Professional Documents
Culture Documents
كيف أكتب إنشاء بيداغوجيا PDF
كيف أكتب إنشاء بيداغوجيا PDF
بيداغوجيا
ملدارس املعلمني واملعلامت
تأليف:
نرش وتوزيع:
دار الثقافة
38 – 36هنج القرص السلطاين – ص.ب 4038
اهلاتف – 653.46 :الدار البيضاء
تقديم
احلمد هلل رب العاملني
ربام يكون يف عنوان هذا الكتيب ما يشكك الناس يف قيمته ،إذ كيف يزعم
أحد أنه سيعلم الناس كيف يكتبون إنشاء ،سيام إذا كان هذا اإلنشاء يف موضوع
تربوي أو تعليمي ال ينهض لكتابته إال من توفرت لديه رشوط يف املعرفة،
ورشوط يف التجربة املهنية ،ورشوط يف القدرة عىل التنظيم واالستنتاج؟
والواقع أننا ال نوهم أنفسنا ونظن أن هلذا الكتاب فضيلة سامية ،ال يوشك
أن يتصفحه املبتدئ حتى يصبح قادرا عىل الكتابة ومتفننا فيها ،لكننا ملسنا
النقص الواضح فيام يكتبه طلبة مدارس املعلمني يف االمتحان النهائي ،وفيام
يكتبه املعلمون املوقتون يف امتحان الكفاءة؛ نقصا يف األداة اللغوية ،ونقصا يف
األفكار ،ونقصا يف التنظيم الكتايب .فحاولنا أن نضمن هذا الكتيب نصائح
أعطيناها لطالبنا ،فوجدنا هلا أثرا يف تكوينهم ،حتى تكون اإلفادة أعم.
أما النقص يف األداة اللغوية ،كاجلهل باللغة وبقواعدها ،واستعامل الكلامت
لغري املعاين التي وضعت هلا ،واللحن ،أو جمرد العجز عن تركيب مجل عربية،
فهو داء فاش ،ولن جيد املبتىل به يف هذا الكتيب عالجا .وكل ما يف وسعنا هو
أن ننصح صاحبنا هذا بدراسة اللغة يف كتبها ،وقراءة الكتاب املجيدين ،حتى
يستقيم لسانه ،ويكسب هذه القدرة عىل استعامل اللغة السليمة الرضورية ملن
يطمح أن يكون معلام.
وأما النقص يف األفكار فمرده إىل أن طالب مدرسة املعلمني ،أو
املعلم املؤقت يلتمسان عند األستاذ أو يف كتب الرتبية صيغا حيفظوهنا،
ظانني أن هذه الصيغ قمينة أن تسد الفقر الذي يعرفونه يف أنفسهم .وهبذا
خيطئون الطريق من األول ،فإذا مرت فرتة التهيء لالمتحان ،وجدا أهنام
مل يتقدما كثريا وال قليال يف التزود بأفكار –فإن مل يدركا ذلك فسيجده
املصحح ال حمالة -وإنام اختارا كمية من "القطع" املتناثرة من أفكار رشقية
3
وغربية ،مل تتناوهلا جذوة الفكر فتصوغ منها جسام جديدا متكامال حيمل الطابع
الشخيص للذي فكر وكتب.
وأنصح أن يتخذ الطالب مبدأ من لدن يبتدئ دراسته ،ذلك بأن يبحث يف كل
درس سمعه أو قرأه عن الفكرة العامة للدرس ،حتى إذا وجدها أخذ هذه الفكرة
وعرضها عىل األمثلة التي أعطيته ،حتى ينظر كيف تلبس الفكرة العامة لكل مثال
ثم ليخرتع أمثلة جديدة أو يستحرضها من بني جتاربه ،ويعيد التجربة مرة أخرى.
وهكذا يتناول كل فكرة ويقلبها إىل أن يشعر أهنا أصبحت ملكا له .وإذا كان يقرأ
فلينظر إىل ما وراء الكلامت ،وذلك بأن يستعني بخياله ،ويتصور املعنى الذي ترمز
له الكلامت .فأعتقد أن ال أكثر عمقا من الفكرة التي عقدها الكاتب بكلمة .لكن
القارئ مل حياول أن يفكها ،ومل يسم هبا خياله إىل حيث تصبح شعاعا نافذا ،وإنام
اكتفى بمراقبتها من وراء احلجاب املادي الذي تكونه الكلمة.
أما بعد ،فإننا وضعنا هذا الكتاب للطالب الذي حصل أفكارا ،وملك أداة
صاحلة ،فجاء يكتب يف الرتبية جميبا عن أسئلة االمتحان أو متهيئا له ،ووجد أن
املهمة صعبة ،وأن الكتابة عسرية .ووضعناه للطالب الذي جيد صعوبة يف فهم
السؤال الذي وضع عليه وحتديده.
سيجد هؤالء هنا طريقة للعمل ختط الرسوم التي يتبعها املرء كلام حاول
أن يكتب يف موضوع معني يقرتح عليه ،وسيجدون أمثلة ونامذج ملوضوعات
اقرتحت يف االمتحان النهائي ملدارس املعلمني ويف امتحان الكفاءة وعوجلت
طبقا لطريقة العمل التي نعرضها.
وسيجدون خالل ذلك أفكارا ومعلومات تزيد يف جهازهم الفكري.
وأملنا أن يعني هذا الكتاب الطالب املجد الذي ال يبحث عن خلقطرية
سحرية تبلغه الغاية إذا بدا عجزه ،وإنام يؤمن بالعمل املنظم ،وال يفزعه أن
يبذل جمهودا متواصال.
وأملنا أن نحبب العمل هلذا الطالب كلام رشع يف كتابة إنشاء تربوي بام
بذلناه من جهد لتسهيل الكتابة وتوضيح قواعدها.
عبد السالم ياسني
مراكش يف 5أكتوبر 1962
4
اجلزء األول
من الكتاب
كيف أكتب
اعتبار أسايس ينبغي أن يوجه عملنا كلام أخذنا القلم لنكتب .هذا
االعتبار هو أننا نكتب ليقرأنا الناس ويفهموا عنا .فام بد من أن نضع
القارئ نصب أعيننا يف كل حلظة ،ونتوخى رضاه عام نكتب ،سيام إذا كان
هذا القارئ مصححا يف االمتحان .وتسهيال يف البحث ،سنحرص طريقة
العمل يف ثالث مراحل:
.1العرض املادي
عندما تقرأ نصا مطبوعا ال جتد صعوبة يف التهجي ،كام ال يعرتضك
تفاوت يف أحجام احلروف أو أشكاهلا يقتيض منك جمهودا خاصا .أما
النص املخطوط فال جتد فيه رتابة احلروف املطبوعة واتساقها ألن
اخلطوط ختتلف باختالف األشخاص .ثم إن تناول الورقة أثناء الكتابة
جيعلها عرضة للوسخ .واإلنشاء نفسه يقتيض أن يشطب عىل بعض
الكلامت من حني آلخر .ما جيعل ورقة اإلنشاء جتاه أخطار متعددة قد
يسببها قلة التجربة أو جمرد اإلمهال ،وغني عن البيان أن هذه اهلنات
التي تصيب ورقة اإلمتحان ونعتربها تافهة ال أمهية هلا ،تلعب دورا بارزا
يف نظر املصحح إذا جاء يقدر قيمة اإلنشاء ،ويضع له نقطة .وربام تأثر
املصحح بالعرض املادي للورقة دون أن يتعمد ذلك ،فللنظرة األوىل
التي يلقيها عليها وقع ،كام أن لكل عيب مادي آخر وقع .فإذا كان منظر
الورقة العامة يوحي باالتساخ أو عدم االنسجام وجاءت اهلنات األخرى
يتلو بعضها بعضا فقد أوشك املصحح أن يمل النظر ،فإن دفعه الواجب
ومل يفعل ،أكمل قراءته عىل مضض ،ويف نفسه أن اإلنشاء قبيح بقطع
النظر عن القيمة احلقيقية لإلنشاء.
ويبلغ تأثري العرض املادي يف تقويم اإلنشاء وتنقيطه ،أن اإلنشاء
7
احلسن ،إن أسيئ عرضه ينال درجة سيئة ،وأن اإلنشاء اليسء يعتنى
بمظهره فيزيد ذلك من قيمته .وال تقل أن هذا ظلم وإجحاف ،فإن
املصحح ليس آلة الكرتونية حتسب الدرجات حسابا مطلقا ،وإنام هو
إنسان يتأثر ويشعر.
أ -الورقة:
يعطونك يف قاعة االمتحان ورقة خاصة غري مسطرة .وطبيعي ،إذا مل
تألفها من قبل ،أن متيض بعض الوقت باحثا عن أحسن الطرق لتكتب
فيها.
أكتب أوال اسمك ورقمك يف االمتحان واضحني يف املكان املخصص
لذلك ،ثم اطو هذا الركن بعناية وألصقه حتى تعرف املساحة احلرة التي
بقيت عىل وجه الورقة أو ظهرها.
ثم ابحث عن وسيلة لتكتب سطورا مستقيمة .والسطر املستقيم،
كام تدرك ذلك ،عامل مهم يف املظهر العام للورقة .فإما تسطر بقلم
الرصاص سطورا خفيفة ال تكاد تظهر ،وإما تعمد إىل ورقة أعددهتا من
قبل ،مسطورة باحلرب األسود ،وتضعها حتت ورقة االمتحان الشفافة
فتظهر لك من خالهلا السطور ،ونفضل هذه الطريقة الثانية ،ألن ورقة
االمتحان إذا مسها قلم الرصاص فالبد أن يرتك فيها أثرا ييسء إليها
مهام كان خفيفا .واحرص عىل أن يكون بعد السطور متوسطا ،وأن
ترتك بياضا يف أول السطر كلام بدأت فقرة جديدة ،فإن هلذا البياض
الذي ترتكه أمهية كبرية ،ألنه ينبه القارئ إىل أنك أهنيت جزءا من
مقالك وبدأت جزءا ثانيا .وحاول أال تنسى كلمة فتضطر إىل حرشها
بني سطرين ،فإذا نسيت فخري أن تشطب كلمة أو كلمتني من أن تفسد
سطورك هبذه الزيادات.
وتأكد من أن أصابعك مل يلوثها املداد أثناء الكتابة ،حتى ال تلوث
ورقتك ،ومل ال تشرتي قلام خزانا خاصة لالمتحان حتى تأمن أن حيدث
عطب أثناء تأديته للخدمة؟
8
ب -اخلط:
ليس كل الناس يستطيعون أن يكتبوا بخط مجيل .فإذا كنت من
الطائفة املحظوظة ،فال تظن أنك يف غنى عن بعض النصائح تسمعها قبل
أن تكتب ليقرأ الناس خطك.
فكر دائام أنك تكتب لآلخرين ،تكتب ليقرأوك ،ال ليتأملوا خطك
ويعجبوا به إذا كان مجيال .والصفة األوىل العملية ألي خط هي أن يكون
واضحا .فإذا توفرت هذه الصفة ،فام عليك أن تضيف إليها الصفات
اجلاملية التي خلطك ،أما أن تنمق اخلط عىل حساب الوضوح فهذا ما ال
أنصحك به.
وإذا كنت من أصحاب اخلطوط املتوسطة أو الرديئة ،فاعمل كل ما
يف وسعك لتجعل خطك مقروءا .ال تطل أعناق احلروف حتى يشتبك
بعضها ببعض وتتداخل السطور ،وراع النسب بني أحجام احلروف حتى
ال تشتبه .اجعل دائرة امليم أصغر من دائر الصاد مثال ،والمك ال جتعلها
ألفا أو نونا .وضع النقط مواضعها سيام إذا تتابعت احلروف املنقوطة.
وأنبه إىل االعجام بصفة خاصة ،وإن كان االعجام من شأن قواعد اللغة
العامة ،فمن الناس من يكتب دون أن يفكر حلظة أن اعجاما ينقصه
أو يزيده يكفي ليبدل معنى كالمه أو ليحدث عىل األقل وقعا بالغا يف
السوء عىل قارئه .وتفاديا ملا جييء به النسيان من خلل ،يمكن أن خيصص
الكاتب وقتا يراجع فيه ما كتب.
ورعيا للقاعدة العامة التي وضعناها :الوضوح ،حيسن أن يعد الكاتب
ريشة ومدادا مناسبني ليضمن خلطه هذه الصفة ،وإن من اخلطوط ما يقبح
بمجرد أن الريشة التي استعملت غري الئقة ،أو ألن املداد يرشح.
ج -التنقيط:
وعامل ثالث ليس أقل أمهية من األولني ،إن مل يكن أثره أوسع من
أثرمها .ذلك ألن مظهر الورقة العام أو صفة اخلط قد ال متنع القارئ من
فهم النص الذي بني يديه ،أما التنقيط إن أغفل ،فقد يعوق عن الفهم.
أال ترى أن الكالم إذا كان مجلة واحدة يكون أشبه بكومة من املادة اخلام
وضعت أجزاؤها جنبا إىل جنب دون تنسيق ،وأن التنقيط يدخل عليها
9
التجزئة الالزمة ،فتبدو أجزاء اجلملة واضحة متبينا بعضها عن بعض؟
وأظنني لست بحاجة إىل التذكري كيف توضع النقطة يف هناية اجلملة،
وكيف تفصل الفاصلة بني أجزاء اجلملة التعجبية أو االستفهامية ،وكيف
توضع النقطتان أمام اجلملة التي يتلوها قول أو تفسري ،لكنني أعطي
مثاال الستعامل النقطة القاطعة ( )1فكثريا ما هيمل استعامهلا مع أهنا
تضفي عىل الكالم بيانا ونصاعة .وتوضع القاطعة أمام مجلة يتممها ما
جييء بعد القاطعة من تفسري أو تفصيل أو رشح .وتأمل ذلك يف األمثلة
الثالثة التالية.
-اهتم بإنشائي عندما أكتبه اهتامما كامال؛ فأهيئ ورقة نظيفة وأحسن
خطي وأضع النقط مواضعها.
-اخلطوط أنواع؛ منها احلسن ومنها املتوسط ،ومنها الرديء.
-خذ حذرك من األخطاء الكتابية التي يقع فيها املمتحنون؛ ال هتمل
التنقيط وال تنس اإلعجام ،وتثبت من أنك مل تنس كلمة فال تضطر
لزيادهتا بني السطور.
ووضع النقط حيتاج إىل دربة يف االستعامل؛ ولذلك ننصح بأن يفكر
فيه الطالب دائام ،ويعتربه جزءا ال يتجزأ مما يكتبه .وسيجد الطالب
للتنقيط فضيلة أخرى؛ وهي أن البحث عن مواضع النقط والفواصل
والقواطع سيدعوه إىل تأمل مجله وإعادة سبكها حتى تصبح مفصلة كام
يتطلب األمر ،وبعبارة أخرى تكون النقط والفواصل بمثابة إطار يكيف
كالم الكاتب ،وحمك يظهر ما يف هذا الكالم من عيب .والنتيجة أن ينتظم
الكالم ويزداد وضوحا وبيانا؛ بل سيزداد الكاتب ،إن احرتم اإلطار،
قدرة عىل تنظيم أفكاره وتنسيقها وحتديدها .تأمل ما حيدث للذي يبدأ
مجلة ال يدري أين تنتهي وال كيف تنتهي ،فإذا تعود وضع كالمه يف حميط
حمدود من النقط والفواصل ،اضطر قبل الرشوع يف مجلته ،أن هييئها جمزأة
متتابعة بحيث تنتهي إىل غاية رسمها مقدما .وترى يف هذا كيف تكون
النقط موجهة للتفكري.
10
.2التهييء
ال أقصد التهييء البعيد املدى بام فيه دراسة الربامج والتدرب عىل
الكتابة ،فاملفروض أن املرشح المتحان الكفاءة قد أعد عدته من قبل،
واستفاد من الدراسة التي وضع هلا برناجما كامال متسلسال ،واستفاد من
املراسالت التي ختصص ملثله عادة .واملفروض يف طالب مدرسة املعلمني،
أنه حصل دروسه ومتثل ما ألقاه عليه أساتذته من علم ومن نصائح.
إنام أقصد هتييء املوضوع الذي يقرتح يف االمتحان ،هتييئه يف قاعة
االمتحان طبعا.
أ -فهم املوضوع
ها قد أعطيتك الورقة التي كتب فيها نص املوضوع ،فأخذهتا مرجتفا
أو هادئا حسب طبعك ،فامذا أنت فاعل؟
من الناس كثري يف مثل هذه احلالة يلقون نظرة فيقرأون ما يف الورقة
ثم يأخذون يف الكتابة حاال ،مبتدئني من حيث اتفق ،خمافة أن يضيعوا
جزءا من الوقت ثمينا .واحلقيقة أن الوقت الذي يمضيه املمتحن يف تأمل
النص املقرتح وقت اقتصدناه واستعملناه استعامال رزينا ،ألن العجالن
قد خيطئ رأس الطريق فيتيه تيها .قد يلقي كلمة يفهمها عىل غري وجهها
فإذا به يتخبط طوال املقالة ويكتب خارج املوضوع .وقد يكتفي العجالن
بفهم سطحي لنصه ،ويكتب يف مقاله أفكارا عامة ال متس املوضوع من
قريب.
ال يكفي أن تبحث يف ورقة االمتحان عن كلمة تدلك عىل املوضوع
املقصود ،حتى إذا اصطدهتا أفرغت كل ما يف جعبتك مما يتعلق باملوضوع
أو يمت إليه بصلة ،وإنام جيب أن تتأمل الكالم الذي أمامك حتى تفهمه
بصفة عامة ،ثم تأمله مرة أخرى وحاول أن ترتب أجزاءه حسب األمهية،
معطيا كل كلمة مكاهنا الذي يلزم أن تكون فيه.
خصص نصف ساعة إن لزم ،ال تفعل فيها شيئا إال النظر يف املوضوع
11
وتأمل األلفاظ التي بني يديك ،وتيقن أن وقتك غري ضائع إذا رصفته
يف وزن كل لفظة ،وحتديد الفكرة التي ختتبئ من ورائها .واحذر أن تغرك
أول بادرة تتقدم إليك مقدرا أن األمر ربام يكون أعمق مما تظن.
ب -التصميم
وإذا خطوت اخلطوة األوىل بعد أن توثقت من أنك خطوهتا يف الطريق
احلق إلخراجها ،فابدأ بوضع تصميم هنائي ملوضوعك .رصفت وقتا ال
بأس به يف تفهم املوضوع فالشك أن األفكار املوجهة له صارت مألوفة
لديك :وبالتايل لن يتطلب منك وضع التصميم إال ترتيب هذه األفكار
وخط نظامها عىل الورق.
ابحث أوال عن الفكرة الرئيسة يف املوضوع ،أو بعبارة أخرى عن
اإلطار الذي يدخل فيه املوضوع ،ثم افرتع من هذه الفكرة فروعا متأل
أماكنها وفق ما يطلب إليك.
أقول وفق ما يطلب إليك ،وأعني أن حتدد موضوعك بحيث ال
تفوت املحيط الذي رسم لك ،وأعني أن تتقىص كل أجزائه فال يفوتك
منها يشء.
وستجد أن األمر أسهل مما تظن ،إذا تعلمت أن تعرض أمامك السؤال
أو األسئلة املوضوعة فتخرج منها نفسها تصميمك.
-هنالك السؤال البسيط الذي يطابقه تصميم ذو نقطة واحدة؛ مثل
«إىل أي حد يمكن التعاون بني األرسة املغربية واملدرسة؟»
نقطة واحدة هي إمكان التعاون بني األرسة املغربية الراهنة واملدرسة.
وقسم هذه النقطة إىل فقرتني أو ثالث إن شئت:
1-هل تفهم األرسة املغربية قيمة املدرسة؟
2-هل تريد املدرسة وحتاول أن تتعاون مع األرسة؟
3-هل يمكن التعاون بينهام واحلالة كام بينت يف الفقرتني السابقتني؟
-وهنالك السؤال ذو النقطتني؛ مثل:
«إن مهمة املعلم احلديث مل تعد تقترص عىل تلقني املعلومات فحسب
12
وإنام أصبحت له أهداف أهم من ذلك وأسمى؛ ما هي هذه األهداف؟
وما هي الوسائل الكفيلة بتحقيقها؟»
نقطتان بارزتان تستخرجهام من السؤال نفسه ،ثم تقسم كل واحدة
إىل فقرة أو فقرتني أو أكثر دون أن ختل أو تزيد.
.1أهداف املعلم احلديث :الفقرة األوىل :األهداف الرتبوية .الفقرة
الثانية :األهداف التعليمية.
.2الوسائل الكفيلة بتحقيقها :فقرة أوىل :قيمة املعلم نفسه .فقرة
ثانية :الظروف التي يعمل فيها املعلم والتسهيالت املادية واملعنوية التي
تتوفر لديه.
-وهنالك السؤال ذو الثالثة نقط؛ مثال:
«للطفل طبيعة حية ،يستهوهيا كل جديد ،وتنجذب لكل ما يتجاوب
معها ،وتنفر من كل أجنبي عن عاملها" ،ارشحوا القول ،مبينني خصائص
الطفولة ،مربزين أمهية دراستها بالنسبة للمعلم.
النقط الثالث واضحة نأخذها من أفعال األمر املوجهة إلينا:
1-رشح القول.
2-تبني خصائص الطفولة.
3-أمهية دراسة املعلم للطفولة.
13
عسى أن جتد واحدة منها ختفي معنى هو يف احلقيقة أهم ما فيه ،فإذا مل جتد
هذه اللفظة ،فالتمس الفكرة يف جمموع الكالم بعد أن تعرض بعضه عىل
بعض.
يف املثال األول يتعلق األمر بالتعاون بني البيت واملدرسة ،وقد قرأت
كثريا يف هذا الباب ،ولديك كثري مما تقول ،لكن أحذرك مرة أخرى أن
تفعل قبل أن يتكشف لك املوضوع عن اللون الذي ينبغي أن يصبغ به
املمتحن خيصص «األرسة املغربية» فقف عند كلمة مغربية قليال حتى
تتشبع هبا ،ثم اعرض معلوماتك يف باب التعاون بني البيت واملدرسة
لكن يف إطار األرسة املغربية.
ويف املثال الثاين حديث عن املعلم احلديث وأهدافه السامية ،وقد
قرأت يف هذا كثريا أيضا ،وربام حيبب إليك أن تستقرئ ما تعرفه عن
املعلم القديم واحلديث وتذهب يف ذلك بعيدا .السؤال األول يطلب
إليك أهداف املعلم احلديث ،فحدد نفسك هبذا السؤال وعدد األهداف،
حتى إذا تعرضت للمعلم القديم فتعرض له مارا دون أن ترتكه يثقل
إنشاءك .والنقطة الثانية تبحث عن الوسائل لتحقيق أهداف املعلم
احلديث ،فالفكرة التي ينبغي أن تسود أفكارك هنا هي «الوسائل».
ويف املثال الثالث وصف لطبيعة الطفل يراد منك أن ترشحه ،ثم تبني
خصائص الطفولة ،ثم أمهية دراستها بالنسبة للمعلم .الحظ أن القول الذي
سترشحه يشمل وصفا لطبيعة الطفل يف عالقته باآلخرين« :يستهوهيا..
تنجذب..تنفر »..وهذه الصبغة هي التي ينبغي أن تسود املوضوع كله:
الطفل وعالقته باملعلم .فإذا رشحنا وبينا كيف تكون هذه العالقات من
أول عهد الطفل باملدرسة وكيف تتطور ،وإذا بينا خصائص الطفولة أثبتنا
بصفة بارزة اخلصائص االجتامعية ،وإذا أوجبنا دراسة املعلم للطفل بررنا
هذه الدراسة بأهنا تسهل هذه العالقات ومتكننا من جعلها يف درجة رفيعة.
اآلن وقد وجدت اخليط الرئييس الذي يربط أجزاء املوضوع برباط
وثيق ،بقي أن جتد األفكار املتفرعة ،وتضبطها بالقسطاس عىل قدر
املوضوع ال زيادة وال نقص.
14
.2التصميم املفصل:
وهنا تبدأ مرحلة أخرى هي عتبة إىل اإلنجاز النهائي .والعادة أن
يكتب املرشح «وسخا» خيصص له وقتا طويال قد يمنعه آخر األمر من
التحرير ،فيضطر إلعطاء ورقة «الوسخ» هذه ،وهي صعبة القراءة بالنظر
ملا فيها من شطب ووسخ.
ونحن مقرتحون طريقة أخرى لتهيئ هذه املرحلة باعتبار أن:
-ورقة «الوسخ» تعرض أمام املرشح بياضها الذي مل يسود فكأنه
صحراء يسارع الكاتب إىل عامرهتا فيفوته أن ينظم أفكاره ويتبع طريقة
عاقلة ،وإذا به يكتب عىل غري هدى ويضيع جهوده.
-كتابة «الوسخ» تأكل وقتا كثريا دون فائدة .فتكون طريقة إلغاء
«الوسخ» اقتصادية هبذين االعتبارين؛ تربحنا الوقت ،وتعطينا فرصة
للنظر يف أمرنا بوضوح.
فعوض منظر ورقة التهيئ التقليدية التي تشبه غابة كثيفة مرتاكب
بعضها عىل بعض ،عوض هذا املنظر املثبط سلفا ،نأخذ ورقة نوسخ
فيها التصميم الذي وضعناه يف وضوح ونظام .ونرتك يف هذه الورقة
بياضا كثريا ما بني السطور لنجد فيام بعد فراغا لكتابة التصحيحات او
الزيادات التي ختطر لنا بعد التأمل النهائي .ونكتفي بكتابة أهم اجلمل أو
أهم الكلامت التي يوحيها املوضوع حتت العناوين الرئيسية أو الفرعية،
وستكون هذه اجلمل والكلامت مادة دسمة تغني انشاءنا عند ما نكتبه.
والواقع أن الطريقة التقليدية ضياع يف ضياع ،ألن الكاتب عندما حيرر،
غالبا ما يكتفي بنقل «وسخه» دون تغيري ،فإن غري فغالبا ما يكون التغيري
أساسيا ،وعند ذاك جيد نفسه بلغ آخر الثالث ساعات القانونية ،وملا
يكتب شيئا .أما طريقة التصميم املفصل فترتك متسعا يف كلتا احلالتني،
متسعا للذي عادته أن يغري ،ألنه مل يمض وقتا طويال يف إعداده ،ومتسعا
للذي ال يغري ،ألن بني يديه وقتا سيرصفه كله يف ترتيب كتابته واتقاهنا.
واصطياد األفكار عملية صعبة ألهنا اختيار ومتييز بني األفكار الكثرية
15
التي تتوارد عليك ،ونظرا ألن كل موضوع تأملته يأخذ يف االتساع كلام
تقدمت الذاكرة يف عملها ،فال تلبث أن جتد عندك مادة طويلة عريضة.
نظرا هلذا ،فإن االختيار والتمييز يتطلبان كثريا من الرتيث والتيقظ.
فإن حدث العكس ونضب ما عندك من فكر ،توجبت عملية معاكسة،
وهي أن تولد األفكار وتستوحيها.
وتكون يف هذه املرحلة قد مهدت الطريق بتصميمك العام الذي
وضعته فخري ،بل الزم ،أن تتبع خطوط تصميمك يف بحثك هذا
املتوسع؛ خذ كل نقطة عىل حدة وانظر ما جييئك بصددها ،فقارنه بنص
املوضوع املقرتح عليك لرتى هل يناسبه ،ثم اعرضه عىل اإلطار الذي
وضعته ،وأعني االجتاه أو الفكرة التي ينبغي أن تسود ،لرتى هل يدخل
حتته.
.3اإلنشاء
وجتيء املرحلة احلاسمة ،مرحلة الكتابة .والكتابة بمثابة بناء هيكلة
األفكار التي هيئت من قبل ،لكن واجهته يمكن أن ختتلف حسب
األذواق واإلمكانيات؛ أو نقول حسب األسلوب اخلاص بكل كاتب.
إال أن هنالك قواعد أساسية تدخل حتت املنطق العام ،وينبغي أن
خيضع هلا الطالب.
-املقدمة:
املقدمة ،كام يفهم من اسمها ،كالم نقدمه أمام املقالة لنطرح فيه
املشكلة ،ونبني أجزاءها التي منها ترتكب .وتتضمن املقدمة إشارة إىل
املوضوع ،لكن إشارة فقط ،أعني أهنا تظل خفيفة ال تناقش املوضوع
نفسه وإنام متهد وتدعو القارئ إليه.
ولئن كانت كتابة املقدمة حترج كثريا من الطلبة فيضيقون هبا ،فام ذاك
إال ألهنم حياولون أن يضمنوها كثريا من أفكارهم ،أو ألهنم يبحثون
16
عن اخرتاع غريب يزينوهنا به .عىل أن األمر أهون من ذلك؛ فاملقدمة
ينبغي أن تتعرض تعرضا خفيفا للفكرة السائدة ،ثم تنتهي بعرض
السؤال ،وعرض نية الكاتب يف الكيفية التي سيعاجلها هبا .واألحسن أن
يعرض السؤال بنصه األصيل .وانظر مثال لذلك يف نامذج هذا الكتاب.
-اخلامتة:
واخلامتة أيضا حترج الطلبة ،فيطيل فيها بعضهم حتى تصبح موضوعا
مستقال ،ويكتب فيها اآلخرون أفكارا غريبة عن املوضوع ،أو هيملوهنا
باملرة ،فتجيء مقالتهم مجيلة كالطاووس قطع ذنبه.
ويكاد يكون تشبيهي هذا صادقا ،ألن من شأن اخلامتة أن تضفي عىل
املقال كله مجاال وتعطيه خالبة .وأن اخلامتة احلسنة قد تغطي عىل عيوب
يف املقالة كثرية وتنسيها ..واملصحح قد تبهره اخلامتة فال تبقي يف ذهنه إال
فكرة مواتية عن كل ما قرأه .وهلذا كله ننصح بأن خيصص الكاتب نصف
ساعة عىل األقل ليكتب خامتته وأن يعتني هبا كل العناية .عىل أال هيمل
املقدمة ،أو خيل يف كتابة صدر املوضوع؛ ألن لكل جزء أمهيته رغم كل
ما قلناه.
وحمتوى اخلامتة تلخيص للموضوع كله ،بشكل مبتكر وأسلوب براق
لكن قوي .وجتد يف هذا الكتاب نامذج فتقرأها.
-صدر املوضوع:
عندما تأخذ يف التحرير ،ينشط القلم ويأخذ جيري؛ فعليك أن حتبسه
لرتى يف أي اجتاه يسري ،وختضعه للتصميم الذي وضعته .وإياك أن ترشع
يف التحرير قبل أن تنتهي من وضع تصميمك املوسع فإنه ال أدعى إىل
الضالل من التجديد والزيادات التي جتيئك يف آخر حلظة ،ألنك عندئذ
تدفعك فكرة إىل فكرة؛ فال تشعر إال وقد خرجت عىل اهلامش وتعتم
عليك األمر.
وأحذر أن جيمح القلم ،أو يتمكث يف رشوح عاطفية أو أدبية ترض
كتابتك وال تنفعها .وحتاش استعامل لفظ أو عبارة ال تعرف معناها عىل وجه
17
الضبط .فكر أنك تكتب مقالة علمية قبل كل يشء ،وضع التنميق يف
الدرجة الثانية بعد مطابقة كالمك لفكرتك .نعم ال أدعوك لكتابة الكالم
اجلاف الثقيل ،لكن أريد أن جتعل كل مهك أوال يف كتابة كالم واضح
مفهوم مضبوط.
وهبذا امليزان ستتعلم كيف تطرد عنك احلشو والصيغ املحفوظة
املبتذلة التي كثر استعامهلا حتى أصبحت فارغة يكاد يسمع رنينها لو
قرعت كام يقرع اإلناء الفارغ.
أما إذا وقع لقلمك حبسة وسدت عليك األبواب ،فال تفزع ،لكن
ارجع إىل نص املوضوع واقرأه ،وانظر يف تصميمك فإنك واجد مبتدأ
تفتتح به .وال ترتدد طويال ،لكن ابدأ يف الكتابة ،وسيسهل عليك األمر.
وأيا ما كان فالبد من ربط أجزاء كالمك برباط منطقي؛ ال متض من
فكرة إىل فكرة دون أن تلتمس مهادا من األوىل إىل الثانية ،فالكالم العديم
الربط يقابل القارئ برتكيبه العنيف املفكك ،فرسعان ما حيكم بجهل
الكاتب وعدم فهمه للموضوع.
وأذكرك مرة أخرى بالتنقيط ،ال تنس أن تضعه مواضعه املناسبة،
وتسخره ليساعدك عىل هذا الربط املنطقي الذي تنشده ،وعىل فصل
عباراتك فصال واضحا.
واكتب مقالك فقرات تتناول يف كل فقرة نقطة من نقط تصميمك ،وال
تدخل يف كل فقرة إال ما هيمها .فإذا قدرنا أن املوضوع يسألك« :ارشح
هذا القول ،وبني رأيك فيه» فارشح الفقرة األوىل دون أن تتعرض لرأيك
اخلاص؛ فإذا انتهيت ،فاكتب الفقرة الثانية وال تتعرض فيها إال لفكرتك
أنت .وسرتى نامذج يف هذا الكتاب فتدبرها.
-تناسب أجزاء املوضوع:
هل أكتب كثريا أو قليال؟ سؤال يدخل اهلم عىل بعض القلوب،
وباألخص عىل قلب الذي ال يستطيع أن يكتب طويال .أما اآلخر فقد
جتده يفخر بأنه «طويل النفس» ،وبأنه كتب ست صفحات يف ساعة
ونصف ،وينتظر خريا كثريا بفضل نفسه الطويل.
18
ويبدو للمتأمل بسهولة أن العربة ،يف مثل هذا املقام ،بالكيف ال
بالكم ،وأن اإلطالة قد تكون غري ذات غناء ،بل هي أقرب أن تكون
كذلك .ألن املطيل قد يرصف كل جهده عن الفكر إىل الصوغ املحض
وجتميل العبارات.
عىل أن حجم املقالة البد أن يبلغ حدا وسطا رضوريا الحتامل املعاين
يكون جمموعها املقالة.
التي ِّ
وليكن هذا احلجم الوسط األربع صفحات التي يف ورقة االمتحان
مكتوبة بخط وسط ،وبني سطورها بعد وسط .ولنقسم هذه الصفحات
األربع كام ييل:
نصف صفحة للمقدمة.
ثالث صفحات لرشح املوضوع.
نصف صفحة للخامتة.
املقدمة يف فقرة ،واخلامتة يف فقرة ،والرشح يف فقرات وفقا لعدد نقط
املوضوع ،ووفقا لعدد فقرات كل نقطة عىل حساب ما هيأته يف تصميمك.
ويزيد كتابتك وضوحا أن ترتك بياض سطر يبن الفقرة والفقرة.
وهيم هنا أن يراعى هذا التقسيم حتى جتيء املقالة متناسبة األجزاء،
وحتى يضمن الكاتب لنفسه أن كل جزء أخذ حظه من اهتاممه ،وبالتايل
هيم أن يقسم وقت الكتابة تبعا لذلك .فإذا كان فهم املوضوع ووضع
التصميمني العام واملفصل أخذ ساعة كاملة ،فإن الساعتني الباقيتني تقسامن
كام ييل :ربع ساعة للمقدمة ،نصف ساعة للخامتة والبقية لصلب املوضوع.
مالحظات جمملة
-عندما هتيئ االمتحان ،ال تقترص عىل كتاب تربوي واحد؛ بل اقرأ
كل ما تصل إليه يدك من كتب الرتبية.
-اجعل قراءة ما حيتويه هذا الكتاب جزءا من هتيئك ،لكن ال تقرأه
مارا ،بل تدبره وتدبر كل مقالة لرتى كيف فهم املوضوع وكيف قسم
وكيف كتب.
19
-عود نفسك كتابة موضوعات بيداغوجية ،يف مثل الظروف التي
ستجدها يوم االمتحان ،بحيث ال تستعني بكتاب ،وتتمم العمل يف
ثالث ساعات متوالية.
-تذكر دائام أن أول صفة ينبغي أن تكون يف كتابتك هي الوضوح.
-تذكر أن مرحلتي فهم املوضوع ووضع التصميمني عليهام تتوقف
نتيجة عملك.
-ال تنس أن تضبط املوضوع وحترتز من اخلروج عنه.
-وازن موضوعك واعط كل جزء منه حظا مناسبا من اهتاممك،
وجزءا مناسبا من وقتك.
-اعتن باخلامتة ونمق عباراهتا مراجعا الفكرة العامة ،وملخصا
املوضوع يف أسلوب قوي.
-اعتن كل العناية باملظهر املادي لورقة االمتحان؛ واتركها نظيفة،
مكتوبة بخط واضح يف سطور سوية.
20
مواضيع
يف الرتبية وعلم النفس
املوضوع رقم1 :
قيل« :الطفل طبيعة حية ،يستهوهيا كل جديد ،وتنجذب لكل ما
يتجاوب معها ،وتنفر عن كل أجنبي عن عاملها».
حللوا هذه الفكرة ،مبينني خصائص الطفولة ،مربزين أمهية
دراستها بالنسبة للمعلم.
أ-فهم املوضوع:
نص املوضوع يشمل مالحظات حول الطفل ،تدخل يف إطار
البيداغوجية احلديثة ،التي تؤسس عملها عىل معرفة الطفل ودراسته.
فاملوضوع يف نفس االجتاه الذي رسمه روسو عندما قال قوله املشهور:
«اعرف طفلك فإنك والشك جتهله».
ويطلب إلينا السائل أن نرشح املالحظات ونحللها ،فهو والشك
ينتظر أن نعرض لكل مجلة من مجله عىل حدة ونفرسها« :للطفل
طبيعة حية» مجلة تقتيض منا أن نبحث عن مظاهر حيوية هذه الطبيعة،
و«يستهوهيا كل جديد» مجلة ثانية تكشف عن وجه ثان لطبيعة الطفل؛
واملطلوب هنا أيضا أن ننظر كيف ُيستهوى الطفل وكيف يؤخذ ممثلني
بأمثلة كلام أمكن واقتىض األمر .واجلملتان األخريتان «تنجذب لكل
ما يتجاوب معها ،وتنفر من كل أجنبي عنها» ،تبني وجها ثالثا لطبيعة
الطفل وهو عالقته بالواقع وبالناس .فيتعني هنا أن نحلل املوقف ونبني
كيف يتصل الطفل بالعامل اخلارجي ،وكيف يكون رد فعله أمام األشياء
واألحداث التي تصادفه.
كل هذا نكتبه دون أن نتعرض لألجزاء من املوضوع ،وقبل أن
نتحدث عن املريب من حيث احتياجه إىل دراسة الطفل.
ويسألنا السائل أن نبني خصائص الطفل ،فكيف نفعل وقد رشحنا
املالحظات التي مهد هبا ألسئلته؟ ثم أال يكون هذا البيان تكرارا ملا سبق
أن كتبناه؟ وهنا بالضبط النقطة التي ينبغي أن أنتبه إليها؛ وهي أال أكرر
ما قلته أبدا ،اللهم إال إذا جاء هذا التكرار يف اخلامتة ،وبرشط أن يكون
23
تكرارا للمعنى العام ال لأللفاظ والتعابري ،ال للكيفية التي عولج هبا
هذا املعنى العام .ويف هذا املثال يسألونني أن أبني خصائص الطفل وهو
موضوع أوسع من املالحظات التي سبق أن رشحتها .فآلخذ الطفل
إذن وألعرض أهم خصائصه دون أن أطيل ،غري ناس أن عرض هذه
اخلصائص ال يكون إال جزءا من موضوعنا .وسأحاول التأكيد عىل
املالحظات التمهيدية ذاكرا خصائص نفسية الطفل التي جتعله ذا طبيعة
يستهوهيا اجلديد ،وتقبل عىل كل ما يتجاوب معها الخ..
والسؤال األخري يطلب إيل أن أبرز أمهية دراسة الطفولة بالنسبة
للمعلم .واجلواب عن هذا السؤال يكون الطرف الثاين من املوضوع،
فهو النتيجة لكل التمهيدات السابقة ،عىل أن فكرة وجوب دراسة الطفل
جيب أن تبقى طرفا من أطراف املوضوع ال أن تطغى عليه كله .ومن اخلطأ
أن أبدأ من أول األمر يف عرض هذه الفكرة قبل أن أفرغ من دراسة حتليل
النص ،وتبيني خصائص الطفل.
مالحظات
هذا موضوع واسع صعب ،وأكثر صعوباته يف أنه واسع ،فالبد أن
خيتار املرء ما يناسب املقام ،وحيتال حتى ال يثقله بكل ما حصل من علم
عن طبيعة الطفل .وقاعدة عامة تفيد كلام حاولنا أن نحرص أنفسنا يف نقطة
معينة ،هي أن نحذو من قريب النص املقرتح علينا فال نبتعد عنه.
ومن األغالط الفاشية ،أن يعمد الطالب إىل معارفه عن تطور الرتبية
ويمأل هبا ورقاته مهام كان املوضوع ،ويوشك أن يقع يف هذه الغلطة
الطالب املبتدئ إن وضع أمامه مثالنا هذا ،سيام ودراسة الطفل ما عرفها
السابقون .فلذا أحذر منها لنتجنبها هنا بصفة خاصة ،ونتجنبها دائام إال
إذا طلب منا التعرض هلا بكيفية واضحة .نعم يمكننا هنا أن نلمس املسألة
ملسا خفيفا يف املقدمة مثال ،لكن عىل رشيطة أن نكتفي بجملة أو مجلتني.
ومالحظة أخرى مهمة ،تتعلق بوجوب التوضيح يف كل ما نكتبه؛ وهذا
يقتضينا تفهم النص املوضوع علينا ،حتى نفهمه فهام كامال وحتى نفهم ما
24
خلفه من نية واضعه .فإذا كان يف النص بعض الغموض أو بعض اللبس
كام يف مثالنا ،وجب أن نوضحه من تلقاء أنفسنا ،لكن يف حذر ،مستشعرين
أننا نقوم بعملية خطرية؛ فكل غليطة يف هذا املوقف تكرب وتصري كارثة.
يقول السائل« :حللوا الفكرة مبينني ..مربزين..الخ» والبيان العريب
يفهمنا أن األعامل الثالثة؛ حتليل الفكرة وتبيني اخلصائص ،وإبراز أمهية
دراسة الطفل ،تنجز يف آن واحد .فهل نبدأ عرض هذه األعامل يف ثالث
واجهات موازية ،أم نمزجها مزجا؟ وهنا جيب أن نتبني األمر حتى نجد
وجه السداد.
إن الوضوح والضبط الذين جعلنامها ديدنا لنا ،يقتضيان أن نراعي
املنطق ،وننتظر النتائج حتى نضع املقدمات .ولذا فسنبدأ وفق املنطق،
وسنحلل الفكرة قبل أن نلقي نظرتنا العامة عىل خصائص الطفل .وإذا
انتهينا من هذين تعرضنا لدراسة الطفل وما يليها .وهبذا نحصل عىل
كالم ناصع ّبي ،يعرفه القارئ إذا نظر فيه.
ب-التصميم
وضعنا تصميم هذا املوضوع سابقا:
* حتليل الفكرة «كام يعرضها النص املقرتح».
* تبيني خصائص الطفولة «يف نظرة عامة موجزة».
* أمهية دراسة الطفولة بالنسبة للمعلم.
25
* من خصائص الطفل؛ حب اللعب ألن اللعب مرصف طبيعي
حليويته .حب االطالع وإجراء جتارب جديدة -إنه يتأثر كثريا بالنجاح
الذي يلقاه يف جتاربه فيتشجع ،كام يتأثر باإلخفاق فرتكد مهته.
* املعلم ودراسة الطفل –مسؤولية املعلم يف ميدان التعليم -مسؤوليته
يف ميدان الرتبية -حاجته إىل دراسة الطفل ليعرف كيف يكيف تعليمه،
وكيف يصلح تربية تالميذه -كيف يدرس الطفل -الدراسة النظرية
العلمية -الدراسة التطبيقية ومالحظة األطفال.
د -اإلنشاء
إن الصانع يرشع يف معاجلته ملادته اخلام ،وهو يعرف الغاية التي هيدف
إليها ،يصور قبل أن يبدأ يف عمله نوع اآلنية التي يريد صنعها ،إن كان
طيانا .ويصور حجمها وشكلها اخلارجي وشكلها العام .وهو يعرف
أيضا طبيعة مادته وكيف تتشكل ،ويعرف كيف يغريها إن اقتىض احلال،
حتى تصبح قابلة الختاذ الشكل النهائي الذي يف فكره.
وأخطر الصناعات والشك الرتبية .ألن الشكل النهائي الذي يكون
عليه الطفل بعد أن نربيه معقد شديد التعقيد ،وهو موضوع الهتامم
املريب والفيلسوف والسيايس سواء ..كل من هؤالء يرسم أشكاال مثالية
أو عملية لرجل الغد ،وخيطط الوسائل العملية لبلوغ هذا اهلدف ،لكن
املنفذ وحده ،وخصوصا املعلم يف دوره املتواضع ،وأعامله احلبىل بالنتائج
الضخام .يشعر اليوم باحلاجة إىل معرفة املادة اخلام التي يصنع منها رجل
الغد .وشعوره نتيجة ملحاوالت تربوية كثرية ،كانت عفوية تتلمس
طريقها ،فأصبحت اآلن تريد أن ترى يف وضوح أي نوع من أنواع العمل
تعمل ،وباألخص ما هي طبيعة الطفل الذي تعمل فيه .وقد قالوا «للطفل
طبيعة حية يستهوهيا كل جديد ،وتنجذب لكل ما يتجاوب معها ،وتنفر
من كل أجنبي عن عاملها» وهذه عبارة تعرض لطبيعة الطفل فتزيل الستار
عن بعض جوانبها .فكيف يمكن أن نتخذها متهيدا للبحث يف خصائص
الطفل ،ومعرفة هل يستحق الطفل بخصائصه هذه أن يكون موضوعا
للدرس ،وهل سيجدي املعلم يف عمله أن يدرسه؟
26
يتوفر الطفل عىل حيوية كبرية تذهلنا أحيانا ونتساءل من أين جاء
بكل هذا النشاط الذي نالحظه عنده ،يبدأ حركته املستمرة من أيامه
األوىل ثم ال يكف عنها إال حني يكرب ويتخطى نحو الشيخوخة ،حركة
جسمه وحيوية نفسه ،تصحبانه يف مراحل نموه وتتخذان مظاهر ختتلف
باختالف السن والفرص التي تعطاه أو يمنع منها لبذل نشاطه .إذا
الحظناه يف ملعبه مع أقرانه ،ويف ترصفه معنا ،رأينا غنى زائدا ،وبذال
ال ينتهي هلذه الطاقة الكبرية التي تعد ذخرا يمتاز به الطفل .هذه الطاقة
تبذل لتنمية اجلسم وتقويته ،وتبذل للدفاع عن هذا اجلسم إذا عرض
عارض سقم ،ويكاد يشبه املعجزات ما يبقي الطفل قويا أمام عصفات
األمراض ،وما يبقيه نشيطا يف كل حال.
وجيد نشاط الطفل جماال واسعا ليظهر؛ فالعامل كله جديد بالنسبة إليه،
يقدم أمام ناظريه ألوانا وأشكاال يطري فرحا ملشاهدهتا ،وحجوما وأصواتا
متأل يديه وسمعه غبطة .وكل جتربة يقوم هبا الطفل مغامرة بعيدة املدى،
فيها أحداث واكتشافات هلا من األمهية ما قد يفوق أمهية مغامرة العامل
املكتشف ،والرحالة املغامر .وليس يساوي قوة حيوية الطفل ونشاطه
إال قوة اجلاذبية التي يصبها عليه ما حوله من أشياء وأحداث .فهو هيتم
بكل يشء ،ويريد أن جيري جتارب ،ال يعرف حدا لقوته ،وتراه يف اهتاممه
يتناول فوق هذا حقائق ما يشهده ،فيسألك ما هذا؟ وكيف هذا؟ ثم ال
يرىض إال إذا أجبت عن سؤاله .يف كل ركن رس خبئ يسعى ليكشف عنه
الستار ،فيغرقك بأسئلته ،وجيدد لك مطالب يف كل يوم ،سيام فيام له شأن
بتجارب أجراها فنجح ،فأصبحت هذه التجارب حبيبة لنفسه ال يمل
من تكرارها .أما إذا جرب وأخفق ،أو محلته عىل إجراء جتربة ال متيل
نفسه إليها فإنه يسأم وينفر ويرص يف عناده بكل حيويته التي يرصفها هنا
للدفاع عن نفسه .ضد العامل اخلارجي ،الذي جاء يريده عىل أمر ال يتفق
وميله الطبيعي.
ومن خصائص الطفل التي يعرف هبا اللعب .وهو نشاط طبيعي لكل
األطفال ،إذ فيه جيدون فرصة لبذل نشاطهم املكنوز يف نفس الوقت الذي
27
يتمرسون فيه بواقع جديد مغر كل اإلغراء .وأساس لعب األطفال التقليد،
تقليد األفعال وحماكاهتا ،وتقليد األشياء ومتثيلها .واللعب يقوم بوظيف
حيوي يف ميدان نمو الطفل ،ألنه بمثابة مرحلة وسطى جيد فيها الطفل عاملا
لدنا متغريا بني حلظة وأخرى ،ريثام يصلب عود الطفل وتنمو مداركه ليفهم
الواقع احلقيقي بصفة ثابتة موضوعية .ويتناول الطفل يف لعبه كل امليادين،
فكأنه حني يلعب يكرر أعامله املتنوعة أو أعامل من يشاهدهم ،حماوال أن
يفهمها ويتلبس هبا .وكلام اكتشف جديدا أرسع إىل تقليده ،فيجد يف اللذة
التي يناهلا من هذه الطريق مشجعا عىل اكتشاف أشياء جديدة ،يؤيده يف هذا
فضوله الطبيعي الذي يمكن أن نعده أهم خصائص الطفل ،وأكثرها قابلية
لالستثامر يف امليدان التعليمي .لكن هذا الفضول ،ككل الكنوز الثمينة ،ال
يلبث أن يركد إن مل يتعهد بالتشجيع والبعث الالزمني .وتشجيع فضول
الطفل يتوقف عىل أن نتيح له فرصة لريوي ظمأه ،ونمهد له الطريق ليجري
يف كل مرة مسافة إىل األمام .تصور طفال سألناه فزجرناه إما ألنه قطع علينا
أعاملنا ،أو ألننا نعترب أسئلته لغوا .هذا طفل لن يسألنا من بعد ،وربام كف
حتى عن سؤال اآلخرين .وربام استغنى عن االطالع بتاتا .وتصور طفال
سألناه أو التمسنا نحن طريقا لنوقظ هنمه لالطالع ،فرشحنا له املوضوع
ودعوناه ليشاركنا يف عملنا .هذا الطفل الثاين سيتسع األفق الذي يتحرك
فيه ،وسيقبل عىل العمل الذي بدأه معنا السيام إذا كانت هذه البداية عىل
قدر طاقته ،مستجيبة لرغبته.
أما بعد ،فهل يغني املعلم شيئا أن يعرف كل هذا عن الطفل ،وأن
يعرف غريه من الدراسات العميقة حول الطفولة؟ إنه سؤال وضعه
مربون قدماء وقطع فيه روسو برأيه املشهور حني دعا املريب« :اعرف
طفلك فإنك والشك جتهله» .ولقد فرغ اليوم من البحث يف رضورة
دراسة املعلم الطفل ألهنا أصبحت من البدهييات .وأصبح علم النفس
علام مستقال تتنوع دراسته لتوفر للمعلم املعرفة التي حيتاج إليها عن طبع
الطفل وذكائه ودوافعه الكامنة.
واملعلم حيمل مسؤولية مزدوجة يف عمله ،ويتوقف جدوى هذا العمل
عىل معرفته للطفل حتى هييئ وسائل مناسبة ليعطي تالميذه تعليام مناسبا،
28
وحتى يعرف سري نفسية الطفل ليسهل عليه تربيته .تقول يل إن املعلم
ال يرى الطفل إال ساعات يف اليوم ،وإنه يف احلقيقة ال حيمل إال جزءا
تافها من عبء الرتبية ،فأجيبك بأن هذا الظن خطأ ،وأن مكانة املعلم
املعنوية يف الدرجة األوىل .فإذا شمل علمه طبيعة الطفل كانت النتيجة
كبرية بصفة مبارشة حني يعلم ويريب ،وبصفة غري مبارشة حني يشارك يف
حميط الطفل االجتامعي مرشدا مربيا.
