You are on page 1of 2

‫التجريد في الفن اإلسالمي‬

‫د‪.‬حورية الظل‬

‫يوليو ‪2014 ,21‬‬

‫يُعد التجريد من مظاهر التجديد والمعاصرة في الفنون الغربية‪ ،‬لكنه يُعتبر أيضا من السمات األساسية في الفنون‬
‫اإلسالمية‪ ،‬حيث قامت هذه األخيرة على التجريد الذي منحها خصوصيتها‪ ،‬وكذا ضمن خلودها‪ ،‬فجعل منها تراثا إنسانيا‬
‫خالدا ومتجذرا في تربة الحضارة العربية اإلسالمية والعالمية‪ .‬والتجريد موقف ثابت ال يتزحزح عنه الفنان المسلم عبر‬
‫العصور‪ ،‬وصوال إلى وقتنا الراهن‪ ،‬وهو غير عارض‪ ،‬أو مجرد صرعة فنية يخبو بريقها لما يكتسحها تيار جديد‪.‬‬
‫ومصدر ثباته وقوته‪ ،‬العقيدة اإلسالمية التي تنبذ تمثيل المخلوقات‪ .‬فما هي مظاهر التجريد في الفن اإلسالمي؟ وكيف تمثل‬
‫الفنان المسلم هذا التجريد؟‬

‫التجريد في الفن اإلسالمي ترجمة لجوهر الموجودات‪:‬‬

‫انزاح الفنان المسلم عن النقل المباشر للطبيعة والموجودات‪ ،‬فنقلهما بصورة مخالفة‪ ،‬أو بعبارة أخرى حولهما إلى مجرد‬
‫رمز‪ ،‬وقام بمعاودة تشكيلهما بطريقة متماسكة وال نهائية وهذا مصدر قوتهما الخالقة‪ ،‬الشيء الذي جعله يبدع عوالم ‪:‬‬
‫“ يجمع فيها بمفارقة عجيبة بين المجرد والحركة‪ ،‬جعل الفن الحركي المعاصر يفشل في بلوغ مهارة الوعي الرياضي‬
‫للفنانين المسلمين” (‪)1‬‬
‫وبذلك يكون الفن اإلسالمي قد انزاح عن المحاكاة إلى التجريد ‪“ :‬والتجريد هو القدرة على تخليص الصفة المشتركة بين‬
‫مجموعة من الجزئيات ومعرفتها‪ ،‬أو هو انتزاع الكلي من الجزئي‪ ،‬بتخليص المعنى من المادة‪ ،‬حيث يمكن استحضار‬
‫الشيء من غير أن يرتبط هذا االستحضار بشروط الوجود المادي‪ ،‬وبشروط المكان والزمان‪ ،‬عكس التعميم الذي هو‬
‫إطالق هذه الصفات المستخلصة من كل الجزئيات واألشياء التي تشترك في تلك الصفة‪ ،‬مع اتساع هذه الصفة لما يستجد‬
‫من جزئيات وأشياء داخل نفس المجموعة”(‪) 2‬‬
‫فالتجريد ينبذ الموضوع المحدد المعالم‪ ،‬ويهتم بجوهر األشياء‪ .‬ومن ثم يكون الفن اإلسالمي قد قام على التجريد الذي منحه‬
‫خصوصيته وكذا ضمن خلوده وجعل منه تراثا إنسانيا خالدا ومتجدرا في تربة الحضارة العربية اإلسالمية والعالمية وقد‬
‫حبذ الدارسون الغربيون هذا التجريد‪ ،‬فنجد الناقد والشاعر الفرنسي بول فاليري يعبر عن ذلك بقوله‪”:‬إن المخيلة‬
