You are on page 1of 183

‫كيف أكتب إنشاء‬

‫بيداغوجيا‬
‫ملدارس املعلمني واملعلامت‬

‫تأليف‪:‬‬

‫عبد السالم ياسني‬


‫مدير مركز تكوين املفتشني سابقا‬

‫طبعة جديدة منقحة‬

‫حقوق الطبع حمفوظة‬

‫نرش وتوزيع‪:‬‬

‫دار الثقافة‬
‫‪ 38 – 36‬هنج القرص السلطاين – ص‪.‬ب ‪4038‬‬
‫اهلاتف‪ – 653.46 :‬الدار البيضاء‬
‫تقديم‬
‫احلمد هلل رب العاملني‬
‫ربام يكون يف عنوان هذا الكتيب ما يشكك الناس يف قيمته‪ ،‬إذ كيف يزعم‬
‫أحد أنه سيعلم الناس كيف يكتبون إنشاء‪ ،‬سيام إذا كان هذا اإلنشاء يف موضوع‬
‫تربوي أو تعليمي ال ينهض لكتابته إال من توفرت لديه رشوط يف املعرفة‪،‬‬
‫ورشوط يف التجربة املهنية‪ ،‬ورشوط يف القدرة عىل التنظيم واالستنتاج؟‬
‫والواقع أننا ال نوهم أنفسنا ونظن أن هلذا الكتاب فضيلة سامية‪ ،‬ال يوشك‬
‫أن يتصفحه املبتدئ حتى يصبح قادرا عىل الكتابة ومتفننا فيها‪ ،‬لكننا ملسنا‬
‫النقص الواضح فيام يكتبه طلبة مدارس املعلمني يف االمتحان النهائي‪ ،‬وفيام‬
‫يكتبه املعلمون املوقتون يف امتحان الكفاءة؛ نقصا يف األداة اللغوية‪ ،‬ونقصا يف‬
‫األفكار‪ ،‬ونقصا يف التنظيم الكتايب‪ .‬فحاولنا أن نضمن هذا الكتيب نصائح‬
‫أعطيناها لطالبنا‪ ،‬فوجدنا هلا أثرا يف تكوينهم‪ ،‬حتى تكون اإلفادة أعم‪.‬‬
‫أما النقص يف األداة اللغوية‪ ،‬كاجلهل باللغة وبقواعدها‪ ،‬واستعامل الكلامت‬
‫لغري املعاين التي وضعت هلا‪ ،‬واللحن‪ ،‬أو جمرد العجز عن تركيب مجل عربية‪،‬‬
‫فهو داء فاش‪ ،‬ولن جيد املبتىل به يف هذا الكتيب عالجا‪ .‬وكل ما يف وسعنا هو‬
‫أن ننصح صاحبنا هذا بدراسة اللغة يف كتبها‪ ،‬وقراءة الكتاب املجيدين‪ ،‬حتى‬
‫يستقيم لسانه‪ ،‬ويكسب هذه القدرة عىل استعامل اللغة السليمة الرضورية ملن‬
‫يطمح أن يكون معلام‪.‬‬
‫وأما النقص يف األفكار فمرده إىل أن طالب مدرسة املعلمني‪ ،‬أو‬
‫املعلم املؤقت يلتمسان عند األستاذ أو يف كتب الرتبية صيغا حيفظوهنا‪،‬‬
‫ظانني أن هذه الصيغ قمينة أن تسد الفقر الذي يعرفونه يف أنفسهم‪ .‬وهبذا‬
‫خيطئون الطريق من األول‪ ،‬فإذا مرت فرتة التهيء لالمتحان‪ ،‬وجدا أهنام‬
‫مل يتقدما كثريا وال قليال يف التزود بأفكار –فإن مل يدركا ذلك فسيجده‬
‫املصحح ال حمالة‪ -‬وإنام اختارا كمية من "القطع" املتناثرة من أفكار رشقية‬

‫‪3‬‬
‫وغربية‪ ،‬مل تتناوهلا جذوة الفكر فتصوغ منها جسام جديدا متكامال حيمل الطابع‬
‫الشخيص للذي فكر وكتب‪.‬‬
‫وأنصح أن يتخذ الطالب مبدأ من لدن يبتدئ دراسته‪ ،‬ذلك بأن يبحث يف كل‬
‫درس سمعه أو قرأه عن الفكرة العامة للدرس‪ ،‬حتى إذا وجدها أخذ هذه الفكرة‬
‫وعرضها عىل األمثلة التي أعطيته‪ ،‬حتى ينظر كيف تلبس الفكرة العامة لكل مثال‬
‫ثم ليخرتع أمثلة جديدة أو يستحرضها من بني جتاربه‪ ،‬ويعيد التجربة مرة أخرى‪.‬‬
‫وهكذا يتناول كل فكرة ويقلبها إىل أن يشعر أهنا أصبحت ملكا له‪ .‬وإذا كان يقرأ‬
‫فلينظر إىل ما وراء الكلامت‪ ،‬وذلك بأن يستعني بخياله‪ ،‬ويتصور املعنى الذي ترمز‬
‫له الكلامت‪ .‬فأعتقد أن ال أكثر عمقا من الفكرة التي عقدها الكاتب بكلمة‪ .‬لكن‬
‫القارئ مل حياول أن يفكها‪ ،‬ومل يسم هبا خياله إىل حيث تصبح شعاعا نافذا‪ ،‬وإنام‬
‫اكتفى بمراقبتها من وراء احلجاب املادي الذي تكونه الكلمة‪.‬‬
‫أما بعد‪ ،‬فإننا وضعنا هذا الكتاب للطالب الذي حصل أفكارا‪ ،‬وملك أداة‬
‫صاحلة‪ ،‬فجاء يكتب يف الرتبية جميبا عن أسئلة االمتحان أو متهيئا له‪ ،‬ووجد أن‬
‫املهمة صعبة‪ ،‬وأن الكتابة عسرية‪ .‬ووضعناه للطالب الذي جيد صعوبة يف فهم‬
‫السؤال الذي وضع عليه وحتديده‪.‬‬
‫سيجد هؤالء هنا طريقة للعمل ختط الرسوم التي يتبعها املرء كلام حاول‬
‫أن يكتب يف موضوع معني يقرتح عليه‪ ،‬وسيجدون أمثلة ونامذج ملوضوعات‬
‫اقرتحت يف االمتحان النهائي ملدارس املعلمني ويف امتحان الكفاءة وعوجلت‬
‫طبقا لطريقة العمل التي نعرضها‪.‬‬
‫وسيجدون خالل ذلك أفكارا ومعلومات تزيد يف جهازهم الفكري‪.‬‬
‫وأملنا أن يعني هذا الكتاب الطالب املجد الذي ال يبحث عن خلقطرية‬
‫سحرية تبلغه الغاية إذا بدا عجزه‪ ،‬وإنام يؤمن بالعمل املنظم‪ ،‬وال يفزعه أن‬
‫يبذل جمهودا متواصال‪.‬‬
‫وأملنا أن نحبب العمل هلذا الطالب كلام رشع يف كتابة إنشاء تربوي بام‬
‫بذلناه من جهد لتسهيل الكتابة وتوضيح قواعدها‪.‬‬
‫عبد السالم ياسني‬ ‫ ‬
‫مراكش يف ‪ 5‬أكتوبر ‪1962‬‬ ‫ ‬

‫‪4‬‬
‫اجلزء األول‬
‫من الكتاب‬
‫كيف أكتب‬
‫اعتبار أسايس ينبغي أن يوجه عملنا كلام أخذنا القلم لنكتب‪ .‬هذا‬
‫االعتبار هو أننا نكتب ليقرأنا الناس ويفهموا عنا‪ .‬فام بد من أن نضع‬
‫القارئ نصب أعيننا يف كل حلظة‪ ،‬ونتوخى رضاه عام نكتب‪ ،‬سيام إذا كان‬
‫هذا القارئ مصححا يف االمتحان‪ .‬وتسهيال يف البحث‪ ،‬سنحرص طريقة‬
‫العمل يف ثالث مراحل‪:‬‬

‫‪ .1‬العرض املادي‬
‫عندما تقرأ نصا مطبوعا ال جتد صعوبة يف التهجي‪ ،‬كام ال يعرتضك‬
‫تفاوت يف أحجام احلروف أو أشكاهلا يقتيض منك جمهودا خاصا‪ .‬أما‬
‫النص املخطوط فال جتد فيه رتابة احلروف املطبوعة واتساقها ألن‬
‫اخلطوط ختتلف باختالف األشخاص‪ .‬ثم إن تناول الورقة أثناء الكتابة‬
‫جيعلها عرضة للوسخ‪ .‬واإلنشاء نفسه يقتيض أن يشطب عىل بعض‬
‫الكلامت من حني آلخر‪ .‬ما جيعل ورقة اإلنشاء جتاه أخطار متعددة قد‬
‫يسببها قلة التجربة أو جمرد اإلمهال‪ ،‬وغني عن البيان أن هذه اهلنات‬
‫التي تصيب ورقة اإلمتحان ونعتربها تافهة ال أمهية هلا‪ ،‬تلعب دورا بارزا‬
‫يف نظر املصحح إذا جاء يقدر قيمة اإلنشاء‪ ،‬ويضع له نقطة‪ .‬وربام تأثر‬
‫املصحح بالعرض املادي للورقة دون أن يتعمد ذلك‪ ،‬فللنظرة األوىل‬
‫التي يلقيها عليها وقع‪ ،‬كام أن لكل عيب مادي آخر وقع‪ .‬فإذا كان منظر‬
‫الورقة العامة يوحي باالتساخ أو عدم االنسجام وجاءت اهلنات األخرى‬
‫يتلو بعضها بعضا فقد أوشك املصحح أن يمل النظر‪ ،‬فإن دفعه الواجب‬
‫ومل يفعل‪ ،‬أكمل قراءته عىل مضض‪ ،‬ويف نفسه أن اإلنشاء قبيح بقطع‬
‫النظر عن القيمة احلقيقية لإلنشاء‪.‬‬
‫ويبلغ تأثري العرض املادي يف تقويم اإلنشاء وتنقيطه‪ ،‬أن اإلنشاء‬

‫‪7‬‬
‫احلسن‪ ،‬إن أسيئ عرضه ينال درجة سيئة‪ ،‬وأن اإلنشاء اليسء يعتنى‬
‫بمظهره فيزيد ذلك من قيمته‪ .‬وال تقل أن هذا ظلم وإجحاف‪ ،‬فإن‬
‫املصحح ليس آلة الكرتونية حتسب الدرجات حسابا مطلقا‪ ،‬وإنام هو‬
‫إنسان يتأثر ويشعر‪.‬‬

‫أ‪ -‬الورقة‪:‬‬
‫يعطونك يف قاعة االمتحان ورقة خاصة غري مسطرة‪ .‬وطبيعي‪ ،‬إذا مل‬
‫تألفها من قبل‪ ،‬أن متيض بعض الوقت باحثا عن أحسن الطرق لتكتب‬
‫فيها‪.‬‬
‫أكتب أوال اسمك ورقمك يف االمتحان واضحني يف املكان املخصص‬
‫لذلك‪ ،‬ثم اطو هذا الركن بعناية وألصقه حتى تعرف املساحة احلرة التي‬
‫بقيت عىل وجه الورقة أو ظهرها‪.‬‬
‫ثم ابحث عن وسيلة لتكتب سطورا مستقيمة‪ .‬والسطر املستقيم‪،‬‬
‫كام تدرك ذلك‪ ،‬عامل مهم يف املظهر العام للورقة‪ .‬فإما تسطر بقلم‬
‫الرصاص سطورا خفيفة ال تكاد تظهر‪ ،‬وإما تعمد إىل ورقة أعددهتا من‬
‫قبل‪ ،‬مسطورة باحلرب األسود‪ ،‬وتضعها حتت ورقة االمتحان الشفافة‬
‫فتظهر لك من خالهلا السطور‪ ،‬ونفضل هذه الطريقة الثانية‪ ،‬ألن ورقة‬
‫االمتحان إذا مسها قلم الرصاص فالبد أن يرتك فيها أثرا ييسء إليها‬
‫مهام كان خفيفا‪ .‬واحرص عىل أن يكون بعد السطور متوسطا‪ ،‬وأن‬
‫ترتك بياضا يف أول السطر كلام بدأت فقرة جديدة‪ ،‬فإن هلذا البياض‬
‫الذي ترتكه أمهية كبرية‪ ،‬ألنه ينبه القارئ إىل أنك أهنيت جزءا من‬
‫مقالك وبدأت جزءا ثانيا‪ .‬وحاول أال تنسى كلمة فتضطر إىل حرشها‬
‫بني سطرين‪ ،‬فإذا نسيت فخري أن تشطب كلمة أو كلمتني من أن تفسد‬
‫سطورك هبذه الزيادات‪.‬‬
‫وتأكد من أن أصابعك مل يلوثها املداد أثناء الكتابة‪ ،‬حتى ال تلوث‬
‫ورقتك‪ ،‬ومل ال تشرتي قلام خزانا خاصة لالمتحان حتى تأمن أن حيدث‬
‫عطب أثناء تأديته للخدمة؟‬

‫‪8‬‬
‫ب‪ -‬اخلط‪:‬‬
‫ليس كل الناس يستطيعون أن يكتبوا بخط مجيل‪ .‬فإذا كنت من‬
‫الطائفة املحظوظة‪ ،‬فال تظن أنك يف غنى عن بعض النصائح تسمعها قبل‬
‫أن تكتب ليقرأ الناس خطك‪.‬‬
‫فكر دائام أنك تكتب لآلخرين‪ ،‬تكتب ليقرأوك‪ ،‬ال ليتأملوا خطك‬
‫ويعجبوا به إذا كان مجيال‪ .‬والصفة األوىل العملية ألي خط هي أن يكون‬
‫واضحا‪ .‬فإذا توفرت هذه الصفة‪ ،‬فام عليك أن تضيف إليها الصفات‬
‫اجلاملية التي خلطك‪ ،‬أما أن تنمق اخلط عىل حساب الوضوح فهذا ما ال‬
‫أنصحك به‪.‬‬
‫وإذا كنت من أصحاب اخلطوط املتوسطة أو الرديئة‪ ،‬فاعمل كل ما‬
‫يف وسعك لتجعل خطك مقروءا‪ .‬ال تطل أعناق احلروف حتى يشتبك‬
‫بعضها ببعض وتتداخل السطور‪ ،‬وراع النسب بني أحجام احلروف حتى‬
‫ال تشتبه‪ .‬اجعل دائرة امليم أصغر من دائر الصاد مثال‪ ،‬والمك ال جتعلها‬
‫ألفا أو نونا‪ .‬وضع النقط مواضعها سيام إذا تتابعت احلروف املنقوطة‪.‬‬
‫وأنبه إىل االعجام بصفة خاصة‪ ،‬وإن كان االعجام من شأن قواعد اللغة‬
‫العامة‪ ،‬فمن الناس من يكتب دون أن يفكر حلظة أن اعجاما ينقصه‬
‫أو يزيده يكفي ليبدل معنى كالمه أو ليحدث عىل األقل وقعا بالغا يف‬
‫السوء عىل قارئه‪ .‬وتفاديا ملا جييء به النسيان من خلل‪ ،‬يمكن أن خيصص‬
‫الكاتب وقتا يراجع فيه ما كتب‪.‬‬
‫ورعيا للقاعدة العامة التي وضعناها‪ :‬الوضوح‪ ،‬حيسن أن يعد الكاتب‬
‫ريشة ومدادا مناسبني ليضمن خلطه هذه الصفة‪ ،‬وإن من اخلطوط ما يقبح‬
‫بمجرد أن الريشة التي استعملت غري الئقة‪ ،‬أو ألن املداد يرشح‪.‬‬
‫ج‪ -‬التنقيط‪:‬‬
‫وعامل ثالث ليس أقل أمهية من األولني‪ ،‬إن مل يكن أثره أوسع من‬
‫أثرمها‪ .‬ذلك ألن مظهر الورقة العام أو صفة اخلط قد ال متنع القارئ من‬
‫فهم النص الذي بني يديه‪ ،‬أما التنقيط إن أغفل‪ ،‬فقد يعوق عن الفهم‪.‬‬
‫أال ترى أن الكالم إذا كان مجلة واحدة يكون أشبه بكومة من املادة اخلام‬
‫وضعت أجزاؤها جنبا إىل جنب دون تنسيق‪ ،‬وأن التنقيط يدخل عليها‬

‫‪9‬‬
‫التجزئة الالزمة‪ ،‬فتبدو أجزاء اجلملة واضحة متبينا بعضها عن بعض؟‬
‫وأظنني لست بحاجة إىل التذكري كيف توضع النقطة يف هناية اجلملة‪،‬‬
‫وكيف تفصل الفاصلة بني أجزاء اجلملة التعجبية أو االستفهامية‪ ،‬وكيف‬
‫توضع النقطتان أمام اجلملة التي يتلوها قول أو تفسري‪ ،‬لكنني أعطي‬
‫مثاال الستعامل النقطة القاطعة (‪ )1‬فكثريا ما هيمل استعامهلا مع أهنا‬
‫تضفي عىل الكالم بيانا ونصاعة‪ .‬وتوضع القاطعة أمام مجلة يتممها ما‬
‫جييء بعد القاطعة من تفسري أو تفصيل أو رشح‪ .‬وتأمل ذلك يف األمثلة‬
‫الثالثة التالية‪.‬‬
‫‪ -‬اهتم بإنشائي عندما أكتبه اهتامما كامال؛ فأهيئ ورقة نظيفة وأحسن‬
‫خطي وأضع النقط مواضعها‪.‬‬
‫‪ -‬اخلطوط أنواع؛ منها احلسن ومنها املتوسط‪ ،‬ومنها الرديء‪.‬‬
‫‪ -‬خذ حذرك من األخطاء الكتابية التي يقع فيها املمتحنون؛ ال هتمل‬
‫التنقيط وال تنس اإلعجام‪ ،‬وتثبت من أنك مل تنس كلمة فال تضطر‬
‫لزيادهتا بني السطور‪.‬‬
‫ووضع النقط حيتاج إىل دربة يف االستعامل؛ ولذلك ننصح بأن يفكر‬
‫فيه الطالب دائام‪ ،‬ويعتربه جزءا ال يتجزأ مما يكتبه‪ .‬وسيجد الطالب‬
‫للتنقيط فضيلة أخرى؛ وهي أن البحث عن مواضع النقط والفواصل‬
‫والقواطع سيدعوه إىل تأمل مجله وإعادة سبكها حتى تصبح مفصلة كام‬
‫يتطلب األمر‪ ،‬وبعبارة أخرى تكون النقط والفواصل بمثابة إطار يكيف‬
‫كالم الكاتب‪ ،‬وحمك يظهر ما يف هذا الكالم من عيب‪ .‬والنتيجة أن ينتظم‬
‫الكالم ويزداد وضوحا وبيانا؛ بل سيزداد الكاتب‪ ،‬إن احرتم اإلطار‪،‬‬
‫قدرة عىل تنظيم أفكاره وتنسيقها وحتديدها‪ .‬تأمل ما حيدث للذي يبدأ‬
‫مجلة ال يدري أين تنتهي وال كيف تنتهي‪ ،‬فإذا تعود وضع كالمه يف حميط‬
‫حمدود من النقط والفواصل‪ ،‬اضطر قبل الرشوع يف مجلته‪ ،‬أن هييئها جمزأة‬
‫متتابعة بحيث تنتهي إىل غاية رسمها مقدما‪ .‬وترى يف هذا كيف تكون‬
‫النقط موجهة للتفكري‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫‪ .2‬التهييء‬
‫ال أقصد التهييء البعيد املدى بام فيه دراسة الربامج والتدرب عىل‬
‫الكتابة‪ ،‬فاملفروض أن املرشح المتحان الكفاءة قد أعد عدته من قبل‪،‬‬
‫واستفاد من الدراسة التي وضع هلا برناجما كامال متسلسال‪ ،‬واستفاد من‬
‫املراسالت التي ختصص ملثله عادة‪ .‬واملفروض يف طالب مدرسة املعلمني‪،‬‬
‫أنه حصل دروسه ومتثل ما ألقاه عليه أساتذته من علم ومن نصائح‪.‬‬
‫إنام أقصد هتييء املوضوع الذي يقرتح يف االمتحان‪ ،‬هتييئه يف قاعة‬
‫االمتحان طبعا‪.‬‬
‫أ‌‪ -‬فهم املوضوع‬
‫ها قد أعطيتك الورقة التي كتب فيها نص املوضوع‪ ،‬فأخذهتا مرجتفا‬
‫أو هادئا حسب طبعك‪ ،‬فامذا أنت فاعل؟‬
‫من الناس كثري يف مثل هذه احلالة يلقون نظرة فيقرأون ما يف الورقة‬
‫ثم يأخذون يف الكتابة حاال‪ ،‬مبتدئني من حيث اتفق‪ ،‬خمافة أن يضيعوا‬
‫جزءا من الوقت ثمينا‪ .‬واحلقيقة أن الوقت الذي يمضيه املمتحن يف تأمل‬
‫النص املقرتح وقت اقتصدناه واستعملناه استعامال رزينا‪ ،‬ألن العجالن‬
‫قد خيطئ رأس الطريق فيتيه تيها‪ .‬قد يلقي كلمة يفهمها عىل غري وجهها‬
‫فإذا به يتخبط طوال املقالة ويكتب خارج املوضوع‪ .‬وقد يكتفي العجالن‬
‫بفهم سطحي لنصه‪ ،‬ويكتب يف مقاله أفكارا عامة ال متس املوضوع من‬
‫قريب‪.‬‬
‫ال يكفي أن تبحث يف ورقة االمتحان عن كلمة تدلك عىل املوضوع‬
‫املقصود‪ ،‬حتى إذا اصطدهتا أفرغت كل ما يف جعبتك مما يتعلق باملوضوع‬
‫أو يمت إليه بصلة‪ ،‬وإنام جيب أن تتأمل الكالم الذي أمامك حتى تفهمه‬
‫بصفة عامة‪ ،‬ثم تأمله مرة أخرى وحاول أن ترتب أجزاءه حسب األمهية‪،‬‬
‫معطيا كل كلمة مكاهنا الذي يلزم أن تكون فيه‪.‬‬
‫خصص نصف ساعة إن لزم‪ ،‬ال تفعل فيها شيئا إال النظر يف املوضوع‬

‫‪11‬‬
‫وتأمل األلفاظ التي بني يديك‪ ،‬وتيقن أن وقتك غري ضائع إذا رصفته‬
‫يف وزن كل لفظة‪ ،‬وحتديد الفكرة التي ختتبئ من ورائها‪ .‬واحذر أن تغرك‬
‫أول بادرة تتقدم إليك مقدرا أن األمر ربام يكون أعمق مما تظن‪.‬‬
‫ب‪ -‬التصميم‬
‫وإذا خطوت اخلطوة األوىل بعد أن توثقت من أنك خطوهتا يف الطريق‬
‫احلق إلخراجها‪ ،‬فابدأ بوضع تصميم هنائي ملوضوعك‪ .‬رصفت وقتا ال‬
‫بأس به يف تفهم املوضوع فالشك أن األفكار املوجهة له صارت مألوفة‬
‫لديك‪ :‬وبالتايل لن يتطلب منك وضع التصميم إال ترتيب هذه األفكار‬
‫وخط نظامها عىل الورق‪.‬‬
‫ابحث أوال عن الفكرة الرئيسة يف املوضوع‪ ،‬أو بعبارة أخرى عن‬
‫اإلطار الذي يدخل فيه املوضوع‪ ،‬ثم افرتع من هذه الفكرة فروعا متأل‬
‫أماكنها وفق ما يطلب إليك‪.‬‬
‫أقول وفق ما يطلب إليك‪ ،‬وأعني أن حتدد موضوعك بحيث ال‬
‫تفوت املحيط الذي رسم لك‪ ،‬وأعني أن تتقىص كل أجزائه فال يفوتك‬
‫منها يشء‪.‬‬
‫وستجد أن األمر أسهل مما تظن‪ ،‬إذا تعلمت أن تعرض أمامك السؤال‬
‫أو األسئلة املوضوعة فتخرج منها نفسها تصميمك‪.‬‬
‫‪ -‬هنالك السؤال البسيط الذي يطابقه تصميم ذو نقطة واحدة؛ مثل‬
‫«إىل أي حد يمكن التعاون بني األرسة املغربية واملدرسة؟»‬
‫نقطة واحدة هي إمكان التعاون بني األرسة املغربية الراهنة واملدرسة‪.‬‬
‫وقسم هذه النقطة إىل فقرتني أو ثالث إن شئت‪:‬‬
‫‪ 1-‬هل تفهم األرسة املغربية قيمة املدرسة؟‬
‫‪ 2-‬هل تريد املدرسة وحتاول أن تتعاون مع األرسة؟‬
‫‪ 3-‬هل يمكن التعاون بينهام واحلالة كام بينت يف الفقرتني السابقتني؟‬
‫‪ -‬وهنالك السؤال ذو النقطتني؛ مثل‪:‬‬
‫«إن مهمة املعلم احلديث مل تعد تقترص عىل تلقني املعلومات فحسب‬

‫‪12‬‬
‫وإنام أصبحت له أهداف أهم من ذلك وأسمى؛ ما هي هذه األهداف؟‬
‫وما هي الوسائل الكفيلة بتحقيقها؟»‬
‫نقطتان بارزتان تستخرجهام من السؤال نفسه‪ ،‬ثم تقسم كل واحدة‬
‫إىل فقرة أو فقرتني أو أكثر دون أن ختل أو تزيد‪.‬‬
‫‪ .1‬أهداف املعلم احلديث‪ :‬الفقرة األوىل‪ :‬األهداف الرتبوية‪ .‬الفقرة‬
‫الثانية‪ :‬األهداف التعليمية‪.‬‬
‫‪ .2‬الوسائل الكفيلة بتحقيقها‪ :‬فقرة أوىل‪ :‬قيمة املعلم نفسه‪ .‬فقرة‬
‫ثانية‪ :‬الظروف التي يعمل فيها املعلم والتسهيالت املادية واملعنوية التي‬
‫تتوفر لديه‪.‬‬
‫‪ -‬وهنالك السؤال ذو الثالثة نقط؛ مثال‪:‬‬
‫«للطفل طبيعة حية‪ ،‬يستهوهيا كل جديد‪ ،‬وتنجذب لكل ما يتجاوب‬
‫معها‪ ،‬وتنفر من كل أجنبي عن عاملها"‪ ،‬ارشحوا القول‪ ،‬مبينني خصائص‬
‫الطفولة‪ ،‬مربزين أمهية دراستها بالنسبة للمعلم‪.‬‬
‫النقط الثالث واضحة نأخذها من أفعال األمر املوجهة إلينا‪:‬‬
‫‪ 1-‬رشح القول‪.‬‬
‫‪ 2-‬تبني خصائص الطفولة‪.‬‬
‫‪ 3-‬أمهية دراسة املعلم للطفولة‪.‬‬

‫ج‪ -‬البحث عن األفكار‬


‫وأيا ما كان عدد نقط املوضوع‪ ،‬فالبد أن تبحث عن الفكرة السائدة‬
‫فيه‪ ،‬اعترب أن النقط التي سطرهتا جسم ال يقوم بروح حتييه‪ .‬فإذا مل تبحث‬
‫عن هذه الفكرة وكتبت‪ ،‬فسيكون نتاجك عبارة عن كالم عام ال يغني‬
‫كثريا‪.‬‬
‫‪1-‬الفكرة الرئيسية‪:‬‬
‫التمس الفكرة السائدة عندما تتأمل النص املقرتح‪ ،‬وقلب ألفاظه‬

‫‪13‬‬
‫عسى أن جتد واحدة منها ختفي معنى هو يف احلقيقة أهم ما فيه‪ ،‬فإذا مل جتد‬
‫هذه اللفظة‪ ،‬فالتمس الفكرة يف جمموع الكالم بعد أن تعرض بعضه عىل‬
‫بعض‪.‬‬
‫يف املثال األول يتعلق األمر بالتعاون بني البيت واملدرسة‪ ،‬وقد قرأت‬
‫كثريا يف هذا الباب‪ ،‬ولديك كثري مما تقول‪ ،‬لكن أحذرك مرة أخرى أن‬
‫تفعل قبل أن يتكشف لك املوضوع عن اللون الذي ينبغي أن يصبغ به‬
‫املمتحن خيصص «األرسة املغربية» فقف عند كلمة مغربية قليال حتى‬
‫تتشبع هبا‪ ،‬ثم اعرض معلوماتك يف باب التعاون بني البيت واملدرسة‬
‫لكن يف إطار األرسة املغربية‪.‬‬
‫ويف املثال الثاين حديث عن املعلم احلديث وأهدافه السامية‪ ،‬وقد‬
‫قرأت يف هذا كثريا أيضا‪ ،‬وربام حيبب إليك أن تستقرئ ما تعرفه عن‬
‫املعلم القديم واحلديث وتذهب يف ذلك بعيدا‪ .‬السؤال األول يطلب‬
‫إليك أهداف املعلم احلديث‪ ،‬فحدد نفسك هبذا السؤال وعدد األهداف‪،‬‬
‫حتى إذا تعرضت للمعلم القديم فتعرض له مارا دون أن ترتكه يثقل‬
‫إنشاءك‪ .‬والنقطة الثانية تبحث عن الوسائل لتحقيق أهداف املعلم‬
‫احلديث‪ ،‬فالفكرة التي ينبغي أن تسود أفكارك هنا هي «الوسائل»‪.‬‬
‫ويف املثال الثالث وصف لطبيعة الطفل يراد منك أن ترشحه‪ ،‬ثم تبني‬
‫خصائص الطفولة‪ ،‬ثم أمهية دراستها بالنسبة للمعلم‪ .‬الحظ أن القول الذي‬
‫سترشحه يشمل وصفا لطبيعة الطفل يف عالقته باآلخرين‪« :‬يستهوهيا‪..‬‬
‫تنجذب‪..‬تنفر‪ »..‬وهذه الصبغة هي التي ينبغي أن تسود املوضوع كله‪:‬‬
‫الطفل وعالقته باملعلم‪ .‬فإذا رشحنا وبينا كيف تكون هذه العالقات من‬
‫أول عهد الطفل باملدرسة وكيف تتطور‪ ،‬وإذا بينا خصائص الطفولة أثبتنا‬
‫بصفة بارزة اخلصائص االجتامعية‪ ،‬وإذا أوجبنا دراسة املعلم للطفل بررنا‬
‫هذه الدراسة بأهنا تسهل هذه العالقات ومتكننا من جعلها يف درجة رفيعة‪.‬‬
‫اآلن وقد وجدت اخليط الرئييس الذي يربط أجزاء املوضوع برباط‬
‫وثيق‪ ،‬بقي أن جتد األفكار املتفرعة‪ ،‬وتضبطها بالقسطاس عىل قدر‬
‫املوضوع ال زيادة وال نقص‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫‪ .2‬التصميم املفصل‪:‬‬
‫وهنا تبدأ مرحلة أخرى هي عتبة إىل اإلنجاز النهائي‪ .‬والعادة أن‬
‫يكتب املرشح «وسخا» خيصص له وقتا طويال قد يمنعه آخر األمر من‬
‫التحرير‪ ،‬فيضطر إلعطاء ورقة «الوسخ» هذه‪ ،‬وهي صعبة القراءة بالنظر‬
‫ملا فيها من شطب ووسخ‪.‬‬
‫ونحن مقرتحون طريقة أخرى لتهيئ هذه املرحلة باعتبار أن‪:‬‬
‫‪ -‬ورقة «الوسخ» تعرض أمام املرشح بياضها الذي مل يسود فكأنه‬
‫صحراء يسارع الكاتب إىل عامرهتا فيفوته أن ينظم أفكاره ويتبع طريقة‬
‫عاقلة‪ ،‬وإذا به يكتب عىل غري هدى ويضيع جهوده‪.‬‬
‫‪ -‬كتابة «الوسخ» تأكل وقتا كثريا دون فائدة‪ .‬فتكون طريقة إلغاء‬
‫«الوسخ» اقتصادية هبذين االعتبارين؛ تربحنا الوقت‪ ،‬وتعطينا فرصة‬
‫للنظر يف أمرنا بوضوح‪.‬‬
‫فعوض منظر ورقة التهيئ التقليدية التي تشبه غابة كثيفة مرتاكب‬
‫بعضها عىل بعض‪ ،‬عوض هذا املنظر املثبط سلفا‪ ،‬نأخذ ورقة نوسخ‬
‫فيها التصميم الذي وضعناه يف وضوح ونظام‪ .‬ونرتك يف هذه الورقة‬
‫بياضا كثريا ما بني السطور لنجد فيام بعد فراغا لكتابة التصحيحات او‬
‫الزيادات التي ختطر لنا بعد التأمل النهائي‪ .‬ونكتفي بكتابة أهم اجلمل أو‬
‫أهم الكلامت التي يوحيها املوضوع حتت العناوين الرئيسية أو الفرعية‪،‬‬
‫وستكون هذه اجلمل والكلامت مادة دسمة تغني انشاءنا عند ما نكتبه‪.‬‬
‫والواقع أن الطريقة التقليدية ضياع يف ضياع‪ ،‬ألن الكاتب عندما حيرر‪،‬‬
‫غالبا ما يكتفي بنقل «وسخه» دون تغيري‪ ،‬فإن غري فغالبا ما يكون التغيري‬
‫أساسيا‪ ،‬وعند ذاك جيد نفسه بلغ آخر الثالث ساعات القانونية‪ ،‬وملا‬
‫يكتب شيئا‪ .‬أما طريقة التصميم املفصل فترتك متسعا يف كلتا احلالتني‪،‬‬
‫متسعا للذي عادته أن يغري‪ ،‬ألنه مل يمض وقتا طويال يف إعداده‪ ،‬ومتسعا‬
‫للذي ال يغري‪ ،‬ألن بني يديه وقتا سيرصفه كله يف ترتيب كتابته واتقاهنا‪.‬‬
‫واصطياد األفكار عملية صعبة ألهنا اختيار ومتييز بني األفكار الكثرية‬

‫‪15‬‬
‫التي تتوارد عليك‪ ،‬ونظرا ألن كل موضوع تأملته يأخذ يف االتساع كلام‬
‫تقدمت الذاكرة يف عملها‪ ،‬فال تلبث أن جتد عندك مادة طويلة عريضة‪.‬‬
‫نظرا هلذا‪ ،‬فإن االختيار والتمييز يتطلبان كثريا من الرتيث والتيقظ‪.‬‬
‫فإن حدث العكس ونضب ما عندك من فكر‪ ،‬توجبت عملية معاكسة‪،‬‬
‫وهي أن تولد األفكار وتستوحيها‪.‬‬
‫وتكون يف هذه املرحلة قد مهدت الطريق بتصميمك العام الذي‬
‫وضعته فخري‪ ،‬بل الزم‪ ،‬أن تتبع خطوط تصميمك يف بحثك هذا‬
‫املتوسع؛ خذ كل نقطة عىل حدة وانظر ما جييئك بصددها‪ ،‬فقارنه بنص‬
‫املوضوع املقرتح عليك لرتى هل يناسبه‪ ،‬ثم اعرضه عىل اإلطار الذي‬
‫وضعته‪ ،‬وأعني االجتاه أو الفكرة التي ينبغي أن تسود‪ ،‬لرتى هل يدخل‬
‫حتته‪.‬‬

‫‪ .3‬اإلنشاء‬
‫وجتيء املرحلة احلاسمة‪ ،‬مرحلة الكتابة‪ .‬والكتابة بمثابة بناء هيكلة‬
‫األفكار التي هيئت من قبل‪ ،‬لكن واجهته يمكن أن ختتلف حسب‬
‫األذواق واإلمكانيات؛ أو نقول حسب األسلوب اخلاص بكل كاتب‪.‬‬
‫إال أن هنالك قواعد أساسية تدخل حتت املنطق العام‪ ،‬وينبغي أن‬
‫خيضع هلا الطالب‪.‬‬
‫‪ -‬املقدمة‪:‬‬
‫املقدمة‪ ،‬كام يفهم من اسمها‪ ،‬كالم نقدمه أمام املقالة لنطرح فيه‬
‫املشكلة‪ ،‬ونبني أجزاءها التي منها ترتكب‪ .‬وتتضمن املقدمة إشارة إىل‬
‫املوضوع‪ ،‬لكن إشارة فقط‪ ،‬أعني أهنا تظل خفيفة ال تناقش املوضوع‬
‫نفسه وإنام متهد وتدعو القارئ إليه‪.‬‬
‫ولئن كانت كتابة املقدمة حترج كثريا من الطلبة فيضيقون هبا‪ ،‬فام ذاك‬
‫إال ألهنم حياولون أن يضمنوها كثريا من أفكارهم‪ ،‬أو ألهنم يبحثون‬

‫‪16‬‬
‫عن اخرتاع غريب يزينوهنا به‪ .‬عىل أن األمر أهون من ذلك؛ فاملقدمة‬
‫ينبغي أن تتعرض تعرضا خفيفا للفكرة السائدة‪ ،‬ثم تنتهي بعرض‬
‫السؤال‪ ،‬وعرض نية الكاتب يف الكيفية التي سيعاجلها هبا‪ .‬واألحسن أن‬
‫يعرض السؤال بنصه األصيل‪ .‬وانظر مثال لذلك يف نامذج هذا الكتاب‪.‬‬
‫‪ -‬اخلامتة‪:‬‬
‫واخلامتة أيضا حترج الطلبة‪ ،‬فيطيل فيها بعضهم حتى تصبح موضوعا‬
‫مستقال‪ ،‬ويكتب فيها اآلخرون أفكارا غريبة عن املوضوع‪ ،‬أو هيملوهنا‬
‫باملرة‪ ،‬فتجيء مقالتهم مجيلة كالطاووس قطع ذنبه‪.‬‬
‫ويكاد يكون تشبيهي هذا صادقا‪ ،‬ألن من شأن اخلامتة أن تضفي عىل‬
‫املقال كله مجاال وتعطيه خالبة‪ .‬وأن اخلامتة احلسنة قد تغطي عىل عيوب‬
‫يف املقالة كثرية وتنسيها‪ ..‬واملصحح قد تبهره اخلامتة فال تبقي يف ذهنه إال‬
‫فكرة مواتية عن كل ما قرأه‪ .‬وهلذا كله ننصح بأن خيصص الكاتب نصف‬
‫ساعة عىل األقل ليكتب خامتته وأن يعتني هبا كل العناية‪ .‬عىل أال هيمل‬
‫املقدمة‪ ،‬أو خيل يف كتابة صدر املوضوع؛ ألن لكل جزء أمهيته رغم كل‬
‫ما قلناه‪.‬‬
‫وحمتوى اخلامتة تلخيص للموضوع كله‪ ،‬بشكل مبتكر وأسلوب براق‬
‫لكن قوي‪ .‬وجتد يف هذا الكتاب نامذج فتقرأها‪.‬‬
‫‪ -‬صدر املوضوع‪:‬‬
‫عندما تأخذ يف التحرير‪ ،‬ينشط القلم ويأخذ جيري؛ فعليك أن حتبسه‬
‫لرتى يف أي اجتاه يسري‪ ،‬وختضعه للتصميم الذي وضعته‪ .‬وإياك أن ترشع‬
‫يف التحرير قبل أن تنتهي من وضع تصميمك املوسع فإنه ال أدعى إىل‬
‫الضالل من التجديد والزيادات التي جتيئك يف آخر حلظة‪ ،‬ألنك عندئذ‬
‫تدفعك فكرة إىل فكرة؛ فال تشعر إال وقد خرجت عىل اهلامش وتعتم‬
‫عليك األمر‪.‬‬
‫وأحذر أن جيمح القلم‪ ،‬أو يتمكث يف رشوح عاطفية أو أدبية ترض‬
‫كتابتك وال تنفعها‪ .‬وحتاش استعامل لفظ أو عبارة ال تعرف معناها عىل وجه‬

‫‪17‬‬
‫الضبط ‪ .‬فكر أنك تكتب مقالة علمية قبل كل يشء‪ ،‬وضع التنميق يف‬
‫الدرجة الثانية بعد مطابقة كالمك لفكرتك‪ .‬نعم ال أدعوك لكتابة الكالم‬
‫اجلاف الثقيل‪ ،‬لكن أريد أن جتعل كل مهك أوال يف كتابة كالم واضح‬
‫مفهوم مضبوط‪.‬‬
‫وهبذا امليزان ستتعلم كيف تطرد عنك احلشو والصيغ املحفوظة‬
‫املبتذلة التي كثر استعامهلا حتى أصبحت فارغة يكاد يسمع رنينها لو‬
‫قرعت كام يقرع اإلناء الفارغ‪.‬‬
‫أما إذا وقع لقلمك حبسة وسدت عليك األبواب‪ ،‬فال تفزع‪ ،‬لكن‬
‫ارجع إىل نص املوضوع واقرأه‪ ،‬وانظر يف تصميمك فإنك واجد مبتدأ‬
‫تفتتح به‪ .‬وال ترتدد طويال‪ ،‬لكن ابدأ يف الكتابة‪ ،‬وسيسهل عليك األمر‪.‬‬
‫وأيا ما كان فالبد من ربط أجزاء كالمك برباط منطقي؛ ال متض من‬
‫فكرة إىل فكرة دون أن تلتمس مهادا من األوىل إىل الثانية‪ ،‬فالكالم العديم‬
‫الربط يقابل القارئ برتكيبه العنيف املفكك‪ ،‬فرسعان ما حيكم بجهل‬
‫الكاتب وعدم فهمه للموضوع‪.‬‬
‫وأذكرك مرة أخرى بالتنقيط‪ ،‬ال تنس أن تضعه مواضعه املناسبة‪،‬‬
‫وتسخره ليساعدك عىل هذا الربط املنطقي الذي تنشده‪ ،‬وعىل فصل‬
‫عباراتك فصال واضحا‪.‬‬
‫واكتب مقالك فقرات تتناول يف كل فقرة نقطة من نقط تصميمك‪ ،‬وال‬
‫تدخل يف كل فقرة إال ما هيمها‪ .‬فإذا قدرنا أن املوضوع يسألك‪« :‬ارشح‬
‫هذا القول‪ ،‬وبني رأيك فيه» فارشح الفقرة األوىل دون أن تتعرض لرأيك‬
‫اخلاص؛ فإذا انتهيت‪ ،‬فاكتب الفقرة الثانية وال تتعرض فيها إال لفكرتك‬
‫أنت‪ .‬وسرتى نامذج يف هذا الكتاب فتدبرها‪.‬‬
‫‪ -‬تناسب أجزاء املوضوع‪:‬‬
‫هل أكتب كثريا أو قليال؟ سؤال يدخل اهلم عىل بعض القلوب‪،‬‬
‫وباألخص عىل قلب الذي ال يستطيع أن يكتب طويال‪ .‬أما اآلخر فقد‬
‫جتده يفخر بأنه «طويل النفس»‪ ،‬وبأنه كتب ست صفحات يف ساعة‬
‫ونصف‪ ،‬وينتظر خريا كثريا بفضل نفسه الطويل‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫ويبدو للمتأمل بسهولة أن العربة‪ ،‬يف مثل هذا املقام‪ ،‬بالكيف ال‬
‫بالكم‪ ،‬وأن اإلطالة قد تكون غري ذات غناء‪ ،‬بل هي أقرب أن تكون‬
‫كذلك‪ .‬ألن املطيل قد يرصف كل جهده عن الفكر إىل الصوغ املحض‬
‫وجتميل العبارات‪.‬‬
‫عىل أن حجم املقالة البد أن يبلغ حدا وسطا رضوريا الحتامل املعاين‬
‫يكون جمموعها املقالة‪.‬‬
‫التي ِّ‬
‫وليكن هذا احلجم الوسط األربع صفحات التي يف ورقة االمتحان‬
‫مكتوبة بخط وسط‪ ،‬وبني سطورها بعد وسط‪ .‬ولنقسم هذه الصفحات‬
‫األربع كام ييل‪:‬‬
‫نصف صفحة للمقدمة‪.‬‬
‫ثالث صفحات لرشح املوضوع‪.‬‬
‫نصف صفحة للخامتة‪.‬‬
‫املقدمة يف فقرة‪ ،‬واخلامتة يف فقرة‪ ،‬والرشح يف فقرات وفقا لعدد نقط‬
‫املوضوع‪ ،‬ووفقا لعدد فقرات كل نقطة عىل حساب ما هيأته يف تصميمك‪.‬‬
‫ويزيد كتابتك وضوحا أن ترتك بياض سطر يبن الفقرة والفقرة‪.‬‬
‫وهيم هنا أن يراعى هذا التقسيم حتى جتيء املقالة متناسبة األجزاء‪،‬‬
‫وحتى يضمن الكاتب لنفسه أن كل جزء أخذ حظه من اهتاممه‪ ،‬وبالتايل‬
‫هيم أن يقسم وقت الكتابة تبعا لذلك‪ .‬فإذا كان فهم املوضوع ووضع‬
‫التصميمني العام واملفصل أخذ ساعة كاملة‪ ،‬فإن الساعتني الباقيتني تقسامن‬
‫كام ييل‪ :‬ربع ساعة للمقدمة‪ ،‬نصف ساعة للخامتة والبقية لصلب املوضوع‪.‬‬
‫مالحظات جمملة‬
‫‪ -‬عندما هتيئ االمتحان‪ ،‬ال تقترص عىل كتاب تربوي واحد؛ بل اقرأ‬
‫كل ما تصل إليه يدك من كتب الرتبية‪.‬‬
‫‪ -‬اجعل قراءة ما حيتويه هذا الكتاب جزءا من هتيئك‪ ،‬لكن ال تقرأه‬
‫مارا‪ ،‬بل تدبره وتدبر كل مقالة لرتى كيف فهم املوضوع وكيف قسم‬
‫وكيف كتب‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫‪ -‬عود نفسك كتابة موضوعات بيداغوجية‪ ،‬يف مثل الظروف التي‬
‫ستجدها يوم االمتحان‪ ،‬بحيث ال تستعني بكتاب‪ ،‬وتتمم العمل يف‬
‫ثالث ساعات متوالية‪.‬‬
‫‪ -‬تذكر دائام أن أول صفة ينبغي أن تكون يف كتابتك هي الوضوح‪.‬‬
‫‪ -‬تذكر أن مرحلتي فهم املوضوع ووضع التصميمني عليهام تتوقف‬
‫نتيجة عملك‪.‬‬
‫‪ -‬ال تنس أن تضبط املوضوع وحترتز من اخلروج عنه‪.‬‬
‫‪ -‬وازن موضوعك واعط كل جزء منه حظا مناسبا من اهتاممك‪،‬‬
‫وجزءا مناسبا من وقتك‪.‬‬
‫‪ -‬اعتن باخلامتة ونمق عباراهتا مراجعا الفكرة العامة‪ ،‬وملخصا‬
‫املوضوع يف أسلوب قوي‪.‬‬
‫‪ -‬اعتن كل العناية باملظهر املادي لورقة االمتحان؛ واتركها نظيفة‪،‬‬
‫مكتوبة بخط واضح يف سطور سوية‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫مواضيع‬
‫يف الرتبية وعلم النفس‬
‫املوضوع رقم‪1 :‬‬
‫قيل‪« :‬الطفل طبيعة حية‪ ،‬يستهوهيا كل جديد‪ ،‬وتنجذب لكل ما‬
‫يتجاوب معها‪ ،‬وتنفر عن كل أجنبي عن عاملها»‪.‬‬
‫حللوا هذه الفكرة‪ ،‬مبينني خصائص الطفولة‪ ،‬مربزين أمهية‬
‫دراستها بالنسبة للمعلم‪.‬‬

‫أ‪-‬فهم املوضوع‪:‬‬
‫نص املوضوع يشمل مالحظات حول الطفل‪ ،‬تدخل يف إطار‬
‫البيداغوجية احلديثة‪ ،‬التي تؤسس عملها عىل معرفة الطفل ودراسته‪.‬‬
‫فاملوضوع يف نفس االجتاه الذي رسمه روسو عندما قال قوله املشهور‪:‬‬
‫«اعرف طفلك فإنك والشك جتهله»‪.‬‬
‫ويطلب إلينا السائل أن نرشح املالحظات ونحللها‪ ،‬فهو والشك‬
‫ينتظر أن نعرض لكل مجلة من مجله عىل حدة ونفرسها‪« :‬للطفل‬
‫طبيعة حية» مجلة تقتيض منا أن نبحث عن مظاهر حيوية هذه الطبيعة‪،‬‬
‫و«يستهوهيا كل جديد» مجلة ثانية تكشف عن وجه ثان لطبيعة الطفل؛‬
‫واملطلوب هنا أيضا أن ننظر كيف ُيستهوى الطفل وكيف يؤخذ ممثلني‬
‫بأمثلة كلام أمكن واقتىض األمر‪ .‬واجلملتان األخريتان «تنجذب لكل‬
‫ما يتجاوب معها‪ ،‬وتنفر من كل أجنبي عنها»‪ ،‬تبني وجها ثالثا لطبيعة‬
‫الطفل وهو عالقته بالواقع وبالناس‪ .‬فيتعني هنا أن نحلل املوقف ونبني‬
‫كيف يتصل الطفل بالعامل اخلارجي‪ ،‬وكيف يكون رد فعله أمام األشياء‬
‫واألحداث التي تصادفه‪.‬‬
‫كل هذا نكتبه دون أن نتعرض لألجزاء من املوضوع‪ ،‬وقبل أن‬
‫نتحدث عن املريب من حيث احتياجه إىل دراسة الطفل‪.‬‬
‫ويسألنا السائل أن نبني خصائص الطفل‪ ،‬فكيف نفعل وقد رشحنا‬
‫املالحظات التي مهد هبا ألسئلته؟ ثم أال يكون هذا البيان تكرارا ملا سبق‬
‫أن كتبناه؟ وهنا بالضبط النقطة التي ينبغي أن أنتبه إليها؛ وهي أال أكرر‬
‫ما قلته أبدا‪ ،‬اللهم إال إذا جاء هذا التكرار يف اخلامتة‪ ،‬وبرشط أن يكون‬

‫‪23‬‬
‫تكرارا للمعنى العام ال لأللفاظ والتعابري‪ ،‬ال للكيفية التي عولج هبا‬
‫هذا املعنى العام‪ .‬ويف هذا املثال يسألونني أن أبني خصائص الطفل وهو‬
‫موضوع أوسع من املالحظات التي سبق أن رشحتها‪ .‬فآلخذ الطفل‬
‫إذن وألعرض أهم خصائصه دون أن أطيل‪ ،‬غري ناس أن عرض هذه‬
‫اخلصائص ال يكون إال جزءا من موضوعنا‪ .‬وسأحاول التأكيد عىل‬
‫املالحظات التمهيدية ذاكرا خصائص نفسية الطفل التي جتعله ذا طبيعة‬
‫يستهوهيا اجلديد‪ ،‬وتقبل عىل كل ما يتجاوب معها الخ‪..‬‬
‫والسؤال األخري يطلب إيل أن أبرز أمهية دراسة الطفولة بالنسبة‬
‫للمعلم‪ .‬واجلواب عن هذا السؤال يكون الطرف الثاين من املوضوع‪،‬‬
‫فهو النتيجة لكل التمهيدات السابقة‪ ،‬عىل أن فكرة وجوب دراسة الطفل‬
‫جيب أن تبقى طرفا من أطراف املوضوع ال أن تطغى عليه كله‪ .‬ومن اخلطأ‬
‫أن أبدأ من أول األمر يف عرض هذه الفكرة قبل أن أفرغ من دراسة حتليل‬
‫النص‪ ،‬وتبيني خصائص الطفل‪.‬‬
‫مالحظات‬
‫هذا موضوع واسع صعب‪ ،‬وأكثر صعوباته يف أنه واسع‪ ،‬فالبد أن‬
‫خيتار املرء ما يناسب املقام‪ ،‬وحيتال حتى ال يثقله بكل ما حصل من علم‬
‫عن طبيعة الطفل‪ .‬وقاعدة عامة تفيد كلام حاولنا أن نحرص أنفسنا يف نقطة‬
‫معينة‪ ،‬هي أن نحذو من قريب النص املقرتح علينا فال نبتعد عنه‪.‬‬
‫ومن األغالط الفاشية‪ ،‬أن يعمد الطالب إىل معارفه عن تطور الرتبية‬
‫ويمأل هبا ورقاته مهام كان املوضوع‪ ،‬ويوشك أن يقع يف هذه الغلطة‬
‫الطالب املبتدئ إن وضع أمامه مثالنا هذا‪ ،‬سيام ودراسة الطفل ما عرفها‬
‫السابقون‪ .‬فلذا أحذر منها لنتجنبها هنا بصفة خاصة‪ ،‬ونتجنبها دائام إال‬
‫إذا طلب منا التعرض هلا بكيفية واضحة‪ .‬نعم يمكننا هنا أن نلمس املسألة‬
‫ملسا خفيفا يف املقدمة مثال‪ ،‬لكن عىل رشيطة أن نكتفي بجملة أو مجلتني‪.‬‬
‫ومالحظة أخرى مهمة‪ ،‬تتعلق بوجوب التوضيح يف كل ما نكتبه؛ وهذا‬
‫يقتضينا تفهم النص املوضوع علينا‪ ،‬حتى نفهمه فهام كامال وحتى نفهم ما‬

‫‪24‬‬
‫خلفه من نية واضعه‪ .‬فإذا كان يف النص بعض الغموض أو بعض اللبس‬
‫كام يف مثالنا‪ ،‬وجب أن نوضحه من تلقاء أنفسنا‪ ،‬لكن يف حذر‪ ،‬مستشعرين‬
‫أننا نقوم بعملية خطرية؛ فكل غليطة يف هذا املوقف تكرب وتصري كارثة‪.‬‬
‫يقول السائل‪« :‬حللوا الفكرة مبينني‪ ..‬مربزين‪..‬الخ» والبيان العريب‬
‫يفهمنا أن األعامل الثالثة؛ حتليل الفكرة وتبيني اخلصائص‪ ،‬وإبراز أمهية‬
‫دراسة الطفل‪ ،‬تنجز يف آن واحد‪ .‬فهل نبدأ عرض هذه األعامل يف ثالث‬
‫واجهات موازية‪ ،‬أم نمزجها مزجا؟ وهنا جيب أن نتبني األمر حتى نجد‬
‫وجه السداد‪.‬‬
‫إن الوضوح والضبط الذين جعلنامها ديدنا لنا‪ ،‬يقتضيان أن نراعي‬
‫املنطق‪ ،‬وننتظر النتائج حتى نضع املقدمات‪ .‬ولذا فسنبدأ وفق املنطق‪،‬‬
‫وسنحلل الفكرة قبل أن نلقي نظرتنا العامة عىل خصائص الطفل‪ .‬وإذا‬
‫انتهينا من هذين تعرضنا لدراسة الطفل وما يليها‪ .‬وهبذا نحصل عىل‬
‫كالم ناصع ّبي‪ ،‬يعرفه القارئ إذا نظر فيه‪.‬‬

‫ب‪-‬التصميم‬
‫وضعنا تصميم هذا املوضوع سابقا‪:‬‬
‫* حتليل الفكرة «كام يعرضها النص املقرتح»‪.‬‬
‫* تبيني خصائص الطفولة «يف نظرة عامة موجزة»‪.‬‬
‫* أمهية دراسة الطفولة بالنسبة للمعلم‪.‬‬

‫ج‪ -‬التصميم املفصل‬


‫* الصفة األوىل للطفل هي احليوية –مظاهر هذه احليوية وكيف‬
‫تتطور‪ -‬نمو الطفل‪.‬‬
‫* العامل جديد بالنسبة للطفل‪ ،‬وكل ما فيه جديد يستهويه –اهتامم‬
‫الطفل‪ -‬انرصاف الطفل عن كل جتربة ال تريض رغبته‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫* من خصائص الطفل؛ حب اللعب ألن اللعب مرصف طبيعي‬
‫حليويته‪ .‬حب االطالع وإجراء جتارب جديدة‪ -‬إنه يتأثر كثريا بالنجاح‬
‫الذي يلقاه يف جتاربه فيتشجع‪ ،‬كام يتأثر باإلخفاق فرتكد مهته‪.‬‬
‫* املعلم ودراسة الطفل –مسؤولية املعلم يف ميدان التعليم‪ -‬مسؤوليته‬
‫يف ميدان الرتبية‪ -‬حاجته إىل دراسة الطفل ليعرف كيف يكيف تعليمه‪،‬‬
‫وكيف يصلح تربية تالميذه‪ -‬كيف يدرس الطفل‪ -‬الدراسة النظرية‬
‫العلمية‪ -‬الدراسة التطبيقية ومالحظة األطفال‪.‬‬
‫د‪ -‬اإلنشاء‬
‫إن الصانع يرشع يف معاجلته ملادته اخلام‪ ،‬وهو يعرف الغاية التي هيدف‬
‫إليها‪ ،‬يصور قبل أن يبدأ يف عمله نوع اآلنية التي يريد صنعها‪ ،‬إن كان‬
‫طيانا‪ .‬ويصور حجمها وشكلها اخلارجي وشكلها العام‪ .‬وهو يعرف‬
‫أيضا طبيعة مادته وكيف تتشكل‪ ،‬ويعرف كيف يغريها إن اقتىض احلال‪،‬‬
‫حتى تصبح قابلة الختاذ الشكل النهائي الذي يف فكره‪.‬‬
‫وأخطر الصناعات والشك الرتبية‪ .‬ألن الشكل النهائي الذي يكون‬
‫عليه الطفل بعد أن نربيه معقد شديد التعقيد‪ ،‬وهو موضوع الهتامم‬
‫املريب والفيلسوف والسيايس سواء‪ ..‬كل من هؤالء يرسم أشكاال مثالية‬
‫أو عملية لرجل الغد‪ ،‬وخيطط الوسائل العملية لبلوغ هذا اهلدف‪ ،‬لكن‬
‫املنفذ وحده‪ ،‬وخصوصا املعلم يف دوره املتواضع‪ ،‬وأعامله احلبىل بالنتائج‬
‫الضخام‪ .‬يشعر اليوم باحلاجة إىل معرفة املادة اخلام التي يصنع منها رجل‬
‫الغد‪ .‬وشعوره نتيجة ملحاوالت تربوية كثرية‪ ،‬كانت عفوية تتلمس‬
‫طريقها‪ ،‬فأصبحت اآلن تريد أن ترى يف وضوح أي نوع من أنواع العمل‬
‫تعمل‪ ،‬وباألخص ما هي طبيعة الطفل الذي تعمل فيه‪ .‬وقد قالوا «للطفل‬
‫طبيعة حية يستهوهيا كل جديد‪ ،‬وتنجذب لكل ما يتجاوب معها‪ ،‬وتنفر‬
‫من كل أجنبي عن عاملها» وهذه عبارة تعرض لطبيعة الطفل فتزيل الستار‬
‫عن بعض جوانبها‪ .‬فكيف يمكن أن نتخذها متهيدا للبحث يف خصائص‬
‫الطفل‪ ،‬ومعرفة هل يستحق الطفل بخصائصه هذه أن يكون موضوعا‬
‫للدرس‪ ،‬وهل سيجدي املعلم يف عمله أن يدرسه؟‬

‫‪26‬‬
‫يتوفر الطفل عىل حيوية كبرية تذهلنا أحيانا ونتساءل من أين جاء‬
‫بكل هذا النشاط الذي نالحظه عنده‪ ،‬يبدأ حركته املستمرة من أيامه‬
‫األوىل ثم ال يكف عنها إال حني يكرب ويتخطى نحو الشيخوخة‪ ،‬حركة‬
‫جسمه وحيوية نفسه‪ ،‬تصحبانه يف مراحل نموه وتتخذان مظاهر ختتلف‬
‫باختالف السن والفرص التي تعطاه أو يمنع منها لبذل نشاطه‪ .‬إذا‬
‫الحظناه يف ملعبه مع أقرانه‪ ،‬ويف ترصفه معنا‪ ،‬رأينا غنى زائدا‪ ،‬وبذال‬
‫ال ينتهي هلذه الطاقة الكبرية التي تعد ذخرا يمتاز به الطفل‪ .‬هذه الطاقة‬
‫تبذل لتنمية اجلسم وتقويته‪ ،‬وتبذل للدفاع عن هذا اجلسم إذا عرض‬
‫عارض سقم‪ ،‬ويكاد يشبه املعجزات ما يبقي الطفل قويا أمام عصفات‬
‫األمراض‪ ،‬وما يبقيه نشيطا يف كل حال‪.‬‬
‫وجيد نشاط الطفل جماال واسعا ليظهر؛ فالعامل كله جديد بالنسبة إليه‪،‬‬
‫يقدم أمام ناظريه ألوانا وأشكاال يطري فرحا ملشاهدهتا‪ ،‬وحجوما وأصواتا‬
‫متأل يديه وسمعه غبطة‪ .‬وكل جتربة يقوم هبا الطفل مغامرة بعيدة املدى‪،‬‬
‫فيها أحداث واكتشافات هلا من األمهية ما قد يفوق أمهية مغامرة العامل‬
‫املكتشف‪ ،‬والرحالة املغامر‪ .‬وليس يساوي قوة حيوية الطفل ونشاطه‬
‫إال قوة اجلاذبية التي يصبها عليه ما حوله من أشياء وأحداث‪ .‬فهو هيتم‬
‫بكل يشء‪ ،‬ويريد أن جيري جتارب‪ ،‬ال يعرف حدا لقوته‪ ،‬وتراه يف اهتاممه‬
‫يتناول فوق هذا حقائق ما يشهده‪ ،‬فيسألك ما هذا؟ وكيف هذا؟ ثم ال‬
‫يرىض إال إذا أجبت عن سؤاله‪ .‬يف كل ركن رس خبئ يسعى ليكشف عنه‬
‫الستار‪ ،‬فيغرقك بأسئلته‪ ،‬وجيدد لك مطالب يف كل يوم‪ ،‬سيام فيام له شأن‬
‫بتجارب أجراها فنجح‪ ،‬فأصبحت هذه التجارب حبيبة لنفسه ال يمل‬
‫من تكرارها‪ .‬أما إذا جرب وأخفق‪ ،‬أو محلته عىل إجراء جتربة ال متيل‬
‫نفسه إليها فإنه يسأم وينفر ويرص يف عناده بكل حيويته التي يرصفها هنا‬
‫للدفاع عن نفسه‪ .‬ضد العامل اخلارجي‪ ،‬الذي جاء يريده عىل أمر ال يتفق‬
‫وميله الطبيعي‪.‬‬
‫ومن خصائص الطفل التي يعرف هبا اللعب‪ .‬وهو نشاط طبيعي لكل‬
‫األطفال‪ ،‬إذ فيه جيدون فرصة لبذل نشاطهم املكنوز يف نفس الوقت الذي‬

‫‪27‬‬
‫يتمرسون فيه بواقع جديد مغر كل اإلغراء‪ .‬وأساس لعب األطفال التقليد‪،‬‬
‫تقليد األفعال وحماكاهتا‪ ،‬وتقليد األشياء ومتثيلها‪ .‬واللعب يقوم بوظيف‬
‫حيوي يف ميدان نمو الطفل‪ ،‬ألنه بمثابة مرحلة وسطى جيد فيها الطفل عاملا‬
‫لدنا متغريا بني حلظة وأخرى‪ ،‬ريثام يصلب عود الطفل وتنمو مداركه ليفهم‬
‫الواقع احلقيقي بصفة ثابتة موضوعية‪ .‬ويتناول الطفل يف لعبه كل امليادين‪،‬‬
‫فكأنه حني يلعب يكرر أعامله املتنوعة أو أعامل من يشاهدهم‪ ،‬حماوال أن‬
‫يفهمها ويتلبس هبا‪ .‬وكلام اكتشف جديدا أرسع إىل تقليده‪ ،‬فيجد يف اللذة‬
‫التي يناهلا من هذه الطريق مشجعا عىل اكتشاف أشياء جديدة‪ ،‬يؤيده يف هذا‬
‫فضوله الطبيعي الذي يمكن أن نعده أهم خصائص الطفل‪ ،‬وأكثرها قابلية‬
‫لالستثامر يف امليدان التعليمي‪ .‬لكن هذا الفضول‪ ،‬ككل الكنوز الثمينة‪ ،‬ال‬
‫يلبث أن يركد إن مل يتعهد بالتشجيع والبعث الالزمني‪ .‬وتشجيع فضول‬
‫الطفل يتوقف عىل أن نتيح له فرصة لريوي ظمأه‪ ،‬ونمهد له الطريق ليجري‬
‫يف كل مرة مسافة إىل األمام‪ .‬تصور طفال سألناه فزجرناه إما ألنه قطع علينا‬
‫أعاملنا‪ ،‬أو ألننا نعترب أسئلته لغوا‪ .‬هذا طفل لن يسألنا من بعد‪ ،‬وربام كف‬
‫حتى عن سؤال اآلخرين‪ .‬وربام استغنى عن االطالع بتاتا‪ .‬وتصور طفال‬
‫سألناه أو التمسنا نحن طريقا لنوقظ هنمه لالطالع‪ ،‬فرشحنا له املوضوع‬
‫ودعوناه ليشاركنا يف عملنا‪ .‬هذا الطفل الثاين سيتسع األفق الذي يتحرك‬
‫فيه‪ ،‬وسيقبل عىل العمل الذي بدأه معنا السيام إذا كانت هذه البداية عىل‬
‫قدر طاقته‪ ،‬مستجيبة لرغبته‪.‬‬
‫أما بعد‪ ،‬فهل يغني املعلم شيئا أن يعرف كل هذا عن الطفل‪ ،‬وأن‬
‫يعرف غريه من الدراسات العميقة حول الطفولة؟ إنه سؤال وضعه‬
‫مربون قدماء وقطع فيه روسو برأيه املشهور حني دعا املريب‪« :‬اعرف‬
‫طفلك فإنك والشك جتهله»‪ .‬ولقد فرغ اليوم من البحث يف رضورة‬
‫دراسة املعلم الطفل ألهنا أصبحت من البدهييات‪ .‬وأصبح علم النفس‬
‫علام مستقال تتنوع دراسته لتوفر للمعلم املعرفة التي حيتاج إليها عن طبع‬
‫الطفل وذكائه ودوافعه الكامنة‪.‬‬
‫واملعلم حيمل مسؤولية مزدوجة يف عمله‪ ،‬ويتوقف جدوى هذا العمل‬
‫عىل معرفته للطفل حتى هييئ وسائل مناسبة ليعطي تالميذه تعليام مناسبا‪،‬‬

‫‪28‬‬
‫وحتى يعرف سري نفسية الطفل ليسهل عليه تربيته‪ .‬تقول يل إن املعلم‬
‫ال يرى الطفل إال ساعات يف اليوم‪ ،‬وإنه يف احلقيقة ال حيمل إال جزءا‬
‫تافها من عبء الرتبية‪ ،‬فأجيبك بأن هذا الظن خطأ‪ ،‬وأن مكانة املعلم‬
‫املعنوية يف الدرجة األوىل‪ .‬فإذا شمل علمه طبيعة الطفل كانت النتيجة‬
‫كبرية بصفة مبارشة حني يعلم ويريب‪ ،‬وبصفة غري مبارشة حني يشارك يف‬
‫حميط الطفل االجتامعي مرشدا مربيا‪.‬‬
‫واملعلم احلديث يتلقى تكوينا نظريا يف علم النفس؛ فيدرس من‬
‫ذلك كثريا ويقرأ كثريا‪ .‬ويستنري بام يدرسه يف ميدان التطبيق‪ .‬فإذا علم‬
‫أن الطفل حيوي بطبعه‪ ،‬حاول أن جيعل مدرسته غنية بشتى الفرص‬
‫لبذل هذا النشاط‪ ،‬وسعى جلعل الطفل ينساق إىل األعامل البناءة التي‬
‫تساهم يف تربيته وتعليمه‪ .‬وإذا علم أن الطفل يميل إىل اللعب بطبعه‪،‬‬
‫أعطاه وقتا كافيا ملامرسة ألعابه‪ ،‬واستغل هذا امليل ليجعل من اللعب نفسه‬
‫عمال تربويا‪ .‬وإذا علم أن الطفل فضويل حمب لالطالع‪ ،‬أعد له املجاالت‬
‫اجلديدة إلرضاء هذا الفضول‪ ،‬وشجعه يف حماوالته ليثبت ويتقدم‪.‬‬
‫وهكذا ينزل املعلم معارفه النفسية من األفق العام إىل حيز التنفيذ‪.‬‬
‫والتكوين النظري‪ ،‬كام نرى‪ ،‬رضوري‪ ،‬لكنه يكتيس حلة التعميم‬
‫والتجريد؛ فالبد من تكميله بالدراسات التي تكون أكثر مساسا بالطفل‬
‫احلي‪ .‬وسواء كانت هذه الدراسات موجهة مثل التي يتاح للطالب أن يتبعها‬
‫يف مدرسة املعلمني‪ ،‬أو حرة يامرسها املعلم مع أطفاله عندما يبارش العمل‬
‫معهم‪ ،‬فينبغي أن تعطاها ما تستحقه من عناية‪ ،‬وتنظم تنظيام حتى تبلغ إىل‬
‫النتيجة املنتظرة منها‪ .‬وأمام املعلم إمكانيات نفيسة لدراسة الطفل؛ ألنه‬
‫يعايشه يف كل يوم‪ ،‬ويراه يف شتى حاالته من لعب وجد‪ ،‬يراه حني هيتم بأمر‬
‫ما وكيف هيتم به‪ ،‬وكيف ينجز ما عزم عليه‪ ،‬ويراه حني ينطلق يف طبيعته يف‬
‫ساحة املدرسة‪ .‬ومن السهل تنظيم استغالل هذه اإلمكانيات باختاذ دفرت‬
‫يدون عليه املعلم مالحظاته النفسية عىل كل طفل ليمكنه الرجوع إليها‬
‫من حني حلني‪ ،‬ومن السهل أيضا أن يتمم هذه اإلمكانيات بام جيمعه من‬
‫معلومات من األبوين واألرسة‪ .‬وكل هذا يتطلب حزما من املعلم ونفاذا‬

‫‪29‬‬
‫يف بصريته‪ ،‬ألنه إن مل يستجمع فكره يوشك أن يستنتج استنتاجات فاسدة؛‬
‫وبالتايل يرض من حيث نوى أن ينفع‪ .‬وهذا ما حيدث إن حكمت مترسعا‬
‫عىل طفل من أطفالك ملجرد بادرة بدرت منه‪ ،‬ثم بنيت عىل حكمك هذا‬
‫نوع املعاملة التي خصصتها هلذا الطفل‪.‬‬
‫وهذه الدراسة الشخصية رضورية ملا يوجد يف األطفال من اختالف‬
‫فردي جتب مراعاته يف معاملة كل طفل‪.‬‬
‫الطفل ممتلئ حياة ونشاطا‪ ،‬تصطبغ أعامله باندفاع شديد‪ ،‬مرده إىل‬
‫أن الواقع الذي يعيشه الطفل وهو حديث العهد به‪ ،‬يغريه بأن يتطلع‬
‫ويكتشف‪ .‬فإذا جاء هذا الكائن املتحمس إىل املدرسة‪ ،‬محل معه محاسه‬
‫وقابليته التي ال تنتهي ملامرسة نشاطه املحبب‪ ،‬اللعب‪ ،‬وممارسة أي نوع‬
‫من أنواع الشغل الذي يصادف يف نفسه رغبة ويرضيها‪ .‬لكن املدرسة‪،‬‬
‫بحكم وظيفتها‪ ،‬ال تقرتح عىل الطفل إال أعامال جادة كل اجلد‪ .‬ومىض‬
‫عهد كانت املدرسة تقطع فيه ما بينها وبني حياة الطفل العادية من أسباب‪،‬‬
‫وتفرض أعامهلا فرضا عىل النحو الذي تراه موافقا‪ .‬وأصبح املعلم احلديث‬
‫حياول عىل العكس أن يسخر نشاط الطفل العفوي ويسري يف ركابه‪ ،‬ألنه‬
‫يدرك أن هذه أحسن الوسائل ليدرك غاياته ومعه الطفل ال ضده‪.‬‬
‫والنشاط املدريس بطبيعته أجنبي عن الطفل‪ ،‬وخليق هبذه الصفة أن‬
‫تبعث عىل النفور‪ .‬ال هيم الطفل أن يكتب لكن هيمه أن يتكلم‪ ،‬وهو ال‬
‫يريد أن يقرأ وينصت‪ ،‬لكنه يرغب يف مشاركة أقرانه أحاديثهم وألعاهبم‪،‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ ،‬يكون اهتامم الطفل يف واد‪ ،‬وأهداف املدرسة يف واد غريه‪.‬‬
‫وعند هذه النقطة تربز أمهية دراسة املعلم ألحوال الطفل ونفسه‪ ،‬حتى‬
‫يستكشف دوافع الطفولة ويستغلها ليحول جمرى اهتامم الطفل قليال‪،‬‬
‫ويكيف طرق تربيته وتعليمه قليال‪ ،‬ويصل إىل تقريب ما بني املدرسة‬
‫والطفل يف آخر األمر‪.‬‬
‫ومن أجل هذا يدرس املعلم احلديث الطفل‪ ،‬فيطلع عىل النتائج‬
‫التي حصلها الباحثون النفسانيون‪ ،‬ويفتح عيني رأسه وبصريته ليالحظ‬
‫أطفاله يف كل يوم‪ ،‬وهيتدي إىل رأي يف شخصية كل واحد منهم وعقليته‪.‬‬
‫وهكذا حيقق الكلمة القائلة‪:‬‬
‫«ادرس الطفل أوال‪ ،‬ثم ادرس كل طفل عىل حدة»‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫املوضوع رقم ‪2‬‬
‫قال أحد املربني‪« :‬أفضل أن حيبني التالميذ عوض أن خيافوين»‪.‬‬
‫وقال مرب آخر‪« :‬أفضل معلام قايس القلب»‪.‬‬
‫أدل برأيك يف املوضوع‪ ،‬وبني الوسائل التي ترتكز عليها سلطتك‪.‬‬

