You are on page 1of 139

‫جامعة تونس المنار‬

‫كليّةّالحقوقّوالعلومّالسّياسيّةّ‬
‫بتونس ّ‬
‫محاضرات في القانون اإلداري‬
‫الخاص‬
‫ّ‬ ‫سنة الثّانية من اإلجازة األساسيّة في القانون‬
‫لطلبة ال ّ‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬

‫الطالبّسيفّالدينّالذكوري ّ‬
‫‪Dhkourisaifeddine@gmail.com‬‬

‫السنة الجامعية ‪2018/2017‬‬


‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫مقدمة عامة‬
‫يمس حياة األفراد بشكل‬
‫ّ‬ ‫يعتبر القانون اإلداري أحد أهم فروع العلوم القانونيّة باعتباره‬
‫مدعو بشكل يومي تقريبا وبصورة أو بأخرى للتعامل مع‬
‫ّ‬ ‫مباشر ويومي‪ .‬فك ّل منّا‬
‫مصالح اإلدارة العموميّة وهياكلها ونشاطاتها باعتبار هذه اإلدارة تجسيدا هيكليّا وعمليّا‬
‫للدولة‪ .‬وبذلك يكون الفرد أو المواطن خاضعا‪ ،‬بشكل أو بآخر‪ ،‬للقانون اإلداري‪.‬‬
‫فالمشاركة في مناظرة انتداب أو استخراج مضمون والدة من دفاتر الحالة المدنية أو‬
‫تسجيل الطالب بأحد مؤسسات التعليم العالي أو التق ّدم بطلب رخصة بناء أو رخصة‬
‫تقسيم عقار أو رخصة سيّارة أجرى أو مطالبة اإلدارة بالت ّعويض عن ضرر ألحقته‬
‫بفرد في شخصه أو في أمالكه‪ ...‬كل هاته الحاالت تضعنا في إطار عالقات ونشاطات‬
‫ّ‬
‫وينظمها القانون اإلداري‪.‬‬ ‫ّ‬
‫يؤطرها‬

‫طر عالقات األفراد بالذّوات‬


‫فالقانون االداري هو مجموعة القواعد القانونيّة الّتي تؤ ّ‬
‫العموميّة أو عالقات هذه الذوات ببعضها‪.‬‬

‫عالقاتنا باإلدارة إذا تخضع إلى ضوابط أو قواعد قانونيّة تنتمي للقانون اإلداري ولكن‬
‫ينبغي أن نكون واعين أن األمر لم يكن كذلك دائما في تاريخ اإلنسانية‪ ،‬أي أن عالقات‬
‫المواطن باإلدارة لم تكن دائما محكومة في تاريخ البشرية بالقانون بل في بعض األحيان‬
‫كانت تحكمها االعتباطية والتعسف‪.‬‬

‫ولذلك اعتبر عديد الفقهاء أن وجود القانون اإلداري في حد ذاته معجزة ألن إخضاع‬
‫اإلدارة‪ ،‬ومن خاللها إخضاع السلطات العمومية للقانون وللمسائلة وللمحاسبة القانونية‪،‬‬
‫لم يكن من األمور السهلة أو البديهية في تاريخ البشرية‪ .‬ومازال أجدادنا لديهم مقولة‬
‫شعبية شهيرة "إذا تخاصم الحاكم شكون خصيمك"‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫إذا األمر لم يكن بديهيا وال سهال‪ ،‬ولذلك يعتبر القانون اإلداري إنجازا تقدميا‬
‫وديمقراطيا مهما يجسد المرور من دولة البوليس (أي دولة الحكم االعتباطي والحكم‬
‫ّ‬
‫الحق أو دولة الشرعيّة‪ ،‬دولة يسود فيها احترام الشرعية‬ ‫الغير ّ‬
‫منظم بقواعد) الى دولة‬
‫القانونية أو دولة القانون‬

‫‪The Rule of law = Le Principe de l’égalité.‬‬

‫ففي الدول الحديثة أصبح تنظيم اإلدارة ونشاطها يخضع للقانون ولرقابة القضاء‪،‬‬
‫فاإلدارة لم تعد تتمتع بسلطة مطلقة أو بسلطة اعتباطية وإنّما عليها‪ ،‬كالخواص‪ ،‬أن‬
‫تحترم القواعد القانونيّة‪ ،‬فإذا لم تحترمها أمكن لألفراد التوجه للمحاكم لوضع حد‬
‫للتجاوزات وللتعسف‪ ،‬ولخرق القانون‪ .‬وهذا ما يسمى بمنظومة دولة الشرعيّة أو دولة‬
‫القانون‪ ،‬التي يكون فيها الجميع‪ ،‬حكاما ومحكومين‪ ،‬وجميع السلط القائمة في الدولة‪،‬‬
‫ومن ضمنها اإلدارة‪ ،‬خاضعة لسلطان القانون‪ ،‬بشكل يضمن حقوق األفراد وحرياتهم‪.‬‬

‫وتبرز دراسة القانون اإلداري كامتداد لدراسة القانون الدستوري‪ ،‬ذلك أن القانون‬
‫الدستوري يتعلق بدولة القانون باعتباره يخضع السلط السياسية في الدولة وعالقاتها‬
‫ببعضها‪ ،‬وكذلك عالقتها بالمحكومين (أي المواطنين)‪ ،‬للقانون‪ .‬أما القانون اإلداري‬
‫فيتعلق بإخضاع السلط اإلداريّة التي تمثل امتدادا وتجسيدا للسلطة التنفيذية‪.‬‬

‫فكالهما (القانون الدستوري والقانون اإلداري) ينتميان لجمع واحد هو القانون العام‬
‫الدّاخلي‪.‬‬

‫غير أن هاذين الفرعين يصعب كثيرا الفصل بينهما‪ ،‬فكالهما يتعلق بالدولة وأجهزتها‪،‬‬
‫ويكمن هذا االختالف بينهما في أنه‪ :‬في حين يعنى القانون الدستوري بدراسة الدستور‬
‫والنشاط السياسي للدولة من خالل مؤسسات الحكم فيها والعالقات بينها وبين‬
‫سياسيّة للقانون‪ ،‬يهتم القانون اإلداري كذلك بالدولة‪،‬‬
‫المواطنين‪ ،‬أي إخضاع السلطة ال ّ‬

‫‪3‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫ولكن من خالل أجهزتها ومؤسساتها اإلداريّة وآليات نشاط هذه األجهزة والمؤسسات‬
‫سلطة السياسية وتحديدا للسلطة الترتيبيّة‪.‬‬
‫باعتبارها امتدادا لل ّ‬

‫وهكذا يمكننا القول بأن القانون الدستوري والقانون اإلداري مترابطين ومتكاملين إلى‬
‫حد يمكن القول أنّهما وجهان لعملة واحدة‪ .‬بل إن جانبا من الفقه‪ ،‬في بدايات القرن‬
‫الماضي بالخصوص‪ ،‬انتقد الفصل بين هذين المادتين معتبرا أن نقاط االلتقاء واالهتمام‬
‫المشتركة عديدة‪ ،‬فالسلطات السياسية والدستورية هي في نفس الوقت سلطات إدارية‬
‫عليا (كالوزارة) كما أن الدستور يتضمن كثيرا من القواعد ذات الصبغة اإلدارية‪ ،‬مثال‬
‫التعيينات في الوظائف العليا الديبلوماسية والعسكرية من اختصاص رئيس الجمهورية‪،‬‬
‫كذلك تعيين محافظ البنك المركزي وهو موظف سام‪ ،‬كذلك رئيس الحكومة هو من‬
‫يعين الوالة والمعتمدين وهم مسؤولون اداريون محليون‪ ،‬ورئيس الحكومة هو من يمكنه‬
‫إحداث مؤسسات حكومية‪ .‬وهو ما ينص عليه دستور ‪ 2014‬في فصوله ‪ 77‬و‪78‬‬
‫بالنسبة لرئيس الجمهورية و‪ 92‬و‪ 94‬بالنسبة لرئيس الحكومة‪ .‬فضال عن ان الفصل‬
‫‪ 15‬يتحدث عن ان "اإلدارة العمومية في خدمة المواطن والصالح العام‪ ،‬تنظم وتعمل‬
‫وفق مبادئ الحياد والمساواة واستمراريّة المرفق العام‪ ،‬ووفق قواعد الشفافية والنزاهة‬
‫والنجاعة والمسائلة" فهو إذا فصل يحدد المبادئ التي تحكم اإلدارة وهو فصل وارد‬
‫بالدستور‪ .‬وفي الباب السابع يتحدث الدستور عن السلطة المحلية وتحديدا يتعلق‬
‫بالالمركزية اإلدارية‪.‬‬

‫إذا نحن أمام قواعد إدارية واردة بالدستور‪.‬‬

‫هذه المعطيات (نقاط االلتقاء واالهتمام المشتركة بين القانون الدستوري والقانون‬
‫اإلداري) دفعت العميد جورج فيديل ‪ G.Vedel‬الى إرساء نظرية األسس الدستوريّة‬
‫للقانون اإلداري‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫كذلك توجد مناطق اهتمام مشترك عديدة أخرى مثل كل ما يتعلق بالحريات العامة‪،‬‬
‫وهي جوهر وظيفة الضبط اإلداري ويوجد باب في الدستور تحت عنوان الحقوق‬
‫والحريات‪.‬‬

‫كذلك يحدد الدستور مجاالت القانون والتراتيب والمراسيم واألوامر (الفصل ‪.)65‬‬

‫إذا نالحظ أن نقاط التداخل وااللتقاء قوية بين الطرفين‪ ،‬وهكذا إذا فاإلثنين يتناوالن‬
‫تقريبا نفس المواضيع ولكن من زوايا أو بطرق مختلفة‪ .‬فالقانون الدستوري يعنى أساسا‬
‫بالمسائل الكبرى ويعنى برؤوس األقالم بينما يعنى القانون اإلداري بالتفاصيل‪ .‬القانون‬
‫الدستوري يهتم بالدولة في المناسبات الكبرى أما القانون اإلداري فيهتم بالدّولة في‬
‫عملها اليومي المتواصل‪.‬‬

‫لكن كيف يمكن تعريف القانون اإلداري؟‬

‫‪5‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫المبحث األول‪ :‬القانون اإلداري واإلدارة‬

‫يمكن تعريف القانون اإلداري بصورة أوليّة بأنه مجموعة القواعد التي تحكم وتأطر‬
‫تنظيم اإلدارة العمومية ونشاطها‪ .‬أي تأطير اإلدارة العموميّة بمعنييها العضوي‬
‫والمادّي‪ :‬العضوي (اإلدارة كهياكل ومؤسسات) والمادي (اإلدارة كنشاط)‪.‬‬

‫غير أن هذا التعريف يحتاج إلى مزيد التدقيق ويتضح ذلك بتعريف اإلدارة العمومية‬
‫أوال ثم بتناول المفهومين السائدين المتداولين للقانون اإلداري (المفهوم الواسع والمفهوم‬
‫الضيّق)‪.‬‬

‫الفرع األول‪ :‬مفهوم اإلدارة‬


‫اإلدارة مفهوم واسع جدا حيث نجد اإلدارة في القطاعين العام والخاص‪ .‬ففي القطاع‬
‫الخاص نجد إدارة المؤسسات والشركات التجارية والصناعية والجمعيات وغيرها‪،‬‬
‫حيث يسيرها عادة "مجلس إدارة" غير أن هذه اإلدارات في القطاع الخاص ال تهم‬
‫القانون اإلداري وال تخضع له إال بصورة عرضيّة‪ .‬وإنما الذي يهم القانون اإلداري‬
‫أساسا هو اإلدارة العموميّة التي يقصد بها جملة الهياكل والمؤسسات التي تتولّى‬
‫ممارسة جملة من النشاطات المتمثلة في مرافق وخدمات تهدف الى تلبية حاجيات‬
‫جماعية معينة وبالتالي خدمة المصلحة العامة‪.‬‬

‫ومن خالل هذا التعريف يتضح أن لإلدارة العموميّة مفهومين‪ :‬مفهوم عضوي يعنى‬
‫بالهياكل ومفهوم مادي يعنى بالوظائف‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الفقرة األولى‪ :‬المفهوم العضوي‬


‫بالمعنى العضوي تتمثل اإلدارة العموميّة في مجموعة من الهياكل تسيّرها هي ذاتها‬
‫جملة من الهياكل الداخلية (األجهزة الداخلية)‬

‫مثال‪ :‬الكليّة هي هيكل تتضمن بدورها هياكل (كتابة عامة‪ ،‬مديري أقسام‪ ،‬مجلس‬
‫علمي‪ ،‬العميد‪ ،‬أساتذة‪ ،‬أعوان الحراسة)‪.‬‬

‫تتركب اإلدارة العموميّة من مجموعة من الذوات اإلداريّة المتمتّعة بالشخصية القانونية‬


‫نجد في قمتها الدولة‪ ،‬بمعنى السلطة المركزية‪ ،‬والتي ال تعتبر فقط شخصا إداريا وإنما‬
‫أيضا هيكال دستوريّا يمارس إلى جانب الوظيفة اإلدارية وظائف تشريعيّة وقضائيّة‪.‬‬

‫وإلى جانب الدولة نجد ذوات إدارية متفرعة عنها أيضا ولكن متمتّعة بالشخصيّة‬
‫القانونية وهي الجماعات العمومية (المحلية والجهوية إلخ‪ )..‬التي تعتبر ذوات محليّة‬
‫عمومية ذات صبغة ترابيّة‪ .‬وتتمثّل في القانون التّونسي إلى ح ّد اليوم في البلديات‬
‫والواليات ووفقا للدستور الجديد في البلديّات والجهات واألقاليم‪ .‬ونجد كذلك هياكل‬
‫إداريّة أخرى مش ّخصة (أي متمتعة بالشخصية القانونيّة ونوع من االستقاللية كالكليات‬
‫والمستشفيات وغيرها‪.)...‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬المفهوم المادي‬


‫من هذه الزاوية تمثل اإلدارة جملة من الوظائف والنشاطات التي تختلف عن نشاطات‬
‫الخواص من حيث هدفها‪ .‬ففي حين تهدف نشاطات الخواص إلى تحقيق المنفعة‬
‫الخاصة قبل كل شيء فإن اإلدارة العموميّة تهدف من خالل نشاطاتها إلى تحقيق‬
‫المصلحة العا ّمة‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫ولذلك فلئن كانت العالقات بين األطراف في القانون الخاص محكومة مبدئيا بمبدئي‬
‫المساواة والرضائية فإن اإلدارة باعتبارها حامية المصلحة العا ّمة التي تعلو على‬
‫صة لألفراد توجد في وضعيّة تتميّز بعدم المساواة وبعلويّة اإلدارة على‬
‫المصالح الخا ّ‬
‫األفراد أو الخواص المتعاملين معها بحيث تتمتع باعتبارها سلطة عامة بجملة من‬
‫االمتيازات ومنها امتياز اتخاذ القرارات االنفرادية‪.‬‬

‫كما تختلف اإلدارة بالمعنى الوظيفي والمادّي عن بقيّة النشاطات والوظائف العموميّة‬
‫صة وظائف التشريع والقضاء‪.‬‬
‫وخا ّ‬

‫ويشمل القانون اإلداري اإلدارة العموميّة بمعنييها العضوي (الذي سنراه في جزء أول‬
‫من الدّرس) والمادّي (الذي سنراه في جزء ثان من الدرس)‪.‬‬

‫تختلف اإلدارة من حيث نشاطها إذا عن التشريع الذي هو وظيفة يتوالها البرلمان تتمثل‬
‫في ّ‬
‫سن القوانين في حين تتولى اإلدارة وظيفة تنفيذ تلك القوانين‪ ،‬ولكن ذلك ال يمنع أن‬
‫يتدخل البرلمان في الميدان اإلداري من حيث أنه يحدد هيكلة اإلدارة وتنظيمها ويتولى‬
‫مراقبتها ثم إن البرلمان بسنّه للقوانين يضع قواعد عامة مجردة وملزمة في حين يتمثل‬
‫النشاط اإلداري في التسيير اليومي ولكن البرلمان أيضا قد يمارس نشاطات تصرف‬
‫إداري يومي‪ ،‬إذ يظم البرلمان مجموعة من المصالح اإلدارية يشرف عليها رئيس‬
‫المجلس النيابي وينسق بينها الكاتب العام للمجلس هذا من جهة‪ ،‬بالمقابل تتخذ اإلدارة‬
‫القرارات وتصدر نصوصا تتسم بالصبغة العامة والمجردة تسمى التراتيب‪.‬‬

‫كذلك تختلف وظيفة اإلدارة عن وظيفة القضاء‪ .‬فمن الناحية العضوية‪ ،‬تتولى السلطة‬
‫القضائية ممارسة القضاء من خالل تطبيق القواعد القانونية لفصل النزاعات‪ ،‬في حين‬
‫تعتبر اإلدارة امتدادا للسلطة التنفيذية‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫اما من الناحية المادية‪ ،‬فتتمثل وظيفة القضاء في تطبيق القواعد القانونية لفض‬
‫النزاعات في حين يتمثل النشاط اإلداري في تلبية الحاجيات الجماعية عبر عدد من‬
‫المرافق العمومية‪.‬‬

‫وهكذا تبرز اإلدارة مرتبطة شديد االرتباط بوظائف السلطة التنفيذية‪ ،‬وهو ما يحيلنا‬
‫اآلن على عالقة هذه اإلدارة بالقانون أي مفهوم القانون اإلداري‪.‬‬

‫الفرع الثاني‪ :‬مفهوم القانون اإلداري ومعاييره وخصائصه‬


‫سبق أن أشرنا إلى أن القانون اإلداري هو القانون الذي يحكم اإلدارة بمفهوميها‬
‫العضوي والوظيفي أي أنه القانون الذي يعنى بتأطير تنظيم اإلدارة العموميّة‬
‫ونشاطها‪ ،‬غير أن خضوع اإلدارة للقانون يختلف حسب المنظومات القانونية وهو ما‬
‫أدى إلى بروز مفهومين للقانون اإلداري‪ ،‬مفهوم واسع ومفهوم وضيّق‪.‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬المفهوم الموسّع للقانون اإلداري‬


‫بهذا المعنى (المفهوم الواسع) فإن القانون اإلداري هو قانون اإلدارة أي أن القانون‬
‫اإلداري هو مجموعة القواعد المنطبقة على اإلدارة العموميّة بقطع النظر عن طبيعة‬
‫هذه القواعد سواء أكانت قواعد القانون العام أو قواعد القانون الخاص ويرتبط هذا‬
‫المفهوم الواسع بالمنظومة األنجلوـسكسونية ‪COMMUN LAW‬وهي منظومة‬
‫ترفض التمييز بين المجال العام والمجال الخاص وتأخذ بخضوع اإلدارة إلى نفس‬
‫القواعد القانونية التي يخضع لها الخواص أي أن القانون واحد ينطبق بنفس الطريقة‬
‫على كافة الذوات القانونية مهما كانت طبيعتها‪ .‬ومن هذا المنظور فإن القانون اإلداري‬

‫‪9‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫إنما هو قانون اإلدارة وال يتميّز ال بمصادر خاصة وال بمنهجية خصوصيّة‪ .‬بل ّ‬
‫إن‬
‫الدول األنجلوـسكسونيّة ترفض أصال وجود قانون إداري متميّز معتبرة ذلك مظهرا من‬
‫مظاهر التسلّط والخطر على الحريّات يناقض فصل السلط والمساواة أمام القانون‪.‬‬

‫الفقرة الثاني‪ :‬المفهوم الضيّق للقانون اإلداري‬


‫بهذا المفهوم‪ ،‬القانون اإلداري هو مجموعة القواعد القانونية المتميّزة والمختلفة عن‬
‫قواعد القانون الخاص والتي تخضع لها اإلدارة‪.‬‬

‫ويرتبط هذا المفهوم بالمنظومات القانونيّة التي تأخذ بازدواجية النظم القانونيّة وهي‬
‫أساسا النظام القانوني الفرنسي الذي يفرق بين المجالين العام والخاص ويعتبر ّ‬
‫أن لك ّل‬
‫منهما نظامه‪/‬منظومته القانونيّة‪ ،‬وبالتالي يفرد اإلدارة العموميّة بقانون متميّز وخاص‬
‫بها‪ ،‬هو القانون اإلداري‪ ،‬باعتبار أن اإلدارة العموميّة تهدف إلى تحقيق المصلحة‬
‫خص بقواعد وامتيازات ال يحظى بها الخواص‪.‬‬
‫العا ّمة وهذا يفترض أن ت ّ‬

‫وهذا المفهوم الضيّق للقانون اإلداري الفرنسي هو الذي يأخذ به النظام القانوني‬
‫التّونسي‪.‬‬

‫ولكن تجدر اإلشارة أن القانون اإلداري بمعناه الضّيق ليس هو القانون الوحيد المنطبق‬
‫على اإلدارة العموميّة‪ .‬فاإلدارة تخضع اليوم إلى القانون اإلداري وكذلك في عدد من‬
‫الخاص‪ .‬إذ أنّها إلى جانب ات ّخاذها للقرارات االنفراديّة وإبرامها لعقود‬
‫ّ‬ ‫نشاطاتها للقانون‬
‫إداريّة وتسييرها لملك عام حيث تخضع للقانون اإلداري بمعناه الدقيق‪ ،‬أيضا تنشط في‬
‫وتتصرف كالخواص حيث أنها تبرم عقودا تجاريّة أو مدنيّة عاديّة‬
‫ّ‬ ‫عديد الحاالت‬
‫خاص لإلدارة وتخضع‬
‫ّ‬ ‫صا يس ّمى الملك ال‬
‫تخضع للقانون الخاص وتسيّر كذلك ملكا خا ّ‬
‫الخاص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫في ذلك للقانون‬

‫‪10‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫فالقانون اإلداري إذا ليس إال جانبا من الظاهرة اإلداريّة‪.‬‬

‫القانون اإلداري هو قانون اإلدارة العموميّة لكنه ليس القانون الوحيد الذي يحكم اإلدارة‬
‫الخاص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التصرف يخضع للقانون‬
‫ّ‬ ‫تتصرف كالخواص وهذا‬
‫ّ‬ ‫ذلك أن اإلدارة يمكن أن‬

‫اإلدارة لها قانون خاص بها ولها امتيازات تس ّمى امتيازات السلطة العا ّمة ألنها في‬
‫خدمة الصالح العا ّم‪ ،‬ولكن القانون اإلداري ليس قانون اإلدارة وحدها ألنّه يطبّق على‬
‫الخواص الذين يتعاملون مع اإلدارة والخواص الذين يساهمون في القيام بالمرفق العام‬
‫أو إنجاز أشغال عموميّة‪ .‬ويثير هذا التعريف الضيّق للقانون اإلداري مسألة استقالليّة‬
‫هذا القانون أو ذاتيّته‪.‬‬

‫الفقرة الثالثة‪ :‬ذاتيّة القانون اإلداري‬


‫القانون اإلداري كمجموعة قواعد خصوصيّة ومتميّزة تحكم اإلدارة العموميّة ويسهر‬
‫على إثرائها وتعزيزها القضاء اإلداري وجد تاريخيّا أسسه في قرار لمحكمة النزاعات‬
‫المؤرخ في ‪ 8‬فيفري ‪( 1873‬قرار بالنكو)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفرنسيّة‬

‫ّ‬
‫بالبت في نزاع هل هو القضاء‬ ‫(طرح هذا النزاع إشكاال يتمثل في القاضي المختص‬
‫اإلداري أم القضاء العدلي‪ .‬ودانييس بالنكو هي فتاة مراهقة عمرها ‪ 14‬سنة وقع لها‬
‫حادث‪ ،‬أصابتها سيارة إدارية على ملك وكالة التبغ والوقيد الفرنسية وتسبب لها الحادث‬
‫بعدة أضرار بدنية‪ .‬رفعت الدعوى أمام محكمة ابتدائيّة غير أن اإلدارة رفضت‬
‫اختصاص القاضي العدلي ألن السيارة كانت أثناء أداء نشاط إداري والنشاط اإلداري‬
‫ليس من اختصاص القاضي العدلي بل من اختصاص القاضي اإلداري‪ .‬واعتبرت‬
‫محكمة النزاعات أن هذه الحادثة جاءت أثناء قيام اإلدارة بنشاط يتعلق بمرفق عام‬
‫يهدف إلى خدمة المصلحة العامة ولذلك ال يمكن إخضاعها للمجلة المدنيّة وإنما لنظام‬

‫‪11‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫خاص بها‪ .‬وعلى هذا األساس يكون النزاع من اختصاص القاضي اإلداري وليس‬
‫ّ‬
‫العدلي‪).‬‬

‫على أن الفقه السائد اليوم ال ينظر للقانون اإلداري كقانون استثنائي أو مجرد استثناء‬
‫للقانون الخاص وإنّما يؤكد على أنه قانون مستقل بذاته فإن كان القاضي اإلداري يطبق‬
‫في أغلب األحيان قواعده فإن القاضي العدلي كذلك يتولى تطبيقها أحيانا‪.‬‬

‫القانون اإلداري إذا هو مجموعة قواعد لها خصوصيتها ومصادرها ومشروعيّتها‬


‫المتميّزة والمستقلّة وتبرز هذه االستقالليّة في ك ّل مجاالت القانون اإلداري ففي كل‬
‫مجال تبرز ذاتيّة القانون اإلداري من خالل نظريات وقواعد متميّزة مختلفة جوهريّا‬
‫عن قواعد القانون الخاص من ذلك مثال الخصوصيّات المميّزة للقرار اإلداري‬
‫االنفرادي ونظامه القانوني وكذلك نظام العقود اإلدارية والمسؤوليّة اإلداريّة ونظام‬
‫الوظيفة العموميّة ونظام الماليّة العموميّة ونظام الملك العمومي‪.‬‬

‫على أن هذه الذاتيّة أو الخصوصيّة‪ ،‬التي كثيرا ما ينتقدها البعض على أساس أنها‬
‫امتيازات لإلدارة‪ ،‬ال تعني دائما امتيازات لإلدارة وإنما أيضا قيود على أعمالها تضعها‬
‫حرية من الخواص من ذلك مثال نظريّة المسؤوليّة اإلداريّة بدون خطأ‬
‫في وضعية أقل ّ‬
‫على أساس المخاطر أو المساواة أمام األعباء العموميّة‪ ،‬ونظريّة الظروف الطارئة في‬
‫مجال العقود‪ ،‬أو كذلك القيود المفروضة على اإلدارة في مجال إبرام العقود اإلداريّة‪.‬‬

‫على أن خصوصيّة القانون اإلداري تكمن في جملة االمتيازات التي تمنحها لإلدارة‬
‫والمعروفة بامتيازات السلطة العامة والتي ال مثيل لها في القانون الخاص وهي‬
‫امتيازات تعتمد اإلكراه وتتجلى من خالل اتخاذ القرارات اإلدارية االنفراديّة التي‬
‫تفرض من خاللها على األفراد جملة من االلتزامات أو القيود وتختلف بذلك عن قواعد‬

‫‪12‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫القانون الخاص القائمة مبدئيّا على المساواة والرضائيّة‪ .‬ومنها سلطات إجبار األفراد‬
‫على تقديم خدمات أو أموال‪ ،‬كسلطة فرض الضرائب واالنتزاع والتسخير‪.‬‬

‫على أنه يجب التأكيد على أن ذاتيّة القانون اإلداري ليست مطلقة‪ .‬فقواعد القانون‬
‫اإلداري ليست دائما مختلفة عن قواعد القانون الخاص بل إننا نشهد منذ ثمانينات القرن‬
‫الماضي تقاربا متزايدا وحتى تداخال بين القانون اإلداري والقانون الخاص‪.‬‬

‫ولئن كان الموقف السائد اليوم في الفقه يأ ّكد على استقاللية القانون اإلداري‪ ،‬فإن ذلك‬
‫يطرح بالخصوص مسألة األسس أو المرتكزات التي يمكن أن يمثل حجر الزاوية أو‬
‫العمود الفقري الذي يبنى حوله صرح القانون اإلداري وتأسس عليه ذاتيّته وحدودها‪.‬‬
‫فاعتبار القانون اإلداري منظومة قانونية مستقلة بذاتها موازية لمنظومة القانون الخاص‬
‫يطرح مسألة المعيار العام لهذه الذاتية‪ .‬وهو ما يحيلنا الى معايير القانون اإلداري‪ .‬وقد‬
‫طرح هذا اإلشكال على القاضي اإلداري لتحديد مجال اختصاصه وحدود هذا المجال‬
‫وأسس هذا االختصاص كما شغلت مسألة البحث عن معيار للقانون اإلداري الفقه‬
‫بصورة متواصلة‪ ،‬وقد وقع تاريخيا وعلى التوالي وتباعا اعتماد عدّة معايير دون‬
‫سابق‬
‫االتفاق عليها‪ .‬وبرزت منذ أواخر القرن التاسع عشر أي منذ قرار "بالنكو" ال ّ‬
‫الذّكر مدارس فقهيّة سعت الى وضع نظريات أهمها مدرسة المرفق العام التي كان‬
‫رائدها ليون دوجي ‪Léon Duguit‬عميد كلية الحقوق ببوردو والذي عاش بين‬
‫‪ 1859‬و ‪ 1928‬ومدرسة السلطة العامة بزعامة موريس هوريو عميد كلية الحقوق‬
‫بتولوز وتتعارض المدرستان كما تتعارض نظرية الغاية ونظرية الوسيلة‪.‬‬

‫فمدرسة المرفق العام تعتمد معيار الغاية وغاية القانون اإلداري هو تحقيق المرفق‬
‫العام والمرفق العام هو النشاط الذي يهدف الى تحقيق المصلحة العامة وبالنسبة لفقهاء‬
‫هذه المدرسة فإنه كلما وجد مرفق عام أدى ذلك الى تطبيق قواعد القانون اإلداري‬
‫واختصاص القاضي اإلداري‪ .‬وكل محاور القانون اإلداري حسب هذه المدرسة ترتكز‬

‫‪13‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫على مفهوم المرفق العام فاإلدارة هي مجموعة من الهياكل تهدف الى تحقيق المرفق‬
‫العام والموظفون العموميون هم أعوان المرفق العام والملك العمومي هو األموال‬
‫المخصصة للمرفق العام والعقد اإلداري هو العقد المبرم من أجل مرفق عام والقرار‬
‫اإلداري هو قرار يتخذ لتنظيم أو تسيير المرفق العام‪...‬‬

‫غير أن هذا المفهوم عرف أزمة منذ عشرينيات القرن الماضي من خالل بروز مرافق‬
‫عمومية خاضعة للقانون الخاص تسمى المرافق العمومية ذات الصبغة الصناعية‬
‫والتجارية أدى الى بروز محاوالت إليجاد معايير أخرى منها معيار المصلحة العامة‪.‬‬

‫أما المدرسة الثانية فهي مدرسة السلطة العامة وتتصل بالوسائل أي أنها تأخذ بعين‬
‫االعتبار اآلليات والوسائل القانونية التي تعتمدها اإلدارة لتحقيق مهامها كمعيار‬
‫للقانون اإلداري‪ .‬فالمهم بالنسبة الى هؤالء ليس الغاية وإنما األساليب والوسائل المعتمدة‬
‫لتحقيقها‪ .‬المهم ليس المرفق العام كغاية وإنما وسائل السلطة العامة المعتمدة أي وسائل‬
‫التصرف العمومي فهذه الوسائل هي التي تجعله خاضعا للقانون اإلداري والختصاص‬
‫القاضي اإلداري في حالة النزاع‪ .‬إلى جانب هذين المدرستين التقليديتين يجب اإلشارة‬
‫إلى نظرية ثالثة وهي نظرية األسس الدستورية للقانون اإلداري التي وضعها الفقيه‬
‫"جورج فيدايل" في النصف الثاني من القرن العشرين وأساسها أنه ال يمكن تعريف‬
‫القانون اإلداري دون أخذ الدستور بعين االعتبار الذي هو أساس ومرجع كل‬
‫المنظومات القانونية في بلد ما‪.‬‬

‫غير أنه يجب التأكيد رغم كل شيء على القول ّ‬


‫أن خصوصية القانون اإلداري تكمن في‬
‫جملة االمتيازات التي تتمتع بها اإلدارة وقد حصلت اليوم قناعة عامة بأن تنوع أنشطة‬
‫اإلدارة وتنوع المؤسسات اإلدارية يجعل من غير الممكن اعتماد معيار وحيد للقانون‬
‫اإلداري وإنما اعتماد جملة من الخصائص بصورة متكاملة تدمج بين المرفق العام‬
‫والسلطة العامة‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الجزء األول‪ :‬القانون اإلداري ومقومات‬


‫التنظيم اإلداري‬

‫سيقع في هذا اإلطار على التوالي تحليل نشأة القانون اإلداري ومصادره (باب أول) ثم‬
‫بلورة المقومات والمفاهيم األساسية للتنظيم اإلداري (الباب الثاني)‪:‬‬

‫الباب األول‪ :‬القانون اإلداري؛ تطوره ومصادره‪:‬‬


‫صلها إلى‬
‫إن القانون اإلداري بمفهومه الضيّق ظهر كنتيجة لتطور المجتمعات وتو ّ‬
‫تصرفاتهم إلى قواعد ومعايير عامة تسمى قوانين‪ ،‬خصوصيتها‬
‫ّ‬ ‫إخضاع الح ّكام في‬
‫التجريد والعمومية وااللزام‪ ،‬أي أنها قوانين ال تعبر عن اإلرادة الذاتية بل هي قيود‪ .‬هذا‬
‫التطور الهام تزامن مع بروز الدولة باعتبارها شخصا معنويا منفصال عن أشخاص‬
‫الحكام وإرادتها منفصلة عن إرادتهم‪ .‬فالدولة هي مؤسسة يحكمها القانون وتمثل تعبيرا‬
‫عن اإلرادة العامة وتشخيصا لألمة أو للشعب‪ .‬هذا التطور أدى إلى بروز القانون‬
‫الدستوري والقانون اإلداري‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫المبحث األول‪ :‬نشأة القانون اإلداري وتطوره‪:‬‬


‫القانون اإلداري كمجموعة قواعد متميّزة ومختلفة عن قواعد القانون الخاص برزت‬
‫ّأوال في فرنسا وانتشرت بعد ذلك في عديد البلدان األخرى كبلجيكا وإسبانيا ومصر‬
‫ولبنان والمغرب والجزائر وتونس‪...‬‬

‫الفرع األول‪ :‬النشأة والتطور في فرنسا‬


‫وقد نشأ القانون اإلداري في فرنسا انطالقا من مبدأ وقع تكريسه منذ فترة طويلة‪ .‬فقد‬
‫كانت اإلدارة الفرنسية قبل ثورة ‪ 1789‬في صراع دائم مع القضاء العدلي بحيث كانت‬
‫المحاكم المدنية تعطل عمل اإلدارة ول ّما وقعت الثورة الفرنسية تميّزت المحاكم بصبغتها‬
‫المحافظة الرافضة للتغيير ولذلك رأت السلطة الثوريّة أن هذه المحاكم ستعطل‬
‫اإلصالحات وستكون إحدى عوامل إجهاض الثورة وقررت بالتالي منع القضاء العدلي‬
‫من التدخل في الشأن اإلداري من خالل إرساء مبدأ الفصل بين السلطتين القضائية‬
‫والتنفيذية بصورة تمنع القضاء من التدخل في أعمال اإلدارة باعتبارها جهازا ينتمي‬
‫للسلطة التنفيذية وعرف هذا المبدأ بمبدأ الفصل بين السلطتين القضائية واإلدارية‪ .‬وقد‬
‫وقع إرساؤه بمقتضى القانون ‪ 16‬المؤرخ في ‪ 24‬أوت ‪ 1790‬والذي نص في فصله‬
‫الثالث عشر ما يلي‪:‬‬

‫‪« Les fonctions judiciaires sont distinctes et demeureront‬‬


‫‪toujours séparées des fonctions administratives, les juges ne‬‬
‫‪pourront à peine de forfaiture troubler de quelque manière‬‬
‫‪que ce soit les opérations des corps administratifs, ni citer‬‬

‫‪16‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫‪devant eux les administrateurs pour raison de leurs‬‬


‫» ‪fonctions‬‬

‫"الوظائف القضائية تبقى دائما مستقلة عن الوظائف اإلدارية والقضاة ال يمكنهم تعطيل‬
‫أعمال اإلدارة بأية طريقة كانت أو مقاضاة أعوانها من أجل أعمال تتصل بوظائفهم وإن‬
‫كل مخالفة لهذا المنع تعتبر خرقا فادحا للقانون‪".‬‬

‫بمقتضى هذا الفصل منعت السلطة القضائية من التدخل في شؤون اإلدارة أو النظر في‬
‫النزاعات التي تكون فيها طرفا‪ .‬هذا القانون الذي وقع تأكيده بقانون آخر صدر سنة‬
‫‪ 1795‬كرس مبدأ اختالف الوظائف اإلدارية عن الوظائف القضائية‪ .‬هذا النص اعتبره‬
‫الفقه آنذاك تطبيقا لمبدأ الفصل بين السلط أدى بتأويل مصطنع الى حرمان السلطة‬
‫القضائية من جزء من وظيفتها الدستورية وهي تطبيق القانون وفصل النزاعات مهما‬
‫كان القانون المعني ومهما كانت أطراف النزاع‪.‬‬

‫وانجر عن هذا المنع وضع اإلدارة خارج كل رقابة باستثناء الرقابة الذاتيّة وهو ما‬
‫عرف بنظام اإلدارة القاضية حيث تكون اإلدارة الخصم والحكم في نفس الوقت في‬
‫النزاعات التي تتعلق بها وذلك باسم الفصل بين السلط‪ .‬هذا الوضع تواصل لمدة عشر‬
‫سنوات ‪ 1790‬الى ‪ 1800‬غير أن هذا الوضع الغير مقبول أدى إلى إرساء مبدأ‬
‫تكميلي لمبدأ الفصل بين الهيئات القضائية واإلداريّة هو مبدأ الفصل بين اإلدارة‬
‫النشيطة‪/‬العاملة واإلدارة التنازعيّة‪.‬‬