واملعلم احلديث يتلقى تكوينا نظريا يف علم النفس؛ فيدرس من
ذلك كثريا ويقرأ كثريا .ويستنري بام يدرسه يف ميدان التطبيق .فإذا علم
أن الطفل حيوي بطبعه ،حاول أن جيعل مدرسته غنية بشتى الفرص
لبذل هذا النشاط ،وسعى جلعل الطفل ينساق إىل األعامل البناءة التي
تساهم يف تربيته وتعليمه .وإذا علم أن الطفل يميل إىل اللعب بطبعه،
أعطاه وقتا كافيا ملامرسة ألعابه ،واستغل هذا امليل ليجعل من اللعب نفسه
عمال تربويا .وإذا علم أن الطفل فضويل حمب لالطالع ،أعد له املجاالت
اجلديدة إلرضاء هذا الفضول ،وشجعه يف حماوالته ليثبت ويتقدم.
وهكذا ينزل املعلم معارفه النفسية من األفق العام إىل حيز التنفيذ.
والتكوين النظري ،كام نرى ،رضوري ،لكنه يكتيس حلة التعميم
والتجريد؛ فالبد من تكميله بالدراسات التي تكون أكثر مساسا بالطفل
احلي .وسواء كانت هذه الدراسات موجهة مثل التي يتاح للطالب أن يتبعها
يف مدرسة املعلمني ،أو حرة يامرسها املعلم مع أطفاله عندما يبارش العمل
معهم ،فينبغي أن تعطاها ما تستحقه من عناية ،وتنظم تنظيام حتى تبلغ إىل
النتيجة املنتظرة منها .وأمام املعلم إمكانيات نفيسة لدراسة الطفل؛ ألنه
يعايشه يف كل يوم ،ويراه يف شتى حاالته من لعب وجد ،يراه حني هيتم بأمر
ما وكيف هيتم به ،وكيف ينجز ما عزم عليه ،ويراه حني ينطلق يف طبيعته يف
ساحة املدرسة .ومن السهل تنظيم استغالل هذه اإلمكانيات باختاذ دفرت
يدون عليه املعلم مالحظاته النفسية عىل كل طفل ليمكنه الرجوع إليها
من حني حلني ،ومن السهل أيضا أن يتمم هذه اإلمكانيات بام جيمعه من
معلومات من األبوين واألرسة .وكل هذا يتطلب حزما من املعلم ونفاذا
29
يف بصريته ،ألنه إن مل يستجمع فكره يوشك أن يستنتج استنتاجات فاسدة؛
وبالتايل يرض من حيث نوى أن ينفع .وهذا ما حيدث إن حكمت مترسعا
عىل طفل من أطفالك ملجرد بادرة بدرت منه ،ثم بنيت عىل حكمك هذا
نوع املعاملة التي خصصتها هلذا الطفل.
وهذه الدراسة الشخصية رضورية ملا يوجد يف األطفال من اختالف
فردي جتب مراعاته يف معاملة كل طفل.
الطفل ممتلئ حياة ونشاطا ،تصطبغ أعامله باندفاع شديد ،مرده إىل
أن الواقع الذي يعيشه الطفل وهو حديث العهد به ،يغريه بأن يتطلع
ويكتشف .فإذا جاء هذا الكائن املتحمس إىل املدرسة ،محل معه محاسه
وقابليته التي ال تنتهي ملامرسة نشاطه املحبب ،اللعب ،وممارسة أي نوع
من أنواع الشغل الذي يصادف يف نفسه رغبة ويرضيها .لكن املدرسة،
بحكم وظيفتها ،ال تقرتح عىل الطفل إال أعامال جادة كل اجلد .ومىض
عهد كانت املدرسة تقطع فيه ما بينها وبني حياة الطفل العادية من أسباب،
وتفرض أعامهلا فرضا عىل النحو الذي تراه موافقا .وأصبح املعلم احلديث
حياول عىل العكس أن يسخر نشاط الطفل العفوي ويسري يف ركابه ،ألنه
يدرك أن هذه أحسن الوسائل ليدرك غاياته ومعه الطفل ال ضده.
والنشاط املدريس بطبيعته أجنبي عن الطفل ،وخليق هبذه الصفة أن
تبعث عىل النفور .ال هيم الطفل أن يكتب لكن هيمه أن يتكلم ،وهو ال
يريد أن يقرأ وينصت ،لكنه يرغب يف مشاركة أقرانه أحاديثهم وألعاهبم،
وبعبارة أخرى ،يكون اهتامم الطفل يف واد ،وأهداف املدرسة يف واد غريه.
وعند هذه النقطة تربز أمهية دراسة املعلم ألحوال الطفل ونفسه ،حتى
يستكشف دوافع الطفولة ويستغلها ليحول جمرى اهتامم الطفل قليال،
ويكيف طرق تربيته وتعليمه قليال ،ويصل إىل تقريب ما بني املدرسة
والطفل يف آخر األمر.
ومن أجل هذا يدرس املعلم احلديث الطفل ،فيطلع عىل النتائج
التي حصلها الباحثون النفسانيون ،ويفتح عيني رأسه وبصريته ليالحظ
أطفاله يف كل يوم ،وهيتدي إىل رأي يف شخصية كل واحد منهم وعقليته.
وهكذا حيقق الكلمة القائلة:
«ادرس الطفل أوال ،ثم ادرس كل طفل عىل حدة».
30
املوضوع رقم 2
قال أحد املربني« :أفضل أن حيبني التالميذ عوض أن خيافوين».
وقال مرب آخر« :أفضل معلام قايس القلب».
أدل برأيك يف املوضوع ،وبني الوسائل التي ترتكز عليها سلطتك.
31
املطبوع يتميز قبل كل يشء بحبه لألطفال ،والشك أيضا أن املعلم كيفام
كان يصل وقت يشعر فيه بعطف عىل تالميذه وحمبته هلم ،فهل تتناىف هذه
املحبة مع أن يكون املعلم قايس القلب كام تقول بذلك النظرية الثانية يف
سؤالنا؟ اجلواب أن وظيفة املعلم هي أن يريب كل األطفال ويعلم كل
األطفال ،الذكي منهم واألقل ذكاء ،الطيع منهم والصعب املراس .ومهام
كان حبه هلم أو بغضه ،فالبد أن يكون لديه من الشدة ما حيملهم به عىل
األعامل التي جيب أن ينجزوها يف املدرسة .وبالتايل البد أن يتصف بنوع
من قساوة القلب حتى يستقيم له األمر .وواضح أن املعلم اللني البالغ
اللني يكون عاجزا عن تسيري قسم يضم مجاعة من األطفال متباينني من
حيث أوساطهم التي جاءوا منها ،ومن حيث طبعهم اخلاص ،ومن حيث
عاداهتم ومستوياهتم الفكرية واالجتامعية .وبوسع كل واحد أن يتصور
املناظر اهلزلية التي يمكن أن يمثلها املعلم الطيب الغفالن ،حامل الفانيذ
واحللوى ،الذي يظهر عطفه عىل األطفال إىل درجة أهنم ينطلقون من
عقاهلم ويعاملونه كأحدهم ملتفني حوله متعلقني بأذياله .وإن ما قلناه
من وجوب أن يتصف املعلم ببعض قساوة القلب ،ال ينفي أن تتبقى بينه
وبني أطفاله العالقات الودية مل متس .بل ربام تزيد معاملة املعلم اجلدية
لتالميذه وقت اجلد يف ربط هذه العالقات وتوطيدها.
والشك أن املريب صاحب النظرية الثانية ،مل يقصد قساوة القلب
بمعناها الظاهر ،نعني الفظاظة والغلظة ،وإنام يقصد أن يكتم املعلم حمبته
لألطفال حتى ال يعرف هؤالء نقطة ضعفه هذه فيأتوه منها ،وأن حيل حملها
عىل حمياه ،ويف ظاهر أمره ،حزما كامال يكون ضامنة ألن يشعر األطفال
بأهنم يف عينيه سواسية ،وأن أي اعتبار لن يثنيه عن قصده .عىل أن هذا
املظهر القايس إنام يكون درقة خيتفي حتته العطف احلقيقي عىل الطفولة
وإرادة اخلري هلا .ألن هذه العاطفة هي املحرك القوي الذي نجده عند
املعلمني الناجحني املمتازين من أمثال تلك املعلمة التي ربت األمريكية
الصامء البكامء العمياء «هلن كلر».
وإذا فقد وجدنا قاعدة يلتقي عليها الرأيان :رأي داع إىل حمبة الطفل
32
ملعلمه ،وعمل املعلم عىل أن ينال هذه املودة ويعوض هبا اخلوف ،والرأي
الثاين املويص بالشدة وقساوة القلب.
وكائنا من كان صاح بالرأي األول ،الذي يظهر أنه حيذر قبل كل يشء
من الرأي القديم الذي كان مطبقا يف املدارس القديمة حيث يمثل املعلم
السلطة والقوة ،ويعترب الطفل مطبوعا عىل الرش فيأخذه بالشدة ،وال
يفكر حلظة يف إمكان أو فائدة إقامة عالقات عاطفية معه .ورغم أن الرأي
الثاين ربام جاء كرد فعل للرأي األول خمافة أن يبالغ املعلم يف اصطياد حمبة
األطفال والتضحية يف سبيلها بمقامه وسلطته .قلت أيا ما كان األمر فإن
السائل يطلب إلينا رأينا اخلاص يف املوضوع .ورأينا اخلاص ينبغي أن يأخذ
بعني االعتبار ما وصل إليه علم النفس احلديث من أن حياة الطفل العاطفية
أبلغ أثرا يف ترصفه مما كنا نظن ،ويأخذ بعني االعتبار حاجة الطفل يف نفس
الوقت إىل أن يشعر بأن أمامه شخصا قويا نافذ العزيمة .وبعبارة أخرى
ينبغي أن نبني رأينا اخلاص عىل معطيات علم النفس احلديث.
واحلقيقة أن السائل سهل لنا ا لبحث كثريا ،وزودنا من أول األمر
باألسباب التي تبلغنا إىل الرأي الصواب إن نحن متسكنا هبا ،وعرفنا
كيف نحيك منها جسام قويا من األفكار دون أن نخلطها .فهو قدم بني
يدينا الرأيني املتعارضني ليكون تعارضهام صدمة تنبهنا إىل أمهية املوضوع
وتشعبه ،ثم يطلب إلينا يف سؤال أخري أن نذكر مقومات سلطة املعلم،
كأنه يريد أن يشعرنا أن األمر ال يقف فقط عند وجود أو انعدام املودة
والعطف بني املعلم والتلميذ ،لكن يتعدى ذلك فيحدث األثر الفعال عىل
سلطة املعلم ،وبالتايل عىل نجاحه يف عمله ،وجدوى هذا العمل كنتيجة
أخرية.
ب -التصميم
* تقديم املوضوع ووضع املشكلة.
* رأيي اخلاص.
* الوسائل التي ترتكز عليه سلطتي.
33
ج -التصميم املفصل
* حياة الطفل العاطفية بني البيت واملدرسة – حاجته العاطفية
وحاجته إىل سلطة يف املدرسة -موقف املعلم -استجابته أو عدم استجابته
هلذه احلاجة -املوقفان املتعارضان كام يبدوان يف الرأيني اللذين أمامنا.
* رأيي اخلاص أبنيه عىل اعتبار حاجة الطفل العاطفية -وحاجته إىل
قوة حامية يف املدرسة تقوم مقام األب يف البيت -ورضورة إنجاز أعامل
مدرسية قد تفرض عىل الطفل فال خيضع هلا إال إن عضدهتا سلطة املعلم-
رأيي اخلاص هو التقريب بني النظريتني ،بل فهمهام فهام صحيحا والنفوذ
إىل اتفاقهام احلقيقي الذي قد حتجبه العبارة.
* ترتكز سلطتي يف القسم عىل فهمي للطفل حتى أسري مع ميله دون
أن أحيد عن اخلطة التي رسمتها نحو هديف الرتبوي والتعليمي -وعىل
عديل بني األطفال ومساوايت بينهم -وعىل حمبتي احلقيقية هلم وإخاليص
ملهنتي اللذين جيعالين أقوم بالواجب.
د -اإلنشاء
املعلم أول عهده بالتعليم ،خصوصا إذا مل يتلق تكوينا يعده للمهنة،
يقف متسائال أمام مشكلة عظيمة؛ يتساءل كيف سأكون مع األطفال؟
وكيف جيب أن أكون معهم؟ خيتلف موقف املعلمني من هذه املشكلة،
ويتفاوت اهتاممهم هبا باختالف طبعهم؛ فواحد يفكر قبل كل يشء يف
سمعته التي ستضعف عند زمالئه إن دخل القسم ومل يملك زمام األطفال
فشاغبوه ،واآلخر يفكر بدافع إخالصه للمهنة ،باحثا عن الوسيلة التي
هبا يعمل عمال جمديا .ثم يدخل املعلم إىل القسم فيتخذ لنفسه موقفا ما،
فإما يلوح بالعصا وخييف ،وإما يسرتيض ويتحبب .فإذا مىض عليه وقت
اكتسب فيه جتربة ،وألف فيه املهنة وممارسة التالميذ ،فالغالب عىل الظن
أنه كون لنفسه رأيا يف املوضوع ،وقدر نوع العالقات ونوع املعاملة التي
ستكون بينه وبني األطفال .ويتخذ هذا القرار بناء عىل ما رأى من رد فعل
التالميذ لطريقة معاملته هلم.
34
لكن املشكلة أعمق من أن يكون صاحلا هلا احلل الذي يتخذه فيها
املعلم بعد جتربة قليلة وسطحية .ومن يدري فلعله توخى السهولة يف
حله ،وتبنى أرسع الطرق إلنزال الصمت يف قسمه ،وكف التالميذ عن
احلركة .طريقة العنف والعصا؟
واملشكلة قديمة قدم املهنة ،تضاربت فيها اآلراء ،حتى بلغت
التناقض؛ فنجد مربيا يفضل أن حيبه التالميذ عوض أن خيافوه ،ونجد
مربيا ثانيا يريد أن يكون املعلم قايس القلب ،وكل هذا -أعني خطورة
املشكلة وتضارب اآلراء فيها -يفرض عىل املعلم أن يتخذ لنفسه رأيا يف
املوضوع ،يقرر عىل أي أساس سريكز سلطته.
يفتح الطفل عينيه عىل أبوين مها مورد كل خري يناله ،فتنشأ فيه عاطفة
حمبة قوية نحومها ،وباألخص نحو أمه يف السنوات األوىل ،أو نحو
مربيته ،ثم يتسع نطاق هذه العاطفة حتى يضم أفراد األرسة ممن يعايشهم
الطفل .وهذه العالقة العاطفية هي للطفل بمثابة رباط يربطه بالناس،
فهي أقوى من العاطفة التي بني أفراد األرسة الكبار ،وهي يف حاجة إىل
التأكد من نفسها يف كل حني .تفتقر إىل عالمات العطف واملودة يتبادهلا
الطفل مع من حيبهم .ويزيد من قوهتا أن الطفل ال يملك وسائل مستقلة
لتوفري أسباب العيش واألمن النفيس ،فهو يف حاجة دائمة إىل الشخص أو
األشخاص الذين يرعونه ويوفرون له هذا األمن .وهلذه الناحية صدى يف
عاطفة الطفل ،فإنه حيتاج أن جيد فيمن حيبه متانة يف الترصف واستمرارا
فيه ،يوحيان بالقوة التي يطمأن إليها.
وجييء اليوم الذي يبعث فيه الطفل إىل املدرسة ،وهو يوم فطامه
العاطفي ،يرغم فيه عىل ترك عيشه الدافئ عاطفيا ،ومعارشة أشخاص
أجانب أوهلم املعلم .ولئن كان الطفل جيد أقرانا يف سنه فال يلبث أن يتقرب
إليهم ويندمج معهم اندماجا كليا ،فإن عالقته باملعلم تتسم أول األمر ببعض
الرتدد والنكوص اللذين يبدوان عىل كل طفل أمام أشخاص كبار أجانب
لكي تستقر آخر األمر عىل وجه من الوجوه؛ فإما يميل إىل معلمه وحيبه ،وإما
35
خيافه دون أن يبغضه ،وإما يبغضه وخيافه ،وإما يكون املعلم بالنسبة إليه
فراغا ال يعتد به.
هذه ناحية الطفل .وهذه حاجته ،يبحث يف املدرسة عن ملء الفراغ
العاطفي الذي أحدثه بعده عن البيت ،فرييض بعض هذا الفراغ بصالته
مع أقرانه لكنه ال يزال يف حاجة إىل شخص قوي جيد عنده ركنا مأمونا.
أما املعلم فهو أمام هذه القضية يف حالتني ،أن يفهم الطفل وحاجاته
فيعمل عىل تلبيتها .أو يعترب الطفل طينة قابلة للتكييف ،فيعمل فيها
خماطرا بإفساد كل يشء .ويف هذه احلالة األخرية نجد نامذج املعلمني يف
سلسلة طويلة تبدأ من الذي يعمل جادا صارما وتنتهي بالفظ الغليظ.
أما يف احلالة األوىل فإن األمر أكثر تنوعا ،واملعلمون ليسوا سواء من
حيث تطبيقهم للمبدأ القائل بكسب مودة األطفال والتدرج عىل
العطف عليهم .ومن املعلمني من يتغاىل يف التمسك به إىل درجة التخاذل
واإلخالل باملسؤولية ،ومنهم من يسرت ضعفه احلقيقي حتت ستار حب
األطفال والنفور من السطو عليهم .عىل أن بني احلالتني موقف وسط
الشك ،أو عىل األصح ،بني القسوة عىل األطفال وكسب حبهم ،درجة
مثىل .وليست هنا العربة بالكم بل بالكيف .ليس األمر متوقفا عىل قدر
القسوة واملحبة بل بكيفية مزجهام.
ورأيي أن للكيفية التي هبا نقرتب من الطفل أمهية كربى ،وأثرا بعيدا
عىل كل عمل نريده مثمرا يف ميدان الرتبية والتعليم .فعندما يبعث إلينا
الطفل إىل املدرسة ،ويشعر بوحشة كبرية ،وحاجة حيوية إىل عطف شخص
راشد وحمبته يعوضان ما يفقده ساعات طويلة كل يوم من عطف أبويه
وحبهام ،تسنح لنا فرصة ثمينة إن أحسنا استغالهلا ربحنا الطفل وأكسبناه
خريا كثريا ،وإن نحن أمهلناها ،ومل نعتد بحاجات عاطفته ،شجعنا الطفل
عىل انطوائه الطبيعي الذي بدأه منذ وطئت قدماه أرضا غريبة ،ومنذ رأى
من حوله غرباء،وأعطيناه نفورا هنائيا من املدرسة ومن أعامل املدرسة،
فعرب سنواهتا طافيا عىل السطح ،مل حتدث املدرسة أثرا يف تربيته اللهم إال
إذا كان هذا األثر سلبيا ،ومل تعطه من املعرفة النوع الذي خيصب الذهن
ويدفعه إىل اكتشاف احلقائق ،والتقوية الذاتية .جييء الطفل إىل املدرسة،
36
ويبدو عليه بعض اإلنطواء ،لكنه يف قرارة نفسه ،يشعر بفراغ عاطفي يطمع
أن يمأله ،ويشعر بعدم استقرار حتى جيد قوة يركن إليها .ومن قبله املعلم
الذي يمثل السلطة املدرسية ،وسلطة الراشدين عىل وجه العموم ،فال جيرس
الطفل أن يرمي نفسه بني أحضان هذا الشخص الغريب واإلفضاء إليه بذات
نفسه كام يفعل مع أبيه وأمه ،وال جيرس أن يرى يف هذا الشخص ،وحوله
هالة يف نظر الطفل ،عوضا طبيعيا عن أبويه .لكنه مستعد ليستجيب ألول
إشارة ،ويعطي ثقته الكاملة للمعلمة أو املعلم متى عرفا كيف يأخذاهنا.
وجيد املعلم نفسه بني دافعني ،الدافع النفيس الذي يبغي أن يقيم يف ميزانه
مكانة حلاجة الطفل العاطفية ،والدافع املهني الذي ال يعرف هدفا غري
القيام بالواجب ،وأداء الرسالة .ومن هنا كانت صعوبة املشكل ،إذ يقتيض
األمر حال وسطا بني إقامة عالقة عاطفية كالتي بني أفراد األرسة ،والتذرع
بام يفرضه العمل الرتبوي إلقامة حاجز عاطفي بني التلميذ وأستاذه،
وليبقى فقط السلطة من ناحية والطاعة من ناحية أخرى .فالبد أن تكون يف
املدرسة عالقات خمالفة يف طبيعتها للعالقات األرسية ،ولعالقات الرئيس
بمرؤوسه .فتكتيس العاطفة بني املعلم والتلميذ صبغة جديدة بام يكسبها
إياه مقام املعلم يف عني الصغار .تصطبغ عاطفتهم نحوه بكثري من االحرتام،
وما تزال مكانة املعلم -إن كان له من الصفات الكاملة -تسمو حتى أهنا
لتغطي عىل مكانة األب واألم .ليس ذلك ألن الطفل يكف عن حب أبويه،
لكن املعلم عنده شخص فوق املستوى العادي ،حيبه حمبة خاصة ويضعه
نصب عينيه مثاال للمعرفة والسلوك القويم .ومن منا مل يسمع طفال حياج
الناس ،ويقدم بني يديه أكرب برهان يتصوره عندما يقول" :قاهلا األستاذ"؟
وإذا بلغ األمر بإحساس الطفل نحو معلمه إىل هذا احلد ،كانت املدرسة يف
خري ،واجتهد التلميذ يف عمله ،وأطاع األوامر ابتغاء مرضاة مثله األعىل.
وقد وصفنا حمبة الطفل ملعلمه ومل نقل كيف تتكون هذه العاطفة ،وهل
تتفق وما ينبغي أن يتمتع به املعلم من سلطة .وهذا يرجعنا إىل الرأيني
املتعارضني اللذين قرأنامها يف نص املوضوع .ماذا يعمل املعلم لكي حيبه
أطفاله ،ثم أليس رضوريا أن يتسم ببعض قساوة القلب إذا أراد أن تكون
له سلطة؟
37
لنفرغ أوال من فكرة تعارض الرأيني ،فقد ملحنا من أول هذا املقال إىل
أن هذا التعارض ظاهري فقط ،وأن املربيني متفقان يف حقيقة األمر ،فال
يبقى إال أن نقول الرشوط التي جيب أن تتوفر يف املعلم لينال حمبة أطفاله،
ويمسك بزمام األمر يف عمله .ويف نظري أن حمبة األطفال للمعلم رشط
يف احرتامهم أوامره ،وال يعرتض عيل بأن املعلم الفظ له سلطة أيضا ،إذ
ال تعد الطاعة خوفا من العصا طاعة ،إنام ينافق التالميذ جالدهم اتقاء
رشه .أما السلطة احلق فهي التي تستمد قوهتا من التفوق اخللقي الذي
يتجىل به رب السلطة.
وأول مقومات السلطة الثقة ،فإن اإلنسان ال خيضع خضوعا حقيقيا
لقوة ال يؤمن هبا وال يثق ،وإن عمل املدرسة متوقف عىل تعاون الطفل معها
وإعطائه إياها قياده .ونجد املعلم الناجح هو ذلك الذي حيرتم شخصية
أطفاله وجيعل ذلك مبدأ يف معاملته إياهم .يدرس نفسية الطفولة وطبع
كل طفل يف قسمه ليعرف اجتاه كل واحد ،ونوع املؤرشات التي تعمل فيه.
ومتى عرف هذا ،كان بوسعه أن يسخر التيار احليوي الذي حيل كل طفل
ليحقق أهدافه دون أن يمس أطفاله يف شعورهم بالذات ،بأن يتعارض
معهم تعارضا جوهريا .وإن اقتىض األمر أن يأمر بقوة ويظهر الرصامة،
فعل ذلك دون أن يقطع النظر عن حاجات الطفل ،وطاقته .ويف مثل هذه
احلالة يفضل املريب معلام قايس القلب .والرس يف األمر أن يعرف املعلم
كيف ومتى جيب أن يقول أو يكون صارما .الرس يف أن يتحرى اللحظة
السيكولوجية املناسبة فإذا صادفها تقبل التالميذ "قسوة قلبه" هذه بصدر
رحب وارتياح إىل أن أمامهم قوة تعرف الغاية التي متيش إليها.
هذا وإن ثقة التالميذ ال تنال إال إذا قر يف نفسهم أن املعلم يمثل مبدأ ال
حييد ،وأنه ينظر حلقيقة العمل عندما حيكم ،غري متأثر بعامل أجنبي .يريد
األطفال أن يكون املعلم عادال ال يتحيز ألحد ،مايض العزم يف عدله ،إذا
قىض أمرا نفذه بالفعل .وحياة القسم مليئة باألحداث التي تنتظر أن حيلها
املعلم ،والتالميذ يالحظون ،بل يشعرون شعورا خفيا نفاذا ،بكل حركة
يف نفس املعلم .ومتى عرف التالميذ عند أستاذهم ضعفا نحو واحد
38
منهم ،أو أخطاء يف احلكم ،ثاروا عليه وعملوا بكل وسيلة ليظهروا له
ثورهتم .وهنا أعطي مثال املعلم الظامل ،يعاكسه التالميذ بكل وسيلة،
واملعلم املتحيز ،خيتل نظام قسمه وتنشأ بترصفه العداوة بني أطفال
القسم ،ثم املعلم املتخاذل الضعيف ،الذي يغفر الزلة وقد كان فرض هلا
عقابا ،إذ ينزل يف عيني الصغار ألنه فقد صفة من الصفات الرئيسية ،أال
وهي املتانة والقوة.
املشكلة مسواة بيرس ،إذا كان قلب املعلم ذا حساسية خاصة ،وحب
خملص للطفل .يريد أن حيبه األطفال ،ويريد يف نفس الوقت أن تكون
له سلطة لينجز عمله كمعلم وكمرب ،يف قلبه من كنوز العطف وتفهم
الصغار ما سيفتح الباب أمامه ،حبه جيعله دائبا عىل العمل إلعداد قسمه
واتقان عمله ،جيعله دائبا لتهيء هذا القسم عشا فيه دفء عاطفي حيس به
األطفال ويطمئنون إليه .جيعله ساهرا عىل راحة أطفاله ،هييء هلم أسباب
النمو والتقدم دون أن جيرح عواطفهم أو يشعرهم بأهنم غرباء .حب
املعلم لألطفال يضفي عىل أعامل القسم صفة املرح واحلامس ،حتى إذا
كان من بني هذه األعامل ما يتطلب جهدا وصربا ،ألن العمل عرف كيف
يقدمه ،وكيف يفرضه.ال حيدث يف قسم املعلم الذي حيب أطفاله مشكل
نظامي ،فسلطة هذا املعلم طبيعية قوامها شخصية متينة ،ومعاملة موحدة
ال حتيد عن اجلادة.
وجممل القول أن أمامنا معلمني ،واحد بسيط الفهم ،يقول لنفسه:
«هؤالء صبية يف عهديت فألسع إذا يف مرضاهتم حتى ال حتدث يل مشاكل»
ويميض يف التزلف إىل الصبية وجماراهتم :وإذا قدر له يوما أن يتأمل األمر،
وينتبه إىل أنه صار ألعوبة بني أيدي الصغار ،رجع إىل «املعلم قايس القلب»
ومثلها مرة أخرى متثيال بشعا دون أن يستقيم يشء يف يده .والثاين معلم
حازم حمب للطفولة ،كون لنفسه شخصية قوية حمببة ،يعمل بإخالص
فيعرف له األطفال ذلك وحيرتمونه ،ويعمل يف رصامة إذا اقتىض احلال؛
فيحب األطفال قوته هذه ألنه مل جيعلها مسخرة إال لتحقيق أهداف
حددها لنفسه ولبنيه.
39
املوضوع رقم :3
قيل «إن اخلطوط العريضة لشخصية الطفل ترسم يف سني الطفولة
املبكرة ،وإن مصريه ليتقرر بني جدران البيت».
ناقشوا هذه املقولة ،مبينني اخلطورة التي للبيت يف امليدان الرتبوي.
40
عىل هذا األساس حتى يكون مناسبا للنتيجة التي سننتهي إليها .فهل
نقبل الرأي كام هو ،ونقرر مع القائل أن «مستقبل الطفل يقرر بني جدران
البيت» ونكتفي يف املناقشة بتقديم الرأي املعاكس وتضعيفه ،أم نكون
يف هذا اجلانب األخري وننقد الرأي املعروض علينا؟ هل نقبل أن الطفل
يتكون طبعه وشخصيته يف السنوات األوىل ،وهو لعمري رأي شديد
التشاؤم بالنسبة للمريب ،ألن معناه أن هذا الطفل الذي جييئنا إىل املدرسة
شخص انتهى تكوينه يف خطوطه الرئيسية ،فام كانت هذه الشخصية التي
جتيئنا مكونة ،فإن أعاملنا عبث لن تأيت بنتيجة؟ أم نزعم أن دور املدرسة
حاسم يف املوضوع ،وأن الطفل ال يتكون يف البيت وينتهي األمر ،بل
يبدأ تكوينه يف البيت ويتممه عرب مراحل نموه كلها ،وخاصة حتت تأثري
الرتبية التي تعطيها إياه املدرسة؟ عىل كل البد أن نختار ،ألن السائل يريد
أن نناقش ،وألن املناقشة ال معنى هلا إن مل يعقبها تسديد أحد الرأيني.
ونتأمل مرة أخرى فنهتدي إىل احلكمة الشائعة التي تدعو إىل الوسط،
فلسنا علامء حمللني لنتعصب لرأي واثق بنفسه ،ولسنا ،كمربني ،نخاف
أن جيهل يوم مكان املدرسة وأمهيتها حتى نؤكد القول املناقض وندعي أن
املدرسة وحدها هي التي تكون الشخصية وتفعل كيت وكيت .وألجل
هذا فسنقف يف الوسط لنعرف أمهية السنوات األوىل وأثرها عىل الطفل،
مع إثبات ما للمؤثرات التابعة من فعل.
مالحظات
* قبل مناقشة القول؛ البد من رشحه.
* البد من تأويل السؤال كام أسلفنا ،وإال فإننا سنغلط غلطا فاحشا
إن اكتفينا بالنظرة األوىل ،وقرأنا «مبينني اخلطورة التي للبيت يف امليدان
الرتبوي» ثم أخذنا نكيل القول بغري ميزان ونؤيد النظرية يف كل نواحيها
إنام «نبني اخلطورة التي للبيت» بالقدر الذي نؤمن به ،وبعد أن نناقش.
ب -التصميم
* رشح السؤال ووضع املشكلة.
41
* مناقشة املوضوع.
* النتيجة وفيها ذكر أمهية البيت ودوره يف تكوين الطفل.
د -اإلنشاء
ال زال الناس ينسبون إىل البيئة أثرا خطريا يف بناء شخصية الناس ويكتبون
الكتب يرشحون فيها كيف حيدث هذا األثر .ويريد بعض الباحثني،
وخصوصا أصحاب التحليل النفيس ،أن جيدوا يف وقائع الطفولة األوىل
بني أحضان األرسة ،تفسريا لكل ما يتخبط فيه الناس من مشاكل نفسية،
اخلفيفة منها والعميقة .والواقع أن هذه الطائفة من العلامء خيصون باهتاممهم
42
يف دراسة البيئة الطفولة األوىل ،وهبذا حيدون جمال اهتاممهم يف أحداث
البيت أثناء هذه املرحلة .ولعل من مريدي هذه املدرسة أو املصطبغني
بتعاليمها املريب الذي يقول« :إن اخلطوط العريضة لشخصية الطفل ترسم
يف سني الطفولة املبكرة ،وأن مصريه ليتقرر بني جدران البيت» وهذا التأكيد
إن دل عىل يشء فإنام يدل عىل أن صاحبه متشبع بالفكرة إىل حد أنه مل يرتدد
يف استعامل عبارات هنائية كمثل تقرير املصري .وحينام يقرأ املريب كلامته يقع
يف حرية ،ويشك يف إمكان القيام بوظيفة تربية األحداث .وكيف يكون
ذلك وهو ال يستقبلهم إال بعد أن يكون مصريهم تقرر؟ ونقف هنا مثل
هذا املوقف الشاك لنبدأ مناقشتنا للفكرة ،وننتهي إىل رأي ما .فإن من املهم
أن يكون لدينا مبدأ منه نستمد القوة يف عملنا .واختاذ هذا املبدأ متوقف عىل
معرفة ما إذا كانت شخصية الطفل ترسم هنائيا يف البيت ،وإذن فال معنى
للرتبية بعد هذه املرحلة ،أو يقف تأثري البيت أثناء الطفولة املبكرة عند حد
نعرفه ،وإذ ذاك يسعنا أن نعتقد أن عملنا كمربني ذو موضوع.
طاملا اعتقد الناس واعتقد معهم املربون أن الطفل ،وباألخص يف
سنواته األوىل ،مادة لدنة قابلة لالنطباع بكل ما يقدم إليها .فعاملوه عىل
هذا األساس وحاولوا أن ال يضعوا أمامه إال أمثلة يصح أن تكون له
نموذجا .ويمكن أن يكون هذا االعتقاد هو الداعي إىل ما نقرأه عنه،
بل نشاهده يف بعض األوساط ،من القسوة عىل الطفل وتعنيفه .يمكن
أن يكون اعتقادهم بأنه ينطبع بسهولة يدفعهم إىل احلرص عىل جتنيبه
كل مشهد أو عمل من شأنه أن يكون جرثومة عادة سيئة .وخرجت
يف العرص احلديث فكرة تبني أن الطفل طينة أكثر لينا مما كان يظن ،وإن
قابليتها للتأثر ال تنتهي ،وأن هلذا التأثر وقع دائم يف نفس الطفل .وجاء
فرويد بنظريته يف التحليل النفيس ،فشاعت أفكاره وكثر أتباعه ،وفشت
آراؤه يف الناس فاختلف فهمهم هلا .لكنها عىل أي حال سامهت يف
الدرجة األوىل يف خلق جو من القلق ،ال عند األرس فحسب ،بل حتى
يف أوساط املربني .فاآلباء واألمهات ينظرون إىل الطفل بعد أن يقرأوا
فرويد وأتباعه ،ويف قلوهبم هلع شديد ،حيسبون أن الطفل خملوق ال
هناية للطافته يوشك أن ينكرس إذا هم شدوه باليد .وحيارون كيف
يعاملونه املعاملة املناسبة حتى ال تصيبه واحدة من هذه العاهات اخلطرية
43
التي تسمى العقد النفسية ،والشعور بالنقص الخ .أما املربون فيسمعون
اآلراء اجلديدة ،ويقارنوهنا بام هو مكتوب عندهم ،فيتوجسون خيفة
أن يكون الركب قد فاهتم ،وأن يكونوا أمهلوا جانبا مما كان ينبغي أن
يدرسوه ،سيام واملربون متفائلون أبدا ،يظنون أن بإمكاهنم أن خيلقوا نشئا
سويا بقطع النظر عن سوابقه يف الطفولة املبكرة .ويبدأ املربون يف دراسة
فرويد والتحليل النفيس عسى أن يلقوا جوابا حلريهتم .يعمل بعضهم
ذلك برغبة صادقة يف التبرص والعلم ،ويفعله بعضهم بالفضول الذي
يدفع الناس إىل اإلطالع عىل كل جديد وجتربته .وكل هذه الدراسات
التي يقوم هبا املربون ال جتدي كثريا يف معرفة اجلواب ،ألن الطفل ليس
جمموعة معادالت يمكن معرفة املجهوالت التي تتضمنها ،لكنه كائن
حي شديد التعقد ،ومن هنا صعوبة إخضاعه لقاعدة عامة.
نعم يصعب أن نخضع الطفل لقاعدة عامة ،ونحدد ،يف مثل الضبط
الذي يظهر يف قولة مربينا ،كيف ومتى تتكون شخصيته .الذي نعرفه
بالتجربة هو أن الطفل ،يف سنواته األوىل ،وهو خلو من أي معرفة لواقعه،
يأخذ كل يشء عمن حوله .والواقع يف نظره ليس شيئا آخر غري ما يراه يف
البيت ولو كان هذا الواقع غري عادي .أن الطفل يقبل الوضعية التي وجدها
أمامه ،ويتخذها قاعدة للحكم بعد ذلك عىل غريها .فبوسعنا أن نقول،
دون أن نبتعد عن الصواب ،أن الطفل يكون يف سنواته األوىل بني جدران
البيت صورا أساسية عن الواقع ،وأن هذه الصور تكون طبق األصل
لواقع البيت الذي درج فيه .والذي نعرفه أن الطفل حيتاج يف مرحلته
األوىل إىل محاية وأمن ،وأن إحساسه العاطفي متيقظ يتأثر باجلو السائد
حوله ،فينشأ قلقا خائفا إن مل جيد األمن واحلامية الالزمني ،وينشأ منطلقا إن
شعر أنه حيتل يف قلب والديه أو مربيه مكانة خاصة .وبوسعنا إذا أن نؤكد
بأن اجلو العاطفي الذي يعيشه الطفل يف سنواته األوىل يؤثر عىل طبعه أثرا
بينا ،ونجد أمثلة هلذا التأثري عندما نقارن طفال نشأ بني أحضان أرسته،
وطفال كبري يف ميتم مثال .ومن السهل أن نالحظ الفرق بينهام حيث نرى
األول مساملا يثق بالناس ،ونرى الثاين مرتقبا خائفا .ونجد نفس الفرق
44
بني طفل األرسة السوية ،وطفل األرسة التي حدث فيها ما هيدد أمن
الطفل ،كالطالق أو سوء ترصف أحد األبوين ،أو الوقائع البيتية
بني الزوجني .والذي نعرفه أن التجربة التي جرهبا الطفل يف سنواته
األوىل ،حتتل يف ذاكرته مكانا خاصا ،أو عىل األقل تربز إىل الذاكرة بني
فينة وأخرى حتى بعد أن يكرب الطفل ،لكن هذا كله ال يعني أن الطفل
شمع لني يتكيف مرة واحدة بني جدران البيت ثم ينتهي كل يشء .وإذا
اعرتفنا أن الطفل يتأثر باجلو العاطفي الذي نشأ فيه يف سنواته األوىل،
فإننا ال نرتك من أخذنا هبذه لكلمة ،ويلفت نظرنا إىل أن صاحبنا الذي
نحن بصدد النظر يف قوله ال يعني شيئا آخر غري ما نؤكده .جييئنا هذا
املعارض بنفس املثال الذي قدمناه ،وخيرج لنا اليتيم أو الطفل من األرسة
املضطربة ويضعه أمامنا مشريا إىل العقد النفسية مرتاحا إىل أنه أوقعنا يف
الفخ .فجوابنا عليه أن اليتيم يف ميتمه كام وصفنا ،ويبقى كام هو إن كرب
يف نفس اجلو حتى أكمل طفولته ،ألنه تعرض باستمرار إىل نفس العامل
وعاش نفس العيشة من أول أيامه إىل سن الرشد .لكننا إن أخذنا هذا
اليتيم يف سن معقولة ،كاخلامسة مثال ،ووضعناه يف جو مالئم ،وأعطيناه
تربية مالئمة فإنه سيكرب وهو غري الشخص الذي يكونه لو تركناه مليتمه.
ويدل عىل هذا ما يقدمه ذوو االختصاص من إحصائيات يف املوضوع.
وإن يف أمريكا ملشكلة كربى مرجعها إىل وجود عدد هائل من األحداث
املضطربني نفسيا ،بام فيهم األحداث املجرمون واملرشدون .وهؤالء
تتناوهلم احلكومة بالرتبية وتصلح أحوال الكثريين منهم .واإلحصاءات
التي أرشنا إليها ال تعطي بالطبع مائة يف املائة يف نصيب النجاح ،ألن
عملية الرتبية ليست عملية صناعية ،بل هي عملية إنسانية ختضع ملؤثرات
ال ترى فيمكن إحصاؤها .لكن االحصاءات عىل أي حال ترتك نصيبا
طيبا بجانب النجاح ،يكفي عىل األقل إلحداث فرجة كبرية يف رأي
الذي قال بأن الطفل صنع مصريه يف سنواته املبكرة .ويمكننا أن نبدأ
مثالنا طردا كام أسلفنا ،أو عكسا بأن نبني أن األحداث التي يتعرض هلا
الطفل بعد سنواته املبكرة خطرية ،إن مل تكن أخطر من أحداث السنوات
األوىل .وشاهدنا أمثلة نشاهدها يف كل يوم ألطفال أسوياء عصف هبم
الدهر يف نصف الطريق أو ثلثها أو قبل ذلك ،فامت األبوان أو أحدمها،
45
أو فقدا بوجه من الوجوه العيش الدافئ الرضوري لربوز شخصيتهم
مستقيمة ،فكان للصدمة عليهم وقع ال ينتهي مداه .وهنا ندعو مرة
أخرى إحصاءات املحصني ،فتعطينا نسبا كبرية يف إحصاءاهتا العامة،
ألطفال انحرفوا بعد أن كانوا عىل اجلادة.
إن أثر البيت ال ينكر يف تقويم الشخصية .وتتميز اخلطوط األوىل
لترصف الطفل تقليدا ملا يشاهده وملن يعايشهم .وال جدال يف أن الصغري
يرضع مع لبان أمه الكلامت التي يسمعها ،واملناظر التي يشاهدها ،كام أنه
يتغذى بالعواطف التي يتبادهلا مع أفراد أرسته .وإذا كان اجلو السائد يف
البيت موافقا ،فإن الفص تكون أقوى لينشأ الطفل نشأة قويمة .وعليه
فمن الالزم أال نبخل بكل جهد لتوفري هذا اجلو يف البيت والسهر عىل
إعطاء صور حسنة تكون مثاال للطفل يقتدى به غري أنه من املكابرة أن
حيد املرء نشأة طبع الطفل يف احلدود الضيقة ،ويضعه يف الطفولة املبكرة
التي تقيض بني جدران البيت .وال ينبغي أن ننسى أن الطفل عندما يتسع
أفقه حيرض أحداثا هي أهم مما شاهده يف البيت ،وترتك البيئة له جماال
يلتقط فيه املادة األوىل لبناء شخصيته .حتى إذا وصل املدرسة ،أخذ املريب
هذه املادة االوىل فكيفها عىل النحو الذي يصلح .واملتأمل يمكن أن يزن
بني تأثري البيت يف الصغري ،وتأثري البيئة الواسعة فيه يف املراحل التالية،
فيضع يف كفة خطورة ما يطبعه البيت يف نفس جديدة مل يسبق أن مسها
طابع ،ويضع يف الكفة األخرى أمهية األحداث التي يف البيئة وعنفها،
وأمهية الصدمات التي يتعرض هلا اإلنسان يف شتى مراحل حياته ،أليس
من املنطق السديد أن نعادل عىل األقل بني الكفتني؟ ودور املريب ال ننساه،
فإنه إن كان ذا شخصية قوية يعطي االجتاه احلاسم لشخصية الناشئني.
وسائل يسأل كبار الرجال عن أهم مؤثر يف حياهتم ،وأهم عامل يف بناء
شخصيتهم يسمع هؤالء وقد أجابوه بأهنم مدينون ملربيهم فالن أو فالن،
أو لشخص عابر رأوا منه أو سمعوا .هذا وإن املدرسة بصفة عامة بمثابة
البوتقة التي خترج األجيال؛ ففيها يلتقي مجاعة األطفال جييئون من آفاق
متعددة ،وتكون وحدة سنهم وأذواقهم انسجاما معه تبادل العادات
46
والعواطف ،ثم تبادل األفكار فيام بعد .وال ننسى مرحلة املراهقة ،فإهنا كام
يقولون« :موعد ميالد ثان» .يكون املراهق أثناءها كثري القابلية لإلنفعال،
وشديد اإلقبال عىل تدبر أمره وأمر الناس ،حريصا عىل أن حيدد نفسه
بالنسبة لآلخرين .وبصفة عامة ،فإن الشخصية ال تتكون يف مرحلة دون
أخرى ،وإنام تنمو باستمرار ال تقف عند حد إىل أن يشيخ الفرد ،بل إىل
أن تشيخ نفسه.
إن من اجلرأة والطيش أن ينصب املرء نفسه نبيا يف شؤون الرتبية ويؤكد
دون مراعاة لطبيعة املوضوع ،كأن الرتبية عملية ملموسة تعرف مقدماهتا
ونتائجها املحتومة .واملربون يعرفون أمهية ما يبحثون عنه ،وخطورة
النتائج التي تلدها كلامهتم ،لذلك يقتصدون ويزنون ،فإذا وجدنا كلمة
فاهوا هبا ،وفهمنا منها أهنم مل يقتصدوا ومل يزنوا؛ فلنتهم أنفسنا بالتقصري،
ولنبحث عن طريقة أخرى لنفهم عنهم .وبقول مربينا قوال من هذا
القبيل ،يوشك اجلاهل أو املتعصب أن يأخذه عىل ظاهره ،ويقيض فيام ال
يعرفه .إن بناء شخصية اإلنسان ال يتسع هلا ميزان حيدد صنعها ،وال ساعة
حتسب سري العمل يف حميط دقائقها ،إنام تبني شخصية الفرد ،وبالتايل
يتقرر مصريه ،طيلة سنواته التي يعيشها ،فيبدأ ذلك من يوم يولد إىل يوم
يلحد .وبني هذين اليومني يتعرض املرء حلاالت تزيد أو تنقص يف عنفها،
وتزيد أو تنقص يف مقدار ما وضعته يف نفسه من أثر .ال نستطيع أن نقول
إن اهليكل الذي تبنى حوله الشخصية يتم وضعه يف الطفولة املبكرة ،كام
ال نستطيع أن ندعي أن شكل اإلنسان وجسمه أبدا ،إن احلاالت التي
يتقلب فيها الفرد أثناء نشأته ،ال ختضع وال يمكن أن ختضع ملقياس يف
حساب تأثريها يف الشخصية ،فكام خيتلف األفراد خيتلف موقفهم أمام
احلياة وتقلباهتا ،وختتلف شخصيتهم بقطع النظر عام وقع يف البيت أثناء
طفولتهم األوىل .نعم ألحداث البيت نصيب يف توجيه الشخصية ورسم
خطوطها األوىل ،وهذا النصيب ال يغطي النصيب الذي تساهم به البيئة،
ويساهم به املريب ورفاق املدرسة ،وال النصيب الذي يساهم به نوع
47
املعيشة ،ونوع العمل الذي يامرسه كل واحد .الشخصية ال تتبلور يف
مرحلة الطفولة املبكرة وال تتبلور يف أية مرحلة أخرى بصفة هنائية .إهنا ال
تتبلور حتى أثناء املراهقة رغم أمهية هذه املرحلة يف حياة الناشئني .وإننا
نالحظ الناس عىل مرسح احلياة يتبدلون بمناسبة خري نالوه ،أو صفعة
شديدة صفعها احلدثان .وبعد كل هذا نسمع املحلل النفيس يتحدث عن
املصيبات النفسية ،ويسل جذورها الطويلة التي ال تقف إال عند الطفولة
األوىل ،فنسليه بأن األمر غري ميئوس منه ،وأن الرتبية قادرة عىل العالج،
وتاليف األمر.
48
املوضوع رقم 4
تقول الدكتورة منتسوري« :يالحظ أن االنقطاع الفجائي عن العمل
يتعب أكثر مما تفعل املثابرة عىل هذا العمل».
ارشح هذا القول وحتدث عن انتباه الطفل وكيف حتصله ،وعن الطريقة
العملية لتفادي التعب الذي تتحدث عنه املربية.
49
السائل «حتدث عن انتباه الطفل» و«حتدث عن الطريقة العملية لتاليف
التعب» يعطينا يف نفس الوقت صورة لألفكار التي ينتظر السائل أن
نقدمها له يف املوضوع .ولذلك سنستعمل باقتصاد وتيقظ كل املعطيات
لكي نفصل القول دون أن ندخل بعضه يف بعض ،وسنقترص يف رشح
القول عىل التذكري بعمل املربية ومنرصف اهتاممها ،وعن مالحظتها هذه
كنتيجة خرجت هبا من جتارهبا عندما وضعت طريقتها املشهورة .ولن
نتعرض يف هذا اجلزء ليشء خاص فيام يتعلق باالنتباه أو كيفية مكافحة
امللل .فإذا وصلنا إىل هذا احلد كانت الكتابة بعده علينا أيرس ،ألننا هنا
نعرف بالضبط املوضوع الذي نحن فيه .لكن ال ننسى أن عبارة «انتباه
الطفل» يعمم ،فلم يبق األمر متعلقا بأطفال منتسوري يف مراحل النمو
األوىل ،بل هيم كل األطفال كيفام كان سنهم .ويتحتم نفس التعميم يف
اجلزء األخري من السؤال ،فيشمل هذا األخري طرق التعليم املرصودة
إلذهاب التعب عن الطفل وإرشاكه يف العمل مرتاحا مقبال.
مالحظات
إذا وجدنا موضوعا يبدو مبهام مستغلقا يف أول األمر ،فال نيأس منه
وال نستصعبه .بل ننظر إىل تتمة السؤال ،فنجد فيها دائام ضوءا ينري لنا
السبيل ،كام رأينا ذلك هنا .ولنفكر دائام أن السائل ربام يورد قول مرب
ال لكي يعتمده يف سؤاله ،لكن ليجعل هذا القول إطارا يضع فيه سؤاله
أو أسئلته .وربام يكون هذا اإلطار غري واضح املعامل ،وربام يتعمد السائل
جعله كذلك ليبتىل معلوماتنا العامة يف الرتبية وينظر ،مثال ،هل نعرف من
هي منتسوري وما نوع عملها .وقد رأينا كيف تكون معرفة عامة كمعرفتنا
هلذه املربية وجتارهبا أساسية لفهم املوضوع وتفسريه .نالحظ أن السائل
يريد أن نبني له الطريقة العملية لطرد امللل من األعامل الدراسية ،فهو هنا
ينتظرنا يف ميدان التطبيق ،وإذا فلن يكفي أن نعطي إشارات فسيحة عن
هذه الطرق ،بل البد من إخراج أمثلة تطبيقية إلنارة ما نقول.
50
ب -التصميم
* رشح القول.
* االنتباه عند الطفل وكيف نحصله.
* الطريقة العملية لتحصيله واملحافظة عليه.
د -اإلنشاء
تأوه املعلم وتأفف ،وكاد يستويل اليأس عىل قلبه عندما رأى أن تالميذه
ال ينتبهون .ونشارك املعلم يف اقتناعه هذا فهو عني البدهية .وشكواه هي
نفس الشكوى التي تسمعها من كل معلم حريصا عىل أن يعطي التالميذ
فائدة يف كل درس .لكن املعلمني يقفون وجها لوجه أمام صعوبة إلفات
تالميذهم إىل العمل ،فيعاجلون املوقف بشتى أنواع احليل ،ومن بني هذه
احليل تلك احليلة الغليظة التي طاملا طبقت عىل صورة عصا هتوي عىل
الظهور .غري أن قانون التطور املحتوم أخرج أجياال من املعلمني تنبهوا
إىل قلة جدوى هذه الطريقة ،وعدم لياقتها ،ودرجوا يف سبيل البحث إىل
أن وصلوا إىل الطريق العلمية ،أعني طريق التجربة املؤكدة .وتناول علم
النفس ،يف أول ما تناوله ،انتباه األطفال وحقيقته ،وعاد املربون ينظرون إىل
الطفل يف عطف ليعرفوا ملاذا يقبل عىل العمل أو يدبر عنه .ويف طليعة من نظر
51
الدكتورة منتسوري التي تقول« :يالحظ أن االنقطاع الفجائي عن العمل
يتعب أكثر مما تفعل املثابرة عىل هذا العمل» ويرى قارئها إىل أي حد
اهتمت باألمر ،فجربت مقدرة الطفل عىل حتويل انتباهه بعد أن درست
والشك ،بداية هذا االنتباه .وعىل ضوء مقالتها سنحاول تقديم عرض
عن انتباه الطفل بصفة عامة ،وكيف حيصل املعلم عليه ،وكيف يطبق
طرقا بيداغوجية ،يضمن هبا إيقاظ انتباه الطفل واالحتفاظ به الوقت
الالزم إلنجاز أعامله الدراسية والرتبوية.