‫أ‪ -‬فهم املوضوع‬


‫هذا موضوع أدرجناه مع مواضيع علم النفس نظرا ألن عالقات املعلم‬
‫بتالميذه تنبني قبل كل يشء عىل مقدار فهم املعلم لنفسية الطفل‪ ،‬وعىل نوع‬
‫االتصال العاطفي الذي يكون بينه وبينهم‪ .‬نقول العالقات واالتصال بني‬
‫املعلم والتلميذ وال نقصد بذلك ما يكون بني املعلم الفظ الذي حيمل يف يده‬
‫عصا العقاب دائام‪ ،‬ألن مثل هذا املعلم ال توجد بينه وبني تالميذه أية عالقة‬
‫إال عالقة البغضاء واخلوف حتملها قبله القلوب الصغرية‪.‬‬
‫والسؤال ذو طرفني كام نرى‪ ،‬تتعارض فيه وجهتا نظر تبدوان ألول‬
‫وهلة عىل طريف نقيض‪ :‬املريب الذي يسعى لربح حمبة التالميذ‪ ،‬واملعلم‬
‫قايس القلب‪ .‬فإذا ألقينا نظرة ثانية وتفحصنا األمر‪ ،‬فهل تبقى النظريتان‬
‫حقا متعارضتني؟‬
‫هذه نقطة البد من توضيحها قبل أن نميض إىل نقط املوضوع‬
‫األخرى‪ ،‬ألن السائل يطلب إلينا أن نبدي رأينا يف املوضوع‪ ،‬لكن‬
‫هذا الرأي لن نضعه هكذا دون أن نبني أوال معنى العبارتني اللتني‬
‫أوردمها السائل‪ .‬لننظر إىل صلة املعلم والتلميذ‪ ،‬وهل تتناىف هذه‬
‫الصلة مع إمكانية قيام وشائج عاطفية باألخص من جانب التلميذ‪.‬‬
‫نعرف مجيعا أن التالميذ يعجبون باملعلم متى كان املعلم ماهرا يف‬
‫عمله‪ ،‬ومتوفرا عىل خصائص نفسية وعقلية وطبعية‪ ،‬ونعرف أن مثل‬
‫هذا املعلم يكون هدفا لعواطف األطفال يتعلقون به وحيبونه‪ .‬ولننظر‬
‫اآلن من جانب ثان إىل موقف املعلم جتاه تالميذه‪ .‬الشك أن املعلم‬

‫‪31‬‬
‫املطبوع يتميز قبل كل يشء بحبه لألطفال‪ ،‬والشك أيضا أن املعلم كيفام‬
‫كان يصل وقت يشعر فيه بعطف عىل تالميذه وحمبته هلم‪ ،‬فهل تتناىف هذه‬
‫املحبة مع أن يكون املعلم قايس القلب كام تقول بذلك النظرية الثانية يف‬
‫سؤالنا؟ اجلواب أن وظيفة املعلم هي أن يريب كل األطفال ويعلم كل‬
‫األطفال‪ ،‬الذكي منهم واألقل ذكاء‪ ،‬الطيع منهم والصعب املراس‪ .‬ومهام‬
‫كان حبه هلم أو بغضه‪ ،‬فالبد أن يكون لديه من الشدة ما حيملهم به عىل‬
‫األعامل التي جيب أن ينجزوها يف املدرسة‪ .‬وبالتايل البد أن يتصف بنوع‬
‫من قساوة القلب حتى يستقيم له األمر‪ .‬وواضح أن املعلم اللني البالغ‬
‫اللني يكون عاجزا عن تسيري قسم يضم مجاعة من األطفال متباينني من‬
‫حيث أوساطهم التي جاءوا منها‪ ،‬ومن حيث طبعهم اخلاص‪ ،‬ومن حيث‬
‫عاداهتم ومستوياهتم الفكرية واالجتامعية‪ .‬وبوسع كل واحد أن يتصور‬
‫املناظر اهلزلية التي يمكن أن يمثلها املعلم الطيب الغفالن‪ ،‬حامل الفانيذ‬
‫واحللوى‪ ،‬الذي يظهر عطفه عىل األطفال إىل درجة أهنم ينطلقون من‬
‫عقاهلم ويعاملونه كأحدهم ملتفني حوله متعلقني بأذياله‪ .‬وإن ما قلناه‬
‫من وجوب أن يتصف املعلم ببعض قساوة القلب‪ ،‬ال ينفي أن تتبقى بينه‬
‫وبني أطفاله العالقات الودية مل متس‪ .‬بل ربام تزيد معاملة املعلم اجلدية‬
‫لتالميذه وقت اجلد يف ربط هذه العالقات وتوطيدها‪.‬‬
‫والشك أن املريب صاحب النظرية الثانية‪ ،‬مل يقصد قساوة القلب‬
‫بمعناها الظاهر‪ ،‬نعني الفظاظة والغلظة‪ ،‬وإنام يقصد أن يكتم املعلم حمبته‬
‫لألطفال حتى ال يعرف هؤالء نقطة ضعفه هذه فيأتوه منها‪ ،‬وأن حيل حملها‬
‫عىل حمياه‪ ،‬ويف ظاهر أمره‪ ،‬حزما كامال يكون ضامنة ألن يشعر األطفال‬
‫بأهنم يف عينيه سواسية‪ ،‬وأن أي اعتبار لن يثنيه عن قصده‪ .‬عىل أن هذا‬
‫املظهر القايس إنام يكون درقة خيتفي حتته العطف احلقيقي عىل الطفولة‬
‫وإرادة اخلري هلا‪ .‬ألن هذه العاطفة هي املحرك القوي الذي نجده عند‬
‫املعلمني الناجحني املمتازين من أمثال تلك املعلمة التي ربت األمريكية‬
‫الصامء البكامء العمياء «هلن كلر»‪.‬‬
‫وإذا فقد وجدنا قاعدة يلتقي عليها الرأيان‪ :‬رأي داع إىل حمبة الطفل‬

‫‪32‬‬
‫ملعلمه‪ ،‬وعمل املعلم عىل أن ينال هذه املودة ويعوض هبا اخلوف‪ ،‬والرأي‬
‫الثاين املويص بالشدة وقساوة القلب‪.‬‬
‫وكائنا من كان صاح بالرأي األول‪ ،‬الذي يظهر أنه حيذر قبل كل يشء‬
‫من الرأي القديم الذي كان مطبقا يف املدارس القديمة حيث يمثل املعلم‬
‫السلطة والقوة‪ ،‬ويعترب الطفل مطبوعا عىل الرش فيأخذه بالشدة‪ ،‬وال‬
‫يفكر حلظة يف إمكان أو فائدة إقامة عالقات عاطفية معه‪ .‬ورغم أن الرأي‬
‫الثاين ربام جاء كرد فعل للرأي األول خمافة أن يبالغ املعلم يف اصطياد حمبة‬
‫األطفال والتضحية يف سبيلها بمقامه وسلطته‪ .‬قلت أيا ما كان األمر فإن‬
‫السائل يطلب إلينا رأينا اخلاص يف املوضوع‪ .‬ورأينا اخلاص ينبغي أن يأخذ‬
‫بعني االعتبار ما وصل إليه علم النفس احلديث من أن حياة الطفل العاطفية‬
‫أبلغ أثرا يف ترصفه مما كنا نظن‪ ،‬ويأخذ بعني االعتبار حاجة الطفل يف نفس‬
‫الوقت إىل أن يشعر بأن أمامه شخصا قويا نافذ العزيمة‪ .‬وبعبارة أخرى‬
‫ينبغي أن نبني رأينا اخلاص عىل معطيات علم النفس احلديث‪.‬‬
‫واحلقيقة أن السائل سهل لنا ا لبحث كثريا‪ ،‬وزودنا من أول األمر‬
‫باألسباب التي تبلغنا إىل الرأي الصواب إن نحن متسكنا هبا‪ ،‬وعرفنا‬
‫كيف نحيك منها جسام قويا من األفكار دون أن نخلطها‪ .‬فهو قدم بني‬
‫يدينا الرأيني املتعارضني ليكون تعارضهام صدمة تنبهنا إىل أمهية املوضوع‬
‫وتشعبه‪ ،‬ثم يطلب إلينا يف سؤال أخري أن نذكر مقومات سلطة املعلم‪،‬‬
‫كأنه يريد أن يشعرنا أن األمر ال يقف فقط عند وجود أو انعدام املودة‬
‫والعطف بني املعلم والتلميذ‪ ،‬لكن يتعدى ذلك فيحدث األثر الفعال عىل‬
‫سلطة املعلم‪ ،‬وبالتايل عىل نجاحه يف عمله‪ ،‬وجدوى هذا العمل كنتيجة‬
‫أخرية‪.‬‬
‫ب‪ -‬التصميم‬
‫* تقديم املوضوع ووضع املشكلة‪.‬‬
‫* رأيي اخلاص‪.‬‬
‫* الوسائل التي ترتكز عليه سلطتي‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫ج‪ -‬التصميم املفصل‬
‫* حياة الطفل العاطفية بني البيت واملدرسة – حاجته العاطفية‬
‫وحاجته إىل سلطة يف املدرسة‪ -‬موقف املعلم‪ -‬استجابته أو عدم استجابته‬
‫هلذه احلاجة‪ -‬املوقفان املتعارضان كام يبدوان يف الرأيني اللذين أمامنا‪.‬‬
‫* رأيي اخلاص أبنيه عىل اعتبار حاجة الطفل العاطفية‪ -‬وحاجته إىل‬
‫قوة حامية يف املدرسة تقوم مقام األب يف البيت‪ -‬ورضورة إنجاز أعامل‬
‫مدرسية قد تفرض عىل الطفل فال خيضع هلا إال إن عضدهتا سلطة املعلم‪-‬‬
‫رأيي اخلاص هو التقريب بني النظريتني‪ ،‬بل فهمهام فهام صحيحا والنفوذ‬
‫إىل اتفاقهام احلقيقي الذي قد حتجبه العبارة‪.‬‬
‫* ترتكز سلطتي يف القسم عىل فهمي للطفل حتى أسري مع ميله دون‬
‫أن أحيد عن اخلطة التي رسمتها نحو هديف الرتبوي والتعليمي‪ -‬وعىل‬
‫عديل بني األطفال ومساوايت بينهم‪ -‬وعىل حمبتي احلقيقية هلم وإخاليص‬
‫ملهنتي اللذين جيعالين أقوم بالواجب‪.‬‬
‫د‪ -‬اإلنشاء‬
‫املعلم أول عهده بالتعليم‪ ،‬خصوصا إذا مل يتلق تكوينا يعده للمهنة‪،‬‬
‫يقف متسائال أمام مشكلة عظيمة؛ يتساءل كيف سأكون مع األطفال؟‬
‫وكيف جيب أن أكون معهم؟ خيتلف موقف املعلمني من هذه املشكلة‪،‬‬
‫ويتفاوت اهتاممهم هبا باختالف طبعهم؛ فواحد يفكر قبل كل يشء يف‬
‫سمعته التي ستضعف عند زمالئه إن دخل القسم ومل يملك زمام األطفال‬
‫فشاغبوه‪ ،‬واآلخر يفكر بدافع إخالصه للمهنة‪ ،‬باحثا عن الوسيلة التي‬
‫هبا يعمل عمال جمديا‪ .‬ثم يدخل املعلم إىل القسم فيتخذ لنفسه موقفا ما‪،‬‬
‫فإما يلوح بالعصا وخييف‪ ،‬وإما يسرتيض ويتحبب‪ .‬فإذا مىض عليه وقت‬
‫اكتسب فيه جتربة‪ ،‬وألف فيه املهنة وممارسة التالميذ‪ ،‬فالغالب عىل الظن‬
‫أنه كون لنفسه رأيا يف املوضوع‪ ،‬وقدر نوع العالقات ونوع املعاملة التي‬
‫ستكون بينه وبني األطفال‪ .‬ويتخذ هذا القرار بناء عىل ما رأى من رد فعل‬
‫التالميذ لطريقة معاملته هلم‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫لكن املشكلة أعمق من أن يكون صاحلا هلا احلل الذي يتخذه فيها‬
‫املعلم بعد جتربة قليلة وسطحية‪ .‬ومن يدري فلعله توخى السهولة يف‬
‫حله‪ ،‬وتبنى أرسع الطرق إلنزال الصمت يف قسمه‪ ،‬وكف التالميذ عن‬
‫احلركة‪ .‬طريقة العنف والعصا؟‬
‫واملشكلة قديمة قدم املهنة‪ ،‬تضاربت فيها اآلراء‪ ،‬حتى بلغت‬
‫التناقض؛ فنجد مربيا يفضل أن حيبه التالميذ عوض أن خيافوه‪ ،‬ونجد‬
‫مربيا ثانيا يريد أن يكون املعلم قايس القلب‪ ،‬وكل هذا‪ -‬أعني خطورة‬
‫املشكلة وتضارب اآلراء فيها‪ -‬يفرض عىل املعلم أن يتخذ لنفسه رأيا يف‬
‫املوضوع‪ ،‬يقرر عىل أي أساس سريكز سلطته‪.‬‬
‫يفتح الطفل عينيه عىل أبوين مها مورد كل خري يناله‪ ،‬فتنشأ فيه عاطفة‬
‫حمبة قوية نحومها‪ ،‬وباألخص نحو أمه يف السنوات األوىل‪ ،‬أو نحو‬
‫مربيته‪ ،‬ثم يتسع نطاق هذه العاطفة حتى يضم أفراد األرسة ممن يعايشهم‬
‫الطفل‪ .‬وهذه العالقة العاطفية هي للطفل بمثابة رباط يربطه بالناس‪،‬‬
‫فهي أقوى من العاطفة التي بني أفراد األرسة الكبار‪ ،‬وهي يف حاجة إىل‬
‫التأكد من نفسها يف كل حني‪ .‬تفتقر إىل عالمات العطف واملودة يتبادهلا‬
‫الطفل مع من حيبهم‪ .‬ويزيد من قوهتا أن الطفل ال يملك وسائل مستقلة‬
‫لتوفري أسباب العيش واألمن النفيس‪ ،‬فهو يف حاجة دائمة إىل الشخص أو‬
‫األشخاص الذين يرعونه ويوفرون له هذا األمن‪ .‬وهلذه الناحية صدى يف‬
‫عاطفة الطفل‪ ،‬فإنه حيتاج أن جيد فيمن حيبه متانة يف الترصف واستمرارا‬
‫فيه‪ ،‬يوحيان بالقوة التي يطمأن إليها‪.‬‬
‫وجييء اليوم الذي يبعث فيه الطفل إىل املدرسة‪ ،‬وهو يوم فطامه‬
‫العاطفي‪ ،‬يرغم فيه عىل ترك عيشه الدافئ عاطفيا‪ ،‬ومعارشة أشخاص‬
‫أجانب أوهلم املعلم‪ .‬ولئن كان الطفل جيد أقرانا يف سنه فال يلبث أن يتقرب‬
‫إليهم ويندمج معهم اندماجا كليا‪ ،‬فإن عالقته باملعلم تتسم أول األمر ببعض‬
‫الرتدد والنكوص اللذين يبدوان عىل كل طفل أمام أشخاص كبار أجانب‬
‫لكي تستقر آخر األمر عىل وجه من الوجوه؛ فإما يميل إىل معلمه وحيبه‪ ،‬وإما‬

‫‪35‬‬
‫خيافه دون أن يبغضه‪ ،‬وإما يبغضه وخيافه‪ ،‬وإما يكون املعلم بالنسبة إليه‬
‫فراغا ال يعتد به‪.‬‬
‫هذه ناحية الطفل‪ .‬وهذه حاجته‪ ،‬يبحث يف املدرسة عن ملء الفراغ‬
‫العاطفي الذي أحدثه بعده عن البيت‪ ،‬فرييض بعض هذا الفراغ بصالته‬
‫مع أقرانه لكنه ال يزال يف حاجة إىل شخص قوي جيد عنده ركنا مأمونا‪.‬‬
‫أما املعلم فهو أمام هذه القضية يف حالتني‪ ،‬أن يفهم الطفل وحاجاته‬
‫فيعمل عىل تلبيتها‪ .‬أو يعترب الطفل طينة قابلة للتكييف‪ ،‬فيعمل فيها‬
‫خماطرا بإفساد كل يشء‪ .‬ويف هذه احلالة األخرية نجد نامذج املعلمني يف‬
‫سلسلة طويلة تبدأ من الذي يعمل جادا صارما وتنتهي بالفظ الغليظ‪.‬‬
‫أما يف احلالة األوىل فإن األمر أكثر تنوعا‪ ،‬واملعلمون ليسوا سواء من‬
‫حيث تطبيقهم للمبدأ القائل بكسب مودة األطفال والتدرج عىل‬
‫العطف عليهم‪ .‬ومن املعلمني من يتغاىل يف التمسك به إىل درجة التخاذل‬
‫واإلخالل باملسؤولية‪ ،‬ومنهم من يسرت ضعفه احلقيقي حتت ستار حب‬
‫األطفال والنفور من السطو عليهم‪ .‬عىل أن بني احلالتني موقف وسط‬
‫الشك‪ ،‬أو عىل األصح‪ ،‬بني القسوة عىل األطفال وكسب حبهم‪ ،‬درجة‬
‫مثىل‪ .‬وليست هنا العربة بالكم بل بالكيف‪ .‬ليس األمر متوقفا عىل قدر‬
‫القسوة واملحبة بل بكيفية مزجهام‪.‬‬
‫ورأيي أن للكيفية التي هبا نقرتب من الطفل أمهية كربى‪ ،‬وأثرا بعيدا‬
‫عىل كل عمل نريده مثمرا يف ميدان الرتبية والتعليم‪ .‬فعندما يبعث إلينا‬
‫الطفل إىل املدرسة‪ ،‬ويشعر بوحشة كبرية‪ ،‬وحاجة حيوية إىل عطف شخص‬
‫راشد وحمبته يعوضان ما يفقده ساعات طويلة كل يوم من عطف أبويه‬
‫وحبهام‪ ،‬تسنح لنا فرصة ثمينة إن أحسنا استغالهلا ربحنا الطفل وأكسبناه‬
‫خريا كثريا‪ ،‬وإن نحن أمهلناها‪ ،‬ومل نعتد بحاجات عاطفته‪ ،‬شجعنا الطفل‬
‫عىل انطوائه الطبيعي الذي بدأه منذ وطئت قدماه أرضا غريبة‪ ،‬ومنذ رأى‬
‫من حوله غرباء‪،‬وأعطيناه نفورا هنائيا من املدرسة ومن أعامل املدرسة‪،‬‬
‫فعرب سنواهتا طافيا عىل السطح‪ ،‬مل حتدث املدرسة أثرا يف تربيته اللهم إال‬
‫إذا كان هذا األثر سلبيا‪ ،‬ومل تعطه من املعرفة النوع الذي خيصب الذهن‬
‫ويدفعه إىل اكتشاف احلقائق‪ ،‬والتقوية الذاتية‪ .‬جييء الطفل إىل املدرسة‪،‬‬

‫‪36‬‬
‫ويبدو عليه بعض اإلنطواء‪ ،‬لكنه يف قرارة نفسه‪ ،‬يشعر بفراغ عاطفي يطمع‬
‫أن يمأله‪ ،‬ويشعر بعدم استقرار حتى جيد قوة يركن إليها‪ .‬ومن قبله املعلم‬
‫الذي يمثل السلطة املدرسية‪ ،‬وسلطة الراشدين عىل وجه العموم‪ ،‬فال جيرس‬
‫الطفل أن يرمي نفسه بني أحضان هذا الشخص الغريب واإلفضاء إليه بذات‬
‫نفسه كام يفعل مع أبيه وأمه‪ ،‬وال جيرس أن يرى يف هذا الشخص‪ ،‬وحوله‬
‫هالة يف نظر الطفل‪ ،‬عوضا طبيعيا عن أبويه‪ .‬لكنه مستعد ليستجيب ألول‬
‫إشارة‪ ،‬ويعطي ثقته الكاملة للمعلمة أو املعلم متى عرفا كيف يأخذاهنا‪.‬‬
‫وجيد املعلم نفسه بني دافعني‪ ،‬الدافع النفيس الذي يبغي أن يقيم يف ميزانه‬
‫مكانة حلاجة الطفل العاطفية‪ ،‬والدافع املهني الذي ال يعرف هدفا غري‬
‫القيام بالواجب‪ ،‬وأداء الرسالة‪ .‬ومن هنا كانت صعوبة املشكل‪ ،‬إذ يقتيض‬
‫األمر حال وسطا بني إقامة عالقة عاطفية كالتي بني أفراد األرسة‪ ،‬والتذرع‬
‫بام يفرضه العمل الرتبوي إلقامة حاجز عاطفي بني التلميذ وأستاذه‪،‬‬
‫وليبقى فقط السلطة من ناحية والطاعة من ناحية أخرى‪ .‬فالبد أن تكون يف‬
‫املدرسة عالقات خمالفة يف طبيعتها للعالقات األرسية‪ ،‬ولعالقات الرئيس‬
‫بمرؤوسه‪ .‬فتكتيس العاطفة بني املعلم والتلميذ صبغة جديدة بام يكسبها‬
‫إياه مقام املعلم يف عني الصغار‪ .‬تصطبغ عاطفتهم نحوه بكثري من االحرتام‪،‬‬
‫وما تزال مكانة املعلم‪ -‬إن كان له من الصفات الكاملة‪ -‬تسمو حتى أهنا‬
‫لتغطي عىل مكانة األب واألم‪ .‬ليس ذلك ألن الطفل يكف عن حب أبويه‪،‬‬
‫لكن املعلم عنده شخص فوق املستوى العادي‪ ،‬حيبه حمبة خاصة ويضعه‬
‫نصب عينيه مثاال للمعرفة والسلوك القويم‪ .‬ومن منا مل يسمع طفال حياج‬
‫الناس‪ ،‬ويقدم بني يديه أكرب برهان يتصوره عندما يقول‪" :‬قاهلا األستاذ"؟‬
‫وإذا بلغ األمر بإحساس الطفل نحو معلمه إىل هذا احلد‪ ،‬كانت املدرسة يف‬
‫خري‪ ،‬واجتهد التلميذ يف عمله‪ ،‬وأطاع األوامر ابتغاء مرضاة مثله األعىل‪.‬‬
‫وقد وصفنا حمبة الطفل ملعلمه ومل نقل كيف تتكون هذه العاطفة‪ ،‬وهل‬
‫تتفق وما ينبغي أن يتمتع به املعلم من سلطة‪ .‬وهذا يرجعنا إىل الرأيني‬
‫املتعارضني اللذين قرأنامها يف نص املوضوع‪ .‬ماذا يعمل املعلم لكي حيبه‬
‫أطفاله‪ ،‬ثم أليس رضوريا أن يتسم ببعض قساوة القلب إذا أراد أن تكون‬
‫له سلطة؟‬

‫‪37‬‬
‫لنفرغ أوال من فكرة تعارض الرأيني‪ ،‬فقد ملحنا من أول هذا املقال إىل‬
‫أن هذا التعارض ظاهري فقط‪ ،‬وأن املربيني متفقان يف حقيقة األمر‪ ،‬فال‬
‫يبقى إال أن نقول الرشوط التي جيب أن تتوفر يف املعلم لينال حمبة أطفاله‪،‬‬
‫ويمسك بزمام األمر يف عمله‪ .‬ويف نظري أن حمبة األطفال للمعلم رشط‬
‫يف احرتامهم أوامره‪ ،‬وال يعرتض عيل بأن املعلم الفظ له سلطة أيضا‪ ،‬إذ‬
‫ال تعد الطاعة خوفا من العصا طاعة‪ ،‬إنام ينافق التالميذ جالدهم اتقاء‬
‫رشه‪ .‬أما السلطة احلق فهي التي تستمد قوهتا من التفوق اخللقي الذي‬
‫يتجىل به رب السلطة‪.‬‬
‫وأول مقومات السلطة الثقة‪ ،‬فإن اإلنسان ال خيضع خضوعا حقيقيا‬
‫لقوة ال يؤمن هبا وال يثق‪ ،‬وإن عمل املدرسة متوقف عىل تعاون الطفل معها‬
‫وإعطائه إياها قياده‪ .‬ونجد املعلم الناجح هو ذلك الذي حيرتم شخصية‬
‫أطفاله وجيعل ذلك مبدأ يف معاملته إياهم‪ .‬يدرس نفسية الطفولة وطبع‬
‫كل طفل يف قسمه ليعرف اجتاه كل واحد‪ ،‬ونوع املؤرشات التي تعمل فيه‪.‬‬
‫ومتى عرف هذا‪ ،‬كان بوسعه أن يسخر التيار احليوي الذي حيل كل طفل‬
‫ليحقق أهدافه دون أن يمس أطفاله يف شعورهم بالذات‪ ،‬بأن يتعارض‬
‫معهم تعارضا جوهريا‪ .‬وإن اقتىض األمر أن يأمر بقوة ويظهر الرصامة‪،‬‬
‫فعل ذلك دون أن يقطع النظر عن حاجات الطفل‪ ،‬وطاقته‪ .‬ويف مثل هذه‬
‫احلالة يفضل املريب معلام قايس القلب‪ .‬والرس يف األمر أن يعرف املعلم‬
‫كيف ومتى جيب أن يقول أو يكون صارما‪ .‬الرس يف أن يتحرى اللحظة‬
‫السيكولوجية املناسبة فإذا صادفها تقبل التالميذ "قسوة قلبه" هذه بصدر‬
‫رحب وارتياح إىل أن أمامهم قوة تعرف الغاية التي متيش إليها‪.‬‬
‫هذا وإن ثقة التالميذ ال تنال إال إذا قر يف نفسهم أن املعلم يمثل مبدأ ال‬
‫حييد‪ ،‬وأنه ينظر حلقيقة العمل عندما حيكم‪ ،‬غري متأثر بعامل أجنبي‪ .‬يريد‬
‫األطفال أن يكون املعلم عادال ال يتحيز ألحد‪ ،‬مايض العزم يف عدله‪ ،‬إذا‬
‫قىض أمرا نفذه بالفعل‪ .‬وحياة القسم مليئة باألحداث التي تنتظر أن حيلها‬
‫املعلم‪ ،‬والتالميذ يالحظون‪ ،‬بل يشعرون شعورا خفيا نفاذا‪ ،‬بكل حركة‬
‫يف نفس املعلم‪ .‬ومتى عرف التالميذ عند أستاذهم ضعفا نحو واحد‬

‫‪38‬‬
‫منهم‪ ،‬أو أخطاء يف احلكم‪ ،‬ثاروا عليه وعملوا بكل وسيلة ليظهروا له‬
‫ثورهتم‪ .‬وهنا أعطي مثال املعلم الظامل‪ ،‬يعاكسه التالميذ بكل وسيلة‪،‬‬
‫واملعلم املتحيز‪ ،‬خيتل نظام قسمه وتنشأ بترصفه العداوة بني أطفال‬
‫القسم‪ ،‬ثم املعلم املتخاذل الضعيف‪ ،‬الذي يغفر الزلة وقد كان فرض هلا‬
‫عقابا‪ ،‬إذ ينزل يف عيني الصغار ألنه فقد صفة من الصفات الرئيسية‪ ،‬أال‬
‫وهي املتانة والقوة‪.‬‬
‫املشكلة مسواة بيرس‪ ،‬إذا كان قلب املعلم ذا حساسية خاصة‪ ،‬وحب‬
‫خملص للطفل‪ .‬يريد أن حيبه األطفال‪ ،‬ويريد يف نفس الوقت أن تكون‬
‫له سلطة لينجز عمله كمعلم وكمرب‪ ،‬يف قلبه من كنوز العطف وتفهم‬
‫الصغار ما سيفتح الباب أمامه‪ ،‬حبه جيعله دائبا عىل العمل إلعداد قسمه‬
‫واتقان عمله‪ ،‬جيعله دائبا لتهيء هذا القسم عشا فيه دفء عاطفي حيس به‬
‫األطفال ويطمئنون إليه‪ .‬جيعله ساهرا عىل راحة أطفاله‪ ،‬هييء هلم أسباب‬
‫النمو والتقدم دون أن جيرح عواطفهم أو يشعرهم بأهنم غرباء‪ .‬حب‬
‫املعلم لألطفال يضفي عىل أعامل القسم صفة املرح واحلامس‪ ،‬حتى إذا‬
‫كان من بني هذه األعامل ما يتطلب جهدا وصربا‪ ،‬ألن العمل عرف كيف‬
‫يقدمه‪ ،‬وكيف يفرضه‪.‬ال حيدث يف قسم املعلم الذي حيب أطفاله مشكل‬
‫نظامي‪ ،‬فسلطة هذا املعلم طبيعية قوامها شخصية متينة‪ ،‬ومعاملة موحدة‬
‫ال حتيد عن اجلادة‪.‬‬
‫وجممل القول أن أمامنا معلمني‪ ،‬واحد بسيط الفهم‪ ،‬يقول لنفسه‪:‬‬
‫«هؤالء صبية يف عهديت فألسع إذا يف مرضاهتم حتى ال حتدث يل مشاكل»‬
‫ويميض يف التزلف إىل الصبية وجماراهتم‪ :‬وإذا قدر له يوما أن يتأمل األمر‪،‬‬
‫وينتبه إىل أنه صار ألعوبة بني أيدي الصغار‪ ،‬رجع إىل «املعلم قايس القلب»‬
‫ومثلها مرة أخرى متثيال بشعا دون أن يستقيم يشء يف يده‪ .‬والثاين معلم‬
‫حازم حمب للطفولة‪ ،‬كون لنفسه شخصية قوية حمببة‪ ،‬يعمل بإخالص‬
‫فيعرف له األطفال ذلك وحيرتمونه‪ ،‬ويعمل يف رصامة إذا اقتىض احلال؛‬
‫فيحب األطفال قوته هذه ألنه مل جيعلها مسخرة إال لتحقيق أهداف‬
‫حددها لنفسه ولبنيه‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫املوضوع رقم ‪:3‬‬
‫قيل «إن اخلطوط العريضة لشخصية الطفل ترسم يف سني الطفولة‬
‫املبكرة‪ ،‬وإن مصريه ليتقرر بني جدران البيت»‪.‬‬
‫ناقشوا هذه املقولة‪ ،‬مبينني اخلطورة التي للبيت يف امليدان الرتبوي‪.‬‬

‫أ‪ -‬فهم املوضوع‬


‫أمامنا موضوع سيكولوجي يضع مشكلة طاملا بحثها الباحثون‬
‫والزالوا‪ .‬ويف القديم كان القوم يعتربون السنوات األوىل من الطفولة غري‬
‫ذات أمهية‪ ،‬فيرتكون الطفل ألمه أو مربيته يكرب كيفام اتفق‪ .‬أما املحدثون‬
‫فإهنم يعلقون عىل السنوات األوىل أمهية كبرية يعطينا عنها فكرة النص‬
‫الذي أمامنا بل نشأ علم مستقل بذاته‪ ،‬وهو التحليل النفيس‪ ،‬منذ نرش‬
‫فرويد يف الناس أبحاثه‪ ،‬يستمد جل مادته‪ ،‬إن مل نقل كل مادته‪ ،‬من أحداث‬
‫الطفولة املبكرة‪ .‬ويف نظر املحللني النفسانيني أن كل حادث حيدث يف هذه‬
‫املرحلة يتمدد وينغرز يف النفس‪ ،‬ويبقى كامنا يف العقل الباطن‪ ،‬لكي ينم‬
‫عنه الصدى الذي حيدثه يف ترصف الراشدين وإحساسهم وموقفهم جتاه‬
‫احلياة واملتأمل يف النص الذي أمامنا جيد نفس العلامء املحللني إذا يقرأ هذا‬
‫احلكم النهائي‪« :‬وإن مصريه ليقرر بني جدران البيت»‪.‬‬
‫السؤال يطلب إلينا أوال أن نناقش املوضوع‪ ،‬ثم أن نبني أمهية‬
‫السنوات األوىل يف حياة الطفل‪ .‬ومناقشة القول ليس معناها التسليم‬
‫واملوافقة؛ لكن قبل كل يشء عرض وجهتي نظر متقابلتني‪ ،‬ثم الفصل‬
‫بينهام برأي‪ .‬وسنتخذ هذا قاعدة عامة‪ ،‬فكلام سئلنا أن نناقش‪ ،‬فهمنا أن‬
‫املناقشة تريد عرض وجهتي نظر متناقضتني‪ ،‬وعرض احلجج كلام دعا‬
‫األمر‪ ،‬ثم اختيار واحدة منهام أو التقريب والتوفيق بينهام‪.‬‬
‫وهيم هنا أن نفهم يف أي ناحية سيكون اختيارنا لكي نبني انشاءنا‬

‫‪40‬‬
‫عىل هذا األساس حتى يكون مناسبا للنتيجة التي سننتهي إليها‪ .‬فهل‬
‫نقبل الرأي كام هو‪ ،‬ونقرر مع القائل أن «مستقبل الطفل يقرر بني جدران‬
‫البيت» ونكتفي يف املناقشة بتقديم الرأي املعاكس وتضعيفه‪ ،‬أم نكون‬
‫يف هذا اجلانب األخري وننقد الرأي املعروض علينا؟ هل نقبل أن الطفل‬
‫يتكون طبعه وشخصيته يف السنوات األوىل‪ ،‬وهو لعمري رأي شديد‬
‫التشاؤم بالنسبة للمريب‪ ،‬ألن معناه أن هذا الطفل الذي جييئنا إىل املدرسة‬
‫شخص انتهى تكوينه يف خطوطه الرئيسية‪ ،‬فام كانت هذه الشخصية التي‬
‫جتيئنا مكونة‪ ،‬فإن أعاملنا عبث لن تأيت بنتيجة؟ أم نزعم أن دور املدرسة‬
‫حاسم يف املوضوع‪ ،‬وأن الطفل ال يتكون يف البيت وينتهي األمر‪ ،‬بل‬
‫يبدأ تكوينه يف البيت ويتممه عرب مراحل نموه كلها‪ ،‬وخاصة حتت تأثري‬
‫الرتبية التي تعطيها إياه املدرسة؟ عىل كل البد أن نختار‪ ،‬ألن السائل يريد‬
‫أن نناقش‪ ،‬وألن املناقشة ال معنى هلا إن مل يعقبها تسديد أحد الرأيني‪.‬‬
‫ونتأمل مرة أخرى فنهتدي إىل احلكمة الشائعة التي تدعو إىل الوسط‪،‬‬
‫فلسنا علامء حمللني لنتعصب لرأي واثق بنفسه‪ ،‬ولسنا‪ ،‬كمربني‪ ،‬نخاف‬
‫أن جيهل يوم مكان املدرسة وأمهيتها حتى نؤكد القول املناقض وندعي أن‬
‫املدرسة وحدها هي التي تكون الشخصية وتفعل كيت وكيت‪ .‬وألجل‬
‫هذا فسنقف يف الوسط لنعرف أمهية السنوات األوىل وأثرها عىل الطفل‪،‬‬
‫مع إثبات ما للمؤثرات التابعة من فعل‪.‬‬
‫مالحظات‬
‫* قبل مناقشة القول؛ البد من رشحه‪.‬‬
‫* البد من تأويل السؤال كام أسلفنا‪ ،‬وإال فإننا سنغلط غلطا فاحشا‬
‫إن اكتفينا بالنظرة األوىل‪ ،‬وقرأنا «مبينني اخلطورة التي للبيت يف امليدان‬
‫الرتبوي» ثم أخذنا نكيل القول بغري ميزان ونؤيد النظرية يف كل نواحيها‬
‫إنام «نبني اخلطورة التي للبيت» بالقدر الذي نؤمن به‪ ،‬وبعد أن نناقش‪.‬‬
‫ب‪ -‬التصميم‬
‫* رشح السؤال ووضع املشكلة‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫* مناقشة املوضوع‪.‬‬
‫* النتيجة وفيها ذكر أمهية البيت ودوره يف تكوين الطفل‪.‬‬

‫ج‪ -‬التصميم املفصل‬


‫* الطفل كلوح شمع قابل لالنفعال يف رأي األقدمني –ما ينتج عن‬
‫هذا الرأي‪ -‬الطفل وقابليته للتأثر بام حوله‪ -‬أثر اجلو العائيل عىل طبعه‪.‬‬
‫يف البيت يكون الطفل أساس معرفته للعامل وحقائقه‪ -‬انطباعات الطفل‬
‫يف سنواته األوىل تبقى وطيدة حتى بعد أن يكرب‪.‬‬
‫* الطفل ليس مادة لدنة كام حيسب األولون‪ -‬كل جتربة حققها الطفل‬
‫ترتك يف نفسه أثرا يف شتى مراحل حياته‪ -‬والشخصية ال تزال يف نمو‬
‫مدى احلياة‪ -‬وحتى اخلطوط العامة للشخصية يمكن أن تغري حتت عامل‬
‫الرتبية‪ -‬األطفال الشاذون وإمكان تربيتهم‪ -‬الصدمات التي حتدث‬
‫للطفل بعد السنوات األوىل فيسوء هلا خلقه ويتغري موقفه أمام احلياة‪.‬‬
‫* للبيت أمهية كبرية بالنسبة لرتبية الطفل‪ -‬ففيه يتلقى الصورة‬
‫األوىل لألشياء ومعامالت الناس بعضهم لبعض‪ -‬لكن أثر البيت يكمله‬
‫عامل البيئة الواسعة بام فيها – وخصوصا‪ -‬املدرسة تنمي ما بداه البيت‪-‬‬
‫وهتذب أعامل البيت إن كانت يف حاجة إىل هتذيب‪ -‬والرفاق أيضا يف‬
‫املدرسة وبعدها يسامهون يف بناء شخصية الفرد‪ -‬املراهقة‪ -‬ونوع احلياة‬
‫التي حيياها اإلنسان ختط أيضا سككا واضحة يف الشخصية‪.‬‬

‫د‪ -‬اإلنشاء‬
‫ال زال الناس ينسبون إىل البيئة أثرا خطريا يف بناء شخصية الناس ويكتبون‬
‫الكتب يرشحون فيها كيف حيدث هذا األثر‪ .‬ويريد بعض الباحثني‪،‬‬
‫وخصوصا أصحاب التحليل النفيس‪ ،‬أن جيدوا يف وقائع الطفولة األوىل‬
‫بني أحضان األرسة‪ ،‬تفسريا لكل ما يتخبط فيه الناس من مشاكل نفسية‪،‬‬
‫اخلفيفة منها والعميقة‪ .‬والواقع أن هذه الطائفة من العلامء خيصون باهتاممهم‬

‫‪42‬‬
‫يف دراسة البيئة الطفولة األوىل‪ ،‬وهبذا حيدون جمال اهتاممهم يف أحداث‬
‫البيت أثناء هذه املرحلة‪ .‬ولعل من مريدي هذه املدرسة أو املصطبغني‬
‫بتعاليمها املريب الذي يقول‪« :‬إن اخلطوط العريضة لشخصية الطفل ترسم‬
‫يف سني الطفولة املبكرة‪ ،‬وأن مصريه ليتقرر بني جدران البيت» وهذا التأكيد‬
‫إن دل عىل يشء فإنام يدل عىل أن صاحبه متشبع بالفكرة إىل حد أنه مل يرتدد‬
‫يف استعامل عبارات هنائية كمثل تقرير املصري‪ .‬وحينام يقرأ املريب كلامته يقع‬
‫يف حرية‪ ،‬ويشك يف إمكان القيام بوظيفة تربية األحداث‪ .‬وكيف يكون‬
‫ذلك وهو ال يستقبلهم إال بعد أن يكون مصريهم تقرر؟ ونقف هنا مثل‬
‫هذا املوقف الشاك لنبدأ مناقشتنا للفكرة‪ ،‬وننتهي إىل رأي ما‪ .‬فإن من املهم‬
‫أن يكون لدينا مبدأ منه نستمد القوة يف عملنا‪ .‬واختاذ هذا املبدأ متوقف عىل‬
‫معرفة ما إذا كانت شخصية الطفل ترسم هنائيا يف البيت‪ ،‬وإذن فال معنى‬
‫للرتبية بعد هذه املرحلة‪ ،‬أو يقف تأثري البيت أثناء الطفولة املبكرة عند حد‬
‫نعرفه‪ ،‬وإذ ذاك يسعنا أن نعتقد أن عملنا كمربني ذو موضوع‪.‬‬
‫طاملا اعتقد الناس واعتقد معهم املربون أن الطفل‪ ،‬وباألخص يف‬
‫سنواته األوىل‪ ،‬مادة لدنة قابلة لالنطباع بكل ما يقدم إليها‪ .‬فعاملوه عىل‬
‫هذا األساس وحاولوا أن ال يضعوا أمامه إال أمثلة يصح أن تكون له‬
‫نموذجا‪ .‬ويمكن أن يكون هذا االعتقاد هو الداعي إىل ما نقرأه عنه‪،‬‬
‫بل نشاهده يف بعض األوساط‪ ،‬من القسوة عىل الطفل وتعنيفه‪ .‬يمكن‬
‫أن يكون اعتقادهم بأنه ينطبع بسهولة يدفعهم إىل احلرص عىل جتنيبه‬
‫كل مشهد أو عمل من شأنه أن يكون جرثومة عادة سيئة‪ .‬وخرجت‬
‫يف العرص احلديث فكرة تبني أن الطفل طينة أكثر لينا مما كان يظن‪ ،‬وإن‬
‫قابليتها للتأثر ال تنتهي‪ ،‬وأن هلذا التأثر وقع دائم يف نفس الطفل‪ .‬وجاء‬
‫فرويد بنظريته يف التحليل النفيس‪ ،‬فشاعت أفكاره وكثر أتباعه‪ ،‬وفشت‬
‫آراؤه يف الناس فاختلف فهمهم هلا‪ .‬لكنها عىل أي حال سامهت يف‬
‫الدرجة األوىل يف خلق جو من القلق‪ ،‬ال عند األرس فحسب‪ ،‬بل حتى‬
‫يف أوساط املربني‪ .‬فاآلباء واألمهات ينظرون إىل الطفل بعد أن يقرأوا‬
‫فرويد وأتباعه‪ ،‬ويف قلوهبم هلع شديد‪ ،‬حيسبون أن الطفل خملوق ال‬
‫هناية للطافته يوشك أن ينكرس إذا هم شدوه باليد‪ .‬وحيارون كيف‬
‫يعاملونه املعاملة املناسبة حتى ال تصيبه واحدة من هذه العاهات اخلطرية‬

‫‪43‬‬
‫التي تسمى العقد النفسية‪ ،‬والشعور بالنقص الخ‪ .‬أما املربون فيسمعون‬
‫اآلراء اجلديدة‪ ،‬ويقارنوهنا بام هو مكتوب عندهم‪ ،‬فيتوجسون خيفة‬
‫أن يكون الركب قد فاهتم‪ ،‬وأن يكونوا أمهلوا جانبا مما كان ينبغي أن‬
‫يدرسوه‪ ،‬سيام واملربون متفائلون أبدا‪ ،‬يظنون أن بإمكاهنم أن خيلقوا نشئا‬
‫سويا بقطع النظر عن سوابقه يف الطفولة املبكرة‪ .‬ويبدأ املربون يف دراسة‬
‫فرويد والتحليل النفيس عسى أن يلقوا جوابا حلريهتم‪ .‬يعمل بعضهم‬
‫ذلك برغبة صادقة يف التبرص والعلم‪ ،‬ويفعله بعضهم بالفضول الذي‬
‫يدفع الناس إىل اإلطالع عىل كل جديد وجتربته‪ .‬وكل هذه الدراسات‬
‫التي يقوم هبا املربون ال جتدي كثريا يف معرفة اجلواب‪ ،‬ألن الطفل ليس‬
‫جمموعة معادالت يمكن معرفة املجهوالت التي تتضمنها‪ ،‬لكنه كائن‬
‫حي شديد التعقد‪ ،‬ومن هنا صعوبة إخضاعه لقاعدة عامة‪.‬‬
‫نعم يصعب أن نخضع الطفل لقاعدة عامة‪ ،‬ونحدد‪ ،‬يف مثل الضبط‬
‫الذي يظهر يف قولة مربينا‪ ،‬كيف ومتى تتكون شخصيته‪ .‬الذي نعرفه‬
‫بالتجربة هو أن الطفل‪ ،‬يف سنواته األوىل‪ ،‬وهو خلو من أي معرفة لواقعه‪،‬‬
‫يأخذ كل يشء عمن حوله‪ .‬والواقع يف نظره ليس شيئا آخر غري ما يراه يف‬
‫البيت ولو كان هذا الواقع غري عادي‪ .‬أن الطفل يقبل الوضعية التي وجدها‬
‫أمامه‪ ،‬ويتخذها قاعدة للحكم بعد ذلك عىل غريها‪ .‬فبوسعنا أن نقول‪،‬‬
‫دون أن نبتعد عن الصواب‪ ،‬أن الطفل يكون يف سنواته األوىل بني جدران‬
‫البيت صورا أساسية عن الواقع‪ ،‬وأن هذه الصور تكون طبق األصل‬
‫لواقع البيت الذي درج فيه‪ .‬والذي نعرفه أن الطفل حيتاج يف مرحلته‬
‫األوىل إىل محاية وأمن‪ ،‬وأن إحساسه العاطفي متيقظ يتأثر باجلو السائد‬
‫حوله‪ ،‬فينشأ قلقا خائفا إن مل جيد األمن واحلامية الالزمني‪ ،‬وينشأ منطلقا إن‬
‫شعر أنه حيتل يف قلب والديه أو مربيه مكانة خاصة‪ .‬وبوسعنا إذا أن نؤكد‬
‫بأن اجلو العاطفي الذي يعيشه الطفل يف سنواته األوىل يؤثر عىل طبعه أثرا‬
‫بينا‪ ،‬ونجد أمثلة هلذا التأثري عندما نقارن طفال نشأ بني أحضان أرسته‪،‬‬
‫وطفال كبري يف ميتم مثال‪ .‬ومن السهل أن نالحظ الفرق بينهام حيث نرى‬
‫األول مساملا يثق بالناس‪ ،‬ونرى الثاين مرتقبا خائفا‪ .‬ونجد نفس الفرق‬

‫‪44‬‬
‫بني طفل األرسة السوية‪ ،‬وطفل األرسة التي حدث فيها ما هيدد أمن‬
‫الطفل‪ ،‬كالطالق أو سوء ترصف أحد األبوين‪ ،‬أو الوقائع البيتية‬
‫بني الزوجني‪ .‬والذي نعرفه أن التجربة التي جرهبا الطفل يف سنواته‬
‫األوىل‪ ،‬حتتل يف ذاكرته مكانا خاصا‪ ،‬أو عىل األقل تربز إىل الذاكرة بني‬
‫فينة وأخرى حتى بعد أن يكرب الطفل‪ ،‬لكن هذا كله ال يعني أن الطفل‬
‫شمع لني يتكيف مرة واحدة بني جدران البيت ثم ينتهي كل يشء‪ .‬وإذا‬
‫اعرتفنا أن الطفل يتأثر باجلو العاطفي الذي نشأ فيه يف سنواته األوىل‪،‬‬
‫فإننا ال نرتك من أخذنا هبذه لكلمة‪ ،‬ويلفت نظرنا إىل أن صاحبنا الذي‬
‫نحن بصدد النظر يف قوله ال يعني شيئا آخر غري ما نؤكده‪ .‬جييئنا هذا‬
‫املعارض بنفس املثال الذي قدمناه‪ ،‬وخيرج لنا اليتيم أو الطفل من األرسة‬
‫املضطربة ويضعه أمامنا مشريا إىل العقد النفسية مرتاحا إىل أنه أوقعنا يف‬
‫الفخ‪ .‬فجوابنا عليه أن اليتيم يف ميتمه كام وصفنا‪ ،‬ويبقى كام هو إن كرب‬
‫يف نفس اجلو حتى أكمل طفولته‪ ،‬ألنه تعرض باستمرار إىل نفس العامل‬
‫وعاش نفس العيشة من أول أيامه إىل سن الرشد‪ .‬لكننا إن أخذنا هذا‬
‫اليتيم يف سن معقولة‪ ،‬كاخلامسة مثال‪ ،‬ووضعناه يف جو مالئم‪ ،‬وأعطيناه‬
‫تربية مالئمة فإنه سيكرب وهو غري الشخص الذي يكونه لو تركناه مليتمه‪.‬‬
‫ويدل عىل هذا ما يقدمه ذوو االختصاص من إحصائيات يف املوضوع‪.‬‬
‫وإن يف أمريكا ملشكلة كربى مرجعها إىل وجود عدد هائل من األحداث‬
‫املضطربني نفسيا‪ ،‬بام فيهم األحداث املجرمون واملرشدون‪ .‬وهؤالء‬
‫تتناوهلم احلكومة بالرتبية وتصلح أحوال الكثريين منهم‪ .‬واإلحصاءات‬
‫التي أرشنا إليها ال تعطي بالطبع مائة يف املائة يف نصيب النجاح‪ ،‬ألن‬
‫عملية الرتبية ليست عملية صناعية‪ ،‬بل هي عملية إنسانية ختضع ملؤثرات‬
‫ال ترى فيمكن إحصاؤها‪ .‬لكن االحصاءات عىل أي حال ترتك نصيبا‬
‫طيبا بجانب النجاح‪ ،‬يكفي عىل األقل إلحداث فرجة كبرية يف رأي‬
‫الذي قال بأن الطفل صنع مصريه يف سنواته املبكرة‪ .‬ويمكننا أن نبدأ‬
‫مثالنا طردا كام أسلفنا‪ ،‬أو عكسا بأن نبني أن األحداث التي يتعرض هلا‬
‫الطفل بعد سنواته املبكرة خطرية‪ ،‬إن مل تكن أخطر من أحداث السنوات‬
‫األوىل‪ .‬وشاهدنا أمثلة نشاهدها يف كل يوم ألطفال أسوياء عصف هبم‬
‫الدهر يف نصف الطريق أو ثلثها أو قبل ذلك‪ ،‬فامت األبوان أو أحدمها‪،‬‬

‫‪45‬‬
‫أو فقدا بوجه من الوجوه العيش الدافئ الرضوري لربوز شخصيتهم‬
‫مستقيمة‪ ،‬فكان للصدمة عليهم وقع ال ينتهي مداه‪ .‬وهنا ندعو مرة‬
‫أخرى إحصاءات املحصني‪ ،‬فتعطينا نسبا كبرية يف إحصاءاهتا العامة‪،‬‬
‫ألطفال انحرفوا بعد أن كانوا عىل اجلادة‪.‬‬
‫إن أثر البيت ال ينكر يف تقويم الشخصية‪ .‬وتتميز اخلطوط األوىل‬
‫لترصف الطفل تقليدا ملا يشاهده وملن يعايشهم‪ .‬وال جدال يف أن الصغري‬
‫يرضع مع لبان أمه الكلامت التي يسمعها‪ ،‬واملناظر التي يشاهدها‪ ،‬كام أنه‬
‫يتغذى بالعواطف التي يتبادهلا مع أفراد أرسته‪ .‬وإذا كان اجلو السائد يف‬
‫البيت موافقا‪ ،‬فإن الفص تكون أقوى لينشأ الطفل نشأة قويمة‪ .‬وعليه‬
‫فمن الالزم أال نبخل بكل جهد لتوفري هذا اجلو يف البيت والسهر عىل‬
‫إعطاء صور حسنة تكون مثاال للطفل يقتدى به غري أنه من املكابرة أن‬
‫حيد املرء نشأة طبع الطفل يف احلدود الضيقة‪ ،‬ويضعه يف الطفولة املبكرة‬
‫التي تقيض بني جدران البيت‪ .‬وال ينبغي أن ننسى أن الطفل عندما يتسع‬
‫أفقه حيرض أحداثا هي أهم مما شاهده يف البيت‪ ،‬وترتك البيئة له جماال‬
‫يلتقط فيه املادة األوىل لبناء شخصيته‪ .‬حتى إذا وصل املدرسة‪ ،‬أخذ املريب‬
‫هذه املادة االوىل فكيفها عىل النحو الذي يصلح‪ .‬واملتأمل يمكن أن يزن‬
‫بني تأثري البيت يف الصغري‪ ،‬وتأثري البيئة الواسعة فيه يف املراحل التالية‪،‬‬
‫فيضع يف كفة خطورة ما يطبعه البيت يف نفس جديدة مل يسبق أن مسها‬
‫طابع‪ ،‬ويضع يف الكفة األخرى أمهية األحداث التي يف البيئة وعنفها‪،‬‬
‫وأمهية الصدمات التي يتعرض هلا اإلنسان يف شتى مراحل حياته‪ ،‬أليس‬
‫من املنطق السديد أن نعادل عىل األقل بني الكفتني؟ ودور املريب ال ننساه‪،‬‬
‫فإنه إن كان ذا شخصية قوية يعطي االجتاه احلاسم لشخصية الناشئني‪.‬‬
‫وسائل يسأل كبار الرجال عن أهم مؤثر يف حياهتم‪ ،‬وأهم عامل يف بناء‬
‫شخصيتهم يسمع هؤالء وقد أجابوه بأهنم مدينون ملربيهم فالن أو فالن‪،‬‬
‫أو لشخص عابر رأوا منه أو سمعوا‪ .‬هذا وإن املدرسة بصفة عامة بمثابة‬
‫البوتقة التي خترج األجيال؛ ففيها يلتقي مجاعة األطفال جييئون من آفاق‬
‫متعددة‪ ،‬وتكون وحدة سنهم وأذواقهم انسجاما معه تبادل العادات‬

‫‪46‬‬
‫والعواطف‪ ،‬ثم تبادل األفكار فيام بعد‪ .‬وال ننسى مرحلة املراهقة‪ ،‬فإهنا كام‬
‫يقولون‪« :‬موعد ميالد ثان»‪ .‬يكون املراهق أثناءها كثري القابلية لإلنفعال‪،‬‬
‫وشديد اإلقبال عىل تدبر أمره وأمر الناس‪ ،‬حريصا عىل أن حيدد نفسه‬
‫بالنسبة لآلخرين‪ .‬وبصفة عامة‪ ،‬فإن الشخصية ال تتكون يف مرحلة دون‬
‫أخرى‪ ،‬وإنام تنمو باستمرار ال تقف عند حد إىل أن يشيخ الفرد‪ ،‬بل إىل‬
‫أن تشيخ نفسه‪.‬‬
‫إن من اجلرأة والطيش أن ينصب املرء نفسه نبيا يف شؤون الرتبية ويؤكد‬
‫دون مراعاة لطبيعة املوضوع‪ ،‬كأن الرتبية عملية ملموسة تعرف مقدماهتا‬
‫ونتائجها املحتومة‪ .‬واملربون يعرفون أمهية ما يبحثون عنه‪ ،‬وخطورة‬
‫النتائج التي تلدها كلامهتم‪ ،‬لذلك يقتصدون ويزنون‪ ،‬فإذا وجدنا كلمة‬
‫فاهوا هبا‪ ،‬وفهمنا منها أهنم مل يقتصدوا ومل يزنوا؛ فلنتهم أنفسنا بالتقصري‪،‬‬
‫ولنبحث عن طريقة أخرى لنفهم عنهم‪ .‬وبقول مربينا قوال من هذا‬
‫القبيل‪ ،‬يوشك اجلاهل أو املتعصب أن يأخذه عىل ظاهره‪ ،‬ويقيض فيام ال‬
‫يعرفه‪ .‬إن بناء شخصية اإلنسان ال يتسع هلا ميزان حيدد صنعها‪ ،‬وال ساعة‬
‫حتسب سري العمل يف حميط دقائقها‪ ،‬إنام تبني شخصية الفرد‪ ،‬وبالتايل‬
‫يتقرر مصريه‪ ،‬طيلة سنواته التي يعيشها‪ ،‬فيبدأ ذلك من يوم يولد إىل يوم‬
‫يلحد‪ .‬وبني هذين اليومني يتعرض املرء حلاالت تزيد أو تنقص يف عنفها‪،‬‬
‫وتزيد أو تنقص يف مقدار ما وضعته يف نفسه من أثر‪ .‬ال نستطيع أن نقول‬
‫إن اهليكل الذي تبنى حوله الشخصية يتم وضعه يف الطفولة املبكرة‪ ،‬كام‬
‫ال نستطيع أن ندعي أن شكل اإلنسان وجسمه أبدا‪ ،‬إن احلاالت التي‬
‫يتقلب فيها الفرد أثناء نشأته‪ ،‬ال ختضع وال يمكن أن ختضع ملقياس يف‬
‫حساب تأثريها يف الشخصية‪ ،‬فكام خيتلف األفراد خيتلف موقفهم أمام‬
‫احلياة وتقلباهتا‪ ،‬وختتلف شخصيتهم بقطع النظر عام وقع يف البيت أثناء‬
‫طفولتهم األوىل‪ .‬نعم ألحداث البيت نصيب يف توجيه الشخصية ورسم‬
‫خطوطها األوىل‪ ،‬وهذا النصيب ال يغطي النصيب الذي تساهم به البيئة‪،‬‬
‫ويساهم به املريب ورفاق املدرسة‪ ،‬وال النصيب الذي يساهم به نوع‬

‫‪47‬‬
‫املعيشة‪ ،‬ونوع العمل الذي يامرسه كل واحد‪ .‬الشخصية ال تتبلور يف‬
‫مرحلة الطفولة املبكرة وال تتبلور يف أية مرحلة أخرى بصفة هنائية‪ .‬إهنا ال‬
‫تتبلور حتى أثناء املراهقة رغم أمهية هذه املرحلة يف حياة الناشئني‪ .‬وإننا‬
‫نالحظ الناس عىل مرسح احلياة يتبدلون بمناسبة خري نالوه‪ ،‬أو صفعة‬
‫شديدة صفعها احلدثان‪ .‬وبعد كل هذا نسمع املحلل النفيس يتحدث عن‬
‫املصيبات النفسية‪ ،‬ويسل جذورها الطويلة التي ال تقف إال عند الطفولة‬
‫األوىل‪ ،‬فنسليه بأن األمر غري ميئوس منه‪ ،‬وأن الرتبية قادرة عىل العالج‪،‬‬
‫وتاليف األمر‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫املوضوع رقم ‪4‬‬
‫تقول الدكتورة منتسوري‪« :‬يالحظ أن االنقطاع الفجائي عن العمل‬
‫يتعب أكثر مما تفعل املثابرة عىل هذا العمل»‪.‬‬
‫ارشح هذا القول وحتدث عن انتباه الطفل وكيف حتصله‪ ،‬وعن الطريقة‬
‫العملية لتفادي التعب الذي تتحدث عنه املربية‪.‬‬

‫أ‪ -‬فهم املوضوع‬


‫قرأنا عن أعامل السيدة منتسوري‪ ،‬تلك املربية اإليطالية‪ ،‬التي اشتغلت‬
‫يف ميدان تعليم الصغار‪ ،‬واشتهرت بطريقتها يف هذا التعليم‪ ،‬فإذا عثرنا‬
‫عىل كلمة هلا مرسودة كهذه‪ ،‬فهمنا بالبدهية أهنا إنام تعني العمل مع األطفال‬
‫عندما تقول العمل‪ ،‬وتعني تعب األطفال عندما تكتب تعب‪ .‬وقولة املربية‬
‫هذه ال تقدم لنا حكام يف املوضوع‪ ،‬وال تبني كيف أو مل يتعب األطفال‪،‬‬
‫لكنها تعطينا فقط نتيجة مالحظتها‪ .‬ثم جييء السائل فيطلب إلينا أن ننظر‬
‫أبعد من ظاهر الكلمة‪ ،‬ونقول يف انتباه الطفل‪ ،‬وكيف نحصل عليه‪ .‬ويف‬
‫املسألة توسع يف قول املربية وتوليد له‪ ،‬ألن التعب الذي يسببه االنقطاع‬
‫الفجائي ليس إال امللل وذهاب االنتباه‪ ،‬وإذا سمع منا ما نعرفه يف األمر‪،‬‬
‫جعل ذلك مقدمة ليطرح علينا سؤاال ثانيا ال يقل أمهية عن األول‪ ،‬وهو‬
‫كيف نعمل يف ميدان التطبيق لكي ينتبه الطفل دون أن يمل‪.‬‬
‫واملوضوع سيكولوجي من طرفه األول‪ ،‬بيداغوجي من الطرف الثاين‪،‬‬
‫وازدواجه هذا خليق أن يزيدنا حذرا عندما نتناوله‪ ،‬فنميش بمقياس وال‬
‫نخلط القول‪ .‬وربام كان من أصعب أجزاء املوضوع رشح مقالة املربية‬
‫ألهنا كالم عام مطلق ال تكاد جتد فيه ما تقبض عليه كحقيقة مضبوطة‪ .‬فام‬
‫بد من أن تتعمق يف األمر وتتأول‪ .‬وحلسن احلظ نجد السؤال نفسه أكثر‬
‫وضوحا‪ ،‬فنتخذه تكملة للنص األول ونتسلق منه إىل الفهم الكامل‪ .‬وقول‬

‫‪49‬‬
‫السائل «حتدث عن انتباه الطفل» و«حتدث عن الطريقة العملية لتاليف‬
‫التعب» يعطينا يف نفس الوقت صورة لألفكار التي ينتظر السائل أن‬
‫نقدمها له يف املوضوع‪ .‬ولذلك سنستعمل باقتصاد وتيقظ كل املعطيات‬
‫لكي نفصل القول دون أن ندخل بعضه يف بعض‪ ،‬وسنقترص يف رشح‬
‫القول عىل التذكري بعمل املربية ومنرصف اهتاممها‪ ،‬وعن مالحظتها هذه‬
‫كنتيجة خرجت هبا من جتارهبا عندما وضعت طريقتها املشهورة‪ .‬ولن‬
‫نتعرض يف هذا اجلزء ليشء خاص فيام يتعلق باالنتباه أو كيفية مكافحة‬
‫امللل‪ .‬فإذا وصلنا إىل هذا احلد كانت الكتابة بعده علينا أيرس‪ ،‬ألننا هنا‬
‫نعرف بالضبط املوضوع الذي نحن فيه‪ .‬لكن ال ننسى أن عبارة «انتباه‬
‫الطفل» يعمم‪ ،‬فلم يبق األمر متعلقا بأطفال منتسوري يف مراحل النمو‬
‫األوىل‪ ،‬بل هيم كل األطفال كيفام كان سنهم‪ .‬ويتحتم نفس التعميم يف‬
‫اجلزء األخري من السؤال‪ ،‬فيشمل هذا األخري طرق التعليم املرصودة‬
‫إلذهاب التعب عن الطفل وإرشاكه يف العمل مرتاحا مقبال‪.‬‬

‫مالحظات‬
‫إذا وجدنا موضوعا يبدو مبهام مستغلقا يف أول األمر‪ ،‬فال نيأس منه‬
‫وال نستصعبه‪ .‬بل ننظر إىل تتمة السؤال‪ ،‬فنجد فيها دائام ضوءا ينري لنا‬
‫السبيل‪ ،‬كام رأينا ذلك هنا‪ .‬ولنفكر دائام أن السائل ربام يورد قول مرب‬
‫ال لكي يعتمده يف سؤاله‪ ،‬لكن ليجعل هذا القول إطارا يضع فيه سؤاله‬
‫أو أسئلته‪ .‬وربام يكون هذا اإلطار غري واضح املعامل‪ ،‬وربام يتعمد السائل‬
‫جعله كذلك ليبتىل معلوماتنا العامة يف الرتبية وينظر‪ ،‬مثال‪ ،‬هل نعرف من‬
‫هي منتسوري وما نوع عملها‪ .‬وقد رأينا كيف تكون معرفة عامة كمعرفتنا‬
‫هلذه املربية وجتارهبا أساسية لفهم املوضوع وتفسريه‪ .‬نالحظ أن السائل‬
‫يريد أن نبني له الطريقة العملية لطرد امللل من األعامل الدراسية‪ ،‬فهو هنا‬
‫ينتظرنا يف ميدان التطبيق‪ ،‬وإذا فلن يكفي أن نعطي إشارات فسيحة عن‬
‫هذه الطرق‪ ،‬بل البد من إخراج أمثلة تطبيقية إلنارة ما نقول‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫ب‪ -‬التصميم‬
‫* رشح القول‪.‬‬
‫* االنتباه عند الطفل وكيف نحصله‪.‬‬
‫* الطريقة العملية لتحصيله واملحافظة عليه‪.‬‬

‫جـ‪ -‬التصميم املفصل‬


‫* اهتامم السيدة منتسوري وجتارهبا‪ -‬الطفل ينرصف بكله إىل األعامل‬
‫التي حيبها‪ -‬ومن ثم ما تقوله املربية‪.‬‬
‫* انتباه األطفال‪ -‬اإلرادة واالنتباه‪ -‬االهتامم رشط يف االنتباه‪ -‬املعلم‬
‫يدرس الطفل ليعرف وجهة اهتاممه ويستغلها‪.‬‬
‫* العوامل الداخلية جللب االهتامم‪ -‬العوامل اخلارجية‪ -‬حمور‬
‫األسبوع‪.‬‬

‫د‪ -‬اإلنشاء‬
‫تأوه املعلم وتأفف‪ ،‬وكاد يستويل اليأس عىل قلبه عندما رأى أن تالميذه‬
‫ال ينتبهون‪ .‬ونشارك املعلم يف اقتناعه هذا فهو عني البدهية‪ .‬وشكواه هي‬
‫نفس الشكوى التي تسمعها من كل معلم حريصا عىل أن يعطي التالميذ‬
‫فائدة يف كل درس‪ .‬لكن املعلمني يقفون وجها لوجه أمام صعوبة إلفات‬
‫تالميذهم إىل العمل‪ ،‬فيعاجلون املوقف بشتى أنواع احليل‪ ،‬ومن بني هذه‬
‫احليل تلك احليلة الغليظة التي طاملا طبقت عىل صورة عصا هتوي عىل‬
‫الظهور‪ .‬غري أن قانون التطور املحتوم أخرج أجياال من املعلمني تنبهوا‬
‫إىل قلة جدوى هذه الطريقة‪ ،‬وعدم لياقتها‪ ،‬ودرجوا يف سبيل البحث إىل‬
‫أن وصلوا إىل الطريق العلمية‪ ،‬أعني طريق التجربة املؤكدة‪ .‬وتناول علم‬
‫النفس‪ ،‬يف أول ما تناوله‪ ،‬انتباه األطفال وحقيقته‪ ،‬وعاد املربون ينظرون إىل‬
‫الطفل يف عطف ليعرفوا ملاذا يقبل عىل العمل أو يدبر عنه‪ .‬ويف طليعة من نظر‬

‫‪51‬‬
‫الدكتورة منتسوري التي تقول‪« :‬يالحظ أن االنقطاع الفجائي عن العمل‬
‫يتعب أكثر مما تفعل املثابرة عىل هذا العمل» ويرى قارئها إىل أي حد‬
‫اهتمت باألمر‪ ،‬فجربت مقدرة الطفل عىل حتويل انتباهه بعد أن درست‬
‫والشك‪ ،‬بداية هذا االنتباه‪ .‬وعىل ضوء مقالتها سنحاول تقديم عرض‬
‫عن انتباه الطفل بصفة عامة‪ ،‬وكيف حيصل املعلم عليه‪ ،‬وكيف يطبق‬
‫طرقا بيداغوجية‪ ،‬يضمن هبا إيقاظ انتباه الطفل واالحتفاظ به الوقت‬
‫الالزم إلنجاز أعامله الدراسية والرتبوية‪.‬‬
‫هذه مالحظة من مالحظات املربية اإليطالية العديدة‪ ،‬أخرجتها‬
‫«دار األطفال»‪ .‬العش الذي بنته منتسوري وجعلته خمتربا ملالحظة‬
‫الصغار‪ .‬ومن يعرف طريقة منتسوري يف التجربة‪ ،‬وأهنا جتربة علمية‬
‫فيها كل التحريات الرضورية‪ ،‬يدرك أمهية املالحظة وصدقها‪ .‬وجتربة‬
‫الدكتورة مع الصغار تاريخ ميلء باملحبة والعطف‪ ،‬غزيرة منتوجاته‬
‫يف حقل بيداغوجية األحداث‪ .‬عمدت الدكتورة إىل آراء مربني كبار‬
‫سبقوها من أمثال هربرت وفروبل وروسو‪ ،‬واختذهتا قاعدة مفروضة‬
‫تبني عليها ريثام تصل إىل تأسيس بناء مستقل‪ .‬وذلك ما قدرت عليه‬
‫يوم كتبت «البيداغوجية العلمية» وأهم ما اشتهرت به طريقة منتسوري‪،‬‬
‫استعامهلا الوسائل املحسوسة تتخذها دعامة ملد النشاط الفكري بني‬
‫صغارها‪ ،‬والفوز باهتاممهم‪ .‬واقتبست من فروبل نظام لعبه وطورهتا‪،‬‬
‫واعتمدت أنواعا كثرية من النشاط كرتبية الدواجن‪ ،‬والرسم باأللوان‬
‫الخ‪ .‬لتوفر يف «دار األطفال» سلسلة مجيلة واسعة من املواضيع القمينة‬
‫بأن هيتم هبا الصبيان‪ .‬وكل ما وصلت إليه من هذه الطرق‪ ،‬جاءها‬
‫عن طريق مالحظة الصغار‪ ،‬والتجربة عليهم فإذا رأت أن لعبة ما‬
‫أو طريقة ما يف استعامهلا‪ ،‬ال يستجيب هلا الطفل‪ ،‬بدلتها بغريها إىل أن‬
‫جتد‪ .‬وهذا بالضبط ما فعلته قبل أن تكتب املالحظة التي نحاول اليوم‬
‫بحثها‪ .‬وقالت إن األطفال يتعبون إذا قطع عملهم فجأة ويرتاحون إن‬
‫تركت هلم الفرصة ليثابروا‪ .‬وقليل من التبرص يعيننا عىل فهم مقالتها‬
‫بوضوح أكثر‪ .‬فإذا تبرصنا برز لنا أن األطفال يتعبون باالنقطاع الفجائي‬
‫إذا كانوا حقا مهتمني ومنرصفني إىل العمل الذي كانوا يامرسونه‪،‬‬

