Professional Documents
Culture Documents
التنوير الآن
التنوير الآن
ستيفن بينكر
][c/r tk
]صفحة بيانات الناشر والكتاب لم ُتضَف بعد[
إهداء إىل
و
«كل ما ال تمنعه قوانين الطبيعة قابل للتحقيق في ظ ِّل وجود المعرفة الصحيحة».
-ديفيد دويتش
فهرس المحتويات
قائمة األشكال
تمهيد
الجزء األول :التنوير
تجرأ على الفهم!
الفصل األولَّ :
الفصل الثاني :اإلنتروبيا والتطور والمعلومات
الفصل الثالث :الفكر المضاد للتنوير
الجزء الثاني :التقدم
الفصل الرابع :رهاب التقدم
الفصل الخامس :الحياة
الفصل السادس :الصحة
الفصل السابع :المعيشة
الفصل الثامن :الثروة
الفصل التاسع :غياب المساواة
الفصل العاشر :البيئة
الفصل الحادي عشر :السالم
الفصل الثاني عشر :األمان
الفصل الثالث عشر :اإلرهاب
الفصل الرابع عشر :الديمقراطية
الفصل الخامس عشر :المساواة في الحقوق
الفصل السادس عشر :المعرفة
الفصل السابع عشر :جودة الحياة
الفصل الثامن عشر :السعادة
الفصل التاسع عشر :األخطار الوجودية
الفصل العشرون :مستقبل التقدم
الجزء الثالث :العقل والعلم والنزعة اإلنسانية
الفصل الحادي والعشرون :العقل
الفصل الثاني والعشرون :العلم
الفصل الثالث والعشرون :النزعة اإلنسانية
قائمة األشكال
الشكل رقم :1-4نبرة نشرات األخبار منذ 1945حتى 2010
الشكل رقم :1-5متوسط العمر المتوقع منذ 1771حتى 2015
الشكل رقم :2-5معدل وفيات األطفال منذ 1751حتى 2013
الشكل رقم :3-5معدل وفيات األمهات منذ 1751حتى 2013
الشكل رقم :4-5متوسط العمر المتوقع في المملكة المتحدة منذ 1701حتى 2013
الشكل رقم :1-6معدل وفيات األطفال بفعل األمراض المعدية منذ 2000حتى 2013
الشكل رقم :1-7السعرات الحرارية منذ 1700حتى 2013
الشكل رقم :2-7نسبة توقف نمو األطفال منذ 1966حتى 2014
الشكل رقم :3-7نسبة نقص التغذية منذ 1990حتى 2015
الشكل رقم :4-7معدل الوفيات بسبب المجاعات منذ 1860حتى 2016
الشكل رقم :1-8الناتج العالمي اإلجمالي منذ 1حتى 2015
الشكل رقم :2-8الناتج المحلي اإلجمالي للفرد منذ 1600حتى 2015
الشكل رقم :3-8توزيع الدخل العالمي في 1800و 1975و2015
الشكل رقم :4-8الفقر المدقع (النسبة) منذ 1820حتى 2015
الشكل رقم :5-8الفقر المدقع (العدد) منذ 1820حتى 2015
الشكل رقم :1-9غياب المساواة بين الدول منذ 1820حتى 2013
الشكل رقم :2-9غياب المساواة عالميا ً منذ 1820حتى 2011
الشكل رقم :3-9غياب المساواة في المملكة المتحدة والواليات المتحدة األمريكية منذ 1688و2013
الشكل رقم :4-9اإلنفاق االجتماعي في دول منظمة التعاون والتنمية في الميدان االقتصادي منذ 1880حتى 2016
الشكل رقم :5-9زيادة الدخل منذ 1988حتى 2008
الشكل رقم :6-9الفقر في الواليات المتحدة منذ 1960حتى 2016
الشكل رقم :1-10السكان والنمو السكاني منذ 1750حتى 2015والنمو المتوقع حتى عام 2100
الشكل رقم :2-10االستدامة منذ 1955حتى 2109
الشكل رقم :3-10التلوث والطاقة والنمو في الواليات المتحدة منذ 1970حتى 2015
الشكل رقم :4-10معدل إزالة الغابات منذ 1700حتى 2010
الشكل رقم :5-10حوادث تسرب النفط منذ 1970حتى 2016
الشكل رقم :6-10المناطق المحمية منذ 1990حتى 2014
دوالر من الناتج المحلي اإلجمالي) منذ 1820
ٍ الشكل رقم :7-10كثافة انبعاثات الكربون (انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لكل
حتى 2014
الشكل رقم :8-10انبعاثات ثاني أكسيد الكربون منذ 1960حتى 2015
الشكل رقم :1-11حروب القوى العظمى منذ 1500حتى 2015
الشكل رقم :2-11معدل الوفيات في المعارك منذ 1946حتى 2016
الشكل رقم :3-11معدل الوفيات نتيجة اإلبادة العرقية منذ 1956حتى 2016
الشكل رقم :1-12معدل الوفيات نتيجة جرائم القتل ،في أوروبا الغربية والواليات المتحدة والمكسيك ،منذ 1300حتى 2015
الشكل رقم :2-12معدل الوفيات نتيجة جرائم القتل منذ 1967حتى 2015
الشكل رقم :3-12معدل الوفيات الناتجة عن حوادث السيارات والطرق منذ 1921حتى 2015
الشكل رقم :4-12معدل وفيات المشاة في الواليات المتحدة منذ 1927حتى 2015
الشكل رقم :5-12معدل الوفيات الناتجة عن حوادث تحطم الطائرات منذ 1970حتى 2015
الشكل رقم :6-12معدل الوفيات الناتجة عن حوادث السقوط والحريق والغرق والسم ،في الواليات المتحدة ،منذ 1903حتى
2014
الشكل رقم :7-12معدل الوفيات الناتجة عن حوادث العمل في الواليات المتحدة منذ 1913حتى 2015
الشكل رقم :8-12معدل الوفيات الناتجة عن الكوارث الطبيعية منذ 1900حتى 2015
الشكل رقم :9-12معدل الوفيات الناتجة عن صواعق البرق في الواليات المتحدة منذ 1900حتى 2015
الشكل رقم :1-13معدل الوفيات الناتجة عن الحوادث اإلرهابية منذ 1970حتى 2015
الشكل رقم :1-14الديمقراطية في مقابل األوتوقراطية (استبداد الفرد) منذ 1800حتى 2015
الشكل رقم :2-14حقوق اإلنسان منذ 1949حتى 2014
الشكل رقم :3-14إلغاء عقوبة اإلعدام منذ 1863حتى 2016
الشكل رقم :4-14حاالت اإلعدام في الواليات المتحدة منذ 1780حتى 2016
الشكل رقم :1-15اآلراء التي تتسم بالعنصرية والتمييز على أساس الجنس ورهاب المثلية ،في الواليات المتحدة ،منذ 1987
حتى 2012
الشكل رقم :2-15معدل البحث على اإلنترنت بكلمات تتسم بالعنصرية والتمييز على أساس الجنس ورهاب المثلية ،في
الواليات المتحدة ،منذ 2004حتى 2017
الشكل رقم :3-15جرائم الكراهية في الواليات المتحدة منذ 1996حتى 2015
الشكل رقم :4-15االغتصاب والعنف األسري في الواليات المتحدة منذ 1993حتى 2014
الشكل رقم :5-15إنهاء تجريم المثلية الجنسية منذ 1791حتى 2016
الشكل رقم :6-15القيم الليبرالية عبر الزمن واألجيال ،في البلدان المتقدمة منذ 1980حتى 2005
الشكل رقم :7-15القيم الليبرالية عبر الزمن (بالقياس) ،في مختلف المناطق الثقافية في العالم منذ 1960حتى 2006
الشكل رقم :8-15إيذاء األطفال في الواليات المتحدة منذ 1993حتى 2012
الشكل رقم :9-15عمالة األطفال منذ 1850حتى 2012
الشكل رقم :1-16محو األمية منذ 1475حتى 2010
الشكل رقم :2-16التعليم األساسي منذ 1820حتى 2010
الشكل رقم :3-16سنوات الدراسة منذ 1875حتى 2010
الشكل رقم :4-16محو أمية اإلناث منذ 1979حتى 2011
الشكل رقم :5-16زيادة معدل الذكاء منذ 1909حتى 2013
الشكل رقم :6-16الرفاهة العالمية منذ 1820حتى 2007
الشكل رقم :1-17ساعات العمل ،في أوروبا الغربية والواليات المتحدة منذ 1870حتى 2000
الشكل رقم :2-17التقاعد في الواليات المتحدة منذ 1880حتى 2010
الشكل رقم :3-17المرافق واألدوات المنزلية والعمل المنزلي ،في الواليات المتحدة ،منذ 1900حتى 2015
الشكل رقم :4-17تكلفة اإلنارة في إنجلترا منذ 1300حتى 2006
الشكل رقم :5-17اإلنفاق على الضروريات ،في الواليات المتحدة ،منذ 1929حتى 2016
الشكل رقم :6-17وقت الفراغ في الواليات المتحدة منذ 1965حتى 2015
الشكل رقم :7-17تكلفة السفر بالطيران في الواليات المتحدة منذ 1979حتى 2015
الشكل رقم :8-17السياحة الدولية منذ 1995حتى 2015
الشكل رقم :1-18مستوى الرضا عن الحياة والدخل2006 ،
الشكل رقم :2-18الوحدة لدى الطالب في الواليات المتحدة منذ 1978حتى 2011
الشكل رقم :3-18االنتحار ،في إنجلترا وسويسرا والواليات المتحدة ،منذ 1860حتى 2014
الشكل رقم :4-18السعادة والحماس ،في الواليات المتحدة ،منذ 1972حتى 2016
الشكل رقم :1-19األسلحة النووية منذ 1945حتى 2015
الشكل رقم :1-20دعم الشعبوية عبر األجيال2016 ،
تمهيد
ال يبدو النصف الثاين من العقد الثاين من األلفية الثالثة وقتًا مناسبا ومبشِّرا لنشر ٍ
كتاب عن اكتساح التقدم عرب التاريخ وأسبابه .بينما ً ً
أشخاص ذوو رؤية مظلمة للحظة احلالية :فـ «األمهات واألطفال حياصرهم الفقر ،والنظام التعليمي يرتك طالبنا
ٌ أكتب هذا ،يقود بلدي
حرب صرحية تتوسع وتنتشر» ،وميكن الشباب حمرومني من املعرفة ،واجلرمية والعصابات واملخدرات سرقت أرواح الكثريين» ،فنحن يف « ٍ
اإللقاء باللوم يف هذا الكابوس على «هيكل القوى العاملي» الذي اجتث «األسس األخالقية والروحانية الكامنة يف املسيحية».
بنسبة قليلة ،بل خاطئ خاطئ،سأوضح أن هذا التقييم القامت ألوضاع العامل خاطئ ،وليس خاطئا ٍ
ِّ يف الصفحات التالية،
ً
متاما ،وال ميكن أن يكون أكثر خطأ من ذلك .ولكن هذا الكتاب ال يدور حول الرئيس اخلامس واألربعني للواليات املتحدة خاطئ ً
ومستشاريه ،وإمنا َّ
فكرت فيه قبل إعالن دونالد ترامب ترشحه للرئاسة بسنوات ،وآمل أن يتجاوز الكتاب إدارته بعدة سنوات أخرى .إن
األفكار اليت مهدت الطريق النتخابه هي يف احلقيقة أفكار واسعة االنتشار بني املثقفني والعامة من اليمني واليسار ،وتشمل هذه األفكار
هدف أمسى يف أي شيء سوى الدين .سأعرض تشاؤما بالطريقة اليت يسري هبا العامل ،وباملؤسسات احلديثة ،وعدم القدرة على تصور ٍ
ً
إن ُمثُل التنوير - فهما خمتل ًفا للعامل ،على ٍ
أساس من احلقائق ،وبوح ٍي من ُمثُل التنوير ،وهي :العقل والعلم والنزعة اإلنسانية والتقدمَّ . ً
وقت مضى.أوضح -خالدة ،ولكنها اليوم أكثر صلةً بالواقع من أي ٍ
كما آمل أن ِّ
عرف عامل االجتماع روبرت مرتون شيوع املعرفة -Communalism-بأنه أحد الفضائل العلمية األساسية ،إضافةً إىل الفضائل
َّ
األخرى وهي العاملية -Universalism-وغياب املصاحل -Disinterestedness-والشك املنظم Organized -
بروح تتبع فضيلة «شيوع املعرفة» وأجابوا
وُتتصر إىل ) .(CUDOSحتيةً للعلماء العديدين الذين شاركوا بياناهتم ٍ
ُ ،-Skepticism
بسرعة وبتعمق .ومن بينهم ماكس روزر ،صاحب موقع Our World in Dataاإللكرتوين املغذي للعقل ،والذي ٍ استفسارايت
أيضا إىل ٍ
كانت أفكاره ورؤاه الثاقبة وكرمه ال غىن عنها يف نقاشات عديدة يف اجلزء الثاين ،يف القسم اخلاص بالتقدم .أتقدم باالمتنان ً
ماريان تويب من مشروع HumanProgressوإىل أوال روزلينج وهانس روزلينج من مؤسسة ،Gapminderومها مصدران قيِّمان
ملهما ومثَّلت وفاته يف عام 2017مأساةً ملن يتبعون العقل والعلم والنزعة اإلنسانية
شخصا ً
ً آخران لفهم وضع البشرية ،لقد كان هانس
والتقدم.
أيضا إىل علماء البيانات اآلخرين الذين أثقلت عليهم ،وإىل املعاهد واملؤسسات اليت جتمع البيانات وحتتفظ
أتقدم باالمتنان ً
هبا :كارلني بومان ،ودانييل كوكس (املعهد العام لبحوث الدين ،)PRRIوتامار إبنر (مؤشر التقدم االجتماعي) ،وكريستوفر فاريس،
وتشيلسيا فوليت (التقدم البشري ،)HumanProgress -وآندرو جيلمان ،ويائري غيتزا ،وأبريل إجنرام (أبطال العلم Science -
،)Heroesوجيل يانوخا (مكتب إحصاءات العمل) ،وجايل كيلش (إدارة مكافحة احلرائق األمريكية/الوكالة الفيدرالية إلدارة الطوارئ)،
وألينا كولوش (جملس األمن القومي) ،وكاليف ليتارو (مشروع قاعدة البيانات العاملية لألحداث واللغة والنربة ،)GDELTومونيت
مارشال ( ،)Polity Projectوبروس ماير ،وبرانكو ميالنوفيتش (البنك الدويل) ،وروبرت موجاه (مرصد جرائم القتل -
،)Homicide Monitorوبيبا نوريس (مسح القيم العاملية) ،وتوماس أولشانسكي (إدارة مكافحة احلرائق األمريكية/الوكالة
الفيدرالية إلدارة الطوارئ) ،آميي بريس ( ،)Science Heroesوترييز بيرتسون (برنامج أوبساال لبيانات الصراعات Uppsala -
،)Conflict Data Programومارك بريي ،وليوناردو برادوس دي ال إسكورسا ،وستيفن رادليت ،وأوك ريبما (مشروع Clio
Infraالتابع ملنظمة التعاون والتنمية يف امليدان االقتصادي) ،وهانا ريتشي ( ،)Our World in Dataوسيث ستيفنز ديفيدوتيز
(مؤشرات جوجل) ،وجيمس خافيري سوليفان ،وسام توب ( ،)Uppsala Conflict Data Programوكايال توماس ،وجينيفر
ترومان (مكتب إحصاءات العدل) ،وجني توينج ،وباس فان ليوين (مشروع Clio Infraالتابع ملنظمة التعاون والتنمية يف امليدان
االقتصادي) ،وكارلوس فياللتا ،وكريستيان ويلزيل (مسح القيم العاملية) ،وبيلي وودوورد ( ،)Science Heroesوجاسنت وولفرز.
قرأ كلٌّ من ديفيد دويتش ،وريبيكا نيوبرجر جولدشتاين ،وكيفن كيلي ،وجون مويلر ،وروزلني بينكر ،وماكس روزر ،وبروس
فصوال أو مقتطفات ،ومنهم سكوت
أيضا تعليقات اخلرباء الذين قرؤوا ً
شناير ،مسودة الكتاب بأكمله وقدَّموا يل نصائح قيِّمة .وأفادتين ً
أرونسون ،وليدا كوزمايدز ،وجريميي إجنالند ،وبول إيوالد ،وجوشوا جولدشتاين ،وإيه سي جرايلينج ،وجوشوا جرين ،وسيزار هيداجلو،
وجودي جاكسون ،ولورنس كراوس ،وبرانكو ميالنوفيتش ،وروبرت موجاه ،وجايسون نيمريو ،وماثيو نوك ،وتيد نوردهاوس ،وآنتوين
باجدن ،وروبرت بينكر ،وسوزان بينكر ،وستيفن رادليت ،وبيرت سكوبلك ،ومايكل شيلينربجر ،وكريستيان ويلزيل.
وأجاب بعض األصدقاء والزمالء اآلخرين عن بعض األسئلة أو قدموا بعض االقرتاحات املهمة ،ومنهم تشارلني آدامز ،وروزاليند
آردن ،وآندرو باملفورد ،ونيكوالس بومارد ،وبرايان بوتويل ،وستيوارد براند ،وديفيد بايرن ،وريتشارد دوكينز ،ودانييل دينيت ،وجريج
إيسرتبروك ،وإمييلي روز إيستوب ،ونيلس بيرت جليديتش ،وجينيفر جاك ،وباري التزر ،ومارك ليال ،وكارن لونج ،وآندرو ماك ،ومايكل
ماك كولو ،وهاينر ريندرمان ،وجيم روسي ،وسكوت ساجان ،وسايل ساتل ،ومارتن سيليجمان ،ومايكل شريمر .وأتقدم بشك ٍر خاص
إىل زمالئي جبامعة هارفارد مازرين باناجي ،ومريسيه كروساس ،وجيمس إجنل ،ودانييل جلربت ،وريتشارد ماك نايل ،وكاثرين سيكينك،
ولورنس سامرز.
وأشكر ريا هوارد ولوز لوبيز على جهودمها البطولية يف مجع البيانات وحتليلها وُتطيطها بيانيًّا ،وكيهاب يانج على إجراء العديد
أيضا إيالفينيل سوبيا على تصميم الرسوم البيانية األنيقة وعلى اقرتاحاهتا خبصوص الشكل واجلوهر.
من حتليالت االحندار .وأشكر ً
أنا ممنت بشدة للمحررين ويندي وولف وتوماس بني ،ولوكيل أعمايل األدبية جون بروكمان ،على إرشادهم وتشجيعهم خالل
كثريا من عملها.
استفدت ً
ُ تعلمت و
ُ مراحل املشروع .نقَّحت كاتيا رايس مثانية كتب من تأليفي حىت اآلن ،ويف كل مرة،
خاصا إىل عائليت روزلني وسوزان ومارتن وإيفا وكارل وإيريك وروبرت وكريس وجاك وديفيد ويائل وماركو وسولومون
شكرا ً
أوجه ً
وخصوصا ريبيكا ،معلِّميت وشريكيت يف تقدير قيمة ُمثُل التنوير العليا.
ً ودانييل،
الجزء األول:
التنوير
«كان الحس العام في القرن الثامن عشر ،واستيعابه الحقائق الواضحة عن معاناة البشر ،والمطالب الواضحة
للطبيعة البشرية ،بمثابة مغطس للتطهير األخالقي للعالم».
شرحت فيها فكرة مألوفة بني العلماء وهي أن احلياة العقلية تتكون من
ُ ولكن السؤال األكثر لفتًا للنظر تلقيته بعد حماضرةٍ
أمناط من النشاط يف أنسجة املخ ،حيث رفعت إحدى الطالبات من اجلمهور يدها وسألتين:
أوضحت نربة الطالبة البسيطة أهنا مل ت ُكن ساخرة وال تنتاهبا أفكار انتحارية ،وإمنا ينتاهبا فضول أصيل حول كيفية العثور على
املعىن واهلدف إذا كان آخر ما يتوصل إليه العلم يهدم املعتقدات الدينية التقليدية اليت تتمحور حول الروح اخلالدة .تقول سياسيت إنه ال
حد معقول .أذكر أنين قلت -
أيضا ،أنين استجمعت إجابة ذات مصداقية إىل ٍّ
يوجد سؤال غيب .ومما فاجأ الطالبة واجلمهور ،وفاجئين ً
متأخرا -ما يلي:
قليال بالتأكيد بفعل الذاكرة وحضور الذهن ً
بعد حتريفه ً
فأنت تبحثني عن أسباب عقلية لقناعاتك ،وهكذا ِ
فأنت تلتزمني بالعقل وسيلةً الستكشاف األمور املهمة مبجرد طرحك هذا السؤالِ ،
ِ
لك وتربيرها .وللحياة أسباب كثرية!
ميكنك تنقيح ملكتك العقلية نفسها عرب التعلُّم واجلدال ،و ِ
ميكنك ِ حساسا ،فإن ِ
لديك القدرة على االزدهار، ِ
بصفتك كائنًا َّ ً
ِ
ميكنك حتقيق التبصر يف احلالة البشرية من خالل الفنون والعلوم اإلنسانية.
البحث عن تفسريات من عامل الطبيعة عن طريق العلم ،و ُّ
ِ
ميكنك تقدير مجال ألسالفك باالزدهار ،ومن مث مسح ِ
لك بالوجود. ِ أقصى استفادة من قدراتك يف االستمتاع والرضا ،وهذا هو ما مسح
أيضا. ِ ِ عامل الطبيعة والثقافة وثرائهماِ .
ميكنك بدورك أن حتاويل إدامة احلياة ً أنت وريثة مليارات السنوات اليت أدامت احلياة فيها نفسها،
هبت حس التعاطف -القدرة على اإلعجاب واحلب واالحرتام واملساعدة وإظهار الرفق والشفقة -و ِ
ميكنك االستمتاع بنعمة اللطف لقد و ِ
ُ
املتبادل بني األصدقاء وأفراد األسرة والزمالء.
خيصك وحدك ،فإن على عاتقك تقع مسؤولية منح اآلخرين ما تتوقعينه أو تريدينه ِ وألن العقل ِ
خيربك بأن أيًّا من هذا ال
احلساسة األخرى عرب حتسني مستوى احلياة والصحة واملعرفة واحلرية والوفرة واألمن واجلمال ِ
ميكنك تعزيز رفاهة الكائنات َّ لنفسك ،إذ
تقدما يف
والسالم .إن التاريخ يرينا أننا عندما نتعاطف بعضنا مع بعض ونطبِّق براعتنا يف تطوير احلالة البشرية ،فإن بإمكاننا أن حنقِّق ً
هذا اجملال ،ومي ِ
كنك املساعدة يف مواصلة ذلك التقدم.
ال يُعد تفسري معىن احلياة من املهام الوظيفية املعتادة ألساتذة العلوم املعرفية ،ومل أ ُكن ألحتلى باجلرأة لإلجابة عن سؤاهلا لو
كنت أوجه هلا
فت أنين ُ كانت اإلجابة تعتمد على معرفيت الفنية املتخصصة أو على حكميت الشخصية املشكوك يف قيمتها .ولكنين عر ُ
تشكلت منذ أكثر من قرنني واليت تتصل بالواقع اآلن أكثر من أي ٍ
وقت مضى ،وهيُ :مثُل التنوير. جمموعة االعتقادات والقيم اليت َّ
تعبريا ينتمي إىل القرن احلادي والعشرين عن الفكرة ذاهتا يف دفاع الفيزيائي ديفيد دويتش عن التنوير يف كتاب «بداية
جند ً
الالنهاية» .يقول دويتش إننا إذا جرؤنا على الفهم ،يصبح التقدم ممكنًا يف كل اجملاالت العلمية والسياسية واألخالقية:
نظرية ترى أن كل اإلخفاقات –كل الشرور -سببُها نقصُ المعرفة...المشكالت ٌ التفاؤل (بالمعني الذي سُقته) هو
ا
حتمية الحدوث؛ ألن معرفتنا ستكون دومًا أبعد ما يكون عن الكمال .تتسِ م بعضُ المشكالت بالصعوبة ،لكن من
الخطأ أنْ نخلط بين هذه وبين تلك التي لن ُتح ال على األرجح .المشكالت قابلة للحل ،وك ُّل ش ٍّر بمنزلة مشكل ٍة
يمكن ح ُّلها .الحضارة المتفائلة منفتحة ال تخشى االبتكار ،وتقوم على تقاليد النقد .إن مؤسساتها ُتطوِّ ُر من نفسها
دائمًا ،وأهم معرف ٍة ِّ
تمثلها هي معرف ُة كيفي ِة الكشف عن األخطاء واستبعادها.
ما هو التنوير؟ ال توجد إجابة رمسية ،ألن احلقبة املذكورة يف مقالة كانط مل ُحتدد بدايتها وهنايتها مبراس ٍم مثل األوملبياد ً
مثال،
قس ٍم أو عقيدة .من املتفق عليه أن التنوير كان يف الثلثني األخريين من القرن الثامن عشر ،رغم أنه انبثق عن ومل يُنص على مبادئها يف َ
الثورة العلمية وعصر العقل يف القرن السابع عشر وامتد حىت أوج الليربالية الكالسيكية يف النصف األول من القرن التاسع عشر .التمس
جديدا «للحالة البشرية» ،مدفوعني بتحدي العلم واالستكشاف للحكمة السائدة ،وواعني بسفك الدماء فهما ً ِّ
مفكرو عصر التنوير ً
الناتج عن احلروب الدينية ،وشجعتهم على ذلك سهولة حركة األفكار واألفراد .كانت يف هذه احلقبة وفرة من األفكار ،وكان بعضها
متناقضا ،ولكن تربطها أربعة موضوعات هي العقل والعلم والنزعة اإلنسانية والتقدم.
ً
على رأسها العقل ،فالعقل غري قابل للتفاوض .مبجرد أن تبدأ مبناقشة سؤال "ما الذي جيب أن حنيا من أجله؟" (أو أي سؤال
أيضا ،تكون قد ألزمت
أصررت أن إجابتك -مهما كانت -عقالنية أو مربرة أو صحيحة ومن مث جيب أن يصدقها اآلخرون ً َ آخر) ،طاملا
نفسك بالعقل ،وبوضع معتقداتك حمل احملاسبة وفق معايري موضوعية .إذا كان هناك ما جيمع بني ِّ
مفكري التنوير ،فهو اإلصرار على أننا
نطبق معيار العقل يف فهم عاملنا بكل طاقتنا ،وال ننتكص إىل صانعي األوهام مثل اإلميان أو الدوغما أو الوحي أو السلطة أو الفتنة أو
التصوف أو التنجيم أو الرؤى أو احلدس أو التحليل التأويلي للنصوص املقدسة.
ٍ
صفات بشرية مهتم بشؤون اإلنسان ،وأظهر كان العقل هو ما دفع معظم ِّ
مفكري عصر التنوير إىل رفض اإلميان بإله ذي
استخدام العقل أن القصص املأثورة عن املعجزات مثار شك ،وأن أسلوب مؤلفي الكتب املقدسة بشري أكثر من الالزم ،وأن الظواهر
الطبيعية حتدث دون اعتبا ٍر لرفاهة البشر ،وأن خمتلف الثقافات تؤمن بآهلة متعارضة وتنايف بعضها ً
بعضا ،ليس أحدها دونًا عن غريه
منزها عن أن يكون نتاج اخليال( ،مثلما كتب مونتسكيو« :لو كان للمثلثات إله ،لتصوروه بثالثة أضالع») .رغم كل ذلك ،مل ي ُكن ً
كل ِّ
مفكري عصر التنوير ملحدين ،بل كان بعضهم ربوبيًّا (وهؤالء خيتلفون عن املؤمنني باأللوهية واألديان) ،أي كانوا يعتقدون أن اهلل
قد خلق الكون مث ابتعد ومسح له بالسري وف ًقا لقوانني الطبيعة ،وكان بعضهم مؤمنني بالواحدية ،اليت كانت تستخدم كلمة «اهلل» للتعبري
ولدا.
عن قوانني الطبيعة ،ولكن جلأت قلة منهم إىل إله الكتب املقدسة الذي يضع التشريعات وحيقق املعجزات ويتخذ له ً
كثري من الكتاب اليوم بني تأييد التنوير الستخدام العقل من جانب ،واالدعاء غري املعقول أن البشر كائنات فاعلة
خيلط ٌ
متاما .هذا اخللط أبعد ما يكون عن الواقع التارخييِّ ،
فاملفكرون مثل كانط وباروخ سبينوزا وتوماس هوبز وديفيد هيوم وآدم مسيث عقالنية ً
متاما بنواقصنا وعواطفنا الال عقالنية ،وأصروا أننا ال ميكن أن نتغلب على مصادر محاقتنا
كانوا علماء نفس فضوليني للعلم وواعني ً
فتعمد استخدام العقل ضروري بصورةٍ خاصة ألن عادات تفكرينا الشائعة ليست منطقية.
الشائعة إال بانتقادها وحتديهاُّ .
يقودنا ذلك إىل املثال الثاين ،وهو العلم ،أي تنقيح العقل من أجل فهم العامل .كانت الثورة العلمية ثوريةً بطريقة يصعب علينا
املؤرخ ديفيد ووتون مبستوى فهم الرجل اإلجنليزي اليوم فهمها وتقديرها ،إذ أصبحت اكتشافاهتا اآلن عادية يف نظر معظمناِّ .
يذكرنا ِّ
املتعلِّم يف عشية الثورة يف عام 1600كما يلي:
يؤمن بأن الساحرات يمكنهن استحضار العواصف التي تغرق السفن في البحر...ويؤمن بالمستذئبين ،رغم عدم
ي منهم في إنجلترا ،فهو يعرف أنهم موجودون في بلجيكا...ويؤمن أن كيركي حوا لت رجال أوديسيوس وجود أ ٍّ
ً ّ ً
إلى خنازير فعال .يؤمن أن الفئران تتولد عشوائيا في أكوام القش ،ويؤمن بالسحرة المعاصرين...ورأى قرن
وحيد القرن ،في حين لم ي َر وحيد القرن نفسه.
يؤمن بأن جثة القتيل تنزف في حضور القاتل ،ويؤمن بوجود دهان إذا وُ ضع على خنجر كان قد أحدث جرحً ا،
فسيُشفى هذا الجُرح .ويؤمن بأن شكل النبات أو لونه أو ملمسه يشيران إلى كيفية عمله عالجً ا لبعض األمراض
ألن هللا صمام الطبيعة كي يفسِّرها اإلنسان .ويؤمن أنه من الممكن تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب ،إال أنه
يشك في أن يعرف أح ٌد كيف يفعل ذلك .ويؤمن بأن الطبيعة تمقت الخواء ،ويؤمن بأن قوس قزح عالمة من هللا
وأن المذ انبات تنذر بالشر .إنه يؤمن بأن األحالم تتنبأ بالمستقبل إذا عرفنا كيف نفسِّرها تفسيرً ا صحيحً ا ،ويؤمن
بالطبع بأنا األرض ثابتة والشمس والنجوم تدور حول األرض مرة كل أربعة وعشرين ساعة.
بعد مرور ٍ
قرن وثُلث القرن ،مل يعُد َسلَف هذا الرجل اإلجنليزي املتعلِّم يصدق أيًّا من هذه األمور ،فلم ي ُكن هذا هروبًا من اجلهل
أيضا .يشري عامل االجتماع روبرت سكوت أنَّه يف العصور الوسطى «أسهم االعتقاد ُّ
بتحكم قوة خارجية يف فحسب ،بل من الرعب ً
احلياة اليومية حبدوث ما يشبه ارتيابًا مجاعيًا» ،فقال:
كانت العواصف الممطرة والرعد والبرق وهباات الريح وكسوف الشمس وخسوف القمر وموجات البرد والحر
نتيجة لذلك ،سكنت «عفاريت وفترات الجفاف والزالزل ُتعد عالمات وإشارات على سخط هللا على اإلنسان ،و ً
الخوف» كل ميادين الحياة ،فأصبح البحر ميدان إبليس ،والغابات مسكونة بوحوش الفرائس والغيالن
والساحرات والشياطين ،واللصوص والسفاحين الحقيقيين...وبعد انسدال الظالم امتأل العالم بال ُن ُذر التي تنبئ
نوع ،مثل :المذ انبات والنيازك وال ُشهُب وخسوف القمر وعواء الحيوانات البرية.باألخطار من كل ٍ
ملفكري عصر التنوير مدى خطأ حكمتنا السائدة ،وكيف أن الطرق العلمية ُّ -
التشكك وقابلية اخلطأ أوضح اهلروب من اجلهل واخلرافة ِّ
والنقاش املفتوح واالختبار التجرييب -هي مناذج لكيفية الوصول إىل املعرفة املوثوقة.
موضوعا ربط بني ِّ
مفكري التنوير الذين اختلفوا ً تشمل تلك املعرفة فهم أنفسنا ،فكانت احلاجة إىل «علم خاص باإلنسان»
يف أموٍر أخرى كثرية ،ومنهم مونتسكيو وهيوم ومسيث وكانط ونيكوال ماركيز كوندورسيه ودنيس ديدرو وجان داملبري وجان جاك روسو
وجيامباتيستا فيكو .جعلهم اعتقادهم بأن هناك شيئا امسه الطبيعة البشرية ،ميكن دراسته دراسة علمية ،أول املمارسني ٍ
لعلوم مل يُطلق ً
عليها اسم سوى بعد قرون .كانوا علماء أعصاب معرفيني حاولوا تفسري الفكر والعاطفة واألمراض النفسية من حيث اآلليات املادية
لعمل املخ ،وكانوا علماء نفس تطوري حاولوا متييز احلياة يف احلالة الطبيعية وحتديد الغرائز احليوانية «املغروسة فينا» .كانوا علماء نفس
تقسمنا ،ونواقص قصر النظر اليت تفسد أفضل خططنا .وكانوا علماء
توحدنا ،والعواطف األنانية اليت ِّ
كتبوا عن املشاعر األخالقية اليت ِّ
أنثروبولوجيا نقَّبوا يف حكايات املسافرين واملستكشفني عن أي بيانات عن العموميات البشرية وتنوع التقاليد واألعراف بني خمتلف ثقافات
العامل.
ُّما ،فال ميكن أن يُعد أي شيء آخر كذلك ،وهو ما يصل بنا إىل إذا مل ي ُكن القضاء على العبودية والعقوبات القاسية تقد ً
وتوسع دائرة تعاطفنا بفعل العقل والعاملية ،قد ُحت ِدث البشرية تقدُّما فكريًّا
تطور فهمنا للعامل بفعل العلمُّ ،
املثال الرابع من ُمثُل التنوير .مع ُّ
وصوال إىل عص ٍر ذهيب ضائع.وأخالقيًّا .ليس عليها أن تذعن ملآسي احلاضر وال عقالنيته ،وال أن حتاول إعادة الزمن للوراء ً
ال ينبغي اخللط بني اإلميان التنويري بالتقدم واإلميان الرومانسي يف القرن التاسع عشر بالقوى الروحانية والقوانني واجلدلية
والصراعات والكشف الروحاين الصويف واألقدار و«عصور اإلنسان» والقوى التطورية اليت تدفع البشرية يف اجتاهٍ صاعد حنو اليوتوبيا
(املدينة الفاضلة) .وكما تشري عبارة كانط اليت ذكرناها...« :زيادة معرفتهم وتصحيح أخطائهم» ،فإن هذا اإلميان بالتقدم كان عاديًّا،
وجربناها ،وأبقينا منها على ما جيعل
طرق لتحسينهاَّ ،وفكرنا يف ٍوكان خليطًا من العقل والنزعة اإلنسانية .إذا تتبعنا مسار قوانيننا وآدابناَّ ،
ويوضح الناس أفضل ،ميكننا أن جنعل العامل مكانا أفضل بالتدريج .فالعلم نفسه يتحرك ٍ
ببطء إىل األمام من خالل دورة النظرية والتجربةِّ ، ً
تطوره املتواصل ،واملتداخل مع بعض االنتكاسات والنقض الداخلي ،مدى إمكانية التقدُّم.
كما ال جيب اخللط بني مثال التقدم من جانب ،واحلركة من أجل إعادة تصميم اجملتمع ملالءمة أصحاب اخلربة الفنية
(التكنوقراط) واملخطِّطني يف القرن العشرين ،وهو ما أطلق عليه خبري العلوم السياسية جيمس سكوت احلداثة السلطوية الفائقة .أنكرت
صمم احلداثيون مشروعات
هذه احلركة وجود الطبيعة البشرية ،باحتياجاهتا الفوضوية إىل اجلمال والطبيعة والتقاليد واحلميمية االجتماعيةَّ .
للتجديد احلضري تستبدل باألحياء النابضة باحلياة طرقًا سريعة ومباين متعددة الطوابق وساحات مفتوحة والعمارة الوحشية أو اخلام،
أن« :البشرية ستولد من جديد ،وحتيا ضمن ٍ
عالقة متناسقة بال ُكل» .رغم ربط وكأهنا لوحات بيضاء فارغة دون تاريخ .كانت نظريتهم َّ
ُّما.
توجهه النزعة اإلنسانية ليس تقد ً
مثريا للسخرية ،فالتقدُّم الذي ال ِّ هذه التطويرات أحيانًا بكلمة التقدُّمَّ ،إال َّ
أن استخدامها كان ً
يأمل التنوير أن يرِّكز التقدُّم على املؤسسات البشرية ً
بدال من حماولة تشكيل الطبيعة البشرية ،فاألنظمة اليت من صنع البشر
مثل احلكومات والقوانني واألسواق واملدارس واهليئات الدولية هي اهلدف الطبيعي لتسخري العقل يف حتسني أحوال البشر.
فكر ُكتَّاب مثل مونتسكيو وتشيزاري بيكاريا واآلباء ااملؤسسني للواليات من بني سلطات احلكومة توزيع العقوبات ،وقد َّ
تفويضا بتطبيق العدالة الكونية ،وإمنا إن العقوبة اجلنائية ليست املتحدة من ٍ
جديد يف الرخصة املمنوحة للحكومة بإيذاء مواطنيها ،فقالوا َّ
ً
بنية حتفيزية تُثين عن ارتكاب األفعال املعادية للمجتمع دون أن تتسبَّب يف معاناةٍ أكثر مما تردعها .فالسبب وراء فكرة َّ
أن هي جزء من ٍ
مثال ليس معادلة ميز ٍان روحاين للعدل ،وإمنا ضمان توقُّف املذنب عند ارتكاب جر ٍ
مية صغرية اجلزاء ال بد أن يكون من جنس العمل ً
وعدم جتاوزها الرتكاب جرمية أكثر إيذاءً .ليست العقوبات القاسية ،سواء كانت «مستحقة» أم ال ،أكثر فعالية يف ردع األذى من
العقوبات املتوسطة الثابتة ،وهي تقلل حساسية املتفرجني وتزيد وحشية اجملتمع الذي يطبِّقها.
أيضا أول حتليل عقالين للرخاء ،ومل ينطلق من كيفية توزيع الثروة وإمنا من السؤال عن كيفية وجود الثروة من شهد التنوير ً
األساس .أشار مسيث ،مضي ًفا إىل التأثريات الفرنسية واهلولندية واالسكتلندية ،إىل أن الوفرة من األغراض املفيدة ال ميكن أن توجد بفعل
سح ٍر يقوم به مزارع أو حريف منعزل ،بل تقوم على شبكة من املتخصصني ،يتعلَّم كل منهم كيفية فعل ٍ
شيء ما بأكرب قد ٍر ممكن من ٌّ
منفردا
أن صانع الدبابيس الذي يعمل ً شهريا حسب فيه َّ
مثاال ً
الكفاءة ،وجيمعون ويتبادلون مثار براعتهم ومهارهتم وعملهم .قدَّم مسيث ً
وثالث
ويقومهٌ ،
يسويه ِّ
ورشة يوجد فيها «رجل يسحب السلك ،وآخر ِّ قد يصنع دبوسا واحدا ٍ
حبد أقصى يف اليوم ،يف حني أنَّه يف ٍ ً ً
وخامس يشحذه من األعلى كي تُثبَّت رأسه» ،قد يُنتج كل منهم مخسة آالف قطعة تقريبًا.
ٌ ابع يسنَّه،
يقطعه ،ور ٌ
ال ينجح التخصص سوى يف ٍ
سوق تتيح للمتخصصني تبادل سلعهم وخدماهتم ،وشرح مسيث َّ
أن النشاط االقتصادي شكل
كل منهما على شيء أكثر قيمة لديه من الشيء الذي يتنازل عنه .ينفع الناس
من أشكال التعاون املتبادل املفيد للطرفني ،إذا حيصل ٌ
أيضا من خالل املقايضة الطوعية ،فكما كتب مسيث« :إننا ال نتوقع حصولنا على العشاء بفضل إحسان
بعضا عرب نفع أنفسهم ً
بعضهم ً
كل منهم مصلحته اخلاصة ،فنحن ال خناطب إنسانيتهم وإمنا حبهم لذواهتم» .مل
اجلزار أو صانع اخلمر أو اخلباز ،وإمنا بفضل مراعاة ٍّ
مفسري التاريخ على تعاطف يقصد مسيث َّ
أن الناس أنانيون ال يعرفون الرمحة ،وال أن عليهم أن يكونوا كذلك ،إذ إنه كان أحد أحرص ِّ
البشر ،وإمنا كان يقصد فقط أنَّه يف ميدان األسواق ،ميكن أن يؤدي ميل الناس إىل االعتناء بأسرهم وبأنفسهم إىل اخلري للجميع.
أيضا ،ألن شراء األغراض من السوق العاملة أرخص من سرقتها ،وبعض الناس
جمتمعا بأكمله أثرى ،وألطف ً
فالتبادل قد جيعل ً
الرتزي
قرون« :لو حارب ُّ تكون قيمتهم وهم أحياء أعلى من قيمتهم وهم أموات (إذ كما قال االقتصادي لودفيج فون ميزس بعد بضعة ٍ
ُ ُ
كثري من ِّ
مفكري التنوير مبن فيهم مونتسكيو وكانط وفولتري وديدرو وشارل اخلبَّ َاز ،فسيضطر بعد ذلك إىل صنع خبزه بنفسه») .أيَّد ٌ
صمم اآلباء املؤسسون للواليات املتحدة األمريكية
إيرينيه رئيس دير سان بيري منوذج doux commerceأي التجارة الناعمة،وقد َّ
-جورج واشنطن وجيمس ماديسون ،وباألخص ألكساندر هاملتون -مؤسسات الوطن الشاب مبا ينمي هذا النموذج.
يصل بنا هذا إىل مثال آخر من ُمثُل التنوير وهو السالم .كانت احلرب شائعة جدًّا يف التاريخ لدرجة أنه كان من الطبيعي أن
دائما من احلالة البشرية وأن نظن أن السالم لن يأيت سوى يف العصر املسياين .ولكن مل ُيعد يُنظر إىل احلرب
يُنظر إليها بوصفها جزءًا ً
حتمله واستهجانه ،وال مسابقة جميدة جيب الفوز واالحتفاء هبا ،وإمنا كمشكلة عملية جيب احلد منها
اآلن كأهنا عقاب إهلي جيب ُّ
يوما ما .وضع كانط يف كتابه "السالم الدائم" إجراءات متنع القادة من جر بالدهم إىل احلروب ،فأوصى بالتجارة الدولية،
وحلها ً
إضافةً إىل اجلمهوريات التمثيلية -أي ما نطلق عليه اآلن الدميقراطيات -والشفافية املتبادلة ،وأعراف مضادة للغزو والتدخل يف الشؤون
الداخلية ،وحرية السفر واهلجرة ،واحتاد للدول يفصل يف النزاعات بينها.
ً
نسبة إلى المسيا ،وهو شخصية تظهر في نهاية العالم حسب الديانة اليهودية ،وهو يشبه شخصية المهدي لدى المسلمين ،ويتسم العصر المسياني باالتحاد
والحب والسالم -المترجم
مبارزا .فبعض املسائل اليت كانت تشغلهم غري مفهومة لنا تقريبًا ،وتوصلوا إىل كثري من األفكار احلمقاء كما توصلوا
للعبيد ،وبعضهم ً
ٍ
مرحلة مبكرة جدًّا ،مما منعهم من معرفة بعض أحجار أساس فهمنا احلديث إىل كث ٍري من األفكار العبقريةُ ،
فهم باختصار ُولدوا يف
للواقع.
متجد العقل ،فما يهمك هو سالمة األفكار وليس شخصيات كان هؤالء انفسم ليصبحوا اول من يقر بالتايل :إذا كنت ِّ
ملتزما بالتقدُّم ،فال ميكنك ادعاء معرفة كل شيء .فال يقلل من ِّ
مفكري التنوير أن حندِّد بعض األفكار احلامسة ِّ
املفكرين ،وإذا كنت ً
اليت نعرفها حنن يف حني مل يعرفوها ،وتلك األفكار هي يف رأيي اإلنرتوبيا والتطور واملعلومات.
الفصل الثاني:
اإلنتروبيا والتطور والمعلومات
وعرفه بشكله
إن حجر األساس األول يف فهم احلالة البشرية هو مفهوم اإلنرتوبيا أو الفوضى ،الذي ظهر من فيزياء القرن التاسع عشر َّ
احلايل الفيزيائي لودفيج بولتزمان .ينص القانون الثاين للديناميكا احلرارية على أن اإلنرتوبيا ال تقل مطل ًقا يف ٍ
نظام معزول (أي نظام يتفاعل
مع بيئته)( .ينص القانون األول على حفظ الطاقة ،وينص الثالث على استحالة الوصول إىل درجة الصفر املطلق) .تقل بنية األنظمة
املغلقة ونظامها وقدرهتا على حتقيق نتائج مفيدة ومهمة ،حىت تعود إىل التوازن الرمادي احملايد الفاتر الرتيب وحتافظ عليه.
أشار القانون الثاين يف صيغته األصلية إىل عملية التبدد احلتمي للطاقة الصاحلة لالستخدام على هيئة فَـ ْرٍق يف درجات احلرارة
فسر فريق فالندرز وسوان يف إحدى أغانيه« :ال ميكنك نقل
بني جسمني مع تدفق احلرارة من اجلسم األدفأ إىل اجلسم األبرد( .فكما َّ
احلرارة من األبرد إىل األدفأ ،حاول إذا أردت ولكن األفضل أال تفعل») .فكوب القهوة سيربد َّإال إذا ُو ِضع فوق ٍ
صفيح ساخن متصل
بالكهرباء .عندما ينفد الفحم الذي يشغِّل احملرك البخاري ،لن يستطيع البخار البارد على أحد جانيب املكبس حتريكه ألن اهلواء والبخار
الدافئ على اجلانب اآلخر يصدونه بنفس القوة.
سائال خفيًّا وإمنا هي الطاقة الكامنة يف اجلزيئات املتحركة ،وأن الفرق يف درجات حرارة األجسام
مبجرد فهم أن احلرارة ليست ً
تكونت صيغة إحصائية أعم من مفهوم اإلنرتوبيا والقانون الثاين .ميكن وصف َّ
يتشكل من الفرق بني متوسط سرعات تلك اجلزيئاتَّ ،
االنتظام من حيث جمموعة حاالت النظام املختلفة اختالفات دقيقة (مثل األوضاع والسرعات احملتملة لكل اجلزيئات يف اجلسمني يف
تشكل تلك اليت جندها مفيدة من منظور «عني الطائر» (مثل أناملثال األصلي الذي يتضمن احلرارة) .ومن بني كل هذه احلاالتِّ ،
رتجم إىل أن يكون متوسط سرعة اجلزيئات يف أحد اجلسمني أعلى من متوسط سرعتها يكون أحد اجلسمني أسخن من اآلخر ،وهو ما يُ َ
يف اآلخر) جزءا صغريا جدًّا من االحتماالت املمكنة ،يف حني ِّ
تشكل كل احلاالت الفوضوية أو غري املفيدة (اليت ال تشمل فرقًا يف ً ً
فإن أي اضطراباحدا) األغلبية العظمى من االحتماالت .وبناءً عليهَّ ،
درجات احلرارة ،واليت يكون فيها متوسط السرعة يف اجلسمني و ً
تقلقال عشوائيًّا يف أجزائه أو ضربة من اخلارج ،سيدفع النظام إىل الفوضى أو العبث حسب قوانني االحتماالت، يف النظام ،سواء كان ً
مثال عن ٍ
قلعة من كثريا من الطرق إىل االنتظام .إذا ابتعدت ً
ليس ألن الطبيعة تسعى إىل الفوضى ،وإمنا ألن الطرق إىل الفوضى أكثر ً
الرمال ،فلن جتدها مكاهنا يف اليوم التايل ،ألن الرياح واألمواج والنوارس واألطفال عندما يدفعون حبات الرمال وحيركوهنا ،فإن احتمالية
أن يرتِّبوها بألف ٍ
شكل ال يشبه القلعة أكرب من احتمالية أن يرتِّبوها ببضعة أشكال تشبهها .سأشري غالبًا إىل الصيغة اإلحصائية من
أيضا على تبدد االنتظام ،بـ «قانون اإلنرتوبيا». ٍ
القانون الثاين ،الذي ال ينطبق بصفة خاصة على معادلة الفروق يف درجات احلرارة وإمنا ً
ما صلة اإلنرتوبيا بالشؤون اإلنسانية؟ تعتمد احلياة والسعادة على ٍ
جزء شديد الصغر من الرتتيبات املنتظمة للمادة من بني ٍ
عدد
إن أجسامنا عبارة عن جتمعات مستبعدة للجزيئات ،وحتافظ على ذلك االنتظام مبساعدة احتماالت مستبعدة فلكي من االحتماالتَّ .
حترك األغراض كما أخرى ،مثل :املواد الضئيلة اليت ِّ
تغذينا ،وبضع األدوات الضئيلة بأشكاهلا الضئيلة اليت ميكنها أن تكسونا أو تأوينا أو ِّ
كثريا ،لذا فعندما تتغري األحوال دون تدخل العامل البشري بتوجيه
حنب .فرتتيبات املادة املوجودة على األرض واليت ال نفع منها لنا أكثر ً
ٍ
مبقوالت مثل« :األمور هذا التغيري ،فإهنا ،على األرجح ،ستتغري إىل األسوأ .وحنن نقر بقانون اإلنرتوبيا على ٍ
نطاق واسع يف حياتنا اليومية
أبدا» ،و«احلياة مليئة باخليبات» ،و«كل مشكلة حيتمل أن حتدث ،ستحدث» ،وكما قال سام بطبيعتها تنهار» ،و«الصدأ ال يتوقف ً
(املشرع من والية تكساس)« :بإمكان أي محار أن يهد احلظرية ،لكن بناءها يتطلَّب جن ً
َّارا». ريبورن ِّ
يقدِّر العلماء َّ
أن القانون الثاين أكرب من جمرد تفسري للمضايقات اليومية العادية ،بل هو أساس فهمنا للكون وملكاننا فيه.
كتب الفيزيائي آرثر إدينجتون يف عام 1928ما يلي:
أعتقد أنا القانون الذي ينص على أن اإلنتروبيا تزداد يحتل أعلى مكانة بين قوانين الطبيعة .إذا أشار أحد إلى أن
نظريتك المفضالة عن الكون غير متفقة مع معادالت ماكسويل ،فإنّ هذا أمر مؤسف لمعادالت ماكسويل ًإذا ،وإذا
ً
أحيانا .ولكن إذا وُ جِد أن نظريتك تعارض القانون وُ جِد أنها تناقض المالحظات ،فهؤالء التجريبيون يخطؤون
الثاني للديناميكا الحرارية ،فال أمل لك ،ال يوجد أمامها سوى االنهيار في أعماق الخزي.
علَّق العامل والروائي تشارلز بريسي سنو يف حماضرة ريد الشهرية اليت عُقدت عام 1959واملنشورة بعنوان الثقافتان والثورة
العلمية ،على ازدراء العلم بني الربيطانيني املثقَّفني يف عصرهً ،
قائال:
حضرت عدة مرات اجتماعات ألشخاص ُيعَدون ،بمقاييس الثقافة التقليدية ،واسعي الثقافة ،ويعبِّرون عن ِّ
شكهم ُ
وسألت الذين معي كم منهم يستطيع وصف القانون الثاني ُ في جهل العلماء .شعرت باالستفزاز مرة أو اثنتين
باردا ،وكان أيضًا سلب ّ ًيا .ومع ذلك فإن سؤالي ليس أكثر من المكافئ العلمي
للديناميكا الحرارية ،كان الرد ً
لسؤال« :هل قرأتَ أحد أعمال شكسبير؟»
ما سر هيبة القانون الثاين؟ من وجهة نظر شاملة عليا ،فإنه حيدِّد مصري الكون والغرض النهائي من احلياة والذهن وسعي
اإلنسان :نشر الطاقة واملعرفة لصد تيار اإلنرتوبيا واالحتماء منها باالنتظام النافع .أما من وجهة نظر أرضية ،فيمكننا أن نكون أكثر
أوال فكرتني تأسيسيتني.نقطة مألوفة ،جيب أن أعرض ً حتديدا ،ولكن قبل أن نصل إىل ٍ ً
مباض حمبط ومستقبل كئيب .بدأ الكون ٍ
حبالة من اإلنرتوبيا، قد يبدو قانون اإلنرتوبيا للوهلة األوىل وكأنه ال يسمح سوى ٍ
االنفجار العظيم ،برتكي ٍز هائل للطاقة على حن ٍو غري مفهوم ،ومن هنا بدأ كل شيء يف التدهور ،فتبدد الكون -وسيواصل التبدد -مثل
يدا عدمي الشكل ،وإمنا هو مفعم ٍ
طبعا ثر ً
ثريد من اجلسيمات املنتشرة بالتساوي واملتناثرة يف الفضاء .ليس الكون يف احلقيقة كما نراه ً
باحلياة باجملرات والكواكب واجلبال والسحب ورقاقات الثلج وازدهار النباتات واحليوانات ،مبا فيها حنن البشر.
أحد أسباب امتالء الكون بالكثري من األمور املثرية لالهتمام هو جمموعة من العمليات اليت تُدعى التنظيم الذايت ،وهي تسمح
بظهور مناطق منتظمة حماطة ٍ
حبدود .عندما تتدفق الطاقة إىل ٍ
نظام ما ،ينشر النظام تلك الطاقة منزل ًقا حنو اإلنرتوبيا ،وميكن أن يكون
متوازنًا يف ٍ
شكل مجيل ،مثل كرة أو حلزون أو شكل انفجار جنمي أو دوامة أو موجات متجعدة أو بلورة أو شكل هندسي متكرر.
وتشري حقيقة أننا جند هذه األشكال مجيلة إىل أن اجلمال رمبا ال يكون يف عني الرائي فحسب ،فاستجابة العقل اجلمالية قد تكون تقبُّ ًال
لألمناط غري اإلنرتوبية اليت تنبع من الطبيعة.
لدي.
املفضلة َّ
سأوضح نقطيت باستخدام ثاين األعضاء َّ
ِّ املثال التوضيحي املعتاد على التصميم البيولوجي هو العني ،ولكين
حتتوي أذن اإلنسان على طبلة مرنة هتتز استجابةً ألقل نفخة هواء ،ورافعة عظمية تضخم قوة االهتزاز ،ومكبس ينقل االهتزاز إىل السائل
نفق طويل (ملتف ليالئم جدار اجلمجمة) ،وغشاء مستدق على طول النفق يفصل املوجات إىل نغماهتا املتوافقة ،وجمموعة املوجود يف ٍ
قطارا من النبضات الكهربائية إىل املخ.
من اخلاليا ذات الشعريات الصغرية اليت تنحين إىل األمام واخللف بفعل الغشاء املهتز ،وترسل ً
أن هذا الشكل املستبعدة للغاية دون اإلشارة إىل َّ
َ من املستحيل تفسري ترتيب هذه األغشية والعظام والسوائل والشعريات بتلك الطريقة
يسمح للمخ بتسجيل الصوت ٍ
بنمط معني .وحىت األذن اخلارجية املكسوة باللحم -دون متاثل بني اجلزء العلوي والسفلي ،وال بني األمام
تشكل الصوت القادم على حن ٍو يُعلِم املخ مبصدر الصوت ،سواء كان من أعلى
مصممة بطريقة ِّ
واخللف ،واجملعدة باملرتفعات واألوديةَّ -
أم أسفل ،من األمام أم اخللف.
إن الكائنات احلية حافلة باعضاء يصعب تنبؤ أن يكون تكوهنا تلقائيا مثل العني واألذن والقلب واملعدة ،مما يقودنا لالستفسار
مصمم،
تفسريا يف عام ،1859كان من املنطقي اعتقاد أهنا من صنع إله ِّ
عن نشأهتا .قبل أن يقدِّم تشارلز داروين وألفريد راسل واالس ً
أن كثريا من ِّ
مصمم.
مفكري التنوير كانوا ربوبيني وليسوا ملحدين .نفى داروين وواالس ضرورة وجود ِّ وهذا كما أظن هو السبب يف َّ ً
شكل من أشكال املادة ميكنه تكرار نفسه ،أصبحت النسخ تنسخ نفسها، عندما نتج عن عمليات التنظيم الذايت يف الفيزياء والكيمياء ٌ
حترك عملية وتنسخ النسخ الثانية نفسها ،وهكذا ،يف انفجا ٍر مطرد .تتنافس أنظمة التكرار على املادة كي تنتج نُ ً
سخا وعلى الطاقة كي ِّ
التكرار .مبا أن عملية النسخ ليست مثالية -ويضمن قانون اإلنرتوبيا ذلك -تقع بعض األخطاء ،ورغم أن معظم هذه الطفرات تنتقص
أن إحداها رمبا تصبح أكثر كفاء ًة يف االستنساخ بضر ٍبة حظ عارضة ،ويكتسح أسالفها املنافسة.
أيضا)َّ ،إال َّ
املكرر (بفعل اإلنرتوبيا ً
من ِّ
حتسن االستقرار والتكرار على مر األجيال ،يبدو نظام التكرار -الذي نطلق عليه «الكائن» -وكأنَّه قد مت
مع تراكم أخطاء النسخ اليت ِّ
هندسته وتصميمه بغرض البقاء والتكاثر يف املستقبل ،رغم أنه حافظ فقط على أخطاء النسخ اليت أدت إىل البقاء والتكاثر يف املاضي.
الدعاء َّ
أن التطور البيولوجي ،أي زيادة االنتظام مبرور الوقت، حيرف أنصار نظرية اخلَلق عادةً القانون الثاين للديناميكا احلرارية ِّ
ِّ
مستحيل فيزيائيًّا ،إذ حيذفون من القانون اجلزء الذي يقول «يف نظام مغلق» .إن الكائنات احلية أنظمة مفتوحة ،فهي تلتقط الطاقة من
الشمس أو الغذاء أو منافس احمليطات كي ِّ
تشكل جتاويف مؤقتة من االنتظام يف أجسامها وأعشاشها بينما تلقي حبرارهتا ونفاياهتا يف
البيئة لتزيد بذلك الفوضى يف العامل بأكملهَّ .
إن استخدام الكائنات احلية للطاقة من أجل احلفاظ على سالمتها من اإلنرتوبيا هو تفسري
أساسا حديث ملبدأ الكوناتوس (أي اجملهود أو السعي) الذي َّ
عرفه سبينوزا بأنه «حماولة الفرد لالستمرار واالزدهار بطبيعته» ،والذي كان ً
لنظريات عديدة عن احلياة والذهن يف حقبة التنوير.
يؤدي الشرط الصارم المتصاص الطاقة من البيئة إىل إحدى مآسي الكائنات احلية ،ففي حني َّ
أن النباتات متتص الطاقة
الشمسية ،وبعض الكائنات اليت تسكن أعماق احمليطات متتص املرق الكيميائي الفائض عن الشقوق املوجودة يف هذه األعماق ،فإن
املخزنة يف أجسام النباتات واحليوانات األخرى واليت حصلت عليها بصعوبة ،عرب
احليوانات تولد استغاللية :فهي تعيش على الطاقة َّ
تناوهلا .كذلك تفعل الفريوسات والبكترييا والطفيليات ومسبِّبات األمراض األخرى اليت تنخر يف األجسام من الداخل ،فكل ما ندعوه
«غذاء» ،باستثناء الفاكهة ،هو أحد أعضاء جسم كائ ٍن آخر أو خمزن طاقته ،والذي قد حيتفظ هبذا الكنز لنفسه .الطبيعة ٌ
حرب ،وكثري
مما يلفت انتباهنا يف العامل الطبيعي هو سباق األسلحة ،فالفريسة حتمي نفسها بالصدف أو العمود الفقري أو املخالب أو القرون أو
تطور
السم أو التمويه أو الفر أو الدفاع عن النفس ،وأنسجة النباتات مشبعة باألشواك والقشر واللحاء واملهيِّجات والسموم ،فيما ِّ
احليوانات أسلحة الخرتاق تلك الدفاعات :فيتمتع آكلو اللحوم بالسرعة والرباثن والرؤية القوية مثل عني النسر ،يف حني يتمتع آكلو
ٍ
بأسنان طاحنة وكبد يزيل السموم الطبيعية. العشب
ط ما على مدى دقة رؤيتنا للعامل ،إذا كنا هنتم بالرتتيب املضبوط للحروف فيما أنتجهتتوقف املعلومات اليت حيتوي عليها من ٌ
صوت وآخر من أصوات الضوضاء ،أو بنمط وحدات البيكسل احملدد يف إحدى الشاشات العشوائية، القرد ،أو بالفرق الدقيق بني ٍ
كال من هذه األمناط حيتوي على نفس مقدار املعلومات الذي حتتوي عليه األمناط األخرى .حتتوي األمناط املثرية لالهتمام إن ًّسنقول َّ
مثال) ،فإن بإمكانك ُتمني بقية األجزاء (مثل احلرف التايل،
جزء واحد (حرف الـ ق ًبالطبع على معلومات أقل ألنك عندما تنظر إىل ٍ
ك) دون احلاجة إىل اإلشارة .ولكننا غالبًا جنمع األغلبية العظمى من األشكال العشوائية سويًّا ونصفها بامللل بقد ٍر متسا ٍوِّ ،
ونفرق بينها
مجيعا من جانب ،واألشكا ل القليلة اليت ترتبط يف أذهاننا بشيء آخر من جانب .من وجهة النظر تلك ،حتتوي صورة القطة على ً
معلومات أكثر مما حتتوي عليها قصاصات وحدات البيكسل ،ألهنا تستخدم رسالة فائضة التفاصيل لتحديد ٍ
شكل متناسق نادر من بني
ومتناسق وليس عشوائيًّا يعين أنه حيتوي على املعلومات منتظم ٍ
عدد هائل من األشكال غري املتناسقة بنفس القدر .فالقول بأن الكون
ٌ ٌ
املكونات األساسية للكون ،إضافةً إىل املادة والطاقة.
هبذا املعىن ،وبعض الفيزيائيني يقدِّسون املعلومات بوصفها إحدى ِّ
املعلومات هي ما يرتاكم يف اجلينوم خالل التطور ،يرتبط تتابع القواعد النووية يف جزيء احلمض النووي بتتابع األمحاض األمينية
تشكل جسم الكائن ،وقد نشأ هذا التتابع عرب تنظيم أسالف الكائن -أي خفض اإلنرتوبيا -يف األشكال مستبعدة يف الربوتينات اليت ِّ
التكوين اليت مسحت هلم باحلصول على الطاقة والنمو والتكاثر.
نعود اآلن إىل التطور .يستطيع املخ ،الذي أهلته املعلومات املوجودة يف اجلينوم إلجراء احلسابات على املعلومات الداخلة إليه
مثال تطبيق القاعدة اليت تقول« :إذا
يقة مسحت له بالتقاط الطاقة ومقاومة اإلنرتوبيا ،فاستطاع ًمن احلواس ،أن ينظِّم سلوك احليوان بطر ٍ
أصدر الكائن صر ًيرا ،فطارده ،أما إذا نبح ،فلُذ بالفرار منه».
ولكن املطاردة والفرار ليسا جمرد متتالية من انقباضات العضالت ،بل إهنما حمددان ٍ
هبدف .قد تتضمن املطاردة اجلري أو َّ
التجمد أو التسلُّق أو القفز أو نصب كم ٍ
ني ،حسب الظروف ،طاملا كانت تزيد من فرص متزيق الفريسة .وقد يتضمن الفرار االختباء أو ُّ
متعرج .ويطرح هذا فكرة أخرى بالغة األمهية ظهرت يف القرن العشرين ،ويُطلق عليها التحكم اآليل أو التغذية الراجعة أو
اُتاذ مسلك ِّ
حتركه أغراض أو أهداف ،وكل ما حيتاج إليه هو طريقةٌ نظاما فيزيائيًّا قد يبدو غائيًّا ،أي ِّ
أن ً تفسر هذه الفكرة كيف َّ
الضبط أحيانًاِّ .
لإلحساس حبالته وبيئته ،ومتثيل للحالة املستهدفة (ما «يريده» وما «حياول الوصول إليه») ،والقدرة على حساب الفرق بني احلالة احلالية
يقة جتعله يستحث إجراءات تقلل الفرق مصمما بطر ٍ
واحلالة املستهدفة ،وخمزون من اإلجراءات املوسومة بآثارها النمطية .إذا كان النظام َّ ً
قابال للتنبؤ بالقدر الكايف ،يبلغ هذه
بني احلالة احلالية واحلالة املستهدفة ،فيمكن أن نقول إنه يقصد أهدافًا ما (وعندما يكون العامل ً
األهداف) .اكتُشف هذا املبدأ بفعل االنتخاب الطبيعي على هيئة االستتباب أو االتزان الداخلي ،وهو عبارة عن ضبط أجسامنا درجات
حرارهتا باالرجتاف والتعرق .عندما اكتشفه البشر ،طبقوه هندسيَّا يف ٍ
أنظمة مثل منظِّم احلرارة (الرتموستات) ومثبِّت السرعة ،مث يف أنظمة
رقمية مثل برامج لعب الشطرنج والروبوتات املستقلة.
تسد مبادئ ا ملعلومات واحلساب والضبط الفجوة بني العامل الفيزيائي القائم على السبب والنتيجة ،والعامل العقلي القائم على
املعرفة والذكاء والغرض ،فعندما نقول َّ
إن األفكار تستطيع تغيري العامل ،فهذا ليس جمرد تطلع كالمي ،وإمنا هو حقيقة عن التكوين
يتكون من ٍ
أمناط من املادة ،فشبَّهوا األفكار بطبعات األسنان الفيزيائي للمخ .كانت لدى مف ِّكري التنوير فكرةٌ مفادها أن الفكر قد َّ
على الشمع ،أو االهتزازات يف األوتار ،أو املوجات الناجتة عن حركة القارب .واقرتح بعضهم ،مثل هوبزَّ ،
أن «التعقُّل ليس سوى تقدير»،
شخص بثنائية العقل واجلسد ويُعزي احلياة
ٌ أي حساب .ولكن قبل اتضاح مفاهيم املعلومات واحلساب ،كان من املعقول أن يؤمن
التطور أن يكون املرء مؤمنًا بنظرية اخلَلق ويُعزي التصميم يف الطبيعة
روح غري مادية (مثلما كان من املعقول قبل اتضاح مفهوم ُّ
العقلية إىل ٍ
أن كثريا من ِّ
مفكري التنوير كانوا ربوبيني. مصمم كوين) .وهذا سبب آخر كما أظن يف َّ ً إىل ِّ
من الطبيعي بالتأكيد أن ِّ
تفكر فيما إذا كان هاتفك «يعرف» حقًّا أحد أرقامك املفضَّلة ،أو إذا كان نظام حتديد املواقع GPS
تطور أنظمة
فعال تنظيف األرضية .ولكن مع ُّ
«يكتشف» حقًّا الطريق األفضل إىل منزلك ،أو إذا كانت املكنسة اآللية رومبا «حتاول» ً
معاجلة املعلومات -حبيث يصبح متثيلها للعامل أفضل وأغىن ،وترتتب أهدافها بصورةٍ هرمية إىل أهداف فرعية ضمن أهداف فرعية ،وتصبح
شكل من أشكال الشوفينية البشرية( .سأعود
إجراءاهتا لبلوغ األهداف أكثر تنوعًا وأقل قابلية للتنبؤ -يبدو اإلصرار على أهنا ال تتطور ٌ
يفسر الوعي إضافةً إىل املعرفة والذكاء والغرض).
يف الفصل األخري إىل مسألة ما إذا كان احلساب ِّ
يدا هو َّ
أن يظل الذكاء البشري هو املقياس للذكاء االصطناعي ،وما جيعل اإلنسان العاقل (ً )Homo Sapiens
نوعا فر ً
وسخروا جمموعة
وتعقيداَّ ، تطورا ٍ
ً مجعت معلومات أكثر عن العامل ،وتعقَّلوا هذه املعلومات بطرق أكثر ً أسالفنا استثمروا يف أدمغة أكرب َ
أيضا التخصص الثقايف وُتصص يسمى ً
متنوعة وأكرب من اإلجراءات لتحقيق أهدافهم ،فهم قد ُتصصوا يف التخصص املعريف ،الذي َّ
الصيد ومجع الثمار .وقد استوعب هذا حزمة من وسائل التكيُّف اجلديدة اليت تشمل القدرة على التالعب بالنماذج الذهنية عن العامل
لفرق من الناس بتحقيق ما مل ِ
يستطع والتنبؤ مبا قد حيدث لو جربنا أشياء جديدة ،والقدرة على التعاون مع اآلخرين ،اليت مسحت ٍ
َ
شخص واحد حتقيقه ،واللغة اليت مسحت هلم بتنسيق أفعاهلم وجتميع مثار جتارهبم يف جمموعات من املهارات واألعراف اليت نسميها ٌ
ٍ
جمموعة هائلة من النباتات واحليوانات وحصد املكافأة على هيئة ثقافات .مسحت هذه االستثمارات للبشر األوائل هبزمية وسائل دفاع
الطاقة ،،اليت أذكت أدمغتهم املتمددة ،مما أمدهم باملزيد من املعرفة وإمكانية الوصول إىل املزيد من الطاقة .تعد قبيلة هادزا يف تنزانيا من
تطور
القبائل املعاصرة اليت تعيش على الصيد ومجع الثمار واليت خضعت لدراسة متعمقة ،حيث تعيش هذه القبيلة يف النظام البيئي الذي َّ
فيه اإلنسان احلديث يف البداية ،وحتتفظ على األرجح بقد ٍر كبري من منط حياته ،ويستهلك الفرد الواحد من هذه القبيلة 3000سع ٍر
نوعا من األطعمة ،ويعد قائمة طعامه بطرق ٍ
علف مبتكرة ينفرد هبا البشر ،مثل قطع احليوانات حراري يف اليوم من أكثر من ً 880
سن مسمومة ،وطرد النحل بالدخان من خالياه من أجل سرقة العسل ،وزيادة القيمة الغذائية يف اللحوم والدرنات
الكبرية بأسهم ذات ٍّ
النباتية بطهيها.
ظهرت كلٌّ من الطاوية والكونفوشية يف الصني ،واهلندوسية والبوذية واجلاينية يف اهلند ،والزرادشتية (اجملوسية) يف بالد فارس،
قرون بعضها عن بعض( .كان كلٌّ من ويهودية اهليكل الثاين يف يهوذا ،والدراما والفلسفة اإلغريقية الكالسيكية ،بفاصل بضعة ٍ
يق من الباحثني
مؤخرا فر ٌ
كونفوشيوس وبوذا وفيثاغورس وأسخيلوس وآخر نيب عربي يعيشون على وجه األرض يف الوقت نفسه) .حدَّد ً
أن كوكب األرض قد حلَّت عليه هالةٌ من الروحانية ،وإمنا كان شيئًا أكثر
متعددي التخصصات السبب املشرتك ،مل ي ُكن السبب هو َّ
عادية ،وهو التقاط الطاقة .العصر احملوري هو الذي قدَّمت فيه التطورات االقتصادية والزراعية دفعةً من الطاقة :أكثر من 20ألف سع ٍر
وعلف ٍ
ووقود ومو َاد خام .وأتاحت هذه القفزة للحضارات سكىن املدن األكرب ،وظهور فئات الباحثني غذاء ٍ حراري للشخص يوميًّا من ٍ
والكهنة ،وإعادة توجيه أولوياهتم من البقاء قصري املدى إىل التناغم طويل املدى ،أو كما صاغ بريتولت برخيت األمر بعد ٍ
ألفية كاملة:
أوال مث األخالق».
«الطعام ً
فتحت الثورة الصناعية نافورةً من الطاقة الصاحلة لالستخدام من فح ٍم وبرتول وشالالت مياه ،وفتحت بابًا للهروب من الفقر
أوال ،مث يف بقية العامل على حن ٍو متزايد (كما سنرى يف الفصول من اخلامس إىل الثامن).
واملرض واجلوع واألمية والوفاة املبكرة يف الغرب ً
وتعتمد القفزة التالية يف رفاهية اإلنسان -هناية الفقر املدقع وانتشار الوفرة ،وكل فوائدمها األخالقية -على التقدُّم التكنولوجي الذي يوفِّر
الطاقة بتكلفة اقتصادية وبيئية مناسبة للعامل بأكمله (الفصل العاشر).
تعرف هذه املفاهيم قصة تطور اإلنسان :املأساة اليت ُولِدنا هبا ،ووسائلنا لتدبري معيشة أفضل.
اإلنرتوبيا والتطور واملعلوماتِّ ،
كانت أول حكمة قدَّموها هي َّ
أن املصائب قد ال تكون خطأ أي شخص ،وكان من الطفرات الكربى للثورة العلمية -رمبا
أكرب الطفرات اليت أحدثتها -نفي احلدس البديهي الذي يقول َّ
إن الكون مشبَّع باألغراض والغايات .ففي هذا الفهم البدائي واسع
فاعل ما
االنتشار ،لكل شيء سبب ،فعندما حتدث أمور سيئة -مثل احلوادث أو املرض أو اجملاعة أو الفقر -فال بد أن يكون هناك ٌ
ٍ
شخص بإصبع االهتام يف إحدى املصائب ،فيمكن معاقبته أو ابتزازه لتعويض األضرار .أما إذا مل يكن اختيار أراد حدوثها .وإذا أشري إىل
ٍ
حماكمة ،أو ارتكاب مذابح جتاههم. فرٍد واحد ملعاقبته ممكنًا ،فقد يُلقى باللوم على أقرب أقلية إثنية أو دينية ميكن إعدام أفرادها دون
بدين بعينه
ٍ تقويم ديني خاص
ٍ الحقبة الحالية أو ُ C.Eتستخدَم في الكتابات العلمانية ً
بديال عن B.C.أي قبل الميالد و A.D.أي بعد الميالد لتج ُّنب استخدام
دو ًنا عن البقية – المترجم.
اهتاما ميكن تصديقه ،فإن باإلمكان البحث عن الساحرات الاليت ميكن حرقهن أو إغراقهن .وعند
صعب اهتام أحد البشر الفانني ً
وإذا ُ
فشل كل هذه احملاوالت ،يشري املرء إىل اآلهلة السادية ،اليت ال ميكن عقاهبا ،ولكن ميكن اسرتضاؤها بالصلوات والتضحيات .مث توجد
القوى اجملهولة مثل الكارما والقدر والرسائل الروحانية والعدالة الكونية وضمانات أخرى للحدس القائل بأن لكل شيء سببًا.
استبدل جاليليو ونيوتن والبالس هبذه اللعبة األخالقية الكونية كونًا ذا حر ٍ
كة آلية حتدث فيه األمور بفعل الظروف القائمة يف
وهم ،فقد حتدث ٍ
احلاضر وليس بفعل أهداف للمستقبل .لدى الناس أهداف بالطبع ولكن إسقاط األهداف على طرق عمل الطبيعة ٌ
أمور دون أن يضع أي أحد يف اعتباره أثرها يف سعادة البشر.
تعمقت بصرية الثورة العلمية والتنوير باكتشاف اإلنرتوبيا ،إذا ليس الكون غري مهتم برغباتنا فحسب ،بل يبدو يف املسار
أيضاَّ ،
ألن الطرق إىل حدوث املشاكل أكثر من الطرق إىل سري األمور على ما يرام ،فاملنازل حترتق ،والسفن الطبيعي لألمور كأنه حيبطها ً
تغرق ،واجليوش ُهتزم يف املعارك ألتفه األسباب.
وتعمق وعينا بعدم اكرتاث الكون بنا أكثر بفهمنا للتطور ،فالكائنات املفرتسة والطفيليات ومسببات األمراض حتاول باستمرار
أن تأكلنا ،واآلفات والكائنات املفسدة حتاول أن تأكل أغراضنا ،ورمبا جيعلنا هذا تعساءَ ،ولكن هذه ليست مشكلتهم!
أيضا ال حيتاج إىل تفسري ،فهو احلالة االفرتاضية للبشرية يف عا ٍمل حتكمه اإلنرتوبيا والتطور ،فاملادة ال ترتِّب نفسها على
والفقر ً
طعام لنا .ومثلما أشار آدم مسيثَّ ،
فإن ما حيتاج هيئة مأوى أو مالبس ،والكائنات احلية تفعل كل ما بوسعها كي تتجنب أن تتحول إىل ٍ
بأن احلوادث أو األمراض حتدث بفعل ٍ
فاعل ،وتدور املناقشات عن إىل تفسري هو الثروة .ولكن حىت اليوم ،ما زال بعض الناس يؤمنون َّ
الفقر غالبًا حول حجج متعلقة مبن يقع عليه اللوم يف الفقر.
أن العامل الطبيعي ٍ
خال من الضغائن والشرور ،بل على العكس ،يضمن التطور وجود الكثري منها. ال يُقصد بأي من هذا َّ
يقوم االنتخاب الطبيعي على التنافس بني اجلينات اليت ستتمثل يف اجليل التايل ،والكائنات اليت نراها اليوم هي نسل الكائنات اليت
تفسر نظرية التطور
دائما ،إذ ِّ هزمت خصومها يف املنافسة على الشركاء اجلنسيني والغذاء واهليمنة .وال يعين هذا َّ
أن كل املخلوقات ضارية ً
احلديثة كيف ميكن للجينات األنانية أن تسفر عن نشأة كائنات غري أنانية ،ولكن الكرم خيضع للقياس .فالبشر -على عكس خاليا
اجلسم أو األفراد ضمن مستعمرات -متفردون جينيًّا ،وراكم كلٌّ منهم ومجع جمموعة خمتلفة من الطفرات اليت ظهرت على مر أجيا ٍل من
أيضا للنزاعات ،إذ تشتعل العالقات
متهد الطريق ً
التكرار املعرض لإلنرتوبيا يف ساللته .متنحنا الفردية اجلينية احتياجات وأذواقًا خمتلفة ،و ِّ
بني األسر واألزواج واألصدقاء واحللفاء واجملتمعات بتضاربات يف املصاحل ،واليت تظهر يف هيئة توتر وجداالت وأحيانًا عنف .من اآلثار
نظام معقد ككائن حي ،ألن عمله يتوقف على تلبية شروط كثرية مستبعدة احلدوث يف ٍ
وقت األخرى لقانون اإلنرتوبيا إمكانية تعطيل ٍ
َّ
واحد ،فمجرد صخرة تضرب الرأس ،أو يد تلتف حول العنق ،أو سهم مسموم يصيب اهلدف ،يُعطل املنافس .ومن أكثر الوسائل إغراءً
للكائن الذي يستخدم اللغة ،التهديد بالعنف الذي قد يُستخدم يف إجبار اخلصم مما يفتح الباب لالضطهاد واالستغالل.
أن ملكاتنا املعرفية والعاطفية واألخالقية تكيَّفت من أجل البقاء الفردي والتكاثر يف ٍ
بيئة عتيقة ترك لنا التطور عبئًا آخر ،وهو َّ
بيئة حديثة .ولكي نقدِّر حجم هذا العبء ،فليس علينا أن نصدِّق أننا رجال كهف يعيشون يف زم ٍن غري وليس من أجل االزدهار يف ٍ
زمنهم ،وإمنا علينا أن نصدق فقط أن التطور ،الذي تقاس حدود سرعته باألجيال ،مل ِ
يستطع تكييف أدمغتنا مع املؤسسات والتكنولوجيا
احلديثة .يعتمد البشر اليوم على امللكات املعرفية اليت كانت ناجحة يف اجملتمعات التقليدية ،ولكننا نراها اآلن مليئة باألخطاء.
الناس بطبيعتهم أميون وعاجزون عن احلساب ،وحيددون الكميات يف العامل بـ «واحد ،اثنان ،كثري» وبتخمينات وتقديرات
بدال من قوانني الفيزياء أو األحياء ،فاألغراض
تقريبية ،ويفهمون أن األشياء املادية هلا جوهر خفي يطيع قوانني سحر التعاطف أو الفودو ً
تستطيع عبور الزمان واملكان لتؤثر يف أشياء تشبهها أو اتصلت هبا يف املاضي َّ
(تذكر معتقدات الرجل اإلجنليزي قبل الثورة العلمية).
يظنون أن الكلمات واآلراء قد تعتدي على العامل املادي بالصلوات واللعنات ،ويقلِّلون من مدى انتشار الصدفةِّ .
يعممون مناذج ضئيلة،
ٍ
جملموعة ما على أي فرد ينتمي إليها .يستنتجون السببية من أي جتربتهم اخلاصةِّ ،
ويفكرون بأمناط سائدة ،ويسقطون السمات النمطية
تفكريا كليًّا ،إما أبيض أو أسود ،ويتعاملون مع الشبكات اجملردة كأهنا أشياء ملموسة .ليسوا علماءَ بالبداهة بقدر ما ِّ
االرتباط ،ويفكرون ً
ُهم حمامون وساسة بالبداهة ،حيشدون األدلة اليت تؤكد قناعاهتم يف حني يستبعدون األدلة اليت تعارضها ،ويبالغون يف تقدير معرفتهم
وفهمهم واستقامتهم وكفاءهتم وحظهم.
أيضا لغايات متقاطعة مع رفاهتنا ،فالناس يشيطنون املختلفني عنهم ،ويعزون اختالفهم يف
ويعمل احلس األخالقي للبشر ً
مصدرا لألسس اليت يدينون بناءً عليها خصومهم
ً اآلراء إىل الغباء واخليانة .عند كل مصيبة ،يبحثون عن كبش الفداء ،ويرون األخالق
أيضا قد تُبىن على استهزائهم بالتقاليد
أن املتهمني قد آذوا اآلخرين ،ولكنها ً وحيشدون السخط جتاههم .قد تُبىن أسس اإلدانة على َّ
السلطة أو َّقوضوا الوحدة القبَلية أو قاموا مبمارسات غذائية أو جنسية جنسة .يرى الناس العنف أخالقيًّا وليس العكس، َّ
أو شككوا يف ُ
ففي العامل كله على مر التاريخ ،كان عدد من قُتِلوا لتحقيق العدالة أكثر ممن قُتِلوا بدافع اجلشع.
متاما ،يأيت اإلدراك البشري خباصيتني مينحانه وسيلةً لتجاوز حدوده :األوىل هي التجريد ،إذ يستطيع الناس
ولكننا لسنا سيئني ً
ظرف ما ،مثلما نستقبل منط تفكري مثل «جرى الغزال من كيان يف ٍ
مكان ما واستخدامه يف تصور ٍ شيء ما يف ٍأخذ مفهومهم عن ٍ
البحرية إىل التل» ونسقطه على آخر مثل «حتولت حالة الطفل من املرض إىل الصحة» .ميكنهم أخذ مفهوم عن ٍ
فاعل يبذل قوة جسدية
ويستخدمونه يف تصور أنو ٍاع أخرى من السببية ،مثل عندما نسقط الصورة يف مجلة «لقد أجبَـَرت الباب على أن يُفتَح» على مجلة «لقد
أجبـرت ليزا على االنضمام إليها» أو «لقد أجبـرت نفسها على التعامل بأدب» .تقدِّم هذه الصيغ للناس وسيلةً للتفكري يف املتغري بقيمةٍ
ََ ََ
ما ويف السبب ونتيجته ،وهذه بالتحديد هي اآللية املفاهيمية اليت حيتاج إليها املرء كي يصوغ النظريات والقوانني .ميكنهم أن يفعلوا هذا،
أيضا مع الرتكيبات األعقد ،مما يتيح هلم التفكري باجملاز والتشبيهات ،مثل :احلرارة سائلة ،أو الرسالة
ليس مع عناصر الفكر فحسب ،بل ً
حاوية ،أو اجملتمع أسرة ،أو االلتزامات قيود.
املرحلة الثانية يف اإلدراك هي قوته الرتكيبية التكرارية،إذ ميكن أن يضمر الذهن جمموعةً ضخمة من األفكار عرب جتميع مفاهيم
أساسية مثل الشيء واملكان واملسار والفاعل والسب واهلدف يف فرضيات ،وليس ذلك فحسب ،بل ميكنه أن يضمر فرضيات عن
الفرضيات وفرضيات عن الفرضيات عن الفرضيات ،وهكذا .على سبيل املثال( :حيتوي اجلسم على أخالط .املرض هو خلل يف توازن
أعد أؤمن بالنظرية القائلة َّ
بأن املرض هو خلل يف توازن األخالط اليت حيتوي عليها اجلسم). األخالط اليت حيتوي عليها اجلسم ،مل ُ
مفكر واحد ،بل أصبح من املمكن مشاركتها مع جمتم ٍع من بفضل اللغة ،مل ُتعد األفكار ُتضع للتجريد والتجميع داخل رأس ِّ
تشبيه ،فقالَ « :من يتلقى مين فكرة ،يتلقى الرسالة بنفسه دون أن تنتقص من املفكرين .شرح توماس جيفرسون قوة اللغة باستخدام ٍ ِّ
أن من يشعل مشعته من مشعيت ،حيصل على الضوء دون أن حييطين بالظالم» .تضاعفت قوة اللغة بوصفها تطبيق املشاركة فكريت ،كما َّ
تكرر هذا يف عصوٍر الحقة مع الطباعة ،مث مع انتشار املعرفة بالقراءة والكتابة ،مث مع اإلعالم اإللكرتوين).
األصلي مع اخرتاع الكتابة (مث َّ
املفكرين املتواصلني مبرور الوقت ومع الزيادة السكانية ،واختلطت وترَّكزت يف املدن ،وأتاح توافر الطاقة بقد ٍر أكرب من احلد
منت شبكات ِّ
األدىن الالزم للبقاء للكثري منهم رفاهية التفكري واحلديث.
تتشكل جمتمعات كبرية ومتصلة ،ميكنها أن تتوصل إىل ٍ
طرق لتنظيم شؤوهنا تعمل للصاحل املشرتك ألفرادها .وعلى الرغم عندما َّ
من أن اجلميع يريد أن يكون حمقًّاَّ ،إال أنه مبجرد أن يبدأ الناس يف عرض آرائهم املتضاربة ،يتَّضح أنَّه ال ميكن أن يكون اجلميع ًّ
حمقا
بشأن كل شيء .وقد تتصادم رغبة املرء يف أن يكون حمقًّا ٍ
برغبة أخرى ،وهي الرغبة يف معرفة احلقيقة اليت حتظى باألولوية يف أذهان
جدال ليسوا مهتمني بفوز أي طرف من أطرافه .ميكن أن تتوصل اجملتمعات بذلك إىل قواعد تسمح بنشأة معتقدات املتفرجني على ٍ
حقيقية من اجلداالت غري املقيدة ٍ
بنظام ما ،كأن يكون عليك تقدمي أسباب ملعتقداتك ،ويُسمح لك باإلشارة إىل العيوب يف معتقدات
يبني لك ما
اآلخرين ،وال يُسمح لك بإسكات املختلفني معك عنوةً .إذا أضفت القاعدة اليت تنص على أن عليك أن تدع العامل كله ِّ
جمتمع
علما .باستخدام القواعد املناسبة ،يستطيع ٌ
إذا كانت معتقداتك صحيحة أم خاطئة ،فإن بإمكاننا أن نطلق على هذه القواعد ً
أفكارا عقالنية. ِ ِّ
من املفكرين غري العقالنيني بالكامل أن يُنبتوا ً
أيضا أن تسمو مبشاعرنا األخالقية ،فعندما تتباحث جمموعة كبرية بالقدر املناسب من الناس يف أفضل ميكن حلكمة اجلماهري ً
ٍ
اجتاهات معينة .إذا كان عرضي املبدئي هو أنين «حيق يل أن أسرقك وأضربك حتما يف
طريقة للتعامل بعضهم مع بعض ،ستتجه احملادثة ً
وأستعبدك وأقتلك أنت وأمثالك ،ولكن ال حيق لك أنت أن تسرقين أو تضربين أو تستعبدين أو تقتلين أنا وأمثايل» ،فال ميكن أن أتوقع
أن توافق على االتفاق أو أن تصدِّق عليه أي أطراف أخرى ،ألنه ال يوجد سبب وجيه ألن أحصل أنا على امتيازات فقط ألنين أنا
اتفاق ينص على أنين «حيق يل أن أسرقك وأضربك وأستعبدك وأقتلك أنت وأمثالك، وألنك لست مثلي .ولن نتفق على األرجح على ٍ
ُ
وحيق لك أنت أن تسرقين أو تضربين أو تستعبدين أو تقتلين أنا وأمثايل» ،رغم متاثلهَّ ،
ألن املساوئ اليت سنعاين منها بسبب األذى الواقع
علينا تفوق مبقدا ٍر هائل املميزات اليت سيحصل عليها ٌّ
أي منَّا عليها من إيذاء اآلخر (وهو نتيجة أخرى لقانون اإلنرتوبيا ،فاإلصابة
باألذى أسهل وهلا آثار سلبية أكثر مما هلا من فوائد) .سيكون من احلكمة أن نتفاوض على ٍ
عقد اجتماعي متبادل مفيد للطرفني ،فال
ويشجع ًّ
كال منا على مساعدة اآلخر. ألي منَّا احلق يف أن يؤذي اآلخر ِّ
يعطي ٍّ
توجه إ ًذا رغم كل العيوب املوجودة يف الطبيعة البشريةَّ ،إال َّأهنا حتتوي على بذور تطورها ،طاملا وصلت إىل أعر ٍ
اف ومؤسسات ِّ
املصاحل احملدودة إىل منافع عاملية .ومن بني تلك األعراف حرية التعبري والال عنف والتعاون واملواطنة العاملية (الكوزموبوليتانية) وحقوق
اإلنسان واالعرتاف بقابلية البشر للخطأ ،ومن بني تلك املؤسسات العلم والتعليم واإلعالم واحلكومة الدميقراطية واملنظمات الدولية
واألسواق ،ومل ت ُكن مصادفةً كون هذه األعراف واملؤسسات كانت بنات أفكار التنوير.
الفصل الثالث
الفكر المضاد للتنوير
الكلمات عذبةً ،وتبدو املثُل ممتازة ال ميكن نقدها ،إذ إهنا حتدِّد مهام
ُ من ميكنه أن يعادي العقل والعلم والنزعة اإلنسانية والتقدُّم؟ تبدو
ُ
مدارس ومستشفيات ومجعيات خريية ووكاالت إخبارية وحكومات دميقراطية ومنظمات دولية ،فهل حتتاج ٍ كل مؤسسات احلداثة ،من
دفاع؟
هذه املثُل حقًّا إىل ٍ
ُ
بالتأكيد حتتاج إليه ،فمنذ ستينيات القرن املاضي ،اخنفضت مستويات الثقة يف مؤسسات احلداثة ،وشهد العقد الثاين من
ٍ
بشكل سافر من ُمثُل التنوير ،وهي حركات ذات انتماء قبَلي وليس عامليًا، القرن احلادي والعشرين ازدهار احلركات الشعبوية اليت تتربأ
بدال من أن يكون لديها أمل يف
بدال من أن حترتم املعرفة ،ولديها حنني للماضي الشاعري ً
سلطوية وليست دميقراطية ،حتتقر اخلرباء ً
ولكن ردود الفعل هذه ليست قاصرة بأي ٍ
شكل على الشعبوية السياسية يف القرن احلادي والعشرين (وهي حركة ٍ
مستقبل أفضلَّ .
جيدا يف الفصلني العشرين والثالث والعشرين) ،فازدراء العقل والعلم والنزعة اإلنسانية والتقدُّم له ٍ
ماض قدمي يعود إىل الثقافة سنفحصها ً
الفكرية والفنية النخبوية ،ال ينبع فقد من القواعد الشعبية ،وليس جمرد تعب ٍري عن غضب أعضاء حزب «ال أعرف شيئًا».
متاما،
من االنتقادات الشائعة ملشروع التنوير أنَّه اخرتاع غريب غري مالئم للعامل بكل تنوعه واختالفاته ،وهذا االنتقاد خاطئ ً
أثر يف جدارهتا .وعلى الرغم من التعبري عن كث ٍري من أفكار التنوير بأوضح الصيغ وأكثرها ٍ
فكل األفكار تنشأ يف مكان ما ،وليس ملنبعها ٌ
أن جذورها ترجع إىل العقل والطبيعة البشرية ،لذا فإن أي إنسان عاقل ميكنه التفاعل تأثريا يف أوروبا وأمريكا يف القرن الثامن عشرَّ ،إال َّ
ً
معها ،ولذا فإن التعبري عن ُمثُل التنوير قد حتقق يف حضارات غري غربية عدة مرات على مر التاريخ.
تصدت احلركة الرومانسية ،على حنو خاص ،ملثُل التنوير بقوة ،فقد أنكر روسو ويوهان هردر وفريدريش شيلينج وغريهم إمكانية
ُ
أن على األشخاص أن يقدِّموا أسبابًا ألفعاهلم ،و َّ
أن فصل العقل عن العاطفة ،وإمكانية النظر إىل األفراد بصرف النظر عن ثقافتهم ،و َّ
كل عضوي -ثقافة أو عرق أو أمة أو القيم تنطبق على خمتلف العصور واألماكن ،و َّ
أن السالم والرخاء غايات مرجوة .اإلنسان جزءٌ من ٍّ
بإبداع ،فالنضال البطويل ،وليس حل يوجهوا الوحدة السامية اليت ينتمون إليها ٍ
دين أو روح مجاعية أو قوة تارخيية -وعلى الناس أن ِّ
هو حزب أمريكي أنشئ في القرن التاسع عشر وأُطلق عليه هذا االسم ألن أعضاءه كانوا يرفضون اإلفصاح عن قواعد الحزب وتعليماته قائلين :ال
أعرف شي ًئا – المترجم.
املشكالت ،هو اخلري األعظم ،والعنف متأص ٌل يف الطبيعة وال ميكن كبته دون انتزاع احلياة منها ،وقد كتب شارل بودلري« :هناك ثالث
فئات جديرة باالحرتام ،وهي :الكهنة ،واحملاربون ،والشعراء ..أن تعرف ،وأن تقتل ،وأن تُبدع».
ولكن هذه املثُل املضادة للتنوير ما زالت موجودة يف القرن احلادي والعشرين وسط عدد مدهش من احلركات يبدو هذا جنونيًّاَّ ،
ُ
وساذجا وجبانًا
ً أن علينا تسخري عقلنا اجلمعي يف تشجيع االزدهار وتقليل املعاناة أمحق الفكرية والثقافية النخبوية .ويُعترب التصور القائل َّ
وعتي ًقا .دعين أطرح هنا بعض البدائل الشائعة للعقل والعلم والنزعة اإلنسانية والتقدُّم ،وسأعرضها ثانيةً يف ٍ
فصول أخرى ،ويف اجلزء الثالث
من الكتاب سأتناوهلا مباشرةً.
سبب منطقي وجيه، أبرز هذه البدائل وأوضحها هو اإلميان الديين ،فأن تقبل شيئًا ٍ
بإميان يعين أن تصدِّقه وتؤمن به دون ٍ
أيضا مع النزعة
فاإلميان بوجود كيانات خارقة للطبيعة -بطبيعته وحسب تعريفه -يتعارض مع العقل املنطقي ،كما تتعارض األديان عادةً ً
ص إهلي ،أو التصديق على رواية مقدسة ،أو فرض "خريا أمسى ما" أمهيةً أكرب من رفاهة البشر ،مثل قبول خملِّ ٍ
اإلنسانية عندما متنح ً
ٍ
طقوس أو حمظورات معينة ،أو تبشري اآلخرين ليقوموا بنفس األمور ،وعقاب من ال يقبلون ذلك أو شيطنتهم .تصطدم األديان مع النزعة
أيضا بإضفاء قيمة على الروح أكرب من الحياة ،وهو ليس أمراً ً
مبهجا كما يبدو ،فاإلميان باحلياة اآلخرة يقتضي أال تكون اإلنسانية ً
الصحة والسعادة مهمتني ،ألن احلياة على األرض ال متثل سوى جزء ضئيل من وجود املرء ،كما يقتضي اإلميان أن يكون إجبار الناس
على قبول اخلالص مبثابة معروف يُسدى إليهم ،وأن يكون االستشهاد أفضل شيء قد حيدث لك .أما عن عدم توافق اإلميان مع العلم،
أيضا ،من جاليليو وحماكمة القرد إىل األحباث على اخلاليا اجلذعية و ُّ
التغري قصص ترويها األساطري كما تفعل األحداث اجلارية ً
ٌ فهذه
املناخي.
الفكرة الثانية من األفكار املضادة للتنوير هي أن اإلنسان خلية ميكن االستغناء عنها من جسم كائن أكرب -عشرية أو قبيلة
أو جمموعة إثنية أو دين أو عرق أو طبقة أو أمة -وأن اخلري األمسى هو جمد هذه اجملموعة ،وليس رفاهة األفراد الذين ِّ
يشكلوهنا سويًّا.
وتعد النزعة القومية من األمثلة الواضحة على هذه األفكار ،إذ يكون الكائن األكرب هو الدولة القومية ،أي جمموعة إثنية هلا حكومة،
ونرى هذا الصدام بني النزعة القومية والنزعة اإلنسانية يف شعارات وطنية مرعبة مثل“Dulce et decorum est pro patria :
”( moriكم هو مجيل أن متوت يف سبيل وطنك) ،و«ياهلناء من عانق املوت والنصر ٍ
بإميان ساط ٍع» ،بل وحىت مجلة جون األقل رعبًا َ
توضح هذا التوتر بني النزعتني.
«ال تسأل ما الذي يستطيع بلدك أن يقدمه لك ،بل اسأل ما الذي تستطيع أنت تقدميه لبلدك» ِّ
ال ينبغي اخللط بني النزعة القومية من جانب ،والقيم املدنية والروح اجلماعية واملسؤولية االجتماعية والفخر الثقايف من ٍ
جانب
آخر ،فاإلنسان كائن اجتماعي ،وتعتمد رفاهة كل فرد على أمناط التعاون والتناغم اليت تسود اجملتمع .وعندما يُنظر إىل «األمة» بوصفها
إقليما ،كملكية مشرتكة ،فإن ذلك يكون وسيلة جوهرية لتقدم وازدهار أعضائها.
عقدا اجتماعيًا ضمنيًا بني جمموعة أفراد يتشاركون ً
ً
فرد ما مبصاحله اخلاصة من أجل مصاحل أفراد عدة ،ولكن هذا خيتلف عن إجبار شخص على
طبعا أن يضحي ٌ
ومن اجلدير باإلعجاب ً
هي محاكمة معلِّم المدرسة الثانوية جون توماس سكوبز عام ، 1925وأُطلق عليها هذا االسم ألنه كان متهمًا بتدريس نظرية التطور وهو ما كان غير
قانون ًّيا آنذاك.
التضحية الكربى لصاحل قائد مؤثر ،أو قطعة قماش أو ألوان على خريطة ،وال يُعد من أمجل األشياء وأصحها أن تعانق املوت من أجل
ٍ
مقاطعة ما ،أو توسيع دائرة النفوذ أو تنفيذ محلة صليبية وحدوية. منع انفصال
الدين والنزعة القومية من األسباب املميزة للمحافظة السياسية ،وما زاال يؤثران يف مصري مليارات األشخاص يف الدول الواقعة
كثري من الزمالء اليساريني عندما عرفوا أنين أؤلف كتابًا عن العقل والنزعة اإلنسانية ،متحمسني الحتمالية
شجعين ٌ
حتت نفوذمها .وقد َّ
بعيدا ،كان اليسار متعاط ًفا مع النزعة أن أضمن الكتاب ترسانةً حمتملة من النقاط اليت سأثريها ضد اليمني ،ولكن ،حىت ٍ
وقت ليس ً
كثري من اليساريني سياسيي هويات عرقية و ناشطي عدالة إجتماعية
وشجع ٌ
القومية عندما كانت ملتحمة مع حركات التحرير املاركسيةَّ ،
قللوا من أمهية احلقوق الفردية لصاحل املساواة بني أوضاع األعراق والطبقات واألجناس املختلفة ،والذين يرون أهنا يُزج هبا يف منافسة
صفرية.
