You are on page 1of 36

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫تفسير سورة الحج قيل‪ :‬مكية‪ ،‬وقيل‪ :‬مدنية‬

‫اع ِة َشيء َع ِظيم (‪ )1‬يػوـ تَػرونَػ َها تَ ْذ َىل ُك ُّل مر ِ‬


‫ض َع ٍة َع َّما أ َْر َ‬ ‫َّاس اتَّػ ُقوا َربَّ ُك ْم إِ َّف َزل َْزلَةَ َّ‬
‫ض ُع‬
‫ت َوتَ َ‬
‫ض َع ْ‬ ‫ُ ُْ‬ ‫َْ َ َْ‬ ‫الس َ ْ ٌ ٌ‬ ‫يَا أَيُّػ َها الن ُ‬
‫اب اللَّ ِو َش ِدي ٌد (‪)2‬‬ ‫ِ‬
‫ارى َولَك َّن َع َذ َ‬ ‫س َك َ‬
‫ِ‬
‫ارى َوَما ُى ْم ب ُ‬
‫ِ‬
‫ُك ُّل ذَات َح ْم ٍل َح ْملَ َها َوتَػ َرى الن َ‬
‫َّاس ُس َك َ‬

‫يم * يَػ ْوَـ‬ ‫ِ‬ ‫الس َ ِ‬


‫اعة َش ْيءٌ َعظ ٌ‬ ‫َّاس اتَّػ ُقوا َربَّ ُك ْم إِ َّف َزل َْزلَةَ َّ‬ ‫الرِح ِ‬
‫يم يَا أَيُّػ َها الن ُ‬ ‫{ ‪ { } 2 - 1‬بِ ْس ِم اللَّ ِو َّ‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫ارى‬
‫س َك َ‬
‫ِ‬
‫ارى َوَما ُى ْم ب ُ‬
‫َّاس ُس َك َ‬
‫ِ‬
‫ض ُع ُك ُّل َذات َح ْم ٍل َح ْملَ َها َوتَػ َرى الن َ‬ ‫ت َوتَ َ‬ ‫ض َع ٍة َع َّما أ َْر َ‬
‫ض َع ْ‬ ‫تَػرونَػ َها تَ ْذ َىل ُك ُّل مر ِ‬
‫ُ ُْ‬ ‫َْ‬
‫اب اللَّ ِو َش ِدي ٌد } ‪.‬‬‫َولَك َّن َع َذ َ‬
‫ِ‬
‫يخاطب اهلل الناس كافة‪ ،‬بأف يتقوا ربهم‪ ،‬الذي رباىم بالنعم الظاىرة والباطنة‪ ،‬فحقيق بهم أف يتقوه‪ ،‬بترؾ‬
‫الشرؾ والفسوؽ والعصياف‪ ،‬ويمتثلوا أوامره‪ ،‬مهما استطاعوا‪.‬‬
‫ثم ذكر ما يعينهم على التقوى‪ ،‬ويحذرىم من تركها‪ ،‬وىو اإلخبار بأىواؿ القيامة‪ ،‬فقاؿ‪:‬‬
‫يم } ال يقدر قدره‪ ،‬وال يبلغ كنهو‪ ،‬ذلك بأنها إذا وقعت الساعة‪ ،‬رجفت‬ ‫ِ‬ ‫الس َ ِ‬
‫{ إِ َّف َزل َْزلَةَ َّ‬
‫اعة َش ْيءٌ َعظ ٌ‬
‫األرض وارتجت‪ ،‬وزلزلت زلزالها‪ [ ،‬ص ‪ ] 533‬وتصدعت الجباؿ‪ ،‬واندكت‪ ،‬وكانت كثيبا مهيبل ثم كانت‬
‫ىباء منبثا‪ ،‬ثم انقسم الناس ثبلثة أزواج‪.‬‬
‫فهناؾ تنفطر السماء‪ ،‬وتكور الشمس والقمر‪ ،‬وتنتثر النجوـ‪ ،‬ويكوف من القبلقل والببلبل ما تنصدع لو‬
‫القلوب‪ ،‬وتجل منو األفئدة‪ ،‬وتشيب منو الولداف‪ ،‬وتذوب لو الصم الصبلب‪ ،‬ولهذا قاؿ‪ { :‬يَػ ْوَـ تَػ َرْونَػ َها‬
‫ت } مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدىا‪ ،‬خصوصا في ىذه الحاؿ‪ ،‬التي‬ ‫ض َع ْ‬ ‫ض َع ٍة َع َّما أ َْر َ‬
‫تَ ْذ َىل ُك ُّل مر ِ‬
‫ُ ُْ‬
‫ال يعيش إال بها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ارى } أي‪:‬‬ ‫س َك َ‬ ‫ارى َوَما ُى ْم ب ُ‬ ‫ض ُع ُك ُّل َذات َح ْم ٍل َح ْملَ َها } من شدة الفزع والهوؿ‪َ { ،‬وتَػ َرى الن َ‬
‫َّاس ُس َك َ‬ ‫{ َوتَ َ‬
‫تحسبهم ‪-‬أيها الرائي لهم‪ -‬سكارى من الخمر‪ ،‬وليسوا سكارى‪.‬‬
‫اب اللَّ ِو َش ِدي ٌد } فلذلك أذىب عقولهم‪ ،‬وفرغ قلوبهم‪ ،‬ومؤلىا من الفزع‪ ،‬وبلغت القلوب‬ ‫ِ‬
‫{ َولَك َّن َع َذ َ‬
‫الحناجر‪ ،‬وشخصت األبصار‪ ،‬وفي ذلك اليوـ‪ ،‬ال يجزي والد عن ولده‪ ،‬وال مولود ىو جاز عن والده شيئا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫احبَتِ ِو َوبَنِ ِيو * لِ ُك ّْل ْام ِر ٍئ ِم ْنػ ُه ْم يَػ ْوَمئِ ٍذ َشأْ ٌف يُػ ْغنِ ِيو } ‪.‬‬
‫َخ ِيو * وأ ُّْم ِو وأَبِ ِيو * وص ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ويومئذ { ي ِف ُّر الْمرء ِمن أ ِ‬
‫َ َُْ ْ‬
‫وىناؾ { يعض الظالم على يديو يقوؿ يا ليتني اتخذت مع الرسوؿ سبيبل يا ويلتى ليتني لم أتخذ فبلنا‬
‫خليبل } وتسود حينئذ وجوه وتبيض وجوه وتنصب الموازين التي يوزف بها مثاقيل الذر من الخير والشر‬
‫وتنشر صحائف األعماؿ وما فيها من جميع األعماؿ واألقواؿ والنيات من صغير وكبير وينصب الصراط‬
‫على متن جهنم وتزلف الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين { إذا رأتهم من مكاف بعيد سمعوا لها تغيظا‬
‫وزفيرا * وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا ىنالك ثبورا } ويقاؿ لهم { ال تَ ْدعوا الْيػوـ ثُػبورا و ِ‬
‫اح ًدا‬ ‫ُ َْ َ ُ ً َ‬
‫وف } قد غضب عليهم‬ ‫وا ْدعُوا ثُػبورا َكثِيرا } وإذا نادوا ربهم ليخرجهم منها قاؿ { ا ْخسئُوا فِ َيها وال تُ َكلّْم ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ًُ ً‬ ‫َ‬
‫الرب الرحيم وحضرىم العذاب األليم وأيسوا من كل خير ووجدوا أعمالهم كلها لم يفقدوا منها نقيرا وال‬
‫قطميرا‬
‫ىذا والمتقوف في روضات الجنات يحبروف وفي أنواع اللذات يتفكهوف وفيما اشتهت أنفسهم خالدوف‬
‫فحقيق بالعاقل الذي يعرؼ أف كل ىذا أمامو أف يعد لو عدتو وأف ال يلهيو األمل فيترؾ العمل وأف تكوف‬
‫تقوى اهلل شعاره وخوفو دثاره ومحبة اهلل وذكره روح أعمالو‬
‫يد (‪ُ )3‬كتِب َعلَْي ِو أَنَّوُ من تَػوَّالهُ فَأَنَّوُ ي ِ‬
‫اف م ِر ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫َوِم َن الن ِ‬
‫ضلُّوُ‬ ‫ُ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َّاس َم ْن يُ َجاد ُؿ في اللَّو بِغَْي ِر عل ٍْم َويَػتَّبِ ُع ُك َّل َش ْيطَ َ‬
‫الس ِعي ِر (‪)4‬‬
‫اب َّ‬ ‫َويَػ ْه ِد ِيو إِلَى َع َذ ِ‬

‫ِ ِ ِِ ِ‬ ‫{ ‪َ { } 4 - 3‬وِم َن الن ِ‬
‫ب َعلَْي ِو أَنَّوُ َم ْن تَػ َوالهُ‬ ‫ٍ ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس َم ْن يُ َجاد ُؿ في اللَّو بغَْي ِر عل ٍْم َويَػتَّب ُع ُك َّل َش ْيطَاف َم ِريد * ُكت َ‬
‫الس ِعي ِر } ‪.‬‬
‫اب َّ‬ ‫ضلُّوُ َويَػ ْه ِد ِيو إِلَى َع َذ ِ‬
‫فَأَنَّوُ ي ِ‬
‫ُ‬
‫أي‪ :‬ومن الناس طائفة وفرقة‪ ،‬سلكوا طريق الضبلؿ‪ ،‬وجعلوا يجادلوف بالباطل الحق‪ ،‬يريدوف إحقاؽ الباطل‬
‫وإبطاؿ الحق‪ ،‬والحاؿ أنهم في غاية الجهل ما عندىم من العلم شيء‪ ،‬وغاية ما عندىم‪ ،‬تقليد أئمة‬
‫الضبلؿ‪ ،‬من كل شيطاف مريد‪ ،‬متمرد على اهلل وعلى رسلو‪ ،‬معاند لهم‪ ،‬قد شاؽ اهلل ورسولو‪ ،‬وصار من‬
‫األئمة الذين يدعوف إلى النار‪.‬‬
‫ضلُّوُ } عن الحق‪،‬‬ ‫{ ُكتِب َعلَْي ِو } أي‪ :‬قدر على ىذا الشيطاف المريد { أَنَّوُ من تَػوالهُ } أي‪ :‬اتبعو { فَأَنَّوُ ي ِ‬
‫ُ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ‬
‫الس ِعي ِر } وىذا نائب إبليس حقا‪ ،‬فإف اهلل قاؿ عنو { إِنَّ َما‬ ‫ويجنبو الصراط المستقيم { َويَػ ْه ِد ِيو إِلَى َع َذ ِ‬
‫اب َّ‬

‫‪2‬‬
‫الس ِعي ِر } فهذا الذي يجادؿ في اهلل‪ ،‬قد جمع بين ضبللو بنفسو‪ ،‬وتصديو‬ ‫َص َح ِ‬
‫اب َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يَ ْدعُو ح ْزبَوُ ليَ ُكونُوا م ْن أ ْ‬
‫إلى إضبلؿ الناس‪ ،‬وىو متبع‪ ،‬ومقلد لكل شيطاف مريد‪ ،‬ظلمات بعضها فوؽ بعض‪ ،‬ويدخل في ىذا‪،‬‬
‫جمهور أىل الكفر والبدع‪ ،‬فإف أكثرىم مقلدة‪ ،‬يجادلوف بغير علم‪.‬‬
‫ضغَ ٍة‬‫اب ثُ َّم ِم ْن نُطْ َف ٍة ثُ َّم ِم ْن َعلَ َق ٍة ثُ َّم ِم ْن ُم ْ‬
‫ث فَِإنَّا َخلَ ْقنَا ُك ْم ِم ْن تُػر ٍ‬
‫َ‬
‫ب ِمن الْبػ ْع ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس إِ ْف ُك ْنتُ ْم في َريْ ٍ َ َ‬ ‫يَا أَيُّػ َها الن ُ‬
‫س ِّمى ثُ َّم نُ ْخ ِر ُج ُك ْم ِط ْف ًبل ثُ َّم لِتَْبػلُغُوا‬ ‫شاءُ إِلَى أ َ‬
‫َج ٍل ُم َ‬ ‫ُم َخلَّ َق ٍة َوغَْي ِر ُم َخلَّ َق ٍة لِنُبَػيّْ َن لَ ُك ْم َونُِق ُّر فِي ْاأل َْر َح ِاـ َما نَ َ‬
‫ض َى ِام َدةً‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أَ ُش َّد ُك ْم َوم ْن ُك ْم َم ْن يُػتَػ َوفَّى َوم ْن ُك ْم َم ْن يُػ َر ُّد إِلَى أ َْرذَ ِؿ الْعُ ُم ِر ل َك ْي َبل يَػ ْعلَ َم م ْن بَػ ْعد عل ٍْم َش ْيئًا َوتَػ َرى ْاأل َْر َ‬
‫يج (‪)5‬‬ ‫ت ِم ْن ُك ّْل َزْو ٍج بَ ِه ٍ‬ ‫ت َوأَنْػبَتَ ْ‬‫ت َوَربَ ْ‬ ‫فَِإ َذا أَنْػ َزلْنَا َعلَْيػ َها ال َْم َ‬
‫اء ْاىتَػ َّز ْ‬

‫اب ثُ َّم ِم ْن نُطْ َف ٍة ثُ َّم ِم ْن َعلَ َق ٍة‬


‫ث فَِإنَّا َخلَ ْقنَا ُك ْم ِم ْن تُػر ٍ‬
‫َ‬
‫ب ِمن الْبػ ْع ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس إِ ْف ُك ْنتُ ْم في َريْ ٍ َ َ‬ ‫{ ‪ { } 7 - 5‬يَا أَيُّػ َها الن ُ‬
‫س ِّمى ثُ َّم نُ ْخ ِر ُج ُك ْم ِط ْفبل‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ٍ‬ ‫ثُ َّم ِمن م ْ ٍ‬
‫شاءُ إِلَى أ َ‬
‫َج ٍل ُم َ‬ ‫األر َح ِاـ َما نَ َ‬
‫ضغَة ُم َخلَّ َقة َوغَْي ِر ُم َخلَّ َقة لنُبَػيّْ َن لَ ُك ْم َونُق ُّر في ْ‬ ‫ْ ُ‬
‫ثُ َّم لِتَْبػلُغُوا أَ ُش َّد ُك ْم َوِم ْن ُك ْم َم ْن يُػتَػ َوفَّى َوِم ْن ُك ْم َم ْن يُػ َر ُّد إِلَى أ َْرذَ ِؿ الْعُ ُم ِر لِ َك ْيبل يَػ ْعلَ َم ِم ْن بَػ ْع ِد ِعل ٍْم َش ْيئًا َوتَػ َرى‬
‫يج } ‪.‬‬ ‫ت ِم ْن ُك ّْل َزْو ٍج بَ ِه ٍ‬ ‫ت َوأَنْػبَتَ ْ‬‫ت َوَربَ ْ‬ ‫اء ْاىتَػ َّز ْ‬ ‫ِ‬
‫ض َىام َدةً فَِإذَا أَنْػ َزلْنَا َعلَْيػ َها ال َْم َ‬ ‫األر َ‬ ‫ْ‬
‫ب ِمن الْبػ ْع ِ‬ ‫ِ‬
‫ث } أي‪ :‬شك واشتباه‪ ،‬وعدـ علم بوقوعو‪ ،‬مع أف‬ ‫َّاس إِ ْف ُك ْنتُ ْم في َريْ ٍ َ َ‬ ‫يقوؿ تعالى‪ { :‬يَا أَيُّػ َها الن ُ‬
‫الواجب عليكم أف تصدقوا ربكم‪ ،‬وتصدقوا رسلو في ذلك‪ ،‬ولكن إذا أبيتم إال الريب‪ ،‬فهاكم دليلين‬
‫عقليين تشاىدونهما‪ ،‬كل واحد منهما‪ ،‬يدؿ داللة قطعية على ما شككتم فيو‪ ،‬ويزيل عن قلوبكم الريب‪.‬‬
‫أحدىما‪ :‬االستدالؿ بابتداء خلق اإلنساف‪ ،‬وأف الذي ابتدأه سيعيده‪ ،‬فقاؿ فيو‪ { :‬فَِإنَّا َخلَ ْقنَا ُك ْم ِم ْن تُػر ٍ‬
‫اب‬ ‫َ‬
‫} وذلك بخلق أبي البشر آدـ عليو السبلـ‪ { ،‬ثُ َّم ِم ْن نُطْ َف ٍة } أي‪ :‬مني‪ [ ،‬ص ‪ ] 534‬وىذا ابتداء أوؿ‬
‫ضغَ ٍة } أي‪ :‬ينتقل الدـ‬ ‫التخليق‪ { ،‬ثُ َّم ِم ْن َعلَ َق ٍة } أي‪ :‬تنقلب تلك النطفة‪ ،‬بإذف اهلل دما أحمر‪ { ،‬ثُ َّم ِم ْن ُم ْ‬
‫مضغة‪ ،‬أي‪ :‬قطعة لحم‪ ،‬بقدر ما يمضغ‪ ،‬وتلك المضغة تارة تكوف { ُم َخلَّ َق ٍة } أي‪ :‬مصور منها خلق‬
‫اآلدمي‪َ { ،‬وغَْي ِر ُم َخلَّ َق ٍة } تارة‪ ،‬بأف تقذفها األرحاـ قبل تخليقها‪ { ،‬لِنُبَػيّْ َن لَ ُك ْم } أصل نشأتكم‪ ،‬مع قدرتو‬
‫تعالى‪ ،‬على تكميل خلقو في لحظة واحدة‪ ،‬ولكن ليبين لنا كماؿ حكمتو‪ ،‬وعظيم قدرتو‪ ،‬وسعة رحمتو‪.‬‬
‫ِ ِ‬
‫س ِّمى } أي ‪ :‬ونقر‪ ،‬أي‪ :‬نبقي في األرحاـ من الحمل‪ ،‬الذي لم‬ ‫شاءُ إِلَى أ َ‬
‫َج ٍل ُم َ‬ ‫األر َح ِاـ َما نَ َ‬
‫{ َونُق ُّر في ْ‬
‫تقذفو األرحاـ‪ ،‬ما نشاء إبقاءه إلى أجل مسمى‪ ،‬وىو مدة الحمل‪ { .‬ثُ َّم نُ ْخ ِر ُج ُك ْم } من بطوف أمهاتكم {‬

‫‪3‬‬
‫ِط ْفبل } ال تعلموف شيئا‪ ،‬وليس لكم قدرة‪ ،‬وسخرنا لكم األمهات‪ ،‬وأجرينا لكم في ثديها الرزؽ‪ ،‬ثم تنتقلوف‬
‫طورا بعد طور‪ ،‬حتى تبلغوا أشدكم‪ ،‬وىو كماؿ القوة والعقل‪.‬‬
‫{ َوِم ْن ُك ْم َم ْن يُػتَػ َوفَّى } من قبل أف يبلغ سن األشد‪ ،‬ومنكم من يتجاوزه فيرد إلى أرذؿ العمر‪ ،‬أي‪ :‬أخسو‬
‫وأرذلو‪ ،‬وىو سن الهرـ والتخريف‪ ،‬الذي بو يزوؿ العقل‪ ،‬ويضمحل‪ ،‬كما زالت باقي القوة‪ ،‬وضعفت‪.‬‬
‫{ لِ َك ْيبل يَػ ْعلَ َم ِم ْن بَػ ْع ِد ِعل ٍْم َش ْيئًا } أي‪ :‬ألجل أف ال يعلم ىذا المعمر شيئا مما كاف يعلمو قبل ذلك‪ ،‬وذلك‬
‫لضعف عقلو‪ ،‬فقوة اآلدمي محفوفة بضعفين‪ ،‬ضعف الطفولية ونقصها‪ ،‬وضعف الهرـ ونقصو‪ ،‬كما قاؿ‬
‫ف قُػ َّو ًة ثُ َّم َج َع َل ِم ْن بَػ ْع ِد قُػ َّوةٍ َ‬
‫ض ْع ًفا َو َش ْيبَةً‬ ‫ف ثُ َّم َج َع َل ِم ْن بَػ ْع ِد َ‬
‫ض ْع ٍ‬ ‫تعالى‪ { :‬اللَّوُ الَّ ِذي َخلَ َق ُك ْم ِم ْن َ‬
‫ض ْع ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض‬ ‫يم الْ َقد ُير } والدليل الثاني‪ ،‬إحياء األرض بعد موتها‪ ،‬فقاؿ اهلل فيو‪َ { :‬وتَػ َرى ْ‬
‫األر َ‬ ‫شاءُ َو ُى َو ال َْعل ُ‬ ‫يَ ْخلُ ُق َما يَ َ‬
‫ِ‬
‫ت } أي‪ :‬تحركت‬ ‫اء ْاىتَػ َّز ْ‬‫َىام َد ًة } أي‪ :‬خاشعة مغبرة ال نبات فيها‪ ،‬وال خضر‪ { ،‬فَِإ َذا أَنزلْنَا َعلَْيػ َها ال َْم َ‬
‫ت ِم ْن ُك ّْل َزْو ٍج } أي‪ :‬صنف من‬ ‫ت } أي‪ :‬ارتفعت بعد خشوعها وذلك لزيادة نباتها‪َ { ،‬وأَنْػبَتَ ْ‬ ‫بالنبات { َوَربَ ْ‬
‫يج } أي‪ :‬يبهج الناظرين‪ ،‬ويسر المتأملين‪ ،‬فهذاف الدليبلف القاطعاف‪ ،‬يدالف على ىذه‬ ‫أصناؼ النبات { بَ ِه ٍ‬
‫المطالب الخمسة‪ ،‬وىي ىذه‪.‬‬
‫ب فِ َيها َوأ َّ‬
‫َف‬ ‫الس َ ِ‬
‫اعةَ آتيَةٌ َال َريْ َ‬ ‫ْح ُّق َوأَنَّوُ يُ ْح ِي ال َْم ْوتَى َوأَنَّوُ َعلَى ُك ّْل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير (‪َ )6‬وأ َّ‬
‫َف َّ‬ ‫ك بِأ َّ‬
‫َف اللَّوَ ُى َو ال َ‬ ‫ذَلِ َ‬
‫ث َم ْن فِي الْ ُقبُوِر (‪)7‬‬ ‫اللَّوَ يَػ ْبػ َع ُ‬

‫ب فِ َيها َوأ َّ‬


‫َف‬ ‫الس َ ِ‬
‫اعةَ آتيَةٌ ال َريْ َ‬ ‫َف َّ‬ ‫ْح ُّق َوأَنَّوُ يُ ْحيِي ال َْم ْوتَى َوأَنَّوُ َعلَى ُك ّْل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير * َوأ َّ‬ ‫ك بِأ َّ‬
‫َف اللَّوَ ُى َو ال َ‬ ‫{ ذَلِ َ‬
‫ث َم ْن فِي الْ ُقبُوِر } ‪.‬‬ ‫اللَّوَ يَػ ْبػ َع ُ‬
‫ْح ُّق } أي‪:‬‬ ‫ك } الذي أنشأ اآلدمي من ما وصف لكم‪ ،‬وأحيا األرض بعد موتها‪ { ،‬بِأ َّ‬
‫َف اللَّوَ ُى َو ال َ‬ ‫{ َذلِ َ‬
‫الرب المعبود‪ ،‬الذي ال تنبغي العبادة إال لو‪ ،‬وعبادتو ىي الحق‪ ،‬وعبادة غيره باطلة‪َ { ،‬وأَنَّوُ يُ ْحيِي ال َْم ْوتَى }‬
‫كما ابتدأ الخلق‪ ،‬وكما أحيا األرض بعد موتها‪َ { ،‬وأَنَّوُ َعلَى ُك ّْل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير } كما أشهدكم من بديع قدرتو‬
‫وعظيم صنعتو ما أشهدكم‪.‬‬
‫ث َم ْن فِي الْ ُقبُوِر } فيجازيكم‬ ‫ب فِ َيها } فبل وجو الستبعادىا‪َ { ،‬وأ َّ‬
‫َف اللَّوَ يَػ ْبػ َع ُ‬ ‫الس َ ِ‬
‫اعةَ آتيَةٌ ال َريْ َ‬ ‫َف َّ‬ ‫{ َوأ َّ‬
‫بأعمالكم حسنها وسيئها‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫يل اللَّ ِو لَوُ‬ ‫اب منِي ٍر (‪ )8‬ثَانِي ِعط ِْف ِو لِي ِ‬
‫ض َّل َع ْن َسبِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫َوِم َن الن ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّاس َم ْن يُ َجاد ُؿ في اللَّو بِغَْي ِر عل ٍْم َوَال ُى ًدى َوَال كتَ ٍ ُ‬
‫َف اللَّوَ لَيس بِظََّبلٍـ لِلْعبِ ِ‬
‫اؾ َوأ َّ‬ ‫ْح ِر ِيق (‪ )9‬ذَلِ َ‬
‫ك بِ َما قَ َّد َم ْ‬ ‫ِ ِ‬ ‫الدنْػيا ِخ ْز ِ‬ ‫ِ‬
‫يد‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ت يَ َد َ‬ ‫اب ال َ‬ ‫في ُّ َ ٌ‬
‫ي َونُذي ُقوُ يَػ ْوَـ الْقيَ َامة َع َذ َ‬
‫( ‪)10‬‬