‫‪52‬‬
‫وبرز لنا أن املثابرة حيبوهنا فقط إذا كان ما هم فيه يعنيهم‪ .‬وتلحق هذه‬
‫احلقيقة ما نعرفه من أن األطفال إذا اهتموا بيشء شغفوا به‪ ،‬فإذا شغفوا‬
‫به كان شاقا أن يطرحوه فجأة‪ ،‬سيام إذا جئت تقرتح عليهم عمال غريه‬
‫كيفام كان‪ .‬ومن جهة املعنى الثانية‪ ،‬نعرف أن األطفال‪ ،‬إذا شغفوا بعمل‪.‬‬
‫أحبوا أن يستمروا فيه‪ .‬عىل أن األمر حيتاج إىل بعض التفصيل حتى حتدد‬
‫الظروف التي تتجىل فيها هذه احلقيقة‪ .‬ومن املعلوم أن الطفل بطبيعته‬
‫كالفراشة رسيع التنقل من اهتامم إىل اهتامم‪ ،‬وأن هذه الرسعة تقل عند‬
‫الطفل كلام تقدم يف السن‪ ،‬وبالقدر الذي تزيد فيه قدرته عىل تركيز اهتاممه‬
‫يف موضوع واحد‪ .‬ففي هذه الظروف نضع مقالة منتسوري لنعرف أن‬
‫املثابرة التي تتحدث عنها نسبية‪ ،‬وأن الطفل حيتاج إىل تغيري حسب سنه‬
‫وحسب عامل اإلغراء الذي يف موضوع اهتاممه‪.‬‬
‫والذي مل تقله املربية اإليطالية‪ ،‬هو كيف نوجد عامل اإلغراء؛ وكيف‬
‫نشد الطفل إىل العمل بحبل من الرغبة شديد‪ .‬مل تقل ذلك هنا‪ ،‬لكن‬
‫أعامهلا كلها ترتكز عىل هذه النقطة‪ .‬ولذا نراها تتخذ اللعب‪ ،‬وهو النشاط‬
‫الطبيعي لكل طفل‪ ،‬أساسا ألعامهلا؛ ومطية إىل التعليم والرتبية‪ .‬عىل أن‬
‫الطفل هيتم بأشياء أخرى غري اللعب‪ ،‬أو عىل األصح‪ ،‬يمكن أن ندخل‬
‫يف االعامل اجلدية عنارص جتعلها مغرية للطفل كام يغريه اللعب‪ .‬وهذا ما‬
‫يمكننا من توسيع دائرة البحث‪ ،‬وامليض من اهتامم الصغار وانتباه الصغار‬
‫إىل انتباه واهتامم الطفل بصفة عامة‪.‬‬
‫وانتباه الطفل بغية املعلمني املربني‪ ،‬يتحرونه بكل وسيلة‪ ،‬ويتخذون كل‬
‫األسباب لينالوه‪ ،‬لكن املعلمني يف بعض األحيان خيتلفون يف فهم االنتباه؛‬
‫فمنهم من ال يرىض إال عندما يسود الصمت يف القسم ويضع األطفال‬
‫أعضاءهم وضعا خاصا ويلتفوا أعينهم إليه‪ .‬وهذا النوع من املعلمني‬
‫يكثر من قول «انتبهوا»‪« ،‬انتباه»‪ ،‬وينتبه له األطفال كام يريد‪ ،‬أعني أهنم‬
‫يتخذون الوضعية التي يعدها هو مظهرا لالنتباه‪ ،‬وتبقى هلم حرية النشاط‬
‫الفكري يذهبون به أنى شاءوا‪ .‬وكيفام كان مذهب املعلم يف احلصول عىل‬
‫هذا «االنتباه» بالعنف والشدة‪ ،‬أو باللني واالقتناع‪ ،‬فإن كل ما حيصل‬

‫‪53‬‬
‫عليه‪ ،‬حركات يقوم هبا الطفل ال متس قليال وال كثريا نفسه‪ ،‬ومن املعلمني‬
‫من يعرف قلة جدوى الطريقة التي ذكرناها‪ ،‬ويريد األطفال عىل أن‬
‫ينتبهوا إليه انتباها حقيقيا‪ ،‬شارحا هلم أمهية املوضوع الذي يدرسونه‪،‬‬
‫وتظن هذه الطائفة أن الطفل قادر عىل توجيه انتباهه كام يريد‪ ،‬بالقياس‬
‫إىل ما يفعله الراشد القوي اإلرادة‪ .‬واخلبري بالطفل يعرف أنه عاجز عن‬
‫تسيري انتباهه بإرادته‪ ،‬وكيف يقدر عىل ذلك‪ ،‬والراشد نفسه ال يقدر عليه‬
‫إال يف حاالت قليلة ولوقت قصري؟ فال يبقى إذا إال التامس طريقة أخرى‬
‫لتحصيل االنتباه‪ ،‬فلنلتمسها كام فعل املربون منذ هربرت‪.‬‬
‫جاء هربرت بنظرية االهتامم‪ ،‬وقال إن األطفال ال ينتبهون إال ملا يعنيهم‬
‫أي لليشء الذي يدفعهم إليه دافع نفيس قوي‪ ،‬وولدت نظريته جتارب‬
‫كثرية‪ ،‬فتحقق أن اإلغراء الذي يمكن أن خيلق ويسلط عىل الطفل قابل‬
‫للتفاوت‪ ،‬وأنه كاملغناطيس إذا تعدد كان أقواه جاذبية الفائز بالفريسة‪.‬‬
‫ويف حياة الطفل فرتات متتالية‪ ،‬لكل منها اهتامم خاص به‪ ،‬يتعني‬
‫أن يعرف املعلم تعاقبها‪ ،‬وما يطابق كال منها من ميول الطفل‪ .‬وأن‬
‫مهمة املعلم‪ ،‬يف خطورهتا‪ ،‬تقتيض أن يرصف يف ذلك جهود كبرية‪ ،‬ال‬
‫تقل عن جهود تاجر اللعب‪ ،‬الذي يدرس األطفال ويعرف نوع اللعب‬
‫التي حيبوهنا‪ ،‬ونوع اللعب التي تناسبهم يف كل فرتات نموهم‪ .‬ويكفي‬
‫املعلم أن يعرف االجتاه العام هلذا االهتامم‪ ،‬ليكيف مادته التي يدرسها‬
‫مصوغة يف قالب يراعي رشوط الطفل‪ .‬وكام فعلت الدكتورة منتسوري‬
‫ومن قبلها يف جعل اللعب وسيلة للتعلم‪ ،‬يمكن للمعلم أن يفعل مع‬
‫األطفال األكرب سنا‪ .‬وإذا علم أن سن الثامنة والتاسعة تقابل اهتامما‬
‫خاصا باحلل والرتكيب امليكانيكيني‪ ،‬استعمل هذا امليل يف األعامل‬
‫اليدوية التي جيعلها متارين تطبيقية يف بناء االحجام لدرس احلساب‪،‬‬
‫ويف رسم اخلرائط ونحتها لدرس اجلغرافيا‪ .‬وأن نفس املعلم احلساسة‪،‬‬
‫ستشعره أن األطفال ينفعلون معه‪ ،‬فيهتمون باهتاممه دون أن حيتاج‬
‫إىل طلب ذلك منهم‪ ،‬بل باألخص إن مل يطلب ذلك منهم بالكلمة‪،‬‬
‫بل اهتم باألمر حقا حتى ظهر ذلك يف وجهه‪ .‬فإن جرب هذا وعرف‬
‫موضعه من الصواب جعله ديدنا له‪ ،‬فجاء بدروسه وقد أعدها برغبة‬

‫‪54‬‬
‫صادقة‪ ،‬وفكر يف أطفاله عند حتضريها‪ .‬فإذا حرض حجرة الدرس‪ ،‬ألقى‬
‫درسه يف نشاط ومحاس‪ .‬ويتطلب تطبيق هذا املبدأ جهدا متواصال‪ ،‬كيال‬
‫يكرر املعلم ما يقوله يف كل يوم‪ ،‬بل يأيت يف كل ساعة بجديد‪ .‬بجديد يف‬
‫ماهيته‪ ،‬أو صيغ صيغة مبتكرة‪ .‬فإذا فعل ذلك وكان محاسه غري مفتعل‪،‬‬
‫فسريى أن تالميذه سيندفعون معه إىل العمل يف إقبال شديد‪.‬‬
‫ولئن كانت الدوافع الداخلية النفسية أوثق األسباب جللب اهتامم‬
‫الطفل فإن عوامل خارجية كثرية يكون هلا أثر ال يستهان به يف هذه‬
‫العملية‪ ،‬وبدهيي أن الرشط األسايس لكي هيتم الطفل وينتبه‪ ،‬بل لكي‬
‫يكون قادرا عىل هذين‪ ،‬هو أن يكون صحيحا معاىف يف نفسه وجسمه‪.‬‬
‫والطفل الساهم الشارد الذهن طفل يف جسمه أو يف نفسه وجسمه‪.‬‬
‫والطفل الساهم الشارد الذهن طفل يف جسمه أو يف نفسه مانع أقوى من‬
‫جاذبية الدرس الذي يعرض عنه‪ .‬وهلذا جيب أن يتيقظ املعلم لتالميذه‪،‬‬
‫ويسأل ليعرف حاالهتم النفسية واجلسمية‪ ،‬ويعمل عىل عالجها إذا كان‬
‫يريد أن حيتاط لعمله‪ ،‬وهييء له أسباب النجاح‪.‬‬
‫وأهم الطرق العملية لكسب اهتامم الطفل واالحتفاظ به‪ ،‬وضع املنهاج‬
‫عىل شكل متتابع متامسك يف إطار ما نسميه حمور األسبوع‪ .‬وقاعدة الطريقة‬
‫أن الطفل هيتم بموضوع من املواضيع اهتامما كبريا‪ ،‬فيستغل املريب هذا‬
‫االهتامم ويربط باملوضوع األصيل فروعا خمتلفة‪ .‬وقد نشأت الطريقة يف‬
‫حضن املدارس احلديثة كمدارس ديكرويل واملدارس األمريكية واألملانية‪.‬‬
‫واحلقيقة أن هذه املدارس تعطي الطفل حرية أكثر مما تعطيه مدارس نظامنا‪.‬‬
‫وأن تبنينا ملحور األسبوع اقتباس جزئي باهت لطرق املدارس احلديثة‪.‬‬
‫ويقتيض تطبيق حمور األسبوع اختيار موضوع أسايس وليكن السفر مثال‪،‬‬
‫ثم العمل بشتى الوسائل حتى هيتم األطفال باملوضوع بام يف ذلك استعامل‬
‫وسائل التعليم‪ .‬وهي أيضا من العوامل اخلارجية املهمة جللب االهتامم‪،‬‬
‫واالعتامد عىل جتارب األطفال وأسفارهم‪.‬‬
‫وإذا بلغنا غرضنا واهتم األطفال باملوضوع يف أول األسبوع‪ ،‬جئناهم‬
‫يف الدروس املتنوعة التالية بنفس املوضوع لكن دون أن نكرر نفس ما قلناه‬
‫أول يوم‪ ،‬فإذا كان درس التالوة حيكي سفرا قام به مكتشف بحار‪ ،‬جئنا‬

‫‪55‬‬
‫يف درس املحادثة بسيارة مثال وحتدثنا عن األعامل التي نحب أن نقوم‬
‫هبا مستعملني السيارة‪ ،‬ويف درس املحفوظات نقرأ قطعة تتحدث مثال‬
‫عن سفرة الطيور الفصلية عىل أن استعامل حمور األسبوع‪ ،‬قد يؤدي إىل‬
‫مبالغات تافهة‪ ،‬إذ يظن املعلم أنه مأخوذ به‪ ،‬فيتصنع االختيار عندما‬
‫يصعب االختيار‪ ،‬ويقف عند اخرتاعات ركيكة الشك أن الطفل يفطن‬
‫إليها ويرى احلبال الغليظة التي نريد أن نصطاده هبا‪ ،‬وكان املنتظر أن تبقى‬
‫هذه احلبال خفية‪.‬‬
‫ومن العوامل اخلارجية لبعث االنتباه‪ ،‬وقد أرشنا إليها‪ ،‬وسائل التعليم‬
‫بأنواعها الكثرية‪ .‬مهمتها الرئيسة أن تشخص للطفل املعلومات حتى‬
‫يسهل عليه إدراكها‪ ،‬لكنها يف نفس الوقت تثري فضوله وتلفته إليها وهو‬
‫إذ ينتبه لوسائل التعليم ينتبه فقط لليشء نفسه‪ ،‬واملعلم احلاذق يفهم هذه‬
‫احلقيقة فال ينتظر من وسيلة التعليم أن حتدث اهتامما حقيقيا باملوضوع‬
‫املدروس‪ ،‬لكنه يتخذها سلام به يصعد الطفل إىل االهتامم‪.‬‬
‫هذا وإن كل درس يف بدئه‪ ،‬جيد الطفل باردا ال يعنيه الدرس يف‬
‫غالب األحيان‪ ،‬سيام إذا كان هذا الدرس بعد «االنقطاع الفجائي» الذي‬
‫تتكلم عنه مربيتنا‪ .‬فمن الالزم أن جيد املعلم وسيلة الدخال التالميذ إىل‬
‫الدرس راغبني‪ ،‬ويتعني أن يعطيهم فرصة ليسرتحيوا من التعب الذي‬
‫القوه يف الدرس السابق أو من جراء «االنقطاع الفجائي»‪ .‬ثم يقدم إليهم‬
‫الدرس اجلديد بمقدمة مرغبة يبذل كل جهده ليتقنها‪ ،‬وذلك بأن حيدثهم‬
‫عن حادثة سمعوا عنها ويمكن ربطها باملوضوع‪ ،‬أو بأن يدعو أحدهم‬
‫ليتحدث عن جتربة عرفها هتم املوضوع‪.‬‬
‫إن نيل انتباه األطفال عزيز عىل غري املقتدرين‪ ،‬ألن إرادة الطفل أضعف‬
‫من أن توجه هذا االنتباه وتضبطه‪ ،‬فالبد من االحتيال له بشتى الوسائل‬
‫البيداغوجية والسيكولوجية‪ .‬نسيت أو كادت تنسى‪ ،‬تلك الوضعية التي‬
‫يقف فيها املعلم داعيا إىل الصمت داعيا إىل االنتباه‪ ،‬كان عدم الصمت‬
‫أو اجللسة اخلاصة‪ ،‬كافيان الحضاره‪ .‬وتنوعت أعامل املربني وجتارهبم‪،‬‬
‫الخرتاع وسائل نفسية تضمن االنتباه احلقيقي‪ .‬ويف متناول اليد نتائج‬
‫هذه التجارب‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫والطرق التي وصل إليها عن طريقها‪ .‬لكن الصعب هو أن يضعها‬
‫املعلم يف حيز التطبيق نظرا إىل أن كل ما يتعلق بنفسية الطفل ودوافعها‬
‫حيتاج إىل مهارة ودقة حس يتصف هبام من يتناوله‪ .‬ويظهر أن أول‬
‫الصفات يف هذا املتناول الصرب واألناة لئال يمل االنتظار‪ ،‬ويرصخ يف‬
‫األطفال «انتبهوا»‪ .‬والصفة الثانية قدرته عىل دراسة األطفال ليعرف ما‬
‫هيتمون به‪ ،‬وإىل أي حد هيتمون‪ ،‬ليمكنه تدبري دروسه عىل نحو يناسب‬
‫هذا االهتامم‪ .‬والصفة الرئيسية يف نظري‪ ،‬هي قدرة املعلم عىل االحتفاظ‬
‫بحيويته وجتديدها يف كل يوم ويف كل ظرف‪ .‬أتصور املعلم املتقد محاسا‪،‬‬
‫الذي يعدي أطفاله هبذا احلامس‪ ،‬املعلم الدائب عىل البحث‪ ،‬كلام عثر عىل‬
‫حقيقة أو يشء بذاته‪ ،‬فكر قبل كل يشء يف الدور الذي سيعطيه ملا عثر عليه‬
‫يف دروسه‪ .‬أتصور املعلم الذي مجع كل هذه الصفات وقد أعد دروسه‬
‫طبقا للقواعد األساسية التي يعرفها لنفس الطفل‪ ،‬ثم قدم هذا الدرس‬
‫تقديام حاذقا مرغبا‪ ،‬حتى إذا تأكد من أن التالميذ بدأوا يسايرونه‪ ،‬اندفع‬
‫هبم نشيطا متيقظا‪ ،‬مهه دائام أن يعمل أطفاله وهم ال يشعرون بأي تعب‪،‬‬
‫وهم حيبون أن يثابروا عىل ما هم فيه‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫املوضوع رقم ‪:5‬‬
‫قال أحد املربني‪« :‬إذا أردت أن تظفر باحلقيقة يف شأن الطفل‪ ،‬فتبرص‬
‫نفسيته‪ ،‬فاتركه يترصف بحرية أمام املالحظ»‪.‬‬
‫ارشح القول‪ ،‬واذكر الطرق التي تسلكها لدراسة األطفال‪.‬‬

‫أ‪ -‬فهم املوضوع‬


‫املوضوع ال يمس بنفسية الطفل‪ ،‬بل يتناول دراسة هذه النفسية‪،‬‬
‫وطرق هذه الدراسة‪ .‬فمن هنا نبدأ كيال نروغ ونذهب يف تفصيل القول‬
‫عن نفسية الطفل كام فعلنا يف املوضوع رقم ‪ .1‬جانب مهم من املوضوع‬
‫ينبغي أن نفطن إليه‪ ،‬هو هل نريد أن ندرس نفسية الطفل‪ ،‬وملاذا نريد‬
‫وتكون هذه النقطة جزءا من رشح القول ألن القائل كتب «إذا أردت‪،»...‬‬
‫واجلزء الثاين من هذا الرشح سيبحث كيف ومتى يترصف الطفل بحرية‪.‬‬
‫وسنجد اجلواب يف يرس؛ ألن الطفل ينطلق كثريا بمناسبة لعبة خاصة‪.‬‬
‫لكن هل يمكن أن يترصف بكل حريته مع وجود املالحظ؟ فنرى يف‬
‫الرشح جزئني مهمني؛ يتعلق األول منهام بأمهية دراسة الطفل‪ .‬والدافع‬
‫الذي جيعل املريب يريد هذه الدراسة‪ ،‬ويتعلق الثاين بمعرفة كيف يالحظ‬
‫املالحظ دون أن ينقص من حرية الطفل‪ .‬وقد سبق يف أول موضوع من‬
‫هذا الكتاب حديث مفصل عن النقطة األوىل‪ ،‬يمكن أن نستقي منه‬
‫معلومات‪ ،‬لكن برشط أن نضعها بحيث تنسجم مع موضوعنا‪.‬‬
‫السؤال الثاين يطلب إلينا أن نبني الطرق التي نسلكها لدراسة األطفال‪.‬‬
‫وننتبه أول ما نتنبه‪ ،‬إىل أن هذا السؤال أوسع كثريا مما نصح به املريب‬
‫صاحب القول؛ هذا يقول «اترك الطفل يترصف بحرية أمام املالحظ»‪.‬‬
‫والسؤال يعمم ويريد معرفة «الطرق»‪ .‬فلنبحث هل هناك طريق‬
‫واحدة‪ ،‬أو طرق متعددة‪ .‬لنفرق أوال دراسة األطفال إىل جزأين؛ دراسة‬

‫‪58‬‬
‫سيكولوجية الطفل بصفة عامة‪ ،‬ودراسة سيكولوجية كل طفل‪.‬‬
‫ولننظر ثانيا ما يف يدنا من وسائل للدراستني‪ .‬سيكولوجية الطفل‬
‫تقرأ يف الكتب وتدرس يف املعاهد‪ ،‬والسيكولوجية الفردية تدرس‬
‫كتامرين تطبيقية للدروس النظرية‪ ،‬أو كعمل يقوم به املعلم بعد أن‬
‫يبدأ يف ممارسة عمله‪ .‬واملهم هنا أن نتأمل اجلزئني‪ ،‬ونجيب عن كل‬
‫منهام بغاية الدقة والبيان‪ .‬متذكرين‪ ،‬طورا آخر‪ ،‬أن الوضوح رشط‬
‫أسايس ليكون ملا نكتبه قيمة‪.‬‬

‫ب‪ -‬التصميم‬
‫* رشح القول‪.‬‬
‫* الطرق التي أسلكها لدراسة األطفال‪.‬‬
‫جـ‪ -‬التصميم املفصل‬
‫دراسة األطفال ملاذا كانت رضورية‪ -‬الطفل واملنهاج‪ -‬الطفل‬
‫واختالفه باختالف العوامل التي تؤثر فيه‪ ،‬كالوسط العائيل‪ ،‬واحلالة‬
‫الصحية – الطفل والنمو‪ -‬الطفل يف املدرسة‪ -‬دراسة طبيعة كل طفل‬
‫وذوقه وحالته العامة‪ :‬لتهيئ املادة املناسبة للقسم بصفة عامة‪ ،‬ثم لتكييف‬
‫الدرس وختصيص التعليم‪.‬‬
‫* دراسة الطفل‪ -‬مالحظة األطفال ملعرفة كل منهم‪ ،‬يف ساحة‬
‫اللعب‪ ،‬يف القسم‪ ،‬يف معاملتهم لبعضهم‪ ،‬يف موقفهم النفيس والعاطفي‬
‫أمام املنافسة وأمام األحداث األخرى‪ -‬االختبارات النفسية‪ -‬األبحاث‬
‫اجلانبية‪ ،‬االتصال بالطبيب‪ ،‬االتصال باألرس‪ ،‬االتصال باملعلمني‬
‫اآلخرين‪.‬‬

‫د‪ -‬اإلنشاء‬
‫طاملا كان التعليم عمال افرتاضيا يقوم به الكبار‪ ،‬ويفرضونه عىل‬
‫الصغار‪ ،‬مبتدئني من النقطة التي كانت تعترب األساس الذي عليه يبني‬

‫‪59‬‬
‫كل يشء أال وهي املادة املدروسة‪ .‬وتدخل هذه النظرة إىل التعليم يف‬
‫مكاهنا الطبيعي من سلم التطور‪ .‬ألن أول ما خيطر عىل البال‪ ،‬هو أن‬
‫العلم املدروس ينبغي أن يكون موضع كل اهتامم املعلم‪ .‬ونتج عن‬
‫هذا أن انرصف املعلمون يف عصورهم املختلفة‪ ،‬ويف األقطار املتخلفة‪،‬‬
‫حيسنون طرق التعليم وينوعوهنا‪ ،‬وخيرتعون الوسائل ليسهلوا عىل‬
‫الطالب التحصيل‪ ،‬فيؤلفون له املؤلفات‪ ،‬ويقدمون له فيها‪ ،‬نظام ونثرا‪،‬‬
‫كل معطيات املعرفة مسبوكة يف قالب مناسب‪ .‬ومل ينسوا أن يتدرجوا‬
‫بطالب العلم من السهل إىل الصعب فيبدأونه بكتاب مبسط يرقى منه إىل‬
‫كتب أكثر تعقدا‪ .‬وجاءت الفلسفة املعارصة‪ ،‬بتيار جديد‪ ،‬بدأ بإرهاصات‬
‫روسو الذي استبرص أن الرتبية والتعليم ينبغي أن يسلك إليهام طريق‬
‫جديد؛ نقطة انطالقه‪ ،‬بل مركزه الذي عليه يدور‪ ،‬الطفل ال املادة‪ .‬ومن‬
‫مرحلة االستبصار‪ ،‬تقدم البحث الفلسفي أشواطا إىل أن بلغ ما نراه من‬
‫انفراد فرع منه بالطفل ونفسيته؛ وأعني علم سيكولوجية الطفل‪ .‬وتوطد‬
‫هذا العلم منذ ذاك حتى أصبح موضوعا للمالحظة والتجربة‪ .‬وكم‬
‫ابتعدنا عن املعلم مؤلف الكتب املطولة واملقرصة‪ ،‬وخمرتع الطرق لكل‬
‫مادة وعلم مع الذي يقول‪« :‬إذا أردت أن تظفر باحلقيقة يف شأن الطفل‪،‬‬
‫وتبرص نفسيته‪ ،‬فاتركه يترصف بحرية أمام املالحظ» ذاك يف واد‪ ،‬ونحن‬
‫مع صاحبنا يف واد‪ ،‬نريد أن ننظر إىل الطفل لنعرفه‪ ،‬مستشعرين أمهية هذا‬
‫العمل‪ ،‬ونعمل جاهدين لدراسة الطفولة بكل الطرق املمكنة‪.‬‬
‫والرأي الذي يبني عليه املربون األقدمون‪ ،‬هو أن الطفل رجل‬
‫مصغر‪ ،‬له ما للراشدين من القدرات وإن كانت درجة قوهتا بمقدار سنه‪.‬‬
‫ومل جيدوا عناء يف وضع كتبهم وطرقهم‪ ،‬فكان يكفي أن يقيس الواحد‬
‫منهم بنفسه‪ ،‬أو يقيس عىل كبار مثله‪ ،‬فإذا كتبوا أو اخرتعوا جربوا أوال‬
‫يف أنفسهم‪ ،‬ثم طبقوا عىل الطفل بعد ذلك‪ .‬وكانت اللحظة التي بان فيها‬
‫فساد هذا املقياس بمثابة فجر جديد يف علم الرتبية‪ ،‬عندما أكد روسو أن‬
‫البد من دراسة الطفل‪ ،‬هذا الكائن الذي نجهله‪ ،‬وأن الطفل ليس رجال‬
‫صغريا بل يمتاز بخصائص ثابتة ينفرد هبا‪.‬‬
‫وكان هلذه الفكرة أثرها يف توجيه الرتبية كلها منذ ذاك‪ ،‬وظهر‬

‫‪60‬‬
‫أثرها أيضا يف التعليم وطرقه؛ فوضعته املناهج عىل ضوئها‪ ،‬وروعيت يف‬
‫وضع الكتب؛ ويف حتديد زمن الدراسة‪ ،‬والوقت املناسب لبدئها‪ ،‬وقد‬
‫كان ذلك موكوال إلرادة الكبار‪ .‬وواضح ما لتطبيق هذه الفكرة من نتائج‬
‫عىل جدوى الرتبية والتعليم وفعاليتها‪ .‬ومن ينظر إىل ناحية واحدة من‬
‫نواحي تطبيقها‪ ،‬يتضح له قيمة ما كسبناه من اقتصاد للوقت‪ ،‬واقتصاد‬
‫للوسائل‪ .‬انظر مثال إىل الطفل الذي يبعث به إىل املدرسة قبل األوان‪،‬‬
‫ويفرض عليه نظام من نوع ال يتناسب ودراسة مادة فوق مداركه‪ .‬واتبعه‬
‫سنوات جتده قد مسخ كائنا منطمس العقل‪ ،‬عديم الشعور بشخصيته‪،‬‬
‫عبدا خاضعا للسلطة خائفا منها‪ .‬وتصور ما ربحناه اليوم ألننا نخرب‬
‫الطفل أوال هل نضج للمدرسة‪ ،‬فإذا أدخلناه إليها تعهدناه بنظام جعل‬
‫لينمي شخصيته ال ليكبتها‪.‬‬
‫تطبيق هذه الفكرة إذا أصبح رشطا لنجاح أي مرشوع تربوي‪ ،‬ودراسة‬
‫الطفل أصبحت رشطا يف تكوين كل من يشتغل بالرتبية والتعليم‪ ،‬كيفام كان‬
‫نوع اشتغاله‪ ،‬سواء واضع املنهج‪ ،‬أو مؤلف الكتب أو املرشف اإلداري‪،‬‬
‫أو املعلم‪ .‬وذكرت هذا آخرا‪ ،‬وال أملح أن نصيبه من الدراسة جيوز أن‬
‫يقل عن حظ اآلخرين سيام وهو املسؤول األول عن املأمورية الرتبوية‬
‫التعليمية‪ ،‬وهو الذي يعايش األطفال ويبارشهم‪ .‬وربام كانت حاجته أكثر‬
‫من اآلخرين لدراسة أعمق وأكثر اتساعا‪ .‬ألن معرفة نفسية الطفل بصفة‬
‫عامة جتعل مهمته سهلة‪ ،‬وألن معرفة االختالفات الفردية بني تالميذه‬
‫هتمه يف نفس املرتبة‪ .‬وكيف ال والقاعدة السيكولوجية العامة تظهر لناظر‬
‫احلقيقة وقد لبست وجوها بعدة من يراهم من الصغار‪ .‬فإذا درس املعلم‬
‫احلقائق األساسية عن الطفل يف كتب علم النفس‪ ،‬وجد يف مدرسته حقال‬
‫فسيحا لتطبيق هذه احلقائق عىل األفراد‪ .‬وإهنا ملهمة إن سهلتها معرفة‬
‫القواعد العامة‪ ،‬فإن املشاغل الكثرية التي تتجاذب املعلم ربام تنسيه إياها‪.‬‬
‫خاصة ويف مدارسنا أقسام ذات تالميذ بعدد يفوق العدد املعقول‪ .‬وكال‬
‫األمرين كفيل بأن يثبط عزيمة مل جتعل هلا مبدأ وغاية‪ ،‬وتدفع هبا يف أحضان‬
‫الكسل والتواكل عدد التالميذ كثري أمام املعلم‪ ،‬لكن كال منهم يمثل‬

‫‪61‬‬
‫هوية مستقلة‪ ،‬ختتلف عن هوية اآلخرين يف معناها ونفسيتها‪ ،‬كام ختتلف‬
‫عنها يف حسها ومظهرها‪ .‬كل منهم جاء من أفق اجتامعي خيتلف عن أفق‬
‫اآلخرين‪ ،‬وكل منهم عاش حوادث مل يعشها اآلخرون‪ ،‬ولكل منهم‬
‫رصيد من الصحة البدنية وماض من األسقام والعلل‪ ،‬ال يطابق ما عند‬
‫اآلخرين‪ .‬ومجيع هؤالء امليزات تفرز كل طفل عن اجلامعة‪ ،‬فتجعل منه‬
‫موضوعا أصيال خليقا بأن نتحمس ملعرفته ونجتهد لتحقيقها‪ .‬وإن مما‬
‫يزيد دراسة األطفال طرافة يف عيني الدارس‪ ،‬أهنم ال يستقرون عىل حالة‬
‫واحدة‪ ،‬بل هم يف صريورة مستمرة‪ ،‬ال تنقطع حركة نموهم وتغيريهم‪.‬‬
‫وكل يوم حافل بالعوامل التي ال متيض عليهم دون أن حيسب هلا حساب‬
‫يف شأهنم‪ .‬وأن املجتمع املدريس بام حيتويه من طبائع متباينة‪ ،‬وبالروح‬
‫الصبيانية التي تطبعه بطابعها اخلاص‪ ،‬لفي تفاعل غريب يكاد يشبه‬
‫التفاعل الكياموي‪ ،‬األطفال فيام بينهم يبتادلون العواطف‪ ،‬والعادات‪،‬‬
‫وخيلقون روابط خفية ال مدخل للكبار فيها‪ .‬واإلطار املدريس نفسه‬
‫يضيف أثره إىل أثر العوامل األخرى ليكمل لنا صورة جديدة للطفل‪،‬‬
‫ليست الصورة التي كنا نعرفها‪ .‬وبوسعنا أن نكتب أن الطفل يف املدرسة‪،‬‬
‫بام أعطته املدرسة وبام فيها من رفاق وأصدقائه ومعلمني‪ ،‬هو غري الطفل‬
‫قبل أن جييء إليها‪ .‬حتول باد يف سلوكه‪ ،‬ومعرفته للعامل‪ .‬كان من قبل حماطا‬
‫بعطف ذويه‪ ،‬بل حمفوفا هبذا العطف من كل جانب‪ ،‬فهو بحسب نفسه‬
‫مركز العامل‪ ،‬ويكتشف يوم جميئه إىل املدرسة نفسه‪ ،‬وأهنا ليست املركز‬
‫الذي يدور عليه كل يشء‪ ،‬لكن جزءا من جمتمع متعدد‪ ،‬غني بإمكانيات‬
‫جديدة ال عهد له هبا‪.‬‬
‫أفبعد هذا ال حيس املعلم برغبة يف دراسة هذه البدائع التي أمامه‪ ،‬احلافلة‬
‫بكل جديد؟ أمع كل هذا ال يريد املعلم‪ ،‬مع صاحبنا املريب‪ ،‬أن يعرف‬
‫احلقيقة عن نفس الطفل؟ وهب أن هذه الثروة الفكرية التي تكمن يف‬
‫دراسة األطفال ال جتذب معلمنا‪ ،‬فإن ضمريه املهني سيدفعه إليها‪ .‬ال يقل‬
‫أنني درست السيكولوجية العامة وكفاين‪ .‬فإن الدراسة النظرية قليلة الغناء‬
‫وحدها‪ ،‬بل هي عديمة الفائدة بتاتا إن مل تنزل إىل ميدان العمل‪ .‬يطالب‬
‫املعلم بتهييء مادته هتييئا يناسب تالمذته‪ ،‬وأنى له أن حيرض ما يناسب‬

‫‪62‬‬
‫تالمذته إن مل يعرف تالمذته أوال؟ ربام تفيده قواعد علم النفس العامة‬
‫معرفة اخلطوط الرئيسية يف نمو الطفل وسريه النفيس العام‪ .‬لكن احلقيقة‬
‫تقدم أمامه صورة مضبوطة وأكثر وضوحا مما تعطيه إياه قواعد العلم‪،‬‬
‫بحيث جيد أمامه مجاعة من األطفال هلا طابعها اخلاص‪ ،‬بل روح خاصة‬
‫ليست روح مجاعة أخرى من األطفال‪ ،‬ولو كانوا يف نفس السن ومن‬
‫نفس الوسط االجتامعي‪ ،‬وهذا ال جيده يف الكتب‪ ،‬بل جيده فقط يف احلقيقة‬
‫املاثلة أمامه إن هو عرف كيف يدرسها‪.‬‬
‫ينصح مربينا الراغبني يف اكتشاف خفايا نفس الطفل؛ بأن يلتمسوها‬
‫يف مالحظة الطفل عندما يكون منهمكا يف عمل ما بكل حرية‪ .‬وهذا‬
‫الظرف الذي حيدده املريب يظهر صعب التحقيق‪ ،‬ألن املعلم ال جيد فرصة‬
‫لدراسة الطفل إال بني جدران املدرسة‪ ،‬وألن الطفل يف املدرسة خاضع‬
‫لنظام موضوع‪ ،‬فهل جيد حتت هذا النظام جماال لنشاط حر؟ اجلواب‬
‫يتوقف عىل معرفة نوع النظام السائد يف املدرسة‪ ،‬هل هو نظام ضيق يسد‬
‫الباب يف وجه حرية الطفل‪ ،‬أو هو نظام واسع الصدر هلذه احلرية‪ .‬فنظام‬
‫مدارسنا‪ ،‬يفرض الدراسة يف جو مجاعي ينقاد لدواعي املنهاج والتوزيع‬
‫الشهري والسنوي‪ .‬فال يتأتى داخله أن يعطي الطفل حرية ليعمل وحده‪،‬‬
‫أو منطلقا مع رفاقه‪ .‬وإذا فال يبقى إال فرص قليلة لكي نرى يف مدرستنا‬
‫الطفل يترصف بحرية‪ .‬وأكرب هذه الفرص‪ ،‬والشك‪ ،‬هي ساعة خيرج‬
‫الطفل ليلعب يف ساحة املدرسة‪ .‬هناك‪ ،‬حيث يامرس الطفل نشاطه‬
‫الطبيعي‪ ،‬ينسى قيود النظام ويظهر عىل حقيقته‪.‬‬
‫وإذا تبعنا املريب يف نصيحته‪ ،‬فسنقترص إذا عىل دراسة الطفل يف ساحة‬
‫اللعب فقط‪ ،‬وسنظفر ببغيتنا‪ .‬وأظنني لست عىل اتفاق تام مع هذا الرأي‪،‬‬
‫فإنني أسلك لدراسة األطفال طرقا أخرى كثرية‪ .‬نعم يبقى هلذه الطريقة‬
‫مكان خاص‪ ،‬ألهنا وحدها تعطي اإلنارة الكافية لتجلية ما قد يبقى‬
‫غامضا عندما أدرسه بالطرق األخرى‪ .‬فرب طفل كنت حائرا يف أمره‪ ،‬مل‬
‫يبن يل وجه الصواب فيه إال بعد أن رأيته منطلقا يلعب‪ .‬وما ذلك إال ألن‬
‫الطفل يف حالته األخرى يتصنع بعض اليشء‪ ،‬حماوال حذر رغبة املعلم‬
‫لريضيها‪ ،‬فيظهر يل يف كثري من األحيان عىل غري حقيقته‪ .‬ومع ذلك فأعتقد‬

‫‪63‬‬
‫أن دراسة األطفال ال تكمل إال باتباع طرق متعددة يكمل بعضها بعضا‪.‬‬
‫فمن هذه الطرق مالحظة التلميذ يف القسم أثناء العمل‪ ،‬وأعطي هلذه‬
‫الطريقة املكانة األوىل‪ ،‬بعد مالحظته يف ساحة اللعب‪ ،‬أو مع مالحظته‬
‫يف ساحة اللعب‪ .‬وذلك ألن الطفل يف القسم خاصة بعد أن يفوت‬
‫مرحلة الصبا االوىل‪ ،‬جيد عقبات يف عمله نفسه‪ ،‬ويف عالقته برفاقه‪ ،‬ويف‬
‫عالقته بمعمله‪ ،‬فأترقبه يف كل هذه العقبات ألنظر كيف يتغلب عليها‪.‬‬
‫وهكذا أعرف فضل التلميذ الذي يتعاون مع رفاقه‪ ،‬وجد التلميذ الذي‬
‫ينجز أعامله وحده بانتظام‪ ،‬وضعف الذي خيلق األعذار الواهية ليخفي‬
‫عجزه‪ .‬وهذا زيادة عىل ما أعرفه من مقدرات األطفال العقلية بمناسبة‬
‫التامرين واالختبارات‪ .‬وسبب ثان دفعني إىل اعتامد مالحظة التالميذ يف‬
‫القسم نفسه؛ هو أن التلميذ يميض جل وقته يف القسم ال خارجه‪ ،‬وهذا‬
‫ما يعطي حلياة القسم صبغة خاصة بعاداهتا وأحداثها‪ ،‬وخيفف كثريا من‬
‫الكلفة التي بني املعلم وأطفاله‪ ،‬يرتفع بارتفاعها داعي النفاق واإلخفاء‪.‬‬
‫وأظن أن كل معلم خبري بأمره يعرف تالميذه بالقدر الذي ال جتوز عليه‬
‫منهم حيلة‪ .‬وطريقة أخرى لدراسة الطفل‪ ،‬هي اقرتاح اختبارات نفسية‬
‫فردية‪ ،‬أو مجاعية‪ .‬وهلذه االختبارات مكاهنا‪ ،‬رغم ما تلقاه من معارضة‬
‫بعض املربني‪ .‬وهي وإن كانت ال تعطي صورة مضبوطة لنفس الطفل‪،‬‬
‫نظرا إىل أهنا‪ ،‬ككل‪ ،‬قاعدة وضعت لقياس الفرد املتوسط‪ ،‬فإهنا تتمم‬
‫معرفة املعلم التي حصل عليها بالطرق األخرى‪ .‬وأعطى مكانة خاصة‬
‫للدراسات اجلانبية التي اعتمدها؛ وهي دراسات تكمل مالحظتي‬
‫يف املدرسة‪ ،‬بل تفرسها يف كثري من األحايني‪ ،‬وتقوم ما كان منها عىل‬
‫أساس غري وطيد‪ .‬وأعني بالدراسات اجلانبية تلك التي التمسها يف‬
‫اتصايل باألرس وبالطبيب وباملعلمني زمالئي‪ .‬فعند األرسة أبحث عن‬
‫الظروف االجتامعية واالقتصادية ألعرف كيف يعيش فإذا عرفت هذا‬
‫أمكنني أن أنظر إىل الطفل من كل جوانبه‪ ،‬وأربط النتائج باألسباب كلام‬
‫وقفت أمام مشكلة‪ .‬هذا طفل كنت أخاله كسوال بليدا ألنه ال ينجز‬
‫متارينه بانتظام‪ ،‬وعرفت غلطي يوم وجدت أرسته فقرية تسخره يف كل‬
‫أوقاته احلرة ملساعدة أبيه‪ ،‬أو كسب بعض املال‪ .‬وذاك تلميذ مل أعرف‬
‫سبب اضطرابه وعدوانه إال يوم اطلعت عىل مأساة أرسته‪ .‬وعند الطبيب‬
‫أجد معلومات عن صحة أطفايل تساعدين كثريا عىل تكييف تعليمي‬

‫‪64‬‬
‫والرتفق بمن أعرفهم ضعيفي البنية يف حاجة إىل راحة‪ ،‬وال أنسى أن‬
‫أستفيد من مالحظات زمالئي املعلمني‪ ،‬وخصوصا إذا كان تالمذهتم‬
‫السابقون دخلوا قسمي‪ .‬وأن اجتامعاتنا الرسمية يف املدرسة‪ ،‬أو اجتامعاتنا‬
‫اخلاصة يف ساحة اللعب‪ ،‬مناسبات لتبادل معلومات خصبة بنتائجها‪،‬‬
‫نتناقش ملعرفة ما إذا كان التلميذ فالن مشاغبا حقا‪ ،‬ويشري بعضنا إىل‬
‫تلميذ كان بارزا بني رفاقه ثم مخدت جذوته‪ ،‬فيفرس اآلخر ذاك بأن هذا‬
‫التلميذ حدث له كيت وكيت مما يفرس تقهقره‪.‬‬
‫املعلم يريد أن يدرس املهنة ويدخلها من الباب الواسع‪ ،‬فيتلقى دروسا‬
‫يف طرق التعليم‪ ،‬ودروسا يف علم النفس‪ .‬ويوم جيد نفسه وحده أمام مجاعة‬
‫األطفال يكتشف أن دراساته املاضية ليست حقا مفتاحا وحدها للمهنة‪.‬‬
‫مشكلته اليوم عملية‪ ،‬هيمه أن جيد وسيلة لتسيري األطفال وحده وفقا‬
‫للنظريات التي يعرفها‪ .‬ويستنجد بكل قوته‪ ،‬ويبدأ عامال متجلدا‪ .‬وأول‬
‫عمل يقوم به‪ ،‬إن كان ذكيا‪ ،‬دراسة أطفاله كجامعة‪ ،‬ودراستهم فرادى عىل‬
‫حدة‪ .‬ومعلمنا هذا ذكي والشك‪ ،‬ألنه مل ينتظر أن جتيئه التجربة باملفتاح‬
‫الذهبي‪ ،‬بل بدأ من أول يوم يالحظ األطفال يف حاالهتم املختلفة‪،‬‬
‫ويدون مالحظاته ويرضب بعضها يف بعض ليجد جواب أسئلته التي ال‬
‫تنقطع‪ .‬ويسأل أيضا من حوله من زمالء‪ ،‬ويسرتشد بكل مرشد‪ ،‬ويتقىص‬
‫أخبار األطفال من كل معني‪ .‬ويقرأ قول املريب ناصحا بمالحظة الطفل‬
‫قبل كل يشء‪ ،‬عندما يكون منهمكا يف عمل حر‪ ،‬فيتيقظ للفكرة‪ ،‬ويتحني‬
‫الفرص لريى أطفاله يف ساحة اللعب‪ ،‬يتتبع حركاهتم‪ ،‬فتتكشف له نواح‬
‫من نفسياهتم مل يكن يتوقع وجودها‪ ،‬ويطلع عليه بعض تالميذه بوجه‬
‫جديد ما كان يف حسبانه‪ .‬وهبذه الطريقة حيصل عىل التجربة احلقيقية التي‬
‫أساسها معرفة الطفل بصفة عامة‪ ،‬ومعرفة األطفال يف جماالهتم املختلفة‪.‬‬
‫فإذا حصل عىل هذه التجربة كان عندئذ املعلم املاهر احلريص عىل هتيئ‬
‫درسه مراعيا تالمذته‪ ،‬اخلبري بقدرات كل طفل ليعطيه عىل قدر حاجته‪،‬‬
‫ويصوغ له احلقائق بالصورة التي يبلغه هبا‪ .‬وإذا حصل عىل هذه التجربة‬
‫كان املريب البصري الذي يمسك يف يده كل الوسائل املعنوية لتوجيه‬
‫الناشئة‪ ،‬عارفا بواعث كل نفس‪ ،‬مقدرا ظروفها‪ ،‬متطلعا لتوصيلها أبعد‬
‫ما يمكن أن تطمح إليه‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫املوضوع رقم ‪:6‬‬
‫يقول فروبل‪« :‬ليس اللعب شغلة تافهة يف نظر الطفل؛ لكنه عمل‬
‫ذو أمهية كبرية»!‬
‫وقال أيضا‪« :‬إنني أقدس عمل الطفل حني يلعب»‪.‬‬
‫فرس القولني‪ ،‬وقل ما تعرفه عن لعب األطفال‪.‬‬

‫أ‪ -‬فهم املوضوع‬


‫يف نص املوضوع قوالن ملرب كبري كان له الفضل يف اكتشاف أمهية‬
‫اللعب يف حياة الطفل‪ ،‬واستغالل اللعب يف احلقل الرتبوي‪ .‬وكالمه‬
‫هنا يشف عن عاطفة صادقة نحو الطفل‪ ،‬تذكر بنفس روسو الذي كان‬
‫صاحبنا معجبا به‪ ،‬وتبلغ هذه العاطفة إىل حد تقديس عمل الطفل حني‬
‫يلعب‪.‬‬
‫وبني القولني اختالف واضح‪ ،‬فاألول ينظر إىل اللعب بعني الطفل‪،‬‬
‫والثاين ينظر إليه بعني املريب العطوف‪ ،‬فإذا سألنا السائل عن تفسري‬
‫القولني‪ ،‬فالبد أن نعترب هذا االعتبار وندخله يف حسابنا‪ ،‬وبوسعنا أن‬
‫نقسم هذا التفسري قسمني‪ :‬أمهية اللعب بالنسبة للطفل‪ ،‬وأمهيته بالنسبة‬
‫للمريب‪ .‬ويتعني بعد ذلك أن نأخذ القسم الثاين فنفصله ونوضحه ونتممه‬
‫حتى النتيجة‪ .‬املريب يقول بأنه يقدس لعب الطفل‪ ،‬وهذا تعبري عن جمرد‬
‫عاطفة‪ ،‬فإذا جئنا نرشح القول عىل ظاهره ونكتفي بتحبيذ هذه العاطفة‪،‬‬
‫وإكبارها‪ ،‬تركنا املهم يف املوضوع‪ ،‬وهو أن تقديس املريب للعب الطفل‬
‫هو الذي دفعه إىل تشجيعه وتسخريه الغناء الطفل بتجارب متنوعة‬
‫وتربيته عن طريق اللعب‪.‬‬
‫واجلزء الثاين من السؤال يطلب إلينا أن نقول كل ما نعرفه عن لعب‬
‫الطفل‪ ،‬وهو سؤال واسع كام يبدو غري حمدود‪ .‬وكأن السائل فتح لنا الباب‬
‫عىل مرصاعيه‪ ،‬وترك لنا مهمة االختيار لريى كيف نتناول اقتصاد املوضوع‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫وكيف يكون انسجام مقالنا‪ .‬وهي مهمة صعبة تقتيض إمعان النظر‬
‫قبل اإلقدام عىل الكتابة‪ ،‬وإال كتبنا مندفعني تتنازعنا األفكار من كل‬
‫جانب‪.‬‬
‫وما دام اختاذ ضابط حيدد املراحل ويشري إىل الطريق حمتوما‪ ،‬فنقرتح‬
‫أن نرجع إىل قولتي املريب ونتخذها أساسا لإلنشاء يف اإلجابة عن اجلزء‬
‫الثاين للموضوع‪ .‬فإذا قلنا يف تفسري القول األول اهتامم الطفل باللعب‬
‫وكيف يبدو هذا االهتامم‪ ،‬رجعنا يف اجلزء الثاين من اإلنشاء لنزيد النقطة‬
‫إيضاحا‪ ،‬ونبني مل هيتم الطفل باللعب‪ ،‬وإذا ذكرنا يف تفسري القول الثاين‬
‫عاطفة املريب واالهتامم الذي نشأ عن هذه العاطفة‪ ،‬تقدمنا بالنقطة يف‬
‫اجلواب عن السؤال إىل ذكر النتائج التي بلغ إليها املريب وبلغ إليها من‬
‫بعده ممن نحوا نحوه‪.‬‬
‫وبام أن السائل يريد أن يقرأ كل ما نعرفه عن لعب األطفال‪ ،‬فمن‬
‫املحتوم‪ ،‬أن نعترب التخطيط الذي وقفنا عنده هيكال نبني حوله‪ ،‬مضيفني‬
‫كل معلوماتنا عن الطفل يف حالة اللعب‪ ،‬ذاكرين عاطفته نحو اللعب‬
‫وطريقته فيه‪ ،‬وأنواعه التي حيبها‪.‬‬

‫ب‪ -‬التصميم‬
‫* تفسري القولني‪.‬‬
‫* ما أعرفه عن لعب األطفال‪.‬‬

‫جـ‪ -‬التصميم املفصل‬


‫* اللعب نشاط الطفل الطبيعي‪ -‬اللعب والتقليد‪ -‬اهتامم الطفل‬
‫باللعب بالنسبة لألعامل األخرى‪ -‬اللعب خيتلف باختالف السن‪ -‬أنواع‬
‫األلعاب‪ -‬األلعاب اجلامعية والفردية‪ -‬اخليال واللعب‪.‬‬
‫* فروبل واللعب‪ -‬تسخري اللعب يف األغراض الرتبوية‪ ،‬فروبل‪،‬‬
‫ذوكرويل‪ -‬اللعب أو اجلد؟‬

‫‪67‬‬
‫د‪ -‬اإلنشاء‬
‫ربام يكون فيام يقوله الناس عن اختالف عواطف الكبار نحو الطفولة‬
‫يشء من الصحة‪ ،‬فهذا حيب األطفال‪ ،‬واآلخر يدعي أنه ال حيبهم‪،‬‬
‫والذي الشك فيه أن القلوب التي تبقى جامدة أمام منظر الطفل يف لعبه‬
‫الربيء قلوب متحجرة بطبعها‪ ،‬أو حتجرت نتيجة لتشبعها بفكرة معادية‬
‫للطفولة‪ .‬ومن هذه الفئة األخرية أولئك الذين يرون الطفل جمبوال عىل‬
‫الرش‪ ،‬فيحذرون أن تستهويه األفكار اخلبيثة‪ ،‬ويتهمون كل نشاط عفوي‬
‫يبدو منه سيام إذا تعلق األمر باللعب‪ .‬ويزداد موقف هؤالء خطورة‬
‫عىل مستقبل الطفل إذا كانوا ممن يرشفون عىل تربيته من قريب أو بعيد‪،‬‬
‫فسيأخذونه أخذا شديدا‪ ،‬وسيشغلونه بكل وسيلة لئال يرتكوا له فرصة‬
‫يلعب فيها‪ .‬وإذا كانوا معلمني فسيعددون التامرين املدرسية والتكاليف‬
‫الكتابية ليستعملوا‪ ،‬يف نظرهم‪ ،‬الوقت استعامال حسنا‪ .‬وكأين بواحد‬
‫من هؤالء واقفا يف ساحة املدرسة يفخر عىل زميله‪ ،‬ويشري إىل بضعة من‬
‫تالمذته تركوا اللعب‪ ،‬وانزووا يف ناحية يكتبون مترينا أو يعدون درسا!‬
‫هذه الفئة املعادية للعب بعيدة كل البعد عن رأي فيلسوف ومرب كبري‪،‬‬
‫فروبل‪ ،‬حني قال‪« :‬ليس اللعب شغلة تافهة يف نظر الطفل‪ ،‬لكنه عمل‬
‫ذو أمهية كبرية»‪ .‬وبعيدة عاطفته املتفتحة عن عواطفهم حني يقول «إنني‬
‫أقدس عمل الطفل حني يلعب»‪ .‬فامذا نقول يف هذا االختالف؟ أيرجع‬
‫الرس فيه إىل أن فيلسوفنا ذو قلب حمب لألطفال‪ ،‬أم أصدر املريب حكمه‬
‫بعد أن متعن يف األمر وفكر فيه غري مكتف بمجرد العاطفة؟ وأيا ما كان‬
‫األمر فإن كالمه لنعم املقدمة ملن يريد أن يبحث املوضوع حتى يستنري يف‬
‫عمله‪ ،‬وحتى يعرف أكثر ما يمكن معرفته عن لعب األطفال‪.‬‬
‫األطفال حيبون اللعب‪ ،‬ويف وسع أي إنسان أن يالحظ ذلك‪ .‬يكفي‬
‫أن يتمتع الطفل بصحة جسمية ونفسية جيدة‪ ،‬ليفكر يف اللعب كلام وجد‬
‫إىل ذلك سبيال‪ ،‬فيستغل كل أوقات فراغه ليرصفها يف نشاطه املفضل‪،‬‬
‫ويتحني الفرص ليلعب حتى يف ساعاته األخرى‪ ،‬وبوسعنا أن نقول بأن‬

‫‪68‬‬
‫الطفل يلعب يف كل حاالته‪ ،‬وأنه ال يكون أكثر رضا عن نفسه وعن‬
‫الناس إال حينام يلعب‪ .‬وذلك ألن اللعب غريزة يف كل كائن ناشئ‪،‬‬
‫يشارك اإلنسان فيه صغار احليوانات‪ .‬وهي ككل الغرائز‪ ،‬ذات وظيفة‬
‫مهمة يف حياة الفرد‪ ،‬إذ يعد اللعب مرحلة رضورية للطفل يتعلم بواسطته‬
‫أن يتكيف بواقعه‪ ،‬وباألخص بواقعه االجتامعي‪ .‬واملتدبر يالحظ أن‬
‫كل لعبة يلعبها األطفال من ورائها تدرب عىل األشياء أوال‪ ،‬ثم تدرب‬
‫عىل األعامل املختلفة التي يسري عليها جمتمع الطفل‪ ،‬فمن اللعب تعرف‬
‫الطفل عىل األجسام‪ ،‬وألف أشكاهلا وأحجامها‪ ،‬ومنه تعلم كيف يتعاون‬
‫مع رفاق اللعب‪ ،‬وكيف حيرتمهم‪ ،‬ومنه تعلم أيضا األحكام االجتامعية‬
‫العامة‪ .‬فلعب الطفل بالدمية وسامها ابنته‪ ،‬ولعب بالنقود فاشرتى هبا‬
‫بضاعة من حانوت رفيقه البقال‪ .‬وال غرو أن يكون اللعب كام قلنا‪،‬‬
‫فإن أساسه التقليد‪ .‬األطفال ال خيرتعون لعبة من اليشء‪ ،‬لكنهم يرون‬
‫من حوهلم يقومون بحركات ويصطنعون أدوات يستعملوهنا ألغراض‬
‫معينة‪ ،‬فيفعلون مثلهم‪ ،‬ويصطنعون مثل ما اصطنعوا‪ .‬وإذا أخذت ألعاب‬
‫األطفال وفحصتها‪ ،‬وجدت أن لكل لعبة مقابال يف احلياة احلقيقية‪ ،‬ال‬
‫خيتلف عنه إال قليال‪ ،‬أو ال خيتلف عنه أصال‪ .‬عىل أن هذا التقليد ليس‬
‫دائام تقليدا مبارشا‪ ،‬أعني أن كل طفل ال خيرتع لعبة بكيفية أصيلة‪ ،‬بل‬
‫الغالب أن يقلد أطفاال آخرين لعبوا أمامه‪ .‬ويتوقف ذلك عىل بيئة الطفل‬
‫اخلاصة؛ فإن نشأ وحده يف البيت وكان بمعزل عن األطفال‪ ،‬كان خليقا‬
‫أن يرجتل لنفسه لعبا‪ ،‬أو تبدأ هبا أمه أو مربيته‪ ،‬وإن كرب يف وسط أطفال‬
‫إخوته أو جريانه‪ ،‬اكتفى بتقليدهم‪ .‬واملالحظ أن نوع اللعب أو مادته‪ ،‬ال‬
‫تؤثر شيئا يف اهتامم الطفل به‪ .‬يستوي عنده أن تشرتي له لعبة جديدة‪ ،‬أو‬
‫تصنع له هذه اللعبة متقنة أو غري متقنة‪ .‬هو مستعد لقبول أي لعبة ما دام‬
‫مل يدخل يف األمر عامل عاطفي كالغرية أو املنافسة‪ ،‬وإذ ذاك هيتم الطفل‬
‫بلعبة بعينها‪ .‬إذا رأى طفال يف يده لعبة‪ ،‬نيس كل لعبه‪ ،‬وتعلق بلعبة منافسه‬
‫وحدها‪ .‬لكن للطفل دائام ميل للعب خاصة يفضلها‪ ،‬ويبقى هلا وفيا‪،‬‬
‫وعليها حمافظا حتى إن بليت وتالشت‪ .‬وكأن رباطا عاطفيا يربطه هبا‪.‬‬
‫وكثريا ما يالحظ هذا الوفاء الطويل من البنت الصغرية لدميتها‪ ،‬فكأهنا‬

‫‪69‬‬
‫تعترب هذه الدمية رفيقة هلا‪.‬‬
‫واهتامم الطفل باللعب عامة‪ ،‬وبنوع اللعب بصفة خاصة‪ ،‬يتطور‬
‫بتقدم سنه وجنسه‪ .‬فلكل سن ألعاب تقابلها‪ ،‬كام أن للفتيان ألعابا غري‬
‫ألعاب البنات‪ .‬ال أقول أن مقدار اهتامم الطفل باللعب يتقلب كلام‬
‫كرب‪ ،‬فإن محاس األطفال للعب ال ينقص شيئا‪ ،‬بل أن أثر هذا احلامس‬
‫ليبقى عند الراشدين‪ ،‬وال عربة بأن ألعاب الراشدين روحها يف كثري‬
‫من األحيان عاطفية أو نفعية قوية‪ ،‬كالتغلب عىل اخلصم‪ ،‬أو نيل جائزة‪،‬‬
‫وأن األطفال يلعبون دون حاجة إىل مثل دوافع الكبار‪ .‬ال عربة هبذا‬
‫االعرتاض فإن الكبار يلعبون أيضا‪ .‬عىل أن الذي هيمنا هنا هو أن محاس‬
‫األطفال للعب يبقى حيا‪ .‬وهنا نقسم الطفولة مراحل بحسب اللعب‬
‫التي ختص كال منها‪ ،‬وأول هذه املراحل الدمية للبنني والبنات سواء‪،‬‬
‫عىل أن البنني ينرصفون عن هذه اللعبة رسيعا‪ ،‬بينام تبقى البنت حمتفظة‬
‫هبا وقتا طويال‪ ،‬ولعل عاطفة األمومة هي التي جتعل البنت ميالة إىل هذا‬
‫اللعب حتى بعد سن العارشة‪ ،‬أما الطفل فرسعان ما يكتشف لعبا أخرى‬
‫أكثر جاذبية‪ ،‬أو أكثر عنفا‪ ،‬بحيث تعطيه جماال لرصف نشاطه اجلسامين‬
‫الفياض‪ .‬فبعد الدمية أو ما يشبهها من التامثيل يرغب يف ترويض جسمه‬
‫عىل ركوب الدراجات واجلري وراء العجالت‪ ،‬واملرحلة الثانية يف لعب‬
‫البنت هو مرحلة إدارة املطبخ وصنع األطعمة‪ ،‬ثم حماكاة األعامل البيتية‬
‫األخرى‪ .‬ومتيض هاتان املرحلتان‪ ،‬فيظهر عند اجلنسني ميل إىل األلعاب‬
‫اجلامعية‪ ،‬لكن هذه األلعاب تكتيس عند البنني صبغة خاصة‪ ،‬وتتطلب‬
‫جمهودا جسميا خاصا‪ ،‬ثم بعد ذلك معاجلة أشياء حتل وتركب‪ .‬بينام تكون‬
‫ألعاب البنات وديعة هينة كالوثوب عىل احلبل‪ ،‬أو االشرتاك يف حماكاة‬
‫األعامل البيتية‪.‬‬
‫والفرق بني األلعاب الفردية واجلامعية أن االوىل بسيطة يف قواعدها‪،‬‬
‫يرصفها الطفل كيفام شاء‪ .‬بينام ختضع الثانية لقواعد تضعها اجلامعة‬
‫وختضع هلا‪ .‬ومتتاز األلعاب اجلامعية أيضا بأهنا جتري حتت إرشاف قائد‬
‫يكون احلكم بني أقرانه‪ ،‬الزعيم يف وسطهم‪ .‬ولن أقول هنا أكثر من هذا‬
‫عن سيكولوجية زعيم األطفال فليس هذا بابه‪ .‬إنام أالحظ أن الطفل‬

‫‪70‬‬
‫يف مرحلة األلعاب اجلامعية‪ ،‬يبحث عن لعب حيكي نظامها النظام‬
‫االجتامعي عند الكبار‪ ،‬فكأن غريزته تدفعه إىل هتيئ نفسه‪ ،‬وتكييفها‬
‫للحياة التي تنتظره‪ .‬وأغرب ما يف األمر أن حاجة الطفل إىل أن يشارك‬
‫اجلامعة‪ ،‬أو يشاركه األطفال اآلخرون لعبه‪ ،‬يبدو ذا أمهية كربى يف عينه‪،‬‬
‫وال أدل عىل هذا من أن الطفل إذا رفضته اجلامعة ومل تدخله معها‪ ،‬يكون‬
‫مغبونا كئيبا‪ ،‬كأنام حدث له أكرب املصائب وأدعاها إىل اليأس‪ .‬وال أدل‬
‫عىل هذا من أن الطفل قد خيرتع لنفسه رفيق لعب خيايل‪ ،‬سيام إذا مل يسعفه‬
‫احلظ فنجد قريبا منه رفيقا حقيقيا‪ .‬وقد حكى كثري من الباحثني حاالت‬
‫أطفال يلعبون مع رفيق خيايل يتومهونه ويطلقون عليه اسام ويعطونه‬
‫صفات خاصة متاما كام لو كان واقعيا‪.‬‬
‫واحلقيقة أن هذه احلاالت النادرة التي يتصور فيها الطفل رفيقا‪ ،‬ال‬
‫تكون إال أمثلة طريفة ألمهية اخليال يف لعب الطفل‪ ،‬وأن اخليال هلو الدافع‬
‫الرئييس‪ ،‬والعنرص الذي يعطي احلياة للعب‪ .‬ذلك ألن األطفال الزالوا‬
‫يشعرون باحلقائق شعورا ممزوجا بواقع خيايل‪ ،‬وبالتايل يشعرون باألشياء‬
‫املتخيلة‪ ،‬وكأهنا جزء من الواقع‪ .‬الحظ طفال يلعب‪ ،‬جتده منرصفا يف جدية‬
‫تامة إىل لعبه‪ ،‬ينفعل له انفعاال حقيقيا‪ ،‬فإذا ركب قصبة وسامها حصانا‪،‬‬
‫فام ذلك إال أنه يف قرارة نفسه‪ ،‬وبشكل يبدو لنا معرش الراشدين ال يمكن‬
‫فهمه‪ ،‬يركب حصانا حقيقيا‪ .‬ومن هنا كان اهتامم الطفل الكبري بلعبه‪،‬‬
‫ومن هنا وال شك كانت مالحظة الفيلسوف عندما قدر أن اللعب ليس‬
‫شغلة تافهة يف نظر الطفل كام هي يف نظرنا‪ .‬ونزيد عىل هذا أن اهتامم الطفل‬
‫باللعب‪ ،‬أكثر من اهتاممه بأي عمل جدي نقرتحه عليه‪ ،‬أو يعمله بدافع‬
‫احلاجة‪ .‬وسبب هذا أن الطفل عندما يلعب جيد يف اللعب نفسه مكافأته‪،‬‬
‫بينام ال جيدها أو ال يقدرها‪ ،‬عندما يقوم بعمل آخر‪ .‬وأنه عندما يلعب‬
‫يعرف الغاية التي يرمي إليها من لعبه‪ ،‬فيقبل عليه إقباال‪ ،‬أما يف األعامل‬
‫األخرى‪ ،‬فإنه جيهل هذه الغاية وال يقبل‪ .‬وترجع إىل اخليال وعالقته‬
‫باللعب لنلتمس تطور اللعب هل يقع نتيجة لنضج املخيلة‪ .‬ونقول أن‬
‫من املنطق الظن بأن األمر كذلك‪ .‬ويف الواقع أمثلة تساعدنا عىل تأكيد‬

‫‪71‬‬
‫هذا الظن‪ .‬نرى الطفل كلام تقدمت به السن أضاف إىل لعبه البحث الذي‬
‫كان يامرسه وحده وجيد فيه كفايته من اللذة‪ ،‬عنارص جديدة؛ فيضيف‬
‫إليه‪ ،‬أو ينضاف لرفاق يشاركهم اللعب‪ ،‬ثم يدخل يف ألعابه قواعد‬
‫تضبطها‪ .‬وغايات يتسابق إليها الالعبون‪ ،‬ثم يلعب ضد خصوم رجاء‬
‫أن يغلب‪ .‬أفليس كل هذا دليال عىل أن اخليال االول الذي كان عامال‬
‫يصبغ اللعب بأصباغ جاذبة‪ ،‬يعوض بعوامل نفسية كلام ضعف بتقدم‬
‫سن الطفل ونضج خياله؟ أليس لعب الراشد املفتقر إىل عنرص اخليال‬
‫الصبياين‪ ،‬يعتمد كله عىل العوامل النفسية التي تعطيه جاذبيته؟ عىل أن ال‬
‫مراء يف حقيقة أساسية‪ ،‬وهي أن اهتامم الطفل باللعب‪ ،‬ال يامثله اهتاممه‬
‫بأي نشاط غريه‪ ،‬وأن هذا االهتامم طاقة كبرية عند الطفل‪.‬‬
‫وإدراك املربني أمهية هذه الطاقة ينري هلم الطريق يف ذلك الفيلسوف‬
‫األملاين فروبل‪ ،‬هذا العامل الذي وقف عند الطفل يتأمل لعبه ويقرر أنام يراه‬
‫عمل يستحق التقديس‪ .‬وقد قاهلا فروبل خالصة من قلبه الكبري املحب‬
‫للطفولة‪ ،‬وقاهلا بعقله الكبري الذي عرف كيف يطلع عىل خبايا نفس الطفل‬
‫عندما يلعب‪ ،‬ويسخر معرفته لتأسيس حركة تربوية وصلت آراء روسو‬
‫يف تربية الطفل بأحدث الطرق يف تربية الصغار‪ .‬ومذهب فروبل أشهر من‬
‫أن يعرف‪ ،‬وخاصة ملن يعنون برتبية الصغار يف رياض األطفال‪ .‬والكلمة‬
‫نفسها "رياض األطفال" من تراث فروبل؛ فإنه عندما نوى أن يؤسس‬
‫معهدا يطبق فيه آراءه يف استعامل لعب الطفل استعامال تربويا‪ ،‬فكر طويال‬
‫وفرح يوم وقع له هذا االسم‪ .‬وقد بدأ فروبل يفكر‪ ،‬من لدن وقف عىل‬
‫مجاعة األطفال‪ ،‬ورأى إقباهلم الشديد وجدهم يف اللعب‪ ،‬يف طريقة جديدة‬
‫لرتبية األحداث‪ ،‬والحظ مرة صبيا يدحرج كرة‪ ،‬فمىض عقله الفيلسوف؛‬
‫وبنى للناس مذهبا يف فهم العامل ابتداء من الشكل الكروي‪ .‬وطبق فكرته‬
‫مع الصغار فأعطاهم كرة أول ما أعطاهم‪ ،‬وكربت مدرسته وتوسع يف‬
‫طريقته حتى اختذت شكلها النهائي يف صورة "رياض األطفال" يعطي فيه‬
‫األطفال سلسلة لعب ذات أشكال هندسية –وقد كان الفيلسوف يعتقد‬
‫أن الرتبية إذا مل توجهها اهلندسة فستكون عملية فقرية خائبة‪ -‬ويدعونا‬

‫‪72‬‬
‫الستعامهلا استعامالت خمتلفة‪ ،‬يتعلمون هبا مبادئ احلساب‪ ،‬ويتعلمون‬
‫منها كيف حيلون ويركبون‪ ،‬وبالتايل كيف يربون حواسهم‪ .‬ومىض‬
‫فروبل وبقيت طريقته تغني الباحثني يف تربية األحداث‪ .‬وتطورت فكرة‬
‫«اللعب وسيلة للرتبية» فاختلفت األلعاب شكال أو عددا عن تلك التي‬
‫استعملها فروبل‪ ،‬لكن املبدأ بقى‪ .‬وعند الدكتورة مونتسوري والدكتور‬
‫دوكرويل ألعاب الشك أهنا أوسع دائرة‪ ،‬وأنسب لألطفال‪ .‬السيام وقد‬
‫استفادا مما انتقدت به طريقة فروبل بأهنا طريقة تتوخى السهولة‪ ،‬زيادة‬
‫عىل أهنا ال تسمح إلعطاء تربية وتعليم كافيني‪ ،‬خصوصا إذا تعلق األمر‬
‫بالكتابة والقراءة‪ .‬ومما اختذه مربو األحداث العرصيون عن فروبل حديقة‬
‫املدرسة‪ ،‬فأعطوها وظيفة تربوية بعد أن كانت عىل عهد سلفهم‪ ،‬جماال‬
‫للمرح يمثل عىل الصعيد العميل النصيب الكبري من حب الطفل الذي‬
‫كان حيمله الفيلسوف‪ .‬أخذوا احلديقة وجعلوا منها ميدانا للمالحظة‪.‬‬
‫وغرسوا فيها أنواع الزهور‪ ،‬وأسكنوا فيها أنواع الدواجن‪ ،‬يلعب‬
‫األطفال معها مقلدين عناية الكبار آخذين نصيبا حقيقيا من هذه العناية‪.‬‬
‫وتقول يل‪ :‬ما عالقة كل هذا باللعب احلقيقي؟ أليس أننا مسخنا‬
‫اللعب وحولناه عن غايته؟ إذا كان اللعب نشاطا تلقائيا عند الطفل‪،‬‬
‫ومتنفسا طبيعيا يرتاح إليه‪ ،‬فام بالنا نخدعه عن نفسه‪ ،‬ونقحم له يف‬
‫اللعب عنارص أجنبية؟ ثم أال يتيقظ الطفل لفعلتنا؟ كل هذه أسئلة يف‬
‫مكاهنا‪ ،‬وتفيد اإلجابة عنها هنا أن اللعب الرتبوي‪ ،‬وله مبادئه وقواعده‪،‬‬
‫خيتلف يف حقيقته‪ ،‬بل حتى يف مظهره عن اللعب الطبيعي‪ .‬لكن األطفال‬
‫األحداث‪ ،‬قبل السن الدراسية‪ ،‬يقبلون عليه كام يقبلون عىل اللعب‬
‫العادي‪ .‬ودلت التجربة عىل أهنم أثناءه يعملون بنفس اإلخالص الذي‬
‫يظهرونه يف لعبهم الشخيص‪ .‬فالشك إذا أن استعاملنا اللعب مطية‬
‫للرتبية‪ ،‬جيد من غايته النبيلة‪ ،‬املؤكدة بالتجارب املتعددة‪ ،‬مربرا كافيا‪.‬‬
‫إنام يبقى السؤال مطروحا بالنسبة للكبار‪ .‬ويبقى أن نعرف هل يصح أن‬
‫نجعل اللعب جزءا من وسائلنا التعليمية يف مراحل املدرسة االبتدائية‪.‬‬
‫يعتقد الباحثون النفسيون أن من أهم األسباب التي تأخذ اهتامم‬
‫الطفل يف اللعب‪ ،‬كونه يعرف من أول األمر‪ ،‬نوع اللعب الذي بدأه‪،‬‬

