You are on page 1of 5

‫الصحة النفسية في القرآن و السنة‬

‫محمد عثمان نجاتي الكويت‬

‫يعتبر سيجموند فرويد هو صاحب نظرية التحليل النفسي وأول من أسسها في مجال الطب النفسي وكانت تعتمد‬
‫في جزء كبير منها عالى نظرته الخاصة والتي كونها من اطلعااته وقراءاته ثم من ملحظاته خاصة في فترة‬
‫عامله مع أستاذ وطبيب المراض العصبية في فرنسا داتشاركو واعاتمد كثيراا عالى بعض المفاهيم الفلسفية والتي‬
‫أثبت العلم الحديث خاصة في مجال الطب النفسي البيولوجي عادم تطابقها مع اكتشاف السباب البيولوجية وراء‬
‫‪.‬الكثير من المراض النفسية مثل مرض الفصام‪ .‬ومرض الكتئاب ومرض الوسواس القهري‬

‫إن علماء النفس المحدثين‪ ،‬في محاولتهم لفهم شخصية النسان والعوامل المحددة لها‪ ،‬قد‬
‫عنوا بدراسة أثر كل من العوامل البيولوجية والجتماعية والثقافية في الشخصية ‪ ،‬وفي‬
‫دراستهم لتأثير العوامل البيولوجية على الشخصية‪ ،‬قد اهتموا بدراسة أثر كل من الوراثة‬
‫والتكوين البدني‪ ،‬وطبيعة تكوين الجهاز العصبي‪ ،‬والجهاز الغدي وما يفرزه من هرمونات‬
‫متعددة‪ ،‬وفي دراستهم لتأثير العوامل الجتماعية والثقافية على الشخصية‪ ،‬فقد اهتموا‬
‫بدراسة تأثير خبرات الطفولة وخاصة فى السرة وطريقة معاملة الوالدين‪ ،‬كما اهتموا‬
‫بدراسة تأثير الطبقات الجتماعية‪ ،‬والثقافات الفرعية المدرسة‪ ،‬المؤسسات الجتماعية‬
‫المختلفة‪ ،‬وجماعات الرفاق والصدقاء‪.‬‬
‫غير أن علماء النفس المحدثين قد أغفلوا في دراستهم للشخصية تأثير الجانب الروحي من‬
‫النسان في شخصيته وسلوكه‪ ،‬مما أدى إلى قصور واضح في فهمهم للنسان وفي‬
‫معرفتهم للعوامل المحددة للشخصية السوية وغير السوية ‪ ،‬كما أدى إلى عدم اهتذائهم‬
‫إلى مفهوم واضح دقيق للصحة النفسية‪ .‬وأدى ذلك بالتالي إلى عدم اهتدائهم إلى الطريقة‬
‫المثلى في العلجا النفسي لضطرابات الشخصية‪.‬‬
‫وقد لحظ اريك فروم المحلل النفسي قصور علم النفس الحديث وعجزه عن فهم النسان‬
‫فهما صحيحا بسبب إغفاله دراسة الجانب الروحي في النسان‪ .‬ويبدو ذلك واضحا من قوله‪:‬‬
‫"‪ ...‬إن التقليد الذي يعد السيكولوجيا دراسة لروح النسان دراسة تهم بفضائله وسعادته‪-‬‬
‫هذا التقليد نبذ تماماا ‪ ،‬وأصبح علم النفس الكاديمي في محاولته لمحاكاة العلوم الطبيعية‬
‫والساليب المعملية في الوزن والحساب‪ -‬أصبح هذا العلم يعالج كل شيء ما عدا الروح‪ ،‬إذ‬
‫حاو ل ‪ ،‬هذا العلم أن يفهم مظاهر النسان التي يمكن فحصها في المعمل‪ ،‬وزعم أن‬
‫الشعور ـ وأحكام القيمة‪ ،‬ومعرفة لخير والشر‪ ،‬ما هي إل تصورات ميتا فيزيقية تقع خارجا‬
‫مشكلت علم النفس‪ .‬وكان اهتمامه ينصب في أغلب الحيان على مشكلت تافهة تتمشى‬
‫مع منهج علمي مزعوم‪ ،‬وذلك بدل من أن يضع مناهج جديدة لدراسة‬
‫مشكلت النسان الهامة‪ .‬وهكذا أصبح علم النفس علما يفتقر إلى موضوعه الرئيسي وهو‬