‫أدى هذا الفصل على أساس التخصص الى بروز هياكل (نوع من المحاكم) داخل‬
‫تفض النزاعات‪ ،‬لكنها هياكل منفصلة عن السلطة القضائية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلدارة‬

‫وقد عرفت هذه الفترة التي تواصلت بين ‪ 1800‬الى ‪ 1872‬بنظام القضاء المحجوز‬
‫يتولى فيها رئيس الدولة النظر في الدعاوى وفصل النزاعات التي تكون اإلدارة فيها‬

‫‪17‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫طرفا بمساعدة هيكل استشاري هو مجلس الدولة الذي أحدث بمقتضى دستور ‪1800‬‬
‫والذي يقترح على رئيس الدولة نص الحكم‪ .‬ثم أحدثت مجالس األقاليم في نفس السنة‬
‫على مستوى المحافظات‪.‬‬

‫تحول فيها النظام الى نظام القضاء‬


‫هذه المرحلة ستنتهي باالنتقال الى مرحلة ثالثة ّ‬
‫حول مجلس الدولة‬
‫المفوض بمقتضى قانون صدر في ‪ 24‬ماي ‪ ،1872‬هذا القانون ّ‬
‫وتحولت‬
‫ّ‬ ‫الى محكمة‪ ،‬ومكنّه من اختصاص الفصل في النزاعات اإلداريّة مباشرة‪.‬‬
‫مجالس األقاليم في ‪ 1953‬الى محاكم إدارية‪ .‬ووقع بعد ذلك إحداث محاكم استئناف‬
‫إدارية بمقتضى قانون مؤرخ في ‪ 31‬ديسمبر ‪.1987‬‬

‫وهكذا أصبح النظام القضائي الفرنسي منذ ‪ 1872‬خاصة يتميز بوجود ازدواجية‬
‫قضائية تتجسد في هرمين قضائيين‪:‬‬

‫المحاكم العدلية وعلى رأسها محكمة التعقيب مختصة في تطبيق القانون الخاص‬
‫وفصل النزاعات التي تنشأ بين الخواص‪.‬‬

‫محاكم إدارية على رأسها مجلس الدولة تختص بتطبيق القانون العام وفصل النزاعات‬
‫التي تكون اإلدارة فيها طرفا‪.‬‬

‫ولفض نزاعات االختصاص بين النظامين القضائيين وقع إحداث بمقتضى قانون‬
‫‪ 1872‬إحداث محكمة النزاعات‪.‬‬

‫وهكذا كان القضاء اإلداري هو الذي قام بالدور األساسي في نشأة القانون اإلداري‬
‫الفرنسي ودعم استقالليته من خالل ابتكار عديد القواعد والنظريات والمبادئ والحلول‬
‫بحثا عن إرساء توازن بين المصلحة العامة والمصالح الخاصة‪ ،‬وقد برز االرساء‬
‫التدريجي الستقاللية القانون اإلداري انطالقا من قرار محكمة النزاعات المؤرخ في ‪8‬‬

‫‪18‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫فيفري ‪( 1873‬بالنكو) الذي أقر وجود قواعد خاصة ومميزة تحكم اإلدارة على أساس‬
‫معيار المرفق العام مزيحا بذلك تطبيق قواعد المجلة المدنية أي القانون الخاص‪.‬‬

‫وقد عرف النموذج الفرنسي بعد ذلك انتشارا واسعا في عديد الدول من بينها تونس‪.‬‬

‫الفرع الثاني‪ :‬نشأة القانون اإلداري التونسي وتطوره‬


‫وقع االرساء التدريجي للقانون اإلداري في تونس اعتمادا على النموذج الفرنسي مع‬
‫تنقيحه واثرائه بجملة من االحكام والحلول انطالقا من الواقع التونسي‪ .‬وقد برزت‬
‫المالمح األولى من القانون اإلداري التونسي منذ ما قبل الحماية خاصة من خالل عهد‬
‫األمان ‪ 1857‬ثم االمر العلي المؤرخ في ‪ 27‬فيفري ‪ 1860‬المتعلق بإحداث وتنظيم‬
‫الوزارة الكبرى ثم دستور ‪ 26‬أفريل ‪ 1861‬الذي تضمن مجموعة من الفصول تتعلق‬
‫باإلدارة والوظيفة العمومية‪ .‬وعلى مستوى جهوي صدر االمر العلي المؤرخ في ‪20‬‬
‫جويلية ‪ 1860‬المتعلق بصالحيات القايد‪ .‬اما على المستوى المحلي فقد برز التنظيم‬
‫البلدي في ‪ 30‬أوت ‪.1858‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬مرحلة الحماية‬


‫أما خالل فترة الحماية الفرنسية التي انتصبت بمقتضى معاهدة باردو في ‪ 12‬ماي‬
‫‪ 1881‬فقد بادرت سلطات الحماية بإجراء إصالحات بررتها بأن فيها فائدة‪ .‬وبقطع‬
‫النظر عن المساوئ العديدة لنظام الحماية هذا والمصالح االستعمارية التي كان يسعى‬
‫الى تحقيقها‪ ،‬تولى هذا النظام ادخال عدة تغييرات وتحويرات تتعلق بتنظيم اإلدارة‬
‫ونشاطها ونزاعاتها‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫فعلى مستوى تنظيم اإلدارة أحدثت سلطات الحماية عدد من الهياكل منها إحداث‪:‬‬
‫خطة كاتب عام للحكومة ‪1883‬‬

‫اإلدارة العامة لألشغال العمومية ‪1883‬‬

‫إدارة التعليم العمومي ‪1883‬‬

‫اإلدارة العامة للمالية ‪1884‬‬

‫اإلدارة العامة للفالحة ‪1890‬‬

‫أما على الصعيد المحلي فقد تم توسيع النظام البلدي بإحداث ‪ 6‬بلديات إضافة الى بلدية‬
‫تونس‪ ،‬وهي صفاقس‪ ،‬سوسة‪ ،‬بنزرت‪ ،‬حلق الواد‪ ،‬الكاف‪ ،‬الزهراء (كان اسمها سان‬
‫جرمان)‪.‬‬

‫وعلى مستوى النشاط اإلداري وقع اصدار‪:‬‬


‫االمر العلي المؤرخ في ‪ 24‬سبتمبر ‪ 1885‬المتعلق بالملك العمومي‬

‫االمر المؤرخ في ‪ 25‬جويلية ‪ 1888‬المتعلق بالصفقات العمومية‬

‫امر ‪ 10‬نوفمبر ‪ 1926‬الذي يعتبر اول نظام أساسي في الوظيفة العمومية‬

‫اما فيما يتعلق بالنزاع اإلداري فقد تم منذ السنوات األولى للحماية سنة ‪ 1883‬اصدار‬
‫ي ادخل ازدواجية على مستوى قضاء اإلدارة حيث اصبح هناك‪:‬‬
‫امر عل ّ‬
‫‪-‬قضاء تونسي يعود بالنظر للوزارة الكبرى‬

‫‪-‬قضاء فرنسي عوض المحاكم القنصلية التي كانت تختص في النظر في قضايا الرعايا‬
‫األوروبيين المقيمين باإليالة والتي أحدثت على أساس معاهدة االستسالم المبرمة بين‬
‫الباب العالي والدول العظمى‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫وامتدادا لهذا التنظيم صدر االمر العلي المؤرخ في ‪ 27‬نوفمبر ‪ 1888‬المتعلق‬


‫بالخصام اإلداري‪ .‬وقد اقر هذا االمر مبدئين أساسيين هما وحدة نظام المحاكم والفصل‬
‫بين المنازعات‪.‬‬

‫فهو اذن امر ال يأخذ بنظام االزدواجية القضائية وانّما بنظام وحدة المحاكم وهي‬
‫المحاكم العدلية ولكن مع اإلقرار بالفصل بين المنازعات بمعنى جعل المحاكم العدلية‬
‫تطبق قانونا خصوصيا وإجراءات مختلفة عند نظرها في النزاعات االداريّة وهو ما‬
‫نص عليه الفصل األول من االمر العلي السابق الذكر‪.‬‬

‫وهكذا أرسى هذا االمر رقابة قضائية متجاوزا بذلك مرحلة القضاء المحجوز على ان‬
‫الرقابة القضائية على اإلدارة واختصاص القضاء العدلي ّ‬
‫ضال محدودا المجال‪ ،‬ذلك ان‬
‫االمر العلي اقصى كل إمكانية رقابة الغاء على اعمال اإلدارة في فصله الرابع‪.‬‬

‫وهكذا ظلت اإلدارة محصنة من كل رقابة الغاء عن طريق الدعوى واكتفت المحاكم‬
‫برقابة استثنائية عن طريق الدفع‪.‬‬

‫كما نص نفس االمر في فصله الثالث على مبدأ الفصل بين الوظائف اإلدارية والوظائف‬
‫القضائية ومنع المحاكم المدنية من تعطيل عمل اإلدارة أو توجيه األوامر إليها مكرسا‬
‫هكذا بوضوح مبدأ الفصل بين الهيئات اإلدارية والقضائية العدلية الذي كان أساس‬
‫بروز قانون إداري مستقل عن القانون الخاص في فرنسا كما رأينا سابقا‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬تطور القانون اإلداري التونسي منذ ‪1956‬‬


‫بعد انتهاء الحماية تطور القانون اإلداري وعرف عدة تغييرات انطالقا من الدستور‬
‫الصادر في غرة جوان ‪ 1959‬الذي اكد ضمنيا مبدأ الفصل بين الهيئتين من خالل‬

‫‪21‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫اقراره بوجود مجلس دولة مستقل عن القضاء العدلي ويتركب من هيئة قضائية إدارية‬
‫ودائرة محاسبات‪.‬‬

‫كما تمت مراجعة وتحديث عدد من التشريعات الموروثة من فترة الحماية نذكر منها‬
‫امر ‪ 21‬جوان ‪ 1956‬الذي حول مؤسسة القيادة المحدثة باألمر العلي المؤرخ في ‪13‬‬
‫جويلية ‪ 1922‬الى مؤسسة الوالية‪.‬‬

‫كذلك امر ‪ 14‬مارس ‪ 1957‬المتعلق بالتنظيم البلدي‪.‬‬

‫كذلك نظام جديد للوظيفة العمومية سنة ‪.1968‬‬

‫لكن يجب بالخصوص اإلشارة الى القانون عدد ‪ 40‬لسنة ‪ 1972‬المؤرخ في غرة‬
‫جوان ‪ 1972‬والمتعلق بالمحكمة اإلدارية‪.‬‬

‫أرسى هذا القانون المحكمة اإلدارية واقر بإمكانية الطعن في القرارات اإلدارية عن‬
‫طريق دعوى اإللغاء كما اقر وظيفة استشارية غير أن القضاء العدلي حافظ على‬
‫اختصاص هام في عديد المجاالت وكذلك على اختصاص المحاكم العدلية ابتدائيا في‬
‫قضاء التعويض في حين أسند االستئناف والتعقيب في هذا المجال للمحكمة اإلدارية‪.‬‬
‫وهو ما يجعل تكريس نظام ازدواجية القضاء غير كامل ما دفع المشرع للتدخل من‬
‫جديد خاصة بمقتضى القانونين األساسيين عدد ‪ 38‬و‪ 39‬لسنة ‪ 1996‬المؤرخين في‬
‫‪ 3‬جوان ‪ 1996‬ليدخل مراجعة شاملة على نظام القضاء اإلداري حيث أحدث القانون‬
‫األول مجلسا لتنازع االختصاص بين القضاء العدلي والقضاء اإلداري في حين أدخل‬
‫الثاني تحويرات جوهرية هامة جدا على قانون ‪ 1972‬أهمها‪:‬‬

‫اسناد اختصاص مبدئي عام للمحكمة اإلدارية في ميدان النزاع اإلداري وأعاد تنظيم‬
‫محوال إياها الى هرم قضائي يتكون من دوائر ابتدائية ودوائر‬
‫المحكمة اإلدارية ّ‬

‫‪22‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫استئنافية وجلسة عامة مختصة تعقيبيّا‪ .‬ومن جهة أخرى أدخل تبسيطا على اإلجراءات‬
‫بأن حذف إجبارية المطلب المسبق وأقر مبدأ علنية جلسات المحكمة‪.‬‬

‫كما ألغى أمر ‪ 1888‬المتعلق بالخصام اإلداري ولكنه حافظ على الفصل بين الهيئات‬
‫الذي أقره الفصل الثالث من القانون عدد ‪ 38‬لسنة ‪ 1996‬المتعلق بتوزيع االختصاص‬
‫بين المحاكم العدلية والمحكمة اإلدارية‪.‬‬

‫كما وقع إرساء اليات الرقابة المالية على اإلدارة من خالل احداث دائرة المحاسبات سنة‬
‫‪ 1968‬ثم دائرة الزجر في ميدان الميزانية سنة ‪.1970‬‬

‫وبصورة عامة يمكن القول ان تطور القانون اإلداري التونسي منذ أواخر الخمسينات‬
‫تميز بنزعة االستلهام من النموذج الفرنسي األصلي بالمحافظة على نموذج التنظيم‬
‫والمفاهيم األساسية المعروضة في النظام اإلداري الفرنسي كالمركزيّة والالمركزيّة‬
‫والالمحوريّة وكذلك التفويض ورقابة االشراف والسلطة الرئاسيّة‪ .‬كذلك احداث هياكل‬
‫شبيهة بالهياكل الفرنسية كمجلس تنازع االختصاص ودائرة المحاسبات والمحكمة‬
‫اإلدارية‪ .‬كذلك التمييز بين القوانين األساسية والعادية والتراتيب‪ .‬ومبدأ الفصل بين‬
‫الهيئات وكذلك دعاوى تجاوز السلطة والقضاء الكامل‪...‬‬

‫مشوها والنّقل جزئي‪ .‬ذلك ان هذه‬


‫ّ‬ ‫ولكن هذا التقليد ظ ّل منقوصا وفي كثير من األحيان‬
‫الظاهرة مرتبطة بتأثر النخب التونسية بالنموذج الفرنسي ولكنها نقلت في مناخ يختلف‬
‫عن المناخ الليبيرالي الفرنسي‪.‬‬

‫لقد تدعم نظام االزدواجية القضائية بمقتضى دستور ‪ 2014‬الذي كرس في الباب‬
‫المخصص للسلطة القضائية هرما قضائيا إداريا يتكون من محكمة إدارية عليا ومحاكم‬
‫إدارية ابتدائية وأخرى استئنافية وضمن المجلس األعلى للقضاء نص على المجلس‬
‫األعلى للقضاء اإلداري‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫المبحث الثاني‪ :‬مصادر القانون اإلداري‬


‫يهمنا هنا المصادر الشكلية وليس المصادر المادية لهذه المادة‪ .‬وتتمثل المصادر الشكلية‬
‫في التشريع بالمعنى الواسع للكلمة وكذلك فقه القضاء‪.‬‬

‫الفرع األول‪ :‬التشريع‬


‫ونعني به في المفهوم الواسع الدستور والمعاهدات الدولية والقانون والتراتيب‪.‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬الدستور‬


‫يحتل الدستور موقع القمة في هرم القواعد القانونية‪ .‬ويعنى الدستور أساسا بتنظيم‬
‫السلطة السياسية في الدولة وال يعنى في جوهره باإلدارة‪.‬‬

‫غير ان الدستور يمثل أساسا للقانون اإلداري فكما بين العميد "جورج فيديل" في‬
‫نظريته حول األسس الدستورية للقانون اإلداري ان الدستور يتضمن احكاما عديدة ذات‬
‫عالقة اكيدة بالهياكل اإلدارية وبمبادئ القانون اإلداري األساسية ونذكر منها‬
‫بالخصوص‪:‬‬

‫تحديد مجالي القانون والتراتيب (الفصل ‪ 65‬من دستور ‪ 2014‬والفصالن ‪ 34‬و‪35‬‬


‫من دستور ‪.)1959‬‬

‫مفهوم السلطة الترتيبية‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫مبدأ الفصل بين الهيئات اإلدارية والقضائية العدلية‪.‬‬

‫مبدأ الالمركزية اإلدارية (الفصل ‪ 14‬من دستور ‪.)2014‬‬

‫أصناف المؤسسات العمومية‪.‬‬

‫وكذلك في الدستور الجديد فصول تتعلق بمبادئ سير اإلدارة وبالخصوص الفصل ‪15‬‬
‫"اإلدارة العمومية في خدمة المواطن والصالح العام‪ ،‬تنظم وتعمل وفق مبادئ الحياد‬
‫والمساواة واستمرارية المرفق العام‪ ،‬ووفق قواعد الشفافية والنزاهة والنجاعة‬
‫والمساءلة"‪.‬‬

‫والى جانب هذه االحكام هناك جملة من القواعد التي تتمتع بقيمة دستورية نجدها خاصة‬
‫في توطئة الدستور والتي تعتبر ذات تأثير مهم مباشر او غير مباشر على القانون‬
‫اإلداري‪ .‬على انه يجب اإلشارة الى ان الدستور ال يعتبر مصدرا مباشرا للقانون‬
‫اإلداري في صورة وجود نص تشريعي يعتبر بمثابة الحاجز بينه وبين العمل القانوني‬
‫لإلدارة‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬المعاهدات الدولية‬


‫تعتبر المعاهدات مصدرا من مصادر القانون اإلداري بعد المصادقة عليها‪ ،‬والمعاهدات‬
‫المصادق عليها اقوى نفوذا من القانون‪ .‬وكثيرا ما طرحت مسألة التطبيق المباشر‬
‫لألحكام الواردة في المعاهدات الدولية‪ ،‬خاصة في حالة وجود نص تشريعي‪.‬‬

‫وقد كرست المحكمة اإلدارية مبدأ اعتبار المعاهدات مصدرا قانونيا مباشرا يعلو‬
‫القوانين الداخلية في قرارها المؤرخ في ‪ 21‬ماي ‪( ،1996‬الرابطة التونسية لحقوق‬

‫‪25‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫االنسان) حيث أكدت ان هذا المبدأ يخول للقاضي الموكول له وظيفة تطبيق القانون‬
‫السهر على احترام تلك األفضلية‪.‬‬

‫الفقرة الثالثة‪ :‬القانون‬


‫ونعني بالقانون النصوص التشريعية المصادق عليها من طرف البرلمان او عن طريق‬
‫االستفتاء التشريعي والمختومة من قبل رئيس الدولة والتي وقع نشرها بالرائد الرسمي‪.‬‬

‫وتنقسم القوانين الى صنفين‪ :‬القوانين األساسية والقوانين العادية يضاف اليها القوانين‬
‫المصادق عليها باستفتاء‪.‬‬

‫أ‪ -‬القوانين األساسية‪:‬‬

‫تتعلق هذه القوانين بالميادين الحساسة وتفترض التخاذها إجراءات خاصة أكثر تعقيدا‬
‫من حيث اآلجال ومن حيث األغلبية المستوجبة‪ .‬وقد حدد مجال كل منها دستور ‪2014‬‬
‫في فصله ‪ 65‬كالنصوص المتعلقة بالموافقة على المعاهدات وتنظيم العدالة والقضاء‬
‫والقانون االنتخابي والحريات وحقوق االنسان واالحوال الشخصية والسلطة المحلية‬
‫وتنظيم الهيئات الدستورية والقانون األساسي للميزانية‪...‬‬

‫أما القوانين المصادق عليها باستفتاء فهي قوانين تفترض تشريك الشعب مباشرة‬
‫باعتبارها قوانين ذات أهمية خاصة‪.‬‬

‫ب‪ -‬القوانين العادية‪:‬‬

‫تمثل هذه النصوص النصيب االوفر من القوانين‪ ،‬وتعتبر وثيقة االرتباط بالقانون‬
‫اإلداري باعتبار ان مهمة اإلدارة انما هي السهر على تنفيذ القوانين‪ ،‬ولكن تجدر‬

‫‪26‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫اإلشارة الى ان مجال القانون قد عرف تراجعا وأصبح محددا على سبيل الحصر منذ‬
‫تعديل الدستور السابق في ‪ .1997‬وقد اجمع الفقه (في ‪ )1997‬تقريبا على اعتبار ذلك‬
‫تضييقا لمجال القانون وتراجعا لمبدأ علويته لصالح سلطة ترتيبية غير محددة المجال‪.‬‬

‫وتواصل هذا التحديد في الدستور الحالي حيث حدد الفصل ‪ 65‬من الدستور الحالي‬
‫مجاالت تدخل القانون (األساسي والعادي) بقائمة على سبيل الحصر وفي اخر ّ‬
‫مطة من‬
‫الفصل نص على انه "يدخل في مجال السلطة الترتيبية العامة" أي من اختصاص‬
‫السلطة اإلدارية‪" ،‬المواد التي ال تدخل في مجال القانون"‪.‬‬

‫الفقرة الرابعة‪ :‬التراتيب‬


‫التراتيب هي نصوص تتضمن قواعد عامة‪ ،‬مجردة‪ ،‬ملزمة صادرة عن السلطة التنفيذية‬
‫وتنقسم هذه النصوص الترتيبية الى عدة أصناف هي المراسيم واالوامر والقرارات‪.‬‬
‫والمراسيم هي نصوص تتخذها السلطة التنفيذية في المجال المخصص والمسند‬
‫للمشرع‪ .‬وهذه النصوص تكتسي صبغة تشريعية ولكنها صادرة عن السلطة التنفيذية‬
‫ويقتضي ذلك المصادقة عليها الحقا من قبل المشرع‪.‬‬

‫تتضمن هذه النصوص (الترتيبية) قواعد عامة مجردة وملزمة صادرة عن اإلدارة ويقع‬
‫عادة تصنيفها حسب ترتيب تفاضلي في هرم القواعد القانونية يعتمد معيار السلطة التي‬
‫اتخذت القرار الترتيبي واإلجراءات التي اتبعت إلصداره‪.‬‬

‫وعلى هذا األساس نجد في المرتبة األعلى في سلم القواعد الترتيبية األوامر ذات‬
‫الصبغة الترتيبية ثم القرارات الترتيبية الصادرة عن الوزراء ثم القرارات الترتيبية‬
‫الصادرة عن الوالة ثم القرارات الترتيبية الصادرة عن رؤساء البلديات وبقية السلط‬
‫اإلدارية‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫وتجدر اإلشارة ان التراتيب صنفان‪:‬‬

‫تراتيب تطبيقية تتخذ لتنفيذ القوانين‪.‬‬

‫تراتيب مستقلة عن القانون تدخل في المجاالت الخارجة عن مجال القانون‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة الى ان السلطة الترتيبية تنقسم الى سلطة ترتيبية عامة وسلطة ترتيبية‬
‫خاصة‪ .‬ويحتكر السلطة الترتيبية العامة رئيس الحكومة وفق مقتضيات الفصل ‪ 92‬من‬
‫الدستور الحالي بعدما كان حكرا على رئيس الدولة في الدستور السابق‪ .‬بينما أسندت‬
‫السلطة الترتيبية الخاصة للوزراء‪ ،‬كل في ميدانه‪.‬‬

‫الفرع الثاني‪ :‬المبادئ العامة للقانون وفقه القضاء‬


‫وهي مبادئ اوجدها فقه القضاء اإلداري وفي فرنسا أساسا مجلس الدولة ثم طبّقها أيضا‬
‫المجلس الدستوري كما كرست عدد منها المحكمة اإلدارية التونسية ولئن كان الفقه‬
‫متضارب المواقف على اعتبار هذه المبادئ مصدرا من مصادر القانون اإلداري فإن‬
‫لفقه القضاء دور في بناء اهم قواعد القانون اإلداري الفرنسي‪.‬‬

‫اما في تونس فقد حسم المشرع هذا الجدل في الفصل الخامس من القانون عدد ‪ 40‬لسنة‬
‫‪ 1972‬المتعلق بالمحكمة اإلدارية فقد جاء فيه أن دعوى تجاوز السلطة تهدف الى‬
‫ضمان احترام المشروعية القانونية من طرف السلطة التنفيذية وذلك طبقا للقوانين‬
‫والتراتيب الجاري بها العمل والمبادئ العامة للقانون‪ .‬ويمكن تعريف المبادئ العامة‬
‫للقانون بأنها مجموعة من القواعد ال تكرسها النصوص القانونية المكتوبة صراحة‬
‫(مثال‪ :‬مبدأ استمرارية المرفق العام‪ ،‬المساواة امام المرفق العام‪ ،‬مبدأ حق الدفاع‪ ،‬مبدأ‬

‫‪28‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫عدم رجعية المقررات اإلدارية) فهي قواعد غير مكتوبة يفرض القاضي احترامها على‬
‫السلط اإلدارية‪.‬‬

‫ومن ناحية قيمتها القانونية تعتبر هذه المبادئ اعلى قيمة من كل القرارات اإلدارية‬
‫وبعضها له قيمة تشريعية وأخرى تصل الى مستوى المبادئ ذات القيمة الدستورية مثال‬
‫مبدأ استمرارية المرفق العام‪.‬‬

‫الباب الثاني‪ :‬المعطيات العامة للتنظيم اإلداري‬


‫إن دراسة المؤسسات اإلدارية وكذلك وظائف اإلدارة ووسائل عملها تقتضي في مرحلة‬
‫أولى تحديد مفهوم الشخصية القانونية في القانون العام‪ ،‬أي تحديد ذوات القانون العام‪،‬‬
‫وهي باألساس أشخاص أو ذوات معنوية‪ .‬وأساليب التنظيم اإلداري في مرحلة ثانية‪.‬‬

‫المبحث األول‪ :‬الذوات العمومية‬


‫ان مفهوم الشخصية المعنوية مفهوم على غاية من األهمية في القانون العام‪ ،‬ذلك أن كل‬
‫الذوات العمومية هي بدون استثناء أشخاص معنويّة (في القانون الخاص الشخصية‬
‫القانونية يمكن ان تكون معنوية او طبيعية أما في القانون العام فالشخصية القانونية هي‬
‫ذات عمومية)‪.‬‬

‫اكتست دراسة الشخصية المعنوية أهمية خاصة في القانون اإلداري باعتبارها المدخل‬
‫الضروري لدراسة تنظيم اإلدارة‪ ،‬وهذا التنظيم قائم على عدد من األشخاص المعنوية‬
‫العمومية من جهة‪ ،‬وكذلك مدخل ضروري وأساسي لدراسة النشاط اإلداري‪ ،‬ذلك ان‬

‫‪29‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫كل عالقات التنظيم اإلداري تفترض بالضرورة ان يكون أحد أطرافها على األقل‬
‫شخصا معنويا عموميا‪ .‬كالقرار اإلداري وهو قرار صادر عن شخص معنوي عمومي‬
‫بالضرورة‪ ،‬والعقد الذي تبرمه اإلدارة في إطار نشاطها يفترض بالضرورة ان يكون‬
‫أحد اطرافه على األقل شخصا معنويا عموميا‪ .‬كذلك الملك العمومي لكي يكون كذلك‬
‫يجب ان يكون مالكه شخصا عموميا‪ ،‬والعون العمومي هو عون يتصرف باسم شخص‬
‫معنوي عمومي‪ .‬ولذلك سندرس مفهوم الشخصية المعنوية العمومية واصنافها ثم نمر‬
‫الى عناصر التمييز بين الذوات المعنوية العمومية والذوات المعنوية الخاصة‪.‬‬

‫الفرع األول‪ :‬مفهوم الشخصية المعنوية العمومية‬


‫نشأ مفهوم الشخصية المعنوية في القانون الخاص‪ ،‬ورغم ذلك فإن مكانته تبدو اهم في‬
‫القانون العام‪ ،‬ذلك ان األشخاص الطبيعيين يحتلون المكانة األولى في القانون الخاص‬
‫في حين ان روابط القانون اإلداري تفترض وجوبا ان يكون أحد أطرافها شخصا معنويا‬
‫عموميا‪ .‬واالصل ان الشخصية القانونية تهم الشخص الطبيعي باعتباره القادر وحده‬
‫على اإلفصاح عن ارادته في مباشرة تصرفاته‪ .‬غير ان ضرورات الحياة االجتماعية‬
‫فرضت االعتراف لمجموعات من االفراد او مجموعات من األموال المرصودة لغرض‬
‫معين بكيان مستقل عن االفراد المكونين لها‪ .‬وبالتالي االعتراف لها بالشخصية القانونية‬
‫حتى تصبح قادرة على اكتساب الحقوق وتحمل الواجبات أي أهلية االلزام وااللتزام‪،‬‬
‫فبرزت األشخاص المعنوية الخاصة من جهة واألشخاص المعنوية العمومية من جهة‬
‫أخرى‪.‬‬

‫وقد اثار مفهوم الشخصية المعنوية جدال فقهيا أدى الى بروز عدد من النظريات‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الفقرة األولى‪ :‬النظريات المتعلقة بالشخصية المعنوية‬


‫اثارت طبيعة الشخصية المعنوية واسسها بصورة عامة جدال واسعا في الفقه وبرزت‬
‫عدة نظريات متعارضة حيث رأى جانب من الفقه أن الشخصية المعنوية ليست حقيقة‬
‫واقعة بل هي مجرد اضطراب قانوني بينما دافع شق اخر في الفقه على الموقف‬
‫المعاكس أي دافع على فكرة ان الشخصية المعنوية هي شخصية حقيقية وواقعية‪ .‬بينما‬
‫انكر شق ثالث (تجاوزته االحداث اليوم) وجود الشخصية المعنوية ورفض االعتراف‬
‫بوجودها‪.‬‬

‫أ‪ -‬نظرية االفتراض‪:‬‬

‫بلور هذه النظرية عدد من فقهاء مدرسة المرفق العام نذكر منهم "دوجي" ‪ Duguit‬و‬
‫"جيز" ‪ Jèze‬واعتبر هؤالء ان الشخصية المعنوية بصورة عامة هي مجرد افتراض‬
‫قانوني وا ّن االنسان هو الشخصية القانونية الحقيقية الوحيدة التي يمكن االعتراف بها‬
‫فهو وحده يتمتع بحقوق ذلك ان الحق قدرة ارادية ولذلك فان االنسان هو الوحيد الذي‬
‫تتوفر فيه اإلرادة واالدراك الذين يؤهالنه الكتساب الحقوق وااللتزام بالواجبات وبالتالي‬
‫فان المشرع عندما يعترف بمجموعات من األشخاص او األموال يعترف لهؤالء بصفة‬
‫األشخاص المعنوية فإنما يفعل ذلك على سبيل االفتراض وتشبيها باألشخاص الطبيعيين‬
‫حتى يم ّكن هاته الكائنات االفتراضية من أهلية اكتساب الحقوق وااللزام وااللتزام تحقيقا‬
‫لمصالح مجموعة من االفراد‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫ب‪ -‬نظرية الحقيقة الواقعية للشخصية المعنوية‪:‬‬

‫دافع عن هذه النظرية عدد من الفقهاء ومنهم "ليون ميشو" ‪ L.Michoud‬و "هوريو"‪.‬‬
‫ويؤكد هؤالء ان الشخصية المعنوية هي حقيقة واقعية تنشأ بمجرد توفر األركان‬
‫المكونة لها وهي وجود مجموعة من االفراد لديهم او تتكون لديهم إرادة مشتركة تعبر‬
‫عن وجودهم وعن مصالحهم وهكذا تنشأ الشخصية المعنوية بشكل مستقل عن القانون‬
‫ويكتفي المشرع باالعتراف بها‪ .‬وحسب أنصار هذه النظرية‪ ،‬الشخصية المعنوية لها‬
‫مدلول قانوني ال يرتبط بالشخصية الطبيعية وانما بالصالحية الكتساب الحقوق وتحمل‬
‫االلتزامات‪ ،‬فالشخص القانوني إذا هو الكيان القادر على االلزام وااللتزام سواء ان كان‬
‫شخصا طبيعيا او شخصا معنويا‪.‬‬

‫ج‪ -‬نظرية نفي الشخصية المعنوية‪:‬‬

‫دافع عن هذه النظرية بعض الفقهاء مثل "بالنيول" ‪ Planiol‬وانصاره الذين يرون ان‬
‫ال ضرورة أصال للشخصية المعنوية‪ ،‬واعتبروا انه يكفي اعتماد فكرة ذمة التخصيص‬
‫او مفهوم الملكية المشتركة‪ .‬ويعني هذا المفهوم ان تنسب الحقوق وااللتزامات ليس الى‬
‫كائن مصطنع (الشخصية المعنوية) وانما لغرض معين‪ .‬وبذلك يتحقق الهدف من تجمع‬
‫مجموعة من االفراد او رصد مجموعة من األموال‪ .‬وقد عيب على هذه النظرية انها ال‬
‫يمكن ان تنطبق اال على الشركات الخاصة وال يمكن ان تتماشى مع الكيانات العمومية‬
‫كالدولة‪.‬‬

‫ويجمع الفقه اليوم تقريبا على اإلقرار بوجود الشخصية المعنوية التي يعتبرها حسب‬
‫تعريف "مارسيل والين" مركزا للمصالح يحظى بالحماية القانونية‪ .‬فالشخصية المعنوية‬

‫‪32‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫تنشأ بوجود جماعات بشرية تربطها مصالح مشتركة تؤدي الى بروز إرادة جماعية‬
‫تتطلب تجسيدا قانونيا للتمكن من التعبير عنها فتبرز بذلك الشخصية المعنوية‪.‬‬

‫فماهي اركان الشخصية المعنوية؟‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬أركان الشخصية القانونية المعنوية‬


‫يمكن تجميع مميزات الشخصية المعنوية بصورة عامة سواء كانت عامة او خاصة في‬
‫ركنين هما‪:‬‬

‫‪-‬الشخصية المدنية‬

‫‪-‬الذمة المالية‬

‫نتعرض لها تباعا‪.‬‬

‫أ‪ -‬الشخصية المدنية‪:‬‬

‫يؤدي االعتراف بالشخصية المدنية الى اكتساب القدرة على التمتع بالحقوق وعلى تحمل‬
‫االلتزامات‪ ،‬فإكساب الشخصية المدنية يعني التمكين من اهلية الوجوب اي تمكين الذات‬
‫المعنوية من التصرف في شؤونها بشكل مستقل‪ ،‬على ان هذه االهلية تكون عادة اقل‬
‫شمولية بالنسبة للذوات العمومية من تلك التي يتمتع بها االشخاص الطبيعيون‪.‬‬

‫فالذوات المعنوية ال يمكن التصرف في شؤونها وبالتالي ال يمكنها االلزام او االلتزام اال‬
‫بواسطة شخص طبيعي له الحق في تمثيلها قانونا ذلك ان الشخص المجسد ال يمكنه‬
‫االمضاء والقبض واالبراء بنفسه‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫ففيما يتعلق بأهلية التقاضي فالبلديات مثال يمثلها رئيس البلدية والشركات رئيس هيئتها‬
‫الجماعية أو رئيسها المدير العام‪ .‬ومن جهة اخرى فان اهلية الشخص المعنوي‬
‫العمومي محددة دائما بأغراضه االجتماعية‪ .‬فلئن كانت اهلية الدولة واسعة فإنها في كل‬
‫االحوال‪ ،‬مبدئيا‪ ،‬مقيدة بأحكام الدستور اما مجال اهلية بقية الذوات المعنوية كالشركات‬
‫او المؤسسات العمومية فهو محدد بشكل ضيق في إطار غرضها االجتماعي حيث‬
‫تخضع لمبدأ التخصص‪.‬‬

‫ب‪ -‬الذمة الماليّة‪:‬‬

‫تعتبر الذمة المالية المستقلة من اهم المبادئ التي تترتب على االعتراف بالشخصية‬
‫القانونية‪ .‬لكن ما المقصود بها؟‬

‫تعني الذمة المالية المستقلة تمتع الذوات المعنوية بأموال خاصة بها منفصلة عن أموال‬
‫أعضائها أو االفراد المكونين لها‪.‬‬

‫وتتمثل هذه االموال في عقارات ومنقوالت تتصرف فيها الذات المعنوية بحرية ولكن‬
‫دون الخروج عن غرضها االجتماعي وفي حدود ما يجيزه القانون‪ ،‬من ذلك مثال أن‬
‫اقتناء هذه االموال يفترض الخضوع لقواعد واجراءات النصوص المنظمة للصفقات‬
‫العمومية‪ ،‬كما ان التفويت يخضع إلجراءات وقواعد خاصة كالمزاد العلني‪.‬‬

‫وبالتالي البد من التمييز بين الذوات المعنوية في القانون العام والذوات المعنوية في‬
‫القانون الخاص‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الفرع الثاني‪ :‬التمييز بين االشخاص المعنوية في القانون العام‬


‫واالشخاص المعنوية في القانون الخاص‬
‫يعتبر التمييز بين الذوات المعنوية الخاصة والذوات العمومية على غاية من االهمية‪،‬‬
‫ذلك ان هذا التمييز تترتب عنه مجموعة من االثار القانونية المتنوعة‪.‬‬

‫الفقرة االولى‪ :‬عناصر التمييز بين الذات المعنوية في القانون العام‬


‫والذات المعنوية في القانون الخاص‬

‫‪ -1‬االشخاص المعنوية في القانون العام‪:‬‬


‫أ‪ -‬االشخاص المعنوية الترابية‪:‬‬

‫وتتمثل هذه االشخاص في الدولة والجماعات الترابية المحلية وهي الى حد اليوم‬
‫البلديات والواليات‪ ،‬وهي حسب الدستور الجديد البلديات والجهات واألقاليم‪.‬‬

