Professional Documents
Culture Documents
كيلوجراما
دخل إلى العيادة يشكو من الدوالي؟ وعند الفحص تبين أن المشكلة هي في أمواج الشحم التي اعتلت البدن في كل
اتجاه ،فلم يبق للبدن شكل هندسي ،بل تداخل الطول مع العرض ،والسطح مع الحجم ،وبالوزن تبين أن المريض
يزن 130كيلو جراما؟! وأحيانا (يطبش) الميزان فيئن من فرط الثقل ويكاد أن ينكسر؟ قال الطبيب للمريض :
نعم أنت مريض ،ولكن ليس بالدوالي بل بفرط الوزن؟ هز رأسه مثل كل البدناء وقال ولكن ال آكل شيئا ً ؟
والحقيقة أنه يأكل كل شيء؟ وبدراسة البدانة تبين أنها تخضع لقانون حوض الماء ،بين ماء يتسرب وماء
يتجمع ،فأيهما غلب مال الجسم معه كيف مال.
ومن فرنسا أرسل لي صديق عزيز عن رجل مبدع ،أنه مات من القمه العصبي ،Anorexiaوهو مرض
مقابل للبدانة ،يموت فيه المريض ليس انتفاخا بل انكماشا؟ ففي الوقت الذي يدخل البدين الكمية الهائلة من
الطعام ،طعاما فوق الطعام ،فإن الثاني يتقيأ الطعام وال يستسيغه ،وهما صورتان تحكيان اإلفراط والتفريط
البيولوجي.ومشكلة البدانة ليست في الغذاء واالنتفاخ؛ بل المرض؛ فمن أصيب بالسمنة أصيب بثالثة عشر لونا
من األمراض :بين سكري وضغط ،وزرقة عين ونكس مفاصل ،وتشحم قلب واعتالل كلية ،وقلة حركة ونقص
بركة ،وبواسير والتهاب معثكلة ،وحصيات مرارة وضيق نفس ،فضال عن مضاعفات كل هذه األمراض،
فالسكري يقود للفشل الكلوي وغشاوة الرؤية وضعف االنتصاب؛ فيفقد ثالثة؛ جسما ال ينظف على مدار الساعة،
وخسارة متعة جنسية دون حدود ،وفقد بصر ال يعوضه كل شيء؛ فهذه كلها من بالء البدانة ومصيبة التشحم
وفرط السمنة علة فوق علة..
وهي بالنسبة للمرأة رأس كل كارثة ؛ فبعد التشوه وتدلي األطراف ومقابض الشحم من كل مكان ،تفقد رشاقتها
وحيويتها ونضارتها وجمالها الذي تتميز به ،وهو السبب -وهللا أعلم -خلف محاولة الرجل تجديد الزواج
وزوغان عينه للخارج؛ هكذا روت لي سيدة فضلى عن أسرار التعدد والطالق؛ فمع بدانة المرأة يذهب الجمال
والحركة والبركة إلى غير رجعة ..ما لم تتب وتمارس الرياضة والنحافة الصحية والعناية بالجمال والدالل
واألناقة طبقا عن طبق!!..
والنحافة يجب أال تصل إلى درجة عارضات األزياء المريضات ،بل االعتدال كما وصف الرب فقال" :وكلوا
واشربوا وال تسرفوا إنه ال يحب المسرفين".وهذا يعني كما جاء في الحديث أننا قوم ال نأكل حتى نجوع ،وإذا
أكلنا ما شبعنا ،والكافر يأكل في سبعة أمعاء ،والمؤمن يأكل في معي واحد ،وراحة البدن من قلة الطعام ،كما
كانت راحة القلب من قلة اآلثام ،ونبي الرحمة كان يجوع يوما ويشبع يوما كي يكون عبدا شكورا ،ويربط
الحجر على بطنه ،ويمر على أهله فإن لم يجد طعاما صام!!وكثرة إدخال الطعام 8على الطعام تذهب بشهيته
والتمتع به.
والرشاقة والنحافة دليال الصحة والعافية ،ومنهما يميل الرجال إلى هذا اللون من النساء ،ويكرهون البدينات في
العموم ،بل هما أحد أسباب الطالق ،وانقالب مخدع الزوجية إلى روتين ممل وطالق صامت ،والنفرة من
الممارسة الجنسية ،وهي الغراء الالصق في الحياة الزوجية ،فكان على النساء االنتباه إلى هذه والمحافظة على
أجسادهن بعافية ورشاقة ونحافة ،وهو تحد ليس مستحيال وال يحتاج إال إلى شيء من االستنفار واالنتباه ..وهذا
ال يعني أنه كل شيء فالزواج سكينة وتفاهم ولكنه عنصر مهم.وقد ال يصدق المرء حين نروي له مشكالت
1
االختالطات الجراحية عند البدناء ،وسماكة طبقة الشحم في الجراحة ،وكيف تصبح الجراحة متعة على أجسام
الرشيقين من نساء ورجال؛ كل ذلك بسبب طبقة الشحم المغطية للجسم بين بدين ورشيق؟
وأنا شخصيا مع هذا أحب الناس إلى قلبي رجل بدين ،وأحب أن يتخلص من البدانة ،ولكن دون جدوى ..وكما
يقول نيتشه :اصل نفسك حربا ال هوادة فيها ..وهو ما قلته لمريض مصاب بالسكري فقد بصره واسودت رجله
وبدأت معه رحلة الفشل الكلوي؛ قلت له :عندك عدو في بدنك فأعلن الحرب عليه قال من هو؟ قلت السكر
والبدانة وقلة الحركة" ..وإال تنفروا يعذبكم عذابا أليما" "وانفروا ثبات أو انفروا جميعا" "وانفروا خفافا وثقاال"
"ولوال نفر طائفة" فكل هذه المرادفات من استنهاض اإلرادة للحركة ..والمثل األلماني يقول :العمل يهب
الصحة ..ولذلك خلقنا فالعبادة هي العمل ..وبالموت نستريح ..فال يمسنا نصب ولغوب..
إن هذا العالم الذي نعيش فيه ليس في وضع ثابت بل يتمدد دون توقف مثل القربة التي تنفخها قوة مجهولة دون
كلل وملل .وبذلك انقلبت صورة العالم فيما يشبه ثورة كوبرنيكوس ثانية .فلم تعد الكرة األرضية أو النظام
الشمسي أو حتى مجرتنا درب التبانة في مكانها ،بل تحولنا إلى نقط على ظهر بالونة تتباعد عن بعضها
وبتسارع ،فكلما تباعدنا ازدادت سرعة التوسع وكل في فلك يسبحون .واليوم وبواسطة البالونات التي تسبح في
الملكوت األعلى أصبح باإلمكان رؤية الكون ودراسة اإلشعاع األساسي الخلفي للكون على صورة نقية بما ال
يقارن مع الطرق القديمة ،وقد حصل العلماء على أرقام دقيقة جداً للغبار الكوني وكمية اإلشعاع ومقدار التوسع
وكانت النتيجة بحجم الصدمة للكثيرين.
ويرى (ماتياس بارتلمان )Mathias Bartelmanمن معهد (جارشنج )Garchingاأللماني للفيزياء الكونية،
أن هذه القياسات أعطتنا فكرة عن كثافة المادة ومقدار تحدب الكون .ونتيجة الدراسات أثبتت أمورا مهمة:
(أوال) أن الكون ليس فيه من المادة كما كان يعتقد.
(ثانياً) وبواسطة تركيز المادة يعرف مصير الكون إلى أين يمضي؟ هل سيعاني انكماشا ويرجع ليدخل مرحلة
انخماص عظيم مقابل االنفجار العظيم الذي بدأه؟ أم أن الكون سوف يمتد إلى الالنهاية؟
والنتيجة التي حملتها قياسات البالونات من طبقة االستراتوسفير كما يقول (بارتلمان) أن الكون أخف بكثير مما
كنا نظن ،وكمية المادة أقل من المتوقع .وعند هذه النقطة ندخل إشكالية جديدة فالحسابات القديمة للكون وكمية
الجاذبية توحي بوجود مادة أكثر مما كشفت عنه البالونات وهو يعني وجود مادة غير مرئية .وبذلك وصل
العلماء إلى شيء جديد في المادة هو ليس (مضاد المادة) بل (المادة المظلمة) وهي تشكل معظم كتلة الكون،
وتزيد على %90من بنائه ،وتشكل عموده الفقري ،وهي التي تمسك السموات واألرض أن تزوال .وهي
الورطة التي وقع فيها آينشتاين في معادالته حينما قرر أن الكون ثابت ال يتمدد مع أن معادالته كانت تقول له إن
الكون يتوسع؛ فقام بإدخال (الثابت الكوني) على المعادالت كي يحول الكون إلى وضع جامد .وهذا يعني مع
وجود المادة المعتمة أن كل ما يلتمع فوق رؤوسنا في الليلة الصافية ال تزيد عن القشطة التي توضع فوق طبق
الكاتو؟
2
ـ المادة التي تشكل أجسامنا.
ـ ومضاد المادة مقلوبة الشحنة ،ومن المفروض أن تكون موزعة بالتعادل مع المادة العادية .ولكن اجتماعها مع
المادة العادية يفضي إلى انفجار مروع وتحرر خرافي للطاقة ودمار كامل لكليهما.
ـ والثالثة (المادة المعتمة) ،التي حار العلماء في تصنيف طبيعتها الغريبة.
ومع اكتشاف المادة المعتمة غير المرئية برز السؤال مرة أخرى هل تكفي مع المادة المرئية لفرملة التوسع
وإيقاف التمدد؟ والجواب :ال .والمفاجأة المذهلة هي الكشف عن قوة جديدة هي (مضادة للجاذبية) تعمل على
توسع الكون إلى مداه األقصى هي أقوى من الجاذبية بمرتين .وبذلك بت في مصير الكون دون عودة.
كشف العلم إذن عن حقيقتين:
ـ توسع الكون إلى الالنهاية.
ـ وموت الكون بعد عمر طويل نحن نعيش في الساعة األولى منه.
في مثل هذه التحديات الكونية يسقط أعظم العباقرة بأفدح األخطاء ،وهكذا بدأ التشقق يظهر على النسبية .ونفس
آينشتاين اعتبر نفسه (حمارا) على حد تعبيره حينما لجم معادالته في توسع الكون .ويرى العلماء أن تمدد الكون
كان أسرع من الضوء في اللحظات األولى من تشكل الكون .ويأتي الفيزيائي (نيميتس) من (كولن) في ألمانيا
ليقول إنه حقق ما هو أسرع من الضوء بخمس مرات ،مما يهدم حجر الزاوية في النسبية التي تقول ليس هناك
من ثابت في الكون سوى سرعة الضوء .أو بتعبير القرآن كلمح البصر أو هو أقرب .فهناك لمح البصر وهناك
ما هو أقرب منه .ولن نستطيع استعمار المجرة واالستقرار على ظهر كواكب صالحة للحياة قدرت بخمسين
مليونا في مجرتنا ما لم نكسر حاجز سرعة الضوء.
في األول من كانون الثاني (يناير) عام 1901جاء في افتتاحية جريدة "شيكاغو تريبيون" Chicago
" Ttibuneأن القرن العشرين سيكون قرن اإلنسانية واألخوة لكل البشر وسيفوق في عظمته كل اكتشافات العلم
وانتصارات الفن التي سبقته" والذي ظهر أن القرن العشرين كان قرن الحروب العالمية واألوبئة مثل إنفلونزا
،1918التي قضت في أربعة أشهر على البشر أكثر مما قضت الحرب العالمية على الجنود في أربع سنوات.
وفرخت العنصرية والنازية والفاشية والديكتاتوريات العسكرية باالنقالبات .وفيه ولد حق الفيتو مثل أي كائن
مشوه ال يصلح لحل مشكالت العالم سوى خدمة نادي األقوياء .ويتفق العديد من المفكرين مثل المؤرخ ايرك
هوبسباوم Eric Hobsbawmمن جامعة لندن والفيلسوف نوربرت بولتس Norbert Bolzمن جامعة إيسن
من ألمانيا وعالم التاريخ رولف بيتر زيفرليه Rolf Peter Sieferleمن جامعة برلين على أن القرن الحالي
أفضل ما يوصف به إنه :
"قرن تزداد فيه الفوضى ويتناقص فيه النظام" ،وأنه على حد قول هوبسباوم كما في كتابه الشهير (عصر
التطرف) "أنه ال يوجد أي قوة عظمى بما فيها الواليات المتحدة أن تسيطر وتنظم العالم ،وأن الكون في فوضى
عارمة".وهو بذلك يولد والدة جديدة ال يتجرأ أحد على التنبؤ بها فقد علمنا التاريخ مصير مسيلمة الكذاب.
لقد كتب األمريكي ادوارد بيالمي Edward Bellamyعام 1888م قصته المثالية بعنوان (العالم عام
3
2000م) .توقع أن يكون العالم" :خاليا من الطبقات تعمه األخوة ،بدون سيارات وطائرات وقنابل نووية ،يساق
للناس رزقهم عبر شبكة هائلة من األنابيب بالعشي واإلبكار" .واليوم بعد مرور أكثر من قرن على أحالم الكاتب
بيالمي نعرف أنها ال تزيد على هلوسة.
وأهمية معرفة المرحلة التي تمر فيها األمة العربية ومؤشرات المستقبل تأتي من أهمية التاريخ العام للجنس
البشري وتطوره.وعالم االجتماع مانويل كاستلز Manuel Castellsمن جامعة كاليفورنيا في بيركلين مثال
عنده رأي حول تطورات العالم؛ فهو يرى أنه يتحول إلى مجتمع جديد إلكتروني من يدخل فيه على شبكة
المعلومات أنتمى إليه ،وأما الجاهلون فمصيرهم االنسحاق في ثقب أسود .وأن العالم اإللكتروني سيكون حكراً
على المتعلمين بتفوق..
ويذهب إلى ما ذهب إليه آندي جروف Andi Groveمن رواد شركة إنتيل للميكروشيبس أن قفزة عصر
اإلنترنت تضاهي الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر ،وأن بنية المجتمع سوف تتغير كلية تتراجع فيه سطوة
الدولة والمخابرات فيفلت من قبضتها تدفق المال وتيار المعلومات في ضربة موجعة .وحيث اإلنترنت ال يوجد
مسافات ومن كان خارجه كانت المسافات النهاية لها .وأنه عصر المرأة وأنه التحول األعمق للمجتمع اإلنساني
بنشوء وعي نسائي مستقل وهو غير قابل لالرتداد .وأن من يقود العالم لم يعودوا رؤساء الدول بل ربابنة بحر
اإلنترنت .وأن العالم سيعاني من ظاهرة االستقطاب Polarizationحيث يتحول إلى بنية مركبة من نواة فعالة
للغاية تمثل 30في المائة من الجنس البشري في يدها العلم والمال والتكنولوجيا.وأنه مع عام 2007سيكون
من السعداء الفائزين مليارن من البشر متصلين بعالم الشبكة اإللكترونية ،في الوقت الذي ال يعرف مليار من
البشر وهم 16في المائة من مجموع الجنس البشري تهجئة كلمة (كمبيوتر)؟!
وأسوأ ما سيحدث ليس استعمارا من النوع القديم ،حيث تنهب ثروات الشعوب بل تحول الجاهلين إلى (عالم
رابع) يتم تجاهله ،ألنهم بكل بساطة ليسوا منتجين وال مستهلكين (للمعرفة).
ومع هذا االضطراب الكوني فسوف تنمو األصولية في كل مكان ،من الدينية والعرقية والوطنية .ولسوف تتعاظم
الجريمة المنظمة ،واليوم ينفق على الجريمة 1.5مليون مليون دوالر وهو ما يعادل التجارة األوروبية في عام.
وفي أمريكا يفتتح كل أسبوع سجن جديد يتسع أللف سجين ،وينفق في كاليفورنيا على السجون ما ينفق على
التعليم.وهكذا ففي الوقت الذي دخل العالم القرن العشرين بقدر كبير من التفاؤل بقدر ما يدخل العالم اليوم القرن
الواحد والعشرين بكثير من عدم الثقة.
روى لي أخ فاضل عن تعرض زوجته للنهب والسلب في رابعة النهار في عرض الشارع ،فسلبت حقيبتها
ودفعت إلى األرض ،فانخلع كتفها وكسر عضدها وفقدت أموالها وبطاقاتها المهمة في لحظات! وروى لي أبو
نادر فقال :كانت عائلتي في حفل عائلي فأوصيت السائق تجنب الشوارع الكبيرة وأال يطيلوا المكث؟ وأنا رجل
أعيش في "كامب" مغلق محروس يفتش الناس فيه عند الدخول والخروج أشد من تفتيش النحالت العامالت
الحارسات لخلية النحل .وفي جدة دخلت مجمعا بقصد استئجار فيال فيه فكان الجند واألمن في المداخل يذكر
بحرس القالع ،وهو شيء جيد لمن دخله كان آمنا .وفي القرآن يمن هللا على عباده :أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا
4
ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة هللا يكفرون؟ وصاحب كتاب فخ العولمة توقع انقسام مدن
العالم في النهاية إلى هذا الوضع المأساوي .وانأ دخلت المملكة عام 1983م ونحن اليوم عام 2007م أي أصبح
لي في الممكلة 24سنة وعاصرت والدة جيل جديد كامل ،ورأيت انقالب البلد إلى الحداثة والعصر بسرعة
خرافية ،من طرق يندلق عليها السمن ،وبنايات تناطح السماء ،ومشافي تلمع صرحا ممردا من قوارير ،كما
أشرت إلى مركز الحبيب الطبي في مقالة ،وهو اليوم يبني مشفى رائعا في القصيم .أما مشفى جدة الذي أقامه
الطبيب الفتحي فجنة للناظرين وصرح طبي تفخر به المملكة؟ لقد ذهلت من رؤيته حقا كما ذهلت برؤية مسجد
الحسن 2على حافة األطلنطي في المغرب بسقوف تتحرك وجدران تعج بالنقوش الرائعة وأعمدة من مرمر؟
ولكن مؤشرات الجريمة ارتفعت ،ولم نكن نسمع عن السرقة ونسمعها كل يوم؟ .وكان أحدهم يترك حقائبه
وسيارته ويمضي مفتحة لهم األبواب فيرجع ولم يحدث شيء .وهو إن دل على شيء فهو ما ذكره القرآن عن
خطر البطر فقال :وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فهذه قوانين كونية كمونية تعيد االتزان واالعتدال.
