You are on page 1of 33

‫مقاالت خالص جلبي‬

‫كيلوجراما‬

‫دخل إلى العيادة يشكو من الدوالي؟ وعند الفحص تبين أن المشكلة هي في أمواج الشحم التي اعتلت البدن في كل‬
‫اتجاه‪ ،‬فلم يبق للبدن شكل هندسي‪ ،‬بل تداخل الطول مع العرض‪ ،‬والسطح مع الحجم‪ ،‬وبالوزن تبين أن المريض‬
‫يزن ‪ 130‬كيلو جراما؟! وأحيانا (يطبش) الميزان فيئن من فرط الثقل ويكاد أن ينكسر؟ قال الطبيب للمريض ‪:‬‬
‫نعم أنت مريض‪ ،‬ولكن ليس بالدوالي بل بفرط الوزن؟ هز رأسه مثل كل البدناء وقال ولكن ال آكل شيئا ً ؟‬
‫والحقيقة أنه يأكل كل شيء؟ وبدراسة البدانة تبين أنها تخضع لقانون حوض الماء‪ ،‬بين ماء يتسرب وماء‬
‫يتجمع‪ ،‬فأيهما غلب مال الجسم معه كيف مال‪.‬‬

‫ومن فرنسا أرسل لي صديق عزيز عن رجل مبدع‪ ،‬أنه مات من القمه العصبي ‪ ،Anorexia‬وهو مرض‬
‫مقابل للبدانة‪ ،‬يموت فيه المريض ليس انتفاخا بل انكماشا؟ ففي الوقت الذي يدخل البدين الكمية الهائلة من‬
‫الطعام‪ ،‬طعاما فوق الطعام‪ ،‬فإن الثاني يتقيأ الطعام وال يستسيغه‪ ،‬وهما صورتان تحكيان اإلفراط والتفريط‬
‫البيولوجي‪.‬ومشكلة البدانة ليست في الغذاء واالنتفاخ؛ بل المرض؛ فمن أصيب بالسمنة أصيب بثالثة عشر لونا‬
‫من األمراض‪ :‬بين سكري وضغط‪ ،‬وزرقة عين ونكس مفاصل‪ ،‬وتشحم قلب واعتالل كلية‪ ،‬وقلة حركة ونقص‬
‫بركة‪ ،‬وبواسير والتهاب معثكلة‪ ،‬وحصيات مرارة وضيق نفس‪ ،‬فضال عن مضاعفات كل هذه األمراض‪،‬‬
‫فالسكري يقود للفشل الكلوي وغشاوة الرؤية وضعف االنتصاب؛ فيفقد ثالثة؛ جسما ال ينظف على مدار الساعة‪،‬‬
‫وخسارة متعة جنسية دون حدود‪ ،‬وفقد بصر ال يعوضه كل شيء؛ فهذه كلها من بالء البدانة ومصيبة التشحم‬
‫وفرط السمنة علة فوق علة‪..‬‬

‫وهي بالنسبة للمرأة رأس كل كارثة ؛ فبعد التشوه وتدلي األطراف ومقابض الشحم من كل مكان‪ ،‬تفقد رشاقتها‬
‫وحيويتها ونضارتها وجمالها الذي تتميز به‪ ،‬وهو السبب ‪ -‬وهللا أعلم ‪ -‬خلف محاولة الرجل تجديد الزواج‬
‫وزوغان عينه للخارج؛ هكذا روت لي سيدة فضلى عن أسرار التعدد والطالق؛ فمع بدانة المرأة يذهب الجمال‬
‫والحركة والبركة إلى غير رجعة‪ ..‬ما لم تتب وتمارس الرياضة والنحافة الصحية والعناية بالجمال والدالل‬
‫واألناقة طبقا عن طبق!!‪..‬‬
‫والنحافة يجب أال تصل إلى درجة عارضات األزياء المريضات‪ ،‬بل االعتدال كما وصف الرب فقال‪" :‬وكلوا‬
‫واشربوا وال تسرفوا إنه ال يحب المسرفين"‪.‬وهذا يعني كما جاء في الحديث أننا قوم ال نأكل حتى نجوع‪ ،‬وإذا‬
‫أكلنا ما شبعنا‪ ،‬والكافر يأكل في سبعة أمعاء‪ ،‬والمؤمن يأكل في معي واحد‪ ،‬وراحة البدن من قلة الطعام‪ ،‬كما‬
‫كانت راحة القلب من قلة اآلثام‪ ،‬ونبي الرحمة كان يجوع يوما ويشبع يوما كي يكون عبدا شكورا‪ ،‬ويربط‬
‫الحجر على بطنه‪ ،‬ويمر على أهله فإن لم يجد طعاما صام!!وكثرة إدخال الطعام‪ 8‬على الطعام تذهب بشهيته‬
‫والتمتع به‪.‬‬

‫والرشاقة والنحافة دليال الصحة والعافية‪ ،‬ومنهما يميل الرجال إلى هذا اللون من النساء‪ ،‬ويكرهون البدينات في‬
‫العموم‪ ،‬بل هما أحد أسباب الطالق‪ ،‬وانقالب مخدع الزوجية إلى روتين ممل وطالق صامت‪ ،‬والنفرة من‬
‫الممارسة الجنسية‪ ،‬وهي الغراء الالصق في الحياة الزوجية‪ ،‬فكان على النساء االنتباه إلى هذه والمحافظة على‬
‫أجسادهن بعافية ورشاقة ونحافة‪ ،‬وهو تحد ليس مستحيال وال يحتاج إال إلى شيء من االستنفار واالنتباه‪ ..‬وهذا‬
‫ال يعني أنه كل شيء فالزواج سكينة وتفاهم ولكنه عنصر مهم‪.‬وقد ال يصدق المرء حين نروي له مشكالت‬

‫‪1‬‬
‫االختالطات الجراحية عند البدناء‪ ،‬وسماكة طبقة الشحم في الجراحة‪ ،‬وكيف تصبح الجراحة متعة على أجسام‬
‫الرشيقين من نساء ورجال؛ كل ذلك بسبب طبقة الشحم المغطية للجسم بين بدين ورشيق؟‬

‫وأنا شخصيا مع هذا أحب الناس إلى قلبي رجل بدين‪ ،‬وأحب أن يتخلص من البدانة‪ ،‬ولكن دون جدوى‪ ..‬وكما‬
‫يقول نيتشه‪ :‬اصل نفسك حربا ال هوادة فيها‪ ..‬وهو ما قلته لمريض مصاب بالسكري فقد بصره واسودت رجله‬
‫وبدأت معه رحلة الفشل الكلوي؛ قلت له‪ :‬عندك عدو في بدنك فأعلن الحرب عليه قال من هو؟ قلت السكر‬
‫والبدانة وقلة الحركة‪" ..‬وإال تنفروا يعذبكم عذابا أليما" "وانفروا ثبات أو انفروا جميعا" "وانفروا خفافا وثقاال"‬
‫"ولوال نفر طائفة" فكل هذه المرادفات من استنهاض اإلرادة للحركة ‪ ..‬والمثل األلماني يقول‪ :‬العمل يهب‬
‫الصحة‪ ..‬ولذلك خلقنا فالعبادة هي العمل‪ ..‬وبالموت نستريح ‪ ..‬فال يمسنا نصب ولغوب‪..‬‬

‫مضاد المادة والمادة المظلمة ومضاد الجاذبية‬

‫إن هذا العالم الذي نعيش فيه ليس في وضع ثابت بل يتمدد دون توقف مثل القربة التي تنفخها قوة مجهولة دون‬
‫كلل وملل‪ .‬وبذلك انقلبت صورة العالم فيما يشبه ثورة كوبرنيكوس ثانية‪ .‬فلم تعد الكرة األرضية أو النظام‬
‫الشمسي أو حتى مجرتنا درب التبانة في مكانها‪ ،‬بل تحولنا إلى نقط على ظهر بالونة تتباعد عن بعضها‬
‫وبتسارع‪ ،‬فكلما تباعدنا ازدادت سرعة التوسع وكل في فلك يسبحون‪ .‬واليوم وبواسطة البالونات التي تسبح في‬
‫الملكوت األعلى أصبح باإلمكان رؤية الكون ودراسة اإلشعاع األساسي الخلفي للكون على صورة نقية بما ال‬
‫يقارن مع الطرق القديمة‪ ،‬وقد حصل العلماء على أرقام دقيقة جداً للغبار الكوني وكمية اإلشعاع ومقدار التوسع‬
‫وكانت النتيجة بحجم الصدمة للكثيرين‪.‬‬

‫ويرى (ماتياس بارتلمان ‪ )Mathias Bartelman‬من معهد (جارشنج ‪ )Garching‬األلماني للفيزياء الكونية‪،‬‬
‫أن هذه القياسات أعطتنا فكرة عن كثافة المادة ومقدار تحدب الكون‪ .‬ونتيجة الدراسات أثبتت أمورا مهمة‪:‬‬
‫(أوال) أن الكون ليس فيه من المادة كما كان يعتقد‪.‬‬
‫(ثانياً) وبواسطة تركيز المادة يعرف مصير الكون إلى أين يمضي؟ هل سيعاني انكماشا ويرجع ليدخل مرحلة‬
‫انخماص عظيم مقابل االنفجار العظيم الذي بدأه؟ أم أن الكون سوف يمتد إلى الالنهاية؟‬

‫والنتيجة التي حملتها قياسات البالونات من طبقة االستراتوسفير كما يقول (بارتلمان) أن الكون أخف بكثير مما‬
‫كنا نظن‪ ،‬وكمية المادة أقل من المتوقع‪ .‬وعند هذه النقطة ندخل إشكالية جديدة فالحسابات القديمة للكون وكمية‬
‫الجاذبية توحي بوجود مادة أكثر مما كشفت عنه البالونات وهو يعني وجود مادة غير مرئية‪ .‬وبذلك وصل‬
‫العلماء إلى شيء جديد في المادة هو ليس (مضاد المادة) بل (المادة المظلمة) وهي تشكل معظم كتلة الكون‪،‬‬
‫وتزيد على ‪ %90‬من بنائه‪ ،‬وتشكل عموده الفقري‪ ،‬وهي التي تمسك السموات واألرض أن تزوال‪ .‬وهي‬
‫الورطة التي وقع فيها آينشتاين في معادالته حينما قرر أن الكون ثابت ال يتمدد مع أن معادالته كانت تقول له إن‬
‫الكون يتوسع؛ فقام بإدخال (الثابت الكوني) على المعادالت كي يحول الكون إلى وضع جامد‪ .‬وهذا يعني مع‬
‫وجود المادة المعتمة أن كل ما يلتمع فوق رؤوسنا في الليلة الصافية ال تزيد عن القشطة التي توضع فوق طبق‬
‫الكاتو؟‬

‫وبذلك كشف العلماء عن ثالثة أنواع من المادة‪:‬‬

‫‪2‬‬
‫ـ المادة التي تشكل أجسامنا‪.‬‬
‫ـ ومضاد المادة مقلوبة الشحنة‪ ،‬ومن المفروض أن تكون موزعة بالتعادل مع المادة العادية‪ .‬ولكن اجتماعها مع‬
‫المادة العادية يفضي إلى انفجار مروع وتحرر خرافي للطاقة ودمار كامل لكليهما‪.‬‬
‫ـ والثالثة (المادة المعتمة)‪ ،‬التي حار العلماء في تصنيف طبيعتها الغريبة‪.‬‬
‫ومع اكتشاف المادة المعتمة غير المرئية برز السؤال مرة أخرى هل تكفي مع المادة المرئية لفرملة التوسع‬
‫وإيقاف التمدد؟ والجواب ‪ :‬ال‪ .‬والمفاجأة المذهلة هي الكشف عن قوة جديدة هي (مضادة للجاذبية) تعمل على‬
‫توسع الكون إلى مداه األقصى هي أقوى من الجاذبية بمرتين‪ .‬وبذلك بت في مصير الكون دون عودة‪.‬‬
‫كشف العلم إذن عن حقيقتين‪:‬‬
‫ـ توسع الكون إلى الالنهاية‪.‬‬
‫ـ وموت الكون بعد عمر طويل نحن نعيش في الساعة األولى منه‪.‬‬

‫في مثل هذه التحديات الكونية يسقط أعظم العباقرة بأفدح األخطاء‪ ،‬وهكذا بدأ التشقق يظهر على النسبية‪ .‬ونفس‬
‫آينشتاين اعتبر نفسه (حمارا) على حد تعبيره حينما لجم معادالته في توسع الكون‪ .‬ويرى العلماء أن تمدد الكون‬
‫كان أسرع من الضوء في اللحظات األولى من تشكل الكون‪ .‬ويأتي الفيزيائي (نيميتس) من (كولن) في ألمانيا‬
‫ليقول إنه حقق ما هو أسرع من الضوء بخمس مرات‪ ،‬مما يهدم حجر الزاوية في النسبية التي تقول ليس هناك‬
‫من ثابت في الكون سوى سرعة الضوء‪ .‬أو بتعبير القرآن كلمح البصر أو هو أقرب‪ .‬فهناك لمح البصر وهناك‬
‫ما هو أقرب منه‪ .‬ولن نستطيع استعمار المجرة واالستقرار على ظهر كواكب صالحة للحياة قدرت بخمسين‬
‫مليونا في مجرتنا ما لم نكسر حاجز سرعة الضوء‪.‬‬

‫العالم (الرابع) غير المنتج أو المستهلك للمعرفة‬

‫في األول من كانون الثاني (يناير) عام ‪ 1901‬جاء في افتتاحية جريدة "شيكاغو تريبيون" ‪Chicago‬‬
‫‪" Ttibune‬أن القرن العشرين سيكون قرن اإلنسانية واألخوة لكل البشر وسيفوق في عظمته كل اكتشافات العلم‬
‫وانتصارات الفن التي سبقته" والذي ظهر أن القرن العشرين كان قرن الحروب العالمية واألوبئة مثل إنفلونزا‬
‫‪ ،1918‬التي قضت في أربعة أشهر على البشر أكثر مما قضت الحرب العالمية على الجنود في أربع سنوات‪.‬‬
‫وفرخت العنصرية والنازية والفاشية والديكتاتوريات العسكرية باالنقالبات‪ .‬وفيه ولد حق الفيتو مثل أي كائن‬
‫مشوه ال يصلح لحل مشكالت العالم سوى خدمة نادي األقوياء‪ .‬ويتفق العديد من المفكرين مثل المؤرخ ايرك‬
‫هوبسباوم ‪ Eric Hobsbawm‬من جامعة لندن والفيلسوف نوربرت بولتس ‪ Norbert Bolz‬من جامعة إيسن‬
‫من ألمانيا وعالم التاريخ رولف بيتر زيفرليه ‪ Rolf Peter Sieferle‬من جامعة برلين على أن القرن الحالي‬
‫أفضل ما يوصف به إنه ‪:‬‬

‫"قرن تزداد فيه الفوضى ويتناقص فيه النظام"‪ ،‬وأنه على حد قول هوبسباوم كما في كتابه الشهير (عصر‬
‫التطرف) "أنه ال يوجد أي قوة عظمى بما فيها الواليات المتحدة أن تسيطر وتنظم العالم‪ ،‬وأن الكون في فوضى‬
‫عارمة"‪.‬وهو بذلك يولد والدة جديدة ال يتجرأ أحد على التنبؤ بها فقد علمنا التاريخ مصير مسيلمة الكذاب‪.‬‬

‫لقد كتب األمريكي ادوارد بيالمي ‪ Edward Bellamy‬عام ‪1888‬م قصته المثالية بعنوان (العالم عام‬

‫‪3‬‬
‫‪2000‬م)‪ .‬توقع أن يكون العالم‪" :‬خاليا من الطبقات تعمه األخوة‪ ،‬بدون سيارات وطائرات وقنابل نووية‪ ،‬يساق‬
‫للناس رزقهم عبر شبكة هائلة من األنابيب بالعشي واإلبكار"‪ .‬واليوم بعد مرور أكثر من قرن على أحالم الكاتب‬
‫بيالمي نعرف أنها ال تزيد على هلوسة‪.‬‬
‫وأهمية معرفة المرحلة التي تمر فيها األمة العربية ومؤشرات المستقبل تأتي من أهمية التاريخ العام للجنس‬
‫البشري وتطوره‪.‬وعالم االجتماع مانويل كاستلز ‪ Manuel Castells‬من جامعة كاليفورنيا في بيركلين مثال‬
‫عنده رأي حول تطورات العالم؛ فهو يرى أنه يتحول إلى مجتمع جديد إلكتروني من يدخل فيه على شبكة‬
‫المعلومات أنتمى إليه‪ ،‬وأما الجاهلون فمصيرهم االنسحاق في ثقب أسود‪ .‬وأن العالم اإللكتروني سيكون حكراً‬
‫على المتعلمين بتفوق‪..‬‬

‫ويذهب إلى ما ذهب إليه آندي جروف ‪ Andi Grove‬من رواد شركة إنتيل للميكروشيبس أن قفزة عصر‬
‫اإلنترنت تضاهي الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر‪ ،‬وأن بنية المجتمع سوف تتغير كلية تتراجع فيه سطوة‬
‫الدولة والمخابرات فيفلت من قبضتها تدفق المال وتيار المعلومات في ضربة موجعة‪ .‬وحيث اإلنترنت ال يوجد‬
‫مسافات ومن كان خارجه كانت المسافات النهاية لها‪ .‬وأنه عصر المرأة وأنه التحول األعمق للمجتمع اإلنساني‬
‫بنشوء وعي نسائي مستقل وهو غير قابل لالرتداد‪ .‬وأن من يقود العالم لم يعودوا رؤساء الدول بل ربابنة بحر‬
‫اإلنترنت‪ .‬وأن العالم سيعاني من ظاهرة االستقطاب ‪ Polarization‬حيث يتحول إلى بنية مركبة من نواة فعالة‬
‫للغاية تمثل ‪ 30‬في المائة من الجنس البشري في يدها العلم والمال والتكنولوجيا‪.‬وأنه مع عام ‪ 2007‬سيكون‬
‫من السعداء الفائزين مليارن من البشر متصلين بعالم الشبكة اإللكترونية‪ ،‬في الوقت الذي ال يعرف مليار من‬
‫البشر وهم ‪ 16‬في المائة من مجموع الجنس البشري تهجئة كلمة (كمبيوتر)؟!‬

‫وأسوأ ما سيحدث ليس استعمارا من النوع القديم‪ ،‬حيث تنهب ثروات الشعوب بل تحول الجاهلين إلى (عالم‬
‫رابع) يتم تجاهله‪ ،‬ألنهم بكل بساطة ليسوا منتجين وال مستهلكين (للمعرفة)‪.‬‬

‫ومع هذا االضطراب الكوني فسوف تنمو األصولية في كل مكان‪ ،‬من الدينية والعرقية والوطنية‪ .‬ولسوف تتعاظم‬
‫الجريمة المنظمة‪ ،‬واليوم ينفق على الجريمة ‪ 1.5‬مليون مليون دوالر وهو ما يعادل التجارة األوروبية في عام‪.‬‬
‫وفي أمريكا يفتتح كل أسبوع سجن جديد يتسع أللف سجين‪ ،‬وينفق في كاليفورنيا على السجون ما ينفق على‬
‫التعليم‪.‬وهكذا ففي الوقت الذي دخل العالم القرن العشرين بقدر كبير من التفاؤل بقدر ما يدخل العالم اليوم القرن‬
‫الواحد والعشرين بكثير من عدم الثقة‪.‬‬

‫مؤشرات الجريمة في المجتمع‬

‫روى لي أخ فاضل عن تعرض زوجته للنهب والسلب في رابعة النهار في عرض الشارع‪ ،‬فسلبت حقيبتها‬
‫ودفعت إلى األرض‪ ،‬فانخلع كتفها وكسر عضدها وفقدت أموالها وبطاقاتها المهمة في لحظات! وروى لي أبو‬
‫نادر فقال‪ :‬كانت عائلتي في حفل عائلي فأوصيت السائق تجنب الشوارع الكبيرة وأال يطيلوا المكث؟ وأنا رجل‬
‫أعيش في "كامب" مغلق محروس يفتش الناس فيه عند الدخول والخروج أشد من تفتيش النحالت العامالت‬
‫الحارسات لخلية النحل‪ .‬وفي جدة دخلت مجمعا بقصد استئجار فيال فيه فكان الجند واألمن في المداخل يذكر‬
‫بحرس القالع‪ ،‬وهو شيء جيد لمن دخله كان آمنا‪ .‬وفي القرآن يمن هللا على عباده‪ :‬أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا‬

‫‪4‬‬
‫ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة هللا يكفرون؟ وصاحب كتاب فخ العولمة توقع انقسام مدن‬
‫العالم في النهاية إلى هذا الوضع المأساوي‪ .‬وانأ دخلت المملكة عام ‪1983‬م ونحن اليوم عام ‪2007‬م أي أصبح‬
‫لي في الممكلة ‪ 24‬سنة وعاصرت والدة جيل جديد كامل‪ ،‬ورأيت انقالب البلد إلى الحداثة والعصر بسرعة‬
‫خرافية‪ ،‬من طرق يندلق عليها السمن‪ ،‬وبنايات تناطح السماء‪ ،‬ومشافي تلمع صرحا ممردا من قوارير‪ ،‬كما‬
‫أشرت إلى مركز الحبيب الطبي في مقالة‪ ،‬وهو اليوم يبني مشفى رائعا في القصيم‪ .‬أما مشفى جدة الذي أقامه‬
‫الطبيب الفتحي فجنة للناظرين وصرح طبي تفخر به المملكة؟ لقد ذهلت من رؤيته حقا كما ذهلت برؤية مسجد‬
‫الحسن ‪ 2‬على حافة األطلنطي في المغرب بسقوف تتحرك وجدران تعج بالنقوش الرائعة وأعمدة من مرمر؟‬

‫ولكن مؤشرات الجريمة ارتفعت‪ ،‬ولم نكن نسمع عن السرقة ونسمعها كل يوم؟‪ .‬وكان أحدهم يترك حقائبه‬
‫وسيارته ويمضي مفتحة لهم األبواب فيرجع ولم يحدث شيء‪ .‬وهو إن دل على شيء فهو ما ذكره القرآن عن‬
‫خطر البطر فقال‪ :‬وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فهذه قوانين كونية كمونية تعيد االتزان واالعتدال‪.‬‬

