You are on page 1of 124

‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬


‫ابن عجيبة‬

‫سورة النبأ §‬
‫يم } * { الَّ ِذي ُه ْم فِي ِه ُم ْختَلِفُونَ } * { َكالَّ َ‬
‫سيَ ْعلَ ُمونَ } * {‬ ‫سآ َءلُونَ } * { َع ِن النَّبَإ ِ ا ْل َع ِظ ِ‬
‫*{ َع َّم يَتَ َ‬
‫ثُ َّم َكالَّ َ‬
‫سيَ ْعلَ ُمونَ }‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪َ { :‬ع ّم يتساءلون } ‪ ،‬وأصله‪ " :‬ع ّما " فحذفت األلف‪ ،‬كما قال في األلفية‪:‬‬

‫فهام إن ُج َّرت ُح ِذفْ أَلِف َها وأَ ْول َها الها إنْ تَ ْق ِ‬
‫ف‬ ‫ستِ ِ‬
‫وما في اال ْ‬
‫وحذفها إ ّما للفرق بين االستفهامية والموصولة‪ ،‬أو للتخفيف‪ ،‬لكثرة االستعمال‪ ،‬وقُرىء باأللف‬
‫على األصل‪ ،‬أي‪ :‬عن شي ٍء يتساءلون‪ .‬والضمير ألهل مكة‪ ،‬وكانوا يتساءلون عن البعث فيما‬
‫ضهم بعضاً‪ ،‬ويخوضون فيه إنكاراً واستهزا ًء‪ ،‬وليس السؤال عن حقيقته‪ ،‬بل عن‬ ‫بينهم‪ ،‬يسأل بع ُ‬
‫وقوعه‪ ،‬الذي هو حال من أحواله‪ ،‬ووصف من أوصافه‪ ،‬فإنَّ " ما " كما يُسأل بها عن الحقيقة‬
‫يُسأل بها عن الصفة‪ ،‬فتقول‪ :‬ما زيد؟ فيقال‪ :‬عالم أو طبيب‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬النبأ العظيم هو القرآن‪ ،‬عجب من تساؤلهم واختالفهم وتجادلهم فيه‪ .‬واالستفهام للتفخيم‬
‫والتهويل والتعجيب من الجدال فيه‪ ،‬مع وضوح حقه وإعجازه الدا ّل على صدق ما جاء به‪ ،‬وأنه‬
‫من عند هللا‪ ،‬فكان ينبغي‪ l‬أالّ يجادل فيه‪ ،‬وال يتساءل عنه‪ ،‬بل يقطع به وال يشك فيه‪ ،‬وقد قال‬
‫تعالى‪:‬‬
‫{ قُ ْل ه َُو نَبَؤ ْا َع ِظي ُم }‬
‫[صا‪ ]67:‬اآلية‪ .‬وقال الورتجبي‪ :‬النبأ العظيم‪ :‬كالمه القديم‪ ,‬عظيم بعظم هللا القديم‪ ،‬ال يَنال بركته‬
‫إالّ أهل هللا وخاصته‪ .‬هـ‪ .‬وقيل‪ :‬كانوا يسألون المؤمنين‪ ،‬فالتفاعل قد يكون من واحد متعدد‪ ،‬كما‬
‫في قولك‪ :‬تراؤوا الهالل‪ .‬انظر أبا السعود‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬عن النبأ العظيم } يتعلق بمحذوف‪ ،‬د ّل عليه ما قبله‪ ،‬فيوقف على " يتساءلون " ثم‬
‫ليستأنف " عن النبأ‪ " ...‬الخ‪ ،‬أي‪ :‬يتساءلون عن الخبر العظيم‪ ،‬وهو البعث وما بعده‪ ،‬أو‬
‫القرآن‪ ،‬فتكون المناسبة بين السورتين قوله‪:‬‬
‫{ فَبِأ َ ْ‬
‫ي َح ِديِث بَ ْع َدهُ يُ ْؤ ِمنُون‪} l‬‬
‫[المرسالت‪ ]50:‬مع قوله‪ { :‬عن النبأ العظيم } ‪ ،‬واألحسن‪ :‬أنه كل ماجاءت به الشريعة من‬
‫البعث والتوحيد والجزاء وغير ذلك‪.‬‬

‫قال ابو السعود‪ :‬هو بيان لشأن المسؤول عنه‪ ،‬إثر تفخيمه بإبهام أمره‪ ،‬وتوجيه‪ l‬أذهان السامعين‬
‫نحوه‪ ،‬وتنزيلهم منزلة المستفهمين‪ ،‬إليراده على طريقة االستفهام من عالّم الغيوب‪ ،‬للتنبيه‪l‬‬
‫على أنه لعدم نظيره خارج عن دائرة علم الخلق‪ ،‬حقيق بأن يُعتنى بمعرفته ويُسأل عنه‪ ،‬كأنه‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫قيل‪ :‬عن أي شيء يتساءلون‪ ،‬هل أُخبركم به‪ ،‬ثم قيل بطريق الجواب‪ :‬عن النبأ العظيم‪ ،‬على‬
‫منهاج قوله تعالى‪:‬‬
‫{ لِّ َم ِن ا ْل ُم ْل ُك ا ْليَ ْو َم هَّلِل ِ ا ْل َوا ِح ِد ا ْلقَهَّا ِر }‬
‫[غافر‪ ]16:‬فـ " عن " متعلقة بما يدل عليه المذكور‪ ,‬وحقه أن يُقَدَّر مؤخراً‪ ،‬مسارعة إلى‬
‫البيان‪ ،‬هذا هو الحقيق بالجزالة التنزيلية‪ l،‬وقد قيل‪ :‬هي متعلقة بالمذكور‪ ،‬و " َع َّم " متعلق‬
‫سر به‪ ،‬وأيّد ذلك بأنه قُ ِرىء " ع َّمه " ‪ ،‬واألظهر‪ :‬أنه مبني‪ l‬على إجراء الوصل‬ ‫بمضمر‪ l‬مف َّ‬
‫مجرى الوقف‪ ،‬وقيل‪ " :‬عن " األولى للتعليل‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬لِ َم يتساءلون عن النبأ العظيم؟ والنبأ‪:‬‬
‫الخبر الذي له شأن وخطر‪ .‬هـ‪.‬‬

‫{ الذين هم فيه مختلفون } ‪ ،‬فمنهم َمن يقطع بإنكاره‪ ،‬ومنهم َمن يشك‪ ،‬فمنهم َمن يقول‪:‬‬
‫َما ِه َي إِالَّ َحيَاتُنَا ال ُّد ْنيَا }‬
‫[الجاثية‪ ]24l:‬ومنهم َمن يقول‪:‬‬
‫سا َعةُ }‬ ‫{ َّما نَ ْد ِرى َما ال َّ‬
‫[الجاثية‪ ]32l:‬ومنهم َمن يُنكر المعادين معاً‪ ،‬كهؤالء‪ ،‬ومنهم َمن يُنكر المعاد الجسماني‪ ,‬كبعض‬
‫أهل الكتاب‪ .‬أو‪ :‬في القرآن‪ ،‬فمنهم َمن يقول‪ :‬سحر‪ ،‬ومنهم َمن يقول‪ :‬كهانة‪ ،‬ومنهم َمن يقر‬
‫بحقيّته‪ ،‬ويُنكره حسداً وتك ُّبراً‪ .‬والضمير‪ l‬في " هم فيه " للتأكيد‪ ،‬وفيه معنى االختصاص‪ ،‬ولم‬
‫يكن لقريش اختصاص باالختالف‪ ،‬لكن ل ّما كان خوضهم فيه أكثر‪ ,‬وتعقبهم له أظهر‪ ،‬جعلوا‬
‫كأنهم مخصوصون به‪ .‬هـ‪ .‬قاله الطيبي‪ .‬فـ " فيه " متعلق بـ " مختلفون " ‪ ،‬قُدِّم اهتماما ً به‬
‫ورعاية للفواصل‪ ،‬وجعل الصلة جملة اسمية للداللة على الثبات‪ ،‬أي‪ :‬هم راسخون في‬
‫االختالف‪ ،‬وقيل‪ :‬المراد باالختالف‪ :‬مخالفتهم للنبي صلى هللا عليه وسلم في إثباته‪ ،‬حيث‬
‫أنكروه‪ ،‬فيحمل االختالف على صدور الفعل من متعدد‪ ،‬ال علَى مخالفة بعضهم لبعض من‬
‫الجانبين‪ ،‬ألنَّ الكل وإن استحق الردع والوعيد‪ ،‬لكن استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته‬
‫للجانب اآلخر‪ ،‬إذ ال حقيّة في شيء منهما حتى يستحق َمن يخالفه المؤاخذة‪ ،‬بل لمخالفته له‬
‫صلى هللا عليه وسلم في إثباته‪ .‬هـ‪ .‬انظر أبا السعود‪.‬‬

‫ب حقيقة الحال إذا‬‫{ كالَّ } ‪ ،‬ردع عن االختالف والتساؤل بالمعنى المتقدم‪ { ،‬سيعلمون } عن قري ٍ‬
‫ح ّل بهم العذاب والنكال‪ { ،‬ث َّم كالَّ سيعلمون } ‪ ،‬تكرير للردع والوعيد للمبالغة في التأكيد‬
‫والتشديد‪ .‬والسين للتقريب والتأكيد‪ .‬و " ثم " للداللة على أنَّ الوعيد الثاني أبلغ وأشد‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫األول عند النزع‪ ،‬والثاني عند القيامة‪ ،‬وقيل‪ :‬األول للبعث‪ ،‬والثاني للجزاء‪ .‬وقُرىء " ستعلمون‬
‫" بالخطاب على نهج االلتفات‪ ،‬تشديداً للردع والوعيد‪ ،‬ال على تقدير‪ :‬قل لهم؛ لإلخالل بجزالة‬
‫النظم الكريم‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬إن ظهرت أنوار الطريق‪ ،‬والحت أسرار أهل التحقيق‪ ،‬كثر الكالم بين الناس فيها‪،‬‬
‫والتساؤل عنها‪ ،‬فيُقال في شأنهم‪ ،‬ع َّم يتساؤلون عن النبأ العظيم‪ ،‬الذي هو ظهور الحق‬
‫وشهوده‪ ،‬الذي هم فيه مختلفون‪ ،‬فمنهم َمن يُنكره رأساً‪ ،‬ومنهم َمن يُقره في الجملة‪ ،‬ويقول‪ :‬هم‬
‫لقوم أخفياء ال يعرفهم أحد‪ ،‬كالَّ سيعلمون يوم تحق الحقائق وتبطل الدعاوى‪ ،‬ويندم المفرط‪،‬‬
‫حيث ال ينفع الندم وقد زلّت به القدم‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ض ِم َهاداً } * { َوا ْل ِجبَا َل أَ ْوتَاداً } * { َو َخلَ ْقنَا ُك ْم أَ ْز َواجا ً } * { َو َج َع ْلنَا نَ ْو َم ُك ْم‬ ‫*{ أَلَ ْم نَ ْج َع ِل األَ ْر َ‬
‫شدَاداً } * {‬ ‫س ْبعا ً ِ‬ ‫ار َم َعاشا ً } * { َوبَنَ ْينَا فَ ْوقَ ُك ْم َ‬
‫سبَاتا ً } * { َو َج َع ْلنَا اللَّ ْي َل لِبَاسا ً } * { َو َج َع ْلنَا النَّ َه َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫ت َمآ ًء ث َّجاجا ً } * { لِّنُ ْخ ِر َج بِ ِه َحبّا ً َونَبَاتا ً } *‬ ‫ص َرا ِ‬ ‫َ‬
‫س َراجا ً َوهَّاجا ً } * { َوأن َز ْلنَا ِمنَ ا ْل ُم ْع ِ‬ ‫َو َج َع ْلنَا ِ‬
‫ت أَ ْلفَافا ً }‬‫{ َو َجنَّا ٍ‬

‫األرض ِمهاداً } أي‪ :‬بساطا ً وفراشاً‪ ،‬فرشناها لكم حتى‬


‫َ‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬ألم نجعل‬
‫سكنتموها‪ .‬وقُرىء " َم ْهداً " تشبيها ً لها بمهد الصبي‪ ،‬وهو ما يم ّهد له لينام عليه‪ ،‬تسمية‪l‬‬
‫للممهود بالمصدر‪ .‬ول ّما أنكروا البعث قيل لهم‪ :‬ألم يَخلُق َمن أضيف إليه البعث هذه الخالئق‬
‫العجيبة‪ l،‬فلِ َم تُنكرون قدرته على البعث؟ وما هو إال اختراع مثل هذه االختراعات‪ ،‬أو‪ :‬قيل لهم‪:‬‬
‫ِل َم فعل هذه األشياء‪ ،‬والحكيم ال يفعل شيئا ً عبثاً‪ ،‬وإنكا ُر البعث يؤدّي إلى أنه عابث في كل ما‬
‫فعل؟ ومن هنا يتضح أنَّ الذي وقع عنه التساؤل هو البعث‪ ،‬ال القرآن أو نبوة النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم كما قيل‪ .‬والهمزة للتقرير‪ .‬وااللتفات إلى الخطاب على القراءة المشهورة للمبالغة في‬
‫اإللزام والتبكيت‪.‬‬

‫{ والجبا َل أوتاداً } لألرض‪ ،‬لئال تميد بكم‪ ،‬فأرساها بها كما يُرسى البيت باألوتاد‪ { ،‬وخلقناكم‬
‫أزواجا ً } ذكراً وأنثى‪ ،‬ليسكن كل من الصنفين إلى اآلخر‪ ،‬وينتظم أمر المعاشرة والمعاش‪،‬‬
‫ويتيسر‪ l‬التناسل‪ .‬وقيل‪ :‬خلقناكم أصنافا ً وأنواعا ً في ألوانكم وصوركم وألسنتكم‪ ،‬وهو عطف على‬
‫المضارع المنفي‪ ،‬داخل في حكم التقرير‪ ،‬فإنه في قوة‪ :‬إنما جعلنا األرض‪ ..‬الخ‪.‬‬

‫والتصرف‪ l،‬فتريحون أبدانكم به من‬


‫ُّ‬ ‫سباتا ً } أي‪ :‬راحة لكم‪ ،‬أو‪ :‬قطعا ً لألعمال‬ ‫{ وجعلنا نَومكم ُ‬
‫التعب‪ .‬والس ْبت‪ :‬القطع‪ .‬أو‪ :‬موتاً؛ لِما بينهما من المشاكلة التامة في انقطاع أحكام الحياة‪ ،‬وعليه‬
‫قوله تعالى‪:‬‬
‫َّ‬
‫{ َو ُه َو الَّ ِذي يَتَ َوفا ُكم بِالَّ ْي ِل }‬
‫[األنعام‪ ]60:‬وقوله‪:‬‬
‫س ِحينَ َم ْوتِ َها َوالَّتِي لَ ْم تَ ُمتْ ِفي َمنَا ِم َها }‬ ‫{ هللاُ يَتَ َوفَّى األَنفُ َ‬
‫[الزمر‪.]42:‬‬

‫{ وجعلنا اللي َل لباسا ً } يستركم بظالمه‪ ،‬كما يستركم اللباس‪ ،‬شبّهه بالثياب التي تلبس‪ ،‬ألنه‬
‫يستر عن العيون‪ ،‬وقيل‪ :‬المراد به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه‪ { .‬وجلعنا النها َر‬
‫معاشا ً } أي‪ :‬وقت حياة تتمعشون فيه من نومكم‪ ،‬الذي هو أخو الموت‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫{ َو َج َع َل النَّ َه َ‬
‫ار نُشُوراً }‬
‫[الفرقان‪ ]47:‬أي‪ :‬تنتشرون فيه من نومكم‪ ،‬أو تطلبون فيه معاشكم‪ ،‬وتتقلبون في حوائجكم‪،‬‬
‫على حذف مضاف‪ ،‬أي‪ :‬ذا معاش‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫شداداً } أي‪ :‬سبع سموات‪ ،‬قوية الخلق‪ ،‬محكمة البناء‪ ،‬ال يؤثّر فيها م ّر‬ ‫س ْبعا ً ِ‬
‫{ وبنينا فوقكم َ‬
‫الدهور‪ ،‬وال المرور والكرور‪ .‬والتعبير‪ l‬عنها بالبناء مبني‪ l‬على تنزيلها منزلة القبة المضروبة‬
‫سراجا ً وهَّاجا ً } أي‪ :‬مضيئا ً‬ ‫على الخلق‪ ،‬وهو يؤيد كونها األفالك المحيطة‪ { .‬وجعلنا } فيها { ِ‬
‫وقّاداً‪ ،‬أي‪ :‬جامعا ً للنور والحرارة‪ ،‬وهو الشمس‪ ،‬والوهَّاج‪ :‬الوقّاد المتأللىء‪ ،‬من‪ :‬وهجت النار‬
‫إذا أضاءت‪ ،‬أو البالغ في الحرارة‪ ،‬من‪ :‬الوهج‪ ،‬وهو الحر‪ .‬والتعبير عنها بالسراج مناسب‬
‫للتعبير عن السموات بالبناء‪ ،‬فالدنيا بيت وسراجه الشمس بالنهار والقمر والنجوم بالليل‪.‬‬
‫والجعل هنا بمعنى اإلنشاء واإلبداع‪ ،‬كالخلق‪ ،‬غير أنَّ الجعل مختص باإلنشاء التكويني‪ ،‬وفيه‬
‫معنى التقدير والتسوية‪.‬‬

‫صرات } أي‪ :‬السحاب إذا أعصرت‪ ،‬أي‪ :‬شارفت أن يعصرها الرياح فتمطر‪،‬‬ ‫{ وأنزلنا من ال ُم ْع ِ‬
‫ومنه‪ :‬أعصرت الجارية‪ :‬إذا دنت أن تحيض‪ ،‬والرياح‪ :‬إذا حان لها أن تعصر السحاب‪ ،‬وقد جاء‪:‬‬
‫أنَّ هللا تعالى يبعث الرياح‪ ،‬فتحمل الماء إلى السحاب فتعصره كما يعصر الماء من الجفافة‪ ،‬أي‪:‬‬
‫أنزلنا من السحاب { ما ًء ثَ َّجاجا ً } أي‪ :‬منصبا ً بكثرة‪ ،‬يقال‪ :‬ثج الدم‪ ،‬أي‪ :‬أساله‪ ،‬ومنه‪ l‬قوله صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫العج والثج " أي‪ :‬رفع الصوت بالتلبية‪ l،‬وصب دم ال َهدْي‪.‬‬ ‫" أفضل الحج ّ‬

‫{ لنُخرج به }؛ بذلك الماء { حبا ً } يُقتات به‪ ،‬كالحنطة والشعير‪ ،‬ونحوهما { ونباتا ً } يُعلف‪،‬‬
‫كالتبن والحشيش‪ .‬قال الطيبي‪ :‬النبات أريد به النابت‪ .‬وتقديم الحب مع تأخره في اإلخراج‬
‫ت }؛ بساتين‪ ،‬من‪ :‬جنّة إذا ستره‪ ،‬فالجنة تطلق على ما‬ ‫لشرفه؛ ألنَّ غالبة قوت اإلنسان‪ { .‬وجنا ٍ‬
‫فيه النخل والشجر المتكاثف‪ ,‬ألنه يستر األرض بظل أشجاره‪ ،‬وقال الفراء‪ :‬الجنة ما فيه النخل‪،‬‬
‫والفردوس مافيه الكرم‪ .‬و { ألفافا ً } صفة‪ ،‬أي‪ :‬ملتفّةَ األشجار‪ ،‬واحدها‪ " :‬لِفّ " ك ِكن وأكنان‪،‬‬
‫كأوزاع وأضياف‪ ،‬أو جمع الجمع‪ ،‬فألفاف جمع "‬ ‫أو‪ :‬لَفيف‪ ،‬كشريف وأشراف‪ ،‬أو‪ :‬ال واحد له‪ْ ،‬‬
‫كخضر وخضراء‪ ،‬واللِّفُ ‪ :‬الشجر الملتف‪.‬‬ ‫لُفّ " بالضم‪ ،‬و " لُفّ " ـ جمع " لَفَّاء " ُ‬

‫قال أبو السعود‪ :‬اعلم أنَّ فيما ذكر تعالى من أفعاله ـ ع ّز وجل ـ داللة على صحة البعث من ثالثة‬
‫أوجه‪:‬‬

‫األول‪ :‬باعتبار قدرته تعالى‪ ،‬فإنَّ َمن قَدَر على إنشاء هذه األفعال البديعة‪ ،‬من غير مثال يحتذيه‬
‫وال قانون ينتحيه‪ ،‬كان على اإلعادة أقدر وأقوى‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬باعتبار علمه وحكمته‪ l،‬فإنَّ َمن أبدع هذه المصنوعات على نمط رائع‪ ،‬مستتبع‪ l‬لغايات‬
‫جليلة‪ ،‬ومنافع جميلة‪ ،‬عائدة إلى الخلق‪ ,‬يستحيل أن يخليها من الحكمة بالكلية‪ ،‬وال يجعل لها‬
‫عاقبة باقية‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬باعتبار نفس الفعل‪ ،‬فإنَّ في اليقظة بعد النوم أنموذجا ً للبعث بعد الموت‪ ،‬يشاهدونها كل‬
‫يوم‪ ،‬وكذا إخراج الحب والنبات من األرض الميتة‪ ،‬يعاينونه كل حين‪ ،‬شاهد على إخراج الموتى‬
‫من القبور بعد الفناء والدثور‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬ألم يفعل هذه األفعال اآلفاقية واألنفسية‪ l،‬الدالة بفنون‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫الدالالت على حقيّة البعث‪ ،‬الموجبة لإليمان به‪ ،‬فما لكم تخوضون فيه إنكاراً‪ ،‬وتتساؤلون عنه‬
‫استهزا ًء؟ هـ‪.‬‬

‫أرض البشرية ِمهاداً للعبودية والقيام بآداب الربوبية‪ ،‬وجبا َل العقل أوتاداً‪،‬‬
‫َ‬ ‫اإلشارة‪ :‬ألم نجعل‬
‫يسكنونها لئال يميلها الهوى عن االعتدال في االستقامة وخلقناكم أزواجا ً أصنافاً؛ عارفين‬
‫سنَتكم عن‬ ‫وعلماء‪ ،‬و ُعبَّاداً و ُزهَّاداً‪ ،‬وصالحين وجاهلين‪ ،‬وعصاة وكافرين‪ ،‬وجعلنا نو َمكم‪ ،‬اي‪ِ :‬‬
‫سباتاً‪ ،‬أي‪ :‬راحة للقلوب‪ ،‬ألنَّ دوام‬ ‫الشهود‪ ,‬بالميل إلى شيء من الحس في بعض األوقات‪ُ ،‬‬
‫ق البشرية‪ l،‬وفي األثر‪َ " :‬ر ِّوحوا قلوبكم بشي ٍء من المباحات " أو كما قال عليه‬ ‫التجلَّي يمح ُ‬
‫الصالة والسالم‪ .‬أو‪ :‬نو َمكم الحسي راحة لألبدان‪ ،‬لتنشط للعبادة‪ ،‬وجعلنا ليل القطيعة لباسا ً‬
‫نهار العيان معاشاً؛ حياة لألرواح واألسرار‪ ،‬وبنينا فوقكم سب َع‬
‫َ‬ ‫ساتراً عن الشهود‪ ,‬وجعلنا‬
‫شداداً صعاباً‪ ،‬فإذا قطعتموها وترقيتم عنها أفضيتم إلى فضاء الشهود‪ ،‬وهي التوبة‬ ‫مقامات ِ‬
‫النصوح‪ ,‬والورع‪ ،‬والزهد‪ ،‬والصبر على مجاهدة النفس‪ ،‬وخرق عوائدها‪ ،‬والتو ُّكل‪ ،‬والرضا‪،‬‬
‫سراجا ً وهّاجاً‪ ،‬وهي شمس العرفان ال تغرب أبداً‪،‬‬ ‫والتسليم‪ ،‬وجعلنا في قلوبكم بعد هذه المقامات ِ‬
‫ثجاجاً‪ ،‬تحيى به األوراح واألسرار‪ ،‬وهو ماء الواردات اإللهية‪،‬‬ ‫وأنزلنا من سماء الغيوب ماء ّ‬
‫والعلوم اللدنية‪ ،‬لنُخرج به حبًّا؛ ِحكما ً لقوت األرواح‪ ،‬ونباتاً؛ علوما ً لقوت النفوس‪ ،‬وجنات‪:‬‬
‫بساتين التوحيد‪ ،‬مشتملة‪ l‬على أشجار ثمار األذواق وظالل التقريب‪.‬‬

‫س َمآ ُء‬‫ت ال َّ‬ ‫الصو ِر فَتَأْتُونَ أَ ْف َواجا ً } * { َوفُتِ َح ِ‬ ‫ص ِل َكانَ ِميقَاتا ً } * { يَ ْو َم يُنفَ ُ‪l‬خ فِي ُّ‬ ‫*{ إِنَّ يَ ْو َم ا ْلفَ ْ‬
‫صاداً } * { لِّلطَّا ِغينَ‬ ‫س َرابا ً } * { إِنَّ َج َهنَّ َم َكانَتْ ِم ْر َ‬ ‫ت ا ْل ِجبَا ُل فَ َكانَتْ َ‬ ‫فَ َكانَتْ أَ ْب َوابا ً } * { َو ُ‬
‫سيِّ َر ِ‬
‫ساقا ً } *‬ ‫ش َرابا ً } * { إِالَّ َح ِميما ً َو َغ َّ‬ ‫َمآبا ً } * { الَّبِثِينَ فِي َهآ أَ ْحقَابا ً } * { الَّ يَ ُذوقُونَ فِي َها بَ ْرداً َوالَ َ‬
‫سابا ً } * { َو َك َّذبُو ْا بِآيَاتِنَا ِك َّذابا ً } * { َو ُك َّل ش َْي ٍء‬ ‫{ َج َزآ ًء ِوفَاقا ً } * { إِنَّ ُه ْم َكانُو ْا الَ يَ ْر ُجونَ ِح َ‬
‫ص ْينَاهُ ِكتَابا ً } * { فَ ُذوقُو ْا فَلَن نَّ ِزي َد ُك ْم إِالَّ َع َذابا ً }‬ ‫أَ ْح َ‬

‫ق‬‫ص ِل } بين الخالئق‪ ،‬فيتميز المحسن من المسيء‪ ،‬والمح ّ‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬إِنَّ يو َم الفَ ْ‬
‫من المبطل‪ { ،‬كان } في علم هللا تعالى وتقديره { ميقاتا ً }؛ وقتا ً محدوداً‪ ,‬و ُمنتهى معلوما ً لوقوع‬
‫الجزاء‪ ,‬أو‪ :‬ميعاداً لجمع األولين واآلخرين‪ ،‬وما يترتب عليه من الجزاء ثوابا ً وعقاباً‪ ،‬ال يكاد‬
‫بالتأخر‪ ،‬وهو { يوم ينفخ في الصور } نفخة ثانية‪ l،‬فـ " يوم " بدل من " يوم‬ ‫ُّ‬ ‫يتخطاه بالتقدُّم وال‬
‫الفصل " ‪ ،‬أو عطف بيان له‪ ،‬مفيد لزيادة تخفيمه‪ l‬وتهويله في تأخير الفصل‪ ،‬فإنه زمان ممتد‪،‬‬
‫صور‪ :‬القرن الذي ينفخ‪ l‬فيه إسرافيل‪ .‬عن أبي‬ ‫في مبدئه النفحة‪ ،‬وفي بقيته‪ l‬الفصل وآثاره‪ .‬وال ُ‬
‫هريرة رضي هللا عنه أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪ " :‬ل ّما خلق هللا السموات واألرض‬
‫خلق الصور‪ ،‬فأعطاه إسرافيل‪ ،‬فهو واضع له على فيه‪ ،‬شاخص ببصره‪ l‬إلى العرش‪ ،‬حتى يؤمر‪l‬‬
‫بالنفخ فيه‪ ،‬فيؤمر به‪ ،‬فينفخ نفخةً ال يبقى عندها في الحياة غير ما شاء هللا‪ ،‬وذلك قوله تعالى‪:‬‬
‫ت‪[ } ...‬الزمر‪ ]68l:‬اآلية‪ ،‬ثم يؤمر بأخرى‪ ،‬فينفخ‬ ‫سماوا ِ‬
‫ق َمن فِي ال َّ‬ ‫ص ِع َ‬‫الصو ِر فَ َ‬
‫{ َونُفِ َخ فِي ُّ‬
‫نفخه ال يبقى معها ميت إالَّ بُعث وقام‪ ،‬وذلك قوله تعالى‪ { :‬ثُ ََّم نُفِ َخ فِي ِه أُ ْخ َرى فَإ ِ َذا ُه ْم قِيَا ٌم‬
‫يَنظُ ُرونَ } [الزمر‪" .]68:‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫والفاء في قوله تعالى‪ { :‬فتأتون } فصيحة تفصح عن جملة ُحذفت ثقةً بداللة الحال عليها‪،‬‬
‫وإيذانا ً بغاية سرعة اإلتيان‪ ،‬كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫صاكَ ا ْلبَ ْح َر فَـانفَلَ َ‬
‫ق}‬ ‫اض ِرب بِّ َع َ‬ ‫{ أّ ِن ْ‬
‫[الشعراء‪ ]63:‬أي‪ :‬فتبعثون من قبوركم فـتأتون عقب ذلك من غير لبث { أفواجا ً }؛ جماعات‬
‫مختلفة األحوال‪ ،‬متباينة‪ ،‬األوضاع‪ ،‬حسب اختالف أعمالكم وتباينها‪ِ ،‬من راكب‪ ،‬وطائر‪ ،‬وماش‬
‫خفيف وثقيل‪ ،‬ومكب على وجهه‪ ,‬وغير ذلك من األحوال العظيمة‪ ،‬أو‪ :‬أمماً‪ ،‬كل أمة مع رسولها‪،‬‬
‫كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫س بِإ ِ َما ِم ْهم }‬ ‫{ يَ ْو َم نَ ْدعُو ْا ُك َّل أُنا َ ِ‬
‫[الكهف‪.]47:‬‬

‫{ وفُتِحت السما ُء } أي‪ :‬تشققت لنزول المالئكة‪ ،‬وصيغة الماضي لتحقُّق وقوعه‪ { ،‬فكانت‬
‫أبوابا ً }؛ فصارت ذات أبواب وطرق وفروج‪ ,‬وما لها اليو َم من فُروج‪ { .‬و ُ‬
‫س ْيرت الجبا ُل } في‬
‫س َرابا ً }؛ هبا ًء‪ ،‬تخيل الشمس أنها سراب‪ ،‬وهَل‬ ‫الجو على هيئتها بعد قلعها من مقارها‪ { ،‬فكانت َ‬
‫هذا التسيير قبل البعث‪ ,‬فال يقع إالَّ على أرض قاع صفصف‪ ،‬وهو ما تقتضيه‪ l‬ظواهر اآليات‪،‬‬
‫كقوله‪:‬‬
‫ض بَا ِرزَ ةً َو َحش َْرنَا ُه ْم }‬ ‫َ‬
‫سيِّ ُ‪l‬ر ا ْل ِجبَا َل َوتَ َرى األ ْر َ‬ ‫{ َويَ ْو َم نُ َ‬
‫[الكهف‪ ]47:‬وقوله‪:‬‬
‫ت ا ْل َواقِ َعةُ }‬
‫اح َدةً فَيَ ْو َمئِ ٍذ َوقَ َع ِ‬ ‫ت األَ ْر ُ‬
‫ض َوا ْل ِجبَا ُل فَ ُد َّكتَا َد َّكةً َو ِ‬ ‫{ َو ُح ِملَ ِ‬
‫[الحاقة‪ ]15 ،14:‬والفاء تقتضي الترتيب‪ ،‬أو ال يقع إالّ بعد البعث‪ ،‬وهو ظاهر اآلية هنا وسورة‬
‫سيّر‬
‫القارعة‪ .‬وهو الذي اقتصر عليه أبو السعود‪ ،‬قال‪ :‬يُبدل هللاُ األرض‪ ,‬ويُغيّر هيئاتها‪ ،‬ويُ َ‬
‫الجبال على تلك الهيئة‪ l‬الهائلة عند حشر الخالئق بعد النفخة الثانية ليشاهدوها‪ .‬هـ‪ .‬وهللا أعلم‬
‫بحقيقة األمر‪.‬‬

‫ثم شرع في تفصيل أحكام الفصل بعد بيان هوله‪ ،‬وقدَّم بيان حال الكفرة ترهيباً‪ ،‬فقال‪ { :‬إنَّ جهنم‬
‫صاداً } أي‪ :‬موضع الرصد‪ ،‬وهو االرتقاب واالنتظار‪ ،‬أي‪ :‬تنتظر الكفار وترتقبهم‬ ‫كانت ِم ْر َ‬
‫ليدخلوا فيها‪ ،‬أو طريقا ً يمر عليه الخلق‪ ،‬فالمؤمن يمر عليها‪ ،‬والكافر يقع فيها‪ ،‬أي‪ :‬كانت في‬
‫علم هللا وقضائه موضع رصد يرصد فيه الخزنةُ الكفا َر ليعذبوهم فيها‪ { ،‬للطاغين مآبا ً }‪ :‬نعت‬
‫لمرصاد‪ ،‬أي‪ :‬كائنا ً للطاغين مرجعا ً يرجعون إليه ال محالة‪ { ،‬البثين فيها } ‪ ،‬ماكثين فيها‪ ،‬وهو‬
‫حال ُمقدَّرة من المستكن في الطاغين‪.‬‬
‫وقرأ حمزة (لبثين)‪ ،‬وهو أبلغ من " البثين " ألنَّ الالبث َمن يقع منه مطلق اللَّ ْبث‪ ،‬واللَّبِث َمن‬
‫شأنه اللبث والمقام‪ ،‬و { أحقابا ً }‪ :‬طرف للبثهم‪ ،‬جمع ُحقب‪ ،‬كقُ ْفل وأقفال‪ ،‬وهو الدهر‪ ،‬ولم يرد‬
‫الحقب إالّ حيث‬ ‫به عدداً محصوراً‪ ،‬بل كلما مضى ُحقب تبعه حقب‪ ،‬إلى غير نهاية‪ ،‬وال يستعمل‪ُ l‬‬
‫يراد تتابع األزمنة‪ l‬وتواليها‪ .‬وقيل‪ :‬الحقب ثمانون سنة‪ ،‬و ُروي عنه ـ عليه الصالة والسالم ـ أنه‬
‫ثالثون ألف سنة‪ l.‬وقال الحسن‪ :‬ليس لألحقاب عدة إالّ الخلود‪.‬‬

‫{ ال يَ ُذوقون فيها بَ ْرداً وال شَرابا ً }‪ :‬حال من ضمير " البثين " أي‪ :‬غير ذائقين فيها { برداً }‬
‫أي‪ :‬نسيما ً بارداً‪ ،‬بل لهبا ً حاراً‪ { ،‬وال شرابا ً } بارداً‪ { ،‬إالَّ حميما ً }؛ ما ًء حاراً‪ ،‬استثناء منقطع‪،‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫أي‪ :‬ال يذوقون في جهنم‪ ،‬أو في األحقاب‪ ،‬برداً‪ ،‬وال ينفس عنهم غم حر النهار‪ ،‬أو‪ :‬نوماً‪ ،‬فإنَّ‬
‫س ْورة العطش‪ ,‬وال شرابا ً يُسكن عطشهم‪ ،‬لكن يذوقون فيها‬ ‫النوم يطلق عليه البرد‪ ،‬ألنه يبرد َ‬
‫ساقا ً } أي‪ :‬صديداً يسيل من أجسادهم‪ .‬وفي القاموس‪:‬‬ ‫ما ًء حاراً‪ ،‬يحرق ما يأتي عليه‪ { ،‬وغ َّ‬
‫سحاب وشدّاد‪ :‬الباد ُر المنتن‪ .‬وقال الهروي عن الليث‪( :‬وغساقاً) أي‪ُ :‬منتناً‪ ،‬ود ّل عليه‬ ‫و َغساق ك َ‬
‫ق في الدنيا‪ ،‬ألنتَنَ أه ُل الدنيا " ‪ ،‬وقيل‪:‬‬ ‫قوله صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬لو أنَّ دلواً من غساق يُ َ‬
‫هرا ُ‬
‫سق‪ ،‬إذا سالت‪ .‬ثم‬ ‫ما يسيل من أعينهم من دموعهم يسقون به مع الحميم‪ ،‬يقال‪ :‬غسقت عينه ت ْغ َ‬
‫قال‪ :‬و َمن قرأ بالتخفيف‪ ،‬فهو البارد الذي يُحرق ببرده‪ .‬هـ‪.‬‬

‫{ جزا ًء ِوفاقا ً } أي‪ُ :‬جوزوا بذلك جزا ًء موافقا ً ألعمالهم الخبيثة‪ ،‬مصدر بمعنى الصفة‪ ،‬أو‪ :‬ذا‬
‫وفاق‪ { .‬إِنهم كانوا ال يرجون ِحسابا ً } أي‪ :‬ال يخافون محاسبة هللا إياهم‪ ،‬أو‪ :‬ال يؤمنون بالبعث‬
‫وكذبوا بآياتنا } الناطقة بذلك { ِك َّذابا ً } أي‪ :‬تكذيبا ً مفرطاً‪ ،‬ولذلك كانوا‬
‫فيرجعوا حسابه‪ّ { ،‬‬
‫مصرين على الكفر وفنون المعاصي‪ .‬و " ف ّعال " في باب ف ّعل فاش‪ { .‬وك َّل شي ٍء } من األشياء‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫و ِمن جملتها أعمالهم الخبيثة‪ { l،‬أحصيناه } أي‪ :‬حفظناه وضبطناه { ِكتابا ً } ‪ ،‬مصدر مؤكد‬
‫ألحصينا؛ ألنَّ اإلحصاء والكتابة من وا ٍد واحد‪ ،‬أو‪ :‬حال بمعنى مكتوب في اللوح المحفوظ‪ ,‬أو في‬
‫صحف الحفظة‪ ،‬والجملة اعتراض‪ ،‬وقولة تعالى‪ { :‬ف ُذوقوا فلن نزيدكم إِالَّ عذابا ً } مسبب عن‬
‫كفرهم بالحساب‪ ،‬وتكذيبهم باآليات‪ ،‬أي‪ :‬فذوقوا جزاء تكذيبكم وااللتفات شاهد على شدّة‬
‫الغضب‪.‬‬
‫روي عنه صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪ " :‬إنَّ هذه اآلية أش ُّد ما في القرآن على أهل النار "‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬إنَّ يوم الفصل بين العمومية‪ l‬والخصوصية‪ l،‬أو تقول‪ :‬بين االنتقال من مقام أهل اليمين‬
‫إلى مقام المقربين‪ ،‬كان في علم هللا ميقاتاً‪ ،‬أي‪ :‬مؤقتاً‪ ،‬وهو يوم انتقاله من شهود األكوان إلى‬
‫شهود المك ِّون‪ ،‬أو من مقام البرهان إلى مقام العيان‪ .‬يوم يُنفخ‪ l‬في صور األرواح التي سبقت لها‬
‫العناية‪ ،‬فيُزعجها شوق مقلق أو خوف مزعج‪ ،‬فتأتون إلى حضرة القدس‪ ،‬تسيرون إليها على يد‬
‫الخبير أفواجاً‪ ،‬وفُتحت سماء األرواح ليقع العروج إليها من تلك األرواح السائرة‪ ،‬فكانت أبواباً‪،‬‬
‫سيرت جبال العقل حين سطوع أنوار الحقائق‪ ،‬فكانت سراباً‪ ،‬فال يبقى من نور العقل إِالّ ما يميز‪l‬‬ ‫و ُ‬
‫به بين الحس والمعنى‪ ،‬وبين الشريعة والحقيقة‪ .‬إنَّ جهنم البُعد كانت ِمرصاداً‪ ،‬للطاغين‬
‫المتكبرين عن حط رؤوسهم للخبير‪ ،‬الباقين مع عامة أهل اليمين‪ ،‬مآبا ً ال يبرحون عنها‪ ،‬البثين‬
‫فيها أحقابا ً مدة عمرهم وما بعد موتهم‪ ،‬ال يذوقون فيها برد الرضا‪ ،‬وال شراب نسيم التسليم‪ ،‬إالَّ‬
‫حميماً‪ :‬حر التدبير واالختيار‪ ،‬وغساقاً‪ :‬نتن حب الدنيا وهمومها‪ ،‬جزا ًء موافقا ً لميلهم إلى‬
‫الحظوظ والهوى‪ ،‬إنهم كانوا ال يرجون ِحساباً‪ ،‬فلم يحاسبوا نفوسهم‪ ،‬وال التفتوا إلى إخالصها‪،‬‬
‫وكذبوا بأهل الخصوصية‪ l،‬وهم األولياء الدالون على هللا‪ ،‬ثم يقال لهم‪ّ :‬ذوقوا وبال القطيعة‪ ،‬فلن‬ ‫ّ‬
‫نزيدكم إالّ تعبا ً وحرصا ً وجزعاً‪.‬عائذاً باهلل من سوء القضاء‪ ،‬وشماتة األعداء‪.‬‬

‫ب أَ ْت َرابا ً } * { َو َكأْسا ً ِدهَاقا ً } * { الَّ‬ ‫ق َوأَ ْعنَابا ً } * { َو َك َوا ِع َ‬


‫*{ إِنَّ لِ ْل ُمتَّقِينَ َمفَازاً } * { َحدَآئِ َ‬
‫ت َواألَ ْر ِ‬
‫ض‬ ‫س َما َوا ِ‬ ‫سابا ً } * { َّر ِّب ال َّ‬‫س َم ُعونَ فِي َها لَ ْغواً َوالَ ِك َّذابا ً } * { َجزَ آ ًء ِّمن َّربِّ َك َعطَآ ًء ِح َ‬ ‫يَ ْ‬
‫وح َوا ْل َمالَئِ َكةُ َ‬
‫صفّا ً الَّ يَتَ َكلَّ ُمونَ إِالَّ‬ ‫َو َما بَ ْينَ ُه َما ال َّر ْح َمـا ِن الَ يَ ْملِ ُكونَ ِم ْنهُ ِخطَابا ً } * { يَ ْو َم يَقُو ُم ُّ‬
‫الر ُ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ق فَ َمن شَآ َء اتَّ َخ َذ إِلَىا َربِّ ِه َمآبا ً } * { إِنَّآ‬


‫ص َوابا ً } * { َذلِ َك ا ْليَ ْو ُم ا ْل َح ُّ‬ ‫َمنْ أَ ِذنَ لَهُ ال َّر ْح َمـانُ َوقَا َل َ‬
‫أَن َذ ْرنَا ُك ْم َع َذابا ً قَ ِريبا ً يَ ْو َم يَنظُ ُر ا ْل َم ْر ُء َما قَ َّد َمتْ يَدَاهُ َويَقُو ُل ا ْل َكافِ ُر يالَ ْيتَنِي ُكنتُ تُ َرابا ً }‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬إِنَّ للمتقين مفازاً } أي‪ :‬فوزاً ونجاة من كل مكروه‪ ،‬وظفراً بكل محبوب‪،‬‬
‫وهو َم ْف َع ٌل من الفوز‪ ،‬يصلح أن يكون مصدراً ومكاناً‪ ،‬وهو الجنة‪ ،‬ثم أبدل البعض من الكل‪،‬‬
‫ق }؛ بساتين فيها أنواع الشجر المثمر‪ ،‬جمع حديقة‪ ,‬وأبدل من المفرد‪ ،‬ألنَّ المصدر‬ ‫فقال‪ { :‬حدائ َ‬
‫ال يجمع‪ ,‬بل يصلح للقليل والكثير‪ { ،‬وأعنابا ً } ‪ ،‬كرر لشرفه‪ ،‬ألنه يخرج منه أصناف ِمن النِعم‪،‬‬
‫ت في‬ ‫ت مستويا ٍ‬‫وكواعب }؛ نساء نوا ِهد‪ ،‬وهي َمن لم تسقط ثديها لصغ ٍر‪ { ،‬أترابا ً } أي‪ :‬لَدَا ٍ‬ ‫َ‬ ‫{‬
‫السنّ ‪ { ،‬وكأسا ً ِدهاقا ً }؛ مملوءة‪.‬‬

‫{ ال يسمعون فيها }؛ في الجنة‪ ،‬حال من ضمير‪ l‬خبر " إن " ‪ { ،‬لَ ْغواً }؛ باطالً‪ { ،‬وال ِك َّذابا ً }‬
‫يكذب بعضهم بعضاً‪ ،‬وقرأ الكسائي بالتخفيف‪ ,‬من المكاذبة‪ ،‬أي‪ :‬ال يُكاذبه أحد‪ { ،‬جزا ًء‬ ‫أي‪ :‬ال ّ‬
‫من ربك }‪ :‬مصدر مؤكد منصوب‪ l,‬بمعنى‪ :‬إنَّ للمتقين مفازاً‪ ،‬فإنه في قوة أن يقال‪ :‬جازى‬
‫والتعرض لعنوان الربوبية‪ l،‬المنبئة‪ l‬عن التبليغ إلى الكمال‬ ‫ُّ‬ ‫المتقين بمفاز جزاء كائنا ً من ربك‪.‬‬
‫شيئا ً فشيئا ً مع اإلضافة إلى ضميره صلى هللا عليه وسلم مزيد تشريف له عليه الصالة والسالم‪،‬‬
‫تفضالً منه تعالى وإحساناً‪ ،‬إذ ال يجب عليه شيء‪ ،‬وهو بدل ِمن " جزاء " ‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫{ عَطا ًء } أي‪:‬‬
‫حسباً‪ ،‬أي‪ :‬كافياً‪ ،‬على أنه مصدر أقيم مقام الوصف‪ ،‬أو بولغ فيه‪ ،‬من‪ :‬أحسبه‬ ‫{ ِحسابا ً } أي‪ُ :‬م ِ‬
‫إذا كفاه حتى قال حسبي‪ ,‬أو‪ :‬على حسب أعمالهم‪.‬‬

‫ض وما بينهما } بدل من " ربك " ‪ { ,‬الرحمن }‪ :‬صفة له‪ ,‬أو لألول‪ ,‬ف َمن‬ ‫ت واألر ِ‬ ‫رب السماوا ِ‬
‫{ ِّ‬
‫َج َّرهما فبدل من " ربك "‪ .‬و َمن رفعهما فـ " رب " خبر متبدأ محذوف‪ ،‬أو متبدأ خبره "‬
‫الرحمن " ‪ ،‬أو " الرحمن " صفة‪ ،‬و " ال يملكون " خبر‪ ،‬أو هما خبران‪ ،‬وأيًّا ما كان ففي ذكر‬
‫ربوبيته تعالى للكل ورحمته الواسعة إشعار بمدار الجزاء المذكور‪ { ،‬ال يملكون } أي‪ :‬أهل‬
‫السماوات واألرض { منه ِخطابا ً }؛ معذرة أو شفاعة أو غيرهما إالَّ بإذنه‪ ،‬وهو استئناف مقرر‬
‫لما أفادته الربوبية العامة‪ ،‬من غاية العظمة والكبرياء‪ ،‬واستقالله تعالى بما ذكر من الجزاء‬
‫والعطاء‪ ،‬من غير أن يكون ألحد قدرة عليه‪ ،‬والتنكير في للتقليل والنوعية‪ .‬قال القشيري‪ l:‬كيف‬
‫س بدونه نفساً؟ كالَّ‪ ،‬بل هو‬‫يكون للمك َّون المخلوق المسكين ُم ْكنةٌ أن يملك منه ِخطاباً‪ ،‬أو يتنفَّ َ‬
‫هللا الواح ُد الجبّار‪ .‬ثم قال‪ :‬إنما تظهر الهيبةُ‪ l‬على العموم ألهل الجمع في ذلك اليوم‪ .‬وأ ّما‬
‫الخصوص فهم أبداً بمشه ِ‪l‬د العز بنعت الهيبة‪ l.‬هـ‪.‬‬

‫وح }؛ جبريل عليه السالم عند الجمهور‪ ،‬وقيل‪َ :‬مل ٌك عظيم‪ ،‬ما خلق هللا تعالى بعد‬ ‫الر ُ‬
‫{ يو َم يقو َم ُّ‬
‫العرش أعظم منه‪ l،‬يكون وحده صفًّا‪ { ،‬والمالئكةُ صفا ً }‪ :‬حال‪ ،‬أي‪ :‬مصطفين { ال يتكلمون }‬
‫صوابا ً } أي‪ :‬حقًّا‪.‬‬‫أي‪ :‬الخالئق خوفاً‪ { ،‬إِالَّ َمن أّ ِذنَ له الرحمنُ } في الكالم أو الشفاعة‪ { ،‬وقال َ‬
‫قال الطيبي عن اإلمام‪ :‬فإن قيل‪ :‬لَ َّما أذن له الرحمن في التكلم َعلِ َم أنه حق وصواب‪ ،‬فما الفائدة‬
‫في قوله‪ { :‬وقا صوابا ً }؟ فالجواب من وجهين‪ ،‬أحدهما‪ :‬أنَّ التقدير‪ :‬ال ينطقون إالَّ بعد ورود‬
‫اإلذن والصواب‪ ،‬ثم يجتهدون في أالَّ ينطقوا إالَّ بالحق والصواب‪ ،‬وهذا مبالغة في وصفهم‬
‫بالطاعة‪ .‬وثانيهما‪ l:‬أنَّ التقدير‪ :‬ال يتكلمون إالَّ في محضر إذن الرحمن في شفاعته والمشفوع له‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ممن قال صواباً‪ ،‬وهو قول ال إله إالّ هللا‪ .‬هـ‪ .‬قلت‪ :‬والمعنى‪ :‬أن يُراد بالصواب‪ :‬استعمال األدب‬
‫في الخطاب‪ ،‬بمراعاة التعظيم‪ ،‬كما هو شأن الكالم مع الملوك‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬ذلك اليو ُم الحق } أي‪ :‬الثابت المحقَّق ال محالة‪ ،‬من غير صارف يلويه‪ ،‬وال‬
‫عاطف يثنيه‪ l.‬واإلشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور‪ ،‬وما فيه من معنى البُعد مع قرب‬
‫العهد بالمشار أليه لإليذان بعلو درجته‪ ،‬وبُعد منزلته في الهول والفخامة‪ .‬وهو مبتدأ‪ ،‬و " اليوم‬
‫" خبره‪ ،‬أي‪ :‬ذلك اليوم العظيم الذي يقوم الروح والمالئكة مصطفين‪ ،‬غير قادرين على التكلم‬
‫عنهم وال عن غيرهم من الهيبة والجالل‪ ،‬هو اليوم الحق‪ { ،‬ف َمن شاء اتخذ إَلى ربه مآبا ً }؛‬
‫مرجعا ً بالعمل الصالح‪ .‬والفاء فصيحة تفصح عن شرط محذوف‪ ،‬أي‪ :‬إذا كان األمر كذلك من‬
‫تحقُّق اليوم المذكور ال محالة‪ ،‬ف َمن شاء أن يتخذ إلى ربه مرجعاً‪ ،‬أي‪ :‬إلى ثواب ربه الذي ذكر‬
‫شأنه العظيم‪ ،‬فليفعل ذلك باإليمان والطاعة‪ ،‬و " إلى ربه " يتعلق بـ " مآب " قُدّم اهتماما ً‬
‫وللفواصل‪.‬‬

‫{ إِنَّا أنذرناكم } بما ذكر في السورة من اآليات الناطقة بالبعث وما بعده من الدواعي‪ ،‬أو بسائر‬
‫القوارع الواردة في القرآن‪ ،‬أي‪ :‬خوفناكم { عذابا ً قريبا ً } هو عذاب اآلخرة‪ ،‬وقُربه لتحقُّق‬
‫ت قريب‪،‬‬ ‫وقوعه‪ ،‬وكل آ ٍ‬
‫َشيَّةً أَ ْو ُ‬
‫ض َحاهَا }‬ ‫{ َكأَنَّ ُه ْم يَ ْو َم يَ َر ْونَ َها لَ ْم يَ ْلبَثُو ْا إِالَّ ع ِ‬
‫[النازعات‪ ،]46:‬وعن قتادة هو قتل قريش يوم بدر ويأباه قوله تعالى‪ { :‬يوم ينظر المرء ما‬
‫قدمت يداه } فإنه بدل من " عذاب " أو ظرف ل ُمضمر هو صفة له‪ ،‬أي‪ :‬عذابا ً كائنا ً يوم ينظر‬
‫المرء‪ ،‬أي‪ :‬يُشاهد ما قدَّمه من خير وشر‪ .‬و " ما " موصولة‪ ،‬والعائد محذوف‪ ،‬أو استفهامية‪،‬‬
‫أي‪ :‬ينظر الذي قدمته‪ l‬يداه‪ ،‬أو‪ :‬أي شيء قدمت يداه وقيل‪ :‬المراد بالمرء‪ :‬الكافر‪.‬‬

‫الذم‪ ،‬أي‪ :‬يا‬ ‫وقوله‪ { :‬ويقول الكاف ُر يا ليتني كنتُ ترابا ً } ‪ ،‬وضع الظاه َر موضع الضمير‪ l،‬لزيادة ّ‬
‫ليتني كنتُ ترابا ً لم أُخلق ولم أُكلّف‪ ,‬أو‪ :‬ليتني كنت ترابا ً في هذا اليوم فلم أُبعث‪ .‬وقيل‪ :‬يحشر هّللا ُ‬
‫تعالى الحيوان حتى يقتص للجماء من القرناء‪ ،‬ثم يرده تراباً‪ ،‬فيود الكاف ُر أن يكون ترابا ً مثله‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬الكافر‪ :‬إبليس يرى آدم وولده وثوابهم‪ ،‬فيتمنى أن يكون من الشيء الذي احتقره حين‬
‫قال‪:‬‬
‫َخلَ ْقتَنِي ِمن نَّا ٍر َو َخلَ ْقتَهُ ِمن ِطي ٍن }‬
‫[األعراف‪ 12:‬و صا‪ .]76:‬قال الطيبي‪ :‬والعموم في المرء هو الذي يساعده النظم‪ .‬ثم قال عن‬
‫خص بعد العموم قول الكافر دون المؤمن؟ قلت‪ :‬د ّل قول الكافر على غاية‬ ‫ّ‬ ‫اإلمام‪ :‬فإن قلتَ ‪ :‬لِ َم‬
‫صره الوصف‪ .‬هـ‪ .‬قال‬ ‫التبجح ونهاية الفرح بما ال يَح ُ‬
‫ُّ‬ ‫سر‪ ،‬ود ّل حذف قول المؤمن على غاية‬ ‫التح ُّ‬
‫المحشي‪ :‬والظاهر أنه اقتصر على قول الكافر بعد العموم في المرء‪ ،‬ألنه المناسب للنذارة التي‬
‫تبجحا ً‬
‫اقتضاها المقام‪ .‬هـ‪ .‬قلتُ ‪ :‬ولو ذكر قول المؤمن لقال‪ :‬ويقول المؤمن هاؤم اقرؤوا كتابيه‪ُّ ،‬‬
‫وفرحاً‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬إنَّ للمتقين هللا حق تقاته مفازاً‪ ،‬وهو التخلُّص من رؤية األكوان‪ ،‬واإلفضاء إلى رؤية‬
‫الشهود والعيان‪ ،‬وهو دخول حدائق العرفان‪ ،‬واقتطاف ثمار الوجدان‪ ،‬ونكاح أبكار الحقائق‪،‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫وهنّ أتراب‪ ،‬الستوائها غالبا ً في لذة الشهود ل َمن تمكن منها‪ .‬ويشربون كأس الخمرة األزلية‪ ،‬ال‬
‫يسمعون في حضرة القدس لغواً وال ِكذاباً‪ ،‬لغاية أدبهم‪ ،‬جزاء من ربك على مكابدتهم في أيام‬
‫سيرهم‪ ،‬عطا ًء كافيا ً مغنيا ً من الرحمن‪ ،‬ال يملكون منه‪ِ l‬خطاباً‪ ،‬لغاية هيبتهم‪ ،‬وهذا لقوم أقامهم‬
‫مقام الهيبة‪ ،‬وثَ َّم آخرون أقامهم مقام البسط واإلدالل‪ ،‬وهم المتمكنون في معرفته‪ ،‬ينبسطون‬
‫معه‪ ،‬ويشفعون في عباده في الدارين‪ .‬قال الورتجبي‪َ :‬من كان كالمه في الدنيا من حيث الكشف‬
‫والمعاينة‪ ،‬فهو مأذون في الدنيا واآلخرة‪ ،‬يتكلم مع الحق على بساط الحرمة والهيبة‪ l،‬يُنقذ هللا به‬
‫الخالئق من ورطة الهالك‪ .‬هـ‪.‬‬

‫يوم يقوم الروح‪ ،‬أي‪ :‬جنس الروح‪ ،‬وهي األرواح الصافية‪ ،‬التي التحقت بالمالئكة‪ ،‬فتقوم معهم‬
‫صفا ً في مقام العبودية التي شرفت بها‪ ،‬ال يتكلمون هيبةً لمقام الحضرة‪ ،‬إالَّ َمن أّ ِذنَ له الرحمنُ‬
‫في الشفاعة‪ ،‬على قدر مقامه‪ ،‬وقال صواباً‪ ،‬أي‪ :‬استعمل األدب في مخاطبته‪ l‬فإذا استعمل األدب‬
‫شفع‪ ،‬ولو قصر مقامه عن عدد المشفوع فيه‪ُ .‬حكي أنّ بعض األولياء قال عند موته‪ l:‬يا رب‬
‫شفِّعني في أهل زماني‪ ،‬فقال له الهاتف من قِبل هللا تعالى‪ :‬لم يبلغ مقامك هذا‪ ،‬فقال‪ :‬يا رب إذا‬
‫كان ذلك بعملي واجتهادي فل َعمري إنه لم يبلغ ذلك‪ ،‬وإذا كان ذلك بكرمك َو ُجودك‪ ،‬فهو أعظم من‬
‫ق تعالى في الوجود‪ .‬هكذا سمعتُ الحكاية من شيخنا الفقيه العالم‪ ،‬سيدي "‬ ‫شفَّعه الح ُّ‬
‫ذلك‪ ،‬ف َ‬
‫فحسن خطاب هذا الرجل بلّغه ما لم يبلغه قدره‪.‬‬ ‫التاودي بن سودة " رحمه هللا‪ُ ،‬‬

‫تحق فيه الحقائق‪ ،‬وتبطل فيه الدعاوى‪ ,‬ويفتضح أهلها‪ ،‬ف َمن شاء اتخذ إلى ربه‬ ‫ذلك اليوم الحق‪ِ ،‬‬
‫مآباً‪ ،‬يرجع به إلى ربه‪ ،‬وهو ُحسن التوجه إليه‪ ،‬برفض كل ما سواه‪ { .‬إنَّا أنذرناكم عذابا ً قريبا ً }‬
‫قال القشيري‪ l:‬أي‪ :‬عذاب االلتفات إلى النفس والدنيا والهوى‪ ،‬يوم ينظر المر ُء ما قدَّمت يداه من‬
‫اإلساءة واإلحسان هـ‪ .‬ويقول الكافر الجاحد لطريق الخصوصية‪ ،‬حتى مات محجوباً‪ :‬يا ليتني‬
‫سراً على ما قاته من مقام المقربين‪ .‬وباهلل التوفيق‪ .‬وصلّى هللا على سيدنا محمد‬ ‫كنتُ تُراباً‪ ،‬تح ُّ‬
‫وآله وصحبه وسلّم‪.‬‬

‫‪#‬سورة النازعات §‪#‬‬

‫س ْبقا ً } *‬ ‫سابِقَا ِ‬
‫ت َ‬ ‫س ْبحا ً } * { فَال َّ‬ ‫ت َ‬ ‫ت نَشْطا ً } * { َوال َّ‬
‫سابِ َحا ِ‬ ‫اشطَا ِ‬ ‫ت َغ ْرقا ً } * { َوالنَّ ِ‬ ‫*{ َوالنَّا ِزعَا ِ‬
‫وب يَ ْو َمئِ ٍذ َوا ِجفَةٌ } *‬‫اجفَةُ } * { تَ ْتبَ ُع َها ال َّرا ِدفَةُ } * { قُلُ ٌ‬ ‫ت أَ ْمراً } * { يَ ْو َم ت َْر ُجفُ ال َّر ِ‬ ‫{ فَا ْل ُم َدبِّ َرا ِ‬
‫ش َعةٌ } * { يَقُولُونَ أَإِنَّا لَ َم ْردُودُونَ فِي ا ْل َحافِ َر ِة } * { أَإِ َذا ُكنَّا ِعظَاما ً نَّ ِخ َرةً } *‬ ‫صا ُرهَا َخا ِ‬ ‫{ أَ ْب َ‬
‫سا ِه َر ِة }‬‫اح َدةٌ } * { فَإ ِ َذا هُم بِال َّ‬ ‫س َرةٌ } * { فَإِنَّ َما ِه َي زَ ْج َرةٌ َو ِ‬ ‫{ قَالُو ْا تِ ْلكَ إِذاً َك َّرةٌ َخا ِ‬

‫فإنَّ جواب القسم‪ :‬لتُبعثن ثم ِّ‬


‫لتعذبن‪.‬‬

‫ت } أي‪ :‬والمالئكة التي تنزع األرواح من أجسادها‪ ،‬كما قال‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬والنازعا ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ابن عباس‪ ,‬أو أرواح الكفرة‪ ،‬كما قاله هو أيضا ً وابن مسعود‪ { ،‬غ ْرقا ً } أي‪ :‬إغراقاً‪ ،‬من‪ :‬أغرق‬
‫في الشيء‪ :‬بالغ فيه غايةً‪ ،‬فإنها تُبالغ في نزعها فتخرجها من أقاصي الجسد‪ .‬قال ابن مسعود‪:‬‬
‫تنزع روح الكافر ِمن جسده من تحت كل شعرة‪ ،‬و ِمن تحت األظافر‪ ،‬ومن أصول القدمين‪ ،‬ثم‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫تفرقها في جسده‪ ،‬ثم تنزعها حتى إذا كادت تخرج تردها في جسده‪ ،‬فهذا عملها بالكفار دون‬
‫المؤمنين‪ .‬أو‪ :‬تُغرقها في جهنم‪ ،‬فهو مصدر مؤكد‪.‬‬

‫ت نشطا ً } أي‪ :‬ينشطونها ويخرجونها من الجسد‪ ,‬من‪ :‬نَشط الدلو من البئر‪ :‬أخرجها‪.‬‬ ‫{ والناشطا ِ‬
‫س ْبحا ً } أي‪ :‬يسبحون بها في الهوى إلى سدرة المنتهى‪ .‬شبّه سرعة سيرهم بسبح‪l‬‬ ‫ت َ‬ ‫{ والسابحا ِ‬
‫ت‬
‫الهوام‪ ،‬أو يسبحون في إخراجها سبح الغواص الذي يخرج من البحر ما يخرج‪ { ،‬فالسابقا ِ‬
‫ت أَ ْمراً }‬
‫سبقًا } فيسبقون بأرواح الكفرة إلى النار‪ ،‬وبأرواح المؤمنين إلى الجنة‪ { ،‬فال ُمدبرا ِ‬
‫تُدبر أمر عقَابها وثوابها‪ ،‬بأن تهيئها إلدراك ما أع ّد لها من اآلالم والثواب‪ ،‬أو السابحات التي‬
‫تسبح في مضيها‪ ،‬فتسبق إلى ما أمروا به‪ ،‬فتدبر أمراً من أمور العباد‪ ،‬مما يصلحهم في دينهم‬
‫ودنياهم كما ُرسم لهم‪.‬‬

‫سم بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب‪ ،‬غرقا ً في النزع‪ ،‬بأن تقطع‬ ‫أو‪ :‬يكون تعالى أَ ْق َ‬
‫الفلك حتى تنحطّ في أقصى المغرب‪ ،‬وتنشط من برج إلى برج‪ ،‬أي‪ :‬تخرج‪ ،‬من‪ :‬نَشط الثور‪ :‬إذا‬
‫سبح في الفلك‪ ,‬فتسبق بعضها بعضاً‪ ,‬فتُدبر أمراً نِيط بها‪ ،‬كاختالف‬
‫خرج من بلد إلى بلد‪ ،‬وتَ ْ‬
‫الفصول‪ ،‬وتقدير األزمنة‪ l،‬وتدبير مواقيت العبادة‪ ،‬وحيث كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب‬
‫قسرية ـ أي‪ :‬قهرية ‪ -‬وحركاتها من برج إلى برج مالئمةً‪ l,‬عبَّر عن األولى بالنزع‪ ،‬وعن الثانية‬
‫بالنشط‪.‬‬

‫أو‪ :‬بأنفس ال ُغزاة‪ ،‬أو‪ :‬بأيديهم التي تنزع القِسي‪ ،‬بإغراق السهام‪ ،‬وينشطون بالسهم إلى الرمي‪،‬‬
‫سبحون في البر والبحر‪ ،‬فيسبقون إلى حرب العدو‪ ،‬فيُدبرون أمرها‪ ،‬أو‪ :‬بصفات خيلهم‪ ،‬فإنها‬ ‫ويَ ْ‬
‫تنزع في أعنّتها نزعا ً تغرق فيه األعنّة لطول أعناقها‪ ،‬ألنها عراب‪ ،‬وتخرج من دار اإلسالم إلى‬
‫سبح في جريها‪ ،‬فتسبق إلى العدو‪ ,‬فتدبر أمر الظفر والغلبة‪ .‬وسيأتي في اإلشارة‬ ‫دار الحرب‪ ،‬وتَ ْ‬
‫أحسن هذه األقوال إن شاء هللا‪.‬‬

‫س ْبحا ً " و " سبقا ً " على المصدرية‪ ،‬وأما " أمراً " فمفعول به‪،‬‬
‫وانتصاب " نشطا ً " و " َ‬
‫وتنكيره للتهويل والتفخيم‪ .‬والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل‪ l‬التغاير العنواني منزلة المتغاير الذاتي؛‬
‫لإلشعار بأنَّ كل واح ٍد من األوصاف المعدودة من معظّمات األمور‪ ،‬حقيق بأن يكون حياله مناطا ً‬
‫الستحقاق موصوفه لإلجالل واإلعظام باإلقسام من غير انضمام أوصاف اآلخر إليه‪.‬‬
‫والفاء في األخيرين للداللة على ترتيبهما على ما قبلهما بال مهلة‪ .‬والمقسم عليه محذوف‪،‬‬
‫تعويالً على إشارة ما قبله من المقسم به إليه‪ ،‬وداللة ما بعد من أحوال القيامة عليه‪ ،‬فإنَّ اإلقسام‬
‫ب َمن يتولى نزع األرواح‪ ،‬ويقوم بتدبيرها‪ ،‬يلُوح بكون المقسم عليه ِمن قبل تلك األمور ال محالة‪،‬‬
‫ففيه من الجزالة ما ال يخفى‪.‬‬

‫ترجفُ الرا ِجفةُ } ‪ ،‬فالعامل في الظرف هو الجواب المحذوف‪ .‬والرجف‪ :‬شدة‬ ‫أي‪ :‬لتُبعثن { يو َم ُ‬
‫الحركة‪ .‬والراجفة‪ :‬النفخة األولى‪ُ ،‬وصفت بما حدث عندها ألنها تضطرب لها األرض حتى يموت‬
‫َمن عليها‪ ،‬وتزلزل الجبال وتندك األرض دكاً‪ ,‬ثم { تتبعها الرا ِدفةُ }؛ النفخة الثانية‪ ،‬ألنها تردف‬
‫األولى‪ ،‬وبينهما أربعون سنة‪ ،‬واألولى تُميت الخلق والثانية ت ُْحييهم‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫قلوب يومئ ٍذ } ‪ ،‬وهي قلوب منكري البعث‪ { ،‬واجفةٌ }؛ مضطربة‪ ،‬من‪ :‬الوجيف‪ ،‬وهو‬ ‫ٌ‬ ‫{‬
‫االضطراب‪ { ،‬أبصا ُرها } أي‪ :‬أبصار أصحابها { خاشعةٌ }؛ ذليلة لهول ما ترى‪ { ،‬يقولون }‬
‫أي‪ :‬منكرو البعث في الدنيا استهزا ًء وإنكاراً للبعث‪ { :‬أئنا لمردودون في الحافرة } ‪ ،‬استفهام‬
‫بمعنى اإلنكار‪ ،‬أي‪ :‬أنُر ّد بعد موتنا إلى أول األمر‪ ،‬فنعود أحيا ًء كما كنا؟ والحافرة‪ :‬الحالة األولى‪،‬‬
‫يُقال ل َمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه‪ :‬رجع إلى حافرته‪ ،‬أي‪ :‬إلى حالته األولى‪ ،‬يُقال‪:‬‬
‫ل َمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه‪ :‬رجع إلى حافرته‪ ,‬أي‪ :‬إلى حالته األولى‪ ,‬ويُقال‪ :‬رجع‬
‫في حافرته‪ ،‬أي‪ :‬طريقته التي جاء فيها‪ ،‬فحفر فيها‪ ،‬أي‪ :‬أثر فيها بمشيه‪ l،‬وتسميتها حافرة مع‬
‫أنها محفورة‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫{ عيشة راضية }‬
‫[الحاقة‪ ]21:‬على تسمية‪ l‬القابل بالفاعل‪.‬‬

‫أنكروا البعث ثم زادوا استبعاداً فقالوا‪ { :‬أئذا كنا عظاما ً نخرةً }؛ بالية‪ .‬ونخرة أبلغ من ناخرة؛‬
‫ألنَّ " فَ ِع ٌل " أبلغ من فاعل‪ ،‬يقال‪ :‬نَ ِخ َر العظم فهو نَ ِخ ٌر وناخر‪ :‬بِلَى‪ ،‬فالنَ ِخر هو البالي األجوف‬
‫الذي تمر به الريح فيسمع له نخير‪ ،‬أي‪ :‬أنُرد إلى البعث بعد أن صرنا عظاما ً بالية؟‪ .‬و " إذا "‬
‫منصوب بمحذوف‪ ،‬وهو‪ :‬أنُبعث إذا كنا عظاما ً بالية مع كونها أبعد شيء في الحياة‪.‬‬

‫{ قالوا } أي‪ :‬منكروا البعث‪ ،‬وهو حكاية لكفر آخر‪ ،‬متفرع على كفرهم السابق‪ ،‬ولعل توسيط "‬
‫قالوا " بينهما لإليذان بأنّ صدور هذا الكفر عنه ليس بطريق االطراد واالستمرار‪ ,‬مثل كفرهم‬
‫األول المستمر‪ l‬صدوره عنهم في كافة أوقاتهم‪ ،‬حسبما يُنبىء عنه حكايته‪ l‬بصيغة المضارع‪ ،‬أي‪:‬‬
‫قالوا بطريق االستهزاء‪ُ ،‬مشيرين إلى ما أنكروه من الرد في الحافرة‪ ،‬مشعرين بغاية بُعدها من‬
‫الوقوع‪ { :‬تلك إِذاً كرةٌ خاسرةٌ } أي‪ :‬رجفة ذات خسران‪ ،‬أو خاسر أصحابها‪ ،‬والمعنى‪ :‬أنها إن‬
‫صحت وبُعثنا فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا بها‪ ،‬وهذا استهزا ُء منهم‪.‬‬
‫ّ‬

‫قال تعالى في إبطال ما أنكروه‪ { :‬فإِنما هي زجرةٌ واحدة } أي‪ :‬ال تحسبوا تلك الك ّرة صعبة على‬
‫هللا‪ ،‬بل هي أسهل شيء‪ ،‬فما هي إالّ صيحة واحدة‪ ،‬يُريد النفخة الثانية‪ l,‬من قولهم‪َ :‬ز َجر البعير‪:‬‬
‫إذا صاح عليه‪.‬‬
‫ساهر ِة } أي‪ :‬فإذا هم أحياء على وجه األرض‪ ،‬بعدما كانوا أمواتا ً في جوفها‪.‬‬‫فإِذا هم بال َّ‬
‫سميت بذلك‪ ،‬ألنَّ السراب يجري فيها‪ ،‬من قولهم‪ :‬عين‬ ‫والساهرة‪ :‬األرض البيضاء المستوية‪ُ ،‬‬
‫ساهرة جارية‪ ،‬وفي ضدها‪ :‬عين نائمة‪ ،‬وقيل‪ :‬إنَّ سالكها ال ينام خوف الهلكة‪ ،‬وقيل‪ :‬أرض‬
‫بعينها بالشام إلى جنب بيت المقدس‪ ،‬وقيل‪ :‬أرض مكة‪ .‬وقيل‪ :‬اسم لجهنّم‪ .‬وعن ابن عباس‪ :‬أنَّ‬
‫الساهرة‪ :‬أرض ِمن فضة‪ ،‬لم يُعص هللاَ تعالى عليها قط‪ ،‬خلقها حينئذ‪ .‬وقيل‪ :‬أرض يُجددها هللا‬
‫تعالى يوم القيامة‪ .‬وقيل‪ :‬األرض السابعة‪ ،‬يأتي هللا بها يوم القيامة فيُحاسب عليها الخالئق‪،‬‬
‫وذلك حين تُبدل األرض غير األرض‪ ،‬وقيل‪ :‬الساهرة‪ :‬أرض صحراء على شفير جهنم‪ .‬وهللا‬
‫تعالى أعلم‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫سوى غرقا ً في بحار األحدية‪ .‬والناشطات من عالئق‬ ‫اإلشارة‪ :‬واألرواح النازعات عن مالحظة ال ِّ‬
‫الدنيا ومتابعة الهوى نشطاً‪ ،‬والسابحات بأفكارها في بحر أنوار الملكوت‪ ،‬وأسرار الجبروت‪،‬‬
‫بالتصرف فيه بالنيابة عن‬
‫ُّ‬ ‫سبحاً‪ ،‬فالسابقات إلى حضرة القدس سبقاً‪ ،‬فالمدبرات أمر الكون‪،‬‬
‫التجرد إلى العبادات‬
‫ُّ‬ ‫الحق‪ ،‬وهو مقام القطبانية‪ l،‬أو النازعات عن الحظوظ والشهوات غرقا ً في‬
‫بأنواع الطاعات‪ .‬وهذه أنفس ال ُعبّاد‪ ،‬والناشطات عن الدنيا‪ ،‬وأهلها فراراً إلى هللا نشطاً‪ ،‬وهي‬
‫أنفس ال ُزهّاد‪ ,‬والسابحات بعقولها في أسرار العلوم‪ ،‬فتستخرج من الكتاب والسنة درراً‬
‫ويواقيت‪ ،‬يقع النفع بها إلى يوم الدين‪ ،‬وهي أنفس العلماء الجهابذة‪ ،‬فالسابقات إلى هللا بأنواع‬
‫المجاهدات والسير في المقامات‪ ،‬حتى أفضت إلى شهود الحق عياناً‪ ،‬سبقاً‪ ،‬وهي أنفس األولياء‬
‫العارفين‪ ،‬فال ُمدبرات أمر الخالئق بقسم أرزاقها وأقواتها ورتبها‪ ،‬وهي أنفس األقطاب والغوث‪.‬‬
‫وقال البيضاوي‪ :‬هذه صفات النفوس‪ ,‬وحال سلوكها‪ ،‬فإنها تنزع من الشهوات‪ ،‬وتنشط إلى عالم‬
‫سبَح في مراتب االرتقاء‪ ،‬فتسبق إلى الكماالت‪ ،‬حتى تصير‪ l‬من المك ِّمالت‪ ،‬زاد اإلمام‪:‬‬ ‫القدس‪ ،‬فت ْ‬
‫فتُد ْبر أمر الدعوة إلى هللا‪ .‬وقال الورتجبي‪ l:‬إشارة النازعات إلى صوالت صدمات تجلي العظمة‪،‬‬
‫فتنزع األرواح العاشقة عن معادن الحدوثية‪ .‬ثم قال‪ :‬والناشطات‪ :‬األرواح الشائقة تخرج من‬
‫سبَح‪ l‬في‬
‫أشباحها بالنشاط‪ ،‬حين عاينت جمال الحق بالبديهة‪ l‬وقت الكشف‪ .‬ثم قال‪ :‬والسابحات ت ْ‬
‫بحار ملكوته وقاموس كبرياء جبروته‪ l،‬تطلب فيها أسرار األولية واآلخرية والظاهرية‬
‫والباطنية‪ ،‬فالسابقات في مصاعدها عالم الملكوت‪ ,‬وجنات الجبروت‪ ،‬تُسابق كل همة‪ ,‬فالمدبِّرات‬
‫هي العقول القدسية تُ َدبّر أمور العبودية بشرائط إلهام الحقيقة‪ .‬هـ‪.‬‬

‫األرواح الميتة‪ l‬بالجهل والغفلة‪ ،‬حين تنتبه‪ l‬إلى السير بالذكر‬


‫َ‬ ‫سم عليه‪ :‬ليب َعثن هللاُ‬
‫والمق َ‬
‫والمجاهدة‪ ،‬فإذا حييت بمعرفة هللا كانت حياة أبدية‪ .‬وذلك يوم ترجف النفس الراجفة‪ ،‬وذلك حين‬
‫تتقدّم لخرق عوائدها ومخالفة هواها‪ ،‬تتبعها الرادفة‪ ،‬وهي ظهور أنوار المشاهدة‪ ،‬فحينئذ تُبعث‬
‫من موتها‪ ،‬وتحيا حياة ال موت بعدها‪ ،‬وأ ّما الموت الحسي فإنما هو انتقال من مقام إلى مقام‪.‬‬
‫قلوب يومئذ ـ أي‪ :‬يوم المجاهدة والمكابدة ـ واجفة‪ ،‬ال تسكن حتى تُشاهد الحبيب‪ ،‬أبصا ُرها في‬
‫حال السير خاشعة‪ ,‬ال يُخلع عليها خل ُع العز حتى تصل‪.‬‬
‫يقول أهل اإلنكار لهذه الطريق‪ :‬أئِنا لمردودون إلى الحالة األولى‪ ،‬التي كانت األرواح عليها في‬
‫األزل‪ ،‬بعد أن كنا ميتين بالجهالة‪ُ ،‬م ْرمى بنا في مزابل الغفلة‪ ،‬ك ِعظام الموتى‪ ،‬قالوا‪ :‬تلك كرة‬
‫ق لهم تمتُّع‪ l‬بشيء أصالً‪ ،‬مع أنَّ العارف إذا‬‫خاسرة‪ ،‬لزعمهم أنهم إذا صاروا إلى هذا المقام لم يب َ‬
‫تحقق وصوله تمتع بالنعيمين؛ نعيم األشباح ونعيم األرواح‪ .‬قال تعالى في رد ما استحالوه‪ :‬فإنما‬
‫هي زجرة واحدة من همة عارف‪ ،‬أو نظرة ول ّي كامل‪ ،‬فإذا هم في أرض الحضرة القدسية‪ l.‬قال‬
‫الشيخ أو العباس‪ :‬وهللا ما بيني‪ l‬وبين الرجل إالَّ أن أنظر إليه وقد أغنيته‪ .‬قلت‪ :‬وهللا لقد بقي في‬
‫زماننا هذا َمن يفوق أبا العباس والشاذلي وأضرابهما في اإلغناء بالنظرة والمالحظة‪ ،‬والحمد‬
‫هلل‪.‬‬

‫س طُ ًوى } * { ْاذه َْب إِلَىا فِ ْرع َْونَ إِنَّهُ‬ ‫سىا } * { إِ ْذ نَادَاهُ َربُّهُ بِا ْل َوا ِد ا ْل ُمقَ َّد ِ‬ ‫*{ َه ْل أَتَا َك َح ِد ُ‬
‫يث ُمو َ‬
‫طَ َغىا } * { فَقُ ْل هَل لَّ َك إِلَىا أَن تَزَ َّكىا } * { َوأَ ْه ِديَكَ إِلَىا َربِّ َك فَت َْخشَىا } * { فَأ َ َراهُ اآليَةَ ا ْل ُك ْب َرىا } *‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ش َر فَنَادَىا } * { فَقَا َل أَنَاْ َر ُّب ُك ُم األَ ْعلَىا } * { فَأ َ َخ َذهُ‬‫س َعىا } * { فَ َح َ‬ ‫صىا } * { ثُ َّم أَ ْدبَ َر يَ ْ‬
‫ب َو َع َ‬ ‫{ فَ َك َّذ َ‬
‫هَّللا ُ نَ َكا َل اآل ِخ َر ِة َواألُ ْولَىا } * { إِنَّ فِي َذلِكَ لَ ِع ْب َرةً لِّ َمن يَ ْخشَىا }‬

‫حديث موسى } ‪ ,‬تشويقا ً لما يُلقى إليه ِمن خبره‪ ،‬أي‪ :‬هل أتاك‬ ‫ُ‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬هل أتاك‬
‫حديثه‪ l،‬أنا أُخبرك به‪ ،‬إن كان هذا أول ما أتاه من حديثه‪ .‬وإن كان تقدّم قبل هذا حديثه‪ ،‬وهو‬
‫المتبادر‪ ،‬فالمعنى‪ :‬أليس قد آتاك حديثه‪ l.‬وقوله‪ { :‬إِ ْذ ناداه َر ُّبه }‪ :‬ظرف للحديث ال لإلتيان‪،‬‬
‫الختالف وقتهما‪ ,‬أي‪ :‬هل وصلك حديثه ناداه ربه { بالوا ِد المقدّس }؛ المبارك المط ّهر‪ ،‬اسمه‪{ :‬‬
‫اذهب إِلى فرعون إِنه طَ َغى }؛ تجاوز الح ّد في‬
‫ْ‬ ‫طُوى } بالصرف وعدمه‪ .‬فقال في ندائه له‪{ :‬‬
‫الكفر والطغيان‪ { ،‬فق ْل } له بعد أن تأتيه‪ { l:‬هل لك إِلى أن تز َّكى } أي‪ :‬هل لك رغبة وتَ َو ُّجه إلى‬
‫التزكية والتطهير من دنس الكفر والطغيان بالطاعة واإليمان‪ .‬قال ابن عطية‪ " :‬هل " هو‬
‫استدعاء حسن‪ .‬قال الكواشي‪ :‬يقال‪ :‬هل لك في كذا؟ وهل لك إلى كذا؟ كقولك‪ :‬هل ترغب في كذا‪،‬‬
‫وهل ترغب إلى كذا‪ .‬قال‪ :‬وأخبر تعالى أنه أمر موسى بإبالغ الرسالة إلى فرعون بصيغة‪l‬‬
‫االستفهام والعرض‪ ،‬ليكون أصغى ألذنه‪ ،‬وأوعى لقلبه‪ ،‬لِما له عليه من حق التربية‪ l.‬هـ‪ .‬وأصله‪:‬‬
‫" تتزكى " ‪ ،‬فحذف إحدى التاءين‪ ،‬أو‪ :‬أدغمت‪ ،‬فيمن شدّد الزاي‪.‬‬

‫{ وأ ْه ِديَ َك إِلى ربك }؛ وأهديك إلى معرفته‪ ،‬بذكر دالئل توحيده وصفات ذاته‪ { ،‬فتخشَى } ‪ ،‬ألنَّ‬
‫الخشية ال تكون إالَّ مع المعرفة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{ إِنَّ َما يَ ْخشَى هَّللا َ ِمنْ ِعبَا ِد ِه ا ْل ُعلَ َمـا ُؤ ْا }‬
‫[فاطر‪ ]28:‬أي‪ :‬العلماء باهلل‪ .‬وقال بعض الحكماء‪ :‬اعرفوا هللا‪ ،‬ف َمن عرف هللا لم يقدر أن يعصيه‪l‬‬
‫طرفةَ عين‪ .‬فالخشية مالك األمر‪ ,‬ف َمن خشي هللا أتى منه كل خير‪ ,‬و َمن أَ ِمنَ اجترأ على كل شر‪.‬‬
‫ومنه الحديث‪َ " :‬من خشي أدلج‪ ،‬و َمن أدلج بلغ المنزل " قال النسفي‪ :‬بدأ مخاطبته باالستفهام‪،‬‬
‫الذي معناه العرض‪ ،‬كما يقول الرجل لضيفه‪ :‬هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكال َم الرقيق‪،‬‬
‫ليستدعيه باللطف في القول‪ ،‬ويستنزله بالمداراة من عت ّوه‪ ،‬كما أمر بذلك في قوله‪:‬‬
‫{ فَقُوالَ لَهُ قَ ْوالً لَّيِِّنا ً }‬
‫[طه‪ ]44:‬هـ‪.‬‬

‫{ فأراه اآليةَ الكبرى } ‪ ،‬الفاء‪ :‬فصيحة تفصح عن جملة قد طويت تعويالً على تفصيلها في‬
‫السور األخرى‪ ،‬فإنه عليه السالم ما أراه إياها عقب هذا األمر‪ ،‬بل بعدما جرى بينه‪ l‬وبينه‪ l‬من‬
‫المحاورات إلى أن قال‪:‬‬
‫ت}‬ ‫{ إِن ُكنتَ ِجئْتَ بِئَايَ ٍة فَأْ ِ‬
‫[األعراف‪ .]106:‬واآلية الكبرى‪ :‬العصا‪ ،‬أو‪ :‬هي واليد‪ ،‬ألنهما في حكم آية واحدة‪ .‬ونسبتُها إليه‬
‫عليه السالم بالنسبة إلى الظاهر‪ ،‬كما أنّ نسبتها إلى نون العظمة في قوله تعالى‪:‬‬
‫{ َولَقَ ْد أَ َر ْينَـاهُ َءايَـاتِنَا ُكلَّ َها }‬
‫كذب موسى عليه السالم‪ .‬وس َّمى معجزته‬ ‫َصى } أي‪َّ :‬‬ ‫[طه‪ ]56:‬بالنظر إلى الحقيقة { َّ‬
‫فكذب وع َ‬
‫بالتمرد‪ ،‬بعدما َعلِ َم صحة األمر ووجوب الطاعة‪ ،‬أشد العصيان‬
‫ُّ‬ ‫سحراً‪ ،‬وعصى هللاَ ع ّز وجل‬
‫وأقبحه‪ ،‬حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأساً‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته ع ّز وجل‪ ،‬وترك القولة العظيمة‪ l‬التي يدّعيها الطاغية‪،‬‬
‫ويقبلها منه الفئة الباغية‪ ،‬ال بإرسال بني إسرائيل من األسر فقط‪ .‬قاله أبو السعود‪.‬‬

‫{ ثم أّ ْدبَر } أي‪ :‬تولَّى عن الطاعة‪ ،‬أو‪ :‬انصرف عن المجلس { يس َعى } في معارضة اآلية‪ ،‬أو‪:‬‬
‫أدبر هاربا ً من الثعبان‪ ،‬فإنه ُروي أنه عليه السالم ل ّما ألقى العصا انقلب ثعبانا ً أشعر‪ ،‬فاغراً فاه‪،‬‬
‫بين لحييه ثمانون ذرعاً‪ ,‬فوضع لحيه األسفل على األرض‪ ،‬واألعلى على القصر‪ ،‬فتوجه نحو‬
‫فرعون‪ ،‬فهرب وأحدث‪ ،‬وانهزم الناس مزدحمين‪ ،‬فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ً من قومه‬
‫وقيل‪ :‬إنها ارتفعت في السماء قدر ميل‪ ،‬ثم انحطت مقبلة نحو فرعون‪ ،‬وجعلت تقول‪ :‬يا موسى‬
‫ُمرني بما شئت‪ ،‬وجعل فرعون يقول‪ :‬بالذي أرسلك إالّ أخذته‪ ،‬فأخذه فعاد عصا‪..‬‬

‫{ فحش ََر } أي‪ :‬فجمع السحرة‪ ،‬كقوله‪:‬‬


‫{ فَأ َ ْر َ‬
‫س َل فِ ْرع َْونُ فِي ا ْل َمدَآئِ ِن َحا ِ‬
‫ش ِرينَ }‬
‫[الشعراء‪ ]53:‬أو‪ :‬جمع الناس‪ { ،‬فنادَى } في المقام الذي اجتمعوا فيه‪ ،‬قيل‪ :‬قام خطيباً‪ { ،‬فقال‬
‫أنا ربكم األعلَى } ال رب فوقي‪ ،‬وكان لهم أصنام يعبدونها‪ .‬وهذه العظيمة لم يجترىء عليها أحد‬
‫باق في ملوك مصر وأتباعهم‪ .‬هـ‪ .‬قيل‪:‬‬ ‫قبله‪ .‬قال ابن عطية‪ :‬وذلك نهاية في المخارقة‪ ،‬ونح ُوها ٍ‬
‫إنما قال ذلك ابنُ عطية ألنَّ ملك مصر في زمانه كان إسماعيليًّا‪ ،‬وهو مذهب يعتقدون فيه إلهية‬
‫ملوكهم‪ .‬وكان أول َمن ملكها منهم‪ :‬المعتز بن المنصور بن القاسم بن المهدي عبيد هللا‪ ،‬وآخرهم‬
‫العاضد‪ .‬وقد طهَّر هللا مصر من هذا المذهب‪ ،‬بظهور الملك الناصر صالح الدين يوسف بن أيوب‬
‫بن شاذا رحمه هللا وجزاه عن اإلسالم خيراً‪ .‬هـ‪ .‬من الحاشية‪l.‬‬

‫فأخ َذه هللاُ نكال اآلخر ِة واألُولى } باإلغراق‪ ،‬فالنكال‪ :‬مصدر بمعنى التنكيل‪ ،‬كالسالم بمعنى‬ ‫{ َ‬
‫التسليم‪ ،‬وهو التعذيب الذي ينكل َمن رآه أو سمعه‪ ،‬ويمنعه من تعاطي ما يُفضي إليه‪ .‬وهو‬
‫منصوب على أنه مصدر مؤكد‪ ،‬كو ْع َد هللا وصبغةَ هللا‪ ،‬وقيل‪ :‬مصدر لـ " أخذ " ‪ ،‬أي‪ :‬أخذه هللا‬
‫أخذ نكال اآلخرة‪ ،‬وقيل‪ :‬مفعول من أجله‪ ،‬أي‪ :‬أخذه هللا ألجل نكال اآلخرة‪ .‬وإضافته إلى الدارين‬
‫باعتبار وقوع بعض األخذ فيهما‪ ،‬ال باعتبار أنَّ ما فيه من المنع والزجر يكون فيهما‪ ،‬فإنَّ ذلك ال‬
‫يتصور في اآلخرة‪ ،‬بل في الدنيا‪ ،‬فإنَّ العقوبة األخروية‪ l‬تنكل َمن يسمعها‪ ،‬وتمنعه من تعاطي ما‬
‫يؤدي إليها ال محالة‪ .‬وقيل‪ :‬المراد باآلخرة واألولى‪ :‬قوله‪ { :‬أنا ربكم األعلى } وقوله‪:‬‬
‫{ َما َعلِ ْمتُ لَ ُكم ِمنْ إِلَـا ٍه َغ ْي ِرى }‬
‫[القصص‪ .]38:‬قيل‪ :‬كان بين الكلمتين أربعون سنة‪ ،‬فاإلضافة إضافة المسبب إلى السبب‪.‬‬

‫{ إِنَّ في ذلك } أي‪ :‬فيما ذكره من قصة فرعون وما فعل به { لَ ِعبرةً } عظيمة { ِلمن } شأنه أن‬
‫{ يَ ْخشَى } وهو َمن عرف هللا تعالى وسطوته‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬جعل القشيري موسى إشارة إلى القلب‪ ،‬وفرعون إشارة إلى النفس‪ ،‬فيُقال‪ :‬هل أتاك‬
‫حديث القلب حين ناداه ربه بالحضرة المقدسة‪ ,‬بعد طي األكوان عن مرآة نظره‪ ،‬فقال له‪ :‬اذهب‬
‫إلى فرعون النفس إنه طغى‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫وطغيانها‪ :‬إرادتها العلو واالستظهار‪ ،‬فقل له‪ :‬هل لك إلى أن تَزَ َّكى وتتطهر من الخبائث‪ ،‬لتدخل‬
‫الحضرة‪ ،‬فأَهديك إلى معرفة ربك فتخشى‪ ،‬فإنما يخشى هللاَ َمن عرفه‪ .‬فأراه اآلية الكبرى ِمن‬
‫خرق العوائد ومخالفة الهوى‪ ،‬ف َك َّذب وعصى‪ ،‬حين رأى عزم القلب على مجاهدته‪ ،‬فحشر جنوده‬
‫ِم ن حب الدنيا والرئاسة‪ ،‬وإقبال الناس والحظوظ والشهوات‪ ،‬فنادى‪ ،‬فقال‪ :‬أنا ربكم األعلى‪ ،‬فال‬
‫تعبدوا غيري‪ .‬هذا قول فرعون النفس‪ ،‬فأخذه هللاُ نكال اآلخرة واألولى‪ ،‬أي‪ :‬استولى جند القلب‬
‫عليه‪ ،‬فأغرقه في قلزوم بحر الفناء والبقاء‪ .‬إنَّ في ذلك لعبرة ل َمن يخشى‪ ،‬ويسلك طريق‬
‫التزكية‪ ،‬فإنه يصل إلى بحر األحدية‪ .‬وهللا تعالى أعلم بأسرار كتابه‪.‬‬

‫ش لَ ْيلَ َها َوأَ ْخ َر َج‬‫س َّواهَا } * { َوأَ ْغطَ َ‬ ‫س ْم َك َها فَ َ‬


‫س َمآ ُء بَنَاهَا } * { َرفَ َع َ‬ ‫ش ُّد َخ ْلقا ً أَ ِم ال َّ‬‫*{ أَأَنتُ ْم أَ َ‬
‫ض بَ ْع َد َذلِ َك د ََحاهَا } * { أَ ْخ َر َج ِم ْن َها َمآ َءهَا َو َم ْرعَاهَا } * { َوا ْل ِجبَا َل‬ ‫ض َحاهَا } * { َواألَ ْر َ‬ ‫ُ‬
‫سانُ َما‬ ‫ت الطَّآ َّمةُ ا ْل ُك ْب َرىا } * { يَ ْو َم يَتَ َذ َّك ُر ِ‬
‫اإلن َ‬ ‫َ‬
‫ساهَا } * { َمتَاعا ً لَّ ُك ْم َوأل ْن َعا ِم ُك ْم } * { فَإ ِ َذا َجآ َء ِ‬ ‫أَ ْر َ‬
‫ت ا ْل َج ِحي ُم لِ َمن يَ َرىا } * { فَأ َ َّما َمن طَ َغىا } * { َوآثَ َر ا ْل َحيَاةَ ال ُّد ْنيَا } * { فَإِنَّ‬ ‫س َعىا } * { َوبُ ِّر َز ِ‬ ‫َ‬
‫س َع ِن ا ْل َه َوىا } * { فَإِنَّ ا ْل َجنَّةَ ِه َي‬ ‫ا ْل َج ِحي َم ِه َي ا ْل َمأْ َوىا } * { َوأَ َّما َمنْ َخافَ َمقَا َم َربِّ ِه َونَ َهى النَّ ْف َ‬
‫ا ْل َمأْ َوىا }‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ :‬مخاطبا ً أه َل مكة‪ ،‬المنكرين للبعث‪ ,‬بناء على صعوبته‪ l‬في زعمهم‪،‬‬
‫وتوبيخا ً وتبكيتاً‪ ،‬بعدما بيّن سهولته على قدرته بقوله‪ { :‬فَإِنَّ َما ِهي َز ْج َرةٌ َواح َدةٌ } { أأنتم أش ُّد‬
‫َخ ْلقا ً } أي‪ :‬أَ َخ ْلقُكم بعد موتكم أشق وأصعب في تقديركم { أم السما ُء } أي‪ :‬أم خلق السماء على‬
‫ِعظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن مالحظة أدناها‪ ،‬وهذا كقوله‪:‬‬
‫ق ِم ْثلَ ُهم بَلَى }‬‫ض بِقَـا ِد ٍر َعلَىا أَن يَ ْخلُ َ‬
‫ت َواألَ ْر َ‬
‫س َمـاوا ِ‬ ‫{ أَ َولَـ ْي َ‬
‫س الَ ِذي َخلَ َ‬
‫ق ال َّ‬
‫[يَس‪ .]81:‬ثم بيَّن كيفية خلقها فقال‪ { :‬بناها } أي‪ :‬هللا‪ ،‬وفي عدم ذكر الفاعل‪ ،‬فيه وفيما عطف‬
‫عليه‪ ،‬من التنبيه‪ l‬على تعينه وتفخيم شأنه ع ّز وجل ما ال يخفى‪.‬‬

