You are on page 1of 18

‫اجلمهورية اجلزائرية الدميقراطية العشبية‬

‫وزارة التعليم العايل والبحث العلمي‬

‫جامعة احلاج خلضر ابتنة ‪-1-‬‬


‫كلية العلوم اإلنسانية واإلجتماعية‬
‫قسم التاريخ واألاثر‬

‫حماضرات يف مقياس‬

‫السنة الثانية ماستر السداسي األول‬

‫إعداد األستاذ‪ :‬الطيب بوساحة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪-I‬تعريف العمران ‪ :‬تعترب كلمة عمران من الناحية اللغوية مشتقة من الكلمة الالتينية ‪ URBS‬وتعين املدينة‪،‬‬
‫وبذلك يظهر أن العمران يهدف اىل إعطاء نظام معني للمدينة‪ .‬كما تعرب كلمة العمران عن ظاهرة التوسع‬
‫املستمر الذي تشهده املدينة بشكل متواصل مع مرور الزمن‪ ،‬وخيتلف مفهوم الكلمة من حقبة اىل أخرى‬
‫حملاولة فهم الطبيعة املعقدة للمدينة بغية التحكم يف منوها وتطورها‪ .‬ويعترب العمران من الناحية التارخيية قد بدأ‬
‫يف منطقة الشرق األوسط اليت كانت املوطن األصلي لظهور املدن األوىل ومنوها وتطورها أشهرها مدينة أرحيا‬
‫بفلسطني ومدينة اببل يف العراق اليت اشتهرت حبدائقها املعلقة وشكلت نوعا مميزا من العمران والعمارة يف‬
‫تلك احلقبة‪ .‬حيث قارب عدد سكاهنا ما بني سنيت ‪ 605‬ق‪.‬م – ‪ 562‬ق‪.‬م حوايل ‪ 80000‬مثانون ألف‬
‫نسمة‪.‬‬
‫وقد كانت أقدم املدن يف التاريخ تضم مساكن غري منتظمة الشكل مبنية من مواد طينية وحجارة‬
‫بسيطة أشهرها على اإلطالق مدينيت أرحيا وقربص‪ .‬حيث كانت مبنية ابحلجارة وذات شكل هندسي منتظم‪.‬‬
‫وقد مسحت االكتشافات األثرية يف مدينة اببل واملدن األخرى التابعة هلا أبهنا كانت ذات شكل هندسي‬
‫منتظم والتموقع غري املركزي للقصور اليت كانت تربطها شوارع رئيسية وأخرى اثنوية واجملاري املائية‪ ،‬وختتلف‬
‫ابختالف األحياء السكنية‪ .‬أما العمارة عند املصريني فتميزت ابالرتفاعات الشاهقة إلبراز العظمة يف اجلانب‬
‫الديين بتعظيم احلكام وتضخيم أماكن العبادة والقبور لذلك ظهرت مدهنم ابرتفاعات شاهقة ترمز للخلود‬
‫واهليمنة املطلقة على اجملتمع أما البناايت األخرى العامة فتكون من الطني وذات أشكال غري هندسية‪ .‬ويعرف‬
‫ابن خلدون العمران حيث يقول " اإلنسان مدين ابلطبع أي البد له من االجتماع الذي هو املدينة وهو معىن‬
‫العمران" لذلك ميكن القول أبن ابن خلدون قد ربط مفهوم العمران ابملدينة فما هي املدينة؟‬
‫أ‪-‬مفهوم املدينة‪ :‬ان كلمة املدينة مرتبطة ابملدنية ألن املدن هي مراكز اشعاع تزدهر فيها احلضارات وتتطور‬
‫ألن املدينة تتميز بنشاطاهتا االقتصادية املختلفة عن تلك املوجودة ابلقرية أو الريف واليت يعمل معظم سكاهنا‬
‫ابلزراعة‪ .‬لذلك ميكن تعريف املدينة أبهنا التجمع السكاين الذي ال تشكل الزراعة النشاط األساسي للمقيمني‬
‫فيه‪ .‬فاملدينة جتتمع فيها الشروط اإلنسانية والفاعلية االقتصادية واملناخ الفكري يف وحدة متكاملة تفي ابلغرض‬
‫الذي أنشأت من أجله‪ .‬وقد كانت املدينة القدمية وليدة التنظيم احلريب ابلدرجة األوىل ومن مث أتيت النشاطات‬
‫األخرى املتممة‪ ،‬وقد ذكر املؤرخون أبن ختطيط املدن القدمية بدأ مع النشاط احلريب ورغبة التجمعات البشرية‬
‫يف أتمني منظم واهلدف من هذا التنظيم احلريب محاية القصر امللكي وضمان النشاط اإلنساين داخل السور‬
‫الذي بقي مرتبطا بتاريخ ختطيط املدن قروان طويلة‪ .‬ألن املدينة بال سور ال ميكنها االستمرار والبقاء لذلك‬
‫فقد كان معىن املدينة جمسدا يف السور الذي حيميها اىل أن تطورت األدوات احلربية وأصبح إبمكان املهامجني‬
‫دك أكرب وأقوى احلصون‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫ولقد نشأت املدن بفعل عوامل متعددة منها االقتصادي والفكري واجلغرايف‪ ،‬وتشرتك املدن القدمية‪.‬‬
‫يف معظمها كوهنا تنشأ على جمرى املاء سواء كان حبري أو هنري أو وادي ألن املاء هو وسيلة احلياة وتطور‬
‫الزراعة‪ ،‬وكان النهر وسيلة املواصالت املهمة اليت أحبرت عربها املراكب الصغرية حاملة املواد األولية والغذائية‬
‫اىل السكان‪ ،‬كما كان اجملرى املائي وسيلة الدفاع عن املدينة‪ .‬وبنيت املدن القدمية على منحدرات اجلبال‬
‫القريبة من املاء حيث توفر الرؤوس البحرية والشواطئ الصخرية احلماية الطبيعية من هجمات الغزاة‪ .‬أما‬
‫اجلبهات اليت ميكن النفاذ منها فكانت حتصن عن طريق شق اخلنادق ورفع األسوار‪ ،‬ولعبت الطبيعة دورها‬
‫اجملاين يف أتمني أفضل الشروط املناخية لنشوء املدن فلم تكن البيئة املتقلبة ذات الظروف املناخية الصعبة‬
‫وذات العواصف واألنواء املكان املثايل لنمو وتطور العمران‪ .‬ولقد أمدان التاريخ أبمثلة عن مدن قدمية اندثرت‬
‫بسبب الظروف املناخية والبيئة السيئة‪ .‬ولعل أهم شرط لنشوء املدن هو العامل االقتصادي مبا ميثله من دوافع‬
‫ومثبتات لنشوء مراكز التجمعات البشرية وأييت بعده عامل آخر له من األمهية ما للعوامل األخرى وهو عامل‬
‫هجرة األفكار وتفاعلها ومشول أتثريها خاصة األفكار الدينية اليت أدت اىل انتشار االضطهاد الديين والذي‬
‫أرغم آالف الناس على النزوح واهلجرة خوفا من املوت والبطش‪.‬‬
‫‪-II‬انتشار املستوطنات الفينيقية وتطورها‪:‬‬
‫يبدو أن موطن الفينيقيني األول كان قرب البحر األمحر حسب املؤرخ اإلغريقي هريودوتس وأكدته‬
‫خمطوطات رأس الشمرا اليت يعود اتريخ كتابتها اىل القرن الرابع عشر قبل امليالد‪ .‬حيث أنه ومنذ مطلع األلف‬
‫الثالثة قبل امليالد فرضت جتارة القوافل على الفينيقيني انشاء أسطول حبري لتوسيع التجارة‪ ،‬ومنذ مطلع األلف‬
‫الثانية قبل امليالد أخذ الفينيقيون وخاصة سكان مدينة صور الوصول اىل نقاط كثرية من الساحل املتوسطي‬
‫حبثا عن منافذ جديدة للتجارة وبفضل معرفتهم للرق البحرية واملالحة متكنوا من الصمود أمام املخاطر وابلتايل‬
‫استطاعوا توفري لتجارهتم أسواق يف األماكن البعيدة حىت وصلوا ختوم العامل الغريب‪ 1.‬ولقد حطت سفن‬
‫الفينيقيني رحاهلا على سواحل املغرب القدمي فتعامل السكان إجيااب مع التجار الكنعانيني اىل أن برزت على‬
‫طول الشريط الساحلي تفاعالت مع الوافد اجلديد وشكلت امتدادا حضاراي للساحل الفينيقي ومنطلقا جديدا‬
‫لتوسيع جمال النشاط االقتصادي واإلشعاع احلضاري الكنعاين يف احلوض الغريب للبحر األبيض املتوسط وغريب‬
‫القارة اإلفريقية‪ .‬واقتصر تنقل الفينيقيني يف بداية األمر على اجلزر القريبة منهم على الساحل مثل جزيرة قربص‬
‫اليت شكلت مهدا ألكرب حمطاهتم ومستوطناهتم‪ .‬حيث ميكن اعتبارها امتداد لفينيقيا األم نظرا للتأثري الكنعاين‬
‫الكبري ف يها‪ ،‬مث امتدت اىل الشواطئ الغربية من تركيا وجزر األرخبيل اإلجيي وبالد اليوانن‪ ،‬دون أن يؤسسوا‬
‫يف بداية األمر حمطات هلم هناك‪ .‬ومل يكن جمال احلركة البحرية متاحا هلم وحدهم دون منافس خالل األلف‬

