You are on page 1of 54

‫حتت إشراف الشيخ‬

‫شرح العقيدة الواسطية‬


‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬
‫الف ْت َنة) إىل قوله‪َ ﴿( :‬ك َفى بِ َن ْف ِس َك ا ْل َي ْو َم َع َل ْي َك َح ِسيب ًا﴾)‪.‬‬
‫من قوله‪َ ( :‬ف َأما ِ‬
‫َّ‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪2‬‬

‫ور ِه ْم‪َ ،‬في َقال لِ َّلرج ِل‪َ :‬م ْن َر ُّب َك؟‬


‫َّاس ي ْف َتنونَ فِي قب ِ‬ ‫َف َأما ِ‬
‫الف ْت َنة‪َ :‬فإِ َّن الن َ‬ ‫َّ‬
‫َو َما ِدين َك؟ َو َم ْن َنبِ ُّي َك؟‬
‫ين آمنوا بِال َق ْو ِل الثَّابِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ت‪.‬‬ ‫َفي َث ِّبت ال َّله ا َّلذ َ َ‬
‫س ََلم ِدينِي‪َ ،‬وُمَ َّم ٌد َنبِ ِّيي‪.‬‬ ‫َف َيقول المؤْ ِمن‪ :‬ال َّله َر ِّبي‪َ ،‬و ِ‬
‫اإل ْ‬
‫س ِم ْعت الن َ‬
‫َّاس َيقولونَ َش ْيئ ًا‬ ‫َو َأ َّما الم ْر َتاب‪َ :‬ف َيقول‪ :‬آ ْه آ ْه‪ََ ،‬ل َأ ْد ِري‪َ ،‬‬
‫َفق ْلته‪.‬‬
‫يد‪َ ،‬ف َي ِصيح َص ْي َح ًة َي ْس َمعهَ ا ك ُّل َش ْي ٍء َّإَل‬
‫َفي ْضرب بِ ِمر َزب ٍة ِم ْن َح ِد ٍ‬
‫ْ َّ‬ ‫َ‬
‫اإل ْن َسان َل َص ِع َق‪.‬‬
‫س ِم َعهَ ا ِ‬ ‫ِ‬
‫اإل ْن َسانَ ‪َ ،‬و َل ْو َ‬
‫َّ‬
‫الشرح‪:‬‬
‫األول مما يكون بعد الموت وهو‪:‬‬ ‫يفصل يف األمر َّ‬ ‫بدأ رمحه اهلل هنا ِّ‬
‫فتنة القبر‪ ،‬فقال‪َ ( :‬ف َأ َّما ا ْل ِف ْت َنة) أي‪ :‬االختبار يف القبر‪َ ( :‬فإِ َّن الن َ‬
‫َّاس ي ْف َتنونَ‬
‫ور ِه ْم) يعني‪ :‬الذكور منهم واإلناث‪.‬‬ ‫فِي قب ِ‬

‫وثبت يف صحيح مسلم أن المرابط يف سبيل الله ينجو من تلك‬ ‫(‪)1‬‬

‫(‪ )1‬كتاب اإلمارة‪ ،‬باب فضل الرباط يف سبيل الله عز وجل‪ ،‬رقم (‪ ،)1913‬من‬
‫حديث سلمان الفارسي رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫‪3‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫الفتنة‪ ،‬كما قال صىل اهلل عليه وسلم‪« :‬وأمن ا ْلفتان»‪.‬‬


‫وورد أيض ًا أن الشهيد ينجيه الله عز وجل من تلك الفتنة؛ كما قال‬
‫السيوف على ر ْأسه فتْن ًة» ‪ ،‬فيكفي ما‬
‫(‪)1‬‬
‫صىل اهلل عليه وسلم‪« :‬كفى ببارقة ُّ‬
‫رآه من السيف والخوف والهلع يف حال الجهاد‪ ،‬فينجيه الله عز وجل من‬
‫هذه الفتنة‪.‬‬
‫وأخذ من هذا العلماء عىل أن من كان أعىل منزل ًة منهما ‪ -‬وهم‬
‫الصدِّ يقون ‪ -‬ال يفتنون يف قبورهم أيض ًا‪ ،‬ومنهم من باب أوىل‪ :‬األنبياء‬
‫ِّ‬
‫والرسل؛ ألن الناس يسألون عنهم‪ ،‬والعلم عند الله‪.‬‬
‫ص(‪.)2‬‬
‫وأما المنافق أو المرتاب فجاء فيه الن ُّ‬

‫(‪ )1‬رواه النسائي‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬الشهيد‪ ،‬رقم (‪ ،)2053‬عن رجل من أصحاب‬
‫النبي صىل اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫(‪ )2‬كما يف حديث أنس رضي اهلل عنه‪ ،‬وفيه‪...« :‬وأما المنافق والكافر فيقال له‪:‬‬
‫ما كنْت تقول في هذا الرجل؟ فيقول‪ :‬ال أ ْدري كنْت أقول ما يقول الناس‪ ،‬فيقال‪:‬‬
‫ال در ْيت وال تل ْيت‪ ،‬وي ْضرب بمطارق م ْن حديد ض ْرب ًة‪ ،‬فيصيح ص ْيح ًة ي ْسمعها‬
‫البخاري‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب ما جاء يف عذاب‬
‫ُّ‬ ‫م ْن يليه غ ْير الثقل ْين‪ .»...‬رواه‬
‫القبر‪ ،‬رقم (‪.)1374‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪4‬‬

‫وأما الكافر فذهب بعض أهل العلم إىل أنه ال يسأل وإنما يعذب‬
‫(‪)1‬‬

‫‪ -‬والعياذ بالله ‪ -‬من غير سؤال؛ ألن هذه الفتنة للتمحيص وهو ليس‬
‫أهالً للتمحيص‪.‬‬
‫ما هي هذه الفتنة؟‬
‫قال‪َ ( :‬في َقال لِ َّلرج ِل) وكذا للمرأة‪َ ( :‬م ْن َر ُّب َك؟ َو َما ِدين َك؟ َو َم ْن‬
‫َنبِ ُّي َك؟) فهذه الفتنة العظيمة بثالثة أسئلة من ملك ْين عىل اإلنسان بمفرده‬
‫يف قبره‪ ،‬وهذه األمور الثالثة هي أساس الدين‪ :‬الر ُّب‪ ،‬الدِّ ين‪ ،‬الن ُّبي عليه‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬والن ُّبي عليه الصالة والسالم لما دفن عثمان بن مظعون‬
‫«است ْغفروا ألخيك ْم وسلوا له بالت ْثبيت؛ فإنه ْاْلن ي ْسأل»(‪)2‬؛ أي‪ :‬أن‬
‫قال‪ْ :‬‬
‫سؤال الملكين للم ِّيت مباشر ًة بعد دفنه ال تأخير‪ ،‬فيشرع ْ‬
‫أن نرفع األيدي‬
‫كما رفع الن ُّبي صىل اهلل عليه وسلم يديه بالدعاء للم ِّيت(‪.)3‬‬

‫البر والسيوطي‪ .‬لوامع األنوار البهية للسفاريني‬


‫(‪ )1‬كالحكيم الترمذي وابن عبد ِّ‬
‫(‪.)10/2‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب االستغفار عند القبر للميت يف وقت‬
‫االنصراف‪ ،‬رقم (‪ ،)3221‬من حديث عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‬
‫مسلم‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء ألهلها‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )3‬رواه‬
‫‪5‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫( َم ْن َر ُّبك؟) أي‪ :‬من هو خالقك؟ ولمن كنت تخلص أعمالك؟‬


‫والسؤال يف الربوبية ويف األلوهية‪ ،‬واألسماء والصفات داخل ٌة يف‬
‫الربوبية‪ ،‬فالمرائي يهلك‪ ،‬وصاحب الدنيا يهلك‪ ،‬ومن يعبد غير الله ‪-‬‬
‫والعياذ بالله ‪ -‬يهلك‪.‬‬
‫(و َما ِدينك؟) ما هو الدين الذي تعمله؛ يعني‪ :‬ما هي األعمال التي‬
‫َ‬
‫كنت تعملها يف الدنيا؟ هل هي عىل دين اإلسالم أم غير اإلسالم‪.‬‬
‫(و َم ْن َنبِ ُّيك؟) من الرجل الذي بعث فيكم؟ ويف الحديث‪« :‬وما هذا‬
‫َ‬
‫الرجل الذي بعث فيك ْم؟»(‪ )1‬يعني‪ :‬محمد صىل اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وهذه األسئلة اإلجابة عليها صعب ٌة؛ ألن ما تعمله يف الدنيا تدخره‬
‫لهذا الموقف حتى تنجو هبا‪ ،‬وتنجو مما بعدها‪ ،‬ومن هلك فإنه يهلك يف‬
‫أول الطريق؛ لذلك قال‪﴿ :‬يث ِّبت الله الذين آمنوا با ْلق ْول الثابت﴾ [إبراهيم‪:‬‬

‫صعب‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫‪]27‬؛ ألنه لو كان متز ْعزع ًا ال يستطيع الثبات عليه‪ ،‬ألن السؤال‬

‫رقم (‪ ،)974‬من حديث عائشة رضي اهلل عنه‪ ،‬وفيه‪...« :‬حتى جاء ا ْلبقيع فقام‪،‬‬
‫فأطال ا ْلقيام‪ ،‬ثم رفع يد ْيه ثالث مرات‪.»...‬‬
‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)18534‬من حديث البراء بن عازب رضي اهلل‬
‫عنه‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪6‬‬

‫وألمهية هذا‪ :‬صنف اإلمام محمد بن عبد الوهاب رمحه اهلل ثالثة‬
‫األصول‪ :‬معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمد ًا صىل اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫وتكرارها عىل ال ِّلسان وح ْفظها‪ :‬مظن ًة ‪ -‬بإذن الله‪ ،‬مع كرمه سبحانه‬
‫ورمحته ‪ -‬أن يجيب عليها اإلنسان يف القبر‪ ،‬وكلنا سنسأل ذلك‪ ،‬فيجب‬
‫أن نعد العدة لذلك‪ ،‬وأن نطلب العلم؛ حتى نجيب صواب ًا عىل هذا‬
‫السؤال وأن يلحقنا التثبيت‪.‬‬
‫وإذا سئل الناس عن هذه األسئلة؛ فإنهم ينقسمون يف اإلجابة عليها‬
‫إىل قسمين‪:‬‬
‫ين آ َمنوا بِا ْل َق ْو ِل‬‫األول‪ :‬أشار إليه بقوله‪َ ( :‬في َث ِّبت ال َّله ا َّل ِذ َ‬
‫القسم َّ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ربه ودينه ونب ِّيه‬ ‫الثَّابِت) يعني‪ :‬يف الحياة الدنيا المؤمن يث ِّبته الله بمعرفة ِّ‬
‫صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكذا يث ِّبته هنا يف القبر عند السؤال‪ ،‬وكيفية ثباته‬
‫قال‪َ ( :‬ف َيقول ا ْلمؤْ ِمن‪ :‬ال َّله َر ِّبي) فمن كان مح ِّقق ًا للتوحيد‪ :‬أجاب هبذا‬
‫الجواب‪.‬‬
‫وهذه أسئل ٌة مختصر ٌة لكن ال ينطق هبا إال المؤمن‪ ،‬وال تظهر من‬
‫لسان المؤمن إال إذا كان قلبه راسخ ًا وممتلئ ًا هبا‪ ،‬ولهذا شرع ْ‬
‫أن يلقن‬
‫‪7‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫صغير أين الله؟ يف السماء‪ ،‬وكذا ينبغي‬


‫ٌ‬ ‫الصغير(‪ )1‬بتلك األسئلة وهو‬
‫للمسلم ْ‬
‫أن يكثر من الدعاء أن الله يث ِّبته؛ كان الن ُّبي صىل اهلل عليه وسلم‬
‫يقول‪« :‬يا مق ِّلب ا ْلقلوب ث ِّب ْت ق ْلبي على دينك» ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬

‫س ََلم ِدينِي) كما قال سبحانه‪﴿ :‬إن الدِّ ين عنْد الله ْاإل ْسالم﴾‬ ‫(و ِ‬
‫اإل ْ‬ ‫َ‬
‫[آل عمران‪ ،]19 :‬فمن كان منقاد ًا ألحكام اإلسالم‪ :‬أجاب هبذا الصواب؛‬
‫متمس ٌك فيه يف هذه الدنيا‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ألنه‬
‫(وُمَ َّم ٌد َنبِ ِّيي) عليه الصالة والسالم من أطاعه واتبع هداه‪ :‬أجاب‬
‫َ‬
‫بع لسنته‪ ،‬فمن كان حر ّي ًا با ِّتباع سنة الن ِّبي صىل‬
‫عىل هذا السؤال؛ ألنه مت ٌ‬
‫اهلل عليه وسلم‪ :‬الله عز وجل يث ِّبته‪ ،‬وأما من كان يؤ ِّول الصفات عن الله‬

‫(‪ )1‬كما يف حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي اهلل عنه‪ ،‬وفيه‪...« :‬وكان ْت لي‬
‫جاري ٌة ت ْرعى غنم ًا لي قبل أحد‪ ...‬ق ْلت‪ :‬يا رسول الله! أفال أ ْعتقها؟ قال‪ :‬ائْتني‬
‫بها‪ ،‬فأت ْيته بها‪ ،‬فقال لها‪ :‬أ ْين الله؟ قال ْت‪ :‬في السماء‪ ،‬قال‪ :‬م ْن أنا؟ قال ْت‪ :‬أنْت‬
‫مسلم‪ ،‬كتاب المساجد ومواضع‬
‫ٌ‬ ‫رسول الله‪ ،‬قال‪ :‬أ ْعت ْقها‪ ،‬فإنها م ْؤمن ٌة»‪ .‬رواه‬
‫الصالة‪ ،‬باب تحريم الكالم يف الصالة‪ ،‬ونسخ ما كان من إباحته‪ ،‬رقم (‪.)537‬‬
‫)‪ (2‬رواه ابن ماجه‪ ،‬باب فيما أنكرت الجهمية‪ ،‬رقم (‪ ،)199‬من حديث النواس‬
‫بن سمعان رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪8‬‬

