)14(Herbert Simon (2001 - 1916‬وعىل هذا النحو‪ ،‬فالذكاء االصطناعي ال يتبع‬
‫منهجا وصفيا وال منهجا تقريريا للعامل‪ .‬إنه يستجيل القيود التي تجعل من املمكن‬
‫بناء املصنوعات اليدوية وإدراجها يف العامل والتواصل معها بنجاح‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬إنه‬
‫ينقش يف كتاب الوجود‪ ،‬ألن مثل هذه املصنوعات اليدوية هي أجزاء جديدة من‬
‫تعليامت برمجية منطقية رياضية‪ ،‬أي أنها نصوص جديدة‪ُ ،‬كتبت يف كتاب غاليليو‬
‫عن رياضيات الطبيعة‪ .‬مثل هذه العملية للنقش يف كتاب الوجود هي جزء من البناء‬
‫العام لإلنفوسفري الذي صادفناه يف الفصل الثاين‪ ،‬وإنها ألمر بالغ األهمية لفهم الكيفية‬
‫التي يتغري بها عاملنا‪.‬‬

‫الخالصة‬
‫حتى وقت قريب‪ ،‬كان االنطباع السائد هو أن عملية اإلضافة إىل كتاب رياضيات‬
‫الطبيعة (النقش) تتطلب إمكانية تحقيق الذكاء االصطناعي املعريف ا ُمل ْن ِتج‪ ،‬أي‬
‫الربنامج القوي‪ .‬وبالنهاية‪ ،‬فإن تطوير حتى شكل بدايئ للذكاء غري البيولوجي رمبا يبدو‬
‫أنه ليس فقط أفضل سبيل‪ ،‬ولكن رمبا يكون السبيل الوحيد‪ ،‬لتطبيق تكنولوجيات‬
‫(٭) أنظمة النظرية االفرتاضية‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫الذكاء‪ :‬النقش يف كتاب الوجود‬

‫املعلومات واالتصاالت بصورة قادرة عىل التكيف ومرنة مبا يكفي للتعامل الفعال مع‬
‫بيئة معقدة‪ ،‬ودامئة التحول وال ميكن التنبؤ بها عندما تكون غري عدائية‪ .‬ومن شأن ما‬
‫أقره ديكارت ليكون مؤرشا أساسيا للذكاء ‪ -‬املقدرة عىل التعلم من مختلف الظروف‪،‬‬
‫والتكيف معها‪ ،‬واستغاللها ملصلحة املرء ‪ -‬أن يكون سمة ال ُت َقدَّر بثمن ألي جهاز‬
‫مطلوب أن يكون أكرث من مجرد جهاز ذيك‪.‬‬
‫مثل هذا االنطباع ليس خطأً‪ ،‬لكنه ُمربك‪ ،‬ألنه بينام نحن نسعى من دون جدوى‬
‫إىل نقش الذكاء االصطناعي ا ُمل ْن ِتج القوي يف كتاب الوجود‪ ،‬كنا‪ ،‬يف الحقيقة‪ ،‬نغري‬
‫العامل حتى ُيالئم الذكاء االصطناعي التوالدي الخفيف‪ .‬إن تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت ال تصري أكرث ذكاء بينام تجعلنا أكرث غباء‪ .‬عىل العكس من ذلك‪ ،‬العامل‬
‫ُيصبح إنفوسفري متوامئا عىل نحو متزايد مع القدرات املحدودة لتكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت‪ .‬تذكر كيف أننا ُنقيم سلك الحدود حتى يستطيع الروبوت‬
‫جز العشب بأمان وبنجاح‪ .‬وباملثل‪ ،‬نحن ُنطوع البيئة عىل ما لدينا من تكنولوجيات‬
‫ذكية لضامن أنها ميكنها التواصل معها بنجاح‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬نحن ُنقيم سلك الحدود‪،‬‬
‫أو باألحرى نحيط العامل بغالف‪ ،‬كام سأناقش يف الفصل السابع‪.‬‬

‫‪183‬‬
318
‫ال َو َكالة‪ :‬تغليف العامل‬

‫‪7‬‬

‫ال َو َكالة‪ :‬تغليف العامل‬

‫بيئة صديقة لتكنولوجيا املعلومات واالتصاالت‬


‫يف مجال الروبوتيات الصناعية‪ ،‬فإن الحيز‬
‫ثاليث األبعاد الذي يعني الحدود التي يف نطاقها‬
‫يستطيع الروبوت (اإلنسالة) أن يعمل بنجاح‬
‫ُيعرف بأنه غالف الروبوت‪ .‬أرشنا يف الفصل‬
‫الثاين إىل أن بعض تكنولوجياتنا ا ُمل َز ِّودة‪ ،‬مثل‬
‫آالت غسل األطباق أو آالت غسل املالبس‪ ،‬تنجز‬
‫مهامها ألن بيئاتها جرت هيكلتها (تغليفها) وفقا‬
‫لقدراتها البسيطة‪ .‬نحن ال نبني آليات مثل يس‬
‫«عندما تصبح العنارص الوسيطة‬
‫‪ -‬ثري يب أو ‪ C-3PO‬يف «حرب النجوم» لتغسل‬ ‫االصطناعية (الوكالء)‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫الرفقاء االصطناعيون والنظم الذكية‬
‫األطباق يف الحوض مثلام نفعل نحن متاما‪ .‬إننا‬ ‫القامئة عىل برمجيات‪ ،‬سلعا اعتيادية‬
‫نغلف البيئات الجزئية حول الروبوتات البسيطة‬ ‫مثل السيارات‪ ،‬فإننا سوف نقبل‬
‫هذه الثورة املفاهيمية الجديدة‬
‫ليك تناسب وتستغل قدراتها املحدودة وتظل‬ ‫بإحجام أقل كثريا»‬

‫‪185‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫تقدم النتيجة املرجوة‪ .‬وصعوبة العثور عىل ا ُمل َغ َّلف املالئم هي التي تجعل يَ ّك املالبس‬
‫باملكواة (مقارنة مع يَ ّك املالبس بالضغط أو الكبس) يستغرق وقتا طويال جدا‪.‬‬
‫من املعتاد أن التغليف إما أن يكون حدثا قامئا بذاته (ميكنك رشاء الروبوت مع‬
‫الغالف املطلوب‪ ،‬مثل آلة غسل األطباق أو آلة غسل املالبس)؛ وإما أن ين َّفذ داخل‬
‫جدران املباين الصناعية‪ ،‬حيث تجري مالءمته بعناية وفقا لسكانه االصطناعيني‪ .‬يف‬
‫صديق لتكنولوجيا املعلومات‬‫ٍ‬ ‫الوقت الحارض‪ ،‬بدأ تغليف البيئة يف هيئة إنفوسفري‬
‫واالتصاالت يسود كل جوانب الواقع‪ ،‬ومريئ يف كل مكان بشكل يومي‪ .‬ونحن نغلف‪،‬‬
‫منذ عقود‪ ،‬العامل وفقا لتكنولوجيا املعلومات واالتصاالت من دون أن ندرك ذلك متاما‪.‬‬
‫يف الواقع‪ ،‬ميكنك تفسري القوانني املختلفة التي صادفناها يف الفصل األول عىل أنها‬
‫مؤرشات ملدى رسعتنا يف تغليف العامل‪ .‬كان الحاسب يف األربعينيات والخمسينيات‬
‫عبارة عن غرفة‪ ،‬وكانت «أليس» متيش داخله لتتعامل معه‪ ،‬وكانت الربمجة تعني‬
‫استخدام مفك الرباغي‪ ،‬وكان التفاعل البرشي الحاسويب عالقة بدنية‪ .‬يف السبعينيات‪،‬‬
‫مشت ابنة «أليس» إىل خارج الحاسب‪ ،‬لتجلس أمامه‪ .‬أصبح التفاعل البرشي‬
‫الحاسويب عالقة لغوية (داللية)‪ ،‬تيرست الحقا عن طريق نظام التشغيل دوس ‪DOS‬‬
‫وأسطر النصوص‪ ،‬وواجهة املستخدم الغرافيكية ‪ GUI‬واأليقونات‪ .‬اليوم‪ ،‬مشت‬
‫حفيدة «أليس» إىل داخل الحاسب مجددا‪ ،‬يف هيئة إنفوسفري تام يحيط بها‪ ،‬وغالبا‬
‫بشكل محسوس‪ .‬أصبح التفاعل البرشي الحاسويب بدنيا مجددا‪ ،‬مع الشاشات التي‬
‫تعمل باللمس‪ ،‬واألوامر الصوتية‪ ،‬وأجهزة االستامع‪ ،‬والتطبيقات الحساسة لإلمياءة‪،‬‬
‫والبيانات البديلة للموقع‪ ،‬وما شابه ذلك‪.‬‬
‫كام جرت العادة‪ ،‬فالتطبيقات الرتفيهية والتطبيقات العسكرية هي التي‬
‫تقود االبتكار‪ .‬خذ مثاال الغرفة املنرية ‪ ،IllumiRoom‬وهي أحد مرشوعات رشكة‬
‫مايكروسوفت‪ .‬عن طريق دمج آلة تصوير كينيكت وجهاز عرض‪ ،‬تعزز اإلحساس‬
‫باالنغامر يف اللعبة التي تلعبها أو الفيلم الذي تشاهده عن طريق توسيع املنطقة‬
‫املحيطة بجهاز التلفزيون الخاص بك‪ .‬الغرفة بأكملها تصري هي الغابة التي متيش‬
‫فيها‪ ،‬أو املدينة التي تقود السيارة يف شوارعها‪ ،‬الشاشة التي أمامك ما هي إال نافذة‬
‫فاصلة تطل عىل واقع ملحق أكرث ضبابية‪ .‬ال يهم إذا كان هذا ميثل عالمة فارقة يف‬
‫التفاعل البرشي الحاسويب‪ ،‬أو إذا كنا غدا سوف ننىس متاما هذا املرشوع تحديدا‪.‬‬
‫‪186‬‬
‫ال َو َكالة‪ :‬تغليف العامل‬

‫االسرتاتيجية واضحة‪ ،‬ونحن نسعى إليها بعزم أكيد‪ .‬إذا استطاعت املركبات من دون‬
‫سائق أن تتحرك يف جميع األرجاء بصعوبة أقل‪ ،‬مثل الزنابري يف بداية الفصل السادس؛‬
‫وصلت أمازون‪ ،‬يوما ما‪ ،‬البضائع عن طريق أسطول من الطائرات من دون‬ ‫وإذا ما ّ‬
‫طيار(‪ ،)1‬فإن هذا ليس بسبب أن الذكاء االصطناعي القوي قد نجح أخريا‪ ،‬ولكن ألن‬
‫«ما يحيطه» الذي هو بحاجة إىل التفاوض معه قد أصبح عىل نحو متزايد مناسبا‬
‫للذكاء االصطناعي الخفيف وقدراته املحدودة‪ .‬يظهر هذا بشكل واضح‪ ،‬عىل سبيل‬
‫املثال‪ ،‬من خالل النجاحات املتزايدة يف التحدي الكبري الذي ير َّوج له من ِق َبل وكالة‬
‫مرشوعات بحوث الدفاع املتقدمة ‪ DARPA‬لبناء مركبات من دون سائق‪.‬‬
‫ليست لدينا تكنولوجيات ضليعة لغويا‪ ،‬لكن الذاكرة تتفوق عىل الذكاء‪ ،‬لذا فهو‬
‫غري مهم‪ .‬هناك الكثري من البيانات‪ ،‬والكثري من نظم تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت‬
‫املوزعة التي تتواصل بعضها مع بعض‪ ،‬والكثري من البرش املتصلني بها؛ مثل هذه‬
‫األدوات اإلحصائية ذات الخوارزميات الجيدة‪ ،‬التي هي تكنولوجيات نحوية بحتة‬
‫ميكنها تجاوز مشاكل املعنى والفهم‪ ،‬وتحقيق ما نحتاج إليه‪ :‬الرتجمة‪ ،‬والتقاط صورة‬
‫مناسبة ملكان‪ ،‬والوصول إىل مطعم مفضل‪ ،‬وقراءة كتاب ممتع‪ ،‬واالستامع إىل أغنية‬
‫جيدة تالئم أفضلياتنا املوسيقية‪ ،‬والحصول عىل تذكرة بسعر أفضل‪ ،‬وإنجاز صفقة‬
‫ُم َخ َّفضة بشكل جذاب‪ ،‬والحصول عىل سلعة غري متوقعة مل نكن حتى نعرف أننا‬
‫بحاجة إليها‪ ،‬وما شابه ذلك‪ .‬يف الواقع‪ ،‬بعض القضايا التي نواجهها اليوم ‪ -‬السيام‬
‫يف مجال الصحة اإللكرتونية‪ ،‬واألسواق املالية‪ ،‬أو السالمة‪ ،‬واألمن‪ ،‬والنزاعات ‪ -‬تنشأ‬
‫أصال داخل بيئات ُم َغ َّل َفة للغاية‪ .‬يف الفصل الثاين‪ ،‬رأينا كيف أنه‪ ،‬يف مثل هذا العامل‬
‫ا ُمل َغ َّلف‪ ،‬جميع البيانات ذات الصلة (وأحيانا هي البيانات الوحيدة) كثريا ما تكون‬
‫تخذ بصورة آلية عن طريق‬ ‫قابلة للقراءة باآللة‪ ،‬وأن القرارات وكذلك اإلجراءات رمبا ُت َ‬
‫تطبيقات و ُم َش ِّغالت ميكنها تنفيذ األوامر وإخراج اإلجراءات املناظرة‪ ،‬من تنبيه أو‬
‫فحص مريض‪ ،‬إىل رشاء أو بيع بعض السندات‪ .‬األمثلة ميكن أن تتضاعف بسهولة‪.‬‬

‫استخدام اآللة إلنفورغات برشيني‬


‫إحدى العواقب املرتتبة عىل تغليف العامل لتحويله إىل مكان مناسب لتكنولوجيا‬
‫املعلومات واالتصاالت هي أن البرش رمبا يصريون من دون قصد جزءا من هذه اآللية‪.‬‬
‫‪187‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫األمر بسيط‪ ،‬فام لدينا من تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت يحتاج‪ ،‬أحيانا‪ ،‬إىل‬
‫فهم وتفسري ما يحدث‪ ،‬لذلك فهذه التكنولوجيات بحاجة إىل محركات داللية مثلنا‬
‫للقيام بهذه املهمة‪ .‬هذا االتجاه الحديث اىل حد كبري ُيعرف بأنه حوسبة تعتمد عىل‬
‫اإلنسان‪ .‬فيام ييل ثالثة أمثلة‪.‬‬
‫أنت رمبا خضعت إىل اختبار كابتشا ‪ CAPTCHA‬واجتزته‪ ،‬وهو اختبار تورينغ‬
‫العام املؤ َّلل متاما للتمييز بني الحواسب واإلنسان‪ .‬يتمثل االختبار يف سلسلة من‬
‫الحروف الهجائية ا ُمل َش َّوهة بعض اليشء‪ ،‬ورمبا تكون مختلطة مع أجزاء أخرى من‬
‫رسومات (أشكال غرافيكية)‪ ،‬عليك أن تفك رموزها لتثبت أنك إنسان ولست عنرصا‬
‫وسيطا (وكيال) اصطناعيا‪ ،‬عىل سبيل املثال عند التسجيل لعمل حساب جديد عىل‬
‫ويكيبيديا‪ .‬من املثري لالهتامم أن حاسب «أ» ميكنه أن يستخدم اسرتاتيجية جيدة‬
‫لخداع حاسب آخر «ب» (مثال ويكيبيديا) حتى يجعله يظن أن الحاسب «أ» هو‬
‫إنسان‪ ،‬وذلك عن طريق استخدام عدد كبري من البرش كنوع من املحركات الداللية‬
‫التي ميكن أن تجتاز اختبار كابتشا‪ .‬الحاسب «أ» يتصل بالحاسب «ب»‪ ،‬يستويف أجزاء‬
‫املعلومات ذات الصلة (مثال‪ ،‬طلب للحصول عىل حساب جديد عىل ويكيبيديا)‪ ،‬ثم‬
‫يمُ َرر كابتشا إىل مجموعة من املشغلني اآلدميني‪ ،‬الذين يجري إغواؤهم من ِق َبل «أ»‬
‫لتجاوز اختبار كابتشا نظري مكافأة‪ ،‬من دون أن يعرفوا أنه يجري التالعب بهم‪ .‬املواقع‬
‫اإلباحية معروفة مبثل هذه «األلعاب»‪ .‬أهمية كابتشا هي أنه يف كلتا الحالتني (أي‪ ،‬مبا‬
‫يف ذلك الحالة التي يحتاج حاسب إىل خداع حاسب آخر) لدينا آالت تطلب من برش‬
‫إثبات أنهم ليسوا عنارص وسيطة (وكالء) اصطناعية‪ .‬كانت الخطوة التالية الطبيعية‬
‫هي ري كابتشا ‪ :)2(reCAPTCHA‬آالت تطلب من برش العمل كمحركات داللية‬
‫ملصلحتها‪ .‬إن ري كابتشا الذي أطلقه لويس فون آن ‪ - Luis von Ahn‬الذي صمم‬
‫نظام كابتشا األصيل مع مانويل بلوم ‪ - Manuel Blum‬هو بسيط بشكل مذهل‪،‬‬
‫فبدال من مطالبة ُمستَخ ِدمني آدميني بفك رموز سالسل ال معنى لها‪ ،‬فالسالسل اآلن‬
‫هي أجزاء من نصوص ذات معنى وال ميكن فك رموزها بواسطة اآلالت‪ .‬املستخدمون‬
‫اآلدميون يؤدون اآلن مهمة مزدوجة‪ ،‬إنهم برضبة واحدة ميكنهم إثبات أنهم آدميون‬
‫سجل القراءة‬ ‫وميكنهم املساعدة عىل رقمنة بعض النصوص غري القابلة للقراءة آليا ( ُت َّ‬
‫«املالمئة» إذا اقرتحها أكرث من ُمستَخ ِدم آدمي واحد)‪ .‬لقد استخدمت اآلالت أكرث‬
‫‪188‬‬
‫ال َو َكالة‪ :‬تغليف العامل‬

‫من مليار ُمستَخ ِدم لرقمنة الكتب بهذه الطريقة‪ .‬يف العام ‪ ،2013‬تداول النظام ‪100‬‬
‫مليون كلمة يف اليوم‪ ،‬أي ما يعادل ‪ 200‬مليون كتاب سنويا‪ ،‬و ُي َقدَّر التوفري (مقارنة‬
‫مبا إذا كان قد جرى تعهيد هذا العمل إىل عامل آدميني) بنحو ‪ 500‬مليون دوالر‬
‫أمرييك يف السنة‪.‬‬
‫تطبيق آخر ناجح للحوسبة القامئة عىل اإلنسان هو ُتريك أمازون امليكانييك‬
‫‪ .Amazon Mechanical Turk‬يأيت االسم من آلة لعب الشطرنج الشهرية التي‬
‫بناها فولفغانغ فون كيمبلني )‪ Wolfgang von Kempelen (1804-1734‬يف‬
‫أواخر القرن الثامن عرش‪ .‬أصبحت اآللة شهرية بسبب فوزها عىل أمثال نابليون‬
‫بونابرت ‪ ،Napoleon Bonaparte‬وبنيامــــني فرانكليـن ‪،Benjamin Franklin‬‬
‫وتحقيـــق نــــزال جيــــد ضــد بطل مثــل فرانسوا‪-‬أندريـه دانيكــان فيليــــدور‬
‫)‪ .François-André Danican Philidor (1726-1726‬عىل رغم ذلك‪ ،‬كانت اآللة‬
‫زائفة ألنها كانت تتضمن حجرية خاصة يتخذها العب آدمي مكانا لالختباء والتحكم‬
‫يف العمليات امليكانيكية لآللة‪ .‬يؤدي ُتريك أمازون امليكانييك خدعة مامثلة‪ ،‬تصفها‬
‫أمازون بأنها «الذكاء االصطناعي االصطناعي»‪ .‬إنها خدمة تعهيد جامعي عىل شبكة‬
‫اإلنرتنت تمُ َ ّكن ما يعرف باسم «الطالبني» من تسخري ذكاء عاملني آدميني‪ ،‬يطلق‬
‫عليهم اسم «املوردين»‪ ،‬أو من دون تكلف‪« ،‬توركرز»‪ ،‬بغرض أداء مهام ُتعرف باسم‬
‫هيتس (مهام الذكاء البرشي ‪ ،HITs‬وهي مهام ال تستطيع أجهزة الحاسب أداءها‬
‫يف الوقت الحايل‪ .‬ينرش الطالب مهمة‪ ،‬مثل تدوين تسجيالت صوتية‪ ،‬أو وضع عالمة‬
‫تشري إىل وجود محتويات سلبية يف رشيط سيناميئ (اثنان من األمثلة الفعلية)‪.‬‬
‫نجز مقابل الحصول‬ ‫يستطيع «التوركرز» استعراض املهام املتاحة ليختار منها ما ُي َ‬
‫عىل مكافأة(‪ )3‬يحددها طالب املهمة‪ .‬عند كتابة هذه السطور‪ ،‬ينبغي أن يكون‬
‫طالب املهمة كيانا ُمقيام يف الواليات املتحدة‪ ،‬لكن «التوركرز» ميكن أن يكونوا‬
‫ُمقيمني يف أي مكان‪ .‬يستطيع طالب املهمة أن يتحقق مام إذا كان «التوركرز»‬
‫مستوفني ملؤهالت معينة قبل أن ُتسنَد املهمة إليهم‪ ،‬ميكنه أيضا قبول أو رفض‬
‫النتيجة التي ُيرسلها «توركر» مام ينعكس عىل سمعة التوركر‪.‬‬
‫يف العام ‪ ،2012‬عندما أعلن مرشح الرئاسة األمريكية ميت رومني ‪،Mitt Romney‬‬
‫أنه يف حالة انتخابه سوف يخفض التمويل الحكومي املخصص للبث العام‪ ،‬وأشار إىل‬
‫‪189‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫شخصية «بيغ بريد» ‪ ،Big Bird‬كان من الواضح أنه يقدم تعليقا سياسيا‪ ،‬وليس إشارة‬
‫إىل برنامج األطفال التلفزيوين «شارع سمسم»‪ ،‬لكن هذا يحتاج اىل تقييم برشي‬
‫لضامن أنه سترُ تجع الرسائل الصحيحة عندما يقوم أحد ُمستَخدمي تويرت بالبحث عن‬
‫«بيغ بريد»‪ .‬الحقا‪ ،‬كتب مهندسو تويرت أن «البرش هم جوهر هذا النظام»(‪ .)4‬ينبغي‬
‫أن يكون املعنى واضحا‪ .‬تتمثل «املكونات الجوهرية» لتكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت يف الكيفية التي ُينظر بها إلينا‪ .‬و ُت ْستَغل أنشطتنا يف التصنيف وتحديد‬
‫الرتبة من أجل تحسني أداء بعض تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ .‬كمثال عىل‬
‫ذلك‪ ،‬ميكن الرجوع إىل كالوت ‪ ،Klout‬خدمة اإلنرتنت التي تستخدم تحليالت وسائط‬
‫اإلعالم االجتامعي لتحديد رتبة ا ُملستَخ ِدمني وفقا لتأثريهم االجتامعي يف اإلنرتنت‪.‬‬
‫بإعادة صياغة عنوان كتاب ُنرش أخريا عن كالوت(‪ُ ،)5‬يح َّول العمالء املتحمسون إىل‬
‫قوى تسويقية جبارة‪ .‬أمثلة أخرى يوميا تتضاعف لتوظيف األدمغة البرشية بصورة‬
‫نافعة عن طريق النظم الذكية‪ .‬وسوف يكون الشعار املقبل هو «إنسان بالداخل»‪.‬‬
‫إن الصيغة الفائزة بسيطة‪ :‬آلة ذكية ‪ +‬ذكاء برشي = نظام ذيك‪.‬‬
‫نحن نحب التقييم وتحديد الرتبة ألنها متعة وألنها ُتبعد الشك البغيض الذي‬
‫يرتافق مع كل خيار يومي‪ .‬إنه طريق مخترص إىل طاقة عقلية ميكنها أن تجعلك‬
‫تضحك (ما اليشء األكرث حرجا عىل اإلطالق الذي قاله جورج دبليو بوش ‪George‬‬
‫‪W. Bush‬؟)‪ ،‬أو تجعلك تنفذ عرب الدروب امللتوية للحياة بسالسة أكرث‪« .‬هذا هو‬
‫أفضل براد ميكنك رشاؤه بهذا السعر»‪ ،‬ال يشء أكرث رصاحة‪ .‬جرت العادة أن تحديد‬
‫الرتبة يتم عادة مع األصدقاء يف حانة أو يف مناسبات اجتامعية أخرى‪ ،‬ولكن من‬
‫الواضح أن الويب هي الساحة املثالية لعشاق إعطاء الرتبة‪ .‬ميكننا أن ننطلق إىل‬
‫سخر قواعد بيانات بأكملها‪ ،‬من دون تضييع ما يهمنا‪ .‬إن إعطاء الرتبة عىل‬‫العاملية‪ ،‬و ُن ّ‬
‫الويب َح َّول كلمة من فم إنسان إىل كلمة من الفأرة (املاوس)‪ .‬مع سهولة وشفافية‬
‫الويب‪ ،‬ظهرت صورة سوسيولوجية إلنسانية مملوءة باأللوان ومربقشة للغاية‪ ،‬مع‬
‫وفرة الوقت الذي نضيعه يف السعي من أجل تحقيق املنافع األكرث استثنائية يف تجربة‬
‫الرتتيب النهائية‪ .‬يف الواقع‪ ،‬هناك الكثري جدا من املواقع املخصصة لهذه الرياضة‬
‫لدرجة أنك تحتاج إىل محركات بحث فائقة القدرة حتى ميكنك متابعتها‪ .‬بطبيعة‬
‫الحال‪ ،‬تحديد الرتبة يتطلب التصنيف‪ ،‬ومن غري الواضح ما إذا كان التصنيف ميكن‬
‫‪190‬‬
‫ال َو َكالة‪ :‬تغليف العامل‬

‫أن يجري بشكل أفضل عن طريق القبضات الثقيلة للجامعات واالستفتاءات الشعبية‬
‫أم عن طريق األصابع املاهرة للتقييامت الخبرية واملوثوق بها‪ .‬عندما يتعلق األمر‬
‫بالتصنيف‪ ،‬فنحن عادة نثق بالجامهري ونادرا ما نجرؤ عىل السباحة ضد التيار‪ .‬ومن‬
‫الصعب معرفة متى يجب استشارة الخرباء‪ .‬وقد يكون إغفال تفضيالت الجامهري يف‬
‫مشكلة ما إرسافا مهلكا؛ لذلك‪ ،‬فإن معظم مواقع الويب‪ ،‬مثل «أمازون»‪ ،‬تتيح هذه‬
‫األيام فرصة ملستخدميها للتعبري عن تقييامتهم ومقارنتها‪ .‬وهذه مامرسة حسنة‪ ،‬مبا‬
‫فيها من شعور بالتفاعل‪ ،‬وميكن أن تكون النصائح مفيدة‪ .‬ومن املؤكد أننا نحاول أيضا‬
‫إعطاء رتبة وتقييم للقامئني بإعطاء الرتبة والتقييم الذين نود أن نثق بهم (انظر‪ ،‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬ما هو متاح يف أمازون مثل «أفضل ‪ 1000‬من عاريض الكتب» أو «االسم‬
‫الحقيقي» أو «رشاء ُم َح َّقق»)‪ .‬و ُي ْفترَ َض أن التعليقات الواردة يف كل هذه الحاالت‬
‫وما مياثلها مفيدة إلحداث فارق‪ ،‬حتى إن كان صغريا‪ .‬هذه التقييامت هي أجزاء‬
‫من معلومات تأيت من ُأناس خاضوا التجربة بالفعل‪ ،‬أو اشرتوا اليشء‪ ،‬أو استعملوا‬
‫الخدمة‪ ،‬أو أقاموا يف ذلك الفندق‪ ،‬أو استأجروا سيارة من إحدى رشكات الخدمات‪.‬‬
‫يف أفضل سيناريو‪ ،‬يحرص املساهمون عىل تشارك ما توصلوا إليه‪ ،‬ونقل خرباتهم‪،‬‬
‫والحفاظ عىل حياتك أو حافظة نقودك‪ .‬لذلك‪ ،‬رمبا أنت متيل إىل أن تثق بتقييامت‬
‫ا ُملستَخ ِدمني أكرث من تقييامت الخرباء يف موقع ‪ ،Download.com‬عىل سبيل املثال؛‬
‫ألنك تعرف أن ا ُملستَخ ِدمني هم مثلك‪ ،‬سوف يعيشون مع الربمجية مبجرد تثبيتها‪.‬‬
‫لكن األهم من ذلك‪ ،‬ويف سياق هذا الفصل‪ ،‬فإن الساعات التي ال تحىص التي نقضيها‬
‫ونحافظ عىل قضائها يف تقييم وترتيب كل ما يأيت يف طريقنا‪ ،‬هي رضورية ملساعدة‬
‫ما لدينا من تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬وهي تكنولوجيات ماهرة ولكنها‬
‫غبية‪ ،‬يف التعامل مع العامل بوسائل تبدو ظاهريا ذات معنى‪ .‬إن أنشطتنا هي التي‬
‫تجعل التغليف اتجاها قويا‪ ،‬وتراكميا‪ ،‬و ُي َن َّقح تدريجيا باطراد‪ .‬إن كل يوم يشهد‬
‫توافر مزيد من العالمات اإلشارية‪ ،‬ومزيد من البرش املتصلني باإلنرتنت‪ ،‬ومزيد من‬
‫الوثائق‪ ،‬ومزيد من األدوات‪ ،‬ومزيد من األجهزة التي تتصل بعضها مع بعض‪ ،‬ومزيد‬
‫من املستشعرات‪ ،‬ومزيد من شارات التعرف باستخدام موجات الراديو‪ ،‬ومزيد من‬
‫األقامر االصطناعية‪ ،‬ومزيد من ا ُملشغالت‪ ،‬ومزيد من البيانات التي ُتجمع عن جميع‬
‫التحوالت املمكنة يف أي نظام‪ .‬يف كلمة واحدة‪ ،‬مزيد من التغليف‪ .‬كل هذا مفيد‬
‫‪191‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫من أجل مستقبل الذكاء االصطناعي الخفيف والتكنولوجيات املاهرة الذكية بشكل‬
‫عام‪ .‬وسوف تكون أكرث نفعا وأكرث نجاحا مع كل خطوة نقوم بها لتوسعة اإلنفوسفري‪.‬‬
‫وليست لألمر عالقة بغرابة الخيال العلمي‪ ،‬ألنه ال يستند إىل بعض التكهنات‬
‫بشأن بعض الذكاء االصطناعي الفائق الذي سوف يسيطر عىل العامل يف املستقبل‬
‫القريب‪ .‬هذا غري واقعي مطلقا مادام ما نعنيه هو فهمنا الحايل واملنظور للذكاء‬
‫االصطناعي والحوسبة‪ .‬لن يكون هناك سبارتاكوس اصطناعي(‪ )6‬يقود انتفاضة كربى‬
‫يف تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ .‬عىل رغم ذلك‪ ،‬فإن تغليف العامل هو العملية‬
‫التي تثري بعض التحديات‪ .‬دعوين أستخدم محاكاة ساخرة لعرض ما يدور يف ذهني‪.‬‬
‫زوجان «أ» و«هـ»(٭)‪ ،‬يرغبان بحق يف إنجاح العالقة بينهام‪ .‬الشخص «أ»‪ ،‬الذي‬
‫يعمل يف املنزل بشكل متزايد‪ ،‬غري مرن‪ ،‬وعنيد‪ ،‬وغري متسامح إزاء األخطاء‪ ،‬ومن‬
‫ا ُمل ْست َْص َعب أن يتغري؛ بينام الشخص «هـ» عىل عكس ذلك متاما‪ ،‬ولكنه أصبح أيضا‬
‫عىل نحو متزايد أكرث كسال ومعتمدا عىل «أ»‪ .‬النتيجة هي وضع غري متوازن‪ ،‬فيه‬
‫«أ» هو الذي يش ّكل العالقة ويشوه سلوكيات «هـ» بشكل عميل‪ ،‬إن مل يكن عمدا‪.‬‬
‫إذا نجح هذا الزواج‪ ،‬فذلك ألنه مصمم بعناية ليتناسب مع «أ»‪ .‬يف الوقت الحارض‪،‬‬
‫الذكاء االصطناعي الخفيف والتكنولوجيات الذكية تلعب دور «أ» يف التشبيه السابق‪،‬‬
‫بينام جيل أن مستخدميها من البرش هم «هـ»‪ .‬ونحن بصدد مواجهة خطرة‪ ،‬بسبب‬
‫تغليف العامل‪ ،‬تتمثل يف أن ما لدينا من تكنولوجيات رمبا سوف ُتشكل بيئاتنا املادية‬
‫واملفاهيمية وتضع علينا قيودا لن َت َك َّيف معها ألن هذا هو أفضل أو أسهل‪ ،‬أو حقيقة‬
‫يف بعض األحيان هو السبيل الوحيد إلنجاح األمور‪ .‬يف النهاية‪ ،‬الذكاء االصطناعي‬
‫الخفيف هو الرشيك الغبي ولكنه مجتهد‪ ،‬واآلدمية هي الرشيك الذيك ولكنه كسول‪،‬‬
‫لذلك من سوف ي َت َك َّيف مع من‪ ،‬علام بأن الطالق ليس خيارا؟ من املحتمل أن القارئ‬
‫سوف يتذكر الكثري من األحداث يف الحياة العملية حينام يكون يشء ما ال ميكن عمله‬
‫مطلقا‪ ،‬أو ال بد من عمله بطريقة معقدة أو سخيفة‪ ،‬ألن هذا هو السبيل الوحيد‬
‫لجعل نظام محوسب ينفذ ما يجب عليه تنفيذه‪ .‬إليكم مثاال بسيطا وأكرث واقعية‪.‬‬
‫املجازفة هي أننا رمبا ينتهي بنا األمر ببناء بيوت ذات جدران دائرية وأثاث ذي أرجل‬
‫(٭) تعمد املؤلف أال يحدد أي الشخصني الزوج وأيهام الزوجة‪ ،‬مشريا إىل االثنني بكلمة الشخص مستفيدا من غياب‬
‫التذكري والتأنيث عن لغته‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫ال َو َكالة‪ :‬تغليف العامل‬

‫مرتفعة مبا فيه الكفاية يالئم قدرات مكنسة كهربائية روبوتية مثل رومبا ‪.Roomba‬‬
‫بالتأكيد كنت أمتنى لو أن منزلنا أكرث مالءمة لرومبا‪ .‬يفيد املثال يف توضيح ليس فقط‬
‫املجازفة ولكن أيضا الفرصة املتمثلة يف قدرة تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت عىل‬
‫بناء وتشكيل بيئتنا وتغليف العامل‪.‬‬
‫هناك العديد من األماكن التي نعيش فيها والتي لها شكل «مييل إىل االستدارة»‪،‬‬
‫من األكواخ الجليدية ذات القباب (أكواخ اإلسكيمو)‪ ،‬إىل أبراج القرون الوسطى‪ ،‬إىل‬
‫نوافذ الواجهة البارزة من الحائط‪ .‬إذا قضينا معظم وقتنا داخل صناديق متيل إىل‬
‫أن تكون مربعة‪ ،‬فإن ذلك بسبب مجموعة أخرى من التكنولوجيات تتعلق باإلنتاج‬
‫الكثيف للطوب والبنى التحتية الخرسانية‪ ،‬وسهولة تقطيع وتكسية مواد البناء بشكل‬
‫مستقيم‪ .‬للمفارقة‪ ،‬املنشار الدائري امليكانييك هو الذي يولد عاملا قائم الزاوية‪ .‬يف كلتا‬
‫الحالتني‪ ،‬األماكن التي متيل إىل أن تكون مربعة وتلك التي متيل إىل االستدارة‪ُ ،‬ت ْبنى‬
‫وفقا للتكنولوجيات السائدة‪ ،‬أكرث مام تبنى وفقا الختيارات ساكنيها املحتملني‪ .‬باتباع‬
‫هذا املثال‪ ،‬فمن السهل أن نرى كيف أن الفرصة املتمثلة يف مقدرة التكنولوجيات‬
‫تأيت يف أشكال ثالثة‪ :‬رفض‪ ،‬وقبول شائك‪ ،‬وتصميم رائد‪ .‬وبزيادة الوعي النقدي لدينا‪،‬‬
‫بالقدرة البيئية الكامنة يف الذكاء االصطناعي الخفيف والتطبيقات الذكية لتكنولوجيا‬
‫املعلومات واالتصاالت‪ ،‬فقد نرفض األسوأ من أشكال التشويه‪ .‬أو نصبح‪ ،‬عىل األقل‪،‬‬
‫متقبلني لها بوعي‪ ،‬السيام عندما تكون قليلة األهمية أو عندما تكون حال مؤقتا‪ ،‬فيام‬
‫يجري التخطيط لتصميم أفضل‪ .‬يف الحالة األخرية‪ ،‬فإن تصور ما سوف يكون عليه‬
‫املستقبل وما سوف تفرضه تكنولوجيات املتطلبات التكيفية عىل املستخدمني اآلدميني‬
‫رمبا يساعد يف استحداث حلول تكنولوجية من شأنها خفض تكلفتها األنرثوبولوجية‬
‫وزيادة فوائدها البيئية‪ .‬باختصار‪ ،‬ينبغي أن يؤدي التصميم ‪(design‬٭) البرشي الذيك‬
‫دورا رئيسا يف تشكيل مستقبل تواصلنا بعضنا مع بعض‪ ،‬مبصنوعات تكنولوجية مرتقبة‪،‬‬
‫وباإلنفوسفري الذي نتشاركه فيام بيننا ونتشاركه مع تلك املصنوعات التكنولوجية‬
‫املرتقبة‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬إنه عالمة عىل الذكاء أن تجعل الغباء يعمل ملصلحتك‪.‬‬
‫(٭) يقصد املؤلف اللعب عىل معنيني لكلمة ‪ :design‬التصميم‪ ،‬وهو املعنى األوضح‪ ،‬والتخطيط الخفي املاكر‪ ،‬كأن‬
‫البرش يف رصاع مع تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت يستدعي املكر لتحقيق الغلبة عليها وإجبارها عىل العمل‬
‫ملصلحتهم‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫كل هذه القضايا تكتسب طبيعة ُم ِل ّحة عندما ال تكون األنظمة الذكية املعنية مجرد‬
‫تكنولوجيات من الرتبة الثالثة من املفرتض أن تجعل حياتنا أسهل من دون أن نالحظ أو‬
‫نحتاج إىل املشاركة فيها عىل اإلطالق‪ ،‬بل تكنولوجيات تتجسد‪ ،‬بالفعل‪ ،‬كرفقاء تفاعليني‬
‫من املتوقع أن نتشارك معهم حياتنا اليومية الواعية‪ ،‬كام سرنى يف القسم التايل‪.‬‬

‫الرفقاء االصطناعيون‬
‫يف بداية املرسحية الكوميدية «جعجعة دون ِطحن» (ضجة فارغة) ‪Much Ado‬‬
‫‪ About Nothing‬لويليام شكسبري‪ ،‬تسأل بياتريس‪« :‬من رفيقه اآلن؟» يف الوقت الحايل‪،‬‬
‫ميكن بسهولة أن تكون اإلجابة هي عنرص وسيط (وكيل) اصطناعي ‪.artificial agent‬‬
‫يأيت الرفقاء االصطناعيون يف جميع األشكال‪ .‬األمثلة األوىل تضمنت األرنب‬
‫الالسليك نابازتاغ ‪ ،Nabaztag‬والروبوت العالجي بارو ‪ Paro‬الذي له شكل صغار‬
‫حيوان الفقمة عدمية اآلذان‪ ،‬والروبوت كاسبار ‪ KASPAR‬الذي يف حجم الطفل‬
‫وشبيه بالبرش‪ ،‬والدمية التفاعلية برميو بويل ‪ .Primo Puel‬يف اآلونة األخرية‪ ،‬اكتسب‬
‫الرفقاء االصطناعيون مزيدا من الطبيعة القامئة عىل الربمجيات‪ ،‬مثل خدمة االشرتاك‬
‫يف الربمجيات املعروفة باسم جريي جوي ‪ ،GeriJoy‬كرمز (أفاتار ‪.)avatar‬‬
‫ينتمي هذا الجيل األول البسيط من الرفقاء االصطناعيني إىل أنواع العنارص‬
‫الوسيطة الذكية اآلخذة يف االتساع التي ُتستَخدَم يف الرعاية الصحية‪ ،‬والصناعة‪،‬‬
‫واألعامل التجارية‪ ،‬والتعليم‪ ،‬والرتفيه‪ ،‬والبحوث‪ ،‬وما شابه ذلك‪ .‬والحلول التكنولوجية‬
‫لتحسينها هي بالفعل متاحة بشكل كبري‪ ،‬ويبدو أن السؤال هو متى‪ ،‬وليس هل‪،‬‬
‫سوف يصبح الرفقاء االصطناعيون سلعا عىل نطاق واسع؟ إن الصعوبات التزال‬
‫هائلة‪ ،‬ولكنها ليست مستعصية عىل الحل وتبدو مفهومة جيدا‪ ،‬إىل حد كبري‪ .‬الرفقاء‬
‫االصطناعيون هم وكالء اصطناعيون ُيجسدون (يف بعض األحيان كصورة رمزية‬
‫أفاتار‪ ،‬فقط‪ ،‬يف تطبيقات الحاسب اللوحي‪ ،‬وغالبا كمصنوعات روبوتية) و ُيدمجون‪.‬‬
‫واملتوقع منهم أن يكونوا قادرين عىل درجة ما من التعرف عىل الكالم ومعالجة‬
‫اللغة الطبيعية؛ حتى يكونوا مؤانسني‪ ،‬لدرجة أن يتمكنوا من التواصل بنجاح مع‬
‫ا ُملستَخ ِدمني اآلدميني؛ وأن يكونوا مهرة معلوماتيا (باملفهوم الذي شرُ ِ ح آنفا‪ ،‬فهم‬
‫ال يفهمون املعنى املقصود‪ ،‬ولكن بوسعهم معالجة البيانات)‪ ،‬لدرجة أن يستطيعوا‬
‫‪194‬‬
‫ال َو َكالة‪ :‬تغليف العامل‬

‫التعامل مع احتياجات ُمستَخ ِدميهم املعلوماتية العادية؛ وأن يكونوا قادرين عىل‬
‫درجة من االستقاللية‪ ،‬مبفهوم املبادرة الذاتية‪ ،‬والتنظيم الذايت‪ ،‬واإلجراءات املوجهة‬
‫نحو الهدف‪ .‬وأن يكونوا قادرين عىل التعلم‪ ،‬مبفهوم مصطلح تعلم اآللة‪.‬‬
‫باعت رشكة بانداي ‪ Bandai‬اليابانية ‪ -‬وجدير بالذكر أنها أيضا منتج متاغوتيش‬
‫‪ - Tamagotchi‬أكرث من مليون نسخة من برميو بويل ‪ Primo Puel‬منذ العام‬
‫‪ .2000‬ويعد الرفقاء االصطناعيون نجاحا تكنولوجيا ألنهم ليسوا نتيجة إلنجاز ضخم‬
‫غري متوقع يف الذكاء االصطناعي القوي (الثقيل)‪ ،‬ولكنهم املعادل االجتامعي لـ «ديب‬
‫بلو» ‪ :Deep Blue‬ميكنهم التعامل بشكل جيد مع مهامهم التفاعلية‪ ،‬حتى إن كان‬
‫لهم ذكاء ساعة منبهة‪ .‬أهميتهم فلسفية‪ ،‬تحديدا‪ ،‬ألنهم ليسوا روبوتات أزميوف‬
‫وال أطفال هال‪ .‬إنهم يطرحون أسئلة فلسفية محددة خارج عامل التجارب الذهنية‬
‫والتكهنات الجامحة‪ .‬متى تكون املصنوعات املعلوماتية رفيقا؟ هل الرفيق االصطناعي‬
‫أفضل للطفل من الدمية‪ ،‬أو أفضل لكبار السن من سمكة الزينة الذهبية؟ إذا كان ما‬
‫يهم هو مستوى ونطاق التواصل‪ ،‬فمن ثم يكون أداء الرفيق االصطناعي أفضل من‬
‫سمكة الزينة الذهبية‪ ،‬أما إذا كان ما يهم هو االستغالل العاطفي الذي ميكن لليشء‬
‫أن يستحرضه ويربره‪ ،‬فقد تكون دمية باريب القدمية‪ ،‬بالتايل‪ ،‬مؤهلة لتكون رفيقا‬
‫أفضل من الرفيق االصطناعي‪ .‬هل ينطوي السامح للبرش بإقامة عالقات اجتامعية مع‬
‫رفقاء اصطناعيني يشبهون الحيوانات األليفة عىل خطأ أخالقي‪ ،‬أو عىل يشء مزعج‬
‫إىل حد ما‪ ،‬أو حتى محزن؟ هناك الكثري من مقاطع الفيديو عىل اإلنرتنت التي تجعل‬
‫املرء يظن ذلك‪ .‬لكن ملاذا ال يبدو األمر كذلك مع الحيوانات األليفة الحقيقية؟ هل‬
‫الطبيعة غري البيولوجية للرفقاء االصطناعيني هي التي تجعلنا نفزع؟ رمبا‪ ،‬ولكن‬
‫هذه ال ميكن أن تكون اإلجابة عىل أي شخص مقتنع‪ ،‬مثل ديكارت‪ ،‬بأن الحيوانات‬
‫هي آالت‪ ،‬لدرجة أن امتالك حيوانات أليفة ُمهندَسة ينبغي أال يحدث فرقا حقيقيا‪.‬‬
‫هذه ليست أسئلة عقيمة‪ ،‬لكن كيف ُنجيب عنها‪ ،‬ومن ثم فالتساؤل عن الكيفية‬
‫التي نبني بها‪ ،‬ونضع اإلطار املفاهيمي‪ ،‬ونتفاعل مع الرفقاء االصطناعيني‪ ،‬سوف يؤثر‬
‫يف قدرتنا يف املستقبل عىل تلبية احتياجات ورغبات اإلنسانية عىل نحو أكرث فعالية‪،‬‬
‫مع تأثري حقيقي يف مستويات املعيشة والقضايا االقتصادية ذات الصلة‪ .‬يف العام‬
‫‪ ،2011‬عىل سبيل املثال‪ُ ،‬أ ْنفق نحو ‪ 50.84‬مليار دوالر أمرييك عىل الحيوانات األليفة‬
‫‪195‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫البيولوجية يف الواليات املتحدة وحدها(‪ .)7‬ورمبا يؤدي ظهور مجتمع كامل من الرفقاء‬
‫االصطناعيني النافعني واملقبولني من الناحية النفسية إىل تغري هذا بصورة جذرية‪.‬‬
‫كثريا ما يقال إن الرفقاء االصطناعيني سوف يتزايد حضورهم يف حياتنا بتزايد قدرة‬
‫رض وبتكلفة‬ ‫هذه املصنوعات املعلوماتية عىل مساعدة املستخدمني املسنني بشكل ُم ٍ‬
‫مناسبة‪ .‬وهذا صحيح ومشجع‪ ،‬خاصة يف البالد التي تتزايد فيها نسبة كبار السن إىل‬
‫مجمل السكان‪ ،‬مثل اليابان وأجزاء من أوروبا (انظر الشكل الرقم ‪.)19‬‬
‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬ينبغي علينا أن نتذكر أن األجيال القادمة من املواطنني كبار‬
‫السن لن يكونوا «مهاجرين إلكرتونيا» ‪ e-migrants‬ولكن أطفال الحقبة الرقمية‪.‬‬
‫سوف ينتمون إىل األجيال «إكس ‪ »X‬و«واي ‪ »Y‬و«زد ‪ .»Z‬وسوف تكون احتياجاتهم‬
‫وتوقعاتهم مختلفة عن تلك التي للجيل الذي شهد انتشار وسائط اإلعالم الجامهريي‬
‫القدمية‪ .‬هنا تقدم صناعة األلعاب توقعات مفيدة‪ .‬يف العام ‪ ،2012‬كانت ُ‬
‫األسرَ األمريكية‬
‫املتوسطة متتلك عىل األقل وحدة تحكم أو حاسبا‪ ،‬أو هاتفا ذكيا للعب ألعاب الفيديو أو‬
‫الحاسوب‪ ،‬يف حني كانت ‪ 49‬يف املائة من األرس األمريكية متتلك وحدة تحكم مخصصة‬
‫لأللعاب‪ .‬كان متوسط عمر من يلعبون هذه األلعاب هو ‪ 30‬عاما‪ ،‬بعد أن كان ‪ 36‬عاما‪،‬‬
‫ورمبا يكون ذلك بسبب انتشار األلعاب عىل الهواتف الذكية والحواسب اللوحية‪ ،‬كام أن‬
‫‪ 32‬يف املائة من الالعبني أقل من ‪ 18‬عاما‪ ،‬و‪ 31‬يف املائة بني عمر ‪ 18‬و‪ 35‬عاما‪ ،‬و‪ 37‬يف‬
‫املائة أعامرهم أكرث من ‪ 36‬عاما‪ .‬هؤالء كانوا يلعبون هذه األلعاب ألكرث من ‪ 15‬عاما(‪.)8‬‬
‫عندما يصري الجيل «إكس» والجيل «واي» مسنني وواهنني‪ ،‬فإنه ليس ُمستَب َعدا أن‬
‫يكونوا قادرين عىل استخدام تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬ولكنهم قد يحتاجون‬
‫إىل مساعدة للقيام بذلك‪ ،‬متاما كحالة إنسان اليزال قادرا متاما عىل القراءة‪ ،‬ولكنه يحتاج‬
‫إىل نظارات‪ .‬لذلك‪ ،‬فقد يتقبلون دعم مساعد شخيص يف شكل رفيق اصطناعي‪ ،‬ميكن‬
‫أن يكون مبنزلة واجهة بينية مع بقية العامل‪ .‬ينبغي تخطيط تصنيع الرفقاء االصطناعيني‬
‫مبزيد من االعتبار للمعاقني رقميا ألكرث من األميني حاسوبيا‪.‬‬
‫تشري النقطة األخرية إىل أن الرفقاء االصطناعيني‪ ،‬عىل املدى الطويل‪ ،‬قد‬
‫يتطورون(٭) باتجاه التحول إىل وكالء حاسوبيني متخصصني‪ُ ،‬م َك َّرسني ملهام معلوماتية‬
‫(٭) يستخدم النص كلمة ‪ evolve‬ليذكرنا بالنشوء واإلرتقاء عند تشارلز داروين‪ ،‬كأن الرفقاء االصطناعيني كائنات حية‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫ال َو َكالة‪ :‬تغليف العامل‬

