Professional Documents
Culture Documents
1
لقــد رأيتنــا ونحن فــي الشــركات الصناعية ننتقل مــن نظرية
إلــي أخــرى ومن مستشــار غربــي إلى آخــر ،لكن تلــك النظريات
لــم تبــرح أدراجهــا ،وخــرج أولئــك المستشــارون بأمــوال طائلــة
وخرجنــا نحــن بنتــف قليلــة مــن المفهــوم العــام لــم تغــن عنــا
فــي جانــب التطبيــق شــيئا ،فظللنــا نــدرس شــيئا ونطبــق آخر.
وظلــت القيــادة اإلســتبدادية هــي الغالبــة فــي العالــم
العربـ�ي( .)Sarayrah ،2004
ظهــرت فــي الســبعينات الميالديــة مــن القــرن الماضــي
نظريــة فــي القيــادة تســمى Servant Leadershipأو القيــادة
بالخدمــة ،والتــي وضــع لبنتهــا األولــى مديــر شــركة AT&T
الســابق .Robert Greenleafوكنــت أحســب أن هــذه النظريــة
هــي المخلصــة لنــا ممــا نحــن فيــه مــن القيــادة الدكتاتوريــة
فــي كثيــر مــن مؤسســاتنا وشــركاتنا و ذلــك أنهــا تتفــق فــي
مفهومهــا العــام مــع المثــل العربــي الســائد «ســيد القــوم
خادمهــم» ،فحرصــت علــى دراســتها والتعمــق فــي مبادئهــا
وأسســها ،إال أننــي وجدتنــي وبعــد طــول دراســة و تنقيــب،
أبحــث فــي دوالب ذلكــم الشــخص عــن ثــوب يناســبني!
2
فحرصــت علــى الخــروج منــه وبــدأت أدرس مبــادئ القيــادة مــن
المنبــع اإلســامي الرصيــن فــي كتــاب اللــه وســنة رســوله
ﷺ ،فــكان أن خــرج هــذا الكتــاب.
اللهــم مــا كان فيــه مــن صــواب فمنــك وحــدك ال شــريك
لــك ومــا كان فيــه مــن خطــأ فمــن نفســي ومــن الشــيطان
وأســتغفر اللــه وأتــوب إليــه.
3
4
سريعة ع ِن القيادةِ
ٌ ٌ
لمحة
بالخدم ِة
ِ
Servant Leadership
5
كان Robert Greenleafهــو أول مــن وضــع هــذا المســمى
( )Servant Leadershipإال أن مفهــوم القيــادة بالخدمــة
قديــم قــدم التاريــخ ،فقــد جــاء فــي بحــث Barnabas,
((( Anbarasu and Paulأن مفهــوم القيــادة بالخدمــة يرجــع
إلــى ألفــي ســنة قبــل الميــاد ،فهــذا الفيلســوف الصينــي
Lao-tsuوالــذي عــاش فــي القــرن الســادس قبــل الميــاد
يشــجع علــى القيــادة غيــر اآلمــرة والتــي تنحــو بالقائــد
جانبــا عــن حــب الــذات .وكتــب Chanakkyaفــي القــرن
الرابــع قبــل الميــاد أن القائــد الجيــد ليــس مــن يرضــي
نفســه ولكــن مــن يرضــي مرؤوســيه .وجــاء علــى لســان
عيســى عليــه الســام فــي أنجيــل متــى أنــه علــم حوارييــه
« لكــن العظيــم منكــم هــو خادمكــم» ()Matthew, 11:23
وفــي العهــد االســامي حفــظ التــراث لنــا المثــل القائــل –
6
قصــة كتــاب «رحلــة إلــى الشــرق»((( وفحــوى القصــة يــدور
حــول مجموعــة مــن األشــخاص ذهبــوا فــي رحلــة طويلــة ومعهم
خــادم لهــم يســمى ( Leoليــو) وهــو بطــل القصــة ،فحيــن
يكــون ليــو موجــود ًا تســير الرحلــة بأمــن وســام وإذا غــاب
ألي عــارض توقفــت الرحلــة وذهــب القــوم شــذر مــذر .وبعــد
عــدد مــن الســنوات اكتشــف الــراوي للقصــة أن ليــو لــم يكــن
تزعــم الرحلــة منــذ بدايتهــا،
خادمــا بــل القائــد الفعلــي الــذي ّ
ولذلــك فــإن ليــو والــذي كان يظــن أنــه مجــرد خــادمٍ ،كان فــي
الواقــع قائــد ًا بالخدمــة .وعليــه اســتنتج Greenleafالكثيــر
مــن الــدروس مــن هــذه القصــة وأخــرج لنــا مفهوم ـ ًا جديــد ًا
للقيــادة هــو القيــادة بالخدمــة (.) Servant Leadership
يقــوم مبــدأ القيــادة بالخدمــة علــى أن القائــد هــو
خــادم بالدرجــة األولــى لمــن تحــت يــده((( فهــو يتحســس
حوائجهــم ويتعاهدهــم حتــى يرتقــوا بأنفســهم إلــى
أعلــى درجــات التفــوق((( ،وهــو أيضــا يزيــل العوائــق مــن
((( (.)Reinke, 2004
7
طريقهــم ليكونــوا أكثــر تركيــز ًا فيمــا يخــدم مصالحهــم
(((
العمليــة ومصالــح المؤسســة التــي ينتمــون إليهــا
6.التصور التكاملي
7.بعد النظر
((( ()spears,2006
8
8.الرعاية ،للموظفين والمنظمة
9
ومحاولــة زرعهــا فــي العالــم العربــي واإلســامي بشــكلها
ـاء على عــدة دراســات أثبتت
الحالــي لــن تجدي شــيئا ،وذلــك بنـ ً
محدوديــة نجــاح النظريــات الغربيــة فــي العالــم الشــرقي(((.
وانطالقــ ًا مــن دراســة أعدهــا برنامــج البحــوث العالمــي
فــي ((( 2007فــإن ردود األفعــال لتصرفــات معينــة تعتمــد بشــكل
أســاس علــى البيئــة المنبثــق منهــا التصــرف مــن جهــة ،ثــم ردة
الفعــل مــن جهــة أخــرى .فــردة فعــل الغربــي لتصــرف غربــي
هــي غيــر ردة فعــل العربــي لتصــرف غربــي ،فزيــادة بســيطة
فــي الراتــب قــد تعنــي الكثيــر لموظــف غربــي بينمــا نقــل
عمــل موظــف مســلم بجــوار والديــة قــد تكــون أحــب إليــه ولــو
فقــد بعضــا مــن راتبــه .وقــد قــام برنامــج البحــوث العالمــي
بدراســة لتلــك الفروقــات ،وأخــرج لنــا الشــكل رقــم 1صفحــة
رقــم .16
يمثــل الشــكل رقــم 1نتيجــة لدراســة تباعــد الحضــارات
وتقاربهــا ،فتجــاور األقاليــم فــي الشــكل يعنــي قربهــا حضاريــا
مــن بعضهــا البعض،مــا يــؤدي إلــى ســهولة نقــل المفاهيــم
((( ()Turnbull, 2010
10
والقيــم فيمــا بينهــا .وتقابــل األقاليــم يعنــي ُبعدهــا حضاريــا
عــن بعضهــا البعــض وبالتالــي صعوبــة نقــل القيــم والمفاهيــم
بينهــا.
إن إقليــم الشــرق األوســط يقــع بجــوار أوروبــا الشــرقية
ومقابــل للمنحدريــن مــن أصــول إنجليزيــة ،لــذا يصعــب
حســب هــذه الدراســة جلــب نظريــة ُولــدت فــي الواليــات
المتحــدة وتطبيقهــا فــي العالــم العربــي نظــرا لتبايــن الثقافات
والمبــادئ.
وبنــاء علــى ذلــك فــإن جلــب نظريــة القيــادة بالخدمــة
إلــى العالــم العربــي لــن يغنــي عنــا شــيئا ،إذ البــد لنــا مــن
أن نســتخلص نظريــة قياديــة خاصــة بنــا تنبثــق مــن مبادئنــا
وقيمنــا ،فــكان أن تبلــورت نظريــة شــجرة القيــادة.
11
سويسرا : 1تقع شمال الكونفدرالية السويسرية ويتحدثون اللغة األلمانية
سويسرا : 2تقع جنوب الكونفدرالية السويسرية ويتحدثون اللغة اإليطالية
أفريقيا الجنوبية : 1في جنوب أفريقيا نصف عدد السكان ذوو أصول أفريقية
أفريقيا الجنوبية : 2القسم اآلخر من سكان جنوب أفريقيا ذوو أصول اوروبية
12
بودي ِة
ّ الع
ُ ض
ُ ر
ْ َ أ
13
14
أوال
قبــل أن نبــدأ فــي الحديــث عــن شــجرة القيــادة دعونــا ً
نصــف األرض التــي ينبغــي أن تــزرع فيهــا تلكــم الشــجرة أال
وهــي أرض العبوديــة.
ال ينفــك المســلم فــي هــذه الحيــاة عــن كونــه عبــدا للــه
تعالــى ،وهــو بذلــك يحقــق غايتــه ومقصــوده مــن هــذه الحياة
ــن َو ْ َ َّ ْ ُ ُ ال َََّ َ َْ ُ ْ
(((
النــس إِل ِلَعبــد ِ
ون﴾ ِ ِ كمــا قــال تعالى﴿ومــا خلقــت
فالقيــادة جــزء مــن العبــادة شــاء القائــد المســلم أم أبــى ،فــا
ينبغــي للقائــد المســلم أن يغفــل هــذا الجانــب المهــم فــي
حياتــه القياديــة ،فهــو يــزرع فــي هــذه الدنيــا لمــا ســيجنيه
فــي اآلخــرة.
15
اإللهــي والتوفيــق الربانــي.
إن القائــد المســلم البــد لــه أوال أن يختــار األرض المناســبة
لغــرس شــجرته القياديــة حتــى تؤتــي أكلهــا كل حيــن بــإذن
ربهــا ،وال أرض تنفــع لذلــك ســوى أرض العبوديــة للــه تعالــى.
فشــجرة القيــادة تســتمد مادتهــا وغذاءهــا مــن أرض
العبوديــة ألن القائــد نفســة عبــد للــه تعالــى ،فــا بيئــة
أنســب لحياتــه مــن العبوديــة لخالقــه .ثــم إن مــواد أرض
العبوديــة مــن تقــوى اللــه و التــوكل عليــه واالســتعانة
بــه و رجائــه والخــوف منــه وحســن الظــن بــه و الرضــا
بقضائــه وغيرهــا ،تــزود شــجرة القيــادة بالمــواد األساســية
لصالحهــا وثباتهــا أمــام عواصــف الحيــاة العاتيــة.
وكمــا أن القائــد بحاجــة للمــواد األساســية مــن أرض
العبوديــة فهــو أيضــا بحاجــة ماســة لتخليــص تلــك األرض
مــن شــوائبها التــي تحــرم شــجرة القيــادة مــن اإلســتفادة
العظمــى مــن المــواد الالزمــة لحياتهــا .ومــن تلــك الشــوائب
الحســد ،واألثــرة ،والكبــر ،والظلــم ،والريــاء ،والخيانــة،
و ســوء الظــن ،والنفــاق ،وحــب الدنيــا ،وغيرهــا .وهــذه
16
الشــوائب قــد تكــون خفيــة علــى القائــد وال يعلــم بوجودهــا
ولــذا فهــو بحاجــة لتلمــس مقاصــد أفعالــه ومــاذا يريــد
منهــا ومــا مــدى مطابقتهــا لمــراد اللــه تعالــى منــه.
و قــد ورد فــي األثــر أن أبــا ذر رضــي اللــه عنــه جــاء إلى رســول
اللــه ﷺ يطلــب منــه الواليــة علــى أي جهــة مــن الجهــات-
فتأمــل رد النبــي ﷺ( :-يــا أبــا ذر ،إنــك ضعيــف ،وإنهــا أمانــة
وإنهــا يــوم القيامــة خــزي وندامــة ،إال مــن أخذهــا بحقهــا
وأدى الــذي عليــه فيهــا)((( إن المحصلــة النهائيــة التــي يريدنــا
النبــي ﷺ أن نراعيهــا هــي يــوم القيامــة ،فالقائــد الضعيــف
أو غيــر األميــن -وســنتطرق لهذيــن الوصفيــن الحقــ ًا -
ســيجني خــزي وندامــة يــوم القيامــة ،فيــوم القيامــة ينبغــي
أن ال يغيــب عــن حــس القائــد فــي كل حركــة أو ســكنة ومــع كل
قــرار أو خطــة قلــم .البــد للقائــد المســلم أن يســتحضر النيــة
الصالحــة فــي كل أعمالــه وأن يراجــع نيتــه ويســتحضر مــراد
اللــه منــه فــي هــذا المنصــب قبــل العمــل وأثنــاءه وبعــده
حتــى ينجــو يــوم القيامــة.
إن العبوديــة تعنــي أن يســتحضر القائــد أن أعمالــه
((( رواه مسلم( ) 1457 / 3رقم .1825
17
الصالحــة تزيــده توفيقــا فــي حياتــه القياديــة و أن
معاصيــه تحرمــه التوفيــق ،فكلمــا أكثــر المــرء مــن
الصالحــات وابتعــد عــن المعاصــي وفقــه اللــه وســدد
نــرهُ ۗ﴾((( ،
ُ ﴿و َلَنــر َّن َّ ُ
الل َمــن يَ خطــاه كمــا قــال تعالــى َ
ــم َو ُيثَ ّب ْ
ــت ك ْ َ ُ ُ َّ َ َ ُ ْ ُ
ثــم فــي قولــه تعالــى ﴿إِن تنــروا الل ينص
ِ
َْ َ َ ُ
كـ ْ
ـم﴾((( وهــذه اآليــة وإن وردت فــي الجهــاد إال أن معناهــا أقدام
عــام ألن مفعــول ينصركــم محــذوف وهــذا عنــد علمــاء البالغة
يفيــد العمــوم أي ينصركــم فــي كل شــأن مــن شــؤونكم ،والقيادة
مــن أهــم الشــؤون التــي يحتــاج القائــد فيهــا نصــر اللــه .لكــن
ذلــك النصــر مــن اللــه كمــا رأيــت مشــروط بــأن ينصــر القائــد
اللــه وذلــك بالقيــام بدينــة كمــا قــال الســعدي رحمــة اللــه(((.
إن الذنــوب فــي أرض العبوديــة كدابــة األرض التــي تــأكل
شــجرة القيــادة فتنخرهــا حتــى تســقط أو تضعــف فــا تؤتــي
أكلهــا كمــا يــراد منهــا ،فينبغــي للقائــد أن يتعاهــد أرض
العبوديــة التــي يعتــزم غــرس شــجرته فيهــا بالعنايــة ،وذلــك
40 ((( سورة الحج ،آية
((( سورة محمد ،آية 7
((( تيسير الكريم المنان في تفسير كالم الرحمن (ص )926
18
بتزويدهــا بمــا تحتاجــه مــن األعمــال الصالحــة التــي تنفعهــا
وتجنيبهــا المعاصــي التي تفســدها وتســلبها رونقهــا ونضارتها.
وال ريــب أن هــذا العمــل مــن االســتزادة مــن الطاعــات والتجافي
عــن المعاصــي هــو أشــرف مــا يقــوم بــه القائــد لنفــع نفســه
أوال ثــم نفــع مــن تحــت يــده ،قــال الشــيخ الســعدي رحمــه اللــه
ْ َ َّ ـن أَ ْغ َفلْ َنــا قَلْ َبـ ُ
ـه َعــن ذِك ِرنــا َوات َب َع ﴿و َل تُطـ ْ
ـع َمـ ْ فــيتفســيرقولــهتعالــى َ ِ
َ
ـرهُ فُ ُر ًطــا﴾((( (ودلــت اآليــة علــى أن الــذي ينبغــي أن ـواهُ َو َك َن أ ْمـ ُ
َهـ َ
يطــاع ،ويكــون إمام ـ ًا للنــاس ،مــن امتــأ قلبــه بمحبــة اللــه،
وفــاض ذلــك علــى لســانه ،فلهــج بذكــر اللــه ،واتبــع مراضــي
ربــه ،فقدمهــا علــى هــواه ،فحفــظ بذلــك مــا حفــظ مــن
وقتــه ،وصلحــت أحوالــه ،واســتقامت أفعالــه ،ودعــا النــاس
إلــى مــا مــن اللــه بــه عليــه ،فحقيــق بذلــك ،أن ُيتبــع ُويجعــل
إمامــ ًا)(((.
