You are on page 1of 5

‫علي بن محمد علي رشدي‪ " ،‬بين المسائل الشريرة والحلول الخيرة ‪ "،‬مجلة الهندسة (مجلة كلية الهندسة‬

‫بجامعة الملك عبد العزيز)‪ ،‬العدد الثاني‪ ،‬ربيع األول ‪1428‬هـ‪ ،‬أبريل ‪2007‬ج‪ ،‬صفحات ‪.19-16‬‬

‫بين المسائل الشريرة والحلول الخيرة‬

‫إعداد‬
‫أ‪ .‬د‪ .‬عـلي بن محـمـد عـلي رشـدي‬
‫قسم الهندسة الكهربائيةـ وهندسة الحاسبات‬

‫مقدمة‬

‫نود في مطلع هذه المقالة أن نزيل ما قد يوحي به عنوانها ألول وهلة بكون موضوعها دعابيا أو هزليا أو فكاهيا‪,‬‬
‫وخاصة أنه قد سبق لنا مرارا استعمال مصطلح "المسائل الشريرة" لغرض المداعبة‪ .‬فكثيرا ما كان يناشدنا‬
‫طالبنا أن تقتصر أسئلة ومسائل‪ 3‬االختبارات على األنماط واألنواع السهلة المألوفة المكررة‪ ,‬فكنا نجيبهم‬
‫باستحالة أن يكتفي االختبار‪ 3‬السليم بمخاطبة أدنى مستويات التعلم (مستوى المعرفة) فضال عن أن يركز على‬
‫أولى درجات هذا المستوى‪( 3‬درجة اإللمام والدراية البسيطة)‪ ,‬بل يتحتم على االختبار الحقيقي أن يتضمن شيئا‬
‫معقوال مما نسميه "المسائل الشريرة"‪ .‬وكان المعنى المتعارف‪ 3‬عليه ضمنيا بيننا لمفهوم "المسائل الشريرة" أنها‬
‫المسائل التي تختبر مستويات‪ 3‬التعلم األرقى‪( 3‬الفهم والتطبيق‪ 3‬والتحليل والتركيب والتقويم)‪ .‬إننا نستدرك هنا‬
‫فنوضح أن مصطلح "المسائل الشريرة" له داللة علمية عميقة موثقة في أدبيات علوم اإلدارة والهندسة والتخطيط‪,‬‬
‫وهذه الداللة تختلف اختالفا جذريا عن المعنى سالف الذكر‪.‬‬

‫المسائل الشريرة مقابل المسائل الوديعة‬


‫لقد ظهر مصطلح "المسائل الشريرة" أو "المسائل الحرونة" (‪ )wicked problems‬ألول مرة عام ‪1973‬ج‬
‫على يد العالمين ريتل (‪ )Rittel‬وويبر (‪ )Webber‬في مقالة لهما تتحدث عن معضالت تكتنف النظرية العامة‬
‫للتخطيط‪ ,‬وقد تعمدا ببراعة انتقاء الوصف (‪ )wicked‬الذي ال يصم هذه المسائل بأنها شريرة أو حرونة‬
‫فحسب‪ ,‬بل يسبغ عليها أيضا جمهرة من ظالل المعاني السيئة األخرى مثل مؤذية وشرسة وكريهة ومزعجة‬
‫وفظيعة وباهظة‪ .‬لقد كان القصد من تحرير مصطلح "المسائل الشريرة" هو إبراز الفروق الفاصلة بين هذه‬
‫الطائفة من المسائل وطائفة المسائل التقليدية التي اصطلح فيما بعد على تسميتها بالمسائل الوديعة أو المذللة أو‬
‫المروضة (‪ .)tame problems‬ويمكن فهم االختالف بين هذين النوعين من المسائل بمالحظة أن المسألة أو‬
‫المشكلة الوديعة تتميز عن نظيرتها‪ 3‬الشريرة بأنها تتمتع بالخصائص التالية‪:‬‬
‫‪ ‬المسألة الوديعة لها تعريف مستقر حسن الصياغة‪.‬‬
‫‪ ‬المسألة الوديعة تتوقف معالجتها عند نقطة توقف‪ 3‬محددة يتضح عندها تمام التوصل إلى حل للمسألة‪.‬‬
‫‪ ‬يمكن تقويم أي حل مقترح للمسألة الوديعة باعتباره حال صحيحا أو خاطئا‪.‬‬
‫‪ ‬قد تكون المسألة الوديعة معقدة (‪ ,)complex‬ولكنها‪ 3‬تقبل التحليل والحل بالطرائق‪ 3‬التنقيبية المعروفة‬
‫خالل زمن مقبول‪ ,‬ويدخل ضمن ذلك المسائل غير القابلة للتتبع (‪ )intractable‬التي تتطلب‬
‫خوارزميات‪ 3‬حلها زمنا أسيا‪ ,‬ولكن يمكن حلها تقريبيا بواسطة إجراءات تنقيبية سريعة‪.‬‬
‫‪ ‬أية مسألة وديعة تنتمي إلى طائفة من المسائل أو المشاكل الشبيهة التي يمكن حلها جميعها بأسلوب‬
‫مماثل‪.‬‬
‫‪ ‬المسألة الوديعة لها حلول يمكن تجربتها‪ 3‬والعدول عنها إن اقتضى األمر بدون خسائر تذكر‪.‬‬