‫إذا ثالثة اصناف الى جانب الدولة هي اشخاص معنوية ترابية وهي اشخاص معنوية‬
‫تتحدد اختصاصها على اساس ترابي او اقليمي بحيث تمارس هذه الذوات اختصاصها‬
‫في نطاق جغرافي محدد سواء كان شامل لكامل التراب الوطني كما هو الحال بالنسبة‬
‫للدولة او بجزء من هذا التراب كما هو الحال بالنسبة للجماعات المحلية‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫ب‪ -‬االشخاص المعنوية المتخصصة او المرفقية‪:‬‬

‫وهي الذوات المعنوية العمومية التي يتحدد اختصاصها ليس على اساس ترابي وانما‬
‫على اساس وظيفي أو مرفقي‪ .‬وتتمثل هذه الذوات في المؤسسات العمومية التي تعتبر‬
‫أحد اساليب تسيير المرافق (الكليات والمؤسسات العمومية)‪ .‬وتنقسم هذه المؤسسات‬
‫بدورها الى مؤسسات عمومية ذات الصبغة االدارية والمؤسسات العمومية ذات الصبغة‬
‫الصناعية والتجارية‪ .‬وتجدر االشارة الى وجود اشخاص عموميين غير مصنفة او‬
‫اشخاص عمومية مهنية نذكر منها عمادة االطباء عمادة المحامين عمادة المهندسين‪...‬‬
‫أضيف اليها في السنوات االخيرة هياكل اخرى واهمها الهيئات االدارية المستقلة كالهيئة‬
‫الوطنية لالتصاالت او هيئة السوق المالية واضيف اليها الهيئات الدستورية كالهيئة‬
‫العليا المستقلة لالنتخابات والهيئة العليا المستقلة لالتصال السمعي البصري والهيئة‬
‫الوطنية لمكافحة الفساد‪...‬‬

‫‪ -2‬الذوات المعنوية في القانون الخاص‪:‬‬


‫أ‪ -‬االشخاص المعنوية التي تسعى لتحقيق الربح (الشركات التجارية)‬
‫ب‪ -‬االشخاص المعنوية التي ال تسعى لتحقيق الربح (الجمعيات)‬

‫وتبرز عناصر التمييز بين االشخاص المعنوية في القانون الخاص وفي القانون العام‬
‫على عدة مستويات اهمها‪:‬‬

‫‪-‬النشأة‪ :‬يقع احداث الذوات المعنوية الخاصة بمبادرة حرة بحيث يمكن لألفراد بإرادتهم‬
‫الحرة تكوين االحزاب او تأسيس شركات او جمعيات‪ .‬اما الذوات العمومية فال يمكن‬
‫احداثها اال بتدخل من السلطات العمومية‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫‪-‬الغرض‪ :‬حيث يقع احداث الذوات العمومية من اجل تحقيق المصلحة العامة التي تمثل‬
‫مبرر احداثها وحدود مجاالت نشاطها ويعني ذلك ان الربح ال يمكن ان يمثل الغاية‬
‫االساسية لشخص عمومي بينما يتمثل غرض الذوات الخاصة عادة في المصلحة‬
‫الخاصة‪ .‬والن اهدافها مختلفة فان ذلك ينعكس على االهلية‪.‬‬

‫‪-‬االهلية‪ :‬االشخاص العمومية مكلفة بتحقيق المصلحة العامة وهو ما يكسبها حقوقا‬
‫اوسع مجاال من حقوق الذوات المعنوية الخاصة‪ ،‬لكنه ايضا يخضعها لقيود أكثر من‬
‫الذوات المعنوية الخاصة ويضع على كاهلها واجبات اكثر ثقال من واجبات الذوات‬
‫المعنوية الخاصة‪.‬‬

‫الذوات العمومية تتمتع بوسائل قانونية ال تتمتع بها الذوات الخاصة‪ .‬وتتمثل هذه‬
‫الوسائل في امتيازات السلطة العامة‪ .‬مثال‪ :‬سلطة االنتزاع‪ ،‬سلطة اتخاذ القرارات بشكل‬
‫انفرادي‪ ،‬اهلية فرض الضريبة‪...‬‬

‫ولكن تحقيق المصلحة العامة تفرض على الذوات العمومية قيودا في اعمالها‬
‫وتصرفاتها من ذلك القيود المفروضة في مجال اجراءات التعاقد حيث ال تتمتع االدارة‬
‫بحرية التعاقد وانما عليها احترام اجراءات وشروط‪ .‬كذلك التصرف في الملك العمومي‬
‫يخضع لمبدأ عدم التفويت وعدم قابليته للحوز‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬النتائج المترتبة عن التمييز بين الذوات المعنوية العامة‬


‫والخاصة‬
‫ينتج عن اضفاء صبغة الذات المعنوية العمومية وتمييزها عن الذات المعنوية الخاصة‬
‫نتائج هامة يمكن تقسيمها الى موانع وامتيازات‪:‬‬

‫أ‪ -‬الموانع‪:‬‬
‫‪ -1‬عدم الخضوع لطرق التنفيذ‪:‬‬

‫ان اضفاء صبغة الشخص المعنوي العمومي تؤدي الى منع اخضاع هذا الشخص الى‬
‫طرق التنفيذ‪ ،‬وبالتالي منع عقلة امواله ومكاسبه اي اقصاء كل انواع العقل المنصوص‬
‫عليها في مجلة المرافعات المدنية‪ ،‬كالعقل التحفظية والتنفيذية وعقلة المنقوالت‬
‫والعقارات والعقل التوقيفية‪.‬‬

‫وقد اكد الفصل ‪ 37‬من مجلة المحاسبة العمومية هذا المبدأ حيث جاء فيه انه "ال يجوز‬
‫اجراء اية عقلة ولو كانت بمقتضى احكام او بطاقات تنفيذية على االموال وال على‬
‫الديون الناتجة عن الضرائب او غيرها وال على السندات والقيم والمكاسب المنقولة‬
‫وغير المنقولة بدون اي استثناء التي تملكها الدولة او المؤسسات العمومية او الجماعات‬
‫العمومية المحلية" واضاف الفصل ‪ 38‬من نفس المجلة انه يبقى ألصحاب الديون‬
‫المذكورة "المطالبة بها لدى الدائرة المختصة"‪.‬‬

‫وقد جاءت صيغة هذا المنع عامة لم تحدد صنفا معينا من المؤسسات العمومية وهو ما‬
‫طرح التساؤل حول ما إذا كان المنع يهم المؤسسات العمومية ذات الصبغة االدارية فقط‬

‫‪38‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫ام يشمل المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية وهي ذوات عمومية‬
‫لكن لها صفة التاجر وتخضع بشكل واسع للقانون الخاص‪.‬‬

‫وقد ابدى فقه القضاء ترددا وعدم استقرار في الموقف من هذه المسألة قبل ان يتدخل‬
‫المشرع من خالل احدى قوانين المالية ليبيّن ان المنع ال يشمل اال المؤسسات ذات‬
‫الصبغة االدارية دون المؤسسات غير االدارية ذات الصبغة الصناعية والتجارية‪.‬‬

‫‪ -2‬منع اجراءات التفليس والتسوية القضائية‪:‬‬

‫كذلك تؤدي صفة الشخصية المعنوية العمومية الى حضر اللجوء الى اجراءات التفليس‬
‫والتصفية والتسوية القضائية ضد الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية ذات‬
‫الصبغة االدارية‪ .‬ذلك ان هذه الذوات ليس لها صفة التاجر على معنى الفصل االول من‬
‫المجلة التجارية‪.‬‬

‫غير ان التصفية الرضائية ممكنة ضد المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية‬


‫والتجارية نظرا الى انها تعتبر تاجرا وهو ما يؤكده العنوان الرابع من قانون غرة‬
‫فيفري ‪ 1989‬المتعلق بالمساهمات والمؤسسات والمنشآت العمومية كما تم تنقيحه‬
‫بمقتضى القانون عدد ‪ 38‬لسنة ‪ 1999‬المؤرخ في ‪ 3‬ماي ‪( 1999‬الفصول ‪ 34‬وما‬
‫بعده)‪.‬‬

‫‪ -3‬اقصاء المقاصة‪:‬‬

‫المقاصة هي طريقة النقضاء الدين عندما يصبح المدين دائنا لدائنه اي انها وسيلة‬
‫ممكنة لسداد الديون المتقابلة وتبرئة الذمة‪.‬‬

‫غير ان اكتساب الشخصية المعنوية العمومية يجعل هذه الطريقة ممنوعة وهو ما‬
‫يكرسه بوضوح الفصل ‪ 39‬من مجلة المحاسبة العمومية الذي جاء فيه انه "ال يجوز‬
‫اجراء اية مقاصة بين الديون الراجعة للدولة او لهيئة عمومية وبين الديون المتخلّدة‬

‫‪39‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫بذمتها (وكل استثناء لهذه القاعدة يقع اقراره بأمر)‪ .‬ويجبر بجميع الطرق القانونية على‬
‫تسديد ما بذمته كل من كان مدينا بضرائب او غيرها راجعة للدولة او لمؤسسة عامة‬
‫ادارية‪ ،‬او لمجموعة عمومية محلية بدون ان يكون له الحق في طلب المقاصة بما قد‬
‫يكون له من ديون في ذمة تلك الهيئات حتى لو كانت ديونه هذه معززة بأحكام أو وثائق‬
‫تنفيذية‪.‬‬

‫لكن تجدر االشارة الى ان هذا المنع ال يهم المؤسسات العمومية غير االدارية‬
‫وبالخصوص المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية التي بإمكانها‬
‫اللجوء للمقاصة‪.‬‬

‫‪ -4‬منع اللجوء الى التحكيم الداخلي‪:‬‬

‫وهو منع كرسه الفصل ‪ 7‬من مجلة التحكيم الصادرة بمقتضى القانون عدد ‪ 42‬لسنة‬
‫‪ 1993‬المؤرخ في ‪ 26‬أفريل ‪ ،1993‬غير ان هذا المنع ال يشمل اال الدولة‬
‫والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية ذات الصبغة االدارية‪ .‬اما المؤسسات‬
‫العمومية غير االدارية فيمكنها اللجوء الى التحكيم وهي بالتالي ليست معنية بهذا المنع‪.‬‬

‫ب‪ -‬االمتيازات‪:‬‬

‫تؤدي صفة الشخص المعنوي العمومي الى تمكين الذوات المعنية من عدد من‬
‫االمتيازات اهمها‪:‬‬

‫أن اموال الشخص العمومي يمكن ان تكتسب صبغة الملك العمومي مما يعني حمايتها‬
‫اي عدم القابلية للتفويت فيها وعدم قابلية امتالكها من الخواص بالحوز‪.‬‬

‫كما ان االشغال العقارية التي تنجز لفائدة الشخص المعنوي العمومي تكتسب صبغة‬
‫االشغال العمومية وهو ما يعطيها نظاما حمائيا متميزا‪ ،‬كما ان المنشآت العمومية التي‬

‫‪40‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫تنتج عن االشغال العمومية ال يمكن المساس بها اي انه ال يمكن للقضاء االذن بهدمها‬
‫او ازالتها حتى لو كان تشييدها على ارض الغير‪.‬‬

‫كما ان اعوان االشخاص المعنوية العمومية بإمكانهم اكتساب صفة االعوان العموميين‬
‫مما يعطيهم ضمانات مهنية اكبر‪.‬‬

‫كما ان العقود التي تبرمها الذوات المعنوية العمومية يمكن ان تكتسي صفة العقود‬
‫االدارية مع ما تعطيه من امتيازات في المراقبة والتسيير في تنفيذ العقد‪.‬‬

‫غير انه يجب التنبيه الى ان صفة الشخص المعنوي العمومي غير كافية لوحدها لجعل‬
‫االموال واالعوان واالشغال والعقود‪ ،‬عمومية وانما يجب توفر شروط إضافية‪ ،‬لكن‬
‫صفة الشخص المعنوي العمومي تظل الشرط االول والضروري إلكساب هذه االموال‬
‫واالشغال والعقود واالعوان الصبغة العمومية‪.‬‬

‫اخيرا يجب التنبيه الى ان صفة الشخص العمومي تعطي الذات المعنية امتياز اعتماد‬
‫وسائل االستخالص الجبري وهو ما يمكنها من جبر المطلوبين على تسديد الديون‬
‫المتخلدة بذمتهم لصالح الشخص العمومي بواسطة بطاقات تنفيذية دون ضرورة اللجوء‬
‫الى القضاء الستصدار سند تنفيذي كما ينص على ذلك الفصل ‪ 26‬من مجلة المحاسبة‬
‫العمومية‪.‬‬

‫يضاف الى ذلك تمتع الذوات المعنوية العمومية الستخالص ديونها من الغير بامتياز‬
‫عام على جميع مكاسب مدينها‪.‬‬

‫وختاما تجدر االشارة الى ان التمييز بين االشخاص المعنوية في القانون العام‬
‫واالشخاص المعنوية في القانون الخاص ال ينفي وجود تداخل في االنظمة القانونية التي‬
‫يخضعون لها بحيث نالحظ في كثير من االحيان تمازجا بين نسبة من قواعد القانون‬
‫العام ونسبة اخرى من قواعد القانون الخاص في النظام القانوني المنطبق على نفس‬

‫‪41‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الشخص المعنوي من ذلك خضوع االشخاص المعنوية العمومية عندما يتصرفون‬


‫كخواص للقانون الخاص وهذا ينطبق خصوصا على المؤسسات العمومية ذات الصبغة‬
‫الصناعية والتجارية ألنها تمارس انشطة مماثلة ألنشطة الصناعيين والتجار الخواص‬
‫وتخضع بالتالي لقواعد القانون الخاص‪.‬‬

‫وبالمقابل نالحظ خضوع االشخاص المعنوية الخاصة للقانون العام منذ امد طويل من‬
‫ذلك مثال عندما تكلف هذه الذوات الخاصة بتنفيذ مهام مرفق عام بمقتضى عقد يسمى‬
‫عقد اللزمة او كذلك عقد تفويض‪.‬‬

‫هذا التداخل في االنظمة القانونية لألشخاص العمومية والخاصة تزايد وتعمق خالل‬
‫العشريات الثالث االخيرة اي تقريبا منذ الثمانينات تحت تأثير النزعة الملحوظة لدى‬
‫االدارة العمومية إليماء طرق التصرف المعتمدة في القطاع الخاص من جهة وكذلك‬
‫نزعة التخلي عن التسيير المباشر لعديد االنشطة العمومية لفائدة الخواص بمقتضى‬
‫عقود لزمة متنوعة او حتى من خالل تكليفها بصورة انفرادية بتسيير مثل هذه‬
‫النشاطات (جمعيات مائية وغابية مثال)‪.‬‬

‫هذه الذوات العمومية تعمل كلها وتتكامل وتنظم عالقاتها ببعضها البعض في إطار‬
‫اساليب متنوعة للتنظيم االداري‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫المبحث الثاني‪ :‬أساليب التنظيم االداري‬


‫يقصد بالتنظيم االداري كيفية تنظيم مختلف الهياكل االدارية التي تجسد الدولة وسلطاتها‬
‫وتحدد العالقات بينها وطرق توزيع االختصاصات وكيفية استخدامها‪ .‬وتنقسم اساليب‬
‫التنظيم االداري في الدول الموحدة الى اسلوبين رئيسيين هما المركزية االدارية‬
‫والالمركزية االدارية‪.‬‬

‫وتهتم المركزية االدارية اساسا بالشخصية المعنوية العمومية االصلية التي هي الدولة‬
‫مجسدة في السلطة المركزية في حين تعنى الالمركزية االدارية باألشخاص المعنوية‬
‫الفردية اي المتفرعة عن الدولة والتي تتمثل في هياكل ذات تخصص محلي او مرفقي‪.‬‬

‫الفرع االول‪ :‬المركزية االدارية‬


‫المركزية االدارية اسلوب تنظيم اداري يقوم على تركيز السلط االدارية في هياكل‬
‫االدارة المركزية المستقرة عادة في العاصمة االدارية للبالد بحيث تكون سلطة القرار‬
‫حكرا على السلط االدارية المركزية المتمثلة اساسا في الوزارات ولكن كذلك في رئاسة‬
‫الدولة ورئاسة الحكومة‪ ،‬فهي تقوم إذا على توحيد االدارة وجعلها تنبثق من مصدر‬
‫واحد مقره عادة عاصمة البالد‪.‬‬

‫لكن هذه المركزية ال تعني بالضرورة احتكار الوزراء لكل جوانب الوظيفة االدارية‬
‫وقيامهم بأنفسهم باتخاذ جميع القرارات بما فيها ما يهم بعض التفاصيل‪ .‬فالنظام‬
‫المركزي يتضمن وجود اعوان وهيئات تساعد الوزراء في العاصمة وداخل البالد‪،‬‬
‫وهؤالء االعوان والهيئات يكونون في حالة تبعية للرئيس االداري على اساس هرم‬

‫‪43‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫متدرج بحيث يكونون مجرد اعوان تنفيذ وقنوات اتصال واعالم بما يقع تحديده واتخاذه‬
‫من قرارات من قبل السلطة المركزية‪.‬‬

‫وتكون التقسيمات الترابية للبالد في إطار النظام المركزي مجرد دوائر ترابية ال تتمتع‬
‫بالشخصية القانونية وانما هي مجرد إطار إلرساء المصالح االدارية للدولة بشكل يساعد‬
‫على التوغل الترابي للسلطة المركزية وبالتالي تأطير كامل تراب البالد اداريا‪ .‬وهذه‬
‫المصالح االدارية المتفرعة عن االدارة المركزية تكون مجرد هياكل تنفيذ لقرارات‬
‫السلطة المركزية التي تكون مصدر جميع القرارات سواء كانت هذه القرارات تتعلق‬
‫بشؤون ذات صبغة وطنية او شؤون ذات صبغة محلية‪.‬‬

‫هذه المصالح المتفرعة عن االدارة المركزية والتي يقع ارساؤها محليا ال تتمتع بأية‬
‫سلطة للبت حتى في المسائل والشؤون التي تكتسي صبغة محلية بل ان عليها ان ترفع‬
‫هذه المسائل الى االدارة المركزية وهي عادة الوزارات المختصة التي تحتكر بمفردها‬
‫سلطات البت واتخاذ القرار‪.‬‬

‫ويفترض نظام المركزية االدارية توفر جملة من االركان (فقرة اولى) كما يتخذ عادة‬
‫اشكاال متنوعة اهمها اثنان رئيسيان (فقرة ثانية)‪.‬‬

‫الفقرة االولى‪ :‬اركان المركزية االدارية‬


‫تقوم المركزية االدارية على ركنين اساسيين‪:‬‬

‫‪-‬تركيز سلطة اتخاذ القرار في ايدي االجهزة االدارية المركزية‪.‬‬

‫‪-‬مبدأ التبعية االدارية المتدرجة والخضوع للسلطة الرئاسية‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫أ‪ -‬تركيز سلطة اتخاذ القرار لدى االجهزة االدارية المركزية‪:‬‬

‫ويعني ذلك احتكار سلطة اتخاذ القرار من قبل االجهزة االدارية القائمة عادة بالعاصمة‬
‫والمتمثلة اساسا في مؤسسات رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة والوزارات‪ .‬فهذه السلطات‬
‫المركزية تمسك بجميع سلطات القرار في مختلف جوانب الوظيفة االدارية سواء كانت‬
‫ذات صبغة وطنية عامة او المتعلقة بالشؤون المحلية فكل هذه الجوانب تعود للسلط‬
‫المركزية كل في مجال اختصاصه‪.‬‬

‫فالقرارات االدارية تتخذ في العاصمة ثم تمتد الحقا الى كامل انحاء البالد حيث ان‬
‫اعوان االدارة المعنيين باألجهزة االدارية المحلية يتولون ابالغ وتنفيذ قرارات السلطة‬
‫المركزية وتنفيذها باسم الدولة‪ .‬فالمركزية االدارية ال تمنع وجود اجهزة تساعد‬
‫الوزراء‪ ،‬فكل وزارة تضم عدد من االدارات التابعة لها المتواجدة بعاصمة البالد وكذلك‬
‫خارج العاصمة‪ ،‬وقد يفوض اليها الوزير المختص احيانا بعض اختصاصاته ولكن تلك‬
‫االختصاصات المفوضة (او االمضاءات) تصدر باسم الوزير الذي يتصرف هو نفسه‬
‫وينطق باسم الدولة‪.‬‬

‫فالسلط واالجهزة الجهوية تنشط تحت رئاسة الوزير وفي ظل تبعية له‪.‬‬

‫ب‪ -‬مبدأ التبعية االدارية المتدرجة والخضوع للسلطة الرئاسية‪:‬‬

‫يقوم نظام المركزية االدارية على وجود هرم او سلم اداري متدرج يضم اعوان كل‬
‫سلطة من السلطات المركزية كالوزارات‪.‬‬

‫فجميع الهياكل االدارية تكون في هذا اإلطار متدرجة من اسفل الهرم االداري الى قمته‪،‬‬
‫وكذلك االعوان العاملون بكل من هذه الهياكل حيث نجد في قاعدة الهرم االداري صغار‬

‫‪45‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الموظفين والعملة ثم يتدرج الهرم الى اعلى حيث يوجد الموظفون االعلى درجة حتى‬
‫نصل الى القمة‪ .‬ونجد في قمة الهرم االداري رئيس الدولة ثم الوزير االول او رئيس‬
‫الحكومة ثم الوزراء ثم االعوان الذين يمثلون السلطة المركزية على مستوى جهوي‬
‫كالوالة ثم االعوان الممثلون على الصعيد المحلي كالمعتمدين والعمد‪ .‬كما ان كل وزارة‬
‫تمثل هرما بذاتها تضم عددا كبيرا من االعوان العاملين بأجهزتها المركزية كديوان‬
‫الوزير والكتابة العامة والمديريات العامة الى اخره‪ ...‬وكذلك عدد من االعوان معينين‬
‫بفروعها المنتشرة بالدوائر االدارية المختلفة لتراب البالد‪ ،‬ويتبع كل عون العون الذي‬
‫هو اعلى منه درجة في الهرم االداري حتى نصل الى قمة الهرم حيث يوجد الوزير‬
‫الذي يخضع بدوره الى سلطة رئيس الدولة او رئيس الحكومة حسب خصوصية النظام‬
‫الدستوري المعتمد‪.‬‬

‫وهكذا فانه في إطار هذا التنظيم الهرمي او السلم االداري المتدرج يسود مبدأ اساسي‬
‫هو مبدأ السلطة الرئاسية وهو مبدأ يعتبر احدى الخاصيات الجوهرية لنظام المركزية‬
‫االدارية‪.‬‬

‫وتعني السلطة الرئاسية في هذا اإلطار السلطة التي يمارسها رئيس الجهاز االداري‬
‫على مرؤوسيه مع اتباع قاعدة التدرج والتسلسل االداري التي توجب على كل عون‬
‫الخضوع الى رئيسه المباشر‪ .‬وتتميز هاته السلطة الرئاسية بعدد من الخصائص‬
‫وتمارس على شخص المرؤوس وعلى اعماله‪ .‬وتتميز بصبغتها التلقائية من جهة‬
‫وبشموليتها من جهة اخرى‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫‪ -1‬الصبغة التلقائية‪:‬‬

‫الصبغة التلقائية للسلطة االدارية تعني انها ال تحتاج الى نص لممارستها فالسلطة‬
‫الرئاسية تعتبر ركنا طبيعيا ومكونا اساسيا في إطار الجهاز االداري بحيث ان من‬
‫طبيعة النظام الهرمي لإلدارة ان يكون هنالك لكل جهاز اداري رئيس يمارس سلطة‬
‫على مرؤوسيه فهي إذا سلطة مرتبطة بطبيعة وظيفة الرئيس االداري وتبعا لذلك‬
‫فالسلطة الرئاسية تمارس حتى في غياب نص قانوني يكرسها ذلك انه من المهام‬
‫الطبيعية لكل رئيس اداري ان يمارس سلطة رئاسية على مرؤوسيه دون ان يحتاج الى‬
‫نص قانوني في ذلك‪ .‬ويعتبر الفقه وفقه القضاء ان السلطة الرئاسية لإلدارة تمثل مبدأ‬
‫من المبادئ العامة للقانون فالصبغة التلقائية لهذه السلطة تتجلى في ان ممارساتها ال‬
‫تحتاج لسبب معين وال تستوجب بالضرورة تظلما رئاسيا‪.‬‬

‫‪ -2‬الصبغة الشاملة للسلطة الرئاسية‪:‬‬

‫وتبرز شمولية هذه السلطة على عدة مستويات منها انها تمارس على المرؤوسين‬
‫االداريين في اشخاصهم وفي اعمالهم‪.‬‬

‫‪ 1-2‬السلطة الرئاسية على اشخاص المرؤوسين‪:‬‬

‫تتضمن هذه السلطة صالحية تعيين المرؤوسين وتوزيعيهم على مختلف المصالح‬
‫االدارية وكذلك سلطات نقلهم من ادارة الى اخرى او من مصلحة الى اخرى او من‬
‫مركز عمل الى اخر داخل نفس االدارة حسب ما يقتضيه حسن سير المرافق العامة او‬
‫حسب ضرورات العمل االداري‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫كما تشمل السلطة الرئاسية ترقية المرؤوسين وتقييم اعمالهم واسناد االعداد المهنية‬
‫اليهم لغرض المنح والمكافآت‪.‬‬

‫كما يتمتع الرئيس االداري بسلطة التأديب ولكنها سلطة مقيدة باإلجراءات والصيغ التي‬
‫ينص عليها قانون الوظيفة العمومية وخاصة مراعات الضمانات الجوهرية لألعوان‬
‫المحالين على التأديب‪.‬‬

‫‪ 2-2‬السلطة الرئاسية على اعمال المرؤوسين‪:‬‬

‫تتضمن هذه السلطة صالحيات واسعة وتعتمد تقنيات قانونية متنوعة اهمها‪:‬‬

‫‪ 1-2-2‬سلطة التوجيه واالرشاد واتخاذ التعليمات المناسبة‪:‬‬

‫ويمكن ان تصدر هذه التعليمات والتوجيهات كتابة عبر مناشير ومذكرات لبيان كيفية‬
‫تنفيذ القوانين والتراتيب كما يمكن ان تكون شفوية‪ .‬وعلى المرؤوس احترام التعليمات‬
‫واالوامر وتنفيذها واال عرض نفسه للتتبعات التأديبية‪.‬‬

‫غير ان واجب الطاعة هذا يثير التساؤل حول مداه وحدوده‪.‬‬

‫وفي هذا المجال اتفق الفقه على ان االوامر والتعليمات الرئاسية المشروعة واجبة‬
‫الطاعة من المرؤوسين ألنها ال تخالف القوانين والتراتيب السارية‪.‬‬

‫‪ 2-2-2‬سلطة مراقبة اعمال المرؤوسين‪:‬‬

‫ويمكن ان تمارس هذه السلطة تلقائيا او بناء على شكوى ادارية تسمى تظلما رئاسيا‬
‫يرفعها أحد منظوري االدارة‪ .‬وينتج عن ممارسة هذه السلطة اما اقرار اعمال‬

‫‪48‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫المرؤوس بالمصادقة عليها بصورة صريحة او ضمنية او تعديلها او الغائها او سحبها‬


‫وجوبا اذا كانت مخالفة للمشروعية‪.‬‬

‫‪ 3-2-2‬سلطة الحلول‪:‬‬

‫وهي سلطة تجيز للرئيس االداري‪ ،‬في حالة تقاعس المرؤوس عن ممارسة‬
‫اختصاصات اسندها له القانون او التراتيب‪ ،‬ان يحل محله التخاذ القرار المناسب مكانه‬
‫شريطة تنبيهه المسبق بضرورة القيام بذلك‪ .‬ونظرا لخطورة هذه السلطة فإنها ال يمكن‬
‫ممارستها اال في صورة وجود تقاعس واضح وفي حالة وجود نص يجيز ممارستها‬
‫وهو ما يمثل استثناء لقاعدة الصبغة التلقائية للسلطة الرئاسية (التلقائية اي التي ال‬
‫تفترض نصا)‪.‬‬

‫كما تتجلى شمولية السلطة الرئاسية كذلك في انها تتدخل في كل وقت بصورة مسبقة‬
‫وموازية والحقة ألعمال المرؤوسين‪ .‬كما انها تشمل رقابة على شرعية االعمال‬
‫وجدواها بحيث ان الرئيس بإمكانه تعديل او الغاء او سحب قرار لمرؤوسيه رغم‬
‫مشروعيته او رغم عدم مخالفته للقانون وذلك العتبارات جدوى القرار وتالؤمه مع‬
‫مقتضيات المصلحة العامة‪.‬‬

‫وتتخذ المركزية االدارية كأسلوب تنظيم اداري بأركانها هذه عادة من شكلين رئيسيين‬
‫هما المركزية المطلقة من جهة والمركزية النسبية او المعدلة والتي يطلق عليها في‬
‫القانون االداري التونسي "الالمحورية" من جهة اخرى‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬أوجه التنظيم المركزي‬


‫ينقسم التنظيم المركزي الى نوعين‪ :‬المركزية المطلقة او التركيز االداري والالمحورية‬
‫او المركزية النسبية او المعدلة كما يسميها البعض‪.‬‬

‫أ‪ -‬المركزية المطلقة‪:‬‬

‫تعني المركزية المطلقة تركيز سلطة اتخاذ القرار االداري بيد السلط االدارية المركزية‬
‫وحدها بحيث ال يتمتع ممثلو هذه السلطة على المستويات المحلية والجهوية بأية سلطة‬
‫في اتخاذ اي قرار حتى لو كان يهم شأنا محليّا بل عليهم ان يعودوا الى رؤسائهم‬
‫االداريين بالعاصمة التخاذ القرارات واعطائهم التعليمات‪.‬‬

‫وهذا الوجه المطلق والمفرط للمركزية االدارية ارتبط تقليديا بالدويالت الصغيرة‬
‫وباألنظمة االستبدادية المطلقة‪ .‬ولكن بصورة عامة اصبحت المركزية المطلقة نادرة‬
‫الوجود في الدول الحديثة ذلك انه اصبح من غير الممكن تركيز جميع الخدمات‬
‫اإلدارية‪ ،‬اذ ان ذلك مصدر للبطء االداري ومثقل لكاهل االدارة في عصر يتميز بتنوع‬
‫الخدمات اإلدارية وسرعتها‪.‬‬

‫ب‪ -‬الالمحورية االدارية‪:‬‬

‫يس ّميها البعض ايضا نظام عدم التركيز االداري او المركزية المعدلة او النسبية‪.‬‬

‫ويقوم هذا الوجه من اوجه التنظيم المركزي على تمكين ممثلي السلطة المركزية على‬
‫مستوى الجهات والمناطق المحلية من اتخاذ القرار في بعض الشؤون والمسائل المحلية‬
‫عن طريق التفويض وأحيانا بإسناد مباشر من القانون‪ ،‬ولكن هؤالء الممثلين للمركز‬

‫‪50‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫داخل تراب البالد ليس لهم صفة الشخص العمومي المنفصل عن الدولة وانما يظل‬
‫يتصرف باسم الدولة العتبار ان الالمحورية ليست ّاال مركزية معدلة او مخفّفة‪.‬‬

‫ويكون اسناد هذه الصالحيات للهياكل الالمحورية (صالحيات البت) إ ّما الى االعوان‬
‫القائمين على المصالح الخارجية للوزارات وهم عادة المديرين الجهويين او لألعوان‬
‫المعيّنين على راس الدوائر الترابية االدارية للدولة وهي اليوم الوالية والمعتمدية‬
‫والعمادة في التنظيم االداري التونسي‪.‬‬

‫وتتحقق الالمحورية اما عن طريق تفويض جزء من اختصاصات السلطة المركزية او‬
‫عن طريق اسناد بعض االختصاصات بصورة مباشرة بمقتضى نصوص تشريعية او‬
‫ترتيبية‪ .‬ويعتبر التفويض الوسيلة التقليدية إلرساء الالمحورية‪ .‬ويقع عادة التمييز بين‬
‫صنفين من التفويض‪ ،‬تفويض االختصاص وتفويض االمضاء‪.‬‬

‫‪ -1‬تفويض االمضاء‪:‬‬

‫يفوض صاحب االختصاص االصلي ألحد مرؤوسيه‬


‫ويعني تفويض االمضاء ان ّ‬
‫صالحية االمضاء مكانه وباسمه‪ .‬وتفويض االمضاء ال ينقل االختصاص وال ينقل‬
‫المسؤولية التي تبقى على عاتق المفوض‪ ،‬اي ان المسؤول االداري هو الرئيس الذي‬
‫فوض‪.‬‬
‫ّ‬

‫وتفويض االمضاء يكون بصفة وقتية وجزئيا وعلى اساس الشخص‪ ،‬اي هو تفويض‬
‫شخصي‪ .‬شخصي بمعنى انه تفويض من فالن لفالن‪ ،‬بتغير أحدهما ينتهي التفويض‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫‪ -2‬تفويض االختصاص‪:‬‬

‫تفويض االختصاص يعني نقل جانب من اختصاصات السلط االدارية المركزية الى‬
‫اعوانها وممثليها بالجهات والدوائر الترابية االخرى دون ان يعني ذلك استقاللية‬
‫المفوض ويمثل التفويض استثناء للقواعد العادية لالختصاص‪ ،‬وهو‬
‫ّ‬ ‫المفوض له عن‬
‫تبعا لذلك يخضع لشروط مش ّددة‪ ،‬ويؤول تأويال ضيّقا‪ .‬فاألصل ّ‬
‫ان الرئيس االداري‬
‫صاحب االختصاص االصلي ملزم بأن يمارس اختصاصه بنفسه وال يجوز له ان‬
‫يفوض فيه اال إذا سمح المشرع بذلك بصورة صريحة‪ ،‬فالمبدأ هو ان ال تفويض اال‬
‫بنص وان يكون تفويضا جزئيا اي ان يشمل جزء من االختصاصات واال اعتبر تخليا‬
‫عن المسؤولية‪ .‬ويتعلق تفويض االختصاص بالسلطة دون المسؤولية فالرئيس االداري‬
‫سلطة الرئاسية التي‬
‫المفوض يبقى مسؤوال عن االعمال التي فوضها ألنه صاحب ال ّ‬
‫ّ‬
‫تجيز له تعديل او الغاء او سحب قرارات المفوض له ويكون التفويض بالضرورة مؤقتا‬
‫ويمكن للرئيس االداري تعديل الصالحيات المفوضة واستبدالها ولكن ال يمكنه اتخاذ‬
‫قرارات في المجاالت المفوضة اثناء سريان التفويض تجنبا للتعارض والتضارب في‬
‫القرارات وحماية لالنسجام في العمل االداري‪ .‬ويكون التفويض بالضرورة من االعلى‬
‫الى اسفل الهرم االداري اي من الرئيس الى المرؤوس ذلك ان الغاية هي التخفيف من‬
‫المركزة في قمة الهرم االداري‪.‬‬

‫وال يمثل التفويض الوسيلة الوحيدة إلرساء الالمحورية بل ان الهياكل الالمحورية يمكن‬
‫ان تتمتع بعدد من االختصاصات الذاتية اي االختصاصات التي اسندها لها مباشرة‬
‫القانون‪ .‬من ذلك مثال القانون عدد ‪ 52‬لسنة ‪ 1975‬والمؤرخ في ‪ 13‬جوان ‪1975‬‬
‫المتعلق باإلطارات العليا لإلدارة الجهوية‪ ،‬هذا القانون اسند في فصليه ‪ 12‬و ‪21‬‬
‫مباشرة الى الوالي عدد من الصالحيات خاصة في مجال الضبط االداري‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫واخيرا يجب التأكيد انه أيّا كانت وسيلة ارساء الالمحورية سواء تفويض االمضاء او‬
‫االسناد المباشر من القانون فان الالمحورية تبقى صيغة من صيغ المركزية االدارية‬
‫تقوم على التبعية االدارية وتتميز بممارسة الهياكل المركزية للسلطة الرئاسية على‬
‫الهياكل الغير مركزية ذات الصبغة الالمحورية‪ .‬وتظل الهياكل الالمحورية غير متمتعة‬
‫بالشخصية القانونية وذلك على خالف الالمركزية االدارية‪ .‬والالمركزية االدارية هي‬
‫االسلوب الثاني في التنظيم االداري والذي سنراه في الفرع الموالي‪.‬‬

‫الفرع الثاني‪ :‬الالمركزية االدارية‬


‫الالمركزية اسلوب تنظيم اداري برز تاريخيا بالخصوص في اوروبا‪ ،‬حيث ادت‬
‫الثورات الليبيرالية وفي إطار رد الفعل على التفتت االقطاعي الذ كان سائدا في القرون‬
‫الوسطى‪ .‬لذلك وقع السعي خالل الثورات نحو البحث عن ارساء نظام اداري مركزي‬
‫قوي يضمن وحدة البالد ووحدة النسيج االقتصادي وبالتالي وحدة السوق االقتصادية‬
‫تحت شعار "دعه يعمل دعه يمر"‪ .‬وكذلك يم ّكن من تجاوز مخلفات النظام االقطاعي‬
‫وتدعيم النظام الجديد وأسس الدولة اال ّمة‪.‬‬