هذه مالحظة من مالحظات املربية اإليطالية العديدة ،أخرجتها
«دار األطفال» .العش الذي بنته منتسوري وجعلته خمتربا ملالحظة
الصغار .ومن يعرف طريقة منتسوري يف التجربة ،وأهنا جتربة علمية
فيها كل التحريات الرضورية ،يدرك أمهية املالحظة وصدقها .وجتربة
الدكتورة مع الصغار تاريخ ميلء باملحبة والعطف ،غزيرة منتوجاته
يف حقل بيداغوجية األحداث .عمدت الدكتورة إىل آراء مربني كبار
سبقوها من أمثال هربرت وفروبل وروسو ،واختذهتا قاعدة مفروضة
تبني عليها ريثام تصل إىل تأسيس بناء مستقل .وذلك ما قدرت عليه
يوم كتبت «البيداغوجية العلمية» وأهم ما اشتهرت به طريقة منتسوري،
استعامهلا الوسائل املحسوسة تتخذها دعامة ملد النشاط الفكري بني
صغارها ،والفوز باهتاممهم .واقتبست من فروبل نظام لعبه وطورهتا،
واعتمدت أنواعا كثرية من النشاط كرتبية الدواجن ،والرسم باأللوان
الخ .لتوفر يف «دار األطفال» سلسلة مجيلة واسعة من املواضيع القمينة
بأن هيتم هبا الصبيان .وكل ما وصلت إليه من هذه الطرق ،جاءها
عن طريق مالحظة الصغار ،والتجربة عليهم فإذا رأت أن لعبة ما
أو طريقة ما يف استعامهلا ،ال يستجيب هلا الطفل ،بدلتها بغريها إىل أن
جتد .وهذا بالضبط ما فعلته قبل أن تكتب املالحظة التي نحاول اليوم
بحثها .وقالت إن األطفال يتعبون إذا قطع عملهم فجأة ويرتاحون إن
تركت هلم الفرصة ليثابروا .وقليل من التبرص يعيننا عىل فهم مقالتها
بوضوح أكثر .فإذا تبرصنا برز لنا أن األطفال يتعبون باالنقطاع الفجائي
إذا كانوا حقا مهتمني ومنرصفني إىل العمل الذي كانوا يامرسونه،
52
وبرز لنا أن املثابرة حيبوهنا فقط إذا كان ما هم فيه يعنيهم .وتلحق هذه
احلقيقة ما نعرفه من أن األطفال إذا اهتموا بيشء شغفوا به ،فإذا شغفوا
به كان شاقا أن يطرحوه فجأة ،سيام إذا جئت تقرتح عليهم عمال غريه
كيفام كان .ومن جهة املعنى الثانية ،نعرف أن األطفال ،إذا شغفوا بعمل.
أحبوا أن يستمروا فيه .عىل أن األمر حيتاج إىل بعض التفصيل حتى حتدد
الظروف التي تتجىل فيها هذه احلقيقة .ومن املعلوم أن الطفل بطبيعته
كالفراشة رسيع التنقل من اهتامم إىل اهتامم ،وأن هذه الرسعة تقل عند
الطفل كلام تقدم يف السن ،وبالقدر الذي تزيد فيه قدرته عىل تركيز اهتاممه
يف موضوع واحد .ففي هذه الظروف نضع مقالة منتسوري لنعرف أن
املثابرة التي تتحدث عنها نسبية ،وأن الطفل حيتاج إىل تغيري حسب سنه
وحسب عامل اإلغراء الذي يف موضوع اهتاممه.
والذي مل تقله املربية اإليطالية ،هو كيف نوجد عامل اإلغراء؛ وكيف
نشد الطفل إىل العمل بحبل من الرغبة شديد .مل تقل ذلك هنا ،لكن
أعامهلا كلها ترتكز عىل هذه النقطة .ولذا نراها تتخذ اللعب ،وهو النشاط
الطبيعي لكل طفل ،أساسا ألعامهلا؛ ومطية إىل التعليم والرتبية .عىل أن
الطفل هيتم بأشياء أخرى غري اللعب ،أو عىل األصح ،يمكن أن ندخل
يف االعامل اجلدية عنارص جتعلها مغرية للطفل كام يغريه اللعب .وهذا ما
يمكننا من توسيع دائرة البحث ،وامليض من اهتامم الصغار وانتباه الصغار
إىل انتباه واهتامم الطفل بصفة عامة.
وانتباه الطفل بغية املعلمني املربني ،يتحرونه بكل وسيلة ،ويتخذون كل
األسباب لينالوه ،لكن املعلمني يف بعض األحيان خيتلفون يف فهم االنتباه؛
فمنهم من ال يرىض إال عندما يسود الصمت يف القسم ويضع األطفال
أعضاءهم وضعا خاصا ويلتفوا أعينهم إليه .وهذا النوع من املعلمني
يكثر من قول «انتبهوا»« ،انتباه» ،وينتبه له األطفال كام يريد ،أعني أهنم
يتخذون الوضعية التي يعدها هو مظهرا لالنتباه ،وتبقى هلم حرية النشاط
الفكري يذهبون به أنى شاءوا .وكيفام كان مذهب املعلم يف احلصول عىل
هذا «االنتباه» بالعنف والشدة ،أو باللني واالقتناع ،فإن كل ما حيصل
53
عليه ،حركات يقوم هبا الطفل ال متس قليال وال كثريا نفسه ،ومن املعلمني
من يعرف قلة جدوى الطريقة التي ذكرناها ،ويريد األطفال عىل أن
ينتبهوا إليه انتباها حقيقيا ،شارحا هلم أمهية املوضوع الذي يدرسونه،
وتظن هذه الطائفة أن الطفل قادر عىل توجيه انتباهه كام يريد ،بالقياس
إىل ما يفعله الراشد القوي اإلرادة .واخلبري بالطفل يعرف أنه عاجز عن
تسيري انتباهه بإرادته ،وكيف يقدر عىل ذلك ،والراشد نفسه ال يقدر عليه
إال يف حاالت قليلة ولوقت قصري؟ فال يبقى إذا إال التامس طريقة أخرى
لتحصيل االنتباه ،فلنلتمسها كام فعل املربون منذ هربرت.
جاء هربرت بنظرية االهتامم ،وقال إن األطفال ال ينتبهون إال ملا يعنيهم
أي لليشء الذي يدفعهم إليه دافع نفيس قوي ،وولدت نظريته جتارب
كثرية ،فتحقق أن اإلغراء الذي يمكن أن خيلق ويسلط عىل الطفل قابل
للتفاوت ،وأنه كاملغناطيس إذا تعدد كان أقواه جاذبية الفائز بالفريسة.
ويف حياة الطفل فرتات متتالية ،لكل منها اهتامم خاص به ،يتعني
أن يعرف املعلم تعاقبها ،وما يطابق كال منها من ميول الطفل .وأن
مهمة املعلم ،يف خطورهتا ،تقتيض أن يرصف يف ذلك جهود كبرية ،ال
تقل عن جهود تاجر اللعب ،الذي يدرس األطفال ويعرف نوع اللعب
التي حيبوهنا ،ونوع اللعب التي تناسبهم يف كل فرتات نموهم .ويكفي
املعلم أن يعرف االجتاه العام هلذا االهتامم ،ليكيف مادته التي يدرسها
مصوغة يف قالب يراعي رشوط الطفل .وكام فعلت الدكتورة منتسوري
ومن قبلها يف جعل اللعب وسيلة للتعلم ،يمكن للمعلم أن يفعل مع
األطفال األكرب سنا .وإذا علم أن سن الثامنة والتاسعة تقابل اهتامما
خاصا باحلل والرتكيب امليكانيكيني ،استعمل هذا امليل يف األعامل
اليدوية التي جيعلها متارين تطبيقية يف بناء االحجام لدرس احلساب،
ويف رسم اخلرائط ونحتها لدرس اجلغرافيا .وأن نفس املعلم احلساسة،
ستشعره أن األطفال ينفعلون معه ،فيهتمون باهتاممه دون أن حيتاج
إىل طلب ذلك منهم ،بل باألخص إن مل يطلب ذلك منهم بالكلمة،
بل اهتم باألمر حقا حتى ظهر ذلك يف وجهه .فإن جرب هذا وعرف
موضعه من الصواب جعله ديدنا له ،فجاء بدروسه وقد أعدها برغبة
54
صادقة ،وفكر يف أطفاله عند حتضريها .فإذا حرض حجرة الدرس ،ألقى
درسه يف نشاط ومحاس .ويتطلب تطبيق هذا املبدأ جهدا متواصال ،كيال
يكرر املعلم ما يقوله يف كل يوم ،بل يأيت يف كل ساعة بجديد .بجديد يف
ماهيته ،أو صيغ صيغة مبتكرة .فإذا فعل ذلك وكان محاسه غري مفتعل،
فسريى أن تالميذه سيندفعون معه إىل العمل يف إقبال شديد.
ولئن كانت الدوافع الداخلية النفسية أوثق األسباب جللب اهتامم
الطفل فإن عوامل خارجية كثرية يكون هلا أثر ال يستهان به يف هذه
العملية ،وبدهيي أن الرشط األسايس لكي هيتم الطفل وينتبه ،بل لكي
يكون قادرا عىل هذين ،هو أن يكون صحيحا معاىف يف نفسه وجسمه.
والطفل الساهم الشارد الذهن طفل يف جسمه أو يف نفسه وجسمه.
والطفل الساهم الشارد الذهن طفل يف جسمه أو يف نفسه مانع أقوى من
جاذبية الدرس الذي يعرض عنه .وهلذا جيب أن يتيقظ املعلم لتالميذه،
ويسأل ليعرف حاالهتم النفسية واجلسمية ،ويعمل عىل عالجها إذا كان
يريد أن حيتاط لعمله ،وهييء له أسباب النجاح.
وأهم الطرق العملية لكسب اهتامم الطفل واالحتفاظ به ،وضع املنهاج
عىل شكل متتابع متامسك يف إطار ما نسميه حمور األسبوع .وقاعدة الطريقة
أن الطفل هيتم بموضوع من املواضيع اهتامما كبريا ،فيستغل املريب هذا
االهتامم ويربط باملوضوع األصيل فروعا خمتلفة .وقد نشأت الطريقة يف
حضن املدارس احلديثة كمدارس ديكرويل واملدارس األمريكية واألملانية.
واحلقيقة أن هذه املدارس تعطي الطفل حرية أكثر مما تعطيه مدارس نظامنا.
وأن تبنينا ملحور األسبوع اقتباس جزئي باهت لطرق املدارس احلديثة.
ويقتيض تطبيق حمور األسبوع اختيار موضوع أسايس وليكن السفر مثال،
ثم العمل بشتى الوسائل حتى هيتم األطفال باملوضوع بام يف ذلك استعامل
وسائل التعليم .وهي أيضا من العوامل اخلارجية املهمة جللب االهتامم،
واالعتامد عىل جتارب األطفال وأسفارهم.
وإذا بلغنا غرضنا واهتم األطفال باملوضوع يف أول األسبوع ،جئناهم
يف الدروس املتنوعة التالية بنفس املوضوع لكن دون أن نكرر نفس ما قلناه
أول يوم ،فإذا كان درس التالوة حيكي سفرا قام به مكتشف بحار ،جئنا
55
يف درس املحادثة بسيارة مثال وحتدثنا عن األعامل التي نحب أن نقوم
هبا مستعملني السيارة ،ويف درس املحفوظات نقرأ قطعة تتحدث مثال
عن سفرة الطيور الفصلية عىل أن استعامل حمور األسبوع ،قد يؤدي إىل
مبالغات تافهة ،إذ يظن املعلم أنه مأخوذ به ،فيتصنع االختيار عندما
يصعب االختيار ،ويقف عند اخرتاعات ركيكة الشك أن الطفل يفطن
إليها ويرى احلبال الغليظة التي نريد أن نصطاده هبا ،وكان املنتظر أن تبقى
هذه احلبال خفية.
ومن العوامل اخلارجية لبعث االنتباه ،وقد أرشنا إليها ،وسائل التعليم
بأنواعها الكثرية .مهمتها الرئيسة أن تشخص للطفل املعلومات حتى
يسهل عليه إدراكها ،لكنها يف نفس الوقت تثري فضوله وتلفته إليها وهو
إذ ينتبه لوسائل التعليم ينتبه فقط لليشء نفسه ،واملعلم احلاذق يفهم هذه
احلقيقة فال ينتظر من وسيلة التعليم أن حتدث اهتامما حقيقيا باملوضوع
املدروس ،لكنه يتخذها سلام به يصعد الطفل إىل االهتامم.
هذا وإن كل درس يف بدئه ،جيد الطفل باردا ال يعنيه الدرس يف
غالب األحيان ،سيام إذا كان هذا الدرس بعد «االنقطاع الفجائي» الذي
تتكلم عنه مربيتنا .فمن الالزم أن جيد املعلم وسيلة الدخال التالميذ إىل
الدرس راغبني ،ويتعني أن يعطيهم فرصة ليسرتحيوا من التعب الذي
القوه يف الدرس السابق أو من جراء «االنقطاع الفجائي» .ثم يقدم إليهم
الدرس اجلديد بمقدمة مرغبة يبذل كل جهده ليتقنها ،وذلك بأن حيدثهم
عن حادثة سمعوا عنها ويمكن ربطها باملوضوع ،أو بأن يدعو أحدهم
ليتحدث عن جتربة عرفها هتم املوضوع.
إن نيل انتباه األطفال عزيز عىل غري املقتدرين ،ألن إرادة الطفل أضعف
من أن توجه هذا االنتباه وتضبطه ،فالبد من االحتيال له بشتى الوسائل
البيداغوجية والسيكولوجية .نسيت أو كادت تنسى ،تلك الوضعية التي
يقف فيها املعلم داعيا إىل الصمت داعيا إىل االنتباه ،كان عدم الصمت
أو اجللسة اخلاصة ،كافيان الحضاره .وتنوعت أعامل املربني وجتارهبم،
الخرتاع وسائل نفسية تضمن االنتباه احلقيقي .ويف متناول اليد نتائج
هذه التجارب.
56
والطرق التي وصل إليها عن طريقها .لكن الصعب هو أن يضعها
املعلم يف حيز التطبيق نظرا إىل أن كل ما يتعلق بنفسية الطفل ودوافعها
حيتاج إىل مهارة ودقة حس يتصف هبام من يتناوله .ويظهر أن أول
الصفات يف هذا املتناول الصرب واألناة لئال يمل االنتظار ،ويرصخ يف
األطفال «انتبهوا» .والصفة الثانية قدرته عىل دراسة األطفال ليعرف ما
هيتمون به ،وإىل أي حد هيتمون ،ليمكنه تدبري دروسه عىل نحو يناسب
هذا االهتامم .والصفة الرئيسية يف نظري ،هي قدرة املعلم عىل االحتفاظ
بحيويته وجتديدها يف كل يوم ويف كل ظرف .أتصور املعلم املتقد محاسا،
الذي يعدي أطفاله هبذا احلامس ،املعلم الدائب عىل البحث ،كلام عثر عىل
حقيقة أو يشء بذاته ،فكر قبل كل يشء يف الدور الذي سيعطيه ملا عثر عليه
يف دروسه .أتصور املعلم الذي مجع كل هذه الصفات وقد أعد دروسه
طبقا للقواعد األساسية التي يعرفها لنفس الطفل ،ثم قدم هذا الدرس
تقديام حاذقا مرغبا ،حتى إذا تأكد من أن التالميذ بدأوا يسايرونه ،اندفع
هبم نشيطا متيقظا ،مهه دائام أن يعمل أطفاله وهم ال يشعرون بأي تعب،
وهم حيبون أن يثابروا عىل ما هم فيه.
57
املوضوع رقم :5
قال أحد املربني« :إذا أردت أن تظفر باحلقيقة يف شأن الطفل ،فتبرص
نفسيته ،فاتركه يترصف بحرية أمام املالحظ».
ارشح القول ،واذكر الطرق التي تسلكها لدراسة األطفال.
58
سيكولوجية الطفل بصفة عامة ،ودراسة سيكولوجية كل طفل.
ولننظر ثانيا ما يف يدنا من وسائل للدراستني .سيكولوجية الطفل
تقرأ يف الكتب وتدرس يف املعاهد ،والسيكولوجية الفردية تدرس
كتامرين تطبيقية للدروس النظرية ،أو كعمل يقوم به املعلم بعد أن
يبدأ يف ممارسة عمله .واملهم هنا أن نتأمل اجلزئني ،ونجيب عن كل
منهام بغاية الدقة والبيان .متذكرين ،طورا آخر ،أن الوضوح رشط
أسايس ليكون ملا نكتبه قيمة.
ب -التصميم
* رشح القول.
* الطرق التي أسلكها لدراسة األطفال.
جـ -التصميم املفصل
دراسة األطفال ملاذا كانت رضورية -الطفل واملنهاج -الطفل
واختالفه باختالف العوامل التي تؤثر فيه ،كالوسط العائيل ،واحلالة
الصحية – الطفل والنمو -الطفل يف املدرسة -دراسة طبيعة كل طفل
وذوقه وحالته العامة :لتهيئ املادة املناسبة للقسم بصفة عامة ،ثم لتكييف
الدرس وختصيص التعليم.
* دراسة الطفل -مالحظة األطفال ملعرفة كل منهم ،يف ساحة
اللعب ،يف القسم ،يف معاملتهم لبعضهم ،يف موقفهم النفيس والعاطفي
أمام املنافسة وأمام األحداث األخرى -االختبارات النفسية -األبحاث
اجلانبية ،االتصال بالطبيب ،االتصال باألرس ،االتصال باملعلمني
اآلخرين.
د -اإلنشاء
طاملا كان التعليم عمال افرتاضيا يقوم به الكبار ،ويفرضونه عىل
الصغار ،مبتدئني من النقطة التي كانت تعترب األساس الذي عليه يبني
59
كل يشء أال وهي املادة املدروسة .وتدخل هذه النظرة إىل التعليم يف
مكاهنا الطبيعي من سلم التطور .ألن أول ما خيطر عىل البال ،هو أن
العلم املدروس ينبغي أن يكون موضع كل اهتامم املعلم .ونتج عن
هذا أن انرصف املعلمون يف عصورهم املختلفة ،ويف األقطار املتخلفة،
حيسنون طرق التعليم وينوعوهنا ،وخيرتعون الوسائل ليسهلوا عىل
الطالب التحصيل ،فيؤلفون له املؤلفات ،ويقدمون له فيها ،نظام ونثرا،
كل معطيات املعرفة مسبوكة يف قالب مناسب .ومل ينسوا أن يتدرجوا
بطالب العلم من السهل إىل الصعب فيبدأونه بكتاب مبسط يرقى منه إىل
كتب أكثر تعقدا .وجاءت الفلسفة املعارصة ،بتيار جديد ،بدأ بإرهاصات
روسو الذي استبرص أن الرتبية والتعليم ينبغي أن يسلك إليهام طريق
جديد؛ نقطة انطالقه ،بل مركزه الذي عليه يدور ،الطفل ال املادة .ومن
مرحلة االستبصار ،تقدم البحث الفلسفي أشواطا إىل أن بلغ ما نراه من
انفراد فرع منه بالطفل ونفسيته؛ وأعني علم سيكولوجية الطفل .وتوطد
هذا العلم منذ ذاك حتى أصبح موضوعا للمالحظة والتجربة .وكم
ابتعدنا عن املعلم مؤلف الكتب املطولة واملقرصة ،وخمرتع الطرق لكل
مادة وعلم مع الذي يقول« :إذا أردت أن تظفر باحلقيقة يف شأن الطفل،
وتبرص نفسيته ،فاتركه يترصف بحرية أمام املالحظ» ذاك يف واد ،ونحن
مع صاحبنا يف واد ،نريد أن ننظر إىل الطفل لنعرفه ،مستشعرين أمهية هذا
العمل ،ونعمل جاهدين لدراسة الطفولة بكل الطرق املمكنة.
والرأي الذي يبني عليه املربون األقدمون ،هو أن الطفل رجل
مصغر ،له ما للراشدين من القدرات وإن كانت درجة قوهتا بمقدار سنه.
ومل جيدوا عناء يف وضع كتبهم وطرقهم ،فكان يكفي أن يقيس الواحد
منهم بنفسه ،أو يقيس عىل كبار مثله ،فإذا كتبوا أو اخرتعوا جربوا أوال
يف أنفسهم ،ثم طبقوا عىل الطفل بعد ذلك .وكانت اللحظة التي بان فيها
فساد هذا املقياس بمثابة فجر جديد يف علم الرتبية ،عندما أكد روسو أن
البد من دراسة الطفل ،هذا الكائن الذي نجهله ،وأن الطفل ليس رجال
صغريا بل يمتاز بخصائص ثابتة ينفرد هبا.
وكان هلذه الفكرة أثرها يف توجيه الرتبية كلها منذ ذاك ،وظهر
60
أثرها أيضا يف التعليم وطرقه؛ فوضعته املناهج عىل ضوئها ،وروعيت يف
وضع الكتب؛ ويف حتديد زمن الدراسة ،والوقت املناسب لبدئها ،وقد
كان ذلك موكوال إلرادة الكبار .وواضح ما لتطبيق هذه الفكرة من نتائج
عىل جدوى الرتبية والتعليم وفعاليتها .ومن ينظر إىل ناحية واحدة من
نواحي تطبيقها ،يتضح له قيمة ما كسبناه من اقتصاد للوقت ،واقتصاد
للوسائل .انظر مثال إىل الطفل الذي يبعث به إىل املدرسة قبل األوان،
ويفرض عليه نظام من نوع ال يتناسب ودراسة مادة فوق مداركه .واتبعه
سنوات جتده قد مسخ كائنا منطمس العقل ،عديم الشعور بشخصيته،
عبدا خاضعا للسلطة خائفا منها .وتصور ما ربحناه اليوم ألننا نخرب
الطفل أوال هل نضج للمدرسة ،فإذا أدخلناه إليها تعهدناه بنظام جعل
لينمي شخصيته ال ليكبتها.
تطبيق هذه الفكرة إذا أصبح رشطا لنجاح أي مرشوع تربوي ،ودراسة
الطفل أصبحت رشطا يف تكوين كل من يشتغل بالرتبية والتعليم ،كيفام كان
نوع اشتغاله ،سواء واضع املنهج ،أو مؤلف الكتب أو املرشف اإلداري،
أو املعلم .وذكرت هذا آخرا ،وال أملح أن نصيبه من الدراسة جيوز أن
يقل عن حظ اآلخرين سيام وهو املسؤول األول عن املأمورية الرتبوية
التعليمية ،وهو الذي يعايش األطفال ويبارشهم .وربام كانت حاجته أكثر
من اآلخرين لدراسة أعمق وأكثر اتساعا .ألن معرفة نفسية الطفل بصفة
عامة جتعل مهمته سهلة ،وألن معرفة االختالفات الفردية بني تالميذه
هتمه يف نفس املرتبة .وكيف ال والقاعدة السيكولوجية العامة تظهر لناظر
احلقيقة وقد لبست وجوها بعدة من يراهم من الصغار .فإذا درس املعلم
احلقائق األساسية عن الطفل يف كتب علم النفس ،وجد يف مدرسته حقال
فسيحا لتطبيق هذه احلقائق عىل األفراد .وإهنا ملهمة إن سهلتها معرفة
القواعد العامة ،فإن املشاغل الكثرية التي تتجاذب املعلم ربام تنسيه إياها.
خاصة ويف مدارسنا أقسام ذات تالميذ بعدد يفوق العدد املعقول .وكال
األمرين كفيل بأن يثبط عزيمة مل جتعل هلا مبدأ وغاية ،وتدفع هبا يف أحضان
الكسل والتواكل عدد التالميذ كثري أمام املعلم ،لكن كال منهم يمثل
61
هوية مستقلة ،ختتلف عن هوية اآلخرين يف معناها ونفسيتها ،كام ختتلف
عنها يف حسها ومظهرها .كل منهم جاء من أفق اجتامعي خيتلف عن أفق
اآلخرين ،وكل منهم عاش حوادث مل يعشها اآلخرون ،ولكل منهم
رصيد من الصحة البدنية وماض من األسقام والعلل ،ال يطابق ما عند
اآلخرين .ومجيع هؤالء امليزات تفرز كل طفل عن اجلامعة ،فتجعل منه
موضوعا أصيال خليقا بأن نتحمس ملعرفته ونجتهد لتحقيقها .وإن مما
يزيد دراسة األطفال طرافة يف عيني الدارس ،أهنم ال يستقرون عىل حالة
واحدة ،بل هم يف صريورة مستمرة ،ال تنقطع حركة نموهم وتغيريهم.
وكل يوم حافل بالعوامل التي ال متيض عليهم دون أن حيسب هلا حساب
يف شأهنم .وأن املجتمع املدريس بام حيتويه من طبائع متباينة ،وبالروح
الصبيانية التي تطبعه بطابعها اخلاص ،لفي تفاعل غريب يكاد يشبه
التفاعل الكياموي ،األطفال فيام بينهم يبتادلون العواطف ،والعادات،
وخيلقون روابط خفية ال مدخل للكبار فيها .واإلطار املدريس نفسه
يضيف أثره إىل أثر العوامل األخرى ليكمل لنا صورة جديدة للطفل،
ليست الصورة التي كنا نعرفها .وبوسعنا أن نكتب أن الطفل يف املدرسة،
بام أعطته املدرسة وبام فيها من رفاق وأصدقائه ومعلمني ،هو غري الطفل
قبل أن جييء إليها .حتول باد يف سلوكه ،ومعرفته للعامل .كان من قبل حماطا
بعطف ذويه ،بل حمفوفا هبذا العطف من كل جانب ،فهو بحسب نفسه
مركز العامل ،ويكتشف يوم جميئه إىل املدرسة نفسه ،وأهنا ليست املركز
الذي يدور عليه كل يشء ،لكن جزءا من جمتمع متعدد ،غني بإمكانيات
جديدة ال عهد له هبا.
أفبعد هذا ال حيس املعلم برغبة يف دراسة هذه البدائع التي أمامه ،احلافلة
بكل جديد؟ أمع كل هذا ال يريد املعلم ،مع صاحبنا املريب ،أن يعرف
احلقيقة عن نفس الطفل؟ وهب أن هذه الثروة الفكرية التي تكمن يف
دراسة األطفال ال جتذب معلمنا ،فإن ضمريه املهني سيدفعه إليها .ال يقل
أنني درست السيكولوجية العامة وكفاين .فإن الدراسة النظرية قليلة الغناء
وحدها ،بل هي عديمة الفائدة بتاتا إن مل تنزل إىل ميدان العمل .يطالب
املعلم بتهييء مادته هتييئا يناسب تالمذته ،وأنى له أن حيرض ما يناسب
62
تالمذته إن مل يعرف تالمذته أوال؟ ربام تفيده قواعد علم النفس العامة
معرفة اخلطوط الرئيسية يف نمو الطفل وسريه النفيس العام .لكن احلقيقة
تقدم أمامه صورة مضبوطة وأكثر وضوحا مما تعطيه إياه قواعد العلم،
بحيث جيد أمامه مجاعة من األطفال هلا طابعها اخلاص ،بل روح خاصة
ليست روح مجاعة أخرى من األطفال ،ولو كانوا يف نفس السن ومن
نفس الوسط االجتامعي ،وهذا ال جيده يف الكتب ،بل جيده فقط يف احلقيقة
املاثلة أمامه إن هو عرف كيف يدرسها.
ينصح مربينا الراغبني يف اكتشاف خفايا نفس الطفل؛ بأن يلتمسوها
يف مالحظة الطفل عندما يكون منهمكا يف عمل ما بكل حرية .وهذا
الظرف الذي حيدده املريب يظهر صعب التحقيق ،ألن املعلم ال جيد فرصة
لدراسة الطفل إال بني جدران املدرسة ،وألن الطفل يف املدرسة خاضع
لنظام موضوع ،فهل جيد حتت هذا النظام جماال لنشاط حر؟ اجلواب
يتوقف عىل معرفة نوع النظام السائد يف املدرسة ،هل هو نظام ضيق يسد
الباب يف وجه حرية الطفل ،أو هو نظام واسع الصدر هلذه احلرية .فنظام
مدارسنا ،يفرض الدراسة يف جو مجاعي ينقاد لدواعي املنهاج والتوزيع
الشهري والسنوي .فال يتأتى داخله أن يعطي الطفل حرية ليعمل وحده،
أو منطلقا مع رفاقه .وإذا فال يبقى إال فرص قليلة لكي نرى يف مدرستنا
الطفل يترصف بحرية .وأكرب هذه الفرص ،والشك ،هي ساعة خيرج
الطفل ليلعب يف ساحة املدرسة .هناك ،حيث يامرس الطفل نشاطه
الطبيعي ،ينسى قيود النظام ويظهر عىل حقيقته.
وإذا تبعنا املريب يف نصيحته ،فسنقترص إذا عىل دراسة الطفل يف ساحة
اللعب فقط ،وسنظفر ببغيتنا .وأظنني لست عىل اتفاق تام مع هذا الرأي،
فإنني أسلك لدراسة األطفال طرقا أخرى كثرية .نعم يبقى هلذه الطريقة
مكان خاص ،ألهنا وحدها تعطي اإلنارة الكافية لتجلية ما قد يبقى
غامضا عندما أدرسه بالطرق األخرى .فرب طفل كنت حائرا يف أمره ،مل
يبن يل وجه الصواب فيه إال بعد أن رأيته منطلقا يلعب .وما ذلك إال ألن
الطفل يف حالته األخرى يتصنع بعض اليشء ،حماوال حذر رغبة املعلم
لريضيها ،فيظهر يل يف كثري من األحيان عىل غري حقيقته .ومع ذلك فأعتقد
63
أن دراسة األطفال ال تكمل إال باتباع طرق متعددة يكمل بعضها بعضا.
فمن هذه الطرق مالحظة التلميذ يف القسم أثناء العمل ،وأعطي هلذه
الطريقة املكانة األوىل ،بعد مالحظته يف ساحة اللعب ،أو مع مالحظته
يف ساحة اللعب .وذلك ألن الطفل يف القسم خاصة بعد أن يفوت
مرحلة الصبا االوىل ،جيد عقبات يف عمله نفسه ،ويف عالقته برفاقه ،ويف
عالقته بمعمله ،فأترقبه يف كل هذه العقبات ألنظر كيف يتغلب عليها.
وهكذا أعرف فضل التلميذ الذي يتعاون مع رفاقه ،وجد التلميذ الذي
ينجز أعامله وحده بانتظام ،وضعف الذي خيلق األعذار الواهية ليخفي
عجزه .وهذا زيادة عىل ما أعرفه من مقدرات األطفال العقلية بمناسبة
التامرين واالختبارات .وسبب ثان دفعني إىل اعتامد مالحظة التالميذ يف
القسم نفسه؛ هو أن التلميذ يميض جل وقته يف القسم ال خارجه ،وهذا
ما يعطي حلياة القسم صبغة خاصة بعاداهتا وأحداثها ،وخيفف كثريا من
الكلفة التي بني املعلم وأطفاله ،يرتفع بارتفاعها داعي النفاق واإلخفاء.
وأظن أن كل معلم خبري بأمره يعرف تالميذه بالقدر الذي ال جتوز عليه
منهم حيلة .وطريقة أخرى لدراسة الطفل ،هي اقرتاح اختبارات نفسية
فردية ،أو مجاعية .وهلذه االختبارات مكاهنا ،رغم ما تلقاه من معارضة
بعض املربني .وهي وإن كانت ال تعطي صورة مضبوطة لنفس الطفل،
نظرا إىل أهنا ،ككل ،قاعدة وضعت لقياس الفرد املتوسط ،فإهنا تتمم
معرفة املعلم التي حصل عليها بالطرق األخرى .وأعطى مكانة خاصة
للدراسات اجلانبية التي اعتمدها؛ وهي دراسات تكمل مالحظتي
يف املدرسة ،بل تفرسها يف كثري من األحايني ،وتقوم ما كان منها عىل
أساس غري وطيد .وأعني بالدراسات اجلانبية تلك التي التمسها يف
اتصايل باألرس وبالطبيب وباملعلمني زمالئي .فعند األرسة أبحث عن
الظروف االجتامعية واالقتصادية ألعرف كيف يعيش فإذا عرفت هذا
أمكنني أن أنظر إىل الطفل من كل جوانبه ،وأربط النتائج باألسباب كلام
وقفت أمام مشكلة .هذا طفل كنت أخاله كسوال بليدا ألنه ال ينجز
متارينه بانتظام ،وعرفت غلطي يوم وجدت أرسته فقرية تسخره يف كل
أوقاته احلرة ملساعدة أبيه ،أو كسب بعض املال .وذاك تلميذ مل أعرف
سبب اضطرابه وعدوانه إال يوم اطلعت عىل مأساة أرسته .وعند الطبيب
أجد معلومات عن صحة أطفايل تساعدين كثريا عىل تكييف تعليمي
64
والرتفق بمن أعرفهم ضعيفي البنية يف حاجة إىل راحة ،وال أنسى أن
أستفيد من مالحظات زمالئي املعلمني ،وخصوصا إذا كان تالمذهتم
السابقون دخلوا قسمي .وأن اجتامعاتنا الرسمية يف املدرسة ،أو اجتامعاتنا
اخلاصة يف ساحة اللعب ،مناسبات لتبادل معلومات خصبة بنتائجها،
نتناقش ملعرفة ما إذا كان التلميذ فالن مشاغبا حقا ،ويشري بعضنا إىل
تلميذ كان بارزا بني رفاقه ثم مخدت جذوته ،فيفرس اآلخر ذاك بأن هذا
التلميذ حدث له كيت وكيت مما يفرس تقهقره.
املعلم يريد أن يدرس املهنة ويدخلها من الباب الواسع ،فيتلقى دروسا
يف طرق التعليم ،ودروسا يف علم النفس .ويوم جيد نفسه وحده أمام مجاعة
األطفال يكتشف أن دراساته املاضية ليست حقا مفتاحا وحدها للمهنة.
مشكلته اليوم عملية ،هيمه أن جيد وسيلة لتسيري األطفال وحده وفقا
للنظريات التي يعرفها .ويستنجد بكل قوته ،ويبدأ عامال متجلدا .وأول
عمل يقوم به ،إن كان ذكيا ،دراسة أطفاله كجامعة ،ودراستهم فرادى عىل
حدة .ومعلمنا هذا ذكي والشك ،ألنه مل ينتظر أن جتيئه التجربة باملفتاح
الذهبي ،بل بدأ من أول يوم يالحظ األطفال يف حاالهتم املختلفة،
ويدون مالحظاته ويرضب بعضها يف بعض ليجد جواب أسئلته التي ال
تنقطع .ويسأل أيضا من حوله من زمالء ،ويسرتشد بكل مرشد ،ويتقىص
أخبار األطفال من كل معني .ويقرأ قول املريب ناصحا بمالحظة الطفل
قبل كل يشء ،عندما يكون منهمكا يف عمل حر ،فيتيقظ للفكرة ،ويتحني
الفرص لريى أطفاله يف ساحة اللعب ،يتتبع حركاهتم ،فتتكشف له نواح
من نفسياهتم مل يكن يتوقع وجودها ،ويطلع عليه بعض تالميذه بوجه
جديد ما كان يف حسبانه .وهبذه الطريقة حيصل عىل التجربة احلقيقية التي
أساسها معرفة الطفل بصفة عامة ،ومعرفة األطفال يف جماالهتم املختلفة.
فإذا حصل عىل هذه التجربة كان عندئذ املعلم املاهر احلريص عىل هتيئ
درسه مراعيا تالمذته ،اخلبري بقدرات كل طفل ليعطيه عىل قدر حاجته،
ويصوغ له احلقائق بالصورة التي يبلغه هبا .وإذا حصل عىل هذه التجربة
كان املريب البصري الذي يمسك يف يده كل الوسائل املعنوية لتوجيه
الناشئة ،عارفا بواعث كل نفس ،مقدرا ظروفها ،متطلعا لتوصيلها أبعد
ما يمكن أن تطمح إليه.
65
املوضوع رقم :6
يقول فروبل« :ليس اللعب شغلة تافهة يف نظر الطفل؛ لكنه عمل
ذو أمهية كبرية»!
وقال أيضا« :إنني أقدس عمل الطفل حني يلعب».
فرس القولني ،وقل ما تعرفه عن لعب األطفال.
66
وكيف يكون انسجام مقالنا .وهي مهمة صعبة تقتيض إمعان النظر
قبل اإلقدام عىل الكتابة ،وإال كتبنا مندفعني تتنازعنا األفكار من كل
جانب.
وما دام اختاذ ضابط حيدد املراحل ويشري إىل الطريق حمتوما ،فنقرتح
أن نرجع إىل قولتي املريب ونتخذها أساسا لإلنشاء يف اإلجابة عن اجلزء
الثاين للموضوع .فإذا قلنا يف تفسري القول األول اهتامم الطفل باللعب
وكيف يبدو هذا االهتامم ،رجعنا يف اجلزء الثاين من اإلنشاء لنزيد النقطة
إيضاحا ،ونبني مل هيتم الطفل باللعب ،وإذا ذكرنا يف تفسري القول الثاين
عاطفة املريب واالهتامم الذي نشأ عن هذه العاطفة ،تقدمنا بالنقطة يف
اجلواب عن السؤال إىل ذكر النتائج التي بلغ إليها املريب وبلغ إليها من
بعده ممن نحوا نحوه.
وبام أن السائل يريد أن يقرأ كل ما نعرفه عن لعب األطفال ،فمن
املحتوم ،أن نعترب التخطيط الذي وقفنا عنده هيكال نبني حوله ،مضيفني
كل معلوماتنا عن الطفل يف حالة اللعب ،ذاكرين عاطفته نحو اللعب
وطريقته فيه ،وأنواعه التي حيبها.
ب -التصميم
* تفسري القولني.
* ما أعرفه عن لعب األطفال.
67
د -اإلنشاء
ربام يكون فيام يقوله الناس عن اختالف عواطف الكبار نحو الطفولة
يشء من الصحة ،فهذا حيب األطفال ،واآلخر يدعي أنه ال حيبهم،
والذي الشك فيه أن القلوب التي تبقى جامدة أمام منظر الطفل يف لعبه
الربيء قلوب متحجرة بطبعها ،أو حتجرت نتيجة لتشبعها بفكرة معادية
للطفولة .ومن هذه الفئة األخرية أولئك الذين يرون الطفل جمبوال عىل
الرش ،فيحذرون أن تستهويه األفكار اخلبيثة ،ويتهمون كل نشاط عفوي
يبدو منه سيام إذا تعلق األمر باللعب .ويزداد موقف هؤالء خطورة
عىل مستقبل الطفل إذا كانوا ممن يرشفون عىل تربيته من قريب أو بعيد،
فسيأخذونه أخذا شديدا ،وسيشغلونه بكل وسيلة لئال يرتكوا له فرصة
يلعب فيها .وإذا كانوا معلمني فسيعددون التامرين املدرسية والتكاليف
الكتابية ليستعملوا ،يف نظرهم ،الوقت استعامال حسنا .وكأين بواحد
من هؤالء واقفا يف ساحة املدرسة يفخر عىل زميله ،ويشري إىل بضعة من
تالمذته تركوا اللعب ،وانزووا يف ناحية يكتبون مترينا أو يعدون درسا!
هذه الفئة املعادية للعب بعيدة كل البعد عن رأي فيلسوف ومرب كبري،
فروبل ،حني قال« :ليس اللعب شغلة تافهة يف نظر الطفل ،لكنه عمل
ذو أمهية كبرية» .وبعيدة عاطفته املتفتحة عن عواطفهم حني يقول «إنني
أقدس عمل الطفل حني يلعب» .فامذا نقول يف هذا االختالف؟ أيرجع
الرس فيه إىل أن فيلسوفنا ذو قلب حمب لألطفال ،أم أصدر املريب حكمه
بعد أن متعن يف األمر وفكر فيه غري مكتف بمجرد العاطفة؟ وأيا ما كان
األمر فإن كالمه لنعم املقدمة ملن يريد أن يبحث املوضوع حتى يستنري يف
عمله ،وحتى يعرف أكثر ما يمكن معرفته عن لعب األطفال.
األطفال حيبون اللعب ،ويف وسع أي إنسان أن يالحظ ذلك .يكفي
أن يتمتع الطفل بصحة جسمية ونفسية جيدة ،ليفكر يف اللعب كلام وجد
إىل ذلك سبيال ،فيستغل كل أوقات فراغه ليرصفها يف نشاطه املفضل،
ويتحني الفرص ليلعب حتى يف ساعاته األخرى ،وبوسعنا أن نقول بأن
68
الطفل يلعب يف كل حاالته ،وأنه ال يكون أكثر رضا عن نفسه وعن
الناس إال حينام يلعب .وذلك ألن اللعب غريزة يف كل كائن ناشئ،
يشارك اإلنسان فيه صغار احليوانات .وهي ككل الغرائز ،ذات وظيفة
مهمة يف حياة الفرد ،إذ يعد اللعب مرحلة رضورية للطفل يتعلم بواسطته
أن يتكيف بواقعه ،وباألخص بواقعه االجتامعي .واملتدبر يالحظ أن
كل لعبة يلعبها األطفال من ورائها تدرب عىل األشياء أوال ،ثم تدرب
عىل األعامل املختلفة التي يسري عليها جمتمع الطفل ،فمن اللعب تعرف
الطفل عىل األجسام ،وألف أشكاهلا وأحجامها ،ومنه تعلم كيف يتعاون
مع رفاق اللعب ،وكيف حيرتمهم ،ومنه تعلم أيضا األحكام االجتامعية
العامة .فلعب الطفل بالدمية وسامها ابنته ،ولعب بالنقود فاشرتى هبا
بضاعة من حانوت رفيقه البقال .وال غرو أن يكون اللعب كام قلنا،
فإن أساسه التقليد .األطفال ال خيرتعون لعبة من اليشء ،لكنهم يرون
من حوهلم يقومون بحركات ويصطنعون أدوات يستعملوهنا ألغراض
معينة ،فيفعلون مثلهم ،ويصطنعون مثل ما اصطنعوا .وإذا أخذت ألعاب
األطفال وفحصتها ،وجدت أن لكل لعبة مقابال يف احلياة احلقيقية ،ال
خيتلف عنه إال قليال ،أو ال خيتلف عنه أصال .عىل أن هذا التقليد ليس
دائام تقليدا مبارشا ،أعني أن كل طفل ال خيرتع لعبة بكيفية أصيلة ،بل
الغالب أن يقلد أطفاال آخرين لعبوا أمامه .ويتوقف ذلك عىل بيئة الطفل
اخلاصة؛ فإن نشأ وحده يف البيت وكان بمعزل عن األطفال ،كان خليقا
أن يرجتل لنفسه لعبا ،أو تبدأ هبا أمه أو مربيته ،وإن كرب يف وسط أطفال
إخوته أو جريانه ،اكتفى بتقليدهم .واملالحظ أن نوع اللعب أو مادته ،ال
تؤثر شيئا يف اهتامم الطفل به .يستوي عنده أن تشرتي له لعبة جديدة ،أو
تصنع له هذه اللعبة متقنة أو غري متقنة .هو مستعد لقبول أي لعبة ما دام
مل يدخل يف األمر عامل عاطفي كالغرية أو املنافسة ،وإذ ذاك هيتم الطفل
بلعبة بعينها .إذا رأى طفال يف يده لعبة ،نيس كل لعبه ،وتعلق بلعبة منافسه
وحدها .لكن للطفل دائام ميل للعب خاصة يفضلها ،ويبقى هلا وفيا،
وعليها حمافظا حتى إن بليت وتالشت .وكأن رباطا عاطفيا يربطه هبا.
وكثريا ما يالحظ هذا الوفاء الطويل من البنت الصغرية لدميتها ،فكأهنا
69
تعترب هذه الدمية رفيقة هلا.
واهتامم الطفل باللعب عامة ،وبنوع اللعب بصفة خاصة ،يتطور
بتقدم سنه وجنسه .فلكل سن ألعاب تقابلها ،كام أن للفتيان ألعابا غري
ألعاب البنات .ال أقول أن مقدار اهتامم الطفل باللعب يتقلب كلام
كرب ،فإن محاس األطفال للعب ال ينقص شيئا ،بل أن أثر هذا احلامس
ليبقى عند الراشدين ،وال عربة بأن ألعاب الراشدين روحها يف كثري
من األحيان عاطفية أو نفعية قوية ،كالتغلب عىل اخلصم ،أو نيل جائزة،
وأن األطفال يلعبون دون حاجة إىل مثل دوافع الكبار .ال عربة هبذا
االعرتاض فإن الكبار يلعبون أيضا .عىل أن الذي هيمنا هنا هو أن محاس
األطفال للعب يبقى حيا .وهنا نقسم الطفولة مراحل بحسب اللعب
التي ختص كال منها ،وأول هذه املراحل الدمية للبنني والبنات سواء،
عىل أن البنني ينرصفون عن هذه اللعبة رسيعا ،بينام تبقى البنت حمتفظة
هبا وقتا طويال ،ولعل عاطفة األمومة هي التي جتعل البنت ميالة إىل هذا
اللعب حتى بعد سن العارشة ،أما الطفل فرسعان ما يكتشف لعبا أخرى
أكثر جاذبية ،أو أكثر عنفا ،بحيث تعطيه جماال لرصف نشاطه اجلسامين
الفياض .فبعد الدمية أو ما يشبهها من التامثيل يرغب يف ترويض جسمه
عىل ركوب الدراجات واجلري وراء العجالت ،واملرحلة الثانية يف لعب
البنت هو مرحلة إدارة املطبخ وصنع األطعمة ،ثم حماكاة األعامل البيتية
األخرى .ومتيض هاتان املرحلتان ،فيظهر عند اجلنسني ميل إىل األلعاب
اجلامعية ،لكن هذه األلعاب تكتيس عند البنني صبغة خاصة ،وتتطلب
جمهودا جسميا خاصا ،ثم بعد ذلك معاجلة أشياء حتل وتركب .بينام تكون
ألعاب البنات وديعة هينة كالوثوب عىل احلبل ،أو االشرتاك يف حماكاة
األعامل البيتية.
والفرق بني األلعاب الفردية واجلامعية أن االوىل بسيطة يف قواعدها،
يرصفها الطفل كيفام شاء .بينام ختضع الثانية لقواعد تضعها اجلامعة
وختضع هلا .ومتتاز األلعاب اجلامعية أيضا بأهنا جتري حتت إرشاف قائد
يكون احلكم بني أقرانه ،الزعيم يف وسطهم .ولن أقول هنا أكثر من هذا
عن سيكولوجية زعيم األطفال فليس هذا بابه .إنام أالحظ أن الطفل
70
يف مرحلة األلعاب اجلامعية ،يبحث عن لعب حيكي نظامها النظام
االجتامعي عند الكبار ،فكأن غريزته تدفعه إىل هتيئ نفسه ،وتكييفها
للحياة التي تنتظره .وأغرب ما يف األمر أن حاجة الطفل إىل أن يشارك
اجلامعة ،أو يشاركه األطفال اآلخرون لعبه ،يبدو ذا أمهية كربى يف عينه،
وال أدل عىل هذا من أن الطفل إذا رفضته اجلامعة ومل تدخله معها ،يكون
مغبونا كئيبا ،كأنام حدث له أكرب املصائب وأدعاها إىل اليأس .وال أدل
عىل هذا من أن الطفل قد خيرتع لنفسه رفيق لعب خيايل ،سيام إذا مل يسعفه
احلظ فنجد قريبا منه رفيقا حقيقيا .وقد حكى كثري من الباحثني حاالت
أطفال يلعبون مع رفيق خيايل يتومهونه ويطلقون عليه اسام ويعطونه
صفات خاصة متاما كام لو كان واقعيا.
واحلقيقة أن هذه احلاالت النادرة التي يتصور فيها الطفل رفيقا ،ال
تكون إال أمثلة طريفة ألمهية اخليال يف لعب الطفل ،وأن اخليال هلو الدافع
الرئييس ،والعنرص الذي يعطي احلياة للعب .ذلك ألن األطفال الزالوا
يشعرون باحلقائق شعورا ممزوجا بواقع خيايل ،وبالتايل يشعرون باألشياء
املتخيلة ،وكأهنا جزء من الواقع .الحظ طفال يلعب ،جتده منرصفا يف جدية
تامة إىل لعبه ،ينفعل له انفعاال حقيقيا ،فإذا ركب قصبة وسامها حصانا،
فام ذلك إال أنه يف قرارة نفسه ،وبشكل يبدو لنا معرش الراشدين ال يمكن
فهمه ،يركب حصانا حقيقيا .ومن هنا كان اهتامم الطفل الكبري بلعبه،
ومن هنا وال شك كانت مالحظة الفيلسوف عندما قدر أن اللعب ليس
شغلة تافهة يف نظر الطفل كام هي يف نظرنا .ونزيد عىل هذا أن اهتامم الطفل
باللعب ،أكثر من اهتاممه بأي عمل جدي نقرتحه عليه ،أو يعمله بدافع
احلاجة .وسبب هذا أن الطفل عندما يلعب جيد يف اللعب نفسه مكافأته،
بينام ال جيدها أو ال يقدرها ،عندما يقوم بعمل آخر .وأنه عندما يلعب
يعرف الغاية التي يرمي إليها من لعبه ،فيقبل عليه إقباال ،أما يف األعامل
األخرى ،فإنه جيهل هذه الغاية وال يقبل .وترجع إىل اخليال وعالقته
باللعب لنلتمس تطور اللعب هل يقع نتيجة لنضج املخيلة .ونقول أن
من املنطق الظن بأن األمر كذلك .ويف الواقع أمثلة تساعدنا عىل تأكيد
71
هذا الظن .نرى الطفل كلام تقدمت به السن أضاف إىل لعبه البحث الذي
كان يامرسه وحده وجيد فيه كفايته من اللذة ،عنارص جديدة؛ فيضيف
إليه ،أو ينضاف لرفاق يشاركهم اللعب ،ثم يدخل يف ألعابه قواعد
تضبطها .وغايات يتسابق إليها الالعبون ،ثم يلعب ضد خصوم رجاء
أن يغلب .أفليس كل هذا دليال عىل أن اخليال االول الذي كان عامال
يصبغ اللعب بأصباغ جاذبة ،يعوض بعوامل نفسية كلام ضعف بتقدم
سن الطفل ونضج خياله؟ أليس لعب الراشد املفتقر إىل عنرص اخليال
الصبياين ،يعتمد كله عىل العوامل النفسية التي تعطيه جاذبيته؟ عىل أن ال
مراء يف حقيقة أساسية ،وهي أن اهتامم الطفل باللعب ،ال يامثله اهتاممه
بأي نشاط غريه ،وأن هذا االهتامم طاقة كبرية عند الطفل.