‫أو ينفيها ويع ِّطل الصفات عن الله‪ :‬فهو حر ٌّي ْ‬


‫أن ال يجيب بمثل هذا‬
‫الجواب‪.‬‬
‫ف إلى الله يف‬
‫فمن عظم الله‪ :‬قال عليه الصالة والسالم‪« :‬تعر ْ‬
‫الرخاء ي ْعرفك يف ِّ‬
‫الشدة» ‪ ،‬وإذا كنت يف حياتك تتنقص يف جناب‬ ‫(‪)1‬‬

‫الربوبية‪ :‬فالموعد القبر‪.‬‬


‫وإذا اختل عند الشخص شي ٌء من هذه اإلجابات الثالث ‪ -‬والعياذ‬
‫بالله ‪ :-‬أصبح من أهل الشقاء‪ ،‬وهذه األسئلة الثالثة يف القبر‪ :‬هي مفترق‬
‫أن يكون مع أهل اإليمان‪ ،‬وإما ْ‬
‫أن يكون مع أهل الكفر‬ ‫الطرق‪ ،‬إما ْ‬
‫والعياذ بالله‪.‬‬
‫فإذا أجاب المؤمن هبذه األجوبة التي كما أراد الله سبحانه وتعاىل‪:‬‬
‫باب إىل الجنة؛ يعني‪ :‬إىل قيام الساعة‪،‬‬
‫يقال له‪ :‬نم قرير العين ويفتح له ٌ‬
‫كما يف حديث البراء يف مسند اإلمام أمحد(‪.)2‬‬

‫)‪ (1‬رواه الحاكم‪ ،‬رقم (‪ ،)6303/623/3‬من حديث ابن عباس رضي اهلل‬
‫عنهما‪.‬‬
‫(‪ )2‬وفيه‪...« :‬فأ ْفرشوه من ا ْلجنة‪ ،‬وأ ْلبسوه من ا ْلجنة‪ ،‬وا ْفتحوا له باب ًا إلى‬
‫ا ْلجنة‪ .»...‬هذا جزء من حديث سبق تخريجه (ص) عند قوله (ما أخبر الن ُّبي صلى‬
‫‪9‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫(و َأ َّما الم ْر َتاب) أي‪ :‬الش ُّ‬


‫اك من أهل الز ْيغ‬ ‫ِ‬
‫والقسم الثاين‪ :‬قال‪َ :‬‬
‫والنفاق‪ ،‬إذا سأله الملكان‪َ ( :‬ف َيقول‪ :‬آ ْه آ ْه) يعني‪ :‬شي ٌء يريد أن يتذكره‬
‫فينطق به فال يستطيع‪ ،‬وهذا من باب التعذيب له؛ إ ْذ يتحسر يريد أن يتذكر‬
‫(َل َأ ْد ِري) يعني‪ :‬بعد أن يسعى جاهد ًا للتفكير ما يستطيع‪،‬‬
‫فما يستطيع‪َ ،‬‬
‫ثم يقول‪ :‬ال أدري‪ ،‬وهذا أشد يف النِّكاية من أن يقول‪ :‬ال أدري مباشرة؛‬
‫حسر والندامة‬
‫فهو كأنه يريد أن يجيب‪ ،‬ولكن ال يستطيع‪ ،‬فهو زياد ٌة يف الت ُّ‬
‫والتوبيخ له‪.‬‬
‫س ِم ْعت الن َ‬
‫َّاس َيقولونَ َش ْيئ ًا َفق ْلته) يعني‪ :‬سمع الناس يقولون‪ :‬الله‬ ‫( َ‬
‫ربي لكنه مل يرسخ ذلك يف قلبه‪ ،‬وسمع عن الن ِّبي صىل اهلل عليه وسلم‬
‫مسلم‬
‫ٌ‬ ‫ورسله لك ْن يقول ذلك يف الدنيا لكنه مل يرسخ هبا قلبه‪ ،‬ويقول‪ :‬أنا‬
‫لكنه مل يرسخ ذلك يف قلبه‪ ،‬وإنما كان تقليد ًا لمن حوله‪.‬‬
‫فتأيت هنا العقوبة مباشرةً‪ ،‬قال‪َ ( :‬في ْضرب بِ ِمر َزب ِة ِم ْن َح ِد ٍ‬
‫يد)‬ ‫ْ َّ‬ ‫َ‬
‫المرزبة‪ :‬وهي المطرقة الكبيرة ‪ -‬والعياذ بالله ‪ -‬يضرب مع رأسه‪ ،‬يف‬
‫( ‪)1‬‬

‫الله عليه وسلم‪« :‬أن المؤمن ي ْفسح له)‪.‬‬


‫(‪ )1‬النهاية يف غريب الحديث واألثر البن األثير (‪.)219/2‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪10‬‬

‫البخاري(‪ )1‬تتمة الحديث‪« :‬فيصيح ص ْيح ًة ي ْسمعها م ْن يليه غ ْير‬


‫ِّ‬ ‫صحيح‬
‫الثقل ْين»؛ يعني‪ :‬حتى الجن ال يسمعوهنا‪.‬‬
‫وأما الحديث الذي ساقه المصنِّف رمحه اهلل يف تتمته قال‪َ ( :‬ف َي ِصيح‬
‫اإل ْن َسان َل َص ِع َق)‬
‫س ِم َعهَ ا ْ ِ‬ ‫َص ْي َح ًة َي ْس َمعهَ ا ك ُّل َش ْي ٍء إِ ََّل ْ ِ‬
‫اإل ْن َسانَ ‪َ ،‬و َل ْو َ‬
‫ولعلها زل ٌة من شيخ اإلسالم رمحه اهلل؛ ألن هذا الحديث كما يف‬
‫الصحيح(‪ )2‬يف محل الجنازة‪ ،‬فإذا حملت الجنازة عىل األكتاف‪« :‬فإ ْن‬
‫كان ْت صالح ًة قال ْت‪ :‬قدِّ موني‪ ،‬وإ ْن كان ْت غ ْير صالحة قال ْت‪ :‬يا و ْيلها أ ْين‬
‫ي ْذهبون بها‪ ،‬ي ْسمع ص ْوتها ك ُّل ش ْيء إال اإلنْسان ول ْو سمعه؛ صعق»؛ هذا‬
‫يف محل الجنازة‪ ،‬أما يف القبر‪« :‬ي ْسمعها م ْن يليه إال الثقل ْين»‪.‬‬
‫اإل ْن َسان َل َص ِع َق) أي‪ :‬أغمي عليه‪ ،‬أي‪ :‬أن الحي الذي‬
‫س ِم َعهَ ا ِ‬
‫(و َل ْو َ‬
‫َ‬
‫الحي ‪ -‬الذي عند‬
‫عند القبر لو كشف غطاء العذاب الذي يف القبر لخر ُّ‬
‫صرخة ألمه – أي‪ :‬المعذب يف القبر ‪ -‬من‬
‫القبر ‪ -‬مغش ّي ًا عليه؛ من قوة ْ‬

‫(‪ )1‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب ما جاء يف عذاب القبر‪ ،‬رقم (‪ ،)1374‬من حديث أنس‬
‫بن مالك رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫البخاري‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب محل الرجال الجنازة دون النساء‪ ،‬رقم‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )2‬رواه‬
‫(‪ ،)1314‬من حديث أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫تلك المطرقة ‪ -‬والعياذ بالله ‪-‬؛ لذا قال النبي عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫«ل ْوال أ ْن ال تدافنوا لدع ْوت الله أ ْن ي ْسمعك ْم م ْن عذاب ا ْلق ْبر»(‪)1‬؛ يعني‪:‬‬
‫لو دعوت الله‪ ،‬وسمعتم عذاب القبر لما دفن بعضكم بعض ًا؛ حتى ال‬
‫تسمعون هذا الصراخ‪.‬‬
‫فمن رمحة الله عز وجل أن صراخ أهل القبور يف العذاب ال نسمعه؛‬
‫لثالثة أمور‪:‬‬
‫األول‪ :‬لو كنا نسمعه ال هننأ بعيش‪.‬‬
‫األمر َّ‬
‫واألمر الثاين‪ :‬فيه فضيح ٌة لذلك الميت‪.‬‬
‫ثواب من اإليمان بالغيب‪ ،‬وألصبح‬
‫ٌ‬ ‫واألمر الثالث‪ :‬مل يكن هناك‬
‫من اإليمان بالشيء المشاهد‪ ،‬وثواب اإليمان بالغيب أعظم من‬
‫المشاهد؛ ألنك تؤمن بنصوص وأنت مل تشاهد تلك األمور‪.‬‬
‫واألمر الرابع‪ :‬لما كان هناك كافر‪ ،‬فيرون العذاب أمامهم فال أحد‬
‫يريد أن يتعذب؛ فيسعى لنجاة نفسه باإليمان واإلسالم ونحو ذلك‪.‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها‪ ،‬باب عرض مقعد الميت من‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )1‬رواه‬
‫الجنة أو النار عليه‪ ،‬وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه‪ ،‬رقم (‪ ،)2868‬من حديث‬
‫أنس بن مالك رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪12‬‬

‫ويف صحيح مسلم(‪ )1‬أن النبي صىل اهلل عليه وسلم مر عىل قبور‬
‫سمعت أصوات‬
‫ْ‬ ‫فأسرعت به بغلته حتى كادت أن ترميه؛ ألهنا‬
‫المشركين ْ‬
‫المعذبين يف القبور‪ ،‬وشيخ اإلسالم ‪ -‬يف المجلد الخامس والثالثين ‪-‬‬
‫ذكر بأن الخيل تصيبها دا ٌء فت ْشفى ‪ -‬بإذن الله ‪ -‬إذا كانت متو ِّقف ًة ثم‬
‫مرضت خيلها يذهبون هبا ناحية قبر‬
‫ْ‬ ‫سارت فجأةً‪ ،‬قال‪« :‬فكان الناس إذا‬
‫مشرك‪ ،‬فإذا قربت منه تصرخ فجأ ًة ثم هترب‪ ،‬فتتعاىف بإذن الله»‪.‬‬

‫(‪ )1‬كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها‪ ،‬باب عرض مقعد الميت من الجنة أو‬
‫النار عليه‪ ،‬وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه‪ ،‬رقم (‪ ،)2867‬من حديث زيد بن‬
‫ثابت رضي اهلل عنه‪ ،‬ولفظه‪« :‬ب ْينما النب ُّي صىل اهلل عليه وسلم في حائط لبني‬
‫النجار‪ ،‬على ب ْغلة له ون ْحن معه‪ ،‬إ ْذ حاد ْت به فكاد ْت ت ْلقيه‪ ،‬وإذا أ ْقب ٌر ست ٌة أ ْو خ ْمس ٌة‬
‫أ ْو أ ْربع ٌة ‪ -‬قال‪ :‬كذا كان يقول ا ْلجر ْير ُّي ‪ -‬فقال‪ :‬م ْن ي ْعرف أ ْصحاب هذه ْاأل ْقبر؟‬
‫فقال رج ٌل‪ :‬أنا‪ ،‬قال‪ :‬فمتى مات هؤالء؟ قال‪ :‬ماتوا في ْاإل ْشراك‪ ،‬فقال‪ :‬إن هذه‬
‫ْاألمة ت ْبتلى في قبورها‪ ،‬فل ْوال أ ْن ال تدافنوا‪ ،‬لدع ْوت الله أ ْن ي ْسمعك ْم م ْن عذاب‬
‫ا ْلق ْبر الذي أ ْسمع منْه»‪.‬‬
‫‪13‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫وقد يطلع الله عز وجل النبي صىل اهلل عليه وسلم عىل شيء من‬
‫ذلك‪ ،‬فلما مر الن ُّبي صىل اهلل عليه وسلم عىل قبرين قال‪« :‬إنهما ليعذبان‪،‬‬
‫وما يعذبان في كبير» ؛ فدل عىل أن من يدفن قد يعذب‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫وورد يف القرآن العظيم أيض ًا عذاب القبر؛ قال سبحانه‪﴿ :‬النار‬


‫ي ْعرضون عل ْيها غد ّو ًا وعش ّي ًا﴾ هذا يف القبر‪﴿ ،‬وي ْوم تقوم الساعة أ ْدخلوا‬
‫آل ف ْرع ْون أشد ا ْلعذاب﴾ [غافر‪.]46 :‬‬
‫فلو قيل‪ :‬لماذا ذكر عذاب القبر ونحن نؤمن به؟ نقول‪ :‬نعم‪ ،‬لكن‬
‫المعتزلة ما يؤمنون به‪ ،‬فذكره ر ّد ًا عليهم‪.‬‬
‫وهذا المعتقد العظيم يف اإلسالم من هذه األسئلة الثالثة سوف‬
‫تطرح عليك يف قبرك‪ُّ ،‬‬
‫وكل إنسان حينذاك خصيم ن ْفسه؛ كما قال‬
‫سبحانه‪﴿ :‬ي ْوم ال ينْفع م ٌال وال بنون * إال م ْن أتى الله بق ْلب سليم﴾‬
‫[الشعراء‪ ،]89 – 88 :‬ما ينفعك إال هذا العمل الصالح الذي تقدِّ مه اليوم‪،‬‬

‫)‪ (1‬سبق تخريجه (ص) عند قوله (ومن العذاب‪ :‬ما ذكره الن ُّبي صىل الله عليه‬
‫البخاري ومسلم)‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫وسلم يف‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪14‬‬

‫فأعد العدة لتلك الساعة‪ ،‬وامأل قلبك باإليمان والعمل الصالح‪ ،‬والعلم‬
‫الراسخ حتى تثبت وتجيب عىل تلك األسئلة الثالثة العظيمة‪.‬‬
‫‪15‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫الق َيا َم ِة الك ْب َرى‪.‬‬