‫‪-1‬مادلين هورس ميادان‪ ،‬تاريخ قرطاج‪،‬ترجمة إبراهيم بالش‪،‬منشورات عويات‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪،‬الطبعة األولى‪،1981 ،‬ص‪.35،‬‬
‫‪3‬‬
‫الثانية قبل امليالد ألن الكريتيني كانوا يسيطرون على املالحة البحرية شرق املتوسط خاصة خالل فرتة حكم‬
‫األسرة املينوية اليت حكمت كريت أواسط األلف الثانية قبل امليالد‪ .‬لكن هجمات شعوب األخائيني املستمرة‬
‫على الكريتيني اليت قلصت من سيطرهتم على البحر وفسحت اجملال أمام الفينيقيني كي يندفعوا حنو البحر‬
‫األبيض املتوسط‪.‬‬
‫اىل أن جتاوزوا أعمدة هرقل الذي يطلق عليه اسم مضيق جبل طارق واسسوا حمطيت قادش وليكسوس‬
‫على ضفاف احمليط األطلسي األوىل يف اسبانيا والثانية يف املغرب األقصى فتنافست املدن الفينيقية يف جتهيز‬
‫املراكب وشحنها ابلبضائع والرجال حبثا عن املواد اخلام حيث اكتشفوا موارد جديدة مثل خامات الفضة‬
‫والقصدير واملواد الزراعية الوفرية‪ 1.‬واقتضت حركة التجارة املنتظمة بني فينيقيا ودول العامل القدمي أتمني املرافئ‬
‫واحملطات على امتداد الطريق البحري الطويل الذي كان حياذي السواحل وال يبتعد عن اليابسة كثريا لتأمني‬
‫‪2‬‬
‫البحارة من القراصنة وقوة األمواج وخطر التيارات البحرية القوية‪.‬‬
‫وبدأ أتسيس املستوطنات الفينيقية على السواحل املغربية أواخر األلف الثانية قبل امليالد حيث كانت يف بداية‬
‫األمر جمرد حمطات إرساء على الطرق التجارية اىل الشواطئ الواقعة غرب املتوسط‪ .‬وخاصة الشواطئ اإلسبانية‬
‫اليت كانت حمور أساسي الهتمام الفينيقيني‪ ،‬وأخذت هذه املستوطنات اجتاه آخر يف تطورها وعمارهتا‪ ،‬وكان‬
‫اختيار موقع املدينة الفينيقية خيضع لعدة شروط منها‪:‬‬
‫‪-‬سهولة االتصال ابلبحر‪.‬‬
‫‪-‬أن تكون صعبة املنال على العدو الذي يكون داخل البالد‪.‬‬
‫‪-‬أن تشيد على أماكن مرتفعة مثل الرؤوس واخللجان البحرية اليت تكون معرضة للرايح الغربية والشمالية‬
‫وتيارات البحر املتوسط القادم من جبل طارق‪ ،‬الذي حيمل يف طياته رواسب يلقي هبا اليت تتخلل معظم‬
‫السواحل وكثريا ما تشبه يف مظهرها أنصاف دوائر مفتوحة حنو البحر‪ ،‬وذلك مثل خليج اجلزائر العاصمة‬
‫وجباية وسكيكدة وعنابة‪ ،‬وكل هذه اخللجان على احلافات الغربية للخلجان ولذلك نالحظ أن مرافئ املغربية‬
‫تقوم إما وسط اخللجان أو على جوانبها الشرقية‪ ،‬وذلك حلمايتها من الرايح الغربية القوية اليت هتب غالبا من‬
‫الغرب متجهة حنو الشرق‪ .‬وما ميكن قوله‪ ،‬أن تلك اخللجان ال تتوغل إال قليال داخل اليابسة فيما عدا خليج‬
‫عنابة الذي يعترب أكرب خلجان اجلزائر‪ 3.‬أما الرؤوس البحرية تكون ممتدة داخل البحر من الغرب اىل الشرق‬
‫وقد أشري إىل كلمة "رأس "يف كثري من موانئنا اليت بنيت عليها فيما بعد مدن ساحلية ‪.‬‬
‫ومن أهم الرؤوس الساحلية يف اجلزائر جند‪:‬‬

‫‪ -1‬محمد البشير شنيتي‪ ،‬الجزائر قراءة في جذور التاريخ وشواهد الحضارة‪،‬دار الهدى‪ ،‬عين مليلة‪ ،‬الجزائر‪،2013،‬ص‪.120،‬‬
‫‪- 2‬محمد البشير شنيتي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.120 ،‬‬
‫‪3‬‬
‫‪- Lieussou (M.A.), Etudes sur les ports d’Algérie, éd. Paul Dubont, Paris, 1850, p.81.‬‬
‫‪4‬‬
‫رأس ملوية عند احلدود اجلزائرية املغربية‪ ،‬ورأس فالكون غرب املرسى الكبري‪ ،‬والرأس البحري إىل الشرق من‬
‫مدينة اجلزائر‪ ،‬وكافولو إىل الشرق من جباية ورأس كاربون إىل الغرب منها‪ .‬أما خليج سكيكدة فينحصر بني‬
‫رأسني أحدمها يف الشرق وهو رأس احلديد ‪ Cap de fer‬والثاين يف الغرب وهو رأس بوقرعون ‪Cap‬‬
‫‪bougaroun..‬وابجتاهنا حنو الشرق جند رأس احلارس ابلقرب من عنابة‪.‬‬
‫ورأس روزاركس ابلقرب من احلدود اجلزائرية التونسية‪ .‬وقد توفرت بتلك الرؤوس البحرية املمتدة من‬
‫الغرب إىل الشرق منارات إلرشاد القوارب والسفن‪ .‬وما يالحظ أن الكثري منها كان ميثل فوهات بركانية‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫ومثال ذلك رأس احلديد ورأس وبفرعون اللذان تظهر هبما التكوينات الربكانية‪.‬‬
‫‪-‬أن تشيد على األلسنة البحرية املمتدة يف البحر وبذلك تؤمن هلم محاية مزدوجة‪ ،‬حيث يوفر هلا املرفأ محاية‬
‫من جهة البحر ويؤمن هلا اللسان البحري كسر األمواج البحرية القوية‪ ،‬كما تؤمن هلا احلماية الطبيعية ضد‬
‫اخلطر احملتمل من املناطق الداخلية‪.‬‬
‫‪-‬أن تكون مشيدة على جزر حبرية‪.‬‬
‫‪-‬أن تكون قريبة من األراضي الصاحلة للزراعة لتأمني حاجياهتا الغذائية وهي من األسباب اليت جعلت‬
‫مستوطنات الساحل املغريب متطورة وخاصة منها املدن التونسية قرطاجة وأوتيكا‪.‬‬
‫وقد امتاز الفينيقيون ابإلحبار والتجارة األمر الذي مل يسمح هلم ابلتمركز يف مكان واحد بل أدى هبم اىل‬
‫التجول وقطع املسافات الطويلة عرب البحر حبثا عن املواد األولية لتنمية صناعتهم‪ .‬وقد مر التوسع الفينيقي يف‬
‫املغرب مبرحلتني مسيت األوىل مبرحلة التفقد واالستطالع على السواحل أما الثانية فخصصت الستغالل‬
‫مالئمة املالحة البحرية‪.‬‬
‫واملعروف عن الفينيقيون أهنم ميلكون مراكب صغرية ليس إبمكاهنا قطع مسافات طويلة ومتاشيا‬
‫لألخطار احملتملة على هذه املراكب ألزمهم السري على السواحل مع انشاء حمطات حبرية ومواقع للراحة‪ .‬تصبح‬
‫هذه املواقع أسواق جتارية لتبادل السلع بينهم وبني األهايل‪ .‬لذلك ركزوا يف اختيار مواقعهم على األماكن اليت‬
‫تسهل هلم إرساء املراكب ومحايتها من العواصف والرايح القوية‪.‬‬
‫فلجأوا اىل تشييد املرافئ البحرية أشهرها مرفئ مستوطنة قرطاجة الذي يعد الشراين الرئيسي يف املدينة البونية‪.‬‬
‫وكوهنم يعتمدون على التجارة واستغالل املوارد اليت أتتيهم عن طريق البحر كان يتم اختيار املواقع حسب‬
‫احتياجاهتم والضرورة اليت كانت متليها عليهم شروط اإلحبار ليصبح بذلك املرفأ السبب الرئيسي يف انشاء‬
‫املدينة الفينيقية دون امهال استغالل األهنار الصاحلة للمالحة وخاصة تلك اليت تصب فب البحر‪.‬‬

