Professional Documents
Culture Documents
د.حورية الظل
يُعد التجريد من مظاهر التجديد والمعاصرة في الفنون الغربية ،لكنه يُعتبر أيضا من السمات األساسية في الفنون
اإلسالمية ،حيث قامت هذه األخيرة على التجريد الذي منحها خصوصيتها ،وكذا ضمن خلودها ،فجعل منها تراثا إنسانيا
خالدا ومتجذرا في تربة الحضارة العربية اإلسالمية والعالمية .والتجريد موقف ثابت ال يتزحزح عنه الفنان المسلم عبر
العصور ،وصوال إلى وقتنا الراهن ،وهو غير عارض ،أو مجرد صرعة فنية يخبو بريقها لما يكتسحها تيار جديد.
ومصدر ثباته وقوته ،العقيدة اإلسالمية التي تنبذ تمثيل المخلوقات .فما هي مظاهر التجريد في الفن اإلسالمي؟ وكيف تمثل
الفنان المسلم هذا التجريد؟
انزاح الفنان المسلم عن النقل المباشر للطبيعة والموجودات ،فنقلهما بصورة مخالفة ،أو بعبارة أخرى حولهما إلى مجرد
رمز ،وقام بمعاودة تشكيلهما بطريقة متماسكة وال نهائية وهذا مصدر قوتهما الخالقة ،الشيء الذي جعله يبدع عوالم :
“ يجمع فيها بمفارقة عجيبة بين المجرد والحركة ،جعل الفن الحركي المعاصر يفشل في بلوغ مهارة الوعي الرياضي
للفنانين المسلمين” ()1
وبذلك يكون الفن اإلسالمي قد انزاح عن المحاكاة إلى التجريد “ :والتجريد هو القدرة على تخليص الصفة المشتركة بين
مجموعة من الجزئيات ومعرفتها ،أو هو انتزاع الكلي من الجزئي ،بتخليص المعنى من المادة ،حيث يمكن استحضار
الشيء من غير أن يرتبط هذا االستحضار بشروط الوجود المادي ،وبشروط المكان والزمان ،عكس التعميم الذي هو
إطالق هذه الصفات المستخلصة من كل الجزئيات واألشياء التي تشترك في تلك الصفة ،مع اتساع هذه الصفة لما يستجد
من جزئيات وأشياء داخل نفس المجموعة”() 2
فالتجريد ينبذ الموضوع المحدد المعالم ،ويهتم بجوهر األشياء .ومن ثم يكون الفن اإلسالمي قد قام على التجريد الذي منحه
خصوصيته وكذا ضمن خلوده وجعل منه تراثا إنسانيا خالدا ومتجدرا في تربة الحضارة العربية اإلسالمية والعالمية وقد
حبذ الدارسون الغربيون هذا التجريد ،فنجد الناقد والشاعر الفرنسي بول فاليري يعبر عن ذلك بقوله”:إن المخيلة
االستبطانية األكثر تحررا ،والتي واءمت بشكل باهر بين الصرامة الجبرية ومبادئ اإلسالم التي تحرم دينيا كل بحث عن
محاكاة الكائنات في النظام التشكيلي ،هي التي ابتكرت التوريق ،وأنا أحب هذا التحريم ،فهو يجرد الفن من عبادة األصنام،
ومن الخياالت الزائفة والحكي واالعتقاد الساذج ومحاكاة الطبيعة والحياة ،أي من كل ما ليس خالصا ،ومن كل ما ال يكون
خصبا بذاته ،بحيث إنه يطور مصادره الباطنية ،ويكتشف بذاته حدوده الخاصة ،ساعيا إلى بناء نسق من األشكال يكون
مستنبطا فقط من الضرورة والحرية الواقعيين التي يقوم بإعمالهما” () 3
ومن هنا فإن انزياح الفنان المسلم عن النقل المباشر للطبيعة وللموجودات وتجريدهما من شكلهما الطبيعي كان مقصودا،
فابتعد بهما عن اإليحاء بالفناء ،ونقلهما بصورة مخالفة ،وحورهما ألشكال هندسية تمنح شعورا بالخلود ،أو بعبارة أخرى
ركز على جوهرهما ،وقام بمعاودة تشكيلهما بطريقة متماسكة وال نهائية ،وهذا مصدر قوتهما الخالقة .
ولقد تبنى الفنان المسلم التجريد في فنه منذ البداية ،تماشيا مع رؤيته للكون ،وكذا انطالقا من عرضية الحياة والوجود
حسب رؤية الدين اإلسالمي ،مقابل جوهرية المطلق ،أو الذات اإللهية.
وبذلك تكون الفنون اإلسالمية قد سعت إلى تجاوز تقليد ما هو في الطبيعة ،والتعبير عن الرؤى التي تتشبع بها بصيرة
الفنان ،حيث استحالة التعبير عن المطلق أو الذات اإلالهية ،منطلقها تجريد األشكال من قيمها المادية ،واالنزياح بها إلى ما
عدت جوهر هذه هو مجرد كالخطوط واأللوان ،فجنحت إلى تصوف يبتعد عما هو عرضي وحسي ،وإلى وحدة أسلوبية ُ
الفنون.
ومن ثم دفعت هذه الرؤية ،الفنان المسلم إلى االنزياح عن نقل ما هو ملموس ومتحقق في الواقع ،حيث جرد األشياء من
قيمتها بنقلها للفن ،واعتكف على إبراز قيمة األشكال ،بدل التركيز على مظهرها الخارجي ومضامينها ،ألن قيمة العمل
الفني وجماليته ،تتوضح من خالل جوهره وليس عرضيته ،وايضا من تلك اللمسة الروحية التي يضفيها عليها الفنان،
فتتجاوب معها النفس ،وتشعر بانتمائها لعوالم روحانية ،توحي بالسالم والطمأنينة ،عوالم متخيلة تمتد خارج حواف العمل
الفني لترتقي بالمتلقي ليالمس المطلق.
