You are on page 1of 4

‫‪Tuesday, June 23.

2009‬‬

‫)*( ابن رشد و ابن ميمون‪ ،‬مثاالن أندلسيان لصيرورة العقلنة والعالقة بين الدين والفلسفة‬

‫جمال الدين بن عبد الجليل‬

‫يسود الرأي لدى مؤ ّرخي الفلسفة أنّ التفكير الفلسفي و الكالمي لدى الفرق والمدارس اليهودية في السياق العربي‬
‫اإلسالمي في العصور الوسطى منطبع و متأثّر بالفلسفة العربية اإلسالمية شديد التأثر‪ ،‬بل و يع ّد جزءا منها وأحد‬
‫تمظهراتها منذ أواسط القرن الثامن الميالدي القرن الثالث هجري وخاصة في القرون التالية مع ازدهار وانتشار حركة‬
‫‪،‬الترجمة والتأليف‬

‫فقد كانت اللغة العربية في مجاالت اإللهيات والفقه وعلم الكالم والفلسفة والطب والفلك وغيرها من العلوم و الفنون‪،‬‬
‫اللغة المعتمدة في التأليف والكتابة لدى معظم العلماء والمؤلفين من مختلف الفرق والديانات من مسلمين ومسيحيين‬
‫ويهود‪ .‬أتاح اإلسالم هنا‪ ،‬كفضاء حضاري ذو أفق معرفي منفتح‪ ،‬انتشار وسيادة بنية إثنية وثقافية تعددية متنوعة‬
‫أفرزت بدورها نموذج تعايش ثقافي اجتماعي تعدّدي متميز بالثراء و الحيوية‪ ،‬و لع ّل النموذج األندلسي في العصور‬
‫‪.‬الوسيطة يعتبر أحد أهم تجليات هذا التعايش‪)1(.‬‬

‫التماس والتقاطع في سياق التفكير الكالمي والفلسفي فيما بين اليهودية واإلسالم في القرون‬
‫ّ‬ ‫تتمظهر أهم تعبيرات هذا‬
‫الوسطى من خالل شخصيّتي ابن رشد وابن ميمون اللذين يعتبران شخصيتين مرجعيتين في الفلسفة الوسيطة وامت ّد‬
‫أثرهما وتأثيرهما إلى ما أبعد من ذلك‪ .‬عند النظر في التراث الفكري الفلسفي والكالمي والفقهي الذي خلّفه هذان‬
‫المف ّكران األندلسيان تتبيّن لنا جوانب تالق وقواسم اشتراك وعالمات افتراق وتباين‪ .‬لع ّل أه ّم جوانب االلتقاء بين هاتين‬
‫توجهات عدّة ال تخلو غالبا من التباين‬‫الشخصيتين هي انتماؤهما المشترك لفضاء ثقافي واحد وروح عصر متميز بتأثير ّ‬
‫ّ‬
‫إلى ح ّد التضا ّد والتصادم أحيانا‪ ،‬إالّ أنها تخترقها جميعا عناصر وعالقات التعايش الثقافي‪ ،‬التي تتجلى من ناحية أولى من‬
‫خالل أشكال التالقي الحيوية والخصبة فيما بين العناصر والمر ّكبات الثقافية المختلفة التي تعكس بدورها تص ّورات ورؤى‬
‫عن الوجود والكون واإلنسان ومنظومات قيم هي أيضا متنوعة ومتعددة‪ .‬ومن ناحية أخرى من خالل عالقة تقابل متضا ّد‬
‫وصراع وجودي ما بين منظومتي خطاب رئيسيتين‪ ،‬تتميز إحداهما باالنفتاح والقدرة على التجدد والتجاوز الذاتي وترى‬
‫في اآلخر المغاير إمكانية و فرصة تساعد على إثراء وتوسيع اآلفاق الذاتية‪ .‬أما المنظومة األخرى فهي ترى في ذاتها‬
‫ق و صالحية التعريف المفاهيمي والقيمي وترى في الخطاب اآلخر المغاير‬ ‫المرجعية الوحيدة و الحصريّة التي تمتلك ح ّ‬
‫‪.‬تهديدا وجوديا ينبغي مقاومته‬