وحاليا وصل مرض السكري في المملكة حد الوباء كما صرحت بذلك قبل فترة وزارة الصحة ونشرته جريدة
"االقتصادية" .واإلدمان يتفشى مثل النار في غابة جافة في صيف قائظ! والنازيون المجرمون كذبوا في كل
شيء إال فقرة صدقوا بها رصعوا بها واجهات معسكرات االعتقال وهي كلمة حق أريد بها باطل فكتبوا :العمل
يهب الصحة .Arbeit macht gesundوفي القرآن أن هللا خلق الجن واإلنس ليعملوا فقال :وما خلقت
الجن واإلنس إال ليعبدون .وهو معنى سألني عنه يوما نصراني في كلية الطب في دمشق قرأ في القرآن ورجع
يقول إن هذه اآلية لم يفهمها ،وهي عمى على البعض .وأعملت النظر فيها حتى شرح هللا صدري لمعناها.
والنفس والجسم يصحان بالعمل ويفسدان ويأسنان بالراحة المتواصلة والكسل .والمفاصل التي ال تتحرك تقسط
وتيبس .آية للمتوسمين .وقصة زميلي عن زوجته التي سلبت وضربت وكسر ذراعها مؤشر خطير الرتفاع حافة
الجريمة .وروى لي آخر عن تعرض سيارته للعدوان وهو في "الكامب" وشتم بأقذع العبارات باللغة اإلنجليزية
على السيارة وشخطت في كل مكان وكسرت عالمات السيارة ونفست الدواليب (الكفرات) ،ولم يتجرأ الرجل
على إخبار الشرطة وإقحامها في الموضوع خوفا من جريمة أكبر .وحين تصل األمور إلى هذا الحد وال يعرف
المجرم خاف كل الناس على أنفسهم .والقرآن يعتبر أن جريمة واحدة تعني استهداف كل المجتمع.ومن قتل
نفسا واحدة قتل الناس جميعا .وفي أي مجتمع أي رجل يعتقل أو يضرب كفا بغير حق أو يهان فليستعد الجميع.
وأذكر أنني تحدثت مع جراح مهم عن هذه الفكرة فتغشى ثيابه وجعل أصابعه في آذانه وخاف على نفسه مغبة
السماع فالخوف ألجم العقول بسالسل ذرعها سبعون ذراعا.
أال ينطبق ما سطر هنا بما يحدث بمجتمعنا الذي نعيشه ليل نهار ,,
في قصة ولدي آدم جاءت كلمة القربان (فقربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من اآلخر) والقربان هنا شكله
حيواني ولم يكن إنسانا ،ولكن القصة تنتهي بكارثة ،عندما يقدم أحد األخوين على قتل أخيه لحل الخالف .وفي
الواقع أن اآليات الست من سورة المائدة مليئة بالترميز عن طريقة عجيبة ،في فك النزاعات البشرية ،بتوقف
5
أحد األطراف عن خوض الصراع ،وتحمل كل اآلالم بما فيها الموت ،دون التورط في النزاع المسلح والقتل.
وهي طريقة ال نستطيع استيعابها قط ،لوال أن القرآن ذكرها باعتزاز لهداية العقل البشري ..وهذه العادة الخبيثة
في التضحية باإلنسان قديمة قدم الجنس البشري ،وكما يقول المؤرخ األمريكي ويل ديورانت في كتابه قصة
الحضارة( :والظاهر أن التضحية باإلنسان قد أخذ بها اإلنسان في كل الشعوب تقريباً ،فقد وجدنا في جزيرة
كارولينا في خليج المكسيك تمثاالً كبيراً معدنيا ً أجوف إلله مكسيكي قديم ،فوجدنا فيه رفات كائنات بشرية ال شك
أنها ماتت بالحرق ،قربانا ً له ،وكلنا يسمع بـ (ملخ) الذي كان الفينيقيون والقرطاجيون وغيرهما من الشعوب
السامية حينا بعد حين يقدمون له القرابين من بني اإلنسان )..اهـ..
وهذا يذكرنا بموقف عمر بن الخطاب أثناء الفتح اإلسالمي لمصر مع العادة التي كانت سائدة هناك ،بتقديم فتاة
سنوياً ،تلقى حية لتماسيح النيل الجائعة المتدفقة مع الطمي من الحبشة والسودان ،بدعوى خصوبته ،وقذفه
بالطمي المناسب ،فلما سأل عمر ـ رضي هللا عنه ـ عما يفعلون تجاه هذه الظاهرة أرسل إليهم رسالة طلب منهم
أن يلقوها في النيل!يقولون إن محتوى الرسالة كان مايلي( :من عبد هللا ـ عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ـ إلى
نيل مصر!! يا نيل إن كنت تجري بسنة هللا فاجر كما كنت تجري ،وإن كنت تجري بسنة الشيطان فال حاجة لنا
بجريانك) وأنقذت فتاة ذلك العام من الموت غرقا ً وافتراسا ،وزالت تلك العادة منذ دخول اإلسالم أرض
مصر.ولعل مصدر فكرة (القربان) هو الخوف من الطبيعة عند اإلنسان البدائي ،الذي لم يستطع تفسير الظواهر
الكونية ،التي أرعبته.
يقول المؤرخ ديورانت في جزئه األول من سفر قصة الحضارة ص 99إن( :الخوف كما قال لو كريشيوس ـ
أول أمهات اآللهة ـ وخصوصا ً الخوف من الموت؛ فقد كانت الحياة البدائية محاطة بمئات األخطار ،وقلما جاءتها
المنية عن طريق الشيخوخة الطبيعية؛ فقبل أن تدب الشيخوخة في األجسام بزمن طويل ،كانت كثرة من الناس
تقضي بعامل من عوامل االعتداء العنيف ،ومن هنا لم يصدق اإلنسان البدائي ،أن الموت ظاهرة طبيعية ،وعزاه
إلى فعل الكائنات الخارقة للطبيعة).ومن جملة اإلشكاليات العقلية للعقل اإلنساني البدائي (الطفلي) تصوره أن
ذبح اإلنسان ورش دمه في األرض وقت البذر يجعل الحصاد أفضل ،ولذا كانت ظاهرة القربان البشري شيئا ً
مكررا في التاريخ ،في محاولة لحل إشكالية عمل الطبيعة وفهمها كيف تتصرف؟ أو في حل إشكالية أضخم من
ذلك ،فال نتصور أن الحرب هي ظاهرة هائلة للقرابين البشرية .عندما نشأت بذور الحرب كمرض كرموسومي
مرافق لوالدة الحضارة اإلنسانية.
أما مبررات التضحية باإلنسان فكانت أمرين :كان األول كما ذكرناه أما الثاني فكان ألكله!! وهو معروف وشائع
باللغة اإلنجليزية تحت (الكانيباليزم)؛ بل ال تزال بعض بقايا القبائل التي أدركها التاريخ المعاصر تمارس هذه
الشعائر ،وهي حقيقة ال نكاد نتصورها ،ولكنها واقعة مسجلة !! فقد جاء في كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت
صفحة 20من الجزء األول أنه "لما مر (بيير لوتي) بجزيرة تاهيتي أخذ رئيس كهل من رؤساء البولينزيين
يشرح له طعامه فقال :إن مذاق الرجل األبيض إذا أحسن شواؤه كمذاق الموز الناضج !! وأما في جزيرة
بريطانيا الجديدة؛ فقد كان اللحم البشري يباع في دكاكين اللحامين ،كما يبيع القصابون اللحم الحيواني اليوم،
وكذلك في بعض جزر سليمان كانوا يسمنون من يقع في أيديهم من الضحايا البشرية ،وخصوصا ً النساء ليولموا
بلحومهن الوالئم كأنهم الخنازير البرية السمينة".
6
لقد تحولت ظاهرة الحرب فأصبحت قربانا هائالً مخيفا ً من نوع جديد ،وكانت إفرازا تاليا لتكون الدولة ،ونمو
الحضارة في فجر التاريخ البشري ،فالدولة نشأت على العنف واحتكرته ،إال أنها وحسب الخط الذي بنيت عليه،
أصيبت بنفس عدوى العنف ،إنما بشكل آخر ،ففي الوقت الذي استطاعت فيه الدولة توفير األمن الداخلي لألفراد،
فقد نقلت العنف إلى مستوى االصطدام مع الدول األخرى ،ويبقى هذا العنف المسيطر عليه ضمن الدولة الواحدة
كامنا تحت الرماد ،حتى ينفجر بأفظع صورة في الحروب األهلية كما يعرف ذلك مؤرخو الحروب األهلية؛ كما
في الحرب األهلية األمريكية حيث مات 660ألف شاب؟ أو اإلسبانية أيام فرانكو فمات أكثر من مليون ،أو
الروسية مع نزوح البالشفة البيض في قسم كامل من الشعب الروسي الذي غادر األرض األم إلى غير عودة .أو
ما حصل في أفغانستان والعراق أو كما شاهدنا في رواندا حيث تم مسح ماليين البشر من خريطة الحياة في مدى
أسابيع قليلة ،أو في سجل العار في البوسنة؟؟!!.
إن فداء إسماعيل ومشروعية األضحية إعالن ضمني للسالم العالمي ،وهللا لن يأكل اللحم ولن يشرب دم
األضحية ،بل النية والتقوى ( :لن ينال هللا لحومها وال دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ).إن مظاهرة الحج الكبرى
هي قمة السلم في االجتماع اإلنساني؛ فليس هناك من مدينة على وجه البسيطة إال ومنها حاج ،قد جاء على
ضامر بشكل أو آخر ليس آخرها طائرة الكونكورد قبل أن تلغى من الطيران ،وقد تكون ضامرات المستقبل
الصواريخ أو القطارات المغناطيسية الطائرة بسرعة 500كم في الساعة؟وكما يجتمع المسلم مع أخيه المسلم،
في حلقات تكبر بشكل متصاعد ،بدءاً من حلقة الحي في المسجد ومروراً بصالة أهل البلد الواحد معا ً خارج
البلدة في صالة العيد ،فإن الحج األكبر هو اللقاء الكوني األعظم ،ولذا ناسبه خطاب عالمي ،ومن أهم خطاباته
إعالن السالم العالمي..
إن جوهر الحج ال يدركه كثير من المسلمين الذين يحرصون على تأديته ،حيث يجب أن يحقق الحد بهذه المعاني
الضخمة ،التي كرسها لتكون ينابيع للشحن الروحي السنوي لكل العالم اإلسالمي الذي هو في غاية الضعف اليوم
فأوالده منه يفرون؟ يجب أن نعلم أن ظاهرة الحج كانت أيضا ً قبل بعثة الرسول ـ صلى هللا عليه وسلم ـ وأن
إبراهيم عليه السالم دشنها قبل أربعة آالف سنة ،بل إن القرآن يشير إلى أنه أول بيت وضع للناس ،فوجوده منذ
أمد طويل ،وكان (حراماً) أي يحرم فيه قتل اإلنسان) .ولتأكيد أهداف هذا الحج حرص اإلسالم على تشريع
حصانة (األشهر الحرم) ألن البشر كانوا من قبلها يتخطفون؟ (ويتخطف الناس من حولهم)..فهذه البقعة هي
مكان شحن روح العالم كله بروح السالم والتوقف عن التضحية باإلنسان ،أو جعله قربانا ً ألي شكل من أشكال
أوهام القوة آللهة كاذبة ،وأصنام زائفة ،ودعاوى باطلة تحت شعارات ال تنتهي وطروحات ال تتوقف.إن هذا
المعنى الضخم يحتاج إليه العالم اليوم ،والعالم العربي بشكل خاص ،بعد أن تحولت أوضاع العالم العربي إلى ما
يشبه الحرب األهلية المبطنة والظاهرة في كل مكان ،التي هي وباء عام في الثقافة العربية ..لذا فنحن نحتاج في
العالم العربي إلى إعالن ميثاق األمن واألمان االجتماعي لإلنسان الذي يعيش فيه حاكما ً أو محكوما ً من أجل
إعادة الحوار ألطراف الوجود االجتماعي.
لعل أفضل من يحس بمتعة العيد هم األطفال .وما زلت أتذكر بهجة العيد قبل أن يأتي وحزننا النقضائه .قبل
7
العيد كانت التحضيرات تبدأ بشراء الحذاء وتفصيل البدلة الجديدة .وكانت والدتي تهيئ لنا طعاما ً خاصا ً ليوم
العيد ،يتكون في العادة من صدر خروف محشي بالرز .وكانت أول زيارة لي إلى بيت جدي من أجل تحصيل
العيدية ،وكانت حصة كل واحد ليرة فضية كبيرة ،وكانت تفعل الشيء الكثير تلك األيام .كانت الباصات تقلنا إلى
نزهة قصيرة بدراهم قليلة من أجزاء الليرة الفضية .وأعترف أن بعض الرحالت كانت غير ودية ألطفال اليهود،
وكنا نهتف ضدهم ،بل نوجه مسدساتنا عليهم؟ فالجو الحربي كان حاميا تلك األيام واليوم أتعجب من تبدل األيام
واألحوال وأين وصلت قضية فلسطين حينما تتقاتل فتح وحماس بكل حماس؟كنا نأخذ الصور غير الملونة ،أما
تناول الثلج المجروش مع إضافة الشراب الحلو عليه فكان بقروش قليلة .أما ركوب الحنطور وهو العربة
السوداء التي تجرها الخيل فكانت فخمة ركوبها بربع ليرة .كنا نقضي وقتا ممتعا ً بين تصيد العيديات من األهل،
واالنطالق إلى ساحة اللعب ،حيث الجو كله مزين ،وهو في المملكة ليس بهذا االتساع واالنطالق لألطفال .كانت
المدينة كلها تتحول إلى عرس جماعي بهيج .نسمع فيه صوت الفرقعات ،والكل يلبس الجديد ويأكل اللذيذ .وكنا
نستمتع أخيرا بأن الوالد جاء بدون أن يذهب للعمل ،وكان يحز في نفوسنا أن يرجع للعمل قبل أن ينتهي العيد؟
كنا نريده معنا محتفالً مثلنا في كل أيام العيد وهو كان حريصا ً على فتح محله قبل أن ينتهي العيد .كان أعمامي
يزوروننا ونحن ندور حولهم ننتظر أن ينفحونا بالهدايا ،وكانت أعطياتهم غاية في الكرم ،ألطفال يمسكون عشر
ليرات بينهم ،يتقاسمونها بلهفة لينطلقوا إلى عالم البراءة واللعب واالنطالق والصراحة والتسابق في الكالم دون
تقية ومجاملة .لماذا نتذكر الطفولة بمتعة؟ ألنها تذكر بالعودة إلى جنة البراءة.
عدت إلى مدينتي بعد غياب 17سنة ذهبت أتحرى أماكن الطفولة قبل كل شيء .كان كل شيء قد تبدل وتحولت
إلى أبنية أسمنتية قميئة ،ليس في جمال ما كان من بساطة .هل حقا كانت البيوت القديمة أجمل وهي المبنية
بالتراب .كانت السماء أشد زرقة والهواء أنعم وألطف .كان الطعام أكثر متعة ولذة .كانت البقالوة التي يحضرها
الوالد من حلب شهية إلى درجة ال تصدق .وعندما اقتربت من الحارة التي كان فيها جدي لم تصدق عيناي بدأت
أتذكر الشوارع كانت أعرض وأفسح وأنا أمشي مع القمر ليال وأتعجب كيف ال يتركني؟ هذه المرة بدت لي قذرة
وضيقة .وكانت لحظة الحزن حينما وصلت إلى بناء لم يبق من البيت شيئا..لقد تبدل كل شيء تماما .أغمضت
عيني وبدأت أتخيل األماكن والبيوت والعائالت التي كانت تستأجر في بيت جدي القديم .وأعدها بيتا ً بيتاً...
لطيفة ..سكينة ...طبو ..القطة ..شجرة التوت ..عزمي الدركي ..وردة األرمنية الخياطة ..خالي طلعت ..غرفة
حكو (حكمت الجبار) ..مضافة خالي يونس الطياوي .وعندما فتحت عيني رأيت عالما ً آخر .لقد انهدم كل العالم
القديم .دمعت عيني .إن الطفولة جميلة وعذبة ليتها تعود! أحيانا ً يستولي علي شعور مستغرق؛ فيمر شريط كامل
من الذكريات ،ال أستيقظ منه سوى فتح عيني ،ورؤية الواقع الذي يصدمني ،والذي ليس في بهجة أيام العيد
القديم .إنها أيام العيد الخوالي فهل عدت بذلك الجمال والبهجة أم موعدنا في الجنة .
سألت ابنتي بشرى وأنا أحب أن أسمع ممن هو أصغر مني :في تقديرك لماذا يكذب اإلنسان؟ قالت :ألنه يخاف
من قول الحقيقة .قلت لها فإذا تحول إلى عادة؟ قالت :إنه مرض .سألت ثالثاً :فإذا استخدم الكذب في األذية؟
قالت :هو الطامة الكبرى .سألتها رابعاً :ولكن هناك بعض الكذابين ممن نجحوا في الحياة فكيف تفسرين ذلك؟
قالت :إنه مجتمع مريض تستطيع الجراثيم أن تجد لها فيه مكاناً ،وال يوجد من قوة الجهاز المناعي ،ما يستطيع
أن يقضي على أمثال هذه الحشرات.