‫اب منِي ٍر * ثَانِي ِعط ِْف ِو لِي ِ‬


‫ض َّل َع ْن‬ ‫اد ُؿ فِي اللَّ ِو بِغَْي ِر ِعل ٍْم َوال ُى ًدى َوال كِتَ ٍ‬
‫َّاس من يج ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫{ ‪ { } 9 - 8‬وِ‬
‫م‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫الدنْػيا ِخ ْز ِ‬ ‫سبِ ِ ِ ِ‬
‫ْح ِر ِيق } ‪.‬‬
‫اب ال َ‬
‫ي َونُذي ُقوُ يَػ ْوَـ الْقيَ َامة َع َذ َ‬‫يل اللَّو لَوُ في ُّ َ ٌ‬ ‫َ‬
‫اد ُؿ فِي‬‫المجادلة المتقدمة للمقلد‪ ،‬وىذه المجادلة للشيطاف المريد‪ ،‬الداعي إلى البدع‪ ،‬فأخبر أنو { يج ِ‬
‫َُ‬
‫اللَّ ِو } أي‪ :‬يجادؿ رسل اهلل وأتباعهم بالباطل ليدحض بو الحق‪ { ،‬بِغَْي ِر ِعل ٍْم } صحيح { َوال ُى ًدى } أي‪:‬‬
‫اب ُمنِي ٍر } أي‪ :‬واضح بين‪،‬‬ ‫غير متبع في جدالو ىذا من يهديو‪ ،‬ال عقل مرشد‪ ،‬وال متبوع مهتد‪َ { ،‬وال كِتَ ٍ‬
‫وحو َف إِلَى‬ ‫أي‪ :‬فبل لو حجة عقلية وال نقلية ‪ ،‬إف ىي إال شبهات‪ ،‬يوحيها إليو الشيطاف { وإِ َّف َّ ِ‬
‫ين لَيُ ُ‬
‫الشيَاط َ‬ ‫َ‬
‫ادلُوُك ْم } ومع ىذا { ثَانِ َي ِعط ِْف ِو } أي‪ :‬الوي جانبو وعنقو‪ ،‬وىذا كناية عن كبره عن الحق‪،‬‬ ‫أَولِيائِ ِهم لِيج ِ‬
‫َْ ْ َُ‬
‫ض َّل‬ ‫واحتقاره للخلق‪ ،‬فقد فرح بما معو من العلم غير النافع‪ ،‬واحتقر أىل الحق وما معهم من الحق‪ { ،‬لِي ِ‬
‫ُ‬
‫} الناس‪ ،‬أي‪ :‬ليكوف من دعاة الضبلؿ‪ ،‬ويدخل تحت ىذا جميع أئمة الكفر والضبلؿ‪ ،‬ثم ذكر عقوبتهم‬
‫ي } أي‪ :‬يفتضح ىذا في الدنيا قبل اآلخرة‪ ،‬وىذا من آيات‬ ‫الدنيوية واألخروية فقاؿ‪ { :‬لَو فِي ُّ ِ‬
‫الدنْػيَا خ ْز ٌ‬ ‫ُ‬
‫اهلل العجيبة‪ ،‬فإنك ال تجد داعيا من دعاة الكفر والضبلؿ‪ ،‬إال ولو من المقت بين العالمين‪ ،‬واللعنة‪،‬‬
‫والبغض‪ ،‬والذـ‪ ،‬ما ىو حقيق بو‪ ،‬وكل بحسب حالو‪.‬‬
‫ْح ِر ِيق } أي‪ :‬نذيقو حرىا الشديد‪ ،‬وسعيرىا البليغ‪ ،‬وذلك بما قدمت يداه‪{ ،‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اب ال َ‬
‫{ َونُذي ُقوُ يَػ ْوَـ الْقيَ َامة َع َذ َ‬
‫بلـ لِلْعبِ ِ‬ ‫َّ َّ‬
‫يد }‬ ‫س بِظَ ٍ َ‬ ‫َوأف اللوَ لَْي َ‬
‫ب َعلَى َو ْج ِه ِو َخ ِس َر‬ ‫ِ‬ ‫َّاس من يػعب ُد اللَّو َعلَى حر ٍ‬
‫ؼ فَِإ ْف أَصابوُ َخيػر اطْمأ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َف بِو َوإِ ْف أ َ‬
‫َصابَػ ْتوُ ف ْتػنَةٌ انْػ َقلَ َ‬ ‫َ َ ٌْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َوم َن الن ِ َ ْ َ ْ ُ َ‬
‫ك ُى َو‬‫ض ُّرهُ َوَما َال يَػ ْنػ َفعُوُ َذلِ َ‬ ‫وف اللَّ ِو َما َال يَ ُ‬‫ْخسرا ُف الْمبِين (‪ )11‬ي ْدعُو ِمن ُد ِ‬ ‫الدنْػيَا َو ْاآل ِخ َرَة َذلِ َ‬
‫ُّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ك ُى َو ال ُ ْ َ ُ ُ‬
‫س ال َْع ِش ُير (‪)13‬‬ ‫ِ‬ ‫ض ُّرهُ أَقػْر ُ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫س ال َْم ْولَى َولَب ْئ َ‬
‫ب م ْن نَػ ْفعو لَب ْئ َ‬ ‫َّبل ُؿ الْبَعي ُد (‪ )12‬يَ ْدعُو لَ َم ْن َ َ‬ ‫الض َ‬

‫‪5‬‬
‫ِ‬ ‫ؼ فَِإ ْف أَصابوُ َخيػر اطْمأ َّ ِ‬ ‫َّاس من يػعب ُد اللَّو َعلَى حر ٍ‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫َف بِو َوإِ ْف أ َ‬
‫َصابَػ ْتوُ ف ْتػنَةٌ انْػ َقلَ َ‬ ‫َ َ ٌْ َ‬ ‫َْ‬ ‫{ ‪َ { } 13 - 11‬وم َن الن ِ َ ْ َ ْ ُ َ‬
‫ْخسرا ُف الْمبِين * ي ْدعُو ِمن ُد ِ‬
‫وف اللَّ ِو َما ال يَ ُ‬ ‫الدنْػيا و ِ‬
‫اآلخ َرةَ ذَلِ َ‬ ‫ِ ِ‬
‫ض ُّرهُ َوَما ال يَػ ْنػ َفعُوُ‬ ‫ْ‬ ‫ك ُى َو ال ُ ْ َ ُ ُ َ‬ ‫َعلَى َو ْج ِهو َخس َر ُّ َ َ‬
‫س ال َْع ِش ُير } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ض ُّرهُ أَقػْر ُ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ك ُىو الض ُ ِ‬ ‫ِ‬
‫س ال َْم ْولَى َولَب ْئ َ‬ ‫ب م ْن نَػ ْفعو لَب ْئ َ‬ ‫َّبلؿ الْبَعي ُد * يَ ْدعُو لَ َم ْن َ َ‬ ‫ذَل َ َ‬
‫أي‪ :‬ومن الناس من ىو ضعيف اإليماف‪ ،‬لم يدخل اإليماف قلبو‪ ،‬ولم تخالطو بشاشتو‪ ،‬بل دخل فيو‪ ،‬إما‬
‫َف بِ ِو } أي‪ :‬إف استمر رزقو رغدا‪،‬‬ ‫خوفا‪ ،‬وإما عادة على وجو ال يثبت عند المحن‪ { ،‬فَِإ ْف أ َ‬
‫َصابَوُ َخ ْيػ ٌر اط َْمأ َّ‬
‫ولم يحصل لو من المكاره شيء‪ ،‬اطمأف بذلك الخير‪ ،‬ال بإيمانو‪ .‬فهذا‪ ،‬ربما أف اهلل يعافيو‪ ،‬وال يقيض لو‬
‫ِ‬
‫ب َعلَى‬‫َصابَػ ْتوُ ف ْتػنَةٌ } من حصوؿ مكروه‪ ،‬أو زواؿ محبوب { انْػ َقلَ َ‬ ‫من الفتن ما ينصرؼ بو عن دينو‪َ { ،‬وإِ ْف أ َ‬
‫الدنْػيا و ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اآلخ َرَة } أما في [ ص ‪ ] 535‬الدنيا‪ ،‬فإنو ال يحصل لو‬ ‫َو ْج ِهو } أي‪ :‬ارتد عن دينو‪َ { ،‬خس َر ُّ َ َ‬
‫بالردة ما أملو الذي جعل الردة رأسا لمالو‪ ،‬وعوضا عما يظن إدراكو‪ ،‬فخاب سعيو‪ ،‬ولم يحصل لو إال ما‬
‫ك ُى َو‬‫قسم لو‪ ،‬وأما اآلخرة‪ ،‬فظاىر‪ ،‬حرـ الجنة التي عرضها السماوات واألرض‪ ،‬واستحق النار‪َ { ،‬ذلِ َ‬
‫ين } أي‪ :‬الواضح البين‪.‬‬‫ِ‬
‫ْخ ْس َرا ُف ال ُْمب ُ‬
‫ال ُ‬
‫{ ي ْدعُو } ىذا الراجع على وجهو { ِمن ُد ِ‬
‫وف اللَّ ِو َما ال يَ ُ‬
‫ض ُّرهُ َوَما ال يَػ ْنػ َفعُوُ } وىذا صفة كل مدعو ومعبود‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َّبلؿ الْبَ ِعي ُد } الذي قد بلغ في‬ ‫من دوف اهلل‪ ،‬فإنو ال يملك لنفسو وال لغيره نفعا وال ضرا‪ { ،‬ذَلِ َ‬
‫ك ُى َو الض ُ‬
‫البعد إلى حد النهاية‪ ،‬حيث أعرض عن عبادة النافع الضار‪ ،‬الغني المغني ‪ ،‬وأقبل على عبادة مخلوؽ مثلو‬
‫ض ُّرهُ‬
‫أو دونو‪ ،‬ليس بيده من األمر شيء بل ىو إلى حصوؿ ضد مقصوده أقرب‪ ،‬ولهذا قاؿ‪ { :‬يَ ْدعُو لَ َم ْن َ‬
‫س ال َْم ْولَى } أي‪ :‬ىذا المعبود {‬ ‫ِ‬ ‫أَقػْر ِ ِ ِ‬
‫ب م ْن نَػ ْفعو } فإف ضرره في العقل والبدف والدنيا واآلخرة معلوـ { لَب ْئ َ‬ ‫َُ‬
‫س ال َْع ِش ُير } أي‪ :‬القرين المبلزـ على صحبتو‪ ،‬فإف المقصود من المولى والعشير‪ ،‬حصوؿ النفع‪ ،‬ودفع‬ ‫ِ‬
‫َولَب ْئ َ‬
‫الضرر‪ ،‬فإذا لم يحصل شيء من ىذا‪ ،‬فإنو مذموـ ملوـ‪.‬‬
‫ار إِ َّف اللَّوَ يَػ ْف َع ُل َما يُ ِري ُد (‪)14‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫إِ َّف اللَّوَ ي ْد ِخل الَّ ِذين آمنُوا و َع ِملُوا َّ ِ ِ‬
‫الصال َحات َجنَّات تَ ْج ِري م ْن تَ ْحت َها ْاألَنْػ َه ُ‬ ‫ُ ُ َ َ َ‬

‫ار إِ َّف اللَّوَ يَػ ْف َع ُل َما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫{ ‪ { } 14‬إِ َّف اللَّوَ ي ْد ِخل الَّ ِذين آمنُوا و َع ِملُوا َّ ِ ِ‬
‫الصال َحات َجنَّات تَ ْج ِري م ْن تَ ْحت َها األنْػ َه ُ‬ ‫ُ ُ َ َ َ‬
‫يُ ِري ُد } ‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫لما ذكر تعالى المجادؿ بالباطل‪ ،‬وأنو على قسمين‪ ،‬مقلد‪ ،‬وداع‪ ،‬ذكر أف المتسمي باإليماف أيضا على‬
‫قسمين‪ ،‬قسم لم يدخل اإليماف قلبو كما تقدـ‪ ،‬والقسم الثاني‪ :‬المؤمن حقيقة‪ ،‬صدؽ ما معو من اإليماف‬
‫باألعماؿ الصالحة‪ ،‬فأخبر تعالى أنو (‪ )1‬يدخلهم جنات تجري من تحتها األنهار‪ ،‬وسميت الجنة جنة‪،‬‬
‫الشتمالها على المنازؿ والقصور واألشجار والنوابت التي تجن من فيها‪ ،‬ويستتر بها من كثرتها‪ { ،‬إِ َّف اللَّوَ‬
‫يَػ ْف َع ُل َما يُ ِري ُد } فما أراده تعالى فعلو من غير ممانع وال معارض‪ ،‬ومن ذلك‪ ،‬إيصاؿ أىل الجنة إليها‪ ،‬جعلنا‬
‫اهلل منهم بمنو وكرمو‪.‬‬
‫الس َم ِاء ثُ َّم لْيَػ ْقطَ ْع فَػ ْليَػ ْنظُْر َى ْل يُ ْذ ِىبَ َّن‬
‫ب إِلَى َّ‬
‫سبَ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ص َرهُ اللَّوُ فِي ُّ‬
‫الدنْػيَا َو ْاآلخ َرة فَػلْيَ ْم ُد ْد ب َ‬ ‫َم ْن َكا َف يَظُ ُّن أَ ْف لَ ْن يَػ ْن ُ‬
‫ظ (‪)15‬‬ ‫َك ْي ُدهُ َما يَ ِغي ُ‬

‫الس َم ِاء ثُ َّم لِيَػ ْقطَ ْع فَػ ْليَػ ْنظُْر‬


‫ب إِلَى َّ‬
‫سبَ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ص َرهُ اللَّوُ فِي ُّ‬
‫الدنْػيَا َواآلخ َرة فَػلْيَ ْم ُد ْد ب َ‬ ‫{ ‪َ { } 15‬م ْن َكا َف يَظُ ُّن أَ ْف لَ ْن يَػ ْن ُ‬
‫ظ}‪.‬‬ ‫َى ْل يُ ْذ ِىبَ َّن َك ْي ُدهُ َما يَ ِغي ُ‬
‫أي‪ :‬من كاف يظن أف اهلل ال ينصر رسولو‪ ،‬وأف دينو سيضمحل‪ ،‬فإف النصر من اهلل ينزؿ من السماء {‬
‫الس َم ِاء } وليرقى إليها { ثُ َّم لِيَػ ْقطَ ْع } النصر النازؿ‬ ‫ب } أي‪ :‬حبل { إِلَى َّ‬ ‫سبَ ٍ‬ ‫ِ‬
‫فَػلْيَ ْم ُد ْد } ذلك الظاف { ب َ‬
‫عليو من السماء (‪. )1‬‬
‫{ فَػ ْليَػ ْنظُْر َى ْل يُ ْذ ِىبَ َّن َك ْي ُدهُ } أي‪ :‬ما يكيد بو الرسوؿ‪ ،‬ويعملو من محاربتو‪ ،‬والحرص على إبطاؿ دينو‪ ،‬ما‬
‫يغيظو من ظهور دينو‪ ،‬وىذا استفهاـ بمعنى النفي [وأنو]‪ ،‬ال يقدر على شفاء غيظو بما يعملو من األسباب‪.‬‬
‫ومعنى ىذه اآلية الكريمة‪ :‬يا أيها المعادي للرسوؿ محمد صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬الساعي في إطفاء دينو‪،‬‬
‫الذي يظن بجهلو‪ ،‬أف سعيو سيفيده شيئا‪ ،‬اعلم أنك مهما فعلت من األسباب‪ ،‬وسعيت في كيد الرسوؿ‪،‬‬
‫فإف ذلك ال يذىب غيظك‪ ،‬وال يشفي كمدؾ‪ ،‬فليس لك قدرة في ذلك‪ ،‬ولكن سنشير عليك برأي‪،‬‬
‫تتمكن بو من شفاء غيظك‪ ،‬ومن قطع النصر عن الرسوؿ ‪-‬إف كاف ممكنا‪ -‬ائت األمر مع بابو‪ ،‬وارتق إليو‬
‫بأسبابو‪ ،‬اعمد إلى حبل من ليف أو غيره‪ ،‬ثم علقو في السماء‪ ،‬ثم اصعد بو حتى تصل إلى األبواب التي‬
‫ينزؿ منها النصر‪ ،‬فسدىا وأغلقها واقطعها‪ ،‬فبهذه الحاؿ تشفي غيظك‪ ،‬فهذا ىو الرأي‪ :‬والمكيدة‪ ،‬وأما ما‬
‫سوى ىذه الحاؿ فبل يخطر ببالك أنك تشفي بها غيظك‪ ،‬ولو ساعدؾ من ساعدؾ من الخلق‪ .‬وىذه اآلية‬

‫‪7‬‬
‫الكريمة‪ ،‬فيها من الوعد والبشارة بنصر اهلل لدينو ولرسولو وعباده المؤمنين ما ال يخفى‪ ،‬ومن تأييس‬
‫الكافرين‪ ،‬الذين يريدوف أف يطفئوا نور اهلل بأفواىهم‪ ،‬واهلل متم نوره‪ ،‬ولو كره الكافروف‪ ،‬أي‪ :‬وسعوا مهما‬
‫أمكنهم‪.‬‬
‫َف اللَّوَ يَػ ْه ِدي َم ْن يُ ِري ُد (‪)16‬‬ ‫ات بػيّْػنَ ٍ‬
‫ات َوأ َّ‬ ‫ٍ‬
‫ك أَنْػ َزلْنَاهُ آيَ َ‬‫َوَك َذلِ َ‬

‫َف اللَّوَ يَػ ْه ِدي َم ْن يُ ِري ُد } ‪.‬‬ ‫ات بػيّْػنَ ٍ‬


‫ات َوأ َّ‬ ‫ٍ‬ ‫{ ‪َ { } 16‬وَك َذلِ َ‬
‫ك أَنْػ َزلْنَاهُ آيَ َ‬
‫أي‪ :‬وكذلك لما فصلنا في ىذا القرآف ما فصلنا‪ ،‬جعلناه آيات بينات واضحات‪ ،‬داالت على جميع‬
‫المطالب والمسائل النافعة‪ ،‬ولكن الهداية بيد اهلل‪ ،‬فمن أراد اهلل ىدايتو‪ ،‬اىتدى بهذا القرآف‪ ،‬وجعلو إماما‬
‫لو وقدوة‪ ،‬واستضاء بنوره‪ ،‬ومن لم يرد اهلل ىدايتو‪ ،‬فلو جاءتو كل آية ما آمن‪ ،‬ولم ينفعو القرآف شيئا‪ ،‬بل‬
‫يكوف حجة عليو‪.‬‬
‫الصابِئِين والنَّصارى والْمجوس والَّ ِذين أَ ْشرُكوا إِ َّف اللَّوَ يػ ْف ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ص ُل بَػ ْيػنَػ ُه ْم يَػ ْوَـ‬ ‫َ‬ ‫ادوا َو َّ َ َ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ‬ ‫ين َى ُ‬ ‫آمنُوا َوالذ َ‬ ‫ين َ‬‫إِ َّف الذ َ‬
‫ض‬‫ات َوَم ْن فِي ْاأل َْر ِ‬ ‫السماو ِ‬ ‫ِ‬
‫َف اللَّوَ يَ ْس ُج ُد لَوُ َم ْن في َّ َ َ‬ ‫ال ِْقيَ َام ِة إِ َّف اللَّوَ َعلَى ُك ّْل َش ْي ٍء َش ِهي ٌد (‪ )17‬أَلَ ْم تَػ َر أ َّ‬
‫اب َوَم ْن يُِه ِن اللَّوُ‬ ‫ِ‬ ‫اب وَكثِير ِمن الن ِ ِ‬ ‫اؿ َو َّ‬ ‫الشمس والْ َقمر والنُّجوـ وال ِ‬
‫َّاس َوَكث ٌير َح َّق َعلَْيو ال َْع َذ ُ‬ ‫الد َو ُّ َ ٌ َ‬ ‫الش َج ُر َو َّ‬ ‫ْجبَ ُ‬ ‫َو َّ ْ ُ َ َ ُ َ ُ ُ َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اف َخ ْ ِ‬ ‫شاء (‪َ )18‬ى َذ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ت لَ ُه ْم‬ ‫ين َك َف ُروا قُطّْ َع ْ‬ ‫ص ُموا في َربّْ ِه ْم فَالذ َ‬ ‫ص َماف ا ْختَ َ‬ ‫فَ َما لَوُ م ْن ُم ْك ِرـ إِ َّف اللَّوَ يَػ ْف َع ُل َما يَ َ ُ‬
‫ود (‪َ )20‬ولَ ُه ْم َم َق ِام ُع‬ ‫ْجلُ ُ‬ ‫ِ‬ ‫وس ِهم الْح ِميم (‪ )19‬ي ْ ِ ِ‬
‫ص َه ُر بِو َما في بُطُون ِه ْم َوال ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ ِ‬
‫ب م ْن فَػ ْوؽ ُرءُ ُ َ ُ‬
‫ثِياب ِمن نَا ٍر يص ُّ ِ‬
‫َ ٌ ْ َُ‬
‫ْح ِر ِيق (‪ )22‬إِ َّف اللَّوَ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يد ( ‪ُ )21‬كلَّ َما أ ََر ُ‬ ‫ِمن ح ِد ٍ‬
‫اب ال َ‬ ‫ادوا أَ ْف يَ ْخ ُر ُجوا م ْنػ َها م ْن غَ ٍّم أُعي ُدوا ف َيها َوذُوقُوا َع َذ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ب‬‫َسا ِوَر ِم ْن َذ َى ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫ار يُ َحلَّ ْو َف ف َيها م ْن أ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ي ْد ِخل الَّ ِذين آمنُوا و َع ِملُوا َّ ِ ِ‬
‫الصال َحات َجنَّات تَ ْج ِري م ْن تَ ْحت َها ْاألَنْػ َه ُ‬ ‫ُ ُ َ َ َ‬
‫اط الْح ِم ِ‬ ‫صر ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ولُْؤلًُؤا ولِباسهم فِيها ح ِرير (‪ )23‬وى ُدوا إِلَى الطَّيّْ ِ ِ‬
‫يد (‪)24‬‬ ‫َ‬ ‫ب م َن الْ َق ْوؿ َو ُى ُدوا إلَى َ‬ ‫َُ‬ ‫َ َ ُُ ْ َ َ ٌ‬ ‫َ‬

‫ين أَ ْش َرُكوا إِ َّف اللَّوَ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ادوا و َّ ِِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬


‫وس َوالذ َ‬
‫ارى َوال َْم ُج َ‬ ‫َّص َ‬
‫ين َوالن َ‬ ‫الصابئ َ‬ ‫ين َى ُ َ‬ ‫آمنُوا َوالذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫{ ‪ { } 24 - 17‬إِ َّف الذ َ‬
‫ات َوَم ْن‬ ‫السماو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص ُل بَػ ْيػنَػ ُه ْم يَػ ْوَـ ال ِْقيَ َام ِة إِ َّف اللَّوَ َعلَى ُك ّْل َش ْي ٍء َش ِهي ٌد * أَلَ ْم تَػ َر أ َّ‬
‫َف اللَّوَ يَ ْس ُج ُد لَوُ َم ْن في َّ َ َ‬
‫يػ ْف ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫اب وَكثِير ِمن الن ِ ِ‬ ‫اؿ َو َّ‬ ‫الشمس والْ َقمر والنُّجوـ وال ِ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس َوَكث ٌير َح َّق َعلَْيو ال َْع َذ ُ‬
‫اب‬ ‫الد َو ُّ َ ٌ َ‬ ‫الش َج ُر َو َّ‬ ‫ْجبَ ُ‬ ‫ض َو َّ ْ ُ َ َ ُ َ ُ ُ َ‬ ‫في ْ‬

‫‪8‬‬
‫ص ُموا فِي َربّْ ِه ْم } إلى قولو‪[ :‬‬ ‫اف َخ ْ ِ‬
‫شاء * َى َذ ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ومن ي ِه ِن اللَّو فَما لَو ِمن م ْك ِرٍ‬
‫ص َماف ا ْختَ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫ا‬‫م‬‫َ‬ ‫ل‬
‫ُ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ف‬‫ْ‬ ‫ػ‬
‫َ‬ ‫ي‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ف‬ ‫إ‬ ‫ـ‬ ‫ُ َ ُ ْ ُ‬ ‫ََ ْ ُ‬
‫يد } ‪.‬‬‫اط الْح ِم ِ‬ ‫صر ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫ص ‪َ { ] 536‬و ُى ُدوا إلَى َ‬
‫يخبر تعالى عن طوائف أىل األرض‪ ،‬من الذين أوتوا الكتاب‪ ،‬من المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين‪،‬‬
‫ومن المجوس‪ ،‬ومن المشركين أف اهلل سيجمعهم جميعهم ليوـ القيامة‪ ،‬ويفصل بينهم بحكمو العدؿ‪،‬‬
‫ويجازيهم بأعمالهم التي حفظها وكتبها وشهدىا‪ ،‬ولهذا قاؿ‪ { :‬إِ َّف اللَّوَ َعلَى ُك ّْل َش ْي ٍء َش ِهي ٌد } ثم فصل‬
‫ص ُموا فِي َربّْ ِه ْم } كل يدعي أنو المحق‪.‬‬ ‫اف َخ ْ ِ‬
‫ص َماف ا ْختَ َ‬
‫ىذا الفصل بينهم بقولو‪َ { :‬ى َذ ِ‬
‫ين َك َف ُروا } يشمل كل كافر‪ ،‬من اليهود‪ ،‬والنصارى‪ ،‬والمجوس‪ ،‬والصابئين‪ ،‬والمشركين‪.‬‬ ‫َّ ِ‬
‫{ فَالذ َ‬
‫اب ِم ْن نَا ٍر } أي‪ :‬يجعل لهم ثياب من قطراف‪ ،‬وتشعل فيها النار‪ ،‬ليعمهم العذاب من‬ ‫ت لَ ُه ْم ثِيَ ٌ‬‫{ قُطّْ َع ْ‬
‫جميع جوانبهم‪.‬‬
‫يم } الماء الحار جدا‪ ،‬يصهر ما في بطونهم من اللحم والشحم واألمعاء‪،‬‬ ‫وس ِهم ال ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫{ يص ُّ ِ‬
‫ْحم ُ‬
‫ب م ْن فَػ ْوؽ ُرءُ ُ َ‬ ‫َُ‬
‫يد } بيد المبلئكة الغبلظ الشداد‪ ،‬تضربهم فيها‬ ‫من شدة حره‪ ،‬وعظيم أمره‪ { ،‬ولَهم م َق ِامع ِمن ح ِد ٍ‬
‫َ ُْ َ ُ ْ َ‬
‫ادوا أَ ْف يَ ْخ ُر ُجوا ِم ْنػ َها ِم ْن غَ ٍّم أ ُِعي ُدوا فِ َيها } فبل يفتر عنهم العذاب‪ ،‬وال ىم ينظروف‪،‬‬ ‫وتقمعهم‪ُ { ،‬كلَّ َما أ ََر ُ‬
‫ِ َّ ِ‬
‫آمنُوا‬
‫ين َ‬‫ْح ِر ِيق } أي‪ :‬المحرؽ للقلوب واألبداف ‪ { ،‬إِ َّف اللَّوَ يُ ْدخ ُل الذ َ‬ ‫اب ال َ‬ ‫ويقاؿ لهم توبيخا‪ { :‬ذُوقُوا َع َذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫و َع ِملُوا َّ ِ ِ‬
‫ار } ومعلوـ أف ىذا الوصف ال يصدؽ على غير‬ ‫الصال َحات َجنَّات تَ ْج ِري م ْن تَ ْحت َها األنْػ َه ُ‬ ‫َ‬
‫ب } أي‪ :‬يسوروف‬ ‫َسا ِوَر ِم ْن ذَ َى ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫المسلمين‪ ،‬الذين آمنوا بجميع الكتب‪ ،‬وجميع الرسل‪ { ،‬يُ َحلَّ ْو َف ف َيها م ْن أ َ‬
‫في أيديهم‪ ،‬رجالهم ونساؤىم أساور الذىب‪.‬‬
‫اس ُه ْم فِ َيها َح ِر ٌير } فتم نعيمهم بذكر أنواع المأكوالت اللذيذات المشتمل عليها‪ ،‬لفظ الجنات‪ ،‬وذكر‬ ‫ِ‬
‫{ َولبَ ُ‬
‫األنهار السارحات‪ ،‬أنهار الماء واللبن والعسل والخمر‪ ،‬وأنواع اللباس‪ ،‬والحلي الفاخر‪.‬‬