وقبــل أن ننهــي هــذا الفصــل البــد لنــا أن نبيــن أن واقــع
العمــل اإلداري الحالــي فــي العالــم اإلســامي يئــن مــن وطــأة
البعــد عــن مفاهيــم القيــادة اإلســامية كنتيجــة بدهيــة لبعــد
٢٨ ((( سورة الكهف ،آية
((( تيسير الكريم المنان في تفسير كالم الرحمن (ص )475
19
المســلمين العــام عــن تطبيــق اإلســام فــي شــتى مناحــي
الحيــاة .وقــد يبــدو الحديــث عــن العبوديــة فــي ســياق القيــادة
لــدى بعــض اإلدارييــن نوعــ ًا مــن الغلــو فــي أســلمة العمــل
القيــادي وقــد يبــدو لــدى البعــض اآلخــر حديثــا وعظيـ ًا بعيــد ًا
عــن الواقعيــة والرصانــة .والحقيقــة أننــا ال نســتغرب هــذا
النــوع مــن اإلستشــكال ألنــه نتيجــة لمــا نعيشــه مــن انفصــال
بيــن العلــوم الشــرعية والعلــوم التطبيقيــة .وأحــد أســباب
هــذا االنفصــال هــو أننــا نتيجــة لتقــدم الغــرب فــي العلــوم
التطبيقيــة أصبحنــا نأخــذ عنهــم كل شــيء فــي هــذا المجــال
وال نجــد فــي أدبياتهــم فــي مثــل هــذه العلــوم تطرقـ ًا لمفهــوم
العبوديــة أو اليــوم اآلخــر ،فعندمــا يطــرق ســمعنا ربــط
إستشــكاال ،ألننــا
ً ألعمــال إداريــة بآثــار أخرويــة يســبب لنــا
مارســنا األعمــال اإلداريــة لســنوات عــدة بأدبياتهــا الغربيــة
ولمســنا فيهــا نجاح ـ ًا ،وعنــد ذلــك قــد نجــد أنفســنا نتــردد
فــي قبــول مثــل هــذه العالقــة أو فــي جدواهــا إمــا ألننــا نجحنا
بدونهــا أو ألنهــا أمــور غيبيــة اليمكــن إثبــات أثرهــا بوضــوح فــي
الحيــاة اإلداريــة ببحــث علمــي أو دراســة تجريبيــة.
والحقيقــة أننــا عندمــا نتطــرق لمفهــوم العبوديــة فــي
20
العمــل القيــادي نطمــح لتحقيــق هدفيــن أساســيين:
الهــدف االول :هــو نفــع القائــد نفســه بــأن يســتثمر وقتــه
فــي هــذه الدنيــا لمــا يصلــح بــه آخرتــه وأن ال يغفــل وهــو
يمــارس أعمالــه األدرايــة أنــه عبــد للــه وأن هــذه المســؤولية
عــبء عليــه ،والبــد لــه مــن مراقبــة ً التــي تقلدهــا ســتكون
اللــه تعالــى وطلــب العــون منــه والتســديد حتــى يلقــى اللــه
وهــو متخفــف مــن تلــك األعبــاء مؤديــا لألمانــة قــدر وســعه
وطاقتــه .وأن يتذكــر أن النجــاح القيــادي الدنيــوي أمــر ســهل،
ســبقنا إليــه الكثيــر شــرق ًا وغرب ـ ًا ،ولهــم فــي ذلــك صــوالت
وجــوالت ،لكــن النجــاح الدنيــوي الموصــول بالنجــاح األخــروي
عزيــز إال لمــن وفقــه اللــه لتلمــس العبوديــة فــي أعمالــه كلهــا.
الهــدف الثانــي:أن مالحظــة القائــد لمفهــوم العبوديــة ينفع من
تحــت يــده ألنــه يراقــب أعمالــه ويحاســب نفســه علــى مــا قــدم
لهــم ويخشــى مــن ظلمهــم و يســعى فــي مصالحهــم ما اســتطاع
إلــى ذلك ســبيال فهــو حين يفعــل ذلــك يمــارس دور ًا قياديـ ًا فذ ًا
يجعــل مرؤوســيه يبــادرون لخدمــة المنظمــة التــي يتبعــون لها
بــكل حــب وتفــان وعنــد ذلــك فــا تســل عــن نجاحهــا وتفوقها.
وهــذان األمــران همــا محــك العبوديــة للقائــد .تأمــل هــذه
21
القصــة :عــن ابــن أبــي نجيــح قــال( :لمــا ُأ ِتــي عمــر بتــاج
إن
كســرى وســواريه جعــل ُيقلبــه بعــود فــي يــده ويقــول :واللــه َّ
الــذي َّأدى إلينــا هــذا لَميــن .فقــال رجــل :يــا أميــر المؤمنيــن
ـتـت إلــى اللــه فــإذا َر َت ْعـ َ
ـؤدون إليــك مــا َّأديـ َـن اللــه يـ ُّ
ـت أميـ ُ
أنـ َ
(((
ـالَ :ص َد ْقـ َ
ـت) َر َت ُعــوا .قـ َ
22
َِش َج َر ُة ال ِق َيا َدة
The Leadership Tree
23
24
حيــن يتتبــع المــرء آيــات الكتــاب الحكيــم وســيرة النبــي
ﷺ ،يقــف أمــام صفــات قياديــة باهــرة ظهــرت فــي مواقــف
مختلفــة تســتحث كل قائــد مســلم لممارســتها وتطبيقهــا .انظر
مثــا لقــول إحــدى بنتــي شــعيب ألبيهــا عــن موســى عليــه
ـن﴾((( وقــول يوســف ت الْ َقــو ُّي ْالَ ِمـ ُ ـتأ ْ َج ْر َ
اسـ َـر َمــن ْ الســام ﴿إ َّن َخـ ْ َ
ِ ِ ِ
ّ ْ َْ َ َٰ َ َ َ ْ َْ
َ
ــن الر ِض ۖ إ ِ ِنــي ع خزائ ِ ِ عليــه الســام عــن نفســه ﴿قــال اجعل ِ
ـم﴾((( وقــول اللــه تعالــى في صفــات اإلئمــة ﴿ َو َج َعلْناَ ـظ َعل ِيـ ٌ َ ٌ
حفِيـ
َ ُ َ َ َ ْ َ َ ً َ ُْ ْ
ـروا ۖ َوكنوا بِآيَات َِنــا يُوق ُِنــون﴾((( وصبر ـدون بأمرنا ل َّمــا َصـ َ ُ
ِ ِ
ـم أئ َّمــة َي ْهـ ُ
مِنهـ ِ
النبــي ﷺ وثباتــه ســنوات طــوال فــي مكــة حتــى نصــره اللــه
وأحيــا بدينــه العبــاد والبــاد ،و كذلــك تعامــل النبــي ﷺ فــي
المواقــف المختلفــة والســيما مــع المنافقيــن ،وغيــر ذلــك
كثيــر .هــذا المعيــن الفيــاض مــن الــدروس القياديــة يجعلنــا
نقــف مبهوريــن أمــام عظمتهــا وجاللتهــا ويســتحثنا لتلمــس
بعــض الخطــوط العريضــة لمالمــح القائــد والصفــات التــي
ينبغــي أن يتحلــى بهــا وذلــك لحاجتنــا الماســة ألولئــك القــادة
األفــذاذ فــي جميــع قطاعاتنــا الحكوميــة والخاصــة والخيريــة.
٢٦ ((( سورة القصص ،آية
((( سورة يوسف ،آية ٥٥
((( سورة السجدة ،آية ٢٤
25
شــجرة القيــادة فكــرة تبســيطية لصفــات القائــد الناجــح
َ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ َّ ُ َ ً َ ً
الل َمثــا ك َِمــة مســتوحاة مــن قولــه تعالــى ﴿ألــم تــر كيــف ضب
ـج َرة َط ّي َبة أَ ْ
صلُ َها ثَابـ ٌ
ـت َوفَ ْر ُع َهــا ف َّ َ َ ً َ َ َ
السـ َ
ـماءِ﴾((( تتكون الشــجرة ِ ِ ط ّيِبــة كشـ ٍ ِ ٍ
التــرى بالعيــن لكنهــامــن جــذور وســاق وأغصــان ،فالجــذور ُ
تمــد الســاق واألغصــان بــكل مــا تحتاجــه مــن غــذاء ،وكذلــك
تمتــد فــي األرض لتعطــي الشــجرة الثبــات الــذي تحتاجــة
فــي أوقــات الريــاح أو العواصــف ،والســاق يعطــي الشــجرة
القــوة والتمكيــن ويتفــرع منــه باقــي األغصــان لتحمــل األوراق
والثمــار .وكذلــك شــجرة القيــادة ،فــإن للقائــد تســع صفــات،
أربــع منهــا للجــذور وواحــد للســاق والباقــي لألغصان.أنظــر
الشــكل ص 31
26
27
28
ص أَ َّو ًال
ا ِإل ْخ َل ُ
ســبق وأن ذكرنــا أهميــة التعبــد بالقيــادة للــه تعالــى ،لكننــا
نريــد هنــا أن نذ ّكــر القائــد بصفــة اإلخــاص للــه وهــي شــيء
زائــد علــى مجــرد نيــة العبوديــة ،فالقائــد قــد يســتحضر
العبوديــة للــه لكنــه يرائــي بعملــه أحــد ًا أو يبحــث عــن جــاه
أو ســمعة أو حضــوة لــدى رئيــس أو مســؤول .إذ ًا البــد للقائــد
ويصفيــه مــن ّ ينقــي عملــه
أن ينــوي بعملــة اللــه تعالــى وأن ّ
كل شــائبة تشــوبه مــن حظــوظ الدنيــا وأن ال يريــد إال اللــه
والــدار اآلخــرة ،فــإذا أراد القائــد بعملــه الدنيــا أعطــاه اللــه
منهــا واســتغنى ســبحانه عنــه ألنــه ســبحانه أغنــى الشــركاء
عــن الشــرك ،وأمــا إذا أراد القائــد بعملــه اللــه والــدار اآلخــرة
فســيزيده اللــه توفيقـا وســدادا كمــا قــال تعالــى ﴿ َمــن َك َن يُريـ ُ
ـد
ِ َ
ً ً َ ْ
ْ َ َ ْ ُ َ ْ َ َ َ َ ُ ُ َ ْ َ ُّ ْ ُ ْ َ ْ َ
ادلن َيــانؤت ِـهِمِن َهــا َو َما ُل خــرة ِنـ ِ
ـزدل ِفحرث ِـهِۖومــنكني ِريــدحــرث ـرثال ِ حـ
َّ ْ
ِف ال ِ َ
ـب﴾((( والمقصــود بقولــه تعالــى "حرثــه" أي خــرة ِ ِمــن ن ِصيـ ٍ
عملــه و أجــره ،كمــا قال الســعدي رحمــه اللــه((( .فتأمــل الزيادة
لمــن أراد اآلخــرة والنقــص لمــن أراد الدنيــا بقولــه تعالــى
((( سورة الشورى ،آية 20
((( تيسير الكريم المنان في تفسير كالم الرحمن (ص)891
29
«منهــا» ومــع ذلــك ليــس لــه فــي اآلخــرة مــن نصيــب .إن
اإلخــاص صفــة عزيــزة المنــال وقــد يظــن المــرء أحيانــا أنــه
مخلــص وهنــاك شــرك خفــي قــد خالــط عملــه وهــو ال يــدري،
تأمــل قولــه ﷺ( :الشــرك فــي أمتــي أخفــى مــن دبيــب النمــل
علــى الصفــا)((( .وســبب صعوبــة اإلخــاص علــى النفــس ذكره
التســتري رحمــه اللــه حيــن ســأله ســائل :أي شــيء أشــد علــى
النفــس؟ قــال (اإلخــاص ،ألنــه ليــس لهــا فيــه نصيــب)(((.
ولكننــا نؤكــد علــى هــذه الصفــة للقائــد ونخصهــا بمزيــد
عنايــة ،ألن اإلخــاص بالنســبة للعمــل كالــروح بالنســبة
للجســد ،كمــا قــال ابــن الجــوي رحمــه اللــه((( .وقــد يــرزق
اللــه العبــد التوفيــق والســداد فــي العمــل القليــل الخالــص
فيكــون لــه نتائــج فــوق التوقعــات مــا ال يكــون فــي العمــل
الكثيــر المشــوب بشــائبة ريــاء أوســمعة.
فينبغــي للقائــد أن يولــي هــذه الصفــة مزيــد عنايــة وأن
يتفحــص نيتــه فــي كل عمــل ،مــاذا يريــد منــه ولمــاذا يقــوم
بــه ،فاألعمــال وان كانــت دنيويــة إال أنهــا البــد وأن تصــب
((( صحيح الجامع ()693/1
((( مدارج السالكين ()92/2
((( المدهش ص 418
30
فــي النهايــة فــي قالــب تعبــدي ال محالــة ،فرئيــس القســم أو
المؤسســة أو الوزيــر أو غيــره يعمــل لتوفيــر خدمــة يحتاجهــا
البلــد أو لبــذل منفعــة لقطــاع مــن الشــعب أو لتعليــم أو
تطبيــب أو للــذود عــن حمــى األمــة أو لجلــب مصلحــة
للنــاس أو لدفــع شــر عنهــم أو لدعــوة للخيــر أو لرفــع للظلــم
أو غيــر ذلــك كثيــر ،وهــو فــي كل واحــدة منهــا البــد لــه أن
يســتحضر أنــه يرجــو مــا عنــد اللــه مــن األجــر بإخــاص
العمــل للــه تعالــى .وإذا جاهــد العبــد نفســه علــى اإلخــاص
بــارك اللــه لــه فــي القليــل مــن العمــل فصــار كثيــرا كمــا
الل ل َ َم َ َ َّ َ َ َ ُ َ َ َ ْ َ َّ ُ ْ ُ ُ َ َ َّ
ِإَون َّ َ
ــع قــال تعالــى ﴿والِيــن جاهــدوا فِينــا لهدِينهــم ســبلنا ۚ
ْ ْ
ـدال من "ســبيلنا" ال ُمح ِسـنِني﴾ ((( وتأمــل قولــه تعالى "ســبلنا" بـ ً
داللــة علــى كثــرة األعمــال وبركتهــا.
31
تأمــل معــي ســيرة الخليفــة الراشــد عمــر بــن عبــد العزيــز
والــذي لــم يمكــث فــي الخالفــة ســوى ســنتين ونيــف ،مــاذا
عســاه أن يفعــل فــي ســنتين فــي دولــة متراميــة األطــراف حتى
يفيــض المــال فــا يجــدون فقيــرا يســتحق الــزكاة؟ ليــس ذلك
بعزيــز علــى اللــه حيــن يكــون العبــد مخلصــا لــه فــي ليلــه
ونهــاره وإليــك هــذا الموقــف مــن مواقفــه رضــي اللــه عنــه،
قالــت زوجــه فاطمــة بنــت عبــد الملــك (إن عمــر رحمــه اللــه
كان قــد فــرغ نفســه وبدنــه للنــاس ،كان يقعــد لهــم يومــه فــإن
أمســى وعليــه بقيــة مــن حوائــج يومــه وصلــه بليلتــه إلــى أن
أمســى مســاء وقــد فــرغ مــن حوائــج يومــه ،فدعــا بســراجه
الــذي كان يســرج لــه مــن مالــه ثــم قــام فصلــى ركعتيــن ثــم
أقعــى واضعــا رأســه علــى يــده ،تتســايل دموعــه علــى خــده،
يشــهق الشــهقة فأقــول قــد خرجــت نفســه أو تصدعــت كبــده
فلــم يــزل كذلــك ليلــة حتــى بــرق لــه الصبــح ثــم أصبــح
صائم ـ ًا قالــت :فدنــوت منــه فقلــت يــا أميــر المؤمنيــن لشــئ
مــا كان قبــل الليلــة مــا كان منــك! قــال أجــل ،فدعينــي وشــأني
وعليــك بشــأنك ،قالــت :قلــت لــه إنــي أرجــو أن أتعــظ قــال
إذن أخبــرك ،قــال :إنــي نظــرت إلــي فوجدتنــي قــد وليــت
32
هــذه األمــة صغيرهــا وكبيرهــا وأســودها وأحمرهــا ثــم
ذكــرت الغريــب الضائــع والفقيــر المحتــاج واألســير المفقــود
وأشــباههم فــي أقاصــي البــاد وأطــراف األرض ،فعلمــت أن
اللــه ســائلي عنهــم وأن محمــدا ﷺ حجيجــي فيهــم فخفــت
أن ال يثبــت لــي عنــد اللــه عــذر وال يقــوم لــي مــع رســول اللــه
ﷺ حجــة فخفــت علــى نفســي خوفــا دمــع لــه عينــي ووجــل
لــه قلبــي فأنــا كلمــا ازددت لهــذا ذكــرا ازددت منــه وجــا ،وقــد
(((
أخبرتــك فاتعظــي اآلن أو دعــي!)