8
ولم يكن سؤالي البنتي من فراغ فقد مر علي أناس من هذا الطراز .وأعجب ما أتعجب منه هو كيفية تسلل
هؤالء الناس إلى مراكز خطيرة يؤثرون فيها في قرارات مصيرية مثل السياسيين والجنراالت وأصحاب المهن
الحساسة .وبين يدي كتاب جميل عن فلسفة الكذب تأليف وجمع مهدي عالم كتبه قبل أكثر من ستين عاماً ،وهو
يذكرنا بذلك الجو الجميل والمنتج والمبدع في مصر في الثالثينيات واألربعينيات من القرن الماضي ،حين
نشطت حركة الترجمة والنشر والتأليف ،واليوم نبحث عبثا عن أمثال هذه الكتب النادرة فال نجدها .وينطبق هذا
أيضا على األفالم الهادفة .وأنا أبحث اآلن عبثا عن كتاب معالم تاريخ اإلنسانية لـ ويلز فال أجده .والمصيبة أن
هذه الكتب فقدت وال يعاد طباعتها .وأعود إلى فلسفة الكذب ومعالجة هذه الظاهرة من وجهة نظر علماء
النفس ،فالطفل ينشأ على الصدق ..
وينقل عن ولتون :أن حب الحق لذاته لهو الزهرة الجميلة التي تينع من شجرة غريزة حب االستطالع ،أما نماؤها
فطبيعي :أن يكون متدرجا ويعلن هذا االستعداد عن نفسه أوالً باحترام :الدقة في التعبير ثم بالتعطش للشرح
والبيان.ويرى( :عالم) أن الطفل يميل بطبيعته إلى تقرير الحقيقة ألن قول الحق محاكاة وتقليد .ولكن هذه النزعة
الفطرية عند الطفل هشة ويمكن أن تتفتت بسهولة مثل سطح الغدير الذي يتشوه بأقل هواء .ولذا قالت العرب أكذب
من صبي .بسبب اختالطها بالمبالغة .ولكن ما هو سبب الكذب؟ يرى علماء النفس أن سببه ثالثة :الخيال والخوف
والرغبة .ونموذج األول الطفلة التي زعمت رؤية النبي وهو نوع من لعب األطفال عندما ينمو عنده الخيال .وهو
بريء .أما كذب الخوف فهو أعظم خطراً وأسوأ عاقبة ،مثل الطبيب الذي يسأل الممرضة أو مساعده عن حالة
المريض فتقول إنه بخير؟ ثم يكتشف ارتفاع الحرارة وارتفاع مستوى سكر الدم وتسرع ضربات القلب،
والممرضة تقصد إسعاده بنقل األخبار الجيدة من حيث ضرر :المريض والحقيقة .وفي هذا النوع من الكذب يجب
أال نعالجه بأسلوب المحققين الذي يدفع لمزيد من الكذب للحماية ..والعقوبة هنا هي معالجة الداء بالداء ،والخوف
الجديد يعضد القديم بهجومه على حرم الحقيقة .وأفضل معالجة له هي الوسط :بين الحزم واالعتدال ،مثل تنمية
الفضائل عنده من الشجاعة واالعتداد بالنفس؛ فالفضائل يساند بعضها :البعض ،كما تعضد الرذائل بعضها..
والمنافقون والمنافقات بعضهم :أولياء بعض يأمرون بالمنكر :وينهون عن المعروف .. :وكما جاء في الحديث أن
الصدق يهدي إلى البر والكذب يقود إلى الفجور.
أما أخبث أنواع الكذب فهو :كذب الرغبة ويقوم :على االحتيال .والفرق بينه وبين كذب الخوف أن باعث األول
الخوف من إعالن الحقيقة ،أما الثاني فهو مبني على خبث الطوية ،وهو سرطان نفسي فظيع برع فيه صاحبه في
خيانة الضمير وتصبح األخالق بذلك مهددة بالذكاء .وهذا الكذب هو الذي وصفه ابن المقفع ،أنه رأس الذنوب؛
فهو يؤسسها :ويتفقدها ويثبتها :ويلونها :بثالثة ألوان من التصرفات :باألمنية والجحود والجدل .تبدأ فيها النفس
باألمنية؛ فإذا انكشف صاحبها قابلها بالجحود :والمكابرة؛ فإن أعياه ختمها بالجدل؛ فخاصم عن الباطل ،ووضع لها
الحجج والمسوغات والمبررات ما يسندها بكل طريق ممكنة شريفة وملعونة غير شريفة؟ ويكون بهذا مسارعا ً في
الضاللة ومكابراً بالفواحش .ومر علي أنا شخصيا رجال من هذا النوع اجتمعت بهم وكان أحدهم مدرسة في
الكذب وموسوعة في حياكة المؤامرات حتى فرق هللا بيني وبين القوم الفاسقين غير مأسوف :عليهم ،وأدعو ربي
أن اليجمعني :بهم في الدنيا واآلخرة في أي مناسبة وزمان ومكان ،إنه سميع الدعاء" ..يا أيها الذين آمنوا اتقوا هللا
وكونوا :مع الصادقين".
ما أقبحها من صفه يتصف بها األنسان ,,فال تكون /تكوني ,,كذابا /كاذبه ,,
ليس هناك أعظم من ضبط النفس ،وال أوخم في العواقب من فقد السيطرة على األعصاب والوقوع في الخطأ .وأنا
شخصيا ً أتذكر نفسي في بعض المواقف فأندم :عليها ،وأراجع نفسي فاكتشف :أن ضبط النفس أسلم عاقبة وأحمد
ذكراً .وأتذكر حتى تعبيرات الوجه مع الغضب ،كيف تذهب بالنضارة ،ويمتقع اللون ويبشع الشكل .وأعلم في
9
الوقت نفسه الفائدة العظمى التي اكتسبتها من التشبع بالروح السالمية .وعندما وصف هللا نبيين بالتتابع هما يحيي
وعيسى عليهما السالم ختم قصة كل واحد بكلمة السالم ثالثية مكررة ،والسالم عليه يوم ولد ويوم :يموت ويوم:
يبعث حياً .وتحية أهل الجنة السالم .ووصف :القرآن بأن كسب القلوب يأتي بالدفع :بالتي هي أحسن؛ فإذا الذي بينك
وبينه عداوة كأنه ولي حميم ،ولكنها :أخالق اليصل إليها اال الذين صبروا ومايلقاها إال ذو حظ عظيم .ويترافق:
انفراط عقد النفس عادة بإظهار أقبح مافي النفس من قذارات ،وتتحرك إلى السطح الغرائز البدائية ،ويعلو الصوت
ويبح الصوت ،وإن أنكر األصوات لصوت الحمير ،ويتحول الوجه إلى قطعة غير محببة ،لو أبصر صاحبها نفسه
في المرآة ،في تلك اللحظة المرة لساءه األمر واستولت :عليه أحزان.
وفي االنفعال يغلو البدن كأنه في جحيم ،وتضطرب أخالط البدن الداخلية فتتلخبط :قاطبة ،ومن هنا كان الهدوء
والسالم دوا ًء ،وكان االنفعال مرضا قاتالً ،يرفع الضغط ،ويدفع الحتشاء القلب ،ويسمم :المزاج ،ويضعف الدماغ،
ويدفع خاليا البدن إلى التحول السرطاني ،ويضع :األعصاب تحت توتر غير عادي ،وتدخل الروح في مستنقع
حقيقي من القاذورات :الروحية والمادية .وأعظم خلق يمكن أن يُمنَحه المرء هو قدرة ضبط النفس ،في مرجل
الغضب ،وضباب الشهوة ،وكسرة الحزن والرعب األعظم .وينقل لنا الطب صورة قاتمة عما يحدث داخل البدن،
عندما ينفعل االنسان ،حيث يستنفر الجسم طاقته االحتياطية للدخول في حالة حرب ،وهذا يعني تسارع النبض،
وارتفاع التوتر ،وضيق الحدقة ،وزيادة العبء على القلب ،وانحباس :المثانة ،وإمساك :األمعاء فتتضرر ،وتعصر:
المعدة عصرا فتتقرح؟ وتتقبض البؤبؤة ،ويزداد :ميل الدم إلى التجلط حتى الينزف،فهو في حالة حرب واقتصاد:
ضار سلبي.وممن أعرف ممن يتمتع بهذه الخصال األخ طالل البياري :الذي كان لي شرف :العمل معه لفترة وكان
في منصب مسؤول :فلم أره لحظة واحدة في أي موقف :منفعالً فعرفت أنها صفة قيادية ،وهذه رسالة لكل من يشغل
منصبا ً حساساً؛ (التنفعل أو روض نفسك على ضبط االنفعال ) وإال اترك مكانك ،ألن تصرفاتك :سوف تنعكس
إلى مصائر :الناس.
في حين أتذكر من منطقة أخرى عملت بها موقفا ً ال أنساه حينما كان أحد المسؤولين مشتبكا ً في خالف مالي مع
ممثلي شركة ...كان وجهه مصفراً ممتقعا ً يحمل كل المعاني السلبية ،ومازالت صورته محفورة في مخيلتي حتى
اليوم .إن القرآن يقص علينا رحلة الوصول إلى مرحلة اإلحسان في ثالثة أمور :القدرة على اإلنفاق مع عسرة
اليد ،وضبط النفس عند االنفعال ،والمغفرة لآلخرين في االساءة .والواقع :إن هذه األمور الثالثة صعبة جداً ،وثقيلة
على النفس؛ فالناس بخيلة في العادة وهي في اليسر فكيف بالعسر؟وهي التعطي مع وجود :فائض المال والمحتاج.
ونحن ننفعل دون مبرر وبأدنى إثارة وتحرش .وأخيراً نحن النعرف أن نغفر لآلخرين بتصرف :أسيء فهمه ويأكل
الحقد قلوبنا .وأذكر :أنا في تاريخي الشخصي :أنه مر علي وقت تألمت فيه من أذية آخر ،ولكن شعور :الغفران غسل
قلبي ،وتطهرت وسامحته دون أن أعلن ذلك ،ورجعت النفس إلى حافة السواء ،بفضل منه وكرم :.وأنا أنام دوما ً
بشكل ممتاز ألن الغل والحسد :والغضب واالنفجار والحقد يقتل صاحبه في النهاية؛ فهي مشاعر سلبية مثل القنابل
الموقوتة تنفجر بصاحبها في النهاية .والكراهية سيف ذو حدين يقتل من كان على الجنبين فليحذر الذين يخالفون
عن أمره أن تصيبهم فتنة أو عذاب أليم؟ هذه المشاعر الجميلة اإليجابية ،يجب أن نزرعها في قلوبنا :وننميها بسماد
الحب ،وضوء :المودة ،وماء المعرفة ،بدون توقف :حتى تصبح شجرة باسقة طلعها هضيم تأوي إليها طيور السماء
10
وفي ظلها يهرب من الحر كل باحث عن الهدوء والنسيم :العليل.إنها مظلة من المشاعر الجميلة نتظلل بها يوم
الظل إال ظله.
ال تغضب ,ال تغضب ,ال تغضب
حرية الفرد
نحن نظن أننا أحرار ولكن هذا وهم ،فأحدنا يولد مقيدا بسالسل ال يتفطن من (الزمن) و(الثقافة) و(التاريخ)
و(البيولوجيا) و(الجغرافيا) و(الفيزياء) .نحن نولد مسجونين بحكم مؤبد في قفص البيولوجيا ،مربوطين إلى
سالسل النسبية للبعد الرابع (الزمن) .أسرى في أغالل الثقافة ،وإكراهات المجتمع المتتالية .نحن خلقناهم وشددنا
أسرهم .ندخل أجسادنا فنتسربل فيها محكومين بالجينات ،تشكل قدرنا من صحة ومرض ،وجمال وتشوه.
و(الجينات) هي الشيفرة السرية للخلق ،تعطينا لون العينين ،وطول القامة ،وقسمات الوجه ،ولحن القول ،كما
تحدد طول العمر ،من خالل ساعة مبرمجة على رنين منبه الموت ،مع كل انقسام كرموسومي .والجينات في
الخاليا هي التي تحدد طول العمر من قصره ،واالستعداد لمرض السكر ،والميل للتسرطن ،وخلل فقر الدم
المنجلي .نحن سجناء عالم بيولوجي بقفل أثقل من نجم نتروني في قدر ال فكاك منه.
علينا أن نتنفس وإال اختنقنا .أن نأكل ونشرب وإال هلكنا .وأن نمارس الجنس ونتزوج فنتكاثر وإال انقرضنا.
يطحننا المرض وتفترسنا الشيخوخة .علينا أن نمشي على األرض بقانون الجاذبية ،فال نستطيع االنتقال بسرعة
الضوء ،في استحالة رباعية يفرضها قانون النسبية باستهالك طاقة النهائية ،وتوقف كامل في مربع الزمن،
وانضغاط الطول إلى الصفر ،وازدياد الكتلة إلى الالنهائية .نحن نرزح تحت ثقل قوانين الفيزياء ،تحكم بقبضتها
على رقابنا ،في أغالل إلى األذقان فهم مقمحون .نحن نأتي إلى الحياة دون إرادتنا ،ونخرج منها دون إرادة
ورغبة ،بعد أن ذقنا حالوتها؛ في نقطة ضعف تسلل منها الجبارون لمسك رقاب العباد؛ فالخوف من فقد الحياة
وخسارة الحرية هو الذي يجعل البشر يخافون الطغاة في التاريخ فيستسلمون ،ومع االستسالم انطفاء الحيوية في
الحياة في مجتمعات الوثنية فيعبدونهم من دون هللا أوثانا مودة بينهم في الحياة الدنيا ويوم القيامة ال ينصرون.
وما يؤمن أكثرهم باهلل إال وهم مشركون.
نحن نولد في (عصر) نعيش ثقافته ،ال نتحكم في وقت المجيء إليه لحظة واحدة تقديما ً وتأخيراً ،تدفعنا يد جبارة
إلى مسرح األحداث؛ فنشارك على خشبة مسرح ،ثم ينتهي دورنا فنمضي وندلف إلى مستودعات النسيان فال
يسمع لنا ركز .اعتبر الفيلسوف الفرنسي (باسكال) أن اإلنسان يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم والالنهاية،
فهو كل شيء إذا قيس بالعدم ،وهو ال شيء إذا قيس بالالنهاية ،وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين؛ فنهاية
األشياء وأصلها يلفهما سر ال سبيل إلى استكناهه ،وهو عاجز عن رؤية العدم الذي خرج منه ،والالنهائي الذي
يغمره .نحن ال نستطيع ركوب آلة الزمن؛ فنعود إلى زمن األنبياء ،كما ال يمكن القفز فوق حاجز الزمن فنعيش
بعد ألف سنة .نحن محكومون بأجل ال فكاك منه ،وزمن نعيشه مفروض علينا ،ال يخترق إال بطريقة واحدة :أن
ندخل الثقوب الدودية فنتجاوز مشكلة الزمن .وهو أمر ال يزيد عن خيال .وما كان خياال يحرض المخيلة ويبقى
خياال حتى التحقق .هكذا تصور دافنشي الطائرة ،وكتب جول فيرن قصة عشرين ألف فرسخ تحت الماء،
ورفض المسيح عليه السالم مملكة بيالطس بقوله :مملكتي ليست من هذا العالم .وكان الرسول صلى هللا عليه
11
وسلم يضرب الحجر في معركة الخندق ويقول فتحت لي األرض ،وهو محاصر مع أصحابه من كل جانب
وزلزلوا زلزاال شديدا
يقول الفيلسوف "لو علم كل إنسان ما يُقال عنه لما بقي في الكون أكثر من أربع أصدقاء"؟؟ في الواقع كلنا يكذب
بقدر ،وأكثر من مرة في اليوم الواحد ،وألكثر من إنسان .وكثير منها بسبب اللغة؛ فنبالغ ونجامل ونكذب ،ونحن
نظن أننا ال نكذب .هذا ما كشفته الدراسات النفسية الحديثة .وهو أمر معروف ومكرر وخاصة على لسان
القيادين والسياسيين .وقامت عالمة النفس (بيال ديبوال) بتجربة مثيرة في عرض لوحتين؛ األولى سريالية،
والثانية بيضاء ،ولكن أرضيتها عليها نقوش نجمات ،ثم عرضت اللوحتين على العديد من الناس ،لترى
التعليقات؛ فكانت مشبعة بالمرارة والتهكم؟!! ثم فاجأت الحضور بأن دخلت سيدة على ظهرها حقيبة ،وادعت
أنها من رسمت اللوحة السريالية؟ كما دخل شاب يدعى (جاك) فأخبر أن اللوحة البيضاء هي من صنع يديه،
وهو يريد بحرص أن يسمع تعليقاتهم على ما أنجزته يداه في أسابيع طويلة من العمل؟! فانقلب القوم على
رؤوسهم وقالوا ما أجملها! ولقد أبدعت فيها؟؟أما للمرأة فقالوا إنها لوحة تأخذ باأللباب ،وأنها ساحرة ومسيطرة
ومؤثرة.
وأعترف شخصيا أنني دخلت متحفا في أوتوا يوما فرأيت لوحة مألت الجدار ليس فيها سوى ثالثة ألوان مثل
العلم األلماني والناس يحملقون فيها مثل المجانين؟ فقلت البنتي إنني ال أريد أن أضحك على نفسي فلم تعجبني؟
ولكن لو واجهتني صاحبتها هل كنت سأكرر نفس جملتي أم أسكت أم أقول الحقيقة الموجعة أم أجامل؟؟ إنه
سؤال محرج؟؟ وهكذا فنحن في موجة المجاملة ننافق ونكذب ،وال نقول الحقيقة في وجه صاحبها .والحقيقة
مؤلمة في العادة .واألعور ال يقال له أيها األعور ،بل يقال إن عينه كريمة؟! وهي ليست كريمة بل مصيبة؟
وقام (بول أكمن) بدراسة أقنعة الوجه وتفاعل العضالت مع التعبيرات؛ فوجد أن أجرأ الناس على الكذب هو من
يملك تعبيرات وجهه عن الظهور مثل بوتين رجل االستخبارات القديم ذي الوجه الطفولي ؟! وكثير من حكام
العالم القساة مثل ستالين ،وصفت وجوههم أنها قناع جامد مثل التمثال ،وحاكم من األنظمة الثورية قيل عن
وجهه إنه قطعة ثلج تذكر بخوفو وأبي الهول؟ وقامت مدرسة في حضانة األطفال باكتشاف عالم األطفال ،ومتى
يتعلمون الكذب؟ فعرفت أن الطفل في سن الثالثة ،ال يفرق كثيرا بين نفسه واآلخرين ،وفي السن الرابعة يبدأ في
التمييز ،بأن فالنا أخذ من فالن ،ولكنه يحتاج إلى تمييز الخداع والكذب إلى الوصول إلى سن السادسة
والسابعة؟!