‫الروح‪ ،‬وكان معنياا بالميكانيزمات‪ ،‬وتكوينات ردود الفعال والغرائز‪ ،‬دون أن يعنى بالظواهر‬
‫النسانية المميزة أشد التمييز للنسان‪ :‬كالحب والعقل والشعور والقديم‬
‫وهذا القصور في فهم علماء النفس المحدثين للنسان قد دفع أبرا هام ماسلو أيضا إلى‬
‫اقتراح تصنيف جديد لدوافع النسان! يشمل الدوافع الروحية التي يغفلها عادة علماء النفس‬
‫المحدثون قي دراستهم لدوافع النسان ‪.‬‬
‫إننا ل نستطيع أن نفهم النسان فهما واضحاا دقيقاا ‪ ،‬كما ل نستطيع أن نكون مفهوماا دقيقاا‬
‫وسليماا عن صحته النفسية دون أن نفهم جميع العوامل المحددة لشخصية النسان‪ ،‬سواء‬
‫أكانت عوامل بيولوجية أم روحية أم اجتماعية أم ثقافية ‪.‬‬
‫تكوين النسان‪:‬‬
‫يتكون النسان كما أخبرنا القرآن الكريم من جسم وروح‪ ،‬وروح النسان قبسة من روح ا‬
‫سبحانه وتعالى ‪ ،‬تميز بها عن سائر الحيوان ‪ ،‬وهي التي خصته بالستعداد لمعرفة ا‬
‫واليمان به وعبادته‪-،،‬تحصيل العلوم وتسخيرها فى عمارة الرض‪ ،‬والتمسك بالقيم والمثل‬
‫العليا‪ ،‬وبلوغ أعلى مراتب الكمال النساني‪ ،‬وهي التي تؤهله لخلفة ا سبحانه وتعالى‬
‫في الرض ‪.‬‬
‫ولكل من الجسم والروح حاجات‪ ،‬ويشارك النسان الحيوان في حاجاته البدنية التي يتطلبها‬
‫حفظ الذات وبقاء النوع‪ ،‬وما تثيره فيه من دوافع فسيولوجية مختلفة كالجوع والظمأ والدافع‬
‫الجنسي إلى غير ذلك من الدوافع الفسيولرجية الخرى‪ ،‬غير إن النسان أيضا حاجاته‬
‫الروحية التي تشمل في تشوقه الروحي إلى معرفة ا سبحانه وتعالى واليمان به‬
‫وعبادته ‪.‬‬
‫وهذه الحاجة فطرية في النسان‪ ،‬فالنسان يشعر في أعماق نفسه بدافع يدفعه إلى‬
‫البحث والتفكير في خالقه وخالق الكون‪ ،‬وإلى عبادته واللتجاء إليه‪ ،‬وطلب العون منه‪ .‬ولير‬
‫بعض آيات القرآن الكريم إلى أن دافع التدين فطري في النسان‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫فأقم وجهك للدين حنيفاا فطرة ا التى فطر الناس عليها ل تبديل لخلق ا ذلك الدين القيم‬
‫وكن أكثر الناس ل يعلمون‬
‫ففي هذه الية الكريمة إشارة واضحة إلى أن في فطرة النسان استعداد اا لمعرفة ا‬
‫سبحانه وتعالى وتوحيده وعبادته ‪.‬‬
‫وقال ا‪-‬تعالى أيضاا‪:‬‬
‫وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا‬
‫بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين "‬
‫وتبين هذه الية أن ا جل شأنه أخرجا من صلب آدم وبنيه ذريتهم نسل ا بعد نسل على هيئة‬
‫ذر‪ ،‬وذلك قبل خلق الدنيا‪ ،‬وأشهدهم على أنفسهم بربوبيته تعالى حتى ل يقولوا يوم القيامة‬
‫إنهم كانوا عن هذا التوحيد غافلين ‪.‬‬
‫وجاء في الحديث الشريف أيضاا ما يؤكد أن دافع التدين فطري في النسان‪ .‬فقد جاء في‬
‫صحيح مسلم عن عباس ابن عمار قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول ا‪ :‬إني‬
‫خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن ديتهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم "‪.‬‬