إن هــذه المراقبــة للــه تعالــى والخــوف منــه واإلخــاص لــه
هــي الســر الــذي ال ينبغــي أن يخفــى علــى كل مســؤول ليفتــح
اللــه علــى يديــه قلــوب مــن هــم دونــه ،فييســر اللــه لــه مــن
األعمــال واإلنجــازات مــا ال يحصــى.
33
34
األ َ َما َن ُة
التــرى للمتبوعيــن ،ولــذا الصفــة الثانيــة للقائــد والتــي ُ
فهــي جــذر فــي شــجرة القيــادة ،إنهــا األمانــة .تأمــل قــول
الســام علــى لســان إحــدى اللــه تعالــى عــن موســى عليــه
ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ُّ ْ َ بنــات شــعيب ألبيهــا﴿إ َّن َخـ ْ َ
ُ
ـن اســتأجرت القــوِي ال ِمــن﴾(((، ِ ـر َمـ ِ
ـومَ ْ َ َّ
وتأمــل قــول ملــك مصــر ليوســف عليــه الســام ﴿إنــك الَـ ْ
ِ
ـن﴾((( ،وتأمــل الصفتــان اللتــان أشــتهر بهمــا ـن أَ ِمـ ٌ َل ْي َنــا َم ِ
كـ ٌ َ
ـش بِاأل َمي ِن َعلى * * ِصدقِ األ َما َنـ ِة َوا ِإل يفا ِء ب ِّ
ِالذ َمم (((ِ َو ل ََّق َبتـ ُـه ُق َريـ ٌ
قــال شــيخ اإلســام ابــن تيميــة رحمــه اللــه تعالــى :
( واألمانــة ترجــع إلــى خشــية اللــه تعالــى وتــرك خشــية
النــاس وأن ال ُيشــترى بآيــات اللــه ثمنـ ًا قليـ ًـا وهــذه الخصــال
الثــاث التــي أخذهــا اللــه علــى كل حاكــم علــى النــاس فــي
َ
ـت ُروا بِآيَاتِــي ث َم ًنــا َ َ َ ْ َ ُ َّ َ َ ْ َ ْ
ـون َولَا ت َ ْشـ َ
قولــه تعالــى ﴿فــلا تخشــوا النــاس واخشـ ِ
٢٦ ((( سورة القصص ،آية
((( سورة يوسف ،آية ٥٤
((( من قصيدة كشف الغمة في مدح سيد األمة لمحمود سامي البارودي
35
ُ َ ْ َ ُ َ
َ ُّ َ ٰ َ َ َ َ َّ ً َ
(((
ون﴾). ـك ُهـ ُ
ـم الكافِــر
ْ َ ْ ُ
حكــم ب ِ َمــا أنــزل الل فأولئِـ قل ِيــلا ۚ َو َمــن لــم ي
فالقائــد األميــن هــو الــذي يســير فــي النــاس وفــق هدايــة اللــه
تعالــى ال يخشــى إال اللــه وهــو مــع ذلــك ال يشــتري بآيــات اللــه
ثمن ـ ًا قليـ ًـا أي ال يقــدم علــى مــراد اللــه حظ ـ ًا مــن حظــوظ
الدنيــا فــا يرتشــي وال يقــدم قريب ـ ًا أو صديق ـ ًا علــى مــن هــو
أكفــأ منــه وال يحابــي أحــد ًا وال يتنــازل عــن حــق وال يظلــم
لمصلحــة شــخصية فهــو يعطــي كل ذي حــق حقــة.
إن األمانــة فــي هــذا الســياق مفهــوم فــوق حفــظ الودائــع
العينيــة وأدائهــا بــل يتعــدى ذلــك ليشــمل صــدق القــول
والعــدل فــي اتخــاذ القــرار والنزاهــة والــورع وحســن الطويــة.
واألمانــة يصفهــا الغزالــي فيقــول( :فاألمانــة فــي نظــر
ـان شــتى ،مناطها الشــارع واســعة الداللــة ،وهــي ترمــز إلــى معـ ٍ
جميعـ ًا شــعور المــرء بتبعتــه فــي كل أمــر يــوكل إليــه ،وإدراكــه
الجــازم بأنــه مســئول عنــه أمــام ربه)(((واالمانــة عنــد الطاهــر
بــن عاشــور (تســتدعي الحكمــة والعدالــة ،إذ بالحكمــة يؤثــر
األفعــال الصالحــات ويتــرك الشــهوات الباطلــة ،وبالعدالــة
((( السياسة الشرعية (ص )13
((( خلق المسلم (ص ) 45
36
يوصــل الحقــوق إلــى أهلهــا)(((.
قــدم االمــر بــأداء إن اللــه تعالــى فــي ســورة النســاء ّ
األمانــة علــى األمــر بطاعــة ولــي االمــر ولعــل فــي
ذلــك إشــارة – واللــه تعالــى أعلــم -إلــى أهميــة قيــام
قبــل مطالبــة متبوعيهــم بحقوقهــم، ْ
القــادة بواجباتهــم
َ ْ َ َ َ ْ َ
َّ َّ َ َ ُ ُ ُ ْ ُ َ ُّ َ َ
ــات إ ِ ٰل أهل َِهــا ِإَوذا
ــم أن تــؤدوا المان ِ قــال تعالــى ﴿ إِن الل يأمرك
ُ ُ
الل نِعِ َّمــا يَعِظكــم َْ ْ
ــدل ۚ إ َّن َّ َ ــن انلَّ ِ َ َ ْ ُ ُ َ َ
ك ْم ُتــم َب ْ َ ح
ــاس أن تكمــوا بِالع ِ ِ
َّ
اللَ ُ َ َُ َ ً َ َ ُّ َ َّ َ ً َ َّ َّ َ َ َ
بِــهِ ۗ إِن الل كن ســ ِميعا ب ِصــرا 58يــا أيهــا الِيــن آمنــوا أطِيعــوا
ُ َْ ُ َ َُ ََ ُ
ــم ۖ﴾((( ،فالقائــد العــدل ِنك ْ ول ال ْمــرِ م َّ
وأطِيعــوا الرســول وأ ِ
األميــن يســتجلب طاعــة متبوعيــه بــكل يســر وســهولة.
37
ولقــد حــث النبــي ﷺ أمتــه علــى صفــة االمانــة
بأســاليب شــتى فهــو مــرة يجعــل االمانــة دليــل
علــى اإليمــان وعالمــة علــى وجــوده فــي قلــب
ــي ب ن ــا ن ب ط خ ــا م : َــال ق ، العبــد فع أَنــس بــن ما ِل ٍ
ــك
ُّ ِ َ َ َ َ َ َ َ َ ــنْ َ ِ ْ ِ َ
َــه َ ،و َال ِد َ
يــن ــان ِل َمــنْ َال أَ َما َنــ َة ل ُ
ِيم َ (:ال إ َ اللــ ِه ﷺ إ َِّال ق َ
َــال َ
َــه)((( .والحــظ هــذا التكــرار منــه ﷺ ــد ل ُ ِل َمــنْ َال َع ْه َ
لهــذا األمــر فــي كل خطبــة مــن خطبــه .ومــرة أخــرى
يحفــز أتباعــه علــى التحلــي بهــا ويجعلهــا ربــع الدنيــا
ــول اللــ ِه ﷺ ق َ
َــال: ــرو ،أَ َّن َر ُس َ ــد اللــ ِه ْبــ ِن َع ْم ٍكمــا روى َع ْب ِ
الد ْن َيــا:
ــن ُّ ــك ِم َ ــك َمــا فَا َت َ َــا َع َل ْي َ
يــك ،ف َ ــن ِف َ (أَ ْر َب ٌ
ــع ِإ َذا ُك َّ
ـة َ ،و ِع َّفــةٌ ِفــي ـث ،وحســن خ ِليقـ ٍ ٍ ٍ
ـظ أَ َما َنــة َ ،و ِصـ ْـد ُق َح ِديـ َ ُ ْ ُ َ َ ِحفْ ـ ُ
ٍ
ُط ْع َمــة)(((.
38
قــام كل مــن جيــم كوزيــز و بــاري بوســنر بأبحــاث لعــدة
عقــود عــن أهــم صفــات القــادة وقــد شــملت بحوثهــم أكثــر
مــن 75ألــف شــخص عبــر العالــم وكانــت النتيجــة كمــا هــو
مبيــن فــي الشــكل 2ص ،44حيــث كانــت األمانــة هــي الصفــة
األهــم علــى مــر الســنين ،إذ ذكــر %83مــن المشــاركين أن
األمانــة هــي أهــم صفــات القائــد عــام 1987م واســتمرت هــذه
النســبة فــي اإلزديــاد حتــى وصلــت %89عــام 2007م .وعنــد
مقارنــة األمانــة بصفــات أخــرى كالــذكاء مثــا نجــد أن نســبة
الذيــن ذكــروا أن الــذكاء أهــم صفــات القائــد لــم تتجــاوز %49
فــي أحســن األحــوال((( ،وبنــاء علــى هــذه اإلســتبانة والتــي
امتــدت علــى مــدى عشــرين ســنة فــإن أمانــة القائــد تعــد
فــي األهميــة ضعفــي ذكائــه ،وهــذه النتيجــة ليســت فــي
الحقيقــة مســتغربة ألن القائــد محــدود الــذكاء يمكــن أن
يســتعين بمســاعدين أذكيــاء لكــن القائــد الخائــن ال عــاج لــه!
39
40
لكن النجاح الدنيوي الموصول
بالنجاح األخروي عزيز ..إال لمن وفقه
الله لتلمس العبودية في أعماله كلها
41
الرؤ َي ُة ال َي ِقي ِن َّي ُة
ُ
تتحــدث ُجــل -إن لــم يكــن كل -كتــب اإلدارة عــن أهميــة
الرؤيــة والرســالة للمؤسســة ،إذ أن وجــود الرؤيــة والرســالة
لــدى المنظمــة يوحــد الوجهــة ويحــدد الهــدف لجميــع
العامليــن فيهــا ويجعــل كل قطاعــات المنظمــة تســير فــي إيقاع
تناغمــي لتحقيــق تلــك الرؤيــة والرســالة ،أمــا مــن وجهــة
نظــر القيــادة اإلســامية فــإن رؤيــة القائــد البــد أن تكــون
رؤيــة يقينيــة نابعــة مــن يقيــن راســخ ال يتزعــزع بمــا ســتجنيه
المنظمــة أو المؤسســة ،فالــكالم النظــري والشــعارات البراقــة
التــي تكتــب فــي كل مــكان ويرددهــا البعــض بــكل بــرود لــن
تغنــي عــن المنظمــة شــيئا .البــد للقائــد أن يعيــش الرؤيــة
ويكــون مســتيقنا مــن تحققهــا! وســنتحدث بعــد قليــل لمــاذا
كانــت الرؤيــة اليقينيــة جــذرا فــي شــجرة القيــادة.
حينمــا كان النبــي ﷺ والمســلمين مســتضعفين فــي مكــة
أتــاه مــن شــكا لــه الحــال وطلــب منــه النصــرة ،فتأمــل هــذا
الجــواب منــه ﷺ.....( :واللــه ليتمــن اللــه هــذا األمــر
حتــى يســير الراكــب مــا بيــن صنعــاء وحضرمــوت مــا يخــاف
43
(((
إال اللــه تعالــى والذئــب علــى غنمــه ،ولكنكــم تعجلــون)
انــه ﷺ ُيقســم علــى أن اللــه ســيبدل خوفهــم أمنــا وأن ذلــك
ســيحدث ال محالــه ،يقيــن راســخ ورؤيــة تمتــد لســنوات
طويلــة .هــذه الرؤيــة اليقينيــة اســتمطرت كل معانــي الصبــر
والثبــات والتضحيــة لــدى األتبــاع حتــى لكأنهــم يــرون مــا يــراه
ﷺ ،اقــرأ معــي هــذا الحــوار بينــه ﷺ وعــدي بيــن حاتــم قبل
إســامه( :ياعــدي بــن حاتــم أســلم تســلم فإنــي قــد أظــن – أو
قــد أرى أو كمــا قــال رســول اللــه ﷺ – أنــه مــا يمنعك أن ُتســلم
خصاصــة تراهــا مــن حولــي وتوشــك الظعينــة أن ترحــل مــن
الحيــرة بغيــر جــوار حتــى تطــوف بالبيــت ولتفتحــن علينــا
كنــوز كســرى بــن هرمــز ،وليفيضــن المــال – أو ليفيــض –
ـم الرجــل مــن يقبــل منــه مالــه صدقــة) ،قــال عــدي حتــى ُيهـ َ
بــن حاتــم -بعــد أن أســلم( :-فقــد رأيــت الظعينــة ترحــل
مــن الحيــرة بغيــر جــوار حتــى تطــوف بالبيــت ،وكنــت فــي
أول خيــل أغــارت علــى المدائــن علــى كنــوز كســرى بــن هرمــز
وأحلــف باللــه لتجيئــن الثالثــة ،إنــه لقــول رســول اللــه ﷺ
لــي) (((.لقــد مــات عــدي ابــن حاتــم ولــم يــرى الثالثــة لكــن
((( سنن أبي داود ( )47/3رقم 2649
((( صحيح ابن حبان ( )71/15رقم 6679
44
رآهــا مــن بعــده فــي عهــد عمــر بــن عبــد العزيــز رحمــه اللــه
تعالــى.
إن هــذا اليقيــن الراســخ بتلــك الرؤيــة التــي تمتــد إلــى مــا
بعــد مــوت المــرء هــو الــذي يحفــز القائــد وأتباعــه لمواصلــة
الســير والصبــر علــى مــا قــد يالقونــه فيــه مــن عنــت
ومشــقة ،إنهــم يســيرون كالظمــأى لكنهــم يــرون غديــر المــاء
أمــام أعينهــم.
إن الرؤيــة اليقينيــة تقفــز باإلنســان فــوق األســباب الماديــة
ليــرى ممكنــا مــا يــراه غيــره ليــس بممكــن .لقــد قــال الذيــن
َ
تجــاوزوا النهــر مــع طالــوت -أصحــاب الرؤيــة الماديــة ﴿-ل
ـو َم بَالُـ َ َ َ َ َ ْ
ـوت َو ُج ُنــودِه ِ ۚ﴾ فــرد عليهــم أصحــاب الرؤيــة طاقــة لَــا الَـ ْ ِ
َ َ َ َ ُ َّ َ َ َّ َّ َ ُ
ـن َيظ ُّنــون أن ُهــم ُّملقــو اللِ﴾ ﴿ كــم ّ ِمــن ف َِئـ ٍة قل ِيل ٍة اليقينيــة ﴿الِيـ
ـن﴾ فكانــت النتيجــة ـع َّ
الصابريـ َ َّ
الل َمـ َ َّ ْ
ـرة بـإذن اللِ ۗ َو ُ ً َ ََ ْ َ ً َ َ
ِِ غلبــت ف ِئــة كثِـ ِ ِ ِ
َ َ َ ُ ُ ْ َّ
اللِ﴾(((. ﴿فهزموهم بِإِذ ِن
45
لماذا جعلنا الرؤية جذر ًا؟
لقــد قصدنــا إضافــة لفظــة يقينيــة للرؤيــة ألن الرؤيــة
إذا لــم تكــن يقينيــة فــا جــدوى لهــا! إن الرؤيــة اليقينيــة
مغروســة فــي قلــب القائــد وأتباعــه فهــي بالنســبة لــه يقيــن
يــراه ويحســه بــكل حواســه ،إنهــا رؤيــة يــكاد أن يقســم علــى
وقوعهــا ألنــه يراهــا رأي العيــن ،إنهــا يقيــن ال يتطــرق إليــه
االحتمــال والشــك .وألنهــا بهــذه المثابــة كانــت جــذر ًا عميق ـ ًا
فــي شــجرة القيــادة يمدهــا بالثبــات ويغــذي باقــي الصفــات
بمــا تحتاجــه حتــى تتحقــق ،وعندمــا تكــون الرؤيــة يقينـ ًا فــي
قلــب القائــد فــإن صــدق لهجتــه فــي الحديــث عنهــا يتجــاوز
ســمع متبوعيــه إلــى قلوبهــم فهــم يحســون بمــا يحــس بــه
ويــكادون يــرون مــا يــراه ،كمــا قــرأت قبــل قليــل فــي قصــة
عــدي بــن حاتــم ،وهــم كذلــك أقــدر علــى التضحيــة فــي
ســبيلها والصبــر علــى طــول الطريــق فــي الســير إليهــا – كمــا
رأيــت فــي صبــر أصحابــه ﷺ فــي مكــة -ألنهــا أصبحــت
رؤيــة يقينيــة لهــم ،قادهــم لهــا صــدق قائدهــم فــي الحديــث
عنهــا وغرســها فــي نفوســهم.