‫اب إِ َلى ي ْو ِم ِ‬
‫َ‬ ‫يم َوإِ َّما َع َذ ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ ِ‬
‫ث َّم َب ْع َد َهذه الف ْت َنة‪ :‬إِ َّما َنع ٌ‬
‫أل ْجس ِ‬
‫اد‪.‬‬ ‫أل ْر َواح إِ َلى ا َ َ‬ ‫َفت َعاد ا َ‬

‫َّ‬
‫الشرح‪:‬‬

‫يذكر رمحه اهلل هنا األمر الثاين مما يكون بعد الموت‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِِ ِ ِ‬
‫(ث َّم َب ْع َد َهذه ا ْلف ْت َنة) أي‪ :‬بعد االمتحان واالختبار‪( :‬إِ َّما َنع ٌ‬
‫يم) أي‪ :‬إما أن‬
‫ينعم الشخص يف قبره ويمد له يف قبره مد بصره‪ ،‬ويقال له‪« :‬انْظ ْر إلى‬
‫م ْقعدك من النار أ ْبدلك الله به م ْقعد ًا من الجنة»(‪ ،)1‬فيقول‪« :‬ر ِّب أقم‬
‫الساعة»(‪)2‬؛ ألنه يريد أن يدخل إىل ذلك النعيم‪.‬‬
‫(وإِ َّما َع َذ ٌ‬
‫اب) وهذا يختلف باختالف الميت‪:‬‬ ‫قال‪َ :‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب‪ :‬الميت يسمع خفق النعال‪ ،‬رقم‬


‫ُّ‬ ‫(‪ )1‬رواه‬
‫ومسلم‪ ،‬كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها‪ ،‬باب عرض مقعد الميت‬
‫ٌ‬ ‫(‪،)1338‬‬
‫من الجنة أو النار عليه‪ ،‬وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه‪ ،‬رقم (‪ ،)2870‬من‬
‫حديث أنس بن مالك رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)18534‬من حديث البراء بن عازب رضي اهلل‬
‫عنه‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪16‬‬

‫إن كان كافر ًا‪ - :‬فالعياذ بالله ‪ -‬يعذب يف قبره إىل قيام الساعة؛ لقوله‬
‫سبحانه‪﴿ :‬النار ي ْعرضون عل ْيها غد ّو ًا وعش ّي ًا﴾ [غافر‪.]46 :‬‬
‫وإن كان مؤمن ًا‪ :‬فعىل حسب جرمه؛ قد ِّ‬
‫يعذبه الله عز وجل إىل قيام‬
‫الساعة‪ ،‬أو قد ينقطع عنه العذاب بعد فترة‪ ،‬أو قد يعفو الله عز وجل عنه‬
‫يعذبه يف القبر‪ ،‬وعذاب القبر أهون نفس ّي ًا من العذاب يف اْلخرة؛ ألنه‬
‫وال ِّ‬
‫مستور ال أحد يعلم بتعذيب الله له‪ ،‬بخالف ما إذا كان مفضوح ًا أمام‬
‫ٌ‬
‫الناس بالعذاب والعياذ بالله‪.‬‬
‫وقد دل عىل عذاب القبر أو نعيمه عدة أدلة‪:‬‬
‫من القرآن‪ :‬قوله سبحانه‪﴿ :‬النار ي ْعرضون عل ْيها غد ّو ًا وعش ّي ًا﴾ هذا‬
‫[غافر‪:‬‬ ‫يف القبر‪﴿ ،‬وي ْوم تقوم الساعة أ ْدخلوا آل ف ْرع ْون أشد ا ْلعذاب﴾‬
‫‪.]46‬‬
‫السنَّة‪ :‬قوله صىل اهلل عليه وسلم لما مر عىل قبرين قال‪« :‬إنهما‬
‫ومن ُّ‬
‫ليعذبان‪ ،‬وما يعذبان في كبير»(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬سبق تخريجه (ص) عند قوله (ومن العذاب‪ :‬ما ذكره الن ُّبي صىل الله عليه‬
‫البخاري ومسلم)‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫وسلم يف‬
‫‪17‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫السنة والجماعة عىل أن الميت يعذب أو‬


‫ومن اإلمجاع‪ :‬أمجع أهل ُّ‬
‫ينعم يف قبره ‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬

‫رؤى مفرح ًة‪ ،‬فيتمنى أحيان ًا‬


‫ومن العقل‪ :‬اإلنسان إذا نام يجد أحيان ًا ً‬
‫يقم من نومه‪ ،‬وأحيان ًا رج ٌل بجانبه يقوم فزع ًا من رؤيا مفزعة‪ ،‬فإذا‬
‫أنه مل ْ‬
‫كان هذا يف حال النوم؛ فمن باب أوىل الموت‪.‬‬
‫وسع له يف‬ ‫أن يسأل الله عز وجل الجنة ْ‬
‫وأن ي ِّ‬ ‫لذلك ينبغي لإلنسان ْ‬
‫طريق سنسلكه مجيع ًا‪ ،‬فقد نسلكه اليوم؛‬
‫ٌ‬ ‫قبره وي ِّنور له فيه؛ ألن هذا‬
‫فيموت واحدٌ منا ويسلكه اليوم‪ ،‬وإن مل يمت اليوم يمت غد ًا‪ ،‬لذلك الله‬
‫قريب‪ ،‬وما بينك‬
‫ٌ‬ ‫قال‪﴿ :‬و ْلتنْظ ْر ن ْف ٌس ما قدم ْت لغد﴾ [الحشر‪ ]18 :‬يعني‪:‬‬
‫وبين القبر إال تو ُّقف هذه األنفاس‪ ،‬فإذا توقف نفسك أصبحت من أهل‬
‫الدار اْلخرة‪.‬‬
‫وأقسام الناس يف القبر بعد تلك الفتنة ينقسمون إىل أقسام‪:‬‬
‫أن يدخل يف قبره‪.‬‬‫نعيم منذ ْ‬ ‫ِ‬
‫عذاب‪ ،‬بل ٌ‬‫ٌ‬ ‫األول‪ :‬م ْن ال يناله‬
‫القسم َّ‬

‫(‪ )1‬مجموع فتاوى شيخ اإلسالم (‪.)262/4‬‬


‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪18‬‬

‫ِ‬
‫القسم الثاين‪ :‬م ْن يناله العذاب منذ دخوله القبر حتى يخرج منه ‪-‬‬
‫والعياذ بالله ‪ -‬كالكفار والمنافقين؛ قال سبحانه‪﴿ :‬النار ي ْعرضون عل ْيها‬
‫غد ّو ًا وعش ّي ًا وي ْوم تقوم الساعة أ ْدخلوا آل ف ْرع ْون أشد ا ْلعذاب﴾ [غافر‪:‬‬

‫‪.]46‬‬
‫ِ‬
‫القسم الثالث‪ :‬م ْن يناله العذاب وهم عصاة المؤمنين‪ ،‬وال يتواصل‬
‫عليهم العذاب يف نار جهنم بالتخليد‪ ،‬بخالف القسم السابق ‪ -‬وهم‬
‫الكفار ‪ -‬يتواصل عليهم العذاب إىل التخليد والعياذ بالله‪.‬‬
‫القسم الرابع‪ :‬م ْن يعذب من المؤمنين‪ ،‬ثم ينقطع عنه العذاب عىل‬‫ِ‬

‫حسب ذنْبه‪ ،‬أو مغفرة الله عز وجل له‪ ،‬وهو يف قبره ينتقل من عذاب إىل‬
‫نعيم‪.‬‬
‫وهؤالء األصناف األربعة إىل متى ينالهم ‪ -‬سوا ًء النعيم أو العذاب‬
‫‪ -‬وهم يف القبر؟‬
‫الق َيا َم ِة الك ْب َرى) أي‪ :‬إىل حين النفخ يف الصور‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫قال‪( :‬إِ َلى ي ْو ِم ِ‬
‫َ‬
‫(الك ْب َرى) احتراز ًا عن الموت ‪ -‬القيامة الصغرى ‪.-‬‬
‫والعذاب الذي ينال المؤمن يف القبر ‪ْ -‬‬
‫إن ناله شي ٌء ‪ -‬هو من‬
‫المك ِّفرات لذنوبه‪ ،‬فعذاب القبر أهون من النار؛ ألن عذاب النار ‪-‬‬
‫‪19‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫والعياذ بالله ‪ -‬فيه خزي أمام الناس؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬وي ْوم يقوم‬
‫مستور صاحبه بالقبر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫عذاب‬
‫ٌ‬ ‫ْاأل ْشهاد﴾ [غافر‪ ،]51 :‬أما يف القبر فهو‬
‫ثم بعد ذلك قرر رمحه اهلل مبد ًأ عظيم ًا من مبادئ اإليمان باليوم‬
‫اْلخر الذي أنكره الكفار‪ ،‬وهو إعادة األرواح إىل ن ْفس الجسد الذي كان‬
‫يف الدنيا‪ ،‬فعندنا مسألتان‪:‬‬
‫المسألة األولى‪ :‬وهي أن الله سبحانه يعيد هذه األجساد كما كانت؛‬
‫قصير ‪ -‬كما كانت يف الدنيا ‪ -‬واأل ْسود أ ْسو ٌد‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫طويل‪ ،‬والقصير‬ ‫الطويل‬
‫وهكذا‪ ،‬قال سبحانه‪﴿ :‬كما بد ْأنا أول خ ْلق نعيده﴾ [األنبياء‪]104 :‬؛ يعني‪:‬‬
‫اإلعادة‪ ،‬وقال سبحانه‪﴿ :‬وهو الذي ي ْبدأ ا ْلخ ْلق ثم يعيده﴾ [الروم‪،]27 :‬‬

‫واإلعادة‪ :‬هي التي أنكرها المشركون؛ قالوا‪ :‬إن الله ال يقدر عىل أن يعيد‬
‫هذه األجساد كما كانت‪﴿ ،‬أإذا كنا عظام ًا نخر ًة * قالوا ت ْلك إذ ًا كر ٌة‬
‫خاسر ٌة﴾ [النازعات‪﴿ ،]12-11 :‬وقالوا أإذا كنا عظام ًا ورفات ًا أإنا لم ْبعوثون‬
‫خ ْلق ًا جديد ًا﴾ [اإلسراء‪.]49 :‬‬
‫والمسألة الثانية‪ :‬وهي أن الله ينشئ خ ْلق ًا جديد ًا‪ ،‬وهذه ال ينكرها‬
‫المشركون‪ ،‬وإنما ينكرون أن يعاد يف اْلخرة ن ْفس المخلوق الذي كان‬
‫يف الدنيا‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪20‬‬

‫أل ْجس ِ‬
‫اد) وهذا ُّ‬
‫يدل عىل أهنم‬ ‫أل ْر َواح) إعاد ًة (إِ َلى ا َ َ‬
‫لذا قال‪َ ( :‬فت َعاد ا َ‬

‫يخرجون من القبور‪ ،‬ثم بعد ذلك ينفخ يف الصور في ْحيون‪ ،‬وليس النفخ‬
‫يكون وهم يف القبور؛ قال تعاىل‪﴿ :‬فإذا ه ْم قيا ٌم ينْظرون﴾ [الزمر‪ ]68 :‬بعد‬
‫ما خرجوا من القبر ‪ -‬والله أعلم ‪ -‬عىل قول بعض أهل العلم‪ ،‬ومنهم من‬
‫يقول‪ :‬أهنم وهم يف القبور يقومون‪.‬‬
‫إذ ًا‪ :‬قوله‪﴿ :‬ي ْوم يقوم الناس لر ِّب ا ْلعالمين﴾ [المطففين‪]6 :‬؛ قيل‪:‬‬
‫أهنم يقومون ثم ينفخ فيهم‪ ،‬وقيل‪ :‬ينفخ فيهم وهم يف القبور ويخرجون‬
‫بعد النفخ‪ ،‬والعلم عند الله‪.‬‬
‫فالقبر منزل ٌة عظيم ٌة‪ ،‬وهو فتن ٌة كبير ٌة وكرب ٌة شديدةٌ؛ لذلك أمر الن ُّبي‬
‫عوذ من فتنته قبل ِّ‬
‫كل سالم يف الصالة كما يف‬ ‫صىل اهلل عليه وسلم بالت ُّ‬
‫البخاري ومسلم(‪« :)1‬اللهم إنِّي أعوذ بك م ْن عذاب ا ْلق ْبر‪ ،‬ومن‬
‫ِّ‬ ‫صحيح‬
‫عذاب النار‪ ،‬وم ْن فتْنة ا ْلم ْحيا وا ْلممات‪ ،‬وم ْن فتْنة ا ْلمسيح الدجال»‪.‬‬

‫(‪ )1‬سبق تخريجه (ص) عند قوله (وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعاذ‬
‫قبل السالم من فتنة المسيح الدجال)‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫فيجب عىل المسلم أن يعد العدة‪ ،‬ويتأهب للنقلة لذلك المكان‬


‫العظيم الذي سوف ننتقل إليه مجيع ًا‪ ،‬ولن يبقى لنا سوى العمل الصالح‬
‫الصحبة الصالحة‪،‬‬
‫بكثرة الطاعات‪ ،‬والبعد عن المعاصي‪ ،‬ولزوم ُّ‬
‫واإلكثار من األعمال التي ترضي الله عز وجل‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬كثرة تالوة‬
‫والذكر والعلم الشرعي؛ لذلك يف الحديث‪« :‬إن ا ْلمالئكة‬
‫القرآن الكريم ِّ‬
‫لتضع أ ْجنحتها لطالب ا ْلع ْلم رض ًا بما ي ْصنع»(‪ ،)1‬وما رضيت المالئكة‬
‫عن ف ْعل طالب العلم إال لرضى الله عز وجل هبذا الفعل‪.‬‬
‫والدنيا قصيرة وزوالها سريع‪ ،‬وأبواب المقابر مفتوح ٌة للجميع يف‬
‫أي زمن؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬ه ْل ينْظرون إال الساعة أ ْن ت ْأتيه ْم ب ْغت ًة﴾‬
‫ِّ‬
‫[الزخرف‪.]66 :‬‬

‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)18089‬من حديث صفوان بن عسال رضي‬
‫اهلل عنه‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪22‬‬

‫ان َرسولِ ِه صلى‬ ‫الق َيا َمة ا َّلتِي َأ ْخ َب َر ال َّله بِهَ ا فِي كِ َتابِ ِه‪َ ،‬و َع َلى لِ َس ِ‬
‫َو َتقوم ِ‬

‫اهلل عليه وسلم‪َ ،‬و َأ ْج َم َع َع َل ْيهَ ا الم ْسلِمونَ ‪.‬‬


‫ور ِه ْم لِ َر ِّب ال َعا َل ِم َ‬
‫ين ح َفا ًة ع َرا ًة غ ْر ً‬
‫َل‪َ ،‬و َت ْدنو‬ ‫َف َيقوم النَّاس ِم ْن قب ِ‬

‫جمهم ال َع َرق‪.‬‬ ‫ِم ْنهم َّ‬


‫الش ْمس‪َ ،‬وي ْل ِ‬

‫َّ‬
‫الشرح‪:‬‬
‫يذكر رمحه اهلل هنا ما سيكون بعد قيام الناس من قبورهم‪ ،‬وما‬
‫سيذكره ال بد فيه من أمور‪:‬‬
‫األول‪ :‬يجب ْ‬
‫أن نعلمه؛ ألن هذا من باب االعتقاد والعلم‬ ‫األمر َّ‬
‫والتصديق بالنصوص ومن اإليمان بالغيب‪.‬‬
‫واألمر الثاين‪ :‬أن فيه عبرة وعظة؛ ألننا سنشاهد ما سنقرأه اليوم عيان ًا‬
‫بأبصارنا يوم القيامة‪ ،‬فيكون ذلك داعي ًا لموعظتنا وللرجوع إىل الله‬
‫والتوبة إليه‪.‬‬
‫السنة والجماعة فيما سيذكره‬
‫واألمر الثالث‪ :‬لمعرفة ما عليه أهل ُّ‬
‫المصنِّف رمحه اهلل من األحوال التي تكون يف أرض المحشر‪.‬‬
‫والمصنِّف رمحه اهلل ساق ثالثة أدلة عىل قيام الساعة‪:‬‬
‫‪23‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫(و َتقوم ا ْل ِق َيا َمة ا َّلتِي َأ ْخ َب َر ال َّله بِهَ ا فِي كِ َتابِ ِه)‬
‫األول‪ :‬قال‪َ :‬‬
‫الدليل َّ‬
‫كقوله جل وعال‪﴿ :‬أال يظ ُّن أولئك أنه ْم م ْبعوثون * لي ْوم عظيم * ي ْوم‬
‫يقوم الناس لر ِّب ا ْلعالمين﴾ [المطففين‪ ،]6 – 4 :‬وكقوله‪﴿ :‬يا أ ُّيها الناس‬
‫يم * ي ْوم تر ْونها ت ْذهل ك ُّل م ْرضعة‬
‫اتقوا ربك ْم إن ز ْلزلة الساعة ش ْي ٌء عظ ٌ‬
‫عما أ ْرضع ْت‪ ﴾...‬اْلية [الحج‪ ،]2 – 1 :‬وكقوله سبحانه‪﴿ :‬ا ْلحاقة * ما‬
‫ا ْلحاقة﴾ [الحاقة‪ ،]-1 :‬وكقوله‪﴿ :‬ا ْلقارعة * ما ا ْلقارعة﴾ [القارعة‪،]2-1 :‬‬
‫وكقوله‪﴿ :‬فإذا جاءت الصاخة﴾ [عبس‪ ،]33 :‬وكقوله‪﴿ :‬فإذا جاءت‬
‫الطامة ا ْلك ْبرى﴾ [النازعات‪ ،]34 :‬وكقوله‪﴿ :‬ي ْسألونك عن الساعة أيان‬
‫م ْرساها ق ْل إنما ع ْلمها عنْد ر ِّبي ال يج ِّليها لو ْقتها إال هو﴾ [األعراف‪.]187 :‬‬
‫ان َرسولِ ِه صلى اهلل عليه وسلم) أي‪:‬‬‫(و َع َلى لِ َس ِ‬
‫والدليل الثاين‪ :‬قال‪َ :‬‬
‫أخبر الن ُّبي صىل اهلل عليه وسلم عن قيام الساعة هبا‪ ،‬وهذا يف أحاديث‬
‫الصراط‪ ،‬والحوض‪ ،‬وغير‬
‫كثيرة ستأيت؛ مثل أحاديث الميزان‪ ،‬وأحاديث ِّ‬
‫ذلك‪.‬‬
‫(و َأ ْج َم َع َع َل ْيهَ ا ا ْلم ْسلِمونَ ) أي‪ :‬أمجعوا عىل‬
‫والدَّ ليل الثَّالث‪ :‬قال‪َ :‬‬
‫قيام الساعة‪ ،‬بل حتى اليهود والنصارى يؤمنون بقيام الساعة؛ قال‬

‫سبحانه‪﴿ :‬وقالوا ل ْن يدْ خل ا ْلجنة إال م ْ‬


‫ن كان هود ًا أ ْو نصارى﴾ [البقرة‪:‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪24‬‬

‫‪ ،]111‬فيؤمنون بأن فيه جن ًة ويؤمنون بأن فيه نار ًا‪ ،‬فدل عىل أنهم يؤمنون‬
‫بالبعث والنشور‪.‬‬
‫ودل أيض ًا عليها دليل ٌ‬
‫رابع مل يذكره المصنِّف رمحه اهلل وهو‪ :‬دليل‬
‫العقل‪ ،‬فالله عز وجل كلفنا يف هذه الدُّ نيا بتكاليف من األوامر والنواهي‪،‬‬
‫ووعدنا بالجنة‪ ،‬فإذا كنا ال نبعث لنجازى فما فائدة هذه التكاليف؟!‬
‫القوي حق الضعيف؛‬
‫ُّ‬ ‫وكذا لو مل تكن قيام ٌة‪ :‬لبغى الظامل يف ظلمه‪ ،‬وأخذ‬
‫فدل العقل عىل أنه ال بد م ْن حساب عىل أعمال الناس التي يعملوهنا‬
‫اْلن‪.‬‬
‫فإذا قامت القيامة هبذه األدلة التي ذكرها المصنِّف‪ ،‬قال‪َ ( :‬ف َيقوم‬
‫أن ينفخ يف الصور‪ ،‬وذكر الله عز‬ ‫ين) بعد ْ‬‫ور ِه ْم لِ َر ِّب ا ْل َعا َل ِم َ‬
‫النَّاس ِم ْن قب ِ‬

‫وجل يف كتابه ثالث نفخات للصور‪:‬‬


‫النَّفخة األولى‪ :‬الفزع‪.‬‬
‫والنَّفخة الثانية‪ :‬الص ْعق‪.‬‬
‫والنَّفخة الثالثة‪ :‬القيام من القبور‪.‬‬
‫‪25‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫لذلك بعض أهل العلم يرى أن عدد النفخات ثالث ٌة‪.‬‬


‫(‪)1‬‬

‫وبعضهم يرى أنها ن ْفختان فقط وهي المذكورة يف سورة الزمر‪.‬‬‫(‪)2‬‬

‫والجمع بين اْليات ممك ٌن‪ :‬فنقول‪ :‬نفخة فزع‪ ،‬ونفخة صعق‬
‫وغشي وموت‪ ،‬والنفخة الثالثة‪ :‬القيام من القبور‪ ،‬وهي التي يشير إليها‬
‫ٍّ‬
‫شيخ اإلسالم رمحه اهلل؛ قال سبحانه‪﴿ :‬فإذا ه ْم قيا ٌم ينْظرون﴾ [الزمر‪،]68 :‬‬
‫وهذا القيام للحساب وألمور أخرى‪.‬‬
‫واشتهر هذا الموقف بالحساب؛ ألنه من أعظم ما يكون يوم‬
‫القيامة؛ ﴿إنه ْم كانوا ال ي ْرجون حساب ًا﴾ [النبأ‪.]27 :‬‬
‫ور ِه ْم) ممن قبر‪ ،‬ومن مل يقبر كذلك‬ ‫وقوله‪َ ( :‬ف َيقوم النَّاس ِم ْن قب ِ‬

‫يقوم إىل أرض المحشر‪.‬‬


‫وأخبر الله عز وجل أن المرابي إذا قام من قبره يسقط ال يقوم؛ كما‬

‫قال سبحانه‪﴿ :‬الذين ي ْأكلون ِّ‬


‫الربا ال يقومون إال كما يقوم الذي يتخبطه‬

‫(‪ )1‬كشيخ اإلسالم رمحه الله‪ .‬مجموع فتاوى شيخ اإلسالم (‪.)260/4‬‬
‫(‪ )2‬كالقرطبي رمحه اهلل‪ .‬التذكرة بأحوال الموتى وأمور اْلخرة للقرطبي‬
‫(ص‪.)940‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪26‬‬

‫الش ْيطان من ا ْلم ِّس ذلك بأنه ْم قالوا إنما ا ْلب ْيع م ْثل ِّ‬
‫الربا﴾ [البقرة‪،]275 :‬‬
‫فيقوم آكل الربا ويسقط يف هذا الموقف العظيم‪.‬‬
‫وأول من ينشق عنه القبر هو محمدٌ صىل اهلل عليه وسلم كما قال‬

‫عن نفسه‪« :‬وأنا أول م ْن ينْش ُّق عنْه ا ْلق ْبر» ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫وكيف صفة قيامهم وخروجهم من القبر؟‬


‫األول‪ :‬قال‪( :‬ح َفا ًة) أي‪ :‬ال نعال عليهم‪.‬‬
‫الوصف َّ‬
‫والوصف الثاين‪ :‬قال‪( :‬ع َرا ًة) أي‪ :‬ال ثياب عليهم‪ ،‬لكن بعد ذلك‬
‫يكس ْون‪ ،‬وأول من يكسى إبراهيم عليه السالم(‪.)2‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتاب الفضائل‪ ،‬باب تفضيل نبينا صىل اهلل عليه وسلم عىل مجيع‬
‫ٌ‬ ‫)‪ (1‬رواه‬
‫الخالئق‪ ،‬رقم (‪ ،)2278‬من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬كما يف حديث ابن عباس رضي اهلل عنهما أن النبي صىل اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫البخاري‪ ،‬كتاب أحاديث‬
‫ُّ‬ ‫«أول م ْن ي ْكسى من ا ْلخالئق إ ْبراهيم عليه السالم»‪ .‬رواه‬
‫األنبياء‪ ،‬باب ق ْول الله تعالى‪﴿ :‬واتخذ الله إ ْبراهيم خليالً﴾‪ ،‬رقم (‪،)3349‬‬
‫ومسلم‪ ،‬كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها‪ ،‬باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم‬
‫ٌ‬
‫القيامة‪ ،‬رقم (‪.)2860‬‬
‫‪27‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫والوصف الثالث‪ :‬قال‪( :‬غ ْر ً‬


‫َل) أي‪ :‬غير مختونين؛ أي‪ :‬أن كل شيء‬
‫يف اإلنسان ذهب بعد موته أو يف حياته يعود؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬كما بد ْأنا‬
‫أول خ ْلق نعيده و ْعد ًا عل ْينا﴾ [األنبياء‪ ،]104 :‬فحتى قطعة الختان تعود عند‬
‫لرب العالمين‪.‬‬
‫قيام الناس ِّ‬
‫وقوله‪( :‬ح َفا ًة ع َرا ًة) مجيع الناس من الذكر واألنثى؛ لذلك قالت‬

‫عائشة رضي اهلل عنها‪« :‬ق ْلت‪ :‬يا رسول الله! النِّساء و ِّ‬
‫الرجال جميع ًا ينْظر‬
‫ب ْعضه ْم إلى ب ْعض؟ قال صىل اهلل عليه وسلم‪ :‬يا عائشة! ْاأل ْمر أشدُّ م ْن أ ْن‬

‫ينْظر ب ْعضه ْم إلى ب ْعض» ‪.‬‬


‫(‪)1‬‬

‫ومسلم‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫البخاري‪ ،‬كتاب الرقاق‪ ،‬باب‪ :‬كيف الحشر‪ ،‬رقم (‪،)6527‬‬
‫ُّ‬ ‫)‪ (1‬رواه‬
‫كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها‪ ،‬باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة‪ ،‬رقم‬
‫(‪.)2859‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪28‬‬

‫ويف هذا الموقف‪ :‬الشهيد يقوم ودمه ي ْثعب «ل ْونه ل ْون الدم‪ ،‬وريحه‬
‫ريح ا ْلم ْسك» ‪ ،‬ومن مات محرم ًا حشر مل ِّبي ًا ‪ ،‬وهكذا ُّ‬
‫كل إنسان يبعث‬ ‫(‪)2‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫عىل حاله يف هذا الموقف العظيم‪.‬‬


‫(و َت ْدنو ِم ْنهم َّ‬
‫الش ْمس) وهذا لفظ‬ ‫والوصف الرابع‪ :‬قال‪َ :‬‬
‫رشحهم يف األرض سبعين ذراع ًا م ْن كثرة‬
‫قال‪ :‬ويكون ْ‬ ‫البخاري(‪)3‬‬
‫ِّ‬
‫العرق‪ ،‬قال النب ُّي صىل اهلل عليه وسلم‪« :‬ويصيب الناس يومئذ غ ٌّم»(‪،)4‬‬