‫وحاليا وصل مرض السكري في المملكة حد الوباء كما صرحت بذلك قبل فترة وزارة الصحة ونشرته جريدة‬
‫"االقتصادية"‪ .‬واإلدمان يتفشى مثل النار في غابة جافة في صيف قائظ! والنازيون المجرمون كذبوا في كل‬
‫شيء إال فقرة صدقوا بها رصعوا بها واجهات معسكرات االعتقال وهي كلمة حق أريد بها باطل فكتبوا‪ :‬العمل‬
‫يهب الصحة ‪ .Arbeit macht gesund‬وفي القرآن أن هللا خلق الجن واإلنس ليعملوا فقال‪ :‬وما خلقت‬
‫الجن واإلنس إال ليعبدون‪ .‬وهو معنى سألني عنه يوما نصراني في كلية الطب في دمشق قرأ في القرآن ورجع‬
‫يقول إن هذه اآلية لم يفهمها‪ ،‬وهي عمى على البعض‪ .‬وأعملت النظر فيها حتى شرح هللا صدري لمعناها‪.‬‬

‫والنفس والجسم يصحان بالعمل ويفسدان ويأسنان بالراحة المتواصلة والكسل‪ .‬والمفاصل التي ال تتحرك تقسط‬
‫وتيبس‪ .‬آية للمتوسمين‪ .‬وقصة زميلي عن زوجته التي سلبت وضربت وكسر ذراعها مؤشر خطير الرتفاع حافة‬
‫الجريمة‪ .‬وروى لي آخر عن تعرض سيارته للعدوان وهو في "الكامب" وشتم بأقذع العبارات باللغة اإلنجليزية‬
‫على السيارة وشخطت في كل مكان وكسرت عالمات السيارة ونفست الدواليب (الكفرات)‪ ،‬ولم يتجرأ الرجل‬
‫على إخبار الشرطة وإقحامها في الموضوع خوفا من جريمة أكبر‪ .‬وحين تصل األمور إلى هذا الحد وال يعرف‬
‫المجرم خاف كل الناس على أنفسهم‪ .‬والقرآن يعتبر أن جريمة واحدة تعني استهداف كل المجتمع‪.‬ومن قتل‬
‫نفسا واحدة قتل الناس جميعا‪ .‬وفي أي مجتمع أي رجل يعتقل أو يضرب كفا بغير حق أو يهان فليستعد الجميع‪.‬‬
‫وأذكر أنني تحدثت مع جراح مهم عن هذه الفكرة فتغشى ثيابه وجعل أصابعه في آذانه وخاف على نفسه مغبة‬
‫السماع فالخوف ألجم العقول بسالسل ذرعها سبعون ذراعا‪.‬‬

‫أال ينطبق ما سطر هنا بما يحدث بمجتمعنا الذي نعيشه ليل نهار ‪,,‬‬

‫من أين جاءت فكرة التضحية باإلنسان كقربان؟‬

‫في قصة ولدي آدم جاءت كلمة القربان (فقربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من اآلخر) والقربان هنا شكله‬
‫حيواني ولم يكن إنسانا‪ ،‬ولكن القصة تنتهي بكارثة‪ ،‬عندما يقدم أحد األخوين على قتل أخيه لحل الخالف‪ .‬وفي‬
‫الواقع أن اآليات الست من سورة المائدة مليئة بالترميز عن طريقة عجيبة‪ ،‬في فك النزاعات البشرية‪ ،‬بتوقف‬

‫‪5‬‬
‫أحد األطراف عن خوض الصراع‪ ،‬وتحمل كل اآلالم بما فيها الموت‪ ،‬دون التورط في النزاع المسلح والقتل‪.‬‬
‫وهي طريقة ال نستطيع استيعابها قط‪ ،‬لوال أن القرآن ذكرها باعتزاز لهداية العقل البشري‪ ..‬وهذه العادة الخبيثة‬
‫في التضحية باإلنسان قديمة قدم الجنس البشري‪ ،‬وكما يقول المؤرخ األمريكي ويل ديورانت في كتابه قصة‬
‫الحضارة‪( :‬والظاهر أن التضحية باإلنسان قد أخذ بها اإلنسان في كل الشعوب تقريباً‪ ،‬فقد وجدنا في جزيرة‬
‫كارولينا في خليج المكسيك تمثاالً كبيراً معدنيا ً أجوف إلله مكسيكي قديم‪ ،‬فوجدنا فيه رفات كائنات بشرية ال شك‬
‫أنها ماتت بالحرق‪ ،‬قربانا ً له‪ ،‬وكلنا يسمع بـ (ملخ) الذي كان الفينيقيون والقرطاجيون وغيرهما من الشعوب‬
‫السامية حينا بعد حين يقدمون له القرابين من بني اإلنسان‪ )..‬اهـ‪..‬‬

‫وهذا يذكرنا بموقف عمر بن الخطاب أثناء الفتح اإلسالمي لمصر مع العادة التي كانت سائدة هناك‪ ،‬بتقديم فتاة‬
‫سنوياً‪ ،‬تلقى حية لتماسيح النيل الجائعة المتدفقة مع الطمي من الحبشة والسودان‪ ،‬بدعوى خصوبته‪ ،‬وقذفه‬
‫بالطمي المناسب‪ ،‬فلما سأل عمر ـ رضي هللا عنه ـ عما يفعلون تجاه هذه الظاهرة أرسل إليهم رسالة طلب منهم‬
‫أن يلقوها في النيل!يقولون إن محتوى الرسالة كان مايلي‪( :‬من عبد هللا ـ عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ـ إلى‬
‫نيل مصر!! يا نيل إن كنت تجري بسنة هللا فاجر كما كنت تجري‪ ،‬وإن كنت تجري بسنة الشيطان فال حاجة لنا‬
‫بجريانك) وأنقذت فتاة ذلك العام من الموت غرقا ً وافتراسا‪ ،‬وزالت تلك العادة منذ دخول اإلسالم أرض‬
‫مصر‪.‬ولعل مصدر فكرة (القربان) هو الخوف من الطبيعة عند اإلنسان البدائي‪ ،‬الذي لم يستطع تفسير الظواهر‬
‫الكونية‪ ،‬التي أرعبته‪.‬‬

‫يقول المؤرخ ديورانت في جزئه األول من سفر قصة الحضارة ص ‪ 99‬إن‪( :‬الخوف كما قال لو كريشيوس ـ‬
‫أول أمهات اآللهة ـ وخصوصا ً الخوف من الموت؛ فقد كانت الحياة البدائية محاطة بمئات األخطار‪ ،‬وقلما جاءتها‬
‫المنية عن طريق الشيخوخة الطبيعية؛ فقبل أن تدب الشيخوخة في األجسام بزمن طويل‪ ،‬كانت كثرة من الناس‬
‫تقضي بعامل من عوامل االعتداء العنيف‪ ،‬ومن هنا لم يصدق اإلنسان البدائي‪ ،‬أن الموت ظاهرة طبيعية‪ ،‬وعزاه‬
‫إلى فعل الكائنات الخارقة للطبيعة)‪.‬ومن جملة اإلشكاليات العقلية للعقل اإلنساني البدائي (الطفلي) تصوره أن‬
‫ذبح اإلنسان ورش دمه في األرض وقت البذر يجعل الحصاد أفضل‪ ،‬ولذا كانت ظاهرة القربان البشري شيئا ً‬
‫مكررا في التاريخ‪ ،‬في محاولة لحل إشكالية عمل الطبيعة وفهمها كيف تتصرف؟ أو في حل إشكالية أضخم من‬
‫ذلك‪ ،‬فال نتصور أن الحرب هي ظاهرة هائلة للقرابين البشرية‪ .‬عندما نشأت بذور الحرب كمرض كرموسومي‬
‫مرافق لوالدة الحضارة اإلنسانية‪.‬‬

‫أما مبررات التضحية باإلنسان فكانت أمرين‪ :‬كان األول كما ذكرناه أما الثاني فكان ألكله!! وهو معروف وشائع‬
‫باللغة اإلنجليزية تحت (الكانيباليزم)؛ بل ال تزال بعض بقايا القبائل التي أدركها التاريخ المعاصر تمارس هذه‬
‫الشعائر‪ ،‬وهي حقيقة ال نكاد نتصورها‪ ،‬ولكنها واقعة مسجلة !! فقد جاء في كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت‬
‫صفحة ‪ 20‬من الجزء األول أنه "لما مر (بيير لوتي) بجزيرة تاهيتي أخذ رئيس كهل من رؤساء البولينزيين‬
‫يشرح له طعامه فقال‪ :‬إن مذاق الرجل األبيض إذا أحسن شواؤه كمذاق الموز الناضج !! وأما في جزيرة‬
‫بريطانيا الجديدة؛ فقد كان اللحم البشري يباع في دكاكين اللحامين‪ ،‬كما يبيع القصابون اللحم الحيواني اليوم‪،‬‬
‫وكذلك في بعض جزر سليمان كانوا يسمنون من يقع في أيديهم من الضحايا البشرية‪ ،‬وخصوصا ً النساء ليولموا‬
‫بلحومهن الوالئم كأنهم الخنازير البرية السمينة"‪.‬‬

‫الحرب والقرابين البشرية؟‬

‫‪6‬‬
‫لقد تحولت ظاهرة الحرب فأصبحت قربانا هائالً مخيفا ً من نوع جديد‪ ،‬وكانت إفرازا تاليا لتكون الدولة‪ ،‬ونمو‬
‫الحضارة في فجر التاريخ البشري‪ ،‬فالدولة نشأت على العنف واحتكرته‪ ،‬إال أنها وحسب الخط الذي بنيت عليه‪،‬‬
‫أصيبت بنفس عدوى العنف‪ ،‬إنما بشكل آخر‪ ،‬ففي الوقت الذي استطاعت فيه الدولة توفير األمن الداخلي لألفراد‪،‬‬
‫فقد نقلت العنف إلى مستوى االصطدام مع الدول األخرى‪ ،‬ويبقى هذا العنف المسيطر عليه ضمن الدولة الواحدة‬
‫كامنا تحت الرماد‪ ،‬حتى ينفجر بأفظع صورة في الحروب األهلية كما يعرف ذلك مؤرخو الحروب األهلية؛ كما‬
‫في الحرب األهلية األمريكية حيث مات ‪ 660‬ألف شاب؟ أو اإلسبانية أيام فرانكو فمات أكثر من مليون‪ ،‬أو‬
‫الروسية مع نزوح البالشفة البيض في قسم كامل من الشعب الروسي الذي غادر األرض األم إلى غير عودة‪ .‬أو‬
‫ما حصل في أفغانستان والعراق أو كما شاهدنا في رواندا حيث تم مسح ماليين البشر من خريطة الحياة في مدى‬
‫أسابيع قليلة‪ ،‬أو في سجل العار في البوسنة؟؟!!‪.‬‬

‫إن فداء إسماعيل ومشروعية األضحية إعالن ضمني للسالم العالمي‪ ،‬وهللا لن يأكل اللحم ولن يشرب دم‬
‫األضحية‪ ،‬بل النية والتقوى‪ ( :‬لن ينال هللا لحومها وال دماؤها ولكن يناله التقوى منكم )‪.‬إن مظاهرة الحج الكبرى‬
‫هي قمة السلم في االجتماع اإلنساني؛ فليس هناك من مدينة على وجه البسيطة إال ومنها حاج‪ ،‬قد جاء على‬
‫ضامر بشكل أو آخر ليس آخرها طائرة الكونكورد قبل أن تلغى من الطيران‪ ،‬وقد تكون ضامرات المستقبل‬
‫الصواريخ أو القطارات المغناطيسية الطائرة بسرعة ‪ 500‬كم في الساعة؟وكما يجتمع المسلم مع أخيه المسلم‪،‬‬
‫في حلقات تكبر بشكل متصاعد‪ ،‬بدءاً من حلقة الحي في المسجد ومروراً بصالة أهل البلد الواحد معا ً خارج‬
‫البلدة في صالة العيد‪ ،‬فإن الحج األكبر هو اللقاء الكوني األعظم‪ ،‬ولذا ناسبه خطاب عالمي‪ ،‬ومن أهم خطاباته‬
‫إعالن السالم العالمي‪..‬‬

‫إن جوهر الحج ال يدركه كثير من المسلمين الذين يحرصون على تأديته‪ ،‬حيث يجب أن يحقق الحد بهذه المعاني‬
‫الضخمة‪ ،‬التي كرسها لتكون ينابيع للشحن الروحي السنوي لكل العالم اإلسالمي الذي هو في غاية الضعف اليوم‬
‫فأوالده منه يفرون؟ يجب أن نعلم أن ظاهرة الحج كانت أيضا ً قبل بعثة الرسول ـ صلى هللا عليه وسلم ـ وأن‬
‫إبراهيم عليه السالم دشنها قبل أربعة آالف سنة‪ ،‬بل إن القرآن يشير إلى أنه أول بيت وضع للناس‪ ،‬فوجوده منذ‬
‫أمد طويل‪ ،‬وكان (حراماً) أي يحرم فيه قتل اإلنسان)‪ .‬ولتأكيد أهداف هذا الحج حرص اإلسالم على تشريع‬
‫حصانة (األشهر الحرم) ألن البشر كانوا من قبلها يتخطفون؟ (ويتخطف الناس من حولهم)‪..‬فهذه البقعة هي‬
‫مكان شحن روح العالم كله بروح السالم والتوقف عن التضحية باإلنسان‪ ،‬أو جعله قربانا ً ألي شكل من أشكال‬
‫أوهام القوة آللهة كاذبة‪ ،‬وأصنام زائفة‪ ،‬ودعاوى باطلة تحت شعارات ال تنتهي وطروحات ال تتوقف‪.‬إن هذا‬
‫المعنى الضخم يحتاج إليه العالم اليوم‪ ،‬والعالم العربي بشكل خاص‪ ،‬بعد أن تحولت أوضاع العالم العربي إلى ما‬
‫يشبه الحرب األهلية المبطنة والظاهرة في كل مكان‪ ،‬التي هي وباء عام في الثقافة العربية‪ ..‬لذا فنحن نحتاج في‬
‫العالم العربي إلى إعالن ميثاق األمن واألمان االجتماعي لإلنسان الذي يعيش فيه حاكما ً أو محكوما ً من أجل‬
‫إعادة الحوار ألطراف الوجود االجتماعي‪.‬‬

‫أيام العيد الخوالي‬

‫لعل أفضل من يحس بمتعة العيد هم األطفال‪ .‬وما زلت أتذكر بهجة العيد قبل أن يأتي وحزننا النقضائه‪ .‬قبل‬

‫‪7‬‬
‫العيد كانت التحضيرات تبدأ بشراء الحذاء وتفصيل البدلة الجديدة‪ .‬وكانت والدتي تهيئ لنا طعاما ً خاصا ً ليوم‬
‫العيد‪ ،‬يتكون في العادة من صدر خروف محشي بالرز‪ .‬وكانت أول زيارة لي إلى بيت جدي من أجل تحصيل‬
‫العيدية‪ ،‬وكانت حصة كل واحد ليرة فضية كبيرة‪ ،‬وكانت تفعل الشيء الكثير تلك األيام‪ .‬كانت الباصات تقلنا إلى‬
‫نزهة قصيرة بدراهم قليلة من أجزاء الليرة الفضية‪ .‬وأعترف أن بعض الرحالت كانت غير ودية ألطفال اليهود‪،‬‬
‫وكنا نهتف ضدهم‪ ،‬بل نوجه مسدساتنا عليهم؟ فالجو الحربي كان حاميا تلك األيام واليوم أتعجب من تبدل األيام‬
‫واألحوال وأين وصلت قضية فلسطين حينما تتقاتل فتح وحماس بكل حماس؟كنا نأخذ الصور غير الملونة‪ ،‬أما‬
‫تناول الثلج المجروش مع إضافة الشراب الحلو عليه فكان بقروش قليلة‪ .‬أما ركوب الحنطور وهو العربة‬
‫السوداء التي تجرها الخيل فكانت فخمة ركوبها بربع ليرة‪ .‬كنا نقضي وقتا ممتعا ً بين تصيد العيديات من األهل‪،‬‬
‫واالنطالق إلى ساحة اللعب‪ ،‬حيث الجو كله مزين‪ ،‬وهو في المملكة ليس بهذا االتساع واالنطالق لألطفال‪ .‬كانت‬
‫المدينة كلها تتحول إلى عرس جماعي بهيج‪ .‬نسمع فيه صوت الفرقعات‪ ،‬والكل يلبس الجديد ويأكل اللذيذ‪ .‬وكنا‬
‫نستمتع أخيرا بأن الوالد جاء بدون أن يذهب للعمل‪ ،‬وكان يحز في نفوسنا أن يرجع للعمل قبل أن ينتهي العيد؟‬
‫كنا نريده معنا محتفالً مثلنا في كل أيام العيد وهو كان حريصا ً على فتح محله قبل أن ينتهي العيد‪ .‬كان أعمامي‬
‫يزوروننا ونحن ندور حولهم ننتظر أن ينفحونا بالهدايا‪ ،‬وكانت أعطياتهم غاية في الكرم‪ ،‬ألطفال يمسكون عشر‬
‫ليرات بينهم‪ ،‬يتقاسمونها بلهفة لينطلقوا إلى عالم البراءة واللعب واالنطالق والصراحة والتسابق في الكالم دون‬
‫تقية ومجاملة‪ .‬لماذا نتذكر الطفولة بمتعة؟ ألنها تذكر بالعودة إلى جنة البراءة‪.‬‬

‫عدت إلى مدينتي بعد غياب ‪ 17‬سنة ذهبت أتحرى أماكن الطفولة قبل كل شيء‪ .‬كان كل شيء قد تبدل وتحولت‬
‫إلى أبنية أسمنتية قميئة‪ ،‬ليس في جمال ما كان من بساطة‪ .‬هل حقا كانت البيوت القديمة أجمل وهي المبنية‬
‫بالتراب‪ .‬كانت السماء أشد زرقة والهواء أنعم وألطف‪ .‬كان الطعام أكثر متعة ولذة‪ .‬كانت البقالوة التي يحضرها‬
‫الوالد من حلب شهية إلى درجة ال تصدق‪ .‬وعندما اقتربت من الحارة التي كان فيها جدي لم تصدق عيناي بدأت‬
‫أتذكر الشوارع كانت أعرض وأفسح وأنا أمشي مع القمر ليال وأتعجب كيف ال يتركني؟ هذه المرة بدت لي قذرة‬
‫وضيقة‪ .‬وكانت لحظة الحزن حينما وصلت إلى بناء لم يبق من البيت شيئا‪..‬لقد تبدل كل شيء تماما‪ .‬أغمضت‬
‫عيني وبدأت أتخيل األماكن والبيوت والعائالت التي كانت تستأجر في بيت جدي القديم‪ .‬وأعدها بيتا ً بيتاً‪...‬‬
‫لطيفة‪ ..‬سكينة‪ ...‬طبو ‪ ..‬القطة ‪ ..‬شجرة التوت‪ ..‬عزمي الدركي‪ ..‬وردة األرمنية الخياطة‪ ..‬خالي طلعت‪ ..‬غرفة‬
‫حكو (حكمت الجبار)‪ ..‬مضافة خالي يونس الطياوي‪ .‬وعندما فتحت عيني رأيت عالما ً آخر‪ .‬لقد انهدم كل العالم‬
‫القديم‪ .‬دمعت عيني‪ .‬إن الطفولة جميلة وعذبة ليتها تعود! أحيانا ً يستولي علي شعور مستغرق؛ فيمر شريط كامل‬
‫من الذكريات‪ ،‬ال أستيقظ منه سوى فتح عيني‪ ،‬ورؤية الواقع الذي يصدمني‪ ،‬والذي ليس في بهجة أيام العيد‬
‫القديم‪ .‬إنها أيام العيد الخوالي فهل عدت بذلك الجمال والبهجة أم موعدنا في الجنة ‪.‬‬

‫الناس مذاهب في الكذب‬

‫سألت ابنتي بشرى وأنا أحب أن أسمع ممن هو أصغر مني‪ :‬في تقديرك لماذا يكذب اإلنسان؟ قالت‪ :‬ألنه يخاف‬
‫من قول الحقيقة‪ .‬قلت لها فإذا تحول إلى عادة؟ قالت‪ :‬إنه مرض‪ .‬سألت ثالثاً‪ :‬فإذا استخدم الكذب في األذية؟‬
‫قالت‪ :‬هو الطامة الكبرى‪ .‬سألتها رابعاً‪ :‬ولكن هناك بعض الكذابين ممن نجحوا في الحياة فكيف تفسرين ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬إنه مجتمع مريض تستطيع الجراثيم أن تجد لها فيه مكاناً‪ ،‬وال يوجد من قوة الجهاز المناعي‪ ،‬ما يستطيع‬
‫أن يقضي على أمثال هذه الحشرات‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫ولم يكن سؤالي البنتي من فراغ فقد مر علي أناس من هذا الطراز‪ .‬وأعجب ما أتعجب منه هو كيفية تسلل‬
‫هؤالء الناس إلى مراكز خطيرة يؤثرون فيها في قرارات مصيرية مثل السياسيين والجنراالت وأصحاب المهن‬
‫الحساسة‪ .‬وبين يدي كتاب جميل عن فلسفة الكذب تأليف وجمع مهدي عالم كتبه قبل أكثر من ستين عاماً‪ ،‬وهو‬
‫يذكرنا بذلك الجو الجميل والمنتج والمبدع في مصر في الثالثينيات واألربعينيات من القرن الماضي‪ ،‬حين‬
‫نشطت حركة الترجمة والنشر والتأليف‪ ،‬واليوم نبحث عبثا عن أمثال هذه الكتب النادرة فال نجدها‪ .‬وينطبق هذا‬
‫أيضا على األفالم الهادفة‪ .‬وأنا أبحث اآلن عبثا عن كتاب معالم تاريخ اإلنسانية لـ ويلز فال أجده‪ .‬والمصيبة أن‬
‫هذه الكتب فقدت وال يعاد طباعتها‪ .‬وأعود إلى فلسفة الكذب ومعالجة هذه الظاهرة من وجهة نظر علماء‬
‫النفس‪ ،‬فالطفل ينشأ على الصدق ‪..‬‬