وإدراك املربني أمهية هذه الطاقة ينري هلم الطريق يف ذلك الفيلسوف
األملاين فروبل ،هذا العامل الذي وقف عند الطفل يتأمل لعبه ويقرر أنام يراه
عمل يستحق التقديس .وقد قاهلا فروبل خالصة من قلبه الكبري املحب
للطفولة ،وقاهلا بعقله الكبري الذي عرف كيف يطلع عىل خبايا نفس الطفل
عندما يلعب ،ويسخر معرفته لتأسيس حركة تربوية وصلت آراء روسو
يف تربية الطفل بأحدث الطرق يف تربية الصغار .ومذهب فروبل أشهر من
أن يعرف ،وخاصة ملن يعنون برتبية الصغار يف رياض األطفال .والكلمة
نفسها "رياض األطفال" من تراث فروبل؛ فإنه عندما نوى أن يؤسس
معهدا يطبق فيه آراءه يف استعامل لعب الطفل استعامال تربويا ،فكر طويال
وفرح يوم وقع له هذا االسم .وقد بدأ فروبل يفكر ،من لدن وقف عىل
مجاعة األطفال ،ورأى إقباهلم الشديد وجدهم يف اللعب ،يف طريقة جديدة
لرتبية األحداث ،والحظ مرة صبيا يدحرج كرة ،فمىض عقله الفيلسوف؛
وبنى للناس مذهبا يف فهم العامل ابتداء من الشكل الكروي .وطبق فكرته
مع الصغار فأعطاهم كرة أول ما أعطاهم ،وكربت مدرسته وتوسع يف
طريقته حتى اختذت شكلها النهائي يف صورة "رياض األطفال" يعطي فيه
األطفال سلسلة لعب ذات أشكال هندسية –وقد كان الفيلسوف يعتقد
أن الرتبية إذا مل توجهها اهلندسة فستكون عملية فقرية خائبة -ويدعونا
72
الستعامهلا استعامالت خمتلفة ،يتعلمون هبا مبادئ احلساب ،ويتعلمون
منها كيف حيلون ويركبون ،وبالتايل كيف يربون حواسهم .ومىض
فروبل وبقيت طريقته تغني الباحثني يف تربية األحداث .وتطورت فكرة
«اللعب وسيلة للرتبية» فاختلفت األلعاب شكال أو عددا عن تلك التي
استعملها فروبل ،لكن املبدأ بقى .وعند الدكتورة مونتسوري والدكتور
دوكرويل ألعاب الشك أهنا أوسع دائرة ،وأنسب لألطفال .السيام وقد
استفادا مما انتقدت به طريقة فروبل بأهنا طريقة تتوخى السهولة ،زيادة
عىل أهنا ال تسمح إلعطاء تربية وتعليم كافيني ،خصوصا إذا تعلق األمر
بالكتابة والقراءة .ومما اختذه مربو األحداث العرصيون عن فروبل حديقة
املدرسة ،فأعطوها وظيفة تربوية بعد أن كانت عىل عهد سلفهم ،جماال
للمرح يمثل عىل الصعيد العميل النصيب الكبري من حب الطفل الذي
كان حيمله الفيلسوف .أخذوا احلديقة وجعلوا منها ميدانا للمالحظة.
وغرسوا فيها أنواع الزهور ،وأسكنوا فيها أنواع الدواجن ،يلعب
األطفال معها مقلدين عناية الكبار آخذين نصيبا حقيقيا من هذه العناية.
وتقول يل :ما عالقة كل هذا باللعب احلقيقي؟ أليس أننا مسخنا
اللعب وحولناه عن غايته؟ إذا كان اللعب نشاطا تلقائيا عند الطفل،
ومتنفسا طبيعيا يرتاح إليه ،فام بالنا نخدعه عن نفسه ،ونقحم له يف
اللعب عنارص أجنبية؟ ثم أال يتيقظ الطفل لفعلتنا؟ كل هذه أسئلة يف
مكاهنا ،وتفيد اإلجابة عنها هنا أن اللعب الرتبوي ،وله مبادئه وقواعده،
خيتلف يف حقيقته ،بل حتى يف مظهره عن اللعب الطبيعي .لكن األطفال
األحداث ،قبل السن الدراسية ،يقبلون عليه كام يقبلون عىل اللعب
العادي .ودلت التجربة عىل أهنم أثناءه يعملون بنفس اإلخالص الذي
يظهرونه يف لعبهم الشخيص .فالشك إذا أن استعاملنا اللعب مطية
للرتبية ،جيد من غايته النبيلة ،املؤكدة بالتجارب املتعددة ،مربرا كافيا.
إنام يبقى السؤال مطروحا بالنسبة للكبار .ويبقى أن نعرف هل يصح أن
نجعل اللعب جزءا من وسائلنا التعليمية يف مراحل املدرسة االبتدائية.
يعتقد الباحثون النفسيون أن من أهم األسباب التي تأخذ اهتامم
الطفل يف اللعب ،كونه يعرف من أول األمر ،نوع اللعب الذي بدأه،
73
وغاية هذا اللعب .فهو هبذا يستسبق اللحظة التي سيصل فيها إىل الغاية
ويعيشها سلفا .وتراه يغضب إن قوطع يف لعبه أو منع منه بعد أن بدأه
وكأن معرفته للمراحل التي سيمر منها يف لعبه تستهويه استهواء،
ومتأل عليه جوانب نفسه فال يلتفت ليشء غري لعبه .واستنتج بعض
املعلمني من هذه الوضعية ،أن باإلمكان إدخال اللعب كعنرص مهم يف
طرق تعليم األطفال يف كل املراحل االبتدائية ،فكان ما يسمى بالطرق
املشوقة ،أو التعليم الضاحك .هذا التعليم الذي يعمد إىل قاعدة يريد
درسها ،عىل شكل لعبة يساهم األطفال يف متثيلها ،أو عىل شكل خرافة
حتكى عليهم .وهذه الطريقة وجدت معارضة شديدة من كبار املربني؛ إذا
اعتربوا أن هذه الطرق تؤدي إىل تربية فاسدة ،ال تعود الطفل عىل النظر
إىل احلقائق نظرة موضوعية ،بل تعلمه الكسل واالتكال بام تسهل له من
أسباب الدرس .وأشهر من انتقد هذه الطريقة الفيلسوف الفرنيس آالن
القائل بأن الطفل جاد حيب اجلد وأنه حيتقر املعلم املتصايب الذي يتملق
انتباه تالمذته بأشكال من الرتهات .أما اليوم فقد اضمحلت «الطريقة
الضاحكة» هنائيا ،ومل يبق من يؤمن هبا إال معلم خمفق يف قسمه ،يتشبث
بآخر قشة يظن فيها النجاة .ومل يبق إال ما يشاهد يف بعض املدارس
املحدثة من نشاطات تستمد قوهتا من عفوية األطفال .أعني أن األطفال
يعطون حرية يف الدرس ،كام هو احلال يف مدارس دوكرويل (باستثناء
املرحلة الصبيانية) ،فيدبرون أمرهم بأنفسهم ،وينظمون لعبة إن اتفق
منهم مجاعة عىل تنظيمها ،كانت لعبة منطلقة أو لعبة تعليمية .وواضح أن
موضع النقد ال يوجد يف هذه األلعاب ،ألن أهم ما أنكره أعداء «الطريقة
الضاحكة» هو أن املعلم خيدع تالمذته عن احلقيقة ،ويعودهم الكسل،
وهذه أشياء تنتفي يف الوقت الذي يصبح التالميذ فيه ذوي التدبري.
و«الطريقة الضاحكة» يشء غري التعليم املحسوس ،فإن التعليم
باملحسوس يعتمد عىل إثارة فضول الطفل ،واستغالل حبه لإلطالع
عن طريق األشياء املحسة ،فتجعل يف متناوله أشياء جديدة عليه ،من
بينها نامذج تشبه اللعب ،وأجساما ملونة ،فعندما يقلبها ويفحصها
تربق عينه بوميض احلامس الذي عرفناه له يف حالة اللعب .لكن الطفل
يعرف أن أشياء اإليضاح أحرضت لغاية جادة ،فيلتفت إليها بعقله ،فال
74
يلبث عمله هبا أن يصبح عمال جادا.
وجد علامء االثنولوجيا ،هؤالء الباحثون املتخصصون يف دراسة األمم
وأخالقها وعاداهتا ،أن األطفال يف كل أصقاع األرض ،يتخذون لعبا تتشابه
عىل بعد الشقة ،يف أشكاهلا ويف قواعد اللعب هبا .وقد اكتشف هذا التشابه
قبل وجود وسائل التنقل احلديثة ،التي أذاعت بني أطفال العامل لعبا صناعية
متامثلة ،يسهر عىل صنعها مهندسون خمتصون يف الصناعة ،ومهندسون
خمتصون يف دراسة الطفل ولعبه .وأن شيوع نفس اللعب عند األطفال
املتبايني الوسط والوطن لدليل عىل أن هذا النشاط أصيل عند الطفل،
طبيعي فيه .وأنه لدليل أيضا عىل أن غريزة اللعب تتوكأ عىل التقليد لتجد
وسيلة تعرب هبا عن نفسها ،فلذلك اشتبهت األلعاب كام تشتبه اجلامعات
اإلنسانية أيا ما كانت .وهذا واحد من العوامل التي تزيد «شعب األطفال»
وحدة ،وتعطي لعملهم احلر صفة الرباءة التي تأرس قلب كثري من الناس ،كام
أثرت يف قلب الفيلوسف فروبل ،وكام أثرت يف قلوب مربني حذوا حذوه،
وانرصفوا ،كام انرصف ،إىل الطفل يساعدونه يف ألعابه ،وهييئون له الظروف
املناسبة ليكون لعبه يف نفس الوقت ذا نتيجة يف تكوين نفسه وعقله .وأنه
لبفضل القلوب احلساسة ،كقلوهبم ،وبفضل تضحياهتم الكثرية يف سبيل
الطفل ،نرى اليوم «رياض األطفال» وكأهنا جنات يلقى فيه الطفل جماال
واسعا ال متس فيه حريته ،ويتلقى فيها تربية جتيئه عىل الصورة املحببة إىل
نفسه ،أال وهي اللعب .وأنه لبفضل هؤالء املربني ،ونتيجة لتجارهبم ،عرفنا
حقائق جديدة عن الطفل ،باألخص فيام يرجع إىل شعوره أثناء اللعب،
بالنسبة لشعوره أثناء األعامل الدراسية ،واستفدنا من هذه املعرفة اليشء
الكثري يف امليدان التطبيقي باملدرسة االبتدائية ،حيث تتيقظ يف الطفل حاجة
جديدة مل يعرفها يف طور احلضانة .وهي احلاجة إىل أن يشعر بأمهيته عندما
يامرس أعامال جديدة كام يرى الكبري يفعل .وظهر لنا يف الوقت الراهن أن
احلالة يمكن أن تكون كام ييل :استعامل اللعب وسيلة للرتبية يف «رياض
األطفال» ،والتحرر منه ابتداء من املرحلة االبتدائية ،أو عىل األصح فرزه
من األعامل اجلدية حتى ال يمتزج هبا فيفسدها ،بحيث يكون اللعب يف
وقت اللعب واجلد يف وقت اجلد.
75
املوضوع رقم :7
قال روسو« :يريد الطفل أن يمس كل يشء ،فال تعرتض طريقه ،اتركه
يفعل ،فإنه يكتسب مهارة رضورية له».
ارشح القول ،واذكر ما تعرفه عن النشاط احلايس عند الطفل ،وما
تفعله يف املدرسة لتشجيع هذا النشاط.
76
مما هيم املعلم .فإذا كتبنا جعلنا نصب أعيينا أن املوضوع واسع؛ فال مناص
من اختيار املعلومات التي نكتبها ،إن مل نرد أن نخاطر بكتابة مطولة ال
يتسع هلا وقتنا ،فتكون النتيجة أننا نكتب جزءا من املوضوع ونرتك مقالنا
مبتورا.
مالحظات
نالحظ أن قول روسو وضع يف صيغة سلبية ،فهو ال يطلب من املريب
أن يفعل شيئا اللهم إال أن يرتك الطفل يترصف بحرية ،بينام يسأل السائل
عن «األعامل التي نقوم هبا» لتشجيع النشاط احلايس ،وهلذا فلن نتعدى
هذا احلد يف رشح القول ،وسنقف مع الكاتب يف نصيحته السلبية للمريب.
يراد منا أن نقول «ما نفعله يف املدرسة لتشجيع هذا النشاط ،فنتساءل:
ما نفعله نحن أو ما نأمر التالميذ بفعله؟ ونبحث فنجد أن تربية احلواس
تقتيض منا بذل جمهود نقوم به نحن ،كاملحافظة عىل صحة األطفال،
وكالعالج الذي نقوم به يف املدرسة ،وأنواع الوقاية التي نطبقها ،وتقتيض
إعطاء متارين يامرسها الطفل ،سواء منها التي توضع لغاية خاصة يراد
منها تدريب حاسة بعينها ،والتي جتيء عفوا بمناسبة األعامل الدراسية.
ب -التصميم
* الرشح
* النشاط احلايس
* ما أفعله يف املدرسة لتشجيعه
77
* مهمة احلواس يف توصيل احلقائق إىل الذهن -الطفل يستعمل
حواسه -احلواس ضعيفة ثم تقوى -رضورة تعهدها لتقوم بوظيفتها
قياما كامال..
* الوقاية يف املدرسة -مراعاة القدرة احلاسية عند كل طفل -التامرين
لتهذيبها -األشغال اليدوية ،الرسم ،األناشيد.
د -اإلنشاء
اإلنسان إنسان بعقله ،هذه من البدهييات ال حتتاج إىل دليل ،وإال فبم
يتميز اإلنسان بغري عقله؟ وإذا كان احلال كهذا ،فإن أثمن يشء عند اإلنسان
عقله ،فهو يعتربه كنزا ال مثيل له ،ويفخر الناس بأهنم أذكياء ،أو يفخرون
بطريقة غري مبارشة بأن أوالدهم أذكياء .وهذا االعتبار الكثري الذي
حيظى به العقل ،جعل املربني يف كل األحقاب ،خيصصون كل جهودهم
لرتبيته ،وجيتهدون للوصول إليه وهتذيبه .وكثريا ما أعامهم حرصهم هذا
عن حقيقة أخرى نراها اليوم واضحة ،وقد كانت حتى عهد قريب ،يف
طي املجهوالت .أعني بقويل هذا كون احلواس أداة أساسية لبناء العقل،
وكوهنا الطريق األول الذي تسلكه املعرفة لتصل إليه .كان هم املريب قديام
ينحرص يف تكوين العقل عن طريق التفكري النظري والرياضات العقلية
املجردة واللفظية ،ومل يكن عنده مكان،وانقلبت الوضعية يوما ما ،وبرزت
احلواس إىل املكان األول ،عىل أهنا أهم ما نستعمله ،وأرسع ما نستعمله
للرتبية العقلية .بل أصبحت احلواس موضوعا لالهتامم بنفسها بعد أن
رأى الباحثون اإلمكانيات التي ختتفي فيها .وأن يف بعض بالد الغرب اليوم
حركة واسعة الستعامل النشاط احلايس ألغراض تربوية يضاهي استعامله
لألغراض التعليمية .وأن بمدارس هذه البالد ،مصانع جمهزة أحسن
التجهيز ،ال يتعلم فيها الطفل مهنة خاصة ،بل توضع رهن إشارته ليعمل
بحواسه يف حرية كاملة ،فيختار ما شاء من رسم أو موسيقى أو نحت أو
صنع طني .وأتصور فرحة روسو لو بعث اليوم لريى هذه املصانع ،وما
أخاله إال سيذكرنا :أمل أقل يف كتايب «يريد الطفل أن يمس كل يشء ،فال
تعرتض طريقه ،اتركه يفعل فإنه يكتسب مهارة رضورية له»؟ وسننظر
78
كيف تفرس قولة روسو ،وكيف عمت العناية بالنشاط احلايس للطفل
بعدما اكتشفه املربون من أمهيتها ،مهتدين هبدى املريب املوهوب.
وإن روسو ،بام عهد فيه من صدق املالحظة ،كان أول من نبه إىل
وظيفة احلواس يف التعلم ،ودعا إىل اعتامدها يف هذا السبيل ،يف عرص
كانت األعامل احلاسية فيه باملكانة السفىل .رأى روسو إمهال املربني
للحواس وعجب لذلك .عجب كيف يستغنون عن استعامهلا يف مالحظة
العامل ،وينقلبون إىل الكتب يبحثون فيها عن احلقيقة .وعرب عن رأيه
هذا يف كتابه الشهري «اميل» تعبريا مبارشا كام نرى يف قولته التي نحن
بصددها .وبطريقة غري مبارشة ،حيث جيعل تربية اميل مبنية عىل املالحظة
املبارشة للطبيعة واحداثها .ولئن كان أثر هذه اآلراء بطيئا يف الظهور،
فإهنا يف بؤرة اآلراء الفلسفية التي مهدت الطريق للتقدم اإلنساين الذي
نشاهده اليوم .وإن الرجوع ملالحظة الطبيعة مبارشة عن طريق احلواس
كام دعا إىل ذلك صاحبنا ،بمثابة هبة قوية أيقظت املفكرين من النكسة
التي أصيب هبا العقل البرشي حينام أعرض عن مالحظة احلقيقة التي
أمام ناظريه وتفسريها ،وقنع بام ضمنه األولون كتبهم ،مقلدا يف سلسلة
طويلة من األساتذة الناقلني .حلظة مهمة عاشها تاريخ الفكر تلك التي
اكتشف الناس فيها مع روسو أن الطفل يكتسب مهارة رضورية له إذا
استعمل حواسه .وقد الحظ الكاتب كام نالحظ نحن ،أن الطفل حيب
أن يمس كل يشء ،وأنه ال يملك أن يضبط يديه كلام رأى شيئا قبل أن
متتدا إليه ومتسكاه .هذه عادة الطفل ال تنفك تسبب لآلباء واألمهات
مضايقات ال يتحملوهنا ،فتسمعهم يرددون،صارخني مرة ومتلطفني
أخرى ،ال متس ذاك ،أمسك يدك عن هذا .ولو عرفوا أن الطفل ،تدفعه
الطبيعة ،إنام حياول أن يتعلم وإن هذا التعلم الذي جاءه عن طريق يده
أمتن ركن يف املعرفة التي حيصلها ،ملا ادخروا جهدا لتحمل فضول يد
الطفل الذي ال ينتهي ،بل لبذلوا جهودهم ليشجعوا هذا الفضول
ليزودوه بام يناسب .وقد خص روسو اليد بمالحظته يف كلمته التي
أمامنا ،ألن اليد أول احلواس تيقظا .وألهنا أهم احلواس يف اتصالنا
املبارش باألشياء .فالطفل الرضيع يبدأ بتلمس أجزاء جسمه وكل
79
ما تصل إليه يده ،قبل أن تنتبه عينه ويلتفت لينظر ما حواليه .وحتتفظ
اليد هبذه املكانة يف كل مراحل نمو الطفل .بل حتى عندما يصري راشدا.
والطفل ال يكفيه أن ينظر األشياء ليعرفها ،بل البد أن يمسها لتكمل
معرفته هبا .وأن الراشد نفسه ليفعل مثل هذا ويمسك بني يديه قطعة
القامش أو األداة املصنوعة طويال ،كأن يديه تعطيانه عنها صورة أكمل
مما تعطيه عينه .ورس ذلك أن اليد تكون يف احلقيقة عدة حواس لتعدد
وظائفها ،فهي حاسة اللمس متيز بني اخلشونة والليونة ،وهي حاسة
احلرارة متيز حرارة اجلسم وبرودته ،وهي حاسة الوزن ،تقدر ثقل األشياء
وخفتها .وكل هذه اإلدراكات أساس ملعرفتنا للعامل اخلارجي واإلحاطة
بخواصه .فال عجب أن نقرأ لروسو عبارة أخرى أكثر وضوحا يف التنبيه
إىل مكانة اليد من بني احلواس عندما كتب ما معناه أن أيدينا أول معلمينا.
عىل أن روسو مل يقصد حرص األمهية يف اليد يف كلمته التي بدأنا منها،
فتناول األشياء باليد يكون يف كثري من األحايني مقدمة لفحصه باحلواس
األخرى ،نأخذ اليشء بيدنا لنقربه من وجوهنا ،فنتبني بالعني أجزاءه
الدقيقة ،أو نشم رحيه .ولذا ينبغي أن نفهم الكاتب جيدا عندما يقول
إن الطفل يكتسب بلمس األشياء مهارة رضورية له ،ينبغي أن نفهم
أن املهارة التي يتحدث عنها أبعد مدى من املهارة اليديوية املتخصصة،
فهو يقصد قبل كل يشء هذا النوع من التيقظ واالنفتاح اللذين يتصف
هبام الشخص الذي تعلم كيف يستعمل حواسه استعامال ذكيا ليكون
لنفسه فكرة عن الواقع أصيلة .وهبذا الصدد يمكن أن نصف احلواس،
فنقول إهنا ماهرة أو غري ماهرة نظرا إىل ما أعطيها أو مل يعطها من فرص
لتتفتح وتكون رهن إشارة العقل ،وأداة ناجعة له .كام يمكن أن نفصل
كلمة روسو يف كون استعامل احلواس يكسب للطفل «مهارة» رضورية
له ،ناظرين من جهة إىل املهارة العامة ،ومن جهة أخرى إىل املهارات
اخلاصة ،نقول اليوم رجل مثقف ونقصد اإلنسان الذي ربيت ملكاته
العقلية ،واكتسب مرانة كبرية حتى انفتحت له آفاق املعرفة ،بحيث أمكنه
أن يترصف ويستنتج ويصل إىل الرأي السديد ،ولعل "مهارة" روسو
ال تتكون من عنارص أخرى غري هذه ،وإن كان ينظر إىل هذه "املهارة"
من بدايتها عندما يكون العقل غافال راقدة إمكانياته ،فيكون له النشاط
80
احلايس بمثابة منبه ومرب،يزوده بإدراك واسع ويمكنه من إجراء التجارب
الفكرية الرضورية لتكوينه تكوينا كامال .وأثناء هذه العملية،عملية
التكوين العقيل عن طريق النشاط احلايس يكتسب الطفل مهارة أخرى
خاصة تتصف هبا احلاسة قبل أن يتصف هبا العقل .فنقول عن يد اجلراح
أهنا ماهرة ،وعن عني الرسام أهنا خبرية وهكذا.
ونوعا املهارة اللذان حتدثنا عنهام رضوريان للمجتمع ،السيام املهارة
العامة ،التي تفتح أبواب العقل ،فتتجىل املواهب الفردية املتنوعة .وإذ
ذاك يوجه الطفل حسب مواهبه؛ فإما يرصف إىل النشاط الفكري ،وإما
تعطاه مهنة تتطلب مهارة حاسية خاصة .ويف احلالة األوىل يكون النشاط
احلايس الذي يويص روسو بإعطائه احلرية ،مقدمة لنشاط عقيل متفرع،
أما يف احلالة الثانية فإن هذا النشاط نفسه يكون زود الطفل باملبادئ العامة
الرضورية لكل ثقافة مهنية حاسية.
ويف كلتا احلالتني يربح املجتمع املواهب املتخصصة من عقلية،
ومهنية حاسية ويربح الفرد تكامال يف نفسه لشعوره أن له وظيفة وسط
أمثاله .وهكذا حتتل املهارة احلاسية مكانة يف تقدير الناس ال تنفك تعلو
كلام تقدمت املدنية احلديثة ،وتعقدت حاجياهتا ،وبالتايل كثر استهالكها
لأليدي املاهرة .وإن هذه احلاجة االجتامعية الستغالل املواهب؛ احلاسية
منها والعقلية ،هي التي وصلت باملربني إىل فهم كامل ملهمة احلواس يف
توصيل املعرفة إىل العقل ،وملهمتها كموطن مللكات ذات خطر كبري يف
تكوين األفراد واملجتمعات .وينظر اليوم إىل النشاط احلايس عىل أنه
نشاط رشيف ال يقل أمهية عن النشاط الفكري .وذلك ألهنا األساس ،بل
الرشط ،يف وجود النشاط العقيل .وهل يمكن العقل أن هيتدي إىل علم لو
فرضنا أن احلواس منعدمة؟ ماذا يكون العقل آنذاك ،ومن أين تأتيه معرفة
حقائق أساسية كأبيض وأسود ،وثقيل وخفيف ،وصغري وكبري؟ ومن جهة
أخرى اكتسب النشاط احلايس تقديرا عند الناس ،بعد أن أصبحت بعض
املجاالت العملية ،متوقفة عىل مهارة حاسية ،مثيلة للثقافة التي تتطلبها.
ونجد أمثلة عند الباحث يف خمتربه ،واجلراح يف قاعة اجلراحة ،والعامل
81
االلكرتوين يف معمله .وألجل هذين االعتبارين ،أصبح النشاط احلايس
يشغل جانبا مهام من تفكري املربني ،يرعونه ويقوونه الستعامله وسيلة
لتثقيف العقل ،ويستكشفون اإلمكانيات احلاسية عند األطفال لينظروا
كييف يمكنهم استعامهلا يف احلقل املهني.
وقبل أن يمسك املريب الطفل بني يديه احلكيمتني ،يبدأ النشاط احلايس
عند الطفل ،ويكون قد قطع مراحل يف كشف الغطاء عن احلقائق األوىل
التي صادفها ،ويبدأ هذا النشاط من أيام الوليد األوىل ،تراه قبل كل يشء
يتملس األشياء بفمه ،ويظهر أن للفم حساسية ملسية أكثر قوة وتبكريا،
ثم بيده ،ويف األسابيع األوىل يكون سمعه وبرصه ضعيفني جدا ،لكنهام
رسعان ما يدخالن امليدان ،وتنفتح عني الطفل ملشاهد سحرية ،يلفت نظره
منها أول األمر األلوان الرباقة ،ثم األجسام املألوفة .ويتخلف االكتشاف
السمعي قليال ،لكنه يكتيس نفس احلامس باجلدة .والذي يالحظ الطفل،
يراه يبتسم عندما يسمع األصوات األليفة كصوت أمه أو مربيته ،وكلام
مرت األيام واألسابيع ،ازدادت حواس الطفل قوة ،وازداد تعلقه بام يبرص
حوله ويسمع ،وازداد ميله إىل مس األشياء ويشغف باألشياء شغفا شديدا،
فيعجبه صوته إذا بدأ يتكلم؛ فال يزال يكرر نفس الكلمة كأنه يرشفها
رشفا ،وتعجبه األجسام التي تتناوهلا يده ،فيقلبها بال هناية .أما العني
فناهيك بارتياحها وعجائبها ،إهنا ال متل من التحديق يف األشياء ،يف كل يوم
تكتشف هلا وجها جديدا ،أو جزئية مل تنته إليها من قبل.
هذه هي حواس الطفل الطبيعي ،هلا قابلية طبيعية لتعمل عملها ،بل
ظمأ طبيعي ال يرويه إال أن ترصف احلواس نشاطها بغري انقطاع .أقول
الطفل الطبيعي ،وأقصد الطفل الذي يملك حواسه كاملة سليمة ،ويتمتع
بصحة نفسية وجسمية وعقلية .ونشرتط الصحة النفسية ،ألن األمراض
النفسية تكون شاغال أقوى من أن ينساه الطفل وينرصف إىل احلركة
والنشاط ،وحتى إن نسيه فإنه ال يلبث أن يعود إىل حالته االوىل .ويالحظ
أن مثل هذا الطفل يبقى منكمشا يف زاويته ال يلعب –واللعب كام نعلم أهم
املناسبات التي يرصف فيها الطفل نشاطه احلركي احلايس -وال يشارك
82
رفاقه حتى إن دعي إىل ذلك .ونشرتط سالمة العقل وصحته ،ألن احلواس
ليست فقط مفتاحا للعقل ،بل إهنا حتتاج بدورها للعقل ال تستقل عنه.
فاحلاسة ال تستطيع القيام بعملية إال إذا تلقت إشارة من العقل ،فإذا نفذت
فإن العقل هو الذي يفرس اإلحساسات التي جاءته عن طريق احلاسة .هي
أداة مسخرة ،تفقد روحها ووظيفتها إذا مرض العقل .ونشرتط الصحة
اجلسمية العامة ،والصحة اخلاصة لكل حاسة .واحلواس أكثر تعرضا
لألمراض ،فكأن نفاستها جعلتها ،ككل التحف ،رسيعة العطب .وهلذا
تتطلب عناية خاصة تتكرر مرات يف كل يوم ،حتى تكون مستعدة للقيام
بعملها عىل وجه تام .النظافة رشط أويل من بني الرشوط الصحية ،يويص
هبا طبيب األرسة لكثرة ما رأى من تعفنات كان سببها اإلمهال والوسخ،
ولكثرة ما عرض عليه من أطفال ،دون السن الدراسية ،بآذان متقيحة،
وعيون ذابلة يعاين منها األطفال ومن مضاعفاهتا ويال طويال .ولو قدر
لنا أن نطلع عىل إحصاءات مضبوطة ،لقرأنا أعدادا هائلة تفوق تلك التي
نقدرها إذا رأينا طفال أو أطفاال فقدوا أبصارهم أو سمعهم يف سنواهتم
األوىل .ولو قرأ اآلباء هذه األرقام لتنبهوا إىل خطورة األمر ،ولضاعفوا
عنايتهم بأبنائهم ،وعاجلوا كل مرض حايس يف إبانه وبكل ما يملكونه
من وسائل.
واملدرسة تعرف قدر العناية التي تتطلبها حواس األطفال ،بقدر
معرفتها للوظيفة التي تؤدهيا هذه احلواس .وسواء كانت هذه املدرسة
رياضا لألطفال ،أو مدرسة ابتدائية ،فإهنا تضع النظافة كقانون أسايس،
وتطارد األوساخ أنى وجدهتا .أقول املدرسة ،وإن كان الذي يطبق هذا
القانون هو املعلم ،يقف يف باب قسمه مستعرضا الوجوه واأليدي لريجع
امللوثة منها إىل املغاسل ،فإذا دخل القسم شدد يف املحافظة عىل نظافة
األيدي التي تتناول الطباشري واملداد ،وتذهب لتحك العني ومترضها.
وتقوم املدرسة بعمل وقائي نعرف فضله ،فتعمم التلقيح ضد األمراض
املعدية ،السيام أمراض العني الفاشية يف بالدنا ،وتتحفظ كلام ظهرت
أعراض املرض عىل طفل ،وتبعث به إىل ذويه لئال يصيب مرضه أقرانه
يف القسم.
83
ومن أهم التحريات الوقائية ،النظام الذي يتبعه املعلم يف إجالس
تالمذته يف القسم ،إذ يراعي قوة كل فرد احلاسية ،وجيلس ضعيف البرص
قريبا من السبورة ،وضعيف السمع يف الصفوف األمامية .وإن املعلم
ليؤدي لألطفال واألرس خدمات جليلة يف هذا الباب ،ألن معايشته
للطفل ،الطويلة نسبيا ،متكنه من االطالع عىل النقص العضوي فينبه إليه
لتتخذ له االحتياطات ،فيستشار الطبيب ،أو تصنع نظارات.
وكل هذه االجراءات متهيدا لألعامل اإلجيابية التي تقوم هبا املدرسة
لتشجيع النشاط احلايس عند الطفل .ففي األطوار الدراسية األوىل ،حيث
يكون النشاط العقيل يتدرج يف مستوى املحسوس ،تنظم متارين خاصة
لتهذيب احلواس .وتعرف رياض األطفال جمالس لرتبية اليد ،وأخرى
لرتبية العني ،أو السمع .أما يف املدرسة االبتدائية فإن تربية احلواس تنجز،
قبل كل يشء ،ضمن الدروس التعليمية املختلفة .ففي استعامل أشياء
التعليم ،قصد جعل املعرفة حمسوسة ،يتناول الطفل األجسام املعدودة
يف دروس احلساب ،أو النامذج يف درس الكتابة والقراءة ،ويرى األلوان
والرسوم بمناسبة احلديث عنها .فإذا كرب قليال وجد متارين تطبيقية
يتطلب إنجازها استعامل احلواس ،كام هو الشأن عندما يسأل الطفل صنع
حجم من األحجام التي يدرسها ضمن النظام املرتي .وإىل جانب هذه
الرتبية الضمنية ،ختصص دروس ترجع أكثر فائدهتا عىل احلواس .فمنها
دروس األشغال اليدوية ،كطيل األوراق ولصقها وقصها ،وصنع النامذج
من الشمع أو الطني ،وتتطلب استعامل اليد والعني يف آن واحد ،فيكتسب
الطفل مهارة دون أن يمل العمل ،ألن النموذج الذي حياول الطفل صنع
مثيل له حيافظ عىل محاسه ويوقده .وهناك دروس األناشيد ،تعود الطفل
عىل متييز األصوات واحلكم عىل صحتها ،وتعوده عىل تقليدها .ويف كلتا
احلالتني ،سامعا أو منشدا يكتسب سمع الطفل رهافة وقدرة عىل معرفة
األصوات.
والتامرين املدرسية ،عامة وخاصة ،تساهم بنصيب كبري يف هتيئ
احلواس ،لتكون أداة متقنة يعتمدها العقل لبناء أحكام مصيبة ،وفرق كبري
بني احلاسة الغفل ،واحلاسة املرهفة؛ هذه العني تعرف كيف تبرص الكل
84
وحتدد شكله وحجمه ولونه دون أن تنسى اجلزئيات التي تكونه ،وهذه
األذن حتس الصوت وجهته وبعد مصدره ،فتعطيان العقل معطيات
يصح أن يؤسس عليها .أما احلاسة الغفل فتكتفي باإلحساس السطحي
الذي ال يغني كثريا .وفرق ما بينهام والشك ،يفرس فرق ما بني الشخص
«املاهر» باصطالح روسو ،وما بني الشخص غري املاهر.
يقول روسو «اترك الطفل يمس األشياء ليكتسب مهارة رضورية له»
ويقول املربون اليوم غري هذا .يقولون أعطه أوال حاسة سليمة ،ليستطيع
مس األشياء ،ثم أعطه حقال غنيا باألشياء ،وحرية كاملة ليستعملها.
وفكر روسو يف استغالل احلواس كوسائل لتكوين العقل ،أما املربون
املحدثون فإهنم فكروا يف هذا أيضا ،وزادوا عليه ،فاعتنوا باحلاسة ألهنا
متثل رأس مال كبري يف حد ذاهتا .وتستقري املدارس احلديثة ،فتجدها،
يف شكل من األشكال ،تعتمد عىل نشاط الطفل احلايس ،وتتخذ األشياء
املتنوعة لعبا وأدوات عمل ،تعطيها للطفل كجهاز أويل ،وكان الكتاب
وحده يعترب جهازا كافيا .وتنظر إىل املدارس الثانوية والعليا ،فتجد
املختربات للتمرن عىل العمليات الطبيعية والكياموية ،ومصانع حرة
يلقى فيها الطفل تسهيالت إلبراز مواهبه يف اخللق واالبداع .وتلفت
إىل املدارس الصناعية فإذا عندها علم كبري باحلواس ،وطرق استغالهلا،
ووسائل الكشف عن مواهبها اخلاصة ،واستغالل هذه املواهب .ويف
وسط هذا االطار أجد نفيس كمعلم بمدرسة ابتدائية ،مفتقرا إىل استعامل
حواس أطفايل كلام أعجزين املنطق عن تفهيمهم فأستعني بوسائل اإليضاح
وأشجع تالمذيت عىل استعامهلا ،وأخصص دروسا لتشغيل اليد والعني
واألذن ،واكساهبا مهارة سيكون هلا حظ يف نجاح الطفل ،سواء قدر له
أن يامرس يوما ما مهنة حاسية ،أو ذهب يف دراسته النظرية إىل أن متمها.
هذا وإن ما أالحظه من أن الدرس الذي قدم عن طريق احلاسة يكون
أكثر ثباتا يف ذهن الطفل وأكثر وضوحا ،يشجعني عىل استغالل النشاط
احلايس يف تالمذيت ،ويمثل يف نظري مكافأة طيبة ملا أبذله من جهد يف
سبيل وقاية احلواس الصغرية ،وتعهدها لتكون من احلدة والقابلية بحيث
تؤدي مهمتها عىل أحسن وجه.
85
املوضوع رقم :8
قال روسو« :إن تربية اإلنسان تبدأ من يوم ميالده ،وحتى قبل أن
يتكلم ،وقبل أن يسمع ،يبدأ يف التعلم».
ارشح الكلمة ،وبني أمهية املرحلة التي يتعلم فيها الطفل الكالم،
بالنسبة للرتبية والتعليم اللذين حيصل عليهام أثناءها.
86
منطوقه البحث يف املوضوع بالنسبة «للرتبية والتعليم» اللذين حيصل
عليهام الطفل يف مرحلة الكالم.
وإن يف هذا املوضوع لصعوبات يتعني التفكري فيها طويال يف مرحلة
التهيء؛ فمنها أن الكلمة التي نرشحها البد أن تبقى متوازنة بني فرتة
ما قبل الكالم وفرتة الكالم ،ومنها أيضا أن السؤال الثاين يتحدث
عن مرحلة الكالم ،فينبغي قبل كل يشء ،أن حتدد هذه املرحلة ،ومنها
أن السائل يقول «اللذان حصل عليهام أثناء مرحلة الكالم» وال يقول
بواسطة الكالم.
فأما توازن الرشح بني النقطتني ،فسنعطي للسمع قيمته من بني احلواس
األخرى التي بواسطتها يتعلم الطفل ،وسنبني وظيفة الكالم يف تربية
الطفل ،حيث يكون مترينا يؤكد شخصية الطفل ،ثم مترينا تقليديا يعمل
عىل إضافته للحياة االجتامعية .وأما مرحلة الكالم فسنحددها حتديدا
وسطا بني مرحلة التعلم –السنوات اخلمس األوىل -وبني احلياة الدراسية
كلها التي تطول أو تقرص حسب إمكانيات كل واحد .وسنجعل هذه
املرحلة ممتدة من السنة األوىل إىل هناية املرحلة االبتدائية .والكلمة التي
بقي علينا إيضاحها هي قول السائل «أثناء» أيقصد أن نتحدث عن كل
املؤثرات التي يتعرض هلا الطفل ،أم يريد فقط تلك التي تصله عن طريق
الكالم؟ وأن البت يف هذه املسألة رضوري قبل أن نرشع يف اإلنشاء،
ووحدة املوضوع تقتيض أن نذكر فقط الرتبية والتعليم التي جتيء بواسطة
الكالم ،لكن وضوح املوضوع يقتيض أن نبني مهمة الكالم يف كل شؤون
الناس ،وكونه أداة االتصال الرئيسية بينهم ،فيكاد يكون الكالم العامل
الرئييس يف الرتبية والتعليم ،وهلذا فإن كلمة «أثناء مرحلة الكالم» تعطي
صورة واضحة ملقام الكالم الذي أرشنا إليه ،وبالتايل فسنثبت أن السائل
يقصد بالضبط قراءة ما نعرفه عن أمهية الكالم بالنسبة لعمليتي الرتبية
والتعليم.
87
ب -التصميم
* الرشح
* تربية الطفل وتعليمه أثناء مرحلة الكالم
د -اإلنشاء
الرتبية عملية معقدة ،ليس فيها بساطة العمليات امليكانيكية وضبطها.
ولذلك كانت الرتبية موضوعا الختالفات املفكرين ،كل يراها من زاويته،
متأثرا بالتيار السائد يف عرصه أو خارجا عليه .وكل يلتمس أسباهبا ،ويتصور
طرق تطبيقها ،بانيا عىل أفكار من تقدموه ،أو زاعام أنه جاء بجديد .وقد
عم اخلالف طرق التعليم أيضا عرب العصور ،فتبارى املعلمون يف إحداث
الطرق وتنويعها .ومل هيتد املربون إىل اتفاق يف امليدانني حتى يف عرصنا
هذا الذي تقدمت فيه دراسة الطفل كثريا ،وأصبح لعلم النفس شأن مل
يكن له .إال أننا نراهم متفقني ،أو يكادون ،عىل أن الطفل ينبغي أن تتناوله
الرتبية مبكرا ،وقبل أن تطبعه العوامل غري املوجهة بطابع ال يتفق ونوايا
املريب .ونتيجة هلذه الفكرة ،أسست مدارس لألحداث ،وأسست دور
حضانة للعناية بالطفل يف سنه الرخوة ،بل تعدى األمر هذا ،فدعا املربون
إىل تربية األبوين ،ليقوما بالتوجيه الصالح لذريتهام منذ البداية .قلت
كادوا يتفقون عىل هذا ألن طائفة من املربني الزالت تنكر أن يبكر بإرسال
88
الطفل لدور احلضانة أو رياض األطفال ،وتعزو هلذه العملية ،السابقة أواهنا
يف نظرهم ،ما يشاهد من انحراف بعض األطفال .لكن هل معنى هذ أن
املربني يظنون الطفل عاجزا عن التعلم ،وبمعزل عن الرتبية التي نريدها له،
قبل أن يصل إىل سن معينة؟ ال أظن ذلك ،وقد قال شيخ املربني ،وسلف
علامء النفس« :إن تربية اإلنسان تبدأ من يوم ميالده ،وحتى قبل أن يتكلم،
وقبل أن يسمع ،يبدأ يف التعلم» فكيف ينبغي أن يفهم كالم الفيلسوف ،وما
مقدار األمهية التي لرتبية وتعلم ال يستعمل الكالم واسطة هلام؟
يظهر أن املبدأ الذي كتبه روسو مل يبق موضوعا للنقاش ،فقد ثبت أن
الطفل يرتبى ويتعلم من يومه األول .بل دفع الباحثون ،من أطباء وعلامء
للحياة ،التجارب أبعد من اليوم األول ،وأثبتوا أن اجلنني يف بطن أمه،
يسجل رد الفعل الذي يقع من أمه أمام األحداث التي تتعرض هلا ،وأثبتوا
أن وقائع فرتة احلمل ،ليست غريبة عن الصفات التي يف طبع الطفل.
التجارب الزالت جارية ،والعلامء حياولون فرز احلقيقة ليعرفوا كيف يتأثر
الطفل يف بطن أمه .والذي ال جدال فيه اليوم أن الوليد ليس جسام حمايدا
ال يعنيه يشء قبل أن يدب ويستيقظ للوجود ،بل هو متوفر عىل خصائص
الكائن احلي ،جمهز بكل ما يمكنه من انفعال بوسطه ،يف انتظار أن حيصل
عىل القدرات التي متكنه من الفعل يف وسطه .وأول هذه اخلصائص قابلية
الطفل للتكيف بنوع احلياة التي هيئت له يف حدود حاجاته الطبيعية .فمنذ
اللحظة األوىل يفتح فاه ليتنفس اهلواء ،بعد أن قىض حياته اجلنينية عالة
عىل هواء أمه .وبام أن الرتبية تكيف قبل كل يشء ،فبوسعنا أن نؤكد أن
الطفل يرتبى منذ اللحظة األوىل .نعم ،جييء الوليد بجهازه الغريزي الذي
يساعده يف املحافظة عىل حياته ،إذ يرصخ كلام جاع ،أو ابتل ،أو احتاج إىل
أمه .لكن هذا اجلهاز الغريزي ال يلبث أن يبدأ يف التقلص ،لتخلفه عادات
تعلمها الطفل ،فرسعان ما يعرف الثدي إذا رآه أو ملسه ،فيرصخ آنذاك ال
بدافع الغريزة ،لكن كرد فعل للمعرفة التي حصل عليها بواسطة احلواس.
وإن دور احلواس يف تربية الطفل وتعليمه ،هلي املركز الذي تتجمع حوله
أفكار روسو ،فال بدع إن كانت قولته التي نستعرضها اليوم منرصفة
هلذه النقطة .وإن كان الفيلسوف تىيؤكد إمكان تربية الطفل وتعليمه
89
حتى قبل أن يسمع ويتكلم ،فام ذلك إال ألن للسمع والكالم مكانا ال
ينكر كوسائل للرتبية والتعليم .عىل أن السمع املعني هنا هو فهم الكالم
املسموع ال جمرد السمع .ومن السهل عىل مالحظ الطفل أن يتتبع
استيقاظ حواسه ،وكيف يكتسب بواسطتها معرفة أوسع فأوسع بام
حييط به .فالطفل منذ يتحرك جسمه يف األسابيع األوىل بعد ميالده ،ينظر
ما حوله متطلعا ،ويعرف الوجوه املألوفة فيبسم هلا ،ويسمع الصوت
فيعرفه إن كان صوت أمه ،ويرنو لألشياء الرباقة ،ويمد يده إليها ،فإذا
مضت هذه الفرتة ،ودب الطفل ،استعمل حواسه يف نطاق أوسع مما كان
يستعملها فيه ،واتسعت معارفه فشملت حجرته وما حوهلا .وكل هذا
قبل أن يسمع الطفل ،أعني قبل أن يفهم الطفل الكالم ،أو يقدر عليه.
عىل أن هذا ال يمنعه من إبداء رغباته بواسطة الصياح أو اإلشارة .وما
حيصل عليه الطفل من معرفة ،يساهم بنصيب كبري يف تربيته إىل جانب
نوع املعاملة التي يعامل هبا ،ونوع املثال الذي يشاهده.
لكن ما هو مقدار األمهية التي للجانب املسكوت عنه يف كلمة روسو؟
وهل يعد استعامل الطفل للكالم ،فهام وتكلام ،مرحلة حاسمة يف سبيل
تعلمه وتربيته؟ إن املستعرض حلياة الطفل ،يميل إىل اعتبارها كذلك،
بل يميل إىل اعتبارها مرحلة انتقال من فرتة دنيا إىل درجة أسمى منها.
الفرق كبري بني الطفل الذي يفهم ما يسمعه ،فيعمل ما أمر به ،وجييء إذا
دعى ،ثم يعرب عن رغباته وأفكاره بكلامت ،وبني الطفل الذي ال توجهه
إال حيويته ،وال يرد الفعل إال جوابا عن فعل إجيايب نفرضه عليه ،أو مؤثر
عاطفي نأخذه به .وألمر ما عرف الفالسفة األقدمون اإلنسان بأنه حيوان
ناطق .لكن القصد يف القول ،والتحري للحقيقة ،ال يسمحان باعتبار
الطفل قبل أن يفهم ويتكلم حيوانا رصفا ،بل هو إنسان بام تعلمه قبل
الكالم وبالرتبية التي ناهلا يف هذه الفرتة ،بقدر كونه إنسانا نظرا إلمكانياته
املستقبلة.
وبعد فال مراء يف أن الطفل يبدأ مرحلة خصبة بام تعطيه من إمكانيات
ليرتبى ويتعلم ،يف الوقت الذي يملك فيه هذه األداة الطبيعية التي هي
90
الكالم .ال نغايل فنقول بأن الرتبية الكاملة ال يمكن أن تنال إال بواسطة
الكالم ،خمافة أن تكذبنا األمثلة العديدة للصم والبكم الذين حصلوا عىل
نصيب طيب من العلم والرتبية عزت عىل كثري من املتكلمني .وإنام نقول
بأن الكالم هو الوسيلة الطبيعية للمواصالت بني الناس ،ولفهم بعضهم
بعضا ،فرضوري أن يكون املتكلم أرسع فهام لآلخرين ،وأرسع تعبريا
عن رأيه وحاجاته ،من الذي ال يتكلم.
والكالم اخرتاع إنساين ال دخل للغريزة فيه فالبد أن يتعلمه الطفل
يف مراحل متعددة ،أوهلا تقليد كلامت ،وآخرها االستعامل املرسل
السهل ،ويصحب عملية استعامل الكالم فهم الكالم ،وإن مل يكن
بينهام تواقت كامل ،ألن الطفل قد يستعمل كلامت استعامال صحيحا
قبل أن يفهم معناها عىل وجه الضبط ،كام أنه يفهم معاين الكالم ،قبل
أن تسعفه آلته الصوتية عىل استعامهلا ،ويبدأ الطفل متارينه الصوتية يف
سن مبكرة ،فمنذ الشهر اخلامس ،أو السادس ،يأخذ يف إخراج أصوات
خمتلفة يرددها ال يمل ،دون أن يكون ألصواته معنى أو قصد .وكأن
هذه مرحلة هتييئية يكتسب هبا احللق املرونة الالزمة لتكلم اللغة التي
سيجدها مستعملة بني ذويه .وتتلو هذه الفرتة درجة أخرى فيها يتخذ
الطفل لنفسه كالما يكون يف الغالب حتريفا للكلامت التي حياول تقليدها.
ويتمسك كل طفل بكالمه الشخيص الذي يمتاز هبذه القاعدة الشائعة،
وهي داللة كلمة واحدة عىل معنى كامل تستعمل له عادة مجلة كاملة.
فإذا قال الطفل «أنا» مثال ،فمن املحتمل أن يقصد« :أنا أريد أيضا
احللوى» ،وإذا قال «أمي» فقد يريد «خذيني يا أمي» أو «اقريب مني يا
أمي» .ويمتد استعامل الطفل للكالم الشخيص ابتداء من السنة الثانية
إىل مدة تطول أو تقرص حسب تبكري األطفال يف الكالم أو إبطائهم فيه.
وتطول هذه املدة باألخص إذا كانت األرسة ،تستعذب كلامت الطفل
املحرفة فرتددها ،أو ختاطبه بكالم صبياين .ويتقدم الطفل يف تعلمه
وفق سلم عام ،فيبدأ باستعامل األسامء ،ثم األفعال ،ثم أدوات الربط،
ثم الضامئر .ويكون آخر ما يتعلمه استعامل أدوات التعليل كمثل كي
أو ألن ،وأدوات الرشط .وهذه الدرجة األخرية تتأخر إىل وقت دخول
91
الطفل املدرسة االبتدائية ،بل تتأخر سنوات بعد دخوله املدرسة.
ورغم تفاوت األطفال يف رسعتهم للكالم ،يكون منهم من يبتدئ
يف آخر السنة األوىل ،ومنهم من ال يبدأ إال يف الرابعة أو اخلامسة ،فإهنم
يف سن العارشة يكونون يف نفس املرتبة إذا كانت أوساطهم االجتامعية،
وذكاؤهم الطبيعي ،ونوع الدراسة التي تلقوها متساوية .وأيا ما كان
هذا التفاوت فإن الطفل بمجرد ما يتعلم الكالم ،يستعمله يف مرح كبري،
فيكرر الكلامت بال هناية ،ويشكو الراشدون من ترثرته .وإقبال الطفل
عىل الكالم يعد يف احلقيقة فرصة غالية ينبغي أن يقبضها اآلباء ليزودوا
بنيهم بكلامت خمتارة متنوعة ،يسامهون هبذه الطريقة يف تربية العقول
الصغرية .ويالحظ أن ثروة الطفل اللغوية ،يف مرحلته الصبيانية ،رهن
بثروة ذويه اللغوية ،ألن الطفل ال يستعمل إال كلامت يسمعها مرارا يف
كل يوم .كام أن نوع الكالم الذي يتكلمه الطفل رهن بكالم ذويه؛ فهو
ال يعرف كيف خيتار الكلامت املناسبة ،وكيف يتحاشى العبارات املبتذلة.
وجييء الطفل إىل املدرسة ومعه نصيب قليل أو كثري من الزاد اللغوي،
فيجد أطفاال لكل منهم لغة ذات صبغة حتكي لغة البيت الذي نشأ فيه.
فتقوم آنئذ املدرسة بدور العامل املوحد ،ألن األطفال يشرتكون يف
الكالم ،فيأخذ بعضهم عن بعض ،وألن يف املدرسة ساعات عمل يتكلم
فيها املعلم ،فتبدأ املرحلة التي تتخذ أثناءها الرتبية الكالم كأهم وسائل
تأثريها .لكن الكالم يلعب دورا مهام جدا يف تربية الطفل حتى قبل جميئه
إىل املدرسة ،دورا مقصودا أو غري مقصود ،يف البيت ويف الشارع ،أثناء
اجلد وبمناسبة اللعب .فكيف يكون للكالم هذه األمهية بالنسبة لرتبية
الطفل وتعليمه يف املرحلتني :البيتية واملدرسية؟
نتصور بيرس كيف ينظر الطفل إىل كل كلمة جديدة يسمعها ،إنام
نمثل يف عينيه جتربة جديدة ،ألهنا حتمل معها معنى خاصا ،وكلام كثرت
الكلامت التي حفظها ازدادت قدرته عىل فهم العالقات التي بني األشياء،
وسهل عليه أن يتتبع الكالم املوجه إليه فامها جزئياته شيئا فشيئا .وبتوسع
دائرة كالمه تتسع أيضا دائرة معرفته ،ومن خالل هذه املعرفة ،وبواسطة
التوجيه اللفظي الذي يعطيه إياه مربوه الطبيعيون ،يتلقى مبادئ تربوية
92
هي أساس شخصيته املقبلة .عىل أن استعامله للكالم أيضا يساعد عىل
تربيته وتعليمه ،بل ربام كانت استفادته متكلام ،أكثر من استفادته سامعا
فقط .ذلك ألنه يتعلم كيف يعرب عن ذات نفسه ،فيزيد ذلك معرفته بأن
له إرادة خاصة ،وأن لآلخرين إرادهتم أيضا .وألنه عندما يتكلم ،يكون
الكالم له ضابطا يساعده عىل حتديد األفكار التي يعرب عنها .وحيدث
ذلك تدرجييا بالطبع ،ألن عهدنا بالطفل يف أول كالمه ،يردد الكلامت
كأنام يلعب لعبة رياضية ،ال غاية له إال أن يسمع نفسه ينطق .ثم ال
يلبث أن يبدأ يف وزن الكالم والتامس اللفظة املناسبة .وأن أهم وظيفة
يؤدهيا الكالم يف املرحلة األوىل ،بل ربام يف سائر املراحل ،هي استعامل
الطفل إياه لكي يلقى أسئلة عىل مربيه .والطفل إذا بلغ الثالثة ،استيقظ
فضوله؛ فكان آلة إللقاء األسئلة التنى ،فال يكف أبدا عن السؤال ما
هذا وكيف هذا .وهنا أيضا ختتلف حظوظ األطفال مع آبائهم؛ فهناك
األبوان اجلاهالن اللذان يستثقالن أجوبة الطفل ويزجرانه ،وهناك
األبوان اللذان يعطيان الطفل تفهام أكثر ،وجييبان عن أسئلته .وظاهر
أن أسئلة الطفل ،إذا تدبرها املريب ،متتاز بشيئني :متتاز بأهنا تنم عن
اهتامم الطفل وتشري إليه ليستغله املريب ،متتاز بأهنا تبني مواطن ضعفه،
وترينا ماذا يعرفه وماذا جيهله لنعالج نقصه يف املعرفة ،ونقصد إىل حيث
يكون تأثرينا الرتبوي أكرب وقعا ،دون أن نضيع الوقت يف االختبارات.