‫)‪ (1‬رواه النسائي‪ ،‬كتاب الجهاد‪ ،‬باب‪ :‬من كلم يف سبيل الله عز وجل‪ ،‬رقم‬
‫(‪ ،)3147‬من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫)‪ (2‬كما يف حديث ابن عباس رضي اهلل عنهما‪« :‬أن رجالً أ ْوقصتْه راحلته وهو‬
‫م ْحر ٌم فمات‪ ،‬فقال رسول الله صىل اهلل عليه وسلم‪ :‬ا ْغسلوه بماء وسدْ ر وك ِّفنوه‬
‫في ث ْوب ْيه‪ ،‬وال تخ ِّمروا ر ْأسه وال و ْجهه‪ ،‬فإنه ي ْبعث ي ْوم ا ْلقيامة مل ِّبي ًا»‪ .‬رواه‬
‫البخاري‪ ،‬باب جزاء الصيد ونحوه‪ ،‬باب سنة المحرم إذا مات‪ ،‬رقم (‪،)1851‬‬
‫ُّ‬
‫ومسلم‪ ،‬كتاب الحج‪ ،‬باب ما يفعل بالمحرم إذا مات‪ ،‬رقم (‪.)1206‬‬
‫ٌ‬
‫(‪ )3‬كتاب أحاديث األنبياء‪ ،‬باب ق ْول الله تعالى‪﴿ :‬إنا أ ْرس ْلنا نوح ًا إلى ق ْومه﴾‪،‬‬
‫رقم (‪ ،)3340‬من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫البخاري‪ ،‬كتاب تفسير القرآن‪ ،‬باب قول الله تعاىل‪﴿ :‬ذ ِّرية م ْن حم ْلنا مع‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )4‬رواه‬
‫‪29‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫فالشمس قريب ٌة منهم‪ ،‬حتى قال الراوي‪ :‬ال أدري أقال الن ُّبي صىل اهلل عليه‬
‫وسلم لما قال‪« :‬قدْ ر م ْيل»؛ هل يعني‪ :‬ميل المسافة أو الم ْكحلة(‪)1‬؛‬
‫لقرهبا‪.‬‬
‫ويف دن ِّو الشمس ال يكون ألحد فيها ٌّ‬
‫ظل سوى ما أتى النص فيه‪،‬‬
‫مثل‪ :‬السبعة الذين يظ ُّلهم الله يف ظ ِّله(‪ ،)2‬ومثل‪ :‬الرجل المتصدِّ ق؛ كما‬

‫ومسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب أدنى‬


‫ٌ‬ ‫نوح إنه كان ع ْبد ًا شكور ًا﴾‪ ،‬رقم (‪،)4712‬‬
‫أهل الجنة منزلة فيها‪ ،‬رقم (‪ ،)194‬من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬ولفظه‪:‬‬
‫«في ْبلغ الناس من ا ْلغ ِّم وا ْلك ْرب ما ال يطيقون‪ ،‬وما ال ي ْحتملون»‪.‬‬
‫مسلم‪ ،‬كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها‪ ،‬باب يف صفة يوم القيامة أعاننا‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )1‬رواه‬
‫الله عىل أهوالها‪ ،‬رقم (‪ ،)2864‬من حديث المقداد رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫البخاري‪ ،‬كتاب األذان‪ ،‬باب من جلس يف المسجد ينتظر الصالة‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )2‬رواه‬
‫ومسلم‪ ،‬كتاب الزكاة‪ ،‬باب فضل إخفاء الصدقة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫وفضل المساجد‪ ،‬رقم (‪،)660‬‬
‫رقم (‪ ،)1031‬من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬ولفظه‪« :‬س ْبع ٌة يظ ُّلهم الله في‬
‫اب نشأ في عبادة ر ِّبه‪ ،‬ورج ٌل ق ْلبه‬
‫ظ ِّله‪ ،‬ي ْوم ال ظل إال ظ ُّله‪ :‬اإلمام العادل‪ ،‬وش ٌّ‬
‫اجتمعا عل ْيه وتفرقا عل ْيه‪ ،‬ورج ٌل طلبتْه‬
‫معل ٌق في المساجد‪ ،‬ورجالن تحابا في الله ْ‬
‫ا ْمرأ ٌة ذات منْصب وجمال‪ ،‬فقال‪ :‬إنِّي أخاف الله‪ ،‬ورج ٌل تصدق‪ ،‬أ ْخفى حتى ال‬
‫ت ْعلم شماله ما تنْفق يمينه‪ ،‬ورج ٌل ذكر الله خالي ًا ففاض ْت ع ْيناه»‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪30‬‬

‫قال الن ُّبي صىل اهلل عليه وسلم‪« :‬ك ُّل ا ْمرئ يف ظ ِّل صدقته حتى ي ْفصل ب ْين‬
‫الناس»(‪ ،)1‬ومثل‪ :‬الذي يقرأ الزهراوين – البقرة وآل عمران ‪ -‬الن ُّبي‬
‫صىل اهلل عليه وسلم قال‪« :‬فإنهما ت ْأتيان ي ْوم ا ْلقيامة كأنهما غمامتان‪ ،‬أ ْو‬
‫كأنهما غيايتان‪ ،‬أ ْو كأنهما ف ْرقان م ْن ط ْير صواف‪ ،‬تحاجان ع ْن‬
‫أ ْصحابهما»(‪.)2‬‬
‫وهذا الظل بعض أهل العلم يرى أن الله عز وجل يخلقه‪.‬‬
‫(‪)3‬‬

‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)17333‬من حديث عقبة بن عامر رضي الله‬
‫عنه‪.‬‬
‫مسلم‪ ،‬كتاب صالة المسافرين وقصرها‪ ،‬باب فضل قراءة القرآن‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )2‬رواه‬
‫وسورة البقرة‪ ،‬رقم (‪ ،)804‬من حديث أبي أمامة الباهيل رضي الله عنه‪.‬‬
‫(‪ )3‬كابن عثيمين رمحه الله‪ .‬شرح رياض الصالحين البن عثيمين (‪.)90/2‬‬
‫‪31‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫وبعض أهل العلم يرى أنه ظل العرش؛ ألنه أتت يف رواية‪« :‬س ْبع ٌة‬
‫(‪)1‬‬

‫يظ ُّلهم الله يف ظ ِّله يوم ال ظل إال ظل ع ْرشه» ‪ ،‬لكن بعض أهل العلم‬
‫(‪)2‬‬

‫يض ِّعف هذه الرواية‪.‬‬


‫يصح ْ‬
‫أن نقول‪ :‬أن هذا هو ظل الله؛ ألنه قد يلزم أن الشمس‬ ‫ُّ‬ ‫وال‬
‫عيل‬ ‫ً‬
‫أعىل من الله‪ ،‬ولكانت الشمس أيضا أكبر من الله‪ ،‬فالله عز وجل ٌّ‬
‫كبير ال أكبر منه‪.‬‬
‫ٌ‬
‫أصح األقوال يف هذا وأسلمها‪ :‬أن نقول‪ :‬الظل ظالن‪:‬‬
‫لذلك ُّ‬
‫األول‪ٌّ :‬‬
‫ظل موجو ٌد تحت العرش‪ ،‬والنبي صىل اهلل عليه وسلم‬ ‫ُّ‬
‫الظل َّ‬
‫قال‪« :‬س ْبع ٌة يظ ُّلهم الله يف ظ ِّله ي ْوم ال ظل إال ظ ُّله»‪ ،‬ويف لفظ‪« :‬س ْبع ٌة‬
‫يظ ُّلهم الله يف ظ ِّله يوم ال ظل إال ظل ع ْرشه»(‪ ،)3‬فيحمل المطلق عىل‬

‫(‪ )1‬كابن منده وابن رجب الحنبيل رمحهما الله‪ .‬التوحيد البن منده (‪،)191/3‬‬
‫فتح الباري البن رجب (‪.)51/6‬‬
‫الطحاوي يف شرح مشكل اْلثار‪ ،‬رقم (‪ ،)5845/71/15‬من حديث‬
‫ُّ‬ ‫)‪ (2‬رواه‬
‫أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬ولفظه‪« :‬في ظ ِّل ع ْرشه ي ْوم ال ظل إال ظ ُّله»‪.‬‬
‫الطحاوي يف شرح مشكل اْلثار (‪ ،)5845/71/15‬من حديث أبي‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )3‬رواه‬
‫هريرة رضي الله عنه‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪32‬‬

‫المقيد‪ ،‬فالمراد بالظل‪ :‬ظل العرش‪.‬‬


‫وال ِّظ ُّل ال َّثاين‪ٌّ :‬‬
‫ظل الله عز وجل يخلقه ألعمال يقوم هبا المؤمنون‬
‫يف حياهتم‪ ،‬مثل‪ :‬استظالل من كان يف المحشر بالصدقة؛ كما قال صىل‬
‫اهلل عليه وسلم‪« :‬ك ُّل ا ْمرئ يف ظ ِّل صدقته حتى ي ْفصل ب ْين الناس»(‪.)1‬‬
‫(وي ْل ِ‬
‫جمهم ا ْل َع َرق) أي‪ :‬يرتفع العرق إىل‬ ‫والوصف الخامس‪ :‬قال‪َ :‬‬
‫أفواههم كال ِّلجام الذي ت ْلجم به البهيمة‪ ،‬ومنهم م ْن يصل العرق إىل ما‬
‫هو دون أدنى م ْن ذلك؛ كما قال الن ُّبي صىل اهلل عليه وسلم يف صحيح‬
‫مسلم(‪« :)2‬فمنْه ْم م ْن يكون إلى ك ْعب ْيه‪ ،‬ومنْه ْم م ْن يكون إلى ركْبت ْيه‪،‬‬
‫ومنْه ْم م ْن يكون إلى ح ْقو ْيه‪ ،‬ومنْه ْم م ْن ي ْلجمه ا ْلعرق إ ْلجام ًا»‪ ،‬عىل‬
‫حسب أعمالهم‪.‬‬
‫فهذه مخسة أوصاف ذكرها المصنِّف رمحه اهلل مما سيكون يف أرض‬
‫المحشر‪ ،‬والله عز وجل يقول‪﴿ :‬إن و ْعد الله ح ٌّق فال تغرنكم ا ْلحياة‬
‫الدُّ نْيا وال يغرنك ْم بالله ا ْلغرور﴾ [لقمان‪.]33 :‬‬

‫(‪ )1‬سبق تخريجه بالصفحة السابقة‪.‬‬


‫(‪ )2‬كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها‪ ،‬باب يف صفة يوم القيامة أعاننا الله عىل‬
‫أهوالها‪ ،‬رقم (‪ ،)2864‬من حديث المقداد رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫‪33‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫ويف ذلك الموقف‪« :‬المؤ ِّذنون أ ْطول الناس أ ْعناق ًا ي ْوم القيامة»(‪،)1‬‬
‫ويف ذلك الموقف‪« :‬ي ْحشر ا ْلمتك ِّبرون ي ْوم ا ْلقيامة أ ْمثال الذ ِّر في صور‬
‫الناس‪ ،‬ي ْعلوه ْم ك ُّل ش ْيء من الصغار»(‪)2‬؛ جزا ًء لما تكبروا به عىل‬
‫الخ ْلق‪ ،‬ويف ذلك الموقف‪ :‬المالئكة محيط ٌة بالخالئق؛ كما قال سبحانه‪:‬‬
‫﴿يقول ْاإلنْسان ي ْومئذ أ ْين ا ْلمف ُّر * كال ال وزر * إلى ر ِّبك ي ْومئذ‬
‫ا ْلم ْستق ُّر﴾ [القيامة‪]12-10 :‬؛ يعني‪ :‬يريد أن يهرب لشدة اله ْول لكنه ال‬
‫يستطيع‪.‬‬
‫فيجب عىل المسلم ْ‬
‫أن يستعد لذلك اليوم الذي سيالقيه ال محالة‬
‫باإلكثار م ْن العمل الصالح بقدر ما يمكن قبل ْ‬
‫أن ينقطع عمله بالموت؛‬
‫كما يف الحديث‪« :‬إذا مات ْاإلنْسان انْقطع عنْه عمله إال م ْن ثالثة»(‪،)3‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتاب الصالة‪ ،‬باب فضل األذان وهرب الشيطان عند سماعه‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )1‬رواه‬
‫رقم (‪ ،)387‬من حديث معاوية رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)6677‬من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن‬
‫جده رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫مسلم‪ ،‬كتاب الوصية‪ ،‬باب ما يلحق اإلنسان من الثواب بعد وفاته‪ ،‬رقم‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )3‬رواه‬
‫(‪ ،)1631‬من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪34‬‬