وفي تجارب عالم النفس السويسري (جان بياجييه) اكتشف أن الطفل قبل سنه السابعة ،كما شرح ذلك بيجلز في
كتابه الشيفرة الكونية ص ،27أنه ال يربط بين كمية الماء ومستواه ،فكمية الماء في أنبوب طوالني مثل كمية
الماء في حوجل كبير طالما كان مستوى الماء واحداً؟ ويبدو أن الكذب مفيد أحيانا ً ألنه يقوم على الخدعة إلنقاذ
الحياة .وروت لي سيدة عن جالد ثوري ،أنه كان يعذب ضحاياه ،فإذا سألت زوجته عنه كان جوابه :إنه يأكل
الشوكوالته والعسل وسوف يطلق سراحه قريبا ،والضحية في الفلق وقل أعوذ برب الفلق؟؟ حتى مات الجبار في
لندن خنقا وحصرا وألما بسرطان الرئة يتحسر على شهقة من هواء فال تصله؟؟والمؤمن يسرق ويزني ولكن ال
12
يكذب ألن الكذب نبع كل الشرور ،ورأس كل بلية فإذا استولى فسد اإلنسان بغير أمل في اإلصالح .والغربيون
اعتادوا الصدق من منطلق نفعي بحت ..واسبينوزا الفيلسوف الهولندي قرر في كتاب كامل ،أن األخالق هي
حصيلة خبرة الجنس البشري ،وأن الصدق ينبع من مصدر نفعي بحت ،وأنه األفضل للبشر فهذا هو منبع ومبرر
األخالق؟وأنه يمكن البرهنة على األخالق كما نبرهن على السطوح والخطوط في الرياضيات؛ فكتب كتابه
األخالق مؤيدة بالدليل الهندسي .فيا أيها الذين آمنوا اتقوا هللا وكونوا مع الصادقين ومن الصادقين.
لقد وجد أن الكلية تتكون من مليون كبة! وما هي الكبة؟ أهي كبة شعر؟! ال إنها كبة من شعيرات دموية؛
فالشريان الكلوي يتفرع حتى يصل إلى درجة عظيمة من الدقة والصغر ،وهنا يلتف على نفسه حتى يكون كبة،
ولكن من وعاء دموي صغير ،هو أرفع من الشعرة ،وهذه الكبة يحيط بها غشاء ،هو أشبه بالقربة ،التي تتلقى
السوائل التي ترشح من هذه الكبة ،ومن هذه القربة يمتد أنبوب متعرج ،ثم يشكل عروة صغيرة (عروة هانلة) ثم
يتعرج مرة أخرى حتى يلتقي بأمثاله ،مكونا ً أنبوبا ً كبيراً ،وهكذا تجتمع األنابيب فتكون أنبوبا ً أكبر ،وهكذا حتى
تصب فيما يسمى بالكؤوس الكلوية ،وهي تشبه الخلجان البحرية ،ثم يلقى البول المتكون الراشح في الحويضة،
ثم يمر إلى الحالب فالمثانة فاإلحليل ،ثم إلى الخارج نهائياً.إن األنبوب القريب من الكبة تمتص منه معظم
السوائل المرتشحة ،وهي ما تقارب 85في المائة من كمية السوائل ،والمنطقة التي تقع بعد عروة هانلة تسمى
باألنبوب البعيد ،وهنا يمتص قرابة 14في المائة من السائل الراشح ،واالمتصاص هنا يخضع لهرمون الغدة
النخامية ،ولذا سمي بالهرمون المضاد لإلدرار ،ويتم االمتصاص هنا بشكل فاعل ،أي أن االمتصاص هنا يتعلق
بكمية هذا الهرمون في الدم ،وبكمية الشوارد المعدنية ،والسوائل التي توجد في البدن ،ولكن الشيء المهم هو أن
هذا الهرمون هو الذي يمسك هذه القناة فيصرف سوائلها ،فهو مفتاح التصريف والغلق ،بينما تعد المنطقة القريبة
من الكبة منطقة منفعلة ،يتم االمتصاص فيها بشكل آلي ودون تدخل أحد ،فهي قناة عامة ال يد ألحد فيها.
وحتى نتفهم خطورة هذا العمل الذي يقوم به الهرمون يجب أن نعلم أن كمية الدم المارة في الدقيقة الواحدة هي
1300سم 3أي أن الكلية تقوم بتصفية 1800ليتر من الدم يوميا" ،فأي مصفاة عجيبة هذه ! وهذه المصفاة
تصفي من الدم عشرات العناصر من المعادن والسموم والنفايات والمخلفات والمواد التي تعد حصيلة استقالبات
البدن ،ما يشبه عمل مصلحة النفايات (الزبالة) ،ولذا يعد فحص البول مهما" جدا" لكشف الكثير من األمراض
التي تختص بجهاز البول وبقية األجهزة .إن الدم الذي يمر يرشح منه في تلك القربة السحرية – وتسمى بمحفظة
بومان – مقدار يبلغ 127سم 3في الدقيقة أي ما يعادل 183ليتراً من البول يومياً ،فكيف يمتص ثانية؟ إن
امتصاصه يتم عن طرق األنابيب القريبة ،ثم األنابيب البعيدة ،بواسطة هرمون النخامة المسمى بالهرمون
المضاد اإلدرار ،وهكذا يمتص 181,5ليتر ويطرح 1,5ليتر يوميا ً وهو البول العادي الذي يطرحه كل واحد
منا ،وهكذا يمتص 1100جراما من ملح الطعام و 410جرامات من ثاني فحمات الصوديوم و 150جراما من
سكر العنب ,,وهذا يعني أن سوائل البدن التي تتراكم ما بين الخاليا و تقدر بـ 11ليترا تترشح وتمتص 16
مرة في اليوم الواحد ،أي أن أخالط البدن الداخلية تنقى وتصفى من الكدر والسموم والبقايا والنفايات والمواد
الضارة والزائدة ،والتي ال لزوم لها ،ومحاصيل االستقالب .كلها تنظفها الكلية من الجسد 16مرة في اليوم ،فأي
عناية وأي تصفية عجيبة هذه!! وأي مصلحة جمع القمامات تفعل هذا على مدار الساعة ؟؟
13
اإلنجاز الطبي في ابتكار طرق غسيل الكلية الصناعية؟ وإذا وقعت الواقعة وفقد هذا الهرمون من البدن فماذا
يحدث؟ بول دائم ليالً نهاراً! ويسمى هذا المرض بالبيلة التفهة أي التي ال طعم لها ،لكثرة احتوائها على الماء،
وال تتصور أيها القارئ كم يشرب ويبول هذا المريض يومياً ،فلقد ذكر أحد المصابين أنه بال في يوم واحد 43
ليتراً من البول أي قرابة ثلثي وزنه!! إنه االتزان المحكم ،والدقة الرائعة ،والحكمة المهيمنة ،واإلرادة المدبرة،
فال شيء يقوم بالفوضى أو على الفوضى ،وال شيء يوجد من تلقاء نفسه ،بل يقوم على السنن والنواميس
والقوانين المطردة الدقيقة الرائعة المتزنة ( ...و خلق كل شيء فقدره تقديراً)
إن شدة اإلحساس وضعفه يتوزع في الجسم حسب الوظيفة التي يقوم بها العضو ،فهي في الشفتين واألعضاء
التناسلية أشد ،وفي القرنية وهي بلورة العين األمامية شديدة الحساسية ولأللم بوجه خاص ،ولذا يستخدم المنعكس
القرني لفحص سالمة األعصاب ،حيث تمرر شعرة أمام القرنية فيالحظ إطباق األجفان السريع لحمايتها ،أما
أخمص القدم فهو ضعيف اإلحساس ،بينما أنامل اليدين تمتاز بمنتهى الحساسية ،ألنها مراكز تحسس
الموجودات ،وهكذا يشعر اإلنسان بالبرد والحر حيث تمثل فيه أجراس اإلنذار فيقي نفسه من البرد والحر ،ولوال
هذه الخاصية لهلك اإلنسان من البرد والحر ،ولكنه مع هذا متزن في حرارته ،مهما تقلبت الظروف الجوية التي
تحيط به.
إن الجسيمات الحسية هي أشبه بميزان الحرارة الخارجي الذي يقيس درجة حرارة الجو أو برودته ،ثم يرسل
هذه األخبار عبر نبضات عصبية كالتلغراف وفي ألياف ال يتجاوز قطرها من البوصة وبسرعة تبلغ ()200
ميل في الساعة أو أكثر ،وعندما تصل األنباء إلى مراكز القيادة ،يدرس األمر ويفهم ،ثم ترسل األخبار واألوامر
بمنتهى السرعة إلى العروق الدموية السطحية ،وإلى الغدد العرقية ،حيث يكثر ورود الدم وإفراز العرق،
وبالتالي زيادة اإلشعاع الحراري ،والتبخر المائي ،مما يوازن الحرارة من جهة كما يبرد الجسم من جهة أخرى،
وكل هذا بفضل الماء الذي يتمتع بهذه الخواص ،وهكذا تتزن حرارة الجسم ،ويستقيم أمره ،وتصلح أحواله على
كل نحو .وأما جسيمات اللمس فهي أدق ،فعن طريق تلمس الموجودات تشعر بسطحها الخارجي ،وهكذا يميز
اإلنسان ما بين الناعم والخشن ،واألملس والمجعد ،وباللمس يعرف الشيء الذي تقع يداه عليه ولو كان مغمض
العينين ،وهكذا يميز االنسان بين الورقة ،والقلم ،وقطعة النقود ،والكتاب والطاولة والجدار ،وسائر األشياء
والموجودات ! وهذا هو السر أيضا في تعانق أيدي المحبين ،وحساسية لمس يد المرأة من رجل شغوف؛ فهي
بوابة الدخول لما بعدها.
وقرأت في مجلة P.Mاأللمانية أن أشد مناطق الحساسية في جسم المرأة مناطق الثديين ،وهي بمثابة القلعة عند
المرأة ،إذا دخلها الرجل فقد سقطت قالع الدفاع كما في حروب الرجال.والمستقبالت العصبية هنا تتأثر بشكل
آلي على ما يبدو ،وبذلك تتناسق الحواس مع المحيط الخارجي بشكل بديع ،فالعين مع الضوء ،واألذن مع
الصوت ،وتقوم على القواعد الفيزيائية ،أما الشم والذوق فتعتمد على المستقبالت الكيماوية ،وهذه المستقبالت
آلية.فكيف تنوعت استجابات هذا الكائن البشري الذي حوى من األلغاز واألسرار ما يدهش األلباب (لقد خلقنا
اإلنسان في أحسن تقويم) سورة التين.
علم الدجل
14
كنت عند شاهين الذي يرتب لي الكتب وينسخ ،وهو شاب مصري لطيف ،قال لي :لماذا تعيش لبنان حالة فراغ
بدون رئيس؟ وليس في العالم مكان بدون رئيس إال العصفورية؟ قلت له ألن لبنان تشبه ما وصفه ربنا؟ "ضرب
هللا مثال رجالً فيه شركاء متشاكسون ورجال سلما لرجل هل يستويان مثال الحمد هلل بل أكثرهم ال يعلمون"؟ وأنا
شخصيا أفضل االستشهاد دوما بالقرآن ،فهو يعطيني راحة وصدقا وشرحا مدهشا للحالة النفسية االجتماعية؟
ومما يحضرني من الذكرى حين خرجت من المعتقل في سجن الشيخ حسن ،وبقيت يومها في اإلفرادية 54ليلة
وستة أيام في اإلجماعية فتم ميقات ربي ستين ليلة ،سألني رجل مخابرات ما رأيكم في مهنتنا ؟ قلت له شهد
الرب بكم؟ ذعر وقال الرب شهد فينا؟؟ قلت نعم؟ وماذا قال (سأل مرتاعا)؟ قلت :قال" :إن فرعون وهامان
وجنودهما كانوا خاطئين"؟ وذهب المثل بالقول :كذب المنجمون ولو صدقوا ،ومنجمو الوقت الحاضر هم
السياسيون ،فهم يقربون البعيد ويبعدون القريب فال يعول عليهم .ومن ص ّدق سياسيا فال يلومنّ إال نفسه،
والمسكين فيصل القديم صدق لورنس بدولة عربية من المحيط إلى الخليج فتبين أنها بلفة وشقت المنطقة بسكين
مشترك مثل قطعة إلى انتداب بريطاني فرنسي .ولو انتبه فيصل ،رحمه هللا ،إلى هذه القاعدة ،لقعد في الحجاز
وما قتل أحدا ،وال قتل من العرب عشرات اآلالف ،ودمرت بغداد ودمشق بطيران الحلفاء ،ولما قامت إسرائيل
ولكنها األقدار اإللهية؟
ومن عاش في ظل نظام شمولي فلم يهرب منه فال يلومنّ إال نفسه ،ومن وقع في مشكلة فال يلومنّ إال نفسه.
وهذا ينطبق على العرب الذين يفشلون في كثير من االجتماعات ،فاللوم عليهم وعليهم ال يلوموا أمريكا
وإسرائيل .فهذه ثالث قواعد ذهبية ومريحة في الحياة .وفي يوم طلب جار من جحا استعارة حماره لقضاء
حوائج له ،قال إنه ليس في الزريبة؟؟ ولم يكد جحا ينتهي من كالمه حتى ارتج المكان بنهيق منكر للحمار؟ التفت
الجار إلى جحا وقال ماذا تقول؟ قال جحا أتكذبني وتصدق حمار؟ فهذه القصة تروي دجل السياسيين ،وجحا
أصبح مثالً شعبيا ً رائجا ألنه يعبر بصدق وعفوية عن الواقع.
ومن مدينة القامشلي أذكر قصة حسن مصروع ،والرجل لم يكن مصروعا ،ولكن الناس اتفقوا على إعطائه هذا
اللقب ،ومات الرجل ،رحمه هللا ،فقد دخل يوما ً على القاضي لمظلمة له؛ فأشعل عود ثقاب ،ثم بدأ يبحث تحت
أقدام القاضي؟ قال له عم تبحث؟ قال عن العدالة؟ وعندما يخرج المسؤول السياسي يجهز نفسه أوالً للكذب،
ولكن الصحافة في الغرب تحرج وفي العالم العربي ال تستطيع .وإذاعة لندن وسواها تفعل مثل هذا فهي تروي
الخبر ولكنه بحجم كاريكاتور حسبما يخدم غرض اإلذاعة .والميديا خطيرة فهي تمط األقزام فيصبحون عمالقة.
ويظن من يدير الحوارات في الفضائيات أنه أفهم ممن استقدم من المفكرين وهو مسكين متغاب .وينقل عن
كاترين ديميدتشي اإليطالية التي حكم أوالدها عرش فرنسا ،أنها كانت توجه من حولها إلى الكذب بدقة وحرص
وإصرار ،إلى درجة أن يصدق المرء نفسه ،فمن يكذب وهو مرتج ال يصدقه أحد ،وينكشف كذبه ،ولكن من
يكذب بإصرار وعزيمة يصدقه الكثير .وهي قصة تذكر بقصة أشعب األحمق مع األطفال حينما أراد صرفهم
عنه فكانوا إذا تحرشوا به قال لهم هناك وليمة فيسرع األطفال باتجاه الوليمة وعندما كرر هذا األمر خبط رأسه
بيده وقال مخاطبا ً نفسه يا أشعب ،وما يدريك فلعل وليمة موجودة حقا ً ثم انطلق ال يلوي على شيء باتجاه
الوليمة .وفي كتاب القوة لروبرت غرين تحدث عن علم كامل اسمه التدجيل ،وكيف يخلق اإلنسان طقوسا بخمس
درجات بالحيلة والمكر والكذب.
"والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث ال يخرج إال نكدا كذلك نصرف اآليات لقوم يشكرون".
والدة العبقريات
كان أول تعرفي على مالك بن نبي عام 1971م عندما حضر إلى دمشق ،وكنت جديد التخرج من كلية الطب؛
فترك في نفسي انطباعا ال يزول .وأول مشكلة واجهتنا في زيارته أنه اعتقل في بيت صديق له ـ بكلمة أدق حيل
بينه وبين اجتماعه بالناس ـ بحجة أن اجتماعا بن نبي مع الناس سوف يعرضه لالعتقال؟ ولذا فبدل أن تعتقله
قوات األمن البعثية قام صاحبنا باحتجازه في بيته حتى فك هللا سراحه؛ فاجتمع به الناس كل يوم ولمدة شهر
كامل .وكانت حجة الوداع ،فمات الرجل بعدها بسنتين بنزف دماغي في الجزائر ،وهو في قمة عطائه ،وكنت
يومها في معتقل الحلبوني عند الرفاق ،فرأيت في المنام وكأن شبحه زارني ،بعدها نقل لنا ونحن في ظلمات
الحبس البعثي أن مالك بن نبي مات .رحمه هللا في المجددين
وتذكرني قصة اعتقاله في بيت صديقه الشامي بقصة الشيخ العربي التي رواها لي ابن نبي شخصيا؛ أنه عندما
أرادت جبهة المقاومة توزيع بعض المنشورات ضد االحتالل الفرنسي؛ فقال البعض في جمعية العلماء
الجزائرية :ولكن الفرنسيين سوف يصادرونها؟! قال الشيخ العربي :فلنترك الفرنسيين يصادرونها وليس نحن؟
وهذا ما حصل مع مالك في دمشق ،فقام باعتقاله بدل أن يعتقله البعثيون ؟ والرجل بعد أن خرج على الناس من
محبسه وقفصه الذهبي دعا وشرح وتحدث إلى جمهور عظيم في مدرج جامعة دمشق؛ فلم يعتقل ولم يؤذ .وهذه
القصة تقول إن عقولنا تمشي في متاهات تجربة الفئران.