‫وجاء في حديث رواه المام أحمد وأخرجه النسائي في سننه أن رسول ا صلى ا عليه‬
‫وسلم قال‪ " :‬أل إنها ليست نسمة تولد ال ولدت على الفطرة ‪ ،‬فما تزال عليه حتى يبين‬
‫عنها لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها "‪.‬‬
‫الصراع بين الجانبين المادي والروحي في النسان‪:‬‬
‫يتضمن النسان إذن في شخصيته صفات الحيوان التي تتمثل في حاجاته البدنية التي‬
‫يتوقف على إشباعها حفظ ذاته وبقاء نوعه‪ ،‬كما يتضمن في شخصيته أيضاا صفات الملئكة‬
‫التي تتمثل في تشوقه الروحي إلى معرفة ا تعالى واليمان به وعبادته‪ .‬وقد يحدث بين‬
‫هذين الجانبين من شخصية النسان صراع‪ ،‬فتجذبه أحياناا‪،‬حاجاته البدنية ومطالب الحياة‬
‫الدنيوية الخرى‪ ،‬وتجذبه أحياناا حاجاته وأشواقه الروحية ومطالب الستعداد للحياة الخرى‬
‫الباقية‪ .‬ويثير القرآن الكريم إلى هذا اله مراع النفسي بين الجانبين المادي والروحي في‬
‫النسان‪ ،‬وذلك في قوله تعالى‪:‬‬
‫فأما من طغى واثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى‬
‫النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ‪.‬‬
‫ويثير القرآن‪ ،‬الكريم أيضا إلى الصراع بين الجانبين المادي والروحي في النسان في وصفه‬
‫لنفضاض بعض المسلمين من حول الرسول عليه الصلة والسلم حينما سمعوا بأنباء‬
‫وصول قافلة محملة بالمؤونة إلى المدينة‪.‬‬
‫" وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند ا خير من اللهو ومن التجارة‬
‫وا خير الرازقين )‪.(8‬‬
‫ويثير القرآن الكريم أيضا إلى الصراع بين الجانبين المادي والروحي في النسان في‪ ،‬صفه‬
‫تعالى لخروجا قارون على قومه في زينته‪ ،‬مما جعل بعض كل الناس يتمنون أن يكون لهم‬
‫مثل ما لقارون من ثروة‪ ،‬فيرد عليهم البعض الخر من ذوي العلم والتقوى بأن ما عند ا خير‬
‫وأبقى ‪.‬‬
‫)فخرجا على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه‬
‫لذو حظ عظيم‪ .‬وقال الذين أتوا العلم ويلكم ثواب ا خير لمن آمن وعمل صالحا ول يلقاها إل‬
‫الصابرون ‪.‬‬
‫وتشير آيات أخرى كثيرة إلى هذا الصراع في النسان بين الجانبين المادي والروحي‪ .‬ومن‬
‫أمثلة ذلك‪:‬‬
‫‪ 9‬يا أيها الذين آمنوا ل تلهكم أموالكم ول أولدكم عن ذكر ا ومن يفعل ذلك فأولئك هم‬
‫الخاسرون " )‪.(10‬‬
‫" إنما أموالكم وأولدكم فتنة وا عنده أجر عظيم( )‪.(11‬‬
‫إن الصراع النفسي بين الجانبين المادي والروحي في النسان هو الصراع النفسي‬
‫الساسي الذي يعانيه النسان في هذه الحياة وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله‪:‬‬
‫" لقد خلقنا ال نسان في كبد " )‪(12‬‬
‫إن إغفال المطالب الروحية للنسان‪ ،‬يجعل حياة النسان خالية من المعاني السامية التي‬
‫تجعل للحياة قيمة‪ ،‬وتفقده شعوره برسالته الكبرى في الحياة كخليفة ل تعالى في‬