‫حظي أبو الوليد محمد بن رشد (‪ 520‬هج‪1126 /‬م ــ ‪ 595‬هج‪ 1198 /‬م) في تاريخ الفلسفة و خاصة من خالل تلقى‬
‫شروحه وملخصاته ألعمال أرسطو بمكانة الفيلسوف العقالني الذي تجاوز صيته وأثره حدود السياق الثقافي والديني‬
‫اإلسالمي الخاص الذي أفرزه‪ ،‬مستندا إلى ركيزة انطالق تجعل من العقل وقواعده مح ّك الصواب من الخطأ‪ ،‬له الفصل‬
‫والحكم األخير فيما يطرأ من اختالف‪ .‬فقد كان يرمي إلى إثبات أنّ البحوث والمعارف العلمية ال يمكن أن تتعارض أو‬
‫تتناقض في حقيقة األمر مع األصول االعتقادية والحقائق الدينية‪ .‬وكان ابن رشد يستغرب مسلك أبي حامد الغزالي الذي‬
‫يدين في اكتساب معارفه للفلسفة وفنونها نكرانه لذلك وهدمه لها وهجومه عليها‪ .‬فتصدّى هنا ابن رشد مسلّحا بك ّل ما‬
‫للعقل الفلسفي من حجج وبراهين للخلط والتمويه الذي تسبب فيه الغزالي وبقيّة المتكلّمين من األشاعرة‪ ،‬فيما بين أشكال‬
‫الخطاب الفلسفي القائم على العقل والبرهان من جهة والديني الكالمي القائم على الجدل و الخطابة واإليهام من جهة‬
‫أخرى‪ .‬و هو يؤكد هنا على ضرورة التمييز و الفصل ما بين الخطابين في نسقيهما‪ ،‬و يدعو إلى مراعاة المخاطَب في‬
‫ملكاته الذهنيّة و ظروفه النفسية أثناء عملية التلقّى للخطاب‪ .‬و هو يدعو بذلك إلى خطاب عقالني رصين موضوعي‬
‫ي شعبوي تبسيطي يعتمد التحريض وحشد االنفعال‬ ‫‪.‬يعتمد منهج اإلقناع بالحجة والبرهان مقابل خطاب تعبو ّ‬

‫وتجدر اإلشارة في هذا المقام إلى أنّ فلسفة وأفكار ابن رشد بقيت في سياق الثقافة العربية اإلسالمية في العصور‬
‫الوسطى دون أثر يذكر‪ ،‬بينما كان لها األثر البالغ في الفكرين اليهودي و المسيحي في نفس العصور‪ ،‬فقد ظهر هنا اتجاه‬
‫ي وفلسفي يعرف في تاريخ الفلسفة الوسيطة باسم الرشديّة‬
‫‪.‬فكر ّ‬

‫أما الشخصية األندلسية الثانية التي أو ّد التع ّرض إليها بالتقديم فهي شخصية أبي عمران موسى ابن ميمون (‪ 1135‬م ــ‬
‫‪ 1204‬م) الفقيه والطبيب و الفيلسوف اليهودي الديانة األندلسي العربي الفكر و الثقافة‪ .‬يعتبر المؤ ّرخ إرنست رينان أنّ‬
‫االنشغال بالفلسفة عند اليهود في السياق العربي اإلسالمي في القرون الوسطى ال يعدو أن يكون إالّ انعكاسا للفلسفة‬
‫العربية اإلسالمية و أحد تمظهراتها‪)2(.‬‬