مالك بن نبي مفكر جزائري ولكن أقل الناس استفادة منه الجزائريون ،فحز األعناق وشق الرؤوس بالفؤوس
أجدى من التفكير .ومزمار الحي ال يطرب .وفي اإلنجيل ال كرامة لنبي بين قومه – .وفي القرآن الكريم" :كذلك
ما أتى الذين من قبلهم من رسول إال قالوا ساحر أو مجنون .أتواصوا به بل هم طاغون" ومالك بن نبي قال إن
المجتمع ال يولد والدة فعلية إال بالتخلص من عالم األشياء واألشخاص إلى عالم األفكار .وهذا يصطدم مع
األصنام المشرعة في الكثير من التكايا والزوايا ،وحسب ابن نبي فإن الطفل ينتقل في العادة بين ثالثة عوالم،
طبقا ً عن طبق ،فهو في البدء ال يفرق بين حلمة الرضاعة وثدي أمه ،أو األفعى ورجل المخابرات ،ثم ينتقل إلى
عالم األشخاص فيعرف أمه من أبيه ،ثم يودع في النهاية المجسمات إلى المجردات ،وكذلك يحصل في
المجتمعات التي تنتقل من عبادة األوثان واألشخاص إلى الفكر.
وبمقدار تحرر المجتمع واألناسي من عبادة األشخاص واألوثان إلى عالم األفكار فهي مؤشر نضج ،وإال كانت
في حالة صبيانية ،وهي الكلمة الصادمة الموجعة التي قالها الرجل في وصفه القيادة البعثية في كارثة 1967م،
التي خسرت وبدأت بالصراخ وهي تستغيث العالم ،ومنها إعالن سقوط الجوالن قبل أن يسقط؟ فتصرفت كما
يتصرف الطفل وهو يواجه المشاكل بالصراخ والبكاء ورفس الرجل على األرض.
قال الرجل هذا الكالم وهو يعرِّ ف مفهوم (الثقافة) ،وإن الطفل يمتص إلى الالوعي مجموعة من المفاهيم ،ترسخ
فيه مجموعة من اآلليات السلوكية على أشكال شتى ،ومنها تصرف القيادة البعثية يومها حذاء األزمة.ولو كانت
القيادة غير بعثية لما اختلفت في كثير عن هذا ،ويومها علل الهزيمة عام 1967م كل من البعثيين واإلسالميين
أن الطرف اآلخر هو السبب في الهزيمة؛ فأما البعثيون فوصفوا فريق المتدينين أنهم رجعيون أسطوريون ،وأما
المتدينون فعزوا الكارثة إلى زندقة حزب البعث الذي خذله هللا ،وأنه اليعز من عاداه وال يذل من وااله .ولكن
الهزيمة كانت لكل الفرقاء ،بل إن فريق المتدينين انهزم أمام البعثيين الذين انهزموا أمام اآللة الصهيونية ،فكانوا
أضعف من البعثيين الذين يصفهم اإلسالميون بالملحدين؟
16
الحسد
أرسلت لي سيدة فاضلة تخاف علي من العين والحسد ،وأمراض النفس كثيرة وكبيرة وخطيرة ،ولعل أول خطيئة
وقع فيها الشيطان هي الحسد واالستكبار .فمن حسد آدم جاءته مصيبة ركب الرأس .ومن ركب رأسه فقد رأسه
ورجليه معا .وهو ما حصل للشيطان فذهب إلى اللعنة األبدية وتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه بالرحمة بعد
االعتراف بالذنب واالستغفار.
والحسد ( حقيقة ) وظف الرب لها سورة كاملة فقال قل أعوذ برب الفلق .وكل منا معرض لعدوى هذا المرض
مثل اإلنفلونزا وقشعريرة الحمى .وكما وجب مكافحة الحمى بخافضات الحرارة والصادات الحيوية ،كذلك وجب
التخلص من الحسد؛ باالستغفار والتوبة ومراجعة النفس قبل يوم الحساب ،ولكن ال يفعل هذا إال الصالحون،
وقليل ما هم .كما ظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب .ويقول المثل ثالث ال عالج لهن :عداوة
يخامرها حسد ،و فقر يمازجه كسل ،و هرم يركبه مرض .
والناجحون يحسدون ،وأصحاب النعمة يحسدون ،والمميزون يحسدون ،لذا قال الكواكبي في كتابه طبائع
االستبداد إن المجتمع المريض يجنح فيه المرء أن يخفي ثالثا :ذهبه ومذهبه وذهابه!ومن حسدني أظنهم كثيرين،
ومن آذاني كثيرون ،ومن اغتابني أكثر ،ومن خاصمني فكريا منهم من أعرف ومنهم من ال أعرف .والكثير
حارب عن جهل وقليل عن عقدة نفسية صعبة الحل .و ( ورقة بن نوفل ) قال للنبي إنه ما جاء أحد بما جئت إال
عودي ،وهذا القانون أي عداوة المختلف متوافرة في كل الملل والنحل ،والمسلمون ليسوا شذوذا عن هذه القاعدة.
وفي األمثال أن عين الحاسد تبلى بالعمى ،وهناك من يؤمن بالعين ،وحدث لي حادثة قربت لي إمكانية هذا
فوجبت قراءة المعوذات والنفخ.وفي ألمانيا رأيت الكثير ممن يضع حدوة حصان على مقدمة سيارته الجديدة دفعا
للعين ،فهي ثقافة عالمية ضد الحسد كما نرى .وروبرت غرين في كتابه ( القوة ) يروى قصة الكاتب مورتن
وكيف انتهى قتال على يد أحب الناس إليه ،فيجب أال نستخف بضراوة الحسد وماذا يمكن أن يفعل.والحسد يأتي
من التميز ،ولم تتميز امرأة أو رجل إال ناله من الحسد شيء كثير ،فوجب على المتميز والمتميزة لبس حلة
التواضع لتخفيف األذى ،واألمر إليه جل وعال ..وهو الذي يصرف السحب والمصائر واألقدار ..واألخت
الفاضلة الخائفة علي من الحسد والعين استفادت هي وأخوات لها من قلمي ،وهو جزائي في الدنيا قبل
اآلخرة.وفي الحديث أن دماء الشهداء توزن مع مداد العلماء ،وأنا أدعو أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين،
وأاليخزني ربي يوم يبعثون ،يوم ال ينفع مال وال بنون إال من أتى هللا بقلب سليم.
القابلية لالستعمار
17
أول مرة سمعت بهذه الفكرة كانت من المفكر الجزائري مالم بن نبي ،وكنا يومها نسمع له في مدرج جامعة
دمشق وهو يتكلم عن مائدة مستديرة عقدت في فرنسا لفهم أبعاد كارثة 67م في حرب الخامس من حزيران
(يونيو) ،فصعقنا وأدركنا أننا مثل فئران التجارب بدون علم منها .قال بن نبي يومها إن أزمة الخامس من
حزيران لم تكن هزيمة عسكرية ،بل أزمة حضارة دلفت إلى ليل التاريخ .وكل كتب بن نبي أخذت هذا العنوان (
سلسلة مشكالت الحضارة ) .ومالك بن نبي كتب باللسانين العربي والفرنسي ،ولكن لم يستفد منه ال العرب وال
الفرنسيون ،إال في رصده ضمن دوائر الصراع الفكري ،كما أشار إلى ذلك في كتابه (الصراع الفكري في البالد
المستعمرة) عن لعبة المرآة .وكتبه التي زادت عن عشرين باللغة العربية ،لم توقظ من العرب عشرين شخصا؟
ولم تزد عن همسة في أذن نائم يشخر؛ فالعرب يريدون كالما ً ال يوقظ نائما ً وال يزعج مستيقظاً.وسبب الشخير
أن العرب مشغولون بقضية فلسطين ،والرجل قال لهم إن مشكلة فلسطين جانبية وعرضية ونتيجة لمرض أكبر
وأعمق وأشد استفحاال وجذرية وخطرا.
هذا المرض هو ( القابلية لالستعمار ) الذي هو انهيار الجهاز المناعي واالستعداد الخفي للمرض .وهو مرض
ثقافي أصاب العالم اإلسالمي برمته ،أكثر منه سياسياً .وحين لم تستعمر اليمن فمرد ذلك للصدفة ..وسورية التي
تحررت يدين ذلك لظروف خارجية أكثر منها قوة داخلية ،وهي والدة إسرائيل .فوجب أن يخرج الفرنسيون من
هناك؟أما التحرر الفعلي فلم يأت بعد وأكبر دليل على ذلك هو العجز المتواصل المتراكم عن حل أبسط القضايا
فضال عن أعقدها .وحسب غاندي ليس المهم من يستعمر ،فقد يكون بريطانيا وقد يكون هندوسيا ،ولكن التخلص
من القابلية لالستعمار وقوة الجهاز المناعي الداخلي عن أي مرض .وحاليا عندنا ألوان من االستبداد الداخلي في
مناطق شتى تحكي قصة الضعف الداخلي ،ويجب رؤية وجود إسرائيل في هذا المنظور .فهي خراج في جسد
عليل؟
وعملية التحرر هي عملية انفصال عن رحم اآلباء كما ينفصل الجنين عن مشيمة األم ،وهو نازف ومؤلم ،وهو
أمر لم يحصل بعد.ويمكن تشبيه االحتالل الخارجي واالستبداد الداخلي مثل االلتهاب والسرطان فاألول واضح
ومؤلم ومعالجته سهلة ،والسرطان خفي غير مؤلم ومعقد المعالجة إلى درجة االستحالة ،وهذا يعني أن مرض
العرب خطير جدا ..ومن هنا كانت أفكار مالك بن نبي صادمة موجعة مدهشة .ومن هنا تعسر مخاض الدخول
إلى المعاصرة ،ومن هنا كان حال العرب مثل الذبابة التي تطن في زجاجة فارغة بدون االهتداء إلى العنق،
وبذلك خسر الرجل جمهوره من الثوريين والقوميين ،حين قال إن مؤشر نهضة األمة هو كثرة الحديث عن النقد
الذاتي والقابلية لالستعمار أكثر من االستعمار ،مما دفع جودت سعيد الذي تابع نهجه في سورية إلى القول" :إن
مالك بن نبي صدمني حين تكلم عن القابلية لالستعمار ألنني كنت ال أسمع وال أقرأ إال إدانة االستعمار والصليبية
والماسونية والصهيونية....إلخ .فكل متكلم في العالم اإلسالمي كان يتكلم عن خبث األعداء وتخطيطاتهم ،ولكن
من الصعب عليهم أن يتكلموا عن القابلية لالستعمار ،بل يتهم من يتكلم عن القابلية لالستعمار أنه في صف
األعداء".
هذا السؤال اشتغل عليه الكثيرون وأنا شخصيا قرأت الكثير من هذه المشاريع.
لقد حاول شحرور مثال في دراسته للقرآن ،أن يكتشف منطق القرآن الخاص ،فاعتمد األدوات اللغوية ،وساعده
في هذا (دك الباب) أستاذ اللغة ،فحاول اللعب بالعديد من المفاهيم ،وجر عليه الكثير من الصداع ،حين صدم
الكثير من المسلمات عند جمهور المسلمين في قضايا ثياب المرأة وشقوق الجسم ،ولكن اللغة كما يقول
فيتجنشتاين الفيلسوف النمساوي لعبة؟
18
وهكذا فعل محمد عنبر أيضا في كتابه جدلية الحرف؛ فزعم أن سر المفاهيم هي في الحرف ،ووضع يده على أن
(الش ّدة) في الكلمة مثل برّ وربّ وج ّر ور ّج وز ّج وج ّز،هي تكرار لحرف واحد في الوسط ،بحيث ينقلب المعنى
تماما من األول لألخير وبالعكس.
وذهب جودت سعيد في تفسيره إلى عالقة النص بالواقع ،أن البشر يختلفون في الكلمات ،ولكنهم اليختلفون في
الكلمة األساسية التي هي الطبيعة ،وهو ينقل في هذا عن إقبال أن مصادر المعرفة هي ليست النصوص بل
الطبيعة والتاريخ.
أما جماعة التفسير الرقمي؛ فقد حولوا القرآن إلى كتاب رياضيات ،وقالوا أيضا أن رقم 19هو سر القرآن ،كما
ذهب شحرور في كتاباته أيضا ،أن األحرف التي تبدأ بها بعض السور يساوي مجموعها (ربما )13اللغة
الكونية التي سينطق بها الكائنات السماوية إن وجدت وتفاهمت..
وهناك جماعة السبعة المثاني أيضا ،أن كل ما في الكون خلفه سر الرقم سبعة؛ بدء من سبعة دوائر الكترونية
تطوق البروتون ،إلى سبع مرات في الطواف ،وسبع طبقات لألرض وطبقات السماء وهكذا..
أما جماعة اإلعجاز العلمي ،فقالوا أن كل آية فيها إعجاز علمي ،وحاولوا تصيد بعض اآليات ،مثل نقص
األكسجين في االرتفاعات ،من آية يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ،ولكنهم مضوا من اآليات
التي يمكن أن يشم الواحد فيها بعضا من اإلثارة ،إلى آيات بعيدة عن اإلعجاز العلمي مسافة سنة ضوئية ،ولكن
الخيال عنده قدرة أن يمشي أسرع من الضوء؟
وفي يوم قرأت لكاتب سوادني من جماعة المعهد العالمي للفكر اإلسالمي كتابة من هذا النوع قرأتها بدقة وتمعن
ولكن لم أعثر فيها على ضالتي.
وفي الواقع البد من االنطالق بمشروع جديد لمنطق القرآن ،وقد حدثني جودت سعيد في يوم عن مشروعه حول
(أجنة قرآنية) و(آيات مفتاحية) مثل آية سورة العنكبوت عن السير في األرض والخلق ،أو اآلية من سورة البقرة
عن قرار خلق آدم وتخوف المالئكة من هذا الكائن المفسد وكيف كان جواب الرب أنه يعلم ما ال يعلم اآلخرون.
ومشروعه هذا يشبه اللوغارتم في الحساب ،بحيث يمكن الدخول على العديد من اآليات بهذه الطريقة..
وفي يوم كنت في دار الفكر في دمشق فوقع تحت يدي كتاب عرضه عدنان سالم صاحب الدار عن كتاب يجمع
مواضيع القرآن سوية ،ولكن كيف ترتب ومن الذي يعطي األولوية؟
ولعل كتب التفسير القديمة بتنوعها حاولت أن تحوم وبمناهج مختلفة شق الطريق إلى فهم منطق القرآن ،ولكنه
مثل من يحاول خرق لغات العالم أجمعين وهو طالب حضانة..
وكتب التفسير القديمة هي كما حدثني رشيد بن عيسى الجزائري يوما أنها إضاءات للعصر ،بمعنى أن كل مفسر
أسقط ما في ذهنه من عصره على اآليات ،وهذا يعني ان من يريد فهم مراد القرآن واستيعاب منطقه الداخلي،
وهو يراجع تفسير ابن كثير مثال الذي يطبع ويعاد طباعته بدون ملل ،يشبه جراح من أيام الفراعنة يريد معالجة
استئصال ورم في الحفرة الخلفية من الدماغ..
ويمكن القول بدون تردد أن هناك من الطبقات التي تدفن معاني القرآن من تراكمات المفاهيم ،ما يجب العودة
للنص القرآني المرة بعد المرة للتجلي والبيان ،ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر.
ومن أعجب ما قرأت رجل دين دمنهوري مسلم وقع كتابه تحت يدي في فرنسا ،ذهب إلى أن القرآن ليس فيه من
اإلعجاز والبالغة شيء قط ،وكل ما قيل في هذا الموضوع خياالت ،ويجب أن نحترم نحن بدورنا خياالت
الناس..
والمهم فهذا الموضوع يؤرقني من زمن بعيد حتى تبلور في ذهني شيء ،ولكنني عرفت ان األلمان سبقوني
إليه ،فكما فعل العلماء بفك الجينوم البشري في لوس آالموس ،كذلك يعكف حاليا فريقان من العلماء األلمان على
فك الجينوم القرآني.
19
كان الجينوم البشري لفك الكود الوراثي الراقد كاللوح المحفوظ في بطن كل نواة خلية ،كذلك الجينوم القرآني
راقد لوحا محفوظا في نصوص تتلى للضمير إلى قيام الساعة.
يتمتع الجينوم البشري بثبات مذهل خالف الميتوكوندريا في السيتوبالسما ،كذلك النص القرآني يتعالى على قول
البشر بنظم خاص فليس هو بشعر وال نثر بل قرآنا عربيا غير ذي عوج.
يحوي الجينوم البشري العضوي ثالث مليارات حمض نووي مترابطة على شكل جسر ملفوف صعودا ،ويتكون
الكود القرآني من 114سورة و 6200آية في 18جزء مكي و 12جزء مدني ،نزل دفعة واحدة إلى السماء
الدنيا ،ثم نزل على مكث تنزيال ،ونفهم ذلك اآلن حين نرى أقراص الليزر ونقل المعلومات عبر القارات بكبسة
زر.
وكما فتح مشروع الجينوم البشري الطريق إلى فهم اإلنسان ،كذلك فإن مشروعا من هذا القبيل ينتظره العالم
اإلسالمي كوصفة خالص نفسية اجتماعية للجنس البشري.
ومشروع الجينوم القرآني يبدأ حاليا من أرض الجرمان بمشروع سموه (مشروع الماموت
)Mammutprojectنسبة للفيل العمالق المنقرض ،بدأته عالمة ألمانية مستشرقة هي (انجيليكا نويفيرث
)Angelika Neuwirthبميزانية مليوني يورو ولفترة سوف تمتد ثماني عشرة سنة.
سوف يقوم الفريق األول بوضع (بنك معلومات )Databankلكل ما يتعلق بالقرآن ،والثانية في تحليل العمل
األول ،ما يشبه دراسة التشريح والفيزيولوجيا في الطب ،وما يلحقه مع علم النسج والتشريح المرضي ،في
محاولة فهم الجو الديني والحقبة التاريخية التي عاصرت انبعاث اإلسالم ،في محاولة إعادة تصنيعها لالقتراب
من فهم أفضل للنص القرآني.
