Professional Documents
Culture Documents
أثار وجود الدولة والسلطات السياسية ،الذي يتميز بالوضوح والغموض في آن واحد ،عديدا من التساؤالت التي أصبحت تشكل
مركز التفكير والمعرفة في العالم الحديث .إن هناك طلبا عاما بهذا الصدد؛ إذ ال يمكن ألية فلسفة وألي تفكير نظري حول
ُـرف بما فيه الكفاية والذي
المجتمع والواقع البشري أن يتجنب هذه التساؤالت .فحياة كل فرد منا ترتبط بـهذا المجهول الذي ع ِ
مازال يجهله الكثيرون أيضا ؛ وكذا يشعر كل فرد منا بأن هذا المجهول يعنيه مباشرة؛ أضف إلى ذلك أن مزيجا من الفضول
والقلق يحيط بـهذه التساؤالت .كيف يمكن للمرء أال يتساءل اليوم عن السبل والوسائل التي انتهجها كل من هتلر وستالين للتوصل
إلى الهيمنـة على شعوب كبيرة وإلقحام عصرهما في هذا المسار األكثر دمويةـ في التـاريخ البشري ؟ ويصدر التساؤل عن
شروط المعرفةـ أيضا :ألم تصبح المعرفةـ منذئذ مرتبطة عضويا أو مؤسسيا بالسلطة السياسية ؟ أيمكن للمرء أن يلغي هذا الرابط
الذي ال يختلف اثنان في سمته الواقعية ،أيمكنه أن يخترق هامشا من الحرية أو يحافظ عليه ؟ هل يمكن للمعرفةـ أن تصبح مستقلة
بذاتـها ،أن ترتد عن السلطات وأن تدرسها دراسة نقدية ؟ فإذا كان الجواب باإليجاب ،ما هي أهمية هذه المعرفةـ وما هي فعاليتها ؟
إن التساؤالت تتضاعف وتنصب على األسئلة نفسها ،على المعنى الذي تحمله والـهدف الذي تصبو إليه.
إن الفلسفات والبحوث العلمية التي تتجنب هذه األسئلة المسماة "سياسية" تظل محط ريبة .إذ أنـها ال تجيب على مشاكل عصرنا
الذي يتميز بتزايد قوة الدولة وتصاعد العنف وبارتباط الدولة بالمعرفي واالقتصادي واليومي واإلعالمي…
ال تجرى هذه البحوث في هذا الميدان بدون التعرض لبعض المخاطر ؛ فهذه البؤرة المركزية في الحياة االجتماعية وفي الفكر
تحتوي بالفعل علـى مناطق معتمةـ وعمياء؛ وتلتقي فيها كل من المعرفةـ و الال معرفة ،النفوذ الصارخ والسرية .تتموضع هذه
البؤرة المركزية خارج مقوالت الفلسفة التقليدية ومفاهيمها (كالذات والموضوع أو الجوهر والعالقة ،مثال) ،مع أن هذه المفاهيم
تظل ضرورية لصياغة التساؤالت .فالفلسفة بمعناها التقليدي تمر بمحاذاة هذه البؤرة ،على الرغم من أن هيغل Hegelأوال ،ثم
نيتشه ، Nietzscheمرورا بماركس طرحوا مجموعة من األسئلة القوية والواضحة حول هذه البؤرة وبينوا مظاهرها المتعددة
التي مازال البعض منها مقبوال إلى اليوم وتم تجاوز بعضها اآلخر.
إن كل سلطة سياسية ،مرتبطة بـهذا الشكل التاريخي من الدولة أو ذاك ،قد ولدت مجموعةـ من التمثالت بكل ما تحمله الكلمة من
معنى :احتفاالت ،أعياد ،إخراج ومسرحية ،صور ،أفكار وإيديولوجيا ،تصـورات للعالم وللمجتمع ،إلخ .لقد كان البعض من هذه
التمثالت يستعمل استعماال شعبيا من أجل اإلبقاء على المسودين تحت الهيمنة؛ وكان بعضها يستعمل استعماال أكثر ضيقا :إذ أنه
كان مخصصا للمهيمنين ،يمجدهم باعتبارهم مرتبطين بالسلطة وأدواتها .وأخيرا ،لم يكن يستعمل الجزء المتبقي منها إال بشكل
داخلي خاص باألسياد ،باعتباره إجراءات ضرورية للحفاظ على وعيهم بالسيادة وتمريره إلى خلفهم.
وسيحدث أن تتطور هذه التمثالت وتتحول إلى منظومات رمزيةـ واسعة وإلى مجموعةـ من األساطير وإلى عمليات أسطرة كبرى.