أيضا مدافعون من شىت األطياف السياسية ،وحىت الكتَّاب الذين يرفضون الدفاع عن احملتويات احلرفية للمعتقدات
للدين ً
الدينية قد يصبحون مدافعني بشراسة عن الدين ،ومعادين بشدة لفكرة أن يكون للعلم والعقل عالقة باألخالق (فليس لدى معظمهم
امتيازا حصريًا ملناقشة األسئلة حول األمور
أن للدين ًعلم بوجود النزعة اإلنسانية من األساس) .يصر املدافعون عن اإلميان الديين على َّ
ٌ
ٍ
املهمة ،ويرون أنه حىت لو مل ي ُكن األشخاص رفيعو املستوى مثلنا حباجة إىل الدين ليكونوا ذوي ُخلقَّ ،
فإن اجلموع الغفرية حتتاج لذلك،
أو أنه حىت لو كان حال اجلميع سيبدو أفضل دون اإلميان الديين ،فال جدوى من احلديث عن وضع الدين يف العاملَّ ،
ألن الدين جزء
من الطبيعة البشرية ،وهلذا فهو متماسك أكثر من أي ٍ
وقت مضى ،هازئًا بآمال التنوير .سأنظر يف كل هذه االدعاءات يف الفصل الثالث
والعشرين.
تطوع املصاحل البشرية ٍ
لكيان أمسى هو النظام البيئي ،حيث ال ترى احلركة البيئية مييل اليسار إىل التعاطف مع حر ٍ
كة أخرى ِّ
اخلضراء الرومانسية أن التقا َط البشر للطاقة طريقةٌ ملقاومة اإلنرتوبيا وحتسني ازدهار البشرية ،وإمنا جرميةٌ سافرة يف حق الطبيعة اليت ستقتص
منا بقوة يف صورة حروب على املوارد ،وتلوث يف اهلواء واملياه ،وتغري مناخي سيفضي إىل القضاء على احلضارة .ويكمن خالصنا يف
ٍ
شخص مطلع التنصل من التكنولوجيا والنمو االقتصادي ،والرجوع إىل طريقة حياة أبسط وأقرب للطبيعة .ال ميكن بالطبع ألي التوبة و ُّ
أن الضرر الواقع على النظم الطبيعية بفعل نشاط اإلنسان ٍ
مؤذ وأننا إذا مل نفعل شيئًا حياله سيصبح الضرر كارثيًّا ،لكن السؤال أن ينكر َّ
بأال يفعل شيئًا حياله .سنستكشف يف الفصل العاشر احلقيقي هو ما إذا كان اجملتمع املعقد ،واملتقدم تكنولوجيًّا ،حمكوم عليه بالفعل َّ
النزعة البيئية اإلنسانية ،وهي تنويرية أكثر منها رومانسية ،ويُطلق عليها أحيانًا احلداثة البيئية أو الربمجاتية البيئية.
يتحسر أحد أشكال النزعة القائلة بأن احلضارة تتدهور على لعبنا بالتكنولوجيا -كما لعب بروميثيوس بالنار -فبانتزاع النار
من اآلهلةُ ،منح جنسنا البشري وسيلة القضاء على وجوده بنفسه ،إن مل ي ُكن بتسميم بيئتنا ،فبإطالق األسلحة النووية ،وبالنانو
تكنولوجي ،واإلرهاب اإللكرتوين واإلرهاب البيولوجي والذكاء االصطناعي وخماطر وجودية أخرى على العامل (الفصل التاسع عشر).
وحىت إذا استطاعت حضارتنا التكنولوجية اهلروب من الفناء الكامل ،فهي يف طريقها السريع حنو «ديستوبيا» من العنف والظلم« :عامل
جديد شجاع» من اإلرهاب ،والطائرات بدون طيار ،واملؤسسات الصناعية املستغلة ،والعصابات ،واإلجتار بالبشر ،والالجئني ،وغياب
املساواة ،والتنمر اإللكرتوين ،واالعتداء اجلنسي ،وجرائم الكراهية.
وتتأمل جمموعة أخرى من أنصار النزعة القائلة بالتدهور من املشكلة املضادة ،ليس َّ
أن احلداثة قد جعلت احلياة قاسية وخطرية،
وإمنا أهنا جعلتها سارة وآمنة ،فوف ًقا هلؤالء الناقدين ،فإن الصحة والسالم والرخاء احنرافات برجوازية عن األمور املهمة حقًّا يف احلياة.
بتيه مشتت ،منشق ،استهالكي ،مادي ،رتيب ،ذي توجهات وبتقدمي هذه املتع غري الفكرية ،حكمت الرأمسالية التكنولوجية على الناس ٍ
خارجية ،وبال جذور ،ومنهك للروح .يف هذا الوجود العبثي ،يعاين الناس من االغرتاب والفزع وغياب املعايري االجتماعية والال مباالة
فهم «رجال جموفون يتناولون غداءهم املكشوف يف األرض املقفرة يف انتظار جودو (املخلص)».
وسوء النية والسأم والتوعك والغثيانُ ،
(سأنظر يف هذه االدعاءات يف الفص السابع عشر والثامن عشر) .عند غروب حضارة مضمحلة متدهورة ،لن جتد التحرر احلقيقي يف
العقالنية العقيمة وال النزعة اإلنسانية الضعيفة ،وإمنا يف الوجود احلقيقي البطويل الكلي العضوي املقدس احليوي يف ذاته ،وإرادة القوة.
ويف حال كنت تتساءل عن ماهية هذه البطولة املقدسة ،فإن فريدريك نيتشه -الذي صاغ مصطلح «إرادة القوة» -يوصي بالعنف
الشقر» والساموراي والفايكينج وأبطال هومريوس :عنف « ٍ
قاس بارد فظيع دون األرستقراطي الذي يشبه عنف «الوحوش التيوتونيني ُ
مشاعر ودون ضمري ،حيطم كل شيء ،ويلوث كل شيء بالدماء»( .سنلقي نظرة عن كثب على هذه األخالق يف الفصل األخري).
أن املثقفني والفنانني الذين يتنبؤون باهنيار احلضارة يستجيبون إىل هذه النبوءة بطر ٍ
يقة من اثنتني ،فاملتشائمون يشري هريمان إىل َّ
إن ٍ
بشماتة وحشية» ،يقولون َّ يرحبون به «التارخييون يرعبهم االهنيار ،ولكنهم ينوحون بأننا عاجزون عن منعه ،واملتشائمون الثقافيون ِّ
نظام جديد سيكون بكل تأكيد متفوقًا
مستحيال ،ومن أنقاضها سيظهر ٌ
ً فضال عن جتاوزها،
احلداثة مفلسة للدرجة اليت جتعل حتسينهاً ،
عليها.
أما آخر بدائل النزعة اإلنسانية التنويرية فإنه يدين تبنِّيها العلم ،وميكننا أن نطلق عليه الثقافة الثانية كما أمساه تشارلز بريسي
سنو ،وميثل وجهة نظر كث ريين من املثقفني األدباء والنقاد الثقافيني ،يف مقابل الثقافة األوىل أي ثقافة العلم .انتقد سنو الستار احلديدي
شهريا من الناقد األديب فرانك رميوند أن حجة سنو تبدو اليوم متنبئة باملستقبلَّ ،إال َّأهنا واجهت يف عام ً 1962
تفنيدا ً رغم َّ
وعدا بعدم رفع دعوى
ليفيس ،وكان انتقاد ليفيس مسيئًا للدرجة اليت جعلت جملة The Spectatorتطلب من سنو أن يقطع ً
قضائية بتهمة القذف قبل أن ينشروه .بعد أن أشار ليفيس إىل «عدم حتلي سنو بأي متييز فكري ..وإىل أسلوبه املبتذل الذي يندى له
اجلبني» ،استهزأ بنظام القيم الذي يكون املعيار األهم فيه هو «املستوى املعيشي» ،ويكون رفع هذا املستوى هو «الغاية النهائية».
بديال هو أن «فهم األدب العظيم وااللتزام به هو ما جيعلنا نكتشف ما نؤمن به ًّ
حقا من أعماقنا ،ما الغرض؟ ما الغرض النهائي؟ واقرتح ً
ما الذي يتبعه اإلنسان؟ تشري األسئلة إىل ما ميكنين أن أطلق عليه عمق ديين يف الفكر واإلحساس»( .رمبا يتساءل أي شخص ميتد
ضاعف هذا التعاطف ٍ
«عمق فكره وإحساسه» ليصل إىل امرأة يف بلد فقري عاشت لرتى مولودها بسبب رفع مستواها املعيشي ،مث ي َ
مبئات املاليني ،ملاذا ميكن أن يكون معيار «فهم األدب العظيم وااللتزام به» أمسى أخالقيًّا من معيار «رفع املستوى املعيشي» لـ «ما
بديال عن اآلخر من األساس).
نؤمن به حقًّا من أعماقنا» ،أو ملاذا ينبغي اعتبار أحدمها ً
رمبا جند منظور ليفيس يف مساحة كبرية من «الثقافة الثانية» اليوم –كما سنرى يف الفصل الثاين والعشرين -فكثريٌ من املثقفني
حال للمشكالت العادية ،ويكتبون و َّ
كأن استهالك فن النخبة هو اخلري األخالقي األمسى. والناقدين يعربون عن ازدراء العلم كأنه ال ميثِّل ًّ
ال تقوم منهجيتهم يف البحث عن احلقيقة على إعداد الفرضيات وذكر األدلة ،وإمنا على تعبريات مستوحاة من سعة اطالعهم وعاداهتم
احلياتية املتمثلة يف القراءة .ويف السياق نفسه تستنكر اجملالت الثقافية عادةً «العلموية» ،وهي إقحام العلم يف جمال اإلنسانيات مثل
ات حقيقية ،وإمنا جمرد أسطورة أو رواية أخرى، السياسة والفنون ،وال يقدَّم العلم يف كليات وجامعات كثرية على أنه البحث عن تفسري ٍ
ُ
كثريا على العلم يف العنصرية واإلمربيالية واحلروب العاملية واهلولوكوست ،ويُتهم بانتزاع السحر واجلاذبية من احلياة وجتريد
كما يُلقى باللوم ً
البشر من حريتهم وكرامتهم.
فالنزعة اإلنسانية التنويرية إ ًذا هي أبعد ما تكون عن حماولة إرضاء اجلماهري ،ففكرة َّ
أن اخلري األمسى هو استخدام املعرفة يف
تعزيز رفاهة البشر تُشعِر الناس بالفتور .لديك تفسريات عميقة للكون وللكوكب وللحياة وللدماغ؟ إذا مل ت ُكن تتضمن السحر فال نريد
أن نسمعها! إنقاذ حياة مليارات البشر والقضاء على األمراض وإطعام اجلوعى؟ ياللملل! أشخاص يزيدون تعاطفهم ليشمل كل البشرية؟
جيدا مبا يكفي ،نريد أن هتتم بنا قوانين الكون نفسه! طول العمر والصحة والفهم واجلمال واحلرية واحلب؟ ال بد وأن يكون يف
ليس ً
احلياة ما هو أكثر وأهم من ذلك!
ولكن فكرة التقدم هي اليت جتعلهم يستشيطون غضبًا ،وحىت أولئك الذين يظنون أن استخدام املعرفة يف تعزيز رفاهة البشر
هائال لتشاؤمهم :فهيدعما ً فكرة جيدة من الناحية النظرية ،ولكنهم يصرون أهنا لن تنجح عمليًّا مطل ًقا ،فإن األخبار اليومية تقدم ً
تصور العامل كأنه و ٍاد مليء بالدموع ،وحكاية مليئة بالويالت ،ووحل من اليأس .مبا َّ
أن الدفاع عن العقل املنطقي والعلم والنزعة اإلنسانية
عاما من عصر التنوير ليس أفضل من حال أسالفنا يف العصور املظلمة ،فال بد إذًا لن يكون جمديًا لو َّ
أن حالنا اآلن بعد مئتني ومخسني ً
أن تبدأ حجة دفاعنا من تقييم تقدُّم البشر.
الجزء الثاني:
التقدم
إذا كان عليك أن تختار أن تولد في لحظة تاريخية معينة ،ولم تعرف مسب ًقا من ستكون ،لم تعرف ما إذا كنت
ستولد ألسر ٍة ثرية أو ألسر ٍة فقيرة ،في أي دول ٍة ستولد ،ستكون ً
رجال أم امرأة .إذا كان عليك أن تختار اختيارً ا
أعمى في أي لحظة تريد أن تولد ،ستختار هذه اللحظة ..اآلن.
كامال من الكلمات اليت يسيئون استخدامها للتعبري عن استهزائهم ،فإذا كنت تعتقد َّ
أن املعرفة ميكن أن جما ًلقد ألفوا مع ً
تساعد يف حل املشاكل ،فلديك «إميان أعمى» ،و«اعتقاد أشبه بالدين» بـ «اخلرافة البالية» و«الوعد الزائف» بـ «أسطورة مسرية التقدم
مشجع» لـ «القدرة األمريكية املبتذلة على حتقيق أي شيء» بروح «محاسية مغ َفلة» لـ «أيديولوجية جمالس اإلدارة»،
احلتمي» .أنت « ِّ
و«وادي السيليكون» و«غرفة التجارة» .وأنت ممارس لـ «منهج األحرار يف تفسري التاريخ» ،و«متفائل ساذج» و«بوليانا .»وبالطبع
أن «كل شيء نسخة عصرية من الفيلسوف الذي حيمل نفس االسم يف رواية Candideلفولتري ،ويؤكد َّ ٍ «باجنلوس» ،وهو يشري إىل
يسري حنو األفضل يف أفضل العوامل املمكنة».
هل هم حمقون؟ هل التشاؤم صحيح؟ هل ميكن أن يغرق العامل أكثر وأكثر كالدوامة؟ تسهل معرفة سبب شعور الناس هبذا
األمر ،فالوسائل اإلخبارية متتلئ كل يوم بأخبا ٍر عن احلرب واإلرهاب واجلرمية والتلوث وغياب املساواة وتعاطي املخدرات والقمع ،وال
أيضا .تنذرنا أغلفة اجملالت بالثورات الفوضوية والطواعني
أقصد عناوين األخبار فقط ،وإمنا مقاالت الرأي واملقاالت اإلخبارية الطويلة ً
احملررين تصعيدها ملكانة واألوبئة واالهنيارات وكث ٍري من «األزمات» (يف الزراعة والصحة والتقاعد والرفاهة والطاقة و َ
الع ْجز) اليت كان على ِّ
«األزمة اخلطرية».
فعال أم ال ،فستتفاعل طبيعة األخبار مع طبيعة اإلدراك لتجعلنا نظن أنه يسوء حقًّا .تتحدث
وسواء كان وضع العامل يسوء ً
األخبار عن األمور اليت حتدث ،ال عن تلك اليت مل حتدث ،فلم نر قط صحافيًّا يقول أمام الكامريا« :أحدثكم مباشرةً من ٍ
بلد مل تندلع َ
تتعرض حلادث إطالق نريان .طاملا مل ِ
ُتتف األمور السيئة من على وجه تتعرض لتفج ٍري ،أو مدرسة مل َّ
حرب» ،أو من مدينة مل َّفيه ٌ
حولت مليارات اهلواتف الذكية أصحاهبا إىل
دائما حوادث كافية مللء كل الوسائل اإلخبارية ،وخاصةً عندما َّ
األرض ،ستكون هناك ً
مراسلي جرائم وحروب.
ومن بني األمور اليت حتدث بالفعل ،تتضح األمور السلبية واإلجيابية على فرتات زمنية خمتلفة ،فاألخبار أبعد ما تكون عن
«مسودة أوىل للتاريخ» ،وإمنا هي أقرب إىل التعليق الرياضي حلظة بلحظة ،فهي ترِّكز على أحداث منفصلة ،وتكون بشكل عام هي
االحداث اليت وقعت منذ آخر إصدار (يف أوقات سابقة ،أو يف اليوم السابق ،أو اآلن منذ بضع ثو ٍان ً
مثال) .قد حتدث األمور السيئة
حوا ار أو إيور هو حمار كئيب وأزرق اللون وهو أحد شخصيات كارتون ويني الدبدوب ويعني هنا أنهم يتحوّ لون من متفائلين إلى متشائمين – المترجم.
سريعا ،يف حني ال تُبىن األمور اجليدة يف ٍ
ليلة وضحاها ،وعندما تتضح وتتكشف لن تكون متوافقة مع دورة األخبار .أشار الباحث يف ً
جمال السالم جون جالتونج إىل أنَّه إذا كانت إحدى الصحف تصدر كل مخسني سنة ،فلن تكتب عن نصف ٍ
قرن من النميمة عن
املشاهري أو الفضائح السياسية ،وإمنا ستكتب عن التغريات العاملية بالغة األمهية مثل زيادة متوسط العمر املتوقع.
تشوه طبيعة األخبار نظرة الناس للعامل بسبب عيب ذهين يطلق عليه عاملا النفس عاموس تفريسكي ودانييل كامنان «احلدس
ِّ
املبين على اإلتاحة» ( )Availability heuristicوالذي يعين أن الناس يقدِّرون احتمالية وقوع ٍ
حدث ما أو معدل تكرار حدوث
ٍ
شيء ما حسب مدى سهولة تفكريهم يف أحداث شبيهة ،وهذه قاعدة عامة صاحلة يف خمتلف مناحي احلياة .ترتك األحداث املتكررة
ُتمن َّ
أن عموما إىل أحداث أكثر تكر ًارا :فأنت تستند إىل ٍ
أساس متني عندما ِّ آثارا أقوى يف الذاكرة ،وهكذا َّ
فإن الذكريات القوية تشري ً ً
احلمام يتواجد يف املدن أكثر من طيور الصفاري ،رغم أنك تستند إىل ذكرياتك عن مقابلتهم وليس على إحصاء للطيور .ولكن عندما
تظهر ذكرى ما يف أعلى قائمة نتائج حبث عقلك ألسباب أخرى غري التكرار -إما ألهنا حديثة أو واضحة أو دموية أو مميزة أو مزعجة-
عددا ،تلك اليت تبدأ حبرف kأم اليت يكون
،فإن الناس يبالغون يف تقدير مدى احتمالية حدوثها يف العامل .أي من الكلمات أكثر ً
ترتيب حرف kفيها الثالث؟ جييب أكثر الناس باالختيار األولَّ .
إن عدد الكلمات اليت يكون حرف kفيها هو الثالث (مثل ،ankle
و ،askو ،awkwardو ،bakeو ،cakeو ،makeو...takeإخل ).يبلغ ثالثة أضعاف الكلمات اليت تبدأ حبرف ،kولكننا
أوال عند احلاجة.
نسرتجع الكلمات مبطلعها ،فتأيت كلمات مثل ،keep :و ،kindو ،killو ،kidو kingيف بالنا ً
شائعا للحماقات يف االستدالل ،فعلى سبيل املثال يفسر طالب السنة األوىل يف
مصدرا ً
ً متثِّل األخطاء الناجتة عن اإلتاحة
طفح جلدي بأنه أحد أعراض ٍ
مرض غريب ،ويبتعد املصطافون عن البحر بعد أن يقرؤوا عن إحدى هجمات القرش كلية الطب كل ٍ
دائما ،يف حني ال تفعل حوادث السيارات تقريبًا ،على الرغم أو يشاهدوا فيلم الفك املفرتس ،وتتصدر حوادث حتطم الطائرات األخبار ً
كثريا من الناس خيشون الطريان يف حني ال خيشى أح ٌد تقريبًا ٍ
كثريا من الناس ،ومن غري املفاجئ إ ًذا أن ً
من أهنا تتسبب يف قتل عدد أكرب ً
شيوعا من الربو (الذي
قيادة السيارات .يصنِّف الناس األعاصري (اليت تتسبب يف قتل حوايل مخسني أمريكيًّا سنويًّا) بأهنا سبب وفاة أكثر ً
أخبارا شيقة للتليفزيون.
يتسبب يف قتل أكثر من أربعة آالف أمريكي سنويًّا) ،وذلك على ما يبدو ألن األعاصري متثِّل ً
تسهل رؤية كيف قد يستحث «احلدس املبين على اإلتاحة» ،الذي تذكيه السياسة اإلخبارية ”“If it bleeds, it leads
إحساسا بالكآبة بشأن أوضاع العامل .حيصي بعض الباحثني يف جمال اإلعالم
ً دائما،
اليت تشري إىل حصول األخبار الدموية على الصدارة ً
األخبار مبختلف أنواعها ،أو يعرضون على احملررين قائمة من األخبار اليت ميكن نشرها ،ويرون أيها سيختارون وكيف سيعرضوهنا ،و َّ
أكدوا
يفضلون تغطية األخبار السلبية عن اإلجيابية واإلبقاء على تدفق األحداث ٍ
كعامل ثابت .يوفِّر هذا بدوره أن حراس البوابات اإلعالمية ِّ
معادلة سهلة للمتشائمني يف الصفحة التحريرية :ضع قائمة بأسوأ األمور اليت حتدث يف أي مكان يف الكوكب ذلك األسبوع ،وستكون
خطرا أعظم ذات وق ٍع مذهل. قضيتك َّ
بأن احلضارة مل تواجه يف تارخيها ً
فبدال من أن يكون املتابعون الدائمون لألخبار على اطالع أكرب ،قد تصبح
أيضاً ،
تكون تبعات األخبار السلبية نفسها سلبية ً
متاما ،إذ وجد استطالع
فهم يقلقون أكثر بشأن اجلرمية ،حىت عندما ترتاجع معدالهتا ،وأحيانًا ينفصلون عن الواقع ً
معايريهم خاطئةُ .
أن أغلب األمريكيني يتابعون أخبار داعش عن كثب ،ووافق 77باملئة منهم على َّ
أن رأي أجري يف عام 2016على سبيل املثال َّ
خطرا حقيقيًّا على وجود الواليات املتحدة وبقائها» ،وهو اعتقاد ال ميكن وصفه سوى
«امليليشيات اإلسالمية يف سوريا والعراق متثِّل ً
بالومهي .ومن غري املفاجئ أن يصبح متلقو األخبار السلبية كئيبني ،فذكرت مراجعة حديثة للدراسات السابقة أن نتائجها تكون«:سوء
إدراك املخاطر ،والقلق ،واحلاالت املزاجية السيئة ،والعجز املكتسب ،واالزدراء والعدائية جتاه اآلخرين ،وضعف احلساسية ،ويف بعض
مثال« :ملاذا علي أن أديل بصويت؟ لن يفيد هذا ٍ
بشيء»، احلاالت ..التجنب التام لألخبار» ،كما يصبح متلقوها مؤمنني باجلربية فيقولون ً
َّ
طفل آخر من اجلوع األسبوع التايل على أي حال». أو «قد أتربع باملال ،لكن سيتضور ٌ
بعدما رأينا كيف ُُترج العادات الصحافية واالحنيازات املعرفية أسوأ ما فينا ،كيف ميكننا تقييم وضع العامل على حن ٍو سليم؟
اإلجابة هي العدُّ .كم عدد ضحايا العنف بالنسبة إىل عدد األحياء؟ كم عدد املرضى؟ كم عدد اجلوعى؟ كم عدد الفقراء؟ كم عدد
املظلومني؟ كم عدد األميني؟ وهل تزيد هذه األعداد أم تنخفض؟ َّ
إن العقلية الكمية ،رغم هالة اهلوس اليت حتيط هبا ،هي يف احلقيقة
العقلية املستنرية أخالقيًّا ،ألهنا تتعامل مع حياة كل إنسان على أساس َّ
أن هلا قيمة مساوية حلياة اآلخرين ،وال متيِّز األشخاص األقرب
التعرف على أسباب املعاناة ومن مث على معرفة أي إجراءات ستخففها على
أمال يف قدرتنا على ُّ
إليها أو األمجل يف الصور ،وحتمل ً
األرجح.
كان هذا هو اهلدف من كتايب « ،»The Better Angels of Our Natureالذي عرض مئة رسم بياين وخريطة
ٍ
ألسباب خمتلفة، توضح مدى تراجع العنف والظروف اليت تعززه على مدار التاريخ ،وللتأكيد على حدوث هذا الرتاجع يف أزمنة خمتلفة
ِّ
اخنفاضا خبمسة أضعاف يف معدل الوفيات الناجتة عن التناحر والغزو القبَلي،
ً أيضا األمساء .أنتجت عملية التهدئة وإرساء السالم
عرضت ً
اخنفاضا بأربعني ضع ًفا يف معدل جرائم القتل وجرائم
ً وهذه إحدى تبعات سيطرة الدول الفعالة على أقالي ٍم ما .وأنتجت عملية التمدين
العنف األخرى تال إرساء حكم القانون وأعراف ضبط النفس يف بداية احلداثة يف أوروبا .ويُطلق اسم الثورة اإلنسانية على ما حدث يف
عصر التنوير من إلغاء العبودية واالضطهاد الديين والعقوبات القاسية .ويستخدم املؤرخون مصطلح فرتة السالم الطويلة للتعبري عن تراجع
احلروب بني القوى العظمى وبني الدول بعد احلرب العاملية الثانية .وبعد هناية احلرب الباردة ،نَعِ َم العاملُ بسالم جديد إذ كانت احلروب
األهلية واإلبادة العرقية واحلكم االستبدادي أقل ،ومنذ مخسينيات القرن املاضي ،اكتسح العامل فيضان من الثورات احلقوقية ،مثل :حركات
احلقوق املدنية ،وحقوق املرأة ،وحقوق املثليني ،وحقوق الطفل ،وحقوق احليوان.
ال خالف بني اخلرباء الذين يألفون هذه األرقام سوى على قلة قليلة من أمثلة هذا الرتاجع .فعلماء اجلرمية التارخيية على سبيل
أن معدل جرائم القتل اخنفض بعد العصور الوسطى ،ومن املألوف للباحثني يف العالقات الدولية َّ
أن احلروب الكربى املثال يتفقون على َّ
قلَّت تدرجييًّا بعد عام ،1945و َّ
لكن هذه األمور تُعد مفاجأة ألغلب الناس على نطاق العامل.
أن استعراض رسوم بيانية ميثِّل حمورها األفقي الزمن وميثِّل حمورها الرأسي عدد ضحايا العنف أو أي مقاييس أخرى ظننت َّ
ُ
أن اخلط املنحين من أعلى اليسار إىل أسفل اليمني قد يعاجل اجلمهور من االحنياز املبين على اإلتاحة ويقنعهم َّ
بأن العامل قد للعنف ،و َّ
أن مقاومة فكرة التقدم راسخة ٍ
بعمق يتجاوز املغالطات ُّما يف هذا اجملال على األقل .ولكين عرفت من أسئلتهم واعرتاضاهتم َّ
أحدث تقد ً
فعال هو سؤالناقصا للواقع ،لذا فالسؤال عن مدى دقة األرقام وتعبريها عن الواقع ً
انعكاسا ً
ً اإلحصائية .متثِّل أي جمموعة بيانات بالطبع
تشكك يف البيانات فحسب ،بل عن عدم االستعداد حىت الحتمالية أن تكون احلالة البشرية مشروع ،ولكن االعرتاضات مل تكشف عن ُّ
فعال أم مل حيدث ،فال ميكنهم إجراء
حتسنت .يفتقر كثريٌ من الناس إىل األدوات املفاهيمية للتحقق مما إذا كان التقدم قد حدث ً
قد َّ
حتسن األوضاع .فيما يلي نُ َس ٌخ معدَّلة للحوارات اليت أجريتها مع السائلني.
معاجلة ذهنية لفكرة إمكانية ُّ
ًإذا فالعنف قد تراجع خط ً ّيا منذ بداية التاريخ! ياللروعة!
كال ،مل يرتاجع «خطيًّا» ،فسيكون من املذهل أن ينخفض أي مقياس للسلوك البشري بكل تقلباته مبقدا ٍر ٍ
ثابت لكل وحدة
أيضا (وهو على األرجح ما يدور يف عقل السائل) ،إذ سيعين هذا أنه ٍ
عقدا تلو اآلخر وقرنًا تلو اآلخر ،وليس على وترية واحدة ً زمنيةً ،
ٍ
بتذبذبات وزيادات وارتفاعات مفاجئة وأحيانًا تأرجح مقلق، اخنفاض أو ٍ
ثبات دائم وال يزداد مطل ًقا .تتسم املنحنيات التارخيية الفعلية ٍ يف
ومن األمثلة على ذلك احلربان العامليتان ،وانتشار اجلرمية يف الدول الغربية منذ منتصف الستينيات حىت بداية التسعينيات يف القرن املاضي،
والزيادة املفاجئة يف احلروب األهلية يف العامل النامي بعد إهناء االستعمار يف ستينيات وسبعينيات القرن املاضي .يتكون التقدم من
تضخ ٍم مؤقت إىل خط أساس منخفض ،فالاندفاع هابط ،أو عودة من ُّ
اف أو ٍ اجتاهات يف العنف تطرأ عليها هذه التقلبات ،مثل اجنر ٍ
ألن احللول لبعض املشاكل ُتلق مشاكل أخرى ،ولكن ميكن استئناف التقدم عند حل املشاكل ميكن أن يسري التقدُّم على وتريةٍ واحدة َّ
اجلديدة بدورها.
وباملناسبة ،يقدم اختالف وترية البيانات االجتماعية معادلة سهلة للمنافذ اإلخبارية إلبراز السلبيات ،فإذا جتاهلت كل السنوات
خربا) ،فسيتكون لدى القراء انطباع َّ
بأن احلياة تزداد َّ
اليت اخنفض فيها مؤشر إحدى املشاكل ،وأعلنت عن كل زيادة فيه (مبا أهنا متثِّل ً
كل
تتحسن .يف الستة أشهر األوىل من عام ،2016نفذت صحيفة نيويورك تاميز هذه اخلدعة ثالث مرات مع أرقام ٍّ سوءًا حىت عندما َّ
من االنتحار وطول العمر والوفيات الناجتة عن حوادث السيارات.
انخفاض دائم،فهذا يعني أنها دورية ،أي أنها حتى لو كانت منخفضة
ٍ ً
حسنا ،إذا كانت معدالت العنف ليست في
اآلن ،فارتفاعها ً
ثانية مجرد مسألة وقت.
كال ،رمبا تكون التغيريات على مدا ٍر زمين إحصائية ،ذات تقلبات ميكن التنبؤ هبا ،دون أن تكون دورية ،أي تتأرجح كبندول
الساعة بني طريف نقيض .يعين ذلك أنه حىت لو كان االنعكاس ممكنًا يف أي وقت ،فال يعين هذا أن احتماليته تزداد مبرور الوقت( .خسر
كثري من املستثمرين الكثري من املال برهاهنم على «الدورة االقتصادية» ذات التسمية اخلاطئة اليت تتكون يف الواقع من تقلبات مفاجئة
ٌ
متاما يف ٍ
ال ميكن التنبؤ هبا) .ميكن أن حيدث التقدم عندما يقل معدل االنعكاسات املتجهة يف اجتاه إجيايب ،أو تقل حدهتا ،أو تتوقف ً
بعض احلاالت.
كيف يمكنك أن تقول إن معدالت العنف انخفضت؟ ألم تقرأ عن حادث إطالق النيران على المدرسة (أو عن
التفجير اإلرهابي أو القصف المدفعي أو حاالت الشغب في مباريات كرة القدم أو حادث الطعن في الحانة) في
األخبار هذا الصباح؟
كثريا دون أن يتالشى الرتاجع ال يعين االختفاء (كما َّ
أن عبارة س < ص خمتلفة عن عبارة ص = .)0ميكن أن يقل شيءٌ ما ً
متاما ،مما يعين َّ
أن مستوى العنف اليوم ال صلة له مطل ًقا بالسؤال عما إذا كانت مستويات العنف قد تراجعت على مدار التاريخ .الطريقة ً
الوحيدة لإلجابة عن ذلك السؤال هو املقارنة بني مستوى العنف اآلن ومستوى العنف يف املاضي ،وعندما تنظر إىل مستوى العنف يف
كثريا من العنف ،حىت لو مل ي ُكن حيًّا يف ذاكرتك بنفس قدر عناوين األخبار اليت قرأهتا هذا الصباح.
املاضي ستجد ً
لن تعني لك كل اإلحصاءات المزخرفة عن قلة العنف ً
شيئا إذا كنت أحد الضحايا.
صحيح ،ولكنها تعين أن احتمالية أن تكون ضحية أقل ،ولذلك السبب ،فهي تعين أن هنالك ماليني األشخاص الذين ليسوا
ضحايا ،ولكن كان ميكن أن يكونوا من بني الضحايا لو أن معدالت العنف قد بقيت كما هي دون تغيري.
من السذاجة والعاطفية والمثالية والرومانسية الحالمة والتفاؤل على منهج حزب األحرار والحلم باليوتوبيا
والتشبه ببوليانا وبانجلوس أن تقول إن العنف قلا.
توضح اخنفاض مستوى العنف وتقول «مستوى العنف اخنفض» فأنت بذلك تصف حقيقةً، كال ،أن تنظر إىل البيانات اليت ِّ
توضح اخنفاض مستوى العنف وتقول «مستوى العنف ارتفع» فأنت بذلك تكون وامهًا ،أما أن تتجاهل البياناتأما أن تنظر إىل بيانات ِّ
اخلاصة بالعنف وتقول «مستوى العنف ارتفع» فأنت بذلك تكون من أنصار «ال أعرف شيئًا».
أما عن االهتامات بالرومانسية احلاملة ،فسأرد ببعض الثقة ،فأنا مؤلف كتاب The Blank Slate: The Modern
،Denial of Human Natureوهو كتاب غري رومانسي ومضاد لليوتوبيا بصورةٍ واضحة ،وأوضحت فيه أن التطور أعد البشر
أيضا أن لدى الناس حس التعاطف ٍ
مبجموعة من الدوافع املدمرة مثل اجلشع والشهوة واهليمنة واالنتقام وخداع النفس ،ولكنين أؤمن ً
والقدرة على التأمل يف مآزقهم وملكات للتفكري ومشاركة األفكار اجلديدة ،وهذه هي اجلوانب املالئكية من طبيعتنا البشرية كما قال
أبراهام لينكولن .مبجرد النظر إىل احلقائق ،ميكننا أن نعرف إىل أي مدى انتصرت جوانبنا املالئكية على شياطيننا الداخلية يف أي ٍ
زمان
ٍ
ومكان.
كيف يمكنك التنبؤ بانخفاض مستوى العنف؟ يمكن أن تندلع ً
غدا حربٌ وتدحض نظريتك.
التصريح َّ
بأن أحد مقاييس العنف قد اخنفض ال يُعد «نظرية» وإمنا هو مالحظة حلقيقة .أجل ،هناك فرق بني احلقيقة اليت
تقول إن أحد املقاييس تغري مع الوقت ،والتنبؤ بأنه سيواصل التغري بنفس الطريقة طوال الوقت لألبد .كما تقول إعالنات الشركات
االستثمارية ،فاألداء السابق ال يضمن نتائج مستقبلية.
في تلك الحالة ،في َم تفيد كل تلك الرسوم البيانية والتحليالت؟ أال يفترض بالنظرية العلمية أن تقدم توقعات قابلة
لالختبار؟
خاصا تقدم النظرية العلمية توقعاهتا يف التجارب العملية اليت تُضبط فيها املؤثرات السببية ،ال ميكن ألي نظرية أن تقدم ً
توقعا ً
أفكارا سريعة االنتشار يف شبكات عاملية ويتفاعلون مع
بالعامل بأكمله ،حيث ينشر سكانه الذين يبلغ عددهم سبعة مليارات شخص ً
صرح مبا حيمله املستقبل يف عا ٍمل غري خاضع للضبط والتحكم ،ودون تفسري لسبب وقوع األحداث
دورات الطقس واملوارد الفوضوية .أن تُ ِّ
توقعا وإمنا نبوءة ،وكما قال ديفيد دويتش« :أهم القيود على صنع املعرفة هو أننا ال نستطيع التنبؤ ،ال
هبذه الطريقة أو تلك ،ال يُعد ً
نستطيع توقع حمتوى األفكار اليت مل تنشأ بعد ،أو آثارها .وليست هذه القيود متماشية مع منو املعرفة بقد ٍر غري حمدود فحسب ،إمنا
يستلزم هذا النمو تلك القيود».
أمورا كثرية
أن ً يشري إىل َّ
فالتحسن يف أحد مقاييس رفاهة اإلنسان ُ
ُّ إن عجزنا عن التنبؤ ليس رخصةً لتجاهل احلقائق بالطبع،
بدال من الطريق اخلاطئ ،ويعتمد توقعنا عما إذا كان التقدم سيستمر أم ال ،على مدى معرفتنا مباهية القوى
قد دفعته يف الطريق الصحيح ً
الدافعة له ،وإىل أي وقت ستظل كما هي .سيختلف هذا من اجتاهٍ إىل آخر ،قد يصبح بعضها مثل قانون مور (عدد الرتانزستورات
أساسا للثقة (ولكن ليس لليقني) يف َّ
أن مثار براعة البشر سترتاكم والتقدم سيستمر .يف حني قد يشبه بعضها يتضاعف كل عامني) ويضع ً
سوق األسهم ويتكهن بتقلبات قصرية املدى ولكنها ستحقق مكاسب على املدى البعيد .رمبا يتحرك بعضها يف توزي ٍع إحصائي «مسيك
أيضا دوريًّا أو فوضويًّا .يف الفصلني
الذيل» ،ال ميكن فيه استبعاد األحداث احلدية وإن كان احتمال حدوثها أقل .ورمبا يكون بعضها ً
التاسع عشر واحلادي والعشرين سنلقي نظرةً على التوقع العقالين يف عا ٍمل متقلب ،أما اآلن فعلينا أن نتذكر َّ
أن االجتاه اإلجيايب يشري إىل
صحيحا ،وأن علينا حماولة حتديد هذا الشيء ونكرره أكثر.
ً أمرا
(ولكنه ال يثبت) أننا فعلنا ً
جيدا كما تقرتح
أشخاصا يعتصرون دماغهم ليجدوا طريقةً ما جتعل هذا اخلرب ليس ً
ً عندما تنفد كل هذه االعرتاضات ،أرى
البيانات .وليأسهم ،يلجؤون إىل دالالت األلفاظ.
أليس التصيد اإللكتروني ( )Trollingأحد أشكال العنف؟ أليس التعدين السطحي أحد أشكال العنف؟ أليس غياب
المساواة أحد أشكال العنف؟ أليس التلوث أحد أشكال العنف؟ أليس الفقر أحد أشكال العنف؟ أليست االستهالكية
أحد أشكال العنف؟ أليس الطالق أحد أشكال العنف؟ أليست الدعاية أحد أشكال العنف؟ أليس إعداد اإلحصاءات
أحد أشكال العنف؟
برغم روعة اجملاز كوسيلة تعبريية كالميةَّ ،إال أهنا طريقة ضعيفة لتقييم وضع البشرية ،يستلزم التعقُّل أو االستدالل األخالقي
شخص ما أشياء بغيضة على تويرت ،ولكنه ال مياثل جتارة العبيد أو اهلولوكوست .ويستلزم
ٌ مزعجا عندما يقول
تناسبًا ،رمبا يكون األمر ً
باندفاع إىل مركز معين بأزمات االغتصاب واملطالبة مبعرفة ما الذي فعلوه بشأن اغتصاب البيئة
ٍ أيضا التمييز بني الكالم والواقع ،فالدخول
ً
أن احلدس األخالقي أخريا ،يتطلَّب حتسني العامل ً
فهما للسبب والنتيجة .رغم َّ ال يفيد ضحايا االغتصاب الفعلي وال يفيد البيئة بشيء .و ً
أن «األمور السيئة» ليست ظاهرة مرتابطة ميكننامجيعا على «الشرير»َّ ،إال َّ
البدائي مييل إىل جتميع األمور السيئة سويًّا وإلقاء اللوم فيها ً
حماولة فهمها والقضاء عليها( .فاإلنرتوبيا والتطور ينتجان هذه األمور السيئة بغزارة) .فاحلرب واجلرمية والتلوث والفقر واملرض واهلمجية
مستحيال.
ً كل منها على حدة
شرور ال جيمعها قاسم مشرتك ،وإذا أردنا احلد منها ،فال ميكننا أن نلعب بالكلمات مما جيعل حىت مناقشة ٍّ
ِّ
املتشكك على كتاب لقد عرضت هذه االعرتاضات كي أمهد الطريق لعرض املقاييس األخرى لتقدم البشرية .أقنعين رد الفعل
الجوانب المالئكية َّ
بأن احلدس املبين على اإلتاحة ليس هو العامل الوحيد الذي جيعل الناس جربيني فيما خيص التقدم ،وال ميكن إلقاء
إن اجلذور النفسية لرهاب التقدُّم راسخة ٍ
بعمق أكرب. متاما على مطاردة العيون والنقرات .كالَّ ،
اللوم يف ولع اإلعالم باألخبار السيئة ً
ٍ
جمموعة من التجارب الفكرية التخيلية اليت أعمقها احنياز خلَّصه شعار يقول« :السيئ أقوى من اجليد» .تتضح الفكرة يف
اقرتحها تفريسكي .إىل أي مدى تتخيل نفسك تشعر بأن حالك أفضل مما تشعر به اآلن؟ إىل أي مدى تتخيل نفسك تشعر بأن حالك
ردا على الفرضية األوىل ،ولكن إجابتنا عن الثانية ستكون :دون حدود. أسوأ؟ ميكننا مجيعا ُتيل أن منشي ٍ
خبفة أكثر أو تلمع أعيننا ًّ ً
ميكن تفسري هذا التباين يف احلالة املزاجية بالتباين يف احلياة (وهو الزمة منطقية لقانون اإلنرتوبيا) .كم شيئًا قد حيدث اليوم وجيعل حالك
ٍ مجيعا أن ِّ
مكسب مفاجئ غريب أو ضربة حظ نفكر يف وجمددا ،ميكننا ً
كثريا؟ ً كثريا؟ وكم شيئًا قد حيدث اليوم وجيعل حالك أسوأ ً أفضل ً
ردا على الس ؤال األول ،ولكن ستكون اإلجابة عن السؤال الثاين :أشياء ال هنائية .ولكن ال ينبغي أن نعتمد على ُتيالتنا، سعيد ًّ
أن الناس ميقتون اخلسائر أكثر مما يتطلعون إىل املكاسب ،ويرِّكزون على اإلخفاقات أكثر مما يتلذذون باحلظ
فالنصوص النفسية تؤكد َّ
أيضا َّ
أن اللغة اإلجنليزية يشجعهم الثناء( .وبصفيت عامل لغويات نفسية ،فأنا مضطر إىل أن أضيف ً
السعيد ،ويؤملهم االنتقاد أكثر مما ِّ
حتتوي على كلمات للتعبري عن املشاعر السلبية أكثر من املشاعر اإلجيابية).
احدا لالحنياز للسلبية ،فرغم أننا نتذكر األحداث السيئة كما نتذكر اجليدةَّ ،إال َّ
أن لون يف ذاكرتنا اخلاصة حبياتنا جند استثناءً و ً
إن احلنني إىل املاضي من طبيعتنا ،ففي ذاكرة ٍ
بشكل شخصيَّ . املصائب الداكن يبهت مبرور الوقت ،وباألخص املصائب اليت حدثت لنا
اإلنسان ،يشفي الزمن معظم جروحنا .ويضللنا ومهان آخران وجيعالننا نظن َّ
أن األمور ليست كما كانت :فعندما تثقلنا أعباء النضج
أن العامل أصبح أقل براءةً ،وعندما تتدهور قوانا نظن خطأً َّ
أن الزمن هو الذي يتدهور. ومسؤوليات األبوة واألمومة املتنامية نظن خطأً َّ
مثلما أشار كاتب املقاالت فرانكلني بريس آدامز «ال شيء مسؤول عن األيام اخلوايل أكثر من ضعف الذاكرة».
ينبغي أن تسعى الثقافة الفكرية حنو مقاومة احنيازاتنا املعرفية ،ولكنها يف الواقع تدعمها غالبًاَّ .
إن عالج احلدس القائم على
تاما يف جمال الفنون واإلنسانيات على إمجاعا ً
أن «هناك ً ولكن الباحث األديب ستيفن كونور أشار إىل َّ
اإلتاحة هو التفكري الكميَّ ،
الرعب املفرط من األرقام» .يؤدي هذا اجلهل بالرياضيات واإلحصاء الذي مصدره أيديولوجي وليس عرضيًّا إىل أن يالحظ ال ُكتَّاب َّ
أن
احلروب تندلع اليوم واندلعت يف املاضي ويستنتجون أنَّه «مل يتغري شيء» ،عاجزين عن إدراك الفرق بني ٍ
حقبة اندلعت هبا حفنةٌ من ٌ
احلروب اليت تسببت جمتمعةً يف قتل اآلالف ،وحقبة اندلعت فيها عشرات احلروب اليت تسببت جمتمعةً يف قتل املاليني ،وجيعلهم ذلك
مقدرين للعمليات املنهجية اليت هتيئ لنا تراكم التطورات والتحسينات على املدى البعيد.
غري ِّ
جماال حملرتيف سرعة الغضب
وليست الثقافة الفكرية مؤهلة لعالج االحنياز للسلبية ،فحذرنا من األمور السلبية احمليطة بنا يفتح ً
أن الناس ينظرون إىل الناقد الذي ينتقد كتابًا ما بشدة والضيق الذين يلفتون انتباهنا إىل األمور السيئة اليت فاتتنا .أظهرت التجارب َّ
أيضا على النقاد اجملتمعيني .قدَّم املوسيقي اهلزيل توم لرير نصيحة مفادها
بوصفه أكثر كفاءة من الناقد الذي يثين عليه ،ورمبا ينطبق هذا ً
دائما ،وسيهللون لك كأنك نيب» .منذ زمن األنبياء العربيني ،الذين شابوا نقدهم االجتماعي بتحذيرات من وقوع الكوارث، «توقَّع األسوأ ً
جرت مساواة التشاؤم باجلدية األخالقية .يعتقد الصحافيون َّأهنم يؤدون دورهم يف املراقبة والتنقيب عن الفساد وفضحه وابتالء املرتفني،
وقارا فوريًّا عرب اإلشارة إىل مشكلة مل ُحتل بعد ،والتنظري بأهنا أحد أعراض َّ
عرب إبراز السلبيات ،ويعرف املثقفون أهنم ميكنهم أن يكتسبوا ً
اجملتمع املريض.
أيضا ،إذ الحظ الكاتب يف الشؤون املالية مورجان هاوزل أنَّه يف حني يبدو املتشائمون كأهنم حياولون
والعكس صحيح ً
حال إلحدى املشاكل ،سيسارع شخص ما ًّ
ٌ مساعدتك ،فإن املتفائلني يبدون كأهنم حياولون أن يبيعوا لك شيئًا .عندما يعرض عليك
حل
مسكن أو ٍّ حال يناسب اجلميع ،إنَّه جمرد ِّ
عالجا سر ًيعا وال عصا سحرية وال ًّ
شامال وال ًعالجا ً
املنتقدون باإلشارة إىل أنه ليس ً
تكنولوجي سريع يعجز عن فهم األسباب اجلذرية وسيأيت بنتائج عكسية فيكون له آثار جانبية وعواقب غري مقصودة .وبالطبع ،مبا أنَّه
فضا لتقبُّل إمكانية منعزال عن البقية)َّ ،
فإن هذه اجملازات تُعد ر ً ال يوجد عالج شامل ولكل شيء آثار جانبية (فال ميكنك أن تفعل شيئًا ً
حتسن أي شيء على اإلطالق.
ُّ
ميكن أن يكون التشاؤم يف أوساط أهل الفكر أحد أشكال املزايدة ،فاجملتمع احلديث عبارة عن رابطة من النخب السياسية
والصناعية واملالية والتكنولوجية والعسكرية والفكرية ،اليت تتنافس مجيعها على املكانة والنفوذ ،ولكل منها مسؤوليات خمتلفة جتاه إدارة
اجملتمع .قد تكون الشكوى من اجملتمع احلديث طريقة غرضها اخلفي تثبيط اخلصوم ،كأن يشعر األكادمييون بأفضلية على رجال األعمال،
ميال إىل
ويشعر رجال األعمال بأفضلية على الساسة ،وهكذا .مثلما ذكر توماس هوبز عام « :1651ينتج التنافس على نيل املديح ً
تبجيل األقدمية ،لذلك فإن الناس يتنازعون مع األحياء ال مع املوتى».
للتشاؤم بالتأكيد جانب مشرق ،إذ جتعلنا دائرة التعاطف املتسعة مهتمني باألضرار اليت كانت ستمر علينا مرور الكرام يف
نادرا ما نتذكر حروب العقود السابقة
أن احلرب األهلية السورية مأساة إنسانية ،يف حني ً مثال ندرك اليوم َّ
األزمنة األشد قسوًة ،فنحن ً
مثل احلرب األهلية الصينية وتقسيم اهلند واحلرب الكورية بنفس الطريقة ،رغم َّأهنا تسببت يف قتل املزيد من الناس ونزوحهم .عندما ُ
كنت
يوما ما خطبةً أن رئيس الواليات املتحدة قد يلقي ً يف مراحل النمو ،كان التنمر يُعد جزءًا طبيعيًّا من الصبا ،كان من الصعب تصديق َّ
عن شرور التنمر ،كما فعل باراك أوباما يف .2011عندما يزداد اهتمامنا باإلنسانية ،منيل إىل أن نظن خطأً َّ
أن األضرار احمليطة بنا متثِّل
عالمات على مدى االحنطاط الذي وصل إليه العامل ،وليس على مدى ارتقاء معايرينا.
ال يلقي كلٌّ من بورنشتاين وروزنربج باللوم على املذنبني املعتادين (التليفزيون ووسائل اإلعالم االجتماعي وبرامج الكوميديا
ٍ
بتطرف يف التشاؤم وإمنا يربطونه بالتحول الذي حدث خالل حقبيت فييتنام ووترجيت من متجيد القادة إىل التدقيق يف سلطاهتم، املسائية) َّ
شرسا.
هجوما ً
الساخر دون تفرقة ،إذ أصبح كل شيء خاص باجلهات املدنية األمريكية الفاعلة يستدعي ً
إذا كانت جذور رهاب التقدُّم تكمن يف الطبيعة البشرية ،فهل يُعد اقرتاحي َّ
بأهنا تنمو ومهًا من صنع االحنياز املبين على
ٍ
مقياس موضوعي ،استباقًا لألساليب اليت سأستخدمها يف بقية الكتاب .طبَّق عامل البيانات كاليف ليتارو اإلتاحة؟ سننظر فيما يلي إىل
تقنيةً تُدعى التنقيب عن املشاعر أو حتليل املشاعر على كل مقال نشرته صحيفة نيويورك تاميز بني عامي 1945و ،2005وعلى
أرشيف من النشرات اإلذاعية واملقاالت املرتمجة من 130دولة بني عامي 1979و .2010يقيِّم حتليل املشاعر نربة النص عرب مجع
عدد الكلمات ذات الدالالت اإلجيابية والسلبية ،وسياقاهتا ،مثل جيد ،ولطيف ،وفظيع ،ومريعِّ .
يوضح الشكل رقم 1-4نتائج
أن االنطباع َّ
بأن األخبار ازدادت سلبيةً مبرور الوقت التحليل .بعد استبعاد كل الذبذبات واألمواج اليت تعكس أزمات كل حني ،نرى َّ
(قليال فقط)
قليال ً
حقيقي .ازدادت صحيفة نيويورك تاميز كآبة يف القرن املاضي منذ أوائل الستينيات حىت أوائل السبعينيات ،وابتهجت ً
يف الثمانينيات والتسعينيات ،مث غرقت يف مز ٍاج أسوأ بصورةٍ تصاعدية يف العقد األول من القرن اجلديد ،وازدادت املنافذ اإلعالمية يف
أيضا كآبةً منذ أواخر سبعينيات القرن املاضي حىت يومنا هذا.
بقية العامل ً
إذًا ،هل العامل حقًّا يف احندا ٍر مستمر طيلة هذه العقود؟ َّ
تذكر الشكل رقم 1-4عندما نفحص حالة البشرية يف الفصول
التالية.
ملخص للنشرات اإلذاعية العالمية
نبرة نشرات األخبار (انحرافات معيارية)
نيويورك تايمز
يسهل العثور على معلومات عن تقدُّم اإلنسان ،رغم غياهبا عن املنافذ اإلعالمية الكربى واملنتديات الفكرية ،فالبيانات ليست
مدفونة يف تقاري ٍر مملة وإمنا معروضة يف مواقع إلكرتونية رائعة ،وباألخص موقع ماكس روزر Our World in Dataوموقع ماريان
سيف خالل إحدى حماضرات أن حىت ابتالع ٍ
تويب HumanProgressوموقع هانس روزلينج ( .Gapminderاكتشف روزلينج َّ
تيد يف عام 2007ليس كافيًا للفت انتباه العامل) .أقيمت هذه احلجة يف ٍ
كتب رائعة ،بعضها من تأليف ُكتَّاب فائزين جبائزة نوبل،
وتفخر عناوينها بالتقدُّم ،ومنها ،Progress :و ،The Progress Paradoxو ،Infinite Progressو The Infinite
،Resourceو ،The Rational Optimistو ،The Case for Rational Optimismو Utopia for
،Realistsو ،Mass Flourishingو ،Abundanceو،The Improving State of the World
و ،Getting Betterو ،The End of Doomو ،The Moral Arcو ،The Big Ratchetو The Great
أي منها جبائزة كربى ،ولكن يف الفرتة
،Escapeو ،The Great Surgeو( .The Great Convergenceمل يكافأ ٌّ
اليت ظهرت فيها هذه الكتب ،حصلت أربعة كتب عن اإلبادة العرقية وثالثة عن اإلرهاب واثنان عن السرطان واثنان عن العنصرية وكتاب
واحد عن االنقراض على جائزة بولتزر عن فئة األعمال غري اخليالية) .وإىل من تستهويهم قراءة مقاالت القوائم ،نُشر يف السنوات األخرية
بعض منها مثل ،Five Amazing Pieces of Good News Nobody Is Reporting :و Five Reasons
،Why 2013 Was the Best Year in Human Historyو Seven Reasons the World Looks
،Worse Than It Really Isو 26 Charts and Maps That Show the World Is Getting
،Much, Much Betterو ،40 Ways the World Is Getting Betterوقائميت املفضلة هي50 Reasons :
.Why We’re Living Through the Greatest Period in World Historyلنلقي نظرةً على ٍ
بعض من
هذه األسباب.
الفصل الخامس
الحياة
إن الصراع من أجل البقاء على قيد احلياة هو الدافع البدائي للكائنات احلية ،وينشر اإلنسان براعته وعزمه الواعي على جتنب املوت َّ
ك» ،وناشد ديالن توماس بـ «الغضب ،الغضب على وقت ممكن ،وقد قال إله العهد القدمي« :فَاخ ِرت ْ ِ ألطول ٍ
ت َونَ ْسلُ َ
احلَيَاةَ ل َك ْي َْحتيَا أَنْ َ َْ
احتضار النور» ،فالعمر املديد هو النعمة الكربى.
ما العمر املتوقع ،يف رأيك ،أن يعيشه شخص عادي يف هذا العامل اليوم؟ َّ
تذكر َّ
أن املتوسط العاملي يتأثر سلبًا حباالت الوفاة
أصفارا
ً املبكرة بفعل اجلوع واملرض يف الدول كثيفة السكان يف العامل النامي ،ويتأثر على حنو خاص بوفيات األطفال ،الذين يضيفون
كثرية إىل متوسط األعمار.
يف الشكل رقم ،1-5وهو خمطط للعمر املتوقع على مر القرون صنعه ماكس روزر ،يظهر منط عام يف تاريخ العامل.
أوروبا
األمريكيتن
العالم
آسيا
متوسط العمر المتوقع
إفريقيا
عاما،
كان متوسط العمر املتوقع يف أوروبا واألمريكتني يف زمن بداية هذا املخطط ،أي يف القرن الثامن عشر ،حوايل ً 35
عاما لدينا بياناهتم قبل هذه النقطة الزمنية ،إذ كان متوسط العمر املتوقع يف العامل بأكمله 29
وكان ثابتًا على ذلك الرقم منذ ً 225
عاما .تقع هذه األرقام يف نطاق املدى العمري املتوقع يف أغلب مراحل تاريخ البشرية ،فقد كان متوسط العمر املتوقع للبشر يف مرحلة
ً
عاما ونصف ،وتناقص على األرجح لدى أول من عملوا بالزراعة بسبب نظامهم الغذائي املعتمد على
الصيد ومجع الثمار حوايل ً 32
النشويات واألمراض اليت انتقلت إليهم من املاشية ومن اآلخرين .مث عاد العمر املتوقع إىل أوائل الثالثينيات يف العصر الربونزي وظل
كذلك آالف السنوات ،مع بعض التقلبات الصغرية يف خمتلف القرون واملناطق .ميكننا أن نطلق على هذه الفرتة من تاريخ البشرية احلقبة
مصطلحا
ً املالتوسية ،إذ كان أي تقدم يف الزراعة أو الصحة يُلغى سر ًيعا بفعل الزيادة السكانية السريعة الناجتة ،رغم َّ
أن كلمة حقبة تبدو
غريبًا إذا أطلقناها على 99.9باملئة من زمن وجود نوعنا على األرض.
ولكن بدءًا من القرن التاسع عشر ،انطلق العامل يف رحلة اهلروب الكبري ،وهو املصطلح الذي استخدمه االقتصادي آجنوس
ديتون للتعبري عن حترر البشرية من إرث الفقر واملرض والوفاة املبكرة .بدأ متوسط العمر املتوقع يف الزيادة ،وتسارع يف القرن العشرين ،وال
تظهر عليه أي عالمات على التباطؤ .منيل ،مثلما أشار املؤرخ االقتصادي يوهان نوربريج ،إىل أن نقول ألنفسنا «إنَّنا مع كل ٍ
عام ميرر
عام ،ولكن خالل القرن العشرين كان الشخص العادي يقرتب إىل املوت مبقدار سبعة أشه ٍر فقط من عمرنا ،نقرتب إىل املوت مبقدار ٍ
أن ِهبَة العمر املديد تنتشر لتشمل البشرية مجعاء ،مبا يشمل الدول األفقر يف العامل ،وخبطى أسرع مع كل ٍ
عام مير من عمره» .ومن املثري َّ
من خطى انتشارها يف الدول الغنية .إذ قال نوربريج َّ
إن« :متوسط العمر املتوقع يف كينيا قد ازداد مبقدار عشرة أعوام تقريبًا ما بني عامي
احدا من بقية حياته ،فزاد ٍ
عاما و ً
2003و .2013بعد أن عاش الشخص العادي يف كينيا وأحب وكافح طيلة عقد كامل ،مل يفقد ً
عمر اجلميع عشرة أعوام ،ومل يقرتب منهم املوت مبقدار خطوةٍ واحدة».
نتيجةً لذلك ،فإن غياب املساواة يف متوسط العمر املتوقع ،الذي ظهر خالل مرحلة اهلروب الكبري عندما انفصلت بضعة دول
حمظوظة عن البقية ،يتضاءل اآلن بانضمام بقية الدول إىل من سبقوها .يف عام ،1800مل ي ُكن متوسط العمر املتوقع يف أي ٍ
دولة يف
كثريا.
عاما يف أوروبا واألمريكتني ،سابقني بذلك إفريقيا وآسيا ً
عاما ،وحبلول عام 1950كان قد بلغ حوايل ً 60 العامل أعلى من ً 40
ولكن منذ ذلك احلني ،زاد متوسط العمر املتوقع يف آسيا بضعف املعدل األورويب ،ويف إفريقيا مبقدار مرة ونصف أكثر منه .يُتوقع أن
ٍ
لشخص مولود يف األمريكتني يف مخسينيات القرن املاضي أو يف أوروبا يف ثالثينياته ،ولوال عمرا مساويًا
يعيش طفل إفريقي مولود اليوم ً
فظيعا يف التسعينيات قبل أن تبدأ األدوية املضادة للفريوسات الرجعية بالسيطرة على املرض ،لكان
اخنفاضا ً
ً نكبة اإليدز ،اليت سببت
املتوسط أعلى.
حتما رفاهة كل إنسان يف كل مكان طوال الوقت، إن منحدر اإليدز يف إفريقيا مبثابة تذكري َّ
بأن التقدم ليس سل ًما متحرًكا يزيد ً َّ
فهذا فعل السحر ،والتقدم ليس نتيجةً للسحر وإمنا حلل املشاكل .املشاكل حتمية ،وقد عانت قطاعات خاصة من البشرية يف بعض
األوقات من انتكاسات فظيعة ،فباإلضافة إىل وباء اإليدز يف إفريقيا ،اخنفض معدل العمر بني صغار البالغني حول العامل خالل مرحلة
تفشي اإلنفلونزا اإلسبانية يف عامي 1918و ،1919وبني األمريكيني البيض يف منتصف العمر من أصل غري التيين/إسباين وغري
احلاصلني على تعلي ٍم جامعي يف بداية القرن احلادي والعشرين .ول َّ
كن املشاكل قابلة للحل ،وتعين حقيقة االرتفاع املتواصل يف األعمار
أيضا. كل من الدميوغرافيات الغربية األخرى َّ
أن حلول املشكالت اليت تواجه هذه الدميوغرافية ممكنةٌ ً يف ٍّ
ميتد متوسط املدى العمري بفعل االخنفاض يف معدل وفيات املواليد واألطفال أكثر من أي ٍ
سبب آخرَّ ،
ألن األطفال يتسمون
يوضح الشكل رقم 2-5ما حدث ملعدل
مسن يف الستني من عمرهِّ . وألن وفاة ٍ
طفل ُتفِّض املتوسط أكثر مما تفعل وفاة ٍّ باهلشاشة َّ
معربة بصورةٍ أو بأخرى عن قاراهتا.
وفيات األطفال منذ عصر التنوير يف مخس دول ِّ
النسبة المئوية لألطفال الذين يموتون قبل سن الخامسة
كوريا الجنوبية
إثيوبيا
كندا
تشيلي
السويد
انظر إىل األرقام على احملور الرأسيَّ ،إهنا تشري إىل النسبة املئوية لألطفال الذين ميوتون قبل أن يبلغوا عامهم اخلامس من إمجايل
األطفال .أجل ،حىت السنوات األوىل من القرن التاسع عشر يف السويد ،إحدى أكثر دول العامل ثراءً ،كانت نسبة ترتاوح بني الربع
والثلث من إمجايل األطفال يتوفون قبل عيد ميالدهم اخلامس ،ويف بعض السنوات بلغت هذه النسبة ما يقرب من النصف .يبدو َّ
أن
هذا أمر منطي يف تاريخ البشرية ،إذ كان ُمخس األطفال يف مرحلة الصيد ومجع الثمار ميوتون يف عامهم األول ،ونصفهم تقريبًا ميوتون قبل
أيضا طبيعة احلياة
بلوغ سن الرشد .ال تعكس هذه االرتفاعات الناتئة يف املنحىن قبل القرن العشرين لغط البيانات فحسب ،بل تعكس ً
احملفوفة باملخاطر ،فقد يدق الوباء أو احلرب أو اجملاعة األبواب يف أي ٍ
وقت بصحبة املوت .وحىت املرتفني قد تلحق هبم املآسي ،إذ فقد
تشارلز داروين طفلني رضيعني مث فقد ابنته العزيزة آين عندما كانت يف العاشرة من عمرها.
مث حدث أمر الفت للنظر ،هبط معدل وفيات األطفال هبوطًا مفاجئا مبقدار مئة مرة ،ليبلغ كسرا من ٍ
نقطة مئوية يف الدول ً ً ٌ
املتقدمة ،وأصبح اهلبوط عامليًّا .مثلما الحظ ديتون يف عام « :2013ال توجد دولة واحدة يف العامل ال يقل فيها معدل وفيات املواليد
عما كان عليه يف عام .»1950اخنفض معدل وفيات األطفال يف منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكربى من حوايل
واألطفال اليوم َّ
طفل من بني كل أربعة أطفال يف ستينيات القرن املاضي إىل أقل من ٍ
طفل واحد من بني كل عشرة أطفال يف عام ،2015واخنفض ٍ
املعدل العاملي من 18إىل 4يف املئة ،وهي ما تزال نسبة مرتفعة ،ولكنَّها ستقل بالتأكيد إذا استمرت قوة الدفع احلالية حنو تعزيز الصحة
العاملية.
تذكر حقيقتني تكمنان وراء هذه األرقام ،األوىل هي الدميوغرافية :فعندما ميوت أطفال أقل ،يكون لدى اآلباء أطفال أقل ،مبا
سيفجر
ِّ أهنم مل ُيعد عليهم تأمني رهاهنم ضد فقدان أسرهتم بأكملها .وهكذا ،على النقيض من القلق بشأن َّ
أن إنقاذ حياة األطفال
«قنبلة سكانية» (وهو هلع بيئي ضخم سيطر على الستينيات والسبعينيات من القرن املاضي ،مما أدى إىل مطالبات بتقليل الرعاية
الصحية يف دول العامل النامي)َّ ،
فإن الرتاجع يف معدل وفيات األطفال قد أبطل هذه القنبلة.
مما يصعب تقديره كذلك انتصار البشرية القريب على أحد أشكال قسوة الطبيعة األخرى ،وهو وفاة األم أثناء الوالدة ،وقد
أوالدا» .كانت نسبة واحد يف املئة تقريبًا من
تكثريا اكثر أتعاب حبلك .بالوجع تلدين ً
قال إله العهد القدمي ،الرحيم ،للمرأة األوىلً « :
قرن أشبه باإلصابة بسرطان الثدي األمهات ميُنت أثناء هذه العملية حىت ٍ
وقت قريب ،ويف حالة نساء أمريكا ،كانت خطورة احلمل منذ ٍ
تعرب كلٌّ منها عن منطقتها.
يوضح الشكل رقم 3-5مسار معدل وفيات األمهات منذ عام 1751يف أربع دول ِّ
اليومِّ .
إثيوبيا
ماليزيا
النسبة المئوية لألمهات التي تموت أثناء الوالدة
الواليات المتحدة
السويد
عما إذا كان االخنفاض يف معدل وفيات األطفال ميكنه تفسري كل الزيادات يف طول العمر املوضحة يف الشكلرمبا تتساءل َّ
ٍ
بأعداد أكرب؟ ففي النهاية ،ال تعين حقيقة كون متوسط عمرا أطول أم أننا ننجو فقط من مرحلة الرضاعة
رقم ،1-5هل نعيش حقًّا ً
عاما َّ
أن مجيعهم مات فجأةً يف أعياد ميالدهم العمر املتوقع لألشخاص الذين عاشوا يف القرن التاسع عشر عند والدهتم كان حوايل ً 30
سن كبرية ،وهؤالء املسنون
الثالثني ،فاألطفال ال ُكثر الذين ماتوا كانوا خيفِّضون من املتوسط ،مما ألغى أثر األشخاص الذين ماتوا يف ٍّ
العمر الذي تويف فيه سقراط قبل
عاما ،وهذا هو ُ موجودون يف كل جمتمع .يف زمن العهد القدمي ،قيل َّ
إن أيام عمرنا كانت حوايل سبعني ً
سبب طبيعي وإمنا بفعل ٍ
كأس من شراب الشوكران السام .كان كثريون من بني القبائل أوانه عام 399قبل احلقبة احلالية ،ليس نتيجة ٍ
اليت عاشت على الصيد ومجع الثمار يف السبعينيات والثمانينيات من عمرهم ،رغم َّ
أن متوسط العمر املتوقع المرأة من قبيلة اهلادزا عند
عاماَّ ،إال َّأهنا لو جتاوزت اخلامسة واألربعني ،فيمكنها أن تتوقع أن تعيش ً 21
عاما آخرين. والدهتا كان ً 32.5
عمرا أطول من عمر الناجني يف احلقب السابقة؟ أجل ،أطول ِ
إذًا فهل يعيش من ينجون منَّا من حمَن اإلجناب والطفولة اليوم ً
يوضح الشكل رقم 4-5متوسط العمر املتوقع يف اململكة املتحدة عند الوالدة ،ويف أعما ٍر خمتلفة ترتاوح بني العام وً 70
عاما، كثرياِّ .
ً
على مدار الثالثة قرون املاضية.
لشخص في السبعين
لشخص في الستين
لشخص في الخمسين
لشخص في األربعين
لشخص في الثالثين
العمر المتوقع
لشخص في العشرين
لطفل في العاشرة
لطفل في الخامسة
الشكل رقم :4-5متوسط العمر المتوقع في المملكة المتحدة منذ 1701حتى 2013المصدر ،Our World in Data :روزر .2016nبيانات األعوام السابقة على
1845تخص إنجلترا وويلز ومصدرها مشروع Clio Infraالتابع لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان االقتصادي) ،فان زاندن وآخرين .2014 ،وبيانات األعوام منذ
1845تخص أعوام منتصف العقد فقط ،ومصدرها .http://www.mortality.org/ ،Human Mortality Database
مهما كان عمرك ،فأمامك اآلن سنوات أكثر لتعيشها ممن كانوا يف نفس عمرك يف العقود والقرون السابقة ،فالطفل الرضيع
عاما يف
عاما يف ،1905وً 72
عاما يف ،1845وً 57
الذي جنا من السنة األوىل احلرجة من حياته ،كان العمر املتوقع أن يعيشه ً 47
عاما آخر يف ،1845و36
عاما كان من املتوقع أن يتطلع إىل ثالثني ً
عاما يف .2011والشخص الذي يبلغ ثالثني ً
،1955وً 81
عاما آخر يف .2011لو كان سقراط قد تعاىف يف عام ،1905لتوقَّع أن
عاما آخر يف ،1955وً 52
عاما آخر يف ،1905وً 43
ً
عاما يف 1845كان ما
عاما آخر يف .2011والشخص البالغ ً 80
حييا تسعة أعوام أخرى ،وعشرة أعوام أخرى يف ،1955وً 16
عاما يف .2011
زال يف عمره مخسة أعوام أخرى ،يف مقابل تسعة أعوام يف عمر البالغ ً 80
ٍ
بأعداد أقل (حىت اآلن) يف بقية أحناء العامل ،فالطفل اإلثيويب املولود عام 1950والذي وظهرت اجتاهات مشاهبة ،وإن كانت
عاما ،يف مقابل الطفل اإلثيويب الذي يبلغ 10سنوات واملولود حاليًا الذي من
يبلغ عمره 10سنوات كان من املتوقع أن يعيش ً 44
أن «التحسينات اليت جرت يف الصحة بني فقراء العامل خالل عاما .أشار االقتصادي ستيفن رادليت إىل َّ
املتوقع أن يعيش حىت ً 61
نادرا ما حتسنت الرفاهة َّ
العقود القليلة املاضية كبرية جدًّا ومنتشرة للغاية لدرجة أهنا تُصنَّف ضمن أعظم اإلجنازات يف تاريخ البشريةً .
األساسية لكث ٍري من الناس حول العامل هبذه الدرجة اهلائلة وهذه السرعة الكبرية ،ومع ذلك فال يعي حبدوث هذا التحسن سوى قلة
قليلة».
كال ،لن نقضي سنوات الشيخوخة اإلضافية من عمرنا يف كرسي هزاز ،فبالطبع كلما طال عمرك ،قضيت سنوات أكثر يف
أيضا يف مقاومة االعتداءات
ولكن األجسام األفضل يف مقاومة الضربات القاضية أفضل ً
مرحلة الشيخوخة ،بآالمها وأوجاعها احلتميةَّ ،
أيضا عنفواننا ،حىت لو مل ي ُكن ذلك بنفس عدد السنوات.
األقل خطورة كاملرض واإلصابة واإلهناك .مع زيادة املدى العمري ،يزداد ً
التحسن ليس فقط عرب
ُّ حاول مشروع بطويل يُدعى ( The Global Burden of Diseaseعبء املرض العاملي) قياس هذا
أيضا عرب حساب عدد
كل من األمراض واإلعاقات اليت يبلغ عددها ،291وإمنا ً
حساب عدد األشخاص الذين ميوتون فجأة بفعل ٍّ
كل من احلاالت املرضية جلودة حياهتم .قدَّر املشروع َّ
أن 56.8 مرجحة حسب درجة هتديد ٍّ
السنوات اليت يفقدوهنا من احلياة الصحيةَّ ،
عاما من احلياة اليت كان من املتوقع أن يعيشها شخص عادي يف العامل يف عام 1990هي أعوام يتمتع فيها بالصحة،
من أصل ً 67.5
عاما من بني األعوام اإلضافية املتوقعة
أيضا ،نعرف أنَّه ً 3.8
ويف الدول املتقدمة على األقل ،حيث توجد تقديرات متاحة لعام ً 2010
توضح هذه األرقام َّ
أن الناس يعيشون اليوم يف عاما واليت اكتسبناها خالل هذين العقدين ،متثِّل أعو ًاما صحيةِّ .
حلياتنا اليت تبلغ ً 4.7
كثريا من جمموع ما عاشه أسالفهم من سنوات يف الصحة والوهن سويًّا .ميثِّل اخلََرف اخلوف األكرب الذي ٍ ٍ
صحة مثالية سنوات أطول ً
تثريه احتمالية احلياة الطويلة لكث ٍري من الناس ،ولكن مفاجأة سارة أخرى ظهرت ،فبني عامي 2000و ،2012تراجع معدل اإلصابة
عاما.
عاما مبعدل الربع ،وارتفع متوسط سن تشخيص اإلصابة به من 80.7إىل ً 82.4
به بني األمريكيني الذين تتجاوز أعمارهم ً 65
هناك املزيد من األخبار السارة ،فاملنحنيات املوضحة يف الشكل رقم 4-5ليست جمرد رسوم تزخرف حياتك وتُقاس مبص ٍري
جتمد املعرفة
مثال ،وإمنا هي توقعات من إحصاءات حيوية حديثة مبنية على افرتاض ُّ
يوما ما مبقدار الثلث ً
من اثنني فقط وستنخفض ً
الطبية يف وضعها احلايل ،ال يصدق أحد هذا االفرتاض بالطبع ،ولكن ليس أمامنا خيار آخر يف غياب القدرة على استشفاف التقدم
كثريا -مما تشري إليه األرقام اليت قرأهتا على احملور الرأسي.
الطيب املستقبلي .يعين ذلك أنَّك ستعيش على األرجح أطول -ورمبا أطول ً
تابعا للرئيس بغرض التعامل
جملسا لألخالقيات البيولوجية ً
عني جورج بوش ً يشكو الناس كل شيء تقريبًا ،ففي عام َّ 2001
ٍ
بصحة أفضل .قضى رئيس هذا اجمللس ،الفيزيائي وتتسم مع اخلطر احملدق الناتج عن التقدم يف الطب البيولوجي الذي يَعِ ُد حبياة أطول
ُ
تعرب عن أمنية طفولية ونرجسية غري متوافقة مع االهتمام املخلص
بأن «الرغبة يف إطالة أمد الشباب ِّ و ِّ
املفكر اجلماهريي ليون كاسَّ ،
بالذرية ،و َّ
أن السنوات اليت ستُضاف إىل عمر اآلخرين ال تستحق أن يعيشوها (إذ سأل« :هل سيستمتع العبو التنس احملرتفون حقًّا
يفضل معظم الناس أن يتخذوا هذه القرارات بأنفسهم ،وحىت لو كان حمقًّا يف َّ
أن بلعب مباريات تنس أكثر مبقدار 25يف املئة؟»)ِّ .
ولكن حقيقة تكرار حتطُّم تأكيدات اخلرباء بشأن احلد األقصى املمكن ملتوسط
«الفناء جيعل للحياة أمهية» ،فطول العمر ال يعين اخللودَّ .
يوما ما من قيود الفناء
حد ويتحرر ً
عما إذا كان طول العمر سيزداد دون ٍّ تساؤال َّ
العمر املتوقع (بعد نشرها مبتوسط مخس سنوات) تثري ً
متاما .هل علينا أن نقلق بشأن عا ٍمل من ِّ
املعمرين املث َقلني الذين سيقاومون ابتكارات احملدثني يف التسعني من عمرهم ورمبا مينعون إجناب ً
متاما؟
األطفال املزعجني ً
مولوا مراكز حبثية ال هتدف إىل القضاء على الفناء
حياول عدد من احلاملني يف وادي السيليكون تقريب ذلك العامل إلينا ،فقد َّ
ٍ
نسخة خالية من ذلك العيب. مبحاربة ٍ
مرض تلو اآلخر ،وإمنا إىل اهلندسة العكسية لعملية الشيخوخة نفسها وترقية مكوناتنا اخللوية إىل
ستكون النتيجة كما يأملون زياد ًة يف املدى العمري لإلنسان إىل مخسني ،أو مئة ،بل وحىت ألف سنة ،وقد تنبأ املخرتع راي كورزوايل يف
كتابه الذي حقق أعلى املبيعات يف عام ( The Singularity Is Near ،2006اقرتبت نقطة التفرد)َّ ،
بأن من سيصل منَّا إىل
عام 2045سيعيش إىل األبد بفضل التقدم يف علم اجلينات والنانو تكنولوجي (مثل روبوتات النانو اليت ستسري يف جمرى الدم وتصلح
سيحسن ذكاءه الذايت بصورةٍ
ِّ أجسامنا من الداخل) والذكاء االصطناعي الذين لن يكتشف فقط كيفية القيام بكل هذه األمورَّ ،
وإمنا
متكررة دون حدود.
ايدا
حتسنًا متز ً
لقراء النشرات اإلخبارية الطبية واملصابني بوسواس املرض .حنن جند بالتأكيد ُّ
قليال َّ
تبدو احتماالت اخللود خمتلفة ً
عاما املاضية حبوايل نقطة مئوية
جديرا باالحتفاء ،مثل الرتاجع يف معدالت الوفيات الناجتة عن السرطان على مدار اخلمسة وعشرين ً
ً
أيضا بصورة متكررة بسبب العقارات السحرية اليت ال
ولكن أملنا خييب ً ٍ
شخص يف الواليات املتحدة وحدهاَّ ، سنويًّا ،وإنقاذ حياة مليون
تفيد أكثر من الدواء الومهي ،والعالج الذي تكون آثاره اجلانبية أسوأ من املرض نفسه ،والفوائد املعلنة اليت ُتتفي عند إجراء حتاليل ما
بعد العالجَّ .
إن التقدم الطيب اليوم أشبه مبحنة سيزيف االبدية وبعيد عن الثبات.
التطور
ولكن ُّ
عالجا للفناءَّ ، ِ
يوما ما ً مع افتقارنا إىل هبة النبوءة ،ال ميكن ألي شخص أن يعرف ما إذا كان العلماء سيجدون ً
يفضل واإلنرتوبيا يقلالن من احتمالية حدوث هذا ،فاهلَِرم مرتسخ يف اجلينوم اخلاص بنا على كل مستويات ترتيبهَّ ،
ألن االنتخاب الطبيعي ِّ
اجلينات اليت جتعلنا أكثر عنفوانًا يف صغرنا على اجلينات اليت جتعلنا نعيش أطول ٍ
وقت ممكن .يكمن فينا هذا االحنياز بسبب عدم التماثل
ٍ
حادث ال ميكن جتنبه مثل صاعقة الربق أو االهنيار األرضي، الزمين ،فهناك احتمالية غري مستحيلة ألن نلقى مصرعنا يف أي ٍ
حلظة نتيجة
مما جيعل ميزة أي زيادة مكلِّفة يف جني طول العمر مثار خالف .سيضطر علماء األحياء إىل إعادة برجمة آالف اجلينات أو املسارات
اجلزيئية ،اليت سيكون لكل منها أثر صغري وغري أكيد على طول العمر ،كي يفتحوا الباب للقفزة حنو اخللود.
إن أفضل تصور يف رأيي لنتيجة حربنا على املوت اليت استمرت عدة قرون هو قانون شتاين الذي ينص على َّ
أن «األمور اليت َّ
ال ميكن أن تستمر إىل األبد ،ال تستمر إىل األبد» ،وأصبح بعد تعديل ديفيس كوروالري« :األمور اليت ال ميكن أن تستمر إىل األبد،
كثريا مما تظن».
ميكنها أن تستمر وقتًا أطول ً
الفصل السادس:
الصحة
نفسر هدية احلياة اليت ُوِهبت إىل أجيال أكثر وأكثر من بين البشر منذ هناية القرن الثامن عشر؟ قد يعطينا التوقيت فكرًة ما.
كيف ِّ
كتب ديتون يف كتاب الهروب الكبير (« :)The Great Escapeمنذ مترد الناس على السلطة يف ظل التنوير ،وشرعوا يستخدمون
مكاسب طول
َ قوة املنطق يف حتسني حياهتم ،وجدوا طريقةً لفعل هذا ،ومما ال شك فيه أهنم سيواصلون االنتصار على قوى املوت» .إن
العمر اليت احتفينا هبا يف الفصل السابق هي غنائم االنتصارات على العديد من تلك القوى -مثل األمراض واجملاعات واحلروب وجرائم
كل منها.
القتل واحلوادث ،-ويف هذا الفصل والفصول التالية ،سأقص عليك حكاية ٍّ
كانت أعنف قوى املوت على مدار أغلب مراحل تاريخ اإلنسان هي األمراض املعدية ،وهي إحدى اخلصائص البغيضة للتطور
اليت تتيح لكائنات صغرية سريعة التكاثر أن حتيا على حسابنا وتتنقل من جس ٍم إىل آخر عرب احلشرات والدود واملخلفات اجلسدية.
كانت األوبئة تقتل البشر باملاليني وتبيد حضارات بأكملها ،وحيل بالبؤس املفاجئ على مجاعات سكانية حملية .وأحد األمثلة على ذلك
احلمى الصفراء ،وهو مرض فريوسي ينتقل عن طريق البعوض ،وأُطلق عليه هذا االسم ألنه كان حييل لون ضحاياه إىل األصفر قبل أن
ميوتوا من األمل .ووف ًقا لرواية عن الوباء الذي اكتسح مدينة ممفيس عام ،1878فقد «زحف املرضى إىل حف ٍر وأجسامهم ملتوية ،ومل
[وعثر على جثة أم] ممددة على الفراش ،وحوهلا من كل جانب قيءتُكتشف جثثهم سوى بسبب الرائحة الكريهة الناجتة عن حتللهاُ ،
أسود يشبه القهوة املطحونة ،وأطفاهلا يتدحرجون على األرض ويتأوهون».
أيضا ،ففي عام 1836تويف أغىن رجل يف العامل آنذاك ،ناثان ماير روثتشايلد ،نتيجة خراج مصاب بالعدوى. ومل يسلم األغنياء ً
كما مل يسلم أصحاب السلطة ،فقد انتهت حياة كث ٍري من حكام بريطانيا بفعل الزحار واجلدري وااللتهاب الرئوي والتيفوئيد والدرن
أيضا معرضني لإلصابة باألوبئة ،فم ِرض ويليام هنري هاريسون بعد حفل تنصيبه بفرتةٍ قصرية يف عام 1841
واملالريا .وكان رؤساء أمريكا ً
وتويف نتيجةً صدمة إنتانية بعد 31يوما ،ومات جاميس بولك متأثرا بالكولريا بعد ترك منصبه بثالثة أشهر يف عام .1849ويف ٍ
وقت ً ً
قريب ،عام ،1924تويف ابن الرئيس األمريكي آنذاك ،كالفن كوليدج االبن ،يف السادسة عشرة من عمره إثر بثرة ملتهبة أصابته أثناء
لعب التنس.
دائما املرض بصوٍر متنوعة من الدجل مثل الصالة ،والتضحية ،والفصد ،واحلجامة ،وإخراج لطاملا حارب اإلنسان العاقل املبدع ً
املعادن السامة ،واملعاجلة املثلية ،وإسالة دماء دجاجة على عضو اجلسم املصاب حىت متوت ،ولكن بدءا من اخرتاع اللقاحات يف القرن
الثامن عشر ،وسرعة إنتاجها يف القرن التاسع عشر مع قبول نظرية جر ِ
ثومية املرض ،بدأت موازين املعركة تنقلب .فجاء الغسيل اليدوي
وخدمات القبالة ومكافحة البعوض ومحاية مياه الشرب عن طريق شبكات الصرف العامة ومعاجلة مياه الصنبور بالكلور لينقذ حياة
سائال بنيًّا
اكما يف املدن ،والنفايات متأل األهنار والبحريات ،وسكان املدن يشربون ً
مليارات البشر .قبل القرن العشرين ،كان الروث مرت ً
(ولد عام عفنًا ويغسلون به مالبسهم ،وكان الناس يلقون اللوم يف األوبئة على امليازما -اهلواء كريه الرائحة -حىت توصل جون سنو ُ
أن املياه اليت كان يتناوهلا سكان لندن املصابون بالكولريا جاءت من ماسورة سحب 1813وتويف عام 1858م) ،أول عامل أوبئة ،إىل َّ
هائال إذ كانوا ينتقلون بني تشريح اجلثث وفحص املرضى مرتدين
خطرا صحيًّا ً ِّ
من الصرف الصحي .وكان األطباء أنفسهم يشكلون ً
معاطف سوداء مغطاة بالصديد والدم اجلافني ،ويفحصون جروح مرضاهم ٍ
بأياد متسخة ،وخييطوهنا باخليوط املوجودة يف عراوي أزرار
(ولد عام 1827وتويف عام )1912 (ولد عام 1818وتويف عام )1865وجوزيف ليسرت ُ مالبسهم ،حىت جعلهم إجينز سيملفيس ُ
بدال من أن تعذهبم وتشوههم ،وصدت املضادات يعقِّمون أياديهم ومعداهتم .جعلت املطهرات والتخدير ونقل الدم اجلراحة تعاجل املرضى ً
احليوية ومضادات السموم والتقدمات الطبية األخرى اليت ال حتصى هجمات الطاعون والوباء.
ولكن مرتكبيها يقبعون يف الدائرة
رمبا مل حتتل خطيئة نكران اجلميل قائمة اخلطايا السبع املميتة (الذنوب الكاردينالية) يف املسيحيةَّ ،
التاسعة من اجلحيم وف ًقا لدانيت ،وه ناك قد جتد الثقافة الفكرية يف حقبة ما بعد ستينيات القرن املاضي بسبب نسياهنا التام ملن قضوا
كنت صبيًّا ،كان من األصناف األدبية الرائجة لألطفال السري الذاتية البطولية للرواد
دائما كذلك ،فعندما ُ على األمراض .مل ي ُكن الوضع ً
يف الطب مثل إدوارد جينر ولويس باستور وجوزيف ليسرت وفريدريك بانتنج وتشارلز بست وويليام أولسر وأليكساندر فليمنج .يف 12
أن اللقاح الذي اكتشفه جون سالك ضد شلل األطفال -املرض الذي تسبب يف وفاة آالف يق من العلماء َّ
من أبريل ،1955أعلن فر ٌ
األشخاص سنويًّا ،وإصابة فرانكلني روزفلت بالشلل ،وحبس العديد من األطفال داخل الرئة احلديدية -ثبت كونه آمنًا .ووف ًقا لتأريخ
ريتشارد كارتر هلذا االكتشاف ،فالناس يف ذلك اليوم «وقفوا دقيقة صمت ،وقرعوا األجراس واألبواق وأطلقوا صافرات املصانع وأطلقوا
ٍ
حبماس ،وشربوا األخناب ،وعانقوا أطفاهلم، احتفاال ،واسرتاحوا من العمل بقية اليوم ،وأغلقوا املدارس أو جتمعوا داخلها
ً النريان يف اهلواء
كب تُنثر فيه الشرائط وذهبوا إىل الكنائس ،وابتسموا يف وجوه الغرباء ،وساحموا أعداءهم» .عرضت مدينة نيويورك تكرمي سالك مبو ٍ
لالحتفال ،وهو ما رفضه سالك ٍ
بذوق.
ٍ
شخص فقط باكتشاف فصائل الدم ،وماذا عن مؤخرا؟ كارل َمن؟ إنَّه من أنقذ حياة مليار
كم مرة فكرت يف كارل الندشتاينر ً
هؤالء األبطال اآلخرين؟
أجل« ،كان اجلدري» ،فاملرض الذي استمد امسه من البثور املؤملة اليت تغطي جلد الضحية وفمها وعينيها ،والذي تسبب يف وفاة
أكثر من ثالمثئة مليون شخص يف القرن العشرين ،مل ُيعد له وجود( .مت تشخيص آخر حالة هبذا املرض يف الصومال عام .)1977
كال من إدوارد جينر الذي اكتشاف اللقاح عام ،1796ومنظمة الصحة العاملية اليت غامرت يف عام 1959بوضع وميكننا أن نشكر ًّ
هدف للقضاء على املرض ،وويليام فيجي الذي اكتشف َّ
أن تطعيم جمموعة قليلة ،ولكن خمتارة بعناية واسرتاتيجية ،من الفئات األكثر
عرضة لإلصابة سيؤدي الغرض ،وغريهم الكثري على هذا االنتصار املعنوي املذهل .يعلِّق االقتصادي تشارلز كيين يف كتاب التعافي
)ً (Getting Better
قائال:
كانت التكلفة اإلمجالية للربنامج على مدار تلك السنوات العشرة حوايل 312مليون دوالر أمريكي ،أي تقريبًا 32سنتًا
أمريكيًّا للشخص يف البلدان املصابة باملرض .لقد كلَّف برنامج القضاء على املرض نفس تكلفة صنع مخسة أفالم هوليوودية
حديثة ضخمة اإلنتاج واألرباح ،أو جناح قاذفة القنابل ،B-2أو اقل من ُعشر تكلفة مشروع تطوير الطريق األخري يف
بوسطن والذي يُطلق عليه «احلفر الكبري» .وبقدر ما يعجب املرء مبشهد الضفة يف بوسطن بعد تطويرها ،وبشكل حواف
القاذفة الشبحية ،أو مهارات كريا نايتلي يف التمثيل يف فيلم قراصنة الكارييب أو مهارات الغوريال يف فيلم كينج كونج ،يظل
علي أن أتفق مع ذلك. جلال ،ورغم كوين أحد سكان ضفة النهر يف بوسطنَّ ،إال َّ
أن َّ هذا الربنامج حدثًا ً
االلتهاب الرئوي
اإلسهال
الحصبة المالريا
فيروس /HIVإيدز
يق من خرباء الصحة بقيادة االقتصاديان دين جاميسون ولورانس سامرز خريطة طموحا على اإلطالق ،وضع فر ٌ
ً ويف أكثر اخلطط
طريق «التقارب الكبري يف الصحة العاملية» حبلول عام ،2035حيث يتوقع أن تكو َن معدالت الوفيات الناجتة عن األمراض املعدية،
ووفيات األمهات واألطفال ،يف كل ٍ
مكان يف العامل ،قد اخنفضت إىل مستوياهتا املوجودة اليوم يف الدول متوسطة الدخل اليت تتمتع
بأفضل ٍ
صحة.
وبقدر ما هو اهلجوم على األمراض املعدية يف أوروبا وأمريكا مذهل ،فإن التقدم املتواصل يف الدول الفقرية على مستوى العامل
ويكمن جزءٌ آخر يف
ألن العامل األغىن عاملٌ أكثر صحةُ ،ويكمن جزءٌ من السبب يف التنمية االقتصادية (الفصل الثامن)َّ ،إهباراُ ،أكثر ً
دائرة التعاطف املمتدة ،اليت أهلمت قادة العامل مثل بيل جيتس وجيمي كارتر وبيل كلينتون جلعل اإلرث الذي سيخلِّفونه هو صحة
عوضا عن ٍ
مبان َّبراقة يف أوطاهنم ،وأثىن على جورج بوش االبن حىت أشد منتقديه بسبب سياسته يف اإلغاثة من ٍ
الفقراء يف قارات بعيدة ً
اإليدز يف إفريقيا ،اليت أنقذت حياة املاليني.
ولكن املساهم األقوى هو العلم ،وكما يقول ديتون« :املعرفة هي السر ،أما الدخل -رغم أمهيته لذاته ولكونه أحد مكونات الرفاهة
أيضا -فليس هو السبب األكرب يف الرفاهة» .ال تقتصر مثار العلم على املستحضرات الدوائية عالية التقنية مثل اللقاحات واملضادات
أيضا من أفكا ٍر ،أفكا ٍر قد تبدو بأثر رجعي واضحة ويبدو
احليوية ومضادات الفريوسات القهقرية وأقراص طرد الديدان ،ولكنَّها تتكون ً
تنفيذها منخفض التكلفة ،ولكنها أنقذت حياة املاليني ،ومن األمثلة على ذلك غلي املياه أو تنقيتها أو إضافة الكلور إليها ،وغسل
بدال من احلقول
األيدي ،وإعطاء مكمالت اليود للحوامل ،وإرضاع حديثي الوالدة رضاعةً طبيعية واحتضاهنم ،والتغوط يف املرحاض ً
ٍ
مبحلول من امللح والسكر والشوارع واملمرات املائية ،ومحاية األطفال أثناء نومهم بناموسيات معاجلة باملبيدات احلشرية ،وعالج اإلسهال
املذابني يف مياه نظيفة .ويف املقابل ،قد ينتكس التقدم بفعل األفكار السيئة ،مثل نظرية املؤامرة اليت نشرهتا مجاعتا طالبان وبوكو حرام،
إن اللقاحات تعقِّم الفتيات املسلمات ،أو اليت نشرها النشطاء األمريكيون املرفهون واليت تقول َّإهنا تسبِّب ُّ
التوحد ،ويذكر اليت تقول َّ
ديتون أنَّه حىت الفكرة اليت تقع يف مركز مفهوم التنوير َّ -
أن املعرفة جتعلنا أفضل -رمبا ُمتثِّل اكتشافًا يف بعض أحناء العامل حيث استسلم
حيسنها. الناس لضعف صحتهم ومل حيلموا قط َّ
بأن التغيري يف مؤسساهتم وأعرافهم قد ِّ
الفصل السابع:
المعيشة
فضالً عن الشيخوخة والوالدة ومسببات األمراض ،فقد خدعنا كلٌّ من التطور واإلنرتوبيا خدعةً شريرًة أخرى ،وهي حاجتنا غري املنقطعة
ني من اجلوع» -أي السنوات شكلت اجملاعة جزءا من احلالة البشرية ،فالكتاب املقدس العربي حيكي عن «سبع سن ٍ إىل الطاقة .لطاملا َّ
ً
العجاف -يف مصر ،وحيكي اإلجنيل املسيحي عن اجملاعة بوصفها أحد فرسان الرؤيا األربع .وحىت بعد ٍ
وقت طويل من بداية القرن التاسع
عشر ،كان فساد احملصول بإمكانه أن جيلب البؤس إىل أغىن أحناء العامل ،يقتبس يوهان نوربرج ذكرى طفولة أحد املعاصرين ألحد أسالفه
يف شتاء عام 1868يف السويد فيقول:
يعز على أي أم أال يكون لديها أي طعام تقدمه ألطفاهلا اجلائعني، كثريا ما نرى إحدى األمهات تبكي وحدها ،وكان ُّ "كنا ً
مزرعة إىل أخرى يتسولون بضع لقيمات من اخلبز .وقد جاء إلينا يفوكنا كثريا ما نرى األطفال اجلوعى اهلزيلني ينتقلون من ٍ
ً
أحد األيام ثالثة أطفال يبكون ويتسولون شيئًا لسد جوعهم ،ومع األسف ،فقد اضطرت أمنا ،والدموع متأل عينيها ،إىل
أن ُتربهم بأننا ال منلك سوى بضع لقيمات من اخلبز وأننا حنتاج إليها .عندما رأينا حنن األطفال ال َكَرب يف عيون األطفال
اجملهولني املتوسلة ،انفجرنا يف البكاء وتوسلنا إىل أمنا أن تقامسهم الفتات الذي منلكه .انصاعت إىل طلبنا بعد ٍ
تردد ،التهم
كثريا عن منزلنا ،ويف اليوم التايل ،عُثر على
األطفال اجملهولون الطعام مث مضوا يف طريقهم إىل املزرعة التالية ،واليت كانت تبعد ً
جثثهم الثالثة يف الطريق بني مزرعتنا واملزرعة التالية".
تكمن مشكلتنا يف قلة السعرات احلرارية وإمنا يف وفرهتا ،فكما ذكر املمثل الكوميدي كريس
حنن نعيش اليوم يف أرض كوكني ،وال ُ
ٍ
بغضب روك« :هذا أول جمتمع يف التاريخ يكون فيه الفقراء بدناء» .يتذمر النقاد االجتماعيون للمجتمع احلديث من وباء السمنة املفرطة
رمبا يتناسب مع اجملاعة على سبيل املثال ،بنكران اجلميل املعهود من العامل األول (وهذا عندما ال يتذمرون من وصم البدناء ،أو عارضات
أن السمنة املفرطة تُعد بالطبع مشكلة صحية عامة ،ولكنها مشكلة جيدة بالنظر إىل املوضة النحيفات ،أو اضطرابات األكل) ،ورغم َّ
مقاييس التاريخ.
إن اجلوع الذي يربطه كثريٌ من الغربيني بأفريقيا وآسيا ليس ظاهرةً حديثة بأي ٍ
شكل من األشكال ،فلطاملا ماذا عن بقية العامل؟ َّ
ألن ماليني الناس كانوا يقتاتون على األرز الذي كان يُروى يف مواس ٍم غري منتظمة أو
كانت كلٌّ من اهلند والصني عرضةً للمجاعاتَّ ،
بأنظمة ري هشة وكان جيب نقله مسافات كبرية .حيكي براودل شهادة تاجر هولندي كان يف اهلند أثناء إحدى اجملاعات يف عامي
1630و ،1631فيقول:
«هجر الناس البلدات والقرى وهاموا على وجوههم عاجزين عن أي شيء ،وكان يسهل إدراك حالتهم ،فكانت أعينهم
غائرة إىل الداخل ،وشفاههم شاحبة ومغطاة مبادة لزجة ،وجلدهم جاف ،وعظامهم بارزة ،وبطوهنم ليست سوى جرابًا
حمتضرا مبأساوية» .وكان يتبع ذلك كل
ً جوعا ،ويتمدد اآلخر جواره على األرضفار ًغا متدليًّا ..كان أحدهم يبكي وينوح ً
املآسي اإلنسانية املأ لوفة ،فكان اآلباء يهجرون الزوجات واألطفال ،ويبيعون أطفاهلم ،وقد يبيعون أنفسهم هبدف النجاة،
شق فيها اجلائعون بطون املوتى أو احملتضرين «ونزعوا األحشاء مللء
انتحارا مجاعيًّا ..مث جاءت مرحلة َّ
ً وكان الناس ينتحرون
جوعا ،فكان البلد بأكمله مغطى باجلثث املتناثرة دون أن تُدفن ،مما بعث رائحة نتنة يف
بطوهنم»« .مات مئات اآلالف ً
ٍ
لدرجة مألت اهلواء كله وأصابته ..يف قرية سوسونرتا..كان حلم البشر يُباع يف السوق املفتوحة». اجلو
ولكن العامل يف األزمنة احلديثة نَعِ َم بتقدٍُّم جدير باملالحظة ،ولكنه غري ملحوظ ،فرغم أعداد سكان العامل النامي املتزايدة ،إال أنه
َّ
قادر على إطعام نفسه ،ويتضح هذا أكثر يف الصني ،اليت يستطيع كلٌّ من سكاهنا الذين يبلغ عددهم 1.3مليار نسمة احلصول على
شاب شديد النشاط وف ًقا إلرشادات احلكومة األمريكية ،بينما حيصل متوسط 3100سعر حراري يف اليوم ،وهو العدد الذي حيتاج إليه ٌ
لشابة شديدة النشاط أو رجل سكان اهلند الذين يبلغ عددهم املليار نسمة على متوسط 2400سعر حراري ،وهو العدد املوصى به ٍ
نشيط يف منتصف العمر ،ويرتاوح الرقم اخلاص بإفريقيا بني االثنني مبتوسط 2600سعر حراري .يظهر الشكل رقم ،1-7الذي حيدد
بالرسم عدد السعرات احلرارية املتاحة لعينة متثيلية من الدول املتقدمة والنامية وعن العامل كله ،منطًا مألوفًا يشبه الرسوم البيانية السابقة،
يظهر حتس ٌن سريع يف أوروبا والواليات املتحدة على مدار العقدين حيث توجد مصاعب يف كل مكان قبل القرن التاسع عشر ،فيما ُ
التاليني له ،مث يلحق هبما بقية العامل يف العقود األخرية.