‫محددة‪ُ ،‬م َّت ِبعني يف ذلك اتجاهات التطور التي طرأت بالفعل عىل صناعات تكنولوجية‬
‫أخرى‪ .‬ميكننا بالفعل تصور أربعة من هذه االتجاهات‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬سوف يلبي الرفقاء االصطناعيون االحتياجات االجتامعية والرغبة اإلنسانية‬
‫يف الروابط العاطفية والتفاعالت املرحة‪ ،‬وعىل نحو ال يجعلهم مختلفني عن الحيوانات‬
‫األليفة‪ ،‬وبالتايل فسوف يتنافسون يف جذب االنتباه مع التلفزيون املوجود يف كل مكان‪.‬‬
‫نحن رأينا أن السؤال الرئيس هنا هو ما إذا كان السامح للبرش بإقامة عالقات صداقة‬
‫مع الرفقاء االصطناعيني قد ينطوي عىل ما يريب أدبيا‪ .‬هل طبيعتهم غري البيولوجية‬
‫ينبغي أن تجعلنا منارس ضدهم التمييز؟ يلقي هذا السؤال ضوءا مثريا لالهتامم عىل‬
‫فهمنا للنوعية التي نريد أن نتحول إليها كأشخاص‪ .‬رمبا ال يكون هناك ما يشني يف‬
‫الرفقاء االصطناعيني املشابهني للحيوانات األليفة‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬هم بالفعل يشكلون‬
‫ظاهرة منترشة بني األطفال‪ ،‬فنيوبتس ‪ Neopets‬هو موقع عىل اإلنرتنت للحيوانات‬
‫األليفة االفرتاضية‪ ،‬حيث ميكنك إنشاء حيوانات أليفة افرتاضية خاصة بك واللعب معها‪،‬‬
‫وأن تشرتي لها سلعا افرتاضية باستخدام عملة افرتاضية‪ .‬وهذا واحد من أكرث مواقع‬
‫الرتفيه التي «يلتصق» بها األطفال‪ ،‬ففي يناير ‪ ،2008‬كان عىل اإلنرتنت أكرث من ‪220‬‬
‫مليون نيوبت‪ ،‬مملوكة ألكرث من ‪ 150‬مليون شخص‪ .‬مل ُيرث أحد أي اعرتاض أخالقي‬
‫بشأن الطبيعة االصطناعية للمرافقني‪ ،‬عىل رغم أن أمورا أخرى‪ ،‬مثل اإلعالنات التي‬
‫يتضمنها املوقع‪ ،‬قد أثارت انتقادات(‪ .)9‬إذا أنت نشأت تلعب مع نيوبت‪ ،‬فلرمبا وجدت‬
‫أنه من الطبيعي أن يكون لديك رفيق اصطناعي عندما تتقاعد وتصري وحيدا‪.‬‬
‫ثانيا‪ ،‬سوف يقدم الرفقاء االصطناعيون الخدمات املعتادة القامئة عىل املعلومات‪،‬‬
‫يف مجاالت مثل االتصال‪ ،‬والرتفيه‪ ،‬والتعليم‪ ،‬والتدريب‪ ،‬والصحة‪ ،‬والسالمة‪ .‬كام‬
‫يف حالة الصور الرمزية (أفاتار)‪ ،‬من املرجح أن يصبح الرفقاء االصطناعيون وسيلة‬
‫للتفاعل مع اآلخرين وكذلك مع الوكالء االجتامعيني أنفسهم‪ .‬يف هذا السياق‪ ،‬أحد‬
‫التحديات هو أن توافر الرفقاء االصطناعيني رمبا يزيد من التفرقة االجتامعية والعزلة‪،‬‬
‫فضال عن زيادة الفجوة الرقمية‪ .‬عىل وجه الخصوص‪ ،‬فيام يتعلق باألشخاص ذوي‬
‫االحتياجات أو اإلعاقات ذات الصلة‪ ،‬فاألمل هو أنهم سوف يكونون قادرين عىل‬
‫أن يستمتعوا باملعاونة من رفيق اصطناعي‪ ،‬متاما مثل النظام املعمول به يف اململكة‬
‫املتحدة املعروف باسم ‪ ،Motability Scheme‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ذلك النظام الذي‬
‫‪197‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫يوفر لألشخاص املعاقني فرصة امتالك أو استئجار كرايس متحركة تعمل مبحرك‬
‫ودراجات بخارية (سكوتر) بأسعار يف متناول اليد‪ .‬خذ يف االعتبار استمرار تاليش‬
‫الفجوة بني تلك األجهزة وبني بعض التطبيقات املاهرة الذكية التي تشبه رفيقا‪.‬‬
‫ثالثا‪ ،‬رمبا تصري تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت أفضل يف التحدث بعضها‬
‫إىل بعض‪ ،‬لكنها التزال تتجاهل مشاعر سادتها‪ .‬عندما كنا نقوم برتميز البيانات‬
‫واملعلومات‪ ،‬كان هذا نادرا ما يمُ ّثل مشكلة‪ .‬لكن عىل األقل منذ مطلع التسعينيات‪،‬‬
‫فإن أحد أفرع الذكاء االصطناعي بدأ يف دراسة كيفية أن يكون الوكيل االصطناعي‬
‫رمبا قادرا عىل التعامل مع املشاعر اإلنسانية‪ .‬يعرف هذا الفرع باسم الحوسبة‬
‫الوجدانية(‪ .)10‬هناك سؤاالن جوهريان يشكالن أساس الحوسبة الوجدانية‪ .‬من جهة‪،‬‬
‫ما إذا كان ميكن‪ ،‬أو حتى ينبغي‪ ،‬لنوع من تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت أن‬
‫يكون قادرا عىل التعرف عىل املشاعر اإلنسانية واالستجابة لها عىل نحو كاف‪ .‬ومن‬
‫جهة أخرى‪ ،‬ما إذا كان ميكن‪ ،‬أو حتى ينبغي‪ ،‬لنوع من تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت ذاتها أن ُي َز َّود بالقدرة عىل أن تكون لديه عواطف‪.‬‬
‫يتعلق السؤال األول بالبحوث يف مجال التفاعل البرشي الحاسويب ‪ .HCI‬قد تكون‬
‫للمستَخ ِدمني وأمناطهم السلوكية مؤرشا إىل حالتهم العاطفية‪،‬‬
‫الظروف الفسيولوجية ُ‬
‫وتبدو كأنها فكرة جيدة أن ُتط َّور نظم التفاعل البرشي الحاسويب بحيث تكون قادرة‬
‫عىل التعرف عىل هذه البيانات واستغاللها من أجل استنهاض اسرتاتيجيات استجابة‬
‫مالمئة‪ .‬اليوم‪ ،‬بوسع بعض التطبيقات‪ ،‬بالفعل‪ ،‬منع رسائل الربيد اإللكرتوين البذيئة‬
‫وغري املقبولة‪ ،‬أو الحد من أخطاء القيادة‪ ،‬أو التشجيع عىل عادات صحية‪ ،‬أو تقديم‬
‫مشورة غذائية‪ ،‬أو التنويه عن خيارات أفضل للمستهلكني‪ .‬كان السلف القديم لهذا‬
‫النوع من التفاعل البرشي الحاسويب هو مساعد املكتب سيئ السمعة الذي أنتجته‬
‫رشكة مايكروسوفت‪ ،‬واملعروف باسم كليبي ‪ .Clippy‬كان من املفرتض أن يساعد‬
‫ا ُملستَخ ِدمني‪ ،‬ولكنه تحول إىل أن يكون مصدر إزعاج‪ُ ،‬وأو ِقف يف العام ‪ .2003‬أنا لست‬
‫متأكدا من أنني سوف أستمتع مبحمصة خبز كهربائية تقوم عىل رعايتي‪ ،‬ولكني عىل‬
‫استعداد لالعرتاف بأن بعض املزايا تستحق أن أحتمل ما قد يرتتب عليها من إيذاء‬
‫ملشاعري‪ .‬وسوف يزيد نجاح تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت التي ميكن ارتداؤها‬
‫من جدوى الحوسبة الوجدانية‪.‬‬
‫‪198‬‬
‫ال َو َكالة‪ :‬تغليف العامل‬

‫الصعوبة الحقيقية تتصل بالسؤال الثاين‪ ،‬حيث تكمن االدعاءات الغريبة للغاية‪،‬‬
‫وهي غالبا مناقضة لفهمنا الحايل لعلوم الحاسب وملا لدينا من معرفة محدودة عن‬
‫املشاعر البيولوجية‪ .‬للتبسيط‪ ،‬املنطق هو أننا بارعون يف املهام الذكية ألننا أيضا‬
‫منغمسون عاطفيا معها‪ ،‬لذلك سوف يكون من غري املمكن تحقيق الذكاء االصطناعي‬
‫الحقيقي إال إذا أمكن تطوير بعض من «الذكاء الوجداين»‪ .‬آمل أنك ترى ذلك عىل أنه‬
‫استدالل تخيريي ‪( modus tollens‬إذا كان «ع» إذن «ف»‪ ،‬لكن ليس «ف»‪ ،‬وبالتايل‬
‫ليس «ع»)‪ ،‬ولكن حتى إذا مل يكن كذلك‪ ،‬فإن فرضية أن الذكاء يتطلب شعورا تبدو‬
‫أنها بحاجة إىل بعض التعليل‪ .‬إن املراجع التطورية ا ُملبهمة والعداء املعتاد للمنهج‬
‫الديكاريت كإحدى رضورات الشهرة والتأنق هي مشوشة ومربكة‪ .‬هناك الكثري من‬
‫الحيوانات الذكية التي تزدهر من دون أي اعتامد مزعوم عىل مشاعر أو أحاسيس‬
‫من أي نوع‪ .‬التامسيح ال تبيك والنمل ال ينزعج مع حرشات الزيز ‪ .cicadas‬إن‬
‫حاسبا حرارته مرتفعة هو حاسب ذو نظام تربيد معطوب‪ .‬نأمل أال يصبح ما لدينا‬
‫من تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت عاطفيا للغاية عندما نتوقف عن تدليله‪،‬‬
‫مثلام فعلنا قرسا لعقود من الزمان‪ .‬حان الوقت ألن تشب تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت وتخرج من فضائنا العقيل‪ ،‬هذه هي ميزة تكنولوجيات الرتبة الثالثة‪ .‬إن‬
‫املوجة الكبرية التالية من االبتكارات هي أن ُترتَك وحيدة‪.‬‬
‫أخريا‪ ،‬فإن الرفقاء االصطناعيني سوف يكونون مبنزلة «رعاة للذاكرة»‪ ،‬يقومون‬
‫بإنشاء وإدارة مستودع ملعلومات عن مالكيهم‪ .‬هذه أنباء جيدة‪ ،‬ألن ترك أثر باق‬
‫خلفنا كان عىل الدوام إسرتاتيجية شائعة ملواجهة االندثار الذي ال مفر منه عقب‬
‫وفاة أحد ما‪ .‬يف الوقت الحارض‪ ،‬ميكننا جميعا أن نكون أقل عرضة للنسيان نوعا‬
‫ما‪ ،‬بقدر ما ننجح يف أعاملنا التذكريية التي نصنعها بأنفسنا‪ .‬هذا التيار سوف ينمو‬
‫باطراد حاملا يصري الرفقاء االصطناعيون سلعا‪ .‬نحن رأينا يف الفصل األول أن السعة‬
‫التخزينية تتزايد بوترية مذهلة وبأسعار آخذة يف االنخفاض‪ .‬عىل الصعيد العاملي‪،‬‬
‫هي ال تساير إنتاجنا مزيدا من البيانات‪ ،‬ولكن محليا بكل تأكيد مل يعد التخزين‬
‫مشكلة عندما يتعلق األمر بتسجيل حياة بكاملها عن طريق الرفقاء االصطناعيني‪.‬‬
‫يوما ما‪ ،‬رمبا تتلقى «أليس» عند والدتها الرفيق االصطناعي الخاص بها‪ ،‬وتحتفظ‬
‫به وترعاه طوال حياتها‪ ،‬وتقوم برتقيته‪ ،‬وإصالحه‪ ،‬ورمبا تستبدله بطرز جديدة‪،‬‬
‫‪199‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫وتكون حياتها بالكامل مؤرشفة يف ملفاته‪ .‬من ثم‪ ،‬لن مير وقت طويل قبل أن‬
‫تكون بعض التطبيقات الذكية قادرة عىل أن تحايك شخصا ما ‪ -‬اعتامدا عىل ما‬
‫تم‪ ،‬عىل مدى حياته‪ ،‬من تسجيالت لصوته‪ ،‬وتجاربه البرصية والسمعية‪ ،‬وما‬
‫أعرب عنه من آراء وأذواق‪ ،‬وعاداته اللغوية‪ ،‬واملاليني من الوثائق الرقمية‪ ،‬وما‬
‫شابه ذلك‪ ،‬إىل الدرجة التي ميكن للمرء عندها أن يتواصل مع الرفيق االصطناعي‬
‫الخاص بـ «أليس» حتى بعد وفاتها‪ ،‬من دون أن يالحظ‪ ،‬أو حتى يتجاهل عمدا‪،‬‬
‫أي اختالف ملموس‪ .‬يف أوائل العام ‪ ،2011‬بدأت بعض دور الجنائز يف الواليات‬
‫املتحدة تضع عىل شواهد القبور رموزا (أكوادا) صغرية لالستجابة الرسيعة‪ ،‬تتيح‬
‫للزائرين إمكان الوصول إىل معلومات عن املوىت‪ ،‬مثل حفالت التأبني عىل اإلنرتنت‪،‬‬
‫أو إعالنات النعي‪ ،‬أو قصة حياة تفاعلية‪ .‬ويبدو أن األفق املتاح ملثل هذه األعامل‬
‫ال حد له‪ .‬وميكن للرفيق االصطناعي‪ ،‬ذي الطابع الشخيص‪ ،‬أن يجعل املرء «خالدا‬
‫إلكرتونيا ‪ .»e-mortal‬عىل أي حال‪ ،‬فإن نسخة مطورة ومطوعة من برنامج إليزا‬
‫‪ ،)11(ELIZA‬الربنامج الشهري الذي يستخدم معالجة اللغة الطبيعية للتفاعل‬
‫مع ردود ا ُملستَخ ِدمني بناء عىل نص معد سلفا‪ ،‬ميكنه بالفعل أن يخدع العديد‬
‫من األشخاص عرب اإلنرتنت (حاول الناس لعدة سنوات مواعدة عنارص وسيطة‬
‫(وكالء) عىل اإلنرتنت تشبه إليزا ‪ .)ELIZA‬وسوف يتسبب ما لدينا من رعاة‬
‫ذاكرة جدد يف تفاقم مشكالت قدمية وظهور مشكالت جديدة وصعبة‪ .‬ماذا منحو‪،‬‬
‫وليس ماذا نسجل؟ (كام هي الحال بالفعل مع رسائل الربيد اإللكرتوين لشخص‬
‫ما)‪ ،‬وأمان وتنقيح ما يجري تسجيله‪ ،‬وإتاحية وإمكانية الوصول إىل املعلومات‬
‫املسجلة ونقلها‪ ،‬وطول عمرها‪ ،‬واالستهالك املستقبيل و«إعادة العرض»‪ ،‬وتدبري‬
‫شؤون الرفقاء االصطناعيني الذين يعيشون أكرث من رشكائهم اآلدميني‪ ،‬وتقويم‬
‫اختالالت التوازن الدقيق بني فن النسيان وعملية التسامح (تأمل ثقافات ما بعد‬
‫الدكتاتورية‪ ،‬أو ما بعد الفصل العنرصي‪ ،‬أو ما بعد الحرب األهلية)‪ ،‬والقضايا‬
‫الحساسة املتعلقة بخصوصية املعلومات‪ ،‬وما سوف يكون لكل هذا من أثر عىل‬
‫بناء الهويات الشخصية واالجتامعية‪ ،‬وعىل الرسود التي تشكل مايض وجذور‬
‫الناس‪ .‬هذه ليست سوى بعض القضايا التي سوف تتطلب معالجة متأنية‪ ،‬ليس‬
‫تكنولوجيا فقط‪ ،‬ولكن أيضا تربويا وفلسفيا‪.‬‬
‫‪200‬‬
‫ال َو َكالة‪ :‬تغليف العامل‬

‫سوف يتفاعل الرفقاء االصطناعيون وغريهم من العديد مام حققته تكنولوجيات‬


‫املعلومات واالتصاالت من أنظمة الذكاء االصطناعي‪ ،‬بشكل متزايد‪ ،‬مع إنفورغات‬
‫مثلنا‪ ،‬خاصة عىل الويب؛ لذلك‪ ،‬فإن ما سوف تكون عليه الويب يف املستقبل القريب‬
‫هو السؤال الذي أبقى املفكرين ومحبي التكنولوجيا يف حالة ترقب‪ ،‬لبعض الوقت‪.‬‬
‫ومل يسفر كل ما يحدث يف اآلونة األخرية من إعادة تشكيل للصناعة‪ ،‬بوسائل تواصل‬
‫اجتامعي وصلت إىل مرحلة النضج‪ ،‬إال عن ازدياد الحاجة إىل بعض الوضوح‪ .‬يف‬
‫السنوات األخرية‪ ،‬ظهرت تدريجيا إجابتان متميزتان من سوق األفكار الصاخب‬
‫واملزعج إىل حد كبري‪ :‬إحداهام‪ ،‬من دون شك إجابة تيم برينرز ‪ -‬يل ‪Tim Berners-‬‬
‫‪ ،Lee‬املنارص للويب الداليل ‪ .Semantic Web‬األخرى‪ ،‬يسهل متييزها عىل أنها‬
‫إجابة تيم أورييل ‪ ،Tim O’Reilly‬الذي يؤيد ما يسمى اإلصدار الثاين لتقنيات‬
‫الشبكة العنكبوتية العاملية (ويب ‪ .)Web 2.0 2,0‬إن تواصل محركات داللية مثلنا‬
‫مع محركات نحوية (تعتمد عىل القواعد اللغوية)‪ ،‬مثل ما لدينا من تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت والرفقاء االصطناعيني سيحدث فرقا كبريا‪ ،‬لذلك‪ ،‬أي «تيم» من‬
‫االثنني عىل صواب؟ اإلجابة تتطلب قسام جديدا‪.‬‬

‫الويب الداليل ومحركاته النحوية‬


‫قدم تيم برينرز‪-‬يل ‪ Tim Berners-Lee‬فكرة الويب الداليل يف التسعينيات‪ .‬بعد‬
‫عقدين من الزمن أو نحو ذلك‪ ،‬أصبح من الصعب استخالص تعريف بسيط وواضح‬
‫للويب الداليل‪ ،‬املعروف أيضا باسم ويب ‪ ،3,0‬من وابل الضجيج غري الواقعي واملبالغ‬
‫فيه أو الدعاية التي ال ترعوي والتي ال ُي َعول عليها‪ .‬دعوين أقدم مقتطفات مطولة‬
‫من واحد من أكرث النصوص التي ُيستش َهد بها يف هذا املوضوع(‪ .)12‬هذا يساعد عىل‬
‫توضيح بعض التضخيم يف فكرة الويب الداليل‪.‬‬
‫يجري تصميم القسم األعظم من محتوى الويب اليوم ليقرأه اإلنسان‪،‬‬
‫وليس لتعالجه برامج الحاسب بشكل ذي معنى‪ .‬تستطيع أجهزة الحاسب‪،‬‬
‫برباعة‪ ،‬تحليل صفحات الويب للتنسيق واملعالجة الروتينية املعتادة ‪ -‬هنا‬
‫رأس الصفحة‪ ،‬هناك رابط لصفحة أخرى ‪ -‬لكن بشكل عام‪ ،‬ليس ألجهزة‬
‫الحاسب أي وسيلة يعول عليها ملعالجة الدالالت اللفظية‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫وسوف يكتسب املحتوى ذو املعنى لصفحات الويب‪ ،‬بفضل الويب‬


‫الداليل‪ ،‬بنية يرتتب عليها أن تنشأ بيئة تتيح للعنارص الوسيطة (الوكالء)‬
‫الربمجية‪ ،‬املتجولة من صفحة إىل أخرى‪ ،‬أن تنهض‪ ،‬بسهولة‪ ،‬مبهام متطورة‬
‫ملصلحة ا ُملستَخ ِدمني‪ ]...[ .‬إنها سوف «تعرف» كل هذا من دون الحاجة‬
‫إىل الذكاء االصطناعي مبعيار هال ‪« Hal‬العام ‪ »2001‬أو يس ‪ -‬ثري يب أو‬
‫‪ C-3PO‬يف «حرب النجوم»‪.‬‬
‫ال ميثل الويب الداليل ويب منفصال‪ ،‬ولكنه امتداد للويب الحايل‪،‬‬
‫الذي ُيكسب املعلومات معنى جيدا لتحديد ما يتيح ألجهزة الحاسب‪،‬‬
‫ولألشخاص‪ ،‬العمل متعاونني بشكل أفضل‪ ،]...[ .‬وتصري اآلالت أقدر كثريا‬
‫عىل معالجة و«فهم» البيانات التي تقوم يف الوقت الحايل بعرضها فقط‪.‬‬
‫سوف يمُ َ ِّكن الويب الداليل اآلالت من فهم وثائق داللية وبيانات‪،‬‬
‫وليس فهم الكالم والكتابات اآلدمية‪.‬‬
‫يقدم ذلك قراءة رسيعة ومشوقة‪ ،‬مملوءة بالوعود‪ .‬إنه (أو باألحرى كان‪ ،‬طوال‬
‫عقد من الزمن) ممثل ألدبيــــات الويــــب الداليل‪ ،‬ولكنـــه أبعد ما يكون عن‬
‫املنظور األكرث حرصا وتشـــددا الذي أقره تحالــف شبكة الويـــــب العاملـــية‬
‫)‪ World Wide Web Consortium (W3C‬الذي يصف الويب الداليل بأنه‬
‫(التشديد مضاف)‬
‫إطار عمل مشرتك يسمح بتشارك البيانات وإعادة استخدامها عرب‬
‫التطبيقات‪ ،‬واملؤسسات‪ ،‬وحدود املجتمع‪ ]...[ .‬إنه مؤسس عىل إطار‬
‫توصيف املوارد (‪.)13()RDF‬‬

‫َمنْ املحق إذن؟ وما سبب التفاوت امللحوظ؟‬


‫رمبا يكون مفهوما أن أنصار الويب الداليل متحمسون أكرث مام ينبغي بشأن‬
‫إمكان تحققه فعليا‪ .‬سوف يكون من الرائع إذا استطعنا بناءه‪ ،‬ولكن مع األسف‪،‬‬
‫الويب الداليل ميثل‪ ،‬يف الحقيقة‪ ،‬مشكلة ذكاء اصطناعي مكتملة(‪ .)14‬وال يوجد لها‬
‫حل تكنولوجي يف املستقبل املنظور‪ .‬هو مياثل يف جودته وبعده عن الواقعية «يس‬
‫‪ -‬ثري يب أو ‪ »C-3PO‬يف «حرب النجوم»‪ ،‬بينام الويب املمكن من الناحية الفنية‬
‫‪202‬‬
‫ال َو َكالة‪ :‬تغليف العامل‬

‫واملزعوم أنه «داليل» هو غري مثري‪ ،‬ألنه ينبغي بالرضورة أن يفشل يف تحقيق ما يعد‬
‫به‪ ،‬وهو ويب مزود بأجهزة الحاسب التي تفهم وتفرس معنى وداللة البيانات التي‬
‫تقوم مبعالجتها‪ .‬الحقيقة هي أن وصفا فنيا دقيقا لويب داليل ممكن من الناحية‬
‫الواقعية ينطوي عىل قدر قليل من التشابه مع ما هو ُمع َلن عنه‪ .‬مجددا‪ ،‬دعوين‬
‫أقتبس من تحالف شبكة الويب العاملية (‪( )W3C‬التشديد مضاف)‪:‬‬
‫الويب الداليل هو ويب من بيانات [‪ ]...‬يتعلق الويب الداليل بأمرين‪:‬‬
‫بصيغ عامة لتكامل ومزج بيانات مستنبطة من مصادر متنوعة‪ ،‬بينام‬
‫يركز الويب األصيل ‪ -‬بشكل رئييس ‪ -‬عىل تبادل الوثائق‪ ،‬كام يتعلق بلغة‬
‫لتسجيل كيفية ارتباط البيانات بأشياء يف العامل الحقيقي‪ .‬هذا يسمح‬
‫لشخص ما‪ ،‬أو آلة ما‪ ،‬بالبدء من قاعدة بيانات واحدة‪ ،‬ومن ثم االنتقال‬
‫عرب مجموعة ال نهائية من قواعد البيانات املتصلة بعضها ببعض‪ ،‬ليس عن‬
‫طريق األسالك ولكن عن طريق كونها تتعلق باليشء نفسه‪.‬‬
‫كام ميكن أن يرى القارئ أنها بيانات (ليست معلومات داللية‪ ،‬تتطلب بعض‬
‫الفهم) وبناء الجملة (ليس املعنى‪ ،‬الذي يتطلب بعض الذكاء) عرب جميع املراحل‪.‬‬
‫ينبغي علينا حقا أن نتحدث عن ويب مقروء آليا‪ ،‬أو يف الواقع عن ويب من بيانات‬
‫كام يفعل تحالف شبكة الويب العاملية (‪ .)W3C‬مثل هذا الويب فوق النحوي‬
‫(متعلق مبا وراء الرتكيب اللغوي) يعمل‪ ،‬ويتزايد عمله بشكل جيد يف سياقات محددة‪،‬‬
‫ومعيارية‪ ،‬وذات صيغة‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬كتالوغ الرشائط السينامئية للعمالء عرب‬
‫اإلنرتنت‪ .‬هذا هو حقا ما ُيركز عليه تحالف شبكة الويب العاملية (‪ .)W3C‬إن الويب‬
‫فوق النحوي (املتعلق مبا وراء الرتكيب اللغوي) ُمضجر‪ ،‬وىف حقيقته البسيطة‪ ،‬غري‬
‫قابل للبيع‪ ،‬األمر الذي يدعو إىل األسف؛ ألنه ‪ -‬يف الحقيقة ‪ -‬تطور مفيد‪ .‬دعونا اآلن‬
‫ننظر يف اإلصدار الثاين لتقنيات الشبكة العنكبوتية العاملية (‪.)Web 2.0‬‬

‫الويب ‪ 2.0‬ومحركاته الداللية‬


‫إن تقديم تعريف ُمح َكم ملا ميكن أن يوصف بأنه ويب ‪ 2.0‬رمبا يكون أمرا‬
‫مستحيال‪ ،‬وليس فقط مهمة شائكة‪ .‬لكن حقيقة أن الويب ‪ 2.0‬يشري إىل َح ْشد‬
‫فضفاض من مجموعة تكنولوجيات وخدمات ومنتجات متنوعة تشبه العائلة‪ ،‬ال يعد‬
‫‪203‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫تربيرا لهذه الدرجة ا ُملحبطة من عدم الوضوح‪ .‬فضبابية البيئة ال تعد سببا وجيها ألن‬
‫تفتقر صورتها إىل الدقة‪ .‬هناك محاوالت كثرية بالفعل لتحديد ماذا نعني بتطبيقات‬
‫الويب ‪ ،2.0‬ولكن مل يكتسب أي منها حتى مكانة املعيار الذي فرضته اعتبارات األمر‬
‫الواقع‪ .‬وليك نكون منصفني‪ ،‬فقد سعى تيم أورييل ‪ Tim O’Reilly‬إىل أن يكون‬
‫دقيقا؛ ففي مشاركته الشهرية بعنوان «ويب ‪ :2.0‬تعريف موجز؟»(‪ )15‬يف العام ‪،2005‬‬
‫كتب ما ييل‪:‬‬
‫الويب ‪ 2.0‬هو الشبكة التي تعمل كنظام أسايس (منصة) ميتد عرب‬
‫جميع األجهزة املتصلة؛ تطبيقات الويب ‪ 2.0‬هي تلك التي ينشأ عنها‬
‫معظم املزايا الجوهرية لهذا النظام األسايس‪ :‬تقدم برمجيات كخدمة‬
‫دامئة التحديث‪ ،‬وتتحسن كلام استخدمها مزيد من الناس‪ ،‬يستخدمون‬
‫ويغريون ويعيدون خلط بيانات من مصادر متعددة‪ ،‬مبا يف ذلك فرادى‬
‫ا ُملستَخ ِدمني‪ ،‬بينام يقدمون بيانات وخدمات خاصة بهم‪ ،‬يف شكل يسمح‬
‫بإعادة الخلط والتعديل بواسطة اآلخرين‪ُ ،‬منشئني بذلك تأثريات شبكية عرب‬
‫«بنية تشاركية»‪ ،‬ومتجاوزين التعبري املجازي لكلمة صفحة يف ويب ‪1.0‬‬
‫لتقديم خربات مستخدم غنية‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالويب الداليل هو يف الحقيقة ويب قائم عىل املشاركة‪ ،‬يضم اليوم‬
‫«كالسيكيات» مثل يوتيوب‪ ،‬وإيباي‪ ،‬وفيسبوك‪ ،‬وما شابه ذلك‪ .‬فقط تحقق من أعىل‬
‫خمسة وعرشين موقع ويب يف أليكسا ‪ ،Alexa‬وهي خدمة ويب تقدم معلومات‬
‫عن مواقع الويب‪.‬‬
‫إذن ما الفرق بني ويب ‪ 2.0‬والويب الداليل؟ أفضل طريقة لإلجابة عن هذا السؤال‪،‬‬
‫هي من خالل محاولة فهم نجاح تطبيقات ويب ‪ 2.0‬يف العقد املايض أو نحو ذلك‪.‬‬
‫ويب ‪ 2.0‬فعال‪ ،‬لألسباب التالية‪ :‬أن واصفات البيانات تبقى بيانات‪ ،‬حتى إن‬
‫كانت عن بيانات‪ ،‬أي أنها اختالفات ميكن تحديدها‪ ،‬وإن كانت ُتقدم و ُتقيد التفسري‬
‫الداليل (ولكنها التزال خالية منه)‪ .‬ينبغي عدم الخلط بينها وبني املعلومات الداللية‬
‫(التي تتطلب معنى)‪ ،‬فضال عن املعرفة (التي حقيقة تتطلب عىل األقل شكال ما‬
‫للتفسري والفهم)‪ .‬عىل الرغم من ذلك‪ ،‬فإن ما لدينا من تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت ‪ -‬مبا يف ذلك أي وكيل اصطناعي ذيك ميكن فعليا أن ُيبنى عىل أساس‬
‫‪204‬‬
‫ال َو َكالة‪ :‬تغليف العامل‬

‫أفضل فهم لدينا لعلوم الحاسب الحالية ‪ -‬هي محركات نحوية‪ ،‬وال تستطيع معالجة‬
‫املعنى‪ .‬لذلك‪ ،‬الويب الداليل هو إىل حد كبري مجرد ضجة‪ :‬إنه حقيقة تقوم عىل لغات‬
‫وصف بيانات؛ ال تتضمن معلومات داللية‪ .‬عىل العكس من ذلك‪ ،‬املحرك الداليل‬
‫الوحيد املتاح هو البرش‪ ،‬األشباح داخل اآلالت‪ ،‬كام أقر مهندسو تويرت‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن‬
‫ويب ‪ 2.0‬هو ويب ُأنشئ بواسطة محركات داللية من أجل محركات داللية‪ ،‬عن‬
‫طريق االعتامد عىل إسهام جحافل املستخدمني‪ .‬تأمل ما يعرف باسم فولكسونوميات‬
‫‪( Folksonomies‬التصنيف الحر أو التوسيم االجتامعي)‪ ،‬عىل سبيل التوضيح‪.‬‬
‫فولكسونومي (املركبة من كلمتي ‪ Folks‬وتعني «الناس»‪ ،‬و‪Taxonomy‬‬
‫وتعني التصنيف أو علم التصنيف) هو النتيجة املجمعة للمامرسة االجتامعية‬
‫إلنتاج معلومات عن معلومات أخرى (عىل سبيل املثال‪ ،‬صورة) عن طريق تصنيف‬
‫تعاوين‪ ،‬معروف باسم التوسيم االجتامعي (عىل سبيل املثال‪ ،‬صورة تأخذ وسومات‬
‫فمستَخ ِدم أو‬
‫«نيويورك»‪« ،‬الشتاء»‪« ،‬متثال الحرية»)‪ .‬إنها تعمل من أسفل إىل أعىل‪ُ ،‬‬
‫ُمنتج الهدف املراد توسيمه هو الفرد الوحيد الذي ُيرتك له اختيار ما يقوم بتصنيفه‪،‬‬
‫وكيفية تصنيفه‪ ،‬وما الكلامت املفتاحية املناسبة التي يستخدمها يف التصنيف‪ .‬منذ‬
‫العام ‪ ،2004‬أصبحت الفولكسونوميات شائعة كوسيلة فعالة إلضفاء الطابع الشخيص‬
‫عىل املعلومات وتسهيل إمثارها من خالل أدوات إدارة املعلومات‪ .‬إذا قمت بزيارة‬
‫موقع فليكر ‪ Flickr‬وبحثت عن «نيويورك»‪« ،‬شتاء»‪« ،‬متثال الحرية»‪ ،‬فسوف يكون‬
‫يف وسعك اسرتجاع الصور املناظرة لتمثال الحرية يف نيويورك التي التقطت خالل‬
‫فصل الشتاء‪ .‬بسيط؟ نعم‪ ،‬ولكن من البديهي أن تعرتض بأن الفولكسونوميات رمبا‬
‫تكون ُم ْل َت ِبسة للغاية‪ .‬فإذا نظرت يف أدىن قامئة الصور‪ ،‬سوف تجد صورة لشخص‬
‫يرتدي زيا مثل متثال الحرية‪ ،‬يف نيويورك‪ ،‬يف فصل الشتاء‪ ،‬وسوف تجد حتى صورة‬
‫لقارب اسمه «متثال الحرية»‪ .‬الحاسب ال يفرق بني هذا وذاك‪ ،‬إنه يسرتجع جميع‬
‫الصور التي ُو ِسمت بـ «نيويورك»‪ ،‬و«شتاء»‪ ،‬و«متثال الحرية»‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فهذه ليست‬
‫مشكلة بالنسبة إىل محركات داللية مثلنا‪ ،‬قادرة عىل عمليات إزالة االلتباس رسيعا‪.‬‬
‫كمدخل (صورة القارب لها بالفعل‬ ‫نحن عادة ما نستطيع تقديم مزيد من الوسومات ُ‬
‫‪ 69‬وسام يف وقت كتابة هذه السطور)‪ ،‬وعىل أي حال نستطيع أن منيز الفرق يف‬
‫املخرجات (من الصعب الخلط بني التمثال والشخص والقارب)‪.‬‬
‫‪205‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫لقد اتضح أن ويب ‪ 2.0‬هو واقع يتزايد إمكان تحقيقه وتنفيذه‪ ،‬مل يعد مثل ويب‬
‫‪ 1.0‬ممثال عن طريق خلق فضاء خارجي آخر‪ ،‬ولكن عن طريق نظام إيكولوجي‬
‫ُمحبب وسهل للبرش‪ ،‬ومأهول بهم باعتبارهم إنفورغات‪ .‬إن ويب ‪ 2.0‬هو جزء من‬
‫اإلنفوسفري‪ ،‬حيث الذاكرة باعتبارها تسجيال وحفظا أبديا (نظرة أفالطونية) ُتستبدل‬
‫بالذاكرة باعتبارها تراكام وتنقيحا‪ ،‬ومن ثم يحل البحث محل التذكر‪ .‬إنها بيئة تتميز‬
‫بأنها تراعي الزمن‪ ،‬إذ إن الزمن يضيف قيمة وتتحسن تطبيقات ومحتويات الويب‬
‫‪ 2.0‬عن طريق االستخدام‪ ،‬وهذا يعني أنها تتحسن مبرور الزمن‪ ،‬عىل األقل ألن‬
‫عدد األشخاص املشاركني يتزايد باستمرار‪ .‬هذا بدوره يكون دالة يف الكتلة الحرجة‬
‫(الحد األدىن) من اإلنفورغات الذين ينتجون ويستهلكون معلومات داللية‪ .‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬مداخل ويكيبيديا التي تتحسن كلام طال بقاؤها عىل اإلنرتنت وزاد‬
‫استخدامها‪ ،‬وأيضا ألن جيال جديدا بأكمله‪ ،‬من عدد متزايد من املشاركني‪ ،‬يؤدي إىل‬
‫تزايد أثر مراجعة النظراء‪ .‬واالعرتاض القائم عىل أن املنتمني إىل الويكيبيديني ينبغي‬
‫أال يبتعدوا كثريا عن املوسوعة الربيطانية‪ ،‬أو عن أي مصدر معلومات منشور آخر‪،‬‬
‫هو اعرتاض صحيح؛ ألن ويكيبيديا‪ ،‬يف النهاية‪ ،‬تشتمل عىل مواد قدمية من املوسوعة‬
‫الربيطانية ليست لها حقوق تأليف ونرش‪ ،‬وهذا يعزز قدرتها عىل التعامل مع‬
‫تأثريات الزمن؛ ألن ويكيبيديا تتحسن‪ ،‬تحديدا‪ ،‬ألنها بفضل قدرتها عىل االستيعاب‬
‫السهل ألي مصادر أخرى متاحة وليست لها حقوق تأليف ونرش‪ .‬عالوة عىل ذلك‪،‬‬
‫فإن هيكل تحرير ويكيبيديا هو أكرث تعقيدا‪ ،‬و َت َشا ُبكا‪ ،‬و«هرمية» بصورة أكرب مام‬
‫يبدو أن الناس عادة تعرتف به‪ .‬إن املحتويات املتولدة ذاتيا هي يف الواقع نتيجة‬
‫عمليات تدار بحزم وتخضع لرقابة شديدة‪ .‬كون أن أي شخص ميكنه أن ُيسهم ال‬
‫يعني أن هذا جائز ألي شخص‪ .‬لكن هذا أيضا‪ ،‬هو مراعاة للزمن‪ ،‬ألنه يعتمد عىل‬
‫املتطوعني واستعدادهم للتعاون داخل التنظيم‪.‬‬
‫كل هذا يساعد أيضا عىل تفسري السبب يف أنه من األفضل أن نرى ويب ‪2.0‬‬
‫اليوم كجزء من الحوسبة السحابية‪ .‬وهذا تعبري مجازي آخر (وعبارة طنانة) خاصة‬
‫باإلنرتنت‪ ،‬كام أنه نوع ما غامض وغري محدد‪ .‬عىل رغم ذلك‪ ،‬وكام يف حالة ويب ‪،2.0‬‬
‫متتلك الحوسبة السحابية نقلة نوعية جديدة حقيقية‪ ،‬عندما ُتستخدَم لإلشارة إىل‬
‫التحول األرقى ملوارد الحوسبة لتكون مساعدات برمجية خدمية‪ .‬األدوات الربمجية‪،‬‬
‫‪206‬‬
‫ال َو َكالة‪ :‬تغليف العامل‬

‫ومساحة الذاكرة‪ ،‬والقدرة الحاسوبية‪ ،‬وغريها من خدمات أو قدرات تكنولوجيا‬


‫املعلومات واالتصاالت يجري تقدميها جميعا كخدمات عىل شبكة اإلنرتنت (يف‬
‫«السحابة») بطريقة سلسة للمستخدم‪ ،‬وال تعتمد مطلقا عىل البنية التحتية‪ .‬ذلك هو‬
‫يؤسس عليه تفتيت عمليات املعلومات‪.‬‬ ‫التحدي األسايس للتموضع املكاين‪ ،‬وهو ما َّ‬
‫يراعي ويب ‪ 2.0‬اعتبارات الزمان‪ ،‬وتراعي الحوسبة السحابية اعتبارات تتصل باملكان‪:‬‬
‫ال يهم أين أنت‪ ،‬ولكن فقط ما املوارد الحاسوبية التي تحتاج إليها‪.‬‬
‫وعىل العكس من ذلك‪ ،‬فكل من ويب ‪ 1.0‬والويب الداليل ال يراعي الزمن‪،‬‬
‫وأخفق يف التعويل عىل العدد الكبري من اإلسهامات الصغرية التي ميكن تقدميها عن‬
‫دخل مطبوع من املوسوعة‬ ‫طريق ماليني اإلنفورغات‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬كلام كان ُم َ‬
‫الربيطانية متاحا طويال‪ ،‬كانت الفائدة املرجوة منه عىل األرجح أقل‪ ،‬وعىل املدى‬
‫البعيد يصري عتيقا متاما‪ .‬األمر نفسه ينطبق عىل مواقع الويب قدمية الطراز التي‬
‫تعمل مبنزلة نقاط محورية (نقاط توزيع)‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن اختبارا بسيطا ملعرفة ما إذا كان‬
‫يشء ما ينتمي إىل ويب ‪ 2.0‬يتمثل يف التساؤل‪ :‬هل يتحسن مبرور الزمن وباالستخدام‪،‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬هل يتزايد عدد الناس املتصلني؟ نحن رأينا أن الخدمات التي اجتازت االختبار‬
‫تشمل فليكر‪ ،‬ويوتيوب‪ ،‬وويكيبيديا‪.‬‬

‫أنواع الويب واإلنفوسفري‬


‫أنا سأزعم أن الويب الداليل الكامل هو خطأ واضح املعامل‪ ،‬بينام ويب ‪ 2.0‬هو‬
‫نجاح غري محدد املعامل‪ .‬كالهام حالة مثرية لالهتامم من الظاهرة األكرب لتشييد‬
‫وإنهاء التشظي يف اإلنفوسفري‪ .‬ميحو ويب ‪ ،2.0‬أو الويب التشاريك‪ ،‬الحواجز بني إنتاج‬
‫واستهالك املعلومات (احتكاك أقل) يف واحد أو أكرث من مراحل دورة حياة املعلومات‬
‫(من الوجود إىل االستخدام‪ ،‬مرورا باملعالجة واإلدارة‪ ،‬انظر الشكل الرقم ‪ ،)4‬أو بني‬
‫منتجي ومستهليك املعلومات‪ .‬الويب ‪ 3.0‬أو الويب الداليل‪ُ ،‬يفهم‪ ،‬كام ينبغي أن‬
‫يكون‪ ،‬عىل أنه الويب فوق النحوي‪ ،‬الذي يزيل الحواجز بني قواعد البيانات‪ .‬وبالتايل‪،‬‬
‫فقد نطلق عىل ويب ‪ 4.0‬اسم ويب التجسري‪ ،‬الذي يزيل الفجوة الرقمية بني من هو‬
‫مواطن ومن ليس مواطنا يف مجتمع املعلومات (اإلتاحية وإمكانية الوصول بشكل‬
‫فعال)‪ ،‬واملجتمعات التاريخية مقابل مجتمعات التأريخ ا ُملفرط‪ .‬من املثري لالهتامم‬
‫‪207‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫أن هذا يحدث فيام يتعلق بالهواتف الذكية وغريها من األجهزة املحمولة باليد ‪ -‬يف‬
‫أفريقيا والصني والهند ‪ -‬أكرث منه فيام يتعلق بتسليع الحاسبات الشخصية (تحويل‬
‫الحاسبات الشخصية إىل بضاعة أو سلعة)‪ .‬وفقا لتقرير صادر عن االتحاد الدويل‬
‫لالتصاالت (‪ ،)16()ITU‬يف العام ‪ 2013‬كان هناك ‪ 6.8‬مليار مشرتك يف الهاتف املحمول‬
‫لعدد سكان بلغ ‪ 7.1‬مليار إنسان‪ ،‬مع تجاوز عدد االشرتاكات لعدد السكان يف أوائل‬
‫العام ‪ .2014‬رمبا يشري أحد إذن إىل أن ويب ‪ 5.0‬هو الحوسبة السحابية وقدرتها عىل‬
‫إزالة الحواجز املادية‪ ،‬ومتييز ما هو عاملي مقابل ما هو محيل‪ .‬أخريا‪ ،‬سوف يكون‬
‫ويب ‪ 6,0‬هو الحياة دامئة االتصال (ويب أوناليف) ‪ ،Web Onlife‬التي تزيل الحد‬
‫الفاصل بني عامل االتصال ‪( online‬عىل الخط) والعامل غري املتصل ‪ .offline‬هذه‬
‫األنواع املتباينة من الويب تتطور بشكل متواز‪ ،‬ومن ثم فإن ترتيب ظهورها يكون‬
‫ترتيبا زمنيا بشكل جزيئ‪ .‬ال يعني ترقيمها أي ترتيب هرمي‪ .‬إنها فقط مسألة وضع‬
‫تسمية مناسبة‪ .‬ينبغي أن ُينظر إليها أكرث عىل أنها قوى متضافرة تدفع تطور شبكة‬
‫الويب نحو إنفوسفري أفضل‪ .‬يف ضوء اإلنفوسفري املوحد هذا‪ ،‬رمبا ُتفهم بشكل أفضل‬
‫إسرتاتيجية مايكروسوفت «إدخال واحد» ‪ input one‬يف سعيها إىل تطوير جهاز‬
‫واحد (مثل أجهزة إكس بوكس) الذي رمبا يمُ ثل صميم غرف املعيشة لدينا وتجاربنا‬
‫يف الحياة الدامئة االتصال لجميع أنواع تطبيقات تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت‪.‬‬
‫التفسري السابق ملستقبل الويب – عىل أنه يتطور وفقا إلزالة تدريجية لتشظي‬
‫فضاء املعلومات – يضع مالمح سيناريو عام‪ ،‬وفقا له سيسكن البرش‪ ،‬بوصفهم‬
‫إنفورغات اجتامعية ومحركات داللية‪ ،‬يف إنفوسفري هو بشكل متزايد بال حدود‪،‬‬
‫وسلس‪ ،‬ومتزامن (الزمان)‪ ،‬ومتحرر من الطابع املحيل (املكان)‪ ،‬ومرتابط ببعضه‬
‫(التفاعالت)‪ ،‬لتذكريك ببعض من املؤهالت التي صادفناها يف الفصول السابقة‪ ،‬نقول‬
‫إنها بيئة تعتمد عىل تراكم ونقل الدالالت تدريجيا عرب الزمن عن طريق أجيال‬
‫من اإلنفورغات‪ ،‬مع جهد تعاوين لحفظ وتحسني املعنى من أجل التنقيح وإعادة‬
‫االستخدام يف املستقبل‪ .‬هذه «السياسة الخرضاء» هي النقطة األخرية التي أود‬
‫التعليق عليها‪.‬‬
‫رمبا يتذكر القارئ املشاهد املزعجة يف فيلم ماتريكس ‪ The Matrix‬عندما عُرضت‬
‫أمامنا أخريا بطاريات من البرش متت رعايتها عىل أنها مجرد مصادر بيولوجية للطاقة‪.‬‬
‫‪208‬‬
‫ال َو َكالة‪ :‬تغليف العامل‬

‫إنها قصة مقنعة‪ ،‬ولكنها أيضا إهدار سفيه للموارد‪ .‬إن ما يجعل البرش متميزين ليس‬
‫أجسادهم‪ ،‬التي هي ليست أفضل كثريا‪ ،‬ورمبا أسوأ‪ ،‬من أجساد العديد من الحيوانات‪،‬‬
‫ولكن الذي يجعلهم متميزين هو مزيج من قدرات ميكن للمرء أن يطلق عليها اسم‬
‫ذكاء أو عقل‪ .‬نحن من املمكن أن يكون لنا أذناب أو قرون أو أجنحة أو أرياش‪ ،‬أن‬
‫نكون بياضني أو أن نعيش تحت البحر‪ :‬االستخدام األمثل للبرشية‪ ،‬االستخدام الذي‬
‫اليزال متاحا‪ ،‬إذا اعتربناها مجرد وسيلة ال غاية‪ ،‬وبإعادة صياغة سيئة لتعبري كانط‪ ،‬يكون‬
‫باعتبار البرش إنفورغات‪ ،‬كائنات نهمة لغويا‪ ،‬قادرة عىل املعالجة الداللية والتفاعالت‬
‫الذكية‪ .‬فعندما ُننشئ املعنى ونستخدمه‪ ،‬نصبح‪ ،‬إىل حد ما‪ ،‬أشبه بريقات دودة القز‬
‫يف أشجار التوت عندما تنتج وتستخدم الحرير‪ .‬إنها سمة استثنائية‪ ،‬وهي تبدو حتى‬
‫اآلن فريدة من نوعها يف الكون‪ ،‬بافرتاض أنه ال يوجد عىل الكواكب األخرى أشكال‬
‫أخرى متقدمة مثل ذكائنا الداليل‪ .‬إنها أيضا سمة رمبا استغللناها يف املايض بشكل‬
‫جزيئ فحسب‪ .‬تراكمت طبقات الحضارات‪ ،‬والثقافات‪ ،‬والعلوم‪ ،‬والتقاليد االجتامعية‪،‬‬
‫واللغات‪ ،‬والروايات‪ ،‬والفنون‪ ،‬واملوسيقى‪ ،‬والشعر‪ ،‬والفلسفة‪ ...‬باختصار كل املدخالت‬
‫واملخرجات الداللية الهائلة ملليارات اإلنفورغات‪ ،‬تراكمت يف بطء عىل مدى آالف‬
‫السنني‪ ،‬مثل طبقة رقيقة من الدُ َبال(٭) عىل القاع الصلب للتاريخ‪ .‬يف أغلب األحيان‬
‫ُتطمس هذه املادة بسبب الكوارث الطبيعية التي يصنعها اإلنسان‪ ،‬أو تصري عقيمة‬
‫ألنه ال ميكن الوصول إليها‪ ،‬أو ألنها غري متاحة‪ .‬من دونها تكون حياة اإلنسان وحشية‪،‬‬
‫حياة جسد بال عقل‪ .‬لكن وجود الدالالت اللفظية والحفاظ عليها وتراكمها ومعالجتها‬
‫وانتشارها واستخدامها االستخدام األمثل‪ ،‬كان محدودا‪ ،‬عند مقارنته مبا كانت البرشية‬
‫قادرة عىل تحقيقه يف مجال إدارة وتدبري مصادر املواد والطاقة وتشكيل البيئة املادية‪.‬‬
‫وثورة املعلومات التي نشهدها اليوم مفهومة جزئيا فيام يتعلق بتدارك مثل هذا االفتقار‬
‫إىل التوازن‪ .‬وقد وصلت تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت إىل املرحلة التي قد تضمن‬
‫عندها وجودا مستقرا‪ ،‬وتراكام ومنوا ُمس َت ِتبا‪ ،‬واستخدامية متزايدة ملا لدينا من طبقة‬
‫ُد َبال داللية‪ .‬األمر الطيب هو أن بناء اإلنفوسفري بوصفه بيئة صديقة ومألوفة لألجيال‬
‫املقبلة يصري أسهل‪ .‬أما األمر املزعج فهو أن مسؤولية هذه املهمة الهائلة سوف تظل‪ ،‬يف‬
‫املستقبل املنظور‪ ،‬تقع بالكامل عىل عاتق البرش‪.‬‬
‫(٭) ‪ :humus‬مادة داكنة السمرة تتشكل من تحلل املواد العضوية‪ ،‬ومتثل املكون املخصب للرتبة‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫الخالصة‬
‫ميثل الذكاء االصطناعي الخفيف‪ ،‬أو العنارص الوسيطة الذكية‪ ،‬أو الرفقاء‬
‫االصطناعيون‪ ،‬أو الويب الداليل‪ ،‬أو تطبيقات الويب ‪ 2.0‬أجزاء مام كنت قد وصفته‬
‫بأنه الثورة الرابعة يف العملية الطويلة إلعادة تقييم الطبيعة األساسية للبرشية ودورها‬
‫يف الكون‪ .‬وال تتصل القضية الفلسفية األعمق التي نشأت عن ظهور تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت بالكيفية التي تضفي بها علينا هذه التكنولوجيات مزيدا من‬
‫القدرة أو التمكني‪ ،‬أو مبا يجعلنا قادرين عىل القيام به‪ ،‬بقدر اتصالها‪ ،‬وبشكل أعمق‪،‬‬
‫بالكيفية التي تقودنا بها إىل إعادة تفسري من نكون وكيف ينبغي لنا أن نتفاعل‬
‫ونتواصل بعضنا مع بعض‪ .‬عندما تصبح العنارص الوسيطة االصطناعية (الوكالء)‪ ،‬مبا‬
‫يف ذلك الرفقاء االصطناعيون والنظم الذكية القامئة عىل برمجيات‪ ،‬سلعا اعتيادية مثل‬
‫السيارات‪ ،‬فإننا سوف نقبل هذه الثورة املفاهيمية الجديدة بإحجام أقل كثريا‪ .‬إنه‬
‫تواضع‪ ،‬ولكنه أيضا مثري ومشوق؛ ففي ضوء هذا التطور املهم يف فهمنا الذايت‪ ،‬ونظرا‬
‫إىل نوع التفاعالت التي تتم بوساطة من تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت التي سوف‬
‫يتمتع بها البرش عىل نحو متزايد عند تفاعلهم مع عنارص أخرى‪ ،‬سواء كانت طبيعية‬
‫أو اصطناعية‪ ،‬فنحن لدينا فرصة فريدة لوضع نهج إيكولوجي جديد للواقع برمته‪.‬‬
‫وسوف أدفع يف الفصل العارش‪ ،‬بأن التحدي املهم الناجم عن تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت والثورة الرابعة هو كيف نبني و ُن َش ِكل ونتحكم إيكولوجيا يف ذواتنا‪ ،‬ويف‬
‫اإلنفوسفري الجديد الذي لدينا‪.‬‬
‫نسرتجع سؤال بياتريس يف بداية مرسحية شكسبري «جعجعة بال طحن» «من‬
‫هو رفيقه اآلن؟»‪ ،‬مل تكن بياتريس لتقبل بأن تكون اإلجابة عن سؤالها هي «وكيل‬
‫اصطناعي»‪ .‬أظن أن األجيال القادمة سوف تجد أن هذا األمر ال تشوبه أي إشكالية‪.‬‬
‫سوف تكون مهمتنا هي ضامن أن يكون االنتقال من سؤالها إىل إجابتهم مقبوال قدر‬
‫اإلمكان‪ .‬مهمة كهذه هي مهمة أخالقية وسياسية‪ ،‬يف آن معا‪ ،‬وكام قد تتوقع اآلن‪،‬‬
‫فهذا هو موضوع الفصل الثامن‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫‪8‬‬