‫وينقل عن ولتون‪ :‬أن حب الحق لذاته لهو الزهرة الجميلة التي تينع من شجرة غريزة حب االستطالع‪ ،‬أما نماؤها‬
‫فطبيعي‪ :‬أن يكون متدرجا ويعلن هذا االستعداد عن نفسه أوالً باحترام‪ :‬الدقة في التعبير ثم بالتعطش للشرح‬
‫والبيان‪.‬ويرى‪( :‬عالم) أن الطفل يميل بطبيعته إلى تقرير الحقيقة ألن قول الحق محاكاة وتقليد‪ .‬ولكن هذه النزعة‬
‫الفطرية عند الطفل هشة ويمكن أن تتفتت بسهولة مثل سطح الغدير الذي يتشوه بأقل هواء‪ .‬ولذا قالت العرب أكذب‬
‫من صبي‪ .‬بسبب اختالطها بالمبالغة‪ .‬ولكن ما هو سبب الكذب؟ يرى علماء النفس أن سببه ثالثة‪ :‬الخيال والخوف‬
‫والرغبة‪ .‬ونموذج األول الطفلة التي زعمت رؤية النبي وهو نوع من لعب األطفال عندما ينمو عنده الخيال‪ .‬وهو‬
‫بريء‪ .‬أما كذب الخوف فهو أعظم خطراً وأسوأ عاقبة‪ ،‬مثل الطبيب الذي يسأل الممرضة أو مساعده عن حالة‬
‫المريض فتقول إنه بخير؟ ثم يكتشف ارتفاع الحرارة وارتفاع مستوى سكر الدم وتسرع ضربات القلب‪،‬‬
‫والممرضة تقصد إسعاده بنقل األخبار الجيدة من حيث ضرر‪ :‬المريض والحقيقة‪ .‬وفي هذا النوع من الكذب يجب‬
‫أال نعالجه بأسلوب المحققين الذي يدفع لمزيد من الكذب للحماية ‪ ..‬والعقوبة هنا هي معالجة الداء بالداء‪ ،‬والخوف‬
‫الجديد يعضد القديم بهجومه على حرم الحقيقة‪ .‬وأفضل معالجة له هي الوسط‪ :‬بين الحزم واالعتدال‪ ،‬مثل تنمية‬
‫الفضائل عنده من الشجاعة واالعتداد بالنفس؛ فالفضائل يساند بعضها‪ :‬البعض‪ ،‬كما تعضد الرذائل بعضها‪..‬‬
‫والمنافقون والمنافقات بعضهم‪ :‬أولياء بعض يأمرون بالمنكر‪ :‬وينهون عن المعروف‪ .. :‬وكما جاء في الحديث أن‬
‫الصدق يهدي إلى البر والكذب يقود إلى الفجور‪.‬‬

‫أما أخبث أنواع الكذب فهو‪ :‬كذب الرغبة ويقوم‪ :‬على االحتيال‪ .‬والفرق بينه وبين كذب الخوف أن باعث األول‬
‫الخوف من إعالن الحقيقة‪ ،‬أما الثاني فهو مبني على خبث الطوية‪ ،‬وهو سرطان نفسي فظيع برع فيه صاحبه في‬
‫خيانة الضمير وتصبح األخالق بذلك مهددة بالذكاء‪ .‬وهذا الكذب هو الذي وصفه ابن المقفع‪ ،‬أنه رأس الذنوب؛‬
‫فهو يؤسسها‪ :‬ويتفقدها ويثبتها‪ :‬ويلونها‪ :‬بثالثة ألوان من التصرفات‪ :‬باألمنية والجحود والجدل‪ .‬تبدأ فيها النفس‬
‫باألمنية؛ فإذا انكشف صاحبها قابلها بالجحود‪ :‬والمكابرة؛ فإن أعياه ختمها بالجدل؛ فخاصم عن الباطل‪ ،‬ووضع لها‬
‫الحجج والمسوغات والمبررات ما يسندها بكل طريق ممكنة شريفة وملعونة غير شريفة؟ ويكون بهذا مسارعا ً في‬
‫الضاللة ومكابراً بالفواحش‪ .‬ومر علي أنا شخصيا رجال من هذا النوع اجتمعت بهم وكان أحدهم مدرسة في‬
‫الكذب وموسوعة في حياكة المؤامرات حتى فرق هللا بيني وبين القوم الفاسقين غير مأسوف‪ :‬عليهم‪ ،‬وأدعو ربي‬
‫أن اليجمعني‪ :‬بهم في الدنيا واآلخرة في أي مناسبة وزمان ومكان‪ ،‬إنه سميع الدعاء‪" ..‬يا أيها الذين آمنوا اتقوا هللا‬
‫وكونوا‪ :‬مع الصادقين"‪.‬‬

‫ما أقبحها من صفه يتصف بها األنسان ‪ ,,‬فال تكون ‪ /‬تكوني ‪ ,,‬كذابا ‪ /‬كاذبه ‪,,‬‬

‫"والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس وهللا يحب المحسنين"‬

‫ليس هناك أعظم من ضبط النفس‪ ،‬وال أوخم في العواقب من فقد السيطرة على األعصاب والوقوع في الخطأ‪ .‬وأنا‬
‫شخصيا ً أتذكر نفسي في بعض المواقف فأندم‪ :‬عليها‪ ،‬وأراجع نفسي فاكتشف‪ :‬أن ضبط النفس أسلم عاقبة وأحمد‬
‫ذكراً‪ .‬وأتذكر حتى تعبيرات الوجه مع الغضب‪ ،‬كيف تذهب بالنضارة‪ ،‬ويمتقع اللون ويبشع الشكل‪ .‬وأعلم في‬
‫‪9‬‬
‫الوقت نفسه الفائدة العظمى التي اكتسبتها من التشبع بالروح السالمية‪ .‬وعندما وصف هللا نبيين بالتتابع هما يحيي‬
‫وعيسى عليهما السالم ختم قصة كل واحد بكلمة السالم ثالثية مكررة‪ ،‬والسالم عليه يوم ولد ويوم‪ :‬يموت ويوم‪:‬‬
‫يبعث حياً‪ .‬وتحية أهل الجنة السالم‪ .‬ووصف‪ :‬القرآن بأن كسب القلوب يأتي بالدفع‪ :‬بالتي هي أحسن؛ فإذا الذي بينك‬
‫وبينه عداوة كأنه ولي حميم‪ ،‬ولكنها‪ :‬أخالق اليصل إليها اال الذين صبروا ومايلقاها إال ذو حظ عظيم‪ .‬ويترافق‪:‬‬
‫انفراط عقد النفس عادة بإظهار أقبح مافي النفس من قذارات‪ ،‬وتتحرك إلى السطح الغرائز البدائية‪ ،‬ويعلو الصوت‬
‫ويبح الصوت‪ ،‬وإن أنكر األصوات لصوت الحمير‪ ،‬ويتحول الوجه إلى قطعة غير محببة‪ ،‬لو أبصر صاحبها نفسه‬
‫في المرآة‪ ،‬في تلك اللحظة المرة لساءه األمر واستولت‪ :‬عليه أحزان‪.‬‬

‫وفي االنفعال يغلو البدن كأنه في جحيم‪ ،‬وتضطرب أخالط البدن الداخلية فتتلخبط‪ :‬قاطبة‪ ،‬ومن هنا كان الهدوء‬
‫والسالم دوا ًء‪ ،‬وكان االنفعال مرضا قاتالً‪ ،‬يرفع الضغط‪ ،‬ويدفع الحتشاء القلب‪ ،‬ويسمم‪ :‬المزاج‪ ،‬ويضعف الدماغ‪،‬‬
‫ويدفع خاليا البدن إلى التحول السرطاني‪ ،‬ويضع‪ :‬األعصاب تحت توتر غير عادي‪ ،‬وتدخل الروح في مستنقع‬
‫حقيقي من القاذورات‪ :‬الروحية والمادية‪ .‬وأعظم خلق يمكن أن يُمنَحه المرء هو قدرة ضبط النفس‪ ،‬في مرجل‬
‫الغضب‪ ،‬وضباب الشهوة‪ ،‬وكسرة الحزن والرعب األعظم‪ .‬وينقل لنا الطب صورة قاتمة عما يحدث داخل البدن‪،‬‬
‫عندما ينفعل االنسان‪ ،‬حيث يستنفر الجسم طاقته االحتياطية للدخول في حالة حرب‪ ،‬وهذا يعني تسارع النبض‪،‬‬
‫وارتفاع التوتر‪ ،‬وضيق الحدقة‪ ،‬وزيادة العبء على القلب‪ ،‬وانحباس‪ :‬المثانة‪ ،‬وإمساك‪ :‬األمعاء فتتضرر‪ ،‬وتعصر‪:‬‬
‫المعدة عصرا فتتقرح؟ وتتقبض البؤبؤة‪ ،‬ويزداد‪ :‬ميل الدم إلى التجلط حتى الينزف‪،‬فهو في حالة حرب واقتصاد‪:‬‬
‫ضار سلبي‪.‬وممن أعرف ممن يتمتع بهذه الخصال األخ طالل البياري‪ :‬الذي كان لي شرف‪ :‬العمل معه لفترة وكان‬
‫في منصب مسؤول‪ :‬فلم أره لحظة واحدة في أي موقف‪ :‬منفعالً فعرفت أنها صفة قيادية‪ ،‬وهذه رسالة لكل من يشغل‬
‫منصبا ً حساساً؛ (التنفعل أو روض نفسك على ضبط االنفعال ) وإال اترك مكانك‪ ،‬ألن تصرفاتك‪ :‬سوف تنعكس‬
‫إلى مصائر‪ :‬الناس‪.‬‬

‫في حين أتذكر من منطقة أخرى عملت بها موقفا ً ال أنساه حينما كان أحد المسؤولين مشتبكا ً في خالف مالي مع‬
‫ممثلي شركة‪ ...‬كان وجهه مصفراً ممتقعا ً يحمل كل المعاني السلبية‪ ،‬ومازالت صورته محفورة في مخيلتي حتى‬
‫اليوم‪ .‬إن القرآن يقص علينا رحلة الوصول إلى مرحلة اإلحسان في ثالثة أمور‪ :‬القدرة على اإلنفاق مع عسرة‬
‫اليد‪ ،‬وضبط النفس عند االنفعال‪ ،‬والمغفرة لآلخرين في االساءة‪ .‬والواقع‪ :‬إن هذه األمور الثالثة صعبة جداً‪ ،‬وثقيلة‬
‫على النفس؛ فالناس بخيلة في العادة وهي في اليسر فكيف بالعسر؟وهي التعطي مع وجود‪ :‬فائض المال والمحتاج‪.‬‬
‫ونحن ننفعل دون مبرر وبأدنى إثارة وتحرش‪ .‬وأخيراً نحن النعرف أن نغفر لآلخرين بتصرف‪ :‬أسيء فهمه ويأكل‬
‫الحقد قلوبنا‪ .‬وأذكر‪ :‬أنا في تاريخي الشخصي‪ :‬أنه مر علي وقت تألمت فيه من أذية آخر‪ ،‬ولكن شعور‪ :‬الغفران غسل‬
‫قلبي‪ ،‬وتطهرت وسامحته دون أن أعلن ذلك‪ ،‬ورجعت النفس إلى حافة السواء‪ ،‬بفضل منه وكرم‪ :.‬وأنا أنام دوما ً‬
‫بشكل ممتاز ألن الغل والحسد‪ :‬والغضب واالنفجار والحقد يقتل صاحبه في النهاية؛ فهي مشاعر سلبية مثل القنابل‬
‫الموقوتة تنفجر بصاحبها في النهاية‪ .‬والكراهية سيف ذو حدين يقتل من كان على الجنبين فليحذر الذين يخالفون‬
‫عن أمره أن تصيبهم فتنة أو عذاب أليم؟ هذه المشاعر الجميلة اإليجابية‪ ،‬يجب أن نزرعها في قلوبنا‪ :‬وننميها بسماد‬
‫الحب‪ ،‬وضوء‪ :‬المودة‪ ،‬وماء المعرفة‪ ،‬بدون توقف‪ :‬حتى تصبح شجرة باسقة طلعها هضيم تأوي إليها طيور السماء‬

‫‪10‬‬
‫وفي ظلها يهرب من الحر كل باحث عن الهدوء والنسيم‪ :‬العليل‪.‬إنها مظلة من المشاعر الجميلة نتظلل بها يوم‬
‫الظل إال ظله‪.‬‬
‫ال تغضب ‪ ,‬ال تغضب ‪ ,‬ال تغضب‬

‫حرية الفرد‬

‫نحن نظن أننا أحرار ولكن هذا وهم‪ ،‬فأحدنا يولد مقيدا بسالسل ال يتفطن من (الزمن) و(الثقافة) و(التاريخ)‬
‫و(البيولوجيا) و(الجغرافيا) و(الفيزياء)‪ .‬نحن نولد مسجونين بحكم مؤبد في قفص البيولوجيا‪ ،‬مربوطين إلى‬
‫سالسل النسبية للبعد الرابع (الزمن)‪ .‬أسرى في أغالل الثقافة‪ ،‬وإكراهات المجتمع المتتالية‪ .‬نحن خلقناهم وشددنا‬
‫أسرهم‪ .‬ندخل أجسادنا فنتسربل فيها محكومين بالجينات‪ ،‬تشكل قدرنا من صحة ومرض‪ ،‬وجمال وتشوه‪.‬‬
‫و(الجينات) هي الشيفرة السرية للخلق‪ ،‬تعطينا لون العينين‪ ،‬وطول القامة‪ ،‬وقسمات الوجه‪ ،‬ولحن القول‪ ،‬كما‬
‫تحدد طول العمر‪ ،‬من خالل ساعة مبرمجة على رنين منبه الموت‪ ،‬مع كل انقسام كرموسومي‪ .‬والجينات في‬
‫الخاليا هي التي تحدد طول العمر من قصره‪ ،‬واالستعداد لمرض السكر‪ ،‬والميل للتسرطن‪ ،‬وخلل فقر الدم‬
‫المنجلي‪ .‬نحن سجناء عالم بيولوجي بقفل أثقل من نجم نتروني في قدر ال فكاك منه‪.‬‬

‫علينا أن نتنفس وإال اختنقنا‪ .‬أن نأكل ونشرب وإال هلكنا‪ .‬وأن نمارس الجنس ونتزوج فنتكاثر وإال انقرضنا‪.‬‬
‫يطحننا المرض وتفترسنا الشيخوخة‪ .‬علينا أن نمشي على األرض بقانون الجاذبية‪ ،‬فال نستطيع االنتقال بسرعة‬
‫الضوء‪ ،‬في استحالة رباعية يفرضها قانون النسبية باستهالك طاقة النهائية‪ ،‬وتوقف كامل في مربع الزمن‪،‬‬
‫وانضغاط الطول إلى الصفر‪ ،‬وازدياد الكتلة إلى الالنهائية‪ .‬نحن نرزح تحت ثقل قوانين الفيزياء‪ ،‬تحكم بقبضتها‬
‫على رقابنا‪ ،‬في أغالل إلى األذقان فهم مقمحون‪ .‬نحن نأتي إلى الحياة دون إرادتنا‪ ،‬ونخرج منها دون إرادة‬
‫ورغبة‪ ،‬بعد أن ذقنا حالوتها؛ في نقطة ضعف تسلل منها الجبارون لمسك رقاب العباد؛ فالخوف من فقد الحياة‬
‫وخسارة الحرية هو الذي يجعل البشر يخافون الطغاة في التاريخ فيستسلمون‪ ،‬ومع االستسالم انطفاء الحيوية في‬
‫الحياة في مجتمعات الوثنية فيعبدونهم من دون هللا أوثانا مودة بينهم في الحياة الدنيا ويوم القيامة ال ينصرون‪.‬‬
‫وما يؤمن أكثرهم باهلل إال وهم مشركون‪.‬‬

‫نحن نولد في (عصر) نعيش ثقافته‪ ،‬ال نتحكم في وقت المجيء إليه لحظة واحدة تقديما ً وتأخيراً‪ ،‬تدفعنا يد جبارة‬
‫إلى مسرح األحداث؛ فنشارك على خشبة مسرح‪ ،‬ثم ينتهي دورنا فنمضي وندلف إلى مستودعات النسيان فال‬
‫يسمع لنا ركز‪ .‬اعتبر الفيلسوف الفرنسي (باسكال) أن اإلنسان يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم والالنهاية‪،‬‬
‫فهو كل شيء إذا قيس بالعدم‪ ،‬وهو ال شيء إذا قيس بالالنهاية‪ ،‬وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين؛ فنهاية‬
‫األشياء وأصلها يلفهما سر ال سبيل إلى استكناهه‪ ،‬وهو عاجز عن رؤية العدم الذي خرج منه‪ ،‬والالنهائي الذي‬
‫يغمره‪ .‬نحن ال نستطيع ركوب آلة الزمن؛ فنعود إلى زمن األنبياء‪ ،‬كما ال يمكن القفز فوق حاجز الزمن فنعيش‬
‫بعد ألف سنة‪ .‬نحن محكومون بأجل ال فكاك منه‪ ،‬وزمن نعيشه مفروض علينا‪ ،‬ال يخترق إال بطريقة واحدة‪ :‬أن‬
‫ندخل الثقوب الدودية فنتجاوز مشكلة الزمن‪ .‬وهو أمر ال يزيد عن خيال‪ .‬وما كان خياال يحرض المخيلة ويبقى‬
‫خياال حتى التحقق‪ .‬هكذا تصور دافنشي الطائرة‪ ،‬وكتب جول فيرن قصة عشرين ألف فرسخ تحت الماء‪،‬‬
‫ورفض المسيح عليه السالم مملكة بيالطس بقوله‪ :‬مملكتي ليست من هذا العالم‪ .‬وكان الرسول صلى هللا عليه‬
‫‪11‬‬
‫وسلم يضرب الحجر في معركة الخندق ويقول فتحت لي األرض‪ ،‬وهو محاصر مع أصحابه من كل جانب‬
‫وزلزلوا زلزاال شديدا‬

‫كلنا يكذب بقدر‬

‫يقول الفيلسوف "لو علم كل إنسان ما يُقال عنه لما بقي في الكون أكثر من أربع أصدقاء"؟؟ في الواقع كلنا يكذب‬
‫بقدر‪ ،‬وأكثر من مرة في اليوم الواحد‪ ،‬وألكثر من إنسان‪ .‬وكثير منها بسبب اللغة؛ فنبالغ ونجامل ونكذب‪ ،‬ونحن‬
‫نظن أننا ال نكذب‪ .‬هذا ما كشفته الدراسات النفسية الحديثة‪ .‬وهو أمر معروف ومكرر وخاصة على لسان‬
‫القيادين والسياسيين‪ .‬وقامت عالمة النفس (بيال ديبوال) بتجربة مثيرة في عرض لوحتين؛ األولى سريالية‪،‬‬
‫والثانية بيضاء‪ ،‬ولكن أرضيتها عليها نقوش نجمات‪ ،‬ثم عرضت اللوحتين على العديد من الناس‪ ،‬لترى‬
‫التعليقات؛ فكانت مشبعة بالمرارة والتهكم؟!! ثم فاجأت الحضور بأن دخلت سيدة على ظهرها حقيبة‪ ،‬وادعت‬
‫أنها من رسمت اللوحة السريالية؟ كما دخل شاب يدعى (جاك) فأخبر أن اللوحة البيضاء هي من صنع يديه‪،‬‬
‫وهو يريد بحرص أن يسمع تعليقاتهم على ما أنجزته يداه في أسابيع طويلة من العمل؟! فانقلب القوم على‬
‫رؤوسهم وقالوا ما أجملها! ولقد أبدعت فيها؟؟أما للمرأة فقالوا إنها لوحة تأخذ باأللباب‪ ،‬وأنها ساحرة ومسيطرة‬
‫ومؤثرة‪.‬‬

‫وأعترف شخصيا أنني دخلت متحفا في أوتوا يوما فرأيت لوحة مألت الجدار ليس فيها سوى ثالثة ألوان مثل‬
‫العلم األلماني والناس يحملقون فيها مثل المجانين؟ فقلت البنتي إنني ال أريد أن أضحك على نفسي فلم تعجبني؟‬
‫ولكن لو واجهتني صاحبتها هل كنت سأكرر نفس جملتي أم أسكت أم أقول الحقيقة الموجعة أم أجامل؟؟ إنه‬
‫سؤال محرج؟؟ وهكذا فنحن في موجة المجاملة ننافق ونكذب‪ ،‬وال نقول الحقيقة في وجه صاحبها‪ .‬والحقيقة‬
‫مؤلمة في العادة‪ .‬واألعور ال يقال له أيها األعور‪ ،‬بل يقال إن عينه كريمة؟! وهي ليست كريمة بل مصيبة؟‬

‫وقام (بول أكمن) بدراسة أقنعة الوجه وتفاعل العضالت مع التعبيرات؛ فوجد أن أجرأ الناس على الكذب هو من‬
‫يملك تعبيرات وجهه عن الظهور مثل بوتين رجل االستخبارات القديم ذي الوجه الطفولي ؟! وكثير من حكام‬
‫العالم القساة مثل ستالين‪ ،‬وصفت وجوههم أنها قناع جامد مثل التمثال‪ ،‬وحاكم من األنظمة الثورية قيل عن‬
‫وجهه إنه قطعة ثلج تذكر بخوفو وأبي الهول؟ وقامت مدرسة في حضانة األطفال باكتشاف عالم األطفال‪ ،‬ومتى‬
‫يتعلمون الكذب؟ فعرفت أن الطفل في سن الثالثة‪ ،‬ال يفرق كثيرا بين نفسه واآلخرين‪ ،‬وفي السن الرابعة يبدأ في‬
‫التمييز‪ ،‬بأن فالنا أخذ من فالن‪ ،‬ولكنه يحتاج إلى تمييز الخداع والكذب إلى الوصول إلى سن السادسة‬
‫والسابعة؟!‬

