Professional Documents
Culture Documents
14 من سورة النبأ إلى الناس
14 من سورة النبأ إلى الناس
سورة النبأ §
يم } * { الَّ ِذي ُه ْم فِي ِه ُم ْختَلِفُونَ } * { َكالَّ َ
سيَ ْعلَ ُمونَ } * { سآ َءلُونَ } * { َع ِن النَّبَإ ِ ا ْل َع ِظ ِ
*{ َع َّم يَتَ َ
ثُ َّم َكالَّ َ
سيَ ْعلَ ُمونَ }
يقول الحق ج ّل جاللهَ { :ع ّم يتساءلون } ،وأصله " :ع ّما " فحذفت األلف ،كما قال في األلفية:
فهام إن ُج َّرت ُح ِذفْ أَلِف َها وأَ ْول َها الها إنْ تَ ْق ِ
ف ستِ ِ
وما في اال ْ
وحذفها إ ّما للفرق بين االستفهامية والموصولة ،أو للتخفيف ،لكثرة االستعمال ،وقُرىء باأللف
على األصل ،أي :عن شي ٍء يتساءلون .والضمير ألهل مكة ،وكانوا يتساءلون عن البعث فيما
ضهم بعضاً ،ويخوضون فيه إنكاراً واستهزا ًء ،وليس السؤال عن حقيقته ،بل عن بينهم ،يسأل بع ُ
وقوعه ،الذي هو حال من أحواله ،ووصف من أوصافه ،فإنَّ " ما " كما يُسأل بها عن الحقيقة
يُسأل بها عن الصفة ،فتقول :ما زيد؟ فيقال :عالم أو طبيب.
وقيل :النبأ العظيم هو القرآن ،عجب من تساؤلهم واختالفهم وتجادلهم فيه .واالستفهام للتفخيم
والتهويل والتعجيب من الجدال فيه ،مع وضوح حقه وإعجازه الدا ّل على صدق ما جاء به ،وأنه
من عند هللا ،فكان ينبغي lأالّ يجادل فيه ،وال يتساءل عنه ،بل يقطع به وال يشك فيه ،وقد قال
تعالى:
{ قُ ْل ه َُو نَبَؤ ْا َع ِظي ُم }
[صا ]67:اآلية .وقال الورتجبي :النبأ العظيم :كالمه القديم ,عظيم بعظم هللا القديم ،ال يَنال بركته
إالّ أهل هللا وخاصته .هـ .وقيل :كانوا يسألون المؤمنين ،فالتفاعل قد يكون من واحد متعدد ،كما
في قولك :تراؤوا الهالل .انظر أبا السعود.
وقوله { :عن النبأ العظيم } يتعلق بمحذوف ،د ّل عليه ما قبله ،فيوقف على " يتساءلون " ثم
ليستأنف " عن النبأ " ...الخ ،أي :يتساءلون عن الخبر العظيم ،وهو البعث وما بعده ،أو
القرآن ،فتكون المناسبة بين السورتين قوله:
{ فَبِأ َ ْ
ي َح ِديِث بَ ْع َدهُ يُ ْؤ ِمنُون} l
[المرسالت ]50:مع قوله { :عن النبأ العظيم } ،واألحسن :أنه كل ماجاءت به الشريعة من
البعث والتوحيد والجزاء وغير ذلك.
قال ابو السعود :هو بيان لشأن المسؤول عنه ،إثر تفخيمه بإبهام أمره ،وتوجيه lأذهان السامعين
نحوه ،وتنزيلهم منزلة المستفهمين ،إليراده على طريقة االستفهام من عالّم الغيوب ،للتنبيهl
على أنه لعدم نظيره خارج عن دائرة علم الخلق ،حقيق بأن يُعتنى بمعرفته ويُسأل عنه ،كأنه
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
قيل :عن أي شيء يتساءلون ،هل أُخبركم به ،ثم قيل بطريق الجواب :عن النبأ العظيم ،على
منهاج قوله تعالى:
{ لِّ َم ِن ا ْل ُم ْل ُك ا ْليَ ْو َم هَّلِل ِ ا ْل َوا ِح ِد ا ْلقَهَّا ِر }
[غافر ]16:فـ " عن " متعلقة بما يدل عليه المذكور ,وحقه أن يُقَدَّر مؤخراً ،مسارعة إلى
البيان ،هذا هو الحقيق بالجزالة التنزيلية l،وقد قيل :هي متعلقة بالمذكور ،و " َع َّم " متعلق
سر به ،وأيّد ذلك بأنه قُ ِرىء " ع َّمه " ،واألظهر :أنه مبني lعلى إجراء الوصل بمضمر lمف َّ
مجرى الوقف ،وقيل " :عن " األولى للتعليل ،كأنه قيل :لِ َم يتساءلون عن النبأ العظيم؟ والنبأ:
الخبر الذي له شأن وخطر .هـ.
{ الذين هم فيه مختلفون } ،فمنهم َمن يقطع بإنكاره ،ومنهم َمن يشك ،فمنهم َمن يقول:
َما ِه َي إِالَّ َحيَاتُنَا ال ُّد ْنيَا }
[الجاثية ]24l:ومنهم َمن يقول:
سا َعةُ } { َّما نَ ْد ِرى َما ال َّ
[الجاثية ]32l:ومنهم َمن يُنكر المعادين معاً ،كهؤالء ،ومنهم َمن يُنكر المعاد الجسماني ,كبعض
أهل الكتاب .أو :في القرآن ،فمنهم َمن يقول :سحر ،ومنهم َمن يقول :كهانة ،ومنهم َمن يقر
بحقيّته ،ويُنكره حسداً وتك ُّبراً .والضمير lفي " هم فيه " للتأكيد ،وفيه معنى االختصاص ،ولم
يكن لقريش اختصاص باالختالف ،لكن ل ّما كان خوضهم فيه أكثر ,وتعقبهم له أظهر ،جعلوا
كأنهم مخصوصون به .هـ .قاله الطيبي .فـ " فيه " متعلق بـ " مختلفون " ،قُدِّم اهتماما ً به
ورعاية للفواصل ،وجعل الصلة جملة اسمية للداللة على الثبات ،أي :هم راسخون في
االختالف ،وقيل :المراد باالختالف :مخالفتهم للنبي صلى هللا عليه وسلم في إثباته ،حيث
أنكروه ،فيحمل االختالف على صدور الفعل من متعدد ،ال علَى مخالفة بعضهم لبعض من
الجانبين ،ألنَّ الكل وإن استحق الردع والوعيد ،لكن استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته
للجانب اآلخر ،إذ ال حقيّة في شيء منهما حتى يستحق َمن يخالفه المؤاخذة ،بل لمخالفته له
صلى هللا عليه وسلم في إثباته .هـ .انظر أبا السعود.
ب حقيقة الحال إذا{ كالَّ } ،ردع عن االختالف والتساؤل بالمعنى المتقدم { ،سيعلمون } عن قري ٍ
ح ّل بهم العذاب والنكال { ،ث َّم كالَّ سيعلمون } ،تكرير للردع والوعيد للمبالغة في التأكيد
والتشديد .والسين للتقريب والتأكيد .و " ثم " للداللة على أنَّ الوعيد الثاني أبلغ وأشد ،وقيل:
األول عند النزع ،والثاني عند القيامة ،وقيل :األول للبعث ،والثاني للجزاء .وقُرىء " ستعلمون
" بالخطاب على نهج االلتفات ،تشديداً للردع والوعيد ،ال على تقدير :قل لهم؛ لإلخالل بجزالة
النظم الكريم.
اإلشارة :إن ظهرت أنوار الطريق ،والحت أسرار أهل التحقيق ،كثر الكالم بين الناس فيها،
والتساؤل عنها ،فيُقال في شأنهم ،ع َّم يتساؤلون عن النبأ العظيم ،الذي هو ظهور الحق
وشهوده ،الذي هم فيه مختلفون ،فمنهم َمن يُنكره رأساً ،ومنهم َمن يُقره في الجملة ،ويقول :هم
لقوم أخفياء ال يعرفهم أحد ،كالَّ سيعلمون يوم تحق الحقائق وتبطل الدعاوى ،ويندم المفرط،
حيث ال ينفع الندم وقد زلّت به القدم.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ض ِم َهاداً } * { َوا ْل ِجبَا َل أَ ْوتَاداً } * { َو َخلَ ْقنَا ُك ْم أَ ْز َواجا ً } * { َو َج َع ْلنَا نَ ْو َم ُك ْم *{ أَلَ ْم نَ ْج َع ِل األَ ْر َ
شدَاداً } * { س ْبعا ً ِ ار َم َعاشا ً } * { َوبَنَ ْينَا فَ ْوقَ ُك ْم َ
سبَاتا ً } * { َو َج َع ْلنَا اللَّ ْي َل لِبَاسا ً } * { َو َج َع ْلنَا النَّ َه َ ُ
َ
ت َمآ ًء ث َّجاجا ً } * { لِّنُ ْخ ِر َج بِ ِه َحبّا ً َونَبَاتا ً } * ص َرا ِ َ
س َراجا ً َوهَّاجا ً } * { َوأن َز ْلنَا ِمنَ ا ْل ُم ْع ِ َو َج َع ْلنَا ِ
ت أَ ْلفَافا ً }{ َو َجنَّا ٍ
{ والجبا َل أوتاداً } لألرض ،لئال تميد بكم ،فأرساها بها كما يُرسى البيت باألوتاد { ،وخلقناكم
أزواجا ً } ذكراً وأنثى ،ليسكن كل من الصنفين إلى اآلخر ،وينتظم أمر المعاشرة والمعاش،
ويتيسر lالتناسل .وقيل :خلقناكم أصنافا ً وأنواعا ً في ألوانكم وصوركم وألسنتكم ،وهو عطف على
المضارع المنفي ،داخل في حكم التقرير ،فإنه في قوة :إنما جعلنا األرض ..الخ.
{ وجعلنا اللي َل لباسا ً } يستركم بظالمه ،كما يستركم اللباس ،شبّهه بالثياب التي تلبس ،ألنه
يستر عن العيون ،وقيل :المراد به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه { .وجلعنا النها َر
معاشا ً } أي :وقت حياة تتمعشون فيه من نومكم ،الذي هو أخو الموت ،كقوله:
{ َو َج َع َل النَّ َه َ
ار نُشُوراً }
[الفرقان ]47:أي :تنتشرون فيه من نومكم ،أو تطلبون فيه معاشكم ،وتتقلبون في حوائجكم،
على حذف مضاف ،أي :ذا معاش.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
شداداً } أي :سبع سموات ،قوية الخلق ،محكمة البناء ،ال يؤثّر فيها م ّر س ْبعا ً ِ
{ وبنينا فوقكم َ
الدهور ،وال المرور والكرور .والتعبير lعنها بالبناء مبني lعلى تنزيلها منزلة القبة المضروبة
سراجا ً وهَّاجا ً } أي :مضيئا ً على الخلق ،وهو يؤيد كونها األفالك المحيطة { .وجعلنا } فيها { ِ
وقّاداً ،أي :جامعا ً للنور والحرارة ،وهو الشمس ،والوهَّاج :الوقّاد المتأللىء ،من :وهجت النار
إذا أضاءت ،أو البالغ في الحرارة ،من :الوهج ،وهو الحر .والتعبير عنها بالسراج مناسب
للتعبير عن السموات بالبناء ،فالدنيا بيت وسراجه الشمس بالنهار والقمر والنجوم بالليل.
والجعل هنا بمعنى اإلنشاء واإلبداع ،كالخلق ،غير أنَّ الجعل مختص باإلنشاء التكويني ،وفيه
معنى التقدير والتسوية.
صرات } أي :السحاب إذا أعصرت ،أي :شارفت أن يعصرها الرياح فتمطر، { وأنزلنا من ال ُم ْع ِ
ومنه :أعصرت الجارية :إذا دنت أن تحيض ،والرياح :إذا حان لها أن تعصر السحاب ،وقد جاء:
أنَّ هللا تعالى يبعث الرياح ،فتحمل الماء إلى السحاب فتعصره كما يعصر الماء من الجفافة ،أي:
أنزلنا من السحاب { ما ًء ثَ َّجاجا ً } أي :منصبا ً بكثرة ،يقال :ثج الدم ،أي :أساله ،ومنه lقوله صلى
هللا عليه وسلم:
العج والثج " أي :رفع الصوت بالتلبية l،وصب دم ال َهدْي. " أفضل الحج ّ
{ لنُخرج به }؛ بذلك الماء { حبا ً } يُقتات به ،كالحنطة والشعير ،ونحوهما { ونباتا ً } يُعلف،
كالتبن والحشيش .قال الطيبي :النبات أريد به النابت .وتقديم الحب مع تأخره في اإلخراج
ت }؛ بساتين ،من :جنّة إذا ستره ،فالجنة تطلق على ما لشرفه؛ ألنَّ غالبة قوت اإلنسان { .وجنا ٍ
فيه النخل والشجر المتكاثف ,ألنه يستر األرض بظل أشجاره ،وقال الفراء :الجنة ما فيه النخل،
والفردوس مافيه الكرم .و { ألفافا ً } صفة ،أي :ملتفّةَ األشجار ،واحدها " :لِفّ " ك ِكن وأكنان،
كأوزاع وأضياف ،أو جمع الجمع ،فألفاف جمع " أو :لَفيف ،كشريف وأشراف ،أو :ال واحد لهْ ،
كخضر وخضراء ،واللِّفُ :الشجر الملتف. لُفّ " بالضم ،و " لُفّ " ـ جمع " لَفَّاء " ُ
قال أبو السعود :اعلم أنَّ فيما ذكر تعالى من أفعاله ـ ع ّز وجل ـ داللة على صحة البعث من ثالثة
أوجه:
األول :باعتبار قدرته تعالى ،فإنَّ َمن قَدَر على إنشاء هذه األفعال البديعة ،من غير مثال يحتذيه
وال قانون ينتحيه ،كان على اإلعادة أقدر وأقوى.
الثاني :باعتبار علمه وحكمته l،فإنَّ َمن أبدع هذه المصنوعات على نمط رائع ،مستتبع lلغايات
جليلة ،ومنافع جميلة ،عائدة إلى الخلق ,يستحيل أن يخليها من الحكمة بالكلية ،وال يجعل لها
عاقبة باقية.
والثالث :باعتبار نفس الفعل ،فإنَّ في اليقظة بعد النوم أنموذجا ً للبعث بعد الموت ،يشاهدونها كل
يوم ،وكذا إخراج الحب والنبات من األرض الميتة ،يعاينونه كل حين ،شاهد على إخراج الموتى
من القبور بعد الفناء والدثور ،كأنه قيل :ألم يفعل هذه األفعال اآلفاقية واألنفسية l،الدالة بفنون
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
الدالالت على حقيّة البعث ،الموجبة لإليمان به ،فما لكم تخوضون فيه إنكاراً ،وتتساؤلون عنه
استهزا ًء؟ هـ.
أرض البشرية ِمهاداً للعبودية والقيام بآداب الربوبية ،وجبا َل العقل أوتاداً،
َ اإلشارة :ألم نجعل
يسكنونها لئال يميلها الهوى عن االعتدال في االستقامة وخلقناكم أزواجا ً أصنافاً؛ عارفين
سنَتكم عن وعلماء ،و ُعبَّاداً و ُزهَّاداً ،وصالحين وجاهلين ،وعصاة وكافرين ،وجعلنا نو َمكم ،ايِ :
سباتاً ،أي :راحة للقلوب ،ألنَّ دوام الشهود ,بالميل إلى شيء من الحس في بعض األوقاتُ ،
ق البشرية l،وفي األثرَ " :ر ِّوحوا قلوبكم بشي ٍء من المباحات " أو كما قال عليه التجلَّي يمح ُ
الصالة والسالم .أو :نو َمكم الحسي راحة لألبدان ،لتنشط للعبادة ،وجعلنا ليل القطيعة لباسا ً
نهار العيان معاشاً؛ حياة لألرواح واألسرار ،وبنينا فوقكم سب َع
َ ساتراً عن الشهود ,وجعلنا
شداداً صعاباً ،فإذا قطعتموها وترقيتم عنها أفضيتم إلى فضاء الشهود ،وهي التوبة مقامات ِ
النصوح ,والورع ،والزهد ،والصبر على مجاهدة النفس ،وخرق عوائدها ،والتو ُّكل ،والرضا،
سراجا ً وهّاجاً ،وهي شمس العرفان ال تغرب أبداً، والتسليم ،وجعلنا في قلوبكم بعد هذه المقامات ِ
ثجاجاً ،تحيى به األوراح واألسرار ،وهو ماء الواردات اإللهية، وأنزلنا من سماء الغيوب ماء ّ
والعلوم اللدنية ،لنُخرج به حبًّا؛ ِحكما ً لقوت األرواح ،ونباتاً؛ علوما ً لقوت النفوس ،وجنات:
بساتين التوحيد ،مشتملة lعلى أشجار ثمار األذواق وظالل التقريب.
س َمآ ُءت ال َّ الصو ِر فَتَأْتُونَ أَ ْف َواجا ً } * { َوفُتِ َح ِ ص ِل َكانَ ِميقَاتا ً } * { يَ ْو َم يُنفَ ُlخ فِي ُّ *{ إِنَّ يَ ْو َم ا ْلفَ ْ
صاداً } * { لِّلطَّا ِغينَ س َرابا ً } * { إِنَّ َج َهنَّ َم َكانَتْ ِم ْر َ ت ا ْل ِجبَا ُل فَ َكانَتْ َ فَ َكانَتْ أَ ْب َوابا ً } * { َو ُ
سيِّ َر ِ
ساقا ً } * ش َرابا ً } * { إِالَّ َح ِميما ً َو َغ َّ َمآبا ً } * { الَّبِثِينَ فِي َهآ أَ ْحقَابا ً } * { الَّ يَ ُذوقُونَ فِي َها بَ ْرداً َوالَ َ
سابا ً } * { َو َك َّذبُو ْا بِآيَاتِنَا ِك َّذابا ً } * { َو ُك َّل ش َْي ٍء { َج َزآ ًء ِوفَاقا ً } * { إِنَّ ُه ْم َكانُو ْا الَ يَ ْر ُجونَ ِح َ
ص ْينَاهُ ِكتَابا ً } * { فَ ُذوقُو ْا فَلَن نَّ ِزي َد ُك ْم إِالَّ َع َذابا ً } أَ ْح َ
قص ِل } بين الخالئق ،فيتميز المحسن من المسيء ،والمح ّ يقول الحق ج ّل جالله { :إِنَّ يو َم الفَ ْ
من المبطل { ،كان } في علم هللا تعالى وتقديره { ميقاتا ً }؛ وقتا ً محدوداً ,و ُمنتهى معلوما ً لوقوع
الجزاء ,أو :ميعاداً لجمع األولين واآلخرين ،وما يترتب عليه من الجزاء ثوابا ً وعقاباً ،ال يكاد
بالتأخر ،وهو { يوم ينفخ في الصور } نفخة ثانية l،فـ " يوم " بدل من " يوم ُّ يتخطاه بالتقدُّم وال
الفصل " ،أو عطف بيان له ،مفيد لزيادة تخفيمه lوتهويله في تأخير الفصل ،فإنه زمان ممتد،
صور :القرن الذي ينفخ lفيه إسرافيل .عن أبي في مبدئه النفحة ،وفي بقيته lالفصل وآثاره .وال ُ
هريرة رضي هللا عنه أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال " :ل ّما خلق هللا السموات واألرض
خلق الصور ،فأعطاه إسرافيل ،فهو واضع له على فيه ،شاخص ببصره lإلى العرش ،حتى يؤمرl
بالنفخ فيه ،فيؤمر به ،فينفخ نفخةً ال يبقى عندها في الحياة غير ما شاء هللا ،وذلك قوله تعالى:
ت[ } ...الزمر ]68l:اآلية ،ثم يؤمر بأخرى ،فينفخ سماوا ِ
ق َمن فِي ال َّ ص ِع َالصو ِر فَ َ
{ َونُفِ َخ فِي ُّ
نفخه ال يبقى معها ميت إالَّ بُعث وقام ،وذلك قوله تعالى { :ثُ ََّم نُفِ َخ فِي ِه أُ ْخ َرى فَإ ِ َذا ُه ْم قِيَا ٌم
يَنظُ ُرونَ } [الزمر" .]68:
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
والفاء في قوله تعالى { :فتأتون } فصيحة تفصح عن جملة ُحذفت ثقةً بداللة الحال عليها،
وإيذانا ً بغاية سرعة اإلتيان ،كما في قوله تعالى:
صاكَ ا ْلبَ ْح َر فَـانفَلَ َ
ق} اض ِرب بِّ َع َ { أّ ِن ْ
[الشعراء ]63:أي :فتبعثون من قبوركم فـتأتون عقب ذلك من غير لبث { أفواجا ً }؛ جماعات
مختلفة األحوال ،متباينة ،األوضاع ،حسب اختالف أعمالكم وتباينهاِ ،من راكب ،وطائر ،وماش
خفيف وثقيل ،ومكب على وجهه ,وغير ذلك من األحوال العظيمة ،أو :أمماً ،كل أمة مع رسولها،
كما في قوله تعالى:
س بِإ ِ َما ِم ْهم } { يَ ْو َم نَ ْدعُو ْا ُك َّل أُنا َ ِ
[الكهف.]47:
{ وفُتِحت السما ُء } أي :تشققت لنزول المالئكة ،وصيغة الماضي لتحقُّق وقوعه { ،فكانت
أبوابا ً }؛ فصارت ذات أبواب وطرق وفروج ,وما لها اليو َم من فُروج { .و ُ
س ْيرت الجبا ُل } في
س َرابا ً }؛ هبا ًء ،تخيل الشمس أنها سراب ،وهَل الجو على هيئتها بعد قلعها من مقارها { ،فكانت َ
هذا التسيير قبل البعث ,فال يقع إالَّ على أرض قاع صفصف ،وهو ما تقتضيه lظواهر اآليات،
كقوله:
ض بَا ِرزَ ةً َو َحش َْرنَا ُه ْم } َ
سيِّ ُlر ا ْل ِجبَا َل َوتَ َرى األ ْر َ { َويَ ْو َم نُ َ
[الكهف ]47:وقوله:
ت ا ْل َواقِ َعةُ }
اح َدةً فَيَ ْو َمئِ ٍذ َوقَ َع ِ ت األَ ْر ُ
ض َوا ْل ِجبَا ُل فَ ُد َّكتَا َد َّكةً َو ِ { َو ُح ِملَ ِ
[الحاقة ]15 ،14:والفاء تقتضي الترتيب ،أو ال يقع إالّ بعد البعث ،وهو ظاهر اآلية هنا وسورة
سيّر
القارعة .وهو الذي اقتصر عليه أبو السعود ،قال :يُبدل هللاُ األرض ,ويُغيّر هيئاتها ،ويُ َ
الجبال على تلك الهيئة lالهائلة عند حشر الخالئق بعد النفخة الثانية ليشاهدوها .هـ .وهللا أعلم
بحقيقة األمر.
ثم شرع في تفصيل أحكام الفصل بعد بيان هوله ،وقدَّم بيان حال الكفرة ترهيباً ،فقال { :إنَّ جهنم
صاداً } أي :موضع الرصد ،وهو االرتقاب واالنتظار ،أي :تنتظر الكفار وترتقبهم كانت ِم ْر َ
ليدخلوا فيها ،أو طريقا ً يمر عليه الخلق ،فالمؤمن يمر عليها ،والكافر يقع فيها ،أي :كانت في
علم هللا وقضائه موضع رصد يرصد فيه الخزنةُ الكفا َر ليعذبوهم فيها { ،للطاغين مآبا ً } :نعت
لمرصاد ،أي :كائنا ً للطاغين مرجعا ً يرجعون إليه ال محالة { ،البثين فيها } ،ماكثين فيها ،وهو
حال ُمقدَّرة من المستكن في الطاغين.
وقرأ حمزة (لبثين) ،وهو أبلغ من " البثين " ألنَّ الالبث َمن يقع منه مطلق اللَّ ْبث ،واللَّبِث َمن
شأنه اللبث والمقام ،و { أحقابا ً } :طرف للبثهم ،جمع ُحقب ،كقُ ْفل وأقفال ،وهو الدهر ،ولم يرد
الحقب إالّ حيث به عدداً محصوراً ،بل كلما مضى ُحقب تبعه حقب ،إلى غير نهاية ،وال يستعملُ l
يراد تتابع األزمنة lوتواليها .وقيل :الحقب ثمانون سنة ،و ُروي عنه ـ عليه الصالة والسالم ـ أنه
ثالثون ألف سنة l.وقال الحسن :ليس لألحقاب عدة إالّ الخلود.
{ ال يَ ُذوقون فيها بَ ْرداً وال شَرابا ً } :حال من ضمير " البثين " أي :غير ذائقين فيها { برداً }
أي :نسيما ً بارداً ،بل لهبا ً حاراً { ،وال شرابا ً } بارداً { ،إالَّ حميما ً }؛ ما ًء حاراً ،استثناء منقطع،
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
أي :ال يذوقون في جهنم ،أو في األحقاب ،برداً ،وال ينفس عنهم غم حر النهار ،أو :نوماً ،فإنَّ
س ْورة العطش ,وال شرابا ً يُسكن عطشهم ،لكن يذوقون فيها النوم يطلق عليه البرد ،ألنه يبرد َ
ساقا ً } أي :صديداً يسيل من أجسادهم .وفي القاموس: ما ًء حاراً ،يحرق ما يأتي عليه { ،وغ َّ
سحاب وشدّاد :الباد ُر المنتن .وقال الهروي عن الليث( :وغساقاً) أيُ :منتناً ،ود ّل عليه و َغساق ك َ
ق في الدنيا ،ألنتَنَ أه ُل الدنيا " ،وقيل: قوله صلى هللا عليه وسلم " :لو أنَّ دلواً من غساق يُ َ
هرا ُ
سق ،إذا سالت .ثم ما يسيل من أعينهم من دموعهم يسقون به مع الحميم ،يقال :غسقت عينه ت ْغ َ
قال :و َمن قرأ بالتخفيف ،فهو البارد الذي يُحرق ببرده .هـ.
{ جزا ًء ِوفاقا ً } أيُ :جوزوا بذلك جزا ًء موافقا ً ألعمالهم الخبيثة ،مصدر بمعنى الصفة ،أو :ذا
وفاق { .إِنهم كانوا ال يرجون ِحسابا ً } أي :ال يخافون محاسبة هللا إياهم ،أو :ال يؤمنون بالبعث
وكذبوا بآياتنا } الناطقة بذلك { ِك َّذابا ً } أي :تكذيبا ً مفرطاً ،ولذلك كانوا
فيرجعوا حسابهّ { ،
مصرين على الكفر وفنون المعاصي .و " ف ّعال " في باب ف ّعل فاش { .وك َّل شي ٍء } من األشياء، ِّ
و ِمن جملتها أعمالهم الخبيثة { l،أحصيناه } أي :حفظناه وضبطناه { ِكتابا ً } ،مصدر مؤكد
ألحصينا؛ ألنَّ اإلحصاء والكتابة من وا ٍد واحد ،أو :حال بمعنى مكتوب في اللوح المحفوظ ,أو في
صحف الحفظة ،والجملة اعتراض ،وقولة تعالى { :ف ُذوقوا فلن نزيدكم إِالَّ عذابا ً } مسبب عن
كفرهم بالحساب ،وتكذيبهم باآليات ،أي :فذوقوا جزاء تكذيبكم وااللتفات شاهد على شدّة
الغضب.
روي عنه صلى هللا عليه وسلم أنه قال " :إنَّ هذه اآلية أش ُّد ما في القرآن على أهل النار ".
اإلشارة :إنَّ يوم الفصل بين العمومية lوالخصوصية l،أو تقول :بين االنتقال من مقام أهل اليمين
إلى مقام المقربين ،كان في علم هللا ميقاتاً ،أي :مؤقتاً ،وهو يوم انتقاله من شهود األكوان إلى
شهود المك ِّون ،أو من مقام البرهان إلى مقام العيان .يوم يُنفخ lفي صور األرواح التي سبقت لها
العناية ،فيُزعجها شوق مقلق أو خوف مزعج ،فتأتون إلى حضرة القدس ،تسيرون إليها على يد
الخبير أفواجاً ،وفُتحت سماء األرواح ليقع العروج إليها من تلك األرواح السائرة ،فكانت أبواباً،
سيرت جبال العقل حين سطوع أنوار الحقائق ،فكانت سراباً ،فال يبقى من نور العقل إِالّ ما يميزl و ُ
به بين الحس والمعنى ،وبين الشريعة والحقيقة .إنَّ جهنم البُعد كانت ِمرصاداً ،للطاغين
المتكبرين عن حط رؤوسهم للخبير ،الباقين مع عامة أهل اليمين ،مآبا ً ال يبرحون عنها ،البثين
فيها أحقابا ً مدة عمرهم وما بعد موتهم ،ال يذوقون فيها برد الرضا ،وال شراب نسيم التسليم ،إالَّ
حميماً :حر التدبير واالختيار ،وغساقاً :نتن حب الدنيا وهمومها ،جزا ًء موافقا ً لميلهم إلى
الحظوظ والهوى ،إنهم كانوا ال يرجون ِحساباً ،فلم يحاسبوا نفوسهم ،وال التفتوا إلى إخالصها،
وكذبوا بأهل الخصوصية l،وهم األولياء الدالون على هللا ،ثم يقال لهمّ :ذوقوا وبال القطيعة ،فلن ّ
نزيدكم إالّ تعبا ً وحرصا ً وجزعاً.عائذاً باهلل من سوء القضاء ،وشماتة األعداء.
يقول الحق ج ّل جالله { :إِنَّ للمتقين مفازاً } أي :فوزاً ونجاة من كل مكروه ،وظفراً بكل محبوب،
وهو َم ْف َع ٌل من الفوز ،يصلح أن يكون مصدراً ومكاناً ،وهو الجنة ،ثم أبدل البعض من الكل،
ق }؛ بساتين فيها أنواع الشجر المثمر ،جمع حديقة ,وأبدل من المفرد ،ألنَّ المصدر فقال { :حدائ َ
ال يجمع ,بل يصلح للقليل والكثير { ،وأعنابا ً } ،كرر لشرفه ،ألنه يخرج منه أصناف ِمن النِعم،
ت في ت مستويا ٍوكواعب }؛ نساء نوا ِهد ،وهي َمن لم تسقط ثديها لصغ ٍر { ،أترابا ً } أي :لَدَا ٍ َ {
السنّ { ،وكأسا ً ِدهاقا ً }؛ مملوءة.
{ ال يسمعون فيها }؛ في الجنة ،حال من ضمير lخبر " إن " { ،لَ ْغواً }؛ باطالً { ،وال ِك َّذابا ً }
يكذب بعضهم بعضاً ،وقرأ الكسائي بالتخفيف ,من المكاذبة ،أي :ال يُكاذبه أحد { ،جزا ًء أي :ال ّ
من ربك } :مصدر مؤكد منصوب l,بمعنى :إنَّ للمتقين مفازاً ،فإنه في قوة أن يقال :جازى
والتعرض لعنوان الربوبية l،المنبئة lعن التبليغ إلى الكمال ُّ المتقين بمفاز جزاء كائنا ً من ربك.
شيئا ً فشيئا ً مع اإلضافة إلى ضميره صلى هللا عليه وسلم مزيد تشريف له عليه الصالة والسالم،
تفضالً منه تعالى وإحساناً ،إذ ال يجب عليه شيء ،وهو بدل ِمن " جزاء " ، ُّ { عَطا ًء } أي:
حسباً ،أي :كافياً ،على أنه مصدر أقيم مقام الوصف ،أو بولغ فيه ،من :أحسبه { ِحسابا ً } أيُ :م ِ
إذا كفاه حتى قال حسبي ,أو :على حسب أعمالهم.
ض وما بينهما } بدل من " ربك " { ,الرحمن } :صفة له ,أو لألول ,ف َمن ت واألر ِ رب السماوا ِ
{ ِّ
َج َّرهما فبدل من " ربك " .و َمن رفعهما فـ " رب " خبر متبدأ محذوف ،أو متبدأ خبره "
الرحمن " ،أو " الرحمن " صفة ،و " ال يملكون " خبر ،أو هما خبران ،وأيًّا ما كان ففي ذكر
ربوبيته تعالى للكل ورحمته الواسعة إشعار بمدار الجزاء المذكور { ،ال يملكون } أي :أهل
السماوات واألرض { منه ِخطابا ً }؛ معذرة أو شفاعة أو غيرهما إالَّ بإذنه ،وهو استئناف مقرر
لما أفادته الربوبية العامة ،من غاية العظمة والكبرياء ،واستقالله تعالى بما ذكر من الجزاء
والعطاء ،من غير أن يكون ألحد قدرة عليه ،والتنكير في للتقليل والنوعية .قال القشيري l:كيف
س بدونه نفساً؟ كالَّ ،بل هويكون للمك َّون المخلوق المسكين ُم ْكنةٌ أن يملك منه ِخطاباً ،أو يتنفَّ َ
هللا الواح ُد الجبّار .ثم قال :إنما تظهر الهيبةُ lعلى العموم ألهل الجمع في ذلك اليوم .وأ ّما
الخصوص فهم أبداً بمشه ِlد العز بنعت الهيبة l.هـ.
وح }؛ جبريل عليه السالم عند الجمهور ،وقيلَ :مل ٌك عظيم ،ما خلق هللا تعالى بعد الر ُ
{ يو َم يقو َم ُّ
العرش أعظم منه l،يكون وحده صفًّا { ،والمالئكةُ صفا ً } :حال ،أي :مصطفين { ال يتكلمون }
صوابا ً } أي :حقًّا.أي :الخالئق خوفاً { ،إِالَّ َمن أّ ِذنَ له الرحمنُ } في الكالم أو الشفاعة { ،وقال َ
قال الطيبي عن اإلمام :فإن قيل :لَ َّما أذن له الرحمن في التكلم َعلِ َم أنه حق وصواب ،فما الفائدة
في قوله { :وقا صوابا ً }؟ فالجواب من وجهين ،أحدهما :أنَّ التقدير :ال ينطقون إالَّ بعد ورود
اإلذن والصواب ،ثم يجتهدون في أالَّ ينطقوا إالَّ بالحق والصواب ،وهذا مبالغة في وصفهم
بالطاعة .وثانيهما l:أنَّ التقدير :ال يتكلمون إالَّ في محضر إذن الرحمن في شفاعته والمشفوع له
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ممن قال صواباً ،وهو قول ال إله إالّ هللا .هـ .قلت :والمعنى :أن يُراد بالصواب :استعمال األدب
في الخطاب ،بمراعاة التعظيم ،كما هو شأن الكالم مع الملوك.
ثم قال تعالى { :ذلك اليو ُم الحق } أي :الثابت المحقَّق ال محالة ،من غير صارف يلويه ،وال
عاطف يثنيه l.واإلشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور ،وما فيه من معنى البُعد مع قرب
العهد بالمشار أليه لإليذان بعلو درجته ،وبُعد منزلته في الهول والفخامة .وهو مبتدأ ،و " اليوم
" خبره ،أي :ذلك اليوم العظيم الذي يقوم الروح والمالئكة مصطفين ،غير قادرين على التكلم
عنهم وال عن غيرهم من الهيبة والجالل ،هو اليوم الحق { ،ف َمن شاء اتخذ إَلى ربه مآبا ً }؛
مرجعا ً بالعمل الصالح .والفاء فصيحة تفصح عن شرط محذوف ،أي :إذا كان األمر كذلك من
تحقُّق اليوم المذكور ال محالة ،ف َمن شاء أن يتخذ إلى ربه مرجعاً ،أي :إلى ثواب ربه الذي ذكر
شأنه العظيم ،فليفعل ذلك باإليمان والطاعة ،و " إلى ربه " يتعلق بـ " مآب " قُدّم اهتماما ً
وللفواصل.
{ إِنَّا أنذرناكم } بما ذكر في السورة من اآليات الناطقة بالبعث وما بعده من الدواعي ،أو بسائر
القوارع الواردة في القرآن ،أي :خوفناكم { عذابا ً قريبا ً } هو عذاب اآلخرة ،وقُربه لتحقُّق
ت قريب، وقوعه ،وكل آ ٍ
َشيَّةً أَ ْو ُ
ض َحاهَا } { َكأَنَّ ُه ْم يَ ْو َم يَ َر ْونَ َها لَ ْم يَ ْلبَثُو ْا إِالَّ ع ِ
[النازعات ،]46:وعن قتادة هو قتل قريش يوم بدر ويأباه قوله تعالى { :يوم ينظر المرء ما
قدمت يداه } فإنه بدل من " عذاب " أو ظرف ل ُمضمر هو صفة له ،أي :عذابا ً كائنا ً يوم ينظر
المرء ،أي :يُشاهد ما قدَّمه من خير وشر .و " ما " موصولة ،والعائد محذوف ،أو استفهامية،
أي :ينظر الذي قدمته lيداه ،أو :أي شيء قدمت يداه وقيل :المراد بالمرء :الكافر.
الذم ،أي :يا وقوله { :ويقول الكاف ُر يا ليتني كنتُ ترابا ً } ،وضع الظاه َر موضع الضمير l،لزيادة ّ
ليتني كنتُ ترابا ً لم أُخلق ولم أُكلّف ,أو :ليتني كنت ترابا ً في هذا اليوم فلم أُبعث .وقيل :يحشر هّللا ُ
تعالى الحيوان حتى يقتص للجماء من القرناء ،ثم يرده تراباً ،فيود الكاف ُر أن يكون ترابا ً مثله،
وقيل :الكافر :إبليس يرى آدم وولده وثوابهم ،فيتمنى أن يكون من الشيء الذي احتقره حين
قال:
َخلَ ْقتَنِي ِمن نَّا ٍر َو َخلَ ْقتَهُ ِمن ِطي ٍن }
[األعراف 12:و صا .]76:قال الطيبي :والعموم في المرء هو الذي يساعده النظم .ثم قال عن
خص بعد العموم قول الكافر دون المؤمن؟ قلت :د ّل قول الكافر على غاية ّ اإلمام :فإن قلتَ :لِ َم
صره الوصف .هـ .قال التبجح ونهاية الفرح بما ال يَح ُ
ُّ سر ،ود ّل حذف قول المؤمن على غاية التح ُّ
المحشي :والظاهر أنه اقتصر على قول الكافر بعد العموم في المرء ،ألنه المناسب للنذارة التي
تبجحا ً
اقتضاها المقام .هـ .قلتُ :ولو ذكر قول المؤمن لقال :ويقول المؤمن هاؤم اقرؤوا كتابيهُّ ،
وفرحاً .وهللا تعالى أعلم.
اإلشارة :إنَّ للمتقين هللا حق تقاته مفازاً ،وهو التخلُّص من رؤية األكوان ،واإلفضاء إلى رؤية
الشهود والعيان ،وهو دخول حدائق العرفان ،واقتطاف ثمار الوجدان ،ونكاح أبكار الحقائق،
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
وهنّ أتراب ،الستوائها غالبا ً في لذة الشهود ل َمن تمكن منها .ويشربون كأس الخمرة األزلية ،ال
يسمعون في حضرة القدس لغواً وال ِكذاباً ،لغاية أدبهم ،جزاء من ربك على مكابدتهم في أيام
سيرهم ،عطا ًء كافيا ً مغنيا ً من الرحمن ،ال يملكون منهِ lخطاباً ،لغاية هيبتهم ،وهذا لقوم أقامهم
مقام الهيبة ،وثَ َّم آخرون أقامهم مقام البسط واإلدالل ،وهم المتمكنون في معرفته ،ينبسطون
معه ،ويشفعون في عباده في الدارين .قال الورتجبيَ :من كان كالمه في الدنيا من حيث الكشف
والمعاينة ،فهو مأذون في الدنيا واآلخرة ،يتكلم مع الحق على بساط الحرمة والهيبة l،يُنقذ هللا به
الخالئق من ورطة الهالك .هـ.
يوم يقوم الروح ،أي :جنس الروح ،وهي األرواح الصافية ،التي التحقت بالمالئكة ،فتقوم معهم
صفا ً في مقام العبودية التي شرفت بها ،ال يتكلمون هيبةً لمقام الحضرة ،إالَّ َمن أّ ِذنَ له الرحمنُ
في الشفاعة ،على قدر مقامه ،وقال صواباً ،أي :استعمل األدب في مخاطبته lفإذا استعمل األدب
شفع ،ولو قصر مقامه عن عدد المشفوع فيهُ .حكي أنّ بعض األولياء قال عند موته l:يا رب
شفِّعني في أهل زماني ،فقال له الهاتف من قِبل هللا تعالى :لم يبلغ مقامك هذا ،فقال :يا رب إذا
كان ذلك بعملي واجتهادي فل َعمري إنه لم يبلغ ذلك ،وإذا كان ذلك بكرمك َو ُجودك ،فهو أعظم من
ق تعالى في الوجود .هكذا سمعتُ الحكاية من شيخنا الفقيه العالم ،سيدي " شفَّعه الح ُّ
ذلك ،ف َ
فحسن خطاب هذا الرجل بلّغه ما لم يبلغه قدره. التاودي بن سودة " رحمه هللاُ ،
تحق فيه الحقائق ،وتبطل فيه الدعاوى ,ويفتضح أهلها ،ف َمن شاء اتخذ إلى ربه ذلك اليوم الحقِ ،
مآباً ،يرجع به إلى ربه ،وهو ُحسن التوجه إليه ،برفض كل ما سواه { .إنَّا أنذرناكم عذابا ً قريبا ً }
قال القشيري l:أي :عذاب االلتفات إلى النفس والدنيا والهوى ،يوم ينظر المر ُء ما قدَّمت يداه من
اإلساءة واإلحسان هـ .ويقول الكافر الجاحد لطريق الخصوصية ،حتى مات محجوباً :يا ليتني
سراً على ما قاته من مقام المقربين .وباهلل التوفيق .وصلّى هللا على سيدنا محمد كنتُ تُراباً ،تح ُّ
وآله وصحبه وسلّم.
س ْبقا ً } * سابِقَا ِ
ت َ س ْبحا ً } * { فَال َّ ت َ ت نَشْطا ً } * { َوال َّ
سابِ َحا ِ اشطَا ِ ت َغ ْرقا ً } * { َوالنَّ ِ *{ َوالنَّا ِزعَا ِ
وب يَ ْو َمئِ ٍذ َوا ِجفَةٌ } *اجفَةُ } * { تَ ْتبَ ُع َها ال َّرا ِدفَةُ } * { قُلُ ٌ ت أَ ْمراً } * { يَ ْو َم ت َْر ُجفُ ال َّر ِ { فَا ْل ُم َدبِّ َرا ِ
ش َعةٌ } * { يَقُولُونَ أَإِنَّا لَ َم ْردُودُونَ فِي ا ْل َحافِ َر ِة } * { أَإِ َذا ُكنَّا ِعظَاما ً نَّ ِخ َرةً } * صا ُرهَا َخا ِ { أَ ْب َ
سا ِه َر ِة }اح َدةٌ } * { فَإ ِ َذا هُم بِال َّ س َرةٌ } * { فَإِنَّ َما ِه َي زَ ْج َرةٌ َو ِ { قَالُو ْا تِ ْلكَ إِذاً َك َّرةٌ َخا ِ
ت } أي :والمالئكة التي تنزع األرواح من أجسادها ،كما قال يقول الحق ج ّل جالله { :والنازعا ِ
َ َ
ابن عباس ,أو أرواح الكفرة ،كما قاله هو أيضا ً وابن مسعود { ،غ ْرقا ً } أي :إغراقاً ،من :أغرق
في الشيء :بالغ فيه غايةً ،فإنها تُبالغ في نزعها فتخرجها من أقاصي الجسد .قال ابن مسعود:
تنزع روح الكافر ِمن جسده من تحت كل شعرة ،و ِمن تحت األظافر ،ومن أصول القدمين ،ثم
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفرقها في جسده ،ثم تنزعها حتى إذا كادت تخرج تردها في جسده ،فهذا عملها بالكفار دون
المؤمنين .أو :تُغرقها في جهنم ،فهو مصدر مؤكد.
ت نشطا ً } أي :ينشطونها ويخرجونها من الجسد ,من :نَشط الدلو من البئر :أخرجها. { والناشطا ِ
س ْبحا ً } أي :يسبحون بها في الهوى إلى سدرة المنتهى .شبّه سرعة سيرهم بسبحl ت َ { والسابحا ِ
ت
الهوام ،أو يسبحون في إخراجها سبح الغواص الذي يخرج من البحر ما يخرج { ،فالسابقا ِ
ت أَ ْمراً }
سبقًا } فيسبقون بأرواح الكفرة إلى النار ،وبأرواح المؤمنين إلى الجنة { ،فال ُمدبرا ِ
تُدبر أمر عقَابها وثوابها ،بأن تهيئها إلدراك ما أع ّد لها من اآلالم والثواب ،أو السابحات التي
تسبح في مضيها ،فتسبق إلى ما أمروا به ،فتدبر أمراً من أمور العباد ،مما يصلحهم في دينهم
ودنياهم كما ُرسم لهم.
سم بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب ،غرقا ً في النزع ،بأن تقطع أو :يكون تعالى أَ ْق َ
الفلك حتى تنحطّ في أقصى المغرب ،وتنشط من برج إلى برج ،أي :تخرج ،من :نَشط الثور :إذا
سبح في الفلك ,فتسبق بعضها بعضاً ,فتُدبر أمراً نِيط بها ،كاختالف
خرج من بلد إلى بلد ،وتَ ْ
الفصول ،وتقدير األزمنة l،وتدبير مواقيت العبادة ،وحيث كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب
قسرية ـ أي :قهرية -وحركاتها من برج إلى برج مالئمةً l,عبَّر عن األولى بالنزع ،وعن الثانية
بالنشط.
أو :بأنفس ال ُغزاة ،أو :بأيديهم التي تنزع القِسي ،بإغراق السهام ،وينشطون بالسهم إلى الرمي،
سبحون في البر والبحر ،فيسبقون إلى حرب العدو ،فيُدبرون أمرها ،أو :بصفات خيلهم ،فإنها ويَ ْ
تنزع في أعنّتها نزعا ً تغرق فيه األعنّة لطول أعناقها ،ألنها عراب ،وتخرج من دار اإلسالم إلى
سبح في جريها ،فتسبق إلى العدو ,فتدبر أمر الظفر والغلبة .وسيأتي في اإلشارة دار الحرب ،وتَ ْ
أحسن هذه األقوال إن شاء هللا.
س ْبحا ً " و " سبقا ً " على المصدرية ،وأما " أمراً " فمفعول به،
وانتصاب " نشطا ً " و " َ
وتنكيره للتهويل والتفخيم .والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل lالتغاير العنواني منزلة المتغاير الذاتي؛
لإلشعار بأنَّ كل واح ٍد من األوصاف المعدودة من معظّمات األمور ،حقيق بأن يكون حياله مناطا ً
الستحقاق موصوفه لإلجالل واإلعظام باإلقسام من غير انضمام أوصاف اآلخر إليه.
والفاء في األخيرين للداللة على ترتيبهما على ما قبلهما بال مهلة .والمقسم عليه محذوف،
تعويالً على إشارة ما قبله من المقسم به إليه ،وداللة ما بعد من أحوال القيامة عليه ،فإنَّ اإلقسام
ب َمن يتولى نزع األرواح ،ويقوم بتدبيرها ،يلُوح بكون المقسم عليه ِمن قبل تلك األمور ال محالة،
ففيه من الجزالة ما ال يخفى.
ترجفُ الرا ِجفةُ } ،فالعامل في الظرف هو الجواب المحذوف .والرجف :شدة أي :لتُبعثن { يو َم ُ
الحركة .والراجفة :النفخة األولىُ ،وصفت بما حدث عندها ألنها تضطرب لها األرض حتى يموت
َمن عليها ،وتزلزل الجبال وتندك األرض دكاً ,ثم { تتبعها الرا ِدفةُ }؛ النفخة الثانية ،ألنها تردف
األولى ،وبينهما أربعون سنة ،واألولى تُميت الخلق والثانية ت ُْحييهم.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
قلوب يومئ ٍذ } ،وهي قلوب منكري البعث { ،واجفةٌ }؛ مضطربة ،من :الوجيف ،وهو ٌ {
االضطراب { ،أبصا ُرها } أي :أبصار أصحابها { خاشعةٌ }؛ ذليلة لهول ما ترى { ،يقولون }
أي :منكرو البعث في الدنيا استهزا ًء وإنكاراً للبعث { :أئنا لمردودون في الحافرة } ،استفهام
بمعنى اإلنكار ،أي :أنُر ّد بعد موتنا إلى أول األمر ،فنعود أحيا ًء كما كنا؟ والحافرة :الحالة األولى،
يُقال ل َمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه :رجع إلى حافرته ،أي :إلى حالته األولى ،يُقال:
ل َمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه :رجع إلى حافرته ,أي :إلى حالته األولى ,ويُقال :رجع
في حافرته ،أي :طريقته التي جاء فيها ،فحفر فيها ،أي :أثر فيها بمشيه l،وتسميتها حافرة مع
أنها محفورة ،كقوله:
{ عيشة راضية }
[الحاقة ]21:على تسمية lالقابل بالفاعل.
أنكروا البعث ثم زادوا استبعاداً فقالوا { :أئذا كنا عظاما ً نخرةً }؛ بالية .ونخرة أبلغ من ناخرة؛
ألنَّ " فَ ِع ٌل " أبلغ من فاعل ،يقال :نَ ِخ َر العظم فهو نَ ِخ ٌر وناخر :بِلَى ،فالنَ ِخر هو البالي األجوف
الذي تمر به الريح فيسمع له نخير ،أي :أنُرد إلى البعث بعد أن صرنا عظاما ً بالية؟ .و " إذا "
منصوب بمحذوف ،وهو :أنُبعث إذا كنا عظاما ً بالية مع كونها أبعد شيء في الحياة.
{ قالوا } أي :منكروا البعث ،وهو حكاية لكفر آخر ،متفرع على كفرهم السابق ،ولعل توسيط "
قالوا " بينهما لإليذان بأنّ صدور هذا الكفر عنه ليس بطريق االطراد واالستمرار ,مثل كفرهم
األول المستمر lصدوره عنهم في كافة أوقاتهم ،حسبما يُنبىء عنه حكايته lبصيغة المضارع ،أي:
قالوا بطريق االستهزاءُ ،مشيرين إلى ما أنكروه من الرد في الحافرة ،مشعرين بغاية بُعدها من
الوقوع { :تلك إِذاً كرةٌ خاسرةٌ } أي :رجفة ذات خسران ،أو خاسر أصحابها ،والمعنى :أنها إن
صحت وبُعثنا فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا بها ،وهذا استهزا ُء منهم.
ّ
قال تعالى في إبطال ما أنكروه { :فإِنما هي زجرةٌ واحدة } أي :ال تحسبوا تلك الك ّرة صعبة على
هللا ،بل هي أسهل شيء ،فما هي إالّ صيحة واحدة ،يُريد النفخة الثانية l,من قولهمَ :ز َجر البعير:
إذا صاح عليه.
ساهر ِة } أي :فإذا هم أحياء على وجه األرض ،بعدما كانوا أمواتا ً في جوفها.فإِذا هم بال َّ
سميت بذلك ،ألنَّ السراب يجري فيها ،من قولهم :عين والساهرة :األرض البيضاء المستويةُ ،
ساهرة جارية ،وفي ضدها :عين نائمة ،وقيل :إنَّ سالكها ال ينام خوف الهلكة ،وقيل :أرض
بعينها بالشام إلى جنب بيت المقدس ،وقيل :أرض مكة .وقيل :اسم لجهنّم .وعن ابن عباس :أنَّ
الساهرة :أرض ِمن فضة ،لم يُعص هللاَ تعالى عليها قط ،خلقها حينئذ .وقيل :أرض يُجددها هللا
تعالى يوم القيامة .وقيل :األرض السابعة ،يأتي هللا بها يوم القيامة فيُحاسب عليها الخالئق،
وذلك حين تُبدل األرض غير األرض ،وقيل :الساهرة :أرض صحراء على شفير جهنم .وهللا
تعالى أعلم.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
سوى غرقا ً في بحار األحدية .والناشطات من عالئق اإلشارة :واألرواح النازعات عن مالحظة ال ِّ
الدنيا ومتابعة الهوى نشطاً ،والسابحات بأفكارها في بحر أنوار الملكوت ،وأسرار الجبروت،
بالتصرف فيه بالنيابة عن
ُّ سبحاً ،فالسابقات إلى حضرة القدس سبقاً ،فالمدبرات أمر الكون،
التجرد إلى العبادات
ُّ الحق ،وهو مقام القطبانية l،أو النازعات عن الحظوظ والشهوات غرقا ً في
بأنواع الطاعات .وهذه أنفس ال ُعبّاد ،والناشطات عن الدنيا ،وأهلها فراراً إلى هللا نشطاً ،وهي
أنفس ال ُزهّاد ,والسابحات بعقولها في أسرار العلوم ،فتستخرج من الكتاب والسنة درراً
ويواقيت ،يقع النفع بها إلى يوم الدين ،وهي أنفس العلماء الجهابذة ،فالسابقات إلى هللا بأنواع
المجاهدات والسير في المقامات ،حتى أفضت إلى شهود الحق عياناً ،سبقاً ،وهي أنفس األولياء
العارفين ،فال ُمدبرات أمر الخالئق بقسم أرزاقها وأقواتها ورتبها ،وهي أنفس األقطاب والغوث.
وقال البيضاوي :هذه صفات النفوس ,وحال سلوكها ،فإنها تنزع من الشهوات ،وتنشط إلى عالم
سبَح في مراتب االرتقاء ،فتسبق إلى الكماالت ،حتى تصير lمن المك ِّمالت ،زاد اإلمام: القدس ،فت ْ
فتُد ْبر أمر الدعوة إلى هللا .وقال الورتجبي l:إشارة النازعات إلى صوالت صدمات تجلي العظمة،
فتنزع األرواح العاشقة عن معادن الحدوثية .ثم قال :والناشطات :األرواح الشائقة تخرج من
سبَح lفي
أشباحها بالنشاط ،حين عاينت جمال الحق بالبديهة lوقت الكشف .ثم قال :والسابحات ت ْ
بحار ملكوته وقاموس كبرياء جبروته l،تطلب فيها أسرار األولية واآلخرية والظاهرية
والباطنية ،فالسابقات في مصاعدها عالم الملكوت ,وجنات الجبروت ،تُسابق كل همة ,فالمدبِّرات
هي العقول القدسية تُ َدبّر أمور العبودية بشرائط إلهام الحقيقة .هـ.
س طُ ًوى } * { ْاذه َْب إِلَىا فِ ْرع َْونَ إِنَّهُ سىا } * { إِ ْذ نَادَاهُ َربُّهُ بِا ْل َوا ِد ا ْل ُمقَ َّد ِ *{ َه ْل أَتَا َك َح ِد ُ
يث ُمو َ
طَ َغىا } * { فَقُ ْل هَل لَّ َك إِلَىا أَن تَزَ َّكىا } * { َوأَ ْه ِديَكَ إِلَىا َربِّ َك فَت َْخشَىا } * { فَأ َ َراهُ اآليَةَ ا ْل ُك ْب َرىا } *
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ش َر فَنَادَىا } * { فَقَا َل أَنَاْ َر ُّب ُك ُم األَ ْعلَىا } * { فَأ َ َخ َذهُس َعىا } * { فَ َح َ صىا } * { ثُ َّم أَ ْدبَ َر يَ ْ
ب َو َع َ { فَ َك َّذ َ
هَّللا ُ نَ َكا َل اآل ِخ َر ِة َواألُ ْولَىا } * { إِنَّ فِي َذلِكَ لَ ِع ْب َرةً لِّ َمن يَ ْخشَىا }
حديث موسى } ,تشويقا ً لما يُلقى إليه ِمن خبره ،أي :هل أتاك ُ يقول الحق ج ّل جالله { :هل أتاك
حديثه l،أنا أُخبرك به ،إن كان هذا أول ما أتاه من حديثه .وإن كان تقدّم قبل هذا حديثه ،وهو
المتبادر ،فالمعنى :أليس قد آتاك حديثه l.وقوله { :إِ ْذ ناداه َر ُّبه } :ظرف للحديث ال لإلتيان،
الختالف وقتهما ,أي :هل وصلك حديثه ناداه ربه { بالوا ِد المقدّس }؛ المبارك المط ّهر ،اسمه{ :
اذهب إِلى فرعون إِنه طَ َغى }؛ تجاوز الح ّد في
ْ طُوى } بالصرف وعدمه .فقال في ندائه له{ :
الكفر والطغيان { ،فق ْل } له بعد أن تأتيه { l:هل لك إِلى أن تز َّكى } أي :هل لك رغبة وتَ َو ُّجه إلى
التزكية والتطهير من دنس الكفر والطغيان بالطاعة واإليمان .قال ابن عطية " :هل " هو
استدعاء حسن .قال الكواشي :يقال :هل لك في كذا؟ وهل لك إلى كذا؟ كقولك :هل ترغب في كذا،
وهل ترغب إلى كذا .قال :وأخبر تعالى أنه أمر موسى بإبالغ الرسالة إلى فرعون بصيغةl
االستفهام والعرض ،ليكون أصغى ألذنه ،وأوعى لقلبه ،لِما له عليه من حق التربية l.هـ .وأصله:
" تتزكى " ،فحذف إحدى التاءين ،أو :أدغمت ،فيمن شدّد الزاي.
{ وأ ْه ِديَ َك إِلى ربك }؛ وأهديك إلى معرفته ،بذكر دالئل توحيده وصفات ذاته { ،فتخشَى } ،ألنَّ
الخشية ال تكون إالَّ مع المعرفة ،قال تعالى:
{ إِنَّ َما يَ ْخشَى هَّللا َ ِمنْ ِعبَا ِد ِه ا ْل ُعلَ َمـا ُؤ ْا }
[فاطر ]28:أي :العلماء باهلل .وقال بعض الحكماء :اعرفوا هللا ،ف َمن عرف هللا لم يقدر أن يعصيهl
طرفةَ عين .فالخشية مالك األمر ,ف َمن خشي هللا أتى منه كل خير ,و َمن أَ ِمنَ اجترأ على كل شر.
ومنه الحديثَ " :من خشي أدلج ،و َمن أدلج بلغ المنزل " قال النسفي :بدأ مخاطبته باالستفهام،
الذي معناه العرض ،كما يقول الرجل لضيفه :هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكال َم الرقيق،
ليستدعيه باللطف في القول ،ويستنزله بالمداراة من عت ّوه ،كما أمر بذلك في قوله:
{ فَقُوالَ لَهُ قَ ْوالً لَّيِِّنا ً }
[طه ]44:هـ.
{ فأراه اآليةَ الكبرى } ،الفاء :فصيحة تفصح عن جملة قد طويت تعويالً على تفصيلها في
السور األخرى ،فإنه عليه السالم ما أراه إياها عقب هذا األمر ،بل بعدما جرى بينه lوبينه lمن
المحاورات إلى أن قال:
ت} { إِن ُكنتَ ِجئْتَ بِئَايَ ٍة فَأْ ِ
[األعراف .]106:واآلية الكبرى :العصا ،أو :هي واليد ،ألنهما في حكم آية واحدة .ونسبتُها إليه
عليه السالم بالنسبة إلى الظاهر ،كما أنّ نسبتها إلى نون العظمة في قوله تعالى:
{ َولَقَ ْد أَ َر ْينَـاهُ َءايَـاتِنَا ُكلَّ َها }
كذب موسى عليه السالم .وس َّمى معجزته َصى } أيَّ : [طه ]56:بالنظر إلى الحقيقة { َّ
فكذب وع َ
بالتمرد ،بعدما َعلِ َم صحة األمر ووجوب الطاعة ،أشد العصيان
ُّ سحراً ،وعصى هللاَ ع ّز وجل
وأقبحه ،حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأساً.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته ع ّز وجل ،وترك القولة العظيمة lالتي يدّعيها الطاغية،
ويقبلها منه الفئة الباغية ،ال بإرسال بني إسرائيل من األسر فقط .قاله أبو السعود.
{ ثم أّ ْدبَر } أي :تولَّى عن الطاعة ،أو :انصرف عن المجلس { يس َعى } في معارضة اآلية ،أو:
أدبر هاربا ً من الثعبان ،فإنه ُروي أنه عليه السالم ل ّما ألقى العصا انقلب ثعبانا ً أشعر ،فاغراً فاه،
بين لحييه ثمانون ذرعاً ,فوضع لحيه األسفل على األرض ،واألعلى على القصر ،فتوجه نحو
فرعون ،فهرب وأحدث ،وانهزم الناس مزدحمين ،فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ً من قومه
وقيل :إنها ارتفعت في السماء قدر ميل ،ثم انحطت مقبلة نحو فرعون ،وجعلت تقول :يا موسى
ُمرني بما شئت ،وجعل فرعون يقول :بالذي أرسلك إالّ أخذته ،فأخذه فعاد عصا..
فأخ َذه هللاُ نكال اآلخر ِة واألُولى } باإلغراق ،فالنكال :مصدر بمعنى التنكيل ،كالسالم بمعنى { َ
التسليم ،وهو التعذيب الذي ينكل َمن رآه أو سمعه ،ويمنعه من تعاطي ما يُفضي إليه .وهو
منصوب على أنه مصدر مؤكد ،كو ْع َد هللا وصبغةَ هللا ،وقيل :مصدر لـ " أخذ " ،أي :أخذه هللا
أخذ نكال اآلخرة ،وقيل :مفعول من أجله ،أي :أخذه هللا ألجل نكال اآلخرة .وإضافته إلى الدارين
باعتبار وقوع بعض األخذ فيهما ،ال باعتبار أنَّ ما فيه من المنع والزجر يكون فيهما ،فإنَّ ذلك ال
يتصور في اآلخرة ،بل في الدنيا ،فإنَّ العقوبة األخروية lتنكل َمن يسمعها ،وتمنعه من تعاطي ما
يؤدي إليها ال محالة .وقيل :المراد باآلخرة واألولى :قوله { :أنا ربكم األعلى } وقوله:
{ َما َعلِ ْمتُ لَ ُكم ِمنْ إِلَـا ٍه َغ ْي ِرى }
[القصص .]38:قيل :كان بين الكلمتين أربعون سنة ،فاإلضافة إضافة المسبب إلى السبب.
{ إِنَّ في ذلك } أي :فيما ذكره من قصة فرعون وما فعل به { لَ ِعبرةً } عظيمة { ِلمن } شأنه أن
{ يَ ْخشَى } وهو َمن عرف هللا تعالى وسطوته.