‫السياس��ة‪ :‬ازده��ار األنظم��ة‬


‫متعددة الوكالء‬

‫االستامتة السياسية‬
‫رأينا يف الفصل األول أن التأريخ استمر ملدة ‪6‬‬
‫آالف سنة‪ ،‬منذ أن بدأ مع اخرتاع الكتابة يف القرن‬
‫الرابع قبل امليالد‪ .‬خالل هذا الوقت القصري نسبيا‪،‬‬
‫قدمت تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت البنية‬
‫التحتية للتسجيل والنقل التي جعلت صعود‬
‫غريها من التكنولوجيات ممكنا‪ ،‬وبشكل تدريجي‪،‬‬
‫أدى هذا إىل زيادة اعتامدنا عىل املزيد واملزيد‬
‫من طبقات التكنولوجيات‪ .‬وخالل بضعة قرون‪،‬‬
‫«يف املنتصف تقريبا بني بداية التأريخ‬
‫فيام بني غوتنربغ وتورينغ‪ ،‬دخلت تكنولوجيات‬ ‫وحتى اآلن‪ ،‬كان أفالطون بصدد‬
‫محاولة فهم التغريين الجذريني‪:‬‬
‫املعلومات واالتصاالت مرحلة أكرث نضجا‪ .‬واليوم‪،‬‬ ‫ترميز الذكريات من خالل الرموز‬
‫املكتوبة‪ ،‬والتفاعالت التكافلية بني‬
‫فإن قدراتها عىل املعالجة ذاتيا بشكل مستقل‬ ‫الفرد والدولة املدنية ‪.polis-state‬‬
‫متيض بنا إىل عرص جديد للتأريخ ا ُملفرط‪ ،‬حيث‬ ‫ويف غضون خمسني عاما‪ ،‬قد ينظر‬
‫أحفادنا إلينا عىل أننا آخر األجيال‬
‫تعتمد مجتمعات املعلومات عىل تكنولوجيات‬ ‫التأريخية التي نظمتها دولة»‬

‫‪211‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫املعلومات واالتصاالت من الرتبة األوىل والثانية والثالثة من أجل الرخاء االجتامعي‪،‬‬


‫والرفاه الشخيص‪ ،‬واإلبداع التكنولوجي‪ ،‬واالكتشافات العلمية‪ ،‬والنمو االقتصادي‪ .‬ورمبا‬
‫تساعد بعض البيانات عىل توضيح هذا األمر بشكل أكرث جالء‪.‬‬
‫يف العام ‪ْ ،2011‬احت ُِسب إجاميل الرثوة العاملية(‪ )1‬بنحو ‪ 231‬تريليون دوالر‬
‫أمرييك‪ ،‬بعد أن كانت ‪ 195‬تريليون دوالر أمرييك يف العام ‪ .)2(2010‬ومبا أن تعدادنا‬
‫كان نحو ‪ 7‬مليارات نسمة‪ ،‬فقد كان هذا يعني ‪ 33‬ألف دوالر أمرييك للفرد تقريبا‪،‬‬
‫أو ‪ 51‬ألف دوالر أمرييك للشخص البالغ‪ ،‬كام يشري التقرير‪ .‬األرقام تعطي داللة‬
‫واضحة عىل درجة عدم املساواة‪ .‬ففي العام نفسه‪ ،‬أنفقنا ‪ 498‬مليار دوالر أمرييك‬
‫عىل اإلعالنات(‪ .)3‬كام أنفقنا عىل وسائل الرتويح عن أنفسنا‪ ،‬ورمبا للمرة األوىل‪ ،‬أكرث‬
‫مام أنفقنا عىل وسائل قتل بعضنا البعض‪ .‬يف العام ‪ ،2010‬كان اإلنفاق العسكري‬
‫‪ 1.74‬تريليون دوالر أمرييك(‪ ،)4‬أما اإلنفاق عىل وسائل الرتفيه ووسائط اإلعالم فقد‬
‫كان من املتوقع أن يبلغ نحو ‪ 2‬تريليون دوالر أمرييك‪ ،‬مع منو الرتفيه الرقمي وتشارك‬
‫الوسائط ليصل إىل ‪ 33.9‬يف املائة من مجموع اإلنفاق بحلول العام ‪ ،2015‬بعد أن‬
‫كان ‪ 26‬يف املائة يف العام ‪ .)5(2011‬يف الوقت نفسه‪ ،‬أنفقنا ‪ 6.5‬تريليون دوالر أمرييك‬
‫(هذا الرقم يستند إىل بيانات العام ‪ )2010‬ملكافحة املشاكل الصحية والوفيات‬
‫املبكرة‪ ،‬أكرث بكثري من موازنات اإلنفاق العسكري والرتفيهي واإلعالمي مجتمعة‪ .‬كل‬
‫هذه الرتيليونات كانت ترتبط ارتباطا وثيقا‪ ،‬وغالبا ما كانت تتداخل مع موازنات‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬التي أنفقنا عليها ‪ 3‬تريليونات دوالر أمرييك يف‬
‫العام ‪ .)6(2010‬مل نعد نستطيع فصل عاملنا عن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫إال إن أوقفنا حركة عاملنا نفسه‪.‬‬
‫إذا كان التحليل الذي ُقدم يف الفصول السابقة صحيحا‪ ،‬ولو بشكل تقريبي‪ ،‬فإن‬
‫تجاوز البرشية لعرصها التأريخي ميثل واحدة من أهم الخطوات التي ا ُّتخذت عىل‬
‫اإلطالق‪ .‬إنه بال شك يفتح أفقا واسعا من الفرص فضال عن التحديات والصعوبات‪،‬‬
‫وكلها مدفوعة أساسا بقوى تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت يف التسجيل والنقل‬
‫واملعالجة‪ .‬من الكيمياء الحيوية التخليقية إىل علم األعصاب‪ ،‬من إنرتنت األشياء إىل‬
‫استكشافات الكواكب غري املأهولة‪ ،‬من التكنولوجيات الخرضاء إىل وسائل العالج‬
‫الطبي الجديدة‪ ،‬من اإلعالم االجتامعي إىل األلعاب الرقمية‪ ،‬من التطبيقات الزراعية‬
‫‪212‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫إىل التطبيقات املالية‪ ،‬من التنمية االقتصادية إىل صناعة الطاقة‪ ،‬فإن أنشطتنا يف‬
‫االكتشاف‪ ،‬واالخرتاع‪ ،‬والتصميم‪ ،‬والتحكم‪ ،‬والتعليم‪ ،‬والعمل‪ ،‬والتنشئة االجتامعية‪،‬‬
‫والرتفيه‪ ،‬والرعاية‪ ،‬واألمن‪ ،‬واألعامل التجارية‪ ،‬وما شابه ذلك سوف تكون ليست فقط‬
‫غري مجدية‪ ،‬بل ال ميكن تصورها يف سياق ميكانييك وتأريخي بحت‪ .‬لقد أصبحت‬
‫جميعها ذات طبيعة تتسم بالتأريخ املفرط‪.‬‬
‫فرسعان ما فصل التأريخ ا ُملفرط‪ ،‬وتطور اإلنفوسفري الذي نعيش فيه‪ ،‬أجيال‬
‫املستقبل عن أجيالنا‪ .‬بالطبع‪ ،‬هذا ال يعني القول إنه ال يوجد تواصل‪ ،‬مع ما مىض‬
‫ومع ما هو آت‪ ،‬عىل حد سواء‪ .‬مع ما مىض‪ ،‬ألن هذه عادة هي الحال‪ ،‬أنه كلام كان‬
‫التحول أعمق‪ ،‬كانت جذور أسبابه رمبا أعمق وأكرث تشعبا‪ .‬وال يرتتب هذا إال عىل‬
‫حقيقة أن عديدا من قوى مختلفة ُتراكم ضغوطها لفرتة طويلة‪ ،‬حتى أن تغريات‬
‫جذرية رمبا تحدث فجأة‪ ،‬ورمبا بشكل غري متوقع‪ .‬ليست آخر ندفة ثلج هي التي‬
‫تكرس فرع الشجرة‪ .‬يف حالتنا‪ ،‬ال شك يف أن التاريخ هو الذي ُينجب التأريخ ا ُملفرط‪.‬‬
‫ليست هناك شفرة أسيك ‪( ASCII‬الشفرة القياسية األمريكية لتبادل املعلومات)‬
‫من دون األبجدية‪ .‬أما التواصل مع ما هو آت‪ ،‬فألننا ينبغي أن نتوقع أن تصمد‬
‫املجتمعات التأريخية فرتة طويلة يف املستقبل‪ ،‬وهي ال تختلف عن قبائل األمازون‬
‫التي تعيش اليوم يف عرص ما قبل التأريخ‪ ،‬التي ُذكرت يف الفصل األول‪ .‬عىل الرغم من‬
‫العوملة‪ ،‬فإن املجتمعات اإلنسانية ال تسري إىل األمام يف موكب متجانس وبخطوات‬
‫منسقة ومتزامنة‪.‬‬
‫نحن نشهد عملية بطيئة وتدريجية من االستامتة ‪ Apoptosis‬السياسية‪ ،‬التي‬
‫ُتعرف أيضا باسم موت الخلية ا ُملبرَ َمج‪ ،‬هي منوذج طبيعي واعتيادي من التدمري‬
‫الذايت‪ ،‬حيث يحدث إقصاء ذايت للخاليا نتيجة سلسلة مربمجة من األحداث‪ .‬تلعب‬
‫االستامتة دورا حاسام يف تنمية صحة الجسم والحفاظ عليها‪ .‬ورمبا يرى املرء ذلك عىل‬
‫أنه عملية تجديد طبيعية‪ .‬وأنا هنا أستخدم مصطلح «االستامتة السياسية» لوصف‬
‫العملية التدريجية والطبيعية لتجديد الدول ذات السيادة(‪ )7‬إبان تطورها إىل مجتمع‬
‫معلومات (انظر الشكل الرقم ‪ .)21‬دعوين أرشح‪.‬‬
‫للتبسيط والتعميم‪ ،‬إن رسم مخطط تبسيطي رسيع للقرون األربعة األخرية‬
‫للتاريخ السيايس يف العامل الغريب رمبا يبدو كالتالـي‪ .‬يعنـــي ُصلــح وستفاليــا‬
‫‪213‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫(‪ Peace of Westphalia )1648‬نهاية الحرب العاملية الرقم صفر‪ ،‬أي حرب‬
‫الثالثني عاما‪ ،‬وحرب الثامنني عاما‪ ،‬وفرتة طويلة من رصاعات أخرى انخرطت القوى‬
‫األوروبية أثناءها‪ ،‬وأجزاء من العامل كانت تسيطر عليها‪ ،‬يف ذبح بعضها البعض‬
‫ألسباب اقتصادية وسياسية ودينية‪ .‬قذف املسيحيون بعضهم البعض إىل الجحيم‪،‬‬
‫مع عنف هائل وأهوال ال توصف‪ .‬النظام الجديد الذي ظهر يف تلك السنوات‪ ،‬والذي‬
‫يعرف باسم النظام الويستفايل‪ ،‬شهد ظهور ونضج دول ذات سيادة ومن ثم دول‬
‫قومية‪ ،‬عىل النحو الذي نعرفها به اليوم‪ :‬فرنسا‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ .‬فكر يف الفاصل‬
‫الزمني بني الفصل األخري من رواية «الفرسان الثالثة» ‪– The Three Musketeers‬‬
‫عندما شارك دارتانيان‪ ،‬وأراميس‪ ،‬وبورثوس‪ ،‬وآثوس يف الحصار الذي رضبه الكاردينال‬
‫ريشيليو عىل الروشيل يف العام ‪ – 1628‬وبني الفصل األول من رواية «بعد عرشين‬
‫عاما»‪ ،‬عندما اجتمعوا مجددا تحت وصاية امللكة آن ملكة النمسا (‪)1666-1601‬‬
‫وحكم الكاردينال مازارين (‪.)1661-1602‬‬ ‫ُ‬
‫مل تصبح الدولة كيانا متجانسا‪ ،‬أحادي التفكري‪ ،‬جيد التنسيق‪ .‬مل تكن ذلك النوع‬
‫من الوحوش الذي وصفه هوبز ‪ Hobbes‬يف ليفياتان ‪ ،Leviathan‬وال نوعا من‬
‫الروبوت الذي سوف يستميلنا عرص ميكانييك الحق إىل أن نتخيله‪ .‬لكنها ارتفعت إىل‬
‫دور السلطة ا ُملل ِزمة‪ ،‬والنظام القادر عىل أن يبقى متامسكا ويؤثر يف جميع العنارص‬
‫املختلفة التي يتألف منها‪ ،‬وينظم سلوكها‪ ،‬مادامت تندرج ضمن نطاق حدوده‬
‫الجغرافية‪ .‬اكتسبت تلك العنارص املكانة املجازية ملظهر الدولة‪ .‬أصبحت الدول‬
‫العنارص املستقلة التي لعبت الدور املؤسيس يف نظام العالقات الدولية‪ .‬صارت أسس‬
‫مثل هذا النظام من العالقات الدولية هي مبادئ السيادة (كل دولة لها الحق األساس‬
‫يف تقرير مصريها السيايس)‪ ،‬واملساواة القانونية (جميع الدول عىل قدم املساواة)‪،‬‬
‫وعدم التدخل (ينبغي أال تتدخل أي دولة يف الشؤون الداخلية لدولة أخرى)‪.‬‬
‫و ُنوقشت املواطنة‪ ،‬منذ بواكري ظهور الدولة املدينة يف اليونان القدمية‪ ،‬عىل أساس‬
‫البيولوجيا (من والديك‪ ،‬ما نوعك الجنساين‪ ،‬وعمرك‪...‬؟)‪ .‬ثم أصبحت أكرث مرونة‬
‫(أنواع من املواطنة) عندما أضيف الوضع القانوين إىل اإلطار املفاهيمي لها‪ .‬كانت‬
‫هذه هي الحال يف عهد اإلمرباطورية الرومانية‪ ،‬عند اكتسابك جنسية – فكرة ال معنى‬
‫لها يف سياقات بيولوجية بحتة – فإنك تصري صاحب حقوق‪ .‬مع الدولة الحديثة‪،‬‬
‫‪214‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫بدأت الجغرافيا تؤدي دورا ال يقل أهمية‪ ،‬مازجة املواطنة مع اللغة‪ ،‬والجنسية‪،‬‬
‫واالنتامء العرقي‪ ،‬واملوطن‪ .‬بهذا املفهوم‪ ،‬فإن تاريخ جواز السفر مفيد‪ ،‬فمن ا ُمل َسلم‬
‫به أنه ابتكار من امللك هرني الخامس ملك إنجلرتا (‪ )1422-1386‬ليستخدم كوسيلة‬
‫إلثبات هوية حامله‪ ،‬قبل إرساء النظام الويستفايل بوقت طويل جدا‪ .‬عىل رغم ذلك‪،‬‬
‫فإن النظام الويستفايل هو الذي ح َّول جواز السفر إىل وثيقة تخول لحاملها ليس‬
‫السفر (ألن السفر رمبا يستوجب أيضا تأشرية‪ ،‬عىل سبيل املثال) أو الحامية خارج‬
‫البالد‪ ،‬بل وثيقة تخول لحاملها العودة إىل البلد الذي أصدر جواز السفر‪ .‬أصبح جواز‬
‫السفر مثل رشيط مطاطي يربط حامله إىل نقطة جغرافية‪ ،‬مهام َب ُعد مكان سفره‬
‫وطال زمانه يف بالد أخرى‪ .‬تصبح مثل هذه الوثيقة مفيدة عىل نحو متزايد كلام‬
‫ُحدِّدت هذه النقطة الجغرافية بشكل أفضل‪ .‬ظل السفر يف أوروبا من دون جواز‬
‫سفر مطلقا حتى الحرب العاملية األوىل‪ ،‬حينئذ فقط أدرك اإللحاح األمني والوسائل‬
‫التكنوبريوقراطية الحاجة إىل فصل كل تلك األرشطة املطاطية املتجولة يف جميع‬
‫األنحاء وإدارتها بواسطة شبكة جديدة‪ ،‬أال وهي شبكة السكك الحديد‪.‬‬
‫عودة إىل النظام الويستفايل‪ .‬اآلن‪ ،‬وبعد تداخل املسافات املادية والقانونية‪ ،‬فإن‬
‫كليهام ميكن أن ُيحكم عن طريق سلطات سيادية متارس السيطرة وفرض القوانني‪،‬‬
‫وتفرض احرتامها عن طريق قوة مادية داخل حدود الدولة‪ .‬ليس رسم الخرائط‬
‫الجغرافية مجرد مسألة تتعلق بالسفر ومامرسة األعامل التجارية‪ ،‬ولكنه أيضا مسألة‬
‫تتعلق بالنظر نحو الداخل من أجل سيطرة املرء عىل األرايض الخاصة به‪ ،‬وبالنظر‬
‫نحو الخارج ليحدد املرء موضعه عىل وجه األرض‪ .‬إن كال من رجل الرضائب وقائد‬
‫الجيش ينظر إىل تلك الخطوط الجغرافية بعيون مختلفة متاما عن عيون مستخدمي‬
‫إكسبيديا ‪(Expedia‬٭) اليوم‪ .‬فالدول ذات السيادة‪ ،‬التي تعمل مبنزلة عنارص وسيطة‬
‫(وكالء) ميكنها‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬زيادة الرضائب داخل حدودها‪ ،‬وميكنها أن تربم‬
‫عقد ديون بوصفها كيانات قانونية (من ثم املصطلح الحايل «سندات سيادية»‪ ،‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬التي هي سندات تصدرها الحكومات الوطنية بعمالت أجنبية)‪ ،‬وبالطبع‬
‫ميكنها أن تتنازع عىل الحدود‪ ،‬عادة باستخدام العنف‪ .‬إن جزءا من الرصاع السيايس‬

‫(٭) موقع إلكرتوين يقدم خدمات حجز تذاكر الطريان والرحالت البحرية والفنادق وتأجري السيارات‪ُ ،‬أطلق املوقع‬
‫يف العام ‪[ .2001‬املحرر]‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫يتجاوز كونه مجرد توتر صامت بني مختلف مكونات الدولة كنظام متعدد الوكالء‪،‬‬
‫مثال رجال الدين (الكهنة أو اإلكلريوس) يف مقابل الطبقة األرستقراطية‪ ،‬ليصبح توازنا‬
‫مقننا رصاحة بني العنارص الوسيطة (الوكالء) املختلفة التي ُتشكل الدولة‪ .‬بصورة‬
‫خاصة فإن مونتسكيو )‪ Montesquieu (1755 -1689‬تحديدا‪ ،‬هو من اقرتح التقسيم‬
‫التقليدي للسلطات السياسية للدولة الذي نعتربه اليوم أمرا مفروغا منه‪ ،‬وهو‪ :‬السلطة‬
‫الترشيعية‪ ،‬والسلطة التنفيذية‪ ،‬والسلطة القضائية‪ .‬وتنظم الدولة‪ ،‬باعتبارها نظاما‬
‫متعدد الوكالء‪ ،‬نفسها كشبكة تتكون من هذه «العوامل الصغرية» الثالثة‪ ،‬التي ال ُيسمح‬
‫بينها سوى ببعض قنوات معلومات محددة‪ .‬رمبا نسمي هذا اليوم ويستفاليا ‪.2.0‬‬
‫عرص الدولة‪ .‬تنشأ دولة‬ ‫َ‬ ‫مع النظام الويستفايل‪ ،‬يصري التاريخ الحديث‬
‫باعتبارها وكيل املعلومات‪ ،‬الذي يسن القوانني بشأن‪ ،‬وعىل األقل يحاول السيطرة‬
‫عىل‪ ،‬الوسائل التكنولوجية املشاركة يف دورة حياة املعلومات‪ ،‬مبا يف ذلك التعليم‪،‬‬
‫واإلحصاء السكاين(‪ ،)8‬والرضائب‪ ،‬وسجالت الرشطة‪ ،‬والقوانني املكتوبة‪ ،‬والصحافة‪،‬‬
‫واالستخبارات‪ .‬ومعظم املغامرات التي شارك فيها دارتانيان ‪(D'Artagnan‬٭) كان‬
‫سببها بعض االتصاالت الرسية‪.‬‬
‫بوصفها وكيل املعلومات‪ ،‬فإن الدولة ُتعزز تطوير تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت كوسيلة لفرض القوة القانونية‪ ،‬والسلطة السياسية‪ ،‬والرقابة االجتامعية‬
‫والحفاظ عليها؛ ال سيام يف أوقات النزاعات الدولية‪ ،‬والقالقل املتكررة‪ ،‬والسالم‬
‫الهش‪ .‬وعىل سبيل املثال‪ ،‬فخالل الفرتة من العام ‪ 1790‬حتى العام ‪ ،1795‬أثناء‬
‫الثورة الفرنسية‪ ،‬احتاجت الحكومة الفرنسية إىل نظام اتصال رسيع لتلقي املعلومات‬
‫االستخباراتية ولنقل األوامر يف الوقت املناسب ملواجهة املناورات العدائية التي تقوم‬
‫بها قوات بريطانيا وهولندا وبروسيا والنمسا وإسبانيا املتحالفة التي حارصت فرنسا‪.‬‬
‫تلبية ملثل هذه الحاجة‪ ،‬اخرتع كلود شاب )‪ Claude Chappe (1805-1763‬أول‬
‫نظام تلغرايف (يف الواقع هو الذي صاغ كلمة «تلغراف»)‪ .‬كان هذا النظام يتألف من‬
‫إشارات ميكانيكية ميكنها نقل الرسائل يف جميع أنحاء البالد يف غضون ساعات‪ .‬أصبح‬
‫هذا النظام اسرتاتيجيا للغاية‪ ،‬حتى أن نابليون عندما بدأ االستعدادات الستئناف‬

‫(٭) أحد أبطال رواية «الفرسان الثالثة»‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫الحرب يف إيطاليا يف العام ‪ ،1805‬أمر بتمديدات جديدة من ليون ‪ Lyons‬إىل ميالنو‬


‫‪ .Milan‬عند هذه الذروة‪ ،‬كان نظام «شاب» التلغرايف عبارة عن شبكة من ‪534‬‬
‫محطة‪ ،‬تغطي أكرث من ‪ 5‬آالف كيلومرت (‪ 3.106‬ميل)‪ .‬رمبا يتذكر القارئ ظهوره‬
‫الحاسم يف رواية «الكونت دي مونت كريستو» ‪The Count of Monte Cristo‬‬
‫للمشغل لريسل رسالة زائفة‬ ‫)‪ (1844‬أللكسندر دوما حيث أعطى الكونت رشوة ُ‬
‫للتالعب يف سوق املال ملصلحته الخاصة‪ .‬يف الروايات كام يف الواقع‪ ،‬من يسيطر عىل‬
‫املعلومات يسيطر عىل مجريات األمور‪.‬‬
‫عرب القرون‪ ،‬تنتقل الدولة من كونها كيانا ُينظر إليه عىل أنه الضامن واملدافع‬
‫األساس عن مجتمع عدم التدخل (دعه يعمل ‪ )laissez-faire‬إىل نظام رفاهية‬
‫بسامريك يرعى مواطنيه الرعاية الكاملة‪ .‬يف كلتا الحالتني‪ ،‬تظل الدولة هي الجامع‬
‫واملنتج واملتحكم الرئيس يف املعلومات‪ .‬عىل رغم ذلك‪ ،‬وعن طريق تعزيز تطوير‬
‫تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت‪ ،‬تنتهي الدولة بتقويض مستقبلها كوكيل وحيد أو‬
‫حتى رئيس للمعلومات‪ .‬هذه هي االستامتة السياسية التي ذكرتها آنفا‪ .‬ألن عىل‬
‫املدى الطويل‪ُ ،‬تسهم تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت يف تحويل الدولة إىل‬
‫مجتمع معلومات‪ ،‬ما يجعل من املمكن وجود وكالء آخرين للمعلومات‪ ،‬وأحيانا‬
‫ما يكونون أكرث سلطة‪ ،‬ورمبا يتحكمون يف القرارات واألحداث السياسية‪ .‬بذلك‬
‫تساعد تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت يف زحزحة التوازن ضد الحكومة املركزية‪،‬‬
‫وملصلحة الحكم ا ُمل َو َّزع والتنسيق العاملي‪.‬‬
‫إن الحربني العامليتني هام أيضا صدامات دول ذات سيادة تقاوم التنسيق‬
‫املشرتك واالندماج كجزء من نظم أكرب متعددة الوكالء‪ .‬رمبا ُي َفرس مؤمتر بريتون وودز‬
‫‪ Bretton Woods conference‬عىل أنه الحدث الذي ُيقر بداية االستامتة السياسية‬
‫للدولة‪ .‬فالتجمع الذي حدث يف العام ‪ 1944‬لــ‪ 730‬مندوبا من جميع دول الحلفاء‬
‫البالغ عددهم ‪ 44‬يف فندق ماونت واشنطن يف بريتون وودز بوالية نيوهامبشري‬
‫بالواليات املتحدة‪ ،‬ضبط النظام النقدي واملايل الدويل بعد انتهاء الحرب العاملية‬
‫الثانية‪ .‬شهد ذلك التجمع والدة البنك الدويل لإلنشاء والتعمري ‪International Bank‬‬
‫‪( for Reconstruction and Development‬هذا‪ ،‬مع املؤسسة الدولية للتنمية‬
‫‪ُ ،International Development Association‬يعرف حاليا باسم البنك الدويل‬
‫‪217‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫‪ ،)World Bank‬واالتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة ‪General Agreement‬‬


‫‪( on Tariffs and Trade‬الغات ‪ ،GATT‬يف العام ‪ 1995‬حلت محلها منظمة التجارة‬
‫العاملية)‪ ،‬وصندوق النقد الدويل ‪ .International Monetary Fund‬باختصار‪،‬‬
‫جلبت بريتون وودز مجموعة متنوعة من النظم متعددة الوكالء كقوى عابرة للحدود‬
‫الوطنية أو بني الحكومات معنية باملشاكل السياسية واالجتامعية واالقتصادية يف‬
‫العامل‪ .‬تلك العنارص الوسيطة (الوكالء) وما مياثلها أصبحت قوية وفاعلة عىل نحو‬
‫متزايد‪ ،‬كام أوضح بشكل جيل ظهور إجامع واشنطن ‪.Washington Consensus‬‬
‫مبتدع مصطلح «إجامع واشنطن» ‪ Washington Consensus‬هو جون‬
‫ويليامسون ‪ )9(John Williamson‬يف العام ‪ .1989‬وقد استخدمه من أجل اإلشارة‬
‫إىل مجموعة تتألف من عرش توصيات سياسية محددة‪ ،‬وهي‪ ،‬وفقا ملا قاله‪ ،‬تشكل‬
‫اسرتاتيجية معيارية تتبناها وتروج لها مؤسسات مقرها واشنطن العاصمة ‪ -‬مثل‬
‫وزارة الخزانة األمريكية وصندوق النقد الدويل والبنك الدويل ‪ -‬عند التعامل مع‬
‫الدول التي تواجه أزمة اقتصادية‪ .‬تلك السياسات معنية باستقرار االقتصاد الكيل‪،‬‬
‫واالنفتاح االقتصادي فيام يتعلق بكل من التجارة واالستثامر‪ ،‬والتوسع يف قوى السوق‬
‫داخل االقتصاد املحيل‪ .‬يف الربع األخري من القرن املايض‪ ،‬كان املوضوع محل جدل‬
‫حاد وحيوي‪ ،‬فيام يتعلق بالتوصيف الصحيح والعالج املقبول‪ .‬وال تخلو نظرية‬
‫إجامع واشنطن من املشاكل‪ ،‬متاما مثل نظرية مبدأ ويستفاليا التي أرشت إليها آنفا‪.‬‬
‫هل أمسك إجامع واشنطن بظاهرة تاريخية حقيقية؟ هل حقق إجامع واشنطن‬
‫أهدافه بعد؟ هل ُيعاد تفسريه‪ ،‬عىل رغم أن تعريف ويليامسون واضح متاما‪ ،‬عىل‬
‫أنه فرض لسياسات ليربالية جديدة عىل الدول املتعسرِّ ة من قبل مؤسسات مالية‬
‫دولية مقرها واشنطن؟ هذه أسئلة مهمة‪ ،‬ولكن النقطة املثرية لالهتامم حقيقة هنا‬
‫ال تتعلق بالتقييم التفسريي أو االقتصادي أو املعياري إلجامع واشنطن‪ .‬إنها تتعلق‬
‫باألحرى بحقيقة أن الفكرة ذاتها تمُ سك مبظهر مهم من زمن التأريخ املفرط وبعد‬
‫الويستفايل الذي نعيشه‪ ،‬حتى إذا بقيت مجرد فكرة مؤثرة‪ .‬فإجامع واشنطن هو‬
‫تطور ُمح َكم لربيتون وودز‪ .‬كالهام يسلط الضوء عىل حقيقة أنه بعد الحرب العاملية‬
‫الثانية‪ ،‬هناك منظامت ومؤسسات (ليس فقط واشنطن العاصمة) ليست دوال ولكنها‬
‫باألحرى نظم غري حكومية متعددة الوكالء‪ ،‬أقرت رصاحة بأن تعمل كقوى عظمى‬
‫‪218‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫ُمؤثرة يف املشهد السيايس واالقتصادي الدويل‪ ،‬تتعامل مع املشاكل العاملية من خالل‬


‫السياسات العاملية‪ .‬وحقيقة أن إجامع واشنطن قد ا ُّتهم بتجاهل الخصوصيات‬
‫املحلية واالختالفات العاملية (بغض النظر عام إذا كان هذا صحيحا أو ال) هي ذاتها‬
‫َتدعم وجهة النظر القائلة إن مجموعة متنوعة من نظم متعددة الوكالء قوية هي‬
‫اآلن املصادر الجديدة للسياسات يف مجتمعات املعلومات التي تتسم بالعوملة‪ .‬كتذكري‬
‫أخري‪ ،‬دعوين أذكر تقريرا مثريا للجدل إىل حد ما‪ ،‬بعنوان «أفضل ‪ :200‬صعود الهيمنة‬
‫العاملية للرشكات» ‪ .Top 200: The Rise of Corporate Global Power‬هذا‬
‫التقرير عرض منذ عدة سنوات تحليال لوكالء الرشكات(‪ .)10‬رمبا كانت املقارنة بني‬
‫الناتج املحيل اإلجاميل ‪ GDP‬لدول‪ ،‬واملبيعات (اإليرادات أو رقم األعامل) السنوية‬
‫لرشكات هي الجزء األكرث انتقادا‪ .‬عىل رغم هذا الخلل املحتمل‪ ،‬تظل قراءة التقرير‬
‫ممتعة‪ .‬ووفقا للتقرير‪:‬‬
‫من بني أكرب ‪ 100‬اقتصاد يف العامل‪ ،‬توجد ‪[ 51‬يف العام ‪ ]2000‬رشكة؛‬
‫وما ال يزيد عىل ‪[ 49‬يف العام ‪ ]2000‬دولة‪.‬‬
‫يبقى االنتقاد قامئا‪ ،‬لكن النسبة املئوية رمبا تحركت ملصلحة عدد الرشكات‪،‬‬
‫واليشء الذي ميثل وحدة موحدة للمقارنة هو أن كال من الناتج املحيل اإلجاميل‬
‫واإليرادات يشرتي لك نفوذا‪ .‬إن نظام متعددة الوكالء مبثل هذا الحجم عندما تتخذ‬
‫قرارات‪ ،‬فإن آثارها تكون عميقة وعاملية‪.‬‬
‫ومن املعلوم اليوم أن املشاكل العاملية – من البيئة إىل األزمة املالية‪ ،‬من العدالة‬
‫االجتامعية إىل األصوليات الدينية املتعصبة‪ ،‬من السالم إىل األوضاع الصحية ‪ -‬ال ميكنها‬
‫االعتامد عىل الدول ذات السيادة كمصدر وحيد للحل ألنها تنطوي عىل‪ ،‬وتتطلب‪،‬‬
‫وكالء عىل الصعيد العاملي‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬هناك قدر كبري من الشك إزاء تصميم‬
‫النظم املتعددة الوكالء الجديدة التي رمبا تشكل مستقبل البرشية‪ .‬إن مجتمعات‬
‫التأريخ ا ُملفرط هي مجتمعات ما بعد ويستفالية‪ ،‬بسبب ظهور الدولة ذات السيادة‬
‫كوكيل حديث للمعلومات السياسية‪ .‬وهي ما بعد بريتون وودزية‪ ،‬بسبب ظهور نظم‬
‫متعددة الوكالء غري تابعة لدولة باعتبارها العبي تأريخ مفرط يف االقتصاد والسياسة‬
‫عىل الصعيد العاملي‪ .‬هذا يساعد يف تفسري حقيقة أن واحدا من التحديات الرئيسة‬
‫التي تواجه مجتمعات التأريخ ا ُملفرط يتصل بكيفية تصميم النوع املناسب من النظم‬
‫‪219‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫متعددة الوكالء‪ .‬هذه النظم ينبغي لها االستفادة بشكل كامل من التقدم السيايس‬
‫االجتامعي الذي ُأ ْحرز يف التاريخ الحديث‪ ،‬بينام تتعامل بنجاح مع املشاكل العاملية‬
‫الجديدة يف التأريخ ا ُملفرط‪ ،‬التي تقوض إرث هذا التقدم ذاته‪.‬‬

‫الشكل (‪ : )21‬ظهور النظام السيايس متعدد الوكالء‬


‫)‪Political Multi-Agent Systems (MAS‬‬

‫َن َسق معلومايت جديد؟‬


‫إن مأزق التحول من نظام تأريخي ويستفايل إىل نظام ما بعد بريتون وودزي‬
‫ُمفرط التأريخ‪ ،‬بحثا عن توازن جديد‪ ،‬رمبا ميكن إرجاعه إىل عدة عوامل‪ .‬أربعة من‬
‫هذه العوامل تستحق تسليط الضوء عليها يف سياق هذا الكتاب‪.‬‬
‫العامل األول هو السلطة‪ .‬رأينا أن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت أدت إىل‬
‫«إضفاء الطابع الدميوقراطي» عىل البيانات والقدرة عىل تجهيزها أو التحكم فيها‪،‬‬
‫مبفهوم أن البيانات حاليا متيل إىل أن تستقر وتتضاعف يف العديد من املستودعات‬
‫واملصادر‪ .‬بذلك‪ ،‬تستطيع تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت أن ُتنشئ‪ ،‬و ُتتيح‪،‬‬
‫وتمُ كن عددا ُيتوقع أن يكون غري محدود من الوكالء غري التابعني لدولة‪ ،‬من الفرد‬
‫الواحد إىل الجمعيات والجامعات‪ ،‬من وكالء كبار‪ ،‬مثل املنظامت متعددة الجنسيات‪،‬‬
‫إىل املنظامت الدولية‪ ،‬واملنظامت بني الحكومات وكذلك املنظامت غري الحكومية‪،‬‬
‫‪220‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫واملؤسسات عابرة الحدود الوطنية‪ .‬يف الساحة السياسية‪ ،‬مل تعد الدولة الوكيل‬
‫الوحيد‪ ،‬وأحيانا هي ليست حتى الوكيل الرئيس‪ ،‬الذي يستطيع أن ميارس سلطة‬
‫معلوماتية عىل عنارص وسيطة (وكالء) معلوماتية أخرى‪ ،‬والسيام عىل البرش أفرادا‬
‫وجامعات‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬أدركت املفوضية األوروبية أهمية مثل هذه العنارص‬
‫الوسيطة (الوكالء) الجديدة يف اتفاقية كوتونو التي ُأبرمت بني االتحاد األورويب (‪)EU‬‬
‫ومجموعة دول أفريقيا ومنطقة الكاريبي واملحيط الهادئ (‪ ،)ACP‬من خالل إقرار‬
‫الدور املهم الذي متارسه طائفة عريضة من األطراف غري الحكومية الفاعلة يف التنمية‪،‬‬
‫واالعرتاف رسميا مبشاركتهم يف تعاون ‪ ACP– EU‬اإلمنايئ‪ .‬وفقا للامدة ‪ 6‬من اتفاقية‬
‫كوتونو‪ ،‬مثل هذه األطراف غري الحكومية الفاعلة تضم‪:‬‬
‫القطاع الخاص؛ رشكاء اقتصاديني واجتامعيني‪ ،‬تتضمن تنظيامت النقابات‬
‫العاملية؛ واملجتمع املدين بجميع أشكاله‪ ،‬وفقا للخصائص الوطنية‪.‬‬
‫إن «إضفاء الطابع الدميوقراطي» الذي جلبته تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫يولد توترا جديدا بني السلطة والقوة‪ ،‬حيث إن السلطة ذات طابع معلومايت‪ ،‬وتمُ ارس‬
‫من خالل وضع ونرش معايري‪ ،‬بينام القوة ذات طابع مادي‪ ،‬وتمُ ارس عندما تفشل‬
‫السلطة يف توجيه سلوك العنارص الوسيطة (الوكالء) ذات الصلة وتحتاج إىل فرض‬
‫املعايري قرسا‪ .‬الحظ أنه كلام زاد اعتامد السلع املادية وحتى املال عىل املعلومات‪ ،‬زاد‬
‫اكتساب السلطة املعلوماتية التي تمُ ارس بواسطة نظم متعددة الوكالء لحيثية مالية‬
‫مهمة ومؤثرة‪.‬‬
‫العامل الثاين هو‪ ،‬الجغرافيا‪ .‬كرست تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت إقليمية‬
‫الخربة البرشية‪ .‬جعلت الحدود اإلقليمية قابلة لالخرتاق أو يف بعض الحاالت‬
‫منعدمة األهمية متاما‪ .‬خلقت هذه التكنولوجيات أيضا‪ ،‬ووسعت بشكل ّ‬
‫مطرد‪،‬‬
‫مناطق من اإلنفوسفري يعمل فيها عدد متزايد من العنارص الوسيطة (الوكالء)‪،‬‬
‫التي ليست بالرضورة برشية فقط‪ ،‬وتقيض املزيد واملزيد من الوقت‪ :‬تجربة الحياة‬
‫املتصلة دامئا (أوناليف)‪ .‬مثل هذه املناطق هي يف جوهرها بال دولة‪ .‬هذا يعمل‬
‫عىل توليد توتر جديد بني الجغرافيا السياسية‪ ،‬التي هي عاملية وغري إقليمية‪،‬‬
‫والدولة‪ ،‬التي التزال ُتحدد هويتها ورشعيتها السياسية مبفهوم الوحدة اإلقليمية‬
‫ذات السيادة‪ ،‬بوصفها بلدا‪.‬‬
‫‪221‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫العامل الثالث هو التنظيم‪ .‬لقد ميعت تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬


‫الطوبولوجيا السياسية‪ .‬فلم تعد تكتفي بأن تتيح‪ ،‬من خالل اإلدارة والتمكني‪،‬‬
‫التجميع‪ ،‬والتفكيك وإعادة التجميع املرن والرسيع واملؤقت ويف الوقت املناسب‬
‫لجامعات موزعة «عند الطلب»‪ ،‬بشأن مصالح مشرتكة عرب الحدود القدمية الجامدة‪،‬‬
‫ممثلة يف الطبقات االجتامعية‪ ،‬واألحزاب السياسية‪ ،‬واالنتامء العرقي‪ ،‬وعوائق اللغة‪،‬‬
‫والعوائق الطبيعية‪ ،‬وما شابه ذلك‪ ،‬بل هي أيضا تشجع كل ذلك‪ ،‬ما يولد توترات‬
‫جديدة بني الدولة‪ ،‬التي التزال ُتعرف عىل أنها مؤسسة تنظيمية رئيسة‪ ،‬وإن مل‬
‫تعد جامدة ولكن عىل نحو متزايد تتحول ذاتها إىل نظام متعدد الوكالء مرن‪ ،‬وبني‬
‫مجموعة متنوعة متساوية السلطة من املنظامت غري التابعة لدولة‪ ،‬التي متثل النظم‬
‫متعددة الوكالء األخرى املوجودة عىل الساحة؛ التي حقيقة تكون يف بعض األحيان‬
‫أكرث قوة ونفوذا سياسيا (مقارنة بالدولة ذات السيادة القدمية)‪ .‬ومل يعد اإلرهاب‪،‬‬
‫عىل سبيل املثال‪ ،‬مجرد مشكلة تتعلق بالشؤون الداخلية – خذ يف االعتبار أشكال‬
‫اإلرهاب يف إقليم الباسك‪ ،‬أو أملانيا‪ ،‬أو إيطاليا‪ ،‬أو إيرلندا الشاملية – ولكنه أيضا‬
‫مواجهة دولية مع نظام موزع متعدد الوكالء مثل تنظيم القاعدة‪.‬‬
‫ويف النهاية‪ ،‬تعيد الدميوقراطية والتغريات يف السلطة‪ ،‬والجغرافيا‪ ،‬والتنظيم‬
‫صياغة الجدال حول الدميوقراطية‪ ،‬النموذج األقدم واألكرث أمانا من التعهيد الجامعي‬
‫للسلطة‪ .‬نحن اعتدنا عىل أن نعتقد أن الدميوقراطية من الناحية املثالية ينبغي أن‬
‫تكون مشاركة مبارشة ومستمرة لجميع املواطنني يف تسيري املجتمع وأعامله‪ ،‬شؤونه‬
‫العامة ‪ .res publica‬وكان من شأن الدميوقراطية املبارشة‪ ،‬لو أنها كانت ذات جدوى‪،‬‬
‫أن متكن الدولة من أن ُتعيد تنظيم نفسها داخليا‪ ،‬عن طريق تصميم لوائح وإدارة‬
‫وسائل لرتويج أشكال التشاور‪ ،‬التي بها ميكن للمواطنني اقرتاح مبادرات سياسية‬
‫والتصويت عليها بشكل مبارش ويف الوقت الحقيقي تقريبا‪ .‬نحن فكرنا يف أشكال‬
‫الدميوقراطية املبارشة عىل أنها خيارات مكملة ألشكال الدميوقراطية النيابية‪ .‬وكان‬
‫العامل عىل وشك أن يكون عامل «السياسة املتوافرة دامئا»‪ .‬الواقع هو أن الدميوقراطية‬
‫املبارشة قد تحولت إىل دميوقراطية تقودها وسائط اإلعالم الجامهريي‪ ،‬مبفهوم‬
‫تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت لوسائط اإلعالم االجتامعي الجديدة‪ .‬يف مثل هذه‬
‫الدميوقراطيات الرقمية‪ ،‬رمبا تضاعفت املجموعات املوزعة‪ ،‬التي تتجمع بشكل مؤقت‬
‫‪222‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫يف الوقت املناسب بشأن املصالح املشرتكة‪ ،‬وأصبحت مصادر تأثري خارج كيان الدولة‪.‬‬
‫يقوم املواطنون بالتصويت ملصلحة ممثليهم ولكن ميكن دامئا التأثري فيهم يف الوقت‬
‫الحقيقي تقريبا عرب استطالعات الرأي‪ .‬لقد أصبح بناء توافق اآلراء اهتامما ثابتا‬
‫معتمدا عىل معلومات تزامنية‪.‬‬
‫بسبب العوامل التي ُحللت من فورها ‪ -‬السلطة‪ ،‬والجغرافيا‪ ،‬والتنظيم‪،‬‬
‫والدميوقراطية ‪ -‬فإن املوضع الفريد للدولة التأريخية بصفتها الوكيل للمعلومات‬
‫يجري تقويضه من أسفل وتجاوزه من أعىل‪ .‬فلدى النظم متعددة الوكالء األخرى‬
‫البيانات‪ ،‬والسلطة‪ ،‬وأحيانا حتى القوة – كام تظهر يف بعض الحاالت لدى األمم‬
‫املتحدة‪ ،‬أو يف تهديدات الجامعات السيربانية‪ ،‬أو يف الهجامت اإلرهابية ‪ -‬والفضاء‪،‬‬
‫واملرونة التنظيمية التي تؤدي إىل تآكل النفوذ السيايس للدولة الحديثة‪ .‬وبوسع هذه‬
‫النظم االستيالء عىل بعض من سلطة الدولة‪ ،‬وعىل املدى الطويل‪ ،‬يجعلونها ال لزوم‬
‫لها وعاطلة يف سياقات كانت من قبل تتجىل فيها باعتبارها الوكيل املعلومايت الوحيد‬
‫السائد‪ .‬ونجد مثاال جيدا عىل ذلك يف األزمة االقتصادية اليونانية التي بدأت يف‬
‫أواخر العام ‪ .2009‬اضطرت الحكومة والدولة يف اليونان إىل التفاعل والتجاوب «من‬
‫أعىل» مع االتحاد األورويب‪ ،‬والبنك املركزي األورويب‪ ،‬وصندوق النقد الدويل‪ ،‬وهيئات‬
‫التصنيف االئتامين‪ ،‬وما شابه ذلك‪ .‬كان عليهام التفاعل والتجاوب «من أسفل» مع‬
‫وسائل اإلعالم الجامهريي اليوناين‪ ،‬والشعب يف ميدان سينتاغام ‪،Syntagma Square‬‬
‫واألسواق املالية واملستثمرين الدوليني‪ ،‬والرأي العام األملاين‪ ،‬وما شابه ذلك‪ .‬وألن‬
‫الدولة اليوم أقل مركزية مام كانت عليه يف القرن التاسع عرش‪ ،‬فإن بلدانا مثل بلجيكا‬
‫وإيطاليا قد تحيا بشكل جيد حتى يف أثناء عدم وجود حكومات لفرتات طويلة أو‬
‫عندما تحكمها حكومات مختلة وظيفيا‪ ،‬مستخدمة «الطيار اآليل»‪.‬‬
‫إن فكرة أكرث شبكية للتفاعالت السياسية تجعل من املمكن وجود درجة من‬
‫التسامح تجاه‪ ،‬وحقيقة جدوى‪ ،‬ألصحاب النزعة املحلية واالنفصاليني‪ ،‬وكذلك‬
‫الحركات واألحزاب التي ُتحبذ الحكم الذايت أو االستقالل الذي سيكون غري مقبول‬
‫من ِق َبل الدول القومية الحديثة‪ ،‬التي نزعت إىل تشجيع أشكال تجمعات أنصار‬
‫النزعة القومية وليس النزعة اإلقليمية‪ .‬من بادانيا (إيطاليا) إىل كاتالونيا (إسبانيا)‪ ،‬من‬
‫أسكتلندا (بريطانيا العظمى) إىل بافاريا (أملانيا)‪ُ ،‬يذ َّكر املرء بأن تيارات تنتمي للتأريخ‬
‫‪223‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫ا ُملفرط رمبا متاثل اتزان ما قبل ويستفاليا بني عدد ال يحىص من املناطق تقريبا يف أي‬
‫بلد أورويب‪ .‬و«قامئة الحركات االنفصالية النشطة يف أوروبا»‪ ،‬تلك القامئة الطويلة يف‬
‫ويكيبيديا غنية باملعلومات وجديرة باالهتامم‪ .‬ليس من املستغرب أن َت َج ُّمع املناطق‬
‫األوروبية ‪( Assembly of European Regions‬الذي تأسس يف األصل يف العام‬
‫‪ 1985‬باسم مجلس مناطق أوروبا ‪ ،)Council of the Regions of Europe‬الذي‬
‫يضم أكرث من ‪ 250‬منطقة من ‪ 35‬دولة إىل جانب ‪ 16‬منظمة متعددة األقاليم‪ ،‬لطاملا‬
‫كان من مؤيدي تفريع السلطة‪ ،‬مبدأ الالمركزية الذي وفقا له ينبغي أن يتم التعامل‬
‫مع الشؤون السياسية من ِق َبل السلطة األصغر أو األدىن أو األقل مركزية التي ميكنها‬
‫أن تتعامل معها عىل نحو فعال‪.‬‬
‫بطبيعة الحال‪ ،‬فالدولة التأريخية ال تتخىل عن دورها من دون رصاع‪ .‬إنها تحاول‬
‫استعادة سيادتها يف العديد من السياقات بوصفها وكيال فوقيا للمعلومات يحكم‬
‫الحياة السياسية للمجتمع الذي ينظمه‪.‬‬
‫يف بعض الحاالت‪ ،‬تكون املحاولة سافرة‪ .‬يف اململكة املتحدة‪ ،‬قدمت حكومة‬
‫حزب العامل أول مرشوع قانون لبطاقات الهوية يف نوفمرب من العام ‪ .2004‬بعد عدة‬
‫مراحل وسيطة‪ ،‬يف ‪ 21‬يناير ‪ُ 2011‬أبطل يف النهاية قانون بطاقات الهوية بالقانون‬
‫الخاص بوثائق الهوية للعام ‪ .2010‬الخطة الفاشلة لتقديم هوية إلزامية يف اململكة‬
‫املتحدة ينبغي أن ُتقرأ من منظور حديث للحفاظ عىل نظام ويستفايل‪.‬‬
‫يف عدة حاالت أخرى‪ ،‬تبدو هذه «مقاومة تأريخية» بشكل غري معلن‪ ،‬مثل حالة‬
‫أن ُيدار مجتمع املعلومات من قبل الدولة بشكل موسع‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬تحافظ‬
‫الدولة عىل دورها كوكيل معلومات رئيس‪ ،‬مل يعد ينحرص يف املجال القانوين فحسب‪،‬‬
‫بناء عىل سلطتها عىل الترشيعات وتنفيذها‪ ،‬ولكنه ميتد أيضا إىل املجال االقتصادي‪،‬‬
‫بناء عىل سلطتها عىل أغلبية فرص العمل (الوظائف) املعتمدة عىل املعلومات‪ .‬إن‬
‫الوجود التدخيل ملا يسمى برأساملية الدولة من خالل رشكات مملوكة للدولة يف‬
‫جميع أنحاء العامل‪ ،‬من الربازيل‪ ،‬إىل فرنسا‪ ،‬إىل الصني‪ ،‬هو َع َرض للتأريخ ا ُملفرط الذي‬
‫ال يتسق مع روح العرص‪.‬‬
‫أشكال مامثلة من املقاومة تبدو غري قادرة سوى عىل إرجاء الظهور الحتمي‬
‫لنظم سياسية متعددة الوكالء‪ .‬لألسف‪ ،‬إنها رمبا ال تنطوي عىل تكاليف فحسب‪،‬‬
‫‪224‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫ولكن أيضا عىل مخاطر هائلة‪ ،‬محليا وعامليا عىل حد سواء‪ .‬تذكر أنه رمبا ُينظر‬
‫إىل الحربني العامليتني عىل أنهام نهاية النظام الويستفايل‪ .‬وللمفارقة‪ ،‬فبينام تتجه‬
‫اإلنسانية إىل التأريخ ا ُملفرط‪ ،‬يشهد العامل صعود الصني‪ ،‬التي هي حاليا من الدول‬
‫األكرث «تأريخية»‪ ،‬وتراجع الواليات املتحدة‪ ،‬وهي دولة لديها بالفعل حرفة التأريخ‬
‫ا ُملفرط ومتعددة الوكالء يف تنظيمها الفدرايل أكرث مام كان ألي قوة عظمى أخرى‬
‫يف املايض‪ .‬نحن رمبا نتحرك من إجامع واشنطن إىل إجامع بكني الذي وصفه‬
‫ويليامسون عىل أنه يتكون من إصالح تدريجي‪ ،‬وابتكار وتجريب‪ ،‬ومنو مدفوع‬
‫بالتصدير‪ ،‬ورأساملية دولة‪ ،‬وسلطوية(‪ .)11‬هذا أمر محفوف باملخاطر‪ ،‬ألن النزعة‬
‫التأريخية التي ال تتسق مع روح العرص لبعض سياسات الصني وتنامي نزعة‬
‫التأريخ ا ُملفرط للبرشية تتجه نحو املواجهة‪ .‬قد ال ينتهي األمر إىل رصاع‪ ،‬ولكن‬
‫التأريخ ا ُملفرط هو قوة قد حان وقتها‪ ،‬وبينام يبدو أنه من املرجح أن الدولة‬
‫الصينية هي التي سوف َتبزُغ متحولة بعمق‪ ،‬ال ميلك املرء إال أن يأمل يف أن يكون‬
‫االحتكاك الحتمي سلميا وغري مؤمل قدر اإلمكان‪ .‬إن األزمات املالية واالجتامعية‬
‫التي تعاين منها مجتمعات املعلومات األكرث تقدما رمبا تكون‪ ،‬فعليا‪ ،‬مثنا مؤملا‬
‫ولكنه اليزال الثمن السلمي الذي يجب علينا دفعه للتكيف مع نظام ما بعد‬
‫ويستفايل يف املستقبل‪.‬‬
‫ينطبق االستنتاج السابق عىل الدولة التأريخية بشكل عام‪ .‬ويف املستقبل‪ ،‬سوف‬
‫تكتسب النظم السياسية متعددة الوكالء هيمنة متزايدة‪ ،‬مع مشكلة أن هذه الهيمنة‬
‫لن تكون عىل قدر كاف من الوضوح والشفافية‪ .‬فمن الصعب‪ ،‬بالفعل‪ ،‬رصد وفهم‬
‫السياسة عندما تكون الدول هي األطراف الفاعلة الرئيسة‪ .‬ويصبح األمر أكرث صعوبة‬
‫عندما تكون للوكالء املعنيني سامت غري محددة‪ ،‬وسلوكيات مبهمة‪ ،‬ومن غري املمكن‬
‫للم َساءلة‪ .‬يف الوقت نفسه‪ ،‬فمن‬ ‫تحديدهم بسهولة‪ ،‬فضال عن أن يكونوا خاضعني ُ‬
‫املأمول أن الدولة نفسها سوف تتخىل تدريجيا عن مقاومتها لتغريات التأريخ ا ُملفرط‬
‫وتتطور أكرث إىل نظام متعدد الوكالء‪ .‬أمثلة جيدة ميكن تقدميها من خالل تفويض‬
‫السلطة‪ ،‬أو نقل الحقوق السيادية للدولة إىل املؤسسات األوروبية العابرة للحدود‬
‫الوطنية‪ ،‬أو االتجاه املتنامي لجعل البنوك املركزية‪ ،‬مثل بنك إنجلرتا أو البنك املركزي‬
‫األورويب‪ ،‬منظامت عامة مستقلة‪.‬‬
‫‪225‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫لقد حان الوقت للنظر‪ ،‬مبزيد من التدقيق‪ ،‬يف طبيعة النظام السيايس متعدد‬
‫الوكالء ويف بعض التساؤالت التي يثريها بالفعل‪.‬‬