‫كان شكل التعايش واالندماج اليهودي في السياق العربي اإلسالمي أرضية خصبة م ّكنت المف ّكرين اليهود من اإلبداع‬
‫والتألّ ق فعرف النتاج الفكري اليهودي في هذه الحقبة أزهي عصوره وأكثرها خصوبة‪ ،‬و يعتبر موسى ابن ميمون نفسه‬
‫نتاجا مباشرا و تعبيرا بارزا لهذا النمط من التعايش اليهودي العربي اإلسالمي كما يشهد ويؤكد على ذلك األستاذ حاييم‬
‫الزعفراني قائال‪ ":‬كان ابن ميمون نتاج مجتمع وحضارة و ثقافة متميزة باالندماج و التعايش بين مختلف مك ّوناتها ‪...‬‬
‫باستثناء المراحل التي شهدت عدم استقرار وأعمال عنف مرتبطة بالنزاع على السلطة وتغيير الح ّكام وانتفاضات‬
‫القصور‪ ،‬كانت السمة الغالبة هي العمل المشترك والتعايش في كنف األمن و السلم" (‪ )3‬وجد ابن ميمون كمتفلسف‬
‫ورجل دين في التفكير المستند إلى العقل والفلسفة قارب النجاة لالعتقاد ولإليمان‪ .‬إيمان واعتقاد يجب حسب رأيه أن‬
‫يتّسق مع العقل ويستجيب له و يُ ْف هم بشكل عقالني‪ ،‬فهو يقبل المعتقد واإليمان الحاصل نتيجة النظر العقلي والتف ّكر‬
‫كمعتقد صحيح‪ ،‬إذ أنّه فقط عند اتّساق اليقين الفلسفي مع االعتقاد اإليماني و ارتباطه به‪ ،‬يُد َْحض عندئذ نقيض اإليمان‬
‫ويثبت االعتقاد الصحيح‪ .‬حيث أنّ بذل قصارى الجهد الفكري وتحصيل المعرفة هي شرط خلود الروح و دخولها في‬
‫‪.‬رحمة هللا‬

‫كأحد الدعاة لعقلنة منظومة التصورات الدينية تسبب ابن ميمون في اختالف الناس حوله وانقسامهم في مواقفهم تجاهه‬
‫ما بين مناصرين ومؤيدين لما يرى وآخرين معادين رافضين له‪ ،‬وصار ابن ميمون من خالل أعماله ومؤلفاته مركز‬
‫استقطاب بالسلب أو باإليجاب لكل من جاء بعده‪ .‬ونال كتابه داللة الحائرين لقرون طويلة لدى المشتغلين بالفلسفة من‬
‫اليهود مكانة توازي تلك التي كانت للتلمود في الحياة الدينية عندهم‪ ،‬حيث أنّ أثره في التاريخ الفكري والثقافي لدى‬
‫اليهود كان كبيرا بحيث أنّه ال يمكن لمن جاء بعده أن يُغفل أو يهمل ما طرحه من إشكاليات وأسئلة أو أن يأخذ بما يقدّمه‬
‫‪.‬العلم دون أن يف ّرط في تقاليده الثقافية وفي انتمائه الديني‬

‫كان اله ّم األ ّول البن ميمون باختصار هو تنقية التص ّورات الدينية اليهودية من السمات الخرافية والميثولوجية فيها‬
‫وصبغها بصبغة عقالنية‪ .‬لقد كان ك ّل من مف ّكرينا األندلسيين ابن رشد وابن ميمون ذا نزعة واتجاه عقالنيين إالّ أنّهما‬
‫اختلفا في الغايات والمنهج‪ ،‬وهما يقدّمان لنا بذلك نموذجين على درجة من التشابه والتباين في اآلن نفسه مما يزيد من‬
‫‪.‬إمكانية وفرصة االستفادة والتعلّم منها‬

‫لقد ش ّك ل ابن ميمون خاصة من خالل مؤلفه داللة الحائرين وتأثيره الكبير وما أثاره من جدل فرصة لتلقّي وتس ّرب الفكر‬
‫ق له طريقا بل وثبّت له مكانة في السياق اليهودي‪ .‬وقد صار ك ّل منهما مرجعيّة وسلطة معرفية سواء‬ ‫الرشدي‪ ،‬الذي ش ّ‬
‫في سياق الالّهوت والتأويل والتفسير أو الفلسفة وأخذ مكانة ثابتة‪ ،‬وتتجلّي هذه المكانة مثال من خالل الرسالة التي بعث‬
‫بها تلميذ ابن ميمون يوسف بن عقنين إلى أستاذه وصاغها بأسلوب أدبي تغلب عليه طريقة المجاز يعبّر له فيها عن حبّه‬
‫البنته ويخطبها منه أي ابنة ابن ميمون و يقصد بها الفلسفة‪ ،‬وجاء في هذه الرسالة‪ ... „ :‬أعجبتني هذه الصبية‪ ،‬فعقدت‬
‫عليها خطبتي على الشريعة وما أُنزل على طور سينا‪ ،‬و تز ّوجتها بثالثة أشياء‪ ،‬بأن أعطيتها حبي مهرا‪ ،‬وم ّكنتها عشقي‬
‫َع ْقدا ألني ِه مت بها‪ ،‬و عاملتها معاملة الزوج عذراءه‪ .‬وبعدها أحببت منها أن تتربع على سرير الزوجية‪ ،‬لم آخذها‬
‫بحب وربطت روحي بروحها‪ ،‬وجرى ك ّل هذا أمام عدلين اثنين‬ ‫ّ‬ ‫إغراء و ال رعونة‪ ،‬و إنما أعطتني حبّها ألني بادلتها حبّا‬
‫ذائعي الصيت‪ ،‬وهما أبو عبيد هللا (ابن ميمون) وابن رشد" (‪ .)4‬هذه الشهادة األولى للتأثير المتنامي لفكر ابن رشد في‬
‫أوساط المف ّك رين اليهود و حضوره بينهم كمرجعية في نقاشاتهم و حواراتهم ليس فيما يتعلق بقضايا وبمواضيع فلسفية‬
‫‪.‬فقط بل تتعدّاها إلى قضايا تفسير وتأويل نصوص التوراة والتراث التلمودي‬