‫غير أن االفراط في التركيز أدى الى ردود فعل مضادة حفاظا على التنوع‬
‫والخصوصيات الجهوية والمحلية من جهة‪ ،‬كما أدى تدريجيا الى اإلحساس ببطئ العمل‬
‫اإلداري وثقله من جهة أخرى‪ .‬أدى كذلك الى بروز حركات انفصالية‪ .‬ولتجنب االفراط‬
‫في التركيز ومخاطر تفكك الدولة والمجتمع ظهرت الالمركزية كأسلوب للتنظيم‬
‫اإلداري يرسي توازنا وتعايشا بين الوحدة والتنوع أي بين مقتضيات وحدة الدولة من‬
‫جهة وضرورة احترام الخصوصيات والتنوع المحلي والجهوي‪ .‬وتجدر اإلشارة الى ان‬
‫الدعوات للالمركزية كانت متأتية من القوى المحافظة والقوى اليمينية السياسية‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الالمركزية تدعم السلطة الالمركزية للنظام اإلداري وخاصة السلطات المحلية‬


‫باعتبارها تؤدي الى تشريك السكان وجعل المسؤولين على الهياكل اإلدارية المحلية‬
‫منتخبين من قبلهم وبالتالي مسؤولين امامهم‪ ،‬فالالمركزية إذا كما يقول البعض‪ ،‬من‬
‫شأنها ان ترسي ديمقراطية حرة‪ ،‬وهكذا فان الالمركزية تأتي لتكمل المركزية‬
‫والالمحورية وتتعايش معها‪ ،‬يقول البعض انها مصدر التوازن العمودي للنظام‬
‫اإلداري‪ .‬فالالمركزية وان كانت في فلسفتها العامة تتناقض مع المركزية فإنها ال تعني‬
‫بالضرورة نفي هذه األخيرة وال تؤدي الى اقصاء التعايش بينهما‪ ،‬فاغلب دول العالم‬
‫اليوم تقوم على التعايش بين اإلدارة المركزية والهياكل اإلدارية الالمركزية‪.‬‬

‫فكيف يمكن تحديد مفهوم الالمركزية وتمييزها عن المركزية وماهي مقومات وأركان‬
‫الالمركزية؟‬

‫الفقرة األولى‪ :‬مفهوم الالمركزية اإلدارية‬


‫الالمركزية اإلدارية هي أسلوب للتنظيم اإلداري يقوم على توزيع الوظائف اإلدارية في‬
‫الدولة بين الهياكل اإلدارية المركزية وبين ذوات معنوية أخرى مستقلة بذاتها ومتمتعة‬
‫بسلطة اتخاذ القرار وباختصاصات ذاتية يقرها لها الدستور او القانون‪ ،‬وهكذا فان‬
‫الالمركزية اإلدارية تفترض تعدد األشخاص المعنوية العمومية‪ ،‬تتوزع الوظائف‬
‫اإلدارية بينها بمقتضى نصوص دستورية او تشريعية او معا‪ ،‬والالمركزية اإلدارية‬
‫تنحصر في مفهومها األصلي في الالمركزية الترابية التي تتجسد في وجود عدد من‬
‫الجماعات المحلية تكون متمتعة باستقاللية نسبية عن الدولة‪ ،‬أي عن السلطة المركزية‪،‬‬
‫تمكنها من اتخاذ القرارات المتعلقة بالشؤون المحلية بحرية بحيث تتخذ القرارات‬
‫المتعلقة بالشؤون المحلية دون العودة للسلطة المركزية وتكون هذه القرارات صادرة‬

‫‪54‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫باسم الجماعات المحلية وليس باسم الدولة فالمبدأ الجوهري في الالمركزية هو مبدأ‬
‫التدبير الحر‪.‬‬

‫وقد جاء في الفصل ‪ 132‬من دستور ‪ 2014‬ان الجماعات المحلية تتمتع "بالشخصية‬
‫القانونية وباالستقاللية اإلدارية والمالية وتدير المصالح المحلية وفقا لمبدأ التدبير الحر‪".‬‬

‫غير ان جانبا من الفقه أضاف الى المفهوم األصلي للالمركزية صيغة أخرى مما‬
‫اعتبره المركزية وهي الالمركزية الوظيفية او المرفقية‪ .‬وقد برز هذا الموقف‬
‫بالخصوص إثر بروز المؤسسات العمومية وانتشارها كصنف جديد من الذوات‬
‫العمومية خاصة خالل فترة ما بين الحربين‪ ،‬فقد اعتبر عدد من الفقهاء ان هذه‬
‫المؤسسات العمومية بما هي هياكل متمتعة بالشخصية المعنوية وبميزانية خاصة بها‬
‫وبشيء من االستقاللية في اخذ القرار انما تجسد نوعا من الالمركزية قائمة على أساس‬
‫تخصص فني ووظيفي‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬مقومات الالمركزية‬


‫ترتكز الالمركزية اإلدارية على عدد من المقومات الضرورية واالساسية لوجودها‬
‫وهي‪:‬‬

‫‪-‬اإلقرار بوجود المصالح المحلية المتميزة والمختلفة عن المصالح الوطنية‪.‬‬

‫‪-‬تمتع الهياكل الساهرة على تلك المصالح المتميزة بالشخصية المعنوية وما يترتب عن‬
‫ذلك من أهلية اخذ القرار وااللزام وااللتزام وبالتالي أهلية التصرف المستقلة‪.‬‬

‫‪-‬مبدأ التدبير الحر ويعني ذلك قيام العالقة بين الجماعات المحلية والسلطة المركزية‬
‫على أساس مجرد رقابة الحقة على الشرعية‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫‪-‬وأخيرا قيام الهيئات المسيرة للهياكل الالمركزية على أساس المشروعية االنتخابية‪.‬‬

‫‪ -1‬اإلقرار بوجود المصالح المحلية المتميزة والمختلفة عن المصالح الوطنية‪:‬‬

‫تفترض الالمركزية الترابية وجود مصالح محلية متميزة عن المصالح الوطنية وجديرة‬
‫باألخذ بعين االعتبار وبالحماية القانونية من خالل انشاء هياكل إدارية محلية تتمتع‬
‫بذاتية وتتولى تسيير الشؤون المحلية‪ ،‬فالالمركزية في معناها األصيل هي تكريس لواقع‬
‫اجتماعي سابق على احداث اإلدارة الالمركزية المعنية واعترافا مؤسساتيا بذلك الواقع‬
‫السابق الوضع من خالل احداث بلدية او جهة‪ .‬وهذا التكريس هو اخراج لهذه الشؤون‬
‫المحلية من نطاق مشموالت الدولة كسلطة مركزية واسنا ٌد لها بمقتضى القانون أي‬
‫اإلرادة الجماعية لهياكل إدارية محلية‪.‬‬

‫غير ان مفهوم المصالح المحلية او الشؤون المحلية مفهوم يقيم عددا من الصعوبات في‬
‫تمييزه عن المصلحة العمومية‪.‬‬

‫‪ -2‬تمتع الهياكل الالمركزية بالشخصية المعنوية‪:‬‬

‫يؤدي االعتراف بوجود مصالح محلية جديرة بالحماية الى إضفاء الشخصية القانونية‬
‫على الهيئات المكلفة بهذه المصالح باعتبار الشخصية المعنوية تعبيرا قانونيا عن‬
‫مصالح شرعية تستحق الحماية القانونية‪ ،‬وهكذا تصبح اإلدارات المحلية المكلفة بهذه‬
‫وينجر عن التمتع‬
‫ّ‬ ‫المصالح جماعات محلية متمتعة بالشخصية القانونية وقائمة بذاتها‪،‬‬
‫بالشخصية القانونية مجموعة من النتائج أهمها أهلية اإلدارات المحلية المعنية التخاذ‬
‫القرار في المجاالت المتعلقة بالشؤون المحلية باسم الجماعة المحلية تكريسا لمبدأ‬

‫‪56‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الحر ولمبدأ السلطة الترتيبية الخاصة (الفصل ‪ 134‬من دستور ‪.)2014‬‬


‫ّ‬ ‫التدبير‬
‫فالقرارات التي تتخذها اإلدارات الالمركزية تكون باسمها وليس باسم الدولة وتتخذ‬
‫باستقاللية عن اإلدارات المركزية‪ .‬كما ينتج عن إضفاء الشخصية المعنوية تمتع‬
‫اإلدارات الالمركزية باستقالل مالي أي بميزانية خاصة بها يفترض ان تمولها أساسا‬
‫موارد الجماعة المحلية الذاتية وتصادق عليها هياكلها المنتخبة كما ينتج عن الشخصية‬
‫المعنوية أهلية التعاقد والتقاضي وبصورة عامة أهلية التصرف القانوني المستقل في‬
‫األموال والممتلكات في المرافق العمومية‪ .‬وهذه االهلية في التصرف المستقل تمارسها‬
‫هياكل منتخبة‪.‬‬

‫‪ -3‬قيام هياكل الالمركزية على المشروعية االنتخابية‪:‬‬

‫يعتبر االنتخاب مقوما أساسيا من مقومات الالمركزية ذلك ان االنتخاب يجعل الهياكل‬
‫تستمد مشروعيتها من المواطن وليس من السلطة المركزية وهو ما يم ّكنها من استقاللية‬
‫أكبر تجاه السلطات المركزية وصبغة ديمقراطية مبدئية أعمق‪ ،‬شريطة ان تكون‬
‫االنتخابات تعددية وشفافة ونزيهة‪ .‬وتكون الهيئات الالمركزية منتخبة من المواطنين‬
‫القاطنين في المجال الترابي للجماعة المحلية المعنية‪ ،‬فأعضاء المجالس البلدية ينتخبهم‬
‫المواطنون المقيمون بالمنطقة البلدية والهيئات الجهوية ينتخبها المواطنون المتساكنون‬
‫بالجهة المعنية‪ .‬فاالنتخابات اذا هي ركن أساسي في الالمركزية اإلدارية يعطيها‬
‫صبغتها الديمقراطية ويدعم استقالليتها مبدئيا وان كان االنتخاب ركنا غير كاف بمفرده‬
‫فاالنتخاب ال معنى له اال في نظام تعددي مفتوح‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫‪ -4‬الرقابة الالحقة على الجماعات المحلية‪:‬‬

‫ان تمتع اإلدارة الالمركزية باالستقاللية في التصرف اإلداري والمالي ال تعني‬


‫االنفصال او االستقالل الكلي عن اإلدارة المركزية وانما هي نوع من الحكم الذاتي في‬
‫اطار حكم الدولة ولذلك تمارس اإلدارة المركزية رقابة الحقة وهي رقابة على الشرعية‬
‫تهدف الى الحفاظ على الصبغة الموحدة للدولة حتى ال تتحول ذاتية الجماعات المحلية‬
‫الى تفكيك للدولة وما نجده بوضوح في الفصل ‪ 14‬من دستور ‪" 2014‬تلتزم الدولة‬
‫بدعم الالمركزية واعتمادها كامل التراب الوطني في اطار وحدة الدولة" وهذه الرقابة‬
‫الالحقة كرسها كذلك الفصل ‪ 138‬من دستور ‪ 2014‬الذي جاء فيه "تخضع الجماعات‬
‫المحلية في ما يتعلق بشرعية اعمالها للرقابة الالحقة"‪ .‬هذه الرقابة الالحقة إذا تحترم‬
‫استقاللية اإلدارة الالمركزية وبذلك فهي تختلف عن الرقابة الرئاسية في إطار المركزية‬
‫اإلدارية بما فيها بالخصوص الالمحورية‪ .‬وترتبط إذا هذه الرقابة الالحقة على الشرعية‬
‫بنظام الالمركزية اإلدارية وتعتبر أحد عناصره المميزة‪ .‬على خالف الرقابة الرئاسية‬
‫فان الرقابة الالحقة ال تمارس بصورة تلقائية وانما تستوجب نصا قانونيا يكرسها‬
‫ي شهير هو "ال رقابة بدون نص وال رقابة خارج‬
‫صراحة ويحدد مجالها وفقا لمبدأ تقليد ّ‬
‫النص"‪ .‬وتشمل الرقابة الالحقة تقليديا الهيئات الالمركزية واعمالها ونالحظ ان دستور‬
‫‪ 2014‬لم يتعرض بوضوح للرقابة على الهياكل وانما اكتفى بالحديث عن الرقابة على‬
‫الصالحيات‪.‬‬

‫اما الرقابة تقليديا هي رقابة على االعمال ورقابة على الهياكل‪ .‬وتشمل فقط الشرعية‬
‫دون الجدوى وتعني رقابة الشرعية‪ ،‬النظر في مدى احترام اعمال السلط الالمركزية‬
‫لقواعد قانونية سابقة الوضع مما يعني ان رقابة الشرعية الالحقة‪ ،‬مقيدة‪ ،‬بحيث اذا كان‬
‫القرار او عون السلطة الالمركزية مخالف للشرعية وجب الغاؤه‪ ،‬اما اذا كان محترما‬
‫للشرعية فال يمكن للجهة التي تمارس الرقابة اال اقراره والمصادقة عليه‪ ،‬في حين ان‬

‫‪58‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الرقابة الرئاسية اشمل حيث يمكن ان تؤدي الى الغاء او سحب او تعديل قرار حتى لو‬
‫لم يخالف الشرعية وذلك ألسباب أخرى كأن تتعلق بجدوى القرار الن السلطة الرئاسية‬
‫تشمل الشرعية والجدوى‪ .‬ويعني ذلك اعتبار مقتضيات أخرى غير الشرعية قد تكون‬
‫سياسية او اقتصادية او اجتماعية‪.‬‬

‫ومن حيث ادواتها تتضمن الرقابة الالحقة فقط سلطتي المصادقة وااللغاء دون إمكانية‬
‫اصدار التعليمات والتوجيهات او تعديل قرارات السلط الخاضعة للرقابة الالحقة على‬
‫خالف الرقابة الرئاسية‪.‬‬

‫وأخيرا وفي الحاالت القصوى قد تشمل الرقابة الالحقة على اعمال الهياكل الالمركزية‪،‬‬
‫سلطة اإليقاف ‪ Suspension‬وسلطة الحلول ‪.substitution‬‬

‫وتعني سلطة الحلول انه في صورة تقاعس سلطة الالمركزية عن اتخاذ قرار تستوجبه‬
‫مقتضيات المصلحة العامة والقانون ويكون من مشموالتها فإن سلطة االشراف‬
‫المركزية يمكنها بعد التنبيه المسبق ان تمارس االختصاص وتقوم بالعمل المستوجب‬
‫عوضا عن السلطة الالمركزية المتقاعسة صاحبة االختصاص األصلي‪.‬‬

‫وينص الفصل ‪ 247‬من مشروع مجلة الجماعات المحلية في صيغة غير نهائية "يمكن‬
‫إيقاف الرئيس (رئيس المجلس البلدي) ومساعديه عن مباشرة وظائفهم بقرار معلل من‬
‫الوزير المكلف بالجماعات المحلية لمدة أقصاها ‪ 3‬أشهر وذلك بعد سماعهم او مطالبتهم‬
‫باإلدالء ببيانات كتابية عما قد ينسب اليهم من تصرفات" كما ان نفس الفصل أضاف‬
‫"يمكن اعفاء الرؤساء او مساعديهم بأمر حكومي معلل بعد االستماع اليهم وتمكينهم من‬
‫حقوق الدفاع وذلك لو ثبتت مسؤوليتهم في ارتكاب أخطاء جسيمة تنطوي على مخالفة‬
‫للقانون واحدثت ضررا هاما لمصلحة عامة"‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫وهكذا تبدو المركزية والالمركزية اسلوبين مختلفين في التنظيم اإلداري من حيث‬


‫الفلسفة العامة ولكنهما يتعايشان بل ويتكامالن في إطار الدولة الموحدة‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الجزء الثاني‪ :‬التنظيم اإلداري التونسي‬


‫خصوصية التنظيم اإلداري التونسي اليوم هو انه هناك خلط في بعض جوانبه بين‬
‫الالمحورية والالمركزية‪ ،‬ولمزيد التوضيح فالهياكل اإلدارية في التنظيم اإلداري‬
‫التونسي تجمع بين اسلوبين‪ ،‬األسلوب المركزي واألسلوب الالمركزي‪.‬‬

‫اما األسلوب المركزي الذي تعرضنا الى اركانه وخصائصه فيتجسد في التنظيم‬
‫تكون اإلدارة المركزية وتتمثل هذه‬
‫اإلداري التونسي في مجموعة من الهياكل التي ّ‬
‫الهياكل أساسا في رئاسة الحكومة (التي هي اهم بكثير من رئاسة الجمهورية) ورئاسة‬
‫الجمهورية وطبعا مختلف الوزارات والهياكل اإلدارية‪.‬‬

‫والى جانب اإلدارة المركزية‪ ،‬نجد الهياكل الالمحورية او ما يسمى كما سبق ان رأينا‬
‫المركزية المخففة او المعدلة او النسبية‪ ،‬هذه الهياكل الالمحورية تنقسم الى صنفين‪:‬‬
‫هياكل تجسد الالمحورية الترابية‪ ،‬وتتمثل هذه الهياكل في المعتمدية والعمادة الوالية‬
‫(وهنا االشكال (الوالية)‪ .‬فهي في نفس الوقت تمثل الالمحورية والالمركزية)‪ .‬وتتجسد‬
‫هذه الهياكل الالمحورية الوظيفية فيما يسمى المصالح الخارجية للوزارات‪ ،‬أي الهياكل‬
‫التي تمثل امتدادا للوزارات داخل تراب البالد وخارج المركز‪ ،‬وهي عادة اإلدارات‬
‫الجهوية (للصحة‪ ،‬للتعليم‪.)...‬‬

‫اما األسلوب الالمركزي فيتجسد في التنظيم اإلداري التونسي الى حد اليوم أي الى حد‬
‫تاريخ المصادقة على الدستور الجديد‪ ،‬في المركزية ترابية تتجسد في الجماعات‬
‫المحلية وهي في القانون التونسي تتمثل في الوالية والبلدية كما ينص على ذلك الفصل‬
‫‪ 71‬من دستور غرة جوان ‪ 1959‬الملغى‪ .‬لكن اجماال يتميز التنظيم اإلداري التونسي‬
‫بغلبة المركزية ومحاولة إعطاء األولوية للالمحورية اإلدارية على الالمركزية‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الالمركزية في بالدنا بالمعنى الحديث كانت غائبة تقريبا في فترة ما قبل الحماية‪.‬‬
‫فالعثمانيون مثال كانوا يستمدون شرعيتهم من الباب العالي‪ .‬لكن كان هناك نوع من‬
‫الالمحورية‪.‬‬

‫هذه الوضعية لم تمنع بروز بعض اإلصالحات‪.‬‬

‫التنظيم البلدي الحديث برز بتونس قبل الحماية‪.‬‬

‫اول بلدية بالشكل الحديث هي بلدية "تونس العاصمة" والتي أحدثت بأمر علي مؤرخ‬
‫في ‪ 30‬أوت ‪.1858‬‬

‫منذ ‪ 1885‬وقع احداث ‪ 6‬بلديات جديدة وهي بنزرت‪ ،‬الكاف‪ ،‬صفاقس‪ ،‬سوسة‪ ،‬حلق‬
‫الواد‪ ،‬وقابس‪.‬‬

‫في وقت الحق تم احداث بلديات أخرى بعضها كان حكرا على الفرنسيين كبلدية سان‬
‫جرمان (الزهراء)‪.‬‬

‫بعد االستقالل رأى بورقيبة انه ال بد من سلطة مركزية قوية من اجل النهوض بالبالد‬
‫وخشية النعرات الجهوية التي قد تتحول الى حركات انفصالية فأدى ذلك الى تركيز‬
‫وهيمنة المركز وبالتالي اضعاف الالمركزية‪.‬‬

‫اول تجارب المحورية مرفقية ظهرت سنة ‪.1968‬‬

‫السياق يتميز منذ ‪ 1956‬بتغليب المركزة ثم محاولة ادخال نسبة من الالمحورية من‬
‫خالل تجارب بعض الوزارات كالتنمية والمالية والفالحة‪.‬‬

‫ثم وقع تدعيم الالمحورية بالخصوص منذ أواسط السبعينات حيث صدر قانون ‪13‬‬
‫جوان ‪ 1975‬المتعلق باإلطارات العليا لإلدارة الجهوية الذي دعم الالمحورية التي كان‬
‫ركيزتها الوالي‪ .‬بالتوازي أحدثت اللجنة الوطنية لالمحورية والالمركزية‪ .‬كما صدر‬

‫‪62‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫قانون أساسي جديد للبلديات الصادر بمقتضى القانون عدد ‪ 33‬لسنة ‪ 1975‬المؤرخ في‬
‫‪ 14‬ماي ‪ 1975‬والمتعلق بالقانون األساسي للبلديات‪.‬‬

‫عند تولي زين العابدين بن علي السلطة حاول دفع الالمحورية بأمر ‪ 24‬مارس ‪1989‬‬
‫المتعلق بفرض تفويض صالحيات بعض الوزراء الى الوالي‪.‬‬

‫كما ظهر السعي لتدعيم مكانة الوالية كإدارة المحورية وكجماعة محلية المركزية‬
‫بمقتضى القانون األساسي عدد ‪ 11‬لسنة ‪ 1989‬المؤرخ في ‪ 4‬فيفري ‪ 1989‬والمتعلق‬
‫بالمجالس الجهوية‪.‬‬

‫المبحث األول‪ :‬الوالية بين المركزية والالمحورية‬


‫الوالية هي من جهة أولى‪ ،‬دائرة ادارية ترابية للدولة‪ ،‬يؤطرها وينظمها القانون‬
‫األساسي عدد ‪ 11‬لسنة ‪ 1989‬المؤرخ في ‪ 4‬فيفري ‪ 1989‬وهي حسب الفصل األول‬
‫من هذا القانون دائرة إدارية ترابية للدولة ويعني ذلك انها هيكل اداري المحوري‪ ،‬وهي‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬حسب هذا الفصل‪ ،‬جماعة محلية متمتعة بالشخصية المدنية‬
‫واالستقالل المالي‪ ،‬فهي إذا كيان مزدوج الهوية‪/‬الجنس‪ ،‬فهي كيان المحوري وفي نفس‬
‫الوقت كيان المركزي واذا اخذناها من الناحية الالمحورية فيجب ان نشير الى ان تراب‬
‫البالد ينقسم اليوم الى ‪ 24‬والية وانه وقع تنظيم مصالح الوالية بمقتضى االمر ‪1476‬‬
‫المؤرخ في ‪ 9‬جويلية ‪ 1993‬والمتعلق بتنظيم مصالح الوالية‪.‬‬

‫وتظم مصالح الوالية أساسا الوالي يساعده جهاز اداري يضم الكتابة العامة للوالية‬
‫وعدد من المعتمدين‪ ،‬فماهي صالحيات الوالي اليوم في التنظيم اإلداري الحالي؟‬

‫‪63‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الفرع االول‪ :‬صالحيات الوالي‬

‫يعتبر الوالي اهم سلطة في التنظيم الالمحوري إلدارة الدولة‪ ،‬وقد وقع احداث هذه‬
‫المؤسسة (مؤسسة الوالي) باألمر المؤرخ في ‪ 21‬جوان ‪ 1956‬حيث جاءت لتعوض‬
‫مؤسسة "القيادة" والتي يكون على رأسها "القايد" وقد كانت موجودة الى حد ذلك‬
‫التاريخ (‪ .)1956‬ويقع تعيين الوالي من قبل رئيس الحكومة منذ ‪ 2011‬ـ وقبل ذلك‬
‫كان يتم تعيينه من قبل رئيس الجمهورية ـ بأمر سواء من بين موظفيه او من خارجهم‪،‬‬
‫ويمارس الوالي في آن‪ ،‬وظيفة سياسية ووظيفة إدارية‪ ،‬فهو يمثل الحكومة ـ قبل ‪2011‬‬
‫يمثل رئيس الجمهوريةـ بدائرة الوالية وهو بالتالي مكلف بتنفيذ سياسة الدولة على‬
‫مستوى الوالية ولذلك فمهام الوالي سياسية بالدرجة األولى‪ ،‬وقد كان الوالي لفترة طويلة‬
‫شديد االرتباط بالحزب الحاكم الوحيد والمهيمن‪ ،‬حيث يتولى توجيه وتأطير نشاط‬
‫الحزب‪ .‬كما يمثل همزة الوصل بين الهياكل الحزبية المركزية والمحلية‪ .‬ولكن ما يهمنا‬
‫هو الوظيفة اإلدارية للوالي‪ ،‬وتشمل ثالثة أصناف من الصالحيات‪:‬‬

‫صالحيات يتوالها بوصفه ممثال للدولة في الوالية‪.‬‬

‫وصالحيات يتوالها بوصفه ممثال للحكومة‪.‬‬

‫وصالحيات أخرى يمارسها بوصفه سلطة إدارية عامة‪.‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬صالحيات الوالي بوصفه ممثال للدولة في دائرة الوالية‬

‫يسند القانون عدد ‪ 53‬لسنة ‪ 1975‬المؤرخ في ‪ 13‬جوان ‪ 1975‬والمتعلق بضبط‬


‫مشموالت اإلطارات العليا لإلدارة الجهوية للوالي أهم هذه الصالحيات‪ ،‬حيث جاء في‬

‫‪64‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الفصل ‪ 8‬منه ان "الوالي هو المؤتمن على سلطة الدولة وممثل الحكومة بدائرة واليته‬
‫وهو إداريا تحت سلطة وزير الداخلية"‪ ،‬وبصفته تلك (ممثال للدولة) يتولى الوالي‬
‫بالخصوص ابرام العقود باسم الدولة وتسيير امالكها وممارسة سلطة االشراف على‬
‫الجماعات المحلية‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬صالحيات الوالي كممثل للحكومة‬

‫بصفته ممثل للحكومة يتولى الوالي خاصة تنسيق اعمال المصالح الخارجية للوزارات‬
‫أي تنسيق اعمال اإلدارات الجهوية‪ .‬وله كذلك في هذا اإلطار سلطة على موظفي‬
‫وأعوان هذه المصالح المباشرين بدائرة الوالية‪ ،‬وكل ذلك تحت سلطة الوزراء الذين‬
‫يهمهم االمر‪ ،‬كل في ميدانه‪.‬‬

‫وقد القت هذه السلطة معارضة من الوزراء لفترة طويلة‪ ،‬ولكنها في نهاية االمر‬
‫تركزت بحيث أصبح للوالي حق االطالع على المسائل الراجعة بالنظر للمصالح‬
‫الخارجية للوزارات والتي يمكن ان تكتسي أهمية خاصة بالجهة‪ .‬وكذلك للوالي ان يطلع‬
‫على المراسالت الهامة الصادرة عن هذه المصالح والموجهة لإلدارة المركزية‬
‫وحركات النقل التي تجري في صفوف رؤساء هذه المصالح‪.‬‬

‫كما أصبح الوالي مسؤوال على تنفيذ السياسة الوطنية للتنمية على الصعيد الجهوي وله‬
‫تقديم االقتراحات المتعلقة بوسائل تحقيق النهضة االقتصادية واالجتماعية لدائرة واليته‬
‫الى الحكومة‪.‬‬

‫وقد تدعمت هذه الصالحيات بصفة ملحوظة بمقتضى االمر عدد ‪ 457‬لسنة ‪1989‬‬
‫المؤرخ في ‪ 24‬مارس ‪ 1989‬المتعلق بتفويض بعض سلطات الحكومة الى الوالة‬

‫‪65‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫حيث نص هذا األمر على تحويل عديد االختصاصات الوزارية الى الوالة باستثناء عدد‬
‫من االختصاصات التي يصعب فيها التفويض عمليا او فنيا‪.‬‬

‫الفقرة الثالثة‪ :‬صالحيات الوالي كسلطة إدارية عامة‬

‫بهذه الصفة يمارس الوالي جملة من الصالحيات الذاتية (غير المفوضة) والمسندة‬
‫مباشرة من المشرع بمقتضى قانون ‪ 1975‬بالخصوص‪ ،‬ومن اهم هذه الصالحيات‬
‫الذاتية‪:‬‬

‫‪-‬السهر على تنفيذ القوانين والتراتيب اإلدارية بدائرة الوالية‪.‬‬

‫اتخاذ القرارات اإلدارية فيما يتعلق بالضبط اإلداري (المتعلقة بالنظام العام كالصحة‪،‬‬
‫االمن‪ )...‬والتي يمكن ان تبلغ حد اللجوء الى القوة المسلحة للمحافظة على االمن العام‪.‬‬

‫الى جانب ذلك يمارس جملة من االختصاصات تتعلق بإدارة الشؤون العامة للوالية‬
‫وهو يمارس بذلك سلطات الرقيب اإلداري لكافة الهياكل اإلدارية التابعة لدائرة الوالية‪.‬‬

‫الى جانب الوالي نجد المعتمد األول والكاتب األول للوالية‪:‬‬

‫ويعتبر المعتمد األول المساعد األول للوالي وينوبه في غيابه ويتولى التنسيق مع‬
‫المعتمدين وهو مكلف أيضا بالعالقات مع المنظمات الوطنية ومصالح االمن‪ .‬وتعود له‬
‫بالنظر عديد المصالح‪ :‬دائرة الشؤون السياسية (أحزاب وتراخيص‪ )...‬دائرة االعالم‬
‫والندوات‪ ،‬دائرة الشؤون االجتماعية وكذلك لجان االحياء‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫أما الكاتب العام فيسهر تحت سلطة الوالي على حسن سير الوالية وينسق عمل موظفيها‬
‫في الميادين اإلدارية والمالية واالقتصادية‪ .‬فهو مكلف بالعالقات مع رؤساء المصالح‬
‫الجهوية التابعة لإلدارات المدنية للدولة بدائرة الوالية‪ .‬ويعود له بالنظر مجموعة من‬
‫األجهزة‪ :‬دائرة الشؤون اإلدارية العامة‪ ،‬دائرة الشؤون البلدية‪ ،‬دائرة المجلس الجهوي‪.‬‬

‫الفرع الثاني‪ :‬الوالية كإدارة المركزية‬


‫ذكرنا ان الوالية هيكل اداري مزدوج الطبيعة‪ ،‬فهي تعتبر تقليديا دائرة إدارية ترابية‬
‫للدولة‪ ،‬أي هيكل اداري المحوري يتولى شؤونه الوالي‪ ،‬غير ان الوالية الى جانب‬
‫طبيعتها الالمحورية اكتسبت صبغة الجماعة المحلية أي صبغة اإلدارة الالمركزية‬
‫بصورة واضحة منذ القانون األساسي عدد ‪ 11‬لسنة ‪ 1989‬المؤرخ في ‪ 4‬فيفري‬
‫‪ 1989‬والمتعلق بالمجالس الجهوية‪ ،‬حيث جاء بالفصل ‪ 1‬منه ان "الوالية دائرة ترابية‬
‫للدولة وهي عالوة على ذلك جماعة عمومية تتمتع بهذه الصفة بالشخصية المعنوية‬
‫واالستقالل المالي ويدير شؤونها مجلس جهوي‪ ،‬وتخضع الى اشراف وزير الداخلية‪".‬‬

‫على ان الصبغة الالمركزية للوالية تظل شكليّة فهياكل الوالية غير منتخبة وصالحيات‬
‫المجلس الجهوي محدودة نسبيا تغلب عليها الصبغة االستشارية ال التقريرية بحيث‬
‫تطغو الصبغة الالمحورية على الصبغة الالمركزية للوالية‪ ،‬فالمجلس الجهوي الذي‬
‫يعتبر الهيكل األساسي للوالية بصفتها جماعة محلية يظل هيكال محدود االستقاللية‬
‫سواء على مستوى تركيبته او مشموالته او سير اعماله‪.‬‬

‫فمن حيث التركيبة اغلب أعضاء المجلس غير منتخبين مباشرة من المواطنين‪ ،‬ورئيس‬
‫المجلس يعين من المركز‪ ،‬اذ جاء بالفصل ‪ 6‬من القانون األساسي المتعلق بالمجالس‬

‫‪67‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الجهوية (قانون ‪ )1989‬ان المجلس الجهوي يتركب من الوالي رئيسا‪ .‬ولكن هذا‬
‫االخير ممثل السلطة المركزية وهو بمقتضى هذا النص يلعب دورين متناقضين هما‬
‫تمثيل السلطة ومدافعا عن سياساتها وخياراتها‪ ،‬ودور ممثل المحكومين وما يقتضيه ذلك‬
‫من الدفاع عن مصالحهم‪.‬‬

‫أعضاء مجلس النواب الذين يتم انتخابهم لمدة نيابية هم أيضا بمقتضى القانون سابق‬
‫الذكر عضو بالمجلس الجهوي وهو في نفس الوقت ممثل االمة جمعاء ويشكل هذا‬
‫تناقضا بين ما هو محلي وما هو وطني‪.‬‬

‫إذا ليس من بين األعضاء من ينتخب انتخابا فعليا مباشرا لتمثيل مصالح المواطنين‬
‫القاطنين بالدائرة‪ .‬إذا هي المركزية شكلية وليست فعلية‪.‬‬

‫وباإلضافة الى هؤالء األعضاء يضم المجلس رؤساء المصالح الجهوية وهم أيضا‬
‫معينون من قبل السلطة المركزية‪.‬‬

‫اما مشموالت المجلس الجهوي فقد نظمها الفصل ‪ 2‬من القانون األساسي المتعلق‬
‫بالمجالس الجهوية والذي جاء فيه ان المجلس الجهوي ينظر في كل المسائل التي تتعلق‬
‫بالوالية في الميادين االقتصادية واالجتماعية والتربوية‪ ...‬ويتولى خاصة اعداد المخطط‬
‫الجهوي للتنمية وامثلة التهيئة العمرانية بالمناطق الغير بلدية‪ .‬وبقراءة سطحية نقول ان‬
‫المجلس له اختصاصات واسعة ولكن المشرع يقول "ينظر" و"يعد" و"يسهر" ليس ّ‬
‫يبت‬
‫يقرر‪ ،‬فنستنتج ان دوره استشاري‪.‬‬
‫او ّ‬

‫هذا إذا فيما يتعلق بالوالية كما هي منظمة بالقوانين الحالية وهي في انتظار التغيير‬
‫قريبا‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫المبحث الثاني‪ :‬البلدية‬


‫يعتبر التنظيم البلدي األكثر قربا من تكريس الالمركزية الترابية وهو في بالدنا تنظيم‬
‫قديم نسبيا حيث يعود احداث اول بلدية الى أواسط القرن التاسع عشر حيث تم احداث‬
‫بلدية تونس الحاضرة بمقتضى االمر المؤرخ في ‪ 30‬اوت ‪.1858‬‬

‫سع التنظيم البلدي مع تزايد اعداد المعمرين وبرز‬


‫وتميزت فترة الحماية الفرنسية بتو ّ‬
‫آنذاك صنفان من المجالس البلدية‪ :‬صنف اول يضم التونسيين والفرنسيين‪ ،‬وصنف ثان‬
‫من البلديات يحتكره الفرنسيون كما كان الحال في بلدية "فيري فيل" (منزل بورقيبة)‬
‫وسان جرمان (الزهراء)‪.‬‬

‫كما وقع التمييز بين البلديات الحضرية والبلديات الريفية انطالقا من سنة ‪ 1934‬ولكن‬
‫مبدأ انتخاب المجالس البلدية لم يقع اقراره اال بمقتضى االمر المؤرخ في ‪ 20‬ديسمبر‬
‫‪ .1952‬اال انه كان موجها أساسا للفرنسيين مما جعل التونسيين يقاطعون االنتخابات‬
‫البلدية لسنة ‪.1953‬‬

‫وبعد انتهاء الحماية كان هاجس بناء دولة صلبة قائمة على سلطة مركزية قوية والبحث‬
‫عن بناء الوحدة القومية الصماء من العوامل التي أدت الى اضعاف الالمركزية المحلية‬
‫واضعاف المؤسسة البلدية حيث سادت هيمنة السلطة المركزية والحزب الحاكم وهو ما‬
‫أرسى ثقافة تسيير اداري غير مالئمة لتطور الالمركزية المحلية ضلت سائدة طيلة‬
‫العشريات السبعة التي جاءت بعد ‪.1956‬‬

‫ثقافة وأسلوب وعقلية تصرف سلطوية ضلت سائدة رغم التوسع العمراني الكبير الذي‬
‫عرفته البالد حيث يعيش اليوم حوالي ‪ %70‬من السكان في المناطق البلدية ورغم عديد‬
‫التحويرات القانونية التي أدخلت على التنظيم البلدي خاصة منذ صدور القانون األساسي‬

‫‪69‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫للبلديات بمقتضى القانون عدد ‪ 33‬لسنة ‪ 1975‬المؤرخ في ‪ 14‬ماي ‪ 1975‬ثم‬


‫التنقيحات المتوالية التي عرفها بمقتضى تنقيحات ‪ 1985‬و‪ 1991‬و‪ 1995‬و‪.2006‬‬

‫وبالتوازي وقع السعي الى دعم الموارد المالية للبلديات بمقتضى قانون ‪ 1975‬وخاصة‬
‫الموارد الذاتية بإصدار مجلة الجباية المحلية بمقتضى القانون عدد ‪ 11‬لسنة ‪1997‬‬
‫المؤرخ في ‪ 3‬فيفري ‪.1997‬‬

‫ضلت البلديات في تونس تعاني من ضعف حقيقي وهيمنة السلطة السياسية واإلدارية‬
‫المركزية عليها عضويا ووظيفيا وثقل الرقابة المسلطة عليها ونقص فادح في الموارد‬
‫المالية الذاتية‪ .‬كل هذه المعطيات جعلتها عاجزة عن االستجابة لحاجيات المواطن وهو‬
‫ما دفع الى حل المجالس البلدية مباشرة بعد الثورة واحداث نيابات خصوصية وفتح‬
‫ملف الالمركزية في اجندة االنتقال الديمقراطي وبناء الدستور الجديد‪.‬‬

‫يعتمد التنظيم البلدي على التمييز بين سلطة تفاوضية أو متداولة تتجسد في المجلس‬
‫البلدي (فقرة أولى) وسلطة تنفيذية تتجسم بالخصوص في رئيس المجلس البلدي (فقرة‬
‫ثانية)‪.‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬المجلس البلدي‬