‫النظام السيايس متعدد الوكالء‬


‫النظام السيايس متعدد الوكالء هو عنرص وسيط (وكيل) مفرد‪ُ ،‬أنشئ بوساطة‬
‫أنظمة أخرى‪ ،‬تتصف بأنها‪:‬‬
‫غائية‪ :‬النظام متعدد الوكالء له غرض‪ ،‬أو هدف‪ ،‬يسعى إليه من خالل سلوكه‪.‬‬
‫تفاعلية‪ :‬النظام متعدد الوكالء وبيئته ميكن أن يؤثر أحدهام يف اآلخر‪.‬‬
‫متمتعة باستقالل ذايت‪ :‬النظام متعدد الوكالء يستطيع تغيري تكويناته من دون‬
‫استجابة مبارشة لتفاعل‪ ،‬عن طريق إجراء تحوالت داخلية لتغيري حاالته‪ ،‬هذا ُيكسب‬
‫النظام متعدد الوكالء بعضا من درجات التعقيد واستقاللية عن بيئته – وأخريا‪:‬‬
‫قادرة عىل ال َت َك ّيف‪ :‬ميكن لتفاعالت النظام متعدد الوكالء أن تغري القواعد التي‬
‫بها يغري النظام متعدد الوكالء نفسه حاالته‪ .‬القدرة عىل ال َت َك ّيف تضمن أن النظام‬
‫متعدد الوكالء يتعلم أسلوب العمل الخاص به بطريقة تعتمد بشكل كبري عىل خربته‪.‬‬
‫يصبح النظام السيايس متعدد الوكالء ذكيا (مبفهوم الذكاء االصطناعي الذي نوقش‬
‫يف الفصل السادس) عندما ُيطبق السامت السابقة بكفاءة وفعالية‪ ،‬ويقلل من املوارد‬
‫واإلرساف واألخطاء‪ ،‬بينام ُي ِّ‬
‫عظم العوائد من سلوكه‪.‬‬
‫ويطرح ظهور نظم سياسية ذكية متعددة الوكالء العديد من التساؤالت املهمة‪.‬‬
‫بعض من هذه التساؤالت يستحق االستعراض هنا‪ ،‬حتى إن كان بشكل رسيع فقط‪:‬‬
‫الهوية‪ ،‬والتالحم‪ ،‬والتوافق‪ ،‬والفضاء االجتامعي مقابل الفضاء السيايس‪ ،‬والرشعية‪،‬‬
‫والشفافية‪.‬‬
‫الهوية‪ :‬طوال زمن الحداثة‪ ،‬تعاملت الدولة مع معضلة تأسيس هويتها الخاصة‬
‫والحفاظ عليها من خالل العمل عىل املعادلة بني الدولة واألمة‪ .‬عادة ما يتحقق هذا‬
‫من خالل الوسائل القانونية للمواطنة والخطب البالغية الرنانة عن املكان (أرض‬
‫األجداد أو الوطن) والزمان (قصة مبفهوم التقاليد واالحتفاالت الدورية بأحداث بناء‬
‫األمة املاضية‪ ،‬وما إىل ذلك)‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬انظر إىل ابتكار الخدمة العسكرية‬
‫اإللزامية أثناء الثورة الفرنسية‪ ،‬وزيادة انتشارها يف التاريخ الحديث‪ ،‬لكن بعد ذلك‬
‫‪226‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫تناقص عدد الدول ذات السيادة التي التزال تفرضها يف الوقت الحارض (الكاتب‬
‫ينتمي إىل الجيل األخري الذي تعني عليه الخدمة يف الجيش اإليطايل مدة اثني عرش‬
‫شهرا)‪ .‬بسبب التجنيد تحول شن الحرب من مشكلة اقتصادية بارزة – عىل سبيل‬
‫املثال‪ ،‬املرصفيون يف فلورنسا مولوا امللوك اإلنجليز خالل حرب املائة عام (‪-1337‬‬
‫‪ – )1453‬إىل مشكلة قانونية أيضا‪ ،‬وهي‪ :‬حق الدولة يف أن ترسل مواطنيها إىل‬
‫املوت نيابة عنها‪ .‬وبالتايل فإنه جعل حياة اإلنسان هي القيمة قبل األخرية املتاحة‬
‫للتضحية الكربى باسم الوطنية‪« :‬من أجل امللك والوطن»‪ .‬إنها إشارة إىل مفارقة‬
‫تاريخية حديثة أن الدول ذات السيادة‪ ،‬يف لحظات األزمة‪ ،‬التزال تستسلم إلغراء‬
‫تأجيج النزعة القومية بشأن مواقع جغرافية ال معنى لها‪ ،‬وعادة ما تكون بعض الجزر‬
‫الصغرية التي ال تستحق أي خسائر برشية‪ ،‬متضمنة جزر فوكالند (اململكة املتحدة)‬
‫أو جزر مالفيناس (األرجنتني)‪ ،‬وجزر سينكاكو (اليابان) أو دياويو (الصني)‪ ،‬وصخور‬
‫ليانكورت‪ ،‬واملعروفة أيضا باسم دوكدو (كوريا الجنوبية) أو تاكيشيام (اليابان)‪.‬‬
‫التالحم‪ :‬تنطوي املعادلة بني الدولة واألمة‪ ،‬التي تحققت من خالل املواطنة‬
‫واألرض أو القصة‪ ،‬عىل ميزة إضافية وهي تقديم حل للمشكلة الثانية‪ ،‬أال وهي‬
‫التالحم‪ .‬ألن املعادلة مل تجب فقط عن سؤال من أو ما هي الدولة‪ ،‬لكنها أيضا أجابت‬
‫عن سؤال من أو ما الذي ينتمي إىل الدولة‪ ،‬ومن ثم رمبا يكون خاضعا ألعرافها‬
‫وسياساتها وإجراءاتها‪ .‬إن النظم السياسية الجديدة متعددة الوكالء ال ميكن أن تقوم‬
‫عىل الحل نفسه‪ .‬إنها يف الحقيقة تواجه مشكلة إضافية متمثلة يف اضطرارها إىل‬
‫التعامل مع فك التالزم بني هويتها السياسية وتالحمها‪ .‬رمبا تكون الهوية السياسية‬
‫للنظام متعدد الوكالء قوية‪ ،‬ومع ذلك ال صلة لها بتالحمها املؤقت والرخو إىل حد‬
‫ما‪ ،‬كام هي الحال مع حركة حزب الشاي(٭) يف الواليات املتحدة‪ .‬رمبا يكون كل من‬
‫هوية وتالحم النظام السيايس متعدد الوكالء ضعيفا إىل حد ما‪ ،‬كام هي الحال يف‬
‫حركة «احتلوا»(٭٭) الدولية‪ .‬أو رمبا يتبني املرء تالحام قويا ومع ذلك هوية سياسية‬
‫(٭) ‪ Tea Party movement‬حركة محافظة انبثقت عن الحزب الجمهوري األمرييك‪ ،‬تقول فضائية فوكس نيوز‬
‫املحافظة إنها ولدت يف العام ‪[ .2008‬املحرر]‪.‬‬
‫(٭٭) ‪ Occupy movement‬حركة احتجاج دولية ذات توجهات فوضوية نشأت عن احتجاجات طالبية يف العامني‬
‫‪ 2009‬و‪ 2010‬يف كاليفورنيا (انظر «مرشوع الدميوقراطية» العدد ‪ ،418‬عامل املعرفة)‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫غري واضحة أو ضعيفة‪ ،‬كام هي الحال مع عشرية األشخاص املغردين (الذين يكتبون‬
‫تويتات أو تغريدات) ودورهم يف أثناء الربيع العريب‪ .‬ينشأ كل من هوية وتالحم‬
‫نظام سيايس متعدد الوكالء ويحا َفظ عليهام من خالل تشارك املعلومات‪ .‬الدولة تصري‬
‫افرتاضية و ُتختزل يف منطقة من اإلنفوسفري حيث يعمل النظام متعدد الوكالء‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫فإن ذاكرة (تسجيالت ميكن اسرتجاعها) وترابط (التحديثات املوثوقة التي ُيعتمد‬
‫عليها) تدفق املعلومات يمُ َ ِّكنان النظام السيايس متعدد الوكالء من أن يدعي بعض‬
‫الهوية وبعض التالحم‪ ،‬وبالتايل يوفران الشعور باالنتامء‪ .‬لكن‪ ،‬وقبل كل يشء‪ ،‬إنها‬
‫حقيقة أن الحدود بني متصل وغري متصل تختفي‪ ،‬وظهور تجربة الحياة املتصلة دامئا‬
‫(أوناليف)‪ ،‬ومن ثم حقيقة أن اإلنفوسفري االفرتايض ميكن أن يؤثر سياسيا يف الفضاء‬
‫املادي‪ ،‬هي التي تعزز الشعور بالنظام السيايس متعدد الوكالء عىل أنه وكيل حقيقي‪.‬‬
‫إذا كان مجهوال ليس له سوى وجود افرتايض‪ ،‬فإن هويته ومتاسكها يكونان أقل قوة‬
‫من ذلك بكثري‪ .‬األفعال هي التي تقدم النظري األساس للتدفق االفرتايض للمعلومات‬
‫لضامن التالحم‪ .‬التفاعالت تصري أساسية أكرث من األشياء‪ ،‬بطريقة متسقة مع ما رأيناه‬
‫يف الفصل الثاين (التفاعلية كمعيار للوجود) ويف الفصل الثالث (الهوية املعلوماتية)‪.‬‬
‫التوافق‪ :‬ترتتب عىل تحليل املعادلة «نظام سيايس متعدد الوكالء = دولة ذات‬
‫سيادة‪ ،‬مواطنة‪ ،‬أرض‪ ،‬قصة‪ ،‬أمة» وفك التالزم بني الهوية والتوافق يف نظام سيايس‬
‫متعدد الوكالء تداعيات مهمة‪ .‬إن املشكلة النظرية األزلية املتعلقة بكيفية خضوع‬
‫التوافق إىل سلطة سياسية ناشئة قد انقلبت رأسا عىل عقب‪ .‬يف اإلطار التأريخي‬
‫لنظرية العقد االجتامعي‪ ،‬فإن املوقف االعتيادي املفرتض هو االبتعاد االختياري‬
‫القانوين‪ .‬هناك نوع ما (يتعني تحديده) من التوافق األصيل‪ُ ،‬يزعم أنه ُمنح (من أجل‬
‫أسباب متنوعة) من ِق َبل أي شخص خاضع للدولة السياسية‪ ،‬ويكون محكوما بالدولة‬
‫وقوانينها‪ .‬املشكلة هي أن نفهم كيف يمُ نح هذا التوافق وماذا يحدث عندما يفضل‬
‫وكيل‪ ،‬السيام مواطن‪ ،‬االنسحاب منه وعدم املشاركة فيه (الخارج عن القانون)‪ .‬أما‬
‫يف اإلطار التأريخي ا ُملفرط‪ ،‬فإن املوقف االعتيادي املتوقع هو املشاركة االختيارية‬
‫االجتامعية‪ ،‬التي تمُ ارس كلام ُيخضع الوكيل نفسه لنظام سيايس متعدد الوكالء‬
‫خضوعا مرشوطا‪ ،‬من أجل غرض محدد‪ .‬للتبسيط‪ ،‬نحن نتحرك من كوننا جزءا من‬
‫التوافق السيايس إىل أن يكون لنا دور فيه‪ ،‬ومثل هذه املشاركة عىل نحو متزايد تكون‬
‫‪228‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫«يف الوقت املناسب»‪ ،‬و«عند الطلب»‪ ،‬و«موجهة نحو الهدف»‪ ،‬وأي يشء باستثناء‬
‫كونها مستقرة‪ ،‬أو دامئة‪ ،‬أو طويلة األمد‪ .‬إذا كانت مامرسة السياسة تبدو عىل نحو‬
‫متزايد مثل مامرسة األعامل التجارية‪ ،‬فهذا ألن املحاور‪ ،‬املواطن ‪ -‬الزبون‪ ،‬يف كلتا‬
‫الحالتني يحتاج إىل أن يكون مقتنعا بأن يترصف بطريقة مفضلة يف كل مرة‪ .‬إن‬
‫االنتامء املوايل ليس هو املوقف االعتيادي‪ ،‬ويحتاج إىل أن ُيبنى و ُيجدد حول منتجات‬
‫سياسية وتجارية عىل حد السواء‪ .‬إن حشد التوافق حول قضايا سياسية معينة‬
‫يصري عملية مستمرة من االندماج وإعادة االندماج‪ .‬إنها ليست مسألة اهتامم ألمد‬
‫محدود‪ .‬والشكوى العامة من أن «األجيال الجديدة» مل تعد تويل اهتامما مستدميا‬
‫للمشاكل السياسية‪ ،‬هي شكوى ال تقوم عىل أساس سليم‪ .‬يف نهاية املطاف‪ ،‬إنها‬
‫األجيال التي ُترسف يف مشاهدة التلفزيون‪ .‬إنها مسألة تحفيز االهتامم مرارا وتكرارا‪،‬‬
‫من دون الوقوع يف تضخم للمعلومات (أزمة إضافية أخرى‪ ،‬حالة طوارئ إضافية‬
‫أخرى‪ ،‬ثورة إضافية أخرى‪ ...،‬إضافية أخرى) واإلرهاق السيايس ( َك ّم من املرات نحن‬
‫نحتاج إىل التدخل بشكل عاجل؟)‪ .‬لذلك‪ ،‬املشكلة هي أن نفهم ما الذي رمبا ُيحفز‬
‫أو يف الحقيقة يدفع الوكالء بشكل متكرر ( ُمجددا‪ ،‬ليس فقط األفراد من بني البرش‪،‬‬
‫ولكن كل أنواع الوكالء) إىل منح هذا التوافق واالندماج‪ ،‬وما الذي يحدث عندما‬
‫يكون مثل هؤالء الوكالء اعتياديا غري مندمجني (الحظ‪ ،‬ليس ُمنفصلني‪ ،‬ألن االنفصال‬
‫يفرتض وجود حالة سابقة من االندماج)‪ ،‬ويفضلون البقاء بعيدا عن أنشطة النظام‬
‫السيايس متعدد الوكالء‪ ،‬يسكنون يف غالف اجتامعي لهوية مدنية‪ ،‬ولكن غري سيايس‪.‬‬
‫الفشل يف استيعاب التحول السابق من االبتعاد االختياري التأريخي إىل املشاركة‬
‫االختيارية ا ُملفرطة التأريخ تعني أن يقل احتامل فهم التناقض الواضح بني استياء‬
‫األفراد من السياسة وبني انتشار الحركات العاملية‪ ،‬والحشد الدويل‪ ،‬والنشاط السيايس‪،‬‬
‫والنزعة اإلرادية‪ ،‬والقوى االجتامعية األخرى التي لها آثار سياسية مهمة(‪ .)12‬إن ما‬
‫يحترض ليس هو السياسة إجامال‪ ،‬لكنها السياسة التأريخية‪ ،‬التي تقوم عىل األحزاب‪،‬‬
‫والطبقات‪ ،‬واألدوار االجتامعية الثابتة‪ ،‬واملظاهر والربامج السياسية‪ ،‬والدولة ذات‬
‫السيادة‪ ،‬التي سعت إىل رشعية سياسية أرادت لها أن تبقى إىل األبد وظلت تستنفدها‬
‫حتى فقدت فاعليتها‪ .‬إن التحرك ببطء نحو ما يسمى الوسط من خالل أحزاب‬
‫يف دميوقراطيات ليربالية يف جميع أنحاء العامل‪ ،‬فضال عن إسرتاتيجيات «الحث عىل‬
‫‪229‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫التصويت» (است ُِخدم التعبري لوصف حشد الناخبني كداعمني لضامن أن أولئك هم‬
‫ويوسع باستمرار‬ ‫الذين ميكنهم التصويت)‪ ،‬هي دليل عىل أن االندماج يجب أن ُيجدَّد َّ‬
‫من أجل الفوز يف انتخابات‪ .‬إن عضوية حزب (وكذلك نقابة) هي سمة حديثة من‬
‫املرجح أن تصبح أقل شيوعا عىل نحو متزايد‪.‬‬
‫الفضاء االجتامعي مقابل الفضاء السيايس‪ :‬فيام قبل التأريخ‪ ،‬تتداخل الفضاءات‬
‫االجتامعية والسياسية ألنه‪ ،‬يف مجتمع بال دولة‪ ،‬ليس هناك فرق حقيقي بني العالقات‬
‫االجتامعية والعالقات السياسية ومن ثم التفاعالت‪ .‬يف التأريخ‪ ،‬متيل الدولة إىل الحفاظ‬
‫عىل مثل هذه التوسعية عن طريق احتالل الفضاء االجتامعي سياسيا‪ ،‬باعتبارها نظاما‬
‫معلوماتيا متعدد الوكالء‪ ،‬وبالتايل تأسيس األولوية ملا هو سيايس فوق ما هو اجتامعي‪.‬‬
‫مخاطر هذا االتجاه أنه‪ ،‬إذا كان غري ُمراقب وغري متوازن‪ ،‬يؤدي إىل الشمولية (انظر‬
‫عىل سبيل املثال إيطاليا يف عهد موسوليني)‪ ،‬أو عىل األقل الدميوقراطيات املستباحة‬
‫(مثل إيطاليا يف عهد بريلسكوين)‪ .‬لقد رأينا آنفا أن هذه التوسعية وسيطرتها رمبا‬
‫تستند إىل اسرتاتيجيات تنظيمية أو اقتصادية‪ ،‬من خالل مامرسة السلطة‪ ،‬والقوة‪،‬‬
‫وفرض القواعد واألحكام‪ .‬أما يف التأريخ ا ُملفرط‪ ،‬فالفضاء االجتامعي هو الفضاء األصيل‬
‫االعتيادي الذي منه رمبا يتحرك الوكالء إىل (التوافق عىل) االنضامم إىل الفضاء السيايس‪.‬‬
‫إنه ليس من قبيل املصادفة أن مفاهيم مثل املجتمع املدين ‪ ،)13(civil society‬والشأن‬
‫العام ‪ ،)14(public sphere‬واملجتمع املحيل ‪ community‬تصبح ذات أهمية متزايدة‬
‫كلام تحركنا إىل سياق التأريخ ا ُملفرط‪ .‬املشكلة هي أن نفهم ونصمم مثل هذا الفضاء‬
‫االجتامعي حيث من املفرتض أن يتفاعل فيه وكالء من أنواع مختلفة‪ ،‬والذي يؤدي إىل‬
‫بزوغ نظام سيايس متعدد الوكالء‪.‬‬
‫إن كل وكيل داخل الفضاء االجتامعي لديه بعض من درجات الحرية‪ .‬أنا ال‬
‫أقصد بهذا التحرر‪ ،‬أو االستقاللية‪ ،‬أو تقرير املصري‪ ،‬ولكن باألحرى‪ ،‬ومبفهوم روبويت‬
‫أكرث تواضعا‪ ،‬أنا أقصد بعض القدرات أو اإلمكانيات‪ ،‬مدعومة باملوارد ذات الصلة‪،‬‬
‫للمشاركة يف إجراءات محددة من أجل غرض محدد‪ .‬الستخدام مثال أويل‪ ،‬فإن آلة‬
‫صنع القهوة لها درجة حرية واحدة فقط‪ ،‬إذ ميكنها أن تصنع القهوة حاملا ُتز َّود‬
‫باملكونات الصحيحة والطاقة‪ .‬إن مجموع درجات الحرية للوكيل هو «الوكالة»‬
‫‪ agency‬خاصته‪ ،‬فعندما يكون الوكيل وحيدا‪ ،‬فهناك بالطبع وكالة فقط‪ ،‬ولكن من‬
‫‪230‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫دون فضاء اجتامعي‪ ،‬ناهيك عن فضاء سيايس‪ .‬تخيل روبنسون كروزو ‪Robinson‬‬
‫‪ Crusoe‬عىل «جزيرة اليأس»‪ .‬عىل رغم ذلك‪ ،‬مبجرد أن يكون هناك وكيل آخر‬
‫(فرايداي ‪ Friday‬عىل «جزيرة اليأس»)‪ ،‬أو يف الحقيقة مجموعة من الوكالء (السكان‬
‫األصليون من أكلة لحوم البرش‪ ،‬واإلسبان الناجون من السفينة الغارقة‪ ،‬واملتمردون‬
‫اإلنجليز)‪ ،‬تكتسب الوكالة قيمة إضافية للتفاعل االجتامعي‪ .‬يصري من الرضوري‬
‫وجود مامرسات ومن ثم قواعد من أجل تنسيق وتقييد درجات الحرية للوكالء‪،‬‬
‫ابتداء من أجل منفعة الوكالء الذي يكونون النظام متعدد الوكالء‪ ،‬وبالتايل ملنفعة‬
‫النظام متعدد الوكالء نفسه‪ .‬الحظ التحول يف مستوى التحليل‪ :‬حاملا ينشأ الفضاء‬
‫االجتامعي‪ ،‬فإننا نبدأ يف اعتبار املجموعة كمجموعة – عىل سبيل املثال‪ ،‬كأرسة‪ ،‬أو‬
‫كجامعة‪ ،‬أو كمجتمع – ويصبح سلوك الوكالء األفراد الذين يكونونها قوام العنارص‬
‫التي تقود إىل درجات الحرية ا ُملت ََح ِّققة حديثا‪ ،‬أو الوكالة‪ ،‬للنظام متعدد الوكالء‪ .‬رمبا‬
‫اليزال املثال البسيط السابق مساعدا‪ .‬افرتض اآلن آلة لصنع القهوة مع جهاز توقيت‪.‬‬
‫بشكل منفصل‪ ،‬هام عميالن مع وكالة مختلفة‪ ،‬ولكن إذا انضام معا بشكل مناسب‬
‫ومنسق يف نظام متعدد الوكالء‪ ،‬يصبح للوكيل الناشئ وكالة جديدة لصنع القهوة يف‬
‫وقت محدد‪ .‬إنه اآلن نظام متعدد الوكالء لديه مقدرة أكرث تعقيدا‪ ،‬والتي رمبا تعمل‬
‫أو رمبا ال تعمل بشكل صحيح‪.‬‬
‫إن الفضاء االجتامعي هو إجاميل درجات الحرية لساكنيه من الوكالء الذين يرغب‬
‫املرء يف أخذهم يف االعتبار‪ .‬يف التأريخ‪ ،‬متل هذا االعتبار – الذي هو يف الحقيقة مجرد‬
‫مستوى آخر من التحليل – كان إىل حد كبري ُيحدَد ماديا وجغرافيا‪ ،‬من حيث الوجود‬
‫يف إقليم ومن ثم من خالل أشكال جوار متنوعة‪ .‬يف املثال السابق‪ ،‬جميع الوكالء‬
‫املتفاعلني مع روبنسون كروزو ُأ ِخذوا يف االعتبار بسبب عالقاتهم (وجود تفاعيل فيام‬
‫يتعلق بدرجاتهم من الحرية) مع «جزيرة اليأس» نفسها‪ .‬نحن رأينا أن تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت قد غريت كل هذا‪ .‬يف التأريخ ا ُملفرط‪ ،‬فإن تحديد موضع رسم‬
‫الخط الفاصل ليشمل‪ ،‬أو حقيقة ليستبعد‪ ،‬الوكالء ذوي الصلة الذين درجات حريتهم‬
‫ُت َك ّون الفضاء االجتامعي‪ ،‬أصبح عىل نحو متزايد مسألة اختيار ضمني‪ ،‬عندما ال‬
‫يكون مسألة قرار رصيح‪ .‬النتيجة هي أن ظاهرة الفضيلة (اآلداب) املوزعة‪ ،‬متضمنة‬
‫املسؤولية املوزعة‪ ،‬أصبحت منترشة أكرث فأكرث‪ .‬يف كلتا الحالتني‪ ،‬التأريخ أو التأريخ‬
‫‪231‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫ا ُملفرط‪ ،‬فإن ما ُي َعد عىل أنه فضاء اجتامعي رمبا يكون حركة سياسية‪ .‬بهذا املفهوم‬
‫السيايس‪ ،‬فإن العوملة هي نزع للحدود (لإلقليمية)‪.‬‬
‫وبالتحول إىل الفضاء السيايس الذي تعمل فيه النظم متعددة الوكالء الجديدة‪،‬‬
‫سوف يكون من الخطأ أن نعتربه فضاء منفصال‪ ،‬باإلضافة إىل كونه فضاء اجتامعيا‪.‬‬
‫إن كال من الفضاء االجتامعي والفضاء السيايس ُيحددان عن طريق نفس مجموع‬
‫درجات حرية الوكالء‪ .‬يبزغ الفضاء السيايس عندما تقتيض تعقيدات الفضاء‬
‫االجتامعي منع أو تسوية االختالفات املرتقبة والتنسيق أو التعاون بشأن التقاربات‬
‫املحتملة‪ .‬كالهام بالغ األهمية‪ .‬ويف كل حالة هناك احتياج إىل معلومات‪ ،‬فيام يتعلق‬
‫باالعرتاض واملداوالت بشأن العديد من درجات الحرية املعقدة‪.‬‬
‫الرشعية‪ :‬تتحقق عندما يوافق الوكالء يف الفضاء االجتامعي عىل االتفاق عىل‬
‫كيفية التعامل مع اختالفاتهم (الرصاعات) وتقارباتهم‪ ،‬يكتسب الفضاء االجتامعي‬
‫البعد السيايس الذي اعتدناه‪ .‬لكن تنتظرنا هنا عرثتان محتملتان‪.‬‬
‫األوىل‪ ،‬ولندعُ ها الهوبزية ‪ ،Hobbesian‬وهي اعتبار السياسة مجرد منع للحرب‬
‫بوسائل أخرى‪ ،‬كنقيض للعبارة الشهرية التي ذكرها كالوزفيتز (‪ ،)1831-1780‬الذي‬
‫يزعم أن «الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى»‪ .‬هذه وجهة نظر غري ُمرضية‬
‫عن السياسة‪ ،‬فحتى يف مجتمع متطور من املالئكة سوف تبقى هناك حاجة إىل قواعد‬
‫من أجل مزيد من االنسجام‪ .‬التقاربات أيضا بحاجة إىل السياسة‪ .‬السياسة ليست‬
‫فقط بشأن نزاعات تنشأ بسبب مامرسة وكالء لدرجاتهم من الحرية يف أثناء سعيهم‬
‫إىل تحقيق أهدافهم‪ .‬إنها أيضا‪ ،‬أو عىل األقل ينبغي أن تكون‪ ،‬فوق كل ذلك‪ ،‬تعزيز‬
‫التنسيق والتعاون بني درجات الحرية بوسائل أخرى غري اإلكراه والعنف‪.‬‬
‫روسوية ‪ ،Rousseauian‬هي‬ ‫العرثة الثانية املحتملة‪ ،‬التي رمبا نطلق عليها اسم ّ‬
‫أن نيسء فهم الفضاء السيايس عىل أنه ليس إال ذلك الجزء من الفضاء االجتامعي‬
‫الذي ينظمه القانون‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬يكون الخطأ غري ملحوظ‪ .‬نحن عادة نربط‬
‫الفضاء السيايس بالقواعد أو القوانني التي تنظمه‪ ،‬لكن القواعد أو القوانني هي يف‬
‫حد ذاتها غري تكوينية للفضاء السيايس‪ .‬قارن حالتني فيهام القواعد تحدد اللعبة‪ .‬يف‬
‫لعبة الشطرنج‪ ،‬القواعد ال ُت َقيد اللعبة فحسب؛ إنها اللعبة ذاتها ألنها ال تكون إثر‬
‫تحرك سابق‪ .‬إنها باألحرى الرشوط الرضورية والكافية التي ُتحدد جميع الحركات –‬
‫‪232‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫والحركات الوحيدة – التي ميكن أن تتم بشكل قانوين‪ .‬أما يف لعبة كرة القدم‪ ،‬فإن‬
‫القواعد مبنية عىل قيود ألن الوكالء يتمتعون بدرجة من الحرية سابقة وأساسية‪،‬‬
‫تتمثل يف قدرتهم عىل ركل الكرة بالقدم من أجل تسجيل هدف‪ ،‬ومن املفرتض أن‬
‫تحكمها القواعد‪ .‬يف حني أنه من املمكن فعليا‪ ،‬ولكن ال معنى له‪ ،‬أن تضع اثنني‬
‫من البيادق (عسكري الشطرنج) يف املربع نفسه من رقعة الشطرنج‪ ،‬فال يشء أعاق‬
‫مارادونا من تسجيل هدف مخ ٍز باستخدام يده يف مباراة لكرة القدم بني األرجنتني‬
‫وإنجلرتا (كأس العامل ‪ ،)1986‬وهو ما احتسبه حكم املباراة الذي مل ير املخالفة‪ .‬ويف‬
‫الوقت الحايل‪ ،‬فالفضاء السيايس ال يتأسس ببساطة عن طريق القوانني التي تنظمه‪،‬‬
‫كام يف مثال لعبة الشطرنج‪ .‬لكنه أيضا ليس مجرد نتيجة لتقييد الفضاء االجتامعي عن‬
‫طريق القوانني‪ ،‬كام يف مثال كرة القدم‪ .‬الفضاء السيايس هو تلك املنطقة من الفضاء‬
‫االجتامعي التي تشكلت عن طريق التعاهد عىل االتفاق عىل تسوية االختالفات‬
‫وتنسيق التقاربات‪ .‬التشبيه هنا هو تنسيق القرص الصلب ‪ .Formatting‬هذا يؤدي‬
‫إىل اعتبار إضايف‪ ،‬يتعلق بشفافية النظام متعدد الوكالء‪ ،‬السيام عندما اليزال النظام‬
‫متعدد الوكالء املعني هو الدولة‪ ،‬يف هذه الفرتة االنتقالية‪.‬‬
‫الشفافية‪ :‬هناك اثنان من املفاهيم بهام ميكن أن يكون النظام متعدد الوكالء‬
‫شفافا‪ .‬وهام يعنيان شيئني مختلفني متاما‪ ،‬ولذلك فبوسعهام أن يكونا سببا يف االلتباس‪.‬‬
‫مام ال يثري الدهشة‪ ،‬أن كليهام أىت من تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت وعلوم‬
‫الحاسب‪ ،‬حالة أخرى إضافية حيث تغري ثورة املعلومات اإلطار املفاهيمي الذي لدينا‪.‬‬
‫من جهة‪ ،‬النظام متعدد الوكالء (فكر يف الدولة ذات السيادة‪ ،‬وأيضا يف وكالء‬
‫الرشكات‪ ،‬واملؤسسات متعددة الجنسيات‪ ،‬أو العابرة للحدود الوطنية‪ ،‬وغريها) ميكن‬
‫أن يكون شفافا مبعنى أنه يتحول من كونه صندوقا أسود ‪ black box‬إىل أن يكون‬
‫صندوقا أبيض ‪ .white box‬وكالء آخرون (املواطنون‪ ،‬عندما يكون النظام متعدد‬
‫الوكالء هو الدولة) ميكنهم رؤية ليس فقط املدخالت واملخرجات – عىل سبيل املثال‪،‬‬
‫مستويات العائدات الرضيبية واإلنفاق العام – إمنا ميكنهم أيضا مراقبة كيف يعمل‬
‫النظام متعدد الوكالء داخليا (يف مثالنا الحايل‪ ،‬الدولة باعتبارها متعدد الوكالء)‪ .‬هذا‬
‫ليس أمرا جديدا عىل اإلطالق‪ .‬لقد كان مبدأ انترش بالفعل يف القرن التاسع عرش‪.‬‬
‫عىل رغم ذلك‪ ،‬فقد أصبح سمة ُم َجدَدة للسياسة املعارصة نظرا إىل اإلمكانيات التي‬
‫‪233‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫تتيحها تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ .‬هذا النوع من الشفافية يعرف أيضا‬


‫باسم الحكومة املنفتحة‪.‬‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬وهذا هو املعنى األكرث ابتكارا الذي أود أن أؤكد عليه هنا‪،‬‬
‫ميكن أن يكون النظام متعدد الوكالء شفافا مبعنى أن يكون «غري مريئ»‪ .‬هذا هو‬
‫املعنى الذي به تكون التكنولوجيا (خصوصا الواجهة البينية) شفافة‪ :‬ليس ألنها غري‬
‫موجودة‪ ،‬ولكن ألنها توصل خدماتها بكفاءة‪ ،‬وفعالية‪ ،‬وموثوقية لدرجة أن وجودها‬
‫غري محسوس‪ .‬عندما يعمل يشء ما يف أفضل حاالته‪ ،‬وراء الستار إن جاز التعبري‪،‬‬
‫لضامن أننا ميكننا العمل بسالسة قدر اإلمكان‪ ،‬من ثم يكون لدينا نظام شفاف‪ .‬عندما‬
‫يكون النظام متعدد الوكالء املعني هو الدولة‪ ،‬فهذا املعنى الثاين من الشفافية ينبغي‬
‫أال ُينظر إليه عىل أنه وسيلة خفية إلدخال مفهوم «الدولة الصغرية» أو «الحوكمة‬
‫الصغرية» مبصطلح مختلف‪ .‬عىل العكس من ذلك‪ ،‬يف هذا املعنى الثاين‪ ،‬النظام متعدد‬
‫الوكالء (الدولة) يكون شفافا وحيويا متاما مثل األكسجني الذي نتنفسه‪ .‬إنه يسعى‬
‫جاهدا إىل أن يكون الخادم املثايل‪ .‬ليس هناك مصطلح معياري متعارف عليه لهذا‬
‫النوع من النظام متعدد الوكالء الشفاف الذي ال ميكن إدراكه إال عندما يكون غائبا‪.‬‬
‫رمبا ميكن للمرء الحديث عن الحكومة الناعمة‪.‬‬
‫يبدو أن النظم متعددة الوكالء ميكنها عىل نحو متزايد دعم النوع املناسب من‬
‫البنية التحتية األخالقية (مزيد عن هذا الحقا) كلام زادت شفافية‪ ،‬أي أنها‪ ،‬برصاحة‬
‫وبرفق‪ ،‬متارس لعبة التفاوض التي من خاللها ترعى الشؤون العامة‪ .‬عندما تفشل‬
‫هذه اللعبة التفاوضية‪ ،‬فإن النتيجة املحتملة هي رصاع عنيف متزايد فيام بني‬
‫األطراف املعنية‪ .‬إنها احتاملية مأساوية أعادت تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫تشكيلها عىل نحو خطري‪.‬‬
‫كل هذا ال يعني أن التعتيم ليست له مزاياه‪ .‬يجب توخي الحذر حتى ال ُي ْختزل‬
‫الحديث السيايس االجتامعي يف الفروق الدقيقة لألرقى كميا‪ ،‬ونوعيا‪ ،‬ووضوحا‪،‬‬
‫وقابلية استخدام للمعلومات وتكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ .‬إن قاعدة «كلام‬
‫زاد كان ذلك أفضل» ليست القاعدة العامة الوحيدة القامئة عىل التجربة العملية‪،‬‬
‫وهي ليست دامئا األفضل‪ .‬ألن انحسار املعلومات عادة ما ُيحدث تغيريا إيجابيا‬
‫ومؤثرا‪ .‬إننا تعرضنا بالفعل لتقسيم مونتسكيو للقوى السياسية للدولة‪ ،‬وكل منها‬
‫‪234‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫رمبا يكون معتام معلوماتيا لالثنني اآلخرين بالطريقة املالمئة‪ .‬ألن شخصا ما رمبا‬
‫يحتاج إىل أن يفتقر (أو عمدا مينع نفسه من الوصول) إىل بعض املعلومات من أجل‬
‫تحقيق أهداف منشودة‪ ،‬مثل حامية مجهوليته‪ ،‬أو تعزيز املعالجة املنصفة‪ ،‬أو تنفيذ‬
‫تقييم غري منحاز‪ .‬اشتهر أن «حجاب الجهل» لرولز(٭) يستغل هذا الجانب عىل وجه‬
‫التحديد من املعلومات‪ ،‬من أجل وضع نهج للعدالة محايد وغري منحاز(‪ .)15‬كونك‬
‫مطلعا عىل املعلومات ليس دامئا نعمة‪ ،‬بل رمبا يكون خطرا أو خطأ‪ُ ،‬مشتتا أو مسببا‬
‫لإلحباط‪ .‬إن النقطة بشأن قيمة الشفافية هي أن نقيضها‪ ،‬التعتيم املعلومايت‪ ،‬ال ميكن‬
‫أن ُيفرتض أن يكون خاصية جيدة لنظام سيايس ما مل يتم تبنيه بشكل واضح وواع‪،‬‬
‫عن طريق إظهار أنه سمة وليس مجرد خلل‪.‬‬

‫البنية التحتية لألخالق‬


‫يتعلق جزء من الجهود األخالقية التي نشأت عن الثورة الرابعة بتصميم البيئات‬
‫التي من شأنها تيسري خيارات‪ ،‬أو إجراءات‪ ،‬أو عملية أخالقية‪ .‬ويختلف هذا األمر‬
‫عن «األخالقيات عن طريق التصميم» ‪ .ethics by design‬إنها باألحرى التصميم‬
‫الداعم لألخالقيات‪ ،‬كام آمل أن يصبح أكرث وضوحا فيام ييل‪ .‬وكالهام ليربايل‪ ،‬ولكن‬
‫األخالقيات عن طريق التصميم رمبا أقل ما يقال عنها إنها أبوية‪ ،‬حيث إنها متنح‬
‫امتيازا خاصا لتيسري نوع مالئم من الخيارات‪ ،‬أو اإلجراءات‪ ،‬أو العمليات‪ ،‬أو التفاعالت‬
‫نيابة عن الوكالء املعنيني‪ .‬بينام التصميم الداعم لألخالقيات ال ينبغي أن يكون أبويا‪،‬‬
‫حيث إنه مينح امتيازا خاصا لتيسري التف ّكر عن طريق الوكالء املعنيني يف خياراتهم‪،‬‬
‫أو إجراءاتهم‪ ،‬أو عملياتهم‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬فإن االسرتاتيجيات التي تقوم عىل‬
‫األخالقيات عن طريق التصميم رمبا تحررك من اختيار أمر ما ألن البديل غري متاح‪،‬‬
‫كام يحدث عندما يتعني أن تكون عىل استعداد ألن تتربع بأعضائك عند حصولك عىل‬
‫رخصة قيادة‪ .‬أما اإلسرتاتيجيات التي تقوم عىل التصميم الداعم لألخالقيات فرمبا ال‬
‫تسمح لك بالحصول عىل رخصة القيادة إال إذا كنت أوضحت ما إذا كنت ترغب يف‬
‫أن تكون متربعا بأعضائك‪ ،‬إذ إن الخيار املتجرد اليزال كله لك‪ .‬يف هذا القسم‪ ،‬سوف‬
‫(٭) )‪ John Bordley Rawls (1921-2002‬كان أستاذ األخالق والسياسة األمرييك األستاذ بجامعة هارفارد‪ ،‬وابتكر‬
‫يف العام ‪ 1971‬وسيلة ‪ veil of ignorance‬كمنهج لتقرير أخالقية بعض القضايا السياسية‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫الخ ُل ِق ّية‪ ،‬أو األخالقيات التحتية عىل البيئات التي من شأنها‬