وأن أسئلة الطفل العفوية قد ختمد يف املرحلة الدراسية ،أو تعرض عىل
األبوين دون املعلم ،ليحل حملها أسئلة مصطنعة .يقع هذا عىل اخلصوص
إذا كان الطفل يسمع من معلمه تعليقات مثل «هذا سؤال بليد»« ،سؤال
يف غري موضعه» .ونتيجة لتعقيب املعلم ،يسكت الطفل ،أو حياول أن
يضع أسئلة «ذكية» ال هيتم هبا يف احلقيقة إال بالقدر الذي هيمه أن يصوغها
صيغة مقبولة من معلمه .وواضح أن املدرسة تضيع فرصة مهمة إن هي مل
تشجع الطفل عىل الكالم وإلقاء األسئلة.
قلنا سابقا إن املدرسة عامل موحد لكالم األطفال ،إذ تفتح هلم بابا
لتبادل الكالم ،وتعطيهم ،بصوت معلمها ،نموذجا يقتدون به .واملدرسة
يف تربية الكالم ويف الرتبية بواسطته ،ذات األمهية األوىل ،تنظم تعلم
93
الكالم واستعامله تنظيام ،وتتوسع يف هذا االستعامل حسب اتساع وتنوع
املواد التي تعلمها ،وحسب النشاطات العملية واخلطابات بني املعلم
واألطفال .وختصص املدرسة االبتدائية دروسا تسميها دروس حمادثة،
يتعلم الطفل أثناءها كلامت وتراكيب ذات استعامل ينفعه فيام يستقبله من
الدراسات ،كام تكون بمثابة درس لألشياء التي تكون موضوع املحادثة.
واملبدأ الذي جيب أن تسري عليه املدرسة ،هو أن الكالم يبقى خلوا من
أية فائدة ،إذا مل يكن حيمل معنى يفهمه التلميذ بوضوح :فاملهم ليس أن
نعطي الطفل أمحاال من األلفاظ يتحذلق يف استعامهلا ،لكن أفكارا تتقمص
كلامت ،وكلامت متثل معاين .وإذا فالبد يف كل درس أن يتأكد املعلم من
أن كل كلمة يفوه هبا هو ،ويقلده التالميذ يف استعامهلا ،تقابل معنى بينا
يف أذهاهنم .وهبذا وحده نضمن أن يكون الكالم الواسطة الكربى للرتبية
والتعليم.
يتعلم اإلنسان ويرتبى قبل الكالم ،لكن مرحلة الكالم تبدأ طريقا
جديدا يف تربيته وتعليمه .ال نجهل عمل احلواس ورضورهتا لكسب أية
معرفة ،لكن احلواس ،لو اقترصت عىل جتربتها اخلاصة ،لتعني أن يبحث
كل فرد عن حقائق هذا العامل وحده ،ويبدأ من حيث بدأ أول إنسان عىل
وجه هذه األرض .الكالم يضع يف متناول كل فرد جتربة أخيه اإلنسان،
ويعطيه إمكانية التفاهم معه .وهبذا يكون الكالم أهم وسيلة للرتبية
والتعليم ،إذ يمهد الطريق للتجارب الفكرية املختلفة ،ويوجه احلواس
يف أعامهلا ،ويزودها باملعرفة الرضورية لكيال تسلك سبيل اخلطأ ،وتوقع
العقل يف أغالط وقع فيها السابقون .إن الكالم ،مكتوبا أو منطوقا ،هو
األداة األوىل يف بناء حضارة اإلنسان ،وختليد علمه .وإنه أيضا لطافة
كبرية يف يد من يملك ناصية البيان .وقالت العرب« :تكلموا تعرفوا»،
وقد عرفت العرب أن اللسان ترمجان العقل ،وأنه أحد من السيف عندما
يسعفه القلب الشجاع والعقل الراجح ،والذي ينظر إىل ما يفعله اخلطيب
املوهوب بسامعيه ،وما يناله مطلق خماطب فصيح من سلطة بني خماطبيه،
يدرك إدراكا كامال أمهية الكالم يف تربية اإلنسان وتعليمه ،بل يف امتالكه
وتوجيهه فردا كان أو مجاعة.
94
املوضوع رقم :9
قيل« :إن مستقبل الطفل منوط بقوة اإلرادة التي تزوده هبا».
فرس القول ،وبني كيف تعمل لتقوي إرادة الطفل.
95
إرادي ،وال متنعه املرانة الرضورية ملعاملة الناس من فرض إرادته وضامن
مستقبله آخر األمر .هذه مناقشة متهيدية لفهم املوضوع ،تضع اخلطوط
األوىل لتفسري القول ،وينبغي أن يفرس القول ،بالنظر إلرادة الطفل،وأن
هذه اإلرادة تأتيه من خارج ،نحن نزوده هبا .فلذلك يقتيض املقام ،أن
نعرض أوال صورة موجزة إلرادة الطفل ،وكيف تتكون ،ثم نتحدث
عن الصفة التي هبا نعمل لنعطي الطفل إرادة قوية .وننتبه إىل أن القائل
يستعمل كلمة «نزود» مع مجاعة املتكلمني ،وهلذا نأخذ الفعل عىل عمومه
وال نخصص ،فيبقى يف يدنا متسع لنقول عن نشوء اإلرادة ،وندخل
األرسة والوسط يف عموم الفعل.
واجلزء الثاين موجه فيه السؤال إلينا نحن املمتحنني ،فرياد أن نقول
كيف نعمل لتقوية إرادة الطفل .فنجيب ذاكرين طبيعة العمل املحتاج
إىل إرادة ،ذاكرين الطرق العملية التي نتبعها لبعث الطفل عىل التفكري يف
أعامل إرادية ثم إنجازها.
ويتعني أن نسبك املقال كله ،بحيث يعطي صورة ممتدة لإلرادة؛ كيف
تبدأ ،وكيف يكون أثرها يف مستقبل الطفل .فتعني أن نعطي املقال حركة
حتكي حركة الطفل ناشئا ،ثم آئال إىل مستقبل.
ب -التصميم
* تفسري القول.
* ما أفعله لتقوية إرادة الطفل.
96
الطفل ،ويف معرفته العامة -الدافع النفيس يبدأ بالعادة ،خيلق باشرتاك
الدوافع النفسية الطبيعية -املدرسة بأعامهلا املتنوعة تعطي نظاما مواتيا
لرتبية اإلرادة ،ونشاطات تساهم يف تأييد هذه الرتبية ،كالرياضة البدنية
ودروس األشياء.
د -اإلنشاء
الرتبية حتدد لنفسها أهدافا مثالية أو عملية ،جتعلها رئيسية ومكيفة
لنوع التوجيهات التي تتخذها يف امليدان التطبيقي .وكيفام كانت األهداف
التي تعرتف الرتبية بأهنا هتدف إليها ،فإن هنالك اعتبارا أوال يدخل يف
حساب املريب ،بل يسيطر عىل حسابه ويفرض عليه وجهة عملية معينة،
وهذا االعتبار هو التفكري يف مصري الطفل الذي نربيه ،ولئن كانت الرتبية
يف عصور غابرة ،شارة للرجل املتفوق اجتامعيا ،أو بضاعة بذخ يف متناول
الطبقة الرفيعة فقط ،فقد أصبحت اليوم رضورية لكل فرد ،وعليها يتوقف
مستقبله .ولئن كانت الرتبية البذخية التي أرشنا إليها ،ترمي ،كانت ،إىل
تزيني الشخص ،وحتليته بكل صفة جسمية أو عقلية ينبغي أن يتصف
هبا ،فقد أصبحت الرتبية اليوم هتدف إىل أغراض عملية .وهيمها قبل كل
يشء أن تسلح الفرد ليجد أمامه جماال حيقق فيه مستقبله .ويبقى أن نعرف
يف إطار الرتبية احلديثة ،ما هو أهم سالح تضعه يف يد الناشئ ليفتح أمامه
طريقا؟ وجوابا عن سؤالنا ،نسمع كثريين يشيدون باألمهية القصوى
للثقافة العامة ،ونسمع آخرين يتحدثون عن العلوم التطبيقية ،ويعتربون
تعلمها الطريق األوحد للخالص من التخلف الفكري واحلضاري،
ونسمع مربني وفالسفة يريدون الرجوع إىل القيم اإلنسانية ويضعوهنا يف
املكان األول .وإىل جانب هذا نقرأ مقالة من يبحث عن الطبع لريى ماذا
تعطيه الرتبية ،ويكتب «إن مستقبل الطفل منوط بقوة اإلرادة التي نزوده
هبا» كأنه يعترب تقوية الطبع ،وتصليب اإلرادة الرشط األسايس يف نجاح
منتوجات الرتبية ،وكأنه يعترب ما سوى هذا أعامال فرعية عامدها القوة
النفسية املترصفة .وسننظر مع هذا الكاتب كيف تكون اإلرادة الركن
97
األول يف بناء مستقبل الطفل ،وكيف تتكون هذه اإلرادة حتى يمكن أن
نزوده هبا ونجعلها قوية.
لكل فرد خصائص طبيعية يتميز هبا ،فهذا ألوف اجتامعي ،واآلخر
حمب للعمل جمد فيه ،والثالث شديد املالحظة قليل امليل إىل الرفاق،
وهكذا .لكن هذه اخلصائص الطبيعية كلها تصطبغ بعامل يظهر أنه أعم
منها مجيعا ،فكأنه أكثر منها عمقا .وأعني اإلرادة .فلكل طبع حظ كبري
أو صغري من اإلرادة ،نجد املحب للعمل املنرصف إليه بحاجة طبيعية ال
دخل لإلرادة فيها ،ونجد الدائب عىل العمل ،بمحض إرادته ،كام نجد
الرجل االجتامعي الذي يلتمس الرفقة حلاجة عاطفية ،أو الذي جيدها يف
احلديث مع الناس ،كام نجد االجتامعي الذي يقصد االختالط بالناس
لغرض إرادي يدفعه .وهكذا يبدو لنا أن اإلرادة أو ضعفها صفتان
سابقتان يف كل طبع ،فتقسم الناس هبذا االعتبار إىل شطرين :الطائفة
التي تفرض االجتاه والطائفة التي تتبع .عىل أن عامة الناس يملكون
حظوظا من اإلرادة متوسطة ،بالنسبة لقابليتهم الطبيعية ،وبالنسبة
للعامل الرتبوي الذي كوهنم .وإنام يمتاز أفراد قالئل ،ويربزون بصفاهتم
اإلرادية ،ويكون هؤالء النخبة يف كل عرص ،فيكون منهم العلامء الكبار،
والرؤساء والقواد .وسواء نظرنا إىل األشخاص املتوسطني الذين يمثلون
األغلبية االجتامعية ،أو نظرنا إىل األفراد البارزين ،فإننا نالحظ أن الذي
ينال احلظ األوفر من التقدير االجتامعي ،والنجاح ،هو الشخص ذو
اإلرادة القوية .وليس سبب ذلك أن هلذه القوة اإلرادية فضيلة خفية تؤثر
عىل الناس ،لكن مرده إىل أن اإلرادة القوية ترصف اجلهود كلها إىل عمل
بناء ،فتتكامل الشخصية ،ويتقدم الشخص يف السبيل التي اختارها وخري
مثال ملا تفعله القوة اإلرادية ،هؤالء العصاميون الذين نسمع عنهم بدأوا
نشاطهم يمتهنون حرفا متواضعة ،ومل ينهوا حياهتم إال وقد تسلقوا قمة
املجد ،كام فعل أديسون األمريكي صاحب االخرتاعات الكثرية مثال.
واإلرادة طاقة نفسية مطلقة ،ال تتحدد قيمتها إال باعتبار الوجهة التي
تسري فيها .وفيها استعداد كامن لتنرصف إىل اخلري أو الرش؛ األمر يتوقف
عىل الرتبية التي تبعثها .ولذلك كانت الرتبية اإلرادية ،من أهم ما ينبني
98
عليه مستقبل الطفل ،فإذا فهم املريب أن نقطة االنطالق هي املبادئ التي
يقتنع هبا الطفل ،ويعمل حياته طبقا هلا ،عمل جهده ليزود الطفل بإرادة
قوية تويل وجهها شطر اخلري ،وأمكنه -إن نجح يف مهمته -أن يرتقب
أفرادا يسامهون بكيفية إجيابية ،يف أعامل جيلهم.
حيتاج املريب أوال أن يعرف كيف تبدأ إرادة الطفل ،وكيف تنمو.
ويعرف علامء النفس العمل اإلرادي بأنه عمل ينشأ عن معرفة تامة بغايته
التي يسعى هلا ،ويمتاز بأنه نتيجة معركة نفسية أحد جانبيها اإلرادة،
واجلانب الثاين الرغبة الطبيعية .فإذا نظرنا إىل الطفل ،وجدناه خلوا من
املعرفة التي هتيء العمل اإلرادي ،ووجدناه من الناحية الثانية حماطا
برغبات كثرية ،ال تستطيع نفسه الرخوة أن تقاومها .فالطفل هبذا يف
سنواته األوىل عاجز كل العجز عن القيام بأعامل إرادية باملعنى الصحيح
–وال ينبغي أن نخلط بني العمل اإلرادي كام عرفناه وبني العمل املقصود
ا َْلنْوي -لفقدان الظروف املواتية ،وإنام تكون أعامله منبعثة عن رغباته،
ال تعرف ضابطا إال إذا فرض من اخلارج ،واألرسة هي التي تفرض هذا
العمل .ومتنع ذاك ،وتنفذ أوامرها بوسائل مادية خيضع هلا الطفل .أو
تقف األرسة موقفا ضعيفا أمام اجلبار الصغري الذي يترصف كام حيب،
ويفرض «إرادته» عىل اآلخرين .وأمام الظروف التي جيدها الطفل ،تبدأ
إرادته يف التكون .فإذا تعود أن يضبط يف أعامله ،وحيمل عىل ما جيب أن
يعمله بكيفية ال هوادة فيها ،بدأ يتعلم كيف يمسك رغباته ويسكتها،
وبدأت هذه الرغبات تفقد سلطاهنا عليه شيئا فشيئا .وإذا تعود أن يعطي
مطلق احلرية ،قويت هذه الرغبات ومتكنت ،وآل أمر الطفل إىل ما يؤول
إليه املخنثون الذين يشبون عبيدا مليلوهم ،عاجزين عن متييز النتائج التي
سترتتب عىل أعامهلم ،عاجزين عن اختاذ مواقف إرادية .فاخلطوة التهييئية
لبناء إرادة قوية ،هي السنوات األوىل التي يقضيها الطفل يف بيته ،وعىل
نوع النظام الذي نشأ فيه ،يتوقف استعداده ليكون فردا توجهه اإلرادة ال
امليول الطبيعية .وعىل هذا النظام يتوقف نجاح املريب أو صعوبة نجاحه،
يف تزويد الطفل باإلرادة القوية.
99
كل هذا عرفه املريب؛ عرف أن هنالك عنرصين لبناء إرادة األطفال.
االول منهام عنرص املعرفة ،معرفة غاية العمل الذي يرشع الطفل يف
إنجازه ،ومعرفة أن هذه الغاية خري مرغوب يف حتقيقه ،والعنرص الثاين
اختاذه خطة مطابقة للمبدأ املختار ،والتغلب عىل الرغبات الطبيعية.
عرف املريب هذا بكيفية نظرية ،لكنه اآلن أمام الطفل يف امليدان العميل،
فكيف سيطبق هذه النظريات ،وكيف يبارش عمله ليؤدي الواجب خري
أداء ،ويزود الطفل بإرادة قوية عليها يتوقف مستقبله؟
املدرسة تستقبل ،بحكم األعداد املتوسطة ،خليطا من األطفال بعضهم
نشأ يف حجر أرسة حازمة ،وبعضهم نشأ صاحب األمر والنهي يف بيته.
العوامل التي تركت أثرها يف حياة األطفال متنوعة .فهناك الطفل بني إخوته
وأخواته ،وهناك الطفل الوحيد .هناك األرسة املتامسكة املحتاطة يف تربية
أبنائها ،وهناك األرسة املنحلة ،التي انفصمت أوارص الود بني أفرادها.
هناك أيضا موقف األبوين من تربية الطفل ،هل يتفقان ويتعاضدان ،أو
يؤازر أحدمها الطفل أو ضعفه أمام اندفاعاته .وجيد األطفال أنفسهم فجأة
أمام نظام مدريس ،كأنام يقفون أمام حاجز قوي .وهنا خيتلف رد فعل كل
طفل حسب ما ألفه يف البيت؛ فمن التالميذ من جيده أكثر ليونة وتفهام إذا
نشأ يف أرسة تسئ معاملة أبنائها .ونتيجة لشعور األطفال ،حيدث لبضعهم
أن ينفر من املدرسة بعدما جربه فيها ،وقد يثور ثورة كبرية ،ويرفض
العودة إليها ،لكن أغلبية التالميذ ال تلبث أن تتكيف بنظام املدرسة ،سيام
إذا كان القائمون فيها حيبون األطفال ،وتألفه ،ألن عامال ملطفا ساهم
يف ترويضهم .والعامل امللطف هنا هو وجود أقران تربط بينهم أوارص
متينة ،هيون معها القيام بأعامل ال تتفق وميول الطفل ،أو ال تتفق وما تعود
أن يفعله .وتساهم هذه األوارص الطبيعية يف هتذيب كل طفل ،وتليني
طبعه حتى ال يصطدم بالرفاق ،فرسعان ما يتعلم أن حيرتم رفاقه ،ويرعى
حقوقهم حفظا ملودهتم .وتكون هذه الرتبية االجتامعية نواة لألعامل
100
اإلرادية التي سيامرسها الطفل يوم تشتد نفسه ،ويتوفر عىل العنارص
الرضورية هلذه األعامل .وإىل هنا ،ويف انتظار أن تتوفر العنارص املشار
إليها ،فإن أعامل الطفل ،وخضوعه للنظام املدريس ال تعد أعامال إرادية،
ألهنا فرضت من اخلارج ،وألن الطفل ال يملك أن خيالفها .ونحن
ناظرون كيف ختلق الظروف املواتية لبعث اإلرادة ،وكيف تبنى هذه
اإلرادة داخل املدرسة .سننظر أوال كيف يتكون رشط املعرفة ،ثم كيف
تصبح هذه املعرفة حتت العامل املنفذ الذي نسميه اإلرادة.
إن معرفة األعامل وما ينتج عنها ،ومعرفة األسباب واملسببات،
ومادة الدروس التي يتلقاها الطفل ،ومادة التجارب التي مضت له
قبل أن يدخل املدرسة .وكلام تقدم الطفل يف دراسته ،امتدت هذه
املعرفة وشملت آفاقا جديدة ،فيبدأ الطفل بمعرفة نتائج أعامله ،وكيف
حتدث هذه النتائج ،ويتعلم ملاذا حتدث هذه النتائج .ثم يكتشف يوما
أن االعامل التي تصدر من الناس ،ليست طبيعية هلم ،كتحرك أغصان
الشجرة ،أو كسري الضباب .لكنهم يقومون هبا بعد أن يفكروا فيها.
وتعلمه قراءاته يف املدرسة ،ودراساته فيها ،أن أعامل الناس هلا ميزان
توزن به ،وهو النتائج التي تلدها ،يتعلم هذا بمناسبة ترصفه يف حجرة
الدرس ،وبمناسبة األمثلة التي يقرأها ،وبمناسبة االمتحانات التي
جترى له .هذه املعرفة حيصل عليها الطفل تدرجييا ويف نفس الوقت الذي
يكتشف فيه قوته ،ويكتشف فيها أنه قادر عىل تنفيذ األعامل التي يف
طاقته .وتنمو هذه املعرفة باستمرار ،عرب مراحل تكوين الناشئ .لكن
هذا كله إنام هو شطر املعرفة التي هتيء العمل اإلرادي ،كام يعنيه الذي
جيعله منوطا به مستقبل الطفل .والشطر الثاين ،هو معرفة قيمة النتائج يف
ميزان اخلري والرش .وهذه هي الوظيفة األوىل لدرس األخالق ،وبصفة
أخص ،للتوجيه اخللقي الذي يعطيه املعلم ،وللمثال احلسن الذي
يمثله بنفسه يف نظر تالمذته .فبعد أن كان األطفال يف سنيهم األوىل،
يومرون وينهون ،وال تعطاهم أسباب هذه األوامر لعجزهم عن فهمها،
جتيئهم املدرسة بطريقة جديدة يف تعضيد األوامر التي تعطيها إياهم،
إذ تفرس هلم األسباب وهتيئهم للدخول شيئا فشيئا يف النظام املدريس،
101
رافعة عنهم احلجر الذي كان مرضوبا عليهم ،حتى بلغ هبم إىل الوقت
الذي يقبلون فيه النظام املدريس عن طواعية ،غري ناظرين للقانون
املدريس الذي يبقى رمزا للنظام ،وسالحا خمبوءا للطوارئ .وباتساع
معرفة الطفل العامة ،يزداد اطالعه عىل النظام االجتامعي املبني عىل
أساس مبدئي :اخلري والرش .فإذا بلغ علمه هنا فقد توفر عنده العنرص
األول الرضوري للعمل اإلرادي.
العنرص الثاين هو الدافع النفيس ،أو القوة التي تغلب الرغبة الطبيعية،
هذه القوة تتفاوت يف الناس ،وتبدأ كالكائن احلي ضعيفة ،فإذا تعهدت
نمت ،وإذا تركت مل تزل ضعيفة إن مل تضمحل .والطفل ،يف أول حياته،
حتكمه الغريزة يف كل أعامله ،لكن من األعامل التي البد أن يقوم هبا ،ما
ال يتناسب وميله الغريزي .فإذا محل عىل فعلها مرات ،نشأت عنده عادة،
وقام هبا بقطع النظر عن إحساسه نحوها ،كأهنا أصبحت عملية ميكانيكية.
وجمموع العادات التي تعطى لكل فرد ،سواء يف بيته ،أو يف املدرسة بعد
ذلك ،تكون اجلرثومة التي هتيء األعامل اإلرادية ،بل تشبه أساسا ثابتا
هلذه األعامل .إن أعاملنا اليومية لتشتمل عىل نشاطات ال نميل إليها فطريا،
لكننا نقوم هبا بحكم العادة ،وبالتايل بسهولة .وهكذا ينتقل الطفل بنفس
هذه السهولة من الدرجة األوىل وهي األعامل إطاعة للرغبة الطبيعية ،إىل
العمل اإلرادي عرب املرتبة الوسطى التي هي العادة .لكن أين الدافع الذي
حيرك الشخص من هذه املرتبة الوسطى ،ويتقدم به للعمل؟ إنه يتكون من
الدوافع النفسية املختلفة ،التي تزيد قوهتا أو تنقص حسب طباع الناس.
وأعم هذه الدوافع ذلك الذي نسميه شعورا بالواجب أو ضمريا ،ويتكون
من إحساس املرء بحاجة إىل أن يبقى سويا مع نفسه ،فكان الواجبالدوافع
للعمل اإلرادي ختتلف حسب مبادئها وغاياهتا .وسنقترص عىل النظر ركنا
مهام لراحنه النفسية ،عىل أن الدوافع العمل اإلرادي البناء ،وإن كانت
أعامل املجرم والظامل تكون أيضا إرادية .ومن أهم الدوافع التي تعتمد
عليها املدرسة حب النفس ،فإن الواجبات املدرسية التي تقرتح عىل الطفل
قد تكون ثقيلة ،لكن الطفل ينجزها رغبة يف نيل استحسان املعلم ،أو خمافة
أن هتدر كرامته إن مل ينجزها ويوبخ .كام أن املعلم عندما يكون يف قسمه
منافسة ،يعتمد عىل نفس الشعور بحب النفس ،ليندفع األطفال يتبارون
102
متى يثبتوا أن هلم من الصفات العقلية واإلرادية مثل ما لآلخرين أو
أحسن مما لآلخرين.
وفضيلة املدرسة الكربى يف تكوين اإلرادات القوية ،املنرصفة إىل اخلري،
تقطن يف نظامها الذي تفرضه ،ويف املثال احلسن الذي تضعه أمام األطفال.
فبهذين تكون العادات احلسنة ،وتدعمها بشعور مثايل سام خيلق يف الطفل
شعورا بالواجب ،وضمريا حيا .وال ينقص من أعامل املدرسة يف هذا الباب
أهنا تعتمد عىل بعض الدوافع السيئة يف حد ذاهتا ،كاملنافسة ،وحب الذات،
ألن العربة بالنتيجة .أفال نرى فيمن بنى لنفسه مستقبال كبريا رجاال انربوا
للعمل رغبة يف التفوق عىل غريم ،أو ردا عىل إهانة أصابتهم؟
وإن املدرسة لتعطي للطفل فرصة ملبارشة نشاطات من شأهنا أن
تقوي اإلرادة بوجه من الوجوه؛ فهناك الرياضة البدنية ،وهي بمثابة
مدرسة لتكوين اإلرادة ،إذ تطلب من الطفل جمهودا متواصال ،وضبطا
حلركاته ،وصربا طويال أمام التعب .وهناك أيضا دروس األشياء وأثرها
حيس ومعنوي يف هتيئ الفرد القوي اإلرادة .إذ بواسطتها يطلع الطفل
عىل حقائق علمية تنري له طريق املعرفة ،وتعلمه كيف يالحظ ،وكيف
يصدر أحكامه عن روية وكل هذه رضورية يف تكوين الشخص الذي
خيطو اخلطوة ألنه يريد أن خيطوها لكنه يفعل ذلك عن تبرص وتدبر،
وطبق خطة مل ترسمها العاطفة املتوثبة ،لكن رسمها العقل املستنري.
إذا عددنا مقومات الطبع اخلاصة بكل طفل ،وتوسمنا من خالهلا
ما سيكون عليه يف مستقبل أيامه ،فإن اإلرادة تدخل يف حسابنا يف
الصف األول .ألن اإلرادة بمثابة العصب اجلامع ،الذي يعطي
معنى للصفات الطبيعية األخرى .وهي التي تكيف مواهب الفرد،
وتسدد فعاليتها نحو هدف معني .بل إهنا لتعطي هلذه املواهب الفعالية
التي هبا تندفع .والطفل إن كان قوي اإلرادة ،إن عرفنا كيف نزوده
بإرادة قوية ،تنفتح أمامه إمكانيات كثرية ،كان يقف دون حتقيقها
عاجزا لو مل يكن ذا عزم وإقبال .يمكن أن نستبرش بمستقبل هذا
الطفل ،ألن عزيمته ستذهب به إىل األعامل العظيمة ،وستسلح كل
طاقاته يف سبيل هذه األعامل ،ستعطيه الصرب والثبات ،وستعطيه
103
اإليامن بأنه ناجح ،وستشد مهته حتى يظن أنه سيأيت املستحيالت ،وقديام
هم أن يفعل».
قالوا« :يكاد من ّ
وفضل املريب عىل الطفل قوي اإلرادة ثابت ،ألنه زوده باملعرفة التي
توضح له الطريق ،وأرشده إىل مناهج الرشف ،وعلمه كيف خيطط اخلطط
وينفذها ،وكيف يعتمد عىل نفسه ،ثم أعطاه أمثلة إنسانية تستحق أن
يقلدها ،وحيذو حذوها .وكون فيه عزما قويا عىل أن يبلغ أسمى ما يمكن
أن يطمح إليه فرد مثله .نعم ،يبنى املريب عىل أساس فطري ،ال يمكن
للرتبية أن متسه يف جوهره ،لكنها تنمي إمكانياته القارصة ،وتقوي جوانبه
الضعيفة إىل حد ال ينكر .وإن كانت الرتبية ال ختلق أديسون أو نابليون
كلام أحبت ذلك ،لكنها تكون مجاعات العلامء واملكتشفني والقواد الذين
يفخر هبم جيلهم ،وهكذا يمكن للمريب أن يؤكد بأنه قادر عىل تزويد
الطفل بإرادة قوية ،وأن مستقبله منوط باإلرادة التي زوده هبا.
104
املوضوع :10
الطفل يتكيف بالواقع شيئا فشيئا ،بني دور اخليال يف هذا التكيف وبني
كيف هتذب خيال الطفل يف املدرسة.
105
هبذا العمل .ويف مثل هذه املناسبة ،ينبغي أن نجد وسيلة لكتابة مفصل
يربط بني النقطتني ،دون أن يكون انقطاع مفاجئ يرض وحدة املقال.
ب -التصميم
* التكيف واخليال
* كيف أهذب خيال الطفل يف املدرسة
د -اإلنشاء
اإلنسان اجتامعي بطبعه ،وهلذا عاش الناس مجاعات ،وأسست كل
مجاعة حضارة هلا قوانينها التي تسريها ،وضوابطها التي تضمن حقوق
اجلامعة وحقوق األفراد ،ومتيز واجبات كل فرد داخل اجلامعة .فإذا نفر
فرد ما من هذه الضوابط وخرج عليها نبذ وطرد ،وفقد مكانه يبن مجاعته.
واملريب يقوم بتهيئ الوحدات التي يتكون منها املجتمع ،فال غرو أن أن
يتوخى صالحية كل واحد ليحل مكانا يف املجتمع ،أو بعبارة أخرى يتوخى
أن يكون كل واحد متكيفا بالنظام االجتامعي الذي سيندمج فيه .رشط
البد من حتقيقه ،وإال باءت الرتبية بالفشل ،وفقد املريب وظيفته .واألنظمة
التعليمية تساهم بنصيب وافر يف عملية تكييف الناس ،وهلذا يتفق املربون
106
واملعلمون عندما حيددون هدف أعامهلم ويقولون بأن املدرسة ترمي
لغرض سام هو هتيئ املواطن الصالح .فكل جمهودات املدرسة متجهة
هلذه النهاية ،سواء يف أعامهلا الدراسية أو تأثرياهتا الرتبوية .ال تألو املدرسة
جهدا يف سبيل ذلك ،فتجند إمكانياهتا لصنع عقل ذي ملكات خصبة،
وحواس ذات مهارات يمكن االعتامد عليها ،وطباعا متساوية اجتامعية ال
تنبو عن نوع احلياة التي تنتظر صاحبها .وملا كانت املدرسة تشعر بضخامة
مسؤوليتها فقد احتاطت عندما وضعت خططها الكفيلة بتبليغها اهلدف،
ونظرت يف كل ما يمكن أن تعمله لتتجنب العثرات ،فكان من بني ما
قررته ،أن التكيف يكون شيئا فشيئا ،وأن للخيال دورا يعلبه يف هذه
العملية .فكيف يكون أثر اخليال يف صنع أفراد متكيفني؟ وكيف يتأتى
للمعلم أن يساعد خيال الطفل وهيذبه ليؤدي مهمته اخلطرية؟
خيلق اهلل الناس عرايا من كل املؤهالت الكفيلة بضامن حياهتم.
يعيشون فرتة طويلة عالة عىل من يطعمهم وحيميهم ،ال يقدرون عىل
خري يكسبونه ،وال رض يدفعونه .وخالل هذه الفرتة يتعلمون طريقة
احلياة اخلاصة بالوسط الذي نشأوا فيه .فإذا شبوا واشتد ساعدهم،
شاركوا مجاعتهم يف الكسب ودفع األذى ،وكانوا أعضاء ذوي حقوق
وواجبات ويؤدوهنا راضني .فرتة الطفولة كلها يقضيها الفرد ليصل
إىل اليوم الذي يعرتف به عضوا يف املجتمع ،مستعدا ،يتسلح بمهنة
نافعة ،ويتحىل بالصفات العقلية والطبيعية املرغوب فيهام من لدن
بيئته .وليس طفل اإلنسان كصغار احليوان جيئ إىل الدنيا ومعه جهاز
كامل من الغرائز يكفيه ليعيش نفس العيشة التي عرفها أجداده ،بعد
فرتة قصرية إذا قيست بطفولة اإلنسان .وإن الطفولة بام تتسم به من
مرونة وحيوية؛ مرحلة رضورية لصوغ القابليات الفردية ،وحتويلها تبعا
للصورة التي ينبغي أن يكون عليها الطفل إذا رشد .وكام تتنوع حياة
اجلامعات وختتلف ،تتنوع قابليات األفراد للتكيف ومتتد صالحياهتم،
بحيث يمكن للرتبية أن تصنع منهم أي نموذج تشاء .ومن هذا كانت
مهمة املريب أمانة ثقيلة ،إذ بيده يمسك مستقبل األفراد ،ومستقبل
اجلامعات يف آن واحد .فإذا كان خملصا ملجتمعه ،ساهم يف الصف األول
107
ليدعم جمتمعه وحيافظ عليه ،وإال أمكنه أن يبدأ االنحراف من أسفل،
ويصنع جيال عىل شكل فكره هو ،وإن مل يكن موافقا للمثال الذي اقرتح
عليه.
هذا هو املريب الذي يستقبل األطفال ،وينظر ليستقرئ ما عندهم من
معرفة بالعامل ،واستعداد ليستفيدوا من النشاط الذي يوجهه .يرى طفال
نشأ ال هيتم بيشء ،وجد أمامه أرسة يعرفها اآلن مم تتكون ،ويعرف نوع
العالقات التي بني أفرادها ،وحيس بالرباط العاطفي الذي يربطه إليهم.
ووجد أمامه أفقا أوسع من البيت ،يتسع أللعابه ،ويرس ملا يكتشف فيه
كل يوم من جديد ،رفاق وألعاب .ويرى املريب يف طفله استعدادا لبدء
كل حماولة من شأهنا أن تشبع رغبته يف االطالع ،وقابلية إلجراء أي جتربة
عملية جيد الفرصة مناسبة هلا .ويرى املريب ،يف كلمة واحدة ،طفال حيب
واقعه ،ويتحرك فيه بحرية وانطالق .أو بمعنى آخر طفال متكيفا بواقعه.
ويف نظر املريب أن صفات هذا الطفل تدل عىل أنه طبيعي ،وعىل أنه مادة
صاحلة للرتبية ،صاحلة للدخول يف طريق التكيف احلقيقي الذي تريده
املدرسة .فإذا حكم املريب هبذا بدأ نشاطه وهو عىل بينة من أمره .يعرف أن
الطفل ال ينظر إىل الواقع نظرتنا نحن الكبار ،بل ينظر إليه بعني ليست هلا
خربتنا وال جتاربنا ،وليس يعضدها عقل له تكوين كتكويننا .غاية ما عنده
املعرفة التي جاءته عن طريق حواسه غري القوية ،غري املهذبة؛ فهي معرفة
سطحية ،ال تنفذ إىل احلقائق ،وال متيز األسباب واملسببات .وغاية ما عنده
علم نتج عن جتاربه الكثرية ،لكن العديمة اجلدوى نظرا إىل الرغبة العابرة
التي نشأت عنها ،ونظرا إىل أهنا أيضا سطحية بمقتىض ضعف الوسائل
التي سخرت لتحقيقها .وغاية ما عنده من مهارة أعامل قلدها ونقلها عن
أقرانه أو عمن يعرفهم من الكبار .وكل هذه جمتمعة تكون الفكرة التي يف
ذهن الطفل عن الواقع .فهو يراه مزجيا من احلقيقة ،ومزجيا من رغباته.
شطر منه تكونه األشياء واألحداث التي وقعت ،وشطر آخر يتكون من
األشياء واألحداث التي صاغها خياله .فعامله جمموعة من املعارف احلقيقية،
واخلياالت احلرة ،تسبح يف آفاق غري واضحة يترصف فيها هواه ترصفا حرا
108
رأى املريب استعدادات الفرد ،وقابلياته ليتكيف حسب القانون الرتبوي،
ورأى أيضا النقطة التي منها يبدأ تكيف الطفل ،أال وهي نظرته اخليالية
إىل الواقع .والحظ املريب املكان الذي خييله اخليال يف واقع الطفل ،فامذا
سيفعل؛ أيضع الطفل وجها لوجه أمام احلقائق ،ويعمل جادا لكي ينهي
سلطان اخليال يف دنياه ،ويطرد هذا اخليال؟ أم يتعهده ويسخره ليسهل
عىل الطفل العملية الطويلة التي يتقدم نحوها؟ البد أن يبت يف األمر،
ويدبر خططه عن بصرية .إن املريب يعرف أن خيال الطفل واه ،لضعف
معينه الذي يستمد منه ،جتربته قليلة وإدراكه قليل ،فال جيد جناحا حيلق
به كام يفعل خيال الشاعر أو الكاتب .وعقله ملا يتكون وملا ينضج ليسعف
خياله فيكون كخيال العامل املخرتع .إنام يقلد ما يعرفه ،ويستعري منه أجزاء
يعيد تركيبها كام حيلو له ،فيتخيل أحداثا بعيدة عن املألوف ،لكنها ضعيفة
النسج ،ال تتوفر عىل خيط واحد من خيوط املنطق .ومع هذا فإن اخليال هو
العامل امللطف الذي خيفف االصطدامات التي تكون عنيفة عىل الطفل
لواله .تتدخل عاطفته فيتخيل أمه أمجل األمهات وألطفهن ،وإن كانت
يف الواقع قبيحة عنيفة ،ويتخيل أباه أقوى الرجال وأغزرهم علام ،وإن
كان يف الواقع ضعيفا جاهال .يتصور أن قصبته التي يركبها فرس مطهم،
ويعيش باخليال ما مل جيد وسيلة ليعيشه حقا .ويف كل هذه التحويالت جيد
لذة تريض حاجته إىل األمن ،وتريض ميوله الطبيعية .وإىل جانب وظيفته
كحاجز يقي الصدمات ،فإن اخليال يشرتك يف تنمية امللكات ،وهييئها مللء
الفراغ الذي جيب أن يمتلئ استعدادا للتكيف الكامل ،ويساهم يف إنضاج
الطبع وتقويته .إن الطفل حيتاج إىل خيال قوي ليتذكر ما تعلمه وليبني عىل
ما يتذكره ،ويستنتج منه .إنه حمتاج إىل ساعات ينفق فيها فيضه العاطفي،
فيجد اخليال الوسيلة الوحيدة لرصف هذا الفيض .ولذا يستمع بلذة كبرية
إىل األقاصيص التي ختربه بمغامرات تثري عجبه ،ويستمع إىل اخلرافات
التي متلك نفسه ،ويستمع إىل حياة الرجال ونشاطهم ،ويشاركهم
بخياله ما يفعلونه ،وواضح ما لكل هذه االنفعاالت من أمهية يف تكوين
الشخص السوي الذي ال يرى الواقع بنظرة جافة فيكون متشائام،
وال يراها بنظرة متعالية يف اخليال ،فيكون كثري التفاؤل قليل اجلدوى،
109
الشخص الذي نصفه يف كلمة واحدة فنقول متكيف.
وبعد هذه االعتبارات ماذا سيفعل املريب باخليال؟ لقد رأى دوره يف
هتيئ التكييف ،فال يسعه أن جيهله ،وال يكفيه أن يتقبله كام هو إذا اقتنع
بأمهيته ،وإنام البد أن يتناوله بالتهذيب ليكون من االعتدال بحيث ال
يبعد الطفل عن الواقع ،وبحيث ال يكون حشية لينة ،يفزع إليها الطفل
كلام دمهه الواقع .يتناول املريب اخليال ،وهيذبه ،ليخفف الصدمات دون
أن يكون مانعا من التجارب الرضورية التي قد تكون قاسية ،وقد يكون
من الواجب أن ينظر إليها بنظرة موضوعية ،ويتناول املريب خيال الطفل
بالتنمية ليكون خياال قويا يصح أن يعتمد عليه صاحبه يف حياته املهنية
واالجتامعية ،ليكون يف األوىل أكثر جدوى يف عمله ،ويف الثانية أكثر حيلة
يف مسايرة الناس وتوطيد مكانته بينهم.
أما هتذيب اخليال ،فإن االلتزامات التي تفرضها احلياة عىل الطفل
تقوم بنصيب كبري منه .فكلام مجح به اخليال ردته إىل احلقيقة بسريها
احلثيث الذي ال يمهل .وتقوم الرتبية بنصيب ثان ال يقل أمهية عن األول.
ونشري إىل رضورة أخذ يد الطفل يف مرحلته األوىل ،واطالعه عىل احلقائق
شيئا فشيئا كلام ملسنا منه القدرة عىل فهمنا ،كاشفني له الغطاء عام كان
يف عينه من قبل رسا ال ينفذ إليه .برشط أال نتعجله ونأخذه بالقسوة،
ونفجعه يف صور خيالية يطيب له أن يركن إليها من وقت آلخر .وبعبارة
أخرى؛ نحاول أال نشتط بداعي هتذيب اخليال ،وننفي من حياة الطفل
قبل األوان ،كل لفتة خيالية وهبتها له الطبيعة لتقوم بدور احلاجز امللطف
كام كتبت .فمن احلمق مثال أن نقتحم عىل الطفل ساعات مرحه ،وندخل
لعبه لنرشح له أن دميته ال تأكل كام يتصور ،وال تصيح كام يتصور ،ونزعم
لنفسنا أننا نساهم يف تربية الطفل بتهذيب خياله .ويصح أن نعمل مثل
هذا إذا كان الطفل يلعب لعبا ال تناسب سنه ،كأن يكون مراهقا ،ويلعب
بالدمى ،ويف هذه احلالة نستطيع أن نجزم بأن األمر يدعو إىل تدخلنا،
ويربره الشذوذ البني يف لعب الطفل.
هتذيب اخليال إذا جيب أن يميش يف اعتدال مراعاة لقدرة الطفل
110
عىل الفهم ،وحفظا لنموه الطبيعي أن تعرقله أزمة عاطفية من جراء شدتنا
يف وضعه أمام احلقائق .وقرأنا يف الصحف واملجالت تعليقا عن الطفل
األمريكي الذي أصبح يعتقد نفسه آلة ،ويرفض أن يتحرك إن مل يعامل كام
تعامل اآلالت ،ويرفض أن يأكل إال أن يزعم له أن الطعام بنزين ،ويوصل له
هذا الطعام بواسطة أنبوب كام يفعل لآللة .ومثال هذا الطفل يبني لنا املكانة
التي للخيال يف هتيئ التكيف؛ فقد هذا الطفل كل قدرة عىل إدماج حياته
يف إطار عاطفي مع واقعه ،فاصطدم اصطداما عنيفا بواقع ملئ باآلالت
وأجزائها؛ وتوافق مع واقعه توافقا كامال فقد معه شخصيته .وإن كانت
هذه حالة استثنائية ،فإن كل طفل يمكن أن ينحرف عن طريق التكيف،
وينزلق يف إحدى الوجهتني املتعارضتني ،فإما أن يفقد شخصيته ويتوافق
مع الواقع ،وإما أن يرفض هذا الواقع رفضا ،وخيلق لنفسه عاملا خياليا
يصطنعه بدال من الذي نبذه .ويف كلتا احلالتني خطر شديد عىل مستقبل
الطفل ،إذ أهون ما يصيبه أن يغدو واحدا من هؤالء الشواذ الذين تبنى
املؤسسات لعالجهم .النتيجة رهن بتعديلنا للميزان ،وجتهيز الطفل بمعرفة
للواقع مناسبة ،ال تفرط يف صبغ األشياء بغري صبغتها ،وال تفرط فتنفى
من حياة الطفل اللمسات اللطيفة التي تبتهج هبا ساعاته .واحلكمة أن نرتك
الطفل عىل شاكلته ،ونالحظه من بعيد لئال يبدو عليه انحراف مكشوف،
ونستغل أسئلته التي تأيت عفوا؛ فنجيب عنها بام جييل األشياء أمام ناظريه.
وهتذيب اخليال يف املدرسة ،تساهم فيه الدروس املختلفة ،ال سيام دروس
األشياء واحلساب؛ ألهنا تنمي مالحظة الطفل ،وتعوده التدقيق يف احلكم،
وتوخي الصواب .فإذا كان الطفل قبل املدرسة ينظر إىل األشياء معتربا
وظائفها ،أو معطيا هلا وظائف جديدة يف لعبه ،فإنه يف املدرسة يتعلم وظيفة
األشياء احلقيقية ،ويتعلم كيف جيمعها حسب أجناسها ،وكيف حيسبها
وحدات وعرشات .ويتعلم كيف يالحظ أجزاءها وكيف ترتكب ،وما
هي خصائصها .كل هذا بتدقيق ال يرتك جماال للخيال ،بل تكون به هذه
الدراسات أساسا للمعلومات املوضوعية تعد الفرد الذي يعيش ورجله
ثابتة يف األرض .وإن يف نظام املدرسة نفسه من الضبط والدقة ما جيعله عامال
مهام يف هتذيب خيال األطفال .يضع هلم حدودا راسية ،ما بيدهم إال أن
111
يقفوا عندها ،ويفرض عليهم أعامال البد أن يقوموا هبا .املعلم يقدر
جمهوداهتم بدون أي اعتبار عاطفي ،ودون أن يغلط يف تقديره ،فال
يمكنهم أن يتخيلوا أن يوم االثنني ،لن تبدأ املدرسة إال يف احلادية عرشة،
أو أن يتصور الكسول منهم أن املعلم لن ينظر غلطاته يف التمرين ،أو
أنه سيكافئه رغم هذه األغالط مكافأة حسنة ،نظرا ألنه لبس اليوم ثوبا
جديدا .نظام املدرسة يتناىف مع اخليال ويفرض الرجوع إىل الواقع ،بام
فيه من ضبط .لكنه يشكل خطرا عىل تكيف الطفل ،إن مل يسلك سبيل
الرشد ،واتصف بالعنف والشدة .ألنه إن فعل ،يوشك أن يصدم الطفل
ويكرس عفويته ،فيدخله اخلوف ،ويعجز عن الثبات يف النقطة الوسطى
التي عندها التكيف الكامل .والبد أن يتسع حزم املدرس ،ليشمل
التلطف الرضوري عند األزمات ،ويتسع نظره ليستبق هذه األزمات؛
فيبقى للمدرسة جمدها يف نظر األطفال ،وحيتفظوا هلا يف أنفسهم باهلالة
التي جتعلها لدهيم قمينة باملحبة.
وأن املدرسة ال ينبغي أن تكتفي بتهذيب خيال الطفل ورعايته من أن
جيرفه تيار املعرفة العملية ،فتجرف معه هذه الواسطة امللطفة التي أرشنا
إليها ،بل البد أن تنمي املدرسة اخليال ،ألنه ملكة مهمة من ملكات العقل،
عليها يتوقف نضجه ،وألنه البد أن يستمر يف أداء مهمته االوىل يف سبيل
التكيف .ونرى أن اخليال ،سواء منه اخليال التذكاري أو اخليال التصويري،
طاقة يرجع إليها العقل يف أكثر أعامله أمهية وهي التفكري .عندما يفكر
املرء حيتاج إىل قدرة عىل تصور املوضوع الذي يفكر فيه ،وختيل احللول
التي ينبغي أن ينتهي إليها ،وختيل الوسائل التي هبا يبلغ إىل هذه احللول.
كام أنه عندما يصدر أحكامه يرجع إىل ذاكرته فيسرتجع ،بواسطة اخليال
التذكاري ،املعرفة التي حيتاجها .وكال اخليالني ينمي بواسطة التامرين
املدرسية املتنوعة ،فتامرين اإلمالء والشكل والنحو تعتمد قبل كل يشء
عىل اخليال التذكاري ،بينام يكون اإلنشاء مترينا حسنا للخيال التصوري.
وهذه التامرين حتث اخليال وتدققه بام تتخذه من أشكال .فتامرين ملء
الفراغ تنمي قدرة العقل عىل مالحظة ما بني جزئي اجلملة من شبه ،وقدرته
عىل ختيل أحسن الطرق بينهام ،ومتارين احلساب الرسيع تنمي قدرته عىل
112
حل املشاكل بتخيل مستمر للوحة ومهية تتتابع األرقام والعالمات عىل
وجهها.
الذي تعلمه املدرسة زيادة عىل هتذيب اخليال هو تنميته حتى يقوى
ويصلح ألداء مهمته أداء جيدا ،وليس هناك أي تعارض ين العمليتني،
ألن التهذيب يشذب اجلوانب الفجة من اخليال ،ويسعى لوضع فاصل،
حيس به الطفل ،بني الواقع احلقيقي والعامل اخليايل .ومن اجلهة الثانية
تنمي املدرسة اخليال سامية به شيئا فشيئا ليستجيب يف كل حلظة للجوع
العاطفي الذي يشعر به كل أحد ،للحظات خيالية يتنفس فيها بحرية
تامة .ويف دروس القراءة ،إذا اختري الكتاب أو الكتب ،ثروة كبرية من
القصص املفعمة بخيال مجيل ،وفوق هذه القصص درجة بل درجات،
الشعر أو القطع الفنية التي تعطي للطفل حسب نضجه واهتاممه .ويف
متارين اإلنشاء نفسها ،جمال واسع يمرح فيه خيال الكاتب الصغري ،وجيد
فيه فرصة ليحكي ذات نفسه ،ويرشكنا يف الصور الربيئة التي تقف وسطا
بني الواقع واخليال إن كان املوضوع يناسب ذلك ،أو نتلمس طريقها
لتكون موضوعية إن كان املوضوع يريد أن تكوهنا.
شيئا فشيئا يتكيف الطفل ،وشيئا فشيئا يستعد ليحتل مكانته يف املجتمع،
وعملت الرتبية كل ما يف وسعها ليكون التكيف كامال ،ولتخرج من يدها
أشخاصا أسوياء يقوون عىل حتمل املسؤوليات ،ويقوون عىل إصدار
أحكام مطابقة للواقع ،مل يضعف هبا اجلبن النفيس فتقرص عن احلقيقة ،ومل
جيمح هبا العامل الشخيص فتعدوها .وعملت الرتبية يف هتذيب ملكات
األفراد وتنميتها ،ومن بينها اخليال ،ألن اخليال ،يف مرحلة الطفل األوىل،
يمثل درجة يف فهم الفرد للواقع ،البد أن يمر منها قبل أن يفتح عقله إلدراك
أكثر موضوعية .وبالتدريج تقنن املدرسة مقدار اخليال الذي يمكن أن
يستمر يف حياة الطفل ،فتحد منه إن وجب ،وتنميه ومتده إن اقتىض احلال
أن تفعل .وخالل هذا تريب اخليال لتقوي ملكات العقل ،وهتيئ الفرد الذي
قد يعتمد عىل خياله إذا خرج مليدان العمل ،فيكون رساما أو موسيقيا أو
عاملا بحاثا .وخالل هذا تسمو باخليال وتغذيه بكل ما من شأنه أن يرفعه
إىل اآلفاق اإلنسانية العليا ،يف عرصنا هذا الذي سادت فيه العلوم التجريبية
113
املبنية عىل املالحظة املوضوعية الدقيقة واملبنية ،يف امليدان االجتامعي ،عىل
التنافس والتسابق للفوز بالنجاح االجتامعي ،هتيئ الرتبية األشخاص
املتينني املتكيفني بالواقع ،لكنهم يبقون أشخاصا إنسانيني مل ينشأوا يف
جو جاف من كل عاطفة وخيال .ويف عرصنا هذا الذي سادت فيه أنواع
اخليال السوقي من روايات مبتذلة ،وسينام رخيصة ،وتلفزيون جتاري،
تعطي الرتبية للناس ذوق خيال أسمى ،وتعيد إىل القصة اجلميلة ،والشعر
احلسن مكانتها األوىل بني القيم اإلنسانية.