46
قــام الدكتــور عمــر الصــاوي مــن جامعــة جنــوب كالفورنيــا
بدراســة أثــر عمــق الماضــي فــي نفــس القائــد علــى رؤيتــه
للمســتقبل ،وخلــص بنتيجــة مفادهــا أنــه كلمــا كان الماضــي
أعمــق فــي نفــس القائــد كانــت رؤيتــه للمســتقبل أبعــد ،فقــد
قســم ثالثــة وأربعيــن رئيــس شــركة إلــى مجموعتيــن ،قــام
الرؤســاء فــي المجموعــة األولى بالنظــر لماضيهــم أوال والتركيز
فيــه وتذكــره بعنايــة ثــم كتابــة رؤيتهــم المســتقبلية ،وقــام
الرؤســاء فــي المجموعــة الثانيــة بكتابــة رؤيتهــم المســتقبلية
بــدون تذكــر ماضيهــم .فكانــت النتيجة أن الــرؤى المســتقبلية
للمشــاركين فــي المجموعــة األولــى كانــت أبعــد بمراحــل مــن
الــرؤى للمشــاركين فــي المجموعــة الثانيــة .وعلــق الدكتــور
عمــر الصــاوي علــى هــذه النتيجــة بأننــا نبنــي مســتقبلنا عــن
طريــق االســتقراء لمــا كنــا عليــه فــي الماضــي((( ،وأن الطريــق
للمســتقبل يبــدأ بالنظــر للماضــي .وقــد ذكــر تشرشــل قبــل
أن المــرء ال يســتطيع أن يــرى فــي المســتقبل إال بعمــق رؤيتــه
للماضــي((( ،لــذا فــإن رؤيتنــا المســتقبلية متجــذرة فــي ماضينا
ولــذا فهــي جــذر فــي شــجرة القيــادة.
((((.) Cohn, J. & Moran, J., 2011
47
48
الص ْب ُر
َّ
هنــا محــك العزيمــة! فحاجــة القائــد للصبــر كحاجــة
المــرء للمــاء ،البــد للقائــد أن يصبــر حتــى يحقــق رؤيتــه
اليقينيــة! فلــن تكــون األرض مفروشــة بالــورود .تأمــل حــال
األنبيــاء مــع أقوامهــم هــل كانــت حياتهــم بــردا وســاما؟! كال.
لكنهــم حينمــا كانــت رؤيتهــم يقينيــة واســتصحبوا الصبــر
مكنهــم اللــه فــي األرض وجعلهــم أئمــة تحقيقا طــوال الطريــق َّ
َ َ َ ْ َ ْ ُ ْ َ َّ ً َ ْ ُ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ُ َ َ ُ
لقولــه تعالــى ﴿وجعلنــا مِنهــم أئِمــة يهــدون بِأمرِنــا لمــا صــروا ۖ وكنوا
َ َ ُ ُ َ
ـون﴾((( .وألن القيــادة كمــا ذكرنــا ســابقا عبــادة وطاعة بِآيات ِنــا يوق ِنـ
للــه تعالــى يرجــو مــن ورائهــا القائــد نصــرا ألمتــه أو نجاحــا
دنيويــا فــي مؤسســته أو عمــارة لــأرض أو بــذال فــي قطــاع
خيــري أو غيــر ذلــك فــإن مــن ســنة اللــه تعالــى التــي ال تنفــك
أنــه ال تمكيــن للمــرء إال بعــد اإلبتــاء .ســأل رجــل الشــافعي
رحمــه اللــه فقــال :يــا أبــا عبداللــه أيمــا أفضــل للرجــل أن
يمكــن حتــى يبتلــى، يمكــن أو يبتلــى؟ فقــال رحمــه اللــه( :ال َّ َّ
فــإن اللــه ابتلــى نوحــا وإبراهيــم وموســى وعيســى ومحمــدا
49
مكنهــم،
صلــوات اللــه وســامه عليهــم أجمعيــن فلمــا صبــروا َّ
فــا يظــن المــرء أن يخلــص مــن األلــم البتــة)(((.
وألن القيــادة جــزء مــن العبــادة والعبــادة جــزء مــن
اإليمــان فــإن اللــه ســيختبر صــدق القائــد فــي هــذه
العبــادة بشــتى أنــواع االختبــارات كمــا قــال تعالــى ﴿أَ َحس َ
ِــب
َ َ
ـد َف َت َّنــا َّالِيـ َ
ـن ـون َ 2ولَ َقـ َْ ُ ُ َ َّ َ ُ ْ َ ُ ْ َ ُ َ
تك ـوا أن يقول ـوا آمنــا وهــم ل يفتنـ
ُ َُْ
ـاس أن يانلَّـ ُ
50
ماديــة قــد تحقــق لــه نجاح ـ ًا ظاهــر ًا أو مؤقت ـ ًا وقــد ال يكــون
ذلــك فيخســر الحــظ الدنيــوي واألجــر األخــروي .لــذا فــا
بــد للقائــد أن يتحلــى بالصبــر علــى مــا قــد يالقيــه وهــو
يســير بيقيــن نحــو رؤيتــه.
والتحلــي بالصبــر يعنــي طــول النفــس وعــدم اســتعجال
ُ ْ ََ
ـم فأنـذ ِْر النتائــج! تأمــل كــم مــن الزمــن بيــن قولــه تعالــى ﴿قـ
الل أَفْ َو ً
اجــا﴾
َّ
ـن ِ
ـ ِي د ف
َ َ َ ْ َ َّ َ َ ْ ُ ُ َ
﴾ (((وقولــه تعالــى ﴿ ورأيــت انلــاس يدخلـ
ـون
ِ ِ
(((
51
ييئــس وغيــر ذلــك .تجــد الواحــد مــن هــؤالء يتنقــل مــن
مــكان آلخــر ومــن إدارة ألخــرى ،إن أمثــال هــؤالء لــن يحققــوا
نفعـ ًا عظيمـ ًا ألن الشــجرة ال تثمــر حتــى تضــرب بأعماقهــا فــي
األرض بــكل ثبــات.
آفــة الكثيــر مــن الكفــاءات فــي عالمنــا العربــي واإلســامي
االســتعجال ،فهــم يريــدون تحقيــق الكثيــر مــن النتائــج فــي
أســرع األوقــات وهــذا محــال فــي ســنن اللــه الكونيــة ،فإنــه
تعالــى خلــق الســموات واألرض فــي ســتة أيــام مــع قدرتــه
تعالــى علــى قــول كــن ،وهــذا االســتعجال هــو أيضــا أحــد
األســباب فــي غلــو بعــض الشــباب وتنكبهم الســبيل فــي تحقيق
الخالفــة اإلســامية التــي يزعمــون ،فهــم يريــدون الوصــول
ألعلــى الهــرم بأقــرب وســيلة فيمــا يظنــون ،عــن طريــق
التفجيــرات واالنقالبــات ،بعيــد ًا عــن هــدي الكتــاب والســنة
واســتقالال عــن رأي ذوي البصيــرة مــن العلمــاء وأولــي األمــر.
فينبغــي للقائــد أن يثبــت فــي مكانــه حتــى يصلــب عــوده
وتصقــل مهارتــه وينضــج فكــره مــن خــال الممارســات التــي
ينتهجهــا واالختبــارات التــي يقــع تحتهــا ثــم يبــدأ بعــد ذلــك
فــي العطــاء الالمحــدود .إن أغلــب النجاحــات العظيمــة
52
التــي رأيناهــا كانــت ألنــاس شــابت لحاهــم وهــم ثابتــون علــى
مكــن اللــه لهــم فيمــا هــم فيــه.
مبادئهــم حتــى َّ
ســار ســراقة ابــن مالــك خلــف الرســول ﷺ وصاحبــه فــي
يمنــي نفســه بجائــزة قريــش إن د َّلهــم
هجرتهمــا للمدينــة وهــو ّ
علــى مكانــه ﷺ وصاحبــه ،لكــن اللــه كان يريــد لــه شــيئا
وأجــل .اســتطاع ســراقة رؤيــة النبــي ﷺ ّ آخــر هــو أعظــم
وصاحبــه لكــن قدمــا فرســه ســاخت فــي األرض بقــدرة اللــه
فوعــده رســول اللــه ﷺ بســواري كســرى ان هــو رجــع ولــم
يخبــر قريشــ ًا بمكانهمــا((( ،ففعــل ســراقة رضــي اللــه عنــه
ذلــك لكنــه لــم يلبــس ســواري كســرى إال فــي خالفــة عمــر بــن
الخطــاب رضــي اللــه عنــه!((( انظــر إلــى هــذا الثبــات طــوال
هــذه الســنون ،ألــم يمكنــه رضــي اللــه عنــه أن ّيكــذب وعــد
رســول اللــه بعــد مــرور عــام أو عاميــن؟ ،ألــم يمكنــه أن يرتـ ّـد
بعــد موتــه ﷺ وهــو لــم يحقــق لــه مــا وعــده؟ انــه الصبــر
المتعلــق باليقيــن بالموعــود وصــدق الواعــد.
53
54
الق َّو ُة
ُ
ننتقــل بهــذه الصفــة مــن الجــذور (وهــي الصفــات
الخفيــة) إلــى الســاق (وهــي أولــى الصفــات الظاهــرة) .فــإذا
كانــت صفــات اإلخــاص واألمانــة والرؤيــة اليقينيــة والصبــر
تمثــل الــروح فــإن القــوة تمثــل الجســد بالنســبة للقائــد .وقــد
ذكــر اللــه تعالــى القــوة بوصفيــن مختلفيــن فــي كتابــه العزيــز
همــا القــوة والمكانــة ،فقــد قــال تعالــى حكايــة عــن موســى
علــى لســان أحــدى الفتاتيــن ألبيهــا فــي ســورة القصــص
ـن﴾((( .وقــال الملــك ليوســف ت الْ َقــو ُّي ْالَ ِمـ ُ ـتأ ْ َج ْر َ اسـ َ ﴿إ َّن َخـ ْ َ
ـر َمــن ْ
ِ ِ ِ
ٌ ٌ َ َ َ ْ َ َ َ ْ َ َّ
عليــه الســام﴿إنك الَـ ْ
ـوم لينــا م ِكــن أ ِمــن﴾((( والمكانــة تعنــي - ِ
كمــا قــال الطاهــر بــن عاشــور رحمــه اللــه -القــوة العلميــة
والقــدرة العمليــة((( .فالقــوة للقائــد تعنــي العلــم التــام بمــا
يريــد والقــدرة التامــة علــى تنفيــذ مــا يريــد.
وبمعنــى آخــر فــإن القــوة ماديــة ومعنويــة ،فالماديــة تمثــل
٢٦ ((( سورة القصص ،آية
((( سورة يوسف ،آية ٥٤
((( التحرير و التنوير ( ) 8 / 13
55
قــوة الجســد والممتلــكات ،والمعنويــة تمثــل قــوة العلــم واإلرادة
أال تــرى أن اللــه تعالــى أمــد طالــوت بهاتيــن الصفتيــن
َ َ َُ َ ْ َ ً ْ ْ َ ْ
ال ْســ ِم﴾(((إن قــوة اإلرادة فقــال تعالــى ﴿وزاده بســطة ِف العِلــ ِم و ِ
فــي الســير نحــو الرؤيــة اليقينيــة مبنيــة علــى العلــم
بصــاح تلــك الرؤيــة وأهليتهــا للســير نحوهــا .وهــذه
القــوة فــي العلــم واإلرادة تحتــاج لقــوة الجســم ليصبــر
علــى مــا يالقيــه مــن صعوبــات فــي ذلكــم الطريــق.
وقــوة الجســم ال تعنــي هنــا قــوة جســم القائــد ولكــن
تعنــي قــوة جســم المؤسســة بكامــل إمكاناتهــا مــن موظفيــن
وممتلــكات .أال تــرى أن طالــوت اختبــر قــوة جنــوده فــي
ْ ُ َّ َ َ
ــه إِل ش ُبــوا مِن الصبــر علــى العطــش عنــد عبــور النهــر ﴿ف ِ
ُ َ َ َّ َ ً ْ
ـه﴾((( .إن ـن َآم ُنــوا َم َعـ ُ
اليـ َ قل ِيــا ّمِن ُه ْم﴾(((فلــم يجــاوزه إال ﴿ هــو و ِ
هــذا االختبــار لقــوة الجيــش ونفــي الضعــف عنــه هــو أحــد
ُ َ
الدعائــم الرئيســية لالنتصــار حتــى كانــت النتيجــة ﴿ف َه َز ُموهــم
ْ َّ
المخذليــن
ّ اللِ﴾(((إن القائــد ال ينفــك عــن وجــود بعــض ب ِـإِذ ِن
٢٤٧ ((( سورة البقرة ،آية
((( سورة البقرة ،آية ٢٤٩
((( سورة البقرة ،آية ٢٤٩
((( سورة البقرة ،آية ٢٥٢
56
والخائفيــن والمتقاعســين فــي منظمتــه لكنــه ينبغــي أن يتعامل
معهــم بحــزم كــي ال يخذلــوه عــن تحقيــق مــا يصبــو إليــه.
فأنــت تــرى مثــا أن بعــض مــن جــاوز النهــر مــع طالــوت قــال
ـو َم بَالُـ َ َ َ َ َ َ ْ
ـوت َو ُج ُنــودِه ِ﴾((( وقــال بعــض أصحــاب لــه ﴿ل طاقــة لَــا الَـ ْ ِ
َ ((( َ ْ َ ْ َ َ َ َ ُّ َ َ َ َ َّ َ ُ
اه َنــا قَا ِعـ ُ
ـدون﴾ موســى لــه ﴿فاذهــب أنــت وربــك فقاتِــا إِنــا ه
َ ُ
ِيكــمْ وقــال اللــه عــن بعــض الصحابــة فــي غــزوة تبــوك ﴿وف
ـم﴾((( أي ســماعون لتخذيــل المنافقيــن وصدهــم عن ون ل َ ُهـ ْ
َ َّ ُ َ
ســماع
الجهــاد ،كمــا قــال الســعدي رحمــه اللــه((( .إن القائــد الملهــم
هــو مــن يســتطيع أن يتعامــل مــع هــؤالء بقــوة مــع االحتفــاظ
بخاصيــة االســتيعاب التــي ســنتحدث عنهــا فيمــا بعــد.
والقــوة يختلــف مضمونهــا باختــاف مــكان القائــد والــدور
الــذي يلعبــه .يقــول شــيخ االســام ابــن تيميــة رحمــه اللــه:
( والقــوة فــي كل واليــة بحســبها فالقــوة فــي إمــارة الحــرب
ترجــع إلــى شــجاعة القلــب وإلــى الخبــرة بالحــروب والمخادعة
فيهــا ،فــإن الحــرب ُخ ْد َعــةٌ ،وإلــى القــدرة علــى أنــواع القتــال:
٢٤٩ ((( سورة البقرة ،آية
((( سورة المائدة ،آية ٢٤
((( سورة التوبة ،آية ٤٧
((( تيسير الكريم المنان في تفسير كالم الرحمن (ص )387
57
مــن رمــي وطعــن وضــرب وركــوب وكــر وفــر ،...والقــوة فــي
الحكــم بيــن النــاس ترجــع إلــى العلــم بالعــدل الــذي دل عليــه
الكتــاب والســنة ،وإلــى القــدرة علــى تنفيــذ األحــكام)(((.