‫االستبطانية األكثر تحررا‪ ،‬والتي واءمت بشكل باهر بين الصرامة الجبرية ومبادئ اإلسالم التي تحرم دينيا كل بحث عن‬
‫محاكاة الكائنات في النظام التشكيلي‪ ،‬هي التي ابتكرت التوريق‪ ،‬وأنا أحب هذا التحريم‪ ،‬فهو يجرد الفن من عبادة األصنام‪،‬‬
‫ومن الخياالت الزائفة والحكي واالعتقاد الساذج ومحاكاة الطبيعة والحياة‪ ،‬أي من كل ما ليس خالصا‪ ،‬ومن كل ما ال يكون‬
‫خصبا بذاته‪ ،‬بحيث إنه يطور مصادره الباطنية‪ ،‬ويكتشف بذاته حدوده الخاصة‪ ،‬ساعيا إلى بناء نسق من األشكال يكون‬
‫مستنبطا فقط من الضرورة والحرية الواقعيين التي يقوم بإعمالهما” (‪) 3‬‬
‫ومن هنا فإن انزياح الفنان المسلم عن النقل المباشر للطبيعة وللموجودات وتجريدهما من شكلهما الطبيعي كان مقصودا‪،‬‬
‫فابتعد بهما عن اإليحاء بالفناء‪ ،‬ونقلهما بصورة مخالفة‪ ،‬وحورهما ألشكال هندسية تمنح شعورا بالخلود‪ ،‬أو بعبارة أخرى‬
‫ركز على جوهرهما‪ ،‬وقام بمعاودة تشكيلهما بطريقة متماسكة وال نهائية‪ ،‬وهذا مصدر قوتهما الخالقة ‪.‬‬
‫ولقد تبنى الفنان المسلم التجريد في فنه منذ البداية‪ ،‬تماشيا مع رؤيته للكون‪ ،‬وكذا انطالقا من عرضية الحياة والوجود‬
‫حسب رؤية الدين اإلسالمي‪ ،‬مقابل جوهرية المطلق‪ ،‬أو الذات اإللهية‪.‬‬
‫وبذلك تكون الفنون اإلسالمية قد سعت إلى تجاوز تقليد ما هو في الطبيعة‪ ،‬والتعبير عن الرؤى التي تتشبع بها بصيرة‬
‫الفنان‪ ،‬حيث استحالة التعبير عن المطلق أو الذات اإلالهية‪ ،‬منطلقها تجريد األشكال من قيمها المادية‪ ،‬واالنزياح بها إلى ما‬
‫عدت جوهر هذه‬ ‫هو مجرد كالخطوط واأللوان‪ ،‬فجنحت إلى تصوف يبتعد عما هو عرضي وحسي‪ ،‬وإلى وحدة أسلوبية ُ‬
‫الفنون‪.‬‬
‫ومن ثم دفعت هذه الرؤية‪ ،‬الفنان المسلم إلى االنزياح عن نقل ما هو ملموس ومتحقق في الواقع‪ ،‬حيث جرد األشياء من‬
‫قيمتها بنقلها للفن‪ ،‬واعتكف على إبراز قيمة األشكال‪ ،‬بدل التركيز على مظهرها الخارجي ومضامينها‪ ،‬ألن قيمة العمل‬
‫الفني وجماليته‪ ،‬تتوضح من خالل جوهره وليس عرضيته‪ ،‬وايضا من تلك اللمسة الروحية التي يضفيها عليها الفنان‪،‬‬
‫فتتجاوب معها النفس‪ ،‬وتشعر بانتمائها لعوالم روحانية‪ ،‬توحي بالسالم والطمأنينة‪ ،‬عوالم متخيلة تمتد خارج حواف العمل‬
‫الفني لترتقي بالمتلقي ليالمس المطلق‪.‬‬
‫إبراز عظمة الخالق من خالل تجريد الفن‪:‬‬