‫الرض‪ ،‬فتضيع منه الرؤية الواضحة لهدافه الكبرى في الحياة وهي عبادة ا ‪ .‬والتقرب‬
‫إليه‪ ،‬ومجاهدة النفس في سبيل بلوغ الكمال النساني‪ .‬ويتملك النسان في هذه الحالة‬
‫الشعور بالضياع ويصبح فريسة للقلق‪ .‬وقد صور القرآن الكريم حالة الصراع والقلق التي‬
‫تنتاب النسان الذي يفقد إيمانه بال سبحانه و تعالى بالحالة التي يشعر بها النسان الذي‬
‫يخر من السماء فتتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق‪.‬‬
‫" ومن يشرك بال فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق‬
‫ويصور النبي عليه الصلة والسلم الصراع بين الجانبين المادي والروحي في النسان‬
‫تصويراا واقعياا بقوله عليه الصلة والسلم‪ ":‬مثلي كمثل رجل استوقد ناراا فلما أضاءت ما‬
‫حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها وجعل‪ ،‬يحجزهن ويغلبنه‬
‫فيتقحمن فيها‪ ،‬قال‪ :‬فذلكم مثلي أو مثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار هلم عن‬
‫النار فتغلبوني وتقحمون فيها "‪ ،‬رواه مسلم‪.‬‬
‫ففي هذا الحديث الشريف تصوير بارع للصراع بين الشهوات الحسية ومغريات الحياة‬
‫الدنيوية‪ ،‬وبين الوازع الديني الذي يمنع الناس من النغماس في ملذاتهم وشهواتهم‪.‬‬
‫ولعل مشيئة ا تعالى قد اقتضت أن يكون أسلوب النسان في حل هذا الصراع بين‬
‫الجانبين المادي والروحي في شخصيته هو الختبار الحقيقي الساسي الذي وضعه ا‪-‬‬
‫جل شأنه‪ -‬للنسان في هذه الحياة‪ .‬يقول تعالى‪:‬‬
‫" الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عمل ا )‪14‬‬
‫وقال الرسول عليه الصلة والسلم في هذا المعنى‪" :‬إن الدنيا خضرة حلوة وان ا‬
‫مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فان أول فتنة بني إسرائيل‬
‫كانت في النساء " رواه مسلم‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم أيضا‪" :‬الكيس من دان نفسه‬
‫وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على ا الماني "‪ .‬رواه الترمذي‬
‫وأحمد والحاكم‪.‬‬
‫فمن استطاع أن يوفق بين الجانبين المادي والروحي في شخصيته‪ ،‬وأن يحقق بينهما أكبر‬
‫قدر مستطاع من التوازن‪ ،‬فقد نجح في هذا الختبار‪ ،‬واستحق( ن يثاب على ذلك بالسعادة‬
‫في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫من عمل صالحاا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن‬
‫ما كانوا يعملون! )‪.(1‬‬
‫وأما من انساق وراء شهواته البدنية وأغفل مطالبه الروحية‪ ،‬فقد فشل في هذا الختبار‪،‬‬
‫واستحق أن يجازى على ذلك بالشقاء في ا لدنيا والخرة‪:‬‬
‫" ومن أعرض عن ذكري فإن معيشة ضنكأ ونحشره يوم القيامة أعمى " )‪.(16‬‬
‫والعصر إن النسان لفي خسر إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا‬
‫بالصبر " )‪.(17‬‬
‫وقد كان من رحمة ا سبحانه وتعالى بالنسان‪ ،‬ومن نعمه العظيمة عليه‪ ،‬أن أمده بجميع‬