الواليات المتحدة
السعرات الحرارية للفرد يوم ًّيا
إنجلترا العالم
الهند
فرنسا
الصين
ماما كاس (كاس إليوت) هي مطربة وممثلة أمريكية ،واقتبس الكاتب عبارة من كلمات إحدى أغنياتها التي تقول فيهاNo one’s getting fat :
- .except Mama Cassالمترجمة
بنجالديش
النسبة المئوية لألطفال متوقفي النمو تحت سن الخامسة
كينيا
كولومبيا
الصين
الواليات المتحدة
يقدم الشكل رقم 3-7نظرةً أخرى على كيفية إطعام العامل للجائعني ،ويوضح معدل نقص التغذية (قضاء ٍ
عام أو أكثر على
كمية ٍ
طعام غري كافية) يف الدول النامية يف مخس مناطق ،ويف العامل أمجع.
النسبة المئوية لألشخاص الذين يعانون من نقص التغذية في العالم النامي
جنوب آسيا
شرق آسيا
أمريكا الالتينية
كان معدل نقص التغذية يف الدول املتقدمة ،اليت ال تشملها هذه التقديرات ،أقل من 5يف املئة خالل هذه الفرتة بأكملها ،وهي
أن 13يف املئة من سكان العامل النامي يعانون من نقص التغذية ،وهي نسبة كبرية جدًّا ،إال أهنا أفضل نسبة ال تُذكر إحصائيًّا .ورغم َّ
من 35يف املئة اليت كانت نسبة الذين يعانون من نقص التغذية قبل مخسة وأربعني سنة ،أو 50يف املئة اليت كانت نسبتهم التقديرية
أن هذه األرقام عبارة عن نسب ،فقد زاد عدد سكان يف العامل بأكمله عام ( 1947وهذا العام غري مذكور يف الرسم البياين) .تَ َّ
ذكر َّ
أن العامل بينما كان خيفِّض معدل اجلوع ،كان يف الوقت نفسه ٍ
شخص تقريبًا خالل تلك السنوات السبعني ،مما يعين َّ العامل خبمسة مليار
يُطعم مليارات األفواه اإلضافية.
ٍ
بأعداد أيضا اجملاعات الكارثية ،وهي الكوارث اليت تقتل الناس
مل ترتاجع معدالت نقص التغذية املزمنة فحسب ،بل تراجعت ً
كبرية وتتسبَّب يف انتشار اهلزال (وهي احلالة اليت يكون فيها املرء أقل من وزنه املتوقع مبقدار قيميت احنراف معياري) والكواشيوركور (مرض
يوضح الشكل رقم 4-7عدد الوفيات رمزا للمجاعة)ِّ .
نقص الربوتني الذي تسبَّب يف انتفاخ بطون األطفال يف الصور اليت أصبحت ً
عاما املاضية ،بالنسبة إىل تعداد سكان العامل يف ذلك الوقت. ٍ
يف اجملاعات الكربى يف كل عقد خالل املئة ومخسني ً
معدل الوفيات بسبب المجاعات لكل 100,000شخص لكل عقد
كتب االقتصادي ستيفن ديفرو يف عام 2000يلخص التقدُّم الذي أحرزه العامل يف القرن العشرين ،فقال:
«يبدو أنه قد مت القضاء افرتاضيًّا على إمكانية حدوث اجملاعات يف كل املناطق خارج أفريقيا ..ويبدو َّ
أن مشكلة اجملاعة
بوصفها مشكلة مستوطنة يف آسيا وأوروبا قد أصبحت يف طيات التاريخ ،فقد سقط لقب «أرض اجملاعة» املقيت عن
الصني وروسيا واهلند وبنجالديش ،والتصق منذ سبعينيات القرن املاضي بإثيوبيا والسودان فقط.
إضافةً إىل ذلك ،فقد انقطع الرابط بني فساد احملصول واجملاعة ،إذ متت مواجهة أزمات الطعام األخرية الناجتة عن
اجلفاف أو الفيضانات مبساعدات إنسانية حملية ودولية.
وإذا تواصل هذا االجتاه ،فسينتهي القرن العشرون وهو حيمل صفة القرن األخري الذي مات فيه عشرات املاليني
بسبب نقص الطعام.
أيضا ،وكانت هناك جماعات يف شرق وهذا االجتاه حىت اآلن يف تواصل ،ما زال هناك جوع حىت بني الفقراء يف الدول املتقدمة ً
إفريقيا عام 2011ويف الساحل اإلفريقي يف 2012ويف جنوب السودان يف ،2016وجماعات وشيكة يف الصومال ونيجرييا واليمن،
ولكنها مل تتسبب يف وفاة أشخاص بنفس قدر الكوارث اليت كانت أحداثًا عادية يف القرون السابقة.
أن اجملاعات املتكررة يف عصره كانت حتمية أي من هذا ،ففي عام 1798أوضح توماس مالتوس َّ مل ي ُكن من املفرتض أن حيدث ٌّ
ألن «عدد السكان يتزايد عند تركه دون رقابة مبتوالية هندسية ،يف حني ال يتزايد «حد الكفاف» ال ميكن جتنبها و َّأهنا ستزداد سوءًا َّ
سوى مبتوالية حسابية (عددية) .ستؤدي املعرفة البسيطة باألرقام إىل فهم جسامة القوة األوىل مقارنةً بالثانية» .يعين هذا ضمنًا َّ
أن اجلهود
أيضا بدورهم. ٍ
يدا من األطفال احملكوم عليهم باجلوع ً املبذولة إلطعام اجلائعني لن تؤدي سوى إىل مزيد من الشقاء ،ألهنم سينجبون مز ً
ٍ
حبماس شديد ،ففي عام 1967ألف كلٌّ من ويليام وبول انتعش الفكر املالتوسي -نسبةً إىل توماس مالتوس -منذ ٍ
وقت قريب
بادوك ( )William and Paul Paddockكتاب المجاعة ،(Famine 1975 ( 1975ويف عام 1968ألَّف عامل
األحياء بول إيرليش ( )Paul R. Ehrlichكتاب القنبلة السكانية ) (The Population Bombالذي أعلن فيه َّ
أن
جوعا حىت املوت حبلول الثمانينيات. «معركة إطعام كل البشرية قد انتهت» وتنبَّأ َّ
أن 65مليون أمريكي و 4ماليني آخرين سيتضورون ً
عرف قراء جملة نيويورك تاميز ألول مرة املصطلح املستخدم يف املعارك الفرز ( )triageوهو ممارسة تتم يف حاالت الطوارئ ،إذ يتم فرز
ٍ
بشخص من حججا فلسفية حول ما إذا كان من املقبول أخالقيًّا اإللقاء ً أيضا
اجلرحى من اجلنود إىل قابلني لإلنقاذ وهالكني ،وعرفوا ً
مركب إنقاذ مزدحم حلمايته من االنقالب والتسبب يف غرق اجلميع .دافع إيرليش ونشطاء بيئيون آخرون عن وقف املساعدات الغذائية
ميؤوسا منها .أحبط روبرت ماكنمارا ،رئيس البنك الدويل منذ عام 1968حىت ،1981فكرة متويل ٍ
عن الدول اليت اعتربوها حاالت ً
ألن املرافق الصحية تسهم عادةً يف تراجع معدالت الوفيات ،وبالتايل يف الرعاية الصحية «إال إذا ارتبطت ارتباطًا وثي ًقا بتنظيم السكانَّ ،
االنفجار السكاين» ،وأجربت برامج تنظيم السكان يف اهلند والصني (وخاصةً يف ظل سياسة الطفل الواحد اليت اتبعتها الصني) النساء
على اخلضوع لعمليات التعقيم واإلجهاض وزرع أجهزة اللولب الرمحي املؤملة واملسببة إلنتان الدم.
أين أخطأ مالتوس يف حساباته؟ بالنظر إىل أول منحىن ذكره ،رأينا بالفعل َّ
أن النمو السكاين ال يتزايد بالضرورة مبتوالية هندسية إىل
أطفاال أقل .ويف املقابل ،ال تؤدي اجملاعات إىل خفضألن الناس عندما يزدادون غىن وينجو املزيد من صغارهم ،ينجبون ً ما ال هنايةَّ ،
يعوض الناجون
بشكل غري متناسب ،وعندما تتحسن األوضاع ،سرعان ما ِّ ٍ النمو السكاين لفرتةٍ طويلة ،فهي تقتل األطفال واملسنني
تعداد السكان ،فكما قال هانس روزلينج« :ال ميكنك وقف النمو السكاين برتك األطفال الفقراء ميوتون».
وبالنظر إىل املنحىن الثاين ،سنكتشف َّ
أن اإلمداد من الطعام ميكن أن ينمو مبتوالية هندسية عند تطبيق املعرفة يف زيادة كمية الغذاء
اليت ميكن احلصول عليها من رقعة من األرض .يقوم البشر بتعديل النباتات واحليوانات جينيًّا منذ نشأة الزراعة قبل عشرة آالف سنة عن
السلَف
طريق القيام بالتناسل االنتقائي لتلك اليت حتتوي على سعرات حرارية أكثر ومستوى مسية أقل ويسهل زرعها وحصادها .كان َ
الربي لنبات الذرة عشبًا له بضع بذور قوية ،وكان شكل َسلَف اجلزر وطعمه يشبه اهلندباء الربية ،وكانت أسالف العديد من الفواكه
ولكن
بدال من اللب الطري ،وتالعب املزارعون املاهرون بالري واحملاريث واألمسدة العضويةَّ ، مريرة والذعة وتغلب عليها البذور الصلبة ً
دائما!
مالتوس كان لديه القول الفصل ً
يوجهون هذا املنحىن إىل األعلى سوى يف عصر التنوير والثورة الصناعية يف رواية جوناثان سويفت الصادرة
مل يعرف الناس كيف ِّ
بدال من ورقة واحدة بدال من ٍ
عود واحد أو ورقتني من النبات ً عام ،1726قال ملك بروبدجنناج جلوليفر« :من يُنبِت عودين من الذرة ً
يوضح لنا الشكل رقم ،1-7
يستحق أفضل ما لدى البشرية ،ويقدم لبلده خدمة حيوية أكثر مما يفعل الساسة كلهم جمتمعني» .وكما ِّ
فقد نبت بالفعل املزيد من أعواد الذرة ،فيما أطلق عليه الثورة الزراعية الربيطانية ،وبعد تطبيق الدورة الزراعية للمحاصيل وإجراء حتسينات
على احملاريث وآالت زرع البذور ،ظهرت امليكنة ،فحل الوقود األحفوري حمل العضالت البشرية واحليوانية .يف منتصف القرن التاسع
شخص واحد
ٌ رجال ،أما اليوم فيمكن أن يفعل هذا
كامال من مخسة وعشرين ً يوما ً عشر ،كان حصاد طن من احلبوب وطحنه يستغرق ً
صادة يف ست دقائق. يشغِّل احل َّ
أيضا إحدى املشاكل املالزمة للغذاء ،فكما يعرف أي شخص يزرع الكوسا يف أغسطس ،فإن الكثري من احملصول حتل اآلالت ً
ولكن توفر السكك احلديدية والقنوات والشاحنات ومستودعات احلبوب متوفرا مرة واحدة ،مث سرعان ما يفسد أو تأكله اآلفاتَّ ، يصبح ً
ولكن الدفعة
والتربيد وازن بني فرتات ذروة العرض وفرتات اخنفاضه ،وواءمها مع الطلب ،ونسقها باملعلومات اليت تعرب عنها األسعارَّ .
اهلائلة حقًّا جاءت من الكيمياء ،يرمز حرف الـ Nيف الرمز ،SPONCHوهو اختصار للعناصر الكيميائية اليت ِّ
تشكل اجلزء األكرب
من أجسامنا ،إىل النيرتوجني ،وهو أحد املكونات الرئيسية للربوتني واحلمض النووي والكلوروفيل واألدينوسني ثالثي الفوسفات ناقل
الطاقة .توجد ذرات النيرتوجني بوفرة يف اجلو ولكنَّها ترتبط يف ثنائيات (ومن هنا جاءت الصيغة الكيميائية )2Nيصعب فصلها كي
تستطيع النباتات استخدامها .أتقن كارل بوش يف عام 1909العملية اليت اخرتعها فريتز هاربر ،اليت استخدمت امليثان والبخار
مساد على ٍ
نطاق صناعي ،ليحل حمل الكميات اهلائلة من فضالت الطيور اليت كانوا حيتاجون الستخراج النيرتوجني من اهلواء وحتويله إىل ٍ
إليها قبل ذلك إلعادة النيرتوجني إىل الرتبة املستنزفة .يأيت هذان الكيميائيان على قمة قائمة علماء القرن العشرين الذين أنقذوا حياة
أكرب عدد من الناس يف التاريخ ،وهذا العدد هو 2.7مليار شخص.
اخنفاضا
ً باندفاع شديد بينما اخنفضت األسعار الفعلية
ٍ انس املتوالية احلسابية ،ففي القرن املاضي ،ازدادت حماصيل احلبوب
لذا َ
كبريا ،فمقدار التوفري الذي حدث مذهل ،ولو كان الغذاء املزروع اليوم قد ُزِرع بتقنيات الزراعة اليت سبقت النيرتوجني ،لكنا احتجنا إىل
ً
ٍ
مثال .كان األجر يف الساعة يف الواليات املتحدة يف عام 1901يعادل حوايل ثالثة أرباع جالون من احلليب (أي أرض مبساحة روسيا ً
لرتا .وتضاعف كذلك املقدار الذي ميكن شراؤه من أي غذاء آخر ٍ
ما يقرب من 3لرتات) ،وبعد قرن ،أصبح األجر نفسه يعادل ً 15
ساعة من العمل ،من رطل من الزبدة إىل مخسة أرطال ،ومن دستة بيض إىل اثنيت عشرة دستة ،ومن رطلني من حلم اخلنزير إىل بأجر ٍ
رطال.
مخسة أرطال ،ومن تسعة أرطال من الدقيق إىل تسعة وأربعني ً
تفوق نورمان بورلوج ،وهو واحد من الذين أنقذوا حياة الكثريين ،يف اخلمسينيات والستينيات ،على التطور إلطالق الثورة اخلضراء
كثريا من الطاقة واملواد الغذائية يف سيقاهنا اخلشبية اليت حتمل أوراقها وزهورها وترفعها أعلى
يف العامل النامي .تستثمر النباتات بطبيعتها ً
من ظل احلشائش اجملاورة بعضها لبعض ،ومثل اجلمهور يف حفالت الروك ،يقف اجلميع ولكن ال يرى أح ٌد أفضل من غريه .وهكذا
يعمل التطور ،فهو ينتقي بقصر نظ ٍر لصاحل املزايا الفردية ،وليس للصاحل العام للنوع ،وال لصاحل األنواع األخرى ،فمن وجهة نظر املزارع،
ُتصبها األمسدة فإهنا تنهار بسبب وزن البذور
ال تكتفي نباتات القمح الطويلة بإهدار الطاقة يف السيقان اخلشبية فحسب ،بل وعندما ِّ
فهجن اآلالف من سالالت القمح ،مث انتقى النسل ذا السيقان القصرية والغالل الكثرية واملقاوم للصدأ الثقيل .حتكم بورلوج يف التطورَّ ،
طور بورلوج سالالت من القمح (مث الذرة واألرز) والذي ال يتأثر بطول اليوم ،وبعد عدة سنوات من هذا العمل اململ اجملهد للذهنَّ ،
حول
غالال أكثر من أسالفها بعدة أضعاف .وعرب مجع هذه السالالت بالتقنيات احلديثة يف الري والتسميد وإدارة احملاصيلَّ ، تنتج ً
ليلة وضحاها .تواصلت الثورةودوال أخرى كانت عرضة للمجاعات ،إىل دول مصدِّرة للحبوب بني ٍ بورلوج املكسيك مث اهلند وباكستان ً
ُ
اخلضراء -اليت أشري إليها بأهنا السر األفريقي الدفني -مدفوعةً بالتحسينات اليت جترى على السورغم والدُّخن والكسافا والدرنات.
بفضل الثورة اخلضراء ،أصبح العامل حيتاج إىل مساحة من األرض أقل مبقدار الثُلث من املساحة اليت كان حيتاج إليها إليها من قبل
إن مساحة األرض املستخدمة لزراعة األغذية زادت يقة أخرى عن تلك النعمة ميكن أن نقول َّ إلنتاج مقدا ٍر ما من الغذاء ،وللتعبري بطر ٍ
ولكن مقدار الغذاء الذي متت زراعته زاد بنسبة 300يف املئة .إضافةً إىل هزمية اجلوع،بني عامي 1961و 2009بنسبة 12يف املئةَّ ،
فإن القدرة على زراعة املزيد من الغذاء باستهالك مساحات أقل من األرض كانت مفيدة للكوكب على وجه العموم .فعلى الرغم من َّ
السحر الريفي يف املزارعَّ ،إال َّأهنا صحارى حيوية تزحف على املناظر الطبيعية على حساب الغابات واملروج الطبيعية ،واآلن بعد احنسار
املزارع يف بعض أحناء العامل ،بدأت الغابات املعتدلة يف معاودة الظهور ،وهي ظاهرة سنعود إليها يف الفصل العاشر .لو كانت الكفاءة
عاما املاضية مع زراعة العامل مقدار الغذاء نفسه ،لكنا اضطررنا إىل إجالء الزراعية قد ظلت يف نفس مستواها على مدار اخلمسني ً
مساحة حبجم الواليات املتحدة وكندا والصني جمتمعات ،وحرثها .وفق تقديرات عامل البيئة جيسي أوزوبيل ،فالعامل قد بلغ ذروة األراضي ٍ
الزراعية ،ورمبا ال حنتاج إىل مقدار ما نستخدمه اليوم من األراضي الزراعية مطل ًقا.
تعرضت الثورة اخلضراء فور بدايتها إىل اهلجوم مثل كل صور التقدم اليت أحرزهتا البشرية ،فقال املنتقدون َّ
إن الزراعة عالية التقنية
مياها جوفية ،وتستخدم مبيدات األعشاب ومبيدات حشرية ،وُتل بزراعة الكفاف التقليديةَّ ،
وإهنا غري طبيعية وقودا أحفوريًّا و ً
تستهلك ً
باحا للشركات .بالنظر إىل َّأهنا أنقذت حياة مليار شخص وساعدت يف اإللقاء باجملاعات الكربى يف «مزبلة من الناحية احليوية ،وتولِّد أر ً
يكمن
مقبوال ،واألهم من ذلك ،أنَّنا لن ندفع بالضرورة هذا الثمن إىل األبد ،فجمال التقدم العلمي ُ التاريخ» ،فإن هذا الثمن يبدو يل ً
يف أنَّه ال يتوقف بنا عند تكنولوجيا معينة ،ولكنه يطور تكنولوجيات جديدة ذات مشاكل أقل من القدمية (وهي دينامية سنعود إليها يف
الفصل العاشر).
ألفية وما حققه بورلوج يف سنوات من العملخالل أيام ما حققه املزارعون التقليديون يف ٍ تستطيع اهلندسة الوراثية اآلن أن حتقق َ
غالال أكثر وحتتوي على فيتامينات منقذة وتتحمل اجلفاف وامللوحة «اململ اجملهد للذهن» ،إذ جيري تطوير حماصيل معدلة وراثيًّا لتنتج ً
وتقاوم األمراض واآلفات والعطب وتقلل احلاجة إىل األراضي واألمسدة واحلرث ،وشهدت مئات الدراسات وكل املنظمات العلمية
والصحية الكربى وأكثر من مئة فائز جبائزة نوبل على سالمتها (وهو أمر غري مفاجئ مبا أنَّه ال وجود حملاصيل غري معدلة جينيًّا) .ومع
ذلك شنَّت اجملموعات البيئية التقليدية محلة شرسة تشبه احلمالت الصليبية ،فيما أطلق عليه الكاتب يف اإليكولوجيا ستيوارت براند «ال
مباالة باجملاعة» ،من أجل منع احملاصيل املعدلة جينيًّا عن الناس ،وليس عن حمالت الذواقة اليت تبيع األغذية الكاملة يف الدول الغنية
بقيمة مقدسة ،وإن مل ي ُكن هلا معىن يف احلقيقة ،وهي فحسب ،بل وعن املزارعني الفقراء يف الدول النامية .تنطلق معارضتهم من التزٍام ٍ
قيمة «الطبيعية» ،وتدفعهم حنو استنكار «التلوث اجليين» و«التالعب بالطبيعة» وترويج «الغذاء احلقيقي» القائم على «الزراعة
أن حوايل نصف العامة اإليكولوجية» ،واستغلوا احلدس البدائي باملاهية والتلوث لدى العامة غري املثقفة علميًّا .أظهرت دراسات حمبطة َّ
أن الطماطم العادية ال حتتوي على جينات بينما حتتوي عليها الطماطم املعدلة وراثيًّا ،و َّ
أن اجلني املضاف إىل الغذاء قد ينتقل يعتقدون َّ
تقالة جيعل طعمها يشبه طعم السبانخ ،وأيد 80يف املئة منهم أن جني السبانخ عند إضافته إىل بر ٍإىل جينوم األشخاص الذين يأكلونه ،و َّ
محض نووي» .وكما قال براند« :أظن َّ
أن احلركة البيئية قد تسببت إقرار قانون يلزم بوضع ملصقات على كل األغذية اليت «حتتوي على ٍ
مبعارضتها للهندسة الوراثية يف أذى أكثر من أي شيء آخر أخطأنا بشأنه ،فقد تسببنا يف جتويع الناس ،وإعاقة العلم ،وأذى البيئة
الطبيعية ،وحرمنا ممارسي العلم من أداة ضرورية».
أن معارضة احملاصيل املعدلة وراثيًّا كانت فعالة بصورةٍ مهلكة يف أكثر ٍ
جزء من العامل ميكنه أحد أسباب قسوة حكم براند هو َّ
االستفادة منها ،فقد ألقت الطبيعة على أفريقيا جنوب الصحراء لعنة الرتبة الرقيقة ،وسقوط األمطار ٍ
بنمط متقلب ،وندرة املوانئ واألهنار
الصاحلة للمالحة ،ومل تطور هذه املنطقة شبكة شاملة من الطرق أو السكك احلديدية أو القنوات ،ومثل كل األراضي املزروعة ،استُنزفت
تربتها ،ولكن على عكس تلك األراضي يف بقية العامل ،مل ُجتدد أراضي أفريقيا بأمسدة صناعية .قد يتيح تبين احملاصيل املعدلة جينيًّا
خصيصا ألفريقيا واليت تُزرع بأساليب حديثة أخرى مثل الزراعة بدون حرث والري بالتنقيط ،ألفريقياً أيضا املصممة
املستخدمة بالفعل و ً
انتشارا اليت ترجع إىل الثورة اخلضراء األوىل والقضاء على ما تبقى لديها من نقص التغذية.
ً جتاوز األساليب األكثر
أن األمن الغذائي ال يتعلق بالزراعة فحسب ،إذ ال حتدث اجملاعات فقط عندما يندر الغذاء ،ولكنها رغم أمهية العلوم الفالحيةَّ ،إال َّ
أيضا عندما ال يستطيع الناس حتمل تكلفته ،أو عندما متنع اجليوش الناس من احلصول عليه ،أو عندما ال هتتم حكوماهتم مبقدار حتدث ً
أن االنتصار على اجملاعات مل ي ُكن عبارة عن حتقيق مكتسبات يف الكفاءة الزراعية على يوضح الشكل رقم َّ 4-7 ما حيصلون عليه منهِّ .
وترية منتظمة ،كانت اجملاعات يف القرن التاسع عشر نامجة عن اجلفاف ولفحات النبات املعتادة ،ولكنها كانت تتفاقم يف اهلند وأفريقيا
يف حقبة االستعمار بسبب اجلمود والفشل والسياسات املتعمدة أحيانًا اليت كان يطبقها املسؤولون الذين مل يهتموا برفاهة رعاياهم .ويف
بداية القرن العشرين كانت السياسات االستعمارية قد أصبحت أكثر جتاوبًا مع األزمات الغذائية وكان التقدم احملرز يف الزراعة قد اقتطع
ولكن الكوارث السياسية املرعبة التالية تسببت يف جماعات متفرقة على مدار بقية القرن ،فمن بني السبعني مليون كبريا من اجلوعَّ ، قسما ً
ً
شخص الذين ماتوا خالل جماعات القرن العشرين الكربى ،كان 80يف املئة منهم ضحايا سياسات الزراعة اجلماعية اإلجبارية واملصادرة ٍ
اجلزائية والتخطيط املركزي الشمويل اليت طبقتها األنظمة الشيوعية .ويشمل هذا اجملاعات يف االحتاد السوفيييت يف أعقاب الثورة الروسية
واحلرب األهلية الروسية واحلرب العاملية الثانية ،واجملاعة الكربى (هولودومور) اليت أصابت أوكرانيا يف عهد ستالني يف عامي 1932
و ،1933وقفزة ماو الكربى إىل األمام بني عامي 1958و ،1961وسنة الصفر اليت أعلنها بول بوت بدءًا من 1975حىت ،1979
وقت قريب .طبَّقت احلكومات األوىل وجماعة "مارس العصيب" يف كوريا الشمالية يف عهد كيم جونغ إل يف أواخر التسعينيات ،أي منذ ٍ
يف حقبة ما بعد االستعمار يف أفريقيا وآسيا سياسات مسايرة لأليديولوجيات املتبعة ولكنها كارثية من الناحية االقتصادية ،مثل الزراعة
اجلماعية ،والقيود على االسترياد لتعزيز «االكتفاء الذايت» ،وُتفيض أسعار الغذاء مبا يفيد سكان املدن ذوي النفوذ السياسي على
خلل يف توزيع الغذاء فحسب،حرب أهلية ،كما حدث يف أغلبها ،مل ينتج عن ذلك ٌ حساب املزارعني .وعندما نشبت يف هذه الدول ٌ
سالحا ،بالتواطؤ أحيانًا مع رعاة احلرب الباردة.
بل كان الطرفان يستخدمان اجلوع ً
حلسن احلظ ،فمنذ التسعينيات ،بدأت املتطلبات الضرورية لتحقيق الرخاء تتضح يف أحناء أكثر من العامل ،ومبجرد الكشف عن
معتمدا على تراجع معدالت الفقر واحلرب واالستبداد.
ً أسرار زرع الغذاء بوفرةٍ وتوافر البنية التحتية الالزمة لنقله ،يصبح تراجع اجملاعات
كال من هذه املصائب. لننتقل إىل التقدم احملرز فيما خيص ًّ
الفصل الثامن:
الثروة
كتب االقتصادي بيرت باور يقول« :ليس للفقر أسبابَّ ،أما الثروة فلها أسباهبا» .يف عا ٍمل حتكمه اإلنرتوبيا والتطور ،ال ُمت َّهد ُ
الطرق
باملعجنات ،وال يقفز السمك املطهي ليقع حتت أرجلنا ،ولكننا ننسى هذه البديهيات بسهولة ،ونظن أن الثروة لطاملا كانت مصاحبة
لنا .إن التاريخ ال يكتبه املنتصرون ،وإمنا املرتفون ،تلك القلة من البشر من ذوي الرفاهية والتعليم اليت تسمح هلم بذلك ،فكما أشار
رونق األدب
االقتصادي ناثان روزنربج والباحث القانوين إل .إي .بريدزل« :يدفعنا أحيانًا إىل نسيان الشقاء املهيمن على األزمنة األخرى ُ
والشعر والرومانسية واألساطري اليت حتتفي مبن عاشوا يف يُس ِر يف تلك األزمنة ونسيت من عاشوا يف صمت الفقر .فقد مت حتويل حقب
الشقاء إىل أساطري خيالية ورمبا نتذكرها حىت بأهنا عصور ذهبية من البساطة الريفية ،ولكنها مل ت ُكن كذلك».
صورا موجزة حلقبة الشقاء ،عندما كان تعريف الفقر بسيطًا« :إذا كنت تستطيع
استنادا إىل ما قاله براودل ،يعرض يوهان نوربرج ً
و ً
فقريا».
يوما آخر ،فإنك مل ت ُكن ً
حتمل تكلفة شراء اخلبز لتحيا ً
عبيدا الستخدامهم يف التجديف يف مدينة جنوة الثرية كل شتاء ،ويف باريس كان شديدو الفقر كان الفقراء يبيعون أنفسهم ً
عمل شاق كتنظيف املصارف ،ويف إجنلرتا كان الفقراء يضطرون إىل العمل يف معا بالسالسل يف أزو ٍاج وجيربون على ٍ يقيَّدون ً
اإلصالحيات من أجل احلصول على اإلعانات ،فكانوا يعملون ساعات طويلة مقابل ال شيء تقريبًا ،وكان بعضهم يؤمر
تفتيش على إحدى اإلصالحيات يف عام بتحطيم عظام الكالب واخليول واملاشية الستخدامها كأمسدة ،حيث اتضح من ٍ
َّ 1845
أن الفقراء املعدمني كانوا يتقاتلون على العظام املتعفنة كي ميتصوا خناعها.
صعب احلاجة إىل شرح تكوين الثروة أكثر النقاشات السياسية داخل اجملتمعات احلديثة حول ضرورة توزيع الثروة ،وهو ما مما ي ِّ
أن هناك ثروة ميكن توزيعها أصالً ،فيتحدث االقتصاديون عن «مغالطة الكتلة اإلمجالية» أو «مغالطة املادية» اليت تقول يفرتض مسب ًقا َّ
مثال ،ويتقاتل الناس منذ ذلك احلني على كيفية تقسيمها .من بني بنات بوجود مقدار حمدود من الثروة منذ بدء التاريخ ،كعروق الذهب ً
ٍ
أشكال ٍ
شبكات على تنظيم املادة يف أفكار التنوير ،إدراك َّ
أن الثروة ُُتلق ،وهي ُُتلق باألساس باملعرفة والتعاون ،إذ يعمل الناس يف
أيضا أننا نستطيع اكتشاف
حدوثها من تلقاء نفسها مستبعد ،ولكنها مفيدة ،وجيمعون مثار براعتهم وعملهم ،والنتيجة املنطقية اجلوهرية ً
كيفية صنع املزيد منها.
مقياسا معياريًّا لتكوين
ميكن التعبري عن حتمل الفقر والتحول إىل اليُسر يف العصر احلديث يف رسم بياين بسيط ومذهل ،وهو حيدد ً
مقيسا بسعر الدوالر الدويل لعام ( .2011الدوالر الدويل هو وحدة ٍ
الثروة على مدار األلفي عام املاضية ،وهو الناتج العاملي اإلمجايلً ،
تعوض عن الفروق افرتاضية لعملة تعادل الدوالر األمريكي يف سنة مرجعية حمددة ،وهو معدَّل ملراعاة التضخم وتعادل القوة الشرائية ،اليت ِّ
أن سعر قصة الشعر يف دكا أقل من سعرها يف لندن). يف أسعار اخلدمات والبضائع املتماثلة يف أماكن خمتلفة ،مثل َّ
بالدوالر الدولي لعام ،2011بالتريليون
يصورها الشكل رقم 1-8تقرتب من الال شيء ..ال شيء ..ال شيء( ..كررها لبضع إن قصة منو الرخاء يف تاريخ البشر واليت َِّّ
عام من بدء احلقبة احلالية ،مل يصبح العامل أغىن مما كان يف عهد يسوع تقريبًا ،استغرق البشر آالف من السنوات) ..بوم! بعد ألف ٍ
يؤد إىل من ٍو تراكمي مستمر .بدءًا من نصف ألفية أخرى ملضاعفة الدخل ،ومتتعت بعض املناطق بنمو مفاجئ من ٍ
آن آلخر ،ولكنه مل ِّ
القرن التاسع عشر ،حتولت هذه الزيادات البسيطة إىل طفرات بسرعة الربق ،وازداد دخل العامل ثالثةَ أضعاف بني عامي 1820
عاما بقليل ،ومل تستغرق زيادته ثالثةَ أضعاف للمرة الثالثة سوى مخسة
و ،1900وازداد ثالثةَ أضعاف مرة ثانية خالل أكثر من مخسني ً
وعشرين عاما ،وللمرة الرابعة سوى ثالثة وثالثني عاما .منا الناتج العاملي اإلمجايل ليبلغ اليوم تقريبا مئة ِ
ضعف ما كان عليه يف زمن الثورة ً ً ً
الصناعية عام ،1820ومئيت ضعف تقريبًا منذ بداية التنوير يف القرن الثامن عشر .تقارن النقاشات حول توزيع الثروة والنمو بني تقسيم
الكعكة وبني صنع كعكة أكرب (كما قال جورج بوش االبن) .لو كانت الكعكة اليت كنا نقتسمها عام 1700خمبوزة يف صينية متوسطة
مثال قطعة قطرها 5
احلجم ،إذًا فحجم الكعكة اليوم أكرب منها بأكثر من عشرة أضعاف ،إذا اقتطعنا بعناية أقل قطعة ممكنة -لنقل ً
سنتيمرتات ،فستكون هذه القطعة يف حجم كعكة عام 1700كلها.
إن الناتج العاملي اإلمجايل هو بالتأكيد تقليل من قيمة انتشار الرخاء ،فكيف حيسب املرء وحدات عملة مثل اجلنيه أو الدوالر عرب َّ
خط واحد؟ هل املئة دوالر يف عام 2000أكثر أم أقل من دوالر واحد يف عام 1800؟ َّإهنا جمرد القرون كي يستطيع رمسها على ٍّ
أوراق عليها أرقام ،تعتمد قيمتها على ما يستطيع الناس شراءه هبا يف ذلك الوقت ،وهو ما يتغري مع التضخم ورفع القيمة ،فالطريقة
الوحيدة ملقارنة الدوالر يف عام 1800بالدوالر يف عام 2000هو البحث عن مقدار ما جيب على املرء دفعه مقابل شراء سلة سلع
قياسية من السوق ،أي كمية ثابتة من الغذاء أو املالبس أو الرعاية الصحية أو الوقود ،وهكذا .وهكذا يتم حتويل األرقام يف الشكل رقم
1-8ويف الرسوم البيانية األخرى املقيَّمة بالدوالر أو اجلنيه إىل مقياس واحد مثل «الدوالر الدويل لعام .»2011
تتحسن مبرور الوقت ،فقطعة «املالبس» املشكلة هي َّ
أن التقدم التكنولوجي يفنِّد فكرة سلة السلع الثابتة ،فجودة السلع يف السلة َّ
مصنوعا من القماش املشمع اجلامد الثقيل ولكنه ال مينع التسرب ،ويف عام 2000قد ً يف عام 1800قد تكون رداءً واقيًا من املطر
ومصنوعا من قماش اصطناعي خفيف مسامي يسمح مبرور اهلواء .والرعاية الطبية باألسنان ً ٍ
بسحاب مزودا
تكون معط ًفا واقيًا من املطر ً
كانت يف عام 1800تعين زردية األسنان وأطقم األسنان اخلشبية ،أما يف عام 2000فكانت تعين خمدر نوفوكني وزرع األسنان .إذًا
إن الـ 300دوال ٍر أمريكي اليت ميكن شراء كمية معينة من املالبس والرعاية الصحية هبا يف عام 2000تعادل الـ 10دوالرات فأن نقول َّ
تضليال.
اليت كان ميكن شراء «الكمية نفسها» هبا يف عام 1800يُعد ً
أيضا .ففي عام ،1800كم كانت تكلفة أن التكنولوجيا ال تطور األشياء القدمية فحسب ،بل ُترتع أشياءَ جديدة ً إضافةً إىل َّ
شراء ثالجة أو تسجيل موسيقي أو دراجة أو هاتف خلوي أو موسوعة ويكيبيديا أو صورة من طفولتك أو البتوب أو طابعة أو حبوب
منع العمل أو جرعة من املضادات احليوية؟ اإلجابة :ال تكفي أموال العامل كلهاَّ .
إن هذا املزيج من املنتجات األفضل واملنتجات اجلديدة
جيعل تتبع الرفاهة املادية عرب العقود والقرون شبه مستحيل.
واخنفاض األسعار يعقِّد األمور أكثر ،فالثالجة سعرها اليوم حوايل 500دوال ٍر أمريكي ،كم ستقبل مثنًا مقابل التخلي عن التربيد؟
كثريا من 500دوال ٍر بالتأكيد! أطلق آدم مسيث على هذه احلالة اسم مفارقة القيمة :عندما تصبح سلعة مهمة متوافرة بكثرة ،فإن أكثر ً
كثريا مما قد يكون الناس مستعدين لدفعه مقابلها ،ويسمى الفرق فائض املستهلك ،ويستحيل جدولة انفجار هذا مثنها يصبح أقل ً
أن مقاييسهم ،على رأي أوسكار وايلد« ،تعرف سعر كل شيء ،ولكنها ال الفائض عرب الزمن .وعلماء االقتصاد هم أول من يشري إىل َّ
تعرف قيمة أي شيء».
بعملة معدَّلة ملراعاة التضخم والقوة الشرائية أمر غري ٍ
جمد ال يعين هذا أ َّن املقارنات فيما خيص الثروة بني خمتلف األزمنة واألماكن ٍ
ٌ
-فهي أفضل من اجلهل أو التخمينات التقديرية ،-ولكنَّه يعين َّأهنا ُتدع حساباتنا للتقدم .إن الشخص الذي حتتوي حمفظته اليوم على
بشكل خيايل من سلفه الذي كانت حمفظته حتتوي على ما يعادل نفس املبلغ منذ مئيت ٍ ما يعادل مئة دوال ٍر دويل لعام 2011أغىن
عام ،ويؤثر هذا ،كما سنرى ،على تقييمنا للرخاء يف العامل النامي (يف هذا الفصل) ،ولغياب املساواة يف الدخل يف العامل النامي (يف
الفصل التايل) ،وملستقبل النمو االقتصادي (يف الفصل التاسع عشر).
ما الذي تسبب يف اهلروب الكبري؟ السبب األوضح هو تطبيق العلم لتحسني جودة احلياة املادية ،مما أدى إىل ما أطلق عليه املؤرخ
االقتصادي جويل موكري «االقتصاد املستنري» ،إذ استطاعت آالت الثورة الصناعية ومصانعها ،ومزارع الثورة الزراعية املنتجة ،وأنابيب
املياه الناجتة عن ثورة الصحة العامة ،أن تقدِّم للناس من املالبس واألدوات واملركبات والكتب واألثاث والسعرات احلرارية واملياه النظيفة
كثري من أوائل االبتكارات مثلواألشياء األخرى اليت يريدها الناس أكثر مما استطاع احلرفيون واملزارعون يف القرن السابق تقدميه .خرجت ٌ
احملركات البخارية واألنوال وأطر الغزل ومسابك املعادن والطواحني من ورش العمال الذين مل يدرسوا هذه األمور نظريًّا ومن ساحاهتم
ولكن التجربة واخلطأ يُعدان شجرة متفرعة من االحتماالت اليت ال يؤدي معظمها إىل شيء ،وميكن تقليم هذه الشجرة بتطبيق اخللفيةَّ ،
يسرع معدل االكتشافات .وكما أشار موكري« :بعد عام ،1750بدأت القاعدة اإلبستمولوجية للتكنولوجيا تتوسع ببطء ،فلم العلم ممَّا ِّ
أيضا ،ومن
تظهر منتجات وتقنيات جديدة فحسب ،بل أصبح هناك فهم أفضل لسبب جناح املنتجات والتقنيات القدمية وكيفية عملها ً
بطرق جديدة وتكييفها لتناسب استخدامات جديدة». مث أصبح من املمكن تعديلها وتصحيح األخطاء فيها وحتسينها ومجعها مع غريها ٍ
أدى اخرتاع البارومرت يف عام ،1643الذي أثبت وجود الضغط اجلوي ،يف النهاية إىل اخرتاع احملركات البخارية ،اليت كانت تُعرف آنذاك
يسر
بـ «احملركات اجلوية» ،ومشلت الطرق التبادلية األخرى اليت سلكها العلم والتكنولوجيا تطبيق الكيمياء يف تصنيع األمسدة ،بعد أن َّ
ذلك اخرتاع البطارية ،وتطبيق نظرية جرثومية املرض -اليت نشأت بسبب وجود امليكروسكوب -يف ُتليص مياه الشرب وأيادي األطباء
وأدواهتم من مسببات األمراض.
مل ي ُكن العلماء التطبيقيون ليتحفزوا الستخدام براعتهم يف ُتفيف آالم احلياة اليومية ،وكانت أجهزهتم ستظل حبيسة خمترباهتم
ومرائبهم لوال وجود ابتكارين آخرين.
سهلت تبادل السلع واخلدمات واألفكار ،وهي الدينامية اليت اعتربها آدم مسيث وحدها مولِّد أحدمها هو تطوير املؤسسات اليت َّ
الثروة .يقول االقتصاديون دوجالس نورث وجون واليس وباري واينجاست َّ
إن أكثر الطرق اليت تؤدي هبا الدولة وظائفها طبيعيةً يف التاريخ
بعضا ،يف مقابل أن يكافَئوا بإقطاعية أو رخصة أو ٍ
ويف أحناء كثرية من العامل اليوم هي أن تتفق النخبة على أال ينهب أو يقتل بعضهم ً
امتياز أو احتكار أو سيطرة على إحدى املناطق ،أو شبكة حمسوبية تسمح هلم بالتحكم يف أحد قطاعات االقتصاد والتكسب من الريع
(باملعىن االقتصادي الذي يشري إىل الدخل املتحصل من احلق احلصري يف الوصول إىل أحد املوارد) .أفسحت هذه احملسوبية يف إجنلرتا
يف القرن الثامن عشر اجملال أمام االقتصادات املفتوحة اليت يستطيع أي شخص أن يبيع أي شيء ألي شخص آخر يف إطارها ،وحيمي
حكم القانون وحقوق امللكية والعقود النافذة ومؤسسات مثل البنوك والشركات والوكاالت احلكومية اليت حتكمها الواجبات تعامالهتم ُ
منتجا ما بسع ٍر
جديدا من املنتجات يف السوق ،أو يبيع ً نوعا ً شخص مغامر اآلن ً
ٌ االئتمانية وليس الصالت الشخصية .ميكن أن يطرح
اض رمبا ال تدر رحبًا سوى بعد نقودا اآلن مقابل شيء سيسلِّمه الح ًقا ،أو يستثمر يف معدات أو أر ٍ
أقل من التجار اآلخرين ،أو يقبل ً
كثريا منه على الرفوف َّ
بضع سنوات .من املسلم به اآلن يل أنَّين إذا أردت بعض احلليب ،فإن بإمكاين أن أدخل أي متجر صغري وسأجد ً
ولن يكون خمف ًفا وال ملوثًا وسيكون بسع ٍر أستطيع دفعه ،وسيرتكين صاحب املتجر أخرج منه بعد مترير ٍ
بطاقة صغرية ،رغم أننا مل ِ
نلتق
ومرورا ببضعة متاجر
جمددا مطل ًقا وليس بيننا أي أصدقاء مشرتكني ميكن أن يشهدوا على حسن نواياناً ، من قبل قط ،ورمبا لن نلتقي ً
أخرى ،ميكنين أن أكرر العملية نفسها عند شراء بنطلون جينز أو مثقبًا كهربائيًّا أو كمبيوتر أو سيارة .جيب أن تتمتع مؤسسات كثرية
باالستقرار كي ميكن إمتام هذه التعامالت واملاليني غريها من ماليني التعامالت األخرى جمهولة اهلوية اليت ِّ
تشكل االقتصاد احلديث
بسهو ٍلة شديدة.
واالبتكار الثالث بعد العلم واملؤسسات هو تغيري القيم ،أي قبول ما يطلق عليه املؤرخ االقتصادي ديردري ماك كلوسكي «الفضيلة
الربجوازية» .لطاملا تعالت الثقافات األرستقراطية والدينية والعسكرية على التجارة لكوهنا يف نظرهم رخيصة وقائمة على الرشوة ،ولكن
يف إجنلرتا وهولندا يف القرن الثامن عشر ،أصبح يُنظر إىل التجارة باعتبارها أخالقية وتنهض باألوضاع ،وقدَّر فولتري وفالسفة التنوير
اآلخرون قيمة روح التجارة لقدرهتا على تبديد الضغائن الطائفية.
لننظر إىل البورصة امللكية يف لندن ،وهي مكان أكثر مهابةً من كث ٍري من قاعات احملاكم ،حيث يلتقي ممثلون عن كل الدول
مجيعا يدينون باألديان نفسها ،وال يطلقون ألجل منفعة البشرية ،ففيها يتعامل اليهود واحملمديون واملسيحيون سويًّا و َّ
كأهنم ً
لقب الك افر سوى على املفلسني ،وفيها قد يضع أتباع الكنيسة املشيخية ثقتهم يف أتباع حركة جتديدية العماد ،ويعتمد
الكهنة على كالم أعضاء مجعية الكويكرز ..ويكون اجلميع راضيًا.
بأهنم سعداء ،وسعداء لكوهنم سعداء -خمتلفون ولكنهم قائال إنَّه «عرب تصوير البشر َّ
علَّق املؤرخ روي بورتر على هذا النص ً
متفقون على االختالف ،-أشار الفيلسوف إىل ضرورة إعادة النظر يف اخلري األمسى ،أي حتويله من التقوى إىل فردية موجهة حنو
فإن التنوير قد ترجم سؤال :كيف ميكن أن أجد اخلالص؟ إىل السؤال الربمجايت :كيف ميكن أن أجد االحتياجات النفسية .وبالتايل َّ
بتطبيق جديد للتكيف االجتماعي والشخصي» .مشل هذا التطبيق أعراف اللياقة والتدبري وضبط النفس والتوجه حنو ٍ السعادة؟ مبشًِّرا
مبكانة ومنز ٍلة رفيعة ً
بدال من اجلنود والكهنة واحلاشية امللكية فقط .كان نابليون، ٍ بدال من املاضي وتقدير التجار واملبتكرين املستقبل ً
ولكن الربيطانيني يف ذلك الوقت كانوا جينون أكثر مما
الداعي إىل اجملد العسكري ،يزدري إجنلرتا لكوهنا «أمة من أصحاب الدكاكني»َّ ،
مجيعا ما حدث يف معركةيفعل الفرنسيون بنسبة 83يف املئة ،وكانوا يتمتعون بتناول سعرات حرارية أكثر منهم مبقدار الثلث ،ونعرف ً
واترلو.
هروب يف الدول اجلرمانية والشمالية األوروبية واملستعمرات الربيطانية يف أسرتاليا
سرعان ما حلق باهلروب الكبري يف بريطانيا وهولندا ٌ
أن الرأمسالية تعتمد على «األخالق ونيوزيلندا وكندا والواليات املتحدة ،ويف عام ،1905أشار عامل االجتماع ماكس فيرب إىل َّ
بأن اليهود يعانون يف ظل اجملتمعات الرأمسالية ،وخاصةً يف جمايل املال واألعمال) .وسرعان ما الربوتستانتية» (وهي فرضية مثرية تتنبأ َّ
يوضح الشكل رقم 2-8مما أثبت أيضا من حيز الفقر ،مث بدأت سلسلة تالية من اهلروب كما ِّ خرجت الدول الكاثوليكية يف أوروبا ً
تفسر عدم توافق البوذية أو الكونفوشية أو اهلندوسية أو القيم «اآلسيوية» أو «الالتينية» العامة مع كذب النظريات املتنوعة اليت ِّ
اقتصادات السوق احلركية.
ً
نسبة إلى مجالس الشيوخ التي تحكم هذه الكنائس ،وتجديدية العماد هي حركة مسيحية الكنيسة المشيخية هي نظام كنسي يتبع البروتستانتية وهذا االسم
إصالحية تؤمن بتعميد البالغين أو تجديد معموديتهم في مقابل تعميد األطفال .جمعية الكويكرز أو جمعية األصدقاء الدينية هي حركة دينية تؤمن بوجود
روح هللا في كل إنسان وبأنا العالقة مع هللا روحانية وليست شعائرية وأ انه ال ضرورة للكهنة والطقوس الدينية- .المترجمة
معركة واترلو هي معركة وقعت عام 1815وانهزم فيها الجيش الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت وكانت آخر معاركه- .المترجمة
الواليات
المتحدة
المملكة المتحدة
بالدوالر الدولي لعام 2011
كوريا
الجنوبية
تشيلي
العالم
الصين
الهند
ثان مذهل يف قصة الرخاء ،فبدءًا من أواخر القرن العشرين ،بدأت فصل ٍتعرب املنحنيات غري الربيطانية يف الشكل رقم 2-8عن ٍ ِّ
الدول الفقرية هترب بدورها من الفقر ،وبدأ اهلروب الكبري يتحول إىل التقارب الكبري ،فهناك دول كانت شديدة الفقر حىت ٍ
وقت قريب،
أصبحت غنية موسرة مثل كوريا اجلنوبية وتايوان وسنغافورة( .تذكر محايت السابقة السنغافورية عشاء أحد أيام طفولتها حني قسمت
دوال
أسرهتا بيضةً واحدة على أربعة أشخاص) .منذ عام ،1995أصبح ثلث دول العامل النامية اليت يبلغ عددها 109دولة تشمل ً
متنوعة بقد ٍر كبري مثل بنجالديش والسلفادور وإثيوبيا وجورجيا ومنغوليا وموزمبيق وبنما ورواندا وأوزبكستان وفييتنام تتمتع مبعدالت منو
عاما ،ومتتعت أربعون دولة أخرى مبعدالت تضاعف الدخل كل مخسة اقتصادي تصل إىل درجة يتضاعف معها الدخل كل مثانني ً
أن نصيب الفرد من الدخل يف عاما ،وهو ما ميكن مقارنته مبعدل النمو التارخيي للواليات املتحدة ،فمن الالفت للنظر أن جند َّ
وثالثني ً
الصني واهلند يف عام 2008يساوي نصيب الفرد من الدخل يف السويد يف عامي 1950و 1920على التوايل ،ولكن ما يلفت نظرنا
أكثر أن نتذكر عدد األفراد الذي قُسم عليهم هذا الدخل 1.3 :و 1.2مليون نسمة .يف عام ،2008كان متوسط نصيب الفرد ،من
سكان العامل البالغ عددهم 6.7مليار نسمة ،يساوي نصيب الفرد يف غرب أوروبا يف عام ،1964ومل ي ُكن ذلك َّ
ألن األغنياء يزدادون
غىن (رغم َّأهنم يفعلون ذلك بالتأكيد ،وهو موضوع سننظر فيه يف الفصل التايل) .جيري القضاء على الفقر املدقع ،ويصبح العامل مكونًا
من الطبقة الوسطى.
عرض أوال روزليند (ابن هانس) توزيع الدخل على مستوى العامل على هيئة مدرجات تكرارية ،يشري فيها ارتفاع املنحىن إىل نسبة
األشخاص ذوي مستوى دخل ما ،يف ثالث فرتات تارخيية خمتلفة (الشكل رقم .)3-8يف عام ،1800عند بزوغ فجر الثورة الصناعية،
معادال ملتوسط دخل أفقر دول أفريقيا اليوم (حوايل 500دوال ٍر دويل كان معظم الناس يف كل ٍ
مكان فقراءَ ،وكان متوسط الدخل ً
مدقعا» (أي على أقل من 1.90دوالر يف اليوم). فقرا ً
سنويًّا) ،وكان 95يف املئة من سكان العامل تقريبًا يعيشون فيما يُعد اليوم « ً
وحبلول عام ،1975كانت أوروبا وفروعها قد انتهت من اهلروب الكبري ،خملِّفةً وراءها بقية العامل ،الذي أصبح دخله ُعشر دخلها عند
ذلك املنحىن السفلي الذي يشبه سنام اجلمل ،مث أصبح اجلمل يف القرن احلادي والعشرين وحيد السنام وانتقل هذا السنام حنو اليمني،
كثريا ،أي أصبح العامل أغىن ويتمتع مبساواةٍ أكرب.
أما الذيل إىل اليسار فقد اخنفض ً
الفقر المدقع
يوضح الشكل رقم 4-8نسبة من يعيشون يف «فق ٍر مدقع» من تستحق الشرائح إىل يسار اخلط املنقَّط ُتصيص صورة هلاِّ .
ولكن األمم املتحدة والبنك الدويل يبذالن كل
أن حتديد النقطة الفاصلة لذلك الوضع سيكون اعتباطيًّاَّ ، سكان العامل ،ال ميكن إنكار َّ
ما بوسعهما عرب مجع بيانات خطوط الفقر الوطنية من ٍ
عينة من الدول النامية ،واليت تستند بدورها على دخل األسرة العادية اليت حتاول
إطعام أفرادها .يف عام ،1996كان خط الفقر هو «دوالر يف اليوم» للفرد الواحد ،أما حاليًا فهو حمدد بـ 1.90دوالر دويل لعام
أيضا إىل أسفل) .الحظ شكل املنحىن ،ومدى (إن املنحنيات ذات النقط الفاصلة األكثر أعلى وأقصر ولكنَّها تنزلق ً 2011يف اليومَّ .
وصوال إىل 10يف املئة ،وهبط معدل الفقر املدقع يف العامل خالل مئيت عام من 90يف املئة إىل 10يف املئة، اخنفاضه ،فقد اخنفض ً
وحدث نصف هذا الرتاجع تقريبًا خالل األعوام اخلمسة والثالثني املاضية.
النسبة المئوية لمن يعيشون في فقر مدقع من سكان
العالم
أن النسب ومعدالت دخل الفرد اليت أشرت إليها بالرسوم البيانية تُعد املقياس ميكننا أن نقدِّر قيمة التقدم بطريقتني ،األوىل َّ
تقبل أن تتجسداألخالقي للتقدم ،ألهنا تتناسب مع جتربة جون رول الفكرية اليت كانت هتدف إىل تعريف اجملتمع العادل :اذكر عالَ ًما ُ
طويال
فيه يف هيئة مواطن عادي خلف ستار من اجلهل بظروف ذلك املواطن ،فالعامل الذي يشمل نسبة أكرب من الناس الذين يعيشون ً
أيضا ،فكل جيدا ويعيشون يف رفاهة هو عامل يفضل املرء أن يغامر مبيالده فيه .والثانية هي َّ ٍ
أن األرقام املطلقة مهمة ً وبصحة ويتغذون ً
جيدا ويعيش يف رفاهة هو كائن حساس قادر على الشعور بالسعادة وسيكون العامل مكانًا ٍ
وبصحة ويتغذى ً طويال
شخص إضايف يعيش ً
أفضل بوجود املزيد من أمثاله ،وكل زيادة يف عدد األشخاص الذين يستطيعون حتمل طحن اإلنرتوبيا وصراع التطور تشهد على ضخامة
اخلرية اليت يتمتع هبا كلٌّ من العلم واألسواق واحلكم اجليد واملؤسسات احلديثة األخرى .يف الرسم البياين ذي الطبقات حجم القوى ِّ
املكدسة يف الشكل رقم ،5-8ميثل مسك اللوح السفلي عدد األشخاص الذين يعيشون يف فقر مدقع ،وميثل مسك اللوح العلوي عدد
أن عدد األشخاص الفقراء قد األشخاص الذين ال يعيشون يف فق ٍر ،وميثل ارتفاع الطبقات املكدسة عدد سكان العاملِّ ،
ويوضح الشكل َّ
تراجع مع انفجار عدد السكان اإلمجايل من 3.7مليار نسمة يف عام 1970إىل 7.3مليار نسمة يف عام ( .2015يشري ماكس
أن املنافذ اإلخبارية لو كانت ُُتِرب الناس حقًّا حبالة العامل املتغرية ،لكانت عرضت عنوانًا رئيسيًّا يقول اخنفاض عدد األشخاصروزر إىل َّ
عاما املاضية) .حنن نعيش يفالذين يعيشون يف فقر مدقع مبقدار 137,000شخص منذ األمس كل يوم على مدار اخلمسة والعشرين ً
عا ٍمل ال يشمل نسبةً أقل من األشخاص شديدي الفقر فحسب ،بل يشمل ً
عددا أقل منهم ،ويشمل 6.6مليار شخص ال يعيشون
يف فقر مدقع.
عدد األشخاص (بالمليار)
أن املعايري املادية للمعيشة ليست مهمة للغاية ،من اجليد أن يتمكن تياح شديد ِّ
لنفكر يف َّ «من اجليد أن نستطيع اجللوس بار ٍ
شخص من اُتاذ قرار شخصي برفض التحول الصناعي ،اذهب للعيش يف الغابة كما يف كتاب والدن ( )Waldenإذا ٌ
ٍ
أردت ،وإذا عشت دون كثري من الغذاء ،ورأيت أطفالك ميوتون وهم ُرضَّع ،ونفرت من راحة املعرفة بالقراءة والكتابة ،وقبلت
ُكن لك ذرة من االحرتام إذا حاولت -حىت لكين لن أ ِّ
احلسي ،و ِّ
عاما من عمرك ،إ ًذا فسأحرتمك لقوة نفورك ِّاقتطاع عشرين ً
يقة سلبية -فرض اخليار نفسه على اآلخرين الذين ال يتمتعون حبرية االختيار ،وحنن يف احلقيقة نعرف ماذا سيكون لو بطر ٍ
ٍ
بسرعة بقدر ما بلد سنحت الفرصة للفقراء فيه بالذهاب إىل املصانع ،ذهبوا اختيارهم لو استطاعوا االختيار ،ألنَّه يف أي ٍ
اتسعت هلم املصانع.
أيضا يف َّ
أن املعيار املالئم للنظر يف حمنة الفقراء يف كان سنو كما رأينا دقي ًقا يف ادعاءاته عن التقدم يف احلياة والصحة ،وكان حمقًّا ً
عاما خرباء التنمية
يردد حجة سنو بعد مخسني ً الدول الصناعية هو جمموعة البدائل املتاحة أمامهم يف الزمان واملكان الذي يعيشون فيهِّ .
كثريا من منشأ كل َّ مثل رادلت ،الذي الحظ أنَّه «رغم َّ
أن العمل يف منصات املصانع يُشار إليه غالبًا بالعمل االستغاليل ،إال أنَّه أفضل ً
األعمال االستغاللية ،وهو العمل يف احلقول كعامل زراعي بأج ٍر يومي».
حترًرا للنساء الاليت حيصلن على هذه الوظائف. متتد مزايا العمل الصناعي إىل ما هو أكثر من املعايري املادية للمعيشة ،فقد يُعد ُّ
حتكي تشيلسيا فوليت (مديرة حترير )HumanProgressيف مقاهلا «اجلانب النسوي للمؤسسات الصناعية املستغلة» َّ
أن العمل
يف املصانع يف القرن التاسع عشر قدَّم للنساء مهربًا من األدوار االجتماعية التقليدية يف حياة القرية واملزرعة ،ولذا اعتربه بعض الرجال
صالحا وفضيلةً سيئات السمعة» .مل تنظر الفتيات أنفسهن لألمر بتلك الطريقة يف كل األحوال ،إذ ً آنذاك «كافيًا جلعل أكثر الفتيات
كتبت إحدى العامالت يف مصنع نسيج يف لويل يف ماساتشوستس يف عام :1840
يتم مجعنا كي جنين أكرب قد ٍر من املال يف أسرع ٍ
وقت ممكن ..من الغريب أن تُرفض إحدى أكثر الوظائف رحبًا للنساء يف
ألهنا شاقة أو َّ
ألن بعض الناس متحيزون ضدها ،ففتيات الشمال األمريكي يتمتعن بالكثري من نيو إجنالند احملبة للمال َّ
االستقاللية اليت متنعهن من ذلك.
كانت تلك التجارب خالل الثورة الصناعية تنبئ بالتجارب اليت مير هبا العامل النامي اليوم ،قالت كافيتا رامداس ،رئيسة الصندوق
العاملي للنساء ،يف عام 2001إنَّه يف القرى اهلندية «كل ما يُتاح للمرأة فعله أن تطيع زوجها وأقرباءها ،وتطحن حبوب الدَّخن ،وتغين.
أكد حملل يف بنجالديش عمال جتاريًّا ،وتسمح ألطفاهلا بتلقي التعليم» ،و َّ
فإذا انتقلت إىل البلدة ،ميكنها أن حتصل على وظيفة ،وتنشئ ً
أن النساء الاليت يعملن يف صناعة املالبس (كما فعلت جدَّيت يف كندا يف الثالثينيات) ُك َّن يتمتعن بارتفاع األجور وتأخر سن الزواجَّ
جيل واحد ،ميكن أن َّ
تتشكل األحياء الفقرية والضواحي الفقرية واألحياء العشوائية وإجناب ٍ
أطفال أقل حيصلون على تعلي ٍم أفضل .وخالل ٍ
لتصبح ضواحي راقية وميكن أن تصبح الطبقة العاملة طبقةً متوسطة.
ِّرا ملزاياه طويلة األمد ،إذ يستطيع املرء ُتيل تاريخ بديل للثورة
ليس على املرء أن يقبل وحشية التحول الصناعي كي يكون مقد ً
وقت أبكر ،وتعمل فيه املصانع دون أطفال وتوفِّر ظروف عمل أفضل الصناعية ،يكون فيه البشر قد طبَّقوا حساسيتهم احلديثة يف ٍ
للعمال البالغني .يوجد اليوم يف العامل النامي بال شك مصانع تستطيع توفري نفس العدد من الوظائف وتعامل عماهلا برفق ،وجتين رحبًا
أيضا ،فقد تسبَّب الضغط الذي قامت به مفاوضات التجار ومظاهرات املستهلكني االحتجاجية يف حتسني ظروف العمال يف العديد ً
من األماكن بقد ٍر ملموس ،وهو تقدم طبيعي مصاحب لزيادة الدول غىن و ً
اندماجا يف اجملتمع الدويل (كما سنرى يف الفصل الثاين عشر
عندما ننظر إىل تاريخ السالمة يف مواقع العمل يف جمتمعنا) .ال يقوم التقدم على قبول كل تغيري ضمن حزمة متكاملة ،و َّ
كأن علينا أن
متاما بتفاصيلها أحداث جيدة أو خيارا باإلجياب أو بالسلب بشأن ما إذا كانت الثورة الصناعية أو العوملة كما حدثت أي منهما ً
نتخذ ً
وإمنا يشتمل التقدم على تفكيك خصائص أي عملية اجتماعية بقدر اإلمكان هبدف مضاعفة املزايا املفيدة للبشر مع تقليل سيئةَّ ،
األضرار.
العامل األخري -واألهم يف العديد من التحليالت -الذي أسهم يف التقارب الكبري هو العلم والتكنولوجيا ،فتكلفة احلياة تقل
باستمرار ،وهو أمر جيد ،وبفضل التطورات يف املعارف العملية ،أصبح من املمكن بأجر ساعة واحدة من العمل شراء ٍ
غذاء ورعاية
طعاما
صحية وتعليم ومالبس ومواد بناء وضرورات بسيطة ورفاهيات أكثر مما كان من املمكن شراؤه هبا من قبل .مل ُيعد الناس يتناولون ً
بدال من السري حفاة ،وبإمكان البالغني
أرخص وأدوية أرخص فحسب ،بل أصبح بإمكان األطفال ارتداء صنادل بالستيكية رخيصة ً
قضاء الوقت سويًّا أثناء تصفيف الشعر يف الصالون أو مشاهدة مباراة كرة قدم باستخدام أجهزة وألواح مشسية رخيصةَّ .أما النصائح
اجليدة بشأن الصحة أو الزراعة أو األعمال التجارية ،فهي أفضل من «رخيصة»َّ ،إهنا جمانية.
ميتلك اليوم حوايل نصف األشخاص البالغني يف العامل هواتف ذكية ،وأغلبهم مشرتكون يف اخلدمات اهلاتفية ،ففي أحناء العامل اليت
ال توجد هبا طرق وال خطوط هاتفية أرضية وال خدمات بريدية وال صحف وال بنوك ،ال تكون اهلواتف احملمولة جمرد طريقة للنميمة
أيضا مولِّ ًدا رئيسيًّا للثروة ،فهي تسمح للناس بتحويل األموال وطلب األدوات واإلمدادات ومتابعة
ومشاركة صور القطط ،بل تكون ً
الطقس واألسواق والعثور على وظيفة هنارية واحلصول على نصائح بشأن املمارسات الصحية والزراعية ،بل وحىت تلقي التعليم األساسي.
حتليل أجراه االقتصادي روبرت جنسن حتت عنوان فرعي هو «اقتصاديات املعلومات الصغرية واخلاصة بسمك األسقمري وضَّح ٌ
(املاكريل)» كيف زاد صغار الصيادين يف جنوب اهلند من دخلهم وخفضوا السعر احمللي للسمك باستخدام هواتفهم احملمولة يف البحر
ملعرفة السوق اليت تعرض أفضل سعر يف ذلك اليوم ،مما وفَّر عليهم عناء تفريغ صيدهم سريع التلف يف بلدات متخمة بالسمك يف الوقت
متاما .تتيح اهلواتف احملمولة هبذه الطريقة ملئات املاليني من صغار املزارعني والصيادين أن يصبحوا فاعلني
الذي ُتلو بلدات أخرى منه ً
عقالنيني ذوي عل ٍم يف األسواق املثالية غري االحتكاكية كما تصفها كتب االقتصاد .وف ًقا ألحد التقديرات ،يضيف كل هاتف خلوي
3000دوالر إىل الناتج احمللي اإلمجايل ألي ٍ
دولة نامية.
لقد أعادت قوة املعرفة املفيدة كتابة قواعد التنمية العاملية .وخيتلف خرباء التنمية حول مدى حكمة املعونات األجنبية ،فيقول
بعضهم َّإهنا تضر أكثر مما تنفع عرب إثراء احلكومات الفاسدة ومنافسة التجارة احمللية ،ويذكر آخرون ً
أرقاما حديثة تشري إىل َّ
أن املعونات
ٍ
هائال بالفعل ،ويف حني َّأهنم خيتلفون على آثار التربع بالغذاء واملال ،لكنَّهم يتفقون ً
مجيعا على أن نفعا ً املخصصة حبكمة قد حققت ً
التربع بالتكنولوجيا -مثل األدوية واإللكرتونيات وأنواع خمتلفة من احملاصيل وأفضل املمارسات يف الزراعة واألعمال التجارية والصحة
العامةِ -هبةٌ خالصة( .كما قال جيفرسون :من يتلقى مين فكرة ،يتلقى الرسالة بنفسه دون أن تنتقص من فكريت) .ورغم التشديد على
أن قيمة املعرفة جعلت هذا املقياس أقل صلةً مبا هنتم به حقًّا ،وهو جودة احلياة .لوأمهية نصيب الفرد من الناتج احمللي اإلمجايلَّ ،إال َّ
ضمنت خطًّا ميثِّل إفريقيا يف الركن األمين السفلي من الشكل رقم ،2-8كان سيبدو عاديًّا ،وكان املنحىن سيتجه إىل األعلى كنت َّ
أن تقدم إفريقيا الفعلي ِّ
يكذب بالتأكيد ،ولكن دون االنطالق املطرد الذي حدث للخطوط املمثلة ألوروبا وآسيا .يؤِّكد تشارلز كيين َّ
عموما
أن سكان الدول األغىن يعيشون أطول ً ألن الصحة وطول العمر والتعليم أقل تكلفةً مما كانا من قبل ،ورغم َّ املنحدر السطحي َّ
صعودا ،أي يعيش اجلميع أطولأن املنحىن يندفع ً (وهي عالقة يُطلق عليها منحىن بريستون ،نسبةً إىل االقتصادي الذي اكتشفه)َّ ،إال َّ
عاما فقط ،ومل ي ُكن أعلى من مخسة وأربعني بغض النظر عن الدخل .كان متوسط العمر املتوقع يف أغىن دولة منذ قرنني (هولندا) أربعني ً
عاما ،وال يقل
عاما يف أي دولة أخرىَّ ،أما اليوم فمتوسط العمر املتوقع يف أفقر دولة يف العامل (مجهورية إفريقيا الوسطى) أربعة ومخسون ً
ً
عاما. ٍ
يف أي دولة عن مخسة وأربعني ً
مقياسا سطحيًّا وماديًّاَّ ،إال أنَّه يرتبط بكل مؤشرات االزدهار ،كما سنرى مر ًارا
رغم سهولة السخرية من الدخل القومي باعتباره ً
أن نصيب الفرد من الناتج احمللي اإلمجايل يرتبط بطول العمر والصحة والتغذية، وتكر ًارا يف الفصول التالية ،فمن األمور شديدة الوضوح َّ
وضوحا أنَّه يرتبط بقي ٍم أخالقية أمسى مثل السالم واحلرية وحقوق اإلنسان والتسامح .فالدول األغىن -يف املتوسط- ً ومن األمور األقل
ميال إىل أن متزقها احلروب األهلية (الفصلمبعدل أقل من غريها (يف الفصل احلادي عشر) ،وهي أقل ً ُتوض حروبا بعضها مع بعض ٍ
ً
ميال إىل أن تصري دميقراطية وتظل كذلك (الفصل الرابع عشر) ،وتتميز باحرتام أكرب حلقوق اإلنسان (الفصل احلادي عشر) ،وأكثر ً
كن مواطنو الدول األغىن احرت ًاما أكرب للقيم «التحررية» أو الثاين عشر :يف املتوسط ،أي َّ
أن دول النفط العربية غنية ولكنَّها قمعية) .يَ ُّ
الليربالية مثل متتُّع النساء باملساواة وحرية التعبري وحقوق املثليني والدميقراطية التشاركية ومحاية البيئة (الفصل العاشر والرابع عشر) ،فمن
غري املفاجئ أن تزداد الدول سعادةً كلما ازدادت غىن (الفصل الثامن عشر) ،ولكن املفاجئ َّأهنا كلما ازدادت غىن ،ازدادت ذكاءً!
(الفصل السادس عشر).
وعند تفسري متسلسلة «من الصومال إىل السودان» هذه ،حيث تقع الدول الفقرية العنيفة القمعية غري السعيدة على أحد الطرفني،
أن هناك عوامل أخرى أن االرتباط ال يعين السببية ،و َّ
وتقع الدول الغنية املساملة الليربالية السعيدة على الطرف اآلخر ،ال بد أن نذكر َّ
مثل التعليم واجلغرافيا والتاريخ والثقافة قد يكون هلا دور يف األمر ،ولكن عندما حياول احملللون الكميون املقارنة بينهما ،جيدون َّ
أن التنمية
اجتماعا ألعضاء هيئة التدريس،
ً حمرك رئيسي لرفاهة اإلنسان .تقول نكتة أكادميية قدمية َّ
إن هناك عميد كلية يرأس االقتصادية تبدو و َّ
كأهنا ِّ
جين وعرض عليه حتقيق أمنية واحدة من بني ثالث أمنياتَّ :إما املال أو الشهرة أو احلكمة ،فأجاب العميد وقال« :هذا وفجأة ظهر ِّ
ست حيايت للفهم ،سأختار احلكمة بالتأكيد»َّ .لوح اجلين بيده واختفى وسط الدخان ،مث انقشع الدخان كر ُ سهل جدًّا ،أنا باحث ،و َّ
أخريا قال أحد األساتذة« :ماذا
اضعا رأسه بني يديه ،غارقًا يف فكره ،مرت دقيقة ،مث عشر دقائق ،مث مخس عشرة دقيقة ،و ً وظهر العميد و ً
بعد؟ ماذا بعد؟» فتمتم العميد وقال« :كان ال بد أن أختار املال».
الفصل التاسع:
انعدام المساواة
«ولكن هل يذهب كل شيء إىل جيوب األغنياء؟» هذا سؤال من الطبيعي أن يُطرح يف الدول املتقدمة يف العقد الثاين من القرن احلادي
والعشرين ،مع اهلوس بانعدام املساواة االقتصادية ،إذ أطلق عليها البابا فرانسيس «أصل الشرور االجتماعية» ،ودعاها باراك أوباما بـ
«التحدي الفارق يف عصرنا» ،وازدادت نسبة املقاالت املنشورة يف نيويورك تاميز اليت تشمل كلمة انعدام املساواة بني عامي 2009
مقاال .أصبحت احلكمة السائدة اجلديدة هي َّ
أن القلة الغنية اليت متثِّل نسبة و 2016بعشرة أضعاف ،إذ بلغت 1من بني كل ً 73
%1من الناس قد استحوذت على كل النمو االقتصادي خالل العقود األخرية ،وكل من سواهم يغرق ٍ
ببطء أو يصارع املياه يف حماو ٍلة
مسهما يف
ً للنجاة .لو كان هذا ما حدث ،ملا كان انفجار الثروة الذي وثقناه يف الفصل السابق يستحق االحتفاء ،مبا أنه مل ي ُكن ليظل
عموما.
رفاهة البشر ً
لطاملا كان انعدام املساواة االقتصادية قضية مميِّزة لليسار الذي اختص هبا ،مث اكتسبت أمهية بارزة بعدما بدأ الكساد الكبري يف عام
يعرف نفسه ،2007فأشعلت حركة «احتلوا وول سرتيت» يف عام ،2011وترشح بريين ساندرز للرئاسة يف عام ،2016وهو الذي ِّ
صرح َّ
بأن «األمة لن تنجو أخالقيًّا وال اقتصاديًّا طاملا متتلك قلةٌ قليلة الكثري ،بينما ال متتلك األكثرية سوى القليل بأنه اشرتاكي والذي َّ
أن الواليات املتحدة قد أصبحت «دولة ولكن الثورة أكلت أبناءها يف ذلك العام ودفعت حنو ترشح دونالد ترامب الذي زعم َّ جدًّا»َّ .
عامل ثالث» ومل يُ ِلق باللوم يف تناقص ثروات الطبقة العاملة على وول سرتيت والـ َّ ،%1
وإمنا على اهلجرة والتجارة اخلارجية .التقى طرفا
ولكل منهما أسبابه املختلفة للغضب من انعدام املساواة االقتصادية ،وساعد تشاؤمهما املشرتك بشأن الطيف السياسي ،اليمني واليسارٍّ ،
االقتصاد احلديث يف انتخاب أكثر رؤساء أمريكا تطرفًا يف العصور احلديثة.
هل أشقى انعدام املساواة حقًّا أغلبية املواطنني؟ ال شك َّ
أن انعدام املساواة قد زاد يف معظم الدول الغربية منذ وصوله إىل أدىن
مستوى له حوايل عام ،1980وخاصةً يف الواليات املتحدة ودول أخرى متحدثة باإلجنليزية ،ال سيما يف التفاوت بني األغىن وبني كل
من سواهم .يُقاس انعدام املساواة عاد ًة مبعامل جيين ،وهو رقم يرتاوح بني 0الذي يعين أن ما ميتلكه اجلميع متسا ٍو ،و 1الذي يعين َّ
أن
عموما من 0.25وهو ما يشري إىل توزيع الدخل األكثر احدا لديه كل شيء بينما ال ميتلك سواه شيئًا( .تتنوع قيم جيين ً شخصا و ً
ً
ٍ
بدرجة هائلة مساواةً ،مثلما هو يف البلدان اإلسكندنافية بعد الضرائب واالستحقاقات ،إىل 0.7وهو ما يشري إىل توزيع غري متسا ٍو
مثلما هو يف جنوب إفريقيا) .ارتفع مؤشر جيين لدخل السوق (قبل الضرائب واالستحقاقات) يف الواليات املتحدة من 0.44يف عام
أيضا بنسبة إمجايل الدخل الذي جينيه جزءٌ ما (تقسيم كمي) من 1984إىل 0.51يف عام .2012ميكن قياس انعدام املساواة ً
السكان .منت حصة الدخل املتجه إىل الفئة األغىن من سكان الواليات املتحدة ،اليت متثل 1يف املئة ،من 8يف املئة يف عام 1980
العشر األغىن من بني هؤالء الذين ميثلون 1يف املئة ،من 2يف املئة
إىل 18يف املئة يف عام ،2015يف حني منت احلصة املتجهة إىل ُ
لتصل إىل 8يف املئة.
أن بعض الظواهر اليت تندرج حتت عنوان انعدام املساواة (هناك الكثري من تلك الظواهر) خطرية وجيب تناوهلا ،وإن كان ال شك َّ
حترض عليها مثل ترك اقتصادات السوق والتقدم التكنولوجي والتجارة اخلارجيةَّ .
إن ذلك فقط بغرض تعطيل األجندات اهلدَّامة اليت ِّ
حتليل انعدام املساواة شديد التعقيد (يف سكان يبلغ عددهم مليون نسمة ،توجد 999,999طريقةً ميكن هبا أن تنعدم املساواة بينهم)،
متاما باخلطاب الديستويب اليائسكثريا من الناس تأثروا ً
ألن ًفصل عن هذا املوضوع َّوقد مأل هذا املوضوع كتبًا عديدة ،وسأحتاج إىل ٍ
ٍ
ألسباب كثرية. وأصبحوا يرون انعدام املساواة عالمةً على إخفاق احلداثة يف حتسني احلالة البشرية ،وهذا كما سنرى خطأ
مكونات
مكونًا أساسيًّا من ِّ
أن انعدام املساواة يف الدخل ليس ِّ إن نقطة البداية لفهم انعدام املساواة يف سياق تقدم البشر هو إدراك َّ
الرفاهة ،فهو ليس كالصحة والرخاء واملعرفة واألمن والسالم وجماالت التقدم األخرى اليت أنظر فيها يف هذه الفصول ،والسبب يف ذلك
ت عنه نكتة قدمية من عهد االحتاد السوفيييت وهي :كان إجيور وبوريس فالحني معدمني حيصدان من أرضيهما الصغريتني بالكاد ما عرب ْ
َّ
يكفي إلطعام أسرتيهما ،وكان الفرق الوحيد بينهما َّ
أن بوريس كان ميتلك عنزة هزيلة .ويف أحد األيام ،رأى إجيور جنيةً أخربته أن يتمىن
أمنية وستحققها له ،فقال إجيور« :أمتىن أن متوت عنزة بوريس».
حاال ،وإن كان إجيور قد أرضى حسده واملقصود هبذه النكتة بالطبع َّأهنما أصبحا متساويني ولكن أيًّا منهما مل يصبح أيسر ً
عرب الفيلسوف هاري فرانكفورت ) (Harry Frankfurtيف كتابه عن انعدام المساواة ( )On Inequalityالصادر اخلبيثَّ .
ٍ
جانب أخالقي يف ذاته، عام 2005عن هذه النقطة أيضا مع ٍ
فارق كبري ،فقال فرانكفورت َّ
إن انعدام املساواة ليس مستهجنًا من ً
ٍ
جانب أخالقي كم جيين فاملستهجن هو الفقر ،إذا عاش املرء حياةً طويلة مفعمة بالصحة واملتعة واحلماس ،فلن يكون من املهم من
جريانك األثرياء وال حجم منزهلم وال عدد سياراهتم .كتب فرانكفورت« :من وجهة نظ ٍر أخالقية ،ليس من املهم أن ميتلك اجلميع نفس
َّاما
األشياء ،فاملهم من الناحية األخالقية أن ميتلك اجلميع ما يكفي» .قد يكون الرتكيز ضيق األفق على انعدام املساواة االقتصادية هد ً
بدال من اكتشاف كيف ميكن أن حيصل إجيور على عنزة أخرى. بالطبع إذا أهلانا وجعلنا نقتل عنزة بوريس ً
دودا
موردا حم ً
ينبع اخللط بني الفقر وانعدام املساواة مباشرًة من مغالطة الكتلة اإلمجالية ،وهي العقلية اليت تنظر إىل الثروة باعتبارها ً
كجثة حيوان جيب تقسيمها مبعادلة صفرية ،فإذا حصل بعض األفراد على مقدار أكثر ،فإن اآلخرين حيصلون بالضرورة على مقدا ٍر أقل.
مطردا ،ويعين هذا أنَّه عندما يزداد األغنياء غىن ،فإن الفقراء
ازديادا ً
والثروة كما رأينا ليست كذلك ،فمنذ الثورة الصناعية ازدادت الثروة ً
يرددون مغالطة الكتلة اإلمجالية ،من منطلق محاسة بالغية على ما يبدو وليس من منطلق ٍ
خلط أيضا .وحىت اخلرباء ِّ
ميكن أن يغتنوا ً
مفاهيمي ،كتب توماس بيكييت ( ،)Thomas Pikettyالذي أصبح كتابه رأس المال في القرن الحادي والعشرين
( ،)Capital in the Twenty-First Centuryالصادر عام 2014والذي حقق أعلى املبيعات ،طلسم احلظ للضجة
إن النصف األفقر من السكان اليوم يف نفس مستوى الفقر الذي كان فيه يف املاضي ،إذ ميتلك املثارة حول انعدام املساواة ،وقالَّ « :
ولكن الثروة اإلمجالية اليوم أكثر مما كانت
متاما كما كان ميتلكه يف عام َّ ،»1910
بالكاد 5يف املئة من الثروة اإلمجالية يف عام ً ،2010
كثريا وليس «يف نفس مستوى الفقر». ٍ
يف عام 1910بقدر هائل ،إ ًذا ،لو كان النصف األفقر ميتلك نفس النسبة ،فهو أغىن ً
ضررا هو االعتقاد بأنَّه إذا اغتىن بعض الناس ،فال بد أن يكونوا قد سرقوا من اآلخرين
من عواقب مغالطة الكتلة اإلمجالية األكثر ً
مثال شهري تصوره الفيلسوف روبرت نوزيك ،ولكننا حدَّثناه ليالئم القرن احلاديأكثر من نصيبهم ،وهذا خطأ ،ويتضح سبب خطئه يف ٍ
والعشرين :يشمل مليارديرات العامل جي كي رولينج ،مؤلفة سلسلة روايات هاري بوتر ،اليت بيعت منها أكثر من 400مليون نسخة
أن هناك مليار شخص ،دفع كلٌّ منهم 10دوالرات ومت حتويلها إىل سلسلة أفالم شاهدها عدد مقارب من املشاهدين .لنفرتض َّ
لالستمتاع بنسخة ورقية من إحدى روايات هاري بوتر أو بتذكرة سينما ملشاهدة أحد أفالم السلسلة ،وذهب ُعشر األرباح للمؤلفة،
أن كل شخص من حاال ال أسوأ (ال يعين هذا َّفأصبحت مليارديرة ،مما يزيد من نسبة انعدام املساواة ،ولكنَّها جعلت الناس أفضل ً
حاال) ،وال يعين هذا َّ
أن ثروهتا مستحقة نتيجة جهودها أو مهارهتا ،وال مكافأة على املعرفة والسعادة اليت األغنياء قد جعل الناس أفضل ً
حكما باستحقاقها أن تكون بتلك الدرجة من الثراء ،وإمنا نتجت ثروهتا عن قرارات طوعية اُتذهاأضافتها إىل العامل ،ومل تصدر جلنةٌ ما ً
مليارات مشرتي الكتب ومرتادي قاعات السينما.
رمبا توجد بالتأكيد أسباب للقلق بشأن انعدام املساواة يف ذاته وليس بشأن الفقر فقط ،فقد يكون أغلب الناس مثل إجيور وتتحدَّد
سعادهتم بالفرق بينهم وبني املواطنني اآلخرين وليس مبدى جودة حاهلم يف املطلق .عندما يصبح األغنياء شديدي الغىن ،يشعر كل من
فإن انعدام املساواة يقلِّل من الرفاهة حىت لو أصبح اجلميع أغىن ،وهذه فكرة قدمية يف علم النفس االجتماعي ،ويُطلق
سواهم بالفقر ،لذا َّ
عليها أمساء خمتلفة مثل نظرية املقارنة االجتماعية ،أو اجلماعات املرجعية ،أو قلق السعي إىل املكانة ،أو احلرمان النسيب ،ولكن جيب أن
بلد فقري مقيَّدة حبدود قريتها ،وفقدت نصف أطفاهلانضع الفكرة يف نصاهبا الصحيحُ .تيل معي امرأة جاهلة امسها «سيما» تعيش يف ٍ
بفعل املرض ،وستموت يف عمر اخلمسني ،كما سيحدث ألغلب من تعرفهم ،واآلن ُتيل «سايل» ،وهي امرأة متعلِّمة يف ٍ
بلد غين وزارت
الدنيا .من اجلائز أال
عدة مدن وحدائق وطنية ،وشهدت منو أطفاهلا ،وستعيش حىت عمر الثمانني ،ولكنَّها عالقة يف الطبقة الوسطى ُ
تكون «سايل» سعيدة ،إلحباطها بسبب الثروة الظاهرية اليت لن حتصل عليها مطل ًقا ،ورمبا تكون حىت أتعس من «سيما» اليت تشعر
حاال ،ومن الضالل أن نتوصل إىل أننا من أن «سايل» مل ت ُكن أفضل ً باالمتنان على النعم البسيطة ،ومع ذلك ،فمن اجلنون افرتاض َّ
حيسن حياة جرياهنا أكثر مما ال جيعلها أسعد. األفضل أال حناول حتسني حياة «سيما» َّ
ألن هذا قد ِّ
ألن «سايل» يف احلياة الواقعية أسعد بكل تأكيد .وعلى عكس االعتقاد السابق َّ
بأن وهذه التجربة الفكرية جدلية على أي حالَّ ،
الناس واعون باملواطنني اآلخرين األغىن منهم لدرجة أهنم يواصلون إعادة ضبط مقياس سعادهتم الداخلية على هذا األساس مهما كان
أن األشخاص األغىن واألشخاص الذين يعيشون يف ٍ
دول أغىن أسعد (يف املتوسط) من مستواهم ،فسنرى يف الفصل الثامن عشر َّ
األشخاص األفقر واألشخاص الذين يعيشون يف ٍ
دول أفقر.
بؤسا إذا ظل احمليطون
ولكن حىت لو صار الناس أسعد عندما يصبحون أغىن وتصبح بلداهنم أغىن ،فهل ميكن أن يصريوا أكثر ً
هبم أغىن منهم مع زيادة نسبة انعدام املساواة االقتصادية؟ يدَّعي اختصاصيا الوبائيات ريتشارد ويلكينسون
) (Richard Wilkinsonوكيت بيكيت ) (Kate Pickettيف كتاهبما الشهري مستوى الروح )(The Spirit Level
أيضا من جرائم القتل والسجن ومحل املراهقات أن الدول ذات املستويات األعلى من انعدام املساواة يف الدخل هبا مستويات أعلى ً َّ
الرضَّع واألمراض اجلسدية والنفسية وغياب الثقة االجتماعية والسمنة املفرطة وتعاطي املواد املخدرة ،فانعدام املساواة
ووفيات األطفال ُ
بأهنم يُزج هبم يف منافسة علىاالقتصادية يتسبب يف األمراض كما يقولون :جتعل اجملتمعات اليت تغيب فيها املساواة الناس يشعرون َّ
َ
ويدمرون أنفسهم.
السيطرة حيصل فيها الفائز على كل شيء ،وجيعلهم التوتر والضغط مرضى ِّ
أُطلق على نظرية مستوى الروح «نظرية اليسار اجلديدة عن كل شيء» ،وهي إشكالية كأي نظرية أخرى تقفز من ارتباطات
أن الناس يصابون بقلق املنافسة نتيجة وجود جي كي رولينج وسريجي برين متشابكة إىل تفس ٍري أحادي السببً ،
فأوال ،ليس من الواضح َّ
خالفًا ملنافسيهم احملليني على النجاح االجتماعي أو العاطفي أو املهين ،وُتتلف الدول األكثر مساواةً من الناحية االقتصادية مثل السويد
ب عديدة أخرى غري توزيع الدخل ،فالدول األكثر مساوا ًة تتسم وفرنسا عن الدول غري املتوازنة مثل الربازيل وجنوب إفريقيا يف جوان َ
جتانسا من الناحية الثقافية ،ولذا فالربط األويل بني انعدام املساواة والسعادة (أو أي َّ ٍ ٍ
بكوهنا أغىن وبتعليم أفضل وإدارة أفضل وبأهنا أكثر ً
صورةٍ أخرى من صور اخلري االجتماعي) ال يُظهر سوى وجود عدة أسباب لكون احلياة يف الدامنارك أفضل من احلياة يف أوغندا .كانت
ولكن االرتباطات حىت يف نطاق تلك العينة كانت عابرة ،تظهر وُتتفي بناءً على عينة ويلكينسون وبيكيت قاصرة على الدول املتقدمةَّ ،
ٍ
بصحة اجتماعية اختيار الدول اليت ستشملها العينة ،فالدول الثرية ،ولكن املتسمة بانعدام املساواة ،مثل سنغافورة وهونج هونج ،تتمتع
أفضل غالبًا من الدول األفقر املتسمة مبساواةٍ أكرب ،مثل دول شرق أوروبا اليت كانت شيوعية ساب ًقا.
اسة أجرياها على مئيت ألف قطع عاملا االجتماع جوناثان كيلي وماريا إيفانز الرابط السبيب بني انعدام املساواة والسعادة يف در ٍ
جمتمعا على مدار ثالثة عقود( ،وسننظر يف كيفية قياس السعادة ومستوى الرضا عن احلياة يف الفصل الثامن شخص يف مثانية وستني ً ٍ
عشر) ،كانت العوامل الثابتة يف دراسة كيلي وإيفانز هي العوامل الكربى اليت من املعروف أهنا تؤثر يف السعادة ومنها :نصيب الفرد من
العمر ،والنوع ،واملستوى التعليمي ،واحلالة االجتماعية ،واملواظبة على الطقوس الدينية ،ووجدت الدراسة َّ
أن الناتج احمللي اإلمجايل ،و ُ
حمطما
بأن انعدام املساواة يتسبب يف التعاسة قد «حتطمت على صخرة احلقيقة» .ليس انعدام املساواة يف الدول النامية ً النظرية القائلة َّ
أن األمل يطغي على ما يشعر به الناس مشج ًعا ،فالناس يف اجملتمعات األقل مساواةً كانوا أسعد ،إذ يشري الباحثان إىل َّ
للمعنويات ،بل ِّ
ٍ
حرمان نسيب ،فيُنظر إىل انعدام املساواة باعتباره يف الدول الفقرية اليت تغيب فيها املساواة من ٍ
حسد أو قلق بشأن السعي إىل املكانة أو
أن التعليم والطرق األخرى للحراك االجتماعي الصاعد قد تؤيت مثارها هلم وألطفاهلم .ويف الدول بشرى بوجود الفرص ،وعالمة على َّ
املتقدمة (عدا الدول الشيوعية ساب ًقا) ،مل يصنع انعدام املساواة أي فرق بأي شكل( .ولكن يف الدول الشيوعية ساب ًقا ،كانت آثاره
قليال ،فانعدام املساواة أضر جبيل كبار السن الذين نشؤوا يف ظل الشيوعية ،ولكنَّه إما ساعد األجيال األصغر أو مل يصنع فرقًا ملتبسة ً
يف حياهتم).
شائعا آخر يف هذه النقاشات ،وهو ربط انعدام املساواة بغياب العدل .أظهرت تثري آثار انعدام املساواة املتقلبة على الرفاهية خلطًا ً
يفضلون تقسيم املكاسب بالتساوي بني املشاركني حىت لو حصل اجلميع أن الناس -مبا يشمل األطفالِّ - دراسات عديدة يف علم النفس َّ
يف النهاية على مقدا ٍر أقل ،و َّأدى هذا ببعض علماء النفس إىل افرتاض وجود متالزمة يُطلق عليها «النفور من عدم املساواة» :وهي
ولكن علماء النفس كريستينا ستارمانز ومارك شيسكني وبول بلوم ألقوا نظرة ثانية على هذه الدراسات الرغبة الظاهرة يف توزيع الثروةَّ .
أن الناس -الذين يشملون زمالءهم يف املخترب ومواطنني يفضل الناس اجملتمعات غري املتساوية؟» ،ووجدوا َّمقال حديث بعنوان «ملاذا ِّ يف ٍ
جبد أكثر ،أو
أن العالوات ذهبت إىل العاملني ٍّ أن التقسيم عادل :أي َّ يفضلون التوزيع غري املتساوي طاملا شعروا َّ
آخرين من بلدهمِّ -
بيانصيب نزيه .توصل الباحثون يف النهاية إىل أنَّه «ال يوجد دليل حىت اآلن على َّ
أن ٍ املساعدين األكرم ،أو حىت الفائزين احملظوظني
األطفال أو البالغني يشعرون بأي نفوٍر من عدم املساواة» ،فالناس يرضون بانعدام املساواة االقتصادية طاملا شعروا َّ
بأن البلد تقوم على
إن التصورات حول أسباب انعدام املساواة تدور يف عقول الناس أكثر مما تفعل أساس اجلدارة ،ويغضبون عندما يشعرون بغري ذلكَّ .
حقيقة انعدام املساواة .خيلق هذا ثغرة للساسة كي يثريوا عواطف الناس باالستفراد «بالغشاشني» الذين يأخذون أكثر من حصتهم
العادلة مثل :املرتحبات من الشؤون االجتماعية ،واملهاجرين ،والدول األجنبية ،واملصرفيني ،واألغنياء الذين ينتمون إىل أقلية عرقية.
إضافةً إىل آثار انعدام املساواة فيما خيص علم النفس الفردي ،فقد ارتبط بأنواع عديدة من االختالالت على النطاق اجملتمعي ،مبا
فيها الركود االقتصادي ،واالضطراب املايل ،والثبات االجتماعي بني األجيال ،واستغالل النفوذ السياسي .جيب أن نأخذ هذه األضرار
أيضا ،ويف احلالتني ،أظن َّ
أن توجيه إصبع االهتام إىل على حممل اجلد ،ولكن ال جيب أن نقفز من االرتباط إىل السببية يف هذه النقطة ً
لكل من هذه مؤشر جيين بكونه السبب اجلذري العميق لكث ٍري من األمراض االجتماعية أقل فعاليةً من تركيز االنتباه على احللول ٍّ
املشكالت ،مثل :االستثمار يف األحباث والبنية التحتية من أجل اهلروب من الركود االقتصادي ،وتنظيم القطاع املايل للحد من االضطراب،
وتوسيع فرص احلصول على التعليم والتدريب على الوظائف من أجل تسهيل احلراك االقتصادي ،والشفافية االنتخابية وإصالح نظام
خبيث بصورةٍ خاصة ألن بإمكانه تشويهإن أثر املال يف السياسة ٌ التمويالت للقضاء على استغالل النفوذ بطريقة غري شرعية ،وهكذاَّ .
كل سياسات احلكومة ،ولكنه ال يساوي انعدام املساواة يف الدخل ،فهذه مشكلة أخرى ،ففي ظل عدم القيام بإصالح النظام االنتخايب،
سيتمكن الداعمون األغىن من التأثري يف الساسة سواء كانوا جينون 2أم 8يف املئة من الدخل القومي.
فانعدام املساواة االقتصادية إ ًذا ليس أحد أبعاد رفاهة البشرية يف ذاته ،وال جيب خلطه مع الفقر أو غياب العدل .لننتقل اآلن من
الداللة األخالقية النعدام املساواة إىل السؤال عن سبب تغريه مبرور الوقت.
إن الرواية التارخيية األبسط عن انعدام املساواة أنَّه جاء مصاحبا للحداثة ،ال بد أنَّنا قد بدأنا يف ٍ
حالة أصلية من املساواة ،ألنَّه عندما مل َّ
ً
صنِعت الثروة ،استطاع بعض الناس أن حيصلوا على نصيب ت ُكن هناك ثروة ،كان لدى اجلميع حصص متساوية من الال شيء ،مث عندما ُ
أكثر من اآلخرين .فانعدام املساواة وفق هذه القصة قد بدأ من مستوى الصفر ،ومع تزايد الثروة مبرور الوقت ،زاد مستوى انعدام املساواة
متاما.
ولكن هذه القصة ليست صحيحة ً أيضاَّ ، ً
إن البشر الذين يعيشون على الصيد ومجع الثمار يبدو أهنم يتمتعون بقد ٍر كبري من املساواة ،وهي احلقيقة اليت أهلمت ظهور نظرية َّ
فأوال:
أن تلك الصورة عن املساواتية لدى العالفني مضللةً . ولكن علماء اإلثنوغرافيا يشريون إىل َّ
ماركس وإجنلز عن «الشيوعية البدائية»َّ ،
ألن هذه اجلماعات قد ال متثل مجاعات الصيد ومجع الثمار املوجودة حىت اليوم واليت ميكننا دراستها طريقة احلياة اليت عاشها أسالفناَّ ،
أمرا ٍ
أن نقلها من مكان آلخر كان سيصبح ً مستحيال ،كما َّ
ً ض حدية ويعيشون حياة بدوية جتعل تراكم الثروة ُدفِعت حنو العيش يف أرا ٍ
ولكن مجاعات الصيد ومجع الثمار املستقرة ،مثل السكان األصليني لشمال غرب احمليط اهلادئ ،الذي يفيض بسمك السلمون مزعجاَّ .
ً
عبيدا وتكتنز وسائل الرتفيهوالتوت واحليوانات ذات الفرو ،مل تكن حتقق املساواة ،بل ونشأت فيها طبقة من النبالء بالوراثة متتلك ً
أن الصيدأن مجاعات الصيد ومجع الثمار البدوية تتشارك يف اللحوم ،مبا َّ وتتفاخر بثروهتا يف احتفاالت البوتالتش املبهرجة* .ويف حني َّ
لكن احتمالية أن يتشاركوايؤمن اجلميع ضد األيام اليت يعودون فيها خاليي الوفاضَّ ، أن مشاركة املكسب ِّ يتوقَّف على احلظ غالبًا و َّ
أن مجع الثمار يتوقَّف على اجملهود ،و َّ
أن املشاركة دون متييز ستسمح باالنتفاع اجملاين .إذًا فانعدام غذائهم املكون من نباتات أقل ،مبا َّ
أمر عام يف خمتلف اجملتمعات ،وكذلك الوعي بانعدامها .وجد حبث حديث عن انعدام املساواة يف أشكال الثروة اليت ٍ
املساواة بدرجة ما ٌ
أن هذه اجملتمعات أبعد ما تكون عن الع ْلف) َّ
ميكن صنعها يف جمتمعات الصيد ومجع الثمار (مثل األحصنة والقوارب وعائدات الصيد و َ
«الشيوعية البدائية» ،فكان متوسط قيم جيين هلذه اجملتمعات ،0.33وهو ما يقرب من قيمة الدخل املتاح لإلنفاق يف الواليات املتحدة
يف عام .2012
ماذا حيدث عندما يبدأ أحد اجملتمعات يف توليد ثروة وافرة؟ تكون زيادة انعدام املساواة املطلقة (أي الفرق بني األغىن واألفقر)
حصصا متطابقة ،يكون من احلتمي أن ينتهز بعض الناس الفرص ً توزع
ضرورةً رياضية تقريبًا ،ففي ظل غياب هيئة توزيع الدخل اليت ِّ
*هو احتفال عند السكان األصليين للشمال الغربي من كندا والواليات المتحدة ُتقدم فيه الهدايا- .المترجمة.
اجلديدة أكثر من غريهم ،سواء أكان ذلك باحلظ أم باملهارات أم باجملهود ،وسيحصدون عوائد غري متناسبة مع ما حيصده اآلخرون.
وليست الزيادة يف انعدام املساواة النسبية (اليت تُقاس مبؤشر جيين أو باحلصص من الدخل) ضرورةً رياضية ،ولكن من احملتمل جدًّا
ألن بعض الناس يرتكونحدوثها ،وف ًقا لفرضية االقتصادي سيمون كوزنتس ،فإنه مع ازدياد غىن الدولة ،ال بد أن تقل فيها املساواةَّ ،
معا ،فكلما
الزراعة ويتجهون إىل أعمال ذات أجر أعلى يف حني يظل البقية يف بؤس الريف .ولكن يف النهاية ،يرفع التيار كل القوارب ً
مشكال حرف ،Uويُطلق على القوس زاد عدد السكان الذين يتجهون إىل االقتصاد احلديث ،فإن انعدام املساواة ال بد أن يرتاجعِّ ،
االفرتاضي ملستوى انعدام املساواة عرب األزمنة منحىن كوزنتس.