‫‪ -1‬حليمي عبد القادر علي‪ ،‬جغرافية الجزائ (ر طبيعية‪ -‬بشرية‪ -‬اقتصادية ‪ . )،‬ط ‪، 2‬الجزائر ‪ ، 1968 ،‬ص‪. 43.‬‬
‫‪5‬‬
‫حيث كانوا يرتكون هذه املرافئ على حاهلا الطبيعي وأحياان يزودوهنا ابلعناصر الالزمة لتدعيم األمن‬
‫وتوفري احلماية خاصة بناء احلواجز‪ ،‬وذلك عن طريق حفر أحواض داخل الصخور لتوسيع امليناء أو املرفأ مع‬
‫توفري احلماية الكافية للمراكب‪ .‬واملرافئ أنواع هي‪:‬‬
‫‪-1‬املرافئ الطبيعية‪ :‬لقد اختري لتلك احملطات يف بداية األمر خلجان طبيعية حممية برؤوس أو أنشئت على‬
‫جزر قريبة من الشواطئ الرملية القليلة االحندار‪ ،‬وال أثر لوجود أرصفة حوهلا مما جعل عملية رسو القوارب‬
‫صعب‪ .‬ويبدو أن املراكب الكبرية كانت ترسو بعيدا عن املوانئ‪ ،‬بينما تسحب القوارب إىل اليابسـة أثناء الليل‬
‫أو عند االسرتاحة من عناء التجذيـف اليومي أو عندما يضطرب البحر‪ .‬وبذلك‪ ،‬اكتفى املالحون األوائل‬
‫ابستعمال املوانئ الطبيعية‪ ،‬ومل حياولوا إجراء أي تعديالت عليها أو حتويلها إىل حمطات اصطناعية قبل أن‬
‫يشعروا ابحلاجة إىل ذلك‪ 1.‬وهي على نوعني حبرية وهنرية‪.‬‬
‫أ‪-‬املرافئ البحرية‪ :‬تلتقي حضارات العامل القدمي على ضفاف البحر املتوسط‪ ،‬مما جعل هذا األخري يكتسي‬
‫أمهية ال مثيل هلا يف املالحة العاملية‪ ،‬وابلتايل أصبح مركزا هاما للنشاط االقتصادي والتبادالت التجارية آنذاك‪،‬‬
‫فاندفعت شعوبه إىل تطوير املنشآت البحرية لتستجيب ملثل ذلك النشاط هذا من جهة‪ .‬ومن جهة أخرى‪،‬‬
‫نالحظ أن النشاط البحري القدمي كان قد دفع اإلنسان إىل ضرورة التنقل والسفر بعيدا يقطع خالهلا مسافات‬
‫طويلة‪ ،‬يضطر على إثرها إىل إجياد حمطات لالسرتاحة من أتعاب السفر‪ .‬ولقد حتولت تلك احملطات مبرور‬
‫الزمن إىل مستوطنات قارة‪ ،‬يلتقي فيها البحارة مع السكان القريبني منها‪ .‬ومن بني تلك املستوطنات نشري‬
‫إىل تلك اليت امتدت على طول سواحل البحر املتوسط بضفتيه الشرقية والغربية‪ .‬وكانت تقوم على رؤوس‬
‫وخلجان قريبة أو حبريات شاطئية حيث يقومون حبمايتها بكاسر األمواج ويزودوهنا ابألرصفة‪.‬‬
‫ب‪-‬املرافئ النهرية‪ :‬مل يكتفي الفينيقيون إبنشاء مرافئ حبرية فقط بل أنشأوا مرافئ على ضفاف األهنار القابلة‬
‫للمالحة قرب املصبات‪ .‬حيث كانوا يبنون أحواض للرسو وتكون هذه املرافئ مؤمنة جيدا أال أهنا صغرية وفصلية‬
‫االستعمال‪.‬‬
‫‪-1‬املرافئ االصطناعية‪ :‬لقد تطورت املوانئ الطبيعية مع احلاجة االقتصادية املتمثلة يف إجراء عمليـات‬
‫املقايضة إلجياد موانئ اصطناعية‪ ،‬وقد زودت هذه األخرية يف بداية األمر مبخابئ للقوارب والسلـع وحتولت‬
‫إىل موانئ شبه مغلقة وذلك عن طريق إنشاء أحواض وحواجز يف عرض البحر‪ ،‬وال يظهر االختالف كبريا يف‬
‫طريقة بنائها من شعب حبري إىل آخر‪ .‬وهكذا‪ ،‬ميكن أن نشري إىل أن الباحثني األثريني استطاعوا أن مييزوا‬
‫بني نوعني من املوانئ االصطناعية ‪:‬حبيث تتمثل األوىل يف املوانئ الكبرية‪ ،‬وهي ذات أمهية كربى‪ ،‬أما الثانية‬

‫‪1‬‬
‫‪- Meirat (J.), Marine antique en méditerranée, éd. Finin Didot, Paris, 1964, p.72.‬‬
‫‪6‬‬
‫فهي عبارة عن موانئ صغرية ال تتعدى مالجئ لقوارب الصيد‪ ،‬وقد زودت هذه احملطات أبحواض وكاسرات‬
‫وأرصفة‪ ،‬وهي اليت تشكل املرافق األوىل للموانئ اليت سنتناوهلا بشيء من التفصيل‪.‬‬
‫أ‪-‬األحواض ‪:‬لألحواض أمهية مزدوجة‪ ،‬ابعتبارها موانئ تصلح وتبين فيها القوارب والسفن لفرتة حمددة‪ ،‬وميكن‬
‫أيضا أن تبقى فيها ورمبا أيضا تتخذ كمرافئ يتم هبا تفريغ محولة القوارب والسفن مث شحنها‪ ،‬ونظرا لتلك‬
‫األمهية فقد زودت بعض املوانئ اهلامة بعدة أحواض‪.‬‬
‫ب‪-‬الكاسرات ‪:‬الكاسرات هي عبارة عن جهاز وقاية ضد الرايح‪ ،‬أو حاجزا يوضع أمام تراكم الطمي داخل‬
‫املينـاء‪ ،‬وتتكون الكاسـرات من جمموعة من الدعائـم أو الركائز الضخمـة متماسـكة ببعضها البعض بواسطة‬
‫أقـواس‪ ،‬وقد اعتمـد يف إنشائها على حجر البوزوالن‪ .‬املتوافرة بكثرة يف منطقة إيطاليا ابخلصوص ومنها كان‬
‫‪1‬‬
‫يصدر إىل مناطق العامل القدمي‪.‬‬
‫ج‪-‬األرصفة ‪ :‬تعترب األرصفة أمرا الزما وضروراي يف امليناء سواء كان ذلك طبيعيا أو اصطناعي فمن اخلطر‬
‫أن ترسو السفن مباشرة على الشاطئ‪ .‬وقد تقام األرصفة على طول الساحل وتتكون عادة من جدار‪ ،‬وتكمن‬
‫أمهيتها يف احملافظة علـى عمق كايف حىت يتسىن الرسـو ابلسفـن الكبرية اليت جتر بواسطة احلبال لتثبت على‬
‫‪2‬‬
‫الرصيف و‪ .‬مثال على ت لك املوانئ الفينيقية اليت زودت أبرصفة نذكر ميناء قرطاجة‪.‬‬
‫إضافة اىل املرافئ الطبيعية أنشأ الفينيقيون مرافئ اصطناعية حمفورة يف الصخر يطلق عليها اسم القاطون‬
‫وجدت أمثلتها يف قرطاجة واملهدية وأشهرها قاطون قرطاجة ا لذي كان يضرب به املثل يف ضخامته ومجال‬
‫هندسة شكله وذلك ابعرتاف الرومان أنفسهم‪ ،‬حيث عندما قرر جملس الشيوخ هتدمي قرطاجة يروي لنا‬
‫الكاتب ايفيان حيث قال " فان كنتم تنتظرون فرصتكم فأنتم طبعا حباجة اىل هذه املدينة واىل هذا املرفأ الكبري‬
‫وترسانته‪.»....‬‬
‫حيث أنه يتكون من قسمني جتاري وحريب وتتكون املرافئ الفينيقية يف املغرب أساسا من‪ :‬كاسرات األمواج‪-‬‬
‫احلواجز‪-‬األرصفة‪-‬املمرات املائية‪-‬األبواب‪-‬األحواض‪-‬األبراج‪-‬اجلسور‪-‬املنارات‪ .‬وخضع انتشار املستوطنات‬
‫الفينيقية يف بالد املغرب اىل عدة عوامل من عوامل سياسية وأخرى اقتصادية وأخرى اجتماعية فكيف كانت‬
‫تلك العوامل؟‬