‫وفي تجارب عالم النفس السويسري (جان بياجييه) اكتشف أن الطفل قبل سنه السابعة‪ ،‬كما شرح ذلك بيجلز في‬
‫كتابه الشيفرة الكونية ص ‪ ،27‬أنه ال يربط بين كمية الماء ومستواه‪ ،‬فكمية الماء في أنبوب طوالني مثل كمية‬
‫الماء في حوجل كبير طالما كان مستوى الماء واحداً؟ ويبدو أن الكذب مفيد أحيانا ً ألنه يقوم على الخدعة إلنقاذ‬
‫الحياة‪ .‬وروت لي سيدة عن جالد ثوري‪ ،‬أنه كان يعذب ضحاياه‪ ،‬فإذا سألت زوجته عنه كان جوابه‪ :‬إنه يأكل‬
‫الشوكوالته والعسل وسوف يطلق سراحه قريبا‪ ،‬والضحية في الفلق وقل أعوذ برب الفلق؟؟ حتى مات الجبار في‬
‫لندن خنقا وحصرا وألما بسرطان الرئة يتحسر على شهقة من هواء فال تصله؟؟والمؤمن يسرق ويزني ولكن ال‬
‫‪12‬‬
‫يكذب ألن الكذب نبع كل الشرور‪ ،‬ورأس كل بلية فإذا استولى فسد اإلنسان بغير أمل في اإلصالح‪ .‬والغربيون‬
‫اعتادوا الصدق من منطلق نفعي بحت‪ ..‬واسبينوزا الفيلسوف الهولندي قرر في كتاب كامل‪ ،‬أن األخالق هي‬
‫حصيلة خبرة الجنس البشري‪ ،‬وأن الصدق ينبع من مصدر نفعي بحت‪ ،‬وأنه األفضل للبشر فهذا هو منبع ومبرر‬
‫األخالق؟وأنه يمكن البرهنة على األخالق كما نبرهن على السطوح والخطوط في الرياضيات؛ فكتب كتابه‬
‫األخالق مؤيدة بالدليل الهندسي‪ .‬فيا أيها الذين آمنوا اتقوا هللا وكونوا مع الصادقين ومن الصادقين‪.‬‬

‫هل خطر في بالنا معنى البول الذي يخرج منا كل يوم؟‬

‫لقد وجد أن الكلية تتكون من مليون كبة! وما هي الكبة؟ أهي كبة شعر؟! ال إنها كبة من شعيرات دموية؛‬
‫فالشريان الكلوي يتفرع حتى يصل إلى درجة عظيمة من الدقة والصغر‪ ،‬وهنا يلتف على نفسه حتى يكون كبة‪،‬‬
‫ولكن من وعاء دموي صغير‪ ،‬هو أرفع من الشعرة‪ ،‬وهذه الكبة يحيط بها غشاء‪ ،‬هو أشبه بالقربة‪ ،‬التي تتلقى‬
‫السوائل التي ترشح من هذه الكبة‪ ،‬ومن هذه القربة يمتد أنبوب متعرج‪ ،‬ثم يشكل عروة صغيرة (عروة هانلة) ثم‬
‫يتعرج مرة أخرى حتى يلتقي بأمثاله‪ ،‬مكونا ً أنبوبا ً كبيراً‪ ،‬وهكذا تجتمع األنابيب فتكون أنبوبا ً أكبر‪ ،‬وهكذا حتى‬
‫تصب فيما يسمى بالكؤوس الكلوية‪ ،‬وهي تشبه الخلجان البحرية‪ ،‬ثم يلقى البول المتكون الراشح في الحويضة‪،‬‬
‫ثم يمر إلى الحالب فالمثانة فاإلحليل‪ ،‬ثم إلى الخارج نهائياً‪.‬إن األنبوب القريب من الكبة تمتص منه معظم‬
‫السوائل المرتشحة‪ ،‬وهي ما تقارب ‪ 85‬في المائة من كمية السوائل‪ ،‬والمنطقة التي تقع بعد عروة هانلة تسمى‬
‫باألنبوب البعيد‪ ،‬وهنا يمتص قرابة ‪ 14‬في المائة من السائل الراشح‪ ،‬واالمتصاص هنا يخضع لهرمون الغدة‬
‫النخامية‪ ،‬ولذا سمي بالهرمون المضاد لإلدرار‪ ،‬ويتم االمتصاص هنا بشكل فاعل‪ ،‬أي أن االمتصاص هنا يتعلق‬
‫بكمية هذا الهرمون في الدم‪ ،‬وبكمية الشوارد المعدنية‪ ،‬والسوائل التي توجد في البدن‪ ،‬ولكن الشيء المهم هو أن‬
‫هذا الهرمون هو الذي يمسك هذه القناة فيصرف سوائلها‪ ،‬فهو مفتاح التصريف والغلق‪ ،‬بينما تعد المنطقة القريبة‬
‫من الكبة منطقة منفعلة‪ ،‬يتم االمتصاص فيها بشكل آلي ودون تدخل أحد‪ ،‬فهي قناة عامة ال يد ألحد فيها‪.‬‬

‫وحتى نتفهم خطورة هذا العمل الذي يقوم به الهرمون يجب أن نعلم أن كمية الدم المارة في الدقيقة الواحدة هي‬
‫‪ 1300‬سم‪ 3‬أي أن الكلية تقوم بتصفية ‪ 1800‬ليتر من الدم يوميا"‪ ،‬فأي مصفاة عجيبة هذه ! وهذه المصفاة‬
‫تصفي من الدم عشرات العناصر من المعادن والسموم والنفايات والمخلفات والمواد التي تعد حصيلة استقالبات‬
‫البدن‪ ،‬ما يشبه عمل مصلحة النفايات (الزبالة)‪ ،‬ولذا يعد فحص البول مهما" جدا" لكشف الكثير من األمراض‬
‫التي تختص بجهاز البول وبقية األجهزة‪ .‬إن الدم الذي يمر يرشح منه في تلك القربة السحرية – وتسمى بمحفظة‬
‫بومان – مقدار يبلغ ‪ 127‬سم‪ 3‬في الدقيقة أي ما يعادل ‪ 183‬ليتراً من البول يومياً‪ ،‬فكيف يمتص ثانية؟ إن‬
‫امتصاصه يتم عن طرق األنابيب القريبة‪ ،‬ثم األنابيب البعيدة‪ ،‬بواسطة هرمون النخامة المسمى بالهرمون‬
‫المضاد اإلدرار‪ ،‬وهكذا يمتص ‪ 181,5‬ليتر ويطرح ‪ 1,5‬ليتر يوميا ً وهو البول العادي الذي يطرحه كل واحد‬
‫منا‪ ،‬وهكذا يمتص ‪ 1100‬جراما من ملح الطعام و‪ 410‬جرامات من ثاني فحمات الصوديوم و ‪ 150‬جراما من‬
‫سكر العنب ‪ ,,‬وهذا يعني أن سوائل البدن التي تتراكم ما بين الخاليا و تقدر بـ ‪ 11‬ليترا تترشح وتمتص ‪16‬‬
‫مرة في اليوم الواحد‪ ،‬أي أن أخالط البدن الداخلية تنقى وتصفى من الكدر والسموم والبقايا والنفايات والمواد‬
‫الضارة والزائدة‪ ،‬والتي ال لزوم لها‪ ،‬ومحاصيل االستقالب‪ .‬كلها تنظفها الكلية من الجسد ‪ 16‬مرة في اليوم‪ ،‬فأي‬
‫عناية وأي تصفية عجيبة هذه!! وأي مصلحة جمع القمامات تفعل هذا على مدار الساعة ؟؟‬

‫ربنا ما خلقت هذا باطالً ؟‬


‫فهل استوعبنا لماذا يقتل مرضى الفشل الكلوي من دون غسيل دوري تنظيفا من األدران‪ ،‬وهل استوعبنا عظمة‬

‫‪13‬‬
‫اإلنجاز الطبي في ابتكار طرق غسيل الكلية الصناعية؟ وإذا وقعت الواقعة وفقد هذا الهرمون من البدن فماذا‬
‫يحدث؟ بول دائم ليالً نهاراً! ويسمى هذا المرض بالبيلة التفهة أي التي ال طعم لها‪ ،‬لكثرة احتوائها على الماء‪،‬‬
‫وال تتصور أيها القارئ كم يشرب ويبول هذا المريض يومياً‪ ،‬فلقد ذكر أحد المصابين أنه بال في يوم واحد ‪43‬‬
‫ليتراً من البول أي قرابة ثلثي وزنه!! إنه االتزان المحكم‪ ،‬والدقة الرائعة‪ ،‬والحكمة المهيمنة‪ ،‬واإلرادة المدبرة‪،‬‬
‫فال شيء يقوم بالفوضى أو على الفوضى‪ ،‬وال شيء يوجد من تلقاء نفسه‪ ،‬بل يقوم على السنن والنواميس‬
‫والقوانين المطردة الدقيقة الرائعة المتزنة ‪( ...‬و خلق كل شيء فقدره تقديراً)‬

‫أسرار الحس في الجسم‬

‫إن شدة اإلحساس وضعفه يتوزع في الجسم حسب الوظيفة التي يقوم بها العضو‪ ،‬فهي في الشفتين واألعضاء‬
‫التناسلية أشد‪ ،‬وفي القرنية وهي بلورة العين األمامية شديدة الحساسية ولأللم بوجه خاص‪ ،‬ولذا يستخدم المنعكس‬
‫القرني لفحص سالمة األعصاب‪ ،‬حيث تمرر شعرة أمام القرنية فيالحظ إطباق األجفان السريع لحمايتها‪ ،‬أما‬
‫أخمص القدم فهو ضعيف اإلحساس‪ ،‬بينما أنامل اليدين تمتاز بمنتهى الحساسية‪ ،‬ألنها مراكز تحسس‬
‫الموجودات‪ ،‬وهكذا يشعر اإلنسان بالبرد والحر حيث تمثل فيه أجراس اإلنذار فيقي نفسه من البرد والحر‪ ،‬ولوال‬
‫هذه الخاصية لهلك اإلنسان من البرد والحر‪ ،‬ولكنه مع هذا متزن في حرارته‪ ،‬مهما تقلبت الظروف الجوية التي‬
‫تحيط به‪.‬‬

‫إن الجسيمات الحسية هي أشبه بميزان الحرارة الخارجي الذي يقيس درجة حرارة الجو أو برودته‪ ،‬ثم يرسل‬
‫هذه األخبار عبر نبضات عصبية كالتلغراف وفي ألياف ال يتجاوز قطرها من البوصة وبسرعة تبلغ (‪)200‬‬
‫ميل في الساعة أو أكثر‪ ،‬وعندما تصل األنباء إلى مراكز القيادة‪ ،‬يدرس األمر ويفهم‪ ،‬ثم ترسل األخبار واألوامر‬
‫بمنتهى السرعة إلى العروق الدموية السطحية‪ ،‬وإلى الغدد العرقية‪ ،‬حيث يكثر ورود الدم وإفراز العرق‪،‬‬
‫وبالتالي زيادة اإلشعاع الحراري‪ ،‬والتبخر المائي‪ ،‬مما يوازن الحرارة من جهة كما يبرد الجسم من جهة أخرى‪،‬‬
‫وكل هذا بفضل الماء الذي يتمتع بهذه الخواص‪ ،‬وهكذا تتزن حرارة الجسم‪ ،‬ويستقيم أمره‪ ،‬وتصلح أحواله على‬
‫كل نحو‪ .‬وأما جسيمات اللمس فهي أدق‪ ،‬فعن طريق تلمس الموجودات تشعر بسطحها الخارجي‪ ،‬وهكذا يميز‬
‫اإلنسان ما بين الناعم والخشن‪ ،‬واألملس والمجعد‪ ،‬وباللمس يعرف الشيء الذي تقع يداه عليه ولو كان مغمض‬
‫العينين‪ ،‬وهكذا يميز االنسان بين الورقة‪ ،‬والقلم‪ ،‬وقطعة النقود‪ ،‬والكتاب والطاولة والجدار‪ ،‬وسائر األشياء‬
‫والموجودات ! وهذا هو السر أيضا في تعانق أيدي المحبين‪ ،‬وحساسية لمس يد المرأة من رجل شغوف؛ فهي‬
‫بوابة الدخول لما بعدها‪.‬‬

‫وقرأت في مجلة ‪ P.M‬األلمانية أن أشد مناطق الحساسية في جسم المرأة مناطق الثديين‪ ،‬وهي بمثابة القلعة عند‬
‫المرأة‪ ،‬إذا دخلها الرجل فقد سقطت قالع الدفاع كما في حروب الرجال‪.‬والمستقبالت العصبية هنا تتأثر بشكل‬
‫آلي على ما يبدو‪ ،‬وبذلك تتناسق الحواس مع المحيط الخارجي بشكل بديع‪ ،‬فالعين مع الضوء‪ ،‬واألذن مع‬
‫الصوت‪ ،‬وتقوم على القواعد الفيزيائية‪ ،‬أما الشم والذوق فتعتمد على المستقبالت الكيماوية‪ ،‬وهذه المستقبالت‬
‫آلية‪.‬فكيف تنوعت استجابات هذا الكائن البشري الذي حوى من األلغاز واألسرار ما يدهش األلباب (لقد خلقنا‬
‫اإلنسان في أحسن تقويم) سورة التين‪.‬‬

‫علم الدجل‬

‫‪14‬‬
‫كنت عند شاهين الذي يرتب لي الكتب وينسخ‪ ،‬وهو شاب مصري لطيف‪ ،‬قال لي‪ :‬لماذا تعيش لبنان حالة فراغ‬
‫بدون رئيس؟ وليس في العالم مكان بدون رئيس إال العصفورية؟ قلت له ألن لبنان تشبه ما وصفه ربنا؟ "ضرب‬
‫هللا مثال رجالً فيه شركاء متشاكسون ورجال سلما لرجل هل يستويان مثال الحمد هلل بل أكثرهم ال يعلمون"؟ وأنا‬
‫شخصيا أفضل االستشهاد دوما بالقرآن‪ ،‬فهو يعطيني راحة وصدقا وشرحا مدهشا للحالة النفسية االجتماعية؟‬

‫ومما يحضرني من الذكرى حين خرجت من المعتقل في سجن الشيخ حسن‪ ،‬وبقيت يومها في اإلفرادية ‪ 54‬ليلة‬
‫وستة أيام في اإلجماعية فتم ميقات ربي ستين ليلة‪ ،‬سألني رجل مخابرات ما رأيكم في مهنتنا ؟ قلت له شهد‬
‫الرب بكم؟ ذعر وقال الرب شهد فينا؟؟ قلت نعم؟ وماذا قال (سأل مرتاعا)؟ قلت‪ :‬قال‪" :‬إن فرعون وهامان‬
‫وجنودهما كانوا خاطئين"؟ وذهب المثل بالقول‪ :‬كذب المنجمون ولو صدقوا‪ ،‬ومنجمو الوقت الحاضر هم‬
‫السياسيون‪ ،‬فهم يقربون البعيد ويبعدون القريب فال يعول عليهم‪ .‬ومن ص ّدق سياسيا فال يلومنّ إال نفسه‪،‬‬
‫والمسكين فيصل القديم صدق لورنس بدولة عربية من المحيط إلى الخليج فتبين أنها بلفة وشقت المنطقة بسكين‬
‫مشترك مثل قطعة إلى انتداب بريطاني فرنسي‪ .‬ولو انتبه فيصل‪ ،‬رحمه هللا‪ ،‬إلى هذه القاعدة‪ ،‬لقعد في الحجاز‬
‫وما قتل أحدا‪ ،‬وال قتل من العرب عشرات اآلالف‪ ،‬ودمرت بغداد ودمشق بطيران الحلفاء‪ ،‬ولما قامت إسرائيل‬
‫ولكنها األقدار اإللهية؟‬

‫ومن عاش في ظل نظام شمولي فلم يهرب منه فال يلومنّ إال نفسه‪ ،‬ومن وقع في مشكلة فال يلومنّ إال نفسه‪.‬‬
‫وهذا ينطبق على العرب الذين يفشلون في كثير من االجتماعات‪ ،‬فاللوم عليهم وعليهم ال يلوموا أمريكا‬
‫وإسرائيل‪ .‬فهذه ثالث قواعد ذهبية ومريحة في الحياة‪ .‬وفي يوم طلب جار من جحا استعارة حماره لقضاء‬
‫حوائج له‪ ،‬قال إنه ليس في الزريبة؟؟ ولم يكد جحا ينتهي من كالمه حتى ارتج المكان بنهيق منكر للحمار؟ التفت‬
‫الجار إلى جحا وقال ماذا تقول؟ قال جحا أتكذبني وتصدق حمار؟ فهذه القصة تروي دجل السياسيين‪ ،‬وجحا‬
‫أصبح مثالً شعبيا ً رائجا ألنه يعبر بصدق وعفوية عن الواقع‪.‬‬
‫ومن مدينة القامشلي أذكر قصة حسن مصروع‪ ،‬والرجل لم يكن مصروعا‪ ،‬ولكن الناس اتفقوا على إعطائه هذا‬
‫اللقب‪ ،‬ومات الرجل‪ ،‬رحمه هللا‪ ،‬فقد دخل يوما ً على القاضي لمظلمة له؛ فأشعل عود ثقاب‪ ،‬ثم بدأ يبحث تحت‬
‫أقدام القاضي؟ قال له عم تبحث؟ قال عن العدالة؟ وعندما يخرج المسؤول السياسي يجهز نفسه أوالً للكذب‪،‬‬
‫ولكن الصحافة في الغرب تحرج وفي العالم العربي ال تستطيع‪ .‬وإذاعة لندن وسواها تفعل مثل هذا فهي تروي‬
‫الخبر ولكنه بحجم كاريكاتور حسبما يخدم غرض اإلذاعة‪ .‬والميديا خطيرة فهي تمط األقزام فيصبحون عمالقة‪.‬‬
‫ويظن من يدير الحوارات في الفضائيات أنه أفهم ممن استقدم من المفكرين وهو مسكين متغاب‪ .‬وينقل عن‬
‫كاترين ديميدتشي اإليطالية التي حكم أوالدها عرش فرنسا‪ ،‬أنها كانت توجه من حولها إلى الكذب بدقة وحرص‬
‫وإصرار‪ ،‬إلى درجة أن يصدق المرء نفسه‪ ،‬فمن يكذب وهو مرتج ال يصدقه أحد‪ ،‬وينكشف كذبه‪ ،‬ولكن من‬
‫يكذب بإصرار وعزيمة يصدقه الكثير‪ .‬وهي قصة تذكر بقصة أشعب األحمق مع األطفال حينما أراد صرفهم‬
‫عنه فكانوا إذا تحرشوا به قال لهم هناك وليمة فيسرع األطفال باتجاه الوليمة وعندما كرر هذا األمر خبط رأسه‬
‫بيده وقال مخاطبا ً نفسه يا أشعب‪ ،‬وما يدريك فلعل وليمة موجودة حقا ً ثم انطلق ال يلوي على شيء باتجاه‬
‫الوليمة‪ .‬وفي كتاب القوة لروبرت غرين تحدث عن علم كامل اسمه التدجيل‪ ،‬وكيف يخلق اإلنسان طقوسا بخمس‬
‫درجات بالحيلة والمكر والكذب‪.‬‬
‫"والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث ال يخرج إال نكدا كذلك نصرف اآليات لقوم يشكرون"‪.‬‬

‫والدة العبقريات‬

‫شهد عام ‪1905‬م والدة ثالث عبقريات‪:‬‬


‫‪15‬‬
‫ـ فأما األولى فكانت في الفيزياء النووية دشنها (آينشتاين) في نظرية النسبية الخاصة‪.‬‬
‫ـ وأما الثانية فكانت في الفلسفة‪ ،‬فشهدت والدة فيلسوف الوجودية (سارتر) الذي كتب حتى عمي‪ ،‬وكان من‬
‫أغزر من كتب‪.‬‬
‫ـ والثالثة كانت في علم االجتماع الذي جدد سيرة ابن خلدون‪ ،‬وجاءت من مهندس كهربائي‪ ،‬من خارج حقل علم‬
‫االجتماع كما هو دأب المبدعين‪ ،‬وكانت من جزائري هو المفكر (مالك بن نبي)‪ ،‬كما كان الحال مع ابن خلدون‬
‫من تونس‪.‬‬

‫كان أول تعرفي على مالك بن نبي عام ‪1971‬م عندما حضر إلى دمشق‪ ،‬وكنت جديد التخرج من كلية الطب؛‬
‫فترك في نفسي انطباعا ال يزول‪ .‬وأول مشكلة واجهتنا في زيارته أنه اعتقل في بيت صديق له ـ بكلمة أدق حيل‬
‫بينه وبين اجتماعه بالناس ـ بحجة أن اجتماعا بن نبي مع الناس سوف يعرضه لالعتقال؟ ولذا فبدل أن تعتقله‬
‫قوات األمن البعثية قام صاحبنا باحتجازه في بيته حتى فك هللا سراحه؛ فاجتمع به الناس كل يوم ولمدة شهر‬
‫كامل‪ .‬وكانت حجة الوداع‪ ،‬فمات الرجل بعدها بسنتين بنزف دماغي في الجزائر‪ ،‬وهو في قمة عطائه‪ ،‬وكنت‬
‫يومها في معتقل الحلبوني عند الرفاق‪ ،‬فرأيت في المنام وكأن شبحه زارني‪ ،‬بعدها نقل لنا ونحن في ظلمات‬
‫الحبس البعثي أن مالك بن نبي مات‪ .‬رحمه هللا في المجددين‬

‫وتذكرني قصة اعتقاله في بيت صديقه الشامي بقصة الشيخ العربي التي رواها لي ابن نبي شخصيا؛ أنه عندما‬
‫أرادت جبهة المقاومة توزيع بعض المنشورات ضد االحتالل الفرنسي؛ فقال البعض في جمعية العلماء‬
‫الجزائرية‪ :‬ولكن الفرنسيين سوف يصادرونها؟! قال الشيخ العربي‪ :‬فلنترك الفرنسيين يصادرونها وليس نحن؟‬
‫وهذا ما حصل مع مالك في دمشق‪ ،‬فقام باعتقاله بدل أن يعتقله البعثيون ؟ والرجل بعد أن خرج على الناس من‬
‫محبسه وقفصه الذهبي دعا وشرح وتحدث إلى جمهور عظيم في مدرج جامعة دمشق؛ فلم يعتقل ولم يؤذ‪ .‬وهذه‬
‫القصة تقول إن عقولنا تمشي في متاهات تجربة الفئران‪.‬‬