اإلشارة :جعل القشيري موسى إشارة إلى القلب ،وفرعون إشارة إلى النفس ،فيُقال :هل أتاك
حديث القلب حين ناداه ربه بالحضرة المقدسة ,بعد طي األكوان عن مرآة نظره ،فقال له :اذهب
إلى فرعون النفس إنه طغى.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
وطغيانها :إرادتها العلو واالستظهار ،فقل له :هل لك إلى أن تَزَ َّكى وتتطهر من الخبائث ،لتدخل
الحضرة ،فأَهديك إلى معرفة ربك فتخشى ،فإنما يخشى هللاَ َمن عرفه .فأراه اآلية الكبرى ِمن
خرق العوائد ومخالفة الهوى ،ف َك َّذب وعصى ،حين رأى عزم القلب على مجاهدته ،فحشر جنوده
ِم ن حب الدنيا والرئاسة ،وإقبال الناس والحظوظ والشهوات ،فنادى ،فقال :أنا ربكم األعلى ،فال
تعبدوا غيري .هذا قول فرعون النفس ،فأخذه هللاُ نكال اآلخرة واألولى ،أي :استولى جند القلب
عليه ،فأغرقه في قلزوم بحر الفناء والبقاء .إنَّ في ذلك لعبرة ل َمن يخشى ،ويسلك طريق
التزكية ،فإنه يصل إلى بحر األحدية .وهللا تعالى أعلم بأسرار كتابه.
يقول الحق ج ّل جالله :مخاطبا ً أه َل مكة ،المنكرين للبعث ,بناء على صعوبته lفي زعمهم،
وتوبيخا ً وتبكيتاً ،بعدما بيّن سهولته على قدرته بقوله { :فَإِنَّ َما ِهي َز ْج َرةٌ َواح َدةٌ } { أأنتم أش ُّد
َخ ْلقا ً } أي :أَ َخ ْلقُكم بعد موتكم أشق وأصعب في تقديركم { أم السما ُء } أي :أم خلق السماء على
ِعظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن مالحظة أدناها ،وهذا كقوله:
ق ِم ْثلَ ُهم بَلَى }ض بِقَـا ِد ٍر َعلَىا أَن يَ ْخلُ َ
ت َواألَ ْر َ
س َمـاوا ِ { أَ َولَـ ْي َ
س الَ ِذي َخلَ َ
ق ال َّ
[يَس .]81:ثم بيَّن كيفية خلقها فقال { :بناها } أي :هللا ،وفي عدم ذكر الفاعل ،فيه وفيما عطف
عليه ،من التنبيه lعلى تعينه وتفخيم شأنه ع ّز وجل ما ال يخفى.
{ َرفَ َع َ
س ْم َكها } أي :أعلى سقفها من األرض ،وذهب بها إلى سمت العل ّو م ًّدا رفيعا ً مسيرة
خمسمائة عام { فس ّواها } أي :فعدّلها مستوية ملساء ،ليس فيها تفاوت وال فطور ،أو :تممها
بما جعل فيها من الكواكب والدراري ،وغيرها مما ال يعلمه إالَّ الخالَّق العليم ،من قولهم :س َّوى
فالن أمره :إذا أصلحه.
طش ليلها } أي :أظلمه ،ويُقال :غطش الليل وأغطشه هللا ،كما يُقال :ظلُم وأظلمه هللا. { وأ ْغ َ
ضحى ،ألنه أشرف أوقاته وأطيبها ،فكان أحق { وأخرج ضحاها } أي :أبرز نهارها ،عبّر عنه بال ُ
بالذكر في مقام االمتنان .ويجوز أن يكون أضاف الضحى إليها بواسطة الشمس ،أي :أبرز ضوء
ضحى ألنه وقت قيام سلطانها وكما إشراقها. شمسها .والتعبير بال ُ
واألرض بعد ذلك دحاها } أي :بسطها وم ّهدها لس ْكنى أهلها وتقلُّبهم في أقطارها ،وكانت حين
َ {
سر الدحو فقال:ُخلقت كورة غير مدحو ٍة ،فدحيت من تحت مكة بعد خلق السماء بألفي عام .ثم ف ّ
{ أخرج منها ماءها } بتفجير عيونها وإجراء أنهارها { ،ومرعاها }؛ كألها ،وهو ما ترعاه
البهائم ،وهو في األصل :موضع الرعي ،أو :مصدر ميمي lبمعنى المفعول ،وتجريد الجملة من
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
العاطف إِ ّما ألنها تفسير لدحاها ،أو تكملة له ،فإنَّ السكنى ال تتأتى لمجرد البسط ،بل ال بد من
تهيئة lأمر المعاش من المأكل والمشرب حتماً ،أو :ألنها حال بإضمار " قد " عند الجمهور ،أو
بدونه عند الكوفيين.
{ والجبا َل أرساها } أي :أثبتها وأثبت بها األرض أن تميد بأهلها ،وإرساء الجبال لها من باب
الحكمة ،وإالَّ فالقدرة هي الحاملة للكل .وانتصاب األرض والجبال بفعل يُفسره ما بعده .ولعل
تقديم إخراج الماء والمرعى ذكراً مع تقديم اإلرساء عليه وجوداً؛ إلبراز كمال االعتناء بأمر
المأكل والمشرب .وهذا كما ترى يدل بظاهره على تأخر دحو األرض عن خلق السماء وما فيها،
كما يروى عن الحسن :من أنه تعالى خلق األرض في موضع بيت المقدس ،كهيئة الفِ ْهر ،عليه
دخان ملزق بها ،ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات ،وأمسك الفِ ْه َر في موضعها وبسط منها
األرض ،وذلك قوله تعالى:
َكانَتَا َر ْتقاً} ...
الح َج ُر قَد َْر ما يدق به َ
الج ْو ُز ،أو ما يمأل الكفَّ .هـ. [األنبياء .]30:وفي القاموس :الفِ ْه ُر بالكسرَ :
والتحقيق في المسألة :أنَّ أول ما خلق هللاُ العرش من القبضة النورانية المحمدية ،ثم خلق
ياقوتة صفراء ،فذابت من هيبته lتعالى فصارت ماء ،ثم اضطرب الماء فعلته زبدة ،فخلق منها
األرض ،ثم عال منه دخان فخلق منه السماء ،ثم دحا األرض وهيّأ فيها أقواتها للناس واألنعام
وغيرهما ،كما قال تعالى { :متاعا ً لكم وألنعامكم } أي :فجعل ذلك تمتيعا ً لكم وألنعامكم ،فهو
مفعول ألجله؛ ألنَّ فائدة البسط والتمهيد lوإخراج الماء والمرعى واصلة لإلنسان واألنعام ،أو:
مصدر من غير لفظه ،فإنَّ قوله تعالى { :أخرج منها ماءها ومرعاها } في معنى :متّعكم بذلك.
{ فإذا جاءت الطامةُ الكبرى } أي :الداهية ال ُعظمى التي تط ّم على سائر الدواهي ،أي :تعلوها
وتغلبها ،من قولك :ط ّم األمر :إذا عال وغلب ،وهي القيامة ،أو النفخة الثانية ،أو :الساعة التي
يُساق فيها الخالئق إلى محشرهم ,أو :التي يُساق فيها أهل الجنة إلى الجنة ،وأهل النار إلى
اإلنسانُ ما س َعى } أي :يتذكر فيه كل واحد ما عمله من خير وشر ،بأن النار { ،يوم يتذ َّك ُر ِ
يُشاهده مدونا ً في صحيفته ،وقد كان نسيهِ lمن فرط الغفلة ،وطول األمل ،كقوله تعالى:
صـاهُ هللاُ َونَ ُ
سوهُ } أح َ
{ ْ
[المجادلة .]6:و " يوم " :بدل من " إذا " واألحسن :أنه مفعول بفعل محذوف ،أي :أعني.
{ وبُ ّرزَ ت الجحي ُم } أي :أظهرت إظهاراً بينا ً ال يخفى على أحد { لمن يرى } كائنا ً َمن كان ،فال
تتوقف رؤيتها إالّ على وجود حاسة البصر ،وال مانع من الرؤية وال حاجب .يُروى أنه يُكشف
عنها فتلتظي نيرانها كل ذي بصر.
{ فأ َّما َمن طَ َغى } أي :جاوز الح ّد في العصيان { وآثر الحياةَ الدنيا } الفانية l،فانهمك فيما متع به
فيها ،ولم يستعد للحياة اآلخرة األبدية باإليمان والطاعة { ،فإِنَّ الجحيم } التي ذكر شأنها { هي
المأوى } أي :مأواه .فالالم سادّة مسد اإلضافة للعلم بأنَّ صاحب المأوى هو الطاغي ،وجملة "
فأ ّما " :جواب " إذا " على طريقة:
{ فَإ ِ َّما يَأْتِيَنَّ ُكم ِمنِّى هُد ً
ى فَ َمن تَبِ َع ُهدَا َ
ى} ...
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
[البقرة ،]38:وقيل :جواب " إذا " محذوف ،وهي تفصيل له ،أي :إذا جاءت انقسم الناس على
ُّ
التنزل ،ويقتضيه مقام التهويل؛ أنَّ الجواب قسمين ،فأ ّما َمن طغى ..الخ ،والذي يستدعيه lفخامة
صل أحوال الناس بقوله: المحذوف تقديره :يكون من عظائم الشؤون ما لم تُشاهده العيون ،ثم ف َّ
فأ ّما ..الخ.
{ وأ ّما َمن خاف َمقا َم ربه } أيُ :مقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى ،يوم يتذكر
ي ،أي :زجرها عن اتّباع الشهوات الفانية، النفس عن الهوى } ال ُم ْر ِد ِّ
َ اإلنسانُ ما سعى { .ونهى
بو َخامة عاقبتها،
ولم يعتد بمتاع الحياة الدنيا وزهرتها ،ولم يغتر بزخارفها وزينتها ،علما ً منه َ
وقيل :هو الرجل يهم بالمعصية فيتذ ّكر مقامه للحساب فيتركها.
والهوى :ميل النفس إلى ما تهوى من غير تقييد بالشريعة { ،فإِنَّ الجنة هي المأوى } له ال
لغيره ،وسيأتي lتحقيقه في اإلشارة.
اإلشارة :فإذا جاءت الطامة ،وهو التجلَّي الجاللي الذي اليعرفه فيه إالّ الرجال ،يومئذ يتذكر
اإلنسان ما سعى فيه من علم التوحيد ،ف َمن كان عارفا ً باهلل في جميع األشياء عرفه في جميع
التجليات ،كيفما تل ّونت ،و َمن كان قاصراً في المعرفة في البعض وأنكره في البعض ،كما في
حديث القيامة ،حيث يتجلّى لبعض عباده في صورة ال يعرفونها ،فيُنكرونه l،ويقولون ،هذا
موضعنا حتى يأتينا ربنا ،ثم يتجلّى لهم في صورة يعرفونها ،فيُقرونه ،وهذا لقصورهم في
المعرفة ،ولو عرفوا هللا في جميع تجلياته ما أنكروه في شيء منها ،وبُ ّرزت الجحيم ل َمن يرى،
غير
أي :وبُ ّرزت حينئذ نار القطيعة ل َمن يرى .قال القشيري :أي :ظهرت جحيم الحجاب ل َمن يراه َ
األشياء ،فإنه عين األشياء في جميع التجليات ،الجمالية والجاللية ،العلوية والسفلية ،الصوريةl
والمعنوية l.هـ.
فأ َّما َمن طغى وتبع هواه ،وآثر الحياة الدنيا ،واالشتغال بها عن اإلقبال على هللا ،فإنَّ الجحيم هي
المأوى ،أي :جحيم الحرمان عن مشاهدة الرحمن ،وأ ّما َمن خاف مقام ربه ،أي :قيام ربه
باألشياء ،أو على األشياء ،واطالعه عليها ،أو قيامه بين يدي هللا غداً للحساب ،فاألول ألهل
النفس عن الهوى ،عن كل ماَ المشاهدة ،والثاني ألهل المراقبة ،والثالث ألهل المحاسبة l،ونهى
القلب عن ذكر مواله ،مما تهواه النفوس ،فإنّ الجنة هي المأوى ،جنة َ يشغل عن هللا ،ويُقسي
سه من المباحات ،وجنة الزخارف ل َمن ترك ما تهواه من المعارف ل َمن ترك ما تهوى نف ُ
المح ّرمات.
قال الورتجبي :خاطب تعالى العبا َد بهذه اآلية في أوائل مقاماتهم ،حين وجب عليهم ترك
النفوس ،وش َره هواها ،والميل إلى حظوظها ،ألنهم في وقت قصودهم إلى هللا ال يجوز لهم
الرخص والرفاهية ،فقد وجب عليهم اإلعراض عن حظوظ أنفسهم ،خوفا ً من االحتجاب عن
الوصول إلى هللا تعالى ،ولعلمهم بأنه محيط بحركات شهوات نفوسهم الخفية ،حين تميل
بخفاياها إلى مرادها دون هللا ،فإذا جادوها وقهروها بتأييد هللا أوصلهم هللا مقا َم مشاهدته ،وهي
جنة العارفين ،فإذا ترقُّوا إلى درجات المعرفة لم يحتاجوا إلى قهر النفس عن الهوى ،فإنّ
نفوسهم وأجسامهم وشياطينهم صارت روحانية ،فجانست األرواح الملكوتية l،فشهوات نفوسهم
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
األرواح في
ُ األنفس ما تشتهيl ُ هناك من تواثير lحالوة أرواحهم في مشاهدة الحق ،فتشتهيl
الغيوب والعقول والقلوب ،فيضطرهم هناك إلى كل شيء يكون للنفوس واألرواح ،جنات تظهر
فيها أنوار شهود الحق ،وأين الكافر والمعطِّل والمد ِّعي من هذا المقام؟ وهم خلقوا من الجهالة،
فيموتون في الضاللة ،وأصحاب القلوب والمعارف عيش أرواحهم عيش الربانيين ،وعيش
نفوسهم عيش الجنّانيين ـ أي أهل الجنة الحسية ـ وهللا قادر بذلك يختص برحمته َمن يشاء،
ولهذا قال عليه الصالة والسالم " :أسلم شيطاني " وقال " :نحن معاشر األنبياء أجسادنا روح
" ثم قال عن سهل :ال يَسلم من الهوى إالَّ األنبياء وبعض الصدّيقين ،ليس كلهم ،وإنما يسلم من
الهوى َمن ألزم نفسه األدب .هـ .قلت :الذي يُلزم نفسه األدب هو الذي ينزل إلى سماء الحقوق
أو أرض الحظوظ باإلذن والتمكين والرسوخ lفي اليقين ،وقليل ما هم.
ساهَا } * { فِي َم أَنتَ ِمن ِذ ْك َراهَا } * { إِلَىا َربِّ َك ُمنتَ َهاهَآ } * سا َع ِة أَيَّانَ ُم ْر َ سأَلُونَكَ ع ِ
َن ال َّ *{ يَ ْ
ض َحاهَا } َ
شيَّةً أ ْو ُ َ َ
{ إِنَّ َمآ أنتَ ُمن ِذ ُر َمن يَ ْخشَاهَا } * { َكأنَّ ُه ْم يَ ْو َم يَ َر ْونَ َها لَ ْم يَ ْلبَثُوا ْا إِالَّ َع ِ
ساها } أي :متى إرساؤها ،أي :إقامتها، يقول الحق ج ّل جالله { :يسألونك عن الساع ِة أيّان ُم ْر َ
يُريدون :متى يُقيمها هللا تعالى ويك ّونها ،وقيل :إيّان منتهاها ومستقرها ،كما أنّ مرسى السفينة
ي :في أي شيء أنت ِمن أن تذكر المحل التي تنتهي lإليه وتستقر فيه { ،فِي َم أنتَ ِمن ِذكراها } أ ّ
وقتها لهم وتعلمهم به؟ أي :ما أنت من ذكراها وتبيين وقتها لهم في شي ٍء حتى يسألونك بيانها،
إنما أنت نذير بها ،كقولك :ليس فالن من العلم في شي ٍء وهو إنكار ورد لسؤال المشركين عنها،
ألنَّ علمها مما استأثر به عالّم الغيوب وقيل :كان رسو ُل هللا صلى هللا عليه وسلم لم يزل يذكر
الساعة ويسأل عنها حتى نزلت ،فكفّ ،فهو على هذا تعجيب من كثرة ذكره لها ،أي :أنت في
شُغل وأي شغل أنت من االهتمام بالسؤال عنها.
وقالت عائشة رضي هللا عنها :كان صلى هللا عليه وسلم يسأل عن الساعة كثيراً ،فما نزلت هذه
اآلية انتهى عن ذلك .وال يرده قوله:
{ َكأَنَّكَ َحفِ ُّي َع ْن َها }
[األعراف ]187:أي :إنهم يزعمون أنك ُمبالغ في السؤال عنها حتى علمتها ولست كما
يزعمون ،ألنّا نقول هذه اآلية نزلت قبل تلك ،وأنه كان أوالً يسأل عنها حتى نُهي بهذه اآلية
فانتهى ،كما ذكر في الحديث المذكور ،فنزلت تلك مخبرة عن حاله بعد انتهائه .وهللا أعلم .قال
القشيري :من أين لك علمها ولم نعلمك بذلك ،وقيل :يوقف على قوله " :فِي َم " أي :هذا السؤال
الذي يسألونك فيم ،أي :في أي شيء هو ،فيكون إنكاراً لسؤالهم ،ثم ابتدأِ " :من ذكراها " أي:
إن ظهورك وبعثك وأنت خاتم النبيين من جملة ذكراها ،أي :أشراطها وعالمتها ،ومؤذن
بقيامها ،فال حاجة لسؤالهم عنها ،ويرده :عدم اإلتيان بهاء السكت ،ويجاب :بأنه ليس بالزم،
وإنما تَلز ُم فيما ج ّر بإضافة اسم ،لبقائه على حرف واحد ،كما هو مقرر في محله ،مع عدم ثبوته
في المصحف.
ثم أومأ تعالى إلى أنه مختص بحقيقة علمها ،فقال { :إِلى ربك منتهاها }؛ منتهى علمها متى
يكون ،ال يعلمها غيره { ،إِنما أنت منذ ُر من يخشاها } أي :لم تُبعث لتُعلمهم وقت الساعة ،وإنما
بُعثت لتُخ ّوف ِمن أهوالها َمن يخاف شدائدها { ،كأنهم يوم يرونها } أي :الساعة { لم يَلبثوا }
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ضحاها } أي :ضحى العشية ،استقلُّوا مدّة لبثهم في الدنيا لما عاينوا من في الدنيا { إِالَّ عشيةً أو ُ
الهول ،كقوله:
{ لَ ْم يَ ْلبَثُو ْا إِالَّ َ
سا َعةً ِّمن نَّ َها ٍر }
صح إضافة الضحى إلى العشية للمالبسة ،الجتماعهما في نها ٍر واحد، [األحقاف ]35:وإنما ّ
والمراد :أن مدة لبثهم لم تبلغ يوما ً كامالً ،ولكن أحد طرفي النهار عشية ٍ
يوم واح ٍد أوضحاه.
وقال أبو السعود :اآلية إما تقرير وتأكيد لما يُنبىء عنه اإلنذار من سرعة مجيء المن َذر به ،أي:
كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد اإلنذار إالّ عشية يوم واحد أو ضحاه ،فلما ترك اليوم أضيف
ضحاه إلى عشيته.
وإ ّما رد لما أدمجوه في سؤالهم ,فإنهم كانوا يسألون عنها بطريق االستهزاء مسعجلين لها،
ضحاها ،واعتبار كون اللبث في فالمعنى :كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد بها إالّ عشية أو ُ
القبور أو في الدنيا ال يقتضيه lالمقام ،وإنما الذي يقتضيه lاعتبار كونه بعد اإلنذار ،أو بعد
الوعيد ،تحقيقا ً لإلنذار ،ور ًّدا الستبطائهم .والجملة على األول :حال من الموصول ،فإنه على
تقدير اإلضافة وعلى عدمها مفعول ل ُمنذر ،كما أنَّ قوله تعالى:
{ َكأَن لَّ ْم يَ ْلبَثُو ْا إِالَّ َ
سا َعةً ِمنَ النَّ َها ٍر }
[يونس ]45:حال من الضمير lفي " نحشرهم " أي :نحشرهم مشبّهين ب َمن لم يلبث في الدنيا إالّ
ساعة من النهار ،خال أن التشبيه lهناك في األحوال الظاهرة من الزي والهيئة l،وفيما نحن فيه
من االعتقاد ،كأنه قيلِ :عدْهم مشبهين lيوم يرونها في االعتقاد ب َمن لم يلبث بعد اإلنذار بها إالّ
تلك المدة اليسيرة ،وعلى الثاني :مستأنفة ،ال محل لها من اإلعراب .هـ.
س َوت ََولَّىا } * { أَن َجآ َءهُ األَ ْع َمىا } * { َو َما يُ ْد ِري َك لَ َعلَّهُ يَ َّز َّكىا } * { أَ ْو يَ َّذ َّك ُر فَتَنفَ َعهُ *{ َعبَ َ
َصدَّىا } * { َو َما َعلَ ْي َك أَالَّ يَ َّز َّكىا } * { َوأَ َّما َمن ستَ ْغنَىا } * { فَأَنتَ لَهُ ت َ
الذ ْك َرىا } * { أَ َّما َم ِن ا ْ
ِّ
س َعىا } * { َو ُه َو يَ ْخشَىا } * { فَأَنتَ َع ْنهُ تَلَ َّهىا } * { َكالَّ إِنَّ َها ت َْذ ِك َرةٌ } * { فَ َمن شَآ َء َجآ َءكَ يَ ْ
سفَ َر ٍة } * { ِك َر ٍام بَ َر َر ٍة } ف ُّم َك َّر َم ٍة } * { َّم ْرفُو َع ٍة ُّمطَهَّ َر ٍة } * { بِأ َ ْي ِدي َ ص ُح ٍ َذ َك َرهُ } * { فَي ُ
س } أي :كلح { وت ََولَّى }؛ أعرض { أن جاءه } أي :ألن جاءه يقول الحق ج ّل جاللهَ { :عبَ َ
{ األع َمى } ،وهو عبدهللا ابن أ ِّم مكتوم ،وأ ُّم مكتوم :أ ُّم أبيه ،وأبوه :شريح بن مالك بن ربيعة
الفهري ،وذلك أنه أتى رسو َل هللا صلى هللا عليه وسلم وعنده صناديد قريش ،عُتبة وشيبة lابنا
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ربيعة ،وأبو جهل ،والعباس بن عبد المطلب ،وأمية بن خلف ،والوليد بن المغيرة ،يدعوهم إلى
اإلسالم ،رجاء أن يسلم بإسالمهم غي ُرهم ،فقال :يا رسول هللا ,علِّمني مما علمك هللا ،وكرر ذلك،
وهو ال يعلم تشاغله صلى هللا عليه وسلم بالقوم ،فَ َك ِره رسو ُل هللا صلى هللا عليه وسلم قطعه
لكالمه ،وعبس وأعرض عنه ،فنزلت ،فكان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يُكرمه l،ويقول إذا
رأه " :مرحبا ً ب َمن عاتبني فيه ربي " ،ويقول " l:هل لك من حاجة " ،واستخلفه على المدينة
مرتين.
ولم يُواجهه ـ تعالى ـ بالخطاب ،فلم يقل :عبستَ وتوليتَ ؛ رفقا ً به ومالطفة؛ ألنَّ مواجهة العتاب
من رب األرباب من أصعب الصعاب ،خالفا ً للزمخشري وابن عطية و َمن وافقهما .و " أن جاءه
والتعرض لعنوان
ُّ " :علة لـ " تولَّى " ،أو " عبس " ،على اختالف المذهبين في التنازع،
عماه إ ّم ا لتمهيد عذره في اإلقدام على قطع كالمه عليه السالم بالقوم ،واإليذان باستحقاقه
بالرفق والرأقة ،وإ ّما لزيادة اإلنكار ،كأنه تولَّى عنه لكونه أعمى .قاله أبو السعود.
ي شيء يجعلك داريا ً بحال هذا األعمى حتى تُعرض عنه { لعله يَ َّز َّكى }؛ { وما يُ ْد ِريك } أي :أ ّ
لعل األعمى يتط ّهر بما سمع منك من دنس الجهل ،وأصله :يتز َّكى ،فأدغم .وكلمة الترجي مع
الترجي بالنسبة إليه عليه السالم للتنبيهl
ّ تحقق الوقوع وارد على سنن الكبرياء ،أو :على أنّ
على أنَّ اإلعراض عنه عند كونه مرجواً للتز ِّكي مما ال ينبغي ،فكيف إذا كان مقطوعا ً بالتز ِّكي،
وفيه إشارة إلى أنَّ َمن تصدّى لتزكيتهم من الكفرة ال يرجى لهم التز ّكي والتذ ُّكر أصالً .وقوله
كرى }: تعالى { :أو َّ
يذ َّك ُر } :عطف على " ي ّزكى " ،داخل في حكم الترجي ،قوله { :فتَنفَعه ال ِذ َ
يذ َّكر " ،و َمن نصبه lفجواب الترجي ،أي :أو يتذكر فتنفعه موعظتك إن لم يبلغ عطف على " َّ
درجة التزكي التام ،أي :إنك ال تدري ما هو مترقَب منه ِمن تزكٍّ أو تذ ُّكر ،ولو دريت لَ َما فرط
ذلك منك.
{ أ َّما َمن استغنى } أيَ :من كان غنيا ً بالمال ،أو :استغنى عن اإليمان ،أو عما عندك من العلوم
صدّى }؛ تتصدى وتتعرض له باإلقبال عليه، والمعارف التي انطوى عليه القرآن { فأنت له تَ َ
واالهتمام بإرشاده واستصالحه .وفيه مزيد تنفير له صلى هللا عليه وسلم عن مصاحبتهم ،فإنّ
اإلقبال على المدبِر ليس من شأن الكرام ،أهل الغنى باهلل.
وما عليك أالَّ ي َّز َّكى } أي :وليس عليك بأس في أالَّ ي َّز ّكى باإلسالم حتى تهتم بأمره ،وتُعرض
أي شيء عليك في أالّ يز ّكى هذا الكافر.
عمن أسلم وأقبل إليك ،وقيل " :ما " استفهامية ،أيُّ :
{ وأ ّما َمن جاءك يسعى } أي :حال كونه مسرعا ً طالبا ً ِلما عندك من أحكام الرشد ،وخصال
الخير { ،وهو يخشى } هللا تعالى أو الكفار ،أي :أذاهم في إتيانك ،أو :الكبوة ،أي :السقطة،
كعادة العميان { ،فأنت عنه تَلَهَّى }؛ تتشاغل ،وأصله :تتلهىُ .روي :أنه صلى هللا عليه وسلم ما
عبس بعدها في وجه فقير قط ،وال تصدَّى ل َغني بعدُ.
{ كالَّ } أي :ال تَ ُع ْد إلى مثلها .وحاصل العتاب :ترجيح اإلقبال على َمن فيه القبول واألهلية
لالنتفاع ،دون َمن ليس كذلك ممن فيه استغناء ،وإن كان قصده عليه السالم صالحاً ،ولكن نبَّهه
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
هّللا ُ ـ تعالى ـ على طريق األولى في سلوك الدعوة إليه ،وأنّ مظنة ذلك الفُقراء؛ لتواضعهم،
بخالف األغنياء ،لتكبُّرهم وتعاظمهم .ولذلك لم يتعرض صلى هللا عليه وسلم ل َغنِي بعدها ،ولم
يُعرض عن فقير ،وكذلك ينبغي lلفضالء أمته من العلماء الدعاة إلى هللا ،وقد كان الفقراء في
مجلس الثوري أُمراء .ثم قال تعالى { :إِنها تذكرةٌ }؛ موعظة يجب أن يُتعظ بها ،ويُعمل
بموجبها ،وهو تعليل للردع عما ذكر ببيان رتبة lالقرآن العظيم الذي استغنى عنه َمن تصدّى له،
{ ف َمن شاء ّذ َك َره } أي :ف َمن شاء هّللا ُ أن يذكره ذكره .أي :ألهمه هللا االتعاظ به ،أوَ :من شاء
حفظه واتعظ به ،و َمن رغب عنها ،كما فعله المستغني ،فال حاجة إلى االهتمام بأمره.
وذ ّكر الضمير؛ ألنَّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ .وقال أبو السعود :الضميران للقرآن ،وتأنيث
األول لتأنيث خبره ،وقيل :األول للسورة ،أو لآليات السابقة ،والثاني للتذكرة؛ ألنها في معنى
الذكر والوعظ ،وليس بذلك؛ فإنَّ السورة واآليات وإن كانت متصفة بما سيأتي من الصفات
الشريفة ،لكنها ليست مما ألقي على المستغنى عنه ،واستحق بسبب ذلك ما سيأتي من الدعاء
عليه ،والتعجب ِمن كفره المفرط ،لنزولها بعد الحادثة ،وأ ّما َمن َج ْوز رجوعهما إلى العتاب
المذكور ،فقد أخطأ وأساء األدب ،وخبط خبطا ً يقضي منه العجب ،فتأ ّمل .هـ.
وحاص ُل المعنى :أنَّ هذه اآليات ـ أي آيات القرآن ـ تذكرة ،ف َمن شاء فليتعظ بها ،حاصلة { في ِ
ف } منتسخة من اللوحُ { ،م َك َّرم ٍة } عند هللا ع ّز وجل { ،مرفوع ٍة } في السماء السابعة، ص ُح ٍ ُ
أو :مرفوعة المقدار والمن ِزلةُ { ،مطَهَّر ٍة } عن مساس أيدي الشياطين ،أو :عما ليس من كالم
سفَ َر ٍة } أيَ :كتَبَة lمن المالئكة ،يستنسخون
هللا تعالى أوِ :من خل ٍل في اللفظ أو المعنى { ،بأيدي َ
س ْفر ،وهو الكتب ،وقيل :بأيدي رسل من الكتب من اللوح ،على أنه جمع " :سافِ ٍر " ،من ال َّ َ
سفارة،
سفِرون بالوحي ،بينه تعالى وبين أنبيائه ،على أنه جمع " سفير " من ال ِ المالئكة يَ ْ
سفَرة " على األنبياء ـ عليهم السالم ـ أو على القُراء ،ألنهم يقرؤون األسفار ،أو على وح ْمل " ال َ َ
الصحابة ـ رضوان هللا عليهم ـ بعيد؛ ألنَّ هذه اللفظة مختصة بالمالئكة ،ال تكاد تُطلق على
غيرهم ،وقال القرطبي " :المراد بقوله تعالى في الواقعة:
سهُ إِالَّ ا ْل ُمطَهَّ ُرونَ }
الَّ يَ َم ُّ
سفَرة "ِ { .كرام } عند هللا تعالى ،أو :متعطفين على المؤمنين يكلؤونهم [الواقعة ]79:هؤالء ال َ
ويستغفرون لهم { ،برر ٍة }؛ أتقياء ،أو :مطيعين هلل تعالى ،من قولهم :فالن يبر خالقه ،أي:
يُطيعه ،أو :صادقين ،من قولهم :ب ّر في يمينه l:صدق .وهللا تعالى أعلم.
اإلشارة :ينبغي lللداعي إلى هللا أن ينبسط عند الضعفاء ،ويُقبل عليهم بكليته lويواجههم بالبشاشة
والفرح ،سواء كانوا ضعفاء األموال ،أو ضعفاء األبدان ،كال ُعميان والمحبوسين والمرضى ،أو:
ضعفاء اليقين ،إن أقبلوا إليه ,فقد كان الشيخ أبو العباس المرسي يحتفل بمالقاة أهل العصيان
والجبابرة أكثر ِمن غيرهم ،فقيل له في ذلك ،فقال :هؤالء يأتونا فقراء منكسرين ،بخالف غيرهم
من العلماء والصالحين .قلت :وكذلك رأيتُ حال أشياخنا ـ رضي هللا عنهم ـ يَبرون بالجبابرة
سبُع فنهلس عليه فيرجع ذئباً، ليجروهم بذلك إلى هللا تعالى ،قالوا :يأتينا الرجل َ
ُّ وأهل العصيان،
ثم نهلس عليه فيرجع قِطاً ،ثم نجعل السلسلة في عنقه ونقوده إلى ربه .نَ َعم إن تزاحم حق
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
سة الدنيا، قال الورتجبي :بيَّن هللا تعالى هنا ـ يعني في هذه اآلية ـ درجةَ الفقر ،وتعظيم أهلهِ ،
وخ ّ
وتحقير أهلها ،وأنَّ الفقير إذا كان بنعت الصدق والمعرفة والمحبة كان شرفا ً له ،وهو من أهل
صحبة lاألغنياء ،ودعوتهم إلى طريق الفقراء ،إذا كان سجيتهم لم صحبة ،وال يجوز االشتغال ب ُ
ال ُ
صحبةتكن بسجية lأهل المعرفة ،فإذا كان حالهم كذلك ال يأتون إلى طريق الحق بنعت التجريد ،فال ُ
معهم ضائعة ،إال ترى كيف عاتب هللا نبيَّه بهذه اآلية بقوله { :أ ّما َمن استغنى } ..اآلية ،كيف
يتز َّكى َمن ُخلق على جبِلة حب الدنيا والعمى عن اآلخرة وال ُعقبى .هـ.
سبِي َل ي شَي ٍء َخلَقَهُ } * { ِمن نُّ ْطفَ ٍة َخلَقَهُ فَقَ َّد َرهُ } * { ثُ َّم ال َّ سانُ َمآ أَ ْكفَ َرهُ } * { ِمنْ أَ ِّ *{ قُتِ َل ا ِإلن َ
ض َمآ أَ َم َرهُ } * { فَ ْليَنظُ ِر س َرهُ } * { ثُ َّم أَ َماتَهُ فَأ َ ْقبَ َرهُ } * { ثُ َّم إِ َذا شَآ َء أَنش ََرهُ } * { َكالَّ لَ َّما يَ ْق ِ يَ َّ
شقّا ً } * { فَأَنبَ ْتنَا فِي َها َحبّا ً ض َ شقَ ْقنَا األَ ْر َ صبّا ً } * { ثُ َّم َ سانُ إِلَىا طَ َعا ِم ِه } * { أَنَّا َ
صبَ ْبنَا ا ْل َمآ َء َ اإلن َ
ِ
َ ً َ
ق غ ْلبا ً } * { َوفا ِك َهة َوأبّا ً } * { َّمتَاعا ً ُ ضبا ً } * { َوزَ ْيتُونا ً َونَ ْخالً } * { َو َحدَآئِ َ } * { َو ِعنَبا ً َوقَ ْ
لَّ ُك ْم َوألَ ْن َعا ِم ُك ْم }
يقول الحق ج ّل جالله { :قُتِ َل ا ِإلنسانُ } أي :لُعن ،والمراد :إ ّما َمن استغنى عن القرآن الكريم
الذي ذكرت نُ ُعوته الجليلة ،الموجبة لإلقبال عليه ،واإليمان به ،وإ ّما الجنس باعتبار انتظامه له
تعجب
ٌ وألمثاله من أفراده ,وقيل :المراد :أُميّة أو :عُتبة بن ربيعة { .ما أ ْكفَ َره } ،ما أشد كفره!
من إفراطه في الكفران ،وبيانٌ الستحقاقه الدعاء عليه ،وقيل " :ما " استفهامية ،توبيخي l،أي:
ي شي ٍء حقي ٍر خلَقَه؟ ثم بيّنهl أي شيء َح َملَه على الكفر؟! { من أي شي ٍء َخلَقهُ } أي :من أ ِّ
ُّ
َ
بقوله { :من نطف ٍة َخلقَه } أيِ :من نطفة مذرة ابتداء خلقه { ،فقدَّره }؛ فهيّأه لِما يصلح له،
ويليق به من األعضاء واألشكال ،أو :فقدّره أطوراً إلى أن تَم خلقه.
سر له سبيل lالخروج من بطن أمه ،بأن فتح له فم الرحم ،وألهمه أن سرهُ } أي :يَ ّ
{ ثم السبي َل يَ َّ
يتن ّكس ليسهل خروجه .وتعريف " السبيل " بالالم لإلشعار بالعموم ،أو :يَ ْ
سر له سبيل الخير أو
سر له سبيل النظر السديد ،المؤدِّي إلى اإليمان ،وهو منصوب lبفعل الشر ،على ماسبق له ،أو يَ ْ
يُفسره ما بعده.
وارى فيه تكرمةً ،ولم يجعله مطروداً على وجه األرض { ثم أماته فأ ْقبَره } أي :جعله ذا قب ٍر يُ َ
تأكله السباع والطير ،كسائر الحيوان .يُقال :قبرتَ الميت :إذا دفنته l،وأقبرته :أمرت بدفنه .وع ّد
اإلماتة من النِعم؛ ألنها وصلة في الجملة إلى الحياة األبدية والنعيم المقيم ،وألنها سبب وصول
ش َره ،على القاعدة المستمرةِ lمن حذف الحبيب إلى حبيبه { l.ثم إِذا شاء أ ْن َ
ش َرهُ } أي :إذا شاء نَ ْ
مفعول المشيئة ،أي :ثم ينشره lفي الوقت الذي شاء ،وهو يوم القيامة ،وفي تعلُّق اإلنشار
بمشيئته lـ تعالى ـ إيذان بأنّ وقته غير متعين ،قال ابن عرفة :تعليق المعاد بالمشيئة جائز ،جا ٍر
على مذهب أهل السنة؛ ألنهم يقولون :إنه جائز عقالً ،واجب شرعاً ،وأ ّما المعتزلة فيقولون
بوجوبه ،بناء على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين .هـ.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ثم أَ َم َر بالتف ُّكر في نِعم هللا ،ليكون سببا ً للشكر ،الذي هو :صرف كلية العبد في طاعة مواله،
اإلنسانُ إِلى طعامه } أي :فلينظر إلى طعامه الذي هو قِوام فلعله يقضي ما أَ َم َره فقال { :فلينظر ِ
صبًّا } عجيباً، بدنه ،وعليه يدور أمر معاشه ،كيف صيَّرناه { ،أَنَّا َ
صبَ ْبنَا الما َء } أي :الغيث { َ
ف َمن قرأ بالفتح فبدل اشتمال من الطعام ،وبالكسر استئناف.
األرض } بإخراج النبات ،أو :بالحرث ،وهو فعل هللا في الحقيقة؛ إذ ال فاعل سواه، َ ثم شققنا
صغراً أو ِكبراً ،وشكالً وهيئة ،أو :شقا ً بليغاً؛ إذ ال شقًّا } بديعا ً الئقا ً بما يشقها من النباتِ ،
{ َ
الصب والشق عادة، ّ ينبت بمطلق الشق ،وإذا نبت ال يتم عادة .و " ثم " للتراخي التي بين
سواء قلنا بالنبات أو بال َكراب ،وهو الحراثة.
يتغذى به .قال ابن عطية :الحب :جمع حبة ـ { فأنبتنا فيها َحبًّا } كالبُر والشعير وغيرهما مما ّ
بفتح الحاء ،وهو :كل ما يتخذه الناس ويُ َربونه ،وال ِحبة ـ بكسر الحاء :كل ما ينبت من البذور
وعنبا ً } أي :ثمرة ال َك ْرم ،وهذا يؤيد أن المراد بالشق :حفر
بمتخذ .هـِ { . َ وال يُ ْحفل به وال هو
األرض بالحرث أو غيره ،ألنَّ العنب ال يشق األرض في نباته ،وإنما يغرس عوداً .وقال أبو
السعود :وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع ما قيّد به المعطوف عليه ،فال ضرر
ضبا ً } وهو كل ما يقضب ،أي :يُقطع ليُؤكل في في ُخلُو نبات العنب عن شق األرض .هـ { .وقَ ْ
رطبا ً من النبات ،كالبقول وال ِه ْليَ ْون ونحوه مما يُؤكل غضاً ،وهو جملة النِ َعم التي أنعم هللا بها،
وال ذكر له في هذه اآلية إالّ في هذه اللفظة .قاله ابن عطية .وال ِه ْليَ ْون ـ بكسر الهاء وسكون
صة ،وهو ضعيف؛ صف َ َالالم :جمع هليونة l،وهو ال ِه ْندَبا .قاله ابن عرفة اللغوي ،وقيل :هو الفِ ْ
ألنها للبهائم ،وهي داخلة في األَ ْب.
ي أرض تُقلني إذاأي سماء تُظلني ،وأ ّ سئل عن األب ،فقالُّ : الصدِّيق رضي هللا عنه أنه ُ
وعن ِّ
قلتُ في كتاب هللا ما ال علم لي به .وعن عمر رضي هللا عنه أنه قرأ هذه اآلية ،فقال :كل هذا قد
األب؟ ثم رفع عصا ً كانت بيده ،فقال :هذا ل َع ْم ُر هللا التكلُّف ،وما عليك يا ابن أمر
عرفناه ،فما ُّ
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
اإلشارة :قُتل اإلنسان؛ لُعن الغافل عن ذكر هللا ,لقوله عليه السالم " :الدنيا َملعونَةٌ ،ملعونٌ ما
فيها ،إالَّ ِذ ْك ُر هللا وما َواالهُ ،وعالما ً و ُمتَعلِّما ً " ،فلم يخرج من اللعنة إالّ الذاكر والعالِم والمتعلم
شدة كفره لنِعمه ،حيث لم يُشاهد ال ُمن ِّعم في النِعم ،فيقبض منه، إذا أخلصا ،ثم عجب تعالى من ِ
ويدفع إليه ،ثم ذكر أول نشأته ومنتهاه ،وما تقوم به بِ ْنيتِه lفيما بينهما؛ ليحضه على الشكر .قال
ي شيء خلقه } ..الخ ،يعني :ما كان له ليكفر ،ألنّا خلقناه من نطفة الوجود القشيري { :من أ ّ
المطلق وهيأناه لمظهرية ذاتنا وصفاتنا ،وأسمائنا .هـ.
سره } أي :سهلنا عليه سبيل الظهور لِ َمظاهر األسماء الجاللية والجمالية، ثم قال { :ثم السبيل يَ َّ
ثم أماته عن أنانيته l،فأقبره في قبر الفناء عن رؤية الفناء ،ثم إذا شاء أنشره بالبقاء بعد الفناء.
كالَّ لِيرتدع عن كفرانه لنِعمنا ،وليستغرق أحواله في شهود ذاتنا ،ليكون شاكراً ألن ُعمنا ،ل َّما يق ِ
ض
ما اَ َم َره ،وهو الوصول إلى حضرة العيان .فكل َمن وصل إلى حضرة الشهود بالفناء والبقاء فقد
صر ،ولو أعطي عبادة الثقلين .قال قضى ما أَ َم َره به مواله ،وكل َمن لم يصل إليها فهو ُمقَ ِّ
ض هللا له أمره به ،ولو قضى له ما أمره به لَ َما عصاه .هـ .وقال القشيري :ويُقال :لم يق ِ
يف بالعهد األول ،حين خاطبه الحق بقوله: الورتجبي l:لم ِ
{ أَلَ ْ
ستُ بِ َربِّ ُك ْم قَالُو ْا بَلَى }
ت بمراد هللا منه ،وهو العبودية الخالصة .هـ .قلت :يعني مع انضمام [األعراف ]172:ولم يأ ِ
شهود عظمة الربوبية lالصافية.
وقوله تعالى { :فلينظر اإلنسانُ إلى طعامه } أي :الحسي والمعنوي ،وهو قوت القلوب
واألرواح ،أنَّا صببنا الماء صبًّا ،أي :صببنا ماء العلوم والواردات على القلوب الميتة فحييت.
صبَ ْبنا ما َء الرحمة على القلوب القاسية فَالَنتْ للتوبة ،وماء التعريف على القلوب قال القشيريَ l:
الصافية فنبتت فيها أزهار التوحيد وأنوا ُر التجريد .هـ .ثم شققنا أرض البشرية lبأنواع العبادات
ضب الزهد في والعبودية ،شقًّا ،فأنبتنا فيها :في قلبها َح َّ
ب المحبة ،و َك ْر َم الخمرة األزلية ،وقَ ْ
زهرة الدنيا وشهواتها ،وزيتونا ً يشتعل بزيتها مصابيح العلوم ،ونخالً يجنى منها ثمار حالوة
المعاملة ،وحدائق ،أي :بساتين المعارف متكاثفة التجليات ،وأبًّا ،أي :مرعى ألرواحكم ،بالفكرة
والنظرة في أنوار التجليات الجاللية والجمالية ،فيأخذ النصيب من كل شيء ،ويعرف هللا في كل
شيء ،كما قال شيخ lشيوخنا ،سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي هللا عنه:
احبَتِ ِه
ص ِ آخةُ } * { يَ ْو َم يَفِ ُّر ا ْل َم ْر ُء ِمنْ أَ ِخي ِه } * { َوأُ ِّم ِه َوأَبِي ِه } * { َو َ ص َّ ت ال َّ *{ فَإ ِ َذا َجآ َء ِ
ضا ِح َكةٌ سفِ َرةٌ } * { َ َوبَنِي ِlه } * { لِ ُك ِّل ا ْم ِرى ٍء ِّم ْن ُه ْم يَ ْو َمئِ ٍlذ شَأْنٌ يُ ْغنِي ِه } * { ُو ُجوهٌ يَ ْو َمئِ ٍlذ ُّم ْ
ش َرةٌَ { * } lو ُو ُجوهٌ يَ ْو َمئِ ٍذ َعلَ ْي َها َغبَ َرةٌ } * { ت َْر َهقُ َها قَت ََرةٌ } * { أُ ْولَـائِكَ ُه ُم ا ْل َكفَ َرةُ ا ْلفَ َج َرةُ } ستَ ْب ِ ُّم ْ
صاخةُ } أي :صيحة القيامة ،وهي في األصل :الداهية يقول الحق ج ّل جالله { :فإِذا جاءت ال َّ
ص َّخ لحديثه l:إذاسميت بذلك ألنَّ الخالئق يَصخون لها ،اي :يُصيخون لهاِ ،منَ : العظيمة l،و ُ
أصاخ له واستمعُ l،وصفت بها النفخة الثانية ألنَّ الناس يصخون لها ،وقيل :هي الصيحة التي
تصخ اآلذان ،أي :تصمها ،لشدة وقعها .وجواب (إذا) :محذوف أي :كان من أمر هللا ما ال يدخل
يفر المر ُء من أخيه } ،فالظرف متعلق بذلك الجواب، تحت نطاق العبارة ،يدل عليه قوله { :يو َم ُّ
وقيل :منصوب بأعني ،وقيل :بدل من " إذا " أي :يهرب من أخيه الشتغاله بنفسه ،فال يلتفت
يفر أيضا ً من { أُم ِه وأبي ِه } مع شدة محبتهم فيه في الدنيا،
إليه وال يسأل عنه { ،و } ُّ
{ وصاحبت ِه } أي :زوجته { وبني ِه } ،بدأ باألخ ثم باألبوين؛ ألنهما أقرب منه l,ثم بالصاحبة
يفر من أخيه :هابيل ،ومن أبويهl: أحب ،فاآلية من باب الترقي .وقيل :أول َمن ُّ والبنين؛ ألنهم ُّ
إبراهيم ،ومن صاحبته :نوح ولوط ،ومن ابنه :نوح { .لكل امرى ٍء منهم يومئ ٍذ شأنٌ يُ ْغنيه } lأي:
لكل واحد من المذكورين شغل شاغل ،وخطب هائل ،يكفيه في االهتمام به ،ويشغله عن غيره.
ثم بيَّن أحوال المذكورين وانقسامهم إلى السعداء واألشقياء ،بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء،
سفِرةٌ } أي :مضيئة lمتهللة ،من :أسفر الصبح :إذا أضاء ،قيل :ذلك ِمن فقال { :وجوه يومئ ٍlذ ُم ْ
قيام الليل ،وقيلِ :من إشراق أنوار اإليمان في قلوبهم { ،ضاحكةٌ مستبشرةٌ } بما تُشاهد من
النعيم المقيم والبهجة الدائمة { l.ووجوه يومئ ٍذ عليها غبرةٌ } أي :غبار وكدور { ،تَرهقها } أي:
تعلوها وتغشاها { قَتَ َرةٌ } أي :سواد وظُلمة { أولئك هم الكفرةُ } ،اإلشارة إلى أصحاب تلك
الوجوه .وما فيه من معنى البُعد لإليذان ببُعد درجتهم في السوء ،أي :أولئك الموصوفون بسواد
الوجوه وغبرتها هم الكفرة { الفجرةُ } أي :الجامعون بين الكفر والفجور ،ولذلك جمع هللا لهم
بين السواد والغبرة .نسأل هللا السالمة والعافية.
اإلشارة :فإذا جاءت الصاخة ،أي :النفحة اإللهية التي تجذب القلوب إلى الحضرة القدسية,
فتأنّست القلوب باهلل ،وفرتْ مما سواه فترى الرجل حين تهب عليه هذه النفحة ،بواسطة أو بغير
واسطة ،يفر من الخلق ،األقارب واألجانب ،أُنسا ً باهلل وشُغالً بذكره ،ال يزال هكذا حتى يصل إلى
الناس بجسمه l,ويفارقهم بقلبه ،كما قالت
َ ي تم ُّكن ،فحينئذ lيخالطمواله ،ويتمكن من شهوده أ َّ
رابعة العدوية رضي هللا عنها:
وأَبَ ْحتُ جسمي َمنْ أراد ُجلوسي إِنَّي َجعلتُكَ في الفُؤَ ا ِد ُم َحدّثي
وحبيب قَ ْلبي في الفُؤا ِد أنِيسي
ُ س ُم مني لِ ْل َجلِيس ُمؤَ انِسفَا ْل ِج ْ
وعارف إالّ وهو اليو َم يَ ُّ
فر ٍ قال القشيري l:قالوا :االستقامة أن تشهد الوقت قيامة ،فَما ِمن َولِ ًّي
الخ ْلق ال بقلبه ،ثم ذكر شعر رابعةُ. بقلبه من الجميع؛ ألنّ لكل شأنا ً يُغنيه ،فالعارفُ مع َ
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
وقال الورتجبي :أ ّكد هللا أمر نصيحته lلعباده أالّ يعتمدوا إلى َمن سواه في الدنيا واآلخرة ،وأنَّ ما
سواه ال ينقذه ِمن قبض هللا حتى يف ّر مما دون هللا إلى هللا .هـ .وقال في قوله تعالى { :لكل
امرىء منهم يومئذ شأن يُغنيه } :لكل واح ٍد منهم شأن يشغله ،وللعارف شأن مع هللا في
مشاهدته ،يُغنيه عما سوى هللا .هـ.
اللهم أسفر وجوهنا بنور lذاتك ،وأضحكنا وبَشِّرنا بين أوليائك في الدنيا واآلخرة ،إنك على كل
شيء قدير ،وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً.
سيِّ َرتْ } * { َوإِ َذا ا ْل ِعشَا ُر س ُك ِّو َرتْ } * { َوإِ َذا النُّ ُجو ُم ان َكد ََرتْ } * { َوإِ َذا ا ْل ِجبَا ُل ُ *{ إِ َذا ال َّ
ش ْم ُ
وس ُز ِّو َجتْ } * س ِّج َرتْ } * { َوإِ َذا النُّفُ ُ ش َرتْ } * { َوإِ َذا ا ْلبِ َحا ُر ُ وش ُح ُِعطِّلَتْ } * { َوإِ َذا ا ْل ُو ُح ُ
س َمآ ُءش َرتْ } * { َوإِ َذا ال َّ الص ُحفُ نُ ِ ب قُتِلَتْ } * { َوإِ َذا ُّ سئِلَتْ } * { بِأ َ ِّ
ى َذن ٍ { َوإِ َذا ا ْل َم ْو ُءو َدةُ ُ
ض َرتْ } س َّمآ أَ ْح َس ِّع َرتْ } * { َوإِ َذا ا ْل َجنَّةُ أُ ْزلِفَتْ } * { َعلِ َمتْ نَ ْف ٌ شطَتْ } * { َوإِ َذا ا ْل َج ِحي ُم ُ ُك ِ
الشمس ُك ِّورتْ } أيُ :ذهب بضوئها ،من ك َّورت العمامة :إذا لففتها،
ُ يقول الحق ج ّل جالله { :إِذا
أي :يُلفّ ضوؤها لفًّا ،فيذهب انبساطه وانتشاره ،أو :ألقيت عن فلكها ،كما وصفت النجوم
باالنكدار ،من :طعنَة فك ّوره :إذا ألقاه على األرض .وعن أبي صالحُ :ك ِّورت :نُ ّكست ،وعن ابن
ضت عباس رضي هللا عنه :تكويرها :إدخالها في العرش { .وإِذا النجو ُم ان َكد َرتْ } أي :انق ّ
وتساقطت ،فال يبقى يومئ ٍlذ نج ٌم إالّ سقط على األرض .قال ابن عباس رضي هللا عنه :النجوم
قناديل معلّقة بسالسل من نور بين السماء واألرض ,بأيدي مالئكة من نور ،فإذا مات َمن في
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
السموات و َمن في األرض قطعت من أيديهم ،وقيل :انكدارها :انطماس نورها ،ويُروى :أن
الشمس والنجوم تُطرح في جهنم ،ليراها َمن عبدها ،كما قال:
ب َج َهنَّ َم } { إِنَّ ُك ْم َو َما تَ ْعبُدُونَ ِمن دُو ِن هَّللا ِ َح َ
ص ُ
[األنبياء.]98:
سيِّرتْ } عن أماكنها بالرجعة الحاصلة ،فتسير عن وجه األرض حتى تبقى قاعا ً { وإِذا الجبال ُ
ش َراء ،وهي الناقة التي م ّر على صفصفا ً ال ترى فيها ِعوجا ً وال أمتاً { .وإِذا ال ِعشَار } جمعُ :ع َ
حملها عشرة أشهر ،وهو اسمها إلى أن تضع لتمام سنة l،وهي أ ْنفس ما يكون عند أهلها،
وأع ّزها عليهمُ { ،عطِّلَتْ }؛ تُركت مهملة؛ الشتغال أهلها بأنفسهم ،وكانوا يحبسونها إذا بلغت
أحب ما تكون إليهم ،لشدة الهول ،فيحتمل أن يكون ذلك حقيقة ،تُبعث كذلك هذا الحال ،فتركوها ّ
شرت } الوحوش ُح ِ
ُ فيغيبون عنها لشدة الهول ،ويحتمل l:إن يكون كناية عن شدة األمر { .وإِذا
أيُ :جمعت من كل جانب ،وقيل :بُعثت للقصاص ،قال قتادة :يُحشر ك ُّل شي ٍء حتى الذباب
للقصاص ،فإذا قضى بينها ُردّت تراباً ،فال يبقى منها إالّ ما فيه سرور لبني آدم ،كالطاووس
س ّجرتْ } أي :أُحميت ،أو ُملئت وفُجر بعضها إلى بعض ،حتى تصير lبحراً ونحوه { .وإِذا البحار ُ
واحداً ،كما قال تعالى:
{ َوإِ َذا ا ْلبِ َحا ُر فُ ِّج َرتْ }
سجر التنّور :إذا مأله بالحطب ،وقيل :يُقذف بالكواكب فيها ،ثم تُضرم فتصير [األنفطار ،]3:من َ
س ِّجرتْ " حينئذ :قُذف بها في النار ,وقد ورد أنّ في النار بحاراً من نار. نيراناً ،فمعنى " ُ
{ وإِذا النفوس ُز ِّوجتْ } أي :قُرنت بأجسادها ،أو :قرنت بشكلها ،الصالح مع الصالح في الجنة،
بالحور ،ونفوسوالطالح مع الطالح في النار ،أو :بكتابها ،أو بعملها ،أو :نفوس المؤمنين ُ
الكافرين بالشياطين { .وإِذا الموؤدةُ } أي :المدفونة حية ،وكانت العرب تئد البنات مخافة
اإلمالق ،أو لخوف العار بهم من أجلهن ،وقيل :كان الرجل إذا ُولد له بنت ألبسها جبة من صوف
أو شعر ،حتى إذا بلغت ست سنين ذهب بها إلى الصحراء ،وقد حفر لها حفرة ،فيلقيها فيها،
ويهيل عليها التراب .وقيل :كانت الحامل إذا اقترتب ،حفرت حفرة ،فتمتخض عليها ،فإذا ولدت
ب قُتلتْ } ،وتوجيهl سئِلَتْ بأ ّ
ي ذن ٍ بنتا ً رمت بها ،وإذا ولدت ابنا ً َ
ض ّمته l،فإذا كان يوم القيامة { ُ
السؤال لها لتسليتها ،وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها ،وإسقاطه عن درجة الخطاب،
والمبالغة في تبكيتهl.
ّ
وفيه دليل على أنَّ أطفال المشركين ال يُعذبون ،وأنَّ التعذيب ال يكون بغير ذنب.
صحف األعمال ،فإنها تُطوى عند الموت وتُنشر عند الحساب ،قال ش َرتْ } أيُ :صحفُ نُ ِ { وإِذا ال ُ
صلى هللا عليه وسلم " :يُحش ُر الناس يوم القيام ِة ُحفَاةً عراة " فقالت أ ُم سلمة :فكيف بالنساء؟!
ف ،فيها مثاقي ُل الذ ِّر،
الص ُح ِ الناس يا أم سلمة " فقالت :وما شغلهم؟ فقال " :نَ ْ
ش ُر ُّ ُ ش ِغل
فقالُ " :
ُ
الخ ْردل " وقيل :نُشرت l:فرقت على أصحابها ،وعن مرثد بن َوداعة :إذا كان يوم ومثاقيل َ
ِ
ص حف من تحت العرش ،فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية ،وتقع القيامة تطايرت ال ُ
صحيفة الكافرين في يده في سموم وحميم ،أي :مكتوب فيها ذلك ،وهذه صحف غير األعمال.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
طتْ } ،قُطعت وأزيلت ،كما يُكشط الجلد عن الذبيحة ،والغطاء عن الشيء ش َ { وإِذا السما ُء ُك ِ
س ِّعرتْ } أي :أوقدت إيقاداً شديداً ،غضبا ً على العصاة { ،وإِذا الجنة المستور { l،وإِذا الجحي ُم ُ
أُ ْزلِفَتْ } أي :قُربت من المتقين ،كقوله تعالى:
{ َوأُ ْزلِفَ ِ
ت ا ْل َجنَّةُ لِ ْل ُمتَّقِينَ َغ ْي َر بَ ِعي ٍد }
[قَ.]31:
عن ابن عباس رضي هللا عنه :إن هذه ثِنتا عشرة خصلة ،ستٌّ في الدنيا ،فيما بين النفختين،
سجرتْ } على أنَّ المراد بحشر الوحوش: وهن من أول السورة إلى قوله تعالى { :وإذا البحار ُ
جمعها من كل ناحية ،ال حشرها للقصاص ،وستٌّ في اآلخرة ،أي :بعد النفخة الثانية l.والمشهور
من أخبار البعث :أنَّ تلك الخصال كلها بعد البعث ،فإنَّ الشمس تدنو من الناس في الحشر ،فإذا
فرغ من الحساب ُك ِّورت ،والنجوم إنما تسقط بعد انشقاق السماء وطيها ،وأ ّما الجبال ففيها
اختالف حسبما تقدّم ،وأ ّما ال ِعشار فال يتصور إهمالها إالَّ بعد بعث أهلها.
وقوله تعالى { :علمتْ نفس ما أحضرت } :جواب " إذا " ،على أنَّ المراد زمان واحد ممتد،
يسع ما في سياقها وسياق ما عطف عليها من الخصال ،مبدؤه ،النفخة األولى ،ومنتهاه :فصل
القضاء بين الخالئق ،أي :تيقنت ك ُّل نفس ما أحضرت من أعمال الخير والشر ،والمراد
بحضورها :إ ّما حضور صحائفها ،كما يُعرب عنه نش ُرها ،وإ ّما حضور أنفسها ،على أنها تُش ّكل
الحسن والقُبح ،وعلى ذلك حمل قوله تعالى: بصورة مناسبة لها في ُ
{ َوإِنَّ َج َهنَّ َم لَ ُم ِحيطَةٌ بِا ْل َكافِ ِرينَ }
[التوبة ،49l:العنكبوت ،]54:وقوله تعالى:
{ إِنَّ الَّ ِذينَ يَأْ ُكلُونَ أَ ْم َوا َل ا ْليَتَا َمى} ...
[النساء ،]10:اآلية ،وقوله عليه السالم في حق َمن يشرب في آنية الذهب " :إنما يُ َج ْرج ُر في
العلم يظهر في عالم الخيال على صورة اللبن ،كما بطنه نار جهنم " وال بُعد في ذلك ،أال ترى أنَّ ِ
ال يخفى على َمن له خبرة بأحوال الحضرات الخمس ،وقد ُروي عن عباس رضي هللا عنه أنه
قال " :يُؤتى باألعمال الصالحة على صورة حسنة ،وباألعمال السيئة على صورة قبيحة،
فتوضع في الميزان " ،وأيًّا ما كان فإسناد إحضارها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر هللا ع ّز
وجل ،كما نطق به قوله تعالى:
س َّما َع ِملَتْ ِمنْ َخ ْي ٍر ُّم ْح َ
ضراً} .. يَ ْو َم تَ ِج ُد ُك ُّل نَ ْف ٍ
[آل عمران ]30:اآلية؛ ألنها ل ّما عملتها في الدنيا فكأنها أحضرتها في الموقف ،ومعنى علمها
بها حنيئذ :أنها تُشاهد جزاءها ،خيراً كان أو ش ًّرا.
اإلشارة :اعلم أنَّ النفس والروح والسر أسماء لمس َّمى واحد ،وهو اللطيفة الالهوتية lالسارية
سميت نفساً ،فإذا تطهرت بالتقوى الكاملة في األبدان ،فما دامت تميل lإلى المخالفة والهوى ُ
سميت س ًّرا ،فاإلشارة في قوله { :إذا
سميت روحا ً فإذا تز ّكت وأشرقت عليها أسرار الذات ُُ
الشمس ُكورت } إلى تكوير النفس وطيها ،حين انتقلت إلى مرتبة الروح ،وإذا النجوم :نجوم
ق منها للعارف إالّ ما يحتاج إليه
علم الرسوم ،انكدرت حين أشرقت عليها شمس العرفان ،فلم يب َ
من إقامة رسم العبودية ،يعني يقع االستغناء عنها ،فإذا تنزل lإليها حققها أكثر من غيره ،إذا
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
العشا ُر
سيرت؛ ألنّ نوره ضعيف كنور القمر مع طلوع الشمس ،وإذا ِ الجبال؛ جبال العقلُ ،
عُطلتْ ،أي :النفوس الحاملة أثقال األعمال واألحوال ،وأعباء التدبير واالختيار ،فيقع الغيبة
عنها بأثقالها ,وإذا الوحوش ،أي :الخواطر الردية ُحشرتْ وغرقتْ في بحر األحدية ،وإذا البحا ُر
سجرتْ ،أي :فُجرت وانطبقت على الوجود ،فصارت بحراً واحداً متصالً أوله بحار األحدية ُ
بآخره ،وظاهره بباطنه ،وإذا النفوس ،أي :األرواحُ ،زوجتْ بعرائس المعرفة في البقاء بعد
سرر التقريب واالجتباء .وقال سهل :تآلفت نفس الطبع مع نفس الروح ،ففرحت في الفناء ،على ُ
نعيم الجنة ،كما كانتا متآلفتين في الدنيا على إدامة الذكر .هـ.