58
القوة واألمانة
القــوة واألمانــة للقائــد توأمــان الينبغــي أن يتخلــف أحــد
منهمــا .فالقائــد األميــن الضعيــف ال يغنــي عــن المؤسســة
شــيئا ألن أمانتــه وحدهــا ال تكفــي في دفــع عجلــة اإلدارة لألمام
وال فــي رد المتربصيــن بهــا والكائديــن لهــا ،والمنظمــة التــي
يقودهــا قــوي خائــن ســرعان مــا تهــوي ألنهــا شــجرة خبيثــة
جذورهــا فاســده .إن األمانــة – كمــا يقــول الدكتــور بــكار -
قيــد علــى القــوة ،فهــي التــي تحــدد مجــاالت اســتخدامها
وكيفياتــه(((.
والقائــد القــوي األميــن فــي النــاس قليــل لألســف ،إذ
يقــول شــيخ اإلســام رحمــه اللــه( :إن اجتمــاع القــوة واألمانــة
فــي النــاس قليــل ،ولهــذا كان عمــر بــن الخطــاب رضــي
اللــه عنــه يقــول :اللهــم أشــكوا إليــك جلــد الفاجــر وعجــز
الثقــة)((( .ويقــول الدكتــور عبــد الكريــم بــكار ( :ســوف يظــل
النمــط الــذي يجمــع بيــن القــوة واألمانــة نــادر ًا فــي بنــي
59
اإلنســان وكلمــا اقتربــا مــن الكمــال فــي شــخص صــار وجــوده
أكثــر نــدرة ،والقــوي الــذي ال يؤتمــن ،والموثــوق العاجــز هــم
أكثــر النــاس ،والذيــن فيهــم شــيء مــن القــوة وشــيء مــن
األمانــة كثيــرون ،وقــد روي عــن عمــر رضــي اللــه عنــه قولــه
( :أشــكو إلــى اللــه َج َلــد الفاجــر وعجــز الثقــة) ،فــكل منهمــا
ال يمثــل المســلم المطلــوب ،ودخــل عمــر أيض ـ ًا علــى لفيــف
مــن الصحابــة فــي مجلــس لهــم فوجدهــم يتمنــون ضروبــ ًا
مــن الخيــر ،فقــال :أمــا أنــا فأتمنــى أن يكــون لــي مــلء هــذا
البيــت مــن أمثــال ســعيد بــن عامــر الجمحــي ،فأســتعين
بهــم علــى أمــور المســلمين)((( .لمــاذا ســعيد بــن عامــر؟ ألنــه
قــوي أمين.وعنــد فقــد القائــد المتصــف بالقــوة واألمانــة فــإن
(الواجــب فــي كل واليــة األصلــح بحســبها ،فــإذا تعيــن رجــان
أحدهمــا أعظــم أمانــة ،واآلخــر أعظــم قــو ًة ،قــدم أنفعهمــا
لتلــك الواليــة ،وأقلهمــا ضــرر ًا فيهــا ،فتقــدم فــي إمــارة
الحــروب الرجــل القــوي الشــجاع وإن كان فيــه فجــور ،علــى
الرجــل الضعيــف العاجــز وإن كان أمين ـ ًا.
وقــد ســئل اإلمــام أحمــد :عــن الرجليــن يكونــان أميريــن
((( في إشراقة آية (ص )87
60
فــي الغــزو ،وأحدهمــا قــوي فاجــر ،واآلخــر صالــح ضعيــف مع
أيهمــا ُيغــزى؟ فقــال :أمــا الفاجــر القــوي فقوتــه للمســلمين،
وفجــوره علــى نفســه ،وأمــا الصالــح الضعيــف فصالحه لنفســه
(((
وضعفــه علــى المســلمين ،فيغــزى مــع القــوي الفاجــر).
وبعــد أن تجاوزنــا الجــذور والســاق نصــل إلــى أغصــان شــجرة
القيــادة والتــي تمثلهــا الصفــات األربــع :اإلحســان و الليــن
واالســتيعاب والشــورى.
61
62
اإلح َس ُان
ْ
ال يقصــد باإلحســان هنــا المرتبــة الثالثــة مــن مراتــب
الديــن بعــد اإلســام واإليمــان وإنمــا يقصــد بــه المعنــى
العــام لإلحســان وهــو بلــوغ الغايــة القصــوى المســتطاعة مــن
تحســين األداء والبلــوغ بــه إلــى أعلــى درجــات االمتيــاز .وهــو
بهــذا المعنــى ينطبــق علــى اإلتقــان المذكــور فــي قولــه ﷺ
(((
( إن اللــه تعالــى يحــب إذا عمــل أحدكــم عمــا أن يتقنــه)
واإلحســان هــو مــراد اللــه تعالــى مــن كل عمــل نعملــه لــه
ســبحانه كمــا قــال تعالــى فــي ثــاث آيــات ليــس لهــن رابعــة﴿
ً َلبْلُ َو ُه ْم َأ ُّي ُه ْم أَ ْ َ ْ ُ َ ُ ْ َ ُّ ُ ْ َ ْ َ ُ َ ً
ـن َع َمــا﴾(((. ح َسـ ُ ـن ع َمــا﴾(((ِ ﴿ ،
ِلبلوكــم أيكــم أحسـ
وإحســان العمــل وإتقانــه ممــا اتصــف اللــه ســبحانه وتعالــى به
ْ َ َ
ـال َتْ َسـ ُ ََ َ
ـب َها فــي خلقــه لهــذا الكــون كمــا قــال تعالــى ﴿وتــرى ِ
البـ
ش ٍء إنَّ ُه َخب ٌُ ْ َ َّ َّ َ ْ َ َ ُ َّ َ َ َ ً َ َ َ ُ ُّ َ َّ َّ َ
ري ب ِ َماِ اب صنــع اللِ الِي أتقــن ك ْ ِ جا ِمــدة و ِه تمر مر الســح ِ
ََُْ َ
ـون﴾((( .وقــد أمرنــا اللــه تعالــى باإلحســان وذكــر أنه يحب تفعلـ
((( حســنه األلباني في صحيح الجامع ( )383/1رقم .1880
((( ســورة الملك ،آية ٢و سورة هود ،آية ٧
7((( سورة الكهف ،آية
((( سورة النمل ،آية 88
63
المحســنين كمــا قال تعالــى ﴿ َ َ ْ ُ َّ َّ َ ُي ُّ ْ ْ
(((
ِب ال ُمح ِ
سـنِني ﴾ ســنوا إِن الل
وأح ِ
وإتقــان العمــل وإحســانه يعنــي اإلجــادة واإلحــكام والضبــط.
وهــذا هــو هاجــس كثيــر مــن المؤسســات والمنظمــات فــي
جميــع القطاعــات فهــي تتســابق للحصــول علــى شــهادات
الجــودة واآليــزو والســيجما وغيرهــا لتضمــن جــودة العمــل
وإحكامــه ألنهــا تصــل بذلــك ألهــداف رســمتها مــن إرضــاء
العميــل ومنافســة الغيــر وتقليــل الهــدر وغيرهــا مــن األهــداف
ذات القيمــة المضافــة.
لكننــا هنــا نريــد مــن القائــد أن يزيــد ذلــك الهــدف ســموا
فينــوي باإلحســان أوال رضــى اللــه تعالــى ،ثــم مــا يصبــو إليــه
مــن أهــداف تحقــق لــه الميــزة التنافســية الشــريفة التــي
تجعــل إدارتــه أكثــر إنتاجــا وأعلــى ربحيــة .ولهــذا الســبب
آثرنــا اختيــار لفــظ اإلحســان علــى غيــره مــن المصطلحــات
كاإلتقــان واإلحــكام والجــودة وغيرهــا.
ولكي يتصف القائد بصفة اإلحسان فإنه بحاجة لتذكر النقاط
التالية-:
64
•أداء عمــل واحــد بإحســان خيــر مــن أداء
أعمــال كثيــرة بدرجــة أقــل منــه لســببين:
الســبب األول :أن اللــه تعالــى ذكــر فــي اآليــات
الســابقة أن االبتــاء فــي هــذه الدنيــا علــى
علــى كثرتــه .كمــا قــال َ
إحســان العمــل َال
ً َ ْ ُ ﴿لَبْلُ َو ُكـ ْ
ـم أيُّكـ ْ
ـم أح َسـ ُ
ـن ع َمــا ۚ﴾((( ولــم تعالــى ِ
يقــل ليبلوكــم أيكــم أكثــر عمــا .ولهــذا
فــإن علــى القائــد أن يســتصحب هــذا المعنــى
وهــو يبــذل جهــده فــي إدارتــه ليكــون عملــه
موافقــ ًا لمــراد اللــه منــه فيمــا يقــوم بــه.
الســبب الثانــي :أن الكثيــر مــن الشــركات
والمؤسســات الناجحــة بــرزت فــي بعــض
منتجاتهــا أو خدماتهــا حتــى عرفــت بهــا مــع
أن لهــا أعمــال أخــرى كثيــرة تشــاركها فيهــا
غيرهــا مــن الشــركات والمؤسســات لكــن
نجاحهــم فــي إتقــان بعــض منتجاتهــم أو
خدماتهــم جعــل لهــم قيمــة مضافــة علــى
غيرهــم مــن منافســيهم.
((( سورة الملك ،آية ٢
65
•اإلحســان يجعــل القائــد يعطــي أكثــر ممــا
عليــه ويأخــذ أقــل ممــا لــه ،وهــو بهــذا
المعنــى يتفــوق علــى كثيــر مــن المعانــي
األخــرى -كاإلتقــان والجــودة -ألنــه ينحــى
بالقائــد نحــو تقديــم غيــره علــى نفســه وجعل
همــوم الموظفيــن وطموحاتهــم وأمالهــم فــوق
همومــه وطموحاتــه وآمالــه ،وعندمــا يشــعر
الموظفــون بذلــك فــا تســل عــن مــدى
بذلهــم وتضحيتهــم وتفانيهــم.
•أن يطبــق اإلحســان بمفهومــه الشــامل؛ يقــول
ﷺ (إن اللــه كتــب اإلحســان علــى كل شــيئ
فــإذا قتلتــم فأحســنوا القتلــة وإذا ذبحتــم
فأحســنوا الذبــح)((( .أرأيــت قولــه"كل
شــيء"! إنــه يشــمل اإلحســان فــي مبتــدأ
العمــل ووســطه ومنتهــاه ،ويشــمل اإلحســان
الحســي والمعنــوي ،ويشــمل اإلحســان القولــي
والعملــي ،ويشــمل اإلحســان للموظــف والعميل
ـورد والمنافــس ،ويشــمل اإلحســان للبيئــة
والمـ ّ
((( رواه مسلم( )1548/3رقم .1955
66
والمجتمــع ،إلــى غيــر ذلــك مــن وجــوه
اإلحســان المختلفــة.
•ينبغــي أن يتذكــر القائــد أن إحســانه ليــس
فضــا منــه بــل هــو مجــرد رد لجميــل اللــه
تعالــى عليــه بمــا أعطــاه إيــاه مــن صنــوف
النعــم المختلفــة ،ومنهــا مــا حبــاه بــه مــن
ـال ،وهــذا امتثــاال لقولــهَ
ووجاهــة ومـ َ
منصــب
َ َ َّ
ـن ُ ْ َ
ســن ك َمــا أح َسـ َ ْ تعالــى َ
الل إِلْــك﴾((( . ﴿وأح ِ
67
68
ـيـن
الـل ُ
ِّ
الغصــن الثانــي مــن أغصــان شــجرة القيــادة هــو الليــن
وهــو المذكــور فــي قولــه تعالــى لنبيــه عليــه الصــاة الســام
َ َ ُ ْ َ َ ْ ُ َ َ ًّ َ َ ْ َ ْ َ َ ُّ َ َ َ ْ َ ّ َ َّ
ـب لنفضوا﴿فبِمــا رحـ ٍة ِمــن اللِ لِ ــت لهم ولــو كنت فظا غل ِيــظ ال ْق َلـ ِ
ـر﴾((( .إن ْ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َ ُْ ْ َ ْ َ ْ ْ َُ ْ َ َ ُْ ْ
ِمــن حولِــك فاعــف عنهــم واســتغفِر لهــم وشــاوِرهم ِف المـ ِ
الليــن كمــا تــرى رحمــة مــن اللــه وهبهــا لنبيــه عليــه الصــاة
والســام كانــت ســببا فــي إقبــال أصحابــه عليــة والتفافهــم
حولــه وتضحيتهــم لمــراده .ولــو عــدم ذلــك -وحاشــاه
ْ َ ْ َ َ َ ُّ
ـك﴾((( ،هــذا وهــو ﷺ -لكانــت النتيجــة ﴿ لنفضــوا ِمــن حولِـ
لديــه مــن األســباب األخــرى مــا يؤيــده ُويقنــع بــه مــن حولــه
مــن القــرآن الــذي ينــزل عليــه بيــن حيــن وآخــر والمعجــزات
التــي وهبهــا اللــه إيــاه كشــق القمــر ،وتســبيح الحصــى فــي
يــده ،وإســرائه ومعراجــه ،وحنيــن الجــذع لــه ،ووفــرة الطعــام
القليــل للنفــر الكثيــر وغيرهــا مــن المعجــزات واآليــات التــي
ُتقنــع مــن حولــه بصــواب دعوتــه وصحــة منهجــه .لكــن
اللــه تعالــى يقــول لــه إن الليــن الــذي وهبــك اللــه إيــاه كان
((( سورة آل عمران ،آية 159
((( سورة آل عمران ،آية 159
69
الســبب الرئيــس فــي بقــاء أصحابــك حولــك وخضوعهــم
لتوجيهاتــك .إذا كان هــذا فــي حقــة ﷺ فكيــف بــك أنــت أيهــا
القائــد وليــس لديــك مــن تلــك المؤيــدات شــيء! وهــذا الليــن
الناتــج عــن الرحمــة غيــر ذلــك الليــن الــذي ســببه دوافــع
آنيــة .إن ليــن الرحمــة ليــن ماديــة ومصالــح شــخصية ومــآرب ّ
أصيــل ال تغيــره الحــوادث وال تؤثــر فيــه المواقــف ،إنــه ليــن
ينبــع مــن القلــب فيصــل إلــى قلــوب التابعيــن ويؤثــر فيهــم،
و هــذا النــوع مــن الليــن يســتحث القائــد علــى العفــو عمــن
تحتــه وتجــاوز ذلــك العفــو إلــى مرحلــة أعلــى وهــي االســتغفار
لهــم ثــم بعــد ذلــك مشــاورتهم فيمــا يهمهــم مــن مصالحهــم
كمــا ســنتحدث عنــه قريبــا فــي صفــة الشــورى ،لذلــك قــال
َ َ ُ ْ َ َ ْ ُ َ َ ًّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ّ َ َّ
تعالــى ﴿ فبِمــا رحـ ٍة ِمــن اللِ لِ ــت لهــم ولــو كنــت فظــا غل ِيــظ القلـ ِ
ـب
َْ ُ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َ ُْ ْ َ ْ َ ْ ْ َُ ْ َ َ َ ُّ
ـم َوشــاوِ ْره ْم ِف ال ْمــرِ﴾(((.
لنفضـوا ِمــن حول ِك فاعــف عنهم واســتغفِر لهـ
إن صفــة الليــن ال تعــارض صفــة القــوة كمــا قــد يفهمــه
البعــض ،فالقــوة يرادفهــا الضعــف ،والليــن يرادفــه
الفظاظــة والغلظــة ،فالقائــد الفــذ قــوي فــي ليــن.
فمحمــد ﷺ الــذي قــال عـــن بـنتـــه فـــاطمة رضي اللــه عنها
70
(فاطمــة بضعــة منــي)((( قال(:لــو أن فاطمــة بنــت محمــد
ســرقت لقطعــت يدهــا)((( فحبــه لهــا وعطفــه عليهــا وشــفقته
بهــا ال يمنعــه مــن إقامــة حــد اللــه فيهــا لــو أنهــا ســرقت
وحاشــاها.