114
املوضوع رقم 11
تتحدث كتب علم النفس عن النمو ومراحله؛ فامذا يعنون بالنمو
ومراحل النمو ،وما هي هذه املراحل وخصائصها؟ وكيف تستفيد من
معرفتها يف تعليمك؟
115
اجلسم ،فينشأ عن هذا التالزم أن كثريا من اخلصائص العقلية واجلسمية
تربز يف عهد واحد ،فمن اليسري أن يكتب عنها الكاتب يف نفس الوقت.
هذا وإن السائل يطلب إلينا بيان خصائص كل مرحلة وبيان الوجه
الذي استفيد به من معرفة هذه اخلصائص .وسيكون اجلواب عن هذا
السؤال النقطة الثالثة يف املقالة ،إذ األوىل أن نفرد له حيزا خاصا به خمافة
التطويل ،إذا ذكرنا الطرق العلمية لالستفادة من معرفة قانون النمو
ومراحله حتت كل عنوان فرعي .عىل أن املقالة من أوهلا ،وخاصة يف رشح
كلمتي النمو ومراحل النمو ،فينبغي أن نفكر يف اجتاه عميل ،عىل صوغ
هذا السؤال األخري.
ب -التصميم
* النمو ومراحله
* مراحل النمو
* كيف استفيد من معرفة النمو ومراحله ،وخصائص كل مرحلة.
116
د -اإلنشاء
يتميز الكائن احلي بأنه جسم قابل للنمو ،والطفل ككل الكائنات
احلية جسم نام قبل كل يشء ،لكنه أيضا نفس نامية بكل جوانبها ،بام فيها
العقل ،والطبع .الطفل يف خط سائر ال يقف ،فهو غريه من حلظة ألخرى،
يعرض عليك يف كل يوم وجها جديدا ،وجسام جديدا ونشاطا جديدا،
وبسبب تقلبه هذا من حالة ألخرى ظل لغزا مستغلقا زمنا طويال .وظل
الناس أثناء ذلك يلتمسون تفسري تقلباته ،فينعتونه بالشيطنة ،ويعزون
تغريه ونشاطه املتجدد إىل متكن روح الرش منه .أما احلقيقة فقد أعامهم
عنها أهنم يعتربونه رجال مصغرا ال خيتلف عن الراشد إال من حيث
الكم يف قدراته وملكاته .وحينام رجع الناس إىل طرق البحث احلديثة،
اكتشفوا أن الطفل ينتسب إىل الطفولة ،وأن للطفولة قانونا تدرج عليه،
وهو قانون النمو .وهذا القانون جيمع يف كلمة واحدة قوانني متعددة
ينطبق بعضها عىل جسم الطفل وقياساته ،وغدده ،وأمراضه ،وبعضها
ينطبق عىل نفس الطفل بعواطفها وانفعاالهتا ،وبعضها ينطبق عىل عقل
الطفل ،وملكاته الكثرية .ولتشعب املوضوع تضافرت جهود الطبيب
والباحث النفساين مع جهود املربني واملرشدين االجتامعيني ليقوموا
بدراسات كاملة لنمو الطفل ،بعد أن كانت هذه الدراسات يف نطاق
ضيق حيمل املريب التبعة كلها يف القيام هبا .وخرج الباحثون بنتاج من
املعلومات كثرية ،ضمنوه الكتب التي نقرأ فيها أحاديث عن النمو،
ومراحل النمو .نحن ناظرون بحول اهلل لنجد معنى النمو يف نظر علامء
النفس ،وماذا يعنون بمراحل النمو .وسنبحث بعدئذ عام إذا كانت
معرفة النمو ومراحله تفيد املعلم يف عمله ،وإذا كان اجلواب باإلثبات،
فبأي صفة يمكن للمعلم أن يستفيد منها.
يتوفر الطفل عىل طاقة حيوية يف كيانه تطفر به من لدن يكون وليدا إىل
يوم يشب ،طفرات يكرب فيها جسمه ونفسه معا ،زوده اخلالق احلكيم هبذه
القوة ،وخط حلركتها خطوطا ،ورصفها باقتصاد ،بحيث تعم حركتها كل
النواحي ،اجلسم والعقل ،وبحيث تنال كل ناحية حظها من الطاقة كلام
117
أكملت استعداداهتا لتنفقه .ومن دقيق صنع اهلل ،أن قوة احلياة هذه،
ترصد نفسها لضامن نمو الطفل وتيسري الطريق له .فهي تعبئ املعدات
لتبني يف وقت البناء ،وإذا عرض عارض مرض ،أو خلل عضوي ،من
شأنه أن يعرقل النمو عبأت له سالحا تكافحه ،لئال يقف النمو إال عند
غايته ،ولئال يقف يف واجهة دون واجهة؛ فينشأ الطفل ناقصا .ومن هنا
ما يظهر عىل الطفل من قدرة عىل مكافحة األمراض ،ومن رسعة يف الربء
من السقم .ويقولون إن الطبيعة خري طبيب ،فيصدق هذا عىل الطفل ،إن
صدق ،ملا أعطيه من طاقة النمو.
وللنمو سري ملتو معقد ،ال خيضع للقياسات احلسابية واهلندسية .فال
مكان لتحديده باملساحة وامليزان ألنه غري منتظم .وال سبيل إىل معرفة
ما سيكون وزن الطفل أو طوله أو قدرته العقلية ،بعد شهر أو عام ،إنام
يكون النمو فورة فورة ،كأنام يبذل جهاز الطفل جمهودا ،ثم يقف ليتنفس.
ويطول وقوفه أو يقرص ،لكنه ال يقف إال ملانع مريض مل يقو الطفل عن
مقاومته .واحلقيقة يراها املالحظ الصبور ،وهي أن نمو األطفال السليمني
ال يقف يف واجهة إال ليبدأ نشاطه يف واجهة أخرى .وهذا مبدأ ينطبق عىل
أغلبية األطفال فتصادف فرتة النمو العقيل ،حلظة فتور يف النمو اجلسمي،
وهكذا .فكأن جسم الطفل وعقله يتعاوران الطاقة احليوية ،فينفقان منها
الواحد تلو اآلخر.
ومع التواء طريق النمو بطبيعته ،نجد العامل الفردي ينوع هذا
االلتواء ،فيقدم لنظرنا لوحة عن نمو الطفل تتزاحم يف جنباهتا األضداد،
وقلام تربز فيها املثائل؛ وذلك جيعلنا أقرب إىل احلق لو حتدثنا عن «نمو كل
طفل» ال عن «نمو الطفل» بصفة عامة .فمن أهم ما جيعل األفراد متباينني
يف طريقة نموهم ،الوسط الذي عاشوا فيه؛ إذ ختتلف األوساط بحسب
املسكن الذي يكون صحيا أو غري صحي ،وبحسب النظافة أو عدمها،
وبحسب علم األبوين أو جهلهام ،وبحسب األعامل التي يكلف هبا
الطفل؛ أمناسبة هي لسنه وقدرته ،أتنفعه يف توسيع مداركه وتنمية جسمه؛
أو تضغط عليه وترهقه؟ وهناك عامل التغذية ،وهو شديد األمهية بالنسبة
118
لنمو الطفل ،فإذا كانت التغذية كافية كام وكيفا ،وكانت منتظمة ،جعلت
النمو ممكنا ،وإذا كانت قليلة أو غري متوازنة ،أو كانت خشنة فقرية،
عرقلت النمو ،بل أوقفته يف حاالت النقص الفادح ،ونشأ عنها أمراض
خطرية .وأن للتغذية مكانا بارزا يف تشجيع النمو ،ال بالنسبة للجسم
فقط ،بل بالنسبة للعقل أيضا ،ملا قلناه أن النموين متضامنان .وال أدل
عىل أمهية التغذية مما يالحظ يف البالد الغنية اجلديدة ،كأسرتاليا وأمريكا
الشاملية ،من أن نمو األطفال هناك أرسع منه يف البالد األخرى بفضل
جودة وغزارة طعامهم .والعامل الثالث يف النمو هو العامل الوراثي.
والوراثة موضوع ملا ينته ،وليس قريبا أن ينتهي محاس الباحثني يف التنقيب
فيه ،وملا تنته مناقشاهتم وخالفاهتم يف شؤونه .والذي يبدو جليا أن هناك
عامال وراثيا ال جمال للشك فيه ،وأنه فيام يرجع للنمو ،يفرس االختالفات
اجلسمية والعقلية التي توجد بني األجناس البرشية ،وبني األجيال
داخل كل جنس .فاختالف طول اجلسم وقرصه ،واختالف كثافته أو
لطافته من جنس ،إىل جنس ،واستمرار صفة القرص أو الطول ،الكثافة
أو اللطافة يف جنس ما ،وعمومها يف مجيع أفراده ،يثبت أن هذه الصفة
الزمة للجنس .عىل أن الباحثني الحظوا أن البيئة أيضا تساهم إىل حد
ال زال غري معروف يف تكييف صفات األجناس اجلسمية .وقدموا مثل
اليابانيني النازحني إىل أمريكا؛ كيف أنجبوا ذرية تزيد أحجام جسمها
جيال عن جيل .هذا عمل الوراثة يف اختالف الصفات اجلسمية ،وهو
ظاهر رغم كل يشء .وهو الزال غري واضح فيام يرجع للصفات العقلية.
فغاية ما عرفه العلامء عن ذلك ،أن الذكاء يورث بصفة عامة ،وأن بعض
املواهب العقلية ،تندرج من اجلد للحفيد ،أو تندرج يف خط حيتوي
عىل أكثر من جيلني ،لكن هذه املعرفة ال تكتيس صبغة النتيجة العلمية
التي الشك فيها ،والتي يمكن أن تدرس مقدماهتا وغاياهتا؛ وإنام هي
مالحظات متفرقة ،ال تسمح طبيعة املوضوع أن تدرس درسا علميا.
وهلذا فليس يف اإلمكان أن حيدد املرء مقدار ما سيحصل عليه كل فرد
من النمو العقيل ،أو كيف سيكون هذا النمو ،قياسا عىل نمو األبوين
العقيل .والعامل الرابع هو عامل اجلنس إذ ختتلف البنات عن البنني
119
يف رسعة النمو وبطئها ،وبني اجلنسني بصفة عامة تزحلق يف بدء النمو
وهنايته ،وتزحلق يف امتداد فرتاته ،حيث متتاز البنت بأهنا أكثر تبكريا من
الفتى .والعامل اخلامس هو العامل الصحي وحالة الطفل العامة ،فمن
األطفال من يعوقه مرض موروث ،أو من زودته الطبيعة بجهاز ضعيف،
أو من أمهل عالجه ،أو من مرض مرضا طويال أخره عن القافلة .وهناك
عامل سادس وهو اخلالفات الفردية التي ال تعزى إىل وراثة أو بيئة ،وإنام
تكون من خصائص الفرد املكونة لشخصيته ،فنجد املبكر يف النمو واملبطئ
فيه ،ونجد النحيف والسمني ،ونجد صلب العظام ولينها ،ونجد رسيع
الفهم وبطيئه ،والذي يغلب عليه اخليال ،والذي يميل إىل التفكري وهكذا.
النمو غري منتظم عند األطفال ،ولكل طفل خصائص يتميز هبا
عن غريه ،فال وسيلة لتحديد مراحل النمو بالضبط .إنام يعنى املربون
بوضع حدود تقريبية ،قابلة للتحويل من فرد لفرد ،حلاجتهم إليها عند
البحث وحاجاهتم إىل اصطالح يسهل تبادل األفكار .ومراحل الطفولة،
كام وضعوها ،تعرف بصفات شائعة بني أطفال كل مرحلة ،وتتسلسل،
حسب تقدم السن ،يف أطوار يمر منها كل طفل الواحدة تلو األخرى .كل
هذا نظريا ،فإذا جاء التطبيق وجدنا أن لكل طفل سريه اخلاص ،إال أن
يكون توأما كامال فيشبه توأمه ،ووجدنا عدد االختالفات بعدد التالميذ.
والذي تواضع عليه جل الباحثني ،تقسيم مراحل النمو كام ييل:
املرحلة األوىل :السنة األوىل بعد الوالدة ،وهي أكثر الفرتات رسعة
نمو ،يزداد فيها اجلسم ازديادا مدهشا ،وتبدأ احلواس يف التيقظ .وهي
مرحلة نباتية حركية يكرب أثناءها الطفل ،ويتحرك جسمه باستمرار كأنام
يتدرب عىل ممارسة النشاطات املقبلة .وأثناءها يستقيم الطفل جالسا ثم
واقفا ،فتتغري نظرته للواقع بتغري وضعه.
املرحلة الثانية :من سنة إىل ثالث سنوات :مرحلة نمو رسيعة أيضا
ال يقف أثناءها اجلسم عن االمتداد طوال بعد أن كان يف السنة األوىل ينمو
قامة وحجام ،ومتتاز هذه املرحلة بالنشاط احلايس العام ،السيام النشاط
اللميس .كانت السنة االوىل مقدمة هلذا النشاط ،لكنه هنا يبلغ درجة أبعد،
120
وتتسع دائرته ،بقدرة الطفل عىل امليش ومن خصائصها بدء الكالم،
وما يرتتب عليه من نشاط عقيل يتلمس طريقه بني األشياء لكنه الزال
سطحيا.
املرحلة الثالثة :من ثالث إىل سبع سنوات ،الزال جسم الطفل
يطول وقد يبدو عليه هزال مرده إىل أن املجهود كله منرصف إىل تنمية
العظام وتقويتها وزيادة أطواهلا .ويف هذه املرحلة يستبدل الطفل بأسنانه
األوىل أسنانا أقوى منها ،إذ حيب الطفل أن يفحص كل يشء ،وأن يتناول
كل يشء ،ليعرف مبلغ قوته ،وينتج عن هذا النشاط الكثري ،نشاط عقيل
ال يقل عنه أمهية ،فبتنوع األشياء التي تقع حتت حس الطفل ،يفيق
فضوله ،وتكثر أسئلته .لكنه يكتفي باألجوبة السطحية ،وال هيمه ،بل
الزال عاجزا ،عن فهم احلقائق وأسباهبا .ويمتد نشاطه الشامل إىل امليدان
النظري ،فيزداد تعلقه باخليال ،وحيب سامع اخلرافات ،ويعيش بكل قواه
مجيع ما يتخيله ،فكأنه يف نشاط غري منقطع ،ال يكاد يشعر أنه يمر من عامل
احلقيقة إىل عامل اخليال.
املرحلة الرابعة :من سبع سنوات إىل ثالث عرشة سنة املرحلة
املدرسية .وهلا أمهية كبرية؛ ففيها نقطة التحول ،وفيها يبدأ حياة اجلد
واالستعداد .متس يف بدايتها مرحلة الصبا املرح وتتصل من اجلانب
اآلخر بفرتة املراهقة التي هي عتبة الرشد ،ويعربها الطفل مرهقا ،ألن
نمو جسمه الزال مستمرا ،وألن األعامل التي تكلفه هبا املدرسة كثرية.
ومن خصائص هذه الفرتة النشاط العميل التقليدي .إذ حيب الطفل
أن يقلب األشياء وحيللها ويركبها ،وحيب أن جيري التجارب الكثرية.
لكنه هنا خيتلف عن الطفل يف املرحلة السابقة ،فال ينتج عن نشاطه
هذا فضول سطحي ،بل يطمح يف معرفة أكثر عمقا ،وإن كان التقليد
يف غالب األحيان يقنعه عن النفاذ إىل احلقيقة الكاملة .ومن خصائصها
أيضا بدء نضج الطفل االجتامعي؛ فأثناءها تزداد أوارصه بالناس وخاصة
بأقرانه ،حيث يكون معهم مجاعات للعب أو للنشاط الكشفي ،هلا نظامها
وقائدها ،وقوانينها .وبصفة عامة ،فإهنا مرحلة االكتشاف وكسب
املعارف األساسية ،ومرحلة بروز املواهب ،ووضعها موضع التطبيق.
121
املرحلة اخلامسة :املراهقة فالبلوغ ،ويبدأ طور املراهقة حوايل السنة
الثانية عرشة أو قبلها بالنسبة للفتيات أو الفتيان املبكرين ،أو الذين
نشأوا يف وسط منعهم ونموا رسيعا ،أو بعدها بالنسبة لآلخرين .وقبل
هذا الطور فرتة ما قبل املراهقة؛ وهي مرحلة هتييئية تتقدم االنقالبات
املهمة التي تطرأ عىل الطفل املراهق سواء يف جسمه أو يف نفسه .وأهم ما
يتعلق بجسم املراهق ،استيقاظ غدده اجلنسية ،وتزايد كبري يف نشاط الغدد
األخرى .ويصحب هذا النشاط فورة نمو رسيع ،يتناول أطراف الطفل
يف طور ما قبل املراهقة ،فتنمو عظامه نموا رسيعا حتى ليبدو مشوها،
ثم ينتقل النمو فيتناول حجم املراهق ووزنه .ومن خصائص املراهقة
يف اجلانب العقيل انفتاح قابليات جديدة يف الطفل ،وقدرته اجلديدة عىل
الدرس والتحصيل .إذ يف هذه الفرتة حيس املراهق جوعا لالطالع عىل
احلقائق والتعمق فيها ،فيميل إىل التفكري يف كنه األشياء وأسباهبا ،وحياول
أن يكون لنفسه رأيا خاصا به .غري أن قدرة املراهق العقلية متر من مراحل
متعددة ،فتتطور من االنتباه املدريس السطحي الذي عهدناه يف املرحلة
السابقة ،إىل انتباه حديس رصف ،إىل حدس يعتمد عىل التفكري والتأمل،
إىل أن يصل آخر األمر ،بعد الثامنة عرشة ،إىل التفكري املوضوعي الذي
يمتاز به الراشدون .وخالل هذه األطوار حتتد ملكات املراهق ،وخاصة
خياله ،ويقبل عىل الدراسة بشغف ،ما عدا يف الساعات التي يستبد به
خياله ،أو جتمح به دواعي نشاطه اجلسمي اجلديد.
وإذا نقلنا معرفتنا النظرية عن النمو ومراحله ،إىل ميدان التطبيق،
وخصصنا هذه املعرفة بمالحظاتنا املتعلقة بكل طفل عىل حدة ،وجدنا
أهنا تفيدنا كثريا يف أداء مهمتنا .فمعرفتنا بأن هناك قانونا عاما للنمو،
تنبهنا إىل رضورة اتباع احلركة ،واختاذ كل ما من شأنه أن جيعل دروسنا
مرنة ال جتمد عىل شكل واحد ،بل متيش وفقا لقانون احلركة العام ،وتتطور
مثلام يتطور األطفال الذين توجه إليهم .وإن نمو الطفل ،إذا عرفنا كيف
ننظر إليه بعني االعتبار ،يكون بمثابة حمرك ينفي عنا اخلمول ،ويدفعنا إىل
السعي وراء التجديد سعيا يف اقتناص اهتامم األطفال ،وإرضاء للقاعدة
122
التي بنيت عليها البيداغوجية احلديثة ،وهي أن حمور نشاط املدرسة هو
الطفل ال املنهاج الذي تدرسه .هذا وإن تفصيل مراحل النمو ،جيعل
رهن إشارتنا املبادئ الكفيلة بإعطاء تعليمنا غاية ما يمكن أن يصل
إليه من الفعالية .نعتمد عىل خصائص كل مرحلة ،لنعطيها ما يطابق
نفسية الطفل أثناءها ،فنجني نتائج حسنة وفاقا لتبرصنا .ونكمل عملنا
بمالحظة كل طفل ،واتباع نموه ،لنعرف مدى ما يصل إليه كل طفل،
ومبلغ قدرته يف كل مرحلة .ثم إن اطالعنا عىل سري النمو ومقتضياته،
يعطينا تفهام أكثر ألطفالنا .ونعلم أن النمو جيند الطاقة احليوية بعنف،
يف بعض األحيان ،وأحيانا فجأة ،فإذا الحظنا فتورا عند طفل ،مل نرسع
فنفرسه عىل أنه مخول وكسل ،لكن التمسنا له سببا يف التغريات اجلسمية
والعقلية التي جتري يف كيانه .ونعلم أن الطفل يف بعض املراحل ،شديد
احلساسية ،فنحتاط لألمر ،ونعامله برفق وتلطف .عىل أننا نستطيع أن
نقوم بعمل إجيايب يف هذه الناحية ،سيام إذا جاء الطفل من وسط جاهل،
فنبرص األرس بحاجات الطفل املادية واملعنوية ،ليكمل نموه يف ظروف
مساعدة ،ونرقب حالة األطفال ،فإن بدا منهم ترصف غري طبيعي ،أو
طرأ عليهم انقالب فجائي عنيف ،سألنا لنعرف ما إذا كان يف ظروفهم
البيتية ما يفرس هذا االنقالب ،وعملنا متوسطني لنعالج احلالة ،ونخفف
عن الطفل .ولئن كان السؤال عن شؤون الطفل صعبا يف بعض األحيان،
إما لشك اآلباء يف باعثه ،وإما لعجزهم عن إعطاء إجابة صحيحة ،فإن
املعلم احلكيم ،يصل إىل معرفة جانب من احلقيقة يبني عليه حكمه،
بمالحظة الطفل وسؤاله ،وباستشارة طبيب املدرسة ،وباالتصال
باألقارب بطريقة تدعوهم إىل االرتياح .وإن يف ترصف الطفل يف القسم
ما يغني عن وضع أسئلة كثرية ،يكفي أن نتتبعه حني يكون نشيطا حسن
املعاملة ألقرانه أو كئيبا منطويا أو رشيرا معتديا ،أو ذابال خامال لنحرز
ما هنالك من رس؛ انكسار عاطفي ،أو مرض خفي ،أو جمرد نزوة عابرة
تدخل يف إطار ما حيدث عادة لألطفال النامني .وأخريا ،فإن معرفة
النمو ومراحله ،ومعرفة سريه واختالف قابليات كل طور ،تنري الطريق
أمامنا ،لتشمل رعايتنا جسم الطفل وعقله معا ،وعاطفته وطبعه أيضا،
ونستغل مواهبه املتزايدة يف امليدان النظري والعلمي ،ونفتح أعيننا
123
لنعرف اللحظة املناسبة لبذل جمهود خاص يف الرياضة البدنية أو يف الدراسة
النظرية ،واللحظة املناسبة لإلقالل من اجلهود املبذولة يف كل منهام.
من املعلمني من «يتخصص» يف قسم من األقسام ،فيزعم أنه ينجح
كثريا يف القسم التحضريي ،وحيرص عىل أن يبقى فيه .ويف نظري أن هذا
«التخصيص» خيفي عجزا عن فهم الطفل يف نموه السائر ،وينتج عنه،
مع الطول ،عجز حتى عن فهم أطفال القسم املختار .ويف ضمن هذا
«التخصيص» مجود فكري ،حيول دون نظر املعلم إىل تالمذته عىل أهنم
أحياء يف تطور مستمر .ويقابل مجود «املتخصص» تيقظ املعلم النشيط،
وترقبه لكل جديد تأيت به الكتب واملجالت ،يف شؤون نمو الطفل وحياته،
ومالحظته املستمرة لتالمذته ،ليقع عىل موضع تطبيق العلم الذي يقرأه.
وهيتم هذا املعلم بالطفل منذ يدرج ،فيبحث عن نشاطه رضيعا ،ثم ماشيا
ثم متكلام ،ويبحث عن أطواره يف السنوات الثالث األوىل التي ينمو فيها
الطفل نموا رسيعا ،وتتعدد مكاسبه من القدرات اجلسمية والعقلية ،ويتبع
نمو الطفل بعد ذلك يف مراحله الدراسية ،فيقف طويال ليمعن النظر يف
خصائص كل مرحلة ،السيام مرحلة الطفولة اليانعة حيث يدخل الطفل
املدرسة ،ويتعني أن يعطاه من مادة الدرس ومن العناية الرتبوية ما يقوي
جسمه النحيل ،وقواه العقلية التي ختطو خطوة مهمة تعتمد عىل التقليد
وحب االطالع ،ويمعن املعلم النشيط النظر يف مرحلة املراهقة ،هذه
املرحلة العصيبة ،التي حتدث أثناءها ثورة يف كيان الطفل ،تشمل جسمه
وعقله ،لكنها مرحلة حاسمة بالنسبة للتقدم الدرايس الذي يستطيع أن
حيصله فيها ،وبالنسبة لنضجه العام وتكوينه.
كل هذا يفعله املعلم النشيط ،ليعرف تلميذه كيف بدأ حياته ،وكيف
تطور قبل أن يصل إىل يديه ،ويعتمد عىل تارخيه هذا كلام عرض عارض،
وكلام دعت احلاجة إىل مقارنة بني مايض الطفل وحارضه ،وليعرف تلميذه
مادام بني يديه ،يالحظه ويستخرب عنه ،ويضعه يف سلم النمو العام لينظر
كيف يتقدم وكيف يتأخر ،وحيتاط له ليقيض يف املدرسة سنوات منتجة،
ويتدخل يف األمر لييرس له ظروفا مادية ومعنوية مناسبة.
124
املوضوع رقم 12
يقول الناس هذا طفل ذكي ،وهذا طفل أقل منه ذكاء؛ فام معنى
هذا يف نظر علامء النفس؟ وماذا تعرفه عن ذكاء الطفل؟
125
مقسمني ملكاته املختلفة ،فنكتب عن الذاكرة وحدها ،ثم عن املفكرة،
ثم عن املخيلة كعادة الباحثني األقدمني؟ أو نقسم عمر الطفل مراحل،
فنقول ما نعرفه عن ذكاء كل مرحلة؟ أم نجعل القول إمجاال ،ونكتفي
بذكر خصائص ذكاء الطفل بصفة عامة؟ من رأينا أن أي تقسيم من شأنه
أن يطيل بنا الطريق ،ونحن ال ننسى أن بأيدينا ثالث ساعات فقط للتهيئ
والتحرير .فلذلك جيمل أن نتبع احلل األخري ،ونجمل القول إمجاال،
برشط أن نرجع دائام إىل حمور البحث الذي هو معرفتنا لذكاء الطفل،
وهل متكن هذه املعرفة حتى نحفظ للمقالة وحدهتا .وال بأس بعد ذلك،
إن أهنينا املقالة بذكر ما يؤول إليه ذكاء الطفل؛ وذكر العوامل التي تسري
هذا التحول.
ب -التصميم
* الذكاء يف نظر علامء النفس.
* ما أعرفه عن ذكاء الطفل.
د -اإلنشاء
ينبغي أن نؤول كالم الناس عندما يتحدثون عن الذكاء ،وباخلصوص
إذا ذكروا أطفاهلم ،فإهنم إنام يعربون عن آماهلم التي يعلقوهنا عليهم ،أو
126
يعربون عن حبهم للذات ،إذ ينسبون إىل أنفسهم ذرية ذكية .جييئك
األب بابنه أو بنته ويوصيك هبا خريا باسطا بني يديك خياالته العريضة
عن ذكائها وخفة عقلها ،فتتبني من خالل كالمه أنه جاهل عاجز عن
إصدار حكم يف املوضوع ،أو تتبني رزانة وعلام ،لكنك جتد يف احلالتني
نفس االقتناع بمواهب الطفل وقدرته .وتسمع هذا يتكرر فتتساءل إذا
كان يف قدرة األب بوسائله التي تتفاوت ،أن يعرف ذكاء ابنته أو ابنه؟
وتتساءل هل من املمكن أن يعرف ذكاء الطفل بتاتا ،وهو الكائن املعقد
الشديد التعقد؟ وتعرتضك مشكلة أخرى إذا وضع بني يديك يف امليزان
طفالن أو أطفال يراد املقارنة بينهم .يزعم لك أن هذا أذكى من هذا،
فتحار يف تصديق ما تسمعه أو تكذيبه .تقول ربام يكون من اجلائز أن
نقارن بني ذكاء الراشدين ،ألن أعامهلم ،من نجاح مدريس ،وحذق يف
الترصف ،تنبني عن هذا الذكاء ،وتشري إليه .أما األطفال فكيف نقارن
بينهم ومواهبهم الزالت خفية؟ وكيف نجرس عىل هذه املقارنة ،ونحن
نجهل األسباب التي تدفع الطفل إىل العمل؟ ثم أليس هناك أطفال
يبدون ناهبني ملدة ما ،ثم ختبو جذوهتم ،وآخرين نحكم عليهم بالبالدة،
ثم يظهر لنا خطأ حكمنا .أيمكن حقا أن نحكم عىل ذكاء األطفال،
ونقدر درجاته؟ أليس من األحسن أن ننتظرهم يف هناية الشوط لننظر
مواهبهم بعد نضجها وكامهلا ،ونصدر إذ ذاك حكام ثابتا؟ وتسأل العامل
النفساين املختص ،فتجد عنده رأيا يف هذا ،ويدلك عىل نتائج أبجاثه يف
حقيقة الذكاء وتفاوته بني الناس ،وعن خصائص ذكاء الطفل وتطوره،
والعوامل التي تشارك يف تقويمه وتقويته.
والواقع أن معرفة ذكاء األطفال ،وقابلياهتم العقلية ،هيم املعلم أكثر مما
هيم غريه ،إذ عىل هذه املعرفة يتوقف نجاحه يف مهمته التعليمية .رضوري
أن يعرف خصائص الذكاء وتطوره عند األطفال ،ليجعل استعامل زمنه عىل
شكل هذه اخلصائص .ورضوري أن يعرف خصائص كل طفل العقلية،
ومبلغ حدة فكره ،ليعتربه اعتبارا خاصا ،ولريتب تالمذته كال يف الصف
الذي يتناسب معه سواء يف القسم الواحد ،أو يف األقسام املختلفة حسب
نضج امللكات ،وحسب التطور الذي أحرزه كل طفل ،وحسب قدرته عىل
127
فهم املادة املقدمة إليه ،وهتم هذه ملعرفة كثريا النظام الرتبوي بكامله ،إذ
يعتمد عليها يف فرز األطفال حسب قدراهتم العقلية ،ليرصف كال إىل
الوجهة التي تؤهله هلا قدراته .يف العرص احلديث تعددت الوظائف
االجتامعية ،وتعقدت مع تقدم احلارضة وازدهارها ،وتشعبت العلوم،
فأصبح من الرضوري أن يتخصص الناس يف كل فرع من فروعها
وخيصصوا له كل جهودهم .وأصبحت الظروف ال تسمح بمعاجلة األمر
اتفافيا وبغري تدبري حمكم .ال يمكن أن يرتك الناس للمصادفات توجههم
إىل مهنة ما كيفام كانت ،بل متتد إليهم يد املريب لتفحص ذكاءهم ،وتستغل
كل الطاقات استغالال حسنا .وإن ضغط احلاجة املادية ،وتوخي اخلري
االجتامعي ،يدفع احلكومات لتنظيم التوجيه املهني ،ويدفع باألرس إىل
االستنارة هبذا التوجيه .وال خيفى ما ينتج عن هذه العملية من اقتصاد يف
اجلهود البرشية ،ومن فعالية يف بناء رصح احلضارة وتوطيده.
أما املعلم فيلتمس معرفة ذكاء أوالده يف مالحظاته اليومية ،فال يمكث
طويال بعد ابتداء السنة الدراسية ،أن يكون فكرة عن كل تلميذ ،ويعرف
مقدار ما يصل إليه ،بل يعرف أيضا نوع ذكائه ،إذا كان يمتاز بالقدرة عىل
اخللق ،أو بالقدرة عىل احلفظ .ويبدو أن هذه املعرفة املبنية عىل التجربة
الطويلة ،التي يشاهد املعلم أثناءها طفله يف حاالته املختلفة ،يف حالة غضبه،
ويف حالة محاسه ،يف حالة صحته ويف حالة سقمه ،كفيلة بأن تنال ثقتنا،
وخاصة إذا كان املعلم لبيبا جادا يف عمله .وحتى إن مل يكن املعلم خمتصا
يف املوضوع ،فإن جمرد نفاذ البصرية ،وحظا متوسطا من الذكاء ،يمكنه من
الوقوف عىل احلقيقة فيام يتعلق بذكاء أطفاله ،أو عىل األقل ،ينقص من
إمكان خطئه .ويتفاوت املعلمون اهتامما بدراسة ذكاء تالمذهتم ،فتجد من
بينهم العفوي الذي يرتك األمور جتري طبيعية ،مكتفيا بام خيطر له من حني
آلخر يف شأن هذا التلميذ أو ذاك .وجتد املعلم املعتني باألمر ،يفتح عينيه
دائام ليبرص ملحات كل عقل ،ويستشف ومضات كل ذكاء ويتخذ نظاما
لتدوين مالحظاته ومقابلة بعضها ببعض .واملعلمون من كال النوعني،
يملكون حساسية خاصة الكتشاف املواهب ،سيام البارزة املمتازة ،ويلذ
128
هلم أن يقارنوا بني التالميذ ،ويشيدوا بفضل النجباء منهم ،بل ربام يصل
األمر إىل أن يستويل التلميذ الذكي عىل القسم ،فينرصف إليه املعلم مأخوذا
بحدة عقله ،وخيصص له كل جهوده ،ويف هذا خطر أي خطر كام نستطيع
أن نتنبأ بذلك ،السيام والتالميذ يشعرون بحركات املعلم ويدركون
مغزاها ،فربام يكون رد فعل التالميذ األقل ذكاء ،عىل صورة تراخ
وختاذل يؤدي إىل فقدهم إيامهنم بقدرهتم الشخصية ،فانفصاهلم املعنوي
عن املدرسة ونشاطها .إنام جيب أن خيفف املعلم من تأثري شعور التالميذ
بالنقص جتاه زميلهم املوهوب ،بأن يشجع كل فرد حسب أعامله ،ويغطي
عىل نقص الضعيف أحيانا ،فال يفضحه ،ويتخذ يف ترتيب التالميذ النظام
اجلامعي ،فال جيلس التالميذ حسب تفوقهم الفردي ،بل ال يعلن الرتب
إال مجاعات ،فيجعل يف قسمه الفرقة «أ» والفرقة «ب» وهكذا .وعىل أي
فإن املربني املحدثني أصبحوا يشعرون بأن حكم املعلم عىل مواهب أطفاله
رغم ما يمتاز به من أنه يصدر عن روية ،وعن ممارسة طويلة للطفل ،ال
يعطي صورة دقيقة هلذه املواهب ،وسعوا إلجياد طريقة جديدة لفحص
الذكاء ،فكان قياسات الذكاء املتعددة ،التي أصبحت تطبق يف املدرسة،
فتكمل مالحظات املعلم ،وتكمل االختبارات املدرسية العادية.
وأما النظام الرتبوي ،فلم جيد وسيلة ملعرفة مواهب األطفال يف
مرحلتهم األوىل قبل دخول املدرسة ،إال استعامل نفس القياسات.
وبعد أن أصبح التعليم إجباريا يف البالد املتقدمة ،وأرادت هذه البالد
أن تبني تعليمها عىل أساس متني ،فرضت عىل األطفال يف سن الدراسة،
اختبارا بواسطته متيز األطفال طبقات ،فتبلور نضجهم واستعدادهم
للتعليم االبتدائي ،ومتيز األطفال املعاقني ذوي النقص احلايس فتوجههم
ملدارس خاصة هبم ،ومتيز ذوي النقص العقيل ،فرتسلهم إىل معاهد
لئال حيرموا من احلظ القليل الذي يستطيعون أن ينالوه من الرتبية،
ولئال يبقوا عالة عىل املجتمع وثقال .ويف املراحل التابعة ،يستعمل
النظام الرتبوي قياسات الذكاء يف التوجيه املهني ،لكنه ال حيتقر
اإلرشادات التي يقدمها املعلمون عن كل طفل .اختبار الذكاء يتخذ
كقاعدة لكشف الرسم العام لذكاء الفرد وحتديد مداه ،ومالحظات
املعلمني تبني ألوان املواهب ودقائقها ،وتصحح خطأ التقدير الذي
129
كثريا ما يقع فيه املخترب نتيجة ألن الطفل ساعة االختبار ،دهش ووقع
حتت انفعال عاطفي مل يسعفه إلنجاز عمله عىل وجه كامل.
نجد القياسات الذكائية أداة يستعملها املعلم وسيلة لتكميل معرفته
بالذكاء يف قسمه ،وتستعملها الرتبية أساسا لتقدير ذكاء األفراد ،والعزم يف
توجيههم .وقد بدأت األبحاث لقياس الذكاء يف فجر القرن العرشين .رأى
الباحث الفرنيس "بيني" أن التجربة العلمية وحدها يمكن أن تعطي نتيجة
إجيابية يف قياس املواهب العقلية ،فنظم مع مساعديه اختبارات عديدة شارك
فيها عدد من األطفال ،لكل سن اختبار عىل قدره ،ووضعت أسئلة ليجاب
عنها بالكتابة ،واقرتحت مشاكل عملية يمكن حلها دون االلتجاء إىل
الكتابة .ونتج عن هذا سلم "بيني" املشهور ،الذي اختذه الباحثون من بعده
نموذجا حيذون حذوه ،ويف الوقت احلارض أصبحت أقيسة الذكاء مكان
ثقة كثري من املربني بعدما كانت موضوعا للشك زمنا طويال ،غري أن من
املربني من ال يزال يثق هبا بمقدار ويتأول حكم القياس الذكائي عندما يعلن
عن هذا أو ذاك ،يبلغ عامله الذكائي 100أو ،150دون أن يفهم ذلك عىل
أنه العبارة الدقيقة املطابقة للواقع ،ويرجع املربون املتحفظون لريوا قيمة
قياس الذكاء يف ميزان حكم املعلم ،فيجدون أن حكم املعلم املبني عىل
املالحظة الثابتة الطويلة ،ال تطابقه نتيجة القياس إال بنسبة مائوية تقل أو
تكثر ،لكنها ال تبلغ مائة باملائة يف أية حالة .وعىل أي فإن طبيعة الذكاء نفسها
ال تسمح باالطالع عىل احلقيقة القطعية ،فام بد من وسيلة لتقديره .وكلتا
الطريقتني املستعملتني ،حكم املربني واملعلمني ،وحكم املخابر املختص،
يعطيان ،منفردين أو متعاضدين فكرة عن الذكاء ،وصورة ملظاهره ،فيها
من الوضوح ما يكفينا يف امليدان العميل لتحقيق نظام تعليمي وتربوي عىل
بينة من أمر العنارص التي يقوم بمهمة تنشئتها.
والذي حياول التدقيق يف فحص خصائص الذكاء ،يستطيع أن هيتدي يف
بعض الطريق إىل فحص عقل الراشد .لكنه إن تناول الطفل وجد مسالك
مبهمة تستعيص عىل أحد الناس فطنة .عقل الطفل يبدأ استعدادات خالية
من أي تأثري ،لكنه منذ أول يوم ،يستقبل إشارات متنوعة بتنوع الدنيا
كلها ،تأتيه كل حلظة بجديد ،ويتغري حمتواه كل حلظة ،كام يتغري نفس
تكوينه كشبه ما حتدثه االنفعالت الكياموية .فإذا اعتربنا تشعب العمليات
130
العقلية ،التي حياول عامل النفس أن حيددها فيسمي الذاكرة ،واخليال ،واملفكرة،
واعتربنا ان كل عملية جديدة تضيف معرفة جديدة ،وتضيف قدرة جديدة
عل العقل ،تبينا أن كل حماولة لفحص ذكاء الطفل يف تأدية عمله ،أو اتباعه
عرب املراحل التي يمر منها ،يف سبيله إىل النضج فاشلة ،مقيض عليها بالفشل
من أول الطريق .إن الباحث يف الذكاء كالذي ينظر يف الضباب األسود ،غاية
ما ينظره خطوط الربق حني متر رسيعة .فإذا خطرت للباحث ومضة ،اتبعها
وأضافها إىل معطياته التي جيمعها ،ويركب بعضها مع بعض كأنام حيل لغزا.
وإن طول صرب الباحثني وسعة حيلتهم وحترهيم يف املالحظة وصل بنا اليوم
إىل معرفة إن مل تكن ضافية ،ففيها ما يكشف الغمة عن قلب طالب العلم
املرتقي ،وما يزيل الغشاوة عن عني املعلم املبتدئ .أما الباحثون أنفسهم
فلام يقنعوا بنتيجة وصلوا إليها ،ومل ييأسوا فينقطعوا عن البحث .وسنهتدي
هبدهيم ،ال لنجلو صورة ألعامهلم الغزيرة ،لكن لنقف عند حلظات يف حياة
الطفل العقلية ،ونذكر خصائص بارزة يف هذه اللحظات ،هي جرثومة ال
تنفك تتطور ،حتى تصبح اهليكل الذي حوله تتكون عقلية الراشد.
وسنأخذ الطفل يف سنته الثالثة أو الرابعة ،عندما تكون خصائص عقله
واضحة بينة .وأول ما يمتاز به يف هذه السن ،وبعدها أيضا ،انرصافه إىل
مجيع أوجه النشاط ،احلايس منها وغري احلايس ،اجلسمي منها والعقيل،
بدافع طبيعي قوي ،فهو يلعب أبدا حتى باألفكار نفسها .لذلك ليس من
املمكن أن نميز بني نشاطه العقيل ونشاطه العام ،إنام ذاك جزء من هذا ال
يتميز .ومن خالل هذا النشاط يظهر أن الطفل عاجز عن قياس األشياء
بمقاساهتا التي وضعت هلا ،لكنه يقيسها بنفسه إذ يعترب نفسه املحور
الذي يدور عليه العامل مجيعه ،وأنانيته هذه ،واضحة يف أقواله وأفعاله،
فإذا حتدث عن أبيه وأنه وصفهام بأهنام له ،وإذا رأى البحر قال إنه يصلح
لكي أسبح فيه ،وهكذا حيكم عىل األشياء بالنظر إىل إرادته هو .ونشاطه
الدائم ،وحركة جسمه وعقله التي ال تفرت ،جتعله عاجزا عن فهم الزمان
ونسبه ،فالوقت عنده أبدا هو احلارض؛ ملا تتسع ذاكرته لتحتفظ باملايض،
وملا يمتد خياله فيشمل املستقل .ما وقع أمس وما وقع منذ شهر وما يقع
اليوم عنده سواء .وهلذا يبقى كالمه ملدة طويلة خلوا من األلفاظ التي تعني
131
املايض أو املستقبل ،وحتى إذا استعملها ،فإنام يستعملها مقلدا دون أن
يفهم ،وألنانية الطفل وحركته تأثري عىل نظرته لألشياء واألحداث،
فاألشياء يشبهها بنفسه ،ويعزو هلا حياة كحياته ،وإرادة كإرادته ،لذلك
يرضب األرض لينتقم منها إذا سقط ،وحيدث لعبته وحيييها إذا سألته.
واألحداث عنده عفوية ،ألنه عاجز عن ربط األسباب بنتائجها .ومع هذا
العجز املنطقي ،فإن العامل يف نظر الطفل تربطه باألحداث أسباب جتري
لغاية معينة .فلهذا يسأل عن وظائف األشياء ،مل يصلح هذا؟ ويفرس كل
األحداث ،فيقول مثال املطر ينزل ألن الزرع يناديه ،أو الشجرة حتتها ظل
لكي أجلس فيه وما إىل هذا.
وهكذا نرى أن الطفل كون لنفسه نظرة شاملة عن الواقع ،وبسط
األشياء عندما جعل نفسه مرجع كل يشء ،فال يرتدد يف احلكم ،بل يطلق
أحكاما مطلقة ،ويقيض يف كل يشء برسعة ،وبصفة ال ترتك عنده جماال
للشك .فإذا تقدم يف التجربة ،وزاد اطالعه ،تغريت عقليته شيئا فشيئا.
بتأثري احتكاكه االجتامعي ،وعىل األخص بتأثري الرتبية ،وما يزال عقله
ينمو ،وعقليته تتطور ،حتى يدرك أن احلقيقة نسبية ،وأن هناك قوانني
طبيعية ،وأخرى اجتامعية عليها يسري العامل.
يدخر الناس ثرواهتم ،ليجدوها عند احلاجة ،ويشعرون بطمأنينة
عندما يشعرون بأن بني أيدهيم منها ما يكفي لسد حاجاهتم .وتعد األمم
ثرواهتا فتحسب مقدار قوهتا .وكلام تطورت فلسفة األفراد واجلامعات،
وازداد تقدمهم يف السلم احلضاري ،فطنوا إىل أن ثروة الذكاء جيب أن حتتل
املكانة االوىل .يكون الفرد غنيا ال بحساب غناه املادي ،لكن بحساب قوة
عقله ،وحقيقة املهارة التي يملكها .وتكون االمم قوية غنية ال بحساب
مواردها الطبيعية فقط ،بل بحساب رجاهلا ذوي القدرات العقلية ،من
علامء وفنيني .فال غرو مع االعتبار الذي حتاط به الطاقة العقلية أن تنشأ
حركة يف األمم القتصاد هذه الطاقة ورصفها حيث تكون أكثر جدوى،
وأن يلتفت األفراد إىل أنفسهم وبنيهم ليقيسوا هذه الطاقة ،ويطمئنوا
132
إن وجدوا عندهم منها نصيبا .املعلمون واملختربون النفسانيون ،كل
بطريقته ،يقلبون العقول ،ويتطلعون ليبرصوا تكوينها ،ويكتنهوا نوع
مواهبها .يأخذون الطفل صغريا ،ليسلكوا به املسلك املناسب يف تربيته
وتعليمه ،ويأخذونه بعدئذ ليوجهوه إىل مهنة مناسبة عىل ضوء ما انتهوا
إليه من معرفة خصائصه العقلية .وأثناء املرحلتني ،مرحلة بدء الدراسة،
ومرحلة التوجيه املهني ،جيتهد املربون ملعرفة خصائص العقلية الصبيانية،
هذه العقلية التي متتاز باألنانية املطلقة ،والنشاط الطبيعي العارم الذي
يقنع من املعرفة بتفسري العامل بعيدا عن املنطق ،بعيدا عن املوضوعية التي
يتصف هبا عقل الراشد.
133
مواضيع
يف الرتبية وآداب املهنة
املوضوع رقم 13
قال مرب معارص« :إن مدرسة أحسن جتهيزها ،تلك التي تدخلها
شاعرا بارتياح واحرتام ،هتيئ نفس املعلم والتالميذ ،بل ترغمها معنويا
عىل اجلد واملثابرة».
فرس القول ،وقل كيف جتهز مدرسة لو عهد إليك بتجهيزها ،مراعيا
الناحية العملية واجلاملية يف جتهيزك.
135
يف رشحنا ،مل وكيف يندفع الطفل واملعلم إىل العمل بتأثري اجلهاز املدريس؟
وطبيعي أن اجلهاز الذي نتحدث عنه إنام هو اجلهاز املادي وحده ،فال
يدخل معنا املعلمون واملدير ،واملعلامت واملديرة ،إال بالقدر الذي يمكن
أن نعتربهم جزءا من جهاز املدرسة.
والسؤال الثاين يطلق حريتنا لنتصور أنفسنا مديري مدرسة ،أو
مهنديس مدارس ،ونجهز مدرسة باجلهاز الكامل ،الذي نتحمل مسؤولية
جعله موافقا للمطالب العملية واجلاملية املرشوطة يف املدرسة ،ومسؤولية
جعله يستجيب لفكرة املريب التي نكون قد رشحناها.
وبصفة عامة ،فإن نص السؤال حيمل يف طيه الرسم الذي ينبغي أن
حتذوه املقالة ،إنام الصعوبة ،التي سنجدها ،هي أن املوضوع قليال ما نقرأ
عنه يف كتب الرتبية ،فام بد من أن نعتمد عىل جتاربنا وما رأيناه يف املدرسة
أو املدارس التي عملنا فيها ،أو زرناها .وإذا قدر إن كانت هذه املدارس
ال تستويف الرشوط التي جتعلها مرضية ملثال املريب ،فجيب عندئذ أن
نستعمل فكرنا ،ونستغل مواطن النقص التي نالحظها يف مدارسنا،
لنتخيل ونقرتح حلوال من شأهنا أن ترضينا لو كنا نتحمل مسؤولية جتهيز
املدرسة.
ب -التصميم
* رشح القول.
* كيف أجهز مدرسة لو عهد إيل بتجهيزها.
136
* اإلطار املادي ومسؤولية املعلم -لو عهد إىل -..البناية املدرسية-
الساحة -القسم -األثاث -وسائل التعليم -اخلزانة املدرسية -البساطة
والذوق.
د -اإلنشاء
عرصنا هذا عرص اإلنتاج الرسيع ،واملسابقة يف طريق هذا اإلنتاج.
األمم تعبئ قواها لتكثريه ،واملؤسسات تنفق أمواال غزيرة الخرتاع
الوسائل التي تزيد فيه .ال نقول شيئا عن اآلالت الرسيعة الكثرية ،لكننا
ننظر إىل اإلنسان ،وكيف توصلت الصناعة احلديثة إىل زيادة إنتاجه
بوسائل نفسية .وأهم هذه الوسائل تكييف اإلطار الذي يعمل فيه العامل.
وجدوا أن اإلطار الصحي اجلميل يبعث العامل عىل اجلد ،ويزيده قدرة
عل االحتامل .وتعدوا اإلنسان ،فطبقوا املبدأ عىل األبقار فدرت ألباهنا
ال تبخل ،وعىل الدجاج فسمن وضخم .وجيمل باملعلم أن يرى ما إذا
كانت هناك عالقة بني اإلطار املدريس ،وبني اجتهاد التلميذ وتعلقه
باملدرسة ،أن يرى إىل أي جد ينطبق القانون الذي اخرتعته الصناعة،
عىل اإلنتاج املدريس ،أن يرى هل من الصالح أن نتبع يف بناء مدارسنا
وجتهيزها نظاما خاصا يطمع يف تسهيل العمل والرتغيب فيه ،أم األصلح
أال نضيع اجلهود يف هذه اجلزئيات ،ونميل إىل اجلد واالقتصاد يف هذا
امليدان .أما أحد املربني املعارصين ،فقد أبدى رأيه بام ال يقبل الرتدد يف
نوع اختياره حيث يقول« :إن مدرسة أحسن جتهيزها ،تلك التي تدخلها
شاعرا بارتياح واحرتام ،هتيئ نفس املعلم والتالميذ ،بل ترغمهام معنويا
عىل اجلد واملثابرة» ،فام هي فلسفة هذا املريب عىل وجه التفصيل؟ وكيف
نحول نظريته هذه إىل ميدان التطبيق ،لو أعطيتنا مهمة جتهيز مدرسة؟
إن نجاح أية مؤسسة اجتامعية ،كيفام كانت وظيفتها ،رهن بالثقة التي
توحيها يف نفوس الناس .واملدرسة أيضا ،كمؤسسة اجتامعية ،ختضع هلذا
القانون .ولذلك نجد مربينا يبدأ كالمه بذكر الشعور الذي يستويل عىل
داخل املدرسة التي أحسن جتهيزها ،وهو الشعور باالرتياح واالحرتام.
137
فإذا شعر داخل املدرسة باالرتياح إىل املدرسة واحرتامها ،وأعطاها ثقته،
فقد تكون يف نفسه استعداد لتلقي الرسالة التي حتملها .وإن احرتام املدرسة
ليفرض فيها أن تكون مومنة بسمو األمانة املنوطة هبا ،ويفرض أن تتوفر
عىل معلمني قادرين ،زيادة عىل الرشوط املادية التي تساهم يف رفع مكانتها.
فمن توفر هذه الرشوط الثالثة تنشأ سمعة املدرسة ،ويذيع صيتها بني
الناس ،ويدخل الداخل ويف نفسه أثر مما سمعه ،لكنه ال يرتاح وال حيرتم
املدرسة ،إال بعد أن يبلوها بنفسه .فإذا كان أبا ،جاء يزور املدرسة ليطمئن
إىل أن أوالده يف خري ،اختار املدرسة األحسن سمعة ،لكنه يف حاجة إىل
التأكد مما سمع .ويدخل املدرسة فيجد بناء فسيحا ،وغرفا واسعة مضيئة،
وساحة منظمة ،ونظافة شاملة ،ويالحظ الوجوه الباشة التي تدل عىل
أن العمل ينجز يف نشاط ،وبدون إرهاق .ويتحدث مع مدير املدرسة،
فيرشح له أوقات الدراسة وتعاقبها ،ويصحبه إىل القسم الذي سيدخله
ابنه ،فيبتهج األب لرؤية أثاث نظيف ونوافذ كثرية ،وجدران مزينة،
وخيرج األب ويف نفسه أن ابنه حيث كان حيب له أن يكون .وإذا كان
الداخل معلام ،حديث عهد باملدرسة كانت نظرته أنفذ وحرصه عىل معرفة
أحوال املدرسة أكثر ،ألن فيها سيؤدي أعامله ساعات متوالية يف كل يوم.