‫وت ّم الرجوع إلى ابن رشد ليس فقط في العديد من شروح و ملخصات داللة الحائرين البن ميمون ولكن في العديد من‬
‫األعمال والمؤلّفات الفلسفية األخرى لمفكرين آخرين‪ ،‬حيث ت ّم االعتماد على مؤلّفات ابن رشد واالستشهاد بها كمراجع ال‬
‫يمكن االستغناء عنها من طرف المفكرين اليهود‪ .‬ولقد كانت أعمال ابن رشد أيضا هدفا لهجوم العديد من رجال الدين‬
‫اليهود وتحريمهم لتداولها وما جاء فيها من أفكار رأوا فيها خطرا يهدد نقاء العقيدة و ثباتها كما يرونها ويريدون لها هم‬
‫‪.‬أن تكون‪)5(.‬‬

‫لقد ش ّكلت الرشدية اليهودية جزءا هاما وتأسيسيّا في صيرورة العقالنية في السياق اليهودي‪ ،‬إذ أنّ حضور ابن رشد لدى‬
‫المفكرين اليهود يعتبر في ح ّد ذاته لحظة تأسيسية للعقالنية في التاريخ الثقافي لدى اليهود‪ ،‬لقد حظي ابن رشد من خالل‬
‫أشكال التلقي المستم ّر له في السياق اليهودي بما ُح ِرم منه في السياق العربي اإلسالمي وغلب عليه من تجاهل ونسيان‪.‬‬
‫أسباب ودواعي و خصائص الحضور المتميز البن رشد في السياق اليهودي وتلك التي تعود لغيابه وانعدام تأثيره في‬
‫السياق العربي اإلسالمي‪ ،‬كلّها مازالت حسب رأيي تشكو نقص الوضوح وعدم االنجالء التا ّم لها‪ ،‬حيث تنقص األبحاث‬
‫المع ّم قة التي تتناولها‪ ،‬و في هذا السياق يمكن أن تساعدنا الدراسة المقارنة ألشكال التلقي لفكر ابن رشد في تل ّمس إجابة‬
‫عن هذا السؤال المهم‪ .‬تتجاوز النظرة أو المقاربة لتاريخ العقالنية في السياق اليهودي وخصوصا في العصور الوسطى‬
‫ومحاولة فهمها الحدود الدينية بمفهومها الضيق‪ ،‬إذ أنّ اليهودية في أبعادها الفكرية والثقافية في العصور الوسطى ولكن‬
‫قبل ذلك أيضا في العصر الهيلينستي‪ ،‬قد ساهمت بحيوية وحضور مثمر ومث ٍر في الحراك الثقافي والفكري ضمن السياق‬
‫‪.‬الحضاري والتاريخي الذي ُوجدت فيه‬