‫وكذلك االبتعاد عن المعاصي فهي مما يسخط الرمحن سبحانه وتعاىل‪،‬‬


‫ولهذا يسمى يوم القيامة يوم التغابن؛ أي‪ :‬يغبن الناس بعضهم بعض ًا؛‬
‫يعني‪ :‬بعض الناس يقول لآلخر‪ :‬ما أسعده حصل له كذا‪ ،‬والثاين يقول‪:‬‬
‫هذا ما أسعده حصل له كذا وهكذا؛ لذلك س ِّمي التغابن ‪ -‬يغبن بعضهم‬
‫بعض ًا ‪.-‬‬
‫وم ْن أج ِّل األمور التي يح ُّبها الله عز وجل‪ :‬طلب العلم؛ ألن المرء‬
‫ال يمكن ْ‬
‫أن يصل إىل منْزلة الخشية إال به؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬إنما ي ْخشى‬
‫أحب الخلق إىل الله سبحانه‬
‫ُّ‬ ‫الله م ْن عباده ا ْلعلماء﴾ [فاطر‪ ،]28 :‬وهم‬
‫وتعاىل بعد رسله‪.‬‬
‫‪35‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫العب ِ‬
‫ِ‬ ‫َوت ْن َصب الم َو ِازين؛ َفت َ ِ‬
‫اد‪َ ﴿ ،‬ف َم ْن َثق َل ْت َم َو ِازينه‬ ‫وزن فيهَ ا َأ ْع ََمل َ‬ ‫َ‬
‫ين َخ ِسروا‬ ‫َفأو َلئِ َك هم ا ْلم ْفلِحونَ * َو َم ْن َخ َّف ْت َم َو ِازينه َفأو َلئِ َك ا َّل ِذ َ‬
‫َأ ْنف َسه ْم فِي َجهَ ن ََّم َخالِدونَ ﴾‪.‬‬
‫َّ‬
‫الشرح‪:‬‬
‫يذكر المؤ ِّلف رمحه اهلل هنا أمر ًا مما يجب اإليمان به وهو من‬
‫اإليمان باليوم اْلخر مما يقع فيه وهو ن ْصب الموازين‪.‬‬
‫أن ال يضع كلم ًة إال فيها ر ٌّد عىل‬
‫والمصنِّف رمحه اهلل هنا اشترط ْ‬
‫طائفة‪ ،‬ويف نصب الموازين ر ٌّد عىل المعتزلة؛ إ ْذ أنهم ينْكرون الوزن‪،‬‬
‫قول ٌ‬
‫باطل‪.‬‬ ‫ويقولون‪ :‬المراد هبا العدل؛ وهذا ٌ‬
‫(الم َو ِازين) أي‪ :‬يف أرض‬
‫(وت ْن َصب) أي‪ :‬توضع َ‬
‫قال رمحه اهلل‪َ :‬‬
‫المحشر‪ ،‬وهنا قال المصنِّف‪( :‬ا ْل َم َو ِازين) كما قال سبحانه‪﴿ :‬ونضع‬
‫ا ْلموازين ا ْلق ْسط﴾ [األنبياء‪.]47 :‬‬
‫وورد الميزان باإلفراد؛ كما قال عليه الصالة والسالم‪« :‬وا ْلح ْمد‬
‫لله ت ْمأل ا ْلميزان»(‪.)1‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتاب الطهارة‪ ،‬باب فضل الوضوء‪ ،‬رقم (‪ ،)223‬من حديث أبي‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )1‬رواه‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪36‬‬

‫والج ْمع بينهما‪ :‬أن المراد بالتعدُّ د‪ :‬تعدُّ د الم ْوزون‪ ،‬فالذي يوزن‪:‬‬
‫مجيع البشر‪ ،‬فال نقول‪ :‬موازين الناس هذه ثقيل ٌة وهذه خفيف ٌة وهكذا‪.‬‬
‫(وت ْن َصب ا ْل َم َو ِازين) والله أعلم أن الميزان واحدٌ لجميع‬
‫وقوله‪َ :‬‬
‫لكل أمة ميزان ًا‪ ،‬لكن ليس فيه ٌ‬
‫دليل‪.‬‬ ‫األمم‪ ،‬وبعض أهل العلم يرى أن ِّ‬
‫(‪)1‬‬

‫حقيقي له كفتان ما يرجح منْهما يدنو وهو الثقيل؛‬


‫ٌّ‬ ‫حس ٌّي‬
‫والميزان ِّ‬
‫يف حديث البطاقة‪« :‬إن الله عز وجل‬ ‫أمحد(‪)2‬‬ ‫كما يف مسند اإلمام‬
‫ي ْست ْخلص رجالً م ْن أمتي على رءوس ا ْلخالئق ي ْوم ا ْلقيامة‪ ،‬فينْشر عل ْيه‬
‫ت ْسع ًة وت ْسعين سج ّالً‪ ،‬ك ُّل سج ٍّل مد ا ْلبصر‪.‬‬
‫ثم يقول له‪ :‬أتنْكر م ْن هذا ش ْيئ ًا؟ أظلمتْك كتبتي ا ْلحافظون؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ،‬يا ر ِّب‪.‬‬
‫فيقول‪ :‬ألك ع ْذ ٌر‪ ،‬أ ْو حسن ٌة؟‬
‫في ْبهت الرجل‪ ،‬فيقول‪ :‬ال‪ ،‬يا ر ِّب‪.‬‬

‫األشعري رضي اهلل عنه‪.‬‬


‫ِّ‬ ‫مالك‬
‫(‪ )1‬ذكره السفاريني بال نسبة‪ .‬لوامع األنوار للسفاريني (‪.)186/2‬‬
‫(‪ )2‬رقم (‪ ،)6994‬من حديث عبد الله بن عمرو رضي اهلل عنهما‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫فيقول‪ :‬بلى‪ ،‬إن لك عنْدنا حسن ًة واحدةً‪ ،‬ال ظ ْلم ا ْلي ْوم عل ْيك‪،‬‬
‫فت ْخرج له بطاق ٌة‪ ،‬فيها‪ :‬أ ْشهد أ ْن ال إله إال الله‪ ،‬وأن محمد ًا ع ْبده ورسوله‪.‬‬
‫فيقول‪ :‬أ ْحضروه‪.‬‬

‫فيقول‪ :‬يا ر ِّب! ما هذه ا ْلبطاقة مع هذه ِّ‬


‫السجالت؟‬
‫فيقال‪ :‬إنك ال ت ْظلم‪.‬‬
‫السجالت في كفة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فتوضع ِّ‬
‫السجالت‪ ،‬وثقلت ا ْلبطاقة‪ ،‬وال ي ْثقل ش ْي ٌء ب ْسم الله‬
‫قال‪ :‬فطاشت ِّ‬
‫الر ْحمن الرحيم»؛ فدل عىل أن الثقيل ينزل كما هي موازين الناس اْلن‬
‫يف الدنيا‪.‬‬
‫وزن فِيهَ ا) الذي يوزن ثالثة أمور‪:‬‬
‫ثم قال‪َ ( :‬فت َ‬
‫وزن فِيهَ ا َأ ْع ََمل‬
‫األول‪ :‬العمل؛ كما قال المصنِّف رمحه اهلل‪َ ( :‬فت َ‬
‫األمر َّ‬
‫العب ِ‬
‫اد) وهو الذي عليه السعادة أو الشقاوة؛ قال سبحانه‪﴿ :‬فم ْن ي ْعم ْل‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫م ْثقال ذرة خ ْير ًا يره * وم ْن ي ْعم ْل م ْثقال ذرة ش ّر ًا يره﴾ [الزلزلة‪.]8 – 7 :‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪38‬‬

‫واألمر الثاين‪ :‬المرء؛ كما قال عليه الصالة والسالم‪« :‬لي ْأتي الرجل‬
‫ا ْلعظيم السمين ي ْوم ا ْلقيامة‪ ،‬ال يزن عنْد الله جناح بعوضة»(‪ ،)1‬وقال عليه‬
‫الصالة والسالم يف ساقي ابن مسعود ‪ -‬وهي دقيق ٌة ‪« :-‬والذي ن ْفسي‬
‫بيده! لهما أ ْثقل في ا ْلميزان م ْن جبل أحد»(‪)2‬؛ فدل عىل أن العامل أيض ًا‬
‫يوزن‪.‬‬
‫فيوزن المؤمن‪ ،‬ويوزن أيض ًا الكافر؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬وقد ْمنا إلى‬
‫ما عملوا م ْن عمل فجع ْلناه هبا ًء منْثور ًا﴾ [الفرقان‪ ،]23 :‬ليس له يف الميزان‬
‫األول‪.‬‬
‫شيء‪ ،‬وهذا القول َّ‬
‫والقول الثَّاين‪ :‬أن الكافر ال يوزن عمله‪ ،‬وإنما ‪ -‬والعياذ بالله ‪-‬‬
‫يساق إىل النار؛ واستد ُّلوا بقوله‪﴿ :‬فال نقيم له ْم ي ْوم ا ْلقيامة و ْزن ًا﴾‬
‫[الكهف‪ ،]105 :‬لكن نقول‪ :‬المراد بالوزن هنا القدْ ر‪.‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب تفسير القرآن‪ ،‬باب قول الله تعاىل‪﴿ :‬أولئك الذين‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )1‬رواه‬
‫ومسلم‪ ،‬كتاب‬
‫ٌ‬ ‫كفروا بآيات ر ِّبه ْم ولقائه فحبط ْت أ ْعماله ْم﴾ ْاْلية‪ ،‬رقم (‪،)4729‬‬
‫صفة القيامة والجنة والنار‪ ،‬رقم (‪ ،)2785‬من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)3991‬من حديث ابن مسعود رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫‪39‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫(أ ْعَمل ا ْل ِعب ِ‬


‫اد) يعني‪ :‬م ْن‬ ‫َ‬ ‫األول أشار إليه المصنِّف فقال‪َ َ :‬‬
‫وإىل القول َّ‬
‫مؤمن وكافر‪.‬‬
‫واألمر الثالث مما يوزن‪ :‬صحائف العمل؛ كما يف حديث البطاقة‬
‫السجالت في كفة‪ ،‬وا ْلبطاقة في كفة‪ ،‬فطاش ْت‬
‫السابق‪« :‬فتوضع ِّ‬
‫السجالت ‪ »...‬الحديث(‪.)1‬‬
‫ِّ‬
‫والعبرة يف تلك الموازين‪ :‬هو ميزان العمل‪.‬‬
‫والميزان له كفتان ما انخفض منها هو الثقيل؛ لذلك يف حديث‬

‫السجالت‪ ،‬وثقل ْت ا ْلبطاقة» ‪ ،‬والله قال يف الحديث‬


‫(‪)2‬‬
‫البطاقة‪« :‬فطاش ْت ِّ‬
‫القدسي‪« :‬ل ْو أن السموات الس ْبع وعامرهن غ ْيري واألرضين الس ْبع في‬

‫كفة‪ ،‬وال إله إال الله في كفة مال ْت بهن ال إله إال الله» ؛ فدل عىل أن له‬
‫(‪)3‬‬

‫كفتان الثقيل منها هو األسفل‪ ،‬فيثقل بذلك‪.‬‬

‫(‪ )1‬سبق تخريجه (ص) عند قوله (يرجح منْهما يدنو وهو الثقيل؛ كما يف مسند‬
‫اإلمام أمحد)‪.‬‬
‫)‪ (2‬سبق تخريجه (ص) عند قوله (يرجح منْهما يدنو وهو الثقيل؛ كما يف مسند‬
‫اإلمام أمحد)‪.‬‬
‫السنن الكبرى‪ ،‬كتاب عمل اليوم والليلة‪ ،‬أفضل ِّ‬
‫الذكر‪،‬‬ ‫)‪ (3‬رواه النسائي يف ُّ‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪40‬‬

‫ويأيت يوم القيامة من تتساوى حسناته مع سيئاته؛ لدقة الميزان‪،‬‬


‫وهم أصحاب األعراف‪ ،‬فيبقون مد ًة طويل ًة‪ ،‬ثم بعد ذلك يدخلهم الله‬
‫الجنة برمحته؛ كما قال الله‪﴿ :‬أهؤالء الذين أ ْقس ْمت ْم ال ينالهم الله بر ْحمة‬
‫ا ْدخلوا ا ْلجنة ال خ ْو ٌ‬
‫ف عل ْيك ْم وال أنْت ْم ت ْحزنون﴾ [األعراف‪ ،]49 :‬وبقاؤهم‬
‫عذاب عليهم ال شك؛ ألهنم يخشون أن يكونوا من أهل‬
‫ٌ‬ ‫فتر ًة طويل ًة فيه‬
‫النار‪ ،‬مثل‪ :‬لو أن شخص ًا يف الجامعة وخرجت مجيع أسماء الناجحين‪،‬‬
‫هم وحزن‪.‬‬
‫إال هو‪ ،‬وبقيت فترة اإلجازة وهو يتردد عليهم‪ ،‬فيبقى يف ٍّ‬
‫دقيق ال يوجد مثله ُّ‬
‫قط‪ ،‬ولن يوجد؛ قال‬ ‫ٌ‬
‫ميزان ٌ‬ ‫وهذا الميزان‬
‫سبحانه عن دقته‪﴿ :‬وإ ْن كان م ْثقال حبة م ْن خ ْردل أت ْينا بها وكفى بنا‬
‫حاسبين﴾ [األنبياء‪ ،]47 :‬وقال سبحانه‪﴿ :‬فم ْن ي ْعم ْل م ْثقال ذرة خ ْير ًا يره﴾‬
‫[الزلزلة‪ ،]7 :‬فالميزان يزن الذر‪ ،‬ويزن الحب‪ ،‬ويزن الخردل‪ ،‬وهذا م ْن‬
‫عدل الله سبحانه وتعاىل‪ ،‬فهو يعلم أعمال العباد لكن يضع الميزان حج ًة‬
‫عىل العباد‪.‬‬

‫وأفضل الدعاء‪ ،‬رقم (‪ ،)10602‬من حديث أبي سعيد رضي الله عنه‪.‬‬
‫‪41‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫قال‪َ ﴿( :‬ف َم ْن َثق َل ْت َم َو ِازينه َفأو َلئِ َك هم ا ْلم ْفلِحونَ * َو َم ْن َخ َّف ْت‬
‫َم َو ِازينه﴾) أي‪ :‬من الكفار والفساق ممن ال يخلدون يف النار (﴿ َفأو َلئِ َك‬
‫ين َخ ِسروا َأ ْنف َسه ْم فِي َجهَ ن ََّم َخالِدونَ ﴾)‪.‬‬‫ا َّل ِذ َ‬
‫وقد جاءت أحاديث تب ِّين ما الذي يثقل الميزان‪:‬‬
‫األول‪ :‬الشهادتان؛ كما يف حديث البطاقة‪« :‬تطيش‬
‫الحديث َّ‬
‫السجالت»‪.‬‬
‫ب ِّ‬
‫والحديث الثاين‪ :‬قال عليه الصالة والسالم‪« :‬ما م ْن ش ْيء أ ْثقل في‬
‫ا ْلميزان م ْن ح ْسن ا ْلخلق»(‪.)1‬‬
‫البخاري‬
‫ِّ‬ ‫والحديث الثالث‪ :‬قال عليه الصالة والسالم ‪ -‬كما يف‬
‫‪« :-‬كلمتان خفيفتان على ال ِّلسان‪ ،‬ثقيلتان في ا ْلميزان‪،‬‬ ‫ومسلم(‪)2‬‬