ب قُتلتْ ،أي :فكرة القلوب التي عطلت وأُميتت بحب الدنيا والفناء
ي ذن ٍسئِلَتْ بأ ّ
وإذا الموؤودة ُ
فيها ،حتى انصرفت إلى التف ُّكر في خوضها ،وتدبير lشؤونها ،فتُسأل بأي ذنب قُتلت ,حتى تعطّلت
فكرتها في أسرار التوحيد؟ وقال القشيري l:هي األعمال المشوبة بالرياء ،المخلوطة بالسمعة
صحف؛ الواردات اإللهية نُشرتْ على القلوب القدسية ،فظهرت أنوا ُرها على والهوى .هـ .وإذا ال ُ
األلسنة بالعلوم اللدنية ،وعلى الجوارح باألخالق السنية ،وإذا السما ُء ُكشطتْ ،إي سماء الحس
س ّعرتْ ألهل الفرق ،وإذا الجنة جنة
تكشطت عن أسرار المعاني ،وإذا الجحيم ،نار القطيعةُ ،
المعارف ،أُزلفت ألهل الجمع والوصال ،علمت نفس ما أحضرت من المجاهدة عند كشف أنوار
المشاهدة .وباهلل التوفيق.
يقول الحق ج ّل جالله { :فال أُقسم } " ،ال " صلة ،أي :أُقسم { ُ
بالخنَّس } أي :بالكواكب
ي الخمسة ،وهي :بهرام الرواجعِ ،منَ :خنَس إذا تأخر ،وهي ما عدا النيرين من الدرار ّ
والزهرة ،والمشتري l،فترى النجم في آخر البرج إذا ك َّر راجعا ً إلى
[المريخ] l،وزحل ,وعطاردُّ ،
الج َوا ِر } أي :السيّارة { ال ُكنَّس } أي :المستترة l،جمع كانس وكانسة ،وذلك أنَّ هذه
أولهَ { ،
النجوم تجري مع الشمس والقمر ،وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس ،فخنوسها :رجوعها،
وكنوسها :اختفاؤها تحت ضوئها ،من ُكنس الوحش :إذا دخل كناسه ،أي :بيته الذي يتخذه من
أغصان الشجر ،وقيل :هي جميع الكواكب ،تختنس بالنهار ،فتغيب عن العيون ،وتكنس بالليل،
أي :تطلع في أماكنها.
{ واللي ِل إِذا عسعس }؛ أقبل بظالمه ،أو :أدبر ،فهو من األضداد ،وقال الفراء :أجمع المفسرون
ق منه إالّ
س ْعسع :إذا أدبر ولم يب َ
على أن معنى عسعس :أدبر ،تقول العرب :عسعس الليل و َ
اليسير ،قال الشاعر:
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
وجواب القسم { :إِنه } أي :القرآن { لقو ُل رسو ٍل كريم } على ربه ،وهو جبريل عليه السالم ـ
قاله عن هللا ـ ع ّز وجل ،وإنما أضيف القرآن إليه؛ ألنه هو الذي نزل به.
{ ذي قو ٍة }؛ ذي قدرة على ما كلف به ،ال يعجز عنه وال يضعف { ،عند ذي العرش مكي ٍن } أي:
عند هللا ذا مكانة رفيعة ورتبة lعالية ،ول ّما كانت المكانة على حسب حال الممكن قال { :عند ذي
العرش } ليدل على عظم منزلته ومكانته ،والعندية :عندية تشريف lوإكرام ،ال عندية مكان.
مطاع ثَ َّم } أي :في السموات يُطيعه َمن فيها ،أو عند ذي العرش تُطيعه مالئكتُه المقربون،
ٍ {
يصدون عن أمره ،ويرجعون إليه ،وقال بعضهم :ومن طاعتهم له :فتحوا أبواب السموات ليلة
المعراج باستفتاحه لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم وفتح خزنةُ الجنة الجنةَ لمحم ٍد حتى دخلها،
وكذا النار حتى نظر إليها .هـ { .أمين } على الوحي.
صاحبُكم } هو الرسول صلى هللا عليه وسلم { بمجنو ٍن } كما تزعم الكفرة ،وهو عطف ِ { وما
سم عليه { ،ولقد رآه } أي :رآى محم ٌد صلى هللا عليه وسلم على جواب القسم ،مدخول في المق َ
ُ
جبري َل على صورته التي خلقه هللاُ عليها { ،باألفق المبين } أي :بمطلع الشمس األعلى ،وقال
ابن عباس :قال النبي صلى هللا عليه وسلم لجبريل " :إني أُحب أن أراك في الصورة التي تكون
عليها في السماء " قال :أتقدر على ذلك؟ قال " :بلى " قال :فأين تشاء؟ قال " :باألبطح " ،
قال :ال يسعني ،قال " :ب ِمن ًى " ،قال :ال يسعني ،قال " :فبعرفات " قال :ذلك بالحري أن
يسعني ،فواعده ،فخرج النبي صلى هللا عليه وسلم للوقت ،فإذا هو قد أقبل من جبال عرفات
بخشخشة وكلكلة ،قد مأل ما بين المشرق والمغرب ،ورأسه في السماء ،ورجاله في األرض،
النبي صلى هللا عليه وسلم خ ّر مغشيًّا عليه ،فتح ّول جبري ُل في صورته ،فض ّمه إلى
ُّ فلما رآه
صدره ،وقال :ال تخف ،فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ،ورجاله في التخوم
السابعة ،وإنَّ العرش لعلى كاهله ،وإنه ليتضاءل أحيانا ً من مخافة هللا تعالى حتى يصير lمثل
الوصع أي :العصفورـ حتى ما يحمل عرش ربك إالّ عظمتهl.
أو :ولقد رأى جبري َل عليه السالم ليلة المعراج .أو :لقد رآى ربه ،وكان محمد صلى هللا عليه
وسلم باألُفق األعلى.
ب } أي :وما محمد على الوحي ،وما يخبر به من الغيوب { بضنين }؛ { وما هو على الغي ِ
ببخيل،على قراءة الضاد ،من :ضنَّ بكذا :بخل به ،أي :ال يبخل بالوحي كما يبخل الكهان رغبة
الح ْلوان ،بل يُعلّمه لكل َمن يطلبه وال يكتم شيئا ً منه l،أو :بمتهم على قراءة :المشالة ،من في ُ
الظنة وهي التهمة ،أي :ال ينقص شيئا ً مما أوحى إليه أو يزيد فيه { ،وماهو بقول شيطان
رجيم }؛ طريد ،وهو كقوله:
{ َو َما تَنَ َّزلَتْ بِ ِه ال َّ
شيَا ِطينُ }
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
[الشعراء ]210:أي :ليس هو بقول المسترقة للسمع ،وهو نفي لقولهم :إنه كهانة أو سحر.
ق الواضح؟ وهو استضالل لهم ،كما يقال لتارك الجادة وذهب في { فأين تذهبون } وتتركون الح َّ
التيه :أين تذهبُ ،مثَّلت حالهم في تركهم الحقّ ،وعدولهم عنه إلى الباطل ،ب َمن ترك طريق
فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة الجادة ،وسلك في غير طريق .وقال الزجاج :معناهُّ :
التي بيَّ ْنتُ لكم؟ وقال الجنيد :فأين تذهبون عنا ،وإن من شيء إالَّ عندنا :هـ .والفاء لترتيب ما
بعدها على ما قبلها ،أي :لظهور أنه وحي مبين ،وليس مما يقولون في شيء فأين تذهبون
عنه؟ { إِن هو إِالّ ِذ ْك ٌر للعالَمين } أي :موعظة وتذكير للخلق { ل َمن شاء منكم } :بدل من
العالمين بإعادة الجار { ،إن يستقيم } :مفعول " شاء " أي :القرآن تذكير وموعظة ل َمن شاء
االستقامة ،يعني :إن الذي شاؤوا االستقامة بالدخول في اإلسالم هم المنتفعون بالذكر ،فكأنه لم
يوعظ به غيرهم { ،وما تشاؤون } االستقامة { إِالّ أن يشاء هللا }.
ول ّما نزل قوله تعالى { :ل َمن شاء منكم أن يستقيم } قال أبو جهل :األمر إلينا ،إن شئنا استقمنا،
وإن شئنا لم نستقم ،فأنزل هللا تعالى { :وما تشاؤون إِالّ أن يشاء هللا رب العالمين } أي :مالك
الخلق ومربيهم أجمعين ،قال ابن منبه :قرأت بضعا ً وثمانين كتابا ً مما أنزل هللا ،فوجدتُ فيها:
َمن جعل لنفسه شيئا ً من المشيئة lفقد كفر.
وقال الواسطي :أعجزك في جميع أوصافك ،فال تشاء إالّ بمشيئته l،وال تعمل إالّ بقوته ،وال تطيع
إالّ بفضله ،وال تعصي إالّ بخذالنه ،فماذا يبقى لك ،وبماذا تفتخر من أفعالك ،وليس لك منها
شيء؟ .هـ.
وقال الطيبي عن اإلمام :إنَّ مشيئة االستقامة موقوفة على مشيئة هللا؛ ألن مشيئة lالعبد محدثة،
فال بد لحدوثها من مشيئة lأخرى ،ثم قال :وقول المعتزلة :إن هذه المشيئة lمخصوصة بمشيئةl
القهر واإللجاء ضغيف؛ ألنَّا بيَّنَّا أنّ المشيئة االختيارية حادثة ،وال بد من محدث يحدثها .هـ.
بالخنَّس؛ الحواس الخمس ،وهي :السمع والبصر والشم والذوق والوجدان اإلشارة :فال أُقسم ُ
الباطني ،فإنها تخنس ،أي :تتأخر عند سطوع حالوة الشهود ،وهي الجوار ال ُكنَّس؛ ألنها تجري
في تحصيل هواها عند الغفلة أو الفترة ،وتستتر عند الذكر أو اليقظة ،والليل إذا عسعس ،أي:
صبح
صبح ،أيُ : ليل القطيعة إذا أظلم على العبد برؤية وجوده ووقوفه مع عوائده ،وال ُ
االستشراف lعلى نهار المعرفة ،إذا تنفَّس ثم تطلع شمسه شيئا ً فشيئاً ،إنه ،أي :الوحي اإللهامي
لَقَو ُل رسول كريم واراد رباني ،ذي قوة؛ ألنه يأتي من حضرة ق ّهار قوي متين ،فال يُصادم شيئا ً
من المساوىء إالّ دمغه ،عند ذي العرش مكين ،ولذلك تَ َم َّكن صاحبه مع الحق ،واكتسب مكانة
عنده ،حيث كان من المق َّربين السابقين؛ مطاع ثَ َّم أمين؛ ألنّ الوارد اإللهي تجب طاعته؛ ألنه
يتجلّى من حضرة الحق ،وهو أمين على ما يأتي به من العلوم ،وما صاحبكم بمجنون ،يعني
العارف صاحب الواردات األلهية ،ولقد رآه ،أي :رأى ربه بعين البصيرة والبصر ،باألُفق المبين،
وهو على األسرار والمعاني ،حيث عرج بروحه من عالم الحس إلى عالم المعنى ،أو :من عالم
األشباح إلى عالم األرواح ،وماه هو على الغيب بضنين ،أي :ليس العارف الذي يُخبر عن أسرار
التوحيد الخاص ب ُمتَّ َهم ،وال بخيل ،بل يجود به على َمن يستحقه ،وما هو بقول شيطان رجيم ،إذ
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ق لهم شيطان حتى يخلط وسوسته lبواردات قلوبهم ،فأين تذهبون عن اتباع طريقة لم يب َ
الموصلة إلى حضرة الحق ،إن هو إال ذكر للعالمين ,أي :ما جعله هللا في كل زمان إالّ ليُ َذ ِّكر أهل
زمانه ،ل َمن شاء أن يستقيم lعلى طريق العبودية ويفضي إلى مشاهدة الربوبية ،ولكن األمر كله
شئنا بفضلك ،واقصدنا بعنايتك ،وخصنا بيد هللا ،وما تشاؤون إالّ أن يشاء هللا رب العالمين .اللهم ِ
برعايتك ،واجعلنا ممن سبقت لهم العناية الكبرى ،آمين.
ب انتَثَ َرتْ } * { َوإِ َذا ا ْلبِ َحا ُر فُ ِّج َرتْ } * { َوإِ َذا ا ْلقُبُو ُرس َمآ ُء انفَطَ َرتْ } * { َوإِ َذا ا ْل َك َوا ِك ُ
*{ إِ َذا ال َّ
س َّما قَ َّد َمتْ َوأَ َّخ َرتْ }
بُ ْعثِ َرتْ } * { َعلِ َمتْ نَ ْف ٌ
يقول الحق ج ّل جالله { :إِذا السما ُء انفطرتْ } أي :انشقت لنزول المالئكة ،كقوله:
س َمآ ُء فَ َكانَتْ أَ ْب َوابا ً } { َوفُتِ َح ِ
ت ال َّ
الكواكب انتثرتْ } أي :تساقطت متفرقة { ،وإِذا البحار فُ ِّجرتْ }؛ فُتح بعضها ُ [النبأ { ،]19:وإِذا
ُ
إلى بعض ،فاختلط العذب باألجاج ،وزال ما بينها من البرزخ والحاجز ،وصارت البحار بحراً
واحداًُ .روي :أنَّ األرض تنشق ،فتغور تلك البحار ،وتسقط في جهنم ،فتصير lنيراناً ،وهو معنى
التسجير المتقدم عند الحسن { .وإِذا القبو ُر بُ ْعث ِرتْ } أي :قُلب ترابها ،وأُخرج موتاها ،يقال:
نفس ما قدَّمتْ
ٌ بعثرت الحوض وبحثرته l:إذا جعلت أسفله أعاله ،وجواب " إذا "َ { :علِ َمتْ
وجوزي بعمله ،ألنَّ المراد بها زمان وأخ َرتْ } أي :إذا كانت هذه األشياء قرأ ك ُّل إنسان كتابهُ ، َّ
صحف ،ال أزمنة متعددة واحد ،مبدأه :النفخة األولى ،ومنتهاه :الفصل بين الخالئق ونشر ال ُ
وأخر " :ما حسب تعددها ،وإنما كررت لتهويل ما في حيّزها من الدواهي ،ومعنى " ما قَدَّم َّ
سنة حسنة أو سيئة يُعمل بها بعده ،قاله ابن عباس وابن سنّ ُعمل؛ خير أو شر ،من َ ٍ سلف ِمن
وأخر من طاعة ،وقيل :ما قدَّم من أمواله مسعود .وعن ابن عباس أيضاً :ما قدّم من معصية ّ
وأخر منه عن وقته ،وقيل :ما قدمتْ من أخر لورثته ،وقيل :ما قدَّم من فرضّ ، لنفسه ،وما َّ
وأخرت من األوالد .وهللا تعالى أعلم. األسقاط واألفراطّ ،
اإلشارة :إذا سماء المعاني انفطرت ،أي :تشققت وظهرت من أصداف األواني ،وإذا نجوم على
الرسوم انتثرت عند طلوع شمس العيان ،وإذا بحار األحدية فُ ِّجرتْ وانطبقت على الكائنات
نفس ما قدّمت من المجاهدة ,وما
ٌ فأفنتها ,وإذا القلوب الميتة بُعثت وحييت بالمعرفةَ ،علِ َمتْ
أخ رت منها؛ إذ بقدر المجاهدة في خرق العوائد تكون المشاهدة ،وبقدر الشكر يكون الصحو، َّ
وبقدر الشُرب يكون ال ّري ،فعند النهاية يظهر قدر البداية ،البدايات مجالة النهايات " ف َمن
أشرقت بدايته ،أشرقت نهايته " .وباهلل التوفيق.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ور ٍة َّما
ص َى ُ س َّوا َك فَ َع َدلَ َك } * { فِيا أَ ِّ
يم } * { الَّ ِذي َخلَقَكَ فَ َ سانُ َما َغ َّر َك بِ َربِّ َك ا ْل َك ِر ِ *{ ياأَ ُّي َها ِ
اإلن َ
شَآ َء َر َّكبَ َك } * { َكالَّ بَ ْل تُ َك ِّذبُونَ بِالدِّي ِن } * { َوإِنَّ َعلَ ْي ُك ْم لَ َحافِ ِظينَ } * { ِك َراما ً َكاتِبِينَ } *
{ يَ ْعلَ ُمونَ َما تَ ْف َعلُونَ }
ُروي أنه صلى هللا عليه وسلم ل ّما قرأها قال " :غ َّره جهلُه " وعن عمر رضي هللا عنه :غ ّره
ُحمقه ،وقال قتادة :غ ّره عدوه المسلّط عليه ـ يعني الشيطان ـ وقيل للفضيل :لو أقامك هللاُ تعالى
يوم القيامة بين يديه فقال لك { :ما غ َّرك بربك الكريم } ماذا كنتَ تقول؟ قال :أقول :ستُورك
المرخاة ،ألنَّ الكريم هو الستّار وأنشدوا:
ق ،سالم األعضاء ُم َعدّة لمنافعها { ،فعدلك }؛ س َّوا َك } أي :جعلك مستوي الخ ْل ِ { الذي َخلَقك فَ َ
الخلق ,غير متفاوت فيه ،ولم يجعل إحدى اليدين أطول ،وال أحدى فصيّرك معتدالً متناسب َ
العينين أوسع ،وال بعض األعضاء أبيض وبعضه أسود ،أو :جعلك معتدالً تمشي lقائماً ،ال
ص َرفك إلى ما شاء من الهيئات كالبهائم .وقراءة التخفيف كالتشديد ،وقيل :معنى التخفيفَ :
ي صورة شاءها ي صور ٍة ما شاء َر َّكبَك } أيَ :ر َّكبك في أ ّواألشكال ،فيكون من العدول { .في أ ّ
ي صورة من الصور المختلفة ،و " ما " :مزيدة ،و(شاء) :صفة لصورة ،أي :ر َّكبك في أ ّ
شاءها واختارها من الصور العجيبة الحسنة ،كقوله تعالى:
سانَ فِيا أَ ْح َ
س ِن تَ ْق ِو ٍ
يم } { لَقَ ْد َخلَ ْقنَا ِ
اإلن َ
[التين ]4:وإنما لم يعطف الجملة على ما قبلها؛ ألنها بيان لـ " عدلك ".
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
كالَّ } ،ردع عن االغترار بكرم هللا تعالى ،وجعله ذريعة إلى الكفر المعاصي ،مع كونه موجبا ً
ُكذبون بالدين } عن جملة مقدّرة ينساق إليها واإلضراب في قوله تعالى { :بل ت ِّ
َ للشكر والطاعة.
الكالم ،كأنه قيل بعد الردع بطريق االعتراض :وأنتم ال ترتدعون عن ذلك ،بل تجترئون على
أقبح من ذلك ،وهو تكذيبكم بالجزاء والبعث ،أو بدين اإلسالم ،الذي هو من جملة أحكامه ،فال
كذبون به ،أي:تُصدقون به { ،وإِنَّ عليكم لَحافِظين } :حال مفيدة لبطالن تكذيبهم ،وتحقيق ما يُ ِّ
ُكذبون بالجزاء ،والحال أنَّ عليكم ِمن قِبلنا لحافظين ألعمالكمِ { ،كراما ً } عندنا { كاتبين } لها،ت ِّ
{ يعلمون ما تفعلون } من الخير والشر ،قليالً أو كثيراً ،ويضبطونه نقيراً أو قطميراً .وفي تعظيم
" الكاتبين " ،بالثناء عليهم؛ تفخيم ألمر الجزاء ،وأنه عند هللا من جالئل األمور ،حيث يستعملl
فيها هؤالء ال ِكرام.
اإلشارة :يا أيها األنسان ،ما غ َّرك باهلل حتى لم تنهض إلى حضرة قدسه؟! غ ّره جهله ومتابعة
هواه ،أو قناعته من ربه ,والقناعة من هللا حرمان ،أو غلطه ،ظن أنه كامل وهو ناقص من كل
وج ٍه ،أو ظنّ أنه واصل ،وهو ما رحل عن نفسه قدما ً واحداً ،ظنّ أنه في أعلى عليين باق في
أسفل سافلين ،وهذا الغلط هو الذي َغ ّر كثيراً من الصالحين ،تراموا على مراتب الرجال ،وهم في
ص ِحبوا الرجا َل لرأوا أنفسهم في أول قدم صحبتهم للعارفين ،ولو َ مقام األطفال ،سبب ذلك عدم ُ
ِمن اإلرادة ،وهذا هو الجهل المر ّكبَ ،جهلوا ،وجهلوا أنهم جاهلون .ثم ش ّوقه إلى السير إليه
بالنظر إلى صورة بشريته ،فإنه عدلها في أحسن تقويم ،ثم نفخ فيه روحا ً قدسية سماوية من
ِّ
المكذب روحه القديم ،ثم ل ّم ا زجر عن االغترار لم ينزجروا ،بل تمادوا على الغرور ،وفعلوا فعل
بالبعث والحساب؛ مع أنّ عليهم من هللا حفظة ِكراماً ،يعلمون ما يفعلون ،فلم يُراقبوا هللا ج ّل
جالله ،ال ُمطَّلع على سرهم وعالنيتهم ،ولم يحتشموا من مالئكته ال ُمطَّلعين على أفعالهم .وهللا
تعالى أعلم.
يقول الحق ج ّل جالله { :إِنَّ األبرا َر } أي :المؤمنين { لَفِي نعيم } عظيم ،وهو نعيم الجنان { وإِنَّ
الفُ َّجار } أي :الكفار { لَفِي جحيم } كذلك ،وفي تنكيرهما من التفخيم والتهويل ما ال يخفى،
صلَونها يو َم الدِّين } يُقاسون حرها يوم الجزاء ،وهو استئناف بياني منبىء عن سؤال نشأ { يَ ْ
كذبون به{ ، عن تهويلها ،كأنه قيل :ما حالهم فيها؟ فقال :يحترقون فيها يوم الدين ،الذي كانوا يُ ِّ
وما هم عنها بغائبين } طرفة عين بعد دخولها ،وقيل :معناه :وما كانوا عنها غائبين قبل ذلك،
ضةٌ ِمن بل كانوا يجدون سمومها في قبورهم ،حسبما قال صلى هللا عليه وسلم " :القَ ْبر َر ْو َ
الجنَّة ،أو ُح ْفرة ِمنْ ُحفَ ِر النَّار ".
ض َ ِريَا ِ
{ وما أدراك ما يو ُم الدين ثم ما أدراك ما يو ُم الدين } ،هو تهويل وتفخيم لشأن يوم الدين الذي
ي صورة تصوروه ،فهو فوقها، يُ ِّ
كذبون به ،ببيان أنه خارج عن دائرة دراية الخلق؛ فعلى أ ّ
أي شيء جعلك داريا ً ما هو يوم الدين؟ على أنَّ " وكيفما تخيلوه فهو أهم من ذلك وأعظم ،أيُّ :
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ما " االستفهامية lخبر " يوم " ،كما هو رأي سيبويه l،لما َم ّر من أنّ مدار اإلفادة هو الخبر ال
ي شيء عجيب هو في المبتدأ ،وال ريب أنّ مناط إفادة التهويل والفخامة هنا هو :ما يوم الدين أ ّ
الهول والفضاعة؟ انظر أبا السعود .قال ابن عباس رضي هللا عنه :كل ما في القرآن من قوله
تعالى { :وما أدراك } فقد دراه ،وكل ما فيه من قوله { :وما يدريك } فقد طوي عنه .هـ.
وينتقض بقوله تعالى:
{ َو َما يُ ْد ِريكَ لَ َعلَّهُ يَ َّز َّكىا }
[عبس.]3:
اإلشارة :قال القشيري :إنَّ األبرار لفي نعيم الشهود والحضور ،وإنَّ الفجار لفي جحيم الحجاب
صلونها يو َم الدين ،يحترقون بنار الحجاب ،ونيران االحتجاب يوم الجزاء والثواب، والغيبة ،يَ ْ
التعجب من ُكنه أمره ،وشأن شأنه، ُّ وما أدراك ما يوم الدين ،ثم ما أدراك ما يو ُم الدين ،يُشير lإلى
نفس لنفس شيئاً ،لفناء الكل ،ذاتا ً وصفاتا ً وأفعاالً.
ٌ يوم ال تملك
هـ { .واألمر يومئذ هّلل } ،قال الواسطي :األمر اليوم ويومئذ ولم يزل وال يزال هلل ،لكن الغيب
بحقيقته ال يُشاهده إالّ األكابر من األولياء ،وهذا خطاب للعموم ،إذا شاهدوا الغيب تيقّنوا أنَّ األمر
كله هلل .فأما أهل المعرفة ف ُمشَاهَد لهم األمر كمشاهدتهم يومئ ٍذ ،ال تزيدهم مشاهدة الغيب عيانا ً
على مشاهدته لهم تصديقاً ،كعامر بن عبد القيس ،حين يقول :لو ُكشف الغطاء ما ازددت يقيناً.
هـ .وقاله أيضا ً عل ّي رضي هللا عنه .وقال القشيري :األمر يومئذ هلل وقبله وبعده ،ولكن تنقطع
الدعاوى ذلك اليوم ،ويتضح األمر ،وتصير المعارف ضرورية .هـ .وقال الشيخ ابن عبّاد رضي
ي وقت كان ال ُملك لسواه حتى يقع التقييد هللا عنه في رسائله الكبرى ،بعد كالم :وليت شعري ،أ ّ
بقوله:
{ ا ْل ُم ْل ُك يَ ْو َمئِ ٍذ هَّلِّل ِ }
[الحج ]56:وقوله { :واألمر يومئذ هلل } لوال الدعاوى العريضة lمن القلوب المريضة l.هـ .وقال
الورتجبي l:دعا بهذه اآلية العبا َد إلى اإلقبال عليه بالكلية بنعت ترك ما سواه ،فإنَّ ال ُملك كله هلل
في الدنيا واآلخرة ،يُضل َمن يشاء ،ويهدي َمن يشاء .هـ .وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله.
ست َْوفُونَ } * { َوإِ َذا َكالُو ُه ْم أَ ْو َّو َزنُو ُه ْم *{ َو ْي ٌل لِّ ْل ُمطَفِّفِينَ } * { الَّ ِذينَ إِ َذا ا ْكتَالُو ْا َعلَى النَّا ِ
س يَ ْ
يم } * { يَ ْو َم يَقُو ُم النَّ ُ
اس ِل َر ِّب س ُرونَ } * { أَال يَظُنُّ أُ ْولَـائِكَ أَنَّ ُه ْم َّم ْب ُعوثُونَ } * { لِيَ ْو ٍم َع ِظ ٍ يُ ْخ ِ
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
َاب َّم ْرقُو ٌم } س ِّجينٌ } * { ِكت ٌ ين } * { َو َمآ أَد َْرا َك َما ِ َاب ا ْلفُ َّجا ِر لَفِي ِ
س ِّج ٍ ا ْل َعالَ ِمينَ } * { َكالَّ إِنَّ ِكت َ
يم } *ب بِ ِه إِالَّ ُك ُّل ُم ْعتَ ٍد أَثِ ٍ
ِّين } * { َو َما يُ َك ِّذ ُ * { َو ْي ٌل يَ ْو َمئِ ٍذ لِّ ْل ُم َك ِّذبِينَ } * { الَّ ِذينَ يُ َك ِّذبُونَ بِيَ ْو ِم الد ِ
سبُونَ } * اطي ُر األَ َّولِينَ } * { َكالَّ بَ ْل َرانَ َعلَىا قُلُوبِ ِه ْم َّما َكانُو ْا يَ ْك ِ س ِ { إِ َذا تُ ْتلَىا َعلَ ْي ِه آيَاتُنَا قَا َل أَ َ
يم } * { ثُ َّم يُقَا ُل هَـا َذا الَّ ِذي { َكالَّ إِنَّ ُه ْم عَن َّربِّ ِه ْم يَ ْو َمئِ ٍذ لَّ َم ْح ُجوبُونَ } * { ثُ َّم إِنَّ ُه ْم لَ َ
صالُو ْا ا ْل َج ِح ِ
ُكنتُ ْم بِ ِه تُ َك ِّذبُونَ }
يقول الحق ج ّل جالله { :ويل للمطفيين } ،الويل :شديد الشر ،أو :العذاب األليم ،أو :واد في
جهنم يهوي الكافر فيه أربعين خريفا ً قبل أن يبلغ قعره ،وقيل :كلمة توبيخ وعذاب ،وهو مبتدأ،
س ّو غ االبتداء به معنى الدعاء .والتطفيف :البخس في الكيل والوزن ،وأصله :من الشيء
الطفيف ،وهو القليل الحقيرُ ،روي أنَّ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قَ ِد َم المدينة lفوجدهم
سنوا الكي َل ،وقيل :قدمها وبها رجل يُعرف بأبي جهينة ،ومعه يُسيئون الكيل ج ًّدا ،فنزلتْ ،
فأح َ
صاعان ,يكيل بأحدهما ،ويكتال باآلخر ،وقيل :كان أهل المدينة تُجاراً ،يطففون ،وكانت بياعتهم
المنابذة والمالمسة والمخاطرة ،فنزلت ،فخرج رسو ُل هللا صلى هللا عليه وسلم فقرأها عليهم،
س بخمس ،ما نَقَض قو ٌم العهد إالّ سلَّط هللا عليهم عد ّوهم ،وال وقال صلى هللا عليه وسلمَ " :خ ْم ٌ
َح َكموا بغير ما أنزل هللا إالَّ فَشَى فيهم الفقر ،وما ظهرت فيهم الفاحشة إال فشى فيهم الموت ،وال
طَفّفوا الكيل إالَّ ُمنِ ُعوا النبات ،وأُخذوا بالسنين ،وال َمنَ ُعوا الزكاة إالَّ حبس هللاُ عنهم المطر ".
سر التطفيف الذي استحقوا عليه الذم والدعاء عليهم بالويل ،فقال { :الذين إذا اكتالوا على ثم ف ّ
ُ
الناس يستوفون } أي :إذا أخذوا بالكيل من الناس بالشراء ونحوه يأخذون حقوقهم وافية تامة،
ول ّما كان اكتيالهم من الناس اكتياالً يض ّرهم ،ويتحامل فيه عليهم؛ أبدل " على " مكان " ِمنْ "
للداللة على ذلك ،ويجوز أن يتعلّق " على " بـ " يستوفون " ،وتقدّم المفعول على الفعل إلفادة
االختصاص ،أي :يستوفون على الناس خاصة ،وقال الفراءِ " :منْ " و " على " يتعاقبان في
ق عليه ،فإذا قال :اكتلت عليه ،فكأنه قال :أخذت ما عليه ،وإذا قال :اكتلت هذا الموضع؛ ألنه ح ّ
منه ,فكأنه قال :استوفيت منه .هـ.
{ وإِذا كالوهم أو وزنوهم } أي :كالوا لهم أو وزنوا لهم في البيع ونحوه ،فحذف الجار وأوصل
سرون }؛ ينقصون ،يقالَ :خسر الميزان وأخسره :إذا نقصه .وجع ُل البارز تأكيداً الفعل { ،يُ ْخ ِ
للمستكن مما ال يليق بجزالة التنزيل l،ولعل ذكر الكيل والوزن في صور اإلخسار ،واالقتصار
على االكتيال في صورة االستيفاء لِما أنهم لم يكونوا متمكنين من االحتيال عند االتزان تم ُّكنهم
منه عند الكيل؛ ألنهم في الكيل يزعزعون ويحتالون في الملء بخالف الوزن ،ويحتمل lأنّ
المطففين كانوا ال يأخذون ما يُكال ويوزن إالّ بالمكاييل لتم ّكنهم باالكتيال من االستيفاء والسرف،
كما تقدّم ،وهذا بعيد ،وإذا أعطوا كالُوا ووزنوا ،لتم ّكنهم من البخس في النوعين.
{ أالَ يظنُ أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم } وهو يوم القيامة ،وهو استئناف وارد لتهويل ما
والتعجب من اجترائهم عليه .وأدخل همزة االستفهام على (أالَ) توبيخاً،
ُّ ارتكبوه من التطفيف
وليست " أال " هذه للتنبيه ،و " أولئك " إشارة إلى المطففين ،ووضعه موضع ضميرهم؛
الحكم الذي هو وصفهم ،فإنَّ اإلشارة إلى الشيء متعرضة lله من حيث اتصافهلإلشعار بمناط ُ
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
بوصفه ،وأ ّما الضمير lفال يتع ّرض لوصفه ،ولإليذان بأنهم ُممازون بذلك الوصف القبيح أكمل
امتياز ،وما فيه من معنى البُعد لإلشارة إلى بُعد درجتهم في الشرارة والفساد ،أي :أالَ يظنُّ
أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع أنهم مبعوثون ليوم عظيم وال يقادَر قدره ،ويُحاسبون
فيه على قدر الذ ّرة والخردلة ،فإنَّ َمن يظن ذلك وإن كان ظنًّا ضعيفا ً ال يكاد يتجاسر على تلك
القبائح ،فكيف ب َمن يتيقنه؟ وعن عبد الملك بن مروان :أن أعرابيا ً قال له :قد سمعتَ ما قال هللا
توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعتَ به ـ فما ظنّك في المطفّفين ـ أراد بذلك أنَّ ال ُمطَفف قد ّ
بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بال كيل وال وزن؟!.
الناس } ،منصوب lبـ " مبعوثون " ,أي :يُبعثون يو َم يقوم الناس { لرب العالمين ُ *{ يو َم يقو ُم
} أي :لحك ِمه وقضائه ،أو لجزائه بعقابه وثوابه ،وعن ابن عمر رضي هللا عنه أنه قرأ هذه
السورة ,فل ّما بلغ هنا بكى نحيباً ،وامتنع من قراءة ما بعده.
{ كالَّ } ردع وتنبيه ،أي :ارتدعوا عما كنتم عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب،
كتاب الفُ َّجار }
َ وتنبّهوا أنه مما يجب أن يُنتهى به ويُتاب منه ،ثم علل الردع المذكور ،فقال { :إِنَّ
سجين " موضع تحت األرض ين } ،جمهور المفسرين أنَّ " ِس ّج ٍ
أي :صحائف أعمالهم { لفي ِ
السابعة ،كما أنَّ " علِّيين " موضع فوق السماء السابعة ،وفي القاموس :عليون جمع " ِعلِّ ّي
سجين " موضع في كتاب الفجار ،ووا ٍد " في السماء السابعة ،تصعد إليه أرواح المؤمنين ،و " ّ
في جهنم ،أو حجر في األرض السابعة .هـ .وفي حديث أنس صلى هللا عليه وسلم قال " :سجين
أسفل سبع أرضين " وقال أبو هريرة :قال صلى هللا عليه وسلم " :الفلقُ :جب في جهنم مغطى،
وسجينُ :جب في جهنم مفتوح " والمعنى :إنّ تاب أعمال الفجار مثبت في سجين .هو علم ِ
منقول من الوصف " فعيل " من السجن؛ ألنَّ أرواح الكفرة تسجن فيه ،وهو منصرف لوجود
سبب واح ٍد فيه ،وهو العلميّة ،ألنه علم لموضع.
س ّجينٌ } أي :هو بحيث ال يبلغه دراية أحد ،وقوله ثم َعظَّم أمره فقال { :وما أدراك ما } هو { ِ
تعالى { :كتاب مرقوم } ،قال الطيبي :هو على حذف مضاف ،أي :موضع كتاب مرقوم .هـ .أو:
س ّجين " أو :خبر عن مضمر l،بحذف ذلك المضاف ،وأ ّما َمن فيه كتاب مرقوم ،وهو بدل من " ِ
لسجين ،بأن جعل سجينا ً هو نفس الكتاب المرقوم؛ فال يصح؛ إذ يصير المعنى جعله تفسيراً ّ
حينئذ :إنَّ كتاب الفجار لفي كتاب ،وال معنى له.
الناس لرب العالمين } وقيل :ويل يوم يخرج ُ ويل يومئ ٍذ للم َك ّذبين } هو متصل lبقوله { :يوم يقوم
للمكذبين { الذين يُ َك ِّذبون بيوم الدين }؛ الجزاء والحساب { ،وما يُ َك ِّذب به }؛ بذلك
ّ ذلك المكتوب
اليوم { إِالَّ ُكل معت ٍد }؛ مجا ِوز للحدود التي حدّتها الشريعة ،أو مجا ِوز عن حدود النظر واالعتبار
أثيم }؛ مكتسب لإلثم منهمك في الشهوات الفانية حتى حتى استقصر قدرة هللا على إعادتهٍ { ،
شغلته عما وراءها من اللذة الباقية ،وحملته على إنكارها { ،إِذا تُتلى عليه آياتُنا } التنزيلية
الناطقة بذلك { قال } :هي { أساطي ُر األولين } أي :أحاديث المتقدمين وحكايات األولين،
والقائل :قيل :الوليد بن المغيرة ،وقيل :النظر بن الحارث ،وقيل :عام ل َمن اتصف باألوصاف
المذكورة.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
{ كالَّ } ردع للمعتدي األثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له { ،بل رانَ على قلوبهم ما كانوا
التفوه بهذه العظيمة ,أي :ليس في آياتنا ما يصحح أنُّ يكسبون } ،هو بيان لما أدّى بهم إلى
ِ
يُقال فيها هذه المقاالت الباطلة ،بل رانت قلوبهم وغشّاها ما كانوا يكسبون من الكفر والجرائم
حتى صارت عليهم كالصدأ للمرآة ،فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق ،كما قال صلى هللا عليه
وسلم " :إن العبد كلما أذنب ذنبا ً حصل في قلبه نكتة سوداء ،حتى يس ّود قلبه " ..الحديث ،أي:
ولذلك قالوا ما قالوا .والرين :الصدأ ،يقال :ران عليه الذنب وغان رينا ً وغيناً.
{ كالَّ } ردع وزجر عن الكسب الرائن { إِنهم عن ربهم يومئ ٍlذ لمحجوبون } لَ َّما رانت قلوبهم في
الدنيا ُحجبوا عن الرؤية في اآلخرة ،بخالف المؤمنين ,لَ ّما صفت مرآة قلوبهم حتى عرفوا الحق
كشف لهم يوم القيامة عن وجهه الكريم .قال مالك :لَ ّما حجب هللا أعداءه فلم يروه تجلّى ألوليائه
حتى رأوه .هـ .وقال الشافعي :في هذه اآلية داللة على أنَّ أولياء هللا يرونه .هـ .وقال الزجاج:
صصت في هذه اآلية دليل أن هللا يُرى يوم القيامة ،ولوال ذلك ما كان في هذه اآلية فائدة ،ول َما خ ّ
منزلة الكفار بأنهم محجوبون عن هللا .انظر الحاشية { .ثم إِنهم لصالُو الجحيم } أي :داخلو
صلي الجحيم أشد من اإلهانة ،والحرمان من الرؤية النار ،و " ثم " لتراخي الرتبة l،فإنّ َ
والكرامة { .ثم يُقال } لهم { :هذا الذي كنتم به تُ َك ِّذبون } في الدنيا ف ُذوقوا وباله .وباهلل التوفيق.
اإلشارة :التطفيف يكون في األعمال واألحوال ،كما يكون في األموال ،فالتطفيف في األعمال عدم
إتقانها شرعاً ،ولذلك قال ابن مسعود وسلمان رضي هللا عنهما :الصالة مكيال ،ف َمن َوفَّى ُوفِّي
له ،و َمن طفَّف فقد علمتم ما قال هللا في المطففين .هـ .فكل َمن لم يُتقن عملَه فعالً وحضوراً فهو
مطفف فيه .والتطفيف في األحوال :عدم تصفية القصد فيها ،أو بإخراجها عن منهاج الشريعة،
قال تعالى { :ويل للمطفيين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون } ...الخ ،قال القشيري :يُشيرl
صرين في الطاعة والعبادة ،الطالبين كمال الرأفة والرحمة ،الذين يستوفون من هللا إلى المق ّ
مكيال أرزاقهم بالتمام ،ويكيلون له مكيال الطاعة بالنقص والخسران ،ذلك خسران مبين ،أال
يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم المشهد ،مهيب المحضر ،فلذلك فسدت أعمالهم واعتقادهم.
صرين، هـ .يوم يقوم الناس لرب العالمين ،يوم يكثر فيه الهول ،ويعظم فيه الخطب على المق ّ
وتظهر فيه كرامة المجتهدين ووجاهة العارفين.
الفجار لفي
صر عن تقصيره؛ لئال ينخرط في سلك الفجار { ،إن كتاب ّ { كالَّ } ليرتدع المق ّ
سجين } المراد بالكتاب هنا :كتاب األزل ،وهو ما كتب لهم من الشقاوة قبل كونهم ،قال صلى هللا
عليه وسلم " :السعيد َمن سعد في بطن أمه ،والشقي َمن شقي في بطن أمه " و { وما أدراك ما
سجين } فيه { كتاب مرقوم } ألهل الشقاء شقاوتهم { .ويل يومئذ lلل ُم َك ِّذبين } بالحق وبالدالين
عليه { ،الذين يُ َك ِّذبون بيوم الدين } وهم أهل النفوس المقبلين على الدنيا بكليتهم { ،وما يُ َك ِّذب
به إالّ كل معتد أثيم }؛ متجاوز عن الذوق والوجدان ،محروم من الكشف والعيان { ،إذا تُتلى
عليه آياتنا } الدالة علينا { قال أساطير األولين } أي :إذا سمع الوعظ والتذكير من الدالين على
هللا قال :خرافات األولين .وسبب ذلك :الرانُ الذي ينسج على قلبه ،كما قال تعالى { :كال بل ران
على قلوبهم ما كانوا يكسبون كال إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } ل ّما رانت قلوبهم ،وتراكمت
عليها الحظوظ والهوىُ ،حجبوا عن شهود الحق في الدنيا ،ودام حجابهم في العقبى إالَّ في
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
أوقات قليلة ،قال الحسن بن الفضل :كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في اآلخرة عن
ت رؤيته .هـ .قال الواسطي :ال ُكفار في حجا ٍ
ب ال يرونه البتة ،والمؤمنون في حجاب يرونه lفي وق ٍ
دون وقت .هـ .أي :والعارفون يرونه lكل وقت ،ثم قال :وال حجاب له غيره ،وليس يسعه سواه،
ما اتصلت بشريةٌ بربوبيته قط ،وال فارقت عنه .هـ.
وقال في اإلحياء :النزوع إلى الدنيا يَحجب عن لقاء هللا تعالى ،وعند الحجاب تتسلط عليهم نار
جهنم ،إذ النار غير متسلطة إالّ على محجوب ،قال تعالى { :كال إنهم عن ربهم يومئذ lلمحجوبون
ثم إنهم لصالو الجحيم } فرتَّب العذاب بالنار على ألم الحجاب ،وألم الحجاب ٍ
كاف من غير ِعالوة
النار ،فكيف إذا أضيفت العالوة إليه! هـ .وقد رتَّب الحجاب على الران والصدأ المانع من كشف
الحقيقة ،فكل من ط ّهر قلبه من ران الهوى ،وغسله بأنوار الذكر والفكر الحت له أنوار
المشاهدة وأسرار الحضرة ،حتى يشاهد الحق في الدنيا واآلخرة ،ويكون من المقربين أهل
عليين ،وكل َمن بقي مع حظوظ هواه حتى غلب على قلبه رانُ الشهوات بقي محجوبا ً في
الدارين من عامة اليمين .وأنواع الران التي تحجب عن الشهود ست :ران الكفر ،وران
العصيان ،وران الغفلة ،وران حالوة الطاعات ،وران حس الكائنات ،فإذا تصفّى من هذه كلها
أفضى إلى مقام العيان ،وال طريق لرفع الران بالكلية إالَّ ب ُ
صحبة lالمشايخ العارفين .وباهلل
التوفيق.
يقول الحق ج ّل جالله { :كالَّ } ،ردع للمكذبين ،ثم بيّن حال األبرار ،فقال { :إنَّ كتاب األبرا ِر }
أي :ما كتب من أعمالهم ،واألبرار :المؤمنون المطيعون ،ألنه ُذكر في مقابلة الفُ َّجار ،وعن
الحسن :الب ّر :الذي ال يؤذي الذ ّر { ،لفي عليين } ،قال الفراء :هو اسم على صيغة الجمع ال
واحد له ،وقيل :واحده " ِعلِّ ّي " ،و " علِّيه " وأيًّا ما كان فهو موضع في أعلى الجنة ،يسكنه
المقربون .قال ابن عمر رضي هللا عنه :إنّ أهل عليين لينظرون إلى أهل الجنة من كوى ،فإذا
أشرف رجل أشرقت له الجنة ،وقالوا :قد اطلع علينا رجل من أهل عليين ،وقال في البدور " :إنَّ
الرجل من أهل عليين ليخرج فيسير في ملكه ،فال تبقى خيمة من خيام الجنة إال ويدخلها ضوء
من وجهه ،حتى إنهم يستنشقون ريحه ويقولون :واها ً لهذه الريح الطيبة " ..الحديث ..وتقدّم
قوله صلى هللا عليه وسلم " :أكثر أهل الجنة البُله ،وعليون لذوي األلباب " وانظره في سورة
المجادلة ،وفي حديث البراء :قال النبي صلى هللا عليه وسلم " :عليون في السماء السابعة تحت
العرش " وفيه ديوان أعمال السعداء ،فإذا عمل العب ُد عمالً صالحا ً عرج به وأثبت في ذلك
الديوان ،وقد ُروي في األثر " :أن المالئكة تصعد بصحيف ٍة فيها عمل العبد ،فإن رضيه هللا قال:
اجعلوه في عليين وإن لم يرضه قال :اجعلوه في سجين ".
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
كتاب مرقو ٌم } أي :موضع كتاب ،أو فيه كتاب مرقوم ٌ ثم ن ّوه بقَدْره فقال { :وما أدراك ما عليون
{ يشهده المقربون } أي :المالئكة المقربون ،أو أرواح المقربين؛ ألنَّ عليين محل الكروبيينl
نعيم } عظيم { ،على األرائك }؛ على وأرواح المقربين { .إِنَّ األبرار } من أهل اليمين { لفي ٍ
ّ
الحجال { ،ينظرون } إلى كرامة هللا ونِعمه التي أوالهم ،أو :إلى أعدائهم يعذبون في األس ّرة في ِ
النار ،وما تحجب الحجال أبصارهم عن اإلدْراك { ،تعرف في وجوههم نضرةَ النعيم } أي :بهجة
التن ُّعم وطراوته ورونقه .والخطاب لكل أحد مما له حظ من الخطاب لإليذان بأنَّ حالهم من أثر
النعمة وأحكام البهجة ،بحيث ال يختص برؤيته را ٍء دون را ٍء.
رحيق }؛ شراب خالص ال شوب فيه ،وقيل :هو الخمر الصافية { ،مختو ٌم }؛ مغلق ٍ { يُسقون من
س ٌك } أي :مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين ،كما يفعل أهل الدنياعليه { ،ختامه ِم ْ
بأوانيهم إذا أرادوا ِحفظها وصيانتها ،ولعله تمثيل lلكمال نفاسته ،أو :أخره وتما ُمه مسك ،أي:
يجد الشارب عند آخر شربه رائحة المسك .وقُرىء " خاتِ َمه " بكسر التاء وفتحها { .وفي
ذلك } الرحيق أو ما تقدّم من نعيم الجنان { فليتنافس المتنافسون }؛ فليرغب الراغبون،
وليجتهد المجتهدون ،أو فليسبق المستبقون ،وذلك بالمبادرة إلى الخيرات ،والكفّ عن السيئات.
وأصل التنافس :التغالب في الشيء النفيس ،وهو من النفس لعزتها ،وقال البغوي :وأصله :من
س به على غيره ،أي: الشيء النفيس الذي تحرص عليه النفوس ،ويريده كل أحد لنفسه ،وينفَ ُ
ضنُّ به.
ي ِ
فإن قلتَ :لِ َم أمر بالتنافس في الرحيق ,ولم يأمر به في التسنيم ،مع كونه أرفع؟ قلتُ :قال
بعضهم :إشارة إلى أن شربه ال يُنال بسبب ،بل بالسابقة ،وقيل :إنه ُمقدّم من تأخير ،وإن
باألحرى؛ ألنه إذا أم َر بالتنافس في المفضول كان التنافس
ْ التنافس حاصل في الجميع ،أو يؤخذ
في األفضل أحرى .وهللا تعالى أعلم.
الخير والشر ،رقمها بذلك ،وهو ال يخاف ما رقم به ،وذلك الر ْقم معلّق بالقضاء والقدر عن
القدرة بمشيئته lتعالى عليه ،وال نزوع عن ذلك وال حيلة له فيه ،فهو في ذلك معذور في الظاهر،
غير معذور في الحقيقة ،هذا لعوام الخلق ،وأ ّما للخواص واألولياء وأهل الحقائق فإنه ر ْقم هللا
على كل شيء أوجده ،لم يُشْرف lعلى ذلك الر ْقم إالَّ المقربون ،فهم أهل اإلشراف ,ف َمن شاهد ذلك
الر ْقم من المقربين عرف صاحبه بما رقم به من الوالية والعداوة ،فيُخبر عنه ،وهو اإلشراف
والفراسة ،كما كان ل ُعمر حين أخبر عنه صلى هللا عليه وسلم بقوله " :كان في األمم ُمكلَّمون...
" الحديث ،أي :ف ُعمر ممن أشرف على حقائق الر ْقم ،وعلى معاني الكتاب المرقوم ,ف َمن كان
قلوب عباده بما َ بذلك الحال فهو المكلّم من جهة الحق بال واسطة .قال الجريري :ر ْق ٌم َرقَم هّللا ُ به
قضى عليهم في األزل من السعادة والشقاوة ،وبذلك الر ْقم َخفي في أسرار العباد ،وظهر على
هياكلهم ،كما قال صلى هللا عليه وسلم:
س ٌlر لما ُخلق له ".
" ُك ٌّل ُميَ َّ
والحاصل :أنَّ الكتاب المرقوم :هو ما سطر لكل أحد في األزل ،فإن رقم له بالسعادة جع َل في
عليين ،إشارة إلى أنَّ صاحبه يلحق به ،وإن رقم بالشقاوة جعل في سجين ،إشارة إلى لحوق
صاحبه به .وقوله تعالى { :يشهده المقربون } أي :يشهدونه lبعلوم أفكارهم ومكاشفة أسرارهم،
وقد ينطقون بذلك في حال الفيض أو الجذب ،وهؤالء هم المكلَّمون ،وفي الحديث " :قد كان في
األمم مكلَّمون ،وإن يكن في أمتي ف ُعمر " والمقربون هم أهل الفناء والبقاء.
ثم قال تعالى { :إنَّ األبرار لفي نعيم } لذة الطاعات وحالوة المناجاة ،على أرائك المقامات
ينظرون ما يفعل هللا بهم .وقال القشيري :ينظرون في روضات الجنان الروحية والسرية
والقلبية ،لكل منهم روضة مخصوصة l.هـ .ولعل نظرهم علميا ً ال ذوقياً ،ألنَّ الذوق للمقربين،
تَ ْع ِرفُ في وجوههم نضرة النعيم ،وهو ما يظهر على وجوههم من بهجة المحبة ونضرة القُربة,
ولعل المراد باألبرار هنا السائرون ،ولذلك قال { :يُسقَون من رحيق } خمرة المحبة األزلية،
الصافية من كدر الهوى ،مختوم عليه في قلوب العارفين .قال القشيري l:أواني ذلك الشراب هي
قلوب األصفياء واألولياءِ ،ختامه مسك ،وهو محبة الحق ،ال يشرب من تلك األواني المختومة إالَّ
الطالبون الصادقون في طريق السلوك إلى هللا .هـ .وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ،ف َمن فاته
حظه من هذه الخمرة فهو محروم ،كما قال ابن الفارض:
س ْه ٌم
صيب وال َ
ٌ سه فَ ْلي ْبك َمن ضا َع ُع ْم ُره وليس لَهُ ِم ْنها نَ
علَى نَ ْف ِ
وقال القشيري l:وتنافسهم فيه بالمبادرة إلى األعمال الصالحة ،وتعليق القلب باهلل ،واالنسالخ
من األخالق الدنية ،وجوالن الهمم في الملكوت ،واستدامة المناجاة .هـ .و ِمزاجه من تسنيم ,وهو
عين بحر الوحدة الصافية ،التي قال فيها القطب ابن مشيش رضي هللا عنه :وأغرقني في بحر
سرها تعالى بقوله { :عينا ً يشرب بها المقربون } فالمقربون يشربونهl الوحدة ..الخ ،ولذلك ف ّ
صرفا ً في الدنيا واآلخرة ،ويمزج lلغيرهم ،قال بعضهم :ألنه ليس َمن احتمل حمل الصفات كمن
صرفا ً لحملهم الذات والصفات جميعاً .هـ .وألنهم قَ ِوي على مشاهدة الذات ،وشربها المقربون ْ
صفّوا محبتهم في الدنيا من شوائب الهوى ،فصفّى شرابهم في دار البقاء ،وفي هذا المقام ينبغي
التنافس الحقيقي ،كما قال الشاعر:
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
محابس
ُ فروحي وريحاني إذا كنت حاضراً وإن غبتَ فالدنيا عل ّي
إذا لم أنافس في هواك ولم أغر عليكَ ففي َمن ليت شعري أنافس
فال تمقتن نفسي فأنت حبيبُها فكل امرىء يصبو lإلى َمن يجانس
تنافس األبرار في نعيم
ُ المنعم،
ِ فتنافس األبرار في حيازة النعيم ،وتنافس المقربين في حيازة
األشباح وتنافس المقربين في نعيم األرواح ،ورضوان من هللا أكبر ،ذلك هو الفوز العظيم ،جعلنا
هللا من أهل التنافس فيه وفي شهوده ،آمنين.
ض َح ُكونَ } * { َوإِ َذا َم ُّرو ْا بِ ِه ْم يَتَ َغا َم ُزونَ } * { َوإِ َذا *{ إِنَّ الَّ ِذينَ أَ ْج َر ُمو ْا َكانُو ْا ِمنَ الَّ ِذينَ آ َمنُو ْا يَ ْ
سلُو ْا ضالُّونَ } * { َو َمآ أُ ْر ِ انقَلَبُوا ْا إِلَىا أَ ْهلِ ِه ُم انقَلَبُو ْا فَ ِك ِهينَ } * { َوإِ َذا َرأَ ْو ُه ْم قَالُوا ْا إِنَّ هَـا ُؤالَ ِء لَ َ
ض َح ُكونَ } * { َعلَى األَ َرآئِ ِك يَنظُ ُرونَ } * َعلَ ْي ِه ْم َحافِ ِظينَ } * { فَا ْليَ ْو َم الَّ ِذينَ آ َمنُو ْا ِمنَ ا ْل ُكفَّا ِر يَ ْ
{ َه ْل ثُ ِّو َ
ب ا ْل ُكفَّا ُر َما َكانُو ْا يَ ْف َعلُونَ }
يقول الحق ج ّل جالله { :إِنَّ الذين أجرموا }؛ كفروا ،كأبي جهل والوليد والعاص بن وائل
صهيب وخباب وبالل { يضحكون } استهزاء بهم، وأضرابهم { ،كانوا من الذين آمنوا } كع ّمار و ُ
{ وإِذا َم ُّروا بهم يتغامزون }؛ يُشير lبعضهم إلى بالعين طعنا ً فيهم وعيبا ً لهم ،وقيل :جاء عل ٌّي
في نفر من المسلمين ،فسخر منهم المنافقون ،وضحكوا وتغامزوا ،وقالوا :أترون هذا األصلع؟
فنزلت قبل أن يصل إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فتكون اآلية على هذا مدنية { ،وإِذا
انقلبوا إلى أهلهم } أي :إذا رجع الكفار إلى منازلهم { انقلبوا فاكهين } ،متلذذين بذكرهم
بالسوء ،أو متعجبين ،وقرأ حفص { :فكهين } بالقصر ،أي :أشرين أو فرحين ،وقال الفراء:
هما سواء كطاعن وطعن.
{ وإِذا َرأَوهم } أي :رأى الكافرون المؤمنين { قالوا إِنَّ هؤالء لضالُّون } أي :مخدوعون ،أي:
خدع محم ٌد هؤالء فضلُّوا وتركوا ّ
اللذات لما يرجونه في اآلخرة من الكرامات ،فقد تركوا العاجل
اغتروا به وانهمكوا
ُّ باآلجل ،والحقيقة بالخيال ,وهذا عين الضالل ،ولم يشعر هؤالء الكفرة أنَّ ما
فيه هو عين الضالل ،قال تعالى { :وما أُرسلوا عليهم حافظين } أي :وما أرسل الكفّار على
المسلمين ،يحفظون أعمالهم ,ويرقبون أحوالهم .والجملة حال ،أي :قالوا ذلك والحال أنهم ما
أُرسلوا من جهة هللا تعالى مو ّكلين بهم ،مهيمنين lعلى أعمالهم ،يشهدون ب ُرشدهم وضاللهم ،بل
أُمروا بإصالح أنفسهم ،فاشتغالهم بذلك أولى من تتبُّع عورات غيرهم.
{ فاليو َم الذين آمنوا من الكفا ِر يضحكون } ،حين يرونهم مغلولين أذالء ,قد غشيتهم فنون
العذاب والص َغار بعد العزة واالستكبار ،وهم { على األرائك } آمنون ,ووجه ذلك :أنهم ل َّما كانو
ى ،فإذا أراد أعداءهم في الدنيا جعل لهم سروراً في تعذيبهم ،وقال كعب :بين الجنة والنار ُك َو ً
المؤمن أن ينظر إلى عدوه الذي كان له في الدنيا نظر إليه ،دليله:
{ فَاطَّلَ َع فَ َر َءاهُ فِي َ
س َوآ ِء ا ْل َج ِح ِ
يم }
[الصافات ]55:فضحكوا منهم في اآلخرة كما كانوا يضحكون منهم في الدنيا جزا ًء وفاقاً { .على
األرائك ينظرون } حال ،أي :يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من سوء الحال،
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
وقيل :يُفتح إلى الكفار باب إلى الجنة ،فيُقال لهم :هَل ُّموا إليها ،فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم،
يفعل ذلك بهم مراراً ،ويضحك المؤمنون ،ويأباه قوله تعالى { :هل ثُ ِّوب الكفا ُر ما كانوا يفعلون }
فإنه صريح في أنَّ ضحك المؤمنين منهم جبراً لضحكهم منهم في الدنيا ،فال بد من المجانسةl
والمشاكلة .والتثويب lواإلثابة :المجازاة ،أي :ينظرون هل ُجوزي الكفار بما كانوا يفعلون من
السخرية بالمؤمنين أم ال؟
ويحتمل أن يكون مفعول " :ينظرون " محذوفاً ,أي :ينظرون إلى أعدائهم في النار ،أو إلى ما
هم فيه من نعيم الجنان ،ثم استأنف بقوله { :هل ثُ ِّوب الكفا ُر ما كانوا يفعلون } أي :هل ُجوزوا
بذلك إذا فعل بهم هذا العذاب المهين ،و " هل " على هذا للتقرير ،قال الرضي :وتختص " هل
" بحكمين دون الهمزة ،وهما :كونها للتقرير في اإلثبات ،كقوله تعالى { :هل ثوب الكفار } أي:
ألم يَثوبوا ،وإفادتها للنفي حتى جاز أن يجيء بعدها " إالَّ " قصداً لإليجاب ،كقوله تعالى:
سانُ } ان إِالَّ ِ
اإل ْح َ س ِ َه ْل َج َزآ ُء ِ
اإل ْح َ
[الرحمن ]60:وقول الشاعر:
يقول الحق ج ّل جالله { :إِذا السما ُء انشقتْ } أي :تشقّقت أبوابا ً لنزول المالئكة في الغمام ،أو:
انشقت وطُويت كطي السجل للكتاب { ،وأَ ِذنَتْ لربها } أي :استمعت ،وفي الحديث " :ما أَ ِذنَ هللاُ
لشي ٍء إذنه لنب ٍّي يت َغنَّى بالقرآن " أي :ما استمع ،أي :انقادت وأذعنت لتأثير قدرته تعالى حين
ق لها أن تسمع lوتطيع ألمر وحقَّتْ } أي :وح َّ
تأب ولم تمتنعُ { ، تعلّقت إرادته بانشقاقها ,ولم َ
ربها ،إذ هي مصنوعة مربوبة هلل تعالى.
ق في جوفها شيء ،وذلك ما يُؤذن ب ِعظَم األمر ،كما تلقي [الزلزلة { .]2:وتخلتْ } منها فلم يب َ
الحامل ما في بطنها قبل الوضع { .وأَ ِذنَتْ لربها } أي :استمعت في إلقاء ما في بطنها ،وتخليتها
وحقتْ } أي :وهي حقيقة بأن تنقاد لربها وال تمتنع ،ولكن ال بُعد إن لم تكن كذلك ،بل في عنهُ { ،
وحد ذاتِها ،من قولهم :هو محقوق بكذا ،أو حقيق به ،والمعنى :انقادت لربها وهي حقيقة َ نفسها َ
بذلك ِم ن ذاتها ،وكذلك يقال في انشقاق السماء .انظر أبا السعود .وجواب (إذا) محذوف ،ليذهب
المقدِّر ك َّل مذهب ،أي :كان من األمر الهائل ما يقصر عنه الوصف ،أو حذف اكتفا ًء بما تقدّم في
سورة التكوير واالنفطار ،أو ما د ّل عليه { فمالقيه } أي :إذا السماء انشقت القى اإلنسان كد َْحهُ.
وهللا تعالى أعلم.