‫مالك بن نبي مفكر جزائري ولكن أقل الناس استفادة منه الجزائريون‪ ،‬فحز األعناق وشق الرؤوس بالفؤوس‬
‫أجدى من التفكير‪ .‬ومزمار الحي ال يطرب‪ .‬وفي اإلنجيل ال كرامة لنبي بين قومه‪ – .‬وفي القرآن الكريم‪" :‬كذلك‬
‫ما أتى الذين من قبلهم من رسول إال قالوا ساحر أو مجنون‪ .‬أتواصوا به بل هم طاغون" ومالك بن نبي قال إن‬
‫المجتمع ال يولد والدة فعلية إال بالتخلص من عالم األشياء واألشخاص إلى عالم األفكار‪ .‬وهذا يصطدم مع‬
‫األصنام المشرعة في الكثير من التكايا والزوايا‪ ،‬وحسب ابن نبي فإن الطفل ينتقل في العادة بين ثالثة عوالم‪،‬‬
‫طبقا ً عن طبق‪ ،‬فهو في البدء ال يفرق بين حلمة الرضاعة وثدي أمه‪ ،‬أو األفعى ورجل المخابرات‪ ،‬ثم ينتقل إلى‬
‫عالم األشخاص فيعرف أمه من أبيه‪ ،‬ثم يودع في النهاية المجسمات إلى المجردات‪ ،‬وكذلك يحصل في‬
‫المجتمعات التي تنتقل من عبادة األوثان واألشخاص إلى الفكر‪.‬‬
‫وبمقدار تحرر المجتمع واألناسي من عبادة األشخاص واألوثان إلى عالم األفكار فهي مؤشر نضج‪ ،‬وإال كانت‬
‫في حالة صبيانية‪ ،‬وهي الكلمة الصادمة الموجعة التي قالها الرجل في وصفه القيادة البعثية في كارثة ‪1967‬م‪،‬‬
‫التي خسرت وبدأت بالصراخ وهي تستغيث العالم‪ ،‬ومنها إعالن سقوط الجوالن قبل أن يسقط؟ فتصرفت كما‬
‫يتصرف الطفل وهو يواجه المشاكل بالصراخ والبكاء ورفس الرجل على األرض‪.‬‬

‫قال الرجل هذا الكالم وهو يعرِّ ف مفهوم (الثقافة)‪ ،‬وإن الطفل يمتص إلى الالوعي مجموعة من المفاهيم‪ ،‬ترسخ‬
‫فيه مجموعة من اآلليات السلوكية على أشكال شتى‪ ،‬ومنها تصرف القيادة البعثية يومها حذاء األزمة‪.‬ولو كانت‬
‫القيادة غير بعثية لما اختلفت في كثير عن هذا‪ ،‬ويومها علل الهزيمة عام ‪1967‬م كل من البعثيين واإلسالميين‬
‫أن الطرف اآلخر هو السبب في الهزيمة؛ فأما البعثيون فوصفوا فريق المتدينين أنهم رجعيون أسطوريون‪ ،‬وأما‬
‫المتدينون فعزوا الكارثة إلى زندقة حزب البعث الذي خذله هللا‪ ،‬وأنه اليعز من عاداه وال يذل من وااله‪ .‬ولكن‬
‫الهزيمة كانت لكل الفرقاء‪ ،‬بل إن فريق المتدينين انهزم أمام البعثيين الذين انهزموا أمام اآللة الصهيونية‪ ،‬فكانوا‬
‫أضعف من البعثيين الذين يصفهم اإلسالميون بالملحدين؟‬

‫‪16‬‬
‫الحسد‬

‫أرسلت لي سيدة فاضلة تخاف علي من العين والحسد‪ ،‬وأمراض النفس كثيرة وكبيرة وخطيرة‪ ،‬ولعل أول خطيئة‬
‫وقع فيها الشيطان هي الحسد واالستكبار‪ .‬فمن حسد آدم جاءته مصيبة ركب الرأس‪ .‬ومن ركب رأسه فقد رأسه‬
‫ورجليه معا‪ .‬وهو ما حصل للشيطان فذهب إلى اللعنة األبدية وتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه بالرحمة بعد‬
‫االعتراف بالذنب واالستغفار‪.‬‬

‫والحسد ( حقيقة ) وظف الرب لها سورة كاملة فقال قل أعوذ برب الفلق‪ .‬وكل منا معرض لعدوى هذا المرض‬
‫مثل اإلنفلونزا وقشعريرة الحمى‪ .‬وكما وجب مكافحة الحمى بخافضات الحرارة والصادات الحيوية‪ ،‬كذلك وجب‬
‫التخلص من الحسد؛ باالستغفار والتوبة ومراجعة النفس قبل يوم الحساب‪ ،‬ولكن ال يفعل هذا إال الصالحون‪،‬‬
‫وقليل ما هم ‪ .‬كما ظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب‪ .‬ويقول المثل ثالث ال عالج لهن‪ :‬عداوة‬
‫يخامرها حسد‪ ،‬و فقر يمازجه كسل ‪ ،‬و هرم يركبه مرض ‪.‬‬

‫والناجحون يحسدون‪ ،‬وأصحاب النعمة يحسدون‪ ،‬والمميزون يحسدون ‪ ،‬لذا قال الكواكبي في كتابه طبائع‬
‫االستبداد إن المجتمع المريض يجنح فيه المرء أن يخفي ثالثا‪ :‬ذهبه ومذهبه وذهابه!ومن حسدني أظنهم كثيرين‪،‬‬
‫ومن آذاني كثيرون‪ ،‬ومن اغتابني أكثر‪ ،‬ومن خاصمني فكريا منهم من أعرف ومنهم من ال أعرف‪ .‬والكثير‬
‫حارب عن جهل وقليل عن عقدة نفسية صعبة الحل‪ .‬و ( ورقة بن نوفل ) قال للنبي إنه ما جاء أحد بما جئت إال‬
‫عودي‪ ،‬وهذا القانون أي عداوة المختلف متوافرة في كل الملل والنحل‪ ،‬والمسلمون ليسوا شذوذا عن هذه القاعدة‪.‬‬
‫وفي األمثال أن عين الحاسد تبلى بالعمى‪ ،‬وهناك من يؤمن بالعين‪ ،‬وحدث لي حادثة قربت لي إمكانية هذا‬
‫فوجبت قراءة المعوذات والنفخ‪.‬وفي ألمانيا رأيت الكثير ممن يضع حدوة حصان على مقدمة سيارته الجديدة دفعا‬
‫للعين‪ ،‬فهي ثقافة عالمية ضد الحسد كما نرى‪ .‬وروبرت غرين في كتابه ( القوة ) يروى قصة الكاتب مورتن‬
‫وكيف انتهى قتال على يد أحب الناس إليه‪ ،‬فيجب أال نستخف بضراوة الحسد وماذا يمكن أن يفعل‪.‬والحسد يأتي‬
‫من التميز‪ ،‬ولم تتميز امرأة أو رجل إال ناله من الحسد شيء كثير‪ ،‬فوجب على المتميز والمتميزة لبس حلة‬
‫التواضع لتخفيف األذى‪ ،‬واألمر إليه جل وعال‪ ..‬وهو الذي يصرف السحب والمصائر واألقدار‪ ..‬واألخت‬
‫الفاضلة الخائفة علي من الحسد والعين استفادت هي وأخوات لها من قلمي‪ ،‬وهو جزائي في الدنيا قبل‬
‫اآلخرة‪.‬وفي الحديث أن دماء الشهداء توزن مع مداد العلماء‪ ،‬وأنا أدعو أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين‪،‬‬
‫وأاليخزني ربي يوم يبعثون‪ ،‬يوم ال ينفع مال وال بنون إال من أتى هللا بقلب سليم‪.‬‬

‫أعوذ باهلل بكلمات هللا التامات من شر ما خلق ‪.‬‬

‫القابلية لالستعمار‬

‫‪17‬‬
‫أول مرة سمعت بهذه الفكرة كانت من المفكر الجزائري مالم بن نبي‪ ،‬وكنا يومها نسمع له في مدرج جامعة‬
‫دمشق وهو يتكلم عن مائدة مستديرة عقدت في فرنسا لفهم أبعاد كارثة ‪67‬م في حرب الخامس من حزيران‬
‫(يونيو)‪ ،‬فصعقنا وأدركنا أننا مثل فئران التجارب بدون علم منها‪ .‬قال بن نبي يومها إن أزمة الخامس من‬
‫حزيران لم تكن هزيمة عسكرية‪ ،‬بل أزمة حضارة دلفت إلى ليل التاريخ‪ .‬وكل كتب بن نبي أخذت هذا العنوان (‬
‫سلسلة مشكالت الحضارة )‪ .‬ومالك بن نبي كتب باللسانين العربي والفرنسي‪ ،‬ولكن لم يستفد منه ال العرب وال‬
‫الفرنسيون‪ ،‬إال في رصده ضمن دوائر الصراع الفكري‪ ،‬كما أشار إلى ذلك في كتابه (الصراع الفكري في البالد‬
‫المستعمرة) عن لعبة المرآة‪ .‬وكتبه التي زادت عن عشرين باللغة العربية‪ ،‬لم توقظ من العرب عشرين شخصا؟‬
‫ولم تزد عن همسة في أذن نائم يشخر؛ فالعرب يريدون كالما ً ال يوقظ نائما ً وال يزعج مستيقظاً‪.‬وسبب الشخير‬
‫أن العرب مشغولون بقضية فلسطين‪ ،‬والرجل قال لهم إن مشكلة فلسطين جانبية وعرضية ونتيجة لمرض أكبر‬
‫وأعمق وأشد استفحاال وجذرية وخطرا‪.‬‬

‫هذا المرض هو ( القابلية لالستعمار ) الذي هو انهيار الجهاز المناعي واالستعداد الخفي للمرض‪ .‬وهو مرض‬
‫ثقافي أصاب العالم اإلسالمي برمته‪ ،‬أكثر منه سياسياً‪ .‬وحين لم تستعمر اليمن فمرد ذلك للصدفة‪ ..‬وسورية التي‬
‫تحررت يدين ذلك لظروف خارجية أكثر منها قوة داخلية‪ ،‬وهي والدة إسرائيل‪ .‬فوجب أن يخرج الفرنسيون من‬
‫هناك؟أما التحرر الفعلي فلم يأت بعد وأكبر دليل على ذلك هو العجز المتواصل المتراكم عن حل أبسط القضايا‬
‫فضال عن أعقدها‪ .‬وحسب غاندي ليس المهم من يستعمر‪ ،‬فقد يكون بريطانيا وقد يكون هندوسيا‪ ،‬ولكن التخلص‬
‫من القابلية لالستعمار وقوة الجهاز المناعي الداخلي عن أي مرض‪ .‬وحاليا عندنا ألوان من االستبداد الداخلي في‬
‫مناطق شتى تحكي قصة الضعف الداخلي‪ ،‬ويجب رؤية وجود إسرائيل في هذا المنظور‪ .‬فهي خراج في جسد‬
‫عليل؟‬

‫وعملية التحرر هي عملية انفصال عن رحم اآلباء كما ينفصل الجنين عن مشيمة األم‪ ،‬وهو نازف ومؤلم‪ ،‬وهو‬
‫أمر لم يحصل بعد‪.‬ويمكن تشبيه االحتالل الخارجي واالستبداد الداخلي مثل االلتهاب والسرطان فاألول واضح‬
‫ومؤلم ومعالجته سهلة‪ ،‬والسرطان خفي غير مؤلم ومعقد المعالجة إلى درجة االستحالة‪ ،‬وهذا يعني أن مرض‬
‫العرب خطير جدا‪ ..‬ومن هنا كانت أفكار مالك بن نبي صادمة موجعة مدهشة‪ .‬ومن هنا تعسر مخاض الدخول‬
‫إلى المعاصرة‪ ،‬ومن هنا كان حال العرب مثل الذبابة التي تطن في زجاجة فارغة بدون االهتداء إلى العنق‪،‬‬
‫وبذلك خسر الرجل جمهوره من الثوريين والقوميين‪ ،‬حين قال إن مؤشر نهضة األمة هو كثرة الحديث عن النقد‬
‫الذاتي والقابلية لالستعمار أكثر من االستعمار‪ ،‬مما دفع جودت سعيد الذي تابع نهجه في سورية إلى القول‪" :‬إن‬
‫مالك بن نبي صدمني حين تكلم عن القابلية لالستعمار ألنني كنت ال أسمع وال أقرأ إال إدانة االستعمار والصليبية‬
‫والماسونية والصهيونية‪....‬إلخ‪ .‬فكل متكلم في العالم اإلسالمي كان يتكلم عن خبث األعداء وتخطيطاتهم‪ ،‬ولكن‬
‫من الصعب عليهم أن يتكلموا عن القابلية لالستعمار‪ ،‬بل يتهم من يتكلم عن القابلية لالستعمار أنه في صف‬
‫األعداء"‪.‬‬

‫هل للقرآن منطق خاص؟‬

‫هذا السؤال اشتغل عليه الكثيرون وأنا شخصيا قرأت الكثير من هذه المشاريع‪.‬‬
‫لقد حاول شحرور مثال في دراسته للقرآن‪ ،‬أن يكتشف منطق القرآن الخاص‪ ،‬فاعتمد األدوات اللغوية‪ ،‬وساعده‬
‫في هذا (دك الباب) أستاذ اللغة‪ ،‬فحاول اللعب بالعديد من المفاهيم‪ ،‬وجر عليه الكثير من الصداع‪ ،‬حين صدم‬
‫الكثير من المسلمات عند جمهور المسلمين في قضايا ثياب المرأة وشقوق الجسم‪ ،‬ولكن اللغة كما يقول‬
‫فيتجنشتاين الفيلسوف النمساوي لعبة؟‬

‫‪18‬‬
‫وهكذا فعل محمد عنبر أيضا في كتابه جدلية الحرف؛ فزعم أن سر المفاهيم هي في الحرف‪ ،‬ووضع يده على أن‬
‫(الش ّدة) في الكلمة مثل برّ وربّ وج ّر ور ّج وز ّج وج ّز‪،‬هي تكرار لحرف واحد في الوسط‪ ،‬بحيث ينقلب المعنى‬
‫تماما من األول لألخير وبالعكس‪.‬‬
‫وذهب جودت سعيد في تفسيره إلى عالقة النص بالواقع‪ ،‬أن البشر يختلفون في الكلمات‪ ،‬ولكنهم اليختلفون في‬
‫الكلمة األساسية التي هي الطبيعة‪ ،‬وهو ينقل في هذا عن إقبال أن مصادر المعرفة هي ليست النصوص بل‬
‫الطبيعة والتاريخ‪.‬‬
‫أما جماعة التفسير الرقمي؛ فقد حولوا القرآن إلى كتاب رياضيات‪ ،‬وقالوا أيضا أن رقم ‪ 19‬هو سر القرآن‪ ،‬كما‬
‫ذهب شحرور في كتاباته أيضا‪ ،‬أن األحرف التي تبدأ بها بعض السور يساوي مجموعها (ربما ‪ )13‬اللغة‬
‫الكونية التي سينطق بها الكائنات السماوية إن وجدت وتفاهمت‪..‬‬
‫وهناك جماعة السبعة المثاني أيضا‪ ،‬أن كل ما في الكون خلفه سر الرقم سبعة؛ بدء من سبعة دوائر الكترونية‬
‫تطوق البروتون‪ ،‬إلى سبع مرات في الطواف‪ ،‬وسبع طبقات لألرض وطبقات السماء وهكذا‪..‬‬
‫أما جماعة اإلعجاز العلمي‪ ،‬فقالوا أن كل آية فيها إعجاز علمي‪ ،‬وحاولوا تصيد بعض اآليات‪ ،‬مثل نقص‬
‫األكسجين في االرتفاعات‪ ،‬من آية يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء‪ ،‬ولكنهم مضوا من اآليات‬
‫التي يمكن أن يشم الواحد فيها بعضا من اإلثارة‪ ،‬إلى آيات بعيدة عن اإلعجاز العلمي مسافة سنة ضوئية‪ ،‬ولكن‬
‫الخيال عنده قدرة أن يمشي أسرع من الضوء؟‬
‫وفي يوم قرأت لكاتب سوادني من جماعة المعهد العالمي للفكر اإلسالمي كتابة من هذا النوع قرأتها بدقة وتمعن‬
‫ولكن لم أعثر فيها على ضالتي‪.‬‬
‫وفي الواقع البد من االنطالق بمشروع جديد لمنطق القرآن‪ ،‬وقد حدثني جودت سعيد في يوم عن مشروعه حول‬
‫(أجنة قرآنية) و(آيات مفتاحية) مثل آية سورة العنكبوت عن السير في األرض والخلق‪ ،‬أو اآلية من سورة البقرة‬
‫عن قرار خلق آدم وتخوف المالئكة من هذا الكائن المفسد وكيف كان جواب الرب أنه يعلم ما ال يعلم اآلخرون‪.‬‬
‫‪ ‬ومشروعه هذا يشبه اللوغارتم في الحساب‪ ،‬بحيث يمكن الدخول على العديد من اآليات بهذه الطريقة‪..‬‬
‫وفي يوم كنت في دار الفكر في دمشق فوقع تحت يدي كتاب عرضه عدنان سالم صاحب الدار عن كتاب يجمع‬
‫مواضيع القرآن سوية‪ ،‬ولكن كيف ترتب ومن الذي يعطي األولوية؟‬
‫ولعل كتب التفسير القديمة بتنوعها حاولت أن تحوم وبمناهج مختلفة شق الطريق إلى فهم منطق القرآن‪ ،‬ولكنه‬
‫مثل من يحاول خرق لغات العالم أجمعين وهو طالب حضانة‪..‬‬
‫وكتب التفسير القديمة هي كما حدثني رشيد بن عيسى الجزائري يوما أنها إضاءات للعصر‪ ،‬بمعنى أن كل مفسر‬
‫أسقط ما في ذهنه من عصره على اآليات‪ ،‬وهذا يعني ان من يريد فهم مراد القرآن واستيعاب منطقه الداخلي‪،‬‬
‫وهو يراجع تفسير ابن كثير مثال الذي يطبع ويعاد طباعته بدون ملل‪ ،‬يشبه جراح من أيام الفراعنة يريد معالجة‬
‫استئصال ورم في الحفرة الخلفية من الدماغ‪..‬‬
‫ويمكن القول بدون تردد أن هناك من الطبقات التي تدفن معاني القرآن من تراكمات المفاهيم‪ ،‬ما يجب العودة‬
‫للنص القرآني المرة بعد المرة للتجلي والبيان‪ ،‬ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر‪.‬‬
‫ومن أعجب ما قرأت رجل دين دمنهوري مسلم وقع كتابه تحت يدي في فرنسا‪ ،‬ذهب إلى أن القرآن ليس فيه من‬
‫اإلعجاز والبالغة شيء قط‪ ،‬وكل ما قيل في هذا الموضوع خياالت‪ ،‬ويجب أن نحترم نحن بدورنا خياالت‬
‫الناس‪..‬‬
‫والمهم فهذا الموضوع يؤرقني من زمن بعيد حتى تبلور في ذهني شيء ‪ ،‬ولكنني عرفت ان األلمان سبقوني‬
‫إليه‪ ،‬فكما فعل العلماء بفك الجينوم البشري في لوس آالموس‪ ،‬كذلك يعكف حاليا فريقان من العلماء األلمان على‬
‫فك الجينوم القرآني‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫كان الجينوم البشري لفك الكود الوراثي الراقد كاللوح المحفوظ في بطن كل نواة خلية‪ ،‬كذلك الجينوم القرآني‬
‫راقد لوحا محفوظا في نصوص تتلى للضمير إلى قيام الساعة‪.‬‬
‫يتمتع الجينوم البشري بثبات مذهل خالف الميتوكوندريا في السيتوبالسما‪ ،‬كذلك النص القرآني يتعالى على قول‬
‫البشر بنظم خاص فليس هو بشعر وال نثر بل قرآنا عربيا غير ذي عوج‪.‬‬
‫يحوي الجينوم البشري العضوي ثالث مليارات حمض نووي مترابطة على شكل جسر ملفوف صعودا‪ ،‬ويتكون‬
‫الكود القرآني من ‪ 114‬سورة و‪ 6200‬آية في ‪ 18‬جزء مكي و‪ 12‬جزء مدني‪ ،‬نزل دفعة واحدة إلى السماء‬
‫الدنيا ‪ ،‬ثم نزل على مكث تنزيال‪ ،‬ونفهم ذلك اآلن حين نرى أقراص الليزر ونقل المعلومات عبر القارات بكبسة‬
‫زر‪.‬‬
‫وكما فتح مشروع الجينوم البشري الطريق إلى فهم اإلنسان‪ ،‬كذلك فإن مشروعا من هذا القبيل ينتظره العالم‬
‫اإلسالمي كوصفة خالص نفسية اجتماعية للجنس البشري‪.‬‬
‫ومشروع الجينوم القرآني يبدأ حاليا من أرض الجرمان بمشروع سموه (مشروع الماموت‬
‫‪ )Mammutproject‬نسبة للفيل العمالق المنقرض‪ ،‬بدأته عالمة ألمانية مستشرقة هي (انجيليكا نويفيرث‬
‫‪ )Angelika Neuwirth‬بميزانية مليوني يورو ولفترة سوف تمتد ثماني عشرة سنة‪.‬‬
‫سوف يقوم الفريق األول بوضع (بنك معلومات ‪ )Databank‬لكل ما يتعلق بالقرآن‪ ،‬والثانية في تحليل العمل‬
‫األول‪ ،‬ما يشبه دراسة التشريح والفيزيولوجيا في الطب‪ ،‬وما يلحقه مع علم النسج والتشريح المرضي‪ ،‬في‬
‫محاولة فهم الجو الديني والحقبة التاريخية التي عاصرت انبعاث اإلسالم‪ ،‬في محاولة إعادة تصنيعها لالقتراب‬
‫من فهم أفضل للنص القرآني‪.‬‬
‫وأنا شخصيا كنت قد عرضت على الناشر في المؤسسة السعودية لألبحاث والنشر أن نقوم بوضع لوغارتم‬
‫قرآني‪ ،‬على شكل آيات مفتاحية‪ ،‬وأجنة قرآنية‪ ،‬كما أشرت إلى ذلك‪ ،‬لتسهيل فهم القرآن على المسلم وغير المسلم‬
‫المعاصر‪ ،‬فتحمس رحمه هللا (هشام حافظ) للمشروع ثم جاء من أفسد الفكرة وطمس النور؟!‬
‫ومازال في نفسي هذا المشروع‪ ،‬وأنا أرى غيري من األلمان من يسبقوني إلى مشروع عمالق من هذا النوع‪،‬‬
‫الذي نحن بأمس الحاجة إليه‪ .‬هذه المرة سيؤدى بالدقة األلمانية المعهودة‪.‬‬
‫والفريق األول الذي سيعني ببناء بنك للمعلومات القرآنية سوف يحشد ويجمع كل ما يتعلق بالقرآن‪ ،‬مثل النسخة‬
‫التي عثروا عليها في اليمن في السبعينات (‪1973‬م)‪ ،‬وكانت غير منقطة وبدون تشكيل؛ فمثال المستشرق (جيرد‬
‫روديجر بوين ‪ )Gerd-Ruediger Puin‬يريد من خالل النسخة اليمنية إعادة كتابة الفترة األولى من تاريخ‬
‫اإلسالم؟‬
‫وتقول مجلة المرآة األلمانية في عددها األخير من عام ‪2007‬م والتي جاءت معنونة عن القرآن (الكتاب األعظم‬
‫أثرا في حياة الناس ‪ )Das maechtigste Buch der Welt‬وتقول كيف يمكن فهم اآليات التي تدعو‬
‫للتسامح وتلك التي تدعو للقتال‪ ،‬وهل يمكن ان يظهر (تأويل) جديد لآليات؟ وأن يحدث إصالح ديني كما تم في‬
‫أوربا بنهوض البروتستانت من رماد الكاثوليك والحروب الدينية‪.‬‬
‫إن توينبي درس التاريخ بطريقة الرجعى‪ ،‬ليكتشف أن عصر التنوير سبقه اإلصالح الديني‪ ،‬ومالم نفتح األفواه‬
‫في نقد الفكر الديني‪ ،‬ونطلق قيود المرأة والعقل والنقاش‪ ،‬فسعينا باطل ومستقبلنا كئيب؟‬
‫ونحن اليوم محاصرون مثل موسى من جهتين؛ فكان كل فرق كالطود العظيم‪ ،‬بين المخابرات والمتشددين‪،‬‬
‫األول طاغوت سياسي يغتال الحريات بالكرباج والجندرما والمخابرات‪ ،‬والثاني جبت يغتال العقول بالوهم‬
‫الديني‪ .‬والنبوات جاءت ضد الجبت والطاغوت لتحرير اإلنسان‪.‬‬
‫والسيدة نويفيرث (‪ 64‬عاما) عاشت في الشرق فترة ويساعدها اثنان من الباحثين هما (نيكوالي سيناي‬
‫‪ )Nicolai Sinai‬و(ميشيل ماركس ‪ )Michael Marx‬هي التي ابتدعت هذا المصطلح (الجسم القرآني‬