‫‪1‬‬
‫‪- Rougé (J.), Recherches sur l’organisation du commerce maritime en méditerranée sous l’empire romain, Paris, 1966,‬‬
‫‪p.148.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪- Bloch (R.) et Conssin (J.), Rome et son destin, éd. Armand Colin, Paris, 1960, p.263.‬‬
‫‪7‬‬
‫‪-1‬عوامل التوسع الفينيقي يف حوض البحر املتوسط ‪:‬‬
‫كان ملوقع فينيقيا اجلغرايف الدور الكبري يف حتديد اترخيها السياسي وتطورها الثقايف‪ ،‬ونظرا لوقوعها يف‬
‫ملتقى الطرق التجارية اهلامة اليت تلتقي فيها أقوى احلضارات وأعظمها‪ ،‬واليت كانت تسعى كل واحدة منها‬
‫إىل االستالء عليها إلجياد منفذ لنفسها تطل به على البحر‪ ،‬ذلك ما جعل دول مدن املنطقة تتغري حسب‬
‫قوة وضعف اإلمرباطورايت احمليطة هبا‪ ،‬واليت كان هلا أثر كبري على مصريها‪.1‬‬
‫وهي كما يلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬العوامل السياسية‪:‬‬
‫لقد أدت العالقات الدولية اليت سادت يف تلك الفرتة منطقة الشرق األدىن القدمي إىل ركوب الفينيقيني‬
‫البحر‪ ،‬وهذا يف الفرتة احملددة ما بني هناية األلف الثانية وبداية األلف األوىل قبل امليالد‪ ،‬وذلك بسبب‬
‫الصراعات السياسية اليت سادت خاصة املناطق اليت تكدست هبا الثقافات املختلفة‪ ،‬وابلتايل نشأت هبا مراكز‬
‫للنشاط السياسي‪ .‬وقد كانت املدن الفينيقية مثل صيدون وجبيل على الساحل‪ ،‬وبعيدا إلـى الداخل املدن‬
‫اآلرمية مثل ألب ‪ Alep‬وجاتينا ‪ gatina‬مرغمة على املناورة يف جو الصراعات ابخلضوع اترة والتبعية اترة‬
‫أخرى لدولة من الدول القوية‪ ،‬فكانت ممزقة بني احلضارات اليت تتنافس على املنطقة‪ .‬وهي الدولة املصرية يف‬
‫وادي النيل‪.‬‬
‫واإلمرباطورية احلثية يف آسيا الصغرى‪ ،‬مث الدولة اآلشورية يف منطقة وادي الرافدين‪ ،‬ابإلضافة إىل وجود‬
‫اآلراميني يف سوراي الداخلية والعربانيني يف فلسطني‪ .‬وتشري الكتاابت التارخيية‪ ،‬إىل أن عالقة الدولة املصرية‬
‫ابلساحل الفينيقي قد بدأت منذ حوايل األلف الثالث قبل امليالد‪ .‬وكانت اعتبارا من عصر امللكية القدمية‬
‫(األسرة اخلامسة بصفة خاصة)‪ ،‬تقتصر على التبادالت التجارية حيث كان املصريون يستوردون األخشاب‬
‫من غاابت جبال لبنان الستعماهلا يف مشاريعهم وأبنيتهم العمرانية‪ ،‬كما تعترب مدينة جبيل أول مدينة فينيقية‬
‫تلعب دورا رئيسيا يف العالقات الفينيقية املصرية‪ .‬وقد اشتد النزاع بني األطراف املتصارعة‪ ،‬حيث اصطدمت‬
‫القوات املصرية والتحالف األموري احلثي يف معركة قادس ‪ Gades‬سنة ‪ .1296‬ق م‪ ،‬انتهت ابتفاقية متت‬
‫بني الطرفني نصت على التصاحل فيما بينهما‪ ،‬وابلتايل قسم الساحل الفينيقي إىل منطقيت نفوذ اجلنوب‬
‫للمصريني والشمال للحثيني‪ .‬وحبلول القرن الثاين عشر قبل امليالد‪ ،‬ظهرت شعوب البحر على مسرح‬
‫‪2‬‬
‫األحداث‪.‬‬

‫‪ -1‬حل مي محروس إسماعيل‪ ،‬الشرق العربي القديم وحضارته‪ ،‬بالد مابين النهري ن والشام والجزيـرة العربيـة القديمـة‪ ،‬مؤسسة شباب الجامعة‪،‬‬
‫اإلسكندرية‪، 1997،‬ص‪.151.‬‬
‫‪ - 2‬جواد بولس‪ ،‬لبنان والبلدان المجاورة‪ ،‬مؤسسة أبدران وشركاه للطباعة والنشر‪ ،‬ط‪، 2.‬لبنان‪، 1973 ،‬ص‪.107.‬‬
‫‪8‬‬
‫إذ استطاعت القضاء على اإلمرباطورية احلثية يف آسيا الصغرى‪ ،‬كما متكنت من حتطيم عاصمتها‪،‬‬
‫وواصلت بذلك زحفها حنو اجلنوب حىت اصطدمت ابجليوش املصرية على عهد رمسيس الثالث‪ .‬وآخر‬
‫التوسعات الذي عانته بالد فينيقيا يف تلك الفرتة كان التوسع اآلشوري‪ ،‬الذي احتل الساحل الفينيقي بعد‬
‫القضاء على دولة احلثيني ومد النفوذ حنو الغرب على عهد امللك جتالت فالسر األول‪ ،‬الذي يعتقد أنه كان‬
‫قد غزا سوراي حوايل ‪ .1094‬ق م‪ ،‬وادعى لنفسه إدخال بعض مدهنا حتت نفوذه‪ ،‬كما أمر بقطع أخشاب‬
‫األرز ومحلها إىل مشال بالد ما بني النهرين الستعماهلا يف بناء املعابد والقصور‪ .‬ويالحظ أنه إىل جانب‬
‫الزحف اآلشوري على الساحل الفينيقي‪ ،‬كانت هناك بعض الشعوب السامية األخرى اليت كانت تسكن‬
‫منطقة سوراي الداخلية‪ ،‬وقد كان هلا بعض التأثريات على التوسع الفينيقي يف البحر املتوسط‪ .‬ومن بني تلك‬
‫الشعوب نذكر اآلراميني‪ ،‬الذين انفسوا الفينيقيني يف التجارة الربية مع بالد ما بني النهرين‪ ،‬ويف الناحية اجلنوبية‬
‫الداخلية من سوراي كان العربانيون يتطلعون إىل أخد مكانتهم على الشاطئ الفينيقي خاصة يف عهد امللك‬
‫داوود وسليمان احلكيم رغم صداقتهم للملك أحريام‪ .‬الذي توىل احلكم حوايل سنة ‪ .980‬ق م عرش مدينة‬
‫صور وعمره عشرون عاما‪ ،‬ووصلت صور يف أايمه إىل مركز حضاري وجتاري ال مثيل له‪ ،‬وقد كان أحريام‬
‫نشيطا ومهتما ابحملافظة على ما حققه أسـالفه‪ 1.‬يف القرن العاشر ق‪.‬م‪ .‬كل تلك االضطراابت السياسية‬
‫اليت سادت يف شرق البحر املتوسط‪ ،‬مسحت للفينيقني أبن يستغلوا ضعف البحرية اإلغريقية اليت تداعت‬
‫عقب غزوة شعوب البحر املدمرة يف بداية القرن الثاين عشر ق‪ .‬م‪ ،‬وانطلق الفينيقيون بعد ذلك إىل احلـوض‬
‫‪2‬‬
‫الغريب من املتوسط‪.‬‬
‫ب‪-‬العوامل االقتصادية‪:‬‬
‫ترتبط العوامل االقتصادية للتوسع الفينيقي ارتباطا وثيقا ابلعوامل السياسية‪ ،‬ذلك أن كلى العاملني‬
‫يتأثر ابألوضاع الطبيعية والبشرية اليت كانت حتيط مبنطقة الساحل الفينيقي‪ ،‬فقد أدت قلة مساحة األراضي‬
‫الزراعية إىل حتويل اجتاه السكان من االعتماد على الزراعة مثل جرياهنم يف كل من وادي النيل وبالد الرافدين‪،‬‬
‫إىل االعتماد على التجارة البحرية والربية‪ .‬وهناك أسباب عديدة كانت قد ساعدت الفينيقيني على احرتاف‬
‫التجارة نذكر منها ‪:‬‬
‫‪ -‬توفر مادة اخلشب اليت اشتهرت هبا غاابت جبال لبنان‪ ،‬مما ساعدهم على احرتاف صناعة القوارب‬
‫والسفن‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪-Decret (F.), Carthage ou l'empire de la mer,éd.Seuil, Paris,P.22. -‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Grimal, 1er éd.,‬؛‪. 16-18‬ص ص‪ ، ...‬المتوسط البحر ‪- Caratini (R.), Histoire universelle, Le monde antique préface de‬‬
‫‪l’Italie, 1968, P.936.‬‬
‫‪9‬‬
‫‪-‬املوقع اجلغرايف االسرتاتيجي الذي متيزت به مدهنم القائمة على رؤوس حبرية متوغلة داخل ساحل البحر‪،‬‬
‫وعلى جزر متقطعة ابلقرب من السواحل‪ ،‬وهذا ما وفر هلم وجود املوانئ الطبيعية اليت آلت فيما بعد إىل موانئ‬
‫اصطناعية‪.‬‬
‫‪-‬حتكم الساحل الفينيقي يف الطريق الدويل الذي يصعد من وادي النيل عرب سيناء‪ ،‬ويربط ( ‪(3‬مناطق ازدهار‬
‫احلضارات القدمية يف مشال سوراي وبالد الرافدين وآسيا الصغرى‪" .‬لقد كان الفينيقيون دون شك واعون‬
‫ألخطار أمواج البحر‪ ،‬لكنهم كانوا ال ميلكون اخليار من أجل العيش "‪ ،‬حيث أهنم معتادون على االحبار إىل‬
‫مصر وإىل بالد بعيدة أخرى هبدف التجارة‪ ،‬حيث يبيعون خالل كل رحلة ما أنتجت بالدهم‪ ،‬ويشرتون املواد‬
‫اخلام خاصة تلك اليت تساعدهم يف الصناعة مثل الذهب والفضة والعاج وجلود احليواانت‪...‬إخل‪.‬‬
‫كما يقتنون أيضا من شعوب أخرى مصنوعات غري متوفرة يف بالدهم‪ .‬وقد عمل الفينيقيون كوسطاء‬
‫جتاريني يف إيصال بضائع دول شرقي البحر املتوسط إىل الشعوب اليت كانت يف حاجة إليها إىل جزر البحر‬
‫‪1‬‬
‫املتوسط وشواطئه الغربية‪.‬‬
‫وقد نشطت التجارة البحرية الفينيقية يف البحر املتوسط‪ ،‬كما احتكر الفينيقيون طرقها‪ ،‬مث وجهوا‬
‫عنايتهم لدراسة أصول املالحة البحرية‪ ،‬معتمدين يف ذلك على براعتهم يف معرفة الطرق البحرية اليت كانوا‬
‫يكتمون سرها‪ ،‬أو يزورون حقائقها يف بعض األحيان حىت ال ينافسهم يف ذلك جتار الشعوب البحرية األخرى‪.‬‬
‫ونظرا العتماد الصناعة الفينيقية على مواد خام‪ ،‬واليت مل يكن بعضها متوفرا يف فينيقيا فإهنم كانوا يبحرون إىل‬
‫البحر املتوسط مثل خامات الفضة والنحاس‪ ،‬وقد كانت منامجها موجودة يف ترشيش إبسبانيا‪ ،‬والعاج وجلود‬
‫احليواانت والعبيد وترب الذهب إبفريقيا‪ .‬ومن أجل تنفيذ أغراضهم التجارية‪ ،‬أسس الفينيقيون عدة حمطات‬
‫جتارية يف كل من مدينة قربص ورودس وصقلية‪ ،‬مث سردينيا وإسبانيا وبالد املغرب‪ .‬ويف القرن احلادي عشر‬
‫ق‪.‬م‪ ،‬نرى أن الفينيقيني قد أسسوا حمطة ليكسوس على الشاطئ الغريب لبالد املغرب‪ ،‬وكذلك مدينة أوتيكا‬
‫على خليج تونس‪ ،‬مث يتبعون هذين املستوطنتني يف بداية األلف األول ق‪.‬م ببقية املستوطنات واحملطات‬
‫‪2‬‬
‫األخرى‪ ،‬اليت وزعت توزيعا ماهرا على كامل شواطئ احلوض الغريب للبحر‪.‬‬