إبراز عظمة الخالق من خالل تجريد الفن:
لقد اعتُبر الفن اإلسالمي نفعي بالدرجة األولى ،واعتُبر الفنان المسلم دائما مجرد حرفي حيث ظلت المشغوالت اإلسالمية
مجهولة الصانع ،فبدى واضحا اضمحالل ذات الفنان ،لتبرز عظمة الخالق من خالل الفن الذي يشد النفوس ويغيبها في
مراقي جماليته وبهائه ،فالتكرار الالنهائي لألشكال والخطوط ،وجوهر الفن اإلسالمي حسب ابن عربي يتلخص في كون:
” الذات محجوبة بالصفات ،والصفات محجوبة باألفعال ،واألفعال محجوبة باألكوان واآلثار ،فمن تجلت عليه الصفات
بارتفاع حجب األفعال رضي وسلم ،ومن تجلت عليه الصفات ،فني في الوحدة فصار موحدًا مطلقًا .فتوحيد األفعال مقدم
على توحيد الصفات ،وتوحيد الصفات مقدم على توحيد الذات”( )4وهذا يترجم الفلسفة التي قام عليها الفن اإلسالمي،
فالفنان المسلم يرى هللا بجالله وعظمته هو مركز الكون ،وكل شيء يبدأ منه ويعود إليه ،ومن هنا نجد تركيز هذا الفنان
على التجريد والمعاودة والتكرار لألشكال واأللوان والخطوط حيث التعبير عن المطلق ،فكل األشكال تتكرر وتدور حول
المركز لتعود إليه.
ومن ثم فإن جمالية الفن اإلسالمي تدرك حسي ا وروحيا ،أو جمال يدركه البصر وآخر تدركه البصيرة ،ويفضل الغزالي
الجمال المدرك بواسطة البصيرة ألن“ :البصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر ”حسب تعبيره ،وبذلك يتكون جوهر
الفن اإلسالمي من أنساق عالئقية تؤدي لالنسجام واالكتمال .ومنطلق الفنان المسلم لتحقيق ذلك إخضاع الخطوط واألشكال
لتنظيم هندسي ورياضي ومنطق داخلي يطبعه التوازن والتداخل والتوالي ،والتكرار واالنعطاف واالنتظام والتشابك،
والتناسق ،والتناسب بين األشكال وارتباطها في بنيتها ببعضها البعض ،حيث تستجيب لتصوره الجمالي القائم على إظهار
عظمة الخالق ،فتبتعد عن المحاكاة وترقى إلى التجريد.
وتعد الزخرفة أرقى ما وصل له التجريد في الفن اإلسالمي ،وازدهارها يعود للتطور الذي عرفته الرياضيات في
الحضارة اإلسالمية ،والتي أخضعها الفنان المسلم لرؤيته ،فشفت عن جمالية األشكال الهندسية والنباتية والخط ،وتجريدية
الفنون اإلسالمية وشموليتها يستوحيها الفنان المسلم من الطبيعة ومن العلوم ومن عقيدته ومشاعره الروحية ،فيتخلق
بالنتيجة عنده فنا مجردا .وقد عبر عن ذلك الناقد الفرنسي هنري فوسيون بقوله”:ما أخال شيئا يمكنه أن يجرد الحياة من
ثوبها الظاهر ،وينقلنا إلى مضمونها الدفين مثل التشكيالت الهندسية للزخارف اإلسالمية ،فليست هذه التشكيالت سوى
ثمرة تفكير قائم على الحساب الدقيق ،قد يتحول إلى نوع من الرسوم البيانية ألفكار فلسفية ومعان روحية ،غير أنه ينبغي
أال يفوتنا أنه من خالل هذا اإلطار التجريدي تنطلق حياة متدفقة عبر الخطوط… وجميعها تخفي وتكشف في آن واحد عن
سر ما تتضمنه من إمكانات وطاقات بال حدود” ().5
وطريقة تشكيل الفنون اإلسالمية جعلت ذوق المتلقي يرقى ،ليطرح هذا األخير سؤاال هو كيف؟ وليس ماذا؟ فكيف ترى
العين المبصرة هذه الفنون هو الهدف األسمى منها ،حيث يكون هناك تواصل بين المتلقي والفن ،فتغيب اللغة والعين
المبصرة ليفسحا المجال لتوحد المتلقي مع روح الفن الذي يمثل الكمال ،وهنا يتمظهر النفس الصوفي ،حيث غياب
الموضوع وحضور الشكل المجرد بروحيته وإطالقيته ،وبذلك انحصر الفن اإلسالمي في نظام من الرموز ،عبارة عن
أشكال مختلفة أساسها الخطوط واأللوان.
الهوامش:
1-فتحي العريبي ،األرابيسك ،مجلة التشكيلي.
2-أحمد بلحاج آية وارهام ،الرؤية الصوفية للجمال ،منطلقاتها الكونية وأبعادها الوجودية ،نشر مؤسسة البشير للتعليم
الخصوصي ،المغرب ،ط .2008 ،1ص . 58
3 -عبد الكبير الخطيبي ،مقدمات في الفن العربي المعاصر،
4-محي الدين ابن عربي ،الفتوحات المكية ،ج .4دار الكتب العلمية2006 ،
5-ثروت عكاشة ،القيم الجمالية في العمارة اإلسالمية.