وأنا شخصيا كنت قد عرضت على الناشر في المؤسسة السعودية لألبحاث والنشر أن نقوم بوضع لوغارتم
قرآني ،على شكل آيات مفتاحية ،وأجنة قرآنية ،كما أشرت إلى ذلك ،لتسهيل فهم القرآن على المسلم وغير المسلم
المعاصر ،فتحمس رحمه هللا (هشام حافظ) للمشروع ثم جاء من أفسد الفكرة وطمس النور؟!
ومازال في نفسي هذا المشروع ،وأنا أرى غيري من األلمان من يسبقوني إلى مشروع عمالق من هذا النوع،
الذي نحن بأمس الحاجة إليه .هذه المرة سيؤدى بالدقة األلمانية المعهودة.
والفريق األول الذي سيعني ببناء بنك للمعلومات القرآنية سوف يحشد ويجمع كل ما يتعلق بالقرآن ،مثل النسخة
التي عثروا عليها في اليمن في السبعينات (1973م) ،وكانت غير منقطة وبدون تشكيل؛ فمثال المستشرق (جيرد
روديجر بوين )Gerd-Ruediger Puinيريد من خالل النسخة اليمنية إعادة كتابة الفترة األولى من تاريخ
اإلسالم؟
وتقول مجلة المرآة األلمانية في عددها األخير من عام 2007م والتي جاءت معنونة عن القرآن (الكتاب األعظم
أثرا في حياة الناس )Das maechtigste Buch der Weltوتقول كيف يمكن فهم اآليات التي تدعو
للتسامح وتلك التي تدعو للقتال ،وهل يمكن ان يظهر (تأويل) جديد لآليات؟ وأن يحدث إصالح ديني كما تم في
أوربا بنهوض البروتستانت من رماد الكاثوليك والحروب الدينية.
إن توينبي درس التاريخ بطريقة الرجعى ،ليكتشف أن عصر التنوير سبقه اإلصالح الديني ،ومالم نفتح األفواه
في نقد الفكر الديني ،ونطلق قيود المرأة والعقل والنقاش ،فسعينا باطل ومستقبلنا كئيب؟
ونحن اليوم محاصرون مثل موسى من جهتين؛ فكان كل فرق كالطود العظيم ،بين المخابرات والمتشددين،
األول طاغوت سياسي يغتال الحريات بالكرباج والجندرما والمخابرات ،والثاني جبت يغتال العقول بالوهم
الديني .والنبوات جاءت ضد الجبت والطاغوت لتحرير اإلنسان.
والسيدة نويفيرث ( 64عاما) عاشت في الشرق فترة ويساعدها اثنان من الباحثين هما (نيكوالي سيناي
)Nicolai Sinaiو(ميشيل ماركس )Michael Marxهي التي ابتدعت هذا المصطلح (الجسم القرآني
20
)Corpus Coranicumودعت إلى دراسة متأنية لفهم المسلمين على نحو جدي.
وتقول السيدة أن القرآن سوف يوضع تحت المجهر كلمة كلمة ،وسوف يدرس كرونولوجياً ،ودراسة السور
ستكون مثل البناء الميكروسكوبي ( .)microstructuralفالقرآن لم تنزل فيه أطول سورة ابتداء ،كما هو
الحال في سورة البقرة 286آية؟ بل من المعروف أنه نزل على مكث بسور قصيرة ،وبكلمة اقرأ لفتح الدماغ
وتنشيط الوعي ،ولكن العرب اليوم ال يقرأون ،ولو قرأوا ما فهموا ،وال ينبئك مثل خبير.
وقصة عمل المستشرقين ليس جديدا ،وكان دوما مغلفا بالريبة والشك أنهم عمالء جواسيس ،وهذا من جهة
صحيح ،ولورنس كان عميال ،ولكن المفاجأة له بالذات ،أنه اكتشف نفسه أنه مستخدم بدون إطالعه على خطط
السياسيين ،في تراكب عجيب ،بعد أن قطع الوعد للعرب بقطعة أرض عربية ،فتبين أن سايكس الملعون وبيكو
التعيس قطعا العرب ألف قطعة ،ومن قطع جثة الحريري في بيروت مزعا كانت مؤامرة متراكبة من هذا النوع،
قد يكون آخر من يعرف سرها هو من نفذها؟
ولكن األلمان بوجه خاص ،ولعدم وجود تاريخ استعماري مع العرب ،رشح اللغة األلمانية ان تكون اللغة الثانية
بعد العربية في دراسات المستشرقين ،ومن ينظر في عملهم للحديث الشريف يصاب بالذهول من دقة عملهم
وصبره،م وطول اشتغالهم وإنفاقهم على األبحاث.
وحين ظهر كتاب فهرس الحديث الذي ضم مدخال لكل حديث ومظنة وجوده في أي صحيح من الصحاح التسعة،
كان ثمن الكتاب يومها 25ألف لاير ،حتى سرقه البعض واشتريناه بأقل من ذلك بكثير ،وهو في مكتبتي ويستفاد
منه.وبعد االنترنت وأقراص الليزر تسهلت األمور كثيرا.
وتقول السيدة نويفيرث أن مستشرقا ألمانيا من جامعة بون هو ستيفان فيلد 70عاما ( ) Stefan Wildدعي إلى
السعودية إلى المدينة المنورة للمرة األولى للمشاركة في مؤتمر اإلسالم والدراسات االستشراقية ،وقد ضم جدول
التوصية في فقرته 29ما اقترحه الرجل من الجهد المشترك من المسلمين وغيرهم في الدراسات القرآنية.
وهكذا فعلينا االنتظار حتى عام 2025لنرى ماذا يتولد عنه المشروع؟ ولعله سيكون مثل كتاب الكرونيك الرائع
الذي تنتجه الثقافة األلمانية في كل فن ،عن تاريخ المرأة ،وتاريخ الطب ،والمسيحية والقرن العشرين والجنس
البشري ،وسيضم له اآلن الجينوم القرآني..
فكما فك الكود الوراثي في الخلية ،فسوف يتم تفكيك اآليات وتاريخها ونزولها ..
والقرآن يقول أو لم يكفه آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل..
والقرآن يقول إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون لألذقان سجدا .ويقولون سبحان ربنا إن كان
وعد ربنا لمفعوال .ويخرون لألذقان يبكون ويزيديهم خشوعا..
والقرآن يقول عن الجن أنهم لما سمعوه انصرفوا ،وقالوا لقومهم إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به.
ولعل جن األلمان سيكون مصيرهم مثل جن الجزيرة العربية؟
زارني شاب من حزب «التحرير اإلسالمي» وكان قد سجن ألكثر من عشرين مرة .قال لي لقد أمضيت مع
شيوعي في السجن 11يوما ً ونحن نتناقش وال نكف عن الجدل إال لتناول وجبات الطعام .كان (التحريري) يريد
إقناعه بفساد المادية الجدلية ،و(الشيوعي) بدوره كان يريد أن يثبت لهذا (الرجعي) فساد :المثالية .وكان
(التحريري) قد تم إلقاء القبض عليه بعد توزيعه منشورات تتهم نظام الحكم أنه بريطاني .ثالثة أسئلة كانت تدور
في بالي وأنا أرى الصراع السياسي الضاري :.كنت أتساءل ،اوال ،إذا كان النظام عميالً كما يزعمون فيجب أن
يسحقهم بدون رحمة ألنهم يفضحونه ،وإذا كان شريفا ً فلهم الويل مما يصفون .وفي جو سياسي ملبد إلى هذا القدر
كان على شباب حزب التحرير أن يدخلوا :المعتقالت في كال الحالتين مقرنين في األصفاد .وكنت أتساءل ،ثانيا ً ،إذا
21
كان (التحريري) :يرى في (الشيوعي) أنه ضال وعميل و(الشيوعي) يرى في (التحريري) أن عقله غير علمي،
فهل يمكن للحجج العقلية والنقلية أن تثبت وجهة نظر أي واحد؟ هذا الصراع العقدي يذكر بتناحر :اليهود
والنصارى :و(تشابهت قلوبهم) .وكنت أتساءل ثالثا ً وكان صاحبي في تلك الليلة يتهم رئيس تنظيم إسالمي أنه
عميل ألمريكا ،إنه إذا كان يدين اآلخرين بجرعة سمية من هذا الحجم فكم سيكون مقدار (األليرجيا) عند اآلخر؟
يقول (علي الوردي) في كتابه (وعاظ السالطين) « :تقص لنا األساطير :أن غرابا رأى زميال له من نوعه فهاله ما
وجد في وجهه من القبح .ولو نظر لوجهه في المرآة لرآه ال يقل قبحا عن وجه زميله .والمشكلة آتية من كون
الغراب ال يملك مرآة يرى فيها وجهه .وهذه هي مشكلة البشر جميعا ،فكل فريق يرى مساوئ :غيره وال يدري أنه
مبتلى بمثل تلك المساوئ :على وجه من الوجوه».
إن المشكلة أن كل فريق :ينظر إلى اآلخر أنه شيطان مريد .وكان رونالد ريجان ،الرئيس األمريكي :األسبق ،يصف
االتحاد السوفيتي :أنه مملكة الشر .وعندما يختلف السياسيون يتراشقون بتهم الخيانة والعمالة .أما المتدينون
فجعبتهم مليئة بأسلحة أخطر من الكفر والردة .وكلها مؤشرات الى عدم نضج األمة وأنها ما زالت تعيش حياة
عقلية طفولية .وكان ابن تيمية يقول :العلماء يخطِّئون والمبتدعة يكفِّرون .واليوم في المحطات الفضائية أمكن
عرض خبرة الكثيرين ممن عاصروا :أحداث القرن وشاركوا :فيها ،والكل يروي مذكراته تحت عنوان األيام المرة.
ولكن الكل إال في ما ندر يتهم اآلخرين وال أحد يقول لقد أخطأنا جميعاً ،ورب إني ظلمت نفسي .وفي القرآن
الكريم تعرض التراجيديا :اإلنسانية في قصة خلق آدم من خالل موقفين ،موقف :تنزيه الذات عند الشيطان الذي
يزعم أن موقفه سليم ال غبار عليه .ولكن تنزيه الذات يحمل تلقائيا ً ظالل إدانة اآلخر وقذف المشكلة في طريق:
االستعصاء .في حين أن آدم وزوجته اعترفا بالخطأ فقاال« :ربنا إننا ظلمنا أنفسنا» وبذلك أدخال المشكلة حقل
الحل.
ـ األول شيطاني :يفقد إمكانية المراجعة وتتعطل عنده آلية النقد الذاتي ،وهذه هي المعصية دينيا ً وهي الخطأ المعقد
المركب فلسفياً.
ـ والثاني رحماني ،وهو موقف :آدم وحواء اللذين قاما بالمراجعة واعترفا بالخطأ ،وهو ما فتح الطريق إلى
تصحيح المسار ليوضع :السلوك على السكة الصحيحة في عمل قابل للنمو( .فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه).
وباستثناء القرآن الكريم ،فإن كل كتب االديان االخرى ذكرت قصة آدم وحواء والشيطان على نحو ما ،في قصد
منها لشرح الطبيعة اإلنسانية والصراع :مع الذات في طريق اكتمالها وإلقاء الضوء على مصدر الخطأ وتصحيحه،
ولكنها ورطت المرأة بأنها مع الحية خلف كارثة العري .اما القرآن الكريم فيمتاز :بثالث مزايا:
ـ االولى ،تحرير :المرأة من تهمة الفساد واإلغراء باالعتراف بالخطأ بجانب الرجل «ظلمنا أنفسنا».
ـ والثالثة ،فتح الباب للبحث االنثروبولوجي( :علم االنسان) في قصة الخليقة ،وأن القفزة النوعية الثقافية بدأت قبل
200ألف سنة عندما دخل اإلنسان مرحلة الترميز واإلشارة إلى األشياء بالكلمة «وعلم آدم األسماء كلها».
وهذه القفزة النوعية احتاجت أيضا ً وصول الدماغ اإلنساني الى الحجم الحالي (حوالي 1500سنتمتر :مكعب) بعد
أن بدأ الرحلة بـ 450سنتمتراً :مكعباً ،كما كان الحال مع إنسان لوسي التي عاشت قبل 3.2مليون سنة .إن علماء
االنثروبولوجيا :افترضوا :أن الوعي اإلنساني انبثق من رحم التعقيد وأن وصول :المادة المخية إلى حجم وعدد معين
من النورونات أشعل شرارة الوعي اإلنساني «ويزيد :في الخلق ما يشاء».
22
وبقدر وضوح والتماع هذه الحقيقة ،بقدر وجود مناخات فكرية خانقة تريد لالنسان أن يفتح كتاب النبات ويتحول
إلى نبات .هل يفكر النبات؟ هل يتغذى ويتنفس؟ هل يتحرك؟ هل يتكاثر؟ الجواب أن النبات يمتص غاز الفحم من
الفضاء والسماد والماء من األرض وهو يتحرك ببطء وهو يكرر إنتاج نفسه .واإلنسان يفعل هذا ويزيد :بالتفكير،
ولكن بعض األنظمة السياسية تريد له أن يكون كائنا نباتيا ال يفكر .إن التفكير هو حجر الزاوية لتأمل العالم
والذات .وبمراجعة الذات يمكن إدخال آلية التصحيح على السلوك اإلنساني :.إن أي عمل ال يكتمل ويولد بدون
مفصلة بين ثالثة أجزاء تتمفصل وتلتحم مع بعضها على نحو عضوي بحيث تشكل دائرة مغلقة بين التصور
والممارسة ومراقبة النتائج أو النقد الذاتي ..واإلنسان يتوجه إلى الخارج دوماً .أما االلتفات الكتشاف الذات فنادر،
إال في لحظات ثالث :الصالة واالعتكاف :والمحنة .يقول الفيلسوف :الفرنسي :بلزاك باسكال في كتابه الخواطر:
:Penesseكلما حاولت البحث في أفعال اإلنسان المختلفة وفي ما يتعرض له من مخاطر :ومتاعب وجدت أن
شقاء الناس كله راجع إلى أمر واحد هو عجزهم عن االعتكاف .ومن هنا جاء ولع الناس بالضجة ،ومن هنا كان
السجن عذابا ً مريعا ً ولذة الوحدة أمراً يستعصي فهمه .ويذهب المؤرخ البريطاني :توينبي إلى اعتبار أن العزلة
واالعتكاف ش ّكال قانونا ً نفسيا ً الكتشاف الحقائق عند األنبياء والمصلحين :.هكذا اعتزل محمد صلى اهللا عليه وسلم
في غار حراء الليالي ذوات العدد .وهكذا انسحب عيسى عليه السالم إلى الخالء ليصوم :أربعين يوما .ولم يكن
موسى عليه السالم ليرجع إلى فرعون بالحجة المبينة لوال تلك الرحلة إلى صحراء سيناء.
إن بناء آلية النقد الذاتي (النفس اللوامة) تضع الروح على المسار السليم للتصحيح والنمو :بدون توقف ،ولكن ال
أحد يمارس هذه الوظيفة .ونحن نعلم من قانون التطور والوظيفة أن كل عضو ال يعمل يضمر .وهذا يعني أننا
نعاني من شلل قاتل ،ومن محق للبركة في أعمالنا بتعطيل جهاز النقد الذاتي .ويبقى العمل الشيطاني السهل في لوم
اآلخر .الكل يبحث عن كبش فداء يعلل به أسباب القصور :الذاتي .إنه مرض قاتل ألنه ال يحرر اإلرادة من العطالة
طالما كان اآلخر هو السبب .إنه دوما :االستعمار ،والماسونية ،والصليبية ،واالستخبارات المركزية األمريكية،
والموساد ،وإذا فرغت كل األسلحة يبقى السالح الذي يخرس الجميع ،اي سالح التذرع بـ :إنها إرادة هللا .ونحن
نعلم أن الشيطان نفسه يتبرأ من هذه المقولة يوم القيامة فيقول ،فال تلوموني ولوموا أنفسكم .ونحن نعلم أن
المشركين كانوا يعزون شركهم :إلى هللا «وقال الذين أشركوا :لو شاء هللا ما أشركنا وال آباؤنا وال حرمنا من دونه
من شيء» .إن ثقافة الشيطان موجودة ايضا في زماننا هذا.
السواد األعظم من الناس ال يعرف السعادة وال يمارسها ،وإ ن تمتع بها فللحظات معدودة.
ويظن معظم الناس أنهم سيحققونها من خالل تكديس الثروة ،واالرتفاع( في البنيان وتكويم( األحجار ،أو في
التمتع بالملذات الحسية بدون حدود؛ فيأكلون( إلى ما فوق( الشبع ،ويشربون( حتى االنفجار ،ويسفحون ماء الحياة
إلى حد النضوب والنفاد ،ولكنهم يكتشفون أن الثروة ،والملذات الحسية ،والجاه ،لم تقودهم إلى نعيم السعادة،
وشاطئ( األمن ،وحديقة النفس المطمئنة.
بل الشقاء والعناء والغباء والبالء والوباء.
23
لم يشموا ريح الجنة بعد ،وال عرفوا هذا العالم الجديد الذي يصل إليه القليلون ،ويدخله النادرون ،ويتمتع( به
الخواص.
فأين السعادة الدائمة التي ال تنفد والكاملة التي ال تنحصر؟
هذا هو السؤال الذي أقض مضاجع الفالسفة والمفكرين ،علماء النفس والمربين؟
هذا السؤال هو الذي افتتح به الفيلسوف( الهولندي اسبينوزا( في القرن السابع عشر كتابه القيم (رسالة في تحسين
الفكر).
لقد حاول من تعاطا المخدرات والمسكرات( الولوج إلى هذا العالم ،فضاعوا وضلوا( الطريق ،فلم يصلوا إلى
نعيم السعادة الحقيقي الكامل والدائم ،المستمر والنامي ،وال رجعوا إلى دنياهم العادية األولى ،بل أصبحوا هباءاً
منثوراً ،فوجدوا سراباً خادعاً ،وتحولوا إلى حطام فوق الحطام.