‫‪ -1‬تركيبة المجلس‪:‬‬

‫هو مجلس ينتخب أعضاؤه وفق شروط وإجراءات يلقبها القانون باالنتخاب‪ .‬ويكون‬
‫عدد المستشارين في المجلس البلدي بين ‪ 10‬و‪ 60‬و‪ 70‬بالنسبة للبلديات الكبرى‪،‬‬
‫ووفق القانون االنتخابي الجديد فإن الترشح مفتوح لكل ناخب بالدائرة البلدية عمره ‪18‬‬

‫‪70‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫سنة فما فوق يوم تقديم ترشحه ويمنع القانون االنتخابي الترشح على الوالة والقضاة‬
‫والمعتمدين األول والكتاب العامين للواليات والمعتمدين والعمد ورؤساء البعثات‬
‫والمراكز الدبلوماسية‪ ،‬كما يمنع على أعوان البلديات الترشح بالدوائر التي يباشرون بها‬
‫وظائفهم‪.‬‬

‫اما عن طريقة االقتراع فيتم االنتخاب في دورة واحدة باالقتراع على القائمات وفقا‬
‫لنظام التمثيلية النسبية مع اعتماد أكبر البقايا‪.‬‬

‫‪ -2‬تسيير المجلس‪:‬‬

‫يكون وفق قانون ‪ 14‬ماي ‪ 1975‬الذي يقضي بان المجلس البلدي يجتمع وجوبا في ‪4‬‬
‫دورات بالسنة (اما في مشروع قانون الجماعات المحلية الجديد فيجتمع مرة كل شهرين‬
‫وجوبا)‪.‬‬

‫ويمكن لرئيس المجلس دعوة المجلس لالنعقاد كلما اقتضت الحاجة‪ .‬ويتركب المجلس‬
‫خاصة من عدد من اللجان القارة ال يقل عن ‪ 8‬لجان لدرس المسائل المعروضة على‬
‫المجلس البلدي وتشمل وجوبا المجاالت التالية‪:‬‬

‫الشؤون المالية واالقتصادية ومتابعة التصرف‬

‫النظافة والصحة والبيئة‬

‫شؤون المرأة واالسرة‬

‫اشغال التهيئة العمرانية الشؤون اإلدارية واسداء الخدمات‬

‫الفنون والثقافة والتربية والتعليم‬

‫‪71‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الطفولة والشباب والرياضة‬

‫الشؤون االجتماعية والشغل وفاقدي السند وحاملي اإلعاقة‬

‫المساواة وتكافئ الفرص بين الجنسين‬

‫الديمقراطية التشاركية والحوكمة المفتوحة‬

‫االعالم والتواصل والتقييم‬

‫كما يمكن للمجلس تشكيل لجان غير قارة يعهد اليها بدراسة مواضيع معينة‪.‬‬

‫ويراعى في تركيبة اللجان ورئاستها تمثيل المرأة والشباب والتمثيل النسبي لمختلف‬
‫القائمات الفائزة في مقاعد المجلس البلدي وتسند رئاسة اللجنة المالية واالقتصادية‬
‫ومتابعة التصرف وجوبا لعضو من المعارضة‪.‬‬

‫وال يمكن للمجلس اتخاذ قراراته اال بحضور اغلبية أعضائه المباشرين وفي صورة‬
‫عدم اكتمال النصاب تعاد الدعوى النعقاد المجلس البلدي بعد ‪ 3‬أيام على األقل ويعتبر‬
‫قانونيا اجتماع المجلس مهما كان عدد الحضور وتتخذ المقررات باألغلبية المطلقة‬
‫لألعضاء الحاضرين على ان ال تقل هذه األغلبية عن ثلث أعضاء المجلس البلدي‪.‬‬

‫‪ -3‬صالحيات المجلس البلدي‪:‬‬

‫من حيث االختصاصات والصالحيات التي يتمتع بها المجلس البلدي فقد نص عليها‬
‫دستور ‪ 2014‬وتتمثل في ‪ 3‬أصناف من الصالحيات‪:‬‬

‫‪-‬صالحيات ذاتية‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫‪-‬صالحيات مشتركة مع السلطة المركزية‪.‬‬

‫‪-‬صالحيات منقولة للجماعة المحلية من قبل السلطة المركزية‪.‬‬

‫ويخضع المجلس البلدي في قانون ‪ 1975‬الى رقابة اشراف مشددة تمارس على‬
‫أعضاء المجلس واعماله‪ .‬ثم جاء دستور ‪ 2014‬ليقطع مع هذه الرقابة حيث كرس‬
‫بوضوح مبدأ "التدبير الحر" في الفصل ‪ 132‬منه‪ .‬وجعل الفصل ‪ 138‬الجماعات‬
‫المحلية ال تخضع اال لرقابة الحقة تتعلق بشرعية اعمالها‪ .‬وهو ما يحيلنا الى مسألة‬
‫التعديالت الجديدة منذ ‪.2011‬‬

‫على انه يجب اإلشارة الى ان التنظيم البلدي يتضمن الى جانب المجلس البلدي جهازا‬
‫تنفيذيا يتمثل في رئيس البلدية‪ ،‬حيث ينص قانون ‪ 1975‬على ان لكل بلدية رئيس‬
‫ومساعدون منتخبون من بين أعضاء المجلس باألغلبية المطلقة وباالقتراع السري‬
‫ليكون بذلك رئيس البلدية رئيس اغلبية المجلس البلدي أي رئيس القائمة او التحالف‬
‫الفائز باألغلبية في االنتخابات البلدية‪.‬‬

‫ويساعد رئيس البلدية للقيام بوظائفه عدد من المساعدين يختلف عددهم بحسب عدد‬
‫سكان البلدية المعنية ويقع انتخاب المساعدين من قبل المجلس البلدي في نفس الجلسة‬
‫وبنفس الطريقة والمدة التي ينتخب بها رئيس البلدية‪.‬‬

‫كما يساعده مكتب بلدي يتركب من المساعدين وكواهي الرئيس ورؤساء اللجان‬
‫ورؤساء الدوائر البلدية عند االقتضاء ويقوم رؤساء البلديات بمهامهم كامل الوقت في‬
‫احدى الحاالت التالية‪:‬‬

‫‪-‬إذا كانت البلدية كائنة بمركز الوالية‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫‪-‬عندما تساوي المقابيض االعتيادية المنجزة في البلدية في السنة السابقة او تفوق مبلغا‬
‫محددا بأمر‪.‬‬

‫ويمكن اإلشارة كذلك في إطار التعرض للجهاز التنفيذي للبلدية الى الكاتب العام للبلدية‬
‫المكلف تحت سلطة رئيس البلدية بالسهر على حسن سير البلدية في الميدان اإلداري‬
‫والمالي‪.‬‬

‫اما من حيث صالحيات رئيس البلدية فهو يمثل السلطة التنفيذية للبلدية ولكن دوره من‬
‫الناحية العملية ال يقتصر على تنفيذ قرارات المجلس البلدي بل يتعدى ذلك‪ ،‬فرئيس‬
‫البلدية هو الممثل والرئيس للبلدية كجماعة محلية أي كهيكل اداري المركزي وهو من‬
‫جهة أخرى عون غير مركزي من أعوان الدولة‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬رئيس البلدية كهيكل اداري المركزي‬

‫يتمتع بصالحيات ذاتية وصالحيات تنفيذية وصالحيات مفوضة من المجلس البلدي‪.‬‬

‫يمارس صالحيات ذاتية بالخصوص في مجال الضبط اإلداري أي كل ما يهم صيانة‬


‫النظام العام في المنطقة البلدية والذي يتمثل في ‪ 3‬عناصر‪:‬‬

‫االمن العام‬

‫الصحة العامة‬

‫الراحة العامة والسكينة‬

‫‪74‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫ويضاف اليها البيئة ومقاومة التلوث وجمالية المدينة‪.‬‬

‫ووفق قانون ‪ 1975‬يهدف الضبط المحلي الذي يمارسه رئيس البلدية الى كل ما يهم‬
‫امن العموم وتسهيل المرور بالشوارع والطرقات العمومية وتنظيفها وتنويرها‪ ،‬ورفع‬
‫الحواجز‪ ،‬وهدم او اصالح البنايات المتداعية للسقوط على نفقة مالكيها‪...‬‬

‫وقد وقع ادماج البعد البيئي في صالحيات الضبط منذ ‪ ،1995‬والى جانب صالحيات‬
‫الضبط يتمتع رئيس البلدية بمجموعة من الصالحيات الذاتية األخرى‪ ،‬نذكر منها‬
‫مجاالت المحافظة على الملك العمومي البلدي واسناد الرخص في التصفيف حذوه‬
‫ورخص استغالله‪...‬‬

‫اما بخصوص الصالحيات التنفيذية لرئيس المجلس فتتمثل أساسا في تمثيل المجلس‬
‫البلدي في جميع االعمال المدنية واإلدارية وكذلك تمثيل البلدية امام القضاء كما انه يعد‬
‫مداوالت المجلس ويترأس جلساته ويدعوه لالنعقاد ويضبط جدول اعماله‪ .‬كما يتولى‬
‫تنفيذ مداوالت المجلس في مختلف المجاالت المحلية باتخاذ التدابير الالزمة إلدارة‬
‫الممتلكات البلدية ورعاية الحقوق والتصرف في المداخيل وابرام العقود بأنواعها‪.‬‬

‫اما بالنسبة لصالحياته بصفته عون من أعوان الدولة‪ ،‬فيتولى رئيس البلدية بصفته عونا‬
‫المحوريا أي عندما يتصرف كممثل للسلطة اإلدارية الالمركزية مجموعة من المهام‬
‫تنقسم الى‪:‬‬

‫‪-‬صالحيات إدارية‪:‬‬

‫تتمثل في تنفيذ القوانين والقرارات الصادرة عن السلطة المركزية في المنطقة البلدية‬


‫وتمارس هذه الصالحيات بطلب من السلط العليا او ممثليها في الجهات‪ .‬كما يتولى عدد‬

‫‪75‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫من الصالحيات الخاصة التي اسندتها له القوانين كتلك التي نصت عليها مجلة التهيئة‬
‫الترابية والتعمير المتمثلة في اسناد رخص التقسيم والبناء والهدم‪.‬‬

‫‪-‬صالحيات ذات صبغة عدلية‪:‬‬

‫تتمثل في إضفاء صفة ضابط الحالة المدنية على رئيس البلدية (ابرام عقود الزواج‪،‬‬
‫التعريف باإلمضاء‪ ،‬استخراج النسخ المطابقة لألصل‪...‬‬

‫تكون النزاعات في هذه الصالحيات متخصصة بها المحاكم العدلية‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫المبحث الثاني‪ :‬أهم المبادئ التي نجدها في دستور ‪2014‬‬


‫في عالقة بالالمركزية الترابية‬
‫مازالت تونس الى اليوم تتميّز بضعف الصبغة الالمركزية لتنظيمها اإلداري وهو‬
‫ضعف يفسر بعدة اسباب تاريخية وسياسية ولقد تعرضنا في الحصص الماضية الى‬
‫بعضها اذ عرفت تونس بعض المحاوالت المحتشمة لالمركزية منذ اواسط القرن التاسع‬
‫عشر‪ .‬توسعت بشكل محدود ومسقط خالل فترة الحماية (كنّا قد أشرنا الى إحداث ‪5‬‬
‫سع نسبيّا في ثالثينات القرن العشرين والتّمييز بين البلديات‬
‫بلديات منذ ‪ 1885‬ثم التو ّ‬
‫الريفية والبلديات الحضرية) وتميزت الالمركزية منذ االستقالل بصبغتها الشكليّة‬
‫وبرؤية تقنيّة ضيّقة تجعل منها مجرد طريقة في الت ّنظيم االداري مفرغة من محتواها‬
‫سياق قد اكتفى‬
‫غرة جوان ‪ 1959‬في هذا ال ّ‬ ‫ال ّديمقراطي وبعدها ال ّ‬
‫سياسي‪ .‬وكان دستور ّ‬
‫بتخصيص فصل يتيم ومقتضب ّلالمركزيّة هو الفصل ‪ 71‬جاء فيه ما يلي "تمارس‬
‫المجالس البلدية والمجالس الجهوية والهياكل التي يمنحها القانون صفة الجماعة المحلية‬
‫المصالح المحلية حسب ما يضبطه القانون"‪.‬‬

‫يقر وان لم يذكر ذلك صراحة بوجود جماعات ترابية ويح ّدد لها مستويين‬
‫هذا الفصل ّ‬
‫اثنين رئيسيّين يتمث ّالن في البلديات والواليات‪ ،‬وترك الباب مفتوحا إلحداث مستويات‬
‫ينص عليها‬
‫ّ‬ ‫اخرى من الالمركزية ولكنه لم يستعمل مصطلح الالمركزية وبالتالي لم‬
‫صراحة ولم يرسي "مبدأ حرية تسييرها" ‪Le principe de libre‬‬
‫‪ administration‬بل انّه فتح الباب لتقييدها والح ّد من مجاالت تد ّخلها بمقتضى‬
‫القانون بقوله‪" :‬حسب ما يضبطه القانون"‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫هذا الفصل إذا كان نتيجة لرؤية غير متح ّمسة لالمركزيّة ولذلك افرغها من بعدها‬
‫سياسي وال ّديمقراطي وجعله شكال مفرغا من المحتوى‪ .‬وقد تظافرت عوامل عدة‬
‫ال ّ‬
‫لتؤدي الى اضعاف مكانة الالمركزية في الدستور وكذلك في التشريع وفي الممارسة‪،‬‬
‫فقد وجدت النخبة الحاكمة الجديدة منذ اواسط الخمسينات وذات السلطة الناشئة والهشة‪،‬‬
‫بلدا يتميز بضعف االدارة وضعف االقتصاد تشقه نعرات قبلية وصراعات جهوية‬
‫ومحليّة‪ .‬ولذلك سرعان ما ساد اليها نوع من عدم الث ّقة في الالمركزيّة‪ ،‬وخشية من ان‬
‫تساهم في بقاء ظواهر الت ّفرقة والتفت ّت على اسس "العروشيّة" والروابط التقليديّة‪،‬‬
‫وبالت ّالي عرقلة ال ّ‬
‫سلطات الجديدة ومشروعها في بناء دولة تهدف الى بناء "الوحدة‬
‫القومية الصماء" وتصليب عود السلطة الحاكمة الجديدة‪ ،‬ورفع تح ّديات اللحاق بركب‬
‫ال ّدول المتق ّدمة والحضارة‪.‬‬

‫ولذلك رأت هذه النخبة الحاكمة ان ترك الالمركزية جانبا وارساء حكم مركزي قوي‬
‫هو السبيل األنجع لتحقيق اهدافها في بناء ا ّمة مو ّحدة ودولة قويّة‪.‬‬

‫مختلف هذه المعطيات ا ّدت الى تهميش الالمركزيّة ببعديها الجهوي والمحلي وتعويضها‬
‫بالالمحورية باعتبارها تساعد على تدعيم حكم السلطة المركزيّة في مختلف انحاء تراب‬
‫البالد‪.‬‬

‫سياسي بمنع‬
‫المبررات نحو االنغالق ال ّ‬
‫ّ‬ ‫وقد تزامن هذا الوضع مع التو ّجه تحت نفس‬
‫بعض القوى السياسيّة منذ مطلع الست ّينات من النشاط كالحزب الشيوعي وتطويع اهم‬
‫المنظمات االجتماعية كاالتحاد العام الت ّونسي للشغل وات ّحاد ّ‬
‫الفالحين وات ّحاد المرأة‬
‫وات ّحاد االعراف واالت ّحاد العام لطلبة تونس ليسود تدريجيّا نظام الحزب الواحد وهذا‬
‫المناخ طبعا ال يتالءم مع الالمركزيّة ألنها تفترض نوعا من التع ّدد واحترام‬
‫والتنوع وتقتضي االستقالليّة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الخصوصيّات الجهويّة والّتي تفترض توازنا بين الوحدة‬

‫‪78‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫غير ان سلبيّات التركيز المفرط دفعت السلطات العموميّة الى فتح ملف التنظيم الترابي‬
‫سبعينات وهو‬ ‫من خالل ثنائيّة الالمحوريّة والالمركزيّة انطالقا من النّصف ّ‬
‫االول من ال ّ‬
‫ما ادى الى ادخال عدد من التحويرات من خالل اصدار عدد من التشريعات الجديدة‪،‬‬
‫اساسا سنة ‪ ،1975‬والمتمث ّلة فيما يتعلق بالالمحورية في اصدار القانون االساسي عدد‬
‫‪ 53‬لسنة ‪ 1975‬المتعلق باإلطارات العليا لإلدارة الجهوية‪ ،‬وبالنسبة لالمركزية القانون‬
‫االساسي للبلديات بمقتضى القانون عدد ‪ 33‬المؤرخ في ‪ 14‬ماي ‪ 1975‬وفي نفس‬
‫السياق ونفس السنة تقريبا القانون المتعلق بالجماعات المحلية وهو القانون عدد ‪35‬‬
‫لسنة ‪ 1975‬المتعلق بالقانون االساسي لميزانية الجماعات المحلية والقانون عدد ‪36‬‬
‫لسنة ‪ 1975‬المتعلق بضبط المال المشترك للجماعات المحلية‪.‬‬

‫ثم اضيفت في فترة الحقة تحويرات اخرى بعد التغيير في اعلى هرم السلطة السياسية‬
‫ووصول الرئيس السابق زين العابدين بن علي‪.‬‬

‫وتمثلت هذه االصالحات اساسا في القانون عدد ‪ 4‬لسنة ‪ 1989‬المؤرخ في ‪ 11‬فيفري‬


‫‪ 1989‬والمتعلق بالمجالس الجهوية وكذلك االمر المؤرخ في ‪ 24‬مارس ‪1989‬‬
‫المتعلق بتفويض اختصاصات عدد من الوزراء للوالي‪ .‬ولكن اجماال تميزت العشريات‬
‫التصور والتقسيم الت ّرابي‬
‫ّ‬ ‫الستة االولى بعد االستقالل بضعف الالمركزية من حيث‬
‫واالختصاصات والموارد البشريّة والماليّة وغياب االستقالليّة وثقل الرقابة ومحدوديّة‬
‫صبغة التمثيلية والديمقراطية لهياكل الجماعات المحلية‪.‬‬
‫ال ّ‬

‫هذا الوضع تطلّب ويتطلّب مراجعة جذريّة في سياق عمليّة االنتقال لل ّديمقراطيّة بغية‬
‫صبغة ال ّديمقراطيّة في تنظيمها وفي‬ ‫ارساء ّ‬
‫الالمركزيّة صلبة األسس‪ ،‬عميقة ال ّ‬
‫ممارستها‪ .‬فال ننسى ان "الث ّورة" واحداثها انطلقت اساسا على المستوى المحلّي‬
‫والجهوي قبل ان تصل الى المركز فيما بعد‪ .‬واحداث الحوض المنجمي من قبلها كذلك‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫سلطة االنتقاليّة الالمركزيّة‪ .‬فوقع مباشرة بعد‬


‫ولذلك كان من بين المحاور الكبرى لل ّ‬
‫خروج الرئيس السابق ح ّل كل المجالس الجهويّة والبلديّة وتعويضها بنيابات‬
‫خصوصيّة‪ .‬وأدرجت ضمن اعمال المجلس التأسيسي ومحاور ال ّدستور الجديد مسألة‬
‫الجماعات المحليّة‪ ،‬فأحدثت صلب المجلس لجنة مكلّفة بهذا الملف‪ :‬لجنة الجماعات‬
‫المحليّة‪.‬‬

‫وقد سعى الدستور الجديد‪ ،‬الذي تم ّخض عن اعالنه المجلس والذي صدر في ‪27‬‬
‫صص باب كامال يتض ّمن ‪ 12‬فصال‬
‫جانفي ‪ ،2014‬الى القطع مع نقائص الموروث وخ ّ‬
‫سابع منه‪ .‬اضافة الى فصول اخرى ته ّم ّ‬
‫الالمركزيّة ومنها بالخصوص‬ ‫هو الباب ال ّ‬
‫الرابع عشر من باب المبادئ العا ّمة الّذي جاء فيه "تلتزم ال ّدولة بدعم‬
‫الفصل ّ‬
‫ّ‬
‫الالمركزيّة واعتمادها بكامل الت ّراب الوطني في إطار وحدة الدولة"‪.‬‬

‫الالمركزيّة االداريّة على انّها تنظيم اداري ترابي من شأنه إيجاد توفيق‬
‫وتعرف ّ‬
‫ّ‬
‫للتنوع والخصوصيّات في إطار ال ّدولة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وتوازن بين وحدة البالد كك ّل واحترام‬

‫سس هذا ال ّدستور الجديد ّلالمركزيّة ترابيّة فعليّة قائمة على الت ّوفيق بين مقتضيات‬
‫ويؤ ّ‬
‫الديمقراطيّة المحليّة واحترام الخصوصيّات المحليّة والجهويّة وما تقتضيه هذه‬
‫ال ّديمقراطيّة المحليّة من مشروعيّة انتخابيّة وسياسيّة ومن استقالليّة الت ّسيير والقرار‬
‫وضرورة الحفاظ على وحدة ال ّدولة وما تقتضيه من ضمان انسجام ال ّ‬
‫سياسات العموميّة‬
‫وتكاملها ونجاعتها وعدالتها‪.‬‬

‫ي يرتقي‬
‫ي المركزي قو ّ‬ ‫ويتض ّمن هذا ال ّدستور رؤية تؤ ّ‬
‫سس لجماعات محليّة ولحكم محل ّ‬
‫ان الباب المتعلّق بالجماعات المحليّة بالدّستور وهو‬
‫سلطة المحليّة‪ ،‬بما ّ‬
‫الى مستوى ال ّ‬
‫سلطة المحليّة‬
‫سابع‪ ،‬جاء تحت عنوان ال ّ‬
‫الباب ال ّ‬

‫‪80‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫ويتض ّمن هذا ال ّدستور مجموعة من المبادئ كالحريّة وال ّديمقراطيّة والعدالة والت ّضامن‬
‫صريح بدعم ّ‬
‫الالمركزيّة كأساس للت ّنظيم الت ّرابي‬ ‫ومن اه ّم هذه المبادئ إلتزام ال ّدولة ال ّ‬
‫شأن العا ّم‪ ،‬مع الحرص على الت ّوازن بينها وبين المحافظة على وحدة ال ّدولة‬
‫ولتسيير ال ّ‬
‫سابع الّذي جاء فيه "تقوم‬
‫كما جاء في الفصل ‪ 14‬وكذلك الفصل ‪ 131‬من الباب ال ّ‬
‫سلطة المحليّة على اساس ّ‬
‫الالمركزيّة‪".‬‬ ‫ال ّ‬

‫كذلك الت ّأكيد على المشروعية الديمقراطية لسلطات هياكل الجماعات الترابية حيث جاء‬
‫مجالس منتخبة"‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫في الفصل ‪ 133‬ما يلي تدير "الجماعات المحلية‬

‫حرا‪ ،‬مباشرا‪،‬‬
‫وأضاف نفس الفصل "تنتخب المجالس البلديّة والجهويّة إنتخابا عا ّما‪ّ ،‬‬
‫سريّا‪ ،‬نزيها‪ ،‬شفّافا"‪.‬‬

‫وأضاف في فقرته األخيرة أن القانون اإلنتخابي يجب أن يضمن "تمثيليّة الشباب"‪.‬‬

‫اما مجالس االقاليم فتنتخب انتخابا غير مباشر من قبل اعضاء المجالس البلديّة‬
‫والجهويّة‪.‬‬

‫كذلك نجد في ال ّدستور الجديد تكريسا واضحا لمبدئ ال ّديمقراطيّة التشاركيّة م ّما يعني‬
‫سعيا لتجاوز نقائص وحدود ال ّديمقراطيّة الت ّمثيليّة واثرائها بالبعد الت ّشاركي‪.‬‬

‫الحر واالستقالليّة االداريّة‬


‫ّ‬ ‫كذلك تض ّمن دستور ‪ 2014‬تكريسا صريحا لمبدئ التّدبير‬
‫والماليّة للجماعات (الفصل ‪.)132‬‬

‫الباب السابع ‪ 12‬فصل من ‪ 131‬الى ‪ 142‬تحت عنوان السلطة المحلية‪.‬‬

‫الفصل ‪ 132‬جاء فيه "تتمتع الجماعات المحلية بالشخصية القانونية وباالستقاللية‬


‫اإلدارية والمالية وتدير المصالح المحلية وفقا لمبدئ التدبير الحر"‬

‫‪81‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫كذلك التكريس الصريح لمبدأ التفريع في الفصل ‪134‬‬

‫‪Le principe de subsidiarité‬‬

‫"تتمتع الجماعات المحلية بصالحيات ذاتية وصالحيات مشتركة مع السلطة المركزية‬


‫ّ‬
‫"توزع الصالحيّات المشتركة والصالحيات‬ ‫وصالحيات منقولة منها‪ ".‬ويضيف الفصل‬
‫المنقولة استنادا الى مبدا التفريع"‪.‬‬

‫صة بها (الفصل ‪.)134‬‬


‫سلط المحلية من سلطة ترتيبية خا ّ‬
‫كذلك تمكين ال ّ‬

‫جاء في الدستور كذلك التأكيد على الربط بين االختصاصات والموارد الكافية‬
‫لممارستها بنجاعة (الفصل ‪.)135‬‬

‫أخيرا الت ّأكيد على مبادئ الت ّنمية العا ّمة والمتضامنة (الفصل ‪.)136‬‬

‫وتجدر االشارة كذلك انّه الى جانب ارساء هذه المبادئ الجديدة‪ ،‬قام ال ّدستور بإعادة بناء‬
‫التنظيم الهيكلي للت ّنظيم االداري والذي أصبح من ثالثة أصناف‪ ،‬اي ثالث مستويات من‬
‫الالمركزية‪ ،‬اذ جاء بالفصل ‪ 131‬من الدستور ان الالمركزية "تتجسد في جماعات‬
‫محلية تتكون من بلديات وجهات واقاليم‪ ،‬يغطي كل صنف منها كامل تراب‬
‫الجمهورية"‪.‬‬

‫إذا أصبح بمقتضى هذا الدستور هنالك ثالث اصناف من الجماعات المحلية‪ ،‬على عكس‬
‫الوضع الحالي الذي يتكون من صنفين هما الواليات والبلديات‪.‬‬

‫وعلى ضوء اعادة التنظيم الهيكلي والوظيفي للجماعات الترابيّة‪ ،‬اي اعادة التنظيم‬
‫الهيكلي والوظيفي ّلالمركزيّة تطرح بحدة مسألة صياغة إطار تشريعي جديد يف ّ‬
‫صل‬
‫مختلف الجوانب والمبادئ التنظيميّة والوظيفيّة والماليّة‪ ،‬بحيث تطرح مسألة القطع مع‬

‫‪82‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الموروث االستبدادي على المستوى الترابي وذلك بإضفاء الصبغة الديمقراطيّة على‬
‫تنظيم وسير الجماعات المحليّة واعادة النّظر في التقسيم الت ّرابي واعادة توزيع‬
‫الصالحيات في ات ّجاه تدعيم اختصاصات الجماعات المحلية مع توفير الموارد المالية‬
‫الكافية لممارسة هذه االختصاصات‪ .‬كذلك تكريس البعد الديمقراطي ألساليب الحكم‬
‫المحلي في اتجاه ارساء حوكمة ديمقراطيّة تشاركيّة‪ .‬اذ جاء في الفصل ‪ 139‬من‬
‫الدستور "تعتمد الجماعات المحلية آليات الديمقراطية التشاركية‪ ،‬ومبادئ الحوكمة‬
‫المفتوحة‪ ،‬لضمان اسهام اوسع للمواطنين والمجتمع المدني في اعداد برامج التنمية‬
‫والتهيئة الترابية ومتابعة تنفيذها"‪.‬‬

‫تفترض هذه الرؤية الدستورية الجديدة اعادة البناء التنظيمي على المستوى الجهوي‬
‫والتمييز الواضح بين الالمركزية والالمحورية‪.‬‬

‫فقد تميّز الوضع بالخلط بينهما وهو خلط يجد تجسيده على المستوى القانوني‬
‫والمؤسساتي في الوالية التي تكتسي في نفس الوقت صبغة الجهاز الالمحوري (او‬
‫الدائرة الالمحورية للدولة) والجماعة العمومية اي السلطة الالمركزية‪ .‬كما يبرز ذلك‬
‫من خالل ‪ 1‬من القانون االساسي عدد ‪ 11‬لسنة ‪ 1989‬المؤرخ في ‪ 4‬فيفري ‪1989‬‬
‫والمتعلق بالمجالس الجهوية‪.‬‬

‫وتبدو الرؤية الجديدة في الدستور وفي مشروع مجلة الجماعات‪ ،‬في حاجة الى مزيد‬
‫التوضيح‪ ،‬فالدستور ومشروع المجلة يتحدثان عن ثالثة اصناف من الجماعات هي‬
‫البلدية والجهة واالقليم‪ .‬ولكن التقسيم الجهات والدائرة الترابية للجهات هي نفسها في‬
‫‪ 24‬والية ستبقى نفس التنظيم تقريبا‪ ،‬لكن تحت اسم الجهة‪.‬‬

‫ي‪ ،‬حيث احال‬


‫هذه المالمح الدستوريّة الجديدة تقتضي بلورة تفصيل وتدقيق تشريع ّ‬
‫الباب السابع من الدستور المتعلق بالسلطة المحلية الى القانون في عدة مناسبات‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الفصل ‪" 139‬طبقا لما يضبطه القانون"‪...‬‬

‫وعديد الفصول التي احالنا فيها الدستور الى القانون‪.‬‬

‫نص جامع شامل لتأطير وتنظيم سير وصالحيّات‬


‫وفي هذا السيّاق وقع اعداد مشروع ّ‬
‫وموارد الجماعات المحلية‪.‬‬

‫ويتضمن مشروع القانون مختلف الجوانب التنظيميّة والعمليّة للجماعات المحليّة يشتمل‬
‫على ‪ 363‬فصال في صيغته الحالية الموقّع عليها مجلس النواب‪ .‬وكرس المبادئ‬
‫المنصوص عليها بالدستور‪ ،‬وتتمثل هذه المبادئ بالخصوص في مبدأ انفراد القانون‬
‫ببعث الجماعات المحلية‪ ،‬باعتبار ان تقسيم التراب الوطني الى جماعات محلية يختص‬
‫به دستوريا القانون حيث جاء في الفصل ‪ 65‬من هذا االخير انه تتخذ شكل قوانين‬
‫اساسية النصوص المتعلقة بالسلطة المحلية‪.‬‬

‫كذلك مبدأ التدبير الحر للشأن المحلي‪.‬‬

‫كما أقر مشروع المجلة االعتراف للجماعات المحلية بسلطة ترتيبية اي سلطة اصدار‬
‫التراتيب‪ ،‬وتمكينها من وسائل التصرف الحر‪.‬‬

‫مبدأ االستقاللية االدارية والمالية‪.‬‬

‫مبدأ التدبير الحر‪.‬‬

‫مبدأ التضامن‪.‬‬

‫مبدأ التعاون الالمركزي‪.‬‬

‫مبدأ الديمقراطية التشاركية والحوكمة المفتوحة‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫مبدأ توزيع االختصاصات بين الجماعات المحلية على اساس مبدأ التفريع‪.‬‬

‫مبدأ الحوكمة الرشيدة في تسيير الشؤون المحلية‪.‬‬

‫مبدأ الرقابة الالحقة وحذف مختلف انواع المراقبة االدارية المسبّقة‪.‬‬

‫مبدأ االحتكام الى القضاء فيما يتعلق باألنشطة والقرارات الصادرة عن الجماعات‬
‫المحلية او القرارات المتعلقة بها‪.‬‬

‫مبدأ تعميم تغطية الجماعات المحليّة على كامل تراب الجمهورية‪.‬‬

‫وفضال عن هذا الت ّعميم فإن المبادئ الدستوريّة الجديدة تستوجب القطع مع التقاليد‬
‫سابقة واإلنخراط في منظومة جديدة تقوم على اعتبار الجماعات المحلية‬
‫االداريّة ال ّ‬
‫"سلطة" تسيّر شؤونها بإستقاللية وعلى اساس تشريك المواطنين في اتخاذ القرارات‬
‫ومتابعة تنفيذها‪.‬‬

‫وعلى هذا االساس سيتم توزيع االختصاصات بين السلطة المركزية والجماعات المحلية‬
‫مع مراعات وحدة الدولة‪.‬‬

‫صص الكتاب‬
‫سمت الى كتابين‪ ،‬خ ّ‬
‫هذه المسائل سينظمها المشرع في مجلة واحدة ق ّ‬
‫ّ‬
‫المؤطرة للجماعات المحلية بما في ذلك المبادئ العا ّمة‬ ‫االول لألحكام العا ّمة والمشتركة‬
‫والتصرف في االمالك والمرافق العامة والنظام المالي‪ .‬أما الكتاب الثاني‬
‫ّ‬ ‫والهيئات‬
‫صص لألحكام خصوصيّة لكل صنف من الجماعات المحليّة‪.‬‬
‫فخ ّ‬

‫الكتاب األول‪ :‬االحكام المشتركة‬

‫الباب األول‪ :‬االحكام المشتركة‬

‫‪85‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الباب الثاني‪ :‬في امالك الجماعات المحلية ومرافقها‬

‫الباب الثالث‪ :‬في التهيئة الترابية والتعمير والتنمية المستدامة‬

‫الباب الرابع‪ :‬في النظام المالي للجماعات المحلية‬

‫الكتاب الثاني‪ :‬في االحكام الخصوصية‬

‫الباب األول‪ :‬في البلدية‬

‫الباب الثاني‪ :‬في الجهة‬

‫الباب الثالث‪ :‬في اإلقليم‬

‫ونص المشروع باإلضافة الى ذلك على مجموعة من االحكام االنتقالية تغطي الفترة‬
‫التي ّ‬
‫ينظمها التنظيم الحالي وتطبيق المبادئ الدستورية الجديدة خاصة ان أصحاب‬
‫مشروع المجلة يتبنّون مبدأ التدرج في ارساء الالمركزية لفترة تتراوح بين ‪ 10‬الى‬
‫‪ 15‬سنة‪.‬‬

‫مشروع مجلة الجماعات المحلية تضمن في الكتاب األول ‪ 4‬أبواب ونص الباب األول‬
‫منها على المبادئ العامة ومبرزا خاصة مبدأ التدبير الحر‪ .‬كذلك يبيّن صالحيات‬
‫الجماعات المحلية بأصنافها الثالث؛ أي الصالحيات الذاتية‪ ،‬الصالحيات المنقولة من‬
‫السلطة المركزية الى الجماعات المحلية والصالحيات المشتركة بين الجماعات المحلية‬
‫والسلطة المركزية‪.‬‬

‫ويبلور هذا الباب (األول) في القسم الثالث منه هذه الصالحيات ويعرف كل منها‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫وقد جاء في الفصل ‪ 12‬من المشروع األساسي المتعلق بإصدار مجلة الجماعات‬
‫المحلية ان الجماعة المحلية تتمتع بصالحيات ذاتية تنفرد بمباشرتها وبصالحيات منقولة‬
‫من السلطة المركزية وصالحيات مشتركة بينها وبين السلطة المركزية‪ ،‬ووضع الفصل‬
‫‪ 14‬كيفية توزيع هذه الصالحيات المشتركة والمنقولة‪ ،‬وجاء فيه ان توزيع هذه‬
‫الصالحيات يتم بين مختلف أصناف الجماعات المحلية على أساس مبدأ التفريع‪ ،‬ويعني‬
‫ان الصالحيات تعود لكل صنف من الجماعات المحلية التي تكون هي االجدر‬
‫لممارستها بحكم قربها من المتساكنين وقدرتها على األداء األفضل للمصالح المحلية‬
‫(مثال صالحيات التنوير والتطهير‪)...‬‬

‫أضاف الفصل ‪ 15‬ان كل عملية تحويل للصالحيات او توسيعها يصاحبه تحويل‬


‫اعتمادات ووسائل تتناسب واالعباء التي تترتب عنها للجماعات المحلية‪ .‬كما ان كل‬
‫نقل لالختصاصات يصاحبه بالضرورة نقل الموارد الضرورية (مالية وبشرية)‪.‬‬

‫كما مكن نص المشروع أيضا من تمتيع الجماعات المحلية بسلطة ترتيبية خاصة بها في‬
‫مجال اختصاصها تمارسها في حدود مجالها الترابي وتس ّمى قرارات بلدية او قرارات‬
‫جهوية او قرارات إقليمية حسب الجماعة المحلية الصادر عنها‪ .‬ويمارس هذا‬
‫االختصاص مجلس الجماعة المحلية‪.‬‬

‫كما تض ّمن هذا الباب األول قسما خاصا بالديمقراطيّة التشاركيّة والحوكمة المفتوحة‬
‫حيث جاء فيه ان اعتماد البرامج التنموية للجماعات يخضع وجوبا آلليات ديمقراطية‬
‫تشاركية وان مجلس الجماعات المحلية يضمن للمتساكنين مشاركة فعلية شاملة لكافة‬
‫الفئات االجتماعية والمناطق المكونة للجماعات المحلية ويمكن ان تشمل هاته‬
‫الديمقراطية التشاركية اجراء استفتاء للمتساكنين حول اعداد برامج وإنجاز مشاريع‬
‫تتعلق باختصاصاتها بموافقة اغلبية ثلثي أعضاء المجلس‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫وتعرض القسم السادس الى مسائل التضامن والتعديل والتمييز اإليجابي بين الجماعات‪.‬‬
‫ّ‬