‫أطلق اسم البنية التحتية ُ‬
‫تيسري خيارات‪ ،‬أو إجراءات‪ ،‬أو عملية أخالقية‪ .‬املشكلة هي كيفية تصميم النوع‬
‫املالئم من األخالقيات التحتية‪ .‬بوضوح‪ ،‬يف حاالت مختلفة‪ ،‬فإن تصميم أخالقيات‬
‫تحتية ليربالية رمبا يكون أبويا (استعالئيا) بشكل أو بآخر‪ُ .‬حجتي هي أنه ينبغي أن‬
‫يكون أقل أبوية بقدر ما تسمح الظروف‪ ،‬ولكن ليس أقل من ذلك‪.‬‬
‫ومن سامت العرص أنه عندما يتحدث السياسيون يف هذه األيام عن البنية التحتية‪،‬‬
‫فعادة ما يكون يف أذهانهم تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ .‬وال يعني هذا أنهم‬
‫مخطئون‪ ،‬فالذي يجعل املجتمعات املعارصة تعمل‪ ،‬من ثروات األعامل إىل النزاعات‪،‬‬
‫يعتمد بشكل متزايد عىل البتات ‪ Bits‬أكرث من اعتامده عىل الذرات‪ ،‬ونحن رأينا كل‬
‫هذا بالفعل‪ .‬ما هو أقل وضوحا‪ ،‬وفكريا أكرث تشويقا‪ ،‬هو أنه يبدو أن تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت قد كشفت النقاب عن معادلة أخالقية من نوع جديد‪.‬‬
‫خذ يف اعتبارك التأكيد غري املسبوق الذي وضعته تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت عىل الظواهر الجوهرية مثل الثقة‪ ،‬والخصوصية‪ ،‬والشفافية‪ ،‬وحرية‬
‫التعبري‪ ،‬والعالنية‪ ،‬وحقوق امللكية الفكرية‪ ،‬والوالء‪ ،‬واالحرتام‪ ،‬واملوثوقية‪ ،‬والسمعة‪،‬‬
‫وسيادة القانون‪ ،‬وما شابه ذلك‪ .‬رمبا أمكن فهم هذه الظواهر بشكل أفضل عىل أساس‬
‫وجود بنية تحتية لتيسري أو إعاقة السلوك األخالقي‪ /‬الالأخالقي للوكالء املعنيني‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬ومن خالل وضع تفاعالتنا املعلوماتية يف مركز حياتنا‪ ،‬فإن تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت تكشف‪ ،‬فيام يبدو‪ ،‬عن يشء ما‪ ،‬ال شك يف أنه كان دامئا‬
‫موجودا‪ ،‬ولكن بشكل أقل وضوحا‪ :‬حقيقة أن السلوك األخالقي ملجتمع من الوكالء‬
‫هو أيضا مسألة وجود «البنية التحتية لألخالق»‪ .‬إن جانبا مهام من حياتنا الخلقية مل‬
‫يحظ بالكثري من اهتاممنا‪ ،‬و ُيعالج العديد من املفاهيم والظواهر املرتبطة به بشكل‬
‫خطأ‪ ،‬كأنها أخالقية فحسب‪ ،‬يف حني أنها رمبا تكون يف األغلب متعلقة بالبنية التحتية‬
‫لألخالق‪ .‬وإذا استخدمنا مصطلحا من فلسفة التكنولوجيا‪ ،‬فسوف يتسنى لنا القول‬
‫بأن مثل هذه املفاهيم والظواهر املناظرة لها طبيعة مزدوجة االستخدام‪ ،‬إذ إنها ميكن‬
‫أن تكون طيبة معنويا‪ ،‬ولكن ميكن أيضا أن تكون سيئة معنويا‪( .‬مزيد عن هذا فيام‬
‫ييل)‪ .‬املعادلة الجديدة تشري إىل أن‪ ،‬مثلام أنظمة األعامل واإلدارة يف مجتمع ناضج‬
‫اقتصاديا تحتاج عىل نحو متزايد إىل البنى التحتية (النقل واالتصاالت والخدمات‬
‫‪236‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫وغريها) ليك تزدهر‪ ،‬كذلك أيضا‪ ،‬تتطلب التفاعالت الخلقية للنظم متعددة الوكالء يف‬
‫مجتمع ناضج معلوماتيا عىل نحو متزايد‪ ،‬بنية تحتية لألخالق ليك تزدهر‪.‬‬
‫إن فكرة البنية التحتية لألخالق بسيطة‪ ،‬لكنها ميكن أن تكون َخدّاعة‪ .‬املعادلة‬
‫السابقة تساعد عىل توضيحها‪ .‬عندما يتحدث االقتصاديون وعلامء السياسة عن‬
‫«دولة فاشلة»‪ ،‬فإنهم رمبا يقصدون فشل بنية الدولة يف النهوض بأدوارها األساسية‪،‬‬
‫مثل مامرسة السيطرة عىل حدودها‪ ،‬وجمع الرضائب‪ ،‬وإنفاذ القوانني‪ ،‬وإقامة العدل‪،‬‬
‫وتأمني التعليم‪ ،‬وما شابه ذلك‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬فشل الدولة يف تأمني منافع عامة‬
‫مثل الدفاع والرشطة‪ ،‬والخدمات املجانية العامة‪ ،‬مثل الرعاية الصحية‪ .‬أو (ويف كثري‬
‫من األحيان تكون هذه الـ «أو» شاملة ومتداخلة) أنهم رمبا يقصدون انهيار الدولة‬
‫بوصفها البنية التحتية أو البيئة التي تجعل النوع املالئم من التفاعالت االجتامعية‬
‫ممكنا وتعززه‪ .‬هذا يعني أنهم رمبا يقصدون انهيار َركيزَة التطلعات االعتيادية بشأن‬
‫األوضاع االقتصادية والسياسية واالجتامعية‪ ،‬مثل سيادة القانون‪ ،‬واحرتام الحقوق‬
‫املدنية‪ ،‬ومفهوم املجتمع السيايس‪ ،‬والحوار املتحرض بني األشخاص املختلفني فكريا‪،‬‬
‫وسبل الوصول إىل حلول سلمية للتوترات العرقية أو الدينية أو الثقافية‪ ،‬وما شابه‬
‫ذلك‪ .‬كل هذه التطلعات واالتجاهات واملامرسات – باختصار مثل هذه «البنية‬
‫التحتية االجتامعية السياسية» الضمنية‪ ،‬التي رمبا يعتربها املرء أمرا مفروغا منه‬
‫– توفر ُمكونا حيويا لنجاح أي مجتمع ُم َر َكب‪ .‬تؤدي هذه البنية دورا حاسام يف‬
‫التفاعالت البرشية‪ ،‬ميكن مقارنته مع تلك التي اعتدنا يف الوقت الحارض يف االقتصاد‬
‫عىل أن نعزوه إىل البنيات التحتية املادية‪.‬‬
‫ينبغي أال ُتفهم البنية التحتية لألخالق مبفهوم النظرية املاركسية‪ ،‬كأنها مجرد‬
‫تحديث لفكرة «القاعدة والبنية الفوقية» القدمية‪ .‬فالعنارص املعنية مختلفة متاما‪ ،‬إذ‬
‫إننا نتعامل مع أفعال خلقية (معنوية) ومل نبلغ بعد التعامل مع ُميسرّ ي مثل هذه‬
‫األفعال الخلقية (املعنوية)‪ .‬كام أنها ينبغي أال ُتفهم باعتبارها نوعا من الخطاب‬
‫املعياري من الرتبة الثانية عن األخالق‪ .‬إنها اإلطار الذي مل يصبح أخالقيا بعد‪ ،‬واملتعلق‬
‫بالتوقعات الضمنية واالتجاهات واملامرسات التي تستطيع أن ُتيرس وتروج للقرارات‬
‫واإلجراءات الخلقية‪ .‬يف الوقت نفسه‪ ،‬فإنه أيضا من الخطأ االعتقاد بأن البنية التحتية‬
‫لألخالق محايدة أخالقيا‪ .‬إنها باألحرى مزدوجة االستخدام بطبيعتها‪ ،‬كام توقعت آنفا‪،‬‬
‫‪237‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫إذ إنها ميكنها عىل حد سواء تيسري وعرقلة األفعال الجيدة وكذلك السيئة‪ ،‬أخالقيا‪،‬‬
‫وتفعل ذلك بدرجات مختلفة‪ .‬يف أفضل حاالتها‪ ،‬هي زيت التشحيم الذي يعمل‬
‫عىل تليني اآللية األخالقية‪ .‬ويحدث هذا‪ ،‬عىل األرجح عندما يكون ال يعني وجود‬
‫طبيعة «استخدام مزدوج» أن كل استخدام مرجح بالتساوي‪ ،‬مبعنى‪ ،‬أن البنية التحتية‬
‫لألخالق املعنية التزال غري محايدة‪ ،‬وال إيجابية فحسب‪ ،‬لكنها متيل إىل تقديم الجيد‬
‫عىل السيئ‪ .‬إذا كان هذا ُيسبب االلتباس‪ ،‬فكر يف طبيعة االستخدام املزدوج ليس‬
‫من حيث حالة االتزان‪ ،‬مثل عملة مثالية ميكنها أن تعطي كال من الصورة والكتابة‬
‫(وجهي العملة)‪ ،‬ولكن من حيث الوجود املتالزم الثنتني من النتائج البديلة‪ ،‬إحداهام‬
‫أكرث ترجيحا من األخرى‪ ،‬مثل عملة متيل إىل أن تعطي الصورة أكرث من الكتابة‪ .‬عندما‬
‫تكون البنية التحتية لألخالق ذات طبيعة «استخدام مزدوج منحاز»‪ ،‬فمن السهل أن‬
‫ُنخطئ‪ ،‬فنعترب أن كل ما يتصل بالبنية التحتية األخالقية أخالقيا‪ ،‬ألن كل ما يساعد‬
‫عىل ازدهار الخري أو عىل تجذر الرش يسهم يف طبيعتها‪.‬‬
‫إن أي مجتمع مركب ناجح‪ ،‬سواء كان ذلك يف مدينة اإلنسان أو يف مدينة الرب(٭)‬
‫ُ‬
‫يعتمد عىل البنية التحتية الضمنية لألخالق‪ .‬إن هذا ألمر خطري‪ ،‬ألن األهمية املتزايدة‬
‫للبنية التحتية لألخالق رمبا تؤدي إىل خطر أن إضفاء الرشعية عىل الخطاب األخالقي يقوم‬
‫عىل «قيمة» البنية التحتية لألخالق التي من املفرتض أنها تدعمها‪ .‬إن الدعم ُيساء تفسريه‬
‫عىل أنه التأسيس‪ ،‬ورمبا حتى نتطلع إىل دور إضفاء الرشعية‪ ،‬ما يؤدي إىل ما انتقده‬
‫الفيلسوف الفرنيس جان فرانسوا ليوتار )‪ Jean-François Lyotard (1998 - 1924‬عىل‬
‫أنه مجرد «أدائية» النظام‪ ،‬برصف النظر عن القيم الفعلية التي نعتز بها وننشدها‪ .‬كمثال‬
‫عىل ذلك‪ ،‬فكر يف سياق بريوقراطي فيه بعض اإلجراءات‪ ،‬من املفرتض أنها تقدم سلوكا‬
‫حسنا بعض اليشء من الناحية الخلقية‪ ،‬وتصبح عرب الوقت قيمة يف حد ذاتها‪ ،‬وتنتهي‬
‫بإعطاء قيمة أخالقية للسلوك الذي من املفرتض أنها داعمة له‪ .‬إن البنية التحتية لألخالق‬
‫هي القواعد اللغوية ‪ Syntax‬الجوهرية للمجتمع‪ ،‬ولكنها ليست دالالته اللفظية‪ ،‬إلعادة‬
‫استخدام متييز صادفناه عند مناقشة الذكاء االصطناعي‪ .‬إنها تتعلق بشأن الشكل البنيوي‬
‫‪ ،semantics‬ال بشأن املحتوى ذي املغزى‪.‬‬
‫(٭) يف التاريخ املسيحي‪ ،‬مدينة اإلنسان هي اإلمرباطورية الرومانية قبل أن تتنرص‪ ،‬ومدينة الرب هي اإلمرباطورية‬
‫ذاتها بعد اعتناق املسيحية‪ .‬واملقصود هنا املجتمع غري املتدين مقابل املجتمع املتدين‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫نحن رأينا آنفا أنه حتى املجتمع الذي يتكون سكانه بأرسهم من مالئكة‪ ،‬أي‬
‫أنهم وكالء أخالقيون بشكل مثايل‪ ،‬يبقى بحاجة إىل معايري للتعاون والتنسيق‪ .‬نظريا‪،‬‬
‫رمبا يوجد مجتمع يتكون سكانه بأرسهم من متعصبني نازيني ميكنهم االعتامد عىل‬
‫مستويات عالية من الثقة‪ ،‬واالحرتام‪ ،‬واملوثوقية‪ ،‬والوالء‪ ،‬والخصوصية‪ ،‬والشفافية‪،‬‬
‫وحتى حرية التعبري‪ ،‬والعالنية‪ ،‬والتنافس الرشيف‪ .‬بوضوح‪ ،‬إن ما نريده ليس فقط‬
‫آلية ناجحة ُتقدمها البنية التحتية املالمئة لألخالق‪ ،‬ولكنه أيضا مزيج متامسك بينها‬
‫وبني القيم الفاضلة أخالقيا مثل الحقوق املدنية والسياسية‪ .‬هذا هو السبب يف أنه‬
‫من الصعب جدا تحقيق التوازن بني األمن والخصوصية‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬إال إذا‬
‫أوضحنا أوال ما إذا كنا نتعامل مع تضارب يف إطار األخالقيات (األمن والخصوصية‪،‬‬
‫كحقوق معنوية)‪ ،‬أو يف إطار البنية التحتية لألخالق (كالهام مفهوم عىل أنه ميرس‬
‫مل يصبح أخالقيا بعد)‪ ،‬وأخىش أن يكون بني البنية التحتية لألخالق (األمن) واألخالق‬
‫(الخصوصية)‪ .‬ولنعتمد مقاربة أخرى‪ :‬األنابيب األفضل (البنية التحتية لألخالق) رمبا‬
‫ُت َح ِّسن التدفق ولكنها ال ُت َح ِّسن نوعية املياه (األخالق)؛ فاملاء عايل الجودة يتبدد إذا‬
‫كانت األنابيب صدئة أو تترسب منها املياه‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن إيجاد النوع املالئم من البنى‬
‫التحتية لألخالق والحفاظ عليه هو أحد التحديات بالغة األهمية يف عرصنا‪ ،‬ألن البنية‬
‫التحتية لألخالق ليست جيدة أخالقيا يف حد ذاتها‪ ،‬ولكنها هي األقدر عىل أن ُتسفر‬
‫عن صالح خلقي إذا ُصممت ودُمجت مع القيم الخلقية املالمئة‪ .‬ينبغي أن يكون‬
‫النوع املالئم من ال ُبنى التحتية موجودا لدعم النوع املالئم من القيم‪ .‬من املؤكد أنه‬
‫جزء بنيوي من املشكلة التي تخص تصميم النظام متعدد الوكالء املالئم‪.‬‬
‫وكلام صار املجتمع أكرث تعقيدا‪ ،‬كان دور البنية التحتية لألخالق ذات التصميم‬
‫الجيد أكرث أهمية ومن ثم أبرز‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فهذا هو بالضبط ما يبدو أننا نفتقده‪.‬‬
‫انظر بعني االعتبار إىل اتفاقية مكافحة التزييف التجاري (‪ )ACTA‬التي ُأبر َمت‬
‫أخريا‪ ،‬وهي معاهدة متعددة الجنسيات تختص باملعايري الدولية لحقوق امللكية‬
‫الفكرية(‪ .)16‬بالرتكيز عىل إنفاذ حقوق امللكية الفكرية‪ ،‬فإن أنصار اتفاقية مكافحة‬
‫التزييف التجاري فشلوا متاما يف إدراك أن من شأنها أن تقوض البنية التحتية لألخالق‬
‫التي يأملون تعزيزها‪ ،‬والتي تروج بعضا من أفضل وأنجح جوانب مجتمعنا املعلومايت‪.‬‬
‫هذه االتفاقية من شأنها أن تروج للتثبيط البنيوي لبعض الحريات اإليجابية األكرث‬
‫‪239‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫أهمية لألفراد وقدرتهم عىل املشاركة يف مجتمع املعلومات‪ ،‬وبالتايل إشباع ما‬
‫ميتلكونه من إمكانيات بوصفهم كائنات معلوماتية‪ .‬نظرا إىل عدم وجود كلمة أفضل‪،‬‬
‫فإن اتفاقية مكافحة التزييف التجاري من شأنها الرتويج لشكل من أشكال التمييز‬
‫املعلومايت (التفرقة املعلوماتية)‪ ،‬مقارنة بأشكال أخرى من منع الوكالة االجتامعية‬
‫مثل الطبقية‪ ،‬والعنرصية‪ ،‬والتمييز عىل أساس الجندر‪ .‬إن حامية الليربالية رمبا تكون‬
‫أحيانا غري ليربالية من دون قصد‪ .‬إذا كنا نريد أن نفعل ما هو أفضل‪ ،‬فنحن بحاجة إىل‬
‫استيعاب أن قضايا مثل حقوق امللكية الفكرية هي جزء من البنية التحتية الجديدة‬
‫لألخالق ملجتمع املعلومات‪ ،‬وحاميتها تحتاج إىل أن تجد مكانها املتوازن بدقة ضمن‬
‫بنية تحتية قانونية وأخالقية معقدة هي بالفعل موجودة ودامئة التطور‪ ،‬ومثل هذا‬
‫النظام ينبغي وضعه يف خدمة القيم املالمئة والسلوكيات األدبية (املعنوية)‪ .‬هذا‬
‫يعني إيجاد تسوية‪ ،‬عىل مستوى البنية التحتية الليربالية لألخالق‪ ،‬بني أولئك الذين‬
‫يرون الترشيعات الجديدة (مثل اتفاقية مكافحة التزييف التجاري) متطلبا بسيطا‬
‫لاللتزامات األخالقية والقانونية القامئة (يف هذه الحالة من اتفاقيات التجارة)‪ ،‬وأولئك‬
‫الذين يرونها اضمحالال جوهريا لحريات مدنية أخالقية وقانونية قامئة بالفعل‪.‬‬
‫يف مجتمعات التأريخ ا ُملفرط‪ ،‬فإن أي ضوابط تؤثر يف كيفية تعامل الناس مع‬
‫املعلومات‪ ،‬حتام تكون مؤثرة يف اإلنفوسفري بأكمله ويف بيئة أوناليف ‪ onlife‬التي‬
‫يعيشون فيها‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن فرض حقوق مثل حقوق امللكية الفكرية تصري مشكلة‬
‫بيئية‪ .‬هذا ال يعني أن أي ترشيع هو سلبي بالرضورة‪ .‬الدرس املستفاد هنا هو درس‬
‫يتعلق بالتعقيدات‪ :‬مبا أن حقوقا مثل حقوق امللكية الفكرية هي جزء من بنيتنا‬
‫التحتية لألخالق وتؤثر يف كامل بيئتنا التي ُتفهم عىل أنها اإلنفوسفري‪ ،‬والعواقب‬
‫املقصودة وغري املقصودة الناشئة من فرضها تكون عىل نطاق واسع‪ ،‬ومرتابطة بعضها‬
‫مع بعض‪ ،‬وبعيدة األثر‪ .‬هذه العواقب تحتاج إىل أن ُتدرس بعناية‪ ،‬ألن األخطاء سوف‬
‫تولِّد مشاكل ضخمة تكون لها تكاليف تتحمل األجيال القادمة تبعاتها األخالقية‬
‫واالقتصادية عىل حد السواء‪ .‬أفضل طريقة للتعامل مع «مجهولني معروفني» ومع‬
‫العواقب غري املقصودة هي أن تكون حذرا‪ ،‬وتبقى يف حالة تأهب‪ ،‬وتراقب تطور‬
‫اإلجراءات املتخذة‪ ،‬وأن تكون عىل استعداد لرسعة إعادة النظر يف قرار واسرتاتيجية‬
‫شخص ما‪ ،‬مبجرد أن يبدأ ظهور النوع الخطأ من اآلثار‪ ،‬وكام تقول الحكمة التقليدية‪:‬‬
‫‪240‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫يف العجلة الندامة ‪ ،Festina lente‬أو «تعجل أكرث‪ ،‬رسعة أقل»‪ .‬ال يوجد ترشيع مثايل‪،‬‬
‫ولكن يوجد فقط ترشيع يسهل توصيله إىل حد الكامل بشكل أو بآخر‪ .‬واالتفاقيات‬
‫الجيدة املتعلقة بكيفية تشكيل البنية التحتية لألخالق ينبغي أن تشتمل عىل بنود‬
‫بشأن تحديثها يف الوقت املناسب‪.‬‬
‫وأخريا‪ ،‬فمن الخطأ أن نظن أننا مثل غرباء يحكمون موطنا مختلفا عن ذلك‬
‫الذي نسكنه‪ .‬والوثائق القانونية (مثل اتفاقية مكافحة التزييف التجاري) تنشأ من‬
‫داخل اإلنفوسفري الذي تؤثر فيه‪ .‬نحن نبني ونرمم ونجدد املنزل من الداخل‪ .‬تذكر‬
‫أننا نصلح الطوافة بينام نبحر عليها‪ ،‬الستخدام االستعارة التي ُقدمت يف التمهيد‪.‬‬
‫تحديدا ألن املسألة برمتها‪ ،‬التي تتعلق باحرتام حقوق مثل حقوق امللكية الفكرية‪،‬‬
‫وبالتعدي عليها وأساليب فرضها‪ ،‬هي مسألة بيئة وبنية تحتية لألخالق يف املجتمعات‬
‫املعلوماتية املتقدمة‪ ،‬فإن أفضل يشء ميكننا القيام به‪ ،‬من أجل وضع الحل املناسب‪،‬‬
‫هو تطبيق اإلطار ذاته‪ ،‬الذي يتعلق بالبنية التحتية لألخالق والقيم األخالقية‪ ،‬عىل‬
‫العملية نفسها التي نود أن نروج عربها للبنية التحتية لألخالق وللقيم األخالقية‪ .‬هذا‬
‫يعني أن اإلنفوسفري ينبغي أن ينظم نفسه من الداخل‪ ،‬وليس من خارج يصعب‬
‫التعامل معه‪.‬‬

‫نزاعات التأريخ ا ُملفرط والحرب السيربانية‬


‫يروى أنه عندما رأى الفرسان الرومانيون ألول مرة أفيــال بريوس(٭) ‪Pyrrhus‬‬
‫الحربية العرشين‪ ،‬يف معركة ِه َر ْقل َية (‪ ،Heraclea (280‬كانوا مذعورين للغاية من‬
‫هذه املخلوقات الغريبة التي مل يروها قط من قبل‪ ،‬حتى أنهم فروا بعيدا‪ ،‬وخرست‬
‫جحافل الرومان املعركة‪ .‬اليوم‪ ،‬األفيال الجديدة رقمية‪ .‬رمبا تكون الظاهرة بدأت من‬
‫فورها يف الظهور يف النقاش العام‪ ،‬لكن يف مجتمعات التأريخ ا ُملفرط‪ ،‬فإن تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت تشكل عىل نحو متزايد النزاعات املسلحة‪.‬‬
‫الخالفات تتحول إىل نزاعات مسلحة عندما تفشل السياسة‪ .‬يف عرص التأريخ‬
‫ا ُملفرط‪ ،‬تكتسب هذه الرصاعات املسلحة طبيعة معلوماتية جديدة‪ .‬والحرب‬
‫(٭) امللك اليوناين الذي واجه الرومان يف تلك املعركة‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫السيربانية أو حرب املعلومات هي استمرار‪ ،‬وأحيانا استبدال‪ ،‬للنزاع باستخدام وسائل‬


‫رقمية‪ ،‬ومجددا نستند إىل تفسري كالوزفيتز الشهري عن الحرب الذي صادفناه سالفا‪.‬‬
‫هناك أربعة تغيريات رئيسة جديرة باملالحظة‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬فيام يتعلق بالعمليات العسكرية التقليدية‪ ،‬فبشكل تدريجي أحدثت‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت ثورة يف عامل االتصاالت‪ ،‬مام جعل من املمكن‬
‫استخدام أساليب جديدة معقدة يف العمليات امليدانية‪ .‬نحن رأينا أن هذا كان هو‬
‫الحال بالفعل مع نظام «شاب» التلغرايف‪.‬‬
‫ثانيا‪ ،‬تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت جعلت أيضا التحليل الرسيع لكميات‬
‫هائلة من البيانات ممكنا‪ ،‬مام يمُ كن الهيئات العسكرية واالستخباراتية املكلفة بإنفاذ‬
‫القانون من اتخاذ إجراءات بأساليب محددة األهداف ويف توقيتات مناسبة‪ .‬إن‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت والبيانات الضخمة هي أيضا أسلحة‪.‬‬
‫ثالثا‪ ،‬وحتى بشكل أكرث وضوحا‪ ،‬يجري يف الوقت الحارض خوض املعارك بقوات‬
‫متلك قدرة كبرية عىل الحركة‪ ،‬ومسلحة بأجهزة تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت يف‬
‫الوقت الحقيقي‪ ،‬وأقامر اصطناعية‪ ،‬وأجهزة استشعار لساحة املعركة‪ ،‬وما شابه ذلك‪،‬‬
‫فضال عن آالف الروبوتات مختلفة األنواع‪.‬‬
‫وأخريا‪ ،‬أدى االعتامد املتزايد للمجتمعات وقواتها العسكرية عىل تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت املتقدمة إىل هجامت سيربانية اسرتاتيجية‪ُ ،‬مصممة لتُحدث‬
‫تعطال مكلفا وتعجيزيا‪ .‬رمبا لن تعود هناك حاجة إىل جيوش من جنود آدميني‪ .‬إن هذا‬
‫يخلق تناقضا صارخا مع اإلرهاب االنتحاري‪ .‬عىل الجانب اآلخر‪ ،‬ميكن لحياة اإلنسان أن‬
‫تستعيد قيمتها املطلقة ألن الدولة مل تعد بحاجة إىل أن تبتزها ملصلحة الوطنية‪ .‬عىل‬
‫عكس ما رأيناه سالفا‪ ،‬الطائرات من دون طيار ال متوت «من أجل امللك والوطن»‪ .‬الحرب‬
‫السيربانية هي ظاهرة يختص بها التأريخ ا ُملفرط‪ .‬عىل الجانب اآلخر‪ ،‬يقوم اإلرهابيون‬
‫بتجريد األفراد من إنسانيتهم عند اعتبارهم مجرد آليات توصيل‪ .‬اإلرهاب االنتحاري هو‬
‫ظاهرة تأريخية‪ ،‬حيث تكون التكنولوجيا البينية هي جسم اإلنسان ويصبح الفرد «أداة‬
‫حية»‪ ،‬يف تطبيق لتعريف أرسطو للعبد الذي صادفناه يف الفصل الثاين‪.‬‬
‫واملشكلة االقتصادية القدمية ‪ -‬كيفية متويل الحرب وتكنولوجياتها املتقدمة‬
‫باهظة الثمن ‪ -‬هي اآلن مقرونة مبشكلة قانونية جديدة‪ ،‬أال وهي كيفية مواءمة‬
‫‪242‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫حرب من نوع التأريخ ا ُملفرط مع ظواهر تأريخية‪ ،‬مثل التعدي عىل السيادة الوطنية‬
‫واحرتام الحدود الجغرافية‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬الهجامت السيربانية ميكن أن تنفذها‬
‫دول أو شبكات‪ ،‬أو حتى مجموعات صغرية أو أفراد‪ .‬لقد جعلت تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت النزاعات غري املتكافئة أسهل‪ ،‬وزحزحت ساحة املعركة إىل‬
‫داخل اإلنفوسفري مبسافة ال يستهان بها‪.‬‬
‫حجم هذه التحوالت مذهل‪ .‬وعىل سبيل املثال‪ ،‬ففي العام ‪ ،2003‬يف بداية‬
‫الحرب يف العراق‪ ،‬مل تكن القوات األمريكية متتلك أنظمة روبوتية عىل األرض‪ .‬وعىل‬
‫رغم ذلك‪ ،‬فبحلول العام ‪ ،2004‬كانت قد نرشت بالفعل ‪ 150‬روبوتا (إنسالة)‪ ،‬ويف‬
‫العام ‪ 2005‬أصبح العدد ‪ ،2400‬وبحلول نهاية العام ‪ 2008‬كان يعمل عىل األرض نحو‬
‫‪ 12‬ألف روبوت من نحو أربعة وعرشين نوعا(‪.)17‬‬
‫يف العام ‪ ،2010‬وتعليقا عىل سايرب أوروبا (‪ ،)Cyber Europe 2010‬أول‬
‫محاكاة لهجوم سيرباين لعموم أوروبا‪ ،‬قالت نييل كروس ‪ ،Neelie Kroes‬نائب‬
‫رئيس املفوضية األوروبية‪:‬‬
‫هذا التدريب الختبار مدى تأهب أوروبا لصد تهديدات سيربانية هو‬
‫خطوة أوىل مهمة نحو العمل معا ملكافحة تهديدات محتملة عرب اإلنرتنت‬
‫للبنية التحتية األساسية ولضامن أن املواطنني واألعامل يشعرون باألمن‬
‫واألمان عىل اإلنرتنت(‪.)18‬‬
‫كام ترون‪ ،‬فهذا املنظور ينطوي عىل التزام ال مزيد عليه بالتأريخ املفرط‪.‬‬
‫إن أساليب النزاع بوساطة من تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت تثري طائفة‬
‫متنوعة من املشاكل األخالقية للجيوش التي تخوض الحرب يف امليدان‪ ،‬ولخدمات‬
‫جمع املعلومات االستخباراتية‪ ،‬ولصانعي السياسات‪ ،‬ولعلامء األخالقيات‪ .‬هذه‬
‫املشاكل هي‪ :‬املخاطر‪ ،‬والحقوق‪ ،‬واملسؤوليات‪.‬‬
‫املخاطر‪ :‬الحرب السيربانية والنزاعات القامئة عىل املعلومات رمبا تزيد من‬
‫املخاطر‪ ،‬مام يجعل النزاعات «الناعمة» أكرث ترجيحا‪ ،‬ومن ثم من املحتمل أن تؤدي‬
‫إىل زيادة عدد الضحايا‪ .‬فيام بني العامني ‪ 2004‬و‪ ،2012‬فإن الطائرات من دون طيار‬
‫التابعة لوكالة االستخبارات املركزية األمريكية (يس آي إيه) قتلت أكرث من ‪2400‬‬
‫شخص يف باكستان‪ ،‬بينهم ‪ 479‬من املدنيني‪ ،‬يف ‪ 3‬رضبات يف العام ‪ 2005‬زادت إىل‬
‫‪243‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫‪ 76‬رضبة يف العام ‪ .)19(2011‬املنظور الذي يثري القلق هو أن تكنولوجيا املعلومات‬


‫واالتصاالت رمبا تجعل نزاعات غري تقليدية أكرث قبوال من الناحية األخالقية‪ ،‬من خالل‬
‫التأكيد عىل النتائج األقل فتكا للعمليات العسكرية يف الفضاء اإللكرتوين‪ .‬عىل رغم‬
‫ذلك‪ ،‬رمبا يكون هذا وهميا متاما‪ .‬فمن السهل أن يؤدي العبث يف البنيات التحتية‬
‫لتكنولوجيا املعلومات واالتصاالت للمستشفيات واملطارات إىل خسائر يف األرواح‪،‬‬
‫حتى إن كان بطريقة أقل وضوحا مام تفعله القنابل‪ .‬عىل الرغم من هذا‪ ،‬يبقى‬
‫االنطباع الخاطئ بأننا رمبا نزعم أننا نتحرك نحو وسيلة أكرث دقة‪ ،‬وانتقائية‪ ،‬وغري‬
‫دموية للتعامل بعنف مع خالفاتنا السياسية‪.‬‬
‫الحقوق‪ :‬تنزع الحرب السيربانية إىل محو الحد الفاصل (العتبة) بني الواقع‬
‫واملحاكاة‪ ،‬وبني الحياة واللعب‪ ،‬وبني الرصاعات التقليدية وحركات التمرد واألعامل‬
‫اإلرهابية‪ .‬هذا يهدد بزيادة التناقضات املحتملة بني الحقوق األساسية‪ :‬إذ إن‬
‫التهديدات املعلوماتية تتطلب مستويات أعىل من التحكم‪ ،‬ما قد ينشأ عنه تضارب‬
‫بني حقوق األفراد (مثل الخصوصية) وحقوق املجتمع (مثل السالمة واألمن)‪ .‬رمبا‬
‫يصل واجب الدولة يف حامية مواطنيها إىل أن يصطدم مع واجبها يف منع األذى‬
‫عن مواطنيها‪ ،‬من خالل نظام موسع للمراقبة‪ ،‬قد يسفر‪ ،‬بكل سهولة‪ ،‬عن انتهاك‬
‫خصوصية املواطنني‪.‬‬
‫ُ‬
‫املسؤوليات‪ :‬تزيد الحرب السيربانية من صعوبة تحديد املسؤوليات التي أعيد‬
‫تشكيلها وتوزيعها‪ .‬ألن الروابط السببية ميكن متييزها بسهولة أقل بكثري‪ ،‬فإنه يصبح‬
‫أكرث صعوبة إثبات من أو ما هو املسؤول الذي ميكن محاسبته عندما يكون املعني‬
‫هو أنظمة اإلنسان واآللة أو أسلحة برمجية أو روبوتية أو هجينا‪.‬‬
‫مخاطر وحقوق ومسؤوليات جديدة‪ :‬باختصار‪ ،‬الحرب السيربانية هي ظاهرة‬
‫جديدة أملَّت بنا عىل حني غرة‪ .‬بقوة الحكمة املستعادة‪ ،‬ينبغي علينا أن نكون أكرث‬
‫فطنة‪ ،‬لثالثة أسباب عىل األقل‪.‬‬
‫نأخذ أوال طبيعة مجتمعنا‪ .‬عندما كان مجتمعنا حديثا وصناعيا‪ ،‬كانت للنزاعات‬
‫سامت ميكانيكية من الرتبة الثانية‪ .‬املحركات‪ ،‬من السفن الحربية إىل الدبابات إىل‬
‫الطائرات‪ ،‬كانت أسلحة‪ ،‬وكانت النتيجة املتسقة منطقيا هي الرتكيز عىل الطاقة‪،‬‬
‫البرتول أوال ثم الطاقة النووية‪ .‬كان هناك تشابه غريب ومخيف بني خطوط‬
‫‪244‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫التجميع وخنادق الحرب‪ ،‬بني القوى العاملة اإلنتاجية والقوات املقاتلة‪ .‬كانت الحرب‬
‫التقليدية حربا حركية‪ .‬نحن مل نكن نعلم ذلك فقط‪ ،‬ألن النوع غري الحريك مل يكن‬
‫متاحا بعد‪ .‬إن الحرب الباردة وظهور النزاعات غري املتكافئة كانت جزءا من التحول‬
‫بعد الصناعي‪ .‬اليوم‪ ،‬يف ثقافة نرى فيها كلمة «محرك» يسبقها عىل األرجح الفعل‬
‫«بحث» أكرث من كونها مسبوقة باالسم «وقود»‪ ،‬تقاتل مجتمعات التأريخ ا ُملفرط عىل‬
‫األرجح باألرقام بقدر ما تقاتل بالرصاص‪ ،‬تقاتل بأجهزة الحاسب وكذلك بالبنادق‪،‬‬
‫عىل األقل ألن األنظمة الرقمية متيل إىل أن تكون مسؤولة عن األسلحة التناظرية‬
‫(التامثلية)‪ .‬أنا ال أشري إىل استخدام االستخبارات أو التجسس أو التشفري‪ ،‬ولكني أشري‬
‫إىل الهجامت السيربانية أو االستخدام املكثف للطائرات من دون طيار وغريها من‬
‫الروبوتات (اإلنساالت) العسكرية يف العراق وأفغانستان‪ .‬إنها أخبار قدمية؛ ففي ‪27‬‬
‫أبريل ‪ ،2007‬استُخدم نحو مليون جهاز حاسب حول العامل من أجل هجامت عىل‬
‫حكومة أستونيا وعىل مواقع الويب الخاصة بالرشكات بهدف حجب الخدمة املوزعة‬
‫(‪ .)DDOS‬إن هجوم حجب الخدمة املوزعة هو محاولة ُم َمن َهجة لجعل موارد‬
‫الحاسب غري ُمتاحة‪ ،‬عىل األقل مؤقتا‪ ،‬عن طريق إجبار املواقع أو الخدمات الحيوية‬
‫عىل إعادة التشغيل أو إجبارها عىل أن تستهلك مواردها بالكامل‪ ،‬أو عن طريق‬
‫تعطيل اتصاالتها بحيث ال تؤدي وظيفتها عىل النحو الصحيح‪ُ .‬ألقي اللوم عىل روسيا‬
‫لكنها نفت أي تورط لها‪ .‬يف يونيو ‪ ،2010‬فإن ستكسنت ‪ ،Stuxnet‬وهي من برمجيات‬
‫الحاسب الخبيثة املتطورة‪ ،‬خ ّربت أجهزة الطرد املركزي سيمنز ‪ C.1000‬املستخدمة‬
‫يف محطة الطاقة النووية اإليرانية بوشهر ‪ .‬تلك املرة‪ ،‬نفت الواليات املتحدة وإرسائيل‬
‫أي تورط لهام‪ .‬وتتعرض البنية التحتية لتكنولوجيا املعلومات واالتصاالت الخاصة‬
‫بالواليات املتحدة‪ ،‬يف أثناء كتابة هذه السطور‪ ،‬لهجوم‪ .‬هذه املرة الصني هي التي‬
‫نفت أي تورط لها‪ .‬ثم هناك األسلحة الروبوتية‪ ،‬التي ميكن أن ُينظر إليها عىل أنها‬
‫املرحلة النهائية يف تحويل الحرب إىل صناعة‪ ،‬أو‪ ،‬عىل نحو مثري لالهتامم أكرث‪ ،‬كخطوة‬
‫أوىل يف تطور رصاعات املعلومات‪ ،‬حيث تصري مفهومات القيادة والسيطرة وكذلك‬
‫الفعل ورد الفعل مفهومات من ُبعد ‪ .tele-concepts‬انتقلت الرصاعات التكنولوجية‬
‫من الرتبة الثالثة‪ ،‬التي مل يعد موقع البرش فيها داخل الدائرة‪ ،‬من الخيال العلمي‬
‫إىل السيناريوهات العسكرية‪ .‬من وكالء (عنارص وسيطة) برمجية يف الفضاء السيرباين‬
‫‪245‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫إىل روبوتات يف البيئات املادية‪ .‬ال ينبغي أن نكون غاية يف التفاؤل بشأن الطابع غري‬
‫العنيف للحرب السيربانية‪ .‬كلام زاد اعتامدنا عىل تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪،‬‬
‫غلفنا العامل أكرث‪ ،‬وأصبحت الهجامت السيربانية قاتلة أكرث‪ .‬عام قريب‪ ،‬سوف يكون‬
‫َشل البنية التحتية لالتصاالت واملعلومات الخاصة بالعدو أكرث شبها بتحطيم جهاز‬
‫تنظيم رضبات القلب لديه‪ ،‬منه بقرصنة هاتفه الجوال‪.‬‬
‫ثانيا‪ُ ،‬خذ يف االعتبار طبيعة بيئتنا‪ .‬فنحن نتحدث‪ ،‬منذ عقود‪ ،‬عن اإلنرتنت‬
‫والفضاء السيرباين‪ .‬ميكننا بسهولة أن نتخيل أن هذا من شأنه أن يصري جبهة جديدة‬
‫للنزاعات البرشية‪ .‬فالتكنولوجيات تتوسع وتنترش بشكل مستمر‪ .‬نحن نتقاتل‪ ،‬منذ‬
‫زمن بعيد‪ ،‬يف الرب‪ ،‬والبحر‪ ،‬والجو‪ ،‬ويف الفضاء الخارجي‪ ،‬ما دامت التكنولوجيات‬
‫تسمح بذلك‪ .‬ومن املتوقع‪ ،‬أن اإلنفوسفري لن يكون استثناء‪ .‬املعلومات هي العنرص‬
‫الخامس(‪ ،)20‬والعسكرية اآلن تتحدث عن الحرب السيربانية (اإللكرتونية) باعتبارها‬
‫«املجال الخامس من الحرب»‪ .‬االنطباع هو أنه يف املستقبل سوف يغلب هذا املجال‬
‫الخامس عىل املجاالت األخرى يف نهاية املطاف‪ .‬رمبا يساعد املثاالن التاليان عىل‬
‫التوضيح‪ .‬ميكن القول إنه يف يوم ‪ 13‬مايو من العام ‪ ،1999‬وقعت أول معركة بني‬
‫طائرة حربية وطائرة استطالع من دون طيار عندما قامت طائرة مقاتلة عراقية من‬
‫طراز ميغ‪ MiG-25 -25‬بإسقاط طائرة من دون طيار من طراز إم كيو‪ -1‬بريداتور‬
‫تابعة لسالح الجو األمرييك‪ُ .‬بنيت أكرث من ‪ 360‬طائرة من دون طيار منذ العام‬
‫‪ ،1995‬بتكلفة أكرث من ‪ 2.38‬مليار دوالر أمرييك‪ .‬ثانيا‪ ،‬منذ العام ‪ ،2006‬أنتجت رشكة‬
‫سامسونغ (صانع الرباد الذيك الذي صادفناه يف الفصل الثاين) أيضا الروبوت إس جي‬
‫آر‪-‬إيه‪ ،)SGR-A1( 1‬وهو روبوت مزود بكامريا للتصوير يف اإلضاءة املنخفضة ومزود‬
‫أيضا بربمجية للتعرف عىل األمناط لتمييز البرش عن الحيوانات أو األجسام األخرى‪.‬‬
‫هذا الروبوت يقوم بدوريات عىل الحدود بني كوريا الجنوبية وكوريا الشاملية‪ ،‬وإذا‬
‫لزم األمر‪ ،‬ميكنه أن يطلق النار ذاتيا مستخدما بندقية آلية مدمجة فيه‪ .‬من الصعب‪،‬‬
‫عىل نحو متزايد‪ ،‬أن نحدد الفارق بني الحرب اإللكرتونية والحرب الحركية التقليدية‬
‫عندما تكون الحرب من ُبعد هي املعنية‪.‬‬
‫أخريا‪ ،‬فكر يف أصل السيربانية ‪ ،cybernetics‬والحاسب‪ ،‬واإلنرتنت‪ ،‬والنظام العاملي‬
‫لتحديد املواقع (‪ ،)GPS‬والطائرات واملركبات من دون طيار‪ .‬إنها جميعا ُطورت‪ ،‬يف‬
‫‪246‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫األساس‪ ،‬كجزء من جهود عسكرية أكرب‪ .‬إن تاريخ الحوسبة متجذر بعمق يف الحرب‬
‫العاملية الثانية‪ ،‬ويف عمل تورينغ يف منتزه بلتشيل ‪ .Bletchley Park‬وعلم السيربانية‬
‫هو سلف علوم الروبوتيات املعارصة‪ ،‬بدأ يف الظهور كمجال هنديس متصل بتطبيقات‬
‫التحكم اآليل يف منصات الصواريخ وهوايئ الرادار‪ ،‬وهذا أيضا خالل الحرب العاملية‬
‫الثانية‪ .‬نحن نعلم أن اإلنرتنت كانت نتاجا لسباق التسلح وانتشار األسلحة النووية‪،‬‬
‫ولكن كان يجري تشتيتنا بتطور الويب وأصولها العلمية‪ ،‬ونسينا أمر وكالة مرشوعات‬
‫بحوث الدفاع املتقدمة (داربا) (‪ .)DARPA‬وقد أنشئ النظام العاملي لتحديد املواقع‬
‫(‪ )GPS‬الواسع االنتشار يف الوقت الحايل‪ ،‬والذي يوفر معلومات األقامر االصطناعية‬
‫ألنظمة املالحة‪ ،‬وتطويره بواسطة وزارة الدفاع األمريكية‪ ،‬وهو مثال آخر عىل األهمية‬
‫السياسية للجغرافيا‪ .‬مل يكن هذا النظام متاحا باملجان لالستخدام املدين إال يف العام‬
‫‪ ،1983‬بعد إسقاط طائرة من طراز بوينغ ‪ 747‬تابعة للخطوط الجوية الكورية‪ ،‬كان‬
‫عىل متنها ‪ 269‬شخصا‪ ،‬ألنها ضلت الطريق ودخلت املجال الجوي املحظور التحاد‬
‫الجمهوريات االشرتاكية السوفييتية‪ .‬أخريا‪ ،‬فإن تطوير طائرات من دون طيار‪ ،‬بصفة‬
‫أساسية ولكن ليس فقط بواسطة الجيش األمرييك‪ ،‬وكذلك املركبات الذاتية (مجددا‬
‫«وكالة مرشوعات بحوث الدفاع املتقدمة (داربا)») وغريها من الروبوتات‪ ،‬تدين‬
‫بكثري للرصاعات يف العراق وأفغانستان وللحرب ضد اإلرهاب‪ .‬باختصار‪ ،‬كثري من‬
‫تاريخ تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت الرقمية يتوافق بشكل مخيف مع تاريخ‬
‫النزاعات والجهود املالية التي تقف وراءها‪ ،‬مثل‪ :‬الحرب العاملية الثانية‪ ،‬والحرب‬
‫الباردة‪ ،‬وحريب العراق األوىل والثانية‪ ،‬والحرب يف أفغانستان‪ ،‬ومختلف «الحروب»‬
‫عىل املنظامت اإلرهابية حول العامل‪ .‬ما بقي لنا‪ ،‬هو التأريخ ا ُملفرط فقط‪.‬‬
‫وتساعدنا الخطوط العامة املوجزة سالفة الذكر عىل أن نفهم‪ ،‬بشكل أكرث‬
‫عمومية‪ ،‬الكيفية التي أدخلت بها الحرب السيربانية أو حرب املعلومات تحوالت‬
‫جذرية يف أساليب تفكرينا بشأن القضايا العسكرية والسياسية واألخالقية‪ .‬لقد تأثرت‬
‫مفاهيم الدولة‪ ،‬والحرب‪ ،‬والتمييز بني املجتمع املدين واملنظامت العسكرية‪ .‬فهل‬
‫سنشهد سباق تسلح جديدا‪ ،‬بالنظر إىل أن األسلحة السيربانية ترتاجع فعاليتها برسعة‬
‫عالية؟ يف النهاية‪ ،‬ال ميكن ألحد استخدام برمجية خبيثة سوى مرة واحدة فقط‪ ،‬إذ‬
‫بعد ذلك سوف يصبح الرتياق الالزم للشفاء من أثرها الضار متاحا ‪ ،‬ويف األغلب ال‬
‫‪247‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫يكون ذلك إال يف إطار التصدي لتكنولوجيا محددة سوف تصري قدمية‪ ،‬يف القريب‬
‫ُعطل األسلحة السيربانية؟‬‫العاجل‪ .‬وإذا ما أصبح نزع السالح السيرباين خيارا‪ ،‬فكيف ست َّ‬
‫األنظمة الرقمية ميكن اخرتاقها‪ ،‬فهل نشهد عودة بوين إكسربس(٭) ‪Pony Express‬‬
‫يف املستقبل القريب كحل وطني يؤ ّمن خط دفاع أخريا ضد عدو ميكنه العبث بأي‬
‫يشء رقمي ومتصل بشبكة حاسوبية (عىل اإلنرتنت)؟‪ ،‬إن بعض األسئلة تجعل املرء‬
‫يبتسم‪ ،‬لكن البعض اآلخر يسبب إشكاليات متزايدة التعقيد‪ .‬دعوين ُأسلط الضوء‬
‫عىل مجموعتني من هذه األسئلة التي ينبغي أن تكون ذات اهتامم عام بصورة أكرب‪.‬‬
‫إن مجموعة املعارف واملناقشات التي تستند إليها نظرية الحرب العادلة تفصيلية‬
‫ومستفيضة(‪ .)21‬وهي نتيجة قرون من التنقيح منذ العرص الروماين‪ .‬السؤال املنهجي‬
‫الذي نواجهه اليوم هو ما إذا كانت حرب املعلومات هي مجرد مجال آخر للتطبيق‪،‬‬
‫أو ما إذا كانت أيضا متثل ابتكارا تخريبيا‪ ،‬األمر الذي يتطلب تطورات جديدة يف‬
‫النظرية ذاتها‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يف أسس الحرب العادلة ‪ ،jus ad bellum‬أي نوع‬
‫من السلطات متتلك رشعية شن حرب سيربانية؟ وكيف ينبغي اعتبار أن هجوما‬
‫سيربانيا هو املالذ األخري‪ ،‬السيام عندما ميكن أن ُيزعَم أن الهجوم السيرباين مينع نتائج‬
‫أكرث عنفا؟‪ ،‬ويف إطار قانون الحرب ‪ ،jus in bello‬أي مستوى من التناسب ينبغي‬
‫أن ُيعزى إىل هجوم السيربانية؟ كيف ميكنك االستسالم لعدو سيرباين‪ ،‬بخاصة عندما‬
‫تكون هوياتهم عمدا غري معروفة؟ أو كيف سوف تتعامل الروبوتات مع غري املقاتلني‪،‬‬
‫أو كيف سوف يجري التعامل مع السجناء؟ هل من املمكن أو حتى من املرغوب فيه‬
‫أن ُتط َّور «خوارزميات أخالقية» عند هندسة وتصميم األسلحة الروبوتية؟‬
‫لقد شهد فهمنا لألخالقيات التي تحكم السلوك العسكري‪ ،‬منذ العصور اليونانية‪،‬‬
‫تطورا مامثال‪ .‬كيف ستُطبق أخالقيات الفضيلة العسكرية عىل ظواهر هي فعليا‬
‫تعيد صياغة رشوط فرضية أخالقيات الفضيلة ذاتها؟‪ ،‬ضع يف االعتبار أن أي أخالقيات‬
‫فضيلة تفرتض سلفا أنرثوبولوجيا فلسفية‪ ،‬هذا يعني‪ ،‬منظورا للطبيعة البرشية التي‬
‫رمبا تكون أرسطوطالية أو بوذية أو مسيحية أو كونفوشيوسية أو فاشية أو نيتشوية‬
‫أو إسربطية‪ ،‬وغري ذلك‪ .‬رأينا يف الفصول السابقة أن حرب املعلومات ليست سوى جزء‬
‫(٭) خدمة بريدية صغرية عالية الكفاءة ظهرت يف الغرب األمرييك يف القرن التاسع عرش‪ ،‬قبل ظهور التلغراف‪.‬‬
‫[املحرر]‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫من ثورة املعلومات‪ ،‬التي أيضا تؤثر يف فهمنا لذاتنا بوصفنا كائنات حية معلوماتية‪.‬‬
‫نأخذ عىل سبيل املثال فضيلة الشجاعة التقليدية‪ ،‬فبأي مفهوم ميكن للشخص أن‬
‫يكون شجاعا عندما يقوم مبناورة من ُبعد مع روبوت عسكري؟ هل حقا تبقى‬
‫الشجاعة تحتل مرتبة عالية للغاية بني الفضائل عندما سوف تبدو السمة األكرث‬
‫أهمية يف شخصية الجندي هي القدرة عىل تقييم وإدارة املعلومات والعمل مبقتضاها‬
‫بحكمة وعىل وجه الرسعة؟‬
‫أسئلة مامثلة يبدو أنها تدعو إىل تنظري جديد‪ ،‬فبدال من مجرد تطبيق أو تكييف‬
‫األفكار القدمية‪ .‬فقد أحدثت تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت تغريات جذرية‬
‫سواء يف كيفية نشأة الرصاعات يف املجتمعات أو يف كيفية إدارتها لهذه الرصاعات‪ .‬يف‬
‫الوقت نفسه‪ ،‬هناك نقص سيايس ومفاهيمي‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬اعتزمت وزارة الدفاع‬
‫األمريكية استبدال ثلث مركباتها املدرعة وأسلحتها بروبوتات بحلول العام ‪،2015‬‬
‫لكنها التزال تفتقر إىل ميثاق أخالقي لنرش هذه األسلحة الجديدة شبه الذاتية(‪.)22‬‬
‫هذه قضية عاملية‪ .‬إن قمة براغ ‪ 2002‬كانت مبنزلة عالمة ملحاولة الناتو األوىل لتناول‬
‫أنشطة الدفاع السيرباين؛ وبعد ميض خمس سنوات‪ ،‬يف العام ‪ ،2007‬كان هناك‬
‫بالفعل ‪ 42‬دولة تعتمد يف نشاطها الحريب عىل الروبوتات العسكرية‪ ،‬بينها إيران‬
‫والصني وروسيا البيضاء وباكستان(‪ ،)23‬لكن ال توجد حتى مسودة اتفاق دويل بشأن‬
‫أخالقيات نرشها‪ .‬هناك حاجة ماسة إىل مزيد من التحليل الوصفي واملفاهيمي ملثل‬
‫هذا املجال الحيوي لألخالقيات التطبيقية‪ ،‬ومزيد من التقييم لفعالية التدابري األولية‬
‫التي ا ُّتخذت للتعامل مع التطبيق املتزايد لتكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫يف النزاعات املسلحة‪ .‬املسألة ال ميكن أن تكون أكرث إلحاحا‪ ،‬وهناك تصاعد رسيع‬
‫للشعور باالحتياج إىل تشارك املعلومات والتنسيق بشأن التنظري األخالقي‪ .‬ينبغي أن‬
‫تكون األهداف هي تشارك املعلومات واآلراء بشأن الوضع الحايل ألخالقيات حرب‬
‫املعلومات‪ ،‬ووضع إطار شامل لتفسري واضح للجوانب الجديدة للحرب السيربانية‪،‬‬
‫وبناء توافقات حاسمة بشأن أخالقيات نرش األسلحة اإللكرتونية‪ ،‬وإرساء األساس‬
‫لنهج أخالقي لحرب املعلومات‪ .‬نحن جربنا األسلحة الكيميائية‪ ،‬وبخاصة أثناء الحرب‬
‫العاملية األوىل‪ ،‬واألسلحة البيولوجية‪ ،‬وتحديدا أثناء الحرب الصينية‪-‬اليابانية (‪-1931‬‬
‫‪ .)1945‬ويف العام ‪ ،1925‬أدت النتائج املروعة إىل بروتوكول جنيف الذي يحظر‬
‫‪249‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫استخدام األسلحة الكيميائية والبيولوجية‪ .‬ويف العام ‪ ،1972‬حظرت اتفاقية األسلحة‬


‫البيولوجية والسامة (‪ )BWC‬تطوير وإنتاج وتخزين األسلحة البيولوجية‪ .‬بعد ذلك‬
‫متكنا من كبح جامح استخدامها‪ ،‬وأظهرنا قدرا يعتد به من االحرتام التفاقية األسلحة‬
‫البيولوجية‪ .‬يشء مامثل حدث مع األسلحة النووية‪ .‬ونأمل أن نشهد‪ ،‬يف القريب‬
‫العاجل‪ ،‬تنظيام وتقييدا مامثلني‪ ،‬لحرب املعلومات واألسلحة اإللكرتونية‪ ،‬من دون‬
‫الحاجة إىل أن نتلقى أي درس رهيب ومأساوي‪.‬‬
‫دعونا نعد إىل األفيال‪ .‬أثناء الحرب األهلية‪ ،‬يف معركة تابسوس (يف العام ‪ 46‬قبل‬
‫امليالد) ‪ ،Battle of Thapsus‬كان الفيلق الخامس ليوليوس قيرص مسلحا بالفؤوس‪،‬‬
‫وكان ُمكلفا برضب أرجل أفيال العدو‪ .‬صمد الفيلق للمهمة‪ ،‬وأصبح الفيل رمزا له‪.‬‬
‫من املثري لالهتامم أنه مل يكن أحد يف ذلك الوقت يتصور حتى أنه قد تكون هناك‬
‫مشكلة أخالقية يف التعامل مع الحيوانات بوحشية‪ .‬ينبغي علينا استرشاف املستقبل‪،‬‬
‫ألن التاريخ أحيانا يكون فظا بعض اليشء‪ ،‬ويحب أن يكرر نفسه‪ .‬يف الوقت الذي‬
‫يشهد منوا مطردا يف البحث والتطوير املعنيني باألسلحة واالسرتاتيجيات القامئة عىل‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬ينبغي أن نتعاون عىل تحديد‪ ،‬ومناقشة‪ ،‬وإيجاد‬
‫حل للصعوبات األخالقية غري املسبوقة التي تمُ َيز الحرب السيربانية‪ .‬وهذا أبعد ما‬
‫يكون عن كونه سابقا ألوانه‪ .‬رمبا نرغب يف النظر يف االرتقاء مبا لدينا من نظريات‬
‫أخالقية قدمية عن طريق تطوير أفكار جديدة‪ ،‬بدال من تحديثها مبزيد ومزيد من حزم‬
‫الخدمات‪ .‬مثل االستخدامات املدنية للروبوتات التي صادفناها يف الفصل السادس‪،‬‬
‫فإن حرب املعلومات تستدعي أخالقيات املعلومات‪ .‬بعد كل يشء‪ ،‬فإن مؤسسة آي‬
‫روبوت ‪ iRobot‬تنتج كال من «روومبا ‪ »700‬التي تقوم بتنظيف األرضيات وكذلك‬
‫«محارب آي روبوت ‪ »iRobot 710 Warrior 710‬الذي ُيفكك متفجرات أعدائك‪.‬‬

‫الخالصة‬
‫قبل ستة آالف سنة‪ ،‬شهدت البرشية اخرتاع الكتابة وبزوغ الظروف التي ميكن أن‬
‫تؤدي إىل املدن‪ ،‬واملاملك‪ ،‬واإلمرباطوريات‪ ،‬والدول ذات السيادة‪ ،‬واألمم‪ ،‬واملنظامت‬
‫الحكومية الدولية‪ .‬ومل يكن هذا من قبيل املصادفة‪ .‬مل تعرف مجتمعات ما قبل‬
‫التأريخ تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬كام أنها مل تعرف الدولة‪ .‬الدولة ظاهرة‬
‫‪250‬‬
‫السياسة‪ :‬ازدهار األنظمة متعددة الوكالء‬

‫تأريخية منوذجية‪ ،‬تنشأ عندما تكف الجامعات البرشية عن الوجود يف مجتمعات‬


‫صغرية وعن العيش عىل ما يسد الرمق‪ ،‬من اليد إىل الفم‪ ،‬لتبدأ العيش من الفم‬
‫إىل اليد‪ .‬عندئذ تصري التجمعات الكبرية مجتمعات سياسية‪ ،‬ويجري تقسيم العمل‬
‫وتخصيص األدوار‪ ،‬وإخضاعها للسلطة التنظيمية لشكل من أشكال الحكم‪ ،‬يدير‬
‫املوارد بالسيطرة عىل تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬وبينها ذلك النوع الخاص‬
‫من املعلومات الذي يسمى «املال»‪ .‬كانت الدولة لفرتة طويلة هي الوكيل األساس‬
‫للمعلومات‪ ،‬من الرضائب إىل الترشيعات‪ ،‬ومن إقامة العدل إىل القوة العسكرية‪،‬‬
‫ومن اإلحصاء السكاين إىل البنية التحتية االجتامعية‪ ،‬ومن ثم فالتأريخ‪ ،‬وبصفة خاصة‬
‫التحديث‪ ،‬هو عمر الدولة‪.‬‬
‫يف املنتصف تقريبا‪ ،‬بني بداية التأريخ وحتى اآلن‪ ،‬كان أفالطون بصدد محاولة‬
‫فهم التغريين الجذريني‪ :‬ترميز الذكريات من خالل الرموز املكتوبة‪ ،‬والتفاعالت‬
‫التكافلية بني الفرد ودولة املدينة ‪ .polis-state‬ويف غضون خمسني عاما من اآلن‪ ،‬قد‬
‫ينظر أحفادنا إلينا عىل أننا آخر األجيال التأريخية التي نظمتها دولة‪ ،‬ليس باختالف‬
‫كبري عن الطريقة التي ننظر نحن بها إىل قبائل األمازون املذكورة يف الفصل األول‪،‬‬
‫باعتبارها آخر مجتمعات ما قبل التأريخ عدمية الدولة‪ .‬رمبا متر فرتة طويلة قبل أن‬
‫نصل إىل فهم كامل ملثل هذه التحوالت‪ .‬وهذه مشكلة‪ ،‬فليس أمامنا ستة آالف‬
‫سنة أخرى‪ .‬نحن نخوض مخاطرة تكنولوجية محسوبة مع تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت‪ ،‬وليس لدينا سوى وقت قصري للفوز يف املباراة البيئية‪ ،‬ألن مستقبل كوكبنا‬
‫عىل املحك‪ ،‬كام سأناقش يف الفصل التاسع‪.‬‬

‫‪251‬‬
318
‫البيئة‪ :‬اخملاطرة الرقمية‬

‫‪9‬‬

‫البيئة‪ :‬اخملاطرة الرقمية‬

‫تكاليف ومخاطر عرص األنرثوبوسني‬


‫التحول من التأريخ إىل التأريخ ا ُملفرط‪،‬‬
‫وبناء وتفسري اإلنفوسفري‪ ،‬والعيش يف حياة‬
‫دامئة االتصال (أوناليف ‪ ،)Onlife‬وتغليف‬
‫العامل‪ ،‬كل هذه التغريات الهائلة تتطلب‬
‫كميات من الطاقة ال ميكن تخيلها‪ .‬والبرشية‬
‫تعدل الكوكب برمته ليتناسب مع احتياجاتها‬
‫ورغباتها وتوقعاتها‪ ،‬ويلبيها‪ ،‬شأنها يف ذلك شأن‬
‫الدمييورج (أو الدميي إيرج) ‪ ،demiurge‬الذي‬
‫ال ُيخلق ولكن ُي َشكل(٭)‪ .‬يف الفصل األول‪ ،‬رأينا‬
‫أننا كنا نفعل هذا طوال آالف السنني‪ ،‬كم سنة‬
‫تحديدا هو محل خالف علمي‪ ،‬ولكن هناك‬ ‫«القول بوجود تكنولوجيات خالية‬
‫اتفاقا كبريا بني علامء الجيولوجيا عىل أن التأثري‬ ‫من املخاطر هو إرداف ُخ ْلفي‪ ،‬وهذا‬
‫ما تظل تذكرنا به‪ ،‬عىل نحو مؤمل‪،‬‬
‫الكوارث واألزمات املؤثرة يف صناعة‬
‫(٭) وفقا للفلسفة األفالطونية‪[ .‬املحرر]‪.‬‬ ‫الطاقة»‬