‫{ َرفَ َع َ‬
‫س ْم َكها } أي‪ :‬أعلى سقفها من األرض‪ ،‬وذهب بها إلى سمت العل ّو م ًّدا رفيعا ً مسيرة‬
‫خمسمائة عام { فس ّواها } أي‪ :‬فعدّلها مستوية ملساء‪ ،‬ليس فيها تفاوت وال فطور‪ ،‬أو‪ :‬تممها‬
‫بما جعل فيها من الكواكب والدراري‪ ،‬وغيرها مما ال يعلمه إالَّ الخالَّق العليم‪ ،‬من قولهم‪ :‬س َّوى‬
‫فالن أمره‪ :‬إذا أصلحه‪.‬‬

‫طش ليلها } أي‪ :‬أظلمه‪ ،‬ويُقال‪ :‬غطش الليل وأغطشه هللا‪ ،‬كما يُقال‪ :‬ظلُم وأظلمه هللا‪.‬‬ ‫{ وأ ْغ َ‬
‫ضحى‪ ،‬ألنه أشرف أوقاته وأطيبها‪ ،‬فكان أحق‬ ‫{ وأخرج ضحاها } أي‪ :‬أبرز نهارها‪ ،‬عبّر عنه بال ُ‬
‫بالذكر في مقام االمتنان‪ .‬ويجوز أن يكون أضاف الضحى إليها بواسطة الشمس‪ ،‬أي‪ :‬أبرز ضوء‬
‫ضحى ألنه وقت قيام سلطانها وكما إشراقها‪.‬‬ ‫شمسها‪ .‬والتعبير بال ُ‬

‫واألرض بعد ذلك دحاها } أي‪ :‬بسطها وم ّهدها لس ْكنى أهلها وتقلُّبهم في أقطارها‪ ،‬وكانت حين‬
‫َ‬ ‫{‬
‫سر الدحو فقال‪:‬‬‫ُخلقت كورة غير مدحو ٍة‪ ،‬فدحيت من تحت مكة بعد خلق السماء بألفي عام‪ .‬ثم ف ّ‬
‫{ أخرج منها ماءها } بتفجير عيونها وإجراء أنهارها‪ { ،‬ومرعاها }؛ كألها‪ ،‬وهو ما ترعاه‬
‫البهائم‪ ،‬وهو في األصل‪ :‬موضع الرعي‪ ،‬أو‪ :‬مصدر ميمي‪ l‬بمعنى المفعول‪ ،‬وتجريد الجملة من‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫العاطف إِ ّما ألنها تفسير لدحاها‪ ،‬أو تكملة له‪ ،‬فإنَّ السكنى ال تتأتى لمجرد البسط‪ ،‬بل ال بد من‬
‫تهيئة‪ l‬أمر المعاش من المأكل والمشرب حتماً‪ ،‬أو‪ :‬ألنها حال بإضمار " قد " عند الجمهور‪ ،‬أو‬
‫بدونه عند الكوفيين‪.‬‬

‫{ والجبا َل أرساها } أي‪ :‬أثبتها وأثبت بها األرض أن تميد بأهلها‪ ،‬وإرساء الجبال لها من باب‬
‫الحكمة‪ ،‬وإالَّ فالقدرة هي الحاملة للكل‪ .‬وانتصاب األرض والجبال بفعل يُفسره ما بعده‪ .‬ولعل‬
‫تقديم إخراج الماء والمرعى ذكراً مع تقديم اإلرساء عليه وجوداً؛ إلبراز كمال االعتناء بأمر‬
‫المأكل والمشرب‪ .‬وهذا كما ترى يدل بظاهره على تأخر دحو األرض عن خلق السماء وما فيها‪،‬‬
‫كما يروى عن الحسن‪ :‬من أنه تعالى خلق األرض في موضع بيت المقدس‪ ،‬كهيئة الفِ ْهر‪ ،‬عليه‬
‫دخان ملزق بها‪ ،‬ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات‪ ،‬وأمسك الفِ ْه َر في موضعها وبسط منها‬
‫األرض‪ ،‬وذلك قوله تعالى‪:‬‬
‫َكانَتَا َر ْتقاً‪} ...‬‬
‫الح َج ُر قَد َْر ما يدق به َ‬
‫الج ْو ُز‪ ،‬أو ما يمأل الكفَّ ‪ .‬هـ‪.‬‬ ‫[األنبياء‪ .]30:‬وفي القاموس‪ :‬الفِ ْه ُر بالكسر‪َ :‬‬

‫والتحقيق في المسألة‪ :‬أنَّ أول ما خلق هللاُ العرش من القبضة النورانية المحمدية‪ ،‬ثم خلق‬
‫ياقوتة صفراء‪ ،‬فذابت من هيبته‪ l‬تعالى فصارت ماء‪ ،‬ثم اضطرب الماء فعلته زبدة‪ ،‬فخلق منها‬
‫األرض‪ ،‬ثم عال منه دخان فخلق منه السماء‪ ،‬ثم دحا األرض وهيّأ فيها أقواتها للناس واألنعام‬
‫وغيرهما‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬متاعا ً لكم وألنعامكم } أي‪ :‬فجعل ذلك تمتيعا ً لكم وألنعامكم‪ ،‬فهو‬
‫مفعول ألجله؛ ألنَّ فائدة البسط والتمهيد‪ l‬وإخراج الماء والمرعى واصلة لإلنسان واألنعام‪ ،‬أو‪:‬‬
‫مصدر من غير لفظه‪ ،‬فإنَّ قوله تعالى‪ { :‬أخرج منها ماءها ومرعاها } في معنى‪ :‬متّعكم بذلك‪.‬‬

‫{ فإذا جاءت الطامةُ الكبرى } أي‪ :‬الداهية ال ُعظمى التي تط ّم على سائر الدواهي‪ ،‬أي‪ :‬تعلوها‬
‫وتغلبها‪ ،‬من قولك‪ :‬ط ّم األمر‪ :‬إذا عال وغلب‪ ،‬وهي القيامة‪ ،‬أو النفخة الثانية‪ ،‬أو‪ :‬الساعة التي‬
‫يُساق فيها الخالئق إلى محشرهم‪ ,‬أو‪ :‬التي يُساق فيها أهل الجنة إلى الجنة‪ ،‬وأهل النار إلى‬
‫اإلنسانُ ما س َعى } أي‪ :‬يتذكر فيه كل واحد ما عمله من خير وشر‪ ،‬بأن‬ ‫النار‪ { ،‬يوم يتذ َّك ُر ِ‬
‫يُشاهده مدونا ً في صحيفته‪ ،‬وقد كان نسيه‪ِ l‬من فرط الغفلة‪ ،‬وطول األمل‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫صـاهُ هللاُ َونَ ُ‬
‫سوهُ }‬ ‫أح َ‬
‫{ ْ‬
‫[المجادلة‪ .]6:‬و " يوم "‪ :‬بدل من " إذا " واألحسن‪ :‬أنه مفعول بفعل محذوف‪ ،‬أي‪ :‬أعني‪.‬‬
‫{ وبُ ّرزَ ت الجحي ُم } أي‪ :‬أظهرت إظهاراً بينا ً ال يخفى على أحد { لمن يرى } كائنا ً َمن كان‪ ،‬فال‬
‫تتوقف رؤيتها إالّ على وجود حاسة البصر‪ ،‬وال مانع من الرؤية وال حاجب‪ .‬يُروى أنه يُكشف‬
‫عنها فتلتظي نيرانها كل ذي بصر‪.‬‬

‫{ فأ َّما َمن طَ َغى } أي‪ :‬جاوز الح ّد في العصيان { وآثر الحياةَ الدنيا } الفانية‪ l،‬فانهمك فيما متع به‬
‫فيها‪ ،‬ولم يستعد للحياة اآلخرة األبدية باإليمان والطاعة‪ { ،‬فإِنَّ الجحيم } التي ذكر شأنها { هي‬
‫المأوى } أي‪ :‬مأواه‪ .‬فالالم سادّة مسد اإلضافة للعلم بأنَّ صاحب المأوى هو الطاغي‪ ،‬وجملة "‬
‫فأ ّما "‪ :‬جواب " إذا " على طريقة‪:‬‬
‫{ فَإ ِ َّما يَأْتِيَنَّ ُكم ِمنِّى هُد ً‬
‫ى فَ َمن تَبِ َع ُهدَا َ‬
‫ى‪} ...‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫[البقرة‪ ،]38:‬وقيل‪ :‬جواب " إذا " محذوف‪ ،‬وهي تفصيل له‪ ،‬أي‪ :‬إذا جاءت انقسم الناس على‬
‫ُّ‬
‫التنزل‪ ،‬ويقتضيه مقام التهويل؛ أنَّ الجواب‬ ‫قسمين‪ ،‬فأ ّما َمن طغى‪ ..‬الخ‪ ،‬والذي يستدعيه‪ l‬فخامة‬
‫صل أحوال الناس بقوله‪:‬‬ ‫المحذوف تقديره‪ :‬يكون من عظائم الشؤون ما لم تُشاهده العيون‪ ،‬ثم ف َّ‬
‫فأ ّما‪ ..‬الخ‪.‬‬

‫{ وأ ّما َمن خاف َمقا َم ربه } أي‪ُ :‬مقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى‪ ،‬يوم يتذكر‬
‫ي‪ ،‬أي‪ :‬زجرها عن اتّباع الشهوات الفانية‪،‬‬ ‫النفس عن الهوى } ال ُم ْر ِد ِّ‬
‫َ‬ ‫اإلنسانُ ما سعى‪ { .‬ونهى‬
‫بو َخامة عاقبتها‪،‬‬
‫ولم يعتد بمتاع الحياة الدنيا وزهرتها‪ ،‬ولم يغتر بزخارفها وزينتها‪ ،‬علما ً منه َ‬
‫وقيل‪ :‬هو الرجل يهم بالمعصية فيتذ ّكر مقامه للحساب فيتركها‪.‬‬
‫والهوى‪ :‬ميل النفس إلى ما تهوى من غير تقييد بالشريعة‪ { ،‬فإِنَّ الجنة هي المأوى } له ال‬
‫لغيره‪ ،‬وسيأتي‪ l‬تحقيقه في اإلشارة‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬فإذا جاءت الطامة‪ ،‬وهو التجلَّي الجاللي الذي اليعرفه فيه إالّ الرجال‪ ،‬يومئذ يتذكر‬
‫اإلنسان ما سعى فيه من علم التوحيد‪ ،‬ف َمن كان عارفا ً باهلل في جميع األشياء عرفه في جميع‬
‫التجليات‪ ،‬كيفما تل ّونت‪ ،‬و َمن كان قاصراً في المعرفة في البعض وأنكره في البعض‪ ،‬كما في‬
‫حديث القيامة‪ ،‬حيث يتجلّى لبعض عباده في صورة ال يعرفونها‪ ،‬فيُنكرونه‪ l،‬ويقولون‪ ،‬هذا‬
‫موضعنا حتى يأتينا ربنا‪ ،‬ثم يتجلّى لهم في صورة يعرفونها‪ ،‬فيُقرونه‪ ،‬وهذا لقصورهم في‬
‫المعرفة‪ ،‬ولو عرفوا هللا في جميع تجلياته ما أنكروه في شيء منها‪ ،‬وبُ ّرزت الجحيم ل َمن يرى‪،‬‬
‫غير‬
‫أي‪ :‬وبُ ّرزت حينئذ نار القطيعة ل َمن يرى‪ .‬قال القشيري‪ :‬أي‪ :‬ظهرت جحيم الحجاب ل َمن يراه َ‬
‫األشياء‪ ،‬فإنه عين األشياء في جميع التجليات‪ ،‬الجمالية والجاللية‪ ،‬العلوية والسفلية‪ ،‬الصورية‪l‬‬
‫والمعنوية‪ l.‬هـ‪.‬‬

‫فأ َّما َمن طغى وتبع هواه‪ ،‬وآثر الحياة الدنيا‪ ،‬واالشتغال بها عن اإلقبال على هللا‪ ،‬فإنَّ الجحيم هي‬
‫المأوى‪ ،‬أي‪ :‬جحيم الحرمان عن مشاهدة الرحمن‪ ،‬وأ ّما َمن خاف مقام ربه‪ ،‬أي‪ :‬قيام ربه‬
‫باألشياء‪ ،‬أو على األشياء‪ ،‬واطالعه عليها‪ ،‬أو قيامه بين يدي هللا غداً للحساب‪ ،‬فاألول ألهل‬
‫النفس عن الهوى‪ ،‬عن كل ما‬‫َ‬ ‫المشاهدة‪ ،‬والثاني ألهل المراقبة‪ ،‬والثالث ألهل المحاسبة‪ l،‬ونهى‬
‫القلب عن ذكر مواله‪ ،‬مما تهواه النفوس‪ ،‬فإنّ الجنة هي المأوى‪ ،‬جنة‬ ‫َ‬ ‫يشغل عن هللا‪ ،‬ويُقسي‬
‫سه من المباحات‪ ،‬وجنة الزخارف ل َمن ترك ما تهواه من‬ ‫المعارف ل َمن ترك ما تهوى نف ُ‬
‫المح ّرمات‪.‬‬

‫قال الورتجبي‪ :‬خاطب تعالى العبا َد بهذه اآلية في أوائل مقاماتهم‪ ،‬حين وجب عليهم ترك‬
‫النفوس‪ ،‬وش َره هواها‪ ،‬والميل إلى حظوظها‪ ،‬ألنهم في وقت قصودهم إلى هللا ال يجوز لهم‬
‫الرخص والرفاهية‪ ،‬فقد وجب عليهم اإلعراض عن حظوظ أنفسهم‪ ،‬خوفا ً من االحتجاب عن‬
‫الوصول إلى هللا تعالى‪ ،‬ولعلمهم بأنه محيط بحركات شهوات نفوسهم الخفية‪ ،‬حين تميل‬
‫بخفاياها إلى مرادها دون هللا‪ ،‬فإذا جادوها وقهروها بتأييد هللا أوصلهم هللا مقا َم مشاهدته‪ ،‬وهي‬
‫جنة العارفين‪ ،‬فإذا ترقُّوا إلى درجات المعرفة لم يحتاجوا إلى قهر النفس عن الهوى‪ ،‬فإنّ‬
‫نفوسهم وأجسامهم وشياطينهم صارت روحانية‪ ،‬فجانست األرواح الملكوتية‪ l،‬فشهوات نفوسهم‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫األرواح في‬
‫ُ‬ ‫األنفس ما تشتهي‪l‬‬ ‫ُ‬ ‫هناك من تواثير‪ l‬حالوة أرواحهم في مشاهدة الحق‪ ،‬فتشتهي‪l‬‬
‫الغيوب والعقول والقلوب‪ ،‬فيضطرهم هناك إلى كل شيء يكون للنفوس واألرواح‪ ،‬جنات تظهر‬
‫فيها أنوار شهود الحق‪ ،‬وأين الكافر والمعطِّل والمد ِّعي من هذا المقام؟ وهم خلقوا من الجهالة‪،‬‬
‫فيموتون في الضاللة‪ ،‬وأصحاب القلوب والمعارف عيش أرواحهم عيش الربانيين‪ ،‬وعيش‬
‫نفوسهم عيش الجنّانيين ـ أي أهل الجنة الحسية ـ وهللا قادر بذلك يختص برحمته َمن يشاء‪،‬‬
‫ولهذا قال عليه الصالة والسالم‪ " :‬أسلم شيطاني " وقال‪ " :‬نحن معاشر األنبياء أجسادنا روح‬
‫" ثم قال عن سهل‪ :‬ال يَسلم من الهوى إالَّ األنبياء وبعض الصدّيقين‪ ،‬ليس كلهم‪ ،‬وإنما يسلم من‬
‫الهوى َمن ألزم نفسه األدب‪ .‬هـ‪ .‬قلت‪ :‬الذي يُلزم نفسه األدب هو الذي ينزل إلى سماء الحقوق‬
‫أو أرض الحظوظ باإلذن والتمكين والرسوخ‪ l‬في اليقين‪ ،‬وقليل ما هم‪.‬‬
‫ساهَا } * { فِي َم أَنتَ ِمن ِذ ْك َراهَا } * { إِلَىا َربِّ َك ُمنتَ َهاهَآ } *‬ ‫سا َع ِة أَيَّانَ ُم ْر َ‬ ‫سأَلُونَكَ ع ِ‬
‫َن ال َّ‬ ‫*{ يَ ْ‬
‫ض َحاهَا }‬ ‫َ‬
‫شيَّةً أ ْو ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫{ إِنَّ َمآ أنتَ ُمن ِذ ُر َمن يَ ْخشَاهَا } * { َكأنَّ ُه ْم يَ ْو َم يَ َر ْونَ َها لَ ْم يَ ْلبَثُوا ْا إِالَّ َع ِ‬

‫ساها } أي‪ :‬متى إرساؤها‪ ،‬أي‪ :‬إقامتها‪،‬‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬يسألونك عن الساع ِة أيّان ُم ْر َ‬
‫يُريدون‪ :‬متى يُقيمها هللا تعالى ويك ّونها‪ ،‬وقيل‪ :‬إيّان منتهاها ومستقرها‪ ،‬كما أنّ مرسى السفينة‬
‫ي‪ :‬في أي شيء أنت ِمن أن تذكر‬ ‫المحل التي تنتهي‪ l‬إليه وتستقر فيه‪ { ،‬فِي َم أنتَ ِمن ِذكراها } أ ّ‬
‫وقتها لهم وتعلمهم به؟ أي‪ :‬ما أنت من ذكراها وتبيين وقتها لهم في شي ٍء حتى يسألونك بيانها‪،‬‬
‫إنما أنت نذير بها‪ ،‬كقولك‪ :‬ليس فالن من العلم في شي ٍء وهو إنكار ورد لسؤال المشركين عنها‪،‬‬
‫ألنَّ علمها مما استأثر به عالّم الغيوب وقيل‪ :‬كان رسو ُل هللا صلى هللا عليه وسلم لم يزل يذكر‬
‫الساعة ويسأل عنها حتى نزلت‪ ،‬فكفّ ‪ ،‬فهو على هذا تعجيب من كثرة ذكره لها‪ ،‬أي‪ :‬أنت في‬
‫شُغل وأي شغل أنت من االهتمام بالسؤال عنها‪.‬‬

‫وقالت عائشة رضي هللا عنها‪ :‬كان صلى هللا عليه وسلم يسأل عن الساعة كثيراً‪ ،‬فما نزلت هذه‬
‫اآلية انتهى عن ذلك‪ .‬وال يرده قوله‪:‬‬
‫{ َكأَنَّكَ َحفِ ُّي َع ْن َها }‬
‫[األعراف‪ ]187:‬أي‪ :‬إنهم يزعمون أنك ُمبالغ في السؤال عنها حتى علمتها ولست كما‬
‫يزعمون‪ ،‬ألنّا نقول هذه اآلية نزلت قبل تلك‪ ،‬وأنه كان أوالً يسأل عنها حتى نُهي بهذه اآلية‬
‫فانتهى‪ ،‬كما ذكر في الحديث المذكور‪ ،‬فنزلت تلك مخبرة عن حاله بعد انتهائه‪ .‬وهللا أعلم‪ .‬قال‬
‫القشيري‪ :‬من أين لك علمها ولم نعلمك بذلك‪ ،‬وقيل‪ :‬يوقف على قوله‪ " :‬فِي َم " أي‪ :‬هذا السؤال‬
‫الذي يسألونك فيم‪ ،‬أي‪ :‬في أي شيء هو‪ ،‬فيكون إنكاراً لسؤالهم‪ ،‬ثم ابتدأ‪ِ " :‬من ذكراها " أي‪:‬‬
‫إن ظهورك وبعثك وأنت خاتم النبيين من جملة ذكراها‪ ،‬أي‪ :‬أشراطها وعالمتها‪ ،‬ومؤذن‬
‫بقيامها‪ ،‬فال حاجة لسؤالهم عنها‪ ،‬ويرده‪ :‬عدم اإلتيان بهاء السكت‪ ،‬ويجاب‪ :‬بأنه ليس بالزم‪،‬‬
‫وإنما تَلز ُم فيما ج ّر بإضافة اسم‪ ،‬لبقائه على حرف واحد‪ ،‬كما هو مقرر في محله‪ ،‬مع عدم ثبوته‬
‫في المصحف‪.‬‬

‫ثم أومأ تعالى إلى أنه مختص بحقيقة علمها‪ ،‬فقال‪ { :‬إِلى ربك منتهاها }؛ منتهى علمها متى‬
‫يكون‪ ،‬ال يعلمها غيره‪ { ،‬إِنما أنت منذ ُر من يخشاها } أي‪ :‬لم تُبعث لتُعلمهم وقت الساعة‪ ،‬وإنما‬
‫بُعثت لتُخ ّوف ِمن أهوالها َمن يخاف شدائدها‪ { ،‬كأنهم يوم يرونها } أي‪ :‬الساعة { لم يَلبثوا }‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ضحاها } أي‪ :‬ضحى العشية‪ ،‬استقلُّوا مدّة لبثهم في الدنيا لما عاينوا من‬ ‫في الدنيا { إِالَّ عشيةً أو ُ‬
‫الهول‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫{ لَ ْم يَ ْلبَثُو ْا إِالَّ َ‬
‫سا َعةً ِّمن نَّ َها ٍر }‬
‫صح إضافة الضحى إلى العشية للمالبسة‪ ،‬الجتماعهما في نها ٍر واحد‪،‬‬ ‫[األحقاف‪ ]35:‬وإنما ّ‬
‫والمراد‪ :‬أن مدة لبثهم لم تبلغ يوما ً كامالً‪ ،‬ولكن أحد طرفي النهار عشية ٍ‬
‫يوم واح ٍد أوضحاه‪.‬‬

‫وقال أبو السعود‪ :‬اآلية إما تقرير وتأكيد لما يُنبىء عنه اإلنذار من سرعة مجيء المن َذر به‪ ،‬أي‪:‬‬
‫كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد اإلنذار إالّ عشية يوم واحد أو ضحاه‪ ،‬فلما ترك اليوم أضيف‬
‫ضحاه إلى عشيته‪.‬‬
‫وإ ّما رد لما أدمجوه في سؤالهم‪ ,‬فإنهم كانوا يسألون عنها بطريق االستهزاء مسعجلين لها‪،‬‬
‫ضحاها‪ ،‬واعتبار كون اللبث في‬ ‫فالمعنى‪ :‬كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد بها إالّ عشية أو ُ‬
‫القبور أو في الدنيا ال يقتضيه‪ l‬المقام‪ ،‬وإنما الذي يقتضيه‪ l‬اعتبار كونه بعد اإلنذار‪ ،‬أو بعد‬
‫الوعيد‪ ،‬تحقيقا ً لإلنذار‪ ،‬ور ًّدا الستبطائهم‪ .‬والجملة على األول‪ :‬حال من الموصول‪ ،‬فإنه على‬
‫تقدير اإلضافة وعلى عدمها مفعول ل ُمنذر‪ ،‬كما أنَّ قوله تعالى‪:‬‬
‫{ َكأَن لَّ ْم يَ ْلبَثُو ْا إِالَّ َ‬
‫سا َعةً ِمنَ النَّ َها ٍر }‬
‫[يونس‪ ]45:‬حال من الضمير‪ l‬في " نحشرهم " أي‪ :‬نحشرهم مشبّهين ب َمن لم يلبث في الدنيا إالّ‬
‫ساعة من النهار‪ ،‬خال أن التشبيه‪ l‬هناك في األحوال الظاهرة من الزي والهيئة‪ l،‬وفيما نحن فيه‬
‫من االعتقاد‪ ،‬كأنه قيل‪ِ :‬عدْهم مشبهين‪ l‬يوم يرونها في االعتقاد ب َمن لم يلبث بعد اإلنذار بها إالّ‬
‫تلك المدة اليسيرة‪ ،‬وعلى الثاني‪ :‬مستأنفة‪ ،‬ال محل لها من اإلعراب‪ .‬هـ‪.‬‬

‫المتوجه بالدخول في مقام‬


‫ِّ‬ ‫اإلشارة‪ :‬يسألونك أيها العارف عن الساعة التي يفتح هللا فيها على‬
‫الفناء في الذات‪ ،‬أيَّان ُم ْرساها‪ ،‬إنما أنت منذر َمن يخشى فواتها‪ ،‬أي‪ :‬إنما أنت ُمبَيّن الطريق‬
‫ُخوف من العوائق التي تعوق عنها‪ ،‬وليس ِمن وظيفتك اإلعالم بوقتها‪،‬‬ ‫التي توصل إليها‪ ،‬وت ِّ‬
‫ألنها موهبة من الكريم الوهّاب‪ ,‬كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إالّ عشية أو ضحاها‪ ،‬أي‪:‬‬
‫يستصغرون مدة مجاهدتهم وسيرهم في جانب عظمها‪ .‬وباهلل التوفيق‪ ،‬وصلى هللا على سيدنا‬
‫محمد وآله وصحبه‪ l،‬وسلّم‪.‬‬

‫‪#‬سورة عبس §‪#‬‬

‫س َوت ََولَّىا } * { أَن َجآ َءهُ األَ ْع َمىا } * { َو َما يُ ْد ِري َك لَ َعلَّهُ يَ َّز َّكىا } * { أَ ْو يَ َّذ َّك ُر فَتَنفَ َعهُ‬ ‫*{ َعبَ َ‬
‫َصدَّىا } * { َو َما َعلَ ْي َك أَالَّ يَ َّز َّكىا } * { َوأَ َّما َمن‬ ‫ستَ ْغنَىا } * { فَأَنتَ لَهُ ت َ‬
‫الذ ْك َرىا } * { أَ َّما َم ِن ا ْ‬
‫ِّ‬
‫س َعىا } * { َو ُه َو يَ ْخشَىا } * { فَأَنتَ َع ْنهُ تَلَ َّهىا } * { َكالَّ إِنَّ َها ت َْذ ِك َرةٌ } * { فَ َمن شَآ َء‬ ‫َجآ َءكَ يَ ْ‬
‫سفَ َر ٍة } * { ِك َر ٍام بَ َر َر ٍة }‬ ‫ف ُّم َك َّر َم ٍة } * { َّم ْرفُو َع ٍة ُّمطَهَّ َر ٍة } * { بِأ َ ْي ِدي َ‬ ‫ص ُح ٍ‬ ‫َذ َك َرهُ } * { فَي ُ‬

‫س } أي‪ :‬كلح { وت ََولَّى }؛ أعرض { أن جاءه } أي‪ :‬ألن جاءه‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪َ { :‬عبَ َ‬
‫{ األع َمى } ‪ ،‬وهو عبدهللا ابن أ ِّم مكتوم‪ ،‬وأ ُّم مكتوم‪ :‬أ ُّم أبيه‪ ،‬وأبوه‪ :‬شريح بن مالك بن ربيعة‬
‫الفهري‪ ،‬وذلك أنه أتى رسو َل هللا صلى هللا عليه وسلم وعنده صناديد قريش‪ ،‬عُتبة وشيبة‪ l‬ابنا‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ربيعة‪ ،‬وأبو جهل‪ ،‬والعباس بن عبد المطلب‪ ،‬وأمية بن خلف‪ ،‬والوليد بن المغيرة‪ ،‬يدعوهم إلى‬
‫اإلسالم‪ ،‬رجاء أن يسلم بإسالمهم غي ُرهم‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ,‬علِّمني مما علمك هللا‪ ،‬وكرر ذلك‪،‬‬
‫وهو ال يعلم تشاغله صلى هللا عليه وسلم بالقوم‪ ،‬فَ َك ِره رسو ُل هللا صلى هللا عليه وسلم قطعه‬
‫لكالمه‪ ،‬وعبس وأعرض عنه‪ ،‬فنزلت‪ ،‬فكان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يُكرمه‪ l،‬ويقول إذا‬
‫رأه‪ " :‬مرحبا ً ب َمن عاتبني فيه ربي " ‪ ،‬ويقول‪ " l:‬هل لك من حاجة " ‪ ،‬واستخلفه على المدينة‬
‫مرتين‪.‬‬

‫ولم يُواجهه ـ تعالى ـ بالخطاب‪ ،‬فلم يقل‪ :‬عبستَ وتوليتَ ؛ رفقا ً به ومالطفة؛ ألنَّ مواجهة العتاب‬
‫من رب األرباب من أصعب الصعاب‪ ،‬خالفا ً للزمخشري وابن عطية و َمن وافقهما‪ .‬و " أن جاءه‬
‫والتعرض لعنوان‬
‫ُّ‬ ‫"‪ :‬علة لـ " تولَّى " ‪ ،‬أو " عبس " ‪ ،‬على اختالف المذهبين في التنازع‪،‬‬
‫عماه إ ّم ا لتمهيد عذره في اإلقدام على قطع كالمه عليه السالم بالقوم‪ ،‬واإليذان باستحقاقه‬
‫بالرفق والرأقة‪ ،‬وإ ّما لزيادة اإلنكار‪ ،‬كأنه تولَّى عنه لكونه أعمى‪ .‬قاله أبو السعود‪.‬‬

‫ي شيء يجعلك داريا ً بحال هذا األعمى حتى تُعرض عنه { لعله يَ َّز َّكى }؛‬ ‫{ وما يُ ْد ِريك } أي‪ :‬أ ّ‬
‫لعل األعمى يتط ّهر بما سمع منك من دنس الجهل‪ ،‬وأصله‪ :‬يتز َّكى‪ ،‬فأدغم‪ .‬وكلمة الترجي مع‬
‫الترجي بالنسبة إليه عليه السالم للتنبيه‪l‬‬
‫ّ‬ ‫تحقق الوقوع وارد على سنن الكبرياء‪ ،‬أو‪ :‬على أنّ‬
‫على أنَّ اإلعراض عنه عند كونه مرجواً للتز ِّكي مما ال ينبغي‪ ،‬فكيف إذا كان مقطوعا ً بالتز ِّكي‪،‬‬
‫وفيه إشارة إلى أنَّ َمن تصدّى لتزكيتهم من الكفرة ال يرجى لهم التز ّكي والتذ ُّكر أصالً‪ .‬وقوله‬
‫كرى }‪:‬‬ ‫تعالى‪ { :‬أو َّ‬
‫يذ َّك ُر }‪ :‬عطف على " ي ّزكى " ‪ ،‬داخل في حكم الترجي‪ ،‬قوله‪ { :‬فتَنفَعه ال ِذ َ‬
‫يذ َّكر " ‪ ،‬و َمن نصبه‪ l‬فجواب الترجي‪ ،‬أي‪ :‬أو يتذكر فتنفعه موعظتك إن لم يبلغ‬ ‫عطف على " َّ‬
‫درجة التزكي التام‪ ،‬أي‪ :‬إنك ال تدري ما هو مترقَب منه ِمن تزكٍّ أو تذ ُّكر‪ ،‬ولو دريت لَ َما فرط‬
‫ذلك منك‪.‬‬

‫{ أ َّما َمن استغنى } أي‪َ :‬من كان غنيا ً بالمال‪ ،‬أو‪ :‬استغنى عن اإليمان‪ ،‬أو عما عندك من العلوم‬
‫صدّى }؛ تتصدى وتتعرض له باإلقبال عليه‪،‬‬ ‫والمعارف التي انطوى عليه القرآن { فأنت له تَ َ‬
‫واالهتمام بإرشاده واستصالحه‪ .‬وفيه مزيد تنفير له صلى هللا عليه وسلم عن مصاحبتهم‪ ،‬فإنّ‬
‫اإلقبال على المدبِر ليس من شأن الكرام‪ ،‬أهل الغنى باهلل‪.‬‬
‫وما عليك أالَّ ي َّز َّكى } أي‪ :‬وليس عليك بأس في أالَّ ي َّز ّكى باإلسالم حتى تهتم بأمره‪ ،‬وتُعرض‬
‫أي شيء عليك في أالّ يز ّكى هذا الكافر‪.‬‬
‫عمن أسلم وأقبل إليك‪ ،‬وقيل‪ " :‬ما " استفهامية‪ ،‬أي‪ُّ :‬‬

‫{ وأ ّما َمن جاءك يسعى } أي‪ :‬حال كونه مسرعا ً طالبا ً ِلما عندك من أحكام الرشد‪ ،‬وخصال‬
‫الخير‪ { ،‬وهو يخشى } هللا تعالى أو الكفار‪ ،‬أي‪ :‬أذاهم في إتيانك‪ ،‬أو‪ :‬الكبوة‪ ،‬أي‪ :‬السقطة‪،‬‬
‫كعادة العميان‪ { ،‬فأنت عنه تَلَهَّى }؛ تتشاغل‪ ،‬وأصله‪ :‬تتلهى‪ُ .‬روي‪ :‬أنه صلى هللا عليه وسلم ما‬
‫عبس بعدها في وجه فقير قط‪ ،‬وال تصدَّى ل َغني بعدُ‪.‬‬

‫{ كالَّ } أي‪ :‬ال تَ ُع ْد إلى مثلها‪ .‬وحاصل العتاب‪ :‬ترجيح اإلقبال على َمن فيه القبول واألهلية‬
‫لالنتفاع‪ ،‬دون َمن ليس كذلك ممن فيه استغناء‪ ،‬وإن كان قصده عليه السالم صالحاً‪ ،‬ولكن نبَّهه‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫هّللا ُ ـ تعالى ـ على طريق األولى في سلوك الدعوة إليه‪ ،‬وأنّ مظنة ذلك الفُقراء؛ لتواضعهم‪،‬‬
‫بخالف األغنياء‪ ،‬لتكبُّرهم وتعاظمهم‪ .‬ولذلك لم يتعرض صلى هللا عليه وسلم ل َغنِي بعدها‪ ،‬ولم‬
‫يُعرض عن فقير‪ ،‬وكذلك ينبغي‪ l‬لفضالء أمته من العلماء الدعاة إلى هللا‪ ،‬وقد كان الفقراء في‬
‫مجلس الثوري أُمراء‪ .‬ثم قال تعالى‪ { :‬إِنها تذكرةٌ }؛ موعظة يجب أن يُتعظ بها‪ ،‬ويُعمل‬
‫بموجبها‪ ،‬وهو تعليل للردع عما ذكر ببيان رتبة‪ l‬القرآن العظيم الذي استغنى عنه َمن تصدّى له‪،‬‬
‫{ ف َمن شاء ّذ َك َره } أي‪ :‬ف َمن شاء هّللا ُ أن يذكره ذكره‪ .‬أي‪ :‬ألهمه هللا االتعاظ به‪ ،‬أو‪َ :‬من شاء‬
‫حفظه واتعظ به‪ ،‬و َمن رغب عنها‪ ،‬كما فعله المستغني‪ ،‬فال حاجة إلى االهتمام بأمره‪.‬‬

‫وذ ّكر الضمير؛ ألنَّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ‪ .‬وقال أبو السعود‪ :‬الضميران للقرآن‪ ،‬وتأنيث‬
‫األول لتأنيث خبره‪ ،‬وقيل‪ :‬األول للسورة‪ ،‬أو لآليات السابقة‪ ،‬والثاني للتذكرة؛ ألنها في معنى‬
‫الذكر والوعظ‪ ،‬وليس بذلك؛ فإنَّ السورة واآليات وإن كانت متصفة بما سيأتي من الصفات‬
‫الشريفة‪ ،‬لكنها ليست مما ألقي على المستغنى عنه‪ ،‬واستحق بسبب ذلك ما سيأتي من الدعاء‬
‫عليه‪ ،‬والتعجب ِمن كفره المفرط‪ ،‬لنزولها بعد الحادثة‪ ،‬وأ ّما َمن َج ْوز رجوعهما إلى العتاب‬
‫المذكور‪ ،‬فقد أخطأ وأساء األدب‪ ،‬وخبط خبطا ً يقضي منه العجب‪ ،‬فتأ ّمل‪ .‬هـ‪.‬‬

‫وحاص ُل المعنى‪ :‬أنَّ هذه اآليات ـ أي آيات القرآن ـ تذكرة‪ ،‬ف َمن شاء فليتعظ بها‪ ،‬حاصلة { في‬ ‫ِ‬
‫ف } منتسخة من اللوح‪ُ { ،‬م َك َّرم ٍة } عند هللا ع ّز وجل‪ { ،‬مرفوع ٍة } في السماء السابعة‪،‬‬ ‫ص ُح ٍ‬ ‫ُ‬
‫أو‪ :‬مرفوعة المقدار والمن ِزلة‪ُ { ،‬مطَهَّر ٍة } عن مساس أيدي الشياطين‪ ،‬أو‪ :‬عما ليس من كالم‬
‫سفَ َر ٍة } أي‪َ :‬كتَبَة‪ l‬من المالئكة‪ ،‬يستنسخون‬
‫هللا تعالى أو‪ِ :‬من خل ٍل في اللفظ أو المعنى‪ { ،‬بأيدي َ‬
‫س ْفر‪ ،‬وهو الكتب‪ ،‬وقيل‪ :‬بأيدي رسل من‬ ‫الكتب من اللوح‪ ،‬على أنه جمع‪ " :‬سافِ ٍر " ‪ ،‬من ال َّ‬ ‫َ‬
‫سفارة‪،‬‬
‫سفِرون بالوحي‪ ،‬بينه تعالى وبين أنبيائه‪ ،‬على أنه جمع " سفير " من ال ِ‬ ‫المالئكة يَ ْ‬
‫سفَرة " على األنبياء ـ عليهم السالم ـ أو على القُراء‪ ،‬ألنهم يقرؤون األسفار‪ ،‬أو على‬ ‫وح ْمل " ال َ‬ ‫َ‬
‫الصحابة ـ رضوان هللا عليهم ـ بعيد؛ ألنَّ هذه اللفظة مختصة بالمالئكة‪ ،‬ال تكاد تُطلق على‬
‫غيرهم‪ ،‬وقال القرطبي‪ " :‬المراد بقوله تعالى في الواقعة‪:‬‬
‫سهُ إِالَّ ا ْل ُمطَهَّ ُرونَ }‬
‫الَّ يَ َم ُّ‬
‫سفَرة "‪ِ { .‬كرام } عند هللا تعالى‪ ،‬أو‪ :‬متعطفين على المؤمنين يكلؤونهم‬ ‫[الواقعة‪ ]79:‬هؤالء ال َ‬
‫ويستغفرون لهم‪ { ،‬برر ٍة }؛ أتقياء‪ ،‬أو‪ :‬مطيعين هلل تعالى‪ ،‬من قولهم‪ :‬فالن يبر خالقه‪ ،‬أي‪:‬‬
‫يُطيعه‪ ،‬أو‪ :‬صادقين‪ ،‬من قولهم‪ :‬ب ّر في يمينه‪ l:‬صدق‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬ينبغي‪ l‬للداعي إلى هللا أن ينبسط عند الضعفاء‪ ،‬ويُقبل عليهم بكليته‪ l‬ويواجههم بالبشاشة‬
‫والفرح‪ ،‬سواء كانوا ضعفاء األموال‪ ،‬أو ضعفاء األبدان‪ ،‬كال ُعميان والمحبوسين والمرضى‪ ،‬أو‪:‬‬
‫ضعفاء اليقين‪ ،‬إن أقبلوا إليه‪ ,‬فقد كان الشيخ أبو العباس المرسي يحتفل بمالقاة أهل العصيان‬
‫والجبابرة أكثر ِمن غيرهم‪ ،‬فقيل له في ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬هؤالء يأتونا فقراء منكسرين‪ ،‬بخالف غيرهم‬
‫من العلماء والصالحين‪ .‬قلت‪ :‬وكذلك رأيتُ حال أشياخنا ـ رضي هللا عنهم ـ يَبرون بالجبابرة‬
‫سبُع فنهلس عليه فيرجع ذئباً‪،‬‬ ‫ليجروهم بذلك إلى هللا تعالى‪ ،‬قالوا‪ :‬يأتينا الرجل َ‬
‫ُّ‬ ‫وأهل العصيان‪،‬‬
‫ثم نهلس عليه فيرجع قِطاً‪ ،‬ثم نجعل السلسلة في عنقه ونقوده إلى ربه‪ .‬نَ َعم إن تزاحم حق‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ق الفقراء؛ لشرفهم عند هللا‪ ،‬إالّ إن كانوا راسخين‪،‬‬


‫الفقراء وحق الجبابرة في وقت واح ٍد قدّم ح َّ‬
‫فيُقَدِّم عليهم غيرهم؛ ألنهم حينئذ يحبون اإليثار عليهم‪.‬‬

‫سة الدنيا‪،‬‬ ‫قال الورتجبي‪ :‬بيَّن هللا تعالى هنا ـ يعني في هذه اآلية ـ درجةَ الفقر‪ ،‬وتعظيم أهله‪ِ ،‬‬
‫وخ ّ‬
‫وتحقير أهلها‪ ،‬وأنَّ الفقير إذا كان بنعت الصدق والمعرفة والمحبة كان شرفا ً له‪ ،‬وهو من أهل‬
‫صحبة‪ l‬األغنياء‪ ،‬ودعوتهم إلى طريق الفقراء‪ ،‬إذا كان سجيتهم لم‬ ‫صحبة‪ ،‬وال يجوز االشتغال ب ُ‬
‫ال ُ‬
‫صحبة‬‫تكن بسجية‪ l‬أهل المعرفة‪ ،‬فإذا كان حالهم كذلك ال يأتون إلى طريق الحق بنعت التجريد‪ ،‬فال ُ‬
‫معهم ضائعة‪ ،‬إال ترى كيف عاتب هللا نبيَّه بهذه اآلية بقوله‪ { :‬أ ّما َمن استغنى‪ } ..‬اآلية‪ ،‬كيف‬
‫يتز َّكى َمن ُخلق على جبِلة حب الدنيا والعمى عن اآلخرة وال ُعقبى‪ .‬هـ‪.‬‬

‫سبِي َل‬ ‫ي شَي ٍء َخلَقَهُ } * { ِمن نُّ ْطفَ ٍة َخلَقَهُ فَقَ َّد َرهُ } * { ثُ َّم ال َّ‬ ‫سانُ َمآ أَ ْكفَ َرهُ } * { ِمنْ أَ ِّ‬ ‫*{ قُتِ َل ا ِإلن َ‬
‫ض َمآ أَ َم َرهُ } * { فَ ْليَنظُ ِر‬ ‫س َرهُ } * { ثُ َّم أَ َماتَهُ فَأ َ ْقبَ َرهُ } * { ثُ َّم إِ َذا شَآ َء أَنش ََرهُ } * { َكالَّ لَ َّما يَ ْق ِ‬ ‫يَ َّ‬
‫شقّا ً } * { فَأَنبَ ْتنَا فِي َها َحبّا ً‬ ‫ض َ‬ ‫شقَ ْقنَا األَ ْر َ‬ ‫صبّا ً } * { ثُ َّم َ‬ ‫سانُ إِلَىا طَ َعا ِم ِه } * { أَنَّا َ‬
‫صبَ ْبنَا ا ْل َمآ َء َ‬ ‫اإلن َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ق غ ْلبا ً } * { َوفا ِك َهة َوأبّا ً } * { َّمتَاعا ً‬ ‫ُ‬ ‫ضبا ً } * { َوزَ ْيتُونا ً َونَ ْخالً } * { َو َحدَآئِ َ‬ ‫} * { َو ِعنَبا ً َوقَ ْ‬
‫لَّ ُك ْم َوألَ ْن َعا ِم ُك ْم }‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬قُتِ َل ا ِإلنسانُ } أي‪ :‬لُعن‪ ،‬والمراد‪ :‬إ ّما َمن استغنى عن القرآن الكريم‬
‫الذي ذكرت نُ ُعوته الجليلة‪ ،‬الموجبة لإلقبال عليه‪ ،‬واإليمان به‪ ،‬وإ ّما الجنس باعتبار انتظامه له‬
‫تعجب‬
‫ٌ‬ ‫وألمثاله من أفراده‪ ,‬وقيل‪ :‬المراد‪ :‬أُميّة أو‪ :‬عُتبة بن ربيعة‪ { .‬ما أ ْكفَ َره } ‪ ،‬ما أشد كفره!‬
‫من إفراطه في الكفران‪ ،‬وبيانٌ الستحقاقه الدعاء عليه‪ ،‬وقيل‪ " :‬ما " استفهامية‪ ،‬توبيخي‪ l،‬أي‪:‬‬
‫ي شي ٍء حقي ٍر خلَقَه؟ ثم بيّنه‪l‬‬ ‫أي شيء َح َملَه على الكفر؟! { من أي شي ٍء َخلَقهُ } أي‪ :‬من أ ِّ‬
‫ُّ‬
‫َ‬
‫بقوله‪ { :‬من نطف ٍة َخلقَه } أي‪ِ :‬من نطفة مذرة ابتداء خلقه‪ { ،‬فقدَّره }؛ فهيّأه لِما يصلح له‪،‬‬
‫ويليق به من األعضاء واألشكال‪ ،‬أو‪ :‬فقدّره أطوراً إلى أن تَم خلقه‪.‬‬

‫سر له سبيل‪ l‬الخروج من بطن أمه‪ ،‬بأن فتح له فم الرحم‪ ،‬وألهمه أن‬ ‫سرهُ } أي‪ :‬يَ ّ‬
‫{ ثم السبي َل يَ َّ‬
‫يتن ّكس ليسهل خروجه‪ .‬وتعريف " السبيل " بالالم لإلشعار بالعموم‪ ،‬أو‪ :‬يَ ْ‬
‫سر له سبيل الخير أو‬
‫سر له سبيل النظر السديد‪ ،‬المؤدِّي إلى اإليمان‪ ،‬وهو منصوب‪ l‬بفعل‬ ‫الشر‪ ،‬على ماسبق له‪ ،‬أو يَ ْ‬
‫يُفسره ما بعده‪.‬‬

‫وارى فيه تكرمةً‪ ،‬ولم يجعله مطروداً على وجه األرض‬ ‫{ ثم أماته فأ ْقبَره } أي‪ :‬جعله ذا قب ٍر يُ َ‬
‫تأكله السباع والطير‪ ،‬كسائر الحيوان‪ .‬يُقال‪ :‬قبرتَ الميت‪ :‬إذا دفنته‪ l،‬وأقبرته‪ :‬أمرت بدفنه‪ .‬وع ّد‬
‫اإلماتة من النِعم؛ ألنها وصلة في الجملة إلى الحياة األبدية والنعيم المقيم‪ ،‬وألنها سبب وصول‬
‫ش َره‪ ،‬على القاعدة المستمرة‪ِ l‬من حذف‬ ‫الحبيب إلى حبيبه‪ { l.‬ثم إِذا شاء أ ْن َ‬
‫ش َرهُ } أي‪ :‬إذا شاء نَ ْ‬
‫مفعول المشيئة‪ ،‬أي‪ :‬ثم ينشره‪ l‬في الوقت الذي شاء‪ ،‬وهو يوم القيامة‪ ،‬وفي تعلُّق اإلنشار‬
‫بمشيئته‪ l‬ـ تعالى ـ إيذان بأنّ وقته غير متعين‪ ،‬قال ابن عرفة‪ :‬تعليق المعاد بالمشيئة جائز‪ ،‬جا ٍر‬
‫على مذهب أهل السنة؛ ألنهم يقولون‪ :‬إنه جائز عقالً‪ ،‬واجب شرعاً‪ ،‬وأ ّما المعتزلة فيقولون‬
‫بوجوبه‪ ،‬بناء على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين‪ .‬هـ‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ض ما أَ َم َرهُ } أي‪ :‬لم‬


‫{ كالَّ } ‪ ،‬ردع لإلنسان عما هو عليه‪ ،‬ثم بيَّن سبب الردع فقال‪ { :‬ل َّما يَ ْق ِ‬
‫ض العبد جميع ما أ َم َره هللاُ به؛ إذ ال يخلوا العبد من تقصي ٍر ما‪ ،‬فإن قلت‪ " :‬لَ َّما " تقتضي‬ ‫يق ِ‬
‫توقع منفيها‪ ،‬وهو هنا متعذر كما قلتَ ؟‪ .‬قلتُ ‪ :‬األمر الذي أمر هللا به عبادَه في الجملة‪ :‬هو‬
‫الوصول إلى حضرة الشهود والعيان‪ ،‬وهو ممكن عادة‪ ،‬متوقع في الجملة‪ ,‬وقد وصل إليه كثير‬
‫من أوليائه تعالى‪ ،‬ف َمن وصل إليه فال تقصير‪ l‬في حقه‪ ،‬وإن كانت المعرفة غير متناهية‪ ،‬و َمن لم‬
‫صر‪ ،‬غير أنَّ عقابه هو احتجابه عن ربه‪ l.‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬ ‫يصل إليه فهو ُمق ِّ‬

‫ثم أَ َم َر بالتف ُّكر في نِعم هللا‪ ،‬ليكون سببا ً للشكر‪ ،‬الذي هو‪ :‬صرف كلية العبد في طاعة مواله‪،‬‬
‫اإلنسانُ إِلى طعامه } أي‪ :‬فلينظر إلى طعامه الذي هو قِوام‬ ‫فلعله يقضي ما أَ َم َره فقال‪ { :‬فلينظر ِ‬
‫صبًّا } عجيباً‪،‬‬ ‫بدنه‪ ،‬وعليه يدور أمر معاشه‪ ،‬كيف صيَّرناه‪ { ،‬أَنَّا َ‬
‫صبَ ْبنَا الما َء } أي‪ :‬الغيث { َ‬
‫ف َمن قرأ بالفتح فبدل اشتمال من الطعام‪ ،‬وبالكسر استئناف‪.‬‬
‫األرض } بإخراج النبات‪ ،‬أو‪ :‬بالحرث‪ ،‬وهو فعل هللا في الحقيقة؛ إذ ال فاعل سواه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ثم شققنا‬
‫صغراً أو ِكبراً‪ ،‬وشكالً وهيئة‪ ،‬أو‪ :‬شقا ً بليغاً؛ إذ ال‬ ‫شقًّا } بديعا ً الئقا ً بما يشقها من النبات‪ِ ،‬‬
‫{ َ‬
‫الصب والشق عادة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ينبت بمطلق الشق‪ ،‬وإذا نبت ال يتم عادة‪ .‬و " ثم " للتراخي التي بين‬
‫سواء قلنا بالنبات أو بال َكراب‪ ،‬وهو الحراثة‪.‬‬

‫يتغذى به‪ .‬قال ابن عطية‪ :‬الحب‪ :‬جمع حبة ـ‬ ‫{ فأنبتنا فيها َحبًّا } كالبُر والشعير وغيرهما مما ّ‬
‫بفتح الحاء‪ ،‬وهو‪ :‬كل ما يتخذه الناس ويُ َربونه‪ ،‬وال ِحبة ـ بكسر الحاء‪ :‬كل ما ينبت من البذور‬
‫وعنبا ً } أي‪ :‬ثمرة ال َك ْرم‪ ،‬وهذا يؤيد أن المراد بالشق‪ :‬حفر‬
‫بمتخذ‪ .‬هـ‪ِ { .‬‬ ‫َ‬ ‫وال يُ ْحفل به وال هو‬
‫األرض بالحرث أو غيره‪ ،‬ألنَّ العنب ال يشق األرض في نباته‪ ،‬وإنما يغرس عوداً‪ .‬وقال أبو‬
‫السعود‪ :‬وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع ما قيّد به المعطوف عليه‪ ،‬فال ضرر‬
‫ضبا ً } وهو كل ما يقضب‪ ،‬أي‪ :‬يُقطع ليُؤكل‬ ‫في في ُخلُو نبات العنب عن شق األرض‪ .‬هـ‪ { .‬وقَ ْ‬
‫رطبا ً من النبات‪ ،‬كالبقول وال ِه ْليَ ْون ونحوه مما يُؤكل غضاً‪ ،‬وهو جملة النِ َعم التي أنعم هللا بها‪،‬‬
‫وال ذكر له في هذه اآلية إالّ في هذه اللفظة‪ .‬قاله ابن عطية‪ .‬وال ِه ْليَ ْون ـ بكسر الهاء وسكون‬
‫صة‪ ،‬وهو ضعيف؛‬ ‫صف َ َ‬‫الالم‪ :‬جمع هليونة‪ l،‬وهو ال ِه ْندَبا‪ .‬قاله ابن عرفة اللغوي‪ ،‬وقيل‪ :‬هو الفِ ْ‬
‫ألنها للبهائم‪ ،‬وهي داخلة في األَ ْب‪.‬‬

‫ق }؛ بساتين { ُغ ْلبا ً }‪ :‬جمع‬


‫{ وزيتونا ً ونخال } ‪ ،‬الكالم فيهما كما تقدّم في العنب‪ { ،‬وحدائ َ‬
‫غلباء‪ ،‬أي‪ :‬غالظ األشجار مع نعومتها‪ ،‬وصفَ به الحدائق لتكاثفها وكثرة أشجارها‪ { ،‬وفاكهةً }‬
‫أي‪ :‬ما تتفكهون به من فواكه الصيف والخريف‪ { ،‬وأبًّا } أي‪ :‬مرعَى لدوابكم‪ ،‬من‪ :‬أبَّه‪ :‬إذا أ َّمه‪,‬‬
‫أي قصده‪ ،‬ألنه يُؤم وينتجع‪ l،‬اي‪ :‬يُقصد‪ ،‬أو‪ :‬من أب لكذا‪ :‬إذا تهيأ له؛ ألنه ُمتهيأ للرعي‪ ،‬أو‪:‬‬
‫فاكهة يابسة تُؤب للشتاء‪.‬‬

‫ي أرض تُقلني إذا‬‫أي سماء تُظلني‪ ،‬وأ ّ‬ ‫سئل عن األب‪ ،‬فقال‪ُّ :‬‬ ‫الصدِّيق رضي هللا عنه أنه ُ‬
‫وعن ِّ‬
‫قلتُ في كتاب هللا ما ال علم لي به‪ .‬وعن عمر رضي هللا عنه أنه قرأ هذه اآلية‪ ،‬فقال‪ :‬كل هذا قد‬
‫األب؟ ثم رفع عصا ً كانت بيده‪ ،‬فقال‪ :‬هذا ل َع ْم ُر هللا التكلُّف‪ ،‬وما عليك يا ابن أمر‬
‫عرفناه‪ ،‬فما ُّ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫عمر‪ ،‬أالَّ تدري ما ُّ‬


‫األب؟ ثم قال‪ :‬اتبعوا ما تبين لكم وما ال فلتَدعُوه‪ .‬هـ‪ .‬وهذه اللفظة من لغات‬
‫البادية‪ ،‬فلذلك خفيت على الحواضر‪.‬‬
‫متاعا ً لكم وألنعامكم } أي‪ :‬جعل ذلك تمتيعا ً لكم ولمواشيكم‪ ,‬فإنّ بعض هذه المذكورات طعام لهم‪،‬‬
‫وبعضها علف لدوابهم‪ ،‬و { متاعا ً }‪ :‬مفعول ألجله‪ ،‬أو‪ :‬مصدر مؤكد لفعله المضمر بحذف‬
‫الزوائد‪ ،‬أي‪ :‬متّعكم بذلك متاعاً‪ ،‬وااللتفات لتكميل االمتنان‪ ،‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬قُتل اإلنسان؛ لُعن الغافل عن ذكر هللا‪ ,‬لقوله عليه السالم‪ " :‬الدنيا َملعونَةٌ‪ ،‬ملعونٌ ما‬
‫فيها‪ ،‬إالَّ ِذ ْك ُر هللا وما َواالهُ‪ ،‬وعالما ً و ُمتَعلِّما ً " ‪ ،‬فلم يخرج من اللعنة إالّ الذاكر والعالِم والمتعلم‬
‫شدة كفره لنِعمه‪ ،‬حيث لم يُشاهد ال ُمن ِّعم في النِعم‪ ،‬فيقبض منه‪،‬‬ ‫إذا أخلصا‪ ،‬ثم عجب تعالى من ِ‬
‫ويدفع إليه‪ ،‬ثم ذكر أول نشأته ومنتهاه‪ ،‬وما تقوم به بِ ْنيتِه‪ l‬فيما بينهما؛ ليحضه على الشكر‪ .‬قال‬
‫ي شيء خلقه‪ } ..‬الخ‪ ،‬يعني‪ :‬ما كان له ليكفر‪ ،‬ألنّا خلقناه من نطفة الوجود‬ ‫القشيري‪ { :‬من أ ّ‬
‫المطلق وهيأناه لمظهرية ذاتنا وصفاتنا‪ ،‬وأسمائنا‪ .‬هـ‪.‬‬

‫سره } أي‪ :‬سهلنا عليه سبيل الظهور لِ َمظاهر األسماء الجاللية والجمالية‪،‬‬ ‫ثم قال‪ { :‬ثم السبيل يَ َّ‬
‫ثم أماته عن أنانيته‪ l،‬فأقبره في قبر الفناء عن رؤية الفناء‪ ،‬ثم إذا شاء أنشره بالبقاء بعد الفناء‪.‬‬
‫كالَّ لِيرتدع عن كفرانه لنِعمنا‪ ،‬وليستغرق أحواله في شهود ذاتنا‪ ،‬ليكون شاكراً ألن ُعمنا‪ ،‬ل َّما يق ِ‬
‫ض‬
‫ما اَ َم َره‪ ،‬وهو الوصول إلى حضرة العيان‪ .‬فكل َمن وصل إلى حضرة الشهود بالفناء والبقاء فقد‬
‫صر‪ ،‬ولو أعطي عبادة الثقلين‪ .‬قال‬ ‫قضى ما أَ َم َره به مواله‪ ،‬وكل َمن لم يصل إليها فهو ُمقَ ِّ‬
‫ض هللا له أمره به‪ ،‬ولو قضى له ما أمره به لَ َما عصاه‪ .‬هـ‪ .‬وقال‬ ‫القشيري‪ :‬ويُقال‪ :‬لم يق ِ‬
‫يف بالعهد األول‪ ،‬حين خاطبه الحق بقوله‪:‬‬ ‫الورتجبي‪ l:‬لم ِ‬
‫{ أَلَ ْ‬
‫ستُ بِ َربِّ ُك ْم قَالُو ْا بَلَى }‬
‫ت بمراد هللا منه‪ ،‬وهو العبودية الخالصة‪ .‬هـ‪ .‬قلت‪ :‬يعني مع انضمام‬ ‫[األعراف‪ ]172:‬ولم يأ ِ‬
‫شهود عظمة الربوبية‪ l‬الصافية‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬فلينظر اإلنسانُ إلى طعامه } أي‪ :‬الحسي والمعنوي‪ ،‬وهو قوت القلوب‬
‫واألرواح‪ ،‬أنَّا صببنا الماء صبًّا‪ ،‬أي‪ :‬صببنا ماء العلوم والواردات على القلوب الميتة فحييت‪.‬‬
‫صبَ ْبنا ما َء الرحمة على القلوب القاسية فَالَنتْ للتوبة‪ ،‬وماء التعريف على القلوب‬ ‫قال القشيري‪َ l:‬‬
‫الصافية فنبتت فيها أزهار التوحيد وأنوا ُر التجريد‪ .‬هـ‪ .‬ثم شققنا أرض البشرية‪ l‬بأنواع العبادات‬
‫ضب الزهد في‬ ‫والعبودية‪ ،‬شقًّا‪ ،‬فأنبتنا فيها‪ :‬في قلبها َح َّ‬
‫ب المحبة‪ ،‬و َك ْر َم الخمرة األزلية‪ ،‬وقَ ْ‬
‫زهرة الدنيا وشهواتها‪ ،‬وزيتونا ً يشتعل بزيتها مصابيح العلوم‪ ،‬ونخالً يجنى منها ثمار حالوة‬
‫المعاملة‪ ،‬وحدائق‪ ،‬أي‪ :‬بساتين المعارف متكاثفة التجليات‪ ،‬وأبًّا‪ ،‬أي‪ :‬مرعى ألرواحكم‪ ،‬بالفكرة‬
‫والنظرة في أنوار التجليات الجاللية والجمالية‪ ،‬فيأخذ النصيب من كل شيء‪ ،‬ويعرف هللا في كل‬
‫شيء‪ ،‬كما قال شيخ‪ l‬شيوخنا‪ ،‬سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي هللا عنه‪:‬‬

‫ق نوار‪ ,‬وأنا رعيت فيهم هم الحجب األكبر والمدخل فيهم‬ ‫الخل ُ‬


‫متاعا ً لكم‪ ،‬أي‪ :‬لقلوبكم وأرواحكم‪ ،‬بتقوية‪ l‬العرفان في مقام اإلحسان‪ ،‬وألنعامكم أي‪ :‬نفوسكم‬
‫بتقوية‪ l‬اليقين في مقام اإليمان‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫احبَتِ ِه‬
‫ص ِ‬ ‫آخةُ } * { يَ ْو َم يَفِ ُّر ا ْل َم ْر ُء ِمنْ أَ ِخي ِه } * { َوأُ ِّم ِه َوأَبِي ِه } * { َو َ‬ ‫ص َّ‬ ‫ت ال َّ‬ ‫*{ فَإ ِ َذا َجآ َء ِ‬
‫ضا ِح َكةٌ‬ ‫سفِ َرةٌ } * { َ‬ ‫َوبَنِي ِ‪l‬ه } * { لِ ُك ِّل ا ْم ِرى ٍء ِّم ْن ُه ْم يَ ْو َمئِ ٍ‪l‬ذ شَأْنٌ يُ ْغنِي ِه } * { ُو ُجوهٌ يَ ْو َمئِ ٍ‪l‬ذ ُّم ْ‬
‫ش َرةٌ‪َ { * } l‬و ُو ُجوهٌ يَ ْو َمئِ ٍذ َعلَ ْي َها َغبَ َرةٌ } * { ت َْر َهقُ َها قَت ََرةٌ } * { أُ ْولَـائِكَ ُه ُم ا ْل َكفَ َرةُ ا ْلفَ َج َرةُ }‬ ‫ستَ ْب ِ‬ ‫ُّم ْ‬

‫صاخةُ } أي‪ :‬صيحة القيامة‪ ،‬وهي في األصل‪ :‬الداهية‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬فإِذا جاءت ال َّ‬
‫ص َّخ لحديثه‪ l:‬إذا‬‫سميت بذلك ألنَّ الخالئق يَصخون لها‪ ،‬اي‪ :‬يُصيخون لها‪ِ ،‬من‪َ :‬‬ ‫العظيمة‪ l،‬و ُ‬
‫أصاخ له واستمع‪ُ l،‬وصفت بها النفخة الثانية ألنَّ الناس يصخون لها‪ ،‬وقيل‪ :‬هي الصيحة التي‬
‫تصخ اآلذان‪ ،‬أي‪ :‬تصمها‪ ،‬لشدة وقعها‪ .‬وجواب (إذا)‪ :‬محذوف أي‪ :‬كان من أمر هللا ما ال يدخل‬
‫يفر المر ُء من أخيه } ‪ ،‬فالظرف متعلق بذلك الجواب‪،‬‬ ‫تحت نطاق العبارة‪ ،‬يدل عليه قوله‪ { :‬يو َم ُّ‬
‫وقيل‪ :‬منصوب بأعني‪ ،‬وقيل‪ :‬بدل من " إذا " أي‪ :‬يهرب من أخيه الشتغاله بنفسه‪ ،‬فال يلتفت‬
‫يفر أيضا ً من { أُم ِه وأبي ِه } مع شدة محبتهم فيه في الدنيا‪،‬‬
‫إليه وال يسأل عنه‪ { ،‬و } ُّ‬
‫{ وصاحبت ِه } أي‪ :‬زوجته { وبني ِه } ‪ ،‬بدأ باألخ ثم باألبوين؛ ألنهما أقرب منه‪ l,‬ثم بالصاحبة‬
‫يفر من أخيه‪ :‬هابيل‪ ،‬ومن أبويه‪l:‬‬ ‫أحب‪ ،‬فاآلية من باب الترقي‪ .‬وقيل‪ :‬أول َمن ُّ‬ ‫والبنين؛ ألنهم ُّ‬
‫إبراهيم‪ ،‬ومن صاحبته‪ :‬نوح ولوط‪ ،‬ومن ابنه‪ :‬نوح‪ { .‬لكل امرى ٍء منهم يومئ ٍذ شأنٌ يُ ْغنيه‪ } l‬أي‪:‬‬
‫لكل واحد من المذكورين شغل شاغل‪ ،‬وخطب هائل‪ ،‬يكفيه في االهتمام به‪ ،‬ويشغله عن غيره‪.‬‬

‫ثم بيَّن أحوال المذكورين وانقسامهم إلى السعداء واألشقياء‪ ،‬بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء‪،‬‬
‫سفِرةٌ } أي‪ :‬مضيئة‪ l‬متهللة‪ ،‬من‪ :‬أسفر الصبح‪ :‬إذا أضاء‪ ،‬قيل‪ :‬ذلك ِمن‬ ‫فقال‪ { :‬وجوه يومئ ٍ‪l‬ذ ُم ْ‬
‫قيام الليل‪ ،‬وقيل‪ِ :‬من إشراق أنوار اإليمان في قلوبهم‪ { ،‬ضاحكةٌ مستبشرةٌ } بما تُشاهد من‬
‫النعيم المقيم والبهجة الدائمة‪ { l.‬ووجوه يومئ ٍذ عليها غبرةٌ } أي‪ :‬غبار وكدور‪ { ،‬تَرهقها } أي‪:‬‬
‫تعلوها وتغشاها { قَتَ َرةٌ } أي‪ :‬سواد وظُلمة { أولئك هم الكفرةُ } ‪ ،‬اإلشارة إلى أصحاب تلك‬
‫الوجوه‪ .‬وما فيه من معنى البُعد لإليذان ببُعد درجتهم في السوء‪ ،‬أي‪ :‬أولئك الموصوفون بسواد‬
‫الوجوه وغبرتها هم الكفرة { الفجرةُ } أي‪ :‬الجامعون بين الكفر والفجور‪ ،‬ولذلك جمع هللا لهم‬
‫بين السواد والغبرة‪ .‬نسأل هللا السالمة والعافية‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬فإذا جاءت الصاخة‪ ،‬أي‪ :‬النفحة اإللهية التي تجذب القلوب إلى الحضرة القدسية‪,‬‬
‫فتأنّست القلوب باهلل‪ ،‬وفرتْ مما سواه فترى الرجل حين تهب عليه هذه النفحة‪ ،‬بواسطة أو بغير‬
‫واسطة‪ ،‬يفر من الخلق‪ ،‬األقارب واألجانب‪ ،‬أُنسا ً باهلل وشُغالً بذكره‪ ،‬ال يزال هكذا حتى يصل إلى‬
‫الناس بجسمه‪ l,‬ويفارقهم بقلبه‪ ،‬كما قالت‬
‫َ‬ ‫ي تم ُّكن‪ ،‬فحينئذ‪ l‬يخالط‬‫مواله‪ ،‬ويتمكن من شهوده أ َّ‬
‫رابعة العدوية رضي هللا عنها‪:‬‬

‫وأَبَ ْحتُ جسمي َمنْ أراد ُجلوسي‬ ‫إِنَّي َجعلتُكَ في الفُؤَ ا ِد ُم َحدّثي‬
‫وحبيب قَ ْلبي في الفُؤا ِد أنِيسي‬
‫ُ‬ ‫س ُم مني لِ ْل َجلِيس ُمؤَ انِس‬‫فَا ْل ِج ْ‬
‫وعارف إالّ وهو اليو َم يَ ُّ‬
‫فر‬ ‫ٍ‬ ‫قال القشيري‪ l:‬قالوا‪ :‬االستقامة أن تشهد الوقت قيامة‪ ،‬فَما ِمن َولِ ًّي‬
‫الخ ْلق ال بقلبه‪ ،‬ثم ذكر شعر رابعةُ‪.‬‬ ‫بقلبه من الجميع؛ ألنّ لكل شأنا ً يُغنيه‪ ،‬فالعارفُ مع َ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫وقال الورتجبي‪ :‬أ ّكد هللا أمر نصيحته‪ l‬لعباده أالّ يعتمدوا إلى َمن سواه في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وأنَّ ما‬
‫سواه ال ينقذه ِمن قبض هللا حتى يف ّر مما دون هللا إلى هللا‪ .‬هـ‪ .‬وقال في قوله تعالى‪ { :‬لكل‬
‫امرىء منهم يومئذ شأن يُغنيه }‪ :‬لكل واح ٍد منهم شأن يشغله‪ ،‬وللعارف شأن مع هللا في‬
‫مشاهدته‪ ،‬يُغنيه عما سوى هللا‪ .‬هـ‪.‬‬

‫مستبشرة } كل َمن أَسفر عن ليل وجوده ضيا ُء نهار‬


‫ِ‬ ‫سفِرة ضاحكة‬ ‫قوله تعالى‪ { :‬وجوه يومئذ ُم ْ‬
‫سفِر بنور الحبيب‪ ,‬ضاحك لشهوده‪ ،‬مستبشر بدوام إقباله‬ ‫معرفته‪ ،‬فوجهه يوم القيامة ُم ْ‬
‫ستور الغفلة‪ ،‬فضحكت بالدنو من الحق‪ ،‬واستبشرت‬ ‫ورضوانه‪ .‬وقال أبو طاهر‪ :‬كشف عنها ُ‬
‫بمشاهدته‪ .‬وقال ابن عطاء‪ :‬أسفر تلك الوجوه نظ ُرها إلى موالها‪ ،‬وأضحكها رضاه عنها‪ .‬هـ‪ .‬قال‬
‫ب مختلفة‪ ،‬فمنهم َمن استبشر بوصوله إلى حبيبه‪ l،‬ومنهم‬ ‫القشيري‪ :‬ضاحكة مستبشرة بأسبا ٍ‬
‫بوصوله إلى الحور‪ ،‬ومنهم‪ ،‬ومنهم‪ ،‬وبعضهم ألنه نظر إلى ربِّه فرأه‪ ،‬ووجوه عليها غبرة‬
‫الفراقُ‪ ،‬يرهقها ُذ ُّل الحجاب والبعاد‪ .‬هـ‪.‬‬

‫سفرة بطلوع إسفار صبح تجلِّي جمال‬ ‫سفِرة } ‪ ،‬وجوه العارفين ُم ْ‬


‫قال الورتجبي‪ { :‬وجوه يومئذ ُم ْ‬
‫ضاحكة ِمن الفرح بوصولها إلى مشاهدة حبيبها‪ ،‬مستبشرة‪ l‬بخطابه ووجدان رضاه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الحق فيها‪،‬‬
‫والعلم ببقائها مع بقاء هللا‪ .‬ثم وصف وجوه األعداء والمدّعين فقال‪ { :‬ووجوه يومئ ٍذ عليه‬
‫الفراق يوم التالق‪ ،‬وعليها قَتر ذل الحجاب‪ ،‬وظلمة العذاب ـ نعوذ باهلل من العتاب ـ قال‬
‫ِ‬ ‫غبرةُ }‬
‫س ْه ٌل‪ :‬غلب‬
‫السري‪ :‬ظاهر عليها حزن البعاد؛ ألنها صارت محجوبة‪ ،‬عن الباب مطرودة‪ ،‬وقال َ‬
‫عليها إعراض هللا عنها‪ ،‬ومقته إياها‪ ،‬فهي تزداد في كل يوم ظلمة وقترة‪ .‬هـ‪.‬‬

‫اللهم أسفر وجوهنا بنور‪ l‬ذاتك‪ ،‬وأضحكنا وبَشِّرنا بين أوليائك في الدنيا واآلخرة‪ ،‬إنك على كل‬
‫شيء قدير‪ ،‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً‪.‬‬

‫‪#‬سورة التكوير §‪#‬‬

‫سيِّ َرتْ } * { َوإِ َذا ا ْل ِعشَا ُر‬ ‫س ُك ِّو َرتْ } * { َوإِ َذا النُّ ُجو ُم ان َكد ََرتْ } * { َوإِ َذا ا ْل ِجبَا ُل ُ‬ ‫*{ إِ َذا ال َّ‬
‫ش ْم ُ‬
‫وس ُز ِّو َجتْ } *‬ ‫س ِّج َرتْ } * { َوإِ َذا النُّفُ ُ‬ ‫ش َرتْ } * { َوإِ َذا ا ْلبِ َحا ُر ُ‬ ‫وش ُح ِ‬‫ُعطِّلَتْ } * { َوإِ َذا ا ْل ُو ُح ُ‬
‫س َمآ ُء‬‫ش َرتْ } * { َوإِ َذا ال َّ‬ ‫الص ُحفُ نُ ِ‬ ‫ب قُتِلَتْ } * { َوإِ َذا ُّ‬ ‫سئِلَتْ } * { بِأ َ ِّ‬
‫ى َذن ٍ‬ ‫{ َوإِ َذا ا ْل َم ْو ُءو َدةُ ُ‬
‫ض َرتْ }‬ ‫س َّمآ أَ ْح َ‬‫س ِّع َرتْ } * { َوإِ َذا ا ْل َجنَّةُ أُ ْزلِفَتْ } * { َعلِ َمتْ نَ ْف ٌ‬ ‫شطَتْ } * { َوإِ َذا ا ْل َج ِحي ُم ُ‬ ‫ُك ِ‬

‫الشمس ُك ِّورتْ } أي‪ُ :‬ذهب بضوئها‪ ،‬من ك َّورت العمامة‪ :‬إذا لففتها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬إِذا‬
‫أي‪ :‬يُلفّ ضوؤها لفًّا‪ ،‬فيذهب انبساطه وانتشاره‪ ،‬أو‪ :‬ألقيت عن فلكها‪ ،‬كما وصفت النجوم‬
‫باالنكدار‪ ،‬من‪ :‬طعنَة فك ّوره‪ :‬إذا ألقاه على األرض‪ .‬وعن أبي صالح‪ُ :‬ك ِّورت‪ :‬نُ ّكست‪ ،‬وعن ابن‬
‫ضت‬ ‫عباس رضي هللا عنه‪ :‬تكويرها‪ :‬إدخالها في العرش‪ { .‬وإِذا النجو ُم ان َكد َرتْ } أي‪ :‬انق ّ‬
‫وتساقطت‪ ،‬فال يبقى يومئ ٍ‪l‬ذ نج ٌم إالّ سقط على األرض‪ .‬قال ابن عباس رضي هللا عنه‪ :‬النجوم‬
‫قناديل معلّقة بسالسل من نور بين السماء واألرض‪ ,‬بأيدي مالئكة من نور‪ ،‬فإذا مات َمن في‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫السموات و َمن في األرض قطعت من أيديهم‪ ،‬وقيل‪ :‬انكدارها‪ :‬انطماس نورها‪ ،‬ويُروى‪ :‬أن‬
‫الشمس والنجوم تُطرح في جهنم‪ ،‬ليراها َمن عبدها‪ ،‬كما قال‪:‬‬
‫ب َج َهنَّ َم }‬ ‫{ إِنَّ ُك ْم َو َما تَ ْعبُدُونَ ِمن دُو ِن هَّللا ِ َح َ‬
‫ص ُ‬
‫[األنبياء‪.]98:‬‬

‫سيِّرتْ } عن أماكنها بالرجعة الحاصلة‪ ،‬فتسير عن وجه األرض حتى تبقى قاعا ً‬ ‫{ وإِذا الجبال ُ‬
‫ش َراء‪ ،‬وهي الناقة التي م ّر على‬ ‫صفصفا ً ال ترى فيها ِعوجا ً وال أمتاً‪ { .‬وإِذا ال ِعشَار } جمع‪ُ :‬ع َ‬
‫حملها عشرة أشهر‪ ،‬وهو اسمها إلى أن تضع لتمام سنة‪ l،‬وهي أ ْنفس ما يكون عند أهلها‪،‬‬
‫وأع ّزها عليهم‪ُ { ،‬عطِّلَتْ }؛ تُركت مهملة؛ الشتغال أهلها بأنفسهم‪ ،‬وكانوا يحبسونها إذا بلغت‬
‫أحب ما تكون إليهم‪ ،‬لشدة الهول‪ ،‬فيحتمل أن يكون ذلك حقيقة‪ ،‬تُبعث كذلك‬ ‫هذا الحال‪ ،‬فتركوها ّ‬
‫شرت }‬ ‫الوحوش ُح ِ‬
‫ُ‬ ‫فيغيبون عنها لشدة الهول‪ ،‬ويحتمل‪ l:‬إن يكون كناية عن شدة األمر‪ { .‬وإِذا‬
‫أي‪ُ :‬جمعت من كل جانب‪ ،‬وقيل‪ :‬بُعثت للقصاص‪ ،‬قال قتادة‪ :‬يُحشر ك ُّل شي ٍء حتى الذباب‬
‫للقصاص‪ ،‬فإذا قضى بينها ُردّت تراباً‪ ،‬فال يبقى منها إالّ ما فيه سرور لبني آدم‪ ،‬كالطاووس‬
‫س ّجرتْ } أي‪ :‬أُحميت‪ ،‬أو ُملئت وفُجر بعضها إلى بعض‪ ،‬حتى تصير‪ l‬بحراً‬ ‫ونحوه‪ { .‬وإِذا البحار ُ‬
‫واحداً‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫{ َوإِ َذا ا ْلبِ َحا ُر فُ ِّج َرتْ }‬
‫سجر التنّور‪ :‬إذا مأله بالحطب‪ ،‬وقيل‪ :‬يُقذف بالكواكب فيها‪ ،‬ثم تُضرم فتصير‬ ‫[األنفطار‪ ،]3:‬من َ‬
‫س ِّجرتْ " حينئذ‪ :‬قُذف بها في النار‪ ,‬وقد ورد أنّ في النار بحاراً من نار‪.‬‬ ‫نيراناً‪ ،‬فمعنى " ُ‬

‫{ وإِذا النفوس ُز ِّوجتْ } أي‪ :‬قُرنت بأجسادها‪ ،‬أو‪ :‬قرنت بشكلها‪ ،‬الصالح مع الصالح في الجنة‪،‬‬
‫بالحور‪ ،‬ونفوس‬‫والطالح مع الطالح في النار‪ ،‬أو‪ :‬بكتابها‪ ،‬أو بعملها‪ ،‬أو‪ :‬نفوس المؤمنين ُ‬
‫الكافرين بالشياطين‪ { .‬وإِذا الموؤدةُ } أي‪ :‬المدفونة حية‪ ،‬وكانت العرب تئد البنات مخافة‬
‫اإلمالق‪ ،‬أو لخوف العار بهم من أجلهن‪ ،‬وقيل‪ :‬كان الرجل إذا ُولد له بنت ألبسها جبة من صوف‬
‫أو شعر‪ ،‬حتى إذا بلغت ست سنين ذهب بها إلى الصحراء‪ ،‬وقد حفر لها حفرة‪ ،‬فيلقيها فيها‪،‬‬
‫ويهيل عليها التراب‪ .‬وقيل‪ :‬كانت الحامل إذا اقترتب‪ ،‬حفرت حفرة‪ ،‬فتمتخض عليها‪ ،‬فإذا ولدت‬
‫ب قُتلتْ } ‪ ،‬وتوجيه‪l‬‬ ‫سئِلَتْ بأ ّ‬
‫ي ذن ٍ‬ ‫بنتا ً رمت بها‪ ،‬وإذا ولدت ابنا ً َ‬
‫ض ّمته‪ l،‬فإذا كان يوم القيامة { ُ‬
‫السؤال لها لتسليتها‪ ،‬وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها‪ ،‬وإسقاطه عن درجة الخطاب‪،‬‬
‫والمبالغة في تبكيته‪l.‬‬
‫ّ‬
‫وفيه دليل على أنَّ أطفال المشركين ال يُعذبون‪ ،‬وأنَّ التعذيب ال يكون بغير ذنب‪.‬‬

‫صحف األعمال‪ ،‬فإنها تُطوى عند الموت وتُنشر عند الحساب‪ ،‬قال‬ ‫ش َرتْ } أي‪ُ :‬‬‫صحفُ نُ ِ‬ ‫{ وإِذا ال ُ‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬يُحش ُر الناس يوم القيام ِة ُحفَاةً عراة " فقالت أ ُم سلمة‪ :‬فكيف بالنساء؟!‬
‫ف‪ ،‬فيها مثاقي ُل الذ ِّر‪،‬‬
‫الص ُح ِ‬ ‫الناس يا أم سلمة " فقالت‪ :‬وما شغلهم؟ فقال‪ " :‬نَ ْ‬
‫ش ُر ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ش ِغل‬
‫فقال‪ُ " :‬‬
‫ُ‬
‫الخ ْردل " وقيل‪ :‬نُشرت‪ l:‬فرقت على أصحابها‪ ،‬وعن مرثد بن َوداعة‪ :‬إذا كان يوم‬ ‫ومثاقيل َ‬
‫ِ‬
‫ص حف من تحت العرش‪ ،‬فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية‪ ،‬وتقع‬ ‫القيامة تطايرت ال ُ‬
‫صحيفة الكافرين في يده في سموم وحميم‪ ،‬أي‪ :‬مكتوب فيها ذلك‪ ،‬وهذه صحف غير األعمال‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫طتْ } ‪ ،‬قُطعت وأزيلت‪ ،‬كما يُكشط الجلد عن الذبيحة‪ ،‬والغطاء عن الشيء‬ ‫ش َ‬ ‫{ وإِذا السما ُء ُك ِ‬
‫س ِّعرتْ } أي‪ :‬أوقدت إيقاداً شديداً‪ ،‬غضبا ً على العصاة‪ { ،‬وإِذا الجنة‬ ‫المستور‪ { l،‬وإِذا الجحي ُم ُ‬
‫أُ ْزلِفَتْ } أي‪ :‬قُربت من المتقين‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫{ َوأُ ْزلِفَ ِ‬
‫ت ا ْل َجنَّةُ لِ ْل ُمتَّقِينَ َغ ْي َر بَ ِعي ٍد }‬
‫[قَ‪.]31:‬‬

‫عن ابن عباس رضي هللا عنه‪ :‬إن هذه ثِنتا عشرة خصلة‪ ،‬ستٌّ في الدنيا‪ ،‬فيما بين النفختين‪،‬‬
‫سجرتْ } على أنَّ المراد بحشر الوحوش‪:‬‬ ‫وهن من أول السورة إلى قوله تعالى‪ { :‬وإذا البحار ُ‬
‫جمعها من كل ناحية‪ ،‬ال حشرها للقصاص‪ ،‬وستٌّ في اآلخرة‪ ،‬أي‪ :‬بعد النفخة الثانية‪ l.‬والمشهور‬
‫من أخبار البعث‪ :‬أنَّ تلك الخصال كلها بعد البعث‪ ،‬فإنَّ الشمس تدنو من الناس في الحشر‪ ،‬فإذا‬
‫فرغ من الحساب ُك ِّورت‪ ،‬والنجوم إنما تسقط بعد انشقاق السماء وطيها‪ ،‬وأ ّما الجبال ففيها‬
‫اختالف حسبما تقدّم‪ ،‬وأ ّما ال ِعشار فال يتصور إهمالها إالَّ بعد بعث أهلها‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬علمتْ نفس ما أحضرت }‪ :‬جواب " إذا " ‪ ،‬على أنَّ المراد زمان واحد ممتد‪،‬‬
‫يسع ما في سياقها وسياق ما عطف عليها من الخصال‪ ،‬مبدؤه‪ ،‬النفخة األولى‪ ،‬ومنتهاه‪ :‬فصل‬
‫القضاء بين الخالئق‪ ،‬أي‪ :‬تيقنت ك ُّل نفس ما أحضرت من أعمال الخير والشر‪ ،‬والمراد‬
‫بحضورها‪ :‬إ ّما حضور صحائفها‪ ،‬كما يُعرب عنه نش ُرها‪ ،‬وإ ّما حضور أنفسها‪ ،‬على أنها تُش ّكل‬
‫الحسن والقُبح‪ ،‬وعلى ذلك حمل قوله تعالى‪:‬‬ ‫بصورة مناسبة لها في ُ‬
‫{ َوإِنَّ َج َهنَّ َم لَ ُم ِحيطَةٌ بِا ْل َكافِ ِرينَ }‬
‫[التوبة‪ ،49l:‬العنكبوت‪ ،]54:‬وقوله تعالى‪:‬‬
‫{ إِنَّ الَّ ِذينَ يَأْ ُكلُونَ أَ ْم َوا َل ا ْليَتَا َمى‪} ...‬‬
‫[النساء‪ ،]10:‬اآلية‪ ،‬وقوله عليه السالم في حق َمن يشرب في آنية الذهب‪ " :‬إنما يُ َج ْرج ُر في‬
‫العلم يظهر في عالم الخيال على صورة اللبن‪ ،‬كما‬ ‫بطنه نار جهنم " وال بُعد في ذلك‪ ،‬أال ترى أنَّ ِ‬
‫ال يخفى على َمن له خبرة بأحوال الحضرات الخمس‪ ،‬وقد ُروي عن عباس رضي هللا عنه أنه‬
‫قال‪ " :‬يُؤتى باألعمال الصالحة على صورة حسنة‪ ،‬وباألعمال السيئة على صورة قبيحة‪،‬‬
‫فتوضع في الميزان " ‪ ،‬وأيًّا ما كان فإسناد إحضارها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر هللا ع ّز‬
‫وجل‪ ،‬كما نطق به قوله تعالى‪:‬‬
‫س َّما َع ِملَتْ ِمنْ َخ ْي ٍر ُّم ْح َ‬
‫ضراً‪} ..‬‬ ‫يَ ْو َم تَ ِج ُد ُك ُّل نَ ْف ٍ‬
‫[آل عمران‪ ]30:‬اآلية؛ ألنها ل ّما عملتها في الدنيا فكأنها أحضرتها في الموقف‪ ،‬ومعنى علمها‬
‫بها حنيئذ‪ :‬أنها تُشاهد جزاءها‪ ،‬خيراً كان أو ش ًّرا‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬اعلم أنَّ النفس والروح والسر أسماء لمس َّمى واحد‪ ،‬وهو اللطيفة الالهوتية‪ l‬السارية‬
‫سميت نفساً‪ ،‬فإذا تطهرت بالتقوى الكاملة‬ ‫في األبدان‪ ،‬فما دامت تميل‪ l‬إلى المخالفة والهوى ُ‬
‫سميت س ًّرا‪ ،‬فاإلشارة في قوله‪ { :‬إذا‬
‫سميت روحا ً فإذا تز ّكت وأشرقت عليها أسرار الذات ُ‬‫ُ‬
‫الشمس ُكورت } إلى تكوير النفس وطيها‪ ،‬حين انتقلت إلى مرتبة الروح‪ ،‬وإذا النجوم‪ :‬نجوم‬
‫ق منها للعارف إالّ ما يحتاج إليه‬
‫علم الرسوم‪ ،‬انكدرت حين أشرقت عليها شمس العرفان‪ ،‬فلم يب َ‬
‫من إقامة رسم العبودية‪ ،‬يعني يقع االستغناء عنها‪ ،‬فإذا تنزل‪ l‬إليها حققها أكثر من غيره‪ ،‬إذا‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫العشا ُر‬
‫سيرت؛ ألنّ نوره ضعيف كنور القمر مع طلوع الشمس‪ ،‬وإذا ِ‬ ‫الجبال؛ جبال العقل‪ُ ،‬‬
‫عُطلتْ ‪ ،‬أي‪ :‬النفوس الحاملة أثقال األعمال واألحوال‪ ،‬وأعباء التدبير واالختيار‪ ،‬فيقع الغيبة‬
‫عنها بأثقالها‪ ,‬وإذا الوحوش‪ ،‬أي‪ :‬الخواطر الردية ُحشرتْ وغرقتْ في بحر األحدية‪ ،‬وإذا البحا ُر‬
‫سجرتْ ‪ ،‬أي‪ :‬فُجرت وانطبقت على الوجود‪ ،‬فصارت بحراً واحداً متصالً أوله‬ ‫بحار األحدية ُ‬
‫بآخره‪ ،‬وظاهره بباطنه‪ ،‬وإذا النفوس‪ ،‬أي‪ :‬األرواح‪ُ ،‬زوجتْ بعرائس المعرفة في البقاء بعد‬
‫سرر التقريب واالجتباء‪ .‬وقال سهل‪ :‬تآلفت نفس الطبع مع نفس الروح‪ ،‬ففرحت في‬ ‫الفناء‪ ،‬على ُ‬
‫نعيم الجنة‪ ،‬كما كانتا متآلفتين في الدنيا على إدامة الذكر‪ .‬هـ‪.‬‬

‫ب قُتلتْ ‪ ،‬أي‪ :‬فكرة القلوب التي عطلت وأُميتت بحب الدنيا والفناء‬
‫ي ذن ٍ‬‫سئِلَتْ بأ ّ‬
‫وإذا الموؤودة ُ‬
‫فيها‪ ،‬حتى انصرفت إلى التف ُّكر في خوضها‪ ،‬وتدبير‪ l‬شؤونها‪ ،‬فتُسأل بأي ذنب قُتلت‪ ,‬حتى تعطّلت‬
‫فكرتها في أسرار التوحيد؟ وقال القشيري‪ l:‬هي األعمال المشوبة بالرياء‪ ،‬المخلوطة بالسمعة‬
‫صحف؛ الواردات اإللهية نُشرتْ على القلوب القدسية‪ ،‬فظهرت أنوا ُرها على‬ ‫والهوى‪ .‬هـ‪ .‬وإذا ال ُ‬
‫األلسنة بالعلوم اللدنية‪ ،‬وعلى الجوارح باألخالق السنية‪ ،‬وإذا السما ُء ُكشطتْ ‪ ،‬إي سماء الحس‬
‫س ّعرتْ ألهل الفرق‪ ،‬وإذا الجنة جنة‬
‫تكشطت عن أسرار المعاني‪ ،‬وإذا الجحيم‪ ،‬نار القطيعة‪ُ ،‬‬
‫المعارف‪ ،‬أُزلفت ألهل الجمع والوصال‪ ،‬علمت نفس ما أحضرت من المجاهدة عند كشف أنوار‬
‫المشاهدة‪ .‬وباهلل التوفيق‪.‬‬

‫س}‬ ‫ح إِ َذا تَنَفَّ َ‬


‫الص ْب ِ‬
‫س } * { َو ُّ‬ ‫س } * { َواللَّ ْي ِل إِ َذا َع ْ‬
‫س َع َ‬ ‫س } * { ا ْل َج َوا ِر ا ْل ُكنَّ ِ‬ ‫*{ فَالَ أُ ْق ِ‬
‫س ُم بِا ْل ُخنَّ ِ‬
‫ين } * { َو َما‬ ‫اع ثَ َّم أَ ِم ٍ‬
‫ش َم ِكي ٍن } * { ُّمطَ ٍ‬ ‫يم } * { ِذي قُ َّو ٍة ِعن َد ِذي ا ْل َع ْر ِ‬ ‫ول َك ِر ٍ‬
‫س ٍ‬ ‫* { إِنَّهُ لَقَ ْو ُل َر ُ‬
‫ضنِي ٍن } * { َو َما ه َُو‬ ‫ق ا ْل ُمبِي ِن } * { َو َما ه َُو َعلَى ا ْل َغ ْي ِ‬
‫ب بِ َ‬ ‫ون } * { َولَقَ ْد َرآهُ بِاألُفُ ِ‬ ‫احبُ ُك ْم بِ َم ْجنُ ٍ‬ ‫ص ِ‬‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬
‫يم } * { فأيْنَ تَذ َهبُونَ } * { إِنْ ه َُو إِالَّ ِذ ْك ٌر لل َعال ِمينَ } * { لِ َمن شَآ َء ِمن ُك ْم أن‬ ‫َ‬ ‫ان َّر ِج ٍ‬ ‫َ‬
‫ش ْيط ٍ‬ ‫بِقَ ْو ِل َ‬
‫ستَقِي َم } * { َو َما تَشَآ ُءونَ إِالَّ أَن يَشَآ َء هَّللا ُ َر ُّب ا ْل َعالَ ِمينَ }‬ ‫يَ ْ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬فال أُقسم } ‪ " ،‬ال " صلة‪ ،‬أي‪ :‬أُقسم { ُ‬
‫بالخنَّس } أي‪ :‬بالكواكب‬
‫ي الخمسة‪ ،‬وهي‪ :‬بهرام‬ ‫الرواجع‪ِ ،‬من‪َ :‬خنَس إذا تأخر‪ ،‬وهي ما عدا النيرين من الدرار ّ‬
‫والزهرة‪ ،‬والمشتري‪ l،‬فترى النجم في آخر البرج إذا ك َّر راجعا ً إلى‬
‫[المريخ]‪ l،‬وزحل‪ ,‬وعطارد‪ُّ ،‬‬
‫الج َوا ِر } أي‪ :‬السيّارة { ال ُكنَّس } أي‪ :‬المستترة‪ l،‬جمع كانس وكانسة‪ ،‬وذلك أنَّ هذه‬
‫أوله‪َ { ،‬‬
‫النجوم تجري مع الشمس والقمر‪ ،‬وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس‪ ،‬فخنوسها‪ :‬رجوعها‪،‬‬
‫وكنوسها‪ :‬اختفاؤها تحت ضوئها‪ ،‬من ُكنس الوحش‪ :‬إذا دخل كناسه‪ ،‬أي‪ :‬بيته الذي يتخذه من‬
‫أغصان الشجر‪ ،‬وقيل‪ :‬هي جميع الكواكب‪ ،‬تختنس بالنهار‪ ،‬فتغيب عن العيون‪ ،‬وتكنس بالليل‪،‬‬
‫أي‪ :‬تطلع في أماكنها‪.‬‬

‫{ واللي ِل إِذا عسعس }؛ أقبل بظالمه‪ ،‬أو‪ :‬أدبر‪ ،‬فهو من األضداد‪ ،‬وقال الفراء‪ :‬أجمع المفسرون‬
‫ق منه إالّ‬
‫س ْعسع‪ :‬إذا أدبر ولم يب َ‬
‫على أن معنى عسعس‪ :‬أدبر‪ ،‬تقول العرب‪ :‬عسعس الليل و َ‬
‫اليسير‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫سعسا‬‫وانجاب عنها ليلُها و َع ْ‬


‫َ‬ ‫بح لها تَنَفَّ َ‬
‫سا‬ ‫َحتَّى إذا ُّ‬
‫الص ُ‬
‫والحاصل‪ :‬أنهما يرجعان إلى شيء واحد‪ ،‬وهو ابتداء الظالم في أوله وإدباره في آخره‪،‬‬
‫{ والصبح إّذا تنفس }؛ امت ّد ضوؤه وارتفع حتى يصير نهاراً‪ ،‬ول ّما كان إقبال النهار يالزمه‬
‫الروح والنسيم جعل ذلك نفسا ً له مجازاً‪ ،‬فقيل‪ :‬تنفس الصبح‪.‬‬

‫وجواب القسم‪ { :‬إِنه } أي‪ :‬القرآن { لقو ُل رسو ٍل كريم } على ربه‪ ،‬وهو جبريل عليه السالم ـ‬
‫قاله عن هللا ـ ع ّز وجل‪ ،‬وإنما أضيف القرآن إليه؛ ألنه هو الذي نزل به‪.‬‬