‫ب ِم َن الْ َق ْوِؿ } الذي أفضلو وأطيبو كلمة اإلخبلص‪ ،‬ثم سائر األقواؿ‬‫وذلك بسبب أنهم { ُى ُدوا إِلَى الطَّيّْ ِ‬
‫يد } أي‪ :‬الصراط المحمود‪،‬‬ ‫صر ِ‬
‫اط الْح ِم ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫الطيبة التي فيها ذكر اهلل‪ ،‬أو إحساف إلى عباد اهلل‪َ { ،‬و ُى ُدوا إلَى َ‬
‫وذلك‪ ،‬ألف جميع الشرع كلو محتو على الحكمة والحمد‪ ،‬وحسن المأمور بو‪ ،‬وقبح المنهي عنو‪ ،‬وىو‬
‫الدين الذي ال إفراط فيو وال تفريط‪ ،‬المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح‪ .‬أو‪ :‬وىدوا إلى صراط اهلل‬

‫‪9‬‬
‫الحميد‪ ،‬ألف اهلل كثيرا ما يضيف الصراط إليو‪ ،‬ألنو يوصل صاحبو إلى اهلل‪ ،‬وفي ذكر { الحميد } ىنا‪،‬‬
‫ْح ْم ُد لِلَّ ِو الَّ ِذي َى َدانَا لِ َه َذا‬
‫ليبين أنهم نالوا الهداية بحمد ربهم ومنتو عليهم‪ ،‬ولهذا يقولوف في الجنة‪ { :‬ال َ‬
‫ي لَ ْوال أَ ْف َى َدانَا اللَّوُ } واعترض تعالى بين ىذه اآليات بذكر سجود المخلوقات لو‪ ،‬جميع من‬ ‫ِ ِ‬
‫َوَما ُكنَّا لنَػ ْهتَد َ‬
‫في السماوات واألرض‪ ،‬والشمس‪ ،‬والقمر‪ ،‬والنجوـ‪ ،‬والجباؿ‪ ،‬والشجر‪ ،‬والدواب‪ ،‬الذي يشمل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب } أي‪ :‬وجب وكتب‪ ،‬لكفره‬ ‫الحيوانات كلها‪ ،‬وكثير من الناس‪ ،‬وىم المؤمنوف‪َ { ،‬وَكث ٌير َح َّق َعلَْيو ال َْع َذ ُ‬
‫وعدـ إيمانو‪ ،‬فلم يوفقو لئليماف‪ ،‬ألف اهلل أىانو‪َ { ،‬وَم ْن يُِه ِن اللَّوُ فَ َما لَوُ ِم ْن ُم ْك ِرٍـ } وال راد لما أراد‪ ،‬وال‬
‫معارض لمشيئتو‪ ،‬فإذا كانت المخلوقات كلها ساجدة لربها‪ ،‬خاضعة لعظمتو‪ ،‬مستكينة لعزتو‪ ،‬عانية‬
‫لسلطانو‪ ،‬دؿ على أنو وحده‪ ،‬الرب المعبود‪ ،‬والملك المحمود‪ ،‬وأف من عدؿ عنو إلى عبادة سواه‪ ،‬فقد‬
‫ضل ضبلال بعيدا‪ ،‬وخسر خسرانا مبينا‪.‬‬
‫ف فِ ِيو والْب ِ‬
‫اد َوَم ْن‬ ‫ِ‬
‫اء ال َْعاك ُ َ َ‬ ‫ْح َر ِاـ الَّ ِذي َج َعلْنَاهُ لِلن ِ‬
‫َّاس َس َو ً‬
‫ِِ‬ ‫إِ َّف الَّ ِذين َك َفروا ويص ُّدو َف َعن سبِ ِ ِ‬
‫يل اللَّو َوال َْم ْسجد ال َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ُ ََ ُ‬
‫يم (‪)25‬‬ ‫اد بِظُل ٍْم نُ ِذقْوُ ِم ْن َع َذ ٍ‬
‫اب أَلِ ٍ‬ ‫ي ِر ْد فِ ِيو بِِإلْح ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ‬

‫ف فِ ِيو‬
‫اء ال َْعاكِ ُ‬ ‫ْح َر ِاـ الَّ ِذي َج َعلْنَاهُ لِلن ِ‬
‫َّاس َس َو ً‬
‫ِِ‬ ‫{ ‪ { } 25‬إِ َّف الَّ ِذين َك َفروا ويص ُّدو َف َعن سبِ ِ ِ‬
‫يل اللَّو َوال َْم ْسجد ال َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ُ ََ ُ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫اد بِظُل ٍْم نُ ِذقْوُ ِم ْن َع َذ ٍ‬
‫اب أَلِ ٍ‬ ‫ادي ومن ي ِر ْد فِ ِيو بِِإلْح ٍ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫َوالْبَ َ َ ْ ُ‬
‫يخبر تعالى عن شناعة ما عليو المشركوف الكافروف بربهم‪ ،‬وأنهم جمعوا بين الكفر باهلل ورسولو‪ ،‬وبين الصد‬
‫عن سبيل اهلل ومنع الناس من اإليماف‪ ،‬والصد أيضا عن المسجد الحراـ‪ ،‬الذي ليس ملكا لهم وال آلبائهم‪،‬‬
‫بل الناس فيو سواء‪ ،‬المقيم فيو‪ ،‬والطارئ إليو‪ ،‬بل صدوا عنو أفضل الخلق محمدا وأصحابو‪ ،‬والحاؿ أف‬
‫ىذا المسجد الحراـ‪ ،‬من حرمتو واحترامو وعظمتو‪ ،‬أف من يرد فيو بإلحاد بظلم نذقو من عذاب أليم‪.‬‬
‫فمجرد إرادة الظلم واإللحاد في الحرـ‪ ،‬موجب للعذاب‪ ،‬وإف كاف غيره ال يعاقب العبد عليو إال بعمل‬
‫الظلم‪ ،‬فكيف بمن أتى فيو أعظم الظلم‪ ،‬من الكفر والشرؾ‪ ،‬والصد عن سبيلو‪ ،‬ومنع من يريده بزيارة‪ ،‬فما‬
‫ظنكم (‪ )1‬أف يفعل اهلل بهم؟"‬
‫السج ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ود (‪)26‬‬ ‫الرَّك ِع ُّ ُ‬ ‫ين َو ُّ‬ ‫يم َم َكا َف الْبَػ ْيت أَ ْف َال تُ ْش ِر ْؾ بي َش ْيئًا َوطَ ّْه ْر بَػ ْيت َي للطَّائف َ‬
‫ين َوالْ َقائم َ‬ ‫ِ‬
‫َوإ ْذ بَػ َّوأْنَا ِإلبْػ َراى َ‬
‫يق (‪ )27‬لِيَ ْش َه ُدوا َمنَافِ َع لَ ُه ْم‬ ‫ين ِم ْن ُك ّْل فَ ٍّج َع ِم ٍ‬ ‫وؾ ِرج ًاال و َعلَى ُك ّْل َ ِ ِ‬
‫ضام ٍر يَأْت َ‬ ‫ْح ّْج يَأْتُ َ َ َ‬ ‫َوأَذّْ ْف فِي الن ِ‬
‫َّاس بِال َ‬

‫‪10‬‬
‫س الْ َف ِق َير‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات َعلَى ما رَزقَػهم ِمن ب ِه ِ‬ ‫اسم اللَّ ِو فِي أَيَّ ٍاـ م ْعلُوم ٍ‬
‫يمة ْاألَنْػ َعاـ فَ ُكلُوا م ْنػ َها َوأَطْع ُموا الْبَائ َ‬ ‫َ َ ُْ ْ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َويَ ْذ ُك ُروا ْ َ‬
‫يق (‪)29‬‬ ‫ت ال َْعتِ ِ‬
‫ضوا تَػ َفثَػ ُهم ولْيوفُوا نُ ُذورُىم ولْيطََّّوفُوا بِالْبػ ْي ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ ََ‬ ‫ْ َُ‬ ‫( ‪ )28‬ثُ َّم لْيَػ ْق ُ‬

‫وفي ىذه اآلية الكريمة‪ ،‬وجوب احتراـ الحرـ‪ ،‬وشدة تعظيمو‪ ،‬والتحذير من إرادة المعاصي فيو وفعلها‪.‬‬
‫[ ص ‪] 537‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم َم َكا َف الْبَػ ْيت أَ ْف ال تُ ْش ِر ْؾ بي َش ْيئًا َوطَ ّْه ْر بَػ ْيت َي للطَّائف َ‬
‫ين َوالْ َقائم َ‬
‫ين‬ ‫ِ‬
‫{ ‪َ { } 29 - 26‬وإ ْذ بَػ َّوأْنَا إلبْػ َراى َ‬
‫ين ِم ْن ُك ّْل فَ ٍّج َع ِم ٍ‬
‫يق * لِيَ ْش َه ُدوا‬ ‫وؾ ِرجاال و َعلَى ُك ّْل َ ِ ِ‬
‫ضام ٍر يَأْت َ‬ ‫ْح ّْج يَأْتُ َ َ َ‬ ‫َّاس بِال َ‬‫ود * َوأَذّْ ْف فِي الن ِ‬ ‫السج ِ‬
‫الرَّك ِع ُّ ُ‬ ‫َو ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات َعلَى ما رَزقَػهم ِمن ب ِه ِ‬ ‫اسم اللَّ ِو فِي أَيَّ ٍاـ م ْعلُوم ٍ‬ ‫ِ‬
‫يمة األنْػ َعاـ فَ ُكلُوا م ْنػ َها َوأَطْع ُموا الْبَائ َ‬
‫س‬ ‫َ َ ُْ ْ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َمنَاف َع لَ ُه ْم َويَ ْذ ُك ُروا ْ َ‬
‫يق } ‪.‬‬‫ت ال َْعتِ ِ‬‫ضوا تَػ َفثَػ ُهم ولْيوفُوا نُ ُذورُىم ولْيطََّّوفُوا بِالْبػ ْي ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ ََ‬ ‫ْ َُ‬ ‫الْ َف ِق َير * ثُ َّم لْيَػ ْق ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يذكر تعالى عظمة البيت الحراـ وجبللتو وعظمة بانيو‪ ،‬وىو خليل الرحمن‪ ،‬فقاؿ‪َ { :‬وإ ْذ بَػ َّوأْنَا إلبْػ َراى َ‬
‫يم‬
‫ت } أي‪ :‬ىيأناه لو‪ ،‬وأنزلناه إياه‪ ،‬وجعل قسما من ذريتو من سكانو‪ ،‬وأمره اهلل ببنيانو‪ ،‬فبناه على‬ ‫م َكا َف الْبػ ْي ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫تقوى اهلل‪ ،‬وأسسو على طاعة اهلل‪ ،‬وبناه ىو وابنو إسماعيل‪ ،‬وأمره أف ال يشرؾ بو شيئا‪ ،‬بأف يخلص هلل‬
‫أعمالو‪ ،‬ويبنيو على اسم اهلل‪.‬‬
‫{ َوطَ ّْه ْر بَػ ْيتِ َي } أي‪ :‬من الشرؾ والمعاصي‪ ،‬ومن األنجاس واألدناس وأضافو الرحمن إلى نفسو‪ ،‬لشرفو‪،‬‬
‫وفضلو‪ ،‬ولتعظم محبتو في القلوب‪ ،‬وتنصب إليو األفئدة من كل جانب‪ ،‬وليكوف أعظم لتطهيره وتعظيمو‪،‬‬
‫لكونو بيت الرب للطائفين بو والعاكفين عنده‪ ،‬المقيمين لعبادة من العبادات من ذكر‪ ،‬وقراءة‪ ،‬وتعلم علم‬
‫السج ِ‬
‫ود } أي‪ :‬المصلين‪ ،‬أي‪ :‬طهره لهؤالء الفضبلء‪،‬‬ ‫الرَّك ِع ُّ ُ‬
‫وتعليمو‪ ،‬وغير ذلك من أنواع القرب‪َ { ،‬و ُّ‬
‫الذين ىمهم طاعة موالىم وخدمتو‪ ،‬والتقرب إليو عند بيتو‪ ،‬فهؤالء لهم الحق‪ ،‬ولهم اإلكراـ‪ ،‬ومن إكرامهم‬
‫تطهير البيت ألجلهم‪ ،‬ويدخل في تطهيره‪ ،‬تطهيره من األصوات البلغية والمرتفعة التي تشوش المتعبدين‪،‬‬
‫بالصبلة والطواؼ‪ ،‬وقدـ الطواؼ على االعتكاؼ والصبلة‪ ،‬الختصاصو بهذا البيت‪ ،‬ثم االعتكاؼ‪،‬‬
‫الختصاصو بجنس المساجد‪.‬‬
‫ْح ّْج } أي‪ :‬أعلمهم بو‪ ،‬وادعهم إليو‪ ،‬وبلغ دانيهم وقاصيهم‪ ،‬فرضو وفضيلتو‪ ،‬فإنك‬ ‫{ َوأَذّْ ْف فِي الن ِ‬
‫َّاس بِال َ‬
‫ض ِام ٍر } أي‪:‬‬
‫إذا دعوتهم‪ ،‬أتوؾ حجاجا وعمارا‪ ،‬رجاال أي‪ :‬مشاة على أرجلهم من الشوؽ‪َ { ،‬و َعلَى ُك ّْل َ‬

‫‪11‬‬
‫ناقة ضامر‪ ،‬تقطع المهامو والمفاوز‪ ،‬وتواصل السير‪ ،‬حتى تأتي إلى أشرؼ األماكن‪ِ { ،‬م ْن ُك ّْل فَ ٍّج َع ِم ٍ‬
‫يق }‬
‫أي‪ :‬من كل بلد بعيد‪ ،‬وقد فعل الخليل عليو السبلـ‪ ،‬ثم من بعده ابنو محمد صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فدعيا‬
‫الناس إلى حج ىذا البيت‪ ،‬وأبديا في ذلك وأعادا‪ ،‬وقد حصل ما وعد اهلل بو‪ ،‬أتاه الناس رجاال وركبانا من‬
‫مشارؽ األرض ومغاربها‪ ،‬ثم ذكر فوائد زيارة بيت اهلل الحراـ‪ ،‬مرغبا فيو فقاؿ‪ { :‬لِيَ ْش َه ُدوا َمنَافِ َع لَ ُه ْم } أي‪:‬‬
‫لينالوا ببيت اهلل منافع دينية‪ ،‬من العبادات الفاضلة‪ ،‬والعبادات التي ال تكوف إال فيو‪ ،‬ومنافع دنيوية‪ ،‬من‬
‫اسم اللَّ ِو فِي أَيَّ ٍاـ م ْعلُوم ٍ‬
‫ات‬ ‫َ َ‬ ‫التكسب‪ ،‬وحصوؿ األرباح الدنيوية‪ ،‬وكل ىذا أمر مشاىد كل يعرفو‪َ { ،‬ويَ ْذ ُك ُروا ْ َ‬
‫يم ِة األنْػ َع ِاـ } وىذا من المنافع الدينية والدنيوية‪ ،‬أي‪ :‬ليذكروا اسم اهلل عند ذبح‬ ‫ِ‬
‫َعلَى َما َرَزقَػ ُه ْم م ْن بَ ِه َ‬
‫س الْ َف ِق َير }‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الهدايا‪ ،‬شكرا هلل على ما رزقهم منها‪ ،‬ويسرىا لهم‪ ،‬فإذا ذبحتموىا { فَ ُكلُوا م ْنػ َها َوأَطْع ُموا الْبَائ َ‬
‫ضوا تَػ َفثَػ ُه ْم } أي‪ :‬يقضوا نسكهم‪ ،‬ويزيلوا الوسخ واألذى‪ ،‬الذي لحقهم في‬ ‫أي‪ :‬شديد الفقر ‪ { ،‬ثُ َّم لْيَػ ْق ُ‬
‫ورُى ْم } التي أوجبوىا على أنفسهم‪ ،‬من الحج‪ ،‬والعمرة والهدايا‪َ { ،‬ولْيَطََّّوفُوا‬ ‫حاؿ اإلحراـ‪َ { ،‬ولْيُوفُوا نُ ُذ َ‬
‫يق } أي‪ :‬القديم‪ ،‬أفضل المساجد على اإلطبلؽ‪ ،‬المعتق‪ :‬من تسلط الجبابرة عليو‪ .‬وىذا أمر‬ ‫ت ال َْعتِ ِ‬ ‫بِالْبػ ْي ِ‬
‫َ‬
‫بالطواؼ‪ ،‬خصوصا بعد األمر بالمناسك عموما‪ ،‬لفضلو‪ ،‬وشرفو‪ ،‬ولكونو المقصود‪ ،‬وما قبلو وسائل إليو‪.‬‬
‫ولعلو ‪-‬واهلل أعلم أيضا‪ -‬لفائدة أخرى‪ ،‬وىو‪ :‬أف الطواؼ مشروع كل وقت‪ ،‬وسواء كاف تابعا لنسك‪ ،‬أـ‬
‫مستقبل بنفسو‪.‬‬
‫س‬ ‫ج‬ ‫الر‬
‫ّْ‬ ‫وا‬‫ب‬ ‫اجتَنِ‬‫ف‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ك‬
‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫ع‬ ‫ى‬‫َ‬‫ل‬ ‫ػ‬ ‫ت‬
‫ْ‬ ‫ػ‬ ‫ي‬ ‫ا‬‫م‬ ‫اـ إَِّ‬
‫ال‬ ‫ع‬ ‫ػ‬‫ْ‬‫ن‬‫َ‬‫األ‬
‫ْ‬ ‫م‬ ‫ك‬
‫ُ‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫ت‬
‫ْ‬ ‫ات اللَّ ِو فَػهو َخيػر لَو ِع ْن َد ربِّْو وأ ِ‬
‫ُحلَّ‬ ‫ك ومن يػعظّْم حرم ِ‬ ‫َ‬ ‫ذَلِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الزوِر (‪)30‬‬ ‫اجتَنِبُوا قَػ ْو َؿ ُّ‬ ‫ِمن ْاألَوثَ ِ‬
‫اف َو ْ‬ ‫َ ْ‬

‫اـ إِال َما يُػ ْتػلَى‬ ‫ات اللَّ ِو فَػهو َخيػر لَو ِع ْن َد ربِّْو وأ ِ‬
‫ُحلَّ ْ‬ ‫ك ومن يػعظّْم حرم ِ‬ ‫ِ‬
‫ت لَ ُك ُم األنْػ َع ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َُ ٌْ ُ‬ ‫{ ‪َ { } 31 - 30‬ذل َ َ َ ْ ُ َ ْ ُ ُ َ‬
‫اجتَنِبُوا قَػ ْو َؿ ُّ‬
‫الزوِر } ‪.‬‬ ‫الر ْجس ِمن األوثَ ِ‬ ‫َعلَْي ُكم فَ ْ ِ‬
‫اف َو ْ‬ ‫اجتَنبُوا ّْ َ َ ْ‬ ‫ْ‬
‫ك } الذي ذكرنا لكم من تلكم األحكاـ‪ ،‬وما فيها من تعظيم حرمات اهلل وإجبللها وتكريمها‪ ،‬ألف‬ ‫{ َذلِ َ‬
‫تعظيم حرمات اهلل‪ ،‬من األمور المحبوبة هلل‪ ،‬المقربة إليو‪ ،‬التي من عظمها وأجلها‪ ،‬أثابو اهلل ثوابا جزيبل‬
‫وكانت خيرا لو في دينو‪ ،‬ودنياه وأخراه عند ربو‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫وحرمات اهلل‪ :‬كل مالو حرمة‪ ،‬وأمر باحترامو‪ ،‬بعبادة أو غيرىا‪ ،‬كالمناسك كلها‪ ،‬وكالحرـ واإلحراـ‪،‬‬
‫وكالهدايا‪ ،‬وكالعبادات التي أمر اهلل العباد بالقياـ بها‪ ،‬فتعظيمها إجبللها بالقلب‪ ،‬ومحبتها‪ ،‬وتكميل العبودية‬
‫فيها‪ ،‬غير متهاوف‪ ،‬وال متكاسل‪ ،‬وال متثاقل‪ ،‬ثم ذكر منتو وإحسانو بما أحلو لعباده‪ ،‬من بهيمة األنعاـ‪ ،‬من‬
‫إبل وبقر وغنم‪ ،‬وشرعها من جملة المناسك‪ ،‬التي يتقرب بها إليو‪ ،‬فعظمت منتو فيها من الوجهين‪ { ،‬إِال َما‬
‫الدـ ولَحم ال ِ‬
‫ْخنزي ِر } اآلية‪ ،‬ولكن‬ ‫ت َعلَْي ُك ُم ال َْم ْيتَةُ َو َّ ُ َ ْ ُ‬
‫يُػ ْتػلَى َعلَْي ُك ْم } في القرآف تحريمو من قولو‪ُ { :‬ح ّْرَم ْ‬
‫الذي من رحمتو بعباده‪ ،‬أف حرمو عليهم‪ ،‬ومنعهم منو‪ ،‬تزكية لهم‪ ،‬وتطهيرا من الشرؾ بو وقوؿ الزور‪ ،‬ولهذا‬
‫اف } أي‪ :‬األنداد‪ ،‬التي جعلتموىا آلهة مع اهلل‪،‬‬ ‫الر ْجس } أي‪ :‬الخبث القذر { ِمن األوثَ ِ‬ ‫قاؿ‪ { :‬فَ ْ ِ‬
‫َ ْ‬ ‫اجتَنبُوا ّْ َ‬
‫فإنها أكبر أنواع الرجس‪ ،‬والظاىر أف { من } ىنا ليست لبياف الجنس‪ ،‬كما قالو كثير من المفسرين‪ ،‬وإنما‬
‫ىي للتبعيض‪ ،‬وأف الرجس عاـ في جميع المنهيات المحرمات‪ ،‬فيكوف [ ص ‪ ] 538‬منهيا عنها عموما‪،‬‬
‫اجتَنِبُوا قَػ ْو َؿ ُّ‬
‫الزوِر } أي‪ :‬جميع األقواؿ المحرمات‪ ،‬فإنها من‬ ‫وعن األوثاف التي ىي بعضها خصوصا‪َ { ،‬و ْ‬
‫قوؿ الزور الذي ىو الكذب‪ ،‬ومن ذلك شهادة الزور فلما نهاىم عن الشرؾ والرجس وقوؿ الزور‪.‬‬
‫يح فِي‬ ‫الس َم ِاء فَػتَ ْخطَُفوُ الطَّْيػ ُر أ َْو تَػ ْه ِوي بِ ِو ّْ‬
‫الر ُ‬ ‫ين بِ ِو َوَم ْن يُ ْش ِر ْؾ بِاللَّ ِو فَ َكأَنَّ َما َخ َّر ِم َن َّ‬‫ِ‬ ‫حنَػ َف ِ ِ‬
‫اء للَّو غَْيػ َر ُم ْش ِرك َ‬
‫ُ َ‬
‫يق ( ‪)31‬‬ ‫اف َس ِح ٍ‬‫م َك ٍ‬
‫َ‬

‫يح فِي‬ ‫الس َم ِاء فَػتَ ْخطَُفوُ الطَّْيػ ُر أ َْو تَػ ْه ِوي بِ ِو ّْ‬
‫الر ُ‬ ‫ين بِ ِو َوَم ْن يُ ْش ِر ْؾ بِاللَّ ِو فَ َكأَنَّ َما َخ َّر ِم َن َّ‬ ‫ِ‬ ‫{ حنَػ َف ِ ِ‬
‫اء للَّو غَْيػ َر ُم ْش ِرك َ‬
‫ُ َ‬
‫يق } ‪.‬‬ ‫اف َس ِح ٍ‬‫م َك ٍ‬
‫َ‬
‫اء لِلَّ ِو } أي‪ :‬مقبلين عليو وعلى عبادتو‪ ،‬معرضين عما سواه‪.‬‬ ‫أمرىم أف يكونوا { ُحنَػ َف َ‬
‫الس َم ِاء } أي‪ :‬سقط منها { فَػتَ ْخطَُفوُ الطَّْيػ ُر‬ ‫ين بِ ِو َوَم ْن يُ ْش ِر ْؾ بِاللَّ ِو } فمثلو { فَ َكأَنَّ َما َخ َّر ِم َن َّ‬ ‫ِ‬
‫{ غَْيػ َر ُم ْش ِرك َ‬
‫يق } أي‪ :‬بعيد‪ ،‬كذلك المشرؾ‪ ،‬فاإليماف بمنزلة السماء‪،‬‬ ‫اف َس ِح ٍ‬ ‫الريح فِي م َك ٍ‬ ‫ِ‬
‫} بسرعة { أ َْو تَػ ْه ِوي بِو ّْ ُ َ‬
‫محفوظة مرفوعة‪.‬‬
‫ومن ترؾ اإليماف‪ ،‬بمنزلة الساقط من السماء‪ ،‬عرضة لآلفات والبليات‪ ،‬فإما أف تخطفو الطير فتقطعو‬
‫أعضاء‪ ،‬كذلك المشرؾ إذا ترؾ االعتصاـ باإليماف تخطفتو الشياطين من كل جانب‪ ،‬ومزقوه‪ ،‬وأذىبوا عليو‬
‫دينو ودنياه‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫س ِّمى ثُ َّم َم ِحلُّ َها إِلَى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك َوَم ْن يُػ َعظّْ ْم َش َعائِر اللَّ ِو فَِإنَّػ َها ِم ْن تَػ ْق َوى الْ ُقلُ ِ‬
‫وب (‪ )32‬لَ ُك ْم ف َيها َمنَاف ُع إِلَى أ َ‬ ‫َذلِ َ‬
‫َج ٍل ُم َ‬ ‫َ‬
‫يق (‪)33‬‬ ‫ت ال َْعتِ ِ‬ ‫الْبػ ْي ِ‬
‫َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك َوَم ْن يُػ َعظّْ ْم َش َعائِر اللَّ ِو فَِإنَّػ َها ِم ْن تَػ ْق َوى الْ ُقلُ ِ‬
‫وب * لَ ُك ْم ف َيها َمنَاف ُع إِلَى أ َ‬ ‫{ ‪ { } 33 - 32‬ذَلِ َ‬
‫َج ٍل ُم َ‬
‫س ِّمى‬ ‫َ‬
‫يق } ‪.‬‬ ‫ثُ َّم م ِحلُّ َها إِلَى الْبػ ْي ِ‬
‫ت ال َْعتِ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬ذلك الذي ذكرنا لكم من تعظيم حرماتو وشعائره‪ ،‬والمراد بالشعائر‪ :‬أعبلـ الدين الظاىرة‪ ،‬ومنها‬
‫الص َفا َوال َْم ْرَو َة ِم ْن َش َعائِ ِر اللَّ ِو } ومنها الهدايا والقرباف للبيت‪ ،‬وتقدـ‬ ‫المناسك كلها‪ ،‬كما قاؿ تعالى‪ { :‬إِ َّف َّ‬
‫أف معنى تعظيمها‪ ،‬إجبللها‪ ،‬والقياـ بها‪ ،‬وتكميلها على أكمل ما يقدر عليو العبد‪ ،‬ومنها الهدايا‪ ،‬فتعظيمها‪،‬‬
‫باستحسانها واستسمانها‪ ،‬وأف تكوف مكملة من كل وجو‪ ،‬فتعظيم شعائر اهلل صادر من تقوى القلوب‪،‬‬
‫فالمعظم لها يبرىن على تقواه وصحة إيمانو‪ ،‬ألف تعظيمها‪ ،‬تابع لتعظيم اهلل وإجبللو‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س ِّمى } ىذا في الهدايا المسوقة‪ ،‬من البدف ونحوىا‪،‬‬ ‫{ لَ ُك ْم ف َيها } أي‪[ :‬في] الهدايا { َمنَاف ُع إِلَى أ َ‬
‫َج ٍل ُم َ‬
‫س ِّمى } مقدر‪ ،‬موقت وىو‬ ‫َج ٍل ُم َ‬ ‫ينتفع بها أربابها‪ ،‬بالركوب‪ ،‬والحلب ونحو ذلك‪ ،‬مما ال يضرىا { إِلَى أ َ‬
‫يق‪ ،‬أي‪ :‬الحرـ كلو " منى " وغيرىا‪ ،‬فإذا ذبحت‪ ،‬أكلوا منها‬ ‫ت ال َْعتِ ِ‬‫ذبحها إذا وصلت م ِحلُّ َها وىو الْبػ ْي ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وأىدوا‪ ،‬وأطعموا البائس الفقير‪.‬‬
‫َسلِ ُموا‬ ‫ِ‬ ‫ولِ ُك ّْل أ َُّم ٍة جعلْنَا م ْنس ًكا لِي ْذ ُكروا اسم اللَّ ِو َعلَى ما رَزقَػهم ِمن ب ِه ِ‬
‫يمة ْاألَنْػ َع ِاـ فَِإلَ ُه ُك ْم إِلَوٌ َواح ٌد فَػلَوُ أ ْ‬
‫َ َ ُْ ْ َ َ‬ ‫ََ َ َ َ ُ ْ َ‬ ‫َ‬
‫الص َبلةِ‬ ‫الصابِ ِرين َعلَى ما أَصابػ ُهم والْم ِق ِ‬ ‫ين إِذَا ذُكِ َر اللَّوُ َو ِجلَ ْ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِِ‬
‫يمي َّ‬ ‫َ ََ ْ َ ُ‬ ‫ت قُػلُوبُػ ُه ْم َو َّ َ‬ ‫ين (‪ )34‬الذ َ‬ ‫ش ِر ال ُْم ْخبت َ‬ ‫َوبَ ّْ‬
‫اى ْم يُػ ْن ِف ُقو َف (‪)35‬‬ ‫ِ‬
‫َوم َّما َرَزقػْنَ ُ‬