‫‪253‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫الكبري الذي سببناه يف النظم اإليكولوجية لألرض يجب أن يمُ يز باعتامد وحدة‬
‫رسمية جديدة من تقسيامت الحقب الجيولوجية‪ ،‬أال وهي «األنرثوبوسني»(‪.)1‬‬
‫حتى اآلن‪ ،‬يبدو أن «األنرثوبوسني» هو قصة نجاح إىل حد ما‪ .‬عىل رغم‬
‫ذلك‪ ،‬فقد جاء هذا النجاح بتكاليف بيئية عالية عىل نحو متزايد‪ ،‬والبعض منها‬
‫أصبح يف اآلونة األخرية يفوق االحتامل وغري مستدام‪ .‬يف الوقت الحايل‪ ،‬فإن تطور‬
‫اإلنفوسفري يهدد رفاهية الغالف الحيوي‪ ،‬وهذا هو الخطر الذي ال مفر منه‪،‬‬
‫لكنه من دون شك ينبغي أن ُيدار بأمان أكرث‪ ،‬وميكن أن ُيدار كله بنجاح تام‪ ،‬كام‬
‫سأناقش اآلن‪.‬‬
‫تؤدي التكنولوجيات إىل تقليل القيود وتوسيع الفرص‪ .‬بذلك‪ ،‬فإنها باستمرار‬
‫ُتعيد تصميم مساحة نفع الوكالء (العنارص الوسيطة) الذين يتمتعون بها‪ ،‬وتزيد‬
‫من درجات حريتهم‪ .‬كلام أصبحت التكنولوجيات أكرث تأهيال أو متكينا‪ ،‬كان‬
‫من املرجح أكرث أن تؤدي إىل تغيري طبيعة ونطاق املخاطر التي قد تجلبها‪،‬‬
‫سواء من حيث النتائج غري املرغوب فيها (األرضار املحتملة أو الخسائر) أو من‬
‫حيث النتائج املرجوة الفائتة (الفوائد واملزايا املتوقعة‪ ،‬وما يسميه االقتصاديون‬
‫تكلفة الفرصة البديلة)‪ .‬نتيجة لذلك‪ ،‬فالتكنولوجيات أيضا‪ ،‬وبحكم طبيعتها‪،‬‬
‫متيل إىل إعادة تصميم مساحة املخاطر املناظرة التي يعمل ويتفاعل فيها‬
‫الوكالء (العنارص الوسيطة)‪ .‬مثلام نصنع سلسلة من الدمى الورقيـــة‪ ،‬يبـــدو‬
‫أن التكنولوجيـــات ال ميكنها أن تشكل القيود والفرص الفعلية من دون أن‬
‫تشكل أيضا املخاطر املقابلة‪ ،‬السلبية (النتائج املرجوة الفائتة) واإليجابية (النتائج‬
‫املحتملة غري املرغوب فيها) عىل حد سواء‪ .‬لذلك‪ ،‬فالقول بوجود تكنولوجيات‬
‫خالية من املخاطر هو إرداف ُخ ْلفي لفظي(٭)‪ ،‬هذا ما تظل تذكرنا به‪ ،‬عىل نحو‬
‫مؤمل‪ ،‬الكوارث واألزمات املؤثرة يف صناعة الطاقة‪ .‬عىل الرغم من ذلك‪ ،‬ال ينبغي‬
‫أن تكون الطبيعة الخطرة املتأصلة يف جوهر التكنولوجيات سببا لليأس‪ .‬ألن‬
‫التكنولوجيات ميكنها أيضا تقليل مساحة املخاطر وجعلها قابلة لإلدارة أكرث‪ ،‬وهذا‬
‫أساس لبعض التفاؤل الحذر‪ .‬دعني أرشح‪.‬‬
‫(٭) اإلرداف الخلفي ‪ cxymoron‬هو الجمع بني نقيضني يف عبارة مثل «القصري الطويل»‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫البيئة‪ :‬اخملاطرة الرقمية‬

‫مبرور الوقت‪ ،‬فإن الدورة البسيطة نوعا ما لتقليل القيود‪ ،‬وتزايد الفرص‪ ،‬وما‬
‫يناظرها من مخاطر جديدة تحول مجموعة املجازفني إىل مجموعة فرعية منبثقة‬
‫من مجموعة أكرب بكثري من املعرضني للمخاطر أو املعنيني باألمر‪ .‬بالنظر إىل خطر‬
‫محدد‪ ،‬فإن جميع املجازفني (أولئك الذين يختارون خيارا محفوفا باملخاطر) هم‬
‫املعرضون للمخاطر (املترضرون من املخاطر التي ترتتب عىل ذلك االختيار)‪ ،‬لكن‬
‫العديد من املعرضني للمخاطر ليسوا مجازفني‪ .‬إن تعريف من يقود عربة خفيفة‬
‫ذات أربع عجالت عىل أنه هو املجازف الوحيد وا ُملعرض للمخاطر نفسها ذات‬
‫الصلة يبدو بالفعل أمرا مستحيال‪ ،‬إىل درجة أنه حتى يف روما القدمية‪ ،‬كانت هناك‬
‫قوانني تنظم سلوك السري والقيادة‪ .‬عندما نأخذ يف االعتبار سائق سيارة أجرة‪،‬‬
‫فإن مثل هذا التداخل التام بني املجازف وا ُملعرض للمخاطر يصبح غري معقول‪ .‬يف‬
‫الوقت الحايل‪ ،‬يف مجتمعات منظمة سياسيا‪ ،‬يسعى املعرضون للمخاطر إىل حامية‬
‫أنفسهم من عواقب ترصفات املجازفني من خالل أنظمة للوائح بشأن معايري‪،‬‬
‫وبروتوكوالت‪ ،‬وتراخيص‪ ،‬وضوابط‪ ،‬ورشوط االنتشار‪ ،‬واستخدام سليم‪ ،‬وتدابري‬
‫سالمة‪ ،‬وتأمينات‪ ،‬وغري ذلك‪ .‬حاملا تصري مثل هذه اللوائح ترشيعات رسمية‪ ،‬ميكن‬
‫أن تعتمد إدارة املخاطر عىل نظم قانونية وتكنولوجيات سالمة من أجل تأسيس‬
‫قيود وتوفري فرص تطوير أو استخدام التكنولوجيا‪ ،‬بينام تقلل املخاطر التي تنطوي‬
‫عليها‪ .‬كال األمرين يعمل يف االتجاه نفسه وكالهام ميكن أن ينظر إليه عىل أنه جزء‬
‫من الحل‪ .‬إن النظم القانونية وتكنولوجيات السالمة يشكالن معا ما ميكن تسميته‬
‫التكنولوجيات الفوقية‪ ،‬وهي نوع من تكنولوجيات الرتبة الثانية أو الرتبة الثالثة‬
‫التي تعمل عىل (أكرث منها مع) التكنولوجيات األخرى وتنظمها‪.‬‬
‫وليست فكرة استخدام بعض التكنولوجيات الفوقية لتنفيذ استخدام‬
‫تكنولوجيات أخرى بشكل آمن وفعال واقتصادي فكرة جديدة‪ .‬لقد تم بالفعل‬
‫التنظري لها يف الثامنينيات‪ ،‬يف أعقاب حادث ثري مايل آيالند ‪Three Mile‬‬
‫‪ ،Island‬الذي وقع يوم ‪ 28‬مارس ‪ 1979‬يف والية بنسلفانيا‪ ،‬إذ حدث انصهار جزيئ‬
‫لقلب املفاعل النووي‪ .‬يف الواقع‪ ،‬ميكن القول إن أول جهاز تحكم‪ ،‬صممه جيمس‬
‫وات )‪ James Watt (1819 - 1736‬يف العام ‪ ،1788‬كان بالفعل مثاال كالسيكيا‬
‫لتكنولوجيا فوقية من الرتبة الثانية است ُْخ ِدم لتنظيم كمية الوقود املستخدمة‬
‫‪255‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫داخل املحرك‪ ،‬ومن ثم الحفاظ عىل رسعته ثابتة قدر اإلمكان‪ .‬عىل رغم ذلك‪،‬‬
‫ما يدور يف ذهني هنا هو يشء أكرث عمومية نوعا ما‪ .‬إنه منظور يحتم فهم‬
‫التكنولوجيا الفوقية عىل أنها تضم ليس فقط التكنولوجيات ذات الصلة التي تنظم‬
‫التكنولوجيات املالمئة التي تطبق عليها‪ ،‬ولكنها أيضا تضم القواعد‪ ،‬واالتفاقيات‪،‬‬
‫والقوانني‪ ،‬وبشكل عام الظروف السياسية االجتامعية التي تنظم بحوث وتطوير‬
‫التكنولوجيا وما يرتتب عىل ذلك من استخدام أو تطبيق للتكنولوجيات‪ .‬وهذا‬
‫املفهوم الواسع للتكنولوجيا الفوقية هو الذي يقدم األساس سالف الذكر لبعض‬
‫التفاؤل الحذر‪ ،‬باملفهوم التايل‪.‬‬
‫لنأخذ يف االعتبار أوال املخاطر السلبية املحتملة‪ ،‬أي النتائج املرجوة الفائتة‬
‫للتكنولوجيا‪ .‬قسم كبري من اقتصاد املعلومات أصبح ممكنا بفضل تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت التي تعمل أيضا كتكنولوجيات فوقية‪ ،‬وبذلك فهي متكن‬
‫الوكالء (العنارص الوسيطة) من تحديد املنافع واستغالل الفرص‪ .‬باملثل‪ ،‬ميكن‬
‫للترشيعات‪ ،‬بوصفها تكنولوجيا فوقية‪ ،‬أن تتعامل مع املخاطر السلبية من خالل‬
‫تقديم حوافز للوكالء (العنارص الوسيطة) ليك يصريوا ُمجازفني محتملني‪ .‬أملانيا‬
‫هي مثال جيد‪ .‬فبسبب الدعم الشميس‪ ،‬أصبحت سوق الطاقة الشمسية يف أملانيا‬
‫األكرب يف العامل حتى اآلن بإجاميل قدرة يعادل ‪ 40‬يف املائة من اإلجاميل العاملي يف‬
‫العام ‪ .2011‬من املسلم به‪ ،‬أن املخاطر املعروفة تشبه األمل بعض اليشء‪ ،‬إذ إنها‬
‫رمبا تكون غري ُم َرحب بها‪ ،‬لكنها غالبا ما تشري إىل وجود بعض املشاكل املهمة‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالحوافز تشبه مسكنات األمل‪ ،‬ينبغي أن ُترصف بحذر‪ ،‬إذ قد تكون لها‬
‫آثار جانبية خطرية‪ ،‬من حيث إخفاء مشاكل قدمية‪ ،‬أو تأخري حلولها‪ ،‬أو إحداث‬
‫مشاكل جديدة‪ .‬يف حالة األلواح الشمسية‪ ،‬عدلت أملانيا يف العام ‪ 2012‬القانون‬
‫الخاص بتعريفة التغذية إلبطاء تسارع النمو يف إنشائها بسبب التكاليف املالية‬
‫والتأثريات التي تؤدي إىل تشوه سوق الطاقة‪ .‬باملثل‪ ،‬ومن منظور بيئي‪ ،‬من املهم‬
‫أن نتذكر أن خمسة من أكرب عرشة صناع أللواح الطاقة الشمسية يف العامل هم‬
‫من الصني‪ ،‬التي هيمنت عىل ‪ 40‬يف املائة من السوق العاملية يف العام ‪.2010‬‬
‫لألسف‪ ،‬لد ا ْن ُت ِقدت الصناعة الصينية مرارا وتكرارا نظرا إىل سجلها السيئ يف‬
‫ظروف العمل‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ ،‬واالعتبارات البيئية‪ .‬ميكن متديد تحليل مامثل‬
‫‪256‬‬
‫البيئة‪ :‬اخملاطرة الرقمية‬

‫للعديد من الحاالت األخرى‪ ،‬مثل استدامة اإليثانول املستخرج من الذرة‪ ،‬والوقود‬


‫االصطناعي الناتج عن تسييل الفحم‪ ،‬أو الغاز املستخرج من خالل التصديع‬
‫الهيدرولييك (‪ .)fracking‬حتى اآلن‪ ،‬ال ينبغي أن يتسبب كل هذا يف أن ُنصاب‬
‫باإلحباط‪ .‬إذا تم تداول الحوافز بحرص‪ ،‬فرمبا تتحول إىل استثامرات رشيدة‪،‬‬
‫وتقيم الجرس األسايس املطلوب إذا ما انتقلت صناعة الطاقة من مصادر ُم َل ِّوثة‬
‫إىل مصادر أنظف ومتجددة‪ .‬رمبا يكون املسار ضيقا‪ ،‬لكن هــذا ال يعنـــي أنه‬
‫ال يستحق عناء السعي‪ .‬فقد يكون السبيل الوحيد الذي يعزز الحاجة ا ُمل ِل َّحة إىل‬
‫اتخاذ الخطوات الصحيحة‪.‬‬
‫ولنأخذ يف االعتبار بعد ذلك املخاطر اإليجابية املحتملة‪ ،‬أي النتائج غري املرغوب‬
‫فيها التي تنشأ من التكنولوجيا‪ .‬عادة ما يكون النهج الترشيعي للتكنولوجيا‬
‫الفوقية يف أفضل حاالته‪ ،‬ليس عندما يوفر قدرات من خالل تقديم حوافز ملعادلة‬
‫املخاطر السلبية‪ ،‬ولكن عندما يفرض قيودا عن طريق فرض رادع (حوافز سلبية)‬
‫ملواجهة املخاطر اإليجابية‪ ،‬أي عندما نركز عىل األشياء التي ال نفعلها أكرث مام نركز‬
‫عىل األشياء التي نفعلها‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬يكون املسار أكرث اتساعا‪ ،‬ويمُ َ َّثل بأربع‬
‫اسرتاتيجيات رئيسية هي‪ :‬الوقاية‪ ،‬والتقييد‪ ،‬واإلصالح‪ ،‬والتعويض‪.‬‬
‫الوقاية (املنع)‪ُ .‬م َجددا‪ ،‬ال توجد اسرتاتيجية للتكنولوجيا الفوقية مؤكدة‬
‫النجاح‪ .‬رمبا تكون الوقاية متشددة للغاية عندما تفرض حظرا كامال عىل تكنولوجيا‬
‫معينة‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬كانت إيطاليا يف السبعينيات واحدة من ُأوليات الدول‬
‫التي اعتمدت الطاقة النووية‪ ،‬وكانت ثالث أكرب منتج يف العامل‪ ،‬ولكن استفتاء‬
‫ُأجري يف العام ‪ ،1987‬بعد كارثة تشرينوبيل (‪ )1986‬مبارشة‪ ،‬أسفر عن التخلص‬
‫التدريجي من جميع املحطات القامئة‪ ،‬ما تسبب يف زيادة االعتامد عىل واردات‬
‫الطاقة وما استتبعه من ارتفاع يف أسعار الكهرباء أعىل كثريا من متوسط األسعار‬
‫يف االتحاد األورويب‪ .‬ال غرابة يف أن البالد أعادت النظر يف إمكانية بناء محطات‬
‫نووية‪ ،‬عندما أدت الكارثة النووية فوكوشيام دايتيش يف العام ‪ 2011‬إىل وقف‬
‫العملية السياسية (املزيد عن هذا فيام ييل)‪ .‬يف النهاية‪ ،‬تشرتي إيطاليا الكهرباء‬
‫من جارتها فرنسا‪ ،‬التي تنتج ما يقرب من ‪ 80‬يف املائة من الطاقة الكهربائية من‬
‫خالل شبكتها النووية‪.‬‬
‫‪257‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫التقييد واإلصالح‪ .‬رمبا تفهم الوقاية النسبية عىل أنها التدابري التي تسمح‬
‫بتطور تكنولوجيا ما وإن كانت تسعى إىل منع املخاطر‪ ،‬أو عىل األقل الحد منها‪،‬‬
‫بدرجة ما‪ ،‬مثل نظام منع انغالق املكابح ‪ .ABS‬ومتثل الوقاية‪ ،‬وتقييد النتائج غري‬
‫املرغوب فيها التي حدثت بالفعل وإصالحها‪ ،‬عندما تفشل الوقاية‪ ،‬اسرتاتيجيات‬
‫التكنولوجيا الفوقية التي تسمح بالتدرج‪ .‬وهذا يعني أنها ميكن ضبطها بدقة‬
‫أكرب‪ .‬كلام ازدادت مرونة مثل هذه االسرتاتيجيات‪ ،‬ازداد ميلها إىل االعتامد عىل‬
‫التنسيق املالئم بني الترشيعات ذات الصلة وبني الحلول التكنولوجية املتعلقة‬
‫بالسالمة‪ .‬عىل الرغم من ذلك‪ ،‬اليزال من املمكن أن يفشل كالهام‪ .‬عىل سبيل‬
‫املثال‪ ،‬يف ‪ 11‬مارس ‪ ،2011‬يف أعقاب الزلزال والتسونامي اللذين حدثا يف توهوكو‪،‬‬
‫ُأو ِقف خالل دقيقتني تشغيل ‪ 16‬محطة نووية (مبا يف ذلك فوكوشيام) يف اليابان‬
‫بسبب ترضرها من الزلزال‪ ،‬مع بدء إجراءات التربيد بشكل فوري وصحيح‪ .‬كان‬
‫ذلك دليال عىل مرونة استثنائية من شأنها أن تسمح لجميع محطات الطاقة‬
‫النووية‪ ،‬تقريبا‪ ،‬بأن تنجو من مثل هذه الكارثة الطبيعية الكربى من دون أن‬
‫يلحق بها أذى‪ .‬اتباعا للترشيعات السائدة‪ ،‬كانت محطة فوكوشيام محمية بحاجز‬
‫بحري مصمم لتحمل موجة بارتفاع ‪ 5.7‬مرت (‪ 19‬قدما)‪ ،‬ولكن املوجة التي رضبتها‬
‫كانت بارتفاع نحو ‪ 14‬مرتا (‪ 46‬قدما)‪ ،‬وبسهولة أغرقت مبنى املولد‪ .‬واملشاكل‬
‫واملخاطر الناشئة عن ذلك كانت ناتجة عن فشل األمان بقدر ما كانت نتيجة‬
‫إلخفاق النظم الترشيعية التكنولوجية الفوقية‪ .‬يف العام ‪ ،2012‬خلصت لجنة‬
‫برملانية يابانية إىل أن أزمة محطة فوكوشيام النووية كانت «بشكل كبري كارثة من‬
‫صنع اإلنسان»(‪ .)2‬عىل رغم ذلك‪ ،‬النقطة الحاسمة يف جميع هذه الحاالت هي‬
‫أن ندرك أن تزايد النتائج غري املرغوب فيها يتطلب أكرث من أي وقت مىض املزيد‬
‫من تكنولوجيات فوقية متقدمة‪ ،‬واسترشافية‪ ،‬ومتطورة (ترشيعات وتكنولوجيات‬
‫السالمة)‪ .‬هنا ميكن للتصميم الجيد أن يحدث فارقا كبريا‪ ،‬عن طريق خفض‬
‫احتامالت حدوث نتائج غري مرغوب فيها‪ ،‬وعن طريق تضمني درجات مرونة‬
‫عالية ميكن أن تخفف من آثار مثل هذه النتائج غري املرغوب فيها عندما تحدث‪.‬‬
‫إن ثاين أسوأ يشء بعد إخفاق النظام‪ ،‬هو أن يكون النظام غري قادر عىل التعامل‬
‫بنجاح مع إخفاقه‪.‬‬
‫‪258‬‬
‫البيئة‪ :‬اخملاطرة الرقمية‬

‫التعويض‪ .‬هذه االسرتاتيجية الرابعة للتكنولوجيا الفوقية أيضا رمبا تكون غري‬
‫ناجحة‪ ،‬إذا ما ُصممت بشكل سيئ‪ .‬ليست التعويضات اسرتاتيجيات ملواجهة‬
‫النتائج غري املرغوب فيها للتكنولوجيا‪ ،‬بنفس مفهوم أن التأمني عىل املنزل ليس‬
‫وسيلة ملواجهة مخاطر الحريق‪ .‬كام أنه ينبغي أال ينظر إليها عىل أنها رادعة‪ .‬إذا‬
‫كان هذا هو الهدف‪ ،‬فقد يكون من الرضوري للترشيعات أن تحظر التكنولوجيا‬
‫املعنية‪ ،‬أو ُتعد نظاما للغرامة واحتساب النقاط تكون فيه السلطة الدولية‬
‫ذات الصلة‪ ،‬عىل سبيل املثال الوكالة الدولية للطاقة الذرية‪ ،‬مخولة بإصدار‬
‫الغرامات وسحب الرتاخيص من العنارص (الوكالء) املتسببة يف الخسائر أو‬
‫األرضار الناجمة عن أخطائهم التكنولوجية‪ .‬قارن هذا مع النظم القانونية لبعض‬
‫البلدان التي مبقتضاها متنح السلطة املختصة تراخيص قيادة السيارات بسحب‬
‫تراخيص السائقني املدانني بارتكاب مخالفات مرورية‪ .‬إن التعويضات هي وسيلة‬
‫إلدارة التكاليف من قبل (قسط التأمني) أو من بعد (سداد التعويض) إخفاق‬
‫التكنولوجيا‪ .‬وميكن أن تكون التعويضات‪ ،‬أيضا‪ ،‬محدودة الفعالية‪ ،‬إن مل ُتعاير‬
‫بحرص‪ .‬يف العام ‪ ،1990‬بعد الترسب البرتويل من الناقلة إكسون فالديز ‪Exxon‬‬
‫‪ Valdez‬يف أالسكا‪ ،‬أقر الكونغرس األمرييك قانون التلوث البرتويل من أجل جعل‬
‫أصحاب عقود إيجار أو تصاريح املنشآت البحرية يلتزمون بسداد ما يقرب من‬
‫‪ 75‬مليون دوالر أمرييك لكل ترسب‪ ،‬باإلضافة إىل تكاليف اإلزالة‪ .‬رمبا يبدو هذا‬
‫سقفا معقوال للتعويض يف ذاك الوقت‪ .‬مع ذلك‪ ،‬وعىل الرغم من حقيقة أن‬
‫التحديد الدقيق لألرضار الناجمة عن انفجار منصة الحفر ديب واتر هورايزن‬
‫‪ Deepwater Horizon‬يف ‪ 20‬أبريل ‪ 2010‬اليزال مجهوال‪ ،‬فمن الواضح أن‬
‫تكاليف املطالبات االقتصادية الخاصة واملوارد الطبيعية العامة تتجاوز بكثري‬
‫سقف الـ ‪ 75‬مليون دوالر أمرييك املنصوص عليه يف الترشيع املتعلق بالترسب‬
‫النفطي‪ .‬نأخذ يف االعتبار أن تكاليف اإلرضار باملوارد الطبيعية ومطالبات أطراف‬
‫القطاع الخاص يف حالة إكسون فالديز التي هي أصغر بكثري‪ ،‬قد بلغت ‪ 2.3‬مليار‬
‫دوالر أمرييك‪ .‬لذلك‪ ،‬فاملطلوب هو إعادة النظر يف تصميم مثل هذا الترشيع‪،‬‬
‫وهذا هو السبب يف أن البيت األبيض سعى بشكل صحيح إىل رفع الحد األقىص‬
‫بعد كارثة ديب ووتر هورايزون‪ ،‬يف حني تعهدت «بريتش برتوليوم ‪ »BP‬بالتنازل‬
‫‪259‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫عنها‪ ،‬رمبا يف محاولة لتجنب املدفوعات األعىل بسبب انتهاكات قواعد السالمة‬
‫واألمان(‪.)3‬‬
‫بطبيعة الحال‪ ،‬ومع مواجهة املخاطر اإليجابية والسلبية للتكنولوجيات‪ ،‬فإن كال‬
‫من الترشيع وتكنولوجيات السالمة رمبا اليزاالن يواجهان مخاطر إيجابية وسلبية‬
‫خاصة بهام‪ .‬لكن ال توجد هنا مشكلة ارتداد ال نهايئ ‪،regressus ad infinitum‬‬
‫نظرا إىل أن مواجهة مخاطر التكنولوجيا الفوقية مل تعد مشكلة تكنولوجية‪ ،‬ولكن‬
‫مشكلة أخالقية‪ .‬ما الذي مننحه كامتياز؟ وكيف تجد وتخصص املوارد املحدودة؟‬
‫ما املخاطر التي ُتدار؟ ومن الذي يديرها؟ وما املخاطر التي تعد مقبولة؟ ومن‬
‫يعتربها مقبولة؟ وبالنظر إىل مصلحة من؟ هذه األسئلة وما مياثلها ال توجد لها‬
‫إجابات غري مثرية للجدل‪ ،‬وهي ليست أسئلة تكنولوجية‪ .‬إنها مشاكل مل تحسم‬
‫وص ُبورا‪ ،‬وعقال متفتحا‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬تحتاج‬
‫بعد‪ ،‬وتتطلب نقاشا مستنريا‪ ،‬ومتزنا‪َ ،‬‬
‫إىل أسلوب فلسفي‪.‬‬
‫بشكل واضح‪ ،‬ليست هناك تكنولوجيات بال مخاطر‪ ،‬وال حتى يف نهج أسلوب‬
‫حياة اآلميش ‪ ،Amish-style‬ألن التكنولوجيات رفعت حد املستطاع (املمكن)‪،‬‬
‫وهذا ال محالة يجلب بعض املخاطر‪ .‬فالتكنولوجيات الوحيدة اآلمنة متاما هي تلك‬
‫التي ال ُتبنى‪ .‬كذلك‪ ،‬ليس هناك أي حلول إلدارة املخاطر التكنولوجية بال تكلفة‪.‬‬
‫لكن من الواضح أيضا أن هناك أساليب تكنولوجية فوقية ملواجهة املخاطر الكامنة‬
‫يف أي تكنولوجيا بشكل ناجح‪ .‬وهنا تصبح تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‬
‫الذكية أمرا أساسيا‪ .‬ينبغي لنا االستثامر أكرث وبشكل أكرث حكمة يف تكنولوجياتنا‬
‫الفوقية‪ :‬التعليم‪ ،‬باعتباره «التكنولوجيا» التي ميكن أن ُتنمي عقول األشخاص‪ ،‬كام‬
‫رأينا يف الفصل الثالث؛ والترشيع‪ ،‬باعتباره «التكنولوجيا» التي ميكن أن ُتحسن‬
‫التعامالت االجتامعية؛ وبالطبع تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت الفوقية املاهرة‬
‫(الفطنة) من الرتبتني الثانية والثالثة‪ ،‬التي تنظم وتراقب التكنولوجيات األخرى‪.‬‬
‫نحن بحاجة إىل كل هذا ألن املستقبل من الناحية التكنولوجية لن يكون إال أكرث‬
‫تعقيدا وصعوبة من املايض‪.‬‬
‫بالطبع اليزال هناك خطر مهم وملموس‪ ،‬وهو باملثل ذو صلة بالزمن‪ .‬نحن‬
‫عندما نطور تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت الذكية التي ميكنها أن تسـاعدنا‬
‫‪260‬‬
‫البيئة‪ :‬اخملاطرة الرقمية‬

‫يف التعامل مع التكاليف البيئية لعرص األنرثوبوسني‪ ،‬فإننا نقوم مبخاطرة‪ ،‬كام سوف‬
‫أوضح يف القسم التايل‪.‬‬

‫املخاطرة‬
‫قد تؤدي تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت الذكية دورا كبريا يف أزمتنا البيئية‬
‫الحالية‪ ،‬ولكن هناك خلال ملحوظا‪ .‬إنها أيضا ميكن أن تكون عالية االستهالك للطاقة‪،‬‬
‫ومن ثم محتمل أن تكون غري صديقة للبيئة‪ .‬كاملعتاد‪ ،‬بعض البيانات املحددة سوف‬
‫تساعد عىل توضيح هذه النقطة‪.‬‬
‫يف العام ‪ ،2012‬استهلكت مستودعات البيانات حول العامل نحو ‪ 30‬مليار وات‬
‫من الكهرباء سنويا‪ .‬هذا يعادل تقريبا الناتج من ‪ 30‬محطة طاقة نووية‪ .‬إلعطاء‬
‫فكرة عن قدر هذا الحجم‪ ،‬فإن مركز بيانات واحد ميكن أن يستهلك طاقة أكرث من‬
‫تلك التي تستهلكها بلدة متوسطة الحجم(‪ .)4‬األمور تتصاعد يف السنوات األخرية‪،‬‬
‫واألمر يتعلق بالكمية الهائلة من البيانات التي ننتجها‪ .‬إن زيتابايت تحتاج إىل‬
‫زيتاوات‪ .‬يف العام ‪ ،2000‬استهلكت مراكز البيانات ‪ 0.6‬يف املائة من كهرباء العامل‪،‬‬
‫وارتفع هذا الرقم ليصل إىل ‪ 1‬يف املائة يف العام ‪ .2005‬يف العام ‪ ،2007‬استأثرت‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت بانبعاث ‪ 830‬مليون طن من ثاين أكسيد‬
‫الكربون‪ ،‬أي نحو ‪ 2‬يف املائة من اإلجاميل التقديري‪ ،‬وهو ما يكاد يكافئ إسهام‬
‫صناعة الطريان‪ .‬وتشري التقديرات إىل أن االنبعاثات ذات الصلة بتكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت سوف تزيد بنسبة نحو ‪ 6‬يف املائة سنويا حتى العام ‪،2020‬‬
‫عندئذ ستتجاوز كثريا البصمة الكربونية للطريان‪ .‬إن تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت يف الوقت الحايل مسؤولة عن انبعاثات سنوية ومن غاز ثاين أكسيد‬
‫الكربون أكرث من االنبعاثات يف األرجنتني أو هولندا(‪ .)5‬ومن غري املستغرب‪ ،‬بناء‬
‫عىل هذا السيناريو‪ ،‬أن العديد من مراكز البيانات يف والية كاليفورنيا ُتدرج ضمن‬
‫قامئة ملوثات الهواء السامة‪ ،‬باعتبارها مصادر رئيسة للتلوث(‪ .)6‬يف العام ‪،2013‬‬
‫اشرتت «غوغل» يف السويد كامل الطاقة املنتجة من مزرعة رياح (‪ 72‬ميغاوات)‬
‫من أجل إمداد الطاقة الالزمة لتشغيل مركز البيانات الفنلندي الخاص بها‪ ،‬وليك‬
‫تسعى إىل البقاء محايدة الكربون(‪.)7‬‬
‫‪261‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫هذه ليست صورة خرضاء‪ ،‬ولكن‪ ،‬نحن نعلم أيضا أن تكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت ميكن أن تكون حليفا رئيسا يف املعركة البيئية‪ .‬قدرت مؤسسة ماكينزي‬
‫أن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت سوف تساعد‬
‫يف التخلص من ‪ 7.8‬غيغا طن مرتي من انبعاثات الغازات املسببة‬
‫لالحتباس الحراري سنويا بحلول العام ‪ ،2020‬أي ما يعادل ‪ 15‬يف املائة من‬
‫االنبعاثات العاملية اليوم‪ ،‬وخمس مرات أكرب من تقديراتنا لالنبعاثات من‬
‫هذه التكنولوجيات يف العام ‪.)8(2020‬‬
‫هذا توازن إيجايب ولكنه أيضا قابل للتحسني أكرث‪ .‬اليزال هناك‪ ،‬وفقا ملؤسسة‬
‫ماكينزي‪ ،‬تحسن طفيف يف االستخدام الفعال للطاقة يف هذه الصناعة بني العامني‬
‫‪ 2006‬و‪ ،2012‬الذي هو مجرد ‪ 6‬يف املائة إىل ‪ 12‬يف املائة من إجاميل الطاقة املستهلكة‪.‬‬
‫جرى بشكل جيد توضيح إيجابيات وسلبيات اآلثار البيئية لتكنولوجيات املعلومات‬
‫واالتصاالت يف تقرير نرشته مجموعة املناخ ‪ The Climate Group‬يف العام ‪،2008‬‬
‫بعنوان «سامرت ‪ :2020‬متكني االقتصاد منخفض الكربون يف عرص املعلومات» ‪SMART‬‬
‫‪.2020: Enabling the Low Carbon Economy in the Information Age‬‬
‫من املتوقع أن تزيد االنبعاثات الخاصة بقطاع تكنولوجيا املعلومات‬
‫واالتصاالت‪ ،‬إذا بقيت الحال عىل ما هي عليه‪ ،‬من ‪ 0.53‬مليار طن مكافئ‬
‫ثاين أكسيد الكربون (‪ )CO2e‬يف العام ‪ 2002‬إىل ‪ 1.43‬مليار طن مكافئ‬
‫ثاين أكسيد الكربون (‪ )GtCO2e‬يف العام ‪ .2020‬ولكن فرصا معينة‬
‫لتكنولوجيا املعلومات واالتصاالت ُح ِّددَت يف هذا التقرير ميكن أن تؤدي‬
‫إىل خفض االنبعاثات بخمسة أمثال قدر البصمة الخاصة بهذا القطاع‪،‬‬
‫وتصل إىل ‪ 7.8‬مليار طن مكافئ ثاين أكسيد الكربون (‪ ،)GtCO2e‬أو ‪ 15‬يف‬
‫املائة من إجاميل انبعاثات العمل كاملعتاد بحلول العام ‪.)9(2020‬‬
‫إن رؤية ما يعنيه كل هذا يكون أسهل بالنظر يف الشكل (‪.)22‬‬
‫النتيجة النهائية هي أننا نقوم مبخاطرة تكنولوجية‪ :‬نحن نعول عىل حقيقة أن‬
‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت تعود بالنفع عىل البيئة بشكل ملحوظ وبرسعة‬
‫أكرث مام هي بالفعل ترض بها‪ ،‬وأن هناك وقتا كافيا لتحقق عائدا من مثل هذه‬
‫املخاطرة‪ .‬إن عامل الوقت أمر بالغ األهمية‪ ،‬كام سأناقش فيام ييل‬
‫‪262‬‬
‫البيئة‪ :‬اخملاطرة الرقمية‬

‫الشكل (‪ :)22‬تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت وأثرها البيئي‪.‬‬


‫استنسخ بترصيح‪ ،‬إهداء من مجموعة املناخ ‪ The Climate Group‬العام ‪.2009‬‬

‫‪263‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫الشكل (‪ :)23‬منطق األسوأ قبل (أمام) األفضل )‪.Worse Before Better (WBB‬‬
‫املخاطرة ‪ gambit‬هي افتتاحية يف لعبة الشطرنج ُيضحى فيها بقطعة بسيطة‪،‬‬
‫عادة ما تكون بيدقا‪ ،‬لكسب ميزة‪ .‬بالتايل هي مسألة مخاطرة طواعية‪ ،‬تنطوي عىل‬
‫خسائر كبرية‪ ،‬و ُتتخذ من الناحية االسرتاتيجية‪ ،‬من أجل الحصول عىل ميزة كبرية‬
‫أعىل من الخسارة األصلية وتعوض عنها‪ .‬هذه الخصائص متيز بشكل عام منطق‬
‫«األسوأ يسبق األفضل»‪ .‬التخفيضات يف أثناء األزمة املالية‪ ،‬أو االندفاع يف أثناء الرصاع‬
‫العسكري‪ ،‬أو العزل ملحاربة مرض وبايئ‪ ،‬أو العالج الكيميايئ لعالج الرسطان(‪ ،)10‬هي‬
‫جميعا حاالت لتطبيق مثل هذا املنطق‪ .‬الشكل (‪ )23‬يوضح النمط العام‪.‬‬
‫يف حالة تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت‪ ،‬تتمثل هذه املخاطرة يف إحداث‬
‫بعض انبعاثات الكربون (فقدان البيدق)‪ ،‬يف حني يحاول خفض البصمة الكربونية‬
‫العاملية (الفوز يف املباراة)‪ .‬بطبيعة الحال‪ ،‬هذه هي أيضا اسرتاتيجية اقتصادية‬
‫سليمة ألي رشكة تشغل مراكز بيانات‪ .‬تظل هذه مخاطرة ألننا نراهن عىل أن هناك‬
‫وقتا كافيا لتحسني ما لدينا من تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت حتى يتسنى لها‬
‫رفع الرفاه البيئي‪ ،‬وبالتايل متكننا من جني مثار هذه االسرتاتيجية (انظر الشكل ‪.)24‬‬
‫إذا ما ُأخذ األمر بذكاء‪ ،‬فيجب أن تحقق املخاطرة العائد منها‪ .‬لكن ليك تكون‬
‫مخاطرة ناجحة ينبغي لنا التأكد من أنها ليست مجرد خطأ (خرسنا البيدق من‬
‫‪264‬‬
‫البيئة‪ :‬اخملاطرة الرقمية‬

‫دون قصد أو بسبب خطأ يف التقدير) بل اسرتاتيجية ناجحة‪ ،‬وأن االسرتاتيجية تأخذ‬
‫عامل الزمن بعني االعتبار‪ ،‬حتى يكون هناك ما يكفي من الوقت لتعويض الخسائر‬
‫املتكبدة‪ .‬هذا يعني االستثامر يف الحوسبة الخرضاء اآلن‪ .‬نحن بحاجة ماسة اىل مزيد‬
‫من تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت األكرث استدامة بيئيا (أقل بصمة انبعاثات)‬
‫والتي تحافظ عىل البيئة بشكل أفضل (أكرث صداقة للبيئة)‪ ،‬السيام بوصفها تكنولوجيات‬
‫فوقية‪ .‬وينبغي لها أن تساعدنا عىل أداء «املزيد باستخدام القليل» (االستخدام األفضل‬
‫للموارد املتاحة)‪ ،‬و«املزيد باستخدام املتبقي» (إعادة تدوير املوارد التي خالف ذلك‬
‫تهدر)‪ ،‬و«املزيد باستخدام املختلف» (استخدام موارد بديلة‪ ،‬عىل سبيل املثال من‬
‫خالل نزع مادية الدعائم)‪ ،‬كل هذا بأمان أكرث‪ ،‬ليس فقط لذاتها‪ ،‬ولكن قبل كل يشء‪،‬‬
‫باعتبارها التكنولوجيات الفوقية التي ميكنها أن تنظم غريها من التكنولوجيات من أجل‬
‫تحقيق مستويات من الكفاءة والسالمة ال غنى عنها ومطلوبة لتحقيق االستفادة من‬
‫هذه املخاطرة والفوز يف املــباراة‪ .‬ال ينبغي أن يكون لدى أي أحد وهم (خداع) بشأن‬
‫الطابع الخطر الذي تتسم به املخاطرة ذاتها‪ .‬لكن فهم وإدارة هذه الطبيعة الخطرة‬
‫ومردوداتها املحتملة بشكل أفضل ينبغي أن تجعلها خطوة أكرث ذكاء‪.‬‬

‫الشكل (‪ :)24‬تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت والجابية (املقامرة) الخرضاء‬


‫‪265‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫الخالصة‬
‫اآللة األكرث اخرضارا هي آلة تكون كفاءة استخدامها للطاقة ‪ 100‬يف املائة‪ .‬لسوء‬
‫الحظ‪ ،‬هذا هو ما يكافئ آلة الحركة األبدية وهي ببساطة أضغاث أحــالم‪ .‬هذا ال‬
‫يعني القول إن مثل هذا الحد املستحيل ال ميكن االقرتاب منه عىل نحو متزايد‪ .‬ميكن‬
‫خفض إهدار الطاقة بشكل كبري وميكن زيادة كفاءة الطاقة إىل درجة عالية (ليس‬
‫بالرضورة أن تكون العمليتان هام اليشء نفسه؛ قارن إعادة التدوير مقابل عمل‬
‫املزيد باستخدام األقل)‪ .‬يف كثري من األحيان‪ ،‬كال النوعني من العمليات ميكن تعزيزه‬
‫باالعتامد عىل تحسينات كبرية وملموسة يف كيفية إدارة املعلومات‪ ،‬وبخاصة عن‬
‫طريق بناء وتشغيل األجهزة والعمليات بشكل أفضل‪ .‬ميكن أن تساعدنا تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت يف كفاحنا ضد الدمار‪ ،‬واإلفقار‪ ،‬والتخريب‪ ،‬وهدر املوارد‬
‫الطبيعية والبرشية‪ ،‬مبا يف ذلك التأريخية والثقافية منها‪ .‬لذلك‪ ،‬فإنها ميكن أن تكون‬
‫حليفا بالغ األهمية فيام أسميه النزعة البيئية الرتكيبية أو النزعة البيئية اإللكرتونية(‪.)11‬‬
‫وهكذا ميكننا إعادة تفسري العقالنية األخالقية عند سقراط‪ :‬نفعل الرش ألننا ال منلك‬
‫معرفة كافية‪ ،‬مبعنى أنه كلام كانت إدارتنا للمعلومات أفضل‪ ،‬قل الرش املعنوي الذي‬
‫رمبا نسببه‪ .‬ويكمن التحدي يف التوفيق بني أدوارنا باعتبارنا وكالء (عنارص وسيطة) يف‬
‫الطبيعة وأدوارنا باعتبارنا رعاة للطبيعة وأمناء عليها‪ .‬يجب علينا أن نتطور إىل النوع‬
‫املالئم من دمييوجات‪ .‬وما يدعو إىل التفاؤل هو أننا ميكننا التصدي لهذا التحدي‪.‬‬
‫ليست مشاكل الطاقة التي نواجهها يف الوقت الحايل يف سبيلها إىل االختفاء‪ ،‬فهي‬
‫تتفاقم عرب التحول الصناعي لعدد متزايد من الدول‪ ،‬وعرب ارتفاع مستوى معيشة‬
‫سكانها‪ ،‬وبسبب القضايا املتعلقة بظاهرة االحتباس الحراري التي هي أكرث إلحاحا‬
‫من أي وقت مىض‪ ،‬وبسبب منو اإلنفوسفري‪ .‬ينبغي أن نتصدى لهذه املشاكل اآلن‬
‫وبشكل حاسم‪ ،‬من منظور التكنولوجيا الفوقية‪ ،‬إذا كنا نود أن نهاجمها قبل أن تخرج‬
‫عن السيطرة‪ ،‬أو قبل أن تصبح حالة ال رجعة عنها وغري قابلة لالنعكاس‪ .‬رمبا ينبغي‬
‫لنا أن نكون مستعدين لتقديم تضحيات فيام يخص االستهالك والتكاليف‪ ،‬إذا كانت‬
‫تحليالتنا األخالقية عن مخاطر التكنولوجيا الفوقية الحالية واملنظورة تتطلب ذلك‪.‬‬
‫إن بلوغ عامل أفضل قد تكون له رشوط‪ ،‬أدبية أو اقتصادية‪ ،‬أكرث إرهاقا‪ .‬لكن القبول‬
‫مببدأ «األمل اآلن»‪ ،‬قد يكون االسرتاتيجية الناجحة الوحيدة املتبقية‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫األخالقيات‪ :‬احلفاظ على البيئة اإللكرتونية‬

‫‪10‬‬

‫األخالقي��ات‪ :‬احلف��اظ على‬


‫البيئة اإللكرتونية‬

‫أحد أساليب رسد قصة التكنولوجيا‪ ،‬من‬


‫العجلة السومرية إىل عجلة جهاز آي بود ‪،iPod‬‬
‫هو تتبع التطور الرسيع واملتزايد لطبقات من‬
‫أنظمة الرتب األوىل والثانية والثالثة‪ ،‬معتمدة‬
‫بعضها عىل بعض ومرتابطة رأسيا ومتكاملة‬
‫أفقيا‪ ،‬وتحل بعضها محل بعض‪ ،‬وتنقح‪ ،‬وتتمم‪،‬‬
‫وتتفاعل من دون كلل‪ .‬إذا كان هناك أثر طفيف‬
‫لفلسفة التكنولوجيا يف العصور القدمية‪ ،‬فمن‬
‫املحتمل أن يكون هذا بسبب وجود تكنولوجيات‬
‫الرتبة األوىل فقط‪ .‬مع ظهور تكنولوجيات الرتبة‬
‫الثانية‪ ،‬فإن منو البينية عىل أوسع نطاق‪ ،‬ال ميكن‬
‫أن يفلت من التدقيق والتمحيص الفلسفيني‪.‬‬ ‫«املقاربة البيئية هي‪ ،‬فيام يبدو‪،‬‬
‫بالتايل‪ ،‬فالفلسفة الحديثة هي أيضا فلسفة‬ ‫وسيلة مثمرة ملواجهة التحديات‬
‫األخالقية الجديدة التي تطرحها‬
‫ميكانيكية‪ ،‬كام هي الحال يف هوبز؛ أو فلسفة‬ ‫تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت»‬

‫‪267‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫آليات ديناميكية‪ ،‬كام هي الحال عند هيغل أو ماركس؛ أو انتقاد لثقافة ميكانيكية‪،‬‬
‫كام هي الحال يف هايدغر‪ ،‬أو فوكو‪ ،‬أو ليوتارد(٭)‪ .‬إن الفلسفة املعارصة‪ ،‬باعتبارها‬
‫نظريا لتكنولوجيات الرتبة الثالثة‪ ،‬التزال يف طور التكوين‪ ،‬ولكني أراهن (رهانا آمنا‪،‬‬
‫ألنه لن ُيث َبت هنا أنني مخطئ ‪ -‬خدعة تعلمتها من أفضل علامء املستقبل) أن‬
‫مؤرخنا يف املستقبل الذي التقيناه يف الفصل األول‪ ،‬سوف يكتب عن تغلغل طريقة‬
‫التفكري املعلومايت يف عرصنا‪ :‬من النهج الشبيك املنحى لفهم املجتمع إىل مخططات‬
‫دخل ‪ -‬تجهيز‪ُ -‬مخ َرج‪ ،‬من أشكال الوكالة ا ُمل َو َّزعة إىل النظر إىل‬
‫العمليات بأسلوب ُم َ‬
‫العالقات عىل أنها تفاعالت ديناميكية‪ ،‬من فهم املعرفة بأساليب شبيهة بالواجهة‬
‫البينية إىل أفكار العلم القامئة عىل البيانات وا ُملنساقة بالربمجيات‪ ،‬وهكذا دواليك‪.‬‬
‫سوف ُيدهشه ما لدينا من أساليب جديدة مؤثرة لتصور أنفسنا‪ ،‬وعاملنا‪ ،‬وثقافتنا‬
‫بشكل تأريخي مفرط ومعلومايت‪ ،‬أساليب مل تعد تتخذ الشكل التأريخي وامليكانييك‪.‬‬
‫لفرتة من الزمن‪ ،‬ظلت حدود الفضاء السيرباين هي الواجهة الفاصلة بني اإلنسان‬
‫واآللة‪ .‬لهذا السبب‪ ،‬فإننا عادة ما كنا نعترب أنفسنا خارجه‪ .‬سوف تتذكر أن تورينغ‬
‫افرتض يف اختباره الشهري أن واجهة لوحة املفاتيح أو الشاشة تشمل اإلنسان والحاسب‪.‬‬
‫بعد نصف قرن من الزمان‪ ،‬أصبحت تلك الواجهة البينية جزءا من واقعنا اليومي‪ .‬رمبا‬
‫كان ذلك مبساعدة انتشار التلفزيون يف كل مكان‪ ،‬والدور الذي أدّاه يف اإلعالم والرتفيه‪،‬‬
‫ونحن اآلن نعتمد عىل الواجهات البينية‪ ،‬التي تبدو كأنها برشة إضافية لدينا ألغراض‬
‫االتصاالت‪ ،‬واملعلومات‪ ،‬واألعامل التجارية‪ ،‬والرتفيه‪ ،‬واالختالط االجتامعي‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫لقد انتقلنا إىل داخل اإلنفوسفري‪ .‬وطبيعته التي تسود وتعم كل يشء تعتمد أيضا عىل‬
‫مدى تقبلنا لواجهته البينية عىل أنها جزء ال يتجزأ من واقعنا‪ ،‬وشفافة لنا‪ ،‬مبعنى أن‬
‫وجودها أصبح غري محسوس‪ .‬وما يهم هنا ليس تحريك البيتات بدال من الذرات ‪-‬‬
‫هذا تفسري عفى عليه الزمن ملجتمع املعلومات‪ ،‬تفسري قائم عىل االتصاالت ويدين‬
‫بالكثري لعلم اجتامع وسائط اإلعالم الجامهريي ‪ -‬بقدر ما هو الحقيقة األكرث جذرية‬
‫بكثري‪ ،‬وهي التغري الذي يحدث يف استيعابنا وصياغتنا ملفهوم جوهر وبنية الواقع‪.‬‬
‫(٭) ‪ Georg Wilhelm Friedrich Hegel‬الفيلسوف املثايل األملاين (‪)1831-1770‬؛ ‪ Karl Marx‬فيلسوف املادية‬
‫الجدلية الربويس املولد (‪)1883-1813‬؛ ‪ Martin Heidegger‬فيلسوف الظاهراتية والوجودية األملاين (‪)1976-1889‬؛‬
‫‪ Michel Foucault‬فيلسوف‪ ،‬ومؤرخ لألفكار‪ ،‬ومنظر اجتامعي‪ ،‬وناقد أديب فرنيس (‪)1984-1926‬؛ ‪Jean-François‬‬
‫‪ Lyotard‬فيلسوف‪ ،‬وعامل اجتامع‪ّ ،‬‬
‫ومنظر أديب فرنيس(‪[ .)1998-1924‬املحرر]‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫األخالقيات‪ :‬احلفاظ على البيئة اإللكرتونية‬