‫‪- Fantar (M.H.), Carthage la prestigieuse d’Elissa, éd.Maison Tunisienne, 1970, P.16.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪- Demerliac (J.G.) et Meirat ( J.), Hannon et l’empire punique, éd. Les belles lettres, Paris, 1983, P.53.‬‬
‫‪2‬‬

‫‪10‬‬
‫ج‪-‬العوامل االجتماعية‪:‬‬
‫هناك من املؤرخني من يرى أن للعامل االجتماعي دور ال يستهان به يف دفع الفينيقيني إىل اهلجرة‪،‬‬
‫ذلك أهنم قد اجتهوا حنو الغرب للبحث عن مواطن جديدة لفائض سكان الساحل الفينيقي ومل يعرف الفينيقيون‬
‫الوحدة السياسية يف فرتات كثرية من اترخيهم‪ ،‬حيث كانوا يتبعون نظام املدينة الدولة الذي كان مطبقا يف بالد‬
‫اإلغريق حينذاك‪ ،‬وقد فرضته عدة عوامل طبيعية وبشرية كانت حتيط ابملنطقة اليت استقروا فيه‪.‬‬
‫وقد نتج عن إتباع الفينيقيني لسياسة املدينـ ة الدولة أن سادت النزاعات الداخلية بني املدن الفينيقية‬
‫وكثر التنافس بني األمراء على احلكم‪ ،‬مما جعل الساحل الفينيقي عرضة ألطماع الشعوب اجملاورة له‪ .‬ولقد‬
‫حاولت املدن الفينيقية أن تتحد عدة مرات‪ ،‬لكنها فشلت يف حتقيق ذلك بسبب السيطرة األجنبية اليت كانت‬
‫تعانيها‪ ،‬كما أن الصراع الداخلي الذي كان سائدا بني اآلراميني والعربانيني يف منطقة سوراي الداخلية كان له‬
‫أتثريه اخلاص على ارتفاع نسبة السكان يف الساحل الفينيقي بنسبة تفوق إمكانيات االستيعاب يف املدن‬
‫الفينيقية الساحلية‪ ،‬وهذا هو األمر الذي أدى إىل تفشي االضطراابت والنزاعات على السلطة بني األعيان‬
‫األثرايء الذين كان هلم احلق يف احلكم‪ .‬واحلقيقة أن الظروف االجتماعية اجتمعت وتفاعلت فيما بينها وخلقت‬
‫جوا دفعت أوضاعه ابلفينيقيني إىل اهلجرة‪ ،‬بعد أن أصبحوا حماصرين من كل اجلهات فصار املخرج الوحيد‬
‫هلم هو اهلجرة عرب املسطحات املائية‪.1‬‬
‫وقد مرت عملية تواجد الفينيقيني ابحلوض الغريب للبحر املتوسط مبرحلتني أساسيتني مها‪:‬‬
‫‪ -‬أ مرحلة الكشف واالرتياد ‪ :‬كانوا حياولون خالهلا معرفة طبيعة سواحل احلوض الغريب للبحر املتوسط‪،‬‬
‫قصد اختيار أماكن صاحلة لبناء حمطاهتم التجارية خاصة يف منطقة املغرب القدمي‪ .‬كما مل يهمل الفينيقيون‬
‫أمهية السواحل األخرى املتواجدة على كامل سواحل احلوض الغريب للبحر املتوسط‪.‬‬
‫ب‪-‬مرحلة تثبيت االستيطان‪ :‬وهي اليت تبدأ بتأسيس مدينة قرطاجة وما تالها من مستوطنات كانت تدور‬
‫يف فلكها‪.‬‬
‫‪-III‬املستوطنات الباكرة يف بالد املغرب ‪:‬‬
‫ميكن أن تكون املستوطنات الفينيقية الثابتة يف بالد املغرب وغرب املتوسط قد سبقت مبراكز جتارية‬
‫بسيطة يلتقي فيها التجار الفينيقيون والسكان احملليون وتطورت هذه املراكز فيما بعد اىل مستوطنات جتارية‬
‫عندما توفرت هبا الشروط املالئمة ويرجع الكثري من املؤرخني أن فرتة االستيطان يف بالد املغرب ترجع اىل‬
‫القرن العاشر قبل امليالد ابعتبار أن هذه الفرتة متثل العصر الذهيب ملدينة صور حتت حكم امللك أحريام حوايل‬
‫‪ 936-980‬ق‪.‬م حيث استطاع هذا األخري بفضل حنكته السياسية وقو شخصيته أن يوفر لصور االستقرار‬

‫‪- -Cintas (P.), Le port de Carthage, extrait du manuel d’archéologique punique éd. A. et J. Picard, Paris, p.33.‬‬
‫‪1‬‬