رأينا يف الفصل السابق مالمح من منحىن كوزنتس النعدام املساواة بني الدول .بينما اشتد عود الثورة الصناعية ،قامت الدول
األوروبية باهلروب الكبري من الفقر العاملي ،خملِّفةً وراءها الدول األخرى ،وكما قال ديتون« :العامل األفضل يصنع عاملا مليء باالختالفات،
ً
أما اهلروب فيتسبب يف انعدام املساواة» .مث مع استمرار العوملة ونشر املعارف العملية املولِّدة للثروة ،بدأت الدول الفقرية تلحق مبن
سبقتها فيما يُطلق عليه التقارب الكبري .ورأينا مالمح اخنفاض مستوى انعدام املساواة العاملية يف انطالق الناتج احمللي اإلمجايل يف الدول
مجل ذي سنامني ،إىل ٍ
مجل وحيد السنام اآلسيوية (الشكل رقم ،)2-8ويف تغري شكل توزيع الدخل العاملي من قوقعة صغرية إىل ٍ
(الشكل رقم ،)3-8ويف اخنفاض نسبة األشخاص الذين يعيشون يف فق ٍر مدقع (الشكل رقم )4-8وعددهم (الشكل رقم .)5-8
اجعا يف مستوى انعدام املساواة -أي َّ
أن الدول الفقرية تغتين أسرع مما تفعل الدول أن هذه املكاسب ِّ
تشكل حقًّا تر ً وإلثبات َّ
يوضح الشكل رقم -9 كأهنا شخصِّ . مقياس واحد جيمعهما سويًّا ،أي مؤشر «جيين» دويل يعامل كل دولة ٍَّ الغنية -فنحن ٍ
حباجة إىل
أن مؤشر جيين الدويل قد ارتفع من قيمة 0.16املنخفضة يف عام 1820عندما كانت كل الدول فقرية ،إىل قيمة 0.56يف عام َّ 1
ولكن مؤشر جيين الدويل مضلِّل إىل ٍّ
حد ما، 1970عندما كانت بعضها غنية ،مث استقر وبدأ يهبط يف الثمانينيات كما تنبَّأ كوزنتسَّ ،
للتحسن يف مستويات معيشة 4مليون مواطن بنمي على سبيلُّ التحسن يف مستويات معيشة مليار مواطن صيين كأنه مسا ٍو
ُّ ألنَّه حيسب
املثال .يوضح الشكل رقم 1-9مؤشر «جيين» دويل حسبه االقتصادي برانكو ميالنوفيتش ،وفيه يتم حساب كل دولة بالنسبة لعدد
سكاهنا ،مما جيعل أثر البشر على االخنفاض يف مستوى انعدام املساواة أوضح.
انعدام المساواة بين الدول
(مرجا ح حسب عدد السكان)
مؤشر جيني
كأهنم جينون متوسط الدخل كأهنم جينون نفس القدر من املال ،وكل األمريكيني َّ ولكن مؤشر «جيين» الدويل يعامل كل الصينيني َّ
األمريكي ،وهكذا ،ونتيجةً لذلك فهو يقلِّل من تقدير مستوى انعدام املساواة لدى اجلنس البشري مبختلف جنسياته .ويصعب أكثر
حساب مؤشر «جيين» العاملي الذي ُحيتسب فيه كل شخص بنفس القيمة بغض النظر عن بلده ،ألنَّه يستلزم مزج دخول أشخاص من
ألهنما قد مت معايرهتمادول متباينة سويًّا ،ولكننا نظهر يف الشكل رقم 2-9تقديرين خمتلفني .يطفو اخلطَّان على ارتفاعات خمتلفة َّ ٍ
ٍ
بدرجة ما ،فبعد الثورة الصناعية، يشكل منحىن كوزنتس ولكن ميلهما ِّ بالدوالر وتعديلهما ملراعاة تعادل القوة الشرائية يف أعوام خمتلفةَّ ،
يوضح منحنيا «جيين» الدويل والعاملي أنَّه
مبعدل ثابت حىت حوايل العام ،1980مث بدأ يف اهلبوطِّ . زاد مستوى انعدام املساواة العاملية ٍ
ولكن
أن مستوى انعدام املساواة يف العامل يف تراجعَّ . على الرغم من القلق بشأن ارتفاع مستوى انعدام املساواة بني الدول الغربيةَّ ،إال َّ
هذه طريقة ملتوية للتعبري عن حالة التقدم ،فاألمر املهم يف تراجع مستوى انعدام املساواة هو أنَّه يعين الرتاجع يف مستويات الفقر.
مؤشر جيني
مؤخرا هو انعدام املساواة بني الدول املتقدمة مثل الواليات املتحدة واململكة املتحدة ،وسنعرض قيم هاتني
كان ما أطلق جرس اإلنذار ً
وقت قريب ،كانت الدولتان ِّ
تشكالن قوس كوزنتس ،مث ارتفع الدولتني حسب مؤشر جيين لسنوات طويلة يف الشكل رقم .3-9حىت ٍ
مستوى انعدام املساواة خالل الثورة الصناعية ،مث بدأ يهبط تدرجييًّا يف البداية يف أواخر القرن التاسع عشر ،مث هبط حبدة يف منتصف
تباعا. ٍ القرن العشرين ،ويف 1980تقريبًا ارتد مستوى انعدام املساواة لريتفع يف ٍ
شكل خمتلف عن منحىن كوزنتس .لنفحص كل جزء ً
مؤشر جيني
يدا من
يعكس ارتفاع مستوى انعدام املساواة واخنفاضه يف القرن التاسع عشر توسع االقتصاد وفق افرتاض كوزنتس ،مما جيذب مز ً
الناس إىل مه ٍن حضرية تلزمها املهارات ،ومن مث فهي ذات أجور أعلى ،ولكن كانت هناك أسباب مفاجئة للهبوط الشديد يف القرن
العشرين -الذي أُطلق عليه التسوية الكربى أو الضغط الكبري ،-إذ يتداخل هذا اهلبوط مع احلربني العامليتني ،وال تُعد هذه مصادفة،
وتضخم أصول الدائنني ،وحتث األغنياء على حتملِّ وتدمر احلروب رأس املال املولِّد للثروة،
فاحلروب الكربى تساوي توزيع الدخل غالبًاِّ ،
الضرائب األعلى ،اليت تعيد احلكومة توزيعها على رواتب اجلنود وعمال الذخرية ،مما زاد بدوره من الطلب على العمالة يف بقية قطاعات
االقتصاد.
احدا فقط من أشكال الكوارث اليت ميكنها خلق املساواة مبنطق إجيور وبوريس ،فيحدد املؤرخ والرت شايدل شكال و ً
تُعد احلروب ً
وهم حروب التعبئة الشعبية ،والثورات التحولية ،واهنيار الدول ،واألوبئة الفتاكة .تسبب هؤالء الفرسان األربعة
«فرسان التسوية األربعة»ُ ،
فضال عن خفض مستويات انعدام املساواة عرب قتل أعداد يف إبادة الثروة (وكذلك األشخاص الذين كانوا ميلكوهنا يف الثورات الشيوعية)ً ،
أن« :من األفضل أن يتذكر كل من يقدِّر املزيد من املساواة كبرية من العمال ،مما نتج عنه زيادة أجور الناجني .خيلُص شايدل إىل َّ
تأت دون أسى إال يف بعض االستثناءات النادرة للغاية ،فاحذر ما تتمناه».االقتصادية َّأهنا مل ِ
فرنسا
السويد إيطاليا
النسبة المئوية من الناتج المحلي اإلجمالي
ألمانيا
هولندا اليونان
المملكة المتحدة
أستراليا
كندا
الواليات
المتحدة
اليابان
ا ل ش ك ل رق م : 4 - 9ا إل ن ف ا ق ا ال ج ت م ا ع ي يف د ول م ن ظ م ة ا ل ت ع ا ون وا ل ت ن م ي ة يف ا مل ي د ا ن ا ال ق ت ص ا د ي
م ن ذ 1 8 8 0ح ىت 2 0 1 6
املصدر ،Ortiz-Ospina & Roser 2016b ،Our World in Data :بناءً على بيانات من Lindert 2004ومنظمة التعاون والتنمية
مخسا وثالثني دولة دميقراطية تتبع
يف امليدان االقتصادي ( 1985 )OECDو ،2014و .2017تشمل منظمة التعاون والتنمية يف امليدان االقتصادي ً
نظام اقتصاد السوق.
أعاد انطالق اإلنفاق االجتماعي حتديد مهمة احلكومة ،من القتال وحفظ األمن والنظام إىل الرعاية ،وخضعت احلكومات هلذا
التحول ألسباب عدة ،فاإلنفاق االجتماعي يلقِّح املواطنني ضد إغواء الشيوعية والفاشية ،وبعض املنافع مثل التعليم العاملي والصحة
تؤمن املواطنني ضد األضرار اليت ال
عاما يستفيد منه اجلميع وليس املنتفعون املباشرون فحسب .توجد برامج كثرية ِّ خريا ً
العامة متثِّل ً
يستطيعون أو ال يريدون تأمني أنفسهم ضدها (ومن هنا جاءت الكناية «شبكة األمان االجتماعي») ،وترضي مساعدة احملتاجني ضمري
اإلنسان املعاصر ،الذي ال ميكنه حتمل فكرة أن تتجمد «بائعة الثقاب الصغرية»* حىت املوت ،أو أن يُسجن جان فاجلان* ألنَّه سرق
*
اخلبز لينقذ أخته اجلائعة ،أو أن يدفن جود جده على جانب الطريق رقم .66
ماال إىل احلكومة مث يُرد إليهم (بعد اقتطاع حصة السلطة البريوقراطية) ،فاإلنفاق االجتماعي
مبا أنَّه من غري املنطقي أن يرسل اجلميع ً
قدرا أكثر من املال ،وهذاقدرا أقل من املال ،على حساب األشخاص الذين ميتلكون ً ُمصمم بطريقة جتعله يساعد الناس الذين ميتلكون ً
هو املبدأ املعروف بإعادة التوزيع ،أو دولة الرفاه أو الدميقراطية االجتماعية أو االشرتاكية (وهي تسمية مضللة َّ
ألن رأمسالية السوق احلر
مصمما بطريقة ُتفِّض مستوى انعدام املساواة أم ال ،فهذا
ً تتوافق مع أي قدر من اإلنفاق االجتماعي) .سواء أكان اإلنفاق االجتماعي
ويفسر زيادة النفقات االجتماعية منذ الثالثينيات حىت السبعينيات جزءًا من أسباب تراجع مؤشر جيين. أحد آثارهاِّ ،
جمددا يف الفصول الالحقة .رغم أنَّين أخشى أي تصور للحتمية التارخيية
يظهر اإلنفاق االجتماعي جانبًا غريبًا من التقدم سنقابله ً
كأهنا بفعل قوة خارقة عنيدة ،ومع فعال و َّ أو القوى الكونية أو «أقواس العدالة» الصوفيةَّ ،إال َّ
أن بعض أنواع التغريات االجتماعية تبدو ً
استمرار هذه التغريات ،تعارضها بعض الفصائل احملددة بقوة شديدة ،ولكن يتضح أ َّن املقاومة عبثية .واإلنفاق االجتماعي مثال على
ُتصص 19يف املئة من ناجتها احمللي اإلمجايلذلك ،تشتهر الواليات املتحدة مبقاومة أي شيء يُنذر بإعادة التوزيع ،ومع ذلك فهي ِّ
أن اإلنفاق استمر يف الزيادة والتوسع ،وأحدث هذه للخدمات االجتماعية ،ورغم بذل احملافظني والتحرريني قصارى جهودهمَّ ،إال َّ
املسماة تيمنًا بأوباما الذي
التوسعات برنامج إعانة األدوية املوصوفة الذي طرحه جورج بوش االبن ،وخطة التأمني الصحي «أوباما كري» َّ
طرحها.
كثريا من األمريكيني ُجيربون على دفع مقابل الرعاية
ألن ًإن اإلنفاق االجتماعي يف الواليات املتحدة بالتأكيد أعلى مما يبدو عليهَّ ، َّ
الصحية والتقاعد وإعانات العجز من خالل جهة عملهم وليس احلكومة ،وعند إضافة هذا اإلنفاق االجتماعي ذي اإلدارة اخلاصة إىل
العام ،تنتقل الواليات املتحدة من املرتبة الرابعة والعشرين إىل املرتبة الثانية من بني دول منظمة التعاون والتنمية يف امليدان االقتصادي،
بعد فرنسا.
*بائعة الثقاب الصغيرة ) (Little Match Girlقصة قصيرة من تأليف الكاتب الدانماركي هانس كريستيان أندرسن- .المترجمة.
*جان فالجان هو بطل رواية فيكتور هوجو الشهيرة «البؤساء»- .المترجمة.
*جود هو بطل رواية «عناقيد الغضب» ) (The Grapes of Wrathللكاتب األمريكي جون ستاينبيك- .المترجمة.
رغم كل احتجاجات الناس على احلكومة الضخمة والضرائب املرتفعةَّ ،إال َّأهنم حيبون اإلنفاق االجتماعي ،فقد أُطلق على الضمان
ألن الساسة إذا اقرتبوا منه ماتوا .قيل يف األساطري َّ
إن أحد الناخبني الغاضبني االجتماعي «القضيب الثالث» لقطار السياسة األمريكيةَّ ،
(مشريا إىل برنامج احلكومة
ً قائال« :كفوا أيدي حكومتكم عن برنامج الرعاية الطبية» حذر ممثِّليه يف أحد اجتماعات جملس البلدية ً
ولكن كل هجماهتم
للتأمني الصحي لكبار السن) .مبجرد مترير برنامج «أوباما كري» ،جعل احلزب اجلمهوري إلغاءه قضيتهم املقدسةَّ ،
املشرعون اخلائفون من حنقهم.
عليه بعد احلصول على الرئاسة يف عام 2017صدها املواطنون الغاضبون يف اجتماعات جمالس البلدية و ِّ
إن أبرز نشاطني للتسلية يف كندا (بعد اهلوكي) مها الشكوى من نظام الرعاية الصحية والتفاخر بنظام الرعاية الصحية.َّ
قرن ،على اإلنفاق االجتماعي ،فإندونيسيا على سبيل املثال تنفق تبخل الدول النامية اليوم ،كما كانت تفعل الدول املتقدمة منذ ٍ
عليه 2يف املئة من ناجتها احمللي اإلمجايل ،وتنفق اهلند 2.5يف املئة ،يف حني تنفق الصني 7يف املئة ،ولكن كلَّما ازدادت الدول غىن،
ازدادت سخاءً ،وهي ظاهرة امسها قانون فاجنر .بني عامي 1985و ،2012ضاعفت املكسيك نسبة إنفاقها االجتماعي خبمسة
أن قانون فاجنر ليس حكاية حتذيرية من تغطرس احلكومة وتضخم البريوقراطية، أضعاف ،والنسبة يف الربازيل اآلن 16يف املئة ،يبدو َّ
وإمنا تعبري عن التقدم .وجد االقتصادي ليوناردو برادوس دي ال إسكوسورا صلةً قوية بني النسبة املئوية من الناتج احمللي اإلمجايل اليتَّ
خصصتها إحدى دول منظمة التعاون والتنمية يف امليدان االقتصادي للتحويالت االجتماعية بني عامي 1800و 2000ونتيجتها
إن عدد الدول اليت تعيش يف جنة التحرريني يف العامل -أي دول متقدمة دون إنفاق على مقياس مرَّكب للرخاء والصحة والتعليمَّ .
اجتماعي يُذكر -صفر ،وهلذا داللة بالطبع.
تظل الصلة بني اإلنفاق االجتماعي والرفاهة االجتماعية قوية حىت نقطة معينة ،فيستقر املنحىن عند حوايل 25يف املئة وقد يهبط
خطرا أخالقيًّا» كأن
مع ارتفاع النسب ،فاإلنفاق االجتماعي له جوانب سلبية مثل كل شيء آخر ،إذ قد يصنع كل هذا التأمني « ً
أن أقساط التأمني جيب أن تغطي حبماقة ،معتمدين على أن تنقذهم جهة التأمني إذا فشلوا ،ومبا َّ ٍ املؤمن عليهم أو خياطروا
يرتاخى َّ
املدفوعات ،فإذا أخطأ اخلرباء األكتواريون يف األرقام أو تغريت األرقام مبا يؤدي إىل دفع أموال أكثر من األقساط املدفوعة ،فإن النظام
متاماَّ ،
وإمنا يكون مزجيًا من التأمني واالستثمار والصدقة ،ومن مث ميكن أن ينهار .ال يكون اإلنفاق االجتماعي يف الواقع مثل التأمني ً
يعتمد جناحه على مدى شعور املواطنني بكوهنم جزءًا من جمتم ٍع واحد ،وميكن أن يتأزم هذا الشعور بالزمالة عندما يكون املنتفعون به
دائما حمل نزاع من املهاجرين أو األقليات العرقية بقد ٍر غري متناسبِّ .
أصيال من اإلنفاق االجتماعي وستظل ً تشكل هذه التوترات جزءًا ً
أن منافع التحويالت االجتماعية تتجاوز تكاليفها، أن كل الدول املتقدمة قررت َّسياسي ،ورغم عدم االتفاق على «قد ٍر صحيح»َّ ،إال َّ
ٍ
بدرجة ما ،مستند ًة إىل ثروهتا اهلائلة. واستقرت على قد ٍر كبري
لنكمل جولتنا يف تاريخ انعدام املساواة باالنتقال إىل اجلزء األخري من الشكل رقم ،3-9وهو ظهور انعدام املساواة يف الدول الثرية،
بأن احلياة قد أصبحت أسوأ للجميع عدا أغىن األغنياء ،خيالف الذي بدأ يف حوايل العام .1980هذه هي التنمية اليت أوحت للناس َّ
ازن عند نقطة منخفضة ،ومت تقدمي هذا االرتداد منحىن كوزنتس ،الذي كان من املفرتض وفقه أن يستقر مستوى انعدام املساواة يف تو ٍ
تفسريات كثرية هلذه املفاجأة .كانت القيود املفروضة يف زمن احلرب على التنافس االقتصادي متماسكة لدرجة َّأهنا جتاوزت زمن احلرب
أخريا ،ممَّا منح األغنياء احلرية يف أن يزدادوا غىن من دخلهم من االستثمارات ،وأن يفتحوا ساحة دينامية
العاملية الثانية ،ولكنَّها تالشت ً
للتنافس االقتصادي حيصل فيها الفائز على كل األرباح .وأبطأ التحول األيديولوجي املرتبط برونالد رجيان ومارجريت ثاتشر احلركة املتجهة
إنفاق اجتماعي أكرب ممول بضرائب مفروضة على األغنياء وأسهم يف تآكل األعراف االجتماعية املناهضة للرواتب الباهظة والثروة حنو ٍ
كثر راتبني كبريين ،أصبح من احلتمي أن يزيد التباين يف الظاهرة للعيان .ومع زيادة العزوبية والطالق ،يف الوقت الذي جيين فيه أزواج ٌ
الدخل بني أسرةٍ وأخرى ،حىت لو كانت الرواتب ظلَّت كما كانت .أعادت «الثورة الصناعية الثانية» املدفوعة بالتكنولوجيا اإللكرتونية
طلب على املهنيني ذوي املهارات العالية ،الذين ابتعدوا عن األشخاص ذوي املستوى التعليمي األقل، االرتفاع «الكوزنتسي» عرب خلق ٍ
يف نفس الوقت الذي قضت فيه األمتتة على الوظائف اليت تتطلب مستوى تعليميًا أقل .أتاحت العوملة للعمال يف الصني واهلند وأماكن
نطاق عاملي ،واهنزمت الشركات احمللية اليت مل ِ
تستطع استغالل أخرى أن يقدِّموا أسعارا أقل من نظرائهم األمريكيني يف سوق عمالة على ٍ
ً
فرص العمالة اخلارجية يف املنافسة على األسعار .ويف الوقت نفسه ،أصبح الناتج الفكري ألجنح احملللني ورواد األعمال واملستثمرين
سرح العامل يف شركة بونتياك بينما تصبح جي كي رولينج مليارديرة.متاحا بصورةٍ متزايدة يف سوق ضخمة عاملية .يُ َّ
واملبدعني ً
عاما املاضية -تراجع مستويات انعدام املساواة على مستوى
مجع ميالنوفيتش بني االجتاهني يف انعدام املساواة خالل الثالثني ً
يقسم «منحىن
فيل (الشكل رقم ِّ .)5-9 العامل ،وارتفاع مستويات انعدام املساواة بني الدول الغنية -يف رس ٍم بياين واحد على شكل ٍ
ويوضح بالرسم مقدار ما حقَّقته كل جمموعة
تقسيما كميًّا أو جمموعة عددية ،من األفقر إىل األغىنِّ ،
ً النمو» هذا سكان العامل إىل عشرين
دخل للفرد بني عامي ( 1988قبل سقوط جدار برلني مباشرةً) و( 2008قبل الكساد الكبري مباشرةً). أو خسرته من ٍ
الزيادة التراكمية في الدخل الفعلي منذ 1988حتى )%( 2008
الفكرة املبتذلة عن العوملة هي َّأهنا تصنع راحبني وخاسرين ،ويعرضهم املنحىن على شكل الفيل على هيئة «قمم» و«أودية» ،وهو
أن الراحبني هم أغلب البشر .يتكون الفيل (جسمه ورأسه) ،الذي يشمل حوايل سبعة أعشار سكان العامل ،من «الطبقة يكشف َّ
الوسطى العاملية الناشئة» ،وهي باألساس يف آسيا ،إذ شهدت على مدار هذه الفرتة زيادات تراكمية بنسبة ترتاوح بني 40و 60يف
أيضا
املئة يف دخلها الفعلي .ويتكون طرف خرطوم الفيل من أغىن سكان العامل الذين يشكلون نسبة 1يف املئة ،والذين ارتفع دخلهم ً
أيضا ،بينما
وتشكل نسبة 4يف املئة ،فيُظهر أن هذه الفئة قد أبلت حسنًا ً تفاعا كبريا ،أما بقية اخلرطوم الذي يشمل الفئة اليت تليهم ِّ
ار ً ً
وهم الطبقة الوسطى الدنيا من العامل الغين ،اليت رحبت
نرى عند ثنية اخلرطوم عند حوايل الدرجة املئوية « 85اخلاسرين» يف لعبة العوملةُ :
أقل من 10يف املئة ،وهي اليت تركز عليها املخاوف اجلديدة بشأن انعدام املساواة« :الطبقة الوسطى اجملوفة» ،أنصار ترامب ،األشخاص
الذين خلَّفتهم العوملة وراءها.
كون حديقة حيوان مجيلة مع فيل من قطيع ميالنوفيتش ،ألنَّه ميثِّل تذكِرة واضحة بآثار العوملة (وهو يُ ِّ مل ِ
أستطع أن أقاوم رسم أبرز ٍ
يصور العامل كأنَّه أقل مساوا ًة مما هو عليه بالفعل ،ويرجع هذا لسببني،
ولكن املنحىن ِّاجلمل واجلمل وحيد السنام يف الشكل رقم َّ .)3-8
يخ الحق هلذا الرسم البياين ،موازنة العامل .يشري األول هو أنَّه من اآلثار الغريبة لألزمة املالية يف عام ،2008اليت حدثت يف تار ٍ
كسادا يف دول مشال األطلسي ،فنقص دخل أغىن سكان العامل الذين ِّ
يشكلون 1يف أن الكساد الكبري كان يف احلقيقة ًميالنوفيتش َّ
كبريا (وتضاعف يف الصني) ،وبعد ثالث سنوات من االزمة ما زلنا نرى هذا تفاعا ً
ولكن دخل العاملني يف أماكن أخرى ارتفع ار ً
املئةَّ ،
الضعف.قليال بينما َّقوس ظهره ألعلى مبقدار ِالفيل ،ولكنَّه قد خفض طرف خرطومه ً
كثريا من النقاشات عن انعدام املساواة ،ما الذي نعنيه عندما نقول
يشوه شكل الفيل هو نقطة مفاهيمية تضلل ً
األمر اآلخر الذي ِّ
اجملهلة ،أي تتبَّع
«اخلُمس األفقر» أو «الـ 1يف املئة األغىن»؟ تستخدم أغلب توزيعات الدخل ما يطلق عليه االقتصاديون البيانات َّ
عاما يف عام
إن ُعمر املواطن األمريكي املتوسط تراجع من ً 30 املدى اإلحصائي وليس األشخاص احلقيقيني .لنفرتض أنين قلت لك َّ
خلطت
َ عاما يف ،1970لو كانت أول فكرة خطرت ببالك هي «ياللعجب! كيف أصبح هذا الرجل أصغر؟» فقد 1950إىل ً 28
أن «الـ 1يف املئة األغىن يف عام »2008كانت شخصا .يرتكب القراء نفس املغالطة عندما يقرؤون َّ
ً بني أمرين ،فاملتوسط مرتبة وليست
أن جمموعة من األشخاص األغنياء رواتبهم أعلى بنسبة 50يف املئة من رواتب «الـ 1يف املئة األغىن يف عام ،»1988ويستنتجون َّ
ازدادت غىن ثانيةً مبقدار النصف .يدخل الناس شرائح الدخل املختلفة وخيرجون منها ،ويتغري الرتتيب ،لذا فإننا ال نتحدث بالضرورة عن
نفس األفراد ،وينطبق األمر نفسه على «اخلُمس األفقر» وكل اجملموعات اإلحصائية األخرى.
ات زمنية ،متاحة يف معظم الدول ،لذا فعل ميالنوفيتش ثاين اجملهلة أو الطولية ،اليت تتبَّع أشخاصا على فرت ٍ
ليست البيانات غري َّ
ً
مثال بني فقراء اهلند يف عام 1988بفقراء غانا أفضل شيء ميكنه فعله وتتبَّع تقسيمات كمية فردية يف ٍ
دول حمددة ،كي ال تتم املقارنة ً
ألن الطبقات األفقر يف ٍ
دول تفاعاَّ ،
أيضا على نتيجة على شكل فيل ،ولكنَّه كان بذيل وفخذ أكثر ار ً يف عام ،2008ومع ذلك حصل ً
الدنيا والوسطى يف الدول الفقرية ،والطبقة العليا عديدة خرجت من الفقر املدقع .يظل النمط كما هو -أي َّ
أن العوملة أفادت الطبقتني ُ
ولكن االختالفات أقل حدة.
الدنيا يف الدول الغنيةَّ -
يف الدول الغنية ،أكثر مما أفادت الطبقة الوسطى ُ
واآلن بعد أن اطلعنا على تاريخ انعدام املساواة ورأينا القوى اليت حتركه ،ميكننا تقييم االدعاء القائل بأَّن زيادة مستويات انعدام املساواة
أن مجيع من سواهم يف حالة أن األغنياء فقط ُهم من ازدهروا ،يف حني َّ أن وضع العامل يزداد سوءًا ،و َّخالل العقود الثالث املاضية تعين َّ
ولكن االدعاء اخلاص بالفئات األخرىكود أو معاناة .ازدهر األغنياء بالتأكيد أكثر من أي فئة أخرى ،ورمبا أكثر مما كان ينبغي هلمَّ ، ر ٍ
حاال ،وحتول اجلملجملموعة من األسباب ،أبرزها أنَّه خطأ بشأن العامل ككل ،فأغلبية اجلنس البشري أصبحت أفضل ً ٍ كلها ليس دقي ًقا،
شديدا ورمبا
اخنفاضا ً
ً فيل حقيقي ،ومعدل الفقر املدقع اخنفض سنام واحد ،وحجم الفيل يساوي حجم ٍ مجل ذي ٍ ذو السنامني إىل ٍ
أن فقراء العامل قد ازدادوا غىن على حساب الطبقة الوسطى خيتفي ،ومعامل انعدام املساواة العاملي وبني الدول يف تراج ٍع .من الصحيح َّ
ولكن مبا أنَّنا مواطنون عامليون ألصرح علنًا َّ
بأن هذه املبادلة ال تستحقَّ ، كنت ِّ الدنيا األمريكية بقد ٍر ما ،ولو ُ
كنت سياسيًّا أمريكيًّا ،رمبا ُ ُ
إن هذه املبادلة تستحق.نفكر يف البشرية ككل ،فعلينا أن أنقول َِّّ
الدنيا يف الدول الغنية ،فإن زيادات الدخل املعتدلة ليست مماثلة للرتاجع يف مستويات
ولكن حىت يف الطبقة الدنيا والطبقة الوسطى ُ
املعيشة .تقارن النقاشات احلالية النعدام املساواة غالبًا احلاضر بعص ٍر ذهيب كانت فيه وظائف العمالة اليدوية احملرتمة ذات األجور اجملزية
كل مناليت ألغتها األمتتة والعوملة .تتوارى هذه الصورة الشاعرية خلف التصوير املعاصر لقسوة حياة الطبقة العاملة يف تلك احلقبة ،يف ٍّ
«الفضائح» الصحافية مثل كتاب أمريكا األخرى ) (The Other Americaاملنشور عام 1962ملايكل هارينجتون
) ،(Michael Harringtonواألفالم الواقعية مثل على ضفة النهر) ،(On the Waterfrontو الياقة الزرقاء ( Blue
،)Collarو إبتة عامل المنجم ) ،(Coal Miner’s Daughterو نورما راي ) .(Norma Raeتواجه املؤرخة ستيفاين
كونتز ) ،(Stephanie Coontzاليت تكشف زيف احلنني إىل اخلمسينيات ،هذه التصورات باألرقام:
كان 25يف املئة ،أي ما بني 40و 50مليون شخص ،من األمريكيني فقراءَ يف منتصف اخلمسينيات ،ويف ظل غياب
قسائم الطعام وبرامج اإلسكان ،كان هذا الفقر قاسيًا جدًّا ،وحىت يف هناية اخلمسينيات ،كان ثُلث األطفال األمريكيني
كثريا ٍ
عاما أقل من 1000دوالر يف عام ،1958أي أقل ً فقراء .كان دخل ستني يف املئة من األمريكيني األكرب من ً 56
من املستوى الذي يُعد معبِّـًرا عن حالة الطبقة الوسطى وهو ما بني 3000و 10000دوال ٍر .ومل ي ُكن لدى أغلبية املسنني
صحي ،ويف عام 1959مل ي ُكن لدى نصف السكان مدخرات ،ومل ي ُكن لدى ربع السكان أي أصول سائلة ٌّ تأمني
أيضا ًٌ
على اإلطالق ،وحىت عندما ال نأخذ يف االعتبار سوى األسر أمريكية املولد ومن ذوي البشرة البيضاء ،فلم ي ُكن ثُلثها
اعتمادا على دخل رب األسرة.
ً يستطيع تدبري أموره
كيف نوفِّق بني التحسن الواضح يف مستويات املعيشة يف العقود األخرية واحلكمة السائدة الناجتة عن الركود االقتصادي؟ يشري
االقتصاديون إىل أربع طرق ميكن أن ترسم اإلحصاءات عن املساواة هبا صورة مضللة للطريقة اليت يعيش هبا الناس حياهتم ،وتعتمد كلٌّ
منها على تفاوت نظرنا فيه من قبل الفعل.
األوىل هي الفرق بني الرخاء النسيب واملطلق ،فكما أنَّه ال ميكن أن يكون كل األطفال فوق املتوسطَّ ،
فإن احلصة اليت جينيها اخلُمس
األفقر من الدخل إذا مل تزداد مبرور الوقت ،فإن هذا ال يُعد عالمةً على الركود ،فاألمر املتصل بالرفاهة هو مقدار ما جينيه األشخاص،
بدال من التقسيمات
قسمت دراسة حديثة أجراها االقتصادي ستيفن روز الشعب األمريكي إىل فئات بنقاط ثابتة ً ال مدى ارتفاع مراتبهمَّ .
املكونة من 3أفراد اليت يرتاوح دخلها بني 0و 30000دوالر (لعام ،)2014و«الطبقة الوسطى فعرف «الفقراء» باألسرة َّ الكميةَّ ،
أن األمريكيني يف اجتاهٍ صاعد مطلق ،فبني عاميبدخل يرتاوح بني 30000و 50000دوالر ،وهكذا .وجدت الدراسة َّ الدنيا» ٍ ُ
الدنيا من 24إىل
1979و ،2014اخنفضت نسبة الفقراء من األمريكيني من 24إىل 20يف املئة ،واخنفضت نسبة الطبقة الوسطى ُ
ٍ
(بدخل كثري منهم إىل الطبقة الوسطى العليا
17يف املئة ،وانكمشت نسبة الطبقة الوسطى من 32إىل 30يف املئة .أين ذهبوا؟ وصل ٌ
يرتاوح بني 100000و 350000دوالر) ،اليت ازدادت نسبتها من 13إىل 30يف املئة من السكان ،وإىل الطبقة العليا اليت ازدادت
كثريا من األمريكيني يزدادون سعةً ،وقد ازداد
أن ً نسبتها من 0.1إىل 2يف املئة .يرجع كون الطبقة الوسطى أصبحت جموفة جزئيًّا إىل َّ
ولكن اجلميع (يف املتوسط) أصبح أغىن.
مستوى انعدام املساواة بال شك -أي اغتىن األغنياء أسرع مما فعل الفقراء والطبقة الوسطىَّ -
أن اخلُمس األفقر من الشعب األمريكي مل حيرز أي تقدم خالل اجملهلة والطولية ،لنفرتض َّ
واخللط الثاين هو احلاصل بني البيانات َّ
أن جو السباك حصل يف عام 2008على نفس الراتب الذي حصل عليه يف عام ( 1998أو أعلى منه عاما ،ال يعين هذا َّ
عشرين ً
ماال أكثر مع كرب سنهم وزيادة خربهتم ،أو ينتقلون من وظيفة ذات ر ٍ
اتب قليل إىل قليال ،بسبب زيادة تكاليف املعيشة) .جيين الناس ًً
شاب
مثال ،وأخذ مكانه يف اخلُمس األفقر ٌ اتب أعلى ،لذا فرمبا يكون جو قد انتقل من اخلُمس األفقر إىل اخلُمس املتوسط ً وظيفة ذات ر ٍ
أن نصف قليال على اإلطالق ،إذ أوضحت دراسة حديثة تستخدم البيانات الطولية َّ صغري أو شابة أو مهاجر .ليس معدل الدوران ً
لعام واحد على األقل من حياهتم املهنية ،وواحد من كل 9منهم األمريكيني جيدون أنفسهم ضمن العشر األعلى من أصحاب الدخل ٍ
ُ
طويال) .رمبا يكون هذا أحد أسباب كون اآلراء االقتصاديةأن معظمهم ال يظل يف هذا املكان ً نفسه يف الـ 1يف املئة األعلى (رغم َّ
أن مستوى معيشة ُتضع لفجوة التفاؤل (أي االحنياز املبين على االفرتاض التايل« :أنا خبري ،أما ُهم فال») :تعتقد أغلبية األمريكيني َّ
حتسن.
ولكن مستوى معيشتهم قد َّ الطبقة الوسطى قد تراجع يف السنوات األخرية َّ
أن التحويالت االجتماعية قد خفَّفت الدنيا أسوأ هو َّ
أن زيادة مستويات انعدام املساواة مل جيعل حال الطبقات ُ والسبب الثالث يف َّ
كثريا وفق مبدأ إعادة التوزيع ،فما زالت ضرائب الدخل َّ َّ
أزمة الدخل املنخفض .رغم أيديولوجية الواليات املتحدة الفردانية ،إال أهنا تعمل ً
وُتفِّف «دولة الرفاه اخلفية» مشكلة الدخل املنخفض مبا يشمل التأمني ضد البطالة ،والضمان االجتماعي ،والرعاية الطبية متدرجةُ ،
(ميديكري وميديك إيد) ،واملساعدة املؤقتة لألسر احملتاجة ،وقسائم الطعام ،وائتمان ضريبة الدخل املكتسب ،وهي أحد أنواع ضرائب
أن أمريكا أصبحت الدخل السلبية اليت تعزز هبا احلكومة دخل أصحاب الدخل املنخفض .إذا مجعت هذه األمور كلها سويًّا ،ستجد َّ
أكثر مساواةً بقد ٍر كبري جدًّا .كان مؤشر جيين لدخل السوق األمريكي يف عام ( 2013قبل الضرائب والتحويالت) 0.53وهو رقم
مرتفع ،وللدخل املتاح لإلنفاق (بعد الضرائب والتحويالت) كان 0.38وهو رقم معتدل .مل تبلغ الواليات املتحدة ما بلغته دول مثل
حبزم أكرب ،فخفَّضتا مؤشر جيي إىل 0.2وهو رقم مرتفع، أملانيا وفنلندا ،اللتان انطلقتا بتوزيع مشابه لدخل السوق ولكنَّهما تساويانه ٍ
متجاوزتني ارتفاع مستويات انعدام املساواة الذي انتشر يف مرحلة ما بعد الثمانينيات .سواء كانت دولة الرفاه األوروبية الكرمية مستدامة
بشكل أو بآخر يف كل الدول املتقدمة ،وهي تقلِّلٍ على املدى البعيد وميكن نقلها إىل الواليات املتحدة أم الَّ ،
فإن دولة الرفاه موجودة
مستوى انعدام املساواة حىت وهي خفية.
أيضا دخول غري
وإمنا أنعشت ً مل تقلِّل هذه التحويالت مستوى انعدام املساواة يف الدخل فحسب (وهو إجناز مشكوك فيه) َّ
األغنياء (وهو إجناز حقيقي) .أظهر حتليل أجراه االقتصادي جاري بورتليس َّ
أن الدخل املتاح لإلنفاق ألفقر أربعة تقسيمات للدخل منى
كثريا -من الكساد
بني عامي 1979و 2010بنسبة 49و 37و 36و 45باملئة على التوايل ،وكان هذا قبل التعايف -الذي تأخر ً
تفاعا غري مسبوق،
الكبري ،فبني عامي 2014و ،2016قفزت األجور املتوسطة وارتفعت ار ً
عرب كلٌّ من اليسار واليمني عن نظرهتما التشاؤمية لربامج مكافحة الفقر،
واألكثر أمهية ما حدث يف قاعدة هذا املقياس .لطاملا َّ
ولكن الفقر
كما قال رونالد رجيان يف مزحته الشهرية« :منذ بضع سنوات ،أعلنت احلكومة الفيدرالية احلرب على الفقر ،وانتصر الفقر»َّ ،
يف الواقع مهزوم .أجرى عامل االجتماع كريستوفر جينكس حسابات تشري إىل أنَّه عند مجع إعانات دولة الرفاه اخلفية ،وعند تقدير تكلفة
أن معدل الفقر قد اخنفض خالل اخلمسني حتسن جودة السلع االستهالكية وهبوط أسعارها ،جند َّ املعيشة بطر ٍ
يقة تضع يف حساباهتا ُّ
وتوصلت ثالثة حتليالت أخرى إىل عاما املاضية مبقدار أكثر من ثالثة أرباع ،وكان ثابتًا يف عام 2013عند نسبة 4.8يف املئةَّ . ً
ويوضح اخلط العلوي يف الشكل رقم 6-9بيانات أحد هذه التحليالت الذي أجراه االقتصاديان بروس ماير وجيمس االستنتاج نفسهِّ ،
سوليفان .ركد التقدم يف فرتة الكساد الكبري ،ولكنَّه اسرتد عافيته يف عامي 2015و( 2016ومها غري موضحتني يف الرسم البياين)،
تفعا وشهد معدل الفقر أكرب اخنفاض له منذ عام .1999وحدث إجناز آخر ال يتغىن رقما قياسيًّا مر ً
عندما حقق دخل الطبقة الوسطى ً
املشردين دون مأوى -اخنفضت بني عامي 2007و 2015مبقدار الثُلث تقريبًا رغم الكساد أن نسبة أفقر الفقراء -أي َّ به أحد ،وهو َّ
الكبري.
النسبة المئوية للفقراء
االستهالك
ويسلِّط اخلط السفلي يف الشكل رقم 6-9الطريقة الرابعة اليت تقلل هبا املقاييس اليت تقيس مستوى انعدام املساواة من قدر التقدم
الدنيا والوسطى يف الدول الغنية .الدخل هو جمرد وسيلة لغاية ،أي طريقة للدفع مقابل األغراض اليت حيتاج إليها الذي حققته الطبقتان ُ
بدال
الناس أو يريدوهنا أو حيبوهنا ،أو ما يطلق عليه االقتصاديون «االستهالك» .عندما يتم تعريف الفقر حسب ما يستهلكه األشخاص ً
أن معدل الفقر األمريكي قد تراجع بنسبة تسعني يف املئة منذ عام ،1960أي من 30يف املئة من السكان إىل 3يف مما جينونه ،جند َّ
املئة منهم فقط .والقوتان اللتان تسببتا يف زيادة مستوى انعدام املساواة يف الدخل قد تسببتا يف الوقت نفسه يف خفض مستوى انعدام
املساواة يف األمور املهمة ،األوىل هي العوملة ،اليت رمبا تصنع راحبني وخاسرين يف الدخل ،ولكنَّها جتعل اجلميع تقريبًا راحبًا يف االستهالك،
سلعا كانت تُعد ساب ًقا رفاهيات لألغنياء فقط( .يف عام فاملصانع اآلسيوية وسفن احلاويات وجتارة التجزئة الفعالة جتلب إىل اجلماهري ً
أن متجر وول مارت قد وفَّر على األسرة األمريكية النموذجية 2300دوالر يف السنة) .القوة ،2005قدَّر االقتصادي جيسون فورمان َّ
الثانية هي التكنولوجيا ،اليت تواصل إحداث ثورة يف معىن الدخل (كما رأينا يف النقاش حول مفارقة القيمة يف الفصل الثامن) ،فالدوالر
حتسن جودة احلياة أكثر مما كان يستطيع الدوالر الواحد أمس شراءه، ض ِّالواحد اليوم ،مهما عدَّلناه ملراعاة التضخم ،يستطيع شراء أغرا ٍ
فهو يشرتي أشياءَ مل ت ُكن موجودة من قبل ،مثل التربيد والكهرباء واملراحيض واللقاحات واهلواتف ووسائل منع احلمل والسفر عرب اجلو،
ويغري األمور املوجودة بالفعل ،مثل حتويل خطوط اهلاتف العمومية املشرتكة اليت يصلها عامل حتويل املكاملات بعضها ببعض إىل هاتف ِّ
ذكي ميكن استخدامه يف التحدث مع اآلخرين دون حدود زمنية.
فقريا ،على األقل يف الدول املتقدمة ،كانت الصورة النمطية القدمية عن الفقر
غريت العوملة والتكنولوجيا سويًّا معىن أن يكون املرء ً
َّ
صعلوك هزيل يرتدي خرقًا بالية ،أما اآلن فمن املمكن أن يكون الفقراء زائدي الوزن مثل رؤسائهم يف العمل ،ويرتدون نفس ٍ تتمثَّل يف
املالبس الصوفية واحلذاء الرياضي وسروال اجلينز .كان يُطلق على الفقراء «من ال ميلكون شيئًا ،يف حني كان أكثر من 95يف املئة من
األسر األمريكية اليت تقع حتت خط الفقر يف عام 2011متتلك الكهرباء واملياه واملراحيض املزودة بنظام الشطف وثالجة وموقد
قرن ونصف أي من هذه األشياء منذ ٍ (بوتاجاز) وتليفزيونًا ملونًا( .مل ي ُكن لدى أي من عائالت روثتشايلد وال أستور وال فاندربيلت ٌّ
القرن) .كان لدى نصف األسر اليت تقع حتت خط الفقر تقريبًا غسالة أطباق ،ولدى 60يف املئة منهم حاسب آيل ،ولدى حوايل
الثلثني منهم غسالة مالبس وجمفف مالبس ،ولدى أكثر من 80يف املئة منهم مكيِّف هواء وجهاز تسجيل الفيديو وهاتف خلوي .يف
نشأت فيه ،كانت الفئات «املقتدرة» من الطبقة الوسطى ال متتلك سوى بعض هذه األشياء أو ُ عصر املساواة االقتصادية الذهيب الذي
ٍ
تصاعد لدى اجلميع، ال متتلك أيًّا منها مطل ًقا .نتيجةً لذلكَّ ،
فإن املوارد األمثن من أي شيء -أي الوقت واحلرية والتجارب القيِّمة -يف
وهو موضوع سننظر فيه يف الفصل السابع عشر.
ولكن حياهتم مل تصبح أفضل هلذه الدرجة ،فرمبا ميتلك وارن بافيت مكيِّفات هواء أكثر أو أفضل من معظم ازداد األغنياء غىنَّ ،
فإن كون أغلبية األمريكيني الفقراء لديهم مكيِّفات هواء من األساس هي حقيقة مذهلة .عند حساب الناس ،ولكن وفق املعايري التارخييةَّ ،
مسطحا أو مستويًا .وتراجع يف احلقيقة مستوى انعدام املساواة يف السعادة املعلنة
ً ظل
بدال من الدخل ،جنده قد َّ
مؤشر جيين لالستهالك ً
عرب التقرير الذايت بني الشعب األمريكي ،ورغم أنَّين أجد االحتفاء برتاجع أرقام مؤشر جيين اخلاصة باحلياة والصحة والتعليم َّ
(كأن قتل
حتسنت
بغيضا ورمبا حىت غريبًا ،ولكنَّها تراجعت يف الواقع ألسباب جيدة ،إذ َّ
أمرا ً
األصحاء وطرد األذكياء من املدارس قد يفيد البشرية) ً
حياة الفقراء أسرع ممَّا فعلت حياة األغنياء.
إن اإلقرار بأن حياة الطبقات الدنيا والوسطى يف الدول املتقدمة قد حتسنت يف العقود األخرية ال يعين إنكار املشكالت اجلسيمة اليت
لكن معدل زيادته بطيء ،وقد يؤدي نقص طلب تواجهها اقتصادات القرن احلادي والعشرين ،ومع أن الدخل املتاح لإلنفاق زاد َّ
قطاع واحد من السكان (أي األمريكيني البيض يفاملستهلك الناتج عن ذلك إىل تراجع االقتصاد ككل .إن الصعوبات اليت يواجهها ٌ
منتصف العمر ذوي املستوى التعليمي األقل الذين يسكنون املناطق غري احلضرية) حقيقية ومأساوية وتتجلى يف ارتفاع معدالت تناول
جرعة زائدة من املخدرات (الفصل الثاين عشر) واالنتحار (الفصل الثامن عشر) .يهدد التقدم يف علم الروبوت بإلغاء ماليني الوظائف
شيوعا يف معظم الواليات ورمبا تُسرحهم السيارات ذاتية القيادة من
اإلضافية ،فعلى سبيل املثال يشغل سائقو الشاحنات املهنة األكثر ً
وصناع العجالت اخلشبية وعمال حتويل املكاملات .وال يستطيع التعليم ،وهو أحد احملركات عملهم مثلما حدث مع الكتاب العموميني ُ
كبريا (خبالف كل السلع
تفاعا ً
األساسية للحراك االقتصادي ،مواكبة متطلبات االقتصادات احلديثة :فقد ارتفعت تكلفة التعليم اجلامعي ار ً
األخرى تقريبًا) ،وتدىن مستوى التعليم االبتدائي والثانوي يف األحياء األمريكية الفقرية بشكل غري معقول .وتعترب جوانب عديدة من
ضررا هو أن االنطباع عن االقتصاد احلديث،كثريا من النفوذ السياسي .ورمبا يكون األمر األكثر ً
النظام الضرييب رجعية ،ويشرتي املال ً
بأنَّه قد أضر مبعظم الناس ،يشجع على انتهاج سياسيت إفقار اجلار وحتطيم اآلالت مما جيعل اجلميع يف وض ٍع أسوأ.
كيز
فإن الرتكيز على انعدام املساواة يف الدخل واحلنني إىل الضغط الكبري الذي حدث يف منتصف القرن العشرين هو تر ٌ ومع ذلك َّ
ظل كلٌّ من مؤشر جيين وحصة ذوي الدخل األعلى مرتفعني ،وهو ما يف غري حمله .ميكن أن يستمر العامل احلديث يف التحسن حىت إذا َّ
بدال من بريوس ،ولن يتم
قد حيدث ألن القوى اليت أدت الرتفاعهما لن تزول .ال ميكن إجبار األمريكيني على شراء سيارات بونتياك ً
إبعاد كتب هاري بوتر عن متناول أطفال العامل جملرد َّأهنم جيعلون جي كي رولينج مليارديرة .ومن غري املنطقي أن جنعل عشرات املاليني
من األمريكيني الفقراء يدفعون أكثر يف مقابل املالبس من أجل إنقاذ عشرات اآلالف من الوظائف يف صناعة املالبس ،وليس من
ٍ
بفعالية أكرب فقط من أجل تقدمي أشخاصا يقومون بوظائف مملة وخطرية ميكن أن تنفذها اآلالت املنطقي على املدى البعيد أن جنعل
ً
عمل جم ٍز هلم.
ٍ
بدال من حماربة انعدام املساواة يف حد ذاته ،رمبا يكون من األجدى أن نستهدف املشكالت احملددة املصاحبة له .من األولويات ً
الواضحة تعزيز معدل النمو االقتصادي ،مبا أنَّه سيزيد حصة اجلميع من الكعكة ويوفِّر كمية أكرب من الكعك الذي ميكن إعادة توزيعه.
ايدا يف كال األمرين ،فهي مؤهلة بصورةٍ
دورا متز ً مسح لدول العامل ،إىل َّ
أن احلكومات تلعب ً تشري اجتاهات القرن املاضي ،إضافةً إىل ٍ
فريدة لالستثمار يف التعليم واألحباث األساسية والبنية التحتية وضمان املخصصات للصحة وللتقاعد (ُتليص الشركات األمريكية من
األعباء املحبطة املتمثلة يف تقدمي خدمات اجتماعية) ،ودعم الدخول لتصل إىل مستوى أعلى من أسعار السوق ،اليت قد ترتاجع أكثر
ُ
ملاليني الناس مع زيادة الثروة اإلمجالية.
إنفاق اجتماعي أكرب توفري دخل أساسي عاملي (أو ابنة عمه :ضريبة الدخل رمبا تكون اخلطوة التالية يف االجتاه التارخيي حنو ٍ
عقود ،ورمبا تكون يف طريقها إىل التطبيق ،ورغم نزعتها االشرتاكيةَّ ،إال َّأهنا حصلت على تأييد اقتصادينيالسلبية) ،أشيعت الفكرة منذ ٍ
(مثل ميلتون فريدمان) وساسة (مثل ريتشارد نيكسون) وواليات (مثل أالسكا) يرتبطون باليمني السياسي ،ويقلِّب حملِّلون كثر اليوم من
أن تطبيق الدخل األساسي العاملي أبعد ما يكون عن البساطة والسهولة (فيجب خمتلف األطياف السياسية هذه الفكرة يف رؤوسهم .رغم َّ
أن تكون األعداد منطقية ومتوافقة ،وجيب تأمني احلوافز للتعليم والعمل واملخاطرة)َّ ،إال أنَّه ال ميكن جتاهل ما يبشِّر به ،فقد ُحيدث ثورة
حيول كارثة إحالل الروبوتات حمل العمال اليت حتدث بالتصوير البطيء إىل يف اخلليط غري املتناسق املتمثِّل يف دولة الرفاه اخلفية ،وقد ِّ
ٍ
إنتاجية كثريا من الوظائف اليت ستتوالها الروبوتات هي وظائف ال يستمتع الناس بأدائها ،وقد يكون الربح الناتج من «قرن الوفرة»َّ *.
إن ً
أمان ورفاهية نعمةً للبشرية طاملا شاركه البشر على ٍ
نطاق واسعَّ .
إن شبح غياب املعايري االجتماعية وفقدان املعىن واجلدوى مبالغ فيه و ٍ
ٍ
بوظائف عامة ال تدعمها األسواق وال تستطيع جربت الدخل املضمون) ،وميكن مواجهته
على األرجح (وف ًقا لدراسات على املناطق اليت َّ
الروبوتات أداءها ،أو ٍ
بفرص جديدة يف وظائف تطوع جمدية وأشكال أخرى من اإليثار الفعال .رمبا يكون األثر النهائي هو تقليل مستوى
أثرا جانبيًّا لرفع مستوى معيشة اجلميع ،وال سيما الضعفاء من الناحية االقتصادية.
ولكن هذا سيكون ً
انعدام املساواةَّ ،
معاكسا لتقدم البشر ،وحنن ال نعيش يف ديستوبيا ينهار فيها الدخل وتعكس ما ً مثاال
أن انعدام املساواة يف الدخل ليس ً خالصة القول َّ
حتقق من زيادة الرخاء يف القرون الطويلة املاضية ،وال يدعو إىل حتطيم الروبوتات ،أو رفع اجلسر املتحرك كي يسقط األعداء ،وال حتويل
موضوع معقد.
ٍ النظام إىل االشرتاكية ،وال إعادة زمن اخلمسينيات .دعين أخلِّص قصيت املعقدة حول
عدا أساسيًّا من أبعاد ازدهار البشرية ،وباملقارنة بني خمتلف الدول يف الرفاهة ،جنده َّ
إن انعدام املساواة ال يعين الفقر ،وهو ليس بُ ً
أمرا سيئًا بالضرورة ،فمع هروب اجملتمعات من الفقر
باهتًا وأقل أمهية يف مقابل الثروة اإلمجالية .ليست زيادة مستويات انعدام املساواة ً
مصدرا
ً يتكرر هذا االندفاع املتفاوت عندما يكتشف أحد اجملتمعات
العاملي ،فإن من احلتمي أن يزداد مستوى انعدام املساواة فيها ،ورمبا َّ
جيدا ،فالعوامل األكثر فعالية يف تسوية التفاوتات االقتصادية
أمرا ً
دائما ً جديدا للثروة .كما َّ
أن زيادة مستويات انعدام املساواة ال تُعد ً ً
هي االوبئة واحلروب الكربى والثورات العنيفة واهنيار الدول.
هائال من
مقدارا ً َّ رغم كل ذلكَّ ،
فإن االجتاه املستمر يف التاريخ منذ التنوير هو زيادة ثروات اجلميع ،وقد ولدت اجملتمعات احلديثة ً
حاال.
الثروة ،وإضافةً إىل ذلك ،كَّرست حصةً متزايدة من تلك الثروة إلعانة األسوأ ً
أن العوملة والتكنولوجيا قد أخرجت مليارات الناس من دائرة الفقر وصنعت طبقة وسطى عاملية ،فقد تناقصت مستويات وكما َّ
انعدام املساواة الدولية والعاملية ،يف الوقت الذي أغنتا فيه النخبة اليت يصل أثرها التحليلي أو اإلبداعي أو املايل إىل العامل كله .مل يتحسن
حتسن ،ويرجع هذا غالبًا إىل ارتقاء أفرادها إىل الطبقات العليا ،وتتعزز هذه
الدنيا يف الدول املتقدمة بنفس القدر ،ولكنَّه َّ حظ الطبقات ُ
التحسينات بفعل اإلنفاق االجتماعي ،وهبوط األسعار وزيادة جودة األشياء اليت يريدها الناس .أصبح العامل بطر ٍ
يقة أو بأخرى أقل
حاال ٍ
بطرق أكثر. ولكن سكان العامل أصبحوا أفضل ً مساواةًَّ ،
أن هذه األمور ال ميكن أن تستمر،ولكن هل التقدم مستدام؟ من الردود الشائعة على األخبار السعيدة عن الصحة والثروة واملعيشة َّ
فنحن نكتسح العامل بأعدادنا الغفرية ،ونبالغ يف جترع نَِعم األرض متغافلني عن حمدوديتها ،ونُفسد أعشاشنا بالتلوث والنفاياتِّ ،
ونعجل
بيوم احلساب «البيئي» ،وإذا مل ِ
تقض علينا الزيادة السكانية واستنزاف املوارد والتلوث ،سيقضي علينا التغري املناخي.
أن املشكالت اليت تواجهنا صغرية ،ولكنَّين سأعرض طريقة أن كل االجتاهات إجيابية أو َّ
ولن َّأدعي كما يف فصل انعدام املساواة َّ
تشجع عليها .الفكرة
بديال بنَّاءً عن الراديكالية أو اجلربية اليت ِّ
تفكري يف هذه املشكالت ُتتلف عن احلكمة السائدة الكئيبة وتقدِّم ً
أن املشكالت البيئية قابلة للحل مثل أي مشكالت أخرى بشرط توفر املعرفة املناسبة. الرئيسية هي َّ
ال ميكن بالتأكيد التسليم بفكرة وجود مشاكل بيئية بالفعل ،فمن وجهة نظر الفرد ،تبدو األرض غري حمدودة ويبدو أثرنا فيها غري
وتسمم
خببث ِّ تسممنا ٍ امللوثات اليت ِّ
مهم وال يُذكر ،ومن وجهات نظر العلم ،فالرؤية أكثر إقالقًا .وتكشف وجهة النظر الدقيقة عن ِّ
أنواع الكائنات اليت حنبها ونعتمد عليها ،وتكشف وجهة النظر العيانية عن آثا ٍر على النظم البيئية رمبا تكون غري ملحوظة عند إجراء
دمارا مأساويًّا .بدءًا منذ ستينيات القرن املاضي ،نشأت احلركة البيئية من رحم املعرفة العلمية ِ كل ٍ
فعل على حدة ،ولكنَّها ترتاكم لتُحدث ً
(من اإليكولوجيا والصحة العامة وعلوم األرض والغالف اجلوي) والتبجيل الرومانسي للطبيعة ،وجعلت هذه احلركة صحة الكوكب أولويةً
ات مهمة وكبرية ،وهذا أحد األشكال األخرى لتقدم دائمةً على جدول أعمال البشرية ،وكما سنرى ،فهي تستحق الثناء على إجناز ٍ
البشرية.
طموح
ٌ بأن تقدم البشركثريا من األصوات يف احلركة البيئية التقليدية ترفض االعرتاف بذلك التقدم ،أو حىت َّ
أن ً من سخرية القدر َّ
مفهوما أجدد للنزعة البيئية ،يتشارك يف هدف محاية اهلواء واملاء وأنواع الكائنات والنظم البيئية ولكنه
ً وجيه .سأعرض يف هذا الفصل
يستند إىل التفاؤل التنويري وليس إىل نزعة الرتاجع الرومانسية.
بدءًا منذ السبعينيات ،تعلقت احلركة البيئية السائدة بأيديولوجية شبه دينية ،وهي املذهب األخضر ،الذي جنده يف بيانات نشطاء خمتلفني
مفجر اجلامعات والطائرات» ،والبابا فرانسيس .تنطلق األيديولوجية اخلضراء من صورةٍ لألرض الربيئة البكر
ومتنوعني مثل آل جور ،و« ِّ
اليت دنَّستها ضراوة البشر ،وكما قال فرانسيس يف رسالته البابوية ُ ( Laudato Siكن ُم َسبَّ ًحا) يف عام َّ « :2015
إن بيتنا املشرتك
كأخت نشاركها حياتنا ..ولكنها تصرخ بسبب األذى الذي سببناه هلا» .واألذى يزداد سوءًا حسب هذه الرواية ،فـ «األرض ،بيتنا، ٍ
بدأت تشبه كومةً ضخمة من الوسخ» .والسبب اجلذري هو االلتزام النابع من الفكر التنويري باملنطق والعلم والتقدم :فيقول فرانسيس:
مكان آخر» أي تقدير مستقبل أفضل يف ٍ
ٍ يكمن الطريق حنو
«ال ميكن مساواة التقدم العلمي والتكنولوجي بتقدم البشرية والتاريخ ،إذ ُ
«شبكة العالقات الغامضة بني األشياء» و(بالطبع) «كنز التجربة الروحانية املسيحية» .لو مل نتُب ونندم على خطايانا برتاجع النمو
عسريا يف يوم القيامة البيئي.
وتراجع التصنيع ورفض اآلهلة املزيفة ويُقصد هبا العلم والتكنولوجيا والتقدم والنزعة اإلنسانية ،فسنواجه حسابًا ً
انغماسا يف وككث ٍري من احلركات املنذرة بنهاية العاملَّ ،
فإن املذهب األخضر ممزوج ببغض البشرية ،مبا يشمل ال مباالة باجلوع ،و ً
خال من السكان ،ومقارنات شبه نازية بني البشر من ٍ
جانب واآلفات ومسببات األمراض والسرطان من كب ٍ اخلياالت الوحشية عن كو ٍ
جانب آخر .كتب بول واتسون ،مجعية راعي البحار للحفاظ على البحار ()Society Sea Shepherd Conservation ٍ
بشكل ذكي وجذري إىل أقل من مليار نسمة ..يتطلب عالج جسم ٍ ٍ
حباجة إىل خفض أعداد البشر على سبيل املثال ما يلي« :حنن
هنجا تدخليًّا
أيضا ً عالجا تدخليًّا وجذريًّا ،وبالتايل َّ
فإن عالج اجملال احليوي اخلاص بفريوس البشر سيتطلب ً ٍ
شخص ما من السرطان ً
وجذريًّا».
يوجد منهج بديل حديث حلماية البيئة يدعمه كلٌّ من جون أسافو أدجي ،وجيسي أوزوبيل ،وآندرو باملفورد ،وستيوارت براند،
وروث ديفرايز ،ونانسي نولتون ،وتيد نوردهاوس ،ومايكل شيلينربجر ،وغريهم .ويُطلق عليه احلداثة البيئية ،أو الربمجاتية البيئية ،أو التفاؤل
األرضي ،أو احلركة اخلضراء/الزرقاء (أو الفريوزية) ،رغم أنَّنا ميكن أن ننظر إليها كنزعة بيئية تنويرية أو إنسانية.
ٍ
بدرجة ما أحد العواقب احلتمية للقانون الثاين للديناميكا احلرارية ،فعندما يستخدم الناس تنطلق احلداثة البيئية من إدراك َّ
أن التلوث
مكان آخر يف البيئة على هيئة نفايات وتلوث نظام يف أجسامهم ويف منازهلم ،فإهنم يزيدون بالضرورة اإلنرتوبيا يف ٍ الطاقة خللق منطقة ٍ
بارعا يف ذلك -وهذا ما مييزنا عن بقية الثدييات -ومل يعِش يف تناغ ٍم مع البيئة
وأشكال أخرى من الفوضى .لطاملا كان اجلنس البشري ً
نظاما بيئيًّا ما ،كانوا عادةً يصطادون حيوانات كبرية حىت االنقراض ،وكانوا غالبًا حيرقون مساحات شاسعة قط ،فعندما كانت أقدام البشر ً
أن حمميات احلياة الربية ال تنشأ سوى بعد إهالك السكان األصليني متاما .من األسرار اخلفية حلركة احلفاظ على البيئة َّ
من الغابات وخيلوهنا ً
قسرا ،وينطبق ذلك على احلدائق الوطنية يف الواليات املتحدة ومتنزه سريينجييت يف شرق إفريقيا ،فالربية كما كتب املؤرخ أو نقلهم منها ً
وإمنا هي نفسها أحد منتجات احلضارة. البيئي ويليام كرونون ليست مال ًذا بكراَّ ،
ً
أيضا ،وحسب ما يقول عامل املناخ القدمي ويليام رودميانَّ ،
فإن تبين زراعة األرز تدمريا ً
عندما عمل البشر بالزراعة ،أصبحوا أكثر ً
يف احلقول الرطبة يف آسيا منذ حوايل مخسة آالف عام رمبا قد يكون تسبب يف إطالق كث ٍري من غاز امليثان يف الغالف اجلوي بسبب
إن الناس الذين عاشوا يف العصر احلديدي ،بل وحىت يف أواخر العصر غري املناخ ،ويقول إنَّه «من املمكن أن نقول َّ
النباتات املتعفِّنة مما َّ
احلجري ،كان أثر الفرد الواحد منهم على املناظر الطبيعية على األرض أكثر من أثر الشخص املعاصر العادي» .وكما أشار براند (يف
رضا يف املصطلحات ،فعندما يسمع كلميت الطعام الطبيعي ،فإن ذلك يغريه بأن فإن «الزراعة الطبيعية» تشمل تعا ً الفصل السابع)َّ ،
يسب ويقول:
ال يرى أي عامل إيكولوجيا أي منتج من منتجات الزراعة طبيعيًّا ولو بقد ٍر ضئيل! فأنت تأخذ هذا النظام البيئي املعقد
متاما حىت ال يكون فيه شيء سوى األرض ،وطرقه حىت حيدث التعاقب ِّ
املبكر اجلميل وتقطِّعه إىل مستطيالت ،وُتليه ً
تعمره مبحاصيل موحدة منمتاما وتغمره بكميات هائلة متواصلة من املياه! مث ِّ وتسوي سطحه ً املستمر! وتٌفسد أعشابه ِّ
نبات من النباتات الغذائية متخصص بدقة يف بشكل كبري وغري قادرة على احلياة وحدها دون مساعدة! فكل ٍ ٍ ٍ
نباتات تالفة
مهارةٍ واحدة ،وخضع للتوالد الداخلي آلالف السنوات حىت وصل إىل حالة من البالهة اجلينية ،فتلك النباتات هشة للغاية،
واضطرت إىل ترويض البشر كي يعتنوا هبا إىل ما ال هناية!
مفيدا للبشرية ،فقد أطعم املليارات من الناسأن التحول الصناعي كان ً من األمور األخرى اليت أدركتها حركة احلداثة البيئية َّ
وسهل إهناء العبودية وحترير النساء وتعليم األطفال (الفصل السابع،
وضاعف املدى العمري هلم وخفض معدل الفقر املدقع بشدةَّ ،
ليال والعيش حيثما أرادوا ،والتدفئة يف
والسادس عشر ،والسابع عشر) بسبب حلول اآلالت حمل العضالت .لقد مسح للناس بالقراءة ً
الشتاء ،ورؤية العامل ،ومضاعفة التواصل البشري ،وجيب حساب أي تكلفة من ٍ
تلوث وفقدان املوائل الطبيعية يف مقابل هذه النعم .وكما
مقدارا مناسبًا من التلوث يف البيئة ،مثلما يوجد مقدار مناسب من األتربة يف منزلك ،كلما
يقول االقتصادي روبرت فرانك ،فإن هناك ً
كان أنظف ،كان الوضع أفضل بالطبع ،ولكن ليس على حساب كل شيء آخر يف احلياة.
واملقدمة املنطقية الثالثة هي َّ
أن تلك املبادلة اليت تضع رفاهة البشر يف مواجهة مع األضرار البيئية ميكن أن تعيد التكنولوجيا التفاوض
فيها .فمن املشكالت التكنولوجية السؤال التايل :كيف نستمتع باملزيد من السعرات احلرارية ووحدات التدفق الضوئي والوحدات احلرارية
الربيطانية ووحدات ُتزين املعلومات (البت) واألميال مع إنتاج تلوث أقل وباستخدام مساحات أقل من األرض؟ وهي مشكلة حيلها
يوما بعد يوم .يتحدث االقتصاديون عن منحىن كوزنتس البيئي ،وهو نظري قوس انعدام املساواة على شكل حرف ،Uبوصفه العامل ً
دالة للنمو االقتصادي ،فعندما تنمو الدول يف البداية ،يسبق النمو يف أولوياهتا النقاء البيئي ،ولكن مع ازديادها غىن ،تتجه أفكارها حنو
البيئة .إذا مل يكن الناس يستطيعون حتمل تكلفة الكهرباء سوى بوجود بعض الضباب الدخاين ،فسيتعايشون مع الضباب الدخاين،
ٍ
بسرعة كبرية ،فالتكنولوجيا كل من الكهرباء واهلواء النقي ،سيدفعون مثن اهلواء النقي .قد حيدث هذا
ولكن عندما يستطيعون حتمل تكلفة ٍّ
جتعل السيارات واملصانع وحمطات توليد الكهرباء أنظف ،وبالتايل جتعل اهلواء النظيف أقل تكلفةً.
أيضا .بعض املخاوف يثين النمو االقتصادي منحىن كوزنتس البيئي عرب إحداث تقدم ،ليس فقط يف التكنولوجياَّ ،
وإمنا يف القيم ً
ولكن هناك خماوف أخرى أكثر
متاما ،إذ يشتكي الناس من الضباب الدخاين يف مدهنم أو من رصف املساحات اخلضراءَّ ، البيئية عملية ً
ولكن القلق بشأهنا
إن مصري وحيد القرن األسود ورفاهة نسلنا يف العام 2025على سبيل املثال تُعد خماوف معنوية مهمةَّ ، روحانيةَّ .
حد ما ،فعندما تزداد اجملتمعات غىن ،وال يعود الناس يفكرون يف توفري القوت واملأوى ،تصعد قيمهم هرم االحتياجات اآلن يُعد رفاهية إىل ٍّ
ويتوسع منظور خماوفهم عرب املكان والزمان .وجد كلٌّ من رونالد إجنلهارت وكريستيان ويلزيل ،باستخدام بيانات من مسح القيم العاملية،
أيضا إىل إعادة
أن أصحاب القيم التحررية األقوى -التسامح واملساواة وحرية الفكر والتعبري -املالزمة غالبًا لليُسر والتعليم ،مييلون أكثر ً َّ
تدوير النفايات والضغط على احلكومات واألعمال التجارية من أجل محاية البيئة.
تشكك وظن
ٌ بأن التكنولوجيا ستنقذنا» ،وهذا يف احلقيقة يرفض املتشائمون فيما خيص البيئة عاد ًة هذه الطريقة يف التفكري َّ
بأهنا «إميان َّ
أن املعرفة ستتجمد يف حالتها الراهنة ،وسيستمر الناس يف سلوكياهتما بصورةٍ آلية بغض النظر عن الظروف. بأن الوضع الراهن سيُهلكنا ،و َّ
َّ
قيامة بيئي،كانت أوىل هذه النبوءات «القنبلة السكانية»َّأدى اإلميان الساذج بالثبات بكل تأكيد من قبل إىل نبوءات مل تتحقق بيوم ٍ
اليت (كما رأينا يف الفصل السابع) أبطلت نفسها .عندما تصبح الدول أغىن وذات تعلي ٍم أفضل ،متر مبا يطلق عليه الدميغرافيون (علماء
ولكن هذا
فأوال :ترتاجع معدالت الوفيات مع حتسن التغذية والصحة ،يتسبب هذا يف تضخم السكانَّ ، السكان) التحول الدميوغرايفً ،
وإمنا َّ
ألهنم ألن سكان الدول الفقرية يبدؤون يف التكاثر كاألرانبَّ ،
أمر ال يستحق البكاء عليه ،فهو ال حيدث كما أشار يوهان نوربرج َّ
يتوقفون عن املوت كالذباب .وهذه الزيادة مؤقتة على أي حال ،فمعدالت املواليد تصل إىل الذروة مث ترتاجع ،لسببني على األقل،
تعليما أفضل ،يتزوجن الح ًقا ويؤجلن ٍ
فاآلباء يتوقفون عن إجناب أنسال كثرية كضمان يف حالة وفاة بعض أطفاهلم ،وعندما تتلقى النساء ً
أن معدل منو سكان العامل بلغ ذروته وهي نسبة 2.1يف املئة سنويًّا يف عام ،1962مث يوضح الشكل رقم َّ 1-10 إجناب األطفالِّ .
هبط ليصل إىل 1.2يف املئة يف عام ،2010وسينخفض أكثر على األرجح ليصل إىل 0.5حبلول عام ،2050ويقرتب من الصفر
ٍ
بشكل بأن تعداد السكان يف ذلك الوقت سيستقر مث سيرتاجع .اخنفضت معدالت اخلصوبة يف حوايل العام 2070حسب التوقع َّ
ملحوظ للغاية يف املناطق املتقدمة مثل أوروبا واليابان ،ولكنَّها قد تنهار فجأة يف أجز ٍاء أخرى من العامل مبا سيفاجئ الدميوغرافيني .رغم
ٍ
حولت الغرب متاما وستهزها زالزل الشباب يف ٍ
وقت غري معلوم، بأن اجملتمعات املسلمة مقاومة للتغريات االجتماعية اليت َّاالعتقاد الشائع َّ
ً
اجعا يف معدل اخلصوبة بنسبة 4يف املئة على مدار العقود الثالث املاضية ،وتشمل هذه النسبة أن الدول املسلمة قد شهدت تر ً َّإال َّ
هبوطًا بنسبة 70يف املئة يف إيران ،وبنسبة 60يف املئة يف بنجالديش وسبع دول عربية.
معدل النمو السنوي (في المئة)
مليارات األشخاص
ا ل ش ك ل رق م : 1 - 1 0ا ل س ك ا ن وا ل ن م و ا ل س ك ا ين م ن ذ 1 7 5 0ح ىت 2 0 1 5وا ل ن م و ا مل ت وق ع ح ىت
عام 2100
املصادر Our World in Data, Ortiz-Ospina & Roser 2016d. :البيانات لألعوام من 1750حىت :2015شعبة السكان باألمم
املتحدة وقاعدة البيانات التارخيية للبيئة العاملية () ،HYDEو( PBLوكالة التقييم البيئي اهلولندية) (غري حمددة التاريخ) .التوقعات ملا بعد :2015معدل
النمو السنوي ،نفس املعدل يف األعوام من 1750حىت .2015مليارات األشخاص ،حتليل املعهد الدويل لألنظمة التطبيقية ،توقع متوسط (جمموع التقديرات
اخلاصة بكل دولة ،مع أخذ التعليم يف احلسبان).Lutz, Butz, & Samir 2014 ،
المصدرGOOGLE :
NGRAMS
الحاضر
السنة
أن املعدل احلايل الستخدام أحد املوارد ميكن أن ميتد يف املستقبل حىت يصطدم يف ٍ
سقف ،واملغزى تفرتض عقيدة االستدامة َّ
أن علينا االنتقال إىل استخدام مورد متجدد ميكن جتديده بنفس معدل استخدامنا ،أي إىل ٍ
أجل غري مسمى .يف الواقع ،لطاملا الضمين َّ
إن العصر احلجري مل ِ
ينته َّ
ألن العامل كثريا َّ ٍ ٍ
كانت اجملتمعات هتجر املورد وتذهب إىل مورد أفضل قبل استنزاف القدمي بوقت طويل ،ويُقال ً
أيضا .ويشري أوزوبيل إىل أنَّه« :كان هناك ٌ
كثري من األخشاب والقش املتبقية واملتاحة نفد من األحجار ،وينطبق هذا على الطاقة ً
لالستغالل عندما انتقل العامل إىل استخدام الفحم ،وعندما ظهر النفط فاض الفحم ،واآلن سيفيض النفط مع ظهور امليثان (الغاز
أيضا قبل أن يشتعل آخر قدم مكعب منه ٍ
بلهب أزرق. الطبيعي)» .وكما سنرى ،رمبا حتل مصادر طاقة ذات كربون أقل حمل الغاز ً
مطردا (كما رأينا يف الفصل السابع) رغم أنَّه مل ي ُكن هناك قط أي أسلوب مستدام من منوا ًأيضا ً
لقد منا اإلمداد من الغذاء ً
أساليب زراعته .يف كتاب السقاطة الكبرى :كيف تزدهر البشرية في وجه الكوارث الطبعية ( The Big Ratchet: How
،)Humanity Thrives in the Face of Natural Crisisوصفت عاملة اجلغرافيا روث ديفرايز
) (Ruth DeFriesالتسلسل كما يلي« :السقاطة-البلطة-الدوران» ،أي يكتشف الناس طريقةً لزراعة املزيد من الطعام ،فيجري
احد حنوه كالسقاطة ،مث يفشل هذا األسلوب يف مواكبة الطلب أو تظهر آثار جانبية مزعجة له ،فتسقط البلطة ،مث كل الناس يف اجتاه و ٍ
أوقات خمتلفة يف اجتاه البستنة القائمة على القطع واحلرق، أسلوب جديد .قام املزارعون هبذا الدوران يف ٍ ٍ يدور الناس يف اجتاهٍ آخر حنو
والسماد البشري (أي الغائط البشري) ،والدورة الزراعية للمحاصيل ،وفضالت الطيور ،ونرتات البوتاسيوم ،وعظام جواميس البيسون
املطحونة ،واملخصبات الكيميائية ،واحملاصيل اهلجينة ،واملبيدات احلشرية ،والثورة اخلضراء .رمبا يشمل هذا الدوران يف املستقبل الكائنات
املعدلة جينيًّا والزراعة يف املاء ،والزراعة اهلوائية ،واملزارع الرأسية احلضرية ،واحلصاد اآليل ،واللحوم املزروعة يف األنابيب ،وخوارزميات الذكاء
االصطناعي اليت يغذيها نظام حتديد املواقع العاملي ( )GPSواجملسات احليوية ،واسرتداد الطاقة واملخصبات من شبكات الصرف
بدال من األمساك األخرى ،ومن يعرف ما الذي ميكن أن يفعله الناس غري ذلك طاملا كان ٍ
بأمساك تأكل التوفو ً الصحي ،والزراعة املائية
أن املياه أحد املوارد اليت لن يبتعد عنها الناس مطل ًقاَّ ،إال أنَّه باستطاعة املزارعني توفري قد ٍر
مسموحا هلم إطالق العنان لرباعتهم؟ رغم َّ
ً
طور العامل مصادر طاقة وفرية خالية من الكربون (وهو موضوع ضخ ٍم منها إذا انتقلوا إىل الزراعة الدقيقة على الطراز اإلسرائيلي ،وإذا َّ
سنستكشفه الح ًقا) ،فيمكنه أن حيصل على ما حيتاج إليه عرب حتلية مياه البحار.
األميال المقطوعة
بالمركبات
النسبة المئوية للتغير
عدد السكان
الطاقة
ثاني أكسيد الكربون
االنبعاثات
( 5ملوثات)
ميكن رؤية كثري من هذه التطورات بالعني اجملردة ،إذ أصبحت املدن غالبًا أقل امتالءً بالشبورة األرجوانية البنية ،ومل ُتعد لندن مليئة
بالضباب -وهو يف احلقيقة الدخان الناتج عن الفحم -الذي خلَّدته اللوحات االنطباعية والروايات القوطية وأغنية جريشوين* وماركة
املعاطف الواقية من املطر *.عادت األمساك والطيور والثدييات املائية وأحيانًا السبَّاحون إىل املمرات املائية احلضرية -مبا فيها لسان بيوجت
ساوند وخليج تشيزبيك وميناء بوسطن وحبرية إيري وأهنار هدسون وبوتوماك وشيكاغو وتشارلز والسني والراين والتاميز (ووصف دزرائيلي
هذا األخري بأنَّه «مسبح جهنمي تنبعث منه روائح وأهوال ال توصف وال ُحتتمل») .ويرى سكان الضواحي الذئاب والثعالب والدببة
وقطط الوشق األمحر وحيوانات الغرير والغزال ن وطيور العقاب النساري والديوك الرومية الربية والنسور الصلعان .عندما تصبح الزراعة
جدارا من األحجار متنزه وجد أمامه ًأكثر كفاءة (الفصل السابع) ،تعود األراضي الزراعية إىل طبيعتها كغابة معتدلة املناخ ،كما يعرف أي ِّ
أن األشجار يف الغابات االستوائية ما زالت تتعرض للقطع على حن ٍو مقلقَّ ،إال املتباينة اليت متتد بطول أراضي نيو إجنالند املشجرة ،ورغم َّ
أن معدل قطعها اخنفض مبقدار الثلثني بني منتصف القرن العشرين وبداية القرن احلادي والعشرين (الشكل رقم .)4-10بلغ معدل َّ
*أغنية للمطرب جورج جيرشوين عنوانها ( A Foggy Day in Londonيوم ضبابي في لندن)- .المترجمة.
*اسمها ( London Fogضباب لندن)- .المترجمة.
إزالة أكرب الغابات االستوائية يف العامل ،وهي غابة األمازون ،إىل ذروته يف عام ،1995مث اخنفض مبقدار أربعة أمخاس منذ عام 2004
حىت .2013
غابة معتدلة
غابة استوائية
مليون هكتار
َّ
إن الرتاجع املتأخر يف معدل إزالة الغابات االستوائية أحد العالمات على انتشار محاية البيئة من الدول املتقدمة إىل بقية العامل،
فيمكن تتبع تقدم العامل يف بطاقة تقرير يُطلق عليها مؤشر األداء البيئي ،وهو مرَّكب من مؤشرات جلودة اهلواء واملاء والغابات ومصايد
عقد أو أكثر ،وعددها 180دولة ،ما عدا دولتني األمساك واملزارع واملوائل الطبيعية .ظهر التحسن على كل الدول اليت مت تتبعها ملدة ٍ
فقط ،ويف املتوسط ،كلما زاد ثراء الدولة ،زادت نظافة بيئتها ،فكانت دول مشال أوروبا هي األنظف ،يف حني كانت أفغانستان
إن اثنني من أكثر أشكال التلوث فت ًكا -مياه تعرضا للخطرَّ .
وبنجالديش وعدة دول من منطقة أفريقيا جنوب الصحراء هي األكثر ً
الشرب امللوثة والدخان الناتج عن الطهي يف األماكن املغلقة -من االبتالءات اليت أصيبت هبا الدول الفقرية ،ولكن مع ازدياد الدول
مياها ملوثة مبقدار مخسة
غىن خالل العقود األخرية ،فهي هترب من هذه اآلفات ،فقد اخنفضت نسبة سكان العامل الذين يشربون ً الفقرية ً
أمثان ،ونسبة سكان العامل الذين يستنشقون الدخان الناتج عن الطهي مبقدار الثُلث .وكما قالت إنديرا غاندي« :الفقر هو أكرب مصدر
تلوث».
الصورة املصغرة لألضرار البيئية هي حوادث تسرب النفط من الناقالت البحرية ،الذي يغطي الشواطئ البكر برواسب سوداء سامة
ويلوث ريش الطيور البحرية وفراء كالب املاء والفقمات ،وتبقى يف ذاكرتنا اجلمعية أشهر احلوادث السيئة مثل حتطم الناقلة توري كانيون
أن وسائل نقل النفط البحرية أصبحت أكثر يف عام 1967والناقلة إيكسون فالديز يف عام ،1989وال يعي سوى القليل من الناس َّ
أن العدد السنوي حلوادث تسرب النفط قد اخنفض من تسعني حادثة يف عام 1973إىل مخس يوضح الشكل رقم َّ 5-10 أمانًا بكث ٍريِّ .
حوادث فقط يف عام ( 2016واخنفض عدد حوادث التسرب الضخمة من اثنني وثالثني حادثة يف عام 1978إىل حادثة واحدة يف
أيضا أنَّه رغم تسرب كمية أقل من النفطَّ ،إال أنَّه قد مت نقل كمية أكرب منه ،ويقدِّم هذان املنحنيان
ويوضح الشكل ًعام ِّ ،)2016
أن شركات النفط تريد تقليل عدد حوادث الناقالت، دليال إضافيًا على متاشي احلماية البيئية مع النمو االقتصادي .ال عجب َّ
املتقاطعان ً
ألن مصاحلها تتفق مع مصاحل البيئة ،فحوادث تسرب النفط كارثة يف العالقات العامة (وخاصةً عندما يزين اسم الشركة سفينةً متصدعة)، َّ
ٍ
بدرجة أن الشركات قد جنحت يف ذلك وتتسبَّب يف دفع غرامات باهظة ،وهتدر بالطبع النفط القيِّم .من األمور األكثر إثارة لالهتمام َّ
خطرا مبرور الوقت واستبعاد الباحثون التقنيون يف تصميماهتم الثغرات األخطركبرية ،فالتكنولوجيا تسري يف منحىن التعلم وتصبح أقل ً
ولكن الناس يتذكرون هذه احلوادث وال يعون التطورات املتزايدة .تظهر أشكال (وهي النقطة اليت سنعود إليها يف الفصل الثاين عشر)َّ ،
التكنولوجيا املختلفة على مدار جداول زمنية خمتلفة ،ففي عام 2010عندما كانت حوادث تسرب النفط يف الناقالت البحرية قد
اخنفضت إىل أقل مستوى هلا على اإلطالق ،حدث ثالث أسوأ تسرب نفطي من أبراج احلفر الثابتة ،وأدت حادثة منصة Deepwater
Horizonيف خليج املكسيك بدورها إىل إرساء لوائح جديدة ملوانع االنفجار ،وتصميم اآلبار ،واملراقبة ،واالحتواء.
مليار طن متري
حوادث تسرب
النفط
بفضل جهود محاية املوائل الطبيعية واجلهود املوجهة حنو احلفاظ على البيئة ،مت إنقاذ كث ٍري من أنواع احليوانات والطيور اليت كانت
على وشك االنقراض ،مثل :طائر القطرس ،وطائر الكندور ،واملها ،والباندا ،ووحيد القرن ،وشيطان تسمانيا ،والنمر .وقد اخنفض معدل
كثريا من األنواع ما زالت يف مأزق خطريَّ ،إال
أن ً انقراض الطيور بنسبة 75يف املئة وفق ما قال عامل اإليكولوجيا ستيوارت بيم .ورغم َّ
بأن البشر يتسبَّبون يف حدوث انقراض مجاعي كالذي حدث يف أن االدعاء َّ
عددا من علماء اإليكولوجيا واملستحاثات يعتقدون َّ َّ
أن ً
كثري من املشاكل اخلاصة باحلياة الربية اليت حتتاج إىل
قائال« :يظل أمامنا ٌ
العصر الربمي والعصر الطباشريي مبال ٌغ فيه ،وكما يشري براند ً
بأهنا أزمات انقراض أدى إىل ذع ٍر عام من أن تكون الطبيعة هشة للغاية أو قد تلفت بالفعل ً
متاما بال أمل يف ولكن وصفها كثريا َّ
حلَّ ،
ً
إصالحها ،وهذا أبعد ما يكون عن الوضع الفعلي ،فالطبيعة ككل قوية كما كانت طوال عمرها ،بل ورمبا أقوى ...وعن طريق التعامل
مع هذه القوة يتم حتقيق أهداف احلفاظ على البيئة».
نطاق عاملي ،ففي عام 1963قضت املعاهدة اليت حتظر التجارب النووية يف الغالف وحدثت تطورات وحتسينات أخرى على ٍ
أن دول العامل ميكن أن تتفق على إجر ٍ
اءات ترويعا على اإلطالق ،وهو الغبار الذري املشع ،وأثبتت َّ
اجلوي على أكثر أشكال التلوث ً
حلماية الكوكب حىت يف ظل عدم وجود حكومة عاملية .ومنذ ذلك احلني ،متكن التعاون العاملي من مواجهة حتديات أخرى عديدة ،فقد
ساعدت املعاهدات الدولية بشأن احلد من انبعاثات الكربيت واألشكال األخرى من «التلوث اجلوي بعيد املدى عرب احلدود» اليت مت
توقيعها يف الثمانينيات والتسعينيات من القرن املاضي يف القضاء على الفزع من سقوط األمطار احلمضية ،وبفضل حظر
الفلوروكلوروكربونات يف عام 1987الذي صدقت عليه 197دولةً ،فمن املتوقع تعايف طبقة األوزون يف منتصف القرن احلادي والعشرين.
متهد هذه النجاحات الطريق كما سنرى التفاقية باريس بشأن التغري املناخي التارخيية اليت انعقدت يف عام .2015
ِّ
حتسن
إن مواصلة ُّ يج من الغضب والال منطقية ككل املظاهر األخرى الدالة على التقدمَّ . تُقابل التقارير عن حتسن حالة البيئة غالبًا مبز ٍ
أن البيئة تتحسن من تلقاء نفسها أو َّ
أن بإمكاننا االسرتخاء أن كل شيء على ما يرام ،أو َّ مقاييس عديدة للجودة البيئية ال يعين بالضرورة َّ
دون فعل أي شيء .علينا أن نشكر النقاشات والنشاطات والتشريعات والقواعد املنظمة واملعاهدات والرباعة التكنولوجية لدى من سعوا
إىل حتسني البيئة يف املاضي على البيئة األنظف اليت نتمتع هبا اليوم ،وسنحتاج إىل املزيد من كل هذه األمور ملواصلة التقدم الذي حققناه،
ومننع انعكاسه (وخاصةً يف ظل رئاسة ترامب) ،وتوسيع نطاقه ليشمل املشاكل اخلبيثة اليت ما زالت تواجهنا مثل صحة احمليطات والغازات
الدفيئة يف الغالف اجلوي كما سنرى فيما بعد.
سيعجلون
النهابني الذين ِّخسيسا مليئًا باللصوص و َّ
ً ولكن الوقت قد حان للتخلي عن اللعبة األخالقية اليت يكون البشر فيها عرقًا
َّ
وبدال من ذلك ،ميكننا أنبنهاية العامل لو مل يرتاجعوا عن الثورة الصناعية وينبذون التكنولوجيا ويعودون إىل التناغم الزاهد مع الطبيعةً .
نتعامل مع محاية البيئة بوصفها مشكلة جيب حلها ،كيف ميكن أن حييا الناس حياة آمنة ومرحية وحمفِّزة مع التسبُّب يف أقل قد ٍر ممكن
يشجعنا التقدم الذي حققناه حىت اآلن يف حل هذه املشكلة على السعي وراء حتقيق املزيد ال من التلوث وفقدان املوائل الطبيعية؟ ِّ
سريت هذا التقدم.
أيضا إىل القوى اليت َّ
السماح بالقناعة بالوضع الراهن ،ويشري ً
انتفاعا أكرب بكميات أقل من املادة والطاقة، أحد مفاتيح حل هذه املشكلة هو فصل اإلنتاجية عن املوارد ،أي حتقيق البشر ً
مهجنة أو معدَّلة إلنتاج املزيد من الربوتني والسعرات
وألن الزراعة أصبحت مكثَّفة عرب زراعة حماصيل َّ ويضفي هذا قيمة كبري على الكثافةَّ .
جزء كبري من األراضي الزراعيةكميات أقل من املياه واألمسدة ،مت االستغناء عن ٍ مساحات أقل من األراضي و ٍ
ٍ احلرارية واأللياف باستخدام
ٍ
مساحات أن الزراعة العضوية ،اليت حتتاج إىلائل طبيعية مرة أخرى( .يشري أنصار حركة احلداثة البيئية إىل َّ
وميكن أن يتغري شكلها لتعود مو َ
كثريا من األرض إلنتاج كيلوجرام واحد من الغذاء ،ليست خضراءً وال مستدامةً) .مع انتقال الناس إىل املدن ،ال يفسحون مساحات أكرب ً
أيضا موارد أقل للتجوال والبناء والتدفئةَّ ،
ألن ما ميثِّل سق ًفا ألحد األفراد ميثِّل أرضيةً أكرب من األراضي يف الريف فحسب ،بل يستلزمون ً
لفرد آخر .ومع حصد حماصيل أشجار املزارع الكثيفة ،اليت تتمتَّع خبمسة إىل عشرة أضعاف الغلة الناجتة عن الغابات الطبيعية ،يتم ٍ
االستغناء عن أراضي الغابات وسكاهنا من ذوي الريش والفرو واحلراشف.
صديق آخر لألرض وهو احلد من استخدام املواد () ،Dematerializationفالتقدم يف
ٌ ويسهل كل هذه العمليات
ِّ
التكنولوجيا يتيح لنا القيام باملزيد من األمور باستخدام أغر ٍ
اض أقل ،إذ كان وزن علبة املياه الغازية املكونة من األلومنيوم على سبيل املثال
ٍ
حباجة إىل أعمدة ولكن وزهنا اليوم أقل من نصف أوقية -أي 14جر ًاما ،-ومل ُتعد اهلواتف احملمولة
3أوقيات -أي 85جر ًاماَّ -
وأسالك متتد ٍ
ألميال .حتد الثورة الرقمية من استخدام املواد يف العامل أمام أعيننا إذ حتل وحدات البت حمل الذرات ،فالياردات املكعبة من
الفينيل اليت كانت قدميًا متثِّل جمموعة أقراصي املوسيقية استسلمت للبوصات املكعبة من األقراص املدجمة ،مث لصيغة الـ MP3اليت ال
وزن هلا من األساس ،وأوقف جهاز األيباد تدفق هنر أوراق الصحف يف شقيت ،ومع سعة التخزين على جهاز الالبتوب اليت تبلغ تريابايت،
فكر يف كل البالستيك واملعدن والورق الذي مل ُيعد يدخل يف أعد أشرتي صناديق الورق اليت حيتوي الواحد منها على عشرة رزمِّ . مل ُ
مثال اهلاتف
هاتف ذكي واحد ،وتشمل هذه املنتجات ً مجيعا ٌ
منتجا للمستهلك الواحد ميكن أن حيل حملهم ً تصنيع أكثر من أربعني ً
ومسجل الصوت والراديو واملنبه واآللة احلاسبة والقاموس وحافظة البطاقات ِّ ومسجل الفيديو
ِّ وجهاز الرد اآليل ودفرت اهلاتف والكامريا
(رولودكس) والتقومي وخريطة الشوارع واملصباح اليدوي والفاكس والبوصلة ،بل وحىت بندول اإليقاع ومقياس درجة احلرارة يف اخلارج وميزان
التسوية.
أيضا عرب إتاحة اقتصاد املشاركة ،مما جيعل من غري الضروري صناعة السيارات
حتد التكنولوجيا الرقمية من استخدام املواد يف العامل ً
مثال بأعداد ضخمة تظل بعد ذلك غري مستخدمة أغلب الوقت .أشار احمللل يف جمال الدعاية روري ساذرالند واألدوات وغرف النوم ً
تسهل احلد من استخدام املواد ،فأغلى األراضي العقارية يف لندن اليوم رمبا كانت
أيضا ِّ
أن التغيريات يف معايري املكانة االجتماعية ً إىل َّ
شجعت وسائل التواصل اجا من الضواحي الراقيةَّ . ولكن وسط املدينة اآلن أكثر رو ً
لتبدو مزدمحةً للغاية بأغنياء العصر الفيكتوريَّ ،
بدال من سياراهتم ومالبسهم ،وحتول الشباب إىل «هيبسرتز» جيعلهم مييِّزون أنفسهم عن االجتماعي الشباب على التباهي بتجارهبم ً
اآلخرين بذوقهم يف البرية والقهوة واملوسيقى ،وانتهت احلقبة اليت مثَّلتها فرقة ذا بيتش بويز وفيلم ،American Graffitiإذ َّ
أن
عاما اآلن ال ميتلك رخصة قيادة.
نصف الشباب األمريكي البالغ من العمر ً 18
يشري تعبري «الذروة النفطية» ،الذي اشتهر بعد أزمات الطاقة يف السبعينيات ،إىل العام الذي سيبلغ فيه العامل احلد األقصى من
معدل إنتاج البرتول .يشري أوزوبيل إىل أنَّه بسبب التحول الدميوغرايف وزيادة الكثافة واحلد من استخدام املواد ،رمبا نكون قد بلغنا ذروة
األطفال وذروة األراضي الزراعية وذروة األخشاب وذروة الورق وذروة السيارات .رمبا نبلغ بالفعل «ذروة األشياء» ،فمن بني مئة سلعة
ثالث ومخسون سلعة
ست وثالثون سلعة إىل ذروة استخدامها يف الواليات املتحدة ،وقد تكون ٌ درسها أوزوبيل ورمسها بيانيًّا ،وصلت ٌ
أخرى يف طريقها لالخنفاض (مبا فيها املياه والنيرتوجني والكهرباء) ،مما يرتك إحدى عشرة سلعة فقط ما زالت يف من ٍو مستمر .وصل
أيضا إىل ذروة األشياء ،إذ اخنفض استهالكهم السنوي من املواد من 15.1طن مرتي للفرد يف عام 2001إىل 10.3 الربيطانيون ً
طن مرتي للفرد يف عام .2013
بعفوية مع اُتاذ الناس قرارات بشأن طريقةٍ مل تستلزم هذه االجتاهات امللحوظة أي إجبار أو تشريع أو وعظ أخالقي ،بل حدثت
عيش حياهتم .ال توضح هذه االجتاهات بالتأكيد َّ
أن التشريعات البيئية غري ضرورية ،فقد كان لوكاالت محاية البيئة واملعايري املقررة للطاقة
ولكن هذه االجتاهات تشري آثار مفيدة للغايةَّ ،ومحاية األنواع املهددة باالنقراض والقوانني الوطنية والدولية للمياه النظيفة واهلواء النظيف ٌ
مسرعا باجتاه زيادة االستخدام غري املستدام للموارد .تشمل طبيعة التكنولوجيا ،وخاصةً تكنولوجيا أن تيار احلداثة ال يكتسح البشرية ً إىل َّ
املعلومات ،شيئًا ما يعمل على فصل ازدهار البشرية عن استغالل األشياء املادية.
إن كل أجزاء أيضا َّأال نقبل الرواية اليت تقول َّ
إن البشرية تنهب وتفسد كل جزء من البيئة ،علينا ً كما علينا َّأال نقبل الرواية اليت تقول َّ
البيئة ستتعاىف يف ظل ممارساتنا احلالية .على أي نزعة بيئية مستنرية أن تواجه احلقائق ،مبشِّرة كانت أم منذرة ،ومن احلقائق املنذرة باخلطر
بال شك أثر الغازات الدفيئة على مناخ األرض ،فكلما حرقنا اخلشب أو الفحم أو النفط أو الغاز ،يتأكسد الكربون املوجود يف الوقود
أن بعض جزيئات ثاين أكسيد الكربون تتفكك يف احمليط ،أو ترتبط ليكون ثاين أكسيد الكربون ( )CO2الذي ينتقل يف اجلو .رغم َّ ِّ
أن هذه املصارف الطبيعية ال ميكنها مواكبة مقدار ما كيميائيًّا مع الصخور ،أو متتصها النباتات اليت تقوم بعملية البناء الضوئيَّ ،إال َّ
خنلِّفه يف اجلو كل عام وهو ما يعادل 38مليار ط ٍن .ومع احرتاق جيجات األطنان من الكربون الذي تركه العصر الكربوين ،ارتفعت
نسبة تركيز ثاين أكسيد الكربون يف اجلو من حوايل 270جزءا يف املليون قبل الثورة الصناعية إىل أكثر من ٍ 400
جزء يف املليون اليوم. ً
أن ثاين أكسيد الكربون حيبس احلرارة املنبعثة من سطح األرض كما يفعل الزجاج يف الصوبة الزجاجية (البيت الزجاجي)َّ ،
فإن املتوسط مبا َّ
أيضا حبوايل 0.8درجة مئوية ( 1.4درجة فهرهنايت) ،وكان عام 2016هو األكثر حرارةً على العاملي لدرجات احلرارة قد ارتفع ً
أيضا إزالة الغابات اليت متتص الكربون ،وإطالق امليثان (وهو أحد الغازات اإلطالق وتاله عام ،2015مث .2014ومما زاد اجلو احرت ًارا ً
التسرب ،وذوبان اجلليد يف الرتبة الصقيعية ،وغاز امليثان الذي خيرج من املاشية واألبقار .قد يزدادالدفيئة األقوى) من آبار الغاز بسبب ُّ
حلقة مفرغة إذا حلَّت املياه واليابسة الداكنة املاصة للحرارة حمل الثلج واجلليد األبيض العاكس للحرارة ،وإذا االحرتار أكثر وندور يف ٍ
أيضا أحد الغازات الدفيئة).
تسارع ذوبان جليد الرتبة الصقيعية ،وإذا تصاعد إىل اهلواء مزي ٌد من خبار املاء (وهو ً
إذا استمرت انبعاثات الغازات الدفيئة ،فسريتفع متوسط درجات حرارة األرض حبلول هناية القرن احلادي والعشرين أعلى من
مستوى ما قبل احلقبة الصناعية مبقدار 1.5درجة مئوية ( 2.7درجة فهرهنايت) على األقل ،ورمبا حىت مبقدار 4درجات مئوية (7.2
درجة فهرهنايت) أو أكثر .سيتسبَّب هذا يف مزيد من املوجات احلارة األكثر حدة وتكر ًارا ،ومزيد من الفيضانات يف املناطق الرطبة،
واجلفاف يف املناطق اجلفاف ،وعواصف أشد ،وأعاصري أعنف ،وقلة غالت احملاصيل يف املناطق الدافئة ،وانقراض املزيد من األنواع،
(ألن احمليطات ستكون أكثر حرارًة وحامضيةً) ،وارتفاع متوسط مستوى سطح البحر مبقدار يرتاوح بني 0.7 وفقدان الشعاب املرجانية َّ
كل من ذوبان اجلليد على اليابسة ومتدد مياه البحر( .ارتفع مستوى سطح البحر بالفعل مرتا (قدمني و 4أقدام) بسبب ٍّ مرتا وً 1.2 ً
َّ
مبقدار 8بوصة تقريبًا منذ عام ،1870ويبدو أن معدل االرتفاع متسارع) .ستغرق املناطق املنخفضة بفعل الفيضانات ،وستختفي
الدول اجلزرية أسفل األمواج ،ولن تظل مساحات شاسعة من األراضي الزراعية صاحلة للزراعة ،وسينزح ماليني البشر ،وقد تزداد اآلثار
سوءًا يف القرن الثاين والعشرين وما بعده ،ونظريًّا ،قد حتدث اضطرابات مثل احنراف تيار اخلليج الدافئ (وهو ما قد حييل أوروبا إىل ما
يشبه سيبرييا) أو اهنيار الصفائح اجلليدية يف القطب اجلنويب .يُعد االرتفاع مبقدار درجتني مئويتني هو أكثر ما قد يستطيع العامل التكيُّف
فإن االرتفاع مبقدار 4درجات مئوية «ال جيب السماح به من معه ،وحسبما ذكر أحد تقارير البنك الدويل الصادر عام َّ ،2012
األساس»،
وللحفاظ على مستوى االرتفاع مبقدار درجتني مئويتني أو أقل ،ينبغي على العامل أن خيفِّض انبعاثاته من الغازات الدفيئة مبقدار
متاما قبل بداية القرن الثاين والعشرين ،فالتحدي أمامنا جسيم.