وقبل أيام طلبت إلى قاعة العمليات لمريض ينزف بخطر ،ويسبح بين الموت والحياة مستغيثا النجدة ،والمالئكة
باسطو أيديهم أخرجوا( أنفسكم؟
كان صاحبنا مدمن مخدرات لمدة 19سنة يحقن عروق الفخذ؛ فأصيب بأم دم شريانية خطيرة
( )Ruptured Infected Pseudo Aneurysm = RIPAانفجرت قنبلة مرعبة فساح في دمه ،في منظر
دموي أحمر قان ال يسر الناظرين وال يطرب الجراحين.
وخالل خمسة ساعات من عملية من أعقد عمليات جراحة األوعية الدموية ،وأحفلها بالتحدي( في خبرة رجل
في هذا الفن تزيد عن ربع قرن ،أمكن إنقاذه ،وهرب عزرائيل ملك الموت غاضبا ،وهو يلوح لفريق األطباء
أن موعد اللقاء مع صاحبنا( قريب إن رجع للحشيش والمحششة.
يتمنى اإلنسان – لو كان باإلمكان -إن يحقق السعادة بتناول قرص دواء ،أو يصل إلى حالة (النفس المطمئنة)
بجرعة شراب ،أو أن تشع منه (الحكمة) بدهنه مرهم ،أو أن يتسم بـ(العدل) بقبعة أكسجين على أنفه .أو أن
يتحرر من (الغضب) باستنشاق( الرذاذ التنفسي الذي يعالج به الربو الصدري؟
الموضوع( األصلى من هنا :منتديات تهامة http://www.tihamh-
qn.com/vb/showthread.php?t=19414
ولكن هيهات هيهات لما يوعدون!!!
إن فيض السعادة هو نور داخلي قبل كل شيء ،وتحصيل ذاتي ،ومعاناة خاصة ،وعتبة يصل إليها من مارس
ال َكَبد ،وقاسى التعب ،وذاق لوعة البحث ،وصعَّد الجهد بدون حدود في صقل مرآة روحه الداخلية ،لتتلقى
اإلشعاع الكوني العظيم.
هل علمتم لماذا أوحي لمحمد ص؟
ألنه صقل مرآة التلقي الكوني إلى الحافة التي تلقت روحه حقائق الوجود!
قال الصوفي( الهندي الجنجوي( عن محمد ص حين عرج به إلى السما ،فرأى من آيات ربه الكبرى .أقسم باهلل
لو رأيت ما رأى محمدا ما رجعت!!
24
وهنا يعلق محمد إقبال على الفرق بين الصوفي والنبي ،هذا ينشد الخالص الفردي ،والثاني يحمل الرسالة فكان
البد من العودة للبشر.
كان آينشتاين يقول :إن اكتشاف الحقيقة لمرة واحدة ال تكفي .على العكس يجب المحافظة عليها وتجديدها(
باستمرار ،إنها تشبه تمثال الرخام الذي يقف في الصحراء وهو في حالة خطر دائم من أن يدفن في الرمال.
األيدي الفعالة والنشيطة وحدها التي ال تعرف التعب والملل والتي تنظفه باستمرار هي التي تحافظ عليه يتألق
تحت ضوء الشمس.
وكذلك هي رحلة البحث عن أعظم كنز في هذا الوجود ،غارق في عمق بحر مجهول.
عند منتصف( الليل في إحدى مناوباتي( المرهقة ،أثناء فترة إقامتي الطويلة فيما كان يعرف سابقاً بألمانيا
الغربية ،وضعت رأسي ألتنفس الصعداء لحظات ،إال أن جرس التلفون لم يمهلني ،حيث يبدأ موكب السكارى(
وحوادثهم( بالتدفق( في مثل هذا الوقت ،أي في نهاية حفلة (الكيف) التي تتحول في خاتمة المطاف إلى
مشاجرات وجروح( علينا معالجتها.
هذه المرة كان النداء مستعجالً وملحاً وخطراً ،فانطلقت كالعاصفة ال ألوي على شيء ،أكاد ال أبصر طريقي
أمامي ،وهناك في قاعة اإلسعاف وقع نظري على فتاة في مقتبل العمر ،قد غرقت في دمائها ،مذبوحة من
الوريد إلى الوريد ،في الرمق األخيرة.
بدأنا ونحن بالكاد نلتقط أنفاسنا ،في محاولة سريعة إلنقاذ حياة هذه الصبية ،أعصابنا متوترة ،ووجوهنا يعلوها
اإلرهاق وسهر( الليالي ،المريضة تغتسل في دمها ونحن نستحم في عرقنا!! هكذا هي حياة الجراحين – الجنود
المجهولون -الذين ينامون على عملية ،ويستيقظون على اختالط ،صديقهم الليل والمشرط ،وخليلهم الدم
والقيح ،وأنيسهم( خراج يشق وورم( يستأصل( وشريان يرقع ويخاط.
نزهاتهم في قاعات العمليات ،وسميرهم المرضى( وأروقة المستشفيات ،قد شابوا قبل المشيب ،واستهلكوا قبل
األوان ،قد واصلوا( كالل ليلهم بكالل نهارهم .والويل لهم إن فقدوا مريضاً!!
عندما أدخلت يدي المغطى بالقفاز المعقم في عمق العنق تنفست الصعداء ،حيث أدركت أن الشرايين السباتية (
)Carotid. Aسليمة ،وشيئاً فشيئاً( استطعنا السيطرة على النزف ،وإ نقاذ حياة المريضة.
قلت في نفسي بعد انتهاء العملية الجراحية :كانت ليلة مرعبة بحق ،ولكن تفاؤلي كان مبكراً ،ألنه كان علي أن
أتابع الرحلة مع هذه الواقعة وذيولها( حتى شعاع الفجر األول.
رن التلفون مع ساعة السحر مرة أخرى ،هذه المرة صوت ذكوري( أجش خافت يطلب معلومات عن حالة
المريضة التي أدخلت المستشفى ،ويرفض اإلفصاح( عن هويته؟
كان جوابنا :أننا ال نعطي معلومات عن طريق( التلفون ولمجهول.
وتفاءلت بالنوم( بدون جدوى ،هذه المرة كان البوليس يطلب أخذ عينة من دم (جثة) ،وهو نظام معمول به في
الغرب ،لكثرة الشاربين للخمور ،الذين يقودون السيارات ويتسببون في حوادث الطرقات.
نزلنا إلى المستودع البارد مع الصباح البارد ،وأشعة الشمس الذهبية ترسل أول خيوطها! حيث وقع نظري
25
على شاب طويل راقد جثة ال حراك بها!
عندها اكتملت صورة تلك الليلة المرعبة ،كان هذا الشاب هو الذي ذبح الفتاة ،وعندما طارده البوليس أطلق
النار على نفسه منتحراً ،وكان هو صاحب الصوت المجهول ،الذي كان يتصل بالتلفون يسأل عن صحة الفتاة
المذبوحة.
هذه القصة التي قفزت لذاكرتي اآلن ونظائرها( كثير من يوميات الجراحين ،وهذه قد تحدث في ألمانيا وغيرها،
ولكنها (مشعر) ينبئ عن فقدان مبرر االستمرار( في الحياة ،وتقديم االستقالة منها.
هذه الحياة الرائعة ونورها( البهيج ومتعتها بدون حدود ،أو بتعبير الكاتبة اليندي الحياة معجزة والموت قادم
على كل حال وأية صورة.
هذا الوجود( الذي أكرمنا اهلل به؛ كيف يمكن لمشاعر اإلنسان فيه إن تصل إلى هذا القدر من الكآبة واإلحباط(
واليأس ،إلى درجة إنهاء الحياة ذاتها!!
كنت في ألمانيا أتعجب من التناقض الرهيب بين الرفاهية والوجوه الكالحة ،بين السيارات الفخمة والقسمات
الجامدة ،بين الفرش الوثير وعبوس الوجه ،بين ورد( ذو منظر بهيج ولكن بدون رائحة ،بين بشر يعملون بدون
ابتسامة عذبة وضحكة على السجية ،بين نظام دقيق( ونفوس بائسة.
كان ظهر يوم الجمعة والمشير( إلى قرب انتهاء دوام األسبوع رائعاً ،حيث يجرعون األنواع المنوعة من
الخمور فتحمر( وجوههم( وأعناقهم ،ويلين مزاجهم ،وتنفرد أساريرهم( ووجوههم ،وتبدأ المالمح اإلنسانية المخبأة
في األعماق بالظهور( والطفو إلى عالم الحياة واألنس.
أما يوم األحد وخاصة بعد الظهر فكان أسوداً( كئيباً مقيتاً ،حتى عرف بمتالزمة يوم األحد .كنت أتعجب من
هذا وال أعرف سره؟
كنت أتساءل :إذا كانوا يبدعون في الحياة ويحبون الدقة في العمل ،واالنتظام( في الوقت ،فما هو اإلشكال؟
طالما سوف يستقبلون يوم االثنين يوم العمل ،الذي هو مصدر رزقهم واقتصادهم ،ووجودهم ورفاههم!!
كان السر أعمق ،واللغز أكبر.....
وهداني عقلي إلى فكرة حيوية..
كما أن البكتيريا هي الوحدة العضوية لنقل المرض كذلك فإن الفكرة هي الوحدة النفسية لنقل المرض الروحي.
إنني أعترف أنني بدأت أصاب بالعدوى في سنوات مكثي األخيرة في ألمانيا ،فكنت أشعر برتابة وثقل وبؤس(
نهاية يوم األحد ،هذا الشعور( لم أتخلص منه إال حين مغادرتي البيئة األلمانية.
إن متالزمة يوم األحد لم تكن في الواقع ألنهم سوف يستقبلون يوم االثنين ،يوم العمل والواجب الثقيل ...ال
كان الموضوع( أعمق من هذا!!
إن التوقف عن العمل هو بكلمة ثانية توقف( النفس عن االنشغال الخارجي والتعامل معه ،للرجوع( إلى الذات.
إن يوم العطلة هو يوم مواجهة النفس ،هو االنكفاء الداخلي واالعتكاف ،هو اكتشاف عالم الذات ،وكان اإلنسان
األلماني يشعر باأللم العظيم حين يواجه عالم الذات الفقير الخاوي الهزيل ،ذلك العالم الذي يشبه الشجرة
26
المفرغة الداخل ،كما في تعبير فالسفتهم عن األزمة الوجودية؟
كان يستشعر( أن اللهو الخارجي للنفس قد توقف (.هذه المواجهة المدمرة للذات كانت محطة العذاب ونقطة
البؤس والجحيم.
وانتبه إلى هذه األزمة الروحية قديماً( الفيلسوف الفرنسي( (باسكال) فكتب يقول في كتابه (الخواطر):
"كلما حاولت البحث في أفعال اإلنسان المختلفة ،وجدت أن شقاء الناس كله راجع إلى أمر واحد هو عجزهم
عن االعتكاف ،ومن هنا جاء ولع الناس بالضوضاء والجلبة ،ومن هنا كان السجن عذاباً مريعاً ولذة الوحدة
أمراً يستعصى فهمه.
في اإلنسان غريزة خفية تحمله على اللهو واالنشغال( في الخارج ،مصدرها شعور مرير ببؤسه المتصل" .
وعلماء النفس يعرفون هذه الظاهرة جيداً ،ويشعرون أنها تعبير خطير عن مرض حضاري يهدد بنيته
األساسية ،إنها بدء تيبس مفاصل الحضارة ،وتصلب شرايينها( وتخشبها ،بكلمة أخرى بداية النهاية ،وأول
المطر ،وفاتحة الطوفان ،وانطالق تفاعل االنحطاط.
هذا ما انتبه إليه فالسفة كثيرون ومؤرخون( وسياسيون سطروا( لهذه الظاهرة كما هو الحال مع الفيلسوف(
األلماني (أوسفالد شبينجلر) الذي وضع سفره الضخم (أفول الغرب(
جدلية االنتحار
أغالل الثقافة وإكراهات المجتمع
تغيير مفاتيح الوعي
خط التعامل مع القرآن في رمضان؟
ظاهرة الحرب تحت المجهر
موت مؤسسة الحرب
ليس (أضل) من رجل الدين عندما يعتلي منبر السياسة فيحلل األوضاع :مثل األخرس الذي ينقل عن آخر مهمته
الكالم .أو الصيني الذي يريد التحدث بلغة صربية .
وال (أخبث) من السياسي حينما يلبس مسوح الكهان فيتحدث باألخالقيات والمبادئ .
وليس (أقبح) من منظر الرجل المخنث أو المرأة المتصابية .ألن كالً منهم ال يؤدي دوره .
) السياسة) تعني الكذب كما صرح بذلك (توني بلير) رئيس الوزراء البريطاني فصدق خالف العادة حينما قال إن
أحاديثنا مع الزعماء العرب تدور على مستويين فما نقوله بيننا ال نصرح به على المأل .
والواعظ األمريكي (جيري فولويل) خرج على الناس يوما فقال عن محمد ص أنه إرهابي .وهو بهذا يمزج بين
ثالثة أمور ال يمكن أن تشكل سوى مركب شديد االنفجار:
27
(كذب السياسة) و(قلة االطالع) و(التهور ) :كمن وضع أصابعه في عش الزنابير اإلسالمية مع اإلساءة إلى خمس
الجنس البشري فخسر :صدق المتدينين وكسب نفاق السياسيين أال ساء ما يحكمون.
على كل حال ال يوجد في اإلسالم رجال دين بل علماء ،وهم معرضون لنفس المرض السابق عندما يتحولون إلى
وعاظ السالطين؛ فال يغيروان رسم القرآن ،ولكن يفسرونه حسب المسطرة السلطانية ،ويحفرون :ثغرة في الدين
تناسب حجم السلطان السمين.
وتفنيد التهمة السابقة سهل وهي شغل يجب أن ال نقع فيه في معركة (صراع األفكار) كما يقول (مالك بن نبي)،
على مبدأ (المرآة العاكسة) التي شرحها( :روبرت غرين) في كتابه (شطرنج القوة) حسب المبدأ :44أن المرايا
خداعة بشكل هائل ألنها تخلق شعورا بأنك تنظر إلى العالم الحقيقي والواقع أنك ال تنظر إال إلى قطعة من الزجاج
فكل شيء مقلوب إلى عكسه .
وفي كتاب مالك بن نبي (الصراع الفكري في البالد المستعمرة) توضيح لهذه اآللية الخفية في إدارة كفة الصراع
وتسليط الظالل على أفكار بعينها لتشويهها ،فالثور ال ينتبه لمن يلعب بالخرقة الحمراء؛ فيقع في النهاية صريعا
تحت استحسان الجمهور وصفيرهم :وتصفيقهم للمصارع :الجسور .
وجرب (أحمد ديدات) سابقا حظه مع (جيمس سواكرت) حينما دعاه للمناظرة في أمريكا ،وكان كالً منهما يحاول
أن يثبت لآلخر أن دين الثاني باطل ،وأن كتابه مليء بالتناقضات فأساءا إلى القرآن واإلنجيل :معا .وحركا قضايا:
قديمة بكلمات جديدة ،في الوقت الذي نادى الدين أي دين إلى التسابق في الخيرات ،واالعتراف باآلخر وأن الكون
مبني على االختالف .
يذكر المؤرخ النمساوي غومبريتش :في كتابه (مختصر :تاريخ العالم ـ سلسلة عالم المعرفة 400ـ ص )268أن
خلطة عصر التنوير :كانت ثالث مباديء :العقالنية وسماها (المنطق) مع التسامح واإلنسانية .ولكن فقهاء الدين
يحاولون بكل سبيل إرجاعنا إلى ما قبل التنوير لندخل عصر الظلمات وباسم هللا .
وحينما كان غاندي في محنته مع المتعصبين من الهندوس والمسلمين أعلن الصيام حتى الموت حتى تتوقف أعمال
العنف؛ فلما هدأت ثورة الدم تقدم الهندوسي :وهو يبكي وقال قتل المسلم ولدي!
قال له غاندي وماذا فعلت أنت؟
قال قتلته ثأرا البني!
قال غاندي وهو بالكاد يستطيع النطق :هل أدلك على طريق :يهديك إلى الجنة؟ أن ال تقتله بل تربي ولده على
اإلسالم كما أراد والده أن ينشأ .
عندما كنت في ألمانيا اجتمعت بخليط ال نهاية له من الفرق المسيحية وكنت أكرر عليهم جملة واحدة :هاتوا لي
فقرة واحدة في اإلنجيل يقول فيها المسيح عن نفسه أنه هللا؟ فضالً عن عقيدة التثليث ومركب األقانيم وان هللا
انشطر إلى ثالثة بدون أن ينشطر :،وأن هللا ثالثة ولكنه واحد فيما هو ضد الرياضيات!
كان القوم يصابون بالذهول ألنهم وجدوا :آباءهم على أمة فهم على آثارهم يهرعون .ولم يكونوا معتادين على
مواجهة سؤال من هذا النوع .وكان البعض يعترف :وهم قلة .وفريق :ثاني كان يقول ال مجال للفهم أو العقل في
العقيدة كما اعترفت لي بذلك راهبة بروتستانتية .
ومنهم من كان يماحك فيقول جاءت فقرة في أول إنجيل يوحنا :في البدء كان الكلمة وكان الكلمة هللا!
ولكن مثله مثل من يريد بناء برج بيزا على ظهر حيوان الالما متسلقا جبال االنديز؟
ومن أعجب ما قرأت لقس مسيحي :كتابا يقول فيه أن القرآن جاء بألوهية المسيح مستشهدا :بقوله تعالى من سورة
الزخرف" :قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين" .وهي جملة شرطية كما نرى .سبحان رب السموات
واألرض رب العرش عما يصفون .وهكذا فالجدل في هذه األمور :يمكن ان يدوم :ألف سنة دون دخول بوابة العلم.
كنت أقول لهم أال تتعجبوا من موضوع ألوهية المسيح غير المبرهنة وغير الواضحة في اإلنجيل ،فمن أين جاءت
هذه العقيدة التي تبنتها الكنيسة؟ كانوا يقولون فماذا تفعل بكلمة أبي الذي في السموات؟
كان جوابي إنه ال يزيد عن معنى رمزي ،وهو أمر علمه لجميع الناس في موعظة الجبل (طوبى لصانعي السالم
ألنهم أبناء هللا يدعون) .