‫مواصفات المسائل الشريرة أو الحرونة‬

‫المسائل الشريرة أو الحرونة هي مسائل سيئة التعريف (‪.)ill defined‬تتسم باإلبهام (‪ )ambiguity‬وتفتقر إلى‬
‫الحد األدنى من التراضي‪ 3‬أو التوافق‪ )consensus( 3‬بين المعنيين بها على تحديد ماهيتها فضال عن اختيار‬
‫األسلوب المناسب لحلها‪ ,‬ومن ثم فهي تعاني من كثرة اآلراء المتفرقة (‪ )divergent opinions‬حول وسائل‬
‫حلها‪ .‬توجد عشرة معايير‪ 3‬يتم عادة التعرف بها على المسألة الشريرة أو الحرونة‪:‬‬
‫‪ ‬ال توجد صياغة محددة للمسألة الشريرة‪ ,‬ويتعذر إعطاء وصف‪ 3‬تفصيلي لها ما لم يسبق ذلك محاولة‬
‫للسرد المستنفد لكافة الحلول الممكن تصورها‪ 3‬لها‪.‬‬
‫‪ ‬ال تتمتع المسألة الشريرة بقاعدة للتوقف‪ ,‬حيث ال يتم إطالقا بلوغ حل نهائي أو كامل أو تام الصحة‪ ,‬بل‬
‫تتطور المسألة باستمرار وتنبثق‪ 3‬عنها مسائل شريرة أخرى‪ .‬ولذلك ينصح بالتوقف عندما تنضب‬
‫الموارد المخصصة للحل‪ ,‬أو عند التوصل لنتيجة تبدو ظاهريا‪ 3‬أو يمكن جزافا‪ 3‬اعتبارها جيدة بما فيه‬
‫الكفاية‪ ,‬أو عندما يشعر القائمون بالحل بعجزهم عن أن يأتوا بجديد مفيد‪.‬‬
‫‪ ‬حلول المسألة الشريرة ال توصف‪ 3‬بأنها صحيحة أو خاطئة‪ ,‬بل تقوَم ويقارن بينها بوصف‪ 3‬بعضها بأنه‬
‫أفضل أو أسوأ من البعض اآلخر‪ ,‬ومثل هذا التقويم يفتقر إلى الموضوعية إذ يعتمد كثيرا على شخصية‬
‫القائم به ومصالحه الخاصة ومنظومة القيم لديه وانتماءاته الفكرية وما إلى ذلك‪.‬‬
‫‪ ‬يتعذر اختبار الحلول المقترحة للمسألة الشريرة عاجال أو آجال‪ ,‬إذ ال تعرف نتائج وعواقب أي حل إال‬
‫بعد تنفيذه فعال‪.‬‬
‫‪ ‬أي حل للمسألة الشريرة هو عملية متفردة قائمة بذاتها‪ ,‬حيث ال يمكن اختبار الحل بالتجربة والخطأ (‬
‫‪ )trial and error‬ألن عواقب أي حل غير عكوسة (‪ ,)irreversible‬بل إن أية محاولة لتعديل الحل‬
‫بعد تنفيذه أو لتصحيح عواقبه غير المرغوبة تولد مجموعة جديدة من المسائل الشريرة‪.‬‬
‫‪ ‬ليس للمسألة الشريرة مجموعة من الحلول الممكنة يمكن تعدادها أو سردها بصورة مستنفدة‪ ,‬حيث ال‬
‫يوجد معيار معين يحدد نهاية لهذا التعداد‪ ,‬ومن الوارد عدم التوصل إلى أي حل على اإلطالق بسبب‬
‫التناقضات المنطقية في الصورة المطروحة للمسألة‪.‬‬
‫‪ ‬كل مسألة شريرة وحيدة في بابها وفريدة في نوعها‪ ,‬فليس ثمة طوائف‪ 3‬من المسائل أو المشاكل الشريرة‬
‫تتشابه عناصرها بحيث يمكن حلها جميعها بأسلوب مماثل أو باستخدام‪ 3‬نفس المبادئ‪.‬‬
‫‪ ‬كل مسألة شريرة تمثل مظهرا أو عرضا (‪ )symptom‬لمسألة شريرة أخرى‪.‬‬
‫‪ ‬يمكن تفسير مسببات المشكلة أو المسألة الشريرة بطرائق‪ 3‬عديدة‪ ,‬ويؤدي‪ 3‬اختيار تفسير معين إلى تحديد‬
‫طبيعة األسلوب المالئم للحل‪.‬‬
‫‪ ‬ال مجال للخطأ عند التعامل مع المشاكل والمسائل الشريرة‪ ,‬إذ بينما تسمح المسائل الوديعة بوضع‬
‫الفروض ثم نقضها بهدف الوصول إلى الحقيقة‪ ,‬فإن التعامل مع المشاكل والمسائل‪ 3‬الشريرة يتطلب تنفيذ‬
‫حل يهدف إلى تحسين خصائص العالم الذي نعيش فيه‪ ,‬ولذلك يتحمل القائمون بحل المشاكل والمسائل‪3‬‬
‫الشريرة المسؤولية عن كافة اإلجراءات التي ينجزها الحل والتي قد تكون ضارة وغير عكوسة‪.‬‬