النصف أو أكثر حبلول منتصف القرن احلادي والعشرين والتخلص منها ً
يُنتج الوقود األحفوري 86يف املئة من طاقة العامل ،فهو يشغِّل تقريبًا كل سيارة وشاحنة وقطار وطائرة وسفينة وجرار وفرن ومصنع على
ٍ
مشكلة كهذه قط. الكوكب ،إضافةً إىل أغلب حمطات توليد الكهرباء .مل تواجه البشرية
متاما بالطبع االحتجاج أن النشاط البشري هو السبب .من املقبول ً من االستجابات الحتمالية تغري املناخ إنكار حدوثها أو زعم َّ
على فرضية التغري املناخي الناتج عن األنشطة البشرية على أسس علمية ،وخاصةً بالنظر إىل اإلجراءات الصارمة اليت ستستلزمها إذا
إن التغري املناخي أن الفرضية الصحيحة ستصمد على املدى البعيد أمام حماوالت تفنيدهاَّ . كانت حقيقية .تتمثَّل فضيلة العلم الكربى يف َّ
ضا لالحتجاج بقوةٍ يف التاريخ ،وحىت اآلن مت تفنيد كل االحتجاجات الكربى تعر ً
الناتج عن األنشطة البشرية هو أكثر الفرضيات العلمية ُّ
كأهنا ترتفع بسبب قياسها يف اجلزر احلرارية احلضرية ،أو َّأهنا ترتفع حقًّا
أن درجات احلرارة العاملية توقفت عن االرتفاع ،أو َّأهنا تبدو َّ َّ -
أن 4من بني كل 69,406باحثًا من ِّ
املتشككني .وجد مسح حديث َّ ولكن بسبب زيادة حرارة الشمس -بل واقتنع حىت كثريٌ من
كتاب املقاالت اليت ُتضع ملراجعة األقران يف املنشورات العلمية رفضوا فرضية االحرتار العاملي (االحتباس احلراري) الناتج عن األنشطة
أن «املؤلفات العلمية اخلاضعة ملراجعة األقران ال حتتوي على أي دليل مقنع على خطأ [الفرضية]». البشرية و َّ
ولكن إحدى احلركات اليت تنتمي إىل اليمني السياسي األمريكي ،مدعومة بقوةٍ من مجاعات مصاحل الوقود األحفوري ،قد شنت َّ
رسخت نظرية املؤامرة اليت تقول َّ
إن اجملتمع العلمي محلة متعصبة وكاذبة إلنكار تسبُّب الغازات الدفيئة يف احرتار الكوكب ،وبذلك َّ
مصاب بداء اللباقة السياسية القاتل وملتزم أيديولوجيًّا جتاه استيالء احلكومة على االقتصاد .ولكوين شخص يعترب نفسه مراقبًا لدوغما
ٌ
اللباقة السياسية يف البيئة األكادميية ،ميكنين أن أقول َّ
إن هذا هراء ،فليس لدى العلماء الفيزيائيني أي أجندة ،واألدلة واضحة للجميع.
حتديات كهذه بالتحديد يقع على عاتق الباحثني يف كل اجملاالت واجب ضمان مصداقية املؤسسات العلمية عرب عدم فرض ٍ (وبسبب
أي معتقدات سياسية).
ِّ
املتشككني احلكماء يف التغري املناخي ،ويُطلق عليهم أحيانًا «الفاترين» ،الذين يقبلون بالعلم السائد يف هذا هناك بالتأكيد بعض
أن أسوأفهم ينحازون إىل احتماالت االرتفاع البطيء يف درجات احلرارة ،ويشريون إىل َّ الشأن ،ولكنهم يؤِّكدون على اإلجيابياتُ ،
أن نسبة ثاين أكسيد الكربون ودرجات احلرارة أيضا إىل َّ
السيناريوهات املمكنة يف حالة احللقة املفرغة هي سيناريوهات افرتاضية ،ويشريون ً
قليال هلا فوائد فيما خيص غالت احملاصيل وهي مبادلة عادلة يف مقابل تكلفة هذه الزيادة ،ويقولون إنَّه إذا مت السماح للدول بأناألعلى ً
حتقق أعلى درجة ممكنة من الثراء (دون فرض قيود معيقة للنمو على الوقود األحفوري) فستكون هذه الدول مؤهلة أكثر للتكيف مع
ولكن هذه مقامرة متهورة كما يشري االقتصادي ويليام نوردهاوس فيما يطلق عليه «كازينو املناخ». التغري املناخي الذي حيدث بالفعلَّ .
إن الوضع الراهن ينبئ بتساوي الفرص بني أن يزداد وضع العامل سوءًا بقد ٍر هائل أو ال ،وباحتمالية 5يف املئة أن مير العامل مبرحلة لنقل َّ
حرجة ويواجه كارثة ،فسيكون من احلكمة اُتاذ إجراءات وقائية حىت لو كانت النتيجة الكارثية غري أكيدة ،مثلما نشرتي مطافئ احلريق
أن التعامل مع مسألة التغري املناخي سيكون ببذل ووثائق التأمني على منازلنا وال نرتك عبوات البنزين مفتوحة يف مرائب سياراتنا .ومبا َّ
جهود على مدار عدة عقود ،فأمامنا كثري من الوقت للرتاجع إذا توقفت درجات احلرارة ومستوى سطح البحر وحامضية احمليط عن ٍ
مجيعا.
الزيادة ،وهو ما سيسعدنا ً
من االستجابات األخرى للتغري املناخي استجابة أقصى اليسار السياسي واليت تبدو َّ
كأهنا مصممة لتربير نظريات املؤامرة اليت يقول
هبا أقصى اليمني السياسي ،فوفق حركة «العدالة املناخية» اليت نشرهتا الصحافية ناعومي كالين ) (Naomi Kleinيف كتاهبا الصادر
عام 2014والذي حقق أعلى املبيعات هذا يغير كل شيء :الرأسمالية بمواجهة المناخ ( This Changes Everything:
،)Capitalism vs. the Climateال جيب أن نتعامل مع خطر التغري املناخي باعتباره حتديًّا مبنع التغري املناخي ،بل جيب أن
نتعامل معه باعتباره فرصةً إللغاء األسواق احلرة وإعادة هيكلة االقتصاد العاملي وجتديد نظامنا السياسي .يف أحد أكثر األحداث سرياليةً
ممويل محالت
يف تاريخ السياسة البيئية ،انضمت ناعومي كالين إىل ديفيد وتشارلز كوك -رجلي األعمال املليارديرين يف صناعة النفط ،و ِّ
إنكار التغري املناخي -من أجل املساعدة يف إحباط مبادرة طرحتها والية واشنطن للتصويت يف عام 2016كانت ستطبق أول ضريبة
على الكربون يف البالد ،وهو اإلجراء السياسي الذي يؤيده كل احملللني تقريبًا ويعتربونه شرطًا أساسيًّا للتعامل مع التغري املناخي ،ملاذا؟
ألن هذا اإلجراء كان «صدي ًقا لليمني السياسي» ،ومل جيعل «صانعي التلوث يدفعون الثمن ،ويشغِّل أرباحهم الفاسدة يف إصالح التلف َّ
أيضا حتليل التغري املناخي بصورٍة كمية:
الذي أحدثوه رغم علمهم به» .بل وعارضت ناعومي يف حوا ٍر هلا عام ً 2015
فنحن لن نفوز يف هذه املعركة بإجراء بعض احلسابات ،ال ميكننا هزمية «احملاسبني» يف جماهلم ،بل سنفوز يف هذه املعركة َّ
ألن
أيضا بعض اإلحصاءات هذه مسألة قي ٍم وحقوق إنسان ،وصواب وخطأ .لدينا هذه الفرتة القصرية اليت علينا أن جنمع خالهلا ً
حيرك قلوب الناس حقًّا هو احلجج املبنية على قيمة اجليدة اليت ميكننا استخدامها ،ولكن ال ينبغي أن يغيب عن نظرنا َّ
أن ما ِّ
احلياة.
أيضا «القيم،
ليس جتاهل التحليل الكمي ووصفه بأنَّه جمرد «إجراء بعض احلسابات» معاداة للفكر العقالين فحسب ،بل خيالف ً
وحقوق اإلنسان ،والصواب واخلطأ» ،فمن يقدِّر حياة اإلنسان سيؤيد السياسات اليت تقدم فرصة أكرب إلنقاذ الناس من النزوح أو اجلوع
بدال من السحر واألعمال الشيطانية ،يتطلَّب هذا مع تقدمي الوسائل الالزمة لعيش حياة صحية ومرضية .ويف ٍ
كون حتكمه قوانني الطبيعة ً ُ
«إجراء بعض احلسابات» .حىت عندما يتعلَّق األمر بالتحدي البالغي بـ «حتريك قلوب الناس» ،فالفعالية مهمة ،إذ إن الناس مييلون إىل
قبول حقيقة االحرتار العاملي عندما يُقال هلم َّ
إن املشكلة قابلة للحل باالبتكارات التكنولوجية والسياسية أكثر مما يقبلون هبا عندما تُقدم
هلم حتذيرات خميفة من مدى بشاعته.
يعرب اجلواب التايل الذي أتلقى مثله كل فرتة عن شعوٍر شائع آخر جتاه كيفية منع التغري املناخي:
كيف إذًا علينا أن نتعامل مع التغري املناخي؟ إذ جيب علينا التعامل معه ،فأنا أتفق مع البابا فرانسيس واحملاربني من أجل العدالة املناخية
ولكن األخالقية خمتلفة عن
أن منع التغري املناخي قضية أخالقية ألنَّه يستطيع إيذاء مليارات األشخاص ،وباألخص فقراء العاملَّ ، يف َّ
ٍ
بنتيجة عكسية ،فتسببت يف قلة االهتمام بالتغري املناخي كثريا ما يضر هذا الوعظ األخالقية( .إذ أتت الرسالة البابوية
الوعظ األخالقي ،و ً
يف أوساط الكاثوليك احملافظني الذين كانوا على وع ٍي به) .رمبا يكون من املرضي لنا أن نشيطن شركات الوقود األحفوري اليت تبيع لنا
املدمر.
ولكن صكوك الغفران هذه لن متنع التغري املناخي ِّ
الطاقة اليت نريدها ،أو التدليل على فضيلتنا ببذل تضحيات ظاهريةَّ ،
إن االستجابة املستنرية للتغري املناخي هي اكتشاف كيفية احلصول على أكرب قدر ممكن من الطاقة بأقل قدر ممكن من انبعاثات َّ
الغازات الدفيئة .توجد بالطبع رؤية مأساوية للحداثة تكون فيها هذه االستجابة مستحيلة ،وتقوم هذه الرؤية على َّ
أن اجملتمع الصناعي
ولكن هذه الرؤية املأساوية غري صحيحة ،إذ يشري أوزوبيل إىل َّ
أن العامل احلديث الذي يعمل بالكربون املشتعل حيتوي على عوامل تدمريهَّ ،
يقلِّل تدرجييًّا من استخدام الكربون.
تتكون اهليدروكربونات املوجودة يف األشياء اليت حنرقها من اهليدروجني والكربون اللذين يصدران الطاقة عندما جيتمعان مع َّ
إن النسبة يف اخلشب اجلاف ،وهو أقدم وقود هيدروكربوين ،بني ذرات ليكونوا املاء O2Hوثاين أكسيد الكربون َّ .2CO األوكسجني ِّ
الكربون القابلة لالشتعال وذرات اهليدروجني هي حوايل 10إىل َّ ،1أما الفحم الذي حل حمله خالل الثورة الصناعية فمتوسط نسبة
الكربون إىل اهليدروجني فيه 2إىل ،1وقد تكون النسبة يف الوقود املشتق من البرتول مثل الكريوسني 1إىل ،2ويتكون الغاز الطبيعي
باألساس من امليثان ،وصيغته الكيميائية ،4CHفتكون النسبة فيه 1إىل .4إ ًذا فبينما تسلَّق العامل الصناعي سلم الطاقة من اخلشب
إىل الفحم إىل النفط إىل الغاز (وتسارع هذا التحول األخري يف القرن احلادي والعشرين بسبب وفرة الغاز الصخري الناتج عن عمليات
التكسري اهليدروليكي) ،اخنفضت نسبة الكربون إىل اهليدروجني يف مصادر الطاقة مبعدل ثابت ،كما اخنفضت كمية الكربون الالزم حرقها
إلنتاج وحدة من الطاقة (من 30كجم من الكربون لكل جيجا جول يف عام 1850إىل حوايل 15كجم اليوم) .يوضح الشكل رقم
أن انبعاثات الكربون تتبع قوس كوزنتس ،أي عندما بدأت الدول الغنية مثل الواليات املتحدة واململكة املتحدة يف التحول َّ 7-10
الصناعي ،فإن انبعاثاهتا من ثاين أكسيد الكربون إلنتاج دوال ٍر واحد من الناتج احمللي اإلمجايل كانت تستمر يف الزيادة ،ولكن يف
ٍ
اخنفاض منذ ذلك اخلمسينيات من القرن العشرين جتاوزت هذه الدول هذا املنعطف وأصبحت انبعاثاهتا من ثاين أكسيد الكربون يف
احلني .تسري كلٌّ من الصني واهلند على نفس النهج ،إذ بلغتا الذروة من االنبعاثات يف أواخر السبعينيات ومنتصف التسعينيات على
التوايل( .جتاوزت ا لصني كل احلدود يف أواخر اخلمسينيات بسبب خمططات ماو الغبية مثل مصاهر احلديد يف الباحات اخللفية ذات
إن كثافة الكربون يف العامل بأكمله يف تراج ٍع منذ نصف ٍ
قرن. االنبعاثات الغزيرة والناتج االقتصادي املنعدم)َّ .
اإلجمالي
انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لكل
الصين
الواليات
المملكة المتحدة المتحدة
دوالر من الناتج المحلي
ٍ
العالم
الهند
ا ل ش ك ل رق م : 7 - 1 0ك ث ا ف ة ا ن ب ع ا ث ا ت ا ل ك رب ون ( ا ن ب ع ا ث ا ت ث ا ين أ ك س ي د ا ل ك رب ون ل ك ل د وال رٍ م ن
ا ل ن ا ت ج ا حمل ل ي ا إل مج ا يل ) م ن ذ 1 8 2 0ح ىت 2 0 1 4
املصدر ،Ritchie & Roser 2017 :بناءً على بيانات من مركز حتليل معلومات ثاين أكسيد الكربون،
.http://cdiac.ornl.gov/trends/emis/tre_coun.htmlالناتج احمللي اإلمجايل بالدوالر الدويل لعام ،2011والناتج احمللي اإلمجايل لألعوام
قبل 1990من مشروع ماديسون .2014
األجواء والبحار
الدولية
الهند
الواليات المتحدة
أن التحوالت الضرورية فإن اجلهد الالزم ملنع التغري املناخي هائل ،وليس لدينا أي ضمانة على َّ
وحىت إذا جاءت الرياح مبا تشتهي السفنَّ ،
ضررا بالغًا .مما يؤدي بنا إىل ٍ
يف التكنولوجيا والسياسات ستكون نافذة يف وقت قريب مبا يكفي إلبطاء االحرتار العاملي قبل أن ُحيدث ً
إجراء وقائي أخري مستميت ،وهو خفض درجة حرارة العامل عرب تقليل كمية إشعاع الشمس الذي يصل إىل الغالف اجلوي السفلي
وسطح األرض .ميكن أن يرش أسطول من الطائرات ضبابًا رقي ًقا مكونًا من الكربيتات أو الكالسيت أو اجلسيمات النانوية يف الغالف
مقدارا كافيًا ملنع االحرتار اخلطري .وسيحاكي هذا آثار انفجار
ستارا رقي ًقا يعكس من ضوء الشمس ً اجلوي العلوي (السرتاتوسفري) فينشر ً
كثريا من ثاين أكسيد الكربيت يف اجلو لدرجة َّ
أن درجة حرارة بركاين كانفجار جبل بيناتوبو الربكاين يف الفلبني عام ،1991الذي ألقى ً
الكوكب قد اخنفضت مبقدار نصف درجة مئوية (أي حوايل درجة واحدة فهرهنايت) ملدة عامني .أو ميكن أن يرش أسطول من «سفن
الس ُحب» ضبابًا رقي ًقا من مياه البحر يف اهلواء ،ومع تبخر املياه ،ستنتقل بلورات امللح إىل السحب ويتكثَّف حوهلا خبار املاء ِّ
مشك ًال ُ
الس ُحب وتعكس املزيد من ضوء الشمس إىل الفضاء .هذه اإلجراءات غري مكلفة نسبيًّا ،وال تتطلب تكنولوجيا قطرات صغرية ستبيِّض ُ
ولكن
أيضاَّ ، جديدة غريبة ،وقد ُتفِّض درجات احلرارة العاملية سر ًيعا .يُشاع بعض احلديث عن أفكار أخرى للتالعب باجلو واحمليطات ً
مجيعا ما تزال يف مهدها.
األحباث عنها ً
تبدو فكرة «هندسة» املناخ خطة جمنونة ٍِ
لعامل جمنون وكانت من قبل أشبه بأم ٍر حمظور ،ويراها املنتقدون محاقةً بروميثيوسية قد
أن آثار أي إجراء يُطبق على الكوكب يكون هلا عواقب غري مقصودة مثل اإلخالل بأمناط سقوط األمطار واإلضرار بطبقة األوزون .مبا َّ
فإن مسألة هندسة املناخ تثري التساؤل حول من الذي عليه التحكم يف ترموستات العامل ،فمثلما قد بأكمله ُتتلف من ٍ
مكان آلخرَّ ،
دولة أخرى ،قد يُشعل هذا حربًا .إذا تراخت حيدث مع األزواج املشاكسني ،إذا خفضت إحدى الدول درجة احلرارة على حساب ٍ
كثريا مما يستطيع البشر
هندسة املناخ ألي سبب بعد أن يعتمد العامل عليها ،سرتتفع درجات احلرارة يف اجلو املتشبع بالكربون أسرع ً
إن جمرد ذكر خمرٍج صغري من أزمة املناخ خيلق خماطر أخالقية ،إذ يغري الدول بالتملص من واجبها من أجل خفض التكيف معهَّ .
انبعاثات الغازات الدفيئة .وسيستمر ثاين أكسيد الكربون املرتاكم يف اجلو يف الذوبان يف مياه البحار مما حييل احمليطات بالتدريج إىل
محض الكربونيك.
أن بإمكاننا مواصلة ضخ الكربون يف اجلو مث ندهن واقيًا من الشمس لكل هذه األسباب ،ال ميكن ألي شخص مسؤول أن يدَّعي َّ
ولكن الفيزيائي ديفيد كيث ) (David Keithيدافع يف كتابه الصادر عام 2013 على الغالف اجلوي السفلي للتعويض عن ذلكَّ .
أن كميات الكربيت أو الكالسيت ستكون عن أحد أشكال هندسة املناخ ،وهي هندسة معتدلة ،ومتجاوبة ،ومؤقتة« .معتدلة» تعين َّ
ألن التالعبات البسيطة ذات احتمالية أقل إلحداث مفاجآت متاما ،إن االعتدال فضيلة َّكافية بالكاد خلفض معدل االحرتار ال إلغاءه ً
متاما إذا
وخاضعا للتعديل باستمرار وسيتم وقفه ً
ً ومراقَـبًا عن كثب
حذرا وتدرجييًّا ُ
أن أي تالعب سيكون ً غري مرغوبة .و«متجاوبة» تعين َّ
متنفسا حىت يقضوا على انبعاثات الغازات الدفيئة
ً مصمما فقط كي يوفر للبشر ًّ أن الربنامج سيكونتطلب األمر .و«مؤقتة» تعين َّ
ردا على اخلوف من أن يدمن العامل هندسة املناخ ويعيدون ثاين أكسيد الكربون يف اجلو إىل مستواه قبل احلقبة الصناعية .يقول كيث ًّ
لألبد« :هل يُعقل أنَّنا لن نكتشف كيف نسحب على سبيل املثال مخسة جيجا طن من الكربون يف العام من اهلواء حبلول عام 2075؟
ال أصدق ذلك».
أن كيث من بني أول مهندسي املناخ يف العاملَّ ،إال أنَّه ال ميكن ِّاهتامه باالجنراف وراء فتنة االبتكار .جند يف كتاب الصحايف
رغم َّ
أوليفر مورتون ) (Oliver Mortonالصادر عام 2015الكوكب عند إعادة تكوينه ) (The Planet Remadeحجة
يوضح
مدروسة مشاهبة أخرى ،ويعرض الكتاب األبعاد التارخيية والسياسية واألخالقية هلندسة املناخ ،إضافةً إىل آخر املستجدات التقنيةِّ .
قرن ،فقد فات األوان على احلفاظ على نظام أرضي أن البشرية ُتل بالدورات العاملية للماء والنيرتوجني والكربون منذ أكثر من ٍ
مورتون َّ
بسرعة أو بسهو ٍلة .تبدو األحباث حول
ٍ بدائي .وبالنظر إىل جسامة مشكلة التغري املناخي ،فمن غري احلكمة أن نفرتض أنَّنا سنحلها
كيف ميكننا تقليل حجم الضرر الواقع على ماليني الناس قبل تطبيق احللول بالكامل متحفظة ،ويرسم مورتون سيناريوهات بشأن كيف
ميكن تطبيق برنامج هندسة مناخ معتدلة ومؤقتة حىت يف عا ٍمل بعيد عن احلكومة العاملية املثالية .أوضح الباحث القانوين دان كاهان َّ
أن
احنيازا على أساس
تقدمي املعلومات عن هندسة املناخ ال خيلق خماطر أخالقية ،بل جيعل الناس أكثر قل ًقا بشأن التغري املناخي وأقل ً
أيديولوجيتهم السياسية.
أن البشرية ليست يف طر ٍيق ال رجعة فيه حنو االنتحار اإليكولوجي ،فاخلوف من نقص املوارد مبين على رغم نصف ٍ
قرن من اهللعَّ ،إال َّ
خسيس للكوكب البكر .تدرك النزعة البيئية املستنرية
ٌ ص
أن اإلنسان احلديث ل ٌسوء فهم ،وكذلك النزعة البيئية الباغضة للبشر اليت ترى َّ
ٍ
أساليب للقيام أن البشر حيتاجون إىل استخدام الطاقة للخروج من الفقر الذي حكم عليهم به كلٌّ من التطور واإلنرتوبيا ،وتبحث عن َّ
هذا بأقل ضرٍر على الكوكب وعامل األحياء .يشري التاريخ إىل َّ
أن هذه النزعة البيئية احلديثة الربمجاتية اإلنسانية ميكن أن تنجح ،فكلما
حد من استخدام املادة ومن انبعاثات الكربون ويكثِّف الطاقة ويستغىن عن بعض األراضي وأنواع الكائنات زاد العامل غىن وذكاءً تقنيًّاَّ ،
وتعليما أفضل ،اهتموا أكثر بالبيئة واكتشفوا طرقًا حلمايتها وازداد استعدادهم لدفع التكاليف .تتعاىف أجزاءٌ
احلية ،وكلما ازداد الناس غىن ً
كثرية من البيئة ،مما يشجعنا على التعامل مع املشكالت الباقية املعرتف حبدهتا.
تشكله .يسألين بعض األشخاص أحيانًا عما أول هذه املشكالت انبعاثات الغازات الدفيئة وهتديد التغري املناخي اخلطري الذي ِّ
أن البشرية ستتصدى للتحدي أم ال ،أو عما إذا كنا سنسرتخي وندع الكارثة حتدث أم ال .إن كان يهمك رأيي ،فأنا إذا كنت أعتقد َّ
يفرق االقتصادي بول رومر بني التفاؤل الراضي مثل أعتقد أننا سنتصدى للتحدي ،ولكن من الضروري أن نفهم طبيعة هذا التفاؤلِّ .
شعور الطفل الذي ينتظر اهلدايا صباح عيد امليالد اجمليد ،والتفاؤل الشرطي مثل شعور الطفل الذي يريد منزال يف الشجر ويدرك أنَّه إذا
منزل شجرة .ال ميكننا أن نتمتع بالتفاؤلأطفاال آخرين مبساعدته ،فإن بإمكانه أن يبين َحصل على بعض األخشاب واملسامري وأقنع ً
الراضي بشأن التغري املناخي ،ولكن ميكننا أن نتمتع بالتفاؤل الشرطي ،إذ لدينا بعض الطرق العملية ملنع األضرار ولدينا الوسائل الالزمة
لنتعلم املزيد .املشكالت قابلة للحل ،ال يعين هذا َّأهنا ستحل نفسها بنفسها ،ولكنَّه يعين أنَّنا نستطيع حلها إذا حافظنا على قوى
اخلرية اليت مسحت لنا حبل املشكالت حىت اآلن ،مبا فيها الرخاء اجملتمعي ،واألسواق املنظَّمة حبكمة ،واحلوكمة الدولية، احلداثة ِّ
واالستثمارات يف العلوم والتكنولوجيا.
الفصل الحادي عشر:
السالم
إىل أي مدى وصل عمق تيار التقدم؟ وهل ميكن أن يتوقف هذا التيار فجأة أو ينعكس مساره؟ يقدم لنا تاريخ العنف فرصةً ملواجهة
أن كل مقياس موضوعي هذه األسئلة .أوضحت يف كتايب الزاويا االفضل لطبيعتنا َّ The Better Angels of Our Nature
أن حجته قد تبطل قبل إصدار أول للعنف يف تراج ٍع بدءًا من العقد األول من القرن احلادي والعشرين ،وحذرين املراجعون أثناء كتابته َّ
نسخة منه يف املكتبات( .إذ كان القلق السائد آنذاك بشأن اندالع حرب -رمبا حرب نووية -بني إيران وإسرائيل أو الواليات املتحدة).
منذ إصدار الكتاب يف عام ،2011يبدو وكأن شالل األخبار السيئة يبطله :احلرب األهلية يف سوريا ،واألعمال الوحشية يف الدولة
اإلسالمية ،واإلرهاب يف غرب أوروبا ،واألوتوقراطية يف شرق أوروبا ،وحوادث إطالق النريان من الشرطة يف الواليات املتحدة ،وجرائم
الكراهية ،واندالع العنصرية ومعاداة املرأة من الشعبويني الغاضبني يف خمتلف أحناء الغرب.
أيضا
ولكن احنياز التوفر واالحنياز للسلبية اللذين دفعا الناس إىل الشك يف احتمالية أن يكون العنف قد تراجع بالفعل ،ميكنهما ً
َّ
أن أي تراج ٍع قد انعكس مساره .على مدار الفصول اخلمسة التالية ،سأضع األخبار السيئة األخرية دفع الناس إىل اإلسراع يف استنتاج َّ
وصوال إىل وقتنا احلاضر ،مبا فيه تذكرة
يف نصاهبا الصحيح عرب اللجوء إىل البيانات ،وسأرسم املسارات التارخيية لعدة أنو ٍاع من العنف ً
بآخر نقطة بيانية متاحة يف وقت طباعة كتاب الزاويا االفضل لطبيعتنا .تُعد سبع سنوات جمرد غمضة عني بالنسبة للتاريخ ،ولكنَّها
مستمرا .واألهم من ذلك أنَّين سأحاول تفسري االجتاهات
ً اجتاها
مؤشرا بسيطًا على ما إذا كان الكتاب استغل حلظة حظ أم حدَّد ً
تقدم ً
موضوعا له( .وسأطرح يف هذه األثناء بعض
ً من حيث القوى التارخيية األعمق ،وأضعها يف نطاق قصة التقدم اليت يتخذها هذا الكتاب
األفكار اجلديدة حول ماهية تلك القوى) .سأبدأ بأكثر أشكال العنف تكلفةً ،وهو احلرب.
كانت احلرب طوال أغلب تاريخ البشرية التسلية الطبيعية للحكومات ،وكان السالم جمرد مهلة لالسرتاحة بني احلروب ،يظهر هذا يف
يوضح نسبة الوقت الذي قضته القوى العظيمة خالل نصف األلفية املاضية يف احلروب( .القوى العظيمة الشكل رقم ،1-11الذي ِّ
بعضا كأنداد ،واليت تتحكم جمتمعةً
هي حفنة من الدول واإلمرباطوريات اليت بإمكاهنا استخدام القوة خارج حدودها ،واليت تعامل بعضها ً
يف أغلبية موارد العامل العسكرية)َّ .
إن احلروب بني القوى العظمى ،اليت تشمل احلربني العامليتني ،هي أشد أشكال التدمري اليت اخرتعها
أن القوى العظمى كانت يف جنس البشر البائس ،وهذه احلروب مسؤولة عن أغلبية ضحايا كل احلروب جمتمعةً .يوضح الرسم البياين َّ
ٍ
حروب على حنو مستمر تقريبًا ،ولكنَّها اآلن ال ُتوض حروبًا مطل ًقا تقريبًا ،إذ كانت آخر حرب هي اليت فجر العصر احلديث يف
عاما مضت.
واجهت فيها الواليات املتحدة الصني يف كوريا منذ أكثر من ستني ً
السنوات التي قضتها القوى العظيمة تحارب بعضها بعضًا
بالنسبة المئوية
ٍ
اخنفاض مذهل دام ستة عقود .شهدت احلرب العاملية الثانية يف أسوأ حاالهتا 300حالة وفاة ولكن هذا االرتفاع يأيت يف هناية
ألهنا كانت ستجعل اخلط ينكمش طوال كل السنوات شخص لكل عام ،وهي غري موضحة يف الرسم البياين َّ
ٍ يف املعارك لكل 100000
يوضح الرسم البياين ،إذ بلغ ذروته عند نقطة
الالحقة ليشبه سجادة جمعدة .اخنفض معدل الوفيات يف فرتات ما بعد احلرب سر ًيعا كما ِّ
22خالل احلرب الكورية ،و 9خالل حرب فيتنام يف أواخر ستينيات القرن املاضي وأوائل السبعينيات ،و 5عند حرب إيران والعراق
يف منتصف الثمانينيات ،قبل أن يطفو على القاعدة عند نقطة أقل من 0.5بني عامي 2001و ،2011وارتفع ٍ
ببطء ليصل إىل
1.5يف 2014وتراجع إىل 1.2يف ،2016وهو العام ذو البيانات األحدث.
رمبا يكون متابعو األخبار يف منتصف عقد 2010توقعوا أن تكون املذحبة السورية قد حمت كل التقدم التارخيي الذي حتقق يف
العقود السابقة ،وهذا َّ
ألهنم ينسون احلروب األهلية العديدة اليت انتهت دون أبواق احلرب بعد عام ( 2009يف أجنوال وتشاد واهلند
أيضا احلروب السابقة ذات أعداد الوفيات الضخمة مثل احلروب يف اهلند الصينية (منذ 1946إىل
وإيران وبريو وسرييالنكا) وينسون ً
500 ،1954ألف حالة وفاة) ،واهلند (منذ 1946إىل ،1948مليون حالة وفاة) ،والصني (منذ 1946إىل ،1950مليون حالة
وفاة) ،والسودان (منذ 1956إىل 500 - 1972ألف حالة وفاة ،ومنذ 1983إىل - 2002مليون حالة وفاة) ،وأوغندا (منذ
1971إىل 500 ،1978ألف حالة وفاة) ،وإثيوبيا (منذ 1974إىل 750 ،1991ألف حالة وفاة) ،وأجنوال (منذ 1975إىل
،2002مليون حالة وفاة) ،وموزمبيق (منذ 1981إىل 500 ،1992ألف حالة وفاة).
أدت الصور املؤملة لالجئني اليائسني من احلرب األهلية السورية الذين يكافح كثريٌ منهم من أجل إعادة التسكني يف أوروبا إىل
ولكن هذا أحد أعراض فقد الذاكرة التارخيية واحنياز التوفر.
وقت مضى يف التاريخَّ ،إن العامل اآلن به الجئون أكثر من أي ٍ االدعاء القائل َّ
عددا من العشرة ماليني نازٍح بسبب حرب االستقالل يشري عامل السياسة جوشوا جولدشتاين إىل َّ
أن األربعة مليون الجئ سوري اليوم أقل ً
البنجالديشية يف عام ،1971واألربعة عشر مليون نازٍح بسبب تقسيم اهلند يف عام ،1947والستة ماليني نازٍح بسبب احلرب العاملية
صغريا من تعداده احلايل .ليس التحديد الكمي هلذا األسى قسوة الثانية يف أوروبا وحدها ،ويف هذه احلقب كان تعداد سكان العامل جزءًا ً
وإمنا إكر ًاما ملعاناة ضحايا األمس ،ويضمن أن يتصرف صناع السياسات ملصاحلهم من على املعاناة الفظيعة اليت يعانيها ضحايا اليومَّ ،
ٍ
استنتاجات خطرية عن «العامل الذي خيوض حربًا»، خالل االنطالق من فه ٍم دقيق للعامل ،وباألخص ،ينبغي أن مينعهم من التوصل إىل
وهو ما قد يغريهم بالتخلص من احلوكمة العاملية أو العودة إىل «االستقرار» األسطوري الذي اتسمت به مواجهات احلرب الباردة .يشري
أن «املشكلة ليست يف العامل ،املشكلة يف سوريا ...فالسياسات واملمارسات اليت أهنت احلروب (يف أماكن أخرى) ميكن جولدشتاين إىل َّ
أن تنهي احلروب اليوم يف جنوب السودان واليمن ورمبا حىت سورياٍ ،
ببعض من اجلهد واالستخبارات».
أيضا باإلبادة اجلماعية أو القتل اجلماعي باسم احلكومات
قد تكون عمليات القتل اجلماعي للمدنيني غري املسلحني ،اليت تُعرف ً
أو العنف من ٍ
طرف واحد ،مهلكة بنفس قدر احلروب وتتداخل معها غالبًا .وف ًقا للمؤرخني فرانك تشاك وكريت يوناسون َّ
فإن «اإلبادة
اجلماعية قد حدثت يف كل أديان العامل وخالل كل فرتات التاريخ» .خالل احلرب العاملية الثانية ،ذُبح عشرات املاليني من املدنيني على
يد هتلر وستالني واإلمرباطورية اليابانية ،ويف قصف متعمد ملناطق املدنيني على يد مجيع األطراف (ومرتني بأسلحة نووية) ،وبلغ معدل
بأن «العامل مل يتعلَّم شيئًا من
الوفيات ذروته عند حوايل 350حالة لكل 100ألف شخص سنويًّا .ولكن على عكس اجلزم َّ
فإن فرتة ما بعد احلروب مل تشهد شيئًا مثل سيل الدماء الذي شهدته أربعينيات القرن املاضي .حىت خالل فرتة ما بعد اهلولوكوست»َّ ،
حادا كما سنرى يف جمموعيت البيانات املوضحتني يف الشكل رقم -11 احندارا ًّ
احلروب ،احندر معدل الوفيات بسبب اإلبادة اجلماعية ً
.3
معدل الوفيات نتيجة اإلبادة الجماعية لكل 100000شخص لكل سنة
برنامج أوبساال
لبيانات الصراعات
متثل «القمم» يف الرسم البياين حاالت القتل اجلماعي أثناء معاداة الشيوعية يف «سنة املخاطر» يف إندونيسيا (منذ 1965إىل
700 ،1966ألف حالة وفاة) ،والثورة الثقافية الصينية (منذ 1966إىل 600 ،1975ألف حالة وفاة) ،واحلرب بني عرقي التوتسي
واهلوتو يف بوروندي (منذ 1965إىل 140 ،1973ألف حالة وفاة) ،وحرب االستقالل البنجالديشية (عام 1,7 ،1971مليون
حالة وفاة) ،وعنف الشمال ضد اجلنوب يف السودان (منذ 1956إىل 500 ،1972ألف حالة وفاة) ،ونظام عيدي أمني يف أوغندا
(منذ 1972إىل 150 ،1979ألف حالة وفاة) ،ونظام بول بوت يف كمبوديا (منذ 1975إىل 2,5 ،1979مليون حالة وفاة)،
وقتل األعداء السياسيني يف فيتنام (منذ 1965إىل 500 ،1975ألف حالة وفاة) ،واجملازر األحدث يف البوسنة (منذ 1992إىل
225 ،1995ألف حالة وفاة) ،ورواندا (عام 700 ،1994ألف حالة وفاة) ،ودارفور (منذ 2003إىل 373 ،2008ألف حالة
وفاة) .يشمل التضخم غري امللحوظ تقريبًا منذ 2014إىل 2016الفظاعات اليت تسهم يف االنطباع بأننا نعيش يف عصوٍر عنيفة على
ٍ
شخص يف نيجرييا غري العادة ،إذ قتلت داعش 4500مدين على األقل من اليزيديني واملسيحيني والشيعيني ،وقتلت بوكو حرام 5000
شخصا يف مجهورية إفريقيا الوسطى .ال ميكن أن يستخدم املرء كلمة
ً والكامريون وتشاد ،وقتلت امليليشيات املسلمة واملسيحية 1750
ولكن األرقام يف القرن احلادي والعشرين متثل جزءًا ضئيال جدًّا من األرقام يف العقود
«حلُسن احلظ» مطل ًقا فيما خيص قتل األبرياءَّ ،
السابقة.
بأهنا قراءة مباشرة ملخاطر احلرب ،فالسجل التارخيي شحيح فيما يتعلق ال ميكن تأويل األرقام يف إحدى جمموعات البيانات بالطبع َّ
بتقدير أي تغيري يف احتمالية اندالع احلروب النادرة جدًّا واملدمرة جدًّا يف الوقت نفسه .لفهم البيانات املتناثرة يف عا ٍمل ال حيدث تارخيه
نكمل األرقام باملعرفة املتوفرة عن مسبِّبات احلرب ،مثلما يشري شعار اليونسكو« :تبدأ احلروب يف عقول سوى مرة واحدة ،علينا أن ِّ
أيضا يف
أن االبتعاد عن احلرب ال يتمثل فقط يف اخنفاض عدد احلروب والوفيات الناجتة عن احلروب ،بل نراه ً البشر» .وجند اآلن َّ
استعدادات الدول للحروب ،فقد اخنفض معدل انتشار التجنيد اإلجباري وحجم القوات املسلحة ونسبة اإلنفاق العسكري العاملي من
الناتج احمللي اإلمجايل يف العقود األخرية املاضية ،واألهم من ذلك التغريات اليت طرأت على عقول البشر.
كل من باسكال وسويفت وفولتري وصمويل جونسون والكويكرز بشجب للحروب من ٍٍّ كيف حدث ذلك؟ جاء عصر العقل والتنوير
أيضا اقرتاحات عملية لكيفية احلد من احلروب أو القضاء عليها ،وخاصةً مقالة كانط الشهرية «السالم الدائم» .ويُعزى
وغريهم ،وشهد ً
الفضل لنشر هذه األفكار يف تراجع حروب القوى العظمى يف القرنني الثامن عشر والتاسع عشر وحدوث فجوات عديدة يف حاالت
حددها كانط وآخرون غريه بشكل منظم سوى بعد احلرب العاملية الثانية. احلرب خالل تلك الفرتة ،ولكن مل ترتسخ قوى التهدئة اليت َّ
كما رأينا يف الفصل األول ،طرح العديد من ِّ
مفكري التنوير فكرة التجارة الناعمة اليت تفيد َّ
بأن التجارة الدولية ستجعل احلرب
هائال يف حقبة ما بعد احلروب ،و َّ
أكدت التحليالت اعا ً أقل جاذبيةً ،وارتفعت بالتأكيد حصة التجارة من الناتج احمللي اإلمجايل ارتف ً
أن احتمالية خوض الدول التجارية حروبًا أقل من غريها مع ثبات كل العوامل األخرى. الكمية َّ
جيرون بلداهنم من بنات أفكار التنوير األخرى النظرية القائلة َّ
بأن احلكومة الدميقراطية تكبح القادة الذين يُسكرهم اجملد والذين قد ُّ
دول أكثر متنح الدميقراطية فرصةًحروب عقيمة .بدءًا من سبعينيات القرن املاضي ،وبعد اهنيار جدار برلني عام ،1989بدأت ٌ ٍ إىل
بعضا أمر مشكوك فيهَّ ،إال َّ
أن أن التصريح القاطع بأنَّه مل حيدث أن حاربت دولتان دميقراطيتان بعضهما ً (الفصل الرابع عشر) .رغم َّ
البيانات تؤيد حتقق نسخة تدرجيية من نظرية السالم الدميقراطي ،اليت تقل فيها احتمالية أن تواجه دولتان تتمتعان بدميقراطية أكرب
بعضا يف نزاعات عسكرية.
بعضهما ً
وسهلت بعض الواقعية السياسية من عملية «السالم الطويل» .جعلت قوة اجليش األمريكي واجليش السوفيييت اهلائلة املدمرة (حىت
َّ
بعضا يف أرض املعركة ،وهو ما مل يفعلوه
دون أسلحتهما النووية) أطراف احلرب الباردة من القوى العظمي يرتددون يف مواجهة بعضهم ً
أيضا.
قط ،مما فاجأ العامل وأراحه ً
فإن أكرب تغيري يف النظام الدويل هو فكرة ال نقدِّرها مبا يكفي اليوم ،وهي َّ
أن احلرب غري قانونية ،إذ مل ي ُكن هذا هو ومع ذلك َّ
امتدادا للسياسة بالوسائل األخرى ،وكان املنتصر يفوز
ً الوضع يف اجلزء األغلب من تارخينا ،حيث كان احلق مع القوي ،وكانت احلرب
بأن دولةً أخرى قد أخطأت يف حقها ،كان بإمكاهنا إعالن احلرب وغزو بعض من أراضيها كتعويض بالغنائم ،وإذا شعرت إحدى الدول َّ
أن ًّ
كال من أريزونا وكاليفورنيا وكولورادو ونيفادا ونيو مكسيكو ويوتا بضم هذه األراضي هلا ،فالسبب يف َّوتتوقع أن يعرتف بقية العامل ِّ
ون غري مسددة .ال ميكن أن حيدث حرب بسبب دي ٍأن الواليات املتحدة قد غزهتا واستولت عليها من املكسيك يف ٍواليات أمريكية هو َّ
هذا اليوم ،فقد ألزمت دول العامل نفسها بعدم شن احلروب سوى يف حالة الدفاع عن النفس أو مبوافقة جملس األمن التابع لألمم املتحدة،
فالدول خالدة ،واحلدود حقوق مكتسبة ،وأي دولة ُتوض حرب غزٍو تتوقع من البقية أن يصموها بالعار ال أن يذعنوا هلا.
كبريا من الفضل يف فرتة السالم الطويل يرجع إىل جترمي احلرب.إن جزءًا ًيقول الباحثان القانونيان أونا هاثاواي وسكوت شابريو َّ
اقرتح كانط يف عام 1795فكرة ضرورة اتفاق الدول على جعل احلرب غري قانونية ،ومتت املوافقة عليها ألول مرة يف ميثاق باريس عام
أيضا مبيثاق كيلوج برييان الذي تعرض للكثري من السخرية ،ولكنَّها مل تصبح نافذة حقًّا سوى مع تأسيس األمم ،1928املعروف ً
باستجابة عسكرية ،كما حدث عندما عكس التحالف الدويل غزو ٍ املتحدة يف عام ،1945ومنذ ذلك احلني مت فرض حظر الغزو
معيارا «-احلرب شيء ال تقوم به الدول املتحضرة»- ٍ
العراق للكويت يف عام .1991-1990كان هذا احلظر يف حاالت أكثر ً
فعالة إىل احلد الذي جيعل الدول تقدِّر مكانتها يف اجملتمع الدويل ،وهذه تذكرةمدعوما بالعقوبات االقتصادية والرمزية ،وهذه العقوبات َّ
ً
بضرورة االعتزاز بذلك اجملتمع ودعمه يف مواجهة التهديدات احلالية من القومية الشعبوية.
ضمت روسيا القرم ،قد يبدو َّ
أن هذا يؤكد النظرة التشاؤمية تعرض هذا املعيار بالطبع للخرق أحيانًا ،وآخرها يف عام 2014عندما َّ َّ
بأن املعايري الدولية ليس هلا أنياب وستتعرض للخرق مع اإلفالت من العقاب حىت تكون لدينا حكومة عاملية .يرد كلٌّ من هاثاواي َّ
أيضا ،من خمالفات وقوف السيارات إىل جرائم القتل ،ومع ذلك َّ
فإن حكم بأن القوانني املفروضة داخل الدول تتعرض للخرق ً وشابريو َّ
القانون النافذ على حن ٍو غري مثايل أفضل من عدم وجود قانون على اإلطالق .شهد القرن السابق على ميثاق باريس للسالم وفق
حساباهتم ما يعادل إحدى عشرة حالة ضم حبجم القرم سنويًّا ،واستمرت أغلبها ،ولكن كل فدان من األرض تعرض للغزو بعد عام
1928متت إعادته إىل الدولة اليت فقدته .رمبا يكون فرانك كيلوج (وزير اخلارجية األمريكي) وأرتيستيد برييان (وزير اخلارجية الفرنسي)
أخريا.
مها من يضحكان ً
يشري كلٌّ من هاثاواي وشابريو إىل َّ
أن هناك جانبًا سلبيًّا لتجرمي احلرب بني الدول ،فعندما أخلت اإلمرباطوريات األوروبية املناطق
دوال ضعيفة ذات حدود مبهمة ودون خليفة معرتف به ليحكمها ،فسقطت هذه الدول غالبًا يف املستعمرة اليت غزهتا ،خلَّفت وراءها ً
مشروعا للدول األقوى واألكثر فاعلية،
ً حفرة احلرب األهلية والعنف الطائفي .يف ظل النظام الدويل اجلديد ،مل ُيعد غزو هذه الدول هدفًا
ٍ
وظلَّت معلَّقة سنوات أو ً
عقودا يف حالة شبه فوضوية.
عددا أقل من الناس مما تفعل احلروب بني الدول،
ائعا على التقدم ،فاحلروب األهلية تقتل ً
مثاال ر ً
كان تراجع احلروب بني الدول ً
اهتماما مبن يفوز
ً أيضا احلروب األهلية منذ أواخر الثمانينيات .عندما انتهت احلرب الباردة ،أصبحت القوى العظيمة أقل
وقد تراجعت ً
اهتماما بكيفية إهنائها ،ودعمت قوات حفظ السالم التابعة لألمم املتحدة واجلماعات الدولية األخرى اليت أقحمت حبرب ٍ
أهلية ما وأكثر ٍ
ً
نفسها بني أطراف الصراعات وحفظت السالم بالفعل يف أكثر احلاالت .كلما ازداد غىن الدول ،أصبحت أقل قابلية لالخنراط يف ٍ
حرب
أهلية ،إذ تستطيع حكوماهتا حتمل تكاليف تقدمي خدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم وحفظ األمن والنظام العام ،وبالتايل تتغلب على
املتمردين يف املنافسة على والء مواطنيها ،وتستطيع استعادة السيطرة على املناطق احلدودية اليت يستويل عليها أمراء احلروب واملافيا
كثريا من احلروب تندلع بفعل اخلوف املتبادل من َّ
أن الدولة إذا مل هتاجم أن ً والعصابات املسلحة (ويكونون غالبًا نفس اجملموعة) .ومبا َّ
هجمات وقائية ستُهلكها هجمةٌ وقائية من دولة أخرى (وهو سيناريو يف نظرية األلعاب يُطلق عليه معضلة األمن أو فخ هوبز)َّ ،
فإن
(أما احلرب فقد تكون معدية) .يساعد هذا يف تفسري انكماش ٍ
منطقة ما أيًّا يكن سببه األول قد يكون مقويًّا هلاَّ . إحالل السالم يف
جغرافيا احلرب بتعايش معظم مناطق الكرة األرضية يف ٍ
سالم.
مع وجود األفكار والسياسات اليت تقلِّل من حدوث احلروب ،حدث تغيري يف القيم ً
أيضاَّ ،
إن قوى التهدئة اليت رأيناها حىت اآلن هي
نوعا ما ،وهي وسائل ميكنها ترجيح كفة السالم إذا كان هذا هو السالم الذي يريده الناس .أصبحت فكرة قيمة السالم تكنولوجية ً
األصيلة من طبيعة الغربيني ،على األقل منذ الستينيات اليت اتسمت باألغاين الفولكلورية ومهرجان وودستوك ،وعندما مت شن تدخالت
عنف أكرب .ولكن حىت ٍ
وقت ليس بالبعيد ،كانت احلرب هي اليت عسكرية كان التربير َّأهنا إجراءات مؤسفة ولكنَّها ضرورية ملنع نشوب ٍ
مطهر من خنوثة اجملتمع الربجوازي املنحط
تُعترب ذات قيمة كبرية ،فاحلرب جميدة ومؤثرة وروحانية ورجولية ونبيلة وبطولية وإيثارية ،وهي ٌ
وأنانيته واستهالكيته وانغماسه يف اللذات.
تذهلنا اليوم فكرة نُبل قتل الناس وتشويههم وبرت أطرافهم وتدمري طرقهم وجسورهم ومزارعهم ومساكنهم ومدارسهم ومستشفياهتم
ولكن هذا كله كان منطقيًّا خالل القرن التاسع عشر يف حقبة الفكر املضاد للتنوير ،إذ ازداد رواج النزعة
كأهنا هذيان رجل جمنونَّ ، و َّ
وإمنا بني كث ٍري من الفنانني واملثقفني ً
أيضا .كتب العسكرية الرومانسية ،ليس فقط بني الضباط املرتدين قبعات البيكلهاوبه العسكريةَّ ،
إن احلرب هي «احلياة نفسها» ،وكتب جون وحتسن شخصيته» ،وقال إميل زوال َّ
تكرب عقول الشعب ِّ ألكسيس دو توكفيل َّ
أن احلرب « ِّ
راسكن َّأهنا« :أساس كل الفنون والفضائل الرفيعة وملكات البشر».
متجد لغة جمموعة إثنية ما -وحدة الدم كانت النزعة العسكرية الرومانسية تندمج أحيانًا مع النزعة القومية الرومانسية ،اليت ِّ
بأن األمة لن تستطيع حتقيق غايتها سوى عندما تكون دولة سيادية طاهرة عرقيًّا، واألرض -وثقافتها وموطنها وتركيبها العرقي ،وتؤمن َّ
وتستمد قوهتا من التصور امللتبس َّ
بأن الصراع العنيف هو قوة احلياة الطبيعية (فالطبيعة محراء األنياب واملخالب) وحمرك التقدم البشري.
إن حمرك التقدم البشري هو حل املشاكل) .ينسجم إضفاء قيمة على الصراع مع نظرية فريدريش (خيتلف هذا عن الفكرة التنويرية القائلة َّ
أن احلروب ضرورية « َّ
ألهنا تنقذ الدولة هيجل عن اجلدل (الديالكتيك) اليت تؤدي فيها قوى التاريخ إىل دولة قومية متفوقة ،فكتب هيجل َّ
من التحجر والركود» .طبَّق ماركس هذه الفكرة على األنظمة االقتصادية وتنبأ َّ
بأن تعاقب الصراعات العنيفة بني الطبقات سيبلغ ذروته
ليحقق يف النهاية يوتوبيا شيوعية.
ولكن رمبا كان أكرب حمفز للنزعة العسكرية الرومانسية هو االحندارية ،أو امشئزاز املثقفني من فكرة متتع األفراد العاديني حبياهتم يف
تعمق التشاؤم الثقايف يف أملانيا بفعل تأثري شوبنهاور ونيتشه وياكوب بوركهارت وجيورج سيمل وأوسفالد شبينجلر ،وهو ٍ
سالم ورخاءَّ .
مؤلف كتاب The Decline of the Westالذي نُشر منه جزآن بني عامي 1918و( .1923سنعود إىل هذه األفكار يف
الفصل الثالث والعشرين) .حىت يومنا هذا ،ما زال مؤرخو احلرب العاملية األوىل حيتارون يف سبب اختيار إجنلرتا وأملانيا ،ومها دولتان لديهما
كثري من السمات املشرتكة -فهما غربيتان ومسيحيتان وصناعيتان وموسرتان ،-أن يقوما مبذحبة عقيمة .األسباب عديدة ومتشابكة،
ٍ
بدرجة ما األيديولوجيا ،فاألملان قبل احلرب العاملية األوىل «كانوا يرون أنفسهم خارج احلضارة األوروبية أو الغربية» كما ولكنَّها تشمل
ٍ
ببسالة زحف الثقافة الليربالية الدميقراطية التجارية اليت َّقوضت حيوية أشار آرثر هريمان ،وبصورةٍ خاصة ،كانوا يظنون أنَّنهم يقاومون
ظن كثريون أنَّه ال ميكن أن ينشأ نظام بطويل جديد سوى على أنقاض الغرب منذ عصر التنوير ،باشرتاك بريطانيا والواليات املتحدةَّ .
أخريا الرومانسية ،وأصبح السالم كارثة خملِّصة ،وحتققت أمنيتهم يف هذه الكارثة ،ولكن بعد كارثة ثانية أكثر ً
ترويعا ،استنزفت احلرب ً
هو اهلدف املعلن لكل املؤسسات الغربية والدولية ،وأصبحت حياة اإلنسان أمثن ،يف حني اخنفضت قيمة اجملد والشرف والتفوق والرجولة
والبطولة واألعراض األخرى لفائض التستوستريون.
أن الطبيعة البشرية تتضمن أن التقدم حنو السالم ممكن ،حىت وإن كان غري منتظم ،ويصرون على َّ
كثري من الناس أن يصدقوا َّيرفض ٌ
املفسرين هوس ذكور اإلنسان العاقل على كل أشكال الذكاء، شرها للغزو( .وليست الطبيعة البشرية فحسب ،بل يُسقط بعض ِّ دافعا ًً
عرق متطور من الكائنات الفضائية وجاءإن علينا عدم البحث عن حياة خارج كوكب األرض إال إذا اكتشف وجودنا ٌ ِّ
وحيذروننا قائلني َّ
أن رؤية السالم العاملي رمبا تكون قد جعلت جون لينون وزوجته يوكو يقدمان بعض األغاين اجليدة ،ولكنَّها ليحاول إخضاعنا) .رغم َّ
رؤية شديدة السذاجة يف العامل الواقعي.
يف الواقع ،رمبا تكون احلرب جمرد عقبة أخرى يتعلم اجلنس املستنري التغلب عليها مثل الطاعون واجلوع والفقر .رغم َّ
أن الغزو قد
يكون مغريًا على املدى القريبَّ ،إال أنَّه من األفضل يف النهاية اكتشاف كيفية احلصول على ما تريد دون دفع تكلفة الصراع ِّ
املدمر
أوالَّ .أما على املدى
حافزا ليدمرونك ً
هتديدا لآلخرين فقد قدمت هلم ً
والكوارث املتضمنة يف حياة السالح ،أي أنَّك إذا كنت تشكل ً
البعيد ،فالعامل الذي حتجم فيه مجيع األطراف عن احلرب يكون عاملا أفضل للجميع ،واالخرتاعات مثل التجارة والدميقراطية والتنمية
ً
ات تساعد يف بناء ذلك العامل.
االقتصادية وقوات حفظ السالم واملعايري الدولية والقانون الدويل أدو ٌ
الفصل الثاني عشر:
األمان والسالمة
هش ،فحىت عندما حيافظ الناس على تغذية جسمهم وأدائه وظائفه وخلوه من مسببات األمراض ،يظلون عرضةً َّ
إن اجلسم البشري ٌّ
آلالف العلل واألسقام اليت تنتاب اجلسم .كان أسالفنا فريسة سهلة للكائنات املفرتسة مثل التماسيح والقطط الكبرية ،فكان سم الثعابني
والعناكب واحلشرات واحللزونات والضفادع يقضي عليهم .وكانوا عالقني يف معضلة القوارت (آكلي اللحوم والنباتات) ،إذ ميكن أن
يصابوا بالتسمم بسبب املواد السامة يف نظامهم الغذائي الواسع الذي يشمل األمساك والبقوليات واجلذور والبذور والفطر .وعندما كانوا
يغامرون بتسلق األشجار حبثًا عن الفاكهة والعسل ،كانت أجسامهم تنصاع لقانون نيوتن اخلاص باجلاذبية فكانوا عرضة للتسارع باجتاه
مرتا يف الثانية املربعة .وإذا خاضوا البحريات واألهنار وتعمقوا فيها ،يقطع عنهم املاء إمدادهم من اهلواء ،وكانوا يلعبون
األرض مبعدل ً 9.8
أيضا
بالنار واليت كانت حترقهم أحيانًا .وميكن أن يكونوا ضحايا سوء النية املبيتة ،فأي تكنولوجيا قد تودي حبياة حيوان ميكنها أن تودي ً
حبياة ٍ
إنسان غرمي.
أعدادا كبرية.
ال يؤكل اليوم سوى قلة من البشر ،ولكن عشرات اآلالف كل عام ميوتون جراء لدغات الثعابني ،وتقتل منَّا الكوارث ً
احلوادث هي رابع أكرب سبب للوفاة يف الواليات املتحدة بعد مرض القلب والسرطان وأمراض اجلهاز التنفسي ،وإصاباهتا مسؤولة عن
حوايل ثُلث الوفيات يف العامل ،وهو ما يتجاوز عدد ضحايا اإليدز واملالريا والسل جمتمعني ،وهي مسؤولة عن 11يف املئة من السنوات
أيضا أثر كبري ،فهو من بني أكرب مخس كوارث تصيب الشباب يف اليت يفقدها اإلنسان بسبب الوفاة أو اإلعاقة .وللعنف الشخصي ً
الواليات املتحدة وتصيب أي شخص يف أمريكا الالتينية وإفريقيا جنوب الصحراء.
محاسا يف الشعائر الدينية اليهودية هي
طويال يف أسباب اخلطر وكيف ميكن الوقاية منها .رمبا تُعد أكثر اللحظات ًفكر الناس ً
الصالة اليت تُتلى أمام تابوت التوراة املقدس خالل أيام التوبة العشرة:
يف رأس السنة يتم كتابته ويف عيد الغفران يتم ختمه :من يعيش ومن ميوت ،من ميوت يف أوانه ومن ميوت قبل أوانه ،من
ميوت باملاء ومن ميوت بالنار ،من بالسيف ومن بالوحش ،من باجلوع ومن باللهاث ،من بالزلزال ومن بالعدوى ،من باخلنق
ومن بالرجم ..ولكن التوبة والصالة والزكاة تزيل احلكم القاسي.
حلسن احلظ ،جتاوزت معرفتنا بكيفية حدوث اإلصابات املميتة الكتابات اإلهلية ،وأصبح باإلمكان االعتماد على وسائلنا يف الوقاية
منها أكثر من التوبة والصالة والزكاة .استطاعت الرباعة البشرية هزمية األخطار الكربى على احلياة ،مبا فيها املذكورة يف تلك الصالة،
وحنن نعيش اآلن أكثر العصور أمانًا يف التاريخ.
رأينا يف الفصول السابقة كيف حتاول االحنيازات املعرفية واألخالقية أن تلعن احلاضر وتربئ املاضي ،وسنرى يف هذا الفصل طريقة
أن خفض أعدادها ليس قضية أن اإلصابات القاتلة مصيبة كربى تصيب حياة البشرَّ ،إال َّ
أخرى ُتفي هبا هذه االحنيازات تقدمنا .رغم َّ
جذابة ،فلم ي ُفز مبتكر حواجز الطرق السريعة جبائزة نوبل ،وال حيصل مصممو النشرات األوضح لألدوية املوصوفة على جوائز إنسانية،
نوع من أنواع
كثريا من اجلهود اليت ال يتغىن هبا أح ٌد واليت خفَّضت أعداد الوفيات الناجتة عن كل ٍ ومع ذلك َّ
فإن البشرية قد انتفعت ً
اإلصابات.
ألهنا ليست عارضة بالضبط ،وهي القتل .فباستثناء احلروب من ميوت بالسيف :لنبدأ بفئة اإلصابات األصعب من حيث احلد منها َّ
العاملية ،يكون أعداد ضحايا جرائم القتل أكثر من ضحايا احلروب ،وكانت النسبة حوايل 4.5إىل 1يف عام 2015املشوه باملعارك،
خطرا أكرب يهدد احلياة يف املاضي ،ففي أوروبا يف القرون الوسطى كانولكنها تكون عادةً 10إىل 1أو أكثر .كانت جرائم القتل ً
ات ،وكان قطاع الطرق واللصوص السادة (اللوردات) يذحبون عبيد خصومهم ،واألرستقراطيون وحاشيتهم حياربون بعضهم بعضا يف مبارز ٍ
ً
ردا على اإلهانة على مائدة العشاء على سبيل املثال.
بعضا ًّ
يقتلون ضحايا سرقاهتم ،وكان األشخاص العاديون يطعنون بعضهم ً
ولكن يف تطور تارخيي كاسح أطلق عليه عامل االجتماع األملاين نوربرت إلياس (« )Norbert Eliasعملية نشر احلضارة»،
بدأ األوروبيون الغربيون يف القرن الرابع عشر حيلون نزاعاهتم ٍ
بطرق أقل عن ًفا .أعزى إلياس هذا التغيري إىل نشأة املمالك املركزية من
البارونيات والدوقيات الكثرية يف القرون الوسطى ،فهدأ التناحر وقطع الطرق واحلروب بسبب محاية امللك .مث أصبحت أنظمة العدالة
اجلنائية أكثر احرتافيةً يف القرن التاسع عشر مع إرساء قوات الشرطة البلدية ونظام حماكم أكثر تداولية .على مر تلك القرون ،طورت
أيضا بنيةً حتتية للتجارة ،مادية على هيئة مركبات وطرق أفضل ،ومالية على هيئة عملة وعقود .انتشرت التجارة الناعمة واستسلمت أوروبا ً
عمليات هنب األراضي اليت كانت نتائجها صفرية أمام عمليات مبادلة السلع واخلدمات وهي ذات نتائج إجيابية .أصبح الناس منخرطني
يف شبكات من االلتزامات التجارية واملهنية املنصوص عليها يف القواعد القانونية والبريوقراطية ،وحتولت معايريهم للسلوكيات اليومية من
ث قافة الشرف الذكورية اليت كان جيب فيها الرد على اإلهانات بالعنف ،إىل ثقافة الكرامة النبيلة اليت يفوز فيها املرء باملكانة من خالل
مظاهر اللياقة وضبط النفس.
مجع الباحث يف علم اجلرمية التارخيي مانويل أيزنر ) (Manuel Eisnerجمموعات بيانات عن جرائم القتل يف أوروبا ،وأضافت
(إن معدالت جرائم القتل هي أكثر املؤشرات موثوقية على جرائم العنف قاما ملا توصل إليه إلياس ونشره عام َّ .1939
هذه البيانات أر ً
يف أزمنة خمتلفة وأماكن خمتلفة ألنَّه من الصعب جتاهل اجلثث ،وترتبط معدالت جرائم القتل مبعدالت جرائم العنف األخرى مثل السرقة
ضع حكومةٌ ما منطقةً حدودية حلكم إن نظرية إلياس كانت صائبة ،وليس يف أوروبا فقط ،فعندما ُُت ِ
واالعتداء واالغتصاب) .يقول أيزنر َّ
أوضح يف الشكل رقم 1-12بيانات أيزنر اخلاصة بإجنلرتا وهولندا القانون ويندمج سكاهنا يف جمتم ٍع جتاري ،تنخفض معدالت العنفِّ .
وصوال إىل عام ،2012وكذلك املنحنيات اخلاصة بالدول األوروبية الغربية األخرى .أضفت مناطق من وإيطاليا ،وحتديثات هلا ً
األمريكتني ،وهي اليت سيطر عليها القانون والنظام الح ًقا ،وهي نيو إجنالند يف زمن االستعمار ،وتلتها منطقة يف «الغرب املتوحش»،
كثريا يف املاضي. ٍ
وتلتها املكسيك اليت تشتهر اليوم بعنفها ولكنَّها كانت تتسم بعنف أكرب ً
جنوب غرب الواليات
المتحدة
نيو إنجالند
جرائم القتل لكل 100ألف شخص سنو ًّيا
إيطاليا
هولندا وبلجيكا
المكسيك
إنجلترا
العالم
جرائم القتل لكل 100ألف شخص سنو ًّيا
إنجلترا
إن جرائم العنف مشكلة قابلة للحل ،رمبا ال نستطيع خفض معدل جرائم القتل يف العامل إىل مستويات الكويت ( 0.4لكل َّ
100ألف شخص سنويًّا) أو أيسلندا ( )0.3أو سنغافورة ( ،)0.2فما بالك بالصفر! ولكن يف عام ،2014اقرتح أيزنر ،بالتشاور
عاما ،وليس هذا الطموح يوتوبيًّا
مع منظمة الصحة العاملية ،هدفًا هو خفض معدل جرائم القتل العاملية مبقدار 50يف املئة خالل ثالثني ً
استنادا إىل حقيقتني عن إحصاءات جرائم القتل.
ً وإمنا هو عملي،
متاما على كل املستويات ،فمعدالت جرائم القتل يف أخطر الدول يبلغ مئات احلقيقة األوىل هي َّ
أن توزيع جرائم القتل غري متماثل ً
أضعافه يف الدول األكثر أمانًا ،إذ يبلغ على سبيل املثال يف هندوراس ( 90.4جرمية قتل لكل 100ألف شخص) ويف فنزويال ()53.7
والسلفادور ( )41.2وجامايكا ( )39.3وليسوتو ( )38وجنوب إفريقيا ( .)31تُرتكب نصف جرائم القتل يف العامل يف ثالثة وعشرين
دولة فقط حتتوي على ُعشر البشر تقريبًا ،ويُرتكب ُربعها يف أربعة دول فقط ،وهي :الربازيل ( )25.2وكولومبيا ( )25.9واملكسيك
( )12.9وفنزويالُ( .تتلف منطقيت القتل يف العامل -مشال أمريكا الالتينية وجنوب منطقة إفريقيا جنوب الصحراء -عن مناطق احلروب
مرورا بالشرق األوسط حىت باكستان) .يواصل هذا امليل هبوطه على مقياس الكسور .ترتكز معظم جرائم القتل
اليت متتد من نيجرييا ً
داخل الدولة يف بضع مدن مثل كاراكاس يف فنزويال ( 120لكل 100ألف) وسان بيدرو سوال يف هندوراس ( ،)187وترتكز معظم
جرائم القتل داخل املدينة يف بضعة أحياء ،وترتكز داخل األحياء يف بضعة مساكن ،وداخل املساكن ينفذ العديد من جرائم القتل بضعة
أفراد .يف مدينيت بوسطن ،حتدث 70يف املئة من حوادث إطالق النريان يف 5يف املئة من املدينة ،ويرتكب نصف هذه احلوادث واحد
يف املئة من الشباب.
أن معدالت جرائم القتل املرتفعة ميكن تتضح احلقيقة األخرى امللهمة هلدف 50خالل 30من الشكل رقم ،2-12وهي َّ
كبريا يف معدل جرائم القتل
اخنفاضا ً
ً خفضها سر ًيعا ،إذ شهدت الواليات املتحدة ،وهي الدميقراطية املوسرة صاحبة أكثر جرائم قتل،
مبقدار النصف تقريبًا خالل تسع سنوات ،وكان اخنفاض املعدل يف مدينة نيويورك خالل ذلك الوقت أكثر حد ًة ،فبلغت نسبته حوايل
أيضا ،مبا فيها روسيا (من 19لكل 100ألف يف عام 2004 حاد ً ٍ
باخنفاض ٍّ 75يف املئة .متتعت الدول اليت ما زالت تشتهر بالعنف
إىل 9.2يف )2012وجنوب إفريقيا (من 60يف 1995إىل 31يف )2012وكولومبيا (من 79.3يف 1991إىل 25.9يف
عاما املاضيةَّ .أما
اخنفاضا خالل اخلمسة عشر ً
ً .)2015وشهدت سبعة وستون دولة من بني الثمانية ومثانني ذات البيانات املوثوقة،
الدول تعيسة احلظ (وأغلبها يف أمريكا الالتينية) فقد أصابتها زيادة مريعة ،ولكن حىت يف هذه الدول فإن قادة املدن واألقاليم عندما
انعكاسا من
ً أن املكسيك بعد أن عانتيوضح الشكل رقم َّ 1-12 يعتزمون خفض معدل إراقة الدماء ،فإهنم ينجحون غالبًا يف ذلكِّ .
اخنفاضا بنسبة 90يف
ً 2007إىل ( 2011يُعزى بالكامل إىل اجلرمية املنظمة) متتَّعت بانعكاس االنعكاس حبلول عام 2014ومشل
اخنفاضا مبقدار أربعة أمخاس
ً املئة تقريبًا من عام 2010إىل 2012يف مدينة خواريز الشهرية .وشهدت بوجوتا وميديلني (كولومبيا)
اخنفاضا مبقدار الثلثني .حىت عاصمة القتل يف العامل،
ً خالل عقدين ،وشهدت ساو باولو واألحياء العشوائية يف ريو دي جانريو (الربازيل)
هائال يف معدالت جرائم القتل بنسبة 62يف املئة خالل عامني فقط. اخنفاضا ً
ً سان بيدرو سوال ،شهدت
واآلن امجع هذا التوزيع اجملنون جلرائم العنف واالحتمالية املؤكدة خلفض معدالت جرائم العنف املرتفعة سر ًيعا ،ستجد َّ
أن املعادلة
قليال ،وليست هذه خدعة عملي ،بل إنَّه متحفظ ً ٍ
عاما ليس جمرد هدف ٍّواضحة جدًّا ،فاالخنفاض بنسبة 50يف املئة خالل ثالثني ً
تكمن القيمة األخالقية للقياس الكمي يف أنَّه يعامل حياة كل البشر كأهنا ذات قيمة متساوية ،وهكذا َّ
فإن اإلجراءات اليت إحصائيةُ .
متنع أكرب عدد من جرائم القتل متنع أكرب قد ٍر ممكن من املآسي البشرية.
يشري هذا االحنراف املائل جلرائم العنف أيضا بسه ٍم أمحر المع إىل أفضل طر ٍ
يقة للتقليل منها .لننسى األسباب اجلذرية ،ونقرتب ً
من األعراض -األحياء واألفراد املسؤولني عن أكرب قد ٍر من العنف -وإضعاف احلوافز والفرص اليت ِّ
حتركهم تدرجييًّا.
دائما بالعنف كما قال توماس هوبز ( )Thomas Hobbesيف تبدأ هذه العملية بإنفاذ القانون ،فمناطق الفوضى تتسم ً
عصر العقل ) .(Age of Reasonليس هذا بسبب رغبة اجلميع يف افرتاس غريهم ،ولكن َّ
ألن التهديد بالعنف يف غياب احلكومة
قد يؤدي إىل تضخم الذات .لذا فحىت إذا اندس بعض املفرتسني احملتملني يف املنطقة أو ظهروا فجأة ،فإن السكان جيب أن يتبنوا موق ًفا
ردا على أي إهانة أو أي هنب ،مهما كان الثمن .ميكن عدوانيًّا لردعهم ،وال ميكن تصديق هذا الردع إال إذا أعلنوا تصميمهم باالنتقام ًّ
ات من التناحر والثأر ،إذ جيب أن تكون عني ًفا بنفس قدر خصومك على أن يؤدي «فخ هوبز» هذا كما يطلق عليه أحيانًا إىل دور ٍ
ُ
إن الفئة األكرب من جرائم القتل ،واليت ُتتلف أكثر من غريها من زم ٍن آلخر ومن مكانٍ األقل وإال سيعاملونك كممسحة األرجلَّ .
جيدا بسبب السيطرة على املناطق أو السمعة أو االنتقام ،ميكن أن
بعضا ً
آلخر ،تتمثل يف مواجهات بني شباب ال يعرفون بعضهم ً
طرف ثالث غري متحيز حيتكر االستخدام الشرعي للقوة -أي دولة لديها قوات شرطة وسلطة قضائية -على دورات التناحر يقضي ٌ
أيضا للجميع تثبيط املعتدين ،وبالتايل يرحيهم من احلاجة والثأر هذه يف مهدها .ال يثبِّط التهديد بالعقاب املعتدين فحسبَّ ،
وإمنا يضمن ً
إىل الدفاع عن النفس بالقتال.
جند أوضح دليل على أثر إنفاذ القانون يف معدالت العنف شديدة االرتفاع يف األزمنة واألماكن اليت كان إنفاذ القانون فيها بدائيًا
أيضا ما حيدث عندما تُض ِرب مثلما يف األطراف اليُسرى العُليا من املنحنيات يف الشكل رقم .1-12ومن احلجج املقنعة بالقدر نفسه ً
أيضا عندماكبريا ً
تفاعا ًولكن معدالت اجلرمية قد ترتفع ار ً الشرطة عن العمل ،أي اندالع عمليات النهب واالقتصاص غري القانوينَّ ،
أن بإمكاهنم خرق القانون تكون وسائل إنفاذ القانون غري فعالة ،أي عندما تكون غري مناسبة أو فاسدة أو مثقلة مبا جيعل الناس يعرفون َّ
مع اإلفالت من العقاب .كان هذا أحد األسباب اليت أسهمت يف انتشار اجلرمية يف الستينيات عندما مل ي ُكن بإمكان النظام القضائي
أيضا يف ارتفاع معدل اجلرائم يف بعض جماراة موجة جيل «طفرة املواليد» عند وصوله إىل السنوات اليت كان فيها عرضة لإلجرام ،وأسهم ً
يفسر توسع حفظ األمن والنظام العام والعقاب اجلنائي (رغم جتاوزه حد االعتدال فيما املناطق يف أمريكا الالتينية اليوم .ويف املقابلِّ ،
كبريا من تراجع اجلرمية بقد ٍر كبري يف أمريكا يف التسعينيات.
خيص االحتجاز واحلبس) جزءًا ً
فيما يلي ملخص أيزنر لكيفية خفض معدل جرائم القتل مبقدار النصف خالل ثالثة عقودَّ « :
إن حكم القانون الفعَّال ،القائم
على إنفاذ القانون امل شروع ومحاية الضحايا والتقاضي السريع والعادل والعقوبات املعتدلة والسجون اليت تعامل السجناء معاملة إنسانية،
فعال ومشروع وسريع وعادل ومعتدلة وإنسانية ضروري للحد من العنف املميت بصورةٍ مستدامة»ُ .متيِّز الصفات اليت استخدمها مثل َّ
يفضله ساسة اجلناح اليميين .تتضح أسباب هذا فيما شرحه تشيزاري بيكاريا نصيحته عن خطاب «الصرامة يف مواجهة اجلرمية» الذي ِّ
ومرض للعواطف، أن التهديد بالعقوبات األقسى على اإلطالق رخيص ٍ عاما ،ففي حني َّ
( )Cesare Beccariaمنذ مئتني ومخسني ً
لكنَّه ليس فعَّ ًاال َّ
ألن منتهكي القوانني يعاملون هذه العقوبات كأهنا حوادث نادرة ،فظيعة ولكنَّها خماطرة مصاحبة للعملَّ ،أما العقوبات
املتوقعة حىت وإن كانت أقل قسوًة فسيأخذها الناس أكثر يف احلسبان عند اُتاذ اخليارات اليومية.
ألن الناس ال حيرتمون السلطات الشرعية نفسها فحسب ،بل يأخذونأيضا إىل جانب إنفاذ القانونَّ ،أن شرعية النظام مهمة ً يبدو َّ
أيضا إىل أي درجة سيحرتمها خصومهم احملتملون حسب توقعاهتم .يشري أيزنر ،إضافةً إىل املؤرخ راندولف روث يف احلسبان ً
كثريا يف العقود اليت يتشكك الناس فيها يف جمتمعهم وحكومتهم ،وتشمل هذه العقود ( ،)Randolph Rothإىل َّ
أن اجلرمية تزداد ً
احلرب األهلية األمريكية ،والستينيات ،وحقبة ما بعد اهنيار االحتاد السوفيييت يف روسيا.
هائال أجراه عاملا
حتليال جتميعيًّا (تلويًّا) ً
تؤيد املراجعات احلديثة ملا ينجح وما ال ينجح يف منع اجلرمية نصيحةَ أيزنر ،وأخص بالذكر ً
االجتماع توماس أبت ( )Thomas Abtوكريستوفر وينشيب ( )Christopher Winshipلـ 2300دراسة تقيِّم تقريبًا كل
أن التكتيكسياسة وخطة وبرنامج ومشروع ومبادرة وتدخل وشعوذة سياسية ووسيلة حتايل متت جتربتها يف العقود األخرية .واستنتجا َّ
األوحد األكثر فعالية للحد من جرائم العنف هو الردع املرَّكز ،جيب ً
أوال توجيه تركيز شديد على األحياء اليت تتفشى اجلرمية أو تبدأ يف
أوال بأول ،وجيب توجيهه أكثر على األفراد والعصابات الزيادة فيها ،وحتديد بؤر النشاط اإلجرامي بالبيانات اليت يتم مجعها على الفور ً
اليت تعتدي على الضحايا أو تبحث عن عر ٍاك جديد .وجيب إيصال رسالة بسيطة وملموسة عن السلوك املتوقَّع من هؤالء األفراد ،مثل
«إذا توقفتم عن إطالق النريان سنساعدكم ،وإذا واصلتم إطالق النريان سنزج بكم يف السجن» .يعتمد إيصال الرسالة مث تطبيقها على
تعاون أعضاء اجملتمع اآلخرين ،مثل أصحاب املتاجر والوعاظ واملدربني وضباط مراقبة السلوك واألقرباء.
أيضا ال عالج السلوكي املعريف ،ليس هلذا أي عالقة بالتحليل النفسي للصراعات اليت واجهها مرتكب اجلرمية يف ومما ثبت فعاليته ً
طفولته ،أو فتح عينيه وتثبيت جفنيه بينما حياول التقيؤ أثناء إجباره على مشاهدة مقاطع فيديو عنيفة كما حدث يف فيلم (A
)َّ ،Clockwork Orangeإمنا هو جمموعة بروتوكوالت مصممة إللغاء عادات التفكري والسلوك اليت تؤدي إىل األفعال اإلجرامية.
فهم ينتهزون الفرص املفاجئة للسرقة أو التخريب ،ويهامجون من يعارضوهنم غري مكرتثني بالعواقب طويلة األمد. َّ
إن املشاغبني مندفعونُ ،
أيضا أمناط تفكري نرجسية ومعتلةميكن مقاومة هذه اإلغراءات بالعالج الذي يعلِّم املرء اسرتاتيجيات التحكم يف النفس .لدى املشاغبني ً
أن اآلخرين ليس لديهم أن اخلالفات تُعد إهانات شخصية ،و َّ دائما على حق ،و َّأهنم يستحقون انصياع العامل هلم ،و َّ َّ
اجتماعيًّا ،مثل أهنم ً
مشاعر وال مصاحل .ورغم عدم إمكان «شفائهم» من هذه األوهامَّ ،إال أنَّه ميكن تدريبهم على إدراكها ومقاومتها .تتضخم هذه العقلية
املختالة يف ظل ثقافة الشرف ،وميكن تفكيكها يف العالج الذي يهدف إىل التحكم يف الغضب والتدريب على املهارات االجتماعية
كجزء من تقدمي االستشارات للشباب املعرضني هلذا اخلطر أو الربامج اليت هتدف إىل منع العودة إىل اإلجرام.
سواء متت السيطرة على رعونة األوغاد احملتملني أم ال ،فإهنم ميكن أن يبتعدوا عن املشاكل بسبب إزالة فرص اإلشباع الفوري من
بيئتهم ،فعندما تكون سرقة السيارات أصعب ،والسطو على املنازل أصعب ،وسرقة البضائع مث بيعها أصعب ،وحيمل املشاة بطاقات
بدال من النقود ،وتكون األزقة املظلمة مضاءة ومراقبة بالكامريات ،فإن اجملرمني احملتملني لن يبحثوا عن ٍ
منفذ آخر لتلبية حاجتهم ائتمان ً
حولت األحداث اجلاحنني إىل مواطنني
امللحة للسرقة ،ومن مث فإن اإلغراء سينقضي ولن تُرتكب اجلرمية .من التطورات األخرى اليت َّ
ملتزمني بالقانون رغما عنهم السلع االستهالكية الرخيصة ،فمن قد جيازف اليوم باقتحام ٍ
شقة من أجل سرقة راديو مزود بساعة؟ ً
من أكرب العوامل احملفزة للعنف اإلجرامي ،إىل جانب الفوضوية واالندفاع وإتاحة الفرص ،هي البضائع املهربة ،فرواد األعمال يف
البضائع والتسايل املمنوعة ال ميكنهم رفع دعوى قضائية عندما يشعرون َّأهنم تعرضوا لالحتيال ،وال االتصال بالشرطة عندما يهددهم
شخص ما ،لذا عليهم أن حيموا مصاحلهم بالتهديد احلقيقي بالعنف .انتشرت جرائم العنف يف الواليات املتحدة عندما ُحظرت الكحول ٌ
يف العشرينيات وعندما شاع استخدام الكراك كوكايني يف أواخر الثمانينيات ،وتتفشى هذه اجلرائم يف دول الكارييب وأمريكا الالتينية اليت
يتم فيها اليوم هتريب الكوكايني واهلريوين واملارجيوانا .يظل العنف الناتج عن املخدرات مشكلة دولية قائمة ،رمبا سيؤدي إهناء جترمي
املارجيوانا احلايل ،وخمدرات أخرى يف املستقبل ،إىل إخراج هذه الصناعات من عاملها السفلي املخالف للقانون .بينما الحظ أبت
أن «احملاكم املتخصصة أن «مكافحة املخدرات العدوانية ال حتقق نتائج إجيابية كثرية وتزيد من العنف بصورةٍ عامة» يف حني َّ
ووينشيب َّ
يف قضايا املخدرات وعالج املخدرات هلا تاريخ طويل من الفعالية يف حل املشكلة».
ال بد أن تطغي أي حسابات مستندة إىل أدلة على الربامج اليت تبدو واعدة يف مسرح اخليال ،فمن املبادرات اجلريئة الغائبة عن
قائمة الوسائل الناجحة ،إزالة العشوائيات وإعادة شراء األسلحة وسياسات عدم التسامح واحملاكمة باالختبارات القاسية يف الربية
عرض فيها الشباب واألحكام اإللزامية عند ارتكاب 3جرائم ،وفصول التوعية باملخدرات بقيادة الشرطة وبرامج التقومي بالتخويف اليت يُ َّ
دليل اآلثار امللتبسة لقوانني ٍ
لسجون قذرة ومدانني أشرار .ورمبا من أكثر األمور املخيبة آلمال أصحاب اآلراء القوية دون ٍ املعرضون للخطر
يفضلها اليسار فرقًا األسلحة ،فعلى ما يبدو ،مل ُحت ِدث قوانني احلق يف محل السالح اليت ِّ
يفضلها اليمني ،وال قوانني املنع والقيود اليت ِّ
كبريا ،رغم َّ
أن هناك الكثري مما ال نعرفه والكثري من العوائق السياسية والعملية أمام معرفة املزيد. ً
عندما حاولت تفسري تراجع العنف يف كتاب The Better Angels of Our Natureكنت واث ًقا يف فكرة َّ
أن «حياة البشر
كانت رخيصة» يف املاضي ولكنَّها ازدادت قيمةً مبرور الوقت ،بدت هذه الفكرة مبهمة وال ميكن اختبار صحتها ،وكانت تشبه الدائرة
مررت بتجر ٍبة غريت رأيي،
املفرغة تقريبًا ،لذا قدمت تفسريات أقرب لتلك الظاهرة مثل احلوكمة والتجارة .بعد إرسال أصل الكتابُ ،
أردت أن أكافئ نفسي على االنتهاء من هذا املشروع الضخم ،فقررت أن أستبدل سياريت القدمية الصدئة ،ومن أجل البحث عن سيارة
مقاال بعنوان «السالمة باألرقام: أخرى اشرتيت أحدث عدد من جملة السيارة والسائق ) ،(Car and Driverكانت افتتاحية العدد ً
موضحا برس ٍم بياين مألوف للغاية ،فكان الزمن على حمور ً اخنفاضا غري مسبوق» وكان هذا
ً اخنفاض الوفيات نتيجة احلوادث املرورية
ط من أعلى اليسار إىل أسفل اليمني .اخنفض معدل الوفيات الناجتة عن احلوادث السينات ومعدل الوفيات على حمور الصادات وامتد خ ٌ
اجعا آخر يف املوت العنيف ،ولكنَّه هذه املرة مل ي ُكن متعل ًقا
فوجدت أمامي تر ً
ُ املرورية بني عامي 1950و 2009مبقدار ستة أضعاف.
كأن احلياة قد أصبحت باهليمنة والكراهية ،إذ تضافرت بعض القوى للعمل على مدار ٍ
عقود على خفض احتمالية الوفاة أثناء القيادة ،و َّ
بالفعل مثينة ،فعندما أصبح اجملتمع أغىن ،ركز املزيد من دخله وبراعته وعاطفته األخالقية على إنقاذ حياة الناس على الطريق.
قليال ،فلو كانت رمست جمموعة البيانات هذه منذ عامها األول ،عام ،1921لكانت أن اجمللة كانت متحفظة ً علمت الح ًقا َّ
يوضح الشكل رقم 3-12اخلط الزمين بأكمله ،رغم َّ
أن هذه اخنفاضا مبقدار أربعة وعشرين ضع ًفا تقريبًا يف معدل الوفياتِّ .
ً أظهرت
ٍ
شخص تويف ،أصيب آخرون بالعجز والتشويه وأضناهم األمل. أيضا ،ففي مقابل كل
ليست القصة كاملةً ً
عدد الوفيات لكل 100مليون ميل مقطوع بالمركبات
ذيَّلت اجمللة الرسم البياين باملعامل الفارقة يف سالمة السيارات ،واليت حددت القوى التكنولوجية والتجارية والسياسية واألخالقية
بعضا أحيانًا على املدى القصري ،ولكنَّها على املدى البعيد خفَّضت جمتمعةً معدل الوفيات
الفاعلة ،كانت هذه القوى تعارض بعضها ً
كثريا .كانت هناك أحيانًا محالت أخالقية للحد من املذابح ،وكانت تعترب صناع السيارات األشرار يف هذه القصة ،ففي عام كثريا ً
كثريا ً
ً
،1965نشر حمام شاب يُدعى رالف نادر ( )Ralph Naderكتابًا بعنوان غير آمن على أي سرعة ( Unsafe at Any ٍ
،)Speedوهو اهتام هلذه الصناعة بإمهاهلا السالمة يف تصميم السيارات .بعد ذلك بقليل أُنشئت اإلدارة الوطنية لسالمة املرور على
ولكن الرسم يوضَّح ٍ
مبجموعة من اخلصائص اليت تضمن السالمةَّ . الطرق السريعة ،ومت مترير تشريعات تستلزم إعداد السيارات اجلديدة
اخنفاض حاد قبل هذا النشاط والتشريعات ،وكانت صناعة السيارات أحيانًا تسبق العمالء واهليئات التنظيمية .احتوى الرسم ٍ حدوث
على الفتة تشري إىل عام 1956مبا يلي« :شركة فورد موتور تقدم حزمة اإلنقاذ ..وهي تشمل أحزمة األمان ولوحة القيادة املبطَّنة
وواقيات الشمس املبطَّنة وحمور املقود الغائر املصمم مبا مينع السائقني من التحول إىل قطع كباب عند التصادم .إن قيمتها أكرب من
مثنها» .مل تصبح تلك اخلصائص إلزامية سوى بعد ٍ
عقد كامل.
تناثرت على طول ذلك املنحدر حلقات أخرى من الشد واجلذب بني املهندسني واملستهلكني ومسؤويل الشركات وموظفي احلكومة
ات متنوعة ،اجتهت كلٌّ من مناطق امتصاص الصدمات ،وأنظمة الكبح املزدوج لألربع عجالت ،وأعمدة التوجيه الروتينيني .وعلى فرت ٍ
القابلة للطي ،وأضواء املكابح العالية الوسطى ،وأحزمة األمان اخلانقة اليت تصدر طنينًا ،والوسائد اهلوائية وأنظمة التحكم يف الثبات ،من
املعمل وحىت معارض السيارات .من األمور املنقذة األخرى متهيد الطرق الريفية الطويلة لتصبح طرقًا سريعة ُمقسمة ومضاءة ومسورة
والية إىل أخرى .تأسست منظمة أمهات ضد القيادة حتت تأثري الكحول ( Mothers حبواجز ومنحنية بسالسة وعريضة وتصل من ٍ
وشكلت ضغطًا من أجل رفع السن القانونية لتناول الكحول وخفض املستوى )Against Drunk Drivingيف عام َّ ،1980
مثارا
القانوين املسموح به من الكحول يف الدم ووصم القيادة حتت تأثري الكحول ،وهو ما تعاملت معه الثقافة الشعبية آنذاك باعتباره ً
للضحك كما يف فيلمي North by Northwestو .Arthurأنقذت اختبارات تصادم السيارات وتطبيق قوانني املرور وتعليم
القيادة (إضافةً إىل أموٍر غري مقصودة مثل االزدحام املروري والركود االقتصادي) حياة املزيد من الناس ،حياة الكثري من الناس ،فمنذ عام
،1980مل ميُت حوايل 650ألف مواطن أمريكي كانوا سيموتون لو بقيت معدالت الوفيات الناجتة عن احلوادث املرورية كما هي ،بل
عقد ( 55مليار ميل يف ،1920 أمياال أكثر مع كل ٍ
أن األمريكيني يقطعون ً جند األرقام جديرة باملالحظة أكثر عندما نضع يف اعتبارنا َّ
و 458مليار يف 1.5 ،1950تريليون يف ،1980و 3تريليون يف ،)2013فكانوا يستمتعون بكل متع الضواحي املليئة باألشجار
واألطفال الذين يلعبون كرة القدم أو يشاهدون الواليات املتحدة األمريكية من سياراهتم الشيفروليه أو يتجولون بالسيارة يف الشوارع
ولكن تلك األميال اإلضافية اليت قطعوها مل تقلل من املكاسب يف السالمة،
ويبتعدون عن األنظار وينفقون كل أمواهلم على ليلة السبتَّ ،
(بدال من لكل ميل) ذروته يف عام 1937فكان حوايل 30لكل 100ألف سنويًّا ،وهو يف إذ بلغ معدل الوفيات يف السيارات للفرد ً
تراجع مستمر منذ أواخر السبعينيات ووصل يف عام 2014إىل 10.2وهو أقل معدل منذ .1917
وقاصرا على األمريكيني ،فقد اخنفضت معدالت ً يدا
ليس التقدم الذي حدث يف أعداد السائقني الذين يظلون على قيد احلياة فر ً
الوفيات يف الدول الثرية األخرى مثل فرنسا وأسرتاليا وبالطبع السويد املهتمة بالسالمة (اشرتيت يف النهاية سيارة فولفو) ،ولكنَّه قد يرجع
إن معدل الوفيات نتيجة احلوادث املرورية للفرد يف الدول الناشئة مثل اهلند والصني والربازيل ونيجرييا ضعف إىل اإلقامة يف دو ٍلة ثريةَّ .
املعدل يف الواليات املتحدة وسبع أضعاف املعدل يف السويد ،فالثروة تشرتي احلياة.
إجنازا إشكاليًّا لو كنا يف خط ٍر أكرب مما كنا فيه قبل اخرتاع السياراتَّ ،
ولكن كان الرتاجع يف معدل الوفيات على الطرق سيصبح ً
أيضا قبل السيارات يف احلقيقة .حيكي أمني أرشيف الصور أوتو بيتمان ( )Otto Bettmannحكايات كثريا ً
احلياة مل ت ُكن آمنة ً
معاصرة عن شوارع املدينة يف حقبة جر العربات باألحصنة فيقول:
صيد صغري» ..كان احلصان هو حمرك «يتطلب عبور شارع برودواي مهارة أكثر مما يتطلبه عبور احمليط األطلنطي يف قارب ٍ
الفوضى يف املدينة ،إذكان هذا احليوان الضروري يعاين من العصبية ونقص التغذية ،وكان السائقون عدميو الرمحة يضربونه
غالبًا بالسياط حىت ينهكونه ويغتبطون عنما يندفع لألمام «بأقصى قوة متحديًا القانون ويبتهجون بالتخريب والتدمري».
شائعا ،وكان هذا اخلراب يؤدي إىل قتل آالف األشخاص .وف ًقا للمجلس الوطين للسالمة َّ
فإن معدل الوفيات كان اجلموح ً
املرتبطة باألحصنة كان أعلى بعشرة أضعاف من معدل الوفيات املرتبطة بالسيارات يف العصر احلديث (يف عام ،1974
وهو ضعف معدل الوفيات املرتبطة بالسيارات للفرد اليوم .)SP -
أُطلق على فريق بروكلني دودجرز ،قبل انتقاله إىل لوس أجنلوس ،هذا االسم تيمنًا باملشاة يف املدينة الذين كانوا يشتهرون مبهارهتم
يف سرعة تفادي العربات املندفعة (مل ينجح اجلميع يف تفاديها يف تلك احلقبة ،فأخت جدي قتلتها عربة يف وارسو يف سنة .)1910
ازدادت قيمة حياة املشاة كقيمة حياة السائقني والركاب ،ويرجع الفضل يف ذلك للمصابيح ومعابر املشاة واجلسور العلوية وهيئات تطبيق
يوضح
قوانني املرور واختفاء حلي أغطية حمركات السيارات والقطع اليت تشبه الرصاصات يف املصد واألسلحة األخرى املطلية بالكرومِّ .
أن السري يف شوارع أمريكا اليوم أكثر أمانًا من السري فيها يف عام 1927بستة أضعاف. الشكل رقم َّ 4-12
الوفيات لكل 100ألف شخص سنو ًّيا
من ميوت باملاء ومن ميوت بالنار :قدميًا قبل اخرتاع السيارات والطائرات ،كان الناس معرضني ألخطار مميتة يف بيئتهم .بدأ عامل االجتماع
روبرت سكوت كتابه عن تاريخ احلياة يف أوروبا يف العصور الوسطى مبا يلي« :يف يوم 14من ديسمرب ،1421يف مدينة ساليزبري
سيخ ساخن» (قيل َّ
إن الدعاء للقديس أوزموند ٍ
اإلجنليزية ،أصيبت فتاة يف الرابعة عشرة تُدعى آجنس بإصابة فاجعة عندما ثقب بطنها ٌ
الرضَّع الذين تركهم
احدا فقط على مدى خطورة اجملتمعات األوروبية يف العصور الوسطى ،وكان األطفال و ُ مثاال و ً
قد شفاها) .كان هذا ً
آباؤهم وحدهم أثناء العمل أكثر عرضةً لألخطار كما أوضحت املؤرخة كارول روكليف (:)Carol Rawcliffe
كان احمليط املزدحم املظلم املليء باملواقد املفتوحة والفراش من القش واألرضيات املغطاة باحلصائر واللهب املكشوف ِّ
يشكل
خطرا دائما على الصغار الفضوليني ،وكان األطفال (حىت أثناء اللعب) يف خط ٍر بسبب ِ
الربك واملستلزمات الزراعية أو ً ً
احململة ،إذ تظهر كل هذه األغراض بصورةٍ متكررة وكئيبة
َّ بات
ر الع
و اف
ر إش دون كةاملرتو ارب
و الق
و اخلشب ام
و أك و الصناعية
يف تقارير حمققي الوفيات كأسباب وفاة الصغار.
تشري موسوعة األطفال والطفولة في التاريخ والمجتمع ( The Encyclopedia of Children and Childhood
رضيعا ،وهو املشهد الذي ظهر يف حكايات الفارس ( The طفال ً
أن« :صورة خنزير يلتهم ً )in History and Societyإىل َّ
)Knight's Taleلتشوسر ( ،)Chaucerتبدو غريبة للقراء املعاصرين ،ولكنَّها كانت تعكس بالتأكيد اخلطر الشائع الذي كانت
ِّ
تشكله احليوانات على األطفال».
ومل ي ُكن البالغون أكثر أمانًا .يوجد موقع إلكرتوين امسه الحياة اليومية واألخطار المميتة في إنجلترا في القرن السادس عشر
( )Everyday Life and Fatal Hazard in Sixteenth-Century Englandينشر حتديثات شهرية عن حتليالت
املؤرخني لتقارير حمققي الوفيات ،تشمل أسباب الوفاة كتناول مسك املاكريل امللوث ،وأن يعلق أحدهم أثناء تسلق النافذة ،واالنسحاق
حتت كومة من ألواح اخلث ،واالختناق برباط كان يعلق فيه املرء سالل على كتفيه ،والسقوط من منحد ٍر أثناء صيد طيور الغاقة،
والسقوط على السكني أثناء ذبح خنزي ٍر .يف غياب اإلضاءة الصناعية ،كان كل من يغامر باخلروج بعد حلول الظالم يواجه خطر الغرق
يف اآلبار واألهنار واملصارف واخلنادق املائية والقنوات والبالوعات.
ولكن األخطار األخرى ما زالت موجودة ،فالسبب األكرب للوفاة العرضية الرضع من أن تأكلهم اخلنازيرَّ ، ال نقلق اليوم على أطفالنا ُ
ألن اختصاصيي الوبائيات بعد حوادث السيارات هو السقوط ،ويليه الغرق واحلرائق ويليهما التسمم .وحنن نعرف هذه املعلومات َّ
ومهندسي السالمة يرتبون حاالت الوفاة العرضية يف جداول مع االنتباه الشديد للتفاصيل ،ويصنِّفوهنا إىل فئات مث يصنِّفوهنا إىل فئات
فرعية لتحديد ما يقتل أكرب عدد من الناس وكيف ميكن تقليل املخاطر (حتتوي النسخة العاشرة من التصنيف الدويل لألمراض
نوعا من حوادث السقوط فقط ،و 39استثناءً هلا)، International Classification of Diseasesعلى رموٍز لـ ً 153
وعندما تُرتجم استشاراهتم إىل قوانني وقواعد للبناء وأنظمة التفتيش والفحص وأفضل املمارسات ،فإن العامل يصبح أكثر أمانًا .تراجعت
ألهنم أصبحوا يف محاية احلواجز والالفتات وواقياتاحتمالية وفاة األمريكيني بالسقوط منذ ثالثينيات القرن املاضي بنسبة 72يف املئةَّ ،
النوافذ احلديدية ومقابض السالمة وأحزمة األمان للعمال واألرضيات والسالمل األكثر أمانًا وعمليات التفتيش (معظم حاالت الوفاة
يوضح الشكل رقم 6-12اخنفاض معدل حوادث السقوط ومسارات خماطر الوفاة العرضية الكربى الباقية ألشخاص مسنني ضعفاء)ِّ .
األخرى منذ عام .1903
السقوط
الوفيات لكل 100ألف شخص سنو ًّيا
السم (صلب
أو سائل)
الحريق
الغرق
ا ل ش ك ل رق م : 6 - 1 2م ع د ل ا ل وف ي ا ت ا ل ن ا جت ة ع ن ح وا د ث ا ل س ق وط وا حل ري ق وا ل غ رق وا ل س م ،يف
ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة ،م ن ذ 1 9 0 3ح ىت 2 0 1 4
المصدر .National Safety Council 2016 :البيانات اخلاصة باحلريق والغرق والسم (صلب أو سائل) َّ
جممعة من جمموعيت بيانات على الفرتة
من 1903حىت 1998ومن 1999حىت ،2014وتشمل بيانات 2014-1999عن السم (صلب أو سائل) حاالت الوفاة بالسم بالغاز أو البخار.
متتد البيانات اخلاصة حبوادث السقوط فقط حىت عام 1992بسبب أدوات إعداد التقارير يف السنوات الالحقة.
متاما تقريبًا ،وتراجع عدد ضحايا كليهما بنسبة أكرب من 90 َّ
إن االحندارين اللذين يشريان إىل املوت بالنار واملوت باملاء متطابقان ً
يف املئة ،فعدد األمريكيني الذين يغرقون اليوم أقل بفضل سرتات النجاة وحراس اإلنقاذ واألسوار احمليطة باملسابح والتعليمات اخلاصة
بالسباحة وإنقاذ احلياة وزيادة الوعي بعُرضة األطفال للغرق يف املغاطس واملراحيض ،وحىت الدالء.