‫يف الحقيقة‪ ،‬نحن بدأنا قبول االفرتايض عىل أنه جزئيا واقع‪ ،‬والواقع عىل أنه جزئيا‬
‫افرتايض‪ .‬كام رأينا يف الفصل الثالث‪ ،‬من األفضل النظر إىل مجتمع املعلومات عىل أنه‬
‫مجتمع تصنيعي جديد استبدلت فيه املواد الخام والطاقة بالبيانات واملعلومات‪ ،‬التي‬
‫هي الذهب الرقمي الجديد واملصدر الحقيقي للقيمة املضافة‪ .‬من ثم‪ ،‬فإن مفاتيح‬
‫الفهم الصحيح ملأزقنا املتعلق بالتأريخ ا ُملفرط ومنو ُمستدام لإلنفوسفري هي اإلبداع‬
‫واالبتكار‪ ،‬وإدارة املعلومات‪ ،‬وليس االتصاالت واملعامالت فحسب‪.‬‬
‫مثل هذا الفهم يتطلب رسدية جديدة‪ ،‬وهذا يعني‪ ،‬قصة من نوع جديد نرويها‬
‫ألنفسنا عن مأزقنا وعن املرشوع اإلنساين الذي نرغب يف متابعته‪ .‬رمبا يبدو هذا‬
‫خطوة تحدث يف غري زمانها ومنطوية عىل مفارقة تاريخية يف االتجاه الخطأ‪ .‬حتى‬
‫عهد قريب‪ ،‬كان هناك الكثري من االنتقادات التي توجه إىل «الرسديات الكربى»‪،‬‬
‫من املاركسية والليربالية إىل ما يطلق عليه «نهاية التأريخ»‪ .‬ولكن الحقيقة هي أن‬
‫مثل هذه االنتقادات كانت هي أيضا مجرد رسدية أخرى‪ ،‬مل تنجح‪ .‬إن النقد املنهجي‬
‫للرسديات الكربى هو‪ ،‬بالرضورة‪ ،‬جزء من املشكلة التي يسعى إىل حلها‪ .‬والطريق‬
‫الذي مييض بنا ُقدُ ما‪ ،‬األقل صبيانية واألكرث جدوى‪ ،‬هو فهم أسباب ظهور الرسديات‪،‬‬
‫ومربرات وجودها‪ ،‬وما الرسديات األفضل التي رمبا تحل محلها‪.‬‬
‫تخلق تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت بيئة معلوماتية جديدة سوف تقيض‬
‫فيها األجيال القادمة معظم وقتها‪ .‬الثورات السابقة التي أحدثت الرخاء‪ ،‬السيام‬
‫الزراعية والصناعية منها‪ ،‬أدت إىل تحوالت واسعة النطاق واضحة للعيان يف تركيباتنا‬
‫االجتامعية والسياسية وبيئاتنا املعامرية‪ ،‬ويف كثري من األحيان من دون الكثري من‬
‫التبرص‪ ،‬وعادة ما تصاحبها آثار وتداعيات مفاهيمية وأخالقية عميقة‪ .‬ليست ثورة‬
‫املعلومات أقل دراماتيكية‪ ،‬سواء ُفهمت عىل أنها ثورة ثالثة‪ ،‬من حيث إحداث‬
‫الرخاء‪ ،‬أو ثورة رابعة‪ ،‬من حيث إعادة صياغة مفهومنا ألنفسنا‪ .‬وسوف نكون يف‬
‫ورطة خطرية‪ ،‬إن نحن مل نأخذ مأخذ الجد حقيقة أننا نبني البيئات املادية والفكرية‬
‫الجديدة التي سوف تسكنها األجيال القادمة‪ .‬يف ضوء هذا التغري املهم يف هذا النوع‬
‫من التفاعالت الذي يحدث بوساطة تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت التي سوف‬
‫ننعم بها عىل نحو متزايد يف تفاعالتنا مع غرينا من العنارص الوسيطة (الوكالء)‪ ،‬سواء‬
‫بيولوجية أو اصطناعية‪ ،‬وهذا التغري يف فهمنا الذايت‪ ،‬فإن املقاربة البيئية هي‪ ،‬فيام‬
‫‪269‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫يبدو‪ ،‬الوسيلة املثمرة ملواجهة التحديات األخالقية الجديدة التي تطرحها تكنولوجيات‬
‫املعلومات واالتصاالت(‪ .)1‬إنها مقاربة ال تحتفي مبا هو طبيعي أو بكر‪ ،‬ولكنها تتعامل‬
‫مع كل أشكال الوجود والسلوك باعتبارها أصيلة وحقيقية‪ ،‬حتى تلك التي تقوم عىل‬
‫األدوات االصطناعية‪ ،‬والتخليقية‪ ،‬واملهجنة‪ ،‬وا ُمل َهندَسة‪ .‬واملهمة املطلوب إنجازها هي‬
‫صوغ إطار أخالقي ميكنه التعامل مع اإلنفوسفري عىل أنه بيئة جديدة جديرة بأن‬
‫تكون موضع االهتامم األخالقي‪ ،‬والرعاية من قبل اإلنفورغات اآلدميني الذين َي ْع ُمرون‬
‫هذه البيئة‪ .‬يتعني أن يتصدى مثل هذا اإلطار األخالقي للتحديات غري املسبوقة التي‬
‫تنشأ يف البيئة الجديدة وأن يجد لها حال‪ .‬ينبغي أن يكون اإلطار األخالقي أخالقيات‬
‫بيئية إلكرتونية من أجل اإلنفوسفري برمته‪ .‬هذا النوع من النزعة البيئية الرتكيبية‬
‫(سواء مبعنى كيل أو شامل‪ ،‬ومبعنى اصطناعي)‪ ،‬سوف يتطلب تغيريا يف كيفية إدراكنا‬
‫ألنفسنا وألدوارنا بالنسبة إىل الواقع‪ ،‬وما الذي نعتربه جديرا باهتاممنا ورعايتنا‪ ،‬وكيف‬
‫سنتفاوض لعقد تحالف جديد بني الطبيعي واالصطناعي‪ .‬وسوف يتطلب ذلك تأمال‬
‫جادا يف هذا املرشوع اإلنساين ومراجعة نقدية لرسدياتنا الحالية‪ ،‬عىل املستويات‬
‫الفردية واالجتامعية والسياسية‪ .‬كل هذه قضايا ُم ِل َّحة تستحق اهتاممنا الكامل وغري‬
‫املجزأ‪ .‬مع األسف‪ ،‬أنا أظن أن األمر سوف يستغرق بعض الوقت ويتطلب نوعا من‬
‫التعليم والحساسية جديدين متاما‪ ،‬حتى ندرك أن اإلنفوسفري هو فضاء مشرتك يتعني‬
‫الحفاظ عليه ملصلحة الجميع‪ .‬أميل هو أن يسهم هذا الكتاب يف مثل هذا التغري يف‬
‫املنظور‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫مزيد من القراءة‬

‫مزيد من القراءة‬

‫متهيد‬
‫إذا كنت ترغب يف معرفة مزيد عن الفالسفة‬
‫املذكورين يف هذا الكتاب‪ ،‬رمبا تعني عليك أن‬
‫تفكر يف قراءة )‪ ،Magee (2000‬أما ‪Floridi‬‬
‫)‪ (2011‬و)‪ Floridi (2013‬فهام من املعالجات‬
‫التي تناسب الدراسات العليا لألسس التي تقوم‬
‫عليها فلسفة املعلومات وأخالقيات املعلومات‪.‬‬

‫الفصل األول‬
‫عن الكتابة بوصفها تكنولوجيا وعن التفاعل‬
‫بني الشفوية والتثقيـف‪ ،‬فإن املرجع الكالسييك‬
‫اآلن هو )‪ .Ong (1988‬يعـد كلـود شانـون‬
‫)‪ Claude Shannon (2001 – 1916‬مؤسس‬
‫نظرية املعلومات‪ ،‬وعمله ‪Shannon and‬‬
‫)‪ Weaver (1998, rep. 1949‬اإلبداعي يتطلب‬
‫خلفية جيدة يف الرياضيات ونظرية االحتامالت‪.‬‬
‫ويظل )‪ Pierce (1980‬مقدمة يف املتناول إىل‬
‫‪271‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫يت املوضوعات التي نوقشت يف هذا الفصل يف ‪Floridi‬‬ ‫نظرية املعلومات‪ .‬لقد ّ‬
‫غط ُ‬
‫)‪ ،(2010a‬حيث ميكن للقارئ أن يجد أيضا مقدمة بسيطة عن نظرية املعلومات‪.‬‬
‫أما )‪ ،Gleick (2011‬فهو «قصة» ممتعة عن املعلومات‪ .‬يتيح )‪Ceruzzi (2012‬‬
‫مقدمة قصرية لتاريخ الحوسبة من بدايتها إىل اإلنرتنت‪ .‬يعطي ‪Caldarelli and‬‬
‫)‪ Catanzaro (2012‬مقدمة قصرية عن الشبكات‪ .‬أما عن البيانات الضخمة‪ ،‬فإن‬
‫)‪ O’Reilly Media (2012‬هي دراسة استقصائية جيدة‪ ،‬وطبعة كيندل ‪Kindle‬‬
‫مجانية‪ ،‬أما )‪ Mayer-Schönberger and Cukier (2013‬فهي يف املتناول‪ .‬أما عن‬
‫مجتمع ما بعد الحداثة‪ ،‬فمن الرضوري قراءة )‪ ،Lyotard (1984‬هذا عمل مرهق‬
‫فلسفيا ولكنه أيضا مج ٍز‪ .‬أما عن مجتمع الشبكات‪ ،‬فاملجلد األول من ثالثية ‪Manuel‬‬
‫)‪ Castells (2000‬هو الذي صاغ املجادالت الراهنة حول املوضوع‪ .‬ينتج مجتمع‬
‫املعلومات كثريا من املعلومات عن نفسه‪ ،‬من بني العديد من التقارير السنوية‬
‫القيمة املتاحة مجانا عىل شبكة اإلنرتنت‪ ،‬ميكن للمرء أن يسرتشد بتقرير ـ «قياس‬
‫مجتمع املعلومات» ‪ ،Measuring the Information Society‬الذي يتضمن مؤرش‬
‫تنمية تكنولوجيا املعلومات ‪ ،ICT Development Index‬وسلة أسعار تكنولوجيا‬
‫املعلومات واالتصاالت ‪ ،ICT Price Basket‬وهام من املعايري املفيدة لرصد تطور‬
‫مجتمع املعلومات يف جميع أنحاء العامل؛ و«تقرير تقنية املعلومات العاملي»‬
‫‪ ،Global Information Technology Report‬الذي يصدره املنتدى االقتصادي‬
‫العاملي ‪ World Economic Forum‬بالتعاون مع إنسيد ‪ ،INSEAD‬يغطي ‪134‬‬
‫من اقتصادات العامل و ُمعرتف به باعتباره التقييم الدويل األكرث شموال وحجية‬
‫لتأثري تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت يف تنمية البلدان والقدرة عىل املنافسة؛‬
‫و«إحصائيات االتحاد الدويل لالتصاالت»‪International Telecommunication‬‬
‫‪ ،Union Statistics‬الذي يجمع البيانات عن االتصالية وتوافر خدمات االتصاالت‬
‫السلكية والالسلكية يف جميع أنحاء العامل؛ وتقرير «الكوكب الرقمي» ‪Digital‬‬
‫‪ ،Planet‬الذي ينرشه التحالف العاملي لتكنولوجيا وخدمات املعلومات ‪World‬‬
‫‪ ،Information Technology and Service Alliance‬الذي يحتوي عىل توقعات‬
‫اإلنفاق عىل تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت‪ .‬وأخريا‪ ،‬فإن ‪Brynjolfsson and‬‬
‫)‪ McAfee (2011‬يحلل كيفية تأثري تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت يف سوق‬
‫‪272‬‬
‫مزيد من القراءة‬

‫العمل‪ ،‬وتحويل املهارات‪ ،‬وإعادة تشكيل وتطور العاملة البرشية‪ .‬وهو تحليل‬
‫ُأجري من منظور أمرييك‪ ،‬ولكن وجهات نظره شاملة وجديرة باإلعجاب‪ ،‬وتوصياته‬
‫بشأن كيفية تعاون اآلالت والبرش مقنعة متاما‪.‬‬

‫الفصل الثاين‬
‫يقدم )‪ Headrick (2009‬عرضا عاما مفيدا لتاريخ التكنولوجيا‪ ،‬وهو قصري‬
‫لكنه شامل‪ .‬لنهج مثل الكتاب الدرايس‪ ،‬وموجه نحو التفاعل بني التكنولوجيا‬
‫والعلوم‪ ،‬فإن )‪ McClellan and Dorn (2006‬هو نقطة االنطالق الجيدة‪ .‬ويقدم‬
‫)‪ Shumaker et al. (2011‬مرجعا مهام يف أدبيات سلوك الحيوان يف صنع األدوات؛‬
‫كانت الطبعة األوىل التي نرشت يف العام ‪ 1980‬فعالة‪ .‬مقدمة أوىل وسهلة لتاريخ‬
‫االخرتاعات متاحة يف )‪ ،Challoner (2009‬وهي جزء من سلسلة ‪ .1001‬إن تاريخ‬
‫الواجهات البينية ‪ interfaces‬مهيأ لكتاب متهيدي جيد‪ ،‬ألن جميع الكتب التي‬
‫أعرفها هي كتب فنية‪ .‬عن إظهار املعلومات يف شكل رسوم مرئية ‪visualization‬‬
‫‪ ،of information‬فإن )‪ Tufte (2001‬هو الكتاب الكالسييك التقليدي‪ ،‬وميكن‬
‫أن يرتافق مع )‪ .McCandless (2012‬التصميم هو مجال آخر هائل للدراسات‪،‬‬
‫وكنقطة انطالق‪ ،‬رمبا اليزال املرء يختار )‪ ،Norman (1998‬عىل رغم أنه أصبح‬
‫اآلن قدميا بعض اليشء (هو يف األساس نسخة أعيدت تسميتها‪ ،‬واالسم القديم‬
‫هو ‪ ،The Psychology of Everyday Things‬و ُنرش يف العام ‪ 1989‬للمؤلف‬
‫اطلع‬
‫نفسه)‪ .‬جرى وصف جيل األلفية يف )‪ ،Howe and Strauss (2000‬ولكن ْ‬
‫أيضا عىل )‪ Palfrey and Gasser (2008‬بشأن املواطنني الرقميني‪ .‬حول العوملة‬
‫‪ ،globalization‬أود أن أويص بعنوان آخر يف سلسلة مقدمات قصرية جدا ‪Very‬‬
‫‪ ،Short Introductions‬قدمه )‪ .Steger (2003‬بعض من أهم األفكار – بينها‬
‫األصالة ‪ – authenticity‬التي تتعلق بتأثري االستنساخ امليكانييك لألشياء يف فهمنا‬
‫وتقديرنا لقيمتها‪ ،‬وقد ُنوقش يف «العمل الفني يف عرص االستنساخ امليكانييك»‪The‬‬
‫‪ ،Work of Art in the Age of Mechanical Reproduction‬العمل الكالسييك‬
‫واملؤثر الذي قدمه ‪Walter Benjamin‬؛ لرتجمة حديثة إىل اإلنجليزية انظر ‪W.‬‬
‫)‪.Benjamin (2008‬‬
‫‪273‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫الفصل الثالث‬
‫يستند هذا الفصل‪ ،‬بشكل عام‪ ،‬إىل الفصل الحادي عرش من )‪.Floridi (2013‬‬
‫عن فلسفة الهوية الشخصية‪ ،‬فإن )‪ Noonan (2003‬هو مقدمة شديدة الدقة ويف‬
‫املتناول‪ .‬يقدم )‪ Feser (2006‬عرضا عاما أبسط عن فلسفة العقل‪Wooldridge .‬‬
‫)‪ (2009‬هو كتاب رائع عن النظام متعدد الوكالء‪ Weinberger (2011) .‬هو كتاب‬
‫قيم عن كيف أن تكنولوجيات املعلومات واالتصاالت تغري املعرفة وعملياتها‪ .‬عن‬
‫موضوعات مشابهة‪ ،‬أنا أويص بشدة أيضا مبؤلف )‪.Brown and Duguid (2002‬‬
‫أما )‪ ،Floridi (2014‬فهو مجموعـــة من املقــاالت تتنــاول تجربــة أوناليــف‬
‫للم َتنَا ِقضات‪ .‬إذا‬
‫)‪ .onlife Sainsbury (1995‬وهو مرجع منوذجي للمعالجة األكادميية ُ‬
‫كنت ترغب يف قراءة يشء أبسط وأكرث تسلية‪ ،‬يبقى )‪ Smullyan (1980‬خيارا جيدا‪.‬‬

‫الفصل الرابع‬
‫يستند هذا الفصل بشكل عام إىل الفصل األول من )‪ .Floridi (2013‬إن فكرة‬
‫الثورات الثالث األوىل عُ رضت من ِق َبل )‪ ،Freud (1917‬ولتحليل متعمق انظر‬
‫)‪ .Weinert (2009‬يظل )‪ Hodges (1992‬مقدمة ممتازة عن تورنغ ‪،Turing‬‬
‫وهي يف جوهرها إعادة طبع إلصدار العام ‪ .1983‬أما عن أثر تورينغ‪ ،‬فإن ‪Bolter‬‬
‫)‪ (1984‬هو جوهرة قد نسيت ظلام‪ .‬والرأي القائل بأننا رمبا نصبح سايبورغات‬
‫جرى توضيحه بواسطة )‪ .Clark (2000‬أما (‪ Davis )2003‬فهو ملحة واضحة‬
‫وسهلة املنال لألفكار املنطقية والرياضية والحاسوبية املؤدية من اليبنتز ‪Leibniz‬‬
‫إىل تورينغ ‪ .Turing‬أصبح )‪ Goldstine (1993‬تقريبا مرجعا كالسيكيا لتاريخ‬
‫الحاسب‪ ،‬نرش ألول مرة يف العام ‪1972‬؛ الطبعة الخامسة ذات الغالف الورقي‬
‫(‪ )1993‬تحتوي عىل مقدمة جديدة‪.‬‬

‫الفصل الخامس‬
‫يستند هذا الفصل بشكل عام إىل الفصل الثاين عرش من )‪.Floridi (2013‬‬
‫يقدم )‪ Wacks (2010‬مقدمة قصرية عن الخصوصية ‪ .privacy‬لعالج فلسفي أكرث‪،‬‬
‫ومشتمل عىل تحليل الخصوصية يف األماكن العامة‪ ،‬انظر )‪.Nissenbaum (2010‬‬
‫‪274‬‬
‫مزيد من القراءة‬

‫يعرض )‪ Cohen (2012‬تحليال متطورا للذات الشبكية‪ .‬ملناقشة حيوية للقضايا‬


‫األمنية وكيفية تحقيق توازنها مع الحقوق املدنية انظر )‪.Schneier (2003‬‬

‫الفصل السادس‬
‫)‪ Turing (2004‬هو عبارة عن مجموعة من كتاباته األكرث أهمية‪ ،‬وهي‬
‫ليست كتابات للمبتدئني‪ ،‬الذين رمبا يرغبون يف البدء بقراءة )‪.Copeland (2012‬‬
‫يحتوي )‪ Shieber (2004‬عىل مجموعة ممتازة من املقاالت عن اختبار تورينغ‪،‬‬
‫و)‪ Negnevitsky (2011‬هو مقدمة بسيطة ويف املتناول عن الذكاء االصطناعي‪،‬‬
‫مطولة ولكنها أيضا مكونة من وحدات‪ .‬كان نوربرت ويرن ‪Norbert Wiener‬‬
‫)‪ (1964-1894‬أبو علم السيربنيطيقا ‪ ،cybernetics‬كتب عىل نطاق واسع وبتبرص‬
‫عن العالقات بني اإلنسان واآلالت الجديدة‪ .‬أعامله الثالثة‪Wiener (1964, 1961, ،‬‬
‫)‪ ،1954‬هي كالسيكيات ينبغي عدم تفويتها‪ Winfield (2012) .‬هو مقدمة قصرية‬
‫عن الروبوتيات ‪ .robotics‬مناقشة عىل مستوى الدراسات العليا حول مشكلة تأسيس‬
‫الرمز ميكن االطالع عليها يف )‪ .Floridi (2011‬اثنان من األعامل العظيمة واملؤثرة‬
‫التي تناقش طبيعة الذكاء االصطناعي من وجهات نظر مختلفة هي ‪Weizenbaum‬‬
‫)‪ ،(1976‬مصمم ‪ ،ELIZA‬و(‪ .Simon (1996‬يقدم )‪ Dreyfus (1992‬انتقادات عن‬
‫الذكاء االصطناعي القوي‪ ،‬قدمية بعض اليشء ولكن التزال مفيدة‪.‬‬

‫الفصل السابع‬
‫)‪ Han (2011‬هو نص يف املتناول عن اإلصدار الثاين لتقنيات الشبكة العنكبوتية‬
‫العاملية (ويب ‪ ،)Web 2.0 2,0‬و(‪ Antoniou (2012‬هي مقدمة عن الويب‬
‫الداليل ‪ .Semantic Web‬يقدم )‪ Dijck (2013‬إعادة بناء نقدي لوسائط اإلعالم‬
‫االجتامعية‪ .‬لنقد مفصل عن الويب الداليل انظر )‪.Floridi (2009‬‬

‫الفصل الثامن‬
‫يستند هذا الفصل بشكل عام إىل )‪ُ .Floridi (2014‬يعطي ‪Linklater‬‬
‫)‪ (1998‬وصفا ملجتمعات ما بعد وستفاليا والتحديات األخالقية املقبلة‪ .‬أما عن‬
‫‪275‬‬
‫الثورة الرابعة‬

‫بريتون وودز ‪ Bretton Woods‬وظهور نظامنا املايل والنقدي املعارص‪ ،‬انظر‬


‫)‪ .Steil (2013‬تناول )‪ Clarke and Knake (2010‬مشاكل الحرب السيربانية‬
‫‪ cyberwar‬واألمان السيرباين ‪ cyber security‬من منظور سيايس‪ ،‬اليزال يعترب‬
‫«تأريخيا» يف إطار هذا الكتاب‪ ،‬ولكنه مفيد‪ .‬أما )‪،Floridi and Taddeo (2014‬‬
‫فهو عبارة عن مجموعة من املقاالت تستكشف أخالقيات الحرب السيربانية‪.‬‬
‫يقدم )‪ Floridi (2013‬تحليال تأسيسيا ألخالقيات املعلومات‪ .‬أما ‪Floridi‬‬
‫)‪ ،(2010b‬فهو مقدمة عىل املستوى الجامعي للمشاكل والنظريات يف مجال‬
‫يوص بقراءة‬ ‫أخالقيات املعلومات والحاسب‪ .‬عن السياسة ومجتمع املعلومات‪ ،‬ىَ‬
‫كل من )‪ Mueller (2010‬و(‪ .Brown and Marsden (2013‬فكرة أن هناك‬
‫أربع منظامت رئيسية للسلوك البرشي – القانون ‪ law‬وقواعد السلوك (املعايري)‬
‫‪ ،norms‬والسوق ‪ ،market‬والبنية الرتكيبية ‪ - architecture‬وضعت بواسطة‬
‫)‪ ،Lessig (1999‬انظر أيضا )‪.Lessig (2006‬‬

‫الفصل التاسع‬
‫لفهم طبيعة ومنطق املخاطرة‪ ،‬فإن نقطة االنطالق الجيدة هي مقدمة قصرية‬
‫كتبها )‪ .Fischhoff and Kadvany (2011‬عىل رغم أن )‪ Hird (2010‬ال يستهدف‬
‫جمهور املثقفني فإنه يستهدف أكرث كبار املديرين التنفيذيني من الرشكات الكبرية‪،‬‬
‫فهو يقدم ملحة عامة جيدة عن الحوسبة الخرضاء‪ ،‬مشاكلها ومزاياها‪ .‬يرشد ‪N.‬‬
‫)‪ Carter (2007‬القارئ عرب قضايا الفلسفة البيئية والفكر السيايس للخرض‪،‬‬
‫واألحزاب والحركات البيئية‪ ،‬وكذلك صنع السياسات والقضايا البيئية‪.‬‬

‫الفصل العارش‬
‫الكتب األربعة التالية تتطلب قليال من بذل مزيد من الجهد‪ ،‬لكنها تستحق‬
‫القراءة املتأنية‪ ،‬إذا كنت ترغب يف فهم املشاكل التي نوقشت يف هذا الكتاب عىل‬
‫نحو أكرث عمقا‪Wiener (1954), Weizenbaum (1976), Lyotard (1984), :‬‬
‫)‪ Simon (1996‬وهي تنتمي إىل تقاليد وأعراف فكرية مختلفة‪ .‬كل واحد منها قد‬
‫أثر بعمق يف مؤلفك‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫الهوامش‬
withe
‫الهوامش‬

‫التمهيد‬
‫(‪ )1‬لقد استحدثت مرشوع لفلسفة املعلومات يف )‪ Floridi (2011‬و)‪.Floridi (2013‬‬
‫(‪.Waismann (1968), p. 19 )2‬‬
‫(‪ )3‬عىل ما يبدو‪ ،‬أنك إذا كنت يف فيينا يف ذاك الوقت وكنت ال تحب النزعة التأسيسية (التأصيلية)‬
‫‪ ،foundationalism‬لكان املاء صديقك‪ .‬كارل بوبر )‪،Karl Popper (1994 - 1902‬‬
‫فيلسوف العلم الكبري‪ ،‬ولد يف فيينا‪ ،‬ومل يكن يوما عضوا يف حلقة فيينا‪ ،‬ولكن كان له العديد‬
‫من االتصاالت معها‪ ،‬وقد استخدم بشكل رائع استعارة مائية أخرى لوصف العلم‪« :‬العلم ال‬
‫يقوم عىل قاعدة صخرية صلبة‪ .‬فالبنية العريضة لنظرياته ترتفع كأنها فوق مستنقع‪ .‬إن‬
‫العلم مثل بناء ُم َّش ّيد عىل ركائز‪ .‬الركائز ُمسرية من أعىل إىل أسفل داخل املستنقع‪ ،‬ولكن‬
‫ليس إىل حد وصولها إىل أي قاعدة طبيعية ما أو « ُمعطى» ما؛ وإذا توقفنا عن تسيري‬
‫الركائز إىل عمق أكرب‪ ،‬فهذا ليس ألننا وصلنا إىل أرض صلبة‪ .‬إننا ببساطة نتوقف عندما‬
‫نشعر باالرتياح إىل أن الركائز راســـخة مبا يكفي لحمل البنيــــة‪ ،‬عىل األقل يف الوقت‬
‫الراهن»‪ ،Popper (2002( .‬ص ‪.94‬‬
‫(‪« )4‬ليست هناك أي وسيلة ألخذ أحكام الربوتوكول الخالصة (املحضة) الثابتة بشكل‬
‫قاطع كنقطة انطالق للعلوم‪ .‬ال وجود للصفحة البيضاء (اللوح الفارغ) ‪.tabula rasa‬‬
‫نحن مثل البحارة الذين يتعني عليهم إعادة بناء سفينتهم يف عرض البحر‪ ،‬غري قادرين‬
‫أبدا عىل تفكيكها يف الحوض الجاف‪ ،‬وإعادة بنائها هناك بأجود الخامات‪ .‬العنارص‬
‫امليتافيزيقية فقط هي التي ميكن أن ُيسمح لها بأن تختفي من دون أثر‪ .‬إن تراكامت‬
‫عَالِم اللغويات املبهمة تبقى دامئا بطريقة أو بأخرى كمكونات للسفينة»‪Neurath .‬‬
‫)‪ ،(1959‬ص‪.201‬‬

‫شكر وعرفان‬
‫(‪ )1‬البيان الرسمي متاح عىل اإلنرتنت‪ .‬نرش اإلصدار النهايئ‪ ،‬مصحوبا بتعليقات وفصول‬
‫املعلومات األساسية‪ ،‬يف )‪.Floridi (2014‬‬

‫الفصل األول‬
‫(‪ )1‬وفقا لعامل األحياء الفرنيس جان ‪ -‬بابتيست المارك )‪،Jean-Baptiste Lamarck (1829 -1744‬‬
‫فبوسع الكائن الحي أن ينقل إىل ذريته تغريات َت َك ُّيفية يكون اكتسبها من جهود فردية يف‬
‫أثناء حياته‪ .‬هذه النظرية قبل الداروينية تعرف باسم «الوراثة الناعمة» ‪.Soft Inheritance‬‬
‫(‪ )2‬املصدر‪ :‬تقرير عن بقاء الشعوب ال َق َبلية عىل قيد الحياة‪ ،‬هنود األمازون املنعزلون‬
‫يواجهون اإلبادة‪ 14 ،‬فرباير ‪ ،2011‬متاح عىل اإلنرتنت‪.‬‬
‫‪Survival for Tribal Peoples report, Uncontacted Amazon Indians face‬‬
‫‪.annihilation, 14 February 2011, available online‬‬
‫‪(3) Evans (2011), p. 3.‬‬
‫‪(4) Lyman and Varian (2003).‬‬
‫(‪ )5‬إكسابايت واحد يناظر ‪ 1018‬بايت أو فيلم فيديو بجودة ‪ DVD‬طوله ‪ 50‬ألف سنة‪.‬‬
‫‪(6) Gantz and Reinsel (2011).‬‬
‫(‪ )7‬املصدر‪ ،499-NSF-12 :‬متاح عىل اإلنرتنت‪.‬‬
‫‪(8) Hill (4 July 2012).‬‬

‫‪279‬‬
‫تقدمي األدب املقارن‬

‫(‪ )9‬هي وكالة تابعة لحكومة الواليات املتحدة األمريكية تقوم بحفظ السجالت الحكومية‬
‫والتأريخية‪ ،‬مبا يف ذلك النسخ الرسمية واملوثقة قانونا من قرارات الكونغرس‪،‬‬
‫والترصيحات الرئاسية واألوامر التنفيذية‪ ،‬والتعليامت الفدرالية‪.‬‬
‫(‪ )10‬معيار آخر شائع ويزداد انتشارا هو معدل اإلخفاق السنوي ‪Annualized Failure‬‬
‫)‪ ،Rate (AFR‬الذي يشري إىل التقديرات املحتملة إلخفاق نظام خالل سنة كاملة من‬
‫االستخدام‪ .‬هذا املعيار هو عالقة بني متوسط العمر قبل اإلخفاق وساعات تشغيل‬
‫عدد من األجهزة يف السنة‪.‬‬
‫(‪ )11‬املصدر‪IBIS World, Data Recovery Services Market Research Report, :‬‬
‫‪.July 2012‬‬
‫(‪ )12‬لفكرة عامة قصرية انظر )‪ .Cukier (27 February 2010‬لفكرة عامة أحدث انظر‬
‫(‪ Vesset et al. (2012‬التي يستند إليها التقرير‪.‬‬
‫(‪ )13‬املصدر‪ :‬شعبة بيانات وإحصائيات تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت‪ ،‬مكتب تنمية‬
‫االتصاالت‪ ،‬االتحاد الدويل لالتصاالت‪ ،‬العامل يف العام ‪ ،2013‬حقائق وأرقام تكنولوجيا‬
‫املعلومات واالتصاالت‪.‬‬
‫‪ICT Data and Statistics Division, Telecommunication Development‬‬
‫‪Bureau, International Telecommunication Union, The World in 2013,‬‬
‫‪ICT Facts and Figures, available online.‬‬

‫الفصل الثاين‬
‫(‪ )1‬لبعض الوقت‪ ،‬كنت أظن أن كلمة َمقدرة ‪ affordance‬سوف تؤدي الغرض‪ ،‬ولكنها لها‬
‫دالالت فنية أخرى يف سياقات أخرى معينة؛ لذلك‪ ،‬رمبا يكون استخدامها هنا ُمربكا‬
‫للغاية‪ .‬إن استخدامها سوف يعني أنه يجب وصف الشمس عىل أنها َمقدرة من أجل‬
‫القبعة‪ ،‬يف حني أننا نريد حقيقة أن نقول إن حجب الشمس هو َمقدرة من القبعة‪.‬‬
‫‪(2) Brezis et al. (1993).‬‬
‫‪(3)M. Benjamin (2013).‬‬
‫‪(4) Aristotle (1995), 1.253b31-3.‬‬
‫‪(5) Aristotle (1995), 1.1254a14-18.‬‬
‫‪(6) Muniz Jr and Schau (2005), Honan (5 August 2013).‬‬
‫‪(7) Aldridge (2013).‬‬
‫(‪ )8‬حتى اآلن ليس من املستحيل‪ ،‬انظر )‪.Slezak (2013‬‬
‫(‪ )9‬للسبب ذاته‪ ،‬فإننا منيل إىل التمييز فقط بني اللغة ‪ language‬واللغة الواصفة‬
‫‪( metalanguage‬أو اللغة التي تتحدث عن لغة)‪ ،‬وكذلك نتجنب استخدام اللغة‬
‫الفوق واصفة ‪ meta-metalanguage‬كمميز إضايف (وهي اللغة التي تتحدث عن‬
‫اللغة التي تتحدث عن لغة‪ :‬تخيل الرشح باللغة اإلنجليزية عن كيفية ترجمة الجملة‬
‫الفرنسية إىل اللغة اإليطالية)‪ ،‬ألن أي سلسلة فوقية ميكن اختزالها يف متوالية من‬
‫األزواج تضم اللغة املستهدفة واللغة الواصفة‪ ،‬وهذا كاف لرشح التفاعل‪.‬‬
‫‪(10) Logan (1944).‬‬
‫‪(11) Fowler et al. (2008).‬‬

‫‪280‬‬
‫الهوامش‬

‫(‪ )12‬هذا هو إعادة صياغة لوجهة النظر الشهرية ‪ -‬التي نادى بها الفيلسوف األملاين جورج‬
‫فيلهلم فريدريش هيجل )‪ Georg Wilhelm Friedrich Hegel (1831 – 1770‬يف‬
‫كتابه فنومينولوجيا الروح )‪ - Phenomenology of the Spirit (Hegel 1979‬التي‬
‫تنص عىل أن ما هو منطقي هو حقيقي‪ ،‬وما هو حقيقي هو منطقي‪.‬‬
‫(‪( .»Graecia capta ferum victorem cepit et artes intulit agresti Latio« )13‬اليونان‪،‬‬
‫األسرية‪ ،‬أرست محتلها الغاشم‪ ،‬وعرضت ما لديها من فنون إىل التيوم (التسيو) القروية‬
‫(يقصد روما)‪.Horace, Epistles, book II, epistle 1, ll. 156-7, Horace (2011) .‬‬
‫‪(14) Nogee (2004).‬‬
‫‪(15) Harrop and Das (2013).‬‬
‫‪(16) Saponas et al (2006).‬‬
‫‪(17) Gardiner (15 August 2008).‬‬
‫‪(18) Briere et al (2013).‬‬
‫‪(19) Gabbatt and Rushe (3 October 2013).‬‬
‫‪(20) Clemens (2004).‬‬
‫‪(21) The Economist (20 December 2005).‬‬
‫‪(22) Doward and Hinsliff (24 February 2008).‬‬
‫‪(23) BBC News (11 October 2007).‬‬
‫‪(24) Norris (2001).‬‬
‫(‪ )25‬آاليف ‪ ALlife‬هو مجال من مجاالت البحث العلمي يهتم بدراسة الحياة االصطناعية‪،‬‬
‫عىل سبيل املثال يف املحاكاة والروبوتات‪ ،‬يف محاولة إلعادة تخليق الظواهر البيولوجية‪.‬‬
‫(‪ )26‬هذا معروف باسم «االتصال قريب املدى )‪،»Near Field Communication (NFC‬‬
‫وهو مجموعة من املعايري النظامية لتكنولوجيات املعلومات واالتصاالت ُتتيح االتصال‬
‫الالسليك عن طريق اللمس أو التجاور‪ ،‬لتنفيذ معامالت أو لتبادل البيانات‪ ،‬عىل سبيل‬
‫املثال‪.‬‬
‫(‪« )27‬صانعو األفالم األمريكية‪ ،‬من جيمس كامريون ‪ James Cameron‬إىل األختني‬
‫واتشوسيك ‪ Wachowski brothers‬إىل ستيفن سبيلربغ ‪ ،Steven Spielberg‬يوجهون‬
‫التحية إىل األنيمي الياباين الرائد‪ ،‬الفيلم الذي قدم لنا رؤية اليوم للفضاء اإللكرتوين»‪،‬‬
‫‪.)Rose (19 October 2009‬‬
‫‪(28) BBC News (9 August 2013).‬‬
‫‪(29) Bridle (29 September 2013).‬‬
‫‪(30) Dredge (27 June 2013).‬‬
‫(‪ )31‬أخبار يب يب يس (‪ 16‬سبتمرب ‪ .)2013‬كان ريد هاستينغز ‪ Reed Hastings‬قد أعرب‬
‫عن آراء مامثلة من قبل‪ ،‬وتعرض النتقادات من ِق َبل ميسون ‪ 6( Mason‬مايو ‪.)2013‬‬
‫(‪ )32‬لدليل مبسط‪ ،‬انظر «(‪.»Gardner and Krug )2006‬‬
‫‪(33) Uppenberg (2009).‬‬
‫(‪ )34‬لالطالع عىل مقدمة ُميرسة‪ ،‬ارجع إىل (‪.Barnatt )2010‬‬
‫‪(35) Barboza (9 December 2005), Thompson (25-31 March 2005).‬‬
‫‪(36) Herzfeld (4 December 2012).‬‬
‫‪(37) Dibbell (17 June 2007).‬‬
‫‪(38) Dannenberg (2010).‬‬

‫‪281‬‬
‫تقدمي األدب املقارن‬

‫‪(39) Horowitz (2008), p. 80‬‬


‫‪(40) Luke (2013).‬‬
‫‪(41) Anderson and Moore (2006).‬‬
‫‪(42) Bond et al (2013).‬‬
‫‪(43) Pfanner (28 September, 2009), Ata et al (2013).‬‬
‫‪(44) Sauter et al (1 February 2013).‬‬
‫(‪ )45‬املقارنة مستوحاة من (‪.Klein )2000‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫(‪ )1‬اليزال لدى مستخدمي فيسبوك أرقام تعريفية ميكن بسهولة العثور عليها عن طريق‬
‫استخدام خدمات اإلنرتنت مثل <‪ .>/http://findmyfacebookid.com‬عىل سبيل‬
‫املثال‪ ،‬رقمي التعريفي هو ‪.556011030‬‬
‫(‪ )2‬الفيلسوف الفرنيس ميشيل فوكو )‪ Michel Foucault (1984 - 1926‬صاغ تعبري‬
‫«تكنولوجيات الذات» ‪ ،technologies of the self‬انظر (‪.Martin )1988‬‬
‫(‪ ،Proust (1996) )3‬استهالل‪.‬‬
‫‪(4) Lenhart (19 March 2012).‬‬
‫(‪ )5‬املصدر‪Informa, OTT messaging traffic will be twice volume of P2P SMS :‬‬
‫‪ ،,traffic this year, Press Release, 30 April 2013‬متاحة عىل اإلنرتنت‪.‬‬
‫‪(6) C. Carter (12 September 2013).‬‬
‫‪(7) James (1890), vol. i, pp. 239-43.‬‬
‫(‪ )8‬تيد (باإلنجليزية‪ )TED :‬هي اختصار لكلامت تكنولوجيا ‪ Technology‬وترفيه‬
‫‪ Entertainment‬وتصميم ‪ ،Design‬وهي سلسلة من املؤمترات العاملية يمُ نح فيها‬
‫املتحدثون بضع دقائق فقط (بحد أقىص ‪ 18‬دقيقة‪ ،‬وعادة أقل من ذلك)؛ لتقديم‬
‫أفكارهم االبتكارية بشكل جذاب‪.‬‬
‫‪(9) BBC News (7 June 2013).‬‬
‫(‪ُ )10‬نرش كارتون بيرت شتايرن ‪ Peter Steiner‬يف مجلة نيويوركر ‪ The New Yorker‬يف ‪5‬‬
‫يوليو ‪.1993‬‬
‫(‪ )11‬يقدم أفالطون «أسطورة الكهف» ‪ Allegory of the Cave‬يف كتابه الجمهورية‬
‫‪( Republic 514a-520a‬انظر ‪ .)Plato 1997‬قىض بعض الناس كل حياتهم مقيدين‬
‫بالسالسل إىل جدار كهف‪ ،‬ويف مواجهة جدار يشاهدون عليه ظالال ألشياء متر أمام نار‬
‫وضعت خلفهم‪ .‬هذا هو أقرب ما متكن أفالطون من الوصول إىل فكرة الواقع االفرتايض‪،‬‬
‫من الناحية التكنولوجية‪ .‬يستخدم أفالطون التشبيه لرشح كيف أننا ُنخطئ العامل الذي‬
‫ندركه ألن الواقع الفعيل وراءه‪ .‬يف هذا التشبيه‪ ،‬الفيلسوف هو مثل السجني الذي‬
‫يهرب من الكهف‪ ،‬ويدرك أن الظالل املطروحة عىل الجدار ليست حقيقية‪ ،‬بل هي‬
‫فقط ترمز إىل أشكال حقيقية من الواقع‪ ،‬ثم يعود إىل داخل الكهف ملساعدة السجناء‬
‫اآلخرين‪.‬‬
‫(‪ )12‬جوزيبي فريدي ‪ ،Giuseppe Verdi‬أوبرا ال ترافياتا ‪ ،La Traviata‬الفصل األول‪،‬‬
‫االستهالل‪ ،‬املشهد األول‪ ،‬الجوقة‪.‬‬
‫(‪ )13‬بلوتارك (فلوطرخس) ‪ ،Plutarch‬ثيسيوس ‪ ،Theseus‬أرشيف كالسيكيات اإلنرتنت‬
‫‪ ،The Internet Classics Archive‬متاح عىل اإلنرتنت‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫الهوامش‬

‫(‪ )14‬سفر أعامل الرسل‪.58:7 ،‬‬


‫(‪ )15‬لذلك‪ ،‬كان الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين )‪Ludwig Wittgenstein (1951 - 1889‬‬
‫محقا يف مقولته إن أي لغة خاصة (لغة خاصة يب وال يتحدث بها إال أنا)‪ ،‬رمبا ال تحيا من‬
‫دون لغة عامة جامهريية‪ ،‬لكن مبجرد أن تكون اللغة العامة متاحة‪ ،‬رمبا يرمي املتحدث‬
‫اللغة العامة بعيدا ويقوم بخصخصتها‪ ،‬إن جاز التعبري‪ .‬مل يكن فيتغنشتاين ُينكر أن‬
‫هاملت ميكنه مناجاة نفسه مستخدما لغته الخاصة‪ .‬كان ينكر أنه ميكنه أن يفعل ذلك‬
‫من دون أن يتمكن من لغة عامة ليبدأ بها‪.‬‬
‫‪(16) Wheeler (1990), p. 5.‬‬
‫‪(17) Wolfe and Akenson (2005).‬‬
‫(‪ )18‬انظر املشهد الشهري عن الذاكرة الالإرادية التي استحرضت مذاق حلوى املادلني‬
‫‪ madeleines‬يف رواية بروست «البحث عن الزمن املفقود» ‪Remembrance of‬‬
‫‪.Things Past‬‬
‫(‪ُ )19‬ينسب إىل الكان ‪ Lacan‬أنه وجه االنتباه إىل أهمية هذه الظاهرة التي تلعب دورا‬
‫مركزيا يف فلسفة فوكو ‪ ،Foucault‬ويف النظرية النسوية ‪.feminist theory‬‬
‫‪(20) Juniper Research (2012).‬‬
‫‪(21) Heilman et al. (2011).‬‬
‫‪(22) Fishman (2010).‬‬
‫‪(23) Shin and Sneider (2011).‬‬
‫‪(24) Berkman and Plutzer (2010).‬‬

‫الفصل الرابع‬
‫‪(1) Pascal (2008), p. 347.‬‬
‫(‪ )2‬الرسالة ُمعاد طبعها يف (‪.Pascal )1997‬‬
‫(‪ )3‬كانت اآللة تستطيع إجراء عملية الجمع‪ .‬أما عملية الطرح‪ ،‬فقد كانت اآللة تنفذها‬
‫باستخدام أساليب املتمم ‪ ،complement techniques‬إذ يتم أوال تحويل العدد املراد‬
‫طرحه إىل املتمم له‪ ،‬الذي بعد ذلك ُيجمع عىل العدد األول‪ .‬أما عمليات الرضب‬
‫والقسمة‪ ،‬فكانت ُتجرى من خالل سلسلة من عمليات الجمع أو الطرح‪ .‬من الجدير‬
‫بالذكر أن الحواسب تستخدم أساليب متمم مامثلة‪.‬‬
‫(‪ Jetons )4‬كانت عالمات مميزة ُتستَخدَم يف الحساب كعدادات عىل لوحة بها خطوط‪،‬‬
‫وهي مامثلة لعدادات تعليم األطفال‪ ،‬األباكوس ‪.abacus‬‬
‫(‪ ،Pascal (1997) )5‬الصفحة الرقم ‪ ،59‬ترج َمتي‪.‬‬
‫)‪(6‬انظر حاليا ‪.(1991) Hobbes‬‬
‫‪)7( US Civil Service (1891).‬‬
‫‪(8) Turing (1950).‬‬
‫(‪ )9‬إن لوحة املفاتيح كويريت ‪ ،QWERTY‬التي تألف اسمها من األحرف الستة األوىل‬
‫يف الصف العلوي من لوحة املفاتيح‪ ،‬اب ُت ِكرت يف أوائل السبعينيات من القرن التاسع‬
‫عرش‪ ،‬وأصبحت شهرية منذ العام ‪ 1878‬عن طريق رمينغتون ‪ .Remington‬إنها ليست‬
‫التصميم األمثل‪ ،‬ألنها اعتمدت عىل تخطيط يهدف إىل تقليل التصادمات والعراقيل‬
‫امليكانيكية التي تحدث عند الضغط عىل مفاتيح متجاورة يف وقت واحد أو يف تعاقب‬
‫رسيع‪ .‬عىل الرغم من هذا‪ ،‬فإن استخدامها عىل نطاق واسع أدى إىل أنها أصبحت يف‬

‫‪283‬‬
‫تقدمي األدب املقارن‬

‫العام ‪ 1972‬من املعايري القياسية األيزو ‪ ،ISO standard‬انظر «(‪.»Noyes )1983‬‬


‫(‪ )10‬ظاهرة الوجود عن بعد ‪ telepresence‬ليست أساسية يف كثري من املجاالت‪ ،‬مثل‬
‫العمليات الجراحية‪ ،‬حيث أصبح التحكم والتفاعل من بعد واسع االنتشار‪.‬‬
‫(‪« )11‬األنفس امليتة» هي رواية كالسيكيــة للكاتـــب الروســـي نيكوالي غوغـــول‬
‫)‪ُ Nikolai Gogol (1852 - 1809‬نرشت يف العام ‪ ،1842‬وتركز عىل تشيتشكوف‬
‫‪( Chichikov‬الشخصية الرئيسة) ُ‬
‫واألناس الذين صادفهم‪ .‬تعبري «األنفس امليتة» له‬
‫معنى مزدوج‪ .‬إنه يشري من ناحية إىل حقيقة أنه‪ ،‬حتى العام ‪ ،1861‬كان من حق‬
‫أصحاب األرايض يف اإلمرباطورية الروسية أن ميتلكوا فالحني (أقنانا) لزراعة أراضيهم‪.‬‬
‫األقنان كانوا مثل العبيد‪ :‬ميكن رشاؤهم أو بيعهم أو رهنهم‪ ،‬وكانوا ُيحصون عىل أنهم‬
‫«أنفس»‪« .‬األنفس امليتة» هي األقنان التي التزال ُتدرج يف سجالت امللكية عىل رغم‬
‫رحيلهم‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬تشري «األنفس امليتة» أيضا إىل شخصيات الرواية‪ ،‬من حيث‬
‫إنهم أصبحوا شخصيات زائفة‪ .‬للحصول عىل ترجمة باللغة اإلنجليزية من رواية غوغول‬
‫الكالسيكية‪ ،‬انظر (‪ Gogol )1998‬يف سلسلة أكسفورد للكالسيكيات العاملية‪.‬‬
‫‪(12) Van Duyn and Waters (7 August 2006).‬‬
‫(‪ ،Gogol (1998) )13‬الفصل الخامس‪.‬‬
‫‪(14) Raice (2 February 2012).‬‬
‫(‪ )15‬املصدر‪ :‬فايننشال تاميز ‪ 13( Financial Times‬يونيو ‪ ،)2013‬متاحة عىل اإلنرتنت‪.‬‬
‫(‪ )16‬مل أكن الوحيد الذي ذهل‪ ،‬انظر )‪.Cohan (20 May 2013‬‬

‫الفصل الخامس‬
‫(‪ )1‬انظر حاليا ‪.(1999) Woolf‬‬
‫‪(2) Turing (1936).‬‬
‫(‪ )3‬انظر حاليا ‪.(2003) Woolf‬‬
‫‪(4) (2011) Bentham.‬‬
‫‪(5) (1956) Asimov.‬‬
‫(‪ )6‬بدأ الجدل يف أواخر السبعينيات‪ ،‬انظر عىل سبيل املثال ‪ldham and Brass (1979)،‬‬
‫)‪.Sundstrom et al. (1982‬‬
‫(‪ Warren and Brandeis (1890) )7‬صفحة رقم ‪10‬‬
‫‪(8) Holvast (2009).‬‬
‫(‪ Lenhart and Madden (18 April 2007) )9‬الصفحة الرقم ‪.IV‬‬
‫(‪ Marwick et al. (2010) )10‬الصفحة الرقم ‪13‬‬
‫‪(11) Orwell (2013).‬‬
‫(‪ ،Plato, Republic, II, 359b–360b )12‬أنظر ‪.)1997( Plato‬‬
‫(‪ )13‬الكويك ‪( Cookie‬ملف تعريف االرتباط) ملف صغري يتم إرساله من موقع الويب‬
‫ويتم تخزينه يف متصفح الويب لدى ا ُملستَخ ِدم أثناء تصفحه للموقع‪ .‬وقتام يقوم‬
‫ا ُملستَخ ِدم بزيارة موقع الويب مرة أخرى‪ُ ،‬ي ِ‬
‫رسل املتصفح الكويك مرة أخرى إىل الخادم‬
‫للمستَخ ِدم‪ .‬يتم تصميم الكوكيز بحيث‬‫إلخطار موقع الويب عن النشاط السابق ُ‬
‫تتذكر مواقع الويب معلومات (مثل العنارص املوجودة يف سلة التسوق) أو تسجل‬
‫للمستَخ ِدم‪ ،‬مبا يف ذلك نقر أزرار معينة‪ ،‬أو تسجيل الدخول‪ ،‬أو تسجيل‬ ‫نشاط التصفح ُ‬
‫الصفحات التي قام ا ُملستَخ ِدم بزيارتها يف املايض‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫الهوامش‬

‫‪(14) Soltani et al. (2009).‬‬


‫(‪ )15‬اإليكونوميست )‪The Economist (16 December 1999‬‬
‫(‪ ،Fineman and Mykitiuk (1994) )16‬بصفة خاصة طالع الفصل الذي كتبته إليزابيث‬
‫شنايدر ‪ Elizabeth M. Schneider‬بعنوان «حذف الخصوصية» ‪The Violence of‬‬
‫‪( Privacy‬إعادة طباعة ملقالها نرشت يف العام ‪.)1990‬‬
‫(‪ ،Warren and Brandeis (1890) )17‬الصفحة الرقم ‪ ،25‬اإلبراز مضاف‪.‬‬
‫(‪ ،Cohen (2000) )18‬الصفحة ‪.1426‬‬
‫(‪ ،Warren and Brandeis (1890) )19‬الصفحة الرقم ‪.31‬‬
‫(‪ ،Warren and Brandeis (1890) )20‬الصفحة الرقم ‪.33‬‬
‫(‪ )21‬مقتبس يف (‪.Mills )2005‬‬
‫‪(22) Salinger (1951).‬‬

‫الفصل السادس‬
‫(‪ 23) Anderson )1‬يونية ‪.)2008‬‬
‫(‪Plato, Cratylus, 390c )2‬؛ انظر ‪.)1997( Plato‬‬
‫‪(3) Carr (1 July 2008).‬‬
‫(‪ ،Turing (1950) )4‬الصفحة الرقم ‪.442‬‬
‫‪(5) Turing (1950).‬‬
‫(‪ )6‬املقابلة كاملة متوافرة يف‪.http://www.youtube.com/watch?v=3Ox4EMFMy48 :‬‬
‫(‪ )7‬مدرسة هندسة النظم‪« ،‬ريدينغ تستضيف جائزة لوبنري» متاحة عىل اإلنرتنت يف‬
‫‪.asp.16-05-http://www.reading.ac.uk/sse/about/News/sse-newsarticle-2008‬‬
‫(‪ )8‬روبوتات الدردشة (تشات بوت ‪ )chatterbots‬التي ُتقلد بعض أشكال املحادثات اليومية‬
‫السخيفة هي قدمية‪ .‬أكرثها شهرة هو إليزا ‪ ،ELIZA‬أنشأه فايزنباوم ‪Weizenbaum‬‬
‫)‪ ،(1966‬الذي أصبح مهام للغاية يف مجال الذكاء االصطناعي‪ ،‬انظر )‪.Weizenbaum (1976‬‬
‫‪(9) Cosmides (1989).‬‬
‫‪(10) Fiddick et al. (2000).‬‬
‫‪(11) McCarthy (1997).‬‬
‫‪(12) “What is your aim in philosophy? To show the fly the way out of the fly-‬‬
‫‪bottle”. Wittgenstein (2001), §309.‬‬
‫‪(13) Dijkstra (1984).‬‬
‫‪(14) Simon (1996).‬‬

‫الفصل السابع‬
‫‪(1) BBC News (2 December 2013).‬‬
‫‪(2) Von Ahn et al. (2008).‬‬
‫(‪ )3‬يف ‪ 2‬ديسمرب عام ‪ ،2013‬كانت أعىل مكافأة هي ‪ 28.69‬دوالر أمرييك‪ ،‬وأدىن مكافأة كانت‬
‫‪ 0.00‬دوالر أمرييك (املتطوعني) و‪ 0.01‬دوالر أمرييك‪.‬‬
‫(‪ُ )4‬مشار إليها يف ‪ 10( Lohr‬مارس ‪.)2013‬‬
‫(‪ .)2012( Fuggetta )5‬عن كالوت وظاهرة التأثري العامة‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪.)2012( Schaefer‬‬