اإلشارة :إذا السماء ،أي :سماء األرواح انشقت عن ظلمة األشباح انشقاق الفجر عن ظلمة
الليل ،فتغيب ظلمة األشباح في نور عالَم األرواح ,فحينئذ تظهر حقائق األشياء على ما كانت
عليه في الحقيقة األزلية ،فينتفي lالحدث ويبقى القِدم .قال الورتجبي l:إذا أراد هللا قلع الكون،
يلقي على السموات واألرض أثقال هيبة عظمته وكبريائه ،فتنشق السماء ،وتمد األرض من
عكس تجلي عظمته lوكبريائه l،وحق لهما أن تتصدّعا ،لِما عليهما من أثقال قهريات جبروتهl،
حيث يشققهما ،وهما طائعتان لربهما ،وكيف ال تكون منهما طاعة ،وهما في قبضة قهر جالله
أقل من خردلة ،أال ترى كيف قال صلى هللا عليه وسلم " :الكونُ في يمين الرحمن أق ِّل من َخردل ٍة
" وكذلك يتجلّى لسماء أرواح العارفين وأرض قلوب المحبين بنعت العظمة والكبرياء ،فتنشق
األرواح وتزلزل القلوب من وقوع نور هيبته عليها ،وبهذا الوصف وصف قلوب المق ّربين عند
نزول خطاب الهيبة ،قال هللا تعالى:
َحتَّىا إِ َذا فُ ِّز َع عَن قُلُوبِ ِه ْم} ...
ص ،وخطاب [سبأ ]23:اآلية .قال بعضهم :خطاب األمر إذا وقع على الهياكل فهي بين مطيع وعا ٍ
الهيبة إذا وردت تفني وتُعجز اإلقرار معه كقوله { :إذا السماء انشقت } َو َر َد عليها صفةُ الهيبةl
وحق لها ذلك ،وهو الذي أوجدها .هـ وإذا األرض أرض فانشقت وأ ِذنَتْ لربها وأطاعت وانقادتُ ،
البشريةُ lمدت ،أي :بُسطت والنت ألحكام الربوبية بالمجاهدة والرياضة ،وألقت ما فيها من
الخبائث والعيوب ،وتخلّت عنها ،وأذنت لربها في أحكام العبودية والعبادةُ ،
وحقَّتْ بذلك؛ ألنَّ في
ذلك شرفَها وع َّزها ،وجواب " إذا " محذوف ،أي :كان من األسرار واألنوار والمعارف ما ال
يدخل تحت دوائر العبارة ،وال تحيط به اإلشارة.
سانُ إِنَّكَ َكا ِد ٌح إِلَىا َربِّكَ َكدْحا ً فَ ُمالَقِي ِه } * { فَأ َ َّما َمنْ أُوتِ َي ِكتَابَهُ بِيَ ِمينِ ِه } * اإلن َ*{ ياأَيُّ َها ِ
س ُروراً } * { َوأَ َّما َمنْ أُوتِ َي ِكتَابَهُ َو َرآ َء ب إِلَىا أَ ْهلِ ِه َم ْ
سيراً } * { َويَنقَلِ ُ سابا ً يَ ِب ِح َس ُ س ْوفَ يُ َحا َ { فَ َ
س ُروراً } * س ِعيراً } * { إِنَّهُ َكانَ فِيا أَ ْهلِ ِه َم ْ صلَىا َ س ْوفَ يَ ْدعُو ْا ثُبُوراً } * { َويَ ْ ظَ ْه ِر ِه } * { فَ َ
صيراً } ور } * { بَلَىا إِنَّ َربَّهُ َكانَ بِ ِه بَ ِ { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَ ُح َ
أنها تدل على انتهاء الكدح والتعب للمؤمن بانتهاء هذه الحياة الدنيوية ،ويحصل بعد ذلك محض
سعادته وراحته األبدية .هـ.
قلتُ :إن كان كدحه في طلب مواله؛ حصل له بعد موته دوام الوصال ،وصار إلى روح وريحان،
الحور والقصور ،بُشّر بدوام السرور ،وربما اتصلت وجنات ورضوان ،وإن كان كدحه في طلب ُ
روحه بما كان يتمنى ،وإن كان كدحه في طلب الدنيا مع إقامة الدين أفضى إلى الراحة من تعبه،
ب ,والعياذ باهلل .وقال
وإن كان في طلب الحظوظ والشهوات مع التقصير ،انتقل من تعب إلى تع ٍ
أبو بكر بن طاهر :إنك تُعامل ربك معاملة ستعرض عليك في المشهد األعلى ،فاجتهد أالَّ َ
تخجل
من معاملتك مع خالقك .أهـ.
صل ما يلقى بعد اللقاء فقال { :فأ ّما َمن أوتي كتابه بيمينه } lأي :كتاب عمله { فسوف ثم ف ّ
يُحاسب حسابا ً يسيراً }؛ سهالً هيناْ ،وهو الذي يُجازي على الحسنات ويتجاوز عن السيئات.
سب ع ُِّذب " فقيل له :فأين قوله تعالى { :فسوف يُحاسب حسابا ً يسيراً } وفي الحديثَ " :من يحا َ
ِّ
فقال " :ذلكم العرضَ ،من نُوقش الحساب عُذب " والعرض :أن يُقال له :فعلتَ كذا وفعلتَ كذا،
وينقلب إِلى أهله } أي :إلى
ُ ثم يُقال له :سترتها عليك في الدنيا ،وأنا أغفرها لك اليوم{ .
عشيرته إن كانوا مؤمنين ،أو :إلى فريق المؤمنين ،أو :إلى أهله في الجنة من اآلدمية أو الحور
والغلمان ،أو :إلى َمن سبقه من أهله أو عشيرته l،إن قلنا :إنَّ الكتاب يُعطى بمجرد اللقاء في
البرزخ ،فإنَّ األرواح بعد السؤال تلحق بأهلها وعشيرتها ،حسبما تقدّم في الواقعة .وقوله تعالى:
{ مسروراً } أي :مبتهجا ً بحاله ،قائالً:
{ هَآ ُؤ ُم ا ْق َر ُؤ ْا ِكتَابيَ ْlه }
[الحاقة ]19:أو :مسروراً بلقاء ربه ودوام وصاله.
تنبيه :الناس في الحساب على أقسام ،منهم َمن ال حساب عليهم وال عتاب ،وهم العارفون
المقربون ،أهل الفناء في الذات ,ومنهم َمن يُحاسب حسابا ً يسيراً l،وهم الصالحون األبرار،
عذب ثم ينجو بالشفاعة ،وهم عصاة المؤمنين ممن ينفذ فيهم الوعيد، ومنهم َمن يُناقش ويُ ِّ
ومنهم َمن يُناقش ويخلد في العذاب ،وهم الكفرة ،وإليهم أشار بقوله:
{ وأ ّما َمن أُوتي كتابَه وراء ظهره } ،قيل :تغ ّل يُمناه إلى عنقه ،وتُجعل شماله وراء ظهره.
وقيل :يثقب صدره وتخرج منه lإلى ظهره ،فيعطى كتابه بها وراء ظهره { ،فسوف يَدعو ثبُوراً }
يقول :واثبوراه.
صلَى سعيراً } أي :يدخلها { ،إِنه كان } في الدنيا { في أهله } أي :معهم {والثبور l:الهالك { ،ويَ ْ
مسروراً } بالكفر ،يضحك على َمن آمن بالبعث .وقيل :كان لنفسه متابعاً ،وفي هواه راتعاً { ،إِنه
ور }؛ لن يرجع إلى ربه l،تكذيبا ً بالبعث .قال ابن عباس :ما عرفتُ تفسيره lحتىظنّ أن لن يَ ُح َ
سمعت أعرابية lتقول لبنتهاُ :حوري .أي :ارجعي { .بلى } جواب النفي ،أي :يرجع ال محالة،
{ إِنَّ ربه كان به بصيراً } أي :إنَّ ربه الذي خلقه كان به وبأعماله الموجبة للجزاء " بصيراً "
بحيث ال تخفى عليه منها خافية ،فال بد من رجعه وحسابه عليها حتماً.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
اإلشارة :يا أيها اإلنسان الطالب الوصول ،إنك كادح إلى ربك كدحا ً بالمجاهدة والمكابدة ف ُمالقيه
بالمشاهدة المعاينة في مقام الفناء والبقاء ،فأ ّما َمن أُوتي كتابه السابق له في األزل " بيمينه" l
بكونه من أهل اليمين والسعادة " فسوف يُحاسب حسابا ً يسيراً " فيُؤدب في الدنيا إن وقع منه
سوء أدب " ،وينقلب إلى أهله " إخوانه في هللا " مسروراً " بوصوله إلى مواله .قال
الورتجبي l:مسروراً بلقاء ربه ،وما نال من قُربه ووصاله ،وهذا للمتوسطين ،و َمن بلغ إلى
حقيقة الوصال وصار أهالً له ال ينقلب عنه إلى غيره .هـ .وأ ّما َمن أُوتي كتابه السابق بخذالنه
في األزل ،وراء ظهره ،بحيث غفل عن التوجه إلى هللا ،واتخذه وراء ظهره ،فسوف يدعو
ثبوراً ،فيتمنى يوم القيامة أن لم يكن شيئاً ,ويصلى سعير القطيعة والبُعد إنه كان في أهله
مواجها ً بالجمال من أهله وعشيرته ،ليس له َمن يؤذيه ،وهذا من َ مسروراً منبسطا ً في الدنيا،
عالمة االستدراج ،ولذلك ال تجد وليًّا إالَّ وله َمن يُؤذيه ،يُحركه إلى ربه ،قال بعض الصوفية :قَ َّل
أن تجد وليًّا إالَّ وتحته امرأة تؤذيه .هـ " .إنه " أي :الجاهل ظنّ أن لن يحور إلى ربه في الدنيا
وال في اآلخرة ،بل يرده هللاُ ويُحاسبه على النقير والقطمير ،إنه كان به بصيراً بظاهره وباطنه.
ق } * { لَت َْر َكبُنَّ طَبَقا ً عَن س َق } * { َوا ْلقَ َم ِر إِ َذا اتَّ َ ق } * { َواللَّ ْي ِل َو َما َو َ
س َ شف َ ِ
س ُم بِال َّ *{ فَالَ أُ ْق ِ
س ُجدُونَ } * { بَ ِل الَّ ِذينَ َكفَ ُرو ْا بق } * { فَ َما لَ ُه ْم الَ يُ ْؤ ِمنُونَ } * { َوإِ َذا قُ ِرى َء َعلَ ْي ِه ُم ا ْلقُ ْرآنُ الَ يَ ْ طَ ٍ
يم } * { إِالَّ الَّ ِذينَ آ َمنُو ْا َو َع ِملُو ْا ب أَلِ ٍ يُ َك ِّذبُونَ } * { َوهَّللا ُ أَ ْعلَ ُم بِ َما يُوعُونَ } * { فَبَش ِّْر ُه ْم بِ َع َذا ٍ
ون } ت لَ ُه ْم أَ ْج ٌر َغ ْي ُر َم ْمنُ ٍ
صالِ َحا ِ ال َّ
{ لت َْر َكبُنَّ طبقا ً عن طبق }؛ لتُالقُن حاالً بعد حال ،كل واحدة منها مطابقة ألختها في الشدّة
والفظاعة ,كأحوال شدائد الموت ،ثم القبر ،ثم البعث ،ثم الحشر ،ثم الحساب ،ثم الميزان ،ثم
الصراط .أو :حاالً بعد حال ،النطفة ،ثم العلقة ،ثم المضغة ،ثم الجنين ،ثم الخروج إلى الدنيا ،ثم
الطفولة ،ثم الكهولة ،ثم الشيخوخة ،ثم الهرم ،ثم الموت ..وما ذكر بعده آنفا ً إلى دخول الجنة أو
النار .وقال بعض الحكماء :يشتمل اإلنسان من كونه نطفة إلى أن يَهرم على نيف وثالثين اسماً:
نطفة ،ثم علقة ،ثم مضغة ،ثم عظاماً ،ثم خلقا ً آخر ،ثم جنيناً ،ثم وليداً ،ثم رضيعاً ،ثم فطيماً ،ثم
مزوراً ،ثم مراهقاً ،ثم محتلماً ،ثم بالغاً ،ثم َح َمالً ،ثم ملتحياً ،ثم
يافعاً ،ثم ناشئاً ،ثم مترعرعاً ،ثم ِّ
مستوفياً ،ثم مص َعداً ،ثم مجتمعا ً ـ والشباب يجمع ذلك ـ ثم َم ْلهوراً ،ثم كهالً ،ثم أشمط ،ثم شيخاً،
ثم أشيب ،ثم َح ْوقالً ،ثم ُمقتاتاً ،ثم هما ،ثم هرماً ،ثم ميتاً .وهذا معنى قوله { :لت َْر َكبُنَّ طبقا ً عن
طبق } .هـ .من الثعلبي .أو :لتركبن سنن َمن قبلكم ،حاالً بعد حال.
هذا على َمن قرأ بضم الباء ،وأ ّما َمن قرأ بفتحها فالخطاب إ ّما لإلنسان المتقدم ،فيجري فيه ما
تقدّم ،أو :للنبي صلى هللا عليه وسلم ،أي :لتركبَن مكابدة الكفار حاالً بعد حال ،أو :لتركبَن فتح
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
البالد شيئا ً بعد شيء ،أو :لتركبَن السماوات في اإلسراء ،سماء بعد سماء .أو :لتركبَن أحوال
أيامك ،حاالً بعد حال ،حال البعثه ،ثم حال الدعوة ،ثم حال الهجرة ،ثم حال الجهاد وفتح البالد ،ثم
حال الحج وتوديع العباد ،ثم حال الرحيل إلى دار المقام ،ثم حال الشفاعة ،ثم حال المقام في دار
الكرامة .فالطبق في اللغة يُطلق على الحال ،كما قال الشاعر:
َمـن ذا الـذي لـم يـز ّور عيشـه رنقـا الصبـر أجمـل والدنيـا مفجعـةٌ
إذا صفـا لـك مـن مسرورها طبـق أهـدى لـك الدهـر من مكروههـا طبقـا
ويطلق على الجيل من الناس يكون طباق األرض ،أي :مألها ،ومنمهم قول العباس في النبي
صلى هللا عليه وسلم:
كذبون } بالقرآن الناطق بما ذكر من أحوال القيامة وأهوالها ،مع تحقُّق { بل الذين كفروا يُ ّ
موجبات تصديقهم ،ولذلك ال يخضعون عند تالوته { وهللاُ أعلم بما يُوعدون }؛ بما يُضمرون في
قلوبهم ،ويُخفون في صدورهم من الكفر والحسد والبغي والبغضاء ،أو :بما يجمعون في
أليم }؛
ب ٍصحفهم من أعمال السوء ،ويدّخرون ألنفسهم من أنواع العذاب { ،فبشَّرهم بعذا ٍ
أخبرهم يظهر أثره على بشرتهم { ،إِالَّ الذين آمنوا وع ِملوا الصالحات } ،استثناء منقطع { ،لهم
ممنون }؛ غير مقطوع ،أو غير ممنو ٍن به.
ٍ أج ٌر غي ُر
اإلشارة :أقسم تعالى بنور بداية اإليمان ونهايته l،وما اشتمل عليه ليل الحجاب من أنواع ال ُعمال،
فقال تعالى " فال أُقسم بالشفق "؛ بنور بداية اإليمان ،الذي هو كبياض الشفق " ،والليل وما
وسق "؛ وليل الحجاب ،وما اشتمل عليه من ال ُعبّاد وال ُزهّاد واألبرار والعلماء األتقياء ،وقمر
ي دليله " لتَركبُن " أيها السالكون ،طبقا ً عن طبق؛ حاالً بعد حال، اإليمان إذا جنح نوره ،وقَ ِو َ
حتى تنتهوا إلى شمس العيان ،فأول األحوال :حال التوبة ،ثم حال اليقظة ،ثم حال المجاهدة في
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
خرق عوائد النفس ،ثم حال المراقبة ،ثم حال االستشراف l،على الحضرة ،ثم حال المشاهدة ،ثم
حال المعاينة ،ثم حال المكالمة ،ثم حال الترقِّي إلى ما ال نهاية له .فما لهم ،أي :ألهل اإلنكار ،ال
يؤمنون بسلوك هذا الطريق ،وإذا قُرىء عليهم القرآن الدا ّل على هذا المنهاج ال يخضعون وال
يتدبرونه حق تدبيره ،بل الذين كفروا بطريق الخصوص ،يُ ّكبون بها .وهللا أعلم بما يوعون في
قلوبهم من األمراض والعيوب ،أو من اإلنكار ,فبشِّرهم بعذاب البُعد والحجاب ،إالَّ الذين آمنوا
سلَكوها معهم ،لهم آجر ،وهو مقام الشهود ،غير ممنون؛ غير وصدّقوا بطريق الخصوص ،و َ
مقطوع ،بل تترادف األنوار واألسرار والكشوفات إلى غير نهاية ،أو :غير ممنون به ،بل مواهب
من هللا بال ِمنّة .وباهلل التوفيق ،وهو الهادي إلى سواء الطريق ،وصلّى هللا على سيدنا محمد
وآله وصحبه وسلّم.
اب
ص َح ُ ش ُهو ٍد } * { قُتِ َل أَ ْ وج } * { َوا ْليَ ْو ِم ا ْل َم ْوعُو ِد } * { َوشَا ِه ٍد َو َم ْ ت ا ْلبُ ُر ِ س َمآ ِء َذا ِ *{ َوال َّ
ت ا ْل َوقُو ِد } * { إِ ْذ ُه ْم َعلَ ْي َها قُ ُعو ٌد } * { َو ُه ْم َعلَىا َما يَ ْف َعلُونَ بِا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ األُ ْخدُو ِد } * { النَّا ِر َذا ِ
ت
اوا ِ س َم َ ش ُهو ٌد } * { َو َما نَقَ ُمو ْا ِم ْن ُه ْم إِالَّ أَن يُ ْؤ ِمنُو ْا بِاهَّلل ِ ا ْل َع ِزي ِز ا ْل َح ِمي ِد } * { الَّ ِذي لَهُ ُم ْل ُك ال َّ ُ
ت ثُ َّم لَ ْم يَتُوبُو ْا فَلَ ُه ْم ين َوا ْل ُم ْؤ ِمنَا ِ ش ِهي ٌد } * { إِنَّ الَّ ِذينَ فَتَنُو ْا ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َl
ض َوهَّللا ُ َعلَى ُك ِّل ش َْي ٍء َ َواألَ ْر ِ
يق }اب ا ْل َح ِر ِ اب َج َهنَّ َم َولَ ُه ْم َع َذ ُ َع َذ ُ
{ وشاه ٍد ومشهو ٍد } أي :وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه ،والمراد بالشاهدَ :من يشهد فيه
من الخالئق كلهم ،وبالمشهود فيه :ما في ذلك اليوم من عجائبه وأهواله ،إذا أُريد بالشهود:
الحضور ،وإذا أريد الشهادة ،فيُقَدّر المعمول ،أي :مشهود عليه أو مشهود به .وقد اضطربت
األقوال في الشاهد والمشهود ،فقيل :الشاهد :أمة محمد صلى هللا عليه وسلم ،والمشهود l:سائر
األمم؛ ألنه يشهدون عليهم كما تقدّم وقيل :الشاهد :عيسى عليه السالم ،والمشهود :أمته،
لقوله:
ش ِهيداً َّما ُد ْمتُ فِي ِه ْم } { َو ُكنتُ َعلَ ْي ِه ْم َ
[المائدة ،]117:وقيل :الشاهد :جميع األنبياء ،والمشهود :أممهم ،وقيل :الشاهد :المالئكة
الحفظة ،والمشهود :الناس ،ألنهم يشهدون عليهم يوم القيامة .وقيل :الشاهد :الجوارح،
والمشهود عليهم :أصحابها وقيل :الشاهد :هللا والمالئكة وأولو العلم ،والمشهود به :الوحدانية،
لقوله تعالى:
ش ِه َد هَّللا ُ أَنَّهُ الَ إِلَـاهَ إِالَّ ُه َو َوا ْل َملَـائِ َكةُ }
{ َ
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
[آل عمران ]18:الخ .وقيل :الشاهد :جميع المخلوقات ،والمشهود به :وجود خالقها وإثبات
صفاته من الحياة والقدرة ...وغير ذلك.
وقيل :الشاهد :النجم ،للحديث " :ال صالة بعد العصر حتى يطلع الشاهد " أي :النجم
والمشهود :الليل ،ألن النجم يشهد بانقضاء النهار ودخول الليل .وقيل :الشاهد :الحجر األسود،
والمشهود :الناس يحجون ،ألنه يشهد عليهم يوم القيامة ل َمن قَبّله أو لمسه .وقيل :الشاهد :يوم
الجمعة ،والمشهود :يوم عرفة ،ألنَّ يوم الجمعة يشهده باألعمال ،ويوم عرفة يشهده الناس،
وهذا مروي عنه صلى هللا عليه وسلم .وقيل :الشاهد :يوم عرفة ،والمشهود :يوم النحر .قاله
عل ّي رضي هللا عنه ،انظر ابن جزي .وقيل :الشاهد :األيام والليالي ،والمشهود :بنو آدم ،للحديث
" ما من يوم إالَّ وينادي :أنا يوم جديد ،وعلى ما يُفعل به شهيد ،فاغتنمني " وكذلك تقول الليلة،
وأنشدوا:
وخلّفـتَ فـي يـوم عليـك شهيـ ُد ُ سـك الماضـي شهيـداً معـ ّدالً مضـى أ ْم ُ
َ َ
فـإن كنـت باألمـس اقترفـت إسـاءة فثنـ ْه بإحسـا ٍن وأنـت حميـ ُد
وال ت ُْـرج ف ْعـل الخيـر يومـا ً إلـى غـ ٍد لعـل غـداً يـأتـي وأنـت فقيـ ُد
فيو ُمـك إن أتعبـتَـه نفعـه غـدا عـليـك ومـاضـي ال َع ْيـش ليـس يعـو ُد
وجواب القسم إ ّما محذوف يد ّل عليه { :قُتل } ...الخ ،كأنه قيل :أقسم بهذه األشياء أنّ كفار
أصحاب األخدود } أو :هو قتل بعينه lعلى حذف الالم ،لطول الكالم، ُ قريش ملعونون كما لُعن {
أي :لقد قُتل أصحاب األخدود ،والمراد :تثبيت المؤمنين على ما هم عليه من اإليمان ،وتصبيرهم
على أذى الكفرة ،وتذكيرهم بما جرى على َمن تقدمهم من التعذيب ،وصبرهم على ذلك ،حتى
يأنسوا ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ،ويعلموا أنَّ هؤالء الكفرة بمنزلة أولئك،
ملعونون مثلهم.
واألخدود :الخد في األرض ،أي :الشق.
ُروي في الصحيح عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال " :كان لبعض الملوك ساحر ،فل ّما
كبر ،قال للملك :قد كبرتُ فابعث إل ّي غالما ً أعلّمه السحر ،فض ّم إليه غالما ً ليعلّمه ،وكان في
الراهب:
ُ راهب ،فسمع منه وأعجبه ،وكان يحتبس عنده ،فيضربه الساح ُر ،فقال له ٌ طريق الغالم
إذا خشيت الساح َر ،فقل له :حبسني lأهلي ،وإذا خشيتَ أهلك ،فقل :حبسني الساح ُر ،فرأى في
طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس ،وقيل :كانت أسداً ،وقيل :ثُعباناً ،فأخذ حجراً ،وقال :اللهم
أحب إليك من الساحر فاقتلها ،فقتلها ،وكان الغالم تعلَّم من الساحر اسم هللاإن كان الراهب ّ
األعظم ،فكان الغالم يُبرىء األكمه واألبرص ،ويشفي lمن األدواء ،فعمي جليس المل ُك فأبراه،
فعذبه ،فد ّل على الغالمّ ،
فعذبه، وأبصره الملكُ ،فقالَ :من ر َّد عليك بصرك؟ فقال :ربي ،فغضبّ ،
فد ّل على الراهب ،فلم يرجع عن دينه ،فق ّد بالمنشار ،وأبى الغال ُم ،فذهب به إلى جبل ليطرح من
فلججوا به ذروته فدعا ،فرجف بالقوم ،فطاحوا ،ونجا ،فذهب به إلى قُ ْرقُورة ـ وهي السفينة ـ َ
الناس
َ ليغرقوه ،فدعا ،فانكفأتْ بهم السفينةُ l،فغرقوا ،ونجا ،فقال للملك :لستَ بقاتلي حتى تجمع
رب الغالم ،ثم ترمينيl في صعيد ،وتصلبني lعلى جذع ،وتأخذ سهما ً من كنانتي l،وتقول :بسم هللا ّ
برب الغالم ،فقيل للملك: به ،فرماه فوقع في صدغه ،فوضع يده عليه ومات .فقال الناس :آمنا ّ
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
نزل بك ما كنت تحذر ،فخ ّد أخدوداً ،فمألها ناراً ،ف َمن لم يرجع عن دينه طرحه فيها ،حتى جاءت
صبي l،فتقاعست ،فقال الصب ّي :يا أماه! اصبري ،فإنك على الحق ،فاقتحمت بصبيها.ٌّ امرأة معها
وقيل لها :قعي وال تنافقي ،ما هي إالّ غميضة " والحديث في صحيح مسلم.
واسم الغالم :عبد هللا بن الثامر ،واسم الراهب :فيميون ،واسم الملك :ذو نواس .وقد ذكر القصة
الكالعي بتمامها .وقيل :تعددت قضية األخدود ،فكانت واحدة بنجران باليمن ،واألخرى بالشام،
واألخرى بفارس ،فنزل القرآن في الذي بنجران .انظر التثعلبي .قال سعيد بن المسيب :كنا عند
ْغه كما قتل،
صد ِ
صبعه على ُعمر ،إذ ورد عليه أنهم وجدوا ذلك الغالم حين حفروا خربة ،وأُ ْ
فكلما مدت يده رجعت مكانها ،فكتب عمر :أن واروه حيث وجدتموه .هـ.
وقوله تعالى { :النا ِر }؛ بدل اشتمال من " األخدود " فحذف الضمير ،اي :فيه ،وقيل :قاعدة
وصفٌ لها بغاية العظم ،وارتفاع اللهب ،وكثرة ما يوجبه lمن الضمير أغلبية ،و { ذات الوقود } َ
الحطب وأبدان الناس { ،إِذ هم عليها قعو ٌد }؛ ظرف لقُتل ،أي :لُعنوا حين ح ّرقوا المؤمنين
بالنار ،قاعدين عليها في مكان مشرف lعليها من جنبات األخدود { ،وهم على ما يفعلون
صر فيمابالمؤمنين } من اإلحراق { شُهو ٌد } يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنَّ أحداً منهم لم يُقَ ِّ
أمر به ،وف ّوض إليه من التعذيب ،أو ::إنهم { شهود } يشهدون بما فعلوا بالمؤمنين يوم
القيامة ،يوم تشهد عليهم ألسنتُهم ،وقيل " :على " بمعنى " مع " أي :وهم مع ما يفعلون
بالمؤمنين من العذاب حضور ،وال يَرقّون لهم ،لغاية قسوة قلوبهم.
وهذا هو الذي يستدعيه النظم الكريم ،وتنطق به الروايات المشهورة.
وقد ُروي أنَّ الجبابرة ل ّما ألقوا بالمؤمنين في النار ،وهم قعود عليها ،علقت بهم النار،
ونجا هللاُ المؤمنين سالمين ،وإلى هذا القول ذهب الربي ُع بن أنس والواحدين وعلى
فاحترقواّ ،
ذلك حمال قوله تعالى { :ولهم عذاب الحريق }.
{ وما نَقَ ُموا منهم } أي :وما عابوا منهم وأنكروا عليهم ،يقال :نقم ـ بالفتح والكسر :عاب ،أي:
عابوا منهم { إِالَّ أن يؤمنوا باهلل } وهذا كقول الشاعر:
ت واألرض } فكل َمن فيها يحق عليه عبادته والخضوع له { ،وهللاُ على { الذي له ملك السموا ِ
كل شي ٍء شهي ٌد } وعيد لهم شديد ،يعني :أنه تعالى َعلِ َم بما فعلوا وسيجازيهم عليه.
{ إِنَّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } أي :محقوهم في دينهم ليرجعوا عنه ،والمراد بهم :إ ّما
لوهم في ذلكأصحاب األخدود خاصة ،وبالمفتونين :المطروحين في األخدود ،وإ ّما الذين بَ ْ
باإلذاية والتعذيب على اإلطالق ،وهم داخلون في جملتهم دخوالً أولياً .قال ابن عطية :األشبه أنَّ
المراد بهؤالء قريش ،حيث طانوا يُ َع َّذبون َمن أسلم ،ويقويه بعض التقوية :قوله تعالى { :ثم لم
يتوبوا } ألنه ُروي :أنّ أصحاب األخدود ماتوا على كفرهم ،وأ ّما قريش فكان منهم َمن تاب بعد
عذاب الحريق } في ُ عذاب جهنَّ َم } في اآلخرة لكفرهم { ،ولهم
ُ نزول اآلية .هـ .مختصراً { .فلهم
الدنيا لِما تقدّم أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم ،أو :عذاب الحريق :نار أخرى عظيمة تحرقهم
في اآلخرة ،لسبب فتنتهم للمؤمنين .والجملة :خبر " إن " ودخلت الفاء لتضمين المبتدأ معنى
ض َر َر في نسخة بـ " إنَّ " وإن خالف في ذلك األخفش.
الشرط ،وال َ
اإلشارة :والسماء ذات البروج ،أي :سماء الحقائق ،صاحبة المنازل التي تنزل فيها السالك في
ترقِّبه إليهاَ ،من أرض الشرائع ،كمقام التوبة ،ثم الصبر ،ثم الورع ،والزهد ،ثم الت ُّكل ،ثم الرضا
والتسليم ،ثم المراقبة ،ثم المشاهدة ،واليوم الموعود يوم الفتح األكبر ،وهو وقت الخروج من
شهود الكون إلى شهود المك ِّون ،وشاهد هو الذي يشهد ذات الحق عياناً ،ومشهود ،هو عظمة
الذات العلية وأسرارها وأنوارها .وقال الورتجبي l:الشاهد هو والمشهود هو ،يرى نفسه بنفسه،
أي :ال يراه أحد بالحقيقة سواه ،وأيضاً :الشاهد هو ،إذا تجلّى بتجلِّي الجمال والحس ،والمشهود
قلوب العارفين شا َهدَها بنعت الكشف ،وأيضاً :اشاهد هو قلوب المحبين ،والمشهود لقاؤه ،وهو
أصحاب األخدود ،وهم
ُ شاهدهم وهو مشهودهم ،هو شاهد العارف والعارف شاهده .هـ .قُتل
المعذبون ألهل التوجه ،وما نقموا منهم إالّ ِّ الصادُّون عن طريق الحق أينما كانوا وكيف كانوا،
طلب كمال اإليمان ،وتحقيق اإليقان .إنّ الذي فتنوا أهل التوجه ثم لم يتوبوا فلهم عذاب البُعد
ولهم عذاب االحتراق بالحرص والتعب والخوف والجزع.
ت لَ ُه ْم َجنَّاتٌ ت َْج ِري ِمن ت َْحتِ َها األَ ْن َها ُر َذلِ َك ا ْلفَ ْو ُز ا ْل َكبِي ُر } * { *{ إِنَّ الَّ ِذينَ آ َمنُو ْا َو َع ِملُو ْا ال َّ
صالِ َحا ِ
ش ِدي ٌد } * { إِنَّهُ ُه َو يُ ْب ِدى ُء َويُ ِعي ُد } * { َو ُه َو ا ْل َغفُو ُر ا ْل َودُو ُد } * { ُذو ا ْل َع ْر ِ
ش ش َربِّكَ لَ َ إِنَّ بَ ْط َ
يث ا ْل ُجنُو ِد } * { فِ ْرع َْونَ َوثَ ُمو َد } * { بَ ِل الَّ ِذينَ ا ْل َم ِجي ُد } * { فَعَّا ٌل لِّ َما يُ ِري ُد } * { َه ُل أَتَا َك َح ِد ُ
ح َّم ْحفُ ٍ
وظ } ب } * { َوهَّللا ُ ِمن َو َرآئِ ِه ْم ُّم ِحيطٌ } * { بَ ْل ه َُو قُ ْرآنٌ َّم ِجي ٌد } * { فِي لَ ْو ٍ َكفَ ُرو ْا فِي تَ ْك ِذي ٍ
يقول الحق ج ّل جالله { :إِنّ الذين آمنوا } وصبروا على اإليمان { و َع ِملوا الصالحات } من
المفتونين وغيرهم { لهم } بسبب ذلك اإليمان والعمل الصالح { جناتٌ تجري من تحتها األنها ُر }
،إن أُريد بالجنات األشجار فجريان األنهار من تحتها ظاهر ،وإن أُريد بها األرض المشتملة
عليها فالتحتية باعتبار جريها الظاهرة ،فإنَّ أشجارها ساترة لساحتها ،كما يعرب عنه اسم
الجنة { .ذلك هو الفو ُز الكبير } الذي تصغر عنده الدنيا وما فيها من فنون الرغائب بحذافيرها،
والفوز :النجاة من الشر والظفر بالخير .واإلشارة إ ّما إلى الجنة الموصوفة بما ذكر ,والتذكير
لتأويلها بما ذكر ،وإ ّما إلى ما يفيده قوله { :لهم جنات } ...الخ ،من حيازتهم لها ،فإنَّ حصولها
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
لهم مستلزم لحيازتهم لها قطعاً ،وما فيه من البُعد لإليذان بعلو درجته ،وبُعد منزلته في الفضل.
ومحله :الرفع ،وخبره :ما بعده.
بطش ربك لشدي ٌد } ،البطش :األخذ بعنف ،فإذا ُوصف بالشدة فقد تفاقم وتعاظم أمره. َ { إِنَّ
والمراد :أخذ الظلمة والجبابرة بالعذاب واالنتقام ،وهو استئناف ،خواطب به النبي صلى هللا
التعرض لعنوانُّ عليه وسلم إيذانا ً بأنَّ لكفار قوهه نصيبا ً موفوراً من مضمونه ،كما يُنبىء عنه
الربوبية مع اإلضافة لضميره صلى هللا عليه وسلم { .إِنه هو يُبدىء ويُعيد } أي :هو يُبدىء
دخل ألحد في شيء منها .ففيه مزيد تقرير لشدة بطشه ،فقد د ّل الخلق وهو يُعيده ،من غير ٍ
باقتداره على البدء واإلعادة على شدة بطشه ،أو :هو يُبدىء البطش بالكفرة في الدنيا ويُعيده
في اآلخرة { .وهو الغفو ُر } الساتر للعيوب ،الغافر للذنوب { ،الودو ُد } المحب ألوليائه ،أو:
الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود ،من إعطائهم ما أرادوا { ،ذو العرش } أي :خالقه ومالكه،
وقيل :المراد بالعرش :ال ُملك ،أي :ذو السلطة القاهرة { المجي ُد } بالجر صفة للعرش ،وبالرفع
صفة ُ
لذو ،أي :العظيم في ذاته ،فإنه واجب الوجود ،تام القدرة { فعَّا ٌل لما يُريد } بحيث ال يتخلّف
عن إرادته مراد من أفعاله تعالى وأفعال عباده ،ففيه داللة على خلق أفعال العباد ،وهو خبر عن
محذوف.
حديث الجنود } أي :قد أتاك حديث الطاغية واألمم الخالية .وهو استفهام تشويق ُ { هل أتاك
مقرر لشدّة بشطه تعالى بالظَلَمة العصاة ,والكفرة العتاة .وكونه فعال لما يُريد مع تسليته lصلى
هللا عليه وسلم بأنه سيصيب lقومه صلى هللا عليه وسلم ما أصاب تلك الجنود { .فرعونَ
وثمو َد }؛ بدل من الجنود؛ ألنَّ المراد بفرعون هو وقومه .والمراد بحديثهم :ما صدر منهم من
التمادي على الكفر والضالل ،وما ح ّل بهم من العذاب والنكال ،أي :قد أتاك حديثهم ،وعرفت ما
وحذرهم أن يُصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم. ّ فعل بهم ،فذ ّكر قومك ببطش هللا تعالى،
ب } ،إضراب عن مماثلتهم ،وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر { بل الذين كفروا في تكذي ٍ
والطغيان ،كأنه قيل :ليسوا مثلهم في ذلك ،بل هم أشد منهم في استحقاق العذاب واستيجاب
ب شديد للقرآن الكريم ،أو كأنه قيل :ليست جنايتهم مجرد عدم مستقرون lفي تكذي ٍ
ُّ العقاب ،فإنهم
التذ ُّكر واالتعاظ بما سمعوا من حديثهم ،بل هم مع ذلك في تكذيب شدي ٍد للقرآن الناطق بذلك ،لكن
ال أنهم يكذبون بوقوع تلك الحادثات ،بل لكون ما نطق به قرآنا ً من عند هللا تعالى مع وضوح
أمره ،وظهور حاله ،بالبينات الباهرة.
وهللاُ من ورائهم محيط }؛ عالم بأحوالهم ،قادر عليهم ،ال يفوتونه .وهو تمثيل lلعدم نجاتهم من
بأس هللا تعالى بعدم فوات المحاط المحيط.
كذبوا به قرآن شريف عالي الطبقة في الكتب السماوية،{ بل هو قرآن مجيد } أي :بل هذا الذي ّ
وفي نظمه وإعجازه ،وهو رد لكفرهم وإبطال لتكذيبهم ،وتحقيق للحق ،أي :ليس األمر كما
قالوا ،بل هو كتاب شريف { في لوح محفوظ } من التحريف والتبديل .وقرأ نافع بالرفع صفة
للقرآن ،والباقي بالجر صفة للوح ،أي :محفوظ من وصول الشياطين إليه .واللوح عند الحسن:
شيء يلوح للمالئكة يقرؤونه ،وعن ابن عباس رضي هللا عنه :هو من د ّرة بيضاء ،طوله ما بين
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
السماء واألرض ،وعرضه ما بين المشرق والمغرب ،قلمه نور ،وكل شي ٍء فيه مسطور .قال
مقاتل :هو عن يمين العرش ،وقيل :أعاله معقود بالعرش ،وأسفله في ِح ْج ِر ملَك كريم هـ.
اإلشارة :إنَّ الذين آمنوا إيمانا ً حقيقيًّا شهوديًّا ،وعملوا الصالحات بأيدي القلوب واألرواح
واألسرار ،يعني العمل الباطني ،لهم جنات المعارف ،تجري من تحتها أنهار العلوم وال ِحكم ،ذلك
هو الفوز الكبير والسعادة العظمى .إنَّ بطش ربك بأهل اإلنكار الجاحدين ألهل الخصوصية
ش ِديد ،وهو غم الحجاب وسوء الحساب ،إنه هو يُبدىء ويُعيد ،يُبدىء الحجاب للمحجوبين، لَ َ
ويُعيد الشهود للعارفين ،وهو الغفور للتائبين المتوجهين ،الودود للسائرين المحبين .قال
الورتجبي l:الغفور للجنايات ،الودود بكشف المشاهدات .هـ .ذو العرش :ذو السلطة القاهرة على
العوالم العلوية والسفلية .قال الورتجبي :وصف نفسه بإيجاد العرش ،ثم وصف نفسه بالشرف
والتنزيه ،أي :بقوله { :المجيد } إعالما ً بأنه كان وال مكان ،واآلن ليس في المكان ،إذ جالله
وجماله من َّزه عن مماسة المكان ،والحاجة إلى الحدثان .هـ .قال القشيري l:ويجوز أن يكون
المراد بالعرش :قلب العارف المستَوي للرحمن ،كما جاء الحديث " :قلب العارف عرش هللا "
هـ.
قرب البعيد ويُبعد القريب إن شاء .قال القشيري :إنْ أراد أن يجعل أرباب األرواح ف ّعال لما يُريد ،يُ ِّ
من أرباب النفوس فهو قادر على ذلك ،وهو عادل في ذلك ،وإن أراد عكس ذلك فهو كذلك .هـ.
فلذا كان العارف ال يزول اضطراره ،وال يكون مع غير هللا قراره ،هل أتاك حديث الجنود ،أي:
سرها بفرعونجنود النفس التي تُحارب به الروح لتهوي بها إلى الحضيض األسفل ،ثم ف ّ
الهوى ،وثمود حب الدنيا ،والطبع الدني .بل الذين كفروا بطريق الخصوص في تكذيب ،لهذا
كله ،فال يُفرقون بين الروح والنفس ،وال بين الفرق والجمع ،وهللا من ورائهم محيط ،ال يفوته
شيء ،إلحاطة المحيط باألشياء ذاتا ً وصفاتا ً وفعالً ،بل هو ـ أي :ما يوحي إلى األسرار الصافية،
واألرواح الطاهرة ـ قرآن مجيد في لوح محفوظ عن الخواطر والهواجس الظلمانية ،وهو قلب
العارف .وهللا تعالى أعلم.
س لَّ َّماب } * { إِن ُك ُّل نَ ْف ٍ ق } * { النَّ ْج ُم الثَّاقِ ُ ق } * { َو َمآ أَد َْرا َك َما الطَّا ِر ُ س َمآ ِء َوالطَّا ِر ِ *{ َوال َّ
ق } * { يَ ْخ ُر ُج ِمن بَ ْي ِنق ِمن َّمآ ٍء دَافِ ٍ ق } * { ُخلِ َ سانُ ِم َّم ُخلِ َ َعلَ ْي َها َحافِظٌ } * { فَ ْليَنظُ ِر ا ِإلن َ
س َرآئِ ُر } * { فَ َما لَهُ ِمن قُ َّو ٍة َوالَ ب } * { إِنَّهُ َعلَىا َر ْج ِع ِه لَقَا ِد ٌر } * { يَ ْو َم تُ ْبلَىا ال َّ ب َوالتَّ َرآئِ ِ الص ْل ِ
ُّ
نَ ِ
اص ٍر }
فخمه باإلقسام به ،تنبيها ً على رفعة قدره بحيث ال يناله إدراك الخلق ،فال بد من تلقَّيه} بعد أن ّ
الثاقب }؛ المضيء،ُ سره بقوله { :النج ُم من الخالّق العليم ،أي :أ ّ
ي شيء أعلمك بالطارق ،ثم ف ّ
فكأنّه يثقب الظالم بضوئه فينفذ فيه ،ووصف بالطارق ألنه يبدو بالليل ،كما يُقال لآلتي ليالً:
طارق ،أو :ألنه يطرق الجنِّ َّي ،أي :يُص ّكه .وقيل :المراد به كوكب معهود ،قيل:هو الثريا ،وقيل
ُزحل ،وقيل الجدي.
س ل َّما عليها حافظٌ } " ،إن " نافية ،و " ل ّما " بمعنى سم عليه ،فقال { :إِن ُك ُّل نف ٍ ثم ذكر المق َ
" إالّ " في قراءة َمن شدّدها ،وهي لغة هذيل ,يقولون " :نشدتك هللا ل ّما قمت " أي :إالّ قمت،
أي :ما كل نفس إالّ عليها حافظ مهيمن رقيب ،وهو هللا ع ّز وجل ،كما في قوله تعالى:
{ َو َكانَ هَّللا ُ َعلَىا ُك ِّل ش َْي ٍء َّرقِيبا ً }
[األحزاب ]52:أوَ :من يحفظ عملها ،ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر ,كما في قوله
تعالى:
{ َوإِنَّ َعلَ ْي ُك ْم لَ َحافِ ِظينَ (} )10
[االنفطار ]10:أوَ :من يحفظها من اآلفات ،ويذب عنها ,كما في قوله تعالى:
{ لَهُ ُم َعقِّبَاتٌ ِّمن بَ ْي ِن يَ َد ْي ِه َو ِمنْ َخ ْلفِ ِه يَ ْحفَظُونَهُ ِمنْ أَ ْم ِر هَّللا ِ }
[الرعد ،]11:وفي الحديث عنه صلى هللا عليه وسلم " :و ِّكل بالمؤمن ستون ومائة ملك ،يذبون
الذباب ،ولو وكل المرء إلى نفسه lطرفة عين َ عنه ما لم يُقدّر عليه ،كما يذب عن قصعة العسل
الختطفته الشياطين " ثم قرأ صلى هللا عليه وسلم { :إن كل نَ ْفس } ..الخ .و " ما " :صلة في
قراءة من خفف ،أي :إنه ،أي :األمر والشأن كل نفس لعليها حافظ.
{ إِنه } أي :الخالق ،لداللة " ُخلِق " عليه ،أي :إنَّ الذي خلق اإلنسانَ ابتداء من نُطفة { ،على
وجيء بـ " إنّ " والالم وتنكير الخبر ليدل َر ْج ِعه }؛ على إعادته بعد موته { لقاد ٌر } بيّن القدرةِ .
على رد بليغ على َمن يدّعي أنه ال حشر وال بعث ،حتى كأنه ال تتعلق القدرة بشيء إالَّ بإعادة
األرواح إلى األجساد { ،يو َم تُبلى السرائ ُر } أي :تكشف ويُتصفَّح ما فيها من العقائد والنيات
وغيرها ،وما أخفي من األعمال ،ويتبين ما طاب منها وما خبث .والسرائر :القلوب ،هو ظرف لـ
" َر ْج ِعه " ،أي :إنه لقادر على رده بالبعث في هذا اليوم الذي تُفضح lفيه السرائر { ،فما له ِمن
قو ٍة } في نفسه يمتنع بها { وال ناص ٍر } ينتصر به ويدفع عنه غير هللا تعالى .ول ّما كان رفع
المكان في الدنيا إ ّما بقوة األنسان ،وإ ّما بنصر غيره له ،أخبر هللا بنفيهما يوم القيامة.
اإلشارة :أقسم تعالى بقلب العارف ،ألنه سما ٌء لشمس العرفان وقم ِر اإليمان ونجوم العلم ،وبما
يطرقه من الواردات اإللهية والنفحات القدسية ,ثم ن ّوه بذلك الطارق ،فقال { :وما أدراك ما
الطارق النجم الثاقب } أي :هو نجم العلم الثاقب لظلمة الجهل ،إ ّما جهل الشرائع أو جهل
الحقائق .إن ُك ُّل نفس ل ّما عليها حافظ ،وهو هللا ،فإنه رقيب على الظواهر والبواطن ،ففيه حث
على تدقيق المراقبة ظاهراً وباطناً .فلينظر اإلنسانُ ِم َّم ُخلق في عالم الحكمة من جهة بشريته,
ُخلق من ماء دافق ،يخرج من محل البول ويقع في محل البول ،فإذا نظر إلى أصل بشريتهl
تواضع وانكسر ،وفي ذلك ِع ُّزه وشرفُهَ ،من تواضع رفعه هللا .وفيه روح سماوية قدسية ،إذا
اعتنى بها وز ّكاها ،نال عز الدارين وشرف المنزلين " َمن عرف نفسه عرف ربه " فاإلنسان
والحكم للغالب منهما .إنه على رجعه: ُ من جهة بشريته أرضي ،ومن جهة روحانيته lسماوي،
أي :رده إلى أصله ،حين برز من عالم الغيب ،بظهور روحه ،لقادر ،فيصير روحانيًّا سماويًّا،
بعد أن كان بشريًّا أرضيًّا ،وذلك يوم تُبلى السرائر بإظهار ما فيها من المساوىء ،ليقع الدواء
عليها ،فتذهب ،ف َمن لم يَفضح نفسه لم يظفر بها ،فما لها من قو ٍة على جهادها وإظهار مساوئها
بين األقران إالّ باهلل ،وال ناصر ينصره lعلى الظفر بها إالَّ ِمن هللا ،وال حول وال قوة إال باهلل.
يقول الحق ج ّل جالله { :والسما ِء ذات الرجع } أي :المطر ،ألنه يرجع حينا ً بعد حين ،وس َّمته
صدْع } أي :الشق ،ألنها تنصدع عن النبات واألشجار ,ال العرب بذلك تفاؤالً { ،واألر ِ
ض ذات ال َّ
بالعيون كما قيل ،فإنَّ وصف السماء بالرجع ،واألرض بالشق ،عند اإلقسام بها على حقيّة
القرآن الناطق بالبعث؛ لإليماء إلى أنهما في أنفسهما من شواهده ،وهو السر في التعبير عنه
بالرجع والصدع ،ألنَّ في تشقُّق األرض بالنبات محاكاة للنشور ،حسبما ذكر في مواضع من
ق والباطل، ص ٌل }؛ فاصل بين الح ّالقرآن ،ال في تشققها بالعيون { .إِنه } أي :القرآن { لَقَو ٌل فَ ْ
كما قيل له :فرقاناً ،وصفَه بالمصدر ،كأنه نفس الفعل { ،وما هو بالهز ِل } أي :ليس في شيء
منه شائبة هزل ،بل كله جد محض ،و ِمن حقه ـ حيث وصفه هللا بذلك ـ أن يكون ُمهابا ً في
الصدور ،معظما ً في القلوب ،يرتفع به قارئه وسامعه ،ويهتدي به الغواة ،وتخضع له رقاب
ال ُعتاة.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
{ إِنهم } أي :أهل مكة { يَكيدون } في إبطال أمره ،وإطفاء نوره { كيداً } على قدر طاقتهم
ستدرجهم إلى الهالك من حيث ال يعلمون. { وأكي ُد كيداً } أي :أقابلهم بكيد متين ال يمكن رده ،فأ ْ
فسمي جزاء الكيد كيداً ،كما سمي جزاء االعتداء والسيئة اعتدا ًء وسيئة ،وإن لم يكن اعتدا ًء
وسيئة l،وال يجوز إطالق هذا الوصف على هللا تعالى إالَّ على وجه المشاكلة ،كقوله:
{ يُ َخا ِدعُونَ هَّللا َ َوه َُو َخا ِد ُع ُه ْم }
[النساء ]142:إلى غير ذلك { فَ َم ِّهل الكافرين } أي :ال تدع بهالكهم ،وال تشغل باالنتقام منهم،
بل اشتغل باهلل يكفِك أمرهم { أم ِهلهم ُرويداً } أي :إمهاالً يسيراً ،فـ " أم ِهلهم " :بدل من " َم ِّهل
" ،وخالف بين اللفظتين لزيادة التسكين والتصبير .و " رويداً " :مصدر أرود ,بالترخيم ،وال
يتكلم به إالَّ مصغراً ،وله في االستعمال وجهان آخران :كونه اسم فعل ،نحو ُرويد زيداً ،وكونه
حاالً ،نحو :سار القوم رويداً ،أي :متمهلين.
ثم أمر بالغيبة lعن األعداء ،واالشتغال باهلل عنهم بقوله { :فَ َم ِّهل الكافرين أمهلهم رويداً } ،قال
بعض العارفين :ال تشتغل قط ب َمن يؤذيك ،واشتغل باهلل يرده عنك ،فإنه هو الذي ح َّركه عليك
ليختبر lدعواك في الصدق ،وقد غلط في هذا خلق كثير ،اشتغلوا بإذاية َمن آذاهم ،فدام األذى مع
اإلثم ،ولو أنهم رجعوا إلى هللا لكفاهم أمرهم .هـ.
وباهلل التوفيق .وصلّى هللا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
س َّوىا } * { َوالَّ ِذي قَ َّد َر فَ َهدَىا } * { َوالَّ ِذيا أَ ْخ َر َج ق فَ َ س َم َربِّ َك األَ ْعلَىا } * { الَّ ِذي َخلَ َ
حا ْسبِّ ِ
*{ َ
ا ْل َم ْرعَىا } * { فَ َج َعلَهُ ُغثَآ ًء أَ ْح َوىا } * { َ
سنُ ْق ِرئُ َك فَالَ تَن َ
سىا } * { إِالَّ َما شَآ َء هَّللا ُ إِنَّهُ يَ ْعلَ ُم ا ْل َج ْه َر
س َرىا } س ُركَ لِ ْليُ ْ
َو َما يَ ْخفَىا } * { َونُيَ ِّ
سبّح اس َم ربك } أي :ن ّزه اسمه تعالى عن اإللحاد فيه ،بالتأويالت
يقول الحق ج ّل جاللهَ { :
الزائغة ،وعن إطالقه على غيره بوج ٍه يوجب االشتراك في معناه ،فال يُسمى به صنم وال وثن وال
شيء مما سواه تعالى ،قال تعالى:
{ َه ْل تَ ْعلَ ُم لَهُ َ
س ِميّا ً }
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
[مريم ]65:فال يُقال لغيره تعالى :رب وإله ،وإذا كان أَ َمر بتنزيه اللفظ فتنزيه الذات أحرى ،أو:
ن ّزه اسمه عن ذكره ال على وجه اإلجالل واإلعظام ،أو :ن ّزه ذاته المقدَّسة عما ال يليق بها،
فيكون " اسم " صلة .و " األعلى " صفة لرب ،وهو األظهر .وعُلوه تعالى :قهريته واقتداره،
أو :تعاليه عن سمة الحدوث وعن مدارك العقول ،فال يُحيط به وصف واصف أو علم عارف ،ال
علو مكان .أو صفة لالسم ،وعلوه بعلو مسماه ،وقيل :قل :سبحان ربي األعلى .ل ّما نزل:
س ِم َربِّ َك ا ْل َع ِظ ِ
يم (} )74 { فَ َ
سبِّ ْح بِا ْ
[الواقعة ]74:قال صلى هللا عليه وسلم " :اجعلوه في ركوعكم " فلما نزل { :سبح اسم ربك
األعلى } قال " :اجعلوه في سجودكم " وكانوا يقولون في الركوع :لك ركعت ،وفي السجود :لك
سجدت ،فجعلوا هذا مكانه.
{ سنُقرئك فال تنسى } أي :سنعلمك القرآن فال تنساه ،وهو بيان لهدايته lتعالى الخاصة برسوله
صلى هللا عليه وسلم ،إثر بيان هدايته العامة لكافة مخلوقاته ،وهي هدايته صلى هللا عليه وسلم
لتلقي الوحي ،وحفظ القرآن الذي هو أهدى للعالمين ،مع ضمانه له .والسين إ ّما للتأكيد ،وإ ّما
ألنَّ المراد إقراء ما أوحي إليه حنيئ ٍذ وما سيوحى إليه ،فهو وعد كريم باستمرار الوحي في
ضمن الوعد باإلقراء ،أي :سنقرئك ما نوحي إليك اآلن وفيما بعد على لسان جبريل عليه السالم،
أو :سنجعلك قارئا ً فال تنسى أصالً ،من قوة الحفظ واإلتقان مع أنك أُ ِّمي ال تدري ما الكتاب وما
القراءة ،ليكون ذلك آية أخرى لك ,مع ما في تضاعيف ما تقرأ من اآليات البينات من حيث
اإلعجاز ،ومن حيث اإلخبار بالمغيبات.
وقوله تعالى { :إالَّ ماشاء هللاُ } :استثناء مفرغ من أعم المفاعيل ،أي :فال تنسى شيئا ً من
األشياء إالَّ ما شاء هللا أن تنساه؛ بأن ننسخ lتالوته ،وهذا إشارة من هللا لنبيه lأن يحفظ عليه
الوحي ،فال يتفلت منه شي ٌء ،إالَّ ما شاء هللا نسخه ،فيذهب به عن حفظه ،ويرفع ُحكمه وتالوته.
قال الكواشي :إالَّ ما شاء هللاُ أن ننسيكه على سبيل النسخ ،أو تنساه ثم تذكره بعدُ .روي أنه
صلى هللا عليه وسلم أسقط آية في الصالة ،فظنّ أُبي أنها نُسخت ،فسأله ،فقال " :نسيتها " ،
قال الشيخ السنوسي l:والمحققون على منع النسيان لشي ٍء من األقوال البالغية قبل التبليغ،
إلجماع السلف ،وأما بعد التبليغ ،فجائز؛ ألنه من األعراض البشرية .هـ .وفي الحديث " :إنما أنا
س ْون ،فإذا نسيتُ فذ ِّكروني " lالحديث .فالسهو في حق األنبياء جائز ،ألنه من ش ٌر ،أنسى كما تَ ْن َ
ب َ
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ص في حقهم ،بل كما ،ليحصل قهرية الربوبية ،لتتميز به العبودية من الربوبية l،فليس بنق ٍ
التشريع واالقتداء .وقيل " :ال " ناهية ،وإثبات األلف للفاصلة ،كقوله:
سبِي ْ
ال } { ال َّ
[األحزاب ]67:أي :ال تغفل عن قراءته وتكراره فتنساه ،إالَّ ما شاء هللا أن ينسيك برفع تالوته،
وهو ضعيف.
الجهر وما يخفى } أي :يعلم ما ظهر وما بطن ،التي من جملتها ما أوحى إليك ،فينسى َ { إِنه يعلم
ما شاء هللاُ إنساءه ،ويبقى محفوظا ً ما شاء إبقاءه ،أو :يعلم جهرك بالقراءة مع قراءة جبريل
مخافة التفلُّت ،وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر ،أو :ما تقرأ في نفسك مخافة النسيان ،وما
تجهر به ،أو :يعلم ما أعلنتم وما أسررتم من أقوالكم وأفعالكم ،وما ظهر وما بطن من أحوالكم.
قال الورتجبي :السر والعالنية lعنده تعالى سواء ،إذا هو يبصرهما ببصره القديم ،ويعلمهما
بالعلم القديم ،وليس في القِدم نقص ،بحيث يتفاوت عنده الظاهر والباطن؛ إذ هناك الظاهر هو
الباطن ،والباطن هو الظاهر؛ ألنَّ الظاهر ظهر من ظاهريته l،والباطن من باطنيته l.هـ.
سرك لليُسرى } ،معطوف على " سنقرئك " وما بينهما اعتراض ،أي :ونوفّقك للطريقة { ونُي ّ
التي هي أيسر وأسهل ،وهي الشريعة السمحة التي هي أسهل الشرائع ،أو :نوفّقك توفيقا ً
مستمراً للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين ،علما ً وتعليماً ،هداية واهتدا ًء ،فيندرج فيه
تلقي الوحي واإلطاحة بما فيه من األحكام التشريعية lالسمحة ،والنواميس اإللهية ،مما يتعلق
بتكميل نفس صلى هللا عليه وسلم وتكميل غيره ،كما يفصح عنه قوله { :ف َذ ِّكر } ..الخ.
وتخصيص التيسير lبه عليه السالم ،مع أنه يسري lإلى غيره ،لإليذان بقوة تمكنه lصلى هللا عليه
والتصرف فيها ،بحيث صار ذلك ملكة راسخة له ،كأنه عليه السالم ُجبل ُّ وسلم من اليسرى
عليها.
نزه ربك أن ترى معه غيره ،وقدِّسه عن الحلول واالتحاد ،قال القشيري :أي :سبِّح lربك اإلشارةِّ :
بمعرفة أسمائه ,واسبَح بس ّرك في بحر عطائه ،واستخرج من بواهر علوه وسناه ما ترفع به
نزه اسمه عن أن يكون له سميًّا ،من العرش إلى عند مدحه من ثنائه .هـ .قال الورتجبي :أيِّ :
الثرى ،حتى يكون بقدس اسمه مقدسا ً عن رؤية األغيار ،ويصل بقدس اسمه إلى رؤية قدس
الصفات ،ثم إلى رؤية قدس الذات .هـ( .األعلى) فوق كل شيء ،والقريب دون كل شيء ،فهو
عل ٌّي في قربه ،قريب في علوه ،ليس فوقه شيء ،وليس دونه شيء ،الذي خلق؛ أظهر األشيا َء
فس َّوى صورتها ،وأتقن خلقها .والذي قدّر المراتب ،فهدى إلى أسباب الوصول إليها ،والذي
أخرج المرعى ،أي :ما ترعى في بهجته وحسن طلعته األرواح من مظاهر الذات ،وأنوار
الصفات ،فجعله غثا ًء أحوى ،فتل ّون من طلعة الجمال إلى قهرية الجالل .قال القشيري :أخرج
المرعى :أي :المراتع الروحانية ألرباب األرواح واألسرار والقلوب ،لِيَ ْرعَوا فيها أعشاب
المواهب اإللهية والعطايا الالهوتية ،وأخرج المراتع الجسمانية ألصحاب النفوس األ َّمارة
والهوى المتبع ،ليرتعوا فيها من كأل اللذات الحيوانية lالشهوانية .هـ .سنقرك :سنلهمك من
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
العلوم واألسرار ما تعجز عنه العقول ،فال تنسى ،إالّ ما شاء هللاُ أن تنساه ،إنه يعلم الجهر ،أي:
ما يصلح أن تجهر به من تلك العلوم ،وما يخفى وما يجب إخفاءه عن غير أهله .ونُيسرك
للطريقة اليُسرى ،التي تُوصل إلى الحضرة الكبرى .قال القشيري l:أي :طريق السلوك إلى هللا
وهي الجذبة الرحمانية التي توازي عمل الثقلين .هـ .فحينئذ تصلح للدعاء إلى هللا والتذكير به.
صلَىشقَى } * { الَّ ِذى يَ ْ سيَ َّذ َّك ُر َمن يَ ْخشَىا } * { َويَت ََجنَّبُ َها األَ ْ
الذ ْك َرىا } * { َ ت ِّ *{ فَ َذ ِّك ْر إِن نَّفَ َع ِ
صلَّىا ار ا ْل ُك ْب َرىا } * { ثُ َّم الَ يَ ُموتُ فِي َها َوالَ يَ ْحيَا } * { قَ ْد أَ ْفلَ َح َمن تَ َز َّكىا } * { َو َذ َك َر ا ْ
س َم َربِّ ِه فَ َ النَّ َ
ف األُولَىا } } * { بَ ْل ت ُْؤثِ ُرونَ ا ْل َحيَاةَ ال ُّد ْنيَا } * { َواآل ِخ َرةُ َخ ْي ٌر َوأَ ْبقَىا } * { إِنَّ هَـا َذا لَفِي ُّ
الص ُح ِ
سىا }
ف إِ ْب َرا ِهي َم َو ُمو َ ص ُح ِ *{ ُ
سيَ َّذ َّك ُر َمن يخشى }؛ سيتعظ ويقبل التذكرة َمن يخشى هللا تعالى { ويَتجنَّبُها } أي :يتأخر عنها { َ
وال يحضرها وال يقبلها { األشقى } الذي سبق له الشقاء ,أو :أشقى الكفرة لتو ُّغله في عداوة
صلَى الرسول صلى هللا عليه وسلم .قيل :نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة { .الذي يَ ْ
النار الكبرى } أي :الطبقة السفلى من طبقات جهنم ،وقيل :الكبرى نار جهنم ،والصغرى :نار َ
الدنيا ،لقوله عليه السالم " :ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنم " { ،ثم ال يموتُ
فيها } حتى يستريح { lوال يحيا } حياة تنفعه ،و " ثم " للتراخي في مراتب الشدة؛ ألنَّ التردُّد
بين الموت والحياة أفظع من الصل ِّي.