‫‪73‬‬
‫وغاية هذا اللعب‪ .‬فهو هبذا يستسبق اللحظة التي سيصل فيها إىل الغاية‬
‫ويعيشها سلفا‪ .‬وتراه يغضب إن قوطع يف لعبه أو منع منه بعد أن بدأه‬
‫وكأن معرفته للمراحل التي سيمر منها يف لعبه تستهويه استهواء‪،‬‬
‫ومتأل عليه جوانب نفسه فال يلتفت ليشء غري لعبه‪ .‬واستنتج بعض‬
‫املعلمني من هذه الوضعية‪ ،‬أن باإلمكان إدخال اللعب كعنرص مهم يف‬
‫طرق تعليم األطفال يف كل املراحل االبتدائية‪ ،‬فكان ما يسمى بالطرق‬
‫املشوقة‪ ،‬أو التعليم الضاحك‪ .‬هذا التعليم الذي يعمد إىل قاعدة يريد‬
‫درسها‪ ،‬عىل شكل لعبة يساهم األطفال يف متثيلها‪ ،‬أو عىل شكل خرافة‬
‫حتكى عليهم‪ .‬وهذه الطريقة وجدت معارضة شديدة من كبار املربني؛ إذا‬
‫اعتربوا أن هذه الطرق تؤدي إىل تربية فاسدة‪ ،‬ال تعود الطفل عىل النظر‬
‫إىل احلقائق نظرة موضوعية‪ ،‬بل تعلمه الكسل واالتكال بام تسهل له من‬
‫أسباب الدرس‪ .‬وأشهر من انتقد هذه الطريقة الفيلسوف الفرنيس آالن‬
‫القائل بأن الطفل جاد حيب اجلد وأنه حيتقر املعلم املتصايب الذي يتملق‬
‫انتباه تالمذته بأشكال من الرتهات‪ .‬أما اليوم فقد اضمحلت «الطريقة‬
‫الضاحكة» هنائيا‪ ،‬ومل يبق من يؤمن هبا إال معلم خمفق يف قسمه‪ ،‬يتشبث‬
‫بآخر قشة يظن فيها النجاة‪ .‬ومل يبق إال ما يشاهد يف بعض املدارس‬
‫املحدثة من نشاطات تستمد قوهتا من عفوية األطفال‪ .‬أعني أن األطفال‬
‫يعطون حرية يف الدرس‪ ،‬كام هو احلال يف مدارس دوكرويل (باستثناء‬
‫املرحلة الصبيانية)‪ ،‬فيدبرون أمرهم بأنفسهم‪ ،‬وينظمون لعبة إن اتفق‬
‫منهم مجاعة عىل تنظيمها‪ ،‬كانت لعبة منطلقة أو لعبة تعليمية‪ .‬وواضح أن‬
‫موضع النقد ال يوجد يف هذه األلعاب‪ ،‬ألن أهم ما أنكره أعداء «الطريقة‬
‫الضاحكة» هو أن املعلم خيدع تالمذته عن احلقيقة‪ ،‬ويعودهم الكسل‪،‬‬
‫وهذه أشياء تنتفي يف الوقت الذي يصبح التالميذ فيه ذوي التدبري‪.‬‬
‫و«الطريقة الضاحكة» يشء غري التعليم املحسوس‪ ،‬فإن التعليم‬
‫باملحسوس يعتمد عىل إثارة فضول الطفل‪ ،‬واستغالل حبه لإلطالع‬
‫عن طريق األشياء املحسة‪ ،‬فتجعل يف متناوله أشياء جديدة عليه‪ ،‬من‬
‫بينها نامذج تشبه اللعب‪ ،‬وأجساما ملونة‪ ،‬فعندما يقلبها ويفحصها‬
‫تربق عينه بوميض احلامس الذي عرفناه له يف حالة اللعب‪ .‬لكن الطفل‬
‫يعرف أن أشياء اإليضاح أحرضت لغاية جادة‪ ،‬فيلتفت إليها بعقله‪ ،‬فال‬

‫‪74‬‬
‫يلبث عمله هبا أن يصبح عمال جادا‪.‬‬
‫وجد علامء االثنولوجيا‪ ،‬هؤالء الباحثون املتخصصون يف دراسة األمم‬
‫وأخالقها وعاداهتا‪ ،‬أن األطفال يف كل أصقاع األرض‪ ،‬يتخذون لعبا تتشابه‬
‫عىل بعد الشقة‪ ،‬يف أشكاهلا ويف قواعد اللعب هبا‪ .‬وقد اكتشف هذا التشابه‬
‫قبل وجود وسائل التنقل احلديثة‪ ،‬التي أذاعت بني أطفال العامل لعبا صناعية‬
‫متامثلة‪ ،‬يسهر عىل صنعها مهندسون خمتصون يف الصناعة‪ ،‬ومهندسون‬
‫خمتصون يف دراسة الطفل ولعبه‪ .‬وأن شيوع نفس اللعب عند األطفال‬
‫املتبايني الوسط والوطن لدليل عىل أن هذا النشاط أصيل عند الطفل‪،‬‬
‫طبيعي فيه‪ .‬وأنه لدليل أيضا عىل أن غريزة اللعب تتوكأ عىل التقليد لتجد‬
‫وسيلة تعرب هبا عن نفسها‪ ،‬فلذلك اشتبهت األلعاب كام تشتبه اجلامعات‬
‫اإلنسانية أيا ما كانت‪ .‬وهذا واحد من العوامل التي تزيد «شعب األطفال»‬
‫وحدة‪ ،‬وتعطي لعملهم احلر صفة الرباءة التي تأرس قلب كثري من الناس‪ ،‬كام‬
‫أثرت يف قلب الفيلوسف فروبل‪ ،‬وكام أثرت يف قلوب مربني حذوا حذوه‪،‬‬
‫وانرصفوا‪ ،‬كام انرصف‪ ،‬إىل الطفل يساعدونه يف ألعابه‪ ،‬وهييئون له الظروف‬
‫املناسبة ليكون لعبه يف نفس الوقت ذا نتيجة يف تكوين نفسه وعقله‪ .‬وأنه‬
‫لبفضل القلوب احلساسة‪ ،‬كقلوهبم‪ ،‬وبفضل تضحياهتم الكثرية يف سبيل‬
‫الطفل‪ ،‬نرى اليوم «رياض األطفال» وكأهنا جنات يلقى فيه الطفل جماال‬
‫واسعا ال متس فيه حريته‪ ،‬ويتلقى فيها تربية جتيئه عىل الصورة املحببة إىل‬
‫نفسه‪ ،‬أال وهي اللعب‪ .‬وأنه لبفضل هؤالء املربني‪ ،‬ونتيجة لتجارهبم‪ ،‬عرفنا‬
‫حقائق جديدة عن الطفل‪ ،‬باألخص فيام يرجع إىل شعوره أثناء اللعب‪،‬‬
‫بالنسبة لشعوره أثناء األعامل الدراسية‪ ،‬واستفدنا من هذه املعرفة اليشء‬
‫الكثري يف امليدان التطبيقي باملدرسة االبتدائية‪ ،‬حيث تتيقظ يف الطفل حاجة‬
‫جديدة مل يعرفها يف طور احلضانة‪ .‬وهي احلاجة إىل أن يشعر بأمهيته عندما‬
‫يامرس أعامال جديدة كام يرى الكبري يفعل‪ .‬وظهر لنا يف الوقت الراهن أن‬
‫احلالة يمكن أن تكون كام ييل‪ :‬استعامل اللعب وسيلة للرتبية يف «رياض‬
‫األطفال»‪ ،‬والتحرر منه ابتداء من املرحلة االبتدائية‪ ،‬أو عىل األصح فرزه‬
‫من األعامل اجلدية حتى ال يمتزج هبا فيفسدها‪ ،‬بحيث يكون اللعب يف‬
‫وقت اللعب واجلد يف وقت اجلد‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫املوضوع رقم ‪:7‬‬
‫قال روسو‪« :‬يريد الطفل أن يمس كل يشء‪ ،‬فال تعرتض طريقه‪ ،‬اتركه‬
‫يفعل‪ ،‬فإنه يكتسب مهارة رضورية له»‪.‬‬
‫ارشح القول‪ ،‬واذكر ما تعرفه عن النشاط احلايس عند الطفل‪ ،‬وما‬
‫تفعله يف املدرسة لتشجيع هذا النشاط‪.‬‬

‫أ‪ -‬فهم املوضوع‬


‫روسو سباق يف ميدان الرتبية‪ ،‬نجده مركز كل حلقة‪ ،‬وحجة عىل لسان‬
‫كل مذهب مهام كان حديثا‪ .‬وقد اشتمل كتابه «اميل»‪ ،‬عىل صفحات كثرية‬
‫يتحدث فيها عن احلواس وتربيتها‪ ،‬فيعترب أن احلواس أبواب العقل‪ ،‬وأن‬
‫أيدينا هي املعلم األول‪ ،‬ويعجب كيف يغفل الناس عن حقيقة واضحة هي‬
‫أن احلواس أول ملكات الطفل تيقظا‪ ،‬فيجب أن يتعهدها املريب قبل غريها‪.‬‬
‫ويعجب كيف هيتم املريب بكل يشء ثم ينسى احلواس‪ .‬وأقوال الفيلسوف‬
‫الكبري هذه تعطينا شبكة من األفكار نضع يف وسطها القول الذي نرشحه‪.‬‬
‫ويشتمل القول عىل نصيحة عملية موجهة للمريب مبارشة‪ ،‬وضعها الكاتب‬
‫استنتاجا من مالحظته األوىل عىل الطفل‪ .‬ويقتيض رشح القول أن نتعرض‬
‫للطرفني فنرشح املالحظة عىل ضوء مالحظاتنا الشخصية‪ ،‬ونذكر كيف‬
‫«يريد الطفل أن يمس كل يشء»‪ ،‬ونرشح النصيحة التي تعدنا بأن الطفل‬
‫إن تركناه وشأنه‪ ،‬يكتسب مهارة تفيده يف تربيته‪.‬‬
‫السؤال الثاين حيتوي عىل نقطتني بارزتني‪ ،‬األوىل هي ذكر ما نعرفه‬
‫عن النشاط احلايس عند الطفل‪ ،‬والثانية عملية فيها ذكر «األعامل» التي‬
‫نشجع هبا نشاط الطفل احلايس‪ .‬ونالحظ أن السؤال الثاين يفتح أمامنا أفقا‬
‫واسعا؛ فكأن السائل مل يستعمل قولة روسو إال ليجعلها نافذة خيرج منها‬
‫إىل حيز شامل‪ .‬فبعد أن اقترص عىل ذكر حاسة اللمس عىل لسان الكاتب‬
‫الفرنيس‪ ،‬نرش أمامنا سؤاال فسيحا شمل كل احلواس وكل ما يتعلق هبا‬

‫‪76‬‬
‫مما هيم املعلم‪ .‬فإذا كتبنا جعلنا نصب أعيينا أن املوضوع واسع؛ فال مناص‬
‫من اختيار املعلومات التي نكتبها‪ ،‬إن مل نرد أن نخاطر بكتابة مطولة ال‬
‫يتسع هلا وقتنا‪ ،‬فتكون النتيجة أننا نكتب جزءا من املوضوع ونرتك مقالنا‬
‫مبتورا‪.‬‬
‫مالحظات‬
‫نالحظ أن قول روسو وضع يف صيغة سلبية‪ ،‬فهو ال يطلب من املريب‬
‫أن يفعل شيئا اللهم إال أن يرتك الطفل يترصف بحرية‪ ،‬بينام يسأل السائل‬
‫عن «األعامل التي نقوم هبا» لتشجيع النشاط احلايس‪ ،‬وهلذا فلن نتعدى‬
‫هذا احلد يف رشح القول‪ ،‬وسنقف مع الكاتب يف نصيحته السلبية للمريب‪.‬‬
‫يراد منا أن نقول «ما نفعله يف املدرسة لتشجيع هذا النشاط‪ ،‬فنتساءل‪:‬‬
‫ما نفعله نحن أو ما نأمر التالميذ بفعله؟ ونبحث فنجد أن تربية احلواس‬
‫تقتيض منا بذل جمهود نقوم به نحن‪ ،‬كاملحافظة عىل صحة األطفال‪،‬‬
‫وكالعالج الذي نقوم به يف املدرسة‪ ،‬وأنواع الوقاية التي نطبقها‪ ،‬وتقتيض‬
‫إعطاء متارين يامرسها الطفل‪ ،‬سواء منها التي توضع لغاية خاصة يراد‬
‫منها تدريب حاسة بعينها‪ ،‬والتي جتيء عفوا بمناسبة األعامل الدراسية‪.‬‬

‫ب‪ -‬التصميم‬
‫* الرشح‬
‫* النشاط احلايس‬
‫* ما أفعله يف املدرسة لتشجيعه‬

‫ج‪ -‬التصميم املفصل‬


‫* روسو وتربية احلواس – الطفل يريد أن يمس كل يشء‪ -‬أمهية‬
‫حاسة اللمس‪ -‬دور اللمس يف احلكم عىل األشياء‪ -‬املهارة الرضورية‬
‫للطفل‪..‬‬

‫‪77‬‬
‫* مهمة احلواس يف توصيل احلقائق إىل الذهن‪ -‬الطفل يستعمل‬
‫حواسه‪ -‬احلواس ضعيفة ثم تقوى‪ -‬رضورة تعهدها لتقوم بوظيفتها‬
‫قياما كامال‪..‬‬
‫* الوقاية يف املدرسة‪ -‬مراعاة القدرة احلاسية عند كل طفل‪ -‬التامرين‬
‫لتهذيبها‪ -‬األشغال اليدوية‪ ،‬الرسم‪ ،‬األناشيد‪.‬‬
‫د‪ -‬اإلنشاء‬
‫اإلنسان إنسان بعقله‪ ،‬هذه من البدهييات ال حتتاج إىل دليل‪ ،‬وإال فبم‬
‫يتميز اإلنسان بغري عقله؟ وإذا كان احلال كهذا‪ ،‬فإن أثمن يشء عند اإلنسان‬
‫عقله‪ ،‬فهو يعتربه كنزا ال مثيل له‪ ،‬ويفخر الناس بأهنم أذكياء‪ ،‬أو يفخرون‬
‫بطريقة غري مبارشة بأن أوالدهم أذكياء‪ .‬وهذا االعتبار الكثري الذي‬
‫حيظى به العقل‪ ،‬جعل املربني يف كل األحقاب‪ ،‬خيصصون كل جهودهم‬
‫لرتبيته‪ ،‬وجيتهدون للوصول إليه وهتذيبه‪ .‬وكثريا ما أعامهم حرصهم هذا‬
‫عن حقيقة أخرى نراها اليوم واضحة‪ ،‬وقد كانت حتى عهد قريب‪ ،‬يف‬
‫طي املجهوالت‪ .‬أعني بقويل هذا كون احلواس أداة أساسية لبناء العقل‪،‬‬
‫وكوهنا الطريق األول الذي تسلكه املعرفة لتصل إليه‪ .‬كان هم املريب قديام‬
‫ينحرص يف تكوين العقل عن طريق التفكري النظري والرياضات العقلية‬
‫املجردة واللفظية‪ ،‬ومل يكن عنده مكان‪،‬وانقلبت الوضعية يوما ما‪ ،‬وبرزت‬
‫احلواس إىل املكان األول‪ ،‬عىل أهنا أهم ما نستعمله‪ ،‬وأرسع ما نستعمله‬
‫للرتبية العقلية‪ .‬بل أصبحت احلواس موضوعا لالهتامم بنفسها بعد أن‬
‫رأى الباحثون اإلمكانيات التي ختتفي فيها‪ .‬وأن يف بعض بالد الغرب اليوم‬
‫حركة واسعة الستعامل النشاط احلايس ألغراض تربوية يضاهي استعامله‬
‫لألغراض التعليمية‪ .‬وأن بمدارس هذه البالد‪ ،‬مصانع جمهزة أحسن‬
‫التجهيز‪ ،‬ال يتعلم فيها الطفل مهنة خاصة‪ ،‬بل توضع رهن إشارته ليعمل‬
‫بحواسه يف حرية كاملة‪ ،‬فيختار ما شاء من رسم أو موسيقى أو نحت أو‬
‫صنع طني‪ .‬وأتصور فرحة روسو لو بعث اليوم لريى هذه املصانع‪ ،‬وما‬
‫أخاله إال سيذكرنا‪ :‬أمل أقل يف كتايب «يريد الطفل أن يمس كل يشء‪ ،‬فال‬
‫تعرتض طريقه‪ ،‬اتركه يفعل فإنه يكتسب مهارة رضورية له»؟ وسننظر‬

‫‪78‬‬
‫كيف تفرس قولة روسو‪ ،‬وكيف عمت العناية بالنشاط احلايس للطفل‬
‫بعدما اكتشفه املربون من أمهيتها‪ ،‬مهتدين هبدى املريب املوهوب‪.‬‬
‫وإن روسو‪ ،‬بام عهد فيه من صدق املالحظة‪ ،‬كان أول من نبه إىل‬
‫وظيفة احلواس يف التعلم‪ ،‬ودعا إىل اعتامدها يف هذا السبيل‪ ،‬يف عرص‬
‫كانت األعامل احلاسية فيه باملكانة السفىل‪ .‬رأى روسو إمهال املربني‬
‫للحواس وعجب لذلك‪ .‬عجب كيف يستغنون عن استعامهلا يف مالحظة‬
‫العامل‪ ،‬وينقلبون إىل الكتب يبحثون فيها عن احلقيقة‪ .‬وعرب عن رأيه‬
‫هذا يف كتابه الشهري «اميل» تعبريا مبارشا كام نرى يف قولته التي نحن‬
‫بصددها‪ .‬وبطريقة غري مبارشة‪ ،‬حيث جيعل تربية اميل مبنية عىل املالحظة‬
‫املبارشة للطبيعة واحداثها‪ .‬ولئن كان أثر هذه اآلراء بطيئا يف الظهور‪،‬‬
‫فإهنا يف بؤرة اآلراء الفلسفية التي مهدت الطريق للتقدم اإلنساين الذي‬
‫نشاهده اليوم‪ .‬وإن الرجوع ملالحظة الطبيعة مبارشة عن طريق احلواس‬
‫كام دعا إىل ذلك صاحبنا‪ ،‬بمثابة هبة قوية أيقظت املفكرين من النكسة‬
‫التي أصيب هبا العقل البرشي حينام أعرض عن مالحظة احلقيقة التي‬
‫أمام ناظريه وتفسريها‪ ،‬وقنع بام ضمنه األولون كتبهم‪ ،‬مقلدا يف سلسلة‬
‫طويلة من األساتذة الناقلني‪ .‬حلظة مهمة عاشها تاريخ الفكر تلك التي‬
‫اكتشف الناس فيها مع روسو أن الطفل يكتسب مهارة رضورية له إذا‬
‫استعمل حواسه‪ .‬وقد الحظ الكاتب كام نالحظ نحن‪ ،‬أن الطفل حيب‬
‫أن يمس كل يشء‪ ،‬وأنه ال يملك أن يضبط يديه كلام رأى شيئا قبل أن‬
‫متتدا إليه ومتسكاه‪ .‬هذه عادة الطفل ال تنفك تسبب لآلباء واألمهات‬
‫مضايقات ال يتحملوهنا‪ ،‬فتسمعهم يرددون‪،‬صارخني مرة ومتلطفني‬
‫أخرى‪ ،‬ال متس ذاك‪ ،‬أمسك يدك عن هذا‪ .‬ولو عرفوا أن الطفل‪ ،‬تدفعه‬
‫الطبيعة‪ ،‬إنام حياول أن يتعلم وإن هذا التعلم الذي جاءه عن طريق يده‬
‫أمتن ركن يف املعرفة التي حيصلها‪ ،‬ملا ادخروا جهدا لتحمل فضول يد‬
‫الطفل الذي ال ينتهي‪ ،‬بل لبذلوا جهودهم ليشجعوا هذا الفضول‬
‫ليزودوه بام يناسب‪ .‬وقد خص روسو اليد بمالحظته يف كلمته التي‬
‫أمامنا‪ ،‬ألن اليد أول احلواس تيقظا‪ .‬وألهنا أهم احلواس يف اتصالنا‬
‫املبارش باألشياء‪ .‬فالطفل الرضيع يبدأ بتلمس أجزاء جسمه وكل‬

‫‪79‬‬
‫ما تصل إليه يده‪ ،‬قبل أن تنتبه عينه ويلتفت لينظر ما حواليه‪ .‬وحتتفظ‬
‫اليد هبذه املكانة يف كل مراحل نمو الطفل‪ .‬بل حتى عندما يصري راشدا‪.‬‬
‫والطفل ال يكفيه أن ينظر األشياء ليعرفها‪ ،‬بل البد أن يمسها لتكمل‬
‫معرفته هبا‪ .‬وأن الراشد نفسه ليفعل مثل هذا ويمسك بني يديه قطعة‬
‫القامش أو األداة املصنوعة طويال‪ ،‬كأن يديه تعطيانه عنها صورة أكمل‬
‫مما تعطيه عينه‪ .‬ورس ذلك أن اليد تكون يف احلقيقة عدة حواس لتعدد‬
‫وظائفها‪ ،‬فهي حاسة اللمس متيز بني اخلشونة والليونة‪ ،‬وهي حاسة‬
‫احلرارة متيز حرارة اجلسم وبرودته‪ ،‬وهي حاسة الوزن‪ ،‬تقدر ثقل األشياء‬
‫وخفتها‪ .‬وكل هذه اإلدراكات أساس ملعرفتنا للعامل اخلارجي واإلحاطة‬
‫بخواصه‪ .‬فال عجب أن نقرأ لروسو عبارة أخرى أكثر وضوحا يف التنبيه‬
‫إىل مكانة اليد من بني احلواس عندما كتب ما معناه أن أيدينا أول معلمينا‪.‬‬
‫عىل أن روسو مل يقصد حرص األمهية يف اليد يف كلمته التي بدأنا منها‪،‬‬
‫فتناول األشياء باليد يكون يف كثري من األحايني مقدمة لفحصه باحلواس‬
‫األخرى‪ ،‬نأخذ اليشء بيدنا لنقربه من وجوهنا‪ ،‬فنتبني بالعني أجزاءه‬
‫الدقيقة‪ ،‬أو نشم رحيه‪ .‬ولذا ينبغي أن نفهم الكاتب جيدا عندما يقول‬
‫إن الطفل يكتسب بلمس األشياء مهارة رضورية له‪ ،‬ينبغي أن نفهم‬
‫أن املهارة التي يتحدث عنها أبعد مدى من املهارة اليديوية املتخصصة‪،‬‬
‫فهو يقصد قبل كل يشء هذا النوع من التيقظ واالنفتاح اللذين يتصف‬
‫هبام الشخص الذي تعلم كيف يستعمل حواسه استعامال ذكيا ليكون‬
‫لنفسه فكرة عن الواقع أصيلة‪ .‬وهبذا الصدد يمكن أن نصف احلواس‪،‬‬
‫فنقول إهنا ماهرة أو غري ماهرة نظرا إىل ما أعطيها أو مل يعطها من فرص‬
‫لتتفتح وتكون رهن إشارة العقل‪ ،‬وأداة ناجعة له‪ .‬كام يمكن أن نفصل‬
‫كلمة روسو يف كون استعامل احلواس يكسب للطفل «مهارة» رضورية‬
‫له‪ ،‬ناظرين من جهة إىل املهارة العامة‪ ،‬ومن جهة أخرى إىل املهارات‬
‫اخلاصة‪ ،‬نقول اليوم رجل مثقف ونقصد اإلنسان الذي ربيت ملكاته‬
‫العقلية‪ ،‬واكتسب مرانة كبرية حتى انفتحت له آفاق املعرفة‪ ،‬بحيث أمكنه‬
‫أن يترصف ويستنتج ويصل إىل الرأي السديد‪ ،‬ولعل "مهارة" روسو‬
‫ال تتكون من عنارص أخرى غري هذه‪ ،‬وإن كان ينظر إىل هذه "املهارة"‬
‫من بدايتها عندما يكون العقل غافال راقدة إمكانياته‪ ،‬فيكون له النشاط‬

‫‪80‬‬
‫احلايس بمثابة منبه ومرب‪،‬يزوده بإدراك واسع ويمكنه من إجراء التجارب‬
‫الفكرية الرضورية لتكوينه تكوينا كامال‪ .‬وأثناء هذه العملية‪،‬عملية‬
‫التكوين العقيل عن طريق النشاط احلايس يكتسب الطفل مهارة أخرى‬
‫خاصة تتصف هبا احلاسة قبل أن يتصف هبا العقل‪ .‬فنقول عن يد اجلراح‬
‫أهنا ماهرة‪ ،‬وعن عني الرسام أهنا خبرية وهكذا‪.‬‬
‫ونوعا املهارة اللذان حتدثنا عنهام رضوريان للمجتمع‪ ،‬السيام املهارة‬
‫العامة‪ ،‬التي تفتح أبواب العقل‪ ،‬فتتجىل املواهب الفردية املتنوعة‪ .‬وإذ‬
‫ذاك يوجه الطفل حسب مواهبه؛ فإما يرصف إىل النشاط الفكري‪ ،‬وإما‬
‫تعطاه مهنة تتطلب مهارة حاسية خاصة‪ .‬ويف احلالة األوىل يكون النشاط‬
‫احلايس الذي يويص روسو بإعطائه احلرية‪ ،‬مقدمة لنشاط عقيل متفرع‪،‬‬
‫أما يف احلالة الثانية فإن هذا النشاط نفسه يكون زود الطفل باملبادئ العامة‬
‫الرضورية لكل ثقافة مهنية حاسية‪.‬‬
‫ويف كلتا احلالتني يربح املجتمع املواهب املتخصصة من عقلية‪،‬‬
‫ومهنية حاسية ويربح الفرد تكامال يف نفسه لشعوره أن له وظيفة وسط‬
‫أمثاله‪ .‬وهكذا حتتل املهارة احلاسية مكانة يف تقدير الناس ال تنفك تعلو‬
‫كلام تقدمت املدنية احلديثة‪ ،‬وتعقدت حاجياهتا‪ ،‬وبالتايل كثر استهالكها‬
‫لأليدي املاهرة‪ .‬وإن هذه احلاجة االجتامعية الستغالل املواهب؛ احلاسية‬
‫منها والعقلية‪ ،‬هي التي وصلت باملربني إىل فهم كامل ملهمة احلواس يف‬
‫توصيل املعرفة إىل العقل‪ ،‬وملهمتها كموطن مللكات ذات خطر كبري يف‬
‫تكوين األفراد واملجتمعات‪ .‬وينظر اليوم إىل النشاط احلايس عىل أنه‬
‫نشاط رشيف ال يقل أمهية عن النشاط الفكري‪ .‬وذلك ألهنا األساس‪ ،‬بل‬
‫الرشط‪ ،‬يف وجود النشاط العقيل‪ .‬وهل يمكن العقل أن هيتدي إىل علم لو‬
‫فرضنا أن احلواس منعدمة؟ ماذا يكون العقل آنذاك‪ ،‬ومن أين تأتيه معرفة‬
‫حقائق أساسية كأبيض وأسود‪ ،‬وثقيل وخفيف‪ ،‬وصغري وكبري؟ ومن جهة‬
‫أخرى اكتسب النشاط احلايس تقديرا عند الناس‪ ،‬بعد أن أصبحت بعض‬
‫املجاالت العملية‪ ،‬متوقفة عىل مهارة حاسية‪ ،‬مثيلة للثقافة التي تتطلبها‪.‬‬
‫ونجد أمثلة عند الباحث يف خمتربه‪ ،‬واجلراح يف قاعة اجلراحة‪ ،‬والعامل‬

‫‪81‬‬
‫االلكرتوين يف معمله‪ .‬وألجل هذين االعتبارين‪ ،‬أصبح النشاط احلايس‬
‫يشغل جانبا مهام من تفكري املربني‪ ،‬يرعونه ويقوونه الستعامله وسيلة‬
‫لتثقيف العقل‪ ،‬ويستكشفون اإلمكانيات احلاسية عند األطفال لينظروا‬
‫كييف يمكنهم استعامهلا يف احلقل املهني‪.‬‬
‫وقبل أن يمسك املريب الطفل بني يديه احلكيمتني‪ ،‬يبدأ النشاط احلايس‬
‫عند الطفل‪ ،‬ويكون قد قطع مراحل يف كشف الغطاء عن احلقائق األوىل‬
‫التي صادفها‪ ،‬ويبدأ هذا النشاط من أيام الوليد األوىل‪ ،‬تراه قبل كل يشء‬
‫يتملس األشياء بفمه‪ ،‬ويظهر أن للفم حساسية ملسية أكثر قوة وتبكريا‪،‬‬
‫ثم بيده‪ ،‬ويف األسابيع األوىل يكون سمعه وبرصه ضعيفني جدا‪ ،‬لكنهام‬
‫رسعان ما يدخالن امليدان‪ ،‬وتنفتح عني الطفل ملشاهد سحرية‪ ،‬يلفت نظره‬
‫منها أول األمر األلوان الرباقة‪ ،‬ثم األجسام املألوفة‪ .‬ويتخلف االكتشاف‬
‫السمعي قليال‪ ،‬لكنه يكتيس نفس احلامس باجلدة‪ .‬والذي يالحظ الطفل‪،‬‬
‫يراه يبتسم عندما يسمع األصوات األليفة كصوت أمه أو مربيته‪ ،‬وكلام‬
‫مرت األيام واألسابيع‪ ،‬ازدادت حواس الطفل قوة‪ ،‬وازداد تعلقه بام يبرص‬
‫حوله ويسمع‪ ،‬وازداد ميله إىل مس األشياء ويشغف باألشياء شغفا شديدا‪،‬‬
‫فيعجبه صوته إذا بدأ يتكلم؛ فال يزال يكرر نفس الكلمة كأنه يرشفها‬
‫رشفا‪ ،‬وتعجبه األجسام التي تتناوهلا يده‪ ،‬فيقلبها بال هناية‪ .‬أما العني‬
‫فناهيك بارتياحها وعجائبها‪ ،‬إهنا ال متل من التحديق يف األشياء‪ ،‬يف كل يوم‬
‫تكتشف هلا وجها جديدا‪ ،‬أو جزئية مل تنته إليها من قبل‪.‬‬
‫هذه هي حواس الطفل الطبيعي‪ ،‬هلا قابلية طبيعية لتعمل عملها‪ ،‬بل‬
‫ظمأ طبيعي ال يرويه إال أن ترصف احلواس نشاطها بغري انقطاع‪ .‬أقول‬
‫الطفل الطبيعي‪ ،‬وأقصد الطفل الذي يملك حواسه كاملة سليمة‪ ،‬ويتمتع‬
‫بصحة نفسية وجسمية وعقلية‪ .‬ونشرتط الصحة النفسية‪ ،‬ألن األمراض‬
‫النفسية تكون شاغال أقوى من أن ينساه الطفل وينرصف إىل احلركة‬
‫والنشاط‪ ،‬وحتى إن نسيه فإنه ال يلبث أن يعود إىل حالته االوىل‪ .‬ويالحظ‬
‫أن مثل هذا الطفل يبقى منكمشا يف زاويته ال يلعب –واللعب كام نعلم أهم‬
‫املناسبات التي يرصف فيها الطفل نشاطه احلركي احلايس‪ -‬وال يشارك‬

‫‪82‬‬
‫رفاقه حتى إن دعي إىل ذلك‪ .‬ونشرتط سالمة العقل وصحته‪ ،‬ألن احلواس‬
‫ليست فقط مفتاحا للعقل‪ ،‬بل إهنا حتتاج بدورها للعقل ال تستقل عنه‪.‬‬
‫فاحلاسة ال تستطيع القيام بعملية إال إذا تلقت إشارة من العقل‪ ،‬فإذا نفذت‬
‫فإن العقل هو الذي يفرس اإلحساسات التي جاءته عن طريق احلاسة‪ .‬هي‬
‫أداة مسخرة‪ ،‬تفقد روحها ووظيفتها إذا مرض العقل‪ .‬ونشرتط الصحة‬
‫اجلسمية العامة‪ ،‬والصحة اخلاصة لكل حاسة‪ .‬واحلواس أكثر تعرضا‬
‫لألمراض‪ ،‬فكأن نفاستها جعلتها‪ ،‬ككل التحف‪ ،‬رسيعة العطب‪ .‬وهلذا‬
‫تتطلب عناية خاصة تتكرر مرات يف كل يوم‪ ،‬حتى تكون مستعدة للقيام‬
‫بعملها عىل وجه تام‪ .‬النظافة رشط أويل من بني الرشوط الصحية‪ ،‬يويص‬
‫هبا طبيب األرسة لكثرة ما رأى من تعفنات كان سببها اإلمهال والوسخ‪،‬‬
‫ولكثرة ما عرض عليه من أطفال‪ ،‬دون السن الدراسية‪ ،‬بآذان متقيحة‪،‬‬
‫وعيون ذابلة يعاين منها األطفال ومن مضاعفاهتا ويال طويال‪ .‬ولو قدر‬
‫لنا أن نطلع عىل إحصاءات مضبوطة‪ ،‬لقرأنا أعدادا هائلة تفوق تلك التي‬
‫نقدرها إذا رأينا طفال أو أطفاال فقدوا أبصارهم أو سمعهم يف سنواهتم‬
‫األوىل‪ .‬ولو قرأ اآلباء هذه األرقام لتنبهوا إىل خطورة األمر‪ ،‬ولضاعفوا‬
‫عنايتهم بأبنائهم‪ ،‬وعاجلوا كل مرض حايس يف إبانه وبكل ما يملكونه‬
‫من وسائل‪.‬‬
‫واملدرسة تعرف قدر العناية التي تتطلبها حواس األطفال‪ ،‬بقدر‬
‫معرفتها للوظيفة التي تؤدهيا هذه احلواس‪ .‬وسواء كانت هذه املدرسة‬
‫رياضا لألطفال‪ ،‬أو مدرسة ابتدائية‪ ،‬فإهنا تضع النظافة كقانون أسايس‪،‬‬
‫وتطارد األوساخ أنى وجدهتا‪ .‬أقول املدرسة‪ ،‬وإن كان الذي يطبق هذا‬
‫القانون هو املعلم‪ ،‬يقف يف باب قسمه مستعرضا الوجوه واأليدي لريجع‬
‫امللوثة منها إىل املغاسل‪ ،‬فإذا دخل القسم شدد يف املحافظة عىل نظافة‬
‫األيدي التي تتناول الطباشري واملداد‪ ،‬وتذهب لتحك العني ومترضها‪.‬‬
‫وتقوم املدرسة بعمل وقائي نعرف فضله‪ ،‬فتعمم التلقيح ضد األمراض‬
‫املعدية‪ ،‬السيام أمراض العني الفاشية يف بالدنا‪ ،‬وتتحفظ كلام ظهرت‬
‫أعراض املرض عىل طفل‪ ،‬وتبعث به إىل ذويه لئال يصيب مرضه أقرانه‬
‫يف القسم‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫ومن أهم التحريات الوقائية‪ ،‬النظام الذي يتبعه املعلم يف إجالس‬
‫تالمذته يف القسم‪ ،‬إذ يراعي قوة كل فرد احلاسية‪ ،‬وجيلس ضعيف البرص‬
‫قريبا من السبورة‪ ،‬وضعيف السمع يف الصفوف األمامية‪ .‬وإن املعلم‬
‫ليؤدي لألطفال واألرس خدمات جليلة يف هذا الباب‪ ،‬ألن معايشته‬
‫للطفل‪ ،‬الطويلة نسبيا‪ ،‬متكنه من االطالع عىل النقص العضوي فينبه إليه‬
‫لتتخذ له االحتياطات‪ ،‬فيستشار الطبيب‪ ،‬أو تصنع نظارات‪.‬‬
‫وكل هذه االجراءات متهيدا لألعامل اإلجيابية التي تقوم هبا املدرسة‬
‫لتشجيع النشاط احلايس عند الطفل‪ .‬ففي األطوار الدراسية األوىل‪ ،‬حيث‬
‫يكون النشاط العقيل يتدرج يف مستوى املحسوس‪ ،‬تنظم متارين خاصة‬
‫لتهذيب احلواس‪ .‬وتعرف رياض األطفال جمالس لرتبية اليد‪ ،‬وأخرى‬
‫لرتبية العني‪ ،‬أو السمع‪ .‬أما يف املدرسة االبتدائية فإن تربية احلواس تنجز‪،‬‬
‫قبل كل يشء‪ ،‬ضمن الدروس التعليمية املختلفة‪ .‬ففي استعامل أشياء‬
‫التعليم‪ ،‬قصد جعل املعرفة حمسوسة‪ ،‬يتناول الطفل األجسام املعدودة‬
‫يف دروس احلساب‪ ،‬أو النامذج يف درس الكتابة والقراءة‪ ،‬ويرى األلوان‬
‫والرسوم بمناسبة احلديث عنها‪ .‬فإذا كرب قليال وجد متارين تطبيقية‬
‫يتطلب إنجازها استعامل احلواس‪ ،‬كام هو الشأن عندما يسأل الطفل صنع‬
‫حجم من األحجام التي يدرسها ضمن النظام املرتي‪ .‬وإىل جانب هذه‬
‫الرتبية الضمنية‪ ،‬ختصص دروس ترجع أكثر فائدهتا عىل احلواس‪ .‬فمنها‬
‫دروس األشغال اليدوية‪ ،‬كطيل األوراق ولصقها وقصها‪ ،‬وصنع النامذج‬
‫من الشمع أو الطني‪ ،‬وتتطلب استعامل اليد والعني يف آن واحد‪ ،‬فيكتسب‬
‫الطفل مهارة دون أن يمل العمل‪ ،‬ألن النموذج الذي حياول الطفل صنع‬
‫مثيل له حيافظ عىل محاسه ويوقده‪ .‬وهناك دروس األناشيد‪ ،‬تعود الطفل‬
‫عىل متييز األصوات واحلكم عىل صحتها‪ ،‬وتعوده عىل تقليدها‪ .‬ويف كلتا‬
‫احلالتني‪ ،‬سامعا أو منشدا يكتسب سمع الطفل رهافة وقدرة عىل معرفة‬
‫األصوات‪.‬‬
‫والتامرين املدرسية‪ ،‬عامة وخاصة‪ ،‬تساهم بنصيب كبري يف هتيئ‬
‫احلواس‪ ،‬لتكون أداة متقنة يعتمدها العقل لبناء أحكام مصيبة‪ ،‬وفرق كبري‬
‫بني احلاسة الغفل‪ ،‬واحلاسة املرهفة؛ هذه العني تعرف كيف تبرص الكل‬

‫‪84‬‬
‫وحتدد شكله وحجمه ولونه دون أن تنسى اجلزئيات التي تكونه‪ ،‬وهذه‬
‫األذن حتس الصوت وجهته وبعد مصدره‪ ،‬فتعطيان العقل معطيات‬
‫يصح أن يؤسس عليها‪ .‬أما احلاسة الغفل فتكتفي باإلحساس السطحي‬
‫الذي ال يغني كثريا‪ .‬وفرق ما بينهام والشك‪ ،‬يفرس فرق ما بني الشخص‬
‫«املاهر» باصطالح روسو‪ ،‬وما بني الشخص غري املاهر‪.‬‬
‫يقول روسو «اترك الطفل يمس األشياء ليكتسب مهارة رضورية له»‬
‫ويقول املربون اليوم غري هذا‪ .‬يقولون أعطه أوال حاسة سليمة‪ ،‬ليستطيع‬
‫مس األشياء‪ ،‬ثم أعطه حقال غنيا باألشياء‪ ،‬وحرية كاملة ليستعملها‪.‬‬
‫وفكر روسو يف استغالل احلواس كوسائل لتكوين العقل‪ ،‬أما املربون‬
‫املحدثون فإهنم فكروا يف هذا أيضا‪ ،‬وزادوا عليه‪ ،‬فاعتنوا باحلاسة ألهنا‬
‫متثل رأس مال كبري يف حد ذاهتا‪ .‬وتستقري املدارس احلديثة‪ ،‬فتجدها‪،‬‬
‫يف شكل من األشكال‪ ،‬تعتمد عىل نشاط الطفل احلايس‪ ،‬وتتخذ األشياء‬
‫املتنوعة لعبا وأدوات عمل‪ ،‬تعطيها للطفل كجهاز أويل‪ ،‬وكان الكتاب‬
‫وحده يعترب جهازا كافيا‪ .‬وتنظر إىل املدارس الثانوية والعليا‪ ،‬فتجد‬
‫املختربات للتمرن عىل العمليات الطبيعية والكياموية‪ ،‬ومصانع حرة‬
‫يلقى فيها الطفل تسهيالت إلبراز مواهبه يف اخللق واالبداع‪ .‬وتلفت‬
‫إىل املدارس الصناعية فإذا عندها علم كبري باحلواس‪ ،‬وطرق استغالهلا‪،‬‬
‫ووسائل الكشف عن مواهبها اخلاصة‪ ،‬واستغالل هذه املواهب‪ .‬ويف‬
‫وسط هذا االطار أجد نفيس كمعلم بمدرسة ابتدائية‪ ،‬مفتقرا إىل استعامل‬
‫حواس أطفايل كلام أعجزين املنطق عن تفهيمهم فأستعني بوسائل اإليضاح‬
‫وأشجع تالمذيت عىل استعامهلا‪ ،‬وأخصص دروسا لتشغيل اليد والعني‬
‫واألذن‪ ،‬واكساهبا مهارة سيكون هلا حظ يف نجاح الطفل‪ ،‬سواء قدر له‬
‫أن يامرس يوما ما مهنة حاسية‪ ،‬أو ذهب يف دراسته النظرية إىل أن متمها‪.‬‬
‫هذا وإن ما أالحظه من أن الدرس الذي قدم عن طريق احلاسة يكون‬
‫أكثر ثباتا يف ذهن الطفل وأكثر وضوحا‪ ،‬يشجعني عىل استغالل النشاط‬
‫احلايس يف تالمذيت‪ ،‬ويمثل يف نظري مكافأة طيبة ملا أبذله من جهد يف‬
‫سبيل وقاية احلواس الصغرية‪ ،‬وتعهدها لتكون من احلدة والقابلية بحيث‬
‫تؤدي مهمتها عىل أحسن وجه‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫املوضوع رقم ‪:8‬‬
‫قال روسو‪« :‬إن تربية اإلنسان تبدأ من يوم ميالده‪ ،‬وحتى قبل أن‬
‫يتكلم‪ ،‬وقبل أن يسمع‪ ،‬يبدأ يف التعلم»‪.‬‬
‫ارشح الكلمة‪ ،‬وبني أمهية املرحلة التي يتعلم فيها الطفل الكالم‪،‬‬
‫بالنسبة للرتبية والتعليم اللذين حيصل عليهام أثناءها‪.‬‬

‫أ‪ -‬فهم املوضوع‬


‫نالحظ هنا تقابال بني القول املرسود‪ ،‬والسؤال الذي بني عليه‪ ،‬فبينام‬
‫يتحدث روسو عن تبكري الطفل يف التأثر بام حوله‪ ،‬يتعرض السؤال ملرحلة‬
‫بينة من مراحل نمو الطفل وهي مرحلة الكالم‪ .‬وكأن واضع السؤال مل‬
‫يتخذ قول الفيلسوف ذريعة لسؤاله إال ملا يف هذا القول من ذكر كالم‬
‫الطفل‪ ،‬وإن جاء هذا الذكر عارضا‪ ،‬لكن عملنا نحن املمتحنني إنشاء‬
‫مقالة متامسكة مشدود بعضها إىل بعض‪ ،‬فالبد لنا من البحث عن نقطة‬
‫مشرتكة نربط بواسطتها قول احلكيم بموضوع السؤال‪ .‬ومن يدري‪ ،‬فلعل‬
‫احلكيم نفسه مل يكتب ما كتبه إال إثباتا للحقيقة؛ خياف أن ختفى عىل الناس‬
‫فيظنون أن الطفل حيوان أعجم‪ ،‬حتى يبدأ يفهم كالم الناس‪ .‬وكيفام قلبنا‬
‫كلمة الفيلسوف‪ ،‬نجدها تتكون من عنارص ليس أقلها قيمة من الناحية‬
‫السلبية «قبل أن يتكلم‪ ،‬وقبل أن يسمع»‪ .‬والكاتب يوافق ضمنيا عىل أن‬
‫الطفل يتعلم كثريا‪ ،‬ويرتبى بواسطة السمع والكالم‪ ،‬وإنام ذكرنا الفرتة‬
‫السابقة هلذين‪ ،‬خمافة أن جيهل مكاهنا‪ ،‬وحرصا عىل أن ينص عليها نصا‬
‫واضحا‪ ،‬ونالحظ أن كلمة الكاتب استعملت الرتبية والتعلم معا‪ ،‬فيكون‬
‫صاحبها فكر يف العالقة التي بني العمليتني‪ ،‬وجيمل بنا نحن أن نشري إىل هذا‬
‫االستعامل يف إجياز‪ ،‬ودون أن نحيد عن اخلط الرئييس للموضوع‪ .‬برشط‬
‫أن نرجع إىل هذه النقطة عندما نجيب عن السؤال الثاين الذي يطلب إلينا‬

‫‪86‬‬
‫منطوقه البحث يف املوضوع بالنسبة «للرتبية والتعليم» اللذين حيصل‬
‫عليهام الطفل يف مرحلة الكالم‪.‬‬
‫وإن يف هذا املوضوع لصعوبات يتعني التفكري فيها طويال يف مرحلة‬
‫التهيء؛ فمنها أن الكلمة التي نرشحها البد أن تبقى متوازنة بني فرتة‬
‫ما قبل الكالم وفرتة الكالم‪ ،‬ومنها أيضا أن السؤال الثاين يتحدث‬
‫عن مرحلة الكالم‪ ،‬فينبغي قبل كل يشء‪ ،‬أن حتدد هذه املرحلة‪ ،‬ومنها‬
‫أن السائل يقول «اللذان حصل عليهام أثناء مرحلة الكالم» وال يقول‬
‫بواسطة الكالم‪.‬‬
‫فأما توازن الرشح بني النقطتني‪ ،‬فسنعطي للسمع قيمته من بني احلواس‬
‫األخرى التي بواسطتها يتعلم الطفل‪ ،‬وسنبني وظيفة الكالم يف تربية‬
‫الطفل‪ ،‬حيث يكون مترينا يؤكد شخصية الطفل‪ ،‬ثم مترينا تقليديا يعمل‬
‫عىل إضافته للحياة االجتامعية‪ .‬وأما مرحلة الكالم فسنحددها حتديدا‬
‫وسطا بني مرحلة التعلم –السنوات اخلمس األوىل‪ -‬وبني احلياة الدراسية‬
‫كلها التي تطول أو تقرص حسب إمكانيات كل واحد‪ .‬وسنجعل هذه‬
‫املرحلة ممتدة من السنة األوىل إىل هناية املرحلة االبتدائية‪ .‬والكلمة التي‬
‫بقي علينا إيضاحها هي قول السائل «أثناء» أيقصد أن نتحدث عن كل‬
‫املؤثرات التي يتعرض هلا الطفل‪ ،‬أم يريد فقط تلك التي تصله عن طريق‬
‫الكالم؟ وأن البت يف هذه املسألة رضوري قبل أن نرشع يف اإلنشاء‪،‬‬
‫ووحدة املوضوع تقتيض أن نذكر فقط الرتبية والتعليم التي جتيء بواسطة‬
‫الكالم‪ ،‬لكن وضوح املوضوع يقتيض أن نبني مهمة الكالم يف كل شؤون‬
‫الناس‪ ،‬وكونه أداة االتصال الرئيسية بينهم‪ ،‬فيكاد يكون الكالم العامل‬
‫الرئييس يف الرتبية والتعليم‪ ،‬وهلذا فإن كلمة «أثناء مرحلة الكالم» تعطي‬
‫صورة واضحة ملقام الكالم الذي أرشنا إليه‪ ،‬وبالتايل فسنثبت أن السائل‬
‫يقصد بالضبط قراءة ما نعرفه عن أمهية الكالم بالنسبة لعمليتي الرتبية‬
‫والتعليم‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫ب‪ -‬التصميم‬
‫* الرشح‬
‫* تربية الطفل وتعليمه أثناء مرحلة الكالم‬

‫ج‪ -‬التصميم املفصل‬


‫* تربية اإلنسان تبدأ‪ -‬الرتبية تكيف بالوسط‪ -‬احلواس ودورها يف‬
‫عملية الرتبية‪ -‬أمهيتها أيضا يف عملية التعلم‪ -‬قبل الكالم‪ -‬بعد الكالم‪.‬‬
‫* الطفل يتعلم الكالم‪ -‬الكالم الشخيص‪ -‬الكالم االجتامعي‪-‬‬
‫واسطة التفاهم‪ -‬أسئلة الطفل وأمهيتها يف تربيته وتعليمه‪ -‬املرحلة‬
‫الدراسية واستعامل الكالم فيها‪ -‬تربية الكالم‪.‬‬

‫د‪ -‬اإلنشاء‬
‫الرتبية عملية معقدة‪ ،‬ليس فيها بساطة العمليات امليكانيكية وضبطها‪.‬‬
‫ولذلك كانت الرتبية موضوعا الختالفات املفكرين‪ ،‬كل يراها من زاويته‪،‬‬
‫متأثرا بالتيار السائد يف عرصه أو خارجا عليه‪ .‬وكل يلتمس أسباهبا‪ ،‬ويتصور‬
‫طرق تطبيقها‪ ،‬بانيا عىل أفكار من تقدموه‪ ،‬أو زاعام أنه جاء بجديد‪ .‬وقد‬
‫عم اخلالف طرق التعليم أيضا عرب العصور‪ ،‬فتبارى املعلمون يف إحداث‬
‫الطرق وتنويعها‪ .‬ومل هيتد املربون إىل اتفاق يف امليدانني حتى يف عرصنا‬
‫هذا الذي تقدمت فيه دراسة الطفل كثريا‪ ،‬وأصبح لعلم النفس شأن مل‬
‫يكن له‪ .‬إال أننا نراهم متفقني‪ ،‬أو يكادون‪ ،‬عىل أن الطفل ينبغي أن تتناوله‬
‫الرتبية مبكرا‪ ،‬وقبل أن تطبعه العوامل غري املوجهة بطابع ال يتفق ونوايا‬
‫املريب‪ .‬ونتيجة هلذه الفكرة‪ ،‬أسست مدارس لألحداث‪ ،‬وأسست دور‬
‫حضانة للعناية بالطفل يف سنه الرخوة‪ ،‬بل تعدى األمر هذا‪ ،‬فدعا املربون‬
‫إىل تربية األبوين‪ ،‬ليقوما بالتوجيه الصالح لذريتهام منذ البداية‪ .‬قلت‬
‫كادوا يتفقون عىل هذا ألن طائفة من املربني الزالت تنكر أن يبكر بإرسال‬

‫‪88‬‬
‫الطفل لدور احلضانة أو رياض األطفال‪ ،‬وتعزو هلذه العملية‪ ،‬السابقة أواهنا‬
‫يف نظرهم‪ ،‬ما يشاهد من انحراف بعض األطفال‪ .‬لكن هل معنى هذ أن‬
‫املربني يظنون الطفل عاجزا عن التعلم‪ ،‬وبمعزل عن الرتبية التي نريدها له‪،‬‬
‫قبل أن يصل إىل سن معينة؟ ال أظن ذلك‪ ،‬وقد قال شيخ املربني‪ ،‬وسلف‬
‫علامء النفس‪« :‬إن تربية اإلنسان تبدأ من يوم ميالده‪ ،‬وحتى قبل أن يتكلم‪،‬‬
‫وقبل أن يسمع‪ ،‬يبدأ يف التعلم» فكيف ينبغي أن يفهم كالم الفيلسوف‪ ،‬وما‬
‫مقدار األمهية التي لرتبية وتعلم ال يستعمل الكالم واسطة هلام؟‬
‫يظهر أن املبدأ الذي كتبه روسو مل يبق موضوعا للنقاش‪ ،‬فقد ثبت أن‬
‫الطفل يرتبى ويتعلم من يومه األول‪ .‬بل دفع الباحثون‪ ،‬من أطباء وعلامء‬
‫للحياة‪ ،‬التجارب أبعد من اليوم األول‪ ،‬وأثبتوا أن اجلنني يف بطن أمه‪،‬‬
‫يسجل رد الفعل الذي يقع من أمه أمام األحداث التي تتعرض هلا‪ ،‬وأثبتوا‬
‫أن وقائع فرتة احلمل‪ ،‬ليست غريبة عن الصفات التي يف طبع الطفل‪.‬‬
‫التجارب الزالت جارية‪ ،‬والعلامء حياولون فرز احلقيقة ليعرفوا كيف يتأثر‬
‫الطفل يف بطن أمه‪ .‬والذي ال جدال فيه اليوم أن الوليد ليس جسام حمايدا‬
‫ال يعنيه يشء قبل أن يدب ويستيقظ للوجود‪ ،‬بل هو متوفر عىل خصائص‬
‫الكائن احلي‪ ،‬جمهز بكل ما يمكنه من انفعال بوسطه‪ ،‬يف انتظار أن حيصل‬
‫عىل القدرات التي متكنه من الفعل يف وسطه‪ .‬وأول هذه اخلصائص قابلية‬
‫الطفل للتكيف بنوع احلياة التي هيئت له يف حدود حاجاته الطبيعية‪ .‬فمنذ‬
‫اللحظة األوىل يفتح فاه ليتنفس اهلواء‪ ،‬بعد أن قىض حياته اجلنينية عالة‬
‫عىل هواء أمه‪ .‬وبام أن الرتبية تكيف قبل كل يشء‪ ،‬فبوسعنا أن نؤكد أن‬
‫الطفل يرتبى منذ اللحظة األوىل‪ .‬نعم‪ ،‬جييء الوليد بجهازه الغريزي الذي‬
‫يساعده يف املحافظة عىل حياته‪ ،‬إذ يرصخ كلام جاع‪ ،‬أو ابتل‪ ،‬أو احتاج إىل‬
‫أمه‪ .‬لكن هذا اجلهاز الغريزي ال يلبث أن يبدأ يف التقلص‪ ،‬لتخلفه عادات‬
‫تعلمها الطفل‪ ،‬فرسعان ما يعرف الثدي إذا رآه أو ملسه‪ ،‬فيرصخ آنذاك ال‬
‫بدافع الغريزة‪ ،‬لكن كرد فعل للمعرفة التي حصل عليها بواسطة احلواس‪.‬‬
‫وإن دور احلواس يف تربية الطفل وتعليمه‪ ،‬هلي املركز الذي تتجمع حوله‬
‫أفكار روسو‪ ،‬فال بدع إن كانت قولته التي نستعرضها اليوم منرصفة‬
‫هلذه النقطة‪ .‬وإن كان الفيلسوف تىيؤكد إمكان تربية الطفل وتعليمه‬

‫‪89‬‬
‫حتى قبل أن يسمع ويتكلم‪ ،‬فام ذلك إال ألن للسمع والكالم مكانا ال‬
‫ينكر كوسائل للرتبية والتعليم‪ .‬عىل أن السمع املعني هنا هو فهم الكالم‬
‫املسموع ال جمرد السمع‪ .‬ومن السهل عىل مالحظ الطفل أن يتتبع‬
‫استيقاظ حواسه‪ ،‬وكيف يكتسب بواسطتها معرفة أوسع فأوسع بام‬
‫حييط به‪ .‬فالطفل منذ يتحرك جسمه يف األسابيع األوىل بعد ميالده‪ ،‬ينظر‬
‫ما حوله متطلعا‪ ،‬ويعرف الوجوه املألوفة فيبسم هلا‪ ،‬ويسمع الصوت‬
‫فيعرفه إن كان صوت أمه‪ ،‬ويرنو لألشياء الرباقة‪ ،‬ويمد يده إليها‪ ،‬فإذا‬
‫مضت هذه الفرتة‪ ،‬ودب الطفل‪ ،‬استعمل حواسه يف نطاق أوسع مما كان‬
‫يستعملها فيه‪ ،‬واتسعت معارفه فشملت حجرته وما حوهلا‪ .‬وكل هذا‬
‫قبل أن يسمع الطفل‪ ،‬أعني قبل أن يفهم الطفل الكالم‪ ،‬أو يقدر عليه‪.‬‬
‫عىل أن هذا ال يمنعه من إبداء رغباته بواسطة الصياح أو اإلشارة‪ .‬وما‬
‫حيصل عليه الطفل من معرفة‪ ،‬يساهم بنصيب كبري يف تربيته إىل جانب‬
‫نوع املعاملة التي يعامل هبا‪ ،‬ونوع املثال الذي يشاهده‪.‬‬
‫لكن ما هو مقدار األمهية التي للجانب املسكوت عنه يف كلمة روسو؟‬
‫وهل يعد استعامل الطفل للكالم‪ ،‬فهام وتكلام‪ ،‬مرحلة حاسمة يف سبيل‬
‫تعلمه وتربيته؟ إن املستعرض حلياة الطفل‪ ،‬يميل إىل اعتبارها كذلك‪،‬‬
‫بل يميل إىل اعتبارها مرحلة انتقال من فرتة دنيا إىل درجة أسمى منها‪.‬‬
‫الفرق كبري بني الطفل الذي يفهم ما يسمعه‪ ،‬فيعمل ما أمر به‪ ،‬وجييء إذا‬
‫دعى‪ ،‬ثم يعرب عن رغباته وأفكاره بكلامت‪ ،‬وبني الطفل الذي ال توجهه‬
‫إال حيويته‪ ،‬وال يرد الفعل إال جوابا عن فعل إجيايب نفرضه عليه‪ ،‬أو مؤثر‬
‫عاطفي نأخذه به‪ .‬وألمر ما عرف الفالسفة األقدمون اإلنسان بأنه حيوان‬
‫ناطق‪ .‬لكن القصد يف القول‪ ،‬والتحري للحقيقة‪ ،‬ال يسمحان باعتبار‬
‫الطفل قبل أن يفهم ويتكلم حيوانا رصفا‪ ،‬بل هو إنسان بام تعلمه قبل‬
‫الكالم وبالرتبية التي ناهلا يف هذه الفرتة‪ ،‬بقدر كونه إنسانا نظرا إلمكانياته‬
‫املستقبلة‪.‬‬
‫وبعد فال مراء يف أن الطفل يبدأ مرحلة خصبة بام تعطيه من إمكانيات‬
‫ليرتبى ويتعلم‪ ،‬يف الوقت الذي يملك فيه هذه األداة الطبيعية التي هي‬

‫‪90‬‬
‫الكالم‪ .‬ال نغايل فنقول بأن الرتبية الكاملة ال يمكن أن تنال إال بواسطة‬
‫الكالم‪ ،‬خمافة أن تكذبنا األمثلة العديدة للصم والبكم الذين حصلوا عىل‬
‫نصيب طيب من العلم والرتبية عزت عىل كثري من املتكلمني‪ .‬وإنام نقول‬
‫بأن الكالم هو الوسيلة الطبيعية للمواصالت بني الناس‪ ،‬ولفهم بعضهم‬
‫بعضا‪ ،‬فرضوري أن يكون املتكلم أرسع فهام لآلخرين‪ ،‬وأرسع تعبريا‬
‫عن رأيه وحاجاته‪ ،‬من الذي ال يتكلم‪.‬‬
‫والكالم اخرتاع إنساين ال دخل للغريزة فيه فالبد أن يتعلمه الطفل‬
‫يف مراحل متعددة‪ ،‬أوهلا تقليد كلامت‪ ،‬وآخرها االستعامل املرسل‬
‫السهل‪ ،‬ويصحب عملية استعامل الكالم فهم الكالم‪ ،‬وإن مل يكن‬
‫بينهام تواقت كامل‪ ،‬ألن الطفل قد يستعمل كلامت استعامال صحيحا‬
‫قبل أن يفهم معناها عىل وجه الضبط‪ ،‬كام أنه يفهم معاين الكالم‪ ،‬قبل‬
‫أن تسعفه آلته الصوتية عىل استعامهلا‪ ،‬ويبدأ الطفل متارينه الصوتية يف‬
‫سن مبكرة‪ ،‬فمنذ الشهر اخلامس‪ ،‬أو السادس‪ ،‬يأخذ يف إخراج أصوات‬
‫خمتلفة يرددها ال يمل‪ ،‬دون أن يكون ألصواته معنى أو قصد‪ .‬وكأن‬
‫هذه مرحلة هتييئية يكتسب هبا احللق املرونة الالزمة لتكلم اللغة التي‬
‫سيجدها مستعملة بني ذويه‪ .‬وتتلو هذه الفرتة درجة أخرى فيها يتخذ‬
‫الطفل لنفسه كالما يكون يف الغالب حتريفا للكلامت التي حياول تقليدها‪.‬‬
‫ويتمسك كل طفل بكالمه الشخيص الذي يمتاز هبذه القاعدة الشائعة‪،‬‬
‫وهي داللة كلمة واحدة عىل معنى كامل تستعمل له عادة مجلة كاملة‪.‬‬
‫فإذا قال الطفل «أنا» مثال‪ ،‬فمن املحتمل أن يقصد‪« :‬أنا أريد أيضا‬
‫احللوى»‪ ،‬وإذا قال «أمي» فقد يريد «خذيني يا أمي» أو «اقريب مني يا‬
‫أمي»‪ .‬ويمتد استعامل الطفل للكالم الشخيص ابتداء من السنة الثانية‬
‫إىل مدة تطول أو تقرص حسب تبكري األطفال يف الكالم أو إبطائهم فيه‪.‬‬
‫وتطول هذه املدة باألخص إذا كانت األرسة‪ ،‬تستعذب كلامت الطفل‬
‫املحرفة فرتددها‪ ،‬أو ختاطبه بكالم صبياين‪ .‬ويتقدم الطفل يف تعلمه‬
‫وفق سلم عام‪ ،‬فيبدأ باستعامل األسامء‪ ،‬ثم األفعال‪ ،‬ثم أدوات الربط‪،‬‬
‫ثم الضامئر‪ .‬ويكون آخر ما يتعلمه استعامل أدوات التعليل كمثل كي‬
‫أو ألن‪ ،‬وأدوات الرشط‪ .‬وهذه الدرجة األخرية تتأخر إىل وقت دخول‬

‫‪91‬‬
‫الطفل املدرسة االبتدائية‪ ،‬بل تتأخر سنوات بعد دخوله املدرسة‪.‬‬
‫ورغم تفاوت األطفال يف رسعتهم للكالم‪ ،‬يكون منهم من يبتدئ‬
‫يف آخر السنة األوىل‪ ،‬ومنهم من ال يبدأ إال يف الرابعة أو اخلامسة‪ ،‬فإهنم‬
‫يف سن العارشة يكونون يف نفس املرتبة إذا كانت أوساطهم االجتامعية‪،‬‬
‫وذكاؤهم الطبيعي‪ ،‬ونوع الدراسة التي تلقوها متساوية‪ .‬وأيا ما كان‬
‫هذا التفاوت فإن الطفل بمجرد ما يتعلم الكالم‪ ،‬يستعمله يف مرح كبري‪،‬‬
‫فيكرر الكلامت بال هناية‪ ،‬ويشكو الراشدون من ترثرته‪ .‬وإقبال الطفل‬
‫عىل الكالم يعد يف احلقيقة فرصة غالية ينبغي أن يقبضها اآلباء ليزودوا‬
‫بنيهم بكلامت خمتارة متنوعة‪ ،‬يسامهون هبذه الطريقة يف تربية العقول‬
‫الصغرية‪ .‬ويالحظ أن ثروة الطفل اللغوية‪ ،‬يف مرحلته الصبيانية‪ ،‬رهن‬
‫بثروة ذويه اللغوية‪ ،‬ألن الطفل ال يستعمل إال كلامت يسمعها مرارا يف‬
‫كل يوم‪ .‬كام أن نوع الكالم الذي يتكلمه الطفل رهن بكالم ذويه؛ فهو‬
‫ال يعرف كيف خيتار الكلامت املناسبة‪ ،‬وكيف يتحاشى العبارات املبتذلة‪.‬‬
‫وجييء الطفل إىل املدرسة ومعه نصيب قليل أو كثري من الزاد اللغوي‪،‬‬
‫فيجد أطفاال لكل منهم لغة ذات صبغة حتكي لغة البيت الذي نشأ فيه‪.‬‬
‫فتقوم آنئذ املدرسة بدور العامل املوحد‪ ،‬ألن األطفال يشرتكون يف‬
‫الكالم‪ ،‬فيأخذ بعضهم عن بعض‪ ،‬وألن يف املدرسة ساعات عمل يتكلم‬
‫فيها املعلم‪ ،‬فتبدأ املرحلة التي تتخذ أثناءها الرتبية الكالم كأهم وسائل‬
‫تأثريها‪ .‬لكن الكالم يلعب دورا مهام جدا يف تربية الطفل حتى قبل جميئه‬
‫إىل املدرسة‪ ،‬دورا مقصودا أو غري مقصود‪ ،‬يف البيت ويف الشارع‪ ،‬أثناء‬
‫اجلد وبمناسبة اللعب‪ .‬فكيف يكون للكالم هذه األمهية بالنسبة لرتبية‬
‫الطفل وتعليمه يف املرحلتني‪ :‬البيتية واملدرسية؟‬
‫نتصور بيرس كيف ينظر الطفل إىل كل كلمة جديدة يسمعها‪ ،‬إنام‬
‫نمثل يف عينيه جتربة جديدة‪ ،‬ألهنا حتمل معها معنى خاصا‪ ،‬وكلام كثرت‬
‫الكلامت التي حفظها ازدادت قدرته عىل فهم العالقات التي بني األشياء‪،‬‬
‫وسهل عليه أن يتتبع الكالم املوجه إليه فامها جزئياته شيئا فشيئا‪ .‬وبتوسع‬
‫دائرة كالمه تتسع أيضا دائرة معرفته‪ ،‬ومن خالل هذه املعرفة‪ ،‬وبواسطة‬
‫التوجيه اللفظي الذي يعطيه إياه مربوه الطبيعيون‪ ،‬يتلقى مبادئ تربوية‬

‫‪92‬‬
‫هي أساس شخصيته املقبلة‪ .‬عىل أن استعامله للكالم أيضا يساعد عىل‬
‫تربيته وتعليمه‪ ،‬بل ربام كانت استفادته متكلام‪ ،‬أكثر من استفادته سامعا‬
‫فقط‪ .‬ذلك ألنه يتعلم كيف يعرب عن ذات نفسه‪ ،‬فيزيد ذلك معرفته بأن‬
‫له إرادة خاصة‪ ،‬وأن لآلخرين إرادهتم أيضا‪ .‬وألنه عندما يتكلم‪ ،‬يكون‬
‫الكالم له ضابطا يساعده عىل حتديد األفكار التي يعرب عنها‪ .‬وحيدث‬
‫ذلك تدرجييا بالطبع‪ ،‬ألن عهدنا بالطفل يف أول كالمه‪ ،‬يردد الكلامت‬
‫كأنام يلعب لعبة رياضية‪ ،‬ال غاية له إال أن يسمع نفسه ينطق‪ .‬ثم ال‬
‫يلبث أن يبدأ يف وزن الكالم والتامس اللفظة املناسبة‪ .‬وأن أهم وظيفة‬
‫يؤدهيا الكالم يف املرحلة األوىل‪ ،‬بل ربام يف سائر املراحل‪ ،‬هي استعامل‬
‫الطفل إياه لكي يلقى أسئلة عىل مربيه‪ .‬والطفل إذا بلغ الثالثة‪ ،‬استيقظ‬
‫فضوله؛ فكان آلة إللقاء األسئلة التنى‪ ،‬فال يكف أبدا عن السؤال ما‬
‫هذا وكيف هذا‪ .‬وهنا أيضا ختتلف حظوظ األطفال مع آبائهم؛ فهناك‬
‫األبوان اجلاهالن اللذان يستثقالن أجوبة الطفل ويزجرانه‪ ،‬وهناك‬
‫األبوان اللذان يعطيان الطفل تفهام أكثر‪ ،‬وجييبان عن أسئلته‪ .‬وظاهر‬
‫أن أسئلة الطفل‪ ،‬إذا تدبرها املريب‪ ،‬متتاز بشيئني‪ :‬متتاز بأهنا تنم عن‬
‫اهتامم الطفل وتشري إليه ليستغله املريب‪ ،‬متتاز بأهنا تبني مواطن ضعفه‪،‬‬
‫وترينا ماذا يعرفه وماذا جيهله لنعالج نقصه يف املعرفة‪ ،‬ونقصد إىل حيث‬
‫يكون تأثرينا الرتبوي أكرب وقعا‪ ،‬دون أن نضيع الوقت يف االختبارات‪.‬‬
‫وأن أسئلة الطفل العفوية قد ختمد يف املرحلة الدراسية‪ ،‬أو تعرض عىل‬
‫األبوين دون املعلم‪ ،‬ليحل حملها أسئلة مصطنعة‪ .‬يقع هذا عىل اخلصوص‬
‫إذا كان الطفل يسمع من معلمه تعليقات مثل «هذا سؤال بليد»‪« ،‬سؤال‬
‫يف غري موضعه»‪ .‬ونتيجة لتعقيب املعلم‪ ،‬يسكت الطفل‪ ،‬أو حياول أن‬
‫يضع أسئلة «ذكية» ال هيتم هبا يف احلقيقة إال بالقدر الذي هيمه أن يصوغها‬
‫صيغة مقبولة من معلمه‪ .‬وواضح أن املدرسة تضيع فرصة مهمة إن هي مل‬
‫تشجع الطفل عىل الكالم وإلقاء األسئلة‪.‬‬
‫قلنا سابقا إن املدرسة عامل موحد لكالم األطفال‪ ،‬إذ تفتح هلم بابا‬
‫لتبادل الكالم‪ ،‬وتعطيهم‪ ،‬بصوت معلمها‪ ،‬نموذجا يقتدون به‪ .‬واملدرسة‬
‫يف تربية الكالم ويف الرتبية بواسطته‪ ،‬ذات األمهية األوىل‪ ،‬تنظم تعلم‬

‫‪93‬‬
‫الكالم واستعامله تنظيام‪ ،‬وتتوسع يف هذا االستعامل حسب اتساع وتنوع‬
‫املواد التي تعلمها‪ ،‬وحسب النشاطات العملية واخلطابات بني املعلم‬
‫واألطفال‪ .‬وختصص املدرسة االبتدائية دروسا تسميها دروس حمادثة‪،‬‬
‫يتعلم الطفل أثناءها كلامت وتراكيب ذات استعامل ينفعه فيام يستقبله من‬
‫الدراسات‪ ،‬كام تكون بمثابة درس لألشياء التي تكون موضوع املحادثة‪.‬‬
‫واملبدأ الذي جيب أن تسري عليه املدرسة‪ ،‬هو أن الكالم يبقى خلوا من‬
‫أية فائدة‪ ،‬إذا مل يكن حيمل معنى يفهمه التلميذ بوضوح‪ :‬فاملهم ليس أن‬
‫نعطي الطفل أمحاال من األلفاظ يتحذلق يف استعامهلا‪ ،‬لكن أفكارا تتقمص‬
‫كلامت‪ ،‬وكلامت متثل معاين‪ .‬وإذا فالبد يف كل درس أن يتأكد املعلم من‬
‫أن كل كلمة يفوه هبا هو‪ ،‬ويقلده التالميذ يف استعامهلا‪ ،‬تقابل معنى بينا‬
‫يف أذهاهنم‪ .‬وهبذا وحده نضمن أن يكون الكالم الواسطة الكربى للرتبية‬
‫والتعليم‪.‬‬
‫يتعلم اإلنسان ويرتبى قبل الكالم‪ ،‬لكن مرحلة الكالم تبدأ طريقا‬
‫جديدا يف تربيته وتعليمه‪ .‬ال نجهل عمل احلواس ورضورهتا لكسب أية‬
‫معرفة‪ ،‬لكن احلواس‪ ،‬لو اقترصت عىل جتربتها اخلاصة‪ ،‬لتعني أن يبحث‬
‫كل فرد عن حقائق هذا العامل وحده‪ ،‬ويبدأ من حيث بدأ أول إنسان عىل‬
‫وجه هذه األرض‪ .‬الكالم يضع يف متناول كل فرد جتربة أخيه اإلنسان‪،‬‬
‫ويعطيه إمكانية التفاهم معه‪ .‬وهبذا يكون الكالم أهم وسيلة للرتبية‬
‫والتعليم‪ ،‬إذ يمهد الطريق للتجارب الفكرية املختلفة‪ ،‬ويوجه احلواس‬
‫يف أعامهلا‪ ،‬ويزودها باملعرفة الرضورية لكيال تسلك سبيل اخلطأ‪ ،‬وتوقع‬
‫العقل يف أغالط وقع فيها السابقون‪ .‬إن الكالم‪ ،‬مكتوبا أو منطوقا‪ ،‬هو‬
‫األداة األوىل يف بناء حضارة اإلنسان‪ ،‬وختليد علمه‪ .‬وإنه أيضا لطافة‬
‫كبرية يف يد من يملك ناصية البيان‪ .‬وقالت العرب‪« :‬تكلموا تعرفوا»‪،‬‬
‫وقد عرفت العرب أن اللسان ترمجان العقل‪ ،‬وأنه أحد من السيف عندما‬
‫يسعفه القلب الشجاع والعقل الراجح‪ ،‬والذي ينظر إىل ما يفعله اخلطيب‬
‫املوهوب بسامعيه‪ ،‬وما يناله مطلق خماطب فصيح من سلطة بني خماطبيه‪،‬‬
‫يدرك إدراكا كامال أمهية الكالم يف تربية اإلنسان وتعليمه‪ ،‬بل يف امتالكه‬
‫وتوجيهه فردا كان أو مجاعة‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫املوضوع رقم ‪:9‬‬
‫قيل‪« :‬إن مستقبل الطفل منوط بقوة اإلرادة التي تزوده هبا»‪.‬‬
‫فرس القول‪ ،‬وبني كيف تعمل لتقوي إرادة الطفل‪.‬‬