‫كما تعرض هذا الباب الى المجلس األعلى للجماعات المحلية المنصوص عليه‬
‫بالدستور‪ .‬ونص الفصل ‪ 43‬من مشروع المجلة على ان المجلس األعلى للجماعات‬
‫المحلية يتركب كما يلي‪:‬‬

‫‪-‬رئيس بلدية عن كل جهة ينتخب من قبل رؤساء البلديات بالجهة‪.‬‬

‫‪-‬رؤساء الجالس البلدية لألربع بلديات األكبر من حيث عدد من السكان‪.‬‬

‫‪-‬رؤساء الجهات‪.‬‬

‫‪-‬رؤساء األقاليم‪.‬‬

‫‪-‬رئيس الجمعية األكثر تماثيال للمدن التونسية‪.‬‬

‫والمجلس األعلى للجماعات المحلية هو هيكل استشاري باألساس يستشار حول مشاريع‬
‫القوانين التي تهم الجماعات المحلية ويع ّد تقرير سنوي يحال لرئيس مجلس النواب‬
‫ولرئيس الحكومة ولرئيس الجمهورية حول سير الجماعات المحلية‪.‬‬

‫نص القسم العاشر من هذا الباب األول عن احداث هيئة عليا للمالية المحلية تنظر‬
‫كما ّ‬
‫في كل المسائل المتعلقة بالمالية المحلية ودعمها وتعصيرها وحسن التصرف فيها وفقا‬
‫لقواعد الحوكمة الرشيدة وتتولى خاصة‪:‬‬

‫‪-‬اقتراح تقديرات الموارد المالية الممكن إحالتها للجماعات المحلية ضمن مشروع‬
‫ميزانية الدولة‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫‪-‬اقتراح مقاييس توزيع تحويالت الدولة لفائدة الجماعات المحلية‪.‬‬

‫‪-‬إجراء تقرير مسبق لكلفة تحويل االختصاصات أو توسيعها بالتشاور مع المصالح‬


‫المركزية والمجلس االعلى للجماعات المحلية‪.‬‬

‫‪-‬اجراء التحاليل المالية لمختلف الجماعات المحلية بناءا على حساباتها المالية والتي‬
‫تحال عليها وجوبا من قبل هذه الجماعات‪.‬‬

‫‪-‬النظر في حجم التأجير العمومي للبلديات وفقا أحكام الفصل ‪ 9‬من هذه‬

‫المجلة‪( .‬مشروع القانون األساسي لمجلة الجماعات المحلية)‬

‫‪-‬القيام بالدراسات التقييمية واالستشرافية المتعلقة بالمالية المحلية‪.‬‬

‫وتتركب الهيئة العليا للمالية المحلية من‪:‬‬

‫‪-‬ستة ممثلين عن المجلس االعلى للجماعات المحلية يراعى فيها تمثيل أصناف‬
‫الجماعات المحلية‪.‬‬

‫‪-‬ممثل عن الوزارة المكلفة بالجماعات المحلية‪.‬‬

‫‪-‬ممثلين اثنين عن وزارة المالية المكلفان بالتصرف في ميزانية الدولة وبالمحاسبة‬


‫العمومية واالستخالص‪.‬‬

‫‪-‬ممثل عن الوزارة المكلفة بأمالك الدولة‪.‬‬

‫‪-‬ممثل عن صندوق القروض ومساعدة الجماعات المحلية‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫‪-‬خبير محاسب يقترحه مجلس هيئة الخبراء المحاسبين بالبالد التونسية لمدة أربع‬
‫سنوات غير قابلة للتجديد‪.‬‬

‫ويتولى أعضاء الهيئة في جلستها األولى انتخاب رئيس لها من بين ممثلي المجلس‬
‫األعلى للجماعات المحلية‪.‬‬

‫هذا إذا كان اهم ما جاء في الباب األول من الكتاب األول من مشروع المجلة‪ ،‬اما الباب‬
‫الثاني "في أمالك الجماعات المحلية ومرافقها" فيتعرض في قسم اول الى أمالك‬
‫الجماعات المحلية ونجد في هذا القسم (من ‪ 60‬الى الفصل ‪ )65‬تعريفا للملك العمومي‬
‫والملك الخاص للجماعات العمومية والمبادئ الكبرى لنظام تلك األمالك واصنافها‬
‫وكيفية التصرف فيها‪ .‬ونجد فيها التعريف التقليدي للملك العمومي الذي يعتمد معيارين؛‬
‫ان يكون مالكه ذات معنوية عمومية والمعيار الثاني ما يعرف بمعيار ثالثية التخصيص‬
‫أي ان يكون الملك مخصصا اما لالستعمال المباشر من قبل العموم (الطرقات‪ )...‬او ان‬
‫يكون مخصصا لمرفق عام (مثال الملك العمومي للسكك الحديدية‪ )...‬او ان يكون ملكا‬
‫للجماعة‪ .‬اما الملك الخاص للجماعات فيشمل بقية األمالك أي العقارات والمنقوالت‬
‫غير المصنفة ضمن األمالك العمومية‪ .‬وتعتبر أمالك محلية خاصة العقارات والمحالت‬
‫ذات االستعمال المهني او التجاري او الحرفي وكذلك العقارات ذات االستعمال السكني‬
‫وكذلك حصص مساهمة الجماعات في المنشآت العمومية وكذلك األسواق ومستودعات‬
‫الحجز والمقابر (محل نقاش)‪.‬‬

‫ويكرس القسم األول من الباب الثاني كذلك المبادئ الحمائية للنظام القانوني لألمالك‬
‫العمومية للجماعات المحلية وتتمثل هذه المبادئ في عدم القابلية للتفويت وعدم القابلية‬
‫لالكتساب بالحوز المتقادم وكذلك عدم خضوع الملك العمومي لطرق التنفيذ‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫اما طرق التصرف في الملك العمومي فيمكن ان تكون من خالل الترخيص او التفويت‬
‫(بالنسبة للملك الخاص) ويمكن ان يكون تسيير الملك مباشرا او غير مباشر‪.‬‬

‫وخصص القسم الثاني من هذا الباب الثاني لتسيير المرافق العامة المحلية‪ ،‬وحدد‬
‫القواعد والمبادئ في ذلك وهي المساواة بين مستعملي المرفق العام المحلي‪ .‬كذلك‬
‫االستمرارية والتأقلم مع المتغيرات‪ .‬وهذه كانت المبادئ الكبرى التقليدية (المساواة‬
‫االستمرارية التأقلم)‪ .‬ويضيف أيضا مشروع المجلة مبادئ الشفافية والمساءلة والحياد‬
‫والنزاهة والنجاعة والحوكمة المفتوحة‪ .‬ويبين طرق التصرف في المرفق العام في قسم‬
‫ثالث‪ ،‬حيث نص في الفصل ‪ 72‬على التسيير المباشر؛ "يمكن للجماعة المحلية تسيير‬
‫مرافقها بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة‪.‬‬

‫وتبرم الجماعات المحلية عقودا تكلّف بمقتضاها ذوات عمومية أو خاصة بتسيير مرافق‬
‫عامة أو لتحقيق طلب عمومي"‪.‬‬

‫والتسيير الغير مباشر هو تكليف طرف اخر بتسيير المرفق بمقتضى عقد وهي ثالثة‬
‫أصناف كبرى من العقود؛ عقود اللزمة وعقود تفويض المرفق العام وكذلك عقود‬
‫الشراكة بين القطاعين العام والخاص‪.‬‬

‫وتعرض كذلك هذا القسم للصفقات العمومية‪.‬‬

‫هذه اهم مالمح هذا الباب الثاني اما الباب الثالث "في التهيئة الترابية والتعمير والتنمية‬
‫المستدامة" فقد جاء هذا الباب مقتضبا (حوالي ‪ 13‬فصل) باعتباره يحيل أساسا الى‬
‫مجلة التهيئة الترابية والتعمير الصادرة بمقتضى القانون المؤرخ في ‪ 28‬نوفمبر‬
‫‪( 1994‬وهي بصدد المراجعة االن)‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫اما الباب الرابع فخصص للنظام المالي للجماعات المحلية ويتعرض بالخصوص‬
‫للقواعد العامة للميزانية المحلية ومواردها وكذلك االعتمادات المحالة من الدولة‬
‫وإجراءات استخالص موارد الجماعات المحلية وخصص القسم الرابع من هذا الباب‬
‫في تبويب الموارد وكذلك في القسم الخامس االعتمادات وفي القسم السادس والسابع‬
‫تباعا للنظام القانوني إلعداد ميزانية الجماعات المحلية والمصادقة عليها‪ ،‬وتنفيذ‬
‫الميزانية وختمها‪.‬‬

‫اما الكتاب الثاني فقد خصص لألحكام الخصوصية لكل صنف من أصناف الجماعات؛‬
‫فخصص الباب األول للبلدية فتعرض الى تنظيمها وصالحياتها وتعرض الى النظام‬
‫القانوني للقرارات المتخذة من السلط البلدية ومراقبتها وخصص القسم التاسع واألخير‬
‫من هذا الباب للتعاون بين البلديات‪.‬‬

‫اما الباب الثاني من هذا الكتاب الثاني فخصص للجهة حيث تعرض الى صالحيات‬
‫وتنظيم الجهة ورئيسها ومساعديه ومجلسها ونظامها القانوني والقرارات الصادرة عنها‪.‬‬

‫وأخيرا باب اإلقليم وهو الباب األكثر اكتضاضا؛ اذ تعرض للتعريف والتنظيم‬
‫والصالحيات الخاصة باإلقليم وقد جاء به تعريفه على انه جماعة ترابية تشمل عددا من‬
‫الجهات تعمل على تحقيق االندماج والتكامل التنموي واالقتصادي المتوازن بين مختلف‬
‫المناطق لإلقليم ويسيره حسب الفصل ‪" 345‬مجلس اإلقليم" ينتخب من قبل المستشارين‬
‫البلديين والجهويين‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫هذا اذن اهم ما جاء بمشروع مجلة الجماعات المحلية والتي هي االن بصدد المناقشة‬
‫امام لجنة اإلدارة والقوات الحاملة للسالح بمجلس نواب الشعب‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الجزء الثالث‪ :‬النشاط اإلداري‬


‫تمارس اإلدارة العمومية تقليديا مجموعة من النشاطات يمكن جمعها في إطار وظيفتين‬
‫ضبط‬
‫رئيسيتين تمثل األولى التأطير القانوني لنشاطات الخواص وتعرف بوظيفة ال ّ‬
‫اإلداري والتي تتمحور حول صيانة النظام العام بمكوناته الثالث التقليدية؛ االمن‪،‬‬
‫الصحة‪ ،‬الراحة‪ .‬ووظيفة ثانية تتمثل في خدمات توفرها اإلدارة العمومية‪ ،‬وتتمثل في‬
‫مجموعة من المرافق مثل التعليم العمومي والبريد والنقل العمومي والتغطية الصحية‬
‫وتوزيع المياه وكذلك الكهرباء والغاز‪.‬‬

‫وفي الحقيقة ان هذين الوظيفتين شديدتين االرتباط‪ ،‬حيث يمكن اعتبار الضبط اإلداري‬
‫نفسه مرفقا عاما يتمثل في توفير االمن والصحة والراحة والخدمات عموما‪ .‬ولتحقيق‬
‫هذين الوظيفتين تتمتع اإلدارة بجملة من الوسائل تتمثل بالخصوص فيما يعرف بأساليب‬
‫او وسائل السلطة العامة‪ ،‬وتتمثل الوسائل القانونية لممارسة اإلدارة وظيفتها بالقرار‬
‫اإلداري االنفرادي وكذلك بالعقد‪ .‬رغم ان ذلك ال يمنع اإلدارة العمومية من إمكانية‬
‫اعتماد الوسائل القانونية التي يعتمدها الخواص في تصرفاتهم كإبرام عقود مماثلة لتلك‬
‫التي يبرمها الخواص فيما بينهم‪ .‬ويجدر التنبيه الى ان اإلدارة العمومية تعتمد الى جانب‬
‫تدرس في إطار‬
‫هذه الوسائل القانونية عددا من الوسائل البشرية والمادية والمالية ّ‬
‫القانون اإلداري الخصوصي‪ ،‬كقانون الوظيفة العمومية والقانون اإلداري لألموال‬
‫والقانون الجبائي وهي مواضيع دروس أخرى تنتمي للقانون اإلداري الخصوصي وال‬
‫تنتمي للقانون اإلداري العام الذي هو موضوع هذا الدرس‪.‬‬

‫سنكتفي إذا بدراسة الوسائل القانونية والمتمثلة في المقرر اإلداري االنفرادي وفي العقد‬

‫وسندرس تباعا القرار اإلداري المنفرد في فصل اول والعقد في فصل ثاني‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الفصل األول‪ :‬القرار اإلداري االنفرادي‬


‫دراسة القرار اإلداري االنفرادي تقتضي تعريفه ثم تحديد اصنافه وأخيرا بلورة نظامه‬
‫القانوني‪.‬‬

‫المبحث األول‪ :‬تعريف القرار اإلداري االنفرادي‬


‫لئن كانت العالقات القانونية بين الخواص تنبني مبدئيا على المساواة في الحقوق‬
‫والواجبات وتقوم بالتالي على االتفاق والرضائية بحيث ال يمكن لفرد فرض ارادته على‬
‫االخر‪ ،‬فإن ما يميّز القانون العام والعالقات في القانون االداري بصورة خاصة هو‬
‫طابعها القائم على الالمساواة بين اإلدارة التي تتمتع بجملة من امتيازات السلطة العامة‬
‫ومنظوريها‪.‬‬

‫ويعتبر القرار اإلداري االنفرادي‪ ،‬أي القرار المنبثق عن جهة بمفردها‪ ،‬أحد اهم هذه‬
‫االمتيازات اذ يمكن تعريفه بانه عمل قانوني صادر عن السلطة اإلدارية بإرادتها‬
‫المنفردة يم ّكنها من تغيير المراكز القانونية للمعنيّين به دون حاجة للحصول على‬
‫موافقتهم وذلك بفرض التزامات او منح حقوق وذلك في إطار ما لها من سلطة عامة‬
‫بمقتضى القوانين‪.‬‬

‫هذا التعريف تنتج عنه مجموعة من االثار او النتائج ويم ّكن هذا التعريف من تحديد‬
‫سلط‬
‫خصائص القرار اإلداري االنفرادي وتمييزه عن االعمال القانونيّة الصادرة عن ال ّ‬
‫العموميّة األخرى وكذلك عن بقيّة القرارات اإلدارية األخرى التي ال تحدث اثرا قانونيا‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫كما يمكن هذا التعريف من تحديد النظام القانوني لهذه المؤسسة القانونية المتمثلة في‬
‫القرار االنفرادي‪.‬‬

‫الفرع األول‪ :‬عناصر تعريف القرار اإلداري االنفرادي‬


‫تنقسم هذه العناصر الى ثالث‪ :‬عنصر عضوي وعنصر شكلي وعنصر وظيفي‪.‬‬

‫فقرة أولى‪ :‬العنصر العضوي‬


‫يرتبط وصف قرار بأنه اداري بدرجة أولى بصدوره عن اإلدارة فالقرار اإلداري هو‬
‫تعبير عن إرادة السلطة اإلدارية وهذا االرتباط بالسلطة اإلدارية يمكن من تحديد القرار‬
‫اإلداري من زوايا ثالث وتمييزه بالتالي عن اعمال ونشاطات أخرى‪:‬‬

‫أ‪ -‬التمييز بين القرار اإلداري وقرارات الذوات الخاصة‪:‬‬

‫يمكن العنصر العضوي من التمييز بين القرار اإلداري والقرارات الصادرة عن ذوات‬
‫او هياكل خاصة‪.‬‬

‫ب‪ -‬التمييز بين القرار اإلداري والقرارات الصادرة عن السلط العمومية األخرى‪:‬‬

‫ويعني ذلك بالخصوص التمييز بين القرار اإلداري والقرارات الصادرة عن السلط‬
‫القضائية والتشريعية‪.‬‬

‫‪-‬التمييز بين القرار اإلداري االنفرادي والقرار التشريعي‪:‬‬

‫من الزاوية العضوية يقوم التمييز على طبيعة السلطة العمومية التي صدر عنها القرار‪،‬‬
‫فالقرار اإلداري هو القرار الصادر عن السلطة التنفيذيّة بإرادتها المنفردة‪ ،‬بينما يتّخذ‬

‫‪96‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫النص التّشريعي او القانوني‪ .‬ويبدو هذا‬


‫ّ‬ ‫سلطة التشريعية صبغة‬
‫القرار الصادر عن ال ّ‬
‫المعيار العضوي القائم على مركز وصفة السلطة التي اتخذت القرار واضحا‪ ،‬إال ان‬
‫قاسر عن التمييز في بعض األحيان‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫هذا الوضوح فيه مغالطة‪ ،‬اذ هو في الحقيقة‬
‫فالسلطة التشريعية يمكن ان تتخذ عددا من القرارات اإلدارية كتلك المتعلقة بتسيير‬
‫وترقية وتأديب أعوان المجالس النيابية‪ .‬وينتج عن التمييز بين القرار اإلداري والقرار‬
‫التشريعي اثرين قانونيين بحيث يتميز القرار اإلداري عن النص التشريعي من حيث‬
‫الرقابة التي يخضع لها‪ ،‬حيث ال يخضع القانون اال لرقابة دستوريته في حين تخضع‬
‫القرارات االدارية لرقابة القضاء اإلداري واساسا الى رقابة قضاء اإللغاء (رقابة تجاوز‬
‫السلطة) والقضاء الكامل (ينظر في المسؤولية المنجرة عن قرار اداري)‪.‬‬

‫القضاء اإلداري بإمكانه الغاء القرارات اإلدارية او قبول الدفع بعدم شرعيتها‪.‬‬

‫من جهة أخرى يمكن ان يؤدي القرار اإلداري الى قيام مسؤولية اإلدارة اما القانون فال‬
‫يمكن ان تنجر عنه اية مسؤولية فهو تعبير عن اإلرادة العامة‪.‬‬

‫والنص التشريعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هذا إذا ما يتعلق بالقرار اإلداري‬

‫‪-‬القرار اإلداري والقرار القضائي‪:‬‬

‫القرار القضائي هو القرار الصادر عن السلطة القضائية طبقا لإلجراءات القضائية‬


‫حيث يفترض وجود دعوى قضائية ويهدف الى فصل النزاعات‪ ،‬اما القرار اإلداري‬
‫االنفرادي فيصدر عن السلطة اإلدارية لغاية تنفيذ القوانين او التراتيب وال يفترض قيام‬
‫دعوى قضائية او تظلما إداريا مسبقا‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫غير ان هذا التمييز الذي يبدو بسيطا وواضحا قد يصبح على غاية من الصعوبة في‬
‫عدد من الحاالت؛‬

‫الحالة االولى هي تلك التي تتولى فيها هيئة قضائية من حيث تركيبتها او حتى من حيث‬
‫وظائفها مهمة إدارية‪ ،‬من ذلك مثال القرارات التي يتخذها رئيس المحكمة اإلدارية‬
‫بخصوص وقف التنفيذ في القضايا االستعجالية وكذلك المتعلقة بعون من أعوان‬
‫المحكمة‪.‬‬

‫كذلك قرارات المجلس األعلى للقضاء المتعلقة بترقية القضاة او تأديبهم‪ .‬كلها قرارات‬
‫إدارية بحتة‪.‬‬

‫وفي هذا االطار للتمييز بين القرار القضائي رغم صدوره في شكل مماثل للقرار‬
‫اإلداري‪ ،‬والقرار اإلداري رغم تعلقه بشؤون القضاء‪ ،‬يميّز فقه القضاء بين القرارات‬
‫التي تتعلق بسير المرفق العام القضائي‪ ،‬كقرار تعيين تاريخ جلسة‪ ،‬او قرار حاكم‬
‫التحقيق بحفظ القضية‪ ،‬ويعتبرها قرارات قضائية‪ ،‬والقرارات التي تتعلق بتنظيم المرفق‬
‫العام القضائي كقرار انتداب قضاة او تعيينهم او ترقيتهم‪ ،‬تعتبر هذه القرارات قرارات‬
‫إدارية رغم ان موضوعها يهم المرفق العام العدلي كما اكدت ذلك المحكمة اإلدارية في‬
‫عدد من قراراتها ومنها قرار صدر في ‪ 26‬افريل ‪ ،1982‬محمد بالّلونة والحبيب‬
‫عاشور ومن معه ضد الوزير األول‪ ،‬الوارد بالمجموعة للمحكمة اإلدارية لسنة ‪1982‬‬
‫بالصفحة ‪.62‬‬

‫جاء أيضا في نفس السياق القرار الصادر عن المحكمة االدارية في ‪ 26‬نوفمبر‬


‫‪ ،1996‬مصطفى الشريف ضد المجلس األعلى للقضاء فيما يتعلق بالتمييز بالقرار‬
‫اإلداري والقرار القضائي‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الحالة الثانية هي عندما ال يوجد نص صريح يحدد طبيعة الهيئة التي اتخذت القرار‬
‫وكذلك طبيعة القرار المتخذ كما هو الحال بالنسبة للجان االنزال واللجان الجهوية‬
‫لتصفية االحباس‪.‬‬

‫واالنزال وهو عقد يحيل به المالك او ناظر الوقف حوز العقار والتصرف فيه الى االبد‬
‫على ان يلتزم له المستلزم بأداء مبلغ معين سنوي او شهري ال يتغير‪.‬‬

‫وللحسم في هذا الموضوع يعتمد فقه القضاء مجموعة من المؤشرات المتكاملة‪ ،‬منها ما‬
‫سلطة التي صدر عنها القرار واإلجراءات المتبعة‬
‫هو شكلي يتعلق بطريقة تنظيم ال ّ‬
‫امامها‪ ،‬ومنها ما هو مادي يتعلق بطبيعة المسألة المطروحة‪ ،‬وعلى هذا األساس نفت‬
‫المحكمة اإلدارية الصبغة القضائية عن لجان االنزال وذلك منذ قرارها المؤرخ في ‪9‬‬
‫فيفري ‪ ،1978‬قرار ورد بالمجموعة ‪ 1978‬صفحة ‪ .26‬حيث اعتبرت المحكمة ان‬
‫النصوص المحدثة لهذه اللجان تبرز انها "تشكل تشكيال إداريا محضا وليس لها طابع‬
‫قضائي بالمرة وال تتبع اإلجراءات القضائية عند البت في إقرار حقوق االنزال التي‬
‫تعرض عليها"‪ .‬اما فيما يتعلق بقرارات لجان تصفية االحباس فقد اعتبرتها المحكمة‬
‫االدارية قرارات قضائية ذلك انه "بالرجوع الى احكام االمر المؤرخ في ‪ 18‬جويلية‬
‫‪ 1957‬يتبين ان اللجنة الجهوية لتصفية االحباس استنادا لما تتسم به تركيبتها‬
‫وصالحياتها‪ ،‬هيئة قضائية مختصة‪".‬‬

‫ويطرح نفس االشكال فيما يتعلق بعدد من الهيئات المهنية التي تكتسي صبغة مزدوجة‪،‬‬
‫فهي من جهة سلطة إدارية تتخذ قرارات إدارية (مثال عمادة المحامين‪ ،‬عمادة‬
‫المهندسين‪ ،‬عمادة األطباء‪ )...‬كقرارات الترسيم او رفض الترسيم بالجدول وهو قرار‬
‫اداري‪ ،‬وهي من جهة أخرى هيئات قضائية تتخذ قرارات قضائية قابلة للطعن‬
‫باالستئناف والتعقيب‪ ،‬كالقرارات التأديبية التي تتخذها في حق أعضائها‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫وكذلك يطرح نفس االشكال عندما يتعلق االمر مثال بهيئة االنتخابات او مجلس المنافسة‬
‫او هيئة االتصال السمعي البصري‪...‬‬

‫ويؤدي هذا التمييز بين القرارات االدارية والقضائية الى جملة من النتائج منها ما يلي‪:‬‬

‫صيغ واإلجراءات الخاصة باألحكام ومنها ضرورة احترام‬


‫‪-‬يخضع القرار القضائي لل ّ‬
‫مبدأ المواجهة ومبدأ التعليل ومبدأ سرية المفاوضة‪ ،‬وهذه القواعد ال تنطبق دائما على‬
‫القرار اإلداري‪.‬‬

‫‪-‬تتمتع القرارات القضائية منذ صدورها بحجية الشيء المقضي به بينما ال تتمتع‬
‫القرارات اإلدارية اال بقرينة الشرعية او المطابقة للشرعية‪.‬‬

‫‪-‬تخضع القرارات القضائية الى طرق الطعن االستدراكيّة وهي االستئناف والتعقيب او‬
‫طرق الطعن التراجعيّة كاإلعتراض وإعادة النظر وإصالح األخطاء المادية‪ ،‬في حين‬
‫تخضع القرارات اإلدارية الى امكانيّات أخرى كنسخ القرار أي ابطاله‪ ،‬وكذلك السحب‬
‫من قبل السلط االدارية‪ ،‬او كذلك إمكانية اإللغاء من طرف القاضي االداري‪.‬‬

‫وبهذا ننتهي من العنصر المميز األول لتعريف القرار اإلداري االنفرادي وهو العنصر‬
‫العضوي‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬العنصر الشكلي‬


‫يمكن ان تتخذ القرارات اإلدارية صبغة شفوية او صبغة كتابية كما يمكن ان تكون‬
‫قرارات صريحة او قرارات ضمنية وتكون القرارات اإلدارية عادة صريحة غير أن‬
‫النصوص التشريعية والترتيبية يمكن ان تعتبر سكوت اإلدارة لمدة معينة وإزاء مسألة‬
‫معينة او إزاء طلب قدمه أحد األشخاص لها يمكن ان يعتبر هذا السكوت لفترة معينة‬

‫‪100‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫النص او قرارا ضمنيا‬


‫ّ‬ ‫قرارا إداريا ضمنيا اما بالقبول في بعض الحاالت التي بيّنها‬
‫بالرفض وبالمقابل يكون قابال للطعن فيه باإللغاء في غالب األحيان‪ .‬ويالحظ في كثير‬
‫من األحيان ان اتخاذ القرار اإلداري تسبقه استشارات ألطراف وهياكل متنوعة‪ ،‬ويقع‬
‫التمييز في هذا اإلطار بين االستشارة االختيارية واالستشارة الوجوبية؛‬

‫واالستشارة االختيارية هي التي ال تكون السلطة اإلدارية فيها ملزمة بطلب االستشارة‬
‫وال باتباع الراي االستشاري الذي ترتب عن تلك االستشارة‪.‬‬

‫اما االستشارة الوجوبية فهي اجراء يفرضه نص القانون‪ ،‬أي ان اإلدارة يجب عليها‬
‫القيام باالستشارة وعدم القيام بها قد يكون عيبا من العيوب الشكلية للقرار اإلداري ما قد‬
‫يؤدي الى الغاءه في بعض الحاالت‪ ،‬إذ هو اجراء يفرضه نص قانوني واالستشارة هنا‬
‫واجبة‪.‬‬

‫واالستشارة الوجوبية تؤدي الى حالتين؛‬

‫ان يفرض النص وجوبية القيام باالستشارة ويترك الحرية للسلطة اإلدارية المستشيرة‬
‫في اتباع الرأي االستشاري من عدمه‪ ،‬وبالتالي يكون الرأي االستشاري هنا غير ملزم‪.‬‬

‫اما الحالة الثانية هي االستشارة الوجوبية التي ينتج عنها رأي ملزم‪ ،‬فالسلطة اإلدارية‬
‫ليست فقط ملزمة بالقيام باالستشارة بل كذلك ملزمة بإتباع الرأي المستشير في هذه‬
‫الحالة‪.‬‬

‫كما يمكن ان تشترط النصوص (التشريعية او الترتيبية) أحيانا ان ال تتخذ السلطة‬


‫اإلدارية قرارها اال بإقتراح وفي هذه الحالة يمكنها عدم اتباع االقتراح ولكن ليس لها‬
‫تغييره‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الفقرة الثالثة‪ :‬العنصر المادي لتعريف القرار اإلداري االنفرادي‬


‫العنصر المادي يتعلق بجوهر القرار ويتمثل في الصبغة المؤثرة والتنفيذية للقرار‬
‫اإلداري ويعني ذلك اذا ان القرار اإلداري منذ دخوله حيز التنفيذ يؤدي الى تغيير‬
‫المراكز القانونية لألشخاص المستهدفين به وذلك اما بمنح حقوق جديدة او سحب حقوق‬
‫موجودة او فرض التزامات جديدة‪ ،‬ما يترتب عليه قرارا قابال للطعن فيه امام القضاء‬
‫لتجاوز السلطة‪ ،‬وتؤدي هذه الخاصية الجوهرية الى تمييز القرار اإلداري كقرار تنفيذي‬
‫ومؤثر في المراكز القانونية‪ ،‬تمييزه عن عدد من االعمال االنفرادية األخرى لإلدارة‬
‫التي ال تؤدي الى منح حقوق او سحبها وال الى فرض التزامات جديدة ومثال ذلك‬
‫االعمال التحضيرية او االعمال التي تهدف فقط الى االعالم وكذلك اإلجراءات الداخلية‬
‫لإلدارة والمناشير والتوجيهات‪ .‬فكيف يمكن التمييز بين القرار اإلداري والعمل‬
‫التحضيري من جهة والقرار اإلداري واإلجراءات الداخلية من جهة ثانية‪ ،‬والقرار‬
‫اإلداري والمنشور من جهة ثالثة؟‬

‫أ‪ -‬التمييز بين القرار اإلداري والعمل التحضيري‪:‬‬

‫االعمال التحضيرية متعددة ومنها صياغة المشاريع وتجميع المعلومات والقيام‬


‫بتحقيقات ودراسات واستشارات‪ ...‬وكل هذه االعمال التحضيرية ال تنشأ حقوقا وال‬
‫تفرض التزامات قانونية وبالتالي فهي ال تعتبر قرارات إدارية تنفيذية وال يمكن‬
‫اعتمادها للطعن في القرار اإلداري بإستثناء االستشارات الوجوبية سواء كانت اآلراء‬
‫المترتبة عنها مطابقة أي إلزامية ام غير مطابقة أي غير ملزمة‪.‬‬

‫كذلك الشأن بالنسبة لالقتراحات التي تعتبر مجرد اعمال تحضيرية وليست قرارات‬
‫إدارية تنفيذية ومنها اقتراحات اللجان اإلدارية المتناصفة (التي تقترح الترقيات والمنح)‬

‫‪102‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫وفي هذا اإلطار رفضت المحكمة اإلدارية في قرار متعلق بتجاوز السلطة‪ ،‬محمد‬
‫منصف الجربي ضد وزير النقل والمواصالت‪ ،‬قرار مؤرخ في ‪ 30‬مارس ‪،1982‬‬
‫الطعن في مقترحات اللجنة المتناصفة بوزارة النقل‪.‬‬

‫ب‪ -‬التمييز بين القرار اإلداري واإلجراءات الداخلية‪:‬‬

‫ال تعتبر اإلجراءات التي ينحصر دورها في تنظيم حسن السير الداخلي لإلدارة قرارات‬
‫إدارية تنفيذية وقابلة للطعن فيها سواء كانت هذه اإلجراءات والقرارات فردية او عامة‬
‫وسواء تعلقت هذه اإلجراءات بتنظيم المصالح اإلدارية او طرق عملها او مشموالت‬
‫االعوان وتعيينهم‪ ،‬غير انه عندما تتجاوز هذه القرارات واإلجراءات الحدود الداخلية‬
‫لإلدارة كي تمس بحقوق األعوان المنصوص عليها بنظامهم األساسي فإنها تصبح قابلة‬
‫للطعن في شرعيتها‪ ،‬ويطرح االشكال بالخصوص بالنسبة لإلجراءات لفرض االنضباط‬
‫في المؤسسات العسكرية والتربوية والتي يمكن ان تتعدى مقتضيات التنظيم الداخلي‬
‫ويالحظ في هذا االطار ان القضاء اإلداري اصبح يقبل مراقبة شرعية النظام الداخلي‬
‫للمؤسسات التربوية كما اصبح ينظر في شرعية العقوبات التي تسلط على التالميذ او‬
‫الطلبة او المساجين او الجنود لفرض االنضباط داخل المؤسسات التربوية والعسكرية‬
‫والسجنيّة‪.‬‬

‫ج‪ -‬التمييز بين القرار اإلداري والمنشور‪:‬‬

‫المنشور هو أداة اعالم وتفسير وتأويل بين المصالح المركزية العليا للوزارات ورئاسة‬
‫الحكومة وبقية المصالح األخرى‪ ،‬غايته تفسير وتأويل القوانين والمواقف لمختلف‬
‫المصالح اإلدارية بغية توجيهها وضمان حسن تطبيقها للنصوص القانونية سواء‬

‫‪103‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫نص تفسيري اذ ال يحدث وال يكسب حقوقا‬


‫التشريعية او الترتيبية‪ .‬يعرف المنشور بأنه ّ‬
‫جديدة وال يسحب حقوق مكتسبة او يفرض التزامات‪ ،‬فالمنشور اذا هو وسيلة تفسير‬
‫وتأويل للقوانين واالوامر ولذلك فهو مبدئيا عمل داخلي لإلدارة ال تأثير له على‬
‫المتعاملين مع اإلدارة ألنه مجرد نص تفسير وتأويل فال يخلق وضعيات قانونية جديدة‬
‫وال يغيير وضعيات او التزامات او حقوق موجودة وبالتالي ال يمكن الطعن فيه امام‬
‫القضاء واإلدارة ال يمكنها اعتماده كأساس لقراراتها واال اعتبرت خطأ قانونيا‪ ،‬لكن من‬
‫الناحية العملية يعمد بعض المسؤولين اإلداريين الى اصدار مناشير ال تكتفي بالتفسير‬
‫بل بوضع قواعد جديدة او فرض شروط جديدة لم ينص عليها النص الترتيبي او‬
‫التشريعي الذي جاء المنشور لتفسيره وهكذا تصبح هذه المناشير او جزء منها مناشير‬
‫ذات صبغة ترتيبية ويمكن بالتالي الطعن فيها امام القضاء‪.‬‬

‫فالمنشور يمكن ان يستعمل أحيانا كتعلة لتمرير قواعد او فرض شروط جديدة‪ ،‬وعندما‬
‫يتم الطعن في شرعية المنشور امام القضاء‪ ،‬يجد القاضي نفسه امام حالتين؛‬

‫الحالة األولى تتعلق بإن كان المنشور صدر عن سلطة مختصة؟ فالوزراء ليس لهم‬
‫مبدئيا مثل هذا االختصاص الترتيبي‪ ،‬فإذا ثبت ان المنشور صدر عن سلطة غير‬
‫مختصة فإن القاضي سيلغي المنشور على أساس عيب االختصاص وانحراف‬
‫اإلجراءات وخرق الصيغ الشكلية الجوهرية‪.‬‬

‫في الحالة الثانية إذا تبين ان السلطة التي أصدرت المنشور مختصة‪ ،‬فاذا كانت السلطة‬
‫التي أصدرت المنشور الترتيبي تتمتع بالسلطة الترتيبية فاإلشكال هنا لم يعد يتعلق‬
‫باالختصاص بل بالقواعد المضمنة بالمنشور شرعية ام ال‪ .‬ويكون آنذاك موقف القضاء‬
‫اما اإللغاء الكلي او الجزئي للمنشور‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫والقرار الهام في هذا المجال هو قرار مجلس الدولة الفرنسي المؤرخ في ‪ 29‬جانفي‬
‫‪ ،1954‬نوتردام د كريسكار ‪ ، Notredame de kreisker‬تعلق بتمرير شروط‬
‫جديدة بمنشور جعلت الحصول على احد الحقوق صعبا‪.‬‬

‫نفس الشيء في القرار الشهير حول ترسيم الطلبة األجانب‪ ،‬قرار مؤرخ في ‪ 14‬جانفي‬
‫‪ Mrap "1981‬الحركة المناهضة للعنصرية للسالم بين الشعوب‪".‬‬

‫في تونس صدر قرار في نفس االتجاه وهو القرار المؤرخ في ‪ 3‬مارس ‪،1972‬‬
‫المنصف برقوشة ضد الوزير األول‪ ،‬اذا تضمن المنشور قواعد جديدة فهي غير‬
‫شرعية‪.‬‬

‫كذلك قرار المحكمة اإلدارية المؤرخ في ‪ 29‬ديسمبر ‪ ،1981‬عبد الرزاق بوليل ضد‬
‫وزير النقل والمواصالت‪ .‬وكذلك قرار المحكمة اإلدارية المؤرخ في ‪ ،1988‬أسماء‬
‫محجوب ضد وزير الصحة العمومية وهو طعن في قرار اداري اتخذ على أساس‬
‫منشور وزاري منح عطلة استثنائية ألعوان مصالح االشعة‪ ،‬وطعنت السيدة أسماء‬
‫باعتبار ان ضبط العطل من اختصاص المشرع‪.‬‬

‫ويمكن التمييز بين ثالثة أصناف من المناشير على األقل؛‬

‫المناشير التفسيرية‬

‫المناشير الترتيبية‬

‫المناشير المختلطة‬

‫ولهذا التمييز تأثيرات عملية ملموسة فالمنشور التفسيري هو عمل داخلي صرف يوجه‬
‫فقط ألعوان اإلدارة أي انه موجه من الرؤساء الى المرؤوسين داخل الجهاز اإلداري‬

‫‪105‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫قصد انارتهم وتوجيه أعمالهم‪ ،‬فهو اذا ال يتوجه الى منظوري اإلدارة الخارجيين وال‬
‫يلزمهم وال يمكن لهؤالء االحتجاج به في مواجهة اإلدارة وال الطعن فيه باإللغاء‪.‬‬