أفلح } أي :نجا من كل مكروه وظفر بكل ما يرجوه { َمن تَ َز َّكى } أي :تط ّهر من الكفر { قد َ
المعاصي بتذكيرك ووعظك { ،و َذ َك َر اس َم ربه } بقلبه ولسانه { َ
فصلَّى }؛ أقام الصلوات الخمس،
أو :أفلح َمن ز َّكى ماله ،وذكر هللا في صالته ،كقوله:
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
{ َوأَقِ ِم ال َّ
صالَةَ لِ ِذ ْك ِريا }
[طه ]14:فيكون تفعَّل من الزكاة ،أو :أفلح َمن تز ّكى :أخرج زكاة الفطر ,وذكر اسم ربه في
صلّى صالةَ العيد ،وقد روي هذا عن النب ّي صلى هللا عليه طريق خروجه إلى أن يخرج اإلمام ،ف َ
ش َر ْع زكاة الفطر ،وال صىال العيد إالَّ
وسلم فتكون اآلية مدنية l،أو :إخباراً بما سيكون ،إذ لم تُ ْ
بالمدينةl.
{ بل ت ُْؤثِرون الحياةَ الدنيا } على اآلخرة ،فال تفعلون ما به تفلحون ،وهو إضراب عن ُمقَدَّر
ينساق إليه الكالم ،كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفالح :فال تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات
التزود لألخرة { ،واآلخرةُ خير وأبقى }
ُّ لتحصيلها ,وتشتغلون بذلك عنِ العاجلة الفانية l،فتسعون
أي :خير في نفسها ،لنفاسة نعيمها ،وخلوصه من شوائب التكدير ،وأدوم ال انصرام له وال تمام.
والخطاب للكفرة .بدليل قراءة الغيب ،وإيثارها حينئذ :نسيانها بالكلية ،واإلعراض عنها ،أو:
للكل ،فالمراد بإيثارها :هو ما ال يخلوا الناس منه غالباً ،من ترجيح جانب الدنيا على اآلخرة في
السعي ،إالّ القليل .قال الغزالي :إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على اإلنسان ،قَ َّل َمن ينفك عنه،
ولذلك قال تعالى { :بل تؤثرون الحياة الدنيا } .وجملة { :واآلخرة } ...الخ :حال من فاعل
{ تُؤثرون } مؤكد للتوبيخ lوالعتاب ،أ ي :تؤثرونها على اآلخرة والحال أنها خير منها وأبقى،
قال بعضهم لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ،واآلخرة من طين يبقى ،لكان العاقل يختار ما يبقى
على ما يفنى ،ال سيما واألمر بالعكس .هـ.
صحف األُولى } اإلشارة إلى قوله { :قد أفلح َمن تز ّكى } إلى قوله:
وقوله تعالى { :إِنَّ هذا لفي ال ُ
{ وأبقى } ،قال ابن جزي :اإلشارة إلى ما ذكر قبل من الترهيب من الدنيا ،والترغيب في
اآلخرة ،أو :إلى ما تضمنته السورة ،أو :إلى القرآن ،والمعنى :إنه ثابت في كتب األنبياء
صحف األُولى ". المتقدمين .هـ .وقوله تعالى { :صحف إِبراهي َم وموسى } بدل من " ال ُ
وفي حديث أبي ذر :قلت :يا رسول هللا :كم كتابا ً أنزل هللاُ؟ قال " :مائة كتاب وأربعة كتب ،أنزل
على شيث خمسين صحيفة ،وعلى إدريس ثالثين صحيفة ،وعلى إبراهيم عشر صحائف ،وعلى
موسى قبل التوراة عشر صحائف ،وأنزل التوراة واإلنجيل والزبور والفرقان " قال :قلت :يا
صحف إبراهيم عليه السالم؟ قال " :كانت أمثاالً كلها ،أيها الملك المسلّط رسول هللا :ما كانت ُ
المغرور،إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ,ولكن بعثتك لِتَ ُر ّد على دعوة المظلوم،
فإني ال أردها ولو من كافر .وكان فيها :وعلى العاقل أن تكون له ساعات ،ساعة يناجي فيها
ربه ،وساعة يُحاسب فيها نفسه ،وساعة يُفكر في صنع هللا ع ّز وجل إليه ،وساعة يخلو فيها
لحاجته من المطعم والمشرب .وعلى العاقل أالَّ يكون ظاعنا ً إال لثالث :تزور lلمعاد ،أو مرمةl
لمعاش ،أو لذة في غير محرم .وعلى العاقل أن يكون بصيراً lبزمانه ،مقبالً على شأنه ،حافظا ً
للسانه ،و َمن حسب كالمه من عمله قَ ّل كالمه إالّ فيما يعنيه " lقلت :يا رسول هللا؛ فما كانت
صحف موسى عليه السالم؟ قال " :كانت ِعبَراً كلها؛ عجبت ل َمن أيقن بالموت كيف يفرح، ُ
عجبت ل َمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب ـ أي يتعب ،عجبت ل َمن رأى الدنيا وتقلُّبها بأهلها ثم اطمأن
إليها ،وعجبت ل َمن أيقن بالحساب غداً ثم ال يعمل " قلت :يا رسو َل هللا؛ وهل في الدنيا شيء مما
كان في يدي إبراهيم وموسى ،مما أنزل هللا عليك ،قال:
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
" نعم ،اقرأ يا أبا ذر { :قد أفلح َمن تزكى } ..اآلية إلى السورة " ثم قال :قلت :يا رسول هللا،
أوصني .قال " :أوصيك بتقوى هللا ع ّز وجل ،فإنه رأس أمرك " قلت :زدني ،قال " :عليك
بتالوة القرآن وذك ِر هللا ع ّز وجل ،فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في األرض " قلت :يا رسول
هللا؛ زدني ،قال " :إياك وكثرة الضحك ،فإنه يُميت القلب ،ويذهب بنور الوجه " ،قلت :يا
رسول هللا؛ زدني ,قال " :عليك بالجهاد ،فإنه رهبانية lأمتي " ،قلت :يا رسول هللا؛ زدني ،قال:
" عليك بالصمت إالَّ ِمن خير ،فإنه مطردة للشيطان ،وعون لك على أمر دنياك " هـ.
وعن كعب األحبار أنه قال :قرأتُ في العشر صحف التي أنزل ا هللُ على موسى عليه السالم سبعة
اسطار متصلة ،أول سطر منهاَ :من أصبح حزينا ً على الدنيا أصبح ساخطا ً على هللا ،الثانيَ :من
كانت الدنيا أكبر همه نزع هللاُ خوف اآلخرة من قلبه ،الثالثَ :من شكى مصيبة lنزلت به كأنما
شكى هللا ع ّز وجل ،الرابعَ :من تواضع لِ َملِك ِمن ملوك الدنيا ذهب ثلث دينه ،الخامسَ :من ال
يبالي من أي األبواب أتاه رزقه لم يُبال هللاُ من أي أبواب جهنم يدخله ـ يعني من حالل أو حرام،
السادسَ :من أتى خطيئَة وهو يضحك دخل النار وهو يبكي ،والسابعَ :من جعل حاجته إلى آدمي
جعل هللاُ الفقر بين عينيه l.هـ.
اإلشارة :فَذ ِّك ْر أيها العارف الدا ّل على هللا إن نفعت الذكرى؛ إن رجوتَ أو توهمتَ نفع تذكيرك،
فإن تحققتَ عدم النفع فال تتعب نفسك في التذكير ،فربما يكون بطالة ،كتذكير العدو الحاسد لك،
أو المعاند ،أو المنهمك في حب الرياسة ،فتذكير هؤالء ضرب في حديد بارد .وينبغي lللم َذ ِّكر أن
يكون ذا سياسة ومالطفة ،قال تعالى:
سبِي ِل َربِّ َك بِا ْل ِح ْك َم ِة َوا ْل َم ْو ِعظَ ِة ا ْل َح َ
سنَ ِة} ... ع إِلِىا َ
{ ا ْد ُ
[النحل]125:الخ ،والحكمة :هي أن تٌقر ك َّل واحد في حكمته l،وتدسه منها إلى ربه ،فأهل
الرئاسة تقرهم فيها وتدلهم على الشفقة والرحمة بعباد هللا ،وأهل الدنيا تُقرهم فيها وتدلهم على
بَذلها ،وأهل العلم تُقرهم في علمهم وتحضهم على اإلخالص وبذل المجهود في نشره ،وأهل
الفقر تقرهم فيه وتُرغبهم في الصبر ...وهكذا ،فإن رأيتَ أحداً تش ّوف إلى مقام أعلى مما هو فيه
ف ُدلّه عليه ،وأهل التذكير لهم عند هللا جاه كبيرَ ،
فأح ُّب الخلق إلى هللا أنفعهم لعياله ،كما في
الحديث .وفي حديث آخر " :إنَّ أود األوداء إل َّي َمن يحبني إلى عبادي ،ويحبِّب عبادي إل ّي،
ويمشي في األرض بالنصيحة " أو كما قال عليه السالم:
س َّ
يذ َّكر َمن يخشى } أي :ينتفع بتذكيري َمن يخشى هللا ،وسبقت له العناية ،ويتجنّبها األشقى: { َ
أي :ويعرض عنها َمن سبق له الشقاء.
قال القشيري l:الشقيَ :من يعرف شقاوته ،واألشقىَ :من ال يعرف شقاوته ،الذي يصلى النار
الكبرى ،وهي الخذالن والطرد والهجران ،والنار الصغرى :تتبع lالحظوظ والشهوات .هـ .ثم ال
يموت فيها وال يحيى ،أي :ال تموت نفسه عن هذا ،وال تحيا روحه بشهود هؤالء .قد أفلح َمن
تَزَ َّكى ،أي :فاز بالوصول َمن تطهَّر ِمن هوى نفسه ،بأن طَهَّر نفسه من المخالفات ،وقلبه من
الغفالت والدعوات ،وروحه من المساكنات إلى الغير ،وسره عن األنانية ،بل تُؤثرون الحياة
التوجه إلى الحضرة القدسية l،والدار اآلخرة التي يدوم فيها الشهود خير وأبقى ،وهذا
ُّ الدنيا عن
صحف الرسل واألنبياء ،قال القشيري :ألنَّ األمر ،وهو التزهيد في الدنيا ،والتشويق إلى هللا ،في ُ
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
التوحيد والوعد والوعيد ال يختلف في الشرائع .هـ .وقال الورتجبي( :إنَّ هذا) أي :الخروج عما
سوى هللا بنعت التجريد ،في صحف إبراهيم ،كما قال:
ش ِر ُكونَ } { إِنِّي بَ ِريا ٌء ِّم َّما تُ ْ
[األنعام ]78:واإلقبال على هللا ،بقوله:
{ إِنِّي َو َّج ْهتُ َو ْج ِه َي }
[األنعام ]79:الخ .وفي صحف موسى :سرعة الشوق إلى جماله والندم على الوقوف في
المقامات :بقوله:
{ تُ ْبتُ إِلَ ْيكَ َوأَنَا أَ َّو ُل ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ }
[األعراف .]143:هـ .أي :وبقوله:
ضىا } { َو َع ِج ْلتُ إِلَ ْيكَ َر ِّب لِت َْر َ
[طه .]84:وباهلل التوفيق .وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله.
َصلَىا نَاراً صبَةٌ } * { ت ْ ش َعةٌ } * { عَا ِملَةٌ نَّا ِ شيَ ِlة } * { ُو ُجوهٌ يَ ْو َمئِ ٍذ َخا ِ *{ َه ْل أَتَا َك َح ِد ُ
يث ا ْل َغا ِ
س ِمنُ َوالَ يُ ْغنِي
يع { * } lالَّ يُ ْ
ض ِر ٍ س لَ ُه ْم طَ َعا ٌم إِالَّ ِمن َ
سقَىا ِمنْ َع ْي ٍن آنِيَ ٍة } * { لَّ ْي َ َحا ِميَةً } * { تُ ْ
وع }
ِمن ُج ٍ
حديث الغاشي ِة } أي :قد أتاك ،واألحسن :أنه استفهام أُريد به
ُ يقول الحق ج ّل جالله { :هل أتاك
التعجب مما في حيّزه ،والتشويق إلى استماعه ،وأنه من األحاديث البديعة التي من حقها أن ُّ
تتناولها الرواية ،ويتنافس في تلقيها الوعاة من كل حاضر وباد .والغاشية :الداهية الشديدة التي
تغشى الناس بشدائدها وتكتنفهم بأهوالها ،من قوله تعالى:
{ يَ ْغشَا ُه ُم ا ْل َع َذ ُ
اب ِمن فَ ْوقِ ِه ْم }
[العنكبوت ]55:الخ.
صل أحوا َل الناس فيها ،فقال { :وجوه يومئ ٍذ خاشعةٌ } ،فهو استئناف بياني نشأ عن سؤال ثم ف ّ
من جهته صلى هللا عليه وسلم ،كأنه قيل :ما أتاني حديثها فما هو؟ فقال { :وجوه يومئذ } lأي:
يوم إذ غشيت { خاشعة }؛ ذليلة ،لما اعترى أصحابها من الخزي والهوان ،و { وجوه } متبدأ،
س ّوغه التنويع ،و(خاشعة) خبر ،و { عاملة ناصبة } :خبران آخران ،أي :تعمل أعماالً شاقة في
النار ،تتعب فيها ِمن ج ّر السالسل واألغالل ،والخوض في النار خوض اإلبل في الوحل،
ّ
والتذت بها، والصعود والهبوط من تالل النار ووهادها ،وقيل :عملت في الدنيا أعمال السوء،
فهي يومئذ ناصبة منها { ،تَصلى } أي :تدخل { ناراً حامية }؛ متناهية في الحر ُمدداً طويلة،
عين آني ٍة } أي :من عين ماء متناهية في الح ّر ،والتأنيث في هذه الصفات واألفعال
ٍ سقَى من { تُ ْ
راجع إلى الوجوه ،والمراد أصحابها ،بدليل قوله { :ليس لهم طعا ٌم إِالّ من ضريع } ،وهو نبت
يقال ِل َر ْطبِه :الشَّب ِرق على وزن ِز ْبرج l،تأكله اإلبل رطبا ً فإذا يبس عافته ،وهو الضريع ،وهم س ٌّم
أمر من الصبر ،وأنتن من الجيفه ،وأشد َح ًّرا من قاتل ،وفي الحديث " :الضريع شيء في النارُّ ،
النار " ،وقال ابن كيسان :هو طعام يضرعون منه ويذلّون ،ويتضرعون إلى هللا تعالى طلباف
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
للخالص منه .وقال أبو الدرداء والحسن :يقبح هللاُ وجوهَ أهل النار يوم القيامة ،تشبيها ً بأعمالهم
الخسيسة في الدنيا ،وإنَّ هللا تعالى يُرسل على أهل النار الجوع ,حتى يعدل عندهم ما هم فيه من
صة ،فيذكرون أنهم العذاب ،فيستغيثون ،فيُغاثون بالضريع ،ثم يَستغيثون فيُغاثون بطعام ذي ُغ ّ
كانوا يحيزون الغصص في الدنيا بالماء ،فيستسقون ،فيعطشهم ألف سنة ،ثم يسقون من غين
آنية شديدة الحر ،ال هنيئة وال مريئة ،فكلما أدنوه من وجوههم سلخ جلو َد وجوههم وشواها،
فإذا وصل إلى بطونهم قطعها ،قال تعالى:
{ فَقَطَّ َع أَ ْم َعآ َء ُه ْم }
والمعذبون طبقات؛ فمنهم أكلة الزقوم ،ومنهم أكلة الغسلين، ّ [محمد ]15:هـ .والعذاب ألوان،
ومنهم آكلة الضريع ..فال تناقض.
ول َّما نزلت هذه اآلية؛ قال المشركون :إنَّ إبلنا لتسمن من الضريع ،فنزلت { :ال يُسمن وال يُغني
من جوع } أي :ليس ِمن شأنه اإلسمان واإلشباع ،كما هو شأن طعام أهل الدنيا ،وأنما هو شيء
يضطرون إلى أكله دفعا ً لضرورتهم ،والعياذ باهلل من سخطه.
اإلشارة :الغاشية هي الدنيا ،غشيت القلوب بظلمات محبتها ،ومودتها بحظوظها وشهواتها،
وجوه فيها يومئذ خاشعة ،ب ُذ ّل طلبها ،عاملة بالليل والنهار في تحصيلها ،ناصبة في تدبيرl
شؤونها ،ال راحة لطالبها أبداً حتى يأخذ الموت ب ُعنقه ،تصلى نار القطيعة والبُعد تُسقى من عين
حر التدبير واالختيار ،ليس لطُالبها طعام لقلوبهم وأرواحهم إالّ من ضريع شبهاتها أو ُحرماتها،
ال يُسمن القلب عن هزال طلبها ،بل كلما زاد منها شيئاً ،زاد جوعه إليها ،وال يغني الروح من
جوع منها.
يقول الحق ج ّل جالله في بيان حال أهل الجنة ،بعد بيان حال أهل النار ،ولم يعطفهم عليهم ،بل
أتى بالجملة استئنافية؛ إيذانا ً بكمال تباين مضمونيهما ،فقال { :وجوه يومئ ٍlذ ناعمةٌ } أي :ذات
وحسن ،كقوله تعالى: بهجة ُ
يم (} )24ض َرةَ النَّ ِع ِ
{ تَ ْع ِرفُ فِي ُو ُجو ِه ِه ْم نَ ْ
[المطففين { ،]24:لسعيها راضية } أي :ألجل سعيها في الدنيا هي راضية في اآلخرة بما
أعطاها عليه من الثواب الجسيم ،أو :رضيت بعملها وطاعتها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة
والثواب { ،في جن ٍة عالية } علو المكان أو المقدار { ،ال تسمع فيها الغية } أي :لغو ،أو كلمة
نفس الغية ،فإنَّ كالم أهل الجنة كله أذكار و ِحكم ،أو :ال تسمع يا مخاطَب ،فيمن ٌ ذات لغو ،أو
بناه للفاعل.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
سرها بأنَّ ارتفاع السرير يكون ول ّما أنزل هللا هذه اآليات ,وقرأها النبي صلى هللا عليه وسلم ف ّ
مائة فرسخ ،واألكواب الموضوعة ال تدخل تحت حساب ،لكثرتها ،وطول النمارق كذا ،وعرض
الزارب ِّي كذا ،أنكر المشركون ذلك ،وقالوا :كيف يصعد على هذا السرير؟ وكيف تكثر األكواب
هذه الكثرة ،وتطول النمارق هذا الطول ،وتُبسط الزاربي هذا االنبساط ،ولم نشهد ذلك في
الدنيا؟! ذ َّكرهم هللا بقوله { :أفال ينظرون إِلى ا ِإلبل كيف ُخلقت } طويلة عالية ،ثم تبرك حتى
تُركب؛ ويحمل عليها ،ثم تقوم ،وكذا السرير يطأطىء للمؤمن كما تطأطىء اإلبل حتى يركب
عليها ،أو :أفال ينظرون إلى اإلبل التي هي نُصب أعينهم ،يستعملونها كل حين ،كيف ُخلقت خلقا ً
سنَن سائر الحيوانات ،في عظم جثتها وشدّة قوتها ،وعجيب هيئاتها الالئقة بديعا ً معدوالً عن َ
كالنوء باألوقار الثقيلة ،وحمل األثقال الفادحة إلى
ْ بتأتي ما يصدر منها من األفاعيل الشاقة،
األقطار النازحة ،وفي صبرها على الجوع والعطش ،حتى إنَّ ضمأها ليبلغ العشْر فصاعداً،
سر من شوك وشجر ،وانقيادها إلى كل صغير وكبير ،حتى واكتفائها باليسير ،ورعيها كل ما تي ّ
إن فأرة أخذت بزمام ناقة فجرته إلى غارها ،فتبعتها الناقة إلى فم الغار .وفي اإلبل خصائص أُخر
الحدَّاء إذا عيت ،إلى ما فيها من المنافع من اللحوم
تدل على كمال قدرته تعالى ،كاالسترواح مع َ
واأللبان واألوبار واألشعار ،وغير ذلك ،والظاهر ما قاله اإلمام ،وتبعه الطيبي ،من أنه احتجاج
بشواهد قدرته تعالى على فاتحة السورة من مجيء الغاشية ،وأنَّ المخبر بها قادر عليها،
فيتوافق العقل والنقل.
قاله المحشي.
قال الجالل :وفي اآلية دليل على أنَّ األرض سطح ال كرة ،كما قال أهل الهيئة l،وإن لم ينقض
ركنا ً من أركان الشرع .هـ .وفي ابن عرفة ،في قوله تعالى:
{ يُ َك ِّو ُر اللَّ ْيـ َل َعلَى النَّ َهـا ِر} ...
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
[الزمر ]5:أنَّ اآلية تدل على أنَّ السماء كروية ,قال :ألنَّ من لوازم تكويرهما تكوير محلهما
الستحالة تعلقهما دون مكان .هـ .وفي األبي :الذي عليه األكثر من الحكماء وغيرهم أنَّ السموات
واألرض كرتان .هـ.
اإلشارة :وجوه يومئذ lناعمة بلذة الشهود والعيان ،ألجل سعيها بالمجاهدة ،راضية ،حيث
ص لتها إلى صريح المشاهدة ،في جنة عالية ،جنان المعارف ،ال تسمع فيها الغية؛ ألنَّ أهلها و َّ
مقدّسون من اللغو والرفث ،كالمهم ذكر ,وصمتهم فكر ،فيها عين جارية من قلوبهم بالعلوم
سان سرر المقامات مرفوعة ،يرتفعون منها إلى المعرفة ،وأكواب موضوعة؛ ِكي َ والحكم ،فيها ُ ِ
شراب الخمرة ،وهي محافل الذكر والمذاكرة ،ونمارق مصفوفة ،وسائد ال ّروح والريحان حيث
سقطت عنهم الكلف ،ورموا ِحملهم على الحي القيوم ،وزرابي مبثوثة؛ lبُسط األنس في محل
سراج القدس ،أفال يستعملون الكفرة والنظرة ،حتى تقيم أرواحهم في الحضرة ،فإنَّ الفكرة ِ
القلب ،فإذا ذهبت فال إضاءة له ،وهي سير القلب إلى حضرة الرب ،فينظرون إلى اإلبل كيف
سطحت من هيبتهl، ُخلقت ,فإنه تجلي غريب ،وإلى السماء كيف ُرفعت به ،وإلى األرض كيف ُ
وقال :القشيري :اإلبل :النفوس األ ّمارة ،لقوله عليه السالم " :الناس كإبل مائة ال تكاد تجد فيها
راحلة " هـ وإلى األرواح كيف ُرفعت؛ ألنها محل أفكار العارفين ،وإلى جبال العقل كيف نُصبت
سطحت ،حيث لتمييز الحس من المعنى ،والشريعة من الحقيقة ،وإلى األرض البشرية كيف ُ
استولت عليها الروحانية ،وتصرفت فيها.
ص ْي ِط ٍlر } * { إِالَّ َمن تَ َولَّىا َو َكفَ َر } * { فَيُ َع ِّذبُهُ هَّللا ُ*{ فَ َذ ِّك ْر إِنَّ َمآ أَنتَ ُم َذ ِّك ٌر } * { لَّسْتَ َعلَ ْي ِهم بِ ُم َ
اب األَ ْكبَ َر } * { إِنَّ إِلَ ْينَآ إِيَابَ ُه ْم } * { ثُ َّم إِنَّ َعلَ ْينَا ِح َ
سابَ ُه ْم } ا ْل َع َذ َ
يقول الحق ج ّل جالله { :فَ َذ ِّكر } الناس باألدلة العقلية والنقلية { ،إنما أنت ُمذ ِّّكر } ليس عليك إالَّ
التبليغ { لستَ عليهم بمصيط ٍlر }؛ بمسلط ،كقوله:
{ َو َمآ أَنتَ َعلَ ْي ِهم بِ َجبَّا ٍر }
[قَ ،]45:وفيه لغات :السين ،وهي األصل ،والصاد ،واإلشمام { .إِالَّ َمن تولَّى و َكفَ َر فيعذبه هللاُ
العذاب األكبر } ،االستثناء منقطع ،أي :لست ب ُمسلط عليهم ،تقهرهم على اإليمان ،لكن َمن َ
تولى وكفر ،فإنَّ هلل الوالية والقهر ،فهو يعذبه العذاب األكبر ،وهو عذاب جهنم ،وقيل :متصل
من قوله( :فذكر) أي :ف َذ ِّكر إالَّ َمن انقطع طمعك من إيمانه وتولَّى ،فاستحق العذاب األكبر ،وما
بينها اعتراض.
{ إِنَّ إِلينا إِيابهم }؛ رجوعهم ،وفائدة تقديم الظرف :التشديد في الوعيد ،وأنَّ إيابهم ليس إالَّ
للجبّار المقتدر على االنتقام { ،ثم إِنَّ علينا حسابهم } فنُحاسبهم على أعمالهم ،ونجازيهم جزاء
أمثالهم ،و " على " لتأكيد الوعيد ال للوجوب ،إذ ال يجب على هللا شيء .وجمع الضمير في
إيابهم وحسابهم ،باعتبار معنى " من " ،وإفراده فيما قبله باعتبار لفظها ،و " ثم " للتراخي
في الرتبة lال في الزمان ،فإنَّ الترتيب الزماني إنما هو بين إيابهم وحسابهم ال بين كون إيابهم
إليه تعالى وحسابهم .انظر أبا السعود.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
اإلشارة :ما قيل للرسول يُقال لخلفائه من أهل التذكير ،و َمن تولَّى منهم يُ َّ
عذب بعذاب الفرق
والحجاب وسوء الحساب .وباهلل التوفيق ،وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله.
س ِر } * { َه ْل فِي َذلِ َك قَ َ
س ٌم ش ْف ِع َوا ْل َو ْت ِر } * { َواللَّ ْي ِل إِ َذا يَ ْ
ش ٍر } * { َوال َّ يال َع ْ *{ َوا ْلفَ ْج ِر } * { َولَ ٍ
ق ِم ْثلُ َها فِيت ا ْل ِع َما ِد } * { الَّتِي لَ ْم يُ ْخلَ ْ لِّ ِذى ِح ْج ٍر } * { أَلَ ْم تَ َر َكيْفَ فَ َع َل َر ُّبكَ بِ َعا ٍد } * { إِ َر َم َذا ِ
ص ْخ َر بِا ْل َوا ِد } * { َوفِ ْرع َْونَ ِذى األَ ْوتَا ِد } * { الَّ ِذينَ طَ َغ ْو ْا فِي ا ْلبِالَ ِد } * { َوثَ ُمو َد الَّ ِذينَ َجابُو ْا ال َّ
ب} س ْوطَ َع َذا ٍ ب َعلَ ْي ِه ْم َربُّكَ َ سا َد } * { فَ َ
ص َّ ا ْلبِالَ ِد } * { فَأ َ ْكثَ ُرو ْا فِي َها ا ْلفَ َ
س ِر } إذا ذهب،
والليل إِذا يَ ْ
ِ ول َّما أقسم بالليالي المخصوصة ،أقسم بالليالي على العموم ،فقال{ :
وحذفت الياء في الوصل؛ اكتفا ًء بكسرتها، أو :يسري فيه السائر ،وقيل :أُريد به ليلة القدرُ ،
سئل األخفش عن سقوطها ،فقال للسائل :ال أجيبك حتى تخدمني lسنة ،فسأله بعد سنة ،فقال: و ُ
الليل ال يسري ،وإنّما يُسرى فيه ،فل ّما عدل عن معناه عدل عن لفظه موافقةً .هـ .ويرد عليه:
أنها ُحذفت في كلمات كثيرة ،ليس فيها هذه العلة.
س ٌم } أيٌ :مقسم به ،أو إقسام ،والمعنى: { هل في ذلك } أي :فيما أقسمت به من هذه األشياء { قَ َ
َمن كان ذا لُ ٍّب َعلِ َم أنَّ ما أقسم هللا به من هذه األشياء فيه عجائب ودالئل على التوحيد
سم بها ،وكونها أموراً جليلة حقيقة والربوبية ،فهو حقيق بان يُقسم به ،وهذا تفخيم لشأن المق َ
باإلقسام بها لذوي العقول ،وهذا كقوله تعالى:
س ٌم لَّ ْو تَ ْعلَ ُمونَ ع َِظي ٌم (} )76
{ َوإِنَّهُ لَقَ َ
[الواقعة ]76:وتذكير اإلشارة لتأويلها بما ذكر ،وما فيها من معنى البُعد لإليذان ببُعد مرتبةl
س ِّمي lبه ألنه يحجر
المشار إليه ،وبُعد منزلته في الشرف والفضل { ،لذي ِح ْج ٍر }؛ لذي عقل؟ ُ
ال ونُ ْهيَةً ألنه يعقل صاحبه وينهاه عن الرذائل؛س ِّمي عق ْ
عن التهافت فيما ال ينبغي ،كما ُ
ق عند ذوي العقول أن تُ َعظَّم هذه األشياء باإلقسام بها؟ أو :هل في إقسامي بها والمعنى :هل يح ُّ
سم عليه؟ أو :هل في القسم بهذه إقسام لذي حجر ،أي :هل هو قسم عظيم يؤ ّكد بمثله المق َ
سم عليه محذوف ،أي :لتهلكنّ يا معشر الكفار ثم لتبنؤن األشياء قسم ُمقنع لذي لُب وعقل؟ والمق َ
بالحساب ،يد ّل عليه قوله تعالى:
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
{ ألم تَ َر كيف فعل ر ُّبك بعا ٍد } فإنه استشهاد بعلمه صلى هللا عليه وسلم بما فعل بعاد وأضرابهم
المشاركين لقومه صلى هللا عليه وسلم في الطغيان والفساد ،أي :ألم تعلم علما ً يقينا ً كيف َّ
عذب
عذب هؤالء أيضا ً الشتراكهم فيما يوجبه lمن الكفر والمعاصي ،والمراد ربُّك عاداً ونظائرهم ،فيُ ّ
س ُّموا
بعاد :أوالد عاد بن ع َْوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السالم قوم هود عليه السالمُ ،
باسم أبيهم ،وقد قيل ألوائلهم :عاد األولى ،وآلخرهم عاد اآلخرة ،وقوله تعالى { :إِ َر َم } عطف
بيان لعاد؛ لإليذان بأنهم عاد األولى بتقدير مضاف ،أي :سبط إرم ،أو :أهل إرم ،على ما قيل :من
أنَّ إرم اسم بلدتهم أو أرضهم التي كانوا فيها ،كقوله:
سئ َِل ا ْلقَ ْريَةَ }
َو ْ
[يوسف ،]82:ويؤيده قراءة ابن الزبير باإلضافة ،ومنعت الصرف للتعريف والتأنيث ،قبيلةً،
ت العماد } صفة ِإلرم ،فإذا كانت قبيلة فالمعنى :أنهم كانواكانت أو أرضاً .وقوله تعالى { :ذا ِ
بدويين أهل عمد ،أوِ :طوال األجسام على تشبيه lقدودهم باألعمدة ،وإن كانت صفة للبلدة،
فالمعنى :أنها ذات عماد ِطوال لخيامهم على قدر طول أجسامهمُ ،روي :أنها كانت من ذهب ،فلما
أرسل هللاُ عليهم الريح دفنتها في التراب ،أو ذات أساطين.
ُروي :أنه كان لعاد ابنان شدّاد وشديد ،ف َملَكا وقَ َهرا ،ثم مات شديد وخلص األمر لشدّاد ،فملك
الدنيا ,ودانت له ملوكها ،فسمع بذكر الجنة ،فقال :أبني مثلها ،فبنى إرم في بعض صحاري عدن
في ثالثمائة سنة ،وكان عمره تسعمائة سنة l،وهي مدينةٌ lعظيمةٌ ،قصورها من الذهب والفضة،
وأساطينها من الزبرجد والياقوت ،وفيها أصناف األشجار واألنهار ،ول َّما ت َّم بناءها سار إليها
بأهل مملكته ،فل ّما كان منها على مسيرة يوم وليل ٍة ،بعث هللاُ عليه صيحة من السماء فهلكوا،
وقيل :غطتها الريح بالرمل فما غ ّمًا عليها .وعن عبد هللا بن قالبة :أنه خرج في طلب إبل له،
فقص عليه ،فبعث إلى
َّ فوقع عليها ،فحمل ما قدر عليه م ّما ث َّم ،فبلغ خبره معاوية ،فاستحضره
كعب فسأله ،فقال :هي إرم ذات العماد ،وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك ،أحمر أشقر،
قصير ،على حاجبه خال ،وعلى عنقه خال ،يرخج في طلب إبل له ،ثم التفت فأبصر ابن قالبة،
فقال :هذا وهللاُ ذلك الرجل .انظر الثعلبي.
{ التي لم يُ ْخلَق مثلُها في البالد } أي :مثل عا ٍد في قوتهم ،كان الرجل منهم يحمل الصخرة،
فيجعلها على الحق فيهلكهم ،وطُو ِل قامتهم ،كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع ،أو :لم يُخلق
مثل مدينة " شدّاد " في جميع بالد الدنيا ،ذكر في القوت :أنَّ بعض األولياء قال :دخلتُ مائة
مدينة ،أصغرها إرم ذات العماد ،ثم قال :وقوله تعالى على هذا { :لم يخلق مثلها في البالد } أي:
بالد اليمن .هـ.
ص ْخ َر بالوا ِد } أي :قطعوا صخر الجبال ،واتخذوا فيها بيوتاً ،قيل :أ ّول َمن
{ وثمو َد الذين جابوا ال َّ
نحت الجبال والصخور ثمود ،وبنوا ألفا ً وسبعمائة مدين ٍlة كلها من الحجارة ،والمراد بالواد وادي
القُرى ،وقيل غيره .والوادي :ما بين الجبلين ،وإن لم يكن فيه ماء.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
{ وفرعونَ ذي األوتاد } أي :وكيف فعل بفرعون صاحب األوتاد ،أي :الجنود الكثيرة ،وصف
بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي كانوا يضربونها في منازلهم إذا نزلوا ،وقيل :كان له أوتاد
الناس بها ،كما فعل بآسية.
َ يُ ّ
عذب
الذين طَ َغوا في البالد }؛ تجاوزوا الحدّ ،والموصول lإ ّما مجرور صفة للمذكورين ،أو منصوب ،أو
مرفوع على الذم ،أي :طغى كل طائفة منهم في بالدهم ،وكذا قوله تعالى { :فأكثَ ُروا فيها
فصب عليهم ربُّك } أي :أنزل إنزاالً شديداً على كل طائفة من َّ الفسا َد } بالكفر القتل والظلم{ ،
ب } أي :عذابا ً شديداً ال يُدرك أولئك الطوائف عقب ما فعلت من الطغيان والفساد { سوطَ عذا ٍ
غايته ,وهو عبارة عما ح َّل بكل واح ٍد منهم من فنون العذاب التي بُينت في سائر السور الكريمة،
وتسميته سوطاً؛ لإلشارة إلى أنَّ ذلك بالنسبة إلى ما أع ّد لهم في اآلخرة بمنزلة lالسوط عند
السيف ،والتعبير بالصب ،لإليذان بشدته وكثرته l،واستمراره l،أي :ع ُِّذبوا عذابا ً دائما ً مؤلماً،
والعياذ باهلل من أسباب المحن.
اإلشارة :أقسم تعالى بأول فجر نهار اإلحسان ،وتمام قمر نور اإليمان ،ليلة العشر ,وشفعية
ستَأصلَن القواطع عمن توجه إليه بالصدق واإلخالص ،ألم ت َر كيف فعل األثر ،ووتر الوحدة ،لتُ ْ
ربك بعاد النفس األ ّمارة العاتية ،الشبيهة lبعاد إرم ذات العماد في العتو ،التي لم يُخلق مثلُها في
البالد؛ في بالد القواطع ،إذ هي أقبح من سبعين شيطاناً ،وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي.
القشيري :يشير lإلى ثمود القوة الشهوانية القاطعة لصخرات الشهوات الجثمانية ،وفرعون ذي
األوتاد ،يُشير lإلى فرعون القوة الغضبية ،وكثرة تباعته ،وأنواع عقوباته وتشدداته .هـ .فأكثَروا
فصب عليهم ربك سوط عذاب بأنواع المجاهدات والرياضات، َّ فيها الفساد ،أي :مدينة lالقلب،
ممن أراد هللا تأييده وواليتهl.
سانُ إِ َذا َما ا ْبتَالَهُ َربُّهُ فَأ َ ْك َر َمهُ َونَعَّ َمهُ lفَيَقُو ُل َربِّيا أَ ْك َر َم ِن } *
صا ِد } * { فَأ َ َّما ا ِإلن َ *{ إِنَّ َربَّكَ لَبِا ْل ِم ْر َ
{ َوأَ َّمآ إِ َذا َما ا ْبتَالَهُ فَقَ َد َر َعلَ ْي ِه ِر ْزقَهُ فَيَقُو ُل َربِّيا أَهَانَ ِن } * { َكالَّ بَل الَّ تُ ْك ِر ُمونَ ا ْليَتِي َم } * { َوالَ
اث أَ ْكالً لَّ ّما ً } * { َوتُ ِحبُّونَ ا ْل َما َل ُحبّا ً َج ّما ً } ين } * { َوتَأْ ُكلُونَ التُّ َر َ آضونَ َعلَىا َ
ط َع ِام ا ْل ِم ْ
س ِك ِ ت ََح ُّ
يقول الحق ج ّل جالله { :إِنَّ ربك لبالمرصاد } ،قال ابن عباس :بحيث يرى ويسمع فال يعزب
عنه شيء ،وال يفوته أحد ،فتجب مراقبته lال الغفلة عنه في االنهماك في حب العاجلة ،كما أشار
إليه بقوله { :فأ ّما اإلنسان } ..الخ ،فإنه بضد المراد مما تقتضيه حال المراقبة ل َمن بالمرصاد.
صده ،كالميقاتصد ،أي :االنتظار ،مفعال ،من :ر َ هـ .وأصل المرصاد :المكان الذي يترقّب فيه ال َّر َ
من وقته ،وهذا تمثيل إلرصاده تعالى بالعصاة ،وأنهم ال يفوتونه ،قال الطيبي :ل ّما بيّن تعالى ما
ب عليهم سوط العذاب ،أتبعه قوله: ص َّ
فعل بأولئك الطغاة من قوم عاد وثمود وفرعون ,حيث َ
{ إِنَّ ربك لبالمرصاد } تخلُّصاً ،أي :فعل بأولئك ما فعل ،وهو يرصد هؤالء الكفار الذين طغوا
على أفضل البشر وسيد الرسل ،مما جاء به من األمر بمكارم األخالق ومعالي األمور ,والنهي
عن سفسافها ،ورذائلها ،فيصب عليهم في الدنيا سوط عذاب ،ويُعذبهم في اآلخرة عذابا ً فوق كل
عذاب ،كما قال:
ب َع َذابَهُ أَ َح ٌد }
{ الَّ يُ َع ِّذ ُ
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
[الفجر.]25:
صل أحوال الناس بعد أن أعلم أنه مطلع عليهم ،فقال { :فأ ّما ا ِإلنسانُ } ،فهو متصل بما ثم ف ّ
قبله ،كأنه قيل :إنه تعالى بصدد مراقبته lأحوال عباده ومجازاتهم بأعمالهم خيراً أو ش ًّرا { فأ ّما
اإلنسان } الغافل فال يهمه ذلك ،وإنما مطمح نظره ومرصد أفكاره الدنيا ولذائذها { ،إِذا ما ابتاله
ر ُّبه } أي :عامله معاملة َمن يبتليه lويختبره { فأ ْك َر َمه ونَ َّعمه } ،الفاء تفسيرية ،فاإلكرام
ضلني بما أعطاني من الجاه والمال أكرمن } أي :ف ّ ِ والتن ُّعم هو عين االبتالء { ،فيقول ربي
حسبما كنت أستحقه ،وال يخطر بباله أنه أعطاه ذلك ليبلوه أيشكر أم يكفر ،وهو خبر المتبدأ الذي
ُّ
التأخر، هو " اإلنسان " ،والفاء لما في " أ َّما " من معنى الشرط ،والظرف المتوسط على نية
كأنه قيل :فأ ّما اإلنسان فيقول ربي أكرمني وقت ابتالئه باإلنعام ،وإنما قدّمه لإليذان من أول مرة
بأنّ اإلكرام والتن ُّع م بطريق االبتالء .ونقل الرضي أن " إذا " هنا جزائية ،فقال :وقد تقع كلمة
الشرط مع الشرط في جملة أجزاء الجزاء ,ثم استشهد باآلية ،وقال :والتقدير :فمهما يكن من
شيء فإذا ابتاله يقول .هـ .وقال المرادي :إذا توالى شرطان دون عطف فالجواب ألولهما،
والثاني مقيد لألول ،كتقييده بحال واقعة موقعه ،ثم استشهد بما حاصله في اآلية :فأ ّما اإلنسان
حال كونه مبتلى فيقول ...الخ ،فالشرط الثاني في معنى الحال ،والحال ال تحتاج إلى جواب .هـ.
مختصراً انظر الحاشية الفاسية.
ضيّق عليه رزقه ،وجعله بمقدار بلغته ،حسبما { وأ ّما إِذا ما ابتاله فَقَد ََر عليه رزقَه } أيَ :
الح َكم البالغة { ,فيقول ربي أهان ِن } ،وال يخطر بباله أنَّ ذلك لِيبلوه
تقتضيه lميشئته المبينة على ِ
أيصبر أم يجزع ،مع أنه ليس من اإلهانة في شي ٍء بل التقتير قد يُؤدي إلى كرامة الدارين،
والتوسعة قد تفضي إلى خسرانهما ،فالواجب ل َمن علم أنَّ ربه بالمرصاد منه أن يسعى للعاقبة،
وال تَه ّمه العاجلة ،وهو قد عكسن فإذا امتحنه ربه بالنعمة والسعة ليشكر قال ربي أكرمنيl,
ضلني بما أعطاني ،فيرى اإلكرام في كثرة الحظّ من الدنيا ،وإذا امتحنه بالفقر ،فَقَدَر عليه وف ّ
رزقه ليصبر ،قال :ربّي أهانني ،فيرى الهوان في قلة الحظ من الدنيا؛ ألنه ال يهمه إالَّ العاجلة،
يلذه وين ِّعمه فيها ،وإنما أنكر قوله { :ربي أكرمن } مع أنه أثبته بقوله { :فأكرمه ونعَّمه وهو ما ّ
صححه هللا عليه وأثبته l،وهو قصده إلى أن هللا أعطاه إكراما ً له } ،ألنه قاله على قصد خالف ما ّ
الستحقاقه ،كقوله:
إِنَّ َمآ أُوتِيتُهُ َعلَىا ِع ْل ٍم ِعن ِديا }
[القصص ]78:وإنما أعطاه هللا ابتال ًء من غير استحقاق منه ،فر ّد تعالى عليه زعمه بقوله:
{ كالَّ } أي :ليس اإلكرام واإلهانة في كثرة المال وقلّته ،بل اإلكرام في التوفيق للطاعة ،واإلهانة
في الخذالن فـ " كال " ردع لإلنسان عن مقالته ،وتكذيب له في الحالتين ،قال ابن عباس:
المعنى :لم أبتله بالغنى لكرامته عل ّي ،ولم أبتله بالفقر لهوانه عل ّي ،بل ذلك بمحض القضاء
والقدر.
وقوله تعالى { :بل ال تُك ِرمون اليتي َم } انتقال من بيان سوء أقواله إلى بيان سوء أفعاله،
وااللفتات إلى الخطاب؛ لإليذان بمشافهته lبالعتاب ،تشديداً للتقريع ،وتأكيداً للتشنيع ،والجمع
باعتبار معنى اإلنسان ،إذ المراد به الجنس ،أي :بل لكم أحوال أشد ش ًّرا مما ذكر ،وأدل على
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تهالككم على المال ،حيث يُكرمكم هللا تعالى بكثرة المال فال تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم
بالمبّرة به.
ضكم بعضا ً على إطعام المساكين { ،وتأكلون َحاضون على طعام المسكين } أي :يحض بع ُ { وال ت ُّ
التراث } أي :الميراث ،وأصله ال ُوراث ،فقلبت الواو تاء { ،أكالً ل ّما } أي :ذا لَ ّم ،وهو الجمع بين
َ
الحالل والحرام ,فإنهم كانوا ال يُو ِرثون النساء والصبيان ،ويأكلون أنصباءهم ،ويأكلون كل ما
تركه ال ُمو ّرث من حالل وحرام ،عالمين بذلك { ،وتُحبون الما َل حبا ً جما ً } أي :كثيراً شديداً ،مع
ع عن ذلك ،وإنكا ٌر عليهم .وهللا تعالى أعلم. الحرص ومنع الحقوقَ { ،كالًّ } رد ٌ
اإلشارة :إنَّ ربك لبالمرصاد ،المطلع على أسرار العباد ،العالم ب َمن أقبل عليه أو أدبر عنه ،ثم
يختبرهم بالجمال والجالل ،فأ ّما اإلنسان إذا ما ابتاله ر ُّبه فأ ْك َرمه ونَ َّع َمه في الظاهر ،فيقول ربي
ّ
ويتسخط، أكرمني l،ويبطر ويتكبّر ،وأ ّما إذا ما ابتاله فقَدَر عليه رزقه فيقول ربي أهانني ،ويقنط
َكالَّ لِينزجرا عن اعتقادهما وفعلهما ،وليعلما أنه اختبار من الحق ،ف َمن شكر النِعم ,وأطعم الفير
والمسكين ،وأب ّر اليتيم واأليم ،كان من األبرار ،وإن عكس القضية lكان من الفُ ّجار ,و َمن صبر
على الفقر ،ورضي بالقسمة ،وفرح بالفاقة ،فهو من األولياء ،و َمن عكس القضية كان من
البُعداء ،فَمن نظر اإلنسان القصير ظنُ النقمة نعمة ،والنعمة نقمة ،فبسطُ الدنيا على العبد قبل
معرفته بربه هوانٌ ،وقبضها عنه أحسان ،وفي الحكم " :ربما أعطاك فمنعك ،وربما منعك
ق تعالى عن التمتُّع الشهواني البهيمي ،وعن محبة المال الفاني ،وهو فأعطاك " .ثم زجر الح ُّ
من فعل أهل االنهماك في الغفلة.
ض } أيُ :زلزلت { دَكا ً دَكا ً } أي :دكا ً بعد دكّ ،أي :ك ّرر
األر ُ
ت ْ يقول الحق ج ّل جالله { :كال إِذا ُد َّك ِ
عليها الد ّك حتى صارت هبا ًء منبثاً ،أو قاعا ً صفصفاً { ،وجاء ربُّك } أي :تجلّى لفصل قضائه
بين عباده ،وعن ابن عباس :أمره وقضاؤه { ،وال َمل ُك صفا ً صفا ً } أي :نزل مالئكة كل سماء
فيصفون صفا ً بعد صف محدقين باإلنس والجن { ،وجيء يومئ ٍlذ بجهن َم } ،قيل :بُ ِّرزت ألهلها،
كقوله:
ت ا ْل َج ِحي ُم ِل ْل َغا ِوينَ (} )91
{ َوبُ ِّرزَ ِ
[الشعراء ]91:وقيل :يجاء بها حقيقة ،وفي الحديث " :يؤتى بجهنم يومئ ٍذ ،لها سبعونَ ألفَ
جرونها ،حتى تنصب عن يسار العرش ,لها لغيط وزفير " زمام ،مع كل زمام سبعون ألف ملك يَ ُّ ٍ
رواه مسلم.
اإلنسانُ } أي :يتّعظ ،وهو بدل من (إذا دُكت) والعامل فيه( :يتذ ّكر) أي :إذا دُكت
{ يومئذ يتذ ّك ُر ِ
األرض ووقع الفصل بين العباد يتذكر اإلنسان ما ف ّرط فيه بمشاهدة جزائه { ،وأنَّى له ِّ
الذ ْك َرى }
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
أي :ومن أين له الذكرى؟ لفوات وقتها في الدنيا { ،يقول يا ليتني قدمتُ لحياتي } هذه ،وهي
حياة اآلخرة ،أي :يا ليتني قدّمتُ األعما َل الصالحة في الدنيا الفانية lلحياتي الباقية.
ب عذابَه أح ٌد } أي :ال يتولّى عذاب هللا أحد؛ ألن األمر هلل وحده في ذلك اليوم،{ فيومئ ٍذ ال يُ َع ِّذ ُ
ق وثاقه أح ٌد } ،قال صاحب الكشف :ال يُعدِّب بالسالسل واألغالل أح ٌد كعذاب هللا ،وال { وال يُوثِ ُ
يوثِق أح ٌد أحداً كوثاق هللا .وقرأ األخوان بفتح lالذال والثاء ،بالبناء للمفعول ،قيل :وهي قراءة
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ورجع إليها أبو عمرو في آخر عمره ،والضمير lيرجع إلى
عذب أح ٌد مثل عذابه ،وال يوثق اإلنسان الموصوف ،وهو الكافر .وقيل :هو أُب ّي بن خلف ،أي :ال يُ ِّ
بالسالسل مثل وثاقه؛ لتناهيه في كفره وعناده.
النفس } يخاطبه تعالى إكراما ً له بال واسطة ,أو على لسانُ ثم يقول هللا تعالى للمؤمن { :يا أيتها
ملك { ،المطمئن ِة } بوجود هللا ،أو بذكره ،أو بشهوده ،الواصلة إلى بَلَج اليقين ،بحيث ال يخالطها
شك وال وهم ،وقيل :المطمئنة ،أي :اآلمنة التي ال يستفزها خوف وال حزن ،ويؤيده :قراءة َمن
قرأ :يا أيتها النفس اآلمنة lالمطمئنة l.ويقال لها هذا عند البعث ،أو عند تمام الحساب ،أو عند
الموت { :ارجعي إِلى ربك } إلى وعده ،أو :إلى إكرامه { ،راضيةً } بما أُوتيت من النعيم
{ مرضيةً } lعند هللا ع ّز وجل { ،فادخلي في عبادي } أي :في زمرة عبادي الصالحين
المخلصين ،وانتظمي في سلكهم { ،وادخلي جنتي } معهم .وقال أبو عبيدة :أي :مع عبادي وبين
صي ،كما قال: عبادي .أي :خوا ّ
صالِ ِحينَ } { َوأَد ِْخ ْلنِي بِ َر ْح َمتِكَ فِي ِعبَا ِدكَ ال َّ
[النمل .]19:وقيل :المراد بالنفس :الروح ،أي :وادخلي في أجساد عبادي ،لقراءة ابن مسعود:
" في جسد عبادي " ول ّما مات ابن عباس بالطائف جاء طائر لم يُ َر على خلقته ,فدخل في نعشه،
فلما دُفن تُليت هذه اآلية على شفا قبره ،ولم يُ ْد َر َمن تالها ،وقيل :نزلت في حمزة بن عبد
المطلب ,وقيل :في ُخب ْيب بن عدي ،الذي صلبه أه ُل مكة ,والمختار :أنها عامة في المؤمنين؛ إذ
العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب.
اإلشارة :إذا دُكت أرض الحس ،باستيالء المعنى عليها ،أو أرض البشرية l،باستيالء الروحانية
عليها ،دكا ً بعد د ٍّك ،بالتدريج والتدريب ،حتى يحصل التمكين من أسرار المعاني ،وجاء ربك،
أي :ظهر وتجلّى للعيان ،والملَك صفا ً صفاً ،أي :وجاءت المالئكة صفوفاً ،وجيء يومئ ٍlذ بجهنم،
صحبة أهل الجمع ،وأنَّى أي :بنار البُعد ألهل الفرق ،يومئذ يتذ ّكر اإلنسانُ ما فاته من المجاهدة و ُ
له الذكرى مع إقامته في الفَ ْرق طول عمره ،يقول :يا ليتني قدمتُ لحياتي؛ ُروحي بالمشاهدة بعد
تصرفه lفي عباده بقدرته ،فيُ َع ِّذب أهل الحجاب بسالسل العالئق ُّ المجاهدة ،فيومئ ٍذ يتولى الحق
والشواغل ،ويُقيدهم بقيود البين ،ثم يُنادي روح المقربين أهل األرواح القدسية :يا أيتها النفس
المطمئنة l،التي اطمأنت بشهود الحق ،ودام فناؤها وبقاؤها باهلل ،ارجعي إلى ربك؛ إلى شهود
ربك بعد أن كنت عنه محجوبة ،راضية lعن هللا في الجالل والجمال ،مرضية lعنده في حضرة
الكمال ،وعالمة الطمأنينة l:أنَّ صاحبها ال ينهزم عند الشدائد وتفاقم األهوال ،ألنَّ َمن كانت يده
مع الملك صحيحة ال يبالي ب َمن واجهه بالتخويف أو التهديد .وقال الورتجبي l:النفس المطمئنة
هي التي صدرت ِمن نور خطاب األول الذي أوجدها من العدم بنور lالقِدم ،واطمأنت بالحق
وبخطابه ووصاله ،فدعاها هللا إلى معدنها األول ،وهي التي ما نالت من األول إلى اآلخر غير
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
مشاهدة هللا ،راضية من هللا باهلل ،مرضية lعند هللا باالصطفائية األزلية .هـ .والنفوس ثالثة:
أ ّمارة ،ول ّوامة ،ومطمئنة l،وزاد بعضهم :الالّمة .وهللا تعالى أعلم ،صلّى هللا على سيدنا محمد
وآله.
سانَ اإلن َ س ُم بِ َهـا َذا ا ْلبَلَ ِد } * { َوأَنتَ ِح ٌّل بِ َهـا َذا ا ْلبَلَ ِد } * { َو َوالِ ٍد َو َما َولَ َد } * { لَقَ ْد َخلَ ْقنَا ِ*{ الَ أُ ْق ِ
ب أَن لَّ ْم يَ َرهُ س ُ ب أَن لَّن يَ ْق ِد َر َعلَ ْي ِه أَ َح ٌد } * { يَقُو ُل أَ ْهلَ ْكتُ َماالً لُّبَداً } * { أَيَ ْح َ فِي َكبَ ٍد } * { أَيَ ْح َ
س ُ
شفَتَ ْي ِن } * { َو َه َد ْينَاهُ النَّ ْجد ِ
َين } سانا ً َو َ أَ َح ٌد } * { أَلَ ْم نَ ْج َعل لَّهُ َع ْينَ ْي ِن } * { َولِ َ
يقول الحق ج ّل جالله { :ال أُقسم بهذا البلد }؛ أَقسم تعالى بالبلد الحرام ،وما عطف عليه على أنّ
اإلنسان ُخلق مغموراً بمقاساة الشدائد ومعاناة المشاقّ .واعترض بين القسم وجوابه بقوله:
{ وأنت ِح ّل بهذا البلد } ،أي :وأنت حا ّل ساكن به ،فهو حقيق بأن يُقسم به لحلولك به ،أو:
وأنت ِحل ،أي :تُستحل حرمتُكَ ,ويُؤذيك الكفرةُ مع أنَّ مكة ال يَحل فيها قتل صيد وال بشر ،وال
قطع شجر ,وعلى هذا قيل " :ال أٌقسم " نفي ،أي :ال أقسم بهذا وأنت تلحقك فيه إذاية ،وهذا
ضعيف ،أو :وأنت حالل يجوز لك في هذا البلد ما شئت ِمن قتل كافر وغير ذلك مما ال يجوز
لغيرك ،وهذا هو األظهر؛ لقوله صلى هللا عليه وسلم " :إنَّ هذا البلد حرام ،ح ّرمه هللاُ يو َم خلق
السموات واألرض ،لم يَ ِح َّل ألح ٍد قبلي ،وال يحل ألحد بعدي ،وإنما أُحل لي ساعة من نها ٍر " ،
يعني :فتح مكة ،وفيه أَ َم َر صلى هللا عليه وسلم بقتل ابن َخطَل ،وهو متعلّق بأستار الكعبة.
فإن قلتَ :السورة مكية ،وفتح مكة كان سنَة ثمان من الهجرة؟ قلتُ :هو وعد بالفتح وبشارة.
انظر ابن جزي .وكثير من اآليات نزلت بمكة ولم يتحقق مصداقها إالّ بعد الهجرة ،كقوله تعالى:
ش ِر ِكينَ الَّ ِذينَ الَ يُ ْؤتُونَ ال َّز َكاةَ }{ َو َو ْي ٌل لِّ ْل ُم ْ
[فصلت ]7 ،6:وقوله تعالى:
ْ
س َرائِي َlل َعلَىا ِمثلِ ِه }ش ِه َد شَا ِه ٌد ِّمن بَنِيا إِ ْ { َو َ
[األحقاف ]10:وغير ذلك.
{ ووال ٍد وما َولَد } أي :وآدم وجميع ولده ،أو نوح وولده ،أو إبراهيم وولده ،أو إسماعيل ونبينا
صلى هللا عليه وسلم ،ويؤيده أنه َح َر ُم إبراهيم ومنشأ إسماعيل ،ومسكن نبينا محمد صلى هللا
عليه وسلم ،أو محمد صلى هللا عليه وسلم وولده ،أو جنس كل والد ومولود { .لقد خلقنا ا ِإلنسانَ
} أي :جنسه { في كب ٍد }؛ في تعب ومشقة ،فإنه ال يزال يُقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ
الروح إلى حين نزعها ،يُكابد مشاق التعلُّم ،ثم مشاق القيام بأمور الدين وأمور معاشه وهموم
دنياه وآخرته ،ثم يكابد نزع روحه ،ثم سؤاله في قبره ,ثم تعب حشره ،ومقاساة شدائد حسابه،
ثم مروره على الصراط ،فال راحة له إالّ بعد دخول الجنة لتكون حلوة عنده ،هذا في عموم
الناس ،وأ ّم ا خواص العارفين فقد استراحوا حين وصلوا إلى معرفة الحق ،فأسقطوا عنهم
األحمال؛ لتحققهم أنهم محمولون بالقدرة األزلية ،فلما أَسقطوا ِح ْملَهم قام هللا بأمرهم ،لقوله:
{ َو َمن يَت ََو َّك ْل َعلَى هَّللا ِ فَ ُه َو َح ْ
سبُهُ }
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
[الطالق ،]3:يقالَ :كبِ َد الرجل َكبَداً :إذا وجعت كبده من مرض أو تعب.
ب أن لَّن يَ ْق ِدر عليه أَح ٌد } أي :أيظن اإلنسان الكافر أن لن يقدر على بعثه أحد ،أو :أيظن { أَيَ ْح َ
س ُ
بعض اإلنسان ألن يغلبه أحدٌ ،فعلى هذا نزلت في ُم َعيّن ,قيل :هو أبو األشدّين الجمحي ،رجل من
قريش كان شديد القوة ،مغت ًّرا بقوته ،كان يبسط له األديم العكاظي فيقوم عليه ،ويقولَ :من
أزالني عنه فله كذا ،فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً ،وال تزال قدماه ،وقيلَ :ع ْمرو بن عبد ود ،وهو
الذي اقتحم الخندق بالمدينة ،وقتله عل ّي بن أبي طالب رضي هللا عنه.
يقو ُل أهلكتُ ماالً ُّلبَداً } أي :كثيراً ،جمع لُ ْبدَة وهو ما تلبّد بعضه على بعض ،يريد كثرة ما أنفقه،
ب أن ل ْم يَ َره أح ٌد }؟ حين مما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي ،ريا ًء وفخراً { .أيَ ْح َ
س ُ
سمعةً ،وأنه تعالى ال يُحاسبه وال يجازيه ,يعني :أنَّ هللا كان يراه وكان كان ينفق ما ينفق ريا ًء و ُ
عليه رقيبا ً فيُجازيه lعليه.
ثم ذكر نِعمه عليه ،فقال { :ألم نجعل له عينين } يُبصر lبهما المرئيات { ،ولسانا ً } يُ َعبِّ ُر به عما
في ضميره { ،وشفتين } يستر lبهما فاه ،ويستعين بهما على النُطق واألكل والشرب والنفخ
وغيرها { ،وهديناه النجدين } أي :طريقي الخير والشر ال ُمفضيان إلى الجنة أو النار ،فهو
كقوله:
{ إِنَّا َه َد ْينَاهُ ال َّ
سبِي َل} ...
[اإلنسان ]3:اآلية .وليس المراد بالهدى معنى اإلرشاد ,بل معنى اإللهام ،أو :الثديين ،وأصل
سميت نجد ,الرتفاعها عما انخفض من الحجاز. النجد :المكان المرتفع ،ومنه ُ
اإلشارة :أقسم تعالى ببلد المعاني ،التي هي أسرار الذات ،ووالد ،وهو الروح األعظم وما تولّد
منه من األرواح الجزئيات ،لقد خلق اإلنسانَ في كبد :في تعب الظاهر والباطن إالّ َمن رجع إلى
أصله ،أعني :روحانيًّا قدسيًّا ،فإنه حينئذ يستريح من تعب الطبع .قال الكواشي :عن بعضهم:
اإلنسان في كبد ما دام قائما ً بطبعه ،واقفا ً بحاله ،فإنه في ظلمة وبالء ،فإذا فني عن أوصاف
إنسانيته ،بفناء طبائعه عنه ،صار في راح ٍة .هـ.
والحاصل :أنَّ اإلنسان كله في تعب إالَّ َمن عرف هللا تعالى معرفة العيان ،فإنه في روح وريحان،
سب الجاهل أن لن يقدر على حمل أثقاله أحدٌ ،فلذلك أتعب نفسه في تدبير وجنات ورضوان .أَيَ ْح َ
شؤونه ،بلى نحن قادرون على َحمل حمله إن أسقطه توكالً علينا .ألم نجعل له عينين ،فلينظر
ت واألرض ،أليس ذلك بقاد ٍر على حمل أثقاله؟ فليرح نفسه من تعب بهما َمن َحمل السموا ِ
التدبير ،فما قام به عنه غي ُره ال يقوم به هو عن نفسه ،وجعلنا له لسانا ً يشكر به نِ َع َم مواله،
وشفتين يصمت بهما عما ال يعنيه ،وهديناه الطريقين؛ الشريعة والحقيقة ،فإذا سلكهما وصلناه
إلينا.