‫وينبغي عند مقاربة مختلف االتجاهات الثقافية و الفلسفية و الدينية العقائدية والكالمية التي كان لها وجود وتأثير في‬
‫اليهودية في القرون الوسيطة والتعاطي معها‪ ،‬أن يكون ذلك ضمن إطار سياق أوسع يؤخذ بعين االعتبار‪ ،‬هو السياق‬
‫الثقافي والحضاري العربي اإلسالمي‪ ،‬حتى نحقق إدراكا وفهما أكثر شمولية و عمقا ً ودون ابتسار لهذه الظاهرة‪ .‬هذا‬
‫يقودنا إلى سؤال يعتبر طرحه من قبيل االفتراض‪ ،‬يبدو من الوهلة األولى استفزازيا إالّ أنّه يمكن أن يكتنه أهمية منهجية‪،‬‬
‫وهو هل أنّ نشوء وتط ّور رشديّة عربية إسالمية في القرون الوسطى كان يمكن أن يكون مماثال للرشدية اليهودية التي‬
‫وجدت فعليّا لو كان لها أن توجد؟ إنّ االنشغال بالبحث واالهتمام بالرشدية كظاهرة فلسفية ال ينبغي أن يكون في حدود‬
‫البحث التاريخي البحت أو يتح ّو ل ويختزل في إطار االهتمام المتحفي واألركيولوجي الخالص باألفكار العتيقة‪ ،‬إنّ مقاربة‬
‫‪.‬اختزالية بهذا الشكل تعتبر عقيمة وغير ذات أثر في سياقنا الحاضر‬

‫إنّ ابن رشد كفيلسوف مسلم شهد حضورا و تأثيرا متواصال تجاوز الحدود الثقافية و الدينية‪ ،‬ولم تمنع خصوصية انتمائه‬
‫الثقافي والحضاري من إشعاع فكره في أنساق وسياقات ثقافية مختلفة عنه أو على األصح عن التي وجد هو فيها وف ّكر‬
‫‪.‬وتفلسف ضمن شروطها‬

‫تقودنا األسئلة و اإلشكاليات والتعليالت التي تثيرها أشكال التلقي المختلفة لفكر ابن رشد سواء في السياق المسيحي أو‬
‫اليهودي منها إلى النتيجة التالية وهي أنّ مناط االختالف في القبول أو الرفض لفكر ابن رشد وتنميط تلقيّه ليس ذات‬
‫طبيعة ثقافية أو دينية بالمعنى الضيّق للكلمة بل هو أبعد من ذلك‪ ،‬إنّه يتعلّق ببنية العقل و تكوينه والصيرورة العقالنية‬
‫التي يشهدها الخطاب السائد‪ .‬كانت المواقف سواء في حياة ابن رشد أو في أشكال التلقي له الالّحقة محكومة ومحدّدة‬
‫ي دور ذي أهمية مؤثّرة‪ ،‬إذ أنّ المف ّكرين‬
‫بمقولة العقالنية والعقل‪ ،‬و لم يكن هنا للخصوصية الدينية أو الثقافية أ ّ‬
‫العقالنيين أو الفالسفة سواء كانوا مسلمين يهودا أو مسيحيين ال يختلفون عن خصومهم في ذلك الذين كانوا بدورهم‬
‫كذلك مسلمين يهودا و مسيحيين‪ ،‬و قد ألّفوا كلّهم و كتبوا أعمالهم بالعربية آو العبرية أو الالتينية‪ .‬فمثال ابن رشد و‬
‫الرشدية في السياقات المختلفة تؤكد على أنّ العقل والعقلنة في األخذ بها أو رفضها ليست مرتبطة بدين أو لغة أو ثقافة‬
‫‪.‬بعينها بل هي ظاهرة تخترقها جميعا وتتواجد ضمنها جميعا‬

‫إنّ مقاربة الفكر الفلسفي البن رشد على هذا النحو كأحد أبرز نماذج التفكير الفلسفي في السياق العربي اإلسالمي يمكن‬
‫أن تكون مفيدة ومساعدة من أجل تأسيس خطاب أنسنة عقالني في السياق العربي اإلسالمي المعاصر‪ .‬و في خض ّم هذا‬
‫االنشغال و االنهماك المعرفي من أجل تحقيق هذه الغاية ال ينبغي أن يكون إحياء ابن رشد كفكر وشخصية مرجعية‬
‫يتوج ب أن ال يخلو ذلك من الممارسة النقدية الغير منقطعة‪ ،‬المتسمة بالعقالنية الرصينة المتزنة‬
‫ّ‬ ‫تاريخية هدفا في ذاته بل‬
‫تماشيا مع الروح الرشدية وليس من أجل تمجيد احتفالي لشخصية تاريخية حتى وإن كانت هذه الشخصية هي البن رشد‪.‬‬
‫‪0‬‬