يتعين على التحليل النقدي للسلطة (السياسية) أن يعترف بـهذا المفعول المفارق :لقد كانت األنظمة االستبدادية أنظمة شعبية،
وكان المستبدون الذين كانوا يظهرونـ أكثر قساوة محط تملق وقبول ومحبة بفعل العودة الضرورية إلى التاريخ .وال يتم االعتراف
بسماتـهم المكروهةـ إال بعد سقوطهم أو موتـهم؛ طبعا ،كان يوجد أفراد يكنون كراهية للمستبدين خالل حياتـهم وفترة مجدهم ؛ لكن
مفعول المحبة (الذي يرتبط ارتباطا غريبا بالهيمنة ،وبالتالي يبدو أنه مالزم لعملية استالب المهيمن عليهم بالتسلط واستالب
المشاركين في العنف االستبدادي) كان يهيمن نفسه على الكراهية .هكذا كان األمر بالنسبة لستالين (انظر األناشيد الجنائزية
الـهذيانية وعبادة موميائه خالل سنوات عديدة ،إلخ) .وهكذا الشأن بالنسبة لـهتلر إلى حدود هزيمته .ففي العالم الحديث ،حلت
صورة اإلنسان العبقري وصنميته (صورة األمة ،العرق ،الطبقـة) محل الصورة الدينية للنـبي أو صورة التجسيد اإللهي على
.األرض
يمكن للتحليل أن يساعدنا على إجراء تمييز بين األساطير العفوية للسلطة والميثولوجيات القائمة القريبة من اإليديولوجيا ،لكنها
تفوق التجريدات اإليديولوجية قوة .ومع ذلك يصعب التفريق بين هذين البعدين للصنمية السياسية .هل تتمثل الميثولوجيا العفوية
في صورة األمير صاحب الحق اإللهي ؟ نعم ،لكنها صورة مهذبة بمهارة .إن صورة الشخص المفضل من قبل اآللهة أو صورة
رسول هللا إلى األرض تنبثق تلقائيا من مثل ذلك اإليمان الديني ؛ لكنها تـهيئ نفسها وتنظمها .لم تدع الملكية في فرنسا "الحق
اإللهي" إال أثناء عملية بناء جهاز عسكري وإداري وقانوني متين ،وخصوصا بعد إرساء البيروقراطية المتمركزة في شكلها
الجيد والمستحق .فعندما كان ملك فرنسا يدافع بضراوة على سلطته ضد الفيوداليين الكبار وضـد المدن الكبرى (ومن بينها
.باريس) في آن واحد ،فإنه كان يبدو بوجه قانوني دنيوي وليس بوجه سماوي
إن السلطة التي تريد أن تكون سلطة مطلقة وكذا السلطة المطلقة نفسها (ظاهريا أكثر منه واقعيا) تميالن إلى أن تقدما عن ذاتيهما
صورة فوق طبيعة .والحال أن التمثل األسطوري ل "السلطة"* (بال زيادة وال نقصان)يوسع من هذه الصورة األسطورية .فهذه
األخيرة لم تنقرض .إنـها تنجح حتى في أن تقدم نفسها بمظهر علمي باالعتماد على مثل هذا المفهـوم الكاذب (الذي يقترب في
الحقيقة من االستعارة ومن نوعية مستترة أكثر مـما يقترب من فكرة واضحة) المتمثل في الكاريزمـ و"الظواهر الكاريزمية"
تنطلق هذه اإليديولوجيا من جهل بالعنصر السياسي ،أي بالشروط والظروف التاريخية M. Weber).ماكس فيبر( المزعومة
وبسلسالت الوقائع والقرارات التي مكنت "الزعيم الكاريزمي" من امتالك السلطة السياسية .وتجهل هذه اإليديولوجيا أيضا
االستعمال المعلقن للعنف ،وللخطاب السياسي وللغة المالئمة.ـ فهذه األطروحة الشهيرة أكثر مما ينبغي تخلط بين مفعـول السلطة
.السياسية وكيفية الوصول إليها (النفوذ" ،عبادة الشخصية") من جهة ،وأسباب هذا الوصول وأصوله وسيرورتهـ من جهة أخرى
اكتست الصورة المتجانسة للسلطة مؤخرا أشكاال أصلية .إذ اكتشف "المثقفون" والفالسفة السلطة السياسية وأهميتها (وغالبا ما تم
ذلك بعد .)1968إن احتقارهم ل "السياسي" جعلهم ال يفكرون سوى في السلطة في ذاتـها .إنـها تفتنهم ؛ إنـهم يريدون أن يمسكوا
بـها على المستوى المفهومي ،سواء من أجل محاربتها أو من أجل خدمتها .يحدث لـهم أن يخدموا السلطة السياسية بالمعرفة،
ويقدمونـ لها هذه الخدمة على شكل أوامر عموما،ـ ونادراً ما يكافئون عليها ،وغالبا ما تكون سببا في إذاللهم :تقارير (يذهب
معظمهاـ إلى أدراج الوزارات) ،تحاليل ،دراسات يتأرجح مفكرو السلطة الخالصة بين معرفةـ خالصة ومعرفةـ نقدية ومعرفةـ