‫لقد اعتُبر الفن اإلسالمي نفعي بالدرجة األولى‪ ،‬واعتُبر الفنان المسلم دائما مجرد حرفي حيث ظلت المشغوالت اإلسالمية‬
‫مجهولة الصانع‪ ،‬فبدى واضحا اضمحالل ذات الفنان‪ ،‬لتبرز عظمة الخالق من خالل الفن الذي يشد النفوس ويغيبها في‬
‫مراقي جماليته وبهائه‪ ،‬فالتكرار الالنهائي لألشكال والخطوط‪ ،‬وجوهر الفن اإلسالمي حسب ابن عربي يتلخص في كون‪:‬‬
‫” الذات محجوبة بالصفات‪ ،‬والصفات محجوبة باألفعال‪ ،‬واألفعال محجوبة باألكوان واآلثار‪ ،‬فمن تجلت عليه الصفات‬
‫بارتفاع حجب األفعال رضي وسلم‪ ،‬ومن تجلت عليه الصفات‪ ،‬فني في الوحدة فصار موحدًا مطلقًا‪ .‬فتوحيد األفعال مقدم‬
‫على توحيد الصفات‪ ،‬وتوحيد الصفات مقدم على توحيد الذات”(‪ )4‬وهذا يترجم الفلسفة التي قام عليها الفن اإلسالمي‪،‬‬
‫فالفنان المسلم يرى هللا بجالله وعظمته هو مركز الكون‪ ،‬وكل شيء يبدأ منه ويعود إليه‪ ،‬ومن هنا نجد تركيز هذا الفنان‬
‫على التجريد والمعاودة والتكرار لألشكال واأللوان والخطوط حيث التعبير عن المطلق‪ ،‬فكل األشكال تتكرر وتدور حول‬
‫المركز لتعود إليه‪.‬‬
‫ومن ثم فإن جمالية الفن اإلسالمي تدرك حسي ا وروحيا‪ ،‬أو جمال يدركه البصر وآخر تدركه البصيرة‪ ،‬ويفضل الغزالي‬
‫الجمال المدرك بواسطة البصيرة ألن‪“ :‬البصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر ”حسب تعبيره‪ ،‬وبذلك يتكون جوهر‬
‫الفن اإلسالمي من أنساق عالئقية تؤدي لالنسجام واالكتمال‪ .‬ومنطلق الفنان المسلم لتحقيق ذلك إخضاع الخطوط واألشكال‬
‫لتنظيم هندسي ورياضي ومنطق داخلي يطبعه التوازن والتداخل والتوالي‪ ،‬والتكرار واالنعطاف واالنتظام والتشابك‪،‬‬
‫والتناسق‪ ،‬والتناسب بين األشكال وارتباطها في بنيتها ببعضها البعض‪ ،‬حيث تستجيب لتصوره الجمالي القائم على إظهار‬
‫عظمة الخالق‪ ،‬فتبتعد عن المحاكاة وترقى إلى التجريد‪.‬‬
‫وتعد الزخرفة أرقى ما وصل له التجريد في الفن اإلسالمي‪ ،‬وازدهارها يعود للتطور الذي عرفته الرياضيات في‬
‫الحضارة اإلسالمية‪ ،‬والتي أخضعها الفنان المسلم لرؤيته‪ ،‬فشفت عن جمالية األشكال الهندسية والنباتية والخط‪ ،‬وتجريدية‬
‫الفنون اإلسالمية وشموليتها يستوحيها الفنان المسلم من الطبيعة ومن العلوم ومن عقيدته ومشاعره الروحية‪ ،‬فيتخلق‬
‫بالنتيجة عنده فنا مجردا‪ .‬وقد عبر عن ذلك الناقد الفرنسي هنري فوسيون بقوله‪”:‬ما أخال شيئا يمكنه أن يجرد الحياة من‬
‫ثوبها الظاهر‪ ،‬وينقلنا إلى مضمونها الدفين مثل التشكيالت الهندسية للزخارف اإلسالمية‪ ،‬فليست هذه التشكيالت سوى‬
‫ثمرة تفكير قائم على الحساب الدقيق‪ ،‬قد يتحول إلى نوع من الرسوم البيانية ألفكار فلسفية ومعان روحية‪ ،‬غير أنه ينبغي‬
‫أال يفوتنا أنه من خالل هذا اإلطار التجريدي تنطلق حياة متدفقة عبر الخطوط… وجميعها تخفي وتكشف في آن واحد عن‬
‫سر ما تتضمنه من إمكانات وطاقات بال حدود” (‪).5‬‬
‫وطريقة تشكيل الفنون اإلسالمية جعلت ذوق المتلقي يرقى‪ ،‬ليطرح هذا األخير سؤاال هو كيف؟ وليس ماذا؟ فكيف ترى‬
‫العين المبصرة هذه الفنون هو الهدف األسمى منها‪ ،‬حيث يكون هناك تواصل بين المتلقي والفن‪ ،‬فتغيب اللغة والعين‬
‫المبصرة ليفسحا المجال لتوحد المتلقي مع روح الفن الذي يمثل الكمال‪ ،‬وهنا يتمظهر النفس الصوفي‪ ،‬حيث غياب‬
‫الموضوع وحضور الشكل المجرد بروحيته وإطالقيته‪ ،‬وبذلك انحصر الفن اإلسالمي في نظام من الرموز‪ ،‬عبارة عن‬
‫أشكال مختلفة أساسها الخطوط واأللوان‪.‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪1-‬فتحي العريبي‪ ،‬األرابيسك‪ ،‬مجلة التشكيلي‪.‬‬
‫‪ 2-‬أحمد بلحاج آية وارهام‪ ،‬الرؤية الصوفية للجمال‪ ،‬منطلقاتها الكونية وأبعادها الوجودية‪ ،‬نشر مؤسسة البشير للتعليم‬
‫الخصوصي‪ ،‬المغرب‪ ،‬ط‪ .2008 ،1‬ص ‪. 58‬‬
‫‪3 -‬عبد الكبير الخطيبي‪ ،‬مقدمات في الفن العربي المعاصر‪،‬‬
‫‪4-‬محي الدين ابن عربي‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬ج‪ .4‬دار الكتب العلمية‪2006 ،‬‬
‫‪5-‬ثروت عكاشة‪ ،‬القيم الجمالية في العمارة اإلسالمية‪.‬‬

‫*ناقدة واكاديمية من المغرب‬


‫‪http://thaqafat.com/2014/07/23808‬‬

You might also like