‫يم ِة األنْػ َع ِاـ فَِإلَ ُه ُك ْم إِلَوٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫اس َم اللَّو َعلَى َما َرَزقَػ ُه ْم م ْن بَ ِه َ‬
‫س ًكا ليَ ْذ ُك ُروا ْ‬‫{ ‪َ { } 35 - 34‬ول ُك ّْل أ َُّمة َج َعلْنَا َم ْن َ‬
‫ت قُػلُوبُػ ُه ْم و َّ ِ‬ ‫ين إِ َذا ذُكِ َر اللَّوُ َو ِجلَ ْ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َسلِ ُموا َوبَ ّْ‬ ‫ِ‬
‫َصابَػ ُه ْم‬
‫ين َعلَى َما أ َ‬ ‫الصاب ِر َ‬ ‫َ‬ ‫ين * الذ َ‬ ‫ش ِر ال ُْم ْخبت َ‬ ‫َواح ٌد فَػلَوُ أ ْ‬
‫اى ْم يُػ ْن ِف ُقو َف } ‪.‬‬ ‫يمي َّ ِ ِ‬ ‫والْم ِق ِ‬
‫الصبلة َوم َّما َرَزقػْنَ ُ‬ ‫َ ُ‬
‫أي‪ :‬ولكل أمة من األمم السالفة جعلنا منسكا‪ ،‬أي‪ :‬فاستبقوا إلى الخيرات وتسارعوا إليها‪ ،‬ولننظر أيكم‬
‫أحسن عمبل والحكمة في جعل اهلل لكل أمة منسكا‪ ،‬إلقامة ذكره‪ ،‬وااللتفات لشكره‪ ،‬ولهذا قاؿ‪{ :‬‬

‫‪14‬‬
‫اح ٌد } وإف اختلفت أجناس الشرائع‪ ،‬فكلها‬ ‫لِي ْذ ُكروا اسم اللَّ ِو علَى ما رَزقَػهم ِمن ب ِهيم ِة األنْػع ِاـ فَِإلَه ُكم إِلَوٌ و ِ‬
‫ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُْ ْ َ َ‬ ‫َ ُ َْ‬
‫َسلِ ُموا }‬‫متفقة على ىذا األصل‪ ،‬وىو ألوىية اهلل‪ ،‬وإفراده بالعبودية‪ ،‬وترؾ الشرؾ بو ولهذا قاؿ‪ { :‬فَػلَوُ أ ْ‬
‫ِِ‬
‫ش ِر ال ُْم ْخبت َ‬
‫ين‬ ‫أي‪ :‬انقادوا واستسلموا لو ال لغيره‪ ،‬فإف اإلسبلـ لو طريق إلى الوصوؿ إلى دار السبلـ‪َ { .‬وبَ ّْ‬
‫} بخير الدنيا واآلخرة‪ ،‬والمخبت‪ :‬الخاضع لربو‪ ،‬المستسلم ألمره‪ ،‬المتواضع لعباده ‪ ،‬ثم ذكر صفات‬
‫ت قُػلُوبُػ ُه ْم } أي‪ :‬خوفا وتعظيما‪ ،‬فتركوا لذلك المحرمات‪،‬‬ ‫ين إِذَا ذُكِ َر اللَّوُ َو ِجلَ ْ‬ ‫َّ ِ‬
‫المخبتين فقاؿ‪ { :‬الذ َ‬
‫لخوفهم ووجلهم من اهلل وحده‪ { ،‬و َّ ِ‬
‫َصابَػ ُه ْم } من البأساء والضراء‪ ،‬وأنواع األذى‪ ،‬فبل‬ ‫ين َعلَى َما أ َ‬ ‫الصاب ِر َ‬ ‫َ‬
‫يجري منهم التسخط لشيء من ذلك‪ ،‬بل صبروا ابتغاء وجو ربهم‪ ،‬محتسبين ثوابو‪ ،‬مرتقبين أجره‪{ ،‬‬
‫الصبلةِ } أي‪ :‬الذين جعلوىا قائمة مستقيمة كاملة‪ ،‬بأف أدوا البلزـ فيها والمستحب‪ ،‬وعبوديتها‬ ‫يمي َّ‬ ‫والْم ِق ِ‬
‫َ ُ‬
‫اى ْم يُػ ْن ِف ُقو َف } وىذا يشمل جميع النفقات الواجبة‪ ،‬كالزكاة‪ ،‬والكفارة‪ ،‬والنفقة‬ ‫ِ‬
‫الظاىرة والباطنة‪َ { ،‬وم َّما َرَزقػْنَ ُ‬
‫على الزوجات والمماليك‪ ،‬واألقارب‪ ،‬والنفقات المستحبة‪ ،‬كالصدقات بجميع وجوىها‪ ،‬وأتي بػ { من }‬
‫المفيدة للتبعيض‪ ،‬ليعلم سهولة ما أمر اهلل بو ورغب فيو‪ ،‬وأنو جزء يسير مما رزؽ اهلل‪ ،‬ليس للعبد في‬
‫تحصيلو قدرة‪ ،‬لوال تيسير اهلل لو ورزقو إياه‪ .‬فيا أيها المرزوؽ من فضل اهلل‪ ،‬أنفق مما رزقك اهلل‪ ،‬ينفق اهلل‬
‫عليك‪ ،‬ويزدؾ من فضلو‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت ُجنُوبُػ َها‬ ‫اؼ فَِإذَا َو َجبَ ْ‬‫ص َو َّ‬ ‫اىا لَ ُك ْم م ْن َش َعائِ ِر اللَّو لَ ُك ْم ف َيها َخ ْيػ ٌر فَاذْ ُك ُروا ْ‬
‫اس َم اللَّو َعلَْيػ َها َ‬ ‫َوالْبُ ْد َف َج َعلْنَ َ‬
‫وم َها َوَال‬ ‫اؿ اللَّوَ لُ ُح ُ‬
‫اىا لَ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َف (‪ )36‬لَ ْن يَػنَ َ‬ ‫ك َسخ َّْرنَ َ‬ ‫فَ ُكلُوا ِم ْنػ َها َوأَط ِْع ُموا الْ َقانِ َع َوال ُْم ْعتَػ َّر َك َذلِ َ‬
‫ين (‪)37‬‬ ‫ِِ‬
‫ش ِر ال ُْم ْحسن َ‬ ‫َّرَىا لَ ُك ْم لِتُ َكبّْػ ُروا اللَّوَ َعلَى َما َى َدا ُك ْم َوبَ ّْ‬‫ك َسخ َ‬ ‫ِد َما ُؤ َىا َولَ ِك ْن يَػنَالُوُ التَّػ ْق َوى ِم ْن ُك ْم َك َذلِ َ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫اؼ فَِإ َذا‬ ‫ص َو َّ‬‫اس َم اللَّو َعلَْيػ َها َ‬‫اىا لَ ُك ْم م ْن َش َعائِ ِر اللَّو لَ ُك ْم ف َيها َخ ْيػ ٌر فَاذْ ُك ُروا ْ‬ ‫{ ‪َ { } 37 - 36‬والْبُ ْد َف َج َعلْنَ َ‬
‫اؿ اللَّوَ‬‫اىا لَ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َف * لَ ْن يَػنَ َ‬
‫ك َسخ َّْرنَ َ‬‫ت ُجنُوبُػ َها فَ ُكلُوا ِم ْنػ َها َوأَط ِْع ُموا الْ َقانِ َع َوال ُْم ْعتَػ َّر َك َذلِ َ‬‫َو َجبَ ْ‬
‫َّرَىا لَ ُك ْم لِتُ َكبّْػ ُروا اللَّوَ َعلَى َما َى َدا ُك ْم َوبَ ّْ‬
‫ش ِر‬ ‫ك َسخ َ‬ ‫وم َها َوال ِد َما ُؤ َىا َولَ ِك ْن يَػنَالُوُ التَّػ ْق َوى ِم ْن ُك ْم َك َذلِ َ‬ ‫لُ ُح ُ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫ال ُْم ْحسن َ‬
‫ىذا دليل على أف الشعائر عاـ في جميع أعبلـ الدين الظاىرة‪ .‬وتقدـ أف اهلل أخبر أف من عظم شعائره‪،‬‬
‫فإف ذلك من تقوى القلوب‪ ،‬وىنا أخبر أف من جملة شعائره‪ ،‬البدف‪ ،‬أي‪ :‬اإلبل‪ ،‬والبقر‪ ،‬على أحد القولين‪،‬‬

‫‪15‬‬
‫فتعظم وتستسمن‪ ،‬وتستحسن‪ { ،‬لَ ُك ْم فِ َيها َخ ْيػ ٌر } أي‪ :‬المهدي وغيره‪ ،‬من األكل‪ ،‬والصدقة‪ ،‬واالنتفاع‪،‬‬
‫ِ‬
‫اؼ‬ ‫اس َم اللَّو َعلَْيػ َها } أي‪ :‬عند ذبحها قولوا " بسم اهلل "س واذبحوىا‪َ { ،‬‬
‫ص َو َّ‬ ‫والثواب‪ ،‬واألجر‪ { ،‬فَاذْ ُك ُروا ْ‬
‫} أي‪ :‬قائمات‪ ،‬بأف تقاـ على قوائمها األربع‪ ،‬ثم تعقل يدىا اليسرى‪ ،‬ثم تنحر‪.‬‬
‫ت ُجنُوبُػ َها } أي‪ :‬سقطت في األرض جنوبها‪ ،‬حين تسلخ‪ ،‬ثم يسقط الجزار جنوبها على‬ ‫{ فَِإذَا َو َجبَ ْ‬
‫األرض‪ ،‬فحينئذ قد استعدت ألف يؤكل منها‪ { ،‬فَ ُكلُوا ِم ْنػ َها } وىذا خطاب للمهدي‪ ،‬فيجوز لو األكل من‬
‫ىديو‪َ { ،‬وأَط ِْع ُموا الْ َقانِ َع َوال ُْم ْعتَػ َّر } أي‪ :‬الفقير الذي ال يسأؿ‪ ،‬تقنعا‪ ،‬وتعففا‪ ،‬والفقير الذي يسأؿ‪ ،‬فكل‬
‫منهما لو حق فيهما‪.‬‬
‫اىا لَ ُك ْم } أي‪ :‬البدف { لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َف } اهلل على تسخيرىا‪ ،‬فإنو لوال تسخيره لها‪ ،‬لم‬‫ك َسخ َّْرنَ َ‬ ‫{ َك َذلِ َ‬
‫يكن لكم بها طاقة‪ ،‬ولكنو ذللها لكم وسخرىا‪ ،‬رحمة بكم وإحسانا إليكم‪ [ ،‬ص ‪ ] 539‬فاحمدوه‪.‬‬
‫وم َها َوال ِد َما ُؤ َىا } أي‪ :‬ليس المقصود منها ذبحها فقط‪ .‬وال يناؿ اهلل من لحومها‬ ‫اؿ اللَّوَ لُ ُح ُ‬
‫وقولو‪ { :‬لَ ْن يَػنَ َ‬
‫وال دمائها شيء‪ ،‬لكونو الغني الحميد‪ ،‬وإنما ينالو اإلخبلص فيها‪ ،‬واالحتساب‪ ،‬والنية الصالحة‪ ،‬ولهذا‬
‫قاؿ‪َ { :‬ولَ ِك ْن يَػنَالُوُ التَّػ ْق َوى ِم ْن ُك ْم } ففي ىذا حث وترغيب على اإلخبلص في النحر‪ ،‬وأف يكوف القصد‬
‫وجو اهلل وحده‪ ،‬ال فخرا وال رياء‪ ،‬وال سمعة‪ ،‬وال مجرد عادة‪ ،‬وىكذا سائر العبادات‪ ،‬إف لم يقترف بها‬
‫اإلخبلص وتقوى اهلل‪ ،‬كانت كالقشور الذي ال لب فيو‪ ،‬والجسد الذي ال روح فيو‪.‬‬
‫َّرَىا لَ ُك ْم لِتُ َكبّْػ ُروا اللَّوَ } أي‪ :‬تعظموه وتجلوه‪َ { ،‬علَى َما َى َدا ُك ْم } أي‪ :‬مقابلة لهدايتو إياكم‪،‬‬ ‫{ َك َذلِ َ‬
‫ك َسخ َ‬
‫ِِ‬
‫ش ِر ال ُْم ْحسن َ‬
‫ين } بعبادة اهلل بأف يعبدوا اهلل‪،‬‬ ‫فإنو يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد‪ ،‬وأعلى التعظيم‪َ { ،‬وبَ ّْ‬
‫كأنهم يرونو‪ ،‬فإف لم يصلوا إلى ىذه الدرجة فليعبدوه‪ ،‬معتقدين وقت عبادتهم اطبلعو عليهم‪ ،‬ورؤيتو‬
‫إياىم‪ ،‬والمحسنين لعباد اهلل‪ ،‬بجميع وجوه اإلحساف من نفع ماؿ‪ ،‬أو علم‪ ،‬أو جاه‪ ،‬أو نصح‪ ،‬أو أمر‬
‫بمعروؼ‪ ،‬أو نهي عن منكر‪ ،‬أو كلمة طيبة ونحو ذلك‪ ،‬فالمحسنوف لهم البشارة من اهلل‪ ،‬بسعادة الدنيا‬
‫ِِ‬ ‫اإلحس ِ‬
‫سا ُف } { للَّذ َ‬
‫ين‬ ‫اف إِال ْ‬
‫اإلح َ‬ ‫واآلخرة وسيحسن اهلل إليهم‪ ،‬كما أحسنوا في عبادتو ولعباده { َى ْل َج َزاءُ ْ َ‬
‫ْح ْسنَى َوِزيَ َ‬
‫ادةٌ }‬ ‫سنُوا ال ُ‬ ‫َح َ‬‫أْ‬
‫آمنُوا إِ َّف اللَّوَ َال يُ ِح ُّ‬
‫ب ُك َّل َخ َّو ٍ‬
‫اف َك ُفوٍر (‪)38‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫إِ َّف اللَّوَ يُ َداف ُع َع ِن الذ َ‬
‫ين َ‬

‫‪16‬‬
‫آمنُوا إِ َّف اللَّوَ ال يُ ِح ُّ‬
‫ب ُك َّل َخ َّو ٍ‬
‫اف َك ُفوٍر } ‪.‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪ { } 38‬إِ َّف اللَّوَ يُ َداف ُع َع ِن الذ َ‬
‫ين َ‬
‫ىذا إخبار ووعد وبشارة من اهلل‪ ،‬للذين آمنوا‪ ،‬أف اهلل يدافع عنهم كل مكروه‪ ،‬ويدفع عنهم كل شر ‪-‬‬
‫بسبب إيمانهم‪ -‬من شر الكفار‪ ،‬وشر وسوسة الشيطاف‪ ،‬وشرور أنفسهم‪ ،‬وسيئات أعمالهم‪ ،‬ويحمل عنهم‬
‫عند نزوؿ المكاره‪ ،‬ما ال يتحملوف‪ ،‬فيخفف عنهم غاية التخفيف‪ .‬كل مؤمن لو من ىذه المدافعة والفضيلة‬
‫بحسب إيمانو‪ ،‬فمستقل ومستكثر‪.‬‬
‫{ إِ َّف اللَّوَ ال يُ ِح ُّ‬
‫ب ُك َّل َخ َّو ٍ‬
‫اف } أي‪ :‬خائن في أمانتو التي حملو اهلل إياىا‪ ،‬فيبخس حقوؽ اهلل عليو‪،‬‬
‫ويخونها‪ ،‬ويخوف الخلق‪.‬‬
‫ور } لنعم اهلل‪ ،‬يوالي عليو اإلحساف‪ ،‬ويتوالى منو الكفر والعصياف‪ ،‬فهذا ال يحبو اهلل‪ ،‬بل يبغضو‬
‫{ َك ُف ٌ‬
‫ويمقتو‪ ،‬وسيجازيو على كفره وخيانتو‪ ،‬ومفهوـ اآلية‪ ،‬أف اهلل يحب كل أمين قائم بأمانتو‪ ،‬شكور لمواله‪.‬‬
‫ين أُ ْخ ِر ُجوا ِم ْن ِديَا ِرِى ْم بِغَْي ِر َح ٍّق إَِّال‬ ‫َّ ِ‬ ‫أ ُِذ َف لِلَّ ِذين يػ َقاتَػلُو َف بِأَنَّػهم ظُلِموا وإِ َّف اللَّوَ َعلَى نَ ْ ِ ِ‬
‫ص ِرى ْم لََقد ٌير (‪ )39‬الذ َ‬ ‫ُْ ُ َ‬ ‫َُ‬
‫اج ُد يُ ْذ َك ُر فِ َيها‬
‫ات ومس ِ‬ ‫ت ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫صلَ َو ٌ َ َ َ‬ ‫ص َوام ُع َوبِيَ ٌع َو َ‬ ‫ّْم ْ َ‬
‫ض لَ ُهد َ‬ ‫ض ُه ْم بِبَػ ْع ٍ‬ ‫َّاس بَػ ْع َ‬ ‫َّ‬
‫أَ ْف يَػ ُقولُوا َربُّػنَا اللوُ َولَ ْوَال َدفْ ُع اللو الن َ‬
‫ض أَقَ ُاموا‬‫َّاى ْم فِي ْاأل َْر ِ‬‫ين إِ ْف َم َّكن ُ‬ ‫َّ ِ‬
‫ي َع ِز ٌيز (‪ )40‬الذ َ‬ ‫ص ُرهُ إِ َّف اللَّوَ لََق ِو ّّ‬
‫ص َر َّف اللَّوُ َم ْن يَػ ْن ُ‬
‫ْ ِ ِ‬
‫اس ُم اللَّو َكث ًيرا َولَيَػ ْن ُ‬
‫وؼ َونَػ َه ْوا َع ِن ال ُْم ْن َك ِر َولِلَّ ِو َعاقِبَةُ ْاأل ُُموِر (‪)41‬‬‫الزَكاةَ وأَمروا بِالْمعر ِ‬
‫الص َبلةَ َوآتَػ ُوا َّ َ َ ُ َ ْ ُ‬ ‫َّ‬

‫ين أُ ْخ ِر ُجوا ِم ْن‬ ‫َّ ِ‬ ‫{ ‪ { } 41 - 39‬أ ُِذ َف لِلَّ ِذين يػ َقاتَػلُو َف بِأَنَّػهم ظُلِموا وإِ َّف اللَّوَ َعلَى نَ ْ ِ ِ‬
‫ص ِرى ْم لََقد ٌير * الذ َ‬ ‫ُْ ُ َ‬ ‫َُ‬
‫ت ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ات‬ ‫ص َوام ُع َوبِيَ ٌع َو َ‬
‫صلَ َو ٌ‬ ‫ّْم ْ َ‬ ‫ض ُه ْم بِبَػ ْع ٍ‬
‫ض لَ ُهد َ‬ ‫َّاس بَػ ْع َ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ديَا ِرى ْم بغَْي ِر َح ٍّق إال أَ ْف يَػ ُقولُوا َربُّػنَا اللوُ َولَ ْوال َدفْ ُع اللو الن َ‬
‫َّاى ْم فِي‬ ‫ين إِ ْف َم َّكن ُ‬ ‫َّ ِ‬
‫ي َع ِز ٌيز * الذ َ‬ ‫ص ُرهُ إِ َّف اللَّوَ لََق ِو ّّ‬
‫ص َر َّف اللَّوُ َم ْن يَػ ْن ُ‬
‫اج ُد ي ْذ َكر فِ َيها ْ ِ ِ‬
‫اس ُم اللَّو َكث ًيرا َولَيَػ ْن ُ‬ ‫س ُ ُ‬
‫وم ِ‬
‫ََ َ‬
‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫األموِر } ‪.‬‬ ‫الزَكا َة َوأ ََم ُروا بِال َْم ْع ُروؼ َونَػ َه ْوا َع ِن ال ُْم ْن َك ِر َوللَّو َعاقبَةُ ُ‬ ‫الصبل َة َوآتَػ ُوا َّ‬
‫ض أَقَ ُاموا َّ‬‫األر ِ‬
‫ْ‬
‫كاف المسلموف في أوؿ اإلسبلـ ممنوعين من قتاؿ الكفار‪ ،‬ومأمورين بالصبر عليهم‪ ،‬لحكمة إلهية‪ ،‬فلما‬
‫ِ ِِ‬
‫ىاجروا إلى المدينة‪ ،‬وأوذوا‪ ،‬وحصل لهم منعة وقوة‪ ،‬أذف لهم بالقتاؿ‪ ،‬قاؿ تعالى‪ { :‬أُذ َف للَّذ َ‬
‫ين يُػ َقاتَػلُو َف }‬
‫يفهم منو أنهم كانوا قبل ممنوعين‪ ،‬فأذف اهلل لهم بقتاؿ الذين يقاتلوف‪ ،‬وإنما أذف لهم‪ ،‬ألنهم ظلموا‪،‬‬
‫بمنعهم من دينهم‪ ،‬وأذيتهم عليو‪ ،‬وإخراجهم من ديارىم‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫ين أُ ْخ ِر ُجوا‬ ‫َّ ِ‬ ‫{ وإِ َّف اللَّوَ َعلَى نَ ْ ِ ِ‬
‫ص ِرى ْم لََقد ٌير } فليستنصروه‪ ،‬وليستعينوا بو‪ ،‬ثم ذكر صفة ظلمهم فقاؿ‪ { :‬الذ َ‬ ‫َ‬
‫ِم ْن ِديَا ِرِى ْم } أي‪ :‬ألجئوا إلى الخروج باألذية والفتنة { بِغَْي ِر َح ٍّق إِال } أف ذنبهم الذي نقم منهم أعداؤىم {‬
‫أَ ْف يَػ ُقولُوا َربُّػنَا اللَّوُ } أي‪ :‬إال أنهم وحدوا اهلل‪ ،‬وعبدوه مخلصين لو الدين‪ ،‬فإف كاف ىذا ذنبا‪ ،‬فهو ذنبهم‬
‫يد } وىذا يدؿ على حكمة الجهاد‪ ،‬وأف‬ ‫كقولو تعالى‪ { :‬وما نَػ َقموا ِم ْنػهم إِال أَ ْف يػ ْؤِمنُوا بِاللَّ ِو الْع ِزي ِز الْح ِم ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ ُ ُ ْ‬
‫المقصود منو إقامة دين اهلل‪ ،‬وذب الكفار المؤذين للمؤمنين‪ ،‬البادئين لهم باالعتداء‪ ،‬عن ظلمهم‬
‫ض ُه ْم‬‫َّاس بَػ ْع َ‬ ‫َّ ِ‬
‫واعتدائهم‪ ،‬والتمكن من عبادة اهلل‪ ،‬وإقامة الشرائع الظاىرة‪ ،‬ولهذا قاؿ‪َ { :‬ولَ ْوال َدفْ ُع اللو الن َ‬
‫ات ومس ِ‬ ‫ت ِ‬
‫اج ُد }‬ ‫ص َوام ُع َوبِيَ ٌع َو َ‬
‫صلَ َو ٌ َ َ َ‬ ‫ّْم ْ َ‬
‫ض } فيدفع اهلل بالمجاىدين في سبيلو ضرر الكافرين‪ { ،‬لَ ُهد َ‬ ‫بِبَػ ْع ٍ‬
‫أي‪ :‬لهدمت ىذه المعابد الكبار‪ ،‬لطوائف أىل الكتاب‪ ،‬معابد اليهود والنصارى‪ ،‬والمساجد للمسلمين‪{ ،‬‬
‫اس ُم اللَّ ِو َكثِ ًيرا } تقاـ فيها الصلوات‪ ،‬وتتلى فيها كتب اهلل‪ ،‬ويذكر فيها‬ ‫يُ ْذ َك َر ف َيها } أي‪ :‬في ىذه المعابد { ْ‬
‫ِ‬
‫اسم اهلل بأنواع الذكر‪ ،‬فلوال دفع اهلل الناس بعضهم ببعض‪ ،‬الستولى الكفار على المسلمين‪ ،‬فخربوا‬
‫معابدىم‪ ،‬وفتنوىم عن دينهم‪ ،‬فدؿ ىذا‪ ،‬أف الجهاد مشروع‪ ،‬ألجل دفع الصائل والمؤذي‪ ،‬ومقصود لغيره‪،‬‬
‫ودؿ ذلك على أف البلداف التي حصلت فيها الطمأنينة بعبادة اهلل‪ ،‬وعمرت مساجدىا‪ ،‬وأقيمت فيها شعائر‬
‫الدين كلها‪ ،‬من فضائل المجاىدين وببركتهم‪ ،‬دفع اهلل عنها الكافرين‪ ،‬قاؿ اهلل تعالى‪َ { :‬ولَ ْوال َدفْ ُع اللَّ ِو‬
‫ِ‬ ‫ض َولَ ِك َّن اللَّوَ ذُو فَ ْ‬
‫ض ٍل َعلَى ال َْعالَم َ‬
‫ين }‬ ‫األر ُ‬ ‫ض لََف ِ‬
‫س َدت ْ‬ ‫النَّاس بَػ ْع َ ِ‬
‫ض ُه ْم ببَػ ْع ٍ َ‬ ‫َ‬
‫فإف قلت‪ :‬نرى اآلف مساجد المسلمين عامرة لم تخرب‪ ،‬مع أنها كثير منها إمارة صغيرة‪ ،‬وحكومة غير‬
‫منظمة‪ ،‬مع أنهم ال يداف لهم بقتاؿ من جاورىم من اإلفرنج‪ ،‬بل نرى المساجد التي تحت واليتهم‬
‫وسيطرتهم عامرة‪ ،‬وأىلها آمنوف مطمئنوف‪ ،‬مع قدرة والتهم من الكفار على ىدمها‪ ،‬واهلل أخبر أنو لوال دفع‬
‫اهلل الناس بعضهم ببعض‪ ،‬لهدمت ىذه المعابد‪ ،‬ونحن ال نشاىد دفعا‪.‬‬
‫أجيب بأف ىذا السؤاؿ واالستشكاؿ‪ ،‬داخل في عموـ ىذه اآلية وفرد من أفرادىا‪ ،‬فإف من عرؼ أحواؿ‬
‫الدوؿ اآلف ونظامها‪ ،‬وأنها تعتبر كل أمة وجنس تحت واليتها‪ ،‬وداخل في حكمها‪ ،‬تعتبره عضوا من أعضاء‬
‫المملكة‪ ،‬وجزء من أجزاء الحكومة‪ ،‬سواء كانت تلك األمة [ ص ‪ ] 540‬مقتدرة بعددىا أو عددىا‪ ،‬أو‬
‫مالها‪ ،‬أو عملها‪ ،‬أو خدمتها‪ ،‬فتراعي الحكومات مصالح ذلك الشعب‪ ،‬الدينية والدنيوية‪ ،‬وتخشى إف لم‬