خاضعة .إنـهم ينتهون بأن يروا السلطة في كل مكان .إنـهم يستخرجون منهـا بعض االستيهامات .وبالتالي لن يكون للسلطة أي
أصل تاريخي محدد ،وال أية علة اقتصادية أو سياسية وال أي منبع أو مورد إيديولوجي .سيوجد إذن عدد ال يحصى من السلطات
المتناثرة حتى في أركان المجتمع وأوكاره،ـ سلطات تجمعها السلطة وتكثفها .ويتم التعرف على عالقات التبعية في األسرة
والجنس والحياة الجنسية واللغة والتعليم والملكية والغنى طبعا… وباختصار ،إن تلك العالقات تلقح الحياة االجتماعية (وتسجنها
بداخلها وتسمم أساسها) .ليس للسلطة المنتشرة مناص من أن تجتمع في السلطة ،منتقلة على طريقتها الخاصة من النسبي إلى
المطلق .كيف يمكن التخلص من السلطة بما أن الخطاب (كالم أو كتابة) ال يكون أبدا إال خطاب سلطة قائما على سلطة الخطاب ؟
.هكذا فإن السلط المتناثرة تؤول إلى السلطة المطلقة ،وتؤول هذه األخيرة إلى السلطات المتناثرة المتعددة
إنـها أطروحة ساحرة .لماذا ؟ ألن لكل واحد منا حصته من السلطة (ويمكن أن تمارس هذه السلطة على الحيوان ،كالكلب أو
القـط!) ،وبالتالي فهو يضطلع ببعض المسؤوليات داخل السلطة ،ويمكن ألي منـا أن يستغني عنها أو أن يقويها ؛ الشيء الذي يقدم
تفسيرا تقريظيا للديمقراطية ولبعض األوهام الديمقراطية (الليبيرالية أو الليبيرالية الجديدة) .باإلضافة إلى ذلك ،يمكن لهذه
األطروحة أن تقدم نفسها كأطروحة مصادق عليها ومتحقق منها بواسطة التماهي مع السيد ،بل ومع الجالد ،وهـو تماهي تـ ّم
التحقق منـه كثيرا من المرات ؛ هكذا يمتد الجزء الصغير من السلطة ليشمل السلطة المطلقة ! ومع ذلك ،مازال هذا الموقف
المنتشر جدا اليوم يـجانب السياسة "الواقعية" ،بما في ذلك الفعل واإليديولوجيا .ال وجود في الحقيقـة وفي الواقع لسلطـة بالمعنى
الميتافيزيقي ،وإنما توجد سلط سياسية محددة ،وبالتالي محدودة .لكن بماذا تتحدد تلك السلطة ومن يحددها ؟ إنـها األعراف
والقـوانين ،والدساتير والمؤسسات .وذلك هو ما يحول دون القفز من النسبي إلى المطلق .ال توجد السلطة السياسية إال في الدولة
وبواسطتهـا ،وال توجد الدولة بدورها إال بواسطة رجال الدولة الذين يمارسـون جزءا من السلط .فالعالقة الموجودة بين السلط
القائمة والسلطة السياسية هي أكثر دقة مما تتصوره الطروحات اآلنفة الذكر .إن األمر ال يتعلق بمجرد "تجسيد أو تحقيق بعض
التجريدات ،الدولة أو القانون أو الحق .إن الدولة كيان مجرد بالفعل ،لكنها ال تقل واقعية،ـ والكشف عن واقعيتها النوعية يتطلب
.تحليال طويال وصعبا
هل يتعين علينا إذن أن نكيف ونتبنى بعد ذلك األطروحة التقليدية التـي ال توجد بمقتضاها سوى سلط محددة جدا ومنفصلة عن
بعضها البعض ومحدودة نظرا ألنها تحد بعضها البعض تبادليا ؟ هل يجب علينا أيضـا أن نقبل وجود سلط جديدة كالسلطة النقابية
أو تدخل الهيئات التي تـهدف إلى التجديد ،كالتخطيط مثال ؟ إن مثل هذا الموقف يخاطر بأن يقنع بعض الظواهر التي تعتبر
البيروقراطية أبسط مثال عنها .وينقطع هذا الموقف إلى تخليد لعب التنافس والتنـاحرات بين السلط ،وهـي تناحرات تعوق
الفعالية ،لكنها تحول دون صعود أية قوة كليانية .وأخيرا ،يخفي هـذا التنظير ما يحدث فجأة في هذا الميدان :استبدال الفصل
القديم بين السلـط على طريقة مونتسكيو ،بتقسيم العمل السياسي بين التكنوقراطيين والجيش ورجال السياسة المحترفين .سنعود
إلى هذا الموضوع الحقا .فهذه البنية السياسية المعاصرة تفترض وجود جماعات نشيطة ،مستسلمة لصراع حاد من أجل الـهيمنة،
".في أحضان سلطة تنـزع نحو الموحد الذي ال يشتمل على التضمينات التي تشتمل عليها كلمة "كلياني
http://www.anfasse.org/2010-12-29-18-25-49/2010-12-30-15-58-49/1006-2010-07-11-16-
26-23