‫أمثلة المسائل الشريرة أو الحرونة‬

‫إن أهم وأش‪33 3 3 3‬هر‪ 3‬المس‪33 3 3 3‬ائل الش ‪33 3 3 3‬ريرة أو الحرونة هي مس‪33 3 3 3‬ائل في اإلدارة أو التخطيط‪ 3‬بعيد الم‪33 3 3 3‬دى (‪long-term‬‬
‫‪ ,)planning‬مثل‬
‫‪ ‬ما هي السياسة الوطنية المثلى لقبول مهاجرين أو الستقدام عمالة أجنبية؟‬
‫‪ ‬كيف يمكن التحكم في التطور العلمي والتقني؟‬
‫‪ ‬كيف يمكن للبشرية التخطيط‪ 3‬لمستقبلها على المدى البعيد؟ وكيف‪ 3‬يمكنها تحقيق التنمية المستدامة؟‬
‫‪ ‬كيف يمكن التعامل مع الجريمة والعنف؟‬
‫‪ ‬كيف يمكن تشغيل فرق العمل الكبيرة بنفس الجودة التي تحققها فرق‪ 3‬العمل الصغيرة؟‬
‫‪ ‬هل يحسن إنف ‪33 3‬اق المزيد على ت ‪33 3‬رويج وتس ‪33 3‬ويق‪ 3‬المنتج ‪33 3‬ات الحالي ‪33 3‬ة‪ ,‬أم يفضل توجيه اإلنف ‪33 3‬اق إلى البحث‬
‫العلمي المستهدف‪ 3‬لتطوير منتجات جديدة؟‬
‫‪ ‬هل يحسن إنف‪33 3‬اق ال‪33 3‬وقت والم‪33 3‬ال في تحس‪33 3‬ين وتنويع‪ 3‬مه‪33 3‬ارات الع‪33 3‬املين‪ ,‬أم يتم تض‪33 3‬ييق‪ 3‬مج‪33 3‬االت عملهم‬
‫ليحققوا فيها إنتاجية عالية؟‬