‫المكانات اللزمة لحل هذا الصراع‪ ،‬واجتياز هذا الختبار الصعب‪ ،‬بأن وهبه العقل ليميز بين‬
‫الخير والشر‪ ،‬وبين الحق والباطل‪ .‬كما أمده سبحانه بحرية الرادة والختيار ليستطيع أن يبت‬
‫في أمر هذا الصراع‪ ،‬وأن يختار‪ -‬الطريق الذي يريده لحل هذا الصراع‪ .‬وأن‪ -‬حرية إرادة‬
‫النسان في اختيار الطريق الذي يحل به هذا الصراع إنما يمثلن مسئوليته وحسابه‪ ،‬كما‬
‫أنهما يضعان الساس )سعادته وشقائه )‪.(18‬‬
‫" وهديناه النجدين )‪.(19‬‬
‫إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا )‪.(20‬‬
‫وقل الحق ‪ ،‬من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‪.(21) " ...‬‬
‫ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها )‪.(22‬‬
‫حالت النفس الثلث‬
‫وحينما يتغلب الجانب المادي في حياة النسان‪ ،‬فينساق وراء أهوائه وشهواته‪ ،‬ويهمل‬
‫مطالبه الروحية‪ ،‬فإنه يصبح في معيشته أشبه بالحيوان‪ ،‬بل أضل سبيل لنه لم يستخدم‬
‫عقله الذي ميزه ا سبحانه وتعالى به على الحيوان‪" .‬‬
‫أر أريت من أتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيل أم تحاسب أن كثرهم يسمعون أو يعقلون‬
‫إن هم إل كالنعام‬
‫بل هم أضل سبيل " )‪.(23‬‬
‫والنسان الذي يعيش هذا النوع من المعيشة يكون غير ناضج الشخصية‪ ،‬ويكون أشبه‬
‫بالطفل الذي ل يهمه إل إشباع حاجاته ورغباته‪ ،‬ولم تقو إرادته بعد‪ ،‬ولم يتعلم كيف يتحكم‬
‫في أهوائه وشهواته‪ ،‬ويصبح خاضعاا لترجيه "نفسه المارة بالسوء !‬
‫" وما أبرئ نفسي إن النفس لمارة بالسوء إل ما رحم ربي إن ربي كفور رحيم‬
‫وحينما يبلغ النسان مرتبة أعلى من النضوجا والكمال‪ ،‬يبدأ ضميره في الستيقاظ‪ ،‬فيستنكر‬
‫ضعف أرادته وانقياده ‪.‬‬
‫لهوائه وشهواته وملذات الحياة الدنيوية مما يوقعه في الخطيئة والمعصية‪ ،‬فيشعر بالذنب‪،‬‬
‫ويلوم نفسه ويتجه إلى ا سبحانه وتعالى مستغفراا ‪ ،‬فإنه يصبح في هذه الحالة تحت‬
‫تأثير" النفس اللوامه "‪.‬‬
‫" ل أقسم بيوم القيامة ول أقسم بالنفس اللوامة‪.(35) ،‬‬
‫واذا أخلص النسان بعد ذلك في توبته‪ ،‬وأخلص في تقربه ل تعالى بالعبادات والعمال‬
‫الصالحة‪ ،‬والبتعاد عن كل ما يغضب ا‪ ،‬وتحكم تحكما كامل في هوائه وشهواته وقام‬
‫بتوجيهها إلى الشباع بالطريقة التي حددها الشرع فحقق بذلك التوازن التام بين مطالبه‬
‫البدنية ومطالبه الروحية‪ ،‬فإنه يصل إلى أعلى مرتبة من النضوجا والكمال النسانية‪ ،‬وهي‬
‫المرتبة التي تكون فيها النفس النسانية في حالة اطمئنان وسكينة‪ ،‬وينطبق عليها وصف "‬
‫النفس المطمئنة"‪.‬‬
‫" يأيتها النفس‪ ،‬المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي‬
‫جنتي‬
‫ويمكن أن نتصور هذه المفاهيم الثلثة للنفس‪ ،‬وهي النفس المارة بالسوء‪ ،‬والنفس‬
‫اللوامة‪ ،‬والنفس المطمئنة على أنها حالت تتصف بها شخصية النسان في مستويات‬