يقول الحق ج ّل جالله { :فال اقتحم العقبةَ } ،االقتحام :الدخول بشدة ومشقة l,والعقبة :كل ما
يشق على النفس من األعمال الصالحات ،و " ال " هنا إ ّما تحضيضية ،أي :هالَّ اقتح العقبة،
وإ ّما نافية ،أي :فلم يشكر تلك األيادي والنِعم ،من البصر وما بعده ،باألعمال الصالحة من فك
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
الرقاب وما سيذكره ،فإن قلت " :ال " النافية إذا دخلت على الماضي ولم تكن دعائية وجب
تكرارها؟ فأجاب الزمخشري l:بأنها مكررة في المعنى ،أي :فال اقتحم وال فك رقبة وال أطعم
مسكيناً..الخ.
ي شيء أعلمك ما هي العقبة التي أُمر ثم عظَّم تلك العقبة بقوله { :وما أدراك ما العقبةُ } أي :أ ّ
سرها بقوله { :فَ ُك رقب ٍة } أي :هي إعتاق رقبة,اإلنسان باقتحامها ،أو نفي عنه اقتحامها؟ ثم ف ّ
أو إعانة في أداء كتابتها .قال ابن ُجزي :وفك األسارى من الكفار أعظم أجراً من العتق؛ ألنه
واجب ولو استغرقت فيه أموال المسلمين ،ولكنه ال يجزي في الكفارات .هـ.
س َغب ٍlة } أي :مجاعة { يتيما ً ذا مقرب ٍlة } أي :قرابة { ،أو مسكينا ً ذا
يوم ذي َم ْ
{ أو إِطعا ٌم في ٍ
مترب ٍlة }؛ ذا فقر ،يقال :ت ِرب فالن :إذا افتقر والتصق بالتراب ،و َمن قرأ " ف َك " و " أطع َم "
بصيغة الماضي فبدل من " اقتحم " { ،ثم كان من الذين آمنوا } اي :دام على إيمانه ،أو :ثُم
كان حين فعل ما تقدّم من المؤمنين فيحنئذ ينفعه ذلك ،وإنما جاء بـ " ثم " لتراخي اإليمان
وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة ,ال في الوقت ،إذ اإليمان هو السابق على
اصوا بالصب ِر } عن المعاصي وعلى الطاعات ،أو: غيره ،إذ ال يقبل عمل صالح إالّ به { ،وتَ َو َ
أصحاب
ُ صوا بالمرحم ِlة }؛ بالتراحم فيما بينهم { .أولئك المحن التي يُبتلى بهما المؤمن { ،وتَ َوا َ
الميمن ِة } أي :الموصوفون بهذه الصفات هم أصحاب اليمين والي ْمن { ،والذين كفروا بآياتنا }؛
أصحاب المشئم ِة } أي :الشمال أوُ بما نصبناه دليالً على الحق من كتاب وحجة ،أو بالقرآن { هم
الشؤم { ،عليهم نار موصدة }؛ ُم ْطبَقة ،من أوصدت الباب وآصدته :إذا أغلقته.
اإلشارة :هالَّ اقتحم مريد الوصول العقبةَ ،وهي سلوك الطريق ،بخرق عوائد النفس وترك
وج ِّرها إلى مكروهها ،وعن الحسن رضي هللا عنه :عقبة ـ وهللا ـ شديدة ،يُجاهد اإلنسانُ هواهاَ ,
سرها بفك الرقبة ،أي :رقبة نفسه يفكها من أن يملكه سه وهواه ،وعدوه الشيطان .هـ .ثم ف َّ نف َ
ق الطمع في الخلق ،فإنه بذر شجرة الذل، سوى ،أو :يفكها من الذنوب والعيوب ،أو فكها من ِر ّ ال ِّ
ق نفسهأو :فكها من سجن األكوان إلى فضاء شهود المك ِّون ،أو :فك رقبة الغافل الجاهل من ِر ّ
بتذكيره ووعظه أو تربيته l،أو إطعام روح جائعة من اليقين ،إ ّما يتيما ً ال أب له روحاني ،أي ال
شيخ له ،فتذ ِّكره بما يتق ّوى به إيقانه ،أو فقيراً من أسرار التوحيد ترابيًّا أرضيًّا ،فترقّيه إلى
صى بالصبر على مشاق السير، سماء األسرار ،ثم كان ممن آمن بطريق الخصوص ،وتوا َ
والتراحم والتوادد والتواصل ،كما هو شأن أهل النسبة ،فهؤالء هم أهل اليُ ْمن والبركة ،وضدهم
ممن جحدوا أهل الخصوصية lهم أهل الشؤم .وباهلل التوفيق ،وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله.
ض َحاهَا } * { َوا ْلقَ َم ِر إِ َذا تَالَهَا } * { َوالنَّ َها ِر إِ َذا َجالَّهَا } * { َواللَّ ْي ِل إِ َذا يَ ْغشَاهَا }
س َو ُ
ش ْم ِ *{ َوال َّ
َ َ
س َّواهَا } * { فأ ْل َه َم َها س َو َما َ َ
ض َو َما ط َحاهَا } * { َونَ ْف ٍ َ
س َمآ ِء َو َما بَنَاهَا } * { َواأل ْر ِ * { َوال َّ
ساهَا } اب َمن َد َّ ورهَا َوتَ ْق َواهَا } * { قَ ْد أَ ْفلَ َح َمن َز َّكاهَا } * { َوقَ ْد َخ َ فُ ُج َ
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ضحاها } أيَ :وضوئها إذا أشرقت وقام سلطانها { ،والقم ِر سو ُ يقول الحق ج ّل جالله { :والشم ِ
الشمس
َ إِذا تالها }؛ تبعها في الضياء والنور ,وذلك في النصف األول من الشهر ،يخلف القم ُر
الشمس وأظهرها للرائين ،وذلك عند افتتاح النهار َ في النور { ،والنها ِر إِذا جالَّها } أي :جلّى
وانبساطه؛ ألنَّ الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام االنجالء ،وقيل :الضمير للظلمة ,أو األرض،
وإن لم يجر لها ذكر ،كقوله:
{ َما ت ََركَ َعلَىا ظَ ْه ِرهَا ِمن دَآبَّ ٍة }
[فاطر { ،]45:واللي ِل إِذا يغشاها } أي :يستر lالشمس ويُ ْظلِ ُم األفاق ،والواو األولى في هذه
األشياء للقسم باتفاق ،وكذا الثانية عند البعض ,وعند الخليل :الثانية lللعطف؛ ألنَّ إدخال القسم
على القسم قبل تمام األول ال يجوز ،أال ترى :أنك لو جعلت مرضعها كلمة الفاء أو " ثم " لكان
احتج بأنها لو كانت
ّ س َم
المعنى على حاله ،وهما حرفا عطف ,وكذا الواو ،و َمن قال :إنها للق َ
للعطف لكان عطفا ً على عاملين ،ألنَّ قوله:
{ َوا ْللَّ ْي ِل }
[الليل ]1:ـ مثالً ـ مجرور بواو القسم { ،إِذا يغشى } منصوب بالفعل المقدّر الذي هو أقسم ،فلو
جعلت الواو التي في
{ َوالنَّ َها ِر إِ َذا ت ََجلَّىا }
[الليل ]2:للعطف لكان النهار معطوفا ً على الليل ج ًّرا ،و { إذا تجلى } معطوفا ً على " يغشى "
والحجرة َع ْمراً ،وأجيب بأنّ واو القسم تن ّزلت منزلة الباء ُ نصباً ،وكان كقولك :إنَّ في الدار زيداً،
كعامل واحد لهٍ والفعل ،حتى لم يجز إبراز الفعل معها ،فصار كأنها العاملة ج ًّرا ونصباً ،وصارت
معموالن ،وك ُّل عامل له عمالن يجوز أن يعطف على معموليه بعاطف واح ٍد باالتفاق ،نحو:
ضرب زي ٌد عمراً وأبو بكر خالداً ،فترفع بالواو وتنصب lلقيامها مقام العامل.
{ والسما ِء وما بناها } أي :و َمن بناها ،وإيثار " ما " على " َمنْ " إلرادة الوصفيّة تفخيماً،
كأنه قيل :والقادر العظيم الذي بناها ،وجعلُها مصدرية مخ ّل بالنظم الكريم ،وكذا في قوله:
ض وما طحاها } أي :بسطها من كل جانب ،كـ " دحاها ". { واألر ِ
س وما س َّواها } أي :والحكيم الباهر الحكمة الذي س ّواها وأتقن صورتها ،مستعدة { ونف ٍ
لكماالتها ،والتنكير للتفخيم ،على أنَّ المراد نفس آدم عليه السالم أو للتكثير ،وهو األنسب
فجورها وتقواها } أي :ألهمها طاعتها ومعصيتها، َ للجواب ،أي :و َمن س ّوى ك َّل نفس { ،فأ ْل َه َمها
وأفهمها قبح المعصية lوحسن الطاعة ,أو َع َّرفها طرق الفجور والتقوى ،وجعل لها قوة يصح
معها اكتساب أحد األمرين ،ويحتمل lأن تكون الواو بمعنى " أو " كقوله:
سبِي َل إِ َّما شَا ِكراً َوإِ َّما َكفُوراً }
{ إِنَّا َه َد ْينَاهُ ال َّ
[اإلنسان ]3:أي :ألهم َمن أراد شقاوتها فجورها فسعت إليه ،وألهم َمن أراد سعادتها تقواها،
فسعت إليه { .قد أفلح َمن زَ َّكاها } أي :فاز بكل مطلوب ،ونجا ِمن كل مكروه َمن طَهَّ َرها
ساها }؛ أغواها ،قال عكرمة" l: وأصلحها وجعلها زكيةً باإليمان والطاعة { ،وقد خاب َمن د َّ
أفلحت نفس ز ّكاها هللاُ ،وخابت نفس أغواها هللا " ويجوز أن تكون التدسية والتطهير فعل العبد.
سس, سى :د ّ والتدسية l:النفس واإلخفاء ،أي :خسر َمن نقصها وأخفاها بالفجور ,وأصل د ّ
كتقضى وتقضض ،فأبدل من الحرف الثالث ياء ،قال في الكافية:
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ضحاها في أول الفناء ,والقمر قمر اإليمان ,إذا تالها اإلشارة :والشمس شمس العرفان ،وابتداء ُ
بالتنزل لعالم الحكمة كماالً وتكميالً ،والنهار نهار التمكين إذا جالّها ،أي :ظلمة
ُّ بالرجوع لألثر
المكون ,والليل؛ ليل القطيعة ،إذا يغشاها بقهرية lالحق
ِّ حس الكائنات ،وقلعها ِمن أصلها بشهود
اختباراً ،هل يضطرب ويفزع فيُر ّد عليه ،أو يتسلّى فيُسلب ,أو نهار البسط إذا جالّها ،أي :ظلمة
القبض ،وليل القبض إذا يغشاها ،أي :شمس نهار البسط ،أقسم تعالى بتعاقبهما والسماء سماء
س
األرواح ,وما بناها؛ رفعها ،واألرض أرض األشباح ،وما طحاها ,أي :بسطها للعبودية ,ونف ٍ
وما س ّواها؛ ألقى صورتها وهيّأها للقُرب والبُعد ,فألهمها فجورها وتقواها بما أعطاها من نور
الصفة ,ورقمها بنور اآلزلية ،ثم بيَّن أنه تعالى ع ّرفها
العقل ،قال الورتجبي l:س ّواها بتسويةِ l
طرق لطيفات الذات ،وقهرية lالصفات بنفسه lبال واسطة بقوله { :فألهمها فجورها وتقواها }
ع ّرفها أوالَ طريق القهر حتى عرفت المهلكات ,ثم ع َّرفها طريق اللطف حتى عرفت معالجتها من
المنجيات ,والمقصود منها :عرفانها عند الحق بطريق القهر واللطف ،حتى تكمل معرفةُ
صانعها .هـ.
يقول الحق ج ّل جالله { :كذبتْ ثمو ُد } صالحا ً { بطغواها } أي :بسبب طغيانها ،إذ الحامل لهم
على التكذيب هو طغيانهم ،وفيه وعظ ألمثالهم ،وتهديد للحاضرين الطاغين؛ ألنَّ الطغيان أجرم
الجرائم الموجبة للهالك والخيب ِlة في الدنيا واآلخرة { .إِذ انبعث أشقاها } ،منصوب بـ " كذبتْ "
،أي :حين قام أشقى ثمود ،وهو :قُدّار بن سالف ،أو :هو و َمن تصدّى معه للعقر من األشقياء،
فإنَّ أفعل التفضيل إذا أضيف يصلح للواحد والمتعدد ،والمذكر والمؤنث .وفضل شقاوتهم على
َمن عداهم لمباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضا به.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
{ فقال لهم } أي :لثمود { رسو ُل هللا } صالح عليه السالم ,عبَّر عنه بعنوان الرسالة إيذانا ً
بوجوب طاعته ,وبيانا ً لغاية عتوهم ،وهو السر في إضافة الناقة إليه تعالى في تقوله { :ناقةَ هللا
سقياها } فال تُدَوروها في نوبتها ،وهما } أي :احذروا عقرها ،أو احفظوها { ،و } الزموا { ُ
حذرهم به من نزول العذاب بقوله: فكذبوه } فيما ّ منصوبان على التحذيرّ { .
سوا ٍء فَيَأْ ُخ َذ ُك ْم َع َذ ٌ
اب أَلِي ٌم } سوهَا بِ ُ { َوالَ تَ َم ُّ
[األعراف { ،]73:فعقروها } ،أسند الفعل إليهم ،وإن كان العاقر واحداً ،لقوله:
احبَ ُه ْم فَتَ َعاطَىا فَ َعقَ َر (} )29 ص ِ { فَنَاد َْو ْا َ
[القمر ]29:لرضاهم به .قال قتادة :بلغنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم .وذكرانهم
وإناثهم " { .فَ َد ْم َد َم عليهم ربُّهم }؛ فأطبق عليهم العذاب حتى استأصلهم .قال الهروي :إذا
ب عليهم، ض َ
كررت اإلطباق قلت :دمدمت عليه ،أي :أدمت عليه الدمدمة ,وقيل :فدمدم عليهمَ :ع ِ
صرح lبه مع داللة الفاء عليه لإليذان بأنه عاقبة كل ذنب ليعتبر به { بذنبهم }؛ بسبب ذنبهم ،و ّ
كل مذنب { .فس َّواها } أي :الدمدمةّ بينهم ،لم يفلت منهم أحد من صغيرهم وكبيرهم ،أو فس ّوى
ثمود باألرض بتسوية lبنائها وهدمهَ { ،وآل يَ َخافُ ُع ْقبَآهَا ([ } )15الشمس ]15:أي :عاقبتها
وتَبِ َعتها ،كما يخاف سائر المعاقِبين أي :فعل ذلك غير خائف أن يلحقه تبعة ِمن أحد ،كما يخاف
َمن يعاقب ِمن الملوك وغيرهم ,ألنه تصرف في ملكه،
سأَلُونَ (} )23 سأ َ ُل َع َّما يَ ْف َع ُل َو ُه ْم يُ ْ
{ الَ يُ ْ
[األنبياء .]23:و َمن قرأ بالواو فهو للحال ،أو االستئناف.
اإلشارة :قال القشيري :كذبت ثمو ُد النفس بسبب lطغيانها على القلب بالشهوات الحيوانية,
واللذات الجسمانية ،إذ انبعث أشقاها ،هو الهوى المتبع ،الساعي في قتل ناقة الروح ،فقال لهم
رسول هللا؛ القلب الصالح :ناقةَ هللا ,أي :اتركوا ناقةَ هللا ترعى في المراتع الروحانية ،من
فكذبوه؛ فكذبت ثمود النفس وجنودُها رسو َل القلب، المكاشفات والمشاهدات والمعايناتّ ،
فعقروها ،أي :الروح بالظلمة النفسانية والشهوة الحيوانية ،فَ َد ْمدَم عليهم ربُّهم؛ على ثمود
النفس وقومها عذاب البُعد والطرد ,بذنبهم ،فس ّواها ،أي :فس ّوى الدمدمة l،وهي اإلطباق على
النفس وجنودها ،فال يخاف عقباها لغناه عن العالمين .هـ .وصلى هللا على سيدنا محمد وآله
وصحبه وسلم.
يقول الحق ج ّل جالله { :واللي ِل إِذا يغشى } أي :حين يغشى الشمس ،كقوله تعالى:
{ َواللَّ ْي ِل إِ َذا يَ ْغشَاهَا (} )4
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
[الشمس ]4:أو :كل ما يواريه lبظالمه .وقال القشيري :إذا يغشى األفق وما بين السماء
وماخلَ َ
ق الذ َك َر َ واألرض فيستره بظلمته { l.والنها ِر إِذا ت ََجلَّى } أي :ظهر وأسفر ووضح{ ،
واألُنثى } أي :والقادر الذي خلق الذكر واألنثى من كل ما له توالد ِمن ما ٍء واحد ،وقيل :هما آدم
وحواء ،و " ما " بمعنى " من " أو مصدرية .وقُرىء " والذكر واألنثى " وقرىء " الذي
خلق الذكر واألنثى " .جواب القسم { :إِنَّ سعيَكم } أي :عملكم { لشتَّى }؛ لمختلف ،جمع شتيت،
أي :إنّ مساعيكم ألشتات مختلفة.
صله فقال { :فأ ّ َّما َمن أعطى } حقوق ماله { واتقى } محار َم هللا التي نهى عنها { ،وصدَّق ثم ف ّ
الحسنى ،وهي اإليمان ،أو بالكلمة الحسنى ،وهي كلمة التوحيد ,أو بالملة بالحسنى }؛ بالخصلة ُ
الحسنى ،وهي اإلسالم ،أو بالمثوبة lالحسنى ،وهي الجنة ،والتصديق هو أن يرى أنَّ ما وعده
سره lلليُسرى }؛ فسنهيئه lللطريقة سنُيَ ِّ
هللاُ به يوصله إليه ،وال يجري على قلبه خاطر شك { ,ف َ
التي تؤدي إلى الراحة واليُسر ،كدخول الجنة ومبادئه .قال ابن عطية :معناه :سنظهر عليه
وح ْتم تيسيره lكان في علم هللا أزالً .هـ .يقال :ي َّ
س َر تيسيرنا إياه بما يتدرج lفيه من أعمال الخيرَ ،
الفرس ،إذا أسرجها وألجمها.
{ وأ ّما َمن بَ ِخ َل } بماله ,فلم يبذله في سبيل الخير { ،واستغنَى } أي :زهد فيما عند هللا تعالى،
بالحسنى } أي: مستغن عنه فلم يتقه ،أو :استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم اآلخرة { ،و َك َّذب ُ ٍ كأنه
سره lلل ُعسرى } أي :للخصلة المؤدّية إلىسنُيَ ِّ
بالخصلة الحسنى ،على ما ذكر من معانيها { ,ف َ
العسر والشدة ،كدخول النار ومقدماته l،الختياره لها .وقال اإلمام ـ أي الفخر ـ :كل ما أدّت عاقبته
إلى الراحة واألمور المحمودة ،فذلك اليسرى ،وهو وصف كل الطاعات ,وكل ما أدّت عاقبته إلى
التعب والردى ،فذلك ال ُعسرى ،وهو وصف كل المعاصي .هـ { .وما يُغني عنه مالُه } الذي بَ ِخ َل
به ،أي :ال ينفعه شيئا ً { إِذا ت ََردَّى }؛ َهلَ َك ،تف ّعل ،من الردى ،أو تردَّى في حفرة القبر ،أو في
قعر جهنّم ،والعياذ باهلل.
القلوب المحجوبة ،ونهار التجلِّي إذا يغشى القلوب َ اإلشارة :أقسم تعالى بليل الحجاب ،إذا يغشى
الصافية ،وكأنه تعالى أقسم بقهر جالله ،ولُطف جماله ،وقدرته على خلق أصناف الحيوانات ،إنَّ
سرهسه ،واتقى ك َّل ما يشغله عن المولى ،فَسنُيَ ِّ سعي الناس لشتى ،فأ ّما َمن أعطى مالَه ونف َ
ق
لسلوك الطريق اليُسرى ،التي توصل إلى حضرة المولى .وقال الورتجبي :س ّهل له طري َ
س ِّه ُل عليه الطاعات، الوصول إليه ،ويرفع عنه الكلفة والتعب في العبودية .وقال القشيري :نُ َ
ب له اإليمان ،ونُ َزيِّن في قلبه اإلحسان .هـ .وأ َّما رب ،ونُ َحبِّ ُ
ونُ َك ِّره إليه المخالفات ،ونهيىء له القُ َ
سنُيسرهl َمن بَ ِخ َل بماله ونفسه l،واستغنى عن معرفة ربه معرفة العيان ,وقنع بمقام اإليمان ،ف َ
لل ُعسرى ،وهي طريق البُعد والحجاب ،كاشتغاله بحب الدنيا ،وجمع المال ،وما يُغني عنه ماله إذا
تردى في مهاوي البُعد والردى.
صالَهَآ إِالَّ َّ َ َ َ ُ
*{ إِنَّ َعلَ ْينَا لَ ْل ُهدَىا } * { َوإِنَّ لَنَا لَآل ِخ َرةَ َواألولَىا } * { فأنذ ْرتُ ُك ْم نَاراً تَلَظىا } * { الَ يَ ْ
سيُ َجنَّبُ َها األَ ْتقَى } * { الَّ ِذى يُ ْؤتِيَ lمالَهُ يَتَ َز َّكىا } * { َو َما ب َوتَ َولَّىا } * { َو َ شقَى } * { الَّ ِذي َك َّذ َ األَ ْ
ضىا }س ْوفَ يَ ْر َ ألَ َح ٍد ِعن َدهُ ِمن نِّ ْع َم ٍة ت ُْجزَىا } * { إِالَّ ا ْبتِ َغآ َء َو ْج ِه َربِّ ِه األَ ْعلَىا } * { َولَ َ
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
يقول الحق ج ّل جالله { :إِنَّ علينا لَ ْل ُهدى }؛ إنَّ علينا اإلرشاد إلى الحق بنصب الدالئل ،وتبيين
الح َكم البالغة ،حيث خلقنا الخلق للعبادة ،أن
ني على ِ الشرائع ،أو :إن علينا بموجب قضائنا ال َم ْب ِّ
نُبيّن لهم طريق الهدى وما يؤدي إليه ،وقد فعلنا ذلك مما ال مزيد عليه ،حيث بَيَّنَّا حال َمن سلك
كال الطريقين ،ترغيبا ً وترهيباً ,فتبيّن أنَّ الهداية هي الداللة على ما يوصل إلى البُغية ،ال الداللة
الموصلة إليها حتماً .قاله أبو السعود.
التصرف الكلي فيهما ،كيفما نشاء ،فنفعل فيهما ما نشاء،ُّ { وإِنَّ لنا لآلخرة واألُولى } أي:
فنُعطي الدنيا ل َمن نشاء ،واآلخرة ل َمن نشاء ،أو نجمع له بينهما ،أو نحرمه lمنهما ،ف َمن طلبهما
ِمن غيرنا فقد أخطأ ،أو :إنَّ لنا ُك َّل ما في الدنيا واآلخرة ،فال يضرنا ترككم االهتداء ب ُهدانا.
صالها إِالّ األشقى }؛ ال يدخلها للخلود فيها { فَأ ّ ْن َذرتكم }؛ خ َّوفتكم { ناراً تلضى }؛ تتلهب { ،ال يَ ْ
كذب الرسو َل صلى هللا عليه كذب وتَ َولَّى } أي :الكافر الذي ّإالّ َمن سبق له الشقاء { ،الذي َّ
سيُجنبها }؛ وسيب ِّعدها { األتقى }؛ المؤمن المبالغ في اتقاء الكفر وسلم ،وتَ َولى عن اإليمان { ،و َ
والمعاصي ،فال يحوم حولها ،فضالً عن دخولها ،وأ ّما َمن دونه ممن يتقي الكفر دون المعاصي
فال يبعد هذا البُعد ،وذلك ال يستلزم صليها بالمعنى المذكور ،فال يُنافي الحصر المذكور { .الذي
يُؤتى مالَه } للفقراء { يتز َّكى } أي :يطلب أن يكون عند هللا زاكياً ،ال يُريد به ريا ًء وال سمعةً،
من :الزكا ،وهو الزيادة ،أو :تف ّعل من الزكاة ،أو :يتطهر من الذنوب والعيوب ،وهو حال من
ضمير " يؤتى " { .وما ألح ٍد عنده من نعم ٍة تُجزى } أي :ليس ألح ٍد عنده نعمة من شأنها
تجزى وتكافأ { ،إِالَّ ابتغا َء وجه ربه } :استثناء منقطع ،أي :لكن يفعل ذلك ابتغاء وجه ربه
{ األعلى } أي :الرفيع بسلطانه ،المنيع في شأنه وبرهانهl.
واآلية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي هللا عنه حين اشترى بالالً في جماعة كان المشركون
يؤذونهم ،فأعتقهم .ولذلك قالوا :المراد باألشقى :أبو جهل وأمية lبن خلف .وعن ابن عباس
النبي صلى هللا عليه وسلم ُّ عذب المشركون بالالً ،وبال ٌل يقول :أَ َح ٌد أَ َحدٌ ،فم ّر به رضي هللا عنهَّ :
النبي صلى هللا عليه وسلم أبا بكر ،وقال له " :إنَّ بالالً يُ َّ
عذب ُّ فقال " :ينجيك أحد أحد " ثم أخبر
في هللا " فعرف مراده ,فاشتراه برطل من ذهب ،وقيل :اشتراه بعب ٍد كان عنده اسمه " نسطاس
سلِم ولك جميع " وكان له عشرة آالف دينار وغلمان وجواري ،وكان مشركاً ،فقال له الصدِّيق :أ ْ
مالك ،فأبى ،فدفعه ألمية lبن خلف ،وأخذ بالالً ،فأعتقه ،فقال المشركون :ما أعتقه إال لي ٍد كانت له
عنده ،فنزلت.
ُروي أنه اشتراه ،وهو مدفون بالحجارة ،يُ َع َّذب على اإلسالم ،قال عروة :أَعتق أبو بكر سبعة،
كلهم يُعذب في هللا ،بالل وعامر بن فهيرة ،والنجدية وبنتها ،و ِزنِّيرة ،وبيرة ،وأم عُبيس ،وأمة
سلَم وله أربعون ألفاً ،فأنفقها كلها في سبيل هللا .وقال ابن الزبير :كان أبو بني المؤ ِّمل .قال :وأ ْ
بكر يشتري lالضعفة فيعتقهم ،فقال له أبوه :لو كنت تبتاع َمن يمنع ظهرك ،فقالَ :م ْن َع ظهري
أريد ،فنزلت فيه:
سيُ َجنَّبُ َها األَ ْتقَى (} )17
{ َو َ
[الليل ]17:اآلية .واسمه :عبد هللا بن عثمان ،وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة ،فس ّماه
الرسو ُل صلى هللا عليه وسلم عبد هللا.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
وقوله تعالى { :ولسوف يرضى } جواب قسم مضمر l،أي :وهللا لسوف نُجازيه فيرضى ،وهو
وعد كريم لنيل جميع ما يبتغيه على أفضل الوجوه وأكملها ،إذ به يتحقق رضاه ,وهو كقوله
لنبيه صلى هللا عليه وسلم:
س ْوفَ يُ ْع ِطيكَ َربُّ َك فَت َْر َ
ضىا (} )5 { َولَ َ
[الضحى.]5:
اإلشارة :إنّ علينا لبيان الطريق لِمن طلب الوصول إلى عين التحقيق ،فإنا أنزلنا كتابا ً ما فرطنا
فيه من شيء ،وبعثنا رسوالً يهدي إلى الرشد ،وجعلنا له خلفاء في كل زمان ،يهدون بأمرنا إلى
حضرة قدسنا ،وإنَّ لنا لآلخرةَ لِمن طلبها ،واأل ُولى لِمن طلبها ،وأظهرنا أسرار ذاتِنا ل َمن طلبها،
كذبفأنذرتكم ناراً تلظى ،وهي نار البُعد ال يصالها إالّ األشقى ,الذي سبق له البُعد منا { .الذي َّ
كذب الحق في مظاهر األولياء والمشايخ وأرباب السلوك ،وأ ْع َرض وتولَّى } ،قال القشيري l:أي َّ
عن قبول إرشادهم ونصائحهم ،وعن استماع معارفهم ومواجيدهم الكشفية الشهودية،
تقربا ً
سوى ،الذي يؤتى ماله ُّ وسيُجنبها األتقى ،أي :يُجنب طريق البُعد ونار الحجاب َمن اتقى ال ِّ
إلى هللا ليتز ّكى من العيوب واألنانية { ،وما ألح ٍد عنده من نعمة تُجزى } أي :ليس إحسانه في
سوف يَرضى } مقابلة حرف { إالّ ابتغاء وجه ربه األعلى } أي :إالّ طلب معرفة ذاته العلية { ،ولَ َ
بدوام شهود الذات األقدس .وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
س َجىا } * { َما َو َّد َع َك َربُّكَ َو َما قَلَىا } * { َولَآل ِخ َرةُ َخ ْي ٌر لَّكَ ِمنَ الض َحىا } * { َواللَّ ْي ِل إِ َذا َ
*{ َو ُّ
س ْوفَ يُ ْع ِطيكَ َر ُّبكَ فَت َْر َ
ضىا } األُولَىا } * { َولَ َ
ضحى } ،المراد به l:وقت الضحى ،وهو حدود النهار حتى ترتفع يقول الحق ج ّل جالله { :وال ُ
ص باإلقسام به ألنه الساعة التي كلّم هللا فيها موسى عليه السالم ،والتي وقع الشمس ،وإنما ُخ ّ
فيها السحرة ساجدين ،أو :النهار كلّه؛ لمقابلته بالليل في قوله { :واللي ِل إِذا سجى }؛ َ
س َكن،
المراد :سكون الناس واألصوات فيه ،أو ركد ظالمه ،من :سجا البحر إذا سكنت أمواجه ،وقيل:
المراد بالضحى :ساعة مناجاة موسى ،وبالليل :ليلة المعراج.
وجواب القسم { :ما و ّدعَكَ ربُّك } أي :ما تركك منذ اختارك { ،وما قَلَى } أي :وما أبغضك منذ
أحبك ،والتوديع :مبالغةٌ في الودْع ،وهو الترك؛ ألنَّ َمن ودّعك مفارقا ً فقد بالغ في ترككُ .روي
أنَّ الوحي ّ
تأخر عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أياماً ،فقال المشركون :إنَّ محمداً و َد َعهُ ر ُّبه
وقاله ،فنزلت ر ًّدا عليهم ،وتبشيراً له صلى هللا عليه وسلم بالكرامة الحاصلة .وحذف الضمير
من " قَلَى " إ ّما للفواصل ،أو لالستغناء عنه بذكره قبل ،أو :للقصد إلى نفس صدور الفعل عنه
تعالى ،مع قطع النظر عما يقع عليه الفعل بالكلية ،وحيث تض ّمن ما سبق من نفي التوديع،
والقَلى أنه تعالى يُواصله بالوحي والكرامة في الدنيا بَشَّر صلى هللا عليه وسلم بأنّ ما سيؤتاه
في اآلخرة أج ّل وأعظم بذلك ،فقيل { :ولآلخرةُ خير لك من األُولى } ،ألنَّ ما فيها من النِعم
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
صافية من الشوائب على اإلطالق ،وهذه فانية مشوبة lبالمضار ,وما أوتي صلى هللا عليه وسلم
من شرف النبوة ،وإن كان مما ال يُعادله شرف ،وال يُدانيه فضل ،لكنه ال يخلو في الدنيا عن
بعض العوارض الشاقة على النفس.
ووجه اتصال اآلية بما قبلها :أنه ل َّما كان في ضمن نفي التوديع والقَلي أنَّ هللا يُواصلك بالوحي
إليك ،وأنك حبيب هللا ،وال ترى كرامة أعظم من ذلك ،أخبر أن ما له في اآلخرة أعظم وأشرف،
وذلك لتقدُّمه على األنبياء في الشفاعة الكبرى ،وشهادة أمته على األمم ،ورفع درجات
المؤمنين ،وإعالء مراتبهم بشفاعته ،وغير ذلك من الكرامات السنية lالتي ال تُحيط بها العبارة.
اإلشارة :قال القشيري :يُشير lإلى القسم بضحوة نهار قلب الرسول ،عند انتشار شمس روحه
على بشريته l،وبِلَيل بشريته lعند أحكام الطبيعة وسلوك آثار البشريه lلغلبة سلطان الحقيقة ،ما
ودَّعك ربك بقطع فيض النبوة والرسالة عن ظاهرك ،وما قَلَى بقطع فيض الوالية عن قلبك،
{ ولآلخرةُ خير لك من األولى } يعني :أحوال نهايتك أفضل وأكمل من أحوال بدايتك ،ألنه صلى
هللا عليه وسلم ال يزال يطير بجناحي الشريعة والطريقة في جو سماء الحقيقة ،ويترقّى في
مقامات القٌرب والكرامة .هـ .ويمكن الخطاب بالسورة الكريمة لخليفته من العارفين ،الدعاة إلى
هللا .وهللا تعالى أعلم.
ضآالًّ فَ َهدَىا } * { َو َو َج َد َك عَآئِالً فَأ َ ْغنَىا } * { فَأ َ َّما ا ْليَتِي َم *{ أَلَ ْم يَ ِجدْكَ يَتِيما ً فَآ َوىا } * { َو َو َجدَكَ َ
سآئِ َل فَالَ تَ ْن َه ْر } * { َوأَ َّما بِنِ ْع َم ِة َربِّكَ فَ َحد ْ
ِّث } فَالَ تَ ْق َه ْر } * { َوأَ َّما ال َّ
يقول الحق ج ّل جالله { :أَل ْم يَ ِجدْكَ يتيما ً } من أبويك { فآوى } أي :ض َّمك إلى جدك ،ثم إلى عمك
أبي طالبُ .روي أنَّ أباه مات وهو جنين ،قد أتت عليه ستة أشهر ،وماتت أمه وهو ابن ثمان
سنين ،فكلفه أوالً جدُّه عبد المطلب ،فلما مات جده َكفَلَه َع ُّمه أبو طالب ،فأحسن تربيته l،وذلك
إيواؤه ،وقال القشيري l:ويُقال :بل آواه إلى ظل َكنَفِه ،وربَّاه بلطف رعايته .هـ.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
والحكمة في يُتمه صلى هللا عليه وسلم :أالّ يكون عليه منّة ألح ٍد سوى كفالة الحق تعالى .وقيل:
هو من قول العرب :دُرة يتيمة إذا لم يكن لها ِمثل ،أي :ألم يجدك وحيداً في شرفك وفضلك ،ال
نظير لك فآواك إلى حضرتهl.
{ َو َو َجدَك ضاال }؛ غافالً عن الشرائع التي ال تهتدي إليها العقول { ،فَ َهدَى }؛ فهداك إليها،
كقوله:
{ َما ُكنتَ تَ ْد ِري َما ا ْل ِكت ُ
َاب َوالَ ِ
اإلي َمانُ }
[الشورى .]52:وقال القشيري l:أي :ضاالًّ عن تفصيل الشرائع فهديناك إليها ،و َع َّرفناك
تفصيلَها .هـ .أو :ضاالً عما أنت عليه اليوم من معالم النبوة ،ولم يقل أحد من المفسرين :ضاالًّ
شعاب مكة ،فردّه أبو جهل إلى عبد عن اإليمان .قاله عياض :وقيل :ض ّل في صباه في بعض ِ
المطلب ،وقيل :ض ّل مرة أخرى ،وطلبوه فلم يجدوه ،فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً ،وتض ّرع
تضجوا ،فإنَّ لمحم ٍد ربَّا ال يخذله
ُّ إلى هللا ،فسمعوا هاتفا ً يُنادي من السماء :يا معشر الناس ،ال
وال يُضيّعه .وأنَّ محمداً بوادي تهامة عند شجرة السمر ،فسار عبد المطلب وورقة بن نوفل ،فإذا
النبي صلى هللا عليه وسلم قائم تحت شجرة ،يلعب باإلغصان واألوراق .وقيل :أضلته مرضعتهl
حليمة عند باب الكعبة حين فطمته ،وجاءت به لترده على عبد المطلب ،وقيل :ض ّل في طريق
الشام حين خرج به أبو طالب ،يُروى أن إبليس أخذ بزمام ناقته في ليل ظلماء ,فعدل به عن
إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الهند ،وردّه إلى َ الطريق ،فجاء جبري ُل عليه السالم ،فنفخ
القافلة .وقوله تعالى { :فَ َهدَى } أي :فهداك إلى منهاج الشرائع المنطوية في تضاعيف ما يُوحى
إليك من الكتاب المبين ،وعلَّمك ما لم تكن تعلم { .ووجدك عائالً }؛ فقيراً من حس الدنيا،
{ فأ َ ْغنَى }؛ فأغناك به عما سواه ،وز ّوجك خديجة ،فقامت بمؤونة العيش ،أو بما أفاء عليك من
الغنائم ،قال صلى هللا عليه وسلم " :جعل رزقي تحت ظل رمحي ".
تقهر } ،قال المفسرون :أي :ال تغلبه على ماله وحقه ،ألجل ضعفه ،وأذكر ْ { فأ َّما اليتي َم فال
يتمك ،وال تقهره بالمنع من مصالحه ،ووجوه القهر كثيرة ,والنهي يعم جميعها ،أي :دُم على ما
أنت عليه من عدم قهر اليتيم .وقد ورد في الوصية lباليتيم أحاديث ،منها :قوله صلى هللا عليه
وسلم:
" أنا وكاف ُل اليتيم في الجنة كهاتين إذا اتقى هللا " وأشار بالسبابة وال ُوسطى ،وقال صلى هللا
عليه وسلم " :إنَّ اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن ،فيقول هللا تعالى :يا مالئكتي؛ َمن
أبكى هذا اليتيم الذي غيبتُ أباه في التراب؟ فتقول المالئكة :ربنا أنت أعلم ،فيقول هللا تعالى :يا
مالئكتي فإني أُشهدكم أنَّ لمن أسكته وأرضاه أنْ أُرضيه يوم القيامة " ،فكان عمر إذا رأى يتيما ً
مسح رأسه وأعطاه شيئاً .وقال أنسَ " :من ض ّم يتيماً ،فكان في نفقته ،وكفاه مؤنته ،كان له
حجابا ً من النار يوم القيامة ،و َمن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة ".
تنهر } أي :ال تزجره وال تعبس في وجهه ،وال تغلظ له القول ،بل ردّه ر ًّدا ْ { وأ َّما السائِ َل فال
س َّؤال يحملون زادنا إلى اآلخرة .وقال إبراهيم النخعي:جميالً ،قال إبراهيم بن أدهم :نِعم القوم ال ُ
السائل بريد اآلخرة ،يجيء إلى باب أحدكم فيقول :أتبعثون إلى أهليكم بشيء .وقال صلى هللا
عليه وسلم " :ال يمنعنّ أحدُكم السائ َل وإن في يد ْيه lقُ ْلبَين ،من ذهب " أي :سوارين .وقال أيضاً:
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
" أعط السائل ولو على فرسه " وقال صلى هللا عليه وسلم " :إذا رددت السائل ثالثا ُ فلم يرجع
عليك أن ت َْزبُ َره " وقال الحسن :المراد بالسائل هنا :السائل عن العلم.
{ وأ َّما بنعم ِة ربك فحدِّث } بشكرها وإشاعتها وإظهار آثارها ,يرد ما أفاضه هللا تعالى عليه من
فنون النعم ،التي من جملتها المعدودة والموعودة ,والنبوة التي آتاه هللا تأتي على جميع النِعم،
ويَدخل في النِعم تعلُّم العلم والقرآن ،وفي الحديث عنه صلى هللا عليه وسلم " :التحدُّث بالنِ َعم
شكر " ولذلك كان بعض السلف يقول :لقد أعطاني هللا كذا ،ولقد صلَّيتُ البارحة كذا ،وهذا إنما
يجوز إذا ذكره على وجه الشكر ،أو ليُقتدى به ،فأ ّما على وجه الفخر والرياء فال يجوز .هـ.
انظر كيف ذكر هللا في هذه السورة ثالث نعم ،ثم ذكر في مقابلتها ثالث وصايا ،فقال في قوله:
{ ألم يجدك يتيما ً } بقوله { :فأ ّما اليتيم فال تَ ْق َهر } وقابل قولَه { :ووجدك ضاالً } بقوله { :وأ ّما
السائل فال تَ ْن َهر } على َمن قال :إنه طالب العلم ،وقابل بقوله { :وأ ّما بنعمة ربك فَ َحدِّث } على
القول اآلخر ,وقابل قوله { :ووجدك عائالً فأَ ْغنَى } بقوله { :وأ ّما السائل فال تَ ْنهر } على القول
األظهر ،وقابله بقوله { :وأ َّما بنعمة ربك فحدِّث } على القول اآلخر هـ .من ابن جزي.
اإلشارة :ألم يجدك يتيما ً فرداً من العالئق ،مجرداً مما سوى هللا ،فآواك إليه ،وهي طريقة كل
ب ُمفرد ،فيه توحيد مجرد. متوجه ،ال يأويه الحق إليه حتى يكون يتيما ً من الهوى ،بل بقل ٍ
قال القشيري l:ويُقال فآواك إلى بساط القربة ،بحيث انفردْتَ بمقا ِمك ،فلم يُشاركك فيه أحد .هـ.
{ ووجدك ضاالًّ } قيل :متردداً في معاني غوامض المحبة ،فهداك بلطفه لها ،أو :وجدك ُمتحيراً
عن إدراك حقيقتنا ،فكملناك بأنوار ربوبيتنا حتى أدركتنا بنا ،وفي هذا مالءمة لمعنى االفتتاح.
قال القشيري l:ويُقال :ضاالًّ عن محبتي لكن فع َّر ْفتُك أني أُحبك ،ويقال :جاهالً شرفَك فع َّر ْفتُك
قَد َْركَ .هـ .ووجدك عائالً فقيراً مما سواه ،فأغناك به عن كل شيء ،إالّ طلب الزيادة في العلوم
والعرفان ،فال قناعة من ذلك،
{ َوقُل َّر ِّب ِز ْدنِي ِع ْلما ً }
[طه .]114:وفي القوت :إنما أغناه بوصفه l،ال باألسباب ,وهو أعز على هللا من أن يجعل غناه
من الدنيا أو يرضاها له .هـ .وكما أنَّ هللا تعالى َغنِ ّي بذاته ،ال باألعراض واألسباب ،فالرسول
صلى هللا عليه وسلم َغنِ ّي بربه ال باألعراض .قاله في الحاشية .قلت :وكذلك األولياء ـ رضي هللا
ق تعالى صى به الح ٌّني " فصاروا أغنياء بال سبب ،وما و ّ س َرى فيهم اسمه تعالى " ال َغ ِّ عنهم ـ َ
صى به خلفاؤه من قوله { :فأ ّما اليتيم فال تقهر } ...الخ .وباهلل نبيه صلى هللا عليه وسلم يُو َّ
التوفيق .وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
نشرح لك صدرك } أي :ألم نوسعه ونفسحه حتى حوى عالَم الغيب ْ يقول الحق جالّ جالله { :ألم
والشهادة ،وجمع بين ملَكتي االستفادة واإلفادة ،فما صدتك المالبسة بالعالئق الجسمانية lعن
اقتباس أنوار الملِكات الروحانية ،وما عاقك التعلُّق بمصالح الخلق عن االستغراق في شهود
الحق ،وقيل :المراد شرح جبريل صد َره في حال صباه ،حين شقّه وأخرج منه lعلقة سوداء ،أو
ليلة المعراج فمأله إيمانا ً وحكمة .والتعبير lعن الشرح باالستفهام اإلنكاري لإليذان بأن ثبوته lمن
الظهور بحيث ال يقدر أحد أن يُ ِجيب عنه بغير " بلى ".
سطه بين الفعل ومفعوله لإليذان بأنَّ الشرح من منافعة صلى هللا عليه وسلم وزيادة " لك " وتو ُّ
ومصالحة ،مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه صلى هللا عليه وسلم وتشويقا ً إلى ما يعقبه،
ليتمكن عنده وقتَ وروده فضل تم ُّكن .وقال في الوجيز :هو استفهام معناه التقرير ،أي :ألم نفتح
سع لك قلبك باإليمان والنبوة والعلم والحكمة .قال في الحاشية الفاسية l:والظاهر أنه إيثار ونُو ِّ
بما طلبه موسى عليه السالم بقوله:
ص ْد ِري }
ش َر ْح لِي َ
{ َر ِّب ا ْ
[طه ،]25:وأنه بادَاه به من غير طلب ،وهو قَدْر زائد على مطلق الرسالة ،متضمن حمل ثقل
تبليغها ,لكونه في ذلك بربه l,ويناسبه ما بعده من وضع الوزر ،وهو لغة :الحمل الثقيل ،كما في
الوجيز ،وشرح الصدر :بسطه بنور lإلهي .هـ.
{ ووضعنا عنك ِو ْز َركَ } ،عطف على مدلول الجملة السابقة ،كأنه قيل :قد شرحنا لك صدرك
ض ظهرك } أي :أثقله حتى سمع ووضعنا عنك وزرك ،أي :حططنا عنك عبأك الثقيل { ،الذي أَ ْنقَ َ
له نقيض ،وهو صوت االنتقاض ،أي :خففنا عنك أعباء النبوة والقيام بأمرها ،أو :يُراد ترك
األفضل مع إتيان الفاضل ،واألنبياء يعاتبون بمثلها ،ووضعه عنه :أن يغفر له .قال ابن عرفة:
التفسير السالم فيه :أن يتج ّوز في الوضع بمعنى اإلبعاد ،أو يتج ّوز في الوزر ،فإن أريد بالوزر
حقيقته lفيكون المعنى :أبعدنا عنك ما يتوهم أن يلحقك من الوزر الالحق لنوعك ،وإن أريد
بالوزر المجازي ،وهو ما يلحقه قِبَل النبوة من الهم والحزن بسبب جهلك ما أنت اآلن عليه من
األحكام الشرعية ،فيكون الوضع حقيقة ،والوزر مجازاً .هـ .قلت :والظاهر :أنَّ كل مقام له
ذنوب ،وهو رؤية lالتقصير في القيام بحقوق ذلك المقام ،فحسنات األبرار سيئات المقربين ،فكلما
عال المقام طُولب صاحبه بشدة األدب ،فكأنه صلى هللا عليه وسلم خاف أالّ يكون قام بحق المقام
الذي أقامه الحق فيه ،فاهت ّم من أجله ،وجعل منه حمالً على ظهره ،فأسقطه الحق تعالى عنه،
وبشَّره بأنه مغفور له على اإلطالق؛ ليتخلّى من ذلك االهتمام.
وزاده شرفا ً بقوله { :ورفعنا لك ِذكرك } أي :ن ّوهنا باسمك وجعلناه شهيراً في المشارق
والمغارب ،و ِمن َر ْف ِع ذكره صلى هللا عليه وسلم أن قرن اس َمه مع اس ِمه في الشهادة واألذان
والخطب والتش ُّهد ،وفي مواضع من القرآن: ُ واإلقامة
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
س ِر يُسراً } أي :إنّ معثم بشّر رسولَه وسالَّه عما كان يلقى من أذى الكفار بقوله { :فإِنَّ مع ال ُع ْ
الشدة التي أنت فيها من مقاساة بالء المشركين يُسراً بإظهاره إياك عليهم حتى تغلبهم .وقيل:
كان المشركون يُعيّرون رسول هللا والمسلمين بالفقر ،حتى سبق إلى وهمه أنهم َر ِغبُوا عن
اإلسالم الفتقار أهله ،فذ ّكره ما أنعم به عليه من جالئل النعم ،ثم قال { :فإِنَّ مع العسكر يُسراً }
كأنه قال :خ ّولناك ما خ ّولناك فال تيأس من فضل هللا { ،إِنَّ مع العسر } الذي أنتم فيه { يُسراً } ،
وجيء بلفظ " مع " لغاية مقارنة اليسر للعسر؛ زيادةً في التسلية وتقوية لقلبه صلى هللا عليه
وسلم ،وكذلك تكريره ،وإنما قال صلى هللا عليه وسلم عند نزولها " :لن يغلب عسر يسرين "
ألنَّ العسر أعيد ُمع ّرفا ً فكان واحداً ،ألنّ المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين األولى،
واليُسر أعيد نكرة ،والنكرة إذا أُعيدت نكرة كانت الثانية غير األولى ،فصار المعنى :إنَّ مع
ال ُعسر يسر ْين ،وبعضهم يكتبه بياءين ،وال وجه له.
اإلشارة :ما قيل للرسول صلى هللا عليه وسلم من تعديد النعم عليه واستقراره بها ،يُقال لخليفته
العارف الداعي إلى هللا ،حرفا ً بحرف ،فيقال له :ألم نُوسع صدرك لمعرفتي ،ووضعنا عنك
أوزارك حين توجهتَ إلينا ،أو :وضعنا عنك أثقال السير ،فحملناك إلينا ،فكنت محموالً ال حامالً،
الناس
ُ ورفعنا لك ذكرك حين هيأناك للدعوة ،بعد أن أخملنا ذكرك حين كنت في السير لئال يشغلك
عنا ،فإنَّ مع عسر المجاهدة يُسر المشاهدة ،فإذا فرغت من الدعوة والتذكير ,فأَ ْت ِعب نفسك في
العكوف في الحضرة ،أو :فإذا فرغت ِمن كمالك فانصب في تكميل غيرك ،وارغب في هداية
الخلق .وباهلل التوفيق ،وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
سانَ فِيا ين } * { لَقَ ْد َخلَ ْقنَا ا ِإلن َ سينِينَ } * { َوهَـا َذا ا ْلبَلَ ِد األَ ِم ِ ُون } * { َوطُو ِر ِ *{ َوالتِّي ِن َوال َّز ْيت ِ
ت فَلَ ُه ْم أَ ْج ٌر
صالِ َحا ِ سافِلِينَ } * { إِالَّ الَّ ِذينَ آ َمنُو ْا َو َع ِملُو ْا ال َّ سفَ َل َيم } * { ثُ َّم َر َد ْدنَاهُ أَ ْ أَ ْح َ
س ِن تَ ْق ِو ٍ
س هَّللا ُ بِأ َ ْح َك ِم ا ْل َحا ِك ِمينَ }
ِّين } * { أَلَ ْي َ
ون } * { فَ َما يُ َك ِّذبُكَ بَ ْع ُد بِالد ِ َغ ْي ُر َم ْمنُ ٍ
وأ ّما الزيتون فهو فاكهة وإدام ودواء ،ولو لم يكن له سوى اختصاصه بدُهن كثير المنافع لكفى
به فضالً .وشجرته lهي الشجرة المباركة ،المشهود لها في التنزيل .وم ّر معا ُذ بن جبل بشجرة
الزيتون ،فأخذ منها قضيبا ً واستاك به .وقال :سمعتُ النبي صلى هللا عليه وسلم يقول " :نعم
السواك الزيتون ،هي الشجرة المباركة ،يطيب الفم ،ويذهب بالحفرة " وقال " :هو سواكي
وسواك األنبياء قبلي " وعن ابن عباس :هو تينكم هذا ،وزيتونكم هذا .وقيل :هما جبالن بالشام
ينبتانهما.
{ وطُو ِر سينينَ } ،أضيف الطور وهو الجبل إلى " سينين " وهو البقعة ،وهو الجبل الذي
ناجى موسى عليه السالم ربَّه عليه ،ويُقال له :سينين وسيناء { .وهذا البلد األمين } وهو مكة،
ش ّرفها هللا ،وأمانتها أنها تحفظ َمن دخلها كما يحفظ األمين ما يُؤتمن عليه .ووجه اإلقسام
بهاتين البقعتين المباركتين المشحونتين بخيرات الدنيا واآلخرة غني عن الشرح والتبيينl.
{ ثم رددناه أسف َل سافلين } أي :جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح ،وأسفل من كل
سافل ،لعدم جريانه على موجب ما َخلَقَه عليه من الصفات ،التي لو عمل بمقتضاها لكان في
أعلى عليين .وقيل :رددناه إلى أرذل العمر ،وهو الهرم بعد الشباب ،والضعف بعد القدرة ،كقوله
تعالى:
ق}سهُ ِفي ا ْل َخ ْل ِ
{ َو َمن نّ َع ِّم ْرهُ نُنَ ِّكـ ْ
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
[يَس ]68:أي :ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتعديل أسف َل َمن سفُ َل في ُحسن الصورة والشكل
ض شعره بعد سواده ،وتكمش جلده ،و َك ّل حيث ننكسه في خلقه ,فق َّوس ظهره بعد اعتداله ،وا ْبيَ َّ
سمعه وبصره.
إِالّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ،استثناء متصل lعلى التفسير األول ،ومنقطع على الثاني{ ،
فلهم أج ٌر غي ُر ممنو ٍن } أي :رددناه أسفل السافلين إالَّ َمن آمن ،أو :لكن الذين آمنوا وكانوا
صالحين من الهرمى ،فلهم ثواب غير منقطع ،لطاعتهم وصبرهم على الشيخوخة والهرم ،وعلى
ق والقيام بالعبادة ،خصوصا ً وقت الكبر .وعن أنس قال رسول هللا صلى هللا عليه مقاساة المشا ّ
وسلم " :إذا بلغ المؤمن خمسين سنة خفّف هللا حسابه ،فإذا بلغ ستين رزقه هللا اإلنابة ،فإذا بلغ
سبعين أحبه أهل السماء ،فإذا بلغ ثمانين ُكتبت حسناته وتجاوز هللا عن سيئاته l،فإذا بلغ تسعين
ُغفرت ذنوبه l,وشفع في أهل بيته l،وكان أسير هللا في أرضه ،فإذا بلغ مائة ولم يعمل كتب له ما
كان يعمله في صحته وشبابه ".
ودخلت الفاء هنا دون سورة االنشقاق للجمع بين المعنيين هنا .قاله النسفي .والخطاب في قوله:
{ فما يُ َك ِّذبُك بع ُد بالدين } لإلنسان ،على طريقة االلتفات ،أي :فما سبب تكذيبك بعد هذا البيان
القاطع ،والبرهان الساطع بالجزاء ،والمعنى :إنَّ خلق اإلنسان من نطف ٍة ،وتسويته بشراً سويًّا،
وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي ،ث ّم تنكيسه lإلى أن يبلغ أرذل العمر ,ال ترى
دليالً أوضح منه على قدرة الخالق ،وأنَّ َمن قدر على خلق اإلنسان على هذا النمط العجيب لم
يعجز عن إعادته ،فما سبب تكذيبك بالجزاء؟! أو :بالرسول صلى هللا عليه وسلم :أي :ف َمن
ينسبك إلى الكذب بعد هذا الدليل القاطع؟
{ أليس هللاُ بأحكم الحاكمين } وعيد للكفار ،وأنّه يحكم عليهم بما هو أهله ،وهو من ُ
الحكم
والقضاء ،أي :أليس هللا بأفضل الفاصلين فيفصل بينك وبين ِّ
مكذبِيك .وقيلِ :من ال ِحكمة ،بمعنى
اإلتقان ،أي :أليس َمن خلق اإلنسان وص ّوره في أحسن تقويم بأحكم الحكماء .وكان عليه الصالة
والسالم إذا قرأها قال " :بلى ,وأنا على ذلك من الشاهدين ".
اإلشارة :حاصل ما ذكره القشيري :أنه تعالى أقسم بأربعة أشياء ،لغاية شرفها؛ األولى شجرة
القلب التينية lالمث ِمرة للعلوم اللدنية الخالصة عن نوى الشكوك العقلية والشبهة الوهميةl،
والثانية l:شجرة الروح المستضيئة lمن نور السر لكمال استعدادها ،وإليه اإلشاره بقوله:
سهُ lنَا ٌر } ضيا ُء َولَ ْو لَ ْم تَ ْم َ
س ْ { يَ َكا ُد َز ْيتُ َها يُ ِ
[النور ]35:الخ .والثالثة :شجرة السر ،الذي هو طور التجلِّي محل المشاهدة والمكالمة
والمناجاة .والرابعة :البلد األمين ،الذي هو حال التلبيس والخفاء ،بعد التمكين ،وهو الرجوع
سم عليه { :لقد خلقنا لألسباب ،قياما ً بآداب الحكمة ورسم العبودية ،وهو مقام الكملة .والمق َ
اإلنسان في أحسن تقويم } قال القشيري :أي :في المظهر األكمل واألتم ،والمحل األعم ،حامل
األمانة اإللهية ،وصاحب الصورة الرحمانية ،روحانيته أُم الروحانيات ,وطبيعته أجمع األمزجة
وأعدلها ،ونشأته أوسع النشآت وأشملها .هـ .قلت :وإليه أشار الششتري lبقوله:
وقول الشاعر:
يقول الحق ج ّل جالله لنبيه lصلى هللا عليه وسلم ،في أول الوحي { :اقرأ باسم ربك } أي :اقرأ
هذا القرآن مفتتحا ً باسم ربك ،أو مستعينا ً به ،فالجار في محل الحال .ويحتمل أن يكون المقروء
والتعرض لعنوان الربوبية المنبئةl
ُّ الذي أمر بقراءته هو باسم ربك ،كأنه قيل له :اقرأ هذا اللفظ.
عن التربية والتبليغ إلى الكمال الالئق شيئا ً فشيئا ً مع اإلضافة إلى ضميره صلى هللا عليه وسلم
لإلشعار بتبليغه عليه السالم إلى الغاية القاصية من الكماالت البشرية lوالروحانية بإنزال الوحي
ق } صفة للرب ،ولم يذكر له
المشتمل lعلى نهاية العلوم والحكم .وقوله تعالى { :الذي خل َ
مفعوالً؛ ألنَّ المعنى :الذي حصل منه lالخلق ،واستأثر به ،ال خالق سواه ،أو تقديره :خلق ك َّل
شيء ،فتناول ك َّل مخلوق؛ ألنه مطلق ،فليس بعض المخلوقات بتقديره أولى من البعض.
وقوله تعالىَ { :خلَق ا ِإلنسانَ } بتخصيص لإلنسان بالذكر من بين ما يتناوله لشرفه ،وألنَّ
سر تفخيما ً التنزيل lإنما هو إليه ،ويجوز أن يُراد :الذي خلق اإلنسان ،إالَّ أنه ذكر مبهماً ،ثم ف ّ
لخلقه ،وداللةً على عجيب فطرته .قيل :ل َّما ذكر فيما قبل أنه خلق اإلنسان في أحسن تقويم ،ثم
ذكر ما عرض له بعد ذلك ،ذكره هنا منبها ً على شي ٍء من أطواره ،وذكر نعمته عليه ،ثم ذكر
طغيانه بعد ذلك ،وما يؤول إليه حاله في اآلخرة ،فإنه تفسير lلقوله:
سافِلِينَ } يم ثُ َّم َر َد ْدنَاهُ أَ ْ
سفَ َل َ سانَ ِفيا أَ ْح َ
س ِن تَ ْق ِو ٍ { لَقَ ْد َخلَ ْقنَا ِ
اإلن َ
علق } ولم يقل من علقة؛ ألنَّ اإلنسان في معنى ٍ [التين ،]5 ،4:ثم ذكر أصل نشأته بقولهِ { :من
الجمع .وفيه إشارة إلى أنَّ ابتداء الدين كابتداء خلق اإلنسان ،كان ضعيفا ً ثم تق ّوى شيئا ً فشيئا ً
حتى انتهى كماله.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
يقول الحق ج ّل جالله { :كالَّ } ،هو ردع لمحذوف ،د ّل الكالم عليه ،كأنه قيل :خلقنا اإلنسان من
علق ،وعلّمته ما لم يعلم ليشكر تلك النعمة الجليلة ،فكفر وطغى ،كال لينزجر عن ذلك { إِنَّ
اإلنسان ليطغى }؛ يجاوز الحد ويستكبر lعن ربه .قيل :هذا إلى آخر السورة نزل في أبي جهل بعد ِ
زمان ،وهو الظاهر .وقوله { :أن رآه استغنى } مفعول له ،أي :ليطغى لرؤية نفسه مستغنياً،
ضميري
ْl على أنَّ " استغنى " مفعول لرأى ،ألنه بمعنى َعلِم ،ولذلك شاع كون فاعله ومفعوله
واحد كما في " ظننتني و َعلِمتني " وإن ج ّوزه بعضهم في الرؤية البصرية أيضاً ،وجعل من ذلك
قول عائشة رضي هللا عنها " :رأيتني lمع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وما لنا طعام إال
األسودان ،الماء والتمر " ،والمشهور أنه خاص بأفعال القلوب .وحاصل اآلية :أن سبب طغيان
اإلنسان هو استغناؤه بالمال ،وسبب تواضعه هو فقره.
الرجعى } ّ
وحذره من عاقبة الطغيان ،على طريق االلتفات ،فقال { :إِنَّ إِلى ربك ُّ ثم هدّد اإلنسان
أي :الرجوع ,فيجازيك على طغيانك { .أرأيت الذي ين َهى عبداً إِذا صلَّى } أي :أرأيت أبا جهل
ينهى محمداً صلى هللا عليه وسلم عن الصالة ،وهو تشنيع بحاله ،وتعجيب منها ،وإيذان بأنه من
البشاعة والغرابة بحيث يراها كل َمن يأتي منه الرؤيةُ .روي أنَّ أبا جهل كان في مأل من قريش،
فقال :لئن رأيت محمداً ألطأنّ عنقه ،فرأه صلى هللا عليه وسلم في الصالة ،فجاءه ,ثم نكص على
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
عقبيه l،فقالوا :مالك؟ فقال :حال بيني lوبينه lخندق من نار وهول وأجنحة ،فنزلت ،فقال صلى هللا
عليه وسلم " :لو دنا من الختطفته المالئكة ".
وتنكير العبد تفخيم لشأنه صلى هللا عليه وسلم ،والرؤية lهنا بصرية ،وأ ّما في قوله { :أرأيت إن
كان على الهدى أو أّ َم َر بالتقوى } وفي قوله { :أرأيتَ إِن َك َّذب وتولَّى } فعلمية ،أي :أخبرني
فإنَّ الرؤية ل َّما كانت سببا ً لإلخبار عن المرائي أجرى االستفهام عنها مجرى االستخبار عن
متعلقها .والخطاب لكل َمن يصلح للخطاب.