‫وثمة أنواع من المسائل الشريرة أو الحرونة تهم المهندسين بص‪33‬فة خاص‪33‬ة‪ ,‬وه‪33‬ذه تنشأ عند إح‪33‬داث تغي‪33‬ير أو تجديد‬
‫أو إبداع تتضارب حوله آراء المعنيين باألمر‪ ,‬ومثال ذلك‪:‬‬
‫‪ ‬تحديد الموقع األمثل لمد خط مواصالت سريع‪.‬‬
‫‪ ‬تحديد الخصائص المثلى لطراز‪ 3‬جديد من السيارات‪.‬‬
‫‪ ‬اختيار أفضل طريقة إلعادة هندسة (‪ )re-engineering‬عملية صناعية معقدة‪.‬‬
‫‪ ‬كث‪33‬ير من مش‪33‬اكل النظم ال‪33‬تي تواجه مط‪33‬وري‪ 3‬البرمجي‪33‬ات (‪ ,)software‬وبخاصة عند عملهم في مش‪33‬اريع‬
‫تتعلق بمهام حرجة وتخصص لها موارد أقل مما ينبغي ويسمح لها بفترات زمنية ضيقة‪.‬‬
‫الحلول الخيرة‬

‫إن أهم قاعدة للتعامل مع المسائل الشريرة هي أنها يجب أال تعامل معاملة المسائل الوديعة‪ ،‬بل يجب محاولة‬
‫التعرف عليها أوال تمهيدا لتذليلها وتطويعها‪ 3,‬فإن لم يتسن ذلك لزم العمل على إعادة تهيئة وتعديل وتكييف‬
‫الشروط واألحوال‪ 3‬الحاكمة لهذه المسائل‪ .‬نالحظ أنه ال يمكن إخضاع المسائل الشريرة ألسلوب المشروع‬
‫التقليدي المقسم إلى أطوار‪ 3‬ومراحل منفصلة متمايزة متتابعة‪ .‬األسلوب األمثل للتعامل مع المسائل الشريرة هو‬
‫مناقشتها بالتفصيل مع كافة المعنيين بها‪ ,‬والتوصل‪ 3‬إلى نوع من التراضي‪ 3‬والتوافق‪ 3‬بين الجميع من خالل طرح‬
‫كل البدائل المتصورة لفهم المشكلة ومن خالل معرفة المصالح واألولويات والقيود المتضاربة والمتنافسة‪.‬‬

‫إن تجارب النجاح والفشل التي مرت بها هندسة البرمجيات خالل تعاملها مع مشاريع‪ 3‬عديدة تمثل مشاكل ومسائل‬
‫شريرة‪ ,‬جعل البعض يصفون أساليب الحل المتبعة في هندسة البرمجيات بالحلول الخيرة أو القويمة (‬
‫‪ .)righteous solutions‬إن أحد موضوعات‪ 3‬البحث الملحة اآلن هو كيف يمكن توجيه هذه الحلول الخيرة‬
‫لمواجهة المسائل الشريرة في ميادينها‪ 3‬العديدة األخرى‪.‬‬

‫خاتمة‬

‫من المقوالت الدارجة على األلسنة هذه األيام "إن جميع المسائل والمشاكل‪ 3‬السهلة قد تم حلها‪ ,‬ومن اآلن فصاعدا‬
‫سوف تكون جميع المسائل والمشاكل‪ 3‬المطروحة أشق وأصعب"‪ .‬نحن نختلف جزئيا مع هذه المقولة لما فيها من‬
‫تعميم متشدد متسرع‪ .‬ولكن علينا أن ندرك أن التزايد المضطرد في تعقيد وصعوبات‪ 3‬الحياة التي نعيشها سوف‪3‬‬
‫يفرض تزايدا تدريجيا في عدد ما يواجهنا من مسائل ومشاكل‪,‬مع‪ 3‬تناقص تدريجي في نسبة ما هو مذلل ومطوع‪3‬‬
‫من هذه المسائل والمشاكل‪.‬‬

You might also like