28
كل منادى بالسالم مثل غاندي ومالكولم :اكس وروزا :باركس السوداء والمناضلة البورمية أوانج سو كايا وبيرتا:
فون سوتنر :األلمانية والهندية أراندهاتي :روي وامرأة فرعون وقرة عين الفارسية وايميلن بونكهرست التي قادت
مظاهرة في لندن في 18نوفمبر من عام 1910م فضربهن ألف من الشرطة لمدة ست ساعات متواصلة وماتت
سيدتان .
ً
كلهن أبناء هللا وبنات هللا باإلضافة ،وليس االشتقاق وبالمعنى :الرمزي .واإلسالم :دفعا لهذه اإلشكالية برمتها حذفها:
جملة وتفصيال وضع بدال عنها كلمة عبد هللا .
قد تكون الكلمة في األصل هكذا فاختلطت على المترجمين من اآلرامية إلى اليونانية .أو أنها كانت معنى
اصطالحي شائع كما نقول نحن رب المنزل وربة المنزل فال نعني بها أن المرأة والرجل تحوال إلى آلهة من دون
هللا يعبدون .
ولكن ال المسلمين يعرفون هذا ألنهم ال يقرؤون اإلنجيل .وال شهود :يهوه وفرق :المسيحيين يقرؤون القرآن
فيعرفون المتشابه في روح الرسالة .ومن يتصدر :للوعظ بين المسلمين يقول إن نسخة اإلنجيل محرفة .وهي التي
كان يقول عنها القرآن فيه هدى ونور ،وليحكم أهل اإلنجيل بما انزل هللا فيه .وطلب منهم أن يأتوا بالتوراة فيتلوها
إن كانوا صادقين؟
وحديثي اليوم ليس بهذا االتجاه فهو حرج وحساس وصعب هضمه ولكن ال بد منه .وما يقوم به بعض رجال الدين
المسيحي أو اإلسالمي أنهم يلبسون الحق بالباطل ويكتموا الحق وهم يعلمون .أو أنهم يشتروا به ثمنا قليال
فبئس ما يشترون .
ومشكلة التطرف أو اإلرهاب ليست خاصة بدين ،وهو عمل تقوم به أي مجموعة ترى أن القتل سيد األحكام وأن
العنف هو سبيل التغيير ،وهو مرض يصيب أي جماعة إنسانية تعرضت لالضطهاد فرأت أن االنتقام هو سبيل
إعادة التوازن ،أو هو ممارسة لقوة مهيمنة ترى كسر أي مقاومة للسيطرة .وكالهما خطأ فالقتل ال يأتي إال بالقتل .
هناك عالقة ما بين العدل واألمن والحريات .فالعدل يولد األمن .واألمن يوسع الحريات .وهو ما نادى به إبراهيم
عليه السالم :وكيف أخاف ما أشركتم :وال تخافون أنكم أشركتم باهلل ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق
باألمن إن كنتم تعلمون .الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم األمن وهم مهتدون .وتلك حجتنا آتيناها
إبراهيم على قومه نرفع :درجات من نشاء .
أعترف للقاريء ان هذه اآلية من سورة األنعام لم يتكشف لي معناها حين حفظتها حتى اندلعت الحرب ضد
اإلرهاب فانقدح المعنى في لحظة تجلي عجيبة نكتشف ذلك الترابط الخفي بين ثالث مفردات وثالث عوالم:
وعلى هذه الحسبة يجب فهم حسابات رجال الدين حينما يدخلوا سوق السياسة!
والمؤرخ األمريكي( :باول كينيدي) في كتابه (صعود وسقوط القوى العظمى) أو السياسي الفرنسي (جاك أتالييه)
في كتابه (آفاق المستقبل) وشهد شاهد من أهلها.
ً
إذا كانت الكائنات ومنها اإلنسان قد اختزلت في الجينات ،فإن الكون أيضا قد أختزل في النفس البشرية،
29
وأشار إلى هذه الفكرة الفيلسوف الصوفي الغزالي قديما في كتابه إحياء علوم الدين ،وبذا وضع القرآن يده على
مفتاح تغيير العالم من خالل تغيير ما بالنفوس (إن هللا ال يغير من قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ).
هذا الحقل هو الذي يجب أن يتم فيه البحث والسبر والحفر ،ألن كنز السعادة مدفون داخله ،مخبأ في أعماقه.
إن الرحلة باتجاه القلب السليم) و (النفس المطمئنة) تبدأ من هنا.
إن السعادة هي حالة ووضع للنفس اإلنسانية عندما تصل إلى مرحلة النفس المطمئنة ،كما أنها نشاط القلب
الذي ال يعاني من العلل وهو ما وصف القرآن به إبراهيم :إذ جاء ربه بقلب سليم
الموضوع :األصلى من هنا :منتديات تهامة ?http://www.tihamh-qn.com/vb/showthread.php
t=19414الرحلة اإلبراهيمية من (القلب السقيم) إلى (القلب السليم) هي رحلة الخالص ،كي يصبح اإلنسان
مرشحا ً لدخول الجنة قبل دخولها ،فهناك جنة خاصة في األرض يشعر بها الصالحون قبل أن يدخلوا جنة الخلد،
وهي من المبشرات على االقتراب من نهاية الرحلة.
هذه الحالة النفسية ،هذا الهدوء والتجلي الروحي .هذا الفيض من السعادة والحبور ،أشار إليه كل من ولج هذا
العالم وكان شعورهم :غريبا ً وصفوه أنها لحظات ،كانت تأتي في األول لفترة قصيرة وبشكل متباعد؛ فيشعرون
أنهم دخلوا عالما ً آخر يفيض بالسعادة ،سرعان ما ينحسر عنهم ،ثم تقاربت الفترات وازدادت مدتها حتى دخلوا
هذا العالم بالكامل.
إذا كان إنذار المرض العضوي :الرئيسي هو األلم ،فإن ألم المرض النفسي اثنان هما :الخوف والحزن ،وهما
المرضان اللذان يعاني منهما معظم الناس ،ويشكالن التحدي والعقبة التي على اإلنسان اختراقها :وتجازوها:.
لذا انصب اهتمام القرآن في المعالجة النفسية بشكل رئيسي على تحرير اإلنسان من هاتين العقدتين (تتنزل عليهم
المالئكة أال تخافوا وال تحزنوا) من خالل النظافة األخالقية والتطهير الروحي.
وليس هناك من شعور عميق وهام مثل شعور الخوف أو الحزن .وحتى تمضي النفس في مرحلة الصعود:
األخالقية فإنها :تنتقل عبر محطات تتزود فيها بالطاقة الروحية لتصعد إلى مرحلة أكثر تقدماً ،فهي تصعد من
مرحلة (النفس األمارة بالسوء) وهي تلك المرحلة المشوشة والفوضوية التي تنفعل فيها للوسط المحيط بها حيث
تتعطل إرادة البناء األخالقية ،فإذا بدأت في رحلة البناء من خالل عملية المراجعة والمحاسبة والنقد الذاتي ،تبدأ
في الدخول في مرحلة (النفس اللوامة) ،فإذا اكتملت هذه المرحلة ،أصبحت مكانا ً كريما ً يستحق أن يقسم هللا بها،
(ال أقسم بيوم القيامة وال أقسم بالنفس اللوامة).
وعلى أرضية هذه المرحلة يمكن االنطالق إلى المرحلة الثالثة مثل إرسال الصواريخ واألقمار :الصناعية حيث
تحمل كل مرحلة المرحلة التي بعدها ،وتتكلل رحلة الصعود الختراق جاذبية الشهوات والشبهات ،عندما تصل
النفس اإلنسانية إلى (مرحلة النفس المطمئنة) وبها تكون النفس قد اغتسلت من الخطايا تماماً ،وتحررت :من
األمراض النفسية.
عندها يبدأ الشعور بـ (األمن) الذي هو مقابل الخوف( :أولئك لهم األمن وهم مهتدون) ،ويبدأ الشعور بالسعادة
التي هي مقابل (الحزن) ( الحمد هلل الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله
ال يمسنا فيها نصب وال يمسنا فيها لغوب ).
30
وإذا أردنا ربط هذه األفكار :أي المراحل الثالث ما بين النفس األمارة بالسوء عبر النفس اللوامة إلى النفس
المطمئنة ،فإنها تشكل ثالث حلقات مترابطة متداخلة في رحلة صعودية ،مع قابلية للنكس إلى الخلف عند كسل
طاقة التطهير والتسامي األخالقية.
ومع نظام الحلقات الثالث هذه هناك ستة من المالحظات سوف نسجلها:
األولى :علينا أن نالحظ أن النفس اإلنسانية في حالة ديناميكية ال تستقر مثل موج البحر ،وفي :اللحظة الواحدة قد
تنتكس النفس وتمرض وتهبط :بل وتتدحرج إلى أسفل ،وهذا يحتاج بالتالي إلى عملية تطهير :ال يقف وهو معروف:
في العضوية ،حيث أن حالة الصحة التي يتمتع بها الجسد ،هي ذلك التوازن بين الهجوم الجرثومي :الدائم ودفاع:
الجهاز المناعي ،الذي ال يكف عن الدفاع ،تماما ً مثل عملية االستقالب في الجسم ،ففي اللحظة الواحدة تنهدم:
ماليين الخاليا وتنشأ الماليين ،تتكسر حلقات من التفاعالت الكيماوية لتقوم محلها حلقات جديدة وهكذا ،بل إن
الجسم البشري برمته هو في حالة توازن بين الموت والحياة.
وإذا كان الجسم من خالل خالياه يموت ويحيا فإن نسيج الحياة للجنس البشري برمته هو في حالة توازن بين
الموت والحياة .وإذا كان الجسم من خالل خالياه يموت ويحيا فإن نسيج الحياة للجنس البشري هو على نفس
الشاكلة ،فمع شروق شمس كل يوم تدفع األرحام 270ألف إنسان جديد إلى الحياة ،ومع غروب كل يوم تبلع
القبور 140ألف إنسان ،وتبقى الزيادة في حدود 130ألف إنسان ،شاهدة على تفوق الحياة على الموت ألنها
من الحي الذي ال يموت
الثانية :وكما أن هبوط اإلنسان ال حد له ،كذلك فإن صعوده باتجاه رحلة التكامل النفسي ال سقف له.
الثالثة :إن الهبوط ال يحتاج لطاقة ،في حين أن الصعود :يحتاج لطاقة ،وهذا يذكرنا :بقانون آينشتاين الذي ذكرناه
في مطلع المقالة ،وهو ضمن المصطلح القرآني (الجهاد) فالجهاد أي بذل الجهد المكافئ لرفع وتصعيد :حالة النفس
باتجاه تحقيق الذات ،وتنشيط المثل األعلى ،وضبط :الغرائز في االتجاه الصحيح كما تضبط أي طاقة.
الرابعة :إذا كانت النفس المطمئنة قد استكملت شروطها لدخول عالم السعادة والجنة كما يحدث في المتقدمين لملء
أي وظيفة شاغرة ،فإن استكمال الشروط :ال يعني دخول الجنة بصورة حتمية بل البد لها من رحمة هللا تعالى،
وهذا يحمل المعنى الضمني من األخالقية الجديدة في التواضع:.
الخامسة :إن عملية التطهير هذه لها وسائلها :التي يمثل (الصوم) إحدى أهم الوسائل في (االعتكاف الداخلي) وفي
(المراجعة الذاتية) وفي( :تنمية اإلرادة) وفي( :السيطرة على الغرائز) وفي (ترويض الشهوة) و(قمع الغضب)
واألخيرتان تعتبران من أشد الغرائز استحكاماً :بالنفس اإلنسانية.
السادسة :إن الصوم :يمثل هذه البانوراما :في شحذ المثل األعلى.
وكما يقول عالم النفس (هادفيلد) :إن المثل األعلى هو أقوى عامل في تقرير خلق اإلنسان ألنه وحده الذي يستطيع
تنبيه اإلرادة ،وتنظيم :جميع الغرائز في كل واحد متناغم متوافق ،وبدونه يصبح اإلنسان تحت سلطان التأثيرات
المشوشة التي تحدثها الغرائز المتصارعة ،وبه تلتحم الشخصية بعضها مع بعض وتتماسك متجهة إلى غرض
واحد مشترك.
إن المثل األعلى هو الذي يحدث بلوغه االكتمال وتحقق الذات.
31
تغيير مفاتيح الوعي
كما يفعل من ي دخل ال بيت الجدي د بتغي ير مف اتيح الب اب الرئيس ي ،ك ذلك الح ال م ع ال دخول إلى القلع ة الثقافي ة
باستبدال مفاتيح الدخول .
والسؤال ماهي القلعة الثقافية إن صح التعبير وما هي مفاتيحها؟
في القرآن أفال يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟
المف اتيح هي ال دخول بسالس ة وس رعة إلى فتح األب واب المغلق ة ول و ك انت ص فائح ص م من ص فيح منض د.
واالستعصاء يتطلب التكسير والنسف واالقتحام بغير ضرورة في كثير من األحيان .
كذلك جرى الحال مع عقل مبني على الفهم والسالم ،وآخ ر على الح رب والخص ام .أي اكش اف جغرافي ا جدي دة
باكتاشف قارة العنف ،والنزول على كوكب السالم فبأي آالء ربكما تكذبان؟
على ماذا يعتمد العنف؟ وكيف يعمل األسلوب السلمي؟
يعتمد العنف على العضالت واألسلحة واإلكراه ،أما الالعن ف فه و أس لوب الح وار واإلقن اع ،أي ح ديث العق ل
وتغيير السلوك ،ويتم بالنزول الى لوحة مفاتيح الوعي ،وه ذا تغي ير داخلي محض ،وطبيع ة الم ادة العص بية في
الدماغ االنساني أنه يتعام ل ب الفكرة ،وأفض ل ش روط إنتاج ه كم ا يق ول ع الم النفس (ب راين تريس ي) بعي داً عن
التوتر ،فال يفتح العقل عويص المعضالت وشائك المسائل كما نعالج دخول مس مار في حائ ط فنض رب المس مار
بقوة الختراق الجدار .بل بالهدوء طبقا عن طبق .
من هنا نفهم عظمة دعوة القرآن لبناء مجتمع (الال إك راه) ،وس خافة فك رة قت ل االنس ان من أج ل آرائ ه ،كبدع ة
طورتها ثقافة مريضة ،تصفي الفكر تدريجياً ،وتفضي باألمة الى الشلل التام والخرس المطبق . .
الالعنف اليعني االستسالم ،بل ينمي اإلرادة في االتجاه الصحي؛ فهي تدعو الى الحوار وال تبيت الحقد والنف اق،
وطالما تم تهميش الكراهية ،نكون قد اقتلعنا الجذور األصلية لشجرة العنف.
والالعنفي (ال يخاف) و (ال يتراجع) اال بـ (االقتناع) ،وأهمية ه ذا ه و المحافظ ة على إرادتي الص راع ،الل تين
تدخالن الحوار فتندمجان؛ وال تحطم واح دة لتبقى األخ رى ،ب ل االن دماج والخ روج ب إرادة مش تركة موح دة في
النهاية بسعادة وارتخاء .
الكراهية نفي لآلخر ،وضمور في العالقات ،مشحونة بمشاعر س88لبية ،وانكف88اء على ال88ذات ،و(الحب) اع88تراف
به وتواصل معه في مشاعر إنسانية سامية ،ت88رتقي بالمش88اعر وتخل88ع مع88نى على الحي88اة ،ويول88د فيه88ا آدم من
جديد .فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه.
وأجمل أشكاله الزواج بحب ،بين كائنين ينجبان نسالً سعيداً ،تنمو به البشرية بقوة حياة عظمى ،من الحي الذي ال
يموت فتوكل عليه.
وأهمية هذا الكالم انعكاسه على الحياة السياسية ،فالعنف والديموقراطية مثل الماء والن ار فال يمتزج ان أب دا؛ ب ل
يطفيء النار بالماء؛ فال يمكن بناء مجتمع ديموقراطي تعددي طالما آمنا بالعنف أسلوبا ً للتغيير.
32
ومن مزايا مجتمع (الالإكراه) الحقوق الديموقراطية من حرية االعتقاد والتعبير واالجتماع عليه س لمياً ،وحين ال
تتحرك المظاهرات في عواصم بعينها فسببها وباء العنف من جماهير غير منضبطة ،وقيادات سياسية مرعوبة .
يجب أن نبني مجتمعا ً نسمح فيه للجميع بالتعبير واالجتماع والنشاط والدعاية لما يعتقدون؛ فال خوف من التفكير،
ُخون المخالف في الرأي ،وأخيراً وهو االهم أن ال يستباح دم االنس ان منوال حدود للبحث العلمي ،وال يُك َّفر أو ي َّ
أجل آرائه اعتناقا ً وتغييراً ،كما هي في الفضيحة التي تبناها فقهاء العصر المملوكي بقتل المرت د ،ولم يقت ل الن بي
مرتدا ،بل حصل العكس.
نحن نقرأ من التاريخ أن الحجاج بن يوسف الثقفي العسكري نحر سعيد بن جبير وهو يقول ما اسمك؟
يجيب سعيد بن جبير.
يقول الحجاج بل اسمك شقي بن كسير!
يقول سعيد أبي كان اعلم باسمي منك .
يعقب الحجاج شقيت أنت وأبوك!
يعلق سعيد :الغيب يعلمه ربي عالم الغيوب .
يختم الحجاج كالمه ألدخلنك نارا تتلظى ،فيجيبه سعيد وهو يشخب في دمه :لو علمت أن هذا لك ما اتخذت إله ا
غيرك.
يموت الحجاج بعد موت سعيد بأيام والكوابيس تنتابه بالليل فيصرخ مالي ولسعيد!
فهذه قواعد مفصلية في بناء مستقبل عربي رشيد ،ولنتفق على شيء واحد :يمن ع رف ع الس الح واس تخدام الق وة
لفرض اآلراء دخوال وخروجا ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .وليرتد من ش ار ولي ؤمن من يخت ار ،فه ذا ه و
اإليمان والسالمة والعقل والديموقراطية.
33