‫‪18‬‬
‫تفعل ذلك أف يختل نظامها‪ ،‬وتفقد بعض أركانها‪ ،‬فيقوـ من أمر الدين بهذا السبب ما يقوـ‪ ،‬خصوصا‬
‫المساجد‪ ،‬فإنها ‪-‬وهلل الحمد‪ -‬في غاية االنتظاـ‪ ،‬حتى في عواصم الدوؿ الكبار‪.‬‬
‫وتراعي تلك الدوؿ الحكومات المستقلة‪ ،‬نظرا لخواطر رعاياىم المسلمين‪ ،‬مع وجود التحاسد والتباغض‬
‫بين دوؿ النصارى‪ ،‬الذي أخبر اهلل أنو ال يزاؿ إلى يوـ القيامة‪ ،‬فتبقى الحكومة المسلمة‪ ،‬التي ال تقدر‬
‫تدافع عن نفسها‪ ،‬سالمة من [كثير] (‪ )1‬ضررىم‪ ،‬لقياـ الحسد عندىم‪ ،‬فبل يقدر أحدىم أف يمد يده‬
‫عليها‪ ،‬خوفا من احتمائها باآلخر‪ ،‬مع أف اهلل تعالى ال بد أف يري عباده من نصر اإلسبلـ والمسلمين‪ ،‬ما‬
‫قد وعد بو في كتابو‪.‬‬
‫وقد ظهرت ‪-‬وهلل الحمد‪ -‬أسبابو [بشعور المسلمين بضرورة رجوعهم إلى دينهم والشعور مبدأ العمل]‬
‫ص َر َّف اللَّوُ َم ْن‬
‫(‪ )2‬فنحمده ونسألو أف يتم نعمتو‪ ،‬ولهذا قاؿ في وعده الصادؽ المطابق للواقع‪َ { :‬ولَيَػ ْن ُ‬
‫ص ُرهُ } أي‪ :‬يقوـ بنصر دينو‪ ،‬مخلصا لو في ذلك‪ ،‬يقاتل في سبيلو‪ ،‬لتكوف كلمة اهلل ىي العليا‪.‬‬ ‫يَػ ْن ُ‬
‫{ إِ َّف اللَّوَ لََق ِو ّّ‬
‫ي َع ِز ٌيز } أي‪ :‬كامل القوة‪ ،‬عزيز ال يراـ‪ ،‬قد قهر الخبلئق‪ ،‬وأخذ بنواصيهم‪ ،‬فأبشروا‪ ،‬يا‬
‫معشر المسلمين‪ ،‬فإنكم وإف ضعف عددكم وعددكم‪ ،‬وقوي عدد عدوكم وعدتهم (‪ )3‬فإف ركنكم القوي‬
‫العزيز‪ ،‬ومعتمدكم على من خلقكم وخلق ما تعملوف‪ ،‬فاعملوا باألسباب المأمور بها‪ ،‬ثم اطلبوا منو نصركم‪،‬‬
‫فبل بد أف ينصركم‪.‬‬
‫َّ ِ‬
‫ت أَقْ َد َام ُك ْم } وقوموا‪ ،‬أيها المسلموف‪ ،‬بحق اإليماف‬ ‫ص ُروا اللَّوَ يَػ ْن ُ‬
‫ص ْرُك ْم َويُػثَبّْ ْ‬ ‫آمنُوا إِ ْف تَػ ْن ُ‬ ‫ين َ‬ ‫{ يَا أَيُّػ َها الذ َ‬
‫ض َك َما‬ ‫األر ِ‬ ‫ات لَيستَ ْخلِ َفنػ ِ‬ ‫والعمل الصالح‪ ،‬فقد { و َع َد اللَّوُ الَّ ِذين آمنُوا ِم ْن ُكم و َع ِملُوا َّ ِ ِ‬
‫َّه ْم في ْ‬ ‫ُ‬ ‫الصال َح َ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫َّه ْم ِم ْن بَػ ْع ِد َخ ْوفِ ِه ْم أ َْمنًا يَػ ْعبُ ُدونَنِي‬ ‫ين ِم ْن قَػ ْبلِ ِه ْم َولَيُ َم ّْكنَ َّن لَ ُه ْم ِدينَػ ُه ُم الَّ ِذي ْارتَ َ‬
‫ضى لَ ُه ْم َولَيُبَ ّْدلَنػ ُ‬
‫استَ ْخلَ َ َّ ِ‬
‫ف الذ َ‬ ‫ْ‬
‫ال يُ ْش ِرُكو َف بِي َش ْيئًا }‬
‫ثم ذكر عبلمة من ينصره‪ ،‬وبها يعرؼ‪ ،‬أف من ادعى أنو ينصر اهلل وينصر دينو‪ ،‬ولم يتصف بهذا الوصف‪،‬‬
‫ض } أي‪ :‬ملكناىم إياىا‪ ،‬وجعلناىم المتسلطين عليها‪ ،‬من‬ ‫األر ِ‬ ‫فهو كاذب فقاؿ‪ { :‬الَّ ِذين إِ ْف م َّكن ُ ِ‬
‫َّاى ْم في ْ‬ ‫َ َ‬
‫غير منازع ينازعهم‪ ،‬وال معارض‪ { ،‬أَقَ ُاموا َّ‬
‫الصبل َة } في أوقاتها‪ ،‬وحدودىا‪ ،‬وأركانها‪ ،‬وشروطها‪ ،‬في الجمعة‬
‫والجماعات‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫{ َوآتُوا َّ‬
‫الزَكا َة } التي عليهم خصوصا‪ ،‬وعلى رعيتهم عموما‪ ،‬آتوىا أىلها‪ ،‬الذين ىم أىلها‪َ { ،‬وأ ََم ُروا‬
‫وؼ } وىذا يشمل كل معروؼ حسنو شرعا وعقبل من حقوؽ اهلل‪ ،‬وحقوؽ اآلدميين‪َ { ،‬ونَػ َه ْوا َع ِن‬ ‫بِالْمعر ِ‬
‫َ ُْ‬
‫ال ُْم ْن َك ِر } كل منكر شرعا وعقبل معروؼ قبحو‪ ،‬واألمر بالشيء والنهي عنو يدخل فيو ما ال يتم إال بو‪ ،‬فإذا‬
‫كاف المعروؼ والمنكر يتوقف على تعلم وتعليم‪ ،‬أجبروا الناس على التعلم والتعليم‪ ،‬وإذا كاف يتوقف على‬
‫تأديب مقدر شرعا‪ ،‬أو غير مقدر‪ ،‬كأنواع التعزير‪ ،‬قاموا بذلك‪ ،‬وإذا كاف يتوقف على جعل أناس متصدين‬
‫لو‪ ،‬لزـ ذلك‪ ،‬ونحو ذلك مما ال يتم األمر بالمعروؼ والنهي عن المنكر إال بو‪.‬‬
‫ِِ ِ‬
‫{ َوللَّو َعاقبَةُ ُ‬
‫األموِر } أي‪ :‬جميع األمور‪ ،‬ترجع إلى اهلل‪ ،‬وقد أخبر أف العاقبة للتقوى‪ ،‬فمن سلطو اهلل على‬
‫العباد من الملوؾ‪ ،‬وقاـ بأمر اهلل‪ ،‬كانت لو العاقبة الحميدة‪ ،‬والحالة الرشيدة‪ ،‬ومن تسلط عليهم‬
‫بالجبروت‪ ،‬وأقاـ فيهم ىوى نفسو‪ ،‬فإنو وإف حصل لو ملك موقت‪ ،‬فإف عاقبتو غير حميدة‪ ،‬فواليتو‬
‫مشئومة‪ ،‬وعاقبتو مذمومة‪.‬‬
‫اب‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َوإِ ْف يُ َك ّْذبُ َ‬
‫وؾ فَػ َق ْد َك َّذبَ ْ‬
‫َص َح ُ‬ ‫يم َوقَػ ْو ُـ لُوط (‪َ )43‬وأ ْ‬ ‫ود (‪َ )42‬وقَػ ْو ُـ إبْػ َراى َ‬ ‫وح َو َعا ٌد َوثَ ُم ُ‬ ‫ت قَػ ْبػلَ ُه ْم قَػ ْو ُـ نُ ٍ‬
‫اىا َو ِى َي‬ ‫ِ‬ ‫م ْدين وُك ّْذب موسى فَأَملَي ُ ِ ِ‬
‫ف َكا َف نَ ِكي ِر (‪ )44‬فَ َكأَيّْ ْن م ْن قَػ ْريٍَة أ َْىلَ ْكنَ َ‬ ‫َخ ْذتُػ ُه ْم فَ َك ْي َ‬ ‫ت ل ْل َكاف ِر َ‬
‫ين ثُ َّم أ َ‬ ‫َ ََ َ َ ُ َ ْ ْ‬
‫يد (‪ )45‬أَفَػلَ ْم يَ ِس ُيروا فِي ْاأل َْر ِ‬ ‫ص ٍر م ِش ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وب‬
‫ض فَػتَ ُكو َف لَ ُه ْم قُػلُ ٌ‬ ‫ظَال َمةٌ فَ ِه َي َخا ِويَةٌ َعلَى عُ ُروش َها َوبِْئ ٍر ُم َعطَّلَة َوقَ ْ َ‬
‫الص ُدوِر (‪)46‬‬ ‫وب الَّتِي فِي ُّ‬ ‫ِ‬
‫ار َولَك ْن تَػ ْع َمى الْ ُقلُ ُ‬
‫صُ‬ ‫يَػ ْعقلُو َف بِ َها أ َْو آذَا ٌف يَ ْس َمعُو َف بِ َها فَِإنَّػ َها َال تَػ ْع َمى ْاألَبْ َ‬
‫ِ‬

‫وط *‬‫ود * وقَػوـ إِبػر ِاىيم وقَػوـ لُ ٍ‬ ‫{ ‪َ { } 46 - 42‬وإِ ْف يُ َك ّْذبُ َ‬


‫وؾ فَػ َق ْد َك َّذبَ ْ‬
‫وح َو َعا ٌد َوثَ ُم ُ َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ ُ‬ ‫ت قَػ ْبػلَ ُه ْم قَػ ْو ُـ نُ ٍ‬
‫ِ‬ ‫َصحاب م ْدين وُك ّْذب موسى فَأَملَي ُ ِ ِ‬
‫ف َكا َف نَ ِكي ِر * فَ َكأَيّْ ْن م ْن قَػ ْريٍَة أَ ْىلَ ْكنَ َ‬
‫اىا‬ ‫ت ل ْل َكاف ِر َ‬
‫ين ثُ َّم أَ َخ ْذتُػ ُه ْم فَ َك ْي َ‬ ‫َوأ ْ َ ُ َ َ َ َ َ ُ َ ْ ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫وشها وبِْئ ٍر معطَّلَ ٍة وقَ ْ ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫وب‬
‫ض فَػتَ ُكو َف لَ ُه ْم قُػلُ ٌ‬ ‫ص ٍر َمشيد * أَفَػلَ ْم يَس ُيروا في ْ‬
‫األر ِ‬ ‫َوى َي ظَال َمةٌ فَ ِه َي َخا ِويَةٌ َعلَى عُ ُر َ َ ُ َ َ‬
‫الص ُدوِر } ‪.‬‬ ‫وب الَّتِي فِي ُّ‬ ‫ِ‬
‫ار َولَك ْن تَػ ْع َمى الْ ُقلُ ُ‬ ‫صُ‬
‫ِ‬
‫يَػ ْعقلُو َف بِ َها أ َْو آ َذا ٌف يَ ْس َمعُو َف بِ َها فَِإنَّػ َها ال تَػ ْع َمى األبْ َ‬
‫يقوؿ تعالى لنبيو محمد صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬وإف يكذبك ىؤالء المشركوف فلست بأوؿ رسوؿ كذب‪،‬‬
‫وط *‬ ‫ود * وقَػوـ إِبػر ِاىيم وقَػوـ لُ ٍ‬ ‫وليسوا بأوؿ أمة كذبت رسولها { فَػ َق ْد َك َّذبَ ْ‬
‫وح َو َعا ٌد َوثَ ُم ُ َ ْ ُ ْ َ َ َ ْ ُ‬ ‫ت قَػ ْبػلَ ُه ْم قَػ ْو ُـ نُ ٍ‬
‫اب َم ْديَ َن } أي‪ :‬قوـ شعيب‪.‬‬
‫َص َح ُ‬
‫َوأ ْ‬

‫‪20‬‬
‫{ وُك ّْذب موسى فَأَملَي ُ ِ ِ‬
‫ت ل ْل َكاف ِر َ‬
‫ين } المكذبين‪ ،‬فلم أعاجلهم بالعقوبة‪ ،‬بل أمهلتهم‪ ،‬حتى استمروا في‬ ‫َ َ ُ َ ْْ‬
‫َخ ْذتُػ ُه ْم } بالعذاب أخذ عزيز مقتدر‬
‫طغيانهم يعمهوف‪ ،‬وفي كفرىم [ ص ‪ ] 541‬وشرىم يزدادوف‪ { ،‬ثُ َّم أ َ‬
‫ف َكا َف نَ ِكي ِر } أي‪ :‬إنكاري عليهم كفرىم‪ ،‬وتكذيبهم كيف حالو‪ ،‬كاف أشد العقوبات‪ ،‬وأفظع‬‫{ فَ َك ْي َ‬
‫المثبلت‪ ،‬فمنهم من أغرقو‪ ،‬ومنهم من أخذتو الصيحة‪ ،‬ومنهم من أىلك بالريح العقيم‪ ،‬ومنهم من خسف‬
‫بو األرض‪ ،‬ومنهم من أرسل عليو عذاب يوـ الظلة‪ ،‬فليعتبر بهم ىؤالء المكذبوف‪ ،‬أف يصيبهم ما أصابهم‪،‬‬
‫فإنهم ليسوا خيرا منهم‪ ،‬وال كتب لهم براءة في الكتب المنزلة من اهلل‪ ،‬وكم من المعذبين المهلكين أمثاؿ‬
‫ِ‬
‫اىا } بالعذاب الشديد‪ ،‬والخزي‬ ‫ىؤالء كثير‪ ،‬ولهذا قاؿ‪ { :‬فَ َكأَيّْ ْن م ْن قَػ ْريٍَة } أي‪ :‬وكم من قرية { أ َْىلَ ْكنَ َ‬
‫الدنيوي‪َ { ،‬و ِى َي ظَالِ َمةٌ } بكفرىا باهلل وتكذيبها لرسلو‪ ،‬لم يكن عقوبتنا لها ظلما منا‪ { ،‬فَ ِه َي َخا ِويَةٌ َعلَى‬
‫وش َها } أي‪ :‬فديارىم متهدمة‪ ،‬قصورىا‪ ،‬وجدرانها‪ ،‬قد سقطت عروشها‪ ،‬فأصبحت خرابا بعد أف كانت‬ ‫عُر ِ‬
‫ُ‬
‫ص ٍر م ِش ٍ‬ ‫ٍ‬
‫يد } أي‪ :‬وكم من بئر‪ ،‬قد كاف‬ ‫عامرة‪ ،‬وموحشة بعد أف كانت آىلة بأىلها آنسة‪َ { ،‬وبِْئ ٍر ُم َعطَّلَة َوقَ ْ َ‬
‫يزدحم عليو الخلق‪ ،‬لشربهم‪ ،‬وشرب مواشيهم‪ ،‬ففقد أىلو‪ ،‬وعدـ منو الوارد والصادر‪ ،‬وكم من قصر‪ ،‬تعب‬
‫عليو أىلو‪ ،‬فشيدوه‪ ،‬ورفعوه‪ ،‬وحصنوه‪ ،‬وزخرفوه‪ ،‬فحين جاءىم أمر اهلل‪ ،‬لم يغن عنهم شيئا‪ ،‬وأصبح خاليا‬
‫من أىلو‪ ،‬قد صاروا عبرة لمن اعتبر‪ ،‬ومثاال لمن فكر ونظر‪.‬‬
‫األر ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ض } بأبدانهم‬ ‫ولهذا دعا اهلل عباده إلى السير في األرض‪ ،‬لينظروا‪ ،‬ويعتبروا فقاؿ‪ { :‬أَفَػلَ ْم يَس ُيروا في ْ‬
‫وب يَػ ْع ِقلُو َف بِ َها } آيات اهلل ويتأملوف بها مواقع عبره‪ { ،‬أ َْو آذَا ٌف يَ ْس َمعُو َف بِ َها }‬ ‫وقلوبهم { فَػتَ ُكو َف لَ ُه ْم قُػلُ ٌ‬
‫أخبار األمم الماضين‪ ،‬وأنباء القروف المعذبين‪ ،‬وإال فمجرد نظر العين‪ ،‬وسماع األذف‪ ،‬وسير البدف الخالي‬
‫ار َولَ ِك ْن‬ ‫صُ‬‫من التفكر واالعتبار‪ ،‬غير مفيد‪ ،‬وال موصل إلى المطلوب‪ ،‬ولهذا قاؿ‪ { :‬فَِإنَّػ َها ال تَػ ْع َمى األبْ َ‬
‫الص ُدوِر } أي‪ :‬ىذا العمى الضار في الدين‪ ،‬عمى القلب عن الحق‪ ،‬حتى ال‬ ‫وب الَّتِي فِي ُّ‬ ‫تَػ ْع َمى الْ ُقلُ ُ‬
‫يشاىده كما ال يشاىد األعمى المرئيات‪ ،‬وأما عمى البصر‪ ،‬فغايتو بلغة‪ ،‬ومنفعة دنيوية‪.‬‬
‫ْف َسنَ ٍة ِم َّما تَػعُ ُّدو َف (‪َ )47‬وَكأَيّْ ْن ِم ْن‬ ‫ف اللَّوُ َو ْع َدهُ َوإِ َّف يَػ ْوًما ِع ْن َد َربّْ َ‬
‫ك َكأَل ِ‬ ‫اب َولَ ْن يُ ْخلِ َ‬ ‫َويَ ْستَػ ْع ِجلُونَ َ‬
‫ك بِال َْع َذ ِ‬
‫ص ُير (‪)48‬‬ ‫ت لَ َها و ِىي ظَالِمةٌ ثُ َّم أَ َخ ْذتُػ َها وإِلَ َّي الْم ِ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫قَػ ْريَة أ َْملَْي ُ َ َ َ‬

‫‪21‬‬
‫ْف َسنَ ٍة ِم َّما تَػعُ ُّدو َف‬ ‫ف اللَّوُ َو ْع َدهُ َوإِ َّف يَػ ْوًما ِع ْن َد َربّْ َ‬
‫ك َكأَل ِ‬ ‫اب َولَ ْن يُ ْخلِ َ‬ ‫ك بِال َْع َذ ِ‬ ‫{ ‪َ { } 48 - 47‬ويَ ْستَػ ْع ِجلُونَ َ‬
‫ص ُير } ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت لَ َها َو ِى َي ظَالِ َمةٌ ثُ َّم أ َ‬
‫َخ ْذتُػ َها وإِلَ َّي الْم ِ‬ ‫* َوَكأَيّْ ْن ِم ْن قَػ ْريٍَة أ َْملَْي ُ‬
‫أي‪ :‬يستعجلك ىؤالء المكذبوف بالعذاب‪ ،‬لجهلهم‪ ،‬وظلمهم‪ ،‬وعنادىم‪ ،‬وتعجيزا هلل‪ ،‬وتكذيبا لرسلو‪ ،‬ولن‬
‫يخلف اهلل وعده‪ ،‬فما وعدىم بو من العذاب‪ ،‬ال بد من وقوعو‪ ،‬وال يمنعهم منو مانع‪ ،‬وأما عجلتو‪،‬‬
‫والمبادرة فيو‪ ،‬فليس ذلك إليك يا محمد‪ ،‬وال يستفزنك عجلتهم وتعجيزىم إيانا‪ .‬فإف أمامهم يوـ القيامة‪،‬‬
‫الذي يجمع فيو أولهم وآخرىم‪ ،‬ويجازوف بأعمالهم‪ ،‬ويقع بهم العذاب الدائم األليم‪ ،‬ولهذا قاؿ‪َ { :‬وإِ َّف‬
‫ْف َسنَ ٍة ِم َّما تَػعُ ُّدو َف } من طولو‪ ،‬وشدتو‪ ،‬وىو لو‪ ،‬فسواء أصابهم عذاب في الدنيا‪ ،‬أـ‬ ‫يَػ ْوًما ِع ْن َد َربّْ َ‬
‫ك َكأَل ِ‬
‫تأخر عنهم العذاب‪ ،‬فإف ىذا اليوـ‪ ،‬ال بد أف يدركهم‪.‬‬
‫ويحتمل أف المراد‪ :‬أف اهلل حليم‪ ،‬ولو استعجلوا العذاب‪ ،‬فإف يوما عنده كألف سنة مما تعدوف‪ ،‬فالمدة‪،‬‬
‫وإف تطاولتموىا‪ ،‬واستبطأتم فيها نزوؿ العذاب‪ ،‬فإف اهلل يمهل المدد الطويلة وال يهمل‪ ،‬حتى إذا أخذ‬
‫الظالمين بعذابو لم يفلتهم‪.‬‬
‫ت لَ َها } أي‪ :‬أمهلتها مدة طويلة { َو ِى َي ظَالِ َمةٌ } أي‪ :‬مع ظلمهم‪ ،‬فلم يكن مبادرتهم‬ ‫{ َوَكأَيّْ ْن ِم ْن قَػ ْريٍَة أ َْملَْي ُ‬
‫َخ ْذتُػ َها } بالعذاب { وإِلَ َّي الْم ِ‬
‫ص ُير } أي‪ :‬مع عذابها في الدنيا‪،‬‬ ‫بالظلم‪ ،‬موجبا لمبادرتنا بالعقوبة‪ { ،‬ثُ َّم أ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫سترجع إلى اهلل‪ ،‬فيعذبها بذنوبها‪ ،‬فليحذر ىؤالء الظالموف من حلوؿ عقاب اهلل‪ ،‬وال يغتروا باإلمهاؿ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫قُل يا أَيُّػ َها النَّاس إِنَّما أَنَا لَ ُكم نَ ِذير مبِين (‪ )49‬فَالَّ ِذين آمنُوا و َع ِملُوا َّ ِ ِ‬
‫الصال َحات لَ ُه ْم َمغْف َرةٌ َوِرْز ٌؽ َك ِر ٌ‬
‫يم‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ ٌ ُ ٌ‬ ‫ُ َ‬ ‫َْ‬
‫يم (‪)51‬‬ ‫ْج ِح ِ‬
‫اب ال َ‬
‫َص َح ُ‬ ‫كأ ْ‬ ‫ين أُولَئِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين َس َع ْوا في آيَاتنَا ُم َعاج ِز َ‬
‫َّ ِ‬
‫( ‪َ )50‬والذ َ‬

‫الصالِح ِ‬
‫ات لَ ُه ْم َم ْغ ِف َرةٌ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنُوا َو َعملُوا َّ َ‬
‫ين َ‬ ‫ين * فَالذ َ‬‫َّاس إِنَّ َما أَنَا لَ ُك ْم نَذ ٌير ُمبِ ٌ‬
‫{ ‪ { } 51 - 49‬قُ ْل يَا أَيُّػ َها الن ُ‬
‫يم } (‪. )1‬‬ ‫ْج ِح ِ‬
‫اب ال َ‬
‫َص َح ُ‬‫كأ ْ‬ ‫ين أُولَئِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين َس َع ْوا في آيَاتنَا ُم َعاج ِز َ‬
‫َّ ِ‬
‫َوِرْز ٌؽ َك ِر ٌ‬
‫يم * َوالذ َ‬
‫يأمر تعالى عبده ورسولو محمدا صلى اهلل عليو وسلم أف يخاطب الناس جميعا‪ ،‬بأنو رسوؿ اهلل حقا‪ ،‬مبشرا‬
‫ين } أي‪ :‬بين اإلنذار‪ ،‬وىو‬ ‫للمؤمنين بثواب اهلل‪ ،‬منذرا للكافرين والظالمين من عقابو‪ ،‬وقولو‪ُ { :‬مبِ ٌ‬
‫التخويف مع اإلعبلـ بالمخوؼ‪ ،‬وذلك ألنو أقاـ البراىين الساطعة على صدؽ ما أنذرىم بو‪ ،‬ثم ذكر‬
‫الصالِح ِ‬
‫ات }‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫آمنُوا } بقلوبهم إيمانا صحيحا صادقا { َو َعملُوا َّ َ‬
‫ين َ‬
‫تفصيل النذارة والبشارة فقاؿ‪ { :‬فَالذ َ‬