إن القائــد يســتدر بلينــه قلــوب مــن تحــت يــده،
فيطيعــوه حبــ ًا ويمتثلــوا أمــره تقديــر ًا واحترامــ ًا ،إنــه
ليــس بحاجــة للوقــوف علــى رؤوســهم لينفــذوا أوامــره،
بــل هــو معهــم فــي قلوبهــم وهــو حاضــر وإن كان غائبــ ًا.
ـر﴾((( كيــف أتــى بعــد الليــن ﴿و َشــاو ْر ُه ْم ف ْالَ ْ
أرأيــت قولــه تعالى َ
ِ ـ م ِ ِ
والعفــو االســتغفار؟ إنــه يؤيــد مــا نــراه يوميــا فــي حياتنــا
يهبــه
ُ العمليــة مــن أن الموظــف ال يفتــح قلبــه للقائــد وال
قدراتــه وطاقاتــه بحــب ووالء إال إذا أحــس بصــدق القائــد وحبه
لمتبوعيــه وإخالصــه فــي جــذب مــا ينفعهــم ودفع مــا يضرهم.
إن شــعور الموظــف بطيبــة قائــده -ال ضعفــه -وحنــوه علــى
موظفيــه بالليــن والعفــو عــن األخطــاء تفتــح مغاليــق قلبــه
71
بحــب ووالء ليدلــي بــكل مــا لديــه مــن آراء ومقترحــات لصالــح
المنظمــة التــي ينتمــي إليهــا.
الليــن صفــة قياديــة تزيــد الثقــة بيــن القائــد و األتبــاع و
تفتــح المجــال رحب ـ ًا للمبــادرة و اإلبتــكار و تقتــل روح الخــوف
الــذي قــد يســري للنفــوس نتيجــة العنــف أو القســوة ،والليــن
والعفــو واالســتغفار يجعــل مرؤوســيك يحبونــك أيهــا القائــد
حتــى فــي أحلــك الظــروف التــي تمــر بهــا المنظمــة ويجــدون
لــك المعاذيــر فــي مــا قــد يبــدر منــك مــن أخطــاء أو قــرارات
صارمــة تقتضيهــا المصلحــة العامــة أو الظــروف االقتصاديــة
التــي تمــر بهــا المنظمــات مــن وقــت آلخــر.
تأمــل معــي حادثــة غــزوة الحديبيــة وكيــف أنهــم ُمنعــوا
مــن دخــول مكــة مــع أن الرســول ﷺ وعدهــم بدخولهــا وقبلوا
فلمــا فــر َغ ﷺ مــن شــروطا بــدت لهــم جائــرة .قــال الــراويَّ :
الكتــاب وكتابــة الشــروط ،قــال ألصحابــه ( :قومــوا ِ قضيــ ِة
َّ
فانحــروا ثــم اح ِلقــوا ،قــال فواللـ ِه مــا قــام منهــم رجـ ٌـل ،حتــى َ
ٍ
أحـ ٌـد ،قــام فد َخـ َـل على
ـم منهــم َ ـاث ِمــرارَّ ،
فلمــا لــم ُيقـ ْ قــال ثـ َ
ـر لهــا مــا َل ِقـ َ
ـي مــن النــاس ،فقالــت ُّأم َس ـ َلمةَ: ِّأم َس ـ َلم َة فذ َكـ َ
72
ـدا كلم ـ ًة ـم أحـ ً ـم ال ت َك ِّلـ ْ
ـب ذلــك؟ اخـ ُـر ْج ثـ َّ يــا نبــي الل ـ ِهِ ،
أتحـ ُّ َّ
ـر ُب ْد َنــك وتدعـ َـو بحا ِل ِقــك فيح ِل َقــك ،فقــام فخــرج حتــى َ َ
ـ تنح
ـر ُب ْد َنــه ودعــا نحـ َ ـدا منهــم حتــى فعــل ذلــك؛ َ ـم أحـ ً فلــم ي َك ِّلـ ْ
بعضهم فلمــا رأوا ذلــك قامــوا ف َن َحــروا وج َعـ َـل ُ فح َلقــهَّ ، حا ِل َقــه َ
بعضــا َغ ًّمــا)(((، ــل ً يقت ُ بعضهــم ُ بعضــا ،حتــى كاد ُ ــق ً يح ِل ُ
إن فاجعــة القــرار جعلتهــم يقفــون مشــدوهين أمامــه حتــى
أنــه ﷺ يأمرهــم ثــاث مــرات فــا يســتجيبون لــه مــع علمهــم
يبوا ِ َّلِ َول َّ
ِلر ُســو ِل ـتج ُ اسـ َ ويقينهــم بقولــه تعالــى ﴿يَا َأ ُّي َهــا َّالِيـ َ
ـن َآم ُنوا ْ
ِ
يكـ َْ َ َ ُ ْ َ ُْ ُ
ـم﴾((( لكنهــم بعــد ذلــك قامــوا طائعيــن إِذا دعكــم ل ِمــا يي ِ
مختاريــن مستســلمين ألمــره مفوضيــن أمرهــم للــه ورســوله
وإن كان خــاف رغبتهــم ومرادهــم.
َ
ـت ْغفِ ْر ل ُهـ ْ
اسـ َ
إن فــي قولــه تعالــى في هــذه اآليــة ﴿ َو ْ
ـم ﴾((( معنى
عميــق يوحــي بــأن هــذا القائــد يحمــل فــي قلبــه حبا لمــن تحت
إدارتــه يجعلــه يســتقطع جــزأ مــن دعائــه لهــم ليغفــر اللــه لهم
مــا قــد يكــون بــدر منهم مــن أخطــاء علمهــا أو لــم يعلمهــا .إن
73
المرؤوســين ال يــرون ذلــك االســتغفار وال يعلمــون بــه لكنهــم
يحســونه فــي كلماتــك أيهــا القائــد وقراراتــك ،واالســتغفار هنــا
ممــا يميــز القيــادة اإلســامية عــن غيرهــا ولــن تجــد مثــل
هــذه الصفــة القياديــة فــي كتــب القيــادة الغربيــة وال الشــرقية
ألنهــا تنبــع مــن قيمنــا وموروثاتنــا الدينيــة التــي نعتــز بهــا
وتؤثــر فينــا أكثــر مــن غيرهــا ألننــا نجــد فيهــا روحــا تــدب
فينــا وتحفزنــا ال نجدهــا فــي صفــات جلبــت ألينــا وألبســناها
علــى غيــر قناعــة منــا.
ْ ََ َ َ ْ
احــك قــال تعالــى فــي ســورة الحجــر ﴿ َواخفِــض جن
َ ْ ْ ََ َ َ
احــك ـن﴾ ((( وقــال فــي ســورة الشــعراء ﴿ واخفِــض جن ل ِلْ ُم ْؤ ِمن ِـ َ
ـن ال ْ ُم ْؤ ِمن ِـ َ
ـن﴾((( وهمــا آيتــان يأمــر فيهمــا اللــه َّ َ َ َ
ـك مِـ َـن اتبعـ َ
ل ِمـ ِ
تعالــى نبيــه بخفــض الجنــاح للمؤمنيــن وخفــض الجناح-كمــا
عرفــه الســعدي -هــو ليــن الجانــب((( ،فأنــت أيهــا القائــد تــرى
كيــف أن اللــه تعالــى أمــر نبيــه بليــن الجانــب لمــن معــه ألن
ذلــك أدعــى فــي قبولهــم دعوتــه واســتجابتهم ألمــره ،وقــد
74
اســتجاب النبــي ﷺ لهــذ األمــر غايــة االســتجابة حتــى مدحــه
اللــه تعالــى وامتــن بــه َعلــى عبــاده المؤمنيــن فقــال تعالــى
ـك ْم َعزيــز َعلَيْـهِ َما َعن ُِّتـ ْ
ـم َح ِريص
ُ ْ ُْ
ـن أنفسـ كـ ْ
ـم َر ُســول ِمـ
ََ ْ َ َ ُ
﴿لقــد جاء
ِ
ْ ْ َ َْ ُ ْ
ـم بال ُمؤ ِمنِـ َ
(((
ـن َر ُءوف َرحِيم﴾ عليكـ ِ
75
76
اإلس ِت َ
يع ُاب ْ
القــدرة علــى اســتيعاب اآلخريــن والســيما المخالفيــن
صفــة تحتــاج إلــى مــران ُودربــة ،كمــا تحتــاج للنظــر لمــآالت
األمــور التــي ال يراهــا المســتعجلون ،إن القائــد الحكيــم
لديــه القــدرة علــى تحمــل أخطــاء األخريــن واســتيعاب بــذكاء
تجــاوز المتجاوزيــن ألنــه يرتكــب المفســدة الصغــرى تحقيقــا
للمصلحــة الكبــرى ويــرى بعيــن بصيرتــه مــآالت اســتيعابه
لهــم علــى التســرع فــي إجــراء حاســم ضدهــم قــد يحــول دون
االســتفادة منهــم مســتقبال ،أو قــد يضــر بالمنظمــة عاجــا أو
آجــا.
االستيعاب للمخطئ
قــال علــي بــن أبــي طالــب رضــي اللــه عنــه بعثنــي
رســول اللــه ﷺ أنــا والزبيــر والمقــداد بــن األســود ،قــال :
( انطلقــوا حتــى تأتــوا روضــة خــاخ ،فــإن بهــا ظعينــة ،ومعها
كتــاب فخــذوه منهــا ) ،فانطلقنــا تعــادى بنــا خيلنــا ،حتــى
انتهينــا إلــى الروضــة ،فــإذا نحــن بالظعينــة ،فقلنــا :أخرجي
77
الكتــاب ،فقالــت :مــا معــي مــن كتــاب ،فقلنــا لتخرجــن
الكتــاب أو لنلقيــن الثيــاب ،فأخرجتــه مــن عقاصهــا ،فأتينــا
بــه رســول اللــه ﷺ فــإذا فيــه :مــن حاطــب بــن أبــي بلتعــة
إلــى أنــاس مــن المشــركين مــن أهــل مكــة ،يخبرهــم ببعــض
أمــر رســول اللــه ﷺ ،فقــال رســول اللــه ﷺ ( يــا حاطــب مــا
هــذا؟ ) .قــال :يــا رســول اللــه ال تعجــل علــي ،إنــي كنــت
امــرؤ ًا ملصقــ ًا فــي قريــش ،ولــم أكــن مــن أنفســها ،وكان
مــن معــك مــن المهاجريــن لهــم قرابــات بمكــة ،يحمــون بهــا
أهليهــم وأموالهــم ،فأحببــت إذ فاتنــي ذلــك مــن النســب فيهــم
،أن أتخــذ عندهــم يــد ًا يحمــون بهــا قرابتــي ،ومــا فعلــت كفر ًا
وال ارتــداد ًا ،وال رضــ ًا بالكفــر بعــد اإلســام ،فقــال رســول
اللــهﷺ (:لقــد صدقكــم ) .قــال عمــر :يــا رســول اللــه ،دعنــي
أضــرب عنــق هــذا المنافــق ،قــال ( :إنــه قــد شــهد بــدرا،
ومــا يدريــك لعــل اللــه أن يكــون قــد اطلــع علــى أهــل بــدر
فقــال :اعملــوا مــا شــئتم فقــد غفــرت لكــم )((( .أرأيــت هــذا
االســتيعاب لخطــأ جســيم كهــذا؟ إن ذكــر الحســنات الفائتــة
فــي مثــل هــذا الموقــف ال يفعلــه إال القــادة المتصفــون بالحلــم
واألنــاة وعــدم االســتعجال فــي الحكــم علــى األخريــن .لقــد
((( رواه البخاري ( )59/4رقم 3007
78
تذكــر ﷺ أن حاطبــا كان مــن أهــل بــدر قبــل أربــع ســنوات مــن
هــذا الموقــف فكانــت تلــك المنقبــة شــافعة لــه -باإلضافــة
إلــى صدقــه واعترافــه بخطئــه – علــى عــدم المعاقبــة واألخــذ
بالجريــرة.
االستيعاب للجاهل
عــن عبــد اللــه بــن عبــاس رضــي اللــه عنــه قــال قــدم
عيينــة بــن حصــن ،فنــزل علــى بــن أخيــه الحــر بــن قيــس
بــن حصــن ،وكان مــن النفــر الذيــن يدنيهــم عمــر ،وكان القراء
ـوال كانــوا أو شــبان ًا ،فقــال
أصحــاب مجلــس عمــر ومشــاورته ،كهـ ً
عيينــة البــن أخيــه :يــا ابــن أخــي ،هــل لــك وجــه عنــد
هــذا األميــر فتســتأذن لــي عليــه ؟ قــال :سأســتأذن لــك
عليــه ،قــال ابــن عبــاس :فاســتأذن لعيينــة ،فلمــا دخــل قــال:
يــا ابــن الخطــاب ،واللــه مــا تعطينــا الجــزل ،وال تحكــم
بيننــا بالعــدل ،فغضــب عمــر حتــى هــم بــأن يقــع بــه،
أميــر المؤمنيــن ،إن اللــه تعالــى قــال لنبيــه فقــال الحــر :يــا
َ ْ َ ْ ْ ُ ْ َ ْ َُْ ْ ْ ُ ْ ََ
الاهِلِــن﴾((( .وإن ﷺ ﴿:خ ـ ِذ العفـ َ
ـو وأمــر بالعــر ِف وأعــرض عــن َ
ِ ِ ِ
199 ((( سورة األعراف ،آية
79
هــذا مــن الجاهليــن ،فواللــه مــا جاوزهــا عمــر حيــن تالهــا
عليــه ،وكان وقاف ـ ًا عنــد كتــاب اللــه(((.
أيــن القــادة اليــوم الذيــن يســمعون مثــل هــذا التجريــح فــي
أمانتهــم أمــام المــأ ثــم يطفئــون جمــرة الغضــب فــي قلوبهــم
بآيــة مــن كتــاب اللــه؟ إن القائــد ال يعيــش فــي بــرج عاجــي
ال يســمع فيــه إال مــا يرغبــه ويحبــه بــل هــو يخالــط النــاس
ويصبــر علــى أذاهــم ويغفــر لمســيئهم ويتجــاوز عــن جاهلهــم
ويبســط عليهــم بســاط الرحمــة الــذي يســتوعبهم جميعهــم
علــى اختــاف مشــاربهم ومواردهــم.
االستيعاب للمخالف
هــل رأيــت اســتيعابا لمخالــف كاســتيعاب محمــد ﷺ لعبــد
ـي بــن ســلول مــع كل مــا صــدر منــه تجــاه دعوتــه
اللــه بــن أبـ ّ
ﷺ وأصحابــه وشــخصة وعرضــه ،لقــد اتهــم عبــد اللــه بــن
أبــي عائشــة رضــي اللــه عنهــا بالزنــا واتهــم محمــدا ﷺ ّ
وأصحابــه بالجبــن وانســحب بثلــث الجيــش فــي غــزوة أحــد،
إلــى غيــر ذلــك مــن المخــازي ورســول اللــه ﷺ يعفــو عنــه
(((.رواه البخاري ( )60/6رقم .4642
80
ويتحملــه ويصبــر عليــه ،لمــاذا؟ تجــد اإلجابــة فــي نهايــة
الحديــث التالــي.