‫حبيبتان إلى الر ْحمن‪ :‬س ْبحان الله ا ْلعظيم‪ ،‬س ْبحان الله وبح ْمده»‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه أبو داود‪ ،‬كتاب األدب‪ ،‬باب يف حسن الخلق‪ ،‬رقم (‪ ،)4799‬من حديث‬
‫أبي الدرداء رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫ومسلم‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫البخاري‪ ،‬كتاب الدعوات‪ ،‬باب فضل التهليل‪ ،‬رقم (‪،)6406‬‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )2‬رواه‬
‫فضل التهليل والتسبيح والدعاء‪،‬‬ ‫كتاب ِّ‬
‫الذكر والدعاء والتوبة واالستغفار‪ ،‬باب ْ‬
‫رقم (‪ ،)2694‬من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪42‬‬

‫والحديث الرابع‪ :‬قول‪« :‬الحمد لله»؛ كما قال عليه الصالة‬


‫والسالم‪« :‬وا ْلح ْمد لله ت ْمأل ا ْلميزان»(‪.)1‬‬
‫فهذه أربعة أمور ثقيل ٌة جدّ ًا يف الميزان‪ ،‬فعىل المرء ْ‬
‫أن يكثر منها‪،‬‬
‫قال شيخ اإلسالم رمحه اهلل‪« :‬ال إله إال الله تمحو الشرك‪ ،‬واالستغفار‬
‫يمحو الصغائر»‪.‬‬
‫ولهذا يجب عىل الشخص أن يكثر من األعمال الصالحة ولو كانت‬
‫يسيرةً‪ ،‬والنبي صىل اهلل عليه وسلم يقول‪« :‬اتقوا النار ول ْو بش ِّق ت ْمرة»(‪،)2‬‬
‫والميزان هناك بمثاقيل الذرة ‪ -‬الشيء الذي ال يرى ‪ ،-‬مثل الغبار‬
‫اليسير؛ يعني‪ :‬قد بلغ من دقته ما ال مبلغ بعد؛ قال سبحانه‪﴿ :‬ونضع‬
‫ا ْلموازين ا ْلق ْسط لي ْوم ا ْلقيامة فال ت ْظلم ن ْف ٌس ش ْيئ ًا وإ ْن كان م ْثقال حبة م ْن‬

‫(‪ )1‬سبق تخريجه (ص) عند قوله (وورد الميزان باإلفراد؛ كما قال عليه الصالة‬
‫والسالم)‪.‬‬
‫البخاري‪ ،‬كتاب الزكاة‪ ،‬باب‪ :‬اتقوا النار ولو بشق تمرة‪ ،‬رقم (‪،)1417‬‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )2‬رواه‬
‫ومسلم‪ ،‬كتاب الزكاة‪ ،‬باب الحث عىل الصدقة ولو بشق تمرة‪ ،‬أو كلمة طيبة وأهنا‬
‫ٌ‬
‫حجاب من النار‪ ،‬رقم (‪ ،)1016‬من حديث عدي بن حاتم رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫ٌ‬
‫‪43‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫خ ْردل أت ْينا بها وكفى بنا حاسبين﴾ [األنبياء‪ ،]47 :‬فال أحد أدق وأقوى من‬
‫حسابنا‪.‬‬
‫فالشخص يحرص أن يعمل الحسنات‪ ،‬ولذلك النبي صىل اهلل عليه‬
‫وسلم أمر زوجاته أن يتصد ْقن ول ْو بف ْرسن شاة(‪ ،)2‬فكل ما يمكن عمله‬
‫( ‪)1‬‬

‫من الصالحات اسع له؛ فقد تكون سبب ًا يف دخولك الجنة‪ ،‬والنبي صىل‬
‫اهلل عليه وسلم أخبر بأن الرجل يتصدق بك ْسب ط ِّيب‪ ،‬فيأخذها الله‬
‫بيمينه فير ِّبيها ‪ -‬أي‪ :‬ين ِّميها ‪ -‬كما ير ِّبي أحدك ْم فلوه حتى تكون م ْثل‬
‫(‪)3‬‬

‫(‪ )1‬هو‪ :‬عظم قليل اللحم‪ ،‬وهو خف البعير‪ .‬النهاية يف غريب الحديث واألثر‬
‫البن األثير (‪.)429/3‬‬
‫البخاري‪ ،‬كتاب الهبة وفضلها‪ ،‬باب الهبة وفضلها والتحريض عليها‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )2‬رواه‬
‫ومسلم‪ ،‬كتاب الزكاة‪ ،‬باب الحث عىل الصدقة‪ ،‬ولو بالقليل وال‬
‫ٌ‬ ‫رقم (‪،)2566‬‬
‫تمتنع من القليل الحتقاره‪ ،‬رقم (‪ ،)1030‬من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪،‬‬
‫ولفظه‪« :‬يا نساء الم ْسلمات! ال ت ْحقرن جار ٌة لجارتها‪ ،‬ول ْو ف ْرسن شاة»‪.‬‬
‫(‪ )3‬الفلو‪ :‬الم ْهر الصغير‪ .‬النهاية يف غريب الحديث واألثر البن األثير‬
‫(‪.)474/3‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪44‬‬

‫الجبل ا ْلعظيم(‪.)1‬‬
‫والله يقول‪﴿ :‬مثل الذين ينْفقون أ ْمواله ْم في سبيل الله كمثل حبة‬

‫أنْبت ْت س ْبع سنابل في ك ِّل سنْبلة مئة حبة والله يضاعف لم ْ‬


‫ن يشاء﴾ [البقرة‪:‬‬

‫‪ ،]261‬والنبي صىل اهلل عليه وسلم قال‪« :‬م ْن قرأ ح ْرف ًا م ْن كتاب الله فله‬
‫به حسن ٌة‪ ،‬والحسنة بع ْشر أ ْمثالها»(‪ ،)2‬فأنت اعمل وعملك يتضاعف‬
‫بفضل الله‪﴿ ،‬فم ْن ثقل ْت موازينه فأولئك هم ا ْلم ْفلحون * وم ْن خف ْت‬
‫موازينه فأولئك الذين خسروا أنْفسه ْم بما كانوا بآياتنا ي ْظلمون﴾‬
‫[األعراف‪]9-8 :‬؛ هناك الخسران؛ كما قال سبحانه‪﴿ :‬ذلك هو ا ْلخ ْسران‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب الزكاة‪ ،‬باب‪ :‬ال يقبل الله صدقة من غلول‪ ،‬رقم‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )1‬رواه‬
‫ومسلم‪ ،‬كتاب الزكاة‪ ،‬باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫(‪،)1410‬‬
‫رقم (‪ ،)1014‬من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬ولفظه‪« :‬ما تصدق أحدٌ‬
‫بصدقة م ْن ط ِّيب‪ ،‬وال ي ْقبل الله إال الط ِّيب‪ ،‬إال أخذها الر ْحمن بيمينه‪ ،‬وإ ْن كان ْت‬
‫ف الر ْحمن حتى تكون أ ْعظم من ا ْلجبل‪ ،‬كما ير ِّبي أحدك ْم فلوه‬
‫ت ْمرةً‪ ،‬فت ْربو في ك ِّ‬
‫أ ْو فصيله»‪.‬‬
‫الترمذي‪ ،‬أبواب فضائل القرآن‪ ،‬باب ما جاء فيمن قرأ حرف ًا من القرآن‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )2‬رواه‬
‫ما له من األجر‪ ،‬رقم (‪.)2910‬‬
‫‪45‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫ا ْلمبين﴾ [الزمر‪ ،]15 :‬وكل إنسان سيرى ذلك المشهد العظيم‪ ،‬وعليه ْ‬
‫أن‬
‫يدعو ربه ليكون ممن ثقلت موازينه ويسر حسابه‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪46‬‬

‫آخ ٌذ كِ َتا َبه بِ َي ِمين ِ ِه‪،‬‬


‫أل ْعَم ِل ‪-‬؛ َف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوت ْن َشر الدَّ َو ِاوين ‪َ -‬وه َي َص َحائف ا َ َ‬
‫ان‬‫﴿وك َّل إِ ْن َس ٍ‬ ‫اء َظهْ رِ ِه؛ َك ََم َق َال َت َعا َلى‪َ :‬‬ ‫آخ ٌذ كِ َتابه بِ ِشَملِ ِه‪َ ،‬أ ْو ِم ْن َور ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َو ِ‬

‫َأ ْل َز ْم َناه َطائِ َره فِي عن ِق ِه َون ْخرِج َله َي ْو َم ا ْل ِق َيا َم ِة كِ َتاب ًا َي ْل َقاه َم ْنشور ًا * ا ْق َر ْأ‬
‫كِ َتا َب َك َك َفى بِ َن ْف ِس َك ا ْل َي ْو َم َع َل ْي َك َح ِسيب ًا﴾‪.‬‬
‫َّ‬
‫الشرح‪:‬‬
‫هذا من مشاهد يوم القيامة‪ ،‬ومن مجلة ما يجب اإليمان به‪ ،‬فهو‬
‫ٌ‬
‫داخل يف مجلة اإليمان باليوم اْلخر‪.‬‬
‫(وت ْن َشر) يعني‪ :‬تف ُّل وتفتح وتظهر‪( ،‬الدَّ َو ِاوين) يعني‪:‬‬
‫قال رمحه اهلل‪َ :‬‬
‫الكتب‪ ،‬فيخرج ما كان يكتب يف الحياة الدنيا لكل شخص وعليه؛ كما‬
‫قال سبحانه وتعاىل‪﴿ :‬وإن عل ْيك ْم لحافظين * كرام ًا كاتبين * ي ْعلمون ما‬
‫ت ْفعلون﴾ [االنفطار‪ ،]12-10 :‬وقال أيض ًا‪﴿ :‬ما ي ْلفظ م ْن ق ْول إال لد ْيه‬
‫يب عتيدٌ ﴾ [ق‪ ،]18 :‬فكل شيء يحصى عليه‪ ،‬وقال‪﴿ :‬إن الس ْمع‬
‫رق ٌ‬
‫وا ْلبصر وا ْلفؤاد ك ُّل أولئك كان عنْه م ْسئو ً‬
‫ال﴾ [اإلسراء‪.]36 :‬‬
‫فكلما تقول شيئ ًا يكتب يف كتاب‪ ،‬وال يطوى إال إذا مت؛ بمعنى‪:‬‬
‫أن كالم بعض الناس أن صحيفة األعمال ت ْطوى يف هناية العام ليس عىل‬
‫اإلطالق؛ وإنما مراد الناس كأن هذا عام‪ ،‬وتبدأ صحيف ٌة أخرى يف‬
‫‪47‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫الكتابة‪ ،‬وال تطوى صحيفة األعمال إال بالموت‪ ،‬وإذا مات يختم عىل‬
‫العمل‪ ،‬وال يأيت بعد الموت من حسنات أو سيئات إال ما كان من آثار‬
‫ال صالح ًة من صدقة جارية‬
‫حياتك يف العمل؛ يعني‪ :‬إذا كنت عملت أعما ً‬
‫أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو لك(‪)1‬؛ يثبت الحسنات‪ ،‬لكن العمل‬
‫انتهى‪ ،‬ويبقى آثاره‪.‬‬
‫والسيئات أيض ًا تكتب عليك‪ ،‬فمن سن سن ًة سيئ ًة عليه و ْزرها‬
‫وو ْزر من عملها إىل يوم القيامة(‪ ،)2‬فتأتيك آثار أعمالك التي عملتها يف‬
‫شر‪ ،‬فينشر ذلك الكتاب ‪ -‬الدِّ يوان العظيم ‪-‬؛ لذلك‬
‫الدنيا من خير أو ٍّ‬
‫الله يقول‪﴿ :‬وكل إنْسان أ ْلز ْمناه طائره في عنقه﴾ [اإلسراء‪]13 :‬؛ يعني‪:‬‬

‫(‪ )1‬كما يف حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬أن النبي صىل اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫«إذا مات ا ْإلنْسان انْقطع عنْه عمله إال م ْن ثالث‪ :‬صدقة جارية‪ ،‬أ ْو ع ْلم ينْتفع به‪،‬‬
‫مسلم‪ ،‬كتاب الوصية‪ ،‬باب ما يلحق اإلنسان من‬
‫ٌ‬ ‫أ ْو ولد صالح يدْ عو له»‪ .‬رواه‬
‫الثواب بعد وفاته‪ ،‬رقم (‪.)1631‬‬
‫(‪ )2‬كما يف حديث جرير بن عبد الله رضي اهلل عنه أن النبي صىل اهلل عليه وسلم‬
‫قال‪« :‬وم ْن سن سن ًة س ِّيئ ًة‪ ،‬عمل بها م ْن ب ْعده كان عل ْيه و ْزرها وو ْزر م ْن عمل بها‬
‫وال ينْقص ذلك م ْن أ ْوزاره ْم ش ْيئ ًا»‪ .‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪.)19200‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪48‬‬

‫خائف وج ٌل‬
‫ٌ‬ ‫كتاب أعماله‪ ،‬أي‪ :‬ما يتطير به أو يتفاءل به‪ ،‬أي‪ :‬أن اإلنسان‬
‫شر؛ ألن اإلنسان يف الدنيا يعمل وال يعرف هل تق ِّبلت‬
‫خير أو ٌّ‬
‫هل فيه ٌ‬
‫أعماله أو ردت عليه أعماله؟ هل رضي الله عليه أم سخط عليه؟ هل‬
‫قصر يف واجبات ال يعلمها أو خلط ذنوب ًا هو يعلمها‪ ،‬أو ذنوب ًا نسيها‪ ،‬أو‬
‫ذنوب ًا مل يعلمها؟‬
‫وما الذي ي ْكتب يف صحائف هذه األعمال؟ ي ْكتب فيها الحسنات‪،‬‬
‫وي ْكتب فيها أيض ًا السيئات‪.‬‬
‫والحسنات التي ي ْكتب فيها‪:‬‬
‫األول‪ :‬األعمال‪ُّ ،‬‬
‫فكل عمل صالح ي ْكتب‪.‬‬ ‫األمر َّ‬
‫األمر الثاين‪ :‬النية الصالحة للعمل الصالح؛ والدليل عىل ذلك قول‬
‫الن ِّبي صىل اهلل عليه وسلم ‪ -‬يف الرجل الذي يتمنى ‪ -‬قال‪« :‬ل ْو أن لي ما ً‬
‫ال‬
‫لعم ْلت بعمل فالن»؛ يعني‪ :‬يف سبيل الله‪ ،‬قال الن ُّبي صىل اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫«فهو بنيته فأ ْجرهما سوا ٌء»(‪)1‬؛ أي‪ :‬يؤجر عىل هذه النية‪ ،‬وكذلك ما يف‬