‫{ ذي قو ٍة }؛ ذي قدرة على ما كلف به‪ ،‬ال يعجز عنه وال يضعف‪ { ،‬عند ذي العرش مكي ٍن } أي‪:‬‬
‫عند هللا ذا مكانة رفيعة ورتبة‪ l‬عالية‪ ،‬ول ّما كانت المكانة على حسب حال الممكن قال‪ { :‬عند ذي‬
‫العرش } ليدل على عظم منزلته ومكانته‪ ،‬والعندية‪ :‬عندية تشريف‪ l‬وإكرام‪ ،‬ال عندية مكان‪.‬‬
‫مطاع ثَ َّم } أي‪ :‬في السموات يُطيعه َمن فيها‪ ،‬أو عند ذي العرش تُطيعه مالئكتُه المقربون‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫{‬
‫يصدون عن أمره‪ ،‬ويرجعون إليه‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬ومن طاعتهم له‪ :‬فتحوا أبواب السموات ليلة‬
‫المعراج باستفتاحه لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم وفتح خزنةُ الجنة الجنةَ لمحم ٍد حتى دخلها‪،‬‬
‫وكذا النار حتى نظر إليها‪ .‬هـ‪ { .‬أمين } على الوحي‪.‬‬

‫صاحبُكم } هو الرسول صلى هللا عليه وسلم { بمجنو ٍن } كما تزعم الكفرة‪ ،‬وهو عطف‬ ‫ِ‬ ‫{ وما‬
‫سم عليه‪ { ،‬ولقد رآه } أي‪ :‬رآى محم ٌد صلى هللا عليه وسلم‬ ‫على جواب القسم‪ ،‬مدخول في المق َ‬
‫ُ‬
‫جبري َل على صورته التي خلقه هللاُ عليها‪ { ،‬باألفق المبين } أي‪ :‬بمطلع الشمس األعلى‪ ،‬وقال‬
‫ابن عباس‪ :‬قال النبي صلى هللا عليه وسلم لجبريل‪ " :‬إني أُحب أن أراك في الصورة التي تكون‬
‫عليها في السماء " قال‪ :‬أتقدر على ذلك؟ قال‪ " :‬بلى " قال‪ :‬فأين تشاء؟ قال‪ " :‬باألبطح " ‪،‬‬
‫قال‪ :‬ال يسعني‪ ،‬قال‪ " :‬ب ِمن ًى " ‪ ،‬قال‪ :‬ال يسعني‪ ،‬قال‪ " :‬فبعرفات " قال‪ :‬ذلك بالحري أن‬
‫يسعني‪ ،‬فواعده‪ ،‬فخرج النبي صلى هللا عليه وسلم للوقت‪ ،‬فإذا هو قد أقبل من جبال عرفات‬
‫بخشخشة وكلكلة‪ ،‬قد مأل ما بين المشرق والمغرب‪ ،‬ورأسه في السماء‪ ،‬ورجاله في األرض‪،‬‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم خ ّر مغشيًّا عليه‪ ،‬فتح ّول جبري ُل في صورته‪ ،‬فض ّمه إلى‬
‫ُّ‬ ‫فلما رآه‬
‫صدره‪ ،‬وقال‪ :‬ال تخف‪ ،‬فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش‪ ،‬ورجاله في التخوم‬
‫السابعة‪ ،‬وإنَّ العرش لعلى كاهله‪ ،‬وإنه ليتضاءل أحيانا ً من مخافة هللا تعالى حتى يصير‪ l‬مثل‬
‫الوصع أي‪ :‬العصفورـ حتى ما يحمل عرش ربك إالّ عظمته‪l.‬‬
‫أو‪ :‬ولقد رأى جبري َل عليه السالم ليلة المعراج‪ .‬أو‪ :‬لقد رآى ربه‪ ،‬وكان محمد صلى هللا عليه‬
‫وسلم باألُفق األعلى‪.‬‬

‫ب } أي‪ :‬وما محمد على الوحي‪ ،‬وما يخبر به من الغيوب { بضنين }؛‬ ‫{ وما هو على الغي ِ‬
‫ببخيل‪،‬على قراءة الضاد‪ ،‬من‪ :‬ضنَّ بكذا‪ :‬بخل به‪ ،‬أي‪ :‬ال يبخل بالوحي كما يبخل الكهان رغبة‬
‫الح ْلوان‪ ،‬بل يُعلّمه لكل َمن يطلبه وال يكتم شيئا ً منه‪ l،‬أو‪ :‬بمتهم على قراءة‪ :‬المشالة‪ ،‬من‬ ‫في ُ‬
‫الظنة وهي التهمة‪ ،‬أي‪ :‬ال ينقص شيئا ً مما أوحى إليه أو يزيد فيه‪ { ،‬وماهو بقول شيطان‬
‫رجيم }؛ طريد‪ ،‬وهو كقوله‪:‬‬
‫{ َو َما تَنَ َّزلَتْ بِ ِه ال َّ‬
‫شيَا ِطينُ }‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫[الشعراء‪ ]210:‬أي‪ :‬ليس هو بقول المسترقة للسمع‪ ،‬وهو نفي لقولهم‪ :‬إنه كهانة أو سحر‪.‬‬

‫ق الواضح؟ وهو استضالل لهم‪ ،‬كما يقال لتارك الجادة وذهب في‬ ‫{ فأين تذهبون } وتتركون الح َّ‬
‫التيه‪ :‬أين تذهب‪ُ ،‬مثَّلت حالهم في تركهم الحقّ‪ ،‬وعدولهم عنه إلى الباطل‪ ،‬ب َمن ترك طريق‬
‫فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة‬ ‫الجادة‪ ،‬وسلك في غير طريق‪ .‬وقال الزجاج‪ :‬معناه‪ُّ :‬‬
‫التي بيَّ ْنتُ لكم؟ وقال الجنيد‪ :‬فأين تذهبون عنا‪ ،‬وإن من شيء إالَّ عندنا‪ :‬هـ‪ .‬والفاء لترتيب ما‬
‫بعدها على ما قبلها‪ ،‬أي‪ :‬لظهور أنه وحي مبين‪ ،‬وليس مما يقولون في شيء فأين تذهبون‬
‫عنه؟ { إِن هو إِالّ ِذ ْك ٌر للعالَمين } أي‪ :‬موعظة وتذكير للخلق { ل َمن شاء منكم }‪ :‬بدل من‬
‫العالمين بإعادة الجار‪ { ،‬إن يستقيم }‪ :‬مفعول " شاء " أي‪ :‬القرآن تذكير وموعظة ل َمن شاء‬
‫االستقامة‪ ،‬يعني‪ :‬إن الذي شاؤوا االستقامة بالدخول في اإلسالم هم المنتفعون بالذكر‪ ،‬فكأنه لم‬
‫يوعظ به غيرهم‪ { ،‬وما تشاؤون } االستقامة { إِالّ أن يشاء هللا }‪.‬‬

‫ول ّما نزل قوله تعالى‪ { :‬ل َمن شاء منكم أن يستقيم } قال أبو جهل‪ :‬األمر إلينا‪ ،‬إن شئنا استقمنا‪،‬‬
‫وإن شئنا لم نستقم‪ ،‬فأنزل هللا تعالى‪ { :‬وما تشاؤون إِالّ أن يشاء هللا رب العالمين } أي‪ :‬مالك‬
‫الخلق ومربيهم أجمعين‪ ،‬قال ابن منبه‪ :‬قرأت بضعا ً وثمانين كتابا ً مما أنزل هللا‪ ،‬فوجدتُ فيها‪:‬‬
‫َمن جعل لنفسه شيئا ً من المشيئة‪ l‬فقد كفر‪.‬‬
‫وقال الواسطي‪ :‬أعجزك في جميع أوصافك‪ ،‬فال تشاء إالّ بمشيئته‪ l،‬وال تعمل إالّ بقوته‪ ،‬وال تطيع‬
‫إالّ بفضله‪ ،‬وال تعصي إالّ بخذالنه‪ ،‬فماذا يبقى لك‪ ،‬وبماذا تفتخر من أفعالك‪ ،‬وليس لك منها‬
‫شيء؟‪ .‬هـ‪.‬‬

‫وقال الطيبي عن اإلمام‪ :‬إنَّ مشيئة االستقامة موقوفة على مشيئة هللا؛ ألن مشيئة‪ l‬العبد محدثة‪،‬‬
‫فال بد لحدوثها من مشيئة‪ l‬أخرى‪ ،‬ثم قال‪ :‬وقول المعتزلة‪ :‬إن هذه المشيئة‪ l‬مخصوصة بمشيئة‪l‬‬
‫القهر واإللجاء ضغيف؛ ألنَّا بيَّنَّا أنّ المشيئة االختيارية حادثة‪ ،‬وال بد من محدث يحدثها‪ .‬هـ‪.‬‬

‫بالخنَّس؛ الحواس الخمس‪ ،‬وهي‪ :‬السمع والبصر والشم والذوق والوجدان‬ ‫اإلشارة‪ :‬فال أُقسم ُ‬
‫الباطني‪ ،‬فإنها تخنس‪ ،‬أي‪ :‬تتأخر عند سطوع حالوة الشهود‪ ،‬وهي الجوار ال ُكنَّس؛ ألنها تجري‬
‫في تحصيل هواها عند الغفلة أو الفترة‪ ،‬وتستتر عند الذكر أو اليقظة‪ ،‬والليل إذا عسعس‪ ،‬أي‪:‬‬
‫صبح‬
‫صبح‪ ،‬أي‪ُ :‬‬ ‫ليل القطيعة إذا أظلم على العبد برؤية وجوده ووقوفه مع عوائده‪ ،‬وال ُ‬
‫االستشراف‪ l‬على نهار المعرفة‪ ،‬إذا تنفَّس ثم تطلع شمسه شيئا ً فشيئاً‪ ،‬إنه‪ ،‬أي‪ :‬الوحي اإللهامي‬
‫لَقَو ُل رسول كريم واراد رباني‪ ،‬ذي قوة؛ ألنه يأتي من حضرة ق ّهار قوي متين‪ ،‬فال يُصادم شيئا ً‬
‫من المساوىء إالّ دمغه‪ ،‬عند ذي العرش مكين‪ ،‬ولذلك تَ َم َّكن صاحبه مع الحق‪ ،‬واكتسب مكانة‬
‫عنده‪ ،‬حيث كان من المق َّربين السابقين؛ مطاع ثَ َّم أمين؛ ألنّ الوارد اإللهي تجب طاعته؛ ألنه‬
‫يتجلّى من حضرة الحق‪ ،‬وهو أمين على ما يأتي به من العلوم‪ ،‬وما صاحبكم بمجنون‪ ،‬يعني‬
‫العارف صاحب الواردات األلهية‪ ،‬ولقد رآه‪ ،‬أي‪ :‬رأى ربه بعين البصيرة والبصر‪ ،‬باألُفق المبين‪،‬‬
‫وهو على األسرار والمعاني‪ ،‬حيث عرج بروحه من عالم الحس إلى عالم المعنى‪ ،‬أو‪ :‬من عالم‬
‫األشباح إلى عالم األرواح‪ ،‬وماه هو على الغيب بضنين‪ ،‬أي‪ :‬ليس العارف الذي يُخبر عن أسرار‬
‫التوحيد الخاص ب ُمتَّ َهم‪ ،‬وال بخيل‪ ،‬بل يجود به على َمن يستحقه‪ ،‬وما هو بقول شيطان رجيم‪ ،‬إذ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ق لهم شيطان حتى يخلط وسوسته‪ l‬بواردات قلوبهم‪ ،‬فأين تذهبون عن اتباع طريقة‬ ‫لم يب َ‬
‫الموصلة إلى حضرة الحق‪ ،‬إن هو إال ذكر للعالمين‪ ,‬أي‪ :‬ما جعله هللا في كل زمان إالّ ليُ َذ ِّكر أهل‬
‫زمانه‪ ،‬ل َمن شاء أن يستقيم‪ l‬على طريق العبودية ويفضي إلى مشاهدة الربوبية‪ ،‬ولكن األمر كله‬
‫شئنا بفضلك‪ ،‬واقصدنا بعنايتك‪ ،‬وخصنا‬ ‫بيد هللا‪ ،‬وما تشاؤون إالّ أن يشاء هللا رب العالمين‪ .‬اللهم ِ‬
‫برعايتك‪ ،‬واجعلنا ممن سبقت لهم العناية الكبرى‪ ،‬آمين‪.‬‬

‫وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين‪.‬‬

‫‪#‬سورة اإلنفطار §‪#‬‬

‫ب انتَثَ َرتْ } * { َوإِ َذا ا ْلبِ َحا ُر فُ ِّج َرتْ } * { َوإِ َذا ا ْلقُبُو ُر‬‫س َمآ ُء انفَطَ َرتْ } * { َوإِ َذا ا ْل َك َوا ِك ُ‬
‫*{ إِ َذا ال َّ‬
‫س َّما قَ َّد َمتْ َوأَ َّخ َرتْ }‬
‫بُ ْعثِ َرتْ } * { َعلِ َمتْ نَ ْف ٌ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬إِذا السما ُء انفطرتْ } أي‪ :‬انشقت لنزول المالئكة‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫س َمآ ُء فَ َكانَتْ أَ ْب َوابا ً }‬ ‫{ َوفُتِ َح ِ‬
‫ت ال َّ‬
‫الكواكب انتثرتْ } أي‪ :‬تساقطت متفرقة‪ { ،‬وإِذا البحار فُ ِّجرتْ }؛ فُتح بعضها‬ ‫ُ‬ ‫[النبأ‪ { ،]19:‬وإِذا‬
‫ُ‬
‫إلى بعض‪ ،‬فاختلط العذب باألجاج‪ ،‬وزال ما بينها من البرزخ والحاجز‪ ،‬وصارت البحار بحراً‬
‫واحداً‪ُ .‬روي‪ :‬أنَّ األرض تنشق‪ ،‬فتغور تلك البحار‪ ،‬وتسقط في جهنم‪ ،‬فتصير‪ l‬نيراناً‪ ،‬وهو معنى‬
‫التسجير المتقدم عند الحسن‪ { .‬وإِذا القبو ُر بُ ْعث ِرتْ } أي‪ :‬قُلب ترابها‪ ،‬وأُخرج موتاها‪ ،‬يقال‪:‬‬
‫نفس ما قدَّمتْ‬
‫ٌ‬ ‫بعثرت الحوض وبحثرته‪ l:‬إذا جعلت أسفله أعاله‪ ،‬وجواب " إذا "‪َ { :‬علِ َمتْ‬
‫وجوزي بعمله‪ ،‬ألنَّ المراد بها زمان‬ ‫وأخ َرتْ } أي‪ :‬إذا كانت هذه األشياء قرأ ك ُّل إنسان كتابه‪ُ ،‬‬ ‫َّ‬
‫صحف‪ ،‬ال أزمنة متعددة‬ ‫واحد‪ ،‬مبدأه‪ :‬النفخة األولى‪ ،‬ومنتهاه‪ :‬الفصل بين الخالئق ونشر ال ُ‬
‫وأخر "‪ :‬ما‬ ‫حسب تعددها‪ ،‬وإنما كررت لتهويل ما في حيّزها من الدواهي‪ ،‬ومعنى " ما قَدَّم َّ‬
‫سنة حسنة أو سيئة يُعمل بها بعده‪ ،‬قاله ابن عباس وابن‬ ‫سنّ ُ‬‫عمل؛ خير أو شر‪ ،‬من َ‬ ‫ٍ‬ ‫سلف ِمن‬
‫وأخر من طاعة‪ ،‬وقيل‪ :‬ما قدَّم من أمواله‬ ‫مسعود‪ .‬وعن ابن عباس أيضاً‪ :‬ما قدّم من معصية ّ‬
‫وأخر منه عن وقته‪ ،‬وقيل‪ :‬ما قدمتْ من‬ ‫أخر لورثته‪ ،‬وقيل‪ :‬ما قدَّم من فرض‪ّ ،‬‬ ‫لنفسه‪ ،‬وما َّ‬
‫وأخرت من األوالد‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬ ‫األسقاط واألفراط‪ّ ،‬‬

‫اإلشارة‪ :‬إذا سماء المعاني انفطرت‪ ،‬أي‪ :‬تشققت وظهرت من أصداف األواني‪ ،‬وإذا نجوم على‬
‫الرسوم انتثرت عند طلوع شمس العيان‪ ،‬وإذا بحار األحدية فُ ِّجرتْ وانطبقت على الكائنات‬
‫نفس ما قدّمت من المجاهدة‪ ,‬وما‬
‫ٌ‬ ‫فأفنتها‪ ,‬وإذا القلوب الميتة بُعثت وحييت بالمعرفة‪َ ،‬علِ َمتْ‬
‫أخ رت منها؛ إذ بقدر المجاهدة في خرق العوائد تكون المشاهدة‪ ،‬وبقدر الشكر يكون الصحو‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وبقدر الشُرب يكون ال ّري‪ ،‬فعند النهاية يظهر قدر البداية‪ ،‬البدايات مجالة النهايات " ف َمن‬
‫أشرقت بدايته‪ ،‬أشرقت نهايته "‪ .‬وباهلل التوفيق‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ور ٍة َّما‬
‫ص َ‬‫ى ُ‬ ‫س َّوا َك فَ َع َدلَ َك } * { فِيا أَ ِّ‬
‫يم } * { الَّ ِذي َخلَقَكَ فَ َ‬ ‫سانُ َما َغ َّر َك بِ َربِّ َك ا ْل َك ِر ِ‬ ‫*{ ياأَ ُّي َها ِ‬
‫اإلن َ‬
‫شَآ َء َر َّكبَ َك } * { َكالَّ بَ ْل تُ َك ِّذبُونَ بِالدِّي ِن } * { َوإِنَّ َعلَ ْي ُك ْم لَ َحافِ ِظينَ } * { ِك َراما ً َكاتِبِينَ } *‬
‫{ يَ ْعلَ ُمونَ َما تَ ْف َعلُونَ }‬

‫ي شي ٍء خدعك وج ّرأك على‬ ‫اإلنسانُ ما غ ّر َك بربك الكريم }؛ أ ّ‬


‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬يا أيها ِ‬
‫عصيانه‪ ،‬وقد علمتَ ما بين يديك من الدواهي التامة‪ ،‬والعواطب الطَا ّمة‪ ،‬وما سيكون حينئذ من‬
‫والتعرض لعنوان كرمه تعالى لإليذان بأنه مما ال‬
‫ُّ‬ ‫أخرت؟‬‫مشاهدة ما قَدَّمتَ من أعمالِك‪ ،‬وما ّ‬
‫يصلح أن يكون مداراً لالغترار‪ ،‬حسبما يغويه الشيطان‪ ،‬ويقول‪ :‬افعل ما شئتَ فإنَّ ربك كريم‪ ،‬قد‬
‫ض ل عليك في الدنيا‪ ،‬وسيفعل مثله في اآلخرة‪ ،‬فإنه قياس عقيم‪ ،‬وتمنية باطلة‪ ،‬بل هو مما‬ ‫تف ّ‬
‫يُوجب اإلقبال على اإليمان والطاعة‪ ،‬واالجتناب عن الكفر والعصيان‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬ما حملك على‬
‫عصيان ربك‪ ،‬الموصوف بالصفات الزاجرة عنه‪ ،‬الداعية إلى خالفه‪.‬‬

‫ُروي أنه صلى هللا عليه وسلم ل ّما قرأها قال‪ " :‬غ َّره جهلُه " وعن عمر رضي هللا عنه‪ :‬غ ّره‬
‫ُحمقه‪ ،‬وقال قتادة‪ :‬غ ّره عدوه المسلّط عليه ـ يعني الشيطان ـ وقيل للفضيل‪ :‬لو أقامك هللاُ تعالى‬
‫يوم القيامة بين يديه فقال لك‪ { :‬ما غ َّرك بربك الكريم } ماذا كنتَ تقول؟ قال‪ :‬أقول‪ :‬ستُورك‬
‫المرخاة‪ ،‬ألنَّ الكريم هو الستّار وأنشدوا‪:‬‬

‫يا كـاتِـ َم الذ ْنـب أّ َما تَ ْ‬


‫ستَ ِحـي والـلّـهُ في الخلـوة َرائِي َكـا‬
‫َغـ َّركَ ِمـنْ َربِّـك إ ْم َهالُـه وست ُره طـو َل م َ‬
‫سـا ِويـكـا‬
‫وقال مقاتل‪ :‬غ ّره عفو هللا حين لم يعجل عليه العقوبة‪ ،‬وقال السدي‪ :‬غ ّره رفق هللا به‪ ،‬وقال‬
‫يحيى بن معاذ‪ :‬لو أقامني بين يديه‪ ،‬فقال لي‪ :‬ما غ ّرك بي؟ لقلتُ ‪ :‬غ ّرني بك بِ ّرك سالفا ً وآنفاً‪،‬‬
‫وقال آخر‪ :‬أقول‪ :‬غ ّرني حلمك‪ ،‬وقال أبو بكر الو ّراق‪ :‬لو قال لي‪ :‬ما غ َّرك بي؟ لقلتُ ‪ :‬غ ّرني بك‬
‫كرم الكريم‪ .‬وهذا السر في التعبير بالكريم‪ ،‬دون سائر الصفات‪ ،‬كأنه لقَّنه اإلجابة حتى يقول‪:‬‬
‫غ ّرني كرم الكريم‪ ،‬وهكذا قال أبو الفضل العابد‪ :‬غ ّرني تقييد تهديدك بالكريم‪ ،‬وقال منصور بن‬
‫ع ّمار‪ :‬لو قيل لي‪ :‬ما غ ّرك؟ قلت‪ :‬ما غ ّرني إال ما علمتُه من فضلك على عبادك‪ ،‬وصفحك عنهم‪.‬‬
‫هـ‪.‬‬

‫ق‪ ،‬سالم األعضاء ُم َعدّة لمنافعها‪ { ،‬فعدلك }؛‬ ‫س َّوا َك } أي‪ :‬جعلك مستوي الخ ْل ِ‬ ‫{ الذي َخلَقك فَ َ‬
‫الخلق‪ ,‬غير متفاوت فيه‪ ،‬ولم يجعل إحدى اليدين أطول‪ ،‬وال أحدى‬ ‫فصيّرك معتدالً متناسب َ‬
‫العينين أوسع‪ ،‬وال بعض األعضاء أبيض وبعضه أسود‪ ،‬أو‪ :‬جعلك معتدالً تمشي‪ l‬قائماً‪ ،‬ال‬
‫ص َرفك إلى ما شاء من الهيئات‬ ‫كالبهائم‪ .‬وقراءة التخفيف كالتشديد‪ ،‬وقيل‪ :‬معنى التخفيف‪َ :‬‬
‫ي صورة شاءها‬ ‫ي صور ٍة ما شاء َر َّكبَك } أي‪َ :‬ر َّكبك في أ ّ‬‫واألشكال‪ ،‬فيكون من العدول‪ { .‬في أ ّ‬
‫ي صورة‬ ‫من الصور المختلفة‪ ،‬و " ما "‪ :‬مزيدة‪ ،‬و(شاء)‪ :‬صفة لصورة‪ ،‬أي‪ :‬ر َّكبك في أ ّ‬
‫شاءها واختارها من الصور العجيبة الحسنة‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫سانَ فِيا أَ ْح َ‬
‫س ِن تَ ْق ِو ٍ‬
‫يم }‬ ‫{ لَقَ ْد َخلَ ْقنَا ِ‬
‫اإلن َ‬
‫[التين‪ ]4:‬وإنما لم يعطف الجملة على ما قبلها؛ ألنها بيان لـ " عدلك "‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫كالَّ } ‪ ،‬ردع عن االغترار بكرم هللا تعالى‪ ،‬وجعله ذريعة إلى الكفر المعاصي‪ ،‬مع كونه موجبا ً‬
‫ُكذبون بالدين } عن جملة مقدّرة ينساق إليها‬ ‫واإلضراب في قوله تعالى‪ { :‬بل ت ِّ‬
‫َ‬ ‫للشكر والطاعة‪.‬‬
‫الكالم‪ ،‬كأنه قيل بعد الردع بطريق االعتراض‪ :‬وأنتم ال ترتدعون عن ذلك‪ ،‬بل تجترئون على‬
‫أقبح من ذلك‪ ،‬وهو تكذيبكم بالجزاء والبعث‪ ،‬أو بدين اإلسالم‪ ،‬الذي هو من جملة أحكامه‪ ،‬فال‬
‫كذبون به‪ ،‬أي‪:‬‬‫تُصدقون به‪ { ،‬وإِنَّ عليكم لَحافِظين }‪ :‬حال مفيدة لبطالن تكذيبهم‪ ،‬وتحقيق ما يُ ِّ‬
‫ُكذبون بالجزاء‪ ،‬والحال أنَّ عليكم ِمن قِبلنا لحافظين ألعمالكم‪ِ { ،‬كراما ً } عندنا { كاتبين } لها‪،‬‬‫ت ِّ‬
‫{ يعلمون ما تفعلون } من الخير والشر‪ ،‬قليالً أو كثيراً‪ ،‬ويضبطونه نقيراً أو قطميراً‪ .‬وفي تعظيم‬
‫" الكاتبين " ‪ ،‬بالثناء عليهم؛ تفخيم ألمر الجزاء‪ ،‬وأنه عند هللا من جالئل األمور‪ ،‬حيث يستعمل‪l‬‬
‫فيها هؤالء ال ِكرام‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬يا أيها األنسان‪ ،‬ما غ َّرك باهلل حتى لم تنهض إلى حضرة قدسه؟! غ ّره جهله ومتابعة‬
‫هواه‪ ،‬أو قناعته من ربه‪ ,‬والقناعة من هللا حرمان‪ ،‬أو غلطه‪ ،‬ظن أنه كامل وهو ناقص من كل‬
‫وج ٍه‪ ،‬أو ظنّ أنه واصل‪ ،‬وهو ما رحل عن نفسه قدما ً واحداً‪ ،‬ظنّ أنه في أعلى عليين باق في‬
‫أسفل سافلين‪ ،‬وهذا الغلط هو الذي َغ ّر كثيراً من الصالحين‪ ،‬تراموا على مراتب الرجال‪ ،‬وهم في‬
‫ص ِحبوا الرجا َل لرأوا أنفسهم في أول قدم‬ ‫صحبتهم للعارفين‪ ،‬ولو َ‬ ‫مقام األطفال‪ ،‬سبب ذلك عدم ُ‬
‫ِمن اإلرادة‪ ،‬وهذا هو الجهل المر ّكب‪َ ،‬جهلوا‪ ،‬وجهلوا أنهم جاهلون‪ .‬ثم ش ّوقه إلى السير إليه‬
‫بالنظر إلى صورة بشريته‪ ،‬فإنه عدلها في أحسن تقويم‪ ،‬ثم نفخ فيه روحا ً قدسية سماوية من‬
‫ِّ‬
‫المكذب‬ ‫روحه القديم‪ ،‬ثم ل ّم ا زجر عن االغترار لم ينزجروا‪ ،‬بل تمادوا على الغرور‪ ،‬وفعلوا فعل‬
‫بالبعث والحساب؛ مع أنّ عليهم من هللا حفظة ِكراماً‪ ،‬يعلمون ما يفعلون‪ ،‬فلم يُراقبوا هللا ج ّل‬
‫جالله‪ ،‬ال ُمطَّلع على سرهم وعالنيتهم‪ ،‬ولم يحتشموا من مالئكته ال ُمطَّلعين على أفعالهم‪ .‬وهللا‬
‫تعالى أعلم‪.‬‬

‫صلَ ْونَ َها يَ ْو َم الدِّي ِن } * { َو َما ُه ْم‬


‫يم } * { يَ ْ‬ ‫يم } * { َوإِنَّ ا ْلفُ َّج َ‬
‫ار لَفِي َج ِح ٍ‬ ‫ار لَفِي نَ ِع ٍ‬ ‫*{ إِنَّ األَ ْب َر َ‬
‫َع ْن َها بِ َغآئِبِينَ } * { َو َمآ أَ ْد َراكَ َما يَ ْو ُم الدِّي ِن } * { ثُ َّم َمآ أَ ْد َرا َك َما يَ ْو ُم الد ِ‬
‫ِّين } * { يَ ْو َم الَ تَ ْملِ ُك‬
‫ش ْيئا ً َواألَ ْم ُر يَ ْو َمئِ ٍذ هَّلِل ِ }‬
‫س َ‬ ‫س لِنَ ْف ٍ‬ ‫نَ ْف ٌ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬إِنَّ األبرا َر } أي‪ :‬المؤمنين { لَفِي نعيم } عظيم‪ ،‬وهو نعيم الجنان { وإِنَّ‬
‫الفُ َّجار } أي‪ :‬الكفار { لَفِي جحيم } كذلك‪ ،‬وفي تنكيرهما من التفخيم والتهويل ما ال يخفى‪،‬‬
‫صلَونها يو َم الدِّين } يُقاسون حرها يوم الجزاء‪ ،‬وهو استئناف بياني منبىء عن سؤال نشأ‬ ‫{ يَ ْ‬
‫كذبون به‪{ ،‬‬ ‫عن تهويلها‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬ما حالهم فيها؟ فقال‪ :‬يحترقون فيها يوم الدين‪ ،‬الذي كانوا يُ ِّ‬
‫وما هم عنها بغائبين } طرفة عين بعد دخولها‪ ،‬وقيل‪ :‬معناه‪ :‬وما كانوا عنها غائبين قبل ذلك‪،‬‬
‫ضةٌ ِمن‬ ‫بل كانوا يجدون سمومها في قبورهم‪ ،‬حسبما قال صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬القَ ْبر َر ْو َ‬
‫الجنَّة‪ ،‬أو ُح ْفرة ِمنْ ُحفَ ِر النَّار "‪.‬‬
‫ض َ‬ ‫ِريَا ِ‬

‫{ وما أدراك ما يو ُم الدين ثم ما أدراك ما يو ُم الدين } ‪ ،‬هو تهويل وتفخيم لشأن يوم الدين الذي‬
‫ي صورة تصوروه‪ ،‬فهو فوقها‪،‬‬ ‫يُ ِّ‬
‫كذبون به‪ ،‬ببيان أنه خارج عن دائرة دراية الخلق؛ فعلى أ ّ‬
‫أي شيء جعلك داريا ً ما هو يوم الدين؟ على أنَّ "‬ ‫وكيفما تخيلوه فهو أهم من ذلك وأعظم‪ ،‬أي‪ُّ :‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ما " االستفهامية‪ l‬خبر " يوم " ‪ ،‬كما هو رأي سيبويه‪ l،‬لما َم ّر من أنّ مدار اإلفادة هو الخبر ال‬
‫ي شيء عجيب هو في‬ ‫المبتدأ‪ ،‬وال ريب أنّ مناط إفادة التهويل والفخامة هنا هو‪ :‬ما يوم الدين أ ّ‬
‫الهول والفضاعة؟ انظر أبا السعود‪ .‬قال ابن عباس رضي هللا عنه‪ :‬كل ما في القرآن من قوله‬
‫تعالى‪ { :‬وما أدراك } فقد دراه‪ ،‬وكل ما فيه من قوله‪ { :‬وما يدريك } فقد طوي عنه‪ .‬هـ‪.‬‬
‫وينتقض بقوله تعالى‪:‬‬
‫{ َو َما يُ ْد ِريكَ لَ َعلَّهُ يَ َّز َّكىا }‬
‫[عبس‪.]3:‬‬

‫س شيئا ً } أي‪ :‬ال تستطيع دفعا ً عنها‪،‬‬ ‫نفس لنف ٍ‬


‫ٌ‬ ‫ثم بيَّن شأن ذلك اليوم إجماالً‪ ،‬فقال‪ { :‬يو َم ال تملك‬
‫وال نفعا ً لها بوجه‪ ،‬وإنما تملك الشفاعة به باإلذن‪ ،‬و(يوم)‪ :‬مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف‪،‬‬
‫أو بدل من (يوم الدين)‪ ،‬و َمن نصب؛ فبإضمار " اذكر " ‪ ،‬كأنه قيل بعد تفخيم أمر يوم الدين‬
‫وشويقه صلى هللا عليه وسلم إلى معرفته‪ l:‬اذكر يوم ال تملك نفس إلى آخره‪ ،‬فإنه يُدريك ماهو‪{ ،‬‬
‫واألم ُر يومئذ هلل } ال لغيره‪ ،‬فهو القاضي فيه وحده دون غيره‪ ،‬وال شك أنَّ األمر هلل في الدارين‪،‬‬
‫لكن ل ّما كان في الدنيا خفياً‪ ،‬ال يعرفه إالَّ العلماء باهلل‪ ،‬وأ ّما في اآلخرة فيظهر ال ُملك هلل لكل أح ٍد‪،‬‬
‫صه به هناك‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬ ‫خ ّ‬

‫اإلشارة‪ :‬قال القشيري‪ :‬إنَّ األبرار لفي نعيم الشهود والحضور‪ ،‬وإنَّ الفجار لفي جحيم الحجاب‬
‫صلونها يو َم الدين‪ ،‬يحترقون بنار الحجاب‪ ،‬ونيران االحتجاب يوم الجزاء والثواب‪،‬‬ ‫والغيبة‪ ،‬يَ ْ‬
‫التعجب من ُكنه أمره‪ ،‬وشأن شأنه‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وما أدراك ما يوم الدين‪ ،‬ثم ما أدراك ما يو ُم الدين‪ ،‬يُشير‪ l‬إلى‬
‫نفس لنفس شيئاً‪ ،‬لفناء الكل‪ ،‬ذاتا ً وصفاتا ً وأفعاالً‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫يوم ال تملك‬
‫هـ‪ { .‬واألمر يومئذ هّلل } ‪ ،‬قال الواسطي‪ :‬األمر اليوم ويومئذ ولم يزل وال يزال هلل‪ ،‬لكن الغيب‬
‫بحقيقته ال يُشاهده إالّ األكابر من األولياء‪ ،‬وهذا خطاب للعموم‪ ،‬إذا شاهدوا الغيب تيقّنوا أنَّ األمر‬
‫كله هلل‪ .‬فأما أهل المعرفة ف ُمشَاهَد لهم األمر كمشاهدتهم يومئ ٍذ‪ ،‬ال تزيدهم مشاهدة الغيب عيانا ً‬
‫على مشاهدته لهم تصديقاً‪ ،‬كعامر بن عبد القيس‪ ،‬حين يقول‪ :‬لو ُكشف الغطاء ما ازددت يقيناً‪.‬‬
‫هـ‪ .‬وقاله أيضا ً عل ّي رضي هللا عنه‪ .‬وقال القشيري‪ :‬األمر يومئذ هلل وقبله وبعده‪ ،‬ولكن تنقطع‬
‫الدعاوى ذلك اليوم‪ ،‬ويتضح األمر‪ ،‬وتصير المعارف ضرورية‪ .‬هـ‪ .‬وقال الشيخ ابن عبّاد رضي‬
‫ي وقت كان ال ُملك لسواه حتى يقع التقييد‬ ‫هللا عنه في رسائله الكبرى‪ ،‬بعد كالم‪ :‬وليت شعري‪ ،‬أ ّ‬
‫بقوله‪:‬‬
‫{ ا ْل ُم ْل ُك يَ ْو َمئِ ٍذ هَّلِّل ِ }‬
‫[الحج‪ ]56:‬وقوله‪ { :‬واألمر يومئذ هلل } لوال الدعاوى العريضة‪ l‬من القلوب المريضة‪ l.‬هـ‪ .‬وقال‬
‫الورتجبي‪ l:‬دعا بهذه اآلية العبا َد إلى اإلقبال عليه بالكلية بنعت ترك ما سواه‪ ،‬فإنَّ ال ُملك كله هلل‬
‫في الدنيا واآلخرة‪ ،‬يُضل َمن يشاء‪ ،‬ويهدي َمن يشاء‪ .‬هـ‪ .‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله‪.‬‬

‫‪#‬سورة المطففين §‪#‬‬

‫ست َْوفُونَ } * { َوإِ َذا َكالُو ُه ْم أَ ْو َّو َزنُو ُه ْم‬ ‫*{ َو ْي ٌل لِّ ْل ُمطَفِّفِينَ } * { الَّ ِذينَ إِ َذا ا ْكتَالُو ْا َعلَى النَّا ِ‬
‫س يَ ْ‬
‫يم } * { يَ ْو َم يَقُو ُم النَّ ُ‬
‫اس ِل َر ِّب‬ ‫س ُرونَ } * { أَال يَظُنُّ أُ ْولَـائِكَ أَنَّ ُه ْم َّم ْب ُعوثُونَ } * { لِيَ ْو ٍم َع ِظ ٍ‬ ‫يُ ْخ ِ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫َاب َّم ْرقُو ٌم }‬ ‫س ِّجينٌ } * { ِكت ٌ‬ ‫ين } * { َو َمآ أَد َْرا َك َما ِ‬ ‫َاب ا ْلفُ َّجا ِر لَفِي ِ‬
‫س ِّج ٍ‬ ‫ا ْل َعالَ ِمينَ } * { َكالَّ إِنَّ ِكت َ‬
‫يم } *‬‫ب بِ ِه إِالَّ ُك ُّل ُم ْعتَ ٍد أَثِ ٍ‬
‫ِّين } * { َو َما يُ َك ِّذ ُ‬ ‫* { َو ْي ٌل يَ ْو َمئِ ٍذ لِّ ْل ُم َك ِّذبِينَ } * { الَّ ِذينَ يُ َك ِّذبُونَ بِيَ ْو ِم الد ِ‬
‫سبُونَ } *‬ ‫اطي ُر األَ َّولِينَ } * { َكالَّ بَ ْل َرانَ َعلَىا قُلُوبِ ِه ْم َّما َكانُو ْا يَ ْك ِ‬ ‫س ِ‬ ‫{ إِ َذا تُ ْتلَىا َعلَ ْي ِه آيَاتُنَا قَا َل أَ َ‬
‫يم } * { ثُ َّم يُقَا ُل هَـا َذا الَّ ِذي‬ ‫{ َكالَّ إِنَّ ُه ْم عَن َّربِّ ِه ْم يَ ْو َمئِ ٍذ لَّ َم ْح ُجوبُونَ } * { ثُ َّم إِنَّ ُه ْم لَ َ‬
‫صالُو ْا ا ْل َج ِح ِ‬
‫ُكنتُ ْم بِ ِه تُ َك ِّذبُونَ }‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬ويل للمطفيين } ‪ ،‬الويل‪ :‬شديد الشر‪ ،‬أو‪ :‬العذاب األليم‪ ،‬أو‪ :‬واد في‬
‫جهنم يهوي الكافر فيه أربعين خريفا ً قبل أن يبلغ قعره‪ ،‬وقيل‪ :‬كلمة توبيخ وعذاب‪ ،‬وهو مبتدأ‪،‬‬
‫س ّو غ االبتداء به معنى الدعاء‪ .‬والتطفيف‪ :‬البخس في الكيل والوزن‪ ،‬وأصله‪ :‬من الشيء‬
‫الطفيف‪ ،‬وهو القليل الحقير‪ُ ،‬روي أنَّ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قَ ِد َم المدينة‪ l‬فوجدهم‬
‫سنوا الكي َل‪ ،‬وقيل‪ :‬قدمها وبها رجل يُعرف بأبي جهينة‪ ،‬ومعه‬ ‫يُسيئون الكيل ج ًّدا‪ ،‬فنزلت‪ْ ،‬‬
‫فأح َ‬
‫صاعان‪ ,‬يكيل بأحدهما‪ ،‬ويكتال باآلخر‪ ،‬وقيل‪ :‬كان أهل المدينة تُجاراً‪ ،‬يطففون‪ ،‬وكانت بياعتهم‬
‫المنابذة والمالمسة والمخاطرة‪ ،‬فنزلت‪ ،‬فخرج رسو ُل هللا صلى هللا عليه وسلم فقرأها عليهم‪،‬‬
‫س بخمس‪ ،‬ما نَقَض قو ٌم العهد إالّ سلَّط هللا عليهم عد ّوهم‪ ،‬وال‬ ‫وقال صلى هللا عليه وسلم‪َ " :‬خ ْم ٌ‬
‫َح َكموا بغير ما أنزل هللا إالَّ فَشَى فيهم الفقر‪ ،‬وما ظهرت فيهم الفاحشة إال فشى فيهم الموت‪ ،‬وال‬
‫طَفّفوا الكيل إالَّ ُمنِ ُعوا النبات‪ ،‬وأُخذوا بالسنين‪ ،‬وال َمنَ ُعوا الزكاة إالَّ حبس هللاُ عنهم المطر "‪.‬‬

‫سر التطفيف الذي استحقوا عليه الذم والدعاء عليهم بالويل‪ ،‬فقال‪ { :‬الذين إذا اكتالوا على‬ ‫ثم ف ّ‬
‫ُ‬
‫الناس يستوفون } أي‪ :‬إذا أخذوا بالكيل من الناس بالشراء ونحوه يأخذون حقوقهم وافية تامة‪،‬‬
‫ول ّما كان اكتيالهم من الناس اكتياالً يض ّرهم‪ ،‬ويتحامل فيه عليهم؛ أبدل " على " مكان " ِمنْ "‬
‫للداللة على ذلك‪ ،‬ويجوز أن يتعلّق " على " بـ " يستوفون " ‪ ،‬وتقدّم المفعول على الفعل إلفادة‬
‫االختصاص‪ ،‬أي‪ :‬يستوفون على الناس خاصة‪ ،‬وقال الفراء‪ِ " :‬منْ " و " على " يتعاقبان في‬
‫ق عليه‪ ،‬فإذا قال‪ :‬اكتلت عليه‪ ،‬فكأنه قال‪ :‬أخذت ما عليه‪ ،‬وإذا قال‪ :‬اكتلت‬ ‫هذا الموضع؛ ألنه ح ّ‬
‫منه‪ ,‬فكأنه قال‪ :‬استوفيت منه‪ .‬هـ‪.‬‬

‫{ وإِذا كالوهم أو وزنوهم } أي‪ :‬كالوا لهم أو وزنوا لهم في البيع ونحوه‪ ،‬فحذف الجار وأوصل‬
‫سرون }؛ ينقصون‪ ،‬يقال‪َ :‬خسر الميزان وأخسره‪ :‬إذا نقصه‪ .‬وجع ُل البارز تأكيداً‬ ‫الفعل‪ { ،‬يُ ْخ ِ‬
‫للمستكن مما ال يليق بجزالة التنزيل‪ l،‬ولعل ذكر الكيل والوزن في صور اإلخسار‪ ،‬واالقتصار‬
‫على االكتيال في صورة االستيفاء لِما أنهم لم يكونوا متمكنين من االحتيال عند االتزان تم ُّكنهم‬
‫منه عند الكيل؛ ألنهم في الكيل يزعزعون ويحتالون في الملء بخالف الوزن‪ ،‬ويحتمل‪ l‬أنّ‬
‫المطففين كانوا ال يأخذون ما يُكال ويوزن إالّ بالمكاييل لتم ّكنهم باالكتيال من االستيفاء والسرف‪،‬‬
‫كما تقدّم‪ ،‬وهذا بعيد‪ ،‬وإذا أعطوا كالُوا ووزنوا‪ ،‬لتم ّكنهم من البخس في النوعين‪.‬‬

‫{ أالَ يظنُ أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم } وهو يوم القيامة‪ ،‬وهو استئناف وارد لتهويل ما‬
‫والتعجب من اجترائهم عليه‪ .‬وأدخل همزة االستفهام على (أالَ) توبيخاً‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ارتكبوه من التطفيف‬
‫وليست " أال " هذه للتنبيه‪ ،‬و " أولئك " إشارة إلى المطففين‪ ،‬ووضعه موضع ضميرهم؛‬
‫الحكم الذي هو وصفهم‪ ،‬فإنَّ اإلشارة إلى الشيء متعرضة‪ l‬له من حيث اتصافه‬‫لإلشعار بمناط ُ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫بوصفه‪ ،‬وأ ّما الضمير‪ l‬فال يتع ّرض لوصفه‪ ،‬ولإليذان بأنهم ُممازون بذلك الوصف القبيح أكمل‬
‫امتياز‪ ،‬وما فيه من معنى البُعد لإلشارة إلى بُعد درجتهم في الشرارة والفساد‪ ،‬أي‪ :‬أالَ يظنُّ‬
‫أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع أنهم مبعوثون ليوم عظيم وال يقادَر قدره‪ ،‬ويُحاسبون‬
‫فيه على قدر الذ ّرة والخردلة‪ ،‬فإنَّ َمن يظن ذلك وإن كان ظنًّا ضعيفا ً ال يكاد يتجاسر على تلك‬
‫القبائح‪ ،‬فكيف ب َمن يتيقنه؟ وعن عبد الملك بن مروان‪ :‬أن أعرابيا ً قال له‪ :‬قد سمعتَ ما قال هللا‬
‫توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعتَ به ـ فما ظنّك‬ ‫في المطفّفين ـ أراد بذلك أنَّ ال ُمطَفف قد ّ‬
‫بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بال كيل وال وزن؟!‪.‬‬
‫الناس } ‪ ،‬منصوب‪ l‬بـ " مبعوثون " ‪ ,‬أي‪ :‬يُبعثون يو َم يقوم الناس { لرب العالمين‬ ‫ُ‬ ‫*{ يو َم يقو ُم‬
‫} أي‪ :‬لحك ِمه وقضائه‪ ،‬أو لجزائه بعقابه وثوابه‪ ،‬وعن ابن عمر رضي هللا عنه أنه قرأ هذه‬
‫السورة‪ ,‬فل ّما بلغ هنا بكى نحيباً‪ ،‬وامتنع من قراءة ما بعده‪.‬‬

‫{ كالَّ } ردع وتنبيه‪ ،‬أي‪ :‬ارتدعوا عما كنتم عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب‪،‬‬
‫كتاب الفُ َّجار }‬
‫َ‬ ‫وتنبّهوا أنه مما يجب أن يُنتهى به ويُتاب منه‪ ،‬ثم علل الردع المذكور‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنَّ‬
‫سجين " موضع تحت األرض‬ ‫ين } ‪ ،‬جمهور المفسرين أنَّ " ِ‬‫س ّج ٍ‬
‫أي‪ :‬صحائف أعمالهم { لفي ِ‬
‫السابعة‪ ،‬كما أنَّ " علِّيين " موضع فوق السماء السابعة‪ ،‬وفي القاموس‪ :‬عليون جمع " ِعلِّ ّي‬
‫سجين " موضع في كتاب الفجار‪ ،‬ووا ٍد‬ ‫" في السماء السابعة‪ ،‬تصعد إليه أرواح المؤمنين‪ ،‬و " ّ‬
‫في جهنم‪ ،‬أو حجر في األرض السابعة‪ .‬هـ‪ .‬وفي حديث أنس صلى هللا عليه وسلم قال‪ " :‬سجين‬
‫أسفل سبع أرضين " وقال أبو هريرة‪ :‬قال صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬الفلق‪ُ :‬جب في جهنم مغطى‪،‬‬
‫وسجين‪ُ :‬جب في جهنم مفتوح " والمعنى‪ :‬إنّ تاب أعمال الفجار مثبت في سجين‪ .‬هو علم‬ ‫ِ‬
‫منقول من الوصف " فعيل " من السجن؛ ألنَّ أرواح الكفرة تسجن فيه‪ ،‬وهو منصرف لوجود‬
‫سبب واح ٍد فيه‪ ،‬وهو العلميّة‪ ،‬ألنه علم لموضع‪.‬‬

‫س ّجينٌ } أي‪ :‬هو بحيث ال يبلغه دراية أحد‪ ،‬وقوله‬ ‫ثم َعظَّم أمره فقال‪ { :‬وما أدراك ما } هو { ِ‬
‫تعالى‪ { :‬كتاب مرقوم } ‪ ،‬قال الطيبي‪ :‬هو على حذف مضاف‪ ،‬أي‪ :‬موضع كتاب مرقوم‪ .‬هـ‪ .‬أو‪:‬‬
‫س ّجين " أو‪ :‬خبر عن مضمر‪ l،‬بحذف ذلك المضاف‪ ،‬وأ ّما َمن‬ ‫فيه كتاب مرقوم‪ ،‬وهو بدل من " ِ‬
‫لسجين‪ ،‬بأن جعل سجينا ً هو نفس الكتاب المرقوم؛ فال يصح؛ إذ يصير المعنى‬ ‫جعله تفسيراً ّ‬
‫حينئذ‪ :‬إنَّ كتاب الفجار لفي كتاب‪ ،‬وال معنى له‪.‬‬
‫الناس لرب العالمين } وقيل‪ :‬ويل يوم يخرج‬ ‫ُ‬ ‫ويل يومئ ٍذ للم َك ّذبين } هو متصل‪ l‬بقوله‪ { :‬يوم يقوم‬
‫للمكذبين { الذين يُ َك ِّذبون بيوم الدين }؛ الجزاء والحساب‪ { ،‬وما يُ َك ِّذب به }؛ بذلك‬
‫ّ‬ ‫ذلك المكتوب‬
‫اليوم { إِالَّ ُكل معت ٍد }؛ مجا ِوز للحدود التي حدّتها الشريعة‪ ،‬أو مجا ِوز عن حدود النظر واالعتبار‬
‫أثيم }؛ مكتسب لإلثم منهمك في الشهوات الفانية حتى‬ ‫حتى استقصر قدرة هللا على إعادته‪ٍ { ،‬‬
‫شغلته عما وراءها من اللذة الباقية‪ ،‬وحملته على إنكارها‪ { ،‬إِذا تُتلى عليه آياتُنا } التنزيلية‬
‫الناطقة بذلك { قال }‪ :‬هي { أساطي ُر األولين } أي‪ :‬أحاديث المتقدمين وحكايات األولين‪،‬‬
‫والقائل‪ :‬قيل‪ :‬الوليد بن المغيرة‪ ،‬وقيل‪ :‬النظر بن الحارث‪ ،‬وقيل‪ :‬عام ل َمن اتصف باألوصاف‬
‫المذكورة‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫{ كالَّ } ردع للمعتدي األثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له‪ { ،‬بل رانَ على قلوبهم ما كانوا‬
‫التفوه بهذه العظيمة‪ ,‬أي‪ :‬ليس في آياتنا ما يصحح أن‬‫ُّ‬ ‫يكسبون } ‪ ،‬هو بيان لما أدّى بهم إلى‬
‫ِ‬
‫يُقال فيها هذه المقاالت الباطلة‪ ،‬بل رانت قلوبهم وغشّاها ما كانوا يكسبون من الكفر والجرائم‬
‫حتى صارت عليهم كالصدأ للمرآة‪ ،‬فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق‪ ،‬كما قال صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ " :‬إن العبد كلما أذنب ذنبا ً حصل في قلبه نكتة سوداء‪ ،‬حتى يس ّود قلبه‪ " ..‬الحديث‪ ،‬أي‪:‬‬
‫ولذلك قالوا ما قالوا‪ .‬والرين‪ :‬الصدأ‪ ،‬يقال‪ :‬ران عليه الذنب وغان رينا ً وغيناً‪.‬‬

‫{ كالَّ } ردع وزجر عن الكسب الرائن { إِنهم عن ربهم يومئ ٍ‪l‬ذ لمحجوبون } لَ َّما رانت قلوبهم في‬
‫الدنيا ُحجبوا عن الرؤية في اآلخرة‪ ،‬بخالف المؤمنين‪ ,‬لَ ّما صفت مرآة قلوبهم حتى عرفوا الحق‬
‫كشف لهم يوم القيامة عن وجهه الكريم‪ .‬قال مالك‪ :‬لَ ّما حجب هللا أعداءه فلم يروه تجلّى ألوليائه‬
‫حتى رأوه‪ .‬هـ‪ .‬وقال الشافعي‪ :‬في هذه اآلية داللة على أنَّ أولياء هللا يرونه‪ .‬هـ‪ .‬وقال الزجاج‪:‬‬
‫صصت‬ ‫في هذه اآلية دليل أن هللا يُرى يوم القيامة‪ ،‬ولوال ذلك ما كان في هذه اآلية فائدة‪ ،‬ول َما خ ّ‬
‫منزلة الكفار بأنهم محجوبون عن هللا‪ .‬انظر الحاشية‪ { .‬ثم إِنهم لصالُو الجحيم } أي‪ :‬داخلو‬
‫صلي الجحيم أشد من اإلهانة‪ ،‬والحرمان من الرؤية‬ ‫النار‪ ،‬و " ثم " لتراخي الرتبة‪ l،‬فإنّ َ‬
‫والكرامة‪ { .‬ثم يُقال } لهم‪ { :‬هذا الذي كنتم به تُ َك ِّذبون } في الدنيا ف ُذوقوا وباله‪ .‬وباهلل التوفيق‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬التطفيف يكون في األعمال واألحوال‪ ،‬كما يكون في األموال‪ ،‬فالتطفيف في األعمال عدم‬
‫إتقانها شرعاً‪ ،‬ولذلك قال ابن مسعود وسلمان رضي هللا عنهما‪ :‬الصالة مكيال‪ ،‬ف َمن َوفَّى ُوفِّي‬
‫له‪ ،‬و َمن طفَّف فقد علمتم ما قال هللا في المطففين‪ .‬هـ‪ .‬فكل َمن لم يُتقن عملَه فعالً وحضوراً فهو‬
‫مطفف فيه‪ .‬والتطفيف في األحوال‪ :‬عدم تصفية القصد فيها‪ ،‬أو بإخراجها عن منهاج الشريعة‪،‬‬
‫قال تعالى‪ { :‬ويل للمطفيين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون‪ } ...‬الخ‪ ،‬قال القشيري‪ :‬يُشير‪l‬‬
‫صرين في الطاعة والعبادة‪ ،‬الطالبين كمال الرأفة والرحمة‪ ،‬الذين يستوفون من هللا‬ ‫إلى المق ّ‬
‫مكيال أرزاقهم بالتمام‪ ،‬ويكيلون له مكيال الطاعة بالنقص والخسران‪ ،‬ذلك خسران مبين‪ ،‬أال‬
‫يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم المشهد‪ ،‬مهيب المحضر‪ ،‬فلذلك فسدت أعمالهم واعتقادهم‪.‬‬
‫صرين‪،‬‬ ‫هـ‪ .‬يوم يقوم الناس لرب العالمين‪ ،‬يوم يكثر فيه الهول‪ ،‬ويعظم فيه الخطب على المق ّ‬
‫وتظهر فيه كرامة المجتهدين ووجاهة العارفين‪.‬‬

‫الفجار لفي‬
‫صر عن تقصيره؛ لئال ينخرط في سلك الفجار‪ { ،‬إن كتاب ّ‬ ‫{ كالَّ } ليرتدع المق ّ‬
‫سجين } المراد بالكتاب هنا‪ :‬كتاب األزل‪ ،‬وهو ما كتب لهم من الشقاوة قبل كونهم‪ ،‬قال صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ " :‬السعيد َمن سعد في بطن أمه‪ ،‬والشقي َمن شقي في بطن أمه " و { وما أدراك ما‬
‫سجين } فيه { كتاب مرقوم } ألهل الشقاء شقاوتهم‪ { .‬ويل يومئذ‪ l‬لل ُم َك ِّذبين } بالحق وبالدالين‬
‫عليه‪ { ،‬الذين يُ َك ِّذبون بيوم الدين } وهم أهل النفوس المقبلين على الدنيا بكليتهم‪ { ،‬وما يُ َك ِّذب‬
‫به إالّ كل معتد أثيم }؛ متجاوز عن الذوق والوجدان‪ ،‬محروم من الكشف والعيان‪ { ،‬إذا تُتلى‬
‫عليه آياتنا } الدالة علينا { قال أساطير األولين } أي‪ :‬إذا سمع الوعظ والتذكير من الدالين على‬
‫هللا قال‪ :‬خرافات األولين‪ .‬وسبب ذلك‪ :‬الرانُ الذي ينسج على قلبه‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬كال بل ران‬
‫على قلوبهم ما كانوا يكسبون كال إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } ل ّما رانت قلوبهم‪ ،‬وتراكمت‬
‫عليها الحظوظ والهوى‪ُ ،‬حجبوا عن شهود الحق في الدنيا‪ ،‬ودام حجابهم في العقبى إالَّ في‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫أوقات قليلة‪ ،‬قال الحسن بن الفضل‪ :‬كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في اآلخرة عن‬
‫ت‬ ‫رؤيته‪ .‬هـ‪ .‬قال الواسطي‪ :‬ال ُكفار في حجا ٍ‬
‫ب ال يرونه البتة‪ ،‬والمؤمنون في حجاب يرونه‪ l‬في وق ٍ‬
‫دون وقت‪ .‬هـ‪ .‬أي‪ :‬والعارفون يرونه‪ l‬كل وقت‪ ،‬ثم قال‪ :‬وال حجاب له غيره‪ ،‬وليس يسعه سواه‪،‬‬
‫ما اتصلت بشريةٌ بربوبيته قط‪ ،‬وال فارقت عنه‪ .‬هـ‪.‬‬

‫وقال في اإلحياء‪ :‬النزوع إلى الدنيا يَحجب عن لقاء هللا تعالى‪ ،‬وعند الحجاب تتسلط عليهم نار‬
‫جهنم‪ ،‬إذ النار غير متسلطة إالّ على محجوب‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬كال إنهم عن ربهم يومئذ‪ l‬لمحجوبون‬
‫ثم إنهم لصالو الجحيم } فرتَّب العذاب بالنار على ألم الحجاب‪ ،‬وألم الحجاب ٍ‬
‫كاف من غير ِعالوة‬
‫النار‪ ،‬فكيف إذا أضيفت العالوة إليه! هـ‪ .‬وقد رتَّب الحجاب على الران والصدأ المانع من كشف‬
‫الحقيقة‪ ،‬فكل من ط ّهر قلبه من ران الهوى‪ ،‬وغسله بأنوار الذكر والفكر الحت له أنوار‬
‫المشاهدة وأسرار الحضرة‪ ،‬حتى يشاهد الحق في الدنيا واآلخرة‪ ،‬ويكون من المقربين أهل‬
‫عليين‪ ،‬وكل َمن بقي مع حظوظ هواه حتى غلب على قلبه رانُ الشهوات بقي محجوبا ً في‬
‫الدارين من عامة اليمين‪ .‬وأنواع الران التي تحجب عن الشهود ست‪ :‬ران الكفر‪ ،‬وران‬
‫العصيان‪ ،‬وران الغفلة‪ ،‬وران حالوة الطاعات‪ ،‬وران حس الكائنات‪ ،‬فإذا تصفّى من هذه كلها‬
‫أفضى إلى مقام العيان‪ ،‬وال طريق لرفع الران بالكلية إالَّ ب ُ‬
‫صحبة‪ l‬المشايخ العارفين‪ .‬وباهلل‬
‫التوفيق‪.‬‬

‫َاب َّم ْرقُو ٌم } * { يَ ْ‬


‫ش َه ُدهُ‬ ‫َاب األَ ْب َرا ِر لَفِي ِعلِّيِّينَ } * { َو َمآ أَد َْرا َك َما ِعلِّيُّونَ } * { ِكت ٌ‬ ‫*{ َكالَّ إِنَّ ِكت َ‬
‫يم } * { َعلَى األَ َرآئِ ِك يَنظُ ُرونَ } * { تَ ْع ِرفُ فِي ُو ُجو ِه ِه ْم‬ ‫ا ْل ُمقَ َّربُونَ } * { إِنَّ األَ ْب َر َ‬
‫ار لَفِي نَ ِع ٍ‬
‫س ٌك َوفِي َذلِ َك فَ ْليَتَنَافَ ِ‬
‫س‬ ‫ُوم } * { ِختَا ُمهُ ِم ْ‬ ‫يق َّم ْخت ٍ‬
‫سقَ ْونَ ِمن َّر ِح ٍ‬ ‫يم } * { يُ ْ‬ ‫ض َرةَ النَّ ِع ِ‬‫نَ ْ‬
‫ب بِ َها ا ْل ُمقَ َّربُونَ }‬
‫يم } * { َع ْينا ً يَش َْر ُ‬ ‫اجهُ ِمن تَ ْ‬
‫سنِ ٍ‪l‬‬ ‫سونَ } * { َو ِمزَ ُ‬ ‫ا ْل ُمتَنَافِ ُ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬كالَّ } ‪ ،‬ردع للمكذبين‪ ،‬ثم بيّن حال األبرار‪ ،‬فقال‪ { :‬إنَّ كتاب األبرا ِر }‬
‫أي‪ :‬ما كتب من أعمالهم‪ ،‬واألبرار‪ :‬المؤمنون المطيعون‪ ،‬ألنه ُذكر في مقابلة الفُ َّجار‪ ،‬وعن‬
‫الحسن‪ :‬الب ّر‪ :‬الذي ال يؤذي الذ ّر‪ { ،‬لفي عليين } ‪ ،‬قال الفراء‪ :‬هو اسم على صيغة الجمع ال‬
‫واحد له‪ ،‬وقيل‪ :‬واحده " ِعلِّ ّي " ‪ ،‬و " علِّيه " وأيًّا ما كان فهو موضع في أعلى الجنة‪ ،‬يسكنه‬
‫المقربون‪ .‬قال ابن عمر رضي هللا عنه‪ :‬إنّ أهل عليين لينظرون إلى أهل الجنة من كوى‪ ،‬فإذا‬
‫أشرف رجل أشرقت له الجنة‪ ،‬وقالوا‪ :‬قد اطلع علينا رجل من أهل عليين‪ ،‬وقال في البدور‪ " :‬إنَّ‬
‫الرجل من أهل عليين ليخرج فيسير في ملكه‪ ،‬فال تبقى خيمة من خيام الجنة إال ويدخلها ضوء‬
‫من وجهه‪ ،‬حتى إنهم يستنشقون ريحه ويقولون‪ :‬واها ً لهذه الريح الطيبة‪ " ..‬الحديث‪ ..‬وتقدّم‬
‫قوله صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬أكثر أهل الجنة البُله‪ ،‬وعليون لذوي األلباب " وانظره في سورة‬
‫المجادلة‪ ،‬وفي حديث البراء‪ :‬قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬عليون في السماء السابعة تحت‬
‫العرش " وفيه ديوان أعمال السعداء‪ ،‬فإذا عمل العب ُد عمالً صالحا ً عرج به وأثبت في ذلك‬
‫الديوان‪ ،‬وقد ُروي في األثر‪ " :‬أن المالئكة تصعد بصحيف ٍة فيها عمل العبد‪ ،‬فإن رضيه هللا قال‪:‬‬
‫اجعلوه في عليين وإن لم يرضه قال‪ :‬اجعلوه في سجين "‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫كتاب مرقو ٌم } أي‪ :‬موضع كتاب‪ ،‬أو فيه كتاب مرقوم‬ ‫ٌ‬ ‫ثم ن ّوه بقَدْره فقال‪ { :‬وما أدراك ما عليون‬
‫{ يشهده المقربون } أي‪ :‬المالئكة المقربون‪ ،‬أو أرواح المقربين؛ ألنَّ عليين محل الكروبيين‪l‬‬
‫نعيم } عظيم‪ { ،‬على األرائك }؛ على‬ ‫وأرواح المقربين‪ { .‬إِنَّ األبرار } من أهل اليمين { لفي ٍ‬
‫ّ‬
‫الحجال‪ { ،‬ينظرون } إلى كرامة هللا ونِعمه التي أوالهم‪ ،‬أو‪ :‬إلى أعدائهم يعذبون في‬ ‫األس ّرة في ِ‬
‫النار‪ ،‬وما تحجب الحجال أبصارهم عن اإلدْراك‪ { ،‬تعرف في وجوههم نضرةَ النعيم } أي‪ :‬بهجة‬
‫التن ُّعم وطراوته ورونقه‪ .‬والخطاب لكل أحد مما له حظ من الخطاب لإليذان بأنَّ حالهم من أثر‬
‫النعمة وأحكام البهجة‪ ،‬بحيث ال يختص برؤيته را ٍء دون را ٍء‪.‬‬

‫رحيق }؛ شراب خالص ال شوب فيه‪ ،‬وقيل‪ :‬هو الخمر الصافية‪ { ،‬مختو ٌم }؛ مغلق‬ ‫ٍ‬ ‫{ يُسقون من‬
‫س ٌك } أي‪ :‬مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين‪ ،‬كما يفعل أهل الدنيا‬‫عليه‪ { ،‬ختامه ِم ْ‬
‫بأوانيهم إذا أرادوا ِحفظها وصيانتها‪ ،‬ولعله تمثيل‪ l‬لكمال نفاسته‪ ،‬أو‪ :‬أخره وتما ُمه مسك‪ ،‬أي‪:‬‬
‫يجد الشارب عند آخر شربه رائحة المسك‪ .‬وقُرىء " خاتِ َمه " بكسر التاء وفتحها‪ { .‬وفي‬
‫ذلك } الرحيق أو ما تقدّم من نعيم الجنان { فليتنافس المتنافسون }؛ فليرغب الراغبون‪،‬‬
‫وليجتهد المجتهدون‪ ،‬أو فليسبق المستبقون‪ ،‬وذلك بالمبادرة إلى الخيرات‪ ،‬والكفّ عن السيئات‪.‬‬
‫وأصل التنافس‪ :‬التغالب في الشيء النفيس‪ ،‬وهو من النفس لعزتها‪ ،‬وقال البغوي‪ :‬وأصله‪ :‬من‬
‫س به على غيره‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫الشيء النفيس الذي تحرص عليه النفوس‪ ،‬ويريده كل أحد لنفسه‪ ،‬وينفَ ُ‬
‫ضنُّ به‪.‬‬
‫ي ِ‬

‫(ختامه) صفة أخرى للرحيق‪ ،‬وما بينهما‬ ‫تسنيم }‪ :‬عطف على ِ‬


‫ٍ‪l‬‬ ‫قوله تعالى‪ { :‬و ِمزَ ُ‬
‫اجه من‬
‫اعتراض مقرر لنفاسته‪ ،‬أي‪ :‬ما يم َزج به ذلك الرحيق هو من ماء التسنيم‪ ،‬والتسنيم‪ l‬اسم لعين‬
‫سميت بالتسنيم الذي هو مصدر من " سنّمه " إذا رفعه‪ ،‬ألنها‬ ‫بعينها في الفردوس األعلى‪ُ ،‬‬
‫سرها بقوله‪ { :‬عينا ً } ‪ ،‬فهو منصوب‪ l‬على المدح أو االختصاص‪ ،‬أو‬ ‫أرفع شراب في الجنة‪ ،‬ثم ف ّ‬
‫يشرب بها } أي‪ :‬منها { المقربون } ‪ ،‬قال ابن عباس‬ ‫ُ‬ ‫على الحال مع جمودها لوصفها بقوله‪{ :‬‬
‫صرفاً‪ ،‬وتمزج‪ l‬ألصحاب اليمين‪ .‬هـ‪.‬‬ ‫وابن مسعود رضي هللا عنهما‪ :‬فيشربها المقربون ِّ‬
‫والمقربون هم أهل الفناء في الذات‪ ،‬أهل الشهود والعيان‪ ،‬واألبرار أهل الدليل والبرهان‪ ،‬وهم‬
‫أهل اليمين‪ ،‬وذلك أنَّ المقربين لَ ّما أخلصوا محبتهم هلل‪ ،‬ولم يُحبوا معه شيئا ً من الدنيا خلُ َ‬
‫ص لهم‬
‫الشراب في اآلخرة‪ ,‬وأهل اليمين‪ ،‬لَ ّما خلطوا في محبيتهم خلّط شرابهم‪ ،‬فالدنيا مزرعة اآلخرة‪،‬‬
‫في له‪ ،‬و َمن َكدّر ُكدّر عليه‪.‬‬ ‫صفّا ُ‬
‫ص َ‬ ‫فمن َ‬

‫فإن قلتَ ‪ :‬لِ َم أمر بالتنافس في الرحيق‪ ,‬ولم يأمر به في التسنيم‪ ،‬مع كونه أرفع؟ قلتُ ‪ :‬قال‬
‫بعضهم‪ :‬إشارة إلى أن شربه ال يُنال بسبب‪ ،‬بل بالسابقة‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه ُمقدّم من تأخير‪ ،‬وإن‬
‫باألحرى؛ ألنه إذا أم َر بالتنافس في المفضول كان التنافس‬
‫ْ‬ ‫التنافس حاصل في الجميع‪ ،‬أو يؤخذ‬
‫في األفضل أحرى‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫كتاب مرقوم برقم هللا‪ ،‬رقمه بسعادتهم األزلية‪ ،‬وواليتهم‬


‫ٌ‬ ‫اإلشارة‪ :‬قال الورتجبي‪ l:‬كتاب األبرار‬
‫األبدية‪ ،‬وذلك الكتاب عنده ال يطلع عليه إالَّ المقربون المخاطبون بحديثه‪ l‬وكالمه‪ ،‬المكاشفون‬
‫بالحقائق الغيبية‪ ,‬قال أبو عثمان المغربي‪ :‬الكتاب المرقوم‪ :‬هو ما يُجري هّللا ُ على جوارحك من‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫الخير والشر‪ ،‬رقمها بذلك‪ ،‬وهو ال يخاف ما رقم به‪ ،‬وذلك الر ْقم معلّق بالقضاء والقدر عن‬
‫القدرة بمشيئته‪ l‬تعالى عليه‪ ،‬وال نزوع عن ذلك وال حيلة له فيه‪ ،‬فهو في ذلك معذور في الظاهر‪،‬‬
‫غير معذور في الحقيقة‪ ،‬هذا لعوام الخلق‪ ،‬وأ ّما للخواص واألولياء وأهل الحقائق فإنه ر ْقم هللا‬
‫على كل شيء أوجده‪ ،‬لم يُشْرف‪ l‬على ذلك الر ْقم إالَّ المقربون‪ ،‬فهم أهل اإلشراف‪ ,‬ف َمن شاهد ذلك‬
‫الر ْقم من المقربين عرف صاحبه بما رقم به من الوالية والعداوة‪ ،‬فيُخبر عنه‪ ،‬وهو اإلشراف‬
‫والفراسة‪ ،‬كما كان ل ُعمر حين أخبر عنه صلى هللا عليه وسلم بقوله‪ " :‬كان في األمم ُمكلَّمون‪...‬‬
‫" الحديث‪ ،‬أي‪ :‬ف ُعمر ممن أشرف على حقائق الر ْقم‪ ،‬وعلى معاني الكتاب المرقوم‪ ,‬ف َمن كان‬
‫قلوب عباده بما‬ ‫َ‬ ‫بذلك الحال فهو المكلّم من جهة الحق بال واسطة‪ .‬قال الجريري‪ :‬ر ْق ٌم َرقَم هّللا ُ به‬
‫قضى عليهم في األزل من السعادة والشقاوة‪ ،‬وبذلك الر ْقم َخفي في أسرار العباد‪ ،‬وظهر على‬
‫هياكلهم‪ ،‬كما قال صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫س ٌ‪l‬ر لما ُخلق له "‪.‬‬
‫" ُك ٌّل ُميَ َّ‬

‫والحاصل‪ :‬أنَّ الكتاب المرقوم‪ :‬هو ما سطر لكل أحد في األزل‪ ،‬فإن رقم له بالسعادة جع َل في‬
‫عليين‪ ،‬إشارة إلى أنَّ صاحبه يلحق به‪ ،‬وإن رقم بالشقاوة جعل في سجين‪ ،‬إشارة إلى لحوق‬
‫صاحبه به‪ .‬وقوله تعالى‪ { :‬يشهده المقربون } أي‪ :‬يشهدونه‪ l‬بعلوم أفكارهم ومكاشفة أسرارهم‪،‬‬
‫وقد ينطقون بذلك في حال الفيض أو الجذب‪ ،‬وهؤالء هم المكلَّمون‪ ،‬وفي الحديث‪ " :‬قد كان في‬
‫األمم مكلَّمون‪ ،‬وإن يكن في أمتي ف ُعمر " والمقربون هم أهل الفناء والبقاء‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬إنَّ األبرار لفي نعيم } لذة الطاعات وحالوة المناجاة‪ ،‬على أرائك المقامات‬
‫ينظرون ما يفعل هللا بهم‪ .‬وقال القشيري‪ :‬ينظرون في روضات الجنان الروحية والسرية‬
‫والقلبية‪ ،‬لكل منهم روضة مخصوصة‪ l.‬هـ‪ .‬ولعل نظرهم علميا ً ال ذوقياً‪ ،‬ألنَّ الذوق للمقربين‪،‬‬
‫تَ ْع ِرفُ في وجوههم نضرة النعيم‪ ،‬وهو ما يظهر على وجوههم من بهجة المحبة ونضرة القُربة‪,‬‬
‫ولعل المراد باألبرار هنا السائرون‪ ،‬ولذلك قال‪ { :‬يُسقَون من رحيق } خمرة المحبة األزلية‪،‬‬
‫الصافية من كدر الهوى‪ ،‬مختوم عليه في قلوب العارفين‪ .‬قال القشيري‪ l:‬أواني ذلك الشراب هي‬
‫قلوب األصفياء واألولياء‪ِ ،‬ختامه مسك‪ ،‬وهو محبة الحق‪ ،‬ال يشرب من تلك األواني المختومة إالَّ‬
‫الطالبون الصادقون في طريق السلوك إلى هللا‪ .‬هـ‪ .‬وفي ذلك فليتنافس المتنافسون‪ ،‬ف َمن فاته‬
‫حظه من هذه الخمرة فهو محروم‪ ،‬كما قال ابن الفارض‪:‬‬

‫س ْه ٌم‬
‫صيب وال َ‬
‫ٌ‬ ‫سه فَ ْلي ْبك َمن ضا َع ُع ْم ُره وليس لَهُ ِم ْنها نَ‬
‫علَى نَ ْف ِ‬
‫وقال القشيري‪ l:‬وتنافسهم فيه بالمبادرة إلى األعمال الصالحة‪ ،‬وتعليق القلب باهلل‪ ،‬واالنسالخ‬
‫من األخالق الدنية‪ ،‬وجوالن الهمم في الملكوت‪ ،‬واستدامة المناجاة‪ .‬هـ‪ .‬و ِمزاجه من تسنيم‪ ,‬وهو‬
‫عين بحر الوحدة الصافية‪ ،‬التي قال فيها القطب ابن مشيش رضي هللا عنه‪ :‬وأغرقني في بحر‬
‫سرها تعالى بقوله‪ { :‬عينا ً يشرب بها المقربون } فالمقربون يشربونه‪l‬‬ ‫الوحدة‪ ..‬الخ‪ ،‬ولذلك ف ّ‬
‫صرفا ً في الدنيا واآلخرة‪ ،‬ويمزج‪ l‬لغيرهم‪ ،‬قال بعضهم‪ :‬ألنه ليس َمن احتمل حمل الصفات كمن‬
‫صرفا ً لحملهم الذات والصفات جميعاً‪ .‬هـ‪ .‬وألنهم‬ ‫قَ ِوي على مشاهدة الذات‪ ،‬وشربها المقربون ْ‬
‫صفّوا محبتهم في الدنيا من شوائب الهوى‪ ،‬فصفّى شرابهم في دار البقاء‪ ،‬وفي هذا المقام ينبغي‬
‫التنافس الحقيقي‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫محابس‬
‫ُ‬ ‫فروحي وريحاني إذا كنت حاضراً وإن غبتَ فالدنيا عل ّي‬
‫إذا لم أنافس في هواك ولم أغر عليكَ ففي َمن ليت شعري أنافس‬
‫فال تمقتن نفسي فأنت حبيبُها فكل امرىء يصبو‪ l‬إلى َمن يجانس‬
‫تنافس األبرار في نعيم‬
‫ُ‬ ‫المنعم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫فتنافس األبرار في حيازة النعيم‪ ،‬وتنافس المقربين في حيازة‬
‫األشباح وتنافس المقربين في نعيم األرواح‪ ،‬ورضوان من هللا أكبر‪ ،‬ذلك هو الفوز العظيم‪ ،‬جعلنا‬
‫هللا من أهل التنافس فيه وفي شهوده‪ ،‬آمنين‪.‬‬

‫ض َح ُكونَ } * { َوإِ َذا َم ُّرو ْا بِ ِه ْم يَتَ َغا َم ُزونَ } * { َوإِ َذا‬ ‫*{ إِنَّ الَّ ِذينَ أَ ْج َر ُمو ْا َكانُو ْا ِمنَ الَّ ِذينَ آ َمنُو ْا يَ ْ‬
‫سلُو ْا‬ ‫ضالُّونَ } * { َو َمآ أُ ْر ِ‬ ‫انقَلَبُوا ْا إِلَىا أَ ْهلِ ِه ُم انقَلَبُو ْا فَ ِك ِهينَ } * { َوإِ َذا َرأَ ْو ُه ْم قَالُوا ْا إِنَّ هَـا ُؤالَ ِء لَ َ‬
‫ض َح ُكونَ } * { َعلَى األَ َرآئِ ِك يَنظُ ُرونَ } *‬ ‫َعلَ ْي ِه ْم َحافِ ِظينَ } * { فَا ْليَ ْو َم الَّ ِذينَ آ َمنُو ْا ِمنَ ا ْل ُكفَّا ِر يَ ْ‬
‫{ َه ْل ثُ ِّو َ‬
‫ب ا ْل ُكفَّا ُر َما َكانُو ْا يَ ْف َعلُونَ }‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬إِنَّ الذين أجرموا }؛ كفروا‪ ،‬كأبي جهل والوليد والعاص بن وائل‬
‫صهيب وخباب وبالل { يضحكون } استهزاء بهم‪،‬‬ ‫وأضرابهم‪ { ،‬كانوا من الذين آمنوا } كع ّمار و ُ‬
‫{ وإِذا َم ُّروا بهم يتغامزون }؛ يُشير‪ l‬بعضهم إلى بالعين طعنا ً فيهم وعيبا ً لهم‪ ،‬وقيل‪ :‬جاء عل ٌّي‬
‫في نفر من المسلمين‪ ،‬فسخر منهم المنافقون‪ ،‬وضحكوا وتغامزوا‪ ،‬وقالوا‪ :‬أترون هذا األصلع؟‬
‫فنزلت قبل أن يصل إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فتكون اآلية على هذا مدنية‪ { ،‬وإِذا‬
‫انقلبوا إلى أهلهم } أي‪ :‬إذا رجع الكفار إلى منازلهم { انقلبوا فاكهين } ‪ ،‬متلذذين بذكرهم‬
‫بالسوء‪ ،‬أو متعجبين‪ ،‬وقرأ حفص‪ { :‬فكهين } بالقصر‪ ،‬أي‪ :‬أشرين أو فرحين‪ ،‬وقال الفراء‪:‬‬
‫هما سواء كطاعن وطعن‪.‬‬

‫{ وإِذا َرأَوهم } أي‪ :‬رأى الكافرون المؤمنين { قالوا إِنَّ هؤالء لضالُّون } أي‪ :‬مخدوعون‪ ،‬أي‪:‬‬
‫خدع محم ٌد هؤالء فضلُّوا وتركوا ّ‬
‫اللذات لما يرجونه في اآلخرة من الكرامات‪ ،‬فقد تركوا العاجل‬
‫اغتروا به وانهمكوا‬
‫ُّ‬ ‫باآلجل‪ ،‬والحقيقة بالخيال‪ ,‬وهذا عين الضالل‪ ،‬ولم يشعر هؤالء الكفرة أنَّ ما‬
‫فيه هو عين الضالل‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬وما أُرسلوا عليهم حافظين } أي‪ :‬وما أرسل الكفّار على‬
‫المسلمين‪ ،‬يحفظون أعمالهم‪ ,‬ويرقبون أحوالهم‪ .‬والجملة حال‪ ،‬أي‪ :‬قالوا ذلك والحال أنهم ما‬
‫أُرسلوا من جهة هللا تعالى مو ّكلين بهم‪ ،‬مهيمنين‪ l‬على أعمالهم‪ ،‬يشهدون ب ُرشدهم وضاللهم‪ ،‬بل‬
‫أُمروا بإصالح أنفسهم‪ ،‬فاشتغالهم بذلك أولى من تتبُّع عورات غيرهم‪.‬‬

‫{ فاليو َم الذين آمنوا من الكفا ِر يضحكون } ‪ ،‬حين يرونهم مغلولين أذالء‪ ,‬قد غشيتهم فنون‬
‫العذاب والص َغار بعد العزة واالستكبار‪ ،‬وهم { على األرائك } آمنون‪ ,‬ووجه ذلك‪ :‬أنهم ل َّما كانو‬
‫ى‪ ،‬فإذا أراد‬ ‫أعداءهم في الدنيا جعل لهم سروراً في تعذيبهم‪ ،‬وقال كعب‪ :‬بين الجنة والنار ُك َو ً‬
‫المؤمن أن ينظر إلى عدوه الذي كان له في الدنيا نظر إليه‪ ،‬دليله‪:‬‬
‫{ فَاطَّلَ َع فَ َر َءاهُ فِي َ‬
‫س َوآ ِء ا ْل َج ِح ِ‬
‫يم }‬
‫[الصافات‪ ]55:‬فضحكوا منهم في اآلخرة كما كانوا يضحكون منهم في الدنيا جزا ًء وفاقاً‪ { .‬على‬
‫األرائك ينظرون } حال‪ ،‬أي‪ :‬يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من سوء الحال‪،‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫وقيل‪ :‬يُفتح إلى الكفار باب إلى الجنة‪ ،‬فيُقال لهم‪ :‬هَل ُّموا إليها‪ ،‬فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم‪،‬‬
‫يفعل ذلك بهم مراراً‪ ،‬ويضحك المؤمنون‪ ،‬ويأباه قوله تعالى‪ { :‬هل ثُ ِّوب الكفا ُر ما كانوا يفعلون }‬
‫فإنه صريح في أنَّ ضحك المؤمنين منهم جبراً لضحكهم منهم في الدنيا‪ ،‬فال بد من المجانسة‪l‬‬
‫والمشاكلة‪ .‬والتثويب‪ l‬واإلثابة‪ :‬المجازاة‪ ،‬أي‪ :‬ينظرون هل ُجوزي الكفار بما كانوا يفعلون من‬
‫السخرية بالمؤمنين أم ال؟‬

‫ويحتمل أن يكون مفعول‪ " :‬ينظرون " محذوفاً‪ ,‬أي‪ :‬ينظرون إلى أعدائهم في النار‪ ،‬أو إلى ما‬
‫هم فيه من نعيم الجنان‪ ،‬ثم استأنف بقوله‪ { :‬هل ثُ ِّوب الكفا ُر ما كانوا يفعلون } أي‪ :‬هل ُجوزوا‬
‫بذلك إذا فعل بهم هذا العذاب المهين‪ ،‬و " هل " على هذا للتقرير‪ ،‬قال الرضي‪ :‬وتختص " هل‬
‫" بحكمين دون الهمزة‪ ،‬وهما‪ :‬كونها للتقرير في اإلثبات‪ ،‬كقوله تعالى‪ { :‬هل ثوب الكفار } أي‪:‬‬
‫ألم يَثوبوا‪ ،‬وإفادتها للنفي حتى جاز أن يجيء بعدها " إالَّ " قصداً لإليجاب‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫سانُ }‬ ‫ان إِالَّ ِ‬
‫اإل ْح َ‬ ‫س ِ‬ ‫َه ْل َج َزآ ُء ِ‬
‫اإل ْح َ‬
‫[الرحمن‪ ]60:‬وقول الشاعر‪:‬‬

‫َغويتُ ‪ ،‬وإن تُر َ‬


‫ش ْد غزية أرشد‬ ‫وهل أنا إالّ ِمن ُغزَ يّةَ إن غوت‬
‫اإلشارة‪ :‬ما قاله الكفرة في ضعفاء المسلمين قاله أهل الغفلة في المنتسبين الذاكرين‪ ،‬حرفا ً‬
‫بحرف‪ ،‬وما أُرسلوا عليهم حافظين‪ ،‬فإذا تحققت الحقائق‪ ،‬و ُرفع الذاكرون مع المقربين‪ ،‬وبقي‬
‫أهل الغفلة مع الغافلين في أهل اليمين‪ ،‬يضحكون منهم كما ضحكوا منهم في الدنيا‪ .‬وباهلل‬
‫التوفيق‪ ،‬وهو الهادي إلى الطريق‪ ،‬وصلّى هللا عليى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‪.‬‬

‫‪#‬سورة االنشقاق §‪#‬‬

‫ض ُمدَّتْ } * { َوأَ ْلقَتْ َما فِي َها‬


‫شقَّتْ } * { َوأَ ِذنَتْ لِ َربِّ َها َو ُحقَّتْ } * { َوإِ َذا األَ ْر ُ‬ ‫*{ إِ َذا ال َّ‬
‫س َمآ ُء ان َ‬
‫َوت ََخلَّتْ } * { َوأَ ِذنَتْ لِ َربِّ َها َو ُحقَّتْ }‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬إِذا السما ُء انشقتْ } أي‪ :‬تشقّقت أبوابا ً لنزول المالئكة في الغمام‪ ،‬أو‪:‬‬
‫انشقت وطُويت كطي السجل للكتاب‪ { ،‬وأَ ِذنَتْ لربها } أي‪ :‬استمعت‪ ،‬وفي الحديث‪ " :‬ما أَ ِذنَ هللاُ‬
‫لشي ٍء إذنه لنب ٍّي يت َغنَّى بالقرآن " أي‪ :‬ما استمع‪ ،‬أي‪ :‬انقادت وأذعنت لتأثير قدرته تعالى حين‬
‫ق لها أن تسمع‪ l‬وتطيع ألمر‬ ‫وحقَّتْ } أي‪ :‬وح َّ‬
‫تأب ولم تمتنع‪ُ { ،‬‬ ‫تعلّقت إرادته بانشقاقها‪ ,‬ولم َ‬
‫ربها‪ ،‬إذ هي مصنوعة مربوبة هلل تعالى‪.‬‬

‫ت فيها حتى تصير‪ l‬كالصحفية‬‫سويت باندكاك جبالها و ِّكل أم ٍ‬


‫األرض ُمدَّتْ }؛ بُسطت و ُ‬ ‫ُ‬ ‫{ وإِذا‬
‫الملساء‪ ،‬عن أبن عباس‪ :‬تُم ّد َم َّد األديم ال ُعكاظي‪ ،‬منسوب إلى عكاظ سوق بين نخلة والطائف‪،‬‬
‫كانت تعمره الجاهلية في ذي القعدة‪ ،‬عشرين يوماً‪ ،‬تجمع فيه قبائل العرب‪ ،‬فيتعاكظون‪ ،‬أي‪:‬‬
‫يتغامزون ويتناشدون‪ ،‬قاله في القاموس‪ { .‬وألقتْ ما فيها } أي‪ :‬رمت ما في جوفها من الموتى‬
‫والكنوز‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫ض أَ ْثقَالَ َها }‬
‫ت األَ ْر ُ‬
‫{ َوأَ ْخ َر َج ِ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ق في جوفها شيء‪ ،‬وذلك ما يُؤذن ب ِعظَم األمر‪ ،‬كما تلقي‬ ‫[الزلزلة‪ { .]2:‬وتخلتْ } منها فلم يب َ‬
‫الحامل ما في بطنها قبل الوضع‪ { .‬وأَ ِذنَتْ لربها } أي‪ :‬استمعت في إلقاء ما في بطنها‪ ،‬وتخليتها‬
‫وحقتْ } أي‪ :‬وهي حقيقة بأن تنقاد لربها وال تمتنع‪ ،‬ولكن ال بُعد إن لم تكن كذلك‪ ،‬بل في‬ ‫عنه‪ُ { ،‬‬
‫وحد ذاتِها‪ ،‬من قولهم‪ :‬هو محقوق بكذا‪ ،‬أو حقيق به‪ ،‬والمعنى‪ :‬انقادت لربها وهي حقيقة‬ ‫َ‬ ‫نفسها َ‬
‫بذلك ِم ن ذاتها‪ ،‬وكذلك يقال في انشقاق السماء‪ .‬انظر أبا السعود‪ .‬وجواب (إذا) محذوف‪ ،‬ليذهب‬
‫المقدِّر ك َّل مذهب‪ ،‬أي‪ :‬كان من األمر الهائل ما يقصر عنه الوصف‪ ،‬أو حذف اكتفا ًء بما تقدّم في‬
‫سورة التكوير واالنفطار‪ ،‬أو ما د ّل عليه { فمالقيه } أي‪ :‬إذا السماء انشقت القى اإلنسان كد َْحهُ‪.‬‬
‫وهللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬إذا السماء‪ ،‬أي‪ :‬سماء األرواح انشقت عن ظلمة األشباح انشقاق الفجر عن ظلمة‬
‫الليل‪ ،‬فتغيب ظلمة األشباح في نور عالَم األرواح‪ ,‬فحينئذ تظهر حقائق األشياء على ما كانت‬
‫عليه في الحقيقة األزلية‪ ،‬فينتفي‪ l‬الحدث ويبقى القِدم‪ .‬قال الورتجبي‪ l:‬إذا أراد هللا قلع الكون‪،‬‬
‫يلقي على السموات واألرض أثقال هيبة عظمته وكبريائه‪ ،‬فتنشق السماء‪ ،‬وتمد األرض من‬
‫عكس تجلي عظمته‪ l‬وكبريائه‪ l،‬وحق لهما أن تتصدّعا‪ ،‬لِما عليهما من أثقال قهريات جبروته‪l،‬‬
‫حيث يشققهما‪ ،‬وهما طائعتان لربهما‪ ،‬وكيف ال تكون منهما طاعة‪ ،‬وهما في قبضة قهر جالله‬
‫أقل من خردلة‪ ،‬أال ترى كيف قال صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬الكونُ في يمين الرحمن أق ِّل من َخردل ٍة‬
‫" وكذلك يتجلّى لسماء أرواح العارفين وأرض قلوب المحبين بنعت العظمة والكبرياء‪ ،‬فتنشق‬
‫األرواح وتزلزل القلوب من وقوع نور هيبته عليها‪ ،‬وبهذا الوصف وصف قلوب المق ّربين عند‬
‫نزول خطاب الهيبة‪ ،‬قال هللا تعالى‪:‬‬
‫َحتَّىا إِ َذا فُ ِّز َع عَن قُلُوبِ ِه ْم‪} ...‬‬
‫ص‪ ،‬وخطاب‬ ‫[سبأ‪ ]23:‬اآلية‪ .‬قال بعضهم‪ :‬خطاب األمر إذا وقع على الهياكل فهي بين مطيع وعا ٍ‬
‫الهيبة إذا وردت تفني وتُعجز اإلقرار معه كقوله‪ { :‬إذا السماء انشقت } َو َر َد عليها صفةُ الهيبة‪l‬‬
‫وحق لها ذلك‪ ،‬وهو الذي أوجدها‪ .‬هـ وإذا األرض أرض‬ ‫فانشقت وأ ِذنَتْ لربها وأطاعت وانقادت‪ُ ،‬‬
‫البشرية‪ُ l‬مدت‪ ،‬أي‪ :‬بُسطت والنت ألحكام الربوبية بالمجاهدة والرياضة‪ ،‬وألقت ما فيها من‬
‫الخبائث والعيوب‪ ،‬وتخلّت عنها‪ ،‬وأذنت لربها في أحكام العبودية والعبادة‪ُ ،‬‬
‫وحقَّتْ بذلك؛ ألنَّ في‬
‫ذلك شرفَها وع َّزها‪ ،‬وجواب " إذا " محذوف‪ ،‬أي‪ :‬كان من األسرار واألنوار والمعارف ما ال‬
‫يدخل تحت دوائر العبارة‪ ،‬وال تحيط به اإلشارة‪.‬‬

‫سانُ إِنَّكَ َكا ِد ٌح إِلَىا َربِّكَ َكدْحا ً فَ ُمالَقِي ِه } * { فَأ َ َّما َمنْ أُوتِ َي ِكتَابَهُ بِيَ ِمينِ ِه } *‬ ‫اإلن َ‬‫*{ ياأَيُّ َها ِ‬
‫س ُروراً } * { َوأَ َّما َمنْ أُوتِ َي ِكتَابَهُ َو َرآ َء‬ ‫ب إِلَىا أَ ْهلِ ِه َم ْ‬
‫سيراً } * { َويَنقَلِ ُ‬ ‫سابا ً يَ ِ‬‫ب ِح َ‬‫س ُ‬ ‫س ْوفَ يُ َحا َ‬ ‫{ فَ َ‬
‫س ُروراً } *‬ ‫س ِعيراً } * { إِنَّهُ َكانَ فِيا أَ ْهلِ ِه َم ْ‬ ‫صلَىا َ‬ ‫س ْوفَ يَ ْدعُو ْا ثُبُوراً } * { َويَ ْ‬ ‫ظَ ْه ِر ِه } * { فَ َ‬
‫صيراً }‬ ‫ور } * { بَلَىا إِنَّ َربَّهُ َكانَ بِ ِه بَ ِ‬ ‫{ إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَ ُح َ‬

‫اإلنسانُ } خطاب الجنس { إِنك كا ِد ٌح إِلى ربك َكدْحا ً ف ُمالقِي ِه }‬


‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬يا أيها ِ‬
‫أي‪ :‬جاه ٌد جا ٌّد في السير إلى ربك‪ .‬فالكدح في اللغة‪ :‬الجد واالجتهاد‪ ،‬أي‪ :‬إنك في غاية االجتهاد‬
‫في السير إلى ربك‪ ،‬ألنَّ الزمان يطير طيراً وأنت في كل لحظة تقطع حظًّا من عمرك القصير‪،‬‬
‫فإنك سائر مسرع إلى الموت‪ ،‬ثم تالقي ربك‪ .‬قال الطيبي‪ l‬عن اإلمام‪ :‬في اآلية نكتة لطيفة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫أنها تدل على انتهاء الكدح والتعب للمؤمن بانتهاء هذه الحياة الدنيوية‪ ،‬ويحصل بعد ذلك محض‬
‫سعادته وراحته األبدية‪ .‬هـ‪.‬‬

‫قلتُ ‪ :‬إن كان كدحه في طلب مواله؛ حصل له بعد موته دوام الوصال‪ ،‬وصار إلى روح وريحان‪،‬‬
‫الحور والقصور‪ ،‬بُشّر بدوام السرور‪ ،‬وربما اتصلت‬ ‫وجنات ورضوان‪ ،‬وإن كان كدحه في طلب ُ‬
‫روحه بما كان يتمنى‪ ،‬وإن كان كدحه في طلب الدنيا مع إقامة الدين أفضى إلى الراحة من تعبه‪،‬‬
‫ب‪ ,‬والعياذ باهلل‪ .‬وقال‬
‫وإن كان في طلب الحظوظ والشهوات مع التقصير‪ ،‬انتقل من تعب إلى تع ٍ‬
‫أبو بكر بن طاهر‪ :‬إنك تُعامل ربك معاملة ستعرض عليك في المشهد األعلى‪ ،‬فاجتهد أالَّ َ‬
‫تخجل‬
‫من معاملتك مع خالقك‪ .‬أهـ‪.‬‬

‫صل ما يلقى بعد اللقاء فقال‪ { :‬فأ ّما َمن أوتي كتابه بيمينه‪ } l‬أي‪ :‬كتاب عمله { فسوف‬ ‫ثم ف ّ‬
‫يُحاسب حسابا ً يسيراً }؛ سهالً هيناْ‪ ،‬وهو الذي يُجازي على الحسنات ويتجاوز عن السيئات‪.‬‬
‫سب ع ُِّذب " فقيل له‪ :‬فأين قوله تعالى‪ { :‬فسوف يُحاسب حسابا ً يسيراً }‬ ‫وفي الحديث‪َ " :‬من يحا َ‬
‫ِّ‬
‫فقال‪ " :‬ذلكم العرض‪َ ،‬من نُوقش الحساب عُذب " والعرض‪ :‬أن يُقال له‪ :‬فعلتَ كذا وفعلتَ كذا‪،‬‬
‫وينقلب إِلى أهله } أي‪ :‬إلى‬
‫ُ‬ ‫ثم يُقال له‪ :‬سترتها عليك في الدنيا‪ ،‬وأنا أغفرها لك اليوم‪{ .‬‬
‫عشيرته إن كانوا مؤمنين‪ ،‬أو‪ :‬إلى فريق المؤمنين‪ ،‬أو‪ :‬إلى أهله في الجنة من اآلدمية أو الحور‬
‫والغلمان‪ ،‬أو‪ :‬إلى َمن سبقه من أهله أو عشيرته‪ l،‬إن قلنا‪ :‬إنَّ الكتاب يُعطى بمجرد اللقاء في‬
‫البرزخ‪ ،‬فإنَّ األرواح بعد السؤال تلحق بأهلها وعشيرتها‪ ،‬حسبما تقدّم في الواقعة‪ .‬وقوله تعالى‪:‬‬
‫{ مسروراً } أي‪ :‬مبتهجا ً بحاله‪ ،‬قائالً‪:‬‬
‫{ هَآ ُؤ ُم ا ْق َر ُؤ ْا ِكتَابيَ ْ‪l‬ه }‬
‫[الحاقة‪ ]19:‬أو‪ :‬مسروراً بلقاء ربه ودوام وصاله‪.‬‬