‫‪11‬‬
‫الداخلي وتشجيع التجارة البحرية عرب كامل شواطئ البحر املتوسط‪ .‬ويرجع الفضل اليه يف تثبيت وتوسيع‬
‫املستوطنات الفينيقية غرب املتوسط لذلك ميكن القول أبن كل الفضل يرجع ملدينة صور يف حتويل املراكز‬
‫التجارية البحرية اىل مستوطنات اثبتة دون امهال مشاركات املدن الفينيقية األخرى يف عملية االستيطان‪ .‬لكن‬
‫حتت راية مدينة صور ومل يكن اهلدف من أتسيس املستوطنات الفينيقية اقتصاداي فقط بل ملواصلة الرحالت‬
‫االستكشافية عرب البحر األبيض املتوسط‪ .‬وكذا احمليط األطلسي وتعترب مستوطنيت قادس وليكسوس على‬
‫ساحل احمليط األطلسي مشال جنوب أعمدة هرقل هي اإلنطالقة األوىل للفينيقيني حنو أورواب اىل جزر‬
‫كاسرييدس ‪ cassiterides‬وكورنوال جنويب بريطانيا حبثا عن القصدير والرصاص‪ .‬وانطلقوا من ليكسوس‬
‫ابجتاه سواحل غريب افريقيا بقصد احلصول على الذهب وجلود احليواانت والعبيد‪ .‬وكانت مرحلة اإلستيطان‬
‫الفينيقي يف غرب املتوسط متممة لشرقه وهي اتبعة سياسيا للمدن الفينيقية وعلى رأسها مدينة صور اليت‬
‫كانت تتلقى سنواي الضرائب واهلدااي ملعبد اإلله ملقارت‪ .‬لذلك عرفت هذه املرحلة ابلعصر الفينيقي يف املغرب‬
‫واستمرت حىت منتصف القرن السادس ق‪.‬م اتريخ استالم قرطاجة زعامة املستوطنات اإلغريقية غرب املتوسط‬
‫وأصبحت تعقد التحالفات واملعاهدات مع كل من األتروسكيني والرومان‪.‬‬
‫‪-1‬مستوطنة قادش‪ :‬شيدت هذه املستوطنة يف شبه جزيرة أيبرياي إبسبانيا واليت تعتربها املصادر أبهنا أول‬
‫مستوطنة فينيقية أقيمت غرب املتوسط هناية القرن الثاين عشر ق‪.‬م حوايل ‪ 1110‬ق‪.‬م ‪ 1‬حيث أن الفينيقيون‬
‫الذين نزلوا غرب املتوسط أو ابألحرى ما وراء أعمدة هرق يف احدى اجلزر املنفصلة عن اليابسة واستقروا هبا‬
‫وأطلقوا عليها اسم جديرة ‪ GADIRA‬وهو االسم الذي حتول يف األفواه الرومانية اىل جاديس مث أصبح‬
‫قاديس‪ 2.‬أو قادس وقد ذكر املؤرخ بومبينيوس ميال أن موقعها اسرتاتيجي حيث يقول " ان جزيرة قادس كانت‬
‫منفصلة عن اليابسة بذراع حبري صغري يشبه النهر وأن ضفتها املواجهة ملياه احمليط قد ارتفعت مكونة يف‬
‫وسطها احنناء ينتهي برأسني بنيت على أحدمها مدينة حتمل نفس اسم اجلزيرة أما الراس الثاين فقد وجد عليه‬
‫معبد اإلله هرقل املصري"‪ 3‬واسم قادس يعين املكان احملمي أو األرض احملاطة بسور‪ .‬وقد أسست مدينة قادس‬
‫غرب املتوسط ألراض اقتصادية اهلدف منها احلصول على خامات املعادن كالفضة والقصدير والنحاس‬
‫واستبداهلا ابملواد املصنعة اجمللوبة من شرق املتوسط‪ .4‬حيث اختار الفينيقيون هذا املوقع لتماشيه مع حاجيات‬
‫‪5‬‬
‫املالحة ومستلزمات االتصال ابلسكان والتعرف عليهم ومن مث االجتار معهم وكذلك لشدة حصانته‪.‬‬

‫‪ - 1‬محمد الصغير غانم‪ ،‬معالم التواجد الفينيقي البوني في الجزائر‪ ،‬دار الهدى‪ ،‬الجزائر‪ ،2003 ،‬ص ص‪.69-68 ،‬‬
‫‪- 2‬محمد حسين فنطر‪ ،‬الحرف والصورة في عالم قرطاج‪ ،‬منشورات األبيض المتوسط‪ ،‬مركز النشر الجامعي‪ ،‬تونس‪ ،1999،‬ص‪.146،‬‬
‫‪3‬‬
‫‪-Gsell(s.), H.A.A.N.T.I.P.P ?405.‬‬
‫‪ - 4‬محمد الصغير غانم‪ ،‬التوسع الفينيقي في غرب البحر المتوسط‪ ،‬دار الهدى‪ ،‬الجزائر‪ ،2004 ،‬ص‪.78 ،‬‬
‫‪- 5‬محمد حسين فنطر‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.85،‬‬
‫‪12‬‬
‫وتوفر املنطقة أي شبه جزيرة أيبرياي على ثروات طبيعية ممتازة حتدث عنها املؤرخ ديودور الصقلي حيث‬
‫قال‪ :‬حتتوي منطقة ايبرياي على كميات وافرة من مناجم الفضة اليت كان السكان احملليون جيهلون استعماهلا‬
‫ولكن التجار الفينيقيني الذين حلو ابملنطقة كانوا حيصلون عليها مقابل كميات البضائع القليلة اليت كانوا‬
‫جيلبوهنا معهم من بالد اإلغريق وآسيا‪ .‬ومن بعض الشعوب األخرى وقد حصل الفينيقيون من وراء ذلك على‬
‫ثروة كبرية كما أن ممارستهم لتجارة املعدن ملدة طويلة زادهتم قدرة وابلتايل مسحت هلم بتأسيس عدد من‬
‫املستوطنات مثل صقلية واجلزر القريبة منها ويف ليبيا وكذلك أيبرياي‪ 1"....‬ومن أهم البقااي األثرية يف مدينة‬
‫قادش اليت عثر عليها متثلت يف بقااي برونزية وبعض الفخارايت والكثري من القبور وهناك مراكز فينيقية أخرى‬
‫يف شبه جزيرة ايبرياي مثل "ملقا" ‪ MALAGA‬اليت اشتهرت بتجفيف األمساك ومتليحها وكذا مدينة أبديرا‬
‫‪ ABDIRA‬وسكسي ‪. SEXI‬‬
‫‪-2‬مستوطنة ليكسوس‪ :‬تعد حمطة ليسكوس ‪ Lixus‬من أبرز احملطات الفينيقية الباكرة اليت أسست على‬
‫سواحل احمليط األطلسي بعد اجتياز الفينيقيني ألعمدة هرقل‪ 2‬وقد أشار إىل ذلك املؤرخ اسرتابون‪Strabon‬‬
‫حيث قال ‪ ..." :‬إن الفينيقيني الذين اجتازوا أعمدة هرقل‪ ،‬كانوا قد أسسوا مستوطنات على شواطئ البحر‬
‫اخلارجي بعد وقت قصري من حرب طروادة ‪".‬وتشري الكتاابت التارخيية‪ ،‬إىل أن أتسيس هذه احملطة يعود إىل‬
‫هناية القرن الثاين‪ .‬ق‪ ،‬م وقد مت أتسيسها على يد البحارة الفينيقيني الذين قدموا من شرقي البحر املتوسط‬
‫وهي بذلك معاصرة ملدينة قادس وسابقة ملدينة أوتيكا‪ .‬ويف هذا الصدد‪ ،‬يقول املؤرخ بلينوس الكبري '‪ancien‬‬
‫‪l Pline‬من جهته‪ " :‬أبن مستوطنة ليكسوس ميكن أن تكون أقدم من قادس وأوتيكا ‪ "،‬و يستدل على‬
‫ذلك أبن معبد اإلله هرقل ( ملقارت ) يف ليكسوس كان‪ 3.‬أقدم من مماثله يف قادس‪ .‬وبفضل وجود قادس‬
‫يف الطرف اجلنويب الغريب من إسبانيا و ليكسوس يف الطرف الشمايل الغريب من القارة اإلفريقية‪ ،‬حتكم الفينيقيون‬
‫‪4‬‬
‫والقرطاجيون من بعدهم يف بوابة الدخول الغربية للبحر املتوسط‬
‫وعلى هذا األساس‪ ،‬ال ميكن أن نستبعد أن الغرض الذي أسست من أجله حمطة ليكسوس كان‬
‫اسرتاتيجيا وجتاراي ذلك أهنا كانت تعترب مع قادس مبثابة املفاتيح على احمليط األطلسي وقد استعان هبا‬
‫القرطاجيون خالل رحلة حنون إىل إفريقيا االستوائية يف القرن اخلامس ق م ‪ .‬وقد أنشئت املدينة على الضفة‬
‫اليمىن لنهر ليكسوس هنر ذرعا القدمي الذي يصب يف احمليط األطلسي‪ ،‬مكوان بذلك خليجا صاحلا للمالحة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪-Diodore de sicile.t.5, p,25.‬‬
‫‪ : - 2‬محمد الصغير غانم‪ ،‬معالم التواجد الفينيقي البوني في الجزائر‪ ،...‬ص‪.73.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪- - Pline L’Ancien, Histoire naturelle, Paris, 1964, V, 17.‬‬
‫‪4‬‬
‫‪- Gsell (S.), H.A.A.N., T.I, p.360.‬‬
‫‪13‬‬
‫وجتدر املالحظة إىل أن موقع ليكسوس األثري حاليا حيتل مرتفعا يبعد حبوايل ‪ 4‬كلم مشال مدينة‬
‫العرائش‪ ،‬وقد عرفت ليكسوس يف املاضي مبدينة تشميش ‪ Tichemiche‬أي مدينة الشمس‪ 1.‬وقد‬
‫بدأت التنقيبات األثرية يف بقااي مدينة ليكسوس منذ حوايل سنة ‪1845‬م على يد البعثة األملانية اليت كان‬
‫يقودها العامل األثري ابرث ‪ Barth‬الذي استطاع أن حيدد معامل املدينة القدمية‪ .‬ويف سنة ‪ 1925‬م تولت‬
‫التنقيب يف نفس املكان املشار إليه آنفا‪ ،‬بعثة إسبانية كان مركزها مدينة تيطوان‪ .‬ومل تصل إىل نتيجة إال بعد‬
‫سنة ‪1948‬م عندما توىل اإلشراف على التنقيب يف مدينة ليكسوس العامل األثري اإلسباين‬
‫تراديل ‪Tradelle‬الذي استعمل الطرق العلمية احلديثة يف التنقيب‪ ،‬مث تعمق يف احلفر حىت بلغ األرض‬
‫العذراء‪ .‬أين عثر على كسر فخارية ذات لون أمحر المع يرجع اترخيها اىل حوايل القرن السادس أو السابع‬
‫ق‪.‬م‪ .‬أما حفرايت سنة ‪ 1951‬اليت اشرتك فيها كل من الباحث ترادال والباحث بيار سانتاس فقد عثر من‬
‫خالهلا على قطعة خزفية انعمة امللمس حتمل على أحد وجهيها صورة صقر يف حالة طريان وأمامه رمز آهلة‬
‫احلصاد اليت تسمى زنتوت وقد أرخ ابلقرن ‪ 08‬ق‪.‬م‪ .‬كما عثر كذلك يف نفس احلفرية على سفنكس أليب‬
‫اهلول مصنوع من املرمر‪ .‬وحسب بيار سانتاس فإن هذا التمثال الصغري أليب اهلول هو رمز للعبادة الشرقية‬
‫اليت كانت متارس يف ليكسوس‪ .‬وابإلضافة اىل كل ذلك مت العثور على الكثري من القبور لكنها كانت يف حالة‬
‫سيئة من آاثر التهدمي والنهب والسرقة‪ 2.‬وعلى ضوء الدراسات املقارنة‪ ،‬ميكن أن نقول حبق أن حمطة ليكسوس‬
‫كانت من بني أهم املستوطنات الفينيقية‪ ،‬وكانت عالقتها مبحطة قادس أحسن بكثري من عالقتها بقرطاجة‬
‫يف بالد املغرب القدمي‪ ،‬وميكن أن يكون السبب يف ذلك هو قصر املسافة اليت تربط بينها وبني األوىل‪.‬‬
‫‪-3‬مستوطنة أوتيكا‪ :‬تقع مستوطنة أوتيكا على الطريق اىل قادس حيث يرجع املؤرخ فيلوس ابتريكيلوس‬
‫أتسيس هذه املستوطنة اىل زمن عودة اهلرقليني اىل جزر البيلوبونيز الذي يؤرخ له حبوايل ‪ 80‬سنة بعد هتدمي‬
‫طروادة‪ ،‬وبذلك يكون اتريخ أتسيس أوتيكا حوايل ‪1110‬ق‪.‬م لكن املؤرخ اإلغريقي بلينوس يرى أهنا أتسست‬
‫حوايل سنة ‪ 1101‬ق‪.‬م‪ .‬أما أريسطو فيشري اىل أن أتسيسها قد سبق أتسيس مدينة قرطاجة بـ‪ 287 :‬سنة‪.‬‬
‫وابعتبار أن اتريخ أتسيس قرطاجة حوايل ‪ 814‬ق‪.‬م وإبضافة ‪ 287‬سنة جند ‪ 1101‬ق‪.‬م‪ 3‬فهي تقع يف‬
‫منتصف الطريقبني صور وقادس فهي بذلك تعترب مهزة وصل بني قادس وفينيقيا األم صور ومركز يلتقي فيه‬
‫سكان املغرب ابلتجار الفينيقيني لتأمني املصاحل املتبادلة‪ .‬وكانت يف بداية األمر قليلة السكان لكن سرعان م‬
‫ازداد عدد التجار املهاجرين اليها واستقرارهم فيها‪ .‬ويذكر املؤرخ اسرتابون ‪ Strabon‬من جهتـه‪ ،‬أبن‬
‫‪4‬‬
‫الفينيقيني قد وضعوا يدهم على أفضـل األماكـن يف شبه جزيـرة أيبرييـا‪ ،‬ويف ليبيـا قبل عصـر هوميـروس‬