‫أ‪ -‬فهم املوضوع‬


‫يشتمل املوضوع عىل جزأين أحدمها يتعلق بدور اإلرادة يف تكوين‬
‫شخصية الفرد‪ ،‬وبالتايل يف حتديد مستقبله‪ .‬واجلزء اآلخر عميل‪ ،‬يسألنا‬
‫كيف نعمل لنقوي إرادة الطفل‪.‬‬
‫والصيغة التي كتبت هبا هذه الكلمة تشبه الصيغ املعهودة عىل لسان‬
‫املربني‪ ،‬كلام حاولوا أن يربزوا ناحية من نواحي الرتبية‪ ،‬ويرصفوا إليها‬
‫اهتامم القارئني‪ .‬تذكر الكلمة قوة اإلرادة كيشء يتوقف عليه مستقبل‬
‫الطفل‪ .‬ومن حقنا أن نقف لنسأل أليس هناك نواح أخرى من شخصية‬
‫الطفل هلا ما لقوة اإلرادة من مكان إن مل تكن تزيد عليها؟ هناك التكوين‬
‫العلمي‪ ،‬والتكوين املهني مثال‪ ،‬وهناك الصفات األخرى التي جتعل‬
‫الطبع متوازنا ال تغلب عليه اإلرادة فيكون طبع اجلبار املتحكم‪ .‬ومن‬
‫حقن أن نقف سائلني أال تكون قوة اإلرادة عرقلة يف طريق الفرد‪،‬‬
‫وسط املجتمع العرصي الذي يسري بتعاون األفراد بعضهم مع بعض‪،‬‬
‫وتفامههم الرضوري لبدء األعامل وإنجازها؟ أليست الصفة األوىل‬
‫املؤهلة للنجاح يف عرصنا هي املرانة‪ ،‬وقابلية اإلنسان إلجياد احللول‬
‫الوسطى‪ ،‬وتوفيق إرادته بإرادة اآلخرين؟ كل هذه عوارض هلا‬
‫حظ من النظر‪ ،‬فالبد أن يكون الطبع متوازنا‪ ،‬والبد أن يتسلح املرء‬
‫بمؤهالت علمية‪ ،‬ومهنية لينجح ويكون لنفسه مستقبال حسنا‪ .‬والبد‬
‫للناس من مرانة لئال يصطدموا بإرادة اآلخرين‪ .‬لكن يبقى من بعد‬
‫هذا أن اإلرادة القوية دافع كاف إلحراز كل هذه الصفات‪ .‬فالفرد‬
‫قوي اإلرادة يتعلم ويتقن مهنة بدافع إرادي‪ ،‬وهيذب طبعه بدافع‬

‫‪95‬‬
‫إرادي‪ ،‬وال متنعه املرانة الرضورية ملعاملة الناس من فرض إرادته وضامن‬
‫مستقبله آخر األمر‪ .‬هذه مناقشة متهيدية لفهم املوضوع‪ ،‬تضع اخلطوط‬
‫األوىل لتفسري القول‪ ،‬وينبغي أن يفرس القول‪ ،‬بالنظر إلرادة الطفل‪،‬وأن‬
‫هذه اإلرادة تأتيه من خارج‪ ،‬نحن نزوده هبا‪ .‬فلذلك يقتيض املقام‪ ،‬أن‬
‫نعرض أوال صورة موجزة إلرادة الطفل‪ ،‬وكيف تتكون‪ ،‬ثم نتحدث‬
‫عن الصفة التي هبا نعمل لنعطي الطفل إرادة قوية‪ .‬وننتبه إىل أن القائل‬
‫يستعمل كلمة «نزود» مع مجاعة املتكلمني‪ ،‬وهلذا نأخذ الفعل عىل عمومه‬
‫وال نخصص‪ ،‬فيبقى يف يدنا متسع لنقول عن نشوء اإلرادة‪ ،‬وندخل‬
‫األرسة والوسط يف عموم الفعل‪.‬‬
‫واجلزء الثاين موجه فيه السؤال إلينا نحن املمتحنني‪ ،‬فرياد أن نقول‬
‫كيف نعمل لتقوية إرادة الطفل‪ .‬فنجيب ذاكرين طبيعة العمل املحتاج‬
‫إىل إرادة‪ ،‬ذاكرين الطرق العملية التي نتبعها لبعث الطفل عىل التفكري يف‬
‫أعامل إرادية ثم إنجازها‪.‬‬
‫ويتعني أن نسبك املقال كله‪ ،‬بحيث يعطي صورة ممتدة لإلرادة؛ كيف‬
‫تبدأ‪ ،‬وكيف يكون أثرها يف مستقبل الطفل‪ .‬فتعني أن نعطي املقال حركة‬
‫حتكي حركة الطفل ناشئا‪ ،‬ثم آئال إىل مستقبل‪.‬‬

‫ب‪ -‬التصميم‬
‫* تفسري القول‪.‬‬
‫* ما أفعله لتقوية إرادة الطفل‪.‬‬

‫ج‪ -‬التصميم املفصل‬


‫* مكان اإلرادة يف طبع الفرد‪ -‬إرادة الطفل‪ -‬كيف تتكون‪ -‬مستقبل‬
‫الطفل بالنظر إىل إرادته‪.‬‬
‫* املدرسة واإلرادة‪ -‬الرتبية االجتامعية وتربية اإلرادة‪ -‬املعرفة‬
‫والدافع النفيس‪ -‬املعرفة يف دروس األخالق‪ ،‬ويف املثال الذي يقرتح عىل‬

‫‪96‬‬
‫الطفل‪ ،‬ويف معرفته العامة‪ -‬الدافع النفيس يبدأ بالعادة‪ ،‬خيلق باشرتاك‬
‫الدوافع النفسية الطبيعية‪ -‬املدرسة بأعامهلا املتنوعة تعطي نظاما مواتيا‬
‫لرتبية اإلرادة‪ ،‬ونشاطات تساهم يف تأييد هذه الرتبية‪ ،‬كالرياضة البدنية‬
‫ودروس األشياء‪.‬‬

‫د‪ -‬اإلنشاء‬
‫الرتبية حتدد لنفسها أهدافا مثالية أو عملية‪ ،‬جتعلها رئيسية ومكيفة‬
‫لنوع التوجيهات التي تتخذها يف امليدان التطبيقي‪ .‬وكيفام كانت األهداف‬
‫التي تعرتف الرتبية بأهنا هتدف إليها‪ ،‬فإن هنالك اعتبارا أوال يدخل يف‬
‫حساب املريب‪ ،‬بل يسيطر عىل حسابه ويفرض عليه وجهة عملية معينة‪،‬‬
‫وهذا االعتبار هو التفكري يف مصري الطفل الذي نربيه‪ ،‬ولئن كانت الرتبية‬
‫يف عصور غابرة‪ ،‬شارة للرجل املتفوق اجتامعيا‪ ،‬أو بضاعة بذخ يف متناول‬
‫الطبقة الرفيعة فقط‪ ،‬فقد أصبحت اليوم رضورية لكل فرد‪ ،‬وعليها يتوقف‬
‫مستقبله‪ .‬ولئن كانت الرتبية البذخية التي أرشنا إليها‪ ،‬ترمي‪ ،‬كانت‪ ،‬إىل‬
‫تزيني الشخص‪ ،‬وحتليته بكل صفة جسمية أو عقلية ينبغي أن يتصف‬
‫هبا‪ ،‬فقد أصبحت الرتبية اليوم هتدف إىل أغراض عملية‪ .‬وهيمها قبل كل‬
‫يشء أن تسلح الفرد ليجد أمامه جماال حيقق فيه مستقبله‪ .‬ويبقى أن نعرف‬
‫يف إطار الرتبية احلديثة‪ ،‬ما هو أهم سالح تضعه يف يد الناشئ ليفتح أمامه‬
‫طريقا؟ وجوابا عن سؤالنا‪ ،‬نسمع كثريين يشيدون باألمهية القصوى‬
‫للثقافة العامة‪ ،‬ونسمع آخرين يتحدثون عن العلوم التطبيقية‪ ،‬ويعتربون‬
‫تعلمها الطريق األوحد للخالص من التخلف الفكري واحلضاري‪،‬‬
‫ونسمع مربني وفالسفة يريدون الرجوع إىل القيم اإلنسانية ويضعوهنا يف‬
‫املكان األول‪ .‬وإىل جانب هذا نقرأ مقالة من يبحث عن الطبع لريى ماذا‬
‫تعطيه الرتبية‪ ،‬ويكتب «إن مستقبل الطفل منوط بقوة اإلرادة التي نزوده‬
‫هبا» كأنه يعترب تقوية الطبع‪ ،‬وتصليب اإلرادة الرشط األسايس يف نجاح‬
‫منتوجات الرتبية‪ ،‬وكأنه يعترب ما سوى هذا أعامال فرعية عامدها القوة‬
‫النفسية املترصفة‪ .‬وسننظر مع هذا الكاتب كيف تكون اإلرادة الركن‬

‫‪97‬‬
‫األول يف بناء مستقبل الطفل‪ ،‬وكيف تتكون هذه اإلرادة حتى يمكن أن‬
‫نزوده هبا ونجعلها قوية‪.‬‬
‫لكل فرد خصائص طبيعية يتميز هبا‪ ،‬فهذا ألوف اجتامعي‪ ،‬واآلخر‬
‫حمب للعمل جمد فيه‪ ،‬والثالث شديد املالحظة قليل امليل إىل الرفاق‪،‬‬
‫وهكذا‪ .‬لكن هذه اخلصائص الطبيعية كلها تصطبغ بعامل يظهر أنه أعم‬
‫منها مجيعا‪ ،‬فكأنه أكثر منها عمقا‪ .‬وأعني اإلرادة‪ .‬فلكل طبع حظ كبري‬
‫أو صغري من اإلرادة‪ ،‬نجد املحب للعمل املنرصف إليه بحاجة طبيعية ال‬
‫دخل لإلرادة فيها‪ ،‬ونجد الدائب عىل العمل‪ ،‬بمحض إرادته‪ ،‬كام نجد‬
‫الرجل االجتامعي الذي يلتمس الرفقة حلاجة عاطفية‪ ،‬أو الذي جيدها يف‬
‫احلديث مع الناس‪ ،‬كام نجد االجتامعي الذي يقصد االختالط بالناس‬
‫لغرض إرادي يدفعه‪ .‬وهكذا يبدو لنا أن اإلرادة أو ضعفها صفتان‬
‫سابقتان يف كل طبع‪ ،‬فتقسم الناس هبذا االعتبار إىل شطرين‪ :‬الطائفة‬
‫التي تفرض االجتاه والطائفة التي تتبع‪ .‬عىل أن عامة الناس يملكون‬
‫حظوظا من اإلرادة متوسطة‪ ،‬بالنسبة لقابليتهم الطبيعية‪ ،‬وبالنسبة‬
‫للعامل الرتبوي الذي كوهنم‪ .‬وإنام يمتاز أفراد قالئل‪ ،‬ويربزون بصفاهتم‬
‫اإلرادية‪ ،‬ويكون هؤالء النخبة يف كل عرص‪ ،‬فيكون منهم العلامء الكبار‪،‬‬
‫والرؤساء والقواد‪ .‬وسواء نظرنا إىل األشخاص املتوسطني الذين يمثلون‬
‫األغلبية االجتامعية‪ ،‬أو نظرنا إىل األفراد البارزين‪ ،‬فإننا نالحظ أن الذي‬
‫ينال احلظ األوفر من التقدير االجتامعي‪ ،‬والنجاح‪ ،‬هو الشخص ذو‬
‫اإلرادة القوية‪ .‬وليس سبب ذلك أن هلذه القوة اإلرادية فضيلة خفية تؤثر‬
‫عىل الناس‪ ،‬لكن مرده إىل أن اإلرادة القوية ترصف اجلهود كلها إىل عمل‬
‫بناء‪ ،‬فتتكامل الشخصية‪ ،‬ويتقدم الشخص يف السبيل التي اختارها وخري‬
‫مثال ملا تفعله القوة اإلرادية‪ ،‬هؤالء العصاميون الذين نسمع عنهم بدأوا‬
‫نشاطهم يمتهنون حرفا متواضعة‪ ،‬ومل ينهوا حياهتم إال وقد تسلقوا قمة‬
‫املجد‪ ،‬كام فعل أديسون األمريكي صاحب االخرتاعات الكثرية مثال‪.‬‬
‫واإلرادة طاقة نفسية مطلقة‪ ،‬ال تتحدد قيمتها إال باعتبار الوجهة التي‬
‫تسري فيها‪ .‬وفيها استعداد كامن لتنرصف إىل اخلري أو الرش؛ األمر يتوقف‬
‫عىل الرتبية التي تبعثها‪ .‬ولذلك كانت الرتبية اإلرادية‪ ،‬من أهم ما ينبني‬

‫‪98‬‬
‫عليه مستقبل الطفل‪ ،‬فإذا فهم املريب أن نقطة االنطالق هي املبادئ التي‬
‫يقتنع هبا الطفل‪ ،‬ويعمل حياته طبقا هلا‪ ،‬عمل جهده ليزود الطفل بإرادة‬
‫قوية تويل وجهها شطر اخلري‪ ،‬وأمكنه‪ -‬إن نجح يف مهمته‪ -‬أن يرتقب‬
‫أفرادا يسامهون بكيفية إجيابية‪ ،‬يف أعامل جيلهم‪.‬‬
‫حيتاج املريب أوال أن يعرف كيف تبدأ إرادة الطفل‪ ،‬وكيف تنمو‪.‬‬
‫ويعرف علامء النفس العمل اإلرادي بأنه عمل ينشأ عن معرفة تامة بغايته‬
‫التي يسعى هلا‪ ،‬ويمتاز بأنه نتيجة معركة نفسية أحد جانبيها اإلرادة‪،‬‬
‫واجلانب الثاين الرغبة الطبيعية‪ .‬فإذا نظرنا إىل الطفل‪ ،‬وجدناه خلوا من‬
‫املعرفة التي هتيء العمل اإلرادي‪ ،‬ووجدناه من الناحية الثانية حماطا‬
‫برغبات كثرية‪ ،‬ال تستطيع نفسه الرخوة أن تقاومها‪ .‬فالطفل هبذا يف‬
‫سنواته األوىل عاجز كل العجز عن القيام بأعامل إرادية باملعنى الصحيح‬
‫–وال ينبغي أن نخلط بني العمل اإلرادي كام عرفناه وبني العمل املقصود‬
‫ا َْلنْوي‪ -‬لفقدان الظروف املواتية‪ ،‬وإنام تكون أعامله منبعثة عن رغباته‪،‬‬
‫ال تعرف ضابطا إال إذا فرض من اخلارج‪ ،‬واألرسة هي التي تفرض هذا‬
‫العمل‪ .‬ومتنع ذاك‪ ،‬وتنفذ أوامرها بوسائل مادية خيضع هلا الطفل‪ .‬أو‬
‫تقف األرسة موقفا ضعيفا أمام اجلبار الصغري الذي يترصف كام حيب‪،‬‬
‫ويفرض «إرادته» عىل اآلخرين‪ .‬وأمام الظروف التي جيدها الطفل‪ ،‬تبدأ‬
‫إرادته يف التكون‪ .‬فإذا تعود أن يضبط يف أعامله‪ ،‬وحيمل عىل ما جيب أن‬
‫يعمله بكيفية ال هوادة فيها‪ ،‬بدأ يتعلم كيف يمسك رغباته ويسكتها‪،‬‬
‫وبدأت هذه الرغبات تفقد سلطاهنا عليه شيئا فشيئا‪ .‬وإذا تعود أن يعطي‬
‫مطلق احلرية‪ ،‬قويت هذه الرغبات ومتكنت‪ ،‬وآل أمر الطفل إىل ما يؤول‬
‫إليه املخنثون الذين يشبون عبيدا مليلوهم‪ ،‬عاجزين عن متييز النتائج التي‬
‫سترتتب عىل أعامهلم‪ ،‬عاجزين عن اختاذ مواقف إرادية‪ .‬فاخلطوة التهييئية‬
‫لبناء إرادة قوية‪ ،‬هي السنوات األوىل التي يقضيها الطفل يف بيته‪ ،‬وعىل‬
‫نوع النظام الذي نشأ فيه‪ ،‬يتوقف استعداده ليكون فردا توجهه اإلرادة ال‬
‫امليول الطبيعية‪ .‬وعىل هذا النظام يتوقف نجاح املريب أو صعوبة نجاحه‪،‬‬
‫يف تزويد الطفل باإلرادة القوية‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫كل هذا عرفه املريب؛ عرف أن هنالك عنرصين لبناء إرادة األطفال‪.‬‬
‫االول منهام عنرص املعرفة‪ ،‬معرفة غاية العمل الذي يرشع الطفل يف‬
‫إنجازه‪ ،‬ومعرفة أن هذه الغاية خري مرغوب يف حتقيقه‪ ،‬والعنرص الثاين‬
‫اختاذه خطة مطابقة للمبدأ املختار‪ ،‬والتغلب عىل الرغبات الطبيعية‪.‬‬
‫عرف املريب هذا بكيفية نظرية‪ ،‬لكنه اآلن أمام الطفل يف امليدان العميل‪،‬‬
‫فكيف سيطبق هذه النظريات‪ ،‬وكيف يبارش عمله ليؤدي الواجب خري‬
‫أداء‪ ،‬ويزود الطفل بإرادة قوية عليها يتوقف مستقبله؟‬
‫املدرسة تستقبل‪ ،‬بحكم األعداد املتوسطة‪ ،‬خليطا من األطفال بعضهم‬
‫نشأ يف حجر أرسة حازمة‪ ،‬وبعضهم نشأ صاحب األمر والنهي يف بيته‪.‬‬
‫العوامل التي تركت أثرها يف حياة األطفال متنوعة‪ .‬فهناك الطفل بني إخوته‬
‫وأخواته‪ ،‬وهناك الطفل الوحيد‪ .‬هناك األرسة املتامسكة املحتاطة يف تربية‬
‫أبنائها‪ ،‬وهناك األرسة املنحلة‪ ،‬التي انفصمت أوارص الود بني أفرادها‪.‬‬
‫هناك أيضا موقف األبوين من تربية الطفل‪ ،‬هل يتفقان ويتعاضدان‪ ،‬أو‬
‫يؤازر أحدمها الطفل أو ضعفه أمام اندفاعاته‪ .‬وجيد األطفال أنفسهم فجأة‬
‫أمام نظام مدريس‪ ،‬كأنام يقفون أمام حاجز قوي‪ .‬وهنا خيتلف رد فعل كل‬
‫طفل حسب ما ألفه يف البيت؛ فمن التالميذ من جيده أكثر ليونة وتفهام إذا‬
‫نشأ يف أرسة تسئ معاملة أبنائها‪ .‬ونتيجة لشعور األطفال‪ ،‬حيدث لبضعهم‬
‫أن ينفر من املدرسة بعدما جربه فيها‪ ،‬وقد يثور ثورة كبرية‪ ،‬ويرفض‬
‫العودة إليها‪ ،‬لكن أغلبية التالميذ ال تلبث أن تتكيف بنظام املدرسة‪ ،‬سيام‬
‫إذا كان القائمون فيها حيبون األطفال‪ ،‬وتألفه‪ ،‬ألن عامال ملطفا ساهم‬
‫يف ترويضهم‪ .‬والعامل امللطف هنا هو وجود أقران تربط بينهم أوارص‬
‫متينة‪ ،‬هيون معها القيام بأعامل ال تتفق وميول الطفل‪ ،‬أو ال تتفق وما تعود‬
‫أن يفعله‪ .‬وتساهم هذه األوارص الطبيعية يف هتذيب كل طفل‪ ،‬وتليني‬
‫طبعه حتى ال يصطدم بالرفاق‪ ،‬فرسعان ما يتعلم أن حيرتم رفاقه‪ ،‬ويرعى‬
‫حقوقهم حفظا ملودهتم‪ .‬وتكون هذه الرتبية االجتامعية نواة لألعامل‬

‫‪100‬‬
‫اإلرادية التي سيامرسها الطفل يوم تشتد نفسه‪ ،‬ويتوفر عىل العنارص‬
‫الرضورية هلذه األعامل‪ .‬وإىل هنا‪ ،‬ويف انتظار أن تتوفر العنارص املشار‬
‫إليها‪ ،‬فإن أعامل الطفل‪ ،‬وخضوعه للنظام املدريس ال تعد أعامال إرادية‪،‬‬
‫ألهنا فرضت من اخلارج‪ ،‬وألن الطفل ال يملك أن خيالفها‪ .‬ونحن‬
‫ناظرون كيف ختلق الظروف املواتية لبعث اإلرادة‪ ،‬وكيف تبنى هذه‬
‫اإلرادة داخل املدرسة‪ .‬سننظر أوال كيف يتكون رشط املعرفة‪ ،‬ثم كيف‬
‫تصبح هذه املعرفة حتت العامل املنفذ الذي نسميه اإلرادة‪.‬‬
‫إن معرفة األعامل وما ينتج عنها‪ ،‬ومعرفة األسباب واملسببات‪،‬‬
‫ومادة الدروس التي يتلقاها الطفل‪ ،‬ومادة التجارب التي مضت له‬
‫قبل أن يدخل املدرسة‪ .‬وكلام تقدم الطفل يف دراسته‪ ،‬امتدت هذه‬
‫املعرفة وشملت آفاقا جديدة‪ ،‬فيبدأ الطفل بمعرفة نتائج أعامله‪ ،‬وكيف‬
‫حتدث هذه النتائج‪ ،‬ويتعلم ملاذا حتدث هذه النتائج‪ .‬ثم يكتشف يوما‬
‫أن االعامل التي تصدر من الناس‪ ،‬ليست طبيعية هلم‪ ،‬كتحرك أغصان‬
‫الشجرة‪ ،‬أو كسري الضباب‪ .‬لكنهم يقومون هبا بعد أن يفكروا فيها‪.‬‬
‫وتعلمه قراءاته يف املدرسة‪ ،‬ودراساته فيها‪ ،‬أن أعامل الناس هلا ميزان‬
‫توزن به‪ ،‬وهو النتائج التي تلدها‪ ،‬يتعلم هذا بمناسبة ترصفه يف حجرة‬
‫الدرس‪ ،‬وبمناسبة األمثلة التي يقرأها‪ ،‬وبمناسبة االمتحانات التي‬
‫جترى له‪ .‬هذه املعرفة حيصل عليها الطفل تدرجييا ويف نفس الوقت الذي‬
‫يكتشف فيه قوته‪ ،‬ويكتشف فيها أنه قادر عىل تنفيذ األعامل التي يف‬
‫طاقته‪ .‬وتنمو هذه املعرفة باستمرار‪ ،‬عرب مراحل تكوين الناشئ‪ .‬لكن‬
‫هذا كله إنام هو شطر املعرفة التي هتيء العمل اإلرادي‪ ،‬كام يعنيه الذي‬
‫جيعله منوطا به مستقبل الطفل‪ .‬والشطر الثاين‪ ،‬هو معرفة قيمة النتائج يف‬
‫ميزان اخلري والرش‪ .‬وهذه هي الوظيفة األوىل لدرس األخالق‪ ،‬وبصفة‬
‫أخص‪ ،‬للتوجيه اخللقي الذي يعطيه املعلم‪ ،‬وللمثال احلسن الذي‬
‫يمثله بنفسه يف نظر تالمذته‪ .‬فبعد أن كان األطفال يف سنيهم األوىل‪،‬‬
‫يومرون وينهون‪ ،‬وال تعطاهم أسباب هذه األوامر لعجزهم عن فهمها‪،‬‬
‫جتيئهم املدرسة بطريقة جديدة يف تعضيد األوامر التي تعطيها إياهم‪،‬‬
‫إذ تفرس هلم األسباب وهتيئهم للدخول شيئا فشيئا يف النظام املدريس‪،‬‬

‫‪101‬‬
‫رافعة عنهم احلجر الذي كان مرضوبا عليهم‪ ،‬حتى بلغ هبم إىل الوقت‬
‫الذي يقبلون فيه النظام املدريس عن طواعية‪ ،‬غري ناظرين للقانون‬
‫املدريس الذي يبقى رمزا للنظام‪ ،‬وسالحا خمبوءا للطوارئ‪ .‬وباتساع‬
‫معرفة الطفل العامة‪ ،‬يزداد اطالعه عىل النظام االجتامعي املبني عىل‬
‫أساس مبدئي‪ :‬اخلري والرش‪ .‬فإذا بلغ علمه هنا فقد توفر عنده العنرص‬
‫األول الرضوري للعمل اإلرادي‪.‬‬
‫العنرص الثاين هو الدافع النفيس‪ ،‬أو القوة التي تغلب الرغبة الطبيعية‪،‬‬
‫هذه القوة تتفاوت يف الناس‪ ،‬وتبدأ كالكائن احلي ضعيفة‪ ،‬فإذا تعهدت‬
‫نمت‪ ،‬وإذا تركت مل تزل ضعيفة إن مل تضمحل‪ .‬والطفل‪ ،‬يف أول حياته‪،‬‬
‫حتكمه الغريزة يف كل أعامله‪ ،‬لكن من األعامل التي البد أن يقوم هبا‪ ،‬ما‬
‫ال يتناسب وميله الغريزي‪ .‬فإذا محل عىل فعلها مرات‪ ،‬نشأت عنده عادة‪،‬‬
‫وقام هبا بقطع النظر عن إحساسه نحوها‪ ،‬كأهنا أصبحت عملية ميكانيكية‪.‬‬
‫وجمموع العادات التي تعطى لكل فرد‪ ،‬سواء يف بيته‪ ،‬أو يف املدرسة بعد‬
‫ذلك‪ ،‬تكون اجلرثومة التي هتيء األعامل اإلرادية‪ ،‬بل تشبه أساسا ثابتا‬
‫هلذه األعامل‪ .‬إن أعاملنا اليومية لتشتمل عىل نشاطات ال نميل إليها فطريا‪،‬‬
‫لكننا نقوم هبا بحكم العادة‪ ،‬وبالتايل بسهولة‪ .‬وهكذا ينتقل الطفل بنفس‬
‫هذه السهولة من الدرجة األوىل وهي األعامل إطاعة للرغبة الطبيعية‪ ،‬إىل‬
‫العمل اإلرادي عرب املرتبة الوسطى التي هي العادة‪ .‬لكن أين الدافع الذي‬
‫حيرك الشخص من هذه املرتبة الوسطى‪ ،‬ويتقدم به للعمل؟ إنه يتكون من‬
‫الدوافع النفسية املختلفة‪ ،‬التي تزيد قوهتا أو تنقص حسب طباع الناس‪.‬‬
‫وأعم هذه الدوافع ذلك الذي نسميه شعورا بالواجب أو ضمريا‪ ،‬ويتكون‬
‫من إحساس املرء بحاجة إىل أن يبقى سويا مع نفسه‪ ،‬فكان الواجبالدوافع‬
‫للعمل اإلرادي ختتلف حسب مبادئها وغاياهتا‪ .‬وسنقترص عىل النظر ركنا‬
‫مهام لراحنه النفسية‪ ،‬عىل أن الدوافع العمل اإلرادي البناء‪ ،‬وإن كانت‬
‫أعامل املجرم والظامل تكون أيضا إرادية‪ .‬ومن أهم الدوافع التي تعتمد‬
‫عليها املدرسة حب النفس‪ ،‬فإن الواجبات املدرسية التي تقرتح عىل الطفل‬
‫قد تكون ثقيلة‪ ،‬لكن الطفل ينجزها رغبة يف نيل استحسان املعلم‪ ،‬أو خمافة‬
‫أن هتدر كرامته إن مل ينجزها ويوبخ‪ .‬كام أن املعلم عندما يكون يف قسمه‬
‫منافسة‪ ،‬يعتمد عىل نفس الشعور بحب النفس‪ ،‬ليندفع األطفال يتبارون‬

‫‪102‬‬
‫متى يثبتوا أن هلم من الصفات العقلية واإلرادية مثل ما لآلخرين أو‬
‫أحسن مما لآلخرين‪.‬‬
‫وفضيلة املدرسة الكربى يف تكوين اإلرادات القوية‪ ،‬املنرصفة إىل اخلري‪،‬‬
‫تقطن يف نظامها الذي تفرضه‪ ،‬ويف املثال احلسن الذي تضعه أمام األطفال‪.‬‬
‫فبهذين تكون العادات احلسنة‪ ،‬وتدعمها بشعور مثايل سام خيلق يف الطفل‬
‫شعورا بالواجب‪ ،‬وضمريا حيا‪ .‬وال ينقص من أعامل املدرسة يف هذا الباب‬
‫أهنا تعتمد عىل بعض الدوافع السيئة يف حد ذاهتا‪ ،‬كاملنافسة‪ ،‬وحب الذات‪،‬‬
‫ألن العربة بالنتيجة‪ .‬أفال نرى فيمن بنى لنفسه مستقبال كبريا رجاال انربوا‬
‫للعمل رغبة يف التفوق عىل غريم‪ ،‬أو ردا عىل إهانة أصابتهم؟‬
‫وإن املدرسة لتعطي للطفل فرصة ملبارشة نشاطات من شأهنا أن‬
‫تقوي اإلرادة بوجه من الوجوه؛ فهناك الرياضة البدنية‪ ،‬وهي بمثابة‬
‫مدرسة لتكوين اإلرادة‪ ،‬إذ تطلب من الطفل جمهودا متواصال‪ ،‬وضبطا‬
‫حلركاته‪ ،‬وصربا طويال أمام التعب‪ .‬وهناك أيضا دروس األشياء وأثرها‬
‫حيس ومعنوي يف هتيئ الفرد القوي اإلرادة‪ .‬إذ بواسطتها يطلع الطفل‬
‫عىل حقائق علمية تنري له طريق املعرفة‪ ،‬وتعلمه كيف يالحظ‪ ،‬وكيف‬
‫يصدر أحكامه عن روية وكل هذه رضورية يف تكوين الشخص الذي‬
‫خيطو اخلطوة ألنه يريد أن خيطوها لكنه يفعل ذلك عن تبرص وتدبر‪،‬‬
‫وطبق خطة مل ترسمها العاطفة املتوثبة‪ ،‬لكن رسمها العقل املستنري‪.‬‬
‫إذا عددنا مقومات الطبع اخلاصة بكل طفل‪ ،‬وتوسمنا من خالهلا‬
‫ما سيكون عليه يف مستقبل أيامه‪ ،‬فإن اإلرادة تدخل يف حسابنا يف‬
‫الصف األول‪ .‬ألن اإلرادة بمثابة العصب اجلامع‪ ،‬الذي يعطي‬
‫معنى للصفات الطبيعية األخرى‪ .‬وهي التي تكيف مواهب الفرد‪،‬‬
‫وتسدد فعاليتها نحو هدف معني‪ .‬بل إهنا لتعطي هلذه املواهب الفعالية‬
‫التي هبا تندفع‪ .‬والطفل إن كان قوي اإلرادة‪ ،‬إن عرفنا كيف نزوده‬
‫بإرادة قوية‪ ،‬تنفتح أمامه إمكانيات كثرية‪ ،‬كان يقف دون حتقيقها‬
‫عاجزا لو مل يكن ذا عزم وإقبال‪ .‬يمكن أن نستبرش بمستقبل هذا‬
‫الطفل‪ ،‬ألن عزيمته ستذهب به إىل األعامل العظيمة‪ ،‬وستسلح كل‬
‫طاقاته يف سبيل هذه األعامل‪ ،‬ستعطيه الصرب والثبات‪ ،‬وستعطيه‬

‫‪103‬‬
‫اإليامن بأنه ناجح‪ ،‬وستشد مهته حتى يظن أنه سيأيت املستحيالت‪ ،‬وقديام‬
‫هم أن يفعل»‪.‬‬
‫قالوا‪« :‬يكاد من ّ‬
‫وفضل املريب عىل الطفل قوي اإلرادة ثابت‪ ،‬ألنه زوده باملعرفة التي‬
‫توضح له الطريق‪ ،‬وأرشده إىل مناهج الرشف‪ ،‬وعلمه كيف خيطط اخلطط‬
‫وينفذها‪ ،‬وكيف يعتمد عىل نفسه‪ ،‬ثم أعطاه أمثلة إنسانية تستحق أن‬
‫يقلدها‪ ،‬وحيذو حذوها‪ .‬وكون فيه عزما قويا عىل أن يبلغ أسمى ما يمكن‬
‫أن يطمح إليه فرد مثله‪ .‬نعم‪ ،‬يبنى املريب عىل أساس فطري‪ ،‬ال يمكن‬
‫للرتبية أن متسه يف جوهره‪ ،‬لكنها تنمي إمكانياته القارصة‪ ،‬وتقوي جوانبه‬
‫الضعيفة إىل حد ال ينكر‪ .‬وإن كانت الرتبية ال ختلق أديسون أو نابليون‬
‫كلام أحبت ذلك‪ ،‬لكنها تكون مجاعات العلامء واملكتشفني والقواد الذين‬
‫يفخر هبم جيلهم‪ ،‬وهكذا يمكن للمريب أن يؤكد بأنه قادر عىل تزويد‬
‫الطفل بإرادة قوية‪ ،‬وأن مستقبله منوط باإلرادة التي زوده هبا‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫املوضوع ‪:10‬‬
‫الطفل يتكيف بالواقع شيئا فشيئا‪ ،‬بني دور اخليال يف هذا التكيف وبني‬
‫كيف هتذب خيال الطفل يف املدرسة‪.‬‬

‫أ‪ -‬فهم املوضوع‬


‫السائل ال يطلب إلينا رشحا‪ ،‬وإنام يضع سؤاليه بعد مجلة تؤكد حقيقة‬
‫مفروغا منها‪ .‬فيبدو ألول نظرة أن ال حاجة إىل احلديث عن التكيف‬
‫ومغزاه يف نشوء احلدث‪ .‬والنظرة الثانية تظهر أن احلاجة ماسة إىل تقديم‬
‫مقالنا بعرض موجز عن حقيقة التكيف وغاياته‪ ،‬ونتائجه يف حياة الطفل‬
‫صغريا وراشدا‪.‬‬
‫السؤال االول يطلب إلينا بيان الوظيفة التي يقوم هبا اخليال يف هذا‬
‫التكيف‪ ،‬ولكي يكون البيان كامال‪ ،‬نعطي نظرة موجزة عن عوامل‬
‫التكيف األخرى‪ ،‬ونربز بعدئذ اخليال لنعني مكانته من بني هذه العوامل‪،‬‬
‫برشط أن يبقى اهتاممنا قبل كل يشء متعلقا بالدور الذي يلعبه اخليال‪.‬‬
‫السؤال الثاين ينظر إىل املوضوع من زاوية أخرى؛ النقطة األوىل تعترب‬
‫اخليال وسيلة للتكيف‪ ،‬وتريد منا أن نتحدث عنه باعتبار كونه وسيلة‪،‬‬
‫والنقطة الثانية تنظر إليه عىل أنه غاية يسعى لتهذيبها‪ ،‬وتريد منا أن نكتب‬
‫عن أمهية اخليال كام تفهمها املدرسة‪ ،‬وعن الطرق العملية‪ ،‬التي تستعملها‬
‫هذه لتهذيبه‪ .‬وسيكون هذا التحول املفاجئ يف التفكري‪ ،‬منطقة التحول‬
‫العويصة يف كتابة املوضوع‪ ،‬بسبب كون اجلزء األول نظريا أكثر منه عمليا‪،‬‬
‫وكون اجلزء الثاين عمليا يف الدرجة األوىل‪ .‬وبسبب أن اخليال اعترب من‬
‫وجهني‪ ،‬اعتربناه يف السؤال األول‪ ،‬كعامل يقوم بوظيفة خاصة نبني كيف‬
‫يقوم هبا‪ ،‬بينام نعتربه يف السؤال الثاين كملكة قابلة للتهذيب‪ ،‬تتطلب من‬
‫املدرسة أن تعطيها ما تستحقه من اهتامم‪ ،‬ونبني كيف تفعل املدرسة للقيام‬

‫‪105‬‬
‫هبذا العمل‪ .‬ويف مثل هذه املناسبة‪ ،‬ينبغي أن نجد وسيلة لكتابة مفصل‬
‫يربط بني النقطتني‪ ،‬دون أن يكون انقطاع مفاجئ يرض وحدة املقال‪.‬‬

‫ب‪ -‬التصميم‬
‫* التكيف واخليال‬
‫* كيف أهذب خيال الطفل يف املدرسة‬

‫ج‪ -‬التصميم املفصل‬


‫* التكيف ورضورة حتقيقه‪ -‬الطفل أمام الواقع‪ -‬حب االطالع‬
‫والتجارب والتقليد‪ -‬الواقع كام يراه الطفل‪ -‬خيال الطفل‪ -‬اخليال‬
‫والتكيف‪ -‬اخليال عامل ملطف يف عملية التكيف‪ -‬اخليال يريض بعض‬
‫رغبات الطفل وينضجها لتتكيف‪.‬‬
‫* هتذيب اخليال وتنميته‪ -‬هتذيب اخليال تكميال للتكيف‪ -‬اخليال‬
‫التذاكر يف التامرين املدرسية‪ -‬اخليال املنشئ يف متارين القراءة واملحفوظات‪.‬‬

‫د‪ -‬اإلنشاء‬
‫اإلنسان اجتامعي بطبعه‪ ،‬وهلذا عاش الناس مجاعات‪ ،‬وأسست كل‬
‫مجاعة حضارة هلا قوانينها التي تسريها‪ ،‬وضوابطها التي تضمن حقوق‬
‫اجلامعة وحقوق األفراد‪ ،‬ومتيز واجبات كل فرد داخل اجلامعة‪ .‬فإذا نفر‬
‫فرد ما من هذه الضوابط وخرج عليها نبذ وطرد‪ ،‬وفقد مكانه يبن مجاعته‪.‬‬
‫واملريب يقوم بتهيئ الوحدات التي يتكون منها املجتمع‪ ،‬فال غرو أن أن‬
‫يتوخى صالحية كل واحد ليحل مكانا يف املجتمع‪ ،‬أو بعبارة أخرى يتوخى‬
‫أن يكون كل واحد متكيفا بالنظام االجتامعي الذي سيندمج فيه‪ .‬رشط‬
‫البد من حتقيقه‪ ،‬وإال باءت الرتبية بالفشل‪ ،‬وفقد املريب وظيفته‪ .‬واألنظمة‬
‫التعليمية تساهم بنصيب وافر يف عملية تكييف الناس‪ ،‬وهلذا يتفق املربون‬

‫‪106‬‬
‫واملعلمون عندما حيددون هدف أعامهلم ويقولون بأن املدرسة ترمي‬
‫لغرض سام هو هتيئ املواطن الصالح‪ .‬فكل جمهودات املدرسة متجهة‬
‫هلذه النهاية‪ ،‬سواء يف أعامهلا الدراسية أو تأثرياهتا الرتبوية‪ .‬ال تألو املدرسة‬
‫جهدا يف سبيل ذلك‪ ،‬فتجند إمكانياهتا لصنع عقل ذي ملكات خصبة‪،‬‬
‫وحواس ذات مهارات يمكن االعتامد عليها‪ ،‬وطباعا متساوية اجتامعية ال‬
‫تنبو عن نوع احلياة التي تنتظر صاحبها‪ .‬وملا كانت املدرسة تشعر بضخامة‬
‫مسؤوليتها فقد احتاطت عندما وضعت خططها الكفيلة بتبليغها اهلدف‪،‬‬
‫ونظرت يف كل ما يمكن أن تعمله لتتجنب العثرات‪ ،‬فكان من بني ما‬
‫قررته‪ ،‬أن التكيف يكون شيئا فشيئا‪ ،‬وأن للخيال دورا يعلبه يف هذه‬
‫العملية‪ .‬فكيف يكون أثر اخليال يف صنع أفراد متكيفني؟ وكيف يتأتى‬
‫للمعلم أن يساعد خيال الطفل وهيذبه ليؤدي مهمته اخلطرية؟‬
‫خيلق اهلل الناس عرايا من كل املؤهالت الكفيلة بضامن حياهتم‪.‬‬
‫يعيشون فرتة طويلة عالة عىل من يطعمهم وحيميهم‪ ،‬ال يقدرون عىل‬
‫خري يكسبونه‪ ،‬وال رض يدفعونه‪ .‬وخالل هذه الفرتة يتعلمون طريقة‬
‫احلياة اخلاصة بالوسط الذي نشأوا فيه‪ .‬فإذا شبوا واشتد ساعدهم‪،‬‬
‫شاركوا مجاعتهم يف الكسب ودفع األذى‪ ،‬وكانوا أعضاء ذوي حقوق‬
‫وواجبات ويؤدوهنا راضني‪ .‬فرتة الطفولة كلها يقضيها الفرد ليصل‬
‫إىل اليوم الذي يعرتف به عضوا يف املجتمع‪ ،‬مستعدا‪ ،‬يتسلح بمهنة‬
‫نافعة‪ ،‬ويتحىل بالصفات العقلية والطبيعية املرغوب فيهام من لدن‬
‫بيئته‪ .‬وليس طفل اإلنسان كصغار احليوان جيئ إىل الدنيا ومعه جهاز‬
‫كامل من الغرائز يكفيه ليعيش نفس العيشة التي عرفها أجداده‪ ،‬بعد‬
‫فرتة قصرية إذا قيست بطفولة اإلنسان‪ .‬وإن الطفولة بام تتسم به من‬
‫مرونة وحيوية؛ مرحلة رضورية لصوغ القابليات الفردية‪ ،‬وحتويلها تبعا‬
‫للصورة التي ينبغي أن يكون عليها الطفل إذا رشد‪ .‬وكام تتنوع حياة‬
‫اجلامعات وختتلف‪ ،‬تتنوع قابليات األفراد للتكيف ومتتد صالحياهتم‪،‬‬
‫بحيث يمكن للرتبية أن تصنع منهم أي نموذج تشاء‪ .‬ومن هذا كانت‬
‫مهمة املريب أمانة ثقيلة‪ ،‬إذ بيده يمسك مستقبل األفراد‪ ،‬ومستقبل‬
‫اجلامعات يف آن واحد‪ .‬فإذا كان خملصا ملجتمعه‪ ،‬ساهم يف الصف األول‬

‫‪107‬‬
‫ليدعم جمتمعه وحيافظ عليه‪ ،‬وإال أمكنه أن يبدأ االنحراف من أسفل‪،‬‬
‫ويصنع جيال عىل شكل فكره هو‪ ،‬وإن مل يكن موافقا للمثال الذي اقرتح‬
‫عليه‪.‬‬
‫هذا هو املريب الذي يستقبل األطفال‪ ،‬وينظر ليستقرئ ما عندهم من‬
‫معرفة بالعامل‪ ،‬واستعداد ليستفيدوا من النشاط الذي يوجهه‪ .‬يرى طفال‬
‫نشأ ال هيتم بيشء‪ ،‬وجد أمامه أرسة يعرفها اآلن مم تتكون‪ ،‬ويعرف نوع‬
‫العالقات التي بني أفرادها‪ ،‬وحيس بالرباط العاطفي الذي يربطه إليهم‪.‬‬
‫ووجد أمامه أفقا أوسع من البيت‪ ،‬يتسع أللعابه‪ ،‬ويرس ملا يكتشف فيه‬
‫كل يوم من جديد‪ ،‬رفاق وألعاب‪ .‬ويرى املريب يف طفله استعدادا لبدء‬
‫كل حماولة من شأهنا أن تشبع رغبته يف االطالع‪ ،‬وقابلية إلجراء أي جتربة‬
‫عملية جيد الفرصة مناسبة هلا‪ .‬ويرى املريب‪ ،‬يف كلمة واحدة‪ ،‬طفال حيب‬
‫واقعه‪ ،‬ويتحرك فيه بحرية وانطالق‪ .‬أو بمعنى آخر طفال متكيفا بواقعه‪.‬‬
‫ويف نظر املريب أن صفات هذا الطفل تدل عىل أنه طبيعي‪ ،‬وعىل أنه مادة‬
‫صاحلة للرتبية‪ ،‬صاحلة للدخول يف طريق التكيف احلقيقي الذي تريده‬
‫املدرسة‪ .‬فإذا حكم املريب هبذا بدأ نشاطه وهو عىل بينة من أمره‪ .‬يعرف أن‬
‫الطفل ال ينظر إىل الواقع نظرتنا نحن الكبار‪ ،‬بل ينظر إليه بعني ليست هلا‬
‫خربتنا وال جتاربنا‪ ،‬وليس يعضدها عقل له تكوين كتكويننا‪ .‬غاية ما عنده‬
‫املعرفة التي جاءته عن طريق حواسه غري القوية‪ ،‬غري املهذبة؛ فهي معرفة‬
‫سطحية‪ ،‬ال تنفذ إىل احلقائق‪ ،‬وال متيز األسباب واملسببات‪ .‬وغاية ما عنده‬
‫علم نتج عن جتاربه الكثرية‪ ،‬لكن العديمة اجلدوى نظرا إىل الرغبة العابرة‬
‫التي نشأت عنها‪ ،‬ونظرا إىل أهنا أيضا سطحية بمقتىض ضعف الوسائل‬
‫التي سخرت لتحقيقها‪ .‬وغاية ما عنده من مهارة أعامل قلدها ونقلها عن‬
‫أقرانه أو عمن يعرفهم من الكبار‪ .‬وكل هذه جمتمعة تكون الفكرة التي يف‬
‫ذهن الطفل عن الواقع‪ .‬فهو يراه مزجيا من احلقيقة‪ ،‬ومزجيا من رغباته‪.‬‬
‫شطر منه تكونه األشياء واألحداث التي وقعت‪ ،‬وشطر آخر يتكون من‬
‫األشياء واألحداث التي صاغها خياله‪ .‬فعامله جمموعة من املعارف احلقيقية‪،‬‬
‫واخلياالت احلرة‪ ،‬تسبح يف آفاق غري واضحة يترصف فيها هواه ترصفا حرا‬

‫‪108‬‬
‫رأى املريب استعدادات الفرد‪ ،‬وقابلياته ليتكيف حسب القانون الرتبوي‪،‬‬
‫ورأى أيضا النقطة التي منها يبدأ تكيف الطفل‪ ،‬أال وهي نظرته اخليالية‬
‫إىل الواقع‪ .‬والحظ املريب املكان الذي خييله اخليال يف واقع الطفل‪ ،‬فامذا‬
‫سيفعل؛ أيضع الطفل وجها لوجه أمام احلقائق‪ ،‬ويعمل جادا لكي ينهي‬
‫سلطان اخليال يف دنياه‪ ،‬ويطرد هذا اخليال؟ أم يتعهده ويسخره ليسهل‬
‫عىل الطفل العملية الطويلة التي يتقدم نحوها؟ البد أن يبت يف األمر‪،‬‬
‫ويدبر خططه عن بصرية‪ .‬إن املريب يعرف أن خيال الطفل واه‪ ،‬لضعف‬
‫معينه الذي يستمد منه‪ ،‬جتربته قليلة وإدراكه قليل‪ ،‬فال جيد جناحا حيلق‬
‫به كام يفعل خيال الشاعر أو الكاتب‪ .‬وعقله ملا يتكون وملا ينضج ليسعف‬
‫خياله فيكون كخيال العامل املخرتع‪ .‬إنام يقلد ما يعرفه‪ ،‬ويستعري منه أجزاء‬
‫يعيد تركيبها كام حيلو له‪ ،‬فيتخيل أحداثا بعيدة عن املألوف‪ ،‬لكنها ضعيفة‬
‫النسج‪ ،‬ال تتوفر عىل خيط واحد من خيوط املنطق‪ .‬ومع هذا فإن اخليال هو‬
‫العامل امللطف الذي خيفف االصطدامات التي تكون عنيفة عىل الطفل‬
‫لواله‪ .‬تتدخل عاطفته فيتخيل أمه أمجل األمهات وألطفهن‪ ،‬وإن كانت‬
‫يف الواقع قبيحة عنيفة‪ ،‬ويتخيل أباه أقوى الرجال وأغزرهم علام‪ ،‬وإن‬
‫كان يف الواقع ضعيفا جاهال‪ .‬يتصور أن قصبته التي يركبها فرس مطهم‪،‬‬
‫ويعيش باخليال ما مل جيد وسيلة ليعيشه حقا‪ .‬ويف كل هذه التحويالت جيد‬
‫لذة تريض حاجته إىل األمن‪ ،‬وتريض ميوله الطبيعية‪ .‬وإىل جانب وظيفته‬
‫كحاجز يقي الصدمات‪ ،‬فإن اخليال يشرتك يف تنمية امللكات‪ ،‬وهييئها مللء‬
‫الفراغ الذي جيب أن يمتلئ استعدادا للتكيف الكامل‪ ،‬ويساهم يف إنضاج‬
‫الطبع وتقويته‪ .‬إن الطفل حيتاج إىل خيال قوي ليتذكر ما تعلمه وليبني عىل‬
‫ما يتذكره‪ ،‬ويستنتج منه‪ .‬إنه حمتاج إىل ساعات ينفق فيها فيضه العاطفي‪،‬‬
‫فيجد اخليال الوسيلة الوحيدة لرصف هذا الفيض‪ .‬ولذا يستمع بلذة كبرية‬
‫إىل األقاصيص التي ختربه بمغامرات تثري عجبه‪ ،‬ويستمع إىل اخلرافات‬
‫التي متلك نفسه‪ ،‬ويستمع إىل حياة الرجال ونشاطهم‪ ،‬ويشاركهم‬
‫بخياله ما يفعلونه‪ ،‬وواضح ما لكل هذه االنفعاالت من أمهية يف تكوين‬
‫الشخص السوي الذي ال يرى الواقع بنظرة جافة فيكون متشائام‪،‬‬
‫وال يراها بنظرة متعالية يف اخليال‪ ،‬فيكون كثري التفاؤل قليل اجلدوى‪،‬‬

‫‪109‬‬
‫الشخص الذي نصفه يف كلمة واحدة فنقول متكيف‪.‬‬
‫وبعد هذه االعتبارات ماذا سيفعل املريب باخليال؟ لقد رأى دوره يف‬
‫هتيئ التكييف‪ ،‬فال يسعه أن جيهله‪ ،‬وال يكفيه أن يتقبله كام هو إذا اقتنع‬
‫بأمهيته‪ ،‬وإنام البد أن يتناوله بالتهذيب ليكون من االعتدال بحيث ال‬
‫يبعد الطفل عن الواقع‪ ،‬وبحيث ال يكون حشية لينة‪ ،‬يفزع إليها الطفل‬
‫كلام دمهه الواقع‪ .‬يتناول املريب اخليال‪ ،‬وهيذبه‪ ،‬ليخفف الصدمات دون‬
‫أن يكون مانعا من التجارب الرضورية التي قد تكون قاسية‪ ،‬وقد يكون‬
‫من الواجب أن ينظر إليها بنظرة موضوعية‪ ،‬ويتناول املريب خيال الطفل‬
‫بالتنمية ليكون خياال قويا يصح أن يعتمد عليه صاحبه يف حياته املهنية‬
‫واالجتامعية‪ ،‬ليكون يف األوىل أكثر جدوى يف عمله‪ ،‬ويف الثانية أكثر حيلة‬
‫يف مسايرة الناس وتوطيد مكانته بينهم‪.‬‬
‫أما هتذيب اخليال‪ ،‬فإن االلتزامات التي تفرضها احلياة عىل الطفل‬
‫تقوم بنصيب كبري منه‪ .‬فكلام مجح به اخليال ردته إىل احلقيقة بسريها‬
‫احلثيث الذي ال يمهل‪ .‬وتقوم الرتبية بنصيب ثان ال يقل أمهية عن األول‪.‬‬
‫ونشري إىل رضورة أخذ يد الطفل يف مرحلته األوىل‪ ،‬واطالعه عىل احلقائق‬
‫شيئا فشيئا كلام ملسنا منه القدرة عىل فهمنا‪ ،‬كاشفني له الغطاء عام كان‬
‫يف عينه من قبل رسا ال ينفذ إليه‪ .‬برشط أال نتعجله ونأخذه بالقسوة‪،‬‬
‫ونفجعه يف صور خيالية يطيب له أن يركن إليها من وقت آلخر‪ .‬وبعبارة‬
‫أخرى؛ نحاول أال نشتط بداعي هتذيب اخليال‪ ،‬وننفي من حياة الطفل‬
‫قبل األوان‪ ،‬كل لفتة خيالية وهبتها له الطبيعة لتقوم بدور احلاجز امللطف‬
‫كام كتبت‪ .‬فمن احلمق مثال أن نقتحم عىل الطفل ساعات مرحه‪ ،‬وندخل‬
‫لعبه لنرشح له أن دميته ال تأكل كام يتصور‪ ،‬وال تصيح كام يتصور‪ ،‬ونزعم‬
‫لنفسنا أننا نساهم يف تربية الطفل بتهذيب خياله‪ .‬ويصح أن نعمل مثل‬
‫هذا إذا كان الطفل يلعب لعبا ال تناسب سنه‪ ،‬كأن يكون مراهقا‪ ،‬ويلعب‬
‫بالدمى‪ ،‬ويف هذه احلالة نستطيع أن نجزم بأن األمر يدعو إىل تدخلنا‪،‬‬
‫ويربره الشذوذ البني يف لعب الطفل‪.‬‬
‫هتذيب اخليال إذا جيب أن يميش يف اعتدال مراعاة لقدرة الطفل‬

‫‪110‬‬
‫عىل الفهم‪ ،‬وحفظا لنموه الطبيعي أن تعرقله أزمة عاطفية من جراء شدتنا‬
‫يف وضعه أمام احلقائق‪ .‬وقرأنا يف الصحف واملجالت تعليقا عن الطفل‬
‫األمريكي الذي أصبح يعتقد نفسه آلة‪ ،‬ويرفض أن يتحرك إن مل يعامل كام‬
‫تعامل اآلالت‪ ،‬ويرفض أن يأكل إال أن يزعم له أن الطعام بنزين‪ ،‬ويوصل له‬
‫هذا الطعام بواسطة أنبوب كام يفعل لآللة‪ .‬ومثال هذا الطفل يبني لنا املكانة‬
‫التي للخيال يف هتيئ التكيف؛ فقد هذا الطفل كل قدرة عىل إدماج حياته‬
‫يف إطار عاطفي مع واقعه‪ ،‬فاصطدم اصطداما عنيفا بواقع ملئ باآلالت‬
‫وأجزائها؛ وتوافق مع واقعه توافقا كامال فقد معه شخصيته‪ .‬وإن كانت‬
‫هذه حالة استثنائية‪ ،‬فإن كل طفل يمكن أن ينحرف عن طريق التكيف‪،‬‬
‫وينزلق يف إحدى الوجهتني املتعارضتني‪ ،‬فإما أن يفقد شخصيته ويتوافق‬
‫مع الواقع‪ ،‬وإما أن يرفض هذا الواقع رفضا‪ ،‬وخيلق لنفسه عاملا خياليا‬
‫يصطنعه بدال من الذي نبذه‪ .‬ويف كلتا احلالتني خطر شديد عىل مستقبل‬
‫الطفل‪ ،‬إذ أهون ما يصيبه أن يغدو واحدا من هؤالء الشواذ الذين تبنى‬
‫املؤسسات لعالجهم‪ .‬النتيجة رهن بتعديلنا للميزان‪ ،‬وجتهيز الطفل بمعرفة‬
‫للواقع مناسبة‪ ،‬ال تفرط يف صبغ األشياء بغري صبغتها‪ ،‬وال تفرط فتنفى‬
‫من حياة الطفل اللمسات اللطيفة التي تبتهج هبا ساعاته‪ .‬واحلكمة أن نرتك‬
‫الطفل عىل شاكلته‪ ،‬ونالحظه من بعيد لئال يبدو عليه انحراف مكشوف‪،‬‬
‫ونستغل أسئلته التي تأيت عفوا؛ فنجيب عنها بام جييل األشياء أمام ناظريه‪.‬‬
‫وهتذيب اخليال يف املدرسة‪ ،‬تساهم فيه الدروس املختلفة‪ ،‬ال سيام دروس‬
‫األشياء واحلساب؛ ألهنا تنمي مالحظة الطفل‪ ،‬وتعوده التدقيق يف احلكم‪،‬‬
‫وتوخي الصواب‪ .‬فإذا كان الطفل قبل املدرسة ينظر إىل األشياء معتربا‬
‫وظائفها‪ ،‬أو معطيا هلا وظائف جديدة يف لعبه‪ ،‬فإنه يف املدرسة يتعلم وظيفة‬
‫األشياء احلقيقية‪ ،‬ويتعلم كيف جيمعها حسب أجناسها‪ ،‬وكيف حيسبها‬
‫وحدات وعرشات‪ .‬ويتعلم كيف يالحظ أجزاءها وكيف ترتكب‪ ،‬وما‬
‫هي خصائصها‪ .‬كل هذا بتدقيق ال يرتك جماال للخيال‪ ،‬بل تكون به هذه‬
‫الدراسات أساسا للمعلومات املوضوعية تعد الفرد الذي يعيش ورجله‬
‫ثابتة يف األرض‪ .‬وإن يف نظام املدرسة نفسه من الضبط والدقة ما جيعله عامال‬
‫مهام يف هتذيب خيال األطفال‪ .‬يضع هلم حدودا راسية‪ ،‬ما بيدهم إال أن‬

‫‪111‬‬
‫يقفوا عندها‪ ،‬ويفرض عليهم أعامال البد أن يقوموا هبا‪ .‬املعلم يقدر‬
‫جمهوداهتم بدون أي اعتبار عاطفي‪ ،‬ودون أن يغلط يف تقديره‪ ،‬فال‬
‫يمكنهم أن يتخيلوا أن يوم االثنني‪ ،‬لن تبدأ املدرسة إال يف احلادية عرشة‪،‬‬
‫أو أن يتصور الكسول منهم أن املعلم لن ينظر غلطاته يف التمرين‪ ،‬أو‬
‫أنه سيكافئه رغم هذه األغالط مكافأة حسنة‪ ،‬نظرا ألنه لبس اليوم ثوبا‬
‫جديدا‪ .‬نظام املدرسة يتناىف مع اخليال ويفرض الرجوع إىل الواقع‪ ،‬بام‬
‫فيه من ضبط‪ .‬لكنه يشكل خطرا عىل تكيف الطفل‪ ،‬إن مل يسلك سبيل‬
‫الرشد‪ ،‬واتصف بالعنف والشدة‪ .‬ألنه إن فعل‪ ،‬يوشك أن يصدم الطفل‬
‫ويكرس عفويته‪ ،‬فيدخله اخلوف‪ ،‬ويعجز عن الثبات يف النقطة الوسطى‬
‫التي عندها التكيف الكامل‪ .‬والبد أن يتسع حزم املدرس‪ ،‬ليشمل‬
‫التلطف الرضوري عند األزمات‪ ،‬ويتسع نظره ليستبق هذه األزمات؛‬
‫فيبقى للمدرسة جمدها يف نظر األطفال‪ ،‬وحيتفظوا هلا يف أنفسهم باهلالة‬
‫التي جتعلها لدهيم قمينة باملحبة‪.‬‬
‫وأن املدرسة ال ينبغي أن تكتفي بتهذيب خيال الطفل ورعايته من أن‬
‫جيرفه تيار املعرفة العملية‪ ،‬فتجرف معه هذه الواسطة امللطفة التي أرشنا‬
‫إليها‪ ،‬بل البد أن تنمي املدرسة اخليال‪ ،‬ألنه ملكة مهمة من ملكات العقل‪،‬‬
‫عليها يتوقف نضجه‪ ،‬وألنه البد أن يستمر يف أداء مهمته االوىل يف سبيل‬
‫التكيف‪ .‬ونرى أن اخليال‪ ،‬سواء منه اخليال التذكاري أو اخليال التصويري‪،‬‬
‫طاقة يرجع إليها العقل يف أكثر أعامله أمهية وهي التفكري‪ .‬عندما يفكر‬
‫املرء حيتاج إىل قدرة عىل تصور املوضوع الذي يفكر فيه‪ ،‬وختيل احللول‬
‫التي ينبغي أن ينتهي إليها‪ ،‬وختيل الوسائل التي هبا يبلغ إىل هذه احللول‪.‬‬
‫كام أنه عندما يصدر أحكامه يرجع إىل ذاكرته فيسرتجع‪ ،‬بواسطة اخليال‬
‫التذكاري‪ ،‬املعرفة التي حيتاجها‪ .‬وكال اخليالني ينمي بواسطة التامرين‬
‫املدرسية املتنوعة‪ ،‬فتامرين اإلمالء والشكل والنحو تعتمد قبل كل يشء‬
‫عىل اخليال التذكاري‪ ،‬بينام يكون اإلنشاء مترينا حسنا للخيال التصوري‪.‬‬
‫وهذه التامرين حتث اخليال وتدققه بام تتخذه من أشكال‪ .‬فتامرين ملء‬
‫الفراغ تنمي قدرة العقل عىل مالحظة ما بني جزئي اجلملة من شبه‪ ،‬وقدرته‬
‫عىل ختيل أحسن الطرق بينهام‪ ،‬ومتارين احلساب الرسيع تنمي قدرته عىل‬

‫‪112‬‬
‫حل املشاكل بتخيل مستمر للوحة ومهية تتتابع األرقام والعالمات عىل‬
‫وجهها‪.‬‬
‫الذي تعلمه املدرسة زيادة عىل هتذيب اخليال هو تنميته حتى يقوى‬
‫ويصلح ألداء مهمته أداء جيدا‪ ،‬وليس هناك أي تعارض ين العمليتني‪،‬‬
‫ألن التهذيب يشذب اجلوانب الفجة من اخليال‪ ،‬ويسعى لوضع فاصل‪،‬‬
‫حيس به الطفل‪ ،‬بني الواقع احلقيقي والعامل اخليايل‪ .‬ومن اجلهة الثانية‬
‫تنمي املدرسة اخليال سامية به شيئا فشيئا ليستجيب يف كل حلظة للجوع‬
‫العاطفي الذي يشعر به كل أحد‪ ،‬للحظات خيالية يتنفس فيها بحرية‬
‫تامة‪ .‬ويف دروس القراءة‪ ،‬إذا اختري الكتاب أو الكتب‪ ،‬ثروة كبرية من‬
‫القصص املفعمة بخيال مجيل‪ ،‬وفوق هذه القصص درجة بل درجات‪،‬‬
‫الشعر أو القطع الفنية التي تعطي للطفل حسب نضجه واهتاممه‪ .‬ويف‬
‫متارين اإلنشاء نفسها‪ ،‬جمال واسع يمرح فيه خيال الكاتب الصغري‪ ،‬وجيد‬
‫فيه فرصة ليحكي ذات نفسه‪ ،‬ويرشكنا يف الصور الربيئة التي تقف وسطا‬
‫بني الواقع واخليال إن كان املوضوع يناسب ذلك‪ ،‬أو نتلمس طريقها‬
‫لتكون موضوعية إن كان املوضوع يريد أن تكوهنا‪.‬‬
‫شيئا فشيئا يتكيف الطفل‪ ،‬وشيئا فشيئا يستعد ليحتل مكانته يف املجتمع‪،‬‬
‫وعملت الرتبية كل ما يف وسعها ليكون التكيف كامال‪ ،‬ولتخرج من يدها‬
‫أشخاصا أسوياء يقوون عىل حتمل املسؤوليات‪ ،‬ويقوون عىل إصدار‬
‫أحكام مطابقة للواقع‪ ،‬مل يضعف هبا اجلبن النفيس فتقرص عن احلقيقة‪ ،‬ومل‬
‫جيمح هبا العامل الشخيص فتعدوها‪ .‬وعملت الرتبية يف هتذيب ملكات‬
‫األفراد وتنميتها‪ ،‬ومن بينها اخليال‪ ،‬ألن اخليال‪ ،‬يف مرحلة الطفل األوىل‪،‬‬
‫يمثل درجة يف فهم الفرد للواقع‪ ،‬البد أن يمر منها قبل أن يفتح عقله إلدراك‬
‫أكثر موضوعية‪ .‬وبالتدريج تقنن املدرسة مقدار اخليال الذي يمكن أن‬
‫يستمر يف حياة الطفل‪ ،‬فتحد منه إن وجب‪ ،‬وتنميه ومتده إن اقتىض احلال‬
‫أن تفعل‪ .‬وخالل هذا تريب اخليال لتقوي ملكات العقل‪ ،‬وهتيئ الفرد الذي‬
‫قد يعتمد عىل خياله إذا خرج مليدان العمل‪ ،‬فيكون رساما أو موسيقيا أو‬
‫عاملا بحاثا‪ .‬وخالل هذا تسمو باخليال وتغذيه بكل ما من شأنه أن يرفعه‬
‫إىل اآلفاق اإلنسانية العليا‪ ،‬يف عرصنا هذا الذي سادت فيه العلوم التجريبية‬

‫‪113‬‬
‫املبنية عىل املالحظة املوضوعية الدقيقة واملبنية‪ ،‬يف امليدان االجتامعي‪ ،‬عىل‬
‫التنافس والتسابق للفوز بالنجاح االجتامعي‪ ،‬هتيئ الرتبية األشخاص‬
‫املتينني املتكيفني بالواقع‪ ،‬لكنهم يبقون أشخاصا إنسانيني مل ينشأوا يف‬
‫جو جاف من كل عاطفة وخيال‪ .‬ويف عرصنا هذا الذي سادت فيه أنواع‬
‫اخليال السوقي من روايات مبتذلة‪ ،‬وسينام رخيصة‪ ،‬وتلفزيون جتاري‪،‬‬
‫تعطي الرتبية للناس ذوق خيال أسمى‪ ،‬وتعيد إىل القصة اجلميلة‪ ،‬والشعر‬
‫احلسن مكانتها األوىل بني القيم اإلنسانية‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫املوضوع رقم ‪11‬‬
‫تتحدث كتب علم النفس عن النمو ومراحله؛ فامذا يعنون بالنمو‬
‫ومراحل النمو‪ ،‬وما هي هذه املراحل وخصائصها؟ وكيف تستفيد من‬
‫معرفتها يف تعليمك؟‬

‫أ‪ -‬فهم املوضوع‬


‫املوضوع واسع جدا‪ ،‬يؤكده أن السائل اعتمد يف صيغته املراجع‬
‫املكتوبة‪ ،‬فكأنه يريد منا أن نفيض القول كلام قدرنا أن نفيض‪ .‬ويبدأنا‬
‫السائل باالستفهام عن املعنى الذي تقصده الكتب عندما تقول "نمو"‬
‫وعندما تقول "مراحل"‪ .‬وطبقا لسؤاله‪ ،‬سنبدأ برشح ملعنى الكلمتني‪،‬‬
‫ونتحدث عن النمو كظاهرة طبيعية للكائن احلي‪ ،‬ونتحدث عن النمو‬
‫بالنسبة لإلنسان وكونه شامال يعم جسمه ومعناه‪ ،‬ونبني كيف حيدث‬
‫هذا النمو بنوعيه‪ .‬ثم نرشح كلمة مراحل ونبني أن كلمة املرحلة تتقدم‬
‫للعقل بصورة حمدودة معروفة البداية والنهاية‪ .‬ونبني أن النمو ليس عىل‬
‫هذا‪ ،‬وأن كلمة مراحل منسوبة إىل النمو تبدو وكأهنا استعملت يف غري‬
‫مكاهنا فإذا فرغنا من هذا الرشح بقي لنا الشطر الثاين من املوضوع‪،‬‬
‫وهو أغزر مادة‪ ،‬وأكثر امتدادا‪ .‬وستضطرنا طبيعة هذا املوضوع إىل‬
‫تغيري تقديمنا املادي للمقالة التي ننشئها‪ .‬وذلك ألن املوضوع يقتيض‬
‫أن نضع عناوين لكل مرحلة من مراحل النمو حسب ما ينقسم يف‬
‫تصميمنا‪ .‬ويف مثل هذه احلالة يتعني أن توضع هذه العناوين ويسطر‬
‫حتتها وترقم نفيا لاللتباس‪ .‬ونظرا ملا قلناه من أن النمو يشمل اجلسم‬
‫واملعنى‪ ،‬فأمامنا طريقتان جيب أن نختار واحدة منهام‪ ،‬فإما أن نتحدث‬
‫عن اجلسم ومراحل نموه عىل حدة‪ ،‬ثم نتناول الكالم عن العقل ومراحل‬
‫نموه‪ .‬وإما أن نضع عنوانا مشرتكا‪ ،‬ونكتب حتته عن اجلسم والعقل يف‬
‫آن واحد‪ .‬ويبدو أن الطريقة الثانية أفضل‪ ،‬ألن املوضوع واسع‪ ،‬فإن‬
‫قسمناه حسب الطريقة األوىل زدناه امتدادا‪ ،‬وألن نمو العقل رهن بنمو‬

‫‪115‬‬
‫اجلسم‪ ،‬فينشأ عن هذا التالزم أن كثريا من اخلصائص العقلية واجلسمية‬
‫تربز يف عهد واحد‪ ،‬فمن اليسري أن يكتب عنها الكاتب يف نفس الوقت‪.‬‬
‫هذا وإن السائل يطلب إلينا بيان خصائص كل مرحلة وبيان الوجه‬
‫الذي استفيد به من معرفة هذه اخلصائص‪ .‬وسيكون اجلواب عن هذا‬
‫السؤال النقطة الثالثة يف املقالة‪ ،‬إذ األوىل أن نفرد له حيزا خاصا به خمافة‬
‫التطويل‪ ،‬إذا ذكرنا الطرق العلمية لالستفادة من معرفة قانون النمو‬
‫ومراحله حتت كل عنوان فرعي‪ .‬عىل أن املقالة من أوهلا‪ ،‬وخاصة يف رشح‬
‫كلمتي النمو ومراحل النمو‪ ،‬فينبغي أن نفكر يف اجتاه عميل‪ ،‬عىل صوغ‬
‫هذا السؤال األخري‪.‬‬

‫ب‪ -‬التصميم‬
‫* النمو ومراحله‬
‫* مراحل النمو‬
‫* كيف استفيد من معرفة النمو ومراحله‪ ،‬وخصائص كل مرحلة‪.‬‬

‫ج‪ -‬التصميم املفصل‬


‫* الطاقة البناءة عند الطفل‪ -‬النمو وشموله‪ -‬االختالفات الفردية‬
‫حسب الوسط‪ ،‬والتغذية‪ ،‬والوراثة‪ ،‬واجلنس واحلالة الصحية وحسب‬
‫اخلصائص الفردية لكل طفل من تبكريه أو بطئه‪.‬‬
‫* مراحل النمو‪ :‬السنة األوىل وخصائصها‪ -‬من سنة إىل ثالث‬
‫سنوات‪ -‬من ثالث إىل سبع‪ -‬من سبع إىل ثالث عرشة‪ -‬املراهقة والبلوغ‪.‬‬
‫* قانون النمو يفرض عىل املعلم اعتبار الطفل واعتبار إمكانياته يف‬
‫كل مراحله‪ -‬استغالل قابليات كل مرحلة‪ -‬اعتبار ما تستلزمه حركة‬
‫النمو من رصف الطاقة احليوية التي يتوفر عليها الطفل‪ -‬معرفة أحوال‬
‫الطفل متكن املعلم من تفسري العوارض التي قد تعرقل نموه‪ -‬سلوكه يف‬
‫القسم تفرسه ظروفه‪ -‬النمو اجلسمي والنمو العقيل‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫د‪ -‬اإلنشاء‬
‫يتميز الكائن احلي بأنه جسم قابل للنمو‪ ،‬والطفل ككل الكائنات‬
‫احلية جسم نام قبل كل يشء‪ ،‬لكنه أيضا نفس نامية بكل جوانبها‪ ،‬بام فيها‬
‫العقل‪ ،‬والطبع‪ .‬الطفل يف خط سائر ال يقف‪ ،‬فهو غريه من حلظة ألخرى‪،‬‬
‫يعرض عليك يف كل يوم وجها جديدا‪ ،‬وجسام جديدا ونشاطا جديدا‪،‬‬
‫وبسبب تقلبه هذا من حالة ألخرى ظل لغزا مستغلقا زمنا طويال‪ .‬وظل‬
‫الناس أثناء ذلك يلتمسون تفسري تقلباته‪ ،‬فينعتونه بالشيطنة‪ ،‬ويعزون‬
‫تغريه ونشاطه املتجدد إىل متكن روح الرش منه‪ .‬أما احلقيقة فقد أعامهم‬
‫عنها أهنم يعتربونه رجال مصغرا ال خيتلف عن الراشد إال من حيث‬
‫الكم يف قدراته وملكاته‪ .‬وحينام رجع الناس إىل طرق البحث احلديثة‪،‬‬
‫اكتشفوا أن الطفل ينتسب إىل الطفولة‪ ،‬وأن للطفولة قانونا تدرج عليه‪،‬‬
‫وهو قانون النمو‪ .‬وهذا القانون جيمع يف كلمة واحدة قوانني متعددة‬
‫ينطبق بعضها عىل جسم الطفل وقياساته‪ ،‬وغدده‪ ،‬وأمراضه‪ ،‬وبعضها‬
‫ينطبق عىل نفس الطفل بعواطفها وانفعاالهتا‪ ،‬وبعضها ينطبق عىل عقل‬
‫الطفل‪ ،‬وملكاته الكثرية‪ .‬ولتشعب املوضوع تضافرت جهود الطبيب‬
‫والباحث النفساين مع جهود املربني واملرشدين االجتامعيني ليقوموا‬
‫بدراسات كاملة لنمو الطفل‪ ،‬بعد أن كانت هذه الدراسات يف نطاق‬
‫ضيق حيمل املريب التبعة كلها يف القيام هبا‪ .‬وخرج الباحثون بنتاج من‬
‫املعلومات كثرية‪ ،‬ضمنوه الكتب التي نقرأ فيها أحاديث عن النمو‪،‬‬
‫ومراحل النمو‪ .‬نحن ناظرون بحول اهلل لنجد معنى النمو يف نظر علامء‬
‫النفس‪ ،‬وماذا يعنون بمراحل النمو‪ .‬وسنبحث بعدئذ عام إذا كانت‬
‫معرفة النمو ومراحله تفيد املعلم يف عمله‪ ،‬وإذا كان اجلواب باإلثبات‪،‬‬
‫فبأي صفة يمكن للمعلم أن يستفيد منها‪.‬‬
‫يتوفر الطفل عىل طاقة حيوية يف كيانه تطفر به من لدن يكون وليدا إىل‬
‫يوم يشب‪ ،‬طفرات يكرب فيها جسمه ونفسه معا‪ ،‬زوده اخلالق احلكيم هبذه‬
‫القوة‪ ،‬وخط حلركتها خطوطا‪ ،‬ورصفها باقتصاد‪ ،‬بحيث تعم حركتها كل‬
‫النواحي‪ ،‬اجلسم والعقل‪ ،‬وبحيث تنال كل ناحية حظها من الطاقة كلام‬