‫‪285‬‬
‫تقدمي األدب املقارن‬

‫(‪ )6‬كان سبارتاكوس (ولد تقريباً سنة ‪ 109‬ق‪ .‬م ‪ -‬وتويف سنة ‪ 71‬ق‪ .‬م) هو القائد العسكري‬
‫للعبيد يف حرب العبيد الثالثة‪ ،‬وهي انتفاضة كربى للعبيد ضد الجمهورية الرومانية‪.‬‬
‫(‪ )7‬املصدر‪ :‬التقرير السنوي للجمعية األمريكية ملنتجات الحيوانات األليفة ‪American Pet‬‬
‫‪ ،Products Association‬متاح عىل اإلنرتنت‪.‬‬
‫(‪ )8‬املصدر‪ :‬التقرير السنوي لجمعية الربمجيات الرتفيهية ‪Entertainment Software‬‬
‫‪ ،Association‬متاح عىل اإلنرتنت‪.‬‬
‫‪(9) Wollslager (2009).‬‬
‫(‪ )10‬اليزال املرجع القيايس هو )‪.Picard (1997‬‬
‫‪(11) Weizenbaum (1966).‬‬
‫‪(12) Berners-Lee et al. (2001).‬‬
‫(‪ )13‬املصدر‪ :‬تحالف شبكة الويب العاملية ‪ W3C‬الويب الداليل األسئلــة األكرث تكرارا‬
‫)‪ ،)،W3C Semantic Web Frequently Asked Questions,‬متاحة عىل اإلنرتنت‪.‬‬
‫(‪ )14‬تسمى املشكالت األصعب يف الذكاء االصطناعي‪ ،‬مشكلة ذكاء اصطناعي كاملة‪ ،‬أو‬
‫مشكلة ذكاء اصطناعي مستعصية‪ ،‬عندما يتطلب حلها صنع أجهزة حاسب ذات ذكاء‬
‫يكون‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬مثل ذكاء الناس‪ ،‬أي عندما تفرتض ُمسبقا توافر الذكاء االصطناعي‬
‫القوي‪ .‬وعادة ما تشمل األمثلة املشكالت كاملة‪ ،‬الذكاء االصطناعي‪ ،‬والرؤية الحاسوبية‬
‫(انظر مثال كابتشا يف هذا الكتاب)‪ ،‬وفهم املعنى‪ ،‬والتعامل مبرونة ونجاح مع ظروف‬
‫غري متوقعة يف أثناء حل أي مشكلة يف العامل الحقيقي‪ .‬اعتبارا من اليوم‪ ،‬فاملشكالت‬
‫كاملة الذكاء االصطناعي ميكن حلها فقط عن طريق الحاسب مبساعدة من تدخل برشي‪.‬‬
‫‪(15) O’Reilly (1 October 2005).‬‬
‫(‪ )16‬املصدر‪ :‬شعبة بيانات وإحصائيات تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت‪ ،‬مكتب تنمية‬
‫االتصاالت‪ ،‬االتحاد الدويل لالتصاالت‪ ،‬العامل يف العام ‪ ،2013‬حقائق وأرقام تكنولوجيا‬
‫املعلومات واالتصاالت ‪ICT Data and Statistics Division, Telecommunication‬‬
‫‪Development Bureau, International Telecommunication Union, The‬‬
‫‪ ،,World in 2013, ICT Facts and Figures‬متاحة عىل اإلنرتنت‪.‬‬

‫الفصل الثامن‬
‫(‪ )1‬يعرف هذا عىل أنه قيمة األصول املالية مجموعا عليها األصول الحقيقية (املساكن بصفة‬
‫أساسية) التي ميتلكها األفراد‪ ،‬مطروحا منها مديونياتهم‪.‬‬
‫(‪ )2‬املصدر‪ :‬تقرير كريدي سويس عن الرثوة العاملية لعام ‪The Credit Suisse - 2011‬‬
‫‪ ،Global Wealth Report 2011‬متاح عىل اإلنرتنت‪.‬‬
‫(‪ )3‬املصدر‪ ،Nielsen Global AdView Pulse Q4 2011 :‬متاح عىل اإلنرتنت‪.‬‬
‫(‪ )4‬املصدر‪ :‬معهد ستوكهومل لبحوث السالم الدويل ‪Stockholm International Peace‬‬
‫‪ ،Research Institute‬قاعدة بيانات اإلنفاق العسكري ‪Military Expenditure‬‬
‫‪ ،Database‬متاح عىل اإلنرتنت‪.‬‬
‫(‪ )5‬املصدر‪ :‬برايس ووتر هاوس كوبرز‬
‫‪Pricewaterhouse Coopers، Global Entertainment and Media Outlook 2007‬‬
‫‪– 2011،‬متاح عىل اإلنرتنت‪.‬‬
‫(‪ )6‬املصدر‪IDC, Worldwide IT Spending Patterns: The Worldwide Black :‬‬
‫‪ - Book‬متاح عىل اإلنرتنت‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫الهوامش‬

‫(‪ )7‬باستخدام مفردات قياسية‪ ،‬فأنا أشري بكلمة أمة إىل كيان ثقايف اجتامعي يتألف من أناس‬
‫تجمعهم لغة وثقافة‪ .‬أما كلمة دولة‪ ،‬فأنا أشري بها إىل كيان سيايس له سكان دامئون‪،‬‬
‫وأرض محددة‪ ،‬وحكومة‪ ،‬وله القدرة عىل الدخول يف عالقات مع دول أخرى (اتفاقية‬
‫مونتفيديو‪ .)1933 ،‬واألكراد مثال منوذجي ألمة بال دولة‪.‬‬
‫(‪ )8‬الكلمة الالتينية تعني «تقدير» ‪ .estimate‬بالفعل‪ ،‬أجرى الرومان‪ ،‬الذين كانوا يدركون‬
‫جيدا أهمية املعلومات واالتصاالت يف مثل هذه اإلمرباطورية الواسعة من أجل أغراض‬
‫إدارية وفرض الرضائب‪ ،‬التعداد السكاين كل خمس سنوات‪.‬‬
‫‪(9) Williamson (1993).‬‬
‫‪(10) Anderson and Cavanagh (2000).‬‬
‫(‪ .Williamson (2012) )11‬قدم )‪ Ramo (2004‬مصطلح «إجامع بكني» ‪Beijing‬‬
‫‪ ،Consensus‬ولكني استخدمه هنا باملفهــــوم الذي تناوله )‪Williamson (2012‬‬
‫و)‪.Halper (2010‬‬
‫(‪ )12‬عن النزعة اإلرادية ‪ ،volunteerism‬انظر (‪Hockenos (2011‬؛ عن النشاط السيايس‬
‫الرقمي ‪ ،digital activism‬فمرشوع بحوث النشاط السيايس الرقمي ‪Digital‬‬
‫‪ Activism Research Project‬يقدم عىل موقعه عىل شبكة اإلنرتنت (‪http://‬‬
‫‪ )digital-activism.org‬معلومات وفرية‪.‬‬
‫(‪ )13‬أنا هنا استخدم املصطلح مبفهوم ما بعد الهيغلية ‪ post-Hegelian‬ملجتمع غري سيايس‪.‬‬
‫(‪ )14‬الفضاء االجتامعي حيث ميكن للناس أن يلتقوا‪ ،‬ويحددوا املشاكل االجتامعية‪،‬‬
‫ويناقشوها‪ ،‬ويقوموا بصياغة األفعال السياسية‪.‬‬
‫‪(15) Rawls (1999).‬‬
‫(‪ )16‬ملزيد من التحليل التفصييل‪ ،‬انظر )‪.Floridi (2012‬‬
‫(‪ )17‬املصدر‪ :‬تقرير ‪ ،The New Atlantis‬متاح عىل اإلنرتنت‪.‬‬
‫(‪ )18‬املصدر‪ :‬بيان صحايف‪Digital Agenda: cyber-security experts test defences ،‬‬
‫‪ ،in first pan-European simulation‬متاح عىل اإلنرتنت‪.‬‬
‫‪)19( The Economist 2 June 2012.‬‬
‫‪)20) Floridi (1999).‬‬
‫(‪ )21‬لدراسة عن كيفية تطبيق القانون الدويل الحايل يف النزاعات السيربانية والحرب‬
‫السيربانية (اإللكرتونية)‪ ،‬انظر مركز التميز للدفاع السيرباين التعاوين التابع لحلف‬
‫شامل األطلنطي (ناتو) (‪NATO Cooperative Cyber Defence Centre )2013‬‬
‫‪.of Excellence‬‬
‫‪)22( The Economist 7 June 2007.‬‬
‫(‪ )23‬املصدر‪ ،Wilson Quarterly :‬التقرير متاح عىل اإلنرتنت‪.‬‬

‫الفصل التاسع‬
‫‪(1) Crutzen (2006).‬‬
‫‪(2) Funabashi (2012).‬‬
‫‪(3) Weaver (13 May 2010).‬‬
‫‪(4) Glanz (22 September 2012).‬‬
‫)‪(5) The Economist (22 May 2008‬‬
‫‪(6) Glanz (22 September 2012).‬‬

‫‪287‬‬
‫تقدمي األدب املقارن‬

‫‪(7) Sterin (2013).‬‬


‫‪(8) Boccaletti et al. (2008).‬‬
‫‪(9) Webb (2008).‬‬
‫(‪ )10‬هذا يتضمن قتل الخاليا التي تنقسم برسعة‪ ،‬التي تشمل ليس فقط الخاليا الرسطانية‪،‬‬
‫ولكن أيضا خاليا نخاع العظام‪ ،‬والجهاز الهضمي‪ ،‬وبصيالت الشعر‪.‬‬
‫‪(11) Floridi (2013).‬‬

‫الفصل العارش‬
‫(‪ )1‬سعيت إىل وضع مثل هذه األخالقيات للبيئة اإللكرتونية يف )‪.Floridi (2013‬‬

‫‪288‬‬
‫ببليوغرافيا‬
‫ببليوغرافيا‬
Aldridge, I. (2013). High-frequency trading: A practical guide to
algorithmic strategies and trading systems (2nd edn.). Hoboken,
NJ: Wiley.
Anderson, C. (23 June 2008). The end of theory: Data deluge makes the
scientific method obsolete. Wired Magazine.
Anderson, R., and Moore, T. (2006). The economics of information
security. Science, 314 (5799), 610-13.
Anderson, S., and Cavanagh, J. (2000). Top 200: The rise of corporate
global power. Institute for Policy Studies, 4.
Antoniou, G. (2012). A Semantic Web primer (3rd edn.). Cambridge,
Mass. And London: MIT Press.
Aristotle. (1995). The politics. Oxford and New York: Oxford University
Press.
Asimov, I. (1956). The dead past. Astounding Science Fiction (April),
6–46.
Ata, R. N., Thompson, J. K., and Small, B. J. (2013). Effects of exposure
to thin- ideal media images on body dissatisfaction: Testing the
inclusion of a disclaimer versus warning label. Body image, 10 (4),
472–80.
Barboza, D. (9 December 2005). Ogre to slay? Outsource it to Chinese.
New York Times, A1.
Barnatt, C. (2010). A brief guide to cloud computing: An essential
introduction to the next revolution in computing. London:
Robinson.
BBC News. (11 October 2007). Speaker’s legal costs criticised.
BBC News. (7 June 2013). Self-portraits and social media: The rise of
the ‘selfie’.
BBC News. (9 August 2013). The pirate bay: BitTorrent site sails to its
10th birthday.
BBC News. (16 September 2013). Netflix studies piracy sites to decide
what to buy.
BBC News. (2 December 2013). Amazon testing drones for deliveries.
Benjamin, M. (2013). Drone warfare: Killing by remote control
(updated edn.). London and New York: Verso.
Benjamin, W. (2008). The work of art in the age of mechanical
reproduction. London: Penguin.
Bentham, J. (2011). Selected writings. New Haven: Yale University Press.
Berkman, M. B., and Plutzer, E. (2010). Evolution, creationism, and
the battle to control America’s classrooms. New York: Cambridge
University Press.

291
‫الثورة الرابعة‬
Berners-Lee, T., Hendler, J., and Lassila, O. (2001). The Semantic Web.
Scientific American, 284 (5), 28–37.
Boccaletti, G., Löffler, M., and Oppenheim, J. M. (2008). How IT can
cut carbon emissions. McKinsey Quarterly (October), 1–5.
Bolter, J. D. (1984). Turing’s man: Western culture in the computer age.
London: Duckworth.
Bond, M., Meacham, T., Bhunnoo, R., and Benton, T. G. (2013). Food
waste within global food systems. A Global Food Security Report,
available online.
Brezis, E. S., Krugman, P. R., and Tsiddon, D. (1993). Leapfrogging
in international competition: A theory of cycles in national
technological leadership. American Economic Review, 83 (5),
1211–19.
Bridle, J. (29 September 2013). Matchbook: One giant leap towards a
virtual book collection. The Observer.
Briere, M., Oosterlinck, K., and Szafarz, A. (2013). Virtual currency,
tangible return: Portfolio diversification with bitcoins. Working
Papers CEB, 13 (Université Libre de Bruxelles).
Brown, I., and Marsden, C. T. (2013). Regulating code: Good governance
and better regulation in the information age. Cambridge, Mass.:
MIT Press.
Brown, J. S., and Duguid, P. (2002). The social life of information
(repr. with a new preface, originally 2000 edn.). Boston: Harvard
Business School; McGraw Hill.
Brynjolfsson, E., and McAfee, A. (2011). Race against the machine:
How the digital revolution is accelerating innovation, driving
productivity, and irreversibly transforming employment and the
economy. Lexington, Mass.: Digital Frontier Press.
Caldarelli, G., and Catanzaro, M. (2012). Networks: A very short
introduction. Oxford: Oxford University Press.
Carr, N. (1 July 2008). Is Google making us stupid? The Atlantic.
Carter, C. (12 September 2013). Just 224 tweets for modern-day couples
to fall in love. The Telegraph.
Carter, N. (2007). The politics of the environment: Ideas, activism,
policy (2nd edn.). Cambridge: Cambridge University Press.
Castells, M. (2000). The rise of the network society (2nd edn.). Oxford:
Blackwell.
Ceruzzi, P. E. (2012). Computing: A concise history. Cambridge, Mass.
and London: MIT Press.
Challoner, J. (2009). 1001 inventions that changed the world.

292
‫ببليوغرافيا‬
Hauppauge, NY: Barron’s.
Clark, A. (2003). Natural-born cyborgs: Minds, technologies, and
the future of human intelligence. Oxford and New York: Oxford
University Press.
Clarke, R. A., and Knake, R. K. (2010). Cyber war: The next threat to
national security and what to do about it. New York: Ecco.
Clemens, A. M. (2004). No computer exception to the constitution:
The Fifth Amendment protects against compelled production of
an encrypted document or private key. UCLA Journal of Law and
Technology, 2–5.
Cohan, P. (20 May 2013). Yahoo’s Tumblr buy fails four tests of a
successful acquisition. Forbes.
Cohen, J. (2000). Examined lives: Informational privacy and the subject
as object. Stanford Law Review, 52: 1373–1437.
Cohen, J. (2012). Configuring the networked self: Law, code, and the
play of everyday practice. New Haven: Yale University Press.
Copeland, B. J. (2012). Turing: Pioneer of the information age. Oxford:
Oxford University Press.
Cosmides, L. (1989). The logic of social exchange: Has natural selection
shaped how humans reason? Studies with the Wason Selection
Task. Cognition, 31 (3), 187-276.
Crutzen, P. J. (2006). The ‘anthropocene’. In E. Ehlers and T. Krafft
(eds.), Earth system science in the anthropocene (pp. 13–18):
Heidelberg: Springer.
Cukier, K. (27 February 2010). Data, data everywhere: A special report
on managing information: The Economist, 3–18.
Dannenberg, R. A. (ed.). (2010). Computer games and virtual worlds:
A new frontier in intellectual property law. Chicago: American Bar
Association, Section of Intellectual Property Law.
Davis, M. (2000). Engines of logic: Mathematicians and the origin of
the computer. New York and London: Norton.
Dibbell, J. (17 June 2007). The life of the Chinese gold farmer. New York Times.
Dijck, J. v. (2013). The culture of connectivity: A critical history of
social media. Oxford: Oxford University Press.
Dijkstra, E. W. (1984). The threats to computing science. Paper
presented at the ACM 1984 South Central Regional Conference,
16–18 November, Austin, Tex.
Doward, J., and Hinsliff, G. (24 February 2008). Air miles, taxis and his
reluctance to come clean bring Speaker to the brink of disgrace.
The Observer.

293
‫الثورة الرابعة‬
Dredge, S. (27 June 2013). Autorip comes to the UK: Amazon’s ‘gentle
bridge’ between real and virtual music. The Guardian.
Dreyfus, H. L. (1992). What computers still can’t do: A critique of
artificial reason (rev. edn.). Cambridge, Mass.: MIT Press.
The Economist. (16 December 1999). Living in the global goldfish
bowl.
The Economist. (20 December 2005). Frequent-flyer miles-funny
money.
The Economist. (7 June 2007). Robot wars.
The Economist. (22 May 2008). Down on the server farm.
The Economist. (29 February 2012). Now for the good news.
The Economist. (2 June 2012). Morals and the machine.
Evans, D. (2011). The Internet of things: How the next evolution of the
Internet is changing everything. CISCO white paper (April).
Feser, E. (2006). Philosophy of mind: A beginner’s guide. Oxford:
Oneworld.
Fiddick, L., Cosmides, L., and Tooby, J. (2000). No interpretation
without representation: The role of domain-specific representations
and inferences in the Wason Selection Task. Cognition, 77 (1),
1–79.
Fineman, M., and Mykitiuk, R. (1994). The public nature of private
violence: The discovery of domestic abuse. New York and London:
Routledge.
Fischhoff, B., and Kadvany, J. D. (2011). Risk: A very short introduction.
Oxford: Oxford University Press.
Fishman, T. C. (2010). Shock of gray: The aging of the world’s
population and how it pits young against old, child against parent,
worker against boss, company against rival, and nation against
nation. New York: Scribner.
Floridi, L. (1999). Philosophy and computing: An introduction.
London and New York: Routledge.
Floridi, L. (2009). The Semantic Web vs. Web 2.0: A philosophical
assessment. Episteme, 6, 25–37.
Floridi, L. (2010a). Information: A very short introduction. Oxford:
Oxford University Press.
Floridi, L. (ed.). (2010b). The Cambridge handbook of information and
computer ethics. Cambridge: Cambridge University Press.
Floridi, L. (2011). The philosophy of information. Oxford: Oxford
University Press.
Floridi, L. (2012). Acta—the ethical analysis of a failure, and its lessons.

294
‫ببليوغرافيا‬
ECIPE working papers, 04/2012.
Floridi, L. (2013). The ethics of information. Oxford: Oxford University
Press.
Floridi, L. (ed.). (2014). The onlife manifesto. New York: Springer.
Floridi, L., and Taddeo, M. (eds.). (2014). The ethics of information
warfare. New York: Springer.
Fowler, W., North, A., and Stronge, C. (2008). The history of pistols,
revolvers and submachine guns: The development of small firearms,
from 12th century hand-cannons to modern-day automatics, with
180 fabulous photographs and illustrations. London: Southwater.
Freud, S. (1917). A difficulty in the path of psycho-analysis. The
Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund
Freud, ed. James Strachey (London: Hogarth Press, 1956–74), xvii.
An Infantile Neurosis and Other Works, 1917–1919, 135–44.
Fuggetta, R. (2012). Brand advocates: Turning enthusiastic customers
into a powerful marketing force. Hoboken, NJ: Wiley.
Funabashi, H. (2012). Why the Fukushima nuclear disaster is a
man-made calamity. International Journal of Japanese Sociology,
21 (1), 64–75.
Gabbatt, A., and Rushe, D. (3 October 2013). Silk Road shutdown:
How can the FBI seize Bitcoins? The Guardian.
Gantz, J., and Reinsel, D. (2011). Extracting value from chaos. White
paper sponsored by EMC–IDC, available online.
Gardiner, B. (15 August 2008). Bank failure in second life leads to call
for regulation. Wired Magazine.
Gardner, S., and Krug, K. (2006). BitTorrent for dummies. Hoboken,
NJ: Wiley Pub.
Glanz, J. (22 September 2012). Power, pollution and the Internet. New
York Times.
Gleick, J. (2011). The information: A history, a theory, a flood. London:
Fourth Estate.
Gogol, N. (1998). Dead souls. Oxford: Oxford University Press.
Goldstine, H. H. (1993). The computer from Pascal to von Neumann.
Princeton: Princeton University Press.
Halper, S. A. (2010). The Beijing Consensus: How China’s authoritarian
model will dominate the twenty-first century. New York: Basic
Books.
Han, S. (2011). Web 2.0. London: Routledge.
Harrop, P., and Das, R. (2013). RFID forecasts, players and opportunities
2012-2022. IDTechEx, Cambridge, UK.

295
‫الثورة الرابعة‬
Headrick, D. R. (2009). Technology: A world history. Oxford: Oxford
University Press.
Hegel, G. W. F. (1979). Phenomenology of spirit. Oxford: Oxford
University Press.
Heilman, J. M., Kemmann, E., Bonert, M., Chatterjee, A., Ragar, B.,
Beards, G. M., et al. (2011). Wikipedia: A key tool for global public
health promotion. Journal of Medical Internet Research, 13 (1).
Herzfeld, O. (4 December 2012). What is the legal status of virtual
goods? Forbes.
Hill, K. (4 July 2012). How Target figured out a teen girl was pregnant
before her father did. Forbes.
Hird, G. (2010). Green IT in practice: How one company is approaching
the greening of its IT (2nd edn.). Ely: IT Governance Publishing.
Hobbes, T. (1991). Leviathan. Cambridge: Cambridge University Press.
Hockenos, P. (2011). State of the world’s volunteerism report, 2011:
Universal values for global well-being. New York: United Nations,
available online.
Hodges, A. (1992). Alan Turing: The Enigma. London: Vintage.
Holvast, J. (2009). History of privacy. In V. Matyáš, S. Fischer-
Hübner, D. Cvrček, and P. Švenda (eds.), The future of identity
in the information society (IFIP advances in information and
communication technology, 298). Berlin and Heidelberg: Springer,
pp. 13–42.
Honan, M. (5 August 2013). Remembering the Apple Newton’s
prophetic failure and lasting impact. Wired Magazine.
Horace (2011). Satires and epistles. New York: Oxford University Press.
Horowitz, S. J. (2008). Bragg v. Linden’s second life: A primer in virtual
world justice. Ohio NUL Review, 34, 223.
Howe, N., and Strauss, W. (2000). Millennials rising: The next great
generation. New York: Vintage Books.
James, W. (1890). The principles of psychology. London: Macmillan.
Juniper Research. (2012). Smart wearable devices. Research report.
Hampshire, UK. Klein, N. (2000). No logo: No space, no choice,
no jobs. London: Flamingo.
Lenhart, A. (19 March 2012). Teens, smartphones & texting. Pew
Internet & American Life Project.
Lenhart, A., and Madden, M. (18 April 2007). Teens, privacy &
online social networks: How teens manage their online identities
and personal information in the age of myspace: Pew Internet &
American Life Project.

296
‫ببليوغرافيا‬
Lessig, L. (1999). Code: And other laws of cyberspace. New York: Basic
Books.
Lessig, L. (2006). Code (2nd edn.). New York: BasicBooks.
Linklater, A. (1998). The transformation of political community:
Ethical foundations of the post-Westphalian era. Oxford: Polity.
Logan, H. C. (1944). Hand cannon to automatic: a pictorial parade
of hand arms. Huntington, W.Va.: Standard Publications,
Incorporated.
Lohr, S. (10 March 2013). Algorithms get a human hand in steering
web. New York Times.
Luke, K. (2013). World of warcraft down to 7.7 million subscribers.
IGN, available online.
Lyman, P., and Varian, H. R. (2003). How much information 2003,
available online.
Lyotard, J.-F. (1984). The postmodern condition: A report on
knowledge. Minneapolis: University of Minnesota Press.
McCandless, D. (2012). Information is beautiful. London: Collins.
McCarthy, J. (1997). AI as sport. Science and Engineering Ethics, 276
(5318), 1518–19.
McClellan, J. E., and Dorn, H. (2006). Science and technology in world
history: An introduction (2nd edn.). Baltimore: Johns Hopkins
University Press.
Magee, B. (2000). The great philosophers: An introduction to Western
philosophy (2nd edn.). Oxford: Oxford University Press.
Martin, L. H. (ed.). (1988). Technologies of the self: A seminar with
Michel Foucault. Amherst, Mass.: University of Massachusetts
Press.
Marwick, A., Murgia-Diaz, D., and Palfrey, J. (2010). Youth, privacy
and reputation (literature review). Berkman Center Research
Publication 2010-5; Harvard Law Working Paper 10-29.
Mason, M. (6 May 2013). Reports of our death have been greatly
exaggerated. BitTorrent Blog.
Mayer-Schönberger, V., and Cukier, K. (2013). Big data: A revolution
that will transform how we live, work, and think. Boston: Houghton
Mifflin Harcourt.
Mills, E. (2005). Google balances privacy, reach. C|Net News.com,
<http://news.com.com/Google+balances+privacy%2C+reach/2100
-1032_3_5787483.html>.
Mueller, M. (2010). Networks and states: The global politics of internet
governance. Cambridge, Mass.: MIT Press.

297
‫الثورة الرابعة‬
Muniz Jr, A. M., and Schau, H. J. (2005). Religiosity in the abandoned
Apple Newton brand community. Journal of Consumer Research,
31 (4), 737–47.
NATO Cooperative Cyber Defence Centre of Excellence. (2013).
Tallinn manual on the international law applicable to cyber
warfare: Prepared by the international group of experts at the
invitation of the NATO Cooperative Cyber Defence Centre of
Excellence. Cambridge: Cambridge University Press.
Negnevitsky, M. (2011). Artificial intelligence: A guide to intelligent
systems (3rd edn.). Harlow: Addison Wesley/Pearson.
Neurath, O. (1959). Protocol sentences. In A. J. Ayer (ed.), Logical
positivism (pp. 199–208). Glencoe, Ill.: The Free Press.
Nissenbaum, H. F. (2010). Privacy in context: Technology, policy, and
the integrity of social life. Stanford, Calif.: Stanford Law Books.
Nogee, A. (2004). RFID tags and chip: Changing the world for less than
the price of a cup of coffee. In-Stat/MDR.
Noonan, H. W. (2003). Personal identity (2nd edn.). London: Routledge.
Norman, D. A. (1998). The design of everyday things. Cambridge,
Mass.: MIT.
Norris, P. (2001). Digital divide: Civic engagement, information
poverty, and the Internet worldwide. Cambridge: Cambridge
University Press.
Noyes, J. (1983). The QWERTY keyboard: A review. International
Journal of Man- Machine Studies, 18 (3), 265–81.
O’Reilly Media. (2012). Big data now: 2012 edition. Kindle edition:
O’Reilly Media Inc.
O’Reilly, T. (1 October 2005). Web 2.0: Compact definition? O’Reilly
radar blog, available online.
Oldham, G. R., and Brass, D. J. (1979). Employee reactions to an open-
plan office: A naturally occurring quasi-experiment. Administrative
Science Quarterly, 24, 267–84.
Ong, W. J. (1988). Orality and literacy: The technologizing of the word.
London: Routledge.
Orwell, G. (2013). Nineteen Eighty-Four (annotated edn.). London:
Penguin.
Palfrey, J., and Gasser, U. (2008). Born digital: Understanding the first
generation of digital natives. New York: Basic Books.
Pascal, B. (1997). Machine d’arithmétique. Review of Modern Logic,
7 (1), 56–66.
Pascal, B. (2008). Pensées and other writings. Oxford: Oxford

298
‫ببليوغرافيا‬
University Press.
Pfanner, E. (28 September 2009). A move to curb digitally altered
photos in ads. New York Times.
Picard, R. W. (1997). Affective computing. Cambridge, Mass. and
London: MIT Press.
Pierce, J. R. (1980). An introduction to information theory: Symbols,
signals & noise (2nd edn.). New York: Dover Publications.
Plato. (1997). Complete works. Indianapolis and Cambridge, Mass.:
Hackett.
Popper, K. R. (2002). The logic of scientific discovery. London:
Routledge.
Proust, M. (1996). In search of lost time, i. Swann’s way (trans. C. K.
Scott Moncrieff and T. Kilmartin, rev. D. J. Enright). London:
Vintage (originally published: London: Chatto & Windus, 1992).
Raice, S. (2 Feb. 2012). Facebook sets historic IPO. Wall Street Journal.
Ramo, J. C. (2004). The Beijing Consensus. London: Foreign Policy
Centre.
Rawls, J. (1999). A theory of justice (rev. edn.). Cambridge, Mass.:
Belknap Press of Harvard Univeristy Press.
Rose, S. (19 October 2009). Hollywood is haunted by ghost in the shell.
The Guardian.
Sainsbury, R. M. (1995). Paradoxes (2nd edn.). Cambridge: Cambridge
University Press.
Salinger, J. D. (1951). The catcher in the rye. Boston: Little Brown.
Saponas, T. S., Lester, J., Hartung, C., and Kohno, T. (2006). Devices
that tell on you: The Nike+iPod sport kit. Dept. of Computer
Science and Engineering, University of Washington, Tech. Rep.,
available online.
Sauter, M. B., Hess, A. E. M., and Weigley, S. (1 February 2013). The
biggest car recalls of all time. 24/7 Wall St. Report.
Schaefer, M. (2012). Return on influence: The revolutionary power
of Klout, social scoring, and influence marketing (1st edn.). New
York: McGraw-Hill.
Schneier, B. (2003). Beyond fear: Thinking sensibly about security in
an uncertain world. New York: Copernicus, an imprint of Springer.
Shannon, C. E., and Weaver, W. (1949, repr. 1998). The mathematical
theory of communication. Urbana: University of Illinois Press.
Shieber, S. M. (2004). The Turing Test: Verbal behavior as the hallmark
of intelligence. Cambridge, Mass.: MIT Press.
Shin, G.-W., and Sneider, D. C. (2011). History textbooks and the wars

299
‫الثورة الرابعة‬
in Asia: Divided memories. Abingdon: Routledge.
Shumaker, R. W., Walkup, K. R., and Beck, B. B. (2011). Animal tool
behavior: The use and manufacture of tools by animals (rev. and
updated edn.). Baltimore: Johns Hopkins University Press.
Simon, H. A. (1996). The sciences of the artificial (3rd edn.). Cambridge,
Mass.: MIT Press.
Slezak, M. (2013). Space miners hope to build first off-earth economy.
New Scientist, 217 (2909), 8–10.
Smullyan, R. M. (1980). This book needs no title: A budget of living
paradoxes. Englewood Cliffs, NJ: Prentice-Hall.
Soltani, A., Canty, S., Mayo, Q., Thomas, L., and Hoofnagle, C. (2009).
Flash cookies and privacy, available at SSRN 1446862.
Steger, M. B. (2003). Globalization: A very short introduction. Oxford:
Oxford University Press.
Steil, B. (2013). The battle of Bretton Woods: John Maynard Keynes,
Harry Dexter White, and the making of a new world order.
Princeton: Princeton University Press.
Sterin, F. (2013). Powering our Finnish data center with Swedish wind
energy. Google Green Blog, <http://googlegreenblog.blogspot.
co.uk/2013/06/powering- our-finnish-data-center-with.html>.
Sundstrom, E., Herbert, R. K., and Brown, D. W. (1982). Privacy and
communication in an open-plan office a case study. Environment
and Behavior, 14 (3), 379-92.
Turing, A. M. (1936). On computable numbers, with an application
to the entscheidungsproblem. Proceedings of the London
Mathematics Society, 2nd ser., 42, 230-65.
Turing, A. M. (1950). Computing machinery and intelligence. Mind,
59 (236), 433-60.
Turing, A. M. (2004). The essential Turing: Seminal writings in
computing, logic, philosophy, artificial intelligence, and artificial
life, plus the secrets of Enigma. Oxford: Clarendon Press.
Uppenberg, K. (2009). Innovation and economic growth. European
Investment Bank Papers, 14 (1), 10–35.
US Civil Service. (1891). The executive documents, house of
representatives, first session of the Fifty-First Congress 1889-1890.
Washington, DC.
Van Duyn, A., and Waters, R. (7 August 2006). Google in $ 900m ad
deal with myspace. Financial Times.
Vesset, D., Morris, H. D., Little, G., Borovick, L., Feldman, S., Eastwood,
M., et al. (2012). Worldwide big data technology and services 2012-

300
‫ببليوغرافيا‬
2015 forecast, a report by IDC, available online.
Von Ahn, L., Maurer, B., McMillen, C., Abraham, D., and Blum,
M. (2008). Recaptcha: Human-based character recognition via web
security measures. Science, 321 (5895), 1465–8.
Wacks, R. (2010). Privacy: A very short introduction. Oxford: Oxford
University Press.
Waismann, F. (1968). How I see philosophy. London: Macmillan (1st
pub. 1956).
Warren, S., and Brandeis, L. D. (1890). The right to privacy. Harvard
Law Review, 193 (4).
Weaver, M. (13 May 2010). Obama to force BP to pay more cleanup
costs for deepwater disaster. The Guardian.
Webb, M. (2008). Smart 2020: Enabling the low carbon economy in
the information age. The Climate Group, available online.
Weinberger, D. (2011). Too big to know: Rethinking knowledge now
that the facts aren’t the facts, experts are everywhere, and the
smartest person in the room is the room. New York: Basic Books.
Weinert, F. (2009). Copernicus, Darwin, and Freud: Revolutions in the
history and philosophy of science. Oxford: Blackwell.
Weizenbaum, J. (1966). ELIZA—a computer program for the study of
natural language communication between man and machine.
Communications of the ACM, 9 (1), 36-45.
Weizenbaum, J. (1976). Computer power and human reason: From
judgment to calculation. San Francisco: W. H. Freeman.
Wheeler, J. A. (1990). Information, physics, quantum: The search for
links. In W. H. Zurek (ed.), Complexity, entropy, and the physics
of information. Redwood City, Calif.: Addison-Wesley Pub. Co.,
pp. 3-28.
Wiener, N. (1954). The human use of human beings: Cybernetics and
society (rev. edn.). Boston: Houghton Mifflin.
Wiener, N. (1961). Cybernetics: Or control and communication in the
animal and the machine (2nd edn.). Cambridge, Mass.: MIT Press.
Wiener, N. (1964). God and golem, inc.: A comment on certain points
where cybernetics impinges on religion. Cambridge, Mass.: MIT
Press.
Williamson, J. (1993). Democracy and the ‘Washington Consensus’.
World Development, 21 (8), 1329-36.
Williamson, J. (2012). Is the ‘Beijing Consensus’ now dominant? Asia
Policy, 13 (1), 1-16.
Winfield, A. F. T. (2012). Robotics: A very short introduction. Oxford:

301
‫الثورة الرابعة‬
Oxford University Press.
Wittgenstein, L. (2001). Philosophical investigations: The German text
with a revised English translation (3rd edn.). Oxford: Blackwell.
Wolfe, C. K., and Akenson, J. E. (2005). Country music goes to war.
Lexington, KY: University Press of Kentucky.
Wollslager, M. E. (2009). Children’s awareness of online advertising on
neopets: The effect of media literacy training on recall. SIMILE:
Studies In Media & Information Literacy Education, 9 (2), 31-53.
Wooldridge, M. J. (2009). An introduction to multiagent systems (2nd
edn.). Chichester and Hoboken, NJ: Wiley.
Woolf, V. (1999). The years. Oxford: Oxford University Press.
Woolf, V. (2003). The common reader (rev. edn.). London: Vintage.

302
‫املؤلف يف سطور‬

‫لوتشيانو فلوريدي‬
‫ أستاذ فلسفة وأخالقيات املعلومات يف جامعة أكسفورد باململكة املتحدة‪.‬‬
‫ زميل باحث يف معهد أكسفورد لإلنرتنت‪.‬‬
‫ زميل كلية سانت كروس‪ ،‬أكسفورد‪.‬‬
‫ حاصل عىل جائزة «أستاذية غاوس» ‪ Gauss Professorship‬من أكادميية‬
‫غوتنغن للعلوم‪.‬‬
‫ حاصل عىل جائزة بارويز ‪ Barwise Prize‬من الجمعية الفلسفية‬
‫األمريكية ‪.)American Philosophical Association (APA‬‬
‫ حاصل عىل جائزة كويف ‪ Covey Award‬من الجمعية الدولية للحوسبة‬
‫والفلسفة ‪International Association for Computing and Philosophy‬‬
‫‪.)(IACAP‬‬
‫ حاصل عىل جائزة فايزنباوم ‪ Weizenbaum Award‬من الجمعية الدولية‬
‫لألخالقيات وتكنولوجيا املعلومات ‪International Society for Ethics and‬‬
‫‪.)Information Technology (INSEIT‬‬
‫ زميل جمعية دراسة الذكاء االصطناعي ومحاكاة السلوك ‪Society for the‬‬
‫‪Study of Artificial Intelligence and the Simulation of Behaviour‬‬
‫‪.)(AISB‬‬
‫ زميل الجمعية الربيطانية للحاسبات ‪British Computer Society‬‬
‫‪.)(BCS‬‬
‫ رئيس تحرير مجلة الفلسفة والتكنولوجيا‪.‬‬
‫ كان رئيسا ملجموعة الباحثني املشاركني يف «مبادرة أوناليف ‪Onlife‬‬
‫‪ »Initiative‬يف مفوضية االتحاد األورويب‪.‬‬

‫‪303‬‬
304
‫املرتجم يف سطور‬

‫د‪ .‬لؤي عبداجمليد السيد‬


‫ باحث أول ومساعد عميد مركز البحوث واالستشارات لقطاع النقل‬
‫البحري ‪ -‬اإلسكندرية ‪ -‬جمهورية مرص العربية‪.‬‬
‫ حاصل عىل دكتوراه الفلسفة يف الحوسبة ‪ -‬كلية العلوم والتكنولوجيا ‪-‬‬
‫جامعة بليموث ‪ -‬اململكة املتحدة‪.‬‬
‫ حاصل عىل ماجستري تكنولوجيا املعلومات ‪ -‬معهد الدراسات العليا‬
‫والبحوث ‪ -‬جامعة اإلسكندرية ‪ -‬مرص‪.‬‬
‫ حاصل عىل دبلوم الدراسات العليا يف تكنولوجيا املعلومات ‪ -‬معهد‬
‫الدراسات العليا والبحوث ‪ -‬جامعة اإلسكندرية ‪ -‬مرص‪.‬‬
‫ حاصل عىل دبلوم الدراسات البيئية يف ترشيد الطاقة ‪ -‬معهد الدراسات‬
‫العليا والبحوث ‪ -‬جامعة اإلسكندرية ‪ -‬مرص‪.‬‬
‫ حاصل عىل بكالوريوس العلوم ‪ -‬جامعة اإلسكندرية‪.‬‬
‫ له عدد من األبحاث العلمية املنشورة يف مؤمترات ومجالت علمية‪.‬‬
‫ أدار وشارك يف العديد من مرشوعات تطبيق تكنولوجيا املعلومات يف‬
‫صناعة النقل البحري يف كل من مرص والسودان وسورية‪.‬‬
‫ أحد رواد نرش وتطبيق نظام تبادل البيانات إلكرتونيا (‪Electronic Data‬‬
‫‪ )Interchange – EDI‬يف قطاع النقل البحري املرصي‪.‬‬
‫ عضو نقابة املهن العلميـة مبصــر‪ ،‬وعضـــو جمعيــة نظم املعلومــات‬
‫– أطلنطا – الواليات املتحدة األمريكية‪.‬‬
‫ مستشار ومتخصص يف منذجة وإعادة هندسة العمليات اإلدارية‪ ،‬وتطوير‬
‫نظم املعلومات املتكاملة ملجتمع امليناء‪ ،‬ومنذجة وبناء نظم املعلومات املتعددة‬
‫الوكالء ‪.Multi-agent Systems‬‬

‫‪305‬‬
306
‫سلسلة عـالـَم املعرفة‬

‫«عالم املعرفة» سلس��لة كتب ثقافية تصدر في مطلع كل ش��هر ميالدي عن املجلس‬
‫الوطن��ي للثقاف��ة والفن��ون واآلداب ‪ -‬دولة الكويت ‪ -‬وقد صدر الع��دد األول منها في‬
‫شهر يناير العام ‪.1978‬‬
‫ته��دف هذه السلس��لة إلى تزويد القارئ مب��ادة جيدة من الثقاف��ة تغطي جميع فروع‬
‫املعرفة‪ ،‬وكذلك ربطه بأحدث التيارات الفكرية والثقافية املعاصرة‪ .‬ومن املوضوعات‬
‫التي تعاجلها تأليفا وترجمة‪:‬‬
‫‪ - 1‬الدراس��ات اإلنس��انية‪ :‬تاريخ ـ فلسفة ‪ -‬أدب الرحالت ‪ -‬الدراسات احلضارية ‪-‬‬
‫تاريخ األفكار‪.‬‬
‫‪ - 2‬العل��وم االجتماعي��ة‪ :‬اجتم��اع ‪ -‬اقتص��اد ‪ -‬سياس��ة ‪ -‬عل��م نف��س ‪ -‬جغرافي��ا ‪-‬‬
‫تخطيط ‪ -‬دراسات استراتيجية ‪ -‬مستقبليات‪.‬‬
‫‪ - 3‬الـدراســات األدبيـة واللغويـة‪ :‬األدب العـربـي ‪ -‬اآلداب العامليـة ‪ -‬علـم اللغة‪.‬‬
‫‪ - 4‬الدراس��ات الفني��ة‪ :‬عل��م اجلمال وفلس��فة الفن ‪ -‬املس��رح ‪ -‬املوس��يقى ‪ -‬الفنون‬
‫التشكيلية والفنون الشعبية‪.‬‬
‫‪ - 5‬الدراس��ــات العلمي��ة‪ :‬تاريــ��خ العلـــ��م وفلس��ـــــفته‪ ،‬تبس��يط العلــ��وم الطبيـــعي��ة‬
‫(فيــزي��اء‪ ،‬كيمــي��اء‪ ،‬عل��م احلــي��اة‪ ،‬فل��ك) ـ الرياضــي��ات التطبيــقية (م��ع االهتــمام‬
‫باجلــوانب اإلنسانية لهــذه العــلوم)‪ ،‬والدراسات التكنولوجية‪.‬‬
‫أم��ا بالنس��بة إل��ى نش��ر األعم��ال اإلبداعي��ة ـ املترجم��ة أو املؤلف��ة ـ م��ن ش��عر وقصة‬
‫ومس��رحية‪ ،‬وكذلك األعمال املتعلقة بش��خصية واحدة بعينها فه��ذا أمر غير وارد في‬
‫الوقت احلالي‪.‬‬
‫وحترص سلسلة «عالم املعرفة» على أن تكــون األعمـال املترجــمة حديثة النشر‪.‬‬
‫وترحب السلس��لة باقتراح��ات التألي��ف والترجمة املقدمة م��ن املتخصصني‪ ،‬على‬
‫أال يزي��د حجمها عل��ى ‪ 350‬صفحة من القطع املتوس��ط‪ ،‬وأن تك��ون مصحوبة بنبذة‬
‫وافية عن الكتاب وموضوعاته وأهميته ومدى جدته‪ .‬وفي حالة الترجمة ترسل نسخة‬

‫‪307‬‬
‫مصورة من الكتاب بلغته األصلية‪ ،‬كما ترفق مذكرة بالفكرة العامة للكتاب‪ ،‬وكذلك‬
‫تدون أرق��ام صفحات الكتاب األصل��ي املقابلة للنص املترج��م على جانب‬
‫يج��ب أن ّ‬
‫الصفحة املترجمة‪ ،‬والسلسلـة ال ميكنهـا النظـر فـي أي ترجمـة ما لم تكن مستوفية لهذا‬
‫الش��رط‪ .‬واملجلس غير مل��زم بإعادة املخطوطات والكتب األجنبي��ة في حالة االعتذار‬
‫عن عدم نش��رها‪ .‬وفي جميع احلاالت ينبغي إرفاق س��يرة ذاتية ملقترح الكتاب تتضمن‬
‫البيانات الرئيسية عن نشاطه العلمي السابق‪.‬‬
‫وف��ي ح��ال املوافقة والتعاق��د على املوضوع ـ��ـ املؤل��ف أو املترجم ــ تص��رف مكافأة‬
‫للمؤلف مقدارها ألفا دينار كويتي وللمترجم مكافأة مبعدل ثالثني فلس��ا عن الكلمة‬
‫الواحدة في النص األجنبي (وبحد أقصى مقداره ألفان وخمسمائة دينار كويتي)‬

‫‪308‬‬
‫سعر النسخة‬
‫الكويت ودول اخلليج دينار كويتي‬
‫ما يعادل دوالرا أمريكيا‬ ‫الدول العربية‬
‫أربعة دوالرات أمريكية‬ ‫خارج الوطن العربي‬
‫االشتراكات‬
‫دولة الكويت‬
‫‪ 15‬د‪ .‬ك‬ ‫لألفراد‬
‫‪ 25‬د‪ .‬ك‬ ‫للمؤسسات‬
‫دول اخلليج‬
‫‪ 17‬د‪ .‬ك‬ ‫لألفراد‬
‫‪ 30‬د‪ .‬ك‬ ‫للمؤسسات‬
‫الدول العربية‬
‫‪ 25‬دوالرا أمريكيا‬ ‫لألفراد‬
‫‪ 50‬دوالرا أمريكيا‬ ‫للمؤسسات‬
‫خارج الوطن العربي‬
‫‪ 50‬دوالرا أمريكيا‬ ‫لألفراد‬
‫‪ 100‬دوالر أمريكي‬ ‫للمؤسسات‬

‫تسدد االشرتاكات واملبيعات مقدما نقدا أو بشيك باسم املجلس الوطني‬


‫للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬مع مراعاة سداد عمولة البنك املحول عليه املبلغ‬
‫يف الكويت‪ ،‬ويرسل إلينا بالربيد املسجل عىل العنوان التايل‪:‬‬
‫املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‬
‫ص‪ .‬ب ‪ 23996‬الصفاة ‪ -‬الرمزي الربيدي ‪13100‬‬
‫دولة الكويت‬
‫بدالة‪)00965( 22416006 :‬‬
‫داخيل‪1152 /1153/1193 /1194 /1195 /1196 :‬‬

‫‪309‬‬
310
‫‪311‬‬
‫أسماء وأرقام وكالء التوزيع‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬التوزيع احمللي – دولة الكويت‬
‫اإلمييل‬ ‫رقم الفاكس‬ ‫رقم الهاتف‬ ‫وكيل التوزيع‬ ‫الدولة‬ ‫م‬
‫‪im_grp50@yahoo.com‬‬ ‫‪2482682300965 /‬‬ ‫‪00965 24826820 /1/2‬‬ ‫املجموعة اإلعالمية العاملية‬ ‫الكويت‬ ‫‪1‬‬

‫ثانياً‪ :‬التوزيع اخلارجي‬


‫‪bander.shareef@saudidistribution.com‬‬
‫– ‪121277400966 /12121766‬‬ ‫– ‪1441897200966 /14419933‬‬ ‫الشركة السعودية للتوزيع‬ ‫السعودية‬ ‫‪2‬‬
‫‪babiker.khalil@saudidistribution.com‬‬

‫‪cir@alayam.com‬‬
‫‪1761774400973 /‬‬ ‫– ‪3661616800973 /17617733‬‬ ‫مؤسسة األيام للنشر‬ ‫البحرين‬ ‫‪3‬‬
‫‪rudainaa.ahmed@alayam.com‬‬

‫‪eppdc@emirates.net.ae‬‬
‫شركة اإلمارات للطباعة والنشر‬
‫‪info@eppdco.com‬‬ ‫– ‪4391801900971 /43918354‬‬ ‫‪00971 43916501 /2/3‬‬ ‫اإلمارات‬ ‫‪4‬‬
‫والتوزيع‬
‫‪essam.ali@eppdco.com‬‬

‫‪alattadist@yahoo.com‬‬ ‫‪2449320000968 /‬‬ ‫– ‪2449139900968 /24492936 – 24496748‬‬ ‫مؤسسة العطاء للتوزيع‬ ‫سلطنة ُعمان‬ ‫‪5‬‬

‫‪thaqafadist@qatar.net.qa‬‬ ‫‪4462180000974 /‬‬ ‫– ‪4462218200974 /44621942‬‬ ‫شركة دار الثقافة‬ ‫قطر‬ ‫‪6‬‬
‫‪00202 25782700/1/2/3/4/5‬‬
‫‪ahmed_isaac2008@hotmail.com‬‬ ‫‪2578254000202 /‬‬ ‫مؤسسة أخبار اليوم‬ ‫مصر‬ ‫‪7‬‬
‫‪00202 25806400‬‬
‫‪165325900961 /‬‬
‫‪topspeed1@hotmail.com‬‬ ‫‪00961 1666314 /15‬‬ ‫مؤسسة نعنوع الصحفية للتوزيع‬ ‫لبنان‬ ‫‪8‬‬
‫‪165326000961 /‬‬
‫‪sotupress@sotup.com.nt‬‬ ‫‪7132300400216 /‬‬ ‫‪7132249900216 /‬‬ ‫الشركة التونسية‬ ‫تونس‬ ‫‪9‬‬

‫‪s.wardi@sapress.ma‬‬ ‫‪52224921400212 /‬‬ ‫‪52224920000212 /‬‬ ‫الشركة العربية األفريقية‬ ‫املغرب‬ ‫‪10‬‬
‫‪alshafiei.ankousha@aramex.com‬‬
‫‪6533773300962 /‬‬ ‫– ‪79720409500962 /6535885‬‬ ‫وكالة التوزيع األردنية‬ ‫األردن‬ ‫‪11‬‬
‫‪basem.abuhameds@aramex.com‬‬

‫‪wael.kassess@rdp.ps‬‬ ‫‪2296413300970 /‬‬ ‫‪2298080000970 /‬‬ ‫شركة رام الله للتوزيع والنشر‬ ‫فلسطني‬ ‫‪12‬‬

‫‪alkaidpd@yahoo.com‬‬ ‫‪124088300967 /‬‬ ‫‪124088300967 /‬‬ ‫القائد للنشر والتوزيع‬ ‫اليمن‬ ‫‪13‬‬
‫‪daralryan_cup22@hotmail.com‬‬
‫‪83242703002491 /‬‬ ‫‪83242702002491 /‬‬ ‫دار الريان للثقافة والنشر والتوزيع‬ ‫السودان‬ ‫‪14‬‬
‫‪daralryan_12@hotmail.com‬‬
312
‫تنويـــــه‬
‫لالط�لاع عل��ى قائم��ة كت��ب السلس��لة انظ��ر عدد‬
‫ديس��مرب (كان��ون األول) م��ن كل س��نة‪ ،‬حي��ث توجد‬
‫قائمة كاملة بأسماء الكتب املنشورة‬
‫يف السلسلة منذ يناير ‪.1978‬‬

‫‪313‬‬
314
‫قسيمة اشتراك في إصدارات‬
‫المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‬

‫عامل املعرفة الثقافة العاملية عامل الفكر إبداعات عاملية جريدة الفنون املرسح العاملي‬
‫البيان‬
‫د‪.‬ك دوالر د‪.‬ك دوالر د‪.‬ك دوالر د‪.‬ك دوالر د‪.‬ك دوالر د‪.‬ك دوالر‬
‫‪20‬‬ ‫‪18‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪25‬‬ ‫مؤسسة داخل الكويت‬
‫‪10‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪15‬‬ ‫أفراد داخل الكويت‬
‫‪24‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪30‬‬ ‫مؤسسات دول الخليج العريب‬
‫‪12‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪17‬‬ ‫أفراد دول الخليج العريب‬
‫‪100‬‬ ‫‪48‬‬ ‫‪100‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪100‬‬ ‫مؤسسات خارج الوطن العريب‬
‫‪50‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪50‬‬ ‫أفراد خارج الوطن العريب‬
‫‪50‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪50‬‬ ‫مؤسسات يف الوطن العريب‬
‫‪25‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪15‬‬ ‫‪25‬‬ ‫أفراد يف الوطن العريب‬

‫تجديد اشرتاك‬ ‫الرجاء ملء البيانات يف حالة رغبتكم يف‪ :‬تسجيل اشرتاك‬

‫العنوان‪:‬‬
‫الرمز الربيدي‪:‬‬ ‫املدينة‪:‬‬
‫البلد‪:‬‬
‫رقم الهاتف‪:‬‬
‫الربيد اإللكرتوين‪:‬‬
‫مدة االشرتاك‪:‬‬ ‫اسم املطبوعة‪:‬‬
‫نقدا ‪ /‬شيك رقم‪:‬‬ ‫املبلغ املرسل‪:‬‬
‫‪20 / /‬م‬ ‫التاريخ‪:‬‬ ‫التوقيع‪:‬‬

‫للتوزيع واالشتراكات يمكنكم التواصل معنا عبر البريد اإللكتروني‬


‫التالي‪dist.nccal@nccal.gov.kw :‬‬

‫‪315‬‬
WITHE

316
317

You might also like