وسينظر هذا املعلم إىل جهاز املدرسة ،ال ليتأكد فقط من أنه صالح ،لكن
ليستشف من خالله ،مقدار اهتامم القائمني عىل املدرسة ،ومقدار حبهم
ألعامهلم .وسيتنبه بصفة خاصة ،للحجرة التي سيعمل فيها .ولوسائل
التعليم التي يف املدرسة .فإذا وجد احلجرة عىل غرار ما كان يرغب يف
وجوده ،ووجد وسائل التعليم الكثرية املتنوعة ،ووجد احلالة العامة جلهاز
املدرسة ينم عن حدب املسؤولني ،وتعاون زمالئه املعلمني ،شعر باحرتام
جلهودهم ،وبارتياح إىل أنه سيعمل يف إطار مستوف للرشوط .وسيتجدد
شعوره هذا كلام دخل املدرسة ،أو رجع إليها بعد عطلة ،ما دامت املدرسة
عىل حالتها الكاملة .وإذا كان الداخل تلميذا ،حديث عهد باملدرسة،
شعر أول األمر برهبة جلالل البناية وارتفاعها ،وجلدة كل يشء يراه ،وملا
سبق يف نفسه من استعظام املدرسة أو اخلوف منها إذا كان ذووه خييفونه
هبا .وعىل نجاح اتصاله األول باملدرسة أو اخفاقه ،يتوقف حبه أو بغضه
138
هلا زمانا قد يستمر حياته كلها .فلذا جيب أن هتيأ املدرسة لتستقبله أحسن
استقبال ،ويبذل كل اجلهد الشعاره باالرتياح .املدرسة مل تؤسس إال
لألطفال؛ فينبغي أن تبنى عىل قياسهم ،وجتهز بالنظر إىل حاجاهتم وراحتهم.
وإذا كان من الصعب أن يستعري مهندس املدرسة وجمهزها عني طفل ينظران
هبا عندما يبنيان وجيهزان ،فإن لدينا من معرفة نفسية الطفل ما يؤهلنا لتقدير
املرافق التي يفضلها .وأول ما يرتاح الطفل لوجوده يف املدرسة ،املساحة
الكافية لنشاطه ولعبه .فيجب أن جيد يف مدرسته ساحة مرملة ،وأدوات
للعب إذا كان يف سن رياض األطفال ،وحيب أن تكون هذه الساحة مضيئة،
كام حتب املبادئ الصحية أن تكون نظيفة مشمسة .وينرصف نظر الطفل
بعد هذا إىل األطفال الذين يف قسمه ،فيجب أن يكونوا يف سنه لئال يشعر
وسطهم بالوحشة ،وحيب أن جيلس إىل جانب زميله الذي يأنس إليه .وهلذا
جيب أن يقسم األطفال حسب أسناهنم وال خيلط يف القسم الواحد أطفال
متفاوتو األعامر .وجيب أن جيلس الطفل ،سيام إذا كان جديدا ،بجانب
نفس اجلار ليألفه ويطمئن ،وأن يعطى لكل طفل مقعد خاص ،فال حيول
منه يف كل يوم .هذه أهم النواحي التي يلتفت إليها الطفل ،وهي النواحي
العاطفية ،الناشئة عن حاجته إىل شعور باألمن بني رفاقه ،وشعور باحلرية يف
ممارسة نشاطه املفضل ،اللعب .فإذا هيأنا للطفل مدرسة تتوفر فيها رشوطه
أيضا ،كملت لنا عنارص االرتياح الرضورية لعمل املدرسة يف جو مفعم
بالثقة ،ثقة اآلباء وثقة املعلمني وارتياح التالميذ.
هذا ،وإن نظر الذي يبني املدرسة وجيهزها ينبغي أن يأخذ بعني
االعتبار العوامل اإلنسانية التي تضمن نيل احرتام داخل املدرسة
وارتياحه ،إىل جانب العوامل الصحية والعملية واجلاملية التي حتدث
أثرا ،خفية مسالكه يف بعض األحيان ،لكنه ال يقل أمهية عن العوامل
النفسانية العاطفية .فجهاز املدرسة الصحي يبدأ من النظافة العامة،
والتهوية املستمرة ،ال سيام هتوية غرف الدرس حيث ينبغي أن
تكون النوافذ كثرية ،والتشميس بحيث يكون اجتاه البناية املدرسية،
ساحتها وغرفها ،مناسبة .ويكمل اجلهاز الصحي بوجود طبيب
مدريس زائر ،وممرض دائم يف املدارس الكبرية والنائية ،ومصحة
صغرية تشتمل عىل وسائل العالج املستعجل .ووسائل التعليم ينبغي
139
أن تكون مطابقة للمنهاج املدروس يف كل مادة ،حتى يستطيع املعلم أن
يستعني به عند احلاجة ،ويكمل به وسائله اخلاصة ،ويتعني أيضا أن تنظم
استعارة وسائل التعليم ،باتفاق املعلمني ،وتوضح استعامالت الزمن
حتى ال حيتاج معلامن إىل نفس األداة يف نفس الوقت .وإن من األجهزة
التعليمية ما ينبغي أن يبقى يف كل قسم وخيتص به ،كمثل السبورة،
وخرائط اجلغرافيا .والرشوط اجلاملية يف اإلطار املدريس ليست من
البساطة بحيث يمكن أن نحددها بالكلامت أو باألرقام ،إنام ترجع إىل
ذوق باين املدرسة وجمهزها .فإذا سامها يف إجياد إطار هبيج ،بأن بنيا غرفا
منسقة ،واختارا هلا أثاثا مجيال ،وراعيا نسب األحجام واألطوال ،وزينا
ساحة املدرسة باألشجار اجلميلة ،وأعدا العدة للمحافظة عىل ما بنياه من
أن تناله يد البىل أو يد العبث فيتشوه ،وإذا ساهم املعلم يف تزيني حجرة
الدرس ،وعرف كيف يتأنق يف اختياره الرسوم والصور التي يعلقها عىل
جدراهنا ،واألدوات والزهور التي يضعها عىل مكتبه ،وعرف كيف
يرشك تالميذه يف هذا االختيار؛ قلت إذا قام كل واحد من هؤالء الثالثة
بنصيبه ،اكتسبت املدرسة صفة مجالية ،وانطبع الطفل من حيث ال يشعر
بالذوق احلسن .هذا زيادة عىل أن مجال املدرسة يزيد من ارتياح املعلم
والتلميذ ،ويزيد من تعلقهام بمدرستهم.
وبتوفري الرشوط الصحية وأدوات التعليم وبجامل اإلطار ،تتضافر
الظروف عىل جعل العمل املدريس ميسورا وجذابا يف نفس الوقت .ويف
هذه الظروف ينشط اجلسم ،ويقوى عىل بذل املجهودات الفكرية الالزمة،
وجيد املعلم فرصة ليؤدي مهمته عىل أحسن وجه ،ويتقدم التلميذ يف حلبة
املعرفة ،فتنفتح له آفاق واسعة ،ويعمل جادا مثابرا عىل العمل.
إن يف املغرب اليوم حركة ال بأس هبا ،وحاجة ماسة ،لبناء املدارس
وجتهيزها .ويتعاون عىل البناء والتجهيز الدولة واجلامعات الشعبية.
وللدولة مهندسون اختصاصيون ،كام أن للجامعات مرشدا وناصحا.
فهل للمعلم نصيب من حتمل مسؤولية بناء املدرسة وجتهيزها؟ وإذا مل يكن
فهل من احلسن أن يتحمل نصيبا من هذه املسؤولية؟ اجلواب أن املعلم
قليال ما هيتم باألمر اهتامما بارزا ،وإن كان من الطبيعي أن يساهم بالنشاط
140
الكبري يف هتييئ املدرسة .وكيف ال وهو الذي سيعمل فيها ،وهو اخلبري
بشؤون الطفل؛ العارف لنفسه .مديرات ومديرو املدارس يقومون
بتجهيز املدرسة ألن هذا العمل جزء من وظيفتهم ،وأعتقد أن عملهم
يكون أكثر جدوى لو استعانوا برأي املعلمني يف األمر ،واقتبسوا من كل
رأي فكرة ،ليحققوا ملدرستهم أحسن جهاز وأكمله ،وأكثره استجابة
ملقتضيات احلال .ولو طلب إيل رأيي يف جتهيز املدرسة ،أو عهد إيل
بتجهيزها لعرضت الربنامج التايل:
البناية املدرسية :املفروض أن البناية قائمة ،وأن دوري هو جتهيزها
فقط ،لكني أقدر أن الظروف مكنتني من حضور اجللسة التي عزم فيها
عىل بناء مدرستي .ويف هذه اجللسة أقرتح أن تبنى املدرسة فوق ربوة
مرشفة لتكون مهواة ،وأقرتح أن تكون هذه الربوة قريبا من مساكن
األطفال ،وأن تكون املدرسة صغرية يتأتى فيها خلق جو عائيل بني
املعلمني واألطفال ،ويتأتى فيها أن يعرف بعضهم بعضا .واقرتح أن
يكون اجتاه بناية املدرسة بحيث تكون معرضة ألشعة الشمس طول
النهار ،ويف كل الفصول .وشاركت اللجنة يف مناقشتها مليزانية البناء،
واختيار املواد الالزمة ،فأرشت إىل أن االقتصاد ال يتأتى إال مع اختاذ
مواد متينة ،كالسقوف التي ال تنفجر يوما مطريا عىل رؤوس األطفال،
وكاجلدران التي ال تتفتت بعد سنتني أو ثالث من البناء .وأرشت أيضا
إىل أن االقتصاد ال يتعارض مع األناقة والذوق يف وضع التصميم ،وأن
للمظهر العام اخلارجي حظه من األمهية .فإذا متت البناية فسأسهر عىل
تعهدها لتحتفظ بمتانتها وأناقتها.
الساحة :تتوفر مدرستي عىل مساحة واسعة ،وسأفرش هذه الساحة
بطبقة من الرمل اللني ،اتقاء للجراح الناشئة عن سقوط األطفال،
وأغرس وسطها أشجارا مجيلة فسيحة الظل ،خرضاء الورق ،لتعطيها
هبجة ورونقا .وأغرس أزهارا طول اجلدران املحيطة هبا .وأضع مزهريات
عىل النوافذ ويف املمرات .وأضع سالال جيعل فيها ما يمزقه األطفال من
ورق أثناء لعبهم ،أو ما يكون عىل األرض من النفايات .وينبغي أن تتسع
الساحة ألدوات الرياضة البدنية التي أنوي إقامتها ،وسأهيئ حفرة رملية
141
للوثب ،وحباال للتسلق ،وعوارض خشبية للتمرينات املختلفة.
حجرات الدرس :ال أحب كثريا األقسام املتامثلة ،التي تشبه حجرات
املستشفى .وسأحرص عىل إعطاء أقسام مدرستي طابعا خاصا وشخصية
يمتاز هبا كل قسم ،متاما كام يفعل يف جتهيز حجرات بيت منظم ،وسأختار
لطالء اجلدران ألوانا مجيلة ومرحية ،ألن من األلوان ما يثري ،ومنها ما
هيدئ ويشجع عىل العمل .وسيكون لكل حجرة لوهنا الذي يتناسب مع
باقي جهازها ،ومع الرسوم والصور التي سأرغب زمالئي املعلمني يف
العناية هبا .نوافذ أقسامي كبرية ،سأسهر عىل فتحها يف كل وقت ويف كل
الفصول .وسأحث عىل تنظيف زجاجها ليتناسب مع النظافة العامة التي
ستمتاز هبا مدرستي.
األثاث :سأختار أثاث األقسام ما أمكن بالنظر إىل اعتبارين .مناسبته
لالستعامل الذي خيصص له ،وكونه مجيال منسجام مع اإلطار الذي يوضع
فيه ،وسأهتم ،بصفة خاصة ،بمقاعد األطفال لتكون عىل قدر سنهم،
ولتكون قابلة للتنظيف ومتينة.
أدوات التعليم :أدوات اإليضاح يف مدرستي ستكون متوفرة
وموافقة للمنهاج املقرر ،وسأعمل جهدي ألعطي لكل قسم جمموعة
خاصة به ،فإذا مل أقدر سأتفق مع زمالئي لتنظيم أوقات اإلعارة ،حتى
تستعمل األشياء عن بصرية وبغاية الفعالية .وسأعتني بالسبورات،
فأصبغها خرضاء باللون الذي يعتربه األطباء أكثر راحة من اللون
األسود .وسأسهر عىل نظافة السبورات .وأزودها بممسحات وبطباشري
أبيض وملون.
اخلزانة املدرسية :سأساعد كل معلم إلحداث خزانة صغرية يف
قسمه ،وسأبحث أنا لتهييء حجرة أضع فيها اخلزانة املدرسية العامة،
التي ستشتمل عىل كتب املطالعة املناسبة لسن أطفال املدرسة االبتدائية.
وسأفكر يف طريقة إللفات نظر التالميذ إىل وجود هذه اخلزانة ،وخللق
رغبة لدهيم يف االطالع عىل الكتب التي فيها وقراءهتا.
هذا وسيعم اهتاممي كل مرافق املدرسة ،ال سيام املراحيض املحتاجة
إىل نظافة دقيقة ،ومستوصف املدرسة ،وصالة املعلمني ،ومكتب اإلدارة.
142
وسيكون رائدي يف العمل البساطة والذوق اجلميل ،مضافني إىل شعور
بأن عميل عليه يتوقف تقدير الناس للمدرسة حني يدخلوهنا ،وتقدير
املعلمني واألطفال واعتزازهم بمدرستهم التي سأحرص عىل أن يسامهوا
يف جتهيزها واملحافظة عليها.
إن رسعة املواصالت ،وانتشار الصناعة احلديثة ،نتج عنهام توحيد
ألساليب البناء والتجهيز .وكانت املدارس من بني ما مسه هذا التوحيد،
إذ أصبحت تبنى وجتهز بطريقة مفردة تكاد تكون صناعية صامء .وفقدنا
التنوع الذي كنا نعرفه من قبل ،فال يقع برصنا إال عىل مدارس توائم ،ال
تكاد تتميز الواحدة عن األخرى إال باملوقع .كان لكل مدرسة طابعها
اخلاص ،وميزهتا التي تعرف هبا وكان هذا حيبب املدرسة للناس،
وخاصة لألطفال فيحتفظون هلا بذكرى مجيلة بعد أن يغادروها ،وحيبوهنا
ويرتاحون إليها أثناء مقامهم هبا .هذا بالطبع إذا كانت املدرسة حسنة
التجهيز؛ متوفرة عىل الرشوط التي جتعل فيها العمل ميسورا ومغريا.
أما اليوم ،رغم أن وسائل التجهيز أكثر تنوعا مما كانت عليه ،فإن متاثل
املدارس يف بنائها ،ويف نوع األثاث الذي يعطاها ،جتعل من الدقيق
إعطاءها شخصية ،وإحالهلا حمال خاصا يف قلوب األطفال واملعلمني.
يقتيض األمر أن تتضافر جهود املدير واملعلمني إلحداث اإلطار اجلميل
يف حدود الرشوط العملية والصحية الرضورية للعمل املدريس .يقتيض
األمر أن تستعمل إمكانيات التجهيز احلديثة املتنوعة يف خدمة الطفل،
وبالنظر إىل حاجاته .يقتيض األمر أن تسخر هذه اإلمكانيات لغاية أخرى
سامية ،وهي خلق اجلو العاطفي املنشط للعمل املرغب فيه الكفيل بإرغام
املعلم والتلميذ معنويا عىل اجلد واملثابرة.
143
املوضوع رقم 14
جيب أن يكون التلميذ املغريب ،بعد خروجه من املدرسة االبتدائية ،مهيأ
ليكون مواطنا صاحلا ،فكيف تفهم مهمة الرتبية هذه وكيف تؤدهيا؟
144
ب -التصميم
* كيف أفهم مهمتي يف تربية مواطن مغريب.
* كيف أؤدي هذه املهمة.
د -اإلنشاء
إذا بدأت األمة تستيقظ لوجودها ،وتعبئ قواها لتتقوى وتتقدم،
اهتمت أول ما هتتم بالرتبية ،وسنت هلا قوانني ،ورشعت هلا أهدافا.
وقد استقل املغرب من عهد قريب ،وزاد شعوره بكيانه كأمة هلا ماضيها
احلافل ،ومن حقها أن تأمل يف مستقبل زاهر .كان هذا الشعور الباعث
القوي الذي جند جهود األمة يف سبيل حتررها ،واليوم جيند القوى يف
مرحلة البناء .وقد وجدت األمة نفسها ،غداة االستقالل ،وهي يف عداد
البالد املتخلفة ،جتر من ورائها محال ثقيال من خملفات العدو املحتل الذي
شجع هذه اجلهالة واستثمرها .وبمجرد ما تنفس الناس ريح احلرية،
أرسعوا إىل املدارس يلتمسون فيها إرواء لعطشهم إىل العلم ،ويعملون مع
145
حكومتهم يدا يف يد للقضاء عىل اجلهل ونرش املعرفة .ورأت حكومة
املغرب إقبال الناس فزاد عزمها عىل بث املدارس يف املدن والقرى،
وجتهيز هذه املدارس لتقوم بمهمتها ،وبذلت احلكومة جهودا كثرية
لتهيء معلمني ،وتكوينهم ليكونوا يف مستوى املهمة التي أناطتها هبم،
وتتلخص فلسفة احلكومة املغربية يف «أن التلميذ املغريب جيب أن يكون،
بعد خروجه من املدرسة االبتدائية ،مهيأ ليكون مواطنا صاحلا» فكيف
أفهم ،بصفتي معلام مغربية هذه املهمة؟ وكيف أقوم بأدائها ،يف الظروف
احلالية ،وبالنظر إىل اهلدف الذي حدد يل؟
إن املغرب اليوم يف حاجة إىل مواطنني صاحلني .فرغت املناصب
اإلدارية ،وتفرغ اآلن الوظائف التقنية التي كان يشغلها األجانب،
فالبد من إجياد موظفني وفنيني مغاربة خيلفوهنم .والبالد يف نشاط
بنائي ،حيتاج تدعيمه إىل رجال ذوي جدوى يف اإلنتاج االقتصادي.
واملجتمع املغريب يتكون ويتطور عىل أسس جديدة ،ولن يستقر عىل
وجه مرض إال إذا تكون أعضاؤه ،وصاغتهم الرتبية عىل شكل
يستجيب ملقتضيات املجتمعات املتطورة .وحتتاج البالد ،ضمن النخبة
املتعلمة ،وضمن العامل املنتجني ،وضمن أعضاء املجتمع الناهضني
به ،إىل مواطنني يشعرون بمسؤوليتهم أمام مصري وطنهم ،ويشعرون
بالنصيب الذي ينبغي أن يتحملوه يف سبيل تقدمه وازدهاره .وإن
تكوين املواطن الصالح ،وتوحيد عقلية األمة ،ملن عمل املدرسة ،السيام
املدرسة االبتدائية ،حيث يستقبل أطفال لينو الطبع ،يمكن أن تتناوهلم
الرتبية بالتوجيه الالزم .وإن املغرب يسلك يف سياسته التعليمية طريق
السعي لتعميم التعليم يف مرحلته االبتدائية .وإذا ما تم تعميم التعليم
االبتدائي ،وسيتم عن قريب ،فسنكون بدأنا رشوطا مهام يف بناء وطننا.
ويف انتظار اليوم الذي يتم فيه ،جيب أن نتدبر من بعيد ،ونرسم اخلطة
لتعليمنا االبتدائي مراعني املبدأ الذي وضعناه نصب أعيننا ،أال وهو هتيئ
الطفل املغريب ليكون بعد خروجه من املدرسة االبتدائية ،مواطنا صاحلا.
وننظر اليوم إىل مدارسنا االبتدائية وقد ازدمحت باألطفال نتيجة اإلقبال
العظيم الذي يظهره الشعب عليها ،وننظر إىل النظام الذي فرضه هذا
146
االزدحام ،وإىل املعلمني الذين كونوا تكوينا مقتضبا ،فيساورنا الشك
يف أن هذه املدرسة ،يمكن أن هتيئ مواطنا صاحلا .غري أننا إذا أمعنا
النظر يف األمر ،واعتربنا أن أية مدرسة ابتدائية ال تكفي وحدها لتكوين
املواطن الصالح ،إنام هتيئ األساس الذي سيوضع عليه التكوين املهني
من بعد ،وهتيئ الشخصية التي ستضطلع بدورها يف النشاط االقتصادي
واالجتامعي والسيايس ،بعد أن تنال تكوينا أكمل يف املعاهد الثانوية
والعليا .وإنام هتيئ املدرسة القاعدة الشعبية للتقدم ،بام تعطيه ألفرادها
من تربية وتعليم .نتغلب عىل الشك الذي يساورنا إن فهمنا أو وظيفتنا،
يف املدرسة االبتدائية ،ليس تكوين املواطن الصالح ،بل فقط هتيئ هذا
املواطن .إن هذا التهيئ نفسه رغم أمهيته البالغة بالنسبة حلياة األمة كلها،
يف متناول املعلم املجتهد الذي يفهم مغزى املهمة التي يقوم هبا ،وإنني،
وأنا معلم مبتدئ ،ألتأمل طويال األهداف التعليمية والرتبوية التي كلفت
بتبليغ أطفايل إىل غايتها ،حتى يمكنني العمل عىل ضوء العقل ،ويف طريق
نري .وأول مهمة ينتظر مني القيام هبا ،هي تكوين شخصية خلقية متينة
لتالمذيت ،شخصية مستقلة تعرف مكاهنا من املجتمع ،فتعمل بإرادهتا،
ال جزءا أصم من اآللة االجتامعية .شخصية هلا ضمري حي وشعور
باملسؤولية ،يمكن أن يعتمد عليها ،يف أي ميدان تعمل فيه .مهمتي
االوىل أن أريب الشخصية ،وأن أفتح قابلياهتا لالنسجام مع املجتمع ،وأن
أتعهد هذه القابليات وأزودها باملعرفة الرضورية لتتمكن من وسائلها؛
وليمكنها يف مرحلة أخرى ،أن تبلغ من القوة واالتزان ما جيعلها ذات
شأن يف احلقل الوطني .وإنني لشاعر جدا بالنقص الذي تعانيه بالدي من
الطاقة اإلنسانية ،شاعر بحاجة بالدي إىل رجال بأرسع طريق .فتقتيض
طبيعة وظيفتي أن أساهم بجهودي يف تكوين هؤالء الرجال .لكنني
شاعر أيضا بأن مرحلة التعليم االبتدائي أهم املراحل مجيعا ،مؤمن بأن
التكوين الرسيع يشء رضوري إذا كان هذا التكوين مهنيا أو علميا ،لكنه
غري ممكن إذا تعلق األمر بالتكوين األسايس الذي أطمح يف أن أكونه عند
تالمذيت .أعتقد أن أحسن مسامهة يمكن أن أقدمها لوطني يف جتهيز البالد
والشعب ،هي هتييء جيل جديد يضيف إىل التكوين العام اإلنساين ،شعورا
بانتسابه إىل أمة خاصة ،هلا حاجاهتا التي ينبغي أن جياب عنها ،ونقصها
147
الذي ينبغي أن يكمل .أريد أن أخلق يف اجليل الذي أساهم يف تكوينه
شعورا عاما بأنه يتحمل مسوؤلية النهوض بالبالد ،وشعورا خاصا بكل
فرد ،بأن عليه أن يعمل بكل قواه إلرضاء مسوؤليته .ليس من شأين أن
أعطي أطفايل مهنة حيرتفوهنا ،لكن عيل أن أهيئ الرتبة ،وأكتشف املواهب
وأشجعها .وعيل أن أفتح أمام كل طفل آفاقا من املعرفة الواسعة،
وأهيئ له الفرص ليظهر إمكانياته ،فإذا خرج من املدرسة االبتدائية،
وقدر له أن يتابع تكوينه هنج هنجا واضحا يف دراسته ،واختار عن بينة
نوع النشاط الذي يناسبه .وإذا خرج من املدرسة االبتدائية ،ومل يقدر له
أن يتابع تكوينه ،وجد يف يده من الدراية ما يمكنه من رصف مهاراته
الطبيعية رصفا حكيام .ووجد يف يده من املبادئ اخللقية ما جيعله مكان
الثقة بني الناس .ليس من شأين أن أعطي أطفايل علام غزيرا عميقا ،لكن
مهمتي أن أفتح أعينهم عىل مبادئ كل علم ،وأن أعد ملكاهتم العقلية،
وأعطيها التيقظ واحلدة الالزمني لنجاحهم يف دراساهتم املستقبلة .إن
مهمتي صعبة عىل أي حال ،وصعبة بصفة خاصة يف الظروف الراهنة،
بسبب ضيق املدارس وتضخمها ،وبسبب ما ينتج عن هذا الضيق
من النقص املادي يف حصص التعليم ويف جهاز املدرسة بصفة عامة.
وبسبب فهم األرس املنحرف ملهمة املدرسة ،حيث تظن أن تربية الطفل
من شأن املدرسة وحدها ،وحيث جتهل األرس ،يف كثري من األحيان،
كنه األعامل التي تقوم هبا املدرسة ،فال تبذل أي جهد ملساعدهتا .وهلذا
كانت مهمتي أشد صعوبة ،يقتيض القيام هبا سعيا متواصال لتاليف نقص
املدرسة املادي ،ومعاجلة جهل األرسة وتقويم فهمها لواجبها الرتبوي.
أما يف املدرسة ،فإنني أستعني بخربة الزمالء ،ألختذ أحسن توزيع ممكن
لساعات الدراسة ،ولكي أستعمل أحسن الوسائل يف جعل تعليمي
حيا ومنشطا .وأما األرس فإنني أغتنم الفرص ألتصل هبا ،وأحدثها عن
شؤون طفلها ،وأسعى لكي أؤثر عليها من خالل األعامل التي أكلف
الطفل بإنجازها ،وبواسطة العادات التي أعطيها للطفل يف املدرسة،
فينقلها إىل البيت.
وإن طبيعة عميل نفسها ال تقل صعوبة عام هي عليه ،حتى لو انتفت
148
العراقيل التي أرشت إليها .إنني أستقبل أطفاال مبددي القوى ،رخوي
الكيان .إن أخذت تقومهم ،مل متسك يدك إال عىل نتيجة تافهة .اجلسم
ضعيف ،ال يملك حتى تسديد حركاته .والعقل سطحي ال يتعلق إال
باملظاهر الرباقة ،مبدد ال يرتكز عىل موضوع بعينه ،والعاطفة تتوزعها
الرغبات املفاجئة ،ويزيد من اضطراهبا أن الطفل يف جو جديد عليه.
ويطلب إيل ،ابتداء من هذا الكائن ،أن أهيئ مواطنا مغربيا أثناء الدراسة
االبتدائية :فمن أين سأبدأ عميل؟ أآخذ أوال يف تقوية كل ملكة للطفل عىل
حدة ،ثم أرجع بعدئذ ألربط هذه امللكات وأوحدها؟ أم أعمل للغايتني
يف نفس الوقت؟ الشك أن نمو الطفل العام ،واستناد امللكات بعضها إىل
بعض ،يريد أن أتوجه إىل الطفل ككل ،وأعتربه عىل أساس أن له شخصية
ال تكمل جوانبها إال إذا توجهت جمهودايت إىل كل ملكاته معا .فعندما
أعلمه يف القسم أو خارجه ،ال أقترص عىل تلقينه العلم فحسب ،بل أتوجه
يف نفس الوقت إىل عقله ألخلق فيه وعيا عميقا لألشياء ،وإىل إرادته لكي
أقوهيا ،وإىل حساسيته لكي أنميها .ال أقول إنني معلم وكفاين ،لكنني
أنظر قبل كل يشء إىل العمل الرتبوي املناط يب إنجازه .ولست أمجل هذا
العمل يف عبارات فضفاضة ،بل أفصله تفصيال ،وأعرف مدى كل خطوة
أخطوها يف سبيل أدائه .لست أترك الظروف ترصفني كام شاءت ،بل
أضع التصميامت ألضمن ألطفايل تربية كاملة ،تربية عقوهلم ،وأخالقهم،
وأجسامهم.
فأما الرتبية العقلية ،فعليها مدار املناهج والربامج كلها ،ويكون العمل
عليها اجلزء األكرب من النشاط املدريس .وأول ما أعمله يف هذا القبيل،
وضع تصميم للمواد التي سأدرسها من أول السنة ،وتفصيل هذا التصميم
بالتوزيعات الشهرية .وأراعي يف هذا التوزيع ذكاء األطفال ،وقدرهتم عىل
التحصيل ،وأراعي أيضا ما يستلزمه املنهاج من الدراسات .غري أنني ال
أعترب هذه التوزيعات قيدا يف رجيل يمنعني من الترصف يف تدبري درويس،
بل أعرف كيف أعاجله بالتقديم والتأخري ،والزيادة والنقص ،إذا اقتىض سري
قسمي أن أفعل ذلك .وال متنعني التوزيعات من تتبع اهتاممات األطفال
والسري معها ،ومن اغتنام الفرص لدراسة موضوع التفتت إليه األنظار،
149
بمناسبة حادثة شهدها أطفايل ،إنام أضع تصميم املواد ،وأعضده بمذكرة
يومية ،وأضع استعامل الزمن األسبوعي لتكون يل كل هذه إطارا لنشاطي
التعليمي الذي أعمل جهدي ألعطيه طابع العفوية ،وألوهم التالميذ
بأن ما يدرسونه من املواد ،هو من اختيارهم .نعم ،البد من النظام يف إلقاء
الدروس والبد من التدرج فيها ،لكنني أقدم يف األمهية استفادة التالميذ،
فإذا تعارضت هذه االستفادة مع التوزيع ،كأن استغلق درس ما عىل
التالميذ ،أو اكتشفت أهنم مل يفهموا درسا فائتا ،أو انتبهت يف وسط الدرس
أهنم ال يفهمون عني ،رجعت إىل الدرس أحوره حتى يكون يف مستوى
أطفايل ،ثم اعتربت بعد هذا أال أحرف املنهاج كثريا .وأن إلقاء الدرس
عىل وجه حسن مناسب ملدارك األطفال ،يتطلب حتضري كل درس وهتييئه
هتييئا طويال .فأفكر يف كل موضوع أعده لقسمي ،وألتمس أحسن الطرق
لتقديمه لألطفال وإدخاله يف حيز اهتاممهم ،ثم أبحث عن الرباط الذي
أصله بواسطته ،بمعلوماهتم القديمة ،وأسجل مالحظايت حول هذه النقط
يف ورقة التحضري .وقليال ما أكتفي بورقة التحضري وحدها ،ألن التجربة
علمتني أن األطفال ال هيتمون وال يفهمون الدرس النظري الذي يعتمد
عىل العرض اللفظي والرشوح الكالمية .فأحرض إىل قسمي من وسائل
التعليم ما يعينني عىل إلقاء الدرس ،وما يعني التالميذ عىل تشخيصه
وفهمه ،وأثناء إلقائي للدروس ،أتدرج من نقطة إىل نقطة ،وأتأكد أن
األطفال يتبعونني بام أسمعه من إجاباهتم عن أسئلتي .وأستعمل السبورة
استعامال مستمرا ،فأكتب عليها الكلامت التي مل يفهمها التالميذ ،وأرسم
عليها الرسوم واخلرائط ،وأسجل عليها التامرين وتصحيحاهتا ،ويكتب
فيها األطفال إجاباهتم بأيدهيم .وأثناء إلقائي للدروس أراعي قدرة كل
طفل ،ونوع ذكائه ،فال أطلب من كل واحد إال ما يف طاقته ،وأساعد كال
بام أعرفه مطابقا لعقليته .كام أراعي أيضا قدرة أطفايل بصفة عامة ،ومدى
صربهم عىل العمل ،فال أرهقهم بالتامرين الكثرية ،وال أكلفهم حفظ
النصوص الطويلة ،وأنوع هلم الدروس ،فأعقب كل درس بآخر مغاير
له؛ حتى يكون هذا التنويع مرحيا ومنشطا .وبصفة عامة فإن عميل يف
القسم ينبني عىل مبدأين .ومها العمل من أجل الطفل ،ومع الطفل .فأما
العمل من أجل الطفل فهو مراعاة قدرته عىل العمل ،وتوخي استفادته،
150
وأما العمل معه ،فهو الفوز بموافقته واإلحراز عىل تعاونه .وإن درويس
تبدأ دائام بفرتة هتيئ أحاول خالهلا أن أعد األطفال للدرس ،وأشوقهم
إليه ،وأخلق جوا منطلقا .وأثناء العمل أحرص عىل مشاركة التالميذ
الفعالة سواء يف رشح الدرس أو يف التامرين املتعلقة به .أترك عقول
األطفال تعمل لتصل بنفسها إىل احلقائق .غاية ما أعمله متهيد الطريق،
واإلرشاد إليها كلام ضل التالميذ أو عجزوا .غايتي أن يتعود األطفال
استعامل ملكاهتم العقلية ،ويتعلموا كيف يستعملوهنا ،للدروس التي
ألقيها ،والتامرين التي أطبقها تزودهم باملعرفة األساسية ،وطريقتي يف
إلقاء الدروس ،وإرشاكي لألطفال يف املجهود الفكري ،يعطيهم اجلانب
الثاين من الرتبية العقلية ،أال وهو الفعالية الفكرية .وبكل الوسائل
التعليمية واملنهجية ،بواسطة الكتب التي أختارها لقراءات األطفال،
وبواسطة قطع املحفوظات التي أحفظهم إياها ،وبواسطة دروس
املالحظة واألعامل اليدوية التي أعطيها ،أسعى لتكوين عقول سليمة
متناسقة قادرة عىل الوصول إىل األفكار ومعاجلتها ،هلا ذاكرة قوية ،ومتلك
خياال خصبا.
وأما الرتبية اخللقية فهي الروح الذي يقوم عليه كل نشاطي يف املدرسة،
فإنني أومن بأن كل علم ال ينبني عىل معرفة املبادئ اخللقية ،وتشبع هبا ،ال
يؤدي إال إىل الفساد .وهنا أيضا ألقى مصاعب كثرية يف خلق وعي خلقي
لدى األطفال ،ألن من طبيعة الطفل أال يعترب إال قانونا واحدا ،هو رغبته
احلالية ،وأال يتبع مبدأ إال إرضاء هذه الرغبة .وأعتمد عىل املعرفة التي
ألقنها إياه ،لتنمي عقله وجتعله قابال إلدراك فرق ما بني اخلري والرش .حتى
إذا أدرك ،غرست فيه شعورا بأمهية أعامله ،وخطورة النتائج التي تتبعها،
وتعهدت بالتغذية الوازع اخللقي الذي نسميه الضمري .هناك دروس
خاصة باألخالق ،أجعلها فرصة لرتكيز احلديث عن فضيلة من الفضائل،
لكني ال أعتمد عليها وحدها ،بل أعتمد قبل كل يشء ،عىل احلياة العملية
يف القسم ،وأحاول أن أجعلها مثاال حلسن املعاملة ،والصدق يف العمل.
فأكون أنا يف أعاميل وأقوايل مثاال للفضائل التي أحتدث عنها ،وأغتنم
كل فرصة لتوكيد القول يف أمهية اخللق الفاضل ،وأتلقف كل بادرة
151
حسنة يقوم هبا طفل من أطفايل ،ألشجعه عىل عمله ،وأحثه عىل املثابرة.
وبصفة عامة ،فإنني أسعى ألضع األطفال يف إطار خلقي ،وأيرس هلم
السبل الختاذ عادات االستقامة ،والصدق ،وعفة القلب واللسان .ولست
أنسى أن الطفل يتأثر يف امليدان اخللقي بوسطه ،ورغم ما أخشى من رش
هذا املؤثر ،فإنني أجتهد يف مكافحته ،واحتال آلخذ الطفل بالعاطفة،
حتى تكون املدرسة ومبادئها أكثر متكنا يف نفسه من دواعي البيئة.
وأما الرتبية اجلسمية :فإن دوري يف القيام هبا ال يقل أمهية عن دور
األرسة ودور الطبيب .إن الرتبية اجلسمية تتوقف قبل كل يشء عىل الوقاية
احلسنة ،والرعاية الكاملة جلسم الطفل ،ففي املدرسة يقيض التالميذ جزءا
مهام من هنارهم ،يرصفون جل الوقت يف اجللوس والسكون .ولذلك
أراعي أن جيلسوا جلسة حسنة يستقيم معها وضع عظامهم الرخوة،
وأحثهم عىل بذل جمهود جسمي يف اللعب أثناء االسرتاحة إن بدا يل منهم
عزوف عنه .كام أراعي حاجات أجسامهم النامية عندما أهيئ درس
الرياضة البدنية .فأختار حركات متنوعة غري عنيفة .وتشكل املدرسة
خطرا عىل كل طفل ،ألنه يلتقي فيها بأطفال كثريين ،ويعايشهم وقتا
طويال ،فربام يوجد من بينهم املريض حامل اجلراثيم ،يعدي السليمني.
ولئن كان عالج املريض من شأن الطبيب ،فإن من شأين أنا أن أكتشف
املريض وأبعده ،وأن أشارك يف محالت التلقيح ضد العدوى .وإنني
ألساهم أيضا يف تربية أجسام أطفايل عندما استخرب عن حالة البيت
وعاداته يف التغذية ،وعندما أقدم إرشادات لألرسة يف هذا القبيل.
وأساهم أيضا يف الرتبية اجلسمية بام أبذله من جهد ألحافظ عىل سالمة
حواس الطفل ،وتعويده النظافة.
يقول الناس إن عمل املدرسة االبتدائية ينحرص يف تعليم الطفل كيف
يقرأ وكيف يكتب وكيف حيسب ،وحق أن تعليم هذه املواد هو األساس
الذي البد منه يف بناء عقل قابل للتطور ،وحق أيضا أن املدرسة االبتدائية ،ال
جتد متسعا لتعمل أكثر من ذلك خالل السنوات القليلة التي يقضيها الطفل
بني جدراهنا .وربام يقول قائل بأن عمل املدرسة االبتدائية تافه إن حرص يف
تعليم مبادئ القراءة والكتابة واحلساب ،لكن الذي يقدر األمور حق قدرها،
152
يرى بوضوح أمهية هذا التعليم بالنسبة ملستقبل الطفل يف حد ذاته،
وبالنسبة حلياة األمة التي سيكون عضوا فيها .إن املدرسة تأخذ خامات
أولية ،فتعاجلها لتصنع لنا عقوال هلا من القابلية ما حيقق هلا النجاح يف
النشاط التعليمي الذي متارسه فيام بعد .وإهنا ملهمة كبرية ،إن استطاعت
املدرسة االبتدائية أن تعطينا عقال يكتب وحيسب ويقرأ ،ابتداء من كائن
مشتت القوى ،واهي العزم .عىل أن مهمة املدرسة ال تقف عند هذا احلد
التعليمي ،بل تتعداه إىل هتييء املواطن الصالح ،ذي امليزات اجلسمية
واخللقية .وإن املدرسة املغربية لتحاول يف الظروف الراهنة حتقيق هذه
الغايات الثالث التي تكون صفات املواطن الصالح .حتاول أن تنشئ
جيال له كيان خلقي كفيل بضامن نجاحه االجتامعي ،له عقل متفتح،
قادر عىل زيادة حمصوله العلمي واملهني ،له جسم قوي يمكنه من أداء
مهمته كعامل يف احلقل االقتصادي ،ويمكنه من تأدية أعامله املهنية .تريد
املدرسة االبتدائية املغربية أن ختلق النواة التي منها يبنى مستقبل البالد،
وإن كانت ال تطمح يف تكوين املواطن الصالح تكوينا كامال ،فإهنا تبذر
البذرة األوىل التي ستنمو وترتعرع ،لكنها لن تتخىل أبدا عن الشعور
الذي أنشأته املدرسة االبتدائية ،بأن كل فرد حيمل حظه من املسؤولية يف
بناء مستقبل أفضل.
153
املوضوع رقم 15
قال روسو« :احلق أن الذي يصنع الرجال ،جيب أن يكون أكثر من
رجل! أيمكن حقا العثور عىل املريب ،هذا املخلوق النادر الوجود؟ أما أنا
فإنني أشعر كثريا بعظم واجبات املريب ،ولن أجرس يوما عىل حتمل مسؤولية
كمسؤوليته».
ما رأيك يف كلامت روسو ،وهل يساورك َه ٌّم مثلام ساوره؟ ثم حتدث
عن صفات املعلم.
154
روسو عىل نحو يظهر معه أن الفيلسوف يطمح يف العثور عىل املريب
املثايل ،وإنه ال يرىض باحللول اإلنسانية الوسطى .وسنبني أن خيفته من
حتمل مسؤولية الرتبية ،وهتويله لعظمها ،تدخل يف قبيل التعبري الشخيص
عن شعور نبيل ،باملهمة اإلنسانية التي يضطلع هبا املريب ،وال حتمل عىل
التشاؤم من قدرة الناس عىل حتملها.
وعىل هذا فسيكون يف املوضوع عنرصان :أوهلام يتضمن تأويال
لكلمة روسو ،وتصويرا لشعورنا نحن اجتاه مسؤولية الرتبية التي
نتحملها .والعنرص الثاين فيه عرض لصفات املعلم التي ختوله أداء
مهمته .وسيكون اجلزء األول ذا صبغة أدبية نظرا ألنه يتعرض
للتعبري عن إحساسات شخصية ،لكنه سيتضمن عرضا موجزا
لواجبات املعلم كام يفهمها روسو وكام أفهمها أنا .وذلك لنضع
شعورنا وشعور األديب يف إطار فهمنا ،الذي قد يكون خمتلفا ،لطبيعة
العمل الذي نحن بصدده ،ويف إطار اإلمكانيات التي نتوفر عليها.
ونالحظ أن اجلزء الثاين منقطع عن اجلزء األول يف السؤال ،فالبد
من اختاذ متهيد بني النقطة األوىل والثانية لئال تبقى ثغرة يف مقالتنا ،أو
يبدو فيها االنتقال الفجائي ،من تعبري شخيص عن شعورنا ،إىل بحث
موضوعي عن صفات املعلم.
ب -التصميم
* كيف أفهم كلامت روسو ،وشعوري مقارنة بشعوره.
* صفات املعلم.
155
* صفات املريب :القابلية املهنية ،الصفات العقلية ،الصفات اجلسمية،
الصفات اخللقية -الثقافة العامة -الثقافة املهنية -الصفات الطبيعية-
الشعور باملسؤولية.
د -اإلنشاء
اخرتت مهنة التعليم ،ولبيت نداء الداعي الوطني ألقوم بمهمة حيوية.
ودخلت املهنة ومعي استعداد واسع ،ورغبة كبرية يف تنمية ثقافتي املهنية،
والنجاح يف عميل .ومارست عميل كام يفعل املبتدئ ،مرة أخطئ ،ومرة
أصيب ،وكل يوم يأتيني بتجربة جديدة تزيدين معرفة بنوع األعامل التي
ينبغي أن أقوم هبا .كنت أحسب ،واحلق يقال ،أن مهنة التعليم ،عىل رشفها
من املهن السهلة التي تتطلب ذكاء وثقافة ،لكنها عىل أي حال مهنة ال
يلبث ممارسها أن حيذقها .وكنت أحسب أن مهمتي ال تعدو أن تكون إلقاء
الدروس وتفهيمها جيدا .ومما أغنتني به التجربة ،أن مهمة املعلم ليست من
السهولة بحيث كنت أظن ،وإهنا ال تنحرص يف إلقاء الدروس وتفهيمها.
اكتشفت أن املعلم يضطلع بمسؤولية تكوين األفراد وتربيتهم ،وتتبعت
مواطن مسؤوليته ،فوجدهتا تشمل الطفل بكل ملكاته ،وبكل طاقاته،
العقلية منها واجلسمية .وكشف يل الغطاء عن عظم هذه املسؤولية ما قرأته
لروسو حيث يكتب« :احلق أن الذي يصنع الرجال ،جيب أن يكون أكثر
من رجل! أيمكن حقا العثور عىل املريب ،هذا املخلوق النادر الوجود؟ أما
أنا فأشعر كثريا بعظم واجبات املريب ،ولن أجرس يوما عىل حتمل مسؤولية
كمسؤوليته» وتضاءلت يل نفيس وأنا أطلع عىل فكرة الفيلسوف الكبري .إذا
كان مثله يتخوف من عظم مهمة املريب وال جيرس عىل حتملها ،فأنى ملثيل أن
ينهض هلا؟ وزاد مهي فرصت أتساءل :هل يل من الصفات ما خيولني القيام
بالعمل الذي اخرتته؟
إذا ما قرأنا لروسو ،فينبغي أن نفرس كالمه تبعا للروح املثالية التي
كانت متجلية يف آثاره ،وتبعا ألحداث وأفكار عرصه .وإن روسو لفذ من
أعالم األدب ،متتاز كتاباته بروح سامية ،ويغلب عليها الطابع الشخيص.
156
فلم يكن روسو عاملا وفيلسوفا ،وإنام كان شاعرا دقيق احلس ،هدته
بصريته إىل حقائق إنسانية عميقة ،فكان وال يزال ،فيام كتبه إماما للفالسفة
واملربني .كان روسو ،يف نشاطه األديب ،جنديا يكافح يف سبيل حترر
اإلنسان ،ويتنبأ بالفوز املقبل للقيم اإلنسانية ،ولذا جتد يف كتاباته حرارة
االقتناع وجتد فيها محاسة الرجل الذي ال يقنع بام دون الكامل .ورصف
روسو حياته يكافح بقلمه ،يف عرص ملا تنترص فيه احلرية ،وملا يقتنع أهله
بأن للناس حقوقا متامثلة ،بقطع النظر عن منشأهم ومستواهم االجتامعي.
وجاءت أفكار روسو ،يف تيار فلسفة القرن الثامن عرش ،كشعاع أشد نفاذا
وأشد التهابا من أفكار الفالسفة .وكانت لكتاباته األدبية ،يف تيار أدب
القرن الثامن عرش ،صبغة عاطفية خاصة .ونقرأ اليوم لروسو ،فنجد ريح
مثاليته وعاطفيته ،وخاصة يف كتابه «اميل» الذي عرض فيه جل أفكاره
الرتبوية .وإن الكلمة التي أمامنا لنموذج حسن ألسلوبه ،وأفكاره.
ويتحدث روسو هنا عن واجبات املريب ،ويستعظمها ،ثم يضعها نصب
عينه ،فرتبو حتى لتظهر له فوق الطاقة البرشية .ويذهب يؤكد أن الذي
يصنع الرجال جيب أن يكون أكثر من رجل! ربام يكون حكم روسو هذا
حقا إذا كانت واجبات املريب عىل غرار ما يتصوره روسو ،وما يتحدث
عنه يف كتابه ،فإن روسو رسم غايات مثالية لتلميذه ،واختذ لتكوينه مبادئ
تربوية مثالية .يؤمن روسو بأن طبيعة اإلنسان خرية ،وأنه ال يفسد إال
بتأثري املجتمع الفاسد .ويتصور روسو الرجل املتوحش الطبيعي كمثال
للصفات اخللقية والعقلية واجلسمية احلسنة .فريسم الميله خطة لينشأ
رجال طبيعيا .حيكي روسو كيف بدأ الطفل الرضيع يف حرية تامة ،بعيدا
عن مضايقات القامط ،يرضع لبن أمه الطبيعي ،ويأكل أطعمة طبيعية،
ويلبس لباسا صحيا .ثم يصفه يف يد املريب الذي أخذ عىل نفسه أن يريب
فتى كامل اجلسم ،كامل العقل ،كامل اخللق .يصف املجال الفسيح الذي
اختذه املريب حجرة للدرس ،وهو الطبيعة بكاملها ،ويصف نشاط الطفل
بني أحضان هذه الطبيعة التي تشارك املريب يف القيام بمهمته ،فتهيئ األشياء
التي ينبغي أن تدرس ،وبحيث يمكن أن يالحظها الطفل ويستفيد منها.
ويصف دور املريب يف تتبع سري عقل الطفل ،وكيف يقف موقف املرشد،
157
دون أن يتدخل يف أعامل الطفل ،إال بمقدار وعند احلاجة الشديدة .ويصف
كيف يتعلم الطفل دونام حاجة إىل كتاب ،فالكتاب حيمل جراثيم الرش،
ويرينا آخر األمر كيف حدثت املعجزة فكان إميل شابا مجيال ناضج العقل
متني اخللق .كل هذا يف أسلوب أديب ،ويف قالب قصيص حمكم احللقات،
يف طيه حكمة ال جمال للشك يف قيمتها .لكن الرمانطيقية تتجىل يف جمموع
الكتاب ويف جزئياته .وفكرة الرجل الطبيعي اخلري؛ وفكرة الطبيعة األم
الرؤوم تضفي عىل نظريات روسو حلة مجيلة ،لكنها ال تكسبها املتانة
الفكرية التي يتصف هبا الفيلسوف املوضوعي .وما دام روسو ينشد الكامل
يف الرتبية ،ويتخيل لتلميذه ظروفا مثالية أثناء تربيته ،فإن من الطبيعي أن
ينشد الكامل عند املريب أيضا ،وأن يتخيله خلقا فوق البرش .ومن الطبيعي أن
متتلئ نفسه بعظمة العمل الذي ينجزه املريب ،وأن يعرب عن عجزه لو حاول
هو القيام به ،وعن ختوفه وقلة جرأته من االقدام عىل املحاولة.
فإذا تركنا األديب حيلق يف عليائه ،وتطلعنا إىل الصعيد اإلنساين ،وجدنا
أن من بني الناس مربني ،وأن الرتبية تكاد تكون مهنة من املهن ،لوال ما
تقتضيه من سمو نفس ،ونبل طبع .وجدنا أن املربني ،يف مستواهم اإلنساين
وعرب العصور ،قاموا بواجبهم فنالوا حظا قليال أو كثريا من النجاح ،وكان
منهم من برز يف أعامله ،وكان منهم من نال املكانة املمتازة .وإنني ألحتمل
عبئا تربويا كبريا أثناء قيامي بمهمتي كمعلم ابتدائي .وأشعر أن املسؤولية
امللقاة عيل ضخمة ،إذ يطلب إيل أن أصنع رجاال ،ويطلب إيل أن أصنع
نوعا خاصا من الرجال ،هلم خصائص عقلية ونفسية تؤهلهم ألن يكونوا
يف األمة ركنا يعتمد عليه .ومع ما أشعر به ،فلست أتصور لنفيس قوة
العمالق ،ولست أتصور لنفيس طاقة فوق طاقات البرش .لست نسخة
من مريب روسو املثايل ،إما أفهم أن مهمتي تقتيض مني القيام بأعامل يومية
متواضعة ،وتقتيض مني أن أثابر وأصرب .وأفهم أن نجاحي يف مهمتي رهن
بمجهودايت املتواصلة ،لتكوين نفيس أوال ،وإكساهبا الصفات اخللقية
املتينة ،التي جتعلني مثاال حسنا ينطبع به أطفايل .أفهم أن نجاحي يف مهمتي
رهن بتثقيف نفيس ألكون قادرا عىل تقويم العقول الصغرية وإنارهتا .هديف
ليس هدف األديب الكبري ،فهو يرمي إىل خلق الرجل الكامل ،وأنا أطمع
158
يف تكوين مواطن صالح ،رجل كالناس ،سيكون غدا فالحا أو تاجرا أو
معلام أو عاملا .أطمع يف إنشاء جيل قويم اخللق متفتح امللكات .وإذاكان
مريب روسو يصنع أفرادا ممتازين لكن صفاهتم ووظائفهم االجتامعية يلفها
ضباب اخليال ،فأنا أعرف بالضبط املهمة التعليمية والرتبوية املنوطة يب،
أعرف الوسط الذي سيعيش فيه الطفل ،ونوع األعامل املمكنة يف هذا
الوسط ،ومقدار املعرفة الرضورية يف هتييء الطفل ملامرسة هذه األعامل.