يقضي عدد أقل من الناس حنبهم بألسنة اللهب والدخان ،ففي القرن التاسع عشر نشأت فرق املطافئ احملرتفة إلطفاء احلرائق قبل
وتدمر مدنًا بأكملها .ويف منتصف القرن العشرين ،حتولت مهمة دوائر املطافئ من مكافحة احلرائق إىل منعها من األساس، أن حتتدم ِّ
كانت هذه احلملة مدفوعة باحلرائق املروعة مثل حريق امللهى الليلي Coconut Groveيف بوسطن عام ،1942والذي نتج عنه
وهم حيملون جثث األطفال شخصا ،والذي انتشرت األخبار عنه بسبب الصور املوجعة للقلب اليت يظهر فيها رجال اإلطفاء ُ ً وفاة 492
الصغار اليت أخرجوها من املنازل احملرتقة .اعتُربت احلريق حالة طوارئ أخالقية على املستوى الوطين يف تقارير اللجان الرئاسية اليت محلت
عناوين مثل أمريكا حترتق ( .)America Burningأدت احلملة إىل ظهور األغراض واسعة االنتشار اآلن مثل املرشات وكاشفات
الدخان واألبواب املقاومة للحرائق وسالمل النجاة والتدريبات لالستعداد للحرائق ومطافئ احلريق واملواد املانعة للهب ،والشخصيات
الكرتونية املستخدمة يف تعليم السالمة من احلرائق مثل مسوكي الدب ( )Smokey the Bearوسباركي كلب احلريق (Sparky
تشكل حاالت السكتة القلبية والطوارئ الطبيةفإن إدارات املطافئ تعطِّل نفسها عن العمل ،إذ ِّ
) the Fire Dogنتيجةً لذلك َّ
األخرى 96يف املئة من املكاملات اليت تأتيها ،فيما تشكل احلرائق الصغرية معظم النسبة الباقية من املكاملات (على عكس الصورة
احدا فقط كل عامني. الساحرةَّ ،
فإن رجال اإلطفاء ال تنقذ القطط الصغرية من األشجار) حيث يرى رجل اإلطفاء العادي مبىن حمرتقًا و ً
قلة من األمريكيني ميوتون بسبب التسمم العرضي بالغاز ،فمن التطورات اليت حدثت بدءًا من أربعينيات القرن املاضي االنتقال
من استخدام غاز الفحم السام إىل استخدام الغاز الطبيعي غري السام يف التدفئة والطهي يف املنازل ،إضافةً إىل حتسني تصميم املواقد
بشكل ناقص فينفث أول أكسيد الكربون يف املنزل .بدءًا من السبعينيات، ٍ واملدافئ اليت تعمل بالغاز وصيانتها حىت ال حترق وقودها
وظل
أصبحت السيارات جمهزة باحملوالت احلفازة املصممة مبا جيعلها تقلل تلوث اهلواء واليت منعتها من أن تصبح أفران غاز متحركةَّ .
ذكرون خالل القرن كله َّ
بأن تشغيل السيارات واملولدات واملشاوي بالفحم واملدافئ املشتعلة داخل املنازل أو أسفل النوافذ فكرة الناس يُ َّ
سيئة.
إن االرتفاع احلاد الذياضحا هلذا الغزو على احلوادث :وهو فئة «السم (صلب أو سائل)»َّ . يوضح الشكل رقم 6-12استثناءً و ً ِّ
بدأ يف التسعينيات حالة شاذة يف جمتم ٍع يزداد فيه كل يوم استخدام األقفال وأجراس اإلنذار والبطانات الواقية وحواجز الطرق وامللصقات
التحذيرية ،ويف البداية مل ِ
أستطع فهم تناول املزيد من األمريكيني على ما يبدو مسحوق قتل الصراصري أو الكلور املبيِّض ،مث أدركت أ َّن
أن أغنية ليونارد كوهني Leonard Cohen علي أن أتذكر َّ
أيضا اجلرعات املفرطة من املخدرات (كان َّ
فئة التسمم العرضي تشمل ً
وحيدا /ومن ميوت باملهدئات») .كانت 98يف املئة من حاالت املستوحاة من صالة عيد الغفران حتتوي على مجلة «ومن ميوت بز ٍلة ً
الوفاة نتيجة «التسمم» يف عام 2013بسبب املخدرات ( 92يف املئة) أو الكحول ( 6يف املئة) ،وكانت كل احلاالت األخرى تقريبًا
من الغازات واألخبرة (أول أكسيد الكربون يف أغلب احلاالت) ،يف حني كانت األخطار املنزلية واملهنية مثل املذيبات واملنظفات واملبيدات
احلشرية وسائل القداحات مسؤولة عن أقل من نصف يف املئة من حاالت الوفاة بالتسمم وكانت لتلمس أدىن نقطة يف الشكل رقم
معروضا أمامهم ويُسرع أهاليهم هبم
ً أن األطفال الصغار ما زالوا يفتِّشون عن األغراض أسفل احلوض ويتذوقون ما جيدونه .6-12رغم َّ
إىل مراكز السمومَّ ،إال أنَّه ال ميوت منهم سوى القليل.
مناقضا للتقدم الذي حققته البشرية يف احلد من األخطار البيئية،
ً مثاال
إذًا فاملنحىن الصاعد الوحيد يف الشكل رقم 6-12ليس ً
نوع خمتلف من األخطار وهو تعاطي املخدرات .بدأ املنحىن يف الصعود يف الستينيات اليت اشتهرت رغم أنَّه بكل تأكيد تراجع للخلف يف ٍ
هائال مع انتشار إدمان املواد األفيونية األخطر
تفاعا ً
جمددا مع انتشار وباء الكراك كوكايني يف الثمانينيات ،مث شهد ار ً
باملخدرات ،وارتفع ً
كثريا يف القرن احلادي والعشرين ،بدأ األطباء يف التسعينيات يكثرون من وصف مسكنات األمل األفيونية الرتكيبية مثل األوكسيكودون ً
أيضا .أصبحت اجلرعات َّ
واهليدروكودون والفنتانيل ،واليت ال تتسم بكوهنا مسببة لإلدمان فحسب ،بل بأهنا عقاقري تؤدي إىل اهلريوين ً
ٍ
شخص سنويًّا وجتعل «السم» أكرب فئة كبريا فهي تقتل أكثر من 40ألف ِّ
خطرا ًاملفرطة من األفيونات املشروعة وغري املشروعة تشكل ً
من فئات أسباب الوفاة العرضية متجاوزًة حىت احلوادث املرورية.
بوضوح عن حوادث السيارات وحوادث السقوط واحلرائق والغرق واالختناق ٍ إن اجلرعات املفرطة من املخدرات ظاهرة ُتتلفَّ
جيدا بالغاز ،فالناس ال يدمنون أول أكسيد الكربون وال يشتهون السالمل الطويلة للغاية ،لذا َّ
فإن التدابري الوقائية امليكانيكية اليت جنحت ً
يف احلما ية من األخطار البيئية لن تكون كافية للقضاء على وباء األفيونات .بدأ الساسة واملسؤولون يف قطاعات الصحة العامة يدركون
حجم املشكلة ،وبدأ تطبيق تدابري مضادة ،مثل :مراقبة الوصفات الطبية ،والتشجيع على استخدام مسكنات أكثر أمانًا ،وإدانة شركات
األدوية اليت تروج املخدرات باستهتار وعقاهبا ،وإتاحة النالوكسون -وهو الدواء املضاد للمواد األفيونية -أكثر ،وعالج املدمنني مبضادات
أن عدد حاالت تناول جرعات مفرطة من األفيونات ٍ
بدرجة ما َّ األفيونات والعالج السلوكي املعريف .من العالمات على فعالية هذه التدابري
املوصوفة طبيًّا (ولكن ليس من اهلريوين أو الفنتانيل غري املشروعني) قد وصل إىل الذروة يف عام 2010ورمبا بدأ يف االخنفاض.
ٍ
بدرجة كبرية بني فئة متعاطيي املخدرات من جيل «طفرة املواليد» أيضا َّ
أن اجلرعات املفرطة من األفيونات منتشرة من اجلدير بالذكر ً
عند بلوغه منتصف العمر .كانت أكثر حاالت الوفاة بالتسمم حتدث يف سن اخلمسني تقريبًا يف عام ،2011وكانت حتدث يف أوائل
األربعني يف ،2003ويف أواخر الثالثني يف عام ،1993ويف أوائل الثالثني يف عام ،1983ويف أوائل العشرين يف عام ،1973إذا
أن أفراد اجليل املولود بني عامي 1953و 1963هم من خيدِّرون أنفسهم حىت املوت يف كل ٍ
عقد .رغم أجريت عمليات الطرح ستجد َّ
حاال ،فوف ًقا لدراسة طولية كربى أجريت
حال جيد نسبيًّا ،أو على األقل أفضل ً فإن أطفال اليوم يف ٍ الذعر املتواصل بشأن املراهقنيَّ ،
على املراهقني بعنوان رصد املستقبل ( ،)Monitoring the Futureاخنفض استخدام طالب املرحلة الثانوية للكحول والسجائر
واملخدرات (عدا املارجيوانا والسجائر اإللكرتونية) إىل أقل مستويات له منذ بداية املسح يف عام .1976
عرب كثري من املنتقدين االجتماعيني عن حنينهم إىل حقبة املصانع مع التحول الذي حدث من اقتصاد التصنيع إىل اقتصاد اخلدماتَّ ،
أي منها من قبل .إىل جانب كل األخطار املميتة اليت ذكرناها ،تضيف أماكن واملناجم والطواحني ،وهذا على األرجح َّ
ألهنم مل يعملوا يف ٍّ
أخطارا أخرى ال حصر هلاَّ ،
ألن أيًّا ما كان ما تستطيع اآللة أن تفعله باملواد اخلام -النشر أو السحق أو اخلبز والتحميص ً العمل الصناعية
أيضا بالعمال الذين يديروهنا .أشار الرئيس بنجامني هاريسون أو الطالء أو الدمغ أو الدرس أو الذبح-فإن بإمكاهنا أن تفعله ً
أن «العمال األمريكيني عرضة ألخطار هائلة على حياهتم وأبداهنم كتلك اليت ( )Benjamin Harrisonيف عام 1892إىل َّ
يتعرض هلا اجلنود يف أوقات احلروب» .يعلِّق بيتمان على بعض الصور الشنيعة وعناوينها اليت مجعها من تلك احلقبة ً
قائال:
إن عامل املنجم كان «يذهب إىل العمل كما لو أنَّه يذهب إىل ق ٍرب مفتوح ،ال يعرف مىت قد يُغلق فيحبسه باألسفل»..
قيل َّ
كانت عواميد توليد الكهرباء املكشوفة تسبب العاهات للعامالت الاليت يرتدين التنانري املقببة وتقتلهن ..يتمتع هبلوان
السريك وطيار االختبار اليوم بتأمني أكرب على حياته مما كان يتمتع به عامل املكابح (يف السكك احلديدية) أمس ،والذي
كان عمله يستدعي قفزات حمفوفة باملخاطر بني قاطرات الشحن استجابةً لصافرة القاطرة ..ومن املعرضني للموت املفاجئ
دائما خلطر فقدان أياديهم أو أصابعهم يف أجهزة الربط والتثبيت البدائية..
أيضا عمال ربط القطارات الذين كانوا عرضة ً ً
دائما ٍ ٍ
سواء أكان العامل قد شوهه منشار كهربائي أو سحقته عارضةٌ أو ُدفن يف منجم أو سقط من أعلى عمود ،كان هذا ً
نتيجة «حظه السيئ».
يب ِّ
يشكل جزءًا من اإلميان املنتشر بالقضاء والقدر كان «احلظ السيئ» تفسريا مرحيا ألصحاب األعمال ،وكان حىت ٍ
وقت قر ٍ ً ً
فيما خيص احلوادث املميتة اليت كانت تُعزى غالبًا إىل النصيب أو إىل إرادة اهلل (أما اليوم فال يستخدم مهندسو السالمة والباحثون يف
ألهنا تلمح ضمنيًّا إىل إصبع القدر اخلفي ،فاملصطلح املهين املستخدم هو إصابة غريجمال الصحة العامة كلمة حادثة من األساس َّ
مقصودة) .كانت تدابري السالمة وسياسات التأمني األوىل يف القرنني الثامن عشر والتاسع عشر حتمي األمالك ال البشر ،وعندما بدأت
اإلصابات والوفيات يف الزيادة على حن ٍو ال ميكن جتاهله خالل الثورة الصناعية ،مت التقليل من أمهيتها باعتبارها «ضريبة التقدم» ،حسب
فسر أحد مشريف السكك احلديدية رفضه تسقيف رصيف التحميل َّ
بأن يف غري إنساين للتقدم ال يضع يف احلسبان رفاهة البشرَّ . تعر ٍ
«الرجال أرخص من األلواح اخلشبية ..فعندما يسقط أحدهم ،يوجد عشرة آخرون ينتظرون أن حيلوا حمله» .خلَّد رموز الثقافة مثل
تشاريل تشابلن ( )Charlie Chaplinالوضع غري االنساين لالنتاج الصناعي من خالل العمل يف أحد املصانع على خط التجميع
يف فيلم ) (Modern Timesولوسيل بال ( )Lucille Ballمن خالل العمل يف مصنع الشكوالتة يف مسلسل (I Love
).Lucy
بدأت أماكن العمل تتغري يف أواخر القرن التاسع عشر عندما أُنشئت أول نقابات عمالية واهتم الصحافيون بالقضية وبدأت
مستندا إىل أكثر من
ً اهليئات احلكومية جتمع البيانات اليت حتصي اخلسائر البشرية .كان تعليق بيتمان عن خطورة العمل يف القطارات
ٍ
شخص ،أي 1 مذهال وهو 852لكل 100ألف رقما ًجمرد صور ،ففي عقد 1890كان معدل الوفيات السنوي لعمال القطارات ً
يف املئة تقريبًا سنويًّا ،واخنفض هذا املعدل عندما فرض قانون صادر عام 1893استخدام املكابح اهلوائية وأدوات الربط اآليل يف كل
قطارات الشحن ،وكان هذا القانون هو أول قانون فيدرايل يهدف إىل تعزيز السالمة يف أماكن العمل.
انتشرت التدابري الوقائية إىل مه ٍن أخرى يف العقود األوىل من القرن العشرين ،وهي احلقبة التقدمية ،وكانت نتيجة حتريض اإلصالحيني
والنقابات العمالية والصحافيني والروائيني املهتمني بالفضائح مثل أوبنت سينكلري ( .)Upton Sinclairكان اإلصالح األكثر فعالية
تغيريا بسيطًا يف القانون الذي جاء من أوروبا :مسؤولية أصحاب العمل وتعويض العمال ،فكان العمال املصابون أو ورثتهم ساب ًقا ً
يضطرون إىل رفع الدعاوى القضائية للحصول على التعويضات ،وخيسروهنا عاد ًةَّ ،أما اآلن فيلزم على أصحاب العمل تعويضهم بنسبة
حمددة .أعجب هذا التغيري اإلدارة بقدر ما أعجب العمال ،مبا أنَّه َّ
مكنهم من التنبؤ بنفقاهتم وجعل العمال أكثر تعاونًا ،واألهم أنَّه ربط
لكل من الطرفني مصلحة يف جعل أماكن العمل أكثر أمانًا ،وكذلك لشركات التأمني واهليئات بني مصاحل اإلدارة والعمالة ،فكان ٍّ
احلكومية اليت تعهدت بالتعويض .أنشأت الشركات جلانًا للسالمة وإدارات للسالمة وعيَّنت مهندسني للسالمة وطبَّقت إجراءات عديدة
ٍ
فضيحة ما أحيانًا أخرى ،ويكون هذا غالبًا باإلكراه نتيجة للحماية بدواف َع اقتصادية أو إنسانية أحيانًا ،واستجابةً للوصم العام بعد
الدعاوى القضائية واللوائح احلكومية .والنتائج واضحة يف الشكل رقم .7-12
الوفيات لكل 100ألف عامل سنو ًّيا
كثريا من
ما زال عدد العمال الذين ميوتون أثناء تأدية عملهم كب ًريا جدًّا إذ بلغ 5000حالة وفاة يف عام ،2015ولكنَّه أفضل ً
20ألف حالة وفاة يف عام 1929عندما كان عدد السكان أقل من ُمخسي عددهم احلايل .يرجع إنقاذ هؤالء الناس جزئيًّا إىل حركة
أن إنقاذ حياة األشخاص مع كبريا منه هدية أهدانا إياها اكتشاف َّ
ولكن جزءًا ً
القوى العمالية من املزارع واملصانع إىل املتاجر واملكاتبَّ ،
إنتاج نفس العدد من األدوات هو مشكلة هندسية ميكن حلها.
من ميوت بالزلزال :هل ميكن جلهود البشر الفانني أن ُتفف مما يُطلق عليه احملامون «القضاء والقدر» مثل اجلفاف والفيضانات
واحلرائق املدمرة والعواصف والرباكني واالهنيارات الثلجية واالنزالقات األرضية واهلبوط األرضي واملوجات احلارة وموجات الطقس البارد
أيضا اليت تُعد كوارث ال ميكن التحكم فيها؟ اإلجابة املوضحة يف الشكل رقم 8-12هي (أجل). وسقوط النيازك ،والزالزل ً
الوفيات لكل 100ألف شخص سنو ًّيا
بعد عقد ،1910عندما مزقت العامل احلرب العاملية وجائحة اإلنفلونزا ولكنَّه خال نسبيًّا من الكوارث الطبيعية ،اخنفض معدل
أن العامل أصبح ينعم بعدد أقل من الزالزل والرباكني اخنفاضا سر ًيعا بعد بلوغه الذروة .ليس هذا نتيجة َّ
ً الوفيات الناجتة عن الكوارث
تقدما من الناحية التكنولوجية ،استطاع منع األخطار والنيازك مع كل ٍ
عقد جديد مبعجزةٍَّ ،
وإمنا ألن العامل كلما أصبح أغىن وأكثر ً
عدد أقل من األشخاص حتت أنقاض املباين املنهارة أو حيرتقون، الطبيعية من أن تتحول إىل كوارث بشرية .فعندما يصيبنا زلزال ،ينسحق ٌ
اجملمعة يف اخلزانات ،وعندما ترتفع درجات احلرارة أو تنخفض بشدة ،ميكثون يف وعندما تتوقف األمطار ،ميكن للناس استخدام املياه َّ
إن السدود واخلزانات أماك ٍن مغلقة مهيأة املناخ ،وعندما يفيض هنر على ضفتيه ،تكون مياههم حممية من النفايات البشرية والصناعيةَّ .
اليت حتجز املياه للشرب والري جتعل احتمالية حدوث الفيضان أقل من األساس عند تصميمها وبنائها على حن ٍو مالئم ،وأنظمة اإلنذار
املبكرة تتيح للناس إخالء املكان أو العثور على مأوى قبل أن تصل األعاصري إىل اليابسة .رغم َّ
أن علماء اجليولوجيا ال يستطيعون التنبؤ
بالزالزل بعدَّ ،إال َّأهنم يستطيعون غالبًا التنبؤ بثورات الرباكني ،وميكنهم إعداد األشخاص الذين يقيمون على طول منطقة احلزام الناري
ومناطق الصدع األخرى الُتاذ احتياطات إلنقاذ حياهتم .وبوسع العامل األغىن بالطبع أن ينقذ املصابني ويعاجلهم ويعيد بناء ما تدمر
سر ًيعا.
إن الدول األفقر هي األكثر عرضةً حاليًا لألخطار الطبيعية ،إذ تسبب زلزال يف هاييت يف وفاة أكثر من 200ألف شخص ،يف َّ
أيضا عشرة أضعاف حني تسبب الزلزال األقوى الذي ضرب تشيلي بعد ذلك ببضعة أسابيع يف وفاة 500شخص فقط ،وتفقد هاييت ً
ما تفقده مجهورية الدومينيكان -الدولة اليت تتشارك معها جزيرة هيسبانيوال -من السكان بفعل األعاصري .اخلرب السعيد َّ
أن الدول األفقر
أيضا (على األقل طاملا كانت التنمية االقتصادية تتجاوز سرعة التغري املناخي) .اخنفض معدل الوفياتعندما تزداد غىن ،تزداد أمانًا ً
ألف يف السبعينيات إىل 0.2اليوم ،وهو أقل من السنوي نتيجة الكوارث الطبيعية يف الدول منخفضة الدخل من 0.7لكل ٍ 100
املعدل يف الدول ذات الدخل فوق املتوسط يف السبعينيات ،وهو ما زال أعلى من املعدل يف الدول ذات الدخل املرتفع اليوم (،0.05
تقدما يف الدفاع عن أنفسها ضد هجمات إله أن ًّ
كال من الدول الغنية والفقرية ميكنها أن تصنع ً يوضح َّ
بعد أن كان )0.09ولكنَّه ِّ
منتقم.
ماذا عن النموذج األول إلرادة اإلله؟ القذيفة اليت أطلقها زيوس من جبل أوليمبوس ،املصطلح املعرب عن اللقاء املفاجئ مع املوت،
يوضح الشكل رقم 9-12تارخيها. الصاعقة -احلرفية -من السماءِّ .
الوفيات لكل مليون شخص سنو ًّيا
أن بعض قراء مسودة هذا الفصل تعجبوا خاصا (لدرجة َّتقديرا ً
إن انتصار البشرية على املخاطر اليومية ألحد صور التقدم اليت ال تلقى ً َّ
عدد من الناس أكرب من كل شيء آخر عدا أسوأ أن احلوادث تتسبب يف مقتل ٍ كتاب عن التقدم من األساس) .رغم َّ من وجوده يف ٍ
ٍ
بعدسة أخالقية ،فكما نقول :تقع احلوادث ال حمالة .لو تساءلنا عما إذا كانت مليون حالة وفاة احلروبَّ ،إال أنَّنا ً
نادرا ما ننظر إليها
ٍ
بسرعة ممتعة ،لرأت قلة قليلة للغاية أنه وعشرات املاليني من اإلصابات سنويًّا مثنًا يستحق أن ندفعه مقابل رفاهية قيادة سياراتنا اخلاصة
ألن هذا التساؤل مل يُطرح علينا قط هبذه الطريقة .يوضع أحد األخطار فإن هذا هو اخليار البشع الذي نتخذه ضمنيًّا َّ يستحق ،ومع ذلك َّ
ني آلخر ،وتُشن ضده محلة عنيفة ،وخاصةً إذا تصدرت إحدى الكوارث عناوين األخبار وكان هناك «شرير» يف إطا ٍر أخالقي من ح ٍ
مقصر) ،ولكن سرعان ما تنحسر احلملة ويُعزى األمر إىل ميكن توجيه أصابع االهتام له (صاحب مصنع جشع ،أو مسؤول حكومي ِّ
لعبة احلياة واملوت.
أعماال وحشية (على األقل عندما ال يكونوا ُهم ضحاياها) ،ال يعتربون املكاسب اليت حتققت يف كما ال يعترب الناس احلوادث ً
جمال السالمة انتصارات أخالقية ،هذا إذا كانوا على عل ٍم هبا من األساسَّ ،
ولكن إنقاذ حياة املاليني وتقليل العاهات والتشوهات واملعاناة
خضوعا لألطر األخالقية ،والذي تفسريا ،وينطبق هذا حىت على القتل ،الفعل األكثر على ٍ
نطاق هائل يستحقان امتناننا ويستلزمان
ً ً
ٍ
ألسباب ُتالف التصورات النموذجية. شديدا
اخنفاضا ً
ً اخنفض معدله
أيضا جمموعات خمتلفة من اجلهات الفاعلة
قاد الطريق حنو املزيد من السالمة بعض األبطال ،كصور التقدم األخرى ،ولكن دفعتها ً
املشرعني الذين يقومون بدوٍر أبوي ،إضافةً إىل جمموعات من املخرتعني
يف نفس االجتاه خطوة خبطوة ،وهي جمموعات النشطاء الشعبيني و ِّ
واملهندسني وخرباء السياسة وخرباء األرقام واإلحصاءات .رغم أنَّنا نستاء أحيانًا من اإلنذارات الكاذبة وتدخالت الدولة احلاضنةَّ ،إال
أنَّنا نتمتع بنِعم التكنولوجيا دون ٍ
هتديد حلياتنا وأبداننا. َ
ورغم َّ
أن قصة أحزمة األمان واإلنذارات بانتشار الدخان وحفظ األمن يف البؤر اإلجرامية ليست جزءًا اعتياديًّا من ملحمة التنوير،
مسجال يف كتاب احلياةَّ ،
وإمنا يتأثر مبعرفة البشر وقدرهتم على أمرا َّ َّ
ً إال أهنا تطبق أعمق موضوعات التنوير ،فمن حييا ومن ميوت ليس ً
الفعل مع زيادة إدراكهم للعامل وزيادة قيمة حياة اإلنسان.
الفصل الثالث عشر:
اإلرهاب
كتبت يف الفصل السابق أنَّنا نعيش يف أكثر العصور أمانًا يف التاريخ ،كنت واعيًا بالتشكك الذي ستثريه هذه الكلمات ،فقد عندما ُ
أغضبت اهلجمات اإلرهابية وعمليات القتل اليت حظيت بتغطية إعالمية واسعة يف السنوات األخرية العامل بأكمله وغذت الوهم بأنَّنا
نعيش يف عص ٍر خط ٍر على حن ٍو جديد وخمتلف .قال أغلبية األمريكيني يف َّ 2016
إن اإلرهاب هو أهم القضايا اليت تواجه البالد ،وقالوا
يشوش اخلوف هتديدا لوجود الواليات املتحدة أو بقائها .مل ِّ
وإن داعش متثِّل ًَّإهنم خيشون أن يقعوا ُهم أو أحد أفراد أسرهتم ضحيةً لهَّ ،
شوش كذلك تفكري املثقفني اجلماهرييني ،وخاصةً تفكري املواطنني العاديني الذين حياولون إهناء املكاملة مع مستطلع اآلراء فحسب ،بل َّ
(دائما) على حافة االهنيار .وصف الفيلسوف دائما ألي عالمات تدل على َّ
أن الثقافة الغربية ً املتشائمني فيما خيص الثقافة ،املتعطشني ً
بأهنا «أراضي الصراعات العنيفة» السياسي جون جراي ) ،(John Grayاجملاهر برهابه من التقدم ،اجملتمعات املعاصرة يف غرب أوروبا َّ
اليت يكون فيها «السالم واحلرب ضبابيني على حن ٍو ُمهلك».
مثاال علىخطر فريد ألنَّه جيمع بني ارتياع هائل وأذى ضئيل .لن أعترب اجتاهات اإلرهاب ًإن اإلرهاب ٌ ولكن هذا كله وهمَّ .َّ
التقدم ،مبا َّأهنا ال تُظهر الرتاجع طويل األمد الذي شهدناه يف اجتاهات األمراض واجلوع والفقر واحلرب وجرائم العنف واحلوادث ،ولك ِّين
أن اإلرهاب يصرف انتباهنا عن تقييمنا للتقدم احملرز ،ويشيد بذلك التقدم بطر ٍ
يقة ما. سأوضح َّ
ِّ
ويوضح اجلدول التايل سبب احتياجه إىل هذا
جتاهل جراي البيانات الفعلية اخلاصة بالعنف باعتبارها «تعاويذ» أو «شعوذة»ِّ ،
يوضح عدد ضحايا أنواع القتل األربع -اإلرهاب واحلروب وجرائم القتل
اجلهل العلمي املبين على األيديولوجيا كي يتابع بكائيته ،فهو ِّ
واحلوادث -وإمجايل حاالت الوفاة كلها يف آخر سنة متاح هبا بيانات لكل نوع ( 2015أو قبلها) .من املستحيل عمل رسم بياين َّ
ألن
األجزاء اخلاصة بأعداد الوفيات الناجتة عن اإلرهاب ستكون أصغر من بكسل واحد.
الجدول رقم :1-13عدد الوفيات الناتجة عن اإلرهاب ،والحروب ،وجرائم القتل ،والحوادث
العالم غرب أوروبا الواليات المتحدة
38,422 175 44 اإلرهاب
97,496 5 28 احلروب
437,000 3,962 15,696 جرائم القتل
1,250,000 19,219 35,398 حوادث السيارات والطرق
5,000,000 126,482 136,053 كل احلوادث
56,400,000 3,887,598 2,626,418 كل الوفيات
يشمل تعريف «غرب أوروبا» يف قاعدة بيانات اإلرهاب العاملية 24دولة وعدد سكان يقدر بـ 418,245,997يف عام 2014
(وقت اإلحصاء عام ،)2015وحذفت منهم أندورا وكورسيكا وجبل طارق ولوكسمبورج وجزيرة مان.
المصادر :اإلرهاب (( :)2015االحتاد الوطين لدراسة اإلرهاب واالستجابة لإلرهاب) National Consortium for the
.Study of Terrorism and Responses to Terrorism 2016الحروب ،الواليات المتحدة وغرب أوروبا
(اململكة املتحدة +حلف الناتو) ( .http://icasualties.org ،icasualties.org :)2015الحروب ،العالم (:)2015
(جمموعة بيانات حاالت الوفاة املرتبطة باملعارك ،برنامج أوبساال لبيانات الصراع) UCDP Battle-Related Deaths
.Dataset, Uppsala Conflict Data Program 2017جرائم القتل ،الواليات المتحدة (Federal :)2015
.Bureau of Investigation 2016aجرائم القتل ،غرب أوروبا والعالم ( 2012أو أحدث بيانات) :مكتب األمم
املتحدة املعين باملخدرات واجلرمية .(United Nations Office on Drugs and Crime) 2013تستثين البيانات
اخلاصة بالنرويج هجوم أوتويا اإلرهايب .حوادث السيارات والطرق ،وكل الحوادث ،وكل الوفيات ،الواليات المتحدة (:)2014
.table 10 ,2016Kochanek et al.حوادث السيارات والطرق ،غرب أوروبا (World Health :)2013
.Organization 2016cكل الحوادث ،غرب أوروبا ( 2014أو أحدث بيانات)World Health :
.Organization 2015aحوادث السيارات والطرق وكل الحوادث ،العالم (World Health :)2012
.Organization 2014كل الوفيات ،غرب أوروبا ( 2012أو أحدث بيانات)World Health Organization :
.2017aكل الوفيات ،العالم (.World Health Organization 2017c :)2015
لنبدأ بالواليات املتحدة ،األمر البارز يف اجلدول هو عدد الوفيات الضئيل يف 2015الناجتة عن اإلرهاب مقارنةً بتلك الناجتة عن
األخطار األخرى اليت ال تثري نفس مقدار األسى (كان تعداد الوفيات الناجتة عن اإلرهاب يف 2014أقل من ذلك 19 ،حالة وفاة)،
وحىت هذا العدد التقديري ( ) 44مبالغ فيه ،فهو مأخوذ من قاعدة بيانات اإلرهاب العاملية اليت تعترب جرائم الكراهية وأغلب عمليات
إطالق النار اجلماعية أمثلة على «اإلرهاب» .ميكن مقارنة هذا التعداد بعدد وفيات العناصر العسكرية يف أفغانستان والعراق ( 28يف
يتلق ُربع التغطية اإلعالمية اليت تلقاها عدد وفيات اإلرهاب اتساقًا مع اخنفاض قيمة
عام 2015و 58يف عام )2014والذي مل َّ
أن املواطن األمريكي كان يف 2015أكثر عرضةً ألن يتعرض جلرمية قتل من أن حياة اجلنود منذ قدمي األزل .تكشف الصفوف التالية َّ
ضعف ،وألن ميوت نتيجة أي حادث هجوم إرهايب مبقدار 350ضع ًفا ،وأكثر عرضة ألن يقتل يف حادث سيارة مبقدار ٍ 800 يقتل يف ٍ
ُ ُ
ٍ
شخصا يف أي عام «صواعق الربق» ،و«مالمسة ماء ٍ
مبقدار 3000ضعف (من ضمن فئات احلوادث اليت تقتل عادةً أكثر من 44
ً
الصنبور الساخن» و«مالمسة الزنابري والدبابري والنحل» و«التعرض للعض أو الضرب من الثدييات األخرى غري الكالب» و«الغرق
والغطس أثناء الوجود يف املغطس أو عند الوقوع فيه» و«اشتعال املالبس والثياب األخرى غري ثياب النوم أو ذوباهنا»).
فظيعا
عاما ًأن 2015كان ً كان خطر اإلرهاب النسيب يف غرب أوروبا أعلى منه يف الواليات املتحدة ،ويرجع هذا جزئيًّا إىل َّ
عام يف نيس (قُتل 5أشخاص فقط لإلرهاب يف تلك املنطقة ،إذ وقعت هجمات يف مطار بروكسل وعدة مالهٍ ليلية يف باريس و ٍ
احتفال ٍ
أيضا على مدى أمان أوروبا يف النواحي األخرى كلها ،فاألوروبيون الغربيون أقل ولكن خطر اإلرهاب األعلى نسبيًّا عالمة ً
يف َّ .)2014
أيضا
وهم أقل جنونًا يف قيادة السيارات ً ارتكابًا جلرائم القتل من األمريكيني (فمعدل جرائم القتل لديهم حوايل ربع املعدل يف أمريكا) ُ
ترجح كفة اإلرهاب ،كان املواطن يف دول غرب أوروبا يف عام عدد أقل من الناس على الطرق .وحىت مع هذه العوامل اليت ِّلذا ميوت ٌ
2015أكثر عرضة ألن ميوت يف إحدى جرائم القتل (النادرة نسبيًّا لديهم) من أن ميوت يف ٍ
هجوم إرهايب مبقدار 20ضع ًفا ،وأكثر ً
ضعف ،وأكثر عرضة ألن يتعرض للسحق أو التسمم أو احلرق أو االختناق أو حلادثٍ
عرضة ألن ميوت يف حادث سيارة مبقدار ٍ 100
قاتل آخر مبقدار ٍ 700
ضعف.
أن وضعنا جيد مقارنةً بأجز ٍاء أخرى
مؤخرا بسبب اإلرهاب يف الغرب ،إال َّ
يوضح العمود الثالث أنَّه رغم كل الكرب الذي شهدناه ً ِّ
أن الواليات املتحدة وغرب أوروبا يشمالن حوايل عُشر سكان العاملَّ ،إال َّأهنم عانوا يف 2015من نصف يف املئة من من العامل ،فرغم َّ
ألن أن اإلرهاب أحد األسباب الرئيسية للوفاة يف األماكن األخرىَّ ،
وإمنا َّ عدد الوفيات الناجتة عن العمليات اإلرهابية .ليس هذا بسبب َّ
ٍ
بدرجة كبرية ،واحلروب مل ُتعد تندلع يف الواليات املتحدة أو غرب أوروبا .منذ هجوم اإلرهاب -حسب تعريفه احلايل -ظاهرة حربية
11من سبتمرب عام ،2001أصبحت عمليات العنف اليت كان يُطلق عليها «عصيانًا» أو «حرب عصابات» تندرج اآلن حتت
أن قاعدة بيانات اإلرهاب العاملية ال تصنِّف أي وفيات حدثت يف فيتنام يف آخر مخس سنوات من تصنيف «اإلرهاب» (ومن املذهل َّ
بأهنا عمليات «إرهابية») .حتدث أغلبية حاالت الوفاة الناجتة عن العمليات اإلرهابية يف العامل يف مناطق احلروب األهليةاحلرب هناك َّ
(مبا يشمل 8831حالة يف العراق و 6208يف أفغانستان و 5288يف نيجرييا و 3916يف سوريا و 1606يف باكستان و 689يف
ألن «اإلرهاب» يف ظل احلروب األهلية يُعد ببساطة أيضا كحاالت وفاة ناجتة عن احلروب َّ وحيسب الكثري من هذه احلاالت ً ليبيا)ُ ،
جرمية حرب -هجوم متعمد على املدنيني -ترتكبها مجاعة أخرى غري احلكومة (باستثناء مناطق احلرب األهلية الستة املذكورة ،كان عدد
الوفيات الناجتة عن العمليات اإلرهابية يف 2015يبلغ 11884حالة) .حىت مع هذا احلساب املزدوج لوفيات اإلرهاب واحلروب
خالل أسوأ عام يف القرن احلادي والعشرين من حيث أعداد الوفيات الناجتة عن احلروب ،كان املواطن العاملي أكثر عرضة للموت جراء
هجوم إرهايب مبقدار 11ضع ًفا ،وأكثر عرضة للموت يف حادث سيارة مبقدار 30ضع ًفا ،وأكثر عرضة جرمية قتل من املوت جراء ٍ
ٍ
حادث آخر مبقدار 125ضع ًفا. للموت يف أي
ألن «اإلرهاب» تصنيف مطاط ،فيختلف إن االجتاهات التارخيية حمريةَّ ،
هل زاد اإلرهاب مهما كان عدد قتاله مبرور الوقت؟ َّ
شكل اخلطوط املعربة عن االجتاهات بناءً على ما إذا كانت جمموعة البيانات تشمل جرائم حرب أهلية أو عدة جرائم قتل (واليت تشمل
السرقات أو جرائم القتل اليت تقوم هبا العصابات ،واليت يتعرض فيها العديد من الضحايا إلطالق النريان) أو حاالت اهلياج االنتحاري
ٍ
سياسية ما قبل ارتكاب اجلرمية (تشمل قاعدة بيانات اإلرهاب العاملية على سبيل املثال مذحبة مدرسة اليت حتدث فيها القاتل عن مظلمة
إن عمليات القتل اجلماعي كولومباين اليت وقعت عام 1999يف حني ال تشمل مذحبة مدرسة ساندي هوك اليت وقعت عام َّ .)2012
صعودا
ً تأرجح
ٍ مشاهد حيفزها اإلعالم ،إذ توحي التغطية اإلعالمية هلذه العمليات لآلخرين بتقليدها ،وهكذا تظل هذه العمليات يف
قليال .تذبذب عدد «حوادث إطالق النار» (عمليات القتل باألسلحة وهبوطًا بينما تُلهم كل ٍ
عملية عمليةً أخرى حىت ُتفت «التقليعة» ً
أن عدد «عمليات القتل اجلماعي» (أربع أو مخس صعودا ،رغم َّ
ً يف األماكن العامة) يف الواليات املتحدة منذ عام 2000مع اجتاهها
اخنفاضا طفي ًفا) منذ 1976حىت .2011جند يف الشكل حادث واحد) مل يطرأ عليه أي تغيري منهجي (بل اخنفضٍ حاالت وفاة يف
ً
رقم 1-13معدل الوفيات الناجتة عن «احلوادث اإلرهابية» للفرد ،إضافةً إىل االجتاهات املضطربة يف غرب أوروبا والعامل.
الواليات المتحدة
الوفيات لكل 100ألف شخص
العالم
غرب أوروبا (باستثناء مناطق الحرب
األهلية الرئيسية)
يطغي على الرسم البياين معدل الوفيات الناتج عن اإلرهاب يف أمريكا لعام 2001الذي يشمل 3000حالة وفاة بسبب
مكان آخر يشري إىل التفجري الذي وقع يف مدينة أوكالهوما عام 165( 1995حالة وفاة) هجمات 11من سبتمرب ،ونرى نتوءا يف ٍ
ً
وبعض التجاعيد غري امللحوظة تقريبًا يف أعوام أخرى .باستثناء حادثيت احلادي عشر من سبتمرب وأوكالهوماَّ ،
فإن عدد األمريكيني الذين
املتطرفني من اليمني السياسي األمريكي ضعف عدد من قُتلوا على يد اجلماعات اإلرهابية اإلسالمية منذ عام .1990 قُتلوا على يد ِّ
عقد من السكون النسيب ،وهو ليس أسوأ ما شهده أن االرتفاع يف عام 2015حدث بعد ٍ يوضح اخلط الذي يشري إىل غرب أوروبا َّ ِّ
غرب أوروبا ،فمعدل عمليات القتل كان أعلى يف السبعينيات والثمانينيات عندما كانت اجلماعات املاركسية واالنفصالية (مبا فيها اجليش
اجلمهوري األيرلندي وحركة إيتا ETAالباسكية) تنفذ عمليات تفجري وإطالق نار بانتظام .حيتوي اخلط الذي يشري إىل العامل بأكمله
(باستثناء الوفيات األخرية يف مناطق احلرب الكربى اليت ذكرناها يف الفصل اخلاص باحلروب) على فرتة استقرار تشمل بعض النتوءات
تفاع حديث إىل مستوى ما زال أقل من مستويات العقود السابقة. خالل الثمانينيات والتسعينيات ،و ٍ
اخنفاض بعد هناية احلرب الباردة ،وار ٍ
تكذب اخلوف من أننا نعيش يف عص ٍر خط ٍر على حن ٍو جديد وخمتلف ،وخاصةً يف أيضاِّ ،
إذًا فاالجتاهات التارخيية ،مثل األرقام احلالية ً
الغرب.
إن اإلرهابألن هذا هو هدفهَّ . ضئيال مقارنةً باألخطار األخرىَّ ،إال أنَّه خيلق ً
هلعا وهسترييا مبالغًا فيهما َّ خطرا ً ِّ رغم َّ
أن اإلرهاب يشكل ً
احلديث نتاج االنتشار الواسع لإلعالم .يسعى فرد أو جمموعةٌ ما جلذب ٍ
جزء من انتباه العامل بالوسيلة املضمونة جلذبه ،وهي قتل األبرياء، ٌ
وخاصةً يف الظروف اليت جتعل قراء األخبار يتخيلون أنفسهم مكان الضحايا ،وتبتلع وسائل اإلعالم الطُعم وتقدم تغطية واسعة حلمامات
خبوف غري مرتبط مبستوى اخلطر الفعلي. الدماء ،ويعمل قانون التوفر فيصيب الناس ٍ
شدَّدت الدولة مرات عدة على َّأهنا لن تتسامح مع العنف السياسي داخل حدودها فلم يصبح لديها بديل عن أن ترى َّ
أن
متاما ،فأصبح املشهد اإلرهايب
أي فعل إرهايب ال ميكن التسامح معهَّ ،أما املواطنون فقد اعتادوا على غياب العنف السياسي ً
كأن النظام االجتماعي يوشك على االهنيار .بعد ٍ
قرون من يثري بداخلهم خماوف عميقة من الفوضوية ،ممَّا جيعلهم يشعرون َّ
موجودا ،ينتظر بأن هذا الثقب األسود ما زال ٍ
بصعوبة من ثقب العنف األسود ،ولكنَّنا نشعر َّ الصراعات الدموية ،خرجنا
ً
بص ٍرب أن يبتلعنا ثانيةً ،فبمجرد حدوث بعض الفظائع الشنيعة نتخيل السقوط يف هذا الثقب مرة أخرى.
بينما حتاول الدول القيام باملهمة املستحيلة وهي محاية مواطنيها من كل أشكال العنف السياسي يف كل مكان طوال الوقت،
تدمريا هو مبالغة الدول يف ردها عليه ،ومن األمثلة على ٍ
أيضا ،فأكثر آثار اإلرهاب ً
يغريها الرد على هذا العنف مبشهد مسرحي مؤثر ً
ذلك غزو أفغانستان والعراق بقيادةٍ أمريكية بعد احلادي عشر من سبتمرب.
بدال من ذلك بتسخري مزاياها الكربى ،وهي املعرفة والتحليل ،وال سيما املعرفة باألرقام ،جيب
تستطيع الدول التعامل مع اإلرهاب ً
أن يكون اهلدف األمسى هو التأكد من أن تظل األرقام ضئيلة عرب تأمني أسلحة الدمار الشامل (الفصل التاسع عشر) .ميكن مكافحة
تربر العنف ضد األبرياء مثل األديان والقوميات واملاركسية املسلحة بأنظمة قيم وعقائد أفضل (الفصل الثالث األيديولوجيات اليت ِّ
والعشرون) .ميكن أن يفحص اإلعالم دوره اجلوهري يف جمال عروض اإلرهاب «الرتفيهية» عرب مواءمة تغطيتها مع اخلطر املوضوعي
وتأمل احلوافز الفاسدة اليت قدَّمها لإلرهابيني (أوصى كلٌّ من النكفورد وعامل االجتماع إريك مادفيس Erik Madfisباتباع سياسة
«ال تذكروا أمساءهم ،ال تعرضوا صورهم ،ولكن اذكروا كل األمور األخرى» فيما خيص حوادث إطالق النار ،وهي قائمة على سياسة
متَّبعة بالفعل مع مرتكيب جرائم إطالق النار من األحداث يف كندا ،وعلى اسرتاتيجيات أخرى من ضبط النفس اإلعالمي احملسوب).
تطور احلكومات من إجراءاهتا االستخباراتية والسرية ضد الشبكات اإلرهابية وروافدها املالية ،وميكن تشجيع األفراد على احلفاظ
ميكن أن ِّ
كثريا.
على هدوئهم ومواصلة طريقهم ،مثلما حثَّهم على ذلك امللصق الربيطاين الشهري يف وقت احلرب الذي كان اخلطر فيه أعظم ً
تفشل احلركات اإلرهابية على املدى البعيد عندما يعجز العنف حمدود النطاق عن حتقيق أهدافها االسرتاتيجية ،حىت لو تسبَّب
خوف وأسى على املستوى احمللي ،فحدث هذا للحركات الفوضوية يف مطلع القرن العشرين (بعد عدة تفجريات واغتياالت)، ذلك يف ٍ
وحدث للجماعات املاركسية واالنفصالية يف النصف الثاين من القرن العشرين ،وسيحدث بالتأكيد لداعش يف القرن احلادي والعشرين.
أن الرعب بشأنرمبا لن نستطيع مطل ًقا خفض أعداد ضحايا اإلرهاب املنخفضة بالفعل لتصل إىل الصفر ،ولكن ميكننا أن نتذكر َّ
اإلرهاب ليس عالمةً على مدى خطورة جمتمعناَّ ،
وإمنا على مدى أمنه.
الفصل الرابع عشر:
الديمقراطية
منذ نشأة احلكومات قبل حوايل مخسة آالف عام ،حتاول البشرية حتقيق االعتدال بني عنف الفوضوية من جانب ،وعنف االستبداد من
ٍ
حكومة قوية أو جريان أقوياء ،متيل القبائل إىل االخنراط يف دورات متعاقبة من الغزو والتناحر ،وتتجاوز معدالت جانب آخر ،ففي غياب
الوفاة حينها معدالت الوفاة يف اجملتمعات احلديثة حىت يف أعنف احلَِقب اليت مرت عليها .كانت احلكومات األوىل هتدِّئ شعوهبا وحتد
عهود من اإلرهاب تضمنت العبودية و«احلرمي» واألضاحي البشرية وحاالت اإلعدام من العنف الطاحن ولكنَّها حكمت يف ظل ٍ
بإجراءات موجزة وتعذيب املتمردين واملنحرفني وتشويههم وقطع أعضائهم (وال خيلو الكتاب املقدس من األمثلة على ذلك) .استمر
ألن البديل كان أسوأ يف أغلبألن وظيفة الطاغية جيدة إذا استطعت احلصول عليها ،ولكن َّ الطغيان على مر التاريخ ،ليس فقط َّ
إن مهمته إحصاء املوتى -عدد الوفيات احلاالت من وجهة نظر الشعب .قدَّر ماثيو وايت (- )Matthew Whiteالذي يقول َّ
عام ،وبعد البحث عن ٍ
أمناط متشاهبة يف قائمته ،ذكر َّ
أن ما يلي هو األكثر حدث دمويةً يف تاريخ البشر منذ ٍ 2500 يف أكثر ٍ 100
دموية:
الفوضى أكثر فت ًكا من االستبداد ،تنتج أكثر هذه احلاالت املتعددة من القتل عن اهنيار السلطة وليس عن ممارسة السلطة.
مقارنةً حبفنة من احلكام الديكتاتوريني مثل عيدي أمني وصدام حسني الذين مارسوا سلطتهم املطلقة لقتل مئات اآلالف
وجدت فرتات اضطراب أكثر فت ًكا مل ميارس أح ٌد خالهلا أي سلطة كافية ملنع وفاة املاليني مثل عهد االضطرابات
ُ من الناس،
(يف روسيا يف القرن السابع عشر) واحلرب األهلية الصينية (منذ 1926إىل ،1937ومنذ 1945إىل )1949والثورة
املكسيكية (منذ 1910إىل .)1920
ميكننا أن ننظر إىل الدميقراطية باعتبارها إحدى أشكال احلكومة اليت تتوسط بني القوى املتنازعة وتبذل ما يكفي من القوة ملنع
بعضا دون أن تفرتس هي نفسها الناس .تتيح احلكومة الدميقراطية اجليدة لشعبها إمكانية أن يعيش حياته ٍ
بأمان الناس من افرتاس بعضهم ً
ولكن
كبريا يف ازدهار البشريةَّ ، ويف محا ٍية من عنف الفوضوية ،وحبر ٍية ويف محاية من عنف االستبداد .وهلذا السبب تُعد الدميقراطية ً
عامال ً
هذا ليس السبب الوحيد ،فالدميقراطيات حتقق أعلى معدالت النمو االقتصادي ،وُتوض حروبًا أقل وحتدث هبا عمليات إبادة مجاعية
أقل ،وتتمتع مبواطنني ذوي ٍ
صحة وتعلي ٍم أفضل ،وال حتدث هبا جماعات فعليًّا .فإذا أصبح العامل أكثر دميقراطية مبرور الوقت ،فإن هذا
تقدما.
يُعد ً
قسم الباحث يف العلوم السياسية يف احلقيقة ،أصبح العامل بالفعل أكثر دميقراطية ،رغم َّ
أن هذا مل حيدث بطريقة تصاعدية ثابتةَّ .
التحول إىل الدميقراطية إىل ثالث موجات .جاءت املوجة األوىل يف القرن
صامويل هانتينجتون ( )Samuel Huntingtonتاريخ ُّ
التاسع عشر عندما بدا َّ
أن تلك التجربة التنويرية العظيمة (أي الدميقراطية الدستورية األمريكية ورقابتها على سلطة احلكومة) ناجحة،
عدد من الدول ،أغلبها يف غرب أوروبا ،تلك التجربة مع إضفاء بعض التغيريات حسب املكان ،وبلغت هذه املوجة ذروهتا بـ 29 حاكى ٌ
دولة يف عام ،1922تراجعت املوجة األوىل نتيجة صعود الفاشية ،واحنسر عدد هذه الدول إىل 12دولة فقط يف عام .1942بعد
هزمية الفاشية يف احلرب العاملية الثانية ،استجمعت املوجة الثانية قواها حبصول املستعمرات على استقالهلا عن املستعمرين األوروبيني ،مما
دفع عدد الدول الدميقراطية املعرتف هبا ليصل يف عام 1962إىل 36دولة .ولكن الدميوقراطيات األوروبية كانت حماطة بالديكتاتوريات
السوفييتية من الشرق والديكتاتوريات الفاشية يف الربتغال وإسبانيا من اجلنوب الغريب ،وسرعان ما تراجعت املوجة الثانية نتيجة اجملالس
العسكرية يف اليونان وأمريكا الالتينية والنظم السلطوية يف آسيا واستيالء الشيوعية على إفريقيا والشرق األوسط وجنوب شرق آسيا .يف
مستشارا حلكومة أملانيا
ً عرب فيلي براندت ) ،(Willy Brandtالذي كان منتصف السبعينيات ،كان مستقبل الدميقراطية يبدو قامتًاَّ ،
عاما من الدميقراطية ،وبعد ذلك ستنزلق دون حمرك ودون توجيه الغربية عن حسرته على أنَّه «مل ُيعد أمام غرب أوروبا سوى 20أو ً 30
يف حبر الديكتاتورية احمليط هبا» .اتفق معه السيناتور األمريكي وعامل االجتماع دانييل باتريك موينيهان ( Daniel Patrick
أن« :الدميقراطية الليربالية على الطراز األمريكي تتجه يف اطر ٍاد إىل وضع امللكية يف القرن التاسع عشر :احلكومة
)Moynihanوكتب َّ
اليت تتجاوز مدهتا املقررة ،واليت تعمل يف أماكن معزولة أو خاصة هنا أو هناك ،وقد تصلح للظروف اخلاصة ولكن ال صلة هلا باملستقبل
ببساطة .هذا ماضي العامل وليس مستقبله».
قبل أن جيف احلرب الذي ُكتبت به هذه املرثيات ،انبثقت موجة -أو باألحرى تسونامي -التحول الدميقراطي الثالثة ،حيث سقطت
احلكومات العسكرية والفاشية يف جنوب أوروبا (اليونان والربتغال يف عام 1974وإسبانيا عام )1975وأمريكا الالتينية (مبا فيها
األرجنتني يف عام 1983والربازيل عام 1985وتشيلي عام )1990وآسيا (مبا يشمل تايوان والفلبني حوايل العام 1986وكوريا
اجلنوبية حوايل العام 1987وإندونيسيا يف عام .)1998وبعد هدم جدار برلني يف عام 1989حتررت شعوب شرق أوروبا لتؤسس
حكوماهتا الدميقراطية ،واهنارت الشيوعية يف االحتاد السوفيييت يف عام 1991مما أفسح اجملال أمام روسيا ومعظم اجلمهوريات األخرى
كي تقوم هبذا التحولُ .تلصت بعض الدول اإلفريقية من زعمائها ،واختارت آخر املستعمرات األوروبية اليت حصلت على استقالهلا
واليت تقع غالبًا عند البحر الكارييب ومنطقة أوقيانوسيا أن تكون الدميقراطية هي أول شكل حكومة تنشأ هبا .نشر الباحث يف علم
السياسة فرانسيس فوكوياما ( )Francis Fukuyamaيف عام 1989مقالةً شهرية اقرتح فيها َّ
أن الدميقراطية الليربالية متثِّل «هناية
إلمجاع على أفضل شكل إنساين ممكن من احلكم ومل ٍ أبدا ،ولكن َّ
ألن العامل بدأ يتوصل التاريخ» ،ليس َّ
ألن شيئًا لن حيدث بعد ذلك ً
مضطرا إىل القتال على احلكم.
ً ُيعد
كثري من الكتب واملقاالت «هناية »..الطبيعة،
صاغ فوكويوما فكرة سريعة االنتشار ،ففي العقود اليت تلت نشر مقالته ،أعلن ٌ
والعلم ،واإلميان ،والفقر ،واملنطق ،واملال ،والرجال ،واحملامني ،واملرض ،والسوق احلرة ،واجلنس .ولكن فكرة فوكوياما تلقت ،على اجلانب
حبماس على األخبار السيئة بإعالن «عودة التاريخ» وصعود بدائل الدميقراطية مثلٍ اآلخر ،بعض الضربات عندما أصبح احملررون يعلِّقون
أن الدميقراطيات نفسها تسقط ثانيةً يف هوة السلطوية بانتصار الثيوقراطية يف العامل اإلسالمي والرأمسالية السلطوية يف الصني ،وبدا َّ
الشعبويني يف بولندا واجملر واستيالء رجب طيب أردوغان على السلطة يف تركيا وفالدميري بوتني على السلطة يف روسيا (عودة السلطان
أن املوجة الثالثة من التحول الدميقراطي استسلمت أمام «التيار الرجعي» أو والقيصر) .أعلن املتشائمون التارخييون بشماتتهم املعتادة َّ
«االنتكاس» أو «التآكل» أو «الرتاجع» أو «االهنيار» ،وقالوا َّ
إن الدميقراطية غرور من الغربيني الذين يسقطون ميوهلم على بقية العامل،
أن السلطوية تناسب أغلب البشر. يف حني يبدو َّ
أن الناس سعداء بأ ْن تعاملهم حكوماهتم بوحشية؟ هذه الفكرة مريبة لسببني ،السبب األوضح هل يعين هذا التاريخ احلديث حقًّا َّ
أحد جيرؤ على التعبري
ولكن ال َ ٍ
هو كيف ميكنك أن تعرف ذلك يف دولة غري دميقراطية؟ فرمبا تكون املطالبة املكبوتة بالدميقراطية هائلة ْ
عنها خشية أن يتعرض للسجن أو إلطالق النار .والسبب اآلخر هو مغالطة عناوين األخبار ،إذ تتصدر أعمال القمع عناوين األخبار
أكثر من عمليات التحرير ،وقد جيعلنا احنياز التوفر ننسى كل الدول اململة اليت تتحول خطوة خبطوة إىل دول دميقراطية.
دائما القياس الكمي ،يثري هذا التساؤل حول ما يُعد «دميقراطية» ،وهي كلمة رمست حول الطريقة الوحيدة ملعرفة اجتاه العامل هي ً
أن أي دولة يشمل امسها الرمسي كلمة «الدميقراطية» نفسها هالةً من الصالح حىت أصبحت تقريبًا عقيمة ،من القواعد العامة اجليدة َّ
مثل مجهورية كوريا الدميقراطية الشعبية (اليت تُعرف باسم كوريا الشمالية) أو مجهورية أملانيا الدميقراطية (اليت ُعرفت باسم أملانيا الشرقية)
ال تكون دميقراطية .ليس من املفيد سؤال مواطين الدول غري الدميقراطية عن آرائهم يف معىن الكلمة ،فنصفهم تقريبًا يظنون َّأهنا تعين «أن
يؤول الزعماء الدينيون القوانني» ،وتواجه تقييمات اخلرباء مشكلة مرتبطة يتوىل اجليش احلكم عندما تكون احلكومة غري مؤهلة» أو «أن ِّ
هبذا األمر عندما تشمل القوائم املرجعية اليت يعرضوهنا مزجيًا من األمور اجليدة مثل «التخلص من انعدام املساواة يف اجلانب االجتماعي
كثريا باستمرار من حيث عناصر الدميقراطية مثل حرية أن الدول ُتتلف ً االقتصادي» و«التخلص من احلروب» .من التعقيدات األخرى َّ
يقسم الدول إىل «دميقراطية» و«أوتوقراطية» عد ِّ فإن أي ٍّ التعبري وانفتاح العملية السياسية والقيود املفروضة على سلطة القائد ،لذا َّ
عام وآخر حسب االختيارات االعتباطية ملكان الدول اليت تقرتب من احلد الفاصل بينهما (وهي املشكلة اليت تفاقمت سيتقلَّب بني ٍ
عندما ارتفعت معايري املقيِّمني مبرور الوقت ،وسنعود إىل هذه الظاهرة الح ًقا) .يتعامل مشروع نظام احلكم ( )Polity Projectمع
هذه العقبات باستخدام جمموعة ثابتة من املعايري لتقييم كل دولة بنتيجة ترتاوح بني 10-و 10كل عام ،ويشري هذا التقييم إىل مدى
أوتوقراطية الدولة أو دميقراطيتها ،ويرِّكز على قدرة املواطنني على التعبري عن تفضيالهتم السياسية ،والقيود املفروضة على سلطة املسؤولني
مرورا مبوجات التحول الدميقراطي التنفيذيني ،وضمان احلريات املدنية .يتضح يف الشكل رقم 1-14جمموع نتائج العامل منذ عام ً 1800
الثالثة.
نتيجة الديمقراطية في مقابل األوتوقراطية
إذا كان للمواطنني احلق يف الشكوى وتقدمي العرائض والتنظيم واالحتجاج والتظاهر واإلضراب والتهديد باهلجرة أو االنفصال
والصياح والنشر وتصدير أمواهلم والتعبري عن غياب الثقة والتملق يف األروقة اخللفية ،متيل احلكومة إىل االستجابة ألصوات
اهلاتفني وإحلاح املتملِّقني ،أي َّأهنا ستصبح بالضرورة متجاوبة -ستنتبه أكثر -سواء انعقدت انتخابات أم ال.
تستطع املرأة التصويت على منح نفسها حق التصويت ،ولكنَّها استطاعت احلصول عليه مثال على ذلك ،إذ مل ِ وحق املرأة يف التصويت ٌ
بوسائل أخرى.
يؤدي التباين بني واقع الدميقراطية الفوضوي والصورة املثالية اليت يدرسها الطالب يف حصة الرتبية الوطنية إىل التحرر الدائم من
عقدا لتأليف ٍ
كتاب األوهام .نصح جون كينيث جالربيث ( )John Kenneth Galbraithمن قبل َّ
بأن املرء إذا أراد أن يوقِّع ً
مربح ،فليقرتح عنوان أزمة الدميقراطية األمريكية .The Crisis of American Democracyيستنتج مولر من مراجعة
أن «انعدام املساواة واخلالفات والال مباالة تبدو عادية ،ليست غريبة يف ظل الدميقراطية ،ويكمن مجال هذا الشكل من أشكال التاريخ َّ
حد كبري يف جناحه رغم هذه الصفات ،أو باألحرى بسببها من بعض اجلوانب». احلكومة إىل ٍّ
معقدا أو متطلبًا من احلكم ،فشرطها املسبق األساسي هو أن تكون احلكومة
شكال ً ويف هذا املفهوم التقليلي ،ال تكون الدميقراطية ً
مؤهلة حلماية الشعب من العنف الفوضوي كي ال يسقطون فريسةً ألول زعيم يعد بأنه يستطيع أداء هذه املهمة ،أو حىت يرحبون به
(الفوضى أكثر فت ًكا من االستبداد) .وهذا أحد أسباب صعوبة أن جتد الدميقراطية لنفسها موطئ قدم يف الدول شديدة الفقر ذات
احلكومات الضعيفة كما يف منطقة إفريقيا جنوب الصحراء ،ويف الدول اليت أطيح حبكوماهتا مثل أفغانستان والعراق بعد الغزو بقيادة
أمريكا ،فمثلما قال عاملا السياسة ستيفن ليفيتسكي ( )Steven Levitskyولوكان واي (َّ )Lucan Way
فإن« :فشل الدولة
يؤدي إىل العنف وعدم االستقرار ،وال يؤدي مطل ًقا تقريبًا إىل التحول الدميقراطي».
أيضا ،فكي ترتسخ الدميقراطية ،ال بد أن يرى أشخاص مؤثرون (وخاصةً من لديهم قوة السالح) َّأهنا أفضل من األفكار مهمة ً
البدائل األخرى مثل الثيوقراطية واحلق اإلهلي للملوك واألبوية االستعمارية وديكتاتورية الربوليتاريا (أو يف الواقع «طليعتها الثورية») أو
وجيسد رغبة الشعب .يساعد هذا يف تفسري األمناط األخرى يف سجالت التحول الدميقراطي احلكم السلطوي لزعيم يتمتع بالكاريزما ِّ
مثل سبب صعوبة ترسخ الدميقراطية يف الدول ذات احلظ األقل من التعليم ،ويف الدول البعيدة عن النفوذ الغريب (مثل وسط آسيا) ،ويف
الدول اليت انبثقت أنظمتها من رحم ثورات أيديولوجية عنيفة (مثل الصني وكوبا وإيران وكوريا الشمالية وفيتنام) .ويف املقابل ،عندما يدرك
أن الدول الدميقراطية أماكن لطيفة للعيش فيها قد تصبح فكرة الدميقراطية معدية وقد يزداد العدد مبرور الوقت. الناس َّ
أن احلكومة لن تعاقب املشتكي أو ُُت ِرسه ،فاخلط األمامي يف معركة التحول الدميقراطي إذًا هو إعاقة ترتكز حرية الشكوى على ضمان َّ
احلكومة عن إساءة استغالل احتكارها القوة يف معاملة مواطنيها املتبجحني بوحشية؟
رمست سلسلةٌ من االتفاقيات الدولية ابتداءً باإلعالن العاملي حلقوق اإلنسان الصادر عام 1948خطوطًا محراء لتكتيكات
احلكومة الدموية وباألخص التعذيب والقتل دون حماكمة وسجن املتمردين واملصطلح القبيح الذي ظهر خالل حكم النظام العسكري
يف األرجنتني منذ عام 1974و 1984وهو االختفاء القسري .ليست هذه اخلطوط احلمراء مثل الدميقراطية االنتخابية ،مبا َّ
أن أغلبية
متسهم .تظهر الدول الدميقراطية عمليًّا بالفعل احرت ًاما أكرب حلقوق اإلنسان،
الناخبني قد يكونون غري مبالني بوحشية احلكومة طاملا مل َّ
اخلرية مثل سنغافورة ،وبعض الدول الدميقراطية القمعية مثل باكستان .يقودنا هذا إىل
أيضا بعض الدول األوتوقراطية ِّ
ولكن العامل يشمل ً
تساؤل مهم عما إذا كانت موجات التحول الدميقراطي حقًّا إحدى أشكال التقدم .هل أدى صعود الدميقراطية إىل ازدهار حقوق
اإلنسان؟ أم َّ
أن احلكام الديكتاتوريني يستغلون االنتخابات ومظاهر الدميقراطية األخرى للتسرت على انتهاكاهتم بابتسامة؟
راقبت وزارة اخلارجية األمريكية ومنظمة العفو الدولية ومنظمات أخرى انتهاكات حقوق اإلنسان على مدار العقود املاضية .إذا
متاما ،رغم انتشار الدميقراطية نظر املرء يف األرقام اليت توصلوا إليها منذ السبعينيات ،فستبدو احلكومات و َّ
كأهنا ما زالت قمعية كما كانت ً
وقواعد حقوق اإلنسان واحملاكم اجلنائية الدولية واملنظمات الرقابية الدفاعية .أدى ذلك إىل صدور تصرحيات (حتذيرية من طرف النشطاء
احلقوقيني وشامتة من طرف املتشائمني) بأنَّنا قد وصلنا إىل «آخر زمان حقوق اإلنسان» و«غروب قوانني حقوق اإلنسان» و«عامل ما
بعد حقوق اإلنسان».
انتباها ألشكال من األذى مل
ولكن للتقدم طريقة خيفي هبا آثاره ،فمع ارتقاء معايرينا األخالقية مبرور السنوات ،أصبحنا أكثر ًَّ
دائما بوجود «أزمة» كيبأن عليها أن تصرخ ً نكن لنالحظها يف املاضي ،وإضافةً إىل ذلك ،تشعر املنظمات اليت تقوم بدور النشطاء َّ
أن تلك العقود من النشاط احلقوقي أن هذه االسرتاتيجية قد تأيت بنتائج عكسية ،إذ تشري ضمنًا إىل َّ
حتافظ على استمرار الزخم (رغم َّ
إهدارا للوقت) .تُطلق عاملة السياسة كاثرين سيكينك ( )Kathryn Sikkinkعلى هذا «مفارقة املعلومات» ،فكلما حبثت كانت ً
منظمات مراقبة حقوق اإلنسان أكثر عن االنتهاكات وحبثت يف أماكن أكثر عن االنتهاكات وصنفت املزيد من األفعال َّ
بأهنا انتهاكات،
حل عامل
وجدت املزيد منها ،ولكن إذا مل ندرك زيادة قدرهتا على اكتشاف االنتهاكات ،سنتوهم بوجود املزيد من هذه االنتهاكاتَّ .
السياسة كريستوفر فاريس ( )Christopher Farissهذه املعضلة بنموذج رياضي يعادل زيادة البحث والعنيد واإلبالغ عن
يوضح الشكل رقم 2-14النتائج اليت توصل إليها االنتهاكات مبرور الوقت ويقدِّر احلجم الفعلي النتهاكات حقوق اإلنسان يف العاملِّ .
يف أربع دول منذ عام 1949حىت 2014ويف العامل بأكمله.
النرويج
حماية حقوق اإلنسان
العالم
كوريا الجنوبية
الصين
كوريا الشمالية
أرقاما أخرجها منوذج رياضي ،لذا علينا َّأال نأخذ القيم احملددة على حممل الدقة التامة ،ولكنها تشري بالفعل
يعرض الرسم البياين ً
عيارا ذهبيًّا حلقوق اإلنسان ،وهي دولة إسكندنافية كما هو احلال يف بقيةإىل االختالفات واالجتاهات .اخلط األعلى ميثِّل دولةً تُعد م ً
مقاييس ازدهار البشرية ،والدولة يف هذه احلالة هي النرويج اليت بدأت مبعدل مرتفع وواصلت االرتفاع .نرى خطني متباعدين ميثِّالن
الكوريتني ،الشمالية اليت بدأت مبعدل منخفض وواصلت االخنفاض ،واجلنوبية اليت ارتفعت وانتقلت من كوهنا دولة أوتوقراطية ميينية خالل
نقطة أفضل اليوم .وصلت حقوق اإلنسان يف الصني إىل احلضيض خالل الثورة الثقافية مث ارتفعت بعد وفاة ماو احلرب الباردة إىل ٍ
ووصلت إىل ذروهتا خالل احلركة الدميقراطية يف الثمانينيات قبل أن تتخذ احلكومة إجراءات صارمة بعد احتجاجات ساحة تيان آن من،
ولكن املنحىن األهم هو املنحىن الذي ميثِّل العامل بأكمله ،إذ يتجه
كثريا مما كانت فيه يف حقبة ماوَّ . َّ
رغم أهنا ما زالت يف مستوى أعلى ً
قوس حقوق اإلنسان لألعلى رغم كل انتكاساته.
كيف يتم حتجيم سلطة احلكومة باستمرار؟ من النوافذ الواضحة -على حن ٍو غري معتاد -املطلة على آلية التقدم البشري مصري ممارسة
عمدا.
الدولة املطلقة للعنف ،أي قتل مواطنيها ً
كانت عقوبة اإلعدام من قبل واسعة االنتشار يف كل الدول ،وكانت تُطبَّق عقابًا على مئات اجلُنح يف عروض عامة شنيعة من
التعذيب واإلذالل (ويُعد صلب يسوع مع لصني من العامة تذكرة جيدة بذلك) .بعد عصر التنوير ،توقفت الدول األوروبية عن إعدام
املواطنني عقابًا على أي جرائم سوى أبشعها ،ويف منتصف القرن التاسع عشر ،كانت بريطانيا قد خفَّضت عدد اجلرائم اليت يعاقب
عليها باإلعدام من 222جرمية إىل ،4وحبثت الدول عن طرق إعدام رحيمة بالقدر الذي يتناسب مع هذه املمارسة الشنيعة ،مثل
متاما يف دولة
الشنق .بعد احلرب العاملية الثانية ،عندما أطلق اإلعالن العاملي حلقوق اإلنسان ثورة إنسانية ثانية ،بدأ إلغاء عقوبة اإلعدام ً
تلو األخرى ،ومل ُتعد موجودة اليوم يف أوروبا سوى يف بيالروسيا (روسيا البيضاء).
نطاق عاملي (انظر الشكل رقم )3-14وعقوبة اإلعدام اليوم تنتظر تنفيذ حكم اإلعدام عليها، انتشر إلغاء عقوبة اإلعدام على ٍ
إذ كانت دولتان أو ثالث دول تلغيها كل عام خالل الثالثة عقود املاضية ،ومل ُيعد ميارسها سوى أقل من ُمخس دول العامل (يف حني
عقد على األقل) .يشري مقرر األمم املتحدة اخلاص أن أغلبها مل تعدم أحدا منذ ٍ حتتفظ تسعون دولةً بعقوبة اإلعدام يف كتب القانونَّ ،إال َّ
ً
املعين باإلعدام كريستوفر هينز ( )Christopher Heynsإىل أنَّه إذا استمر إلغاء عقوبة اإلعدام باملعدل احلايل (ال يعين هذا أنَّه
يتنبأ بأنَّه سيستمر) ،فستتالشى عقوبة اإلعدام من على وجه األرض حبلول عام .2026
عدد الدول التي ألغت عقوبة اإلعدام
لغاية ما أو مصدر إزعاج جيب تنحيته جانبًا ،تسعى التحالفاتكأهنم وسيلة ٍ مييل البشر إىل معاملة فئات كاملة من البشر اآلخرين َّ
القائمة على العرق أو العقيدة إىل أن تطغي على التحالفات املنافسة .وحياول الرجال التحكم يف عمالة املرأة وحريتها ونشاطها اجلنسي،
اسم العنصرية والتمييز على أساس اجلنس
ويرتجم الناس انزعاجهم من االختالفات اجلنسية إىل إدانة أخالقية .نطلق على هذه الظواهر َ
كبريا مما نطلق عليه ِّ ٍ
ورهاب املثلية ،وهي منتشرة يف معظم الثقافات على مر التاريخ بدرجات خمتلفة ،ويشكل التربؤ من هذه الشرور جزءًا ً
إن التوسع التارخيي لنطاق هذه احلقوق -قصص مؤمتر سينيكا فولز ) (Seneca Fallsوسيلما احلقوق املدنية أو املساواة يف احلقوقَّ .
مثريا من قصة تقدم البشرية.
فصال ً
) (Selmaومظاهرات ستون وول ) -(Stonewallميثِّل ً
مؤخرا بنقاط حتول بارزة ،إذ شهد عام 2017انتهاءتواصل حقوق األقليات العرقية واملرأة واملثليني تقدمها ،فقد مرت كلٌّ منها ً
ٍ
خطاب ألقته يف فرتتني رئاسيتني ألول رئيس أمريكي من أصول إفريقية ،وهو إجناز ذكرته السيدة األوىل ميشيل أوباما بطر ٍ
يقة مؤثرة يف
ابنيت ،فتاتني سوداوين ذكيتني
منزل بناه العبيد ،وأشاهد َّ املؤمتر الوطين الدميقراطي يف عام ،2016فقالت« :أستيقظ كل صباح يف ٍ
مجيلتني تلعبان مع كالهبما يف حديقة البيت األبيض» .وأعقب والية باراك أوباما ترشح أول امرأة من ٍ
حزب كبري يف انتخابات الرئاسة
قرن من السماح لنساء أمريكا بالتصويت ،وفازت بأغلبية ساحقة يف التصويت الشعيب وكانت ستصبح رئيسة لوال خصائص بعد أقل من ٍ
نظام اجملمع االنتخايب الغريبة والنوادر األخرى اليت ميَّزت تلك السنة االنتخابية .يف عا ٍمل موا ٍز ومشابه جدًّا لعاملنا حىت 8نوفمرب ،2016
تأثريا ونفو ًذا يف العامل (الواليات املتحدة واململكة املتحدة وأملانيا) .ويف عام ،2015بعد أن حكمت
قد تقود النساء أكثر ثالث دول ً
عاما فقط ،كفلت احملكمة حق الزواج للمتحابني من نفس اجلنس. احملكمة األمريكية العليا بعدم جترمي النشاط املثلي جنسيًّا باثين عشر ً
ولكن من طبيعة التقدم أنه خيفي آثاره ،ويرِّكز أنصاره على املظامل املتبقية وينسون الشوط الطويل الذي قطعناه ،فمن املسلَّماتَّ
من اآلراء التقدمية وخاصةً يف اجلامعات أنَّنا ما زلنا حنيا يف جمتم ٍع يتسم بالعنصرية والتمييز على أساس اجلنس ورهاب املثلية بشدة ،وهو
أن النشاط التقدمي مضيعة للوقت ألنَّه مل حيقِّق شيئا بعد ٍ
عقود من النضال. ما قد يدل ضمنًا على َّ
ً
حرضت على الصور األخرى من حرضت العناوين اإلخبارية املثرية على إنكار التطورات اليت حدثت فيما خيص احلقوق ،مثلما َّ َّ
رهاب التقدُّمَّ .أدت سلسلة من عمليات قتل بعض املشتبه هبم غري املسلحني من األمريكيني من أصول إفريقية على يد بعض رجال
الشرطة األمريكيني اليت ذاع صيتها اللتقاط بعضها يف فيديوهات باستخدام اهلواتف الذكية إىل انتشار إحساس َّ
بأن البالد اجتاحتها
هجمات الشرطة العنصرية على الرجال السود .وأوحت التغطية اإلعالمية للرياضيني الذين اعتدوا على زوجاهتم أو حبيباهتم وحلوادث
االغتصاب يف اجلامعات لكث ٍري من الناس بأنَّنا نعاين موجةً عارمة من العنف ضد املرأة .ووقعت يف عام 2016إحدى أبشع اجلرائم يف
شخصا وإصابة ثالثة
ً تاريخ أمريكا عندما أطلق عمر متني النار يف ملهى ليلي للمثليني يف أورالندو ممَّا َّأدى إىل قتل تسعة وأربعني
ومخسني آخرين.
بدال من
دعَّم التاريخ احلديث للعامل الذي حنيا فيه -حيث انتفع دونالد ترامب من النظام االنتخايب األمريكي يف عام ً 2016
تفوه ترامب خالل محلته بإهانات معادية للمرأة ولألمريكيني ذوي األصول الالتينية (اهلسبان)هيالري كلينتون -اإلميان بغياب التقدُّمَّ .
شجعهم يف جتمعاته االنتخابية أكثر عدوانيةً منه .وقد
وللمسلمني خارجة عن قواعد اخلطاب السياسي األمريكي ،وكان أتباعه الذين َّ
عرب بعض املعلِّقني عن قلقهم من أن ميثِّل انتصاره نقطة حتول يف تقدُّم البالد يف اجتاه املساواة واحلقوق ،أو أن يكشف عن احلقيقة املرة
َّ
وهي أنَّنا مل ُحن ِدث أي تقدُّم من األساس.
يغري
حيرك املساواة يف احلقوق ،هل هو وهم؟ أم دوامة عنيفة أعلى بركة راكدة؟ هل ِّ اهلدف من هذا الفصل قياس عمق التيار الذي ِّ
اجتاهه بسهولة ويتدفَّق يف االجتاه املعاكس؟ أم َّ
أن العدالة تتدفق مثل النهر واالستقامة تتدفق مثل اجملرى القوي؟ وسأهنيه خبامتة عن التقدُّم
تعرضها لألذى ،وهي األطفال. ٍ
جمموعة من البشر يسهل ُّ الذي حدث فيما خيص حقوق أكثر
أيضا على االعتداءات األخرية يف جمال متشك ًكا يف التاريخ الذي تقرأه من عناوين األخبار ،وينطبق هذا ًال بد أنَّك قد أصبحت اآلن ِّ
تزدد خالل العقود األخرية (حىت أن عدد حوادث إطالق النار من جانب الشرطة قد اخنفض ،ومل َ املساواة يف احلقوق ،تشري البيانات إىل َّ
أن املشتبه هبم من السود ليسوا أكثر عرضةً للقتل على مع تصوير احلوادث اليت تقع بالفعل بالفيديو) ،ووجدت ثالثة حتليالت مستقلة َّ
ولكن املشكلة ليست باألساس مشكلة يد الشرطة من املشتبه هبم من البيض (يطلق رجال الشرطة األمريكيون النار على كث ٍري من الناسَّ ،
عرقية) .ال خيربنا سيل أخبار حوادث االغتصاب ما إذا كان العنف ضد املرأة اآلن أكثر ،وهو أمر سيئ ،أم أنَّنا هنتم اآلن أكثر بالعنف
ضد املرأة ،وهو أمر جيد .وحىت يومنا هذا ،ال يتَّضح لنا ما إذا كانت جمزرة امللهى الليلي يف أورالندو ناجتة عن رهاب املثلية أم التعاطف
مع داعش أم دافع حتقيق الشهرة بعد املوت الذي حيفِّز معظم مرتكيب حوادث إطالق النار.
ميكن مجع نسخ أولية أفضل عن التاريخ من البيانات عن القيم واإلحصاءات احليوية ،فحص مركز بيو لألحباث ( Pew
)Research Centerآراء األمريكيني فيما خيص العرق والنوع االجتماعي وامليول اجلنسية خالل ربع القرن املاضي ،وذكر َّ
أن هذه
منتشرا ساب ًقا يف طي النسيان .نرى هذا
املواقف خضعت لتحول جوهري جتاه التسامح واحرتام احلقوق ،وأصبح التعصب الذي كان ً
ات أخرى مذكورة يف استطالعات يوضح ردود الفعل على ثالث عبارات ممثِّلة عن عبار ٍ
التحول بوضوح يف الشكل رقم 1-15الذي ِّ
الرأي.
أوافق :على المرأة أن تعود إلى
دورها التقليدي في المجتمع
النسبة المئوية
إن كل جيل يكون وتوضح استطالعات الرأي األخرى نفس التحوالت .مل يصبح الشعب األمريكي أكثر حترريةً فحسب ،بل َّ ِّ
فإن األشخاص حيتفظون غالبًا بقيمهم عندما يكربون يف السن ،لذا َّ
فإن أفراد جيل أكثر حترريةً من اجليل الذي يسبقه .وكما سنرى َّ
األلفية (املولودين بعد عام )1980األقل تعصبًا من املتوسط على املستوى الوطين ينبؤوننا باالجتاه الذي ستسري فيه البالد.
اخنفاضا يف مستوى التقبل
ً اخنفاضا يف مستوى التعصب أم
ً قد يتساءل املرء بالطبع عما إذا كان الشكل رقم 1-15يعرض
اجملتمعي للتعصب ،مع استعداد ٍ
عدد أقل من الناس لالعرتاف مبواقفهم املشينة يف استطالعات الرأي .لطاملا طاردت هذه املشكلة علماء
مؤشرا للمواقف يُعد أقرب
ولكن االقتصادي سيث ستيفنز ديفيدويتز ( )Seth Stephens-Davidowitzاكتشف ً االجتماعَّ ،
ما توصلنا إليه لـ «مصل حقيقة» رقمي ،إذ يسأل األشخاص جوجل عن كل ٍ
فضول أو مصدر قلق أو متعة سرية ميكنك ُتيله والكثري
مما ال ميكنك ُتيله يف خصوصية لوحات مفاتيحهم وشاشات حواسبهم (تشمل كلمات البحث الشائعة «كيفية زيادة حجم القضيب»
و«رائحة مهبلي مثل رائحة السمك») .جيمع جوجل البيانات الكبرية اخلاصة مبا يبحث عنه األشخاص خالل شهور خمتلفة ويف مناطق
أن عمليات البحث عن كلمة ( niggerزجني) (حبثًا خمتلفة (باستثناء هوية الباحثني) ،وأدوات لتحليلها .اكتشف ستيفنز ديفيدويتز َّ
نكات عنصرية على األغلب) ترتبط مبؤشرات أخرى على التعصب العرقي يف خمتلف املناطق ،مثل إمجايل أصوات الناخبني اليت عن ٍ
أن عمليات البحث هذه ملرشح من احلزب الدميقراطي ،ويقرتح ستيفنز َّ
حصدها باراك أوباما يف عام 2008اليت كانت أقل من املتوقع ٍ
مؤشرا خفيًّا على العنصرية السرية.
قد تستخدم ً
أيضا .خاللسرا ً
لنستخدمها إذًا لتتبُّع االجتاهات احلديثة فيما يتعلق بالعنصرية ،ولنتتبع التمييز على أساس اجلنس ورهاب املثلية ًّ
فرتة مراهقيت كانت النكات عن البولنديني األغبياء والسيدات اخلرقاوات واللُثغ* ومثليي اجلنس املتشبهني بالنساء شائعة يف التليفزيون
والرسوم اهلزلية يف الصحفَّ ،أما اليوم فهي أمر حمظور يف وسائل اإلعالم الرئيسية .ولكن هل ما زالت النكات املتعصبة وسيلة ترفيه
أن األشخاص أصبحوا يشعرون جتاه هذه النكات باإلهانة أو الوصم أو امللل كثريا لدرجة َّ
أن املواقف اخلاصة تغريت ً خاصة سرية؟ أم َّ
يوضح الشكل رقم 2-15اإلجابة عن هذا السؤال. منها؟ ِّ
معدل تكرار البحث (النسبة المئوية ألكثر الشهور ً
النكات التي
تتسم بالتمييز
على أساس
الجنس
النكات العنصرية
بحثا)
ا ل ش ك ل رق م : 2 - 1 5م ع د ل ا ل ب ح ث ع ل ى ا إل ن رتن ت ب ك ل م ا ت ت ت س م ب ا ل ع ن ص ري ة وا ل ت م ي ي ز ع ل ى
أ س ا س ا جل ن س وره ا ب ا مل ث ل ي ة ،يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة ،م ن ذ 2 0 0 4ح ىت 2 0 1 7
المصدر :مؤشرات جوجل ) ،(www.google.com/trendsالبحث عن "( "nigger jokesنكات عن الزنوج) و"( "bitch jokesنكات
عن العاهرات) و"( "fag jokesنكات عن الشواذ) ،يف الواليات املتحدة منذ 2004حىت ،2017بالنسبة لكم البحث اإلمجايل .البيانات (اليت مت
لكل من عبارات البحث مث مت حساب مقسمة حسب الشهر ،وموضَّحة يف صورة نسبة مئوية ألكثر الشهور حبثًا ٍ
احلصول عليها بتاريخ 22يوليو َّ )2017
متوسطها من شهور كل عام ،ومتهيدها.
خجال من االعرتاف بالتعصب ممَّا كانوا ساب ًقا فحسب ،بل َّإهنم ال جيدونه ً
ممتعا تشري املنحنيات إىل َّ
أن األمريكيني ليسوا أكثر ً
يشجع على -التعصب ،تواصل أن صعود ترامب يعكس -أو ِّ أيضا ،وعلى عكس اخلوف من َّ
بنفس القدر يف مساحاهتم اخلاصة ً
ئيسا يف بداية .2017
املنحنيات اخنفاضها خالل فرتة شهرته قبل االنتخابات يف عامي 2015و 2016وفرتة تنصيبه ر ً
*األلثغ هو من يخطئ نطق حرفٍ أو أكثر فينطق السين ثا ًء على سبيل المثال- .المترجمة.
أن هذه املنحنيات على األرجح تقلِّل من قدر الرتاجع يف مستويات التعصب بسبب التغري يف هوية نبَّهين ستيفنز ديفيدويتز إىل َّ
من يبحث باستخدام حمرك جوجل ،فعندما بدأت هذه السجالت يف عام ،2004كان أغلب مستخدمي جوجل من الشباب وسكان
املدن ،إذ يتأخر كبار السن وسكان الريف غالبًا يف استخدام التكنولوجيا ،وإذا كانوا هم من يبحثون باستخدام التعبريات املهينة أكثر
يسجل جوجل أعمار الباحثني التزمت .ال ِّسيضخم النسبة يف السنوات الالحقة وخيفي مدى الرتاجع يف مستويات ُّ ِّ من غريهم ،كان هذا
صبةأن عمليات البحث املتع ِّ ردا على استفساريَّ ، يسجل مواقعهم اجلغرافيةَّ .
أكد ستيفنز ديفيدويتزًّ ، أو مستوياهتم التعليمية ،ولكنَّه ِّ
ميال
كانت ُجترى غالبًا من مناطق معظم سكاهنا من كبار السن وذوي املستويات التعليمية األقل ،فمجتمعات املسنِّني املتقاعدين أكثر ً
ميال للبحث عن «نكات عن الشواذ» بثالثني ضع ًفا من بقية سكان البالد للبحث عن «نكات عن الزنوج» بسبعة أضعاف وأكثر ً
أن جوجل أدووردز Google AdWordsال يوفِّر بيانات عن «النكات عن العاهرات») .حصل ستيفنز ديفيدويتز (وأخربين ٍ
بأسف َّ
أيضا على كن ٍز من بيانات البحث اخلاصة بشركة AOLاليت تتبع عمليات البحث اليت جيريها األفراد (ولكنَّها ال تتبَّع هوياهتم بالطبع) ً
أن العنصريني رمبا يكونون فئةً مندثرة ،فالشخص الذي يبحث عن كلمة ""nigger أكدت هذه املوضوعات َّ على عكس جوجل ،و َّ
أيضا عن موضوعات أخرى حيب كبار السن البحث عنها مثل «الضمان االجتماعي» و«فرانك سيناترا» .كان (زجني) يبحث غالبًا ً
االستثناء األساسي هو جمموعة ضئيلة من املراهقني الذين حبثوا عن مواقعة احليوانات وفيديوهات الذبح وقطع الرأس واملواد اإلباحية اليت
شباب
ٌ أطفاال ،وأي شيء ال يفرتض أن يبحث املرء عنه .ولكن فيما عدا هؤالء الشباب املتجاوزين للحدود (ولطاملا ُوجد تشمل ً
التعصب يف املساحات اخلاصة يرتاجع مبرور الوقت ويرتاجع مع الشباب ،مما يعين أنَّنا ميكن أن نتوقع تراجعه أكثر عندما فإن ُّ كهؤالء)َّ ،
تعصبًا. تزمتون املسنُّون الساحة ٍ
لفئات أقل ُّ يرتك امل ِّ
رجال بيض باألساس) (وهم ٌحىت حيني ذلك الوقت ،رمبا لن حيرتم هؤالء األشخاص األكرب سنًّا وذوو املستويات التعليمية األقل ُ
احلظر املفروض على العنصرية والتمييز على أساس اجلنس ورهاب املثلية ،وهي األمور اليت أصبح حظرها من طبيعة التيار السائد ،بل
بعضا على اإلنرتنت واالحتاد وراء زعي ٍم
ورمبا يهزؤون منها بوصفها «لباقة سياسية» .يستطيع هؤالء األشخاص اليوم لقاء بعضهم ً
دول أوروبية أخرى على حن ٍو أفضلدمياغوجي .وكما سنرى يف الفصل العشرين ،ميكننا فهم جناح ترامب وجناح الشعبويني اليمينيني يف ٍ
بدال من أن ننظر إليه بوصفه
حشدا جملموعة دميوغرافية خاسرة ومتناقصة يف ظل مشهد سياسي يتسم باالستقطابً ، إذا نظرنا إليه بوصفه ً
انقالبا مفاجئًا للحركة اليت تطالب منذ ٍ
قرن باملساواة يف احلقوق. ً
أيضا يف البيانات اخلاصة ال يظهر التقدُّم يف املساواة يف احلقوق يف نقاط التحول السياسية البارزة ومؤشرات اآلراء فحسبَّ ،
وإمنا يظهر ً
حبياة األشخاص ،إذ اخنفض معدل الفقر بني األمريكيني من أصل إفريقي من 55يف املئة يف عام 1960إىل 27.6يف املئة يف عام
،2011وارتفع متوسط العمر املتوقع من 33سنة يف عام ( 1900أقل من متوسط العمر املتوقع للبيض بـ 17.6سنة) إىل 75.6
سنة يف عام ( 2015أقل من متوسط العمر املتوقع للبيض بأقل من 3سنوات) ،فاألمريكيون من أصل إفريقي الذين يبلغون عمر
السادسة واخلمسني ما تزال أمامهم سنوات أطول من أقراهنم من البيض .اخنفض معدل األمية بني األمريكيني من أصل إفريقي من 45
يف املئة يف عام 1900إىل صفر يف املئة تقريبًا اليوم .والفجوة العرقية بني األطفال يف االستعداد لاللتحاق باملدارس يف انكماش ،كما
سنرى يف الفصل التايل ،وكذلك الفجوة العرقية يف السعادة كما سنرى يف الفصل الثامن عشر.
هائال يف القرن العشرين بعد أن كان حدثًا عاديًّا يفاخنفاضا ً
ً اخنفض العنف العنصري الواقع على األمريكيني من أصل إفريقي
املدامهات الليلية وحاالت اإلعدام دون حماكمة (وكانت حتدث ثالث مرات أسبوعيًّا يف مطلع القرن العشرين) ،مث اخنفضت أكثر منذ
يوضح الشكل رقم ( 3-15مل ي ُكن من بني هذه بدأ مكتب التحقيقات الفيدرايل يدمج يف تقاريره جرائم الكراهية يف عام 1996كما ِّ
اجلرائم جرائم قتل سوى حفنة قليلة ،مثل جرمية قتل واحدة أو ال جرائم قتل على اإلطالق يف معظم األعوام) .ال ميكن لوم ترامب على
الزيادة البسيطة اليت حدثت يف عام ( 2015آخر السنوات املتاح عنها بيانات) ،مبا َّأهنا موازية للزيادة يف جرائم العنف يف ذلك العام
أن جرائم الكراهية تعرب عن معدالت اخلروج على القانون أكثر مما تعرب عن تصرحيات السياسيني. (انظر الشكل رقم ،)2-12إضافةً إىل َّ
ضد السود
عدد جرائم الكراهية
ضد اليهود
ضد المسلمين
ولكن التآكل التارخيي للعنصرية والتمييز على أساس اجلنس ورهاب املثلية أكثر من
ال توجد أي صورة حتمية من صور التقدمَّ ،
جمرد تغي ٍري يف األسلوب ،بل يبدو أنَّه حدث بقوة دفع تيار احلداثة كما سنرى .خيتلط األشخاص يف اجملتمع العاملي بأنو ٍاع أخرى من
الناس ويعملون معهم وجيدون أنفسهم يف مر ٍ
كب واحد معهم ،وجيعلهم هذا غالبًا أكثر تعاط ًفا معهم .وعندما يكون الناس مضطرين إىل
بدال من التسلُّط عليهم بدافع اجلمود الغريزي أو الديين أو التارخيي ،فإن أي تربير سينهار بعد التدقيق
تربير طريقة تعاملهم مع اآلخرين ً
فيه .يتعذر حقًّا تربير الفصل العنصري وقصر حق التصويت على الرجال وجترمي املثلية اجلنسية ،فقد حاول الناس الدفاع عن هذه األمور
يف العصور اليت حدثت فيها ،وفشلوا.
تستطيع هذه القوى االنتصار على املدى البعيد حىت على االنتكاسة الشعبوية .يعطينا الزخم العاملي الدافع حنو إلغاء عقوبة اإلعدام
درسا يف الطرق غري املرتبة اليت حيدث هبا التقدم ،فاألفكار غري العملية
(الفصل الرابع عشر) ،رغم جاذبيتها القدمية على املستوى الشعيبً ،
أو اليت يتعذر تربيرها تفشل يف مسريهتا ،وُترج عن نطاق اخليارات احملتملة حىت لدى من يظنون َّأهنم ِّ
يفكرون يف املستحيل ،ويتقدَّم
رغما عن أنوفهم .ولذا فإنَّه حىت يف ظل أكثر احلركات السياسية رجعيةً يف تاريخ أمريكا احلديث ،مل جند املتطِّرفون السياسيون لألمام ً
دعوات إلعادة تطبيق قوانني جيم كرو أو إلغاء حق النساء يف التصويت أو إعادة جترمي املثلية اجلنسية.
وإمنا يف مجيع أحناء العامل .كان لدى نصف دول العامل تقريبًا يف عام 1950 التعصب اإلثين والعرقي يف تراج ٍع ،ليس يف الغرب فقط َّ
إن ُّ َّ
قوانني متييزية ضد األقليات اإلثنية أو العرقية (مبا يشمل بالطبع الواليات املتحدة) ،ولكن يف عام 2003كان لدى أقل من ُمخس الدول
قوانني كهذه ،وغلبتها عدداً الدول ذات سياسات اإلجراءات اإلجيابية اليت تدعم األقليات احملرومة من حقوقها .وجد استطالع ضخم
أجرته منظمة الرأي العام العاملي ( )World Public Opinionعلى إحدى وعشرين دولة متقدمة ونامية أنَّه يف كل دولة ،يقول
أغلبية املشاركني (حوايل 90يف املئة منهم) إنَّه من املهم التعامل مع األشخاص الذين ينتمون إىل أعراق وإثنيات وأديان خمتلفة على قدم
أن الدول غري الغربية هي األقلاملساواة .على الرغم من جلد الذات املعتاد الذي ميارسه املثقفون الغربيون فيما خيص العنصرية الغربيةَّ ،إال َّ
تساحمًا ،ولكن حىت يف اهلند ،الدولة اليت تقع يف أدىن القائمة ،أيَّد 59يف املئة من املشاركني املساواة العرقية ،وأيَّد 76يف املئة منهم
املساواة الدينية.
دولة واحدة هيوهذا التقدُّم عاملي أيضا فيما خيص حقوق املرأة ،فلم ي ُكن حيق للنساء التصويت يف عام 1900سوى يف ٍ
ً
نيوزيلنداَّ ،أما اليوم فيحق هلن التصويت يف كل دولة حيق للرجال التصويت فيها عدا دولة واحدة هي مدينة الفاتيكانِّ .
تشكل النساء
72يف املئة من القوة العاملة على مستوى العامل وأكثر من ُمخس أعضاء الربملانات الوطنية .وجد كلٌّ من منظمة الرأي العام العاملي
ومشروع بيو للمواقف العاملية َّ
أن أكثر من 85يف املئة من املشاركني يف استطالعاهتم يؤمنون باملساواة الكاملة بني الرجال والنساء،
وترتاوح املعدالت بني 60يف املئة يف اهلند و 88يف املئة يف ست دول ذات أغلبية مسلمة و 98يف املئة يف املكسيك واململكة املتحدة.
تبنَّت اجلمعية العامة لألمم املتحدة يف عام 1993إعالنًا بشأن القضاء على العنف ضد املرأة ،ومنذ ذلك احلني ،طبَّقت معظم
الدول قوانني ومحالت توعية للحد من االغتصاب والزواج القسري وزواج األطفال وتشويه األعضاء التناسلية وجرائم الشرف والعنف
أن بعض هذه املقاييس ضعيفةَّ ،إال َّأهنا تدعو إىل التفاؤل على املدى البعيد .إذ َّأدت
األسري واألعمال الوحشية يف ظل احلروب ،ورغم َّ
محالت اإلدانة العاملية -حىت اليت بدأت كمجرد آمال حبتة -يف املاضي إىل اخنفاضات هائلة يف مستويات العبودية واملبارزة وصيد احليتان
وحتجيم األقدام والقرصنة والقرصنة التفويضية واحلروب الكيميائية والتفرقة العنصرية والتجارب النووية يف الغالف اجلوي .وتشويه األعضاء
أن بعض الناس ما زالوا ميارسونه يف تسع وعشرين دولة إفريقية (إضافةً إىل إندونيسيا والعراق مثال على ذلك ،فرغم َّ
التناسلية لإلناث ٌ
واهلند وباكستان واليمن)َّ ،إال َّ
أن أغلبية الرجال والنساء يف تلك الدول يؤمنون بضرورة وقفه ،واخنفضت معدالت ممارسته خالل الثالثني
عاما املاضية مبقدار الثُلث .أيَّد الربملان اإلفريقي الذي يتعاون مع صندوق األمم املتحدة للسكان حظر هذه املمارسة ،إضافةً إىل زواج
ً
األطفال ،يف عام .2016
وحقوق املثليني من األفكار األخرى اليت حان وقتها .كانت املمارسات اجلنسية املثلية جرمية يف كل دول العامل تقريبًا ،مث صاغ كلٌّ
شخص آخر يف عصر التنوير، ٍ إن أي سلوك بني شخصني بالغني بالرتاضي ال خيص أي من مونتسكيو وفولتري وبنتام أول حجة تقول َّ
دول قليلة متناثرة جترمي املثلية اجلنسية ،وازداد عدد هذه الدول مع ثورة حقوق املثليني يف سبعينيات القرنوبعد ذلك بفرتةٍ قصرية ،أهنت ٌ
أن املثلية اجلنسية ما زالت تُعد جرميةً يف أكثر من سبعني دولة (وجرمية يُعاقب عليها باإلعدام يف إحدى عشرة دولة املاضي .رغم َّ
أن االجتاه العاملي يواصل مساره حنو التحرير ،بتشجيع األمم إسالمية) ،ورغم الرتاجع الذي حدث يف روسيا وعدة دول إفريقيةَّ ،إال َّ
ويوضح الشكل رقم 5-15اخلط الزمين ،فخالل السنوات الستة املاضية ،أسقطت مثاين دول املتحدة ومنظمات حقوق اإلنسان كافةِّ .
إضافية املثلية اجلنسية من قوانينها اجلنائية.
عدد الدول التي أنهت تجريم المثلية الجنسية
قد يبدو التقدم العاملي املناهض للعنصرية والتمييز على أساس اجلنس ورهاب املثلية ،حىت بتعثُّره وانتكاساته ،وكأنَّه اكتساح شامل .اقتبس
مارتن لوثر كينج يف إحدى املرات الصورة اليت رمسها املؤيد إللغاء العنصرية ثيودور باركر ٍ
لقوس ينحين باجتاه العدالة ،واعرتف باركر بأنَّه
مل ِ
يستطع رؤية القوس بأكمله ولكنَّه يتنبأ به بوجدانه .هل هناك طريقة أكثر موضوعية ملعرفة ما إذا كان هناك قوس تارخيي ينحين باجتاه
العدالة؟ وإن كان هناك بالفعل قوس كهذا ،فما الذي حينيه؟
يُقدِّم لنا مسح القيم العاملية -الذي استطلع آراء 150ألف شخص يف أكثر من مخس وتسعني دولة تشمل 90يف املئة تقريبًا
من سكان العامل على مدار عدة عقود -حملةً عن القوس األخالقي .اقرتح عامل السياسة كريستيان ويلزيل (تكملةً لتعاونه مع رون
أن تكون عملية التحديث قد حفَّزت ظهور «القيم إجنلهارت وبيبا نوريس وغريمها) يف كتابه شروق احلرية )َّ (Freedom Rising
التحررية» ،فمع حتول اجملتمعات من كوهنا زراعية إىل صناعية مث إىل معلوماتية ،يصبح مواطنوها أقل قل ًقا بشأن صد األعداء واملخاطر
ويوجهها حنو حر ٍية أكرب ألنفسهم
يغري هذا من قيمهم ِّ الوجودية األخرى وأكثر تله ًفا للتعبري عن مبادئهم والبحث عن فرصهم يف احلياةِّ .
ولغريهم .يتَّسق هذا التحول مع نظرية عامل النفس أبراهام ماسلو ( )Abraham Maslowاخلاصة بالتسلسل اهلرمي لالحتياجات،
أوال مث األخالق») .يبدأ الناس يف
وهي تتدرج من البقاء واألمان إىل االنتماء ،والتقدير ،وحتقيق الذات (ومع تعبري برخيت« :الطعام ً
إعطاء األولوية للحرية على األمن ،وللتنوع على التماثل ،ولالستقاللية على السلطة ،ولإلبداع على االنضباط ،وللفردانية على االمتثال
أيضا القيم الليربالية ،باملعىن التقليدي املرتبط بـ «احلرية» ( )libertyو«التحرير» ()liberation
للمعايري .يُطلق على القيم التحررية ً
(وليس املعىن املرتبط باليسار السياسي).