‫اما المنشور الترتيبي فبحكم تضمنه لقواعد جديدة إضافية للنصوص التي جاء لتفسيرها‪،‬‬
‫يكسب‪/‬يسحب حقوقا او يفرض التزامات ولذلك فهو يصبح مغيرا من األوضاع القانونية‬
‫القائمة وقابال للطعن فيه باإللغاء‪.‬‬

‫اما الصنف الثالث‪ ،‬أي المناشير المختلطة‪ ،‬فهي تلك المناشير التي تتضمن جانبا‬
‫تفسيريا وكذلك قواعد جديدة ذات صبغة ترتيبية مؤثرة في األوضاع القانونية القائمة‪،‬‬
‫وهذا الصنف من المناشير يقبل القضاء الطعن فقط في البنود الترتيبية المضمنة به وهو‬
‫ما يمكن ان يؤدي الى الغاء جزئي للمنشور كما وقع في قرار نوتردام د تروسكار سابق‬
‫الذكر‪.‬‬

‫ويضيف فقه القضاء الفرنسي منذ ‪ 1992‬صنفا جديدا من المناشير اطلق عليه تسمية‬
‫المناشير اآلمرة وهي مناشير ال تتضمن إجراءات داخلية وال مناشير ترتيبية وال‬
‫مختلطة وانما يبرز في عدد من اعمال الحكومة أي انه منشور يتصل بالسيادة او‬
‫بالعالقات الخارجية‪ ،‬وقد وقع تكريس هذا الصنف في قرار مجلس الدولة المؤرخ في‬
‫‪ 23‬سبتمبر ‪ ،1992‬جيستي‪ ، Gisti‬والمنشور المتعلق به القرار يطلب بصفة آمرة من‬
‫الجامعات عدم ترسيم الطلبة القادمين من العراق (امر جاء في سياق حرب الخليج)‬
‫وهي مناشير ال يقبل الطعن فيها حيث ينظر القاضي فيها باعتبارها عمال من اعمال‬
‫الحكومة تقتضيه السيادة‪ ،‬لكن هناك تراجع‪ ،‬فانطالقا من ‪ 2002‬اعتبر فقه القضاء‬
‫وتحديدا مجلس الدولة الفرنسي‪ ،‬ان المناشير التي تتضمن تأويال ملزما تقبل الطعن فيها‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الفرع الثاني‪ :‬تصنيف القرارات اإلدارية‬


‫يمكن تصنيف القرارات اإلدارية باعتماد معايير متعددة اهمها المعيار العضوي او‬
‫المعيار المادي‪.‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬التصنيف على أساس المعيار العضوي‬


‫يقوم التصنيف العضوي على معيار السلطة اإلدارية التي صدر عنها القرار وباعتبار‬
‫هذا المعيار يمكن التمييز بين القرارات التي تصدر عن الهيئات المتداولة كالمجالس‬
‫البلدية والمجالس الجهوية وتتخذ هذه القرارات شكل المداوالت التي تكتسي صبغة‬
‫تقريرية‪ ،‬والقرارات التي تصدر عن السلط اإلدارية التنفيذية والتي تتخذ اشكاال متنوعة‬
‫حسب طبيعة السلطة التي يصدر عنها القرار بحيث نجد اليوم في القانون التونسي‬
‫المراسيم واالوامر الصادرة عن رئيس الجمهورية والتي تسمى األوامر الرئاسية وكذلك‬
‫األوامر الصادرة عن رئيس الحكومة وتسمى األوامر الحكومية‪ ،‬والقرارات الصادرة‬
‫عن الوزراء ثم الوالة وقرارات رؤساء البلديات ورؤساء المؤسسات العمومية‪.‬‬

‫أ‪ -‬المراسيم‪:‬‬

‫هي مقررات إدارية يصدرها رئيس الجمهورية بالتوافق مع رئيس الحكومة في حالتين‬
‫حددهما الفصل ‪ 70‬من دستور ‪ 2014‬وتتدخل هذه المراسيم في حالة حل مجلس‬
‫الشعب كما يمكن ان تصدر المراسيم عن رئيس الحكومة في حالة التفويض من مجلس‬
‫نواب الشعب بثالثة اخماس أعضائه ويكون هذا التفويض من قبل رئيس الحكومة لمدة‬
‫محددة ال تتجاوز الشهرين ولغرض معين‪ ،‬وتعرض المراسيم سواء الصادرة عن رئيس‬

‫‪107‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الجمهورية في حالة حل مجلس النواب او عن رئيس الحكومة في حالة تفويض‬


‫تشريعي على مصادقة مجلس نواب الشعب في دورته العادية الموالية‪ ،‬ويستثني الفصل‬
‫‪ 70‬من مجال المراسيم النظام االنتخابي اذ ال يمكن مراجعة النظام االنتخابي بمرسوم‬
‫والمالحظ ان المراسيم الصادرة عن رئيس الحكومة بتفويض من البرلمان هي نصوص‬
‫تدخل في مجال القانون وفي كل الحاالت تدخل مراسيم السلطة التنفيذية (رئيس‬
‫الحكومة او رئيس الجمهورية) في المجال التشريعي وهو ما يطرح التساؤل عن طبيعة‬
‫المراسيم‪ ،‬هل هي قوانين بإعتبارها تتدخل في مجال التشريع ام انها قرارات إدارية‬
‫بإعتبارها صادرة عن سلطة إدارية‪ .‬وتجدر اإلشارة في هذا اإلطار الى ان المراسيم‬
‫تقتضي في كل هذه الحاالت المصادقة الالحقة عليها من قبل مجلس نواب الشعب‪،‬‬
‫ولذلك فهي تعتبر قرارات إدارية قبل المصادقة عليها وتصبح قوانين أي نصوصا‬
‫تشريعية بمجرد المصادقة عليها من قبل المشرع‪ ،‬لكن إذا لم يصادق المشرع عليها‬
‫تبقى قرارات إدارية‪.‬‬

‫ب‪ -‬األوامر‪:‬‬

‫كانت األوامر قبل ‪ 2011‬من اختصاص رئيس الجمهورية وحده‪ ،‬وبمقتضى دستور‬
‫‪ 2014‬أصبحت األوامر تنقسم الى صنفين؛ أوامر رئاسية نظمها الفصل ‪ 78‬من‬
‫الدستور واوامر حكومية نظمها الفصل ‪ 94‬من الدستور‪.‬‬

‫اما األوامر الرئاسية المنصوص عليها بالفصل ‪ 78‬من الدستور فهي أوامر فردية‬
‫وليست ترتيبية (عامة وملزمة) تتعلق بعدد من التعيينات واالعفاءات لبعض الوظائف‬
‫العليا ومنها تعيين مفتي الجمهورية واعفاءه وكذلك التعيينات واالعفاءات في الوظائف‬
‫العليا برئاسة الجمهورية والمؤسسات التابعة لها‪ ،‬وكذلك التعيينات واالعفاءات في‬

‫‪108‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الوظائف العليا العسكرية والدبلوماسية والمتعلقة باالمن القومي بعد استشارة رئيس‬
‫الحكومة‪ .‬وهي وظائف ضبطها القانون عدد ‪ 32‬لسنة ‪.2015‬‬

‫كذلك تعيين محافظ البنك المركزي بإقتراح من رئيس الحكومة‪ ،‬وبعد مصادقة األغلبية‬
‫المطلقة ألعضاء مجلس نواب الشعب‪ .‬كما يمكن ان يتم اعفاؤه بنفس الطريقة‪.‬‬

‫اما الصنف الثاني من األوامر الحكومية فقد نظمها الفصل ‪ 92‬و‪ 94‬من الدستور‬
‫وتنقسم هذه األوامر التي تصدر عن رئيس الحكومة الى صنفين؛ أوامر فردية وأوامر‬
‫ترتيبية (أوامر غير ترتيبية واوامر ترتيبية)‪ ،‬فقد جاء بالفصل ‪ 94‬أن رئيس الحكومة‬
‫يمارس السلطة الترتيبية العامة ويصدر األوامر الفردية التي يمضيها بعد مداولة مجلس‬
‫الوزراء‪ ،‬وتسمى األوامر الصادرة عن رئيس الحكومة أوامر حكومية‪.‬‬

‫وفي اطار ممارسة سلطته في اصدار األوامر الحكومية الفردية نجد في الفصل ‪ 92‬ان‬
‫رئيس الحكومة يختص في اجراء التعيينات واالعفاءات في الوظائف المدنية العليا‪ ،‬وقد‬
‫ضبطت هذه الوظائف بالقانون عدد ‪ 33‬لسنة ‪ 2015‬المؤرخ في ‪ 15‬اوت ‪،2015‬‬
‫كما جاء في الفصل ‪ 92‬ان رئيس الحكومة يتصرف في اإلدارة ويمارس في هذا‬
‫االطار كذلك سلطة اتخاذ األوامر الترتيبية كتكريس للسلطة الترتيبية العامة‪ ،‬وفي هذا‬
‫االطار يختص رئيس الحكومة بإحداث وتعديل وحذف الوزارات وكتابات الدولة‬
‫وضبط اختصاصاتها وصالحياتها بعد مداولة مجلس الوزراء‪ ،‬كذلك احداث او تعديل‬
‫او حذف المؤسسات والمنشآت العمومية والمصالح اإلدارية وضبط اختصاصاتها‬
‫وصالحياتها بعد مداولة مجلس الوزراء باستثناء الراجعة لرئاسة الجمهورية (مثل‬
‫المعهد التونسي للدراسات االستراتيجية والهيئة العليا للرقابة المالية‪ )...‬حيث يكون‬
‫احداثها او حذفها او تعديلها من قبل رئيس الحكومة لكن باقتراح من رئيس الجمهورية‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫ج‪ -‬القرارات‪:‬‬

‫وتصدر القرارات عن الوزراء والوالة وكذلك رؤساء البلديات والهيئات المستقلة‬


‫المتمتعة بسلطة اتخاذ القرار وهي حسب الباب السادس من الدستور؛ الهيئة العليا‬
‫المستقلة لالنتخابات وكذلك الهيئة العليا لالتصال السمعي البصري‪ ،‬حيث جاء في‬
‫الفصل ‪ 126‬من الدستور ان هيئة االنتخابات تتمتع بالسلطة الترتيبية في مجال‬
‫اختصاصها وكذلك نجد هيئة االتصال السمعي البصري في الفقرة الثانية من الفصل‬
‫‪.127‬‬

‫وتكون سلطة اتخاذ القرارات هذه عادة قائمة على أساس نص تشريعي او ترتيبي سابق‬
‫الوضع وتكون القرارات تنفيذا للنصوص‪.‬‬

‫كما كرس الدستور منح السلطة الترتيبية‪ ،‬فضال عن الهيئات المستقلة‪ ،‬للسلطة المحلية‬
‫في الفصل ‪ 134‬من الدستور‪ ،‬حيث جاء به ان الجماعات المحلية تتمتع بسلطة ترتيبية‬
‫في مجال ممارستها لصالحياتها وتنشر قراراتها في الجريدة الرسمية للجماعات‬
‫المحلية‪.‬‬

‫د‪ -‬المناشير‪:‬‬

‫المناشير مبدئيا دورها تفسيري تتدخل لتفسير نص قانوني او ترتيبي (مثال المناشير‬
‫التفسيرية المتعلقة بالصفقات العمومية‪ )...‬سابق الوضع وتوضيح كيفية تطبيق‬
‫مقتضياته‪ ،‬وتصدر المناشير عن السلط اإلدارية ويالحظ ان هذه السلط قد تدرج عمدا‬
‫او عن غير قصد قواعد جديدة بالمناشير تمنح حقوقا او تفرض شروطا او تضع‬
‫التزامات إضافية لم ينص عليها النص التشريعي او الترتيبي الذي جاءت لتوضيحه تلك‬
‫المناشير‪ ،‬وبذلك تفقد المناشير صبغتها التفسيرية وتتحول الى قرارات تنفيذية مؤثرة في‬

‫‪110‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫األوضاع القانونية القائمة وبالتالي قابلة للطعن فيها لتجاوز السلطة امام القضاء‬
‫اإلداري‪.‬‬

‫ويجب في هذا الصدد التنبيه الى ان القرارات الصادرة عن السلط اإلدارية ال تكتسي‬
‫كلها صبغة القرار اإلداري ومثال ذلك القرارات المتعلقة بالتصرف الخاص بالملك‬
‫الخاص لإلدارة‪ ،‬وهذه القرارات ال تتسم بصبغة السلطة العامة وال تعتبر قرارات‬
‫إدارية‪ ،‬بالمقابل يجب التنبيه الى ان القرارات اإلدارية ليست حكرا على السلط اإلدارية‬
‫بل يمكن ان تصدر كذلك عن هياكل ال تكتسي عضويا صبغة السلطة اإلدارية من ذلك‬
‫مثال القرارات الصادرة عن السلط الدستورية‪ ،‬كالسلطة التشريعية والسلطة القضائية‪،‬‬
‫فقرارات رئيس البرلمان المتعلقة بحسن سير مصالح المجلس وكذلك قرارات انتداب‬
‫وترقية وتأديب أعوان المجلس ال تدخل في اطار الوظيفية التشريعية للمجلس وانما في‬
‫اطار الوظيفة اإلدارية‪ ،‬وينطبق االمر نفسه على القرارات الصادرة عن السلطة‬
‫القضائية والمتعلقة بتنظيم المرفق العام القضائي‪ ،‬والتي ال تعتبر قرارات تدخل في‬
‫نطاق الوظيفية القضائية وانما تدخل في اطار الوظيفة اإلدارية لهذه السلطة‪ .‬كما يمكن‬
‫ان تصدر القرارات اإلدارية عن الهيئات المهنية التي اعتبرتها المحكمة اإلدارية‬
‫التونسية ذوات قانون عام‪ ،‬يمكن ان تتخذ قرارات إدارية تنفيذية‪ .‬هذا الموقف عبرت‬
‫عنه المحكمة اإلدارية في قرارها المتعلق بتجاوز السلطة المؤرخ في ‪ 14‬جويلية‬
‫‪ ،1983‬أنور بشة ضد الهيئة الوطنية للمحامين‪.‬‬

‫في هذا القرار اعتبرت الهيئة الوطنية للمحامين ذات قانون عام غير مسمات والقرارات‬
‫التي تصدر عنها قرارات إدارية تنفيذية تخضع للطعن امام المحكمة اإلدارية‪ .‬قرار‬
‫منشور بالمجلة القانونية التونسية ‪ 1984‬القسم العربي الصفحة ‪ 115‬وما بعدها مع‬
‫تعليق لألستاذ عياض بن عاشور‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫نفس االمر بالنسبة للهيئات الدستورية‪ ،‬اذ تصدر قرارات إدارية تنفيذية يمكن الطعن‬
‫فيها امام المحكمة اإلدارية‪ ،‬كذلك يمكن ان تصدر القرارات اإلدارية حتى عن بعض‬
‫الذوات المعنوية الخاصة‪ ،‬التي تكلف بتحقيق المصلحة العامة‪ ،‬او بتسيير مرفق عام‪،‬‬
‫وتمنح في إطار ذلك امتيازات السلطة العامة‪ ،‬وتتخذ بالتالي القرارات اإلدارية‪.‬‬

‫مثال‪ :‬الجامعات الرياضية‪ ،‬فهي التي تتخذ قرارات تتعلق بتنظيم الرياضة كتنظيم‬
‫البطوالت وتسلط عقوبات على الالعبين اعتبرتها المحكمة اإلدارية قرارات إدارية‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬التصنيف على أساس المعيار المادي‬


‫يستند التصنيف على أساس المعيار المادي على محتوى القرار فيتم التمييز بين‬
‫القرارات الترتيبية والقرارات الغير ترتيبية‪ ،‬فالقرار اإلداري الذي يضبط قاعدة قانونية‬
‫مجردة او غير مشخصة وبالتالي عامة يعتبر قرارا ترتيبيا‪ ،‬ذلك انه مبدئيا يتجه الى‬
‫ذوات خاضعة لتلك القاعدة‪ ،‬دون ان يقع تحديد تلك الذوات بدقة‪ ،‬فالقرار اإلداري‬
‫الترتيبي يتميز بالصبغة المجردة مما يجعله غير قابل للتطبيق بذاته وانما يقتضي تطبيقه‬
‫اتخاذ قرارات أخرى فردية‪.‬‬

‫اذا القرار الفردي هو الذي يطبق القاعدة العامة والمجردة على حالة معينة ويتجه الى‬
‫اشخاص محددين بذواتهم وليس بصفاتهم‪.‬‬

‫مثال لتوضيح الفرق بين صنفي القرارات الفردية والتنفيذية‪:‬‬

‫قرار لوزير النقل يحدد شروط الحصول على رخص سيارات األجرى‪ ،‬هو قرار‬
‫ترتيبي اما قرار الوالي باسناد رخصة استغالل سيارة أجرى الى احد االفراد فهو قرار‬

‫‪112‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫فردي‪ ،‬لكن جاء تطبيقا لقاعدة عامة جاءت في نص ترتيبي يحدد شروط وقواعد اسناد‬
‫مثل هذه الرخص‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة في هذا المجال الى ان هذا التمييز ليس قائما على معيار كمي او عددي‪،‬‬
‫فمن الخطأ االعتقاد بأن القرار الذي يهم الكافة هو بالضرورة قرار ترتيبي وان القرار‬
‫الذي يتوجه الى شخص معين او مجموعة من األشخاص هو قرار فردي‪ .‬فهذا التمييز‬
‫ليس قائما على عدد او دائرة من يشملهم القرار أي انه ليس قائما على معيار كمي او‬
‫عددي فمن الخطأ االعتقاد ان القرار الذي يهم الكافة هو قرار ترتيبي بالضرورة وان‬
‫القرار الذي يهم شخص معين او مجموعة معينة من األشخاص هو قرار فردي‪ ،‬فهناك‬
‫في الحقيقة قرارات إدارية تتجه الى شخص واحد ولكنها تعتبر رغم ذلك قرارات‬
‫ترتيبية ذلك انها تتجه الى الشخص بصفته وليس بذاته‪ .‬ومثال ذلك القرار المتعلق‬
‫بجراية الرئيس األول لمحكمة التعقيب هو قرار يهم شخصا واحد خالل مدة زمنية‬
‫معينة ولكنه يتجه له في صفته وليس في ذاته‪ .‬هنالك بالمقابل قرارات تتجه نظريا الى‬
‫الكافة اال انها في الحقيقة تهم شخصا واحدا‪ ،‬فالمعيار في التمييز بين القرار الترتيبي‬
‫والقرار الفردي هو محتوى القرار أي تضمنه لقواعد عامة ومجردة ام ال‪ ،‬مما يجعل‬
‫القرار الترتيبي يشترك مع القانون في هذه الخصائص وليس الكم‪ ،‬أي عدد األشخاص‬
‫الذي يتجه نحوهم‪.‬‬

‫وقد اكدت المحكمة اإلدارية على اعتمادها المعيار المادي القائم على محتوى القرار‬
‫ورفضها للمعيار الكمي منذ قرارها المؤرخ في ‪ 26‬مارس ‪ ،1980‬موح الدين مبروك‬
‫ضد الوزير األول‪ .‬وأكدت هذا الموقف من جديد في قرارها المؤرخ في ‪ 26‬افريل‬
‫‪ ،1982‬قرار محمد بالللونة والحبيب عاشور ومن معهما ضد الوزير األول‪ ،‬في هذه‬
‫القضية تم الطعن في شرعية امر مؤرخ في ‪ 17‬اوت ‪ 1978‬المتعلق بتسمية أعضاء‬

‫‪113‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫محكمة امن الدولة التي قامت بمحاكمة النقابيين اثر احداث ‪ 26‬جانفي ‪ ،1978‬على‬
‫أساس ان هذا االمر مخالف لقانون ‪ 2‬جويلية ‪ 1962‬المحدث لمحكمة امن الدولة‪،‬‬
‫ودفعت اإلدارة بالصبغة الترتيبية للقرار‪( ،‬آنذاك األوامر الترتيبية كانت ال تخضع‬
‫للرقابة القضائية‪ ،‬اما االن فقد أصبحت خاضعة) ووجدت المحكمة اإلدارية نفسها‬
‫مدعوة لتوضيح معايير القرارات الترتيبية‪ ،‬وهو ما يهمنا هنا‪ ،‬حيث جاء في احدى‬
‫الحيثيات ما يلي‪ :‬حيث انه من المسلم به فقها وقضاء ان الفارق بين القرارات الترتيبية‬
‫والقرارات الغير الترتيبية يكمن في ناحيتها الموضوعية أساسا‪ ،‬فالقرارات الترتيبية هي‬
‫من حيث محتواها بمثابة التشريع‪ ،‬يصدر عن السلطة اإلدارية بغاية وضع احكام عامة‬
‫تجريدية (أي مجردة) مستمرة تكون عادة مصدرا التخاذ القرارات الفردية او الجماعية‬
‫التي تتميز بالطابع الشخصي وتنقضي بتنفيذها‪.‬‬

‫اال انه رغم هذه المعايير التي وضعت للتمييز بين الصنفين من القرارات اإلدارية فانه‬
‫قد يوجد أحيانا تداخل بين القرار الترتيبي والقرار الفردي بحيث نجد بعض القرارات‬
‫المختلطة او التي توجد في منزلة بين المنزلتين حيث يكون لها مفعول القرار الترتيبي‬
‫بالنسبة للبعض ومفعول القرار الفردي بالنسبة للبعض االخر‪ .‬ومثال ذلك قرار صادر‬
‫عن رئيس بلدية يمنع عرض شريط سينمائي بمنطقة بلديته‪ ،‬مثل هذا القرار يعتبر فرديا‬
‫بالنسبة لمنتج الشريط وكذلك بالنسبة لصاحب قاعة السينما‪ ،‬ولكنه يعتبر ترتيبيا بالنسبة‬
‫للمشاهدين‪ ،‬وقد طرح هذا االشكال منذ فترة طويلة وخاصة في فقه القضاء تعرض له‬
‫مجلس الدولة في قراره المؤرخ في ‪ 18‬ديسمبر ‪ .1959‬هذا القرار يتعلق بعرض‬
‫شريط سينمائي اباحي قرر رئيس البلدية منع عرضه‪ .‬واعتبر مجلس الدولة الفرنسي ان‬
‫قرار المنع قرار فردي وليس ترتيبي‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫القرارات الترتيبية‪:‬‬

‫تتضمن هذه القرارات قواعد عامة ومجردة مما يجعلها بمثابة القوانين (التشريع)‬
‫الصادرة عن اإلدارة لتضمنها خصائص التشريع فهي مجردة وملزمة اال انها مختلفة‬
‫عن القانون من حيث صدورها عن سلطة إدارية من الناحية العضوية (تصدر عن‬
‫المشرع) ومن الناحية الشكلية باعتبار اختالف إجراءات اتخاذها ونظامها القانوني‪.‬‬

‫وتثير القرارات الترتيبية تقليديا مسألة السلطة الترتيبية بإعتبار القرارات الترتيبية‬
‫تكريسا لهذه السلطة‪.‬‬

‫ويمكن تعريف السلطة الترتيبية بانها السلطة والصالحية المعترف بها بصورة إدارية‬
‫محددة في اتخاذ قرارات ذات طابع عام ومجرد مما يعني أهلية اتخاذ قرارات عامة‬
‫ومجردة تمارسها سلطات عمومية غير المشرع‪.‬‬

‫وتنقسم السلطة الترتيبية الى صنفين؛ سلطة ترتيبية عامة وسلطة ترتيبية خاصة او‬
‫محددة‪.‬‬

‫اما السلطة الترتيبية العامة فتعني صالحية اصدار نصوص ذات صبغة ترتيبية في كل‬
‫الميادين ما عدى تلك المخصصة للقانون‪ ،‬وتشمل السلطة الترتيبية العامة كامل تراب‬
‫البالد وتمارس عادة عبر اصدار األوامر او القرارات وكذلك بمقتضى تفويض تشريعي‬
‫خاص عبر المراسيم‪.‬‬

‫ويقصد بالسلطة الترتيبية العامة قانونا سلطة الرئيس اإلداري في اتخاذ قرارات ذات‬
‫صبغة عامة ومجردة لغاية تطبيق القوانين (لذلك تسمى سلطة ترتيبية تطبيقية او‬
‫تنفيذية)‪ ،‬او لغاية سن قواعد اصلية دون اسناد من المشرع‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫وتكمن عمومية هذه السلطة الترتيبية على مستويين؛ فهي عامة من حيث ميدانها وال‬
‫تنحصر السلطة الترتيبية في مجال معين على عكس السلطة الترتيبية الخاصة‪ ،‬وهي‬
‫كذلك عامة من حيث األشخاص الذين تنطبق عليهم‪ .‬ويحتكر السلطة الترتيبية اليوم‬
‫رئيس الحكومة وفق مقتضيات الفصل ‪ 92‬وخاصة الفصل ‪ 94‬من الدستور بعد ان‬
‫كانت في الدستور السابق حكرا على رئيس الجمهورية بمقتضى الفصل ‪ ،53‬وكذلك‬
‫من القوانين التي تحيل عادة على السلطة الترتيبية مهمة اصدار أوامر تطبيقية‪.‬‬

‫السلطة الترتيبية الخاصة او المحددة‪:‬‬

‫وهي سلطة يمارسها الوزراء ورؤساء الجماعات الترابية وكذلك بعض الهيئات‬
‫الدستورية ومنها بالخصوص الهيئة العليا المستقلة لالنتخابات وهيئة االتصال السمعي‬
‫البصري‪ .‬وبصفة عامة جميع رؤساء المرافق اإلدارية‪ ،‬حيث مكن فقه القضاء رؤساء‬
‫المرافق والمصالح اإلدارية من حق اتخاذ التدابير الالزمة لحسن سير اإلدارة الخاضعة‬
‫لسلطتهم وذلك حتى في غياب نص يسمح لهم بذلك على ان ال يتجاوز هذا االختصاص‬
‫ما هو ضروري لتنظيم المرفق وهو ما أقره مجلس الدولة الفرنسي في القرار المؤرخ‬
‫في ‪ 7‬فيفري ‪ ،JMALT ،1936‬وقد اتخذت المحكمة اإلدارية نفس الموقف من ذلك‬
‫مثال قرارها في تجاوز السلطة المؤرخ في ‪ 3‬جوان ‪ ،1998‬احمد شيخ روحو ضد‬
‫وزير التربية‪ ،‬حيث صرحت المحكمة ان "الوزراء ال يمتلكون سلطة ترتيبية عامة وال‬
‫يمكنهم اصدار تراتيب اال متى كانوا مؤهلين لذلك بمقتضى نص تشريعي او ترتيبي‬
‫عام او في غياب ذلك متى اقتضت الضرورة اتخاذ اإلجراءات الالزمة لحسن سير‬
‫المرفق العمومي الراجع لهم بالنظر بصفتهم رؤساء مصالح إدارية‪".‬‬

‫اجماال إذا‪ ،‬تنقسم القرارات الترتيبية الى قرارات ترتيبية عامة مستقلة وقرارات ترتيبية‬
‫تطبيقية تتخذ لتنفيذ القوانين‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫التراتيب التطبيقية تأتي تطبيقا للتشريع والتراتيب المستقلة وهي التراتيب التي ال تتدخل‬
‫في مجال القانون والتي تصدر بصفة مبدئية واصلية دون ايّة عالقة بالقانون مما يجعلها‬
‫مستقلة عن القانون ومكرسة لسلطة ترتيبية عامة مستقلة ومحمية من تدخل القانون في‬
‫مجالها‪ ،‬وهو ما يعني ان مجال القانون محدد على سبيل الحصر‪ .‬كان محدد على سبيل‬
‫الحصر في الفصلين ‪ 34‬و‪ 35‬من دستور ‪ 1959‬وهو محدد على سبيل الحصر في‬
‫الفصل ‪ 65‬من دستور ‪ ،2014‬بينما مجال اختصاص السلطة الترتيبية مجال مبدئي‬
‫وعام وغير محدد‪.‬‬

‫القرارات غير الترتيبية‪:‬‬

‫وتتمثل هذه القرارات الغير ترتيبية في القرارات الفردية أي القرارات المتعلقة بشخص‬
‫او بأشخاص محددين كقرارات التعيين والتسمية والعزل ومنها كذلك القرارات‬
‫الجماعية المتعلقة بأشخاص معينين بذواتهم كالتصريح بقائمة الناجين في مناظرة والذي‬
‫يعتبر قرارا غير ترتيبي يتضمن عدة قرارات فردية جمعتها صيغة موحدة‪ ،‬ذلك انها ال‬
‫تحتوي أي قاعدة عامة ومجردة بل تتجه الى مجموعة من االفراد المحددين بذواتهم‪.‬‬
‫ويتقاسم اختصاص اصدار القرارات الغير ترتيبية كل من رئيس الجمهورية (الفصل‬
‫‪ )78‬وكذلك رئيس الحكومة واعضائها (الفصل ‪ )92‬وكذلك رؤساء الجماعات المحلية‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫المبحث الثاني‪ :‬النظام القانوني للقرار اإلداري‬


‫القرار اإلداري كائن قانوني حي‪ ،‬يشمل نظامه القانوني والدته ونشأته ودخوله حيز‬
‫النفاذ وتطبيقه لينتهي بنهاية القرار‪.‬‬

‫الفرع األول‪ :‬النظام القانوني لنشأة القرار اإلداري‬

‫ينشأ القرار اإلداري مهما كان صنفه بإعالن اإلدارة عن ارادتها االنفرادية في ادخال‬
‫تغيير على المراكز القانونية القائمة للمعنيين به‪ ،‬وكنا قد رأينا انه من الناحية الشكلية‬
‫يمكن ان يكون القرار اإلداري االنفرادي كتابيا او شفويا‪ ،‬صريحا او ضمنيا‪ .‬ويفترض‬
‫اتخاذ هذا القرار وخاصة القرار الصريح احترام جملة من اإلجراءات السابقة لصدوره‬
‫وكذلك مراعات قواعد تتعلق باختصاص السلطة التي يصدر عنها القرار‪.‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬إجراءات اعداد القرار‬

‫تمر نشأة القرار بسلسلة من اإلجراءات الشكلية تختلف حسب طبيعة القرار وتنقسم الى‬
‫إجراءات جوهرية وأخرى غير جوهرية‪ ،‬وهذا التقسيم بين اإلجراءات الجوهرية‬
‫واإلجراءات الغير جوهرية ارساه المشرع التونسي بمقتضى الفصل السابع من القانون‬
‫األساسي المتعلق بالمحكمة اإلدارية (القانون عدد ‪ 40‬لسنة ‪ 1972‬المؤرخ في غرة‬
‫جوان ‪.)1972‬‬

‫ولكن دون ان يحدد اإلجراءات الجوهرية واإلجراءات الغير جوهرية‪ ،‬وينجر عن هذا‬
‫التصنيف اثار قانونية هامة‪ ،‬ذلك ان خرق اجراء جوهري يؤدي مبدئيا الى بطالن او‬

‫‪118‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الغاء القرار اإلداري الذي شابته عيوب إجرائية جوهرية‪ ،‬ولذلك اعتبرت المحكمة‬
‫اإلدارية ان االجراء الجوهري هو االجراء الذي له تأثير مباشر على محتوى القرار‬
‫وعلى الضمانات األساسية على منظوري اإلدارة‪.‬‬

‫في هذا االتجاه قرار المحكمة اإلدارية في تجاوز السلطة المؤرخ في ‪ 23‬جويلية‬
‫‪ ،1976‬قرار الحبيب العيادي ضد وزير التربية‪ ،‬المجموعة ص ‪.83‬‬

‫ومن بين االجراءات الجوهرية يمكن ان نذكر االستشارات التي يفرض القانون‬
‫وجوبيتها او صبغتها المطابقة كما هو الحال بالنسبة لقرارات نقلة الموظفين العموميين‬
‫مع تغيير محل اإلقامة التي يلزم القانون األساسي للوظيفة العمومية في شأنها ان تقع‬
‫استشارة اللجنة االدارية المتناصفة‪ ،‬وعدم احترام هذا االجراء يؤدي الى بطالنها ‪.‬‬

‫كما ان مبدأ المواجهة في المجال التأديبي يعتبر اجراء جوهريا ويهدف الى تمكين كل‬
‫شخص يكون محل تتبعات تأديبية من االطالع على ملفه ومن الدفاع عن نفسه والرد‬
‫على التهم الموجهة اليه‪.‬‬

‫وقد اعتبر فقه القضاء اإلداري منذ النصف األول من القرن الماضي ان مبدأ المواجهة‬
‫يمثل مبدأ عاما للقانون يكون واجب االحترام حتى بدون نص وامتدادا لهذا المبدأ يمكن‬
‫ان نشير الى اإلنذار المسبق الذي يفرض على السلطة المختصة في بعض القرارات‬
‫قبل اتخاذ قراراها‪ ،‬ومن ذلك مثال قرارات الهدم في حاالت البناء بدون رخصة وكذلك‬
‫قرارات اسقاط الحق في المادة العقارية‪ .‬وأخيرا تجدر اإلشارة الى مسألة تعليل‬
‫القرارات اإلدارية وهو اجراء يعرف تدعيما متواصال خاصة بتونس بمقتضى المرسوم‬
‫عدد ‪ 41‬لسنة ‪ 2011‬ومن ثم القانون الذي عوضه قانون ‪ 26‬مارس ‪ 2016‬والمتعلق‬
‫بالنفاذ للمعلومة‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫ويعني التعليل اعالم السلطة المتخذة للقرار اإلداري عن األسباب القانونية والواقعية‬
‫التي كانت وراء اتخاذ قرارها‪.‬‬

‫وقد اعتبر فقه القضاء التونسي ان تعليل القرارات اإلدارية وجوبي بالنسبة لكل‬
‫القرارات السلبية (سلبية بالنسبة للمستهدفين بها) واال أصبح عيبا فادحا‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬قواعد االختصاص‬

‫الوضع الطبيعي هو ان يصدر القرار اإلداري عن سلطة إدارية مختصة قانونا التخاذه‬
‫واال أصبح يشوبه عيب االختصاص‪ ،‬وقد نزل المشرع مسألة االختصاص منزلة‬
‫متميزة حيث اعتبر ان خرق قواعد االختصاص حالة من حاالت تجاوز السلطة المؤدية‬
‫الى الغاء القرار اإلداري (أوجه الطعن امام المحكمة اإلدارية ‪ 4‬خرق قواعد‬
‫االختصاص‪ ،‬خرق الصيغ الشكلية الجوهرية‪ ،‬خرق القانون‪ ،‬االنحراف بالسلطة‬
‫واإلجراءات) وينقسم االختصاص الى صنفين رئيسيين؛ االختصاص الترابي‬
‫واالختصاص المادي‪.‬‬

‫فاالختصاص المادي يعني تحديد الميدان الذي يمكن للسلطة اإلدارية ان تدخل فيه‪ ،‬فكل‬
‫سلطة من السلط اإلدارية لها مجال مخصص لها يمكنها اتخاذ قرارات في نطاقه وال‬
‫يجوز لها تجاوز هذا المجال‪.‬‬

‫اما االختصاص الترابي فيعني ان لكل سلطة إدارية مجال ترابي تمارس فيها‬
‫اختصاصها وال يمكنها بالتالي اال ان تمارس اختصاصها في حدوده‪ ،‬غير ان مسألة‬
‫االختصاص تثير مسألة تفويض االختصاص‪ ،‬فالتفويض هو استثناء للقواعد العادية‬
‫لتوزيع االختصاص وينقسم الى نوعين؛ تفويض االمضاء وهو تفويض شخصي وال‬

‫‪120‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫يحدث تغييرا جوهريا في االختصاص الن صاحب االختصاص األصلي يحافظ على‬
‫اختصاصه‪ .‬اما تفويض السلطة فيعني نقل اختصاص اتخاذ القرارات اإلدارية من‬
‫السلطة المفوضة الى السلطة المفوض لها وهو تفويض موضوعي على أساس الصفة‪،‬‬
‫وتبعا لذلك فان كل قرار صادر عن سلطة غير مختصة وبدون تفويض صريح يمثل‬
‫خرقا لقواعد االختصاص‪ ،‬وبالتالي يؤدي الى بطالن القرار المتخذ‪ .‬يمكن ان يتخذ‬
‫خرق االختصاص اشكاال متعددة أخطرها اغتصاب السلطة اي عندما يقوم شخص‬
‫باتخاذ قرار اداري رغم انه فاقد ألي صفة تسمح له التخاذه وتؤدي هذه الحالة الى‬
‫اعتبار القرار اإلداري منعدم أي غير موجود‪ ،‬واالنعدام اقوى درجة من مجرد‬
‫البطالن‪.‬‬

‫الفرع الثاني‪ :‬تطبيق القرار اإلداري االنفرادي‬

‫يطرح تطبيق القرار اإلداري مسألتين؛ مسألة النفاذ ثم مسألة التنفيذ‪.‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬النفاذ‬

‫ترتبط نشأة القرار اإلداري مبدئيا بتاريخ صدوره وامضائه من طرف السلطة المختصة‬
‫بحيث يصبح القرار ساريا في اإلدارة ذاتها بمجرد صدوره وحتى قبل اعالم المخاطبين‬
‫به وبالمقابل فان القرار اإلداري ال يصبح نافذا وال ينتج آثاره في مواجهة االفراد‬
‫المعنيين به اال من تاريخ اعالمهم به بإحدى الوسائل المنصوص عليها قانونا‪ .‬وتختلف‬
‫طرق االعالم بالقرار اإلداري وبالتالي نفاذه حسب ما إذا كان القرار ترتيبيا او فرديا‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫أ‪ -‬نفاذ القرارات اإلدارية الترتيبية‬