‫مختلفة من النضج التي تمر بها أثناء صراعها الداخلي بين الجانبين المادي والروحي من ‪،‬‬
‫طبيعة تكوينها‪ .‬فحينما تكون شخصية النسان في ادنى مستوياتها النسانية بحيث تسيطر‬
‫عليها الهواء والشهوات الملذات البدنية والدنيوية‪ ،‬فإنها تكون في حالة ينطبق عليها وصف‬
‫النفس المارة بالسوء‪ .‬وحينما تبلغ الشخصية أعد‪ ،‬مستويات النضج والكمال النساني حيث‬
‫يحدث التوازن التام بين المطالب البدنية والروحية فإنها تصبح في الحالة التي‪ ،‬ينطبق عليها‬
‫وصف النفس المطمئنة‪ .‬وبين هذين المستويين مستوى آخر متوسط بينهما يحاسب فيه‬
‫النسان نفسه على ما يرتكب من أخطاء‪ ،‬ويسعى جاهداا للمتناع عن ارتكاب ما يغضب ا‬
‫ويسبب به تأنيب الضمير‪ ،‬ولكنه ل ينجح دائمـاا في مسعاه‪ ،‬فقد يضعف أحياناا ويقع ني‬
‫الخطيئة‪ .‬ويطلق إلى الشخصية في هذا المستوى النفس اللوامة )‪.(27‬‬
‫الشخصية السورة‪:‬‬
‫إن الحل المثل للصراع بين الجانبين المادي والروحي في النسان هو التوفيق بينهما‪ ،‬بحيث‬
‫يقوم النسان بإشباع حاجاته البدنية في الحدود التي أباحها الشرع‪ ،‬ولقوم في الوقت‬
‫نفسه بإشباع حاجاته الروحية‪ .‬ومثل هذا التوفيق بين حاجات البدن وحاجات الروح يصبح‬
‫أمراا ممكناا إذا التزم النسان في حياته بالتوسط و‪ -‬العتدال ‪ ،‬وتجنب السراف والتطرف‬
‫سواء في إشباع دوافعه البدنية أو الروحية‪ .‬فليس في السلم رهبانية تقاوم إشباع الدوافع‬
‫البدنية وتعمل على كبتها )‪ .(38‬كما ليس في السلم إباحة مطلقة تعمل على الشباع‬
‫التام للدوافع البدنية دون ضبط وتحكم‪ ،‬وإنما ينادي السلم بالتوفيق بين دوافع كل من البدن‬
‫والروح‪ ،‬واتباع طريق وسط يحقق التوازن رين الجانبين المادي والروحي في النسان‪ .‬وفي‬
‫هذا المعنى يقول القرآن الكريم‪:‬‬
‫" وابتغ في آتاك ا الدار الخرة ول تنس نصيبك من الدنيا "‬
‫يتبع السلم في تربيته للنسان منهجا تربويا هادفاا يحقق التوازن بين الجانبين الروحي‬
‫والمادي في شخصية النسان‪ ،‬مما يؤدي ‪ ،‬الى تكوين الشخصية السرية التي تتمتع‬
‫بالصحة النفسية‪ .‬ولما كان معظم الناس يميلون إلى النشغال بتحصيل السعادة العاجلة‬
‫في هذه الحياة الدنيا‪ ،‬ويغفلون العمال لتحصيل السعادة الجلة في الحياة الخرة‪ ،‬كان‬
‫النسان في حاجة إلى منهج تربوي خاص يتضمن أسلوبين من التربية‪-:‬‬
‫السلوب الو ل هو تقوية الجانب الروحي في النسان عن طريق اليمان بال وتقواه‪ ،‬وأداء‬
‫العبادات المختلفة ‪.‬‬
‫والسلوب الثاني هو السيطرة على الجانب البدني في النسان كما يتمثل ذلك في‬
‫توجيهات السلم الخاصة بالسيطرة على الدوافع والنفعالت والتحكم في أهواء النفس‪.‬‬
‫اول‪ -‬أسلوب تقوية الجانب الروحي في النسان‪:‬‬
‫ا‪ -‬اليمان بال ‪:‬‬
‫يدعو السلم إلى اليمان بال وتوحيده وعبادته‪ .‬ويؤدي اليمان بال إلى تحرر النسان من‬
‫الخوف من الشياء التي يخاف منها معظم الناس‪ .‬فالمؤمن الصادق اليمان ل يخاف من‬