‫تنبيه‪ :‬الناس في الحساب على أقسام‪ ،‬منهم َمن ال حساب عليهم وال عتاب‪ ،‬وهم العارفون‬
‫المقربون‪ ،‬أهل الفناء في الذات‪ ,‬ومنهم َمن يُحاسب حسابا ً يسيراً‪ l،‬وهم الصالحون األبرار‪،‬‬
‫عذب ثم ينجو بالشفاعة‪ ،‬وهم عصاة المؤمنين ممن ينفذ فيهم الوعيد‪،‬‬ ‫ومنهم َمن يُناقش ويُ ِّ‬
‫ومنهم َمن يُناقش ويخلد في العذاب‪ ،‬وهم الكفرة‪ ،‬وإليهم أشار بقوله‪:‬‬

‫{ وأ ّما َمن أُوتي كتابَه وراء ظهره } ‪ ،‬قيل‪ :‬تغ ّل يُمناه إلى عنقه‪ ،‬وتُجعل شماله وراء ظهره‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬يثقب صدره وتخرج منه‪ l‬إلى ظهره‪ ،‬فيعطى كتابه بها وراء ظهره‪ { ،‬فسوف يَدعو ثبُوراً }‬
‫يقول‪ :‬واثبوراه‪.‬‬
‫صلَى سعيراً } أي‪ :‬يدخلها‪ { ،‬إِنه كان } في الدنيا { في أهله } أي‪ :‬معهم {‬‫والثبور‪ l:‬الهالك‪ { ،‬ويَ ْ‬
‫مسروراً } بالكفر‪ ،‬يضحك على َمن آمن بالبعث‪ .‬وقيل‪ :‬كان لنفسه متابعاً‪ ،‬وفي هواه راتعاً‪ { ،‬إِنه‬
‫ور }؛ لن يرجع إلى ربه‪ l،‬تكذيبا ً بالبعث‪ .‬قال ابن عباس‪ :‬ما عرفتُ تفسيره‪ l‬حتى‬‫ظنّ أن لن يَ ُح َ‬
‫سمعت أعرابية‪ l‬تقول لبنتها‪ُ :‬حوري‪ .‬أي‪ :‬ارجعي‪ { .‬بلى } جواب النفي‪ ،‬أي‪ :‬يرجع ال محالة‪،‬‬
‫{ إِنَّ ربه كان به بصيراً } أي‪ :‬إنَّ ربه الذي خلقه كان به وبأعماله الموجبة للجزاء " بصيراً "‬
‫بحيث ال تخفى عليه منها خافية‪ ،‬فال بد من رجعه وحسابه عليها حتماً‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫اإلشارة‪ :‬يا أيها اإلنسان الطالب الوصول‪ ،‬إنك كادح إلى ربك كدحا ً بالمجاهدة والمكابدة ف ُمالقيه‬
‫بالمشاهدة المعاينة في مقام الفناء والبقاء‪ ،‬فأ ّما َمن أُوتي كتابه السابق له في األزل " بيمينه‪" l‬‬
‫بكونه من أهل اليمين والسعادة " فسوف يُحاسب حسابا ً يسيراً " فيُؤدب في الدنيا إن وقع منه‬
‫سوء أدب‪ " ،‬وينقلب إلى أهله " إخوانه في هللا " مسروراً " بوصوله إلى مواله‪ .‬قال‬
‫الورتجبي‪ l:‬مسروراً بلقاء ربه‪ ،‬وما نال من قُربه ووصاله‪ ،‬وهذا للمتوسطين‪ ،‬و َمن بلغ إلى‬
‫حقيقة الوصال وصار أهالً له ال ينقلب عنه إلى غيره‪ .‬هـ‪ .‬وأ ّما َمن أُوتي كتابه السابق بخذالنه‬
‫في األزل‪ ،‬وراء ظهره‪ ،‬بحيث غفل عن التوجه إلى هللا‪ ،‬واتخذه وراء ظهره‪ ،‬فسوف يدعو‬
‫ثبوراً‪ ،‬فيتمنى يوم القيامة أن لم يكن شيئاً‪ ,‬ويصلى سعير القطيعة والبُعد إنه كان في أهله‬
‫مواجها ً بالجمال من أهله وعشيرته‪ ،‬ليس له َمن يؤذيه‪ ،‬وهذا من‬ ‫َ‬ ‫مسروراً منبسطا ً في الدنيا‪،‬‬
‫عالمة االستدراج‪ ،‬ولذلك ال تجد وليًّا إالَّ وله َمن يُؤذيه‪ ،‬يُحركه إلى ربه‪ ،‬قال بعض الصوفية‪ :‬قَ َّل‬
‫أن تجد وليًّا إالَّ وتحته امرأة تؤذيه‪ .‬هـ‪ " .‬إنه " أي‪ :‬الجاهل ظنّ أن لن يحور إلى ربه في الدنيا‬
‫وال في اآلخرة‪ ،‬بل يرده هللاُ ويُحاسبه على النقير والقطمير‪ ،‬إنه كان به بصيراً بظاهره وباطنه‪.‬‬

‫ق } * { لَت َْر َكبُنَّ طَبَقا ً عَن‬ ‫س َ‬‫ق } * { َوا ْلقَ َم ِر إِ َذا اتَّ َ‬ ‫ق } * { َواللَّ ْي ِل َو َما َو َ‬
‫س َ‬ ‫شف َ ِ‬
‫س ُم بِال َّ‬ ‫*{ فَالَ أُ ْق ِ‬
‫س ُجدُونَ } * { بَ ِل الَّ ِذينَ َكفَ ُرو ْا‬ ‫بق } * { فَ َما لَ ُه ْم الَ يُ ْؤ ِمنُونَ } * { َوإِ َذا قُ ِرى َء َعلَ ْي ِه ُم ا ْلقُ ْرآنُ الَ يَ ْ‬ ‫طَ ٍ‬
‫يم } * { إِالَّ الَّ ِذينَ آ َمنُو ْا َو َع ِملُو ْا‬ ‫ب أَلِ ٍ‬ ‫يُ َك ِّذبُونَ } * { َوهَّللا ُ أَ ْعلَ ُم بِ َما يُوعُونَ } * { فَبَش ِّْر ُه ْم بِ َع َذا ٍ‬
‫ون }‬ ‫ت لَ ُه ْم أَ ْج ٌر َغ ْي ُر َم ْمنُ ٍ‬
‫صالِ َحا ِ‬ ‫ال َّ‬

‫الحمرة التي تُشاهد في أفق المغرب بعد‬


‫بالشفق } وهي ُ‬
‫ِ‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬فال أُقسم‬
‫الغروب‪ ،‬أو‪ :‬البياض الذي يليها‪ ،‬سمي به لرقَّته‪ ،‬ومنه‪ l:‬الشفقة التي هي رقة القلب‪ { .‬واللي ِل‬
‫ق }؛ وما جمع وض َّم‪ ،‬يقال‪ :‬وسقه فاتسق‪ ،‬أي‪ :‬جمعه فاجتمع‪ ،‬أي‪ :‬وما جمعه من‬ ‫س َ‬
‫وما َو َ‬
‫الدواب وغيرها‪ ،‬أو‪ :‬ما جمعه من الظلمة والكواكب‪ ،‬وما عمل فيه من التهجد‪ { ،‬والقم ِر إِذا‬
‫ق } أي‪ :‬اجتمع ضوؤه وت ّم نوره ليلة أربع عشرة‪.‬‬ ‫اتَّ َ‬
‫س َ‬

‫{ لت َْر َكبُنَّ طبقا ً عن طبق }؛ لتُالقُن حاالً بعد حال‪ ،‬كل واحدة منها مطابقة ألختها في الشدّة‬
‫والفظاعة‪ ,‬كأحوال شدائد الموت‪ ،‬ثم القبر‪ ،‬ثم البعث‪ ،‬ثم الحشر‪ ،‬ثم الحساب‪ ،‬ثم الميزان‪ ،‬ثم‬
‫الصراط‪ .‬أو‪ :‬حاالً بعد حال‪ ،‬النطفة‪ ،‬ثم العلقة‪ ،‬ثم المضغة‪ ،‬ثم الجنين‪ ،‬ثم الخروج إلى الدنيا‪ ،‬ثم‬
‫الطفولة‪ ،‬ثم الكهولة‪ ،‬ثم الشيخوخة‪ ،‬ثم الهرم‪ ،‬ثم الموت‪ ..‬وما ذكر بعده آنفا ً إلى دخول الجنة أو‬
‫النار‪ .‬وقال بعض الحكماء‪ :‬يشتمل اإلنسان من كونه نطفة إلى أن يَهرم على نيف وثالثين اسماً‪:‬‬
‫نطفة‪ ،‬ثم علقة‪ ،‬ثم مضغة‪ ،‬ثم عظاماً‪ ،‬ثم خلقا ً آخر‪ ،‬ثم جنيناً‪ ،‬ثم وليداً‪ ،‬ثم رضيعاً‪ ،‬ثم فطيماً‪ ،‬ثم‬
‫مزوراً‪ ،‬ثم مراهقاً‪ ،‬ثم محتلماً‪ ،‬ثم بالغاً‪ ،‬ثم َح َمالً‪ ،‬ثم ملتحياً‪ ،‬ثم‬
‫يافعاً‪ ،‬ثم ناشئاً‪ ،‬ثم مترعرعاً‪ ،‬ثم ِّ‬
‫مستوفياً‪ ،‬ثم مص َعداً‪ ،‬ثم مجتمعا ً ـ والشباب يجمع ذلك ـ ثم َم ْلهوراً‪ ،‬ثم كهالً‪ ،‬ثم أشمط‪ ،‬ثم شيخاً‪،‬‬
‫ثم أشيب‪ ،‬ثم َح ْوقالً‪ ،‬ثم ُمقتاتاً‪ ،‬ثم هما‪ ،‬ثم هرماً‪ ،‬ثم ميتاً‪ .‬وهذا معنى قوله‪ { :‬لت َْر َكبُنَّ طبقا ً عن‬
‫طبق }‪ .‬هـ‪ .‬من الثعلبي‪ .‬أو‪ :‬لتركبن سنن َمن قبلكم‪ ،‬حاالً بعد حال‪.‬‬

‫هذا على َمن قرأ بضم الباء‪ ،‬وأ ّما َمن قرأ بفتحها فالخطاب إ ّما لإلنسان المتقدم‪ ،‬فيجري فيه ما‬
‫تقدّم‪ ،‬أو‪ :‬للنبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أي‪ :‬لتركبَن مكابدة الكفار حاالً بعد حال‪ ،‬أو‪ :‬لتركبَن فتح‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫البالد شيئا ً بعد شيء‪ ،‬أو‪ :‬لتركبَن السماوات في اإلسراء‪ ،‬سماء بعد سماء‪ .‬أو‪ :‬لتركبَن أحوال‬
‫أيامك‪ ،‬حاالً بعد حال‪ ،‬حال البعثه‪ ،‬ثم حال الدعوة‪ ،‬ثم حال الهجرة‪ ،‬ثم حال الجهاد وفتح البالد‪ ،‬ثم‬
‫حال الحج وتوديع العباد‪ ،‬ثم حال الرحيل إلى دار المقام‪ ،‬ثم حال الشفاعة‪ ،‬ثم حال المقام في دار‬
‫الكرامة‪ .‬فالطبق في اللغة يُطلق على الحال‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬

‫َمـن ذا الـذي لـم يـز ّور عيشـه رنقـا‬ ‫الصبـر أجمـل والدنيـا مفجعـةٌ‬
‫إذا صفـا لـك مـن مسرورها طبـق أهـدى لـك الدهـر من مكروههـا طبقـا‬
‫ويطلق على الجيل من الناس يكون طباق األرض‪ ،‬أي‪ :‬مألها‪ ،‬ومنمهم قول العباس في النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬

‫ضـى عَـالَـ ٌم بَـدَا طَبَـ ُ‬


‫ق‬ ‫حـم إذا َم َ‬
‫ب إلـى َر ٍ‬
‫صالـ ٍ‬ ‫تَنقَّـل مـن َ‬
‫ومحل (عن طبق)‪ :‬النصب‪ ،‬على أنه صفة لطبق‪ ،‬أي‪ :‬طبقا ً مجاوزاً لطبق‪ ،‬أو‪ :‬حال من الضمير‬
‫في " لتركبن " أي‪ :‬مجاوزين لطبق‪.‬‬
‫فما لهم ال يؤمنون } ‪ ،‬الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها‪ ،‬من أحوال يوم القيامة وأهوالها‪،‬‬
‫ي‬
‫ي شيء حصل لهم حال كونهم غير مؤمنين‪ ،‬أي‪ :‬أ ّ‬ ‫أي‪ :‬إذا كان األمر يوم القيامة كما ذكر‪ ،‬فأ ّ‬
‫شيء يمنعهم من اإليمان‪ ،‬وقد تعاضدت موجباته؟ { وإِذا قُرى َء عليهم القرآنُ ال يسجدون } وال‬
‫ي‪ :‬مانع لهم حال عدم سجودهم‬ ‫يخضعون‪ ،‬وهي أيضا ً جملة حالية‪ ،‬نسقا ً على ما قبلها‪ ،‬أي‪ :‬أ ّ‬
‫وخضوعهم واستكانتهم عند قراءة القرآن؟‪ .‬قيل‪ :‬قرأ النبي صلى هللا عليه وسلم ذات يوم‪:‬‬
‫س ُج ْد َوا ْقتَ ِرب }‬
‫{ َوا ْ‬
‫ُصفِّق فوق رؤوسهم وتُصفِّر‪ ،‬فنزلت‪.‬‬ ‫[العلق‪ ]19:‬فسجد هو و َمن معه من المؤمنين‪ ،‬وقريش ت َ‬
‫احتج أبو حنيفة على وجوب السجدة وعن ابن عباس‪ " :‬ليس في المفصل سجدة " ‪ ،‬وبه‬ ‫ّ‬ ‫وبه‬
‫قال مالك‪ .‬وعن أبي هريرة رضي هللا عنه أنه سجد فيها‪ ،‬وقال‪ " :‬وهللا ما سجدت إالّ بعد أن‬
‫رأيت النبي صلى هللا عليه وسلم سجد فيها " ‪ ،‬وعن أنس رضي هللا عنه‪ " :‬صليتُ خلف أبي‬
‫بكر وعمر وعثمان ـ رضي هللا عنهم ـ فسجدوا "‪ .‬ولعلهم لم يبلغهم نسخ سجدتها‪.‬‬

‫كذبون } بالقرآن الناطق بما ذكر من أحوال القيامة وأهوالها‪ ،‬مع تحقُّق‬ ‫{ بل الذين كفروا يُ ّ‬
‫موجبات تصديقهم‪ ،‬ولذلك ال يخضعون عند تالوته { وهللاُ أعلم بما يُوعدون }؛ بما يُضمرون في‬
‫قلوبهم‪ ،‬ويُخفون في صدورهم من الكفر والحسد والبغي والبغضاء‪ ،‬أو‪ :‬بما يجمعون في‬
‫أليم }؛‬
‫ب ٍ‬‫صحفهم من أعمال السوء‪ ،‬ويدّخرون ألنفسهم من أنواع العذاب‪ { ،‬فبشَّرهم بعذا ٍ‬
‫أخبرهم يظهر أثره على بشرتهم‪ { ،‬إِالَّ الذين آمنوا وع ِملوا الصالحات } ‪ ،‬استثناء منقطع‪ { ،‬لهم‬
‫ممنون }؛ غير مقطوع‪ ،‬أو غير ممنو ٍن به‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أج ٌر غي ُر‬

‫اإلشارة‪ :‬أقسم تعالى بنور بداية اإليمان ونهايته‪ l،‬وما اشتمل عليه ليل الحجاب من أنواع ال ُعمال‪،‬‬
‫فقال تعالى " فال أُقسم بالشفق "؛ بنور بداية اإليمان‪ ،‬الذي هو كبياض الشفق‪ " ،‬والليل وما‬
‫وسق "؛ وليل الحجاب‪ ،‬وما اشتمل عليه من ال ُعبّاد وال ُزهّاد واألبرار والعلماء األتقياء‪ ،‬وقمر‬
‫ي دليله " لتَركبُن " أيها السالكون‪ ،‬طبقا ً عن طبق؛ حاالً بعد حال‪،‬‬ ‫اإليمان إذا جنح نوره‪ ،‬وقَ ِو َ‬
‫حتى تنتهوا إلى شمس العيان‪ ،‬فأول األحوال‪ :‬حال التوبة‪ ،‬ثم حال اليقظة‪ ،‬ثم حال المجاهدة في‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫خرق عوائد النفس‪ ،‬ثم حال المراقبة‪ ،‬ثم حال االستشراف‪ l،‬على الحضرة‪ ،‬ثم حال المشاهدة‪ ،‬ثم‬
‫حال المعاينة‪ ،‬ثم حال المكالمة‪ ،‬ثم حال الترقِّي إلى ما ال نهاية له‪ .‬فما لهم‪ ،‬أي‪ :‬ألهل اإلنكار‪ ،‬ال‬
‫يؤمنون بسلوك هذا الطريق‪ ،‬وإذا قُرىء عليهم القرآن الدا ّل على هذا المنهاج ال يخضعون وال‬
‫يتدبرونه حق تدبيره‪ ،‬بل الذين كفروا بطريق الخصوص‪ ،‬يُ ّكبون بها‪ .‬وهللا أعلم بما يوعون في‬
‫قلوبهم من األمراض والعيوب‪ ،‬أو من اإلنكار‪ ,‬فبشِّرهم بعذاب البُعد والحجاب‪ ،‬إالَّ الذين آمنوا‬
‫سلَكوها معهم‪ ،‬لهم آجر‪ ،‬وهو مقام الشهود‪ ،‬غير ممنون؛ غير‬ ‫وصدّقوا بطريق الخصوص‪ ،‬و َ‬
‫مقطوع‪ ،‬بل تترادف األنوار واألسرار والكشوفات إلى غير نهاية‪ ،‬أو‪ :‬غير ممنون به‪ ،‬بل مواهب‬
‫من هللا بال ِمنّة‪ .‬وباهلل التوفيق‪ ،‬وهو الهادي إلى سواء الطريق‪ ،‬وصلّى هللا على سيدنا محمد‬
‫وآله وصحبه وسلّم‪.‬‬

‫‪#‬سورة البروج §‪#‬‬

‫اب‬
‫ص َح ُ‬ ‫ش ُهو ٍد } * { قُتِ َل أَ ْ‬ ‫وج } * { َوا ْليَ ْو ِم ا ْل َم ْوعُو ِد } * { َوشَا ِه ٍد َو َم ْ‬ ‫ت ا ْلبُ ُر ِ‬ ‫س َمآ ِء َذا ِ‬ ‫*{ َوال َّ‬
‫ت ا ْل َوقُو ِد } * { إِ ْذ ُه ْم َعلَ ْي َها قُ ُعو ٌد } * { َو ُه ْم َعلَىا َما يَ ْف َعلُونَ بِا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ‬ ‫األُ ْخدُو ِد } * { النَّا ِر َذا ِ‬
‫ت‬
‫اوا ِ‬ ‫س َم َ‬ ‫ش ُهو ٌد } * { َو َما نَقَ ُمو ْا ِم ْن ُه ْم إِالَّ أَن يُ ْؤ ِمنُو ْا بِاهَّلل ِ ا ْل َع ِزي ِز ا ْل َح ِمي ِد } * { الَّ ِذي لَهُ ُم ْل ُك ال َّ‬ ‫ُ‬
‫ت ثُ َّم لَ ْم يَتُوبُو ْا فَلَ ُه ْم‬ ‫ين َوا ْل ُم ْؤ ِمنَا ِ‬ ‫ش ِهي ٌد } * { إِنَّ الَّ ِذينَ فَتَنُو ْا ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‪l‬‬
‫ض َوهَّللا ُ َعلَى ُك ِّل ش َْي ٍء َ‬ ‫َواألَ ْر ِ‬
‫يق }‬‫اب ا ْل َح ِر ِ‬ ‫اب َج َهنَّ َم َولَ ُه ْم َع َذ ُ‬ ‫َع َذ ُ‬

‫الح َمل‪ ،‬والثور‪ ،‬والجوزاء‪،‬‬


‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬والسما ِء ذات البروج } األثني عشر‪ ،‬وهي َ‬
‫والسرطان‪ ،‬واألسد‪ ،‬والسنبلة‪ ،‬والميزان‪ ،‬والعقرب‪ ،‬والقوس‪ ،‬والجدي‪ ،‬والدلو‪ ،‬والحوت‪ .‬شُبهت‬
‫سميت‬‫بالقصور ألنها تنزلها السيارة‪ ،‬وتكون فيها الثوابت ومنازل القمر‪ ،‬أو‪ُ :‬ع ْظم الكواكب‪ُ ،‬‬
‫التبرج‪ ،‬أي الظهور‪ ،‬أو‪ :‬أبواب السماء‪ ،‬فإنَّ النوازل تخرج منها‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫بروجا ً لظهورها‪ ،‬من‪:‬‬
‫واليوم الموعو ِد } أي‪ :‬يوم القيامة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫{‬

‫{ وشاه ٍد ومشهو ٍد } أي‪ :‬وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه‪ ،‬والمراد بالشاهد‪َ :‬من يشهد فيه‬
‫من الخالئق كلهم‪ ،‬وبالمشهود فيه‪ :‬ما في ذلك اليوم من عجائبه وأهواله‪ ،‬إذا أُريد بالشهود‪:‬‬
‫الحضور‪ ،‬وإذا أريد الشهادة‪ ،‬فيُقَدّر المعمول‪ ،‬أي‪ :‬مشهود عليه أو مشهود به‪ .‬وقد اضطربت‬
‫األقوال في الشاهد والمشهود‪ ،‬فقيل‪ :‬الشاهد‪ :‬أمة محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬والمشهود‪ l:‬سائر‬
‫األمم؛ ألنه يشهدون عليهم كما تقدّم وقيل‪ :‬الشاهد‪ :‬عيسى عليه السالم‪ ،‬والمشهود‪ :‬أمته‪،‬‬
‫لقوله‪:‬‬
‫ش ِهيداً َّما ُد ْمتُ فِي ِه ْم }‬ ‫{ َو ُكنتُ َعلَ ْي ِه ْم َ‬
‫[المائدة‪ ،]117:‬وقيل‪ :‬الشاهد‪ :‬جميع األنبياء‪ ،‬والمشهود‪ :‬أممهم‪ ،‬وقيل‪ :‬الشاهد‪ :‬المالئكة‬
‫الحفظة‪ ،‬والمشهود‪ :‬الناس‪ ،‬ألنهم يشهدون عليهم يوم القيامة‪ .‬وقيل‪ :‬الشاهد‪ :‬الجوارح‪،‬‬
‫والمشهود عليهم‪ :‬أصحابها وقيل‪ :‬الشاهد‪ :‬هللا والمالئكة وأولو العلم‪ ،‬والمشهود به‪ :‬الوحدانية‪،‬‬
‫لقوله تعالى‪:‬‬
‫ش ِه َد هَّللا ُ أَنَّهُ الَ إِلَـاهَ إِالَّ ُه َو َوا ْل َملَـائِ َكةُ }‬
‫{ َ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫[آل عمران‪ ]18:‬الخ‪ .‬وقيل‪ :‬الشاهد‪ :‬جميع المخلوقات‪ ،‬والمشهود به‪ :‬وجود خالقها وإثبات‬
‫صفاته من الحياة والقدرة‪ ...‬وغير ذلك‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬الشاهد‪ :‬النجم‪ ،‬للحديث‪ " :‬ال صالة بعد العصر حتى يطلع الشاهد " أي‪ :‬النجم‬
‫والمشهود‪ :‬الليل‪ ،‬ألن النجم يشهد بانقضاء النهار ودخول الليل‪ .‬وقيل‪ :‬الشاهد‪ :‬الحجر األسود‪،‬‬
‫والمشهود‪ :‬الناس يحجون‪ ،‬ألنه يشهد عليهم يوم القيامة ل َمن قَبّله أو لمسه‪ .‬وقيل‪ :‬الشاهد‪ :‬يوم‬
‫الجمعة‪ ،‬والمشهود‪ :‬يوم عرفة‪ ،‬ألنَّ يوم الجمعة يشهده باألعمال‪ ،‬ويوم عرفة يشهده الناس‪،‬‬
‫وهذا مروي عنه صلى هللا عليه وسلم‪ .‬وقيل‪ :‬الشاهد‪ :‬يوم عرفة‪ ،‬والمشهود‪ :‬يوم النحر‪ .‬قاله‬
‫عل ّي رضي هللا عنه‪ ،‬انظر ابن جزي‪ .‬وقيل‪ :‬الشاهد‪ :‬األيام والليالي‪ ،‬والمشهود‪ :‬بنو آدم‪ ،‬للحديث‬
‫" ما من يوم إالَّ وينادي‪ :‬أنا يوم جديد‪ ،‬وعلى ما يُفعل به شهيد‪ ،‬فاغتنمني " وكذلك تقول الليلة‪،‬‬
‫وأنشدوا‪:‬‬

‫وخلّفـتَ فـي يـوم عليـك شهيـ ُد‬ ‫ُ‬ ‫سـك الماضـي شهيـداً معـ ّدالً‬ ‫مضـى أ ْم ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫فـإن كنـت باألمـس اقترفـت إسـاءة فثنـ ْه بإحسـا ٍن وأنـت حميـ ُد‬
‫وال ت ُْـرج ف ْعـل الخيـر يومـا ً إلـى غـ ٍد لعـل غـداً يـأتـي وأنـت فقيـ ُد‬
‫فيو ُمـك إن أتعبـتَـه نفعـه غـدا عـليـك ومـاضـي ال َع ْيـش ليـس يعـو ُد‬
‫وجواب القسم إ ّما محذوف يد ّل عليه‪ { :‬قُتل‪ } ...‬الخ‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬أقسم بهذه األشياء أنّ كفار‬
‫أصحاب األخدود } أو‪ :‬هو قتل بعينه‪ l‬على حذف الالم‪ ،‬لطول الكالم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قريش ملعونون كما لُعن {‬
‫أي‪ :‬لقد قُتل أصحاب األخدود‪ ،‬والمراد‪ :‬تثبيت المؤمنين على ما هم عليه من اإليمان‪ ،‬وتصبيرهم‬
‫على أذى الكفرة‪ ،‬وتذكيرهم بما جرى على َمن تقدمهم من التعذيب‪ ،‬وصبرهم على ذلك‪ ،‬حتى‬
‫يأنسوا ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم‪ ،‬ويعلموا أنَّ هؤالء الكفرة بمنزلة أولئك‪،‬‬
‫ملعونون مثلهم‪.‬‬
‫واألخدود‪ :‬الخد في األرض‪ ،‬أي‪ :‬الشق‪.‬‬

‫ُروي في الصحيح عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪ " :‬كان لبعض الملوك ساحر‪ ،‬فل ّما‬
‫كبر‪ ،‬قال للملك‪ :‬قد كبرتُ فابعث إل ّي غالما ً أعلّمه السحر‪ ،‬فض ّم إليه غالما ً ليعلّمه‪ ،‬وكان في‬
‫الراهب‪:‬‬
‫ُ‬ ‫راهب‪ ،‬فسمع منه وأعجبه‪ ،‬وكان يحتبس عنده‪ ،‬فيضربه الساح ُر‪ ،‬فقال له‬ ‫ٌ‬ ‫طريق الغالم‬
‫إذا خشيت الساح َر‪ ،‬فقل له‪ :‬حبسني‪ l‬أهلي‪ ،‬وإذا خشيتَ أهلك‪ ،‬فقل‪ :‬حبسني الساح ُر‪ ،‬فرأى في‬
‫طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس‪ ،‬وقيل‪ :‬كانت أسداً‪ ،‬وقيل‪ :‬ثُعباناً‪ ،‬فأخذ حجراً‪ ،‬وقال‪ :‬اللهم‬
‫أحب إليك من الساحر فاقتلها‪ ،‬فقتلها‪ ،‬وكان الغالم تعلَّم من الساحر اسم هللا‬‫إن كان الراهب ّ‬
‫األعظم‪ ،‬فكان الغالم يُبرىء األكمه واألبرص‪ ،‬ويشفي‪ l‬من األدواء‪ ،‬فعمي جليس المل ُك فأبراه‪،‬‬
‫فعذبه‪ ،‬فد ّل على الغالم‪ّ ،‬‬
‫فعذبه‪،‬‬ ‫وأبصره الملكُ‪ ،‬فقال‪َ :‬من ر َّد عليك بصرك؟ فقال‪ :‬ربي‪ ،‬فغضب‪ّ ،‬‬
‫فد ّل على الراهب‪ ،‬فلم يرجع عن دينه‪ ،‬فق ّد بالمنشار‪ ،‬وأبى الغال ُم‪ ،‬فذهب به إلى جبل ليطرح من‬
‫فلججوا به‬ ‫ذروته فدعا‪ ،‬فرجف بالقوم‪ ،‬فطاحوا‪ ،‬ونجا‪ ،‬فذهب به إلى قُ ْرقُورة ـ وهي السفينة ـ َ‬
‫الناس‬
‫َ‬ ‫ليغرقوه‪ ،‬فدعا‪ ،‬فانكفأتْ بهم السفينةُ‪ l،‬فغرقوا‪ ،‬ونجا‪ ،‬فقال للملك‪ :‬لستَ بقاتلي حتى تجمع‬
‫رب الغالم‪ ،‬ثم ترميني‪l‬‬ ‫في صعيد‪ ،‬وتصلبني‪ l‬على جذع‪ ،‬وتأخذ سهما ً من كنانتي‪ l،‬وتقول‪ :‬بسم هللا ّ‬
‫برب الغالم‪ ،‬فقيل للملك‪:‬‬ ‫به‪ ،‬فرماه فوقع في صدغه‪ ،‬فوضع يده عليه ومات‪ .‬فقال الناس‪ :‬آمنا ّ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫نزل بك ما كنت تحذر‪ ،‬فخ ّد أخدوداً‪ ،‬فمألها ناراً‪ ،‬ف َمن لم يرجع عن دينه طرحه فيها‪ ،‬حتى جاءت‬
‫صبي‪ l،‬فتقاعست‪ ،‬فقال الصب ّي‪ :‬يا أماه! اصبري‪ ،‬فإنك على الحق‪ ،‬فاقتحمت بصبيها‪.‬‬‫ٌّ‬ ‫امرأة معها‬
‫وقيل لها‪ :‬قعي وال تنافقي‪ ،‬ما هي إالّ غميضة " والحديث في صحيح مسلم‪.‬‬

‫واسم الغالم‪ :‬عبد هللا بن الثامر‪ ،‬واسم الراهب‪ :‬فيميون‪ ،‬واسم الملك‪ :‬ذو نواس‪ .‬وقد ذكر القصة‬
‫الكالعي بتمامها‪ .‬وقيل‪ :‬تعددت قضية األخدود‪ ،‬فكانت واحدة بنجران باليمن‪ ،‬واألخرى بالشام‪،‬‬
‫واألخرى بفارس‪ ،‬فنزل القرآن في الذي بنجران‪ .‬انظر التثعلبي‪ .‬قال سعيد بن المسيب‪ :‬كنا عند‬
‫ْغه كما قتل‪،‬‬
‫صد ِ‬
‫صبعه على ُ‬‫عمر‪ ،‬إذ ورد عليه أنهم وجدوا ذلك الغالم حين حفروا خربة‪ ،‬وأُ ْ‬
‫فكلما مدت يده رجعت مكانها‪ ،‬فكتب عمر‪ :‬أن واروه حيث وجدتموه‪ .‬هـ‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬النا ِر }؛ بدل اشتمال من " األخدود " فحذف الضمير‪ ،‬اي‪ :‬فيه‪ ،‬وقيل‪ :‬قاعدة‬
‫وصفٌ لها بغاية العظم‪ ،‬وارتفاع اللهب‪ ،‬وكثرة ما يوجبه‪ l‬من‬ ‫الضمير أغلبية‪ ،‬و { ذات الوقود } َ‬
‫الحطب وأبدان الناس‪ { ،‬إِذ هم عليها قعو ٌد }؛ ظرف لقُتل‪ ،‬أي‪ :‬لُعنوا حين ح ّرقوا المؤمنين‬
‫بالنار‪ ،‬قاعدين عليها في مكان مشرف‪ l‬عليها من جنبات األخدود‪ { ،‬وهم على ما يفعلون‬
‫صر فيما‬‫بالمؤمنين } من اإلحراق { شُهو ٌد } يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنَّ أحداً منهم لم يُقَ ِّ‬
‫أمر به‪ ،‬وف ّوض إليه من التعذيب‪ ،‬أو‪ ::‬إنهم { شهود } يشهدون بما فعلوا بالمؤمنين يوم‬
‫القيامة‪ ،‬يوم تشهد عليهم ألسنتُهم‪ ،‬وقيل‪ " :‬على " بمعنى " مع " أي‪ :‬وهم مع ما يفعلون‬
‫بالمؤمنين من العذاب حضور‪ ،‬وال يَرقّون لهم‪ ،‬لغاية قسوة قلوبهم‪.‬‬
‫وهذا هو الذي يستدعيه النظم الكريم‪ ،‬وتنطق به الروايات المشهورة‪.‬‬

‫وقد ُروي أنَّ الجبابرة ل ّما ألقوا بالمؤمنين في النار‪ ،‬وهم قعود عليها‪ ،‬علقت بهم النار‪،‬‬
‫ونجا هللاُ المؤمنين سالمين‪ ،‬وإلى هذا القول ذهب الربي ُع بن أنس والواحدين وعلى‬
‫فاحترقوا‪ّ ،‬‬
‫ذلك حمال قوله تعالى‪ { :‬ولهم عذاب الحريق }‪.‬‬

‫{ وما نَقَ ُموا منهم } أي‪ :‬وما عابوا منهم وأنكروا عليهم‪ ،‬يقال‪ :‬نقم ـ بالفتح والكسر‪ :‬عاب‪ ،‬أي‪:‬‬
‫عابوا منهم { إِالَّ أن يؤمنوا باهلل } وهذا كقول الشاعر‪:‬‬

‫بهن فُلو ٌل من قِ َراع الكتائ ِ‬


‫ب‬ ‫ب فيهم غير أنَّ سيوفهم‬ ‫وال َع ْي َ‬
‫وكقوله تعالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫{ الَّ ِذينَ أُ ْخ ِر ُجو ْا ِمن ِديَا ِر ِهم بِ َغ ْي ِر َح ٍّ‬
‫ق إِالَّ أن يَقُولُو ْا َر ُّبنَا هَّللا ُ }‬
‫[الحج‪ ]40:‬وعبّر بلفظ المضارع‪ ،‬ولم يقل‪ :‬إالَّ أن آمنوا‪ ،‬مع أنَّ القصة قد وقعت‪ ،‬إلفادة أنَّ‬
‫التعذيب إنما كان دوامهم على اإليمان‪ ،‬ولو كفروا بالرجوع عن اإليمان في المستقبل لم‬
‫ق بها أن يؤمن به‪ ،‬وهو‬ ‫يعذبوهم‪ .‬وقوله تعالى‪ { :‬العزي ِز الحمي ِد } ‪ ،‬ذكر األوصاف الذي يستح ّ‬
‫كونه عزيزاً غالبا ً قادراً‪ ،‬يُخشى عقابه‪ ،‬حميداً منعماً‪ ،‬يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه‪،‬‬
‫ليقرر أنَّ وصف اإليمان الذي عابوا منهم وصف عظي ٌم‪ ،‬له جاللة‪ ،‬وأنَّ َمن رام صاحبه باالنتقام‬
‫والعيب كان مبطالً مبالغا ً في الغي‪ ،‬يستحق أن ينتقم منه‪ l‬بعذاب ال يُقادر قدره‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ت واألرض } فكل َمن فيها يحق عليه عبادته والخضوع له‪ { ،‬وهللاُ على‬ ‫{ الذي له ملك السموا ِ‬
‫كل شي ٍء شهي ٌد } وعيد لهم شديد‪ ،‬يعني‪ :‬أنه تعالى َعلِ َم بما فعلوا وسيجازيهم عليه‪.‬‬

‫{ إِنَّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } أي‪ :‬محقوهم في دينهم ليرجعوا عنه‪ ،‬والمراد بهم‪ :‬إ ّما‬
‫لوهم في ذلك‬‫أصحاب األخدود خاصة‪ ،‬وبالمفتونين‪ :‬المطروحين في األخدود‪ ،‬وإ ّما الذين بَ ْ‬
‫باإلذاية والتعذيب على اإلطالق‪ ،‬وهم داخلون في جملتهم دخوالً أولياً‪ .‬قال ابن عطية‪ :‬األشبه أنَّ‬
‫المراد بهؤالء قريش‪ ،‬حيث طانوا يُ َع َّذبون َمن أسلم‪ ،‬ويقويه بعض التقوية‪ :‬قوله تعالى‪ { :‬ثم لم‬
‫يتوبوا } ألنه ُروي‪ :‬أنّ أصحاب األخدود ماتوا على كفرهم‪ ،‬وأ ّما قريش فكان منهم َمن تاب بعد‬
‫عذاب الحريق } في‬ ‫ُ‬ ‫عذاب جهنَّ َم } في اآلخرة لكفرهم‪ { ،‬ولهم‬
‫ُ‬ ‫نزول اآلية‪ .‬هـ‪ .‬مختصراً‪ { .‬فلهم‬
‫الدنيا لِما تقدّم أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم‪ ،‬أو‪ :‬عذاب الحريق‪ :‬نار أخرى عظيمة تحرقهم‬
‫في اآلخرة‪ ،‬لسبب فتنتهم للمؤمنين‪ .‬والجملة‪ :‬خبر " إن " ودخلت الفاء لتضمين المبتدأ معنى‬
‫ض َر َر في نسخة بـ " إنَّ " وإن خالف في ذلك األخفش‪.‬‬
‫الشرط‪ ،‬وال َ‬
‫اإلشارة‪ :‬والسماء ذات البروج‪ ،‬أي‪ :‬سماء الحقائق‪ ،‬صاحبة المنازل التي تنزل فيها السالك في‬
‫ترقِّبه إليها‪َ ،‬من أرض الشرائع‪ ،‬كمقام التوبة‪ ،‬ثم الصبر‪ ،‬ثم الورع‪ ،‬والزهد‪ ،‬ثم الت ُّكل‪ ،‬ثم الرضا‬
‫والتسليم‪ ،‬ثم المراقبة‪ ،‬ثم المشاهدة‪ ،‬واليوم الموعود يوم الفتح األكبر‪ ،‬وهو وقت الخروج من‬
‫شهود الكون إلى شهود المك ِّون‪ ،‬وشاهد هو الذي يشهد ذات الحق عياناً‪ ،‬ومشهود‪ ،‬هو عظمة‬
‫الذات العلية وأسرارها وأنوارها‪ .‬وقال الورتجبي‪ l:‬الشاهد هو والمشهود هو‪ ،‬يرى نفسه بنفسه‪،‬‬
‫أي‪ :‬ال يراه أحد بالحقيقة سواه‪ ،‬وأيضاً‪ :‬الشاهد هو‪ ،‬إذا تجلّى بتجلِّي الجمال والحس‪ ،‬والمشهود‬
‫قلوب العارفين شا َهدَها بنعت الكشف‪ ،‬وأيضاً‪ :‬اشاهد هو قلوب المحبين‪ ،‬والمشهود لقاؤه‪ ،‬وهو‬
‫أصحاب األخدود‪ ،‬وهم‬
‫ُ‬ ‫شاهدهم وهو مشهودهم‪ ،‬هو شاهد العارف والعارف شاهده‪ .‬هـ‪ .‬قُتل‬
‫المعذبون ألهل التوجه‪ ،‬وما نقموا منهم إالّ‬ ‫ِّ‬ ‫الصادُّون عن طريق الحق أينما كانوا وكيف كانوا‪،‬‬
‫طلب كمال اإليمان‪ ،‬وتحقيق اإليقان‪ .‬إنّ الذي فتنوا أهل التوجه ثم لم يتوبوا فلهم عذاب البُعد‬
‫ولهم عذاب االحتراق بالحرص والتعب والخوف والجزع‪.‬‬

‫ت لَ ُه ْم َجنَّاتٌ ت َْج ِري ِمن ت َْحتِ َها األَ ْن َها ُر َذلِ َك ا ْلفَ ْو ُز ا ْل َكبِي ُر } * {‬ ‫*{ إِنَّ الَّ ِذينَ آ َمنُو ْا َو َع ِملُو ْا ال َّ‬
‫صالِ َحا ِ‬
‫ش ِدي ٌد } * { إِنَّهُ ُه َو يُ ْب ِدى ُء َويُ ِعي ُد } * { َو ُه َو ا ْل َغفُو ُر ا ْل َودُو ُد } * { ُذو ا ْل َع ْر ِ‬
‫ش‬ ‫ش َربِّكَ لَ َ‬ ‫إِنَّ بَ ْط َ‬
‫يث ا ْل ُجنُو ِد } * { فِ ْرع َْونَ َوثَ ُمو َد } * { بَ ِل الَّ ِذينَ‬ ‫ا ْل َم ِجي ُد } * { فَعَّا ٌل لِّ َما يُ ِري ُد } * { َه ُل أَتَا َك َح ِد ُ‬
‫ح َّم ْحفُ ٍ‬
‫وظ }‬ ‫ب } * { َوهَّللا ُ ِمن َو َرآئِ ِه ْم ُّم ِحيطٌ } * { بَ ْل ه َُو قُ ْرآنٌ َّم ِجي ٌد } * { فِي لَ ْو ٍ‬ ‫َكفَ ُرو ْا فِي تَ ْك ِذي ٍ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬إِنّ الذين آمنوا } وصبروا على اإليمان { و َع ِملوا الصالحات } من‬
‫المفتونين وغيرهم { لهم } بسبب ذلك اإليمان والعمل الصالح { جناتٌ تجري من تحتها األنها ُر }‬
‫‪ ،‬إن أُريد بالجنات األشجار فجريان األنهار من تحتها ظاهر‪ ،‬وإن أُريد بها األرض المشتملة‬
‫عليها فالتحتية باعتبار جريها الظاهرة‪ ،‬فإنَّ أشجارها ساترة لساحتها‪ ،‬كما يعرب عنه اسم‬
‫الجنة‪ { .‬ذلك هو الفو ُز الكبير } الذي تصغر عنده الدنيا وما فيها من فنون الرغائب بحذافيرها‪،‬‬
‫والفوز‪ :‬النجاة من الشر والظفر بالخير‪ .‬واإلشارة إ ّما إلى الجنة الموصوفة بما ذكر‪ ,‬والتذكير‬
‫لتأويلها بما ذكر‪ ،‬وإ ّما إلى ما يفيده قوله‪ { :‬لهم جنات‪ } ...‬الخ‪ ،‬من حيازتهم لها‪ ،‬فإنَّ حصولها‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫لهم مستلزم لحيازتهم لها قطعاً‪ ،‬وما فيه من البُعد لإليذان بعلو درجته‪ ،‬وبُعد منزلته في الفضل‪.‬‬
‫ومحله‪ :‬الرفع‪ ،‬وخبره‪ :‬ما بعده‪.‬‬

‫بطش ربك لشدي ٌد } ‪ ،‬البطش‪ :‬األخذ بعنف‪ ،‬فإذا ُوصف بالشدة فقد تفاقم وتعاظم أمره‪.‬‬ ‫َ‬ ‫{ إِنَّ‬
‫والمراد‪ :‬أخذ الظلمة والجبابرة بالعذاب واالنتقام‪ ،‬وهو استئناف‪ ،‬خواطب به النبي صلى هللا‬
‫التعرض لعنوان‬‫ُّ‬ ‫عليه وسلم إيذانا ً بأنَّ لكفار قوهه نصيبا ً موفوراً من مضمونه‪ ،‬كما يُنبىء عنه‬
‫الربوبية مع اإلضافة لضميره صلى هللا عليه وسلم‪ { .‬إِنه هو يُبدىء ويُعيد } أي‪ :‬هو يُبدىء‬
‫دخل ألحد في شيء منها‪ .‬ففيه مزيد تقرير لشدة بطشه‪ ،‬فقد د ّل‬ ‫الخلق وهو يُعيده‪ ،‬من غير ٍ‬
‫باقتداره على البدء واإلعادة على شدة بطشه‪ ،‬أو‪ :‬هو يُبدىء البطش بالكفرة في الدنيا ويُعيده‬
‫في اآلخرة‪ { .‬وهو الغفو ُر } الساتر للعيوب‪ ،‬الغافر للذنوب‪ { ،‬الودو ُد } المحب ألوليائه‪ ،‬أو‪:‬‬
‫الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود‪ ،‬من إعطائهم ما أرادوا‪ { ،‬ذو العرش } أي‪ :‬خالقه ومالكه‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬المراد بالعرش‪ :‬ال ُملك‪ ،‬أي‪ :‬ذو السلطة القاهرة { المجي ُد } بالجر صفة للعرش‪ ،‬وبالرفع‬
‫صفة ُ‬
‫لذو‪ ،‬أي‪ :‬العظيم في ذاته‪ ،‬فإنه واجب الوجود‪ ،‬تام القدرة { فعَّا ٌل لما يُريد } بحيث ال يتخلّف‬
‫عن إرادته مراد من أفعاله تعالى وأفعال عباده‪ ،‬ففيه داللة على خلق أفعال العباد‪ ،‬وهو خبر عن‬
‫محذوف‪.‬‬

‫حديث الجنود } أي‪ :‬قد أتاك حديث الطاغية واألمم الخالية‪ .‬وهو استفهام تشويق‬ ‫ُ‬ ‫{ هل أتاك‬
‫مقرر لشدّة بشطه تعالى بالظَلَمة العصاة‪ ,‬والكفرة العتاة‪ .‬وكونه فعال لما يُريد مع تسليته‪ l‬صلى‬
‫هللا عليه وسلم بأنه سيصيب‪ l‬قومه صلى هللا عليه وسلم ما أصاب تلك الجنود‪ { .‬فرعونَ‬
‫وثمو َد }؛ بدل من الجنود؛ ألنَّ المراد بفرعون هو وقومه‪ .‬والمراد بحديثهم‪ :‬ما صدر منهم من‬
‫التمادي على الكفر والضالل‪ ،‬وما ح ّل بهم من العذاب والنكال‪ ،‬أي‪ :‬قد أتاك حديثهم‪ ،‬وعرفت ما‬
‫وحذرهم أن يُصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فعل بهم‪ ،‬فذ ّكر قومك ببطش هللا تعالى‪،‬‬

‫ب } ‪ ،‬إضراب عن مماثلتهم‪ ،‬وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر‬ ‫{ بل الذين كفروا في تكذي ٍ‬
‫والطغيان‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬ليسوا مثلهم في ذلك‪ ،‬بل هم أشد منهم في استحقاق العذاب واستيجاب‬
‫ب شديد للقرآن الكريم‪ ،‬أو كأنه قيل‪ :‬ليست جنايتهم مجرد عدم‬ ‫مستقرون‪ l‬في تكذي ٍ‬
‫ُّ‬ ‫العقاب‪ ،‬فإنهم‬
‫التذ ُّكر واالتعاظ بما سمعوا من حديثهم‪ ،‬بل هم مع ذلك في تكذيب شدي ٍد للقرآن الناطق بذلك‪ ،‬لكن‬
‫ال أنهم يكذبون بوقوع تلك الحادثات‪ ،‬بل لكون ما نطق به قرآنا ً من عند هللا تعالى مع وضوح‬
‫أمره‪ ،‬وظهور حاله‪ ،‬بالبينات الباهرة‪.‬‬
‫وهللاُ من ورائهم محيط }؛ عالم بأحوالهم‪ ،‬قادر عليهم‪ ،‬ال يفوتونه‪ .‬وهو تمثيل‪ l‬لعدم نجاتهم من‬
‫بأس هللا تعالى بعدم فوات المحاط المحيط‪.‬‬

‫كذبوا به قرآن شريف عالي الطبقة في الكتب السماوية‪،‬‬‫{ بل هو قرآن مجيد } أي‪ :‬بل هذا الذي ّ‬
‫وفي نظمه وإعجازه‪ ،‬وهو رد لكفرهم وإبطال لتكذيبهم‪ ،‬وتحقيق للحق‪ ،‬أي‪ :‬ليس األمر كما‬
‫قالوا‪ ،‬بل هو كتاب شريف { في لوح محفوظ } من التحريف والتبديل‪ .‬وقرأ نافع بالرفع صفة‬
‫للقرآن‪ ،‬والباقي بالجر صفة للوح‪ ،‬أي‪ :‬محفوظ من وصول الشياطين إليه‪ .‬واللوح عند الحسن‪:‬‬
‫شيء يلوح للمالئكة يقرؤونه‪ ،‬وعن ابن عباس رضي هللا عنه‪ :‬هو من د ّرة بيضاء‪ ،‬طوله ما بين‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫السماء واألرض‪ ،‬وعرضه ما بين المشرق والمغرب‪ ،‬قلمه نور‪ ،‬وكل شي ٍء فيه مسطور‪ .‬قال‬
‫مقاتل‪ :‬هو عن يمين العرش‪ ،‬وقيل‪ :‬أعاله معقود بالعرش‪ ،‬وأسفله في ِح ْج ِر ملَك كريم هـ‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬إنَّ الذين آمنوا إيمانا ً حقيقيًّا شهوديًّا‪ ،‬وعملوا الصالحات بأيدي القلوب واألرواح‬
‫واألسرار‪ ،‬يعني العمل الباطني‪ ،‬لهم جنات المعارف‪ ،‬تجري من تحتها أنهار العلوم وال ِحكم‪ ،‬ذلك‬
‫هو الفوز الكبير والسعادة العظمى‪ .‬إنَّ بطش ربك بأهل اإلنكار الجاحدين ألهل الخصوصية‬
‫ش ِديد‪ ،‬وهو غم الحجاب وسوء الحساب‪ ،‬إنه هو يُبدىء ويُعيد‪ ،‬يُبدىء الحجاب للمحجوبين‪،‬‬ ‫لَ َ‬
‫ويُعيد الشهود للعارفين‪ ،‬وهو الغفور للتائبين المتوجهين‪ ،‬الودود للسائرين المحبين‪ .‬قال‬
‫الورتجبي‪ l:‬الغفور للجنايات‪ ،‬الودود بكشف المشاهدات‪ .‬هـ‪ .‬ذو العرش‪ :‬ذو السلطة القاهرة على‬
‫العوالم العلوية والسفلية‪ .‬قال الورتجبي‪ :‬وصف نفسه بإيجاد العرش‪ ،‬ثم وصف نفسه بالشرف‬
‫والتنزيه‪ ،‬أي‪ :‬بقوله‪ { :‬المجيد } إعالما ً بأنه كان وال مكان‪ ،‬واآلن ليس في المكان‪ ،‬إذ جالله‬
‫وجماله من َّزه عن مماسة المكان‪ ،‬والحاجة إلى الحدثان‪ .‬هـ‪ .‬قال القشيري‪ l:‬ويجوز أن يكون‬
‫المراد بالعرش‪ :‬قلب العارف المستَوي للرحمن‪ ،‬كما جاء الحديث‪ " :‬قلب العارف عرش هللا "‬
‫هـ‪.‬‬

‫قرب البعيد ويُبعد القريب إن شاء‪ .‬قال القشيري‪ :‬إنْ أراد أن يجعل أرباب األرواح‬ ‫ف ّعال لما يُريد‪ ،‬يُ ِّ‬
‫من أرباب النفوس فهو قادر على ذلك‪ ،‬وهو عادل في ذلك‪ ،‬وإن أراد عكس ذلك فهو كذلك‪ .‬هـ‪.‬‬
‫فلذا كان العارف ال يزول اضطراره‪ ،‬وال يكون مع غير هللا قراره‪ ،‬هل أتاك حديث الجنود‪ ،‬أي‪:‬‬
‫سرها بفرعون‬‫جنود النفس التي تُحارب به الروح لتهوي بها إلى الحضيض األسفل‪ ،‬ثم ف ّ‬
‫الهوى‪ ،‬وثمود حب الدنيا‪ ،‬والطبع الدني‪ .‬بل الذين كفروا بطريق الخصوص في تكذيب‪ ،‬لهذا‬
‫كله‪ ،‬فال يُفرقون بين الروح والنفس‪ ،‬وال بين الفرق والجمع‪ ،‬وهللا من ورائهم محيط‪ ،‬ال يفوته‬
‫شيء‪ ،‬إلحاطة المحيط باألشياء ذاتا ً وصفاتا ً وفعالً‪ ،‬بل هو ـ أي‪ :‬ما يوحي إلى األسرار الصافية‪،‬‬
‫واألرواح الطاهرة ـ قرآن مجيد في لوح محفوظ عن الخواطر والهواجس الظلمانية‪ ،‬وهو قلب‬
‫العارف‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‬

‫‪#‬سورة الطارق §‪#‬‬

‫س لَّ َّما‬‫ب } * { إِن ُك ُّل نَ ْف ٍ‬ ‫ق } * { النَّ ْج ُم الثَّاقِ ُ‬ ‫ق } * { َو َمآ أَد َْرا َك َما الطَّا ِر ُ‬ ‫س َمآ ِء َوالطَّا ِر ِ‬ ‫*{ َوال َّ‬
‫ق } * { يَ ْخ ُر ُج ِمن بَ ْي ِن‬‫ق ِمن َّمآ ٍء دَافِ ٍ‬ ‫ق } * { ُخلِ َ‬ ‫سانُ ِم َّم ُخلِ َ‬ ‫َعلَ ْي َها َحافِظٌ } * { فَ ْليَنظُ ِر ا ِإلن َ‬
‫س َرآئِ ُر } * { فَ َما لَهُ ِمن قُ َّو ٍة َوالَ‬ ‫ب } * { إِنَّهُ َعلَىا َر ْج ِع ِه لَقَا ِد ٌر } * { يَ ْو َم تُ ْبلَىا ال َّ‬ ‫ب َوالتَّ َرآئِ ِ‬ ‫الص ْل ِ‬
‫ُّ‬
‫نَ ِ‬
‫اص ٍر }‬

‫والطارق } ‪ ،‬عظّم تعالى قَدْر السما ِء في أعين الخلق؛ لكونها‬


‫ِ‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬والسما ِء‬
‫معدن رزقهم‪ ،‬ومسكن مالئكته‪ ،‬وفيها خلق الجنّة‪ ،‬فأقسم بها وبالطارق‪ ،‬والمراد‪ :‬جنس النجوم‪،‬‬
‫أو جنس الش ُهب التي يُرجم بها‪ ،‬ل ِعظم منفعتها‪ ،‬ثم عظَّمه ون ّوه به‪ ،‬فقال‪ { :‬وما أدراك ما الطار ُ‬
‫ق‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫فخمه باإلقسام به‪ ،‬تنبيها ً على رفعة قدره بحيث ال يناله إدراك الخلق‪ ،‬فال بد من تلقَّيه‬‫} بعد أن ّ‬
‫الثاقب }؛ المضيء‪،‬‬‫ُ‬ ‫سره بقوله‪ { :‬النج ُم‬ ‫من الخالّق العليم‪ ،‬أي‪ :‬أ ّ‬
‫ي شيء أعلمك بالطارق‪ ،‬ثم ف ّ‬
‫فكأنّه يثقب الظالم بضوئه فينفذ فيه‪ ،‬ووصف بالطارق ألنه يبدو بالليل‪ ،‬كما يُقال لآلتي ليالً‪:‬‬
‫طارق‪ ،‬أو‪ :‬ألنه يطرق الجنِّ َّي‪ ،‬أي‪ :‬يُص ّكه‪ .‬وقيل‪ :‬المراد به كوكب معهود‪ ،‬قيل‪:‬هو الثريا‪ ،‬وقيل‬
‫ُزحل‪ ،‬وقيل الجدي‪.‬‬

‫س ل َّما عليها حافظٌ } ‪ " ،‬إن " نافية‪ ،‬و " ل ّما " بمعنى‬ ‫سم عليه‪ ،‬فقال‪ { :‬إِن ُك ُّل نف ٍ‬ ‫ثم ذكر المق َ‬
‫" إالّ " في قراءة َمن شدّدها‪ ،‬وهي لغة هذيل‪ ,‬يقولون‪ " :‬نشدتك هللا ل ّما قمت " أي‪ :‬إالّ قمت‪،‬‬
‫أي‪ :‬ما كل نفس إالّ عليها حافظ مهيمن رقيب‪ ،‬وهو هللا ع ّز وجل‪ ،‬كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫{ َو َكانَ هَّللا ُ َعلَىا ُك ِّل ش َْي ٍء َّرقِيبا ً }‬
‫[األحزاب‪ ]52:‬أو‪َ :‬من يحفظ عملها‪ ،‬ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر‪ ,‬كما في قوله‬
‫تعالى‪:‬‬
‫{ َوإِنَّ َعلَ ْي ُك ْم لَ َحافِ ِظينَ (‪} )10‬‬
‫[االنفطار‪ ]10:‬أو‪َ :‬من يحفظها من اآلفات‪ ،‬ويذب عنها‪ ,‬كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫{ لَهُ ُم َعقِّبَاتٌ ِّمن بَ ْي ِن يَ َد ْي ِه َو ِمنْ َخ ْلفِ ِه يَ ْحفَظُونَهُ ِمنْ أَ ْم ِر هَّللا ِ }‬
‫[الرعد‪ ،]11:‬وفي الحديث عنه صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬و ِّكل بالمؤمن ستون ومائة ملك‪ ،‬يذبون‬
‫الذباب‪ ،‬ولو وكل المرء إلى نفسه‪ l‬طرفة عين‬ ‫َ‬ ‫عنه ما لم يُقدّر عليه‪ ،‬كما يذب عن قصعة العسل‬
‫الختطفته الشياطين " ثم قرأ صلى هللا عليه وسلم‪ { :‬إن كل نَ ْفس‪ } ..‬الخ‪ .‬و " ما "‪ :‬صلة في‬
‫قراءة من خفف‪ ،‬أي‪ :‬إنه‪ ،‬أي‪ :‬األمر والشأن كل نفس لعليها حافظ‪.‬‬

‫{ فلينظر اإلنسانُ ِم َّم ُخلق } ‪ ،‬ل ّما ذكر أنَّ على كل نف ٍ‬


‫س حافظاً‪ ،‬أمره بالنظر في أ ّول نشأته‪،‬‬
‫وبالتف ُّكر فيها حق التف ُّكر‪ ،‬حتى يتضح له أنَّ َمن قَدَر على إنشائه من موا ٍد لم تشم رائحة الحياة‬
‫قط‪ ،‬فهو قادر على إعادته‪ ،‬فيعمل ليوم اإلعادة والجزاء ما ينفعه يومئ ٍذ ويُجزى به‪ ،‬وال يملي‬
‫الجمل‪ ،‬أي‪ :‬إذا علم أنَّ على كل إنسان‬
‫على حافظه ما يُرديه‪ ،‬فالفاء فصيحة تُنبىء عن هذه ُ‬
‫حفظة يحفظونه من اآلفات‪ ،‬أو يكتبون أعماله‪ ،‬خيره وشرها‪ ،‬دقيقها وجليلها‪ ،‬وأنه لم يُخلَق‬
‫سدى‪ ،‬فلينظر في أول نشأته حتى يتحقق أنَّ له صانعاً‪ ،‬فيعبده وال يشرك به‬ ‫عبثاً‪ ،‬ولم يُترك ُ‬
‫دافق } ‪ ،‬فهو استئناف بياني‪ l،‬كأنه قيل‪ِ :‬م َّم‬
‫ٍ‬ ‫سر أصل نشأته فقال‪ُ { :‬خلق من ماء‬ ‫شيئاً‪ ،‬ثم ف َّ‬
‫صب فيه دف ٌع وسرعة‪ ،‬والدفق في الحقيقة لصاحبه‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫ُخلق؟ فقال‪ُ :‬خلق من ماء دافق‪ ،‬والدفق‪:‬‬
‫واالستناد إلى الماء مجاز‪ ،‬ولم يقل‪ :‬من ماءين؛ المتزاجهما في الرحم واتحادهما‪.‬‬
‫صلب الرجل وترائب المرأة‪ ،‬وهي ِعظام صدرها‪ ،‬حيث‬ ‫صلب والترائب } أي‪ُ :‬‬ ‫يَخرج من بين ال ُ‬
‫الرجل‪ ،‬واللحم والدم من المرأة‪ ،‬وقال بعض الحكماء‪:‬‬ ‫تكون القالدة‪ ،‬وقيل‪ :‬العظم والعصب من َ‬
‫إنَّ النظفة تتولد من فضل الهضم الرابع‪ ،‬وتنفصل‪ l‬عن جميع األعضاء‪ ،‬حتى تستعد ألنّ يتولّد‬
‫منها مثل تلك األعضاء ومقرها عروق ُملتف بعضها على بعض عند البيضت ْين‪ ،‬فالدماغ أعظم‬
‫معونة في توليدها‪ ،‬ولذلك كان اإلفراط في الجماع يُورث الضعف فيه‪ ،‬وله خليفة هو النخاع‪،‬‬
‫وهو في الصلب‪ ،‬وفيه شُعب كثيرة نازلة إلى الترائب‪ ،‬وهما أقرب إلى أوعية ال َمني‪ ،‬فلذا ُخ ّ‬
‫صا‬
‫بالذكر‪ ،‬فالمعنى على هذا‪ :‬يخرج من بين صلب الرجل وترائبه وصلب المرأة وترائبها‪ ،‬وهو‬
‫األحسن‪ ،‬وبه صدر ابن جزي‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫{ إِنه } أي‪ :‬الخالق‪ ،‬لداللة " ُخلِق " عليه‪ ،‬أي‪ :‬إنَّ الذي خلق اإلنسانَ ابتداء من نُطفة‪ { ،‬على‬
‫وجيء بـ " إنّ " والالم وتنكير الخبر ليدل‬ ‫َر ْج ِعه }؛ على إعادته بعد موته { لقاد ٌر } بيّن القدرة‪ِ .‬‬
‫على رد بليغ على َمن يدّعي أنه ال حشر وال بعث‪ ،‬حتى كأنه ال تتعلق القدرة بشيء إالَّ بإعادة‬
‫األرواح إلى األجساد‪ { ،‬يو َم تُبلى السرائ ُر } أي‪ :‬تكشف ويُتصفَّح ما فيها من العقائد والنيات‬
‫وغيرها‪ ،‬وما أخفي من األعمال‪ ،‬ويتبين ما طاب منها وما خبث‪ .‬والسرائر‪ :‬القلوب‪ ،‬هو ظرف لـ‬
‫" َر ْج ِعه " ‪ ،‬أي‪ :‬إنه لقادر على رده بالبعث في هذا اليوم الذي تُفضح‪ l‬فيه السرائر‪ { ،‬فما له ِمن‬
‫قو ٍة } في نفسه يمتنع بها { وال ناص ٍر } ينتصر به ويدفع عنه غير هللا تعالى‪ .‬ول ّما كان رفع‬
‫المكان في الدنيا إ ّما بقوة األنسان‪ ،‬وإ ّما بنصر غيره له‪ ،‬أخبر هللا بنفيهما يوم القيامة‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬أقسم تعالى بقلب العارف‪ ،‬ألنه سما ٌء لشمس العرفان وقم ِر اإليمان ونجوم العلم‪ ،‬وبما‬
‫يطرقه من الواردات اإللهية والنفحات القدسية‪ ,‬ثم ن ّوه بذلك الطارق‪ ،‬فقال‪ { :‬وما أدراك ما‬
‫الطارق النجم الثاقب } أي‪ :‬هو نجم العلم الثاقب لظلمة الجهل‪ ،‬إ ّما جهل الشرائع أو جهل‬
‫الحقائق‪ .‬إن ُك ُّل نفس ل ّما عليها حافظ‪ ،‬وهو هللا‪ ،‬فإنه رقيب على الظواهر والبواطن‪ ،‬ففيه حث‬
‫على تدقيق المراقبة ظاهراً وباطناً‪ .‬فلينظر اإلنسانُ ِم َّم ُخلق في عالم الحكمة من جهة بشريته‪,‬‬
‫ُخلق من ماء دافق‪ ،‬يخرج من محل البول ويقع في محل البول‪ ،‬فإذا نظر إلى أصل بشريته‪l‬‬
‫تواضع وانكسر‪ ،‬وفي ذلك ِع ُّزه وشرفُه‪َ ،‬من تواضع رفعه هللا‪ .‬وفيه روح سماوية قدسية‪ ،‬إذا‬
‫اعتنى بها وز ّكاها‪ ،‬نال عز الدارين وشرف المنزلين " َمن عرف نفسه عرف ربه " فاإلنسان‬
‫والحكم للغالب منهما‪ .‬إنه على رجعه‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫من جهة بشريته أرضي‪ ،‬ومن جهة روحانيته‪ l‬سماوي‪،‬‬
‫أي‪ :‬رده إلى أصله‪ ،‬حين برز من عالم الغيب‪ ،‬بظهور روحه‪ ،‬لقادر‪ ،‬فيصير روحانيًّا سماويًّا‪،‬‬
‫بعد أن كان بشريًّا أرضيًّا‪ ،‬وذلك يوم تُبلى السرائر بإظهار ما فيها من المساوىء‪ ،‬ليقع الدواء‬
‫عليها‪ ،‬فتذهب‪ ،‬ف َمن لم يَفضح نفسه لم يظفر بها‪ ،‬فما لها من قو ٍة على جهادها وإظهار مساوئها‬
‫بين األقران إالّ باهلل‪ ،‬وال ناصر ينصره‪ l‬على الظفر بها إالَّ ِمن هللا‪ ،‬وال حول وال قوة إال باهلل‪.‬‬

‫ص ٌل } * { َو َما ه َو‬ ‫ْع } * { إِنَّهُ لَقَ ْو ٌل فَ ْ‬ ‫صد ِ‬


‫ت ال َّ‬ ‫ض َذا ِ‬ ‫ت ال َّر ْج ِع } * { َواألَ ْر ِ‬ ‫س َمآ ِء َذا ِ‬
‫*{ َوال َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫بِا ْل َه ْز ِل } * { إِنَّ ُه ْم يَ ِكيدُونَ َك ْيداً } * { َوأ ِكي ُد َك ْيداً } * { فَ َم ِّه ِل ا ْل َكافِ ِرينَ أ ْم ِه ْل ُه ْم ُر َو ْيداً }‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬والسما ِء ذات الرجع } أي‪ :‬المطر‪ ،‬ألنه يرجع حينا ً بعد حين‪ ،‬وس َّمته‬
‫صدْع } أي‪ :‬الشق‪ ،‬ألنها تنصدع عن النبات واألشجار‪ ,‬ال‬ ‫العرب بذلك تفاؤالً‪ { ،‬واألر ِ‬
‫ض ذات ال َّ‬
‫بالعيون كما قيل‪ ،‬فإنَّ وصف السماء بالرجع‪ ،‬واألرض بالشق‪ ،‬عند اإلقسام بها على حقيّة‬
‫القرآن الناطق بالبعث؛ لإليماء إلى أنهما في أنفسهما من شواهده‪ ،‬وهو السر في التعبير عنه‬
‫بالرجع والصدع‪ ،‬ألنَّ في تشقُّق األرض بالنبات محاكاة للنشور‪ ،‬حسبما ذكر في مواضع من‬
‫ق والباطل‪،‬‬ ‫ص ٌل }؛ فاصل بين الح ّ‬‫القرآن‪ ،‬ال في تشققها بالعيون‪ { .‬إِنه } أي‪ :‬القرآن { لَقَو ٌل فَ ْ‬
‫كما قيل له‪ :‬فرقاناً‪ ،‬وصفَه بالمصدر‪ ،‬كأنه نفس الفعل‪ { ،‬وما هو بالهز ِل } أي‪ :‬ليس في شيء‬
‫منه شائبة هزل‪ ،‬بل كله جد محض‪ ،‬و ِمن حقه ـ حيث وصفه هللا بذلك ـ أن يكون ُمهابا ً في‬
‫الصدور‪ ،‬معظما ً في القلوب‪ ،‬يرتفع به قارئه وسامعه‪ ،‬ويهتدي به الغواة‪ ،‬وتخضع له رقاب‬
‫ال ُعتاة‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫{ إِنهم } أي‪ :‬أهل مكة { يَكيدون } في إبطال أمره‪ ،‬وإطفاء نوره { كيداً } على قدر طاقتهم‬
‫ستدرجهم إلى الهالك من حيث ال يعلمون‪.‬‬ ‫{ وأكي ُد كيداً } أي‪ :‬أقابلهم بكيد متين ال يمكن رده‪ ،‬فأ ْ‬
‫فسمي جزاء الكيد كيداً‪ ،‬كما سمي جزاء االعتداء والسيئة اعتدا ًء وسيئة‪ ،‬وإن لم يكن اعتدا ًء‬
‫وسيئة‪ l،‬وال يجوز إطالق هذا الوصف على هللا تعالى إالَّ على وجه المشاكلة‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫{ يُ َخا ِدعُونَ هَّللا َ َوه َُو َخا ِد ُع ُه ْم }‬
‫[النساء‪ ]142:‬إلى غير ذلك { فَ َم ِّهل الكافرين } أي‪ :‬ال تدع بهالكهم‪ ،‬وال تشغل باالنتقام منهم‪،‬‬
‫بل اشتغل باهلل يكفِك أمرهم { أم ِهلهم ُرويداً } أي‪ :‬إمهاالً يسيراً‪ ،‬فـ " أم ِهلهم "‪ :‬بدل من " َم ِّهل‬
‫" ‪ ،‬وخالف بين اللفظتين لزيادة التسكين والتصبير‪ .‬و " رويداً "‪ :‬مصدر أرود‪ ,‬بالترخيم‪ ،‬وال‬
‫يتكلم به إالَّ مصغراً‪ ،‬وله في االستعمال وجهان آخران‪ :‬كونه اسم فعل‪ ،‬نحو ُرويد زيداً‪ ،‬وكونه‬
‫حاالً‪ ،‬نحو‪ :‬سار القوم رويداً‪ ،‬أي‪ :‬متمهلين‪.‬‬

‫سلّم ومعراج يصعد إليها‪ ،‬ف َمن ال‬


‫اإلشارة‪ :‬اعلم أنَّ الحقيقة سماء‪ ،‬والشريعة أرض‪ ،‬والطريقة ُ‬
‫سم تعالى بسماء الحقائق‪ ،‬وأرض الشرائع‪ ،‬على‬ ‫طريقة له ال عروج له إلى سماء الحقائق‪ ،‬فأ ْق َ‬
‫حقيّة القرآن‪ ،‬ووصف الحقيقة بالرجع‪ ,‬ألنه يقع الرجوع إليها بالفناء‪ ،‬ووصف أرض الشريعة‬
‫صدْع؛ ألنها تتصدّع عن علوم وأنوار تليق بها‪ ،‬ووصف القرآن بالفصل بين الحق والباطل‪،‬‬ ‫بال َ‬
‫ف َمن طلب الحق من غيره أضلّه هللا‪ .‬ووصفه أيضا ً بالج ّد غير منسوب‪ l‬لشيء من الهزل‪ ،‬فينبغي‬
‫للقارىء عند تالوته أن يكون على حال هيبة وخشوع‪ ،‬ال يمزج قراءته بشيء من الهزل أو‬
‫الضحك‪ ،‬كما يفعله جهلة القراء‪.‬‬

‫ثم أمر بالغيبة‪ l‬عن األعداء‪ ،‬واالشتغال باهلل عنهم بقوله‪ { :‬فَ َم ِّهل الكافرين أمهلهم رويداً } ‪ ،‬قال‬
‫بعض العارفين‪ :‬ال تشتغل قط ب َمن يؤذيك‪ ،‬واشتغل باهلل يرده عنك‪ ،‬فإنه هو الذي ح َّركه عليك‬
‫ليختبر‪ l‬دعواك في الصدق‪ ،‬وقد غلط في هذا خلق كثير‪ ،‬اشتغلوا بإذاية َمن آذاهم‪ ،‬فدام األذى مع‬
‫اإلثم‪ ،‬ولو أنهم رجعوا إلى هللا لكفاهم أمرهم‪ .‬هـ‪.‬‬

‫وباهلل التوفيق‪ .‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم‪.‬‬

‫‪#‬سورة األعلى §‪#‬‬

‫س َّوىا } * { َوالَّ ِذي قَ َّد َر فَ َهدَىا } * { َوالَّ ِذيا أَ ْخ َر َج‬ ‫ق فَ َ‬ ‫س َم َربِّ َك األَ ْعلَىا } * { الَّ ِذي َخلَ َ‬
‫حا ْ‬‫سبِّ ِ‬
‫*{ َ‬
‫ا ْل َم ْرعَىا } * { فَ َج َعلَهُ ُغثَآ ًء أَ ْح َوىا } * { َ‬
‫سنُ ْق ِرئُ َك فَالَ تَن َ‬
‫سىا } * { إِالَّ َما شَآ َء هَّللا ُ إِنَّهُ يَ ْعلَ ُم ا ْل َج ْه َر‬
‫س َرىا }‬ ‫س ُركَ لِ ْليُ ْ‬
‫َو َما يَ ْخفَىا } * { َونُيَ ِّ‬

‫سبّح اس َم ربك } أي‪ :‬ن ّزه اسمه تعالى عن اإللحاد فيه‪ ،‬بالتأويالت‬
‫يقول الحق ج ّل جالله‪َ { :‬‬
‫الزائغة‪ ،‬وعن إطالقه على غيره بوج ٍه يوجب االشتراك في معناه‪ ،‬فال يُسمى به صنم وال وثن وال‬
‫شيء مما سواه تعالى‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{ َه ْل تَ ْعلَ ُم لَهُ َ‬
‫س ِميّا ً }‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫[مريم‪ ]65:‬فال يُقال لغيره تعالى‪ :‬رب وإله‪ ،‬وإذا كان أَ َمر بتنزيه اللفظ فتنزيه الذات أحرى‪ ،‬أو‪:‬‬
‫ن ّزه اسمه عن ذكره ال على وجه اإلجالل واإلعظام‪ ،‬أو‪ :‬ن ّزه ذاته المقدَّسة عما ال يليق بها‪،‬‬
‫فيكون " اسم " صلة‪ .‬و " األعلى " صفة لرب‪ ،‬وهو األظهر‪ .‬وعُلوه تعالى‪ :‬قهريته واقتداره‪،‬‬
‫أو‪ :‬تعاليه عن سمة الحدوث وعن مدارك العقول‪ ،‬فال يُحيط به وصف واصف أو علم عارف‪ ،‬ال‬
‫علو مكان‪ .‬أو صفة لالسم‪ ،‬وعلوه بعلو مسماه‪ ،‬وقيل‪ :‬قل‪ :‬سبحان ربي األعلى‪ .‬ل ّما نزل‪:‬‬
‫س ِم َربِّ َك ا ْل َع ِظ ِ‬
‫يم (‪} )74‬‬ ‫{ فَ َ‬
‫سبِّ ْح بِا ْ‬
‫[الواقعة‪ ]74:‬قال صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬اجعلوه في ركوعكم " فلما نزل‪ { :‬سبح اسم ربك‬
‫األعلى } قال‪ " :‬اجعلوه في سجودكم " وكانوا يقولون في الركوع‪ :‬لك ركعت‪ ،‬وفي السجود‪ :‬لك‬
‫سجدت‪ ،‬فجعلوا هذا مكانه‪.‬‬

‫ت به متفاوتا ً غير متالئم‪ ،‬ولكن‬‫س َّوى خلقه‪ ،‬ولم يأ ِ‬


‫س َّوى } أي‪ :‬خلق كل شيء ف َ‬‫{ الذي خلق ف َ‬
‫س َّواه على ما يتأتى به كماله‬‫على إحكام وإتقان‪ ،‬داللةً على أنه صادر عن عالم حكيم‪ ،‬أو‪َ :‬‬
‫سر‪ l‬به معاشه‪ { ،‬والذي قَدَّر فهدى } أي‪ :‬قّدَّر األشياء في أزله‪ ،‬فهدى كل واحد إلى ما سبق‬ ‫ويتي ّ‬
‫ورزق وأجل‪ ،‬أو‪ :‬ما قَدَّر لكل حيوان ما يُصلحه‪ ،‬فهداه إليه‪ ،‬وع َّرفه وجه‬
‫ٍ‬ ‫له من شقاوة وسعادة‪،‬‬
‫االنتفاع به‪ ،‬فترى الولد بمجرد خروجه من بطن أمه يلتمس غذاه‪ ،‬وكذا سائر الحيوانات‪،‬‬
‫ضا طريًّا‪ { ،‬فجعله‬
‫فسبحان المدبِّر الحكيم‪ { :‬الذي أخرج المرعى } أي‪ :‬أنبت ما ترعاه الدواب غ ًّ‬
‫} بعد ذلك { ُغثا ًء } يابسا ً هشيما ً { أحوى }؛ أسود‪ ،‬فـ " أحوى " صفة ل ُغثاء‪ ،‬وقيل‪ :‬حال من‬
‫المرعى‪ ،‬أي‪ :‬أخرجه أحوى من شدة الخضرة‪ ،‬فمضت مدة‪ ،‬فجعله غثا ًء يابساً‪ .‬وهذه الجمل‬
‫الثالث صفة للرب‪ .‬ول ّما تغايرت الصفات وتباينت‪ l‬أتى لكل صفة بموصول‪ .‬وعطف على كل صلة‬
‫ما يترتب عليها‪.‬‬

‫{ سنُقرئك فال تنسى } أي‪ :‬سنعلمك القرآن فال تنساه‪ ،‬وهو بيان لهدايته‪ l‬تعالى الخاصة برسوله‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬إثر بيان هدايته العامة لكافة مخلوقاته‪ ،‬وهي هدايته صلى هللا عليه وسلم‬
‫لتلقي الوحي‪ ،‬وحفظ القرآن الذي هو أهدى للعالمين‪ ،‬مع ضمانه له‪ .‬والسين إ ّما للتأكيد‪ ،‬وإ ّما‬
‫ألنَّ المراد إقراء ما أوحي إليه حنيئ ٍذ وما سيوحى إليه‪ ،‬فهو وعد كريم باستمرار الوحي في‬
‫ضمن الوعد باإلقراء‪ ،‬أي‪ :‬سنقرئك ما نوحي إليك اآلن وفيما بعد على لسان جبريل عليه السالم‪،‬‬
‫أو‪ :‬سنجعلك قارئا ً فال تنسى أصالً‪ ،‬من قوة الحفظ واإلتقان مع أنك أُ ِّمي ال تدري ما الكتاب وما‬
‫القراءة‪ ،‬ليكون ذلك آية أخرى لك‪ ,‬مع ما في تضاعيف ما تقرأ من اآليات البينات من حيث‬
‫اإلعجاز‪ ،‬ومن حيث اإلخبار بالمغيبات‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬إالَّ ماشاء هللاُ }‪ :‬استثناء مفرغ من أعم المفاعيل‪ ،‬أي‪ :‬فال تنسى شيئا ً من‬
‫األشياء إالَّ ما شاء هللا أن تنساه؛ بأن ننسخ‪ l‬تالوته‪ ،‬وهذا إشارة من هللا لنبيه‪ l‬أن يحفظ عليه‬
‫الوحي‪ ،‬فال يتفلت منه شي ٌء‪ ،‬إالَّ ما شاء هللا نسخه‪ ،‬فيذهب به عن حفظه‪ ،‬ويرفع ُحكمه وتالوته‪.‬‬
‫قال الكواشي‪ :‬إالَّ ما شاء هللاُ أن ننسيكه على سبيل النسخ‪ ،‬أو تنساه ثم تذكره بعد‪ُ .‬روي أنه‬
‫صلى هللا عليه وسلم أسقط آية في الصالة‪ ،‬فظنّ أُبي أنها نُسخت‪ ،‬فسأله‪ ،‬فقال‪ " :‬نسيتها " ‪،‬‬
‫قال الشيخ السنوسي‪ l:‬والمحققون على منع النسيان لشي ٍء من األقوال البالغية قبل التبليغ‪،‬‬
‫إلجماع السلف‪ ،‬وأما بعد التبليغ‪ ،‬فجائز؛ ألنه من األعراض البشرية‪ .‬هـ‪ .‬وفي الحديث‪ " :‬إنما أنا‬
‫س ْون‪ ،‬فإذا نسيتُ فذ ِّكروني‪ " l‬الحديث‪ .‬فالسهو في حق األنبياء جائز‪ ،‬ألنه من‬ ‫ش ٌر‪ ،‬أنسى كما تَ ْن َ‬
‫ب َ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ص في حقهم‪ ،‬بل كما‪ ،‬ليحصل‬ ‫قهرية الربوبية‪ ،‬لتتميز به العبودية من الربوبية‪ l،‬فليس بنق ٍ‬
‫التشريع واالقتداء‪ .‬وقيل‪ " :‬ال " ناهية‪ ،‬وإثبات األلف للفاصلة‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫سبِي ْ‬
‫ال }‬ ‫{ ال َّ‬
‫[األحزاب‪ ]67:‬أي‪ :‬ال تغفل عن قراءته وتكراره فتنساه‪ ،‬إالَّ ما شاء هللا أن ينسيك برفع تالوته‪،‬‬
‫وهو ضعيف‪.‬‬

‫الجهر وما يخفى } أي‪ :‬يعلم ما ظهر وما بطن‪ ،‬التي من جملتها ما أوحى إليك‪ ،‬فينسى‬ ‫َ‬ ‫{ إِنه يعلم‬
‫ما شاء هللاُ إنساءه‪ ،‬ويبقى محفوظا ً ما شاء إبقاءه‪ ،‬أو‪ :‬يعلم جهرك بالقراءة مع قراءة جبريل‬
‫مخافة التفلُّت‪ ،‬وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر‪ ،‬أو‪ :‬ما تقرأ في نفسك مخافة النسيان‪ ،‬وما‬
‫تجهر به‪ ،‬أو‪ :‬يعلم ما أعلنتم وما أسررتم من أقوالكم وأفعالكم‪ ،‬وما ظهر وما بطن من أحوالكم‪.‬‬
‫قال الورتجبي‪ :‬السر والعالنية‪ l‬عنده تعالى سواء‪ ،‬إذا هو يبصرهما ببصره القديم‪ ،‬ويعلمهما‬
‫بالعلم القديم‪ ،‬وليس في القِدم نقص‪ ،‬بحيث يتفاوت عنده الظاهر والباطن؛ إذ هناك الظاهر هو‬
‫الباطن‪ ،‬والباطن هو الظاهر؛ ألنَّ الظاهر ظهر من ظاهريته‪ l،‬والباطن من باطنيته‪ l.‬هـ‪.‬‬

‫سرك لليُسرى } ‪ ،‬معطوف على " سنقرئك " وما بينهما اعتراض‪ ،‬أي‪ :‬ونوفّقك للطريقة‬ ‫{ ونُي ّ‬
‫التي هي أيسر وأسهل‪ ،‬وهي الشريعة السمحة التي هي أسهل الشرائع‪ ،‬أو‪ :‬نوفّقك توفيقا ً‬
‫مستمراً للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين‪ ،‬علما ً وتعليماً‪ ،‬هداية واهتدا ًء‪ ،‬فيندرج فيه‬
‫تلقي الوحي واإلطاحة بما فيه من األحكام التشريعية‪ l‬السمحة‪ ،‬والنواميس اإللهية‪ ،‬مما يتعلق‬
‫بتكميل نفس صلى هللا عليه وسلم وتكميل غيره‪ ،‬كما يفصح عنه قوله‪ { :‬ف َذ ِّكر‪ } ..‬الخ‪.‬‬
‫وتخصيص التيسير‪ l‬به عليه السالم‪ ،‬مع أنه يسري‪ l‬إلى غيره‪ ،‬لإليذان بقوة تمكنه‪ l‬صلى هللا عليه‬
‫والتصرف فيها‪ ،‬بحيث صار ذلك ملكة راسخة له‪ ،‬كأنه عليه السالم ُجبل‬ ‫ُّ‬ ‫وسلم من اليسرى‬
‫عليها‪.‬‬

‫قاله أبو السعود‪.‬‬

‫نزه ربك أن ترى معه غيره‪ ،‬وقدِّسه عن الحلول واالتحاد‪ ،‬قال القشيري‪ :‬أي‪ :‬سبِّح‪ l‬ربك‬ ‫اإلشارة‪ِّ :‬‬
‫بمعرفة أسمائه‪ ,‬واسبَح بس ّرك في بحر عطائه‪ ،‬واستخرج من بواهر علوه وسناه ما ترفع به‬
‫نزه اسمه عن أن يكون له سميًّا‪ ،‬من العرش إلى‬ ‫عند مدحه من ثنائه‪ .‬هـ‪ .‬قال الورتجبي‪ :‬أي‪ِّ :‬‬
‫الثرى‪ ،‬حتى يكون بقدس اسمه مقدسا ً عن رؤية األغيار‪ ،‬ويصل بقدس اسمه إلى رؤية قدس‬
‫الصفات‪ ،‬ثم إلى رؤية قدس الذات‪ .‬هـ‪( .‬األعلى) فوق كل شيء‪ ،‬والقريب دون كل شيء‪ ،‬فهو‬
‫عل ٌّي في قربه‪ ،‬قريب في علوه‪ ،‬ليس فوقه شيء‪ ،‬وليس دونه شيء‪ ،‬الذي خلق؛ أظهر األشيا َء‬
‫فس َّوى صورتها‪ ،‬وأتقن خلقها‪ .‬والذي قدّر المراتب‪ ،‬فهدى إلى أسباب الوصول إليها‪ ،‬والذي‬
‫أخرج المرعى‪ ،‬أي‪ :‬ما ترعى في بهجته وحسن طلعته األرواح من مظاهر الذات‪ ،‬وأنوار‬
‫الصفات‪ ،‬فجعله غثا ًء أحوى‪ ،‬فتل ّون من طلعة الجمال إلى قهرية الجالل‪ .‬قال القشيري‪ :‬أخرج‬
‫المرعى‪ :‬أي‪ :‬المراتع الروحانية ألرباب األرواح واألسرار والقلوب‪ ،‬لِيَ ْرعَوا فيها أعشاب‬
‫المواهب اإللهية والعطايا الالهوتية‪ ،‬وأخرج المراتع الجسمانية ألصحاب النفوس األ َّمارة‬
‫والهوى المتبع‪ ،‬ليرتعوا فيها من كأل اللذات الحيوانية‪ l‬الشهوانية‪ .‬هـ‪ .‬سنقرك‪ :‬سنلهمك من‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫العلوم واألسرار ما تعجز عنه العقول‪ ،‬فال تنسى‪ ،‬إالّ ما شاء هللاُ أن تنساه‪ ،‬إنه يعلم الجهر‪ ،‬أي‪:‬‬
‫ما يصلح أن تجهر به من تلك العلوم‪ ،‬وما يخفى وما يجب إخفاءه عن غير أهله‪ .‬ونُيسرك‬
‫للطريقة اليُسرى‪ ،‬التي تُوصل إلى الحضرة الكبرى‪ .‬قال القشيري‪ l:‬أي‪ :‬طريق السلوك إلى هللا‬
‫وهي الجذبة الرحمانية التي توازي عمل الثقلين‪ .‬هـ‪ .‬فحينئذ تصلح للدعاء إلى هللا والتذكير به‪.‬‬

‫صلَى‬‫شقَى } * { الَّ ِذى يَ ْ‬ ‫سيَ َّذ َّك ُر َمن يَ ْخشَىا } * { َويَت ََجنَّبُ َها األَ ْ‬
‫الذ ْك َرىا } * { َ‬ ‫ت ِّ‬ ‫*{ فَ َذ ِّك ْر إِن نَّفَ َع ِ‬
‫صلَّىا‬ ‫ار ا ْل ُك ْب َرىا } * { ثُ َّم الَ يَ ُموتُ فِي َها َوالَ يَ ْحيَا } * { قَ ْد أَ ْفلَ َح َمن تَ َز َّكىا } * { َو َذ َك َر ا ْ‬
‫س َم َربِّ ِه فَ َ‬ ‫النَّ َ‬
‫ف األُولَىا }‬ ‫} * { بَ ْل ت ُْؤثِ ُرونَ ا ْل َحيَاةَ ال ُّد ْنيَا } * { َواآل ِخ َرةُ َخ ْي ٌر َوأَ ْبقَىا } * { إِنَّ هَـا َذا لَفِي ُّ‬
‫الص ُح ِ‬
‫سىا }‬
‫ف إِ ْب َرا ِهي َم َو ُمو َ‬ ‫ص ُح ِ‬ ‫*{ ُ‬

‫سيّرناك له بما يُوحى إليك من الحق الهادي إلى‬ ‫الناس حسبما َ‬


‫َ‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬فَ َذ ِّك ْر }‬
‫الحق‪ ،‬واهدهم إلى ما فيه سعادتهم األبدية‪ l,‬كما كنت تفعل‪ ،‬أي‪ :‬دُم على تذكيرك‪ .‬وتقييد التذكير‬
‫كرهم ويستفرغ جهده في وعظهم‪ ،‬حرصا ً‬ ‫لِ َما أنَّ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم طالما كان يُ َذ ِّ‬
‫على إيمانهم‪ ،‬فما كان يزيد ذلك لبعضهم إالَّ نفوراً‪ ،‬فأمر عليه السالم أن يخص الذكر بمظان‬
‫رجى منه‪ l‬التذ ُّكر‪ ،‬وال يتعب نفسه‪ l‬في تذكير َمن ال‬ ‫النفع في الجملة‪ ،‬بأن يكون َمن يُ َذ ِّكره ممن يُ َ‬
‫طبع هللاُ على قلبه‪ ،‬فهو كقوله‪:‬‬ ‫ينفعه وال يزيده إالّ عت ًّوا ونفوراً‪ ،‬ممن َ‬
‫آن َمن يَ َخافُ َو ِعي ِد }‬ ‫{ فَ َذ ِّك ْر بِا ْلقُ ْر ِ‬
‫[قَ‪ ]45:‬وقوله تعالى‪:‬‬
‫ض عَن َّمن ت ََولَّىا عَن ِذ ْك ِرنَا }‬ ‫{ فَأ َ ْع ِر ْ‬
‫[النجم‪ ]29:‬وقيل المعنى‪َ :‬ذ ّكر إن نفعت وإن لم تنفع‪ ،‬فحذف المقابل‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫{ تَقِي ُك ُم ا ْل َح َّر }‬
‫[النحل‪ ،]81:‬واستبعده ابن ُجزي؛ ألنَّ المقصود من الشرط استبعاد إسالمهم‪ ،‬كقوله‪ :‬عظ زيد‬
‫الح َّذاق‪ ،‬قلت‪ :‬األَ ْولى حمل‬
‫إن سمع منك‪ ،‬تريد‪ :‬إن سماعه بعيد‪ ،‬ونسب هذا ابن عطية لبعض ُ‬
‫اآلية على ظاهرها‪ ،‬وأنه ال ينبغي الوعظ إالّ ل َمن تنفعه وتؤثر فيه‪ ،‬وأ ّما َمن تحقّق عناده فال‬
‫يزيده إالّ عناداً‪ ،‬والقرائن تكفي في ذلك‪.‬‬

‫سيَ َّذ َّك ُر َمن يخشى }؛ سيتعظ ويقبل التذكرة َمن يخشى هللا تعالى { ويَتجنَّبُها } أي‪ :‬يتأخر عنها‬ ‫{ َ‬
‫وال يحضرها وال يقبلها { األشقى } الذي سبق له الشقاء‪ ,‬أو‪ :‬أشقى الكفرة لتو ُّغله في عداوة‬
‫صلَى‬ ‫الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ .‬قيل‪ :‬نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة‪ { .‬الذي يَ ْ‬
‫النار الكبرى } أي‪ :‬الطبقة السفلى من طبقات جهنم‪ ،‬وقيل‪ :‬الكبرى نار جهنم‪ ،‬والصغرى‪ :‬نار‬ ‫َ‬
‫الدنيا‪ ،‬لقوله عليه السالم‪ " :‬ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنم " ‪ { ،‬ثم ال يموتُ‬
‫فيها } حتى يستريح‪ { l‬وال يحيا } حياة تنفعه‪ ،‬و " ثم " للتراخي في مراتب الشدة؛ ألنَّ التردُّد‬
‫بين الموت والحياة أفظع من الصل ِّي‪.‬‬

‫أفلح } أي‪ :‬نجا من كل مكروه وظفر بكل ما يرجوه { َمن تَ َز َّكى } أي‪ :‬تط ّهر من الكفر‬ ‫{ قد َ‬
‫المعاصي بتذكيرك ووعظك‪ { ،‬و َذ َك َر اس َم ربه } بقلبه ولسانه { َ‬
‫فصلَّى }؛ أقام الصلوات الخمس‪،‬‬
‫أو‪ :‬أفلح َمن ز َّكى ماله‪ ،‬وذكر هللا في صالته‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫{ َوأَقِ ِم ال َّ‬
‫صالَةَ لِ ِذ ْك ِريا }‬
‫[طه‪ ]14:‬فيكون تفعَّل من الزكاة‪ ،‬أو‪ :‬أفلح َمن تز ّكى‪ :‬أخرج زكاة الفطر‪ ,‬وذكر اسم ربه في‬
‫صلّى صالةَ العيد‪ ،‬وقد روي هذا عن النب ّي صلى هللا عليه‬ ‫طريق خروجه إلى أن يخرج اإلمام‪ ،‬ف َ‬
‫ش َر ْع زكاة الفطر‪ ،‬وال صىال العيد إالَّ‬
‫وسلم فتكون اآلية مدنية‪ l،‬أو‪ :‬إخباراً بما سيكون‪ ،‬إذ لم تُ ْ‬
‫بالمدينة‪l.‬‬

‫{ بل ت ُْؤثِرون الحياةَ الدنيا } على اآلخرة‪ ،‬فال تفعلون ما به تفلحون‪ ،‬وهو إضراب عن ُمقَدَّر‬
‫ينساق إليه الكالم‪ ،‬كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفالح‪ :‬فال تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات‬
‫التزود لألخرة‪ { ،‬واآلخرةُ خير وأبقى }‬
‫ُّ‬ ‫لتحصيلها‪ ,‬وتشتغلون بذلك عن‬‫ِ‬ ‫العاجلة الفانية‪ l،‬فتسعون‬
‫أي‪ :‬خير في نفسها‪ ،‬لنفاسة نعيمها‪ ،‬وخلوصه من شوائب التكدير‪ ،‬وأدوم ال انصرام له وال تمام‪.‬‬
‫والخطاب للكفرة‪ .‬بدليل قراءة الغيب‪ ،‬وإيثارها حينئذ‪ :‬نسيانها بالكلية‪ ،‬واإلعراض عنها‪ ،‬أو‪:‬‬
‫للكل‪ ،‬فالمراد بإيثارها‪ :‬هو ما ال يخلوا الناس منه غالباً‪ ،‬من ترجيح جانب الدنيا على اآلخرة في‬
‫السعي‪ ،‬إالّ القليل‪ .‬قال الغزالي‪ :‬إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على اإلنسان‪ ،‬قَ َّل َمن ينفك عنه‪،‬‬
‫ولذلك قال تعالى‪ { :‬بل تؤثرون الحياة الدنيا }‪ .‬وجملة‪ { :‬واآلخرة‪ } ...‬الخ‪ :‬حال من فاعل‬
‫{ تُؤثرون } مؤكد للتوبيخ‪ l‬والعتاب‪ ،‬أ ي‪ :‬تؤثرونها على اآلخرة والحال أنها خير منها وأبقى‪،‬‬
‫قال بعضهم لو كانت الدنيا من ذهب يفنى‪ ،‬واآلخرة من طين يبقى‪ ،‬لكان العاقل يختار ما يبقى‬
‫على ما يفنى‪ ،‬ال سيما واألمر بالعكس‪ .‬هـ‪.‬‬