‫‪ -1‬أمحد املكناسي‪ ،‬مدينة ليكسوس األثرية‪ ،‬دار كرميات‪ ،‬تيطوان‪ ،1961 ،‬ص‪.09.‬‬
‫‪- 2‬محمد الصغير غانم‪ ،‬معالم التواجد الفينيقي البوني في الجزائر‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.76-74 ،‬‬
‫‪3‬‬
‫‪- Aristote, Politique, II.‬‬
‫‪4‬‬
‫‪- - Strabon, III, 2-14.‬‬
‫‪14‬‬
‫كما يذكر املؤرخ اإلغريقي بلينوس ‪ ancien'l Pline‬أنه وجدت أخشاب أرز يف عهده مبعبد‬
‫اإلله أبولون ‪ Apollon‬أبوتيكا يعود اترخيها إىل سنة ‪ 1178‬قبل حلوله هبا علما أبن بلينوس قد ألف‬
‫كتابه " التاريخ الطبيعي" حوايل سنة ‪ 77‬ق‪.‬م‪.‬وبذلك يكون من احملتمل جدا أبن أتسيس مدينة أوتيكا كان‬
‫قد مت حوايل سنة ‪ 1101‬م‪.‬ق‪ 1‬ولعل نتائج األحباث األثرية املتواصلة يف كل من أوتيكا و قرطاجة ستغطي‬
‫هذه الفرتة يف املستقبل استنادا إىل ما سبق‪ ،‬ندرك أبن الغرض الذي أنشئت من أجله أوتيكا قد يكون على‬
‫األرجح اقتصاداي واسرتاتيجيا‪ ،‬نظرا ملوقعها على الطريق الرابطة بني صور وقادس أي ترشيش ومن جهة أخرى‬
‫وقوعها يف سهول مشال تونس الغنية بثرواهتا الطبيعية‪ .‬زايدة على ذلك‪ ،‬فقد كانت مدينة أوتيكا مركزا جتاراي‬
‫التقى فيها يف بداية األمر التجار الفينيقيون ابلسكان احملليني لبالد املغرب القدمي‪ ،‬وقد تعزز مركزها بعد أتسيس‬
‫مدينة قرطاجة رغم التنافس الذي كان بينهما فيما بعد وما جتدر اإلشارة إليه هنا‪ ،‬هو أن التنقيبات األثرية قد‬
‫بدأت منذ وقت مبكر‪ ،‬إال أهنا حىت اآلن مل تعط نتائج هامة فيما عدا بعض النصب التذكارية والفخارايت‬
‫اليت تعود إىل حوايل القرن الثامن قبل امليالد‪ 2.‬ومن أهم اللقى األثرية اليت عثر عليها يف موقع أوتيكا‪ ،‬اجلعران‬
‫املصري الذي يعود على األرجح إىل فرتة اهلكسوس وهم قبائل آسيوية قدمية‪ ،‬قامت بعدة غزوات على مصر‪،‬‬
‫وكان خروجهم على يد امللك حتومتس األول وهم أقوام من البدو مل يكونوا من جنس واحد بل كانوا خليطا‬
‫من قبائل متعددة‪ .‬عرفوا يف احلضارة املصرية ابسم حكام البالد إضافة إىل بعض التمائم واليد العاجية اليت‬
‫يعتقد أبن وجودها يسبق بداية األلف األوىل ق م ‪.‬وعلى أية حال‪ ،‬فالنتيجة اليت نستخلصها من دراسة البقااي‬
‫املادية يف مدينة أوتيكـا‪ ،‬تشري إىل أن هناك ثغرة بني معطيات املصادر املادية‪ ،‬ومعطيات املصادر الكتابية‬
‫وتلك الثغرة ال تزال تنتظر االستكمال بغية أن يتم االتفاق حول أتسيس تلك املدينة ‪.‬وخالصة القول أن‬
‫مدينة أوتيكا كانت من بني املستوطنات الباكرة اليت ساعدت البحارة الفينيقيني على خوض البحر املتوسط‬
‫وسهلت هلم فيما بعد أتسيس املستوطنات الالحقة على سواحل بالد املغرب القدمي‪ ،‬السيما مدينة قرطاجة‬
‫اليت كان هلا السيادة يف احلوض الغريب للبحر املتوسط برهة من الزمن‪.3‬‬