‫الفقر أو المرض أو مصائب الدهر أو الموت أو الناس‪ .‬فهو يعلم أن رزقه بيد ا تعالى وانه لن‬
‫يصيبه ال ما هو مقدر له‪.‬‬
‫وفي السماء‪ ،‬رزقكم وما توعدون " " )‪(3‬‬
‫" كل نفس ذائقة الموت‪.(36) " ...‬‬
‫)ما أصاب من مصيبة ني الرض ول في أنفسكم ال في كتاب من قبل أن نبرأها إن في ذلك‬
‫على ا يسير " )‪.(37‬‬
‫وعن ابن عباس رضي ا عنهما قال‪ " :‬كنت خلف النبي ‪ r‬فقال‪ :‬يا غلم إني أعلمك كلمات‬
‫احفظ ا يحفظك احفظ ا تجده تجاهك‪ .‬إذا سألت فاسأل ا وإذا استعنت فاستعن بال‬
‫وأعلم أن المة لو أجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إل بشيء قد كتبه ا لك وإن‬
‫اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إل بشيء قد كتبه ا عليك رفعت القلم وجفت‬
‫الصحف " رواه الترمذي‬
‫التقوى‪:‬‬
‫وتصاحب اليمان الصادق بال تقوى ا‪ .‬والتقوى هي أن يقي النسان نفسه من غضب ا‬
‫وعذابه بالبتعاد عن‬
‫ارتكاب المعاصي واللتزام بمنهج ا تعالى‪ ،‬فيفعل ما أمره ا تعالى به‪ ،‬ويبتعد عما نهاه‬
‫عنه‪.‬‬
‫ويتضمن مفهوم التقوى أن يتوخى النسان دائما في أفعاله الحق والعدل والمانة والصدق‪،‬‬
‫وأن يعامل الناس بالحسنى‪ ،‬ويتجنب العدوان والظلم‪ .‬ويتضمن مفهوم التقوى كذلك‪ (،‬ن‬
‫يؤدي النسان كل ما يوكل إليه من أعمال على أحسن وجه‪ ،‬لنه دائم التوجه إلى ا تعالى‬
‫في كل ما يقوم به من أعمال ابتغاء مرضاته وثوابه‪ .‬وهذا يدفع النسان دائما إلى تحسين‬
‫ذاته‪ ،‬وتنمية قدراته ومعلوماته ليؤدي عمله دائما على أحسن وجه‪ .‬إن التقوى بهذا المعنى‬
‫تصبح طاقة موجهة للنسان نحو السلوك الفضل والحسن ونحو نمو الذات ورقيها‪ ،‬وتجنب‬
‫السلوك السيئ والمنحرف والشاذ ‪ .‬فالتقوى إذن من العوامل الرئيسية في نضوجا‬
‫الشخصية وتكاملها واتزانها‪ ،‬وفي بلوغ الكمال النساني‪ ،‬وتحقيق السعادة والصحة‬
‫النفسية ‪.‬‬
‫‪ -3‬العبادات‪:‬‬
‫إن القيام بالعبادات المختلفة من صلة وصيام وزكاة وحج إنما يعمل على تربية شخصية‬
‫النسان وتزكية نفسه‪ ،‬وتحليه بكثير من الخصال المفيدة التي تعينه على تحمل أعباء‬
‫الحياة‪ ،‬والتي تساعد على تكوين الشخصية السوية التي تتمتع بالصحة النفسية‪ .‬فالقيام‬
‫بهذه العبادات المختلفة تعلم النسان الصبر وتحمل المشاق‪ ،‬ومجاهدة النفس والتحكم في‬
‫أهوائها‪ ،‬وقوة الرادة وصلبة العزيمة‪ ،‬وحب الناس والحسان إليهم‪ ،‬وتنمي فيه روح التعاون‬
‫والتكافل ا لجتماعي‪.‬‬
‫ثانيأ‪ -‬أسلوب ا )سيطرة على الجانب البدني في النسان‪:‬‬
‫ا‪ -‬السيطرة على الدوافع‪:‬‬
‫يدعو السلم إلى السيطرة على الدوافع والتحكم فيها‪ .‬ول يدعو السلم إلى كبت الدوافع‬
‫الفطرية‪ ،‬كما أشرنا إلى ذلك من قبل ة‪ ،‬و إنما يدعو إلى تنظيم إشباعها والتحكم فيها‪،‬‬
‫وتوجيهها توجيهاا سليما تراعى فيه مصلحة الفرد والجماعة‪ .‬ويدعو القرآن الكريم والسنة‬