‫صحف األُولى } اإلشارة إلى قوله‪ { :‬قد أفلح َمن تز ّكى } إلى قوله‪:‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬إِنَّ هذا لفي ال ُ‬
‫{ وأبقى } ‪ ،‬قال ابن جزي‪ :‬اإلشارة إلى ما ذكر قبل من الترهيب من الدنيا‪ ،‬والترغيب في‬
‫اآلخرة‪ ،‬أو‪ :‬إلى ما تضمنته السورة‪ ،‬أو‪ :‬إلى القرآن‪ ،‬والمعنى‪ :‬إنه ثابت في كتب األنبياء‬
‫صحف األُولى "‪.‬‬ ‫المتقدمين‪ .‬هـ‪ .‬وقوله تعالى‪ { :‬صحف إِبراهي َم وموسى } بدل من " ال ُ‬

‫وفي حديث أبي ذر‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول هللا‪ :‬كم كتابا ً أنزل هللاُ؟ قال‪ " :‬مائة كتاب وأربعة كتب‪ ،‬أنزل‬
‫على شيث خمسين صحيفة‪ ،‬وعلى إدريس ثالثين صحيفة‪ ،‬وعلى إبراهيم عشر صحائف‪ ،‬وعلى‬
‫موسى قبل التوراة عشر صحائف‪ ،‬وأنزل التوراة واإلنجيل والزبور والفرقان " قال‪ :‬قلت‪ :‬يا‬
‫صحف إبراهيم عليه السالم؟ قال‪ " :‬كانت أمثاالً كلها‪ ،‬أيها الملك المسل‍ّط‬ ‫رسول هللا‪ :‬ما كانت ُ‬
‫المغرور‪،‬إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض‪ ,‬ولكن بعثتك لِتَ ُر ّد على دعوة المظلوم‪،‬‬
‫فإني ال أردها ولو من كافر‪ .‬وكان فيها‪ :‬وعلى العاقل أن تكون له ساعات‪ ،‬ساعة يناجي فيها‬
‫ربه‪ ،‬وساعة يُحاسب فيها نفسه‪ ،‬وساعة يُفكر في صنع هللا ع ّز وجل إليه‪ ،‬وساعة يخلو فيها‬
‫لحاجته من المطعم والمشرب‪ .‬وعلى العاقل أالَّ يكون ظاعنا ً إال لثالث‪ :‬تزور‪ l‬لمعاد‪ ،‬أو مرمة‪l‬‬
‫لمعاش‪ ،‬أو لذة في غير محرم‪ .‬وعلى العاقل أن يكون بصيراً‪ l‬بزمانه‪ ،‬مقبالً على شأنه‪ ،‬حافظا ً‬
‫للسانه‪ ،‬و َمن حسب كالمه من عمله قَ ّل كالمه إالّ فيما يعنيه‪ " l‬قلت‪ :‬يا رسول هللا؛ فما كانت‬
‫صحف موسى عليه السالم؟ قال‪ " :‬كانت ِعبَراً كلها؛ عجبت ل َمن أيقن بالموت كيف يفرح‪،‬‬ ‫ُ‬
‫عجبت ل َمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب ـ أي يتعب‪ ،‬عجبت ل َمن رأى الدنيا وتقلُّبها بأهلها ثم اطمأن‬
‫إليها‪ ،‬وعجبت ل َمن أيقن بالحساب غداً ثم ال يعمل " قلت‪ :‬يا رسو َل هللا؛ وهل في الدنيا شيء مما‬
‫كان في يدي إبراهيم وموسى‪ ،‬مما أنزل هللا عليك‪ ،‬قال‪:‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫" نعم‪ ،‬اقرأ يا أبا ذر‪ { :‬قد أفلح َمن تزكى‪ } ..‬اآلية إلى السورة " ثم قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول هللا‪،‬‬
‫أوصني‪ .‬قال‪ " :‬أوصيك بتقوى هللا ع ّز وجل‪ ،‬فإنه رأس أمرك " قلت‪ :‬زدني‪ ،‬قال‪ " :‬عليك‬
‫بتالوة القرآن وذك ِر هللا ع ّز وجل‪ ،‬فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في األرض " قلت‪ :‬يا رسول‬
‫هللا؛ زدني‪ ،‬قال‪ " :‬إياك وكثرة الضحك‪ ،‬فإنه يُميت القلب‪ ،‬ويذهب بنور الوجه " ‪ ،‬قلت‪ :‬يا‬
‫رسول هللا؛ زدني‪ ,‬قال‪ " :‬عليك بالجهاد‪ ،‬فإنه رهبانية‪ l‬أمتي " ‪ ،‬قلت‪ :‬يا رسول هللا؛ زدني‪ ،‬قال‪:‬‬
‫" عليك بالصمت إالَّ ِمن خير‪ ،‬فإنه مطردة للشيطان‪ ،‬وعون لك على أمر دنياك " هـ‪.‬‬

‫وعن كعب األحبار أنه قال‪ :‬قرأتُ في العشر صحف التي أنزل ا هللُ على موسى عليه السالم سبعة‬
‫اسطار متصلة‪ ،‬أول سطر منها‪َ :‬من أصبح حزينا ً على الدنيا أصبح ساخطا ً على هللا‪ ،‬الثاني‪َ :‬من‬
‫كانت الدنيا أكبر همه نزع هللاُ خوف اآلخرة من قلبه‪ ،‬الثالث‪َ :‬من شكى مصيبة‪ l‬نزلت به كأنما‬
‫شكى هللا ع ّز وجل‪ ،‬الرابع‪َ :‬من تواضع لِ َملِك ِمن ملوك الدنيا ذهب ثلث دينه‪ ،‬الخامس‪َ :‬من ال‬
‫يبالي من أي األبواب أتاه رزقه لم يُبال هللاُ من أي أبواب جهنم يدخله ـ يعني من حالل أو حرام‪،‬‬
‫السادس‪َ :‬من أتى خطيئَة وهو يضحك دخل النار وهو يبكي‪ ،‬والسابع‪َ :‬من جعل حاجته إلى آدمي‬
‫جعل هللاُ الفقر بين عينيه‪ l.‬هـ‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬فَذ ِّك ْر أيها العارف الدا ّل على هللا إن نفعت الذكرى؛ إن رجوتَ أو توهمتَ نفع تذكيرك‪،‬‬
‫فإن تحققتَ عدم النفع فال تتعب نفسك في التذكير‪ ،‬فربما يكون بطالة‪ ،‬كتذكير العدو الحاسد لك‪،‬‬
‫أو المعاند‪ ،‬أو المنهمك في حب الرياسة‪ ،‬فتذكير هؤالء ضرب في حديد بارد‪ .‬وينبغي‪ l‬للم َذ ِّكر أن‬
‫يكون ذا سياسة ومالطفة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫سبِي ِل َربِّ َك بِا ْل ِح ْك َم ِة َوا ْل َم ْو ِعظَ ِة ا ْل َح َ‬
‫سنَ ِة‪} ...‬‬ ‫ع إِلِىا َ‬
‫{ ا ْد ُ‬
‫[النحل‪]125:‬الخ‪ ،‬والحكمة‪ :‬هي أن تٌقر ك َّل واحد في حكمته‪ l،‬وتدسه منها إلى ربه‪ ،‬فأهل‬
‫الرئاسة تقرهم فيها وتدلهم على الشفقة والرحمة بعباد هللا‪ ،‬وأهل الدنيا تُقرهم فيها وتدلهم على‬
‫بَذلها‪ ،‬وأهل العلم تُقرهم في علمهم وتحضهم على اإلخالص وبذل المجهود في نشره‪ ،‬وأهل‬
‫الفقر تقرهم فيه وتُرغبهم في الصبر‪ ...‬وهكذا‪ ،‬فإن رأيتَ أحداً تش ّوف إلى مقام أعلى مما هو فيه‬
‫ف ُدلّه عليه‪ ،‬وأهل التذكير لهم عند هللا جاه كبير‪َ ،‬‬
‫فأح ُّب الخلق إلى هللا أنفعهم لعياله‪ ،‬كما في‬
‫الحديث‪ .‬وفي حديث آخر‪ " :‬إنَّ أود األوداء إل َّي َمن يحبني إلى عبادي‪ ،‬ويحبِّب عبادي إل ّي‪،‬‬
‫ويمشي في األرض بالنصيحة " أو كما قال عليه السالم‪:‬‬

‫س َّ‬
‫يذ َّكر َمن يخشى } أي‪ :‬ينتفع بتذكيري َمن يخشى هللا‪ ،‬وسبقت له العناية‪ ،‬ويتجنّبها األشقى‪:‬‬ ‫{ َ‬
‫أي‪ :‬ويعرض عنها َمن سبق له الشقاء‪.‬‬
‫قال القشيري‪ l:‬الشقي‪َ :‬من يعرف شقاوته‪ ،‬واألشقى‪َ :‬من ال يعرف شقاوته‪ ،‬الذي يصلى النار‬
‫الكبرى‪ ،‬وهي الخذالن والطرد والهجران‪ ،‬والنار الصغرى‪ :‬تتبع‪ l‬الحظوظ والشهوات‪ .‬هـ‪ .‬ثم ال‬
‫يموت فيها وال يحيى‪ ،‬أي‪ :‬ال تموت نفسه عن هذا‪ ،‬وال تحيا روحه بشهود هؤالء‪ .‬قد أفلح َمن‬
‫تَزَ َّكى‪ ،‬أي‪ :‬فاز بالوصول َمن تطهَّر ِمن هوى نفسه‪ ،‬بأن طَهَّر نفسه من المخالفات‪ ،‬وقلبه من‬
‫الغفالت والدعوات‪ ،‬وروحه من المساكنات إلى الغير‪ ،‬وسره عن األنانية‪ ،‬بل تُؤثرون الحياة‬
‫التوجه إلى الحضرة القدسية‪ l،‬والدار اآلخرة التي يدوم فيها الشهود خير وأبقى‪ ،‬وهذا‬
‫ُّ‬ ‫الدنيا عن‬
‫صحف الرسل واألنبياء‪ ،‬قال القشيري‪ :‬ألنَّ‬ ‫األمر‪ ،‬وهو التزهيد في الدنيا‪ ،‬والتشويق إلى هللا‪ ،‬في ُ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫التوحيد والوعد والوعيد ال يختلف في الشرائع‪ .‬هـ‪ .‬وقال الورتجبي‪( :‬إنَّ هذا) أي‪ :‬الخروج عما‬
‫سوى هللا بنعت التجريد‪ ،‬في صحف إبراهيم‪ ،‬كما قال‪:‬‬
‫ش ِر ُكونَ }‬ ‫{ إِنِّي بَ ِريا ٌء ِّم َّما تُ ْ‬
‫[األنعام‪ ]78:‬واإلقبال على هللا‪ ،‬بقوله‪:‬‬
‫{ إِنِّي َو َّج ْهتُ َو ْج ِه َي }‬
‫[األنعام‪ ]79:‬الخ‪ .‬وفي صحف موسى‪ :‬سرعة الشوق إلى جماله والندم على الوقوف في‬
‫المقامات‪ :‬بقوله‪:‬‬
‫{ تُ ْبتُ إِلَ ْيكَ َوأَنَا أَ َّو ُل ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ }‬
‫[األعراف‪ .]143:‬هـ‪ .‬أي‪ :‬وبقوله‪:‬‬
‫ضىا }‬ ‫{ َو َع ِج ْلتُ إِلَ ْيكَ َر ِّب لِت َْر َ‬
‫[طه‪ .]84:‬وباهلل التوفيق‪ .‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله‪.‬‬

‫‪#‬سورة الغاشية §‪#‬‬

‫َصلَىا نَاراً‬ ‫صبَةٌ } * { ت ْ‬ ‫ش َعةٌ } * { عَا ِملَةٌ نَّا ِ‬ ‫شيَ ِ‪l‬ة } * { ُو ُجوهٌ يَ ْو َمئِ ٍذ َخا ِ‬ ‫*{ َه ْل أَتَا َك َح ِد ُ‬
‫يث ا ْل َغا ِ‬
‫س ِمنُ َوالَ يُ ْغنِي‬
‫يع‪ { * } l‬الَّ يُ ْ‬
‫ض ِر ٍ‬ ‫س لَ ُه ْم طَ َعا ٌم إِالَّ ِمن َ‬
‫سقَىا ِمنْ َع ْي ٍن آنِيَ ٍة } * { لَّ ْي َ‬ ‫َحا ِميَةً } * { تُ ْ‬
‫وع }‬
‫ِمن ُج ٍ‬

‫حديث الغاشي ِة } أي‪ :‬قد أتاك‪ ،‬واألحسن‪ :‬أنه استفهام أُريد به‬
‫ُ‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬هل أتاك‬
‫التعجب مما في حيّزه‪ ،‬والتشويق إلى استماعه‪ ،‬وأنه من األحاديث البديعة التي من حقها أن‬ ‫ُّ‬
‫تتناولها الرواية‪ ،‬ويتنافس في تلقيها الوعاة من كل حاضر وباد‪ .‬والغاشية‪ :‬الداهية الشديدة التي‬
‫تغشى الناس بشدائدها وتكتنفهم بأهوالها‪ ،‬من قوله تعالى‪:‬‬
‫{ يَ ْغشَا ُه ُم ا ْل َع َذ ُ‬
‫اب ِمن فَ ْوقِ ِه ْم }‬
‫[العنكبوت‪ ]55:‬الخ‪.‬‬

‫صل أحوا َل الناس فيها‪ ،‬فقال‪ { :‬وجوه يومئ ٍذ خاشعةٌ } ‪ ،‬فهو استئناف بياني نشأ عن سؤال‬ ‫ثم ف ّ‬
‫من جهته صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬ما أتاني حديثها فما هو؟ فقال‪ { :‬وجوه يومئذ‪ } l‬أي‪:‬‬
‫يوم إذ غشيت { خاشعة }؛ ذليلة‪ ،‬لما اعترى أصحابها من الخزي والهوان‪ ،‬و { وجوه } متبدأ‪،‬‬
‫س ّوغه التنويع‪ ،‬و(خاشعة) خبر‪ ،‬و { عاملة ناصبة }‪ :‬خبران آخران‪ ،‬أي‪ :‬تعمل أعماالً شاقة في‬
‫النار‪ ،‬تتعب فيها ِمن ج ّر السالسل واألغالل‪ ،‬والخوض في النار خوض اإلبل في الوحل‪،‬‬
‫ّ‬
‫والتذت بها‪،‬‬ ‫والصعود والهبوط من تالل النار ووهادها‪ ،‬وقيل‪ :‬عملت في الدنيا أعمال السوء‪،‬‬
‫فهي يومئذ ناصبة منها‪ { ،‬تَصلى } أي‪ :‬تدخل { ناراً حامية }؛ متناهية في الحر ُمدداً طويلة‪،‬‬
‫عين آني ٍة } أي‪ :‬من عين ماء متناهية في الح ّر‪ ،‬والتأنيث في هذه الصفات واألفعال‬
‫ٍ‬ ‫سقَى من‬ ‫{ تُ ْ‬
‫راجع إلى الوجوه‪ ،‬والمراد أصحابها‪ ،‬بدليل قوله‪ { :‬ليس لهم طعا ٌم إِالّ من ضريع } ‪ ،‬وهو نبت‬
‫يقال ِل َر ْطبِه‪ :‬الشَّب ِرق على وزن ِز ْبرج‪ l،‬تأكله اإلبل رطبا ً فإذا يبس عافته‪ ،‬وهو الضريع‪ ،‬وهم س ٌّم‬
‫أمر من الصبر‪ ،‬وأنتن من الجيفه‪ ،‬وأشد َح ًّرا من‬ ‫قاتل‪ ،‬وفي الحديث‪ " :‬الضريع شيء في النار‪ُّ ،‬‬
‫النار " ‪ ،‬وقال ابن كيسان‪ :‬هو طعام يضرعون منه ويذلّون‪ ،‬ويتضرعون إلى هللا تعالى طلباف‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫للخالص منه‪ .‬وقال أبو الدرداء والحسن‪ :‬يقبح هللاُ وجوهَ أهل النار يوم القيامة‪ ،‬تشبيها ً بأعمالهم‬
‫الخسيسة في الدنيا‪ ،‬وإنَّ هللا تعالى يُرسل على أهل النار الجوع‪ ,‬حتى يعدل عندهم ما هم فيه من‬
‫صة‪ ،‬فيذكرون أنهم‬ ‫العذاب‪ ،‬فيستغيثون‪ ،‬فيُغاثون بالضريع‪ ،‬ثم يَستغيثون فيُغاثون بطعام ذي ُغ ّ‬
‫كانوا يحيزون الغصص في الدنيا بالماء‪ ،‬فيستسقون‪ ،‬فيعطشهم ألف سنة‪ ،‬ثم يسقون من غين‬
‫آنية شديدة الحر‪ ،‬ال هنيئة وال مريئة‪ ،‬فكلما أدنوه من وجوههم سلخ جلو َد وجوههم وشواها‪،‬‬
‫فإذا وصل إلى بطونهم قطعها‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{ فَقَطَّ َع أَ ْم َعآ َء ُه ْم }‬
‫والمعذبون طبقات؛ فمنهم أكلة الزقوم‪ ،‬ومنهم أكلة الغسلين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫[محمد‪ ]15:‬هـ‪ .‬والعذاب ألوان‪،‬‬
‫ومنهم آكلة الضريع‪ ..‬فال تناقض‪.‬‬

‫ول َّما نزلت هذه اآلية؛ قال المشركون‪ :‬إنَّ إبلنا لتسمن من الضريع‪ ،‬فنزلت‪ { :‬ال يُسمن وال يُغني‬
‫من جوع } أي‪ :‬ليس ِمن شأنه اإلسمان واإلشباع‪ ،‬كما هو شأن طعام أهل الدنيا‪ ،‬وأنما هو شيء‬
‫يضطرون إلى أكله دفعا ً لضرورتهم‪ ،‬والعياذ باهلل من سخطه‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬الغاشية هي الدنيا‪ ،‬غشيت القلوب بظلمات محبتها‪ ،‬ومودتها بحظوظها وشهواتها‪،‬‬
‫وجوه فيها يومئذ خاشعة‪ ،‬ب ُذ ّل طلبها‪ ،‬عاملة بالليل والنهار في تحصيلها‪ ،‬ناصبة في تدبير‪l‬‬
‫شؤونها‪ ،‬ال راحة لطالبها أبداً حتى يأخذ الموت ب ُعنقه‪ ،‬تصلى نار القطيعة والبُعد تُسقى من عين‬
‫حر التدبير واالختيار‪ ،‬ليس لطُالبها طعام لقلوبهم وأرواحهم إالّ من ضريع شبهاتها أو ُحرماتها‪،‬‬
‫ال يُسمن القلب عن هزال طلبها‪ ،‬بل كلما زاد منها شيئاً‪ ،‬زاد جوعه إليها‪ ،‬وال يغني الروح من‬
‫جوع منها‪.‬‬

‫ضيَةٌ } * { فِي َجنَّ ٍة عَالِيَ ٍة } * { الَّ تَ ْ‬


‫س َم ُع فِي َها الَ ِغيَةً }‬ ‫س ْعيِ َها َرا ِ‬‫اع َمةٌ } * { لِّ َ‬ ‫*{ ُو ُجوهٌ يَ ْو َمئِ ٍذ نَّ ِ‬
‫ق‬‫ضو َعةٌ‪َ { * } l‬ونَ َما ِر ُ‬‫اب َّم ْو ُ‬ ‫س ُر ٌر َّم ْرفُو َعةٌ } * { َوأَ ْك َو ٌ‬
‫* { فِي َها َع ْينٌ َجا ِريَةٌ } * { فِي َها ُ‬
‫صفُوفَةٌ } * { َوزَ َرابِ ُّي َم ْبثُوثَةٌ } * { أَفَالَ يَنظُ ُرونَ إِلَى ا ِإل ْب ِل َكيْفَ ُخلِقَتْ } * { َوإِلَى ال َّ‬
‫س َمآ ِء‬ ‫َم ْ‬
‫س ِط َحتْ }‬‫ض َكيْفَ ُ‬ ‫َ‬
‫صبَ ْ‪l‬ت } * { َوإِلَى األ ْر ِ‬ ‫َكيْفَ ُرفِ َعتْ } * { َوإِلَىا ا ْل ِجبَا ِل َكيْفَ نُ ِ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله في بيان حال أهل الجنة‪ ،‬بعد بيان حال أهل النار‪ ،‬ولم يعطفهم عليهم‪ ،‬بل‬
‫أتى بالجملة استئنافية؛ إيذانا ً بكمال تباين مضمونيهما‪ ،‬فقال‪ { :‬وجوه يومئ ٍ‪l‬ذ ناعمةٌ } أي‪ :‬ذات‬
‫وحسن‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬ ‫بهجة ُ‬
‫يم (‪} )24‬‬‫ض َرةَ النَّ ِع ِ‬
‫{ تَ ْع ِرفُ فِي ُو ُجو ِه ِه ْم نَ ْ‬
‫[المطففين‪ { ،]24:‬لسعيها راضية } أي‪ :‬ألجل سعيها في الدنيا هي راضية في اآلخرة بما‬
‫أعطاها عليه من الثواب الجسيم‪ ،‬أو‪ :‬رضيت بعملها وطاعتها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة‬
‫والثواب‪ { ،‬في جن ٍة عالية } علو المكان أو المقدار‪ { ،‬ال تسمع فيها الغية } أي‪ :‬لغو‪ ،‬أو كلمة‬
‫نفس الغية‪ ،‬فإنَّ كالم أهل الجنة كله أذكار و ِحكم‪ ،‬أو‪ :‬ال تسمع يا مخاطَب‪ ،‬فيمن‬ ‫ٌ‬ ‫ذات لغو‪ ،‬أو‬
‫بناه للفاعل‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫{ فيها عين جاريةٌ } أي‪ :‬عيون كثيرة تجري مياهها‪ ،‬كقوله‪:‬‬


‫س}‬‫{ َعلِ َمتْ نَ ْف ٌ‬
‫سر ٌر مرفوعة } رفيعة الس ْمك أو المقدار‪ ،‬ليرى المؤمن‬ ‫[التكوير‪ ]14:‬أي‪ :‬كل نفس‪ { ،‬فيها ُ‬
‫بجلوسه عليه جميع ما خ ّوله َربُّه من ال ُملك والنعيم‪ { ،‬وأكواب موضوعة } بين أيديهم ليتلذذوا‬
‫ق }؛ وسائد ومرافق‬ ‫بالرؤية إليها‪ ،‬أو موضوعة على حافات العيون ُم َعدّة للشرب‪ { ،‬ونمار ُ‬
‫{ مصفوفة } بعضها إلى جنب بعض‪ ،‬بعضها مسندة‪ ،‬وبعضها مطروحة‪ ،‬أينما أراد أن يجلس‬
‫سط فاخرة‪ ،‬جمع " ِز ْربيَّة‪، " l‬‬ ‫جلس على وسادة‪ ،‬وأستند إلى أخرى‪ { ،‬وزراب ّي } أي‪ :‬بُ ُ‬
‫{ مبثوثةٌ }؛ مبسوطة‪ l،‬أو ُمف ّرقة في المجالس‪.‬‬

‫سرها بأنَّ ارتفاع السرير يكون‬ ‫ول ّما أنزل هللا هذه اآليات‪ ,‬وقرأها النبي صلى هللا عليه وسلم ف ّ‬
‫مائة فرسخ‪ ،‬واألكواب الموضوعة ال تدخل تحت حساب‪ ،‬لكثرتها‪ ،‬وطول النمارق كذا‪ ،‬وعرض‬
‫الزارب ِّي كذا‪ ،‬أنكر المشركون ذلك‪ ،‬وقالوا‪ :‬كيف يصعد على هذا السرير؟ وكيف تكثر األكواب‬
‫هذه الكثرة‪ ،‬وتطول النمارق هذا الطول‪ ،‬وتُبسط الزاربي هذا االنبساط‪ ،‬ولم نشهد ذلك في‬
‫الدنيا؟! ذ َّكرهم هللا بقوله‪ { :‬أفال ينظرون إِلى ا ِإلبل كيف ُخلقت } طويلة عالية‪ ،‬ثم تبرك حتى‬
‫تُركب؛ ويحمل عليها‪ ،‬ثم تقوم‪ ،‬وكذا السرير يطأطىء للمؤمن كما تطأطىء اإلبل حتى يركب‬
‫عليها‪ ،‬أو‪ :‬أفال ينظرون إلى اإلبل التي هي نُصب أعينهم‪ ،‬يستعملونها كل حين‪ ،‬كيف ُخلقت خلقا ً‬
‫سنَن سائر الحيوانات‪ ،‬في عظم جثتها وشدّة قوتها‪ ،‬وعجيب هيئاتها الالئقة‬ ‫بديعا ً معدوالً عن َ‬
‫كالنوء باألوقار الثقيلة‪ ،‬وحمل األثقال الفادحة إلى‬
‫ْ‬ ‫بتأتي ما يصدر منها من األفاعيل الشاقة‪،‬‬
‫األقطار النازحة‪ ،‬وفي صبرها على الجوع والعطش‪ ،‬حتى إنَّ ضمأها ليبلغ العشْر فصاعداً‪،‬‬
‫سر من شوك وشجر‪ ،‬وانقيادها إلى كل صغير وكبير‪ ،‬حتى‬ ‫واكتفائها باليسير‪ ،‬ورعيها كل ما تي ّ‬
‫إن فأرة أخذت بزمام ناقة فجرته إلى غارها‪ ،‬فتبعتها الناقة إلى فم الغار‪ .‬وفي اإلبل خصائص أُخر‬
‫الحدَّاء إذا عيت‪ ،‬إلى ما فيها من المنافع من اللحوم‬
‫تدل على كمال قدرته تعالى‪ ،‬كاالسترواح مع َ‬
‫واأللبان واألوبار واألشعار‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬والظاهر ما قاله اإلمام‪ ،‬وتبعه الطيبي‪ ،‬من أنه احتجاج‬
‫بشواهد قدرته تعالى على فاتحة السورة من مجيء الغاشية‪ ،‬وأنَّ المخبر بها قادر عليها‪،‬‬
‫فيتوافق العقل والنقل‪.‬‬
‫قاله المحشي‪.‬‬

‫ساك‪ ،‬أو بحيث ال ينالها فَهم وال إدراك‪،‬‬


‫{ وإِلى السماء كيف ُرفعت } رفعا ً بعيداً بال ُع ُمد وال ُم َّ‬
‫{ وإِلى الجبال } التي ينزلون في أقطارها‪ ،‬وينتفعون بمياهها وأشجارها في رعي تلك اإلبل‬
‫وغيرها { كيف نُصبت } نصبا ً رصيناً‪ ،‬فهي راسخة ال تميل وال تميد‪ { ،‬وإِلى اإلرض كيف‬
‫سطحت } سطحا ً بتوطئة‪ l‬وتمهيد وتسوية‪ l‬حسبما يقتضيه صالح أمور ما عليها من الخالئق‪.‬‬ ‫ُ‬

‫قال الجالل‪ :‬وفي اآلية دليل على أنَّ األرض سطح ال كرة‪ ،‬كما قال أهل الهيئة‪ l،‬وإن لم ينقض‬
‫ركنا ً من أركان الشرع‪ .‬هـ‪ .‬وفي ابن عرفة‪ ،‬في قوله تعالى‪:‬‬
‫{ يُ َك ِّو ُر اللَّ ْيـ َل َعلَى النَّ َهـا ِر‪} ...‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫[الزمر‪ ]5:‬أنَّ اآلية تدل على أنَّ السماء كروية‪ ,‬قال‪ :‬ألنَّ من لوازم تكويرهما تكوير محلهما‬
‫الستحالة تعلقهما دون مكان‪ .‬هـ‪ .‬وفي األبي‪ :‬الذي عليه األكثر من الحكماء وغيرهم أنَّ السموات‬
‫واألرض كرتان‪ .‬هـ‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬وجوه يومئذ‪ l‬ناعمة بلذة الشهود والعيان‪ ،‬ألجل سعيها بالمجاهدة‪ ،‬راضية‪ ،‬حيث‬
‫ص لتها إلى صريح المشاهدة‪ ،‬في جنة عالية‪ ،‬جنان المعارف‪ ،‬ال تسمع فيها الغية؛ ألنَّ أهلها‬ ‫و َّ‬
‫مقدّسون من اللغو والرفث‪ ،‬كالمهم ذكر‪ ,‬وصمتهم فكر‪ ،‬فيها عين جارية من قلوبهم بالعلوم‬
‫سان‬ ‫سرر المقامات مرفوعة‪ ،‬يرتفعون منها إلى المعرفة‪ ،‬وأكواب موضوعة؛ ِكي َ‬ ‫والحكم‪ ،‬فيها ُ‬ ‫ِ‬
‫شراب الخمرة‪ ،‬وهي محافل الذكر والمذاكرة‪ ،‬ونمارق مصفوفة‪ ،‬وسائد ال ّروح والريحان حيث‬
‫سقطت عنهم الكلف‪ ،‬ورموا ِحملهم على الحي القيوم‪ ،‬وزرابي مبثوثة؛‪ l‬بُسط األنس في محل‬
‫سراج‬ ‫القدس‪ ،‬أفال يستعملون الكفرة والنظرة‪ ،‬حتى تقيم أرواحهم في الحضرة‪ ،‬فإنَّ الفكرة ِ‬
‫القلب‪ ،‬فإذا ذهبت فال إضاءة له‪ ،‬وهي سير القلب إلى حضرة الرب‪ ،‬فينظرون إلى اإلبل كيف‬
‫سطحت من هيبته‪l،‬‬ ‫ُخلقت‪ ,‬فإنه تجلي غريب‪ ،‬وإلى السماء كيف ُرفعت به‪ ،‬وإلى األرض كيف ُ‬
‫وقال‪ :‬القشيري‪ :‬اإلبل‪ :‬النفوس األ ّمارة‪ ،‬لقوله عليه السالم‪ " :‬الناس كإبل مائة ال تكاد تجد فيها‬
‫راحلة " هـ وإلى األرواح كيف ُرفعت؛ ألنها محل أفكار العارفين‪ ،‬وإلى جبال العقل كيف نُصبت‬
‫سطحت‪ ،‬حيث‬ ‫لتمييز الحس من المعنى‪ ،‬والشريعة من الحقيقة‪ ،‬وإلى األرض البشرية كيف ُ‬
‫استولت عليها الروحانية‪ ،‬وتصرفت فيها‪.‬‬
‫ص ْي ِط ٍ‪l‬ر } * { إِالَّ َمن تَ َولَّىا َو َكفَ َر } * { فَيُ َع ِّذبُهُ هَّللا ُ‬‫*{ فَ َذ ِّك ْر إِنَّ َمآ أَنتَ ُم َذ ِّك ٌر } * { لَّسْتَ َعلَ ْي ِهم بِ ُم َ‬
‫اب األَ ْكبَ َر } * { إِنَّ إِلَ ْينَآ إِيَابَ ُه ْم } * { ثُ َّم إِنَّ َعلَ ْينَا ِح َ‬
‫سابَ ُه ْم }‬ ‫ا ْل َع َذ َ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬فَ َذ ِّكر } الناس باألدلة العقلية والنقلية‪ { ،‬إنما أنت ُمذ ِّّكر } ليس عليك إالَّ‬
‫التبليغ { لستَ عليهم بمصيط ٍ‪l‬ر }؛ بمسلط‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫{ َو َمآ أَنتَ َعلَ ْي ِهم بِ َجبَّا ٍر }‬
‫[قَ‪ ،]45:‬وفيه لغات‪ :‬السين‪ ،‬وهي األصل‪ ،‬والصاد‪ ،‬واإلشمام‪ { .‬إِالَّ َمن تولَّى و َكفَ َر فيعذبه هللاُ‬
‫العذاب األكبر } ‪ ،‬االستثناء منقطع‪ ،‬أي‪ :‬لست ب ُمسلط عليهم‪ ،‬تقهرهم على اإليمان‪ ،‬لكن َمن‬ ‫َ‬
‫تولى وكفر‪ ،‬فإنَّ هلل الوالية والقهر‪ ،‬فهو يعذبه العذاب األكبر‪ ،‬وهو عذاب جهنم‪ ،‬وقيل‪ :‬متصل‬
‫من قوله‪( :‬فذكر) أي‪ :‬ف َذ ِّكر إالَّ َمن انقطع طمعك من إيمانه وتولَّى‪ ،‬فاستحق العذاب األكبر‪ ،‬وما‬
‫بينها اعتراض‪.‬‬

‫{ إِنَّ إِلينا إِيابهم }؛ رجوعهم‪ ،‬وفائدة تقديم الظرف‪ :‬التشديد في الوعيد‪ ،‬وأنَّ إيابهم ليس إالَّ‬
‫للجبّار المقتدر على االنتقام‪ { ،‬ثم إِنَّ علينا حسابهم } فنُحاسبهم على أعمالهم‪ ،‬ونجازيهم جزاء‬
‫أمثالهم‪ ،‬و " على " لتأكيد الوعيد ال للوجوب‪ ،‬إذ ال يجب على هللا شيء‪ .‬وجمع الضمير في‬
‫إيابهم وحسابهم‪ ،‬باعتبار معنى " من " ‪ ،‬وإفراده فيما قبله باعتبار لفظها‪ ،‬و " ثم " للتراخي‬
‫في الرتبة‪ l‬ال في الزمان‪ ،‬فإنَّ الترتيب الزماني إنما هو بين إيابهم وحسابهم ال بين كون إيابهم‬
‫إليه تعالى وحسابهم‪ .‬انظر أبا السعود‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫اإلشارة‪ :‬ما قيل للرسول يُقال لخلفائه من أهل التذكير‪ ،‬و َمن تولَّى منهم يُ َّ‬
‫عذب بعذاب الفرق‬
‫والحجاب وسوء الحساب‪ .‬وباهلل التوفيق‪ ،‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله‪.‬‬

‫‪#‬سورة الفجر §‪#‬‬

‫س ِر } * { َه ْل فِي َذلِ َك قَ َ‬
‫س ٌم‬ ‫ش ْف ِع َوا ْل َو ْت ِر } * { َواللَّ ْي ِل إِ َذا يَ ْ‬
‫ش ٍر } * { َوال َّ‬ ‫يال َع ْ‬ ‫*{ َوا ْلفَ ْج ِر } * { َولَ ٍ‬
‫ق ِم ْثلُ َها فِي‬‫ت ا ْل ِع َما ِد } * { الَّتِي لَ ْم يُ ْخلَ ْ‬ ‫لِّ ِذى ِح ْج ٍر } * { أَلَ ْم تَ َر َكيْفَ فَ َع َل َر ُّبكَ بِ َعا ٍد } * { إِ َر َم َذا ِ‬
‫ص ْخ َر بِا ْل َوا ِد } * { َوفِ ْرع َْونَ ِذى األَ ْوتَا ِد } * { الَّ ِذينَ طَ َغ ْو ْا فِي‬ ‫ا ْلبِالَ ِد } * { َوثَ ُمو َد الَّ ِذينَ َجابُو ْا ال َّ‬
‫ب}‬ ‫س ْوطَ َع َذا ٍ‬ ‫ب َعلَ ْي ِه ْم َربُّكَ َ‬ ‫سا َد } * { فَ َ‬
‫ص َّ‬ ‫ا ْلبِالَ ِد } * { فَأ َ ْكثَ ُرو ْا فِي َها ا ْلفَ َ‬

‫صبح‪ l،‬لِ َما في ذلك‬


‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬والفجر } ‪ ،‬إ ّما وقته‪ ،‬أقسم به لشرفه‪ ،‬كما أقسم بال ُ‬
‫ُ‬
‫وليال عشر }؛ عشر ذي الحجة‪ ،‬أو العشر األول‬ ‫ٍ‬ ‫من االقتدار‪ ،‬أو‪ :‬صالته؛ لكونها مشهودة‪{ ،‬‬
‫من المحرم‪ ،‬أو األواخر من رمضان‪ ،‬ونُ ِّكرت للتفخيم‪ { ،‬والشفع والوتر } أي‪ :‬شفع كل األشياء‬
‫ووترها‪ ،‬أو‪ :‬شفع هذه الليالي ووترها‪ ،‬أو‪ :‬شفع الصلوات ووترها‪ ،‬أو‪ :‬يوم النحر‪ ،‬ألنه اليوم‬
‫العاشر‪ ،‬ويوم عرفة ألنه التاسع‪ ،‬أو الخلق والخالق‪ ،‬او صالة النافلة والوتر بعدها‪ ،‬أو األعداد؛‬
‫ألنَّ منها شفعا ً ومنها وتراً‪ ،‬والمختار العموم‪ ،‬كأنه تعالى أقسم بكل شيء؛ إذ ال يخلو شيء من‬
‫أن يكون شفعا ً وهو الزوج‪ ،‬أو وتراً وهو الفرد‪ ،‬والوتر بالفتح والكسر لغتان‪.‬‬

‫س ِر } إذا ذهب‪،‬‬
‫والليل إِذا يَ ْ‬
‫ِ‬ ‫ول َّما أقسم بالليالي المخصوصة‪ ،‬أقسم بالليالي على العموم‪ ،‬فقال‪{ :‬‬
‫وحذفت الياء في الوصل؛ اكتفا ًء بكسرتها‪،‬‬ ‫أو‪ :‬يسري فيه السائر‪ ،‬وقيل‪ :‬أُريد به ليلة القدر‪ُ ،‬‬
‫سئل األخفش عن سقوطها‪ ،‬فقال للسائل‪ :‬ال أجيبك حتى تخدمني‪ l‬سنة‪ ،‬فسأله بعد سنة‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫و ُ‬
‫الليل ال يسري‪ ،‬وإنّما يُسرى فيه‪ ،‬فل ّما عدل عن معناه عدل عن لفظه موافقةً‪ .‬هـ‪ .‬ويرد عليه‪:‬‬
‫أنها ُحذفت في كلمات كثيرة‪ ،‬ليس فيها هذه العلة‪.‬‬

‫س ٌم } أي‪ٌ :‬مقسم به‪ ،‬أو إقسام‪ ،‬والمعنى‪:‬‬ ‫{ هل في ذلك } أي‪ :‬فيما أقسمت به من هذه األشياء { قَ َ‬
‫َمن كان ذا لُ ٍّب َعلِ َم أنَّ ما أقسم هللا به من هذه األشياء فيه عجائب ودالئل على التوحيد‬
‫سم بها‪ ،‬وكونها أموراً جليلة حقيقة‬ ‫والربوبية‪ ،‬فهو حقيق بان يُقسم به‪ ،‬وهذا تفخيم لشأن المق َ‬
‫باإلقسام بها لذوي العقول‪ ،‬وهذا كقوله تعالى‪:‬‬
‫س ٌم لَّ ْو تَ ْعلَ ُمونَ ع َِظي ٌم (‪} )76‬‬
‫{ َوإِنَّهُ لَقَ َ‬
‫[الواقعة‪ ]76:‬وتذكير اإلشارة لتأويلها بما ذكر‪ ،‬وما فيها من معنى البُعد لإليذان ببُعد مرتبة‪l‬‬
‫س ِّمي‪ l‬به ألنه يحجر‬
‫المشار إليه‪ ،‬وبُعد منزلته في الشرف والفضل‪ { ،‬لذي ِح ْج ٍر }؛ لذي عقل؟ ُ‬
‫ال ونُ ْهيَةً ألنه يعقل صاحبه وينهاه عن الرذائل؛‬‫س ِّمي عق ْ‬
‫عن التهافت فيما ال ينبغي‪ ،‬كما ُ‬
‫ق عند ذوي العقول أن تُ َعظَّم هذه األشياء باإلقسام بها؟ أو‪ :‬هل في إقسامي بها‬ ‫والمعنى‪ :‬هل يح ُّ‬
‫سم عليه؟ أو‪ :‬هل في القسم بهذه‬ ‫إقسام لذي حجر‪ ،‬أي‪ :‬هل هو قسم عظيم يؤ ّكد بمثله المق َ‬
‫سم عليه محذوف‪ ،‬أي‪ :‬لتهلكنّ يا معشر الكفار ثم لتبنؤن‬ ‫األشياء قسم ُمقنع لذي لُب وعقل؟ والمق َ‬
‫بالحساب‪ ،‬يد ّل عليه قوله تعالى‪:‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫{ ألم تَ َر كيف فعل ر ُّبك بعا ٍد } فإنه استشهاد بعلمه صلى هللا عليه وسلم بما فعل بعاد وأضرابهم‬
‫المشاركين لقومه صلى هللا عليه وسلم في الطغيان والفساد‪ ،‬أي‪ :‬ألم تعلم علما ً يقينا ً كيف َّ‬
‫عذب‬
‫عذب هؤالء أيضا ً الشتراكهم فيما يوجبه‪ l‬من الكفر والمعاصي‪ ،‬والمراد‬ ‫ربُّك عاداً ونظائرهم‪ ،‬فيُ ّ‬
‫س ُّموا‬
‫بعاد‪ :‬أوالد عاد بن ع َْوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السالم قوم هود عليه السالم‪ُ ،‬‬
‫باسم أبيهم‪ ،‬وقد قيل ألوائلهم‪ :‬عاد األولى‪ ،‬وآلخرهم عاد اآلخرة‪ ،‬وقوله تعالى‪ { :‬إِ َر َم } عطف‬
‫بيان لعاد؛ لإليذان بأنهم عاد األولى بتقدير مضاف‪ ،‬أي‪ :‬سبط إرم‪ ،‬أو‪ :‬أهل إرم‪ ،‬على ما قيل‪ :‬من‬
‫أنَّ إرم اسم بلدتهم أو أرضهم التي كانوا فيها‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫سئ َِل ا ْلقَ ْريَةَ }‬
‫َو ْ‬
‫[يوسف‪ ،]82:‬ويؤيده قراءة ابن الزبير باإلضافة‪ ،‬ومنعت الصرف للتعريف والتأنيث‪ ،‬قبيلة‪ً،‬‬
‫ت العماد } صفة ِإلرم‪ ،‬فإذا كانت قبيلة فالمعنى‪ :‬أنهم كانوا‬‫كانت أو أرضاً‪ .‬وقوله تعالى‪ { :‬ذا ِ‬
‫بدويين أهل عمد‪ ،‬أو‪ِ :‬طوال األجسام على تشبيه‪ l‬قدودهم باألعمدة‪ ،‬وإن كانت صفة للبلدة‪،‬‬
‫فالمعنى‪ :‬أنها ذات عماد ِطوال لخيامهم على قدر طول أجسامهم‪ُ ،‬روي‪ :‬أنها كانت من ذهب‪ ،‬فلما‬
‫أرسل هللاُ عليهم الريح دفنتها في التراب‪ ،‬أو ذات أساطين‪.‬‬

‫ُروي‪ :‬أنه كان لعاد ابنان شدّاد وشديد‪ ،‬ف َملَكا وقَ َهرا‪ ،‬ثم مات شديد وخلص األمر لشدّاد‪ ،‬فملك‬
‫الدنيا‪ ,‬ودانت له ملوكها‪ ،‬فسمع بذكر الجنة‪ ،‬فقال‪ :‬أبني مثلها‪ ،‬فبنى إرم في بعض صحاري عدن‬
‫في ثالثمائة سنة‪ ،‬وكان عمره تسعمائة سنة‪ l،‬وهي مدينةٌ‪ l‬عظيمةٌ‪ ،‬قصورها من الذهب والفضة‪،‬‬
‫وأساطينها من الزبرجد والياقوت‪ ،‬وفيها أصناف األشجار واألنهار‪ ،‬ول َّما ت َّم بناءها سار إليها‬
‫بأهل مملكته‪ ،‬فل ّما كان منها على مسيرة يوم وليل ٍة‪ ،‬بعث هللاُ عليه صيحة من السماء فهلكوا‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬غطتها الريح بالرمل فما غ ّمًا عليها‪ .‬وعن عبد هللا بن قالبة‪ :‬أنه خرج في طلب إبل له‪،‬‬
‫فقص عليه‪ ،‬فبعث إلى‬
‫َّ‬ ‫فوقع عليها‪ ،‬فحمل ما قدر عليه م ّما ث َّم‪ ،‬فبلغ خبره معاوية‪ ،‬فاستحضره‬
‫كعب فسأله‪ ،‬فقال‪ :‬هي إرم ذات العماد‪ ،‬وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك‪ ،‬أحمر أشقر‪،‬‬
‫قصير‪ ،‬على حاجبه خال‪ ،‬وعلى عنقه خال‪ ،‬يرخج في طلب إبل له‪ ،‬ثم التفت فأبصر ابن قالبة‪،‬‬
‫فقال‪ :‬هذا وهللاُ ذلك الرجل‪ .‬انظر الثعلبي‪.‬‬

‫{ التي لم يُ ْخلَق مثلُها في البالد } أي‪ :‬مثل عا ٍد في قوتهم‪ ،‬كان الرجل منهم يحمل الصخرة‪،‬‬
‫فيجعلها على الحق فيهلكهم‪ ،‬وطُو ِل قامتهم‪ ،‬كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع‪ ،‬أو‪ :‬لم يُخلق‬
‫مثل مدينة " شدّاد " في جميع بالد الدنيا‪ ،‬ذكر في القوت‪ :‬أنَّ بعض األولياء قال‪ :‬دخلتُ مائة‬
‫مدينة‪ ،‬أصغرها إرم ذات العماد‪ ،‬ثم قال‪ :‬وقوله تعالى على هذا‪ { :‬لم يخلق مثلها في البالد } أي‪:‬‬
‫بالد اليمن‪ .‬هـ‪.‬‬

‫ص ْخ َر بالوا ِد } أي‪ :‬قطعوا صخر الجبال‪ ،‬واتخذوا فيها بيوتاً‪ ،‬قيل‪ :‬أ ّول َمن‬
‫{ وثمو َد الذين جابوا ال َّ‬
‫نحت الجبال والصخور ثمود‪ ،‬وبنوا ألفا ً وسبعمائة مدين ٍ‪l‬ة كلها من الحجارة‪ ،‬والمراد بالواد وادي‬
‫القُرى‪ ،‬وقيل غيره‪ .‬والوادي‪ :‬ما بين الجبلين‪ ،‬وإن لم يكن فيه ماء‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫{ وفرعونَ ذي األوتاد } أي‪ :‬وكيف فعل بفرعون صاحب األوتاد‪ ،‬أي‪ :‬الجنود الكثيرة‪ ،‬وصف‬
‫بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي كانوا يضربونها في منازلهم إذا نزلوا‪ ،‬وقيل‪ :‬كان له أوتاد‬
‫الناس بها‪ ،‬كما فعل بآسية‪.‬‬
‫َ‬ ‫يُ ّ‬
‫عذب‬

‫الذين طَ َغوا في البالد }؛ تجاوزوا الحدّ‪ ،‬والموصول‪ l‬إ ّما مجرور صفة للمذكورين‪ ،‬أو منصوب‪ ،‬أو‬
‫مرفوع على الذم‪ ،‬أي‪ :‬طغى كل طائفة منهم في بالدهم‪ ،‬وكذا قوله تعالى‪ { :‬فأكثَ ُروا فيها‬
‫فصب عليهم ربُّك } أي‪ :‬أنزل إنزاالً شديداً على كل طائفة من‬ ‫َّ‬ ‫الفسا َد } بالكفر القتل والظلم‪{ ،‬‬
‫ب } أي‪ :‬عذابا ً شديداً ال يُدرك‬ ‫أولئك الطوائف عقب ما فعلت من الطغيان والفساد { سوطَ عذا ٍ‬
‫غايته‪ ,‬وهو عبارة عما ح َّل بكل واح ٍد منهم من فنون العذاب التي بُينت في سائر السور الكريمة‪،‬‬
‫وتسميته سوطاً؛ لإلشارة إلى أنَّ ذلك بالنسبة إلى ما أع ّد لهم في اآلخرة بمنزلة‪ l‬السوط عند‬
‫السيف‪ ،‬والتعبير بالصب‪ ،‬لإليذان بشدته وكثرته‪ l،‬واستمراره‪ l،‬أي‪ :‬ع ُِّذبوا عذابا ً دائما ً مؤلماً‪،‬‬
‫والعياذ باهلل من أسباب المحن‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬أقسم تعالى بأول فجر نهار اإلحسان‪ ،‬وتمام قمر نور اإليمان‪ ،‬ليلة العشر‪ ,‬وشفعية‬
‫ستَأصلَن القواطع عمن توجه إليه بالصدق واإلخالص‪ ،‬ألم ت َر كيف فعل‬ ‫األثر‪ ،‬ووتر الوحدة‪ ،‬لتُ ْ‬
‫ربك بعاد النفس األ ّمارة العاتية‪ ،‬الشبيهة‪ l‬بعاد إرم ذات العماد في العتو‪ ،‬التي لم يُخلق مثلُها في‬
‫البالد؛ في بالد القواطع‪ ،‬إذ هي أقبح من سبعين شيطاناً‪ ،‬وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي‪.‬‬
‫القشيري‪ :‬يشير‪ l‬إلى ثمود القوة الشهوانية القاطعة لصخرات الشهوات الجثمانية‪ ،‬وفرعون ذي‬
‫األوتاد‪ ،‬يُشير‪ l‬إلى فرعون القوة الغضبية‪ ،‬وكثرة تباعته‪ ،‬وأنواع عقوباته وتشدداته‪ .‬هـ‪ .‬فأكثَروا‬
‫فصب عليهم ربك سوط عذاب بأنواع المجاهدات والرياضات‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫فيها الفساد‪ ،‬أي‪ :‬مدينة‪ l‬القلب‪،‬‬
‫ممن أراد هللا تأييده وواليته‪l.‬‬

‫سانُ إِ َذا َما ا ْبتَالَهُ َربُّهُ فَأ َ ْك َر َمهُ َونَعَّ َمهُ‪ l‬فَيَقُو ُل َربِّيا أَ ْك َر َم ِن } *‬
‫صا ِد } * { فَأ َ َّما ا ِإلن َ‬ ‫*{ إِنَّ َربَّكَ لَبِا ْل ِم ْر َ‬
‫{ َوأَ َّمآ إِ َذا َما ا ْبتَالَهُ فَقَ َد َر َعلَ ْي ِه ِر ْزقَهُ فَيَقُو ُل َربِّيا أَهَانَ ِن } * { َكالَّ بَل الَّ تُ ْك ِر ُمونَ ا ْليَتِي َم } * { َوالَ‬
‫اث أَ ْكالً لَّ ّما ً } * { َوتُ ِحبُّونَ ا ْل َما َل ُحبّا ً َج ّما ً }‬ ‫ين } * { َوتَأْ ُكلُونَ التُّ َر َ‬ ‫آضونَ َعلَىا َ‬
‫ط َع ِام ا ْل ِم ْ‬
‫س ِك ِ‬ ‫ت ََح ُّ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬إِنَّ ربك لبالمرصاد } ‪ ،‬قال ابن عباس‪ :‬بحيث يرى ويسمع فال يعزب‬
‫عنه شيء‪ ،‬وال يفوته أحد‪ ،‬فتجب مراقبته‪ l‬ال الغفلة عنه في االنهماك في حب العاجلة‪ ،‬كما أشار‬
‫إليه بقوله‪ { :‬فأ ّما اإلنسان‪ } ..‬الخ‪ ،‬فإنه بضد المراد مما تقتضيه حال المراقبة ل َمن بالمرصاد‪.‬‬
‫صده‪ ،‬كالميقات‬‫صد‪ ،‬أي‪ :‬االنتظار‪ ،‬مفعال‪ ،‬من‪ :‬ر َ‬ ‫هـ‪ .‬وأصل المرصاد‪ :‬المكان الذي يترقّب فيه ال َّر َ‬
‫من وقته‪ ،‬وهذا تمثيل إلرصاده تعالى بالعصاة‪ ،‬وأنهم ال يفوتونه‪ ،‬قال الطيبي‪ :‬ل ّما بيّن تعالى ما‬
‫ب عليهم سوط العذاب‪ ،‬أتبعه قوله‪:‬‬ ‫ص َّ‬
‫فعل بأولئك الطغاة من قوم عاد وثمود وفرعون‪ ,‬حيث َ‬
‫{ إِنَّ ربك لبالمرصاد } تخلُّصاً‪ ،‬أي‪ :‬فعل بأولئك ما فعل‪ ،‬وهو يرصد هؤالء الكفار الذين طغوا‬
‫على أفضل البشر وسيد الرسل‪ ،‬مما جاء به من األمر بمكارم األخالق ومعالي األمور‪ ,‬والنهي‬
‫عن سفسافها‪ ،‬ورذائلها‪ ،‬فيصب عليهم في الدنيا سوط عذاب‪ ،‬ويُعذبهم في اآلخرة عذابا ً فوق كل‬
‫عذاب‪ ،‬كما قال‪:‬‬
‫ب َع َذابَهُ أَ َح ٌد }‬
‫{ الَّ يُ َع ِّذ ُ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫[الفجر‪.]25:‬‬

‫صل أحوال الناس بعد أن أعلم أنه مطلع عليهم‪ ،‬فقال‪ { :‬فأ ّما ا ِإلنسانُ } ‪ ،‬فهو متصل بما‬ ‫ثم ف ّ‬
‫قبله‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬إنه تعالى بصدد مراقبته‪ l‬أحوال عباده ومجازاتهم بأعمالهم خيراً أو ش ًّرا { فأ ّما‬
‫اإلنسان } الغافل فال يهمه ذلك‪ ،‬وإنما مطمح نظره ومرصد أفكاره الدنيا ولذائذها‪ { ،‬إِذا ما ابتاله‬
‫ر ُّبه } أي‪ :‬عامله معاملة َمن يبتليه‪ l‬ويختبره { فأ ْك َر َمه ونَ َّعمه } ‪ ،‬الفاء تفسيرية‪ ،‬فاإلكرام‬
‫ضلني بما أعطاني من الجاه والمال‬ ‫أكرمن } أي‪ :‬ف ّ‬ ‫ِ‬ ‫والتن ُّعم هو عين االبتالء‪ { ،‬فيقول ربي‬
‫حسبما كنت أستحقه‪ ،‬وال يخطر بباله أنه أعطاه ذلك ليبلوه أيشكر أم يكفر‪ ،‬وهو خبر المتبدأ الذي‬
‫ُّ‬
‫التأخر‪،‬‬ ‫هو " اإلنسان " ‪ ،‬والفاء لما في " أ َّما " من معنى الشرط‪ ،‬والظرف المتوسط على نية‬
‫كأنه قيل‪ :‬فأ ّما اإلنسان فيقول ربي أكرمني وقت ابتالئه باإلنعام‪ ،‬وإنما قدّمه لإليذان من أول مرة‬
‫بأنّ اإلكرام والتن ُّع م بطريق االبتالء‪ .‬ونقل الرضي أن " إذا " هنا جزائية‪ ،‬فقال‪ :‬وقد تقع كلمة‬
‫الشرط مع الشرط في جملة أجزاء الجزاء‪ ,‬ثم استشهد باآلية‪ ،‬وقال‪ :‬والتقدير‪ :‬فمهما يكن من‬
‫شيء فإذا ابتاله يقول‪ .‬هـ‪ .‬وقال المرادي‪ :‬إذا توالى شرطان دون عطف فالجواب ألولهما‪،‬‬
‫والثاني مقيد لألول‪ ،‬كتقييده بحال واقعة موقعه‪ ،‬ثم استشهد بما حاصله في اآلية‪ :‬فأ ّما اإلنسان‬
‫حال كونه مبتلى فيقول‪ ...‬الخ‪ ،‬فالشرط الثاني في معنى الحال‪ ،‬والحال ال تحتاج إلى جواب‪ .‬هـ‪.‬‬
‫مختصراً انظر الحاشية الفاسية‪.‬‬

‫ضيّق عليه رزقه‪ ،‬وجعله بمقدار بلغته‪ ،‬حسبما‬ ‫{ وأ ّما إِذا ما ابتاله فَقَد ََر عليه رزقَه } أي‪َ :‬‬
‫الح َكم البالغة‪ { ,‬فيقول ربي أهان ِن } ‪ ،‬وال يخطر بباله أنَّ ذلك لِيبلوه‬
‫تقتضيه‪ l‬ميشئته المبينة على ِ‬
‫أيصبر أم يجزع‪ ،‬مع أنه ليس من اإلهانة في شي ٍء بل التقتير قد يُؤدي إلى كرامة الدارين‪،‬‬
‫والتوسعة قد تفضي إلى خسرانهما‪ ،‬فالواجب ل َمن علم أنَّ ربه بالمرصاد منه أن يسعى للعاقبة‪،‬‬
‫وال تَه ّمه العاجلة‪ ،‬وهو قد عكسن فإذا امتحنه ربه بالنعمة والسعة ليشكر قال ربي أكرمني‪l,‬‬
‫ضلني بما أعطاني‪ ،‬فيرى اإلكرام في كثرة الحظّ من الدنيا‪ ،‬وإذا امتحنه بالفقر‪ ،‬فَقَدَر عليه‬ ‫وف ّ‬
‫رزقه ليصبر‪ ،‬قال‪ :‬ربّي أهانني‪ ،‬فيرى الهوان في قلة الحظ من الدنيا؛ ألنه ال يهمه إالَّ العاجلة‪،‬‬
‫يلذه وين ِّعمه فيها‪ ،‬وإنما أنكر قوله‪ { :‬ربي أكرمن } مع أنه أثبته بقوله‪ { :‬فأكرمه ونعَّمه‬ ‫وهو ما ّ‬
‫صححه هللا عليه وأثبته‪ l،‬وهو قصده إلى أن هللا أعطاه إكراما ً له‬ ‫} ‪ ،‬ألنه قاله على قصد خالف ما ّ‬
‫الستحقاقه‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫إِنَّ َمآ أُوتِيتُهُ َعلَىا ِع ْل ٍم ِعن ِديا }‬
‫[القصص‪ ]78:‬وإنما أعطاه هللا ابتال ًء من غير استحقاق منه‪ ،‬فر ّد تعالى عليه زعمه بقوله‪:‬‬
‫{ كالَّ } أي‪ :‬ليس اإلكرام واإلهانة في كثرة المال وقلّته‪ ،‬بل اإلكرام في التوفيق للطاعة‪ ،‬واإلهانة‬
‫في الخذالن فـ " كال " ردع لإلنسان عن مقالته‪ ،‬وتكذيب له في الحالتين‪ ،‬قال ابن عباس‪:‬‬
‫المعنى‪ :‬لم أبتله بالغنى لكرامته عل ّي‪ ،‬ولم أبتله بالفقر لهوانه عل ّي‪ ،‬بل ذلك بمحض القضاء‬
‫والقدر‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬بل ال تُك ِرمون اليتي َم } انتقال من بيان سوء أقواله إلى بيان سوء أفعاله‪،‬‬
‫وااللفتات إلى الخطاب؛ لإليذان بمشافهته‪ l‬بالعتاب‪ ،‬تشديداً للتقريع‪ ،‬وتأكيداً للتشنيع‪ ،‬والجمع‬
‫باعتبار معنى اإلنسان‪ ،‬إذ المراد به الجنس‪ ،‬أي‪ :‬بل لكم أحوال أشد ش ًّرا مما ذكر‪ ،‬وأدل على‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫تهالككم على المال‪ ،‬حيث يُكرمكم هللا تعالى بكثرة المال فال تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم‬
‫بالمبّرة به‪.‬‬

‫ضكم بعضا ً على إطعام المساكين‪ { ،‬وتأكلون‬ ‫َحاضون على طعام المسكين } أي‪ :‬يحض بع ُ‬ ‫{ وال ت ُّ‬
‫التراث } أي‪ :‬الميراث‪ ،‬وأصله ال ُوراث‪ ،‬فقلبت الواو تاء‪ { ،‬أكالً ل ّما } أي‪ :‬ذا لَ ّم‪ ،‬وهو الجمع بين‬
‫َ‬
‫الحالل والحرام‪ ,‬فإنهم كانوا ال يُو ِرثون النساء والصبيان‪ ،‬ويأكلون أنصباءهم‪ ،‬ويأكلون كل ما‬
‫تركه ال ُمو ّرث من حالل وحرام‪ ،‬عالمين بذلك‪ { ،‬وتُحبون الما َل حبا ً جما ً } أي‪ :‬كثيراً شديداً‪ ،‬مع‬
‫ع عن ذلك‪ ،‬وإنكا ٌر عليهم‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬ ‫الحرص ومنع الحقوق‪َ { ،‬كالًّ } رد ٌ‬

‫اإلشارة‪ :‬إنَّ ربك لبالمرصاد‪ ،‬المطلع على أسرار العباد‪ ،‬العالم ب َمن أقبل عليه أو أدبر عنه‪ ،‬ثم‬
‫يختبرهم بالجمال والجالل‪ ،‬فأ ّما اإلنسان إذا ما ابتاله ر ُّبه فأ ْك َرمه ونَ َّع َمه في الظاهر‪ ،‬فيقول ربي‬
‫ّ‬
‫ويتسخط‪،‬‬ ‫أكرمني‪ l،‬ويبطر ويتكبّر‪ ،‬وأ ّما إذا ما ابتاله فقَدَر عليه رزقه فيقول ربي أهانني‪ ،‬ويقنط‬
‫َكالَّ لِينزجرا عن اعتقادهما وفعلهما‪ ،‬وليعلما أنه اختبار من الحق‪ ،‬ف َمن شكر النِعم‪ ,‬وأطعم الفير‬
‫والمسكين‪ ،‬وأب ّر اليتيم واأليم‪ ،‬كان من األبرار‪ ،‬وإن عكس القضية‪ l‬كان من الفُ ّجار‪ ,‬و َمن صبر‬
‫على الفقر‪ ،‬ورضي بالقسمة‪ ،‬وفرح بالفاقة‪ ،‬فهو من األولياء‪ ،‬و َمن عكس القضية كان من‬
‫البُعداء‪ ،‬فَمن نظر اإلنسان القصير ظنُ النقمة نعمة‪ ،‬والنعمة نقمة‪ ،‬فبسطُ الدنيا على العبد قبل‬
‫معرفته بربه هوانٌ ‪ ،‬وقبضها عنه أحسان‪ ،‬وفي الحكم‪ " :‬ربما أعطاك فمنعك‪ ،‬وربما منعك‬
‫ق تعالى عن التمتُّع الشهواني البهيمي‪ ،‬وعن محبة المال الفاني‪ ،‬وهو‬ ‫فأعطاك "‪ .‬ثم زجر الح ُّ‬
‫من فعل أهل االنهماك في الغفلة‪.‬‬

‫صفّا ً } * { َو ِجيا َء يَ ْو َمئِ ٍذ بِ َج َهنَّ َم‬ ‫صفّا ً َ‬ ‫ت األَ ْر ُ‬


‫ض َد ّكا ً َد ّكا ً } * { َو َجآ َء َر ُّبكَ َوا ْل َملَ ُك َ‬ ‫*{ َكالَّ إِ َذا ُد َّك ِ‬
‫ب‬‫الذ ْك َرىا } * { يَقُو ُل يالَ ْيتَنِي‪ l‬قَ َّد ْمتُ لِ َحيَاتِي } * { فَيَ ْو َمئِ ٍ‪l‬ذ الَّ يُ َع ِّذ ُ‬ ‫سانُ َوأَنَّىا لَهُ ِّ‬ ‫يَ ْو َمئِ ٍذ يَتَ َذ َّك ُر ِ‬
‫اإلن َ‬
‫ار ِج ِعي إِلَىا َربِّ ِك‬ ‫س ا ْل ُم ْط َمئِنَّةُ } * { ْ‬‫ق َوثَاقَهُ أَ َح ٌد } * { ياأَيَّتُ َها النَّ ْف ُ‬ ‫َع َذابَهُ أَ َح ٌد } * { َوالَ يُوثِ ُ‬
‫ضيَّةً‪ { * } l‬فَاد ُْخلِي فِي ِعبَا ِدي } * { َواد ُْخلِي َجنَّتِي‪} l‬‬ ‫اضيَةً َّم ْر ِ‬ ‫َر ِ‬

‫ض } أي‪ُ :‬زلزلت { دَكا ً دَكا ً } أي‪ :‬دكا ً بعد دكّ‪ ،‬أي‪ :‬ك ّرر‬
‫األر ُ‬
‫ت ْ‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬كال إِذا ُد َّك ِ‬
‫عليها الد ّك حتى صارت هبا ًء منبثاً‪ ،‬أو قاعا ً صفصفاً‪ { ،‬وجاء ربُّك } أي‪ :‬تجلّى لفصل قضائه‬
‫بين عباده‪ ،‬وعن ابن عباس‪ :‬أمره وقضاؤه‪ { ،‬وال َمل ُك صفا ً صفا ً } أي‪ :‬نزل مالئكة كل سماء‬
‫فيصفون صفا ً بعد صف محدقين باإلنس والجن‪ { ،‬وجيء يومئ ٍ‪l‬ذ بجهن َم } ‪ ،‬قيل‪ :‬بُ ِّرزت ألهلها‪،‬‬
‫كقوله‪:‬‬
‫ت ا ْل َج ِحي ُم ِل ْل َغا ِوينَ (‪} )91‬‬
‫{ َوبُ ِّرزَ ِ‬
‫[الشعراء‪ ]91:‬وقيل‪ :‬يجاء بها حقيقة‪ ،‬وفي الحديث‪ " :‬يؤتى بجهنم يومئ ٍذ‪ ،‬لها سبعونَ ألفَ‬
‫جرونها‪ ،‬حتى تنصب عن يسار العرش‪ ,‬لها لغيط وزفير "‬ ‫زمام‪ ،‬مع كل زمام سبعون ألف ملك يَ ُّ‬ ‫ٍ‬
‫رواه مسلم‪.‬‬

‫اإلنسانُ } أي‪ :‬يتّعظ‪ ،‬وهو بدل من (إذا دُكت) والعامل فيه‪( :‬يتذ ّكر) أي‪ :‬إذا دُكت‬
‫{ يومئذ يتذ ّك ُر ِ‬
‫األرض ووقع الفصل بين العباد يتذكر اإلنسان ما ف ّرط فيه بمشاهدة جزائه‪ { ،‬وأنَّى له ِّ‬
‫الذ ْك َرى }‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫أي‪ :‬ومن أين له الذكرى؟ لفوات وقتها في الدنيا‪ { ،‬يقول يا ليتني قدمتُ لحياتي } هذه‪ ،‬وهي‬
‫حياة اآلخرة‪ ،‬أي‪ :‬يا ليتني قدّمتُ األعما َل الصالحة في الدنيا الفانية‪ l‬لحياتي الباقية‪.‬‬

‫ب عذابَه أح ٌد } أي‪ :‬ال يتولّى عذاب هللا أحد؛ ألن األمر هلل وحده في ذلك اليوم‪،‬‬‫{ فيومئ ٍذ ال يُ َع ِّذ ُ‬
‫ق وثاقه أح ٌد } ‪ ،‬قال صاحب الكشف‪ :‬ال يُعدِّب بالسالسل واألغالل أح ٌد كعذاب هللا‪ ،‬وال‬ ‫{ وال يُوثِ ُ‬
‫يوثِق أح ٌد أحداً كوثاق هللا‪ .‬وقرأ األخوان بفتح‪ l‬الذال والثاء‪ ،‬بالبناء للمفعول‪ ،‬قيل‪ :‬وهي قراءة‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ورجع إليها أبو عمرو في آخر عمره‪ ،‬والضمير‪ l‬يرجع إلى‬
‫عذب أح ٌد مثل عذابه‪ ،‬وال يوثق‬ ‫اإلنسان الموصوف‪ ،‬وهو الكافر‪ .‬وقيل‪ :‬هو أُب ّي بن خلف‪ ،‬أي‪ :‬ال يُ ِّ‬
‫بالسالسل مثل وثاقه؛ لتناهيه في كفره وعناده‪.‬‬

‫النفس } يخاطبه تعالى إكراما ً له بال واسطة‪ ,‬أو على لسان‬‫ُ‬ ‫ثم يقول هللا تعالى للمؤمن‪ { :‬يا أيتها‬
‫ملك‪ { ،‬المطمئن ِة } بوجود هللا‪ ،‬أو بذكره‪ ،‬أو بشهوده‪ ،‬الواصلة إلى بَلَج اليقين‪ ،‬بحيث ال يخالطها‬
‫شك وال وهم‪ ،‬وقيل‪ :‬المطمئنة‪ ،‬أي‪ :‬اآلمنة التي ال يستفزها خوف وال حزن‪ ،‬ويؤيده‪ :‬قراءة َمن‬
‫قرأ‪ :‬يا أيتها النفس اآلمنة‪ l‬المطمئنة‪ l.‬ويقال لها هذا عند البعث‪ ،‬أو عند تمام الحساب‪ ،‬أو عند‬
‫الموت‪ { :‬ارجعي إِلى ربك } إلى وعده‪ ،‬أو‪ :‬إلى إكرامه‪ { ،‬راضيةً } بما أُوتيت من النعيم‬
‫{ مرضيةً‪ } l‬عند هللا ع ّز وجل‪ { ،‬فادخلي في عبادي } أي‪ :‬في زمرة عبادي الصالحين‬
‫المخلصين‪ ،‬وانتظمي في سلكهم‪ { ،‬وادخلي جنتي } معهم‪ .‬وقال أبو عبيدة‪ :‬أي‪ :‬مع عبادي وبين‬
‫صي‪ ،‬كما قال‪:‬‬ ‫عبادي‪ .‬أي‪ :‬خوا ّ‬
‫صالِ ِحينَ }‬ ‫{ َوأَد ِْخ ْلنِي بِ َر ْح َمتِكَ فِي ِعبَا ِدكَ ال َّ‬
‫[النمل‪ .]19:‬وقيل‪ :‬المراد بالنفس‪ :‬الروح‪ ،‬أي‪ :‬وادخلي في أجساد عبادي‪ ،‬لقراءة ابن مسعود‪:‬‬
‫" في جسد عبادي " ول ّما مات ابن عباس بالطائف جاء طائر لم يُ َر على خلقته‪ ,‬فدخل في نعشه‪،‬‬
‫فلما دُفن تُليت هذه اآلية على شفا قبره‪ ،‬ولم يُ ْد َر َمن تالها‪ ،‬وقيل‪ :‬نزلت في حمزة بن عبد‬
‫المطلب‪ ,‬وقيل‪ :‬في ُخب ْيب بن عدي‪ ،‬الذي صلبه أه ُل مكة‪ ,‬والمختار‪ :‬أنها عامة في المؤمنين؛ إذ‬
‫العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب‪.‬‬
‫اإلشارة‪ :‬إذا دُكت أرض الحس‪ ،‬باستيالء المعنى عليها‪ ،‬أو أرض البشرية‪ l،‬باستيالء الروحانية‬
‫عليها‪ ،‬دكا ً بعد د ٍّك‪ ،‬بالتدريج والتدريب‪ ،‬حتى يحصل التمكين من أسرار المعاني‪ ،‬وجاء ربك‪،‬‬
‫أي‪ :‬ظهر وتجلّى للعيان‪ ،‬والملَك صفا ً صفاً‪ ،‬أي‪ :‬وجاءت المالئكة صفوفاً‪ ،‬وجيء يومئ ٍ‪l‬ذ بجهنم‪،‬‬
‫صحبة أهل الجمع‪ ،‬وأنَّى‬ ‫أي‪ :‬بنار البُعد ألهل الفرق‪ ،‬يومئذ يتذ ّكر اإلنسانُ ما فاته من المجاهدة و ُ‬
‫له الذكرى مع إقامته في الفَ ْرق طول عمره‪ ،‬يقول‪ :‬يا ليتني قدمتُ لحياتي؛ ُروحي بالمشاهدة بعد‬
‫تصرفه‪ l‬في عباده بقدرته‪ ،‬فيُ َع ِّذب أهل الحجاب بسالسل العالئق‬ ‫ُّ‬ ‫المجاهدة‪ ،‬فيومئ ٍذ يتولى الحق‬
‫والشواغل‪ ،‬ويُقيدهم بقيود البين‪ ،‬ثم يُنادي روح المقربين أهل األرواح القدسية‪ :‬يا أيتها النفس‬
‫المطمئنة‪ l،‬التي اطمأنت بشهود الحق‪ ،‬ودام فناؤها وبقاؤها باهلل‪ ،‬ارجعي إلى ربك؛ إلى شهود‬
‫ربك بعد أن كنت عنه محجوبة‪ ،‬راضية‪ l‬عن هللا في الجالل والجمال‪ ،‬مرضية‪ l‬عنده في حضرة‬
‫الكمال‪ ،‬وعالمة الطمأنينة‪ l:‬أنَّ صاحبها ال ينهزم عند الشدائد وتفاقم األهوال‪ ،‬ألنَّ َمن كانت يده‬
‫مع الملك صحيحة ال يبالي ب َمن واجهه بالتخويف أو التهديد‪ .‬وقال الورتجبي‪ l:‬النفس المطمئنة‬
‫هي التي صدرت ِمن نور خطاب األول الذي أوجدها من العدم بنور‪ l‬القِدم‪ ،‬واطمأنت بالحق‬
‫وبخطابه ووصاله‪ ،‬فدعاها هللا إلى معدنها األول‪ ،‬وهي التي ما نالت من األول إلى اآلخر غير‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫مشاهدة هللا‪ ،‬راضية من هللا باهلل‪ ،‬مرضية‪ l‬عند هللا باالصطفائية األزلية‪ .‬هـ‪ .‬والنفوس ثالثة‪:‬‬
‫أ ّمارة‪ ،‬ول ّوامة‪ ،‬ومطمئنة‪ l،‬وزاد بعضهم‪ :‬الالّمة‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪ ،‬صلّى هللا على سيدنا محمد‬
‫وآله‪.‬‬

‫‪#‬سورة البلد §‪#‬‬

‫سانَ‬ ‫اإلن َ‬ ‫س ُم بِ َهـا َذا ا ْلبَلَ ِد } * { َوأَنتَ ِح ٌّل بِ َهـا َذا ا ْلبَلَ ِد } * { َو َوالِ ٍد َو َما َولَ َد } * { لَقَ ْد َخلَ ْقنَا ِ‬‫*{ الَ أُ ْق ِ‬
‫ب أَن لَّ ْم يَ َرهُ‬ ‫س ُ‬ ‫ب أَن لَّن يَ ْق ِد َر َعلَ ْي ِه أَ َح ٌد } * { يَقُو ُل أَ ْهلَ ْكتُ َماالً لُّبَداً } * { أَيَ ْح َ‬ ‫فِي َكبَ ٍد } * { أَيَ ْح َ‬
‫س ُ‬
‫شفَتَ ْي ِن } * { َو َه َد ْينَاهُ النَّ ْجد ِ‬
‫َين }‬ ‫سانا ً َو َ‬ ‫أَ َح ٌد } * { أَلَ ْم نَ ْج َعل لَّهُ َع ْينَ ْي ِن } * { َولِ َ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬ال أُقسم بهذا البلد }؛ أَقسم تعالى بالبلد الحرام‪ ،‬وما عطف عليه على أنّ‬
‫اإلنسان ُخلق مغموراً بمقاساة الشدائد ومعاناة المشاقّ‪ .‬واعترض بين القسم وجوابه بقوله‪:‬‬
‫{ وأنت ِح ّل بهذا البلد } ‪ ،‬أي‪ :‬وأنت حا ّل ساكن به‪ ،‬فهو حقيق بأن يُقسم به لحلولك به‪ ،‬أو‪:‬‬
‫وأنت ِحل‪ ،‬أي‪ :‬تُستحل حرمتُكَ‪ ,‬ويُؤذيك الكفرةُ مع أنَّ مكة ال يَحل فيها قتل صيد وال بشر‪ ،‬وال‬
‫قطع شجر‪ ,‬وعلى هذا قيل‪ " :‬ال أٌقسم " نفي‪ ،‬أي‪ :‬ال أقسم بهذا وأنت تلحقك فيه إذاية‪ ،‬وهذا‬
‫ضعيف‪ ،‬أو‪ :‬وأنت حالل يجوز لك في هذا البلد ما شئت ِمن قتل كافر وغير ذلك مما ال يجوز‬
‫لغيرك‪ ،‬وهذا هو األظهر؛ لقوله صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬إنَّ هذا البلد حرام‪ ،‬ح ّرمه هللاُ يو َم خلق‬
‫السموات واألرض‪ ،‬لم يَ ِح َّل ألح ٍد قبلي‪ ،‬وال يحل ألحد بعدي‪ ،‬وإنما أُحل لي ساعة من نها ٍر " ‪،‬‬
‫يعني‪ :‬فتح مكة‪ ،‬وفيه أَ َم َر صلى هللا عليه وسلم بقتل ابن َخطَل‪ ،‬وهو متعلّق بأستار الكعبة‪.‬‬

‫فإن قلتَ ‪ :‬السورة مكية‪ ،‬وفتح مكة كان سنَة ثمان من الهجرة؟ قلتُ ‪ :‬هو وعد بالفتح وبشارة‪.‬‬
‫انظر ابن جزي‪ .‬وكثير من اآليات نزلت بمكة ولم يتحقق مصداقها إالّ بعد الهجرة‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫ش ِر ِكينَ الَّ ِذينَ الَ يُ ْؤتُونَ ال َّز َكاةَ }‬‫{ َو َو ْي ٌل لِّ ْل ُم ْ‬
‫[فصلت‪ ]7 ،6:‬وقوله تعالى‪:‬‬
‫ْ‬
‫س َرائِي َ‪l‬ل َعلَىا ِمثلِ ِه }‬‫ش ِه َد شَا ِه ٌد ِّمن بَنِيا إِ ْ‬ ‫{ َو َ‬
‫[األحقاف‪ ]10:‬وغير ذلك‪.‬‬

‫{ ووال ٍد وما َولَد } أي‪ :‬وآدم وجميع ولده‪ ،‬أو نوح وولده‪ ،‬أو إبراهيم وولده‪ ،‬أو إسماعيل ونبينا‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ويؤيده أنه َح َر ُم إبراهيم ومنشأ إسماعيل‪ ،‬ومسكن نبينا محمد صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬أو محمد صلى هللا عليه وسلم وولده‪ ،‬أو جنس كل والد ومولود‪ { .‬لقد خلقنا ا ِإلنسانَ‬
‫} أي‪ :‬جنسه { في كب ٍد }؛ في تعب ومشقة‪ ،‬فإنه ال يزال يُقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ‬
‫الروح إلى حين نزعها‪ ،‬يُكابد مشاق التعلُّم‪ ،‬ثم مشاق القيام بأمور الدين وأمور معاشه وهموم‬
‫دنياه وآخرته‪ ،‬ثم يكابد نزع روحه‪ ،‬ثم سؤاله في قبره‪ ,‬ثم تعب حشره‪ ،‬ومقاساة شدائد حسابه‪،‬‬
‫ثم مروره على الصراط‪ ،‬فال راحة له إالّ بعد دخول الجنة لتكون حلوة عنده‪ ،‬هذا في عموم‬
‫الناس‪ ،‬وأ ّم ا خواص العارفين فقد استراحوا حين وصلوا إلى معرفة الحق‪ ،‬فأسقطوا عنهم‬
‫األحمال؛ لتحققهم أنهم محمولون بالقدرة األزلية‪ ،‬فلما أَسقطوا ِح ْملَهم قام هللا بأمرهم‪ ،‬لقوله‪:‬‬
‫{ َو َمن يَت ََو َّك ْل َعلَى هَّللا ِ فَ ُه َو َح ْ‬
‫سبُهُ }‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫[الطالق‪ ،]3:‬يقال‪َ :‬كبِ َد الرجل َكبَداً‪ :‬إذا وجعت كبده من مرض أو تعب‪.‬‬

‫ب أن لَّن يَ ْق ِدر عليه أَح ٌد } أي‪ :‬أيظن اإلنسان الكافر أن لن يقدر على بعثه أحد‪ ،‬أو‪ :‬أيظن‬ ‫{ أَيَ ْح َ‬
‫س ُ‬
‫بعض اإلنسان ألن يغلبه أحدٌ‪ ،‬فعلى هذا نزلت في ُم َعيّن‪ ,‬قيل‪ :‬هو أبو األشدّين الجمحي‪ ،‬رجل من‬
‫قريش كان شديد القوة‪ ،‬مغت ًّرا بقوته‪ ،‬كان يبسط له األديم العكاظي فيقوم عليه‪ ،‬ويقول‪َ :‬من‬
‫أزالني عنه فله كذا‪ ،‬فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً‪ ،‬وال تزال قدماه‪ ،‬وقيل‪َ :‬ع ْمرو بن عبد ود‪ ،‬وهو‬
‫الذي اقتحم الخندق بالمدينة‪ ،‬وقتله عل ّي بن أبي طالب رضي هللا عنه‪.‬‬
‫يقو ُل أهلكتُ ماالً ُّلبَداً } أي‪ :‬كثيراً‪ ،‬جمع لُ ْبدَة وهو ما تلبّد بعضه على بعض‪ ،‬يريد كثرة ما أنفقه‪،‬‬
‫ب أن ل ْم يَ َره أح ٌد }؟ حين‬ ‫مما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي‪ ،‬ريا ًء وفخراً‪ { .‬أيَ ْح َ‬
‫س ُ‬
‫سمعةً‪ ،‬وأنه تعالى ال يُحاسبه وال يجازيه‪ ,‬يعني‪ :‬أنَّ هللا كان يراه وكان‬ ‫كان ينفق ما ينفق ريا ًء و ُ‬
‫عليه رقيبا ً فيُجازيه‪ l‬عليه‪.‬‬

‫ثم ذكر نِعمه عليه‪ ،‬فقال‪ { :‬ألم نجعل له عينين } يُبصر‪ l‬بهما المرئيات‪ { ،‬ولسانا ً } يُ َعبِّ ُر به عما‬
‫في ضميره‪ { ،‬وشفتين } يستر‪ l‬بهما فاه‪ ،‬ويستعين بهما على النُطق واألكل والشرب والنفخ‬
‫وغيرها‪ { ،‬وهديناه النجدين } أي‪ :‬طريقي الخير والشر ال ُمفضيان إلى الجنة أو النار‪ ،‬فهو‬
‫كقوله‪:‬‬
‫{ إِنَّا َه َد ْينَاهُ ال َّ‬
‫سبِي َل‪} ...‬‬
‫[اإلنسان‪ ]3:‬اآلية‪ .‬وليس المراد بالهدى معنى اإلرشاد‪ ,‬بل معنى اإللهام‪ ،‬أو‪ :‬الثديين‪ ،‬وأصل‬
‫سميت نجد‪ ,‬الرتفاعها عما انخفض من الحجاز‪.‬‬ ‫النجد‪ :‬المكان المرتفع‪ ،‬ومنه ُ‬

‫اإلشارة‪ :‬أقسم تعالى ببلد المعاني‪ ،‬التي هي أسرار الذات‪ ،‬ووالد‪ ،‬وهو الروح األعظم وما تولّد‬
‫منه من األرواح الجزئيات‪ ،‬لقد خلق اإلنسانَ في كبد‪ :‬في تعب الظاهر والباطن إالّ َمن رجع إلى‬
‫أصله‪ ،‬أعني‪ :‬روحانيًّا قدسيًّا‪ ،‬فإنه حينئذ يستريح من تعب الطبع‪ .‬قال الكواشي‪ :‬عن بعضهم‪:‬‬
‫اإلنسان في كبد ما دام قائما ً بطبعه‪ ،‬واقفا ً بحاله‪ ،‬فإنه في ظلمة وبالء‪ ،‬فإذا فني عن أوصاف‬
‫إنسانيته‪ ،‬بفناء طبائعه عنه‪ ،‬صار في راح ٍة‪ .‬هـ‪.‬‬

‫والحاصل‪ :‬أنَّ اإلنسان كله في تعب إالَّ َمن عرف هللا تعالى معرفة العيان‪ ،‬فإنه في روح وريحان‪،‬‬
‫سب الجاهل أن لن يقدر على حمل أثقاله أحدٌ‪ ،‬فلذلك أتعب نفسه في تدبير‬ ‫وجنات ورضوان‪ .‬أَيَ ْح َ‬
‫شؤونه‪ ،‬بلى نحن قادرون على َحمل حمله إن أسقطه توكالً علينا‪ .‬ألم نجعل له عينين‪ ،‬فلينظر‬
‫ت واألرض‪ ،‬أليس ذلك بقاد ٍر على حمل أثقاله؟ فليرح نفسه من تعب‬ ‫بهما َمن َحمل السموا ِ‬
‫التدبير‪ ،‬فما قام به عنه غي ُره ال يقوم به هو عن نفسه‪ ،‬وجعلنا له لسانا ً يشكر به نِ َع َم مواله‪،‬‬
‫وشفتين يصمت بهما عما ال يعنيه‪ ،‬وهديناه الطريقين؛ الشريعة والحقيقة‪ ،‬فإذا سلكهما وصلناه‬
‫إلينا‪.‬‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬فال اقتحم العقبةَ } ‪ ،‬االقتحام‪ :‬الدخول بشدة ومشقة‪ l,‬والعقبة‪ :‬كل ما‬
‫يشق على النفس من األعمال الصالحات‪ ،‬و " ال " هنا إ ّما تحضيضية‪ ،‬أي‪ :‬هالَّ اقتح العقبة‪،‬‬
‫وإ ّما نافية‪ ،‬أي‪ :‬فلم يشكر تلك األيادي والنِعم‪ ،‬من البصر وما بعده‪ ،‬باألعمال الصالحة من فك‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫الرقاب وما سيذكره‪ ،‬فإن قلت‪ " :‬ال " النافية إذا دخلت على الماضي ولم تكن دعائية وجب‬
‫تكرارها؟ فأجاب الزمخشري‪ l:‬بأنها مكررة في المعنى‪ ،‬أي‪ :‬فال اقتحم وال فك رقبة وال أطعم‬
‫مسكيناً‪..‬الخ‪.‬‬

‫ي شيء أعلمك ما هي العقبة التي أُمر‬ ‫ثم عظَّم تلك العقبة بقوله‪ { :‬وما أدراك ما العقبةُ } أي‪ :‬أ ّ‬
‫سرها بقوله‪ { :‬فَ ُك رقب ٍة } أي‪ :‬هي إعتاق رقبة‪,‬‬‫اإلنسان باقتحامها‪ ،‬أو نفي عنه اقتحامها؟ ثم ف ّ‬
‫أو إعانة في أداء كتابتها‪ .‬قال ابن ُجزي‪ :‬وفك األسارى من الكفار أعظم أجراً من العتق؛ ألنه‬
‫واجب ولو استغرقت فيه أموال المسلمين‪ ،‬ولكنه ال يجزي في الكفارات‪ .‬هـ‪.‬‬

‫س َغب ٍ‪l‬ة } أي‪ :‬مجاعة { يتيما ً ذا مقرب ٍ‪l‬ة } أي‪ :‬قرابة‪ { ،‬أو مسكينا ً ذا‬
‫يوم ذي َم ْ‬
‫{ أو إِطعا ٌم في ٍ‬
‫مترب ٍ‪l‬ة }؛ ذا فقر‪ ،‬يقال‪ :‬ت ِرب فالن‪ :‬إذا افتقر والتصق بالتراب‪ ،‬و َمن قرأ " ف َك " و " أطع َم "‬
‫بصيغة الماضي فبدل من " اقتحم " ‪ { ،‬ثم كان من الذين آمنوا } اي‪ :‬دام على إيمانه‪ ،‬أو‪ :‬ثُم‬
‫كان حين فعل ما تقدّم من المؤمنين فيحنئذ ينفعه ذلك‪ ،‬وإنما جاء بـ " ثم " لتراخي اإليمان‬
‫وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة‪ ,‬ال في الوقت‪ ،‬إذ اإليمان هو السابق على‬
‫اصوا بالصب ِر } عن المعاصي وعلى الطاعات‪ ،‬أو‪:‬‬ ‫غيره‪ ،‬إذ ال يقبل عمل صالح إالّ به‪ { ،‬وتَ َو َ‬
‫أصحاب‬
‫ُ‬ ‫صوا بالمرحم ِ‪l‬ة }؛ بالتراحم فيما بينهم‪ { .‬أولئك‬ ‫المحن التي يُبتلى بهما المؤمن‪ { ،‬وتَ َوا َ‬
‫الميمن ِة } أي‪ :‬الموصوفون بهذه الصفات هم أصحاب اليمين والي ْمن‪ { ،‬والذين كفروا بآياتنا }؛‬
‫أصحاب المشئم ِة } أي‪ :‬الشمال أو‬‫ُ‬ ‫بما نصبناه دليالً على الحق من كتاب وحجة‪ ،‬أو بالقرآن { هم‬
‫الشؤم‪ { ،‬عليهم نار موصدة }؛ ُم ْطبَقة‪ ،‬من أوصدت الباب وآصدته‪ :‬إذا أغلقته‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬هالَّ اقتحم مريد الوصول العقبةَ‪ ،‬وهي سلوك الطريق‪ ،‬بخرق عوائد النفس وترك‬
‫وج ِّرها إلى مكروهها‪ ،‬وعن الحسن رضي هللا عنه‪ :‬عقبة ـ وهللا ـ شديدة‪ ،‬يُجاهد اإلنسانُ‬ ‫هواها‪َ ,‬‬
‫سرها بفك الرقبة‪ ،‬أي‪ :‬رقبة نفسه يفكها من أن يملكه‬ ‫سه وهواه‪ ،‬وعدوه الشيطان‪ .‬هـ‪ .‬ثم ف َّ‬ ‫نف َ‬
‫ق الطمع في الخلق‪ ،‬فإنه بذر شجرة الذل‪،‬‬ ‫سوى‪ ،‬أو‪ :‬يفكها من الذنوب والعيوب‪ ،‬أو فكها من ِر ّ‬ ‫ال ِّ‬
‫ق نفسه‬‫أو‪ :‬فكها من سجن األكوان إلى فضاء شهود المك ِّون‪ ،‬أو‪ :‬فك رقبة الغافل الجاهل من ِر ّ‬
‫بتذكيره ووعظه أو تربيته‪ l،‬أو إطعام روح جائعة من اليقين‪ ،‬إ ّما يتيما ً ال أب له روحاني‪ ،‬أي ال‬
‫شيخ له‪ ،‬فتذ ِّكره بما يتق ّوى به إيقانه‪ ،‬أو فقيراً من أسرار التوحيد ترابيًّا أرضيًّا‪ ،‬فترقّيه إلى‬
‫صى بالصبر على مشاق السير‪،‬‬ ‫سماء األسرار‪ ،‬ثم كان ممن آمن بطريق الخصوص‪ ،‬وتوا َ‬
‫والتراحم والتوادد والتواصل‪ ،‬كما هو شأن أهل النسبة‪ ،‬فهؤالء هم أهل اليُ ْمن والبركة‪ ،‬وضدهم‬
‫ممن جحدوا أهل الخصوصية‪ l‬هم أهل الشؤم‪ .‬وباهلل التوفيق‪ ،‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله‪.‬‬

‫‪#‬سورة الشمس §‪#‬‬

‫ض َحاهَا } * { َوا ْلقَ َم ِر إِ َذا تَالَهَا } * { َوالنَّ َها ِر إِ َذا َجالَّهَا } * { َواللَّ ْي ِل إِ َذا يَ ْغشَاهَا }‬
‫س َو ُ‬
‫ش ْم ِ‬ ‫*{ َوال َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫س َّواهَا } * { فأ ْل َه َم َها‬ ‫س َو َما َ‬ ‫َ‬
‫ض َو َما ط َحاهَا } * { َونَ ْف ٍ‬ ‫َ‬
‫س َمآ ِء َو َما بَنَاهَا } * { َواأل ْر ِ‬ ‫* { َوال َّ‬
‫ساهَا }‬ ‫اب َمن َد َّ‬ ‫ورهَا َوتَ ْق َواهَا } * { قَ ْد أَ ْفلَ َح َمن َز َّكاهَا } * { َوقَ ْد َخ َ‬ ‫فُ ُج َ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ضحاها } أي‪َ :‬وضوئها إذا أشرقت وقام سلطانها‪ { ،‬والقم ِر‬ ‫سو ُ‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬والشم ِ‬
‫الشمس‬
‫َ‬ ‫إِذا تالها }؛ تبعها في الضياء والنور‪ ,‬وذلك في النصف األول من الشهر‪ ،‬يخلف القم ُر‬
‫الشمس وأظهرها للرائين‪ ،‬وذلك عند افتتاح النهار‬ ‫َ‬ ‫في النور‪ { ،‬والنها ِر إِذا جالَّها } أي‪ :‬جلّى‬
‫وانبساطه؛ ألنَّ الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام االنجالء‪ ،‬وقيل‪ :‬الضمير للظلمة‪ ,‬أو األرض‪،‬‬
‫وإن لم يجر لها ذكر‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫{ َما ت ََركَ َعلَىا ظَ ْه ِرهَا ِمن دَآبَّ ٍة }‬
‫[فاطر‪ { ،]45:‬واللي ِل إِذا يغشاها } أي‪ :‬يستر‪ l‬الشمس ويُ ْظلِ ُم األفاق‪ ،‬والواو األولى في هذه‬
‫األشياء للقسم باتفاق‪ ،‬وكذا الثانية عند البعض‪ ,‬وعند الخليل‪ :‬الثانية‪ l‬للعطف؛ ألنَّ إدخال القسم‬
‫على القسم قبل تمام األول ال يجوز‪ ،‬أال ترى‪ :‬أنك لو جعلت مرضعها كلمة الفاء أو " ثم " لكان‬
‫احتج بأنها لو كانت‬
‫ّ‬ ‫س َم‬
‫المعنى على حاله‪ ،‬وهما حرفا عطف‪ ,‬وكذا الواو‪ ،‬و َمن قال‪ :‬إنها للق َ‬
‫للعطف لكان عطفا ً على عاملين‪ ،‬ألنَّ قوله‪:‬‬
‫{ َوا ْللَّ ْي ِل }‬
‫[الليل‪ ]1:‬ـ مثالً ـ مجرور بواو القسم‪ { ،‬إِذا يغشى } منصوب بالفعل المقدّر الذي هو أقسم‪ ،‬فلو‬
‫جعلت الواو التي في‬
‫{ َوالنَّ َها ِر إِ َذا ت ََجلَّىا }‬
‫[الليل‪ ]2:‬للعطف لكان النهار معطوفا ً على الليل ج ًّرا‪ ،‬و { إذا تجلى } معطوفا ً على " يغشى "‬
‫والحجرة َع ْمراً‪ ،‬وأجيب بأنّ واو القسم تن ّزلت منزلة الباء‬ ‫ُ‬ ‫نصباً‪ ،‬وكان كقولك‪ :‬إنَّ في الدار زيداً‪،‬‬
‫كعامل واحد له‬‫ٍ‬ ‫والفعل‪ ،‬حتى لم يجز إبراز الفعل معها‪ ،‬فصار كأنها العاملة ج ًّرا ونصباً‪ ،‬وصارت‬
‫معموالن‪ ،‬وك ُّل عامل له عمالن يجوز أن يعطف على معموليه بعاطف واح ٍد باالتفاق‪ ،‬نحو‪:‬‬
‫ضرب زي ٌد عمراً وأبو بكر خالداً‪ ،‬فترفع بالواو وتنصب‪ l‬لقيامها مقام العامل‪.‬‬

‫{ والسما ِء وما بناها } أي‪ :‬و َمن بناها‪ ،‬وإيثار " ما " على " َمنْ " إلرادة الوصفيّة تفخيماً‪،‬‬
‫كأنه قيل‪ :‬والقادر العظيم الذي بناها‪ ،‬وجعلُها مصدرية مخ ّل بالنظم الكريم‪ ،‬وكذا في قوله‪:‬‬
‫ض وما طحاها } أي‪ :‬بسطها من كل جانب‪ ،‬كـ " دحاها "‪.‬‬ ‫{ واألر ِ‬

