‫علي بن محمد علي رشدي‪ " ،‬حول النموذج اإلرشادي للتنمية المستدامة ‪ "،‬المجلة الجامعية (مجلة جامعة‬

‫الملك عبد العزيز)‪ ،‬العدد الحادي عشر‪ ،‬رجب ‪1427‬هـ‪ ،‬أغسطس ‪2006‬ج‪ ،‬صفحتا ‪.39-38‬‬

‫حول النموذج اإلرشادي للتنمية المستدامة‬

‫إعداد‬
‫أ‪ .‬د‪ .‬عـلي بن محـمـد عـلي رشـدي‬
‫قسم الهندسة الكهربائية وهندسة الحاسبات‬

‫مقدمة‬

‫عنوان هذه المقالة عن "النموذج اإلرشادي للتنمية المستدامة" يضم مصطلحين حديثين نسبيا إذ لم يكن أي منهما‬
‫معروفا قبل أربعة عقود‪ ,‬ولكنهما أصبحا اليوم شائعين لدى كثير من األوساط العلمية‪ ,‬بل سرى ذكرهما إلى‬
‫العديد من وسائل اإلعالم‪ .‬هذان المصطلحان هما مصطلح النموذج اإلرشادي أو اإلطار الفكري (‪,)paradigm‬‬
‫ومصطلح التنمية المستدامة (‪ .)sustainable development‬نأمل أن نعطي القارئ الكريم في هذه العجالة‬
‫تصورا مبدئيا عن مفهومي هذين المصطلحين وعن العالقة بينهما وعن المفاهيم وثيقة الصلة بهما‪.‬‬

‫النموذج اإلرشادي‬

‫إن النموذج اإلرشادي أو اإلطار الفكري هو ذلك النموذج (‪ )model‬أو النمط (‪ )pattern‬المعتمد على مجموعة‬
‫من القواعد (‪ )rules‬التي ترسم لمجموعة بشرية محددة كيفية النجاح في حل المشاكل التي تواجهها‪ ,‬كما أنها‬
‫تعرف الحدود أو األطر (‪ )boundaries‬التي يمكن داخلها أو عندها تحقيق ذلك النجاح‪ .‬يظل النموذج‬
‫اإلرشادي سائدا لفترات من الزمن قد تطول أو تقصر إلى أن يحس بعض أفراد المجموعة البشرية بعجز‬
‫النموذج اإلرشادي عن معاونتهم في تحقيق النجاح في مواجهة المشاكل التي يتعرضون لها‪ ,‬ومن ثم يلجأون إلى‬
‫عمل نقلة أو زحزحة في النموذج اإلرشادي (‪ )paradigm shift‬قد تكون سريعة وفجائية وقد تكون تدريجية‬
‫وتستغرق مدة زمنية محسوسة‪ .‬وعندما تقع هذه النقلة‪ ,‬يسود نموذج إرشادي جديد يعتمد على قواعد وأطر‬
‫جديدة محل النموذج اإلرشادي القديم‪ ,‬ويؤدي ذلك إلى السماح بإيجاد حلول لمشاكل لم تكن قابلة للحل في‬
‫السابق‪ .‬كما تؤدي هذه النقلة إلى جعل جميع أفراد المجموعة البشرية يعودون إلى نقطة الصفر ليبدأوا جميعا‬
‫على قدم المساواة وفقا للقواعد واألطر الجديدة نظرا ألن القواعد واألطر القديمة (التي كانت توفر تفوقا وتميزا‬
 ‫وأسبقية لبعضهم على بعض) قد تالشت ولم يعد لها وجود‪ .‬ومن أخطر المزالق التي تتهدد أية مجموعة بشرية‬
‫بالفشل هو أن تخفق في التعرف على واالستجابة لحدوث نقلة أو زحزحة في النموذج اإلرشادي‪ ,‬بحيث يظل‬
‫أفرادها أسرى للقواعد التي يضعها واألطر التي يرسمها النموذج اإلرشادي القديم‪ ,‬وهذا الخطر هو ما يسمى‬
‫بشلل النموذج اإلرشادي (‪ )paradigm paralysis‬عند المستقبليين أو المستشرفين أو علماء استكشاف‬
‫المستقبل (‪ .)futurists‬إن هذا الشلل هو ما يعتري أولئك الذين يعتنقون فكرة أن ما كان ناجحا في الماضي‬
‫سوف يظل ناجحا في المستقبل‪ ,‬كما أن هذا الشلل هو الوصف الدقيق لمن يعجزون عن مالحقة نقالت النماذج‬
‫اإلرشادية‪.‬‬