‫الشريفة إلى نوعين من التنظيم في إشباع الدوافع الفطرية‪.‬‬
‫ا‬
‫التنظيم الول هو إشباعها عن الطريق الحلل المسموح به شرعا ومن أمثلة هذأ التنظيم‬
‫إباحة إشباع الدافع الجنسي عن طريق الزواجا فقط‪ ،‬وتحريم الزنا‪.‬‬
‫والتنظيم الثاني هو عدم السراف في إشباعها لما في ذلك من إضرار بالصحة البدنية‬
‫والنفسية‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫" يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ول تسرفوا إنه ل يحب المسرفين " )‬
‫‪.(39‬‬
‫وفي الحديث الشريف‪ " :‬كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير سرف ول مخيلة! "‪ .‬رواه‬
‫البخاري‪.‬‬
‫ول يعنى القرآن الكريم بتوجيه النسان إلى السيطرة علي دوافعه الفسيولوجية فقط‪ ،‬وانما‬
‫يعنى القرآن الكريم كذلك بتوجيهه إلى السيطرة على دوافعه النفسية أيضا‪ .‬ففي كثير من‬
‫المواضع يحث القرآن الكريم على السيطرة على دافع العدوان ودافع التملك ‪ ،‬وأهواء النفس‬
‫وشهواتها المختلفة سواء كانت بدنية أو نفسية‪ .‬وقام الرسول عليه الصلة والسلم أيضآ‬
‫بتوجيه الناس إلى التحكم في دوافعهم وشهواتهم‪ .‬قال عليه الصلة والسلم‪ " :‬ل يؤمن‬
‫أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما‪ -‬جئت به رواه البخاري‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم أيضا‪" :‬‬
‫حبط الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات "‪ .‬ر وان مسلم‪.‬‬
‫السيطرة على النفعالت‪:‬‬
‫ويدعو القرآن الكريم الناس إلى السيطرة على انفعالتهم والتحكم فيها‪ .‬وقد سبق القرآن‬
‫الكريم ل ذلك العلوم الطبية والنفسية الحديثة التي بينت أن اضطراب الحياة النفعالية‬
‫للنسان من السباب الهامة في نشوء كثير من أعراض المراض البدنية‪ .‬ومن أمثلة ما جاء‬
‫في القرآن الكريم من دعوة إلى السيطرة على النفعالت نذكر اليات التالية التي تدعو إلى‬
‫السيطرة على انفعال الغضب‪.‬‬
‫" وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والرض أعدت للمتقين الذين ينفقون‬
‫في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس وا يحب المحسنين‬
‫السيطرة على انفعالت الحزن والفرح والحب والكراهية وتنهى عن الزهو ‪ ،‬والكبرياء‬
‫والتعالي على الناس‪ .‬كما نجد أيضا في الحديث الشريف دعوة إلى السيطرة على كثير من‬
‫هذه النفعالت‪.‬‬
‫توازن الشخصية والصحة النفسية‬
‫بهذين السلوبين ‪ ،‬أسلوب تقوية الجانب الروحي في النسان عن طريق اليمان بال‬
‫وتوحيده وعبادته‪ ،‬وأسلوب السيطرة على الجانب البدني في النسان عن طر يق التحكم‬
‫في الدوافع والهواء والشهوات والنفعالت‪ ،‬يستطيع النسان أن يحقق التوازن بين‬
‫الجانبين الروحي والبدني في شخصيته‪ ،‬مما يؤدي إلى شعوره بالمن والطمأنينة‪ ،‬ويحقق‬
‫له الصحة النفسية والسعادة في الدنيا والخرة‪.‬‬

You might also like