‫‪117‬‬
‫أكملت استعداداهتا لتنفقه‪ .‬ومن دقيق صنع اهلل‪ ،‬أن قوة احلياة هذه‪،‬‬
‫ترصد نفسها لضامن نمو الطفل وتيسري الطريق له‪ .‬فهي تعبئ املعدات‬
‫لتبني يف وقت البناء‪ ،‬وإذا عرض عارض مرض‪ ،‬أو خلل عضوي‪ ،‬من‬
‫شأنه أن يعرقل النمو عبأت له سالحا تكافحه‪ ،‬لئال يقف النمو إال عند‬
‫غايته‪ ،‬ولئال يقف يف واجهة دون واجهة؛ فينشأ الطفل ناقصا‪ .‬ومن هنا‬
‫ما يظهر عىل الطفل من قدرة عىل مكافحة األمراض‪ ،‬ومن رسعة يف الربء‬
‫من السقم‪ .‬ويقولون إن الطبيعة خري طبيب‪ ،‬فيصدق هذا عىل الطفل‪ ،‬إن‬
‫صدق‪ ،‬ملا أعطيه من طاقة النمو‪.‬‬
‫وللنمو سري ملتو معقد‪ ،‬ال خيضع للقياسات احلسابية واهلندسية‪ .‬فال‬
‫مكان لتحديده باملساحة وامليزان ألنه غري منتظم‪ .‬وال سبيل إىل معرفة‬
‫ما سيكون وزن الطفل أو طوله أو قدرته العقلية‪ ،‬بعد شهر أو عام‪ ،‬إنام‬
‫يكون النمو فورة فورة‪ ،‬كأنام يبذل جهاز الطفل جمهودا‪ ،‬ثم يقف ليتنفس‪.‬‬
‫ويطول وقوفه أو يقرص‪ ،‬لكنه ال يقف إال ملانع مريض مل يقو الطفل عن‬
‫مقاومته‪ .‬واحلقيقة يراها املالحظ الصبور‪ ،‬وهي أن نمو األطفال السليمني‬
‫ال يقف يف واجهة إال ليبدأ نشاطه يف واجهة أخرى‪ .‬وهذا مبدأ ينطبق عىل‬
‫أغلبية األطفال فتصادف فرتة النمو العقيل‪ ،‬حلظة فتور يف النمو اجلسمي‪،‬‬
‫وهكذا‪ .‬فكأن جسم الطفل وعقله يتعاوران الطاقة احليوية‪ ،‬فينفقان منها‬
‫الواحد تلو اآلخر‪.‬‬
‫ومع التواء طريق النمو بطبيعته‪ ،‬نجد العامل الفردي ينوع هذا‬
‫االلتواء‪ ،‬فيقدم لنظرنا لوحة عن نمو الطفل تتزاحم يف جنباهتا األضداد‪،‬‬
‫وقلام تربز فيها املثائل؛ وذلك جيعلنا أقرب إىل احلق لو حتدثنا عن «نمو كل‬
‫طفل» ال عن «نمو الطفل» بصفة عامة‪ .‬فمن أهم ما جيعل األفراد متباينني‬
‫يف طريقة نموهم‪ ،‬الوسط الذي عاشوا فيه؛ إذ ختتلف األوساط بحسب‬
‫املسكن الذي يكون صحيا أو غري صحي‪ ،‬وبحسب النظافة أو عدمها‪،‬‬
‫وبحسب علم األبوين أو جهلهام‪ ،‬وبحسب األعامل التي يكلف هبا‬
‫الطفل؛ أمناسبة هي لسنه وقدرته‪ ،‬أتنفعه يف توسيع مداركه وتنمية جسمه؛‬
‫أو تضغط عليه وترهقه؟ وهناك عامل التغذية‪ ،‬وهو شديد األمهية بالنسبة‬

‫‪118‬‬
‫لنمو الطفل‪ ،‬فإذا كانت التغذية كافية كام وكيفا‪ ،‬وكانت منتظمة‪ ،‬جعلت‬
‫النمو ممكنا‪ ،‬وإذا كانت قليلة أو غري متوازنة‪ ،‬أو كانت خشنة فقرية‪،‬‬
‫عرقلت النمو‪ ،‬بل أوقفته يف حاالت النقص الفادح‪ ،‬ونشأ عنها أمراض‬
‫خطرية‪ .‬وأن للتغذية مكانا بارزا يف تشجيع النمو‪ ،‬ال بالنسبة للجسم‬
‫فقط‪ ،‬بل بالنسبة للعقل أيضا‪ ،‬ملا قلناه أن النموين متضامنان‪ .‬وال أدل‬
‫عىل أمهية التغذية مما يالحظ يف البالد الغنية اجلديدة‪ ،‬كأسرتاليا وأمريكا‬
‫الشاملية‪ ،‬من أن نمو األطفال هناك أرسع منه يف البالد األخرى بفضل‬
‫جودة وغزارة طعامهم‪ .‬والعامل الثالث يف النمو هو العامل الوراثي‪.‬‬
‫والوراثة موضوع ملا ينته‪ ،‬وليس قريبا أن ينتهي محاس الباحثني يف التنقيب‬
‫فيه‪ ،‬وملا تنته مناقشاهتم وخالفاهتم يف شؤونه‪ .‬والذي يبدو جليا أن هناك‬
‫عامال وراثيا ال جمال للشك فيه‪ ،‬وأنه فيام يرجع للنمو‪ ،‬يفرس االختالفات‬
‫اجلسمية والعقلية التي توجد بني األجناس البرشية‪ ،‬وبني األجيال‬
‫داخل كل جنس‪ .‬فاختالف طول اجلسم وقرصه‪ ،‬واختالف كثافته أو‬
‫لطافته من جنس‪ ،‬إىل جنس‪ ،‬واستمرار صفة القرص أو الطول‪ ،‬الكثافة‬
‫أو اللطافة يف جنس ما‪ ،‬وعمومها يف مجيع أفراده‪ ،‬يثبت أن هذه الصفة‬
‫الزمة للجنس‪ .‬عىل أن الباحثني الحظوا أن البيئة أيضا تساهم إىل حد‬
‫ال زال غري معروف يف تكييف صفات األجناس اجلسمية‪ .‬وقدموا مثل‬
‫اليابانيني النازحني إىل أمريكا؛ كيف أنجبوا ذرية تزيد أحجام جسمها‬
‫جيال عن جيل‪ .‬هذا عمل الوراثة يف اختالف الصفات اجلسمية‪ ،‬وهو‬
‫ظاهر رغم كل يشء‪ .‬وهو الزال غري واضح فيام يرجع للصفات العقلية‪.‬‬
‫فغاية ما عرفه العلامء عن ذلك‪ ،‬أن الذكاء يورث بصفة عامة‪ ،‬وأن بعض‬
‫املواهب العقلية‪ ،‬تندرج من اجلد للحفيد‪ ،‬أو تندرج يف خط حيتوي‬
‫عىل أكثر من جيلني‪ ،‬لكن هذه املعرفة ال تكتيس صبغة النتيجة العلمية‬
‫التي الشك فيها‪ ،‬والتي يمكن أن تدرس مقدماهتا وغاياهتا؛ وإنام هي‬
‫مالحظات متفرقة‪ ،‬ال تسمح طبيعة املوضوع أن تدرس درسا علميا‪.‬‬
‫وهلذا فليس يف اإلمكان أن حيدد املرء مقدار ما سيحصل عليه كل فرد‬
‫من النمو العقيل‪ ،‬أو كيف سيكون هذا النمو‪ ،‬قياسا عىل نمو األبوين‬
‫العقيل‪ .‬والعامل الرابع هو عامل اجلنس إذ ختتلف البنات عن البنني‬

‫‪119‬‬
‫يف رسعة النمو وبطئها‪ ،‬وبني اجلنسني بصفة عامة تزحلق يف بدء النمو‬
‫وهنايته‪ ،‬وتزحلق يف امتداد فرتاته‪ ،‬حيث متتاز البنت بأهنا أكثر تبكريا من‬
‫الفتى‪ .‬والعامل اخلامس هو العامل الصحي وحالة الطفل العامة‪ ،‬فمن‬
‫األطفال من يعوقه مرض موروث‪ ،‬أو من زودته الطبيعة بجهاز ضعيف‪،‬‬
‫أو من أمهل عالجه‪ ،‬أو من مرض مرضا طويال أخره عن القافلة‪ .‬وهناك‬
‫عامل سادس وهو اخلالفات الفردية التي ال تعزى إىل وراثة أو بيئة‪ ،‬وإنام‬
‫تكون من خصائص الفرد املكونة لشخصيته‪ ،‬فنجد املبكر يف النمو واملبطئ‬
‫فيه‪ ،‬ونجد النحيف والسمني‪ ،‬ونجد صلب العظام ولينها‪ ،‬ونجد رسيع‬
‫الفهم وبطيئه‪ ،‬والذي يغلب عليه اخليال‪ ،‬والذي يميل إىل التفكري وهكذا‪.‬‬
‫النمو غري منتظم عند األطفال‪ ،‬ولكل طفل خصائص يتميز هبا‬
‫عن غريه‪ ،‬فال وسيلة لتحديد مراحل النمو بالضبط‪ .‬إنام يعنى املربون‬
‫بوضع حدود تقريبية‪ ،‬قابلة للتحويل من فرد لفرد‪ ،‬حلاجتهم إليها عند‬
‫البحث وحاجاهتم إىل اصطالح يسهل تبادل األفكار‪ .‬ومراحل الطفولة‪،‬‬
‫كام وضعوها‪ ،‬تعرف بصفات شائعة بني أطفال كل مرحلة‪ ،‬وتتسلسل‪،‬‬
‫حسب تقدم السن‪ ،‬يف أطوار يمر منها كل طفل الواحدة تلو األخرى‪ .‬كل‬
‫هذا نظريا‪ ،‬فإذا جاء التطبيق وجدنا أن لكل طفل سريه اخلاص‪ ،‬إال أن‬
‫يكون توأما كامال فيشبه توأمه‪ ،‬ووجدنا عدد االختالفات بعدد التالميذ‪.‬‬
‫والذي تواضع عليه جل الباحثني‪ ،‬تقسيم مراحل النمو كام ييل‪:‬‬
‫املرحلة األوىل‪ :‬السنة األوىل بعد الوالدة‪ ،‬وهي أكثر الفرتات رسعة‬
‫نمو‪ ،‬يزداد فيها اجلسم ازديادا مدهشا‪ ،‬وتبدأ احلواس يف التيقظ‪ .‬وهي‬
‫مرحلة نباتية حركية يكرب أثناءها الطفل‪ ،‬ويتحرك جسمه باستمرار كأنام‬
‫يتدرب عىل ممارسة النشاطات املقبلة‪ .‬وأثناءها يستقيم الطفل جالسا ثم‬
‫واقفا‪ ،‬فتتغري نظرته للواقع بتغري وضعه‪.‬‬
‫املرحلة الثانية‪ :‬من سنة إىل ثالث سنوات‪ :‬مرحلة نمو رسيعة أيضا‬
‫ال يقف أثناءها اجلسم عن االمتداد طوال بعد أن كان يف السنة األوىل ينمو‬
‫قامة وحجام‪ ،‬ومتتاز هذه املرحلة بالنشاط احلايس العام‪ ،‬السيام النشاط‬
‫اللميس‪ .‬كانت السنة االوىل مقدمة هلذا النشاط‪ ،‬لكنه هنا يبلغ درجة أبعد‪،‬‬

‫‪120‬‬
‫وتتسع دائرته‪ ،‬بقدرة الطفل عىل امليش ومن خصائصها بدء الكالم‪،‬‬
‫وما يرتتب عليه من نشاط عقيل يتلمس طريقه بني األشياء لكنه الزال‬
‫سطحيا‪.‬‬
‫املرحلة الثالثة‪ :‬من ثالث إىل سبع سنوات‪ ،‬الزال جسم الطفل‬
‫يطول وقد يبدو عليه هزال مرده إىل أن املجهود كله منرصف إىل تنمية‬
‫العظام وتقويتها وزيادة أطواهلا‪ .‬ويف هذه املرحلة يستبدل الطفل بأسنانه‬
‫األوىل أسنانا أقوى منها‪ ،‬إذ حيب الطفل أن يفحص كل يشء‪ ،‬وأن يتناول‬
‫كل يشء‪ ،‬ليعرف مبلغ قوته‪ ،‬وينتج عن هذا النشاط الكثري‪ ،‬نشاط عقيل‬
‫ال يقل عنه أمهية‪ ،‬فبتنوع األشياء التي تقع حتت حس الطفل‪ ،‬يفيق‬
‫فضوله‪ ،‬وتكثر أسئلته‪ .‬لكنه يكتفي باألجوبة السطحية‪ ،‬وال هيمه‪ ،‬بل‬
‫الزال عاجزا‪ ،‬عن فهم احلقائق وأسباهبا‪ .‬ويمتد نشاطه الشامل إىل امليدان‬
‫النظري‪ ،‬فيزداد تعلقه باخليال‪ ،‬وحيب سامع اخلرافات‪ ،‬ويعيش بكل قواه‬
‫مجيع ما يتخيله‪ ،‬فكأنه يف نشاط غري منقطع‪ ،‬ال يكاد يشعر أنه يمر من عامل‬
‫احلقيقة إىل عامل اخليال‪.‬‬
‫املرحلة الرابعة‪ :‬من سبع سنوات إىل ثالث عرشة سنة املرحلة‬
‫املدرسية‪ .‬وهلا أمهية كبرية؛ ففيها نقطة التحول‪ ،‬وفيها يبدأ حياة اجلد‬
‫واالستعداد‪ .‬متس يف بدايتها مرحلة الصبا املرح وتتصل من اجلانب‬
‫اآلخر بفرتة املراهقة التي هي عتبة الرشد‪ ،‬ويعربها الطفل مرهقا‪ ،‬ألن‬
‫نمو جسمه الزال مستمرا‪ ،‬وألن األعامل التي تكلفه هبا املدرسة كثرية‪.‬‬
‫ومن خصائص هذه الفرتة النشاط العميل التقليدي‪ .‬إذ حيب الطفل‬
‫أن يقلب األشياء وحيللها ويركبها‪ ،‬وحيب أن جيري التجارب الكثرية‪.‬‬
‫لكنه هنا خيتلف عن الطفل يف املرحلة السابقة‪ ،‬فال ينتج عن نشاطه‬
‫هذا فضول سطحي‪ ،‬بل يطمح يف معرفة أكثر عمقا‪ ،‬وإن كان التقليد‬
‫يف غالب األحيان يقنعه عن النفاذ إىل احلقيقة الكاملة‪ .‬ومن خصائصها‬
‫أيضا بدء نضج الطفل االجتامعي؛ فأثناءها تزداد أوارصه بالناس وخاصة‬
‫بأقرانه‪ ،‬حيث يكون معهم مجاعات للعب أو للنشاط الكشفي‪ ،‬هلا نظامها‬
‫وقائدها‪ ،‬وقوانينها‪ .‬وبصفة عامة‪ ،‬فإهنا مرحلة االكتشاف وكسب‬
‫املعارف األساسية‪ ،‬ومرحلة بروز املواهب‪ ،‬ووضعها موضع التطبيق‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫املرحلة اخلامسة‪ :‬املراهقة فالبلوغ‪ ،‬ويبدأ طور املراهقة حوايل السنة‬
‫الثانية عرشة أو قبلها بالنسبة للفتيات أو الفتيان املبكرين‪ ،‬أو الذين‬
‫نشأوا يف وسط منعهم ونموا رسيعا‪ ،‬أو بعدها بالنسبة لآلخرين‪ .‬وقبل‬
‫هذا الطور فرتة ما قبل املراهقة؛ وهي مرحلة هتييئية تتقدم االنقالبات‬
‫املهمة التي تطرأ عىل الطفل املراهق سواء يف جسمه أو يف نفسه‪ .‬وأهم ما‬
‫يتعلق بجسم املراهق‪ ،‬استيقاظ غدده اجلنسية‪ ،‬وتزايد كبري يف نشاط الغدد‬
‫األخرى‪ .‬ويصحب هذا النشاط فورة نمو رسيع‪ ،‬يتناول أطراف الطفل‬
‫يف طور ما قبل املراهقة‪ ،‬فتنمو عظامه نموا رسيعا حتى ليبدو مشوها‪،‬‬
‫ثم ينتقل النمو فيتناول حجم املراهق ووزنه‪ .‬ومن خصائص املراهقة‬
‫يف اجلانب العقيل انفتاح قابليات جديدة يف الطفل‪ ،‬وقدرته اجلديدة عىل‬
‫الدرس والتحصيل‪ .‬إذ يف هذه الفرتة حيس املراهق جوعا لالطالع عىل‬
‫احلقائق والتعمق فيها‪ ،‬فيميل إىل التفكري يف كنه األشياء وأسباهبا‪ ،‬وحياول‬
‫أن يكون لنفسه رأيا خاصا به‪ .‬غري أن قدرة املراهق العقلية متر من مراحل‬
‫متعددة‪ ،‬فتتطور من االنتباه املدريس السطحي الذي عهدناه يف املرحلة‬
‫السابقة‪ ،‬إىل انتباه حديس رصف‪ ،‬إىل حدس يعتمد عىل التفكري والتأمل‪،‬‬
‫إىل أن يصل آخر األمر‪ ،‬بعد الثامنة عرشة‪ ،‬إىل التفكري املوضوعي الذي‬
‫يمتاز به الراشدون‪ .‬وخالل هذه األطوار حتتد ملكات املراهق‪ ،‬وخاصة‬
‫خياله‪ ،‬ويقبل عىل الدراسة بشغف‪ ،‬ما عدا يف الساعات التي يستبد به‬
‫خياله‪ ،‬أو جتمح به دواعي نشاطه اجلسمي اجلديد‪.‬‬
‫وإذا نقلنا معرفتنا النظرية عن النمو ومراحله‪ ،‬إىل ميدان التطبيق‪،‬‬
‫وخصصنا هذه املعرفة بمالحظاتنا املتعلقة بكل طفل عىل حدة‪ ،‬وجدنا‬
‫أهنا تفيدنا كثريا يف أداء مهمتنا‪ .‬فمعرفتنا بأن هناك قانونا عاما للنمو‪،‬‬
‫تنبهنا إىل رضورة اتباع احلركة‪ ،‬واختاذ كل ما من شأنه أن جيعل دروسنا‬
‫مرنة ال جتمد عىل شكل واحد‪ ،‬بل متيش وفقا لقانون احلركة العام‪ ،‬وتتطور‬
‫مثلام يتطور األطفال الذين توجه إليهم‪ .‬وإن نمو الطفل‪ ،‬إذا عرفنا كيف‬
‫ننظر إليه بعني االعتبار‪ ،‬يكون بمثابة حمرك ينفي عنا اخلمول‪ ،‬ويدفعنا إىل‬
‫السعي وراء التجديد سعيا يف اقتناص اهتامم األطفال‪ ،‬وإرضاء للقاعدة‬

‫‪122‬‬
‫التي بنيت عليها البيداغوجية احلديثة‪ ،‬وهي أن حمور نشاط املدرسة هو‬
‫الطفل ال املنهاج الذي تدرسه‪ .‬هذا وإن تفصيل مراحل النمو‪ ،‬جيعل‬
‫رهن إشارتنا املبادئ الكفيلة بإعطاء تعليمنا غاية ما يمكن أن يصل‬
‫إليه من الفعالية‪ .‬نعتمد عىل خصائص كل مرحلة‪ ،‬لنعطيها ما يطابق‬
‫نفسية الطفل أثناءها‪ ،‬فنجني نتائج حسنة وفاقا لتبرصنا‪ .‬ونكمل عملنا‬
‫بمالحظة كل طفل‪ ،‬واتباع نموه‪ ،‬لنعرف مدى ما يصل إليه كل طفل‪،‬‬
‫ومبلغ قدرته يف كل مرحلة‪ .‬ثم إن اطالعنا عىل سري النمو ومقتضياته‪،‬‬
‫يعطينا تفهام أكثر ألطفالنا‪ .‬ونعلم أن النمو جيند الطاقة احليوية بعنف‪،‬‬
‫يف بعض األحيان‪ ،‬وأحيانا فجأة‪ ،‬فإذا الحظنا فتورا عند طفل‪ ،‬مل نرسع‬
‫فنفرسه عىل أنه مخول وكسل‪ ،‬لكن التمسنا له سببا يف التغريات اجلسمية‬
‫والعقلية التي جتري يف كيانه‪ .‬ونعلم أن الطفل يف بعض املراحل‪ ،‬شديد‬
‫احلساسية‪ ،‬فنحتاط لألمر‪ ،‬ونعامله برفق وتلطف‪ .‬عىل أننا نستطيع أن‬
‫نقوم بعمل إجيايب يف هذه الناحية‪ ،‬سيام إذا جاء الطفل من وسط جاهل‪،‬‬
‫فنبرص األرس بحاجات الطفل املادية واملعنوية‪ ،‬ليكمل نموه يف ظروف‬
‫مساعدة‪ ،‬ونرقب حالة األطفال‪ ،‬فإن بدا منهم ترصف غري طبيعي‪ ،‬أو‬
‫طرأ عليهم انقالب فجائي عنيف‪ ،‬سألنا لنعرف ما إذا كان يف ظروفهم‬
‫البيتية ما يفرس هذا االنقالب‪ ،‬وعملنا متوسطني لنعالج احلالة‪ ،‬ونخفف‬
‫عن الطفل‪ .‬ولئن كان السؤال عن شؤون الطفل صعبا يف بعض األحيان‪،‬‬
‫إما لشك اآلباء يف باعثه‪ ،‬وإما لعجزهم عن إعطاء إجابة صحيحة‪ ،‬فإن‬
‫املعلم احلكيم‪ ،‬يصل إىل معرفة جانب من احلقيقة يبني عليه حكمه‪،‬‬
‫بمالحظة الطفل وسؤاله‪ ،‬وباستشارة طبيب املدرسة‪ ،‬وباالتصال‬
‫باألقارب بطريقة تدعوهم إىل االرتياح‪ .‬وإن يف ترصف الطفل يف القسم‬
‫ما يغني عن وضع أسئلة كثرية‪ ،‬يكفي أن نتتبعه حني يكون نشيطا حسن‬
‫املعاملة ألقرانه أو كئيبا منطويا أو رشيرا معتديا‪ ،‬أو ذابال خامال لنحرز‬
‫ما هنالك من رس؛ انكسار عاطفي‪ ،‬أو مرض خفي‪ ،‬أو جمرد نزوة عابرة‬
‫تدخل يف إطار ما حيدث عادة لألطفال النامني‪ .‬وأخريا‪ ،‬فإن معرفة‬
‫النمو ومراحله‪ ،‬ومعرفة سريه واختالف قابليات كل طور‪ ،‬تنري الطريق‬
‫أمامنا‪ ،‬لتشمل رعايتنا جسم الطفل وعقله معا‪ ،‬وعاطفته وطبعه أيضا‪،‬‬
‫ونستغل مواهبه املتزايدة يف امليدان النظري والعلمي‪ ،‬ونفتح أعيننا‬

‫‪123‬‬
‫لنعرف اللحظة املناسبة لبذل جمهود خاص يف الرياضة البدنية أو يف الدراسة‬
‫النظرية‪ ،‬واللحظة املناسبة لإلقالل من اجلهود املبذولة يف كل منهام‪.‬‬
‫من املعلمني من «يتخصص» يف قسم من األقسام‪ ،‬فيزعم أنه ينجح‬
‫كثريا يف القسم التحضريي‪ ،‬وحيرص عىل أن يبقى فيه‪ .‬ويف نظري أن هذا‬
‫«التخصيص» خيفي عجزا عن فهم الطفل يف نموه السائر‪ ،‬وينتج عنه‪،‬‬
‫مع الطول‪ ،‬عجز حتى عن فهم أطفال القسم املختار‪ .‬ويف ضمن هذا‬
‫«التخصيص» مجود فكري‪ ،‬حيول دون نظر املعلم إىل تالمذته عىل أهنم‬
‫أحياء يف تطور مستمر‪ .‬ويقابل مجود «املتخصص» تيقظ املعلم النشيط‪،‬‬
‫وترقبه لكل جديد تأيت به الكتب واملجالت‪ ،‬يف شؤون نمو الطفل وحياته‪،‬‬
‫ومالحظته املستمرة لتالمذته‪ ،‬ليقع عىل موضع تطبيق العلم الذي يقرأه‪.‬‬
‫وهيتم هذا املعلم بالطفل منذ يدرج‪ ،‬فيبحث عن نشاطه رضيعا‪ ،‬ثم ماشيا‬
‫ثم متكلام‪ ،‬ويبحث عن أطواره يف السنوات الثالث األوىل التي ينمو فيها‬
‫الطفل نموا رسيعا‪ ،‬وتتعدد مكاسبه من القدرات اجلسمية والعقلية‪ ،‬ويتبع‬
‫نمو الطفل بعد ذلك يف مراحله الدراسية‪ ،‬فيقف طويال ليمعن النظر يف‬
‫خصائص كل مرحلة‪ ،‬السيام مرحلة الطفولة اليانعة حيث يدخل الطفل‬
‫املدرسة‪ ،‬ويتعني أن يعطاه من مادة الدرس ومن العناية الرتبوية ما يقوي‬
‫جسمه النحيل‪ ،‬وقواه العقلية التي ختطو خطوة مهمة تعتمد عىل التقليد‬
‫وحب االطالع‪ ،‬ويمعن املعلم النشيط النظر يف مرحلة املراهقة‪ ،‬هذه‬
‫املرحلة العصيبة‪ ،‬التي حتدث أثناءها ثورة يف كيان الطفل‪ ،‬تشمل جسمه‬
‫وعقله‪ ،‬لكنها مرحلة حاسمة بالنسبة للتقدم الدرايس الذي يستطيع أن‬
‫حيصله فيها‪ ،‬وبالنسبة لنضجه العام وتكوينه‪.‬‬
‫كل هذا يفعله املعلم النشيط‪ ،‬ليعرف تلميذه كيف بدأ حياته‪ ،‬وكيف‬
‫تطور قبل أن يصل إىل يديه‪ ،‬ويعتمد عىل تارخيه هذا كلام عرض عارض‪،‬‬
‫وكلام دعت احلاجة إىل مقارنة بني مايض الطفل وحارضه‪ ،‬وليعرف تلميذه‬
‫مادام بني يديه‪ ،‬يالحظه ويستخرب عنه‪ ،‬ويضعه يف سلم النمو العام لينظر‬
‫كيف يتقدم وكيف يتأخر‪ ،‬وحيتاط له ليقيض يف املدرسة سنوات منتجة‪،‬‬
‫ويتدخل يف األمر لييرس له ظروفا مادية ومعنوية مناسبة‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫املوضوع رقم ‪12‬‬
‫يقول الناس هذا طفل ذكي‪ ،‬وهذا طفل أقل منه ذكاء؛ فام معنى‬
‫هذا يف نظر علامء النفس؟ وماذا تعرفه عن ذكاء الطفل؟‬

‫أ‪ -‬فهم املوضوع‬


‫إذا كان الناس يتحدثون عن ذكاء أطفاهلم‪ ،‬فذلك ألن املسألة هتم‬
‫الناس أول ما هيمهم‪ ،‬إذ عىل ذكاء األطفال يتوقف مستقبلهم‪ .‬غري أن‬
‫الناس يتحدثون عن ذكاء األطفال بدافع عاطفي‪ ،‬فيطلقون القول عىل‬
‫عواهنه‪ .‬ويغالون وخيرجون أحكاما طائشة ال تعتمد عىل أية معرفة حلقيقة‬
‫الذكاء ومظاهره‪ .‬والسائل ال يريد منا أن نخربه بكل هذا‪ ،‬لكن يريد أن‬
‫يطلع عىل رأي علامء النفس يف املوضوع‪ ،‬فينتظر منا عرضا عن دراسات‬
‫علامء النفس عن الذكاء‪ ،‬وخاصة معنى تفاوت الذكاء‪ ،‬هل يمكن هذا‬
‫التفاوت‪ ،‬ومل‪ ،‬وكيف يمكن قياسه؟ عىل أن يكون حديثنا مبتدئا من حيث‬
‫بدأ السائل‪ ،‬أي من حكم الناس عىل ذكاء األطفال‪ ،‬أو إن شئنا خصصنا‬
‫الناس‪ ،‬وحتدثنا عن األمهية التي يعلقها املعلم عىل معرفة ذكاء أطفاله‪،‬‬
‫وعن األحكام التي يصدرها هبذا الصدد‪ ،‬كنتيجة ملالحظاته للتالميذ‪.‬‬
‫وعىل أن يكون يف هذا احلديث مقارنة بني حكم الناس املطلق‪ ،‬وبني حكم‬
‫العامل النفساين عىل الذكاء وتفاوته‪.‬‬
‫والسؤال الثاين يتوجه إىل ذكاء الطفل نفسه‪ ،‬فيبحث عن حقيقته‬
‫عند الطفل‪ .‬ونلتقي مرة أخرى بصعوبة استعامل احلرية التي أعطيت لنا‬
‫ملعاجلة املوضوع‪ .‬فالسائل يريد منا ذكر ما نعرفه عن الذكاء عند الطفل‪،‬‬
‫واملوضوع واسع كام نرى‪ ،‬يقتيض أن نختار فيه بحيث نكتب مقاال متناسقا‪.‬‬
‫والنقطة التي ينبغي أن تكون مدارا ألبحاثنا يف مرحلة هتيئ هذا اجلزء من‬
‫املوضوع‪ ،‬هي الكيفية التي هبا نبوب حديثنا‪ .‬فهل نتحدث عن الذكاء‬

‫‪125‬‬
‫مقسمني ملكاته املختلفة‪ ،‬فنكتب عن الذاكرة وحدها‪ ،‬ثم عن املفكرة‪،‬‬
‫ثم عن املخيلة كعادة الباحثني األقدمني؟ أو نقسم عمر الطفل مراحل‪،‬‬
‫فنقول ما نعرفه عن ذكاء كل مرحلة؟ أم نجعل القول إمجاال‪ ،‬ونكتفي‬
‫بذكر خصائص ذكاء الطفل بصفة عامة؟ من رأينا أن أي تقسيم من شأنه‬
‫أن يطيل بنا الطريق‪ ،‬ونحن ال ننسى أن بأيدينا ثالث ساعات فقط للتهيئ‬
‫والتحرير‪ .‬فلذلك جيمل أن نتبع احلل األخري‪ ،‬ونجمل القول إمجاال‪،‬‬
‫برشط أن نرجع دائام إىل حمور البحث الذي هو معرفتنا لذكاء الطفل‪،‬‬
‫وهل متكن هذه املعرفة حتى نحفظ للمقالة وحدهتا‪ .‬وال بأس بعد ذلك‪،‬‬
‫إن أهنينا املقالة بذكر ما يؤول إليه ذكاء الطفل؛ وذكر العوامل التي تسري‬
‫هذا التحول‪.‬‬

‫ب‪ -‬التصميم‬
‫* الذكاء يف نظر علامء النفس‪.‬‬
‫* ما أعرفه عن ذكاء الطفل‪.‬‬

‫ج‪ -‬التصميم املفصل‬


‫* معرفة ذكاء األطفال وأمهيته للمعلم والنظام الرتبوي‪ -‬املعلم‬
‫يعرف ذكاء تالمذته‪ -‬علامء النفس يبحثون يف الذكاء‪ -‬قياس الذكاء‪.‬‬
‫* ذكاء الطفل يف تطور دائم‪ -‬ملكاته متعددة‪ -‬نشاط ذكاء الطفل‬
‫يدخل يف نطاق نشاطه العام‪ -‬خصائصه بصفة عامة يف بدء الطفولة‬
‫الثالثة‪ -‬األنانية‪ -‬احلركة‪ -‬الزمان يف نظر الطفل‪ -‬نظره إىل األشياء‪ -‬نظره‬
‫إىل األسباب‪ -‬تطور عقليته‪ ،‬والعوامل املوجهة هلذا التطور‪.‬‬

‫د‪ -‬اإلنشاء‬
‫ينبغي أن نؤول كالم الناس عندما يتحدثون عن الذكاء‪ ،‬وباخلصوص‬
‫إذا ذكروا أطفاهلم‪ ،‬فإهنم إنام يعربون عن آماهلم التي يعلقوهنا عليهم‪ ،‬أو‬

‫‪126‬‬
‫يعربون عن حبهم للذات‪ ،‬إذ ينسبون إىل أنفسهم ذرية ذكية‪ .‬جييئك‬
‫األب بابنه أو بنته ويوصيك هبا خريا باسطا بني يديك خياالته العريضة‬
‫عن ذكائها وخفة عقلها‪ ،‬فتتبني من خالل كالمه أنه جاهل عاجز عن‬
‫إصدار حكم يف املوضوع‪ ،‬أو تتبني رزانة وعلام‪ ،‬لكنك جتد يف احلالتني‬
‫نفس االقتناع بمواهب الطفل وقدرته‪ .‬وتسمع هذا يتكرر فتتساءل إذا‬
‫كان يف قدرة األب بوسائله التي تتفاوت‪ ،‬أن يعرف ذكاء ابنته أو ابنه؟‬
‫وتتساءل هل من املمكن أن يعرف ذكاء الطفل بتاتا‪ ،‬وهو الكائن املعقد‬
‫الشديد التعقد؟ وتعرتضك مشكلة أخرى إذا وضع بني يديك يف امليزان‬
‫طفالن أو أطفال يراد املقارنة بينهم‪ .‬يزعم لك أن هذا أذكى من هذا‪،‬‬
‫فتحار يف تصديق ما تسمعه أو تكذيبه‪ .‬تقول ربام يكون من اجلائز أن‬
‫نقارن بني ذكاء الراشدين‪ ،‬ألن أعامهلم‪ ،‬من نجاح مدريس‪ ،‬وحذق يف‬
‫الترصف‪ ،‬تنبني عن هذا الذكاء‪ ،‬وتشري إليه‪ .‬أما األطفال فكيف نقارن‬
‫بينهم ومواهبهم الزالت خفية؟ وكيف نجرس عىل هذه املقارنة‪ ،‬ونحن‬
‫نجهل األسباب التي تدفع الطفل إىل العمل؟ ثم أليس هناك أطفال‬
‫يبدون ناهبني ملدة ما‪ ،‬ثم ختبو جذوهتم‪ ،‬وآخرين نحكم عليهم بالبالدة‪،‬‬
‫ثم يظهر لنا خطأ حكمنا‪ .‬أيمكن حقا أن نحكم عىل ذكاء األطفال‪،‬‬
‫ونقدر درجاته؟ أليس من األحسن أن ننتظرهم يف هناية الشوط لننظر‬
‫مواهبهم بعد نضجها وكامهلا‪ ،‬ونصدر إذ ذاك حكام ثابتا؟ وتسأل العامل‬
‫النفساين املختص‪ ،‬فتجد عنده رأيا يف هذا‪ ،‬ويدلك عىل نتائج أبجاثه يف‬
‫حقيقة الذكاء وتفاوته بني الناس‪ ،‬وعن خصائص ذكاء الطفل وتطوره‪،‬‬
‫والعوامل التي تشارك يف تقويمه وتقويته‪.‬‬
‫والواقع أن معرفة ذكاء األطفال‪ ،‬وقابلياهتم العقلية‪ ،‬هيم املعلم أكثر مما‬
‫هيم غريه‪ ،‬إذ عىل هذه املعرفة يتوقف نجاحه يف مهمته التعليمية‪ .‬رضوري‬
‫أن يعرف خصائص الذكاء وتطوره عند األطفال‪ ،‬ليجعل استعامل زمنه عىل‬
‫شكل هذه اخلصائص‪ .‬ورضوري أن يعرف خصائص كل طفل العقلية‪،‬‬
‫ومبلغ حدة فكره‪ ،‬ليعتربه اعتبارا خاصا‪ ،‬ولريتب تالمذته كال يف الصف‬
‫الذي يتناسب معه سواء يف القسم الواحد‪ ،‬أو يف األقسام املختلفة حسب‬
‫نضج امللكات‪ ،‬وحسب التطور الذي أحرزه كل طفل‪ ،‬وحسب قدرته عىل‬

‫‪127‬‬
‫فهم املادة املقدمة إليه‪ ،‬وهتم هذه ملعرفة كثريا النظام الرتبوي بكامله‪ ،‬إذ‬
‫يعتمد عليها يف فرز األطفال حسب قدراهتم العقلية‪ ،‬ليرصف كال إىل‬
‫الوجهة التي تؤهله هلا قدراته‪ .‬يف العرص احلديث تعددت الوظائف‬
‫االجتامعية‪ ،‬وتعقدت مع تقدم احلارضة وازدهارها‪ ،‬وتشعبت العلوم‪،‬‬
‫فأصبح من الرضوري أن يتخصص الناس يف كل فرع من فروعها‬
‫وخيصصوا له كل جهودهم‪ .‬وأصبحت الظروف ال تسمح بمعاجلة األمر‬
‫اتفافيا وبغري تدبري حمكم‪ .‬ال يمكن أن يرتك الناس للمصادفات توجههم‬
‫إىل مهنة ما كيفام كانت‪ ،‬بل متتد إليهم يد املريب لتفحص ذكاءهم‪ ،‬وتستغل‬
‫كل الطاقات استغالال حسنا‪ .‬وإن ضغط احلاجة املادية‪ ،‬وتوخي اخلري‬
‫االجتامعي‪ ،‬يدفع احلكومات لتنظيم التوجيه املهني‪ ،‬ويدفع باألرس إىل‬
‫االستنارة هبذا التوجيه‪ .‬وال خيفى ما ينتج عن هذه العملية من اقتصاد يف‬
‫اجلهود البرشية‪ ،‬ومن فعالية يف بناء رصح احلضارة وتوطيده‪.‬‬
‫أما املعلم فيلتمس معرفة ذكاء أوالده يف مالحظاته اليومية‪ ،‬فال يمكث‬
‫طويال بعد ابتداء السنة الدراسية‪ ،‬أن يكون فكرة عن كل تلميذ‪ ،‬ويعرف‬
‫مقدار ما يصل إليه‪ ،‬بل يعرف أيضا نوع ذكائه‪ ،‬إذا كان يمتاز بالقدرة عىل‬
‫اخللق‪ ،‬أو بالقدرة عىل احلفظ‪ .‬ويبدو أن هذه املعرفة املبنية عىل التجربة‬
‫الطويلة‪ ،‬التي يشاهد املعلم أثناءها طفله يف حاالته املختلفة‪ ،‬يف حالة غضبه‪،‬‬
‫ويف حالة محاسه‪ ،‬يف حالة صحته ويف حالة سقمه‪ ،‬كفيلة بأن تنال ثقتنا‪،‬‬
‫وخاصة إذا كان املعلم لبيبا جادا يف عمله‪ .‬وحتى إن مل يكن املعلم خمتصا‬
‫يف املوضوع‪ ،‬فإن جمرد نفاذ البصرية‪ ،‬وحظا متوسطا من الذكاء‪ ،‬يمكنه من‬
‫الوقوف عىل احلقيقة فيام يتعلق بذكاء أطفاله‪ ،‬أو عىل األقل‪ ،‬ينقص من‬
‫إمكان خطئه‪ .‬ويتفاوت املعلمون اهتامما بدراسة ذكاء تالمذهتم‪ ،‬فتجد من‬
‫بينهم العفوي الذي يرتك األمور جتري طبيعية‪ ،‬مكتفيا بام خيطر له من حني‬
‫آلخر يف شأن هذا التلميذ أو ذاك‪ .‬وجتد املعلم املعتني باألمر‪ ،‬يفتح عينيه‬
‫دائام ليبرص ملحات كل عقل‪ ،‬ويستشف ومضات كل ذكاء ويتخذ نظاما‬
‫لتدوين مالحظاته ومقابلة بعضها ببعض‪ .‬واملعلمون من كال النوعني‪،‬‬
‫يملكون حساسية خاصة الكتشاف املواهب‪ ،‬سيام البارزة املمتازة‪ ،‬ويلذ‬

‫‪128‬‬
‫هلم أن يقارنوا بني التالميذ‪ ،‬ويشيدوا بفضل النجباء منهم‪ ،‬بل ربام يصل‬
‫األمر إىل أن يستويل التلميذ الذكي عىل القسم‪ ،‬فينرصف إليه املعلم مأخوذا‬
‫بحدة عقله‪ ،‬وخيصص له كل جهوده‪ ،‬ويف هذا خطر أي خطر كام نستطيع‬
‫أن نتنبأ بذلك‪ ،‬السيام والتالميذ يشعرون بحركات املعلم ويدركون‬
‫مغزاها‪ ،‬فربام يكون رد فعل التالميذ األقل ذكاء‪ ،‬عىل صورة تراخ‬
‫وختاذل يؤدي إىل فقدهم إيامهنم بقدرهتم الشخصية‪ ،‬فانفصاهلم املعنوي‬
‫عن املدرسة ونشاطها‪ .‬إنام جيب أن خيفف املعلم من تأثري شعور التالميذ‬
‫بالنقص جتاه زميلهم املوهوب‪ ،‬بأن يشجع كل فرد حسب أعامله‪ ،‬ويغطي‬
‫عىل نقص الضعيف أحيانا‪ ،‬فال يفضحه‪ ،‬ويتخذ يف ترتيب التالميذ النظام‬
‫اجلامعي‪ ،‬فال جيلس التالميذ حسب تفوقهم الفردي‪ ،‬بل ال يعلن الرتب‬
‫إال مجاعات‪ ،‬فيجعل يف قسمه الفرقة «أ» والفرقة «ب» وهكذا‪ .‬وعىل أي‬
‫فإن املربني املحدثني أصبحوا يشعرون بأن حكم املعلم عىل مواهب أطفاله‬
‫رغم ما يمتاز به من أنه يصدر عن روية‪ ،‬وعن ممارسة طويلة للطفل‪ ،‬ال‬
‫يعطي صورة دقيقة هلذه املواهب‪ ،‬وسعوا إلجياد طريقة جديدة لفحص‬
‫الذكاء‪ ،‬فكان قياسات الذكاء املتعددة‪ ،‬التي أصبحت تطبق يف املدرسة‪،‬‬
‫فتكمل مالحظات املعلم‪ ،‬وتكمل االختبارات املدرسية العادية‪.‬‬
‫وأما النظام الرتبوي‪ ،‬فلم جيد وسيلة ملعرفة مواهب األطفال يف‬
‫مرحلتهم األوىل قبل دخول املدرسة‪ ،‬إال استعامل نفس القياسات‪.‬‬
‫وبعد أن أصبح التعليم إجباريا يف البالد املتقدمة‪ ،‬وأرادت هذه البالد‬
‫أن تبني تعليمها عىل أساس متني‪ ،‬فرضت عىل األطفال يف سن الدراسة‪،‬‬
‫اختبارا بواسطته متيز األطفال طبقات‪ ،‬فتبلور نضجهم واستعدادهم‬
‫للتعليم االبتدائي‪ ،‬ومتيز األطفال املعاقني ذوي النقص احلايس فتوجههم‬
‫ملدارس خاصة هبم‪ ،‬ومتيز ذوي النقص العقيل‪ ،‬فرتسلهم إىل معاهد‬
‫لئال حيرموا من احلظ القليل الذي يستطيعون أن ينالوه من الرتبية‪،‬‬
‫ولئال يبقوا عالة عىل املجتمع وثقال‪ .‬ويف املراحل التابعة‪ ،‬يستعمل‬
‫النظام الرتبوي قياسات الذكاء يف التوجيه املهني‪ ،‬لكنه ال حيتقر‬
‫اإلرشادات التي يقدمها املعلمون عن كل طفل‪ .‬اختبار الذكاء يتخذ‬
‫كقاعدة لكشف الرسم العام لذكاء الفرد وحتديد مداه‪ ،‬ومالحظات‬
‫املعلمني تبني ألوان املواهب ودقائقها‪ ،‬وتصحح خطأ التقدير الذي‬

‫‪129‬‬
‫كثريا ما يقع فيه املخترب نتيجة ألن الطفل ساعة االختبار‪ ،‬دهش ووقع‬
‫حتت انفعال عاطفي مل يسعفه إلنجاز عمله عىل وجه كامل‪.‬‬
‫نجد القياسات الذكائية أداة يستعملها املعلم وسيلة لتكميل معرفته‬
‫بالذكاء يف قسمه‪ ،‬وتستعملها الرتبية أساسا لتقدير ذكاء األفراد‪ ،‬والعزم يف‬
‫توجيههم‪ .‬وقد بدأت األبحاث لقياس الذكاء يف فجر القرن العرشين‪ .‬رأى‬
‫الباحث الفرنيس "بيني" أن التجربة العلمية وحدها يمكن أن تعطي نتيجة‬
‫إجيابية يف قياس املواهب العقلية‪ ،‬فنظم مع مساعديه اختبارات عديدة شارك‬
‫فيها عدد من األطفال‪ ،‬لكل سن اختبار عىل قدره‪ ،‬ووضعت أسئلة ليجاب‬
‫عنها بالكتابة‪ ،‬واقرتحت مشاكل عملية يمكن حلها دون االلتجاء إىل‬
‫الكتابة‪ .‬ونتج عن هذا سلم "بيني" املشهور‪ ،‬الذي اختذه الباحثون من بعده‬
‫نموذجا حيذون حذوه‪ ،‬ويف الوقت احلارض أصبحت أقيسة الذكاء مكان‬
‫ثقة كثري من املربني بعدما كانت موضوعا للشك زمنا طويال‪ ،‬غري أن من‬
‫املربني من ال يزال يثق هبا بمقدار ويتأول حكم القياس الذكائي عندما يعلن‬
‫عن هذا أو ذاك‪ ،‬يبلغ عامله الذكائي ‪ 100‬أو ‪ ،150‬دون أن يفهم ذلك عىل‬
‫أنه العبارة الدقيقة املطابقة للواقع‪ ،‬ويرجع املربون املتحفظون لريوا قيمة‬
‫قياس الذكاء يف ميزان حكم املعلم‪ ،‬فيجدون أن حكم املعلم املبني عىل‬
‫املالحظة الثابتة الطويلة‪ ،‬ال تطابقه نتيجة القياس إال بنسبة مائوية تقل أو‬
‫تكثر‪ ،‬لكنها ال تبلغ مائة باملائة يف أية حالة‪ .‬وعىل أي فإن طبيعة الذكاء نفسها‬
‫ال تسمح باالطالع عىل احلقيقة القطعية‪ ،‬فام بد من وسيلة لتقديره‪ .‬وكلتا‬
‫الطريقتني املستعملتني‪ ،‬حكم املربني واملعلمني‪ ،‬وحكم املخابر املختص‪،‬‬
‫يعطيان‪ ،‬منفردين أو متعاضدين فكرة عن الذكاء‪ ،‬وصورة ملظاهره‪ ،‬فيها‬
‫من الوضوح ما يكفينا يف امليدان العميل لتحقيق نظام تعليمي وتربوي عىل‬
‫بينة من أمر العنارص التي يقوم بمهمة تنشئتها‪.‬‬
‫والذي حياول التدقيق يف فحص خصائص الذكاء‪ ،‬يستطيع أن هيتدي يف‬
‫بعض الطريق إىل فحص عقل الراشد‪ .‬لكنه إن تناول الطفل وجد مسالك‬
‫مبهمة تستعيص عىل أحد الناس فطنة‪ .‬عقل الطفل يبدأ استعدادات خالية‬
‫من أي تأثري‪ ،‬لكنه منذ أول يوم‪ ،‬يستقبل إشارات متنوعة بتنوع الدنيا‬
‫كلها‪ ،‬تأتيه كل حلظة بجديد‪ ،‬ويتغري حمتواه كل حلظة‪ ،‬كام يتغري نفس‬
‫تكوينه كشبه ما حتدثه االنفعالت الكياموية‪ .‬فإذا اعتربنا تشعب العمليات‬

‫‪130‬‬
‫العقلية‪ ،‬التي حياول عامل النفس أن حيددها فيسمي الذاكرة‪ ،‬واخليال‪ ،‬واملفكرة‪،‬‬
‫واعتربنا ان كل عملية جديدة تضيف معرفة جديدة‪ ،‬وتضيف قدرة جديدة‬
‫عل العقل‪ ،‬تبينا أن كل حماولة لفحص ذكاء الطفل يف تأدية عمله‪ ،‬أو اتباعه‬
‫عرب املراحل التي يمر منها‪ ،‬يف سبيله إىل النضج فاشلة‪ ،‬مقيض عليها بالفشل‬
‫من أول الطريق‪ .‬إن الباحث يف الذكاء كالذي ينظر يف الضباب األسود‪ ،‬غاية‬
‫ما ينظره خطوط الربق حني متر رسيعة‪ .‬فإذا خطرت للباحث ومضة‪ ،‬اتبعها‬
‫وأضافها إىل معطياته التي جيمعها‪ ،‬ويركب بعضها مع بعض كأنام حيل لغزا‪.‬‬
‫وإن طول صرب الباحثني وسعة حيلتهم وحترهيم يف املالحظة وصل بنا اليوم‬
‫إىل معرفة إن مل تكن ضافية‪ ،‬ففيها ما يكشف الغمة عن قلب طالب العلم‬
‫املرتقي‪ ،‬وما يزيل الغشاوة عن عني املعلم املبتدئ‪ .‬أما الباحثون أنفسهم‬
‫فلام يقنعوا بنتيجة وصلوا إليها‪ ،‬ومل ييأسوا فينقطعوا عن البحث‪ .‬وسنهتدي‬
‫هبدهيم‪ ،‬ال لنجلو صورة ألعامهلم الغزيرة‪ ،‬لكن لنقف عند حلظات يف حياة‬
‫الطفل العقلية‪ ،‬ونذكر خصائص بارزة يف هذه اللحظات‪ ،‬هي جرثومة ال‬
‫تنفك تتطور‪ ،‬حتى تصبح اهليكل الذي حوله تتكون عقلية الراشد‪.‬‬
‫وسنأخذ الطفل يف سنته الثالثة أو الرابعة‪ ،‬عندما تكون خصائص عقله‬
‫واضحة بينة‪ .‬وأول ما يمتاز به يف هذه السن‪ ،‬وبعدها أيضا‪ ،‬انرصافه إىل‬
‫مجيع أوجه النشاط‪ ،‬احلايس منها وغري احلايس‪ ،‬اجلسمي منها والعقيل‪،‬‬
‫بدافع طبيعي قوي‪ ،‬فهو يلعب أبدا حتى باألفكار نفسها‪ .‬لذلك ليس من‬
‫املمكن أن نميز بني نشاطه العقيل ونشاطه العام‪ ،‬إنام ذاك جزء من هذا ال‬
‫يتميز‪ .‬ومن خالل هذا النشاط يظهر أن الطفل عاجز عن قياس األشياء‬
‫بمقاساهتا التي وضعت هلا‪ ،‬لكنه يقيسها بنفسه إذ يعترب نفسه املحور‬
‫الذي يدور عليه العامل مجيعه‪ ،‬وأنانيته هذه‪ ،‬واضحة يف أقواله وأفعاله‪،‬‬
‫فإذا حتدث عن أبيه وأنه وصفهام بأهنام له‪ ،‬وإذا رأى البحر قال إنه يصلح‬
‫لكي أسبح فيه‪ ،‬وهكذا حيكم عىل األشياء بالنظر إىل إرادته هو‪ .‬ونشاطه‬
‫الدائم‪ ،‬وحركة جسمه وعقله التي ال تفرت‪ ،‬جتعله عاجزا عن فهم الزمان‬
‫ونسبه‪ ،‬فالوقت عنده أبدا هو احلارض؛ ملا تتسع ذاكرته لتحتفظ باملايض‪،‬‬
‫وملا يمتد خياله فيشمل املستقل‪ .‬ما وقع أمس وما وقع منذ شهر وما يقع‬
‫اليوم عنده سواء‪ .‬وهلذا يبقى كالمه ملدة طويلة خلوا من األلفاظ التي تعني‬

‫‪131‬‬
‫املايض أو املستقبل‪ ،‬وحتى إذا استعملها‪ ،‬فإنام يستعملها مقلدا دون أن‬
‫يفهم‪ ،‬وألنانية الطفل وحركته تأثري عىل نظرته لألشياء واألحداث‪،‬‬
‫فاألشياء يشبهها بنفسه‪ ،‬ويعزو هلا حياة كحياته‪ ،‬وإرادة كإرادته‪ ،‬لذلك‬
‫يرضب األرض لينتقم منها إذا سقط‪ ،‬وحيدث لعبته وحيييها إذا سألته‪.‬‬
‫واألحداث عنده عفوية‪ ،‬ألنه عاجز عن ربط األسباب بنتائجها‪ .‬ومع هذا‬
‫العجز املنطقي‪ ،‬فإن العامل يف نظر الطفل تربطه باألحداث أسباب جتري‬
‫لغاية معينة‪ .‬فلهذا يسأل عن وظائف األشياء‪ ،‬مل يصلح هذا؟ ويفرس كل‬
‫األحداث‪ ،‬فيقول مثال املطر ينزل ألن الزرع يناديه‪ ،‬أو الشجرة حتتها ظل‬
‫لكي أجلس فيه وما إىل هذا‪.‬‬
‫وهكذا نرى أن الطفل كون لنفسه نظرة شاملة عن الواقع‪ ،‬وبسط‬
‫األشياء عندما جعل نفسه مرجع كل يشء‪ ،‬فال يرتدد يف احلكم‪ ،‬بل يطلق‬
‫أحكاما مطلقة‪ ،‬ويقيض يف كل يشء برسعة‪ ،‬وبصفة ال ترتك عنده جماال‬
‫للشك‪ .‬فإذا تقدم يف التجربة‪ ،‬وزاد اطالعه‪ ،‬تغريت عقليته شيئا فشيئا‪.‬‬
‫بتأثري احتكاكه االجتامعي‪ ،‬وعىل األخص بتأثري الرتبية‪ ،‬وما يزال عقله‬
‫ينمو‪ ،‬وعقليته تتطور‪ ،‬حتى يدرك أن احلقيقة نسبية‪ ،‬وأن هناك قوانني‬
‫طبيعية‪ ،‬وأخرى اجتامعية عليها يسري العامل‪.‬‬
‫يدخر الناس ثرواهتم‪ ،‬ليجدوها عند احلاجة‪ ،‬ويشعرون بطمأنينة‬
‫عندما يشعرون بأن بني أيدهيم منها ما يكفي لسد حاجاهتم‪ .‬وتعد األمم‬
‫ثرواهتا فتحسب مقدار قوهتا‪ .‬وكلام تطورت فلسفة األفراد واجلامعات‪،‬‬
‫وازداد تقدمهم يف السلم احلضاري‪ ،‬فطنوا إىل أن ثروة الذكاء جيب أن حتتل‬
‫املكانة االوىل‪ .‬يكون الفرد غنيا ال بحساب غناه املادي‪ ،‬لكن بحساب قوة‬
‫عقله‪ ،‬وحقيقة املهارة التي يملكها‪ .‬وتكون االمم قوية غنية ال بحساب‬
‫مواردها الطبيعية فقط‪ ،‬بل بحساب رجاهلا ذوي القدرات العقلية‪ ،‬من‬
‫علامء وفنيني‪ .‬فال غرو مع االعتبار الذي حتاط به الطاقة العقلية أن تنشأ‬
‫حركة يف األمم القتصاد هذه الطاقة ورصفها حيث تكون أكثر جدوى‪،‬‬
‫وأن يلتفت األفراد إىل أنفسهم وبنيهم ليقيسوا هذه الطاقة‪ ،‬ويطمئنوا‬

‫‪132‬‬
‫إن وجدوا عندهم منها نصيبا‪ .‬املعلمون واملختربون النفسانيون‪ ،‬كل‬
‫بطريقته‪ ،‬يقلبون العقول‪ ،‬ويتطلعون ليبرصوا تكوينها‪ ،‬ويكتنهوا نوع‬
‫مواهبها‪ .‬يأخذون الطفل صغريا‪ ،‬ليسلكوا به املسلك املناسب يف تربيته‬
‫وتعليمه‪ ،‬ويأخذونه بعدئذ ليوجهوه إىل مهنة مناسبة عىل ضوء ما انتهوا‬
‫إليه من معرفة خصائصه العقلية‪ .‬وأثناء املرحلتني‪ ،‬مرحلة بدء الدراسة‪،‬‬
‫ومرحلة التوجيه املهني‪ ،‬جيتهد املربون ملعرفة خصائص العقلية الصبيانية‪،‬‬
‫هذه العقلية التي متتاز باألنانية املطلقة‪ ،‬والنشاط الطبيعي العارم الذي‬
‫يقنع من املعرفة بتفسري العامل بعيدا عن املنطق‪ ،‬بعيدا عن املوضوعية التي‬
‫يتصف هبا عقل الراشد‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫مواضيع‬
‫يف الرتبية وآداب املهنة‬
‫املوضوع رقم ‪13‬‬
‫قال مرب معارص‪« :‬إن مدرسة أحسن جتهيزها‪ ،‬تلك التي تدخلها‬
‫شاعرا بارتياح واحرتام‪ ،‬هتيئ نفس املعلم والتالميذ‪ ،‬بل ترغمها معنويا‬
‫عىل اجلد واملثابرة»‪.‬‬
‫فرس القول‪ ،‬وقل كيف جتهز مدرسة لو عهد إليك بتجهيزها‪ ،‬مراعيا‬
‫الناحية العملية واجلاملية يف جتهيزك‪.‬‬

‫أ‪ -‬فهم املوضوع‬


‫لعل يف هذا املوضوع جدة بالنسبة للطالب الذي ألف أن يرصف كل‬
‫جهوده لدراسات طرق التعليم والنظريات الرتبوية‪ .‬وسؤال مثل هذا كفيل‬
‫بأن يوقفه احلذر من وجود مثله يف امتحان من االمتحانات التي يتقدم إليها‪.‬‬
‫وزيادة عىل هذا فإن من واجب كل معلم أن هيتم باإلطار املدريس كام هيتم‬
‫بواجباته األخرى‪ .‬وإن من عالمات سعة النظر‪ ،‬أن تشمل رعاية املعلم‬
‫الطفل بكل الوسائل‪ ،‬بام فيها التجهيزات املادية‪ .‬والسؤال يستند إىل كلمة‬
‫مرب معارص ويشتمل عىل مرحلتني‪ :‬األوىل يرشح فيها القول‪ ،‬والثانية‬
‫نبدي فيها نظرنا لو عهد إلينا بتجهيز مدرسة‪ .‬وحتتوي الكلمة عىل النظرية‬
‫التي ينبغي أن تسود يف ذهن جمهز املدرسة‪ ،‬بينام يتعرض السؤال الثاين‬
‫للناحية التطبيقية‪ .‬وهلذا نفهم املوضوع عىل هذا األساس‪ ،‬اجلزء األول‬
‫نظري‪ ،‬واجلزء الثاين عميل‪ .‬اجلزء األول فيه رشح للغايات التي ينبغي‬
‫أن تبلغ إليها املدرسة يف إثارة شعور املعلم والتالميذ‪ ،‬واجلزء الثاين يضع‬
‫موضع العمل هذه املبادئ‪ .‬وإذا تأملنا القول‪ ،‬وجدنا فيه العنارص الرئيسية‬
‫التي نضع حوهلا رشحنا‪ ،‬فإن املريب خيربنا أن املدرسة التي أحسن جتهيزها‬
‫يشعر داخلها بارتياح واحرتام‪ .‬فنبدأ من هاتني الكلمتني ونبحث عن‬
‫اجلهازات التي تضمن االرتياح‪ ،‬وعن التي تشعر باالحرتام‪ .‬ويقول املريب‬
‫بأن هذه املدرسة ترغم الطفل واملعلم عىل اجلد واملثابرة‪ ،‬وينبغي أن نبحث‬

‫‪135‬‬
‫يف رشحنا‪ ،‬مل وكيف يندفع الطفل واملعلم إىل العمل بتأثري اجلهاز املدريس؟‬
‫وطبيعي أن اجلهاز الذي نتحدث عنه إنام هو اجلهاز املادي وحده‪ ،‬فال‬
‫يدخل معنا املعلمون واملدير‪ ،‬واملعلامت واملديرة‪ ،‬إال بالقدر الذي يمكن‬
‫أن نعتربهم جزءا من جهاز املدرسة‪.‬‬
‫والسؤال الثاين يطلق حريتنا لنتصور أنفسنا مديري مدرسة‪ ،‬أو‬
‫مهنديس مدارس‪ ،‬ونجهز مدرسة باجلهاز الكامل‪ ،‬الذي نتحمل مسؤولية‬
‫جعله موافقا للمطالب العملية واجلاملية املرشوطة يف املدرسة‪ ،‬ومسؤولية‬
‫جعله يستجيب لفكرة املريب التي نكون قد رشحناها‪.‬‬
‫وبصفة عامة‪ ،‬فإن نص السؤال حيمل يف طيه الرسم الذي ينبغي أن‬
‫حتذوه املقالة‪ ،‬إنام الصعوبة‪ ،‬التي سنجدها‪ ،‬هي أن املوضوع قليال ما نقرأ‬
‫عنه يف كتب الرتبية‪ ،‬فام بد من أن نعتمد عىل جتاربنا وما رأيناه يف املدرسة‬
‫أو املدارس التي عملنا فيها‪ ،‬أو زرناها‪ .‬وإذا قدر إن كانت هذه املدارس‬
‫ال تستويف الرشوط التي جتعلها مرضية ملثال املريب‪ ،‬فجيب عندئذ أن‬
‫نستعمل فكرنا‪ ،‬ونستغل مواطن النقص التي نالحظها يف مدارسنا‪،‬‬
‫لنتخيل ونقرتح حلوال من شأهنا أن ترضينا لو كنا نتحمل مسؤولية جتهيز‬
‫املدرسة‪.‬‬
‫ب‪ -‬التصميم‬
‫* رشح القول‪.‬‬
‫* كيف أجهز مدرسة لو عهد إيل بتجهيزها‪.‬‬

‫ج‪ -‬التصميم املفصل‬


‫* احرتام املدرسة‪ -‬الوسائل التي تبعث عىل االرتياح‪ -‬ارتياح‬
‫األبوين‪ -‬ارتياح املعلم والتلميذ‪ -‬الرشوط الصحية‪ -‬وسائل التعليم‪-‬‬
‫الرشوط اجلاملية‪ -‬املدرسة التي تبعث عىل اجلد واملثابرة‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫* اإلطار املادي ومسؤولية املعلم‪ -‬لو عهد إىل‪ -..‬البناية املدرسية‪-‬‬
‫الساحة‪ -‬القسم‪ -‬األثاث‪ -‬وسائل التعليم‪ -‬اخلزانة املدرسية‪ -‬البساطة‬
‫والذوق‪.‬‬

‫د‪ -‬اإلنشاء‬
‫عرصنا هذا عرص اإلنتاج الرسيع‪ ،‬واملسابقة يف طريق هذا اإلنتاج‪.‬‬
‫األمم تعبئ قواها لتكثريه‪ ،‬واملؤسسات تنفق أمواال غزيرة الخرتاع‬
‫الوسائل التي تزيد فيه‪ .‬ال نقول شيئا عن اآلالت الرسيعة الكثرية‪ ،‬لكننا‬
‫ننظر إىل اإلنسان‪ ،‬وكيف توصلت الصناعة احلديثة إىل زيادة إنتاجه‬
‫بوسائل نفسية‪ .‬وأهم هذه الوسائل تكييف اإلطار الذي يعمل فيه العامل‪.‬‬
‫وجدوا أن اإلطار الصحي اجلميل يبعث العامل عىل اجلد‪ ،‬ويزيده قدرة‬
‫عل االحتامل‪ .‬وتعدوا اإلنسان‪ ،‬فطبقوا املبدأ عىل األبقار فدرت ألباهنا‬
‫ال تبخل‪ ،‬وعىل الدجاج فسمن وضخم‪ .‬وجيمل باملعلم أن يرى ما إذا‬
‫كانت هناك عالقة بني اإلطار املدريس‪ ،‬وبني اجتهاد التلميذ وتعلقه‬
‫باملدرسة‪ ،‬أن يرى إىل أي جد ينطبق القانون الذي اخرتعته الصناعة‪،‬‬
‫عىل اإلنتاج املدريس‪ ،‬أن يرى هل من الصالح أن نتبع يف بناء مدارسنا‬
‫وجتهيزها نظاما خاصا يطمع يف تسهيل العمل والرتغيب فيه‪ ،‬أم األصلح‬
‫أال نضيع اجلهود يف هذه اجلزئيات‪ ،‬ونميل إىل اجلد واالقتصاد يف هذا‬
‫امليدان‪ .‬أما أحد املربني املعارصين‪ ،‬فقد أبدى رأيه بام ال يقبل الرتدد يف‬
‫نوع اختياره حيث يقول‪« :‬إن مدرسة أحسن جتهيزها‪ ،‬تلك التي تدخلها‬
‫شاعرا بارتياح واحرتام‪ ،‬هتيئ نفس املعلم والتالميذ‪ ،‬بل ترغمهام معنويا‬
‫عىل اجلد واملثابرة»‪ ،‬فام هي فلسفة هذا املريب عىل وجه التفصيل؟ وكيف‬
‫نحول نظريته هذه إىل ميدان التطبيق‪ ،‬لو أعطيتنا مهمة جتهيز مدرسة؟‬
‫إن نجاح أية مؤسسة اجتامعية‪ ،‬كيفام كانت وظيفتها‪ ،‬رهن بالثقة التي‬
‫توحيها يف نفوس الناس‪ .‬واملدرسة أيضا‪ ،‬كمؤسسة اجتامعية‪ ،‬ختضع هلذا‬
‫القانون‪ .‬ولذلك نجد مربينا يبدأ كالمه بذكر الشعور الذي يستويل عىل‬
‫داخل املدرسة التي أحسن جتهيزها‪ ،‬وهو الشعور باالرتياح واالحرتام‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫فإذا شعر داخل املدرسة باالرتياح إىل املدرسة واحرتامها‪ ،‬وأعطاها ثقته‪،‬‬
‫فقد تكون يف نفسه استعداد لتلقي الرسالة التي حتملها‪ .‬وإن احرتام املدرسة‬
‫ليفرض فيها أن تكون مومنة بسمو األمانة املنوطة هبا‪ ،‬ويفرض أن تتوفر‬
‫عىل معلمني قادرين‪ ،‬زيادة عىل الرشوط املادية التي تساهم يف رفع مكانتها‪.‬‬
‫فمن توفر هذه الرشوط الثالثة تنشأ سمعة املدرسة‪ ،‬ويذيع صيتها بني‬
‫الناس‪ ،‬ويدخل الداخل ويف نفسه أثر مما سمعه‪ ،‬لكنه ال يرتاح وال حيرتم‬
‫املدرسة‪ ،‬إال بعد أن يبلوها بنفسه‪ .‬فإذا كان أبا‪ ،‬جاء يزور املدرسة ليطمئن‬
‫إىل أن أوالده يف خري‪ ،‬اختار املدرسة األحسن سمعة‪ ،‬لكنه يف حاجة إىل‬
‫التأكد مما سمع‪ .‬ويدخل املدرسة فيجد بناء فسيحا‪ ،‬وغرفا واسعة مضيئة‪،‬‬
‫وساحة منظمة‪ ،‬ونظافة شاملة‪ ،‬ويالحظ الوجوه الباشة التي تدل عىل‬
‫أن العمل ينجز يف نشاط‪ ،‬وبدون إرهاق‪ .‬ويتحدث مع مدير املدرسة‪،‬‬
‫فيرشح له أوقات الدراسة وتعاقبها‪ ،‬ويصحبه إىل القسم الذي سيدخله‬
‫ابنه‪ ،‬فيبتهج األب لرؤية أثاث نظيف ونوافذ كثرية‪ ،‬وجدران مزينة‪،‬‬
‫وخيرج األب ويف نفسه أن ابنه حيث كان حيب له أن يكون‪ .‬وإذا كان‬
‫الداخل معلام‪ ،‬حديث عهد باملدرسة كانت نظرته أنفذ وحرصه عىل معرفة‬
‫أحوال املدرسة أكثر‪ ،‬ألن فيها سيؤدي أعامله ساعات متوالية يف كل يوم‪.‬‬
‫وسينظر هذا املعلم إىل جهاز املدرسة‪ ،‬ال ليتأكد فقط من أنه صالح‪ ،‬لكن‬
‫ليستشف من خالله‪ ،‬مقدار اهتامم القائمني عىل املدرسة‪ ،‬ومقدار حبهم‬
‫ألعامهلم‪ .‬وسيتنبه بصفة خاصة‪ ،‬للحجرة التي سيعمل فيها‪ .‬ولوسائل‬
‫التعليم التي يف املدرسة‪ .‬فإذا وجد احلجرة عىل غرار ما كان يرغب يف‬
‫وجوده‪ ،‬ووجد وسائل التعليم الكثرية املتنوعة‪ ،‬ووجد احلالة العامة جلهاز‬
‫املدرسة ينم عن حدب املسؤولني‪ ،‬وتعاون زمالئه املعلمني‪ ،‬شعر باحرتام‬
‫جلهودهم‪ ،‬وبارتياح إىل أنه سيعمل يف إطار مستوف للرشوط‪ .‬وسيتجدد‬
‫شعوره هذا كلام دخل املدرسة‪ ،‬أو رجع إليها بعد عطلة‪ ،‬ما دامت املدرسة‬
‫عىل حالتها الكاملة‪ .‬وإذا كان الداخل تلميذا‪ ،‬حديث عهد باملدرسة‪،‬‬
‫شعر أول األمر برهبة جلالل البناية وارتفاعها‪ ،‬وجلدة كل يشء يراه‪ ،‬وملا‬
‫سبق يف نفسه من استعظام املدرسة أو اخلوف منها إذا كان ذووه خييفونه‬
‫هبا‪ .‬وعىل نجاح اتصاله األول باملدرسة أو اخفاقه‪ ،‬يتوقف حبه أو بغضه‬