‫س وما س َّواها } أي‪ :‬والحكيم الباهر الحكمة الذي س ّواها وأتقن صورتها‪ ،‬مستعدة‬ ‫{ ونف ٍ‬
‫لكماالتها‪ ،‬والتنكير للتفخيم‪ ،‬على أنَّ المراد نفس آدم عليه السالم أو للتكثير‪ ،‬وهو األنسب‬
‫فجورها وتقواها } أي‪ :‬ألهمها طاعتها ومعصيتها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫للجواب‪ ،‬أي‪ :‬و َمن س ّوى ك َّل نفس‪ { ،‬فأ ْل َه َمها‬
‫وأفهمها قبح المعصية‪ l‬وحسن الطاعة‪ ,‬أو َع َّرفها طرق الفجور والتقوى‪ ،‬وجعل لها قوة يصح‬
‫معها اكتساب أحد األمرين‪ ،‬ويحتمل‪ l‬أن تكون الواو بمعنى " أو " كقوله‪:‬‬
‫سبِي َل إِ َّما شَا ِكراً َوإِ َّما َكفُوراً }‬
‫{ إِنَّا َه َد ْينَاهُ ال َّ‬
‫[اإلنسان‪ ]3:‬أي‪ :‬ألهم َمن أراد شقاوتها فجورها فسعت إليه‪ ،‬وألهم َمن أراد سعادتها تقواها‪،‬‬
‫فسعت إليه‪ { .‬قد أفلح َمن زَ َّكاها } أي‪ :‬فاز بكل مطلوب‪ ،‬ونجا ِمن كل مكروه َمن طَهَّ َرها‬
‫ساها }؛ أغواها‪ ،‬قال عكرمة‪" l:‬‬ ‫وأصلحها وجعلها زكيةً باإليمان والطاعة‪ { ،‬وقد خاب َمن د َّ‬
‫أفلحت نفس ز ّكاها هللاُ‪ ،‬وخابت نفس أغواها هللا " ويجوز أن تكون التدسية والتطهير فعل العبد‪.‬‬
‫سس‪,‬‬ ‫س‍ى‪ :‬د ّ‬ ‫والتدسية‪ l:‬النفس واإلخفاء‪ ،‬أي‪ :‬خسر َمن نقصها وأخفاها بالفجور‪ ,‬وأصل د ّ‬
‫كتقضى وتقضض‪ ،‬فأبدل من الحرف الثالث ياء‪ ،‬قال في الكافية‪:‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫وثالث األمثال أبدلنه ياء نحو تظنا خالد تظنينا‬


‫وجواب القسم محذوف‪ ،‬والتقدير‪ :‬ليهلكنّ هللا َمن كفر من قريش ويُدمدم عليهم كما دمدم على‬
‫ثمود‪ ،‬وقيل‪ " :‬قد أفلح " وليس بشيء‪ ،‬وقيل‪ " :‬كذبت ثمود " على إضمار " قد " واألول‬
‫أحسن‪ ,‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫ضحاها في أول الفناء‪ ,‬والقمر قمر اإليمان‪ ,‬إذا تالها‬ ‫اإلشارة‪ :‬والشمس شمس العرفان‪ ،‬وابتداء ُ‬
‫بالتنزل لعالم الحكمة كماالً وتكميالً‪ ،‬والنهار نهار التمكين إذا جالّها‪ ،‬أي‪ :‬ظلمة‬
‫ُّ‬ ‫بالرجوع لألثر‬
‫المكون‪ ,‬والليل؛ ليل القطيعة‪ ،‬إذا يغشاها بقهرية‪ l‬الحق‬
‫ِّ‬ ‫حس الكائنات‪ ،‬وقلعها ِمن أصلها بشهود‬
‫اختباراً‪ ،‬هل يضطرب ويفزع فيُر ّد عليه‪ ،‬أو يتسلّى فيُسلب‪ ,‬أو نهار البسط إذا جالّها‪ ،‬أي‪ :‬ظلمة‬
‫القبض‪ ،‬وليل القبض إذا يغشاها‪ ،‬أي‪ :‬شمس نهار البسط‪ ،‬أقسم تعالى بتعاقبهما والسماء سماء‬
‫س‬
‫األرواح‪ ,‬وما بناها؛ رفعها‪ ،‬واألرض أرض األشباح‪ ،‬وما طحاها‪ ,‬أي‪ :‬بسطها للعبودية‪ ,‬ونف ٍ‬
‫وما س ّواها؛ ألقى صورتها وهيّأها للقُرب والبُعد‪ ,‬فألهمها فجورها وتقواها بما أعطاها من نور‬
‫الصفة‪ ,‬ورقمها بنور اآلزلية‪ ،‬ثم بيَّن أنه تعالى ع ّرفها‬
‫العقل‪ ،‬قال الورتجبي‪ l:‬س ّواها بتسوية‪ِ l‬‬
‫طرق لطيفات الذات‪ ،‬وقهرية‪ l‬الصفات بنفسه‪ l‬بال واسطة بقوله‪ { :‬فألهمها فجورها وتقواها }‬
‫ع ّرفها أوالَ طريق القهر حتى عرفت المهلكات‪ ,‬ثم ع َّرفها طريق اللطف حتى عرفت معالجتها من‬
‫المنجيات‪ ,‬والمقصود منها‪ :‬عرفانها عند الحق بطريق القهر واللطف‪ ،‬حتى تكمل معرفةُ‬
‫صانعها‪ .‬هـ‪.‬‬

‫ووفَّقَها‪ ،‬ويقال‪ :‬فجورها‪ :‬حركتها في طلب‬


‫قال القشيري‪ l:‬فألهمها فجورها وتقواها‪ :‬بأن َخ َذلَها َ‬
‫لح ْكم التقدير‪ .‬ثم قال‪ :‬ويُقال‪ :‬أفلح َمن ط َّهرها من الذنوب والعيوب‪ ،‬ثم‬
‫الرزق‪ ،‬وتقواها‪ :‬سكونها ُ‬
‫عن األطماع في األَعواض‪ ،‬ثم العبد نفسه عن االعتراض على األنام‪ ،‬وعن ارتكاب الحرام‪ ،‬وقد‬
‫سها بالمخالفات‪ ،‬وفي نوادر األصول ما حاصله‪:‬‬ ‫خاب َمن خان نفسه وأهملها عن المراعاة‪ ،‬ود َّ‬
‫دس شيئا ً في كوة‪ ،‬يمنع من دخول الضوء‪ ،‬كذلك الهوى والشهوة س ّد‍‬ ‫ساها بمنزلة‪َ l‬من ّ‬
‫أنَّ د ّ‬
‫وغلّق على القلب من حصول ضوء القربة‪ l‬والوصلة‪ .‬هـ‪.‬‬

‫سو ُل هَّللا ِ نَاقَةَ هَّللا ِ َو ُ‬


‫س ْقيَاهَا } *‬ ‫شقَاهَا } * { فَقَا َل لَ ُه ْم َر ُ‬ ‫ث أَ ْ‬ ‫*{ َك َّذبَتْ ثَ ُمو ُد بِطَ ْغ َواهَآ } * { إِ ِذ انبَ َع َ‬
‫س َّواهَا } * { َوالَ يَ َخافُ ُع ْقبَاهَا }‬ ‫{ فَ َك َّذبُوهُ فَ َعقَ ُروهَا فَ َد ْم َد َم َعلَ ْي ِه ْم َربُّ ُه ْم بِ َذنبِ ِه ْم فَ َ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬كذبتْ ثمو ُد } صالحا ً { بطغواها } أي‪ :‬بسبب طغيانها‪ ،‬إذ الحامل لهم‬
‫على التكذيب هو طغيانهم‪ ،‬وفيه وعظ ألمثالهم‪ ،‬وتهديد للحاضرين الطاغين؛ ألنَّ الطغيان أجرم‬
‫الجرائم الموجبة للهالك والخيب ِ‪l‬ة في الدنيا واآلخرة‪ { .‬إِذ انبعث أشقاها } ‪ ،‬منصوب بـ " كذبتْ "‬
‫‪ ،‬أي‪ :‬حين قام أشقى ثمود‪ ،‬وهو‪ :‬قُدّار بن سالف‪ ،‬أو‪ :‬هو و َمن تصدّى معه للعقر من األشقياء‪،‬‬
‫فإنَّ أفعل التفضيل إذا أضيف يصلح للواحد والمتعدد‪ ،‬والمذكر والمؤنث‪ .‬وفضل شقاوتهم على‬
‫َمن عداهم لمباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضا به‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫{ فقال لهم } أي‪ :‬لثمود { رسو ُل هللا } صالح عليه السالم‪ ,‬عبَّر عنه بعنوان الرسالة إيذانا ً‬
‫بوجوب طاعته‪ ,‬وبيانا ً لغاية عتوهم‪ ،‬وهو السر في إضافة الناقة إليه تعالى في تقوله‪ { :‬ناقةَ هللا‬
‫سقياها } فال تُدَوروها في نوبتها‪ ،‬وهما‬ ‫} أي‪ :‬احذروا عقرها‪ ،‬أو احفظوها‪ { ،‬و } الزموا { ُ‬
‫حذرهم به من نزول العذاب بقوله‪:‬‬ ‫فكذبوه } فيما ّ‬ ‫منصوبان على التحذير‪ّ { .‬‬
‫سوا ٍء فَيَأْ ُخ َذ ُك ْم َع َذ ٌ‬
‫اب أَلِي ٌم }‬ ‫سوهَا بِ ُ‬ ‫{ َوالَ تَ َم ُّ‬
‫[األعراف‪ { ،]73:‬فعقروها } ‪ ،‬أسند الفعل إليهم‪ ،‬وإن كان العاقر واحداً‪ ،‬لقوله‪:‬‬
‫احبَ ُه ْم فَتَ َعاطَىا فَ َعقَ َر (‪} )29‬‬ ‫ص ِ‬ ‫{ فَنَاد َْو ْا َ‬
‫[القمر‪ ]29:‬لرضاهم به‪ .‬قال قتادة‪ :‬بلغنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم‪ .‬وذكرانهم‬
‫وإناثهم "‪ { .‬فَ َد ْم َد َم عليهم ربُّهم }؛ فأطبق عليهم العذاب حتى استأصلهم‪ .‬قال الهروي‪ :‬إذا‬
‫ب عليهم‪،‬‬ ‫ض َ‬
‫كررت اإلطباق قلت‪ :‬دمدمت عليه‪ ،‬أي‪ :‬أدمت عليه الدمدمة‪ ,‬وقيل‪ :‬فدمدم عليهم‪َ :‬ع ِ‬
‫صرح‪ l‬به مع داللة الفاء عليه لإليذان بأنه عاقبة كل ذنب ليعتبر به‬ ‫{ بذنبهم }؛ بسبب ذنبهم‪ ،‬و ّ‬
‫كل مذنب‪ { .‬فس َّواها } أي‪ :‬الدمدمةّ بينهم‪ ،‬لم يفلت منهم أحد من صغيرهم وكبيرهم‪ ،‬أو فس ّوى‬
‫ثمود باألرض بتسوية‪ l‬بنائها وهدمه‪َ { ،‬وآل يَ َخافُ ُع ْقبَآهَا (‪[ } )15‬الشمس‪ ]15:‬أي‪ :‬عاقبتها‬
‫وتَبِ َعتها‪ ،‬كما يخاف سائر المعاقِبين أي‪ :‬فعل ذلك غير خائف أن يلحقه تبعة ِمن أحد‪ ،‬كما يخاف‬
‫َمن يعاقب ِمن الملوك وغيرهم‪ ,‬ألنه تصرف في ملكه‪،‬‬
‫سأَلُونَ (‪} )23‬‬ ‫سأ َ ُل َع َّما يَ ْف َع ُل َو ُه ْم يُ ْ‬
‫{ الَ يُ ْ‬
‫[األنبياء‪ .]23:‬و َمن قرأ بالواو فهو للحال‪ ،‬أو االستئناف‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬قال القشيري‪ :‬كذبت ثمو ُد النفس بسبب‪ l‬طغيانها على القلب بالشهوات الحيوانية‪,‬‬
‫واللذات الجسمانية‪ ،‬إذ انبعث أشقاها‪ ،‬هو الهوى المتبع‪ ،‬الساعي في قتل ناقة الروح‪ ،‬فقال لهم‬
‫رسول هللا؛ القلب الصالح‪ :‬ناقةَ هللا‪ ,‬أي‪ :‬اتركوا ناقةَ هللا ترعى في المراتع الروحانية‪ ،‬من‬
‫فكذبوه؛ فكذبت ثمود النفس وجنودُها رسو َل القلب‪،‬‬ ‫المكاشفات والمشاهدات والمعاينات‪ّ ،‬‬
‫فعقروها‪ ،‬أي‪ :‬الروح بالظلمة النفسانية والشهوة الحيوانية‪ ،‬فَ َد ْمدَم عليهم ربُّهم؛ على ثمود‬
‫النفس وقومها عذاب البُعد والطرد‪ ,‬بذنبهم‪ ،‬فس ّواها‪ ،‬أي‪ :‬فس ّوى الدمدمة‪ l،‬وهي اإلطباق على‬
‫النفس وجنودها‪ ،‬فال يخاف عقباها لغناه عن العالمين‪ .‬هـ‪ .‬وصلى هللا على سيدنا محمد وآله‬
‫وصحبه وسلم‪.‬‬

‫‪#‬سورة الليل §‪#‬‬

‫شتَّىا‬ ‫الذ َك َر َواألُنثَىا } * { إِنَّ َ‬


‫س ْعيَ ُك ْم لَ َ‬ ‫ق َّ‬ ‫*{ َوا ْللَّ ْي ِل إِ َذا يَ ْغشَىا } * { َوالنَّ َها ِر إِ َذا ت ََجلَّىا } * { َو َما َخلَ َ‬
‫س َرىا } * { َوأَ َّما َمن بَ ِخ َل‬ ‫س ُرهُ لِ ْليُ ْ‬ ‫سنَىا } * { فَ َ‬
‫سنُيَ ِّ‬ ‫ق بِا ْل ُح ْ‬ ‫} * { فَأ َ َّما َمنْ أَ ْعطَىا َواتَّقَىا } * { َو َ‬
‫ص َّد َ‬
‫س َرىا } * { َو َما يُ ْغنِي َع ْنهُ َمالُهُ إِ َذا تَ َردَّىا }‬ ‫س ُرهُ لِ ْل ُع ْ‬
‫سنُيَ ِّ‬‫سنَىا } * { فَ َ‬ ‫ستَ ْغنَىا } * { َو َك َّذ َ‬
‫ب بِا ْل ُح ْ‬ ‫َوا ْ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬واللي ِل إِذا يغشى } أي‪ :‬حين يغشى الشمس‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫{ َواللَّ ْي ِل إِ َذا يَ ْغشَاهَا (‪} )4‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫[الشمس‪ ]4:‬أو‪ :‬كل ما يواريه‪ l‬بظالمه‪ .‬وقال القشيري‪ :‬إذا يغشى األفق وما بين السماء‬
‫وماخلَ َ‬
‫ق الذ َك َر‬ ‫َ‬ ‫واألرض فيستره بظلمته‪ { l.‬والنها ِر إِذا ت ََجلَّى } أي‪ :‬ظهر وأسفر ووضح‪{ ،‬‬
‫واألُنثى } أي‪ :‬والقادر الذي خلق الذكر واألنثى من كل ما له توالد ِمن ما ٍء واحد‪ ،‬وقيل‪ :‬هما آدم‬
‫وحواء‪ ،‬و " ما " بمعنى " من " أو مصدرية‪ .‬وقُرىء " والذكر واألنثى " وقرىء " الذي‬
‫خلق الذكر واألنثى "‪ .‬جواب القسم‪ { :‬إِنَّ سعيَكم } أي‪ :‬عملكم { لشتَّى }؛ لمختلف‪ ،‬جمع شتيت‪،‬‬
‫أي‪ :‬إنّ مساعيكم ألشتات مختلفة‪.‬‬

‫صله فقال‪ { :‬فأ ّ َّما َمن أعطى } حقوق ماله { واتقى } محار َم هللا التي نهى عنها‪ { ،‬وصدَّق‬ ‫ثم ف ّ‬
‫الحسنى‪ ،‬وهي اإليمان‪ ،‬أو بالكلمة الحسنى‪ ،‬وهي كلمة التوحيد‪ ,‬أو بالملة‬ ‫بالحسنى }؛ بالخصلة ُ‬
‫الحسنى‪ ،‬وهي اإلسالم‪ ،‬أو بالمثوبة‪ l‬الحسنى‪ ،‬وهي الجنة‪ ،‬والتصديق هو أن يرى أنَّ ما وعده‬
‫سره‪ l‬لليُسرى }؛ فسنهيئه‪ l‬للطريقة‬ ‫سنُيَ ِّ‬
‫هللاُ به يوصله إليه‪ ،‬وال يجري على قلبه خاطر شك‪ { ,‬ف َ‬
‫التي تؤدي إلى الراحة واليُسر‪ ،‬كدخول الجنة ومبادئه‪ .‬قال ابن عطية‪ :‬معناه‪ :‬سنظهر عليه‬
‫وح ْتم تيسيره‪ l‬كان في علم هللا أزالً‪ .‬هـ‪ .‬يقال‪ :‬ي َّ‬
‫س َر‬ ‫تيسيرنا إياه بما يتدرج‪ l‬فيه من أعمال الخير‪َ ،‬‬
‫الفرس‪ ،‬إذا أسرجها وألجمها‪.‬‬

‫{ وأ ّما َمن بَ ِخ َل } بماله‪ ,‬فلم يبذله في سبيل الخير‪ { ،‬واستغنَى } أي‪ :‬زهد فيما عند هللا تعالى‪،‬‬
‫بالحسنى } أي‪:‬‬ ‫مستغن عنه فلم يتقه‪ ،‬أو‪ :‬استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم اآلخرة‪ { ،‬و َك َّذب ُ‬ ‫ٍ‬ ‫كأنه‬
‫سره‪ l‬لل ُعسرى } أي‪ :‬للخصلة المؤدّية إلى‬‫سنُيَ ِّ‬
‫بالخصلة الحسنى‪ ،‬على ما ذكر من معانيها‪ { ,‬ف َ‬
‫العسر والشدة‪ ،‬كدخول النار ومقدماته‪ l،‬الختياره لها‪ .‬وقال اإلمام ـ أي الفخر ـ‪ :‬كل ما أدّت عاقبته‬
‫إلى الراحة واألمور المحمودة‪ ،‬فذلك اليسرى‪ ،‬وهو وصف كل الطاعات‪ ,‬وكل ما أدّت عاقبته إلى‬
‫التعب والردى‪ ،‬فذلك ال ُعسرى‪ ،‬وهو وصف كل المعاصي‪ .‬هـ‪ { .‬وما يُغني عنه مالُه } الذي بَ ِخ َل‬
‫به‪ ،‬أي‪ :‬ال ينفعه شيئا ً { إِذا ت ََردَّى }؛ َهلَ َك‪ ،‬تف ّعل‪ ،‬من الردى‪ ،‬أو تردَّى في حفرة القبر‪ ،‬أو في‬
‫قعر جهنّم‪ ،‬والعياذ باهلل‪.‬‬

‫القلوب المحجوبة‪ ،‬ونهار التجلِّي إذا يغشى القلوب‬ ‫َ‬ ‫اإلشارة‪ :‬أقسم تعالى بليل الحجاب‪ ،‬إذا يغشى‬
‫الصافية‪ ،‬وكأنه تعالى أقسم بقهر جالله‪ ،‬ولُطف جماله‪ ،‬وقدرته على خلق أصناف الحيوانات‪ ،‬إنَّ‬
‫سره‬‫سه‪ ،‬واتقى ك َّل ما يشغله عن المولى‪ ،‬فَسنُيَ ِّ‬ ‫سعي الناس لشتى‪ ،‬فأ ّما َمن أعطى مالَه ونف َ‬
‫ق‬
‫لسلوك الطريق اليُسرى‪ ،‬التي توصل إلى حضرة المولى‪ .‬وقال الورتجبي‪ :‬س ّهل له طري َ‬
‫س ِّه ُل عليه الطاعات‪،‬‬ ‫الوصول إليه‪ ،‬ويرفع عنه الكلفة والتعب في العبودية‪ .‬وقال القشيري‪ :‬نُ َ‬
‫ب له اإليمان‪ ،‬ونُ َزيِّن في قلبه اإلحسان‪ .‬هـ‪ .‬وأ َّما‬ ‫رب‪ ،‬ونُ َحبِّ ُ‬
‫ونُ َك ِّره إليه المخالفات‪ ،‬ونهيىء له القُ َ‬
‫سنُيسره‪l‬‬ ‫َمن بَ ِخ َل بماله ونفسه‪ l،‬واستغنى عن معرفة ربه معرفة العيان‪ ,‬وقنع بمقام اإليمان‪ ،‬ف َ‬
‫لل ُعسرى‪ ،‬وهي طريق البُعد والحجاب‪ ،‬كاشتغاله بحب الدنيا‪ ،‬وجمع المال‪ ،‬وما يُغني عنه ماله إذا‬
‫تردى في مهاوي البُعد والردى‪.‬‬
‫صالَهَآ إِالَّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫*{ إِنَّ َعلَ ْينَا لَ ْل ُهدَىا } * { َوإِنَّ لَنَا لَآل ِخ َرةَ َواألولَىا } * { فأنذ ْرتُ ُك ْم نَاراً تَلَظىا } * { الَ يَ ْ‬
‫سيُ َجنَّبُ َها األَ ْتقَى } * { الَّ ِذى يُ ْؤتِي‪َ l‬مالَهُ يَتَ َز َّكىا } * { َو َما‬ ‫ب َوتَ َولَّىا } * { َو َ‬ ‫شقَى } * { الَّ ِذي َك َّذ َ‬ ‫األَ ْ‬
‫ضىا }‬‫س ْوفَ يَ ْر َ‬ ‫ألَ َح ٍد ِعن َدهُ ِمن نِّ ْع َم ٍة ت ُْجزَىا } * { إِالَّ ا ْبتِ َغآ َء َو ْج ِه َربِّ ِه األَ ْعلَىا } * { َولَ َ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬إِنَّ علينا لَ ْل ُهدى }؛ إنَّ علينا اإلرشاد إلى الحق بنصب الدالئل‪ ،‬وتبيين‬
‫الح َكم البالغة‪ ،‬حيث خلقنا الخلق للعبادة‪ ،‬أن‬
‫ني على ِ‬ ‫الشرائع‪ ،‬أو‪ :‬إن علينا بموجب قضائنا ال َم ْب ِّ‬
‫نُبيّن لهم طريق الهدى وما يؤدي إليه‪ ،‬وقد فعلنا ذلك مما ال مزيد عليه‪ ،‬حيث بَيَّنَّا حال َمن سلك‬
‫كال الطريقين‪ ،‬ترغيبا ً وترهيباً‪ ,‬فتبيّن أنَّ الهداية هي الداللة على ما يوصل إلى البُغية‪ ،‬ال الداللة‬
‫الموصلة إليها حتماً‪ .‬قاله أبو السعود‪.‬‬

‫التصرف الكلي فيهما‪ ،‬كيفما نشاء‪ ،‬فنفعل فيهما ما نشاء‪،‬‬‫ُّ‬ ‫{ وإِنَّ لنا لآلخرة واألُولى } أي‪:‬‬
‫فنُعطي الدنيا ل َمن نشاء‪ ،‬واآلخرة ل َمن نشاء‪ ،‬أو نجمع له بينهما‪ ،‬أو نحرمه‪ l‬منهما‪ ،‬ف َمن طلبهما‬
‫ِمن غيرنا فقد أخطأ‪ ،‬أو‪ :‬إنَّ لنا ُك َّل ما في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فال يضرنا ترككم االهتداء ب ُهدانا‪.‬‬

‫صالها إِالّ األشقى }؛ ال يدخلها للخلود فيها‬ ‫{ فَأ ّ ْن َذرتكم }؛ خ َّوفتكم { ناراً تلضى }؛ تتلهب‪ { ،‬ال يَ ْ‬
‫كذب الرسو َل صلى هللا عليه‬ ‫كذب وتَ َولَّى } أي‪ :‬الكافر الذي ّ‬‫إالّ َمن سبق له الشقاء‪ { ،‬الذي َّ‬
‫سيُجنبها }؛ وسيب ِّعدها { األتقى }؛ المؤمن المبالغ في اتقاء الكفر‬ ‫وسلم‪ ،‬وتَ َولى عن اإليمان‪ { ،‬و َ‬
‫والمعاصي‪ ،‬فال يحوم حولها‪ ،‬فضالً عن دخولها‪ ،‬وأ ّما َمن دونه ممن يتقي الكفر دون المعاصي‬
‫فال يبعد هذا البُعد‪ ،‬وذلك ال يستلزم صليها بالمعنى المذكور‪ ،‬فال يُنافي الحصر المذكور‪ { .‬الذي‬
‫يُؤتى مالَه } للفقراء { يتز َّكى } أي‪ :‬يطلب أن يكون عند هللا زاكياً‪ ،‬ال يُريد به ريا ًء وال سمعةً‪،‬‬
‫من‪ :‬الزكا‪ ،‬وهو الزيادة‪ ،‬أو‪ :‬تف ّعل من الزكاة‪ ،‬أو‪ :‬يتطهر من الذنوب والعيوب‪ ،‬وهو حال من‬
‫ضمير " يؤتى "‪ { .‬وما ألح ٍد عنده من نعم ٍة تُجزى } أي‪ :‬ليس ألح ٍد عنده نعمة من شأنها‬
‫تجزى وتكافأ‪ { ،‬إِالَّ ابتغا َء وجه ربه }‪ :‬استثناء منقطع‪ ،‬أي‪ :‬لكن يفعل ذلك ابتغاء وجه ربه‬
‫{ األعلى } أي‪ :‬الرفيع بسلطانه‪ ،‬المنيع في شأنه وبرهانه‪l.‬‬

‫واآلية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي هللا عنه حين اشترى بالالً في جماعة كان المشركون‬
‫يؤذونهم‪ ،‬فأعتقهم‪ .‬ولذلك قالوا‪ :‬المراد باألشقى‪ :‬أبو جهل وأمية‪ l‬بن خلف‪ .‬وعن ابن عباس‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم‬ ‫ُّ‬ ‫عذب المشركون بالالً‪ ،‬وبال ٌل يقول‪ :‬أَ َح ٌد أَ َحدٌ‪ ،‬فم ّر به‬ ‫رضي هللا عنه‪َّ :‬‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم أبا بكر‪ ،‬وقال له‪ " :‬إنَّ بالالً يُ َّ‬
‫عذب‬ ‫ُّ‬ ‫فقال‪ " :‬ينجيك أحد أحد " ثم أخبر‬
‫في هللا " فعرف مراده‪ ,‬فاشتراه برطل من ذهب‪ ،‬وقيل‪ :‬اشتراه بعب ٍد كان عنده اسمه " نسطاس‬
‫سلِم ولك جميع‬ ‫" وكان له عشرة آالف دينار وغلمان وجواري‪ ،‬وكان مشركاً‪ ،‬فقال له الصدِّيق‪ :‬أ ْ‬
‫مالك‪ ،‬فأبى‪ ،‬فدفعه ألمية‪ l‬بن خلف‪ ،‬وأخذ بالالً‪ ،‬فأعتقه‪ ،‬فقال المشركون‪ :‬ما أعتقه إال لي ٍد كانت له‬
‫عنده‪ ،‬فنزلت‪.‬‬
‫ُروي أنه اشتراه‪ ،‬وهو مدفون بالحجارة‪ ،‬يُ َع َّذب على اإلسالم‪ ،‬قال عروة‪ :‬أَعتق أبو بكر سبعة‪،‬‬
‫كلهم يُعذب في هللا‪ ،‬بالل وعامر بن فهيرة‪ ،‬والنجدية وبنتها‪ ،‬و ِزنِّيرة‪ ،‬وبيرة‪ ،‬وأم عُبيس‪ ،‬وأمة‬
‫سلَم وله أربعون ألفاً‪ ،‬فأنفقها كلها في سبيل هللا‪ .‬وقال ابن الزبير‪ :‬كان أبو‬ ‫بني المؤ ِّمل‪ .‬قال‪ :‬وأ ْ‬
‫بكر يشتري‪ l‬الضعفة فيعتقهم‪ ،‬فقال له أبوه‪ :‬لو كنت تبتاع َمن يمنع ظهرك‪ ،‬فقال‪َ :‬م ْن َع ظهري‬
‫أريد‪ ،‬فنزلت فيه‪:‬‬
‫سيُ َجنَّبُ َها األَ ْتقَى (‪} )17‬‬
‫{ َو َ‬
‫[الليل‪ ]17:‬اآلية‪ .‬واسمه‪ :‬عبد هللا بن عثمان‪ ،‬وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة‪ ،‬فس ّماه‬
‫الرسو ُل صلى هللا عليه وسلم عبد هللا‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬ولسوف يرضى } جواب قسم مضمر‪ l،‬أي‪ :‬وهللا لسوف نُجازيه فيرضى‪ ،‬وهو‬
‫وعد كريم لنيل جميع ما يبتغيه على أفضل الوجوه وأكملها‪ ،‬إذ به يتحقق رضاه‪ ,‬وهو كقوله‬
‫لنبيه صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫س ْوفَ يُ ْع ِطيكَ َربُّ َك فَت َْر َ‬
‫ضىا (‪} )5‬‬ ‫{ َولَ َ‬
‫[الضحى‪.]5:‬‬

‫اإلشارة‪ :‬إنّ علينا لبيان الطريق لِمن طلب الوصول إلى عين التحقيق‪ ،‬فإنا أنزلنا كتابا ً ما فرطنا‬
‫فيه من شيء‪ ،‬وبعثنا رسوالً يهدي إلى الرشد‪ ،‬وجعلنا له خلفاء في كل زمان‪ ،‬يهدون بأمرنا إلى‬
‫حضرة قدسنا‪ ،‬وإنَّ لنا لآلخرةَ لِمن طلبها‪ ،‬واأل ُولى لِمن طلبها‪ ،‬وأظهرنا أسرار ذاتِنا ل َمن طلبها‪،‬‬
‫كذب‬‫فأنذرتكم ناراً تلظى‪ ،‬وهي نار البُعد ال يصالها إالّ األشقى‪ ,‬الذي سبق له البُعد منا‪ { .‬الذي َّ‬
‫كذب الحق في مظاهر األولياء والمشايخ وأرباب السلوك‪ ،‬وأ ْع َرض‬ ‫وتولَّى } ‪ ،‬قال القشيري‪ l:‬أي َّ‬
‫عن قبول إرشادهم ونصائحهم‪ ،‬وعن استماع معارفهم ومواجيدهم الكشفية الشهودية‪،‬‬
‫تقربا ً‬
‫سوى‪ ،‬الذي يؤتى ماله ُّ‬ ‫وسيُجنبها األتقى‪ ،‬أي‪ :‬يُجنب طريق البُعد ونار الحجاب َمن اتقى ال ِّ‬
‫إلى هللا ليتز ّكى من العيوب واألنانية‪ { ،‬وما ألح ٍد عنده من نعمة تُجزى } أي‪ :‬ليس إحسانه في‬
‫سوف يَرضى }‬ ‫مقابلة حرف { إالّ ابتغاء وجه ربه األعلى } أي‪ :‬إالّ طلب معرفة ذاته العلية‪ { ،‬ولَ َ‬
‫بدوام شهود الذات األقدس‪ .‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‪.‬‬

‫‪#‬سورة الضحى §‪#‬‬

‫س َجىا } * { َما َو َّد َع َك َربُّكَ َو َما قَلَىا } * { َولَآل ِخ َرةُ َخ ْي ٌر لَّكَ ِمنَ‬ ‫الض َحىا } * { َواللَّ ْي ِل إِ َذا َ‬
‫*{ َو ُّ‬
‫س ْوفَ يُ ْع ِطيكَ َر ُّبكَ فَت َْر َ‬
‫ضىا }‬ ‫األُولَىا } * { َولَ َ‬

‫ضحى } ‪ ،‬المراد به‪ l:‬وقت الضحى‪ ،‬وهو حدود النهار حتى ترتفع‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬وال ُ‬
‫ص باإلقسام به ألنه الساعة التي كلّم هللا فيها موسى عليه السالم‪ ،‬والتي وقع‬ ‫الشمس‪ ،‬وإنما ُخ ّ‬
‫فيها السحرة ساجدين‪ ،‬أو‪ :‬النهار كلّه؛ لمقابلته بالليل في قوله‪ { :‬واللي ِل إِذا سجى }؛ َ‬
‫س َكن‪،‬‬
‫المراد‪ :‬سكون الناس واألصوات فيه‪ ،‬أو ركد ظالمه‪ ،‬من‪ :‬سجا البحر إذا سكنت أمواجه‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫المراد بالضحى‪ :‬ساعة مناجاة موسى‪ ،‬وبالليل‪ :‬ليلة المعراج‪.‬‬

‫وجواب القسم‪ { :‬ما و ّدعَكَ ربُّك } أي‪ :‬ما تركك منذ اختارك‪ { ،‬وما قَلَى } أي‪ :‬وما أبغضك منذ‬
‫أحبك‪ ،‬والتوديع‪ :‬مبالغةٌ في الودْع‪ ،‬وهو الترك؛ ألنَّ َمن ودّعك مفارقا ً فقد بالغ في تركك‪ُ .‬روي‬
‫أنَّ الوحي ّ‬
‫تأخر عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أياماً‪ ،‬فقال المشركون‪ :‬إنَّ محمداً و َد َعهُ ر ُّبه‬
‫وقاله‪ ،‬فنزلت ر ًّدا عليهم‪ ،‬وتبشيراً له صلى هللا عليه وسلم بالكرامة الحاصلة‪ .‬وحذف الضمير‬
‫من " قَلَى " إ ّما للفواصل‪ ،‬أو لالستغناء عنه بذكره قبل‪ ،‬أو‪ :‬للقصد إلى نفس صدور الفعل عنه‬
‫تعالى‪ ،‬مع قطع النظر عما يقع عليه الفعل بالكلية‪ ،‬وحيث تض ّمن ما سبق من نفي التوديع‪،‬‬
‫والقَلى أنه تعالى يُواصله بالوحي والكرامة في الدنيا بَشَّر صلى هللا عليه وسلم بأنّ ما سيؤتاه‬
‫في اآلخرة أج ّل وأعظم بذلك‪ ،‬فقيل‪ { :‬ولآلخرةُ خير لك من األُولى } ‪ ،‬ألنَّ ما فيها من النِعم‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫صافية من الشوائب على اإلطالق‪ ،‬وهذه فانية مشوبة‪ l‬بالمضار‪ ,‬وما أوتي صلى هللا عليه وسلم‬
‫من شرف النبوة‪ ،‬وإن كان مما ال يُعادله شرف‪ ،‬وال يُدانيه فضل‪ ،‬لكنه ال يخلو في الدنيا عن‬
‫بعض العوارض الشاقة على النفس‪.‬‬

‫ووجه اتصال اآلية بما قبلها‪ :‬أنه ل َّما كان في ضمن نفي التوديع والقَلي أنَّ هللا يُواصلك بالوحي‬
‫إليك‪ ،‬وأنك حبيب هللا‪ ،‬وال ترى كرامة أعظم من ذلك‪ ،‬أخبر أن ما له في اآلخرة أعظم وأشرف‪،‬‬
‫وذلك لتقدُّمه على األنبياء في الشفاعة الكبرى‪ ،‬وشهادة أمته على األمم‪ ،‬ورفع درجات‬
‫المؤمنين‪ ،‬وإعالء مراتبهم بشفاعته‪ ،‬وغير ذلك من الكرامات السنية‪ l‬التي ال تُحيط بها العبارة‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬ولَ َ‬


‫س ْوفَ يُعطيك ربُّك فترضى } َوعْد كري ٌم شام ٌل لِما أعطاه هللا تعالى في الدنيا‪،‬‬
‫من كما اليقين‪ ،‬وعلوم األولين واآلخرين‪ ،‬وظهور أمره‪ ،‬وإعالء دينه بالفتوح الواقعة في‬
‫عصره صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وفي أيام خلفائه الراشدين وغيرهم من الملوك اإلسالمية‪ ،‬وفشو‬
‫الدعوة‪ ،‬وإعالء منار اإلسالم في مشارق األرض ومغاربها‪ ،‬ولِما ادخر له من الكرامات التي ال‬
‫س عن شيء منها‪ ،‬حيث قال‪ " :‬أعطي في الجنة ألف‬ ‫يعلمها إالَّ هللا ع ّز وجل‪ ،‬وقد أنبأ ابنُ عبا ٍ‬
‫قصر من لؤلؤ أبيض‪ ،‬ترابه المسك "‪ .‬وفي الحديث‪ :‬لَ َّما نزلت هذه اآلية قال صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪:‬‬
‫" أنا ال أرضى وواحد من أمتي في النار " قال بعضهم‪ :‬هذه أرجى أية في القرآن‪ .‬ودخل صلى‬
‫هللا عليه وسلم على فاطمة‪ ،‬وعليها ثياب من صوف وشعر‪ ،‬وهي تطحن وتُرضع ولدها‪ ،‬فدمعت‬
‫عيناه‪ ،‬وقال‪ " :‬يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا لحالوة اآلخرة " ثم تال‪ { :‬ولسوف يعطيك ربك‬
‫فترضى }‪ .‬والالم للقسم‪ ،‬وإنما لم تدخل نون التوكيد لفصل السين بين القسم والفعل‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬قال القشيري‪ :‬يُشير‪ l‬إلى القسم بضحوة نهار قلب الرسول‪ ،‬عند انتشار شمس روحه‬
‫على بشريته‪ l،‬وبِلَيل بشريته‪ l‬عند أحكام الطبيعة وسلوك آثار البشريه‪ l‬لغلبة سلطان الحقيقة‪ ،‬ما‬
‫ودَّعك ربك بقطع فيض النبوة والرسالة عن ظاهرك‪ ،‬وما قَلَى بقطع فيض الوالية عن قلبك‪،‬‬
‫{ ولآلخرةُ خير لك من األولى } يعني‪ :‬أحوال نهايتك أفضل وأكمل من أحوال بدايتك‪ ،‬ألنه صلى‬
‫هللا عليه وسلم ال يزال يطير بجناحي الشريعة والطريقة في جو سماء الحقيقة‪ ،‬ويترقّى في‬
‫مقامات القٌرب والكرامة‪ .‬هـ‪ .‬ويمكن الخطاب بالسورة الكريمة لخليفته من العارفين‪ ،‬الدعاة إلى‬
‫هللا‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫ضآالًّ فَ َهدَىا } * { َو َو َج َد َك عَآئِالً فَأ َ ْغنَىا } * { فَأ َ َّما ا ْليَتِي َم‬ ‫*{ أَلَ ْم يَ ِجدْكَ يَتِيما ً فَآ َوىا } * { َو َو َجدَكَ َ‬
‫سآئِ َل فَالَ تَ ْن َه ْر } * { َوأَ َّما بِنِ ْع َم ِة َربِّكَ فَ َحد ْ‬
‫ِّث }‬ ‫فَالَ تَ ْق َه ْر } * { َوأَ َّما ال َّ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬أَل ْم يَ ِجدْكَ يتيما ً } من أبويك { فآوى } أي‪ :‬ض َّمك إلى جدك‪ ،‬ثم إلى عمك‬
‫أبي طالب‪ُ .‬روي أنَّ أباه مات وهو جنين‪ ،‬قد أتت عليه ستة أشهر‪ ،‬وماتت أمه وهو ابن ثمان‬
‫سنين‪ ،‬فكلفه أوالً جدُّه عبد المطلب‪ ،‬فلما مات جده َكفَلَه َع ُّمه أبو طالب‪ ،‬فأحسن تربيته‪ l،‬وذلك‬
‫إيواؤه‪ ،‬وقال القشيري‪ l:‬ويُقال‪ :‬بل آواه إلى ظل َكنَفِه‪ ،‬وربَّاه بلطف رعايته‪ .‬هـ‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫والحكمة في يُتمه صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أالّ يكون عليه منّة ألح ٍد سوى كفالة الحق تعالى‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫هو من قول العرب‪ :‬دُرة يتيمة إذا لم يكن لها ِمثل‪ ،‬أي‪ :‬ألم يجدك وحيداً في شرفك وفضلك‪ ،‬ال‬
‫نظير لك فآواك إلى حضرته‪l.‬‬

‫{ َو َو َجدَك ضاال }؛ غافالً عن الشرائع التي ال تهتدي إليها العقول‪ { ،‬فَ َهدَى }؛ فهداك إليها‪،‬‬
‫كقوله‪:‬‬
‫{ َما ُكنتَ تَ ْد ِري َما ا ْل ِكت ُ‬
‫َاب َوالَ ِ‬
‫اإلي َمانُ }‬
‫[الشورى‪ .]52:‬وقال القشيري‪ l:‬أي‪ :‬ضاالًّ عن تفصيل الشرائع فهديناك إليها‪ ،‬و َع َّرفناك‬
‫تفصيلَها‪ .‬هـ‪ .‬أو‪ :‬ضاالً عما أنت عليه اليوم من معالم النبوة‪ ،‬ولم يقل أحد من المفسرين‪ :‬ضاالًّ‬
‫شعاب مكة‪ ،‬فردّه أبو جهل إلى عبد‬ ‫عن اإليمان‪ .‬قاله عياض‪ :‬وقيل‪ :‬ض ّل في صباه في بعض ِ‬
‫المطلب‪ ،‬وقيل‪ :‬ض ّل مرة أخرى‪ ،‬وطلبوه فلم يجدوه‪ ،‬فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً‪ ،‬وتض ّرع‬
‫تضجوا‪ ،‬فإنَّ لمحم ٍد ربَّا ال يخذله‬
‫ُّ‬ ‫إلى هللا‪ ،‬فسمعوا هاتفا ً يُنادي من السماء‪ :‬يا معشر الناس‪ ،‬ال‬
‫وال يُضيّعه‪ .‬وأنَّ محمداً بوادي تهامة عند شجرة السمر‪ ،‬فسار عبد المطلب وورقة بن نوفل‪ ،‬فإذا‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم قائم تحت شجرة‪ ،‬يلعب باإلغصان واألوراق‪ .‬وقيل‪ :‬أضلته مرضعته‪l‬‬
‫حليمة عند باب الكعبة حين فطمته‪ ،‬وجاءت به لترده على عبد المطلب‪ ،‬وقيل‪ :‬ض ّل في طريق‬
‫الشام حين خرج به أبو طالب‪ ،‬يُروى أن إبليس أخذ بزمام ناقته في ليل ظلماء‪ ,‬فعدل به عن‬
‫إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الهند‪ ،‬وردّه إلى‬ ‫َ‬ ‫الطريق‪ ،‬فجاء جبري ُل عليه السالم‪ ،‬فنفخ‬
‫القافلة‪ .‬وقوله تعالى‪ { :‬فَ َهدَى } أي‪ :‬فهداك إلى منهاج الشرائع المنطوية في تضاعيف ما يُوحى‬
‫إليك من الكتاب المبين‪ ،‬وعلَّمك ما لم تكن تعلم‪ { .‬ووجدك عائالً }؛ فقيراً من حس الدنيا‪،‬‬
‫{ فأ َ ْغنَى }؛ فأغناك به عما سواه‪ ،‬وز ّوجك خديجة‪ ،‬فقامت بمؤونة العيش‪ ،‬أو بما أفاء عليك من‬
‫الغنائم‪ ،‬قال صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬جعل رزقي تحت ظل رمحي "‪.‬‬

‫تقهر } ‪ ،‬قال المفسرون‪ :‬أي‪ :‬ال تغلبه على ماله وحقه‪ ،‬ألجل ضعفه‪ ،‬وأذكر‬ ‫ْ‬ ‫{ فأ َّما اليتي َم فال‬
‫يتمك‪ ،‬وال تقهره بالمنع من مصالحه‪ ،‬ووجوه القهر كثيرة‪ ,‬والنهي يعم جميعها‪ ،‬أي‪ :‬دُم على ما‬
‫أنت عليه من عدم قهر اليتيم‪ .‬وقد ورد في الوصية‪ l‬باليتيم أحاديث‪ ،‬منها‪ :‬قوله صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪:‬‬
‫" أنا وكاف ُل اليتيم في الجنة كهاتين إذا اتقى هللا " وأشار بالسبابة وال ُوسطى‪ ،‬وقال صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ " :‬إنَّ اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن‪ ،‬فيقول هللا تعالى‪ :‬يا مالئكتي؛ َمن‬
‫أبكى هذا اليتيم الذي غيبتُ أباه في التراب؟ فتقول المالئكة‪ :‬ربنا أنت أعلم‪ ،‬فيقول هللا تعالى‪ :‬يا‬
‫مالئكتي فإني أُشهدكم أنَّ لمن أسكته وأرضاه أنْ أُرضيه يوم القيامة " ‪ ،‬فكان عمر إذا رأى يتيما ً‬
‫مسح رأسه وأعطاه شيئاً‪ .‬وقال أنس‪َ " :‬من ض ّم يتيماً‪ ،‬فكان في نفقته‪ ،‬وكفاه مؤنته‪ ،‬كان له‬
‫حجابا ً من النار يوم القيامة‪ ،‬و َمن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة "‪.‬‬

‫تنهر } أي‪ :‬ال تزجره وال تعبس في وجهه‪ ،‬وال تغلظ له القول‪ ،‬بل ردّه ر ًّدا‬ ‫ْ‬ ‫{ وأ َّما السائِ َل فال‬
‫س َّؤال يحملون زادنا إلى اآلخرة‪ .‬وقال إبراهيم النخعي‪:‬‬‫جميالً‪ ،‬قال إبراهيم بن أدهم‪ :‬نِعم القوم ال ُ‬
‫السائل بريد اآلخرة‪ ،‬يجيء إلى باب أحدكم فيقول‪ :‬أتبعثون إلى أهليكم بشيء‪ .‬وقال صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ " :‬ال يمنعنّ أحدُكم السائ َل وإن في يد ْيه‪ l‬قُ ْلبَين‪ ،‬من ذهب " أي‪ :‬سوارين‪ .‬وقال أيضاً‪:‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫" أعط السائل ولو على فرسه " وقال صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬إذا رددت السائل ثالثا ُ فلم يرجع‬
‫عليك أن ت َْزبُ َره " وقال الحسن‪ :‬المراد بالسائل هنا‪ :‬السائل عن العلم‪.‬‬

‫{ وأ َّما بنعم ِة ربك فحدِّث } بشكرها وإشاعتها وإظهار آثارها‪ ,‬يرد ما أفاضه هللا تعالى عليه من‬
‫فنون النعم‪ ،‬التي من جملتها المعدودة والموعودة‪ ,‬والنبوة التي آتاه هللا تأتي على جميع النِعم‪،‬‬
‫ويَدخل في النِعم تعلُّم العلم والقرآن‪ ،‬وفي الحديث عنه صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬التحدُّث بالنِ َعم‬
‫شكر " ولذلك كان بعض السلف يقول‪ :‬لقد أعطاني هللا كذا‪ ،‬ولقد صلَّيتُ البارحة كذا‪ ،‬وهذا إنما‬
‫يجوز إذا ذكره على وجه الشكر‪ ،‬أو ليُقتدى به‪ ،‬فأ ّما على وجه الفخر والرياء فال يجوز‪ .‬هـ‪.‬‬

‫انظر كيف ذكر هللا في هذه السورة ثالث نعم‪ ،‬ثم ذكر في مقابلتها ثالث وصايا‪ ،‬فقال في قوله‪:‬‬
‫{ ألم يجدك يتيما ً } بقوله‪ { :‬فأ ّما اليتيم فال تَ ْق َهر } وقابل قولَه‪ { :‬ووجدك ضاالً } بقوله‪ { :‬وأ ّما‬
‫السائل فال تَ ْن َهر } على َمن قال‪ :‬إنه طالب العلم‪ ،‬وقابل بقوله‪ { :‬وأ ّما بنعمة ربك فَ َحدِّث } على‬
‫القول اآلخر‪ ,‬وقابل قوله‪ { :‬ووجدك عائالً فأَ ْغنَى } بقوله‪ { :‬وأ ّما السائل فال تَ ْنهر } على القول‬
‫األظهر‪ ،‬وقابله بقوله‪ { :‬وأ َّما بنعمة ربك فحدِّث } على القول اآلخر هـ‪ .‬من ابن جزي‪.‬‬

‫سنَّ التكبير آخرها‪ ،‬وورد األمر به‬


‫ول َّما قرأ صلى هللا عليه وسلم سورة الضحى كبّر في آخرها‪ ،‬ف ُ‬
‫خاتمتها وخاتمة‪ l‬كل سورة بعدها في رواية البزي‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬ألم يجدك يتيما ً فرداً من العالئق‪ ،‬مجرداً مما سوى هللا‪ ،‬فآواك إليه‪ ،‬وهي طريقة كل‬
‫ب ُمفرد‪ ،‬فيه توحيد مجرد‪.‬‬ ‫متوجه‪ ،‬ال يأويه الحق إليه حتى يكون يتيما ً من الهوى‪ ،‬بل بقل ٍ‬
‫قال القشيري‪ l:‬ويُقال فآواك إلى بساط القربة‪ ،‬بحيث انفردْتَ بمقا ِمك‪ ،‬فلم يُشاركك فيه أحد‪ .‬هـ‪.‬‬
‫{ ووجدك ضاالًّ } قيل‪ :‬متردداً في معاني غوامض المحبة‪ ،‬فهداك بلطفه لها‪ ،‬أو‪ :‬وجدك ُمتحيراً‬
‫عن إدراك حقيقتنا‪ ،‬فكملناك بأنوار ربوبيتنا حتى أدركتنا بنا‪ ،‬وفي هذا مالءمة لمعنى االفتتاح‪.‬‬
‫قال القشيري‪ l:‬ويُقال‪ :‬ضاالًّ عن محبتي لكن فع َّر ْفتُك أني أُحبك‪ ،‬ويقال‪ :‬جاهالً شرفَك فع َّر ْفتُك‬
‫قَد َْركَ ‪ .‬هـ‪ .‬ووجدك عائالً فقيراً مما سواه‪ ،‬فأغناك به عن كل شيء‪ ،‬إالّ طلب الزيادة في العلوم‬
‫والعرفان‪ ،‬فال قناعة من ذلك‪،‬‬
‫{ َوقُل َّر ِّب ِز ْدنِي ِع ْلما ً }‬
‫[طه‪ .]114:‬وفي القوت‪ :‬إنما أغناه بوصفه‪ l،‬ال باألسباب‪ ,‬وهو أعز على هللا من أن يجعل غناه‬
‫من الدنيا أو يرضاها له‪ .‬هـ‪ .‬وكما أنَّ هللا تعالى َغنِ ّي بذاته‪ ،‬ال باألعراض واألسباب‪ ،‬فالرسول‬
‫صلى هللا عليه وسلم َغنِ ّي بربه ال باألعراض‪ .‬قاله في الحاشية‪ .‬قلت‪ :‬وكذلك األولياء ـ رضي هللا‬
‫ق تعالى‬ ‫صى به الح ٌّ‬‫ني " فصاروا أغنياء بال سبب‪ ،‬وما و ّ‬ ‫س َرى فيهم اسمه تعالى " ال َغ ِّ‬ ‫عنهم ـ َ‬
‫صى به خلفاؤه من قوله‪ { :‬فأ ّما اليتيم فال تقهر‪ } ...‬الخ‪ .‬وباهلل‬ ‫نبيه صلى هللا عليه وسلم يُو َّ‬
‫التوفيق‪ .‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‪.‬‬

‫‪#‬سورة الشرح §‪#‬‬


‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ظ ْه َر َك } * { َو َرفَ ْعنَا لَ َك‬


‫ض َ‬ ‫ض ْعنَا عَن َك ِو ْز َركَ } * { الَّ ِذيا أَنقَ َ‬ ‫صد َْركَ } * { َو َو َ‬ ‫ش َر ْح لَكَ َ‬‫*{ أَلَ ْم نَ ْ‬
‫ص ْب } * { َوإِلَىا‬ ‫سراً } * { فَإ ِ َذا فَ َر ْغتَ فَان َ‬ ‫سراً } * { إِنَّ َم َع ا ْل ُع ْ‬
‫س ِر يُ ْ‬ ‫ِذ ْك َركَ } * { فَإِنَّ َم َع ا ْل ُع ْ‬
‫س ِر يُ ْ‬
‫َربِّكَ فَ ْ‬
‫ار َغ ْب }‬

‫نشرح لك صدرك } أي‪ :‬ألم نوسعه ونفسحه حتى حوى عالَم الغيب‬ ‫ْ‬ ‫يقول الحق جالّ جالله‪ { :‬ألم‬
‫والشهادة‪ ،‬وجمع بين ملَكتي االستفادة واإلفادة‪ ،‬فما صدتك المالبسة بالعالئق الجسمانية‪ l‬عن‬
‫اقتباس أنوار الملِكات الروحانية‪ ،‬وما عاقك التعلُّق بمصالح الخلق عن االستغراق في شهود‬
‫الحق‪ ،‬وقيل‪ :‬المراد شرح جبريل صد َره في حال صباه‪ ،‬حين شقّه وأخرج منه‪ l‬علقة سوداء‪ ،‬أو‬
‫ليلة المعراج فمأله إيمانا ً وحكمة‪ .‬والتعبير‪ l‬عن الشرح باالستفهام اإلنكاري لإليذان بأن ثبوته‪ l‬من‬
‫الظهور بحيث ال يقدر أحد أن يُ ِجيب عنه بغير " بلى "‪.‬‬

‫سطه بين الفعل ومفعوله لإليذان بأنَّ الشرح من منافعة صلى هللا عليه وسلم‬ ‫وزيادة " لك " وتو ُّ‬
‫ومصالحة‪ ،‬مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه صلى هللا عليه وسلم وتشويقا ً إلى ما يعقبه‪،‬‬
‫ليتمكن عنده وقتَ وروده فضل تم ُّكن‪ .‬وقال في الوجيز‪ :‬هو استفهام معناه التقرير‪ ،‬أي‪ :‬ألم نفتح‬
‫سع لك قلبك باإليمان والنبوة والعلم والحكمة‪ .‬قال في الحاشية الفاسية‪ l:‬والظاهر أنه إيثار‬ ‫ونُو ِّ‬
‫بما طلبه موسى عليه السالم بقوله‪:‬‬
‫ص ْد ِري }‬
‫ش َر ْح لِي َ‬
‫{ َر ِّب ا ْ‬
‫[طه‪ ،]25:‬وأنه بادَاه به من غير طلب‪ ،‬وهو قَدْر زائد على مطلق الرسالة‪ ،‬متضمن حمل ثقل‬
‫تبليغها‪ ,‬لكونه في ذلك بربه‪ l,‬ويناسبه ما بعده من وضع الوزر‪ ،‬وهو لغة‪ :‬الحمل الثقيل‪ ،‬كما في‬
‫الوجيز‪ ،‬وشرح الصدر‪ :‬بسطه بنور‪ l‬إلهي‪ .‬هـ‪.‬‬

‫{ ووضعنا عنك ِو ْز َركَ } ‪ ،‬عطف على مدلول الجملة السابقة‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬قد شرحنا لك صدرك‬
‫ض ظهرك } أي‪ :‬أثقله حتى سمع‬ ‫ووضعنا عنك وزرك‪ ،‬أي‪ :‬حططنا عنك عبأك الثقيل‪ { ،‬الذي أَ ْنقَ َ‬
‫له نقيض‪ ،‬وهو صوت االنتقاض‪ ،‬أي‪ :‬خففنا عنك أعباء النبوة والقيام بأمرها‪ ،‬أو‪ :‬يُراد ترك‬
‫األفضل مع إتيان الفاضل‪ ،‬واألنبياء يعاتبون بمثلها‪ ،‬ووضعه عنه‪ :‬أن يغفر له‪ .‬قال ابن عرفة‪:‬‬
‫التفسير السالم فيه‪ :‬أن يتج ّوز في الوضع بمعنى اإلبعاد‪ ،‬أو يتج ّوز في الوزر‪ ،‬فإن أريد بالوزر‬
‫حقيقته‪ l‬فيكون المعنى‪ :‬أبعدنا عنك ما يتوهم أن يلحقك من الوزر الالحق لنوعك‪ ،‬وإن أريد‬
‫بالوزر المجازي‪ ،‬وهو ما يلحقه قِبَل النبوة من الهم والحزن بسبب جهلك ما أنت اآلن عليه من‬
‫األحكام الشرعية‪ ،‬فيكون الوضع حقيقة‪ ،‬والوزر مجازاً‪ .‬هـ‪ .‬قلت‪ :‬والظاهر‪ :‬أنَّ كل مقام له‬
‫ذنوب‪ ،‬وهو رؤية‪ l‬التقصير في القيام بحقوق ذلك المقام‪ ،‬فحسنات األبرار سيئات المقربين‪ ،‬فكلما‬
‫عال المقام طُولب صاحبه بشدة األدب‪ ،‬فكأنه صلى هللا عليه وسلم خاف أالّ يكون قام بحق المقام‬
‫الذي أقامه الحق فيه‪ ،‬فاهت ّم من أجله‪ ،‬وجعل منه حمالً على ظهره‪ ،‬فأسقطه الحق تعالى عنه‪،‬‬
‫وبشَّره بأنه مغفور له على اإلطالق؛ ليتخلّى من ذلك االهتمام‪.‬‬

‫وزاده شرفا ً بقوله‪ { :‬ورفعنا لك ِذكرك } أي‪ :‬ن ّوهنا باسمك وجعلناه شهيراً في المشارق‬
‫والمغارب‪ ،‬و ِمن َر ْف ِع ذكره صلى هللا عليه وسلم أن قرن اس َمه مع اس ِمه في الشهادة واألذان‬
‫والخطب والتش ُّهد‪ ،‬وفي مواضع من القرآن‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫واإلقامة‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫سو َل }‬ ‫أَ ِطي ُعو ْا هَّللا َ َوأَ ِطي ُعو ْا ال َّر ُ‬


‫[النساء‪]59:‬‬
‫سولَهُ }‬ ‫{ َو َمن يُ ِط ِع هَّللا َ َو َر ُ‬
‫[النساء‪]13:‬‬
‫ضوهُ }‬‫ق أَن يُ ْر ُ‬ ‫سولُهُ أَ َح ُّ‬ ‫{ َوهَّللا ُ َو َر ُ‬
‫[التوبة‪ ،]62l:‬وتسميته‪ l‬رسول هللا‪ ،‬ونبي هللا‪ ،‬وقد ذكره في كتب األولين‪ .‬قال ابن عطية‪َ :‬ر ْف ُع‬
‫الذكر نعمة على الرسول‪ ،‬وكذا هو جميل حسن للقائمين بأمور الناس‪ ،‬وخمول الذكر واالسم‬
‫أحب‬
‫حسن للمنفردين للعبادة‪ .‬هـ‪ .‬قلت‪ :‬واألحسن ما قاله الشيخ المرسي رضي هللا عنه‪َ :‬من ّ‬
‫أحب هللا فال عليه أخفاه أو‬
‫أحب الخفاء فهو عبد الخفاء‪ ،‬و َمن ّ‬‫الظهور فهو عبد الظهور‪ ،‬و َمن ّ‬
‫أظهره‪ .‬هـ‪ .‬والخمول للمريد أسلم‪ ،‬والظهور للواصل أشرف وأكمل‪.‬‬

‫س ِر يُسراً } أي‪ :‬إنّ مع‬‫ثم بشّر رسولَه وسالَّه عما كان يلقى من أذى الكفار بقوله‪ { :‬فإِنَّ مع ال ُع ْ‬
‫الشدة التي أنت فيها من مقاساة بالء المشركين يُسراً بإظهاره إياك عليهم حتى تغلبهم‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫كان المشركون يُعيّرون رسول هللا والمسلمين بالفقر‪ ،‬حتى سبق إلى وهمه أنهم َر ِغبُوا عن‬
‫اإلسالم الفتقار أهله‪ ،‬فذ ّكره ما أنعم به عليه من جالئل النعم‪ ،‬ثم قال‪ { :‬فإِنَّ مع العسكر يُسراً }‬
‫كأنه قال‪ :‬خ ّولناك ما خ ّولناك فال تيأس من فضل هللا‪ { ،‬إِنَّ مع العسر } الذي أنتم فيه { يُسراً } ‪،‬‬
‫وجيء بلفظ " مع " لغاية مقارنة اليسر للعسر؛ زيادةً في التسلية وتقوية لقلبه صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وكذلك تكريره‪ ،‬وإنما قال صلى هللا عليه وسلم عند نزولها‪ " :‬لن يغلب عسر يسرين "‬
‫ألنَّ العسر أعيد ُمع ّرفا ً فكان واحداً‪ ،‬ألنّ المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين األولى‪،‬‬
‫واليُسر أعيد نكرة‪ ،‬والنكرة إذا أُعيدت نكرة كانت الثانية غير األولى‪ ،‬فصار المعنى‪ :‬إنَّ مع‬
‫ال ُعسر يسر ْين‪ ،‬وبعضهم يكتبه بياءين‪ ،‬وال وجه له‪.‬‬

‫فانصب }؛ فاجتهد في العبادة‪ ،‬وأَتعب نفسك شكراً لما‬


‫ْ‬ ‫{ فإِذا فرغتَ } من التبليغ أو الغزو {‬
‫أوالك من النِعم السابقة‪ ،‬ووعدك من اآلالء الالحقة‪ ،‬أو‪ :‬فإذا فرغت من دعوة الخلق فاجتهد في‬
‫عبادة الحق‪ ،‬وقيل‪ :‬فإذا فرغت من صالتك فاجتهد في الدعاء‪ ،‬أو‪ :‬إذا فرغت من تبليغ الرسالة‬
‫فارغب } في السؤال‪ ،‬وال‬
‫ْ‬ ‫فانصب في الشفاعة‪ ،‬أي‪ :‬في سبب استحقاق الشفاعة‪ { ،‬وإِلى ربك‬
‫تسأل غيره‪ ،‬فإنه القادر على إسعافك ال غيره‪ .‬وقُرىء‪ " :‬فر ِّغب " أي‪ :‬الناس إلى ما عنده‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬ما قيل للرسول صلى هللا عليه وسلم من تعديد النعم عليه واستقراره بها‪ ،‬يُقال لخليفته‬
‫العارف الداعي إلى هللا‪ ،‬حرفا ً بحرف‪ ،‬فيقال له‪ :‬ألم نُوسع صدرك لمعرفتي‪ ،‬ووضعنا عنك‬
‫أوزارك حين توجهتَ إلينا‪ ،‬أو‪ :‬وضعنا عنك أثقال السير‪ ،‬فحملناك إلينا‪ ،‬فكنت محموالً ال حامالً‪،‬‬
‫الناس‬
‫ُ‬ ‫ورفعنا لك ذكرك حين هيأناك للدعوة‪ ،‬بعد أن أخملنا ذكرك حين كنت في السير لئال يشغلك‬
‫عنا‪ ،‬فإنَّ مع عسر المجاهدة يُسر المشاهدة‪ ،‬فإذا فرغت من الدعوة والتذكير‪ ,‬فأَ ْت ِعب نفسك في‬
‫العكوف في الحضرة‪ ،‬أو‪ :‬فإذا فرغت ِمن كمالك فانصب في تكميل غيرك‪ ،‬وارغب في هداية‬
‫الخلق‪ .‬وباهلل التوفيق‪ ،‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‪.‬‬

‫‪#‬سورة التين §‪#‬‬


‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫سانَ فِيا‬ ‫ين } * { لَقَ ْد َخلَ ْقنَا ا ِإلن َ‬ ‫سينِينَ } * { َوهَـا َذا ا ْلبَلَ ِد األَ ِم ِ‬ ‫ُون } * { َوطُو ِر ِ‬ ‫*{ َوالتِّي ِن َوال َّز ْيت ِ‬
‫ت فَلَ ُه ْم أَ ْج ٌر‬
‫صالِ َحا ِ‬ ‫سافِلِينَ } * { إِالَّ الَّ ِذينَ آ َمنُو ْا َو َع ِملُو ْا ال َّ‬ ‫سفَ َل َ‬‫يم } * { ثُ َّم َر َد ْدنَاهُ أَ ْ‬ ‫أَ ْح َ‬
‫س ِن تَ ْق ِو ٍ‬
‫س هَّللا ُ بِأ َ ْح َك ِم ا ْل َحا ِك ِمينَ }‬
‫ِّين } * { أَلَ ْي َ‬
‫ون } * { فَ َما يُ َك ِّذبُكَ بَ ْع ُد بِالد ِ‬ ‫َغ ْي ُر َم ْمنُ ٍ‬

‫والزيتون } ‪ ،‬أقسم بهما تعالى ِلما فيهما من المنافع الج ّمة‪.‬‬


‫ِ‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬والتي ِن‬
‫تين فأكل منه‪ ،‬وقال ألصحابه‪ُ " :‬كلوا‪ ،‬فلو قلتُ‬ ‫ق من ٍ‬ ‫ُروي أنه صلى هللا عليه وسلم أُ ْه ِدي له طب ٌ‬
‫إنَّ فاكهةً نزلت من الجنة لقُلتُ هذه‪ ،‬ألن فاكهة الجنة‪ ،‬بال ع ََج ِم‪ ،‬فكلوها فإنها ت ْقطَ ُع البواسير‪،‬‬
‫س "‪ .‬وهو أيضا ً فاكهة طيبة ال فضل له‪ ،‬وغذاء لطيف سريع الهضم‪ ،‬كثير‬ ‫وتنفَ ُع من الن ْقر ِ‬
‫النفع‪ ،‬ملين الطبع‪ ،‬ويحلل البلغم‪ ،‬ويُطهر الكليتين‪ ،‬ويزيل ما في المثانة من الرمل‪ ،‬ويسمن‬
‫سرد الكبد والطحال‪ .‬وعن عل ّي بن موسى الرضا‪ :‬التين يزيل نكهة الفم‪ ،‬ويطيل‬ ‫البدن‪ ،‬ويفتح ُ‬
‫الشعر‪ ،‬وهو أمان من الفالج‪ .‬هـ‪.‬‬

‫وأ ّما الزيتون فهو فاكهة وإدام ودواء‪ ،‬ولو لم يكن له سوى اختصاصه بدُهن كثير المنافع لكفى‬
‫به فضالً‪ .‬وشجرته‪ l‬هي الشجرة المباركة‪ ،‬المشهود لها في التنزيل‪ .‬وم ّر معا ُذ بن جبل بشجرة‬
‫الزيتون‪ ،‬فأخذ منها قضيبا ً واستاك به‪ .‬وقال‪ :‬سمعتُ النبي صلى هللا عليه وسلم يقول‪ " :‬نعم‬
‫السواك الزيتون‪ ،‬هي الشجرة المباركة‪ ،‬يطيب الفم‪ ،‬ويذهب بالحفرة " وقال‪ " :‬هو سواكي‬
‫وسواك األنبياء قبلي " وعن ابن عباس‪ :‬هو تينكم هذا‪ ،‬وزيتونكم هذا‪ .‬وقيل‪ :‬هما جبالن بالشام‬
‫ينبتانهما‪.‬‬

‫{ وطُو ِر سينينَ } ‪ ،‬أضيف الطور وهو الجبل إلى " سينين " وهو البقعة‪ ،‬وهو الجبل الذي‬
‫ناجى موسى عليه السالم ربَّه عليه‪ ،‬ويُقال له‪ :‬سينين وسيناء‪ { .‬وهذا البلد األمين } وهو مكة‪،‬‬
‫ش ّرفها هللا‪ ،‬وأمانتها أنها تحفظ َمن دخلها كما يحفظ األمين ما يُؤتمن عليه‪ .‬ووجه اإلقسام‬
‫بهاتين البقعتين المباركتين المشحونتين بخيرات الدنيا واآلخرة غني عن الشرح والتبيين‪l.‬‬

‫تقويم } أي‪ :‬كائنا ً في‬


‫ٍ‬ ‫اإلنسانَ } أي‪ :‬جنس اإلنسان { في أحسن‬
‫وجواب القسم‪ { :‬لقد خلقنا ِ‬
‫أحسن ما يكون من التقويم والتعديل صورةً ومعنى‪ ،‬حيث جعله هللاُ مستوي‪ l‬القامة‪ ،‬متناسب‬
‫األعضاء‪ ،‬متصفا ً بصفات البارىء تعالى من القدرة واإلرادة والعلم والحياة والسمع والبصر‬
‫والكالم‪ ،‬وهذا معنى قوله صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬إنَّ هللا خلق آدم على صورته " ‪ ،‬وفي رواية‪:‬‬
‫" على صورة الرحمن " على بعض األقوال‪ .‬وشرح عجائب اإلنسان يطول‪.‬‬

‫{ ثم رددناه أسف َل سافلين } أي‪ :‬جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح‪ ،‬وأسفل من كل‬
‫سافل‪ ،‬لعدم جريانه على موجب ما َخلَقَه عليه من الصفات‪ ،‬التي لو عمل بمقتضاها لكان في‬
‫أعلى عليين‪ .‬وقيل‪ :‬رددناه إلى أرذل العمر‪ ،‬وهو الهرم بعد الشباب‪ ،‬والضعف بعد القدرة‪ ،‬كقوله‬
‫تعالى‪:‬‬
‫ق}‬‫سهُ ِفي ا ْل َخ ْل ِ‬
‫{ َو َمن نّ َع ِّم ْرهُ نُنَ ِّكـ ْ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫[يَس‪ ]68:‬أي‪ :‬ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتعديل أسف َل َمن سفُ َل في ُحسن الصورة والشكل‬
‫ض شعره بعد سواده‪ ،‬وتكمش جلده‪ ،‬و َك ّل‬ ‫حيث ننكسه في خلقه‪ ,‬فق َّوس ظهره بعد اعتداله‪ ،‬وا ْبيَ َّ‬
‫سمعه وبصره‪.‬‬
‫إِالّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ‪ ،‬استثناء متصل‪ l‬على التفسير األول‪ ،‬ومنقطع على الثاني‪{ ،‬‬
‫فلهم أج ٌر غي ُر ممنو ٍن } أي‪ :‬رددناه أسفل السافلين إالَّ َمن آمن‪ ،‬أو‪ :‬لكن الذين آمنوا وكانوا‬
‫صالحين من الهرمى‪ ،‬فلهم ثواب غير منقطع‪ ،‬لطاعتهم وصبرهم على الشيخوخة والهرم‪ ،‬وعلى‬
‫ق والقيام بالعبادة‪ ،‬خصوصا ً وقت الكبر‪ .‬وعن أنس قال رسول هللا صلى هللا عليه‬ ‫مقاساة المشا ّ‬
‫وسلم‪ " :‬إذا بلغ المؤمن خمسين سنة خفّف هللا حسابه‪ ،‬فإذا بلغ ستين رزقه هللا اإلنابة‪ ،‬فإذا بلغ‬
‫سبعين أحبه أهل السماء‪ ،‬فإذا بلغ ثمانين ُكتبت حسناته وتجاوز هللا عن سيئاته‪ l،‬فإذا بلغ تسعين‬
‫ُغفرت ذنوبه‪ l,‬وشفع في أهل بيته‪ l،‬وكان أسير هللا في أرضه‪ ،‬فإذا بلغ مائة ولم يعمل كتب له ما‬
‫كان يعمله في صحته وشبابه "‪.‬‬

‫ودخلت الفاء هنا دون سورة االنشقاق للجمع بين المعنيين هنا‪ .‬قاله النسفي‪ .‬والخطاب في قوله‪:‬‬
‫{ فما يُ َك ِّذبُك بع ُد بالدين } لإلنسان‪ ،‬على طريقة االلتفات‪ ،‬أي‪ :‬فما سبب تكذيبك بعد هذا البيان‬
‫القاطع‪ ،‬والبرهان الساطع بالجزاء‪ ،‬والمعنى‪ :‬إنَّ خلق اإلنسان من نطف ٍة‪ ،‬وتسويته بشراً سويًّا‪،‬‬
‫وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي‪ ،‬ث ّم تنكيسه‪ l‬إلى أن يبلغ أرذل العمر‪ ,‬ال ترى‬
‫دليالً أوضح منه على قدرة الخالق‪ ،‬وأنَّ َمن قدر على خلق اإلنسان على هذا النمط العجيب لم‬
‫يعجز عن إعادته‪ ،‬فما سبب تكذيبك بالجزاء؟! أو‪ :‬بالرسول صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أي‪ :‬ف َمن‬
‫ينسبك إلى الكذب بعد هذا الدليل القاطع؟‬

‫{ أليس هللاُ بأحكم الحاكمين } وعيد للكفار‪ ،‬وأنّه يحكم عليهم بما هو أهله‪ ،‬وهو من ُ‬
‫الحكم‬
‫والقضاء‪ ،‬أي‪ :‬أليس هللا بأفضل الفاصلين فيفصل بينك وبين ِّ‬
‫مكذبِيك‪ .‬وقيل‪ِ :‬من ال ِحكمة‪ ،‬بمعنى‬
‫اإلتقان‪ ،‬أي‪ :‬أليس َمن خلق اإلنسان وص ّوره في أحسن تقويم بأحكم الحكماء‪ .‬وكان عليه الصالة‬
‫والسالم إذا قرأها قال‪ " :‬بلى‪ ,‬وأنا على ذلك من الشاهدين "‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬حاصل ما ذكره القشيري‪ :‬أنه تعالى أقسم بأربعة أشياء‪ ،‬لغاية شرفها؛ األولى شجرة‬
‫القلب التينية‪ l‬المث ِمرة للعلوم اللدنية الخالصة عن نوى الشكوك العقلية والشبهة الوهمية‪l،‬‬
‫والثانية‪ l:‬شجرة الروح المستضيئة‪ l‬من نور السر لكمال استعدادها‪ ،‬وإليه اإلشاره بقوله‪:‬‬
‫سهُ‪ l‬نَا ٌر }‬ ‫ضيا ُء َولَ ْو لَ ْم تَ ْم َ‬
‫س ْ‬ ‫{ يَ َكا ُد َز ْيتُ َها يُ ِ‬
‫[النور‪ ]35:‬الخ‪ .‬والثالثة‪ :‬شجرة السر‪ ،‬الذي هو طور التجلِّي محل المشاهدة والمكالمة‬
‫والمناجاة‪ .‬والرابعة‪ :‬البلد األمين‪ ،‬الذي هو حال التلبيس والخفاء‪ ،‬بعد التمكين‪ ،‬وهو الرجوع‬
‫سم عليه‪ { :‬لقد خلقنا‬ ‫لألسباب‪ ،‬قياما ً بآداب الحكمة ورسم العبودية‪ ،‬وهو مقام الكملة‪ .‬والمق َ‬
‫اإلنسان في أحسن تقويم } قال القشيري‪ :‬أي‪ :‬في المظهر األكمل واألتم‪ ،‬والمحل األعم‪ ،‬حامل‬
‫األمانة اإللهية‪ ،‬وصاحب الصورة الرحمانية‪ ،‬روحانيته أُم الروحانيات‪ ,‬وطبيعته أجمع األمزجة‬
‫وأعدلها‪ ،‬ونشأته أوسع النشآت وأشملها‪ .‬هـ‪ .‬قلت‪ :‬وإليه أشار الششتري‪ l‬بقوله‪:‬‬

‫وفيك يطوى ما انتشر من األواني‬


‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫وقول الشاعر‪:‬‬

‫انظر تجد فيك الوجو َد بأسره‬ ‫يا تائها ً في مهم ٍه عن سره‬


‫يا جامعا ً سر اإلله بأسره‬ ‫أنت الكمال طريقة وحقيقة‬
‫وقال في لطائف المنن‪ ،‬حاكيا ً عن شيخة أبي العباس المرسي‪ :‬قرأتُ ليلة { والتين والزيتون }‬
‫إلى أن انتهيت إلى قوله‪ { :‬لقد خلقنا اإلنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين } ففكرتُ‬
‫في معنى اآلية‪ ،‬فكشف لي عن اللوح المحفوظ‪ ،‬فإذا فيه مكتوب‪ :‬لقد خلقنا اإلنسان في أحسن‬
‫تقويم روحا ً وعقالً‪ ،‬ثم رددنا أسفل سافلين نفسا ً وهوى‪ .‬هـ‪ .‬فقوله تعالى‪ { :‬إالّ الذين آمنوا‪} ..‬‬
‫الخ؛ هم أهل الروح والعقل‪ ،‬الباقون في حسن التقويم‪ ،‬وغيرهم أهل النفس والهوى‪ ،‬وهللا تعالى‬
‫أعلم‪ .‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله‪.‬‬

‫‪#‬سورة العلق §‪#‬‬

‫ق } * { ا ْق َر ْأ َو َربُّ َك األَ ْك َر ُم } * { الَّ ِذى‬


‫سانَ ِمنْ َعلَ ٍ‬
‫اإلن َ‬
‫ق ِ‬ ‫ق } * { َخلَ َ‬ ‫*{ ا ْق َر ْأ بِا ْ‬
‫س ِم َربِّ َك الَّ ِذي َخلَ َ‬
‫سانَ َما لَ ْم يَ ْعلَ ْم }‬‫َعلَّ َم بِا ْلقَلَ ِم } * { َعلَّ َم ا ِإلن َ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله لنبيه‪ l‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬في أول الوحي‪ { :‬اقرأ باسم ربك } أي‪ :‬اقرأ‬
‫هذا القرآن مفتتحا ً باسم ربك‪ ،‬أو مستعينا ً به‪ ،‬فالجار في محل الحال‪ .‬ويحتمل أن يكون المقروء‬
‫والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة‪l‬‬
‫ُّ‬ ‫الذي أمر بقراءته هو باسم ربك‪ ،‬كأنه قيل له‪ :‬اقرأ هذا اللفظ‪.‬‬
‫عن التربية والتبليغ إلى الكمال الالئق شيئا ً فشيئا ً مع اإلضافة إلى ضميره صلى هللا عليه وسلم‬
‫لإلشعار بتبليغه عليه السالم إلى الغاية القاصية من الكماالت البشرية‪ l‬والروحانية بإنزال الوحي‬
‫ق } صفة للرب‪ ،‬ولم يذكر له‬
‫المشتمل‪ l‬على نهاية العلوم والحكم‪ .‬وقوله تعالى‪ { :‬الذي خل َ‬
‫مفعوالً؛ ألنَّ المعنى‪ :‬الذي حصل منه‪ l‬الخلق‪ ،‬واستأثر به‪ ،‬ال خالق سواه‪ ،‬أو تقديره‪ :‬خلق ك َّل‬
‫شيء‪ ،‬فتناول ك َّل مخلوق؛ ألنه مطلق‪ ،‬فليس بعض المخلوقات بتقديره أولى من البعض‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪َ { :‬خلَق ا ِإلنسانَ } بتخصيص لإلنسان بالذكر من بين ما يتناوله لشرفه‪ ،‬وألنَّ‬
‫سر تفخيما ً‬ ‫التنزيل‪ l‬إنما هو إليه‪ ،‬ويجوز أن يُراد‪ :‬الذي خلق اإلنسان‪ ،‬إالَّ أنه ذكر مبهماً‪ ،‬ثم ف ّ‬
‫لخلقه‪ ،‬وداللةً على عجيب فطرته‪ .‬قيل‪ :‬ل َّما ذكر فيما قبل أنه خلق اإلنسان في أحسن تقويم‪ ،‬ثم‬
‫ذكر ما عرض له بعد ذلك‪ ،‬ذكره هنا منبها ً على شي ٍء من أطواره‪ ،‬وذكر نعمته عليه‪ ،‬ثم ذكر‬
‫طغيانه بعد ذلك‪ ،‬وما يؤول إليه حاله في اآلخرة‪ ،‬فإنه تفسير‪ l‬لقوله‪:‬‬
‫سافِلِينَ }‬ ‫يم ثُ َّم َر َد ْدنَاهُ أَ ْ‬
‫سفَ َل َ‬ ‫سانَ ِفيا أَ ْح َ‬
‫س ِن تَ ْق ِو ٍ‬ ‫{ لَقَ ْد َخلَ ْقنَا ِ‬
‫اإلن َ‬
‫علق } ولم يقل من علقة؛ ألنَّ اإلنسان في معنى‬ ‫ٍ‬ ‫[التين‪ ،]5 ،4:‬ثم ذكر أصل نشأته بقوله‪ِ { :‬من‬
‫الجمع‪ .‬وفيه إشارة إلى أنَّ ابتداء الدين كابتداء خلق اإلنسان‪ ،‬كان ضعيفا ً ثم تق ّوى شيئا ً فشيئا ً‬
‫حتى انتهى كماله‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ثم ك ّرر األمر بالقراءة بقوله‪ْ { :‬‬


‫اقرأ } أي‪ :‬افعل ما أُمرتَ به‪ ،‬تأكيداً لإليجاب وتمهيداً لقوله‪:‬‬
‫{ وربُّك األكر ُم } فإنه كالم مستأنف‪ l،‬وارد إلزاحة ما أظهر عليه السالم من ال ُعذر بقوله‪ " :‬ما أنا‬
‫بقارىء " يريد أنّ القراءة من شأن َمن يكتب ويقرأ‪ ،‬وأنا أمي‪ ،‬فقيل له‪ { :‬وربك } الذي أمرك‬
‫بالقراءة مستعينا ً باسمه هو { األكرم } أي‪ِ :‬من كل كريم‪ ,‬يُنعم على عباده بغاية النعم‪ ،‬ويحلم‬
‫تكرم‪ { .‬الذي‬‫التكرم بهذه الفوائد العظيمة ُّ‬
‫ُّ‬ ‫عنهم إذا عصوه‪ ،‬فال يعاجلهم بالنقم‪ ,‬فليس وراء‬
‫اإلنسانَ ما لم يعلم } فد ّل على كمال كرمه بأنه علَّم عباده ما لم‬ ‫َعلَّم } الكتابة { بالقلم َعلَّم ِ‬
‫يعلموا‪ ،‬ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم‪ .‬ونبّه‪ l‬على فضل علم الكتابة لِما فيه من المنافع‬
‫العظيمة‪ l،‬وما ُد ّونت العلوم وال قُيّدت ال ِحكم وال ُ‬
‫ضبِطت أخبار األولين‪ ،‬وال ُكتب هللا المن ّزلة‪ ،‬إالَّ‬
‫بالكتابة‪ ,‬ولوال هي لما استقامت أمور الدين والدنيا‪ ،‬ولو لم يكن على دقيق حكمة هللا تعالى دليل‬
‫إالّ أمر القلم والخطّ لكفى به وفي ذلك يقول ابن عاشر الفاسي‪:‬‬

‫ق في الوجود تنقلب‬ ‫كادت حقائ ُ‬ ‫عجب‬


‫ُ‬ ‫هلل في خلقه ِمن صنعه‬
‫خطابُها حاضر وأهلها ذهبوا‬ ‫كلم بعين تُرى ال األذنُ تسمعها‬
‫اإلشارة‪ :‬اقرأ بربك لتكون به في جميع أمورك‪ ,‬الذي أظهر األشياء ليُعرف بها‪ ،‬وأظهر المظهر‬
‫األكبر ـ وهو اإلنسان ـ من علقة مهينة‪ ،‬ثم رفعه بالعلم إلى أعلى عليين‪ ،‬فرفعه من حضيض‬
‫النطفة الخبيثة إلى ارتفاع العلم والمعرفة‪ ،‬ولذلكم قال‪( :‬اقرأ وربك األكرم) الذي تك َّرم عليك‬
‫وعلّمك ما لم تكن تعلم‪ ،‬الذي علَّم بالقلم‪ ،‬علَّم اإلنسان ما لم يكن يعلم‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬
‫الر ْج َعىا } * { أَ َرأَيْتَ الَّ ِذي‬ ‫ستَ ْغنَىا } * { إِنَّ إِلَىا َربِّكَ ُّ‬ ‫سانَ لَيَ ْط َغىا } * { أَن َّرآهُ ا ْ‬ ‫*{ َكالَّ إِنَّ ِ‬
‫اإلن َ‬
‫صلَّىا } * { أَ َرأَيْتَ إِن َكانَ َعلَىا ا ْل ُهدَىا } * { أَ ْو أَ َم َر بِالتَّ ْق َوىا } * { أَ َرأَيْتَ إِن‬ ‫يَ ْن َهىا } * { َع ْبداً إِ َذا َ‬
‫صيَ ِ‪l‬ة } * { نَ ِ‬
‫اصيَ ٍة‬ ‫سفَعا ً بِالنَّا ِ‬ ‫ب َوت ََولَّىا } * { أَلَ ْم يَ ْعلَم بِأَنَّ هَّللا َ يَ َرىا } * { َكالَّ لَئِن لَّ ْم يَنتَ ِ‪l‬ه لَنَ ْ‬ ‫َك َّذ َ‬
‫س ُج ْد َوا ْقتَ ِرب }‬
‫ع ال َّزبَانِيَةَ } * { َكالَّ الَ ت ُِط ْعهُ َوا ْ‬ ‫سنَ ْد ُ‬
‫ع نَا ِديَهُ } * { َ‬ ‫َكا ِذبَ ٍة َخا ِطئَ ٍة } * { فَ ْليَ ْد ُ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬كالَّ } ‪ ،‬هو ردع لمحذوف‪ ،‬د ّل الكالم عليه‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬خلقنا اإلنسان من‬
‫علق‪ ،‬وعلّمته ما لم يعلم ليشكر تلك النعمة الجليلة‪ ،‬فكفر وطغى‪ ،‬كال لينزجر عن ذلك { إِنَّ‬
‫اإلنسان ليطغى }؛ يجاوز الحد ويستكبر‪ l‬عن ربه‪ .‬قيل‪ :‬هذا إلى آخر السورة نزل في أبي جهل بعد‬ ‫ِ‬
‫زمان‪ ،‬وهو الظاهر‪ .‬وقوله‪ { :‬أن رآه استغنى } مفعول له‪ ،‬أي‪ :‬ليطغى لرؤية نفسه مستغنياً‪،‬‬
‫ضميري‬
‫ْ‪l‬‬ ‫على أنَّ " استغنى " مفعول لرأى‪ ،‬ألنه بمعنى َعلِم‪ ،‬ولذلك شاع كون فاعله ومفعوله‬
‫واحد كما في " ظننتني و َعلِمتني " وإن ج ّوزه بعضهم في الرؤية البصرية أيضاً‪ ،‬وجعل من ذلك‬
‫قول عائشة رضي هللا عنها‪ " :‬رأيتني‪ l‬مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وما لنا طعام إال‬
‫األسودان‪ ،‬الماء والتمر " ‪ ،‬والمشهور أنه خاص بأفعال القلوب‪ .‬وحاصل اآلية‪ :‬أن سبب طغيان‬
‫اإلنسان هو استغناؤه بالمال‪ ،‬وسبب تواضعه هو فقره‪.‬‬

‫الرجعى }‬ ‫ّ‬
‫وحذره من عاقبة الطغيان‪ ،‬على طريق االلتفات‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنَّ إِلى ربك ُّ‬ ‫ثم هدّد اإلنسان‬
‫أي‪ :‬الرجوع‪ ,‬فيجازيك على طغيانك‪ { .‬أرأيت الذي ين َهى عبداً إِذا صلَّى } أي‪ :‬أرأيت أبا جهل‬
‫ينهى محمداً صلى هللا عليه وسلم عن الصالة‪ ،‬وهو تشنيع بحاله‪ ،‬وتعجيب منها‪ ،‬وإيذان بأنه من‬
‫البشاعة والغرابة بحيث يراها كل َمن يأتي منه الرؤية‪ُ .‬روي أنَّ أبا جهل كان في مأل من قريش‪،‬‬
‫فقال‪ :‬لئن رأيت محمداً ألطأنّ عنقه‪ ،‬فرأه صلى هللا عليه وسلم في الصالة‪ ،‬فجاءه‪ ,‬ثم نكص على‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫عقبيه‪ l،‬فقالوا‪ :‬مالك؟ فقال‪ :‬حال بيني‪ l‬وبينه‪ l‬خندق من نار وهول وأجنحة‪ ،‬فنزلت‪ ،‬فقال صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ " :‬لو دنا من الختطفته المالئكة "‪.‬‬

‫وتنكير العبد تفخيم لشأنه صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬والرؤية‪ l‬هنا بصرية‪ ،‬وأ ّما في قوله‪ { :‬أرأيت إن‬
‫كان على الهدى أو أّ َم َر بالتقوى } وفي قوله‪ { :‬أرأيتَ إِن َك َّذب وتولَّى } فعلمية‪ ،‬أي‪ :‬أخبرني‬
‫فإنَّ الرؤية ل َّما كانت سببا ً لإلخبار عن المرائي أجرى االستفهام عنها مجرى االستخبار عن‬
‫متعلقها‪ .‬والخطاب لكل َمن يصلح للخطاب‪.‬‬

‫قال في الكشاف‪ :‬قوله تعالى‪( :‬الذي ينهى) هو المفعول األول لقوله‪( :‬أرأيت) األول‪ ،‬والجملة‬
‫الشرطية بعد ذلك في موضع المفعول الثاني‪ ،‬وكررت (أرأيت) بعد ذلك للتأكيد‪ ،‬فال تحتاج إلى‬
‫كذب وتولى } ‪ ،‬وجواب قوله‪:‬‬ ‫مفعول‪ .‬وقوله‪ { :‬ألم يعلم بأنَّ هللا يرى } هو جواب قوله‪ { :‬إن َّ‬
‫كذب وتولى } فهو في المعنى‬ ‫{ إن كان على الهدى } محذوف‪ ،‬يدل عليه جواب قوله‪ { :‬إن َّ‬
‫جواب للشرطين معاً‪ .‬والضمير في قوله‪ { :‬إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى } للناهي‪ ،‬وهو‬
‫كذب وتولَّى } ‪ ،‬والتقدير على هذا‪ :‬أخبرني عن الذي ينهى عبداً‬ ‫أبو جهل‪ ،‬وكذا في قوله‪ { :‬إن َّ‬
‫إذا صلّى إن كان هذا الناهي على الهدى أو إن َك ّذب وتولّى‪ ،‬ألم يعلم بأنّ هللا يرى جميع أحواله‪،‬‬
‫فمقصود اآلية‪ :‬تهديد له وزجر‪ ،‬وإعالم بأنّ هللا يراه‪.‬‬
‫وخالفه ابن عطية في الضمائر‪ ،‬فقال‪ :‬إنَّ الضمير‪ l‬في قوله‪ { :‬إن كان على الهدى أو أمر‬
‫كذب وتولّى } للناهي‪ ،‬وخالفه في جعل‬ ‫بالتقوى } للعبد الذي صلَّى‪ ،‬وأنّ الضمير في قوله‪ { :‬إن َّ‬
‫" أرأيت " الثانية‪ l‬مكررة للتأكيد‪ ,‬فقال‪ " :‬أرأيت " في المواضع الثالثة توقيف‪ ،‬وأنّ جوابها في‬
‫المواضع الثالثة‪ :‬قوله‪ { :‬ألم يعلم بأن هللا يرى } فإنه يصلح مع كل واحدة منها‪ ،‬ولكنه جاء في‬
‫آخر الكالم اقتصاراً‪ .‬انظر ابن جزي‪ .‬وما قاله ابن عطية أظهر‪ ،‬فكأنه تعالى حا ِك ٌم قد حضره‬
‫الخصمان‪ ،‬يُخاطب هذا مرة واآلخر أخرى‪ ،‬وكأنه قال‪ :‬يا كافر إن كانت صالته هُدى ودعاؤه إلى‬
‫هللا أمراً بالتقوى‪ ،‬ثم أقبل على اآلخر‪ ،‬فقال‪ :‬أرأيت إن َّ‬
‫كذب‪ .‬الخ‪.‬‬

‫وقال الغزنوي‪ :‬جواب { إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى } محذوف‪ ،‬تقديره‪ :‬أليس هو على‬
‫الحق واتباعه واجب‪ ،‬يعني‪ :‬فكيف تنهاه يا ّ‬
‫مكذب‪ ،‬متولي عن الهدى‪ ،‬كافر‪ ،‬ألم تعلم أن هللا‬
‫يراك‪ .‬هـ‪.‬‬

‫{ كالَّ } ‪ ،‬ردع للنا ِهي عن عبادة هللا { لئن لم ينت ِه } عما هو عليه { لَنَ ْ‬
‫سفعا ً بالناصي ِة }؛ لنأخذن‬
‫بناصية ولنسحبنّه‪ l‬بها إلى النار‪ .‬والسفع‪ :‬القبض على الشيء وجذبه بشدة‪ .‬و َك ْتبُها في المصحف‬
‫باأللف على حكم الوقف‪ .‬واكتفى بالم العهد عن اإلضافة للعلم بأنها ناصية المذكور‪ ،‬ثم بيّنها‬
‫ص ّح بدلها من المعرفة لوصفها‪ ،‬ووصفها‬ ‫بقوله‪ { :‬ناصي ٍ‪l‬ة كاذب ٍة خاطئ ٍة } فهي بدل‪ ,‬وإنما َ‬
‫بالكذب والخطأ على المجاز‪ ،‬وهما لصاحبهما‪ .‬وفيه من الجزالة ما ليس في قوله‪ :‬ناصية كاذب‬
‫خاطىء‪.‬‬

‫ع ناديَه } ‪ ،‬النادي‪ :‬المجلس الذي يجتمع فيه القوم‪ُ .‬روي أنَّ أبا جهل م ّر بالنبي صلى هللا‬ ‫{ فَ ْليَ ْد ُ‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬أتهدّدني‬
‫ُّ‬ ‫عليه وسلم وهو يُصلّي‪ ،‬فقال‪ :‬ألم أَ ْنه َك؟ فأغلط له‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫سنَ ْد ُ‬
‫ع الزبانية‪ } l‬ليجروه إلى النار‪ .‬والزبانية‪ l:‬الش َُّر ِط‪،‬‬ ‫وأنا أكثر أهل الوادي نادياً؟ فنزلت‪َ { .‬‬
‫واحدة‪ِ :‬ز ْبنِيَّة أو ِز ْبنى‪ ،‬من الزبن‪ ،‬وهو الدفع‪ .‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬لَ ْو َدعَا نَا ِديهُ‬
‫ألخ َذ ْته ال َّزبانِيةُ‪ِ l‬عيانا ً "‪.‬‬
‫َ‬

‫{ كالَّ } ‪ ،‬ردع ألبي جهل { ال ت ُِط ْعهُ } أي‪ :‬أثبت على ما أنت عليه من عصيانه‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫{ فَالَ تُ ِط ِع ا ْل ُم َك ِّذبِينَ (‪} )8‬‬
‫[القلم‪ { ]8:‬واسج ْد }؛ واظب على سجودك وصالتك غير مكترث { واقترب }؛ وتق ّرب بذلك إلى‬
‫ربك‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬كل َمن أنكر على المتوجهين‪ ،‬الذين هم على صالتهم دائمون‪ ،‬يُقال في حقه‪ :‬أرأيت‬
‫الذي يَنهى عبداً إذا صلّى‪ ..‬إلى آخر اآليات‪ .‬ويُقال للمتوجه‪ :‬ال تُطعه واسجد بقلبك وجوارحك‪،‬‬
‫وتق ّرب بذلك إلى موالك‪ ،‬حتى تظفر بالوصول إليه‪ .‬وباهلل التوفيق‪ .‬وصلّى هللا على سيدنا محمد‬
‫وآله‬