‫‪20‬‬
‫‪ )Corpus Coranicum‬ودعت إلى دراسة متأنية لفهم المسلمين على نحو جدي‪.‬‬
‫وتقول السيدة أن القرآن سوف يوضع تحت المجهر كلمة كلمة‪ ،‬وسوف يدرس كرونولوجياً‪ ،‬ودراسة السور‬
‫ستكون مثل البناء الميكروسكوبي (‪ .)microstructural‬فالقرآن لم تنزل فيه أطول سورة ابتداء‪ ،‬كما هو‬
‫الحال في سورة البقرة ‪ 286‬آية؟ بل من المعروف أنه نزل على مكث بسور قصيرة‪ ،‬وبكلمة اقرأ لفتح الدماغ‬
‫وتنشيط الوعي‪ ،‬ولكن العرب اليوم ال يقرأون‪ ،‬ولو قرأوا ما فهموا‪ ،‬وال ينبئك مثل خبير‪.‬‬
‫وقصة عمل المستشرقين ليس جديدا‪ ،‬وكان دوما مغلفا بالريبة والشك أنهم عمالء جواسيس‪ ،‬وهذا من جهة‬
‫صحيح‪ ،‬ولورنس كان عميال‪ ،‬ولكن المفاجأة له بالذات‪ ،‬أنه اكتشف نفسه أنه مستخدم بدون إطالعه على خطط‬
‫السياسيين‪ ،‬في تراكب عجيب‪ ،‬بعد أن قطع الوعد للعرب بقطعة أرض عربية‪ ،‬فتبين أن سايكس الملعون وبيكو‬
‫التعيس قطعا العرب ألف قطعة‪ ،‬ومن قطع جثة الحريري في بيروت مزعا كانت مؤامرة متراكبة من هذا النوع‪،‬‬
‫قد يكون آخر من يعرف سرها هو من نفذها؟‬
‫ولكن األلمان بوجه خاص‪ ،‬ولعدم وجود تاريخ استعماري مع العرب‪ ،‬رشح اللغة األلمانية ان تكون اللغة الثانية‬
‫بعد العربية في دراسات المستشرقين‪ ،‬ومن ينظر في عملهم للحديث الشريف يصاب بالذهول من دقة عملهم‬
‫وصبره‪،‬م وطول اشتغالهم وإنفاقهم على األبحاث‪.‬‬
‫وحين ظهر كتاب فهرس الحديث الذي ضم مدخال لكل حديث ومظنة وجوده في أي صحيح من الصحاح التسعة‪،‬‬
‫كان ثمن الكتاب يومها ‪ 25‬ألف لاير‪ ،‬حتى سرقه البعض واشتريناه بأقل من ذلك بكثير‪ ،‬وهو في مكتبتي ويستفاد‬
‫منه‪.‬وبعد االنترنت وأقراص الليزر تسهلت األمور كثيرا‪.‬‬
‫وتقول السيدة نويفيرث أن مستشرقا ألمانيا من جامعة بون هو ستيفان فيلد ‪ 70‬عاما (‪ ) Stefan Wild‬دعي إلى‬
‫السعودية إلى المدينة المنورة للمرة األولى للمشاركة في مؤتمر اإلسالم والدراسات االستشراقية‪ ،‬وقد ضم جدول‬
‫التوصية في فقرته ‪ 29‬ما اقترحه الرجل من الجهد المشترك من المسلمين وغيرهم في الدراسات القرآنية‪.‬‬
‫وهكذا فعلينا االنتظار حتى عام ‪ 2025‬لنرى ماذا يتولد عنه المشروع؟ ولعله سيكون مثل كتاب الكرونيك الرائع‬
‫الذي تنتجه الثقافة األلمانية في كل فن‪ ،‬عن تاريخ المرأة‪ ،‬وتاريخ الطب‪ ،‬والمسيحية والقرن العشرين والجنس‬
‫البشري‪ ،‬وسيضم له اآلن الجينوم القرآني‪..‬‬
‫فكما فك الكود الوراثي في الخلية‪ ،‬فسوف يتم تفكيك اآليات وتاريخها ونزولها ‪..‬‬
‫والقرآن يقول أو لم يكفه آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل‪..‬‬
‫والقرآن يقول إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون لألذقان سجدا‪ .‬ويقولون سبحان ربنا إن كان‬
‫وعد ربنا لمفعوال‪ .‬ويخرون لألذقان يبكون ويزيديهم خشوعا‪..‬‬
‫والقرآن يقول عن الجن أنهم لما سمعوه انصرفوا‪ ،‬وقالوا لقومهم إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به‪.‬‬
‫ولعل جن األلمان سيكون مصيرهم مثل جن الجزيرة العربية؟‬

‫مدخل إلى النقد الذاتي‬

‫زارني شاب من حزب «التحرير اإلسالمي» وكان قد سجن ألكثر من عشرين مرة‪ .‬قال لي لقد أمضيت مع‬
‫شيوعي في السجن ‪ 11‬يوما ً ونحن نتناقش وال نكف عن الجدل إال لتناول وجبات الطعام‪ .‬كان (التحريري) يريد‬
‫إقناعه بفساد المادية الجدلية‪ ،‬و(الشيوعي) بدوره كان يريد أن يثبت لهذا (الرجعي) فساد‪ :‬المثالية‪ .‬وكان‬
‫(التحريري) قد تم إلقاء القبض عليه بعد توزيعه منشورات تتهم نظام الحكم أنه بريطاني‪ .‬ثالثة أسئلة كانت تدور‬
‫في بالي وأنا أرى الصراع السياسي الضاري‪ :.‬كنت أتساءل‪ ،‬اوال‪ ،‬إذا كان النظام عميالً كما يزعمون فيجب أن‬
‫يسحقهم بدون رحمة ألنهم يفضحونه‪ ،‬وإذا كان شريفا ً فلهم الويل مما يصفون‪ .‬وفي جو سياسي ملبد إلى هذا القدر‬
‫كان على شباب حزب التحرير أن يدخلوا‪ :‬المعتقالت في كال الحالتين مقرنين في األصفاد‪ .‬وكنت أتساءل‪ ،‬ثانيا ً ‪،‬إذا‬

‫‪21‬‬
‫كان (التحريري)‪ :‬يرى في (الشيوعي) أنه ضال وعميل و(الشيوعي) يرى في (التحريري) أن عقله غير علمي‪،‬‬
‫فهل يمكن للحجج العقلية والنقلية أن تثبت وجهة نظر أي واحد؟ هذا الصراع العقدي يذكر بتناحر‪ :‬اليهود‬
‫والنصارى‪ :‬و(تشابهت قلوبهم)‪ .‬وكنت أتساءل ثالثا ً وكان صاحبي في تلك الليلة يتهم رئيس تنظيم إسالمي أنه‬
‫عميل ألمريكا‪ ،‬إنه إذا كان يدين اآلخرين بجرعة سمية من هذا الحجم فكم سيكون مقدار (األليرجيا) عند اآلخر؟‬

‫يقول (علي الوردي) في كتابه (وعاظ السالطين) ‪« :‬تقص لنا األساطير‪ :‬أن غرابا رأى زميال له من نوعه فهاله ما‬
‫وجد في وجهه من القبح‪ .‬ولو نظر لوجهه في المرآة لرآه ال يقل قبحا عن وجه زميله‪ .‬والمشكلة آتية من كون‬
‫الغراب ال يملك مرآة يرى فيها وجهه‪ .‬وهذه هي مشكلة البشر جميعا‪ ،‬فكل فريق يرى مساوئ‪ :‬غيره وال يدري أنه‬
‫مبتلى بمثل تلك المساوئ‪ :‬على وجه من الوجوه»‪.‬‬

‫إن المشكلة أن كل فريق‪ :‬ينظر إلى اآلخر أنه شيطان مريد‪ .‬وكان رونالد ريجان‪ ،‬الرئيس األمريكي‪ :‬األسبق‪ ،‬يصف‬
‫االتحاد السوفيتي‪ :‬أنه مملكة الشر‪ .‬وعندما يختلف السياسيون يتراشقون بتهم الخيانة والعمالة‪ .‬أما المتدينون‬
‫فجعبتهم مليئة بأسلحة أخطر من الكفر والردة‪ .‬وكلها مؤشرات الى عدم نضج األمة وأنها ما زالت تعيش حياة‬
‫عقلية طفولية‪ .‬وكان ابن تيمية يقول‪ :‬العلماء يخطِّئون والمبتدعة يكفِّرون‪ .‬واليوم في المحطات الفضائية أمكن‬
‫عرض خبرة الكثيرين ممن عاصروا‪ :‬أحداث القرن وشاركوا‪ :‬فيها‪ ،‬والكل يروي مذكراته تحت عنوان األيام المرة‪.‬‬
‫ولكن الكل إال في ما ندر يتهم اآلخرين وال أحد يقول لقد أخطأنا جميعاً‪ ،‬ورب إني ظلمت نفسي‪ .‬وفي القرآن‬
‫الكريم تعرض التراجيديا‪ :‬اإلنسانية في قصة خلق آدم من خالل موقفين‪ ،‬موقف‪ :‬تنزيه الذات عند الشيطان الذي‬
‫يزعم أن موقفه سليم ال غبار عليه‪ .‬ولكن تنزيه الذات يحمل تلقائيا ً ظالل إدانة اآلخر وقذف المشكلة في طريق‪:‬‬
‫االستعصاء‪ .‬في حين أن آدم وزوجته اعترفا بالخطأ فقاال‪« :‬ربنا إننا ظلمنا أنفسنا» وبذلك أدخال المشكلة حقل‬
‫الحل‪.‬‬

‫إن هذه القصة تحمل معنى فلسفيا ً عميقا ً يعبر عن اتجاهين‪:‬‬

‫ـ األول شيطاني‪ :‬يفقد إمكانية المراجعة وتتعطل عنده آلية النقد الذاتي‪ ،‬وهذه هي المعصية دينيا ً وهي الخطأ المعقد‬
‫المركب فلسفياً‪.‬‬

‫ـ والثاني رحماني‪ ،‬وهو موقف‪ :‬آدم وحواء اللذين قاما بالمراجعة واعترفا بالخطأ‪ ،‬وهو ما فتح الطريق إلى‬
‫تصحيح المسار ليوضع‪ :‬السلوك على السكة الصحيحة في عمل قابل للنمو‪( .‬فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه)‪.‬‬

‫وباستثناء القرآن الكريم‪ ،‬فإن كل كتب االديان االخرى ذكرت قصة آدم وحواء والشيطان على نحو ما‪ ،‬في قصد‬
‫منها لشرح الطبيعة اإلنسانية والصراع‪ :‬مع الذات في طريق اكتمالها وإلقاء الضوء على مصدر الخطأ وتصحيحه‪،‬‬
‫ولكنها ورطت المرأة بأنها مع الحية خلف كارثة العري‪ .‬اما القرآن الكريم فيمتاز‪ :‬بثالث مزايا‪:‬‬

‫ـ االولى‪ ،‬تحرير‪ :‬المرأة من تهمة الفساد واإلغراء باالعتراف بالخطأ بجانب الرجل «ظلمنا أنفسنا»‪.‬‬

‫ـ والثانية‪ ،‬حذف التفصيالت المادية وإدخال القصة معمل المطلق والتجريد‪:.‬‬

‫ـ والثالثة‪ ،‬فتح الباب للبحث االنثروبولوجي‪( :‬علم االنسان) في قصة الخليقة‪ ،‬وأن القفزة النوعية الثقافية بدأت قبل‬
‫‪ 200‬ألف سنة عندما دخل اإلنسان مرحلة الترميز واإلشارة إلى األشياء بالكلمة «وعلم آدم األسماء كلها»‪.‬‬

‫وهذه القفزة النوعية احتاجت أيضا ً وصول الدماغ اإلنساني الى الحجم الحالي (حوالي ‪1500‬سنتمتر‪ :‬مكعب) بعد‬
‫أن بدأ الرحلة بـ‪ 450‬سنتمتراً‪ :‬مكعباً‪ ،‬كما كان الحال مع إنسان لوسي التي عاشت قبل ‪ 3.2‬مليون سنة‪ .‬إن علماء‬
‫االنثروبولوجيا‪ :‬افترضوا‪ :‬أن الوعي اإلنساني انبثق من رحم التعقيد وأن وصول‪ :‬المادة المخية إلى حجم وعدد معين‬
‫من النورونات أشعل شرارة الوعي اإلنساني «ويزيد‪ :‬في الخلق ما يشاء»‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫وبقدر وضوح والتماع هذه الحقيقة‪ ،‬بقدر وجود مناخات فكرية خانقة تريد لالنسان أن يفتح كتاب النبات ويتحول‬
‫إلى نبات‪ .‬هل يفكر النبات؟ هل يتغذى ويتنفس؟ هل يتحرك؟ هل يتكاثر؟ الجواب أن النبات يمتص غاز الفحم من‬
‫الفضاء والسماد والماء من األرض وهو يتحرك ببطء وهو يكرر إنتاج نفسه‪ .‬واإلنسان يفعل هذا ويزيد‪ :‬بالتفكير‪،‬‬
‫ولكن بعض األنظمة السياسية تريد له أن يكون كائنا نباتيا ال يفكر‪ .‬إن التفكير هو حجر الزاوية لتأمل العالم‬
‫والذات‪ .‬وبمراجعة الذات يمكن إدخال آلية التصحيح على السلوك اإلنساني‪ :.‬إن أي عمل ال يكتمل ويولد بدون‬
‫مفصلة بين ثالثة أجزاء تتمفصل وتلتحم مع بعضها على نحو عضوي بحيث تشكل دائرة مغلقة بين التصور‬
‫والممارسة ومراقبة النتائج أو النقد الذاتي‪ ..‬واإلنسان يتوجه إلى الخارج دوماً‪ .‬أما االلتفات الكتشاف الذات فنادر‪،‬‬
‫إال في لحظات ثالث‪ :‬الصالة واالعتكاف‪ :‬والمحنة‪ .‬يقول الفيلسوف‪ :‬الفرنسي‪ :‬بلزاك باسكال في كتابه الخواطر‪:‬‬
‫‪ :Penesse‬كلما حاولت البحث في أفعال اإلنسان المختلفة وفي ما يتعرض له من مخاطر‪ :‬ومتاعب وجدت أن‬
‫شقاء الناس كله راجع إلى أمر واحد هو عجزهم عن االعتكاف‪ .‬ومن هنا جاء ولع الناس بالضجة‪ ،‬ومن هنا كان‬
‫السجن عذابا ً مريعا ً ولذة الوحدة أمراً يستعصي فهمه‪ .‬ويذهب المؤرخ البريطاني‪ :‬توينبي إلى اعتبار أن العزلة‬
‫واالعتكاف ش ّكال قانونا ً نفسيا ً الكتشاف الحقائق عند األنبياء والمصلحين‪ :.‬هكذا اعتزل محمد صلى اهللا عليه وسلم‬
‫في غار حراء الليالي ذوات العدد‪ .‬وهكذا انسحب عيسى عليه السالم إلى الخالء ليصوم‪ :‬أربعين يوما‪ .‬ولم يكن‬
‫موسى عليه السالم ليرجع إلى فرعون بالحجة المبينة لوال تلك الرحلة إلى صحراء سيناء‪.‬‬

‫إن بناء آلية النقد الذاتي (النفس اللوامة) تضع الروح على المسار السليم للتصحيح والنمو‪ :‬بدون توقف‪ ،‬ولكن ال‬
‫أحد يمارس هذه الوظيفة‪ .‬ونحن نعلم من قانون التطور والوظيفة أن كل عضو ال يعمل يضمر‪ .‬وهذا يعني أننا‬
‫نعاني من شلل قاتل‪ ،‬ومن محق للبركة في أعمالنا بتعطيل جهاز النقد الذاتي‪ .‬ويبقى العمل الشيطاني السهل في لوم‬
‫اآلخر‪ .‬الكل يبحث عن كبش فداء يعلل به أسباب القصور‪ :‬الذاتي‪ .‬إنه مرض قاتل ألنه ال يحرر اإلرادة من العطالة‬
‫طالما كان اآلخر هو السبب‪ .‬إنه دوما‪ :‬االستعمار‪ ،‬والماسونية‪ ،‬والصليبية‪ ،‬واالستخبارات المركزية األمريكية‪،‬‬
‫والموساد‪ ،‬وإذا فرغت كل األسلحة يبقى السالح الذي يخرس الجميع‪ ،‬اي سالح التذرع بـ‪ :‬إنها إرادة هللا‪ .‬ونحن‬
‫نعلم أن الشيطان نفسه يتبرأ من هذه المقولة يوم القيامة فيقول‪ ،‬فال تلوموني ولوموا أنفسكم‪ .‬ونحن نعلم أن‬
‫المشركين كانوا يعزون شركهم‪ :‬إلى هللا «وقال الذين أشركوا‪ :‬لو شاء هللا ما أشركنا وال آباؤنا وال حرمنا من دونه‬
‫من شيء»‪ .‬إن ثقافة الشيطان موجودة ايضا في زماننا هذا‪.‬‬

‫اكسير السعادة المفقودة‬

‫خالص جلبي ‪ -‬ايالف‬

‫السواد األعظم من الناس ال يعرف السعادة وال يمارسها‪ ،‬وإ ن تمتع بها فللحظات معدودة‪.‬‬
‫ويظن معظم الناس أنهم سيحققونها من خالل تكديس الثروة‪ ،‬واالرتفاع( في البنيان وتكويم( األحجار‪ ،‬أو في‬
‫التمتع بالملذات الحسية بدون حدود؛ فيأكلون( إلى ما فوق( الشبع‪ ،‬ويشربون( حتى االنفجار‪ ،‬ويسفحون ماء الحياة‬
‫إلى حد النضوب والنفاد‪ ،‬ولكنهم يكتشفون أن الثروة‪ ،‬والملذات الحسية‪ ،‬والجاه‪ ،‬لم تقودهم إلى نعيم السعادة‪،‬‬
‫وشاطئ( األمن‪ ،‬وحديقة النفس المطمئنة‪.‬‬
‫بل الشقاء والعناء والغباء والبالء والوباء‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫لم يشموا ريح الجنة بعد‪ ،‬وال عرفوا هذا العالم الجديد الذي يصل إليه القليلون‪ ،‬ويدخله النادرون‪ ،‬ويتمتع( به‬
‫الخواص‪.‬‬
‫فأين السعادة الدائمة التي ال تنفد والكاملة التي ال تنحصر؟‬
‫هذا هو السؤال الذي أقض مضاجع الفالسفة والمفكرين‪ ،‬علماء النفس والمربين؟‬
‫هذا السؤال هو الذي افتتح به الفيلسوف( الهولندي اسبينوزا( في القرن السابع عشر كتابه القيم (رسالة في تحسين‬
‫الفكر)‪.‬‬
‫لقد حاول من تعاطا المخدرات والمسكرات( الولوج إلى هذا العالم‪ ،‬فضاعوا وضلوا( الطريق‪ ،‬فلم يصلوا إلى‬
‫نعيم السعادة الحقيقي الكامل والدائم‪ ،‬المستمر والنامي‪ ،‬وال رجعوا إلى دنياهم العادية األولى‪ ،‬بل أصبحوا هباءاً‬
‫منثوراً‪ ،‬فوجدوا سراباً خادعاً‪ ،‬وتحولوا إلى حطام فوق الحطام‪.‬‬
‫وقبل أيام طلبت إلى قاعة العمليات لمريض ينزف بخطر‪ ،‬ويسبح بين الموت والحياة مستغيثا النجدة‪ ،‬والمالئكة‬
‫باسطو أيديهم أخرجوا( أنفسكم؟‬
‫كان صاحبنا مدمن مخدرات لمدة ‪ 19‬سنة يحقن عروق الفخذ؛ فأصيب بأم دم شريانية خطيرة‬
‫(‪ )Ruptured Infected Pseudo Aneurysm = RIPA‬انفجرت قنبلة مرعبة فساح في دمه‪ ،‬في منظر‬
‫دموي أحمر قان ال يسر الناظرين وال يطرب الجراحين‪.‬‬
‫وخالل خمسة ساعات من عملية من أعقد عمليات جراحة األوعية الدموية‪ ،‬وأحفلها بالتحدي( في خبرة رجل‬
‫في هذا الفن تزيد عن ربع قرن‪ ،‬أمكن إنقاذه‪ ،‬وهرب عزرائيل ملك الموت غاضبا‪ ،‬وهو يلوح لفريق األطباء‬
‫أن موعد اللقاء مع صاحبنا( قريب إن رجع للحشيش والمحششة‪.‬‬
‫يتمنى اإلنسان – لو كان باإلمكان‪ -‬إن يحقق السعادة بتناول قرص دواء‪ ،‬أو يصل إلى حالة (النفس المطمئنة)‬
‫بجرعة شراب‪ ،‬أو أن تشع منه (الحكمة) بدهنه مرهم‪ ،‬أو أن يتسم بـ(العدل) بقبعة أكسجين على أنفه‪ .‬أو أن‬
‫يتحرر من (الغضب) باستنشاق( الرذاذ التنفسي الذي يعالج به الربو الصدري؟‬
‫الموضوع( األصلى من هنا‪ :‬منتديات تهامة ‪http://www.tihamh-‬‬
‫‪qn.com/vb/showthread.php?t=19414‬‬
‫ولكن هيهات هيهات لما يوعدون!!!‬
‫إن فيض السعادة هو نور داخلي قبل كل شيء‪ ،‬وتحصيل ذاتي‪ ،‬ومعاناة خاصة‪ ،‬وعتبة يصل إليها من مارس‬
‫ال َكَبد‪ ،‬وقاسى التعب‪ ،‬وذاق لوعة البحث‪ ،‬وصعَّد الجهد بدون حدود في صقل مرآة روحه الداخلية‪ ،‬لتتلقى‬
‫اإلشعاع الكوني العظيم‪.‬‬
‫هل علمتم لماذا أوحي لمحمد ص؟‬
‫ألنه صقل مرآة التلقي الكوني إلى الحافة التي تلقت روحه حقائق الوجود!‬
‫قال الصوفي( الهندي الجنجوي( عن محمد ص حين عرج به إلى السما‪ ،‬فرأى من آيات ربه الكبرى‪ .‬أقسم باهلل‬
‫لو رأيت ما رأى محمدا ما رجعت!!‬