فأعمل طبق كل هذا ،وأتوخى أن أحقق أهدافا عملية حمدودة .وسائيل
ليست كوسائل روسو ،فإنه يريد الرجوع إىل الطبيعة األم ،وتنشئة األطفال
بني أحضاهنا ،وأنا أعرف أن ظروف القرن العرشين ونظام التعليم نفسه
املبني عىل وحدات كبرية هي املدارس ،ال تسمح بمثل ما كان حيلم به
األديب .هو يطرد الكتاب من أفق طفله ،وأنا أومن أن الكتاب أول أداة
يف حقل الرتبية والتعليم .هو يدعو إىل ترك الطفل نفسه يكتشف احلقائق،
وأنا أعرف أن اختاذ هذه الفكرة مبدأ ،رغم ما فيها من فائدة كبرية ،وتطبيقها
يف كل جزئية يشء ال يتفق وما تبغيه الظروف من اإلرساع يف تكوين الطفل
وفق سلم مدريس موقوت ،وإخراجه ،بعد أجل حمدد ،إىل ميدان العمل
واالنتاج .الفيلسوف يرتك للظروف ومليول طفله تنظيم األعامل اليومية؛
واختيارها ،أما أنا فأمامي مناهج حمددة جيب أن احرتمها.
ظرويف ختتلف عن ظروف املريب املثايل ،فإن له غايات مجيلة ،لكنها
غري حمددة بالضبط؛ ويل غايات عملية أعرفها مقدما .وأن له وسائل بعيدة
التحقيق ،بعيدة كل البعد عن وسائيل التي جتند صناعة الكتب ،وصناعة
وسائل التعليم الغنية املتنوعة ،لكي تستعمل وفقا لقواعد مدروسة .وهلذا
فال غرو أن أجد شعوري خيتلف عن شعور األديب الكبري ،كل منا يساوره
قلق عىل قدر الغايات التي رسمها لنفسه .لكنه تعلق بالسامء ،وقدر أهنا
عزيزة فتخوف ونكص ،وأنا أعرف أن غايايت يف متناول اإلنسان؛ وأقدر
أن بإمكاين أن أحاول مثلام حاول املربون من قبيل ،فأقدمت عىل العمل.
ال أزعم أن نفيس هادئة مطمئنة ،وال أثق بنفيس كل الثقة ،فإن خطورة
مهمتي ال تربح تصور يل أن طريقي مليئة باملعاطب واملزالق .وإن مقارنتي
بني مقدرايت احلالية ،وبني ما ينبغي أن أكون عليه ختوفني من الفشل لكن
159
شعوري بخطورة املهمة ،وشعوري بتقصريي ال يمنعاين من االجتهاد،
وأستمد القوة من الرىض الذي أحصله يف كل يوم ،كلام الحظت ثمرة مما
غرست يداي ،وأستمد القوة من إحسايس بالدور احليوي الذي كلفت
به ،ومن حبي لوطني وإرادة اخلري له.
وإذا تركنا مريب الكاتب الفرنيس الذي ختيله إهلا ،ونظرنا يف امليدان
العميل اليوم ،وجدنا أن املريب يكلف بمهمة خاصة ،تتطلب أن يتوفر
املرشح هلا عىل مؤهالت خاصة .وكلام تفرعت طرق التعليم ،واختلفت
مستوياته ونشاطه ،كانت الصفات املفروضة يف املريب وفق هذا التفرع
واالختالف .وسواء أطلق اسم مرب أو معلم فإن رشوط توظيف املريب
تكثر كلام ارتفع مستوى التعليم ،وتتعدد كلام كانت املهمة املعلقة عليه
صعبة .وهلذا يطلب من معلم املدرسة الثانوية ،شهادات أعىل مما يطلب
إىل معلم االبتدائي .وهكذا متصاعدين .وهلذا يطلب إىل مريب األطفال
الناقصني جسام أو عقال ،أكثر مما يطلب إىل مريب األسوياء .لكن هناك
رشوطا أساسية البد أن يتوفر عليها كل معلم مهام كانت أعامله .هناك
الصفات اإلنسانية العامة ،وهناك الرشوط الثقافية ،وهناك الرشوط
اجلسمية ،وهناك الرشوط املهنية.
«الصفات اإلنسانية» :وأول الصفات اإلنسانية التي ينبغي أن
تكون عند املريب هو حب األطفال .وإن حب األطفال لعنوان املريب
املوهوب ،الذي يضيف إىل عطفه عىل الصغار ،قدرة عىل فهمهم
ورغبة يف تنميتهم وتعزيز ملكاهتم .املعلم املوهوب حيب األطفال حبا
إجيابيا ،فال يقترص عىل التعبري عن حمبته ،وال يكتفي بالرىض الذي يشعر
به إذا ما كان بينهم ،بل يعرف طرق األطفال يف تفكريهم فيأخذ أيرس
املسالك إىل العقول ،ويعرف منرصف اهتاممهم فيتحدث حديثا يميلون
إليه ويفهمونه .وتؤدي حمبة األطفال إىل احرتامهم ،واعتبار القدرات
الكامنة يف كل منهم ،وتقديم هذا االعتبار عىل غريه يف كل األعامل.
فإذا اقتىض نفع األطفال أن يعاملوا ببعض الشدة ،مل تكن حمبتهم مانعة
من ذلك ،بل أوجبت أن يتقطب الوجه ،وخيتفي العطف احلقيقي
حتت املظهر اخلشن .وبصفة عامة ،فإن حمبة األطفال تعطى ألعامل
املعلم حرارة عاطفية يشعر هبا األطفال ،فيسلسون قيادهم ،ويشاركون
160
بحامس يف األعامل البناءة التي سيجنون ثمرهتا.
ومن صفات املريب اخللقية الضمري احلي الشاعر .وال يكفي أن يقف
الوازع اخللقي باملعلم عند القيام بأعامله املحدودة يف الصورة املفروضة ،بل
البد أن يعمل من كل قلبه ،وبإخالص تام ،ال يقنع ببذل بعض اجلهد ،بل
باجلهد كله .ولئن كان التعليم مهنة كاملهن ،وكان حكم النظام االجتامعي
قاضيا بأن يشغل كل وظيفة يرتزق منها ،فإن شعور املعلم بأنه يمتهن مهنة
يرتزق منها ،ينبغي أال حيجزه عن التضحية يف سبيل أداء عمله بصفة أكمل،
عمل املعلم أكثر أمهية من أن يقارن باألعامل األخرى ،إنام املعلم خيتار ملهمة،
وينتخب لوظيف استثنائي .وأيا ما كان الربح املادي الذي يناله ،فإن مكانته
االجتامعية ينبغي أن تكون عىل قدر مهمته ،أي يف مكان االعتبار والرشف.
وأيا ما كان أجر املعلم املادي؛ وأيا ما كان االعتبار االجتامعي الذي يناله،
فينبغي أن هيب نفسه لعمله ،وينسى كل ما من شأنه أن حييد به عن التفكري
املستمر والسعي املتواصل من أجل أداء األمانة.
ولن نحيص الصفات اخللقية االخرى املرشوطة يف املعلم ،إنام
نكتفي باإلشارة إىل أبرزها ،ونجمل القول فنكتب بأن املعلم جيب أن
يكون إنسانا فاضال .فمن الصفات اخللقية والطبيعية التي يتوقف
عليها نجاحه االجتامعي واملهني ،اهلدوء والرزانة يف أقواله وأعامله.
فإن الناس ال يثقون إال بالرجل الثبت الذي ال يترسع يف أحكامه ،وال
متلكه عواطفه .كام أن األطفال ال خيضعون للمعلم النزق ،غري املتزن
يف أعامله .ومن الصفات اخللقية أيضا العدل الذي ال يميل مع اهلوى،
وإن األطفال ليتوقف احرتامهم للمعلم ،واحرتامهم للنظام املدريس،
عىل عدل املعلم أو ظلمه .فإذا عرفوا أنه حيرتم القوانني ويسوي بينهم
يف املكافآت والعقوبات ،خضعوا وأطاعوا .وإن عرفوا أن قوانني املعلم
توزن بميزانني ،مل حيرتموه إال بقدر خوفهم عقابه ،ومل حيرتموا القانون
إال أن خيشوا مغبة خمالفتهم .والشك أن مثل هذا الفهم للقانون ،وإن
مثال املعلم نفسه يف هذا القبيل ،حيمل يف طيه أخبث العواقب عىل
تكوين األطفال اخللقي .ومن الصفات األساسية يف املعلم الصرب
والثبات؛ فإن طبيعة عمله تقتيض تناول أفكار ضعيفة ،البد من معاجلتها
161
شيئا فشيئا حتى تقوى ،وقد يكون منها الفكر األصم ،فالبد من مطاولته
والصرب عليه .وإن نشاط األطفال املستمر العارم ،وحاجتهم إىل احلركة
واللعب ،يعرض املعلم لصدمات قد تفقده توازنه إن مل يتحل بالصرب.
وليس أدعى إىل الشفقة من املعلم قليل التحمل ،الذي يغضب لكل
خمالفة مهام صغرت ،ويثور إن حترك الطفل أو تكلم.
«الرشوط الثقافية» :املعلم مسؤول عن تكوين عقول ،وتلقني قدر من
املعرفة .فمن الرضوري أن يكون هو نفسه حمصال عىل ثقافة حسنة .ومن
الرضوري أيضا أن تكون ثقافته أعم وأعمق من العلم الذي يلقنه .بل
رشط يف قدرته عىل التعليم ،أن َي ْع َلم أكثر مما ُي َع ِّلم .ويطلب من املعلمني
أن ينموا ثقافتهم بدون انقطاع ،ويطلعوا عىل كل جديد ليمكنهم مسايرة
حركة الفكر ،وبالتايل تكوين عقول قابلة للتطور .وقد يظن املعلم أن
االطالع الواسع بالقدر الذي يطلب منه من قبيل املستحيالت ،لكن
املجالت املتنوعة والكتب امللخصة ،التي تصدر اليوم كفيلة بمساعدته
يف تثقيف نفسه .ثم إنه ال يطلب من املعلم أن يتخصص يف كل علم،
فإذا كان معلام ثانويا رصف اهتامما أكرب حلقل ختصصه وشارك يف العلوم
األخرى ،وإذا كان معلام ابتدائيا حاول أن يوجد أساسا متينا يف املواد التي
يلقنها ،ثم كون لنفسه نظرة إمجالية عىل سائر الفنون.
«الرشوط اجلسمية» :إن املعلم يبذل جمهودات جسمية ال تقل
عن جمهوده الفكري .وربام نجد أن املعملني أرسع العملة إىل
اإلرهاق اجلسمي ،وأكثر تعرضا لألمراض .ذلك ألن املعلم حيتك
يف كل يوم بجامعة األطفال ،وهم شديدو احليوية ،يتطلب ضبطهم
وتتبع نشاط كل فرد منهم جمهودا عصبيا خاصا .ولذا يشرتط يف
املعلم أن يكون ذا مزاج هادئ ،وجهاز عصبي مقاوم .ثم إن قلة
الفرص عند املعلم لبذل نشاط عضيل ،وممارسة احلركات الرياضية،
واألعامل املرهقة لتصحيح أوراق التالميذ ،تزيد من ضعفه وقابليته
للمرض .ولذا ينبغي أن يكون املعلم متني الرتكيب سليم احلواس،
وأن يتعهد جسمه بأنواع النشاط العضيل ليحتفظ بصحته ،وأن
يتخذ طرق الوقاية لتبقى حواسه سليمة .ومهام كان تكوين املعلم
162
اجلسمي ،فإن من واجبه أن يعتني بمظهره العام ،فيلبس لباسا معروفا
بني الناس ،ويتأنق بقصد واعتدال .ويراعي يف ملبسه وحركاته الرزانة
التي تناسب مقامه االجتامعي ،الكفيلة بتوطيد السلطة اخللقية التي ختوله
صفاته األخرى أن يتمتع هبا.
«الرشوط املهنية» :الثقافة املهنية أساس تكوين املعلم ،إذ عىل قدر
مهارته يف الرتبية وطرق التعليم ،يكون نجاحه .وتريد هذه الثقافة،
كالثقافة العامة ،أن تغذى بكل معرفة جديدة حتى ال جيمد املعلم عىل
أسلوب واحد ،وتتوقف أفكاره عن احلركة فرتجع القهقرى .والبد
أن يبقى املعلم جماريا لتيار الرتبية ،مطلعا عىل حركاته ،والبد أن جيري
جتارب من شأهنا أن تقوم طرقه يف التعليم .واملعلم احلي يلتمس الرشد
من كل أبوابه ،فيأخذ نصح زمالئه األكثر منه جتربة ،ويسعى لزيارهتم يف
أقسامهم واالطالع عىل وثائقهم ملا يرجو أن جيد عندهم من علم .ولئن
كان لبعض املعلمني موهبة خاصة يف املهنة ،تضمن هلم أن يربزوا إذا هم
تعهدوها ،فإن بوسع كل معلم أن حيصل عىل التجربة الكافية ،واملهارة
العلمية التي تعوض بعض ما يفوته بفقد املوهبة لديه.
هذه صفات املعلم ،وحتقيقها يف شخص واحد قد يبدو من العسري.
ألننا نطلب شخصا ذا عقل واسع اإلمكانيات ،طويل الباع يف املعارف
املختلفة ،متتبعا حلركات احلضارة والفكر ،ونريد املعلم رجال ذا خلق
كامل ،وجسم قوي ،ومهارة عملية .ألسنا يف احلقيقة نطلب املحال؟ أوليس
روسو عىل حق عندما كتب بأن الذي يصنع الرجال جيب أن يكون فوق
البرش؟ أليس يف نظامنا الرتبوي احلايل ،ويشمل العدد العديد من املعلمني،
أفراد بعيدون كل البعد عن املثال الذي يرسمه األديب ،ونرسمه ألنفسنا
عندما نعدد صفات املعلم؟ احلقيقة أننا يف عرص عميل واقعي ،هيدف إىل
حتقيق أسمى نموذج ممكن لإلنسانية يف شخص املريب ،ويتخذ كل الوسائل
لتكوينه ،فيبني املدارس للمعلمني ،وينتخب هلم أفضل األساتذة ،ويكون
هلم كل الظروف التي من شأهنا أن تساعد عىل تكميل ثقافتهم وخلقهم
163
وأجسامهم .وبعدئذ يدفع هبم إىل ميدان العمل ليحققوا اهلدف الرتبوي
الذي أعدوا من أجله .إن املثالية السامية ال ختلق يف فكر واضع سياسة
الرتبية اليوم شكوكا يف قدرة الناس عىل القيام بعمل الرتبية ،ألن رجل
السياسة ،والرجل العرصي بصفة عامة ،ختىل عن األحالم الرمانطيقية،
وأثبت رجليه عىل صعيد الواقع؛ فهو يعلم أن الكامل ليس يف متناول
اإلنسان ،وأن قانون العدد الكثري ،حيتم أن يوجد من بني املعلمني من ال
يتوفر عىل الرشوط التي وضعها الختيار املعلمني .لكن هذا االعتبار ،ال
ينبغي أن يكون مدعاة للهم والرتدد ،بل جيب أن يكون حافزا للعمل عىل
حتسني الوسائل التي تعطى املدارس العرصية معلمني أحسن.
164
املوضوع رقم 16
سأل أحد املربني تلميذا له بعد أن أصبح معلام« :أتظن أنك فرغت من
تأدية واجبك ،إذا خرجت من املدرسة؟»
أجب عن هذا السؤال ،وبني األعامل التي تقوم هبا خارج املدرسة مما
له مساس بمهمتك.
165
ب -التصميم
* اإلجابة عن السؤال
* األعامل التي أقوم هبا خارج املدرسة مما له مساس بمهمتي
166
األقوم .ولعل من بني أساتذة الطالب من حضه عىل اخللق احلسن ،ومن
ذكره بطرق التعلم وأنسبها لكل مادة ،ومن أكد له وجود القيام بالواجب.
لكن نجد أستاذا ال يذكر تلميذه بعد أن أصبح معلام ،بنصيحة واحدة
كان قد أسداها إليه؛ لكن يسأله عن أعامله خارج املدرسة ،وحيمل يف هذا
السؤال نقطا كثرية حيث يقول« :أتظن أنك فرغت من تأدية واجبك إذا
خرجت من املدرسة؟» وكأن األستاذ املريب بسؤاله يعلق عىل أعامل املعلم
خارج املدرسة نفس األمهية التي يعطيها ألعامله داخلها .فبامذا جييب
الطالب القديم؟ وما هي األعامل التي مارسها خارج املدرسة لتكميل
أداء واجبه؟
تسألني يا أستاذي ،عىل حدوث العهد ،وختاف أن أنسى نقطة طاملا
أكدت لنا خطورهتا .اطمئن يا أستاذي إىل أن املوضوع الذي هتتم له ،كان
وال يزال موضع تفكريي املتواصل ،وجهودي املستمرة ،مل أكن قبل أن
ألقاك أتصور املهنة ا لتي اخرتت القيام هبا إال من خالل أحاديث كنت
أسمعها من معلمني مبتدئني ،من بينهم من كان يشكو طوال الوقت من
كثرة أعامله ،ومنهم من كان يرثي حلال زميله الشاكي ،وهينئ نفسه حيث
اختار مهنة قليلة التكاليف ،سهلة املامرسة .وكانت هذه األحاديث تقلقني
كثريا ،وتصدم يف نفيس الفكرة السامية التي كنت أمحلها عن هذه املهنة التي
أعتربها وظيفة ممتازة ،تشبه رسالة األنبياء والقديسني ،أكثر مما تشبه عمل
الناس العادي .كنت وقتئذ ملا أعزم عىل يشء لكنني كنت أفكر يف شتى
املهن واستعرضها ،فأقف أمام مهنة التعليم مأخوذا بالفضائل التي تنسب
للمعلم ،وباملجد املعنوي الذي يصفه به الشعراء .وكان االغراء شديدا،
فعزمت عىل دخول مدرسة املعلمني .نسيت مقاالت املعلمني أصدقائي،
ونسيت املتأفف منهم واملرتاح ،ومل يبق يف نفيس إال شعور متحمس بأنني
عىل وشك أن أمحل مسؤولية حيق يل أن أفخر بحملها .أما التكاليف التطبيقية
يف مهنة التعليم ،فكنت يا أستاذي أول من فتح عيني عليها .وأذكر جيدا
الروح السامية التي كانت تتجىل من خالل حمارضاتك ،واالخالص الكامل
الذي كان ينم عنه حرصك عىل رعاية الطفل وفهمه .أذكر كيف كنت حتثنا
عىل تثقيف أنفسنا ،وكيف كنت هتتم ببعث شخصياتنا ،وكيف كنت تعمل
167
من أجل أن نتشبع بروح حامل الرسالة الذي يضحي بنفسه ووقته،
ال يسأل نفسه هل تعب ،لكن يسأل هل بلغ هدفه .وأتذكر نصائحك
العملية ،والتطبيقات التي كنت تسهر عليها .كنت تبرصنا بطرق
التعليم ،وتدربنا عليها .وكنت تعلمنا كيف نعامل الطفل يف شتى
حاالته ،وكيف نعتمد عىل حركات عقله ونفسه يف أعاملنا التعليمية
والرتبوية .وعلمتنا أن الدروس التي نلقيها يف أقسامنا تتطلب إعدادا
جديا ينبغي أن نعطيه كل اهتاممنا ،وأن التعليم يبقى نائيا عن فكر
الطفل إن مل نلتمس وسائل حمسة نغريه هبا ،ونعد هذه الوسائل لكل
درس نحرضه .وعلمتنا أن تربية الطفل تتأثر بعوامل واحد منها
العمل الذي ننجزه نحن ،واألخرى توجد يف طبيعة الطفل نفسها،
ويف البيئة التي يعيش فيها .وهلذا كنت تطلب إلينا االجتهاد يف توسيع
معرفتنا لنفسية الطفل ،وتدعونا إىل دراسة بيئة الطفل .وكنت تقول
إن املعلم ال ينبغي أن يكتفي بأداء أعامل رتيبة يف حيز ضيق ،بل جيب
أن يكون منبعا لنشاط يشمل املجتمع نفسه ،ويساهم مسامهة جمدية
يف النهوض به .أفبعد ما علمتنا تريد أن أنسى نصائحك ،وأن أقبع يف
ركني ظانا أن مهمتي تنتهي عندما أخرج من املدرسة؟ وكيف أفعل،
وقد وجدت يف مدرستي ميدانا خصبا يتسع لبذل النشاط الذي أقدر
عليه يف العمل البناء؟ كيف أفعل ومهمتي يف املدرسة تقتيض أن أستعد
ألكون يف املستوى الثقايف الذي خيولني من أدائها كاملة؟ كيف يمكن
أن أقترص عىل عمل ليس يف احلقيقة إال نتيجة جلهود كثرية أوزعها بني
خزانة الكتب ألطالع وأدرس ،وبني املتاجر أشرتي وسائل اإليضاح أو
أستعريها ،وبني مكتبي أمجع فيه العنارص الصاحلة لتحضري درويس؟
اطمئن يا أستاذي فلست ممن يقنعون بالعمل القليل الذي يتكرر كل
يوم عىل وترية واحدة ،ولست من الذين يشكون ثقل العمل .إيامين
برسالتي يدفعني إىل السعي احلثيث ،داخل املدرسة وخارجها ،من
أجل تنمية ثقافتي ،ومن أجل حتسني طرق تعليمي ووسائله ،ومن
أجل تقوية مكانة املدرسة ،ونرش إشعاعها يف الوسط االجتامعي ،ونرش
املعرفة واخلري بني الناس.
168
وإذا كنت تسألني يا أستاذ خمتربا ،تريد أن تعرف ما أفادتنيه التجربة،
وتريد أن تعرف عىل وجه الضبط كيف أعمل خارج املدرسة ،وماذا أعمل
فهذا جواب ثان عن سؤالك ،أقدمه إليك كبعض ما كنت تصححه من
انشاآيت املبتدئة.
إنني كلام تقدمت قليال يف ميدان املعرفة ،أو كلام خيل إيل ذلك ،زاد
شعوري بأنني يف حاجة إىل املزيد من الثقافة ،وقدرت تقديرا أحسن
النقص الذي يف .وأن درويس نفسها ،رغم بساطة حمتواها ،لتوقفني
أحيانا عند هذا النقص .فيحدث ،وأنا أحرض درويس ،أن أقف عند
نقطة كنت أظنها من البدهييات ،فإذا هبا أمامي مشكلة أفتقر إىل حلها
لنفيس ،أو أفتقر إىل طريقة يمكنني هبا أن أفهمها لتالمذيت .وكم تكون
أسئلة التالميذ أنفسهم حمرجة يف بعض األحيان ،تضعني أمام وجوب
االختيار فإما أن أعلن عن عجزي وجهيل ،وإما أروغ عن السؤال برفق.
ويف كلتا احلالتني ،أفقد اعتبار تالمذيت ،واعتباري لنفيس .فتفاديا ملثل
هذه املواقف ،وسعيا لتكميل العجز الذي أشعر به ،نظمت مطالعتي،
وجعلتها متنوعة شاملة ،فوضعت برناجما للمطالعات املهنية ،وآخر
للمطالعات العامة .ومل يمنعني اتساع آفاق العلم ،وتنوع أبوابه ،من
وضع قوائم للكتب واملجالت ،حتتوي عىل أدب وتاريخ وعلوم إنسانية،
ومن اتباع النظام الذي رسمته لنفيس .احلقيقة أن مطالعايت ليست دراسة
كدراسة املتخصص ،فأنى يل أن أقدر عىل دراسة علوم كثرية يف آن واحد،
لكنها تعطيني نظرة صاحلة عن كل فن ،وتفتح ذهني حلقائق كانت بعيدة
عني .وأحب كثريا مطالعة املجالت الرتبوية واألدبية ،ملا أجده فيها من
املقاالت املختارة املوجزة ،التي تضم علام غزيرا يف حجم صغري ،ورأيت
كيف أتصيد كل جديد وأكتبه ،ثم رأيت كيف استعمل ما أتصيده من
أفكار تربوية يف املدرسة ،وكيف أغني درويس باملالحظات التي أسجلها،
لتأكدت بنفسك من أنني حتى إن كنت أطالع لنفيس ،ال أنسى تالمذيت،
بل أفرح إن وجدت يف مطالعتي ما من شأنه أن هيمهم ،وأحرض لقسمي،
سيام يف دروس اجلغرافيا والتاريخ ،قصاصات وصورا وجدهتا يف جماليت.
169
وإن من املطالعات ما تدفعني إليه احلاجة املبارشة لتحضري درويس،
وإنني أرصف يف التحضري جانبا مهام من وقتي خارج املدرسة .لست
أعترب التحضري شغلة مملة أعملها متثاقال وكيفا اتفق ،إرضاء للقانون
املدريس ،بل أعده األساس األول الذي ينبني عليه كل نشاطي
التعليمي .فأفكر يف موضوع كل درس ،وأذهب باحثا يف الكتب،
أكمل معلومايت عن املوضوع وأستعمل ما سجلته يف مالحظايت أثناء
مطالعايت ،ثم أصوغ دريس صيغة تناسب اهتامم أطفايل ،وأربطه
بالدروس التي يعرفوهنا .ربام جتد يا أستاذي ،لو اطلعت عىل وثائقي،
أن أوراق حتضريي ليست مزوقة بالقدر الذي تكونه أوراق بعض
املعلمني ،لكنك ستجد هذه األوراق مرآة للدروس التي ألقيتها عىل
تالمذيت .ويمكنك أن تتبع سري درويس من خالل نقط التحضري ،وأن
تطلع عىل نتائج كل درس عندما تقرأ املالحظات التي أسجلها عىل
الورقة بعد اإللقاء .هذه املالحظات التي أجعلها بني يدي ،أرجع إليها
يف وقت املراجعة ،وأرجع إليها السنة املقبلة إن درست مع األطفال
نفس املوضوع ،ألصحح عىل ضوئها أغالطي .وإن صوغ الدرس يف
قالبه النهائي يقتيض اختيار وسائل التعليم املناسبة ،فأعتمد عىل متحفي
الشخيص ،وعىل متحف املدرسة يف هذه األشياء ،وإن مل أجد فيهام ما
أبغيه ،رصفت بعض الوقت يف البحث عن كل ما يساعدين عىل رشح
الدروس .ويطيب يل ،يف أوقات الفراغ ،إذا جئت املدينة أن أدخل
املتاجر وأطوف يف املعارض ،فأقتني نامذج ومصنوعات أزيدها يف
خزانة وسائل اإليضاح .وأعتقد أن فائدة أي درس ال تكمل إال بإجراء
متارين تطبيقية حوله ،ولذا أعدد التامرين يف قسمي ،وأعنى بتصحيحها
يف القسم ،لكن من بينها ما ال يمكن تصحيحه من لدن التالميذ .ولو
بحثت عني بعد خروج التالميذ من املدرسة ،لوجدتني يف القسم،
وحويل دفاتر التامرين أقيض ساعة وبعض الساعة يف تصحيحها ،وكتابة
نامذج عليها كلام اقتىض احلال.
عىل أن نشاطي ال يقف عند املدرسة والتالميذ ،وال يكفيني أن أحسب
الساعات التي أرصفها يف حتضري الدرس وإلقائها وحتضريها ،وأقول أنني
170
أقوم بالواجب كامال .إن مهي منرصف إىل التلميذ وتربيته يف الدرجة
األوىل ،لكنني أيضا أساهم يف األعامل االجتامعية التي تكون املدرسة
مركزا هلا .ومن اهتاممي بالتلميذ أنني أسعى ملعرفة ذويه ،وأحتني الفرص
لالتصال هبم وزيارة بيتهم .وهبذه الطريقة أعرف الظروف املادية التي
يعيش فيها األطفال ،وأكلم األبوين ألبني هلام ما تقتضيه مصلحة اإلبن،
وما جيب عليهام عمله ملساعدته .وقد حاولت يف ركني القيص بالبادية،
فكونت مجعية آباء التالميذ .وقد بدأنا يف هذه اجلمعية ،نحدد ألنفسنا
أغراضا معينة ،فكلفنا جلانا منا برعاية األطفال ،ومراقبة املعاملة التي
يعاملون هبا يف بيوهتم وخارجها وكلفنا جلانا أخرى لتبصري املرتددين من
اآلباء ،وحثهم عىل إرسال الطفل إىل املدرسة ،وعدم تسخريه يف األعامل
الفالحية .وتسألني كيف بدأت تأسيس هذه اجلمعية ،فأخربك أن األمر
مل يكن من اليرس عىل ما كنت أتصوره وأنا أقرأ يف كتب الرتبية .وجدتني
بني ناس أغراب عني ،هلم عادات وطرق يف املعاملة مل آلفها ،فكان بيننا
مثل حاجز من الريبة ،أنا أخاف أن يفرسوا أعاميل تفسريا خمطئا ،وهم
ال يثقون يب ،وال يظنون أن يل من القدرة ما جيعلني قمينا باحرتامهم.
وعزمت عىل اختاذ موقف إجيايب ،فبدأت من املدرسة أرتبها ،وجندت
التالميذ فطلينا جدران املدرسة ،ومهدنا األرض من حواليها ،فغرسنا
حديقة وتعهدناها ،وبينت ملواطني الفالحني أن يل من املعرفة ما ليس
عندهم حتى يف ميدان الفالحة نفسه .وما لبثوا أن أخذوا يقرتبون مني
واحدا واحدا ،هذا يسألني أن أكتب له رسالة ،والثاين يطلب مني إرشادا
حلل مشكلة له قضائية .ثم بلغت ثقتهم يب أن أخذوا يستشريونني يف
أمروهم املادية واالجتامعية .ووجدت امليدان مفتوحا ،فبذلت ما يف
وسعي لتحسني العقليات وتنويرها ،ودعوت اآلباء إىل حفلة آخر
السنة ،فكان اجتامعا فاحتة عهد جديد .إذ أسسنا بعدئذ مجعية اآلباء،
وطلب إيل أصدقائي الفالحون أن أعطيهم دروسا يف القراءة والكتابة
فام بخلت .هذه جهودي ،ولكأن نشاطي فيها مثل نشاطي يف مملكتي
الصغرية التي أعتز فيها بأصدقاء خملصني ،وأعتز فيها بحركة مقتنعة نحو
171
التعلم ونحو حتسني احلالة االجتامعية واالقتصادية بتعاون الناس،
وبفضل فهم كل واحد منهم ملكانته ،وواجبه .وأرجو يا سيدي ،أال تعترب
كالمي هذا فخرا وتبجحا فام أظنني قمت بأكثر من الواجب.
يظن الناس بسهولة أن املعلمني قوم حمظوظون ،فإن هلم وظيفة
مأمونة ،وعمال مستقرا ال يتطلب القيام به جمهودا كبريا .وهم يتمتعون
باملكانة االجتامعية ،وبامتيازات مادية ،ليس أقلها العطل األسبوعية
والسنوية الكثرية .ربام يكون املعلمون قوما حمظوظني حقا ،لكن عىل
غري أساس تقدير الناس .فإن الناس خيطئون إن اعتربوا أن أعامل املعلم
يسرية سهلة ،وخيطئون إن ظنوا أن هذه األعامل ال تتطلب جمهودا كبريا.
إهنم ال حيكمون إال عىل ما يرونه من أعامل املعلم داخل املدرسة ،وعىل
الساعات القليلة نسبيا التي يقضيها فيها .الصواب أن يفهموا أن املعلم
صاحب مسؤولية ضخمة ،ال يرضيه أن يميض الوقت القانوين يف معمله،
بل يتجه بكل قوته ،ويف مجيع يومه ،وطول السنة إىل أطفاله .فيحرض هلم
الدروس ،ويصحح هلم الدفاتر ،ويقتني هلم األشياء والكتب ،ويسعى
لدراستهم ودراسة أوساطهم ،وحيسن معلوماته وطرقه من أجلهم.
وبوسعنا أن نقول أن املعلم يعيش من أجل تالمذته ،ال ينساهم حلظة،
فهم يف خط تدبريه إن حل أو سافر ،وهم موضوع حديثه الدائم .فإذا نال
املعلم املكانة االجتامعية ،فإنام أعطاه املجتمع بعض ما يستحقه ،سيام وهو
العضو البارز يف اجلامعة ،حارضة وبادية ،وهو مرجع الناس يف شؤوهنم،
وهو معلم األجيال ،ومرشد الشعب كله ،حيل املشاكل ،ويصلح بني
اخلصوم ،ويعطي من نفسه ووقته بال حساب .ليس املعلم إنسانا فقط،
بل هو قبل كل يشء ضمري حي.
172
املوضوع رقم 17
قال أحد املربني :قد يعاقب التالميذ أحيانا لعدم حمافظتهم عىل
املواعد ،أو تكاسلهم ،أو طيشهم ،أو رشودهم .أال يمكن أن يكون املعلم
هو املسؤول عن هذه املخالفات؟
ارشح الرأي ،وبني الوسائل التي ينبغي أن يسخرها املعلم مللك زمام
التالميذ.
173
أنواعها ،ثم نتحدث عن حفظ النظام يف املدرسة ،وأثره يف تكوين الطفل
اخللقي ،ونبني كيف ينبغي أن يكون احرتام الطفل للقانون املدريس
مبنيا عىل فهمه الصحيح ،ألن القانون يشء مفيد .وكيف يتكون فيه هذا
الشعور إذا كان يثق بمعلمه .وإذا فأهم الوسائل التي يمكن أن يسخرها
املعلم حلفظ النظام املدريس هي سلطته املعنوية عىل التالميذ.
ب -التصميم
* رشح الرأي
* الوسائل التي يسخرها املعلم حلفظ النظام.
د -اإلنشاء
تطورت فكرة السلطة املدرسية ،منذ كان املعلم أشبه بالرشطي الساهر
عىل النظام ،إىل أن أصبحت النظريات الديموقراطية تفرض عىل املدرسة
نوعا خاصا من معاملة الطفل .وعرب هذا التطور ،نرى أن العقاب الذي يقع
عىل التالميذ ،مل خيتلف كثريا يف جوهره ،وإن كان يقسو أو يلطف حسب
174
حساسية كل عرص ،وحسب طبع كل معلم .إال أن الذي جيعل املعلم
احلديث أقرب إىل نفوسنا يف عقابه ،من معلم السوط املعتدي الذي
يعلو ظهور التالميذ .أن هذا يعاقب التلميذ عىل الشبهة ،ويعمم عقابه
حتى يشمل امليسء ألنه أساء ،والذي مل يسئ ألن العقاب يعطيه درسا
مسبقا ،وخيوفه مغبة املخالفات املستقبلة .أما ذاك فقد زاد إىل هتذيب
وسائل عقابه ،اهتامما بإثبات مسؤولية الطفل ،وإحقاق العقاب عليه.
وقد حذف النظام املدريس احلديث العقاب البدين ،واعتربه وسيلة غري
إنسانية ،وعوضه بعقوبات مادية ومعنوية ال حتط من كرامة الطفل ،وال
تكلفه شططا .وبلغ شعور املعلم بمسؤوليته عندما ينزل العقوبات ،أن
صار يسرتشد بعلم النفس ،وبمالحظاته حول الطفل وحياته يف البيت،
ليثبت الذنب عليه .ويكتب أحد املربني« :قد يعاقب التالميذ أحيانا لعدم
حمافظتهم عىل املواعد ،أو تكاسلهم ،أو طيشهم أو رشودهم .أال يمكن
أن يكون املعلم مسؤوال عن هذه املخالفات؟» وسنرى فيام ييل رأي املريب،
وكيف يفهم العقاب ،وكيف يمكن أن يكون املعلم مسؤوال عن خمالفات
أطفاله .ثم سنبحث عىل أثر ذلك يف ماهية السلطة ،وعن الوسائل التي
جتعل زمام األطفال يف يد املعلم.
يتحدث مربينا عن العقاب وكأنه أمر طبيعي ،ويتحدث عن
مسؤولية املعلم الذي يصدر العقاب ،فال يعلقها عىل كونه يعاقب،
بل يرسلها إىل أنه يكون سبب خمالفات التالميذ .وإذا ففي رأيه أن
العقاب أمر مفروغ من رضوريته ،إنام يتعلق األمر بإثبات مسؤولية
الطفل قبل إجرائه عليه ،وهذا الرأي كان سائدا قبل أن تتعرض له
األفكار احلديثة يف تنظيم مجاعة األطفال .وجاء من يدعو إىل ترك نظام
السلطة العتيق وتفويض األمر إىل األطفال حيكمون أنفسهم بأنفسهم.
وتعددت حماوالت تطبيق هذه الفكرة منذ مدرسة تولستوي إىل املدارس
األمريكية احلديثة .ويف كل هذه املحاوالت نفيت العقوبات ،وعوضت
بالدوافع النفسية اإلجيابية ،كإغراء الطفل بالعمل املنظم ،وإشعاره
بقيمة احلرية التي تعطاه .لكن هذه املحاوالت كشفت عن ناحية
كانت كامنة من نواحي نفسية الطفل .وهي أنه ال يقوى عىل الثبات
175
أمام الفراغ الذي يشعر به إذا ما أطلق له العنان .فعندما تعطاه حرية
الترصف ،يفقد الشعور بوجود سند قوي يركن إليه ،فتستبد به املخاوف.
ويترصف ترصفا أرعن .وكشفت هذه التجارب عن حاجة األطفال إىل
سلطة راشد يوجههم .وسواء كانت السلطة بارزة أو متسرتة حتت اسم
مستعار ،كاملرشد أو األخ األكرب ،فإن وجودها يعطي جلامعة األطفال
استقرارا وثباتا .ومع السلطة يكون العقاب؛ عقاب مادي أو معنوي .عقاب
يطبقه املعلم صاحب السلطة ،ويقدره وحده قبل أن يطبقه ،كام هو الشأن
يف نظام مدارسنا ،أو يفوض األمر يف تقديره وإصداره إىل مجاعة األطفال
حتت إرشاف املرشد ،كام هو احلال يف بعض النظم املحدثة .العربة بشعور
الطفل املعاقب ،أن ما يطبق عليه ،يعرب عن استنكار الشخص الذي حيرتمه
ويعجب به ،أو عن استنكار املجتمع الذي ينتمي إليه .العربة بشعور الطفل
املعاقب ،وانكسار عاطفته ،فإذا مل يكن هذا الشعور ،فال معنى للعقاب.
وباإلمجال ،فإن رضورة العقاب يف الرتبية ثبتت فكرهتا لكل املعارضات،
وأصبح املربون اليوم يومنون هبا أكثر مما كانوا يفعلون عىل عهد ثورة التجديد
التي استيقظت مع فجر هذا القرن .يومن املربون بأن العقاب البدين عمل
وحيش ال يليق ،ما عدا إذا أعطى للصغار يف سن الثانية أو الثالثة ،وإذ ذاك
ال يصح أن نسميه عقابا وإنام هو زجر وردع رضوريان إلعطاء الصبي بداية
عادات حسنة .ويؤمنون أن أحسن العقاب ما كان عىل قدر املخالفة ،وما
كان باعثا عىل الشعور الذي أرشنا إليه ،ويؤمنون أيضا أن أي غلط يف إثبات
مسؤولية الطفل ،وأي ظلم ينزل به من جراء هذا الغلط ،قد يكون ذا أثر
عكيس يف نفسه .ولست أدري أمن أجل التحري يف إثبات املسؤولية ،أم من
باب دعوة املعلمني إىل فهم الطفل ودواعيه ،جاء مربينا برأيه الذي ننظر فيه.
لكن كلامته تريد منا أن نبحث ملاذا خيالف األطفال قانون املدرسة .املالحظ
أن املدارس التي يساهم التالميذ يف وضع أنظمتها تقل فيها املخالفات.
فكأن قبول الطفل ملرشوع القانون ،يكون بمثابة عهد ،يأخذه عىل نفسه ،بأن
حيرتمه .واملالحظ أن املدارس ذات القانون املوضوع عىل قدر الطفل ،الذي
يتسع لألفكار املحدثة ،فرياعي حاجات الطفل ،وال يكلفه فوق طاقته،
مدارس تقل فيها املخالفات .واملالحظ أيضا أن مثال املعلمني ذو أثر كبري،
176
فإذا كان املعلمون حيرتمون القوانني ،ويطبقوهنا بالضبط سواء عىل أنفسهم،
أو عىل التالميذ ،نشأ التالميذ حيرتمون القانون ،وقلت خمالفتهم .لكن
املخالفات ،قلت أو كثرت ،توجد يف كل نظام ،ومهام كان القانون املدريس.
ذلك ألن االنسجام مع اجلامعة ،واخلضوع لضابط موحد ،يقتيض أن يكون
الفرد قويا يف جسمه ،قويا يف معنوياته ،جيد يف النظام الذي خيضع له ما
يريض حاجاته العاطفية .وبام أن ظروف األطفال ختتلف ،وأن من بنيهم
من ال يتوفر عىل االستعداد للدخول حتت النظام ،فإن اجلامعة املنسجمة،
اخلاضع كل أفرادها ،ال توجد يف امليدان العميل .وخمالفات األطفال ترجع
إىل أسباب يمكن أن نفصلها جسمية ،ونفسية ،وعقلية .فمن األطفال من
خيالف النظام لنقص يف جسمه ،كمرض ظاهر أو خفي ،يقلب موقف الطفل
ويتسبب يف كسله أو خمالفته للمواعد ،أو يتجىل يف عدوانه وعدم إقباله عىل
الدرس .ومن األطفال من ال جيد يف نفسه مكانا ألي اهتامم باملدرسة ،إذا
حدث يف بيته ما من شأنه أن جيعل حياته العاطفية ،أو شعوره باألمن ،يف
حالة اضطراب .ومن األطفال من يظهر كسوال وطائشا ال لسبب غري إعيائه
وإرهاق عقله .ثم إن موقف املعلم يتحكم إىل حد كبري يف ترصف األطفال،
ويكيف رد الفعل الذي يبدر منهم .فإذا كان املعلم عنيفا حادا ،وكان يعاقب
ويشتد ،فغالب الظن أن عنفه هذا سيبعث عناد التالميذ وسيدفعهم هذا
العناد إىل خمالفته ومكايدته .فكأن األطفال يامرسون نوعا من الرياضة عندا
يتحدون املعلم العنيف وحيتالون إلغضابه .وكأن منظره وهو ثائر ،يريض
فضوال كمينا يف نفوسهم .وإذا كان املعلم خامال ال يقدر جهود أطفاله،
وال يشجعها ،فربام يميل تالميذته إىل الركود ،بعد أن رأوا قلة اهتاممه،
وتأكدوا من أن جمهوداهتم تذهب هباء .وربام يكون املعلم غري مهمل وال
خامل ،لكنه ال يملك حساسية كبرية لفهم كل تلميذ من تالمذته ،فإذا كان
يف قسمه طفل حيتاج إىل تشجيع خاص ،وحدث أن أمهل هذا الطفل ،فإن
خمالفاته ستجيء من حاجته النفسية ،وسيكسل أو يتخلف أو يعتدي لكي
يلفت نظر معلمه إليه بأية وسيلة ،وقديام قالوا :خالف تعرف .وإذا كان
املعلم غري متبرص يف منهاجه ،فكان يرهق أطفاله بالعمل الكثري ،أو كانت
طرقه غري مهذبة ،ال تسهل عىل الطالب طريق املعرفة ،فأخلق بتالمذته أن
177
يعيوا فييأسوا ،فينقطع حبل اجتهادهم ،ويكون منهم الكسول والشارد،
والذي فقد حبه للمدرسة.
ال شك أن مربينا فكر يف كل هذه األسباب ،حني تساءل هل يكون
املعلم مسؤوال عن خمالفات تالمذته ،والشك أنه عرف أمهية موقف
املعلم أمام القانون املدريس ،وأمهية فهمه ألطفاله وبواعثهم اجلسمية،
والنفسية ،والعقلية ،حني أعطاه حظه من املسؤولية يف خمالفة األطفال.
ونجيب عن سؤال املريب مؤكدين أن املعلم مسؤول عن كثري من عصيان
األطفال أو كسلهم ،وأن واجبه أال يرسع يف إنزال العقوبات ،بل واجبه
أن يبحث عن موطن الداء فيعاجله .وأن العقوبة التي حتل بالطفل وهو ال
يشعر بجريمة اقرتفها ،كفيلة أن تزيد من مرضه.
معلم يملك زمام التالميذ ،هذه عبارة شعرية ،تعطي صورة عن
العالقات املثالية التي حيلم كل معلم أن تربطه بأطفاله .أوليس الذي
يملك الزمام قادرا عىل قيادة مملوكه أينام يشاء؟ فإذا أخذنا العبارة
اجلميلة وعرضناها عىل األمثلة الواقعية ،وجدنا أهنا قليال ما حتاذي
الواقع وتقرتب منه .ولو كان معلم يملك الزمام ،ألصبحت عملية
الرتبية من أسهل العمليات .وكيف يملك املعلم زمام الطفل ملكا تاما
وهو ال يعايشه إال جزءا يسريا من ساعات يقظته؟ وكيف يستويل املعلم
عىل األطفال ،وكل منهم مشكلة وحده ،هلا عقدها ومفاحتها؟ غاية ما
يصل إليه املعلم العادي ،أن يمسك الزمام كلام قدر عليه ،وأن يسعى
السرتداده أيان أفلته .إنام املعلم املمتاز يملك أطفاله ،ويستطيع أن
يسريهم فعال كأن زمامهم يف يده .وأن املعلم املمتاز ال يعتمد عىل القوة
املادية ليكسب سلطته؛ فال يكافئ ويشرتي باجلوائز موافقة تالمذته ،وال
يسلك سبيل العنف إلرهاب التالميذ وسوقهم أمامه ،بل جيمع كل قواه
املعنوية ،ليكون الشخصية القوية ،التي جتذب التالميذ وتأخذ ألباهبم.
ويتسلح باخللق القويم ،فيأتونه عن طواعية ،معجبني بمتانته .ويكون
لنفسه مهارة يف املهنة ،حتى تكون يف دروسه املتعة والسالسة اللتان
يذوق الطفل من خالهلام حالوة العرفان ،فال يلبث أن يتشبث بمعلمه.
يستزيده علام .هذا هو املعلم املمتاز ،الذي كملت له أسباب النجاح،
178
والذي هيمنا هو املعلم الذي الزال حياول تكوين شخصيته ،ويبحث
عن أحسن الوسائل لتكون له سلطة يعرفها التالميذ ويدينون هلا.
ولسنا نستطيع يف هذه الصفحة أن نذكر كل الرشوط التي يتوقف
عليها وجود السلطة املعنوية ،إنام نشري إىل بعض الفضائل اخللقية
واملهنية البارزة يف هذا القبيل .ونجمل يف الرشط اخللقي .فنشري إىل
رضورة حتيل املعلم بكل خلق مجيل .وإن كان يف كلمة حتيل ما يشري إىل
التصنع والتجمل الظاهر ،فلسنا نقصد إال التشبع بالروح اخللقية حتى
يصبح سلوك املعلم يشع منه االقتناع ،وحتى يصبح لكلامته وأعامله
وزن يف املجتمع عامة ،وعند األطفال خاصة .أما الفضائل املهنية،
فأوهلا اإلخالص للعمل ،والتضحية من أجله .ولألطفال قدرة خفية
عىل إدراك دوافع املعلم ،وكلام أحسوا بأنه خملص متفان ،أقبلوا عىل
درسه واستمعوا لكلامته ،وحذوا حذوه ،فخضعوا لنظام املدرسة ،بل
وأدوا الواجب ،وزادوا عليه .عىل أن إخالص املعلم قد يكون عديم
اجلدوى إذا مل تكن جهوده متامسكة ،وأعامله مضبوطة .وربام يكون
خطريا عىل تكوين التالميذ ،أن يعطي املعلم مثاال لإلقدام األعمى ،بأن
يبدأ يف محاس كثري أعامال تأكل قوته ،فيقف عاجزا ،أو يعدد املشاريع
التي ينجزها حتى ختتلط عليه ،ويضطرب نظامه .إنام يكون اإلخالص
خصبا إذا وجهه العقل املدبر ،وأيده التبرص وضبط األعامل ،وينبغي أن
يشمل ضبط املعلم كل النشاط الذي يرشف عليه ،فيتوخى هو القوانني
وحيافظ عليها ،وحيرتم املواعيد ،ويفي بالوعود ،ويراقب تالمذته
فيحملهم عىل مثل حزمه وضبطه .وبام أن النظام أساسه الضبط،
فبوسعنا أن نقرر أن عادة الضبط ،يتخذها املعلم ويعطيها أطفاله ،أهم
احتياط لتفادي املخالفات ،وتوطيد النظام .ونذكر آخرا عدل املعلم
وعدم انحيازه ،وإن كانت صفة العدل يف تطبيق القانون رشطا يف بقاء
القانون قانونا .وعدل املعلم ينبغي أن يتخذ صبغة خاصة ،بحيث يكون
يف نفس الوقت دقيقا وصارما .دقيقا عند تطبيقه ،يراعي حساسية كل
طفل ومقدار حتمله ،وصارما يف مبدئه .ال يعفى منه أحد.
إذا كانت هذه صفات املعلم ،فإن نظام املدرسة سيتعزز ،وسيضمن
179
االستقرار الرضوري إلنجاز األعامل املدرسية ،وسيضمن أيضا تكوين
األطفال تكوينا خلقيا متينا.
االستقرار رضوري يف مجاعة األطفال التي الزال أفرادها يف يد
سلطان اهلوى ،لكل منهم رغباته ،ولكل منهم عاداته التي نشأ عليها فلو
تركوا ألنفسهم ملا قدروا عىل يشء ،وملاجوا موجانا ال ينفك يرتفع حتى
يكون فوىض تامة .والنظام املدريس ،بام يفرضه من عادات ،وما يشعر
به من أن السلطان الذي يرصف الناس هو إرادة اجلامعة التي يعرب عنها
القانون ،ال إرادة الفرد ،يساهم بنصيب كبري يف تكوين خلق األطفال.
وظاهر مما فصلنا أن االستقرار والتأثري اخللقي ،ال يعطيهام القانون إال
إذا كان الذين أنشئ من أجلهم يقبلونه عن طواعية ،وكان القانون يف
يد حكيمة نالت ثقة األطفال فأذعنوا هلا .إذا كانت الظروف كام قلنا،
فإن األطفال سيعتربون القانون مبدأ خلقيا يكيف سلوك الناس ،أكثر
مما يعتربونه جمموعة من الزواجر واألوامر ،يرتتب عىل احرتامها أو
عدمه عقوبات حينون هلا الظهر ،فتمر دون أن متس النقطة احلساسة ،أال
وهي شعورهم باالستنكار .وإذا اعترب األطفال القانون مبدأ يقتنعون به،
فستقل خمالفاهتم ،وسيقبلون عىل الدرس يف جو خال من الكيد والشيطنة
اللذين ال خيلو منهام قسم املعلمني قلييل التجربة ،وقلييل التفهم ملشاكل
األطفال .أولئك املعلمني الذين ال يسألون أنفسهم ليعرفوا من املسؤول
عن املخالفة ،وإنام يرسعون إىل العقاب ويفرطون فيه .فإذا ختلف تلميذ
عن املوعد ،مل ينظروا يف عذره ،وإذا ظهر هلم نقص يف نتائجه ،فكروا يف
الكسل وعاقبوا عليه ،وإذا ظهر التلميذ حائرا طائشا ،مل يلتمسوا له عذرا
فيام عسى أن يكون حدث له مما يعكر صفو حياته اجلسمية أو النفسية أو
العاطفية.
180
فهرس
املواضيع اإلنشائية املتحللة
تقديم3......................................................
كيف أكتب7.................................................
.1العرض املادي 7..........................................
.2التهيئ11..................................................
.3اإلنشاء16.................................................
مواضيع يف الرتبية وعلم النفس
املوضوع 23.................................................1
املوضوع 31.................................................2
املوضوع 40.................................................3
املوضوع 49.................................................4
املوضوع 58.................................................5
املوضوع 66.................................................6
املوضوع 76.................................................7
املوضوع 86.................................................8
املوضوع 95.................................................9
املوضوع 105...............................................10
املوضوع 115...............................................11
املوضوع 125...............................................12
مواضيع يف الرتبية
املوضوع 135...............................................13
املوضوع 144...............................................14
املوضوع 154...............................................15
املوضوع 165...............................................16
املوضوع 173...............................................17
181