‫النموذجان اإلرشاديان للتنميةـ‬

‫كان النموذج اإلرشادي الذي حكم التنمية لقرون عديدة معنيا بتعظيم المنافع قصيرة المدى للقائمين بالتنمية‬
‫وحدهم‪ ,‬دون أدنى اهتمام بما يؤدي إليه ذلك من تقليص ثم نضوب للموارد األرضية غير المتجددة‪ ,‬ومن إفساد‬
‫وتدمير وتخريب لجزء كبير من البيئة الطبيعية‪ ,‬ومن انقراض للعديد من أنواع الكائنات الحية بصورة تحدث‬
‫خلال جسيما بتنوع األحياء (‪.)biodiversity‬‬

‫أما النموذج اإلرشادي للتنمية المعاصرة فيقتضي كون هذه التنمية مستدامة‪ ,‬حيث يأخذ في الحسبان محدودية‬
‫قدرة كوكب األرض على دعم النمو البشري‪ ,‬ويحرص على االستثمار في المقاصد بعيدة المدى المتعلقة بتحسين‬
‫جودة الحياة على األرض‪ ,‬كما يلتزم بمبدأ العدالة في المكان والزمان (‪principle of justice in space and‬‬
‫‪ ,)time‬الذي يتطلب تحقيق العدل واإلنصاف بين أبناء الجيل الواحد (‪ )intra-generational fairness‬ممن‬
‫ينتمون لمناطق جغرافية متباينة‪ ,‬وكذا توفير تكافؤ الفرص بين األجيال المتعاقبة (‪inter-generational‬‬
‫‪ .)fairness‬ويمثل االلتزام بالنموذج اإلرشادي للتنمية المستدامة فرصة رائعة أمام الدول النامية لتجنب تكرار‬
‫األخطاء التي تورطت فيها الدول الصناعية المتقدمة‪.‬‬

‫ومن المؤسف حقا ما نراه من تفشي شلل النموذج اإلرشادي القديم للتنمية على مستوى كثير من األفراد‬
‫والجماعات والدول‪ .‬ويتمثل ذلك في استمرار الممارسات الجائرة ضد البيئة‪ ,‬وفي عدم مباالة كثير من الناس‬
‫بالقضية البيئية‪ .‬وواضح أن الدماغ البشري يلتزم شعوريا بالمسؤولية المباشرة للفرد عن مجموعة محدودة من‬
‫أقاربه‪ ,‬وال تمتد هذه المسؤولية عادة في المستقبل إال إلى جيلين أو ثالثة فقط‪ .‬ولدى الكثيرين نزعة فطرية‬
‫لتجاهل االحتماالت البعيدة‪ ,‬وعدم التمعن فيما يمكن أن يحدث بعد بضعة عقود من الزمان‪.‬‬
 ‫معنى التنميةـ المستدامة‬

‫يتبنى كثير من العلماء ودعاة حماية البيئة قضية التنمية المستدامة بوصفها الوسيلة الوحيدة الجتياز عنق الزجاجة‬
‫الذي يواجه البشرية حاليا ولمعالجة معضلة كيفية مغالبة كارثة تنذر بتدمير مقدرة كوكب األرض على تجديد‬
‫موارده‪ .‬أما المشتغلون بالصناعة فيتذمرون من التنمية المستدامة حيث يعدونها قيدا طارئا شديد الوطأة على‬
‫نشاطاتهم‪ .‬وينظر االقتصاديون إلى التنمية المستدامة كموضوع متعلق بتطور األسواق واالقتصاد مع تركيزهم‬
‫بصفة خاصة على معوقات النمو االقتصادي‪ .‬ويعتبر المهندسون والتقانيون التنمية المستدامة مشكلة يتصدون‬
‫لحلها على غرار مشاكل سبق ألسالفهم أن نجحوا في حلها في الماضي‪ .‬وتجد وسائل اإلعالم في التنمية‬
‫المستدامة فرصة تجارية لبث روايات مروعة عما يتربص بكوكبنا من الويل والثبور وعظائم األمور‪ ,‬وهي‬
‫روايات تحقق رواجا إعالميا منقطع النظير‪ .‬وتستثمر األحزاب السياسية التنمية المستدامة كموضوع شيق‬
‫للتحاور والتناظر حوله أمال في تزايد شعبيتها لدى الجماهير‪.‬‬