‫(‪ )1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)18031‬من حديث أبي كبشة األنماري رضي‬
‫اهلل عنه‪.‬‬
‫‪49‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫صحيح مسلم(‪« :)1‬ذهب أ ْهل الدُّ ثور ب ْاألجور»‪ ،‬فلما قال الفقراء‪ :‬علم‬
‫األغنياء ما عملنا فعملوا مثلنا‪ ،‬قال صىل اهلل عليه وسلم‪« :‬ذلك ف ْضل الله‬
‫ي ْؤتيه م ْن يشاء»‪.‬‬
‫واألمر الثالث‪ :‬اله ُّم بالعمل الصالح‪ ،‬وعمله‪ ،‬ثم ينقطع عنه لعذر ‪-‬‬
‫كالموت أو المرض ‪-‬؛ قال سبحانه‪﴿ :‬وم ْن ي ْخر ْج م ْن ب ْيته مهاجر ًا إلى‬
‫الله ورسوله ثم يدْ ركْه ا ْلم ْوت فقدْ وقع أ ْجره على الله﴾ [النساء‪،]100 :‬‬
‫ويف الحديث‪ :‬قال الن ُّبي عليه الصالة والسالم‪« :‬إذا مرض ا ْلع ْبد‪ ،‬أ ْو‬
‫سافر؛ كتب له م ْثلما كان ي ْعمل مقيم ًا صحيح ًا»(‪.)2‬‬
‫األمر الرابع‪ :‬إذا هم الرجل بحسنة فلم يعملها‪ ،‬في ْكتب له حسنة ‪.‬‬
‫( ‪)3‬‬

‫(‪ )1‬كتاب الزكاة‪ ،‬باب بيان أن اسم الصدقة يقع عىل كل نوع من المعروف‪ ،‬رقم‬
‫(‪ ،)1006‬من حديث أبي ذر رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫والسير‪ ،‬باب‪ :‬يكتب للمسافر مثلما كان يعمل‬
‫البخاري‪ ،‬كتاب الجهاد ِّ‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )2‬رواه‬
‫يف اإلقامة‪ ،‬رقم (‪ ،)2996‬من حديث أبي موسى رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫(‪ )3‬كما يف حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه أن النبي صىل اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب‬
‫ٌ‬ ‫«م ْن هم بحسنة فل ْم ي ْعم ْلها‪ ،‬كتب ْت له حسن ًة‪ .»...‬رواه‬
‫إذا هم العبد بحسنة كتبت‪ ،‬وإذا هم بسيئة مل تكتب‪ ،‬رقم (‪.)130‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪50‬‬

‫والذي ي ْكتب يف صحائف السيئات‪:‬‬


‫األول‪ :‬العمل الس ِّيء من المعاصي‪ ،‬كالسرقة والزنا وغير‬
‫األمر َّ‬
‫ذلك‪.‬‬
‫واألمر الثاين‪ :‬النية لعمل المعصية‪ ،‬كالرجل الذي يتمنى أن عنده‬
‫ما ً‬
‫ال مثل فالن فينفقه يف الشر؛ قال الن ُّبي صىل اهلل عليه وسلم‪« :‬هما في‬
‫الو ْزر سواء»(‪.)1‬‬
‫واألمر الثالث‪ :‬إذا هم رج ٌل بس ِّيئة فلم يعملها؛ لعدم قدرته عىل‬
‫إكمالها؛ ودليل ذلك‪ :‬قوله عليه الصالة والسالم‪« :‬إذا تواجه ا ْلم ْسلمان‬
‫بس ْيف ْيهما فكالهما م ْن أ ْهل النار‪.‬‬
‫قيل‪ :‬فهذا ا ْلقاتل‪ ،‬فما بال ا ْلم ْقتول؟‬
‫قال‪ :‬إنه أراد قتْل صاحبه»(‪ ،)2‬فهو ينوي لكن منع من ذلك‪ ،‬ومثل‬
‫شخص ليزين بامرأة ‪ -‬والعياذ بالله ‪ -‬فرأى يف الدار‬
‫ٌ‬ ‫أيض ًا‪ :‬لو ذهب‬

‫زوجها فلم يدخل؛ هذا ي ْكتب عليه ٌ‬


‫وزر‪.‬‬

‫(‪)1‬رواه أمحد يف المسند‪ ،‬رقم (‪ ،)18031‬من حديث أبي كبشة األنماري رضي‬
‫الله عنه‪.‬‬
‫البخاري‪ ،‬كتاب الفتن‪ ،‬باب‪ :‬إذا التقى المسلمان بسيفيهما‪ ،‬رقم‬
‫ُّ‬ ‫(‪ )2‬رواه‬
‫‪51‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫أن يحرص ْ‬
‫بأن تكون صحيفته بيضاء بالحسنات‪،‬‬ ‫وعىل المسلم ْ‬
‫وأال تكون سوداء بالسيئات‪ ،‬وإذا كان فيها شي ٌء من السيئات فالذي‬
‫يمحوها‪ :‬التوبة‪.‬‬
‫ثم ذكر المصنِّف رمحه اهلل كيف يؤخذ هذا الكتاب يف المحشر؟‬
‫الصحف‪.‬‬‫الشقوة والسعادة وهو تطاير ُّ‬ ‫رهيب فيه ِّ‬
‫ٌ‬ ‫عظيم‬
‫ٌ‬ ‫منظر‬
‫وهذا ٌ‬
‫(وت ْن َشر الدَّ َو ِاوين َو ِه َي َص َحائِف ْ َ‬
‫األ ْع ََم ِل) فإذا نشرت‪ :‬الخ ْلق‬ ‫قال‪َ :‬‬
‫فيها ينقسمون لقسمين‪:‬‬
‫آخ ٌذ كِ َتا َبه‬
‫القسم األول‪ :‬من كان من أهل السعادة‪ ،‬قال عنه‪َ ( :‬ف ِ‬
‫َّ‬
‫ِ‬

‫بِ َي ِمين ِ ِه) كما قال سبحانه‪﴿ :‬فأما م ْن أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم ا ْقرءوا‬
‫كتابي ْه﴾ [الحاقة‪]19 :‬؛ يعني‪ :‬من فرحته يقول‪ :‬انظروا هذا كتابي‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫شخص خرجت النتيجة ومن فرحته يقول‪ :‬أنا األول وهذه شهاديت‪،‬‬
‫ٌ‬
‫وذلك الفرح الذي ال فرح أعظم منه‪﴿ ،‬إنِّي ظننْت﴾؛ أي‪ :‬أيقنت ﴿أنِّي‬
‫مالق حسابي ْه﴾ [الحاقة‪ ]20 :‬إىل آخر اْليات‪ ،‬وكان ْ‬
‫أخذهم باليمين؛ ألن‬

‫ومسلم‪ ،‬كتاب الفتن وأشراط الساعة‪ ،‬باب إذا تواجه المسلمان‬


‫ٌ‬ ‫(‪،)7083‬‬
‫بسيفيهما‪ ،‬رقم (‪ ،)2888‬من حديث أبي بكرة رضي الله عنه‪.‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪52‬‬

‫اليمين موطن التشريف والتكريم والرفعة‪ ،‬لذا كان السالم هبا ودخول‬
‫المسجد وهكذا‪.‬‬
‫ِ‬
‫والقسم الثاين‪ :‬من كان من أهل الشقاوة‪ ،‬فهذا فيه قوالن‪:‬‬
‫صنف واحدٌ ‪ ،‬ويف اْلية‪﴿ :‬وأما م ْن أوتي كتابه‬
‫ٌ‬ ‫األول‪ :‬أنهم‬
‫القول َّ‬
‫بشماله﴾ [الحاقة‪ ،]25 :‬ويف اْلية األخرى‪﴿ :‬وأما م ْن أوتي كتابه وراء‬
‫ظ ْهره﴾ [االنشقاق‪.]10 :‬‬
‫والجمع بينهما‪ :‬أنه يأخذ كتابه بشماله ويده من خلفه ‪ -‬والعياذ‬
‫والسنة ومل يتبعهما كانت نتيجته‬
‫ُّ‬ ‫بالله ‪-‬؛ ألنه لما استدبر الكتاب‬
‫مستدبرةً‪ ،‬فهو يتمنى ْ‬
‫أن ال يراه أحدٌ ‪﴿ ،‬فيقول يا ل ْيتني ل ْم أوت كتابي ْه *‬
‫ول ْم أ ْدر ما حسابي ْه﴾ [الحاقة‪ ،]26-25 :‬مثل‪ :‬لو أن شخص ًا يف نتائج‬
‫االمتحان خرجت نتيجته ومل ينجح؛ فيخفي كتابه هذا حتى لو سئل أين‬
‫كتابك؟ يقول‪ :‬ما خرج إىل اْلن وهو يكذب؛ فما ظنُّك يوم القيامة يف‬
‫مشهد الفضيحة يوم القيامة؟! ُّ‬
‫كل ما يخفى يظهر يوم القيامة‪ ،‬لذلك من‬
‫أسماء يوم القيامة‪ :‬يوم الفضائح‪.‬‬
‫‪53‬‬ ‫مقرر األسبوع الرابع عشر‬

‫وصنف‬
‫ٌ‬ ‫صنف يأخذ كتابه بشماله‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫والقول الثاين‪ :‬أهنم صنفان‪،‬‬
‫يأخذه من وراء ظهره‪ ،‬وهذا القول هو الذي سار عليه المصنِّف؛ لذلك‬
‫(أ ْو) هنا للتنويع‪.‬‬ ‫اء َظهْ رِ ِه) إذا قلنا‪ :‬أن َ‬ ‫آخ ٌذ كِ َتابه بِ ِشَملِ ِه‪َ ،‬أ ْو ِم ْن َور ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫(و ِ‬
‫قال‪َ :‬‬
‫ثم استدل المؤ ِّلف رمحه اهلل فقال‪َ ( :‬ك ََم َق َال َت َعا َلى‪َ ﴿ :‬وك َّل إِ ْن َس ٍ‬
‫ان‬
‫َأ ْل َز ْم َناه﴾) يعني‪ :‬جعلنا له (﴿ َطائِ َره فِي عن ِق ِه﴾) يعني‪ :‬كتاب عمله يف‬
‫العنق كالقالدة أينما يذهب يجده‪ ،‬وهذا يف الدنيا‪َ ﴿( ،‬ون ْخرِج َله َي ْو َم‬
‫ا ْل ِق َيا َم ِة كِ َتاب ًا﴾) يعني‪ :‬يف عنقه (﴿ َي ْل َقاه َم ْنشور ًا﴾) أمامه‪.‬‬
‫(﴿ا ْق َر ْأ كِ َتا َب َك﴾) إلقامة الحجة عىل ن ْفسك‪َ ﴿( ،‬ك َفى بِ َن ْف ِس َك ا ْل َي ْو َم‬
‫َع َل ْي َك َح ِسيب ًا﴾) أنت تحاسب ن ْفسك‪.‬‬
‫ومع ذلك ابن آدم لو قرأ هذا الكتاب يجحد‪ ،‬ولو يؤتى بالمالئكة‬
‫يجحد‪ ،‬فتنطق الجوارح؛ قال الله‪﴿ :‬حتى إذا ما جاءوها شهد عل ْيه ْم‬
‫س ْمعه ْم وأ ْبصاره ْم وجلوده ْم بما كانوا ي ْعملون * وقالوا لجلوده ْم لم‬
‫شهدْ ت ْم عل ْينا قالوا أنْطقنا الله الذي أنْطق كل ش ْيء وهو خلقك ْم أول مرة‬
‫وإل ْيه ت ْرجعون * وما كنْت ْم ت ْستترون أ ْن ي ْشهد عل ْيك ْم س ْمعك ْم وال‬
‫أ ْبصارك ْم وال جلودك ْم ولك ْن ظننْت ْم أن الله ال ي ْعلم كثير ًا مما ت ْعملون﴾‬
‫[فصلت‪.]22 - 20 :‬‬
‫شرح العقيدة الواسطية‬ ‫‪54‬‬

‫وما دام األمر يف م ْهلة يجب عىل اإلنسان ْ‬


‫أن يستعد لنشر تلك‬
‫الصحائف‪ ،‬فما بين اإلنسان واليوم اْلخر سوى الموت‪ ،‬وما بينك وبين‬
‫الموت سوى تو ُّقف هذه األنفاس يف لحظة‪.‬‬
‫وأن ينوي عمالً صالح ًا‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫أن يعمل عمالً صالح ًا‪ْ ،‬‬
‫فعىل المسلم ْ‬
‫أن يتعلم العلم؛ ليع ِّلم ويؤ ِّلف ويبقى صدق ًة جاري ًة له‪ ،‬فلو مات وهو يف‬
‫شبابه ي ْكتب له ما نواه يف مستقبله‪ ،‬وهذا من ْ‬
‫فضل الله عز وجل عىل‬
‫العبد‪ ،‬وعىل المسلم وغير المسلم ْ‬
‫أن يبتعد عن كل خطيئة‪ ،‬فقد تكون‬
‫غمسه يف النار والعياذ بالله‪.‬‬
‫سبب ْ‬

You might also like