‫‪22‬‬
‫بجوارحهم { في جنات النعيم } أي‪ :‬الجنات التي يتنعم بها بأنواع النعيم من المآكل والمشارب والمناكح‬
‫والصور واألصوات والتنعم برؤية الرب الكريم وسماع [ ص ‪ ] 542‬كبلمو { والذين كفروا } أي‪ :‬جحدوا‬
‫نعمة ربهم وكذبوا رسلو وآياتو فأولئك أصحاب الجحيم أي‪ :‬المبلزموف لها‪ ،‬المصاحبوف لها في كل‬
‫أوقاتهم‪ ،‬فبل يخفف عنهم من عذابها وال يفتر عنهم لحظة من عقابها‪.‬‬
‫س ُخ اللَّوُ َما يُػل ِْقي َّ‬
‫الش ْيطَا ُف‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫ك ِم ْن ر ُس ٍ‬
‫وؿ َوَال نَبِ ٍّي إَِّال إِذَا تَ َمنَّى أَلْ َقى َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫الش ْيطَا ُف في أ ُْمنيَّتو فَػيَػ ْن َ‬ ‫َوَما أ َْر َسلْنَا م ْن قَػ ْبل َ َ‬
‫ين فِي قُػلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫يم (‪ )52‬لِيَ ْج َع َل َما يُػل ِْقي َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ض‬ ‫الش ْيطَا ُف ف ْتػنَةً للَّذ َ‬ ‫يم َحك ٌ‬ ‫ثُ َّم يُ ْحك ُم اللَّوُ آيَاتو َواللَّوُ َعل ٌ‬
‫ك فَػيُػ ْؤِمنُوا‬‫ْح ُّق ِم ْن َربّْ َ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اسي ِة قُػلُوبػهم وإِ َّف الظَّالِ ِم ِ ِ ٍ ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ْم أَنَّوُ ال َ‬
‫ين أُوتُوا الْعل َ‬ ‫ين لَفي ش َقاؽ بَعيد (‪َ )53‬وليَػ ْعلَ َم الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َوالْ َق َ ُ ُ ْ َ‬
‫صر ٍ‬
‫اط ُم ْستَ ِق ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫بِ ِو فَػتُ ْخبِ َ‬
‫يم (‪)54‬‬ ‫آمنُوا إلَى َ‬ ‫ين َ‬ ‫ت لَوُ قُػلُوبُػ ُه ْم َوإِ َّف اللَّوَ لَ َهاد الذ َ‬

‫س ُخ‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫ك ِم ْن ر ُس ٍ‬
‫وؿ َوال نَبِ ٍّي إِال إِ َذا تَ َمنَّى أَلْ َقى َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫الش ْيطَا ُف في أ ُْمنيَّتو فَػيَػ ْن َ‬ ‫{ ‪َ { } 57 - 52‬وَما أ َْر َسلْنَا م ْن قَػ ْبل َ َ‬
‫ين فِي‬ ‫ِ ِِ‬ ‫يم * لِيَ ْج َع َل َما يُػل ِْقي َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫اللَّوُ َما يُػل ِْقي َّ‬
‫الش ْيطَا ُف ف ْتػنَةً للَّذ َ‬ ‫يم َحك ٌ‬ ‫الش ْيطَا ُف ثُ َّم يُ ْحك ُم اللَّوُ آيَاتو َواللَّوُ َعل ٌ‬
‫ْح ُّق ِم ْن َربّْ َ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫اسي ِة قُػلُوبػهم وإِ َّف الظَّالِ ِم ِ ِ ٍ ِ ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫ْم أَنَّوُ ال َ‬‫ين أُوتُوا الْعل َ‬
‫ين لَفي ش َقاؽ بَعيد * َوليَػ ْعلَ َم الذ َ‬ ‫َ‬ ‫ض َوالْ َق َ ُ ُ ْ َ‬ ‫قُػلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬
‫ين َك َف ُروا فِي‬ ‫يم * وال يػز ُ َّ ِ‬
‫اؿ الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫آمنُوا إِلَى ص َراط ُم ْستَق ٍ َ َ َ‬ ‫ين َ‬
‫ِ َّ ِ‬
‫ت لَوُ قُػلُوبُػ ُه ْم َوإِ َّف اللَّوَ لَ َهادي الذ َ‬‫فَػيُػ ْؤِمنُوا بِ ِو فَػتُ ْخبِ َ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫اب يَػ ْوٍـ َع ِق ٍ‬ ‫ِ‬
‫اعةُ بَػغْتَةً أ َْو يَأْتيَػ ُه ْم َع َذ ُ‬ ‫ِم ْريٍَة ِم ْنوُ َحتَّى تَأْتِيَػ ُه ُم َّ‬
‫الس َ‬
‫وؿ َوال نَبِ ٍّي إِال إِذَا تَ َمنَّى‬ ‫يخبر تعالى بحكمتو البالغة‪ ،‬واختياره لعباده‪ ،‬وأف اهلل ما أرسل قبل محمد { ِم ْن ر ُس ٍ‬
‫َ‬
‫الش ْيطَا ُف فِي أ ُْمنِيَّتِ ِو } أي‪ :‬في قراءتو‪،‬‬ ‫} أي‪ :‬قرأ قراءتو‪ ،‬التي يذكر بها الناس‪ ،‬ويأمرىم وينهاىم‪ { ،‬أَلْ َقى َّ‬
‫من طرقو ومكايده‪ ،‬ما ىو مناقض لتلك القراءة‪ ،‬مع أف اهلل تعالى قد عصم الرسل بما يبلغوف عن اهلل‪،‬‬
‫وحفظ وحيو أف يشتبو‪ ،‬أو يختلط بغيره‪ .‬ولكن ىذا اإللقاء من الشيطاف‪ ،‬غير مستقر وال مستمر‪ ،‬وإنما ىو‬
‫س ُخ اللَّوُ َما يُػل ِْقي َّ‬
‫الش ْيطَا ُف } أي‪ :‬يزيلو‬ ‫عارض يعرض‪ ،‬ثم يزوؿ‪ ،‬وللعوارض أحكاـ‪ ،‬ولهذا قاؿ‪ { :‬فَػيَػ ْن َ‬
‫ويذىبو ويبطلو‪ ،‬ويبين أنو ليس من آياتو‪ ،‬و { يُ ْح ِك ُم اللَّوُ آيَاتِِو } أي‪ :‬يتقنها‪ ،‬ويحررىا‪ ،‬ويحفظها‪ ،‬فتبقى‬
‫خالصة من مخالطة إلقاء الشيطاف‪َ { ،‬واللَّوُ َع ِز ٌيز } أي‪ :‬كامل القوة واالقتدار‪ ،‬فبكماؿ قوتو‪ ،‬يحفظ وحيو‪،‬‬
‫يم } يضع األشياء مواضعها‪ ،‬فمن كماؿ حكمتو‪ ،‬مكن الشياطين من‬ ‫ِ‬
‫ويزيل ما تلقيو الشياطين‪َ { ،‬حك ٌ‬
‫الش ْيطَا ُف فِ ْتػنَةً } لطائفتين من الناس‪ ،‬ال يبالي‬‫اإللقاء المذكور‪ ،‬ليحصل ما ذكره بقولو‪ { :‬لِيَ ْج َع َل َما يُػل ِْقي َّ‬

‫‪23‬‬
‫اهلل بهم‪ ،‬وىم الذين { فِي قُػلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬
‫ض } أي‪ :‬ضعف وعدـ إيماف تاـ وتصديق جازـ‪ ،‬فيؤثر في قلوبهم‬
‫أدنى شبهة تطرأ عليها‪ ،‬فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطاف‪ ،‬داخلهم الريب والشك‪ ،‬فصار فتنة لهم‪.‬‬
‫اسيَ ِة قُػلُوبُػ ُه ْم } أي‪ :‬الغليظة‪ ،‬التي ال يؤثر فيها زجر وال تذكير‪ ،‬وال تفهم عن اهلل وعن رسولو‬
‫{ والْ َق ِ‬
‫َ‬
‫لقسوتها‪ ،‬فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطاف‪ ،‬جعلوه حجة لهم على باطلهم‪ ،‬وجادلوا بو وشاقوا اهلل ورسولو‪،‬‬
‫ولهذا قاؿ‪ { :‬وإِ َّف الظَّالِ ِم ِ ِ ٍ‬
‫اؽ ب ِع ٍ‬
‫يد } أي‪ :‬مشاقة هلل‪ ،‬ومعاندة للحق‪ ،‬ومخالفة لو‪ ،‬بعيد من‬ ‫ين لَفي ش َق َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الصواب‪ ،‬فما يلقيو الشيطاف‪ ،‬يكوف فتنة لهؤالء الطائفتين‪ ،‬فيظهر بو ما في قلوبهم‪ ،‬من الخبث الكامن‬
‫ْم‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين أُوتُوا الْعل َ‬
‫فيها ‪ ،‬وأما الطائفة الثالثة‪ ،‬فإنو يكوف رحمة في حقها‪ ،‬وىم المذكوروف بقولو‪َ { :‬وليَػ ْعلَ َم الذ َ‬
‫ك } ألف اهلل منحهم من العلم‪ ،‬ما بو يعرفوف الحق من الباطل‪ ،‬والرشد من الغي‪ ،‬فيميزوف‬ ‫ْح ُّق ِم ْن َربّْ َ‬
‫أَنَّوُ ال َ‬
‫بين األمرين‪ ،‬الحق المستقر‪ ،‬الذي يحكمو اهلل‪ ،‬والباطل العارض الذي ينسخو اهلل‪ ،‬بما على كل منهما من‬
‫الشواىد‪ ،‬وليعلموا أف اهلل حكيم‪ ،‬يقيض بعض أنواع االبتبلء‪ ،‬ليظهر بذلك كمائن النفوس الخيرة والشريرة‪،‬‬
‫{ فَػيُػ ْؤِمنُوا بِ ِو } بسبب ذلك‪ ،‬ويزداد إيمانهم عند دفع المعارض والشبو‪.‬‬
‫ت لَوُ قُػلُوبػهم } أي‪ :‬تخشع وتخضع‪ ،‬وتسلم لحكمتو‪ ،‬وىذا من ىدايتو إياىم‪ { ،‬وإِ َّف اللَّوَ لَه ِ‬
‫اد‬ ‫{ فَػتُ ْخبِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُُ ْ‬
‫يم } علم بالحق‪ ،‬وعمل بمقتضاه‪ ،‬فيثبت اهلل الذين آمنوا‬ ‫صر ٍ‬
‫اط ُم ْستَ ِق ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫آمنُوا } بسبب إيمانهم { إلَى َ‬
‫ين َ‬‫الذ َ‬
‫بالقوؿ الثابت في الحياة الدنيا وفي اآلخرة‪ ،‬وىذا النوع من تثبيت اهلل لعبده‪.‬‬
‫وىذه اآليات‪ ،‬فيها بياف أف للرسوؿ صلى اهلل عليو وسلم أسوة بإخوانو المرسلين‪ ،‬لما وقع منو عند قراءتو‬
‫البلت َوالْعُ َّزى‪َ .‬وَمنَاةَ الثَّالِثَةَ األ ْخ َرى } ألقى الشيطاف‬
‫َ‬ ‫صلى اهلل عليو وسلم‪ { :‬والنجم } فلما بلغ { أَفَػ َرأَيْػتُ ُم‬
‫في قراءتو‪ " :‬تلك الغرانيق العلى‪ ،‬وإف شفاعتهن (‪ )1‬لترتجى " فحصل بذلك للرسوؿ حزف وللناس فتنة‪،‬‬
‫كما ذكر اهلل‪ ،‬فأنزؿ اهلل ىذه اآليات‪.‬‬
‫اب يَػ ْوٍـ َع ِق ٍ‬
‫يم (‪)55‬‬ ‫ِ‬
‫اعةُ بَػ ْغتَةً أ َْو يَأْتيَػ ُه ْم َع َذ ُ‬ ‫ين َك َف ُروا فِي ِم ْريٍَة ِم ْنوُ َحتَّى تَأْتِيَػ ُه ُم َّ‬
‫الس َ‬ ‫وَال يػز ُ َّ ِ‬
‫اؿ الذ َ‬ ‫َ ََ‬

‫اب يَػ ْوٍـ َع ِق ٍ‬


‫يم‬ ‫ِ‬
‫اعةُ بَػ ْغتَةً أ َْو يَأْتيَػ ُه ْم َع َذ ُ‬ ‫ين َك َف ُروا فِي ِم ْريٍَة ِم ْنوُ َحتَّى تَأْتِيَػ ُه ُم َّ‬
‫الس َ‬ ‫{ ‪ { } 57 - 55‬وال يػز ُ َّ ِ‬
‫اؿ الذ َ‬ ‫َ ََ‬
‫َّات الن َِّع ِ َّ ِ‬ ‫ات فِي جن ِ‬ ‫الصالِح ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫* الْمل ُ ِ ٍ ِ ِ‬
‫ين َك َف ُروا َوَك َّذبُوا‬
‫يم * َوالذ َ‬ ‫َ‬ ‫آمنُوا َو َعملُوا َّ َ‬ ‫ين َ‬‫ْك يَػ ْوَمئذ للَّو يَ ْح ُك ُم بَػ ْيػنَػ ُه ْم فَالذ َ‬ ‫ُ‬
‫اب ُم ِه ٌ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫ك لَ ُه ْم َع َذ ٌ‬‫بِآيَاتِنَا فَأُولَئِ َ‬

‫‪24‬‬
‫يخبر تعالى عن حالة الكفار‪ ،‬وأنهم ال يزالوف في شك مما جئتهم بو يا محمد‪ ،‬لعنادىم‪ ،‬وإعراضهم‪ ،‬وأنهم‬
‫اعةُ بَػ ْغتَةً } أي‪ :‬مفاجأة { أ َْو‬ ‫(‪ )1‬ال يبرحوف مستمرين على ىذه الحاؿ [ ص ‪َ { ] 543‬حتَّى تَأْتِيَػ ُه ُم َّ‬
‫الس َ‬
‫يم } أي‪ :‬ال خير فيو‪ ،‬وىو يوـ القيامة‪ ،‬فإذا جاءتهم الساعة‪ ،‬أو أتاىم ذلك اليوـ‪،‬‬ ‫اب يَػ ْوٍـ َع ِق ٍ‬ ‫ِ‬
‫يَأْتيَػ ُه ْم َع َذ ُ‬
‫علم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين‪ ،‬وندموا حيث ال ينفعهم الندـ‪ ،‬وأبلسوا وأيسوا من كل خير‪ ،‬وودوا لو‬
‫آمنوا بالرسوؿ واتخذوا معو سبيبل ففي ىذا تحذيرىم من إقامتهم على مريتهم وفريتهم‪.‬‬
‫َّ ِ‬ ‫الصالِح ِ‬
‫ات فِي جن ِ‬
‫َّات الن َِّع ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫الْمل ُ ِ ٍ ِ ِ‬
‫ين َك َف ُروا‬
‫يم (‪َ )56‬والذ َ‬ ‫َ‬ ‫آمنُوا َو َعملُوا َّ َ‬
‫ين َ‬‫ْك يَػ ْوَمئذ للَّو يَ ْح ُك ُم بَػ ْيػنَػ ُه ْم فَالذ َ‬ ‫ُ‬
‫ين (‪)57‬‬ ‫اب ُم ِه ٌ‬
‫ك لَ ُه ْم َع َذ ٌ‬ ‫َوَك َّذبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِ َ‬

‫َّات الن َِّع ِ َّ ِ‬


‫ات فِي جن ِ‬ ‫الصالِح ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫{ الْمل ُ ِ ٍ ِ ِ‬
‫ين َك َف ُروا َوَك َّذبُوا‬
‫يم * َوالذ َ‬ ‫َ‬ ‫آمنُوا َو َعملُوا َّ َ‬ ‫ْك يَػ ْوَمئذ للَّو يَ ْح ُك ُم بَػ ْيػنَػ ُه ْم فَالذ َ‬
‫ين َ‬ ‫ُ‬
‫ين } ‪.‬‬ ‫اب ُم ِه ٌ‬ ‫ك لَ ُه ْم َع َذ ٌ‬ ‫بِآيَاتِنَا فَأُولَئِ َ‬
‫ْك يَػ ْوَمئِ ٍذ } أي‪ :‬يوـ القيامة { لِلَّ ِو } تعالى‪ ،‬ال لغيره‪ { ،‬يَ ْح ُك ُم بَػ ْيػنَػ ُه ْم } بحكمو العدؿ‪ ،‬وقضائو‬ ‫{ ال ُْمل ُ‬
‫ات } ليصدقوا بذلك إيمانهم { فِي‬ ‫الصالِح ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫آمنُوا } باهلل ورسلو‪ ،‬وما جاءوا بو { َو َعملُوا َّ َ‬ ‫ين َ‬ ‫الفصل‪ { ،‬فَالذ َ‬
‫يم } نعيم القلب والروح والبدف‪ ،‬مما ال يصفو الواصفوف‪ ،‬وال تدركو العقوؿ‪.‬‬ ‫َّات الن َِّع ِ‬
‫جن ِ‬
‫َ‬
‫ك‬‫ين َك َف ُروا } باهلل ورسلو وكذبوا بآياتو الهادية للحق والصواب فأعرضوا عنها‪ ،‬أو عاندوىا‪ { ،‬فَأُولَئِ َ‬ ‫َّ ِ‬
‫{ َوالذ َ‬
‫ين } لهم‪ ،‬من شدتو‪ ،‬وألمو‪ ،‬وبلوغو لؤلفئدة كما استهانوا برسلو وآياتو‪ ،‬أىانهم اهلل بالعذاب‪.‬‬ ‫اب ُم ِه ٌ‬ ‫لَ ُه ْم َع َذ ٌ‬
‫يل اللَّ ِو ثُ َّم قُتِلُوا أَو ماتُوا لَيػرُزقَػنػَّهم اللَّوُ ِرْزقًا حسنًا وإِ َّف اللَّوَ لَهو َخيػر َّ ِ‬
‫اج ُروا فِي َسبِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين (‪)58‬‬ ‫الرا ِزق َ‬ ‫َُ ْ ُ‬ ‫ََ َ‬ ‫ْ َ َْ ُ ُ‬ ‫ين َى َ‬ ‫َوالذ َ‬
‫يم (‪)59‬‬ ‫ضونَو وإِ َّف اللَّو لَعلِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم َحل ٌ‬
‫َ َ ٌ‬ ‫َّه ْم ُم ْد َخ ًبل يَػ ْر َ ْ ُ َ‬ ‫لَيُ ْدخلَنػ ُ‬

‫سنًا َوإِ َّف اللَّوَ لَ ُه َو‬ ‫يل اللَّ ِو ثُ َّم قُتِلُوا أ َْو َماتُوا لَيَػ ْرُزقَػنػ ُ َّ‬
‫اج ُروا فِي َسبِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َّه ُم اللوُ ِرْزقًا َح َ‬ ‫ين َى َ‬ ‫{ ‪َ { } 59 - 58‬والذ َ‬
‫ضونَو وإِ َّف اللَّو لَعلِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َخيػر َّ ِ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫يم َحل ٌ‬ ‫َ َ ٌ‬ ‫َّه ْم ُم ْد َخبل يَػ ْر َ ْ ُ َ‬ ‫الرا ِزق َ‬
‫ين * لَيُ ْدخلَنػ ُ‬ ‫ُْ‬
‫ىذه بشارة كبرى‪ ،‬لمن ىاجر في سبيل اهلل‪ ،‬فخرج من داره ووطنو وأوالده ومالو‪ ،‬ابتغاء وجو اهلل‪ ،‬ونصرة‬
‫لدين اهلل‪ ،‬فهذا قد وجب أجره على اهلل‪ ،‬سواء مات على فراشو‪ ،‬أو قتل مجاىدا في سبيل اهلل‪{ ،‬‬
‫لَيَػ ْرُزقَػنػ ُ َّ‬
‫َّه ُم اللوُ ِرْزقًا َح َ‬
‫سنًا } في البرزخ‪ ،‬وفي يوـ القيامة بدخوؿ الجنة الجامعة للروح والريحاف‪ ،‬والحسن‬

‫‪25‬‬
‫واإلحساف‪ ،‬ونعيم القلب والبدف‪ ،‬ويحتمل أف المعنى (‪ )1‬أف المهاجر في سبيل اهلل‪ ،‬قد تكفل برزقو في‬
‫الدنيا‪ ،‬رزقا واسعا حسنا‪ ،‬سواء علم اهلل منو أنو يموت على فراشو‪ ،‬أو يقتل شهيدا‪ ،‬فكلهم مضموف لو‬
‫الرزؽ‪ ،‬فبل يتوىم أنو إذا خرج من دياره وأموالو‪ ،‬سيفتقر ويحتاج‪ ،‬فإف رازقو ىو خير الرازقين‪ ،‬وقد وقع كما‬
‫أخبر‪ ،‬فإف المهاجرين السابقين‪ ،‬تركوا ديارىم وأبناءىم وأموالهم‪ ،‬نصرة لدين اهلل‪ ،‬فلم يلبثوا إال يسيرا‪،‬‬
‫حتى فتح اهلل عليهم الببلد‪ ،‬ومكنهم من العباد فاجتبوا من أموالها‪ ،‬ما كانوا بو من أغنى الناس‪ ،‬ويكوف على‬
‫ض ْونَوُ } إما ما يفتحو اهلل عليهم من البلداف‪ ،‬خصوصا فتح مكة‬
‫َّه ْم ُم ْد َخبل يَػ ْر َ‬ ‫ِ‬
‫ىذا القوؿ‪ ،‬قولو‪ { :‬لَيُ ْدخلَنػ ُ‬
‫المشرفة‪ ،‬فإنهم دخلوىا في حالة الرضا والسرور‪ ،‬وإما المراد بو رزؽ اآلخرة‪ ،‬وأف ذلك دخوؿ الجنة‪،‬‬
‫فتكوف اآلية جمعت بين الرزقين‪ ،‬رزؽ الدنيا‪ ،‬ورزؽ اآلخرة‪ ،‬واللفظ صالح لذلك كلو‪ ،‬والمعنى صحيح‪ ،‬فبل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم } يعصيو‬ ‫مانع من إرادة الجميع { َوإِ َّف اللَّوَ لَ َعل ٌ‬
‫يم } باألمور‪ ،‬ظاىرىا‪ ،‬وباطنها‪ ،‬متقدمها‪ ،‬ومتأخرىا‪َ { ،‬حل ٌ‬
‫الخبلئق‪ ،‬ويبارزونو بالعظائم‪ ،‬وىو ال يعاجلهم بالعقوبة مع كماؿ اقتداره‪ ،‬بل يواصل لهم رزقو‪ ،‬ويسدي‬
‫إليهم فضلو‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ك ومن َعاقَب بِ ِمثْ ِل ما عُوقِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ب بِو ثُ َّم بُغ َي َعلَْيو لَيَػ ْن ُ‬
‫ص َرنَّوُ اللَّوُ إِ َّف اللَّوَ لَ َع ُف ّّو غَ ُف ٌ‬
‫ور (‪)60‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ذَل َ َ َ ْ‬

‫ِ‬ ‫ك ومن َعاقَب بِ ِمثْ ِل ما عُوقِ ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫ب بِو ثُ َّم بُغ َي َعلَْيو لَيَػ ْن ُ‬
‫ص َرنَّوُ اللَّوُ إِ َّف اللَّوَ لَ َع ُف ّّو غَ ُف ٌ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫{ ‪ { } 60‬ذَل َ َ َ ْ‬
‫ذلك بأف من جني عليو وظلم‪ ،‬فإنو يجوز لو مقابلة الجاني بمثل جنايتو‪ ،‬فإف فعل ذلك‪ ،‬فليس عليو سبيل‪،‬‬
‫وليس بملوـ‪ ،‬فإف بغي عليو بعد ىذا‪ ،‬فإف اهلل ينصره‪ ،‬ألنو مظلوـ‪ ،‬فبل يجوز أف يبغي عليو‪ ،‬بسبب أنو‬
‫استوفى حقو‪ ،‬وإذا كاف المجازي غيره‪ ،‬بإساءتو إذا ظلم بعد ذلك‪ ،‬نصره اهلل‪ ،‬فالذي باألصل لم يعاقب‬
‫أحدا إذا ظلم وجني عليو‪ ،‬فالنصر إليو أقرب‪.‬‬
‫{ إِ َّف اللَّوَ لَ َع ُف ّّو غَ ُف ٌ‬
‫ور } أي‪ :‬يعفو عن المذنبين‪ ،‬فبل يعاجلهم بالعقوبة‪ ،‬ويغفر ذنوبهم فيزيلها‪ ،‬ويزيل آثارىا‬
‫عنهم‪ ،‬فاهلل ىذا وصفو المستقر البلزـ الذاتي‪ ،‬ومعاملتو لعباده في جميع األوقات بالعفو والمغفرة‪ ،‬فينبغي‬
‫لكم أيها المظلوموف المجني عليهم‪ ،‬أف تعفوا وتصفحوا وتغفروا ليعاملكم اهلل كما تعاملوف عباده { فَ َم ْن‬
‫َج ُرهُ َعلَى اللَّ ِو }‬
‫َصلَ َح فَأ ْ‬
‫َع َفا َوأ ْ‬

‫‪26‬‬
‫ص ٌير (‪َ )61‬ذلِ َ‬
‫ك بِأ َّ‬
‫َف اللَّوَ ُى َو‬ ‫يع ب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ار فِي اللَّْي ِل َوأ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َذلِ َ‬
‫ك بِأ َّ‬
‫َف اللَّوَ َسم ٌ َ‬ ‫َّه َ‬ ‫َف اللَّوَ يُول ُج اللَّْي َل في النػ َ‬
‫َّها ِر َويُول ُج النػ َ‬
‫َف اللَّوَ ُى َو ال َْعلِ ُّي الْ َكبِ ُير (‪)62‬‬ ‫َف ما ي ْدعُو َف ِمن ُدونِِو ىو الْب ِ‬
‫اط ُل َوأ َّ‬‫َُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْح ُّق َوأ َّ َ َ‬‫ال َ‬