عــن جابــر بــن عبــد اللــه رضــي اللــه عنــه قــال :كنــا فــي َغــزاةٍ،
المهاجرين رجـ ًـا من األنصــارِ ،فقال األنصــا ِريُّ: َ رجل مــن فكســع ٌ َ
ـن ،فسـ َّـم َعها اللـ ُـه ـرِي :يــا للمهاجريـ َ يــا لَألنصــارِ ،وقــال المهاجـ ُّ
كســع صلــى اللـ ُـه عليــه وسـ َّـلم ،قــال ( :ما هــذا؟ ) فقالوا َ : رســولَه َّ
ـن رجـ ًـا مــن األنصــارِ ،فقــال األنصــار ُِّي :يا رجـ ٌـل مــن المهاجريـ َ
صلى ـي َّ ـن ،فقــال النبـ ُّ لَألنصــارِ ،وقــال المهاجـر ُِّي :يــا لَلمهاجريـ َ
ـتاللـ ُـه عليــه وسـ َّـلم َ ( :دعوهــا فإنهــا ُم ْن ِت َنــةٌ ) ،قــال جابـ ٌـر :وكانـ ِ
ـر ،ثــم صلــى اللـ ُـه عليــه وسـ َّـلم أكثـ َ ـي َّ ِ
ـار حيــن قــدم النبـ ُّ األنصـ ُ
ـي َ :أو قــد ف َعلــوا، ـن ُأ َبـ ٍّ ـرون بعـ ُـد ،فقــال عبـ ُـد اللـ ِه بـ ُ ـر المهاجـ َ ك ُثـ َ
األعـ ُّـز منهــا األ َذ َّل،
ـن َ رج ْعنــا إلــى المدين ـ ِة ُليخر َِجـ َّ والل ـ ِه ل ِئــنْ َ
ـول الل ِهـاب رضــي اللـ ُـه عنــه َ :د ْعنــي يــا رسـ َ الخطـ ِ
ـن َّ فقــال ُع َمـ ُـر بـ ُ
صلــى اللـ ُـه عليه وسـ َّـلم ـي َّ ُّ ـق ،قــال النبـ أضـر ِْب ع ُنـ َـق هــذا المنافـ ِ
يقت ُل أصحا َبه)(((. محمدا ًُ الناس أن
يتح َّد ُث ُ ( َد ْعه ،ال َ
أرأيــت ذلــك االســتيعاب الموفــق لذلكــم المنافــق ،إنــه ﷺ
رأى بعيــن بصيرتــه قبــل عيــن بصــره ضــرر تصفيــة ابــن
((( أخرجه البخاري ( )154/6رقم .4907
81
ســلول علــى الدعــوة فآثــر بقــاءه علــى أن يتحــدث النــاس أن
محمــدا يقتــل أصحابــه .لقــد اســتوعب محمــد ﷺ عبــد اللــه
ـي بــن ســلول حتــى بعــد مماتــه! أمــا كيــف فأليــك هــذا بــن أُبـ ّ
الحديــث.
عــن عمــر بــن الخطــاب رضــي اللــه عنــه قــال :لمــا توفــي
ـي دعــي رســول اللــه ﷺ للصــاة عليــه فقــام عبــد اللــه بــن أُبـ ّ
إليــه فلمــا وقــف عليــه يريــد الصــاة تحولــت حتــى قمــت فــي
صــدره فقلــت يــا رســول اللــه أعلــى عــدو اللــه عبــد اللــه بــن
ـي القائــل يــوم كــذا ،كــذا وكــذا ؟ يعــد أيامــه قــال ورســول أُبـ ّ
اللــه ﷺ يتبســم حتــى إذا أكثــرت عليــه قــال أخــر عنــي يــا
ْ َْ
ــتغفِ ْر خيــرت فاختــرت ،قــد قيــل لــي ﴿:اس عمــر ،إنــي قــد ِّ َ
َ ُ ْ ْ َ َ ْ َ ْ ْ َ ُ ْ َ ْ َ ْ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َّ ً َ َ َ ْ َ َّ ُ َ
الل ل ُه ْم لهــم أو ل تســتغفِر لهــم إِن تســتغفِر لهــم ســبعِني مرة فلــن يغفِــر
﴾(((لــو أعلــم أنــي لــو زدت علــى الســبعين ُغفــر لــه لــزدت .
قــال :ثــم صلــى عليــه ،ومشــى معــه ،فقــام علــى قبــره حتــى
فــرغ منــه .قــال :فعجــب لــي وجرأتــي علــى رســول اللــه ﷺ،
واللــه ورســوله أعلــم .فواللــه مــا كان إال يســيرا حتــى نزلــت
ـم َ َ ٰ ـات َأبَـ ً
ـدا َو َل َت ُقـ ْ ع أَ َحــد ّمِنْ ُهــم َّمـ َ
ـل َ َ ٰ
ََ ُ َ ّ
ع ٍ هاتــان اآليتــان ﴿ول تصـ ِ
82
َ ْ
ـره ِ﴾((( إلــى آخــر اآليــة ،قــال :فمــا صلــى رســول اللــه ﷺ
قـ ِ
بعــده علــى منافــق ،وال قــام علــى قبــره ،حتــى قبضــه اللــه(((.
إن أصحــاب الــرؤى البعيــدة ينفــذون بأبصارهــم للمســتقبل
البعيــد فيقدمــون مــا يحقــق رؤيتهــم ومرادهــم علــى االنتصــار
ـي للنفــس مــن شــخص جاهــل أو مخطــئ أو حتــى مخالــف. اآلنـ ّ
83
84
الشو َرى
ُّ
َْ
ْ ُْ ْ ََ
ــر﴾(((،
قــال تعالــى آمــر ًا نبيــه بالشورى ﴿:وشــاوِرهم ِف الم ِ
(:أمــر اللــه النبــيقــال ابــن جريــر الطبــري رحمــه اللــه َ
ﷺ بمشــاورة أصحابــه فيمــا أمــره بمشــاورتهم فيــه ،مــع
إغنائــه بتقويمــه إيــاه ،وتدبيــره أســبابه عــن آرائهــم؛ ليتبعــه
حزبهــم مــن أمــر ِدينهــم، المؤمنــون مــن بعــده ،فيمــا َ
ـتنوا بســنته فــي ذلــك ،فــي أمــور دينهــم متبعيــن الحــق ويسـ ُّ
فــي ذلــك ،لــم ُيخْ ِلهــم اللــه عــز وجــل مــن لطفــه ،وتوفيقــه
للصــواب مــن الــرأي والقــول فيــه)((( ،فهــو ﷺ يشــاورهم
مــع غنــاه عنهــم بتســديد اللــه لــه وتوفيقــه ألمــره وفــي هــذا
توجيــه لمــن بعــده مــن المؤمنيــن التبــاع ســنته واقتفــاء أثــره
عليــه الصــاة والســام(.قال الضحــاك بــن مزاحـ ٍ
ـم :مــا أمــر َّ َّ
نبيــه ﷺ بالمشــورة إال لمــا ع ِلــم فيهــا مــن اللــه عــز وجــل َّ
الفضــل)((( وقــد َّنفــذ ﷺ أمــر ربــه حتــى قــال أبــو ُهريــرة
ـر مشــور ًة ألصحا ِبه ـدا كان أكثـ َـت أحـ ً
رضــي اللــه عنــه ( :مــا رأيـ ُ
١٥٩ ((( سورة آل عمران ،آية
((( تفسير الطبري ()190/6
((( المرجع السابق.
85
من رســول اللــه ﷺ)(((.
وقــد مــدح اللــه المؤمنيــن بالشــورى فقــال:
ــم﴾((( ،وكان هــذا دأب الــوالة المســلمين ى بَيْ َن ُه ْ
ــور ٰ ﴿ َوأَ ْم ُر ُه ْ
ــم ُش َ
ٍ
طالــب رضــي مــن الخلفــاء و األمــراء .قــال علــي بــن أبــي
االســتعداد
ُ اللــه عنــه ِ ( :نعــم المــؤازر ُة المشــاور ُة ،وبئــس
ـتبداد)((( .وقــال عبدالملــك بــن مــروان رحمــه اللــه( :ألن االسـ ُ
ـي مــن أن أصيــب مــن غيــر أحــب إلـ َّ
ُّ استشــرت
ُ أُخطــ َئ وقــد
مشــورةٍ)((( ،والشــورى تعطــي القائــد عقــا إلــى عقلــه وتقلــل
مــن احتمــال الخطــأ فــي القــرار المتخــذ ،وإن كان مــن خطــأ
فــي القــرار المتخــذ فــإن الالئمــة تخــف علــى القائــد ألنــه
صــدر عــن قــرار اتفــق عليــه أغلــب أهــل الشــورى مــن ذوي
الخبــرة فــي ذلــك الشــأن.
(((
وقــد ذكــر الدكتــور علــي الصالبــي عــدة فوائــد للشــورى
((( دالئل النبوة ( .) 101/4
((( سورة الشورى ،آية ٣٨
والدين (ص)300
((( أدب الدنيا ِّ
(((اآلداب الشرعية ()328/1
((( الشورى فريضة إسالمية (ص )97
86
نجملهــا فيمــا يلــي:
87
•تســديد النظــر إلــى المشــكلة مــن زوايــا متباينــة وبذلك
تنضــاف الــرؤى الجزئيــة بعضهــا إلــى بعــض وتتكامــل
قــدر اإلمــكان.
ومــع كل هــذه الفوائــد وغيرهــا فــا ينبغــي لقائــد أن
يغفــل هــذا العنصــر المهــم مــن عناصــر القيــادة اعتمــادا علــى
قدراتــه وإن عظمــت ،أو تجاربــه وإن كثــرت ،فإنــه بالشــورى
ال يكســب القــرار الصحيــح فقــط بــل يكســب معــه قلــوب
المتبوعيــن وعقولهــم وتفانيهــم للمؤسســة فــي العســر واليســر
و يقــوي فيهــم صفــة اإلنتمــاء للمؤسســة أو المنظومــة ألنهــم
يحســون أنهــم جــزء مــن المنظومــة اإلداريــة ،لهــم مــا لهــا
وعليهــم مــا عليهــا.
وقبــل أن ننهــي هــذا البــاب نذكــر القائــد بــأن الشــورى
تعــود علــى
ونتائجهــا ليســت باألمــر الــذي يستســيغه مــن ّ
فرديــة القــرار وأنــه فــوق الخطــأ ألنهــا تعنــي أن تخضــع لــرأي
األغلبيــة وإن خالــف رأيــك وهــذا مــا لــم يتعــود عليــه أصحــاب
الــرأي الواحــد .وأولئــك يحتاجــون قبــل تفعيــل الشــورى
العجــب واألنفــة حتــى تنجــح الشــورى معالجــة دواخلهــم مــن ُ
88
معهــم وال تكــون صوريــة لتنفيــذ قــرارات اتخذوهــا ســلفا!
وفــي ختــام الحديــث عــن أغصــان هــذه الشــجرة نقــول أن
تلــك الصفــات األربــع قــد تبــدو متباينــة ال عالقــة لواحــدة
منهــا باألخــرى ،لكنهــا فــي الحقيقــة عنــد التأمــل فيهــا
نجدهــا مبنيــة بعضهــا علــى بعــض فــإذا حبــاك اللــه واحــدة
كنــت أقــرب مــن األخــرى .فــإذا كان اللــه يهــب القائــد صفــة
َ َ َ ْ َ ّ َ َّ
اللِ لِ ـ َ
ـت الليــن رحمــة منــه كمــا قــال تعالــى ﴿فبِمــا رح ـ ٍة ِمــن
ـم﴾((( فــإن القائــد يســتمطر تلــك الرحمــة باإلحســان كمــا ل َ ُهـ ْ
ٌ ّ َ ْ َّ َ ْ َ َ َّ َ
ـن ال ُم ْح ِسن ِ َني﴾(((فاإلحســان قــال تعالــى ﴿إِن رحـ
ـت اللِ ق ِريــب مِـ
يقربــك مــن رحمــة اللــه وبرحمــة اللــه يهبــك لينــ ًا ،وإذا
كنــت لينـ ًا كنــت أقــدر علــى اســتيعاب مــن تحــت يــدك ،وعنــد
اســتيعابهم ســيجودون عليــك بآراهــم وقــت المشــورة.
فأحسن تنل لينا يسعفك إلستيعابهم ثم شاورهم
89
90
ُث َل ِث َّي ُة َّ
الت ْث ِب ِ
يت
91
مــا ســتقرأه فــي هــذا القســم لــن تجــده فــي أي مــن كتــب
اإلدارة أو القيــادة الغربيــة ألنــه مســتخلص مــن كتــاب اللــه
وســيرة نبينــا محمــد ﷺ ،وعليــه درج الــوالة المصلحــون فــي
طــول العالــم اإلســامي وعرضــه .فــي هــذا الفصل نســتعرض
ثــاث أعمــال يقــوم بهــا القائــد تصحــح لــه مســاره ،وتعينــه،
وتســدده ،وتجبــر لــه النقــص البشــري فيمــا أراد تحقيقــه
بعــد اتخــاذ الخطــوات الالزمــة ،وتمــده بالمــدد الربانــي الــذي
يحتاجــه فــي كل خطــوة مــن خطواتــه .هــذه األعمــال الثالثــة
هــي كثــاث ســحابات فــوق شــجرة القيــادة ،تمطرهــا بالمــاء
الــازم لثباتهــا ونمائهــا ،أال وهــي الذكــر واالســتغفار والدعــاء.
92
ــر
الـذ ْك ُ
ِّ
ـرا 41 الل ذ ِْكـ ً
ـرا َكثِـ ً ـروا َّ َـن َآم ُنــوا اذْ ُكـ ُ قــال تعالى﴿:يَــا َأ ُّي َهــا َّالِيـ َ
ك ُت ُُ َ َّ ُ َ ّ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ ً َ َ ّ ُ ُ ُ ْ ً ََ
ــه ــي عليكــم ومل ِئ ص ي ِي ال ــو ه 42 يــا ص
ِ وســبحوه بك َ
ــرة وأ
ِ ِ
ً َ َ ْ ُ ْ َ َ َ ُّ َ َ ُ ُّ َ ّ ُ َ ْ
(((
ــات إِل انلــورِ وكن بِالمؤ ِمن ِــن رحِيمــا ﴾43 ِلُخ ِرجكــم مِــن الظلم ِ
َ ُ ْ َ ُ ّ َ ُّ ُ
ـات إِل انلُّــورِ﴾ وهــو ـن الظل َمـ ِ أرأيــت قولــه تعالىِ ﴿:لخ ِرجكــم ِمـ
ـن َآم ُنــوا﴾ ،إنــه اخــراج مــن كل أنــواع الظلمــات يخاطــب ﴿ َّالِيـ َ
التــي قــد يحــس بهــا المــرء وتجعلــه حائــرا فــي أمــره ال يــدري
أيــن الصــواب .إن القائــد بحاجــة ماســة لذلــك النــور الــذي
يأتــي بــه الذكــر ليســير علــى بينــة مــن أمــره ويتخــذ قراراتــه
وهــو يشــعر بصوابهــا مســتمدا ذلــك الشــعور مــن النــور الــذي
هــو فيــه وكأنــه يــرى نتائجهــا المثمــرة قبــل حدوثهــا.
إن الذكــر هــو وصيــة اللــه تعالــى لنبيــه فــي كل حيــن
ْ َ َّ َ ُ ْ ًَ ََ ً َ ُْ
صيل﴾(((وقــال كمــا قــال تعالى﴿:واذك ِ
ــر اســم ربِــك بكــرة وأ ِ
َ َ َ ُّ ً َ َ ً َ ُ َ ْ َ ْ َ ْ ُ َّ َّ َ َ ْ
عــز وجــل ﴿واذكــر ربــك ِف نفسِــك تــرع وخِيفــة ودون اله ِ
ــر
ِــن الْ َغافِل َ ََ َ ُ
كــن ّم َ َ َْ ْ ُْ ُ ْ
ِــن﴾((( ،وقــال ــد ّوِ َوال َصــا ِل ول ت مِــن القــو ِل بِالغ
((( سورة األحزاب ،آية ( ) 43 - 41
((( سورة االنسان ،آية 25
((( سورة األعراف ،آية 205
93
ً ْ َ ُْ
ــك َوتَبَ َّتــل إِلْــهِ تَبْتِيــا﴾((( .وبالذكــر ْ َ َّ َ َ
ســبحانه﴿:واذك ِر اســم رب ِ
يكــون المــرء فــي معيــة اللــه تعالــى كمــا قــال ســبحانه:
َ ُْ ُ َُْ ْ ُ
كـ ْ
ـم﴾((( وهــو وصيــة اللــه للمؤمنيــن جميعــا ون أذكر﴿فاذكــر ِ
ْ َ َّ ُ ْ ُ َ َّ َ ُّ َ َ
ــروا الل ذِك ً
ــرا َ
كمــا قــال ســبحانه﴿:يا أيهــا الِيــن آمنــوا اذك ُ
ـرا﴾((( ،وهــو وصيــة اللــه للمجاهديــن فــي ســبيله كمــا قــال َكثِـ ً
الل َكث ِ ً
ـروا َّ َ َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َ َ ُ ْ َ ً
ـة فَاثْبُ ُتــوا َواذْ ُكـ ُ
ريا تعالى﴿:يــا أيهــا الِيــن آمنــوا إِذا لقِيتــم ف ِئـ
َّ َ َّ ُ
ـم ُت ْفل ُِحــون﴾(((.