‫ولكننا نعرف التنمية المستدامة بأنها التنمية التي تفي باحتياجات الحاضر دون أن تنتقص من مقدرة األجيال‬
‫القادمة بدورها على الوفاء باحتياجاتها‪ .‬وكحد أدنى‪ ,‬يتعين على التنمية المستدامة أال تعرض للخطر النظم‬
‫الطبيعية التي تدعم الحياة في المحيط الحيوي لكوكب األرض‪ ,‬وهي الغالف الجوي والمياه والتربة والكائنات‬
‫الحية‪ .‬إن اهلل –جلت قدرته‪ -‬قد هيأ لنا هذا المحيط الحيوي من خالل طبقة هائلة التعقيد من المخلوقات الحية‬
‫التي اجتمعت كل أنشطتها في دورات عالمية لصنوف الطاقة والمادة مضبوطة تماما (ولكنها واهية في الوقت‬
‫ذاته)‪ ,‬وهو ما يمثل حالة من التناغم الرهيف أو التوازن الدقيق الذي يمكن أن يودي به اإلفراط أو التفريط في أي‬
‫اتجاه كان‪ .‬يقول اهلل –عز من قائل‪":‬واألرض مددناها‪ ,‬وألقينا فيها رواسي‪ ,‬وأنبتنا فيها من كل شيء موزون"‬
‫(سورة الحجر‪ ,‬اآلية ‪.)19‬‬

‫وثمة مصطلح لصيق ومقارب ووثيق الصلة بمصطلح "التنمية المستدامة" هو مصطلح "المستدامية" (‬
‫‪ ,)sustainability‬وهو مصطلح مشتق كمصدر صناعي من اسم المفعول "مستدام" (‪ ,)sustainable‬وهذا‬
‫المصدر الصناعي أدق في داللته العلمية من المصدر الطبيعي المكافئ "الاستدامة"‪ .‬تتعلق المستدامية بموضوع‬
‫حفظ ودعم الحياة على كوكب األرض من خالل ضبط العالقة بين األنشطة البشرية والطبيعية‪ ,‬وهو موضوع‬
‫ذو أبعاد متعددة تتسق جميعها مع مبادئ التخطيط بعيد المدى‪ ,‬والبقائية (‪ ,)durability‬والمشاركة أو المقاسمة‬
‫(‪ ,)participation‬فضال عن العدالة في المكان والزمان‪.‬‬

‫خاتمة‬
 ‫نختتم حديثنا باإلشارة إلى دور رواد النقلة أو التغيير أو الثورة في النموذج اإلرشادي (‪paradigm‬‬
‫‪ .)pioneers‬إن هؤالء الرواد هم أولئك الذين تواتيهم الشجاعة لإلفالت والهرب من شلل النموذج اإلرشادي‬
‫السائد‪ ,‬وهم الذين يزيحون عن كواهلهم عبء االلتزام بالقواعد القائمة دون أن يكون لديهم أدنى ضمان للنجاح‪.‬‬
‫وال يخلو عمل هؤالء الرواد من مشقة ومصاعب كثيرة‪ ,‬ولكنهم حال نجاحهم يظفرون بغنائم ال تتأتى لغيرهم‪.‬‬
‫إن رواد النقلة في النموذج اإلرشادي يتمتعون بثالث ميزات رئيسة‪ ,‬أوالها الحدس الذي يمكنهم من التعرف على‬
‫األفكار الجديدة ومن تمييز أعراض شلل النموذج اإلرشادي عند وقوعه ومن اكتشاف الفرص المتاحة الستحداث‬
‫نقلة أو ثورة في النموذج اإلرشادي‪ ,‬وثانيتها الشجاعة التي تسمح لهم بالمغامرة والتقدم في مواجهة المخاطر‬
‫والمصاعب‪ ,‬وثالثتها المثابرة التي تعينهم على تطوير أفكارهم إلى أن تنضج وتثمر ويطيب قطافها‪ .‬والسؤال‬
‫المطروح هنا‪ :‬من هم رواد النقلة في النموذج اإلرشادي للتنمية؟ ال نستطيع أن نجحد دور دعاة الحفاظ على‬
‫البيئة (‪ ,)environmentalists‬ولكننا نرى أن الرواد الحقيقيين هم المبدعون (‪ )innovators‬الذين يسعون‬
‫البتكار تقانات جديدة تتمشى مع متطلبات النموذج اإلرشادي للتنمية المستدامة‪ .‬ومهمة هؤالء المبدعين محفوفة‬
‫بكثير من التحديات و المخاطر والمصاعب‪ .‬إن تجاربنا السابقة تشير إلى أن التقانة تغير العالم بصورة أسرع‬
‫مما تستطيع هي نفسها التعامل معه‪ ,‬ومن ثم ال يمكن التسليم بأن التقانة قادرة بالضرورة على إنقاذ البشرية من‬
‫الشرور التي قد تورطها فيها‪ .‬والخالصة أننا ال نستطيع أن نجزم إذا ما كان الحل التقني مستداما حقيقة أم ال إال‬
‫بعد االنتهاء من تنفيذه‪.‬‬