‫وتلعب هنا المراجعة التحليلية التفكيكية النقدية للفكر الرشدي عموما وللرشدية على وجه األخص دورا مه ّما من أجل‬
‫ق حيوي بهدف تأسيس خطاب عقالن ّي معاصر في السياق العربي اإلسالمي‪)6(.‬‬ ‫مقاربة موضوعية وتحقيق شكل تل ّ‬

‫إنّ مقاربة بهذا المعنى وبهذه الغاية للرشدية وألشكال تلقي فكر ابن رشد ـ سواء في السياق اليهودي أو في السياق‬
‫المسيحي األوروبي ـ يمكن أن تكشف لنا أبعادا فلسفية أخرى و تفتح آفاقا أرحب من ناحية و توفّر لنا من ناحية أخرى‬
‫مدخال إضافيّا لتحقيق إدراك لآلخر ولفهمه بشكل أفضل ـ في هذه الحال اآلخر هو اآلخر اليهودي و األوروبي‪ .‬إنّ االهتمام‬
‫بالفكر الرشدي وبالرشدية من خالل هذه المقاربة يحقق مكسبا وفائدة معرفية بدرجة أولى يتحقق من خاللها إدراك مغاير‬
‫‪.‬للذات وإدراك أفضل لآلخر‪ ،‬ضمن صيرورة معرفية تثاقفية‬

‫‪------------------------‬‬
‫الهوامش‬:

* ‫هذه الورقة ألقيت كمداخلة في الملتقى الدولي حول موضوع الحضارة اإلسالمية في األندلس في القرن السادس‬
‫ بتنظيم من المجلس اإلسالمي األعلى‬، 2007 ‫ أفريل‬2,3,4 ‫ في الجزائر العاصمة أيام‬، ‫ الثاني عشر الميالدي‬/ ‫الهجري‬

1-‫أنظر في هذا السياق ك ّل من الدراسات التي أعدّها األستاذ الباحث (الجزائري األصل) موريس روبين حيّون حول تاريخ‬
‫الثقافة اليهودية من الشرق إلى الغرب و دراسة الباحث األستاذ (المغربي األصل) حاييم زعفراني حول يهود األندلس و‬
‫المغرب‬. . H. Zafrani: Juifs d’Andalousie et du Maghreb, Chap. III: Le Dialogue socio-
culturel judéo-musulman en Andalousie et au Maghreb . Maisonneuve & Larose. Paris
1996. Et M.R. Hayoun: Les lumières de Cordoue à Berlin , une Histoire intellectuelle du
judaisme Bd. I., Chap. «L’universphilosophico-kabbalistique». Ed. JC Lattès 1996

. 2- 175 .‫ ص‬. ‫ إرنست رينان ابن رشد و الرشدية‬Ernest Renan: Averroes et l averroisme,
Maisonneuve et Larose Paris. 1997. p.175

3-Haim Zafrani: „Les sources arabes et leurs contribution à la formation et au


développement de la pensée et des traditions culturelles juives: Maimonides Pelerin
dmonde intellectuel judeo-muslman, article paru en „Un trait d union entre l orient et l
occident 11-1985. p.61 Symposiion de l academie du royaume du Maroc.

4-‫ مرجع سابق‬: ‫ و انظر أيضا إرنست رينان‬1999 ‫ مراكش‬.210 ‫ ص‬. ‫ ابن رشد و الفكر العبري الوسيط‬: ‫أحمد شحالن‬
139-138 .‫ ص‬.

5- ‫ ابن رشد و‬:‫أنظر في هذا الصدد الدراسة القيّمة ألنكا فون كوجلجن‬-6 215-211 .‫ ص‬. ‫ مرجع سابق‬: ‫أحمد شحالن‬
‫ الحداثة العربية‬Anke von Kügelgen: Averroes und die arabische Moderne. Ans?tze zu einer
Neubegründung des Rationalismus im Islam.
)0( ‫) | روابط تعقيبات‬1( ‫ | التعليق‬19:31 ‫حررة بواسطة هيئة التحرير في الفلسفة والفكر في‬

‫تعليقات‬
)‫أعرض التعليقات على شكل (تخطيطي | متواصل‬

If I were a Teangee Mutant Ninja Turtle, now I'd say "Kowabunga, dude!"

You might also like