‫‪138‬‬
‫هلا زمانا قد يستمر حياته كلها‪ .‬فلذا جيب أن هتيأ املدرسة لتستقبله أحسن‬
‫استقبال‪ ،‬ويبذل كل اجلهد الشعاره باالرتياح‪ .‬املدرسة مل تؤسس إال‬
‫لألطفال؛ فينبغي أن تبنى عىل قياسهم‪ ،‬وجتهز بالنظر إىل حاجاهتم وراحتهم‪.‬‬
‫وإذا كان من الصعب أن يستعري مهندس املدرسة وجمهزها عني طفل ينظران‬
‫هبا عندما يبنيان وجيهزان‪ ،‬فإن لدينا من معرفة نفسية الطفل ما يؤهلنا لتقدير‬
‫املرافق التي يفضلها‪ .‬وأول ما يرتاح الطفل لوجوده يف املدرسة‪ ،‬املساحة‬
‫الكافية لنشاطه ولعبه‪ .‬فيجب أن جيد يف مدرسته ساحة مرملة‪ ،‬وأدوات‬
‫للعب إذا كان يف سن رياض األطفال‪ ،‬وحيب أن تكون هذه الساحة مضيئة‪،‬‬
‫كام حتب املبادئ الصحية أن تكون نظيفة مشمسة‪ .‬وينرصف نظر الطفل‬
‫بعد هذا إىل األطفال الذين يف قسمه‪ ،‬فيجب أن يكونوا يف سنه لئال يشعر‬
‫وسطهم بالوحشة‪ ،‬وحيب أن جيلس إىل جانب زميله الذي يأنس إليه‪ .‬وهلذا‬
‫جيب أن يقسم األطفال حسب أسناهنم وال خيلط يف القسم الواحد أطفال‬
‫متفاوتو األعامر‪ .‬وجيب أن جيلس الطفل‪ ،‬سيام إذا كان جديدا‪ ،‬بجانب‬
‫نفس اجلار ليألفه ويطمئن‪ ،‬وأن يعطى لكل طفل مقعد خاص‪ ،‬فال حيول‬
‫منه يف كل يوم‪ .‬هذه أهم النواحي التي يلتفت إليها الطفل‪ ،‬وهي النواحي‬
‫العاطفية‪ ،‬الناشئة عن حاجته إىل شعور باألمن بني رفاقه‪ ،‬وشعور باحلرية يف‬
‫ممارسة نشاطه املفضل‪ ،‬اللعب‪ .‬فإذا هيأنا للطفل مدرسة تتوفر فيها رشوطه‬
‫أيضا‪ ،‬كملت لنا عنارص االرتياح الرضورية لعمل املدرسة يف جو مفعم‬
‫بالثقة‪ ،‬ثقة اآلباء وثقة املعلمني وارتياح التالميذ‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وإن نظر الذي يبني املدرسة وجيهزها ينبغي أن يأخذ بعني‬
‫االعتبار العوامل اإلنسانية التي تضمن نيل احرتام داخل املدرسة‬
‫وارتياحه‪ ،‬إىل جانب العوامل الصحية والعملية واجلاملية التي حتدث‬
‫أثرا‪ ،‬خفية مسالكه يف بعض األحيان‪ ،‬لكنه ال يقل أمهية عن العوامل‬
‫النفسانية العاطفية‪ .‬فجهاز املدرسة الصحي يبدأ من النظافة العامة‪،‬‬
‫والتهوية املستمرة‪ ،‬ال سيام هتوية غرف الدرس حيث ينبغي أن‬
‫تكون النوافذ كثرية‪ ،‬والتشميس بحيث يكون اجتاه البناية املدرسية‪،‬‬
‫ساحتها وغرفها‪ ،‬مناسبة‪ .‬ويكمل اجلهاز الصحي بوجود طبيب‬
‫مدريس زائر‪ ،‬وممرض دائم يف املدارس الكبرية والنائية‪ ،‬ومصحة‬
‫صغرية تشتمل عىل وسائل العالج املستعجل‪ .‬ووسائل التعليم ينبغي‬

‫‪139‬‬
‫أن تكون مطابقة للمنهاج املدروس يف كل مادة‪ ،‬حتى يستطيع املعلم أن‬
‫يستعني به عند احلاجة‪ ،‬ويكمل به وسائله اخلاصة‪ ،‬ويتعني أيضا أن تنظم‬
‫استعارة وسائل التعليم‪ ،‬باتفاق املعلمني‪ ،‬وتوضح استعامالت الزمن‬
‫حتى ال حيتاج معلامن إىل نفس األداة يف نفس الوقت‪ .‬وإن من األجهزة‬
‫التعليمية ما ينبغي أن يبقى يف كل قسم وخيتص به‪ ،‬كمثل السبورة‪،‬‬
‫وخرائط اجلغرافيا‪ .‬والرشوط اجلاملية يف اإلطار املدريس ليست من‬
‫البساطة بحيث يمكن أن نحددها بالكلامت أو باألرقام‪ ،‬إنام ترجع إىل‬
‫ذوق باين املدرسة وجمهزها‪ .‬فإذا سامها يف إجياد إطار هبيج‪ ،‬بأن بنيا غرفا‬
‫منسقة‪ ،‬واختارا هلا أثاثا مجيال‪ ،‬وراعيا نسب األحجام واألطوال‪ ،‬وزينا‬
‫ساحة املدرسة باألشجار اجلميلة‪ ،‬وأعدا العدة للمحافظة عىل ما بنياه من‬
‫أن تناله يد البىل أو يد العبث فيتشوه‪ ،‬وإذا ساهم املعلم يف تزيني حجرة‬
‫الدرس‪ ،‬وعرف كيف يتأنق يف اختياره الرسوم والصور التي يعلقها عىل‬
‫جدراهنا‪ ،‬واألدوات والزهور التي يضعها عىل مكتبه‪ ،‬وعرف كيف‬
‫يرشك تالميذه يف هذا االختيار؛ قلت إذا قام كل واحد من هؤالء الثالثة‬
‫بنصيبه‪ ،‬اكتسبت املدرسة صفة مجالية‪ ،‬وانطبع الطفل من حيث ال يشعر‬
‫بالذوق احلسن‪ .‬هذا زيادة عىل أن مجال املدرسة يزيد من ارتياح املعلم‬
‫والتلميذ‪ ،‬ويزيد من تعلقهام بمدرستهم‪.‬‬
‫وبتوفري الرشوط الصحية وأدوات التعليم وبجامل اإلطار‪ ،‬تتضافر‬
‫الظروف عىل جعل العمل املدريس ميسورا وجذابا يف نفس الوقت‪ .‬ويف‬
‫هذه الظروف ينشط اجلسم‪ ،‬ويقوى عىل بذل املجهودات الفكرية الالزمة‪،‬‬
‫وجيد املعلم فرصة ليؤدي مهمته عىل أحسن وجه‪ ،‬ويتقدم التلميذ يف حلبة‬
‫املعرفة‪ ،‬فتنفتح له آفاق واسعة‪ ،‬ويعمل جادا مثابرا عىل العمل‪.‬‬
‫إن يف املغرب اليوم حركة ال بأس هبا‪ ،‬وحاجة ماسة‪ ،‬لبناء املدارس‬
‫وجتهيزها‪ .‬ويتعاون عىل البناء والتجهيز الدولة واجلامعات الشعبية‪.‬‬
‫وللدولة مهندسون اختصاصيون‪ ،‬كام أن للجامعات مرشدا وناصحا‪.‬‬
‫فهل للمعلم نصيب من حتمل مسؤولية بناء املدرسة وجتهيزها؟ وإذا مل يكن‬
‫فهل من احلسن أن يتحمل نصيبا من هذه املسؤولية؟ اجلواب أن املعلم‬
‫قليال ما هيتم باألمر اهتامما بارزا‪ ،‬وإن كان من الطبيعي أن يساهم بالنشاط‬

‫‪140‬‬
‫الكبري يف هتييئ املدرسة‪ .‬وكيف ال وهو الذي سيعمل فيها‪ ،‬وهو اخلبري‬
‫بشؤون الطفل؛ العارف لنفسه‪ .‬مديرات ومديرو املدارس يقومون‬
‫بتجهيز املدرسة ألن هذا العمل جزء من وظيفتهم‪ ،‬وأعتقد أن عملهم‬
‫يكون أكثر جدوى لو استعانوا برأي املعلمني يف األمر‪ ،‬واقتبسوا من كل‬
‫رأي فكرة‪ ،‬ليحققوا ملدرستهم أحسن جهاز وأكمله‪ ،‬وأكثره استجابة‬
‫ملقتضيات احلال‪ .‬ولو طلب إيل رأيي يف جتهيز املدرسة‪ ،‬أو عهد إيل‬
‫بتجهيزها لعرضت الربنامج التايل‪:‬‬
‫البناية املدرسية‪ :‬املفروض أن البناية قائمة‪ ،‬وأن دوري هو جتهيزها‬
‫فقط‪ ،‬لكني أقدر أن الظروف مكنتني من حضور اجللسة التي عزم فيها‬
‫عىل بناء مدرستي‪ .‬ويف هذه اجللسة أقرتح أن تبنى املدرسة فوق ربوة‬
‫مرشفة لتكون مهواة‪ ،‬وأقرتح أن تكون هذه الربوة قريبا من مساكن‬
‫األطفال‪ ،‬وأن تكون املدرسة صغرية يتأتى فيها خلق جو عائيل بني‬
‫املعلمني واألطفال‪ ،‬ويتأتى فيها أن يعرف بعضهم بعضا‪ .‬واقرتح أن‬
‫يكون اجتاه بناية املدرسة بحيث تكون معرضة ألشعة الشمس طول‬
‫النهار‪ ،‬ويف كل الفصول‪ .‬وشاركت اللجنة يف مناقشتها مليزانية البناء‪،‬‬
‫واختيار املواد الالزمة‪ ،‬فأرشت إىل أن االقتصاد ال يتأتى إال مع اختاذ‬
‫مواد متينة‪ ،‬كالسقوف التي ال تنفجر يوما مطريا عىل رؤوس األطفال‪،‬‬
‫وكاجلدران التي ال تتفتت بعد سنتني أو ثالث من البناء‪ .‬وأرشت أيضا‬
‫إىل أن االقتصاد ال يتعارض مع األناقة والذوق يف وضع التصميم‪ ،‬وأن‬
‫للمظهر العام اخلارجي حظه من األمهية‪ .‬فإذا متت البناية فسأسهر عىل‬
‫تعهدها لتحتفظ بمتانتها وأناقتها‪.‬‬
‫الساحة‪ :‬تتوفر مدرستي عىل مساحة واسعة‪ ،‬وسأفرش هذه الساحة‬
‫بطبقة من الرمل اللني‪ ،‬اتقاء للجراح الناشئة عن سقوط األطفال‪،‬‬
‫وأغرس وسطها أشجارا مجيلة فسيحة الظل‪ ،‬خرضاء الورق‪ ،‬لتعطيها‬
‫هبجة ورونقا‪ .‬وأغرس أزهارا طول اجلدران املحيطة هبا‪ .‬وأضع مزهريات‬
‫عىل النوافذ ويف املمرات‪ .‬وأضع سالال جيعل فيها ما يمزقه األطفال من‬
‫ورق أثناء لعبهم‪ ،‬أو ما يكون عىل األرض من النفايات‪ .‬وينبغي أن تتسع‬
‫الساحة ألدوات الرياضة البدنية التي أنوي إقامتها‪ ،‬وسأهيئ حفرة رملية‬

‫‪141‬‬
‫للوثب‪ ،‬وحباال للتسلق‪ ،‬وعوارض خشبية للتمرينات املختلفة‪.‬‬
‫حجرات الدرس‪ :‬ال أحب كثريا األقسام املتامثلة‪ ،‬التي تشبه حجرات‬
‫املستشفى‪ .‬وسأحرص عىل إعطاء أقسام مدرستي طابعا خاصا وشخصية‬
‫يمتاز هبا كل قسم‪ ،‬متاما كام يفعل يف جتهيز حجرات بيت منظم‪ ،‬وسأختار‬
‫لطالء اجلدران ألوانا مجيلة ومرحية‪ ،‬ألن من األلوان ما يثري‪ ،‬ومنها ما‬
‫هيدئ ويشجع عىل العمل‪ .‬وسيكون لكل حجرة لوهنا الذي يتناسب مع‬
‫باقي جهازها‪ ،‬ومع الرسوم والصور التي سأرغب زمالئي املعلمني يف‬
‫العناية هبا‪ .‬نوافذ أقسامي كبرية‪ ،‬سأسهر عىل فتحها يف كل وقت ويف كل‬
‫الفصول‪ .‬وسأحث عىل تنظيف زجاجها ليتناسب مع النظافة العامة التي‬
‫ستمتاز هبا مدرستي‪.‬‬
‫األثاث‪ :‬سأختار أثاث األقسام ما أمكن بالنظر إىل اعتبارين‪ .‬مناسبته‬
‫لالستعامل الذي خيصص له‪ ،‬وكونه مجيال منسجام مع اإلطار الذي يوضع‬
‫فيه‪ ،‬وسأهتم‪ ،‬بصفة خاصة‪ ،‬بمقاعد األطفال لتكون عىل قدر سنهم‪،‬‬
‫ولتكون قابلة للتنظيف ومتينة‪.‬‬
‫أدوات التعليم‪ :‬أدوات اإليضاح يف مدرستي ستكون متوفرة‬
‫وموافقة للمنهاج املقرر‪ ،‬وسأعمل جهدي ألعطي لكل قسم جمموعة‬
‫خاصة به‪ ،‬فإذا مل أقدر سأتفق مع زمالئي لتنظيم أوقات اإلعارة‪ ،‬حتى‬
‫تستعمل األشياء عن بصرية وبغاية الفعالية‪ .‬وسأعتني بالسبورات‪،‬‬
‫فأصبغها خرضاء باللون الذي يعتربه األطباء أكثر راحة من اللون‬
‫األسود‪ .‬وسأسهر عىل نظافة السبورات‪ .‬وأزودها بممسحات وبطباشري‬
‫أبيض وملون‪.‬‬
‫اخلزانة املدرسية‪ :‬سأساعد كل معلم إلحداث خزانة صغرية يف‬
‫قسمه‪ ،‬وسأبحث أنا لتهييء حجرة أضع فيها اخلزانة املدرسية العامة‪،‬‬
‫التي ستشتمل عىل كتب املطالعة املناسبة لسن أطفال املدرسة االبتدائية‪.‬‬
‫وسأفكر يف طريقة إللفات نظر التالميذ إىل وجود هذه اخلزانة‪ ،‬وخللق‬
‫رغبة لدهيم يف االطالع عىل الكتب التي فيها وقراءهتا‪.‬‬
‫هذا وسيعم اهتاممي كل مرافق املدرسة‪ ،‬ال سيام املراحيض املحتاجة‬
‫إىل نظافة دقيقة‪ ،‬ومستوصف املدرسة‪ ،‬وصالة املعلمني‪ ،‬ومكتب اإلدارة‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫وسيكون رائدي يف العمل البساطة والذوق اجلميل‪ ،‬مضافني إىل شعور‬
‫بأن عميل عليه يتوقف تقدير الناس للمدرسة حني يدخلوهنا‪ ،‬وتقدير‬
‫املعلمني واألطفال واعتزازهم بمدرستهم التي سأحرص عىل أن يسامهوا‬
‫يف جتهيزها واملحافظة عليها‪.‬‬
‫إن رسعة املواصالت‪ ،‬وانتشار الصناعة احلديثة‪ ،‬نتج عنهام توحيد‬
‫ألساليب البناء والتجهيز‪ .‬وكانت املدارس من بني ما مسه هذا التوحيد‪،‬‬
‫إذ أصبحت تبنى وجتهز بطريقة مفردة تكاد تكون صناعية صامء‪ .‬وفقدنا‬
‫التنوع الذي كنا نعرفه من قبل‪ ،‬فال يقع برصنا إال عىل مدارس توائم‪ ،‬ال‬
‫تكاد تتميز الواحدة عن األخرى إال باملوقع‪ .‬كان لكل مدرسة طابعها‬
‫اخلاص‪ ،‬وميزهتا التي تعرف هبا وكان هذا حيبب املدرسة للناس‪،‬‬
‫وخاصة لألطفال فيحتفظون هلا بذكرى مجيلة بعد أن يغادروها‪ ،‬وحيبوهنا‬
‫ويرتاحون إليها أثناء مقامهم هبا‪ .‬هذا بالطبع إذا كانت املدرسة حسنة‬
‫التجهيز؛ متوفرة عىل الرشوط التي جتعل فيها العمل ميسورا ومغريا‪.‬‬
‫أما اليوم‪ ،‬رغم أن وسائل التجهيز أكثر تنوعا مما كانت عليه‪ ،‬فإن متاثل‬
‫املدارس يف بنائها‪ ،‬ويف نوع األثاث الذي يعطاها‪ ،‬جتعل من الدقيق‬
‫إعطاءها شخصية‪ ،‬وإحالهلا حمال خاصا يف قلوب األطفال واملعلمني‪.‬‬
‫يقتيض األمر أن تتضافر جهود املدير واملعلمني إلحداث اإلطار اجلميل‬
‫يف حدود الرشوط العملية والصحية الرضورية للعمل املدريس‪ .‬يقتيض‬
‫األمر أن تستعمل إمكانيات التجهيز احلديثة املتنوعة يف خدمة الطفل‪،‬‬
‫وبالنظر إىل حاجاته‪ .‬يقتيض األمر أن تسخر هذه اإلمكانيات لغاية أخرى‬
‫سامية‪ ،‬وهي خلق اجلو العاطفي املنشط للعمل املرغب فيه الكفيل بإرغام‬
‫املعلم والتلميذ معنويا عىل اجلد واملثابرة‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫املوضوع رقم ‪14‬‬
‫جيب أن يكون التلميذ املغريب‪ ،‬بعد خروجه من املدرسة االبتدائية‪ ،‬مهيأ‬
‫ليكون مواطنا صاحلا‪ ،‬فكيف تفهم مهمة الرتبية هذه وكيف تؤدهيا؟‬

‫أ‪ -‬فهم املوضوع‬


‫يضع هذا السؤال املشكلة القديمة‪ ،‬مشكلة الرتبية وغاياهتا‪ .‬وقد أمجل‬
‫السائل رأيه يف أن غاية الرتبية هي خلق املواطن الصالح‪ ،‬ثم سألنا عن‬
‫فهمنا هلذه املهمة‪ ،‬وعن الكيفية التي هبا نؤدهيا‪ ،‬فاملوضوع يتكون من‬
‫عنرصين‪ :‬األول نظري‪ ،‬والثاين عميل‪ .‬إال أن السائل خصص لنا املجال‪،‬‬
‫فتحدث عن التلميذ املغريب‪ ،‬وحد فرتة الرتبية باملرحلة االبتدائية‪ .‬وهلذا‬
‫فلن نذهب بعيدا يف التحدث عن مشكلة الرتبية أو تارخيها‪ ،‬ولن نفيض يف‬
‫ذكر خالفات الفالسفة املربني‪ ،‬واختالف األهداف التي خيطوهنا للرتبية‪،‬‬
‫لكننا سنبقى يف جمالنا املحدود‪ .‬وسنتحدث عن املشكلة احلالية لرتبية‬
‫املواطن الصالح يف مغرب اليوم‪ .‬وسنبدأ بالبحث عام نعنيه باملواطن‬
‫الصالح يف بلدنا اليوم‪ ،‬وما نقصده للغد ليكون تلميذنا مواطنا صاحلا‬
‫غدا‪ .‬وسنلتفت إىل هذه النقطة املهمة‪ ،‬وهي حتديد السائل كالمه باملرحلة‬
‫االبتدائية‪ ،‬ونبني هل تكفي املرحلة االبتدائية لتهيئ املواطن الصالح كام‬
‫نفهمه‪ ،‬وهل توافق الظروف الراهنة هلذا التهييء‪ ،‬وعندما نكتب اجلزء‬
‫العميل‪ ،‬نقول كيف نؤدي عملنا اليوم‪ ،‬وهل عملنا اليوم كفيل بإبالغنا‬
‫اهلدف الذي حددناه‪ ،‬وإىل أي حد نتوقع النجاح ألعاملنا‪.‬‬
‫املهم أن نالحظ أن نية السائل منرصفة إىل الظروف احلالية ببلدنا‪،‬‬
‫ولعله يريد أن يقرأ الطالب ليحكم عن مقدار فهمه للوضعية التي يامرس‬
‫فيها نشاطه‪ ،‬وحيكم عىل مدى قابلية الطالب ألن يكون عضوا خالقا يفهم‬
‫املبادئ التي يسري عليها‪ ،‬ويعرف الوسائل العملية الكفيلة بتبليغه غايته‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫ب‪ -‬التصميم‬
‫* كيف أفهم مهمتي يف تربية مواطن مغريب‪.‬‬
‫* كيف أؤدي هذه املهمة‪.‬‬

‫ج‪ -‬التصميم املفصل‬


‫* حاجة املغرب إىل مواطنني صاحلني‪ -‬تعميم التعليم‪ -‬املدرسة‬
‫االبتدائية املغربية اليوم‪ -‬كيف أفهم مهمة الرتبية‪ -‬جتهيز الطفل بشخصية‬
‫خلقية‪ -‬تزويده بقابلية اجتامعية‪ -‬تزويده بمعرفة عامة‪ -‬اجلمع بني الغاية‬
‫اإلنسانية يف الرتبية وبني احلاجة املاسة إىل مواطنني صاحلني يف حدود‬
‫املدرسة االبتدائية‪.‬‬
‫* عميل الرتبوي‪ -‬عميل التعليمي‪ -‬الرتبية العقلية‪ -‬الرتبية اخللقية‪-‬‬
‫الرتبية اجلسمية‪ -‬املعارف العامة واعتباري أثناء تلقينها ملواطن الغد‪،‬‬
‫ورضورة فتح عني الطفل عىل واقعه‪ ،‬واعطائه علام ورغبة ليكون لبنة يف‬
‫بناء جمتمع أفضل‪.‬‬

‫د‪ -‬اإلنشاء‬
‫إذا بدأت األمة تستيقظ لوجودها‪ ،‬وتعبئ قواها لتتقوى وتتقدم‪،‬‬
‫اهتمت أول ما هتتم بالرتبية‪ ،‬وسنت هلا قوانني‪ ،‬ورشعت هلا أهدافا‪.‬‬
‫وقد استقل املغرب من عهد قريب‪ ،‬وزاد شعوره بكيانه كأمة هلا ماضيها‬
‫احلافل‪ ،‬ومن حقها أن تأمل يف مستقبل زاهر‪ .‬كان هذا الشعور الباعث‬
‫القوي الذي جند جهود األمة يف سبيل حتررها‪ ،‬واليوم جيند القوى يف‬
‫مرحلة البناء‪ .‬وقد وجدت األمة نفسها‪ ،‬غداة االستقالل‪ ،‬وهي يف عداد‬
‫البالد املتخلفة‪ ،‬جتر من ورائها محال ثقيال من خملفات العدو املحتل الذي‬
‫شجع هذه اجلهالة واستثمرها‪ .‬وبمجرد ما تنفس الناس ريح احلرية‪،‬‬
‫أرسعوا إىل املدارس يلتمسون فيها إرواء لعطشهم إىل العلم‪ ،‬ويعملون مع‬

‫‪145‬‬
‫حكومتهم يدا يف يد للقضاء عىل اجلهل ونرش املعرفة‪ .‬ورأت حكومة‬
‫املغرب إقبال الناس فزاد عزمها عىل بث املدارس يف املدن والقرى‪،‬‬
‫وجتهيز هذه املدارس لتقوم بمهمتها‪ ،‬وبذلت احلكومة جهودا كثرية‬
‫لتهيء معلمني‪ ،‬وتكوينهم ليكونوا يف مستوى املهمة التي أناطتها هبم‪،‬‬
‫وتتلخص فلسفة احلكومة املغربية يف «أن التلميذ املغريب جيب أن يكون‪،‬‬
‫بعد خروجه من املدرسة االبتدائية‪ ،‬مهيأ ليكون مواطنا صاحلا» فكيف‬
‫أفهم‪ ،‬بصفتي معلام مغربية هذه املهمة؟ وكيف أقوم بأدائها‪ ،‬يف الظروف‬
‫احلالية‪ ،‬وبالنظر إىل اهلدف الذي حدد يل؟‬
‫إن املغرب اليوم يف حاجة إىل مواطنني صاحلني‪ .‬فرغت املناصب‬
‫اإلدارية‪ ،‬وتفرغ اآلن الوظائف التقنية التي كان يشغلها األجانب‪،‬‬
‫فالبد من إجياد موظفني وفنيني مغاربة خيلفوهنم‪ .‬والبالد يف نشاط‬
‫بنائي‪ ،‬حيتاج تدعيمه إىل رجال ذوي جدوى يف اإلنتاج االقتصادي‪.‬‬
‫واملجتمع املغريب يتكون ويتطور عىل أسس جديدة‪ ،‬ولن يستقر عىل‬
‫وجه مرض إال إذا تكون أعضاؤه‪ ،‬وصاغتهم الرتبية عىل شكل‬
‫يستجيب ملقتضيات املجتمعات املتطورة‪ .‬وحتتاج البالد‪ ،‬ضمن النخبة‬
‫املتعلمة‪ ،‬وضمن العامل املنتجني‪ ،‬وضمن أعضاء املجتمع الناهضني‬
‫به‪ ،‬إىل مواطنني يشعرون بمسؤوليتهم أمام مصري وطنهم‪ ،‬ويشعرون‬
‫بالنصيب الذي ينبغي أن يتحملوه يف سبيل تقدمه وازدهاره‪ .‬وإن‬
‫تكوين املواطن الصالح‪ ،‬وتوحيد عقلية األمة‪ ،‬ملن عمل املدرسة‪ ،‬السيام‬
‫املدرسة االبتدائية‪ ،‬حيث يستقبل أطفال لينو الطبع‪ ،‬يمكن أن تتناوهلم‬
‫الرتبية بالتوجيه الالزم‪ .‬وإن املغرب يسلك يف سياسته التعليمية طريق‬
‫السعي لتعميم التعليم يف مرحلته االبتدائية‪ .‬وإذا ما تم تعميم التعليم‬
‫االبتدائي‪ ،‬وسيتم عن قريب‪ ،‬فسنكون بدأنا رشوطا مهام يف بناء وطننا‪.‬‬
‫ويف انتظار اليوم الذي يتم فيه‪ ،‬جيب أن نتدبر من بعيد‪ ،‬ونرسم اخلطة‬
‫لتعليمنا االبتدائي مراعني املبدأ الذي وضعناه نصب أعيننا‪ ،‬أال وهو هتيئ‬
‫الطفل املغريب ليكون بعد خروجه من املدرسة االبتدائية‪ ،‬مواطنا صاحلا‪.‬‬
‫وننظر اليوم إىل مدارسنا االبتدائية وقد ازدمحت باألطفال نتيجة اإلقبال‬
‫العظيم الذي يظهره الشعب عليها‪ ،‬وننظر إىل النظام الذي فرضه هذا‬

‫‪146‬‬
‫االزدحام‪ ،‬وإىل املعلمني الذين كونوا تكوينا مقتضبا‪ ،‬فيساورنا الشك‬
‫يف أن هذه املدرسة‪ ،‬يمكن أن هتيئ مواطنا صاحلا‪ .‬غري أننا إذا أمعنا‬
‫النظر يف األمر‪ ،‬واعتربنا أن أية مدرسة ابتدائية ال تكفي وحدها لتكوين‬
‫املواطن الصالح‪ ،‬إنام هتيئ األساس الذي سيوضع عليه التكوين املهني‬
‫من بعد‪ ،‬وهتيئ الشخصية التي ستضطلع بدورها يف النشاط االقتصادي‬
‫واالجتامعي والسيايس‪ ،‬بعد أن تنال تكوينا أكمل يف املعاهد الثانوية‬
‫والعليا‪ .‬وإنام هتيئ املدرسة القاعدة الشعبية للتقدم‪ ،‬بام تعطيه ألفرادها‬
‫من تربية وتعليم‪ .‬نتغلب عىل الشك الذي يساورنا إن فهمنا أو وظيفتنا‪،‬‬
‫يف املدرسة االبتدائية‪ ،‬ليس تكوين املواطن الصالح‪ ،‬بل فقط هتيئ هذا‬
‫املواطن‪ .‬إن هذا التهيئ نفسه رغم أمهيته البالغة بالنسبة حلياة األمة كلها‪،‬‬
‫يف متناول املعلم املجتهد الذي يفهم مغزى املهمة التي يقوم هبا‪ ،‬وإنني‪،‬‬
‫وأنا معلم مبتدئ‪ ،‬ألتأمل طويال األهداف التعليمية والرتبوية التي كلفت‬
‫بتبليغ أطفايل إىل غايتها‪ ،‬حتى يمكنني العمل عىل ضوء العقل‪ ،‬ويف طريق‬
‫نري‪ .‬وأول مهمة ينتظر مني القيام هبا‪ ،‬هي تكوين شخصية خلقية متينة‬
‫لتالمذيت‪ ،‬شخصية مستقلة تعرف مكاهنا من املجتمع‪ ،‬فتعمل بإرادهتا‪،‬‬
‫ال جزءا أصم من اآللة االجتامعية‪ .‬شخصية هلا ضمري حي وشعور‬
‫باملسؤولية‪ ،‬يمكن أن يعتمد عليها‪ ،‬يف أي ميدان تعمل فيه‪ .‬مهمتي‬
‫االوىل أن أريب الشخصية‪ ،‬وأن أفتح قابلياهتا لالنسجام مع املجتمع‪ ،‬وأن‬
‫أتعهد هذه القابليات وأزودها باملعرفة الرضورية لتتمكن من وسائلها؛‬
‫وليمكنها يف مرحلة أخرى‪ ،‬أن تبلغ من القوة واالتزان ما جيعلها ذات‬
‫شأن يف احلقل الوطني‪ .‬وإنني لشاعر جدا بالنقص الذي تعانيه بالدي من‬
‫الطاقة اإلنسانية‪ ،‬شاعر بحاجة بالدي إىل رجال بأرسع طريق‪ .‬فتقتيض‬
‫طبيعة وظيفتي أن أساهم بجهودي يف تكوين هؤالء الرجال‪ .‬لكنني‬
‫شاعر أيضا بأن مرحلة التعليم االبتدائي أهم املراحل مجيعا‪ ،‬مؤمن بأن‬
‫التكوين الرسيع يشء رضوري إذا كان هذا التكوين مهنيا أو علميا‪ ،‬لكنه‬
‫غري ممكن إذا تعلق األمر بالتكوين األسايس الذي أطمح يف أن أكونه عند‬
‫تالمذيت‪ .‬أعتقد أن أحسن مسامهة يمكن أن أقدمها لوطني يف جتهيز البالد‬
‫والشعب‪ ،‬هي هتييء جيل جديد يضيف إىل التكوين العام اإلنساين‪ ،‬شعورا‬
‫بانتسابه إىل أمة خاصة‪ ،‬هلا حاجاهتا التي ينبغي أن جياب عنها‪ ،‬ونقصها‬

‫‪147‬‬
‫الذي ينبغي أن يكمل‪ .‬أريد أن أخلق يف اجليل الذي أساهم يف تكوينه‬
‫شعورا عاما بأنه يتحمل مسوؤلية النهوض بالبالد‪ ،‬وشعورا خاصا بكل‬
‫فرد‪ ،‬بأن عليه أن يعمل بكل قواه إلرضاء مسوؤليته‪ .‬ليس من شأين أن‬
‫أعطي أطفايل مهنة حيرتفوهنا‪ ،‬لكن عيل أن أهيئ الرتبة‪ ،‬وأكتشف املواهب‬
‫وأشجعها‪ .‬وعيل أن أفتح أمام كل طفل آفاقا من املعرفة الواسعة‪،‬‬
‫وأهيئ له الفرص ليظهر إمكانياته‪ ،‬فإذا خرج من املدرسة االبتدائية‪،‬‬
‫وقدر له أن يتابع تكوينه هنج هنجا واضحا يف دراسته‪ ،‬واختار عن بينة‬
‫نوع النشاط الذي يناسبه‪ .‬وإذا خرج من املدرسة االبتدائية‪ ،‬ومل يقدر له‬
‫أن يتابع تكوينه‪ ،‬وجد يف يده من الدراية ما يمكنه من رصف مهاراته‬
‫الطبيعية رصفا حكيام‪ .‬ووجد يف يده من املبادئ اخللقية ما جيعله مكان‬
‫الثقة بني الناس‪ .‬ليس من شأين أن أعطي أطفايل علام غزيرا عميقا‪ ،‬لكن‬
‫مهمتي أن أفتح أعينهم عىل مبادئ كل علم‪ ،‬وأن أعد ملكاهتم العقلية‪،‬‬
‫وأعطيها التيقظ واحلدة الالزمني لنجاحهم يف دراساهتم املستقبلة‪ .‬إن‬
‫مهمتي صعبة عىل أي حال‪ ،‬وصعبة بصفة خاصة يف الظروف الراهنة‪،‬‬
‫بسبب ضيق املدارس وتضخمها‪ ،‬وبسبب ما ينتج عن هذا الضيق‬
‫من النقص املادي يف حصص التعليم ويف جهاز املدرسة بصفة عامة‪.‬‬
‫وبسبب فهم األرس املنحرف ملهمة املدرسة‪ ،‬حيث تظن أن تربية الطفل‬
‫من شأن املدرسة وحدها‪ ،‬وحيث جتهل األرس‪ ،‬يف كثري من األحيان‪،‬‬
‫كنه األعامل التي تقوم هبا املدرسة‪ ،‬فال تبذل أي جهد ملساعدهتا‪ .‬وهلذا‬
‫كانت مهمتي أشد صعوبة‪ ،‬يقتيض القيام هبا سعيا متواصال لتاليف نقص‬
‫املدرسة املادي‪ ،‬ومعاجلة جهل األرسة وتقويم فهمها لواجبها الرتبوي‪.‬‬
‫أما يف املدرسة‪ ،‬فإنني أستعني بخربة الزمالء‪ ،‬ألختذ أحسن توزيع ممكن‬
‫لساعات الدراسة‪ ،‬ولكي أستعمل أحسن الوسائل يف جعل تعليمي‬
‫حيا ومنشطا‪ .‬وأما األرس فإنني أغتنم الفرص ألتصل هبا‪ ،‬وأحدثها عن‬
‫شؤون طفلها‪ ،‬وأسعى لكي أؤثر عليها من خالل األعامل التي أكلف‬
‫الطفل بإنجازها‪ ،‬وبواسطة العادات التي أعطيها للطفل يف املدرسة‪،‬‬
‫فينقلها إىل البيت‪.‬‬
‫وإن طبيعة عميل نفسها ال تقل صعوبة عام هي عليه‪ ،‬حتى لو انتفت‬

‫‪148‬‬
‫العراقيل التي أرشت إليها‪ .‬إنني أستقبل أطفاال مبددي القوى‪ ،‬رخوي‬
‫الكيان‪ .‬إن أخذت تقومهم‪ ،‬مل متسك يدك إال عىل نتيجة تافهة‪ .‬اجلسم‬
‫ضعيف‪ ،‬ال يملك حتى تسديد حركاته‪ .‬والعقل سطحي ال يتعلق إال‬
‫باملظاهر الرباقة‪ ،‬مبدد ال يرتكز عىل موضوع بعينه‪ ،‬والعاطفة تتوزعها‬
‫الرغبات املفاجئة‪ ،‬ويزيد من اضطراهبا أن الطفل يف جو جديد عليه‪.‬‬
‫ويطلب إيل‪ ،‬ابتداء من هذا الكائن‪ ،‬أن أهيئ مواطنا مغربيا أثناء الدراسة‬
‫االبتدائية‪ :‬فمن أين سأبدأ عميل؟ أآخذ أوال يف تقوية كل ملكة للطفل عىل‬
‫حدة‪ ،‬ثم أرجع بعدئذ ألربط هذه امللكات وأوحدها؟ أم أعمل للغايتني‬
‫يف نفس الوقت؟ الشك أن نمو الطفل العام‪ ،‬واستناد امللكات بعضها إىل‬
‫بعض‪ ،‬يريد أن أتوجه إىل الطفل ككل‪ ،‬وأعتربه عىل أساس أن له شخصية‬
‫ال تكمل جوانبها إال إذا توجهت جمهودايت إىل كل ملكاته معا‪ .‬فعندما‬
‫أعلمه يف القسم أو خارجه‪ ،‬ال أقترص عىل تلقينه العلم فحسب‪ ،‬بل أتوجه‬
‫يف نفس الوقت إىل عقله ألخلق فيه وعيا عميقا لألشياء‪ ،‬وإىل إرادته لكي‬
‫أقوهيا‪ ،‬وإىل حساسيته لكي أنميها‪ .‬ال أقول إنني معلم وكفاين‪ ،‬لكنني‬
‫أنظر قبل كل يشء إىل العمل الرتبوي املناط يب إنجازه‪ .‬ولست أمجل هذا‬
‫العمل يف عبارات فضفاضة‪ ،‬بل أفصله تفصيال‪ ،‬وأعرف مدى كل خطوة‬
‫أخطوها يف سبيل أدائه‪ .‬لست أترك الظروف ترصفني كام شاءت‪ ،‬بل‬
‫أضع التصميامت ألضمن ألطفايل تربية كاملة‪ ،‬تربية عقوهلم‪ ،‬وأخالقهم‪،‬‬
‫وأجسامهم‪.‬‬
‫فأما الرتبية العقلية‪ ،‬فعليها مدار املناهج والربامج كلها‪ ،‬ويكون العمل‬
‫عليها اجلزء األكرب من النشاط املدريس‪ .‬وأول ما أعمله يف هذا القبيل‪،‬‬
‫وضع تصميم للمواد التي سأدرسها من أول السنة‪ ،‬وتفصيل هذا التصميم‬
‫بالتوزيعات الشهرية‪ .‬وأراعي يف هذا التوزيع ذكاء األطفال‪ ،‬وقدرهتم عىل‬
‫التحصيل‪ ،‬وأراعي أيضا ما يستلزمه املنهاج من الدراسات‪ .‬غري أنني ال‬
‫أعترب هذه التوزيعات قيدا يف رجيل يمنعني من الترصف يف تدبري درويس‪،‬‬
‫بل أعرف كيف أعاجله بالتقديم والتأخري‪ ،‬والزيادة والنقص‪ ،‬إذا اقتىض سري‬
‫قسمي أن أفعل ذلك‪ .‬وال متنعني التوزيعات من تتبع اهتاممات األطفال‬
‫والسري معها‪ ،‬ومن اغتنام الفرص لدراسة موضوع التفتت إليه األنظار‪،‬‬

‫‪149‬‬
‫بمناسبة حادثة شهدها أطفايل‪ ،‬إنام أضع تصميم املواد‪ ،‬وأعضده بمذكرة‬
‫يومية‪ ،‬وأضع استعامل الزمن األسبوعي لتكون يل كل هذه إطارا لنشاطي‬
‫التعليمي الذي أعمل جهدي ألعطيه طابع العفوية‪ ،‬وألوهم التالميذ‬
‫بأن ما يدرسونه من املواد‪ ،‬هو من اختيارهم‪ .‬نعم‪ ،‬البد من النظام يف إلقاء‬
‫الدروس والبد من التدرج فيها‪ ،‬لكنني أقدم يف األمهية استفادة التالميذ‪،‬‬
‫فإذا تعارضت هذه االستفادة مع التوزيع‪ ،‬كأن استغلق درس ما عىل‬
‫التالميذ‪ ،‬أو اكتشفت أهنم مل يفهموا درسا فائتا‪ ،‬أو انتبهت يف وسط الدرس‬
‫أهنم ال يفهمون عني‪ ،‬رجعت إىل الدرس أحوره حتى يكون يف مستوى‬
‫أطفايل‪ ،‬ثم اعتربت بعد هذا أال أحرف املنهاج كثريا‪ .‬وأن إلقاء الدرس‬
‫عىل وجه حسن مناسب ملدارك األطفال‪ ،‬يتطلب حتضري كل درس وهتييئه‬
‫هتييئا طويال‪ .‬فأفكر يف كل موضوع أعده لقسمي‪ ،‬وألتمس أحسن الطرق‬
‫لتقديمه لألطفال وإدخاله يف حيز اهتاممهم‪ ،‬ثم أبحث عن الرباط الذي‬
‫أصله بواسطته‪ ،‬بمعلوماهتم القديمة‪ ،‬وأسجل مالحظايت حول هذه النقط‬
‫يف ورقة التحضري‪ .‬وقليال ما أكتفي بورقة التحضري وحدها‪ ،‬ألن التجربة‬
‫علمتني أن األطفال ال هيتمون وال يفهمون الدرس النظري الذي يعتمد‬
‫عىل العرض اللفظي والرشوح الكالمية‪ .‬فأحرض إىل قسمي من وسائل‬
‫التعليم ما يعينني عىل إلقاء الدرس‪ ،‬وما يعني التالميذ عىل تشخيصه‬
‫وفهمه‪ ،‬وأثناء إلقائي للدروس‪ ،‬أتدرج من نقطة إىل نقطة‪ ،‬وأتأكد أن‬
‫األطفال يتبعونني بام أسمعه من إجاباهتم عن أسئلتي‪ .‬وأستعمل السبورة‬
‫استعامال مستمرا‪ ،‬فأكتب عليها الكلامت التي مل يفهمها التالميذ‪ ،‬وأرسم‬
‫عليها الرسوم واخلرائط‪ ،‬وأسجل عليها التامرين وتصحيحاهتا‪ ،‬ويكتب‬
‫فيها األطفال إجاباهتم بأيدهيم‪ .‬وأثناء إلقائي للدروس أراعي قدرة كل‬
‫طفل‪ ،‬ونوع ذكائه‪ ،‬فال أطلب من كل واحد إال ما يف طاقته‪ ،‬وأساعد كال‬
‫بام أعرفه مطابقا لعقليته‪ .‬كام أراعي أيضا قدرة أطفايل بصفة عامة‪ ،‬ومدى‬
‫صربهم عىل العمل‪ ،‬فال أرهقهم بالتامرين الكثرية‪ ،‬وال أكلفهم حفظ‬
‫النصوص الطويلة‪ ،‬وأنوع هلم الدروس‪ ،‬فأعقب كل درس بآخر مغاير‬
‫له؛ حتى يكون هذا التنويع مرحيا ومنشطا‪ .‬وبصفة عامة فإن عميل يف‬
‫القسم ينبني عىل مبدأين‪ .‬ومها العمل من أجل الطفل‪ ،‬ومع الطفل‪ .‬فأما‬
‫العمل من أجل الطفل فهو مراعاة قدرته عىل العمل‪ ،‬وتوخي استفادته‪،‬‬

‫‪150‬‬
‫وأما العمل معه‪ ،‬فهو الفوز بموافقته واإلحراز عىل تعاونه‪ .‬وإن درويس‬
‫تبدأ دائام بفرتة هتيئ أحاول خالهلا أن أعد األطفال للدرس‪ ،‬وأشوقهم‬
‫إليه‪ ،‬وأخلق جوا منطلقا‪ .‬وأثناء العمل أحرص عىل مشاركة التالميذ‬
‫الفعالة سواء يف رشح الدرس أو يف التامرين املتعلقة به‪ .‬أترك عقول‬
‫األطفال تعمل لتصل بنفسها إىل احلقائق‪ .‬غاية ما أعمله متهيد الطريق‪،‬‬
‫واإلرشاد إليها كلام ضل التالميذ أو عجزوا‪ .‬غايتي أن يتعود األطفال‬
‫استعامل ملكاهتم العقلية‪ ،‬ويتعلموا كيف يستعملوهنا‪ ،‬للدروس التي‬
‫ألقيها‪ ،‬والتامرين التي أطبقها تزودهم باملعرفة األساسية‪ ،‬وطريقتي يف‬
‫إلقاء الدروس‪ ،‬وإرشاكي لألطفال يف املجهود الفكري‪ ،‬يعطيهم اجلانب‬
‫الثاين من الرتبية العقلية‪ ،‬أال وهو الفعالية الفكرية‪ .‬وبكل الوسائل‬
‫التعليمية واملنهجية‪ ،‬بواسطة الكتب التي أختارها لقراءات األطفال‪،‬‬
‫وبواسطة قطع املحفوظات التي أحفظهم إياها‪ ،‬وبواسطة دروس‬
‫املالحظة واألعامل اليدوية التي أعطيها‪ ،‬أسعى لتكوين عقول سليمة‬
‫متناسقة قادرة عىل الوصول إىل األفكار ومعاجلتها‪ ،‬هلا ذاكرة قوية‪ ،‬ومتلك‬
‫خياال خصبا‪.‬‬
‫وأما الرتبية اخللقية فهي الروح الذي يقوم عليه كل نشاطي يف املدرسة‪،‬‬
‫فإنني أومن بأن كل علم ال ينبني عىل معرفة املبادئ اخللقية‪ ،‬وتشبع هبا‪ ،‬ال‬
‫يؤدي إال إىل الفساد‪ .‬وهنا أيضا ألقى مصاعب كثرية يف خلق وعي خلقي‬
‫لدى األطفال‪ ،‬ألن من طبيعة الطفل أال يعترب إال قانونا واحدا‪ ،‬هو رغبته‬
‫احلالية‪ ،‬وأال يتبع مبدأ إال إرضاء هذه الرغبة‪ .‬وأعتمد عىل املعرفة التي‬
‫ألقنها إياه‪ ،‬لتنمي عقله وجتعله قابال إلدراك فرق ما بني اخلري والرش‪ .‬حتى‬
‫إذا أدرك‪ ،‬غرست فيه شعورا بأمهية أعامله‪ ،‬وخطورة النتائج التي تتبعها‪،‬‬
‫وتعهدت بالتغذية الوازع اخللقي الذي نسميه الضمري‪ .‬هناك دروس‬
‫خاصة باألخالق‪ ،‬أجعلها فرصة لرتكيز احلديث عن فضيلة من الفضائل‪،‬‬
‫لكني ال أعتمد عليها وحدها‪ ،‬بل أعتمد قبل كل يشء‪ ،‬عىل احلياة العملية‬
‫يف القسم‪ ،‬وأحاول أن أجعلها مثاال حلسن املعاملة‪ ،‬والصدق يف العمل‪.‬‬
‫فأكون أنا يف أعاميل وأقوايل مثاال للفضائل التي أحتدث عنها‪ ،‬وأغتنم‬
‫كل فرصة لتوكيد القول يف أمهية اخللق الفاضل‪ ،‬وأتلقف كل بادرة‬

‫‪151‬‬
‫حسنة يقوم هبا طفل من أطفايل‪ ،‬ألشجعه عىل عمله‪ ،‬وأحثه عىل املثابرة‪.‬‬
‫وبصفة عامة‪ ،‬فإنني أسعى ألضع األطفال يف إطار خلقي‪ ،‬وأيرس هلم‬
‫السبل الختاذ عادات االستقامة‪ ،‬والصدق‪ ،‬وعفة القلب واللسان‪ .‬ولست‬
‫أنسى أن الطفل يتأثر يف امليدان اخللقي بوسطه‪ ،‬ورغم ما أخشى من رش‬
‫هذا املؤثر‪ ،‬فإنني أجتهد يف مكافحته‪ ،‬واحتال آلخذ الطفل بالعاطفة‪،‬‬
‫حتى تكون املدرسة ومبادئها أكثر متكنا يف نفسه من دواعي البيئة‪.‬‬
‫وأما الرتبية اجلسمية‪ :‬فإن دوري يف القيام هبا ال يقل أمهية عن دور‬
‫األرسة ودور الطبيب‪ .‬إن الرتبية اجلسمية تتوقف قبل كل يشء عىل الوقاية‬
‫احلسنة‪ ،‬والرعاية الكاملة جلسم الطفل‪ ،‬ففي املدرسة يقيض التالميذ جزءا‬
‫مهام من هنارهم‪ ،‬يرصفون جل الوقت يف اجللوس والسكون‪ .‬ولذلك‬
‫أراعي أن جيلسوا جلسة حسنة يستقيم معها وضع عظامهم الرخوة‪،‬‬
‫وأحثهم عىل بذل جمهود جسمي يف اللعب أثناء االسرتاحة إن بدا يل منهم‬
‫عزوف عنه‪ .‬كام أراعي حاجات أجسامهم النامية عندما أهيئ درس‬
‫الرياضة البدنية‪ .‬فأختار حركات متنوعة غري عنيفة‪ .‬وتشكل املدرسة‬
‫خطرا عىل كل طفل‪ ،‬ألنه يلتقي فيها بأطفال كثريين‪ ،‬ويعايشهم وقتا‬
‫طويال‪ ،‬فربام يوجد من بينهم املريض حامل اجلراثيم‪ ،‬يعدي السليمني‪.‬‬
‫ولئن كان عالج املريض من شأن الطبيب‪ ،‬فإن من شأين أنا أن أكتشف‬
‫املريض وأبعده‪ ،‬وأن أشارك يف محالت التلقيح ضد العدوى‪ .‬وإنني‬
‫ألساهم أيضا يف تربية أجسام أطفايل عندما استخرب عن حالة البيت‬
‫وعاداته يف التغذية‪ ،‬وعندما أقدم إرشادات لألرسة يف هذا القبيل‪.‬‬
‫وأساهم أيضا يف الرتبية اجلسمية بام أبذله من جهد ألحافظ عىل سالمة‬
‫حواس الطفل‪ ،‬وتعويده النظافة‪.‬‬
‫يقول الناس إن عمل املدرسة االبتدائية ينحرص يف تعليم الطفل كيف‬
‫يقرأ وكيف يكتب وكيف حيسب‪ ،‬وحق أن تعليم هذه املواد هو األساس‬
‫الذي البد منه يف بناء عقل قابل للتطور‪ ،‬وحق أيضا أن املدرسة االبتدائية‪ ،‬ال‬
‫جتد متسعا لتعمل أكثر من ذلك خالل السنوات القليلة التي يقضيها الطفل‬
‫بني جدراهنا‪ .‬وربام يقول قائل بأن عمل املدرسة االبتدائية تافه إن حرص يف‬
‫تعليم مبادئ القراءة والكتابة واحلساب‪ ،‬لكن الذي يقدر األمور حق قدرها‪،‬‬

‫‪152‬‬
‫يرى بوضوح أمهية هذا التعليم بالنسبة ملستقبل الطفل يف حد ذاته‪،‬‬
‫وبالنسبة حلياة األمة التي سيكون عضوا فيها‪ .‬إن املدرسة تأخذ خامات‬
‫أولية‪ ،‬فتعاجلها لتصنع لنا عقوال هلا من القابلية ما حيقق هلا النجاح يف‬
‫النشاط التعليمي الذي متارسه فيام بعد‪ .‬وإهنا ملهمة كبرية‪ ،‬إن استطاعت‬
‫املدرسة االبتدائية أن تعطينا عقال يكتب وحيسب ويقرأ‪ ،‬ابتداء من كائن‬
‫مشتت القوى‪ ،‬واهي العزم‪ .‬عىل أن مهمة املدرسة ال تقف عند هذا احلد‬
‫التعليمي‪ ،‬بل تتعداه إىل هتييء املواطن الصالح‪ ،‬ذي امليزات اجلسمية‬
‫واخللقية‪ .‬وإن املدرسة املغربية لتحاول يف الظروف الراهنة حتقيق هذه‬
‫الغايات الثالث التي تكون صفات املواطن الصالح‪ .‬حتاول أن تنشئ‬
‫جيال له كيان خلقي كفيل بضامن نجاحه االجتامعي‪ ،‬له عقل متفتح‪،‬‬
‫قادر عىل زيادة حمصوله العلمي واملهني‪ ،‬له جسم قوي يمكنه من أداء‬
‫مهمته كعامل يف احلقل االقتصادي‪ ،‬ويمكنه من تأدية أعامله املهنية‪ .‬تريد‬
‫املدرسة االبتدائية املغربية أن ختلق النواة التي منها يبنى مستقبل البالد‪،‬‬
‫وإن كانت ال تطمح يف تكوين املواطن الصالح تكوينا كامال‪ ،‬فإهنا تبذر‬
‫البذرة األوىل التي ستنمو وترتعرع‪ ،‬لكنها لن تتخىل أبدا عن الشعور‬
‫الذي أنشأته املدرسة االبتدائية‪ ،‬بأن كل فرد حيمل حظه من املسؤولية يف‬
‫بناء مستقبل أفضل‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫املوضوع رقم ‪15‬‬
‫قال روسو‪« :‬احلق أن الذي يصنع الرجال‪ ،‬جيب أن يكون أكثر من‬
‫رجل! أيمكن حقا العثور عىل املريب‪ ،‬هذا املخلوق النادر الوجود؟ أما أنا‬
‫فإنني أشعر كثريا بعظم واجبات املريب‪ ،‬ولن أجرس يوما عىل حتمل مسؤولية‬
‫كمسؤوليته»‪.‬‬
‫ما رأيك يف كلامت روسو‪ ،‬وهل يساورك َه ٌّم مثلام ساوره؟ ثم حتدث‬
‫عن صفات املعلم‪.‬‬

‫أ‪ -‬فهم املوضوع‬


‫روسو أديب قبل أن يكون فيلسوفا‪ ،‬وفيلسوف قبل أن يكون مربيا‪.‬‬
‫اشتهر بآرائه يف الرتبية‪ ،‬ونالت هذه اآلراء نجاحا مطردا منذ ما يقرب من‬
‫قرن‪ .‬والزالت آراؤه نرباسا هيتدي به املربون يف كل بلد‪ ،‬ومهام كانت‬
‫نزعاهتم التجديدية‪ .‬ولعل شهرة روسو‪ ،‬وعظمة تراثه األديب‪ ،‬توشك أن‬
‫تنسى عند املربني‪ ،‬حتى ال يتذكروا إال آراءه الفلسفية وكتاباته الرتبوية‪.‬‬
‫واحلق أن روسو أديب‪ ،‬كتب بروح أديب وبعقل أديب وأسلوب أديب‪.‬‬
‫لكن حدسه الدقيق‪ ،‬وإحساسه املرهف‪ ،‬أوصاله يف غالب األحيان‪ ،‬إىل‬
‫حقائق سبق بنرشها زمانه‪ ،‬ومكنا له سمعة وأصالة يف الفلسفة اإلنسانية‪.‬‬
‫عىل أن الذي يقرأ ما كتبه يف فلسفة الرتبية‪ ،‬ينبغي أال ينسى أنه يقرأ ألديب‬
‫مطبوع‪ ،‬وألديب مثايل مرسف يف املثالية‪ .‬وإال فإنه سيقف مشدوها أمام‬
‫بعض كلامت روسو‪ ،‬ولن جيد هلا معنى مهام تلوى حوهلا‪ .‬وإن يف مثالنا‬
‫اليوم ملا يدعو إىل التدبر يف هذه الفكرة‪ ،‬فرتى أن روسو يتساءل عن إمكان‬
‫وجود مرب‪ ،‬ويصف أن املريب نادر الوجود‪ ،‬إذا مل نحمل كلمته عىل‬
‫املثالية التي ال تنفصل عن كتاباته‪ ،‬وفهمناه حرفيا‪ ،‬فربام نأخذ يف الشك‬
‫معه‪ ،‬ونستبعد أن يكون يف الدنيا من يستحق اسم مرب‪ .‬إنام سنفرس كالم‬

‫‪154‬‬
‫روسو عىل نحو يظهر معه أن الفيلسوف يطمح يف العثور عىل املريب‬
‫املثايل‪ ،‬وإنه ال يرىض باحللول اإلنسانية الوسطى‪ .‬وسنبني أن خيفته من‬
‫حتمل مسؤولية الرتبية‪ ،‬وهتويله لعظمها‪ ،‬تدخل يف قبيل التعبري الشخيص‬
‫عن شعور نبيل‪ ،‬باملهمة اإلنسانية التي يضطلع هبا املريب‪ ،‬وال حتمل عىل‬
‫التشاؤم من قدرة الناس عىل حتملها‪.‬‬
‫وعىل هذا فسيكون يف املوضوع عنرصان‪ :‬أوهلام يتضمن تأويال‬
‫لكلمة روسو‪ ،‬وتصويرا لشعورنا نحن اجتاه مسؤولية الرتبية التي‬
‫نتحملها‪ .‬والعنرص الثاين فيه عرض لصفات املعلم التي ختوله أداء‬
‫مهمته‪ .‬وسيكون اجلزء األول ذا صبغة أدبية نظرا ألنه يتعرض‬
‫للتعبري عن إحساسات شخصية‪ ،‬لكنه سيتضمن عرضا موجزا‬
‫لواجبات املعلم كام يفهمها روسو وكام أفهمها أنا‪ .‬وذلك لنضع‬
‫شعورنا وشعور األديب يف إطار فهمنا‪ ،‬الذي قد يكون خمتلفا‪ ،‬لطبيعة‬
‫العمل الذي نحن بصدده‪ ،‬ويف إطار اإلمكانيات التي نتوفر عليها‪.‬‬
‫ونالحظ أن اجلزء الثاين منقطع عن اجلزء األول يف السؤال‪ ،‬فالبد‬
‫من اختاذ متهيد بني النقطة األوىل والثانية لئال تبقى ثغرة يف مقالتنا‪ ،‬أو‬
‫يبدو فيها االنتقال الفجائي‪ ،‬من تعبري شخيص عن شعورنا‪ ،‬إىل بحث‬
‫موضوعي عن صفات املعلم‪.‬‬

‫ب‪ -‬التصميم‬
‫* كيف أفهم كلامت روسو‪ ،‬وشعوري مقارنة بشعوره‪.‬‬
‫* صفات املعلم‪.‬‬

‫ج‪ -‬التصميم املفصل‬


‫* روسو ومثاليته‪ -‬واجبات املريب يف رأيه‪ -‬كيف يشعر بمسؤولية‬
‫املريب‪ -‬كيف أفهم أنا هذه املسؤولية‪ -‬دور املريب أصبح أهم مما كان عليه‬
‫يف عرص األديب‪ -‬شعوري وشعوره‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫* صفات املريب‪ :‬القابلية املهنية‪ ،‬الصفات العقلية‪ ،‬الصفات اجلسمية‪،‬‬
‫الصفات اخللقية‪ -‬الثقافة العامة‪ -‬الثقافة املهنية‪ -‬الصفات الطبيعية‪-‬‬
‫الشعور باملسؤولية‪.‬‬

‫د‪ -‬اإلنشاء‬
‫اخرتت مهنة التعليم‪ ،‬ولبيت نداء الداعي الوطني ألقوم بمهمة حيوية‪.‬‬
‫ودخلت املهنة ومعي استعداد واسع‪ ،‬ورغبة كبرية يف تنمية ثقافتي املهنية‪،‬‬
‫والنجاح يف عميل‪ .‬ومارست عميل كام يفعل املبتدئ‪ ،‬مرة أخطئ‪ ،‬ومرة‬
‫أصيب‪ ،‬وكل يوم يأتيني بتجربة جديدة تزيدين معرفة بنوع األعامل التي‬
‫ينبغي أن أقوم هبا‪ .‬كنت أحسب‪ ،‬واحلق يقال‪ ،‬أن مهنة التعليم‪ ،‬عىل رشفها‬
‫من املهن السهلة التي تتطلب ذكاء وثقافة‪ ،‬لكنها عىل أي حال مهنة ال‬
‫يلبث ممارسها أن حيذقها‪ .‬وكنت أحسب أن مهمتي ال تعدو أن تكون إلقاء‬
‫الدروس وتفهيمها جيدا‪ .‬ومما أغنتني به التجربة‪ ،‬أن مهمة املعلم ليست من‬
‫السهولة بحيث كنت أظن‪ ،‬وإهنا ال تنحرص يف إلقاء الدروس وتفهيمها‪.‬‬
‫اكتشفت أن املعلم يضطلع بمسؤولية تكوين األفراد وتربيتهم‪ ،‬وتتبعت‬
‫مواطن مسؤوليته‪ ،‬فوجدهتا تشمل الطفل بكل ملكاته‪ ،‬وبكل طاقاته‪،‬‬
‫العقلية منها واجلسمية‪ .‬وكشف يل الغطاء عن عظم هذه املسؤولية ما قرأته‬
‫لروسو حيث يكتب‪« :‬احلق أن الذي يصنع الرجال‪ ،‬جيب أن يكون أكثر‬
‫من رجل! أيمكن حقا العثور عىل املريب‪ ،‬هذا املخلوق النادر الوجود؟ أما‬
‫أنا فأشعر كثريا بعظم واجبات املريب‪ ،‬ولن أجرس يوما عىل حتمل مسؤولية‬
‫كمسؤوليته» وتضاءلت يل نفيس وأنا أطلع عىل فكرة الفيلسوف الكبري‪ .‬إذا‬
‫كان مثله يتخوف من عظم مهمة املريب وال جيرس عىل حتملها‪ ،‬فأنى ملثيل أن‬
‫ينهض هلا؟ وزاد مهي فرصت أتساءل‪ :‬هل يل من الصفات ما خيولني القيام‬
‫بالعمل الذي اخرتته؟‬
‫إذا ما قرأنا لروسو‪ ،‬فينبغي أن نفرس كالمه تبعا للروح املثالية التي‬
‫كانت متجلية يف آثاره‪ ،‬وتبعا ألحداث وأفكار عرصه‪ .‬وإن روسو لفذ من‬
‫أعالم األدب‪ ،‬متتاز كتاباته بروح سامية‪ ،‬ويغلب عليها الطابع الشخيص‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫فلم يكن روسو عاملا وفيلسوفا‪ ،‬وإنام كان شاعرا دقيق احلس‪ ،‬هدته‬
‫بصريته إىل حقائق إنسانية عميقة‪ ،‬فكان وال يزال‪ ،‬فيام كتبه إماما للفالسفة‬
‫واملربني‪ .‬كان روسو‪ ،‬يف نشاطه األديب‪ ،‬جنديا يكافح يف سبيل حترر‬
‫اإلنسان‪ ،‬ويتنبأ بالفوز املقبل للقيم اإلنسانية‪ ،‬ولذا جتد يف كتاباته حرارة‬
‫االقتناع وجتد فيها محاسة الرجل الذي ال يقنع بام دون الكامل‪ .‬ورصف‬
‫روسو حياته يكافح بقلمه‪ ،‬يف عرص ملا تنترص فيه احلرية‪ ،‬وملا يقتنع أهله‬
‫بأن للناس حقوقا متامثلة‪ ،‬بقطع النظر عن منشأهم ومستواهم االجتامعي‪.‬‬
‫وجاءت أفكار روسو‪ ،‬يف تيار فلسفة القرن الثامن عرش‪ ،‬كشعاع أشد نفاذا‬
‫وأشد التهابا من أفكار الفالسفة‪ .‬وكانت لكتاباته األدبية‪ ،‬يف تيار أدب‬
‫القرن الثامن عرش‪ ،‬صبغة عاطفية خاصة‪ .‬ونقرأ اليوم لروسو‪ ،‬فنجد ريح‬
‫مثاليته وعاطفيته‪ ،‬وخاصة يف كتابه «اميل» الذي عرض فيه جل أفكاره‬
‫الرتبوية‪ .‬وإن الكلمة التي أمامنا لنموذج حسن ألسلوبه‪ ،‬وأفكاره‪.‬‬
‫ويتحدث روسو هنا عن واجبات املريب‪ ،‬ويستعظمها‪ ،‬ثم يضعها نصب‬
‫عينه‪ ،‬فرتبو حتى لتظهر له فوق الطاقة البرشية‪ .‬ويذهب يؤكد أن الذي‬
‫يصنع الرجال جيب أن يكون أكثر من رجل! ربام يكون حكم روسو هذا‬
‫حقا إذا كانت واجبات املريب عىل غرار ما يتصوره روسو‪ ،‬وما يتحدث‬
‫عنه يف كتابه‪ ،‬فإن روسو رسم غايات مثالية لتلميذه‪ ،‬واختذ لتكوينه مبادئ‬
‫تربوية مثالية‪ .‬يؤمن روسو بأن طبيعة اإلنسان خرية‪ ،‬وأنه ال يفسد إال‬
‫بتأثري املجتمع الفاسد‪ .‬ويتصور روسو الرجل املتوحش الطبيعي كمثال‬
‫للصفات اخللقية والعقلية واجلسمية احلسنة‪ .‬فريسم الميله خطة لينشأ‬
‫رجال طبيعيا‪ .‬حيكي روسو كيف بدأ الطفل الرضيع يف حرية تامة‪ ،‬بعيدا‬
‫عن مضايقات القامط‪ ،‬يرضع لبن أمه الطبيعي‪ ،‬ويأكل أطعمة طبيعية‪،‬‬
‫ويلبس لباسا صحيا‪ .‬ثم يصفه يف يد املريب الذي أخذ عىل نفسه أن يريب‬
‫فتى كامل اجلسم‪ ،‬كامل العقل‪ ،‬كامل اخللق‪ .‬يصف املجال الفسيح الذي‬
‫اختذه املريب حجرة للدرس‪ ،‬وهو الطبيعة بكاملها‪ ،‬ويصف نشاط الطفل‬
‫بني أحضان هذه الطبيعة التي تشارك املريب يف القيام بمهمته‪ ،‬فتهيئ األشياء‬
‫التي ينبغي أن تدرس‪ ،‬وبحيث يمكن أن يالحظها الطفل ويستفيد منها‪.‬‬
‫ويصف دور املريب يف تتبع سري عقل الطفل‪ ،‬وكيف يقف موقف املرشد‪،‬‬

‫‪157‬‬
‫دون أن يتدخل يف أعامل الطفل‪ ،‬إال بمقدار وعند احلاجة الشديدة‪ .‬ويصف‬
‫كيف يتعلم الطفل دونام حاجة إىل كتاب‪ ،‬فالكتاب حيمل جراثيم الرش‪،‬‬
‫ويرينا آخر األمر كيف حدثت املعجزة فكان إميل شابا مجيال ناضج العقل‬
‫متني اخللق‪ .‬كل هذا يف أسلوب أديب‪ ،‬ويف قالب قصيص حمكم احللقات‪،‬‬
‫يف طيه حكمة ال جمال للشك يف قيمتها‪ .‬لكن الرمانطيقية تتجىل يف جمموع‬
‫الكتاب ويف جزئياته‪ .‬وفكرة الرجل الطبيعي اخلري؛ وفكرة الطبيعة األم‬
‫الرؤوم تضفي عىل نظريات روسو حلة مجيلة‪ ،‬لكنها ال تكسبها املتانة‬
‫الفكرية التي يتصف هبا الفيلسوف املوضوعي‪ .‬وما دام روسو ينشد الكامل‬
‫يف الرتبية‪ ،‬ويتخيل لتلميذه ظروفا مثالية أثناء تربيته‪ ،‬فإن من الطبيعي أن‬
‫ينشد الكامل عند املريب أيضا‪ ،‬وأن يتخيله خلقا فوق البرش‪ .‬ومن الطبيعي أن‬
‫متتلئ نفسه بعظمة العمل الذي ينجزه املريب‪ ،‬وأن يعرب عن عجزه لو حاول‬
‫هو القيام به‪ ،‬وعن ختوفه وقلة جرأته من االقدام عىل املحاولة‪.‬‬
‫فإذا تركنا األديب حيلق يف عليائه‪ ،‬وتطلعنا إىل الصعيد اإلنساين‪ ،‬وجدنا‬
‫أن من بني الناس مربني‪ ،‬وأن الرتبية تكاد تكون مهنة من املهن‪ ،‬لوال ما‬
‫تقتضيه من سمو نفس‪ ،‬ونبل طبع‪ .‬وجدنا أن املربني‪ ،‬يف مستواهم اإلنساين‬
‫وعرب العصور‪ ،‬قاموا بواجبهم فنالوا حظا قليال أو كثريا من النجاح‪ ،‬وكان‬
‫منهم من برز يف أعامله‪ ،‬وكان منهم من نال املكانة املمتازة‪ .‬وإنني ألحتمل‬
‫عبئا تربويا كبريا أثناء قيامي بمهمتي كمعلم ابتدائي‪ .‬وأشعر أن املسؤولية‬
‫امللقاة عيل ضخمة‪ ،‬إذ يطلب إيل أن أصنع رجاال‪ ،‬ويطلب إيل أن أصنع‬
‫نوعا خاصا من الرجال‪ ،‬هلم خصائص عقلية ونفسية تؤهلهم ألن يكونوا‬
‫يف األمة ركنا يعتمد عليه‪ .‬ومع ما أشعر به‪ ،‬فلست أتصور لنفيس قوة‬
‫العمالق‪ ،‬ولست أتصور لنفيس طاقة فوق طاقات البرش‪ .‬لست نسخة‬
‫من مريب روسو املثايل‪ ،‬إما أفهم أن مهمتي تقتيض مني القيام بأعامل يومية‬
‫متواضعة‪ ،‬وتقتيض مني أن أثابر وأصرب‪ .‬وأفهم أن نجاحي يف مهمتي رهن‬
‫بمجهودايت املتواصلة‪ ،‬لتكوين نفيس أوال‪ ،‬وإكساهبا الصفات اخللقية‬
‫املتينة‪ ،‬التي جتعلني مثاال حسنا ينطبع به أطفايل‪ .‬أفهم أن نجاحي يف مهمتي‬
‫رهن بتثقيف نفيس ألكون قادرا عىل تقويم العقول الصغرية وإنارهتا‪ .‬هديف‬
‫ليس هدف األديب الكبري‪ ،‬فهو يرمي إىل خلق الرجل الكامل‪ ،‬وأنا أطمع‬

‫‪158‬‬
‫يف تكوين مواطن صالح‪ ،‬رجل كالناس‪ ،‬سيكون غدا فالحا أو تاجرا أو‬
‫معلام أو عاملا‪ .‬أطمع يف إنشاء جيل قويم اخللق متفتح امللكات‪ .‬وإذاكان‬
‫مريب روسو يصنع أفرادا ممتازين لكن صفاهتم ووظائفهم االجتامعية يلفها‬
‫ضباب اخليال‪ ،‬فأنا أعرف بالضبط املهمة التعليمية والرتبوية املنوطة يب‪،‬‬
‫أعرف الوسط الذي سيعيش فيه الطفل‪ ،‬ونوع األعامل املمكنة يف هذا‬
‫الوسط‪ ،‬ومقدار املعرفة الرضورية يف هتييء الطفل ملامرسة هذه األعامل‪.‬‬
‫فأعمل طبق كل هذا‪ ،‬وأتوخى أن أحقق أهدافا عملية حمدودة‪ .‬وسائيل‬
‫ليست كوسائل روسو‪ ،‬فإنه يريد الرجوع إىل الطبيعة األم‪ ،‬وتنشئة األطفال‬
‫بني أحضاهنا‪ ،‬وأنا أعرف أن ظروف القرن العرشين ونظام التعليم نفسه‬
‫املبني عىل وحدات كبرية هي املدارس‪ ،‬ال تسمح بمثل ما كان حيلم به‬
‫األديب‪ .‬هو يطرد الكتاب من أفق طفله‪ ،‬وأنا أومن أن الكتاب أول أداة‬
‫يف حقل الرتبية والتعليم‪ .‬هو يدعو إىل ترك الطفل نفسه يكتشف احلقائق‪،‬‬
‫وأنا أعرف أن اختاذ هذه الفكرة مبدأ‪ ،‬رغم ما فيها من فائدة كبرية‪ ،‬وتطبيقها‬
‫يف كل جزئية يشء ال يتفق وما تبغيه الظروف من اإلرساع يف تكوين الطفل‬
‫وفق سلم مدريس موقوت‪ ،‬وإخراجه‪ ،‬بعد أجل حمدد‪ ،‬إىل ميدان العمل‬
‫واالنتاج‪ .‬الفيلسوف يرتك للظروف ومليول طفله تنظيم األعامل اليومية؛‬
‫واختيارها‪ ،‬أما أنا فأمامي مناهج حمددة جيب أن احرتمها‪.‬‬
‫ظرويف ختتلف عن ظروف املريب املثايل‪ ،‬فإن له غايات مجيلة‪ ،‬لكنها‬
‫غري حمددة بالضبط؛ ويل غايات عملية أعرفها مقدما‪ .‬وأن له وسائل بعيدة‬
‫التحقيق‪ ،‬بعيدة كل البعد عن وسائيل التي جتند صناعة الكتب‪ ،‬وصناعة‬
‫وسائل التعليم الغنية املتنوعة‪ ،‬لكي تستعمل وفقا لقواعد مدروسة‪ .‬وهلذا‬
‫فال غرو أن أجد شعوري خيتلف عن شعور األديب الكبري‪ ،‬كل منا يساوره‬
‫قلق عىل قدر الغايات التي رسمها لنفسه‪ .‬لكنه تعلق بالسامء‪ ،‬وقدر أهنا‬
‫عزيزة فتخوف ونكص‪ ،‬وأنا أعرف أن غايايت يف متناول اإلنسان؛ وأقدر‬
‫أن بإمكاين أن أحاول مثلام حاول املربون من قبيل‪ ،‬فأقدمت عىل العمل‪.‬‬
‫ال أزعم أن نفيس هادئة مطمئنة‪ ،‬وال أثق بنفيس كل الثقة‪ ،‬فإن خطورة‬
‫مهمتي ال تربح تصور يل أن طريقي مليئة باملعاطب واملزالق‪ .‬وإن مقارنتي‬
‫بني مقدرايت احلالية‪ ،‬وبني ما ينبغي أن أكون عليه ختوفني من الفشل لكن‬