‫‪1‬‬
‫‪- - Pline L’Ancien, XVI, 216.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪- Cintas (P.), Manuel d’archéologique punique…, pp.294-298.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪- Moscati (S.), Histoire des civilisations des peuples sémitiques, éd. Payot, Paris, 1955, p. 12‬‬
‫‪15‬‬
‫‪-4‬مستوطنة قرطاجة‪:‬‬
‫أتسست مستوطنة قرطاجة الفينيقية يف وقت متأخر نسبيا عن املستوطنات الباكرة‪ ،‬حيث يؤرخ قيامها‬
‫اىل ‪ 814‬ق‪.‬م مث ان أخبار مؤسسيها حيكت يف شكل قصة غلب عليها الطابع األسطوري لكنها املستوطنة‬
‫الفينيقية الوحيدة اليت وصلتنا حوهلا بعض األخبار املفصلة يف املصادر اليواننية‪ .‬ولعل ذلك يعود اىل كون‬
‫قرطاجة تزعمت الفينيقيني الغربيني أي البونيني يف النزاع الطويل املدى الذي دار بينهم وبني اإلغريق الذين‬
‫تزعمتهم مستعمرهتم الكربى سرياكوزة جنوب شرق صقلية‪ .‬ومن مث كان اهتمام الكتاب اإلغريق أبخبار‬
‫القرطاجيني منذ نشأة مدينتهم فدونوا حوهلم بعض الرواايت والقصص اليت تناقلوها حىت وصلت الينا‪ .‬والرأي‬
‫السائد لدى املؤرخني أن اسم قرطاجة مكون من قرت حدشت ومعناه املدينة اجلديدة‪ .‬ابلنسبة اىل املدينة‬
‫القدمية األصلية وهي صو غري أن اسم قرطاجة معروف يف النصوص اليواننية بصيغة كارخيدون وهي صيغة‬
‫يصعب القول أبهنا مشتقة من كرت حدشت وورد يف كتاابت يواننية أن كارخيدون اسم ألحد شخصني‬
‫قدما من صور وأسسا هذه املدينة الفينيقية قبل احلرب الطروادية لكن هذه الرواية عزف عنها املؤرخون لقوهلا‬
‫بقدم قرطاجة عن التاريخ املرجح إلنشائها وهو عام ‪ 814‬ق‪.‬م بينما زمن حرب طروادة يعود اىل القرن الثاين‬
‫عشر قبل امليالد‪ .‬وكان الوافدون الصوريون بصحبة األمرية الصورية عليسا ديدون مؤسسة قرطاجة مزودين‬
‫مبتطلبات انشاء موطن جديد وان كان ال يعلم عددهم ابلضبط اال أن وجود مثانني امرأة معهم كخادمات‬
‫ملعبد عشتار يدل على أن عدد الوافدين كان معتربا وأن الغرض من هجرهتم اىل بالد املغرب كان واضحا‬
‫وحمدد‪ .‬وهو اإلقامة الدائمة يف املستوطنة ولعل وضوح اهلدف واإلعداد له كان من العوامل القوية اليت ساعدت‬
‫على جناح قرطاجة وتطورها وكانت البالد اليت أتسست قرطاجة على شاطئها اتبعة مللك يدعى هريابص‬
‫والذي تذكر األخبار بشأنه أنه رحب ابلوافدين الصوريني ووافق على انشاء مستوطنة هلم يف املكان الذي‬
‫اختاروه هم وذلك مقابل ضريبة يدفعوهنا له سنواي‪.‬‬
‫وتقول األسطورة أنه بعد اعتالء إيتوبعل عرش صور سنة ‪ 933‬ق‪.‬م كانت املدينة قد بلغت أوج قوهتا‬
‫وشهرهتا وكانت مملكة إسرائيل متر بفرتة احنطاط كبرية حيث أن ملوك اليهودية كانوا د استولوا على قسم مدن‬
‫اجلنوب وكانت مدن الشمال حيكمها رجل يدعى آحاب وهو صهر إيتوبعل أي زوج إبنته ايزابيال وبعد وفاة‬
‫إيتوبعل خلفه حفيده متان على رأس اململكة صور لكن هذا األخري واجهته مشاكل كثرية سياسية ودينية‬
‫احتدمت كثريا قبل موته وكان قد ترك ولدين بيغماليون وأليسا اليت رمب خلف أابها على العرش بعدما تزوجت‬
‫من كبري كهنة معبد ملكارت الذي يدعى عاشر ابس الذي قتله بيغماليون فعزمت أليسا على اهلرب برفقة‬
‫مجاعة من األشراف وجمموعة كبرية من اخلدم والبحارة اىل أن وصلوا قربص أين القوا استقباال حارا من كبري‬
‫كهنة اجلزيرة‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫الذي كان على نفس االعتقاد الديين ألليسا ديدون وقرر مرافقتها وأكدت له امللكة اعرتفها جبميله‬
‫ووعدته أبن ذريته ستتمتع يف املدينة اجلديدة ابلوظائف واإلمتيازات الكهنوتية واحبروا ابجتاه الساحل اإلفريقي‬
‫ونزلت يف بقعة مل يقع عليها اختيارهم من قبل وكان يف هذه البقعة موقع فينيقي ال يعرف امسه فسمت أليسا‬
‫هذا املكان قرت حدشت أي املدينة اجلديدة وأول ما قامت به هو شراء قطعة أرض من ذلك امللك الذي‬
‫حيكم تلك البالد مقدار جلد ثور وبعد موافقته على ذلك قامت بذبح ثور وأمرت بسلخه وتقطيع جلده اىل‬
‫خيوط رقيقة وأحاطت هبا قطعة أرض كبرية فأندهش امللك لذكائها ودهائها‪ .‬مث بدأت بتأسيس مدينتها‬
‫‪1‬‬
‫اجلديدة‪.‬‬
‫وما لبثت قرطاجة أن منت وازدهرت وراحت تنافس املستوطنات األخرى وتتصدى حلركة االستعمار اإلغريقي‬
‫املنافس للفينيقيني يف احلوض الغريب للبحر املتوسط فأخذت تضع يدها على املراكز املالئمة يف اجلزر املتوسطية‬
‫مثل صقلية وسردينيا وكورسيكا والبالياري‪ .‬حيث أسست حمطات هلا هناك خالل القرن السابع قبل امليالد‬
‫تطورت تلك احملطات ومنت وغدت مدان نشيطة معظم سكاهنا من األقوام الليبية اليت انصهرت مع الفينيقيني‬
‫وامتد نفوذ قرطاجة اىل املستوطنات الفينيقية يف مشال افريقيا واسبانيا وبذلك بسطت سيطرهتا على التجارة‬
‫يف احلوض الغريب من البحر األبيض املتوسط وفرضت قوهتا على من جاورها من األقوام اىل أن اصطدمت‬
‫مصاحلها التجارية مع مصاحل املستعمرات اإلغريقية يف صقلية اليت تقامسها الطرفان القرطاجي واإلغريقي ودخل‬
‫الطرفان يف صراع عنيف ومعارك كثرية بينهما دامت فرتات طويلة جدا وامتدت آاثره اىل بالد املغرب وكان‬
‫‪2‬‬
‫ذلك الصراع سببا يف دخول روما حلبة الصراع ضد قرطاجة‪.‬‬
‫ال شك أنه كان يف قرطاجة قبل أن تؤسس أليسا املدينة اجلديدة مركز جتاري فينيقي مل يعف مكانه ابلضبط‬
‫حيث يرى بعض املؤرخني وعلماء األاثر أن أول موضع استقر فيه الفينيقيون كان قريبا من شاطئ برج جديد‬
‫الضيق‪ ،‬لكن الطبقات الستارتيغرافية يف موقع صلمبو يعود عهدها اىل األايم األوىل من أتسيس قرطاجة حيث‬
‫اكتشف الباحث الفرنسي بيار سانتاس سنة ‪ 1947‬بقااي خزف فينيقي قربصي يعود اترخيه اىل أواخر العصر‬
‫الربونزي حيث أن قرطاجة تقع غرب املرفأ املستطيل‪ .‬كما اكتشف عدد كبري من املدافن من اجلهة املالية‬
‫والشرقية‪ .‬كما مت الكشف على القلعة اليت يطلق عليها اسم بريسا وهي مكن حمصن جدا تطل على املرفأين‬
‫وعلى أول مركز جتار أنشأه الفينيقيون حماطة بسور أو نني أحدمها حييط بسفح التلة واألخر ييط مبعبد أمشون‪.‬‬
‫أما املرفأين فيذكر لنا املؤرخ أبيان وصفا دقيقا عنهما األول املرفأ التجاري املستطيل الشكل والثاين املرفأ‬
‫‪3‬‬
‫العسكري الدائري الشكل‪.‬‬

‫‪- 1‬مادلين هورس ميادان‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.40-38 ،‬‬


‫‪-2‬محمد البشير شنيتي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.132-130 ،‬‬
‫‪-3‬مادلين هورس ميادان‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.45-43 ،‬‬
‫‪17‬‬
‫حيث كان املرفأ التجاري سهل الدخول ألنه يوفر احلماية للمراكب فازدهر فيه التبادل التجاري وأحاط‬
‫به من جهة البحر صف من الصخور مرصوفة حلماية الشاطئ‪ .‬أما املرفأ العسكري الذي أحلقت به مصانع‬
‫السفن فمحمي بسور حمصن وجدار املدينة‪ ،‬وحييط ابملرفأين األرصفة واألكواخ واألروقة الواسعة وكشف‬
‫التنقيب عن عدد كبري من قطع األعمدة واألفاريز اجملصصة واملدهونة ابللون األمحر واألخضر‪ ،‬وقرب املرفأ‬
‫توجد الساحة العامة حماطة أبروقة تتمركز فيها احلياة التجارية واألدارية يف املدينة‪ .‬وتتفرع عن الساحة الرئيسية‬
‫‪1‬‬
‫شوارع كثرية تؤدي اىل مرتفع يقوم عليه معبد امشون‪ .‬حتيط هبا بيوت تتألف من مخس و ستة طوابق‪.‬‬

‫‪ -1‬مادلين هورس ميادان‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.47-46 ،‬‬


‫‪18‬‬

You might also like