‫‪#‬سورة القدر §‪#‬‬

‫ش ْه ٍر }‬
‫ف َ‬‫*{ إِنَّا أَن َز ْلنَاهُ فِي لَ ْيلَ ِة ا ْلقَ ْد ِر } * { َو َمآ أَ ْد َراكَ َما لَ ْيلَةُ ا ْلقَ ْد ِر } * { لَ ْيلَةُ ا ْلقَ ْد ِر َخ ْي ٌر ِّمنْ أَ ْل ِ‬
‫سالَ ٌم ِه َي َحتَّىا َم ْطلَ ِع ا ْلفَ ْج ِر }‬ ‫وح فِي َها بِإ ِ ْذ ِن َربِّ ِهم ِّمن ُك ِّل أَ ْم ٍر } * { َ‬
‫الر ُ‬ ‫* { تَنَ َّز ُل ا ْل َمالَئِ َكةُ َو ُّ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬إِنَّا أنزلناه في ليلة القدر } ‪ ،‬ن ّوه بشأن القرآن‪ ،‬حيث أسند إنزاله إليه‬
‫بإسناده إلى نون العظمة‪ ،‬المنبىء عن كمال العناية به‪ ،‬وجاء بضميره‪ l‬دون اسمه الظاهر لإليذان‬
‫بغاية ظهوره‪ ،‬كأنه حاضر في جميع األذهان‪ ،‬وقيل‪ :‬يعود على المقروء المأمور به في قوله‪:‬‬
‫{ ا ْق َر ْأ }‬
‫[العلق‪ ]1:‬فتتصل السورة بما قبلها‪ .‬وعظَّم الوقت الذي أنزله فيه بقوله‪ { :‬وما أدراك ما ليلةٌ‬
‫القَدْر } لِما فيه من الداللة على أنَّ علو قدرها خارج عن دائرة دراية الخلق‪ ،‬ال يدريها إالّ عالَّم‬
‫الغيوب‪ ،‬كما يُشعر به قوله تعالى‪ { :‬ليلةُ القدر خي ٌر من ألف شه ٍر } أي‪ :‬ليس فيها ليلة القدر‪،‬‬
‫فإنه بيان إجمالي لشأنها إثر تشويقه صلى هللا عليه وسلم إلى درايتها‪ ،‬فإنَّ ذلك ُم ْع ِرب عن‬
‫الوعد بإدرائها على ما تقدّم‪ .‬وفي إظهار ليلة القدر في الموضعين من تأكيد التفخيم ما ال يخفى‪.‬‬

‫والمراد بإنزاله‪ :‬إ ّما إنزاله كله إلى سماء الدنيا‪ ،‬كما ُروي أنه أنزل جملة واحدة في ليلة القدر‬
‫ث وعشرين سنة‪ ،‬وإ ّما ابتداء‬‫من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا‪ ،‬ثم نزل نجوما ً في ثال ٍ‬
‫سميت ليلة القدر لتقدير األمور فيها‪ ،‬وإبراز ما قضى تلك السنة‪ ،‬لقوله‬ ‫نزوله‪،‬وهو األظهر‪ .‬و ُ‬
‫تعالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫{ فِي َها يُ ْف َر ُ‬
‫ق ُك ُّل أ ْم ٍر َح ِك ٍ‬
‫يم (‪} )4‬‬
‫[الدخان‪ ،]4:‬فالقَدْر بمعنى التقدير‪ ،‬أو لشرفها على سائر الليالي‪ ،‬فالقَدْر بمعنى الشرف‪ ،‬وهي‬
‫ليلة السابع والعشرين من رمضان على المشهو ِر‪ .‬لما ُروي أنَّ أُبي بن كعب كان يحلف أنها ليلة‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫السابع والعشرين‪ ،‬وقيل غير ذلك ومظان التماسها في األوتار من العشر األواخر‪ .‬ولعل السر في‬
‫إخفائها تعرض َمن يريدها للثواب الكثير بإحياء الليالي في طلبها‪ ،‬وهذا كإخفاء الصالة‬
‫الوسطى‪ ،‬واسمه األعظم‪ ،‬وساعة الجمعة‪ ،‬ورضاه في الطاعات‪ ،‬وغضبه في المعاصي‪ ،‬وواليته‬
‫في خلقه ليحسن الظن بالجميع‪.‬‬

‫وتخصيص األلف بالذكر إ ّما للتكثير‪ ،‬أو لما ُروي عنه صلى هللا عليه وسلم أنه ذكر رجالً من بني‬
‫إسرائيل لبس السالح في سبيل هللا ألف شهر‪ ،‬فعجب المؤمنون وتقاصرت إليهم أعمالهم‪،‬‬
‫فأُعطوا ليلةَ القدر هي خي ٌر من عمل ذل الغازي‪ .‬وقيل‪ :‬إنّ النبي صلى هللا عليه وسلم أري أعمار‬
‫األمم كافة‪ ،‬فاستقصر أعمار أمته‪ ،‬فخاف أالّ يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم‪ ،‬فأعطاه هللا ليلة‬
‫القدر‪ ،‬جعلها خيراً من ألف شهر لسائر األمم‪ .‬وقيل‪ :‬كان ُملك سليمان خمسمائة شهر‪ ،‬وملك ذي‬
‫القرنين خمسمائة شهر‪ ،‬فجعل هللا هذه الليلة ِلمن قامها خيراً من ملكيهما‪.‬‬

‫والروح فيها } ‪ ،‬والروح إ ّما جبريل عليه السالم‪ ،‬أو‬


‫ُ‬ ‫ثم بيّن وجه فضلها‪ ،‬فقال‪ { :‬تَن َّز ُل المالئكةُ‬
‫خلق من المالئكة ال تراهم المالئكة إالّ تلك الليلة‪ ،‬أو الرحمة‪ .‬والمراد بتنزلهم‪ :‬نزولهم إلى‬
‫األرض يُسلمون على الناس ويؤ ِّمنون على دعائهم‪ ،‬كما في األثر‪.‬‬
‫ذن ربهم } يتعلق بـ " تنز ُل " ‪ ،‬أو بمحذوف هو حال من‬ ‫وقيل‪ :‬إلى سماء الدنيا‪ .‬وقوله‪ { :‬بإ ِ ِ‬
‫فاعله‪ ،‬أي‪ :‬ملتبسين بأمر ربهم‪ ،‬أو‪ :‬ينزلون بإذنه‪ { ،‬من كل أم ٍر } أي‪ :‬من أجل كل أمر قضاه‬
‫هللا تعالى لتلك السنة إلى قابل‪ُ ،‬روي أنَّ هللا تعالى يُ ْعلِم المالئكة بكل ما يكون في ذلك العام كله‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬يَبرز ذلك ِمن علم الغيب ليلة النصف من شعبان‪ ،‬ويُ ْعطَى المالئكةً ليلة القدر‪ ،‬فلما كان أهم‬
‫نزولهم هذا األمر جعل نزولهم ألجله‪ ،‬فال ينافي كون نزولهم للتسليم على الناس والتأمين‪ ،‬كما‬
‫هي } أي‪ :‬ما هي إالَّ سالم على المؤمنين‪ ،‬جعلها نفس السالم لكثرة ما‬ ‫قال تعالى‪ { :‬سال ٌم َ‬
‫يُسلِّمون على الناس‪ ،‬فقد ُروي أنهم يُسلِّمومن على كل قائم وقاعد وقارىء و ُم َ‬
‫ص ِّل‪ l،‬أو‪ :‬ما هي‬
‫إالِّ سالمة‪ ،‬أي‪ :‬ال يُقَدِّر هللا تعالى فيها إالّ السالمة والخير‪ ،‬وأ ّما في غيرها فيقضي سالمةً وبالء‪,‬‬
‫وقال ابن عباس‪ :‬قوله‪( :‬هي) إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين؛ ألنّ هذه الكلمة هي السابعة‬
‫والعشرون من كلمات السورة‪.‬‬

‫ثم ذكر غايتها‪ ،‬فقال‪ { :‬حتى مطلَ ِع الفجر } أي‪ :‬تنتهي إلى طلوع الفجر‪ ،‬أو‪ :‬تُسلِّم المالئكة إلى‬
‫مطلع الفجر‪ ،‬أو‪ :‬تنزل المالئكة فوجا ً بعد فوج إلى طلوع الفجر‪ .‬و " َم ْطلَع " بالفتح‪ :‬اسم زمان‪,‬‬
‫وبالكسر مصدر‪ ،‬أو اسم زمان على غير قياس؛ ألنّ ما يضم مضارعه أو يفتح يتحد فيه الزمان‬
‫والمكان والمصدر‪ ،‬يعني " َم ْف َعل " في الجميع‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬أهل القلوب من العارفين‪ ،‬األوقاتُ كلها عندهم ليلة القدر‪ ،‬واألماكن عندهم كلها‬
‫عرفات‪ ،‬واأليام كلها جمعات‪ ،‬ألنّ المقصود من تعظيم الزمان والمكان هو باعتبار ما يقع فيه من‬
‫التقريب والكشف والعيان‪ ،‬واألوقات واألماكن عند العارفين كلها سواء في هذا المعنى‪ ،‬كما قال‬
‫شاعرهم‪:‬‬

‫ما كنت أرضى ساعة بحياتي‬ ‫لوال شهود جمالكم في ذاتي‬


‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫عمرتْ بكم أوقاتي‬


‫َ‬ ‫إالَّ إذا‬ ‫ما ليلةُ القدر المعظَّم شأنها‬
‫إنَّ المحب إذا تم ّكن في الهوى والحب لم يحتج إلى ميقات‬
‫وقال آخر‪:‬‬

‫كما ك ُّل أيام اللقا يو ُم جمع ِة‬ ‫وكل الليالي ليلةُ القدر إن بدا‬
‫على بابه قد عادلت ألف وقف ِة‬ ‫حج‪ ،‬به ك ُّل وقف ٍة‬
‫وسع ٌي له ٌّ‬
‫وقال الشيخ أبو العباس رضي هللا عنه‪ :‬نحن ـ والحمد هللا ـ أوقاتنا كلها ليلة القدر‪ .‬هـ‪ .‬ألنَّ‬
‫عبادتهم كلها قلبية‪ ،‬بين فكرة واعتبار‪ ،‬وشهود واستبصار‪ ،‬و " فكرة ساعة أفضل من عبادة‬
‫سبعين سنة " ‪ ،‬كما في األثر‪ ،‬بل فكرة العيان تزيد على ذلك‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬

‫قَ ْد ُره كألف حجه‬ ‫ك ُّل وقت من حبيبي‪l‬‬


‫وقد يقال‪ :‬ثواب هذه العبادة كشف الحجاب‪ ,‬وشهود الذات األقدسن هو ال يقاس بمقياس‪ .‬وباهلل‬
‫التوفيق‪ .‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله‪.‬‬

‫‪#‬سورة البينة §‪#‬‬

‫ش ِر ِكينَ ُمنفَ ِّكينَ َحتَّىا تَأْتِيَ ُه ُم ا ْلبَيِّنَةُ‪َ { * } l‬ر ُ‬


‫سو ٌل ِّمنَ‬ ‫ب َوا ْل ُم ْ‬ ‫*{ لَ ْم يَ ُك ِن الَّ ِذينَ َكفَ ُرو ْا ِمنْ أَه ِْل ا ْل ِكتَا ِ‬
‫ق الَّ ِذينَ أُوتُو ْا ا ْل ِكت َ‬
‫َاب إِالَّ ِمن بَ ْع ِد َما‬ ‫ص ُحفا ً ُّمطَهَّ َرةً } * { فِي َها ُكت ٌُب قَيِّ َمةٌ } * { َو َما تَفَ َّر َ‬ ‫هَّللا ِ يَ ْتلُو ْا ُ‬
‫صالَةَ َويُ ْؤتُو ْا‬‫صينَ لَهُ الدِّينَ ُحنَفَآ َء َويُقِي ُموْ‪l‬ا ال َّ‬ ‫َجآ َء ْت ُه ُم ا ْلبَيِّنَةُ } * { َو َمآ أُ ِم ُروا ْا إِالَّ لِيَ ْعبُدُو ْا هَّللا َ ُم ْخلِ ِ‬
‫ال َّز َكاةَ َو َذلِ َك ِدينُ القَيِّ َم ِة }‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬لم يكن الذين كفروا } أي‪ :‬بالرسول وبما أنزل عليه { من أهل الكتاب }‬
‫اليهود والنصارى‪ { ،‬والمشركين }؛ عبَدة األصنام { منف ِّكين } منفصلين عن الكفر‪ ،‬وحذف ألنَّ‬
‫النبي صلى هللا عليه‬
‫ُّ‬ ‫صلة " الذين " يدل عليه‪ { ،‬حتى تأتِيَهم البَيِّنَةُ } الحجة الواضحة‪ ،‬وهو‬
‫ث أسلم بعض‪ ,‬وثبت‬ ‫وسلم‪ .‬يقول‪ :‬لم يتركوا كفرهم حتى بُعث محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فل ّما بُ ِع َ‬
‫على الكفر بعض‪ .‬أو‪ :‬لم يكونوا منفكين‪ ،‬أي‪ :‬زائلين عن دينهم حتى تأتيَهم البَينة‪ l‬ببطالن ما هم‬
‫ث هللاُ محمداً فقامت عليهم‬ ‫عليه‪ ،‬فتقوم الحجة عليهم‪ .‬أو‪ :‬لم يكونوا لينفصلوا عن الدنيا حتى بَ َع َ‬
‫الحجة‪ ،‬وإالّ لقالوا‪:‬‬
‫{ لَ ْوالا أَ ْر َ‬
‫س ْلتَ إِلَ ْينَا َر ُ‬
‫سوالً‪} ...‬‬
‫[طه‪ ]134:‬اآلية‪.‬‬

‫وتلك البينة هي { رسو ٌل من هللا } أي‪ :‬محمد صلى هللا عليه وسلم وهو بدل من " البينة "‬
‫صحفا ً } كتبا ً { ُمطَهَّرةً } من الباطل والزور والكذب‪ ،‬والمراد‪ :‬يتلو ما‬‫{ يتلو } يقرأ عليهم { ُ‬
‫يتضمنه المكتوب في الصحف‪ ،‬وهو القرآن‪ ،‬يدل على ذلك أنه صلى هللا عليه وسلم كان يتلو‬
‫القرآن عن ظهر قلبه‪ ،‬ولم يكن يقرأ مكتوباً؛ ألنه كان أُميًّا ال يكتب وال يقرأ الصحف‪ ،‬ولكنه لَ َّما‬
‫صحف‪ ،‬فقال‪ { :‬فيها } أي‪:‬‬ ‫صحف‪ .‬ثم بيّن ما في ال ُ‬ ‫صحف فكأنه قد تلى ال ُ‬ ‫كان تاليا ً معنى ما في ال ُ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫صحف { ُكتب قَيِّمةٌ‪ } l‬مستقيمة‪ l‬ناطقةٌ بالحق والعدل‪ .‬ولَ ّما كان القرآن جامعا ً لِما في الكتب‬‫في ال ُ‬
‫المتقدمة صدق أنَّ فيه ُكتبا ً قيمة‪.‬‬

‫ق الذين أُوتوا الكتاب إِالَّ ِمن بعد ما جاءتهم البينةٌ } أي‪ :‬وما اختلفوا في نبوة محمد‬‫{ وما تَفَ َّر َ‬
‫صلى هللا عليه وسلم إالَّ ِمن بعد ما َعلِموا أنه حق‪ ،‬فمنهم َمن أنكر حسداً‪ ،‬ومنهم َمن آمن‪ .‬وإنّما‬
‫أفرد أهل الكتاب بعدما جمع إوالً بينهم‪ l‬وبين المشركين؛ ألنهم كانوا على ٍ‬
‫علم به؛ لوجوده في‬
‫بالتفرق عنه كان َمن ال كتاب له أدخل في هذا‪ .‬وقيل‪ :‬المعنى‪ :‬لم يكن الذين‬‫ُّ‬ ‫كتبهم‪ ،‬فإذا ُوصفوا‬
‫كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين‪ ،‬أي‪ :‬منفصلين عن معرفة نبوة محمد ـ عليه الصالة‬
‫والسالم ـ حتى بعثه هللا‪.‬‬

‫{ وما أُمروا إِالَّ ليعبدوا هللاَ } أي‪ :‬ما أُمروا في التوراة واإلنجيل إالّ ألجل أن يعبدوا هللا وحده من‬
‫غير شرك وال نفاق‪ ،‬ولكنهم ح ّرفوا وبدّلوا‪ .‬وقيل‪ :‬الالم بمعنى " أن " أي‪ :‬إالّ بأن يعبدوا هللا‬
‫{ مخلصين له الدينَ } أي‪ :‬جاعلين دينَهم خالصا ً له تعالى‪ ،‬أو‪ :‬جاعلين أنفسهم خالصة له في‬
‫الدين‪ .‬قال ابن ُجزي‪ :‬استدل المالكية بهذا على وجوب النية في الوضوء‪ ،‬وهو بعيد؛ ألنَّ‬
‫اإلخالص هنا يُراد به التوحيد وترك الشرك‪ ،‬أو ترك الرياء‪ .‬انظر كالمه‪ ،‬وسيأتي بعضه في‬
‫اإلشارة‪ { .‬حنفا َء } مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى اإلسالم‪ { ،‬ويُقيموا الصالةَ ويُؤتوا‬
‫الزكاةَ } إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصالة والزكاة‪ ،‬فاألمر ظاهر‪ ،‬وإن أريد ما في‬
‫شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أمرهم بالدخول في شريعتنا‪ { ،‬وذلك ِدينُ القيِّمة } أي‪:‬‬
‫الملة المستقيمة‪l.‬‬
‫واإلشارة إلى ما ذكر من عبادة هللا وحده وإقام الصالة وإيتاء الزكاة‪ ،‬وما فيه من معنى البُعد‬
‫لإلشعار ب ُعلو رتبته وبُعد منزلته‪l.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬لم يكن الذين جحدوا وجو َد أهل الخصوصية‪ l‬من العلماء والج ّهال منفكين عن ذلك حتى‬
‫كتاب هللا العزيز‬
‫َ‬ ‫الحجة القائمة عليهم‪ ،‬وهو ظهور شيخ التربية خليفة الرسول‪ ،‬يتلو‬ ‫جاءتهم ُ‬
‫على ما ينبغي‪ l,‬وما تَفَ َّرقوا في التصديق إالّ بعد ظهوره‪ .‬وما أُمروا إالّ باإلخالص وتطهير‬
‫صحبته‪ .‬وتكلم ابنُ جزي هنا على اإلخالص‪ ،‬فقال‪ :‬اعلم أنَّ األعمال‬ ‫سرائرهم‪ ،‬وهو ال يتأتى إالّ ب ُ‬
‫على ثالثة أنواع‪ :‬مأمورات ومنهيات ومباحات؛ فأ ّما المأمورات فاإلخالص فيها عبارة عن‪:‬‬
‫خلوص النية لوجه هللا‪ ،‬بحيث ال يشوبها أُخرى‪ ،‬فإن كانت كذلك فالعمل خالص‪ ،‬وإن كانت لغير‬
‫وجه هللا من طلب منفعة دنيوية أو مدح أو غير ذلك‪ ،‬فالعمل رياء محض مردود‪ ،‬وإن كانت النية‬
‫مشتركة؛ ففي ذلك تفصيل‪ l،‬فيه نظر واحتمال‪ .‬قلت‪ :‬وقد تقدّم كالم الغزالي في سورة البقرة عند‬
‫قوله‪:‬‬
‫اح أَن تَ ْبتَ ُغو ْا فَ ْ‬
‫ضالً ِّمن َّربِّ ُك ْم }‬ ‫س َعلَ ْي ُك ْم ُجنَ ٌ‬
‫{ لَ ْي َ‬
‫[البقرة‪ ،]198:‬وحاصله‪ :‬أنَّ الحكم للغالب وقوة الباعث‪ .‬انظر لفظه‪.‬‬

‫ثم قال ابن جزي‪ :‬وأ َّما المنهيات فإنْ ت ََركها دون نية خرج عن عهدتها ولم يكن له أجر في‬
‫تركها‪ ،‬وإن تركها بنية‪ l‬وجه هللا خرج عن عهدتها وأُجر‪ .‬وأ َّما المباحات‪ ،‬كألكل والشرب‪ ،‬والنوم‬
‫والجماع وغير ذلك‪ ،‬فإن فَ َعلَها بغير نية لم يكن له فيها أجر‪ ،‬وإن فَ َعلَها بنية وجه هللا فله فيها‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫أجر‪ ،‬فإنَّ ُك َّل مباح يمكن أن يصير‪ l‬قُربة إذا قصد به وجه هللا‪ ،‬مثل أن يقصد باألكل القوة على‬
‫بالج َماع التعفُّف عن الحرام‪ ،‬وشبه ذلك‪ .‬هـ‪.‬‬
‫العبادة‪ ،‬ويقصد ِ‬

‫ودرجات اإلخالص ثالث‪ :‬األولى‪ :‬أن يعبد هللا لطلب غرض دنيوي أو أخروي من غير مالحظة‬
‫أحد من الخلق‪ ،‬والثانية‪ :‬أن يعبد هللا لطلب اآلخرة فقط‪ ،‬والثالثة‪ :‬أن يعبد هللا عبودية ومحبة‪.‬‬

‫ش ِر ِكينَ فِي نَا ِر َج َهنَّ َم َخالِ ِدينَ فِي َهآ أَ ْولَـائِ َك ُه ْم ش َُّر ا ْلبَ ِريَّ ِ‪l‬ة }‬ ‫*{ إِنَّ الَّ ِذينَ َكفَ ُرو ْا ِمنْ أَه ِْل ا ْل ِكتَا ِ‬
‫ب َوا ْل ُم ْ‬
‫ت أُ ْولَـائِ َك ُه ْم َخ ْي ُر ا ْلبَ ِريَّ ِ‪l‬ة } * { َجزَآ ُؤ ُه ْم ِعن َد َربِّ ِه ْم َجنَّاتُ‬ ‫* { إِنَّ الَّ ِذينَ آ َمنُو ْا َو َع ِملُو ْا ال َّ‬
‫صالِ َحا ِ‬
‫ش َي‬ ‫ضو ْا َع ْنهُ َذلِكَ لِ َمنْ َخ ِ‬ ‫ْن ت َْج ِرى ِمنْ ت َْحتِ َها األَ ْن َها ُر َخالِ ِدينَ فِي َهآ أَبَداً ِّر ِ‬
‫ض َى هَّللا ُ َع ْن ُه ْم َو َر ُ‬ ‫َعد ٍ‬
‫َربَّهُ }‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬إِنّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } المتقدمين في أول‬
‫السورة‪ { ،‬في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم ش َُّر البريَّ ِ‪l‬ة } أي‪ :‬الخليقة؛ ألنّ هللا بَراهم‪ ،‬أي‪:‬‬
‫أوجدهم‪ .‬قُرىء بالهمزة‪ ،‬وهو األصل‪ ,‬ويعدمه مع اإلدغام‪ ،‬وهو األكثر‪.‬‬

‫{ إِنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خي ُر البريَّ ِة } ال غيرهم‪ { ،‬جزاؤُهم عند ربهم‬
‫ضوا عنه }‬ ‫عدن } إقامة‪ { ،‬تجري من تحتها األنها ُر خالدين فيها أبداً رضي هللا عنهم َ‬
‫ور ُ‬ ‫ٍ‬ ‫جناتُ‬
‫حيث بلغوا من األماني قاصيها‪ ,‬وملكوا من المآرب ناصيتها‪ ،‬وأتيح لهم ما ال عين رأت وال أُذن‬
‫ش َي ربَّه } ‪ ،‬فإنَّ الخشية التي هي ِمن خصائص‬ ‫سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب بشر‪ { .‬ذلك لِ َمنْ َخ ِ‬
‫العلماء به مناطاة بجميع الكماالت العلمية والعملية‪ ،‬المستتبعة للسعادة الدينية والدنيوية‪.‬‬
‫والتعرض لعنوان الربوبية‪ l،‬المعربة عن المالكية والتربية؛‪ l‬لإلشعار بعلو الخشية والتحذير من‬ ‫ُّ‬
‫االغترار بالتربية‪ l.‬قاله ابو السعود‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬خير البرية } يدل على فضل المؤمنين من البشر على المالئكة‪ .‬وفيه تفصيل تقدّم ذكره‬
‫في النساء‪ .‬قال القشيري‪ :‬قوله تعالى‪ { :‬خير البرية } يدل على أنهم أفضل من المالئكة‪ .‬هـ‪ .‬قال‬
‫في الحاشية‪ l:‬أي‪ :‬في الجملة‪ ،‬ثم ذكر حكاية الرجل الذي أحياه هللا بعد موته بدعوة عيسى‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫إنه كان في الجنة‪ ،‬وأنه م ّر بمأل من المالئكة‪ ،‬وهم يقولون‪ :‬إنَّ من بني‪ l‬آدم لَ َمنْ هو أكرم على‬
‫هللا من المالئكة‪ .‬ثم ذكر عن نوادر األصول‪ :‬أنَّ المؤمن أكرم على هللا من المالئكة المقربين‪،‬‬
‫فانظره‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬المالئكة عقل بال شهوة‪ ،‬والبهائم شهوة بال عقل‪ ،‬واآلدمي فيه عقل‬
‫وشهوة‪ ،‬ف َمن غلب عقلُه على شهوته‪ l‬كان كالمالئكة أو أفضل‪ ،‬و َمن غلبت شهوتُه‪ l‬على عقله‬
‫كان كالبهائم أو أض ّل‪ .‬هـ‪.‬‬

‫اإلشارة‪َ :‬من كفر بأهل الخصوصية ِمن أهل العلم وغيرهم لهم نار الحجاب والقطيعة‪ ،‬و َمن آمن‬
‫بهم‪ ،‬ودخل تحت تربيتهم‪ ,‬له جنات المعارف خالداً فيها‪ ،‬رضي هللا عنهم حيث ق َّربهم إليه‪،‬‬
‫ضوا عنه حيث سلّموا األمر إليه‪ ،‬وخشوا ب ُعده وطرده‪ .‬قال اإلمام الفخر‪ :‬اعلم أنَّ العبد ُمر َّكب‬‫و َر ُ‬
‫ُ‬
‫فجنّة الجسد هي الموصوفة في القرآن‪ ،‬وجنة الروح هي رضا الرب‪ .‬واألولى‬ ‫من جسد وروح‪َ ،‬‬
‫مبدأ أمره‪ ،‬والثانية منتهى أمره‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫وقال الورتجبي‪ :‬عن الواسطي‪ :‬الرضا والسخط نعتان قديمان‪ ،‬يجريان على األبد بما جرى في‬
‫سم على المقبولين والمطرودين‪ .‬فقد بانت شواهد المقبولين بضيائها عليهم‪،‬‬
‫األزل‪ ،‬يظهران الو ْ‬
‫كما بانت شواهد المطرودين بظلمتها عليهم‪ .‬ثم قال عن سهل‪ :‬الخشية سر والخشوع ظاهر‪ .‬هـ‪.‬‬
‫فالخشية محلها البواطن‪ ،‬والخشوع ظهور أثر الخشية في الظاهر‪ .‬وباهلل التوفيق‪ ،‬وصلّى هللا‬
‫على سيدنا محمد وآله وصحبه‪.‬‬

‫‪#‬سورة الزلزلة §‪#‬‬

‫سانُ َما لَ َها } *‬ ‫ض أَ ْثقَالَ َها } * { َوقَا َل ا ِإلن َ‬ ‫ت األَ ْر ُ‬ ‫ض ِز ْل َزالَ َها } * { َوأَ ْخ َر َج ِ‬‫ت األَ ْر ُ‬ ‫*{ إِ َذا ُز ْل ِزلَ ِ‬
‫شتَاتا ً لِّيُ َر ْو ْا أَ ْع َمالَ ُه ْم‬‫اس أَ ْ‬
‫ص ُد ُر النَّ ُ‬‫ِّث أَ ْخبَا َرهَا } * { بِأَنَّ َربَّكَ أَ ْو َحىا لَ َها } * { يَ ْو َمئِ ٍذ يَ ْ‬ ‫{ يَ ْو َمئِ ٍذ ت َُحد ُ‬
‫} * { فَ َمن يَ ْع َم ْل ِم ْثقَا َل َذ َّر ٍة َخ ْيراً يَ َرهُ } * { َو َمن يَ ْعـ َم ْل ِم ْثقَا َل َذ َّر ٍة َ‬
‫ش ّراً يَ َرهُ }‬

‫األرض } أي‪ُ :‬حركت تحريكا ً عنيفا ً مكرراً متداركاً‪ِ { ،‬زلزالها‬


‫ُ‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬إِذا ُزلزلت‬
‫} أي‪ :‬الزلزلة المخصوصة‪ l‬بها على مقتضى المشيئة‪ l‬اإللهية‪ ،‬وهو الزلزال الشديد الذي ال غاية‬
‫وراءه‪ ،‬أو‪ :‬زلزالها العجيب الذي ال يُقادر قدره‪ .‬قال ابن عرفة‪ :‬المراد‪ :‬األرض األولى؛ ألنّ‬
‫المنجمين متالصقة بعضها مع بعض‪ ،‬وكذلك‬ ‫ِّ‬ ‫الثانية ليس فيها أموات‪ .‬ولكن السموات عند‬
‫األرضون‪ ،‬وعندنا يجوز أن يكون بينهما تخلُّل‪ ،‬وهو ظاهر حديث اإلسراء‪ .‬هـ‪.‬‬

‫األرض أثقالها } أي‪ :‬ما في جوفها من‬‫ُ‬ ‫وذلك عند النفخة الثانية‪ l‬لقوله تعالى‪ { :‬وأخرجت‬
‫األموات والدفائن‪ ،‬جمع‪ :‬ثِقُل‪ ،‬وهو‪ :‬متاع البيت‪ ،‬جعل ما في جوفها من الدفائن أثقاالً لها‪.‬‬
‫وإظهار األرض في موضع اإلضمار لزيادة التقرير‪ ،‬أو‪ :‬لإليماء إلى تبدُّل األرض غير األرض‪.‬‬
‫{ وقال اإلنسانُ } أي‪ :‬كل فرد ِمن أفراده‪ ،‬لِما يدهمهم من الطامة التامة‪ ،‬ويبهرهم من الداهية‬
‫العامة‪ { :‬ما لها } ُزلزلت هذه الزلزلة الشديدة‪ ،‬وأخرجت ما فيها من األثقال‪ ،‬استعظاما ً لِما‬
‫سيرت الجبال وفي الجو فصارت هبا ًء‪ .‬وهذا قول عام يقوله‬ ‫شهدوه من األمر الهائل‪ ،‬وقد ُ‬
‫ًّ‬
‫التعجب‪.‬‬ ‫المؤمن بطريق االستعظام‪ ،‬والكافر بطريق‬

‫{ يومئ ٍذ ت َُحد ُ‬
‫ِّث أخبا َرها } يوم إذا زلزلت األرض ت َُحدِّث الناس أخبارها بما وقع على ظهرها‪،‬‬
‫قيل‪ :‬يُنطقها هللاُ وتُحدِّث بما وقع عليها خي ٍر وشر‪ُ ،‬روي عنه صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬أنها تشهد‬
‫أوحى لها } أي‪ :‬بسبب أنَّ ربك أوحى لها بأن‬
‫على كل أح ٍد بما عمل على ظهرها " { بأنّ ربك ْ‬
‫ت َُحدِّث‪ ,‬أي‪ :‬أَ َم َرها بذلك‪ .‬والحديث يستعمل‪ l‬بالباء وبدونها‪ ،‬يقال‪ :‬حدثت كذا وبكذا‪ ،‬و " أوحى "‬
‫يتعدى بالالم وبـ " إلى "‪.‬‬

‫الناس } من قبورهم إلى موقف الحساب { أشتاتا ً }‬


‫ُ‬ ‫صدُر‬
‫{ يومئ ٍذ } أي‪ :‬يوم إذ يقع ما ذكر { يَ ْ‬
‫سود الوجوه فزعين‪ ،‬كما في قوله تعالى‪:‬‬‫متفرقين طبقات‪ ,‬منهم بِيض الوجوه آمنين‪ ،‬ومنهم ُ‬
‫{ فَتَأْتُونَ أَ ْف َواجا ً }‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫[النبأ‪ ]18:‬وقيل‪ :‬يصدرون غن الموقف أشتاتاً‪ ،‬ذات اليمين إلى الجنة‪ ،‬وذات الشمال إلى النار‪،‬‬
‫{ لِيُ َروا أعمالَهم } أي‪ :‬جزاء أعمالهم‪ ,‬خيراً أو شراً‪.‬‬

‫{ ف َمن يعمل مثقا َل ذر ٍة خيراً يَ َرهُ } ‪ ،‬والذرة‪ :‬النملة الصغيرة‪ .‬وقيل‪ :‬ما يرى في شعاع الشمس‬
‫من البهاء‪ .‬و " خيراً "‪ :‬تمييز‪ { ،‬ومن يعمل مثقا َل ذر ٍة شراً يَ َرهُ } قيل‪ :‬هذا في الكافر‪ ،‬واألُولى‬
‫في المؤمنين‪ .‬وقال ابن عباس رضي هللا عنه‪ :‬ليس مؤمن وال كافر‪َ ،‬ع ِم َل خيراً وال ش ًّرا في‬
‫الدنيا إالّ يراه في اآلخرة‪ ،‬فأ ّما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته‪ l،‬فيغفر هللاُ سيئاته‪ l‬ويُثيبه‪l‬‬
‫بحسناته‪ ،‬وأ ّما الكافر فيَ ُر ُّد هللاُ حسناته ويُعذبه بسيئاته‪ .‬وقال محمد بن كعب‪ :‬الكافر يرى ثوابه‬
‫في الدنيا‪ ،‬في أهله وماله وولده‪ ،‬حتى يخرج من الدنيا وليس له عند هللا خير‪ ،‬والمؤمن يرى‬
‫عقوبته‪ l‬في الدنيا‪ ،‬في نفسه وأهله وماله‪ ،‬حتى يخرج من الدنيا وليس له عند هللا شر‪.‬‬
‫سى هللا الحفظةَ ذنوبه‪ ،‬وأنسى ذلك جوارحه ومعالمه‬ ‫وفي الحديث‪ " :‬إذا تاب العب ُد عن ذنبه‪ l‬أَ ْن َ‬
‫من األرض‪ ،‬حتى يلقى هللا وليس عليه شاهد بذنب "‪.‬‬

‫قال ابن ُجزي‪ :‬هو على عمومه في الكافر‪ ،‬وأ ّما المؤمنون فال يُ ْج َزون بذنوبهم إالَّ بستة شروط؛‬
‫أن تكون ذنوبهم ِكبار‪ ،‬وأن يموتوا قبل التوبة منها‪ ،‬وأالَّ يكون لهم حسنات أرجح في الميزان‬
‫بعمل‪ ،‬كأهل بدر‪ ،‬وإالّ يعفو هللا عنهم‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫منها‪ ,‬وأالّ يُشفع فيهم‪ ،‬وأالّ يكونوا ممن استحق المغفرة‬
‫عذبه‪ ،‬وإن شاء غفر له‪ .‬هـ‪.‬‬ ‫فإنّ المؤمن العاصي في مشيئة‪ l‬هللا‪ ،‬إن شاء َّ‬

‫وحركت بالواردات واألحوال‪ ,‬وتحققت‬ ‫أرض النفوس زلزالها الالئق بها‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫اإلشارة‪ :‬إذا ُزلزلت‬
‫الغيبة عنها بالكلية‪ ،‬أشرقت شمس العرفان‪ ،‬فغطّت وجو َد األكوان‪ ،‬كما قال الشيخ أبو العباس‬
‫نشداً‪:‬‬
‫رضي هللا عنه ُم ِ‬

‫أرض النفوس ودُكت األجبال‬ ‫فلوا عاينت عيناك يوم تزلزلت‬


‫لرأيتَ شمس الحق يسطع نورها يوم التزلزل والرجال رجال‬
‫وأخرجت حينئذ ما فيها من العلوم‪ ,‬يومئذ ت َُحدِّث أخبارها‪ :‬أخبار األسرار الكامنة فيها‪ ،‬بأنّ ربك‬
‫الناس من الفناء إلى البقاء‪ ،‬أشتاتاً‪ ،‬فمنهم الغالب حقيقته‪ ،‬ومنهم‬
‫ُ‬ ‫أوحى لها إلهاماً‪ .‬يومئذ يَ ْ‬
‫صدُر‬
‫الغالب شريعته‪ ،‬ومنهم المعتدل‪ .‬أو‪ :‬فمنهم الغالب عليه القبض والقوة‪ ،‬ومنهم الغالب عليه‬
‫البسط والليونة‪ l،‬وهذا أعم نفعاً‪ .‬وهللا أعلم‪ .‬وذلك لِيُروا أعمال مجاهدتهم بالتن ُّعم في مشاهدتهم‪،‬‬
‫ير جزاء ذلك‪ ،‬و َمن يعمل‬ ‫ف َمن يعمل مثقال ذرة خيراً ـ بأن ينقص من نفسه عادةً في سيره ـ َ‬
‫مثقال ذرة ش ًّرا ـ بأن يزيد من الحس شيئا ً في الظاهر ـ يره‪ ،‬فإنه ينقص من معناه في الباطن‪ ،‬إالّ‬
‫إذا تم ّكن من الشهود‪ .‬وباهلل التوفيق وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله‪.‬‬

‫‪#‬سورة العاديات §‪#‬‬

‫ص ْبحا ً } * { فَأَثَ ْرنَ بِ ِه نَ ْقعا ً } *‬ ‫ت ُ‬ ‫ت قَدْحا ً } * { فَا ْل ُم ِغي َرا ِ‬ ‫ض ْبحا ً } * { فَال ُمو ِريَا ِ‬ ‫ت َ‬ ‫*{ َوا ْل َعا ِديَا ِ‬
‫ش ِهي ٌد } * { َوإِنَّهُ لِ ُح ِّب‬ ‫سانَ لِ َربِّ ِه لَ َكنُو ٌد } * { َوإِنَّهُ َعلَىا َذلِ َك لَ َ‬‫س ْطنَ بِ ِه َج ْمعا ً } * { إِنَّ ا ِإلن َ‬ ‫{ فَ َو َ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫الصدُو ِر } * { إِنَّ َربَّ ُهم‬ ‫ش ِدي ٌد } * { أَفَالَ يَ ْعلَ ُم إِ َذا بُ ْعثِ َر َما ِفي ا ْلقُبُو ِر } * { َو ُح ِّ‬
‫ص َل َما فِي ُّ‬ ‫ا ْل َخ ْي ِر لَ َ‬
‫بِ ِه ْم يَ ْو َمئِ ٍذ لَّ َخبِي ٌر }‬

‫ض ْبحا ً } ‪ ،‬أقسم تعالى بخيل الغزاة تعدو فتضبَح‪ ،‬والضبح‪:‬‬ ‫ت َ‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬والعاديا ِ‬
‫أح‪ .‬وانتصاب " ضبحا ً " على‬ ‫أح‪ْ ،‬‬
‫صوت أنفاسها إذا َعدَون‪ ،‬وحكى صوتها ابنُ عباس‪ ،‬فقال‪ْ :‬‬
‫المصدر‪ ،‬أي‪ :‬يضبحن ضبحاً‪ ،‬أو‪ :‬بالعاديات‪ ،‬فإنَّ ال َعدْو يستلزم الضبح‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬والضابحات‬
‫ضبحاً‪ ،‬أو‪ :‬حال‪ ،‬أي‪ :‬ضابحات‪ { .‬فال ُمو ِريات قَدْحا ً } ‪ ,‬اإليراء‪ :‬إخراج النار‪ ,‬والقدح‪ :‬الصكّ‪,‬‬
‫النار من حوافرها عند ال َعدْو‪ .‬وانتصاب " قدحا ً " كانتصاب‬ ‫َ‬ ‫فأورى‪ ،‬أي‪ :‬فالتي تُوري‬ ‫يقال‪ :‬قدح ْ‬
‫ص ْبحا ً } أي‪ :‬وقت الصبح‪ ،‬وهو المعتاد في‬ ‫ت } التي تغير على العد ّو‪ُ { ،‬‬ ‫ضبحاً‪ { .‬فال ُمغيرا ِ‬
‫الغارات‪ ،‬يعدون ليالً لئال يشعر بهم العدو‪ ،‬ويهجمون عليهم صباحا ً ليروا ما يأتون وما يذرون‪.‬‬
‫وإسناد اإلغارة ـ التي هي متابعة العدو‪ ،‬والنهب والقتل واألسر ـ إلى الخيل‪ ،‬وهي حال الراكب‬
‫عليها‪ ،‬إيذانا ً بأنها العمدة في إغارتهم‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬فأثَ ْرنَ به نَ ْقعا ً } أي‪ :‬غباراً‪ ،‬عطف على الفعل الذي د ّل عليه اسم الفاعل‪ ،‬إذا‬
‫صبح‪l‬‬ ‫المعنى‪ :‬والالتي عدون فأَ ْو َرين فأغرن فأثرن‪ ،‬أي‪ :‬هيّجن به غباراً‪ ،‬وتخصيص إثارته بال ُ‬
‫ألنه ال تظهر إثارته‪ l‬بالليل‪ ،‬كما أنَّ اإليراء الذي ال يظهر بالنهار واقع بالليل‪ .‬والحاصل‪ :‬أنّ ال َعدْو‬
‫س ْطنَ به } أي‪:‬‬ ‫كان بالليل وبه يظهر أثر القدح من الحوافر‪ ،‬وال يظهر النقع إالّ في الصبح‪ { .‬فَو َ‬
‫فوسطن بذلك الوقت { َج ْمعا ً } من جموع األعداء‪ ,‬والفاء لترتيب ما بعد كل على ما قبله‪ ،‬فإنَّ‬
‫توسط الجمع مترتب على اإلثارة المترتب على اإلغارة‪ ،‬المترتبة‪ l‬على اإليراء‪ ،‬والمترتب على‬
‫العدْو‪.‬‬

‫اإلنسانَ لِربه لَ َكنُود } أي‪ :‬لَكفور‪ ،‬من‪ :‬كند النعمة‪َ :‬كفَرها‪.‬‬


‫وجواب القسم‪ :‬قوله تعالى‪ { :‬إِنَّ ِ‬
‫وقيل‪ :‬الكنود هو الذي يمنع رفده‪ ،‬ويأكل وحده‪ ،‬ويضرب عبده‪ .‬وقيل‪ :‬الل ّوام لربه‪ ،‬يَ ْعد المحنَ‬
‫والمصائب‪ ،‬وينسى النعم والراحات‪ .‬وعلى كل حا ٍل فال يخرج عن أن يكون فسقا ً أو كفراً أو‬ ‫َ‬
‫تقصيراً في شكر هللا على نعمه‪ ،‬وتقصيراً وتفريطا ً في االستعداد للقائه‪ ،‬وفي التعظيم لجنابه‪،‬‬
‫وبالجملة فهو القليل الخير‪ ،‬ومنه‪ l:‬األرض الكنود‪ ،‬التي ال تُنبت شيئاً‪ .‬قال‪ :‬في الحاشية الفاسية‪l:‬‬
‫والظاهر من سياق السورة أنّ الكنود هو َمن اهتمامه بدنياه دون آخرته‪ ،‬ولذلك كان حريصا ً على‬
‫المال‪ ،‬ويرتكب المشاق في جمعه‪ ،‬وال يُبالي بآخرته‪ ،‬وال يستعد لمآله وال آلخرته‪ ،‬وال يُقَدِّم لها‪،‬‬
‫ض ِمنَ له رزقه‪ ،‬فلذلك‬ ‫وذلك لغفلته وجهله بربه‪ l‬وما أراده منه‪ ،‬وطلبه من السعي لآلخرة‪ ،‬وقد َ‬
‫بعد أن عدّد مذا ّمه هدّده ورهّبه‪ l‬بقوله‪ { :‬أفال يعلم‪ } ...‬اآلية‪ .‬هـ‪.‬‬

‫واآلية إ ّما في جنس اإلنسان إالَّ َمن عصمه هللا‪ ،‬وهو األظهر‪ ،‬أو في ُم َعيَّن‪ ،‬كالوليد أو غيره‪.‬‬
‫قيل‪ :‬إنّ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بعث إلى أُناس من بني كنانة سرية‪ l،‬واستعمل عليها‬
‫ي‪ ،‬وكان أحد النقباء‪ ،‬فأبطأ خبره عنه صلى هللا عليه وسلم شهراً‪ ،‬فقال‬ ‫ال ُمنذر بن عمرو األ ْنصار ّ‬
‫المنافقون‪ :‬إنهم قُتلوا‪ ،‬فنزلت السورة بسالمتها‪ ،‬بشارةً له صلى هللا عليه وسلم ونعيا ً على‬
‫المرجفين وهذا يقتضي أن السورة مدنية‪ l،‬وهو خالف قول الجمهور‪ ،‬كما تقدّم‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ش ِهي ٌد } يشهد على نفسه‪ l‬بالكنود‪ ،‬لظهور‬ ‫وإِنه } أي‪ :‬اإلنسان { على ذلك } أي‪ :‬على كنوده { لَ َ‬
‫ي ُمطيق ُمجد في طلبه‪ ،‬متهالك‬ ‫ب الخير } أي‪ :‬المال { لَ َ‬
‫ش ِدي ٌد } أي‪ :‬قو ٌّ‬ ‫أثره عليه‪ { ،‬وإِنه لِ ُح ّ‬
‫سك‪ ،‬ولعل‬ ‫عليه‪ ،‬وقيل‪ :‬لشديد‪ :‬لبخيل‪ ،‬أي‪ :‬وإنه ألجل حب المال وثقل إنفاقه عليه لبَ ِخيل ُم ْم ِ‬
‫وصفه بهذا الوصف اللئيم بعد وصفه بالكنود لإليماء إلى أنَّ ِمن جملة األمور الداعية المنافقين‬
‫إلى النفاق حب المال؛ ألنهم بما يُظهرون من اإليمان يعصمون أموالهم‪ ،‬ويحوزون من الغنائم‬
‫نصيباً‪.‬‬

‫ثم هدّد ال َكنود‪ ،‬فقال‪ { :‬أفال يعل ٌم إِذا بُ ْعثِر ما في القبور } أي‪ :‬بُعث فيها‪ ،‬و " ما " بمعنى " من‬
‫ص َل ما في الصدور }؛ ُميِّز ما فيها من الخير والشر‪ ،‬أي‪ :‬أفال يعلم مصيره‪ ،‬وأنَّ هللا‬ ‫وح ِّ‬‫"‪ُ {،‬‬
‫ُمطلع عليه‪ ،‬في سيرته وسريرته‪ l،‬فيُجازيه على تفريطه في جنبه وطاعته واتباع هواه‬
‫وشهواته‪ ،‬فآثر العاجلةَ على اآلخرة‪ ،‬وحظوظَه‪ ,‬على حقوق ربه والقيام بعبوديته‪ { .‬إِنَّ ربهم‬
‫بهم يومئ ٍذ لَخبير } أي‪ :‬عالم بظواهر ما ع ِملوا وباطنه‪ِ ،‬علما ً موجبا ً للجزاء‪ ،‬متصالً به‪ ،‬كما‬
‫يُنبىء عنه تقييده بذلك اليوم‪ ،‬إالَّ فعلمه سبحانه مطلق محيط بما كان وما سيكون‪ .‬وقوله‪ " :‬بهم‬
‫" و " يومئذ " يتعلقان بـ " بخبير " قُدما لرعاية الفواصل‪ ,‬والالم غير قادحة‪ ،‬وذلك لما يغتفر‬
‫في المجرورات‪ ،‬وقرأ ابن الس ّماك‪ " :‬أن ربهم بهم يومئذ خبير "‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬أقسم تعالى بأرواح المتوجهين‪ ،‬التي تعدو على الخواطر الردية‪ ،‬فتمحوها بقهرية‬
‫المراقبة‪ ،‬وتقدح من زند القلب نور الفكرة والنظرة‪ ،‬وت ُِغير على أعدائها من الدنيا والهوى‬
‫والنفس والشيطان‪ ،‬فتقهرهم بسيوف المخالفة عند سطوع المشاهدة‪ ،‬وتُثير غبار المساوىء‬
‫والذنوب بريح‪ l‬الهداية والتوبة‪ ،‬فيذهب في الهواء‪ ،‬وتوسط جمعا ً من العلوم واألسرار‪ ،‬فتحوزهم‬
‫سرها‪ ،‬غنيمةً وذخيرةً‪ ،‬وجوابه‪ :‬إنّ اإلنسان لربه لكنود‪ ،‬مع أنه مغروق في‬ ‫في خزانة قلبها و ِ‬
‫النعم‪ ،‬وهو ال يشعر وال يشكر‪ ،‬لغفلته وعدم تف ُّكره‪ ،‬وهذا اإلنسان هو الغافل الجاهل‪.‬‬

‫قال الورتجبي‪ :‬اإلنسانُ ال يعرف ما أعطاه هللا من نعمه بالحقيقة‪ ،‬وإنه لكفور إذ ال يعرف ُمنعمه‪،‬‬
‫ثم قال عن الواسطي‪ :‬الكنود يع ّد ما ِمنه من الطاعات‪ ،‬وينسى ما ّمن هللا به عليه من الكرامات‪.‬‬
‫هـ‪ .‬وإنه على ذلك لشهيد؛ يشهد كفره وعصيانه وبُخله بحسب جبلته‪ ،‬وإنه لِ ُحب الخير لشديد‪,‬‬
‫يأثره على معرفة مواله‪ ،‬فخسر خسرانا ً مبيناً‪ ،‬أفال يعلم ما يح ّل به إذا بُعثر ما في القبور‪ ،‬فتظهر‬
‫صل ما في الصدور من المعارف وأنواع الكمال‪ ،‬إنّ ربهم بهم يومئذ‬ ‫وح ِّ‬
‫األبطال من األرذال‪ُ ،‬‬
‫ً‬
‫لخبير‪ ،‬فيُجازي أه َل اإلحسان وأهل الخذالن‪ُ ،‬كالّ بما يليق به‪ .‬وباهلل التوفيق وصلّى هللا على‬
‫سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‪.‬‬

‫‪#‬سورة القارعة §‪#‬‬

‫*{ ا ْلقَا ِر َعةُ } * { َما ا ْلقَا ِر َعةُ } * { َو َمآ أَد َْراكَ َما ا ْلقَا ِر َعةُ } * { يَ ْو َم يَ ُكونُ النَّ ُ‬
‫اس َكا ْلفَ َرا ِ‬
‫ش‬
‫ش } * { فَأ َ َّما َمن ثَقُلَتْ َم َوا ِزينُهُ } * { فَ ُه َو ِفي‬ ‫ث } * { َوتَ ُكونُ ا ْل ِجبَا ُل َكا ْل ِع ْه ِن ا ْل َمنفُو ِ‬ ‫ا ْل َم ْبثُو ِ‬
‫ضيَ ٍ‪l‬ة } * { َوأَ َّما َمنْ َخفَّتْ َم َوا ِزينُهُ‪ { * } l‬فَأ ُ ُّمهُ هَا ِويَةٌ } * { َو َمآ أَ ْد َراكَ َما ِهيَ ْه } *‬ ‫ش ٍ‪l‬ة َّرا ِ‬
‫ِعي َ‬
‫{ نَا ٌر َحا ِميَةٌ‪} l‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬القارعةُ ما القارعةُ } القرع هو الضرب باعتماد‪ ،‬بحيث يحصل منه‪l‬‬
‫صوت شديد‪ ,‬وهي القيامة التي مبدؤها النفخة األولى‪ ،‬ومنتهاها فصل القضاء بين الخالئق‪،‬‬
‫سميت بها ألنها تقرع القلوب واألسماع بفنون األفزاع واألهوال‪ .‬وهي مبتدأ‪ ،‬خبرها‪ :‬قوله‪( :‬ما‬ ‫ُ‬
‫القارعةُ) على أنَّ " ما " استفهامية‪ l‬خبر‪ ,‬والقارعة مبتدأ‪ ،‬ال بالعكس؛ لما م ّر من أنَّ محط‬
‫اإلفادة هو الخبر ال المبتدأ‪ .‬وال ريب في أنَّ مدار إفادة الهول والفخامة هاهنا هو " ما القارعة "‬
‫ي شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة‪ ،‬وقد وقع الظاهر موضع الضمير تأكيداً للتهويل‪.‬‬ ‫أ ّ‬
‫{ وما أدراك ما القارعةُ } هو تأكيد لهولها وفضاعتها‪ ،‬ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق‪،‬‬
‫أي شيء أعلمك ما شأن القارعة؟ ومن أين علمت ذلك؟ و " أدري " يتعدى إلى مفعولين‪,‬‬ ‫أي‪ُّ :‬‬
‫علقت عن الثاني باالستفهام‪.‬‬

‫ث } أي‪ :‬هي يوم‪ ،‬على أنَّ " يوم " مبني‬ ‫الناس كالفراش المبثو ِ‬
‫ُ‬ ‫ثم بيّن شأنها فقال‪ { :‬يو َم يكونُ‬
‫إلضافته إلى الفعل‪ ,‬وإن كان مضارعا ً على رأي الكوفيين‪ ،‬والمختار أنه منصوب باذكر‪ ،‬كأنه قيل‬
‫بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه‪ l‬عليه الصالة والسالم إلى معرفتها‪ :‬اذكر يوم يكون الناس‬
‫كالفراش المبثوث في الكثرة واالنتشار والضعف والذلّة واالضطراب والتطاير إلى الداعي كتطاير‬
‫صغار الجراد‪ ،‬ويسمى‪ :‬غوغاء الجراد‪ ،‬وبهذا يوافق قوله تعالى‪:‬‬ ‫الفراش إلى النار‪ .‬والفراش‪ِ :‬‬
‫{ َكأَنَّ ُه ْم َج َرا ٌد ُّمنت َِش ٌ‪l‬ر }‬
‫[القمر‪ ]7:‬وقال أبو عبيدة‪ :‬الفراش‪ :‬طير ال بعوض وال ذباب‪ ،‬والمبثوث‪ l:‬المتفرق‪ .‬وقال‬
‫الزجاج‪ :‬الفراش ما تراه كصغار البق يتهافت في النار‪ .‬هـ‪ .‬والمشهور أنه الطير الذ يتساقط في‬
‫الناس عند البعث بالفراش لموج‬
‫َ‬ ‫النار‪ ،‬وال يزال يقتحم على المصباح‪ ،‬قال الكواشي‪ :‬شبّه‬
‫بعضهم في بعض‪ ،‬وضعفهم وكثرتهم‪ ،‬وركوب بعضهم بعضاً؛ لشدة ذلك اليوم‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫{ َكأَنَّ ُه ْم َج َرا ٌد ُّمنتِ ِ‬
‫ش ٌ‪l‬ر }‬
‫لتفرشه وانتشاره وخفته‪ .‬هـ‪ .‬واختار بعضهم أن يكون هذا التشبيه‪l‬‬ ‫[القمر‪ ]7:‬وسمي فراشا ً ُّ‬
‫للكفار؛ ألنهم هم الذين يتهافتون في النار تهافت الفراش المنتشر‪.‬‬

‫تفرق أجزائها‬‫ش } كالصوف الملون باأللوان المختلفة في ُّ‬ ‫كالع ْه ِن المنفو ِ‬ ‫{ وتكونُ الجبا ُل ِ‬
‫وتطايرها في الجو‪ ،‬حسبما نطق به قوله تعالى‪:‬‬
‫سبُ َها َجا ِم َدةً‪} ...‬‬ ‫{ َوتَ َرى ا ْل ِجبَا َل ت َْح َ‬
‫[النمل‪ ]88:‬اآلية‪ ،‬وكال األمرين من آثار القارعة بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق‪ ،‬يُبدِّل هللا‬
‫األرض غير األرض‪ ,‬بتغيير هيئاتها وتسير الجبال سيراً عن مقارها على ما ذكر من الهيئة‪l‬‬ ‫َ‬
‫الهائلة ليشاهدها أهل المحشر‪ ،‬وهي وإن اندكت وتصدّعت عند النفخة األولى‪ ،‬لكن تسيير‬
‫وتسويتها يكونان بعد النفخة الثانية‪ ،‬كما ينطق به قوله تعالى‪:‬‬
‫سفا ً (‪} )105‬‬ ‫سأَلُونَكَ ع َِن ا ْل ِجبَا ِل فَقُ ْل يَ ِ‬
‫نسفُ َها َربِّي نَ ْ‬ ‫{ َويَ ْ‬
‫[طه‪ ]105:‬اآلية‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫{ يَ ْو َمئِ ٍذ يَتَّبِ ُعونَ الد ِ‬
‫َّاع َي }‬
‫[طه‪ ]108:‬وقوله تعالى‪:‬‬
‫ض}‬‫ض َغ ْي َر األَ ْر ِ‬ ‫{ يَ ْو َم تُبَ َّد ُل األَ ْر ُ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫[إبراهيم‪ ،]48:‬اآلية‪ ،‬فإنَّ اتباع الداعي‪ ,‬وهو إسرافيل‪ ،‬وبروز الخلق هلل تعالى ال يكون إالَّ بعد‬
‫النفخة الثانية‪.‬‬
‫غريب مع أنَّ قوله تعالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫قاله أبو السعود‪ .‬قلت‪ :‬د ّك األرض كلها مع بقاء جبالها‬
‫ت األَ ْر ُ‬
‫ض َوا ْل ِجبَا ُل‪} ...‬‬ ‫{ َو ُح ِملَ ِ‬
‫[الحاقة‪ ]14:‬الخ صريح في دك الجبال وتسويتها مع دك األرض قبل البعث‪ ،‬ويمكن الجمع بأن‬
‫بعضها تدك مع دك األرض‪ ،‬وهو ما كان في طريق ممر الناس للمحشر‪ ,‬وبعضها تبقى ليشاهدها‬
‫أه ُل المحشر‪ ،‬وهو ما كان جانباً‪ ،‬وهللا تعالى أعلم بما سيفعل‪ ,‬و َ‬
‫ستَ ِرد وترى‪.‬‬

‫ول ّما ذكر ما يَ ُع ّم الناس َذ َكر ما يخص كل واحد‪ ،‬فقال‪ { :‬فأ َّما َمن ثَقُلَتْ موازينه } باتباعه الحق‪،‬‬
‫وهو جمع " موزون " ‪ ،‬وهو العمل الذي له وزن وخطر عند هللا‪ ,‬أو جمع ميزان‪ ،‬قال ابن‬
‫عباس رضي هللا عنه‪ :‬هو ميزان له لسان وكفّتان‪ ،‬تُوزن فيه األعمال‪ ،‬قالوا‪ :‬تُوضع فيه‬
‫صحائف األعمال‪ ،‬فينظر إليه الخالئق‪ ،‬إظهاراً للمعدلة‪ ،‬وقطعا ً للمعذرة‪ .‬قال أنس‪ " :‬إنَّ ملكا ً‬
‫ي ُو ّكل يوم القيامة بميزان ابن آدم‪ ،‬يُجاء به حتى يوقف بين كفي الميزان‪ ،‬فيُوزن عمله‪ ،‬فإن ثقلت‬
‫س ِع َد فالن سعادة ال يشقى بعدها أبداً‪،‬‬ ‫س ِمع‪ l‬جمي َع الخالئق باسم الرجل‪ :‬إالَ َ‬
‫حسناته نادى بصوت يُ ْ‬
‫شقِ َي فالن شقاوة ال يسعد بعدها أبداً " وقيل‪ :‬الوزن عبارة عن‬ ‫وإن خفّت موازينه‪ l‬نادى‪َ :‬‬
‫سوي‪ ،‬والحكم ال َعدْل‪ ،‬وبه قال مجاهد واألعمش والضحاك‪ ،‬واختاره كثير من‬ ‫القضاء ال َّ‬
‫المتأخرين‪ ،‬قالوا‪ :‬الميزان ال يتوصل به إلى معرفة مقادير األجسام‪ ،‬فكيف يُمكن أن يعرف‬
‫مقادير األعمال‪ .‬هـ‪ .‬والمشهور‪ l‬أنه محسوس‪.‬‬

‫وقد ُروي عن ابن عباس أنه يُؤتى باألعمال الصالحة على صورة حسنة‪ ،‬وباألعمال السيئة على‬
‫صورة قبيحة‪ ,‬فتُوضع في الميزان‪ ,‬ف َمن ترجحت موازين حسناته { فهو في عيش ٍة راضي ٍة } أي‪:‬‬
‫ذات رضاً‪ ،‬أو مرضية‪ { ،‬و َمن َخفَّتْ موازينُه‪ } l‬باتباعه الباطل‪ ،‬فلم يكون له حسنات يُعتد بها‪،‬‬
‫سميت بها لغاية عمقها‪,‬‬ ‫أوترجحت سيئاته على حسناته‪ { ،‬فأ ُ ُّمهُ هاويةٌ } ‪ ،‬هي من أسماء النار‪ُ ،‬‬
‫وبُعد مداها‪ُ ،‬روي أنَّ أهل النار يهووا فيها سبعين خريفاً‪ .‬وعبَّر عن المأوى باألم ألنَّ أهلها‬
‫يأوون إليها كما يأوي الولد إلى أمه‪ ،‬وعن قتادة وغيره‪ :‬فأم رأسه هاوية‪ ،‬ألنه يُطرح فيها‬
‫منكوساً‪ .‬واألول هو الموافق لقوله‪ { :‬وما أدراك َما ِهيَ ْه } فإنه تقرير‪ l‬لها بعد إبهامها‪ ،‬ولإلشعار‬
‫بخروجها عن الحدود المعهودة للتفخيم والتهويل‪ l،‬وهي ضمير‪ l‬الهاوية‪ ،‬والهاء للسكت‪ ،‬ثبت‬
‫وصالً ووقفاً‪ ،‬لثبوتها في ال ُمصحف‪ ،‬فينبغي الوقف ليوافق ثبوتها‪ ،‬ثم ف َّ‬
‫سرها فقال‪ { :‬نا ٌر‬
‫حامية } بلغت النهاية في الحرارة‪ ،‬قيل‪ :‬وصفها بحامية‪ l‬تنبيها ً على أنَّ نار الدنيا بالنسبة إليها‬
‫ليست بحامية؛ فإنَّ نار الدنيا جزء من سبعين جزءاً منها‪ ،‬كما في الحديث‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬القارعة هي سطوات تجلِّي الذات عند االستشراف‪ l‬على مقام الفناء‪ ،‬ألنها تقرع القلوب‬
‫بالحيرة والدهش في نور الكبرياء‪ ،‬ثم قال‪ { :‬يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } أو كالهباء‬
‫في الهواء‪ ،‬إن فتشته‪ l‬لم تجده شيئا ً ووجد هللا عنده‪ ،‬يعني‪ :‬إنَّ الخلق يصغر من جهة حسهم في‬
‫نظر العارف‪ ،‬فلم يبعد في قلبه منهم هيبة وال خوف‪.‬‬
‫وتكون الجبال‪ ،‬جبال العقل‪ ،‬كالعهن المنفوش‪ ،‬أي‪ :‬ال تثبت عند سطوع نور التجلِّي؛ ألنّ نور‬
‫العقل ضعيف كالقمر‪ ،‬عند طلوع الشمس‪ ،‬فأ ّما َمن ثقُلت موازينه بأن كان حقا ً محضاَ؛ إذ ال يثقل‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫في الميزان إالَّ الحق‪ ،‬والحق ال يُصادم باطالً إالَّ دمغه‪ ،‬فهو في عيشة راضية‪ l،‬لكونه دخل جنة‬
‫المعارف‪ ،‬وهي الحياة الطيبة‪ ،‬وأ ّما َمن خفّت موازينه باتباع الهوى فأ ُ ُّمه هاوية‪ ،‬نار القطيعة‬
‫ينكس فيها ويُضم إليها‪ ،‬يحترق فيها بالشكوك واألوهام والخواطر‪ ،‬وحر التدبير واالختيار‪.‬‬
‫و ُروي في بعض األثر‪ :‬إنما ثقلت موازين َمن ثقلت موازينُهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله‬
‫ق لميزان ال يوضع فيه إالَّ الحق أن يَثقل‪ ،‬وإنما خفَّتْ موازينُ َمن خفت موازينُهم‬ ‫وح َّ‬
‫في الدنيا‪ُ ,‬‬
‫وحق لميزان ال يُوضع فيه إالَّ الباطل أن يخف‪ .‬هـ‪ .‬وصلّى هللا‬ ‫باتباعهم الباط ِل وخفته في الدنيا‪ُ ،‬‬
‫على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‪.‬‬

‫‪#‬سورة التكاثر §‪#‬‬

‫س ْوفَ تَ ْعلَ ُمونَ } * { ثُ َّم َكالَّ َ‬


‫س ْوفَ‬ ‫*{ أَ ْل َها ُك ُم التَّ َّكاثُ ُر } * { َحتَّىا ُز ْرتُ ُم ا ْل َمقَابِ َر } * { َكالَّ َ‬
‫ين } * { لَتَ َر ُونَّ ا ْل َج ِحي َم } * { ثُ َّم لَتَ َر ُونَّ َها َعيْنَ ا ْليَقِي ِن } *‬
‫تَ ْعلَ ُمونَ } * { َكالَّ لَ ْو تَ ْعلَ ُمونَ ِع ْل َم ا ْليَقِ ِ‬
‫سأَلُنَّ يَ ْو َمئِ ٍذ َع ِن النَّ ِع ِ‬
‫يم }‬ ‫{ ثُ َّم لَتُ ْ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬ألهاكم التكاثُر } أي‪ :‬شغلكم التغالب في الكثرة والتفاخر بها‪ُ .‬روي أن‬
‫بني عبد مناف وبني‪ l‬سهم تفاخروا‪ ،‬وتعادُّوا بالسادة واألشراف‪ ،‬فقال ُك ُّل فريق منهم‪ :‬نحن أكثر‬
‫منكم سيداً‪ ،‬وأعز عزيزاً‪ ،‬وأعظم نفراً‪ ،‬فكثرهم بنو عبد مناف‪ ،‬فقالت بنو سهم‪ :‬إنَّ البغي في‬
‫الجاهلية أهلكنا‪ ،‬فعادّونا باألحياء واألموات‪ ،‬ففعلوا‪ ،‬وقالوا‪ :‬قبر فالن‪ ،‬وهذا قبر فالن‪ ،‬فكثرهم‬
‫بنو سهم‪ .‬والمعنى‪ :‬أنكم تكاثرتم باألحياء { حتى ُزرتم المقابر } أي‪ :‬إذا استوعبتم عددكم صرتم‬
‫إلى األموات‪ ،‬فعبّر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور ته ُّكما ً بهم‪ .‬وقيل‪ :‬كانوا يزورون‬
‫القبور‪ ،‬ويقولون هذا قبر فالن‪ ،‬يفتخرون بذلك‪ ،‬وقيل‪ :‬المعنى‪ :‬ألهاكم التكاثر باألموال واألوالد‪،‬‬
‫حتى متُّم وقُبرتم مضيعين أعماركم في طلب الدنيا‪ ،‬معرضين عما يمهمكم من السعي لآلخرة‪،‬‬
‫فيكون زيارة القبور عبارة عن الموت‪.‬‬

‫الشخير‪ :‬قرأ النب ًّي صلى هللا عليه وسلم { ألهاكم التكاثر } فقال‪ " :‬يقول ابن آدم‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫قال عبد هللا بن‬
‫صدَّق فأبقى " وما سوى‬ ‫ما لي‪ ،‬وليس له من ماله إال ثالث‪ ،‬ما أكل فأفنى‪ ،‬أو لبس فأبلى‪ ،‬أو تَ َ‬
‫ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس‪ .‬والالم في (التكاثر) للعهد الذهني‪ ،‬وهو التكاثر بما يشغل عن هللا‪،‬‬
‫فال يشمل التكاثر في العلوم والمعارف والطاعات واألخالق‪ ،‬فإنَّ ذلك مطلوب؛ ألنَّ بذلك تُنال‬
‫السعادة في الدارين‪ ،‬وقرينة‪ l‬ذلك قوله تعالى‪ { :‬ألهاكم } فإنه خاص بما يُلهي عن ذكر هللا‬
‫واالستعداد لآلخرة‪ ،‬حتى أنه لو تناول الدنيا على ذكر هللا لم تُذ ّم‪ ,‬وليست بلهو حينئذ‪ ،‬ولذلك‬
‫جاء‪ " :‬الدنيا ملعونةٌ ملعون ما فيها إالّ ذكر هللا وما وااله " قال اإلما ُم‪ :‬ولم يقل‪ :‬ألهاكم التكاثر‬
‫عن كذا‪ ،‬بل تركه مطلقا ً؛ ليدخل تحته جميع ما يحتمله اللفظ‪ ،‬فهو أبلغ؛ ألنه يذهب فيه الوهم ُك َّل‬
‫مذهب‪ ،‬أي‪ :‬ألها ُكم عن ذكر هللا‪ ،‬وعن التف ًّكر في أمور القارعة‪ ،‬وعن االستعداد لها‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫هـ‪.‬‬

‫المقابر }‪ :‬عن عمر بن عبد العزيز‪ ،‬قال‪ :‬اآلية‪ :‬تأنيب‬


‫َ‬ ‫وقال بان عطية في قوله‪ { :‬حتى ُزرتم‬
‫عن اإلكثار من زيارة القبور تكثُّراً ب َمن سلف وإشادة عن ذكره‪ ،‬وقد قال صلى هللا عليه وسلم‪" :‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫كنت نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها‪ ،‬وال تقولوا ه ُْجراً " فكان نهيه صلى هللا عليه وسلم في‬
‫معنى اآلية‪ ،‬ثم أباح بَ ْع ُد لالتعاظ‪ ،‬ال لمعنى المباهاة واالفتخار‪ ،‬كما يصنع الناس في مالزمتها‬
‫وتعليتها بالحجارة والرخام‪ ،‬وتلوينها شرفا ً وبنيان النواويس عليها‪ .‬هـ‪.‬‬

‫وقال ابن عرفة‪ :‬زيارة المقابر محدودة‪ ،‬أي‪ :‬كيوم في شهر‪ ،‬مثالً‪ ،‬وكان بعضهم يقول‪ :‬إذا رأيتم‬
‫الطالب في ابتداء أمره يستكثر من زيارة المقابر‪ ،‬ومن مطالعة رسالة القشيري‪ ،‬فاعلم أنه ال‬
‫يفلح؛ الشتغاله عن طلب العلم بما ال يُجدي شيئاً‪.‬‬
‫هـ‪ .‬أي‪ :‬ال يفوز بعلم الظاهر؛ ألنَّ علم الباطن يُفتِّر عن الظاهر‪ ،‬فينبغي ل َمن كان فيه أهلية للعلم‬
‫صحبة‪ l‬أهله‪ ،‬وإالَّ فمطالعة الكتب‬
‫أن يفرده‪ ،‬حتى يحرز منه ما قسم له‪ ،‬ثم يشتغل بعلم الباطن‪ ،‬ب ُ‬
‫بال شيخ ال توصل إليه‪ ،‬وإنما ينال بمحبة القوم فقط‪ ،‬وفيها مقنع ل َمن ضعفت همته‪.‬‬

‫ثم زجر عن التكاثر فقال‪َ { :‬كالَّ } أي‪ :‬ليس األمر على ما أنتم عليه‪ ،‬أو كما يتوهمه‪ l‬هؤالء‪ ،‬فهو‬
‫َردْع وتنيبه‪ l‬على أنَّ العاقل ينبغي أالَّ يكون معظم همه مقصوراً على الدنيا‪ ،‬فإنَّ عاقبة ذلك‬
‫وخيمة‪ { ،‬سوف تعلمون } سوء عاقبة ما أنتم عليه إذا عاينتم عاقبته‪ { ،‬ثم ّكالَّ سوف تعلمون }‬
‫‪ ،‬تكرير للتأكيد‪ ،‬و(ثم) داللة على أنَّ الثاني أبلغ من األول‪ ،‬واألول عند الموت أو في القبر‪،‬‬
‫والثاني عند النشور‪.‬‬

‫{ َكالَّ لو تعلمون ِعل َم اليقين } أي‪ :‬لو تعلمون ما بين أيديكم علم األمر اليقين‪ ،‬كعلمكم ما‬
‫تستيقنونه‪ l‬لفعلتم من الطاعات ما ال يوصف‪ ،‬وال يكتنه كنهة‪ ،‬فحذف الجواب للتهويل‪ .‬قال الفخر‪:‬‬
‫اآلية تهديد عظيم للعلماء‪ ،‬فإنها دلّت على أنه لو حصل اليقين بما في التكاثر من اآلفة لتركوا‬
‫التكاثر والتفاخر‪ ،‬وهذا يقتضي‪ l‬أنَّ َمن ال يترك التكاثر والتفاخر ال يكون اليقين حاصالً له‪ ،‬فالويل‬
‫للعالم الذي ال يكون عامالً‪ ،‬ثم الويل له‪ .‬هـ‪ { .‬لَتَ َر ُونَّ الجحي َم }‪ :‬جواب قسم محذوف‪ ،‬أ ّكد به‬
‫الوعيد وشدّد به التهديد‪ { ،‬ثم لَت ََر ُونَّها }‪ :‬تكرير للتأكيد‪ ،‬أو‪ :‬األولى إذا رأتهم من مكان بعيد‪،‬‬
‫والثانية إذا وردوها‪ ،‬أو األولى بالقلب‪ ،‬والثانية بالعين‪ ،‬ولذلك قال‪ { :‬عَينَ اليقين } أي‪ :‬الرؤية‬
‫صى مراتب اليقين‪ { .‬ثم لتُسألُن يومئ ٍ‪l‬ذ عن‬ ‫التي هي نفس اليقين وحاصلته‪ ،‬فإنَّ علم المشاهدة أ ْق َ‬
‫النعيم } أي‪ :‬عن النعيم الذي ألهاكم االلتذاذ به عن الدين وتكاليفه‪ ،‬فإنَّ الخطاب مخصوص ب َمن‬
‫عكفت همته على استيفاء اللذات‪ ،‬ولم يعش إالَّ ليأكل الطَيّب‪ ،‬ويلبس الطَيّب‪ ،‬وقطع أوقاته في‬
‫اللهو والطرب‪ ،‬ال يعبأ بالعلم والعمل‪ ،‬وال يحمل نفسه‪ l‬على مشاق الطاعة‪ ،‬فأ ّما َمن تمتّع بنعمة‪l‬‬
‫هللا تعالى‪ ،‬وتق ّوى بها على طاعته‪ ،‬قائما ً بالشكر‪ ،‬فهو من ذلك بمعز ٍل بعيد‪ .‬وفي الحديث‪" :‬‬
‫يقول هللا تبارك وتعالى‪ :‬ثالث من النعم ال اسأل عبدي عن شكرهن‪ ،‬وأسأله عما سواه‪ :‬بيت‬
‫عورته من اللباس " فالخالئق مسؤولون يوم‬ ‫َ‬ ‫يكنُّه‪ ,‬وما يُقيم به صلبه من الطعام‪ ،‬وما يُواري به‬
‫القيامة عما أنعم عليهم به في الدنيا‪ .‬وهللا تعالى أعلم بحالهم‪ ،‬فالكافر يُسأل تبكيتا ً وتوبيخا ً على‬
‫شركه ب َمن أنعم عليه‪ ،‬والمؤمن يُسأل عن شكر ما أنعم عليه‪ .‬هـ‪.‬‬ ‫ِ‬

‫المنعم بها‪ ،‬وذكر هللا عند أخذها أو‬


‫ِ‬ ‫ش ِهدَها من‬
‫قلت‪ :‬فكل َمن استعمل األدب في تناول النعمة‪ ،‬بأن َ‬
‫أَ ْكلِها‪ ,‬وشكر عند تمامها‪ ،‬فال يتوجه إليه سؤال‪ ,‬أو يتوجه إظهاراً لمزيته وشرفه‪ ،‬وعليه يتن ّزل‪l‬‬
‫قوله صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫" هذا من النعيم الذي تُسألون عنه " في حديث أبي الهيثم‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫التوجه إلى هللا‪ ،‬لتحصيل‬


‫ُّ‬ ‫اإلشارة‪ :‬ألهاكم التكاثر باألموال واألوالد‪ ،‬أو بالعلوم الرسمية‪ l،‬عن‬
‫معرفة العيان‪ ،‬حتى متُّم غافلين‪ ،‬كالَّ سوف تعلمون عاقبةَ أمركم‪ ،‬حين يرتفع أهل العيان مع‬
‫المقربين‪ ،‬وتبقوا معاشر أهل الدليل مع عامة أهل اليمين‪ ،‬كالَّ لو تعلمون علم اليقين؛ لتوجهتم‬
‫إليه بكل حال‪ ,‬لَترون الجحيم‪ ،‬أي‪ :‬نار القطيعة‪ ,‬ثم لَترونها عين اليقين‪ ،‬ثم لتُسألن يومئذ عن‬
‫النعيم‪ ،‬هل قمتم بشكره أو ال‪ ،‬وشكره‪ :‬شهود المن ِعم في النعمة‪ ،‬فقد رأيتُ في عالم النوم شيخين‬
‫كبيرين‪ ،‬فقلت لهما‪ :‬ما حقيقة الشكر؟ فقال أحدهما‪ :‬أالَّ يُعصى بنعمه‪ ،‬فقلت‪ :‬هذا شكر العوام‪،‬‬
‫المنعم‪ .‬هـ‪ .‬وهو‬
‫ِ‬ ‫فما شكر الخواص؟ فسكتا‪ ،‬فقلت لهما‪ :‬شكر الخواص‪ :‬االستغراق في شهود‬
‫كذلك؛ ألنَّ عدم العصيان بالنِعم يحصل من بعض األبرار‪ ,‬كال ُعبَّاد وال ُزهَّاد‪ ،‬بخالف االستغراق في‬
‫الشهود‪ ،‬فإنه خاص بأهل العرفان‪ ،‬أهل الرسوخ والتمكين‪ ,‬وقد تقدّم في سورة المعارج التفريق‬
‫بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين‪ .‬وباهلل التوفيق‪ ،‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله‪.‬‬

‫‪#‬سورة العصر §‪#‬‬

‫ص ْو ْا‬
‫ت َوتَ َوا َ‬ ‫س ٍر } * { إِالَّ الَّ ِذينَ آ َمنُو ْا َو َع ِملُو ْا ال َّ‬
‫صالِ َحا ِ‬ ‫سانَ لَفِى ُخ ْ‬
‫ص ِر } * { إِنَّ ا ِإلن َ‬ ‫*{ َوا ْل َع ْ‬
‫ص ْو ْا بِال َّ‬
‫ص ْب ِر }‬ ‫ق َوتَ َوا َ‬ ‫بِا ْل َح ِّ‬

‫ص ِر } أقسم تعالى بصالة العصر لفضلها الباهر‪ ،‬إذ قيل‪ِ :‬هي الصالة‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬وال َع ْ‬
‫ضحى‪ ،‬أو بعصر النبوة‪،‬‬ ‫الوسطى‪ ،‬أو‪ :‬بالعش ِّي الذي هو مابين الزوال والغروب‪ ،‬كما أقسم بال ُ‬
‫لظهور فضله على سائر األعصار‪ ،‬أو بالدهر مطلقاً؛ النطوائه على تعاجيب األمور النافعة‬
‫س ٍر }؛ لفي خسران في متاجرهم ومساعيهم‪ ،‬وصرف‪l‬‬ ‫اإلنسانَ لفي ُخ ْ‬‫والضارة‪ ،‬وجوابه‪ { :‬إِنَّ ِ‬
‫أعمارهم في حظوظهم وأمانيهم‪ { .‬إالَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فإنهم اشتروا اآلخرة‬
‫بالدنيا‪ ،‬فربحوا وسعدوا‪ ،‬أو‪ :‬فإنهم في تجار ٍة لن تبور‪ ،‬حيث باعوا الفاني الخسيس‪ ،‬وآثروا‬
‫الباقي النفيس‪ ،‬واستبدلوا الباقيات الصالحات بالعاديات الرائحات‪ ,‬فيا لها من صفقة ما أربحها!‪.‬‬

‫وتواص ْوا بالحق } بيان لتكميلهم لغيرهم‪ ،‬أي‪:‬‬


‫َ‬ ‫وهذا بيان لتكميلهم ألنفسهم‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬‬
‫ضهم بعضا ً باألمر الثابت‪ ،‬الذي ال سبيل‪ l‬إلى إنكاره‪ ,‬وال زوال في الدارين لمحاسن‬ ‫صى بع ُ‬ ‫و َّ‬
‫آثاره‪ ،‬وهو الخير كله‪ ،‬من اإليمان باهلل ع ّز وجل‪ ،‬واتباع كتبه ورسله في كل عقد وعمل‪،‬‬
‫وتواص ْوا بالصب ِر } عن المعاصي التي تُساق إليها النفس األ ّمارة‪ ،‬وعلى الطاعة التي يشق‬
‫َ‬ ‫{‬
‫عليها أداؤها‪ ،‬وعلى البلية التي تتوجه إليه من جهة قهريته تعالى‪ ،‬وعلى النعمة بالقيام بتمام‬
‫شكرها‪ ،‬وتخصيص هذا التواصي بالذكر‪ ،‬مع اندراجه تحت التواصي بالحق؛ إلبراز كمال‬
‫االعتناء به‪ ،‬أو‪ :‬ألن األول عبارة عن رتبة‪ l‬العبادة‪ ،‬التي هي فعل ما يُرضي هللا ع ّز وجل‪ ،‬والثاني‬
‫عن العبودية التي هي الرضا بما فعل هللاُ تعالى‪ ،‬فإنَّ المراد ليس مجرد حبس النفس ع ّما تتوق‬
‫فعل وترك‪ ،‬بل هو تلقي ما يَ ِرد منه تعالى بالجميل والرضا ظاهراً وباطناً‪ .‬قاله أبو‬
‫إليه من ٍ‬
‫السعود‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫اإلشارة‪ :‬والعصر‪ ،‬أي‪ :‬عصر الذاكرين‪ ،‬إنَّ اإلنسان لفي ُخسر‪ ،‬حيث احتجب عن ربه‪ l‬بنفسه‬
‫وبرؤيته وجوده‪ ،‬إالّ الذين آمنوا إيمان الخصوص‪ ،‬وعملوا عمل الخصوص‪ ،‬وهو خرق العوائد‬
‫واكتساب الفوائد‪ ،‬حتى وصلوا إلى كشف الحجاب‪ ،‬فلم يروا مع هللا غيره‪ ،‬غابوا عن أنفسهم‪،‬‬
‫وعن وجودهم ووجود غيرهم‪ ,‬في شهود محبوبهم‪ ,‬فل ّما تكملوا اشتغلوا بتكميل غيرهم‪ ،‬كما قال‬
‫وتواص ْوا بالحق } أي‪ :‬بفعل الحق‪ ،‬وهو ما يثقل على النفس‪ ,‬حتى ال يثقل عليها شيء‪،‬‬
‫َ‬ ‫تعالى‪{ :‬‬
‫ص ْوا على مشاق السير‪ ،‬ثم على عكوف الهم في حضرة الحق‪ .‬وباهلل‬ ‫أو باإلقبال على الحق‪ ،‬وتوا َ‬
‫التوفيق‪ ،‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله وصحبه‪ ،‬وسلّم‪.‬‬

‫‪#‬سورة الهمزة §‪#‬‬

‫ب أَنَّ َمالَهُ أَ ْخلَ َدهُ } * { َكالَّ‬ ‫*{ و ْي ٌل لِّ ُك ِّل ُه َمزَ ٍة لُّ َمزَ ٍة } * { الَّ ِذى َج َم َع َماالً َو َع َّد َدهُ } * { يَ ْح َ‬
‫س ُ‬
‫لَيُنبَ َذنَّ فِي ا ْل ُحطَ َم ِة } * { َو َمآ أَد َْراكَ َما ا ْل ُحطَ َمةُ } * { نَا ُر هَّللا ِ ا ْل ُموقَ َدةُ } * { الَّتِي تَطَّلِ ُع َعلَى‬
‫األَ ْفئِ َد ِة } * { إِنَّ َها َعلَ ْي ِهم ُّم ْؤ َ‬
‫ص َدةٌ } * { فِي َع َم ٍد ُّم َم َّد َد ِة }‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬وي ٌل لكل ُه َم َز ٍة لُمز ٍة } ‪ " ،‬ويل "‪ :‬مبتدأ‪ ،‬و " لكل "‪ :‬خبره‪،‬‬
‫سوغ‪ :‬الدعاء عليهم بالهالك‪ ،‬أو بشدة الشر‪ ،‬وال َه ْمز‪ :‬الكسر‪ ،‬واللمز‪ :‬الطعن‪ ،‬أي‪ :‬ويل‬ ‫وال ُم ِّ‬
‫للذي يحط الناس ويُص ِّغرهم‪ ،‬ويشتغل بالطعن فيهم‪ .‬قال ابن جزي‪ :‬هو على الجملة‪ :‬الذي يعيب‬
‫أعراضهم‪ ،‬واشتقاقه من الهمز واللمز‪ ،‬وصيغة ف ْعلَة للمبالغة‪ ،‬واختلف في الفرق‬ ‫َ‬ ‫الناس ويأكل‬
‫َ‬
‫بين الكلمتين‪ ،‬فقيل‪ :‬الهمز في الحضور‪ ،‬واللمز في الغيبة‪ ،‬وقيل العكس‪ ،‬وقيل‪ :‬الهمز باليد‪،‬‬
‫واللمز باللسان‪ .‬وقيل‪ :‬هما سواء‪ .‬ونزلت السورة في األخنس بن شريق‪ ،‬ألنه كان كثير الوقيعة‬
‫في الناس‪ ،‬وقيل‪ :‬في آميّة بن خلف‪ ،‬وقيل‪ :‬في الوليد بن المغيرة‪ .‬ولفظها مع ذلك يعم كل َمن‬
‫اتصف بهذه الصفة‪ .‬هـ‪ .‬وبناء " فُ َعلة " يدل أن ذلك عادة منه‪ l‬مستمرة‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬الذي َج َم َع ماالً }‪ :‬بدل من " كل " ‪ ،‬أو‪ :‬نصب على الذم‪ ،‬وقرأ حمزة والشامي‬
‫والكسائي " َج َّم َع " بالتشديد للتكثير‪ ،‬وهو الموافق لقوله‪ { :‬عدَّده } أي‪ :‬جعله ُع َّدةً لحوادث‬
‫ب أنَّ مالَه أخلده } أي‪ :‬يتركه‪ l‬خالداً في الدنيا ال يموت‪ ،‬وهو تعريض بالعمل‬ ‫س ُ‬‫الدهر‪ { ،‬يَ ْح َ‬
‫الصالح‪ ,‬فإنه أخلد صاحبه في النعيم المقيم‪ ،‬فأ َّما المال فما أخلد أحداً‪ ،‬إنما يخلد العلم والعمل‪،‬‬
‫ومنه قول علِ ّي ك ّرم هللا وجه‪( :‬مات ُخ ّزان المال وهم أحياء‪ ,‬والعلماء باقون ما بقي الدهر)‬
‫فالحسبان إ ّما حسبان الخلود في الدنيا أو في اآلخرة‪ ،‬كما قال القائل‪:‬‬
‫{ َولَئِن ُّر ِددتُّ إِلَىا َربِّي‪} ...‬‬
‫[الكهف‪ ]36:‬اآلية‪.‬‬

‫{ كالَّ } ردع له عن حسبانه‪ { .‬لَيُ ْنبَ َذنَّ } ليطرحن { في ُ‬


‫الحطَ َمة } في النار التي من شأنها أن‬
‫الحطَ َمة } تهويل لشأنها‪ { ،‬نا ٌر هللا الموقدة } أي‪ :‬هي‬
‫تحطم ك َّل ما يُلقى فيها‪ { ،‬وما أدراك ما ُ‬
‫نار هللا التي تتقد بأمر هللا وسلطانه‪ { ،‬التي تَطَّلِ ُع على األفئدة } يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى‬
‫تصل إلى صدورهم‪ ،‬وتطلع على أفئدتهم‪ ،‬وهي أوساط القلوب‪ ،‬وال شيء في بدن اإلنسان ألطف‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫سه‪ l،‬فكيف إذا طلعت عليه نار جهنم‪ ،‬واستولت عليه؟‬ ‫من فؤاده‪ ,‬وال أشد تألُّما ً منه بأدنى أذى يم ّ‬
‫خص األفئدة ألنها مواطن الكفر والعقائد الزائغة‪ ،‬ومعنى اطالع النار عليها‪ :‬أنها تشتمل‪l‬‬ ‫ّ‬ ‫وقيل‪:‬‬
‫عليها وتعمها‪.‬‬

‫الحطَ َمة‪ُّ { ،‬م ْؤ َ‬


‫ص َدةٌ } ُمطبقة { في َع َم ٍد } جمع عماد‪ .‬وفيه لغتان "‬ ‫{ إِنها عليهم } أي‪ :‬النار‪ ،‬أو ُ‬
‫ُع ُمد " بضمتين‪ ،‬و " َع َمد " بفتحتين‪ُ { ،‬م َمدَّدة } أي‪ :‬تؤصد عليهم األبواب وتُمدّد على األبواب‬
‫س فَطنٌ ‪ ،‬وقّاف‬
‫العمد‪ ،‬استيثاقا ً في استيثاق‪ ،‬والجار صفة لمؤصدة‪ .‬وفي الحديث‪ " :‬المؤمن َكيِّ ٌ‬
‫متثبّت‪ ،‬ال يعجل‪ ،‬عالم‪ ،‬ورع‪ ،‬والمنافق هُمزة‪ ،‬لُمزة‪ُ ،‬حطَ َمة‪ ,‬كحاطب الليل‪ ،‬ال يُبالي من أين‬
‫اكتسب وفيم أنفق "‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬ويل ل َمن اشتغل بعيب الناس عن عيوب نفسه‪ ،‬قال الورتجبي‪ l:‬ويل الحجاب ل َمن ال يرى‬
‫األشياء بعين المقادير السابقة‪ ،‬حتى يشتغل بالوقيعة في الخلق بالحسد‪ ،‬وهو مقبل على الدنيا‬
‫بالجمع والمنع‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬الذي َج َم َع ماالً وع َّددَه } ذ ٌّم ل َمن يجمع المال ويُعدده‪ ،‬كائنا ً َمن كان‪ ،‬والعجب من‬
‫ص لحاء زماننا‪ ،‬يجمعون القناطير المقنطرة‪ ،‬ويترامون على المقام الكبير من الخصوصية‪ l،‬وما‬ ‫ُ‬
‫هذا إالَّ غلط فاحش‪ ,‬فأين يوجد القلب مع نجاسة الدنيا؟! وكيف يط ُهر وتُشرق فيه األنوار‪،‬‬
‫وصور األكوان منطبعة في مرآته؟! وقد قال بعض العارفين‪ :‬عبادة األغنياء كالصالة على‬
‫المزابل‪ ,‬وعبادة الفقراء في مساجد الحضرة‪ .‬هـ‪ { .‬يحسب أنَّ ماله أخلدهُ } ‪ ،‬أي‪ :‬يبقيه باهلل‪،‬‬
‫ق تعالى الجاه َل باهلل بأنَّ ماله يُصله إلى الحق‪ ،‬ال وهللا‪ ،‬ال يصل‬ ‫صفَ الح ُّ‬ ‫كال‪ .‬قال الورتجبي‪َ :‬و َ‬
‫إلى الحق إالّ بالحق‪ .‬وقال أبو بكر بن طاهر‪ :‬يظن أنَّ مالَه يُوصله إلى مقام الخلد‪ .‬هـ‪ .‬كالَّ‪ ،‬ليُنبذن‬
‫الحطمة التي تحطم كل ما تُصادمه‪ ،‬وهي حب الدنيا‪ ،‬تحطم كل ما يُلقى في القلب من حالوة‬ ‫في ُ‬
‫المعاملة أو المعرفة‪ ،‬فال يبقى معها نور قط‪ ،‬وهي نار هللا الموقدة‪ ،‬التي تَطَّلع على األفئدة‪،‬‬
‫فتُفسد ما فيها من اإليمان والعرفان‪ ،‬إنها عليه مؤصدة‪ ،‬يعني أنَّ الدنيا ُم ْطبقة عليهم‪ ،‬حتى‬
‫صارت أكبر همومهم‪ ،‬ومبلغ علمهم‪ .‬قال الورتجبي‪ l:‬هلل نيران‪ ،‬نار القهر ونار اللطف‪ ،‬نار قهره‪:‬‬
‫إبعاد قلوب المنكرين عن ساحة جالله‪ ،‬ونار لطفه نيران محبته في قلوب أوليائه من المحبين‬
‫والعارفين‪ .‬ثم قال‪ :‬عن جعفر‪ :‬ونيران المحبة إذا اتقدت في قلب المؤمن تحرق كل ه ّمة غير هللا‪،‬‬
‫وكل ِذ ْك ٍر سوى ذكره‪ .‬هـ‪ .‬وباهلل التوفيق‪ ،‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‪.‬‬

‫‪#‬سورة الفيل §‪#‬‬

‫يل } * { َوأَ ْر َ‬
‫س َل َعلَ ْي ِه ْم‬ ‫َضلِ ٍ‬ ‫يل } * { أَلَ ْم يَ ْج َع ْل َك ْي َد ُه ْم فِي ت ْ‬
‫ب ا ْلفِ ِ‬
‫ص َحا ِ‬ ‫*{ أَلَ ْم تَ َر َكيْفَ فَ َع َل َربُّ َك بِأ َ ْ‬
‫ف َّمأْ ُكو ٍل }‬‫ص ٍ‬‫س ِّجي ٍل } * { فَ َج َعلَ ُه ْم َك َع ْ‬ ‫ار ٍة ِّمن ِ‬‫طَ ْيراً أَبَابِي َل } * { ت َْر ِمي ِهم بِ ِح َج َ‬

‫ب الفيل } الخطاب للرسول عليه الصالة‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬ألم تَ َر كيف فَ َع َل ربُّ َك بأصحا ِ‬
‫والسالم‪ ،‬أو لكل سامع‪ ،‬وال َهمزة للتقرير‪ ،‬و " كيف " معلقة لفعل الرؤية‪ ،‬منصوبة بما بعدها‪.‬‬
‫والرؤية‪ l:‬علمية‪ ،‬أي‪ :‬ألم تعلم علما ً ضروريا ً مزاحما ً للمشاهدة والعيان باستماع األخبار‬
‫المتواترة‪ ،‬ومعاينة اآلثار الظاهرة‪ .‬وتعليق الرؤية بكيفية فعله ـ ع ّز وجل ـ ال بنفسه‪ l،‬بأن يُقال‪:‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ألم ت َر ما فعل ر ُّبك لتهويل الحادثة واإليذان بوقوعها على كيفية هائلة‪ ,‬وهيئة‪ l‬عجيبة‪ ،‬دالة على‬
‫ِعظم قدرة هللا ع ّز وجل‪ ،‬وكمال ِعلمه وحكمته‪ ،‬وعزة بيته‪ l،‬وشرف رسوله صلى هللا عليه وسلم‬
‫فإنَّ ذلك ِمن اإلرهاصات له‪ ،‬لِما ُروي أنَّ الوقعة وقعت في السنة التي ُولد فيها صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪.‬‬