‫‪159‬‬
‫شعوري بخطورة املهمة‪ ،‬وشعوري بتقصريي ال يمنعاين من االجتهاد‪،‬‬
‫وأستمد القوة من الرىض الذي أحصله يف كل يوم‪ ،‬كلام الحظت ثمرة مما‬
‫غرست يداي‪ ،‬وأستمد القوة من إحسايس بالدور احليوي الذي كلفت‬
‫به‪ ،‬ومن حبي لوطني وإرادة اخلري له‪.‬‬
‫وإذا تركنا مريب الكاتب الفرنيس الذي ختيله إهلا‪ ،‬ونظرنا يف امليدان‬
‫العميل اليوم‪ ،‬وجدنا أن املريب يكلف بمهمة خاصة‪ ،‬تتطلب أن يتوفر‬
‫املرشح هلا عىل مؤهالت خاصة‪ .‬وكلام تفرعت طرق التعليم‪ ،‬واختلفت‬
‫مستوياته ونشاطه‪ ،‬كانت الصفات املفروضة يف املريب وفق هذا التفرع‬
‫واالختالف‪ .‬وسواء أطلق اسم مرب أو معلم فإن رشوط توظيف املريب‬
‫تكثر كلام ارتفع مستوى التعليم‪ ،‬وتتعدد كلام كانت املهمة املعلقة عليه‬
‫صعبة‪ .‬وهلذا يطلب من معلم املدرسة الثانوية‪ ،‬شهادات أعىل مما يطلب‬
‫إىل معلم االبتدائي‪ .‬وهكذا متصاعدين‪ .‬وهلذا يطلب إىل مريب األطفال‬
‫الناقصني جسام أو عقال‪ ،‬أكثر مما يطلب إىل مريب األسوياء‪ .‬لكن هناك‬
‫رشوطا أساسية البد أن يتوفر عليها كل معلم مهام كانت أعامله‪ .‬هناك‬
‫الصفات اإلنسانية العامة‪ ،‬وهناك الرشوط الثقافية‪ ،‬وهناك الرشوط‬
‫اجلسمية‪ ،‬وهناك الرشوط املهنية‪.‬‬
‫«الصفات اإلنسانية»‪ :‬وأول الصفات اإلنسانية التي ينبغي أن‬
‫تكون عند املريب هو حب األطفال‪ .‬وإن حب األطفال لعنوان املريب‬
‫املوهوب‪ ،‬الذي يضيف إىل عطفه عىل الصغار‪ ،‬قدرة عىل فهمهم‬
‫ورغبة يف تنميتهم وتعزيز ملكاهتم‪ .‬املعلم املوهوب حيب األطفال حبا‬
‫إجيابيا‪ ،‬فال يقترص عىل التعبري عن حمبته‪ ،‬وال يكتفي بالرىض الذي يشعر‬
‫به إذا ما كان بينهم‪ ،‬بل يعرف طرق األطفال يف تفكريهم فيأخذ أيرس‬
‫املسالك إىل العقول‪ ،‬ويعرف منرصف اهتاممهم فيتحدث حديثا يميلون‬
‫إليه ويفهمونه‪ .‬وتؤدي حمبة األطفال إىل احرتامهم‪ ،‬واعتبار القدرات‬
‫الكامنة يف كل منهم‪ ،‬وتقديم هذا االعتبار عىل غريه يف كل األعامل‪.‬‬
‫فإذا اقتىض نفع األطفال أن يعاملوا ببعض الشدة‪ ،‬مل تكن حمبتهم مانعة‬
‫من ذلك‪ ،‬بل أوجبت أن يتقطب الوجه‪ ،‬وخيتفي العطف احلقيقي‬
‫حتت املظهر اخلشن‪ .‬وبصفة عامة‪ ،‬فإن حمبة األطفال تعطى ألعامل‬
‫املعلم حرارة عاطفية يشعر هبا األطفال‪ ،‬فيسلسون قيادهم‪ ،‬ويشاركون‬

‫‪160‬‬
‫بحامس يف األعامل البناءة التي سيجنون ثمرهتا‪.‬‬
‫ومن صفات املريب اخللقية الضمري احلي الشاعر‪ .‬وال يكفي أن يقف‬
‫الوازع اخللقي باملعلم عند القيام بأعامله املحدودة يف الصورة املفروضة‪ ،‬بل‬
‫البد أن يعمل من كل قلبه‪ ،‬وبإخالص تام‪ ،‬ال يقنع ببذل بعض اجلهد‪ ،‬بل‬
‫باجلهد كله‪ .‬ولئن كان التعليم مهنة كاملهن‪ ،‬وكان حكم النظام االجتامعي‬
‫قاضيا بأن يشغل كل وظيفة يرتزق منها‪ ،‬فإن شعور املعلم بأنه يمتهن مهنة‬
‫يرتزق منها‪ ،‬ينبغي أال حيجزه عن التضحية يف سبيل أداء عمله بصفة أكمل‪،‬‬
‫عمل املعلم أكثر أمهية من أن يقارن باألعامل األخرى‪ ،‬إنام املعلم خيتار ملهمة‪،‬‬
‫وينتخب لوظيف استثنائي‪ .‬وأيا ما كان الربح املادي الذي يناله‪ ،‬فإن مكانته‬
‫االجتامعية ينبغي أن تكون عىل قدر مهمته‪ ،‬أي يف مكان االعتبار والرشف‪.‬‬
‫وأيا ما كان أجر املعلم املادي؛ وأيا ما كان االعتبار االجتامعي الذي يناله‪،‬‬
‫فينبغي أن هيب نفسه لعمله‪ ،‬وينسى كل ما من شأنه أن حييد به عن التفكري‬
‫املستمر والسعي املتواصل من أجل أداء األمانة‪.‬‬
‫ولن نحيص الصفات اخللقية االخرى املرشوطة يف املعلم‪ ،‬إنام‬
‫نكتفي باإلشارة إىل أبرزها‪ ،‬ونجمل القول فنكتب بأن املعلم جيب أن‬
‫يكون إنسانا فاضال‪ .‬فمن الصفات اخللقية والطبيعية التي يتوقف‬
‫عليها نجاحه االجتامعي واملهني‪ ،‬اهلدوء والرزانة يف أقواله وأعامله‪.‬‬
‫فإن الناس ال يثقون إال بالرجل الثبت الذي ال يترسع يف أحكامه‪ ،‬وال‬
‫متلكه عواطفه‪ .‬كام أن األطفال ال خيضعون للمعلم النزق‪ ،‬غري املتزن‬
‫يف أعامله‪ .‬ومن الصفات اخللقية أيضا العدل الذي ال يميل مع اهلوى‪،‬‬
‫وإن األطفال ليتوقف احرتامهم للمعلم‪ ،‬واحرتامهم للنظام املدريس‪،‬‬
‫عىل عدل املعلم أو ظلمه‪ .‬فإذا عرفوا أنه حيرتم القوانني ويسوي بينهم‬
‫يف املكافآت والعقوبات‪ ،‬خضعوا وأطاعوا‪ .‬وإن عرفوا أن قوانني املعلم‬
‫توزن بميزانني‪ ،‬مل حيرتموه إال بقدر خوفهم عقابه‪ ،‬ومل حيرتموا القانون‬
‫إال أن خيشوا مغبة خمالفتهم‪ .‬والشك أن مثل هذا الفهم للقانون‪ ،‬وإن‬
‫مثال املعلم نفسه يف هذا القبيل‪ ،‬حيمل يف طيه أخبث العواقب عىل‬
‫تكوين األطفال اخللقي‪ .‬ومن الصفات األساسية يف املعلم الصرب‬
‫والثبات؛ فإن طبيعة عمله تقتيض تناول أفكار ضعيفة‪ ،‬البد من معاجلتها‬

‫‪161‬‬
‫شيئا فشيئا حتى تقوى‪ ،‬وقد يكون منها الفكر األصم‪ ،‬فالبد من مطاولته‬
‫والصرب عليه‪ .‬وإن نشاط األطفال املستمر العارم‪ ،‬وحاجتهم إىل احلركة‬
‫واللعب‪ ،‬يعرض املعلم لصدمات قد تفقده توازنه إن مل يتحل بالصرب‪.‬‬
‫وليس أدعى إىل الشفقة من املعلم قليل التحمل‪ ،‬الذي يغضب لكل‬
‫خمالفة مهام صغرت‪ ،‬ويثور إن حترك الطفل أو تكلم‪.‬‬
‫«الرشوط الثقافية»‪ :‬املعلم مسؤول عن تكوين عقول‪ ،‬وتلقني قدر من‬
‫املعرفة‪ .‬فمن الرضوري أن يكون هو نفسه حمصال عىل ثقافة حسنة‪ .‬ومن‬
‫الرضوري أيضا أن تكون ثقافته أعم وأعمق من العلم الذي يلقنه‪ .‬بل‬
‫رشط يف قدرته عىل التعليم‪ ،‬أن َي ْع َلم أكثر مما ُي َع ِّلم‪ .‬ويطلب من املعلمني‬
‫أن ينموا ثقافتهم بدون انقطاع‪ ،‬ويطلعوا عىل كل جديد ليمكنهم مسايرة‬
‫حركة الفكر‪ ،‬وبالتايل تكوين عقول قابلة للتطور‪ .‬وقد يظن املعلم أن‬
‫االطالع الواسع بالقدر الذي يطلب منه من قبيل املستحيالت‪ ،‬لكن‬
‫املجالت املتنوعة والكتب امللخصة‪ ،‬التي تصدر اليوم كفيلة بمساعدته‬
‫يف تثقيف نفسه‪ .‬ثم إنه ال يطلب من املعلم أن يتخصص يف كل علم‪،‬‬
‫فإذا كان معلام ثانويا رصف اهتامما أكرب حلقل ختصصه وشارك يف العلوم‬
‫األخرى‪ ،‬وإذا كان معلام ابتدائيا حاول أن يوجد أساسا متينا يف املواد التي‬
‫يلقنها‪ ،‬ثم كون لنفسه نظرة إمجالية عىل سائر الفنون‪.‬‬
‫«الرشوط اجلسمية»‪ :‬إن املعلم يبذل جمهودات جسمية ال تقل‬
‫عن جمهوده الفكري‪ .‬وربام نجد أن املعملني أرسع العملة إىل‬
‫اإلرهاق اجلسمي‪ ،‬وأكثر تعرضا لألمراض‪ .‬ذلك ألن املعلم حيتك‬
‫يف كل يوم بجامعة األطفال‪ ،‬وهم شديدو احليوية‪ ،‬يتطلب ضبطهم‬
‫وتتبع نشاط كل فرد منهم جمهودا عصبيا خاصا‪ .‬ولذا يشرتط يف‬
‫املعلم أن يكون ذا مزاج هادئ‪ ،‬وجهاز عصبي مقاوم‪ .‬ثم إن قلة‬
‫الفرص عند املعلم لبذل نشاط عضيل‪ ،‬وممارسة احلركات الرياضية‪،‬‬
‫واألعامل املرهقة لتصحيح أوراق التالميذ‪ ،‬تزيد من ضعفه وقابليته‬
‫للمرض‪ .‬ولذا ينبغي أن يكون املعلم متني الرتكيب سليم احلواس‪،‬‬
‫وأن يتعهد جسمه بأنواع النشاط العضيل ليحتفظ بصحته‪ ،‬وأن‬
‫يتخذ طرق الوقاية لتبقى حواسه سليمة‪ .‬ومهام كان تكوين املعلم‬

‫‪162‬‬
‫اجلسمي‪ ،‬فإن من واجبه أن يعتني بمظهره العام‪ ،‬فيلبس لباسا معروفا‬
‫بني الناس‪ ،‬ويتأنق بقصد واعتدال‪ .‬ويراعي يف ملبسه وحركاته الرزانة‬
‫التي تناسب مقامه االجتامعي‪ ،‬الكفيلة بتوطيد السلطة اخللقية التي ختوله‬
‫صفاته األخرى أن يتمتع هبا‪.‬‬
‫«الرشوط املهنية»‪ :‬الثقافة املهنية أساس تكوين املعلم‪ ،‬إذ عىل قدر‬
‫مهارته يف الرتبية وطرق التعليم‪ ،‬يكون نجاحه‪ .‬وتريد هذه الثقافة‪،‬‬
‫كالثقافة العامة‪ ،‬أن تغذى بكل معرفة جديدة حتى ال جيمد املعلم عىل‬
‫أسلوب واحد‪ ،‬وتتوقف أفكاره عن احلركة فرتجع القهقرى‪ .‬والبد‬
‫أن يبقى املعلم جماريا لتيار الرتبية‪ ،‬مطلعا عىل حركاته‪ ،‬والبد أن جيري‬
‫جتارب من شأهنا أن تقوم طرقه يف التعليم‪ .‬واملعلم احلي يلتمس الرشد‬
‫من كل أبوابه‪ ،‬فيأخذ نصح زمالئه األكثر منه جتربة‪ ،‬ويسعى لزيارهتم يف‬
‫أقسامهم واالطالع عىل وثائقهم ملا يرجو أن جيد عندهم من علم‪ .‬ولئن‬
‫كان لبعض املعلمني موهبة خاصة يف املهنة‪ ،‬تضمن هلم أن يربزوا إذا هم‬
‫تعهدوها‪ ،‬فإن بوسع كل معلم أن حيصل عىل التجربة الكافية‪ ،‬واملهارة‬
‫العلمية التي تعوض بعض ما يفوته بفقد املوهبة لديه‪.‬‬
‫هذه صفات املعلم‪ ،‬وحتقيقها يف شخص واحد قد يبدو من العسري‪.‬‬
‫ألننا نطلب شخصا ذا عقل واسع اإلمكانيات‪ ،‬طويل الباع يف املعارف‬
‫املختلفة‪ ،‬متتبعا حلركات احلضارة والفكر‪ ،‬ونريد املعلم رجال ذا خلق‬
‫كامل‪ ،‬وجسم قوي‪ ،‬ومهارة عملية‪ .‬ألسنا يف احلقيقة نطلب املحال؟ أوليس‬
‫روسو عىل حق عندما كتب بأن الذي يصنع الرجال جيب أن يكون فوق‬
‫البرش؟ أليس يف نظامنا الرتبوي احلايل‪ ،‬ويشمل العدد العديد من املعلمني‪،‬‬
‫أفراد بعيدون كل البعد عن املثال الذي يرسمه األديب‪ ،‬ونرسمه ألنفسنا‬
‫عندما نعدد صفات املعلم؟ احلقيقة أننا يف عرص عميل واقعي‪ ،‬هيدف إىل‬
‫حتقيق أسمى نموذج ممكن لإلنسانية يف شخص املريب‪ ،‬ويتخذ كل الوسائل‬
‫لتكوينه‪ ،‬فيبني املدارس للمعلمني‪ ،‬وينتخب هلم أفضل األساتذة‪ ،‬ويكون‬
‫هلم كل الظروف التي من شأهنا أن تساعد عىل تكميل ثقافتهم وخلقهم‬

‫‪163‬‬
‫وأجسامهم‪ .‬وبعدئذ يدفع هبم إىل ميدان العمل ليحققوا اهلدف الرتبوي‬
‫الذي أعدوا من أجله‪ .‬إن املثالية السامية ال ختلق يف فكر واضع سياسة‬
‫الرتبية اليوم شكوكا يف قدرة الناس عىل القيام بعمل الرتبية‪ ،‬ألن رجل‬
‫السياسة‪ ،‬والرجل العرصي بصفة عامة‪ ،‬ختىل عن األحالم الرمانطيقية‪،‬‬
‫وأثبت رجليه عىل صعيد الواقع؛ فهو يعلم أن الكامل ليس يف متناول‬
‫اإلنسان‪ ،‬وأن قانون العدد الكثري‪ ،‬حيتم أن يوجد من بني املعلمني من ال‬
‫يتوفر عىل الرشوط التي وضعها الختيار املعلمني‪ .‬لكن هذا االعتبار‪ ،‬ال‬
‫ينبغي أن يكون مدعاة للهم والرتدد‪ ،‬بل جيب أن يكون حافزا للعمل عىل‬
‫حتسني الوسائل التي تعطى املدارس العرصية معلمني أحسن‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫املوضوع رقم ‪16‬‬
‫سأل أحد املربني تلميذا له بعد أن أصبح معلام‪« :‬أتظن أنك فرغت من‬
‫تأدية واجبك‪ ،‬إذا خرجت من املدرسة؟»‬
‫أجب عن هذا السؤال‪ ،‬وبني األعامل التي تقوم هبا خارج املدرسة مما‬
‫له مساس بمهمتك‪.‬‬

‫أ‪ -‬فهم املوضوع‬


‫هذا سؤال آخر مبارش تكون اإلجابة عنه شخصية‪ ،‬فنتصور أنفسنا‬
‫مكان التلميذ يسأله أستاذه املريب‪ ،‬ونتحدث عام نقوم به من األعامل خارج‬
‫املدرسة‪ .‬ولنبحث أوال عام يف رأس األستاذ حني سأل تلميذه؛ أكان يظنه‬
‫متهاونا يف عمله‪ ،‬أم قصد فقط إىل تنبيهه جلانب من أعامله‪ ،‬ربام ال يعطيه‬
‫ما يستحقه من اهتامم؟ الشك أن املريب‪ ،‬ومكانته كأستاذ للمعلمني تسمح‬
‫لنا بالتأكد من ذلك‪ ،‬كان رشح املوضوع لتلميذه ونبهه إليه‪ .‬فسؤاله إذا‬
‫من قبيل التذكري‪ ،‬ال االستنكار‪ .‬ومن هنا يمكن أن نخاطب أستاذنا عندما‬
‫نجيبه عن سؤاله‪ ،‬ونذكره بام كان يقوله يف هذا الباب‪ ،‬ونقارن نصائحه‬
‫بام وجدناه يف ميدان التطبيق‪ ،‬ويف إجابتنا نتعرض للدافع النفيس الذي‬
‫جيعلنا نعمل خارج املدرسة كل ما نعمله‪ ،‬ونبني الغاية التي هندف إليها‬
‫منه‪ ،‬وأثره عىل نشاطنا داخل املدرسة‪ .‬ويف اجلزء الثاين يطلب إلينا أن نبني‬
‫األعامل التي نقوم هبا خارج املدرسة مما يمس القيام بمهمتنا‪ .‬وتريد هذه‬
‫النقطة تفصيال أكثر لنوع األعامل‪ ،‬وغاياهتا ووسائلها‪ .‬ويمكن أن نقسم‬
‫هذه األعامل‪ ،‬ونجزئها حسب غاياهتا مثال ليسهل علينا اإلنشاء‪ .‬يمكن‬
‫أن نتحدث عن األعامل املكملة مبارشة لنشاطنا يف املدرسة‪ ،‬كمثل البحث‬
‫عن وسائل التعليم‪ ،‬وحتضري الدروس بصفة عامة‪ ،‬وعن األعامل التي‬
‫هتدف لرعاية الطفل خارج املدرسة‪ ،‬وعن األعامل االجتامعية‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫ب‪ -‬التصميم‬
‫* اإلجابة عن السؤال‬
‫* األعامل التي أقوم هبا خارج املدرسة مما له مساس بمهمتي‬

‫ج‪ -‬التصميم املفصل‬


‫* كيف كنت أفهم مهمتي عند اختياري املهنة‪ -‬نصائح أستاذي يف‬
‫ميدان التطبيق‪.‬‬
‫* التثقيف الذايت‪ -‬حتضري الدروس‪ -‬وسائل التعليم‪ -‬االتصال‬
‫باألرس‪ -‬نشاطي االجتامعي والفكري خارج املدرسة‪ -‬يف القرية ويف‬
‫املدينة‪.‬‬
‫د‪ -‬اإلنشاء‬
‫إن املدرسة اليوم مل تبق تلك املدرسة العتيقة املزهوة بقيمتها‪،‬‬
‫املنطوية عىل نفسها‪ ،‬املعتزة اعتزاز الذي يعرف طريقه فينطلق إليها ال‬
‫يلوي عىل يشء متجاهال كل ما ليس ضمن نطاقه املحدود‪ .‬أصبحت‬
‫مدرسة اليوم مركزا للحياة الفكرية واالجتامعية‪ ،‬تساهم‪ ،‬بام يظن‬
‫فيها من دراية‪ ،‬يف تقريب نظريات الناس بعضهم من بعض‪ ،‬ومجعهم‬
‫حول مهمتها التي ما تنفك تتسع‪ ،‬بتقدم الوسائل احلضارية‪ ،‬وازدياد‬
‫احلاجة إىل حتسني نوع الرتبية التي متنحها لتالمذهتا‪ .‬مدرسة اليوم ال‬
‫تنكمش عىل نفسها‪ ،‬بل تسعى جللب الناس إىل حضنها‪ ،‬وكسب ثقتهم‬
‫ليمكنها تأدية رسالتها الرتبوية واالجتامعية كاملة‪ .‬ومعلمو املدرسة‬
‫االبتدائية باألخص‪ ،‬حيتلون مكانة تسهل هلم املسامهة يف بناء الرصح‬
‫االجتامعي‪ ،‬وتسهل عليهم تعبئة اجلهود كلها إلعطاء تعليم جيد يف‬
‫أقسامهم‪ ،‬ولنرش الثقافة بني الشعب‪ ،‬وبعث النشاطات التي تنور فكر‬
‫الناس‪ .‬وخيرج الطالب من مدرسة املعملني‪ ،‬وقد زوده أساتذته بثقافة‬
‫عامة ومهنية‪ ،‬وزودوه بنصائح عملية‪ ،‬ويوطد نفسه عىل سلوك السبيل‬

‫‪166‬‬
‫األقوم‪ .‬ولعل من بني أساتذة الطالب من حضه عىل اخللق احلسن‪ ،‬ومن‬
‫ذكره بطرق التعلم وأنسبها لكل مادة‪ ،‬ومن أكد له وجود القيام بالواجب‪.‬‬
‫لكن نجد أستاذا ال يذكر تلميذه بعد أن أصبح معلام‪ ،‬بنصيحة واحدة‬
‫كان قد أسداها إليه؛ لكن يسأله عن أعامله خارج املدرسة‪ ،‬وحيمل يف هذا‬
‫السؤال نقطا كثرية حيث يقول‪« :‬أتظن أنك فرغت من تأدية واجبك إذا‬
‫خرجت من املدرسة؟» وكأن األستاذ املريب بسؤاله يعلق عىل أعامل املعلم‬
‫خارج املدرسة نفس األمهية التي يعطيها ألعامله داخلها‪ .‬فبامذا جييب‬
‫الطالب القديم؟ وما هي األعامل التي مارسها خارج املدرسة لتكميل‬
‫أداء واجبه؟‬
‫تسألني يا أستاذي‪ ،‬عىل حدوث العهد‪ ،‬وختاف أن أنسى نقطة طاملا‬
‫أكدت لنا خطورهتا‪ .‬اطمئن يا أستاذي إىل أن املوضوع الذي هتتم له‪ ،‬كان‬
‫وال يزال موضع تفكريي املتواصل‪ ،‬وجهودي املستمرة‪ ،‬مل أكن قبل أن‬
‫ألقاك أتصور املهنة ا لتي اخرتت القيام هبا إال من خالل أحاديث كنت‬
‫أسمعها من معلمني مبتدئني‪ ،‬من بينهم من كان يشكو طوال الوقت من‬
‫كثرة أعامله‪ ،‬ومنهم من كان يرثي حلال زميله الشاكي‪ ،‬وهينئ نفسه حيث‬
‫اختار مهنة قليلة التكاليف‪ ،‬سهلة املامرسة‪ .‬وكانت هذه األحاديث تقلقني‬
‫كثريا‪ ،‬وتصدم يف نفيس الفكرة السامية التي كنت أمحلها عن هذه املهنة التي‬
‫أعتربها وظيفة ممتازة‪ ،‬تشبه رسالة األنبياء والقديسني‪ ،‬أكثر مما تشبه عمل‬
‫الناس العادي‪ .‬كنت وقتئذ ملا أعزم عىل يشء لكنني كنت أفكر يف شتى‬
‫املهن واستعرضها‪ ،‬فأقف أمام مهنة التعليم مأخوذا بالفضائل التي تنسب‬
‫للمعلم‪ ،‬وباملجد املعنوي الذي يصفه به الشعراء‪ .‬وكان االغراء شديدا‪،‬‬
‫فعزمت عىل دخول مدرسة املعلمني‪ .‬نسيت مقاالت املعلمني أصدقائي‪،‬‬
‫ونسيت املتأفف منهم واملرتاح‪ ،‬ومل يبق يف نفيس إال شعور متحمس بأنني‬
‫عىل وشك أن أمحل مسؤولية حيق يل أن أفخر بحملها‪ .‬أما التكاليف التطبيقية‬
‫يف مهنة التعليم‪ ،‬فكنت يا أستاذي أول من فتح عيني عليها‪ .‬وأذكر جيدا‬
‫الروح السامية التي كانت تتجىل من خالل حمارضاتك‪ ،‬واالخالص الكامل‬
‫الذي كان ينم عنه حرصك عىل رعاية الطفل وفهمه‪ .‬أذكر كيف كنت حتثنا‬
‫عىل تثقيف أنفسنا‪ ،‬وكيف كنت هتتم ببعث شخصياتنا‪ ،‬وكيف كنت تعمل‬

‫‪167‬‬
‫من أجل أن نتشبع بروح حامل الرسالة الذي يضحي بنفسه ووقته‪،‬‬
‫ال يسأل نفسه هل تعب‪ ،‬لكن يسأل هل بلغ هدفه‪ .‬وأتذكر نصائحك‬
‫العملية‪ ،‬والتطبيقات التي كنت تسهر عليها‪ .‬كنت تبرصنا بطرق‬
‫التعليم‪ ،‬وتدربنا عليها‪ .‬وكنت تعلمنا كيف نعامل الطفل يف شتى‬
‫حاالته‪ ،‬وكيف نعتمد عىل حركات عقله ونفسه يف أعاملنا التعليمية‬
‫والرتبوية‪ .‬وعلمتنا أن الدروس التي نلقيها يف أقسامنا تتطلب إعدادا‬
‫جديا ينبغي أن نعطيه كل اهتاممنا‪ ،‬وأن التعليم يبقى نائيا عن فكر‬
‫الطفل إن مل نلتمس وسائل حمسة نغريه هبا‪ ،‬ونعد هذه الوسائل لكل‬
‫درس نحرضه‪ .‬وعلمتنا أن تربية الطفل تتأثر بعوامل واحد منها‬
‫العمل الذي ننجزه نحن‪ ،‬واألخرى توجد يف طبيعة الطفل نفسها‪،‬‬
‫ويف البيئة التي يعيش فيها‪ .‬وهلذا كنت تطلب إلينا االجتهاد يف توسيع‬
‫معرفتنا لنفسية الطفل‪ ،‬وتدعونا إىل دراسة بيئة الطفل‪ .‬وكنت تقول‬
‫إن املعلم ال ينبغي أن يكتفي بأداء أعامل رتيبة يف حيز ضيق‪ ،‬بل جيب‬
‫أن يكون منبعا لنشاط يشمل املجتمع نفسه‪ ،‬ويساهم مسامهة جمدية‬
‫يف النهوض به‪ .‬أفبعد ما علمتنا تريد أن أنسى نصائحك‪ ،‬وأن أقبع يف‬
‫ركني ظانا أن مهمتي تنتهي عندما أخرج من املدرسة؟ وكيف أفعل‪،‬‬
‫وقد وجدت يف مدرستي ميدانا خصبا يتسع لبذل النشاط الذي أقدر‬
‫عليه يف العمل البناء؟ كيف أفعل ومهمتي يف املدرسة تقتيض أن أستعد‬
‫ألكون يف املستوى الثقايف الذي خيولني من أدائها كاملة؟ كيف يمكن‬
‫أن أقترص عىل عمل ليس يف احلقيقة إال نتيجة جلهود كثرية أوزعها بني‬
‫خزانة الكتب ألطالع وأدرس‪ ،‬وبني املتاجر أشرتي وسائل اإليضاح أو‬
‫أستعريها‪ ،‬وبني مكتبي أمجع فيه العنارص الصاحلة لتحضري درويس؟‬
‫اطمئن يا أستاذي فلست ممن يقنعون بالعمل القليل الذي يتكرر كل‬
‫يوم عىل وترية واحدة‪ ،‬ولست من الذين يشكون ثقل العمل‪ .‬إيامين‬
‫برسالتي يدفعني إىل السعي احلثيث‪ ،‬داخل املدرسة وخارجها‪ ،‬من‬
‫أجل تنمية ثقافتي‪ ،‬ومن أجل حتسني طرق تعليمي ووسائله‪ ،‬ومن‬
‫أجل تقوية مكانة املدرسة‪ ،‬ونرش إشعاعها يف الوسط االجتامعي‪ ،‬ونرش‬
‫املعرفة واخلري بني الناس‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫وإذا كنت تسألني يا أستاذ خمتربا‪ ،‬تريد أن تعرف ما أفادتنيه التجربة‪،‬‬
‫وتريد أن تعرف عىل وجه الضبط كيف أعمل خارج املدرسة‪ ،‬وماذا أعمل‬
‫فهذا جواب ثان عن سؤالك‪ ،‬أقدمه إليك كبعض ما كنت تصححه من‬
‫انشاآيت املبتدئة‪.‬‬
‫إنني كلام تقدمت قليال يف ميدان املعرفة‪ ،‬أو كلام خيل إيل ذلك‪ ،‬زاد‬
‫شعوري بأنني يف حاجة إىل املزيد من الثقافة‪ ،‬وقدرت تقديرا أحسن‬
‫النقص الذي يف‪ .‬وأن درويس نفسها‪ ،‬رغم بساطة حمتواها‪ ،‬لتوقفني‬
‫أحيانا عند هذا النقص‪ .‬فيحدث‪ ،‬وأنا أحرض درويس‪ ،‬أن أقف عند‬
‫نقطة كنت أظنها من البدهييات‪ ،‬فإذا هبا أمامي مشكلة أفتقر إىل حلها‬
‫لنفيس‪ ،‬أو أفتقر إىل طريقة يمكنني هبا أن أفهمها لتالمذيت‪ .‬وكم تكون‬
‫أسئلة التالميذ أنفسهم حمرجة يف بعض األحيان‪ ،‬تضعني أمام وجوب‬
‫االختيار فإما أن أعلن عن عجزي وجهيل‪ ،‬وإما أروغ عن السؤال برفق‪.‬‬
‫ويف كلتا احلالتني‪ ،‬أفقد اعتبار تالمذيت‪ ،‬واعتباري لنفيس‪ .‬فتفاديا ملثل‬
‫هذه املواقف‪ ،‬وسعيا لتكميل العجز الذي أشعر به‪ ،‬نظمت مطالعتي‪،‬‬
‫وجعلتها متنوعة شاملة‪ ،‬فوضعت برناجما للمطالعات املهنية‪ ،‬وآخر‬
‫للمطالعات العامة‪ .‬ومل يمنعني اتساع آفاق العلم‪ ،‬وتنوع أبوابه‪ ،‬من‬
‫وضع قوائم للكتب واملجالت‪ ،‬حتتوي عىل أدب وتاريخ وعلوم إنسانية‪،‬‬
‫ومن اتباع النظام الذي رسمته لنفيس‪ .‬احلقيقة أن مطالعايت ليست دراسة‬
‫كدراسة املتخصص‪ ،‬فأنى يل أن أقدر عىل دراسة علوم كثرية يف آن واحد‪،‬‬
‫لكنها تعطيني نظرة صاحلة عن كل فن‪ ،‬وتفتح ذهني حلقائق كانت بعيدة‬
‫عني‪ .‬وأحب كثريا مطالعة املجالت الرتبوية واألدبية‪ ،‬ملا أجده فيها من‬
‫املقاالت املختارة املوجزة‪ ،‬التي تضم علام غزيرا يف حجم صغري‪ ،‬ورأيت‬
‫كيف أتصيد كل جديد وأكتبه‪ ،‬ثم رأيت كيف استعمل ما أتصيده من‬
‫أفكار تربوية يف املدرسة‪ ،‬وكيف أغني درويس باملالحظات التي أسجلها‪،‬‬
‫لتأكدت بنفسك من أنني حتى إن كنت أطالع لنفيس‪ ،‬ال أنسى تالمذيت‪،‬‬
‫بل أفرح إن وجدت يف مطالعتي ما من شأنه أن هيمهم‪ ،‬وأحرض لقسمي‪،‬‬
‫سيام يف دروس اجلغرافيا والتاريخ‪ ،‬قصاصات وصورا وجدهتا يف جماليت‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫وإن من املطالعات ما تدفعني إليه احلاجة املبارشة لتحضري درويس‪،‬‬
‫وإنني أرصف يف التحضري جانبا مهام من وقتي خارج املدرسة‪ .‬لست‬
‫أعترب التحضري شغلة مملة أعملها متثاقال وكيفا اتفق‪ ،‬إرضاء للقانون‬
‫املدريس‪ ،‬بل أعده األساس األول الذي ينبني عليه كل نشاطي‬
‫التعليمي‪ .‬فأفكر يف موضوع كل درس‪ ،‬وأذهب باحثا يف الكتب‪،‬‬
‫أكمل معلومايت عن املوضوع وأستعمل ما سجلته يف مالحظايت أثناء‬
‫مطالعايت‪ ،‬ثم أصوغ دريس صيغة تناسب اهتامم أطفايل‪ ،‬وأربطه‬
‫بالدروس التي يعرفوهنا‪ .‬ربام جتد يا أستاذي ‪ ،‬لو اطلعت عىل وثائقي‪،‬‬
‫أن أوراق حتضريي ليست مزوقة بالقدر الذي تكونه أوراق بعض‬
‫املعلمني‪ ،‬لكنك ستجد هذه األوراق مرآة للدروس التي ألقيتها عىل‬
‫تالمذيت‪ .‬ويمكنك أن تتبع سري درويس من خالل نقط التحضري‪ ،‬وأن‬
‫تطلع عىل نتائج كل درس عندما تقرأ املالحظات التي أسجلها عىل‬
‫الورقة بعد اإللقاء‪ .‬هذه املالحظات التي أجعلها بني يدي‪ ،‬أرجع إليها‬
‫يف وقت املراجعة‪ ،‬وأرجع إليها السنة املقبلة إن درست مع األطفال‬
‫نفس املوضوع‪ ،‬ألصحح عىل ضوئها أغالطي‪ .‬وإن صوغ الدرس يف‬
‫قالبه النهائي يقتيض اختيار وسائل التعليم املناسبة‪ ،‬فأعتمد عىل متحفي‬
‫الشخيص‪ ،‬وعىل متحف املدرسة يف هذه األشياء‪ ،‬وإن مل أجد فيهام ما‬
‫أبغيه‪ ،‬رصفت بعض الوقت يف البحث عن كل ما يساعدين عىل رشح‬
‫الدروس‪ .‬ويطيب يل‪ ،‬يف أوقات الفراغ‪ ،‬إذا جئت املدينة أن أدخل‬
‫املتاجر وأطوف يف املعارض‪ ،‬فأقتني نامذج ومصنوعات أزيدها يف‬
‫خزانة وسائل اإليضاح‪ .‬وأعتقد أن فائدة أي درس ال تكمل إال بإجراء‬
‫متارين تطبيقية حوله‪ ،‬ولذا أعدد التامرين يف قسمي‪ ،‬وأعنى بتصحيحها‬
‫يف القسم‪ ،‬لكن من بينها ما ال يمكن تصحيحه من لدن التالميذ‪ .‬ولو‬
‫بحثت عني بعد خروج التالميذ من املدرسة‪ ،‬لوجدتني يف القسم‪،‬‬
‫وحويل دفاتر التامرين أقيض ساعة وبعض الساعة يف تصحيحها‪ ،‬وكتابة‬
‫نامذج عليها كلام اقتىض احلال‪.‬‬
‫عىل أن نشاطي ال يقف عند املدرسة والتالميذ‪ ،‬وال يكفيني أن أحسب‬
‫الساعات التي أرصفها يف حتضري الدرس وإلقائها وحتضريها‪ ،‬وأقول أنني‬

‫‪170‬‬
‫أقوم بالواجب كامال‪ .‬إن مهي منرصف إىل التلميذ وتربيته يف الدرجة‬
‫األوىل‪ ،‬لكنني أيضا أساهم يف األعامل االجتامعية التي تكون املدرسة‬
‫مركزا هلا‪ .‬ومن اهتاممي بالتلميذ أنني أسعى ملعرفة ذويه‪ ،‬وأحتني الفرص‬
‫لالتصال هبم وزيارة بيتهم‪ .‬وهبذه الطريقة أعرف الظروف املادية التي‬
‫يعيش فيها األطفال‪ ،‬وأكلم األبوين ألبني هلام ما تقتضيه مصلحة اإلبن‪،‬‬
‫وما جيب عليهام عمله ملساعدته‪ .‬وقد حاولت يف ركني القيص بالبادية‪،‬‬
‫فكونت مجعية آباء التالميذ‪ .‬وقد بدأنا يف هذه اجلمعية‪ ،‬نحدد ألنفسنا‬
‫أغراضا معينة‪ ،‬فكلفنا جلانا منا برعاية األطفال‪ ،‬ومراقبة املعاملة التي‬
‫يعاملون هبا يف بيوهتم وخارجها وكلفنا جلانا أخرى لتبصري املرتددين من‬
‫اآلباء‪ ،‬وحثهم عىل إرسال الطفل إىل املدرسة‪ ،‬وعدم تسخريه يف األعامل‬
‫الفالحية‪ .‬وتسألني كيف بدأت تأسيس هذه اجلمعية‪ ،‬فأخربك أن األمر‬
‫مل يكن من اليرس عىل ما كنت أتصوره وأنا أقرأ يف كتب الرتبية‪ .‬وجدتني‬
‫بني ناس أغراب عني‪ ،‬هلم عادات وطرق يف املعاملة مل آلفها‪ ،‬فكان بيننا‬
‫مثل حاجز من الريبة‪ ،‬أنا أخاف أن يفرسوا أعاميل تفسريا خمطئا‪ ،‬وهم‬
‫ال يثقون يب‪ ،‬وال يظنون أن يل من القدرة ما جيعلني قمينا باحرتامهم‪.‬‬
‫وعزمت عىل اختاذ موقف إجيايب‪ ،‬فبدأت من املدرسة أرتبها‪ ،‬وجندت‬
‫التالميذ فطلينا جدران املدرسة‪ ،‬ومهدنا األرض من حواليها‪ ،‬فغرسنا‬
‫حديقة وتعهدناها‪ ،‬وبينت ملواطني الفالحني أن يل من املعرفة ما ليس‬
‫عندهم حتى يف ميدان الفالحة نفسه‪ .‬وما لبثوا أن أخذوا يقرتبون مني‬
‫واحدا واحدا‪ ،‬هذا يسألني أن أكتب له رسالة‪ ،‬والثاين يطلب مني إرشادا‬
‫حلل مشكلة له قضائية‪ .‬ثم بلغت ثقتهم يب أن أخذوا يستشريونني يف‬
‫أمروهم املادية واالجتامعية‪ .‬ووجدت امليدان مفتوحا‪ ،‬فبذلت ما يف‬
‫وسعي لتحسني العقليات وتنويرها‪ ،‬ودعوت اآلباء إىل حفلة آخر‬
‫السنة‪ ،‬فكان اجتامعا فاحتة عهد جديد‪ .‬إذ أسسنا بعدئذ مجعية اآلباء‪،‬‬
‫وطلب إيل أصدقائي الفالحون أن أعطيهم دروسا يف القراءة والكتابة‬
‫فام بخلت‪ .‬هذه جهودي‪ ،‬ولكأن نشاطي فيها مثل نشاطي يف مملكتي‬
‫الصغرية التي أعتز فيها بأصدقاء خملصني‪ ،‬وأعتز فيها بحركة مقتنعة نحو‬

‫‪171‬‬
‫التعلم ونحو حتسني احلالة االجتامعية واالقتصادية بتعاون الناس‪،‬‬
‫وبفضل فهم كل واحد منهم ملكانته‪ ،‬وواجبه‪ .‬وأرجو يا سيدي‪ ،‬أال تعترب‬
‫كالمي هذا فخرا وتبجحا فام أظنني قمت بأكثر من الواجب‪.‬‬
‫يظن الناس بسهولة أن املعلمني قوم حمظوظون‪ ،‬فإن هلم وظيفة‬
‫مأمونة‪ ،‬وعمال مستقرا ال يتطلب القيام به جمهودا كبريا‪ .‬وهم يتمتعون‬
‫باملكانة االجتامعية‪ ،‬وبامتيازات مادية‪ ،‬ليس أقلها العطل األسبوعية‬
‫والسنوية الكثرية‪ .‬ربام يكون املعلمون قوما حمظوظني حقا‪ ،‬لكن عىل‬
‫غري أساس تقدير الناس‪ .‬فإن الناس خيطئون إن اعتربوا أن أعامل املعلم‬
‫يسرية سهلة‪ ،‬وخيطئون إن ظنوا أن هذه األعامل ال تتطلب جمهودا كبريا‪.‬‬
‫إهنم ال حيكمون إال عىل ما يرونه من أعامل املعلم داخل املدرسة‪ ،‬وعىل‬
‫الساعات القليلة نسبيا التي يقضيها فيها‪ .‬الصواب أن يفهموا أن املعلم‬
‫صاحب مسؤولية ضخمة‪ ،‬ال يرضيه أن يميض الوقت القانوين يف معمله‪،‬‬
‫بل يتجه بكل قوته‪ ،‬ويف مجيع يومه‪ ،‬وطول السنة إىل أطفاله‪ .‬فيحرض هلم‬
‫الدروس‪ ،‬ويصحح هلم الدفاتر‪ ،‬ويقتني هلم األشياء والكتب‪ ،‬ويسعى‬
‫لدراستهم ودراسة أوساطهم‪ ،‬وحيسن معلوماته وطرقه من أجلهم‪.‬‬
‫وبوسعنا أن نقول أن املعلم يعيش من أجل تالمذته‪ ،‬ال ينساهم حلظة‪،‬‬
‫فهم يف خط تدبريه إن حل أو سافر‪ ،‬وهم موضوع حديثه الدائم‪ .‬فإذا نال‬
‫املعلم املكانة االجتامعية‪ ،‬فإنام أعطاه املجتمع بعض ما يستحقه‪ ،‬سيام وهو‬
‫العضو البارز يف اجلامعة‪ ،‬حارضة وبادية‪ ،‬وهو مرجع الناس يف شؤوهنم‪،‬‬
‫وهو معلم األجيال‪ ،‬ومرشد الشعب كله‪ ،‬حيل املشاكل‪ ،‬ويصلح بني‬
‫اخلصوم‪ ،‬ويعطي من نفسه ووقته بال حساب‪ .‬ليس املعلم إنسانا فقط‪،‬‬
‫بل هو قبل كل يشء ضمري حي‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫املوضوع رقم ‪17‬‬
‫قال أحد املربني‪ :‬قد يعاقب التالميذ أحيانا لعدم حمافظتهم عىل‬
‫املواعد‪ ،‬أو تكاسلهم‪ ،‬أو طيشهم‪ ،‬أو رشودهم‪ .‬أال يمكن أن يكون املعلم‬
‫هو املسؤول عن هذه املخالفات؟‬
‫ارشح الرأي‪ ،‬وبني الوسائل التي ينبغي أن يسخرها املعلم مللك زمام‬
‫التالميذ‪.‬‬

‫أ‪ -‬فهم املوضوع‬


‫عقاب التالميذ‪ ،‬ومكافأهتم‪ ،‬تأخذ حظا كبريا من تفكري املعلم قليل‬
‫اخلربة‪ ،‬هل يعاقب؟ أو ال يعاقب؟ وإذا عاقب فكيف ينبغي أن يكون‬
‫عقابه؟ وما هي األعامل التي ينبغي أن يعاقب عليها التلميذ؟ أما صاحبنا‬
‫املريب فقد أعطانا نوع املخالفات التي عاقب عليها معلمه‪ .‬فمنها ما‬
‫يمكن أن يكون إراديا كالتخلف عن املواعد‪ ،‬والتكاسل‪ ،‬ومنها ما يظهر‬
‫أنه غري إرادي كمثل الطيش والرشود‪ .‬ويتساءل املريب عمن يتحمل‬
‫مسؤولية هذه املخالفات‪ ،‬وعام إذا مل يكن املعلم مسؤوال عنها؟ فإذا‬
‫ذهبنا نرشح رأيه‪ ،‬فينبغي أن نقف أوال عند رأيه يف العقاب‪ ،‬ونشري إىل‬
‫أنه‪ ،‬يف ظاهر قوله‪ ،‬ال يرى به بأسا‪ .‬ثم نرشح بعدئذ هل يكون وكيف‬
‫يكون املعلم مسؤوال عن املخالفات‪ ،‬فمن األطفال من خيالف املوعد‪،‬‬
‫ويكسل‪ ،‬ويكون طائشا وشاردا‪ ،‬لسبب يف جسمه أو نفسه يرجع إىل‬
‫حياته يف البيت‪ .‬لكن معاملة املعلم للتالميذ‪ ،‬وشعور التالميذ نحوه‪،‬‬
‫قد يتسبب يف خمالفتهم‪ .‬فنبني هنا أمثلة للتلميذ الذي جيب أن يسرتعي‬
‫نظر املعلم بأية وسيلة حتى ولو كانت خمالفة‪ ،‬ونعطي مثال التلميذ‬
‫العنيد الذي صدمه عنف املعلم فثبت له وعصاه وهكذا‪ ،‬ثم ننتقل‬
‫إىل النقطة الثانية‪ ،‬لنتحدث عن الوسائل التي هبا يملك املعلم زمام‬
‫التالميذ‪ .‬ويقتيض املقام أن نتعرض للثواب والعقاب‪ ،‬ونتعرض لذكر‬

‫‪173‬‬
‫أنواعها‪ ،‬ثم نتحدث عن حفظ النظام يف املدرسة‪ ،‬وأثره يف تكوين الطفل‬
‫اخللقي‪ ،‬ونبني كيف ينبغي أن يكون احرتام الطفل للقانون املدريس‬
‫مبنيا عىل فهمه الصحيح‪ ،‬ألن القانون يشء مفيد‪ .‬وكيف يتكون فيه هذا‬
‫الشعور إذا كان يثق بمعلمه‪ .‬وإذا فأهم الوسائل التي يمكن أن يسخرها‬
‫املعلم حلفظ النظام املدريس هي سلطته املعنوية عىل التالميذ‪.‬‬

‫ب‪ -‬التصميم‬
‫* رشح الرأي‬
‫* الوسائل التي يسخرها املعلم حلفظ النظام‪.‬‬

‫ج‪ -‬التصميم املفصل‬


‫* العقاب يف رأي املريب‪ -‬العقاب ورضورته‪ -‬ملاذا خيالف التالميذ‬
‫قانون النظام املدريس‪ -‬األسباب الصحية‪ -‬األسباب النفسية‪ -‬مسؤولية‬
‫املعلم يف املخالفات‪ -‬املعلم العنيف‪ -‬املعلم الذي يرهق تالميذه‪ -‬املعلم‬
‫الذي هيملهم‪.‬‬
‫* ملك زمام التالميذ‪ -‬السلطة املادية واملعنوية‪ -‬مجاعة األطفال‬
‫ورضورة القانون املدريس‪ -‬النظام املدريس جزء مهم من تكوين الطفل‬
‫اخللقي‪ -‬سلطة املعلم املعنوية تتوقف عىل‪ :‬إخالصه‪ ،‬وضبطه يف أعامله‪،‬‬
‫وعدله بني التالميذ‪ ،‬وصالح خلقه‪ -‬الثقة باملعلم واملحافظة عىل النظام‬
‫املدريس‪.‬‬

‫د‪ -‬اإلنشاء‬
‫تطورت فكرة السلطة املدرسية‪ ،‬منذ كان املعلم أشبه بالرشطي الساهر‬
‫عىل النظام‪ ،‬إىل أن أصبحت النظريات الديموقراطية تفرض عىل املدرسة‬
‫نوعا خاصا من معاملة الطفل‪ .‬وعرب هذا التطور‪ ،‬نرى أن العقاب الذي يقع‬
‫عىل التالميذ‪ ،‬مل خيتلف كثريا يف جوهره‪ ،‬وإن كان يقسو أو يلطف حسب‬

‫‪174‬‬
‫حساسية كل عرص‪ ،‬وحسب طبع كل معلم‪ .‬إال أن الذي جيعل املعلم‬
‫احلديث أقرب إىل نفوسنا يف عقابه‪ ،‬من معلم السوط املعتدي الذي‬
‫يعلو ظهور التالميذ‪ .‬أن هذا يعاقب التلميذ عىل الشبهة‪ ،‬ويعمم عقابه‬
‫حتى يشمل امليسء ألنه أساء‪ ،‬والذي مل يسئ ألن العقاب يعطيه درسا‬
‫مسبقا‪ ،‬وخيوفه مغبة املخالفات املستقبلة‪ .‬أما ذاك فقد زاد إىل هتذيب‬
‫وسائل عقابه‪ ،‬اهتامما بإثبات مسؤولية الطفل‪ ،‬وإحقاق العقاب عليه‪.‬‬
‫وقد حذف النظام املدريس احلديث العقاب البدين‪ ،‬واعتربه وسيلة غري‬
‫إنسانية‪ ،‬وعوضه بعقوبات مادية ومعنوية ال حتط من كرامة الطفل‪ ،‬وال‬
‫تكلفه شططا‪ .‬وبلغ شعور املعلم بمسؤوليته عندما ينزل العقوبات‪ ،‬أن‬
‫صار يسرتشد بعلم النفس‪ ،‬وبمالحظاته حول الطفل وحياته يف البيت‪،‬‬
‫ليثبت الذنب عليه‪ .‬ويكتب أحد املربني‪« :‬قد يعاقب التالميذ أحيانا لعدم‬
‫حمافظتهم عىل املواعد‪ ،‬أو تكاسلهم‪ ،‬أو طيشهم أو رشودهم‪ .‬أال يمكن‬
‫أن يكون املعلم مسؤوال عن هذه املخالفات؟» وسنرى فيام ييل رأي املريب‪،‬‬
‫وكيف يفهم العقاب‪ ،‬وكيف يمكن أن يكون املعلم مسؤوال عن خمالفات‬
‫أطفاله‪ .‬ثم سنبحث عىل أثر ذلك يف ماهية السلطة‪ ،‬وعن الوسائل التي‬
‫جتعل زمام األطفال يف يد املعلم‪.‬‬
‫يتحدث مربينا عن العقاب وكأنه أمر طبيعي‪ ،‬ويتحدث عن‬
‫مسؤولية املعلم الذي يصدر العقاب‪ ،‬فال يعلقها عىل كونه يعاقب‪،‬‬
‫بل يرسلها إىل أنه يكون سبب خمالفات التالميذ‪ .‬وإذا ففي رأيه أن‬
‫العقاب أمر مفروغ من رضوريته‪ ،‬إنام يتعلق األمر بإثبات مسؤولية‬
‫الطفل قبل إجرائه عليه‪ ،‬وهذا الرأي كان سائدا قبل أن تتعرض له‬
‫األفكار احلديثة يف تنظيم مجاعة األطفال‪ .‬وجاء من يدعو إىل ترك نظام‬
‫السلطة العتيق وتفويض األمر إىل األطفال حيكمون أنفسهم بأنفسهم‪.‬‬
‫وتعددت حماوالت تطبيق هذه الفكرة منذ مدرسة تولستوي إىل املدارس‬
‫األمريكية احلديثة‪ .‬ويف كل هذه املحاوالت نفيت العقوبات‪ ،‬وعوضت‬
‫بالدوافع النفسية اإلجيابية‪ ،‬كإغراء الطفل بالعمل املنظم‪ ،‬وإشعاره‬
‫بقيمة احلرية التي تعطاه‪ .‬لكن هذه املحاوالت كشفت عن ناحية‬
‫كانت كامنة من نواحي نفسية الطفل‪ .‬وهي أنه ال يقوى عىل الثبات‬

‫‪175‬‬
‫أمام الفراغ الذي يشعر به إذا ما أطلق له العنان‪ .‬فعندما تعطاه حرية‬
‫الترصف‪ ،‬يفقد الشعور بوجود سند قوي يركن إليه‪ ،‬فتستبد به املخاوف‪.‬‬
‫ويترصف ترصفا أرعن‪ .‬وكشفت هذه التجارب عن حاجة األطفال إىل‬
‫سلطة راشد يوجههم‪ .‬وسواء كانت السلطة بارزة أو متسرتة حتت اسم‬
‫مستعار‪ ،‬كاملرشد أو األخ األكرب‪ ،‬فإن وجودها يعطي جلامعة األطفال‬
‫استقرارا وثباتا‪ .‬ومع السلطة يكون العقاب؛ عقاب مادي أو معنوي‪ .‬عقاب‬
‫يطبقه املعلم صاحب السلطة‪ ،‬ويقدره وحده قبل أن يطبقه‪ ،‬كام هو الشأن‬
‫يف نظام مدارسنا‪ ،‬أو يفوض األمر يف تقديره وإصداره إىل مجاعة األطفال‬
‫حتت إرشاف املرشد‪ ،‬كام هو احلال يف بعض النظم املحدثة‪ .‬العربة بشعور‬
‫الطفل املعاقب‪ ،‬أن ما يطبق عليه‪ ،‬يعرب عن استنكار الشخص الذي حيرتمه‬
‫ويعجب به‪ ،‬أو عن استنكار املجتمع الذي ينتمي إليه‪ .‬العربة بشعور الطفل‬
‫املعاقب‪ ،‬وانكسار عاطفته‪ ،‬فإذا مل يكن هذا الشعور‪ ،‬فال معنى للعقاب‪.‬‬
‫وباإلمجال‪ ،‬فإن رضورة العقاب يف الرتبية ثبتت فكرهتا لكل املعارضات‪،‬‬
‫وأصبح املربون اليوم يومنون هبا أكثر مما كانوا يفعلون عىل عهد ثورة التجديد‬
‫التي استيقظت مع فجر هذا القرن‪ .‬يومن املربون بأن العقاب البدين عمل‬
‫وحيش ال يليق‪ ،‬ما عدا إذا أعطى للصغار يف سن الثانية أو الثالثة‪ ،‬وإذ ذاك‬
‫ال يصح أن نسميه عقابا وإنام هو زجر وردع رضوريان إلعطاء الصبي بداية‬
‫عادات حسنة‪ .‬ويؤمنون أن أحسن العقاب ما كان عىل قدر املخالفة‪ ،‬وما‬
‫كان باعثا عىل الشعور الذي أرشنا إليه‪ ،‬ويؤمنون أيضا أن أي غلط يف إثبات‬
‫مسؤولية الطفل‪ ،‬وأي ظلم ينزل به من جراء هذا الغلط‪ ،‬قد يكون ذا أثر‬
‫عكيس يف نفسه‪ .‬ولست أدري أمن أجل التحري يف إثبات املسؤولية‪ ،‬أم من‬
‫باب دعوة املعلمني إىل فهم الطفل ودواعيه‪ ،‬جاء مربينا برأيه الذي ننظر فيه‪.‬‬
‫لكن كلامته تريد منا أن نبحث ملاذا خيالف األطفال قانون املدرسة‪ .‬املالحظ‬
‫أن املدارس التي يساهم التالميذ يف وضع أنظمتها تقل فيها املخالفات‪.‬‬
‫فكأن قبول الطفل ملرشوع القانون‪ ،‬يكون بمثابة عهد‪ ،‬يأخذه عىل نفسه‪ ،‬بأن‬
‫حيرتمه‪ .‬واملالحظ أن املدارس ذات القانون املوضوع عىل قدر الطفل‪ ،‬الذي‬
‫يتسع لألفكار املحدثة‪ ،‬فرياعي حاجات الطفل‪ ،‬وال يكلفه فوق طاقته‪،‬‬
‫مدارس تقل فيها املخالفات‪ .‬واملالحظ أيضا أن مثال املعلمني ذو أثر كبري‪،‬‬

‫‪176‬‬
‫فإذا كان املعلمون حيرتمون القوانني‪ ،‬ويطبقوهنا بالضبط سواء عىل أنفسهم‪،‬‬
‫أو عىل التالميذ‪ ،‬نشأ التالميذ حيرتمون القانون‪ ،‬وقلت خمالفتهم‪ .‬لكن‬
‫املخالفات‪ ،‬قلت أو كثرت‪ ،‬توجد يف كل نظام‪ ،‬ومهام كان القانون املدريس‪.‬‬
‫ذلك ألن االنسجام مع اجلامعة‪ ،‬واخلضوع لضابط موحد‪ ،‬يقتيض أن يكون‬
‫الفرد قويا يف جسمه‪ ،‬قويا يف معنوياته‪ ،‬جيد يف النظام الذي خيضع له ما‬
‫يريض حاجاته العاطفية‪ .‬وبام أن ظروف األطفال ختتلف‪ ،‬وأن من بنيهم‬
‫من ال يتوفر عىل االستعداد للدخول حتت النظام‪ ،‬فإن اجلامعة املنسجمة‪،‬‬
‫اخلاضع كل أفرادها‪ ،‬ال توجد يف امليدان العميل‪ .‬وخمالفات األطفال ترجع‬
‫إىل أسباب يمكن أن نفصلها جسمية‪ ،‬ونفسية‪ ،‬وعقلية‪ .‬فمن األطفال من‬
‫خيالف النظام لنقص يف جسمه‪ ،‬كمرض ظاهر أو خفي‪ ،‬يقلب موقف الطفل‬
‫ويتسبب يف كسله أو خمالفته للمواعد‪ ،‬أو يتجىل يف عدوانه وعدم إقباله عىل‬
‫الدرس‪ .‬ومن األطفال من ال جيد يف نفسه مكانا ألي اهتامم باملدرسة‪ ،‬إذا‬
‫حدث يف بيته ما من شأنه أن جيعل حياته العاطفية‪ ،‬أو شعوره باألمن‪ ،‬يف‬
‫حالة اضطراب‪ .‬ومن األطفال من يظهر كسوال وطائشا ال لسبب غري إعيائه‬
‫وإرهاق عقله‪ .‬ثم إن موقف املعلم يتحكم إىل حد كبري يف ترصف األطفال‪،‬‬
‫ويكيف رد الفعل الذي يبدر منهم‪ .‬فإذا كان املعلم عنيفا حادا‪ ،‬وكان يعاقب‬
‫ويشتد‪ ،‬فغالب الظن أن عنفه هذا سيبعث عناد التالميذ وسيدفعهم هذا‬
‫العناد إىل خمالفته ومكايدته‪ .‬فكأن األطفال يامرسون نوعا من الرياضة عندا‬
‫يتحدون املعلم العنيف وحيتالون إلغضابه‪ .‬وكأن منظره وهو ثائر‪ ،‬يريض‬
‫فضوال كمينا يف نفوسهم‪ .‬وإذا كان املعلم خامال ال يقدر جهود أطفاله‪،‬‬
‫وال يشجعها‪ ،‬فربام يميل تالميذته إىل الركود‪ ،‬بعد أن رأوا قلة اهتاممه‪،‬‬
‫وتأكدوا من أن جمهوداهتم تذهب هباء‪ .‬وربام يكون املعلم غري مهمل وال‬
‫خامل‪ ،‬لكنه ال يملك حساسية كبرية لفهم كل تلميذ من تالمذته‪ ،‬فإذا كان‬
‫يف قسمه طفل حيتاج إىل تشجيع خاص‪ ،‬وحدث أن أمهل هذا الطفل‪ ،‬فإن‬
‫خمالفاته ستجيء من حاجته النفسية‪ ،‬وسيكسل أو يتخلف أو يعتدي لكي‬
‫يلفت نظر معلمه إليه بأية وسيلة‪ ،‬وقديام قالوا‪ :‬خالف تعرف‪ .‬وإذا كان‬
‫املعلم غري متبرص يف منهاجه‪ ،‬فكان يرهق أطفاله بالعمل الكثري‪ ،‬أو كانت‬
‫طرقه غري مهذبة‪ ،‬ال تسهل عىل الطالب طريق املعرفة‪ ،‬فأخلق بتالمذته أن‬

‫‪177‬‬
‫يعيوا فييأسوا‪ ،‬فينقطع حبل اجتهادهم‪ ،‬ويكون منهم الكسول والشارد‪،‬‬
‫والذي فقد حبه للمدرسة‪.‬‬
‫ال شك أن مربينا فكر يف كل هذه األسباب‪ ،‬حني تساءل هل يكون‬
‫املعلم مسؤوال عن خمالفات تالمذته‪ ،‬والشك أنه عرف أمهية موقف‬
‫املعلم أمام القانون املدريس‪ ،‬وأمهية فهمه ألطفاله وبواعثهم اجلسمية‪،‬‬
‫والنفسية‪ ،‬والعقلية‪ ،‬حني أعطاه حظه من املسؤولية يف خمالفة األطفال‪.‬‬
‫ونجيب عن سؤال املريب مؤكدين أن املعلم مسؤول عن كثري من عصيان‬
‫األطفال أو كسلهم‪ ،‬وأن واجبه أال يرسع يف إنزال العقوبات‪ ،‬بل واجبه‬
‫أن يبحث عن موطن الداء فيعاجله‪ .‬وأن العقوبة التي حتل بالطفل وهو ال‬
‫يشعر بجريمة اقرتفها‪ ،‬كفيلة أن تزيد من مرضه‪.‬‬
‫معلم يملك زمام التالميذ‪ ،‬هذه عبارة شعرية‪ ،‬تعطي صورة عن‬
‫العالقات املثالية التي حيلم كل معلم أن تربطه بأطفاله‪ .‬أوليس الذي‬
‫يملك الزمام قادرا عىل قيادة مملوكه أينام يشاء؟ فإذا أخذنا العبارة‬
‫اجلميلة وعرضناها عىل األمثلة الواقعية‪ ،‬وجدنا أهنا قليال ما حتاذي‬
‫الواقع وتقرتب منه‪ .‬ولو كان معلم يملك الزمام‪ ،‬ألصبحت عملية‬
‫الرتبية من أسهل العمليات‪ .‬وكيف يملك املعلم زمام الطفل ملكا تاما‬
‫وهو ال يعايشه إال جزءا يسريا من ساعات يقظته؟ وكيف يستويل املعلم‬
‫عىل األطفال‪ ،‬وكل منهم مشكلة وحده‪ ،‬هلا عقدها ومفاحتها؟ غاية ما‬
‫يصل إليه املعلم العادي‪ ،‬أن يمسك الزمام كلام قدر عليه‪ ،‬وأن يسعى‬
‫السرتداده أيان أفلته‪ .‬إنام املعلم املمتاز يملك أطفاله‪ ،‬ويستطيع أن‬
‫يسريهم فعال كأن زمامهم يف يده‪ .‬وأن املعلم املمتاز ال يعتمد عىل القوة‬
‫املادية ليكسب سلطته؛ فال يكافئ ويشرتي باجلوائز موافقة تالمذته‪ ،‬وال‬
‫يسلك سبيل العنف إلرهاب التالميذ وسوقهم أمامه‪ ،‬بل جيمع كل قواه‬
‫املعنوية‪ ،‬ليكون الشخصية القوية‪ ،‬التي جتذب التالميذ وتأخذ ألباهبم‪.‬‬
‫ويتسلح باخللق القويم‪ ،‬فيأتونه عن طواعية‪ ،‬معجبني بمتانته‪ .‬ويكون‬
‫لنفسه مهارة يف املهنة‪ ،‬حتى تكون يف دروسه املتعة والسالسة اللتان‬
‫يذوق الطفل من خالهلام حالوة العرفان‪ ،‬فال يلبث أن يتشبث بمعلمه‪.‬‬
‫يستزيده علام‪ .‬هذا هو املعلم املمتاز‪ ،‬الذي كملت له أسباب النجاح‪،‬‬

‫‪178‬‬
‫والذي هيمنا هو املعلم الذي الزال حياول تكوين شخصيته‪ ،‬ويبحث‬
‫عن أحسن الوسائل لتكون له سلطة يعرفها التالميذ ويدينون هلا‪.‬‬
‫ولسنا نستطيع يف هذه الصفحة أن نذكر كل الرشوط التي يتوقف‬
‫عليها وجود السلطة املعنوية‪ ،‬إنام نشري إىل بعض الفضائل اخللقية‬
‫واملهنية البارزة يف هذا القبيل‪ .‬ونجمل يف الرشط اخللقي‪ .‬فنشري إىل‬
‫رضورة حتيل املعلم بكل خلق مجيل‪ .‬وإن كان يف كلمة حتيل ما يشري إىل‬
‫التصنع والتجمل الظاهر‪ ،‬فلسنا نقصد إال التشبع بالروح اخللقية حتى‬
‫يصبح سلوك املعلم يشع منه االقتناع‪ ،‬وحتى يصبح لكلامته وأعامله‬
‫وزن يف املجتمع عامة‪ ،‬وعند األطفال خاصة‪ .‬أما الفضائل املهنية‪،‬‬
‫فأوهلا اإلخالص للعمل‪ ،‬والتضحية من أجله‪ .‬ولألطفال قدرة خفية‬
‫عىل إدراك دوافع املعلم‪ ،‬وكلام أحسوا بأنه خملص متفان‪ ،‬أقبلوا عىل‬
‫درسه واستمعوا لكلامته‪ ،‬وحذوا حذوه‪ ،‬فخضعوا لنظام املدرسة‪ ،‬بل‬
‫وأدوا الواجب‪ ،‬وزادوا عليه‪ .‬عىل أن إخالص املعلم قد يكون عديم‬
‫اجلدوى إذا مل تكن جهوده متامسكة‪ ،‬وأعامله مضبوطة‪ .‬وربام يكون‬
‫خطريا عىل تكوين التالميذ‪ ،‬أن يعطي املعلم مثاال لإلقدام األعمى‪ ،‬بأن‬
‫يبدأ يف محاس كثري أعامال تأكل قوته‪ ،‬فيقف عاجزا‪ ،‬أو يعدد املشاريع‬
‫التي ينجزها حتى ختتلط عليه‪ ،‬ويضطرب نظامه‪ .‬إنام يكون اإلخالص‬
‫خصبا إذا وجهه العقل املدبر‪ ،‬وأيده التبرص وضبط األعامل‪ ،‬وينبغي أن‬
‫يشمل ضبط املعلم كل النشاط الذي يرشف عليه‪ ،‬فيتوخى هو القوانني‬
‫وحيافظ عليها‪ ،‬وحيرتم املواعيد‪ ،‬ويفي بالوعود‪ ،‬ويراقب تالمذته‬
‫فيحملهم عىل مثل حزمه وضبطه‪ .‬وبام أن النظام أساسه الضبط‪،‬‬
‫فبوسعنا أن نقرر أن عادة الضبط‪ ،‬يتخذها املعلم ويعطيها أطفاله‪ ،‬أهم‬
‫احتياط لتفادي املخالفات‪ ،‬وتوطيد النظام‪ .‬ونذكر آخرا عدل املعلم‬
‫وعدم انحيازه‪ ،‬وإن كانت صفة العدل يف تطبيق القانون رشطا يف بقاء‬
‫القانون قانونا‪ .‬وعدل املعلم ينبغي أن يتخذ صبغة خاصة‪ ،‬بحيث يكون‬
‫يف نفس الوقت دقيقا وصارما‪ .‬دقيقا عند تطبيقه‪ ،‬يراعي حساسية كل‬
‫طفل ومقدار حتمله‪ ،‬وصارما يف مبدئه‪ .‬ال يعفى منه أحد‪.‬‬
‫إذا كانت هذه صفات املعلم‪ ،‬فإن نظام املدرسة سيتعزز‪ ،‬وسيضمن‬

‫‪179‬‬
‫االستقرار الرضوري إلنجاز األعامل املدرسية‪ ،‬وسيضمن أيضا تكوين‬
‫األطفال تكوينا خلقيا متينا‪.‬‬
‫االستقرار رضوري يف مجاعة األطفال التي الزال أفرادها يف يد‬
‫سلطان اهلوى‪ ،‬لكل منهم رغباته‪ ،‬ولكل منهم عاداته التي نشأ عليها فلو‬
‫تركوا ألنفسهم ملا قدروا عىل يشء‪ ،‬وملاجوا موجانا ال ينفك يرتفع حتى‬
‫يكون فوىض تامة‪ .‬والنظام املدريس‪ ،‬بام يفرضه من عادات‪ ،‬وما يشعر‬
‫به من أن السلطان الذي يرصف الناس هو إرادة اجلامعة التي يعرب عنها‬
‫القانون‪ ،‬ال إرادة الفرد‪ ،‬يساهم بنصيب كبري يف تكوين خلق األطفال‪.‬‬
‫وظاهر مما فصلنا أن االستقرار والتأثري اخللقي‪ ،‬ال يعطيهام القانون إال‬
‫إذا كان الذين أنشئ من أجلهم يقبلونه عن طواعية‪ ،‬وكان القانون يف‬
‫يد حكيمة نالت ثقة األطفال فأذعنوا هلا‪ .‬إذا كانت الظروف كام قلنا‪،‬‬
‫فإن األطفال سيعتربون القانون مبدأ خلقيا يكيف سلوك الناس‪ ،‬أكثر‬
‫مما يعتربونه جمموعة من الزواجر واألوامر‪ ،‬يرتتب عىل احرتامها أو‬
‫عدمه عقوبات حينون هلا الظهر‪ ،‬فتمر دون أن متس النقطة احلساسة‪ ،‬أال‬
‫وهي شعورهم باالستنكار‪ .‬وإذا اعترب األطفال القانون مبدأ يقتنعون به‪،‬‬
‫فستقل خمالفاهتم‪ ،‬وسيقبلون عىل الدرس يف جو خال من الكيد والشيطنة‬
‫اللذين ال خيلو منهام قسم املعلمني قلييل التجربة‪ ،‬وقلييل التفهم ملشاكل‬
‫األطفال‪ .‬أولئك املعلمني الذين ال يسألون أنفسهم ليعرفوا من املسؤول‬
‫عن املخالفة‪ ،‬وإنام يرسعون إىل العقاب ويفرطون فيه‪ .‬فإذا ختلف تلميذ‬
‫عن املوعد‪ ،‬مل ينظروا يف عذره‪ ،‬وإذا ظهر هلم نقص يف نتائجه‪ ،‬فكروا يف‬
‫الكسل وعاقبوا عليه‪ ،‬وإذا ظهر التلميذ حائرا طائشا‪ ،‬مل يلتمسوا له عذرا‬
‫فيام عسى أن يكون حدث له مما يعكر صفو حياته اجلسمية أو النفسية أو‬
‫العاطفية‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫فهرس‬
‫املواضيع اإلنشائية املتحللة‬
‫تقديم‪3......................................................‬‬
‫كيف أكتب‪7.................................................‬‬
‫‪ .1‬العرض املادي ‪7..........................................‬‬
‫‪ .2‬التهيئ‪11..................................................‬‬
‫‪ .3‬اإلنشاء‪16.................................................‬‬
‫مواضيع يف الرتبية وعلم النفس‬
‫املوضوع ‪23.................................................1‬‬
‫املوضوع ‪31.................................................2‬‬
‫املوضوع ‪40.................................................3‬‬
‫املوضوع ‪49.................................................4‬‬
‫املوضوع ‪58.................................................5‬‬
‫املوضوع ‪66.................................................6‬‬
‫املوضوع ‪76.................................................7‬‬
‫املوضوع ‪86.................................................8‬‬
‫املوضوع ‪95.................................................9‬‬
‫املوضوع ‪105...............................................10‬‬
‫املوضوع ‪115...............................................11‬‬
‫املوضوع ‪125...............................................12‬‬
‫مواضيع يف الرتبية‬
‫املوضوع ‪135...............................................13‬‬
‫املوضوع ‪144...............................................14‬‬
‫املوضوع ‪154...............................................15‬‬
‫املوضوع ‪165...............................................16‬‬
‫املوضوع ‪173...............................................17‬‬

‫‪181‬‬

You might also like