‫‪24‬‬
‫وهنا يعلق محمد إقبال على الفرق بين الصوفي والنبي‪ ،‬هذا ينشد الخالص الفردي‪ ،‬والثاني يحمل الرسالة فكان‬
‫البد من العودة للبشر‪.‬‬
‫كان آينشتاين يقول‪ :‬إن اكتشاف الحقيقة لمرة واحدة ال تكفي‪ .‬على العكس يجب المحافظة عليها وتجديدها(‬
‫باستمرار‪ ،‬إنها تشبه تمثال الرخام الذي يقف في الصحراء وهو في حالة خطر دائم من أن يدفن في الرمال‪.‬‬
‫األيدي الفعالة والنشيطة وحدها التي ال تعرف التعب والملل والتي تنظفه باستمرار هي التي تحافظ عليه يتألق‬
‫تحت ضوء الشمس‪.‬‬
‫وكذلك هي رحلة البحث عن أعظم كنز في هذا الوجود‪ ،‬غارق في عمق بحر مجهول‪.‬‬
‫عند منتصف( الليل في إحدى مناوباتي( المرهقة‪ ،‬أثناء فترة إقامتي الطويلة فيما كان يعرف سابقاً بألمانيا‬
‫الغربية‪ ،‬وضعت رأسي ألتنفس الصعداء لحظات‪ ،‬إال أن جرس التلفون لم يمهلني‪ ،‬حيث يبدأ موكب السكارى(‬
‫وحوادثهم( بالتدفق( في مثل هذا الوقت‪ ،‬أي في نهاية حفلة (الكيف) التي تتحول في خاتمة المطاف إلى‬
‫مشاجرات وجروح( علينا معالجتها‪.‬‬
‫هذه المرة كان النداء مستعجالً وملحاً وخطراً‪ ،‬فانطلقت كالعاصفة ال ألوي على شيء‪ ،‬أكاد ال أبصر طريقي‬
‫أمامي‪ ،‬وهناك في قاعة اإلسعاف وقع نظري على فتاة في مقتبل العمر‪ ،‬قد غرقت في دمائها‪ ،‬مذبوحة من‬
‫الوريد إلى الوريد‪ ،‬في الرمق األخيرة‪.‬‬
‫بدأنا ونحن بالكاد نلتقط أنفاسنا‪ ،‬في محاولة سريعة إلنقاذ حياة هذه الصبية‪ ،‬أعصابنا متوترة‪ ،‬ووجوهنا يعلوها‬
‫اإلرهاق وسهر( الليالي‪ ،‬المريضة تغتسل في دمها ونحن نستحم في عرقنا!! هكذا هي حياة الجراحين – الجنود‬
‫المجهولون‪ -‬الذين ينامون على عملية‪ ،‬ويستيقظون على اختالط‪ ،‬صديقهم الليل والمشرط‪ ،‬وخليلهم الدم‬
‫والقيح‪ ،‬وأنيسهم( خراج يشق وورم( يستأصل( وشريان يرقع ويخاط‪.‬‬
‫نزهاتهم في قاعات العمليات‪ ،‬وسميرهم المرضى( وأروقة المستشفيات‪ ،‬قد شابوا قبل المشيب‪ ،‬واستهلكوا قبل‬
‫األوان‪ ،‬قد واصلوا( كالل ليلهم بكالل نهارهم‪ .‬والويل لهم إن فقدوا مريضاً!!‬
‫عندما أدخلت يدي المغطى بالقفاز المعقم في عمق العنق تنفست الصعداء‪ ،‬حيث أدركت أن الشرايين السباتية (‬
‫‪ )Carotid. A‬سليمة ‪ ،‬وشيئاً فشيئاً( استطعنا السيطرة على النزف‪ ،‬وإ نقاذ حياة المريضة‪.‬‬
‫قلت في نفسي بعد انتهاء العملية الجراحية‪ :‬كانت ليلة مرعبة بحق‪ ،‬ولكن تفاؤلي كان مبكراً‪ ،‬ألنه كان علي أن‬
‫أتابع الرحلة مع هذه الواقعة وذيولها( حتى شعاع الفجر األول‪.‬‬
‫رن التلفون مع ساعة السحر مرة أخرى‪ ،‬هذه المرة صوت ذكوري( أجش خافت يطلب معلومات عن حالة‬
‫المريضة التي أدخلت المستشفى‪ ،‬ويرفض اإلفصاح( عن هويته؟‬
‫كان جوابنا‪ :‬أننا ال نعطي معلومات عن طريق( التلفون ولمجهول‪.‬‬
‫وتفاءلت بالنوم( بدون جدوى‪ ،‬هذه المرة كان البوليس يطلب أخذ عينة من دم (جثة)‪ ،‬وهو نظام معمول به في‬
‫الغرب‪ ،‬لكثرة الشاربين للخمور‪ ،‬الذين يقودون السيارات ويتسببون في حوادث الطرقات‪.‬‬
‫نزلنا إلى المستودع البارد مع الصباح البارد‪ ،‬وأشعة الشمس الذهبية ترسل أول خيوطها! حيث وقع نظري‬

‫‪25‬‬
‫على شاب طويل راقد جثة ال حراك بها!‬
‫عندها اكتملت صورة تلك الليلة المرعبة‪ ،‬كان هذا الشاب هو الذي ذبح الفتاة‪ ،‬وعندما طارده البوليس أطلق‬
‫النار على نفسه منتحراً‪ ،‬وكان هو صاحب الصوت المجهول‪ ،‬الذي كان يتصل بالتلفون يسأل عن صحة الفتاة‬
‫المذبوحة‪.‬‬
‫هذه القصة التي قفزت لذاكرتي اآلن ونظائرها( كثير من يوميات الجراحين‪ ،‬وهذه قد تحدث في ألمانيا وغيرها‪،‬‬
‫ولكنها (مشعر) ينبئ عن فقدان مبرر االستمرار( في الحياة‪ ،‬وتقديم االستقالة منها‪.‬‬
‫هذه الحياة الرائعة ونورها( البهيج ومتعتها بدون حدود‪ ،‬أو بتعبير الكاتبة اليندي الحياة معجزة والموت قادم‬
‫على كل حال وأية صورة‪.‬‬
‫هذا الوجود( الذي أكرمنا اهلل به؛ كيف يمكن لمشاعر اإلنسان فيه إن تصل إلى هذا القدر من الكآبة واإلحباط(‬
‫واليأس‪ ،‬إلى درجة إنهاء الحياة ذاتها!!‬
‫كنت في ألمانيا أتعجب من التناقض الرهيب بين الرفاهية والوجوه الكالحة‪ ،‬بين السيارات الفخمة والقسمات‬
‫الجامدة‪ ،‬بين الفرش الوثير وعبوس الوجه‪ ،‬بين ورد( ذو منظر بهيج ولكن بدون رائحة‪ ،‬بين بشر يعملون بدون‬
‫ابتسامة عذبة وضحكة على السجية‪ ،‬بين نظام دقيق( ونفوس بائسة‪.‬‬
‫كان ظهر يوم الجمعة والمشير( إلى قرب انتهاء دوام األسبوع رائعاً‪ ،‬حيث يجرعون األنواع المنوعة من‬
‫الخمور فتحمر( وجوههم( وأعناقهم‪ ،‬ويلين مزاجهم‪ ،‬وتنفرد أساريرهم( ووجوههم‪ ،‬وتبدأ المالمح اإلنسانية المخبأة‬
‫في األعماق بالظهور( والطفو إلى عالم الحياة واألنس‪.‬‬
‫أما يوم األحد وخاصة بعد الظهر فكان أسوداً( كئيباً مقيتاً‪ ،‬حتى عرف بمتالزمة يوم األحد‪ .‬كنت أتعجب من‬
‫هذا وال أعرف سره؟‬
‫كنت أتساءل‪ :‬إذا كانوا يبدعون في الحياة ويحبون الدقة في العمل‪ ،‬واالنتظام( في الوقت‪ ،‬فما هو اإلشكال؟‬
‫طالما سوف يستقبلون يوم االثنين يوم العمل‪ ،‬الذي هو مصدر رزقهم واقتصادهم‪ ،‬ووجودهم ورفاههم!!‬
‫كان السر أعمق‪ ،‬واللغز أكبر‪.....‬‬
‫وهداني عقلي إلى فكرة حيوية‪..‬‬
‫كما أن البكتيريا هي الوحدة العضوية لنقل المرض كذلك فإن الفكرة هي الوحدة النفسية لنقل المرض الروحي‪.‬‬
‫إنني أعترف أنني بدأت أصاب بالعدوى في سنوات مكثي األخيرة في ألمانيا‪ ،‬فكنت أشعر برتابة وثقل وبؤس(‬
‫نهاية يوم األحد‪ ،‬هذا الشعور( لم أتخلص منه إال حين مغادرتي البيئة األلمانية‪.‬‬
‫إن متالزمة يوم األحد لم تكن في الواقع ألنهم سوف يستقبلون يوم االثنين‪ ،‬يوم العمل والواجب الثقيل‪ ...‬ال‬
‫كان الموضوع( أعمق من هذا!!‬
‫إن التوقف عن العمل هو بكلمة ثانية توقف( النفس عن االنشغال الخارجي والتعامل معه‪ ،‬للرجوع( إلى الذات‪.‬‬
‫إن يوم العطلة هو يوم مواجهة النفس‪ ،‬هو االنكفاء الداخلي واالعتكاف‪ ،‬هو اكتشاف عالم الذات‪ ،‬وكان اإلنسان‬
‫األلماني يشعر باأللم العظيم حين يواجه عالم الذات الفقير الخاوي الهزيل‪ ،‬ذلك العالم الذي يشبه الشجرة‬

‫‪26‬‬
‫المفرغة الداخل‪ ،‬كما في تعبير فالسفتهم عن األزمة الوجودية؟‬
‫كان يستشعر( أن اللهو الخارجي للنفس قد توقف‪ (.‬هذه المواجهة المدمرة للذات كانت محطة العذاب ونقطة‬
‫البؤس والجحيم‪.‬‬
‫وانتبه إلى هذه األزمة الروحية قديماً( الفيلسوف الفرنسي( (باسكال) فكتب يقول في كتابه (الخواطر)‪:‬‬
‫"كلما حاولت البحث في أفعال اإلنسان المختلفة‪ ،‬وجدت أن شقاء الناس كله راجع إلى أمر واحد هو عجزهم‬
‫عن االعتكاف‪ ،‬ومن هنا جاء ولع الناس بالضوضاء والجلبة‪ ،‬ومن هنا كان السجن عذاباً مريعاً ولذة الوحدة‬
‫أمراً يستعصى فهمه‪.‬‬
‫في اإلنسان غريزة خفية تحمله على اللهو واالنشغال( في الخارج‪ ،‬مصدرها شعور مرير ببؤسه المتصل" ‪.‬‬
‫وعلماء النفس يعرفون هذه الظاهرة جيداً‪ ،‬ويشعرون أنها تعبير خطير عن مرض حضاري يهدد بنيته‬
‫األساسية‪ ،‬إنها بدء تيبس مفاصل الحضارة‪ ،‬وتصلب شرايينها( وتخشبها‪ ،‬بكلمة أخرى بداية النهاية‪ ،‬وأول‬
‫المطر‪ ،‬وفاتحة الطوفان‪ ،‬وانطالق تفاعل االنحطاط‪.‬‬
‫هذا ما انتبه إليه فالسفة كثيرون ومؤرخون( وسياسيون سطروا( لهذه الظاهرة كما هو الحال مع الفيلسوف(‬
‫األلماني (أوسفالد شبينجلر) الذي وضع سفره الضخم (أفول الغرب(‬

‫مواضيع ذات صلة‬

‫جدلية االنتحار‬
‫أغالل الثقافة وإكراهات المجتمع‬
‫تغيير مفاتيح الوعي‬
‫خط التعامل مع القرآن في رمضان؟‬
‫ظاهرة الحرب تحت المجهر‬
‫موت مؤسسة الحرب‬

‫ليس (أضل) من رجل الدين عندما يعتلي منبر السياسة فيحلل األوضاع‪ :‬مثل األخرس الذي ينقل عن آخر مهمته‬
‫الكالم‪ .‬أو الصيني الذي يريد التحدث بلغة صربية‪ .‬‬
‫وال (أخبث) من السياسي حينما يلبس مسوح الكهان فيتحدث باألخالقيات والمبادئ‪ .‬‬
‫وليس (أقبح) من منظر الرجل المخنث أو المرأة المتصابية‪ .‬ألن كالً منهم ال يؤدي دوره‪ .‬‬
‫‪) ‬السياسة) تعني الكذب كما صرح بذلك (توني بلير) رئيس الوزراء البريطاني فصدق خالف العادة حينما قال إن‬
‫أحاديثنا مع الزعماء العرب تدور على مستويين فما نقوله بيننا ال نصرح به على المأل‪ .‬‬
‫‪ ‬والواعظ األمريكي (جيري فولويل) خرج على الناس يوما فقال عن محمد ص أنه إرهابي‪ .‬وهو بهذا يمزج بين‬
‫ثالثة أمور ال يمكن أن تشكل سوى مركب شديد االنفجار‪:‬‬

‫‪27‬‬
‫(كذب السياسة) و(قلة االطالع) و(التهور‪ ) :‬كمن وضع أصابعه في عش الزنابير اإلسالمية مع اإلساءة إلى خمس‬
‫الجنس البشري فخسر‪ :‬صدق المتدينين وكسب نفاق السياسيين أال ساء ما يحكمون‪.‬‬
‫‪ ‬على كل حال ال يوجد في اإلسالم رجال دين بل علماء‪ ،‬وهم معرضون لنفس المرض السابق عندما يتحولون إلى‬
‫وعاظ السالطين؛ فال يغيروان رسم القرآن‪ ،‬ولكن يفسرونه حسب المسطرة السلطانية‪ ،‬ويحفرون‪ :‬ثغرة في الدين‬
‫تناسب حجم السلطان السمين‪.‬‬
‫‪ ‬‬
‫وتفنيد التهمة السابقة سهل وهي شغل يجب أن ال نقع فيه في معركة (صراع األفكار) كما يقول (مالك بن نبي)‪،‬‬
‫على مبدأ (المرآة العاكسة) التي شرحها‪( :‬روبرت غرين) في كتابه (شطرنج القوة) حسب المبدأ ‪ :44‬أن المرايا‬
‫خداعة بشكل هائل ألنها تخلق شعورا بأنك تنظر إلى العالم الحقيقي والواقع أنك ال تنظر إال إلى قطعة من الزجاج‬
‫فكل شيء مقلوب إلى عكسه‪ .‬‬
‫وفي كتاب مالك بن نبي (الصراع الفكري في البالد المستعمرة) توضيح لهذه اآللية الخفية في إدارة كفة الصراع‬
‫وتسليط الظالل على أفكار بعينها لتشويهها‪ ،‬فالثور ال ينتبه لمن يلعب بالخرقة الحمراء؛ فيقع في النهاية صريعا‬
‫تحت استحسان الجمهور وصفيرهم‪ :‬وتصفيقهم للمصارع‪ :‬الجسور‪ .‬‬
‫وجرب (أحمد ديدات) سابقا حظه مع (جيمس سواكرت) حينما دعاه للمناظرة في أمريكا‪ ،‬وكان كالً منهما يحاول‬
‫أن يثبت لآلخر أن دين الثاني باطل‪ ،‬وأن كتابه مليء بالتناقضات فأساءا إلى القرآن واإلنجيل‪ :‬معا‪ .‬وحركا قضايا‪:‬‬
‫قديمة بكلمات جديدة‪ ،‬في الوقت الذي نادى الدين أي دين إلى التسابق في الخيرات‪ ،‬واالعتراف باآلخر وأن الكون‬
‫مبني على االختالف‪ .‬‬
‫يذكر المؤرخ النمساوي غومبريتش‪ :‬في كتابه (مختصر‪ :‬تاريخ العالم ـ سلسلة عالم المعرفة ‪ 400‬ـ ص ‪ )268‬أن‬
‫خلطة عصر التنوير‪ :‬كانت ثالث مباديء‪ :‬العقالنية وسماها (المنطق) مع التسامح واإلنسانية‪ .‬ولكن فقهاء الدين‬
‫يحاولون بكل سبيل إرجاعنا إلى ما قبل التنوير لندخل عصر الظلمات وباسم هللا‪  .‬‬
‫وحينما كان غاندي في محنته مع المتعصبين من الهندوس والمسلمين أعلن الصيام حتى الموت حتى تتوقف أعمال‬
‫العنف؛ فلما هدأت ثورة الدم تقدم الهندوسي‪ :‬وهو يبكي وقال قتل المسلم ولدي!‬
‫قال له غاندي وماذا فعلت أنت؟‪ ‬‬
‫قال قتلته ثأرا البني!‪ ‬‬
‫قال غاندي وهو بالكاد يستطيع النطق‪ :‬هل أدلك على طريق‪ :‬يهديك إلى الجنة؟ أن ال تقتله بل تربي ولده على‬
‫اإلسالم كما أراد والده أن ينشأ‪ .‬‬
‫عندما كنت في ألمانيا اجتمعت بخليط ال نهاية له من الفرق المسيحية وكنت أكرر عليهم جملة واحدة‪ :‬هاتوا لي‬
‫فقرة واحدة في اإلنجيل يقول فيها المسيح عن نفسه أنه هللا؟ فضالً عن عقيدة التثليث ومركب األقانيم وان هللا‬
‫انشطر إلى ثالثة بدون أن ينشطر‪ :،‬وأن هللا ثالثة ولكنه واحد فيما هو ضد الرياضيات!‬
‫كان القوم يصابون بالذهول ألنهم وجدوا‪ :‬آباءهم على أمة فهم على آثارهم يهرعون‪ .‬ولم يكونوا معتادين على‬
‫مواجهة سؤال من هذا النوع‪ .‬وكان البعض يعترف‪ :‬وهم قلة‪ .‬وفريق‪ :‬ثاني كان يقول ال مجال للفهم أو العقل في‬
‫العقيدة كما اعترفت لي بذلك راهبة بروتستانتية‪ .‬‬
‫ومنهم من كان يماحك فيقول جاءت فقرة في أول إنجيل يوحنا‪ :‬في البدء كان الكلمة وكان الكلمة هللا!‬
‫ولكن مثله مثل من يريد بناء برج بيزا على ظهر حيوان الالما متسلقا جبال االنديز؟‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫ومن أعجب ما قرأت لقس مسيحي‪ :‬كتابا يقول فيه أن القرآن جاء بألوهية المسيح مستشهدا‪ :‬بقوله ‪ ‬تعالى من سورة‬
‫الزخرف‪" :‬قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين"‪ .‬وهي جملة شرطية كما نرى‪ .‬سبحان رب السموات‬
‫واألرض رب العرش عما يصفون‪ .‬وهكذا فالجدل في هذه األمور‪ :‬يمكن ان يدوم‪ :‬ألف سنة دون دخول بوابة العلم‪.‬‬
‫‪ ‬‬
‫كنت أقول لهم أال تتعجبوا من موضوع ألوهية المسيح غير المبرهنة وغير الواضحة في اإلنجيل‪ ،‬فمن أين جاءت‬
‫هذه العقيدة التي تبنتها الكنيسة؟ كانوا يقولون فماذا تفعل بكلمة أبي الذي في السموات؟‪ ‬‬
‫كان جوابي إنه ال يزيد عن معنى رمزي‪ ،‬وهو أمر علمه لجميع الناس في موعظة الجبل (طوبى لصانعي السالم‬
‫ألنهم أبناء هللا يدعون)‪ .‬‬