قال في الكشاف :قوله تعالى( :الذي ينهى) هو المفعول األول لقوله( :أرأيت) األول ،والجملة
الشرطية بعد ذلك في موضع المفعول الثاني ،وكررت (أرأيت) بعد ذلك للتأكيد ،فال تحتاج إلى
كذب وتولى } ،وجواب قوله: مفعول .وقوله { :ألم يعلم بأنَّ هللا يرى } هو جواب قوله { :إن َّ
كذب وتولى } فهو في المعنى { إن كان على الهدى } محذوف ،يدل عليه جواب قوله { :إن َّ
جواب للشرطين معاً .والضمير في قوله { :إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى } للناهي ،وهو
كذب وتولَّى } ،والتقدير على هذا :أخبرني عن الذي ينهى عبداً أبو جهل ،وكذا في قوله { :إن َّ
إذا صلّى إن كان هذا الناهي على الهدى أو إن َك ّذب وتولّى ،ألم يعلم بأنّ هللا يرى جميع أحواله،
فمقصود اآلية :تهديد له وزجر ،وإعالم بأنّ هللا يراه.
وخالفه ابن عطية في الضمائر ،فقال :إنَّ الضمير lفي قوله { :إن كان على الهدى أو أمر
كذب وتولّى } للناهي ،وخالفه في جعل بالتقوى } للعبد الذي صلَّى ،وأنّ الضمير في قوله { :إن َّ
" أرأيت " الثانية lمكررة للتأكيد ,فقال " :أرأيت " في المواضع الثالثة توقيف ،وأنّ جوابها في
المواضع الثالثة :قوله { :ألم يعلم بأن هللا يرى } فإنه يصلح مع كل واحدة منها ،ولكنه جاء في
آخر الكالم اقتصاراً .انظر ابن جزي .وما قاله ابن عطية أظهر ،فكأنه تعالى حا ِك ٌم قد حضره
الخصمان ،يُخاطب هذا مرة واآلخر أخرى ،وكأنه قال :يا كافر إن كانت صالته هُدى ودعاؤه إلى
هللا أمراً بالتقوى ،ثم أقبل على اآلخر ،فقال :أرأيت إن َّ
كذب .الخ.
وقال الغزنوي :جواب { إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى } محذوف ،تقديره :أليس هو على
الحق واتباعه واجب ،يعني :فكيف تنهاه يا ّ
مكذب ،متولي عن الهدى ،كافر ،ألم تعلم أن هللا
يراك .هـ.
{ كالَّ } ،ردع للنا ِهي عن عبادة هللا { لئن لم ينت ِه } عما هو عليه { لَنَ ْ
سفعا ً بالناصي ِة }؛ لنأخذن
بناصية ولنسحبنّه lبها إلى النار .والسفع :القبض على الشيء وجذبه بشدة .و َك ْتبُها في المصحف
باأللف على حكم الوقف .واكتفى بالم العهد عن اإلضافة للعلم بأنها ناصية المذكور ،ثم بيّنها
ص ّح بدلها من المعرفة لوصفها ،ووصفها بقوله { :ناصي ٍlة كاذب ٍة خاطئ ٍة } فهي بدل ,وإنما َ
بالكذب والخطأ على المجاز ،وهما لصاحبهما .وفيه من الجزالة ما ليس في قوله :ناصية كاذب
خاطىء.
ع ناديَه } ،النادي :المجلس الذي يجتمع فيه القومُ .روي أنَّ أبا جهل م ّر بالنبي صلى هللا { فَ ْليَ ْد ُ
النبي صلى هللا عليه وسلم ،فقال :أتهدّدني
ُّ عليه وسلم وهو يُصلّي ،فقال :ألم أَ ْنه َك؟ فأغلط له
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
سنَ ْد ُ
ع الزبانية } lليجروه إلى النار .والزبانية l:الش َُّر ِط، وأنا أكثر أهل الوادي نادياً؟ فنزلتَ { .
واحدةِ :ز ْبنِيَّة أو ِز ْبنى ،من الزبن ،وهو الدفع .عن النبي صلى هللا عليه وسلم " :لَ ْو َدعَا نَا ِديهُ
ألخ َذ ْته ال َّزبانِيةُِ lعيانا ً ".
َ
{ كالَّ } ،ردع ألبي جهل { ال ت ُِط ْعهُ } أي :أثبت على ما أنت عليه من عصيانه ،كقوله:
{ فَالَ تُ ِط ِع ا ْل ُم َك ِّذبِينَ (} )8
[القلم { ]8:واسج ْد }؛ واظب على سجودك وصالتك غير مكترث { واقترب }؛ وتق ّرب بذلك إلى
ربك.
اإلشارة :كل َمن أنكر على المتوجهين ،الذين هم على صالتهم دائمون ،يُقال في حقه :أرأيت
الذي يَنهى عبداً إذا صلّى ..إلى آخر اآليات .ويُقال للمتوجه :ال تُطعه واسجد بقلبك وجوارحك،
وتق ّرب بذلك إلى موالك ،حتى تظفر بالوصول إليه .وباهلل التوفيق .وصلّى هللا على سيدنا محمد
وآله
ش ْه ٍر }
ف َ*{ إِنَّا أَن َز ْلنَاهُ فِي لَ ْيلَ ِة ا ْلقَ ْد ِر } * { َو َمآ أَ ْد َراكَ َما لَ ْيلَةُ ا ْلقَ ْد ِر } * { لَ ْيلَةُ ا ْلقَ ْد ِر َخ ْي ٌر ِّمنْ أَ ْل ِ
سالَ ٌم ِه َي َحتَّىا َم ْطلَ ِع ا ْلفَ ْج ِر } وح فِي َها بِإ ِ ْذ ِن َربِّ ِهم ِّمن ُك ِّل أَ ْم ٍر } * { َ
الر ُ * { تَنَ َّز ُل ا ْل َمالَئِ َكةُ َو ُّ
يقول الحق ج ّل جالله { :إِنَّا أنزلناه في ليلة القدر } ،ن ّوه بشأن القرآن ،حيث أسند إنزاله إليه
بإسناده إلى نون العظمة ،المنبىء عن كمال العناية به ،وجاء بضميره lدون اسمه الظاهر لإليذان
بغاية ظهوره ،كأنه حاضر في جميع األذهان ،وقيل :يعود على المقروء المأمور به في قوله:
{ ا ْق َر ْأ }
[العلق ]1:فتتصل السورة بما قبلها .وعظَّم الوقت الذي أنزله فيه بقوله { :وما أدراك ما ليلةٌ
القَدْر } لِما فيه من الداللة على أنَّ علو قدرها خارج عن دائرة دراية الخلق ،ال يدريها إالّ عالَّم
الغيوب ،كما يُشعر به قوله تعالى { :ليلةُ القدر خي ٌر من ألف شه ٍر } أي :ليس فيها ليلة القدر،
فإنه بيان إجمالي لشأنها إثر تشويقه صلى هللا عليه وسلم إلى درايتها ،فإنَّ ذلك ُم ْع ِرب عن
الوعد بإدرائها على ما تقدّم .وفي إظهار ليلة القدر في الموضعين من تأكيد التفخيم ما ال يخفى.
والمراد بإنزاله :إ ّما إنزاله كله إلى سماء الدنيا ،كما ُروي أنه أنزل جملة واحدة في ليلة القدر
ث وعشرين سنة ،وإ ّما ابتداءمن اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ،ثم نزل نجوما ً في ثال ٍ
سميت ليلة القدر لتقدير األمور فيها ،وإبراز ما قضى تلك السنة ،لقوله نزوله،وهو األظهر .و ُ
تعالى:
َ { فِي َها يُ ْف َر ُ
ق ُك ُّل أ ْم ٍر َح ِك ٍ
يم (} )4
[الدخان ،]4:فالقَدْر بمعنى التقدير ،أو لشرفها على سائر الليالي ،فالقَدْر بمعنى الشرف ،وهي
ليلة السابع والعشرين من رمضان على المشهو ِر .لما ُروي أنَّ أُبي بن كعب كان يحلف أنها ليلة
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
السابع والعشرين ،وقيل غير ذلك ومظان التماسها في األوتار من العشر األواخر .ولعل السر في
إخفائها تعرض َمن يريدها للثواب الكثير بإحياء الليالي في طلبها ،وهذا كإخفاء الصالة
الوسطى ،واسمه األعظم ،وساعة الجمعة ،ورضاه في الطاعات ،وغضبه في المعاصي ،وواليته
في خلقه ليحسن الظن بالجميع.
وتخصيص األلف بالذكر إ ّما للتكثير ،أو لما ُروي عنه صلى هللا عليه وسلم أنه ذكر رجالً من بني
إسرائيل لبس السالح في سبيل هللا ألف شهر ،فعجب المؤمنون وتقاصرت إليهم أعمالهم،
فأُعطوا ليلةَ القدر هي خي ٌر من عمل ذل الغازي .وقيل :إنّ النبي صلى هللا عليه وسلم أري أعمار
األمم كافة ،فاستقصر أعمار أمته ،فخاف أالّ يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم ،فأعطاه هللا ليلة
القدر ،جعلها خيراً من ألف شهر لسائر األمم .وقيل :كان ُملك سليمان خمسمائة شهر ،وملك ذي
القرنين خمسمائة شهر ،فجعل هللا هذه الليلة ِلمن قامها خيراً من ملكيهما.
ثم ذكر غايتها ،فقال { :حتى مطلَ ِع الفجر } أي :تنتهي إلى طلوع الفجر ،أو :تُسلِّم المالئكة إلى
مطلع الفجر ،أو :تنزل المالئكة فوجا ً بعد فوج إلى طلوع الفجر .و " َم ْطلَع " بالفتح :اسم زمان,
وبالكسر مصدر ،أو اسم زمان على غير قياس؛ ألنّ ما يضم مضارعه أو يفتح يتحد فيه الزمان
والمكان والمصدر ،يعني " َم ْف َعل " في الجميع.
اإلشارة :أهل القلوب من العارفين ،األوقاتُ كلها عندهم ليلة القدر ،واألماكن عندهم كلها
عرفات ،واأليام كلها جمعات ،ألنّ المقصود من تعظيم الزمان والمكان هو باعتبار ما يقع فيه من
التقريب والكشف والعيان ،واألوقات واألماكن عند العارفين كلها سواء في هذا المعنى ،كما قال
شاعرهم:
كما ك ُّل أيام اللقا يو ُم جمع ِة وكل الليالي ليلةُ القدر إن بدا
على بابه قد عادلت ألف وقف ِة حج ،به ك ُّل وقف ٍة
وسع ٌي له ٌّ
وقال الشيخ أبو العباس رضي هللا عنه :نحن ـ والحمد هللا ـ أوقاتنا كلها ليلة القدر .هـ .ألنَّ
عبادتهم كلها قلبية ،بين فكرة واعتبار ،وشهود واستبصار ،و " فكرة ساعة أفضل من عبادة
سبعين سنة " ،كما في األثر ،بل فكرة العيان تزيد على ذلك ،كما قال الشاعر:
يقول الحق ج ّل جالله { :لم يكن الذين كفروا } أي :بالرسول وبما أنزل عليه { من أهل الكتاب }
اليهود والنصارى { ،والمشركين }؛ عبَدة األصنام { منف ِّكين } منفصلين عن الكفر ،وحذف ألنَّ
النبي صلى هللا عليه
ُّ صلة " الذين " يدل عليه { ،حتى تأتِيَهم البَيِّنَةُ } الحجة الواضحة ،وهو
ث أسلم بعض ,وثبت وسلم .يقول :لم يتركوا كفرهم حتى بُعث محمد صلى هللا عليه وسلم ،فل ّما بُ ِع َ
على الكفر بعض .أو :لم يكونوا منفكين ،أي :زائلين عن دينهم حتى تأتيَهم البَينة lببطالن ما هم
ث هللاُ محمداً فقامت عليهم عليه ،فتقوم الحجة عليهم .أو :لم يكونوا لينفصلوا عن الدنيا حتى بَ َع َ
الحجة ،وإالّ لقالوا:
{ لَ ْوالا أَ ْر َ
س ْلتَ إِلَ ْينَا َر ُ
سوالً} ...
[طه ]134:اآلية.
وتلك البينة هي { رسو ٌل من هللا } أي :محمد صلى هللا عليه وسلم وهو بدل من " البينة "
صحفا ً } كتبا ً { ُمطَهَّرةً } من الباطل والزور والكذب ،والمراد :يتلو ما{ يتلو } يقرأ عليهم { ُ
يتضمنه المكتوب في الصحف ،وهو القرآن ،يدل على ذلك أنه صلى هللا عليه وسلم كان يتلو
القرآن عن ظهر قلبه ،ولم يكن يقرأ مكتوباً؛ ألنه كان أُميًّا ال يكتب وال يقرأ الصحف ،ولكنه لَ َّما
صحف ،فقال { :فيها } أي: صحف .ثم بيّن ما في ال ُ صحف فكأنه قد تلى ال ُ كان تاليا ً معنى ما في ال ُ
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
صحف { ُكتب قَيِّمةٌ } lمستقيمة lناطقةٌ بالحق والعدل .ولَ ّما كان القرآن جامعا ً لِما في الكتبفي ال ُ
المتقدمة صدق أنَّ فيه ُكتبا ً قيمة.
ق الذين أُوتوا الكتاب إِالَّ ِمن بعد ما جاءتهم البينةٌ } أي :وما اختلفوا في نبوة محمد{ وما تَفَ َّر َ
صلى هللا عليه وسلم إالَّ ِمن بعد ما َعلِموا أنه حق ،فمنهم َمن أنكر حسداً ،ومنهم َمن آمن .وإنّما
أفرد أهل الكتاب بعدما جمع إوالً بينهم lوبين المشركين؛ ألنهم كانوا على ٍ
علم به؛ لوجوده في
بالتفرق عنه كان َمن ال كتاب له أدخل في هذا .وقيل :المعنى :لم يكن الذينُّ كتبهم ،فإذا ُوصفوا
كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ،أي :منفصلين عن معرفة نبوة محمد ـ عليه الصالة
والسالم ـ حتى بعثه هللا.
{ وما أُمروا إِالَّ ليعبدوا هللاَ } أي :ما أُمروا في التوراة واإلنجيل إالّ ألجل أن يعبدوا هللا وحده من
غير شرك وال نفاق ،ولكنهم ح ّرفوا وبدّلوا .وقيل :الالم بمعنى " أن " أي :إالّ بأن يعبدوا هللا
{ مخلصين له الدينَ } أي :جاعلين دينَهم خالصا ً له تعالى ،أو :جاعلين أنفسهم خالصة له في
الدين .قال ابن ُجزي :استدل المالكية بهذا على وجوب النية في الوضوء ،وهو بعيد؛ ألنَّ
اإلخالص هنا يُراد به التوحيد وترك الشرك ،أو ترك الرياء .انظر كالمه ،وسيأتي بعضه في
اإلشارة { .حنفا َء } مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى اإلسالم { ،ويُقيموا الصالةَ ويُؤتوا
الزكاةَ } إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصالة والزكاة ،فاألمر ظاهر ،وإن أريد ما في
شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أمرهم بالدخول في شريعتنا { ،وذلك ِدينُ القيِّمة } أي:
الملة المستقيمةl.
واإلشارة إلى ما ذكر من عبادة هللا وحده وإقام الصالة وإيتاء الزكاة ،وما فيه من معنى البُعد
لإلشعار ب ُعلو رتبته وبُعد منزلتهl.
اإلشارة :لم يكن الذين جحدوا وجو َد أهل الخصوصية lمن العلماء والج ّهال منفكين عن ذلك حتى
كتاب هللا العزيز
َ الحجة القائمة عليهم ،وهو ظهور شيخ التربية خليفة الرسول ،يتلو جاءتهم ُ
على ما ينبغي l,وما تَفَ َّرقوا في التصديق إالّ بعد ظهوره .وما أُمروا إالّ باإلخالص وتطهير
صحبته .وتكلم ابنُ جزي هنا على اإلخالص ،فقال :اعلم أنَّ األعمال سرائرهم ،وهو ال يتأتى إالّ ب ُ
على ثالثة أنواع :مأمورات ومنهيات ومباحات؛ فأ ّما المأمورات فاإلخالص فيها عبارة عن:
خلوص النية لوجه هللا ،بحيث ال يشوبها أُخرى ،فإن كانت كذلك فالعمل خالص ،وإن كانت لغير
وجه هللا من طلب منفعة دنيوية أو مدح أو غير ذلك ،فالعمل رياء محض مردود ،وإن كانت النية
مشتركة؛ ففي ذلك تفصيل l،فيه نظر واحتمال .قلت :وقد تقدّم كالم الغزالي في سورة البقرة عند
قوله:
اح أَن تَ ْبتَ ُغو ْا فَ ْ
ضالً ِّمن َّربِّ ُك ْم } س َعلَ ْي ُك ْم ُجنَ ٌ
{ لَ ْي َ
[البقرة ،]198:وحاصله :أنَّ الحكم للغالب وقوة الباعث .انظر لفظه.
ثم قال ابن جزي :وأ َّما المنهيات فإنْ ت ََركها دون نية خرج عن عهدتها ولم يكن له أجر في
تركها ،وإن تركها بنية lوجه هللا خرج عن عهدتها وأُجر .وأ َّما المباحات ،كألكل والشرب ،والنوم
والجماع وغير ذلك ،فإن فَ َعلَها بغير نية لم يكن له فيها أجر ،وإن فَ َعلَها بنية وجه هللا فله فيها
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
أجر ،فإنَّ ُك َّل مباح يمكن أن يصير lقُربة إذا قصد به وجه هللا ،مثل أن يقصد باألكل القوة على
بالج َماع التعفُّف عن الحرام ،وشبه ذلك .هـ.
العبادة ،ويقصد ِ
ودرجات اإلخالص ثالث :األولى :أن يعبد هللا لطلب غرض دنيوي أو أخروي من غير مالحظة
أحد من الخلق ،والثانية :أن يعبد هللا لطلب اآلخرة فقط ،والثالثة :أن يعبد هللا عبودية ومحبة.
ش ِر ِكينَ فِي نَا ِر َج َهنَّ َم َخالِ ِدينَ فِي َهآ أَ ْولَـائِ َك ُه ْم ش َُّر ا ْلبَ ِريَّ ِlة } *{ إِنَّ الَّ ِذينَ َكفَ ُرو ْا ِمنْ أَه ِْل ا ْل ِكتَا ِ
ب َوا ْل ُم ْ
ت أُ ْولَـائِ َك ُه ْم َخ ْي ُر ا ْلبَ ِريَّ ِlة } * { َجزَآ ُؤ ُه ْم ِعن َد َربِّ ِه ْم َجنَّاتُ * { إِنَّ الَّ ِذينَ آ َمنُو ْا َو َع ِملُو ْا ال َّ
صالِ َحا ِ
ش َي ضو ْا َع ْنهُ َذلِكَ لِ َمنْ َخ ِ ْن ت َْج ِرى ِمنْ ت َْحتِ َها األَ ْن َها ُر َخالِ ِدينَ فِي َهآ أَبَداً ِّر ِ
ض َى هَّللا ُ َع ْن ُه ْم َو َر ُ َعد ٍ
َربَّهُ }
يقول الحق ج ّل جالله { :إِنّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } المتقدمين في أول
السورة { ،في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم ش َُّر البريَّ ِlة } أي :الخليقة؛ ألنّ هللا بَراهم ،أي:
أوجدهم .قُرىء بالهمزة ،وهو األصل ,ويعدمه مع اإلدغام ،وهو األكثر.
{ إِنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خي ُر البريَّ ِة } ال غيرهم { ،جزاؤُهم عند ربهم
ضوا عنه } عدن } إقامة { ،تجري من تحتها األنها ُر خالدين فيها أبداً رضي هللا عنهم َ
ور ُ ٍ جناتُ
حيث بلغوا من األماني قاصيها ,وملكوا من المآرب ناصيتها ،وأتيح لهم ما ال عين رأت وال أُذن
ش َي ربَّه } ،فإنَّ الخشية التي هي ِمن خصائص سمعت ،وال خطر على قلب بشر { .ذلك لِ َمنْ َخ ِ
العلماء به مناطاة بجميع الكماالت العلمية والعملية ،المستتبعة للسعادة الدينية والدنيوية.
والتعرض لعنوان الربوبية l،المعربة عن المالكية والتربية؛ lلإلشعار بعلو الخشية والتحذير من ُّ
االغترار بالتربية l.قاله ابو السعود.
وقوله { :خير البرية } يدل على فضل المؤمنين من البشر على المالئكة .وفيه تفصيل تقدّم ذكره
في النساء .قال القشيري :قوله تعالى { :خير البرية } يدل على أنهم أفضل من المالئكة .هـ .قال
في الحاشية l:أي :في الجملة ،ثم ذكر حكاية الرجل الذي أحياه هللا بعد موته بدعوة عيسى ،فقال:
إنه كان في الجنة ،وأنه م ّر بمأل من المالئكة ،وهم يقولون :إنَّ من بني lآدم لَ َمنْ هو أكرم على
هللا من المالئكة .ثم ذكر عن نوادر األصول :أنَّ المؤمن أكرم على هللا من المالئكة المقربين،
فانظره .وقال بعضهم :المالئكة عقل بال شهوة ،والبهائم شهوة بال عقل ،واآلدمي فيه عقل
وشهوة ،ف َمن غلب عقلُه على شهوته lكان كالمالئكة أو أفضل ،و َمن غلبت شهوتُه lعلى عقله
كان كالبهائم أو أض ّل .هـ.
اإلشارةَ :من كفر بأهل الخصوصية ِمن أهل العلم وغيرهم لهم نار الحجاب والقطيعة ،و َمن آمن
بهم ،ودخل تحت تربيتهم ,له جنات المعارف خالداً فيها ،رضي هللا عنهم حيث ق َّربهم إليه،
ضوا عنه حيث سلّموا األمر إليه ،وخشوا ب ُعده وطرده .قال اإلمام الفخر :اعلم أنَّ العبد ُمر َّكبو َر ُ
ُ
فجنّة الجسد هي الموصوفة في القرآن ،وجنة الروح هي رضا الرب .واألولى من جسد وروحَ ،
مبدأ أمره ،والثانية منتهى أمره.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
وقال الورتجبي :عن الواسطي :الرضا والسخط نعتان قديمان ،يجريان على األبد بما جرى في
سم على المقبولين والمطرودين .فقد بانت شواهد المقبولين بضيائها عليهم،
األزل ،يظهران الو ْ
كما بانت شواهد المطرودين بظلمتها عليهم .ثم قال عن سهل :الخشية سر والخشوع ظاهر .هـ.
فالخشية محلها البواطن ،والخشوع ظهور أثر الخشية في الظاهر .وباهلل التوفيق ،وصلّى هللا
على سيدنا محمد وآله وصحبه.
سانُ َما لَ َها } * ض أَ ْثقَالَ َها } * { َوقَا َل ا ِإلن َ ت األَ ْر ُ ض ِز ْل َزالَ َها } * { َوأَ ْخ َر َج ِت األَ ْر ُ *{ إِ َذا ُز ْل ِزلَ ِ
شتَاتا ً لِّيُ َر ْو ْا أَ ْع َمالَ ُه ْماس أَ ْ
ص ُد ُر النَّ ُِّث أَ ْخبَا َرهَا } * { بِأَنَّ َربَّكَ أَ ْو َحىا لَ َها } * { يَ ْو َمئِ ٍذ يَ ْ { يَ ْو َمئِ ٍذ ت َُحد ُ
} * { فَ َمن يَ ْع َم ْل ِم ْثقَا َل َذ َّر ٍة َخ ْيراً يَ َرهُ } * { َو َمن يَ ْعـ َم ْل ِم ْثقَا َل َذ َّر ٍة َ
ش ّراً يَ َرهُ }
األرض أثقالها } أي :ما في جوفها منُ وذلك عند النفخة الثانية lلقوله تعالى { :وأخرجت
األموات والدفائن ،جمع :ثِقُل ،وهو :متاع البيت ،جعل ما في جوفها من الدفائن أثقاالً لها.
وإظهار األرض في موضع اإلضمار لزيادة التقرير ،أو :لإليماء إلى تبدُّل األرض غير األرض.
{ وقال اإلنسانُ } أي :كل فرد ِمن أفراده ،لِما يدهمهم من الطامة التامة ،ويبهرهم من الداهية
العامة { :ما لها } ُزلزلت هذه الزلزلة الشديدة ،وأخرجت ما فيها من األثقال ،استعظاما ً لِما
سيرت الجبال وفي الجو فصارت هبا ًء .وهذا قول عام يقوله شهدوه من األمر الهائل ،وقد ُ
ًّ
التعجب. المؤمن بطريق االستعظام ،والكافر بطريق
{ يومئ ٍذ ت َُحد ُ
ِّث أخبا َرها } يوم إذا زلزلت األرض ت َُحدِّث الناس أخبارها بما وقع على ظهرها،
قيل :يُنطقها هللاُ وتُحدِّث بما وقع عليها خي ٍر وشرُ ،روي عنه صلى هللا عليه وسلم " :أنها تشهد
أوحى لها } أي :بسبب أنَّ ربك أوحى لها بأن
على كل أح ٍد بما عمل على ظهرها " { بأنّ ربك ْ
ت َُحدِّث ,أي :أَ َم َرها بذلك .والحديث يستعمل lبالباء وبدونها ،يقال :حدثت كذا وبكذا ،و " أوحى "
يتعدى بالالم وبـ " إلى ".
[النبأ ]18:وقيل :يصدرون غن الموقف أشتاتاً ،ذات اليمين إلى الجنة ،وذات الشمال إلى النار،
{ لِيُ َروا أعمالَهم } أي :جزاء أعمالهم ,خيراً أو شراً.
{ ف َمن يعمل مثقا َل ذر ٍة خيراً يَ َرهُ } ،والذرة :النملة الصغيرة .وقيل :ما يرى في شعاع الشمس
من البهاء .و " خيراً " :تمييز { ،ومن يعمل مثقا َل ذر ٍة شراً يَ َرهُ } قيل :هذا في الكافر ،واألُولى
في المؤمنين .وقال ابن عباس رضي هللا عنه :ليس مؤمن وال كافرَ ،ع ِم َل خيراً وال ش ًّرا في
الدنيا إالّ يراه في اآلخرة ،فأ ّما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته l،فيغفر هللاُ سيئاته lويُثيبهl
بحسناته ،وأ ّما الكافر فيَ ُر ُّد هللاُ حسناته ويُعذبه بسيئاته .وقال محمد بن كعب :الكافر يرى ثوابه
في الدنيا ،في أهله وماله وولده ،حتى يخرج من الدنيا وليس له عند هللا خير ،والمؤمن يرى
عقوبته lفي الدنيا ،في نفسه وأهله وماله ،حتى يخرج من الدنيا وليس له عند هللا شر.
سى هللا الحفظةَ ذنوبه ،وأنسى ذلك جوارحه ومعالمه وفي الحديث " :إذا تاب العب ُد عن ذنبه lأَ ْن َ
من األرض ،حتى يلقى هللا وليس عليه شاهد بذنب ".
قال ابن ُجزي :هو على عمومه في الكافر ،وأ ّما المؤمنون فال يُ ْج َزون بذنوبهم إالَّ بستة شروط؛
أن تكون ذنوبهم ِكبار ،وأن يموتوا قبل التوبة منها ،وأالَّ يكون لهم حسنات أرجح في الميزان
بعمل ،كأهل بدر ،وإالّ يعفو هللا عنهم،
ٍ منها ,وأالّ يُشفع فيهم ،وأالّ يكونوا ممن استحق المغفرة
عذبه ،وإن شاء غفر له .هـ. فإنّ المؤمن العاصي في مشيئة lهللا ،إن شاء َّ
وحركت بالواردات واألحوال ,وتحققت أرض النفوس زلزالها الالئق بهاُ ،
ُ اإلشارة :إذا ُزلزلت
الغيبة عنها بالكلية ،أشرقت شمس العرفان ،فغطّت وجو َد األكوان ،كما قال الشيخ أبو العباس
نشداً:
رضي هللا عنه ُم ِ
ص ْبحا ً } * { فَأَثَ ْرنَ بِ ِه نَ ْقعا ً } * ت ُ ت قَدْحا ً } * { فَا ْل ُم ِغي َرا ِ ض ْبحا ً } * { فَال ُمو ِريَا ِ ت َ *{ َوا ْل َعا ِديَا ِ
ش ِهي ٌد } * { َوإِنَّهُ لِ ُح ِّب سانَ لِ َربِّ ِه لَ َكنُو ٌد } * { َوإِنَّهُ َعلَىا َذلِ َك لَ َس ْطنَ بِ ِه َج ْمعا ً } * { إِنَّ ا ِإلن َ { فَ َو َ
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
الصدُو ِر } * { إِنَّ َربَّ ُهم ش ِدي ٌد } * { أَفَالَ يَ ْعلَ ُم إِ َذا بُ ْعثِ َر َما ِفي ا ْلقُبُو ِر } * { َو ُح ِّ
ص َل َما فِي ُّ ا ْل َخ ْي ِر لَ َ
بِ ِه ْم يَ ْو َمئِ ٍذ لَّ َخبِي ٌر }
ض ْبحا ً } ،أقسم تعالى بخيل الغزاة تعدو فتضبَح ،والضبح: ت َ يقول الحق ج ّل جالله { :والعاديا ِ
أح .وانتصاب " ضبحا ً " على أحْ ،
صوت أنفاسها إذا َعدَون ،وحكى صوتها ابنُ عباس ،فقالْ :
المصدر ،أي :يضبحن ضبحاً ،أو :بالعاديات ،فإنَّ ال َعدْو يستلزم الضبح ،كأنه قيل :والضابحات
ضبحاً ،أو :حال ،أي :ضابحات { .فال ُمو ِريات قَدْحا ً } ,اإليراء :إخراج النار ,والقدح :الصكّ,
النار من حوافرها عند ال َعدْو .وانتصاب " قدحا ً " كانتصاب َ فأورى ،أي :فالتي تُوري يقال :قدح ْ
ص ْبحا ً } أي :وقت الصبح ،وهو المعتاد في ت } التي تغير على العد ّوُ { ، ضبحاً { .فال ُمغيرا ِ
الغارات ،يعدون ليالً لئال يشعر بهم العدو ،ويهجمون عليهم صباحا ً ليروا ما يأتون وما يذرون.
وإسناد اإلغارة ـ التي هي متابعة العدو ،والنهب والقتل واألسر ـ إلى الخيل ،وهي حال الراكب
عليها ،إيذانا ً بأنها العمدة في إغارتهم.
وقوله تعالى { :فأثَ ْرنَ به نَ ْقعا ً } أي :غباراً ،عطف على الفعل الذي د ّل عليه اسم الفاعل ،إذا
صبحl المعنى :والالتي عدون فأَ ْو َرين فأغرن فأثرن ،أي :هيّجن به غباراً ،وتخصيص إثارته بال ُ
ألنه ال تظهر إثارته lبالليل ،كما أنَّ اإليراء الذي ال يظهر بالنهار واقع بالليل .والحاصل :أنّ ال َعدْو
س ْطنَ به } أي: كان بالليل وبه يظهر أثر القدح من الحوافر ،وال يظهر النقع إالّ في الصبح { .فَو َ
فوسطن بذلك الوقت { َج ْمعا ً } من جموع األعداء ,والفاء لترتيب ما بعد كل على ما قبله ،فإنَّ
توسط الجمع مترتب على اإلثارة المترتب على اإلغارة ،المترتبة lعلى اإليراء ،والمترتب على
العدْو.
واآلية إ ّما في جنس اإلنسان إالَّ َمن عصمه هللا ،وهو األظهر ،أو في ُم َعيَّن ،كالوليد أو غيره.
قيل :إنّ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بعث إلى أُناس من بني كنانة سرية l،واستعمل عليها
ي ،وكان أحد النقباء ،فأبطأ خبره عنه صلى هللا عليه وسلم شهراً ،فقال ال ُمنذر بن عمرو األ ْنصار ّ
المنافقون :إنهم قُتلوا ،فنزلت السورة بسالمتها ،بشارةً له صلى هللا عليه وسلم ونعيا ً على
المرجفين وهذا يقتضي أن السورة مدنية l،وهو خالف قول الجمهور ،كما تقدّم.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ش ِهي ٌد } يشهد على نفسه lبالكنود ،لظهور وإِنه } أي :اإلنسان { على ذلك } أي :على كنوده { لَ َ
ي ُمطيق ُمجد في طلبه ،متهالك ب الخير } أي :المال { لَ َ
ش ِدي ٌد } أي :قو ٌّ أثره عليه { ،وإِنه لِ ُح ّ
سك ،ولعل عليه ،وقيل :لشديد :لبخيل ،أي :وإنه ألجل حب المال وثقل إنفاقه عليه لبَ ِخيل ُم ْم ِ
وصفه بهذا الوصف اللئيم بعد وصفه بالكنود لإليماء إلى أنَّ ِمن جملة األمور الداعية المنافقين
إلى النفاق حب المال؛ ألنهم بما يُظهرون من اإليمان يعصمون أموالهم ،ويحوزون من الغنائم
نصيباً.
ثم هدّد ال َكنود ،فقال { :أفال يعل ٌم إِذا بُ ْعثِر ما في القبور } أي :بُعث فيها ،و " ما " بمعنى " من
ص َل ما في الصدور }؛ ُميِّز ما فيها من الخير والشر ،أي :أفال يعلم مصيره ،وأنَّ هللا وح ِّ"ُ {،
ُمطلع عليه ،في سيرته وسريرته l،فيُجازيه على تفريطه في جنبه وطاعته واتباع هواه
وشهواته ،فآثر العاجلةَ على اآلخرة ،وحظوظَه ,على حقوق ربه والقيام بعبوديته { .إِنَّ ربهم
بهم يومئ ٍذ لَخبير } أي :عالم بظواهر ما ع ِملوا وباطنهِ ،علما ً موجبا ً للجزاء ،متصالً به ،كما
يُنبىء عنه تقييده بذلك اليوم ،إالَّ فعلمه سبحانه مطلق محيط بما كان وما سيكون .وقوله " :بهم
" و " يومئذ " يتعلقان بـ " بخبير " قُدما لرعاية الفواصل ,والالم غير قادحة ،وذلك لما يغتفر
في المجرورات ،وقرأ ابن الس ّماك " :أن ربهم بهم يومئذ خبير ".
اإلشارة :أقسم تعالى بأرواح المتوجهين ،التي تعدو على الخواطر الردية ،فتمحوها بقهرية
المراقبة ،وتقدح من زند القلب نور الفكرة والنظرة ،وت ُِغير على أعدائها من الدنيا والهوى
والنفس والشيطان ،فتقهرهم بسيوف المخالفة عند سطوع المشاهدة ،وتُثير غبار المساوىء
والذنوب بريح lالهداية والتوبة ،فيذهب في الهواء ،وتوسط جمعا ً من العلوم واألسرار ،فتحوزهم
سرها ،غنيمةً وذخيرةً ،وجوابه :إنّ اإلنسان لربه لكنود ،مع أنه مغروق في في خزانة قلبها و ِ
النعم ،وهو ال يشعر وال يشكر ،لغفلته وعدم تف ُّكره ،وهذا اإلنسان هو الغافل الجاهل.
قال الورتجبي :اإلنسانُ ال يعرف ما أعطاه هللا من نعمه بالحقيقة ،وإنه لكفور إذ ال يعرف ُمنعمه،
ثم قال عن الواسطي :الكنود يع ّد ما ِمنه من الطاعات ،وينسى ما ّمن هللا به عليه من الكرامات.
هـ .وإنه على ذلك لشهيد؛ يشهد كفره وعصيانه وبُخله بحسب جبلته ،وإنه لِ ُحب الخير لشديد,
يأثره على معرفة مواله ،فخسر خسرانا ً مبيناً ،أفال يعلم ما يح ّل به إذا بُعثر ما في القبور ،فتظهر
صل ما في الصدور من المعارف وأنواع الكمال ،إنّ ربهم بهم يومئذ وح ِّ
األبطال من األرذالُ ،
ً
لخبير ،فيُجازي أه َل اإلحسان وأهل الخذالنُ ،كالّ بما يليق به .وباهلل التوفيق وصلّى هللا على
سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
*{ ا ْلقَا ِر َعةُ } * { َما ا ْلقَا ِر َعةُ } * { َو َمآ أَد َْراكَ َما ا ْلقَا ِر َعةُ } * { يَ ْو َم يَ ُكونُ النَّ ُ
اس َكا ْلفَ َرا ِ
ش
ش } * { فَأ َ َّما َمن ثَقُلَتْ َم َوا ِزينُهُ } * { فَ ُه َو ِفي ث } * { َوتَ ُكونُ ا ْل ِجبَا ُل َكا ْل ِع ْه ِن ا ْل َمنفُو ِ ا ْل َم ْبثُو ِ
ضيَ ٍlة } * { َوأَ َّما َمنْ َخفَّتْ َم َوا ِزينُهُ { * } lفَأ ُ ُّمهُ هَا ِويَةٌ } * { َو َمآ أَ ْد َراكَ َما ِهيَ ْه } * ش ٍlة َّرا ِ
ِعي َ
{ نَا ٌر َحا ِميَةٌ} l
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
يقول الحق ج ّل جالله { :القارعةُ ما القارعةُ } القرع هو الضرب باعتماد ،بحيث يحصل منهl
صوت شديد ,وهي القيامة التي مبدؤها النفخة األولى ،ومنتهاها فصل القضاء بين الخالئق،
سميت بها ألنها تقرع القلوب واألسماع بفنون األفزاع واألهوال .وهي مبتدأ ،خبرها :قوله( :ما ُ
القارعةُ) على أنَّ " ما " استفهامية lخبر ,والقارعة مبتدأ ،ال بالعكس؛ لما م ّر من أنَّ محط
اإلفادة هو الخبر ال المبتدأ .وال ريب في أنَّ مدار إفادة الهول والفخامة هاهنا هو " ما القارعة "
ي شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة ،وقد وقع الظاهر موضع الضمير تأكيداً للتهويل. أ ّ
{ وما أدراك ما القارعةُ } هو تأكيد لهولها وفضاعتها ،ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق،
أي شيء أعلمك ما شأن القارعة؟ ومن أين علمت ذلك؟ و " أدري " يتعدى إلى مفعولين, أيُّ :
علقت عن الثاني باالستفهام.
ث } أي :هي يوم ،على أنَّ " يوم " مبني الناس كالفراش المبثو ِ
ُ ثم بيّن شأنها فقال { :يو َم يكونُ
إلضافته إلى الفعل ,وإن كان مضارعا ً على رأي الكوفيين ،والمختار أنه منصوب باذكر ،كأنه قيل
بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه lعليه الصالة والسالم إلى معرفتها :اذكر يوم يكون الناس
كالفراش المبثوث في الكثرة واالنتشار والضعف والذلّة واالضطراب والتطاير إلى الداعي كتطاير
صغار الجراد ،ويسمى :غوغاء الجراد ،وبهذا يوافق قوله تعالى: الفراش إلى النار .والفراشِ :
{ َكأَنَّ ُه ْم َج َرا ٌد ُّمنت َِش ٌlر }
[القمر ]7:وقال أبو عبيدة :الفراش :طير ال بعوض وال ذباب ،والمبثوث l:المتفرق .وقال
الزجاج :الفراش ما تراه كصغار البق يتهافت في النار .هـ .والمشهور أنه الطير الذ يتساقط في
الناس عند البعث بالفراش لموج
َ النار ،وال يزال يقتحم على المصباح ،قال الكواشي :شبّه
بعضهم في بعض ،وضعفهم وكثرتهم ،وركوب بعضهم بعضاً؛ لشدة ذلك اليوم ،كقوله:
{ َكأَنَّ ُه ْم َج َرا ٌد ُّمنتِ ِ
ش ٌlر }
لتفرشه وانتشاره وخفته .هـ .واختار بعضهم أن يكون هذا التشبيهl [القمر ]7:وسمي فراشا ً ُّ
للكفار؛ ألنهم هم الذين يتهافتون في النار تهافت الفراش المنتشر.
تفرق أجزائهاش } كالصوف الملون باأللوان المختلفة في ُّ كالع ْه ِن المنفو ِ { وتكونُ الجبا ُل ِ
وتطايرها في الجو ،حسبما نطق به قوله تعالى:
سبُ َها َجا ِم َدةً} ... { َوتَ َرى ا ْل ِجبَا َل ت َْح َ
[النمل ]88:اآلية ،وكال األمرين من آثار القارعة بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق ،يُبدِّل هللا
األرض غير األرض ,بتغيير هيئاتها وتسير الجبال سيراً عن مقارها على ما ذكر من الهيئةl َ
الهائلة ليشاهدها أهل المحشر ،وهي وإن اندكت وتصدّعت عند النفخة األولى ،لكن تسيير
وتسويتها يكونان بعد النفخة الثانية ،كما ينطق به قوله تعالى:
سفا ً (} )105 سأَلُونَكَ ع َِن ا ْل ِجبَا ِل فَقُ ْل يَ ِ
نسفُ َها َربِّي نَ ْ { َويَ ْ
[طه ]105:اآلية ،ثم قال:
{ يَ ْو َمئِ ٍذ يَتَّبِ ُعونَ الد ِ
َّاع َي }
[طه ]108:وقوله تعالى:
ض}ض َغ ْي َر األَ ْر ِ { يَ ْو َم تُبَ َّد ُل األَ ْر ُ
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
[إبراهيم ،]48:اآلية ،فإنَّ اتباع الداعي ,وهو إسرافيل ،وبروز الخلق هلل تعالى ال يكون إالَّ بعد
النفخة الثانية.
غريب مع أنَّ قوله تعالى:
َ قاله أبو السعود .قلت :د ّك األرض كلها مع بقاء جبالها
ت األَ ْر ُ
ض َوا ْل ِجبَا ُل} ... { َو ُح ِملَ ِ
[الحاقة ]14:الخ صريح في دك الجبال وتسويتها مع دك األرض قبل البعث ،ويمكن الجمع بأن
بعضها تدك مع دك األرض ،وهو ما كان في طريق ممر الناس للمحشر ,وبعضها تبقى ليشاهدها
أه ُل المحشر ،وهو ما كان جانباً ،وهللا تعالى أعلم بما سيفعل ,و َ
ستَ ِرد وترى.
ول ّما ذكر ما يَ ُع ّم الناس َذ َكر ما يخص كل واحد ،فقال { :فأ َّما َمن ثَقُلَتْ موازينه } باتباعه الحق،
وهو جمع " موزون " ،وهو العمل الذي له وزن وخطر عند هللا ,أو جمع ميزان ،قال ابن
عباس رضي هللا عنه :هو ميزان له لسان وكفّتان ،تُوزن فيه األعمال ،قالوا :تُوضع فيه
صحائف األعمال ،فينظر إليه الخالئق ،إظهاراً للمعدلة ،وقطعا ً للمعذرة .قال أنس " :إنَّ ملكا ً
ي ُو ّكل يوم القيامة بميزان ابن آدم ،يُجاء به حتى يوقف بين كفي الميزان ،فيُوزن عمله ،فإن ثقلت
س ِع َد فالن سعادة ال يشقى بعدها أبداً، س ِمع lجمي َع الخالئق باسم الرجل :إالَ َ
حسناته نادى بصوت يُ ْ
شقِ َي فالن شقاوة ال يسعد بعدها أبداً " وقيل :الوزن عبارة عن وإن خفّت موازينه lنادىَ :
سوي ،والحكم ال َعدْل ،وبه قال مجاهد واألعمش والضحاك ،واختاره كثير من القضاء ال َّ
المتأخرين ،قالوا :الميزان ال يتوصل به إلى معرفة مقادير األجسام ،فكيف يُمكن أن يعرف
مقادير األعمال .هـ .والمشهور lأنه محسوس.
وقد ُروي عن ابن عباس أنه يُؤتى باألعمال الصالحة على صورة حسنة ،وباألعمال السيئة على
صورة قبيحة ,فتُوضع في الميزان ,ف َمن ترجحت موازين حسناته { فهو في عيش ٍة راضي ٍة } أي:
ذات رضاً ،أو مرضية { ،و َمن َخفَّتْ موازينُه } lباتباعه الباطل ،فلم يكون له حسنات يُعتد بها،
سميت بها لغاية عمقها, أوترجحت سيئاته على حسناته { ،فأ ُ ُّمهُ هاويةٌ } ،هي من أسماء النارُ ،
وبُعد مداهاُ ،روي أنَّ أهل النار يهووا فيها سبعين خريفاً .وعبَّر عن المأوى باألم ألنَّ أهلها
يأوون إليها كما يأوي الولد إلى أمه ،وعن قتادة وغيره :فأم رأسه هاوية ،ألنه يُطرح فيها
منكوساً .واألول هو الموافق لقوله { :وما أدراك َما ِهيَ ْه } فإنه تقرير lلها بعد إبهامها ،ولإلشعار
بخروجها عن الحدود المعهودة للتفخيم والتهويل l،وهي ضمير lالهاوية ،والهاء للسكت ،ثبت
وصالً ووقفاً ،لثبوتها في ال ُمصحف ،فينبغي الوقف ليوافق ثبوتها ،ثم ف َّ
سرها فقال { :نا ٌر
حامية } بلغت النهاية في الحرارة ،قيل :وصفها بحامية lتنبيها ً على أنَّ نار الدنيا بالنسبة إليها
ليست بحامية؛ فإنَّ نار الدنيا جزء من سبعين جزءاً منها ،كما في الحديث.
اإلشارة :القارعة هي سطوات تجلِّي الذات عند االستشراف lعلى مقام الفناء ،ألنها تقرع القلوب
بالحيرة والدهش في نور الكبرياء ،ثم قال { :يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } أو كالهباء
في الهواء ،إن فتشته lلم تجده شيئا ً ووجد هللا عنده ،يعني :إنَّ الخلق يصغر من جهة حسهم في
نظر العارف ،فلم يبعد في قلبه منهم هيبة وال خوف.
وتكون الجبال ،جبال العقل ،كالعهن المنفوش ،أي :ال تثبت عند سطوع نور التجلِّي؛ ألنّ نور
العقل ضعيف كالقمر ،عند طلوع الشمس ،فأ ّما َمن ثقُلت موازينه بأن كان حقا ً محضاَ؛ إذ ال يثقل
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
في الميزان إالَّ الحق ،والحق ال يُصادم باطالً إالَّ دمغه ،فهو في عيشة راضية l،لكونه دخل جنة
المعارف ،وهي الحياة الطيبة ،وأ ّما َمن خفّت موازينه باتباع الهوى فأ ُ ُّمه هاوية ،نار القطيعة
ينكس فيها ويُضم إليها ،يحترق فيها بالشكوك واألوهام والخواطر ،وحر التدبير واالختيار.
و ُروي في بعض األثر :إنما ثقلت موازين َمن ثقلت موازينُهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله
ق لميزان ال يوضع فيه إالَّ الحق أن يَثقل ،وإنما خفَّتْ موازينُ َمن خفت موازينُهم وح َّ
في الدنياُ ,
وحق لميزان ال يُوضع فيه إالَّ الباطل أن يخف .هـ .وصلّى هللا باتباعهم الباط ِل وخفته في الدنياُ ،
على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
يقول الحق ج ّل جالله { :ألهاكم التكاثُر } أي :شغلكم التغالب في الكثرة والتفاخر بهاُ .روي أن
بني عبد مناف وبني lسهم تفاخروا ،وتعادُّوا بالسادة واألشراف ،فقال ُك ُّل فريق منهم :نحن أكثر
منكم سيداً ،وأعز عزيزاً ،وأعظم نفراً ،فكثرهم بنو عبد مناف ،فقالت بنو سهم :إنَّ البغي في
الجاهلية أهلكنا ،فعادّونا باألحياء واألموات ،ففعلوا ،وقالوا :قبر فالن ،وهذا قبر فالن ،فكثرهم
بنو سهم .والمعنى :أنكم تكاثرتم باألحياء { حتى ُزرتم المقابر } أي :إذا استوعبتم عددكم صرتم
إلى األموات ،فعبّر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور ته ُّكما ً بهم .وقيل :كانوا يزورون
القبور ،ويقولون هذا قبر فالن ،يفتخرون بذلك ،وقيل :المعنى :ألهاكم التكاثر باألموال واألوالد،
حتى متُّم وقُبرتم مضيعين أعماركم في طلب الدنيا ،معرضين عما يمهمكم من السعي لآلخرة،
فيكون زيارة القبور عبارة عن الموت.
الشخير :قرأ النب ًّي صلى هللا عليه وسلم { ألهاكم التكاثر } فقال " :يقول ابن آدم: ِّ قال عبد هللا بن
صدَّق فأبقى " وما سوى ما لي ،وليس له من ماله إال ثالث ،ما أكل فأفنى ،أو لبس فأبلى ،أو تَ َ
ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس .والالم في (التكاثر) للعهد الذهني ،وهو التكاثر بما يشغل عن هللا،
فال يشمل التكاثر في العلوم والمعارف والطاعات واألخالق ،فإنَّ ذلك مطلوب؛ ألنَّ بذلك تُنال
السعادة في الدارين ،وقرينة lذلك قوله تعالى { :ألهاكم } فإنه خاص بما يُلهي عن ذكر هللا
واالستعداد لآلخرة ،حتى أنه لو تناول الدنيا على ذكر هللا لم تُذ ّم ,وليست بلهو حينئذ ،ولذلك
جاء " :الدنيا ملعونةٌ ملعون ما فيها إالّ ذكر هللا وما وااله " قال اإلما ُم :ولم يقل :ألهاكم التكاثر
عن كذا ،بل تركه مطلقا ً؛ ليدخل تحته جميع ما يحتمله اللفظ ،فهو أبلغ؛ ألنه يذهب فيه الوهم ُك َّل
مذهب ،أي :ألها ُكم عن ذكر هللا ،وعن التف ًّكر في أمور القارعة ،وعن االستعداد لها ،وغير ذلك.
هـ.
كنت نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها ،وال تقولوا ه ُْجراً " فكان نهيه صلى هللا عليه وسلم في
معنى اآلية ،ثم أباح بَ ْع ُد لالتعاظ ،ال لمعنى المباهاة واالفتخار ،كما يصنع الناس في مالزمتها
وتعليتها بالحجارة والرخام ،وتلوينها شرفا ً وبنيان النواويس عليها .هـ.
وقال ابن عرفة :زيارة المقابر محدودة ،أي :كيوم في شهر ،مثالً ،وكان بعضهم يقول :إذا رأيتم
الطالب في ابتداء أمره يستكثر من زيارة المقابر ،ومن مطالعة رسالة القشيري ،فاعلم أنه ال
يفلح؛ الشتغاله عن طلب العلم بما ال يُجدي شيئاً.
هـ .أي :ال يفوز بعلم الظاهر؛ ألنَّ علم الباطن يُفتِّر عن الظاهر ،فينبغي ل َمن كان فيه أهلية للعلم
صحبة lأهله ،وإالَّ فمطالعة الكتب
أن يفرده ،حتى يحرز منه ما قسم له ،ثم يشتغل بعلم الباطن ،ب ُ
بال شيخ ال توصل إليه ،وإنما ينال بمحبة القوم فقط ،وفيها مقنع ل َمن ضعفت همته.
ثم زجر عن التكاثر فقالَ { :كالَّ } أي :ليس األمر على ما أنتم عليه ،أو كما يتوهمه lهؤالء ،فهو
َردْع وتنيبه lعلى أنَّ العاقل ينبغي أالَّ يكون معظم همه مقصوراً على الدنيا ،فإنَّ عاقبة ذلك
وخيمة { ،سوف تعلمون } سوء عاقبة ما أنتم عليه إذا عاينتم عاقبته { ،ثم ّكالَّ سوف تعلمون }
،تكرير للتأكيد ،و(ثم) داللة على أنَّ الثاني أبلغ من األول ،واألول عند الموت أو في القبر،
والثاني عند النشور.
{ َكالَّ لو تعلمون ِعل َم اليقين } أي :لو تعلمون ما بين أيديكم علم األمر اليقين ،كعلمكم ما
تستيقنونه lلفعلتم من الطاعات ما ال يوصف ،وال يكتنه كنهة ،فحذف الجواب للتهويل .قال الفخر:
اآلية تهديد عظيم للعلماء ،فإنها دلّت على أنه لو حصل اليقين بما في التكاثر من اآلفة لتركوا
التكاثر والتفاخر ،وهذا يقتضي lأنَّ َمن ال يترك التكاثر والتفاخر ال يكون اليقين حاصالً له ،فالويل
للعالم الذي ال يكون عامالً ،ثم الويل له .هـ { .لَتَ َر ُونَّ الجحي َم } :جواب قسم محذوف ،أ ّكد به
الوعيد وشدّد به التهديد { ،ثم لَت ََر ُونَّها } :تكرير للتأكيد ،أو :األولى إذا رأتهم من مكان بعيد،
والثانية إذا وردوها ،أو األولى بالقلب ،والثانية بالعين ،ولذلك قال { :عَينَ اليقين } أي :الرؤية
صى مراتب اليقين { .ثم لتُسألُن يومئ ٍlذ عن التي هي نفس اليقين وحاصلته ،فإنَّ علم المشاهدة أ ْق َ
النعيم } أي :عن النعيم الذي ألهاكم االلتذاذ به عن الدين وتكاليفه ،فإنَّ الخطاب مخصوص ب َمن
عكفت همته على استيفاء اللذات ،ولم يعش إالَّ ليأكل الطَيّب ،ويلبس الطَيّب ،وقطع أوقاته في
اللهو والطرب ،ال يعبأ بالعلم والعمل ،وال يحمل نفسه lعلى مشاق الطاعة ،فأ ّما َمن تمتّع بنعمةl
هللا تعالى ،وتق ّوى بها على طاعته ،قائما ً بالشكر ،فهو من ذلك بمعز ٍل بعيد .وفي الحديث" :
يقول هللا تبارك وتعالى :ثالث من النعم ال اسأل عبدي عن شكرهن ،وأسأله عما سواه :بيت
عورته من اللباس " فالخالئق مسؤولون يوم َ يكنُّه ,وما يُقيم به صلبه من الطعام ،وما يُواري به
القيامة عما أنعم عليهم به في الدنيا .وهللا تعالى أعلم بحالهم ،فالكافر يُسأل تبكيتا ً وتوبيخا ً على
شركه ب َمن أنعم عليه ،والمؤمن يُسأل عن شكر ما أنعم عليه .هـ. ِ
" هذا من النعيم الذي تُسألون عنه " في حديث أبي الهيثم .وهللا تعالى أعلم.
ص ْو ْا
ت َوتَ َوا َ س ٍر } * { إِالَّ الَّ ِذينَ آ َمنُو ْا َو َع ِملُو ْا ال َّ
صالِ َحا ِ سانَ لَفِى ُخ ْ
ص ِر } * { إِنَّ ا ِإلن َ *{ َوا ْل َع ْ
ص ْو ْا بِال َّ
ص ْب ِر } ق َوتَ َوا َ بِا ْل َح ِّ
ص ِر } أقسم تعالى بصالة العصر لفضلها الباهر ،إذ قيلِ :هي الصالة يقول الحق ج ّل جالله { :وال َع ْ
ضحى ،أو بعصر النبوة، الوسطى ،أو :بالعش ِّي الذي هو مابين الزوال والغروب ،كما أقسم بال ُ
لظهور فضله على سائر األعصار ،أو بالدهر مطلقاً؛ النطوائه على تعاجيب األمور النافعة
س ٍر }؛ لفي خسران في متاجرهم ومساعيهم ،وصرفl اإلنسانَ لفي ُخ ْوالضارة ،وجوابه { :إِنَّ ِ
أعمارهم في حظوظهم وأمانيهم { .إالَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فإنهم اشتروا اآلخرة
بالدنيا ،فربحوا وسعدوا ،أو :فإنهم في تجار ٍة لن تبور ،حيث باعوا الفاني الخسيس ،وآثروا
الباقي النفيس ،واستبدلوا الباقيات الصالحات بالعاديات الرائحات ,فيا لها من صفقة ما أربحها!.
اإلشارة :والعصر ،أي :عصر الذاكرين ،إنَّ اإلنسان لفي ُخسر ،حيث احتجب عن ربه lبنفسه
وبرؤيته وجوده ،إالّ الذين آمنوا إيمان الخصوص ،وعملوا عمل الخصوص ،وهو خرق العوائد
واكتساب الفوائد ،حتى وصلوا إلى كشف الحجاب ،فلم يروا مع هللا غيره ،غابوا عن أنفسهم،
وعن وجودهم ووجود غيرهم ,في شهود محبوبهم ,فل ّما تكملوا اشتغلوا بتكميل غيرهم ،كما قال
وتواص ْوا بالحق } أي :بفعل الحق ،وهو ما يثقل على النفس ,حتى ال يثقل عليها شيء،
َ تعالى{ :
ص ْوا على مشاق السير ،ثم على عكوف الهم في حضرة الحق .وباهلل أو باإلقبال على الحق ،وتوا َ
التوفيق ،وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله وصحبه ،وسلّم.
ب أَنَّ َمالَهُ أَ ْخلَ َدهُ } * { َكالَّ *{ و ْي ٌل لِّ ُك ِّل ُه َمزَ ٍة لُّ َمزَ ٍة } * { الَّ ِذى َج َم َع َماالً َو َع َّد َدهُ } * { يَ ْح َ
س ُ
لَيُنبَ َذنَّ فِي ا ْل ُحطَ َم ِة } * { َو َمآ أَد َْراكَ َما ا ْل ُحطَ َمةُ } * { نَا ُر هَّللا ِ ا ْل ُموقَ َدةُ } * { الَّتِي تَطَّلِ ُع َعلَى
األَ ْفئِ َد ِة } * { إِنَّ َها َعلَ ْي ِهم ُّم ْؤ َ
ص َدةٌ } * { فِي َع َم ٍد ُّم َم َّد َد ِة }
يقول الحق ج ّل جالله { :وي ٌل لكل ُه َم َز ٍة لُمز ٍة } " ،ويل " :مبتدأ ،و " لكل " :خبره،
سوغ :الدعاء عليهم بالهالك ،أو بشدة الشر ،وال َه ْمز :الكسر ،واللمز :الطعن ،أي :ويل وال ُم ِّ
للذي يحط الناس ويُص ِّغرهم ،ويشتغل بالطعن فيهم .قال ابن جزي :هو على الجملة :الذي يعيب
أعراضهم ،واشتقاقه من الهمز واللمز ،وصيغة ف ْعلَة للمبالغة ،واختلف في الفرق َ الناس ويأكل
َ
بين الكلمتين ،فقيل :الهمز في الحضور ،واللمز في الغيبة ،وقيل العكس ،وقيل :الهمز باليد،
واللمز باللسان .وقيل :هما سواء .ونزلت السورة في األخنس بن شريق ،ألنه كان كثير الوقيعة
في الناس ،وقيل :في آميّة بن خلف ،وقيل :في الوليد بن المغيرة .ولفظها مع ذلك يعم كل َمن
اتصف بهذه الصفة .هـ .وبناء " فُ َعلة " يدل أن ذلك عادة منه lمستمرة.
وقوله { :الذي َج َم َع ماالً } :بدل من " كل " ،أو :نصب على الذم ،وقرأ حمزة والشامي
والكسائي " َج َّم َع " بالتشديد للتكثير ،وهو الموافق لقوله { :عدَّده } أي :جعله ُع َّدةً لحوادث
ب أنَّ مالَه أخلده } أي :يتركه lخالداً في الدنيا ال يموت ،وهو تعريض بالعمل س ُالدهر { ،يَ ْح َ
الصالح ,فإنه أخلد صاحبه في النعيم المقيم ،فأ َّما المال فما أخلد أحداً ،إنما يخلد العلم والعمل،
ومنه قول علِ ّي ك ّرم هللا وجه( :مات ُخ ّزان المال وهم أحياء ,والعلماء باقون ما بقي الدهر)
فالحسبان إ ّما حسبان الخلود في الدنيا أو في اآلخرة ،كما قال القائل:
{ َولَئِن ُّر ِددتُّ إِلَىا َربِّي} ...
[الكهف ]36:اآلية.
سه l،فكيف إذا طلعت عليه نار جهنم ،واستولت عليه؟ من فؤاده ,وال أشد تألُّما ً منه بأدنى أذى يم ّ
خص األفئدة ألنها مواطن الكفر والعقائد الزائغة ،ومعنى اطالع النار عليها :أنها تشتملl ّ وقيل:
عليها وتعمها.
اإلشارة :ويل ل َمن اشتغل بعيب الناس عن عيوب نفسه ،قال الورتجبي l:ويل الحجاب ل َمن ال يرى
األشياء بعين المقادير السابقة ،حتى يشتغل بالوقيعة في الخلق بالحسد ،وهو مقبل على الدنيا
بالجمع والمنع.
ّ
وقوله تعالى { :الذي َج َم َع ماالً وع َّددَه } ذ ٌّم ل َمن يجمع المال ويُعدده ،كائنا ً َمن كان ،والعجب من
ص لحاء زماننا ،يجمعون القناطير المقنطرة ،ويترامون على المقام الكبير من الخصوصية l،وما ُ
هذا إالَّ غلط فاحش ,فأين يوجد القلب مع نجاسة الدنيا؟! وكيف يط ُهر وتُشرق فيه األنوار،
وصور األكوان منطبعة في مرآته؟! وقد قال بعض العارفين :عبادة األغنياء كالصالة على
المزابل ,وعبادة الفقراء في مساجد الحضرة .هـ { .يحسب أنَّ ماله أخلدهُ } ،أي :يبقيه باهلل،
ق تعالى الجاه َل باهلل بأنَّ ماله يُصله إلى الحق ،ال وهللا ،ال يصل صفَ الح ُّ كال .قال الورتجبيَ :و َ
إلى الحق إالّ بالحق .وقال أبو بكر بن طاهر :يظن أنَّ مالَه يُوصله إلى مقام الخلد .هـ .كالَّ ،ليُنبذن
الحطمة التي تحطم كل ما تُصادمه ،وهي حب الدنيا ،تحطم كل ما يُلقى في القلب من حالوة في ُ
المعاملة أو المعرفة ،فال يبقى معها نور قط ،وهي نار هللا الموقدة ،التي تَطَّلع على األفئدة،
فتُفسد ما فيها من اإليمان والعرفان ،إنها عليه مؤصدة ،يعني أنَّ الدنيا ُم ْطبقة عليهم ،حتى
صارت أكبر همومهم ،ومبلغ علمهم .قال الورتجبي l:هلل نيران ،نار القهر ونار اللطف ،نار قهره:
إبعاد قلوب المنكرين عن ساحة جالله ،ونار لطفه نيران محبته في قلوب أوليائه من المحبين
والعارفين .ثم قال :عن جعفر :ونيران المحبة إذا اتقدت في قلب المؤمن تحرق كل ه ّمة غير هللا،
وكل ِذ ْك ٍر سوى ذكره .هـ .وباهلل التوفيق ،وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
يل } * { َوأَ ْر َ
س َل َعلَ ْي ِه ْم َضلِ ٍ يل } * { أَلَ ْم يَ ْج َع ْل َك ْي َد ُه ْم فِي ت ْ
ب ا ْلفِ ِ
ص َحا ِ *{ أَلَ ْم تَ َر َكيْفَ فَ َع َل َربُّ َك بِأ َ ْ
ف َّمأْ ُكو ٍل }ص ٍس ِّجي ٍل } * { فَ َج َعلَ ُه ْم َك َع ْ ار ٍة ِّمن ِطَ ْيراً أَبَابِي َل } * { ت َْر ِمي ِهم بِ ِح َج َ
ب الفيل } الخطاب للرسول عليه الصالة يقول الحق ج ّل جالله { :ألم تَ َر كيف فَ َع َل ربُّ َك بأصحا ِ
والسالم ،أو لكل سامع ،وال َهمزة للتقرير ،و " كيف " معلقة لفعل الرؤية ،منصوبة بما بعدها.