جمموعة من موضوعاتٍ أن اإلجابات عن استنبط ويلزيل طريقةً لتقييم االلتزام بالقيم التحررية برق ٍم واحد ،بناءً على اكتشافه َّ
االستطالع ترتبط بعضها ببعض على األرجح لدى خمتلف األشخاص والدول واملناطق ذات التاريخ والثقافة املشرتكني .تشمل هذه
املوضوعات املساواة بني اجلنسني (ما إذا كان األشخاص يشعرون بأنَّه ال بد أن يكون للنساء حق متكافئ يف الوظائف والقياد السياسية
بأن الطالق واملثلية اجلنسية واإلجهاض خيارات هلا مربر أم ال) والتعليم اجلامعي أم ال) واخليارات الشخصية (ما إذا كانوا يشعرون َّ
والصوت السياسي (ما إذا كانوا يعتقدون أنَّه ال بد أن تُكفل لألشخاص حرية التعبري والرأي يف احلكومة واجملتمعات احمللية وأماكن العمل
أم ال) وفلسفة تنشئة األطفال (ما إذا كانوا يشعرون بضرورة تشجيع األطفال على أن يكونوا مطيعني أم مستقلني ومبدعني) .والرتابط
يفرق بني األشخاص الذين يتفقون على كث ٍري من املوضوعات بني هذه املوضوعات أبعد ما يكون عن املثالية -فاإلجهاض باألخص ِّ
األخرى -ولكنَّها جتتمع سويًّا غالبا ،وتتنبأ سويًّا بالكثري من األمور يف ٍ
دولة ما. ً
أن مرور الوقت ال يقتصر على قلب صفحات الرزنامة ،إذ كلما مر قبل أن ننظر إىل التغريات التارخيية يف القيم ،علينا أن َّ
نتذكر َّ
جيل جديد .إذًا فأي تغيري علماين (تارخيي أو طويل األمد) يف السلوك كرب األشخاص سنًّا ،مث ميوتون يف النهاية وحيل حملهم ٌ الوقتُ ،
البشري قد حيدث لثالثة أسباب ،فقد يكون هذا االجتاه نتيجة أثر الفرتة :كتغيري يف الزمن أو روح العصر أو املزاج الوطين الذي يرتقي
بكل مناحي احلياة أو يتسبب يف احندارها .وقد يكون نتيجة السن (أو دورة احلياة) :فاإلنسان يتغري عندما ينتقل من مرحلة الرضيع
أن معدل املواليد يف أي دولة يتعرضمثال وهكذا .ومبا َّ
املتذمر مث إىل العاشق املتنهد مث إىل القاضي ذي البطن املمتلئة ً
الباكي إىل الطالب ِّ
تغري نسبة الشباب واألفراد يف منتصف العمر واملسنِّني ،حىت لو سيتغري تلقائيًّا مع ُّ
فإن متوسط عدد السكان َّ ملراحل ارتفاع واخنفاضَّ ،
أخريا ،قد يكون االجتاه نتيجة الفئة العمري (أو اجليل) :فاألشخاص املولودون يف فرتةٍ معينة رمبا
سن ثابتة .و ً كانت القيم السائدة يف كل ٍّ
املتغري من الفئات العمرية مع خروج اجليل من املرحلة ودخول تُطبع عليهم مسات تصحبهم طوال حياهتم ،وسيعكس املتوسط املزيج ِّ
تكرب
متاما ،ألنَّه مع انتقال كل فرتة إىل الفرتة التاليةُ ،
اجليل التايل فيها .من املستحيل فصل آثار السن والفرتة والفئة العمرية عن بعض ً
كل فئة عمرية سنًّا ،ولكن ميكننا استنباط أنواع التغيري الثالث منطقيًّا بقياس إحدى السمات لدى السكان يف فرتات متعددة وفصل
البيانات اخلاصة بالفئات العمرية املختلفة يف كل فرتة.
يوضح الشكل رقم 6-15مسار القيم تقدما كدول أمريكا الشمالية وغرب أوروبا واليابانِّ .
أوال إىل تاريخ الدول األكثر ً
لننظر ً
عاما ومخسة ٍ التحررية على مدار ٍ
أشخاص بالغني (ترتاوح أعمارهم بني مثانية عشر ً قرن ،فهو يرسم البيانات اليت مجعتها استطالعات آراء
عاما) على فرتتني ( 1980و )2005واليت متثِّل فئات عمرية مولودة بني عامي 1895و( 1980تنقسم الفئات العمرية ومثانني ً
لألمريكيني عاد ًة إىل جيل GIأو اجليل األعظم املولود بني عامي 1900و ،1924واجليل الصامت املولود بني عامي 1925
و ،1945وجيل طفرة املواليد املولود بني عامي 1946و ،1964واجليل إكس املولود بني عامي 1965و ،1979وجيل األلفية
املولود بني عامي 1980و .)2000الفئات العمرية مرتبة على طول احملور األفقي حسب سنة امليالد ،وكلٌّ من العامني اللذين أجري
وصوال إىل أفراد
فيهما استطالع الرأي موضَّح بالرسم على اخلط (البيانات من عام 2011إىل - 2014واليت متتد على نفس الشاكلة ً
جيل األلفية املولودين يف عام -1996مشاهبة لبيانات عام .)2005
40و 50عامًا
أصبح الجيل الصامت
أكثر تحررً ا بين عامي
أجري االستطالع عام
1980و2005
1980
سنة الميالد
ا ل ش ك ل رق م : 6 - 1 5ا ل ق ي م ا ل ل ي ربا ل ي ة ع رب ا ل زم ن وا أل ج ي ا ل ،يف ا ل ب ل د ا ن ا مل ت ق د م ة م ن ذ 1 9 8 0
ح ىت 2 0 0 5
المصدر .Welzel 2013, fig. 4.1 :بيانات مسح القيم العاملية من أسرتاليا وكندا وفرنسا وأملانيا الغربية وإيطاليا واليابان وهولندا والنرويج والسويد
واململكة املتحدة والواليات املتحدة (كل دولة موزونة بقد ٍر متسا ٍو).
نادرا ما نقدِّره يف وسط ضجيج اجلداالت السياسية ،فرغم كل احلديث عن االنتكاسات اليمينية اجتاها تارخييًّا ً
يعرض الرسم ً
حترًرا بوترية ثابتة (وهو أحد أسباب غضب هؤالء الرجال ،كما سنرى الح ًقا). والرجال البيض الغاضبنيَّ ،إال َّ
أن قيم الدول الغربية تزداد ُّ
حترًرا يوضح َّ
أن اجلميع ازداد ُّ اخلط الذي ميثِّل نتائج استطالع عام 2005أعلى من ذلك الذي ميثِّل نتائج استطالع عام ( 1980ممَّا ِّ
حترًرا من األجيال األكرب)،
أن األجيال األصغر يف الفرتتني كانا أكثر ُّ مبرور الوقت) وارتفع املنحنيان كلَّما اجتها إىل اليمني (ممَّا ِّ
يوضح َّ
عاما وكل مرحلةلكل من املنحنيني على مدار اخلمسة وعشرين ً كبريا ،إذ بلغ حوايل ثالثة أرباع االحنراف املعياري ٍّ
وكان هذا االرتفاع ً
أيضا ،إذ أوضح استطالع رأي أجرته شركة إبسوس عام 2016 عاما (وال يلقى هذا االرتفاع التقدير الكايف ً جيلية مدهتا مخسة وعشرين ً
أن الناس يف كل دولة متقدمة تقريبًا يظنون َّ
أن املواطنني اآلخرين مييلون أكثر منهم إىل التحفُّظ االجتماعي) .يعرض الرسم البياين اكتشافًا َّ
املتحررين إىل التحفُّظ كلما تقدَّم هبم العمر .إذ لو كان هذا
أن التحررية ال تعكس ارتداد جمموعة متزايدة من الشباب ِّ حرجا وهو َّ
ً
بدال من أن يكون أحدمها أعلى من اآلخر ،والخرتق املنحىن الذي ميثِّل عام ٌّ 2005
خط رأسي ميثِّل فئة صحيحا ،لرتافق املنحنيان ً
ً
حترًرا .فالشباب
بدال من القيمة الكبرية اليت نراها واليت تعكس روح العصر األكثر ُّ
عاكسا التحفُّظ لدى كبار السن ً
عمرية ما بقيمة أدىن ً
التحررية مع تقدُّمهم يف السن ،وسنعود إىل هذا االكتشاف عندما نتأ َّمل يف مستقبل التقدم يف الفصل العشرين.
حيتفظون بقيمهم ُّ
التحررية املوضَّحة يف الشكل رقم 6-15من السكان املرفهني يف الدول الغربية اليت ُتطت احلقبة الصناعية والذين تأيت االجتاهات ُّ
اخلمس وتسعني دولة املشمولة
َ يقودون سيارات الربيوس وحيتسون الشاي ويتناولون الطعام الصحي ،فماذا عن بقية البشر؟ مجع ويلزيل
أيضا غياب أثر دورة احلياة لقياس القيم
يخ وثقافات مشرتكة ،واستغل ً كل منها تار ٌ
يف مسح القيم العاملية يف عشر مناطق جيمع بني ٍّ
التحررية يف
عاما من ُّعاما يف عام ،2000مع تعديلها ملراعاة آثار أربعني ً شخصا كان يبلغ ستني ً ً التحررية بأث ٍر رجعي ،فالقيم اليت متثِّل
ُّ
يوضح الشكل رقم 7-15اجتاهات القيم عاما يف عام ِّ .1960 شخصا يبلغ عشرين ًً معقوال للقيم اليت متثِّل
تقديرا ًبلده بأكمله ،متنحنا ً
املتغرية يف كل ٍ
بلد (مثل الطفرة الواضحة عاما تقريبًا ،وجيمع بني آثار روح العصر ِّالليربالية يف مناطق خمتلفة من العامل على مدار مخسني ً
املتغرية (االرتفاع يف كل منحىن).
بني املنحنيني يف الشكل رقم )6-15والفئات العمرية ِّ
مؤشر القيم التحررية
ا ل ش ك ل رق م : 7 - 1 5ا ل ق ي م ا ل ل ي ربا ل ي ة ع رب ا ل زم ن ( ب ا ل ق ي ا س ) ،يف خم ت ل ف ا مل ن ا ط ق ا ل ث ق ا ف ي ة يف ا ل ع ا مل
م ن ذ 1 9 6 0ح ىت 2 0 0 6
المصدر :مسح القيم العاملية ،كما حلله ويلزيل يف دراسته ،Welzel 2013, fig. 4-4بعد حتديثه بالبيانات اليت قدَّمها ويلزيلُ .حتسب تقديرات القيم
التحررية يف كل دولة لكل عام لعينة افرتاضية ذات عم ٍر ثابت بناءً على الفئة العمرية لكل مشارك وسنة االستطالع وأثر الفرتة اخلاص بكل دولة .متثِّل العناوين
ُّ
أعدت تسمية بعض املناطق كما يلي: ٍ َّ
رموزا جغرافية للمناطق اليت حدَّدها ويلزيل بأهنا «مناطق ثقافية» وال تنطبق حرفيًّا على كل دولة تشملها منطقةٌ ما ،وقد
ُ ً
أوروبا الغربية الربوتستانتية هي ما أمساه ويلزيل «الغرب املصلَح» ،والواليات املتحدة وأسرتاليا ونيوزيلندا = «الغرب اجلديد» ،وأوروبا الكاثوليكية واجلنوبية =
ُ
«الغرب القدمي» ،ووسط وشرق أوروبا = «الغرب العائد» ،وشرق آسيا = «الشرق الصيين» ،ويوغوسالفيا واالحتاد السوفيييت ساب ًقا = «الشرق األرثوذكسي»،
وجنوب وجنوب شرق آسيا = «الشرق اهلندي» .الدول يف كل منطقة موزونة بقد ٍر متسا ٍو.
أن االختالفات كبرية للغاية بني خمتلف املناطق الثقافية يف العامل ،فالدول الربوتستانتية يفأن الرسم البياين يكشف عن َّ ال عجب َّ
حترًرا ،تليها الواليات املتحدة والدول الثرية األخرى
غرب أوروبا مثل هولندا والدول اإلسكندنافية واململكة املتحدة هي أكثر دول العامل ُّ
املتحدِّثة باإلجنليزية ،مث أوروبا الكاثوليكية واجلنوبية ،مث دول وسط أوروبا الشيوعية ساب ًقا .ودول أمريكا الالتينية ودول شرق آسيا الصناعية
حتفظًا اجتماعيًّا ،يليها جنوب وجنوب شرق آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء. ومجهوريات االحتاد السوفيييت السابق ويوغوسالفيا ساب ًقا أكثر ُّ
حترًرا هي منطقة الشرق األوسط اإلسالمي. وأقل مناطق العامل ُّ
حترًرا بقد ٍر كبري ،إذ لدى شباب املسلمني يف الشرق حتررا يف كل ٍ
مكان يف العامل ،ازدادوا ُّ ولكن األمر املفاجئ هو َّ
أن الناس ازدادوا ُّ ً َّ
حتررية يف العامل -يف أوائل ستينيات ِ
األوسط -أكثر ثقافة حمافظة يف العامل -اليوم قيم شبيهة بقيم الشباب يف غرب أوروبا -أكثر ثقافة ُّ
التحررية كانت مدفوعة يف بعض الثقافات،
ولكن ُّ
حترًرا يف كل ثقافةَّ ، القرن املاضي .رغم َّ
أن األجيال اجلديدة وروح العصر أصبحوا أكثر ُّ
مثل ثقافة الشرق األوسط اإلسالمي ،بدورة األجيال باألساس ،وكان هلا دور واضح يف الربيع العريب.
للتحرر مبرور الوقت؟ ترتبط كثريٌ من السمات املشرتكة على
هل ميكننا حتديد األسباب اليت متيِّز بني مناطق العامل املختلفة وتدفعها ُّ
تكرٍر ،-وهو أمر يزعج علماء االجتماعببعض -وهي مشكلة نواجها على حن ٍو م ِّ
التحررية ،ومتيل إىل االرتباط بعضها ٍ نطاق اجملتمع بالقيم ُّ
التحررية ،رمبا َّ
ألن الذين يريدون التفرقة بني السببية واالرتباط .يرتبط الرخاء (الذي يُقاس بنصيب الفرد من الناتج احمللي اإلمجايل) بالقيم ُّ
حترًرا تكون يف املتوسط ذات
أن البلدان األكثر ُّ توضح البيانات َّ
األشخاص كلما ازدادوا صحةً وأمنًا ،أمكنهم جتربة حترير جمتمعاهتمِّ .
تعلي ٍم أفضل وتكون أكثر حضريةً وأقل خصوبةً وهبا حاالت أقل من زواج األقارب ،وتكون أكثر سلميةً ودميقراطيةً وأقل ً
فسادا وال متتلئ
بدال من املصانع الكبرية أو استخراج النفط واملعادن.
باجلرمية واالنقالبات ،وتُبىن اقتصاداهتا -احلالية واملاضية -غالبًا على شبكات جتارية ً
التحررية هو مؤشر البنك الدويل للمعرفة الذي جيمع مقاييس نصيب الفرد من التعليم (إملام البالغني
ولكن املؤشر األفضل للقيم ُّ َّ
بالقراءة والكتابة ،وااللتحاق باملدارس الثانوية والكليات) واحلصول على املعلومات (مستخدمو اهلواتف واحلواسب اآللية واإلنرتنت)
واإلنتاجية العلمية والتكنولوجية (الباحثون وبراءات االخرتاع ومقاالت اجملالت العلمية) ونزاهة املؤسسات (حكم القانون واجلودة التنظيمية
مؤشرا
التحررية ،ممَّا جيعله ً
أن مؤشر املعرفة حيسب سبعني يف املئة من االختالف بني الدول يف القيم ُّ واالقتصادات املفتوحة) .وجد ويلزيل َّ
أن املعرفة واملؤسسات الشرعية تؤدي إىلكثريا من الناتج احمللي اإلمجايل .تعلِّل هذه النتيجة اإلحصائية رؤية مهمة للتنوير ،وهي َّ
أفضل ً
التقدم األخالقي.
ال بد أن تنظر أي جولة يف التقدُّم الذي حدث يف احلقوق إىل أضعف فئات البشرية ،أي األطفال ،الذين ال يستطيعون التحرك من
أن حال األطفال حول العامل أصبح أفضل ،فاحتمالية أن يأتوا وإمنا يعتمدون على تعاطف اآلخرين .لقد رأينا بالفعل َّ أجل مصاحلهم َّ
إىل العامل وال جيدوا أمهاهتم ،أو أن ميوتوا قبل عامهم اخلامس ،أو أال يكتمل منوهم بسبب قلة الطعام ،أقل حدوثًا مما مضى .وسنرى
فهم أكثرأيضا معدل هروهبم من االعتداءات البشريةُ ، أن األطفال ،إضافةً إىل هروهبم من هذه االعتداءات الطبيعية ،يزداد اآلن ً هنا َّ
ٍ
بطفولة حقيقية أكرب. أمانًا مما سبق واحتمالية متتُّعهم
كثريا ،فالتقارير
إن رفاهة األطفال حالة أخرى تُفزع فيها عناوين األخبار املثرية ال ُقَّراءَ حىت لو كانت األمور املُفزعة يف احلقيقة أقل ًَّ
التنمر اإللكرتوين وتبادل الرسائل اجلنسية وحوادث
التنمر و ُّ
اإلعالمية عن حوادث إطالق النار على املدارس وحاالت االختطاف و ُّ
كأن األطفال يعيشون اآلن يف زم ٍن يزداد خطورًةَّ .
ولكن البيانات تقول غري االغتصاب من الرفقاء واالنتهاك اجلنسي واجلسدي توحي و َّ
ذلك ،وأحد األمثلة على هذا هو ابتعاد املراهقني عن املخدرات اخلطرة املذكورة يف الفصل الثاين عشر .ذكر عامل االجتماع ديفيد
فينكلهور ( )David Finkelhorوزمالؤه يف مراجعة للمؤلفات عن العنف ضد األطفال يف الواليات املتحدة عام 2014أنَّه «من
اجتاها ،ومل نشهد أي زيادة
كبريا يف ً 27
اجعا ًتعرض األطفال للعنف اليت فحصناها ،واليت بلغ عددها اخلمسني ،شهدنا تر ً بني اجتاهات ُّ
كبريا على األخص فيما يتعلَّق بإيذاء األطفال باالعتداءات و ُّ
التنمر واإليذاء اجلنسي». مؤثرة بني عامي 2003و ،2011كان الرتاجع ً
يوضح الشكل رقم 8-15ثالثة اجتاهات من بني تلك املذكورة. ِّ
االنتهاك الجسدي
االنتهاك الجنسي
كثريا للعنف ضد األطفال العقاب اجلسماين مثل الصفع والضرب والضرب بالعصي وبأغصان من األشكال األخرى اليت تراجعت ً
األشجار وباألحبال وبالسياط واجلَلد ووسائل غليظة أخرى لتعديل السلوك استخدمها اآلباء واملعلِّمون مع األطفال الذين ال حول هلم
وال قوة منذ النصيحة اليت انتشرت يف القرن السابع قبل احلقبة احلالية واليت تقول« :إذا منعت عصاك ،أفسدت ابنك» .أدانت عدة
ولكن الواليات املتحدة تنشز ثانيةً عن الدول الدميقراطية
وجرمته أكثر من نصف دول العاملَّ ،قرارات لألمم املتحدة العقاب اجلسماينَّ ،
فإن قبول كل أشكال العقاب اجلسماين يف املتقدمة ،إذ تسمح بضرب األطفال بالعصي يف املدارس ،ولكن حىت يف الواليات املتحدة َّ
تراج ٍع ٍ
ثابت وإن كان بطيئًا.
1
تتضمن استخراج نسالة الكتان من بني اخليوط القطرانيةإن مهمة أوليفر تويست الذي يبلغ من العمر تسعة أعوام واليت كانت َّ
انتشارا ،وهي عمالة األطفال .فتحت رواية ديكنز ً يف إصالحية إجنليزية هي جمرد حملة خيالية عن إحدى أوسع انتهاكات األطفال
) ،(Dickensإضافةً إىل قصيدة إليزابيث باريت براونينج ( )Elizabeth Barrett Browningاليت نُشرت عام 1843
بعنوان صرخة األطفال ( )The Cry of the Childrenوكث ٍري من الفضائح الصحافية عيون ال ُقَّراء يف القرن التاسع عشر على
الظروف املروعة اليت كان األطفال ُجي َربون على العمل فيها يف تلك احلقبة .كان األطفال الصغار يقفون على صناديق إلدارة اآلالت
برش املاء
وجي َربون على البقاء مستيقظني ِّحمم ًال بغبار القطن أو الفحمُ ،
اخلطرية يف املطاحن واملناجم ومصانع التعليب ،ويتنفسون هواءً َّ
البارد على وجوههم ،مث ينهارون وينامون بعد الورديات املرهقة والطعام ما يزال يف أفواههم.
دي عاملة يف الزراعة ويف املنازل،
ولكن قسوة عمالة األطفال مل تبدأ يف املصانع يف العصر الفيكتوري ،فلطاملا كان األطفال أيا َ
َّ
وكان أهلهم عاد ًة ما يؤجروهنم للعمل يف خدمة اآلخرين أو يف العمل يف الصناعات املنزلية مبجرد أن يستطيعوا املشي غالبًا .ففي القرن
ٍ
لساعات وال السابع عشر على سبيل املثال كان األطفال الذين يُكلَّفون بالعمل يف املطابخ يشوون قطع اللحم باستخدام األسياخ
شكال من أشكال استغالال هلم ،بل كانت ً
ً يفكر يف عمالة األطفال بوصفهاقش مبلَّلة .مل ي ُكن أحد ِّ
حيميهم من النريان سوى حزمة ٍّ
التعليم األخالقي الذي حيمي األطفال من البطالة والرتاخي.
أعيدت صياغة مفهوم الطفولة بدءًا باملقاالت املؤثرة اليت كتبها جون لوك يف عام 1693وجان جاك روسو يف عام ،1762
شكال جوهريًّا من أشكال التعلُّمَّ ،
وشكلت السنوات وأصبحت مرحلة الصبا والشباب اهلنيئة تُعد حقًّا طبيعيًّا لإلنسان ،وأصبح اللعب ً
وحددت مستقبل اجملتمع .يف العقود اليت سبقت مطلع القرن العشرين وتلته مت إضفاء هالة من األوىل من حياة الطفل بقية حياته كبال ٍغ َّ
القدسية على الطفولة كما تقول عاملة االقتصاد فيفيانا زيليزير ( )Viviana Zelizerووصل األطفال إىل حالتهم احلالية وهي كوهنم
«ال قيمة هلم من الناحية االقتصادية وال يُقدَّرون بثم ٍن من الناحية العاطفية»ُ .تلَّصت اجملتمعات الغربية تدرجييًّا من عمالة األطفال،
"يكون ضغط األعمال العاجلة يف الربيع هو السبب غالبًا يف منع الصبيان عن الذهاب إىل املدارس عدة أشهر ،قد يبدو
عادال للصيب! فأنت إذا حرمته من التعليم ،أعقت طريقه يف احلياة ،ففي هذا العصر ،تزداد أمهية هذا ضروريًّا ،ولكنَّه ليس ً
يوما بعد يوم يف حتقيق النجاح واملكانة يف كل مناحي احلياة ،مبا فيها الزراعة.
التعليم ً
إذا شعرت أنَّك أمهلت تعليمك على غري رغبتك ،فسرتيد بطبيعة األمر ألطفالك أن يتمتَّعوا مبزايا التعليم احلقيقي وأن
حيصلوا على بعض ما مل ِ
تستطع احلصول عليه.
رجل مع طفله رجل واح ٌد من القيام ٍ َّ
بعمل أكثر مما يقوم به ٌ جرار كيس الذي يعمل بالكريوسني سيتمكن ٌ مبساعدة َّ
سيتمكن طفلك من تلقي تعليمه دون انقطاع ولن تتأثَّر األعمال يف فصل َّ الكادح مبساعدة األحصنة ،خالل نفس الوقت.
جرار كيس وحمراث جراوند ديتور ومعدات هارو اآلن. الربيع بغيابه إذا استثمرت يف َّ
جرار كيس الذي يعمل بالكريوسني حيل حمله يف احلقل ،ولن تندم مطل ًقا على دع الصيب يذهب إىل املدرسة ،واجعل َّ
أي من هذين االستثمارين".
ٍّ
العالم
إيطاليا (منظمة العمل الدولية
-برنامج التقديرات
إنجلترا
والتوقعات للسكان
ًّ
اقتصاديا) النشطين العالم
(منظمة العمل الدولية -البرنامج
الدولي للقضاء على عمل األطفال)
الواليات
المتحدة
أيضا الرتاجع الشديد يف إيطاليا ،وتسلسلني زمنيني حديثني لبيانات العامل ،ليست اخلطوط متناسبة بسبب يوضح الرسم البياين ً ِّ
االختالفات يف املدى العمري وتعريفات «عمالة األطفال» ولكنَّها تُظهر االجتاه نفسه ،أي اهلبوط .كان 16.7يف املئة من األطفال يف
العامل يف عام 2012يعملون ساعةً أو أكثر يف األسبوع ،و 10.6يف املئة منهم يشاركون يف أنو ٍاع مرفوضة من «عمالة األطفال»
مبكرة) ،و 5.4يف املئة منهم يعملون يف ٍ
أعمال خطرية ،وهي نسبةٌ كبريةٌ جدًّا ولكنَّها أقل من نصف سن ِّ
(ساعات عمل طويلة أو يف ٍّ
عاما فقط .ترتَّكز عمالة األطفال اآلن -كما كانت ً
دائما -يف الزراعة واحلراجة وصيد األمساك ،ال يف التصنيع، املعدَّل قبل اثين عشر ً
أيضا ،فكلَّما ازداد فقر الدولة ،ازدادت النسبة املئوية لألطفال الذين يعملون.
أثر له ً
ب له و ٌوتالزم الفقر على املستوى الوطين ،سب ٌ
هائال مع ارتفاع األجور أو عندما تدفع احلكومات لآلباء مقابل إرسال أطفاهلم إىل املدرسة،
اخنفاضا ً
ً تنخفض معدالت عمالة األطفال
وهو ما يشري إىل َّ
أن اآلباء الفقراء يرسلون أطفاهلم إىل العمل بدافع اليأس وليس اجلشع.
مدفوعا
ً كان التقدُّم الذي حدث يف إهناء عمالة األطفال ،كما حدث فيما خيص اجلرائم واملآسي األخرى اليت تصيب البشر،
بزيادة سعة العيش على املستوى العاملي ،إضافةً إىل احلمالت األخالقية اإلنسانية .صدَّقت 180دولةً يف عام 1999على اتفاقية
حظر أسوأ أشكال عمل األطفال ،ومشلت «أسوأ أشكال العمل» اليت مت حظرها األعمال اخلطرية واستغالل األطفال يف العبودية واإلجتار
يف البشر وعبودية الدين والدعارة وصناعة األفالم اإلباحية واإلجتار يف املخدرات واحلروب .رغم عدم حتقيق هدف منظمة العفو الدولية
بشكل رمزي علىٍ اضحا وضوح الشمس ،ومت التصديق أن الزخم كان و ً بالقضاء على أسوأ أشكال العمل حبلول عام َّ ،2016إال َّ
القضية يف عام 2014عند ُمنحت جائزة نوبل للسالم لكايالش ساتيارثي ) ،(Kailash Satyarthiالناشط ضد عمالة األطفال
تبين قرار عام ،1999وتشارك اجلائزة مع مالال يوسفزاي ) ،(Malala Yousafzaiاملدافعة الشجاعة مفيدا يف ِّ
والذي كان دوره ً
تطوٍر آخر يف ازدهار البشرية ،وهو توسع نطاق إتاحة املعرفة.
عن تعليم الفتيات .ويقودنا هذا إىل ُّ
الفصل السادس عشر:
المعرفة
«اإلنسان العاقل» ) (Homo Sapiensهو النوع الوحيد الذي يستخدم املعلومات يف مقاومة احنالل اإلنرتوبيا وأعباء التطور.
يكتسب البشر يف كل مكان املعرفة باملناظر الطبيعية احمليطة هبم والنباتات واحليوانات فيها ،واألدوات واألسلحة اليت ميكنها هزميتهم،
والشبكات والقواعد اليت حتيطهم باألقرباء واحللفاء واألعداء ،ويراكمون تلك املعرفة ويشاركوهنا باستخدام اللغة واإلشارات واإلرشاد
املباشر.
صورا من التكنولوجيا تضاعف باطِّر ٍاد معدل منو املعرفة ،مثل الكتابة والطباعة ووسائل اإلعالم اكتشف الناس عرب التاريخ ً
اإللكرتونية .تعيد سوبرنوفا املعرفة حتديد معىن صفة البشرية باستمرار ،فيعتمد فهمنا ملاهيتنا ومنشأنا ولكيفية سري العامل ولألمور املهمة
متاما َّإال َّ
أن علماء أن الصيَّادين والرعاة و َّ يف احلياة على أخذ ٍ
جزء من خمزون املعرفة اهلائل واملتنامي باستمرار .رغم َّ
بشر ًالفالحني األميني ٌ ُ
إن وعي املرء ببلده وتارخيه ،وبتنوع العادات واملعتقدات يف كثريا على توجههم ناحية احلاضر واحمللي وامللموسَّ ، األنثروبولوجيا يعلِّقون ً
خمتلف أحناء الكرة األرضية وخمتلف العصور ،وبأخطاء احلضارات السابقة وانتصاراهتا ،وعوامل اخلاليا والذرات الصغرية وعوامل الكواكب
واجملرات الكبرية ،وبواقعية األرقام واملنطق واألمناط غري امللموسة ،يرتقي بنا حقًّا إىل مستوى أعلى من الوعي ،وهذه هدية االنتماء إىل
نوع ذكي ِّ
مفكر له تاريخ طويل. ٍ
وقت طويل منذ أن استطعنا مترير خمزون ثقافتنا املعريف عرب احلكي والتعليم بالتدريب ،تعود املدارس النظامية إىل آالف السنني،
مر ٌ َّ
يتجمد حىت املوت يف شبابه بعد أن تسلَّق ٍ
نشأت على قصة تلمودية من القرن األول حتكي عن احلَرب اليهودي هليل الذي كاد أن َّ فقد
ُ
يستطع دفع مصروفاهتا كي يسرتق السمع إىل الدروس من خالل كوة السقفُّ .اهتِمت املدارس يف مدرسة مل ٍِ حىت وصل إىل سطح
وسع نطاق مسؤوليتها بتمجيده للمعرفة .الحظ واضع لكن التنوير َّأوقات كثريةٍ بغرس األفكار العملية أو الدينية أو الوطنية يف الصغار ،و َّ
كثريا
أن« :التعليم النظامي اكتسب مع مدخل العصر احلديث أمهيةً أكرب ً النظريات التعليمية جورج كاونتس (َّ )George Counts
توسعت مؤسسة املدرسة ،اليت مل ت ُكن يف املاضي سوى منظمة اجتماعية صغرية للغاية يف أغلب اجملتمعات من أي شيء شهده العاملَّ .
توس ًعا أفقيًّا ورأسيًّا حىت َّاُتذت مكاهنا بني أقوى مؤسسات اجملتمع إىل ٍ
جمموعة صغرية من السكانُّ ، مباشرا سوى يف حياة
تأثريا ً
ال تؤثر ً
جانب الدولة والكنيسة واألسرة واملِلكية» .التعليم اليوم إلزامي يف أغلب الدول ،وهو معرتف به من ضمن حقوق اإلنسان األساسية يف
الـ 170دولة األعضاء يف األمم املتحدة اليت وقَّعت على العهد الدويل للحقوق االقتصادية واالجتماعية والثقافية الصادر عام .1966
بطرق كثرية منها الواضح ومنها املخيف ،فمن اآلثار الواضحة َّ
أن بعض املعرفة متتد آثار التعليم املذهلة إىل كل مناحي احلياة ٍ
كبريا يف حتسني الصحة وإطالة العمر ،كما رأينا يف الفصل السادس .ومن اآلثاربالنظافة الصحية والتغذية واجلنس اآلمن قد ُحتدث فرقًا ً
أن املعرفة بالقراءة والكتابة واحلساب هي أساس تكوين الثروة يف العصر احلديث ،فالفتيات ال ِ
يستطعن العمل يف العامل أيضا َّ
الواضحة ً
العليا من السلِّم الوظيفي قدرات متزايدة
عد املؤن واللوازم ،وتستلزم الدرجات ُ
النامي حىت يف املنازل إذا مل ي ُكن بقدرهتن قراءة مذكرة أو ِّ
لفهم املواد الفنية .كانت أوائل الدول اليت قامت باهلروب الكبري من الفقر العاملي يف القرن التاسع عشر والدول اليت منت بأقصى سرعة
منذ ذلك احلني هي الدول اليت علَّمت أطفاهلا بكثافة قصوى.
أن الدول األغىن االرتباط ال يعين السببية ،كما يف كل مسائل العلوم االجتماعية ،هل تصبح الدول ذات التعليم األفضل أغىن أم َّ
أن السبب ال بد أن يسبق نتيجته .تشري الدراسات تستطيع حتمل نفقات املزيد من التعليم؟ ميكننا حل هذه املعضلة باستغالل حقيقة َّ
يؤدي حقًّا إىل زيادة اليت تقيِّم التعليم يف الوقت س والثروة يف الوقت ص ،مع ثبات بقية املعطيات كافة ،إىل َّ
أن االستثمار يف التعليم ِّ
أن اإلسبانينيالدول غىن ،على األقل إذا كان التعليم علمانيًّا وواقعيًّا .كانت إسبانيا حىت القرن العشرين متوانية وسط الدول الغربية ،رغم َّ
ألن التعليم اإلسباين كان حتت سيطرة الكنيسة الكاثوليكية ،وكان «أطفال العامة ال يتلقون سوى عالَّ ،كانوا حيصلون على تعلي ٍم ٍ
التعليمات الشفهية اخلاصة بالعقيدة واملبادئ الدينية وبضع مهارات يدوية بسيطةَّ ..أما العلوم والرياضيات واالقتصاد السياسي والتاريخ
املدربني» .وباملثل يُالم التدخل الديين على التأخر االقتصادي
العلماين فكانت تُعد مثرية للجدل بني أي أشخاص عدا علماء الالهوت َّ
يف أجز ٍاء من العامل العريب اليوم.
وعلى اجلانب األكثر روحانيةً ،جند َّ
أن التعليم يأيت هبدايا تتجاوز املعرفة العملية والنمو االقتصادي ،فالتعليم األفضل اليوم جيعل
صعب آثار التعليم واسعة النطاق متييز احللقات اليت تتخلَّل سلسلة السببية من التعليم النظامي إىل
غدا .تُ ِّ
الدولة أكثر دميقراطيةً وسلميةً ً
التناغم االجتماعي ،قد تكون بعض احللقات ببساطة دميوغرافية أو اقتصادية ،فالفتيات احلاصالت على تعلي ٍم أفضل ينجنب ً
عددا أقل
بفائض من الشباب املشاغبني أقل ،والدول ذات التعليمٍ من األطفال عندما يكربن ،وتكون احتمالية أن يتسبَّنب يف زيادة عدد الشباب
األفضل أغىن ،والدول األغىن تكون غالبًا أكثر سلمية ودميقراطية كما رأينا يف الفصلني احلادي عشر والرابع عشر.
ولكن بعض املسارات السببية تؤيد قيم التنوير ،إذ حتدث تغيريات كثرية عندما تتلقى التعليم! فتنسى اخلرافات اخلطرية اليت تعلَّمتها َّ
أن هناك ثقافات أخرى ترتبط بطريقة حياهتا أن من ال يشبهونك أقل رتبةً من البشر .وتعرف َّ أن الزعماء حيكمون باحل ِّق اإلهلي أو َّ
مثل َّ
أن املنقذين أصحاب الكاريزما قد قادوا بالدهم حنو كثريا عن أسبابك ،وتعرف َّ ٍ
كما ترتبط أنت بطريقة حياتك ألسباب ال ُتتلف ً
أن هناك طرقًا أفضل وأسوأ للحياة ،و َّ
أن أن معتقداتك اخلاصة قد تكون خاطئة ،مهما كانت صادقة أو رائجة ،وتعرف َّ ث ،وتعرف َّ كوار َ
أن هناك وسائل غري العنف حلل الصراعات .حتول كل أمورا ال تعرفها ،وتتعلَّم ً
أيضا َّ األشخاص اآلخرين أو الثقافات األخرى قد يعرفون ً
أي من هذه احلِ َكم محلة صليبية إلخضاع جريانك وقتلهم .ليس حتقُّق ٍّ هذه التجليات دون اإلذعان حلكم املستبدين أو االنضمام إىل ٍ
ُ
أكيدا بالطبع ،وخاصةً عندما تنشر السلطات عقائدها اخلاصة وحقائقها البديلة ونظريات املؤامرة ،وتكبت األفكار واألشخاص الذين ً
ٍ
قد يطعنون فيها ،يف إطراء غري مباشر على قوة املعرفة.
كرها
متييزا على أساس اجلنس و ًوهم أقل عنصريةً و ًأن األشخاص املتعلِّمني أكثر استنارًة حقًّاُ ،
تؤِّكد الدراسات على آثار التعليم َّ
التطوع
ميال إىل التصويت و ُّ
وهم أكثر ً ٍ
لألجانب ورهابًا من املثلية وسلطويةً ،ويقدِّرون اخليال واالستقاللية وحرية التعبري بقيمة أكربُ .
أيضا ٍ
ميال ًجلمعيات مدنية مثل النقابات واألحزاب السياسية واملنظمات الدينية واجملتمعية ،وأكثر ً والتعبري عن اآلراء السياسية واالنتماء
مكون أساسي يف اإلكسري الثمني الذي يُدعى رأس املال االجتماعي الذي مينح األشخاص الثقة إىل الثقة يف املواطنني اآلخرين ،وهي ِّ
يتعرضوا للخداع من اجلميع.للتعاقد واالستثمار وطاعة القانون دون اخلوف من أن َّ
لكل هذه األسبابَّ ،
فإن منو التعليم -وأوىل نتائجه اإلجيابية ،املعرفة بالقراءة والكتابة -أكرب عالمةً على تقدُّم البشرية ،ونرى قصة
حال بائس حىت جاء التنوير ،مث بدأت بضع دول ُترج عن القطيع، مشاهبة مع كث ٍري من أبعاد التنوير األخرى ،إذ كان اجلميع تقريبا يف ٍ
ً
يوضح الشكل رقم َّ 1-16
أن املعرفة بالقراءة والكتابة مؤخرا تلحق هبا ،وقريبًا ستعم هذه النعمة على العامل كله تقريبًاِّ .
وبدأت البقية ً
امتيازا لنخبة صغرية يف غرب أوروبا متثل أقل من ُمثن عدد السكان ،وكان هذا ينطبق على العامل بأكمله كانت قبل القرن السابع عشر ً
وقت طويل من بداية القرن التاسع عشر ،مث تضاعف معدل املعرفة بالقراءة والكتابة يف القرن التايل وتضاعف بأربعة أضعاف حىت بعد ٍ
يعرب بالقدر الكايف عن معدل تعليم القراءة يف القرن الذي تاله ،واآلن يعرف 82يف املئة من العامل القراءة والكتابة .وحىت هذا الرقم ال ِّ
األمي على األغلب مكون من كبار السن أو ممَّن هم يف منتصف العمر ،ففي كث ٍري من دول منطقة الشرق ألن اخلُمس ِّ والكتابة يف العامل َّ
األميني من املراهقني
أن نسبة ِّ عاما ،يف حني َّاألميون ثالثة أرباع َمن تبلغ أعمارهم أكثر من مخسة وستني ً األوسط ومشال إفريقيا ميثِّل ِّ
عاما إىل أربعة وعشرينوالشباب يف العشرينات من أعمارهم ال يزيد على .10كان معدل معرفة الشباب الصغار (من مخسة عشر ً
عاما) بالقراءة والكتابة 91يف املئة يف عام ،2010وهو ما يساوي معدل املعرفة بالقراءة والكتابة من بني كل عدد سكان الواليات ً
دمارا بفعل احلرب،
أن أقل معدالت املعرفة بالقراءة والكتابة ترتكز يف أفقر دول العامل وأكثرها ً املتحدة يف عام .1910من غري املفاجئ َّ
مثل جنوب السودان ( 32يف املئة) ومجهورية إفريقيا الوسطى ( 37يف املئة) وأفغانستان ( 38يف املئة).
هولندا المكسيك
الواليات
المتحدة
تشيلي
نسبة من يعرفون القراءة
إنجلترا /بريطانيا
العظمى/المملكة المتحدة
والكتابة
العالم
ألمانيا
إيطاليا
يا
ا ل ش ك ل رق م : 1 - 1 6حم و ا أل م ي ة م ن ذ 1 4 7 5ح ىت 2 0 1 0
المصدر ،Ortiz-Ospina & Roser 2016a& ،Our World in Data :وبيانات مما يلي :قبل عام Buringh & Van :1800
Zanden 2009.العامل .2014van Zanden et al. :الواليات املتحدة :املركز الوطين إلحصاءات التعليم .بعد عام Central :2000
( Intelligence Agencyوكالة االستخبارات املركزية) .2016
الواليات المتحدة
نسبة البالغين (أكبر من )15الحاصلين على التعليم األساسي
وكندا وأستراليا
ونيوزيلندا أمريكا الالتينية
إن السعي من أجل املعرفة غري حمدود على عكس مقاييس الرفاهة «لعمل كتب كثرية ال هناية ،والدرس الكثري تعب للجسد»َّ .
تتوسع
اليت حدها األدىن الطبيعي هو الصفر مثل احلرب واملرض ،أو سقفها الطبيعي مئة يف املئة مثل التغذية واملعرفة بالقراءة والكتابة ،ال َّ
مدفوع بالتكنولوجيا .بينما تقرتب ٍ
اقتصاد هائال يف ظل
ازديادا ً املعرفة يف حد ذاهتا إىل ما ال هناية فحسب ،بل َّ
ٍ إن عالوة املعرفة تزداد ً
ممتدا إىل التعليم
املعدالت العاملية حملو األمية والتعليم األساسي إىل سقفها الطبيعي ،فإن عدد سنوات الدراسة يواصل منوه يف كل الدولً ،
الواليات المتحدة
اليابان
تشيلي
الصين
سنوات الدراسة
الهند
كمبوديا
سيراليون
أن ثورة توزيع املعرفة املستمرة رغم أنَّنا ال نرى تقاربًا عامليًّا سوى بقد ٍر ٍ
ضئيل أو منعدم تقريبًا يف طول مدة الدراسة النظاميةَّ ،إال َّ
حتد من أمهية الفجوة ،إذ إ َّن معظم معارف العامل متاحة اآلن على اإلنرتنت وليست حبيسة املكتبات (والكثري منها جماين) ،والدورات
شخص ميتلك هات ًفا ذكيًّا.ٍ التعليمية املفتوحة على اإلنرتنت ( )MOOCsوصور التعليم عن بعد األخرى متاحة ألي
أيضا ،إذ ازدادت مقاييس االستعداد لاللتحاق باملدارس يف الواليات املتحدة بني أطفال األسر
تتناقص الفوارق األخرى يف التعليم ً
كبريا بني عامي 1998و ،2010رمبا يرجع هذا لربامج الروضةازديادا ً
منخفضة الدخل واألسر اهلسبانية واألمريكية من أصل إفريقي ً
اجملانية املتاحة على ٍ
نطاق واسع ،والمتالك األسر الفقرية اليوم املزيد من الكتب واحلواسب اآللية وإمكانية االتصال باإلنرتنت وقضاء
اآلباء وقتًا أطول يف التفاعل مع أطفاهلم.
وبالتايل فإنَّه حىت أكرب أشكال التمييز على أساس اجلنس -منع الفتيات من التعليم -يف تراج ٍع ،وهذا التغيري ضروري ،ليس فقط
أيضا َّ
ألن اليد اليت هتز املهد يشكلن نصف عدد السكان فتعليمهن يعين إ ًذا مضاعفة حجم جمموعة املهارات املتاحة ،بل ً ألن النساء ِّ
َّ
حتكم العامل .عندما تتعلَّم الفتيات ،تصبح صحتهن أفضل ،وينجنب ً
عددا أقل وأكثر صحةً من األطفال ،وت ُك َّن أكثر إنتاجيةً ،وكذلك
يوضح
أن تعليم الشعب بأكمله ،وليس النصف ذي األعضاء الذكورية فقط ،فكرة جيدةِّ . تكون بلداهنن .استغرق الغرب قرونًا يف إدراك َّ
أن النساء اإلجنليزيات مل يتعلَّمن القراءة والكتابة بنفس معدل الرجال اإلجنليز حىت عامالشكل رقم 4-16اخلط الذي ميثِّل إجنلرتا َّ
عوض الوقت الضائع فانتقل من تعليم القراءة للبنات بقدر ثُلثي الصبيان فقط .1885حلق هبا العامل بأكمله الح ًقا ولكنَّه سرعان ما َّ
أن العامل قد حقَّق هدف التنمية ٍ
بأعداد متساوية يف عام .2014أعلنت األمم املتحدة َّ يف عام 1975إىل تعليم الصبيان والبنات
املستدامة لعام 2015وهو حتقيق التكافؤ بني اجلنسني يف التعليم األساسي والثانوي واجلامعي.
العالم
نسبة اإلناث المتعلِّمات إلى الذكور المتعلِّمين
إنجلترا
باكستان
أفغانستان
َّأما اخلطَّان الثانيان فريويان قصتهما اخلاصة .الدولة األسوأ يف النسبة بني اجلنسني يف املعرفة بالقراءة والكتابة هي أفغانستان ،ال
حد يف كل مقاييس التنمية البشرية تقريبًا (مبا يشمل معدل املعرفة اإلمجالية بالقراءة والكتابة ،الذيتقرتب أفغانستان فحسب إىل أقل ٍّ
أيضا منذ عام 1996حىت 2001حتت سيطرة طالبان ،احلركة وإمنا كانت ًثبت يف عام 2011عند رقم بالغ السوء هو َّ ،)0.52
األصولية اإلسالمية اليت منعت الفتيات والنساء من ارتياد املدارس ضمن بشاعات أخرى ارتكبتها .واصلت طالبان ترهيب الفتيات من
تلقِّي التعليم يف املناطق اليت تسيطر عليها من أفغانستان وباكستان اجملاورة .بدأت مالال يوسف زاي -اليت كانت تبلغ من العمر اثين
عاما واليت كانت أسرهتا تدير سلسلة مدارس يف وادي سوات يف باكستان -يف عام 2009تدافع علنًا عن حق الفتيات يف عشر ً
يوم ستعيش ذكراه املخزية هو 9من أكتوبر عام ،2012صعد رجل مسلَّح ينتمي إىل طالبان على منت حافلتها املدرسية التعليم ،ويف ٍ
وأطلق النار على رأسها ،وجنت من احلادث لتصبح أصغر حائزة على جائزة نوبل للسالم وإحدى أكثر السيدات احملبوبات يف العامل.
ولكن ميكننا أن نرى التقدُّم حىت يف هذه األجزاء املظلمة من العامل .تضاعفت النسبة بني اجلنسني يف املعرفة بالقراءة والكتابة يف أفغانستان
خالل الثالثة عقود املاضية وازدادت مبقدار النصف يف باكستان اليت تطابق النسبةُ فيها اليوم النسبةَ يف العامل يف عام 1980والنسبةَ
العرف العام واللباقة العامة ستدفع هذه ولكن تيار النشاط العاملي والتنمية االقتصادية و ُ
يف إجنلرتا يف عام .1850ال يوجد شيءٌ أكيد َّ
النسبة على األرجح لتبلغ سقفها الطبيعي.
األمريكتين
العالم
أوروبا
أستراليا ونيوزيلندا
إفريقيا
يوضح بالرسم التغيري يف معدالت الذكاء يف قارةٍ بالنسبة إىل متوسط النتيجة يف أول ٍ
عام أتيحت كال من هذه اخلطوط ِّ أن ًّ
الحظ َّ
ألن االختبارات والفرتات اخلاصة بالقارات املختلفة ليست متناسبة بصورةٍ مباشرة .ال ميكنا أنعنه بيانات ،وهو ُحيدَّد بالصفر عشوائيًّا َّ
أن معدل الذكاء يف إفريقيا يف عام 2007يساوي معدل الذكاء نقرأ الرسم البياين كما قرأنا الرسوم السابقة ونستنبط على سبيل املثال َّ
أن االرتفاع يف معدالت الذكاء يتبع قانون شتاين الذي ينص على َّ
أن األشياء يف أسرتاليا ونيوزيلندا يف عام .1970من غري املفاجئ َّ
اليت ال ميكن أن تستمر إىل األبد ،ال تستمر .إذ يتضاءل أثر فلني اآلن يف بعض الدول اليت استمر فيها فرتًة طويلة.
رغم أنَّه ليس من السهل حتديد أسباب ارتفاع معدالت الذكاء بدقةَّ ،إال َّ
أن إمكانية تعزيز مسة تنتقل بالوراثة عرب إحداث تغيريات
أيضا وازدادت على مر العقود ،ولنفس األسباب تقريبًا ،وهي يف البيئة ليست مفارقةً ،وهذا ما حدث يف الطول ،وهو مسة تنتقل بالوراثة ً
كونة من الدهون والربوتينات اليت يتطلَّب
إن املخ عضو جشع ،يستهلك حوايل ُمخس طاقة اجلسم امل َّ التغذية األفضل واألمراض األقلَّ .
ارد إنتاجها من اجلسم الكثري ،وحماربة العدوى مكلِّفة جدًّا من حيث عمليات األيض ،وقد ينتزع اجلهاز املناعي اخلاص ٍ
بطفل مريض مو َ
الس ِّميات
أيضا يف منو املخ البيئة النظيفة اليت حتتوي على مستويات أقل من الرصاص و ُ توجه لوال ذلك ناحية منو املخ ،وممَّا يساعد ًقد َّ
إن الغذاء والصحة وجودة البيئة من ضمن مزايا اجملتمع األغىن ،ومن غري املفاجئ ارتباط أثر فلني بالزيادات يف نصيب الفرد األخرىَّ .
من الناتج احمللي اإلمجايل.
فأوال :جيب أن ترتَّكز مزايامها على رفع النصف األدىن
ولكن التغذية والصحة ال ميكنهما تفسري سوى جزء واحد من أثر فلنيً ،
َّ
مجودا الذين أعاقهم سوء الغذاء والصحة (فالقدر اإلضايف
املعرب عن معدالت الذكاء ،الذي يشمل األشخاص األكثر ً
من منحىن اجلرس ِّ
من الطعام عندما يتجاوز نقطةً معينة جيعل الناس أبدن ال أذكى) .يرتَّكز أثر فلني بالفعل يف بعض األوقات واألماكن يف النصف األدىن
ٍ
مجودا إىل املتوسط ،ولكن يف أوقات وأماكن أخرى ،يتحرك املنحىن بأكمله إىل اليمني ،فيزداد األذكياء ذكاءًفيقرب األشخاص األكثر ً ِّ
بداية تتسم بالصحة والغذاء اجليد .ثانيًا :جيب أن تؤثر التحسينات يف الصحة والتغذية يف األطفال أكثر من رغم َّأهنم ينطلقون من ٍ
أن التجارب يف الطريق حنو النضج قد ولكن أثر فلني أقوى على البالغني منه على األطفال ،ممَّا يشري إىل َّ
غريهم حىت يصبحوا بالغنيَّ ،
املبكرة (والتجربة األوضح من بني هذه التجارب هي أيضا إىل جانب التكوين البيولوجي يف الطفولة ِّ دفعت معدالت الذكاء لالرتفاع ً
لكن فرتات صعودها
أيضاَّ ، التعليم) .يف حني َّ
أن معدل الذكاء ارتفع مبرور العقود ،وازداد كلٌّ من التغذية والصحة والطول مبرور العقود ً
بعضا عن ٍ
قرب. واستقرارها املختلفة ال تتبَّع بعضها ً
ولكن السبب األساسي يف كون الصحة والتغذية غري كافيتني لتفسري ارتفاع معدل الذكاء هو َّ
أن ما ارتفع مبرور الوقت ليس القدرة َّ
العقلية اإلمجالية ،فأثر فلني ليس زياد ًة يف العامل ،gالعامل العام للذكاء الذي ِّ
يشكل أساس كل أنواع الذكاء الفرعية (اللفظي واملكاين
أن معدل الذكاءوالرياضي وذكاء الذاكرة ،وغري ذلك) وهو اجلانب األكثر تأثـًُّرا من الذكاء بصورة مباشرة باجلينات الوراثية .يف حني َّ
ٍ
بسرعة أكرب من لكن بعض نتائج االختبارات الفرعية قد ارتفعت
أن نتائج كل اختبارات الذكاء الفرعية قد ارتفعتَّ ، اإلمجايل قد ارتفع و َّ
ٍ
بدرجة كبرية. بنمط خيتلف عن النمط املرتبط باجلينات ،وهذا سبب آخر ال جيعل أثر فلني يشك يف إمكانية توريث معدل الذكاء غريها ٍ
أحد املكاسب مل ت ُكن يف أن َّ إذًا ما أنواع األداء الفكري الذي دفعته البيئات األفضل لالرتفاع يف العقود األخرية؟ من املفاجئ َّ
اجملردة
بشكل مباشر يف املدارس مثل املعلومات العامة واحلساب واملفردات ،بل كانت يف أنواع الذكاء َّ ٍ درساملهارات امللموسة اليت تُ َّ
املائعة اليت حتفزها األسئلة عن أوجه التشابه مثل («ما العامل املشرتك بني الساعة والسنة؟») والتناظر («الطائر ميثِّل للبيضة ما متثِّله
تسلسال حتكمه قاعدةً شكل هندسي معقَّد يالئم
الشجرة ملاذا؟») واملصفوفات البصرية (عندما يكون على اخلاضع لالختبار اختيار ٍّ
جمردة (الساعة والسنة «وحدتان زمنيتان») فإن ما ازداد أكثر من غريه هو العقلية التحليلية ،أي وضع املفاهيم يف فئات َّ حمددة) .إذًا َّ
بدال من استيعاهبا بالكامل ،وأن يضع املرء نفسه يف عا ٍمل افرتاضي حتدِّه قواعد معينة وتشريح األغراض ذهنيًّا إىل أجز ٍاء وعالقات ً
أن كل شيء يف الدولة س مصنوعٌ من البالستيك ،هل تكون ويستكشف آثاره املنطقية مع تنحية التجارب اليومية جانبًا («لنفرتض َّ
األفران مصنوعة من البالستيك؟») تنطبع العقلية التحليلية يف الذهن بالتعليم النظامي حىت لو مل خيصها املعلِّم بالذكر يف الدرس مطل ًقا،
الصم (وهذا هو اجتاه التعليم منذ أوائل عقود القرن العشرين) .خارج مبىن التفكر وليس احلفظ َ املقرر الدراسي يستلزم الفهم و ُّ طاملا كان َّ
تشجع الثقافة اليت تتبادل الرموز البصرية (خرائط مرتو األنفاق وشاشات العرض الرقمية) واألدوات التحليلية (جداول البيانات املدرسةِّ ،
وتقارير األسهم) واملفاهيم األكادميية اليت تنتشر يف اللغة العامية (مثل العرض والطلب ،ويف املتوسط ،وحقوق اإلنسان ،ومفيد جلميع
األطراف ،واالرتباط يف مقابل السببية ،واإلجيابية الزائفة).
هل أثر فلني مهم يف العامل الواقعي؟ بالتأكيد ،فمعدل الذكاء املرتفع ليس جمرد رقم ميكنك التباهي به يف ٍ
حانة أو تنضم به إىل
ٍ
وظائف ياح قوية تدفعك يف حياتك ،فأصحاب النتائج العالية يف اختبارات الذكاء حيصلون على مجعية منسا ) ،(Mensaولكنَّه ر ٌ
بصحة أفضل وحياةٍ أطول ،وتقل احتمالية ُّ
تعرضهم ملشاكل قانونية ،ويكون لديهم عددٌ ٍ أفضل ويؤدون أفضل يف وظائفهم ويتمتَّعون
أكرب من اإلجنازات اجلديرة بالذكر مثل تأسيس شركات أو احلصول على براءات اخرتاع أو صناعة أعمال فنية حمرتمة ،وكل هذا مع ثبات
ٍ
كمقياس ،واليت ما املكانة االقتصادية االجتماعية (مت تفنيد األسطورة القائلة بعدم وجود معدل الذكاء أو عدم إمكانية االعتماد عليه
زالت شائعة بني ِّ
املفكرين اليساريني منذ عقود) .ال نعرف ما إذا كانت هذه العالوات تأيت من العامل العام للذكاء وحده أم من عنصر
اجملرد ميكنه أن يصقل احلس األخالقي ،وأوافقه الرأي، أن ُّ
التفكر َّ ولكن اإلجابة هي كالمها على األرجح .مخَّن فلني َّ
الذكاء لدى فلنيَّ ،
التأمل يف مساءل مثل «لوال ثرويت ألملَّ يب هذا املصاب» أو «كيف
فالفعل املعريف املتمثِّل يف حترير النفس من تفاصيل حياة املرء نفسه و ُّ
سيكون العامل لو فعل اجلميع هذا؟» قد يكون بوابةً على العطف واألخالقيات.
أن الذكاء يف زيادةٍ ،فهل ميكننا أن نرى األرباح الناجتة عن الذكاء املتزايد يف التحسينات اليت
أن الذكاء يأيت بنتائج جيدة ومبا َّ
مبا َّ
أفكارا أكثر عبقريةً ِّ
شك بعض املشككني (مبن فيهم فلني نفسه يف البداية) فيما إذا كان القرن العشرون قد أنتج حقًّا ً جتري على العامل؟ َّ
مناطق بكر ،فبمجرد أن يكتشف أحدهم االختالف بني لكن عباقرة املاضي حظوا مبيزة استكشاف ٍ من عصور هيوم وجوته وداروين .و َّ
إن املشهد الفكري اليوم وطئه الكثريون، التحليلي والرتكييب أو نظرية االنتخاب الطبيعي لن يستطيع أحد اكتشافهما ثانيةً مطل ًقاَّ .
املفكرين ذوي التعليم الفائق والشبكات املرتابطة الذين يشغلون كل زاوية وركن ،ومعويصعب على عبقر ٍي منفرد أن يتفوق على حشود ِّ
أن أبرز العيب الشطرنج والربيدج يصبحون أصغر باستمرار ،وال ذلك فقد ظهرت بعض العالمات على زيادة ذكاء العامة ،مثل حقيقة َّ
يستطيع أحد التشكيك يف السرعة اهلائلة للتطورات يف العلم والتكنولوجيا خالل نصف القرن املاضي.
اجملرد حول العامل كله ،وهو الرباعة يف التكنولوجيا الرقمية ،فالفضاء املعلومايت هو اجملال
وهناك زيادة ظاهرة يف أحد أنواع الذكاء َّ
أمناط غري ملموسة .عندما واجه الناس وإمنا بالتالعب برموٍز و ٍاجملرد األكرب الذي تتحقَّق فيه األهداف ليس بدفع املادة عرب الفضاءَّ ،
مسجالت شرائط الفيديو وماكينات التذاكر يف أنظمة مرتو األنفاق اجلديدة ،كانوا الواجهات الرقمية للمرة األوىل يف السبعينيات مثل ِّ
أن معظم أجهزة تسجيل شرائط الفيديو تشري شاشاهتا إىل الساعة ""12:00 مرتبكني ،فكانت من النكات الشائعة يف الثمانينيات َّ
ولكن اجليل إكس وجيل األلفية اشتهرا بازدهارمها يف اجملال الرقمي (يف ألن أصحاهبا مل يستطيعوا اكتشاف كيفية ضبط الوقت فيهاَّ . َّ
ُّ
التحكم فيما تراه على اشرتيت ووالدتك برناجمًا ِّ
ميكننا من ُ أب البنه الصغري« :يا بين،
أحد الرسوم الكارتونية يف األلفية اجلديدة ،يقول ٌ
متجاوزا الغرب غالبًا يف تبنِّيه اهلواتف الذكية وتطبيقاهتا
ً أيضا،
اإلنرتنت .ممم ..هل ميكنك تثبيته؟») وازدهر العامل النامي يف ذلك اجملال ً
مثل اخلدمات البنكية عرب اهلواتف احملمولة ،والتعليم ،والتحديثات الفورية خبصوص األسواق.
حتليل أجراه االقتصادي
هل يساعد أثر فلني يف تفسري االرتفاعات األخرى اليت رأيناها يف معدالت الرفاهة يف هذه الفصول؟ يشري ٌ
املتغريات املربكة املعتادة -مثل التعليم والناتج احمللي اإلمجايل
آر دابليو هيفر ( )R. W. Haferإىل أنَّه يفعل ،فوجد مع ثبات كل َّ
أن متوسط معدل الذكاء يف الدولة يتنبأ بنموها الالحق يف واإلنفاق احلكومي ،بل وحىت تكوين الدولة الديين وتارخيها االستعماريَّ -
نصيب الفرد من الناتج احمللي اإلمجايل ،إضافةً إىل منوها يف املقاييس غري االقتصادية للرفاهة مثل طول العمر ووقت الفراغ .وقدَّر َّ
أن
عاما فقطالزيادة يف معدل الذكاء مبقدار 11نقطة بإمكاهنا اإلسراع مبعدل منو الدولة مبا يكفي ملضاعفة رفاهتها خالل تسعة عشر ً
عجل بأثر فلني ،مثل االستثمارات يف الصحة والتغذية والتعليم ،قد جتعل الدولة أغىن وتتمتَّعبدال من سبعة وعشرين ،والسياسات اليت تُ ِّ
ً
حبك ٍم أفضل وأسعد على املدى البعيد.
دائما علم االجتماع ،ورمبا يكون من غري املستحيل حل ِحَزم االرتباطات بني كل الطرق اليت َّ
حتسنت هبا احلياة ما يفيد البشرية ال يفيد ً
بدال من ذلك.ني ،ولكن لنتوقف عن القلق حلظةً بشأن مدى صعوبة فك اخليوط ومالحظة اجتاهها الشائع ً وتتبُّع األسهم السببية بيق ٍ
تشري حقيقة ارتباط كث ٍري من أبعاد الرفاهة يف خمتلف الدول والعقود إىل احتمالية وجود ظاهرة متناسقة تكمن وراءها ،وهي ما يطلق عليه
مسترتا أو متدخال ،ولدينا اسم لذلك العامل ،وهو التقدُّم.
عنصرا أساسيًا أو متغيِّـًرا خفيًا أو ً
عاما أو ً
عامال ًعلماء اإلحصاء ً
ولكن برنامج األمم املتحدة اإلمنائي يقدِّم ٍ -
بإهلام من مل حيسب أح ٌد قوة التقدُّم املوجهة الكامنة يف كل أبعاد ازدهار البشريةَّ ،
يتكون من ثالثة
االقتصاديني حمبوب احلق ( )Mahbub ul Haqوأمارتيا سن ( -)Amartya Senمؤشًرا للتنمية البشرية َّ
مؤشرات رئيسية ،هي :متوسط العمر املتوقع ،ونصيب الفرد من الناتج احمللي اإلمجايل ،والتعليم .نكون هبذا الفصل قد نظرنا يف كل هذه
اخلريات -التمتُّع بصحة جيدة وثروة وحكمة -وهي مرحلة مالئمة للرتاجع خطوةً إىل الوراء واستيعاب تاريخ تقدُّم البشرية القابل للقياس
الكمي قبل أن ننتقل إىل جوانبه النوعية يف الفصلني التاليني.
طور اقتصاديان نسخهما اخلاصة من مؤشر التنمية البشرية الذي ميكن تقديره بأثر رجعي يف القرن التاسع عشر ،وجتمع كل نسخة َّ
منها مقاييس طول العمر والدخل والتعليم ٍ
بطرق خمتلفة .حيسب مقياس ليوناردو برادوس دي ال إسكوسورا التارخيي للتنمية البشرية الذي
متطرفة يف أحد املقاييس االثنني ٍ
بوسيط هندسي وليس حسابيًّا (كي ال تغمر قيمةٌ ِّ يعود إىل عام 1870متوسط املقاييس الثالث
طور أوك رجيما ( Auke ويغري مقياسي طول العمر والتعليم للتعويض عن تناقص املردود يف طرفيهما ذوي املستوى العايلَّ .اآلخرين) ِّ
)Rijpmaمن مشروع «كيف كانت احلياة؟ How Was Life -؟» مرَّكبًا للرفاهة يعود إىل عام ،1820يشمل إضافةً إىل
مقاييس للطول (نيابةً عن الصحة) والدميقراطية وجرائم القتل وانعدام املساواة يف الدخل والتنوع البيولوجي
َ الثالثة مقاييس الكبرية
يتحسنا بصورةٍ منتظمة على مدار القرنني املاضيني) .تتضَّح يف الشكل رقم 6-16درجات(املقياسان األخريان مها الوحيدان اللذان مل َّ
العامل يف بطاقيت التقارير.
حملة من البصر .وجند يف اخلطني حبكتني فرعيتني حيويتني ،إحدامها أنَّه يعد النظر إىل هذا الرسم البياين مبثابة أسر تقدُّم البشرية يف ٍ
ُ
أن األجزاء األسوأ من العامل اليوم أفضل من األجزاء حتس ٍن ،و َّ
أن كل منطقة يف ُّ ٍ
أن العامل ما زال غري متسا ٍو بقدر كبري ،إَّال َّ
على الرغم من َّ
أن بقية العامل قد وصل يف عام 2007إىل قسمنا العامل إىل الغرب وبقية العامل ،فسنجد َّ وقت ليس بالبعيد (إذا َّاألفضل من العامل منذ ٍ
أن اخلطني ال مؤشرات الرفاهة تقريبًا يرتبط بالثروةَّ ،إال َّ
أن كل مؤشِّر من ِّمستوى الغرب يف عام .)1950واألخرى أنَّه على الرغم من َّ
تزدد فيهاوإمنا ازداد كلٌّ من طول العمر والصحة واملعرفة حىت يف كث ٍري من األوقات واألماكن اليت مل َ يعكسان عاملا أكثر ثراء فحسبَّ ،
ً ً
التحسن على األمد الطويل حىت عندما ال تكون يف تزام ٍن مثايل ،وتؤيِّد هذه ُّ أن كل جوانب ازدهار البشرية متيل إىل الثروة .واحلقيقة َّ
احلقيقة فكرة وجود شيء يُدعى التقدُّم بالفعل.
الفصل السابع عشر:
جودة الحياة
عما إذا كانت التطورات أن املرء قد يتساءل َّ أن القضاء على األمراض واجلوع واألمية إجنازات هائلة َّإال ال ُقساةَّ ،إال َّ رغم أنَّه ال ينكر َّ
يشجع الرغد اإلضايف يف العيش ُّما حقيقيًّا .بعد تلبية االحتياجات األساسية ،أال ِّ املتواصلة يف األمور اليت يقيسها االقتصاديون تُـ َعد تقد ً
األشخاص على االنغماس يف االستهالكية السطحية؟ وأمل ت ُكن التطورات يف الصحة وحمو األمية اليت تفاخر هبا أصحاب اخلطط اخلمسية َ
يف االحتاد السوفيييت والصني وكوبا ،واليت كانت مجيعها أماكن فيها احلياة قامتة؟ قد يكون األشخاص أصحاء وموسرين ومتعلِّمني وال
حييون مع ذلك حيا ًة غنية وهادفة.
بعض من هذه التحفظات ،فقد شهدنا تراجع العائق األساسي أمام التمتُّع حبياةٍ جيدة يف اليوتوبيا الشيوعية املزعومة، مت الرد على ٍ
أيضا هنوض أحد األبعاد الرئيسية لالزدهار الذي ال تشمله املقاييس املعيارية -وهو حقوق املرأة والطفل وهو الشمولية .وشهدنا ً
نوع أوسع من التشاؤم الثقايف ،وهو خشية َّأال يكون الدخل اإلضايف واملدى العمري واألقليات -بوتريةٍ ثابتة .يدور هذا الفصل حول ٍ
سباق على الوصولية املسعورة واالستهالكية اجلوفاء الصحي اإلضايف قد زاد من ازدهار البشرية يف النهاية إذا كانا قد وضعا الناس يف ٍ
هدف وغياب املعايري االجتماعية املهلك للروح. والرتفيه دون ٍ
ُ
ميكن للمرء بالطبع معارضة هذا االعرتاض الذي يأيت من النخب الدينية والثقافية التقليدية العريقة اليت حتتقر حياة الطبقة الربجوازية
ضح والربوليتاريا اخلاوية اليت تفرتض هذه النخب َّأهنا خاوية .قد يكون النقد االجتماعي تكبُّـًرا متخفيًّا يتداخل مع بُغض البشرية .يو ِّ
الناقد جون كاري ( )John Careyيف كتابه المثقفون والجماهير ) (The Intellectuals and the Massesكيف
احتقارا للشخص العادي كاد أن مياثل التطهري العرقي .تعينً أضمرت طبقة املثقفني األدباء الربيطانية يف العقود األوىل من القرن العشرين
أن النخبة اليت تدينها متيل إىل أن تكون هي نفسها من مستهلكي السلع الباهظة «االستهالكية» غالبًا يف الواقع «استهالك اآلخر» مبا َّ
كالكتب ذات األغلفة املقواة واألطعمة اجليدة والنبيذ اجليد والعروض الفنية املباشرة والسفر إىل اخلارج والتعليم عايل اجلودة ألبنائهم .إذا
يفضلوهنا ،حىت وإن بدت تافهة ملن ُهم أفضل من الناحية الثقافية ،فال بد أن استطاع املزيد من األشخاص حتمل تكلفة الرفاهيات اليت ِّ
أن خطيبًا كان يلقي خطبةً من فوق منربه عن أجماد الشيوعية فقال« :عندما تأيت الثورة ،سيأكل جيدا! حتكي نكتةٌ قدمية َّ
يُعد هذا شيئًا ً
قائال« :عندما
ولكين ال أحب الفراولة والقشطة» ،فصاح اخلطيب ً قائالِّ « :
رجل يف الصفوف األمامية ً فتذمر ٌاجلميع الفراولة والقشطة!» َّ
تأيت الثورة ،ستحب الفراولة والقشطة!»
أن اهلدفيتجنَّب أمارتيا سن هذا الفخ يف كتاب التنمية حرية ) (Development as Freedomعرب اقرتاح فكرة َّ
وطورت الفيلسوفة مارثا نوسبام
النهائي من التنمية هو متكني األفراد من اُتاذ خيارات ،أي إتاحة الفراولة والقشطة ملن يريدوهنماَّ .
قليال وحدَّدت جمموعة من «القدرات» األساسية اليت ال بد أن حيظى كل الناس بفرصة ( )Martha Nussbaumهذه الفكرة ً
ممارستها ،ميكن أن نعتربها مصادر مربَّرة للرضا واإلجناز تتيحها لنا الطبيعة البشرية .تبدأ قائمتها بالقدرات اليت يتيح العامل احلديث للناس
بإدراكها كما رأينا مثل طول العمر والصحة واألمان واإلملام بالقراءة والكتابة واملعرفة وحرية التعبري واملشاركة السياسية ،وتستمر لتشمل
التجارب اجلمالية واالستجمام واللعب واالستمتاع بالطبيعة واالرتباطات العاطفية واالنتماءات االجتماعية وفرص التأمل يف تصور املرء
للحياة اجليدة وفرص املشاركة فيها.
تتحسن يف
أن احلياة َّ وسأوضح َّ
ِّ سأوضح يف هذا الفصل كيف تتيح احلداثة بصورةٍ متزايدة للناس أن ميارسوا هذه القدرات ً
أيضا، ِّ
كثري من الناس ال حيبون الفراولة والقشطة وميكنهم ممارسة أموٍر أبعد من مقاييس االقتصاديني املعيارية مثل طول العمر والثروة .ما زال ٌ
إحدى هذه القدرات -التمتُّع حبريتهم يف مشاهدة التليفزيون واللعب بألعاب الفيديو -للتنازل عن أخرى مثل التقدير اجلمايل أو
شخص دوروثي باركر Dorothy Parkerالستخدام كلمة "- "horticultureأي البستنة- ٌ االستمتاع بالطبيعة (عندما حتدى
يف مجلة ،أجابت قائلةً "You can lead a horticulture, but you can't make her think" :وهو تالعب
باأللفاظ إذ استخدمت كلمة " "horticultureوقصدت هبا " "whore to cultureأي :ميكنك أن تقود العاهرة حنو الثقافة،
فرصا للتمتُّع مبختلف األطعمة اجلمالية والفكريةولكن املطعم الشامل الذي يقدِّم للناس ً ولكن ال ميكنك إجبارها على التفكري)َّ .
عما يتناوله كلٌّ منهم ،هو الصورة النهائية للتقدُّم.
واالجتماعية والثقافية والطبيعية يف العامل ،بغض النظر َّ
يكرسه الناس إلبقاء أنفسهم على قيد احلياة على حساب وقت ،ومن مقاييس التقدُّم اخنفاض مقدار الوقت الذي ِّ احلياة عبارة عن ٍ
إمتاعا يف احلياة .قال اهلل الرحيم آلدم وحواء وهو يطردمها من جنة عدن« :بِ َعَرق وجهك تأكل ً
خبزا»* ،وأكل األمور األخرى األكثر ً
أن من يصطادون أغلب الناس على مر التاريخ اخلبز بعرقهم بالفعل .فالزراعة مهنة ميتد عملها من شروق الشمس حىت غروهبا ،ورغم َّ
وجيمعون الثمار يفعلون هذا لبضع ساعات فقط يف اليوم مث يقضون ساعات أطول يف معاجلة وجتهيز الطعام (مثل تكسري البندق الصلب
كالصخر) إضافةً إىل مجع احلطب ونقل املياه وأداء مهام أخرى .يعمل شعب بومشن يف صحراء كاهلاري ،الذي كان يُطلق عليه «اجملتمع
املوسر األصلي» ،مثاين ساعات يوميًّا على األقل ،من ستة إىل سبعة أيام يف األسبوع ،على ٍ
مهام خاصة بالطعام وحده.
كان أسبوع عمل بوب كراتشيت *الذي يبلغ عدد ساعاته - 60ويوم عطلة واحد يف السنة ،وهو عيد امليالد اجمليد بالطبع -يف
سكان أوروبا الغربية يف عام 1870كانوا يعملون حوايل 66ساعة أن َّ
يوضح الشكل رقم َّ 1-17 متساهال مبعايري هذه احلقبةِّ .
ً الواقع
يف األسبوع (وكان البلجيكيون يعملون 72ساعة) يف حني كان األمريكيون يعملون 62ساعة .على مدار القرن ونصف القرن املاضي،
العمال بصورةٍ متزايدة من العبودية باألجر ،ويف أوروبا الغربية الدميقراطية االجتماعية (حيث يعملون اآلن أقل مبقدار 28ساعة يف
حترر َّ َّ
األسبوع) على حن ٍو أبرز من الواليات املتحدة الطموحة (حيث يعملون أقل مبقدار 22ساعة) .حىت مخسينيات القرن العشرين كان
وليال سبعة أيام يف األسبوع ،وكان خياف أن يطلب تقليل جدي أليب يعمل خلف ثالجة اجلنب يف متج ٍر غري ُمدفَّأ يف مونرتيال ً
هنارا ً
الدي الشابَّان نيابةً عنه ،منحوه عطالت متقطعة (وهو ما رآه صاحب العمل -احتج و َّ
عدد ساعات عمله حىت ال يستبدلونه ،عندما َّ
عذرا واهيًا للنشل من جيوب الناس») حىت قدَّمت له قوانني العمل بعد إنفاذها على حن ٍو أفضل أسبوع العمل *
مثل سكروج -بال شك « ً
املكون من 6أيام.
َّ
الواليات المتحدة
أجرا على ممارسة قدراتنا األساسية ونبذل بإرادتنا ساعات عمل كتلك اليت اتسم هبا العصر أن قلةً حمظوظةً منا تتلقى ًرغم َّ
بطرق أخرى (كانالعمال ممتنُّون لألرب ِع وعشرين ساعة اإلضافية املتاحة هلم كي يقضوها يف حتقيق أنفسهم ٍ
أن معظم َّ الفيكتوريَّ ،إال َّ
جدي يف يوم عطلته الذي فاز به بشق األنفس يقرأ الصحف اليديشية ويتأنق مرتديًا سرتةً وربطة عنق وقبعة فيدورا ويزور إما أخواته أو
أسريت).
أن كثريا من زمالئي األساتذة ينهون حياهتم املهنية حممولني على ٍ
نقالة من مكاتبهمَّ ،إال َّ
العمال يف وظائف أخرى أن َّ وباملثل ،رغم َّ ً
كوخ على
عديدة يسعدون بقضاء سنواهتم الذهبية يف القراءة وأخذ الدورات وزيارة احلدائق الوطنية بسيارة رحالت أو تدليل األحفاد يف ٍ
أيضا من هدايا احلداثة ،فكما يقول مورجان هاوسل )« :(Morgan Houselنقلق باستمرا ٍر بشأن أزمة جزيرةٍ رملية هادئة .وهذا ً
متويل التقاعد اليت تلوح يف األفق يف أمريكا دون أن ندرك أن مفهوم التقاعد بأكمله فري ٌد وخاص بآخر مخسة عقود فقط ،فحىت ٍ
وقت ٌ
لنفكر يف األمر كما يلي :يتقاعد الشخص األمريكي العاديليس بالبعيد كان الرجل األمريكي العادي مير مبرحلتني مها :العمل والوفاةِّ ..
يوضح الشكل رقم -17 اآلن يف سن الثانية والستني ،منذ مئة عام ،كان الشخص األمريكي العادي ميوت يف سن الواحدة واخلمسني»ِّ .
َّ 2
أن 80يف املئة تقريبًا من الرجال األمريكيني فيما نعتربه اآلن سن التقاعد كانوا ما زالوا على قوة العمل يف عام ،1880وحبلول عام
1990اخنفضت هذه النسبة إىل أقل من 20يف املئة.
نسبة الرجال فوق سن الخامسة والستين المشاركين في القوة العاملة
بدال من انتظار التقاعد خيشون اإلصابة أو الوهن الذي سيمنعهم عن العمل ويُرسلهم إىل مأوى الفقراء والعجزة ،وهو
كان الناس ً
ما كان يُعرف باخلوف الذي يطارد الناس يف خريف حياهتم ،وحىت بعد أن محى قانون الضمان االجتماعي لعام 1935املسنِّني من
منوت ويف ذهين صورة أصحاب املعاشات الذين يقتاتون على طعام الكالب ٍ
العوز الشديد ،كان الفقر هناية شائعة حلياة حافلة بالعمل ،و ُ
(رمبا كانت هذه أسطورة يف املدن) .ولكن مع توفري شبكات أمان حكومية وخاصة أقوى ،أصبح املسنُّون اليوم أغىن من األشخاص يف
سن العمل ،إذ اخنفض معدل الفقر لدى من تتجاوز أعمارهم اخلامسة والستني من 35يف املئة يف عام 1960إىل أقل من 10يف
كثريا من املعدل الوطين الذي يبلغ 15يف املئة.
املئة يف عام ،2011وهو أقل ً
العمال ،حتقَّق حلم آخر جنوين ،وهو اإلجازات مدفوعة األجر ،إذ حيصل العاملبفضل احلركة العمالية والتشريعات وزيادة إنتاجية َّ
يوما يف
يوما يف السنة (مقارنةً بـ ً 16
األمريكي العادي اليوم بعد مرور مخس سنوات على توظيفه على إجازة مدفوعة األجر ملدة ً 22
عام )1970وهذه مدة قصرية وفق معايري أوروبا الغربيةَّ .
إن املزيج بني أسبوع العمل األقصر واإلجازات مدفوعة األجر األكثر والتقاعد
أن النسبة اليت يشغلها العمل من حياة املرء اخنفضت مبقدار الربع منذ 1960فقطُ .تتلف االجتاهات اخلاصة بالعامل األطول يعين َّ
النامي حسب الدولة ،ولكن مع ازدياد هذه الدول غىن ،متيل إىل اتباع خطى دول الغرب.
أن األجهزة حتررت مساحات أخرى من احلياة بطر ٍ
يقة أخرى كي يسعى األشخاص وراء أهدافهم األكرب .رأينا يف الفصل التاسع َّ َّ
املنزلية مثل الثالجات واملكانس الكهربائية والغساالت وأفران امليكرويف أصبحت شائعة أو عامة حىت بني فقراء األمريكيني .كان على
األمريكي الذي حيصل على أجوٍر متوسطة يف عام 1919أن يعمل ملدة 1800ساعة لدفع مثن ثالجة ،يف حني كان عليه يف عام
2014أن يعمل أقل من 180ساعة لدفع مثنها (وكانت الثالجة اجلديدة بال صقيع -نو فروست -وهبا صانعة ثلج) .هل هذه
مجيعا،
أن اإلنرتوبيا تنتقص من قيمهم ً أن الطعام وامللبس واملأوى هي أساسيات احلياة الثالثة ،و َّ استهالكية بال هدف؟ ليس عدما َّ
تتذكر َّ
ملساع أخرى .تُعيد إلينا كلٌّ من الكهرباء واملياه
وقت ميكن ُتصيصه ٍ أن الوقت الذي يستغرقه احلفاظ عليها صاحلة لالستخدام هو ٌ و َّ
اجلارية واألجهزة املنزلية (أو كما كان يُطلق عليها «األدوات املوفِّرة للعمالة») ذلك الوقت ،الساعات الطويلة اليت كانت جداتنا تقضيها
يف الضخ والتعليب وخمض اللنب واجللي واملعاجلة والكنس والتشميع والتنظيف باحلك والعصر واإلرغاء والتجفيف واخلياطة والرتق واحلياكة
يوضح الشكل رقم 3-17أنَّه مع تغلغل املرافق يذكرنناِّ . جهد» كما ظللن ِّمطوال أمام املوقد الساخن والعمل بكل ٍوالرفو ،و«الوقوف ً
واألجهزة املنزلية يف املنازل األمريكية خالل القرن العشرين ،اخنفض مقدار الوقت الذي يقضيه الناس يف األعمال املنزلية من حياهتم -
يفضلون قضاء وقتهم فيها -بأربعة أضعاف تقريبًا ،من 58ساعة أسبوعيًّا يف عام 1900إىل أن الناس يقولون َّإهنم ال ِّ
وال عجب َّ
15.5ساعة يف عام .2011اخنفض مقدار الوقت الذي يقضيه األشخاص يف غسيل املالبس فقط من 11.5ساعة يف األسبوع يف
أن الغسالة تستحق أن يُطلق عليها أعظم اخرتاعات الثورة عام 1920إىل 1.5ساعة يف عام ،2014ويشري هانس روزلينج إىل َّ
الصناعية ،إلعادة «يوم الغسيل» إىل حياتنا.
الثالجة
الكهرباء
المكنسة الكهربائية
ساعات العمل المنزلي في األسبوع
األعمال المنزلية
البوتاجاز
الغسالة
نسبة األسر
المياه
الجارية غسالة األطباق
فرن الميكرويف
ولكن ٍ
بصدق عند االحتفاء هبذا املكسبَّ ، نظرا لكوين زو ًجا من حقبة النسوية ،ميكنين استخدام ضمري املتكلم اجلمع «حنن»
ً
األعمال املنزلية يف معظم األزمنة واألماكن مرتبطة بالنوع االجتماعي ،لذا َّ
فإن حترير البشرية من األعمال املنزلية هو يف الواقع العملي
عموما .تعود احلجج املنادية مبساواة املرأة بالرجل إىل املقالة اليت كتبتها ماري أستيل
حترير املرأة من األعمال املنزلية ،ورمبا حترير املرأة ً
فحمة .إ ًذا ملاذا استغرق انتشارها قرونًا؟ تنبَّأ توماس إديسون ()Thomas Edison ( )Mary Astellعام ،1700وهي حجج م ِ
ُ
يف حوا ٍر يف جملة التدبير المنزلي الجيد Good Housekeepingبأحد أكرب التحوالت االجتماعية يف القرن العشرين:
ليس الوقت هو املورد الوحيد الذي متنحنا إياه التكنولوجيا ويثري حياتنا ،فالضوء من املوارد األخرى ،والضوء متكيين للغاية لدرجة
ولكن الضوء الصناعي يتيح
حلالة فكرية وروحانية فائقة :التنوير .حنن نغرق يف الظالم يف العامل الطبيعي نصف حياتناَّ ،أنَّه اجملاز املختار ٍ
لنا اسرتداد الليل للقراءة واالنتقال ورؤية وجوه اآلخرين والتفاعل مع ما حولنا .استشهد االقتصادي ويليام نوردهاوس باخنفاض سعر
أن سعر مليون لومن ساعة يوضح الشكل رقم َّ 4-17 رمزا للتقدُّمِّ .
(وبالتايل زيادة إتاحة) هذا املورد الثمني على مستوى العامل بوصفه ً
من الضوء معدَّل ملراعاة التضخم (ما قد حتتاجه للقراءة ملدة ساعتني ونصف يوميًّا ملدة سنة) قد اخنفض مبقدار أربعة عشر ألف ضعف
منذ العصور الوسطى (اليت كان يُطلق عليها عصور الظالم) ،من 40,500جنيه إسرتليين يف عام 1300إىل أقل من 3جنيهات
يقة أخرى ،فليس هذاإسرتلينية اليوم .إذا كنت يف هذه األيام (أو الليايل) ال تقرأ أو حتادث اآلخرين أو ُترج أو تثقِّف نفسك بأي طر ٍ
ألنَّك ال تستطيع حتمل تكلفة الضوء.
السعر بالجنيه اإلسترليني (عام )2000
ا ل ش ك ل رق م : 4 - 1 7ت ك ل ف ة ا إل ن ا رة يف إ جن ل رتا م ن ذ 1 3 0 0ح ىت 2 0 0 6
ٍ
بيانات من .Fouquet & Pearson 2012تكلفة مليون لومن ساعة استنادا إىل المصدر،Our World in Data, Roser 2016o :
ً
(حوايل 833ساعة من مصباح متوهج 80واط) باجلنيه اإلسرتليين (معدَّل ملراعاة التضخم يف العام .)2000
فإن« :الثمن احلقيقييعرب اخنفاض القيمة النقدية للضوء الصناعي يف احلقيقة عن التقدم بالقدر الكايف ألنَّه كما أشار آدمَّ ،ال ِّ
لكل شيء يكمن يف املشقة والعناء من أجل احلصول عليه» .قدَّر نوردهاوس عدد الساعات اليت سيضطر الشخص إىل أن يعملها
ليجين تكلفة ساعة من الضوء الالزم للقراءة يف أوقات خمتلفة عرب التاريخ .كان على الشخص البابلي يف عام 1750قبل احلقبة احلالية
أن يعمل مخسني ساعةً كي يقضي ساعةً واحد ًة يف قراءة األلواح املسمارية على ضوء مصباح مضاء بزيت السمسم ،وكان على الشخص
ست ساعات كاملة كي يستطيع إشعال مشعة من الشحم حترتق خالل ساعة (ُتيل لو أنَّك اإلجنليزي يف عام 1800أن يكدح َّ
مخس عشرة دقيقة خططت ميزانية أسرتك وفق هذه األمور ،رمبا كنت لرتضى بالظالم) .كنت ستحتاج يف عام 1880إىل العمل َ
أيضا ،ونصف ثانية إلضاءة ملبةإلضاءة مصباح بالكريوسني ملدة ساعة ،ومثاين ساعات يف عام 1950إلضاءة ملبة متوهجة ملدة ساعة ً
ضعف يف اإلتاحة خالل قرنني .ومل يقف التقدُّم عند هذه النقطة ،إذ نشر فلورسنتية مضغوطة ملدة ساعة ،وهي قفزة مبقدار 43ألف ٍ
ستغري مصابيح LEDالرخيصة اليت تضاء بالطاقة الشمسية حياة أكثر من نوردهاوس مقاله قبل أن تغرق ملبات LEDالسوق .قريبًا ِّ
ٍ
شخص ال يتمتعون بالكهرباء ،مما سيتيح هلم قراءة األخبار أو أداء الواجبات املنزلية دون التجمع حول الرباميل املليئة بالقمامة مليار
احملرتقة.
قد يكون اخنفاض نسبة الوقت الذي نضطر إىل التفريط فيه يف مقابل الضوء واألجهزة املنزلية والطعام من حياتنا جزءا من ٍ
قانون ً
نوعا ما،
عام ،إذ أملح خبري التكنولوجيا كيفن كيلي ( )Kevin Kellyإىل أنَّه «مبرور الوقت ،إذا استمرت تكنولوجيا ما ملدة طويلة ً
قدرا أقل من ساعات
فإن تكلفتها تبدأ باالجتاه حنو الصفر (ولكنَّها ال تصل إليه مطل ًقا)» .ومع اخنفاض تكلفة ضروريات احلياة ،هندر ً
أيضا ،وهكذا بوقت ٍيومنا يف احلصول عليها ،وحنظى ٍ
ومال أكثر لكل األغراض األخرى ،وتنخفض تكلفة «كل األغراض األخرى» ً
أن األمريكيني كانوا ينفقون يف عام 1929أكثر من 60يف املئة يوضح الشكل رقم َّ 5-17 أصبح باستطاعتنا التمتُّع بالكثري منهاِّ .
من دخلهم املتاح لإلنفاق على الضروريات ،واخنفضت هذه النسبة حبلول عام 2016مبقدار الثُلث.
نسبة الدخل المُنفق على الضروريات
ما الذي يفعله األشخاص بذلك الوقت واملال اإلضافيني؟ هل يثرون حياهتم حقًّا أم َّأهنم يشرتون املزيد من مضارب اجلولف
املصممني العامليني؟ رغم أنَّه من التغطرس أن حنكم على الطريقة اليت خيتار األشخاص أن يقضوا وقتهم هباَّ ،إال َّ
أن وحقائب اليد من ِّ
بوسعنا الرتكيز على املساعي اليت يتفق اجلميع تقريبًا على كوهنا مقومات احلياة اجليدة ،وهي التواصل مع األحباء واألصدقاء ،والتمتُّع
بثراء عامل الطبيعة وعامل الثقافة ،والتمتُّع بإمكانية الوصول إىل مثار اإلبداع الفين والفكري.
مع زيادة أعداد األسر اليت يعمل فيها الزوج والزوجة ،واألطفال الذين ميتلئ وقتهم باألنشطة ،واألجهزة الرقمية ،يوجد اآلن اعتقاد
بأن األسر عالقة يف أزمة ضيق الوقت اليت تقضي على اجتماع األسرة على العشاء (رثى كلٌّ متكرر يف اإلعالم) َّ
واسع االنتشار (وذعر ِّ
من آل جور ودان كويل احتضاره يف الفرتة السابقة لالنتخابات الرئاسية األمريكية يف عام ،2000وكان هذا قبل اهلواتف الذكية ووسائل
التواصل االجتماعي) .ولكن ال بد من موازنة هذه امللهيات واملشتتات اجلديدة مع األربع وعشرين ساعة اإلضافية يف األسبوع اليت
أن الناس يشكون مدى انشغاهلم قدَّمتها احلداثة للمعيلني واالثنيت وأربعني ساعة اإلضافية يف األسبوع اليت قدَّمتها لربَّات املنازل .رغم َّ
بصورةٍ متزايدة (وأطلق بعض االقتصاديني على هذا تعبري « ُّ
تذمر الشباب املرتف»)َّ ،إال َّأهنم عندما يُطلب منهم مراقبة وتتبُّع الوقت،
عاما حبوايل
أن أوقات فراغهم تبلغ 42ساعة أسبوعيًّا ،أي أكثر مما كانت منذ مخسني ً تتَّضح صورة خمتلفة .ذكر الرجال يف عام َّ 2015
أن أوقات فراغهن تبلغ 36ساعة ،أي أكثر حوايل 6ساعات (الشكل رقم ( .)6-17لكي نكون 10ساعات ،وذكرت النساء َّ
التذمر ،إذ ذكر أصحاب املستويات التعليمية األقل التمتُّع بأوقات فراغ أكثر ،ومنى
حق يف ُّ منصفني ،رمبا يكون لدى الشباب املرتف ٌّ
عاما املاضية) .وظهرت يف أوروبا الغربية اجتاهات مشاهبة.
مستوى انعدام املساواة بينهما خالل اخلمسني ً
الرجال
ساعات الفراغ في األسبوع
النساء
توضح مراجعة أجراها عامل االجتماع جون روبينسون ( John وال يشعر األمريكيون باستمرار باملزيد من االستعجالِّ ،
استعجال دائم» بني عامي 1965 ٍ )Robinsonبعض االرتفاعات واالخنفاضات يف نسبة من يقولون َّإهنم يشعرون َّ
بأهنم «يف
و( 2010واخنفضت النسبة إىل 18يف املئة يف عام 1976وارتفعت إىل 35يف املئة يف عام ،)1998ولكنَّها مل تُظهر أي اجتاه
عاما .ويف النهاية ،ما زالت األسر جتتمع على العشاء ،إذ تتفق دراسات واستطالعات عديدة على َّ
أن ثابت على مدار مخسة وأربعني ً
كثريا من عام 1960حىت ،2014رغم هواتف اآليفون وأجهزة البالي ستيشن يتغري ًمعا مل َّ
عدد وجبات العشاء اليت تتناوهلا األسر ً
وحسابات الفيسبوك .إذ كان اآلباء األمريكيون العاديون يقضون على مدار القرن العشرين وقتًا أكثر مع أطفاهلم ،ال أقل ،ففي عام
1924مل ي ُكن سوى 45يف املئة من األمهات يقضني ساعتني أو أكثر يوميًّا مع أطفاهلن (وكان 7يف املئة منهن ال يقضني أي وقت
مع أطفاهلن) ،ومل ي ُكن سوى 60يف املئة من اآلباء يقضون ساعةً على األقل يوميًّا معهم ،وحبلول عام 1999ارتفعت هذه النسب
املتفرغات
إىل 71و 83يف املئة .تقضي األمهات العزباوات والعامالت اليوم يف احلقيقة وقتًا أكثر مع أطفاهلن مما كانت تفعل األمهات ِّ
للمنزل يف عام ( 1965الزيادة يف عدد الساعات اليت يقضيها األهل يف العناية باألطفال هي السبب الرئيسي يف االحندار يف أوقات
ولكن دراسات استخدام الوقت ال تطابق رسومات نورمان روكويل ( Norman الفراغ الذي نراه يف الشكل رقم َّ .)6-17
كثري من الناس منتصف القرن العشرين على حن ٍو ٍ
خادع بأنَّه العصر )Rockwellومسلسل )َّ ،(Leave It to Beaver
ويتذكر ٌ
الذهيب لتكاتف األسرة.
بديال رديئًا عن
هتديدا للعالقات اإلنسانية ،وتُعد صداقات الفيسبوك بالتأكيد ً
كثريا إىل وسائل اإلعالم اإللكرتونية بوصفها ً
يشار ً
بشكل عام هدية ال تُقدَّر بثم ٍن للتقارب اإلنساين .منذ ٍ
قرن ٍ ولكن التكنولوجيا اإللكرتونية التواصل وجها لوجه مع الرفقاء من حل ٍم ٍ
ودمَّ ، ً
بعيدا عن ٍ
كان أحد أفراد األسرة إذا انتقل إىل مدينة بعيدة ،رمبا ال يسمع املرء صوته وال يرى وجهه ثانيةً مطل ًقا ،وكان األحفاد يكربون ً
أعني أجدادهم ،وكان الزوجان اللذان يفصل بينهما العمل أو الدراسة أو احلرب يعيدان قراءة اخلطابات عشرات املرات وينهار املحب
ُ
أن احلبيب غاضب أو خائن أو ميت (وهي لوعة تأخر اخلطاب التايل ،ال يعرف ما إذا كان اخلطاب قد ضاع يف الربيد أم َّ يف ٍ
يأس إذا َّ
حكت عنها أغنيات مثل ” “Please Mr. Postmanلفريق البيتلز ومارفلتس ،و”“Why Don't You Write Me
لسامين وجارفنكل) .حىت عندما أتاحت املكاملات اهلاتفية الدولية لألشخاص التواصل مع أحدهم ،فإن التكلفة الباهظة قيَّدت محيمية
التواصل .يتذكر أبناء جيلي غرابة التحدث سر ًيعا عرب اهلواتف العامة يف الكابينات ووضع النقود املعدنية فيها ،أو الركض السريع عندما
بتبخر أموال اإلجيار أثناء حمادثة هاتفية ممتعة .نصحنا
قائال( :إهنا مكاملة دولية!!!) ،أو الشعور ُّ
يناديك أحد أفراد األسرة للرد على اهلاتف ً
إدوارد مورجان فورسرت ( )E. M. Forsterبأن «نتواصل فقط» ،وتتيح لنا التكنولوجيا اإللكرتونية بالتواصل كما مل نفعل من قبل.
حيث يتمتَّع اليوم حوايل نصف سكان العامل بإمكانية الوصول إىل اإلنرتنت وثالثة أرباعهم بإمكانية احلصول على هاتف حممول،
وأصبحت التكلفة احلدية للمحادثات الدولية صفرا تقريبا ،ويستطيع املتحدِّثون اآلن أن يروا الطرف اآلخر أيضا ٍ
إضافة إىل االستماع إىل ً ً ً
صوته.
فإن اخنفاض تكلفة التصوير ميثِّل هدية أخرى لثراء التجربة ،ففي احلقب املاضية مل ي ُكن لدى األشخاص ما ومبناسبة الرؤيةَّ ،
ِّ
يذكرهم بأحد أفراد أسرهتم حيًّا كان أو ميتًا سوى صورة ذهنيةَّ ،أما اليوم فتنتايب عدة موجات من االمتنان على النعم الكثرية اليت أمتتع
أيضا للمرء أن حييا اللحظات املهمة يف هبا عندما تقع عيناي على صورة ملن أحبهم ،مثل املليارات من البشر .يتيح التصوير الرخيص ً
وقت بعيد وكبار السن يف ربيعات كثرية ال مرة واحدة ،مثل املناسبات اخلاصة واملناظر املذهلة ومناظر املدينة اليت اختفت منذ ٍ احلياة مر ٍ
صغارا واألطفال عندما كانوا رضيعني.
عمرهم والبالغني عندما كانوا ً
حىت يف املستقبل ،عندما يكون لدينا واقع افرتاضي جمسم ثالثي األبعاد بالصوت احمليطي والقفازات التالمسية ذات اهليكل
فإن تضاؤل تكلفة النقل واملواصالت نعمة أخرى ميكننا من ملسهم ،لذا َّاخلارجي ،فسنظل نرغب يف أن نكون بالقرب ممن حنبهم مما ِّ
معا ،وأزالت إتاحة السفر بالطائرات للعامة نعمت هبا البشرية ،فقد ضاعفت القطارات واحلافالت والسيارات فرصنا يف اللقاء واالجتماع ً
حواجز املسافات واحمليطات .إن مصطلح )- (Jet Setأي فئة مرتادي الطائرات -الذي يشري إىل املشاهري األنيقني مصطلح قدمي يعود
إىل الستينيات ،عندما مل ي ُكن أكثر من ُمخس األمريكيني قد سافروا بالطائرة .رغم تكاليف الوقود شديدة االرتفاعَّ ،إال َّ
أن السعر احلقيقي
للسفر بالطائرة يف الواليات املتحدة قد اخنفض مبقدا ٍر أكرب من النصف منذ أواخر السبعينيات ،عندما حتررت خطوط الطريان من القيود
دوالرا (بدوالر
التنظيمية (الشكل رقم ،)7-17ففي عام 1974كانت تكلفة السفر بالطيارة من نيويورك إىل لوس أجنلوس ً 1,442
عدد أكرب من الناس بالطائرات فقد سافر عام ،)2011أما اليوم فتكلفته قد تكون أقل من 300دوال ٍر .مع هبوط األسعار ،سافر ٌ
رحلة ذهاب وإياب واحدة على األقل .رمبا تضطر إىل املباعدة بني ساقيك عندما يفتِّشك أكثر من نصف األمريكيني يف عام 2000يف ٍ
ولكن احملبني يف ٍ
عالقة عاطفية عن بعد رجال األمن ،ورمبا يصطدم كوع أحدهم بضلوعك ويصطدم ظهر املقعد الذي أمامك بذقنكَّ ،
بعضا ،وإذا مرضت والدتك ستستطيع أن تصل إليها يف اليوم التايل.