‫صبَّاح األشرم‪ ،‬مالك اليمن من ِقبل النجاشي‪ ،‬بنى بصنعاء كنيسة‪l،‬‬ ‫وتفصيلها‪ :‬إنَّ أُبرهة‪ l‬بن ال َ‬
‫سماها القُلَّيس‪ ،‬وأراد أن يصرف‪ l‬إليها الحاج‪ ،‬فخرج رجل من كنانة‪ ،‬فأحدث فيها ليالً‪ ،‬وذكر‬
‫الواقدي‪ :‬أنَّ الرجل لطّخ قبلتها بالعذرة‪ ،‬ورمى فيها الجيف‪ ،‬قال‪ :‬واسمه " نفيل الحضرمي "‬
‫فغضب أبرهة‪ ،‬وحلف ليهدمنّ الكعبة‪ ،‬فخرج من الحبشة‪ ،‬ومعه فيل‪ ،‬اسمه " محمود " وكان‬
‫قويًّا عظيماً‪ ،‬بعثه النجاشي إليه‪ ،‬ومعه اثنا عشر فيالً غيره‪ ،‬وقيل‪ :‬ثمانية‪ l،‬فلما بلغ " ال ُم َغ َ‬
‫مس‬
‫" خرج إليه عبد المطلب‪ ,‬وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع‪ ،‬فأبى وعبّأ جيشه‪ ،‬وقدّم الفيل‪،‬‬
‫فأخذ نفيل بن حبيب بأُذنه‪ ،‬وقال‪ :‬أبرك محمود‪ ،‬فإنك في حرم هللا‪ ،‬وارجع من حيث جئت راشداً‪،‬‬
‫وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من‬ ‫وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح‪ ،‬وإذا َّ‬ ‫فبرك‪ ,‬فكان ُكلما َّ‬
‫الجهات هرول‪ ،‬فأرسل هللاُ عليهم سحابة من الطير خرجت من البحر‪ ،‬مع كل طائر حجر في‬
‫ص ِة‪ ،‬فكان الحج ُر يقع على رأس‬ ‫منقاره‪ ،‬وحجر في رجليه‪ ،‬أكبر من العدسة‪ ،‬وأصغر من الح ّم َ‬
‫ففروا وهلكوا في كل طريق ومنهل‪،‬‬ ‫الرجل‪ ،‬ويخرج من دُبره‪ ،‬وعلى كل حجر اسم َمن يقع عليه‪ُّ ،‬‬
‫و ُر مي أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه‪ ،‬وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه‪ ،‬وانفلت وزيره "‬
‫فقص عليه القصة‪ ،‬فلما أتمها وقع عليه‬ ‫ّ‬ ‫أبو يسكوم " ‪ ،‬وطائر يُحلّق فوقه‪ ،‬حتى بلغ النجاشي‪،‬‬
‫الحجر‪ ،‬فخ ّر ميّتا ً بين يديه‪.‬‬

‫و ُر وي‪ :‬أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير‪ ،‬فخرج إليه في شأنها‪ ،‬فلما رآه أبرهة َعظُ َم في‬
‫عينه‪ ،‬وكان وسيما ً جسيماً‪ ,‬فقيل له‪ :‬هذا سيّد قريش‪ ،‬وصاحب عير م ّكة‪ ،‬الذي يُطعم الناس في‬
‫السهل‪ ،‬والوحوش في رؤوس الجبال‪ ،‬فنزل أبرهة عن سريره‪ ،‬وجلس معه على بساطه‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫أَجلسه معه‪ ،‬وقال لترجمانه‪ :‬قل له‪ :‬ما حاجتك؟ فلما ذكر له حاجته‪ ،‬وهو‪ :‬أن يرد إليه إبله‪ ،‬قال‪:‬‬
‫سقَطت من عيني‪ ،‬جئتُ ألهدم البيت‪ ،‬الذي هو دينك ودين آبائك‪ ،‬و ِعصمتكم‪ ،‬وشرفكم في قديم‬ ‫َ‬
‫رب اإلبل‪ ،‬وإنَّ للبيت ربًّا‬ ‫ُ‬
‫الدهر‪ ،‬ال تكلمني‪ l‬فيه‪ ،‬ألهاك عه ذود أخذت لك؟ فقال عبد المطلب‪ :‬أنا ّ‬
‫يحيمه‪ ،‬قال أبرهة‪ :‬ما كان ليحميه مني‪ ،‬فقال‪ :‬ها أنت وذلك‪.‬‬
‫ثم رجع وأتى باب الكعبة‪ ,‬وأخذ بحلقته‪ ،‬ومعه نفر من قريش‪ ،‬فدعوا هللا ع ّز وجل‪ ،‬فالتفت وهو‬
‫يدعو‪ ،‬فإذا هو بطير من نحو اليمن‪ ،‬فقال‪ :‬وهللا إنها لطير غريبة‪ ،‬ما هي نجدية وال تهامية‪l،‬‬
‫فأرسل حلقة الباب‪ ،‬ثم انطلق مع أصحابه ينظرون ماذا يفعل أبرهة‪ ،‬فأرسل هللا تعالى عليهم‬
‫الطير‪ ،‬فكان ما كان‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬كان أبرهة جد النجاشي‪ ،‬الذي كان في زمن النبي صلى هللا عليه وسلم‪ .‬وعن عائشة‬
‫رضي هللا عنها‪ :‬رأيت قائد الفيل وسائقه أعميَ ْين ُمقعدين يستطعمان‪.‬‬

‫تضليل } بيان إجمالي لما فعل هللاُ بهم‪ ,‬والهمزة للتقرير كما‬
‫ٍ‬ ‫وقوله تعالى‪ { :‬ألم يجعل َك ْي َد ُه ْم في‬
‫سبق‪ ,‬ولذلك عطف على الجملة االستفهامية‪ l‬ما بعدها‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬جعل كيدهم للكعبة وتخريبها‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫في تضييع‪ l‬وإبطال بأن َد َّمرهم أشد تدمير‪ .‬يقال‪ :‬ض ّل كيده‪ ،‬أي‪ :‬جعله ضاالًّ ضائعاً‪ ،‬وقيل المرىء‬
‫القيس‪ :‬الملِك الضلّي ِل؛ ألنه ضيّع ملك أبيه باشتغاله بالهوى‪.‬‬

‫سل عليهم طيراً أبابي َل } أي‪ :‬جماعات تجيء شيئا ً بعد شيء‪ .‬والجمهور‪ :‬أنه ال واحد له‬ ‫{ وأَ ْر َ‬
‫من لفظه‪ ,‬كشماطيط وعبابيد‪ ،‬وقيل‪ :‬واحدها‪ :‬إبّالة‪ .‬قالت عائشة رضي هللا عنها‪ :‬أشبهُ شيء‬
‫بالخطاطيف‪ .‬قال أبو الجوز‪ :‬أنشأها هللا في الهواء في ذلك الوقت‪ ،‬وقال محمد بن كعب‪ :‬طيرد‬
‫سود‪ { .‬ترميهم بحجار ٍة } صفة لطير‪ { ،‬من‬ ‫سود بَحرية‪ ،‬وقيل‪ :‬إنها شبيهة‪ l‬بالوطواط ُح ْمر و ُ‬
‫يل } من طين متحجر مطبوخ مثل اآلجر‪ ،‬قال ابن عباس‪ " :‬أدركت عند أم هاني نحو قفيز‬ ‫س ّج ٍ‬ ‫ِ‬
‫كورق زرع وقع فيه األكل‪ ،‬أي‪ :‬أكلته الدود‪ ،‬أو‪:‬‬
‫مأكول } َ‬
‫ٍ‬ ‫ف‬
‫ص ٍ‬
‫من هذه الحجارة "‪ { .‬فجعلهم ك َع ْ‬
‫َكتِبن أكلته الدواب فراثته‪ ،‬فجمع لهم الخسة والمهانة والتلف‪ ،‬أو‪ :‬كتبن علفته الدواب وشتته‪.‬‬

‫فائدة‪ :‬قال الغزالي عن غير واحد من الصالحين وأرباب القلوب‪ :‬إنه َمن قرأ في ركعتي الفجر في‬
‫األولى بالفاتحة و " ألم نشرح " ‪ ،‬والثانية‪ l‬بالفاتحة و " ألم تر " قَصرت يد ُكل عدو عنه‪ ،‬ولو‬
‫يُجعل لهم إليه سبيالً‪ ,‬قال‪ :‬وهذا صحيح ال شك فيه‪ .‬ذكره في الجواهر‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬قلب العارف هو كعبة الوجود‪ ،‬وهو بيت الرب‪ ،‬وجيوش الخواطر والوساوس تطلب‬
‫تخريبه‪ ،‬فيحميه‪ l‬هللاُ منهم‪ ،‬كما حمى بيتَه‪ l‬من أبرهة‪ ،‬فيقال‪ :‬ألم ت َر أيها السامع كيف فعل ربك‬
‫بأصحاب الفيل‪ ،‬وهم األخالق البهيمية والسبعية‪ l،‬والخواطر الردية‪ ،‬ألم يجعل كيدهم في تضليل‪،‬‬
‫سحقتهم فجعلتهم‬
‫وأرسل عليهم طير الواردات اإللهية‪ ،‬فرمتهم بحجارة األذكار وأنوار األفكار‪ ،‬فأ ْ‬
‫كعصف مأكول‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪ ،‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله‪.‬‬‫ٍ‬

‫‪#‬سورة قريش §‪#‬‬

‫ب هَـا َذا ا ْلبَ ْي ِ‬


‫ت}*‬ ‫ف } * { فَ ْليَ ْعبُدُو ْا َر َّ‬
‫ص ْي ِ‪l‬‬
‫شتَآ ِء َوال َّ‬‫ش } * { إِيالَفِ ِه ْم ِر ْحلَةَ ال ِّ‬
‫ف قُ َر ْي ٍ‬ ‫*{ ِإليالَ ِ‬
‫ف}‬ ‫وع َوآ َمنَ ُهم ِّمنْ َخ ْو ٍ‬ ‫{ الَّ ِذيا أَ ْط َع َم ُهم ِّمن ُج ٍ‬

‫(إليالف)‪ :‬متعلق بقوله‪ " :‬فليعبدوا " ‪ ،‬والفاء ِلما في الكالم من معنى الشرط‪ ،‬إذ المعنى‪:‬‬‫ِ‬ ‫قلت‪:‬‬
‫أنَّ نعم هللا تعالى على قريش غير محصورة‪ ،‬فإن لم يَعبدوا لسائر نِ َعمه فليعبدوا إليالفهم‬
‫الرحلتين‪ ،‬وجاز أن يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها؛ النها زائدة غير عاطفة‪ ،‬ولو كانت عاطفة لم‬
‫يجز التقديم‪ ,‬وقيل‪ :‬يتعلق ب ُمضمر‪ ,‬أي‪ :‬فعلنا من إهالك أصحاب الفيل إليالف قريش‪ ،‬وقيل‪ :‬بما‬
‫قبله من قوله‪:‬‬
‫ْ‬
‫ف َّمأ ُك ٍ‬
‫ول (‪} )5‬‬ ‫{ فَ َج َعلَ ُه ْم َك َع ْ‬
‫ص ٍ‬
‫[الفيل‪ ،]5:‬ويؤيده‪ :‬أنهما في مصحف " أُب ّي " سورة واحدة بال فصل‪ ،‬والمعنى‪ :‬أهلك َمن‬
‫قصدهم ِمن الحبشة‪ l‬ليتسامع الناس بذلك؛ فيتهيبوا لهم زيادة تهيُّب‪ ,‬ويحترموهم فضل احترام‪,‬‬
‫حتى يتنظم لهم األمن في رحلتيهم‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ش } أي‪ :‬فلتعبد قريش رب هذا البيت ألجل إيالفهم‬ ‫يالف قري ٍ‬


‫يقول الحق ج ّل جالله‪ِ { :‬إل ِ‬
‫الرحتلين‪ ،‬وكانت لقريش رحلتان‪ ،‬يرحلون في الشتاء إلى اليمن‪ ،‬وفي الصيف إلى الشام‪،‬‬
‫فيمتارون ويتّجرون‪ ،‬وكانوا في رحلتهم آمنين؛ ألنهم أهل حرم هللا ووالة بيته‪ l‬العزيز‪ ,‬فال‬
‫يُتَع ّر ض لهم‪ ،‬والناس بين مختطف ومنهوب‪ .‬و(اإليالف)‪ :‬مصدر‪ ،‬من قولهم‪ :‬ألفت المكان إيالفا ً‬
‫س ُّموا بتصغير‪ l‬القِ ْرش‪ ،‬وهو‬ ‫وإالفا ً وإلفاً‪ .‬وقريش‪ :‬ولد النضر بن كنانة‪ ،‬وقيل‪ :‬ولد فهر بن مالك‪ُ ،‬‬
‫س ُّموا بذلك لشدتهم‬
‫دابة عظيمة في البَحر‪ ،‬تعبث بالسفن فال تطاق إال بالنار‪ ،‬والتصغير‪ l‬للتفخيم‪ُ ،‬‬
‫سابين بتجارتهم‬ ‫ومنعتهم تشبيها ً بها‪ .‬وقيل‪ِ :‬من القَ ْرش‪ ،‬وهو الجمع والكسب؛ ألنهم كانوا ك ّ‬
‫وضربهم في البالد‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬إِيالفهم رحلةَ الشتا ِء والصيف } بدل من األول‪ ،‬أطلق اإليالف‪ ،‬ثم أبدل منه‬
‫المقيّد بالرحلتين تفخيما ً ألمر اإليالف‪ ،‬وتذكيراً لعظيم هذه النعمة‪ .‬و " رحلة "‪ :‬مفعول بإيالف‪,‬‬
‫وأراد رحلتي الشتاء والصيف‪ ،‬فأفرد ألمن اإللباس‪.‬‬

‫ب هذا البيت الذي أَ ْط َع َمهم } بسبب‪ l‬تينك الرحلتين اللتين تمكنوا منها بواسطة كونهم‬ ‫{ فليعبدوا َر َّ‬
‫جوع } شديد كانوا فيه قبلهما‪ .‬قال الكلبي‪ :‬أول َمن حمل السمراء من الشام‪,‬‬ ‫ٍ‬ ‫من جيرانه‪ { ،‬من‬
‫ورحل إليها‪ :‬هاشم بن عبد مناف‪ .‬هـ‪ .‬ول ّما بعث هللاُ نبيه‪ l،‬الذي هو نبي الرحمة‪ ،‬وأسلمت قريش‪،‬‬
‫الناس من تعب الرحلتين‪ ،‬وجلبت إلى مكة األرزاق من كل جانب‪ ،‬ببركة طلعته صلى هللا‬ ‫َ‬ ‫أراح هللاُ‬
‫عليه وسلم‪ .‬قال مالك بن دينار‪ :‬ما سقطت أُمة من عين هللا إالّ ضرب أكبادهم بالجوع‪ .‬وكان‬
‫عليه الصالة والسالم يقول‪ " :‬اللهم إني أعوذ بك من الجوع‪ ،‬فإنه بئس الضجيع " والمذموم‬
‫هو الجوع المفرط‪ ،‬الذي لم يصحبه‪ l‬في الباطن قوة وال تأييد‪ ،‬وإالَّ فالجوع ممدوح عند الصوفية‪،‬‬
‫أعني الوسط‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬وآمنهم من خوف } أي‪ :‬من خوف عظيم‪ ,‬وهو خوف أصحاب الفيل‪ ،‬أو‪ :‬من‬
‫الجيَف‬
‫خوف الناس في أسفارهم‪ ,‬أو‪ :‬من القحط في بلدهم‪ .‬وقيل‪ :‬كان أصابتهم شدة حتى أكلوا ِ‬
‫والعظام المحرقة‪ ،‬فرفعه هللا عنهم بدعوته صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فهذا معنى‪ { :‬أطعمهم من جوع‬
‫وآمنهم من خوف } ‪ ،‬وقيل‪ :‬الجذام‪ ،‬فال يصيبهم ببلدهم‪ ،‬وذلك بدعاء إبراهيم عليه السالم بقوله‪:‬‬
‫اج َع ْل هَـا َذا بَلَداً آ ِمنا ً }‬
‫ْ‬
‫[البقرة‪ ]126:‬اآلية‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬كما أ َّمن هللاُ أهل بيته أ َّمن أهل نسبته‪ l،‬فال تجد فقيراً متجرداً إالّ آمنا ً حيث ذهب‪ ،‬والناس‬
‫يُختطفون من حوله‪ .‬قلت‪ :‬وقد رأينا هذا األمر عا َم حصر " سالمة " على تطوان‪ ،‬فكان كل َمن‬
‫خرج من تطوان يُنتهب أو يُقتل‪ ،‬ونحن نذهب حيث شئنا آمنين بحفظ هللا‪ ،‬وهذا إذا لبسوا زي‬
‫بعض‬
‫ُ‬ ‫أهل النسبة‪ ،‬من ال ُمرقَّعة والسبحة والعصا‪ ،‬فإن ترك زيَّه وأُخذ فقد ظلم نفسه‪ ،‬وقد ترك‬
‫الفقراء زيَّه‪ ،‬وسافر فتكشّط‪ ,‬فقال له شيخه‪ :‬أنت ف َّرطت‪ ،‬والمفرط أولى بالخسارة‪ .‬هـ‪ .‬ويُقال‬
‫ب هذا البيت‪ ،‬أي‪ :‬بيت الحضرة التي طلبتموها‪ ،‬أو‪ :‬بيت النسبة‪ l‬التي‬ ‫ألهل النسبة‪ l:‬فليعبدوا َر َّ‬
‫خوف حيث‬ ‫ٍ‬ ‫جوع‪ ،‬حيثما توجتهم‪ ،‬مائدتكم منصوبة‪ l،‬وآمنكم من‬
‫ٍ‬ ‫سكنتم فيها‪ ،‬الذي أطعمكم من‬
‫سرتم‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪ ،‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله‪.‬‬ ‫ِ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫‪#‬سورة الماعون §‪#‬‬

‫ض َعلَىا طَ َع ِام ا ْل ِم ْ‬
‫س ِكي ِن }‬ ‫*{ أَ َرأَيْتَ الَّ ِذي يُ َك ِّذ ُ‬
‫ب بِالدِّي ِن } * { فَ َذلِكَ الَّ ِذي يَ ُد ُّع ا ْليَتِي َم } * { َوالَ يَ ُح ُّ‬
‫ساهُونَ } * { الَّ ِذينَ ُه ْم يُ َرآ ُءونَ } *‬ ‫صالَتِ ِه ْم َ‬ ‫صلِّينَ } * { الَّ ِذينَ ُه ْم عَن َ‬ ‫* { فَ َو ْي ٌل لِّ ْل ُم َ‬
‫{ َويَ ْمنَ ُعونَ ا ْل َماعُونَ }‬

‫ب بالدين } استفهام أُريد به تشويق السامع إلى معرفة‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬أرأيت الذي يُ ِّ‬
‫كذ ُ‬
‫َم ن سبق له الكالم والتعجب منه‪ ،‬والخطاب للرسول صلى هللا عليه وسلم أو لكل سامع‪ .‬والرؤية‬
‫بمعنى المعرفة‪ ،‬والفاء في قوله‪ { :‬فذلك الذي يَ ُد ْع اليتي َم }‪ :‬جواب شرط محذوف‪ ،‬والمعنى‪ :‬هل‬
‫كذب بالجزاء أو باإلسالم‪ ،‬فإنْ أردت أن تعرفه فهو الذي يَ ُدعُّ‪ ,‬أي‪ :‬يدفع اليتيم‬ ‫عرفتَ هذا الذي يُ ِّ‬
‫دفعا ً عنيفاً‪ ،‬ويزجره زجراً قبيحاً‪ ،‬قيل‪ :‬هو أبو جهل‪ ،‬كان وصيًّا ليتيم‪ ،‬فأتاه عُريانا ً يسأله ِمن مال‬
‫نفسه فدفعه دفعا ً شديداً‪ ,‬وقيل‪ :‬هو الوليد بن المغيرة‪ ،‬وقيل‪ :‬العاص بن وائل‪ .‬وقيل‪ :‬أبو سفيان‪،‬‬
‫نحر جزوراً فسأله يتي ٌم لحما ً فقرعه بعصاه‪ ،‬وقيل‪ :‬على عمومه‪ .‬وقُرىء‪ " :‬يَدَع " أي‪ :‬يتركه‬
‫ض } أهلَه وغيرهم من الموسرين { على طعام المسكين } فأَولى هو ال‬ ‫ويجفوه‪ { .‬وال يَ ُح ُّ‬
‫يُطعمه‪ ،‬جعل عالمة التكذيب بالجزاء‪ :‬منع المعروف‪ ،‬واإلقدام على أذى الضعيف؛ إذ لو آمن‬
‫بالجزاء‪ ،‬وأيقن بالوعيد‪ ،‬لخشي عقاب هللا وغضبه‪.‬‬

‫صلِّين الذي هم عن صالتهم ساهون } غير مبالين بها‪ { ،‬الذين هم يُراؤون } الناس‬ ‫{ فويل لل ُم َ‬
‫بأعمالهم‪ ،‬ليُمدحوا عليها‪ { ،‬ويمنعونَ الماعونَ } أي‪ :‬الزكاة‪ .‬نزلت في المنافقين؛ ألنهم كانوا‬
‫يسهون عن فعل الصالة‪ ،‬أي‪ :‬ال يُبالون بها‪ ،‬ألنهم ال يعتقدون وجوبها‪.‬‬

‫قال الكواشي عن بعضهم‪ :‬ليس المراد السهو الواقع في الصالة‪ ,‬الذي ال يكاد يخلو منه‪ l‬مسلم‪،‬‬
‫فإنَّ رسو َل هللا صلى هللا عليه وسلم كان يسهو‪ ،‬ويُعضد هذا ما ُروي عن أنس أنه قال‪ :‬الحمد هلل‬
‫الذي لم يقل " في صالتهم " ألنهم ل ّما قال‪ " :‬عن صالتهم " كان المعنى‪ :‬أنهم ساهون عنها‬
‫سهو ترك وقلة مباالة والتفات إليها‪ ,‬ولو قال " في صالتهم " كان المعنى‪ :‬أنّ السهو يعتريهم‬
‫وهم في الصالة‪ ،‬والخلوص من هذا شديد‪ .‬وقيل " عن " بمعنى " في " ‪ ،‬أي‪ :‬في صالتهم‬
‫ساهون‪ .‬ثم قال عن ابن عطاء‪ :‬ليس في القرآن وعيد صعب إالّ وبعده وعيد لطيف‪ ،‬غير قوله‪{ :‬‬
‫فويل للمصلِّين‪ } ..‬اآلية‪ ،‬ذكل الويل ل َمن صالّها بال حضور في قلبه‪ ،‬فكيف ب َمن تركها رأساً؟‬
‫فقيل له‪ :‬ما الصالة؟ فقال‪ :‬االتصال باهلل من حيث ال يعلم إالّ هللا‪ .‬ثم قال الكواشي‪ :‬ومما يدل على‬
‫ش َر َع في الصالة خالصا ً هلل‪ ،‬واعترضه السهو مع تعظيمه‪ l‬للصالة ولشرائع اإلسالم‪ ،‬ليس‬ ‫أنَّ َمن َ‬
‫صعوبة‬ ‫بداخل مع هؤالء‪ :‬أنه وصفهم بقوله‪ { :‬الذين هم يراؤون }‪ .‬ثم قال‪ :‬وفي اجتناب الرياء ُ‬
‫عظيمة‪ ،‬وفي الحديث‪ " :‬الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء‪ ،‬في الليلة الظلماء‪ ،‬على المسح‬
‫األسود " وقال بعضهم‪ :‬هم الذين ال يُخلصون هلل عمالً‪ ،‬وال يُطالبون أنفسهم بحقيقة اإلخالص‪,‬‬
‫وال يَ ِرد عليهم وارد من ربهم يقطعهم عن رؤية الخلق والتزيُّن لهم‪.‬‬
‫ويمنعون الماعُونَ } قيل‪ :‬الماعون‪ :‬كل ما يُرتفق به‪ ،‬كالفأس والماء والنار‪ ،‬ونحوها‪ ،‬أي‪:‬‬
‫الماعون المعروف كله‪ ،‬حتى القِدْر والقصعة‪ ،‬أو‪ :‬ما ال يحل منعه‪ ،‬كالماء والملح والنار‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫و َم ْنع هذه األشياء محظور شرعاً‪ ،‬إذا استعيرت عن ضرورة‪ ،‬وقُ ْبح في المروءة إذا استعيرت في‬
‫غير حال االضطرار‪ .‬قال عكرمة‪ :‬ليس الويل ل َمن منع هذه األشياء‪ ،‬إنما الويل ل َمن جمعها‬
‫فراءى في صالته وسهى عنها‪ ,‬و َمنَع هذه األشياء‪ .‬هـ‪.‬‬

‫قال ابن عزيز‪ :‬الماعون في الجاهلية‪ :‬كل عطية ومنفعة‪ ،‬والماعون في اإلسالم‪ :‬الزكاة‬
‫والطاعة‪ ،‬وقيل‪ :‬هو ما ينتفع به المسلم من أخيه‪ ،‬كالعارية واإلغاثة ونحوهما‪ ،‬وقيل‪ :‬الماعون‪:‬‬
‫الماء‪ ،‬نقله الفراء‪ ،‬وفي البخاري‪ :‬الماعون‪ :‬المعروف كله‪ ،‬أعاله الزكاة‪ ،‬وأدناه عارية المتاع‪.‬‬
‫وهللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬الدين هو إحراز اإلسالم واإليمان واإلحسان‪ ،‬ف َمن جمع هذه الثالث تخلّص باطنه‪ ،‬فكان‬
‫فيه الشفقة والرأفة والكرم والسخاء‪ ،‬وتحقق بمقام اإلخالص‪ ،‬وذاق حالوة المعاملة‪ ,‬وأ ّما َمن لم‬
‫يظفر بمقام اإلحسان فال يخلو باطنه من عُنف وبُخل ودقيق رياء‪ ،‬ربما يصدق عليه قوله تعالى‪:‬‬
‫{ أرأيت الذي يُ ِّ‬
‫كذب بالدين فذلك الذي يَ ُد ُّع اليتيم‪ } ..‬الخ‪ .‬وقال القشيري في قوله تعالى‪ { :‬فويل‬
‫لل ُمصلّين الذين هم عن صالتهم ساهون }‪ :‬يُشير‪ l‬إلى المحجوبين عن أسرار الصالة ودقائقها‪،‬‬
‫الساهين عن شهود مطالعها وطرائقها‪ ,‬الغافلين الجاهلين عن علومها وأحكامها‪ { ،‬الذين هم‬
‫يُراؤون } في أعمالهم وأحوالهم‪ ،‬بنسبتها وإضافتها إلى أنفسهم الظلمانية‪ { ،‬ويمنعون الماعون‬
‫} أي‪ :‬ما يُفيد السالك إلى طريق الحق‪ ،‬من اإلرشاد والنُصح‪ l،‬وانظر عبارته‪ l‬نقلتها بالمعنى‪.‬‬
‫وباهلل التوفيق‪ ،‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله‪.‬‬

‫‪#‬سورة الكوثر §‪#‬‬

‫ص ِّل لِ َربِّكَ َوا ْن َح ْر } * { إِنَّ شَانِئَ َك ُه َو األَ ْبتَ ُر }‬


‫*{ إِنَّآ أَ ْعطَ ْينَا َك ا ْل َك ْوثَ َر } * { فَ َ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬إِنَّا أعطيناك الكوث َر } أي‪ :‬الخير الكثير‪َ ،‬من شرف النبوة الجامعة لخير‬
‫الدارين‪ ،‬والرئاسة العامة‪ ،‬وسعادة الدنيا واآلخرة‪ " ,‬فَ ْوعل " من الكثرة‪ ،‬وقيل‪ :‬هو نهر في‬
‫الجنة‪ ،‬أحلى من العسل‪ ،‬وأشد بياضا ً منَ اللبن‪ ،‬وأبرد من الثلج‪ ،‬وألين من الزبد‪ ،‬حافتاه‪ :‬اللؤلؤ‬
‫ض ٍة عدد نجوم السماء‪ ،‬ال يظمأ َمن شرب منه أبداً‪ ،‬وأول وارديه‪ :‬فقراء‬ ‫والزبرجد‪ ،‬وأوانيه‪ l‬من ف ّ‬
‫المهاجرين‪ ،‬الدنسو الثياب‪ ،‬الشعث الرؤوس‪ ،‬الذي ال يتز ّوجون المنعَّمات‪ ،‬وال يفتح‪ l‬لهم أبواب‬
‫الشُدد ـ أي‪ :‬أبواب الملوك ـ لخمولهم‪ ،‬يموت أحدهم وحاجته تلجلج في صدره‪ ،‬لو أقسم على هللا‬
‫ألب َّره‪ .‬هـ‪.‬‬

‫سره ابن عباس بالخير الكثير‪ ،‬فقيل له‪ :‬إنَّ الناس يقولون‪ :‬هو نهر في الجنة‪ ،‬فقال‪ :‬النهر من‬
‫وف َّ‬
‫ذلك الخير‪ ،‬وقيل‪ :‬هو‪ :‬كثرة أوالده وأتباعه‪ ،‬أو علماء أمته‪ ،‬أو‪ :‬القرآن الحاوي لخيَري الدنيا‬
‫والدين‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ُروي‪ :‬أنّ النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪ " :‬يا رب اتخذت إبراهيم خليالً‪ ،‬وموسى كليماً‪ ،‬فبماذا‬
‫خصصتني؟‪ " l‬فنزلت‪:‬‬
‫{ أَلَ ْم يَ ِجدْكَ يَتِيما ً فَآ َوىا (‪} )6‬‬
‫ق له أالَّ‬
‫وح َّ‬
‫يكتف بذلك‪ُ ،‬‬
‫ِ‬ ‫يكتف بذلك‪ ،‬فنزلت‪ { :‬إِنَّا أعطيناك الكوثر } فلم‬
‫ِ‬ ‫[الضحى‪ ،]6:‬فلم‬
‫يكتفي؛ ألنَّ القناعة من هللا حرمان‪ ،‬والركون إلى الحال يقطع المزيد‪ ،‬فنزل جبري ُل‪ ,‬وقال للنبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ :‬إنَّ هللا تبارك وتعالى يقرئك السالم‪ ،‬ويقول لك‪ :‬إن كنتُ اتخدتُ إبراهيم‬
‫خليالً‪ ،‬وموسى كليماً‪ ،‬فقد اتخذتك حبيباً‪ ،‬فوعزتي وجاللي ألختارن حبيبي على خليلي وكليمي‪،‬‬
‫فسكن صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫والفاء في قوله‪ { :‬فَ َ‬


‫ص ِّل لربك وا ْن َح ْر } لترتيب ما بعدها على ما قبلها‪ ،‬فإنَّ إعطاءه تعالى إياه ـ‬
‫عليه الصالة والسالم ـ ما ذكر من العطية التي لم يُعطها ولن يُعطها أحد من العالمين‪ ،‬مستوجبة‬
‫ي استيجاب‪ ,‬أي‪ :‬فدُم على الصالة لربك‪ ،‬الذي أفاض عليك هذه النِعم الجليلة‪ ،‬التي‬ ‫للمأمور به أ ّ‬
‫ال تُضاهيها نعمة‪ ،‬خالصا ً لوجهه‪ ،‬خالفا ً للساهين المرائين فيها‪ ،‬لتقوم بحقوق شكرها‪ ،‬فإنَّ‬
‫الصالة جامعة لجميع أقسام الشكر‪ { .‬وا ْن َح ْر } البُدن‪ ،‬التي هي خيار أموال العرب‪ ،‬وتصدَّق على‬
‫المحاويج‪ ,‬خالفا ً ل َمن يَ َدعَهم ويمنعهم ويمنع‪ l‬عنهم الماعون‪ ،‬وعن عطية‪ :‬هي صالة الفجر‬
‫وض ُع‬
‫والضحية‪ ،‬وقيل‪ :‬هي جنس الصالة‪ ،‬والنحر ْ‬ ‫َ‬ ‫بج ْم ٍع‪ ،‬والنحر ب ِمنى‪ ،‬وقيل‪ :‬صالة العيد‬ ‫َ‬
‫اليمين على الشمال تحت نحره‪ .‬وقيل‪ :‬هو أن يرفع يديه في التكبير‪ l‬إلى نحره‪ .‬وعن ابن عباس‪:‬‬
‫استقبل القبلة بنحرك‪ ،‬أي‪ :‬في الصالة‪ .‬وقاله الفراء والكلبي‪.‬‬

‫سل‪،‬‬‫{ إِنَّ شَانِئَ َك } أي‪ُ :‬مبغضك كانئا ً َمن كان { هو األ ْبتَ ُر } الذي ال َعقِب له‪ ،‬حيث لم يبق له ن ْ‬
‫وحسن صيتك‪ ,‬وآثار فضلك إلى يوم القيامة‪ ،‬ألنَّ كل َمن‬ ‫وال ُحسن ذكر‪ ،‬وأ ّما أنت فتبقى ذريتك‪ُ ،‬‬
‫يُولد ِمن المؤمنين فهم أوالدك وأعقابك‪ ،‬و ِذ ْكرك مرفوع على المنابر‪ ،‬وعلى لسان كل عالم‬
‫وذاكر‪ ،‬إلى آخر الدهر‪ ،‬يبدأ بذكر هللا‪ ,‬ويُثني بذكرك‪ ،‬ولك في اآلخرة ما ال يندرج تحت البيان‪،‬‬
‫فمثلك ال يقال فيه أبتر‪ ,‬إنما األبتر شانئك ال َم ْنسي في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫س ِّمي‪ l‬النب َّي صلى هللا عليه وسلم حين مات ابنه " عبد هللا‬ ‫قيل‪ :‬نزلت في العاص بن وائل‪ ،‬كان يُ َ‬
‫"‪ :‬أبتر‪ ،‬ووقف مع النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقيل له‪ :‬مع َمن كنت واقفاً؟ فقال‪ :‬مع ذلك‬
‫صنبوراً‪ ،‬ول ّما قَ ِد َم كعب بن األشرف ـ لعنه هللا ـ لمكة‪ ،‬يُح ِّرض‬ ‫األبتر‪ ،‬وكذلك س ّمته‪ l‬قريش أبتر و ُ‬
‫سيِّ ُد أهل المدينة‪l،‬‬
‫سدَانة‪ ،‬وأنت َ‬‫سقاي ِة وال ِّ‬ ‫قريشا ً عليه صلى هللا عليه وسلم قالوا له‪ :‬نحن أهل ال ِّ‬
‫فنحن خير أ ْم هذا الصنبور ال ُم ْنبَتِر من قومه؟ فقال‪ :‬أنتم خير‪ ،‬فنزلت في كعب‪:‬‬
‫ت َوالطَّا ُغو ِ‬
‫ت‪} ..‬‬ ‫ب يُ ْؤ ِمنُونَ بِا ْل ِج ْب ِ‬ ‫{ أَلَ ْم تَ َر إِلَى الَّ ِذينَ أُوتُو ْا نَ ِ‬
‫صيبا ً ِّمنَ ا ْل ِكتَا ِ‬
‫[النساء‪ ،]51:‬اآلية‪ ،‬ونزلت فيهم‪ { :‬إن شانئك هو األبتر }‪.‬‬

‫بخلقه‪ ،‬وكان على قدمه‪ :‬إنَّا أعطيناك الكوثر‪ :‬الخير‬‫اإلشارة‪ :‬يُقال لخليفة الرسول‪ ،‬الذي تَخلَّق ُ‬
‫الكثير‪ ،‬ألنَّ َمن ظفر بمعرفة هللا فقد حاز الخير كله " ماذا فقد َمن وجدك " فَ َ‬
‫ص ّل لربك صالة‬
‫القلوب‪ ،‬وانحر نفسك وهواك‪ ،‬إنَّ شانئك و ُمبغضك هو األبتر‪ ,‬وأ َّما أنت فذكرك دائم‪ ,‬وحياتك ال‬
‫تنقطع‪ ,‬إلنَّ موت أهل التُقى حياة ال فناء بعدها‪ .‬وقال الجنيد‪ :‬إن شانئك هو األبتر‪ ،‬إي‪ :‬المنقطع‬
‫عن بلوغ أمله فيك‪ .‬هـ‪ .‬وصلّى هللا على سيدنا محمد‪ ،‬وآله‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫‪#‬سورة الكافرون §‪#‬‬

‫*{ قُ ْل ياأَيُّ َها ا ْل َكافِ ُرونَ } * { الَ أَ ْعبُ ُد َما تَ ْعبُدُونَ } * { َوالَ أَنتُ ْم عَابِدُونَ َمآ أَ ْعبُ ُد } * { َوالَ أَنَآ‬
‫عَابِ ٌد َّما َعبَدتُّ ْم } * { َوالَ أَنتُ ْم عَابِدُونَ َمآ أَ ْعبُ ُد } * { لَ ُك ْم ِدينُ ُك ْم َولِ َي ِدي ِن }‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬قل يا أيها الكافرون } المخاطَبون كفرة مخصوصون‪َ ،‬علِ َم هللا أنهم ال‬
‫يُؤمنون‪ُ .‬روي أنَّ رهطا ً من صناديد قريش قالوا‪ :‬يا محمد هلم تتبع‪ l‬ديننا ونتبع‪ l‬دينك‪ ،‬تعبد آلهتنا‬
‫سنة‪ ،‬ونعبد إلهك سنة‪ l،‬فإن كان دينك خيراً ش ََر ْكناك فيه‪ ،‬وإن كان ديننا خيراً شركتنا في أمرنا‪،‬‬
‫فقال‪ " :‬معاذ هللا أن نُشرك باهلل غيره " فنزلت‪ ,‬فغدا إلى المسجد الحرام‪ ،‬وفيه المأل من قريش‪،‬‬
‫فقرأها عليهم‪ ،‬فأيسوا‪.‬‬

‫أي‪ :‬قل لهم‪ { :‬ال أ ْعبُ ُد ما تعبدون } فيما يُستقبل؛‪ l‬ألنَّ " ال " إذا دخلت على المضارع خلصته‬
‫لالستقبال‪ ,‬أي‪ :‬ال أفعل في المستقبل‪ l‬ما تطلبونه‪ l‬مني من عبادة آلهتكم‪ { ،‬وال أنتم عابدون ما‬
‫أعب ُد } أي‪ :‬وال أنتم فاعلون في الحال ما أطلب منكم من عبادة إلهي‪ { ،‬وال أنا عابد ما عبدتم }‬
‫أي‪ :‬وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه‪ ،‬ولم يعهد مني‪ l‬عبادة صنم‪ ،‬فكيف يرجى مني‪ l‬في‬
‫اإلسالم؟ { وال أنتم عابدون ما أعب ُد } أي‪ :‬وما عبدتم في وقت من األوقات ما أنا على عبادته‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إنَّ هاتين الجملتين لنفي العبادة حاالً‪ ،‬كما أنَّ األوليين لنفيها استقباالً‪ .‬وإيثار " ما " في‬
‫(ما أعبد) على " من "؛ ألنَّ المراد هو الوصف‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬ما أعبد من المعبود العظيم الشأن‬
‫الذي ال يُقادر قدر عظمته‪ .‬وقيل " ما " مصدرية‪ l،‬أي‪ :‬ال أعبد عبادتكم‪ ،‬وال تعبدون عبادتي‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬األوليان بمعنى " الذي " ‪ ،‬واألخريان مصدريتان‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬لكم دين ُكم َ‬


‫ولي ِدي ِن } تقرير لِما تقدّم‪ ،‬والمعنى‪ :‬إنَّ دينكم الفاسد‪ ،‬الذي هو‬
‫اإلشراك‪ ،‬مقصور عليكم‪ ،‬ال يتجاوزه إلى الحصول ل ّي‪ ،‬كما تطمعون فيه‪ ،‬فال تُعلِّقوا به أطماعكم‬
‫الفارغة‪ ،‬فإنَّ ذلك من المحاالت‪ ،‬كما أنَّ ديني الحق ال يتجاوزني إليكم‪ِ ،‬لما سبق لكم من الشقاء‪.‬‬
‫والقصر المستفاد من تقديم المسند قصر إفراد حتماً‪ .‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬إذا طلبت العامةٌ المري َد بالرجوع‪ ،‬إلى الدنيا واالشتغال بها‪ ،‬يُقال له‪ :‬قل يا أيها‬
‫الكافرون بطريق التجريد‪ ،‬والتي هي سبب حصول التوحيد والتفريد‪ ،‬ال أعب ُد ما تعبدون من الدنيا‬
‫وحظوظها‪ ،‬أي‪ :‬ال أرجع إليها فيما يُستقبل‪ l‬من الزمان‪ ،‬وال أنتم عابدون ما أعب ُد من إفراد الحق‬
‫بالمحبة والعبادة‪ ،‬أي‪ :‬ال تقدرون على ذلك‪ ،‬وال أنا عابد ما عبدتم من الدنيا في الحال‪ ،‬لكم دينكم‬
‫ولي ديني المبني‪ l‬على التعلُّق بمسبِّب‪ l‬األسباب‪ ،‬أو لكم دينكم المكدّر‬
‫المبني‪ l‬على تعب األسباب‪َ ،‬‬
‫بالوساوس والخواطر واألوهام‪ ،‬ولي ديني الخالص الصافي‪ ،‬المبني على تربية‪ l‬اليقين‪ ،‬أو‪ :‬لكم‬
‫دينكم المبني‪ l‬على االستدالل‪ ،‬ولي ديني المبني على العيان‪ .‬أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل‬
‫الشهود والعيان‪ ،‬كما قال الشاذلي رضي هللا عنه‪ .‬وباهلل التوفيق‪ ،‬وصلّى هللا على سيدنا محمد‬
‫وآله‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫‪#‬سورة النصر §‪#‬‬

‫اس يَد ُْخلُونَ فِي ِدي ِن هَّللا ِ أَ ْف َواجا ً } * { فَ َ‬


‫سبِّ ْح بِ َح ْم ِد‬ ‫ص ُر هَّللا ِ َوا ْلفَ ْت ُح } * { َو َرأَيْتَ النَّ َ‬
‫*{ إِ َذا َجآ َء نَ ْ‬
‫ستَ ْغفِ ْرهُ إِنَّهُ َكانَ تَ َّوابا ً }‬
‫َربِّكَ َوا ْ‬

‫ص ُر هللاِ } " إذا " ظروف لِما يُستقبل‪ ,‬والعامل فيه‪ { :‬فسبِّح }‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬إِذا جاء نَ ْ‬
‫‪ ،‬والنصر‪ :‬اإلعانة واإلظهار على العد ّو‪ ،‬والفتح‪ :‬فتح مكة‪ ،‬أو فتح البالد‪ ,‬واإلعالم بذلك قبل‬
‫الوقوع من أعالم النبوة‪ ،‬إذا قلنا نزلت قبل الفتح‪ ،‬وعليه األكثر‪ ،‬والمعنى‪ :‬إذا جاءك نصر‪ l‬هللا‪،‬‬
‫وظَ َه ْرتَ على العرب‪ ،‬وفتح عليك مكة أو سائر بالد العرب‪ ،‬فَأ َ ْكثِر من التسبيح واالستغفار‪ ،‬تأهُّبا ً‬
‫للقاء أو شكراً على النِعم‪ ،‬والتعبير عن حصول الفتح بالمجيء لإليذان بأنّ حصوله على جناح‬
‫الوصول عن قريب‪.‬‬

‫النبي صلى هللا عليه وسلم ثمانين‬


‫ُّ‬ ‫وقيل‪ :‬نزلت أيام التشريق ب ِمن ًى في حجة الوداع‪ ،‬وعاش بعدها‬
‫يوماً‪ ،‬فكلمة (إذا) حينئذ باعتبار أنَّ بعض ما في حيزها ـ أعني‪ :‬رؤية دخول الناس أفواجا ً ـ غير‬
‫ش ٍر من شهر رمضان‪ ،‬سنة ثمان‪ ،‬ومع النبي صلى هللا عليه وسلم‬ ‫منقض بعدُ‪ .‬وكان فتح مكة ل َع ْ‬
‫عشرة آالف من المهاجرين واألنصار وطوائف العرب‪ ،‬وأقام بها خمس عشرة ليلة‪ .‬وحين دخلها‬
‫وقف على باب الكعبة‪ ،‬ثم قال‪ " :‬ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬صدق وعده‪ ،‬ونصر عبده‪،‬‬
‫األحزاب وحده " ‪ ،‬ثم قال‪ " :‬يا أهل مكة؛ ما ترون إني فاعل بكم؟ " قالوا‪ :‬خيراً‪ ،‬أخ‬
‫َ‬ ‫و َه َزم‬
‫كريم‪ ،‬وابن أخ كريم‪ ،‬قال‪ " :‬اذهبوا فأنتم الطُلقاء " فأعتقهم رسو ُل هللا صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫سمي أهل مكة الطُلقاء‪ ،‬ثم‬‫وقد كان هللا تعالى أمكنه من رقابهم عنوة‪ ،‬وكانوا لهم فيئاً‪ ،‬ولذلك ُ‬
‫بايعوه على اإلسالم‪ ،‬ثم خرج إلى هوازن‪.‬‬

‫الناس } أي‪ :‬أبصرتهم‪ ،‬أو علمتهم { يدخلون في دي ِن هللا } أي‪ :‬ملة‬ ‫َ‬ ‫ثم قال تعالى‪ { :‬ورأيتَ‬
‫اإلسالم‪ ،‬التي ال دين يُضاف إليه تعالى غيرها‪ .‬والجملة على األول‪ :‬حال من " الناس " ‪ ،‬وعلى‬
‫الثاني‪ :‬مفعول ثان لرأيت‪ ،‬و { أفواجا ً } حال من فاعل " يدخلون " أي‪ :‬يدخلون جماعة بعد‬
‫جماعة‪ ،‬تدخل القبيلة بأسرها‪ ،‬والقوم بأسرهم‪ ،‬بعدما كانوا يدخلون واحداً واحداً‪ ،‬وذلك أنَّ‬
‫العرب كانت تقول‪ :‬إذا ظفر محم ٌد بالحرم ـ وقد كان آجرهم هللا من أصحاب الفيل ـ فليس لكم به‬
‫ش ٌر كثير‪ ،‬فكان معه‬ ‫يدان‪ ،‬فلما فُتحت مكة جاؤوا لإلسالم أفواجا ً بال قتال‪ ،‬فقد أسلم بعد فتح مكة بَ َ‬
‫في غزوة تبوك سبعون ألفاً‪ .‬وقال أبو محمد بن عبد البر‪ :‬لم يمت رسو ُل هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫وفي العرب كافر‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إنَّ عدد المسلمين عند موته‪ :‬مائة ألف وأربعة عشر ألفاً‪ .‬هـ‪.‬‬

‫سبِّح بحمد ربك } أي‪ :‬قل سبحان هللا‪ ،‬حامداً له‪ ،‬أو‪ :‬فص ّل‬ ‫فإذا رأيتَ ما ذكر من النصر والفتح { فَ َ‬
‫له { واستغفره } تواضعا ً وهضما ً للنفس‪ ،‬أو‪ُ :‬د ْم على االستغفار‪ { ،‬إِنه كان } ولم يزل { توابا ً }؛‬
‫كثير القبول للتوبة‪.‬‬
‫روت عائشةُ رضي هللا عنها أنَّ النب ّي صلى هللا عليه وسلم‪ :‬لَ ّما فتح مكة‪ ،‬وأسلمت العرب‪ ،‬جعل‬
‫يُكثر أن يقول‪ " :‬سبحانك اللهم وبحمدك‪ ،‬وأستغفرك وأتوب إليك‪ ،‬يتأ ّول القرآن " يعني في هذه‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫السورة‪ .‬وقال لها مرة‪ " :‬ما أراه إالَّ حضور أجلي " ‪ ،‬وتأ َّوله العباس وعمر رضي هللا عنهما‬
‫بذلك بمحضره صلى هللا عليه وسلم فصدّقهما‪ ،‬ونزع هذا المنزع ابن عباس وغيره‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬إذا جاءتك أيها المريد نصر هللا لك‪ ،‬بأن ق ّواك على خرق عوائد نفسك‪ ،‬وأظفرك بها‬
‫الناس يدخلون في طريق هللا‬
‫َ‬ ‫(والفتح) وهو دخول مقام الفناء‪ ،‬وإظهار أسرار الحقائق‪ ,‬ورأيت‬
‫أفواجاً‪ ،‬فسبّح بحمد ربك‪ ،‬أي‪ :‬ن ّزه ربك عن رؤية الغيرية واألثنينية‪ l‬في ملكه‪ ،‬واستغفره من‬
‫رؤية وجود نفسك‪ .‬قال القشيري‪ :‬ويقال النصر من هللا بأن أفناه عن نفسه‪ ،‬وأبعد عنه أحكام‬
‫البشرية‪ l،‬وصفّاه من الكدورات النفسانية‪ ،‬وأ ّما الفتح فهو‪ :‬أن رقَّاه إلى محل الدنو‪ ،‬واستخلصه‬
‫بخصائص الزلفة‪ ،‬وألبسه لباس الجمع‪ ،‬وع ّرفه من كمال المعرفة ما كان جميع الخلق متعطشا ً‬
‫إليه‪ .‬هـ‪ .‬وقال الورتجبي‪( l‬فَ َ‬
‫سبِّح بحمد ربك) أي‪ :‬سبِّحه بحمده ال بك‪ ،‬أي‪ :‬فسبِّحه بالحمد الذي‬
‫حمد به نفسه‪ ،‬واستغفِره من حمدك وثنائك وجميع أعمالك وعرفانك‪ ،‬فإنّ الكل معلول؛ إذ وصف‬
‫الحدثان ال يليق بجمال الرحمن‪ ،‬إنه كان قابل التوب من العجز عن إدراك كنه قدسه‪ ،‬واالعتراف‬
‫بالجهل عن معرفة حقيقة وجوده‪ .‬هـ‪ .‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله‪.‬‬

‫‪#‬سورة المسد §‪#‬‬

‫صلَىا نَاراً َذاتَ لَ َه ٍ‬


‫ب}*‬ ‫سيَ ْ‬
‫ب}*{ َ‬ ‫َب } * { َمآ أَ ْغنَىا َع ْنهُ َمالُهُ َو َما َك َ‬
‫س َ‬ ‫*{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَ َه ٍ‬
‫ب َوت َّ‬
‫س ٍد }‬‫ب } * { فِي ِجي ِدهَا َح ْب ٌل ِّمن َّم َ‬ ‫{ َوا ْم َرأَتُهُ َح َّمالَةَ ا ْل َحطَ ِ‬

‫ب } هو عبد العزى بن عبد المطلب‪،‬‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬تَبَّتْ } ‪ ،‬أي‪ :‬هلكت { يَدَا أبي له ٍ‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وإيثار لفظ التباب على الهالك‪ ،‬وإسناده إلى يديه‪ l،‬لِما ُروي‬ ‫ِ‬ ‫عم‬
‫أنه ل ّما نزل‪:‬‬
‫يرتَكَ األَ ْق َربِينَ (‪} )214‬‬ ‫{ َوأَن ِذ ْر ع ِ‬
‫َش َ‬
‫[الشعراء‪ ]214:‬رقى رسو ُل هللا صلى هللا عليه وسلم الصفا‪ ،‬وقال‪ " :‬يا صباحاه " فاجتمع إليه‬
‫الناس من كل أوب‪ ،‬فقال‪ " :‬يابني عبد المطلب! يابني فهر! أرأيتم إن أخبرتكم أنَّ بسفح هذا‬ ‫ُ‬
‫ب شدي ٍد " فقال أبو‬ ‫الجبل خيالً أكنتم مصدقي؟ " قالوا نعم‪ ،‬قال‪ " :‬فإني نذير لكم بين ْ‬
‫يدي عذا ٍ‬
‫لهب‪ :‬تبًّا لك سائر اليوم‪ ،‬ما دعوتنا إالّ لهذا؟ وأخذ حجراً ليرميه‪ l‬به عليه الصالة والسالم‪،‬‬
‫َب } اي‪ :‬وهلك كله‪ ،‬وقيل‪ :‬المراد باألول‪ :‬هالك جملته‪،‬‬ ‫فنزلت‪ ،‬أي‪ :‬خسرت يدا أبي لهب { وت َّ‬
‫كقوله‪:‬‬
‫{ بِ َما قَ َّد َمتْ يَدَاكَ }‬
‫َب "‪ :‬وكان ذلك وحصل‪ ،‬ويؤيده قراءة ابن مسعود " وقد تب "‪ .‬وذكر‬ ‫[الحج‪ .]10:‬ومعنى " وت َّ‬
‫كنيته للتعريض بكونه جهنميًّا‪ ،‬الشتهاره بها‪ ،‬ولكراهة اسمه القبيح‪ .‬وقرأ المكي بسكون الهاء‪،‬‬
‫تخفيفاً‪.‬‬

‫ي‬
‫ب } أي‪ :‬لم يُغن حين ح ّل به التباب‪ ،‬على أنّ " ما " نافية‪ ،‬أو‪ :‬أ ّ‬ ‫{ ما أَ ْغنَى عنه مالُه وما َك َ‬
‫س َ‬
‫شيء أغنى عنه‪ ،‬على أنها استفهامية في معنى اإلنكار‪ ،‬منصوبة‪ l‬بما بعدها‪ ،‬أي‪ :‬ما أغنى عنه‬
‫أصل ماله وما كسب به من األرباح والمنافع‪ ،‬أو‪ :‬ما كسب من الوجاهة واألتباع‪ ،‬أو‪ :‬ماله‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫الموروث من أبيه والذي كسبه بنفسه‪ ،‬أو‪ :‬ما كسب من عمله الخبيث‪ ،‬الذي هو كيده في عداوته‬
‫عليه الصالة والسالم‪ ،‬أو‪ :‬عمله الذي ظنّ أنه منه على شيء‪ ،‬لقوله تعالى‪:‬‬
‫{ َوقَ ِد ْمنَآ إِلَىا َما َع ِملُو ْا ِمنْ َع َم ٍل فَ َج َع ْلنَاهُ َهبَآ ًء َّمنثُوراً (‪} )23‬‬
‫[الفرقان‪ ،]23:‬وعن ابن عباس‪ " :‬ما كسب ولده " ‪ُ ،‬روي أنه كان يقول‪ :‬إن كان ما يقول ابن‬
‫أخي حقًا فأنا أفدي منه‪ l‬نفسي بمالي وولدي‪ ،‬فاستخلص منه‪ ،‬وقد خاب مرجاه‪ ،‬وما حصل ما‬
‫تمناه‪ ,‬فافترس ولده " عُتبة " أس ٌد في طريق الشام‪ ،‬وكان صلى هللا عليه وسلم دعا عليه‬
‫بقوله‪ " :‬اللهم سلط عليه كلبا ً من كالبك " وهلك هو نفسه بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال‪،‬‬
‫الناس مخالفةَ العدوى‪ ،‬وكانوا يخافون منها كالطاعونن فبقي ثالثا ً حتى تغيّر‪ ،‬ثم‬ ‫ُ‬ ‫فاجتنبه‬
‫استأجروا بعض السودان‪ ،‬فحملوه‪ ,‬ودفنوه‪ ،‬فكان عاقبته‪ l‬كما قال تعالى‪:‬‬

‫ب } أي‪ :‬ناراً عظيمة‬ ‫يصلى ناراً } أي‪ :‬سيدخل ال محالة بعد هذا العذاب األجل ناراً { ذاتَ له ٍ‬ ‫س ْ‬ ‫{ َ‬
‫صا في أنه ال يؤمن أبداً‪ ،‬فيكون‬ ‫ذات اشتعال وتوقُّد‪ ،‬وهي نار جهنم‪ .‬قال أبو السعود‪ :‬وليس هذا ن ًّ‬
‫ص ْلي النار غير مختص بالكفار‪ ،‬فيجوز أن يُفهم من هذا أنَّ‬ ‫مأموراً بالجمع بين النقيضين‪ ،‬فإنَّ َ‬
‫دخوله النار لفسقه ومعاصيه‪ ,‬ال لكفره‪ ،‬فال اضطرار إلى الجواب المشهور‪ ،‬من أنّ ما كلفه هو‬
‫اإليمان بجميع ما جاء به النبي صلى هللا عليه وسلم إجماالً‪ ،‬ال اإليمان بما نطق به القرآن‪ ،‬حتى‬
‫يلزم أن يكلف اإليمان بعدم إيمانه المستمر‪l.‬‬
‫صلى " لمكان الفعل‪ .‬وهي أم جميل بنت حرب‪ ،‬أخت أبي‬ ‫وامرأتُه }‪ :‬عطف على المستكن في " يَ ْ‬
‫سفيان‪ ،‬وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعد‪ ،‬فتنثرها بالليل في طريق النبي‪ ،‬وكان‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم يطؤه كما يطأ الحرير‪ .‬وقيل كانت تمشي بالنميمة‪ l،‬ويقال ل َمن يمشي‪l‬‬ ‫ُّ‬
‫بالنميمة ويُفسد بين الناس‪ :‬يحمل الحطب بينهم‪ ،‬أي‪ :‬يُوقد بينهم النار‪ ،‬وهذا معنى قوله‪:‬‬
‫ب } بالنصب على الذم والشتم‪ ،‬أو‪ :‬الحالية‪ ،‬بناء على أنَّ اإلضافة غير حقيقية‪،‬‬ ‫{ ح ّمالةَ الحط ِ‬
‫لوجوب تنكير الحال‪ ،‬وقيل‪ :‬المراد‪ :‬أنها تحمل يوم القيامة حزمة من حطب جهنم كالزقوم‬
‫والضريع‪ .‬وعن قتادة‪ :‬أنها مع كثرة مالها كانت تحمل الحطب على ظهرها‪ ،‬لشدة بُخلها‪ ،‬فعيرت‬
‫بالبخل‪ ،‬فالنصب حينئذ على الذم حتماً‪ .‬و َمن رفع فخبر عن " امرأته " ‪ ،‬أو‪ :‬خبر عن مضمر‪l‬‬
‫متوقف على ما قبله‪ .‬وقُرىء " و ُم َريَّتُه‪ " l‬فالتصغير للتحقير‪ { ،‬في ِجي ِدها } في عُنقها { َح ْب ٌل‬
‫ليف كان‪ ,‬وقيل‪:‬‬ ‫سد } والمسد‪ :‬الذي فُتل من الحبال فتالً شديداً‪ ,‬من ليف ال ُم ْقل أو من أي ٍ‬ ‫من َم َ‬
‫من لحاء شجر باليمن‪ ،‬وقد يكون من جلود اإلبل وأوبارها‪.‬‬

‫قال األصمعي‪ :‬صلّى أربعة من الشعراء خلف إمام اسمه " يحيى " فقرأ‪ " :‬قل هو هللا أحد "‬
‫فتعتع فيها‪ ،‬فقال أحدهم‪:‬‬

‫في قل هو هللا أحد‬ ‫أكثَ َر يَ ْحيى غلطا‬


‫وقال الثاني‪:‬‬

‫حتى إذا أعيا سجد‬ ‫قام طويالً ساكتا ً‬


‫وقال الثالث‪:‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫زحي َر ُح ْبلى بوتد‬ ‫ْ‬


‫يز َح ُر في محرابه‬
‫وقال الرابع‪:‬‬

‫بحبل من مسد‬
‫ٍ‬ ‫ش ّد‬
‫ُ‬ ‫كـأنمـا لسانـه‬
‫والمعنى‪ :‬في جيدها حبل مما ُمسد من الحبال‪ ،‬وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك‪ ،‬وتربطها في‬
‫جيدها‪ ،‬كما يفعل الحطّابون‪ ،‬تحقيراً لها‪ ،‬وتصويراً لها‪ ،‬بصورة بعض الحطّابات‪ ،‬لتجزع من‬
‫ذلك‪ ,‬ويجزع بعلُها‪ ،‬وهما من بيت الشرف والع ّز‪.‬‬

‫ُروي أنها ل ّما نزلت فيها اآلية أتت بيتَه صلى هللا عليه وسلم‪ ,‬وفي يدها حجر‪ ،‬فدخلت على النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ومعه الصدّيق‪ ،‬فأعماها هللاُ عن رسول صلى هللا عليه وسلم ولم ت َر إالّ‬
‫الصدّيق‪ ،‬قالت‪ :‬أين محمد؟ بلغني أنه يهجوني‪ l،‬لئن رأيته ألضربن فاه بهذا الفِهر‪ .‬هـ‪ .‬ومن أين‬
‫الشمس مقلةٌ عمياء‪ ،‬وقيل‪ :‬هو تمثيل وإشارة لربطها بخذالنها عن الخير‪ ،‬ولذلك عظم‬
‫َ‬ ‫ترى‬
‫حرصها على التكذيب والكفر‪ .‬قال ُمرة الهمداني‪ :‬كانت أم جميل تأتي كل يوم بحزمة من حسك‪،‬‬
‫فتطرحها في طريق المسلمين‪ ،‬فبينما هي ذات ليلة حاملة حزمة أعيت‪ ،‬فقعدت على حجر‬
‫لتستريح‪ l،‬فجذبها الملك من خلفها بحبلها فاختنقت‪ ،‬فهلكت‪ .‬هـ‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬إنما تبّت يدا أبي لهب‪ ،‬وخسر‪ ،‬وافتضح في القرآن على مرور األزمان‪ ،‬ألنه أول َمن‬
‫أظهر الكفر واإلنكار‪ ،‬فكان إمام المن ِكرين‪ ،‬فكل َمن بادر باإلنكار على أهل الخصوصية انخرط في‬
‫سلك أبي لهب‪ ,‬ال يُغني عنه مالُه وما كسب‪ ,‬وسيصلى نا َر القطيعة والبُعد‪ ,‬ذات احتراق ولهب‪،‬‬
‫وامرأته‪ ،‬اي‪ :‬نفسه‪ ،‬ح ّمالة حطب األوزار‪ ،‬في جيدها حبل من مسد الخذالن‪ .‬وباهلل التوفيق‬
‫وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله‪.‬‬

‫‪#‬سورة اإلخالص §‪#‬‬

‫ص َم ُد } * { لَ ْم يَلِ ْد َولَ ْم يُولَ ْد } * { َولَ ْم يَ ُكنْ لَّهُ ُكفُواً أَ َح ٌد }‬


‫*{ قُ ْل ه َُو هَّللا ُ أَ َح ٌد } * { هَّللا ُ ال َّ‬

‫قلت‪ { :‬هو } ضمير الشأن مبتدأ‪ ،‬والجملة بعده خبر‪ ،‬وال تحتاج إلى رابط‪ ,‬ألنها نفس المبتدأ‪،‬‬
‫فإنها عين الشأن الذي عبّر عنه بالضمير‪ ،‬ورفعه من غير عائد يعود عليه؛ لإليذان بأنه الشُهرة‬
‫والنباهة بحيث يستحضرة‪ l‬ك ُّل أحد‪ ،‬وإليه يُشير كل ُمشير‪ l,‬وعليه يعود كل ضمير‪ ،‬كما يُنبىء عنه‬
‫اسم الشأن‪ ,‬الذي هو القصد‪ .‬والسر في تصدير الجملة به للتنبيه من أول األمر على فخامة‬
‫تحقيق وتقرير‪ ،‬فإنَّ الضمير ال يُفهم منه من أول‬‫ٍ‬ ‫مضمونها‪ ,‬وجاللة حيزها‪ ،‬مع ما فيه من زيادة‬
‫األمر إالّ شأن مبهم‪ ،‬له خطر جلي ٍل‪ ،‬فيبقى الذهن مترقبا ً ِلما أمامه مما يفسره ويزيل‪ l‬إبهامه‪،‬‬
‫فيتمكن عند وروده له فضل تم ُّكن‪ .‬وكل جملة بعد خبره مق ِّرره لِما قبلها على ما يأتي‪.‬‬

‫صفْ لنا ربك الذي تدعونا إليه‪ ،‬وانسبه؟‪l‬‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله مجيبا ً للمشركين لَ ّما قالوا‪ِ :‬‬
‫فسكت عنهم صلى هللا عليه وسلم فنزلت‪ ،‬أو اليهود‪ ،‬لَ ّما قالوا‪ِ :‬‬
‫صفْ لنا ربك وانسبه‪ ،‬فإنه‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫سبَها‪ ،‬فارتعد رسو ُل هللا صلى هللا عليه وسلم حتى َخ ّر مغشيًّا عليه‪،‬‬
‫صفَ نفسه في التوراة ونَ َ‬
‫َو َ‬
‫فنزل جبري ُل عليه السالم بالسورة‪ .‬ويمكن أن تنزل مرتين كما تقدّم‪.‬‬

‫أح ٌد } ال‬
‫فقال ج ّل جالله‪ { :‬قل هو هللاُ } المعبود بالحق‪ ،‬الواجب الوجود‪ ،‬المستحق للكماالت { َ‬
‫صى‪،‬‬‫شريك له في ذاته‪ ،‬وال في صفاته‪ ،‬وال في أفعاله‪ ،‬ال يتب ّعض وال يتج ّزأ‪ ,‬وال يُحد‪ ،‬وال يُح َ‬
‫أول بال بداية‪ ،‬وآخر بال نهاية‪ ،‬ظاهر بالتعريف لكل أحد‪ ،‬باطن في ظهوره عن كل أحد‪.‬‬

‫وأصل { أحد } هنا " َو َحد " فأبدلت الواو همزة‪ ،‬وليست كأحد‪ ,‬المالزم للنفي‪ ،‬فإنَّ همزة أصلية‪.‬‬
‫ووصفه تعالى بالوحدانية‪ l‬له ثالث معان‪ ،‬األول‪ :‬أنه ال ثاني له‪ ،‬فهو نفي للعدد‪ ،‬واآلخر‪ :‬أنه‬
‫واحد ال نظير له وال شريك له‪ ،‬كما تقول‪ :‬فالن واحد عصره‪ ،‬أي‪ :‬ال نظير له‪ ،‬الثالث‪ :‬أنه واحد‬
‫ال ينقسم وال يتب ّعض‪ .‬واألظهر أن المراد هنا‪ :‬نفي الشريك‪ ،‬لقصد الرد على المشركين‪ .‬انظر ابن‬
‫جزي‪.‬‬

‫{ هللاُ الصم ُد } وهو فَ َع ٌل بمعنى مفعول‪ ،‬من‪ :‬صمد إليه‪ :‬إذا قصده‪ ،‬أي‪ :‬هو السيّد المصمود إليه‬
‫في الحوائج‪ ،‬المستغني بذاته عن كل ما سواه‪ ،‬المفتقِر إليه ك ُّل ما عداه‪ ،‬افتقاراً ضروريا ً في كل‬
‫لحظة‪ ،‬إذ ال قيام لألشياء إالّ به‪ .‬أو الصمد‪ :‬الدائم الباقي الذي لم يزل وال يزال‪ ،‬أو‪ :‬الذي يفعل ما‬
‫يشاء ويحكم ما يريد‪ ،‬والذي يُ ْط ِعم وال يُ ْط َعم وال يأكل وال يشرب‪ ،‬أو‪ :‬الذي ال جوف له‪ ،‬وتعريفه‬
‫لعلمهم بصمديته‪ ،‬بخالف أحديته‪l.‬‬

‫وتكرير االسم الجليل‪ ،‬لإلشعار بأنَّ َمن لم يتصف بذلك فهو بمعز ٍل عن استحقاق األلوهية‪،‬‬
‫والتلذذ بذكره‪ .‬وتعرية الجملة عن العاطف‪ ،‬ألنها كالنتيجة عن األولى‪ ،‬بيَّن أوالً ألوهيته ع ّز‬ ‫ُّ‬
‫وجل‪ ،‬المستوجبة‪ l‬لجميع نعوت الكمال‪ ،‬ثم أحديته‪ l‬الموجبة لتن ّزهه عن شائبة التعدد والتركيب‬
‫بوج ٍه من الوجوه‪ ،‬وتوهم المشاركة في الحقيقة وخواصها‪ ,‬ثم صمديته المقتضية الستغنائه‬
‫الذاتي عما سواه‪ ،‬وافتقار المخلوقات إليه في وجودها وبقائها وسائر أحوالها‪ ،‬تحقيقا ً للحق‪,‬‬
‫وإرشاداً إلى التعلُّق بصمديته تعالى‪.‬‬
‫ثم ص ّرح ببعض أحكام مندرجة تحت األحكام السابقة‪ ،‬فقال‪ { :‬لم يل ْد } أي‪ :‬لم يتولد عن شيء‪،‬‬
‫ر ًّدا على المشركين‪ ،‬وإبطاالً العتقادهم في المالئكة والمسيح‪ l،‬ولذلك ورد النفي على صيغة‬
‫الماضي‪ ،‬أي‪ :‬لم يصدر عنه ولد؛ ألنه ال يُجانسه شيء يمكن أن يكون له من جنسه صاحبة‬
‫ليتوالدا‪ ،‬كما ينطق به قوله تعالى‪:‬‬
‫احبَةٌ }‬
‫ص ِ‬‫{ أَنَّىا يَ ُكونُ لَهُ َولَ ٌد َولَ ْم تَ ُكنْ لَّهُ َ‬
‫[األنعام‪ ،]101:‬وال يفتقر إلى ما يُعينه‪ l‬أو يخلفه؛ الستحالة الحاجة عليه‪ ،‬لصمدانيته وغناه‬
‫المطلق‪.‬‬

‫{ ولم يُول ْد } أي‪ :‬لم يتولد عن شي ٍء‪ ،‬ال ستحالة نسبة‪ l‬العدم إليه سابقا ً والحقاً‪ .‬والتصريح به مع‬
‫كونهم معترفين بمضمونه لتقرير ما قبله وتحقيقه‪ ,‬ولإلشارة إلى أنهما متالزمان‪ ،‬إذ المعهود أنَّ‬
‫ما يلد يولد‪ ،‬وما ال فال‪ ،‬و ِمن قضية االعتراف بأنه لم يلد‪ :‬االعتراف بأنه لم يُولد‪ { ،‬ولم يكن له‬
‫ُكفُواً َ‬
‫أح ٌد } أي‪ :‬ولم يكن أحد مماثالً له وال مشاكالً‪ِ ،‬من صاحبة أو غيرها‪ .‬و(له)‪ :‬متعلق بـ "‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ُكفُواً " ‪ ،‬قدمت عليه لالهتمام بها؛ ألنَّ المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى‪ ،‬وأ ّما تأخير اسم‬
‫الجمل َغنِي عن البيان‪.‬‬
‫كان فلمراعاة الفواصل‪ .‬ووجه الوصل في هذه ُ‬

‫هذا والنطواء السورة الكريمة‪ ،‬مع تقارب قطريها‪ ،‬على أنواع المعارف اإللهية واألوصاف‬
‫القدسية‪ ،‬والرد على َمن ألحد فيها‪ ،‬ورد في الحديث النبوي‪ :‬أنها تعدل ثلث القرآن‪ ،‬فإنّ مقاصده‬
‫منحصرة في بيان العقائد واألحكام والقصص‪ ،‬وقد استوفت العقائد ل َمن أمعن النظر فيها‪ .‬عن‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬أُسست السموات السبع واألرضون السبع على { قل هو هللا أحد }‬
‫" أي‪ :‬ما خلقت إالَّ لتكون دالئل توحيده‪ ،‬ومعرفة ذاته‪ ،‬التي نطقت بها هذه السورة الكريمة‪.‬‬

‫وعنه صلى هللا عليه وسلم أنه سمع رجالً يقرؤها‪ ،‬فقال‪ " " :‬وجبت " فقيل‪ :‬وما وجبت؟ فقال‪:‬‬
‫" الجنة " ‪ ،‬وشكى إليه َر ُج ٌل الفق َر وضيق المعاش‪ ،‬فقال له صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬إذا دخلت‬
‫سلِّم عل ّي واقرأ‪ { :‬قل هو هللا أحد } " ففعل الرجل‪ ،‬فأد ّر هللاُ‬
‫سلِّم‪ ,‬إن كان فيه أحد‪ ،‬وإال ف َ‬
‫بيتك ف َ‬
‫عليه الرزق‪ ،‬حتى أفاض على جيرانه " ‪ ،‬وخ ّرج الترمذي‪ :‬أنَّ رسو َل هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫قال‪ " :‬من قرأ { قل هو هللا أحد } مائتي مرة في يوم ُغفرت له ذنوب خمسين سنة‪ ،‬إالّ أن يكون‬
‫عليه َد ْين " ‪ ،‬وفي الجامع الصغير أحاديث في فضل السورة تركناه خوف اإلطناب‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬قد اشتملت السورةُ على التوحيد الخاص‪ ،‬أعني‪ :‬توحيد أهل العيان‪ ،‬وعلى التوحيد‬
‫العام‪ ،‬أعني‪ :‬توحيد أهل البرهان‪ ،‬فالتوحيد الخاص له مقامان‪ :‬مقام األسرار الجبروتية‪ ،‬ومقام‬
‫األنوار الملكوتية‪ ،‬فكلمة (هو) تُشير‪ l‬إلى مقام األسرار اللطيفة األصلية الجبروتية‪l.‬‬
‫و(هللا) يشير إلى مقام األنوار الكثيفة المتدفقة من بحر الجبروت؛ ألنّ حقيقة المشاهدة‪ :‬تكثيف‬
‫اللطيف‪ ،‬وحقيقة المعاينة‪ l:‬تلطيف الكثيف‪ ،‬فالمعاينة‪ l‬أرقّ‪ ،‬فشهود الكون أنواراً كثيفة فاضت من‬
‫بحر الجبروت مشاهدة‪ ،‬فإذا لَطَّفها حتى اتصلت بالبحر اللطيف المحيط‪ ،‬وانطبق بحر األحدية‬
‫سميت معاينةً‪ ،‬ووصفه‪ l‬تعالى باألحدية والصمدية والتنزيه‪ l‬عن الولد والوالد يحتاج إلى‬ ‫على الكل ُ‬
‫استدالل وبرهان‪ ،‬وهو مقام اإليمان‪ ،‬واألول مقام اإلحسان‪ ,‬فاآلية من باب التدلي‪.‬‬

‫القلوب‬
‫َ‬ ‫واألرواح بقوله‪( :‬هللا) وكاشف‬
‫َ‬ ‫قال القشيري‪ l:‬يقال كاشَفَ تعالى األسرا َر بقوله (هو)‬
‫نفوس المؤمنين بباقي السورة‪ .‬ويُقال‪ :‬كاشف الوالهين بقوله‪( :‬هو)‬ ‫َ‬ ‫بقوله‪( :‬أحد) وكاشف‬
‫والموحدين بقوله‪( :‬هللا) والعارفين بقوله‪( :‬أحد) والعلماء بالباقي‪ ،‬ثم قال‪ :‬ويُقال‪ :‬خاطب خاصة‬‫ِّ‬
‫الخاص بقوله‪( :‬هو) فاستقلوا‪ ،‬ثم خاطب الخواص بقوله (هللا) فاشتغلوا‪ ،‬ثم زاد في البيان ل َمن‬
‫نزل عنهم‪ ،‬فقال‪( :‬أحد)‪ ،‬ثم نزل عنهم بالصمد‪ ،‬وكذلك ل َمن دونهم‪ .‬هـ‪ .‬وقال في نوادر األصول‪:‬‬
‫هو اسم ال ضمير‪ l،‬من الهوية‪ ،‬أي‪ :‬الحقيقة‪ .‬انظر بقية كالمه‪.‬‬

‫قال شيخ شيوخنا‪ ،‬سيدي عبد الرحمن العارف‪ :‬والحاصل‪ :‬أنَّ اإلشارة بـ " هو " مختصة بأهل‬
‫االستغراق والتحقُّق في الهوية الحقيقة‪ ،‬فالنطباق بحر األحدية عليهم‪ ،‬وانكشاف الوجود‬
‫الحقيقي لديهم‪ ،‬فقدوا َمن يشار إليه إالّ هو‪ ،‬ألنّ ال ُمشار إليه ل ّما كان واحداً كانت اإلشارة مطلقة‬
‫ال تكون إالّ إليه‪ ،‬لفقد ما سواه في شعورهم‪ ،‬لفنائهم عن الرسوم البشرية‪ l‬بالكلية‪ ،‬وغيبتهم عن‬
‫وجودهم‪ ،‬وعن إحساسهم وأوصافهم الكونية‪ ،‬وذلك غاية في التوحيد واإلعظام‪ .‬منحنا هللاُ ذلك‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫على الدوام‪ ،‬وجعلنا من أهله‪ ،‬ببركة نبيه عليه الصالة والسالم‪ .‬وباهلل التوفيق‪ ،‬وصلّى هللا على‬
‫سيدنا محمد وآله‪.‬‬

‫‪#‬سورة الفلق §‪#‬‬

‫ش ِّر‬ ‫ق إِ َذا َوقَ َ‬


‫ب } * { َو ِمن َ‬ ‫ش ِّر َغ ِ‬
‫اس ٍ‬ ‫ق } * { َو ِمن َ‬ ‫ق } * { ِمن ش َِّر َما َخلَ َ‬ ‫*{ قُ ْل أَع ُ‬
‫ُوذ بِ َر ِّب ا ْلفَلَ ِ‬
‫اس ٍد إِ َذا َح َ‬
‫س َد }‬ ‫ت ِفي ا ْل ُعقَ ِد } * { َو ِمن َ‬
‫ش ِّر َح ِ‬ ‫النَّفَّاثَا ِ‬

‫صن وأستجي ُر برب الفلق‪.‬‬‫الفلق } أي‪ :‬أتح ّ‬


‫ِ‬ ‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬ق ْل } يا محمد { أعو ُذ ِّ‬
‫برب‬
‫صبح‪ ،‬كالفرق‪ ،‬ألنه يفلق عنه الليل‪ ,‬فعل بمعنى مفعول‪ .‬وقيل‪ :‬هو كل ما يفلقه هللا‬ ‫والفلق‪ :‬ال ُ‬
‫تعالى‪ ،‬كاألرض عن النبات‪ ,‬والجبال عن العيون‪ ،‬والسحاب عن األمطار‪ ،‬والحب والنوى عما‬
‫يخرج منهما‪ ،‬والبطون والفروج عما يخرج منهما‪ ،‬وغير ذلك مما يفلق ويخرج منه‪ l‬شيء‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬هو جب في جهنم‪.‬‬

‫وفي تعليق العياذ بالرب‪ ،‬المضاف إلى الفلق‪ ،‬المنبىء عن النور بعد الظلمة‪ ,‬وعن السعة بعد‬
‫الضيق‪ ،‬والفتق بعد الرتَق‪ِ ،‬عدَة كريمة‪ l‬بإعاذة العامة مما يتع ّوذ منه‪ l،‬وإنجائه منه وفَ ْلق ما عقد‬
‫له من السحر وانحالله عنه‪ ،‬وتقوية‪ l‬رجائه بتذكير بعض نظائره‪ ,‬ومزيد ترغيب في االعتناء‬
‫بقرع باب االلتجاء إلى هللا تعالى‪.‬‬

‫ق } من الثقلين وغيرهم‪ ،‬كائنا ً ما كان‪ ،‬وهذا كما ترى‬ ‫شر ما َخلَ َ‬


‫ثم ذكر المتع َّوذ منه‪ l‬فقال‪ { :‬من ِّ‬
‫شامل لجميع الشرور الجمادية‪ ،‬والحيوانية‪ l،‬والسماوية‪ ،‬كالصواعق وغيرها‪ .‬وإضافة الشر إليه‬
‫ـ أي‪ :‬إلى كل ما خلق ـ الختصاصه بعالَم الخلق‪ ،‬المؤسس على امتزاج المراد المتباينة‪،‬‬
‫وتفاصيل كيفياتها المتضادة المستتبعة‪ l‬للكون والفساد في عالَم الحكمة‪ ،‬وأ ّما عالَم األمر فهو‬
‫من ّزه عن العلل واألسباب‪ ،‬والمراد به‪ :‬كن فيكون‪.‬‬

‫ب } تخصيص لبعض الشرور بالذكر‪ ،‬بعد اندراجه فيما‬ ‫ق إِذا َوقَ َ‬ ‫وقوله تعالى‪ { :‬ومن شر َغ ِ‬
‫اس ٍ‬
‫قبله‪ ،‬لزيادة مساس الحاجة إلى االستعاذة منه‪ ،‬لكثرة وقوعه‪ ،‬أي‪ :‬ومن شر الليل إذا أظلم واشتد‬
‫ظالمه‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫ق ا ْللَّ ْي ِل }‬ ‫{ إِلَىا َغ َ‬
‫س ِ‬
‫ق الليل‪:‬‬ ‫[اإلسراء‪ .]78:‬وأصل الغسق‪ :‬االمتالء‪ .‬يقال‪ :‬غسقت عينيه‪ l‬إذا امتألت دمعاً‪ ,‬و َغ َ‬
‫س ُ‬
‫انضباب ظالمه‪ .‬وقوله‪ { :‬إذا وقب } أي‪ :‬دخل ظالمه‪ ،‬وإنما تع َّوذ من الليل ألنه صاحب العجائب‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬الغاسق‪ :‬القمر‪ ،‬ووقوبه‪ l:‬دخوله في الكسوف واسوداده‪ ،‬لِما روي عن عائشة رضي هللا‬
‫عنها أنها قالت‪ :‬أخذ رسو ُل هللا صلى هللا عليه وسلم بيدي‪ ،‬وقال‪ " :‬تعوذي باهلل من شر هذا‬
‫والمنجمون يعدونه نحساً‪ ،‬ولذلك‬ ‫ِّ‬ ‫الغاسق إذا وقب " وقيل‪ :‬وقوب القمر‪ :‬محاقه في آخر الشهر‪،‬‬
‫السحر ال ُمورث للمرض إالَّ في ذلك الوقت‪ ،‬قيل‪ :‬وهو المناسب لسبب النزول‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ال تستعمل السحرةُ‬
‫وقيل‪ :‬الغاسق‪ :‬الثريا‪ ,‬ووقوبها‪ :‬سقوطها‪ ،‬ألنها إذا سقطت كثرت األمراض والطواعين‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫هو كل شر يعتري اإلنسان‪ ،‬ووقوبه هجومه‪ ،‬فيدخل فيه الذ َكر عند الشهوة المحرمة وغيره‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫ت في ال ُعقَد } أي‪ :‬ومن شر النفوس‪ ,‬أو‪ :‬النساء النفاثات‪ ،‬أي‪ :‬السواحر الالتي‬ ‫{ ومن شر النفاثا ِ‬
‫يعقدن عقداً في خيوط‪ ،‬وينفثن عليها‪ ،‬والنفث‪ :‬النفخ مع ريق‪ ،‬وقيل‪ :‬بدون ريق‪ ،‬وتعريفها إ ّما‬
‫للعهد الذهني‪ ،‬وهن بنات لَبِيد‪ ،‬أو‪ :‬للجنس‪ ،‬لشمول جميع أفراد السواحر‪ ,‬وتدخل بنات لَبيد‬
‫س َد } إذا أظهر ما في نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه‪،‬‬ ‫دخوالً أولياً‪ { .‬ومن شر حاس ٍد إِذا َح َ‬
‫بترتيب‪ l‬مقدمات الشر‪ ،‬ومبادىء اإلضرار بالمحسود‪ ،‬قوالً وفعالً‪ ،‬والتقييد بذلك؛ ألنَّ ضرر‬
‫الحسد قبله إنما يحيق بالحاسد‪ ،‬وقد تكلم ابن جزي هنا على الحسد بكالم نقلناه في سورة‬
‫النساء‪ ،‬فانظره فيه‪.‬‬
‫اإلشارة‪ :‬الفلق هو النور الذي انفلق عنه بحر الجبروت‪ ،‬وهي القبضة المحمدية‪ ،‬التي هي بذرة‬
‫بالتعوذ بربها الذي أبرزها منه‪ ،‬من شر كل ما يشغل عن هللا‪ ،‬من سائر‬ ‫ُّ‬ ‫الكائنات‪ ،‬فأمر هللا‬
‫المخلوقات‪ ،‬ومن شر ما يهجم على اإلنسان‪ ،‬ويقوم عليه من نفسه وهواه وغضبه وسخطه‪،‬‬
‫الحساد‪ .‬والحسد مذموم عند الخاص والعام‪ ،‬فالحسود ال يسود‪.‬‬ ‫ومن شر ما يكيده من السحرة أو ُ‬
‫وحقيقة الحسد‪ :‬األسف على الخير عند الغير‪ ،‬وتمني زواله عنه‪ ،‬وأ ّما تمني‪ l‬مثله مع بقائه‬
‫لصاحبه فهي ال ِغبطة‪ ،‬وهي ممدوحة في الكماالت‪ ،‬كالعلم والعمل‪ ،‬والذوق والحال‪ .‬وباهلل‬
‫التوفيق‪ ،‬وصلّى هللا على سيدنا محمد وآله‪.‬‬

‫‪#‬سورة الناس §‪#‬‬

‫س ا ْل َخنَّا ِ‬
‫س}‬ ‫ش ِّر ا ْل َو ْ‬
‫س َوا ِ‬ ‫س } * { إِلَـا ِه النَّا ِ‬
‫س } * { ِمن َ‬ ‫س } * { َملِ ِك النَّا ِ‬‫*{ قُ ْل أَعُو ُذ بِ َر ِّب النَّا ِ‬
‫س}‬‫س } * { ِمنَ ا ْل ِجنَّ ِة َوالنَّا ِ‬ ‫صدُو ِر النَّا ِ‬
‫س فِي ُ‬ ‫س ِو ُ‬ ‫* { الَّ ِذى يُ َو ْ‬

‫يقول الحق ج ّل جالله‪ { :‬قل أعو ُذ ِّ‬


‫برب الناس } مربّيهم و ُمصلحهم‪َ { ،‬ملِ ِك الناس } مالكهم‬
‫ومدبر أمورهم‪ .‬وهو عطف بيان جيء به لبيان أنَّ تربيته‪ l‬تعالى ليست بطريق تربية سائر ال ُمالك‬
‫والتصرف التام‪ ،‬والسلطان القاهر‪ .‬وكذا‬
‫ُّ‬ ‫لِما تحت أيديهم من ممالكهم‪ ،‬بل بطريق ال ُملك الكامل‪،‬‬
‫قوله تعالى‪ { :‬إِل ِه الناس } فإنه لبيان أنَّ ُملكه تعالى ليس بمجرد االستيالء عليهم‪ ،‬والقيام بتدبير‪l‬‬
‫أمور سياستهم‪ ،‬والمتولِّي لترتيب مبادىء ِحفظهم وحمايتهم‪ ،‬كما هو قصارى أمر الملوك‪ ،‬بل‬
‫التصرف الكلي‬
‫ُّ‬ ‫سسة‪ l‬على األلوهية‪ ،‬المقتضية‪ l‬للقدرة التامة على‬ ‫هو بطريق العبودية‪ ،‬المؤ َّ‬
‫فيهم‪ ،‬إحيا ًء وإماتةً‪ ،‬وإيجاداً وإعداماً‪ .‬وتخصيص اإلضافة إلى الناس مع انتظام جميع العالَمين‬
‫في سلك ربوبيته‪ l‬تعالى وملكوته وألوهيته لإلرشاد إلى مناهج االستعاذة المرضية‪ l‬عنده تعالى‪،‬‬
‫الحقيقة باإلعاذة‪ ،‬فإنَّ توسل العبد بربه‪ ،‬وانتسابه‪ l‬إليه تعالى بالمربوبية والملكية والمعبودية‪l،‬‬
‫في ضمن جنس هو فرد من أفراده‪ ،‬من دواعي الرحمة والرأفة‪ .‬أمره تعالى بذلك من دالئل‬
‫الوعد الكريم باإلعاذة ال محالة‪ ،‬وألنَّ المستعاذ منه شر الشيطان‪ ،‬المعروف بعداوتهم‪ ،‬مع‬
‫التنصيص‪ l‬على انتظامه في سلك عبوديته‪ l‬تعالى وملكوته‪ ،‬رمز إلى إنجائهم من ملكة الشيطان‬
‫وتسلُّطه عليهم‪ ،‬حسبما ينطق به قوله تعالى‪:‬‬
‫س ْلطَانٌ }‬
‫س لَكَ َعلَ ْي ِه ْم ُ‬
‫{ إِنَّ ِعبَا ِدي لَ ْي َ‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫[اإلسراء‪ ]65:‬ف َمن جعل مدا َر تخصيص اإلضافة مجرد كون االستعاذة من المضار المختصة‪l‬‬
‫بالنفوس البشرية‪ l‬فقد قصر في توفية المقام حقه‪ .‬وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير‬
‫والتشريف‪ l.‬قاله أبو السعود‪.‬‬

‫واآلية من باب الترقِّي‪ ،‬وذلك أنَّ الرب قد يُطلق على كثير من الناس‪ ،‬فتقول‪ :‬فالن رب الدار‪،‬‬
‫وشبه ذلك‪ ،‬فبدأ به الشتراك معناه‪ ,‬وأ َّما ال َملك فال يُوصف به إالَّ آحاد من الناس‪ ،‬وهم الملوك‪،‬‬
‫وال شك أنهم أعلى من سائر الناس‪ ،‬فلذلك جيء به بعد الرب‪ ،‬وأ َّما اإلله فهوأعلى من ال َملك‪،‬‬
‫ولذلك ال يَدَّعي الملو ُك أنهم آلهة‪ ،‬وإنما اإلله واحد ال شريك له وال نظير قاله ابن جزي‪.‬‬

‫ش َّر الوسواس } أي‪ :‬الموسوس‪ ،‬فالوسواس مصدر‪ ،‬كالزلزال‪ ،‬بمعنى اسم الفاعل‪ ،‬أو‬ ‫{ من َ‬
‫سمي به الشيطان مبالغةً‪ ،‬كأنه نفس الوسوسة‪ ،‬و { الخناس } الذي عادته أن يخنس‪ ،‬أي‪:‬‬
‫س في صدور الناس } إذا غفلوا عن ذكر هللا‪ ،‬ولم‬ ‫س ِو ُ‬
‫يتأخر عند ذكر اإلنسان ربَّه‪ { ،‬الذي يُ َو ْ‬
‫يقل‪ :‬في قلوب الناس؛ ألنَّ الشيطان محله الصدور‪ ،‬ويم ّد منقاره إلى القلب‪ ،‬وأ ّما القلب فهو بيت‬
‫الرب‪ ،‬وهو محل اإليمان‪ ،‬فال يتمكن منه كل التم ُّكن‪ ،‬وإنما يحوم في الصدر حول القلب‪ ،‬فلو‬
‫تم ّكن منه ألفسد على الناس كلهم إيمانهم‪.‬‬

‫قال ابن جزي‪ :‬وسوسة‪ l‬الشيطان بأنواع كثيرة‪ ،‬منها‪ :‬فساد اإليمان والتشكيك في العقائد‪ ،‬فإن لم‬
‫يقدر على ذلك ثبّطه عن الطاعات‪ ،‬فإن لم يقدر على ذلك أدخل الرياء في الطاعات ليُحبطها‪ ،‬فإن‬
‫سلِ َم من ذلك أدخل عليه العجب بنفسه‪ l،‬واستكثار عمله‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬أنه يُوقد في القلب نار الحسد‬ ‫َ‬
‫والحقد والغضب‪ ،‬حتى يقود اإلنسان إلى سوء األعمال وأقبح األحوال‪.‬‬
‫وعالج وسوسته بثالثة‪ l‬أشياء‪ ،‬وهي‪ :‬اإلكثار من ذكر هللا‪ ,‬واإلكثار من االستعاذة منه‪ ،‬ومن أنفع‬
‫صحبة‬‫شي ٍء في ذلك‪ :‬قراءة سورة الناس‪ .‬هـ‪ .‬قلت‪ :‬ال يقلع الوسوسة من القلب بالكلية إالّ ُ‬
‫العارفين‪ ،‬أهل التربية‪ ،‬حتى يُدخلوه مقا َم الفناء‪ ،‬وإالَّ فالخواطر ال تنقطع عن العبد‪.‬‬

‫ثم بَيّن الموس ِوس بقوله‪ِ { :‬من ال ِجنة } أي‪ :‬الجن { والناس } ووسواس النار أعظم؛ ألنَّ‬
‫بالتعوذ‪ ،‬بخالف وسوسة‪ l‬الناس‪ ،‬والمراد بوسوسة‪ l‬الناس‪ :‬ما يُدخلون‬
‫ُّ‬ ‫وسواس الجن يذهب‬
‫عليك من الشُبه في الدين‪ ,‬وخوض في الباطن‪ ،‬أو سوء اعتقاد في الناس‪ ،‬أو غير ذلك‪.‬‬

‫قال ابن جزي‪ :‬فإن قلت‪ :‬لِ َم ختم القرآن بالمعوذتين‪ ،‬وما الحكمة في ذلك؟ فالجواب من ثالثة‬
‫أوجه‪ ،‬األول‪ :‬قال شيخنا األستاذ أبو جعفر بن الزبير‪ :‬ل َّما كان القرأنُ من أعظم نِعم هللا على‬
‫عباده‪ ،‬والنعمة مظنة الحسد‪ ،‬ختم بما يُطفىء الحسد‪ ،‬من االستعاذة باهلل‪ .‬الثاني‪ :‬يَظهر لي أنَّ‬
‫المعوذتين ختم بهما ألنّ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال فيهما‪ " :‬أنزلت علي آيات لم يُر‬
‫مثلهن قط " كما قال في فاتحة الكتاب‪ " :‬لم ينزل في التوراة وال في اإلنجيل وال في الفرقان‬
‫ير مثلهما‪ ,‬للجمع بين حسن‬ ‫مثلها " فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها‪ ،‬واختتم بسورتين لم َ‬
‫الخطب والرسائل والقصائد‪ ،‬وغير ذلك من أنواع الكالم‪ ،‬يُنظر‬ ‫االفتتاح واالختتام‪ .‬أال ترى أن ُ‬
‫فيها إلى حسن افتتاحها واختتامها‪.‬‬
‫مكتبة مشكاة اإلسالمية‬ ‫البحر المديد في تفسير القرآن المجيد‬

‫بالتعوذ من الشيطان الرجيم‪ ،‬ختم القرآن‬


‫ُّ‬ ‫والوجه الثالث‪ :‬أنه ل ّما أمر القارىء أن يفتح قراءته‬
‫بالمعوذتين ليحصل االستعاذة باهلل عند أول القراءة وعند آخر ما يقرأ من القرآن‪ ،‬فتكون‬
‫االستعاذة قد اشتملت على طرفي االبتداء واالنتهاء‪ ،‬فيكون القارىء محفوظا ً بحفظ هللا‪ ،‬الذي‬
‫استعاذ به ِمن أول أمره إلى آخره‪ .‬هـ‪.‬‬

‫اإلشارة‪ :‬ال يُنجي من الوسوسة بالكلية إالّ التحقُّق بمقام الفناء الكلي‪ ،‬وتعمير القلب بأنوار‬
‫التجليات الملكوتية‪ l‬واألسرار الجبروتيه‪ l،‬حتى يمتلىء القلب باهلل فحينئذ‪ l‬تنقلب وسوسته‪ l‬في‬
‫أسرار التوحيد فكرةً ونظرةً وشهوداً للذات األقدس‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬

‫فأنت وهللا وسواسي وخناسي‬ ‫إن كان للناس وسواس يوسوسهم‬


‫وباهلل التوفيق‪ .‬وهو الهادي إلى سواء الطريق‪ ،‬وال حول وال قوة إال باهلل العلي العظيم‪ ،‬وصلّى‬
‫هللا على سيدنا محمد‪ ،‬وآله وصحبه‪ ,‬وسلّم تسليماً‪.‬‬

‫َك ِمل " البحر المديد في تفسير‪ l‬القرآن المجيد " بحول هللا وقوته‪ .‬نسأل هللا سبحانه أن يكسوه‬
‫صله القص َد والمأمول‪ ،‬بجاه سيد األولين واآلخرين‪،‬‬ ‫جلباب القبول‪ ,‬ويُبلغ به كل َمن طالعه‪ ,‬أو ح ّ‬
‫سيدنا وموالنا محمد‪ ،‬خاتم النبيين وإمام المرسلين‪ .‬و ُع ْمدَتنا فيه‪ :‬تفسير‪ l‬البيضاوي‪ ,‬وأبي‬
‫السعود‪ ،‬وحاشية‪ l‬شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي‪ ،‬وشيء من تفسير ابن جزي‬
‫والثعلبي والقشيري‪ .‬وكان الفراغ من تبييضه‪ l‬زوال يوم األحد‪ ،‬سادس ربيع النبوي‪ ،‬عام واحد‬
‫وعشرين ومائتين وألف‪ ،‬على يد جامعه‪ ,‬العبد الضعيف‪ ،‬الفقير إلى مواله‪ ,‬أحمد بن محمد بن‬
‫سنِي‪ ،‬لطف هللا به في الدارين‪ .‬آمين‪ ,‬وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين‪.‬‬ ‫الح َ‬
‫عجيبة َ‬

‫تم بحمد هللا نسخة من موقع التفسير أخوكم الفلوجة غفر هللا له ولوالديه آمين والحمد هلل رب‬
‫العالمين‬

You might also like