‫ص ٌير * ذَلِ َ‬ ‫يع ب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ار فِي اللَّْي ِل َوأ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك بِأ َّ‬‫{ ‪ { } 62 - 61‬ذَلِ َ‬
‫ك‬ ‫َف اللَّوَ َسم ٌ َ‬ ‫َّها ِر َويُول ُج النػ َ‬
‫َّه َ‬ ‫َف اللَّوَ يُول ُج اللَّْي َل في النػ َ‬
‫َف اللَّوَ ُى َو ال َْعلِ ُّي الْ َكبِ ُير } ‪.‬‬ ‫َف ما ي ْدعُو َف ِمن ُدونِِو ىو الْب ِ‬ ‫بِأ َّ‬
‫اط ُل َوأ َّ‬ ‫َُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْح ُّق َوأ َّ َ َ‬‫َف اللَّوَ ُى َو ال َ‬
‫ذلك الذي شرع لكم تلك األحكاـ الحسنة العادلة‪ ،‬ىو حسن التصرؼ‪ ،‬في تقديره وتدبيره‪ ،‬الذي { يُولِ ُج‬
‫ِ‬
‫َّها ِر } أي‪ :‬يدخل ىذا على ىذا‪ ،‬وىذا على ىذا‪ ،‬فيأتي بالليل بعد النهار‪ ،‬وبالنهار بعد الليل‪،‬‬ ‫اللَّْي َل في النػ َ‬
‫ويزيد في أحدىما ما ينقصو في اآلخر‪ ،‬ثم بالعكس‪ ،‬فيترتب على ذلك‪ ،‬قياـ الفصوؿ‪ ،‬ومصالح الليل‬
‫َف اللَّوَ َس ِم ٌ‬
‫يع‬ ‫والنهار‪ ،‬والشمس والقمر‪ ،‬التي ىي من أجل نعمو على العباد‪ ،‬وىي من الضروريات لهم‪َ { .‬وأ َّ‬
‫ص ٌير } يرى دبيب النملة‬ ‫} يسمع ضجيج األصوات‪ ،‬باختبلؼ‪ ،‬اللغات‪ ،‬على تفنن الحاجات‪ { ،‬ب ِ‬
‫َ‬
‫َس َّر الْ َق ْو َؿ َوَم ْن َج َه َر بِ ِو َوَم ْن ُى َو‬ ‫ِ‬
‫السوداء‪ ،‬تحت الصخرة الصماء‪ ،‬في الليلة الظلماء { َس َواءٌ م ْن ُك ْم َم ْن أ َ‬
‫َّها ِر }‬‫ب بِالنػ َ‬ ‫مستَ ْخ ٍ‬
‫ف بِاللَّْي ِل َو َسا ِر ٌ‬ ‫ُْ‬
‫[ ص ‪] 544‬‬
‫ْح ُّق } أي‪ :‬الثابت‪ ،‬الذي ال يزاؿ وال يزوؿ‪ ،‬األوؿ‬ ‫ك } صاحب الحكم واألحكاـ { بِأ َّ‬
‫َف اللَّوَ ُى َو ال َ‬ ‫{ ذَلِ َ‬
‫الذي ليس قبلو شيء‪ ،‬اآلخر الذي ليس بعده شيء‪ ،‬كامل األسماء والصفات‪ ،‬صادؽ الوعد‪ ،‬الذي وعده‬
‫حق ولقاؤه حق‪ ،‬ودينو حق‪ ،‬وعبادتو ىي الحق‪ ،‬النافعة الباقية على الدواـ‪.‬‬
‫َف ما ي ْدعُو َف ِمن ُدونِِو } من األصناـ واألنداد‪ ،‬من الحيوانات والجمادات‪ { ،‬ىو الْب ِ‬
‫اط ُل } الذي‪ ،‬ىو‬ ‫َُ َ‬ ‫ْ‬ ‫{ َوأ َّ َ َ‬
‫َف اللَّوَ ُى َو‬
‫باطل في نفسو‪ ،‬وعبادتو باطلة‪ ،‬ألنها متعلقة بمضمحل فاف‪ ،‬فتبطل تبعا لغايتها ومقصودىا‪َ { ،‬وأ َّ‬
‫ال َْعلِ ُّي الْ َكبِ ُير } العلي في ذاتو‪ ،‬فهو عاؿ على جميع المخلوقات وفي قدره‪ ،‬فهو كامل الصفات‪ ،‬وفي قهره‬
‫لجميع المخلوقات‪ ،‬الكبير في ذاتو‪ ،‬وفي أسمائو‪ ،‬وفي صفاتو‪ ،‬الذي من عظمتو وكبريائو‪ ،‬أف األرض‬
‫قبضتو يوـ القيامة‪ ،‬والسماوات مطويات بيمينو‪ ،‬ومن كبريائو‪ ،‬أف كرسيو وسع السماوات واألرض‪ ،‬ومن‬
‫عظمتو وكبريائو‪ ،‬أف نواصي العباد بيده‪ ،‬فبل يتصرفوف إال بمشيئتو‪ ،‬وال يتحركوف ويسكنوف إال بإرادتو‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫وحقيقة الكبرياء التي ال يعلمها إال ىو‪ ،‬ال ملك مقرب‪ ،‬وال نبي مرسل‪ ،‬أنها كل صفة كماؿ وجبلؿ وكبرياء‬
‫وعظمة‪ ،‬فهي ثابتة لو‪ ،‬ولو من تلك الصفة أجلها وأكملها‪ ،‬ومن كبريائو‪ ،‬أف العبادات كلها‪ ،‬الصادرة من‬
‫أىل السماوات واألرض‪ ،‬كلها المقصود منها‪ ،‬تكبيره وتعظيمو‪ ،‬وإجبللو وإكرامو‪ ،‬ولهذا كاف التكبير شعارا‬
‫للعبادات الكبار‪ ،‬كالصبلة وغيرىا‪.‬‬
‫السماو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض َّرةً إِ َّف اللَّوَ لَ ِط ٌ ِ‬ ‫َف اللَّو أَنْػز َؿ ِمن َّ ِ‬
‫ات‬ ‫يف َخب ٌير (‪ )63‬لَوُ َما في َّ َ َ‬ ‫صبِ ُح ْاأل َْر ُ‬
‫ض ُم ْخ َ‬ ‫اء فَػتُ ْ‬
‫الس َماء َم ً‬ ‫أَلَ ْم تَػ َر أ َّ َ َ َ‬
‫ْح ِمي ُد (‪)64‬‬ ‫ِ‬ ‫َوَما فِي ْاأل َْر ِ‬
‫ض َوإِ َّف اللَّوَ لَ ُه َو الْغَن ُّي ال َ‬

‫ض َّرًة إِ َّف اللَّوَ لَ ِط ٌ‬


‫يف َخبِ ٌير * لَوُ َما‬ ‫َف اللَّو أَنْػز َؿ ِمن َّ ِ‬
‫ض ُم ْخ َ‬ ‫صبِ ُح ْ‬
‫األر ُ‬ ‫اء فَػتُ ْ‬
‫الس َماء َم ً‬ ‫{ ‪ { } 64 - 63‬أَلَ ْم تَػ َر أ َّ َ َ َ‬
‫ْح ِمي ُد } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فِي َّ ِ‬
‫ض َوإِ َّف اللَّوَ لَ ُه َو الْغَن ُّي ال َ‬
‫األر ِ‬
‫الس َم َاوات َوَما في ْ‬
‫ىذا حث منو تعالى‪ ،‬وترغيب في النظر بآياتو الداالت على وحدانيتو‪ ،‬وكمالو فقاؿ‪ { :‬أَلَ ْم تَػ َر } أي‪ :‬ألم‬
‫َنزؿ ِمن َّ ِ‬
‫اء } وىو‪ :‬المطر‪ ،‬فينزؿ على أرض خاشعة مجدبة‪،‬‬ ‫الس َماء َم ً‬ ‫َف اللَّوَ أ َ َ‬
‫تشاىد ببصرؾ وبصيرتك { أ َّ‬
‫قد اغبرت أرجاؤىا‪ ،‬ويبس ما فيها‪ ،‬من شجر ونبات‪ ،‬فتصبح مخضرة قد اكتست من كل زوج كريم‪ ،‬وصار‬
‫لها بذلك منظر بهيج‪ ،‬إف الذي أحياىا بعد موتها وىمودىا لمحيي الموتى بعد أف كانوا رميما‪.‬‬
‫{ إِ َّف اللَّوَ لَ ِط ٌ‬
‫يف َخبِ ٌير } اللطيف الذي يدرؾ بواطن األشياء‪ ،‬وخفياتها‪ ،‬وسرائرىا‪ ،‬الذي يسوؽ إلى عبده‬
‫الخير‪ ،‬ويدفع عنو الشر (‪ )1‬بطرؽ لطيفة تخفى على العباد‪ ،‬ومن لطفو‪ ،‬أنو يري عبده‪ ،‬عزتو في انتقامو‬
‫وكماؿ اقتداره‪ ،‬ثم يظهر لطفو بعد أف أشرؼ العبد على الهبلؾ‪ ،‬ومن لطفو‪ ،‬أنو يعلم مواقع القطر من‬
‫األرض‪ ،‬وبذور األرض في باطنها‪ ،‬فيسوؽ ذلك الماء إلى ذلك البذر‪ ،‬الذي خفي على علم الخبلئق‬
‫فينبت منو أنواع النبات‪َ { ،‬خبِ ٌير } بسرائر األمور‪ ،‬وخبايا الصدور‪ ،‬وخفايا األمور‪.‬‬
‫ض } خلقا وعبيدا‪ ،‬يتصرؼ فيهم بملكو وحكمتو وكماؿ اقتداره‪ ،‬ليس‬ ‫األر ِ‬ ‫{ لَوُ ما فِي َّ ِ‬
‫الس َم َاوات وما في ْ‬ ‫َ‬
‫ألحد غيره من األمر شيء‪.‬‬
‫{ َوإِ َّف اللَّوَ لَ ُه َو الْغَنِ ُّي } بذاتو الذي لو الغنى المطلق التاـ‪ ،‬من جميع الوجوه‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أنو ال يحتاج إلى‬
‫أحد من خلقو‪ ،‬وال يواليهم من ذلة‪ ،‬وال يتكثر بهم من قلة‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أنو ما اتخذ صاحبة وال ولدا‪ ،‬ومن‬
‫غناه‪ ،‬أنو صمد‪ ،‬ال يأكل وال يشرب‪ ،‬وال يحتاج إلى ما يحتاج إليو الخلق بوجو من الوجوه‪ ،‬فهو يطعم وال‬

‫‪28‬‬
‫يطعم‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أف الخلق كلهم مفتقروف إليو‪ ،‬في إيجادىم‪ ،‬وإعدادىم وإمدادىم‪ ،‬وفي دينهم ودنياىم‪،‬‬
‫ومن غناه‪ ،‬أنو لو اجتمع من في السماوات ومن في األرض‪ ،‬األحياء منهم واألموات‪ ،‬في صعيد واحد‪،‬‬
‫فسأؿ كل منهم ما بلغت أمنيتو‪ ،‬فأعطاىم فوؽ أمانيهم‪ ،‬ما نقص ذلك من ملكو شيء‪ ،‬ومن غناه‪ ،‬أف يده‬
‫سحاء بالخير والبركات‪ ،‬الليل والنهار‪ ،‬لم يزؿ إفضالو على األنفاس‪ ،‬ومن غناه وكرمو‪ ،‬ما أودعو في دار‬
‫كرامتو‪ ،‬مما ال عين رأت‪ ،‬وال أذف سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب بشر‪.‬‬
‫يد } أي‪ :‬المحمود في ذاتو‪ ،‬وفي أسمائو‪ ،‬لكونها حسنى‪ ،‬وفي صفاتو‪ ،‬لكونها كلها صفات كماؿ‪،‬‬ ‫{ الْح ِم ِ‬
‫َ‬
‫وفي أفعالو‪ ،‬لكونها دائرة بين العدؿ واإلحساف والرحمة والحكمة وفي شرعو‪ ،‬لكونو ال يأمر إال بما فيو‬
‫مصلحة خالصة أو راجحة‪ ،‬وال ينهى إال عما فيو مفسدة خالصة أو راجحة‪ ،‬الذي لو الحمد‪ ،‬الذي يمؤل ما‬
‫في السماوات واألرض‪ ،‬وما بينهما‪ ،‬وما شاء بعدىا‪ ،‬الذي ال يحصي العباد ثناء على حمده‪ ،‬بل ىو كما‬
‫أثنى على نفسو‪ ،‬وفوؽ ما يثني عليو عباده‪ ،‬وىو المحمود على توفيق من يوفقو‪ ،‬وخذالف من يخذلو‪ ،‬وىو‬
‫الغني في حمده‪ ،‬الحميد في غناه‪.‬‬
‫اء أَ ْف تَػ َق َع َعلَى‬
‫الس َم َ‬
‫ك َّ‬ ‫ْك تَ ْج ِري فِي الْبَ ْح ِر بِأ َْم ِرهِ َويُ ْم ِس ُ‬ ‫َّر لَ ُك ْم َما فِي ْاأل َْر ِ‬
‫ض َوالْ ُفل َ‬ ‫أَلَ ْم تَػر أ َّ َّ‬
‫َف اللوَ َسخ َ‬ ‫َ‬
‫َحيَا ُك ْم ثُ َّم يُ ِميتُ ُك ْم ثُ َّم يُ ْحيِي ُك ْم إِ َّف ِْ‬ ‫ِ‬ ‫َّاس لَرء ٌ ِ‬ ‫ْاألَر ِ ِ ِِ‬
‫سا َف‬
‫اإلنْ َ‬ ‫يم (‪َ )65‬و ُى َو الَّذي أ ْ‬ ‫وؼ َرح ٌ‬
‫ِ‬
‫ض إَِّال بِإ ْذنو إِ َّف اللَّوَ بالن ِ َ ُ‬ ‫ْ‬
‫ور ( ‪)66‬‬ ‫لَ َك ُف ٌ‬

‫اء‬
‫الس َم َ‬
‫ك َّ‬ ‫ْك تَ ْج ِري فِي الْبَ ْح ِر بِأ َْم ِرهِ َويُ ْم ِس ُ‬ ‫ض َوالْ ُفل َ‬‫األر ِ‬ ‫ِ‬
‫َّر لَ ُك ْم َما في ْ‬ ‫{ ‪ { } 66 - 65‬أَلَ ْم تَػر أ َّ َّ‬
‫َف اللوَ َسخ َ‬ ‫َ‬
‫َحيَا ُك ْم ثُ َّم يُ ِميتُ ُك ْم ثُ َّم يُ ْحيِي ُك ْم إِ َّف‬ ‫ِ‬ ‫َّاس لَرء ٌ ِ‬ ‫أَ ْف تَػ َقع َعلَى األر ِ ِ ِِ‬
‫يم * َو ُى َو الَّذي أ ْ‬
‫وؼ َرح ٌ‬
‫ِ‬
‫ض إِال بِإ ْذنو إِ َّف اللَّوَ بالن ِ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ور } ‪.‬‬
‫سا َف لَ َك ُف ٌ‬
‫اإلنْ َ‬
‫ض}‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫أي‪ :‬ألم تشاىد ببصرؾ وقلبك نعمة ربك السابغة‪ ،‬وأياديو الواسعة‪ ،‬و { أ َّ َّ‬
‫َّر لَ ُك ْم َما في ْ‬ ‫َف اللوَ َسخ َ‬
‫من حيوانات‪ ،‬ونبات‪ ،‬وجمادات‪ ،‬فجميع ما في األرض‪ ،‬مسخر لبني آدـ‪ ،‬حيواناتها‪ ،‬لركوبو‪ ،‬وحملو‪،‬‬
‫وأعمالو‪ ،‬وأكلو‪ ،‬وأنواع انتفاعو‪ ،‬وأشجارىا‪ ،‬وثمارىا‪ ،‬يقتاتها‪ ،‬وقد سلط على غرسها واستغبللها‪ ،‬ومعادنها‪،‬‬
‫ْك } أي‪ :‬وسخر لكم الفلك‪ ،‬وىي السفن [ ص ‪ { ] 545‬تَ ْج ِري فِي‬ ‫يستخرجها‪ ،‬وينتفع بها‪َ { ،‬والْ ُفل َ‬
‫الْبَ ْح ِر بِأ َْم ِرهِ } تحملكم‪ ،‬وتحمل تجاراتكم‪ ،‬وتوصلكم من محل إلى محل‪ ،‬وتستخرجوف من البحر حلية‬

‫‪29‬‬
‫ض } فلوال رحمتو وقدرتو‪ ،‬لسقطت‬ ‫األر ِ‬
‫اء أَ ْف تَػ َق َع َعلَى ْ‬ ‫الس َم َ‬
‫ك َّ‬ ‫تلبسونها‪ ،‬ومن رحمتو بكم أنو { يُ ْم ِس ُ‬
‫ض أَ ْف تَػ ُزوال َولَئِ ْن‬
‫األر َ‬ ‫ك َّ ِ‬
‫الس َم َاوات َو ْ‬ ‫السماء على األرض‪ ،‬فتلف ما عليها‪ ،‬وىلك من فيها { إِ َّف اللَّوَ يُ ْم ِس ُ‬
‫ِ‬ ‫َزالَتا إِ ْف أَمس َكهما ِمن أ ٍ ِ ِ ِ‬
‫ورا } ‪.‬‬ ‫يما غَ ُف ً‬ ‫َحد م ْن بَػ ْعده إِنَّوُ َكا َف َحل ً‬ ‫ْ َ َُ ْ َ‬ ‫َ‬
‫َّاس لَرء ٌ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم } أرحم بهم من والديهم‪ ،‬ومن أنفسهم‪ ،‬ولهذا يريد لهم الخير‪ ،‬ويريدوف لها‬ ‫وؼ َرح ٌ‬ ‫{ إِ َّف اللَّوَ بالن ِ َ ُ‬
‫الشر والضر‪ ،‬ومن رحمتو‪ ،‬أف سخر لهم ما سخر من ىذه األشياء‪.‬‬
‫َحيَا ُك ْم } أوجدكم من العدـ { ثُ َّم يُ ِميتُ ُك ْم } بعد أف أحياكم‪ { ،‬ثُ َّم يُ ْحيِي ُك ْم } بعد موتكم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫{ َو ُى َو الَّذي أ ْ‬
‫ِ‬
‫ور }‬ ‫سا َف } أي‪ :‬جنسو‪ ،‬إال من عصمو اهلل { لَ َك ُف ٌ‬ ‫ليجازي المحسن بإحسانو‪ ،‬والمسيء بإساءتو‪ { ،‬إ َّف اإلنْ َ‬
‫لنعم اهلل‪ ،‬كفور باهلل‪ ،‬ال يعترؼ بإحسانو‪ ،‬بل ربما كفر بالبعث وقدرة ربو‪.‬‬
‫يم (‪)67‬‬ ‫ك لَ َعلَى ُى ًدى ُم ْستَ ِق ٍ‬
‫ك إِنَّ َ‬‫َّك فِي ْاأل َْم ِر َوا ْدعُ إِلَى َربّْ َ‬ ‫لِ ُك ّْل أ َُّم ٍة جعلْنَا م ْنس ًكا ُىم نَ ِ‬
‫اس ُكوهُ فَ َبل يُػنَا ِزعُن َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ َ‬
‫يما ُك ْنتُ ْم فِ ِيو تَ ْختَلِ ُفو َف (‪)69‬‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫وؾ فَػ ُق ِل اللَّوُ أَ ْعلَ ُم ب َما تَػ ْع َملُو َف (‪ )68‬اللَّوُ يَ ْح ُك ُم بَػ ْيػنَ ُك ْم يَػ ْوَـ الْقيَ َامة ف َ‬
‫ادلُ َ‬‫َوإِ ْف َج َ‬
‫ك َعلَى اللَّ ِو يَ ِس ٌير (‪)70‬‬ ‫اب إِ َّف ذَلِ َ‬‫ك فِي كِتَ ٍ‬ ‫ض إِ َّف ذَلِ َ‬‫الس َم ِاء َو ْاأل َْر ِ‬
‫َف اللَّوَ يَػ ْعلَ ُم َما فِي َّ‬
‫أَلَ ْم تَػ ْعلَ ْم أ َّ‬

‫ك لَ َعلَى‬ ‫ك إِنَّ َ‬‫األم ِر َوا ْدعُ إِلَى َربّْ َ‬ ‫اس ُكوهُ فَبل يػنَا ِزعُن َ ِ‬ ‫{ ‪ { } 70 - 67‬لِ ُك ّْل أ َُّم ٍة جعلْنَا م ْنس ًكا ُىم نَ ِ‬
‫َّك في ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ َ‬
‫يما ُك ْنتُ ْم فِ ِيو‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫وؾ فَػ ُق ِل اللَّوُ أَ ْعلَ ُم ب َما تَػ ْع َملُو َف * اللَّوُ يَ ْح ُك ُم بَػ ْيػنَ ُك ْم يَػ ْوَـ الْقيَ َامة ف َ‬ ‫ُى ًدى ُم ْستَ ِق ٍ‬
‫يم * َوإِ ْف َج َ‬
‫ادلُ َ‬
‫َف اللَّو يػعلَم ما فِي َّ ِ‬
‫ك َعلَى اللَّ ِو يَ ِس ٌير } ‪.‬‬ ‫اب إِ َّف ذَلِ َ‬
‫ك فِي كِتَ ٍ‬ ‫ض إِ َّف ذَلِ َ‬
‫األر ِ‬
‫الس َماء َو ْ‬
‫ِ‬
‫تَ ْختَل ُفو َف * أَلَ ْم تَػ ْعلَ ْم أ َّ َ َ ْ ُ َ‬
‫س ًكا } أي‪ :‬معبدا وعبادة‪ ،‬قد تختلف في بعض األمور‪ ،‬مع اتفاقها على‬ ‫يخبر تعالى أنو جعل لكل أمة { َم ْن َ‬
‫العدؿ والحكمة‪ ،‬كما قاؿ تعالى‪ { :‬لِ ُك ٍّل جعلْنا ِم ْن ُكم ِشرعةً وِم ْنػهاجا ولَو َشاء اللَّو لَجعلَ ُكم أ َُّمةً و ِ‬
‫اح َد ًة‬ ‫ْ ْ َ َ َ ً َ ْ َ ُ ََ ْ َ‬ ‫ََ َ‬
‫اس ُكوهُ } أي‪ :‬عاملوف عليو‪ ،‬بحسب أحوالهم‪ ،‬فبل اعتراض‬ ‫ولَ ِكن لِيبػلُوُكم فِي ما آتَا ُكم } اآلية‪ُ { ،‬ىم نَ ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َْ َ ْ َ‬
‫على شريعة من الشرائع‪ ،‬خصوصا من األميين‪ ،‬أىل الشرؾ والجهل المبين‪ ،‬فإنو إذا ثبتت رسالة الرسوؿ‬
‫بأدلتها‪ ،‬وجب أف يتلقى جميع ما جاء بو بالقبوؿ والتسليم‪ ،‬وترؾ االعتراض‪ ،‬ولهذا قاؿ‪ { :‬فَبل يُػنَا ِزعُن َ‬
‫َّك‬
‫األم ِر } أي‪ :‬ال ينازعك المكذبوف لك‪ ،‬ويعترضوف على بعض ما جئتهم بو‪ ،‬بعقولهم الفاسدة‪ ،‬مثل‬ ‫ِ‬
‫في ْ‬
‫منازعتهم في حل الميتة‪ ،‬بقياسهم الفاسد‪ ،‬يقولوف‪ " :‬تأكلوف ما قتلتم‪ ،‬وال تأكلوف ما قتل اهلل " وكقولهم {‬
‫الربَا } ونحو ذلك من اعتراضاتهم‪ ،‬التي ال يلزـ الجواب عن أعيانها‪ ،‬وىم منكروف ألصل‬ ‫إِنَّ َما الْبَػ ْي ُع ِمثْ ُل ّْ‬

‫‪30‬‬
‫الرسالة‪ ،‬وليس فيها مجادلة ومحاجة بانفرادىا‪ ،‬بل لكل مقاـ مقاؿ‪ ،‬فصاحب ىذا االعتراض‪ ،‬المنكر‬
‫لرسالة الرسوؿ‪ ،‬إذا زعم أنو يجادؿ ليسترشد‪ ،‬يقاؿ لو‪ :‬الكبلـ معك في إثبات الرسالة وعدمها‪ ،‬وإال‬
‫فاالقتصار على ىذه‪ ،‬دليل أف مقصوده التعنت والتعجيز‪ ،‬ولهذا أمر اهلل رسولو أف يدعو إلى ربو بالحكمة‬
‫والموعظة الحسنة‪ ،‬ويمضي على ذلك‪ ،‬سواء اعترض المعترضوف أـ ال وأنو ال ينبغي أف يثنيك عن الدعوة‬
‫يم } أي‪ :‬معتدؿ موصل للمقصود‪ ،‬متضمن علم الحق والعمل بو‪ ،‬فأنت‬ ‫شيء‪ ،‬ألنك { على ُى ًدى ُم ْستَ ِق ٍ‬
‫على ثقة من أمرؾ‪ ،‬ويقين من دينك‪ ،‬فيوجب ذلك لك الصبلبة والمضي لما أمرؾ بو ربك‪ ،‬ولست على‬
‫أمر مشكوؾ فيو‪ ،‬أو حديث مفترى‪ ،‬فتقف مع الناس ومع أىوائهم‪ ،‬وآرائهم‪ ،‬ويوقفك اعتراضهم‪ ،‬ونظير‬
‫ك لَ َعلَى ُى ًدى ُم ْستَ ِق ٍ‬
‫يم }‬ ‫ْح ّْق ال ُْمبِي ِن } مع أف في قولو‪ { :‬إِنَّ َ‬ ‫ىذا قولو تعالى‪ { :‬فَػتَػ َوَّك ْل َعلَى اللَّ ِو إِنَّ َ‬
‫ك َعلَى ال َ‬
‫إرشاد ألجوبة المعترضين على جزئيات الشرع‪ ،‬بالعقل الصحيح‪ ،‬فإف الهدى وصف لكل ما جاء بو‬
‫الرسوؿ‪ ،‬والهدى‪ :‬ما تحصل بو الهداية‪ ،‬من مسائل األصوؿ والفروع‪ ،‬وىي المسائل التي يعرؼ حسنها‬
‫وعدلها وحكمتها بالعقل والفطرة السليمة‪ ،‬وىذا يعرؼ بتدبر تفاصيل المأمورات والمنهيات‪.‬‬
‫وؾ فَػ ُق ِل اللَّوُ أَ ْعلَ ُم بِ َما تَػ ْع َملُو َف }‬ ‫ولهذا أمره اهلل بالعدوؿ عن جدالهم في ىذه الحالة‪ ،‬فقاؿ‪َ { :‬وإِ ْف َج َ‬
‫ادلُ َ‬
‫أي‪ :‬ىو عالم بمقاصدكم ونياتكم‪ ،‬فمجازيكم عليها في يوـ القيامة الذي يحكم اهلل بينكم فيما كنتم فيو‬
‫تختلفوف‪ ،‬فمن وافق الصراط المستقيم‪ ،‬فهو من أىل النعيم‪ ،‬ومن زاغ عنو‪ ،‬فهو من أىل الجحيم‪ ،‬ومن‬
‫َف اللَّوَ يَػ ْعلَ ُم‬
‫تماـ حكمو‪ ،‬أف يكوف حكما بعلم‪ ،‬فلذلك ذكر إحاطة علمو‪ ،‬وإحاطة كتابو فقاؿ‪ { :‬أَلَ ْم تَػ ْعلَ ْم أ َّ‬
‫ض } ال يخفى عليو منها خافية‪ ،‬من ظواىر األمور وبواطنها‪ ،‬خفيها وجليها‪ ،‬متقدمها‬ ‫األر ِ‬ ‫ما فِي َّ ِ‬
‫الس َماء َو ْ‬ ‫َ‬
‫ومتأخرىا‪ ،‬أف ذلك العلم المحيط بما في السماء واألرض قد أثبتو اهلل في كتاب‪ ،‬وىو اللوح المحفوظ‪،‬‬
‫حين خلق اهلل القلم‪ ،‬قاؿ لو‪ " :‬اكتب " قاؿ‪ :‬ما أكتب؟ قاؿ‪ " :‬اكتب ما ىو كائن إلى يوـ القيامة‬
‫{ إِ َّف َذلِ َ‬
‫ك َعلَى اللَّ ِو يَ ِس ٌير } وإف كاف تصوره عندكم ال يحاط بو‪ ،‬فاهلل تعالى يسير عليو أف يحيط علما‬
‫بجميع األشياء‪ ،‬وأف يكتب ذلك في كتاب مطابق للواقع‪.‬‬
‫صي ٍر (‪َ )71‬وإِذَا تُػ ْتػلَى‬ ‫وف اللَّ ِو ما لَم يػنَػ ّْز ْؿ بِ ِو س ْلطَانًا وما لَْيس لَ ُهم بِ ِو ِعلْم وما لِلظَّالِ ِمين ِمن نَ ِ‬
‫ويػ ْعب ُدو َف ِمن ُد ِ‬
‫َ ْ‬ ‫ٌ ََ‬ ‫ََ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ْ‬ ‫ََ ُ‬
‫ين يَػ ْتػلُو َف َعلَْي ِه ْم آيَاتِنَا قُ ْل‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ات تَػ ْع ِر ُ ِ‬
‫َعلَْي ِهم آياتُػنَا بػيّْػنَ ٍ‬
‫ادو َف يَ ْسطُو َف بالذ َ‬
‫ين َك َف ُروا ال ُْم ْن َك َر يَ َك ُ‬
‫ؼ في ُو ُجوه الذ َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ش ٍّر ِمن ذَلِ ُكم النَّار و َع َد َىا اللَّوُ الَّ ِذين َك َفروا وبِْئس الْم ِ‬
‫ص ُير (‪)72‬‬ ‫َ ُ َ َ َ‬ ‫ُ َُ‬ ‫أَفَأُنَػبّْئُ ُك ْم بِ َ ْ‬