كـ ْ لعل
94
ْ َ
َ َ َ َ
َ َ ُ َ َ َ
َ ْ ْ
ــري﴾((( ،فالقائــد ﴿اذهــب أنــت وأخــوك بِآي ِ
ــات ول تنِيــا ِف ذِك ِ
يســتمطر مــدد اللــه لــه وتســديده بذكــره ســبحانه حتــى يــردم
تلــك الفجــوات التــي ال ينفــك عنهــا بنــو البشــر مــن خلــل فــي
التخطيــط أو التنفيــذ أو المراقبــة أو القيــاس أو غيرهــا مــن
خطــوات العمليــة اإلداريــة.
95
اإلس ِتغ َْف ُار
ْ
العامــل الثانــي مــن عوامــل ثبــات شــجرة القيــادة هــو
االســتغفار .واالســتغفار هــو طلــب المغفــرة مــن اللــه تعالــى
لجبــر خلــل وقــع فــي العمــل ،وال يخلــو عمــل المــرء مــن
خلــل فقــد وصــف نبينــا محمــد ﷺ بنــي البشــر بالخطائيــن
(((
فقــال( :كل ابــن آدم خطــاء وخيــر الخطائيــن التوابــون)
ومحمــد ﷺ كان يســتخدم االســتغفار إلزالــة مــا قــد يعلــق
بالقلــب مــن الغشــاوة الرقيقــة التــي قــد تحجبــه عــن الــرأي
الســديد كمــا قــال ﷺ فــي الحديث(:إنــه ليغــان علــى قلبــي
وإنــي ألســتغفر اللــه فــي اليــوم مائــة مــرة)((( .أي أنــه ﷺ
ليغــان علــى قلبــه مــع كثــرة اســتغفاره فكيــف بــك أنــت أيهــا
القائــد؟ وقــال ﷺ(:واللــه إنــي ألســتغفر اللــه وأتــوب إليــه
فــي اليــوم أكثــر مــن ســبعين مــرة)((( .واســتغفاره ﷺ إنمــا
َ ْ ْ
ـر إ َّن َو ْعـ َ
ـد هــو اســتجابة ألمــر مــواله فــي قولــه تعالى﴿فاصـ ِ ِ
96
ْ ْ
َّ َ ٌّ َ ْ َ ْ ْ َ َ َ َ ّ ْ َ ْ َ ّ َ َ ّ َ ْ َ
ـكارِ﴾
(((
البـ ـي و ِ
اللِ حــق واســتغ ِفر ِلنبِــك وســبِح ِبمـ ِد ربِــك بِالعـ ِ ِ
َ َ َ ّ ْ َْ َّ َ َ ْ َ
ــت ْغف ْرهُ ۚ إنَّ ُ
ــه ك َن تَ َّوابًــا﴾(((. وقولــه تعالى﴿فســبِح ِبمــ ِد ربِــك واس ِ ِ
ولإلستغفار فائدتين أخريين ال غنى للقائد عنهما:
أوالهمــا دفــع آثــار الذنــوب الســيئة عــن التأثيــر علــى العمل
القيــادي ألن ذنــوب العبــد فــي الخلــوات والجلــوات تؤثــر عليــه
إمــا بفســاد عملــه أو نقــص آثــاره المتوقعــة .فــكل قائــد يريــد
اإلصــاح لمؤسســته مــا اســتطاع إلــى ذلــك ســبيال لكنــه كمــا
ـت َط ْع ُ
ت ۚ َو َما اسـ َ ْ ُ ُ
ـد إ َّل ْال ْ
ص َل َح َمــا ْ
قــال شــعيب عليــه الســام﴿إِن أرِي ُـ ِ ِ
َّ َ َ ْ َ َ َّ ْ ُ َ
ِإَولْهِ أنِيـ ُ َّ َْ
ـب﴾((( فهو بحاجــة لإلنابة ـي إِل بِــاللِ ۚ عليـهِ توكــت
توفِيـ ِ
واالســتغفار والتوبــة ليرزقــه اللــه التوفيــق الــذي يســاعده فــي
عمليتــه اإلصالحيــة أيــا كانــت ،فينبغــي للقائــد أن ال يغفــل
هــذا الجانــب مــا اســتطاع إلــى ذلــك ســبيال.
الفائــدة الثانيــة:أن القائــد بكثــرة االســتغفار ينفــي الكمــال
عــن نفســة ويعتــرف أمــام ربــه بتقصيــره وضعفــه مهمــا بــذل
97
مــن جهــد وأنــه ال حــول لــه وال قــوة إال باللــه وأنــه ســبحانه إن
تخلــى عنــه فقــد وكلــه إلــى نفســه وإن وكلــه إلــى نفســه وكلــه
إلــى ضعــف .لــذا فالقائــد عندمــا يواظــب علــى االســتغفار فــي
ليلــه ونهــاره فهــو يقــول لنفســه :أتبــرأ مــن حولــي وقوتــي
وأســتغفر اللــه مــن التقصيــر والخلــل وألجــأ إلــى اللــه فــي كل
حــال .ومثــل هــذا االســتغفار بعــد بــذل الجهــد والطاقــة فــي
تحســين العمــل كمثــل االســتغفار بعــد الصــاة والــزكاة كمــا
ـنا ـز َكةَ َوأَقْر ُضــوا َّ َ
الل قَ ْر ًضــا َح َسـ ً َّ َ
ـاةَ َوآتُــوا الـ َّـالص ـوا
ـ قــال تعالىَ ﴿:وأَق ُ
ِيم
َ ِ َ
ـرا َوأ ْع َظـ َ
ـو َخـ ْ ً َ َّ
اللِ ُهـ َ ـر َتـ ُ
ـدوهُ عِنــد ُ ّ ْ َ ْ ُ َُ ّ
ۚ َو َمــا تقد ُِمــوا ِلنف ِ
ـم ســكم ِمــن خـ ٍ ِ
ـم﴾((( وكاالســتغفار بعد أداء الل َغ ُفـ ٌ
ـور َّرحِيـ ٌ ـت ْغفِ ُروا َّ َ
الل ۖ إ َّن َّ َ اسـ َ
ـرا ۚ َو ْ
ً أَ ْ
ِ ـ ج
ْ َ ْ ُ ََ َ ُ َّ َ ُ
فريضــة الحــج كمــا قــال تعالى﴿:ثــم أفِيضــوا ِمــن حيــث أفــاض
ـم﴾(((. الل َغ ُفـ ٌ
ـور َّرحِيـ ٌ ـت ْغفِ ُروا َّ َ
الل ۚ إ َّن َّ َ اسـ َ
ـاس َو ْ انلَّـ ُ
ِ
98
َ َ َ ّ ْ َْ َّ َ َ ْ َ
ـت ْغف ْرهُ ۚ إنَّـ ُ َْ
ـه ك َن تَ َّوابًــا .(((﴾3فالذكر أفواجــا 2فســبِح ِبمـ ِد ربِــك واسـ ِ ِ
َ ً
99
الد َع ُاء
ُّ
بعــد أن بــذل طالــوت كل الســبل فــي نجــاح مهمتــه وكان
معــه القــوم الصالحــون الذيــن عبــروا النهــر واصطــف
الجيشــان للقتــال ،جيــش طالــوت وجيــش جالــوت ،لــم
يبــق إال الدعــاء ،وقــد وصــف اللــه تعالــى ذلــك المشــهد:
َ ُ َ َّ َ َ ْ ْ
غ َعلَيْ َنــا َصـ ْ ً
ـرا َو َث ّبـ ْ َ َ َّ َ َ ُ َ ُ َ َ ُ ُ
ـت ِ َ﴿ولمــا بــرزوا ِلالــوت وجنــودِه ِ قالــوا ربنــا أفـ ِ
ـر
ـو ِم الْ َكف ِريـ َ َْ ََ َ ْ ُ َْ ََ
ع الْ َقـ ْ
ـن﴾((( وبعــد هــذا الدعــاء ،كان ِ أقدامنــا وانصنــا
ُ
ود َجال َ ْ َّ َ َ َ َ َ ُ ُ وه ْ َََُ ُ
ــوت﴾(((. ــم بِــإِذ ِن اللِ وقتــل داو الجــواب مــن الله﴿:فهزم
100
َ َّ َ ْ ْ َ
ـر لَــا هجيراهــم الدعــاء بقولهم﴿:ربنــا اغفِـ ِّ كل هــذا البــذل كان
َ ْ ْ َ َ
صنَــا ع ال َقـ ْ ْ ْ َ ِإَوس َاف َنــا ف أَ ْمرنَــا َوث ّبـ ْ
ـت أق َد َام َنا َوان ُ ْ َ ُذنُ َ
ين﴾. ـو ِم الكف ِر َ وب َنــا ْ َ
ْ ِ ِ ِ ِ
خـ َ َ َ ُ ُ َّ ُ َ َ َ ُّ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ
ـرة ِ ﴾. فكانــت النتيجــة ﴿ فآتاهــم الل ثــواب ادلنيــا وحســن ثــو ِ
اب ال ِ
لمــا كان يــوم بــدر نظــر رســول اللــه صلــى اللــه عليه وســلم
إلــى المشــركين وهــم ألــف ،وأصحابــه ثــاث مائــة وتســعة
عشــر رجــا ،فاســتقبل نبــي اللــه صلــى اللــه عليــه وســلم
القبلــة ،ثــم مــد يديــه ،فجعــل يهتــف بربــه :اللهــم أنجــز
لــي مــا وعدتنــي ،اللهــم آت مــا وعدتنــي ،اللهــم إن تهلــك
هــذه العصابــة مــن أهــل اإلســام ال تعبــد فــي األرض ،فمــا
ـاد ًا يديــه مســتقبل القبلــة ،حتــى ســقط زال يهتــف بربــه ،مـ ّ
رداؤه عــن منكبيــه ،فأتــاه أبــو بكــر فأخــذ رداءه ،فألقــاه علــى
منكبيــه ،ثــم التزمــه مــن ورائــه ،وقــال :يــا نبــي اللــه ،كفــاك
مناشــدتك ربــك ،فإنــه ســينجز لــك مــا وعــدك ،فأنــزل اللــه
عــز وجــل :إذ تســتغيثون ربكــم فاســتجاب لكــم أنــي ممدكــم
بألــف مــن المالئكــة مردفيــن فأمــده اللــه بالمالئكــة(((،
أرأيــت هــذا اإللحــاح فــي الدعــاء وطــول المناشــدة بعــد بــذل
كل اإلمكانــات للنجــاح!
((( رواه مسلم ( ) 1383 /3رقم 1763
101
ـن شـ َّـداد علــى الســلطان صــاح الديــن االيوبــي أن واقتــرح ابـ ُ
يصلــي ركعتيــن ويدعــو اللــه وهــو يــوم الجمعــة ففعــل ،يقــول
ودموعــه َت َت َق َاطـ ُـر علــى شــيبته
ُ ابــن شـ َّـداد ...ورأ ْي ُتــه سـ ِ
ـاج ًدا
حتــى وصــل ـض ذلــك اليــوم َّ ـجا َد ِتهَ ...ف َلـ ْ
ـم َي ْن َقـ ِ ـم علــى ِسـ َّ
ُثـ َّ
الخبــر بــأن الفرنــج مختبطــون ،وجــاء الخبــر فــي اليــوم التالي
َّأن ُزعماءهــم تشــاوروا وهــم كعادتهــم علــى الخيــل ،وجميعهــم
بأنهــم رحلــوا((( . المبشــر َّ راكبــون ثــم جــاء ّ
هــذه األمثلــة وغيرهــا كثيــر تبيــن لــك كيــف أن القائــد
ال ينفــك عــن حاجتــه للدعــاء كــي ينصــره اللــه فــي مهمتــه
القياديــة أيــا كانــت ،إن بــذل األســباب إلنجــاح المهمــة القياديــة
ال معنــى لــه بالنســبة للقائــد المســلم بــا اســتصحاب لمعيــة
اللــه تعالــى والحاجــة إليــه بالتأييــد والتســديد وهــذا ال يأتــي
إال باللجــأ إلــى اللــه بالدعــاء.
102
الخا ِت َم ُة
َ
103
إذا وجــدت أرض العبوديــة فغرســت فيهــا شــجرة القيــادة
واســتمطرتها بثالثيــة التثبيــت فقــد يســرك اللــه لخدمــة
قياديــة جليلــة تنفــع بهــا نفســك ومجتمعــك ،لكننــي أهمــس
فــي أذنــك فــي هــذه الخاتمــة أن األمــر ليــس بالهيــن وأنــك
ســتقابل وأنــت تمــارس بعــض مــا اســتعرضناه هاهنــا ،بعــض
الصعوبــة وذلــك لســببين رئيســيين.
يقــرب
الســبب األول :أن فــي الكثيــر ممــا ســطرناه ممــا ّ
المــرء مــن ربــه ويجعلــه يســير وهــو يســتحضر آخرتــه،
وهــذا منــاف لمــراد الشــيطان ومصــادم لقصــده ،ولــذا فــإن
الشــيطان ســيعمل بخيلــه ورجلــه ليصــدك أيهــا القائد المســلم
عــن العمــل بهــذه األســباب وســيقذف إلــى ذهنــك الكثيــر مــن
اإلشــكاالت حــول جدواهــا ومــدى فعاليتهــا ال ألنهــا صــواب أو
خطــأ وإنمــا ألنهــا تقربــك مــن اللــه والــدار اآلخــرة ،لــذا
فإنــي أوصيــك بــأن تكــون قــادرا علــى الفصــل بــكل حياديــة
بيــن أن نظريــة شــجرة القيــادة فــي مجملهــا عمــل بشــري
يعتريــه الصــواب والخطــأ وال عصمــة لكاتبهــا وبيــن أن بعــض
تفصيالتهــا مبنيــة علــى آيــات قرآنيــة وأحاديــث نبويــة وســيرة
مصطفويــة ال يجــوز لنــا ردهــا أو التشــكيك فــي أثرهــا .فــإذا
104
وجــدت صعوبــة فــي تنفيــذ بعــض مــا ذكــر فــي هــذه النظريــة
فكــن علــى بينــة مــن أمــرك :هــل المشــكلة فــي خطئهــا أم أن
الشــيطان يريــد أن يصرفــك عــن أمــر ينفعــك فــي آخرتــك؟
فــإذا اتضــح لــك الســبيل فســر علــى بركــة اللــه.
الســبب الثانــي :لمــا قــد تالقيــه مــن صعوبــة فــي تنفيــذ
بعــض مافــي هــذه النظريــة حيــث أن بعــض فقراتهــا شــاق
علــى النفــس ويحتــاج تطبيقــه إلــي كثيــر مــن المــران والصبــر
والتحمــل .فاإلخــاص مثـ ًـا مــن أصعــب مــا يمارســه المــرء
فــي حياتــه ألنــه شــاق علــى النفــس وذلــك ألنهــا ال نصيــب لهــا
فيــه ،وكذلــك الصبــر فإنــه مــر الطعــم وقــد تســتمر حاجتــه
مــع المــرء ألشــهر بــل ســنوات ،وقليــل مــن الرجــال مــن
يســتطيع ذلــك ألن كثيــر ًا مــن النــاس ضيــق العطــن قصيــر
النظــر فيحرمــه ذلــك مــن نتائــج الصبــر عظيمــة األثــر حلــوة
المــذاق ،ومثــل ذلــك االســتيعاب فــإن الكثيــر مــن النــاس يميــل
إلــى التخلــص مــن الموظــف الضعيــف أو المخالف ألنــه ال يجد
جــدوى مــن اســتيعابه بعــد قليــل مــن المحــاوالت اليائســة.
وقــل مثــل ذلــك فــي الشــورى فإنهــا تحمــل المــرء علــى تنفيــذ
قــرار قــد يخالــف هــواه أو مــا يــرى أنــه هــو الصــواب.
105
وبعــد هــذا العــرض المبســط لهــذه النظريــة فإني أســتغفر
اللــه مــن كل مــا قــد يكــون فيهــا مــن خطــأ وأبرأ إلــى اللــه من
حولــي وقوتــي إلــى حولــه وقوتــه ،فمــا كان فيهــا مــن صــواب
فهــو منــه وحــده جــل جاللــه وتقدســت أســماؤه ومــاكان فيهــا
مــن خطــأ فمنــي ومــن الشــيطان وأســتغفر اللــه وأتــوب إليــه.
106
107
الم َر ِاج ُع َ
الع َر ِب َّي ُة َ
110
111
الم َر ِاج ُع األ َ ْج َن ِب َّي ُة
َ
112
113
114
115