‫القرارات االدارية الفردية تدخل حيز التنفيذ بنشرها ويعني ذلك ان النصوص الترتيبية‬
‫ال تصبح نافذة وال تعارض بها السلط العمومية وال منظوري اإلدارة اال من تاريخ‬
‫نشرها‪ ،‬ويبين القانون عادة وسيلة او وسائل نشر القرار والمستقر عليه هو ان النشر‬
‫يكون بالرائد الرسمي‪ ،‬ولكن اليوم تنوعت الوسائل؛ كالنشر بالموقع االلكتروني للرائد‬
‫الرسمي او للوزارة او للبلدية او للمؤسسة العمومية او للجهة التي اصدرت القرار‪،‬‬
‫وكذلك التعليق بمقر السلطة التي اتخذت القرار‪ ،‬وقد ينص القانون على ان يكون النشر‬
‫بعدة وسائل‪ ،‬ويجب ان يكون نشر القرار واالعالم به كامال بشكل يكشف عن فحوى‬
‫القرار حتى يكون في وسع المعني به ان يعلم به تماما وهو ما أكدته المحكمة اإلدارية‬
‫منذ قرارها المؤرخ في ‪ 24‬نوفمبر ‪ 1987‬وكذلك أكده القانون األساسي عدد ‪ 22‬لسنة‬
‫‪ 2016‬المؤرخ في ‪ 24‬مارس ‪ 2016‬وقد فرض الفصل األول من القانون عدد ‪64‬‬
‫لسنة ‪ 1993‬المؤرخ في ‪ 5‬جويلية ‪ 1993‬النشر بالرائد الرسمي بالنسبة للمراسيم‬
‫واالوامر والقرارات‪ ،‬ووضّح ان هذه النصوص ال تكون نافذة اال بعد ‪ 5‬أيام من تاريخ‬
‫إيداع الرائد الرسمي بمقر والية تونس‪.‬‬

‫والى جانب الرائد الرسمي يمكن اعتماد وسائل أخرى كالنشريات الرسمية الخاصة‬
‫ببعض الوزارات؛ كالنشرية الرسمية للجمارك والنشرية الرسمية لالداءات التي تصدر‬
‫عن وزارة المالية‪.‬‬

‫اما القرارات الترتيبية الصادرة عن السلطة المحلية فتعلق بمقر الواليات والبلديات‬
‫والجهات وتنشر كذلك عن طريق بالغات رسمية في الصحف او عبر المواقع‬

‫‪122‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫االلكترونية لهذه الجماعات‪ ،‬ويقتضي الدستور الجديد ان تنشر بالجريدة الرسمية‬


‫للجماعات المحلية‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة الى انه في بعض الحاالت يمكن ان يكون النفاذ مؤجال وذلك عندما‬
‫ينص القرار نفسه الى ان دخوله حيز التنفيذ يكون بفترة الحقة يحددها‪ .‬ولئن كان يمكن‬
‫تأجيل نفاذ القرارات اإلدارية الى المستقبل فانه ال يمكن سحب مفعول القرارات‬
‫اإلدارية على الماضي تطبيقا لمبدأ عدم رجعية القرارات اإلدارية الذي يعتبره فقه‬
‫القضاء اإلداري أحد المبادئ العامة للقانون‪.‬‬

‫ب‪ -‬نفاذ القرارات الغير ترتيبية‬

‫يرتبط دخول القرارات الغير ترتيبية حيز النفاذ‪ ،‬والتي تتولد عنها حقوق والتزامات‪،‬‬
‫بإعالم المخاطبين بها‪ ،‬بحيث ال تكون هذه القرارات نافذة وال تنتج اثارها القانونية اال‬
‫من تاريخ االعالم بها بصورة كافية وبأية وسيلة من الوسائل المتاحة وليس هناك قواعد‬
‫شكلية او إجراءات محددة لإلعالم غير انه عادة ما يكون تبليغ القرار الفردي (اسناد‬
‫رخصة‪ ،‬سحب رخصة‪ ،‬عقوبات تأديبية‪ )...‬عن طريق رسالة مضمونة الوصول مع‬
‫االعالم بالبلوغ وبالنسبة للقرارات الجماعية كالمناظرات واوامر االنتزاع عن طريق‬
‫التعليق او حتى أوامر االنتزاع عن طريق الرائد الرسمي او عن طريق االدراج‬
‫بالموقع االلكتروني لإلدارة المعنية‪.‬‬

‫وتخضع القرارات غير الترتيبية كذلك لمبدأ عدم الرجعية بحيث ال يمكن ان يكون لها‬
‫أثر رجعي وهي قاعدة مطلقة تهدف الى حماية استقرار األوضاع القانونية والحقوق‬
‫المكتسبة‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬تنفيذ القرارات اإلدارية‬

‫يبرز تنفيذ القرارات االدارية تجسيدها للسلطة العامة من خالل مجموعة من االلتزامات‬
‫أهمها القوة التنفيذية والتنفيذ الجبري او القهري‪.‬‬

‫أ‪ -‬القوة التنفيذية للقرار اإلداري‪:‬‬

‫ويعني ذلك ان القرار اإلداري يكون قابال للتنفيذ بصورة فورية مباشرة بعد صدوره‬
‫وهو ما يعبر عنه بالقوة التنفيذية (مباشرة قابل للتنفيذ) وتعني هذه القوة التنفيذية ان‬
‫األشخاص المعنيين بالقرار اإلداري يكونون ملزمين باالمتثال له على أساس امتياز‬
‫اسبقية التنفيذ ويعني ذلك انه حتى وان كان المعنيون بالقرار معترضين عليه فالمطلوب‬
‫منهم هو الخضوع له ثم القيام بتظلم وطعن في شرعيته‪ .‬فالقرار اإلداري يتمتع بامتياز‬
‫قرينة مطابقته للقانون او الشرعية‪ ،‬بحيث انه حتى الطعن بشرعيته ال يمكن تنفيذه‬
‫بصورة الية وهو ما أكده الفصل ‪ 39‬من القانون األساسي المتعلق بالمحكمة اإلدارية‪.‬‬
‫وال يعرف هذا المبدأ استثناءا اال في إمكانية طلب توقيف تنفيذ القرار المطعون فيه من‬
‫قبل القاضي اإلداري‪ .‬وهي إمكانية كرستها المحكمة اإلدارية وقيدتها بشرطين؛‬

‫‪ -‬ان يثبت الطاعن أن تنفيذ القرار من شأنه أن يتسبب له في نتائج يصعد تداركها‪.‬‬
‫‪ -‬ان يستند مطلب توقيف التنفيذ الى أسباب جدية في ظاهرها (ليست مجرد تعطيل‬
‫للقرارات) فالقرار اإلداري يتمتع بقوة الزامية تنفيذية بحيث يمكن اعتباره يتمتع‬
‫قرر‪.‬‬
‫بحجية الشيء الم ّ‬

‫‪124‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫ب‪ -‬وسائل تنفيذ القرار اإلداري‪:‬‬

‫تتمثل هذه الوسائل أساسا في امتياز التنفيذ الجبري (القصري) الى جانب عدد من‬
‫الوسائل الردعية الجزائية واإلدارية التي كثيرا ما تسبق اعتماده وسائل التنفيذ الجبري‪.‬‬

‫وتتمثل هذه الوسائل الردعية في وجود عقوبات جزائية يمكن ان تتسلط على الذين‬
‫يرفضون االنصياع للقرار اإلداري وتنفيذ االلتزامات الموضوعة على كاهلهم بمقتضاه‪،‬‬
‫فقد نص الفصل ‪ 315‬فقرة أولى من المجلة الجزائية "يعاقب بالسجن مدة ‪ 15‬يوما‬
‫وبخطية األشخاص الذين ال يمتثلون لما امرت به القوانين والقرارات الصادرة ممن له‬
‫النظر"‪.‬‬

‫الى جانب هذه العقوبات الجزائية يوجد عدد من العقوبات اإلدارية التي تقررها اإلدارة‬
‫وتفرضها على الذين يرفضون تنفيذ بعض القرارات اإلدارية دون اللجوء الى القضاء‬
‫(اإلدارة تطبق العقوبات مباشرة دون اللجوء الى القضاء) ونجد هذا الصنف من‬
‫العقوبات اإلدارية الردعية في عدد من الميادين الجديدة كالبيئة والتعليم والمنافسة‬
‫واالسعار‪.‬‬

‫ومن بين هذه العقوبات اإلدارية نجد إجراءات الغلق المؤقت للمحالت التجارية او‬
‫سحب رخصة ممارسة تجارة او نشاط ما ونظرا لخطورتها على الحقوق والحريات‬
‫الفردية فان هذه العقوبات يجب ان تكون منصوصا عليها في قوانين سابقة الوضع‪ ،‬كما‬
‫يجب ان يراعى في تنفيذها عدد من المبادئ العامة للقانون كمبدأ المواجهة ومبدأ احترام‬
‫حقوق الدفاع‪ .‬وفي حالة عدم كفاية هذه العقوبات لحمل األشخاص على تنفيذ القرارات‬
‫اإلدارية وكذلك في الحاالت االستعجالية التي ال تسمح بانتظار صدور عقوبة جزائية‬
‫قضائية او ردعية يمكن لإلدارة اعتماد التنفيذ المباشر وكذلك التنفيذ الجبري الذي يعني‬

‫‪125‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫استخدام القوة المادية عن طريق قوات االمن مثال الجبار شخص على الخروج من‬
‫عقار او انتزاع وفق القانون وعلى أساس قرار‪.‬‬

‫ونظرا لخطورة هذا االمتياز فان التنفيذ المباشر وكذلك التنفيذ الجبري يخضعان لشروط‬
‫صارمة ونظام قانوني متشدد بحيث ال يمكن لإلدارة اللجوء الى هذا األسلوب اال في‬
‫الحاالت التالية‪:‬‬

‫‪ -‬في حالة وجود نص تشريعي سابق الوضع يخول لها ممارسة التنفيذ المباشر‬
‫صراحة‪.‬‬
‫‪ -‬في صورة وجود مقاومة او تعنت من المعنيين بالقرار الذين امتنعوا عن تنفيذ‬
‫القرار اختياريا‪.‬‬
‫‪ -‬في حالة التأكد او الضرورة القصوى‪.‬‬
‫‪ -‬في حالة افتقار اإلدارة الى نص يمكنها من استعمال العقوبات األخرى الجزائية‬
‫او اإلدارية او في حالة عدم كفاية مثل تلك الجزاءات‪.‬‬

‫وال يمكن استعمال القوة العامة في هذه الحاالت األربعة اال اذا توفرت الشروط التالية‪:‬‬

‫‪ -‬تعنت المعنيين بالقرار ومقاومتهم الواضحة للقرار رغم انذارهم المسبق‪.‬‬


‫‪ -‬عدم تعسف اإلدارة في إجراءات التنفيذ بحيث ال تستعمل القوة اال بالقدر‬
‫الضروري لضمان تنفيذ القرار‪.‬‬

‫وفي حالة عدم احترام هذه الشروط واعتماد اإلدارة للتنفيذ الجبري بصورة غير شرعية‬
‫فيمكن اثارة مسؤوليتها امام القضاء وبالتالي الزامها بالتعويض عن االضرار التي‬
‫الحقتها بالغير جراء تنفيذها الجبري غير الشرعي‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الفرع الثالث‪ :‬نهاية القرار اإلداري‬

‫ينقضي القرار اإلداري ويصبح فاقدا ألي أثر قانوني في عدد من الحاالت وبعدد من‬
‫الطرق‪ ،‬ففي بعض الحاالت ينقضي القرار اإلداري ألنه يحمل في ذاته مدة سريانه او‬
‫تاريخ نهاية مفعوله من ذلك مثال؛ رخصة البناء التي حدد المشرع مدة سريانها بثالث‬
‫سنوات‪ ،‬كذلك رخص اإلقامة لألجانب التي تكون مدتها محددة‪ ،‬كما يمكن ان ينقضي‬
‫القرار اإلداري بمقتضى قرار او حكم قضائي باإللغاء وهذه هي الطريقة القضائية‬
‫إلنهاء القرار اإلداري‪.‬‬

‫وفيما عدى ذلك تنقضي القرارات اإلدارية بطريقتين اداريتين هما؛ ا ّما النسخ او‬
‫السحب‪ ،‬ويؤدي الحرص على استقرار األوضاع القانونية الى جعل السحب الذي يلغي‬
‫مفعول القرار بصفة رجعية أي كأنه لم يوجد‪ ،‬ولذلك يخضع لشروط اكثر صرامة من‬
‫النسخ‪.‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬نسخ القرار االداري‬

‫ويعني النسخ العملية التي يتم بمقتضاها إزالة اثار القرار اإلداري في المستقبل دون‬
‫المساس باآلثار التي أحدثها في الماضي‪ ،‬ويقع النسخ من قبل السلط اإلدارية التي‬
‫اتخذت القرار ويمكن ان يكون صريحا او ضمنيا‪ ،‬كليا او جزئيا‪.‬‬

‫النسخ الصريح يكرسه نص بوضوح ويحدد فيه االحكام المنسوخة بدقة‪ ،‬اما النسخ‬
‫الضمني فينتج عن تناقض احكام جديدة مع احكام قديمة وهو نسخ يصعب تحديده نظرا‬
‫لتشتت النصوص وتشعبها ويختلف نظام النسخ حسب طبيعة القرار أي حسب ان كان‬
‫القرار ترتيبي او غير ترتيبي‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫أ‪ -‬نسخ القرارات الترتيبية‪:‬‬

‫المبدأ في هذا المجال هو ان ال وجود لحق مكتسب في اإلبقاء على التراتيب‪ ،‬وبالتالي ال‬
‫يمكن االعتراض على تغير القواعد العامة (والتراتيب هي قواعد عامة) بحيث يمكن‬
‫للسلط اإلدارية نسخ قراراتها الترتيبية في كل وقت طالما تصرفت في اطار‬
‫صالحياتها‪.‬‬

‫ب‪ -‬نسخ القرارات الغير ترتيبية‪:‬‬

‫المبدأ فيما يتعلق بهذه القرارات هو عدم قابليتها للنسخ حفاضا على استقرار األوضاع‬
‫القانونية‪ ،‬غير ان هذا المبدأ يعرف عددا من االستثناءات؛ أوال بالنسبة للقرارات الغير‬
‫ترتيبية التي ال تكسب حقوقا نهائية‪ ،‬كالرخص الوقتية إلشغال الملك العمومي والقابلة‬
‫للرجوع فيها في كل وقت لكن بشرط احترام مبدأ توازي الصيغ واألشكال‪ ،‬بحيث ال‬
‫يمكن النسخ ّإال من قبل السلطة التي أصدرت القرار وبمقتضى قرار مماثل‪ ،‬فاألمر‬
‫ينسخ بأمر والقرار بقرار والقرار الذي اتخذ بعد استشارة وجوبية مطابقة ال ينسخ اال‬
‫بنفس الطريقة‪.‬‬

‫القرارات الفردية المكسبة للحقوق يمكن نسخها وفقا للشروط المنصوص عليها بالقانون‬
‫والتراتيب‪ ،‬مثال الحقوق التي يكتسبها موظف بمقتضى قرار انتدابه او اثر تسميته يمكن‬
‫نسخها بقرار عزل‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬سحب القرارات اإلدارية‬

‫السحب هو ابطال القرار اإلداري بمفعول رجعي بحيث يقع القضاء على اثار القرار‬
‫اإلداري بالنسبة للماضي كما بالنسبة للمستقبل في آن واحد‪ ،‬فالسحب ينهي القرار‬
‫اإلداري منذ نشأته‪ ،‬ويمثل السحب الى حد ما استثناء لمبدأ عدم رجعية القرارات‬
‫اإلدارية باعتباره قرارا يسري على الماضي‪ ،‬ويخضع النظام القانوني للسحب الى‬
‫التمييز بين القرارات الشرعية والقرارات المخالفة للشرعية‪ ،‬وبين القرارات المكسبة‬
‫للحقوق والقرارات الغير مكسبة للحقوق من جهة أخرى‪.‬‬

‫أ‪ -‬سحب القرارات الشرعية‪:‬‬

‫بالنسبة للقرارات الشرعية ال يمكن سحبها اال في حاالت نادرة نسبيا ومن هذه الحاالت‬
‫ان يتم سحب قرار اداري شرعي بطلب من المستفيد من ذلك القرار نفسه لتعويضه‬
‫بقرار اكثر فائدة للمستفيد من القرار‪ ،‬في هذه الحالة عندما ال يؤدي سحب القرار الى‬
‫أي مساس بمصالح الغير يمكن للسلطة اإلدارية االستجابة والسحب‪ ،‬يمكن كذلك سحب‬
‫القرارات اإلدارية التي لم تكسب حقوقا ألي شخص‪.‬‬

‫ب‪ -‬سحب القرارات المخالفة للشرعية‬

‫سحب القرارات المخالفة للشرعية تختلف شروطه حسب ما إذا كان القرار مكسبا او‬
‫غير مكسب لحقوق‪ ،‬فالقرارات الغير شرعية والتي باإلضافة الى ذلك لم تكسب حقوقا‬
‫يمكن طبيعيا سحبها في كل وقت‪ ،‬ومهما كان السبب‪ ،‬اما بالنسبة للقرارات المكسبة‬

‫‪129‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫للحقوق فان سحبها ال يجوز اال طبقا لشروط مشددة اقرها فقه القضاء سعيا منه للتوفيق‬
‫بين حق السلطة اإلدارية في تدارك اخطائها من جهة وحق االفراد في استقرار‬
‫أوضاعهم القانونية من جهة أخرى‪ ،‬وهذه الشروط اقرها فقه القضاء الفرنسي منذ قرار‬
‫لمجلس الدولة مؤرخ في ‪ 3‬نوفمبر ‪ 1922‬وهو قرار ‪ Dame Cachet‬وكذلك‬
‫المحكمة اإلدارية التونسية منذ قرارها المؤرخ ‪ 14‬ماي ‪ ،1980‬المنصف الشريف‬
‫ضد وزير التربية القومية‪.‬‬

‫وينتج عن فقه القضاء هذا ان سحب القرارات المكسبة بحقوق مقيد بشرطين ‪:‬‬

‫ان يقع السحب في اجال الطعن القضائي وهي شهران من تاريخ اعالم المعنيين‬ ‫‪-‬‬
‫به‪.‬‬

‫ان يكون السحب على أساس مخالفة القرار للشرعية‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫والمالحظ ان هذه القواعد تنطبق كذلك على سحب القرارات الترتيبية التي أدى تطبيقها‬
‫الى نشأة حقوق‪ ،‬وتنطلق اجال سحب القرار المكسب للحقوق من تاريخ دخوله حيز‬
‫التنفيذ أي من تاريخ اشهاره او االعالم به‪ ،‬وهي شهرين‪ ،‬وبانقضاء ذلك االجل ال يمكن‬
‫سحب القرار المكسب للحقوق ولو كان منذ صدوره معيبا‪.‬‬

‫تجدر اإلشارة الى ان فقه القضاء الفرنسي تراجع عن ربط اجال سحب القرار بآجال‬
‫الطعن القضائي التي تبقى مفتوحة‪.‬‬

‫تجدر اإلشارة كذلك الى انه بإمكان السلطة اإلدارية سحب القرارات الصادرة بناء على‬
‫مغالطة او غش في كل وقت وهو ما أكدته المحكمة اإلدارية في قرارها المؤرخ ‪23‬‬
‫ديسمبر ‪" 1987‬وحيث انه من المتعارف فقها وقضاء ان الحقوق الناتجة القرارات‬
‫اإلدارية المستصدرة بناء على مغالطة او تحيل المستفيد منها ال تصير نهائية بمرور‬

‫‪130‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الزمن وان لإلدارة الحق في سحبها وقت ما شاءت دون االخالل بمبدأ وجوب احترام‬
‫الحقوق المكتسبة"‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫الفصل الثاني‪ :‬العقد‬


‫العقد هو الوسيلة الثانية التي تعتمدها اإلدارة للقيام بمهامها وممارسة نشاطها فإلى جانب‬
‫اتخاذها لقرارات انفرادية تبرم الجهات اإلدارية عددا كبيرا من العقود تفوق قيمتها‬
‫المالية ‪ %80‬من مصاريف ميزانية الدولة ويعرف التمشي التعاقدي تطورا وأهمية‬
‫متزايدة كطريقة في التصرف العمومي في مختلف بلدان العالم في اطار العودة القوية‬
‫لألفكار والتوجهات الليبيرالية المنادية بالتخلي عن األساليب االنفرادية واعتماد التعاقد‬
‫كأسلوب في التعامل معتبرين (أنصار التوجه) انه طريقة اكثر ديمقراطية تجعل اإلدارة‬
‫شريكا لمعاقدها وليس سلطة تتصرف بصورة منفردة او متسلطة‪.‬‬

‫ويمكن تعريف العقد بصورة عامة بانه اتفاق بين ارادتين او أكثر إلنشاء رابطة قانونية‬
‫مع تحديد شروطها واثارها ويجب التنبيه الى ان القانون التونسي ال يتضمن تعريفا‬
‫تشريعيا دقيقا وواضحا للعقد‪ .‬فمجلة االلتزامات والعقود اكتفت ببيان شروط انعقاد العقد‬
‫في الفصلين ‪ 23‬و‪ 24‬والعيوب الممكنة للرضا في الفصول من ‪ 43‬الى ‪،61‬‬
‫وتعرضت لموضوع العقد في الفصل ‪ 62‬وما بعده ولكنها لم تعطي تحديدا للعقد نفسه‪.‬‬

‫كما تجدر اإلشارة الى ان العقود التي تبرمها اإلدارة تنقسم الى صنفين ال يخضعان الى‬
‫نفس النظام القانوني‪.‬‬

‫عقود قانون عام تسمى عقود إدارية وعقود قانون خاص تسمى تقليديا عقود إدارة‬
‫وهكذا فان دراسة العقود التي تبرمها اإلدارة تطرح من جهة مسألة تمييزها عن‬
‫القرارات اإلدارية االنفرادية ومن جهة أخرى مسألة التمييز بين العقود اإلدارية وعقود‬
‫القانون الخاص‪ ،‬وأخيرا مختلف أصناف العقود اإلدارية وهي مسائل تؤدي دراستها في‬

‫‪132‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫مرحلة أولى الى النظر في النظام القانوني إلبرامها ثم الى النظام القانوني لتنفيذها‬
‫وأخيرا الى النظام القانوني المتعلق بنهايتها‪.‬‬

‫المبحث األول‪ :‬تعريف العقد اإلداري‬


‫يفترض تعريف العقد اإلداري تمييزه عن القرار اإلداري من جهة وعن عقود القانون‬
‫الخاص من جهة أخرى‪.‬‬

‫الفرع األول‪ :‬العقد اإلداري والقرار اإلداري االنفرادي‬


‫يمكن ان نميز أوال بين العقود بصورة عامة اإلدارية والغير إدارية من جهة والقرارات‬
‫االنفرادية من خالل الخصائص العامة للعقود التي تحددها مجلة االلتزامات والعقود‬
‫وفي فصلها ‪ 242‬جاء فيه ان القد يعتبر شريعة المتعاقدين وال ينقضي اال برضائهما او‬
‫في الصور المقرر في القانون‪ .‬وهو ما يعرف بمبدأ القوة الملزمة للعقد‪ .‬ويختلف العقد‬
‫عن القرار اإلداري بخضوعه لمبدأ النسبية ذلك ان العقد ال يكون ملزما اال للمتعاقدين‪.‬‬

‫كما تختلف العقود اإلدارية عن القرارات االنفرادية من حيث النظام القائم ويطرح هذا‬
‫التمييز بين القرار االنفرادي والعقد عدة صعوبات في عدد من الحاالت من حيث‬
‫معياره و من حيث ارتباطه بالعقد‪ ،‬فمبدئيا يبدو التمييز بسيطا بين القرار االنفرادي‬
‫والعقد وقد يبدو بسيطا وقائما على معيار كمي يتعلق بعدد األطراف المتدخلة في اصدار‬
‫كل من القرار والعقد‪ ،‬لكن سرعان ما يتضح ان المعيار الكمي غير كاف فهناك عدد‬
‫من القرارات االنفرادية التي تصدر معبرة عن إرادة مشتركة لعدة اطراف ومثال ذلك‬

‫‪133‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫القرارات الوزارية المشتركة‪ ،‬ولكن رغم كل ذلك فان القرارات الوزارية المشتركة هي‬
‫قرارات إدارية انفرادية‪ ،‬كما يطرح االشكال فيما يتعلق بعقود اإلذعان وهي عقود تنفرد‬
‫جهة بصياغتها وبوضع شروطها مسبقا‪ .‬كما تجدر اإلشارة الى االعمال القانونية‬
‫المختلطة وهي االعمال القانونية التي يكون جزء منها قرار انفرادي وجزء اخر‬
‫تعاقدي‪ ،‬واهمها عقود اللزمة‪ ،‬كعقود لزمة تسيير المرفق العام‪.‬‬

‫كثيرا ما يكون ابرام عقد اداري مسبوق بعدد من اإلجراءات‪ ،‬كما ان تنفيذه قد يؤدي‬
‫الى اتخاذ إجراءات وقرارات متنوعة تطرح اشكال مدى عالقتها بالعقد ومدى اتصالها‬
‫به وانفصالها عنه كمداوالت مجلس بلدي او جهوي تتعلق بإبرام عقد صفقة عمومية او‬
‫لزمة تسيير مرفق عام‪ ...‬كما يمكن ان تصدر قرارات إدارية خالل تنفيذ العقد تؤدي‬
‫الى تغيير بعض بنوده بصفة منفردة بل قد تتدخل خالل تنفيذ العقد او بعده وهو ما‬
‫يطرح مدى اتصالها او انفصالها عن العقد‪.‬‬

‫فقه القضاء في هذا المجال درج لفترة طويلة على استبعاد كل إمكانية طعن في العقد‬
‫ذاته بتجاوز السلطة وهذا االستبعاد يشمل كل جوانب العقد على أساس ان العقد كل ال‬
‫يتجزأ ولكن هذا الموقف أدى الى حرمان الغير من كل إمكانية لدفع االضرار التي‬
‫يمكن ان يلحقها به العقد بحيث يجد نفسه في وضعية انكار للعدالة‪.‬‬

‫امام هذه الوضعية ابتدع القضاء الفرنسي نظرية القرارات المنفصلة عن العقد والتي‬
‫تعتبر قرارات إدارية انفرادية قابلة للطعن فيها عن طريق دعوى تجاوز السلطة وذلك‬
‫منذ ما يزيد عن قرن‪ ،‬وأول قرار كرس هذه النظرية هو قرار لمجلس الدولة الفرنسي‪،‬‬
‫مؤرخ في ‪ 11‬ديسمبر ‪ .1903‬وخاصة القرار المرجعي وهو القرار المؤرخ في ‪4‬‬
‫اوت ‪" ،1905‬مارتا"‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫في تونس ترددت مواقف المحكمة اإلدارية وتميز فقه قضائها لفترة طويلة بالتذبذب في‬
‫هذا المجال‪ ،‬ففي مرحلة أولى دأبت على قبول الطعن في القرارات اإلدارية المنفصلة‬
‫عن طريق تجاوز السلطة‪ ،‬ثم سجلت المحكمة اإلدارية تراجعا صريحا عن هذا الموقف‬
‫انطالقا من قرارها المؤرخ في ‪ 29‬ديسمبر ‪ ،1989‬المكلف العام لنزاعات الدولة ضد‬
‫الشركة التعاضدية‪ ،‬حيث اكدت في هذا القرار انه في مجال العقود االدارية فان‬
‫اختصاص قضاء التعويض يمتد الى مجمل عملية التعاقد المركبة ابتداء من اول اجراء‬
‫الى اخر نتيجة في تصفية كامل العالقات والحقوق وااللتزامات التي نشأة عنه‪ ،‬وهكذا‬
‫تبنت المحكمة موقفا مفاده ان كل االعمال التي لها عالقة بالعقد متصلة به وبالتالي‬
‫قرارات غير منفصلة وال يمكن بالتالي الطعن فيها باإللغاء‪ .‬غير انها تراجعت عن هذا‬
‫الموقف وعادة الى فقه قضاءها األصلي ولم تستمع الى الطعن باإللغاء في القرارات‬
‫التي اعتبرتها منفصلة انطالقا من أواسط التسعينات‪.‬‬

‫واجماال يمكن حوصلة فقه القضاء اإلداري التونسي اليوم في مسألة التمييز بين العقد‬
‫والقرار اإلداري االنفرادي‪ ،‬بانه يعتبر القرارات السابقة لتكون العقد‪ ،‬كقرارات الموافقة‬
‫والترخيص والقرارات المتعلقة بإمضاء العقد او رفض امضائه قرارات منفصلة تعتبر‬
‫قرارات إدارية انفرادية وهو نفس الموقف المتعلق بالقرارات الالحقة‪ ،‬كالقرارات‬
‫المتعلقة بتنفيذ العقد او بتعديله او بنسخه والتي ال تستند الى بنود العقد‪.‬‬

‫الفرع الثاني‪ :‬العقد اإلداري والعقود الغير اإلدارية‬

‫يمكن لإلدارة عند ابرامها للعقود ان تتصرف تماما كالخواص فتكون عقودها آنذاك‬
‫عقودا غير إدارية خاضعة للقانون الخاص كعقود البيع واإليجار وعقود تأمين العربات‬
‫اإلدارية وكذلك عقود التصرف في الملك الخاص‪ ،‬كما يمكن لإلدارة وهو حالها في‬

‫‪135‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫غالب األحيان‪ ،‬ان تتصرف باعتبارها سلطة عامة متمتعة بجملة من االمتيازات مما‬
‫يجعل عقودها آنذاك عقودا إدارية تخضع لقواعد خاصة متميزة وبالتالي لنظام القانون‬
‫العام‪.‬‬

‫وتكمن اذا أهمية التمييز بين العقد اإلداري والعقود الغير إدارية في انعكاساته على‬
‫نوعية القواعد القانونية المنطبقة‪ ،‬فالعقد اإلداري يخضع لقواعد متميزة تنتمي للقانون‬
‫اإلداري بينما العقود الخاصة هي عقود تخضع لقواعد القانون الخاص وبالخصوص‬
‫القواعد الواردة بمجلة االلتزامات والعقود‪ ،‬كما تكمن األهمية من جهة أخرى في تحديد‬
‫الجهة القضائية المختصة للنظر في النزاعات التي يمكن ان تتعلق بإبرام وتنفيذ العقود‬
‫حيث انه في أنظمة االزدواجية القضائية تكون منازعات العقود اإلدارية من اختصاص‬
‫القضاء اإلداري في حين تكون المنازعات المنجرة عن عقود القانون الخاص من‬
‫اختصاص القضاء العدلي وهناك عديد القرارات في هذا االتجاه‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة انه ال توجد نصوص تحدد بوضوح طبيعة العقود‪ ،‬وانما يعتمد القانون‬
‫التونسي معايير قضائية متأثرا في ذلك بالمعايير التي وضعها فقه القضاء الفرنسي‪،‬‬
‫وهذه المعايير هي معياران؛ معيار عضوي ومعيار مادي‪.‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬المعيار العضوي للعقد اإلداري‬

‫ويعني هذا المعيار ان يكون احد اطراف العقد على األقل شخصا عموميا‪ ،‬ويعتبر هذا‬
‫المعيار شرطا ضروريا ال محيد عنه في القانون التونسي وفي غيابه تنتفي الصبغة‬
‫اإلدارية للعقد فالعقد المبرم بين الذوات الخاصة في القانون التونسي ال يمكن ان يكون‬
‫إداريا‪ ،‬وال يعتبر عقدا إداريا كذلك العقد المبرم بين ذاتين من القانون الخاص حتى ان‬

‫‪136‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫صرحت احداهما انها ممثال لذات عمومية او وكيال لها‪ ،‬ويختلف موقف فقه القضاء‬
‫التونسي في هذا المجال عن فقه القضاء الفرنسي الذي ادخل مرونة على هذا المعيار‬
‫العضوي‪ ،‬اما العقود بين اشخاص عمومية ولئن لم يتعرض لها فقه القضاء التونسي‬
‫فإنه يمكن استئناسا بفقه القضاء الفرنسي عقودا إدارية‪ ،‬على أساس قرينة انها اعمال‬
‫قانونية توجد في مناخ قانون عام وتمثل نقطة التقاء تصرفين عمومين‪ ،‬لكن هذه القرينة‬
‫تظل نسبية وقابلة للدحض‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬المعيار المادي‬

‫ويتضمن المعيار المادي عنصرين تناوبيين‪ ،‬يتعلق األول بمحتوى العقد‪ ،‬أي تضمنه‬
‫لشروط غير مألوفة في العقود بين الخواص‪ ،‬والثاني يتعلق بموضوع العقد أي اتصاله‬
‫بتنفيذ نشاط مرفق عام‪ .‬وهكذا يتبين انه لئن يشترط في العقد اإلداري توفر المعيار‬
‫العضوي أي ان يكون أحد اطرافه على األقل شخصا عموميا فإن هذا الشرط‬
‫الضروري غير كاف لوحده إلضفاء الصبغة اإلدارية على العقد بل البد ان يتوفر الى‬
‫جانبه احد العنصرين من المعيار المادي أي اما ان يتصل موضوع العقد بتنفيذ مرفق‬
‫عام او ان يتضمن ضمن بنوده شرطا استثنائيا غير مألوف في العقود بين الخواص‪.‬‬

‫أ‪ -‬تضمن العقد الحد الشروط الغير مألوفة في عقود القانون الخاص‪:‬‬

‫يتعلق هذا العنصر بمحتوى العقد وقد برز في فقه القضاء الفرنسي‪ ،‬وكرسته المحكمة‬
‫اإلدارية التونسية في عديد قراراتها منذ السنوات األولى لنشاطها (‪ )1974‬واعتبرت‬
‫ان الشروط غير المألوفة هي تلك التي تدل على تلبس اإلدارة على امتيازات السلطة‬

‫‪137‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫العامة‪ ،‬وهكذا تعتبر شروط غير مألوفة تلك الشروط التي تبرز الصبغة السلطوية‬
‫لإلدارة بان تفرض على معاقدها شروطا ليس بإمكان المتعاقد الخاص ان يفرضها على‬
‫معاقده وال يمكن ان يقبلها هذا األخير‪ ،‬فهي اذا شروط تبرز الوضع غير المتكافئ‬
‫للطرفين كالبند الذي ينص على تمتع اإلدارة على الفسخ من جانب واحد دون خطأ من‬
‫الجانب االخر‪ ،‬والتعاقد على أساس مقتضيات المصلحة العامة‪ ،‬او سلطة الرقابة‬
‫والتوجيه والتعديل االنفرادي للعقد التي تتمتع بها اإلدارة المتعاقدة‪.‬‬

‫ب‪ -‬اتصال العقد بتنفيذ مرفق عام‪:‬‬

‫يتعلق هذا العنصر بموضوع العقد بحيث انه لكي يكون العقد إداريا فيجب الى جانب‬
‫توفر العنصر العضوي ان يكون موضوعه تنفيذ مرفق عام وقد وقع إقرار هذا المعيار‬
‫منذ مطلع القرن الماضي خالل ما عرف بالعشرية الذهبية للمرفق العام‪ ،‬في ثالثة‬
‫قرارات شهيرة منها القرار الذي أصدره مجلس الدولة الفرنسي المؤرخ في ‪ 6‬فيفري‬
‫‪ ،TERRIER ،1903‬وخاصة القرار المؤرخ في ‪ 4‬مارس ‪،1910‬‬
‫‪.THERONT‬‬

‫وقد اخذ فقه القضاء اإلداري التونسي بهذا المعيار في عديد قراراته أهمها قرار مؤرخ‬
‫في ‪ 30‬جانفي ‪ ،1989‬المكلف العام بنزاعات الدولة في حق وزارة التجهيز ضد‬
‫العربي الولهازي‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫األستاذ مصطفى بن لطيّف‬ ‫محاضرات في القانون اإلداري‬

‫البحث الثاني‪ :‬األصناف الكبرى للعقود اإلدارية‬


‫من أقدم أصناف العقود هي الصفقات العمومية وهي عقود ينظمها اليوم االمر عدد‬
‫‪ 1039‬لسنة ‪ 2014‬المؤرخ في ‪ 13‬مارس ‪.2014‬‬

‫وعقود اللزمة التي ينظمها القانون المؤرخ في غرة افريل ‪. 2008‬‬

‫وصنف حديث نسبيا وهي عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص‪ ،‬ونجده اكثر في‬
‫البلدان االنجلو‪-‬سكسونية‪ ،‬وينظمها قانون ‪ 27‬نوفمبر ‪.2015‬‬

‫هذه األصناف الثالث يفترض ان نعرفها وان نميز بينها‪.‬‬

‫يمكن تعريف الصفقة العمومية‪ ،‬وهو عقد بمقابل‪ ،‬تبرمه اإلدارة مع الغير‪ ،‬قد يكون‬
‫خاص او عمومي‪ ،‬بهدف التزود بمواد او خدمات او انجاز اشغال او انجاز دراسات‪.‬‬

‫عقود اللزمة وهي عقود تكلف بمقتضاها اإلدارة اما بتسيير مرفق عام او استغالل ملك‬
‫عمومي‪.‬‬

‫اما عقد الشراكة فموضوعه عادة بناء او توفير تجهيزات البناء واستغالل وتصور‬
‫وإنجاز‪ .‬ويقوم على تقاسم المخاطر‪.‬‬

‫عملية ابرام العقود بأصنافها الثالثة تخضع لمبادئ عامة كبرى هي‪:‬‬

‫التنافسية‪ ،‬تكافئ الفرص‪ ،‬الشفافية‪ ،‬المساواة‪.‬‬

‫‪139‬‬

You might also like