‫‪31‬‬
‫ين ِم ْن‬ ‫ِ ِِ‬
‫ْم َوَما للظَّالم َ‬
‫ِِ ِ‬
‫س لَ ُه ْم بو عل ٌ‬
‫ِِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫{ ‪َ { } 72 - 71‬ويَػ ْعبُ ُدو َف م ْن ُدوف اللو َما لَ ْم يُػنَػ ّْز ْؿ بو ُس ْلطَانًا َوَما لَْي َ‬
‫ين يَػ ْتػلُو َف‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ات تَػ ْع ِر ُ ِ‬
‫صي ٍر * وإِذَا تُػ ْتػلَى َعلَْي ِهم آياتُػنَا بػيّْػنَ ٍ‬ ‫نَ ِ‬
‫ادو َف يَ ْسطُو َف بالذ َ‬
‫ين َك َف ُروا ال ُْم ْن َك َر يَ َك ُ‬
‫ؼ في ُو ُجوه الذ َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫ش ٍّر ِمن ذَلِ ُكم النَّار و َع َد َىا اللَّوُ الَّ ِذين َك َفروا وبِْئس الْم ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ُير } ‪.‬‬ ‫َ ُ َ َ َ‬ ‫ُ َُ‬ ‫َعلَْي ِه ْم آيَاتنَا قُ ْل أَفَأُنَػبّْئُ ُك ْم بِ َ ْ‬
‫يذكر تعالى حالة المشركين بو‪ ،‬العادلين بو غيره‪ ،‬وأف حالهم أقبح الحاالت‪ ،‬وأنو ال مستند لهم على ما‬
‫فعلوه‪ ،‬فليس لهم بو علم‪ ،‬وإنما ىو تقليد تلقوه عن آبائهم الضالين‪ ،‬وقد يكوف اإلنساف ال علم عنده بما‬
‫فعلو‪ ،‬وىو ‪-‬في نفس األمر‪ -‬لو حجة ما علمها‪ ،‬فأخبر ىنا‪ ،‬أف اهلل لم ينزؿ في ذلك سلطانا‪ ،‬أي‪ :‬حجة‬
‫تدؿ علي وتجوزه‪ ،‬بل قد أنزؿ البراىين القاطعة على فساده وبطبلنو‪ ،‬ثم توعد الظالمين منهم المعاندين‬
‫صي ٍر } ينصرىم من عذاب اهلل إذا نزؿ بهم وحل‪ .‬وىل لهؤالء الذين ال‬‫للحق فقاؿ‪ { :‬وما لِلظَّالِ ِمين ِمن نَ ِ‬
‫َ ْ‬ ‫ََ‬
‫علم لهم بما ىم عليو قصد في اتباع [ ص ‪ ] 546‬اآليات والهدى إذا جاءىم؟ أـ ىم راضوف بما ىم‬
‫عليو من الباطل؟ ذكر ذلك بقولو‪َ { :‬وإِذَا تُػ ْتػلَى َعلَْي ِه ْم آيَاتُػنَا } التي ىي آيات اهلل الجليلة‪ ،‬المستلزمة لبياف‬
‫ين َك َف ُروا ال ُْم ْن َك َر } من‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫الحق من الباطل‪ ،‬لم يلتفتوا إليها‪ ،‬ولم يرفعوا بها رأسا‪ ،‬بل { تَػ ْع ِر ُ ِ‬
‫ؼ في ُو ُجوه الذ َ‬
‫ين يَػ ْتػلُو َف َعلَْي ِه ْم آيَاتِنَا }‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ادو َف يَ ْسطُو َف بالذ َ‬
‫بغضها وكراىتها‪ ،‬ترى وجوىهم معبسة‪ ،‬وأبشارىم مكفهرة‪ { ،‬يَ َك ُ‬
‫أي‪ :‬يكادوف يوقعوف بهم القتل والضرب البليغ‪ ،‬من شدة بغضهم وبغض الحق وعداوتو‪ ،‬فهذه الحالة من‬
‫الكفار بئس الحالة‪ ،‬وشرىا بئس الشر‪ ،‬ولكن ثم ما ىو شر منها‪ ،‬حالتهم التي يؤولوف إليها‪ ،‬فلهذا قاؿ‪{ :‬‬
‫ش ٍّر ِمن ذَلِ ُكم النَّار و َع َد َىا اللَّوُ الَّ ِذين َك َفروا وبِْئس الْم ِ‬
‫ص ُير } فهذه شرىا طويل عريض‪،‬‬ ‫َ ُ َ َ َ‬ ‫ُ َُ‬ ‫قُ ْل أَفَأُنَػبّْئُ ُك ْم بِ َ ْ‬
‫ومكروىها وآالمها تزداد على الدواـ‪.‬‬
‫اجتَ َمعُوا لَوُ َوإِ ْف‬ ‫ض ِرب مثَل فَاستَ ِمعوا لَوُ إِ َّف الَّ ِذين تَ ْدعُو َف ِمن ُد ِ ِ‬
‫وف اللَّو لَ ْن يَ ْخلُ ُقوا ذُبَابًا َولَ ِو ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّاس ُ َ َ ٌ ْ ُ‬ ‫يَا أَيُّػ َها الن ُ‬
‫ِ‬ ‫ضع َ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫وب (‪َ )73‬ما قَ َد ُروا اللَّوَ َح َّق قَ ْد ِره إِ َّف اللَّوَ‬ ‫ف الطَّال ُ‬
‫ب َوال َْمطْلُ ُ‬ ‫اب َش ْيئًا َال يَ ْستَػ ْنق ُذوهُ م ْنوُ َ ُ‬ ‫يَ ْسلُْبػ ُه ُم ُّ‬
‫الذبَ ُ‬
‫ي َع ِز ٌيز (‪)74‬‬
‫لََق ِو ّّ‬

‫‪32‬‬
‫استَ ِمعوا لَوُ إِ َّف الَّ ِذين تَ ْدعُو َف ِمن ُد ِ‬
‫وف اللَّ ِو لَ ْن يَ ْخلُ ُقوا ذُبَابًا َولَ ِو‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب َمثَ ٌل فَ ْ ُ‬ ‫ض ِر َ‬
‫َّاس ُ‬‫{ ‪ { } 74 - 73‬يَا أَيُّػ َها الن ُ‬
‫ف الطَّالِب والْمطْلُوب * ما قَ َدروا اللَّو ح َّق قَ ْد ِرهِ‬
‫ُ َ َ ُ َ ُ َ َ‬ ‫ضعُ َ‬ ‫اب َش ْيئًا ال يَ ْستَػ ْن ِق ُذوهُ ِم ْنوُ َ‬ ‫اجتَ َمعُوا لَوُ َوإِ ْف يَ ْسلُْبػ ُه ُم ُّ‬
‫الذبَ ُ‬ ‫ْ‬
‫ي َع ِز ٌيز } ‪.‬‬‫إِ َّف اللَّوَ لََق ِو ّّ‬
‫ىذا مثل ضربو اهلل لقبح عبادة األوثاف‪ ،‬وبياف نقصاف عقوؿ من عبدىا‪ ،‬وضعف الجميع‪ ،‬فقاؿ‪ { :‬يَا أَيُّػ َها‬
‫َّاس } ىذا خطاب للمؤمنين والكفار‪ ،‬المؤمنوف يزدادوف علما وبصيرة‪ ،‬والكافروف تقوـ عليهم الحجة‪{ ،‬‬ ‫الن ُ‬
‫استَ ِمعُوا لَوُ } أي‪ :‬ألقوا إليو أسماعكم‪ ،‬وتفهموا ما احتوى عليو‪ ،‬وال يصادؼ منكم قلوبا‬ ‫ض ِر َ‬
‫ب َمثَ ٌل فَ ْ‬ ‫ُ‬
‫الىية‪ ،‬وأسماعا معرضة‪ ،‬بل ألقوا إليو القلوب واألسماع‪ ،‬وىو ىذا‪ { :‬إِ َّف الَّ ِذين تَ ْدعُو َف ِمن ُد ِ‬
‫وف اللَّ ِو }‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫شمل كل ما يدعى من دوف اهلل‪ { ،‬لَ ْن يَ ْخلُ ُقوا ذُبَابًا } الذي ىو من أحقر المخلوقات وأخسها‪ ،‬فليس في‬
‫قدرتهم خلق ىذا المخلوؽ الضعيف‪ ،‬فما فوقو من باب أولى‪َ { ،‬ولَ ِو ْ‬
‫اجتَ َمعُوا لَوُ } بل أبلغ من ذلك لو {‬
‫ضع َ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ف الطَّال ُ‬
‫ب } الذي ىو‬ ‫اب َش ْيئًا ال يَ ْستَػ ْنق ُذوهُ م ْنوُ } وىذا غاية ما يصير من العجز‪ُ َ { .‬‬ ‫يَ ْسلُْبػ ُه ُم ُّ‬
‫الذبَ ُ‬
‫وب } الذي ىو الذباب‪ ،‬فكل منهما ضعيف‪ ،‬وأضعف منهما‪ ،‬من يتعلق‬
‫المعبود من دوف اهلل { َوال َْمطْلُ ُ‬
‫بهذا الضعيف‪ ،‬وينزلو منزلة رب العالمين‪.‬‬
‫فهذا ما قدر { اللَّوَ َح َّق قَ ْد ِرهِ } حيث سوى الفقير العاجز من جميع الوجوه‪ ،‬بالغني القوي من جميع‬
‫الوجوه‪ ،‬سوى من ال يملك لنفسو‪ ،‬وال لغيره نفعا وال ضرا‪ ،‬وال موتا وال حياة وال نشورا‪ ،‬بمن ىو النافع‬
‫الضار‪ ،‬المعطي المانع‪ ،‬مالك الملك‪ ،‬والمتصرؼ فيو بجميع أنواع التصريف‪.‬‬
‫{ إِ َّف اللَّوَ لََق ِو ّّ‬
‫ي َع ِز ٌيز } أي‪ :‬كامل القوة‪ ،‬كامل العزة‪ ،‬من كماؿ قوتو وعزتو‪ ،‬أف نواصي الخلق بيديو‪ ،‬وأنو‬
‫ال يتحرؾ متحرؾ‪ ،‬وال يسكن ساكن‪ ،‬إال بإرادتو ومشيئتو‪ ،‬فما شاء اهلل كاف وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬ومن كماؿ‬
‫قوتو‪ ،‬أنو يمسك السماوات واألرض أف تزوال ومن كماؿ قوتو‪ ،‬أنو يبعث الخلق كلهم‪ ،‬أولهم وآخرىم‪،‬‬
‫بصيحة واحدة‪ ،‬ومن كماؿ قوتو‪ ،‬أنو أىلك الجبابرة واألمم العاتية‪ ،‬بشيء يسير‪ ،‬وسوط من عذابو‪.‬‬
‫ص ٌير (‪ )75‬يَػ ْعلَ ُم َما بَػ ْي َن أَيْ ِدي ِه ْم َوَما َخ ْل َف ُه ْم َوإِلَى‬
‫يع ب ِ‬ ‫ِ‬ ‫صطَِفي ِم َن ال َْم َبلئِ َك ِة ُر ُس ًبل َوِم َن الن ِ‬
‫َّاس إِ َّف اللَّوَ َسم ٌ َ‬ ‫اللَّوُ يَ ْ‬
‫ِ‬
‫ور (‪)76‬‬ ‫اللَّو تُػ ْر َج ُع ْاأل ُُم ُ‬

‫‪33‬‬
‫ص ٌير * يَػ ْعلَ ُم َما بَػ ْي َن أَيْ ِدي ِه ْم‬
‫يع ب ِ‬ ‫ِ‬ ‫صطَِفي ِم َن ال َْمبلئِ َك ِة ُر ُسبل َوِم َن الن ِ‬
‫َّاس إِ َّف اللَّوَ َسم ٌ َ‬ ‫{ ‪ { } 76 - 75‬اللَّوُ يَ ْ‬
‫ِ‬
‫ور } ‪.‬‬ ‫َوَما َخ ْل َف ُه ْم َوإِلَى اللَّو تُػ ْر َج ُع ُ‬
‫األم ُ‬
‫لما بين تعالى كمالو وضعف األصناـ‪ ،‬وأنو المعبود حقا‪ ،‬بين حالة الرسل‪ ،‬وتميزىم عن الخلق بما تميزوا بو‬
‫َّاس } أي‪ :‬يختار ويجتبي من المبلئكة رسبل‬ ‫صطَِفي ِم َن ال َْمبلئِ َك ِة ُر ُسبل َوِم َن الن ِ‬
‫من الفضائل فقاؿ‪ { :‬اللَّوُ يَ ْ‬
‫ومن الناس رسبل يكونوف أزكى ذلك النوع‪ ،‬وأجمعو لصفات المجد‪ ،‬وأحقو باالصطفاء‪ ،‬فالرسل ال يكونوف‬
‫إال صفوة الخلق على اإلطبلؽ‪ ،‬والذي اختارىم واصطفاىم (‪ )1‬ليس جاىبل بحقائق األشياء‪ ،‬أو يعلم شيئا‬
‫دوف شيء‪ ،‬وإنما المصطفى لهم‪ ،‬السميع‪ ،‬البصير‪ ،‬الذي قد أحاط علمو وسمعو وبصره بجميع األشياء‪،‬‬
‫ث‬‫فاختياره إياىم‪ ،‬عن علم منو‪ ،‬أنهم أىل لذلك‪ ،‬وأف الوحي يصلح فيهم كما قاؿ تعالى‪ { :‬اللَّوُ أَ ْعلَ ُم َح ْي ُ‬
‫يَ ْج َع ُل ِر َسالَتَوُ }‬
‫ِ‬
‫ور } أي‪ :‬ىو يرسل الرسل‪ ،‬يدعوف الناس إلى اهلل‪ ،‬فمنهم المجيب‪ ،‬ومنهم الراد‬ ‫{ َوإِلَى اللَّو تُػ ْر َج ُع ُ‬
‫األم ُ‬
‫لدعوتهم‪ ،‬ومنهم العامل‪ ،‬ومنهم الناكل‪ ،‬فهذا وظيفة الرسل‪ ،‬وأما الجزاء على تلك األعماؿ‪ ،‬فمصيرىا إلى‬
‫اهلل‪ ،‬فبل تعدـ منو فضبل أو عدال‪.‬‬
‫اى ُدوا فِي اللَّ ِو‬‫ْخيػر لَعلَّ ُكم تُػ ْفلِحو َف (‪ )77‬وج ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ََ‬ ‫اس ُج ُدوا َوا ْعبُ ُدوا َربَّ ُك ْم َوافْػ َعلُوا ال َ ْ َ َ ْ ُ‬ ‫آمنُوا ْارَكعُوا َو ْ‬
‫ين َ‬ ‫يَا أَيُّػ َها الذ َ‬
‫ين ِم ْن‬ ‫ِِ‬ ‫ِ َّ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َح َّق ِج َهاده ُى َو ْ‬
‫اجتَبَا ُك ْم َوَما َج َع َل َعلَْي ُك ْم في الدّْي ِن م ْن َح َر ٍج ملةَ أَبي ُك ْم إبْػ َراى َ‬
‫يم ُى َو َس َّما ُك ُم ال ُْم ْسلم َ‬
‫الص َبلةَ َوآتُوا َّ‬
‫الزَكاةَ‬ ‫يموا َّ‬ ‫وؿ َش ِهي ًدا َعلَي ُكم وتَ ُكونُوا ُشه َداء َعلَى الن ِ ِ‬
‫َّاس فَأَق ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ َْ‬ ‫قَػ ْب ُل َوفِي َى َذا لِيَ ُكو َف َّ‬
‫الر ُس ُ‬
‫َّص ُير (‪)78‬‬ ‫صموا بِاللَّ ِو ُىو موَال ُكم فَنِ ْعم الْمولَى ونِ ْعم الن ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َْ ْ َ َ ْ َ َ‬ ‫َوا ْعتَ ُ‬

‫ْخ ْيػ َر لَ َعلَّ ُك ْم تُػ ْفلِ ُحو َف *‬


‫اس ُج ُدوا َوا ْعبُ ُدوا َربَّ ُك ْم َوافْػ َعلُوا ال َ‬
‫آمنُوا ْارَكعُوا َو ْ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫{ ‪ { } 78 - 77‬يَا أَيُّػ َها الذ َ‬
‫ِ َّ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫اجتَبَا ُك ْم َوَما َج َع َل َعلَْي ُك ْم في الدّْي ِن م ْن َح َر ٍج ملةَ أَبي ُك ْم إبْػ َراى َ‬
‫يم ُى َو‬ ‫َو َجاى ُدوا في اللَّو َح َّق ِج َهاده ُى َو ْ‬
‫يموا‬ ‫وؿ َش ِهي ًدا َعلَي ُكم وتَ ُكونُوا ُشه َداء َعلَى الن ِ ِ‬
‫َّاس فَأَق ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ َْ‬ ‫ين ِم ْن قَػ ْب ُل َوفِي َى َذا لِيَ ُكو َف َّ‬
‫الر ُس ُ‬ ‫ِِ‬
‫َس َّما ُك ُم ال ُْم ْسلم َ‬
‫َّص ُير } ‪.‬‬ ‫صموا بِاللَّ ِو ُىو موال ُكم فَنِ ْعم الْمولَى ونِ ْعم الن ِ‬ ‫ِ‬ ‫الصبل َة َوآتُوا َّ‬
‫َ َْ ْ َ َ ْ َ َ‬ ‫الزَكا َة َوا ْعتَ ُ‬ ‫َّ‬

‫‪34‬‬
‫يأمر تعالى‪ ،‬عباده المؤمنين بالصبلة‪ ،‬وخص منها الركوع [ ص ‪ ] 547‬والسجود‪ ،‬لفضلهما وركنيتهما‪،‬‬
‫وعبادتو التي ىي قرة العيوف‪ ،‬وسلوة القلب المحزوف‪ ،‬وأف ربوبيتو وإحسانو على العباد‪ ،‬يقتضي منهم أف‬
‫يخلصوا لو العبادة‪ ،‬ويأمرىم بفعل الخير عموما‪.‬‬
‫وعلق تعالى الفبلح على ىذه األمور فقاؿ‪ { :‬لَ َعلَّ ُك ْم تُػ ْفلِ ُحو َف } أي‪ :‬تفوزوف بالمطلوب المرغوب‪ ،‬وتنجوف‬
‫من المكروه المرىوب‪ ،‬فبل طريق للفبلح سوى اإلخبلص في عبادة الخالق‪ ،‬والسعي في نفع عبيده‪ ،‬فمن‬
‫وفق لذلك‪ ،‬فلو القدح المعلى‪ ،‬من السعادة والنجاح والفبلح‪.‬‬
‫ادهِ } والجهاد بذؿ الوسع في حصوؿ الغرض المطلوب‪ ،‬فالجهاد في اهلل حق‬ ‫{ وج ِ‬
‫اى ُدوا فِي اللَّ ِو ح َّق ِجه ِ‬
‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫جهاده‪ ،‬ىو القياـ التاـ بأمر اهلل‪ ،‬ودعوة الخلق إلى سبيلو بكل طريق موصل إلى ذلك‪ ،‬من نصيحة وتعليم‬
‫وقتاؿ وأدب وزجر ووعظ‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫اجتَبَا ُك ْم } أي‪ :‬اختاركم ‪-‬يا معشر المسلمين‪ -‬من بين الناس‪ ،‬واختار لكم الدين‪ ،‬ورضيو لكم‪،‬‬
‫{ ُى َو ْ‬
‫واختار لكم أفضل الكتب وأفضل الرسل‪ ،‬فقابلوا ىذه المنحة العظيمة‪ ،‬بالقياـ بالجهاد فيو حق القياـ‪،‬‬
‫ادهِ } ربما توىم متوىم أف ىذا من باب تكليف ما ال يطاؽ‪ ،‬أو‬ ‫ولما كاف قولو‪ { :‬وج ِ‬
‫اى ُدوا فِي اللَّ ِو ح َّق ِجه ِ‬
‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫تكليف ما يشق‪ ،‬احترز منو بقولو‪َ { :‬وَما َج َع َل َعلَْي ُك ْم فِي الدّْي ِن ِم ْن َح َر ٍج } أي‪ :‬مشقة وعسر‪ ،‬بل يسره‬
‫غاية التيسير‪ ،‬وسهلو بغاية السهولة‪ ،‬فأوال ما أمر وألزـ إال بما ىو سهل على النفوس‪ ،‬ال يثقلها وال يؤودىا‪،‬‬
‫ثم إذا عرض بعض األسباب الموجبة للتخفيف‪ ،‬خفف ما أمر بو‪ ،‬إما بإسقاطو‪ ،‬أو إسقاط بعضو‪ .‬ويؤخذ‬
‫من ىذه اآلية‪ ،‬قاعدة شرعية وىي أف " المشقة تجلب التيسير " و " الضرورات تبيح المحظورات "‬
‫فيدخل في ذلك من األحكاـ الفرعية‪ ،‬شيء كثير معروؼ في كتب األحكاـ‪.‬‬
‫ِ َّ ِ ِ ِ‬
‫يم } أي‪ :‬ىذه الملة المذكورة‪ ،‬واألوامر المزبورة‪ ،‬ملة أبيكم إبراىيم‪ ،‬التي ما زاؿ عليها‪،‬‬ ‫{ ملةَ أَبي ُك ْم إبْػ َراى َ‬
‫فالزموىا واستمسكوا بها‪.‬‬
‫ين ِم ْن قَػ ْب ُل } أي‪ :‬في الكتب السابقة‪ ،‬مذكوروف ومشهوروف‪َ { ،‬وفِي َى َذا } أي‪ :‬ىذا‬ ‫ِِ‬
‫{ ُى َو َس َّما ُك ُم ال ُْم ْسلم َ‬
‫وؿ َش ِهي ًدا َعلَْي ُك ْم }‬ ‫الكتاب‪ ،‬وىذا الشرع‪ .‬أي‪ :‬ما زاؿ ىذا االسم لكم قديما وحديثا‪ { ،‬لِيَ ُكو َف َّ‬
‫الر ُس ُ‬
‫َّاس } لكونكم خير أمة أخرجت للناس‪ ،‬أمة وسطا عدال‬ ‫اء َعلَى الن ِ‬
‫بأعمالكم خيرىا وشرىا { َوتَ ُكونُوا ُش َه َد َ‬
‫خيارا‪ ،‬تشهدوف للرسل أنهم بلغوا أممهم‪ ،‬وتشهدوف على األمم أف رسلهم بلغتهم بما أخبركم اهلل بو في‬

‫‪35‬‬
‫الصبل َة } بأركانها وشروطها وحدودىا‪ ،‬وجميع لوازمها‪َ { ،‬وآتُوا َّ‬
‫الزَكا َة } المفروضة‬ ‫يموا َّ‬ ‫ِ‬
‫كتابو‪ { ،‬فَأَق ُ‬
‫ص ُموا بِاللَّ ِو } أي‪ :‬امتنعوا بو وتوكلوا عليو في ذلك‪ ،‬وال تتكلوا‬
‫لمستحقيها شكرا هلل على ما أوالكم‪َ { ،‬وا ْعتَ َ‬
‫على حولكم وقوتكم‪ُ { ،‬ى َو َم ْوال ُك ْم } الذي يتولى أموركم‪ ،‬فيدبركم بحسن تدبيره‪ ،‬ويصرفكم على أحسن‬
‫َّصير } أي‪ :‬نعم المولى لمن تواله‪ ،‬فحصل لو مطلوبو { ونِ ْعم الن ِ‬
‫َّص ُير } لمن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫تقديره‪ { ،‬فَن ْع َم ال َْم ْولَى َون ْع َم الن ُ‬
‫استنصره فدفع عنو المكروه‪.‬‬

‫تم تفسير سورة الحج‪ ،‬والحمد هلل رب العالمين‪.‬‬

‫‪36‬‬

You might also like