‫‪28‬‬
‫كل منادى بالسالم مثل غاندي ومالكولم‪ :‬اكس وروزا‪ :‬باركس السوداء والمناضلة البورمية أوانج سو كايا وبيرتا‪:‬‬
‫فون سوتنر‪ :‬األلمانية والهندية أراندهاتي‪ :‬روي وامرأة فرعون وقرة عين الفارسية وايميلن بونكهرست التي قادت‬
‫مظاهرة في لندن في ‪ 18‬نوفمبر من عام ‪1910‬م فضربهن ألف من الشرطة لمدة ست ساعات متواصلة وماتت‬
‫سيدتان‪ .‬‬
‫ً‬
‫كلهن أبناء هللا وبنات هللا باإلضافة‪ ،‬وليس االشتقاق وبالمعنى‪ :‬الرمزي‪ .‬واإلسالم‪ :‬دفعا لهذه اإلشكالية برمتها حذفها‪:‬‬
‫جملة وتفصيال وضع بدال عنها كلمة عبد هللا‪ .‬‬
‫قد تكون الكلمة في األصل هكذا فاختلطت على المترجمين من اآلرامية إلى اليونانية‪ .‬أو أنها كانت معنى‬
‫اصطالحي شائع كما نقول نحن رب المنزل وربة المنزل فال نعني بها أن المرأة والرجل تحوال إلى آلهة من دون‬
‫هللا يعبدون‪  .‬‬
‫ولكن ال المسلمين يعرفون هذا ألنهم ال يقرؤون اإلنجيل‪ .‬وال شهود‪ :‬يهوه وفرق‪ :‬المسيحيين يقرؤون القرآن‬
‫فيعرفون المتشابه في روح الرسالة‪ .‬ومن يتصدر‪ :‬للوعظ بين المسلمين يقول إن نسخة اإلنجيل محرفة‪ .‬وهي التي‬
‫كان يقول عنها القرآن فيه هدى ونور‪ ،‬وليحكم أهل اإلنجيل بما انزل هللا فيه‪ .‬وطلب منهم أن يأتوا بالتوراة فيتلوها‬
‫إن كانوا صادقين؟‪ ‬‬
‫وحديثي اليوم ليس بهذا االتجاه فهو حرج وحساس وصعب هضمه ولكن ال بد منه‪ .‬وما يقوم به بعض رجال الدين‬
‫المسيحي أو اإلسالمي أنهم يلبسون الحق بالباطل ويكتموا الحق وهم يعلمون‪ .‬أو أنهم يشتروا به ثمنا قليال‬
‫فبئس ما يشترون‪ .‬‬

‫ومشكلة التطرف أو اإلرهاب ليست خاصة بدين‪ ،‬وهو عمل تقوم به أي مجموعة ترى أن القتل سيد األحكام وأن‬
‫العنف هو سبيل التغيير‪ ،‬وهو مرض يصيب أي جماعة إنسانية تعرضت لالضطهاد فرأت أن االنتقام هو سبيل‬
‫إعادة التوازن‪ ،‬أو هو ممارسة لقوة مهيمنة ترى كسر أي مقاومة للسيطرة‪ .‬وكالهما خطأ فالقتل ال يأتي إال بالقتل‪ .‬‬
‫هناك عالقة ما بين العدل واألمن والحريات‪ .‬فالعدل يولد األمن‪ .‬واألمن يوسع الحريات‪ .‬وهو ما نادى به إبراهيم‬
‫عليه السالم‪ :‬وكيف أخاف ما أشركتم‪ :‬وال تخافون أنكم أشركتم باهلل ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق‬
‫باألمن إن كنتم تعلمون‪ .‬الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم األمن وهم مهتدون‪ .‬وتلك حجتنا آتيناها‬
‫إبراهيم على قومه نرفع‪ :‬درجات من نشاء‪ .‬‬
‫أعترف للقاريء ان هذه اآلية من سورة األنعام لم يتكشف لي معناها حين حفظتها حتى اندلعت الحرب ضد‬
‫اإلرهاب فانقدح المعنى في لحظة تجلي عجيبة نكتشف ذلك الترابط الخفي بين ثالث مفردات وثالث عوالم‪:‬‬

‫العدل ـ األمن ‪-‬الحريات‪ .‬‬

‫إنه بحث مثير يحتاج إلى االستغراق فيه‪ .‬‬


‫جاء في نوادر جحا الكبرى أنه تزوج وبعد ثالثة أشهر أعلمته زوجته أنها حامل وعليه أن يحضر القابلة‪ .‬قال‬
‫ولكنك في الشهر الثالث والنساء تضع في الشهر التاسع ؟ قالت صحيح ولكنك أخطأت في الحساب فقد مضى على‬
‫زواجي بك ثالثة أشهر‪ ،‬ومضى‪ :‬عليك متزوجا بي ثالثة أشهر‪ ،‬وأصبح للجنين في بطني ثالثة أشهر وهذا‬
‫مجموعه تسعة أشهر؟ فكر الشيخ مليا ثم قال صدقت فلم أكن أفقه مثل هذا الحساب الدقيق ثم هرع ليحضر‪:‬‬
‫القابلة؟!‪ ‬‬

‫وعلى هذه الحسبة يجب فهم حسابات رجال الدين حينما يدخلوا سوق السياسة!‪ ‬‬

‫‪ ‬والمؤرخ األمريكي‪( :‬باول كينيدي) في كتابه (صعود وسقوط القوى العظمى) أو السياسي الفرنسي (جاك أتالييه)‬
‫في كتابه (آفاق المستقبل) وشهد شاهد من أهلها‪.‬‬
‫ً‬
‫إذا كانت الكائنات ومنها اإلنسان قد اختزلت في الجينات‪ ،‬فإن الكون أيضا قد أختزل في النفس البشرية‪،‬‬

‫‪29‬‬
‫وأشار إلى هذه الفكرة الفيلسوف الصوفي الغزالي قديما في كتابه إحياء علوم الدين ‪ ،‬وبذا وضع القرآن يده على‬
‫مفتاح تغيير العالم من خالل تغيير ما بالنفوس (إن هللا ال يغير من قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )‪.‬‬

‫هذا الحقل هو الذي يجب أن يتم فيه البحث والسبر والحفر‪ ،‬ألن كنز السعادة مدفون داخله‪ ،‬مخبأ في أعماقه‪.‬‬
‫إن الرحلة باتجاه القلب السليم) و (النفس المطمئنة) تبدأ من هنا‪.‬‬
‫إن السعادة هي حالة ووضع للنفس اإلنسانية عندما تصل إلى مرحلة النفس المطمئنة‪ ،‬كما أنها نشاط القلب‬
‫الذي ال يعاني من العلل وهو ما وصف القرآن به إبراهيم ‪ :‬إذ جاء ربه بقلب سليم‬
‫الموضوع‪ :‬األصلى من هنا‪ :‬منتديات تهامة ?‪http://www.tihamh-qn.com/vb/showthread.php‬‬
‫‪t=19414‬الرحلة اإلبراهيمية من (القلب السقيم) إلى (القلب السليم) هي رحلة الخالص‪ ،‬كي يصبح اإلنسان‬
‫مرشحا ً لدخول الجنة قبل دخولها‪ ،‬فهناك جنة خاصة في األرض يشعر بها الصالحون قبل أن يدخلوا جنة الخلد‪،‬‬
‫وهي من المبشرات على االقتراب من نهاية الرحلة‪.‬‬

‫هذه الحالة النفسية‪ ،‬هذا الهدوء والتجلي الروحي‪ .‬هذا الفيض من السعادة والحبور‪ ،‬أشار إليه كل من ولج هذا‬
‫العالم وكان شعورهم‪ :‬غريبا ً وصفوه أنها لحظات‪ ،‬كانت تأتي في األول لفترة قصيرة وبشكل متباعد؛ فيشعرون‬
‫أنهم دخلوا عالما ً آخر يفيض بالسعادة‪ ،‬سرعان ما ينحسر عنهم‪ ،‬ثم تقاربت الفترات وازدادت مدتها حتى دخلوا‬
‫هذا العالم بالكامل‪.‬‬

‫إذا كان إنذار المرض العضوي‪ :‬الرئيسي هو األلم‪ ،‬فإن ألم المرض النفسي اثنان هما ‪ :‬الخوف والحزن‪ ،‬وهما‬
‫المرضان اللذان يعاني منهما معظم الناس‪ ،‬ويشكالن التحدي والعقبة التي على اإلنسان اختراقها‪ :‬وتجازوها‪:.‬‬
‫لذا انصب اهتمام القرآن في المعالجة النفسية بشكل رئيسي على تحرير اإلنسان من هاتين العقدتين (تتنزل عليهم‬
‫المالئكة أال تخافوا وال تحزنوا) من خالل النظافة األخالقية والتطهير الروحي‪.‬‬

‫فما هو الخوف وما هو الحزن؟‬

‫الخوف هو مما سيأتي‪ ،‬والحزن هو مما مضى وانقضى‪.‬‬

‫وليس هناك من شعور عميق وهام مثل شعور الخوف أو الحزن‪ .‬وحتى تمضي النفس في مرحلة الصعود‪:‬‬
‫األخالقية فإنها‪ :‬تنتقل عبر محطات تتزود فيها بالطاقة الروحية لتصعد إلى مرحلة أكثر تقدماً‪ ،‬فهي تصعد من‬
‫مرحلة (النفس األمارة بالسوء) وهي تلك المرحلة المشوشة والفوضوية التي تنفعل فيها للوسط المحيط بها حيث‬
‫تتعطل إرادة البناء األخالقية‪ ،‬فإذا بدأت في رحلة البناء من خالل عملية المراجعة والمحاسبة والنقد الذاتي‪ ،‬تبدأ‬
‫في الدخول في مرحلة (النفس اللوامة)‪ ،‬فإذا اكتملت هذه المرحلة‪ ،‬أصبحت مكانا ً كريما ً يستحق أن يقسم هللا بها‪،‬‬
‫(ال أقسم بيوم القيامة وال أقسم بالنفس اللوامة)‪.‬‬
‫وعلى أرضية هذه المرحلة يمكن االنطالق إلى المرحلة الثالثة مثل إرسال الصواريخ واألقمار‪ :‬الصناعية حيث‬
‫تحمل كل مرحلة المرحلة التي بعدها‪ ،‬وتتكلل رحلة الصعود الختراق جاذبية الشهوات والشبهات‪ ،‬عندما تصل‬
‫النفس اإلنسانية إلى (مرحلة النفس المطمئنة) وبها تكون النفس قد اغتسلت من الخطايا تماماً‪ ،‬وتحررت‪ :‬من‬
‫األمراض النفسية‪.‬‬
‫عندها يبدأ الشعور بـ (األمن) الذي هو مقابل الخوف‪( :‬أولئك لهم األمن وهم مهتدون) ‪ ،‬ويبدأ الشعور بالسعادة‬
‫التي هي مقابل (الحزن) ( الحمد هلل الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله‬
‫ال يمسنا فيها نصب وال يمسنا فيها لغوب )‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫وإذا أردنا ربط هذه األفكار‪ :‬أي المراحل الثالث ما بين النفس األمارة بالسوء عبر النفس اللوامة إلى النفس‬
‫المطمئنة‪ ،‬فإنها تشكل ثالث حلقات مترابطة متداخلة في رحلة صعودية‪ ،‬مع قابلية للنكس إلى الخلف عند كسل‬
‫طاقة التطهير والتسامي األخالقية‪.‬‬

‫ومع نظام الحلقات الثالث هذه هناك ستة من المالحظات سوف نسجلها‪:‬‬

‫األولى‪ :‬علينا أن نالحظ أن النفس اإلنسانية في حالة ديناميكية ال تستقر مثل موج البحر‪ ،‬وفي‪ :‬اللحظة الواحدة قد‬
‫تنتكس النفس وتمرض وتهبط‪ :‬بل وتتدحرج إلى أسفل‪ ،‬وهذا يحتاج بالتالي إلى عملية تطهير‪ :‬ال يقف وهو معروف‪:‬‬
‫في العضوية‪ ،‬حيث أن حالة الصحة التي يتمتع بها الجسد‪ ،‬هي ذلك التوازن بين الهجوم الجرثومي‪ :‬الدائم ودفاع‪:‬‬
‫الجهاز المناعي‪ ،‬الذي ال يكف عن الدفاع‪ ،‬تماما ً مثل عملية االستقالب في الجسم‪ ،‬ففي اللحظة الواحدة تنهدم‪:‬‬
‫ماليين الخاليا وتنشأ الماليين‪ ،‬تتكسر حلقات من التفاعالت الكيماوية لتقوم محلها حلقات جديدة وهكذا‪ ،‬بل إن‬
‫الجسم البشري برمته هو في حالة توازن بين الموت والحياة‪.‬‬

‫وإذا كان الجسم من خالل خالياه يموت ويحيا فإن نسيج الحياة للجنس البشري برمته هو في حالة توازن بين‬
‫الموت والحياة‪ .‬وإذا كان الجسم من خالل خالياه يموت ويحيا فإن نسيج الحياة للجنس البشري هو على نفس‬
‫الشاكلة‪ ،‬فمع شروق شمس كل يوم تدفع األرحام ‪ 270‬ألف إنسان جديد إلى الحياة‪ ،‬ومع غروب كل يوم تبلع‬
‫القبور ‪ 140‬ألف إنسان‪ ،‬وتبقى الزيادة في حدود ‪ 130‬ألف إنسان‪ ،‬شاهدة على تفوق الحياة على الموت ألنها‬
‫من الحي الذي ال يموت‬

‫الثانية‪ :‬وكما أن هبوط اإلنسان ال حد له‪ ،‬كذلك فإن صعوده باتجاه رحلة التكامل النفسي ال سقف له‪.‬‬

‫الثالثة‪ :‬إن الهبوط ال يحتاج لطاقة‪ ،‬في حين أن الصعود‪ :‬يحتاج لطاقة‪ ،‬وهذا يذكرنا‪ :‬بقانون آينشتاين الذي ذكرناه‬
‫في مطلع المقالة‪ ،‬وهو ضمن المصطلح القرآني (الجهاد) فالجهاد أي بذل الجهد المكافئ لرفع وتصعيد‪ :‬حالة النفس‬
‫باتجاه تحقيق الذات‪ ،‬وتنشيط المثل األعلى‪ ،‬وضبط‪ :‬الغرائز في االتجاه الصحيح كما تضبط أي طاقة‪.‬‬

‫الرابعة‪ :‬إذا كانت النفس المطمئنة قد استكملت شروطها لدخول عالم السعادة والجنة كما يحدث في المتقدمين لملء‬
‫أي وظيفة شاغرة‪ ،‬فإن استكمال الشروط‪ :‬ال يعني دخول الجنة بصورة حتمية بل البد لها من رحمة هللا تعالى‪،‬‬
‫وهذا يحمل المعنى الضمني من األخالقية الجديدة في التواضع‪:.‬‬

‫الخامسة‪ :‬إن عملية التطهير هذه لها وسائلها‪ :‬التي يمثل (الصوم) إحدى أهم الوسائل في (االعتكاف الداخلي) وفي‬
‫(المراجعة الذاتية) وفي‪( :‬تنمية اإلرادة) وفي‪( :‬السيطرة على الغرائز) وفي (ترويض الشهوة) و(قمع الغضب)‬
‫واألخيرتان تعتبران من أشد الغرائز استحكاماً‪ :‬بالنفس اإلنسانية‪.‬‬

‫السادسة‪ :‬إن الصوم‪ :‬يمثل هذه البانوراما‪ :‬في شحذ المثل األعلى‪.‬‬
‫وكما يقول عالم النفس (هادفيلد)‪ :‬إن المثل األعلى هو أقوى عامل في تقرير خلق اإلنسان ألنه وحده الذي يستطيع‬
‫تنبيه اإلرادة‪ ،‬وتنظيم‪ :‬جميع الغرائز في كل واحد متناغم متوافق‪ ،‬وبدونه يصبح اإلنسان تحت سلطان التأثيرات‬
‫المشوشة التي تحدثها الغرائز المتصارعة‪ ،‬وبه تلتحم الشخصية بعضها مع بعض وتتماسك متجهة إلى غرض‬
‫واحد مشترك‪.‬‬
‫إن المثل األعلى هو الذي يحدث بلوغه االكتمال وتحقق الذات‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫تغيير مفاتيح الوعي‬

‫كما يفعل من ي دخل ال بيت الجدي د بتغي ير مف اتيح الب اب الرئيس ي‪ ،‬ك ذلك الح ال م ع ال دخول إلى القلع ة الثقافي ة‬
‫باستبدال مفاتيح الدخول‪ .‬‬
‫والسؤال ماهي القلعة الثقافية إن صح التعبير وما هي مفاتيحها؟‬
‫في القرآن أفال يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟‬
‫المف اتيح هي ال دخول بسالس ة وس رعة إلى فتح األب واب المغلق ة ول و ك انت ص فائح ص م من ص فيح منض د‪.‬‬
‫واالستعصاء يتطلب التكسير والنسف واالقتحام بغير ضرورة في كثير من األحيان‪ .‬‬
‫كذلك جرى الحال مع عقل مبني على الفهم والسالم‪ ،‬وآخ ر على الح رب والخص ام‪ .‬أي اكش اف جغرافي ا جدي دة‬
‫باكتاشف قارة العنف‪ ،‬والنزول على كوكب السالم فبأي آالء ربكما تكذبان؟‬
‫على ماذا يعتمد العنف؟ وكيف يعمل األسلوب السلمي؟‬
‫يعتمد العنف على العضالت واألسلحة واإلكراه ‪ ،‬أما الالعن ف فه و أس لوب الح وار واإلقن اع‪ ،‬أي ح ديث العق ل‬
‫وتغيير السلوك‪ ،‬ويتم بالنزول الى لوحة مفاتيح الوعي‪ ،‬وه ذا تغي ير داخلي محض‪ ،‬وطبيع ة الم ادة العص بية في‬
‫الدماغ االنساني أنه يتعام ل ب الفكرة‪ ،‬وأفض ل ش روط إنتاج ه كم ا يق ول ع الم النفس (ب راين تريس ي) بعي داً عن‬
‫التوتر‪ ،‬فال يفتح العقل عويص المعضالت وشائك المسائل كما نعالج دخول مس مار في حائ ط فنض رب المس مار‬
‫بقوة الختراق الجدار‪ .‬بل بالهدوء طبقا عن طبق‪ .‬‬
‫من هنا نفهم عظمة دعوة القرآن لبناء مجتمع (الال إك راه)‪ ،‬وس خافة فك رة قت ل االنس ان من أج ل آرائ ه‪ ،‬كبدع ة‬
‫طورتها ثقافة مريضة‪ ،‬تصفي الفكر تدريجياً‪ ،‬وتفضي باألمة الى الشلل التام والخرس المطبق‪ . .‬‬
‫الالعنف اليعني االستسالم‪ ،‬بل ينمي اإلرادة في االتجاه الصحي؛ فهي تدعو الى الحوار وال تبيت الحقد والنف اق‪،‬‬
‫وطالما تم تهميش الكراهية‪ ،‬نكون قد اقتلعنا الجذور األصلية لشجرة العنف‪.‬‬
‫‪ ‬والالعنفي (ال يخاف) و (ال يتراجع) اال بـ (االقتناع)‪ ،‬وأهمية ه ذا ه و المحافظ ة على إرادتي الص راع‪ ،‬الل تين‬
‫تدخالن الحوار فتندمجان؛ وال تحطم واح دة لتبقى األخ رى‪ ،‬ب ل االن دماج والخ روج ب إرادة مش تركة موح دة في‬
‫النهاية بسعادة وارتخاء‪  .‬‬
‫الكراهية نفي لآلخر‪ ،‬وضمور في العالقات‪ ،‬مشحونة بمشاعر س‪88‬لبية‪ ،‬وانكف‪88‬اء على ال‪88‬ذات‪ ،‬و(الحب) اع‪88‬تراف‬
‫به وتواصل معه في مشاعر إنسانية سامية‪ ،‬ت‪88‬رتقي بالمش‪88‬اعر وتخل‪88‬ع مع‪88‬نى على الحي‪88‬اة‪ ،‬ويول‪88‬د فيه‪88‬ا آدم من‬
‫جديد‪ .‬فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه‪.‬‬
‫وأجمل أشكاله الزواج بحب‪ ،‬بين كائنين ينجبان نسالً سعيداً‪ ،‬تنمو به البشرية بقوة حياة عظمى‪ ،‬من الحي الذي ال‬
‫يموت فتوكل عليه‪.‬‬
‫وأهمية هذا الكالم انعكاسه على الحياة السياسية‪ ،‬فالعنف والديموقراطية مثل الماء والن ار فال يمتزج ان أب دا؛ ب ل‬
‫يطفيء النار بالماء؛ فال يمكن بناء مجتمع ديموقراطي تعددي طالما آمنا بالعنف أسلوبا ً للتغيير‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫‪ ‬ومن مزايا مجتمع (الالإكراه) الحقوق الديموقراطية من حرية االعتقاد والتعبير واالجتماع عليه س لمياً‪ ،‬وحين ال‬
‫تتحرك المظاهرات في عواصم بعينها فسببها وباء العنف من جماهير غير منضبطة‪ ،‬وقيادات سياسية مرعوبة‪ .‬‬
‫يجب أن نبني مجتمعا ً نسمح فيه للجميع بالتعبير واالجتماع والنشاط والدعاية لما يعتقدون؛ فال خوف من التفكير‪،‬‬
‫ُخون المخالف في الرأي‪ ،‬وأخيراً وهو االهم أن ال يستباح دم االنس ان من‬‫وال حدود للبحث العلمي‪ ،‬وال يُك َّفر أو ي َّ‬
‫أجل آرائه اعتناقا ً وتغييراً‪ ،‬كما هي في الفضيحة التي تبناها فقهاء العصر المملوكي بقتل المرت د‪ ،‬ولم يقت ل الن بي‬
‫مرتدا‪ ،‬بل حصل العكس‪.‬‬
‫نحن نقرأ من التاريخ أن الحجاج بن يوسف الثقفي العسكري نحر سعيد بن جبير وهو يقول ما اسمك؟‪ ‬‬
‫يجيب سعيد بن جبير‪.‬‬
‫يقول الحجاج بل اسمك شقي بن كسير!‬
‫يقول سعيد أبي كان اعلم باسمي منك‪ .‬‬
‫يعقب الحجاج شقيت أنت وأبوك!‬
‫يعلق سعيد‪ :‬الغيب يعلمه ربي عالم الغيوب‪ .‬‬
‫يختم الحجاج كالمه ‪ ‬ألدخلنك نارا تتلظى‪ ،‬فيجيبه سعيد وهو يشخب في دمه‪ :‬لو علمت أن هذا لك ما اتخذت إله ا‬
‫غيرك‪.‬‬
‫يموت الحجاج بعد موت سعيد بأيام والكوابيس تنتابه بالليل فيصرخ مالي ولسعيد!‬
‫‪ ‬فهذه ‪ ‬قواعد مفصلية في بناء مستقبل عربي رشيد‪ ،‬ولنتفق على شيء واحد‪ :‬يمن ع رف ع الس الح واس تخدام الق وة‬
‫لفرض اآلراء دخوال وخروجا ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‪ .‬وليرتد من ش ار ولي ؤمن من يخت ار‪ ،‬فه ذا ه و‬
‫اإليمان والسالمة والعقل والديموقراطية‪.‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪33‬‬

You might also like