والرؤية l:علمية ،أي :ألم تعلم علما ً ضروريا ً مزاحما ً للمشاهدة والعيان باستماع األخبار
المتواترة ،ومعاينة اآلثار الظاهرة .وتعليق الرؤية بكيفية فعله ـ ع ّز وجل ـ ال بنفسه l،بأن يُقال:
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ألم ت َر ما فعل ر ُّبك لتهويل الحادثة واإليذان بوقوعها على كيفية هائلة ,وهيئة lعجيبة ،دالة على
ِعظم قدرة هللا ع ّز وجل ،وكمال ِعلمه وحكمته ،وعزة بيته l،وشرف رسوله صلى هللا عليه وسلم
فإنَّ ذلك ِمن اإلرهاصات له ،لِما ُروي أنَّ الوقعة وقعت في السنة التي ُولد فيها صلى هللا عليه
وسلم.
صبَّاح األشرم ،مالك اليمن من ِقبل النجاشي ،بنى بصنعاء كنيسةl، وتفصيلها :إنَّ أُبرهة lبن ال َ
سماها القُلَّيس ،وأراد أن يصرف lإليها الحاج ،فخرج رجل من كنانة ،فأحدث فيها ليالً ،وذكر
الواقدي :أنَّ الرجل لطّخ قبلتها بالعذرة ،ورمى فيها الجيف ،قال :واسمه " نفيل الحضرمي "
فغضب أبرهة ،وحلف ليهدمنّ الكعبة ،فخرج من الحبشة ،ومعه فيل ،اسمه " محمود " وكان
قويًّا عظيماً ،بعثه النجاشي إليه ،ومعه اثنا عشر فيالً غيره ،وقيل :ثمانية l،فلما بلغ " ال ُم َغ َ
مس
" خرج إليه عبد المطلب ,وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع ،فأبى وعبّأ جيشه ،وقدّم الفيل،
فأخذ نفيل بن حبيب بأُذنه ،وقال :أبرك محمود ،فإنك في حرم هللا ،وارجع من حيث جئت راشداً،
وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح ،وإذا َّ فبرك ,فكان ُكلما َّ
الجهات هرول ،فأرسل هللاُ عليهم سحابة من الطير خرجت من البحر ،مع كل طائر حجر في
ص ِة ،فكان الحج ُر يقع على رأس منقاره ،وحجر في رجليه ،أكبر من العدسة ،وأصغر من الح ّم َ
ففروا وهلكوا في كل طريق ومنهل، الرجل ،ويخرج من دُبره ،وعلى كل حجر اسم َمن يقع عليهُّ ،
و ُر مي أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه ،وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ،وانفلت وزيره "
فقص عليه القصة ،فلما أتمها وقع عليه ّ أبو يسكوم " ،وطائر يُحلّق فوقه ،حتى بلغ النجاشي،
الحجر ،فخ ّر ميّتا ً بين يديه.
و ُر وي :أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير ،فخرج إليه في شأنها ،فلما رآه أبرهة َعظُ َم في
عينه ،وكان وسيما ً جسيماً ,فقيل له :هذا سيّد قريش ،وصاحب عير م ّكة ،الذي يُطعم الناس في
السهل ،والوحوش في رؤوس الجبال ،فنزل أبرهة عن سريره ،وجلس معه على بساطه ،وقيل:
أَجلسه معه ،وقال لترجمانه :قل له :ما حاجتك؟ فلما ذكر له حاجته ،وهو :أن يرد إليه إبله ،قال:
سقَطت من عيني ،جئتُ ألهدم البيت ،الذي هو دينك ودين آبائك ،و ِعصمتكم ،وشرفكم في قديم َ
رب اإلبل ،وإنَّ للبيت ربًّا ُ
الدهر ،ال تكلمني lفيه ،ألهاك عه ذود أخذت لك؟ فقال عبد المطلب :أنا ّ
يحيمه ،قال أبرهة :ما كان ليحميه مني ،فقال :ها أنت وذلك.
ثم رجع وأتى باب الكعبة ,وأخذ بحلقته ،ومعه نفر من قريش ،فدعوا هللا ع ّز وجل ،فالتفت وهو
يدعو ،فإذا هو بطير من نحو اليمن ،فقال :وهللا إنها لطير غريبة ،ما هي نجدية وال تهاميةl،
فأرسل حلقة الباب ،ثم انطلق مع أصحابه ينظرون ماذا يفعل أبرهة ،فأرسل هللا تعالى عليهم
الطير ،فكان ما كان.
وقيل :كان أبرهة جد النجاشي ،الذي كان في زمن النبي صلى هللا عليه وسلم .وعن عائشة
رضي هللا عنها :رأيت قائد الفيل وسائقه أعميَ ْين ُمقعدين يستطعمان.
تضليل } بيان إجمالي لما فعل هللاُ بهم ,والهمزة للتقرير كما
ٍ وقوله تعالى { :ألم يجعل َك ْي َد ُه ْم في
سبق ,ولذلك عطف على الجملة االستفهامية lما بعدها ،كأنه قيل :جعل كيدهم للكعبة وتخريبها
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
في تضييع lوإبطال بأن َد َّمرهم أشد تدمير .يقال :ض ّل كيده ،أي :جعله ضاالًّ ضائعاً ،وقيل المرىء
القيس :الملِك الضلّي ِل؛ ألنه ضيّع ملك أبيه باشتغاله بالهوى.
سل عليهم طيراً أبابي َل } أي :جماعات تجيء شيئا ً بعد شيء .والجمهور :أنه ال واحد له { وأَ ْر َ
من لفظه ,كشماطيط وعبابيد ،وقيل :واحدها :إبّالة .قالت عائشة رضي هللا عنها :أشبهُ شيء
بالخطاطيف .قال أبو الجوز :أنشأها هللا في الهواء في ذلك الوقت ،وقال محمد بن كعب :طيرد
سود { .ترميهم بحجار ٍة } صفة لطير { ،من سود بَحرية ،وقيل :إنها شبيهة lبالوطواط ُح ْمر و ُ
يل } من طين متحجر مطبوخ مثل اآلجر ،قال ابن عباس " :أدركت عند أم هاني نحو قفيز س ّج ٍ ِ
كورق زرع وقع فيه األكل ،أي :أكلته الدود ،أو:
مأكول } َ
ٍ ف
ص ٍ
من هذه الحجارة " { .فجعلهم ك َع ْ
َكتِبن أكلته الدواب فراثته ،فجمع لهم الخسة والمهانة والتلف ،أو :كتبن علفته الدواب وشتته.
فائدة :قال الغزالي عن غير واحد من الصالحين وأرباب القلوب :إنه َمن قرأ في ركعتي الفجر في
األولى بالفاتحة و " ألم نشرح " ،والثانية lبالفاتحة و " ألم تر " قَصرت يد ُكل عدو عنه ،ولو
يُجعل لهم إليه سبيالً ,قال :وهذا صحيح ال شك فيه .ذكره في الجواهر.
اإلشارة :قلب العارف هو كعبة الوجود ،وهو بيت الرب ،وجيوش الخواطر والوساوس تطلب
تخريبه ،فيحميه lهللاُ منهم ،كما حمى بيتَه lمن أبرهة ،فيقال :ألم ت َر أيها السامع كيف فعل ربك
بأصحاب الفيل ،وهم األخالق البهيمية والسبعية l،والخواطر الردية ،ألم يجعل كيدهم في تضليل،
سحقتهم فجعلتهم
وأرسل عليهم طير الواردات اإللهية ،فرمتهم بحجارة األذكار وأنوار األفكار ،فأ ْ
كعصف مأكول .وهللا تعالى أعلم ،وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله.ٍ
(إليالف) :متعلق بقوله " :فليعبدوا " ،والفاء ِلما في الكالم من معنى الشرط ،إذ المعنى:ِ قلت:
أنَّ نعم هللا تعالى على قريش غير محصورة ،فإن لم يَعبدوا لسائر نِ َعمه فليعبدوا إليالفهم
الرحلتين ،وجاز أن يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها؛ النها زائدة غير عاطفة ،ولو كانت عاطفة لم
يجز التقديم ,وقيل :يتعلق ب ُمضمر ,أي :فعلنا من إهالك أصحاب الفيل إليالف قريش ،وقيل :بما
قبله من قوله:
ْ
ف َّمأ ُك ٍ
ول (} )5 { فَ َج َعلَ ُه ْم َك َع ْ
ص ٍ
[الفيل ،]5:ويؤيده :أنهما في مصحف " أُب ّي " سورة واحدة بال فصل ،والمعنى :أهلك َمن
قصدهم ِمن الحبشة lليتسامع الناس بذلك؛ فيتهيبوا لهم زيادة تهيُّب ,ويحترموهم فضل احترام,
حتى يتنظم لهم األمن في رحلتيهم.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
وقوله تعالى { :إِيالفهم رحلةَ الشتا ِء والصيف } بدل من األول ،أطلق اإليالف ،ثم أبدل منه
المقيّد بالرحلتين تفخيما ً ألمر اإليالف ،وتذكيراً لعظيم هذه النعمة .و " رحلة " :مفعول بإيالف,
وأراد رحلتي الشتاء والصيف ،فأفرد ألمن اإللباس.
ب هذا البيت الذي أَ ْط َع َمهم } بسبب lتينك الرحلتين اللتين تمكنوا منها بواسطة كونهم { فليعبدوا َر َّ
جوع } شديد كانوا فيه قبلهما .قال الكلبي :أول َمن حمل السمراء من الشام, ٍ من جيرانه { ،من
ورحل إليها :هاشم بن عبد مناف .هـ .ول ّما بعث هللاُ نبيه l،الذي هو نبي الرحمة ،وأسلمت قريش،
الناس من تعب الرحلتين ،وجلبت إلى مكة األرزاق من كل جانب ،ببركة طلعته صلى هللا َ أراح هللاُ
عليه وسلم .قال مالك بن دينار :ما سقطت أُمة من عين هللا إالّ ضرب أكبادهم بالجوع .وكان
عليه الصالة والسالم يقول " :اللهم إني أعوذ بك من الجوع ،فإنه بئس الضجيع " والمذموم
هو الجوع المفرط ،الذي لم يصحبه lفي الباطن قوة وال تأييد ،وإالَّ فالجوع ممدوح عند الصوفية،
أعني الوسط.
ثم قال تعالى { :وآمنهم من خوف } أي :من خوف عظيم ,وهو خوف أصحاب الفيل ،أو :من
الجيَف
خوف الناس في أسفارهم ,أو :من القحط في بلدهم .وقيل :كان أصابتهم شدة حتى أكلوا ِ
والعظام المحرقة ،فرفعه هللا عنهم بدعوته صلى هللا عليه وسلم ،فهذا معنى { :أطعمهم من جوع
وآمنهم من خوف } ،وقيل :الجذام ،فال يصيبهم ببلدهم ،وذلك بدعاء إبراهيم عليه السالم بقوله:
اج َع ْل هَـا َذا بَلَداً آ ِمنا ً }
ْ
[البقرة ]126:اآلية.
اإلشارة :كما أ َّمن هللاُ أهل بيته أ َّمن أهل نسبته l،فال تجد فقيراً متجرداً إالّ آمنا ً حيث ذهب ،والناس
يُختطفون من حوله .قلت :وقد رأينا هذا األمر عا َم حصر " سالمة " على تطوان ،فكان كل َمن
خرج من تطوان يُنتهب أو يُقتل ،ونحن نذهب حيث شئنا آمنين بحفظ هللا ،وهذا إذا لبسوا زي
بعض
ُ أهل النسبة ،من ال ُمرقَّعة والسبحة والعصا ،فإن ترك زيَّه وأُخذ فقد ظلم نفسه ،وقد ترك
الفقراء زيَّه ،وسافر فتكشّط ,فقال له شيخه :أنت ف َّرطت ،والمفرط أولى بالخسارة .هـ .ويُقال
ب هذا البيت ،أي :بيت الحضرة التي طلبتموها ،أو :بيت النسبة lالتي ألهل النسبة l:فليعبدوا َر َّ
خوف حيث ٍ جوع ،حيثما توجتهم ،مائدتكم منصوبة l،وآمنكم من
ٍ سكنتم فيها ،الذي أطعمكم من
سرتم .وهللا تعالى أعلم ،وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله. ِ
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ض َعلَىا طَ َع ِام ا ْل ِم ْ
س ِكي ِن } *{ أَ َرأَيْتَ الَّ ِذي يُ َك ِّذ ُ
ب بِالدِّي ِن } * { فَ َذلِكَ الَّ ِذي يَ ُد ُّع ا ْليَتِي َم } * { َوالَ يَ ُح ُّ
ساهُونَ } * { الَّ ِذينَ ُه ْم يُ َرآ ُءونَ } * صالَتِ ِه ْم َ صلِّينَ } * { الَّ ِذينَ ُه ْم عَن َ * { فَ َو ْي ٌل لِّ ْل ُم َ
{ َويَ ْمنَ ُعونَ ا ْل َماعُونَ }
ب بالدين } استفهام أُريد به تشويق السامع إلى معرفة يقول الحق ج ّل جالله { :أرأيت الذي يُ ِّ
كذ ُ
َم ن سبق له الكالم والتعجب منه ،والخطاب للرسول صلى هللا عليه وسلم أو لكل سامع .والرؤية
بمعنى المعرفة ،والفاء في قوله { :فذلك الذي يَ ُد ْع اليتي َم } :جواب شرط محذوف ،والمعنى :هل
كذب بالجزاء أو باإلسالم ،فإنْ أردت أن تعرفه فهو الذي يَ ُدعُّ ,أي :يدفع اليتيم عرفتَ هذا الذي يُ ِّ
دفعا ً عنيفاً ،ويزجره زجراً قبيحاً ،قيل :هو أبو جهل ،كان وصيًّا ليتيم ،فأتاه عُريانا ً يسأله ِمن مال
نفسه فدفعه دفعا ً شديداً ,وقيل :هو الوليد بن المغيرة ،وقيل :العاص بن وائل .وقيل :أبو سفيان،
نحر جزوراً فسأله يتي ٌم لحما ً فقرعه بعصاه ،وقيل :على عمومه .وقُرىء " :يَدَع " أي :يتركه
ض } أهلَه وغيرهم من الموسرين { على طعام المسكين } فأَولى هو ال ويجفوه { .وال يَ ُح ُّ
يُطعمه ،جعل عالمة التكذيب بالجزاء :منع المعروف ،واإلقدام على أذى الضعيف؛ إذ لو آمن
بالجزاء ،وأيقن بالوعيد ،لخشي عقاب هللا وغضبه.
صلِّين الذي هم عن صالتهم ساهون } غير مبالين بها { ،الذين هم يُراؤون } الناس { فويل لل ُم َ
بأعمالهم ،ليُمدحوا عليها { ،ويمنعونَ الماعونَ } أي :الزكاة .نزلت في المنافقين؛ ألنهم كانوا
يسهون عن فعل الصالة ،أي :ال يُبالون بها ،ألنهم ال يعتقدون وجوبها.
قال الكواشي عن بعضهم :ليس المراد السهو الواقع في الصالة ,الذي ال يكاد يخلو منه lمسلم،
فإنَّ رسو َل هللا صلى هللا عليه وسلم كان يسهو ،ويُعضد هذا ما ُروي عن أنس أنه قال :الحمد هلل
الذي لم يقل " في صالتهم " ألنهم ل ّما قال " :عن صالتهم " كان المعنى :أنهم ساهون عنها
سهو ترك وقلة مباالة والتفات إليها ,ولو قال " في صالتهم " كان المعنى :أنّ السهو يعتريهم
وهم في الصالة ،والخلوص من هذا شديد .وقيل " عن " بمعنى " في " ،أي :في صالتهم
ساهون .ثم قال عن ابن عطاء :ليس في القرآن وعيد صعب إالّ وبعده وعيد لطيف ،غير قوله{ :
فويل للمصلِّين } ..اآلية ،ذكل الويل ل َمن صالّها بال حضور في قلبه ،فكيف ب َمن تركها رأساً؟
فقيل له :ما الصالة؟ فقال :االتصال باهلل من حيث ال يعلم إالّ هللا .ثم قال الكواشي :ومما يدل على
ش َر َع في الصالة خالصا ً هلل ،واعترضه السهو مع تعظيمه lللصالة ولشرائع اإلسالم ،ليس أنَّ َمن َ
صعوبة بداخل مع هؤالء :أنه وصفهم بقوله { :الذين هم يراؤون } .ثم قال :وفي اجتناب الرياء ُ
عظيمة ،وفي الحديث " :الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء ،في الليلة الظلماء ،على المسح
األسود " وقال بعضهم :هم الذين ال يُخلصون هلل عمالً ،وال يُطالبون أنفسهم بحقيقة اإلخالص,
وال يَ ِرد عليهم وارد من ربهم يقطعهم عن رؤية الخلق والتزيُّن لهم.
ويمنعون الماعُونَ } قيل :الماعون :كل ما يُرتفق به ،كالفأس والماء والنار ،ونحوها ،أي:
الماعون المعروف كله ،حتى القِدْر والقصعة ،أو :ما ال يحل منعه ،كالماء والملح والنار ،قالوا:
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
و َم ْنع هذه األشياء محظور شرعاً ،إذا استعيرت عن ضرورة ،وقُ ْبح في المروءة إذا استعيرت في
غير حال االضطرار .قال عكرمة :ليس الويل ل َمن منع هذه األشياء ،إنما الويل ل َمن جمعها
فراءى في صالته وسهى عنها ,و َمنَع هذه األشياء .هـ.
قال ابن عزيز :الماعون في الجاهلية :كل عطية ومنفعة ،والماعون في اإلسالم :الزكاة
والطاعة ،وقيل :هو ما ينتفع به المسلم من أخيه ،كالعارية واإلغاثة ونحوهما ،وقيل :الماعون:
الماء ،نقله الفراء ،وفي البخاري :الماعون :المعروف كله ،أعاله الزكاة ،وأدناه عارية المتاع.
وهللا تعالى أعلم.
اإلشارة :الدين هو إحراز اإلسالم واإليمان واإلحسان ،ف َمن جمع هذه الثالث تخلّص باطنه ،فكان
فيه الشفقة والرأفة والكرم والسخاء ،وتحقق بمقام اإلخالص ،وذاق حالوة المعاملة ,وأ ّما َمن لم
يظفر بمقام اإلحسان فال يخلو باطنه من عُنف وبُخل ودقيق رياء ،ربما يصدق عليه قوله تعالى:
{ أرأيت الذي يُ ِّ
كذب بالدين فذلك الذي يَ ُد ُّع اليتيم } ..الخ .وقال القشيري في قوله تعالى { :فويل
لل ُمصلّين الذين هم عن صالتهم ساهون } :يُشير lإلى المحجوبين عن أسرار الصالة ودقائقها،
الساهين عن شهود مطالعها وطرائقها ,الغافلين الجاهلين عن علومها وأحكامها { ،الذين هم
يُراؤون } في أعمالهم وأحوالهم ،بنسبتها وإضافتها إلى أنفسهم الظلمانية { ،ويمنعون الماعون
} أي :ما يُفيد السالك إلى طريق الحق ،من اإلرشاد والنُصح l،وانظر عبارته lنقلتها بالمعنى.
وباهلل التوفيق ،وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله.
يقول الحق ج ّل جالله { :إِنَّا أعطيناك الكوث َر } أي :الخير الكثيرَ ،من شرف النبوة الجامعة لخير
الدارين ،والرئاسة العامة ،وسعادة الدنيا واآلخرة " ,فَ ْوعل " من الكثرة ،وقيل :هو نهر في
الجنة ،أحلى من العسل ،وأشد بياضا ً منَ اللبن ،وأبرد من الثلج ،وألين من الزبد ،حافتاه :اللؤلؤ
ض ٍة عدد نجوم السماء ،ال يظمأ َمن شرب منه أبداً ،وأول وارديه :فقراء والزبرجد ،وأوانيه lمن ف ّ
المهاجرين ،الدنسو الثياب ،الشعث الرؤوس ،الذي ال يتز ّوجون المنعَّمات ،وال يفتح lلهم أبواب
الشُدد ـ أي :أبواب الملوك ـ لخمولهم ،يموت أحدهم وحاجته تلجلج في صدره ،لو أقسم على هللا
ألب َّره .هـ.
سره ابن عباس بالخير الكثير ،فقيل له :إنَّ الناس يقولون :هو نهر في الجنة ،فقال :النهر من
وف َّ
ذلك الخير ،وقيل :هو :كثرة أوالده وأتباعه ،أو علماء أمته ،أو :القرآن الحاوي لخيَري الدنيا
والدين.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ُروي :أنّ النبي صلى هللا عليه وسلم قال " :يا رب اتخذت إبراهيم خليالً ،وموسى كليماً ،فبماذا
خصصتني؟ " lفنزلت:
{ أَلَ ْم يَ ِجدْكَ يَتِيما ً فَآ َوىا (} )6
ق له أالَّ
وح َّ
يكتف بذلكُ ،
ِ يكتف بذلك ،فنزلت { :إِنَّا أعطيناك الكوثر } فلم
ِ [الضحى ،]6:فلم
يكتفي؛ ألنَّ القناعة من هللا حرمان ،والركون إلى الحال يقطع المزيد ،فنزل جبري ُل ,وقال للنبي
صلى هللا عليه وسلم :إنَّ هللا تبارك وتعالى يقرئك السالم ،ويقول لك :إن كنتُ اتخدتُ إبراهيم
خليالً ،وموسى كليماً ،فقد اتخذتك حبيباً ،فوعزتي وجاللي ألختارن حبيبي على خليلي وكليمي،
فسكن صلى هللا عليه وسلم.
سل،{ إِنَّ شَانِئَ َك } أيُ :مبغضك كانئا ً َمن كان { هو األ ْبتَ ُر } الذي ال َعقِب له ،حيث لم يبق له ن ْ
وحسن صيتك ,وآثار فضلك إلى يوم القيامة ،ألنَّ كل َمن وال ُحسن ذكر ،وأ ّما أنت فتبقى ذريتكُ ،
يُولد ِمن المؤمنين فهم أوالدك وأعقابك ،و ِذ ْكرك مرفوع على المنابر ،وعلى لسان كل عالم
وذاكر ،إلى آخر الدهر ،يبدأ بذكر هللا ,ويُثني بذكرك ،ولك في اآلخرة ما ال يندرج تحت البيان،
فمثلك ال يقال فيه أبتر ,إنما األبتر شانئك ال َم ْنسي في الدنيا واآلخرة.
س ِّمي lالنب َّي صلى هللا عليه وسلم حين مات ابنه " عبد هللا قيل :نزلت في العاص بن وائل ،كان يُ َ
" :أبتر ،ووقف مع النبي صلى هللا عليه وسلم ،فقيل له :مع َمن كنت واقفاً؟ فقال :مع ذلك
صنبوراً ،ول ّما قَ ِد َم كعب بن األشرف ـ لعنه هللا ـ لمكة ،يُح ِّرض األبتر ،وكذلك س ّمته lقريش أبتر و ُ
سيِّ ُد أهل المدينةl،
سدَانة ،وأنت َسقاي ِة وال ِّ قريشا ً عليه صلى هللا عليه وسلم قالوا له :نحن أهل ال ِّ
فنحن خير أ ْم هذا الصنبور ال ُم ْنبَتِر من قومه؟ فقال :أنتم خير ،فنزلت في كعب:
ت َوالطَّا ُغو ِ
ت} .. ب يُ ْؤ ِمنُونَ بِا ْل ِج ْب ِ { أَلَ ْم تَ َر إِلَى الَّ ِذينَ أُوتُو ْا نَ ِ
صيبا ً ِّمنَ ا ْل ِكتَا ِ
[النساء ،]51:اآلية ،ونزلت فيهم { :إن شانئك هو األبتر }.
بخلقه ،وكان على قدمه :إنَّا أعطيناك الكوثر :الخيراإلشارة :يُقال لخليفة الرسول ،الذي تَخلَّق ُ
الكثير ،ألنَّ َمن ظفر بمعرفة هللا فقد حاز الخير كله " ماذا فقد َمن وجدك " فَ َ
ص ّل لربك صالة
القلوب ،وانحر نفسك وهواك ،إنَّ شانئك و ُمبغضك هو األبتر ,وأ َّما أنت فذكرك دائم ,وحياتك ال
تنقطع ,إلنَّ موت أهل التُقى حياة ال فناء بعدها .وقال الجنيد :إن شانئك هو األبتر ،إي :المنقطع
عن بلوغ أمله فيك .هـ .وصلّى هللا على سيدنا محمد ،وآله.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
*{ قُ ْل ياأَيُّ َها ا ْل َكافِ ُرونَ } * { الَ أَ ْعبُ ُد َما تَ ْعبُدُونَ } * { َوالَ أَنتُ ْم عَابِدُونَ َمآ أَ ْعبُ ُد } * { َوالَ أَنَآ
عَابِ ٌد َّما َعبَدتُّ ْم } * { َوالَ أَنتُ ْم عَابِدُونَ َمآ أَ ْعبُ ُد } * { لَ ُك ْم ِدينُ ُك ْم َولِ َي ِدي ِن }
يقول الحق ج ّل جالله { :قل يا أيها الكافرون } المخاطَبون كفرة مخصوصونَ ،علِ َم هللا أنهم ال
يُؤمنونُ .روي أنَّ رهطا ً من صناديد قريش قالوا :يا محمد هلم تتبع lديننا ونتبع lدينك ،تعبد آلهتنا
سنة ،ونعبد إلهك سنة l،فإن كان دينك خيراً ش ََر ْكناك فيه ،وإن كان ديننا خيراً شركتنا في أمرنا،
فقال " :معاذ هللا أن نُشرك باهلل غيره " فنزلت ,فغدا إلى المسجد الحرام ،وفيه المأل من قريش،
فقرأها عليهم ،فأيسوا.
أي :قل لهم { :ال أ ْعبُ ُد ما تعبدون } فيما يُستقبل؛ lألنَّ " ال " إذا دخلت على المضارع خلصته
لالستقبال ,أي :ال أفعل في المستقبل lما تطلبونه lمني من عبادة آلهتكم { ،وال أنتم عابدون ما
أعب ُد } أي :وال أنتم فاعلون في الحال ما أطلب منكم من عبادة إلهي { ،وال أنا عابد ما عبدتم }
أي :وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه ،ولم يعهد مني lعبادة صنم ،فكيف يرجى مني lفي
اإلسالم؟ { وال أنتم عابدون ما أعب ُد } أي :وما عبدتم في وقت من األوقات ما أنا على عبادته.
وقيل :إنَّ هاتين الجملتين لنفي العبادة حاالً ،كما أنَّ األوليين لنفيها استقباالً .وإيثار " ما " في
(ما أعبد) على " من "؛ ألنَّ المراد هو الوصف ،كأنه قيل :ما أعبد من المعبود العظيم الشأن
الذي ال يُقادر قدر عظمته .وقيل " ما " مصدرية l،أي :ال أعبد عبادتكم ،وال تعبدون عبادتي،
وقيل :األوليان بمعنى " الذي " ،واألخريان مصدريتان.
اإلشارة :إذا طلبت العامةٌ المري َد بالرجوع ،إلى الدنيا واالشتغال بها ،يُقال له :قل يا أيها
الكافرون بطريق التجريد ،والتي هي سبب حصول التوحيد والتفريد ،ال أعب ُد ما تعبدون من الدنيا
وحظوظها ،أي :ال أرجع إليها فيما يُستقبل lمن الزمان ،وال أنتم عابدون ما أعب ُد من إفراد الحق
بالمحبة والعبادة ،أي :ال تقدرون على ذلك ،وال أنا عابد ما عبدتم من الدنيا في الحال ،لكم دينكم
ولي ديني المبني lعلى التعلُّق بمسبِّب lاألسباب ،أو لكم دينكم المكدّر
المبني lعلى تعب األسبابَ ،
بالوساوس والخواطر واألوهام ،ولي ديني الخالص الصافي ،المبني على تربية lاليقين ،أو :لكم
دينكم المبني lعلى االستدالل ،ولي ديني المبني على العيان .أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل
الشهود والعيان ،كما قال الشاذلي رضي هللا عنه .وباهلل التوفيق ،وصلّى هللا على سيدنا محمد
وآله.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ص ُر هللاِ } " إذا " ظروف لِما يُستقبل ,والعامل فيه { :فسبِّح } يقول الحق ج ّل جالله { :إِذا جاء نَ ْ
،والنصر :اإلعانة واإلظهار على العد ّو ،والفتح :فتح مكة ،أو فتح البالد ,واإلعالم بذلك قبل
الوقوع من أعالم النبوة ،إذا قلنا نزلت قبل الفتح ،وعليه األكثر ،والمعنى :إذا جاءك نصر lهللا،
وظَ َه ْرتَ على العرب ،وفتح عليك مكة أو سائر بالد العرب ،فَأ َ ْكثِر من التسبيح واالستغفار ،تأهُّبا ً
للقاء أو شكراً على النِعم ،والتعبير عن حصول الفتح بالمجيء لإليذان بأنّ حصوله على جناح
الوصول عن قريب.
الناس } أي :أبصرتهم ،أو علمتهم { يدخلون في دي ِن هللا } أي :ملة َ ثم قال تعالى { :ورأيتَ
اإلسالم ،التي ال دين يُضاف إليه تعالى غيرها .والجملة على األول :حال من " الناس " ،وعلى
الثاني :مفعول ثان لرأيت ،و { أفواجا ً } حال من فاعل " يدخلون " أي :يدخلون جماعة بعد
جماعة ،تدخل القبيلة بأسرها ،والقوم بأسرهم ،بعدما كانوا يدخلون واحداً واحداً ،وذلك أنَّ
العرب كانت تقول :إذا ظفر محم ٌد بالحرم ـ وقد كان آجرهم هللا من أصحاب الفيل ـ فليس لكم به
ش ٌر كثير ،فكان معه يدان ،فلما فُتحت مكة جاؤوا لإلسالم أفواجا ً بال قتال ،فقد أسلم بعد فتح مكة بَ َ
في غزوة تبوك سبعون ألفاً .وقال أبو محمد بن عبد البر :لم يمت رسو ُل هللا صلى هللا عليه وسلم
وفي العرب كافر ،وقد قيل :إنَّ عدد المسلمين عند موته :مائة ألف وأربعة عشر ألفاً .هـ.
سبِّح بحمد ربك } أي :قل سبحان هللا ،حامداً له ،أو :فص ّل فإذا رأيتَ ما ذكر من النصر والفتح { فَ َ
له { واستغفره } تواضعا ً وهضما ً للنفس ،أوُ :د ْم على االستغفار { ،إِنه كان } ولم يزل { توابا ً }؛
كثير القبول للتوبة.
روت عائشةُ رضي هللا عنها أنَّ النب ّي صلى هللا عليه وسلم :لَ ّما فتح مكة ،وأسلمت العرب ،جعل
يُكثر أن يقول " :سبحانك اللهم وبحمدك ،وأستغفرك وأتوب إليك ،يتأ ّول القرآن " يعني في هذه
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
السورة .وقال لها مرة " :ما أراه إالَّ حضور أجلي " ،وتأ َّوله العباس وعمر رضي هللا عنهما
بذلك بمحضره صلى هللا عليه وسلم فصدّقهما ،ونزع هذا المنزع ابن عباس وغيره.
اإلشارة :إذا جاءتك أيها المريد نصر هللا لك ،بأن ق ّواك على خرق عوائد نفسك ،وأظفرك بها
الناس يدخلون في طريق هللا
َ (والفتح) وهو دخول مقام الفناء ،وإظهار أسرار الحقائق ,ورأيت
أفواجاً ،فسبّح بحمد ربك ،أي :ن ّزه ربك عن رؤية الغيرية واألثنينية lفي ملكه ،واستغفره من
رؤية وجود نفسك .قال القشيري :ويقال النصر من هللا بأن أفناه عن نفسه ،وأبعد عنه أحكام
البشرية l،وصفّاه من الكدورات النفسانية ،وأ ّما الفتح فهو :أن رقَّاه إلى محل الدنو ،واستخلصه
بخصائص الزلفة ،وألبسه لباس الجمع ،وع ّرفه من كمال المعرفة ما كان جميع الخلق متعطشا ً
إليه .هـ .وقال الورتجبي( lفَ َ
سبِّح بحمد ربك) أي :سبِّحه بحمده ال بك ،أي :فسبِّحه بالحمد الذي
حمد به نفسه ،واستغفِره من حمدك وثنائك وجميع أعمالك وعرفانك ،فإنّ الكل معلول؛ إذ وصف
الحدثان ال يليق بجمال الرحمن ،إنه كان قابل التوب من العجز عن إدراك كنه قدسه ،واالعتراف
بالجهل عن معرفة حقيقة وجوده .هـ .وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله.
ب } هو عبد العزى بن عبد المطلب، يقول الحق ج ّل جالله { :تَبَّتْ } ،أي :هلكت { يَدَا أبي له ٍ
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وإيثار لفظ التباب على الهالك ،وإسناده إلى يديه l،لِما ُروي ِ عم
أنه ل ّما نزل:
يرتَكَ األَ ْق َربِينَ (} )214 { َوأَن ِذ ْر ع ِ
َش َ
[الشعراء ]214:رقى رسو ُل هللا صلى هللا عليه وسلم الصفا ،وقال " :يا صباحاه " فاجتمع إليه
الناس من كل أوب ،فقال " :يابني عبد المطلب! يابني فهر! أرأيتم إن أخبرتكم أنَّ بسفح هذا ُ
ب شدي ٍد " فقال أبو الجبل خيالً أكنتم مصدقي؟ " قالوا نعم ،قال " :فإني نذير لكم بين ْ
يدي عذا ٍ
لهب :تبًّا لك سائر اليوم ،ما دعوتنا إالّ لهذا؟ وأخذ حجراً ليرميه lبه عليه الصالة والسالم،
َب } اي :وهلك كله ،وقيل :المراد باألول :هالك جملته، فنزلت ،أي :خسرت يدا أبي لهب { وت َّ
كقوله:
{ بِ َما قَ َّد َمتْ يَدَاكَ }
َب " :وكان ذلك وحصل ،ويؤيده قراءة ابن مسعود " وقد تب " .وذكر [الحج .]10:ومعنى " وت َّ
كنيته للتعريض بكونه جهنميًّا ،الشتهاره بها ،ولكراهة اسمه القبيح .وقرأ المكي بسكون الهاء،
تخفيفاً.
ي
ب } أي :لم يُغن حين ح ّل به التباب ،على أنّ " ما " نافية ،أو :أ ّ { ما أَ ْغنَى عنه مالُه وما َك َ
س َ
شيء أغنى عنه ،على أنها استفهامية في معنى اإلنكار ،منصوبة lبما بعدها ،أي :ما أغنى عنه
أصل ماله وما كسب به من األرباح والمنافع ،أو :ما كسب من الوجاهة واألتباع ،أو :ماله
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
الموروث من أبيه والذي كسبه بنفسه ،أو :ما كسب من عمله الخبيث ،الذي هو كيده في عداوته
عليه الصالة والسالم ،أو :عمله الذي ظنّ أنه منه على شيء ،لقوله تعالى:
{ َوقَ ِد ْمنَآ إِلَىا َما َع ِملُو ْا ِمنْ َع َم ٍل فَ َج َع ْلنَاهُ َهبَآ ًء َّمنثُوراً (} )23
[الفرقان ،]23:وعن ابن عباس " :ما كسب ولده " ُ ،روي أنه كان يقول :إن كان ما يقول ابن
أخي حقًا فأنا أفدي منه lنفسي بمالي وولدي ،فاستخلص منه ،وقد خاب مرجاه ،وما حصل ما
تمناه ,فافترس ولده " عُتبة " أس ٌد في طريق الشام ،وكان صلى هللا عليه وسلم دعا عليه
بقوله " :اللهم سلط عليه كلبا ً من كالبك " وهلك هو نفسه بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال،
الناس مخالفةَ العدوى ،وكانوا يخافون منها كالطاعونن فبقي ثالثا ً حتى تغيّر ،ثم ُ فاجتنبه
استأجروا بعض السودان ،فحملوه ,ودفنوه ،فكان عاقبته lكما قال تعالى:
ب } أي :ناراً عظيمة يصلى ناراً } أي :سيدخل ال محالة بعد هذا العذاب األجل ناراً { ذاتَ له ٍ س ْ { َ
صا في أنه ال يؤمن أبداً ،فيكون ذات اشتعال وتوقُّد ،وهي نار جهنم .قال أبو السعود :وليس هذا ن ًّ
ص ْلي النار غير مختص بالكفار ،فيجوز أن يُفهم من هذا أنَّ مأموراً بالجمع بين النقيضين ،فإنَّ َ
دخوله النار لفسقه ومعاصيه ,ال لكفره ،فال اضطرار إلى الجواب المشهور ،من أنّ ما كلفه هو
اإليمان بجميع ما جاء به النبي صلى هللا عليه وسلم إجماالً ،ال اإليمان بما نطق به القرآن ،حتى
يلزم أن يكلف اإليمان بعدم إيمانه المستمرl.
صلى " لمكان الفعل .وهي أم جميل بنت حرب ،أخت أبي وامرأتُه } :عطف على المستكن في " يَ ْ
سفيان ،وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعد ،فتنثرها بالليل في طريق النبي ،وكان
النبي صلى هللا عليه وسلم يطؤه كما يطأ الحرير .وقيل كانت تمشي بالنميمة l،ويقال ل َمن يمشيl ُّ
بالنميمة ويُفسد بين الناس :يحمل الحطب بينهم ،أي :يُوقد بينهم النار ،وهذا معنى قوله:
ب } بالنصب على الذم والشتم ،أو :الحالية ،بناء على أنَّ اإلضافة غير حقيقية، { ح ّمالةَ الحط ِ
لوجوب تنكير الحال ،وقيل :المراد :أنها تحمل يوم القيامة حزمة من حطب جهنم كالزقوم
والضريع .وعن قتادة :أنها مع كثرة مالها كانت تحمل الحطب على ظهرها ،لشدة بُخلها ،فعيرت
بالبخل ،فالنصب حينئذ على الذم حتماً .و َمن رفع فخبر عن " امرأته " ،أو :خبر عن مضمرl
متوقف على ما قبله .وقُرىء " و ُم َريَّتُه " lفالتصغير للتحقير { ،في ِجي ِدها } في عُنقها { َح ْب ٌل
ليف كان ,وقيل: سد } والمسد :الذي فُتل من الحبال فتالً شديداً ,من ليف ال ُم ْقل أو من أي ٍ من َم َ
من لحاء شجر باليمن ،وقد يكون من جلود اإلبل وأوبارها.
قال األصمعي :صلّى أربعة من الشعراء خلف إمام اسمه " يحيى " فقرأ " :قل هو هللا أحد "
فتعتع فيها ،فقال أحدهم:
بحبل من مسد
ٍ ش ّد
ُ كـأنمـا لسانـه
والمعنى :في جيدها حبل مما ُمسد من الحبال ،وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك ،وتربطها في
جيدها ،كما يفعل الحطّابون ،تحقيراً لها ،وتصويراً لها ،بصورة بعض الحطّابات ،لتجزع من
ذلك ,ويجزع بعلُها ،وهما من بيت الشرف والع ّز.
ُروي أنها ل ّما نزلت فيها اآلية أتت بيتَه صلى هللا عليه وسلم ,وفي يدها حجر ،فدخلت على النبي
صلى هللا عليه وسلم ،ومعه الصدّيق ،فأعماها هللاُ عن رسول صلى هللا عليه وسلم ولم ت َر إالّ
الصدّيق ،قالت :أين محمد؟ بلغني أنه يهجوني l،لئن رأيته ألضربن فاه بهذا الفِهر .هـ .ومن أين
الشمس مقلةٌ عمياء ،وقيل :هو تمثيل وإشارة لربطها بخذالنها عن الخير ،ولذلك عظم
َ ترى
حرصها على التكذيب والكفر .قال ُمرة الهمداني :كانت أم جميل تأتي كل يوم بحزمة من حسك،
فتطرحها في طريق المسلمين ،فبينما هي ذات ليلة حاملة حزمة أعيت ،فقعدت على حجر
لتستريح l،فجذبها الملك من خلفها بحبلها فاختنقت ،فهلكت .هـ.
اإلشارة :إنما تبّت يدا أبي لهب ،وخسر ،وافتضح في القرآن على مرور األزمان ،ألنه أول َمن
أظهر الكفر واإلنكار ،فكان إمام المن ِكرين ،فكل َمن بادر باإلنكار على أهل الخصوصية انخرط في
سلك أبي لهب ,ال يُغني عنه مالُه وما كسب ,وسيصلى نا َر القطيعة والبُعد ,ذات احتراق ولهب،
وامرأته ،اي :نفسه ،ح ّمالة حطب األوزار ،في جيدها حبل من مسد الخذالن .وباهلل التوفيق
وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله.
قلت { :هو } ضمير الشأن مبتدأ ،والجملة بعده خبر ،وال تحتاج إلى رابط ,ألنها نفس المبتدأ،
فإنها عين الشأن الذي عبّر عنه بالضمير ،ورفعه من غير عائد يعود عليه؛ لإليذان بأنه الشُهرة
والنباهة بحيث يستحضرة lك ُّل أحد ،وإليه يُشير كل ُمشير l,وعليه يعود كل ضمير ،كما يُنبىء عنه
اسم الشأن ,الذي هو القصد .والسر في تصدير الجملة به للتنبيه من أول األمر على فخامة
تحقيق وتقرير ،فإنَّ الضمير ال يُفهم منه من أولٍ مضمونها ,وجاللة حيزها ،مع ما فيه من زيادة
األمر إالّ شأن مبهم ،له خطر جلي ٍل ،فيبقى الذهن مترقبا ً ِلما أمامه مما يفسره ويزيل lإبهامه،
فيتمكن عند وروده له فضل تم ُّكن .وكل جملة بعد خبره مق ِّرره لِما قبلها على ما يأتي.
صفْ لنا ربك الذي تدعونا إليه ،وانسبه؟l يقول الحق ج ّل جالله مجيبا ً للمشركين لَ ّما قالواِ :
فسكت عنهم صلى هللا عليه وسلم فنزلت ،أو اليهود ،لَ ّما قالواِ :
صفْ لنا ربك وانسبه ،فإنه
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
سبَها ،فارتعد رسو ُل هللا صلى هللا عليه وسلم حتى َخ ّر مغشيًّا عليه،
صفَ نفسه في التوراة ونَ َ
َو َ
فنزل جبري ُل عليه السالم بالسورة .ويمكن أن تنزل مرتين كما تقدّم.
أح ٌد } ال
فقال ج ّل جالله { :قل هو هللاُ } المعبود بالحق ،الواجب الوجود ،المستحق للكماالت { َ
صى،شريك له في ذاته ،وال في صفاته ،وال في أفعاله ،ال يتب ّعض وال يتج ّزأ ,وال يُحد ،وال يُح َ
أول بال بداية ،وآخر بال نهاية ،ظاهر بالتعريف لكل أحد ،باطن في ظهوره عن كل أحد.
وأصل { أحد } هنا " َو َحد " فأبدلت الواو همزة ،وليست كأحد ,المالزم للنفي ،فإنَّ همزة أصلية.
ووصفه تعالى بالوحدانية lله ثالث معان ،األول :أنه ال ثاني له ،فهو نفي للعدد ،واآلخر :أنه
واحد ال نظير له وال شريك له ،كما تقول :فالن واحد عصره ،أي :ال نظير له ،الثالث :أنه واحد
ال ينقسم وال يتب ّعض .واألظهر أن المراد هنا :نفي الشريك ،لقصد الرد على المشركين .انظر ابن
جزي.
{ هللاُ الصم ُد } وهو فَ َع ٌل بمعنى مفعول ،من :صمد إليه :إذا قصده ،أي :هو السيّد المصمود إليه
في الحوائج ،المستغني بذاته عن كل ما سواه ،المفتقِر إليه ك ُّل ما عداه ،افتقاراً ضروريا ً في كل
لحظة ،إذ ال قيام لألشياء إالّ به .أو الصمد :الدائم الباقي الذي لم يزل وال يزال ،أو :الذي يفعل ما
يشاء ويحكم ما يريد ،والذي يُ ْط ِعم وال يُ ْط َعم وال يأكل وال يشرب ،أو :الذي ال جوف له ،وتعريفه
لعلمهم بصمديته ،بخالف أحديتهl.
وتكرير االسم الجليل ،لإلشعار بأنَّ َمن لم يتصف بذلك فهو بمعز ٍل عن استحقاق األلوهية،
والتلذذ بذكره .وتعرية الجملة عن العاطف ،ألنها كالنتيجة عن األولى ،بيَّن أوالً ألوهيته ع ّز ُّ
وجل ،المستوجبة lلجميع نعوت الكمال ،ثم أحديته lالموجبة لتن ّزهه عن شائبة التعدد والتركيب
بوج ٍه من الوجوه ،وتوهم المشاركة في الحقيقة وخواصها ,ثم صمديته المقتضية الستغنائه
الذاتي عما سواه ،وافتقار المخلوقات إليه في وجودها وبقائها وسائر أحوالها ،تحقيقا ً للحق,
وإرشاداً إلى التعلُّق بصمديته تعالى.
ثم ص ّرح ببعض أحكام مندرجة تحت األحكام السابقة ،فقال { :لم يل ْد } أي :لم يتولد عن شيء،
ر ًّدا على المشركين ،وإبطاالً العتقادهم في المالئكة والمسيح l،ولذلك ورد النفي على صيغة
الماضي ،أي :لم يصدر عنه ولد؛ ألنه ال يُجانسه شيء يمكن أن يكون له من جنسه صاحبة
ليتوالدا ،كما ينطق به قوله تعالى:
احبَةٌ }
ص ِ{ أَنَّىا يَ ُكونُ لَهُ َولَ ٌد َولَ ْم تَ ُكنْ لَّهُ َ
[األنعام ،]101:وال يفتقر إلى ما يُعينه lأو يخلفه؛ الستحالة الحاجة عليه ،لصمدانيته وغناه
المطلق.
{ ولم يُول ْد } أي :لم يتولد عن شي ٍء ،ال ستحالة نسبة lالعدم إليه سابقا ً والحقاً .والتصريح به مع
كونهم معترفين بمضمونه لتقرير ما قبله وتحقيقه ,ولإلشارة إلى أنهما متالزمان ،إذ المعهود أنَّ
ما يلد يولد ،وما ال فال ،و ِمن قضية االعتراف بأنه لم يلد :االعتراف بأنه لم يُولد { ،ولم يكن له
ُكفُواً َ
أح ٌد } أي :ولم يكن أحد مماثالً له وال مشاكالًِ ،من صاحبة أو غيرها .و(له) :متعلق بـ "
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ُكفُواً " ،قدمت عليه لالهتمام بها؛ ألنَّ المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى ،وأ ّما تأخير اسم
الجمل َغنِي عن البيان.
كان فلمراعاة الفواصل .ووجه الوصل في هذه ُ
هذا والنطواء السورة الكريمة ،مع تقارب قطريها ،على أنواع المعارف اإللهية واألوصاف
القدسية ،والرد على َمن ألحد فيها ،ورد في الحديث النبوي :أنها تعدل ثلث القرآن ،فإنّ مقاصده
منحصرة في بيان العقائد واألحكام والقصص ،وقد استوفت العقائد ل َمن أمعن النظر فيها .عن
النبي صلى هللا عليه وسلم " :أُسست السموات السبع واألرضون السبع على { قل هو هللا أحد }
" أي :ما خلقت إالَّ لتكون دالئل توحيده ،ومعرفة ذاته ،التي نطقت بها هذه السورة الكريمة.
وعنه صلى هللا عليه وسلم أنه سمع رجالً يقرؤها ،فقال " " :وجبت " فقيل :وما وجبت؟ فقال:
" الجنة " ،وشكى إليه َر ُج ٌل الفق َر وضيق المعاش ،فقال له صلى هللا عليه وسلم " :إذا دخلت
سلِّم عل ّي واقرأ { :قل هو هللا أحد } " ففعل الرجل ،فأد ّر هللاُ
سلِّم ,إن كان فيه أحد ،وإال ف َ
بيتك ف َ
عليه الرزق ،حتى أفاض على جيرانه " ،وخ ّرج الترمذي :أنَّ رسو َل هللا صلى هللا عليه وسلم
قال " :من قرأ { قل هو هللا أحد } مائتي مرة في يوم ُغفرت له ذنوب خمسين سنة ،إالّ أن يكون
عليه َد ْين " ،وفي الجامع الصغير أحاديث في فضل السورة تركناه خوف اإلطناب.
اإلشارة :قد اشتملت السورةُ على التوحيد الخاص ،أعني :توحيد أهل العيان ،وعلى التوحيد
العام ،أعني :توحيد أهل البرهان ،فالتوحيد الخاص له مقامان :مقام األسرار الجبروتية ،ومقام
األنوار الملكوتية ،فكلمة (هو) تُشير lإلى مقام األسرار اللطيفة األصلية الجبروتيةl.
و(هللا) يشير إلى مقام األنوار الكثيفة المتدفقة من بحر الجبروت؛ ألنّ حقيقة المشاهدة :تكثيف
اللطيف ،وحقيقة المعاينة l:تلطيف الكثيف ،فالمعاينة lأرقّ ،فشهود الكون أنواراً كثيفة فاضت من
بحر الجبروت مشاهدة ،فإذا لَطَّفها حتى اتصلت بالبحر اللطيف المحيط ،وانطبق بحر األحدية
سميت معاينةً ،ووصفه lتعالى باألحدية والصمدية والتنزيه lعن الولد والوالد يحتاج إلى على الكل ُ
استدالل وبرهان ،وهو مقام اإليمان ،واألول مقام اإلحسان ,فاآلية من باب التدلي.
القلوب
َ واألرواح بقوله( :هللا) وكاشف
َ قال القشيري l:يقال كاشَفَ تعالى األسرا َر بقوله (هو)
نفوس المؤمنين بباقي السورة .ويُقال :كاشف الوالهين بقوله( :هو) َ بقوله( :أحد) وكاشف
والموحدين بقوله( :هللا) والعارفين بقوله( :أحد) والعلماء بالباقي ،ثم قال :ويُقال :خاطب خاصةِّ
الخاص بقوله( :هو) فاستقلوا ،ثم خاطب الخواص بقوله (هللا) فاشتغلوا ،ثم زاد في البيان ل َمن
نزل عنهم ،فقال( :أحد) ،ثم نزل عنهم بالصمد ،وكذلك ل َمن دونهم .هـ .وقال في نوادر األصول:
هو اسم ال ضمير l،من الهوية ،أي :الحقيقة .انظر بقية كالمه.
قال شيخ شيوخنا ،سيدي عبد الرحمن العارف :والحاصل :أنَّ اإلشارة بـ " هو " مختصة بأهل
االستغراق والتحقُّق في الهوية الحقيقة ،فالنطباق بحر األحدية عليهم ،وانكشاف الوجود
الحقيقي لديهم ،فقدوا َمن يشار إليه إالّ هو ،ألنّ ال ُمشار إليه ل ّما كان واحداً كانت اإلشارة مطلقة
ال تكون إالّ إليه ،لفقد ما سواه في شعورهم ،لفنائهم عن الرسوم البشرية lبالكلية ،وغيبتهم عن
وجودهم ،وعن إحساسهم وأوصافهم الكونية ،وذلك غاية في التوحيد واإلعظام .منحنا هللاُ ذلك
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
على الدوام ،وجعلنا من أهله ،ببركة نبيه عليه الصالة والسالم .وباهلل التوفيق ،وصلّى هللا على
سيدنا محمد وآله.
وفي تعليق العياذ بالرب ،المضاف إلى الفلق ،المنبىء عن النور بعد الظلمة ,وعن السعة بعد
الضيق ،والفتق بعد الرتَقِ ،عدَة كريمة lبإعاذة العامة مما يتع ّوذ منه l،وإنجائه منه وفَ ْلق ما عقد
له من السحر وانحالله عنه ،وتقوية lرجائه بتذكير بعض نظائره ,ومزيد ترغيب في االعتناء
بقرع باب االلتجاء إلى هللا تعالى.
ب } تخصيص لبعض الشرور بالذكر ،بعد اندراجه فيما ق إِذا َوقَ َ وقوله تعالى { :ومن شر َغ ِ
اس ٍ
قبله ،لزيادة مساس الحاجة إلى االستعاذة منه ،لكثرة وقوعه ،أي :ومن شر الليل إذا أظلم واشتد
ظالمه ،كقوله تعالى:
ق ا ْللَّ ْي ِل } { إِلَىا َغ َ
س ِ
ق الليل: [اإلسراء .]78:وأصل الغسق :االمتالء .يقال :غسقت عينيه lإذا امتألت دمعاً ,و َغ َ
س ُ
انضباب ظالمه .وقوله { :إذا وقب } أي :دخل ظالمه ،وإنما تع َّوذ من الليل ألنه صاحب العجائب،
وقيل :الغاسق :القمر ،ووقوبه l:دخوله في الكسوف واسوداده ،لِما روي عن عائشة رضي هللا
عنها أنها قالت :أخذ رسو ُل هللا صلى هللا عليه وسلم بيدي ،وقال " :تعوذي باهلل من شر هذا
والمنجمون يعدونه نحساً ،ولذلك ِّ الغاسق إذا وقب " وقيل :وقوب القمر :محاقه في آخر الشهر،
السحر ال ُمورث للمرض إالَّ في ذلك الوقت ،قيل :وهو المناسب لسبب النزول. َ ال تستعمل السحرةُ
وقيل :الغاسق :الثريا ,ووقوبها :سقوطها ،ألنها إذا سقطت كثرت األمراض والطواعين .وقيل:
هو كل شر يعتري اإلنسان ،ووقوبه هجومه ،فيدخل فيه الذ َكر عند الشهوة المحرمة وغيره.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
ت في ال ُعقَد } أي :ومن شر النفوس ,أو :النساء النفاثات ،أي :السواحر الالتي { ومن شر النفاثا ِ
يعقدن عقداً في خيوط ،وينفثن عليها ،والنفث :النفخ مع ريق ،وقيل :بدون ريق ،وتعريفها إ ّما
للعهد الذهني ،وهن بنات لَبِيد ،أو :للجنس ،لشمول جميع أفراد السواحر ,وتدخل بنات لَبيد
س َد } إذا أظهر ما في نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه، دخوالً أولياً { .ومن شر حاس ٍد إِذا َح َ
بترتيب lمقدمات الشر ،ومبادىء اإلضرار بالمحسود ،قوالً وفعالً ،والتقييد بذلك؛ ألنَّ ضرر
الحسد قبله إنما يحيق بالحاسد ،وقد تكلم ابن جزي هنا على الحسد بكالم نقلناه في سورة
النساء ،فانظره فيه.
اإلشارة :الفلق هو النور الذي انفلق عنه بحر الجبروت ،وهي القبضة المحمدية ،التي هي بذرة
بالتعوذ بربها الذي أبرزها منه ،من شر كل ما يشغل عن هللا ،من سائر ُّ الكائنات ،فأمر هللا
المخلوقات ،ومن شر ما يهجم على اإلنسان ،ويقوم عليه من نفسه وهواه وغضبه وسخطه،
الحساد .والحسد مذموم عند الخاص والعام ،فالحسود ال يسود. ومن شر ما يكيده من السحرة أو ُ
وحقيقة الحسد :األسف على الخير عند الغير ،وتمني زواله عنه ،وأ ّما تمني lمثله مع بقائه
لصاحبه فهي ال ِغبطة ،وهي ممدوحة في الكماالت ،كالعلم والعمل ،والذوق والحال .وباهلل
التوفيق ،وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله.
س ا ْل َخنَّا ِ
س} ش ِّر ا ْل َو ْ
س َوا ِ س } * { إِلَـا ِه النَّا ِ
س } * { ِمن َ س } * { َملِ ِك النَّا ِ*{ قُ ْل أَعُو ُذ بِ َر ِّب النَّا ِ
س}س } * { ِمنَ ا ْل ِجنَّ ِة َوالنَّا ِ صدُو ِر النَّا ِ
س فِي ُ س ِو ُ * { الَّ ِذى يُ َو ْ
[اإلسراء ]65:ف َمن جعل مدا َر تخصيص اإلضافة مجرد كون االستعاذة من المضار المختصةl
بالنفوس البشرية lفقد قصر في توفية المقام حقه .وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير
والتشريف l.قاله أبو السعود.
واآلية من باب الترقِّي ،وذلك أنَّ الرب قد يُطلق على كثير من الناس ،فتقول :فالن رب الدار،
وشبه ذلك ،فبدأ به الشتراك معناه ,وأ َّما ال َملك فال يُوصف به إالَّ آحاد من الناس ،وهم الملوك،
وال شك أنهم أعلى من سائر الناس ،فلذلك جيء به بعد الرب ،وأ َّما اإلله فهوأعلى من ال َملك،
ولذلك ال يَدَّعي الملو ُك أنهم آلهة ،وإنما اإلله واحد ال شريك له وال نظير قاله ابن جزي.
ش َّر الوسواس } أي :الموسوس ،فالوسواس مصدر ،كالزلزال ،بمعنى اسم الفاعل ،أو { من َ
سمي به الشيطان مبالغةً ،كأنه نفس الوسوسة ،و { الخناس } الذي عادته أن يخنس ،أي:
س في صدور الناس } إذا غفلوا عن ذكر هللا ،ولم س ِو ُ
يتأخر عند ذكر اإلنسان ربَّه { ،الذي يُ َو ْ
يقل :في قلوب الناس؛ ألنَّ الشيطان محله الصدور ،ويم ّد منقاره إلى القلب ،وأ ّما القلب فهو بيت
الرب ،وهو محل اإليمان ،فال يتمكن منه كل التم ُّكن ،وإنما يحوم في الصدر حول القلب ،فلو
تم ّكن منه ألفسد على الناس كلهم إيمانهم.
قال ابن جزي :وسوسة lالشيطان بأنواع كثيرة ،منها :فساد اإليمان والتشكيك في العقائد ،فإن لم
يقدر على ذلك ثبّطه عن الطاعات ،فإن لم يقدر على ذلك أدخل الرياء في الطاعات ليُحبطها ،فإن
سلِ َم من ذلك أدخل عليه العجب بنفسه l،واستكثار عمله ،ومن ذلك :أنه يُوقد في القلب نار الحسد َ
والحقد والغضب ،حتى يقود اإلنسان إلى سوء األعمال وأقبح األحوال.
وعالج وسوسته بثالثة lأشياء ،وهي :اإلكثار من ذكر هللا ,واإلكثار من االستعاذة منه ،ومن أنفع
صحبةشي ٍء في ذلك :قراءة سورة الناس .هـ .قلت :ال يقلع الوسوسة من القلب بالكلية إالّ ُ
العارفين ،أهل التربية ،حتى يُدخلوه مقا َم الفناء ،وإالَّ فالخواطر ال تنقطع عن العبد.
ثم بَيّن الموس ِوس بقولهِ { :من ال ِجنة } أي :الجن { والناس } ووسواس النار أعظم؛ ألنَّ
بالتعوذ ،بخالف وسوسة lالناس ،والمراد بوسوسة lالناس :ما يُدخلون
ُّ وسواس الجن يذهب
عليك من الشُبه في الدين ,وخوض في الباطن ،أو سوء اعتقاد في الناس ،أو غير ذلك.
قال ابن جزي :فإن قلت :لِ َم ختم القرآن بالمعوذتين ،وما الحكمة في ذلك؟ فالجواب من ثالثة
أوجه ،األول :قال شيخنا األستاذ أبو جعفر بن الزبير :ل َّما كان القرأنُ من أعظم نِعم هللا على
عباده ،والنعمة مظنة الحسد ،ختم بما يُطفىء الحسد ،من االستعاذة باهلل .الثاني :يَظهر لي أنَّ
المعوذتين ختم بهما ألنّ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال فيهما " :أنزلت علي آيات لم يُر
مثلهن قط " كما قال في فاتحة الكتاب " :لم ينزل في التوراة وال في اإلنجيل وال في الفرقان
ير مثلهما ,للجمع بين حسن مثلها " فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها ،واختتم بسورتين لم َ
الخطب والرسائل والقصائد ،وغير ذلك من أنواع الكالم ،يُنظر االفتتاح واالختتام .أال ترى أن ُ
فيها إلى حسن افتتاحها واختتامها.
مكتبة مشكاة اإلسالمية البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
اإلشارة :ال يُنجي من الوسوسة بالكلية إالّ التحقُّق بمقام الفناء الكلي ،وتعمير القلب بأنوار
التجليات الملكوتية lواألسرار الجبروتيه l،حتى يمتلىء القلب باهلل فحينئذ lتنقلب وسوسته lفي
أسرار التوحيد فكرةً ونظرةً وشهوداً للذات األقدس ،كما قال الشاعر:
َك ِمل " البحر المديد في تفسير lالقرآن المجيد " بحول هللا وقوته .نسأل هللا سبحانه أن يكسوه
صله القص َد والمأمول ،بجاه سيد األولين واآلخرين، جلباب القبول ,ويُبلغ به كل َمن طالعه ,أو ح ّ
سيدنا وموالنا محمد ،خاتم النبيين وإمام المرسلين .و ُع ْمدَتنا فيه :تفسير lالبيضاوي ,وأبي
السعود ،وحاشية lشيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي ،وشيء من تفسير ابن جزي
والثعلبي والقشيري .وكان الفراغ من تبييضه lزوال يوم األحد ،سادس ربيع النبوي ،عام واحد
وعشرين ومائتين وألف ،على يد جامعه ,العبد الضعيف ،الفقير إلى مواله ,أحمد بن محمد بن
سنِي ،لطف هللا به في الدارين .آمين ,وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين. الح َ
عجيبة َ
تم بحمد هللا نسخة من موقع التفسير أخوكم الفلوجة غفر هللا له ولوالديه آمين والحمد هلل رب
العالمين