يستطيعون اآلن رؤية بعضهم ً
التكلفة لكل ميل (بدوالر عام )2015
وال يصطف املسافرون يف طواب ٍري أمام متاحف الشمع وعامل ديزين فقط .يتجاوز عدد املناطق احملمية من التنمية واالستغالل
كثريا يف العامل الطبيعي ُحتفظ يف حمميات طبيعية ٍ
االقتصادي 160,000منطقة يف العامل وهذا العدد يف زيادة يومية ،فهناك مناطق أكثر ً
كما رأينا يف الشكل رقم .6-10
يُعد الطعام أحد األشياء األخرى اليت اتسع فيها نطاق جتاربنا اجلمالية ،فقد كان نظام الغذاء األمريكي يف أواخر القرن التاسع
أساسا من حلم اخلنزير والنشويات .كانت أغلب اخلضروات والفواكه ستفسد قبل وصوهلا إىل املستهلك لوال وجود تقنية عشر يتكون ً
التربيد ووسائل النق ل اآليل ،لذا زرع املزارعون احملاصيل اليت ال تتلف مثل اللفت والفول والبطاطس ،وكانت الفاكهة الوحيدة املوجودة
هي التفاح ،واستخدم معظمها يف عمل عصري التفاح (كانت متاجر اهلدايا التذكارية يف والية فلوريدا تبيع حقائب الربتقال للسياح كي
يقدِّموها هدايا ألقربائهم وأصدقائهم حىت سبعينيات القرن العشرين) .أُطلق على النظام الغذائي األمريكي نظام "اخلبز األبيض"
و"البطاطس واللحم" لسبب وجيه ،ورمبا كان الطهاة املغامرون يقلون بعض شرائح حلم اخلنزير املعلَّب ،أو فطرية تفاح كاذبة مصنوعة من
عرفنا هبا املهاجرون غريبة لدرجة
بسكويت ريتز ،أو «السلطة املثالية» (وهي سلطة الكولسلو جبيلي الليمون) .كانت املطابخ اجلديدة اليت َّ
َّأهنا أصبحت مثار النكات ،مبا فيها املطبخ اإليطايل («ماما ميا! كرات اللحم حارة للغاية!») واملكسيكي («حيل مشكلة العجز يف
طعاما»)َّ .أما اليوم فستجد حىت يف البلدات الصغرية وصاالت الغاز») والصيين («جتوع ثانيةً بعد ساعة») والياباين («إنَّه طُعم ليس ً
الطعام يف األسواق التجارية قوائم طعام عاملية ،وجتد أحيانًا كل هذه املطابخ إضافةً إىل املطبخ اليوناين والتايلندي واهلندي والفيتنامي
أيضا ،من بضع مئات من األغراض يف عشرينيات القرن املاضي إىل 2200يف اخلمسينيات والشرق أوسطي ،وزاد البقالون معروضاهتم ً
و 17,500يف الثمانينيات و 39,500يف عام .2015
آخرا ،زادت إمكانية الوصول إىل أجود منتجات العقل البشري ووصلت إىل العامة ،يصعب علينا إعادة متثيل امللل أخريا وليس ً
ً
أيضا
املزعج الذي كان خييم على املنازل الريفية املعزولة يف املاضي ،ففي أواخر القرن التاسع عشر مل ي ُكن هناك إنرتنت ،ومل ي ُكن هناك ً
ٍ
صحف ،فكان ما يفعله الرجال للرتفيه راديو وال تليفزيون وال أفالم وال تسجيالت موسيقية ،ومل ت ُكن أغلبية املنازل حتتوي على ٍ
كتب أو
هو الذهاب إىل احلانات للشرب .كان الكاتب واحملرر ويليام دين هاولز ( )William Dean Howellsالذي عاش بني عامي
طفال بإعادة قراءة صفحات جريدة قدمية استخدمها والده كورق حائط يف مقصورهتم يف 1837و 1920يسلِّي نفسه عندما كان ً
أوهايو.
يستطيع ساكن الريف اليوم االختيار من بني مئات القنوات التليفزيونية ونصف مليار موق ٍع إلكرتوين ،واحلصول على كل الصحف
قرن) ،وكل عمل أديب سقطت حقوق التأليف والنشر اخلاصة به، واجملالت يف العامل (مبا يشمل األرشيف الذي يعود إىل أكثر من ٍ
وموسوعة أكرب من سبعني ضعف حجم املوسوعة الربيطانية وتتمتَّع بنفس القدر من الدقة تقريبًا ،وكل األعمال الفنية واملوسيقية
الكالسيكية ،ويستطيع التحقُّق من صحة اإلشاعات باستخدام موقع ،Snopesويعلِّم نفسه الرياضة والعلوم يف أكادميية خان ،ويبين
قدرته اللغوية باستخدام قاموس التراث األمريكي ) ،(American Heritage Dictionaryويثقِّف نفسه باستخدام موسوعة
ستانفورد للفلسفة ) ،(Stanford Encyclopedia of Philosophyويشاهد حماضرات كبار الباحثني وال ُكتَّاب والنُـقَّاد يف
العامل الذين تويف كثري منهم منذ ٍ
وقت طويل .لن يضطر هليل 2الفقري اليوم أن يُغشى عليه بفعل الربد أثناء اسرتاق السمع إىل الدروس ٌ
من خالل الكوة يف سقف املدرسة.
ٍ
بشكل هائل حىت لألثرياء من سكان احلضر الغربيني الذين لطاملا أداروا قصور الثقافة. وزادت إمكانية الوصول للفنون واآلداب
عرض حملية أو على التليفزيون يف آخرات حىت يُعرض فيلم كالسيكي يف دار ٍ عندما كنت طالبا ،كان على حميب األفالم انتظار سنو ٍ
ُ ً
الليل ،هذا إذا ُع ِرض من األساسَّ ،أما اليوم فيمكن بثه عند الطلب .ميكنين االستماع إىل أي أغنية من بني آالف األغنيات أثناء اجلري
أو غسيل الصحون أو االنتظار يف طابوٍر يف إدارة تسجيل السيارات ،ببضع نقرات ،ميكن أن أنسى نفسي وسط األعمال الكاملة
لكارافاجيو ) ،(Caravaggioأو اإلعالن الدعائي األصلي لفيلم ) ،(Rashomonأو ديالن توماس ()Dylan Thomas
وهو يلقي قصيدة ” ،“And Death Shall Have No Dominionأو إلينور روزفلت ()Eleanor Roosevelt
وهي تتلو اإلعالن العاملي حلقوق اإلنسان ،أو ماريا كاالس ( )Maria Callasوهي تغين ” ،“O mio babbino caroأو
بيلي هوليداي ( )Billie Holidayوهي تغين ” ،“My Man Don't Love Meأو سولومون ليندا ( Solomon
حتسن مساعات األذن هاي ظرف منذ بضع سنواتِّ . )Lindaوهو يغين ” ،“Mbubeوهي جتارب مل أ ُكن ألحظى هبا حتت أي ٍ
مكربات الصوت اليت تصدر صوتًا فاي ،وقريبًا نظارات الواقع االفرتاضي املصنوعة من الورق املقوى ،من التجربة اجلمالية أكثر من ِّ
مشوشا ونسخ األفالم الباهتة باألبيض واألسود واليت تعود إىل فرتة شبايب .ويستطيع من حيب األوراق أن يشرتي نسخةً مستعملة من ً
رواية الدفتر الذهبي ) ،(The Golden Notebookلدوريس ليسنج ) ،(Doris Lessingأو رواية نيران شاحبة (Pale
) ،Fireلفالدميري نابوكوف ) ،(Vladimir Nabokovأو كتاب أكيه :سنوات الطفولة (Aké: The Years of
للحث على طلب العلم والدراسة ،إذ يروى عنه أنه حين عجز عن ّ 2هيليل هو حاخام يهودي ولد في بابل بحوالي قرن قبل الميالد ،يضرب به المثل
دفع رسوم دخول المدرسة ،صعد إلى كوّ ة في السقف ،واسترق السمع للدروس من هناك ،ولم يثنيه البرد الشديد وال انهمار الثلج عن التعلّم.
)Childhoodلوويل سوينكا ( )Wole Soyinkaمقابل دوال ٍر واحد.
يج من تكنولوجيا اإلنرتنت وحشد مصادر آالف املتطوعني إىل الوصول املفاجئ إىل أعمال البشرية العظيمة .ال حاجة َّأدى مز ٌ
للتساؤل عن أعظم احلقب من ناحية الثقافة ،فاإلجابة بالتأكيد هي اليوم ،حىت حيل الغد حمله ،وال تعتمد اإلجابة على مقارنات فردية
تلق كثريٌ من األعمال العظيمة يف
بني جودة أعمال اليوم وأعمال املاضي (وهي مقارنات لسنا يف وض ٍع يسمح لنا بإجرائها ،كما مل َ
ٍ
بشكل مذهل ،ففي متناول يدينا كل أعمال العباقرة تقديرا يف عصرها) .ينبع ذلك من إبداعنا املتواصل وذاكرتنا الثقافية الرتاكمية
املاضي ً
أن من سبقونا مل ي ُكن لديهم هذه وال تلك ،واألفضل من ذلك َّ
أن مرياث العامل الثقايف الذين سبقونا ،إضافةً إىل عباقرة عصرنا ،يف حني َّ
شخص متصل بشبكة املعرفة الشاسعة ،أي ألغلب البشرية ،بل ٍ متاحا اآلن لألغنياء واملقيمني يف املواقع اجليدة فحسب ،بل ألي
ليس ً
وقريبًا كلها.
الفصل الثامن عشر:
السعادة
ولكن هل حنن أسعد اآلن؟ ال بد أن نكون أسعد لو كان عندنا بذرة امتنان للكون .كان لدى املواطن األمريكي يف عام 2015تسع
سنوات إضافية يف حياته مقارنةً مبن سبقوه بنصف قرن ،وحظى بثالث سنوات إضافية من التعليم ،وجيين 33ألف دوال ٍر إضايف سنويًّا
بدال من نصفها) ،ويتمتع بثماين ساعات إضافية من وقت الفراغ لكل فرد من أفراد األسرة (ال يُنفق سوى ثُلثها على الضرورياتً ،
أسبوعيًّا ،وميكنه أن يقضي وقت الفراغ يف القراءة على اإلنرتنت ،أو االستماع إىل املوسيقى عرب اهلاتف الذكي ،أو مشاهدة األفالم على
بدال من شرائحشاشات التليفزيون عالية اجلودة ،أو التحدث مع األصدقاء أو األقرباء عرب برنامج سكايب ،أو تناول الطعام التايلندي ً
حلم اخلنزير املقلية.
فإن األمريكيني اليوم ليسوا أسعد مبقدار الضعف ونصف الضعف (كما دليال على شيءَّ ،
ولكن ،إذا كانت االنطباعات الشائعة ً
كانوا سيصبحون لو كانت السعادة تتبع الدخل) أو مبقدار الثُلث (لو كانت تتبع التعليم) أو حىت مبقدار الثُمن (لو كانت تتبع طول
دائما ،فقد ظلَّت نسبة األمريكيني الذين
أن الناس يشكون ويتأوهون ويتأففون ويعرتضون ويتذمرون مثلما كانوا يفعلون ً العمر) .يبدو َّ
بأهنم سعداء ثابتةً طيلة عقود .انتبهت الثقافة الشعبية إىل هذا اجلحود يف شكل «امليمز» على اإلنرتنت خيربون مستطلعي اآلراء َّ
و«هاشتاج» ( firstworldproblems#أي مشاكل دول العامل األول) على تويرت وحوار الكوميديان لوي سي كي ( Louis
)C.K.املشهور بعبارة «كل شيء رائع وال أحد سعيد» الذي يقول فيه:
إن أسس الرأمسالية تتحطَّم» ،أقول رمبا حنتاج إىل بعض الوقت الذي نتجول خالله ممتطني ً
محارا عندما أقرأ عبارات مثل « َّ
هدر على أسوأ ٍ
جيل ،فهو على جانبيه بعض القدور اليت ترتطم بعضها ببعض ..ألنَّنا اآلن نعيش يف عا ٍمل مذهل ،وهو ُم ٌ
مليء باحلمقى املدلَّلني..
كنت أشاهد مقاطع كنت على منت طائرة وكان هبا إنرتنت عايل السرعة ،وكان هذا أحدث ما رأيته ،وكان سر ًيعا ،و ُ ُ
مذهال ،مث تعطَّل واعتذر الطاقم ،فقال الرجل اجلالس جواري «أُف! هذه سخافة!» فيديوهات على يوتيوب ،وكان الوضع ً
ألن الناس يعودونهبذه السرعة أصبح العامل مدينًا له بشيء مل ي ُكن يعرف بوجوده قبل عشر ثو ٍان! والطريان أسوأ مثالَّ ،
من رحالهتم بالطائرات مث خيربونك بقصتهم ..فيقولون« :كان اليوم أسوأ أيام حيايت ..صعدنا على منت الطائرة وظللنا
جالسني منتظرين يف املدرج أربعني دقيقة» ..حقًّا؟ وماذا حدث بعد ذلك؟ هل طرمت يف اهلواء كالطري؟ هل حلَّقتم بني
بعجالت عمالقة ال تستطيعون تصور كيفية وضع ٍ ٍ
بسالسة السحب؟ هل شاركتم يف معجزة طريان اإلنسان؟ مث هبطتم
تأخريا يف
إن هناك ً اهلواء بداخلها؟ ..إنَّكم جتلسون على كرسي يف السماء ،كأنَّكم يف أسطورة إغريقية! ..ويقول الناس َّ
جوا بطيء؟ من نيويورك إىل كاليفورنيا يف مخس ساعات ،كانت هذه الرحلة تستغرق ثالثني سنة! أن الطريان ًّ الرحالت؟ ..و َّ
وكان بعض الناس ميوتون يف الطريق ،ورمبا كنت ستُصاب بسه ٍم يف عنقك ،وكان اآلخرون سيدفنونك ويضعون عصا فوق
مجيعا بني أرجلنا!
مدفنك ويضعون عليها قبعتك مث يواصلون مسريهتم ..لو علم األخوان رايت ما حيدث لضربونا ً
أن الناسقائال« :يبدو َّ
صا الفهم الشائع للحداثة يف ذلك الوقت ً ملخ ً
كتب جون مولر ) (John Muellerيف عام ِّ 1999
التحسن االقتصادي امللحوظ واستطاعوا مبهارةٍ العثور على خماوف جديدة تزعجهم ،إ ًذا فبصورةٍ ما ،األمور ال َّ
تتحسن مطل ًقا». ُّ قد تقبَّلوا
توصل االقتصادي ريتشارد إيسرتلن قائما على أكثر من االنطباعات عن الوعكة األمريكية فقط ،ففي عام َّ 1973 كان هذا الفهم ً
أن األشخاص األغىن ( )Richard Easterlinإىل مفار ٍقة ُمسيت تيمنًا به ،إذ رغم أنَّه عند إجراء املقارنة داخل دولة واحدة جند َّ
أن األشخاص األغىن يبدو َّأهنم ليسوا أسعد من األفقر ،وعند املقارنة بني خمتلف األزمنةأسعدَّ ،إال أنَّه عند املقارنة بني خمتلف الدول جند َّ
أن الناس مل يصبحوا أسعد عندما أصبحت دوهلم أغىن. جند َّ
فسرت اثنتان من نظريات علم النفس مفارقة إيسرتلن ،وف ًقا لنظرية ثبات مستوى السعادة (أو «مشاية السعادة» Hedonic - َّ
فإن األشخاص يتأقلمون مع التغريات اليت تطرأ عليهم كما تعتاد العيون على الضوء أو الظالم ،ويعودون سر ًيعا إىل َّ )Treadmill
مستوى القاعدة الذي حددته هلم العوامل الوراثية .ووف ًقا لنظرية املقارنة االجتماعية (أو اجملموعات املرجعية أو القلق بشأن السعي إىل
فإن سعادة األشخاص تتحدَّد مبدى ُحسن حاهلم يف رأيهم املكانة االجتماعية أو احلرمان النسيب ،الذي نظرنا فيه يف الفصل التاسع)َّ ،
مقارنةً بأقراهنم ،لذا فعندما تزداد الدولة بأكملها غىن ،ال يشعر أحد باملزيد من السعادة ،فإذا اخنفض معدل املساواة يف بلدهم ،فرمبا
يسوء شعورهم حىت إذا ازدادوا غىن.
إذا كانت األمور ال تتحسن مطل ًقا هبذا املعىن ،فيمكن للمرء التساؤل عما إذا كان كل ذلك التقدم االقتصادي والطيب والتكنولوجي
كال من زيادة النزعة الفردانية واملادية واالستهالكية والثروة السفيهة،إن ًّ
املزعوم ذا جدوى .ويقول الكثريون إنَّه ليس ذا جدوى ،ويقولون َّ
وتآكل اجملتمعات التقليدية ذات الروابط االجتماعية احلميمة واإلحساس باملعىن والغاية اليت مينحهم الدين إياها ،أدى إىل إفقارنا روحانيًّا.
تفاعا بالغًا ويف اشتهار السويد -تلك اجلنة أن هذا هو السبب يف ارتفاع معدالت االكتئاب والقلق والوحدة واالنتحار ار ً كثريا َّ
ونقرأ ً
شن الناشط جورج مونبيوت ( )George Monbiotمحلةً كحمالت املتشائمني القدمية العلمانية -مبعدالت مرتفعة من االنتحارَّ .
فيما خيص الثقافة ضد احلداثة يف مقال رأي بعنوان «النيوليبرالية تؤدي إلى الوحدة وهذا ما يمزق المجتمع» ( Neoliberalism
) ، Is Creating Loneliness. That's What's Wrenching Society Apartوكان شعارها« :وباء األمراض
قائال« :تعكس أحدث النفسية حيطِّم عقول وأجسام املاليني ،وآن األوان أن نسأل إىل أين حنن متجهون وملاذا»َّ .
وحذر املقال نفسه ً
األرقام املأساوية الدالة على صحة األطفال النفسية يف إجنلرتا أزمةً عاملية».
إذا كانت كل تلك السنوات اإلضافية من احلياة والصحة ،وكل تلك املعرفة اإلضافية ووقت الفراغ اإلضايف واتساع نطاق التجربة،
وميال إىل االنتحار،
شعورا بالوحدة ً
وإمنا جعلتنا أكثر ًوكل تلك التطورات يف السالم واألمان والدميقراطية واحلقوق ،مل جتعلنا أسعد حقًّا َّ
فسيكون هذا أكرب مقلب لعبه التاريخ على البشرية .ولكن قبل أن نبدأ يف التجول على ظهر محا ٍر على جانبيه بعض القدور اليت ترتطم
بعضها ببعض ،من األفضل أن ننظر عن ٍ
كثب يف احلقائق اخلاصة بسعادة البشر.
نصيب الفرد الحقيقي من الناتج المحلي اإلجمالي (آالف الدوالرات ،مقياس لوغاريتمي)
ا ل ش ك ل رق م : 1 - 1 8م س ت وى ا ل رض ا ع ن ا حل ي ا ة وا ل د خ ل 2 0 0 6 ،
استنادا إىل بيانات من استطالع جالوب العاملي لعام Gallup World ( 2006
ً المصدرStevenson & Wolfers 2008a, fig. 11K :
.)Poll 2006
تتَّضح عدة أمناط من الرسم ،وأبرزها غياب مفارقة إيسرتلن بني الدول ،إذ متتد جمموعة األسهم على طول اخلط القطري املائل مما
أن مقياس الدخل لوغاريتميَّ ،أما لو كان مبقياس خطي معياري لكانت يشري إىل أنَّه كلما كانت الدولة أغىن ،كان شعبها أسعدَّ .
تذكر َّ
أن أي أمو ٍال إضافية تزيدحادا من الطرف األيسر مث تنثين ناحية الطرف األمين ،ويعين هذا َّ
تفاعا ً
جمموعة األسهم نفسها ارتفعت ار ً
سعادة سكان الدول الفقرية أكثر من سعادة سكان الدول الغنية ،وكلَّما كانت الدولة أغىن ،احتاج شعبها إىل املزيد من األموال ليصبحوا
أسعد (وهذا أحد أسباب ظهور مفارقة إيسرتلن يف املقام األول ،فمع كثرة بيانات تلك احلقبة ،كان من الصعب مالحظة االرتفاع
أي من املقياسني ال يستوي مطل ًقا كما كان سيحدث لو كان الناس ولكن اخلط على ٍّ
الطفيف يف الطرف األعلى من مقياس الدخل)َّ .
ال حيتاجون سوى إىل احلد األدىن من الدخل لتلبية احتياجاهتم األساسية وأي مبالغ إضافية ال جتعلهم أسعد .وفيما خيص السعادة فقد
نوعا ما عندما قالت« :ال ميكن أن تكون غنيًّا أكثر من الالزم أو حني ًفا أكثر
كانت واليس سيمسون ( )Wallis Simpsonحمقة ً
من الالزم».
أن األسهم متشاهبة يف احنرافها ومطابقة الحنراف ِسرب األسهم بأكمله (اخلط الرمادي املتقطع املتواري خلف
ومن املدهش َّ
شخص مقارنةً بأقرانه تضيف إىل سعادته بقدر ما تفعل الزيادة نفسها يف الدولة كلهاِّ .
يشكك ٍ ِ
السرب) ،ويعين ذلك َّ
أن أي عالوة ألي
إن الناس يكونون سعداء أو تعساء فقط يف حالة املقارنة مع جرياهنم األثرياء .األمر املهم فيما خيص السعادة هوذلك يف الفكرة القائلة َّ
الدخل املطلق وليس الدخل النسيب (وهو استنتاج متسق مع النتيجة اليت ناقشها الفصل التاسع خبصوص عدم ارتباط انعدام املساواة
بأن السعادة تتأقلم مع الظروف احمليطة كما تفعل العني، بالسعادة) ،وهذه من بني ٍ
عدد من النتائج اليت تُضعِف من االعتقاد القدمي َّ
نقطة ثابتة أو تظل ساكنة بينما يسريون على «مشاية السعادة» دون أن يتقدموا خطوًة واحدة إىل األمام .رغم َّ
أن الناس فتعود إىل ٍ
فعا ٍ يتعافون غالبًا من انتكاساهتم ويستعيدون حظهمَّ ،إال َّ
أن سعادهتم تتلقى ضربةً بسيطة من جتارب مثل البطالة أو اإلعاقة ،وتتلقى دا ً
فإن فوز الشخص باليانصيب جيعله دولة هبا سعادة أكثر ،وعلى عكس االعتقاد السابق َّ من اهلدايا مثل الزواج الناجح أو اهلجرة إىل ٍ
بالفعل أسعد على املدى البعيد.
أن الدول تزداد غىن مبرور الوقت (الفصل الثامن) ،فإن بإمكاننا أن ننظر إىل الشكل رقم 1-18كأنَّه لقطة جممدة مبا أنَّنا نعرف َّ
يف فيل ٍم يتكرر فيها متتع البشر باملزيد من السعادة مبرور الوقت ،وهذه الزيادة يف السعادة مؤشر آخر على تقدُّم البشر ومن بني أهم
سجل استطالعات آراء األشخاص حول العامل ملدة ٍ
قرون املؤشرات على اإلطالق .ليست هذه اللقطة بالطبع ًّ
سجال زمنيًّا طوليًّا فعليًّا ي ِّ
ولكن ستيفنسون ووولفرز قتال املؤلفات حبثًا عن فبيانات كهذه غري موجودة من األساسَّ ، ٍ ويرسم مستويات سعادهتم مبرور الوقت،
أن السعادة يف مثانية من بني تسع دول أوروبية زادت بني عامي 1973و 2009بالتزامن مع زيادة الدراسات الطولية املوجودة ،ووجدا َّ
أن السعادة زادت بني عامي نصيب الفرد من الناتج احمللي اإلمجايل فيها ،ويؤِّكد هذا يف العامل بأكمله مسح القيم العاملية ،الذي وجد َّ
مخس وأربعني دولة من بني اثنتني ومخسني دولة .طوت هذه االجتاهات مبرور الوقت صفحة مفارقة إيسرتلن ،فنحن 1981و 2007يف ٍ
أن األشخاص يزدادون سعاد ًة كلَّما ازدادت دوهلم غىن (ممَّا أن الدول األغىن أسعد و َّ أن األشخاص األغىن يف ٍ
دولة ما أسعد و َّ نعرف اآلن َّ
أن األشخاص يزدادون سعادةً مبرور الوقت). يعين َّ
تعتمد السعادة بالتأكيد على ما هو أكثر من الدخل ،وينطبق هذا على األفراد ،الذين خيتلفون يف تاريخ حياهتم وطباعهم الفطرية،
أيضا ،كما نرى من النقاط املبعثرة حول اخلط الرمادي يف الرسم البياين .تكون الدول وكذلك على الدول اليت ُتتلف بعضها عن بعض ً
بصحة أفضل (مع ثبات عامل الدخل) وتكون أسعد كما ذكرت عندما يشعر مواطنوها بتمتُّعهم حبرية اختيار ٍ أسعد عندما يتمتع شعبها
أيضا ،والصورة النمطية املعروفة حقيقية ،فدول أمريكا الالتينية أسعد ممَّا ينبغي بالنظر
ما يريدون فعله يف حياهتم .الثقافة واجلغرافيا مهمتان ً
إىل دخلها ،ودول أوروبا الشرقية الشيوعية ساب ًقا أقل سعادةً .وجد تقرير السعادة العاملي لعام 2016ثالث مسات أخرى تالزم السعادة
إن لديهم أصدقاء أو أقرباء ميكنهم االعتماد عليهم على املستوى الوطين ،وهي :الدعم االجتماعي (أي إذا ما كان األشخاص يقولون َّ
أن األعمال يف بلدهم فاسدة) .ولكن ال يف وقت الضيق) ،والكرم (أي إذا ما كانوا يتصدَّقون بأمواهلم) ،والفساد (أي إذا ما كانوا يرون َّ
ٍ
بعدسات وردية ،وقد يقدِّرون أن السعداء يرون العاملأن هذه السمات تؤدي إىل املزيد من السعادة ،وأحد األسباب َّ ميكننا أن نستنتج َّ
داعما
سعيدا جيعله ًأن السعادة تنبع من الداخل ،فكون املرء ً األمور اجليدة يف حياهتم وجمتمعاهتم بأكرب من حقيقتها ،والسبب اآلخر َّ
وكرميًا ويقظ الضمري وليس العكس.
تعد الواليات املتحدة من بني الدول اليت حتقِّق معدل سعادةٍ أقل مما يتناسب مع ثروهتا ،ليس األمريكيون تعساء على اإلطالق ،إذ يقيِّم
بأهنم «سعداء جدًّا» ،وعندما يُطلببأهنم «سعداء للغاية» ويقيِّم ثُلثهم تقريبًا أنفسهم َّ
90يف املئة منهم تقريبًا أنفسهم على األقل َّ
ولكن الواليات املتحدة جاءت يف
منهم تقييم حياهتم على مقياس من ( 1أسوأ حياة ممكنة) إىل ( 10أفضل حياة ممكنة) ،خيتارون َّ ،7
أن متوسط عام 2015يف املرتبة الثالثة عشرة بني دول العامل (بعد مثاين دول يف غرب أوروبا وثالث دول يف الكومنولث وإسرائيل) رغم َّ
مجيعا باستثناء النرويج وسويسرا (جاءت اململكة املتحدة ،اليت خيتار مواطنوها 6.7على مقياس دخلها كان أعلى من هذه الدول ً
مستوى احلياة ،يف املرتبة الثالثة والعشرين).
تزدد الواليات املتحدة سعادةً على حن ٍو منتظم على مدار السنوات (وهي خدعة أخرى أدت إىل اإلعالن عن أثر إيسرتلن ِّ
مبكًرا، مل َ
نطاق ضيق منذ عام ،1947 ألن الواليات املتحدة هي أيضا الدولة اليت لديها أقدم بيانات عن السعادة) ،تقلَّبت مستويات السعادة يف ٍ
َّ
ً
اخنفاض ثابت .تُظ ِهر إحدى جمموعات البيانات تر ً
اجعا طفي ًفا ٍ تفاع أو
منحرفةً استجابةً للكساد والتعايف والضوائق والفقاعات دون أي ار ٍ
يف مستوى السعادة يف أمريكا من عام 1955حىت عام ،1980تاله ارتفاعٌ حىت عام ،2006وتُظ ِهر جمموعةٌ أخرى تر ً
اجعا طفي ًفا
أن جمموع من يقولون َّإهنم «سعداء جدًّا» ومن يف نسبة األشخاص الذين يقولون َّإهنم «سعداء ًّ
جدا» بدءًا من عام ( 1972رغم َّ
يقولون َّإهنم «سعداء للغاية» مل َّ
يتغري).
دولة ٍ
غنية التغريات يف ٍ ال تنفي حالة ركود السعادة األمريكية االجتاه العاملي الذي تزداد فيه السعادة مع الثروة ،ألنَّنا حني ننظر إىل ُّ
اضحا عندما تنظر إىل آثار اختالف
حمدودا من املقياس ،فكما يشري ديتون ،فإن االجتاه الذي يكون و ً على مدار بضعة عقود ،نرى نطاقًا ً
مغمورا
الدخل بني توجو والواليات املتحدة على سبيل املثال واملقدر خبمسني ضع ًفا ،الذي ميثل ُربع ألفية من النمو االقتصادي ،قد جتده ً
عاما من النمو االقتصادي .وشهدت الواليات ٍ ٍ
عندما تنظر إىل آثار اختالف الدخل يف دولة واحدة مبقدار ضعفني على مدار عشرين ً
تفاعا يف مستوى انعدام املساواة يف الدخل أكرب من دول غرب أوروبا (الفصل التاسع) ،وقد يكون من متتَّع بنمو ناجتها أيضا ار ً
املتحدة ً
إن ُتمني أسباب االستثنائية األمريكية وسيلة تسلية مذهلة ،ولكن مهما كان السبب َّ
فإن احمللي اإلمجايل جمموعة صغرية من السكانَّ .
أن الواليات املتحدة ناشز عن االجتاه العاملي يف الرفاهة املوضوعية. «خرباء السعادة» يتَّفقون على َّ
أن الدولة عبارة عن عشرات املاليني من البشر الذين من األسباب األخرى لصعوبة فهم اجتاهات السعادة يف كل ٍ
دولة على حدة َّ
معا على رقعة أرض ،ومن العجب أن جند أي أمور مشرتكة بينهم عندما حنسب املتوسطات ،وال ينبغي أن نتفاجأ يتصادف وجودهم ً
بعضا أحيانًا. ٍ عندما جند َّ
وتغري املتوسط أحيانًا ،وتلغي بعضها ً
اجتاهات خمتلفة مبرور الوقتِّ ، أن الشرائح املختلفة من السكان تسري يف
عاما املاضية يف حني اخنفض مستوى سعادة األمريكيني ٍ
يزداد األمريكيون من أصل إفريقي سعادةً بدرجة كبرية على مدار اخلمسة وثالثني ً
ولكن الفجوة بني الدول الغربية تقلَّصت ،إذ يزداد الرجال سعادةً مبعدَّل أسرع من
قليال ،وتكون النساء غالبًا أسعد من الرجالَّ ،
البيض ً
نوعا ما.
ظل مستوى الرجال ثابتًا ًمتاما إذ اخنفض مستوى سعادة النساء بينما َّالنساء ،وانعكس الوضع يف الواليات املتحدة ً
التغريات اليت
ولكن اإلشكال األكرب أمام فهم االجتاهات التارخيية هو ما صادفناه يف الفصل اخلامس عشر ،وهو التمييز بني ُّ َّ
حتدث على مدار دورة احلياة (السن) وروح العصر (الفرتة) وعلى مدار األجيال (الفئات العمرية) ،فدون آلة زمن ،يكون من املستحيل
عاما يف
العمر مخسني ً
منطقيًّا فصل آثار السن والفئات العمرية والفرتة عن بعضها كليًّا ،فما بالك بتقاطعاهتا .إذا كان الذين يبلغون من ُ
عام 2005على سبيل املثال تعساء ،فلن نعرف ما إذا كان أفراد جيل طفرة املواليد ميرون ٍ
بوقت عصيب يف التعامل مع منتصف العمر،
بوقت عصيب يف التعامل مع األلفية اجلديدة ،أم َّ
أن األلفية اجلديدة كانت ُمتثِّل وقتًا عصيبًا لألشخاص يف منتصف العمر. أم ميرون ٍ
تغري األشخاص واألزمنة ،ميكنأجياال متعددة ،إضافةً إىل االفرتاضات بشأن مدى سرعة ُّ
عقودا و ً
ولكن مع جمموعة البيانات اليت تشمل ً
سن ،وميكن
جبيل ما على مدار السنوات ،واخلاصة بالسكان كافةً كل عام ،واخلاصة بالسكان يف كل ٍّ حساب متوسط النتائج اخلاصة ٍ
اخلروج بتقديرات مستقلة ملسار العوامل الثالث على مر الوقت .ويتيح لنا هذا أن نبحث عن صورتني خمتلفتني للتقدُّم ،فاألشخاص من
حاال من الكبار ممَّا يرفع مستوى سعادة
حاال يف الفرتات القريبة أو تصبح الفئات العمرية األصغر أفضل ً
كل األعمار قد يصبحون أفضل ً
السكان عندما حتل الفئات العمرية الصغرية حمل الكبرية.
يزداد األشخاص سعادةً كلَّما كربوا غالبًا (وهذا أثر السن) ،ويرجع هذا غالبًا َّ
ألهنم يتغلَّبون على العقبات يف بداية رحلة النضج
ويكتسبون احلكمة الالزمة للتكيُّف مع االنتكاسات ولوضع حياهتم يف نصاهبا الصحيح (رمبا ميرون بأزمة منتصف العمر أو باحندا ٍر يف
املتغري -فال يُطلق االقتصاديون على
تغري الزمن ،وخاصةً مع االقتصاد ِّ السنوات األخرية من حياهتم) .تتقلَّب مستويات السعادة مع ُّ
سبب-وقد أخرج األمريكيون أنفسهم للتو من احلضيض بعد الكساد مرَّكب معدل التضخم ومعدل البطالة اسم مؤشر البؤس دون ٍ
الكبري.
صعود وهبوط ،ففي عينتني كبريتني كان األمريكيون املولودون يف كل العقود بدءًا من ٍ يتَّسم النمط بني خمتلف األجيال مبراحل
ألن الكساد الكبري ترك عالمةً يف حياة األجيال اليت 1900إىل 1940يعيشون حياةً أسعد من الفئة العمرية السابقة عليهم ،رمبا َّ
قليال مع جيل طفرة املواليد
تعمق الكساد أكثر .وقد استقرت مستويات السعادة على ارتفاعها مث اخنفضت ً بلغت سن الرشد يف ظل ُّ
كبريا مبا يكفي ليتيح للباحثني فصل الفئة العمرية عن الفرتة .ويف دراسة ثالثة مستمرة حىت وجيل إكس يف بدايته ،وكان اجليل األخري ً
أيضا بني أفراد جيل
الوقت احلاضر (املسح االجتماعي العام ،)the General Social Survey -احندرت مستويات السعادة ً
أن كل جيل يشعر باألسى جتاه ٍ
بشكل كامل بني أفراد اجليل إكس وجيل األلفية .إذًا فرغم َّ طفرة املواليد ،ولكنَّها رجعت إىل مستوياهتا
أيضا كما رأينا
ميال للعنف وتعاطي املخدرات ً أن األمريكيني الصغار يف احلقيقة يزدادون سعادةً (ويصبحون أقل ً «اجليل اجلديد»َّ ،إال َّ
يف الفصل الثاين عشر) .وهكذا تكون شرائح اجملتمع اليت ازدادت سعاد ًة يف وسط ركود مستويات السعادة األمريكية هي :األمريكيون
وصوال إىل جيل طفرة املواليد ،وشباب اليوم.
من أصل إفريقي ،والفئات العمرية املتتابعة ً
تغري تارخيي يف الرفاهة معقَّد بثالثة أضعاف ما يبدو عليه على األقل ،وبعد
أن كل ُّ يعين التشابك بني السن والفرتة والفئة العمرية َّ
أخذ ذلك التنبيه يف اعتبارنا ،لننظر إىل االدعاءات القائلة َّ
إن احلداثة َّأدت إىل تفشي أوبئة الوحدة واالنتحار واألمراض النفسية.
شعورا بالوحدة ،فكتب ديفيد ريسمان (( )David Riesmanباالشرتاك مع ناثان يقول مراقبو العامل احلديث َّ
إن الغربيني يزدادون ً
جليزر Nathan Glazerورويل ديين )Reuel Denneyيف عام 1950الكتاب الكالسيكي يف علم االجتماعي بعنوان
الجماهير الوحيدة ) ،(The Lonely Crowdوتساءلت فرقة البيتلز يف عام 1966من أين جاء كل هؤالء الوحيدين ،وأشار
عامل السياسة روبرت بتنام ( )Robert Putnamيف عام 2000يف كتابه الذي حقَّق أعلى املبيعات إىل َّ
أن األمريكيني يلعبون
البولينج وحدهم ) (Bowling Aloneوهو عنوان الكتاب ،ويف عام 2010كتب الطبيبان النفسيان جاكلني أولدز
( )Jacqueline Oldsوريتشارد شوارتز ( )Richard Schwartzعن المواطن األمريكي الوحيد :االنفصال في القرن
الحادي والعشرين )َّ .(The Lonely American: Drifting Apart in the Twenty-First Century
إن
كبريا على صحتهم نوعا من التعذيب ألفراد نوع اإلنسان العاقل االجتماعي ،وميثِّل ضغط الوحدة هلم ً
خطرا ً االنعزال االجتماعي ميثِّل ً
وحياهتم ،لذا َّ
فإن طرق تواصلنا اجلديدة تُعد مقلبًا آخر على احلداثة لو كانت جعلتنا أكثر وحدةً من ذي قبل.
قد يظن املرء َّ
أن وسائل التواصل االجتماعي ميكنها تعويضنا عن االغرتاب واالنعزال الذي صحب تدهور األسر الكبرية واجملتمعات
ولكن عاملة
احمللية الصغرية ،فاليوم ميكن أن يكون هؤالء األشخاص الوحيدون املذكورون يف أغنية البيتلز أصدقاءك على موقع فيسبوكَّ .
أن الصداقات النفس سوزان بينكر ( )Susan Pinkerتراجع يف كتاب تأثير القرية ( )The Village Effectأحباثًا ِّ
توضح َّ
وجها لوجه.
اإللكرتونية ال تقدِّم لنا نفس املنافع النفسية اليت يقدِّمها لنا التواصل املباشر ً
يزيد هذا من الغموض حول سبب شعور األشخاص باملزيد من الوحدة ،فالعزلة االجتماعية تبدو من أسهل مشكالت العامل يف
شخصا تعرفه للحديث يف منزلك أو يف مقهى قريب؟ ملاذا ال يالحظ الناس الفرص املاثلة أمامهم؟ هل أصبح الناس ً حلِّهاِ ،ملَ ال تدعو
دائما -مدمنني على التواصل اإللكرتوين لدرجة َّأهنم ُتلوا عن التواصل البشري الضروري اليوم -وخاصةً اجليل الصغري املفرتى عليه ً
وحيكمون على أنفسهم بالوحدة غري الالزمة واليت رمبا تكون قاتلة .هل ميكن أن نكون قد «منحنا قلوبنا لآلالت فأصبحنا اآلن نتحول
إىل آالت» حقًّا كما قال أحد النقاد االجتماعيني؟ هل خلق اإلنرتنت «عاملا مفتَّتًا خاليًا من التواصل البشري أو العاطفة البشرية» كما
ً شخص يصدِّق بوجود ٍ
وتوضح البيانات خطأ هذه املقوالت ،فوباء الوحدة غري
أن هذا مستبعدِّ ، طبيعة بشرية َّ ٍ قال ناق ٌد آخر؟ يبدو ألي
متفش.
ٍّ
راجع عامل االجتماع كلود فيشر ( )Claude Fischerيف كتابه ما زلنا على تواصل )(Still Connectedالصادر عام
أن «األمر األكثرعاما من استطالعات الرأي اليت تسأل األشخاص عن عالقاهتم االجتماعية ،وأشار إىل َّ 2011تارخيًا مدته أربعون ً
لفتًا للنظر يف البيانات هو مدى انتظام عالقات األمريكيني بأسرهم وأصدقائهم بني سبعينيات القرن املاضي والعقد األول من األلفية،
فنادرا ما جند اختالفات تصف تغيريات دائمة يف السلوك ذات عواقب شخصية مستمرة تزيد على حفنة من النقاط املئوية يف االجتاهني، ً
أجلَّ ،
إن األمريكيني أصبحوا حيصلون على ترفيه أقل يف املنزل ويقومون باملزيد من املكاملات اهلاتفية وإرسال الرسائل اإللكرتونية ،ولكنَّهم
ُسر أصبحت أصغر وأصبح املزيد من أن األشخاص أعادوا تقسيم وقتهم َّ
ألن األ َ كثريا على مستوى املبادئ األساسية» .رغم َّ
يتغريوا ً
مل َّ
أن األمريكيني اليوم يقضون نفس مقدار الوقت مع أقربائهم ولديهم نفس األشخاص عازبني وأصبحت املزيد من النساء يعملنَّ ،إال َّ
متوسط عدد األصدقاء ويقابلوهنم بنفس املعدل تقريبًا ومقدار الدعم العاطفي الذي يقولون َّإهنم يتلقونه هو نفسه ،وما يزالون راضني
بعدد صداقاهتم وجودهتا بنفس مقدار رضا أقراهنم يف عقد رئاسة جريالد فورد ( )Gerald Fordومسلسل أيام سعيدة ( Happy
) .Daysيتواصل مستخدمو اإلنرتنت ووسائل التواصل االجتماعي أكثر مع أصدقائهم (رغم َّأهنم يتواصلون معهم ً
وجها لوجه أقل
أن الطبيعة البشرية تقتضي أن« :حياول الناس التكيُّف توصل فيشر إىل َّبأن روابطهم اإللكرتونية وطَّدت عالقاهتم وأثرهتاَّ .
قليال) ويشعرون ًَّ
املتغرية من أجل محاية أمثن غاياهتم اليت تشمل احلفاظ على حجم عالقاهتم الشخصية وجودهتا ،مثل الوقت الذي يقضونه مع الظروف ِّ
مع أطفاهلم والتواصل مع األقرباء وبعض مصادر الدعم احلميم».
ماذا عن مشاعر الوحدة املوضوعية؟ َّ
إن استطالعات آراء السكان بأكملهم قليلة للغاية ،وأشارت البيانات اليت عثر عليها فيشر
ولكن استطالعات
عددا أكرب من الناس أصبحوا عازبنيَّ ، ألن ً أن «تعبريات األمريكيني عن الوحدة ظلَّت كما هي أو رمبا زادت ً
قليال» َّ إىل َّ
وهم فئة حمدودة -كثرية ،وأشار َّ
الطالب طيلة عقود إىل ما إذا كانوا يتفقون مع عبارات مثل « ُحيزنين القيام بالكثري من آراء ُّ
الطالب ُ -
يلخص هذه االجتاهات عنوان مقال «تراجع الوحدة مبرور الوقت» ( Declining األشياء وحدي» و«ليس لدي من أحتدث إليه»ِّ .
)Loneliness Over Timeاملنشور عام ،2015وتتضَّح هذه االجتاهات يف الشكل رقم .2-18
الكلية
الصف الثاني
عشر
الصف العاشر
الصف الثامن
مبا أنَّه مل جي ِر تتبُّع الطالب بعدما غادروا املدرسة ،إ ًذا فنحن ال نعلم ما إذا كان الرتاجع يف مستويات الوحدة نتيجة أثر الفرتة ،اليت
أصبح فيها من األسهل على الشباب تلبية احتياجاهتم االجتماعية على حن ٍو ثابت ،أم أثر الفئة العمرية ،أي أصبحت األجيال اجلديدة
مدمرة من اخلواء والضياع واالنعزال».
أن شباب األمريكيني ال يعانون «مستويات ِّ لكن ما نعلمه هو َّ
أكثر رضا اجتماعيًّا وستظل كذلكَّ .
َّ
إن التكنولوجيا هي اهلدف الدائم للمتشائمني فيما خيص الثقافة ،وكذلك لـ «اجليل اجلديد» .قدَّم عامل االجتماع كيث هامبتون
( )Keith Hamptonوزمالؤه املشاركون يف عام 2015تقر ًيرا عن اآلثار النفسية لوسائل التواصل االجتماعي واستهله بالفقرة
التالية:
ظل املعلِّقون على مدار األجيال قلقني من أثر التكنولوجيا يف الضغط النفسي على األشخاص ،فقد كان يُنظر إىل القطارات
واآلالت الصناعية على َّأهنا مسبِّبات إزعاج واختالل للحياة القروية الرعوية وجتعل أهلها متوترين ،واهلواتف كانت تقطع
اهلدوء يف املنازل ،وساعات اليد واحلائط كانت تضيف إىل الضغوط الزمنية غري اإلنسانية الواقعة على عمال املصانع من
أجل حتقيق اإلنتاجية ،وكانت برامج الراديو والتليفزيون تُعد وف ًقا لإلعالنات اليت فتحت الباب أمام الثقافة االستهالكية
احلديثة وزادت من قلق األشخاص بشأن السعي إىل املكانة االجتماعية.
أن جرائم القتل هي أكثر مقياس يُعتمد عليه للصراعات أن االنتحار أكثر مقياس يُعتمد عليه للتعاسة االجتماعية ،كما َّ رمبا يظن املرء َّ
أن إهناء وعيه بصورةٍ دائمة
يقرر َّ ٍ
لدرجة جعلته ِّ االجتماعية ،فالشخص الذي مات نتيجةً لالنتحار ال بد وأنَّه قد عاىن تعاسةً شديدة
أن حاالت االنتحار ميكن ترتيبها بصورةٍ موضوعية بطر ٍ
يقة ال ميكن إجراؤها مع التعاسة. حتملها ،إضافةً إىل َّ
أفضل من ُّ
يشوشان حكم ولكن معدالت االنتحار تكون غالبًا مبهمة يف الواقعَّ ،
فإن احلزن واالهتياج اللذين ميثِّل االنتحار راحةً منهما ِّ َّ
فإن ما يفرتض به أن يكون القرار الوجودي النهائي يتوقَّف على مسألة بسيطة هي مدى سهولة تنفيذ هذا الفعل. الشخص ،وهكذا َّ
تُعد قصيدة دوروثي باركر عن املوت بعنوان ”( “Resuméاليت تقول يف هنايتها« :املسدسات ليست قانونية ،وحبل املشنقة قد
يفكر يف االنتحار .تزيد معدَّالت االنتحار يف دو ٍلة ما
يفلت ،والغاز رائحته فظيعة ،إذًا لتعِش أفضل») قريبة من عقلية الشخص الذي ِّ
نطاق واسع -أو يُقضى عليها-مثل غاز الفحم يف إجنلرتا يف النصف أو تنخفض بقد ٍر هائل عند تواجد وسيلة مرحية وفعَّالة متاحة على ٍ
أن حاالت االنتحار تزداد األول من القرن العشرين ،واملبيدات احلشرية يف عدة دول نامية ،واملسدسات يف الواليات املتحدة .وال عجب َّ
خالل فرتات الركود االقتصادي واالضطرابات السياسية ،ولكنَّها تتأثَّر كذلك بالطقس وعدد ساعات النهار يف اليوم ،وتزداد عندما
يقة رومانسية .وميكن التشكيك حىت يف الفكرة البسيطة اليت تعترب يصورها بطر ٍ يتعامل اإلعالم مع احلوادث األخرية َّ
كأهنا طبيعية أو ِّ
أن الواليات األمريكية األسعد والدول الغربية األسعدمقياسا للتعاسة ،إذ وثَّقت دراسةٌ حديثة «مفارقة السعادة واالنتحار» وهي َّ
االنتحار ً
إيالما
فإن العثرات الشخصية تكون أكثر ً أن املصائب جتمع بني الناس ،لذا َّ(خيمن الباحثون َّ هبا معدَّالت انتحار أعلى ً
قليال ،ال أقل ِّ
أيضا ،وهو صعوبة التمييز بني حاالت االنتحار لسبب آخر ًٍ للمرء عندما يكون كل من حوله سعداء) .تتقلَّب َّ
معدالت االنتحار
واحلوادث غالبًا (وخاصةُ عندما يكون السبب هو السم أو جرعة مفرطة من املخدرات ،وعندما يكون حادث سقوط أو حادث سيارة
جمرًما.
موصوما أو َّ
ً حيرف األطباء الشرعيون تصنيفاهتم يف األوقات واألماكن اليت يكون فيها االنتحار أو طلق ناري) ،ورمبا ِّ
أن االنتحار أحد األسباب الرئيسية للوفاة ،ففي الواليات املتحدة حتدث أكثر من 40ألف حالة انتحار سنويًّا ،ممَّا ولكنَّنا نعلم َّ
جيعل االنتحار السبب العاشر من األسباب املؤدية للوفاة ،وحتدث أكثر من 800ألف حالة انتحار حول العامل ممَّا جيعله السبب
اخلامس عشر من أكثر األسباب املؤدية للوفاة .ولكن يصعب فهم االجتاهات املختلفة عرب الزمن واالختالفات بني الدول .إضافةً إىل
أن معدل انتحار النساء ٍ
اجتاهات خمتلفة ،فرغم َّ تشابك السن والفئة العمرية والفرتةَّ ،
فإن اخلطوط اليت متثِّل الرجال والنساء تسري غالبًا يف
أن الرجال يقتلون أنفسهم مبعدل يف الدول النامية اخنفض بأكثر من 40يف املئة من منتصف مثانينيات القرن املاضي وَّ ،2013إال َّ
مثال ملاذا أكثر دول العامل منتغري االجتاهات العامة غالبًا .وال أحد يعلم ًاملعربة عن الرجال ِّ حوايل أربعة أضعاف النساء ،لذا َّ
فإن األرقام ِّ
كبريا منذ عام 1976حىت تفاعا ً
حيث معدالت االنتحار هي غيانا وكوريا اجلنوبية وسريالنكا وليتوانيا ،وال ملاذا ارتفع املعدل يف فرنسا ار ً
1986مث اخنفض ثانيةً حبلول عام .1999
أن االنتحار يف ازدياد مستمر بصورةٍ ثابتة ووصل اآلن إىل
ولكنَّنا نعرف ما يكفي لكشف زيف اعتقادين شائعني ،األول هو َّ
شائعا يف العامل القدمي بالقدر الذي جعل
وتعرب عن انتشاره كالوباء .كان االنتحار ً
وتشكل أزمةِّ ، ٍ
نسب تارخيية مرتفعة ،وغري مسبوقةِّ ،
مذكورا يف القصص التوراتية واإلجنيلية مثل قصص مششون وشاؤول ويهوذاَّ .
إن البيانات التارخيية ً اإلغريق يتجادلون فيه والذي جعله
دول عديدة منها إجنلرتا حىت عامأيضا «قتل النفس» ،كان جرميةً يف ٍ
أن االنتحار ،الذي يُطلق عليه ًنادرة ،ومن أهم أسباب ذلك َّ
رمست هذه البيانات يف الشكل رقم -18 ٍ
ولكن البيانات تعود إىل أكثر من قرن يف إجنلرتا وسويسرا والواليات املتحدة ،وقد ُ
َّ ،1961
.3
سويسرا
حاالت االنتحار لكل 100ألف شخص
الواليات
المتحدة
إنجلترا
كان معدل االنتحار السنوي يف إجنلرتا 13لكل 100,000شخص يف عام ،1863مث وصل إىل 19تقريبًا يف العقد األول
كثريا خالل احلرب العاملية الثانية واخنفض ثانيةً خالل
من القرن العشرين ووصل إىل أكثر من 20خالل الكساد الكبري مث اخنفض ً
اخنفاضا مبقدار النصف أو أكثر ،من
ً أيضا
ستينيات القرن املاضي مث اخنفض تدرجييًّا ليصل إىل 7.4يف عام .2007شهدت سويسرا ً
24يف عام 1881و 27خالل الكساد إىل 12.2يف عام .2013وصل االنتحار إىل ذروته يف الواليات املتحدة مبعدل 17يف
بداية القرن العشرين ومرةً أخرى خالل الكساد الكبري قبل أن ينخفض إىل 10.5يف مطلع األلفية مث ارتفع ثانيةً ليصل إىل 13بعد
الركود الكبري األخري.
شيوعا يف املاضي يف هذه الدول الثالثة اليت لدينا بيانات تارخيية عنها .هذه التذبذبات الصاعدة
إذًا فقد كان االنتحار أكثر ً
واهلابطة الظاهرة عبارة عن سطح حب ٍر متقلِّب مليء بأعمار وفئات عمرية وفرتات وأجناس خمتلفة ،إذ ترتفع معدالت االنتحار بشدة
خالل سن املراهقة مث بالتدريج خالل منتصف العمر بينما تصل لذروهتا يف هذا الوقت لدى النساء (رمبا ألهنن يواجهن مشكليت انقطاع
الطمث وبُعد األبناء عن بيت األسرة) مث تنخفض ثانيةً ،بينما تظل كما هي لدى الرجال قبل أن ترتفع سر ًيعا يف سنوات التقاعد (رمبا
مؤخرا على حنو جزئي إىل تقدم بسبب انتهاء دورهم التقليدي يف إعالة األسرة) .ميكن أن نعزو ارتفاع معدالت االنتحار يف أمريكا ً
لكن الفئات العمريةالسكان يف العمر ،مع وصول أفراد جيل طفرة املواليد من الذكور إىل أكثر سن يكونون معرضني فيه لالنتحارَّ ،
أيضا .كان اجليل األعظم واجليل الصامت أكثر عزوفًا عن االنتحار من اجليل الفيكتوري الذي سبقهما وجيل طفرة املواليد نفسها مهمة ً
واجليل إكس اللذين حلقامها ،يبدو أن جيل األلفية يبطئ ارتفاع املعدالت أو يعكسه ،فقد اخنفضت معدالت انتحار املراهقني بني بداية
تسعينيات القرن املاضي والعقود األوىل من القرن العشرين .وأصبحت األزمنة نفسها (مع مراعاة السن والفئات العمرية) أقل تسبُّبًا يف
ٍ
اخنفاض دام االنتحار منذ بلوغه الذروة قرب مطلع القرن العشرين والثالثينيات وأواخر الستينيات حىت أوائل السبعينيات ،مث وصلت إىل
التهويل الذي قام به خربٌ منشور تفاعا طفي ًفا بعد الركود الكبريِّ .
يكذب هذا التعقيد عاما حىت عام ،1999رغم أنَّنا شهدنا ار ً
مخسني ً
َ
قريبًا يف صحيفة نيويورك تاميز )(New York Timesبعنوان« :ارتفاع معدل االنتحار يف الواليات املتحدة ألعلى مستوى له منذ
ثالثني سنة» بينما كان من املمكن استخدام عنوان« :اخنفاض معدل االنتحار يف الواليات املتحدة عن ذروته السابقة مبقدار الثلث
بالرغم من الكساد وشيخوخة السكان».
جبانب االعتقاد بأن احلداثة جتعل الناس يريدون قتل أنفسهم ،هناك أسطورة كبرية أخرى عن االنتحار تقول بأن السويد وهي
النموذج املثايل للنزعة اإلنسانية التنويرية هبا أعلى معدل انتحار يف العامل ،نشأت هذه األسطورة (وف ًقا ملا قد يكون أسطورة أخرى) يف
خطاب لدوايت أيزهناور ( )Dwight Eisenhowerيف عام 1960صرح فيه مبعدل االنتحار املرتفع يف السويد وألقى باللوم فيه ٍ
لكن
على نظامها االشرتاكي األبوي .كنت أللقي أنا اللوم على أفالم إجنمار بريمجان ( )Ingmar Bergmanالوجودية الكئيبةَّ ،
كلتا النظريتني جمرد تفسريات حتتاج إىل حقائق لتفسريها .مع أن معدل االنتحار يف السويد يف عام 1960كان أعلى منه يف الواليات
املتحدة ( 15.2لكل 100,000يف السويد و 10.8يف الواليات املتحدة)َّ ،إال أنَّه مل يكن أعلى معدل انتحار يف العامل قط ،وقد
اخنفض منذ هذا الوقت حىت وصل إىل 11.1وهو أقل من متوسط معدل االنتحار يف العامل ( )11.6ومنه يف الواليات املتحدة
( )12.1وهي حتتل بذلك املركز الـ 58على مستوى العامل .أشارت مراجعة حديثة ملعدالت االنتحار يف مجيع أحناء العامل إىل أن
«موجة االنتحار تتجه حنو االخنفاض عامةً يف أوروبا وال تشمل أعلى عشر دول يف معدل االنتحار أيًّا من دول الرفاه يف غرب أوروبا».
يعاين اجلميع من االكتئاب أحيانًا ،ويعاين بعض الناس من االكتئاب الشديد وفيه يستمر احلزن وفقدان األمل ألكثر من أسبوعني
ويعيقهم عن مواصلة احلياة اليومية بشكل طبيعي ،وقد ُشخص عدد أكرب من الناس باالكتئاب يف العقود األخرية ،وخاصةً من الفئات
شعار شهري ألحد برامج التليفزيون الوثائقية احلديثة« :وباءٌ صامت جيتاح البلد ويقتل أبناءنا».
األصغر سنًا ،وعرب عن التصور التقليدي ٌ
مستبعدا واتضح أنه كان ومهًا.
ً لقد رأينا للتو أن البلد ال يعاين من تفشي التعاسة أو الوحدة أو االنتحار ،لذا فيبدو تفشي االكتئاب
بأن كل الفئات العمرية بدايةً من اجليل األعظم كثريا ،واليت تدعي ادعاءً غري مقنع َّ
لنتناول إحدى الدراسات اليت يُستشهد هبا ً
ٍ
أشخاص من حىت جيل طفرة املواليد تعاين من االكتئاب أكثر من الفئة اليت سبقتها ،توصل الباحثون إىل هذا االستنتاج بطلبهم من
ولكن هذا جعل الدراسة معتمدةً على الذاكرة :وكلما طالت املدة منذ اإلصابة أعما ٍر خمتلفة تذكر األوقات اليت أُصيبوا فيها باالكتئابَّ ،
بنوبة االكتئاب ،اخنفضت احتمالية أن يتذكرها الشخص ،وخاصةً إذا كانت مريرة (كما رأينا يف الفصل الرابع) .يومهنا هذا بأن الفرتات
أيضا على الوفيات ،فاملصابون باالكتئاب أكثر عرضة احلديثة والفئات العمرية الصغرية أكثر عرضةً لالكتئاب .تعتمد هذه الدراسة ً
ٍ
أسباب أخرى مع مرور الوقت ،لذا فاملسنون األحياء الذين تشملهم العينة تكون صحتهم النفسية للموت عن طريق االنتحار أو نتيجة
أفضل ،مما جيعل األمر يبدو كما لو أن مجيع من ُولدوا منذ زم ٍن بعيد يتمتَّعون بصحة نفسية أفضل.
أيضا تغري املواقف من الصحة النفسية ،فقد شهدت العقود األخرية برامج توعية ومحالت إعالمية هتدف إىل زيادة
يشوه التاريخ ً
ممَّا ِّ
وسوقت شركات األدوية الكثري من مضادات االكتئاب للمستهلكني مباشرةً ،وتطالب الوعي واحلد من الوصمة املرتبطة باالكتئابَّ ،
مبرض معني قبل حصوهلم على استحقاقات مثل العالج واخلدمات احلكومية واحلق يف األنظمة البريوقراطية بأن يتم تشخيص األفراد ٍ
عدم التمييز ،وقد تشجع كل هذه احملفزات الناس على االعرتاف بأهنم يعانون من االكتئاب.
مرضا نفسيًا .فقد تضاعفت ٍ
ويف نفس الوقت ،يُقلل العاملون يف جمال الصحة النفسية ورمبا الثقافة بوجه عام املعايري احملدِّدة ملا يُعترب ً
األمراض املتضمنة يف دليل التشخيص واإلحصاء ( )DSMاخلاص باجلمعية األمريكية للطب النفسي بثالثة أضعاف بني عامي 1952
و 1994عندما مت إدراج 300اضطراب تقريبًا مبا فيها اضطراب الشخصية التجنبية (والذي ينطبق على من كانوا يوصفون ساب ًقا
باخلجل) وتسمم الكافيني واضطراب الضعف اجلنسي عند النساء ،واخنفض عدد األعراض الالزمة للتشخيص ،وزاد عدد الضغوط
النفسية اليت قد تتسبب يف املرض النفسي .كما الحظ عامل النفس ريتشارد ماكنايل (َّ :)Richard McNally
أن «املدنيني الذي
مروا بأهوال احلرب العاملية الثانية ،وخاصةً مبعسكرات املوت النازية ..كانوا سيندهشون بالتأكيد لو علموا أن انتزاع ضرس العقل أو
مواجهة النكات التهكمية يف العمل أو إجناب طفل سليم معاىف بعد والدةٍ يسرية ميكن أن يتسبب يف اضطراب كرب ما بعد الصدمة».
وف ًقا لنفس التغيري ،أصبح مصطلح «االكتئاب» يُطلق اليوم على ما كان يسمى يف املاضي باألسى أو الشجن أو احلزن.
وقد بدأ علماء النفس واألطباء النفسيون يف التحذير من «توسع نطاق املرض من أجل ترويج العالج» و«متدد إمرباطورية األمراض
النفسية» .أشارت عاملة النفس روبني روزنربج ( )Robin Rosenbergيف مقاهلا «أصبح غري العادي هو القاعدة»
أن آخر إصدار من دليل التشخيص واإلحصاء )(DSM ( )Abnormal Is the New Normalاملنشور عام 2013إىل َّ
ميكن أن يُشخص نصف الشعب األمريكي بأحد االضطرابات النفسية خالل فرتة ما من حياهتم.
يُعد متدد إمرباطورية األمراض النفسية أحد مشاكل العامل األول ،وعالمةً على التقدم األخالقي يف نو ٍاح كثرية ،فاالعرتاف مبعاناة
نوع من التعاطف ،وخاصةً عندما يكون باإلمكان ُتفيف هذه املعاناة عنه. ٍ
تشخيص ما عليه ،هو ٌ شخص ما ،حىت وإن كان بإطالقٍ
أن العالج املعريف السلوكي فعَّال بصورة جلية (أكثر فعاليةً من األدوية عادةً) يف عالج كث ٍري من
إن أحد أسرار علم النفس اخلفية هو َّ
االضطرابات مثل االكتئاب والقلق ونوبات اهللع واضطراب كرب ما بعد الصدمة واألرق وأعراض ال ُفصام .تُشكل االضطرابات النفسية
أكثر من %7من عبء اإلعاقة العاملي (يشكل االكتئاب الشديد مبفرده ،)%2.5وهذه معاناة هائلة ميكن ُتفيفها .لفت حمررو جملة
المكتبة العامة للعلوم :الطب )(Public Library of Science: Medicineاالنتباه لـ «مفارقة الصحة النفسية» :وهي
اعتبار املشاكل العادية اضطرابًا يستحق العالج واإلفراط يف العالج يف الغرب الثري وقلة االعرتاف باألمراض وقلة العالج يف بقية العامل.
باتساع نطاق التشخيص ،أصبحت الطريقة الوحيدة ملعرفة ما إذا كان عدد أكرب من الناس يعانون من االكتئاب يف الوقت احلايل
هي عمل اختبار قياسي موحد ألعراض االكتئاب على عينات ممثلة على املستوى الوطين من الناس من أعمار خمتلفة على مدى ٍ
عقود
معيارا ثابتًا على فئات سكانية أكثر ِ
كثريا من الدراسات طبَّقت ً
أي دراسة حىت اآلن هذه القاعدة األساسية ،ولك ًّن ً تستوف ُّ كثرية ،ومل
أشخاصا يسكنون يف مقاطعتني ريفيتني (أحدمها يف السويد واألخرى يف كندا) من
ً حمدودية .وقد مشلت دراستان مكثفتان طويلتا األمد
مواليد الفرتة ما بني 1870والتسعينيات وتتبَّعتاهم من منتصف القرن العشرين حىت آخره متضمنتني حيوات متعاقبة امتدت ألكثر من
أي منهما دالالت على ارتفاع معدالت االكتئاب على املدى الطويل.
قرن ،ومل جتد ٌ
أيضا العديد من التحليالت التجميعية (وهي األحباث اليت ُجترى على األحباث) ،فوجدت توينج (َّ )Twenge
أن أُجريت ً
سجلوا منذ عام 1938حىت عام 2007معدالت مرتفعة على مقياس االكتئاب املوجود يف اختبار مينيسوتا متعدد الطالب اجلامعيني َّ
اختبار شائع للشخصية .ومع ذلك ،ال يعين هذا بالضرورة ازدياد عدد الطالب الذين يعانون مناألوجه للشخصية ) ،(MMPIوهو ٌ
االكتئاب الشديد ،ولكن هذا االرتفاع رمبا يكون بسبب التحاق عدد أكرب من الناس باجلامعة على مر العقود .وعالوة على ذلك ،فقد
تغري أو اخنفاض يف معدالت االكتئاب ،وخاصةً لدى الشباب وجدت دراسات أخرى (بعضها قامت هبا توينج بنفسها) أنَّه ال يوجد ُّ
والفئات العمرية الصغرية ويف العقود الالحقة ،أحدها بعنوان« :هل تفشى االكتئاب بني املراهقني واألطفال؟» ( Is There An
? )Epidemic of Child or Adolescent Depressionوهي تؤكد قانون بيرتيدج ( )Betteridge's Lawللعناوين
القائل بأن :أي عنوان رئيسي ينتهي بعالمة استفهام ميكن اإلجابة عليه بكلمة ال .وتوضح الدراسة َّ
أن «تصور الناس عن (الوباء املتفشي)
قد ينتج عن تزايد الوعي باضطراب كانت معرفة األطباء به وتشخيصهم له أقل يف املاضي» .كان عنوان أحد أكرب التحليالت التجميعية
يشوق قُـَّراءَه« :رفض
اضحا ومل ِّ
حىت اآلن -الذي درس معدل انتشار القلق واالكتئاب بني عامي 1990و 2010يف العامل بأكمله -و ً
توصل الباحثون إىل أنَّه «عند تطبيق معايري تشخيص واضحة ،فال يوجد دليل على أسطورة (تفشي) االضطرابات النفسية الشائعة»َّ .
َّ
أن انتشار االضطرابات النفسية الشائعة يف ازدياد».
تساؤال حول ما إذا كان العامل قد يتالزم االكتئاب مع القلق ،يف ٍ
عالقة يُطلق عليها اختصاصيو الوبائيات التزامن املرضي ،ممَّا يثري ً
أصبح أكثر قل ًقا ،جند إجابةً عن هذا السؤال يف عنوان قصيدة سردية طويلة للشاعر ويسنت هيو أودن ( )W. H. Audenاملنشورة
عام 1947وهو «عصر القلق» ) .(The Age of Anxietyالحظ الباحث اإلجنليزي آالن جايكوبز ( )Alan Jacobsيف
كثريا من النقاد الثقافيني على مر العقود أثنوا على فطنة أودن يف تسمية احلقبة اليت حنيا فيها،
أن « ً مقدمة طبعة حديثة هلذه القصيدة َّ
أساسا بالقلق بالتحديد أو ما إذا
أن عصرنا يتَّسم ًيتمكن سوى قليلون من فهم سبب اعتقاده َّ ولكن بالنظر إىل صعوبة القصيدة ،فلم َّ
فإن االسم الذي أطلقه على حقبتنا ارتبط هبا ،واستُخدم يف عنوان كان هذا ما يقوله حقًّا » .سواء أكان أودن يقول هذا حقًّا أم الَّ ،
الطالب اجلامعيني بني عامي 1952 املوجه لألطفال و َّ
أن جمموع درجات اختبار القلق املعياري َّ حتليل جتميعي أجرته توينج ،وأوضح َّ
و 1993ارتفع مبقدار احنراف معياري كامل .األشياء اليت ال ميكن أن تستمر إىل األبد ،ال تستمر ،وحسب معلوماتنا َّ
فإن هذه الزيادة
الطالب اجلامعيني استقرت بعد عام .1993ومل تصبح القطاعات الدميوغرافية األخرى أكثر قل ًقا ،إذ مل جتد الدراسات الطولية اليت بني َّ
تفاع يف
طالب املرحلة الثانوية والبالغني منذ سبعينيات القرن املاضي حىت العقود األوىل من القرن احلادي والعشرين أي ار ٍ أُجريت على َّ
أن القلق الذي يصل أن بعض األشخاص ذكروا يف بعض االستطالعات إصابتهم باملزيد من أعراض الكربَّ ،إال َّ خمتلف الفئات .ورغم َّ
إىل حد املرض مل يبلغ مستويات وبائية ،ومل حيقِّق أي زيادات عاملية منذ عام .1990
كل شيء رائع ،هل حنن حقًّا تعساء للغاية؟ لسنا تعساء يف األغلب ،فالدول املتقدِّمة يف احلقيقة سعيدة جدًّا ،وأصبحت أغلبية دول
العامل أسعد ،وكلَّما ازداد غىن الدول ازدادت سعادةً ً
أيضا .ال تصمد التحذيرات املخيفة من أوبئة الوحدة واالنتحار واالكتئاب والقلق
فإن أفراد جيل األلفية ٍ
ملتاعبَّ ،إال أنَّه بالنسبة لألجيال األصغر َّ قلق إزاء تعرض اجليل التايل
أن كل جيل ٌ تقصي احلقائق ،ورغم َّ أمام ِّ
بصحة نفسية أفضل من آبائهم املدلِّلني (أو من يُطلق عليهم اآلباء اهلليكوبرت).ٍ حال جيد للغاية وأسعد ويتمتَّعون يبدون يف ٍ
كثريا من الناس ال يبلغون مستويات عليا ،فاألمريكيون متأخرون عن بقية أقراهنم من شعوب العامل فإن ً ولكن فيما يتعلَّق بالسعادة َّ
أن أفراد جيل طفرة املواليد جيل مضطرب األول ،وركدت مستويات سعادهتم يف احلقبة اليت يُطلق عليها أحيانًا «القرن األمريكي» .ثبُت َّ
ورخاء ،ممَّا أثار حرية آبائهم الذين مروا بالكساد الكبري واحلرب العاملية الثانية و(يف حالة كث ٍري من أصدقائي) ٍ رغم نشأهتم يف ٍ
سالم
اهلولوكوست .أصبحت النساء األمريكيات أتعس يف نفس الوقت الذي حقَّقن فيه مكاسب غري مسبوقة يف الدخل والتعليم واإلجناز
الرجال النساء .رمبا يكون القلق وبعض األعراض االكتئابية
ُ واالستقاللية ،ويف الدول املتقدِّمة األخرى اليت ازداد فيها اجلميع سعاد ًة ،جتاوز
قد زادت يف العقود اليت تلت احلرب ،على األقل لدى بعض األشخاص ،وال أحد منا سعيد كما ينبغي بالنظر إىل مدى الروعة اليت
وصل إليها عاملنا.
سأهني هذا الفصل بالتأمل يف هذا النقص يف السعادة ،اليت متثِّل للكثري من املعلِّقني فرصةً للتشكيك يف احلداثة ،فيقولون َّ
إن
تعاستنا ردٌّ على عبادتنا للفرد وللثروة املادية وعلى انصياعنا لتآكل األسرة والتقاليد والدين واجملتمع احمللي.
ولكن هناك طريقة أخرى نفهم هبا إرث احلداثة ،فمن حينُّون إىل العادات الشعبية نسوا كم كافح أسالفنا للتخلُّص منها .رغم َّ
أن َّ
كثريا من أشكال الفنون الرائعة اليت
أن ًمن عاشوا يف جمتمعات وثيقة الرتابط أرخت احلداثة روابطها مل ُجيروا استبيانات عن السعادةَّ ،إال َّ
أُنتِجت خالل فرتة التحول أظهرت جوانبها املظلمة مثل ضيق األفق والتطابق والقبلية والقيود املفروضة على استقاللية النساء كتلك اليت
ايات عديدة منذ منتصف القرن الثامن عشر حىت أوائل القرن العشرين صراعات األشخاص من تفرضها حركة طالبان .وقد تناولت رو ٌ
أجل جتاوز أعراف النظم األرستقراطية أو الربجوازية أو الريفية اخلانقة ،مبا فيها أعمال ريتشاردسون ( )Richardsonوثاكري
( )Thackerayوتشارلوت برونيت ( )Charlotte Brontëوإليوت ( )Eliotوفونتانه ( )Fontaneوفلوبري ()Flaubert
وتولستوي ( )Tolstoyوإبسن ( )Ibsenوألكوت ( )Alcottوهاردي ( )Hardyوتشيخوف ( )Chekhovولويس
( .)Lewisبعد أن أصبح اجملتمع الغريب املتمدِّن أكثر تساحمًا وعامليةً ،ظهرت هذه التوترات ثانيةً يف طريقة تناول أعمال الثقافة الشعبية
للحياة يف البلدات الصغرية األمريكية ،مثلما يف أغنيات بول سيمسون )« (Paul Simsonيف بلديت الصغرية مل أ ُكن أعين شيئًا /مل
أكن سوى ابن أيب» )"In my little town I never meant nothin' / I was just my father's son" -ولو
ريد )« (Lou Reedعندما تنشأ يف بلدة صغرية /تعرف أنك ستذبل يف بلدة صغرية» When you're growing " -
)"up in a small town / You know you'll grow down in a small townوبروس سربجنستني ( Bruce
( )«Springsteenهذه البلدة ستخلع عظامك يا عزيزيت /إهنا مصيدة موت ،حكم باالنتحار» Baby, this town " -
.)"rips the bones from your back / It's a death trap, a suicide rapوظهرت ثانيةً يف أدب املهاجرين،
مبا يشمل أعمال إسحاق باشيفيس سنجر ( )Isaac Bashevis Singerوفيليب روث ( )Philip Rothوبرنارد ماالمود
( )Bernard Malamudمث أعمال إميي تان ( )Amy Tanوماكسني هونج كينجستون ( Maxine Hong
)Kingstoneوجومبا الهريي ( )Jhumpa Lahiriوبارايت موكرجي ( )Bharati Mukherjeeوتشيرتا بانرجي ديفاكاروين
(.)Chitra Banerjee Divakaruni
نتمتَّع اليوم بعا ٍمل ميتاز هبذه احلرية الشخصية اليت كانت هذه الشخصيات حتلم هبا ،عا ٍمل يستطيع املرء فيه أن يتزوج ويعمل وحييا
حيذر آنا كارنينا ( )Anna Kareninaأو نورا هلمر ( Nora كما حيب .يتخيل املرء أحد النقاد االجتماعيني احلاليني وهو ِّ
ٍ
بلحظات من القلق والتعاسة دون روابط األسرة والقرية، تتصورانه و َّأهنما ستُصابان )Helmerمن َّ
أن اجملتمع العاملي املتسامح ليس كما َّ
أن هذه صفقة رائعة!ولكين أظن َّأهنما ستعتقدان َّ
ال أستطيع التحدث بالنيابة عنهماِّ ،
وتفك ٍر ٍ
وحبث داخل عما تقتضيه احلرية من ٍ
يقظة ُّ قليال من القلق مثنًا للحرية وما ينتج عنها من حرية ،وهي تعبري آخر َّ
ورمبا نعاين ً
الذات .وال عجب يف اخنفاض مستويات السعادة لدى النساء بعد اكتساهبن بعض االستقاللية بالنسبة إىل الرجال ،ففي العصور السابقة
إن أهداف حياهتن تتضمن ًّ
كال من ونادرا ما تعدت ذلك ،أما اليوم فالشابات ي ُقلن َّ
كانت مسؤوليات النساء قاصرة على نطاق األسرة ً
احلياة املهنية واألسرة والزواج واملال والرتفيه والصداقة واخلربة وتصحيح التفاوت االجتماعي وأن يصبحن قائدات يف جمتمعاهتن احمللية وأن
كل ما يتمىن املرء يدركه».
وطرق كثرية للشعور باإلحباط ،إذ «ما ُّ
يسهمن يف اجملتمع ،وهذه أشياءُ كثرية مثرية للقلق ٌ
أيضا، ليست االختيارات اليت أتاحتها االستقاللية الذاتية فقط هي ما تثقل على العقل احلديثَّ ،
وإمنا األسئلة الوجودية الكربى ً
فمع حصول الناس على تعليم أفضل وازدياد شكهم يف السلطات القائمة يقل اقتناعهم حبقائق الدين التقليدية ،ويشعرون بأهنم هائمون
كون ال يأبه باألخالق .ففي فيلم «هانا وأخواتها» ) (Hannah and Her Sisters,1986يرمز وودي آلن على وجوههم يف ٍ
( )Woody Allenللقلق املعاصر بتمثيله يف حوار بينه وبني والديه يعرب عن الفجوة بني األجيال يف القرن العشرين:
ميكي :أراك تكرب يف العمر يا أيب ،أليس كذلك؟ أال ُتشى املوت؟
األب :وِملَ اخلوف؟
موجودا!
ً ميكي :أوه! ألنك لن تكون
األب :وماذا يف ذلك؟
ميكي :أال ترعبك هذه الفكرة؟
األب :ال أحد يفكر يف مثل هذه السخافات ،أنا ٌ
حي اآلن ،عندما أموت ،سأكون ميتًا.
ميكي :ال أستطيع استيعاب األمر .ألست خائ ًفا؟
األبِ :م َّم أخاف؟ لن أكون واعيًا.
ميكي :نعم ،أعرف ذلك .ولكن فكرة العدم!
األب :ال أحد يعلم ما سيحدث.
ميكي :ال تبدو األمور مبشرة باخلري.
األب :من يعلم ما الذي سيحدث؟ سأكون إما واعيًا أو ال ،إن كنت واعيًا فسأتعامل مع األمر حينها ،لن أقلق اآلن َّ
عما
سيحدث عندما أكون غري و ٍاع.
األم [ال تظهر على الشاشة] :يوجد إله بالطبع أيها األمحق! أال تؤمن به؟
ميكي :لكن إذا كان هناك إله ،فلماذا يوجد كل هذا الشر يف العامل؟ ببساطة ،ملاذا ظهر النازيون؟
األم :أخربه يا ماكس.
األب :كيف يل أن أعرف ملاذا ظهر النازيون؟ أنا ال أعرف حىت كيف تعمل فتاحة العلب.
أيضا إمياهنم املطمئن بصالح مؤسساهتم .اختار املؤرخ ويليام أونيل ( )William O’Neillلكتابه عن تاريخ فقد الناس ً
سنوات طفولته التالية للحرب العاملية الثانية عنوان «الذروة األمريكية :أعوام الثقة American High: ( »1960-1945
ائعا يف هذه احلقبة ،إذ كان الدخان املتصاعد من املصانع ) .The Years of Confidence 1945-1960بدا كل شيء ر ً
دليال على عبقرية األمريكان ،وكانت عالمةً على الرخاء ،وكانت مهمة أمريكا نشر الدميوقراطية يف أحناء العامل ،وكانت القنبلة النووية ً
املرأة تستمتع مبملكتها يف املنزل ،وكان الزنوج يعرفون مقامهم .وبالرغم من أنه كان يوجد الكثري من األشياء الرائعة يف أمريكا خالل هذه
تفعا ومعدالت حدوث اجلرمية واألمراض االجتماعية األخرى منخفضة) ،إال أَّننا ننظر إىل احلقبة ح ًقا (كان معدل النمو االقتصادي مر ً
هذه احلقبة اليوم على أهنا جنة احلمقى .فليس من قبيل الصدفة أن يكون القطاعان ذوا مستوى السعادة املنخفض -األمريكيون وجيل
طفرة املواليد -مها القطاعان اللذان واجها احلقائق وُتلصا من أوهامها يف ستينيات القرن املاضي .ميكننا أن نرى اآلن بأث ٍر رجعي أنَّه مل
يكن من املمكن تأجيل االهتمام بشؤون البيئة واحلرب النووية واألخطاء الفادحة يف السياسة اخلارجية األمريكية واملساواة بني اجلنسني
وبني األعراق املختلفة إىل األبد ،حىت وإن أصبحنا أكثر قل ًقا ،فالوعي هبذه املشاكل أفضل.
عندما نعي مبسؤولياتنا املشرتكة ،يضيف كلٌّ منَّا جزءًا من أعباء العامل إىل اهتماماته .يبدأ فيلم «اجلنس واألكاذيب وشريط الفيديو»
معرب عن قلق أواخر القرن العشرين ،مبشهد تعرب فيه البطلة ،وهي
رمز آخر ِّ ) ،(Sex, Lies, and Videotape, 1989وهو ٌ
من جيل طفرة املواليد ،عن قلقها ملعاجلها النفسي قائلةً:
القمامة .كل ما كنت أفكر فيه طوال هذا األسبوع هو القمامة ،ال أستطيع التوقف عن التفكري فيها .أنا ..أنا قلقةٌ ح ًقا
بشأن كل هذه القمامة .أعين أن لدينا الكثري من القمامة ،أتفهمين؟ أعين أن األماكن اليت نضع فيها هذه القمامة ستنفد
يف النهاية ،آخر مرة شعرت فيها هبذا الشعور كانت عندما علقت «البارجة» وكانت تدور حول اجلزيرة وما من ٍ
أحد يريد
قبوهلا.
تشري «البارجة» املذكورة إىل الضجة اإلعالمية اليت حدثت عام 1987عندما رفضت مدافن القمامة املوجودة يف كل أحناء ساحل
أبدا ،فقد أُجريت جتربة شاهد
احمليط األطلسي بارجة حمملة بثالثة آالف طن من قمامة نيويورك .وال يعد مشهد العالج النفسي خياليًا ً
أثرا سلبيًا، أثرا إجيابيًا أو سلبيًا ،وأظهرت َّ
أن «الذين شاهدوا النشرة اإلخبارية املصممة لترتك ً أخبارا متالعبًا هبا كي ترتك ً
أشخاص ً
ٌ فيها
كثريا من
أن ً زادت لديهم مستويات القلق واحلزن ،وزاد ميلهم إىل توقع أسوأ النتائج احملتملة ملا يقلقهم» .بعد مرور ثالثة عقود ،أظن َّ
املعاجلني يستمعون إىل خماوف مرضاهم من اإلرهاب وعدم املساواة يف الدخل والتغري املناخي.
ليس القلق بالقدر الضئيل سيئًا إذا حفز الناس على دعم السياسات اليت قد تساعد على حل املشاكل الكربى .ورمبا جلأ الناس
زعيما دينيًا
يف العقود السابقة إىل إلقاء مهومهم على عاتق سلطة أعلى ،وما زال بعضهم يفعل ذلك .ففي عام ،2000أيد ستون ً
إعالن كورنوال بشأن احلفاظ على البيئة الذي تناول «أزمة املناخ املزعومة» واملشاكل البيئية األخرى بتأكيد َّ
أن «الرب الرحيم مل يتخلَّ
تدخل على مدار التاريخ للحفاظ على عبادة البشر له عن طريق إدارهتم لتعزيز مجال عن عباده املخطئني وال نظام الكون احملكم َّ
وإمنا َّ
األرض وخصوبتها» .أعتقد َّأهنم واملوقعني األلف ومخسمئة اآلخرين ال يذهبون إىل معاجليهم النفسيني للشكوى من قلقهم بشأن مستقبل
الكرة األرضية ،لكن كما أشار جورج برنارد شو )« :(George Bernard Shawحقيقة َّ
أن املؤمن أسعد من املتشكك تشبه
سعادة الرجل الثمل مقارنة بالشخص اليقظ».
احملرية سيصيبنا ببعض القلق ال حمالة ،فال ينبغي أن يصيبنا ذلك باملرض أو
ومع أن التفكري يف املشكالت السياسية والوجودية ِّ
اليأس .أحد حتديات احلداثة هو التصدي للمسؤوليات املتزايدة دون أن منوت من القلق ،وحنن نتجه حنو استخدام املزيج املناسب من
احليل القدمية واجلديدة كعادتنا يف مواجهة التحديات اجلديدة ،ومن هذه احليل التواصل البشري والفن والتأمل والعالج املعريف السلوكي
والتأمل الواعي واألمور املمتعة الصغرية واالستخدام املناسب لألدوية وجتديد اخلدمات واملؤسسات االجتماعية ونصائح احلكماء لعيش
حياة متوازنة.
قلق دائم ،وترمز قصة البارجة احململة بالقمامة إىلورمبا تود وسائل اإلعالم والعاملون هبا التفكري يف دورهم يف إبقاء البلد يف ٍ
ممارسات وسائل اإلعالم املولِّدة للقلق ،فوسط التغطية اإلعالمية يف ذلك الوقت ،ضاعت حقيقة أن السفينة مل ُجترب على البقاء يف املاء
وإمنا بسبب أخطاء يف اإلجراءات الورقية والضجة اإلعالمية نفسها ،ومل ُجتَر سوى القليل من املتابعات هلذه بسبب نقص مدافن القمامة َّ
احلادثة يف العقود اليت تلتها لنفي التصورات اخلاطئة عن أزمة النفايات الصلبة (إذ لدينا يف احلقيقة كثريٌ من مدافن القمامة ،وهي غري
حلوال للمشاكل اليت تواجههم. أن الناس جيدون ً مضرة بالبيئة) .ال متثِّل كل مشكلة أزمةً أو كارثةً أو وباءً ،ومن بني ما حيدث يف العامل َّ
أن هذه املخاطرومبناسبة اهللع ،فما املخاطر الكربى اليت تواجه اجلنس البشري يف ظنِّك؟ أشار بعض املفكرين يف الستينيات إىل َّ
هي الزيادة السكانية واحلرب النووية وامللل ،وقال أحد العلماء إنَّه مع أن بإمكاننا ُتطِّي املشكلتني األوىل والثانية إال أنَّنا لن نستطيع
بالتأكيد ُتطِّي الثالثة .امللل؟ حقًّا! سيحتار الناس فيما سيشغل وقت يقظتهم ألهنم مل يعودوا حباجة إىل العمل طوال اليوم والقلق بشأن
الطعام ،وسيكونون عرضة لالنغماس يف امللذات واجلنون واالنتحار وسطوة املتطرفني من رجال الدين والسياسة .يبدو يل أننا قد وجدنا
بدال من ذلك يف زم ٍن مثري -كما تقول اللعنة الصينية ،-لكن عاما وحنيا ًحالً ألزمة امللل (أم هل كانت وباءً متفشيًّا؟) بعد مخسني ً
ليس عليك أن تسلِّم مبا أقول .يسأل املسح االجتماعي العام األمريكيني منذ عام َّ 1973
عما إذا كانوا يرون احلياة «مثرية» أم «روتينية»
جدا» ،قال عدد أكرب منهم عدد قليل من األمريكيني َّإهنم «سعداء ً أن العقود اليت قال فيها ٌ ويوضح الشكل رقم َّ 4-18 أم «مملة»ِّ ،
َّ
إن «احلياة مثرية».
الحياة مثيرة
نسبة الموافقين
سعدا ٌء ج ًدا
أن من يشعرون أهنم يعيشون حياةً ذات معىن يكونون معرضني أكثر من غريهم للضغوط عد تفاوت املنحنيات مفارقةً ،تذكر َّال يُ ُّ
أن القلق لطاملا كان مصاحبًا للنضج :فهو يزيد حبدة من سنوات الدراسة حىت بداية العشرينات عندما أيضا يف َّ
وفكر ًواملعاناة والقلقِّ ،
يبدأ الناس يف حتمل مسؤوليات البالغني ويهبط تدرجييًّا مبرور السنني بينما يتعلمون كيفية التكيف مع هذه املسؤوليات .رمبا يرمز ذلك
أن الناس اليوم أسعدَّ ،إال َّأهنم ليسوا سعداء كما هو متوقع ،رمبا َّ
ألهنم ينظرون للحياة بنظرة البالغني بكل إىل حتديات احلداثة ،إذ رغم َّ
َ
ما فيها من القلق واإلثارة .ففي النهاية ،كان التعريف األصلي للتنوير هو «خروج اإلنسان من قصوره الذي جلبه على نفسه».
فكرنا أكثر يف املخاطر الوجودية ،كان أفضل ،فاالحتماالت ال ميكن أن تبلغ مستويات أعلى من قد يظن املرء للوهلة األوىل أنَّنا كلَّما َّ
مستوياهتا احلالية ،فما الضرر يف محل الناس على التفكري يف هذه املخاطر املريعة؟ فأسوأ ما قد حيدث أن نتخذ بعض االحتياطات اليت
يتَّضح يف املستقبل َّأهنا مل ت ُكن ضرورية.
املدمرة له جوانب سلبية ،أحدها َّ
أن اإلنذارات الكاذبة باملخاطر الكارثية قد تكون هي نفسها كارثية، ولكن التفكري يف هناية العامل َِّّ
فقد انطلق سباق األسلحة النووية يف الستينيات على سبيل املثال نتيجة خماوف من «فجوة الصواريخ» اخلرافية لصاحل االحتاد السوفيييت،
يطور أسلحة نووية وخيطط
مربر غزو العراق عام 2003هو االحتمالية الكارثية ،وإن كانت غري مؤكدة ،ألن يكون صدام حسني ِّ وكان ِّ
الستخدامها ضد الواليات املتحدة (كما قال جورج واشنطن االبن« :ال ميكننا انتظار الدليل الدامغ -سالح اجلرمية -الذي قد يظهر
التعهد بعدم البدء باستخدام
فإن من أسباب رفض القوى العظمى ُّ على هيئة سحابة من دخان االنفجار النووي») .وكما سنرىَّ ،
األسلحة النووية َّأهنا تريد االحتفاظ حبق استخدامها يف مواجهة األخطار الوجودية املفرتضة األخرى مثل اإلرهاب البيولوجي أو اهلجمات
بدال من محايته.
يعرض مستقبل البشرية للخطر ً اإللكرتونية .ميكن لزرع اخلوف من الكوارث االفرتاضية أن ِّ
من األخطار األخرى لتعديد سيناريوهات هناية العامل َّ
أن البشرية لديها ميزانية حمدودة من املوارد والقدرة العقلية والقلق ،ال ميكنك
التغري
هائال من اجلهد والرباعة ،مثل ُّقدرا ً أن تقلق بشأن كل شيء .بعض األخطار اليت تواجهنا ال لُبس فيها وسيتطلَّب احلد منها ً
املناخي واحلرب النووية ،لن يؤدي إدراج مثل هذه األخطار ضمن قائمة من السيناريوهات العجيبة ذات احتمالية احلدوث الضئيلة أو
أن الناس ضعفاء يف تقييم االحتماليات وخاصةً االحتماليات الضعيفة، اجملهولة َّإال إىل ُتفيف اإلحساس بإحلاح هذه األخطارَّ .
تذكر َّ
بدال من ذلك سيناريوهات يف ذهنهم ،وإذا استطاعوا ُتيُّل سيناريوهني بنفس السهولة والوضوح ،فرمبا يعتربون احتمالية ويتخيلون ً
كل من اخلطر احلقيقي وسيناريو اخليال العلمي بنفس القدر .وكلَّما استطاع األشخاص ُتيُّل حدوثهما واحدة ،وسيقلقون بشأن وقوع ٍّ
بطرق أكثر ،كان ُتمينهم الحتمالية حدوث أمر سيء بالفعل يف املستقبل أكرب. حدوث األمور السيئة ٍ
أن العقالء يقولون ألنفسهم ،كما ذكر مقال حديث يف صحيفة نيويورك تاميز: ويؤدي ذلك إىل أعظم خطر على اإلطالق ،وهو َّ ِّ
نضحي أن هذه احلقائق الكئيبة ستجعل أي شخص عاقل يستنتج َّ
أن البشرية هالكة» .إذا كانت البشرية هالكة ال حمالة ،فلماذا ِّ «ال بد َّ
بأي شيء للحد من املخاطر احملتملة؟ ملاذا نستغين عن الراحة يف استخدام الوقود األحفوري أو حنث احلكومات على إعادة التفكري يف
غدا! وقد أوضحت نتيجة استطالع رأي أُجري يف عام سياساهتا اخلاصة باألسلحة النووية؟ تناول طعامك وشرابك ومتتَّع فإنَّنا سنموت ً
أن حياتنا بنمطها الذي نتبعه ستنتهي خالل ٍ
قرن أيَّدوا العبارة أن أغلبية املشاركني الذين يعتقدون َّ
2013يف أربع دول ناطقة باإلجنليزية َّ
التالية« :يبدو مستقبل العامل كئيبًا ،لذا علينا الرتكيز على االعتناء بأنفسنا ومبن حنبهم».
كثريا يف اآلثار النفسية الرتاكمية لدق الطبول إيذانًا باهلالك ،وتشري إلني كيلسي )،(Elin Kelsey ِّ
ال يفكر سوى قلة من الكتَّاب ً
اليت تعمل على تبسيط العلوم البيئية ،قائلةً « :لدينا تصنيفات فنية وإعالمية حلماية األطفال من اجلنس والعنف يف األفالم ،ولكنَّنا
نستخف بدعوة عا ٍمل إىل فصل دراسي من طالب الصف الثاين ليخربهم َّ
أن الكوكب أصابه اخلراب .يشعر ُربع األطفال (األسرتاليني) ُّ
بالقلق الشديد بشأن وضع العامل لدرجة جتعلهم يعتقدون حقًّا أنَّه سينتهي قبل أن يكربوا» .ووفق استطالعات الرأي احلديثة ،يشعر
بشعورهم 15يف املئة من الناس حول العامل ،وما يرتاوح بني ُربع وثُلث األمريكيني .يقرتح الصحايف جريج إيسرتبروك ( Gregg
أن األمريكيني ليسوا )Easterbrookيف كتاب مفارقة التقدُّم )َّ ،(The Progress Paradox
أن أحد أكرب األسباب يف َّ
أسعد رغم زيادة حظوظهم املوضوعية هو «القلق من االهنيار» ،أي اخلوف من اهنيار احلضارة وعدم استطاعة أي شخص أن يفعل أي
شيء ملنعه.
ومن األخطار الوجودية البارزة اليت يُفرتض َّأهنا ُهتدِّد مستقبل البشرية نسخة خاصة بالقرن احلادي والعشرين من مشكلة العام ،2000
وهو اخلطر املتمثِّل يف أنَّنا سيتم إخضاعنا بفعل الذكاء االصطناعي ،سواء عن ٍ
عمد أو عن غري عمد ،وهي كارثة يُطلق عليها أحيانًا
بلقطات من أفالم .The Terminatorوبعض األذكياء يأخذون ٍ «روبوبوكاليس» أي «هناية العامل على يد الروبوت» وتُوضَّح غالبًا
هذا اخلطر على حممل اجلد ،كما حدث مع مشكلة عام ،2000فقد قال إيلون ماسك ( )Elon Muskالذي تنتج شركته سيارات
وحذر ستيفن هوكينج ()Stephen Hawking إن هذه التكنولوجيا «أخطر من األسلحة النووية»َّ ، ذكاء اصطناعي ذاتية القيادة َّ
متحدثًا عرب جهاز معدِّل الصوت الذي يتمتَّع بالذكاء االصطناعي من َّأهنا قد «تدق آخر مسمار يف نعش اجلنس البشري» .ولكن من ِّ
بني األذكياء الذين ال يصيبهم األرق بسبب هذا اخلطر أغلب اخلرباء يف جمال الذكاء االصطناعي وأغلب اخلرباء يف جمال الذكاء البشري.
يستند مفهوم هناية العامل على يد الروبوت إىل تصوٍر مبهم عن الذكاء يرجع إىل سلسلة الوجود العظمى وإرادة القوة النيتشوية
أكثر مما يرجع إىل فه ٍم للعلم احلديث .يُعد الذكاء حسب هذا التصور جرعة سحرية متنح قوة مطلقة وحتقِّق األمنيات متتلكها القوى
بكميات خمتلفة ،فالبشر ميتلكون منها أكثر ممَّا متتلك احليوانات ،وسيمتلك الكمبيوتر ذو الذكاء االصطناعي أو الروبوت يف ٍ الفاعلة
املستقبل منها أكثر ممَّا ميتلك البشر .ومبا أنَّنا حنن البشر استغللنا هبتنا املتوسطة يف استئناس احليوانات األقل حظًّا أو إبادهتا (ومبا َّ
أن
أن كائن الذكاء االصطناعي اجملتمعات املتقدِّمة تكنولوجيًّا استعبدت اجملتمعات البدائية تكنولوجيًّا أو قضت عليها) ،إذًا فيستتبع هذا َّ
ضعف وسيستخدم ذكاءه الفائق يف تطوير ذكائه سيفكر أسرع منا مبليون ٍ أن كائن الذكاء االصطناعي ِّ فائق الذكاء سيعاملنا باملثل .ومبا َّ
متكرر (وهو السيناريو الذي يُطلق عليه أحيانًا " "foomتيمنًا باملؤثر الصويت يف القصص املصورة) ،فبمجرد أن يعمل ٍ
بشكل ِّ الفائق
هذا الكائن سنعجز عن إيقافه.
مثال من أن هتبط الطائرات النفاثة من السماء لتخطف املاشية كما تفعل النسور َّ
ألهنا جتاوزت ولكن السيناريو غري منطقي كالقلق ً
َّ
ق درة النسور على الطريان .املغالطة األوىل هي اخللط بني الذكاء والدافع ،بني املعتقدات والرغبات ،بني االستنتاجات واألهداف ،بني
التفكري واإلرادة .حىت إذا ابتكرنا بالفعل روبوتات ذكية خارقة ،فلماذا تريد هذه الروبوتات استعباد أسيادها أو السيطرة على العامل؟
ولكن األهداف ال عالقة هلا بالذكاء ،فكون املرء ذكيًّا ال يساوي كونه
هدف ماَّ ،الذكاء هو القدرة على تسخري وسائل جديدة لتحقيق ٍ
أن الذكاء يف أحد األنظمة ،نظام اإلنسان العاقل ،نتاج االنتخاب الطبيعي الدارويين ،وهو عملية تنافسية يريد شيئًا ما .من قبيل الصدفة َّ
ٍ
بأهداف مثل اهليمنة على املنافسني ٍ
شخص آلخر) ٍ
(بدرجات خمتلفة من بطبيعتها ،ففي عقل ذلك النوع ،يأيت التفكري املنطقي مصحوبًا
نوع ما من الرئيسيات وطبيعة الذكاء نفسها ،فنظام الذكاء وتكديس املوارد .ولكن من اخلطأ اخللط بني دائرةٍ ما يف اجلزء احلويف من مخ ٍ
يتطور ميكن أن ِّ
يفكر مثل كائنات الـ «مشو» اإليثارية املذكورة يف القصة املصورة من تأليف آل كاب االصطناعي الذي مت تصميمه ومل َّ
( )Al Cappبعنوان آبنر الصغير ) ،(Li'l Abnerاليت ِّ
تسخر براعتها البالغة يف شوي أنفسها كي يأكلها البشر .ال يوجد قانون
نوعا من أنواع الذكاء املتقدِّم للغاية
تتحول إىل غزاة وحشيني ،وحنن نعرف ً لألنظمة املعقِّدة ينص على َّ
أن الكائنات الذكية ال بد وأن َّ
تطور دون هذا اخللل ،وأقصد النساء.
الذي َّ
قادرا على حل أي مشكلة وحتقيق أي إكسريا خارقًا ً
ً واملغالطة الثانية هي النظر إىل الذكاء بوصفه متسلسلة ال متناهية من القدرة،
هدف .تؤدي هذه املغالطة إىل أسئلة غري منطقية مثل :مىت سيتجاوز كائن الذكاء االصطناعي «مستوى الذكاء البشري» ،ويصل إىل
مكونة من جمموعة أدوات ،وحدة برجمية صورة كائن الذكاء االصطناعي الشامل ( )AGIكلي القدرة وكلي املعرفة كاإلله .الذكاء هو آلة َّ
حتصل على املعرفة اخلاصة بكيفية السعي وراء أهداف متنوعة يف نطاقات متنوعة ،أو مربجمة هبذه املعرفة بالفعل .البشر مؤهلون للعثور
على الطعام وكسب األصدقاء والتأثري يف اآلخرين وجذب الشركاء احملتملني وتنشئة األطفال والتنقُّل حول العامل والسعي وراء مصادر
التعرف على الوجوه) ليساهلوس والتسلية البشرية األخرىَّ ،أما احلواسب اآللية فرمبا تكون مربجمة على حل بعض هذه املشكالت (مثل ُّ
ٍ
مشكالت أخرى ال يستطيع البشر حلَّها (مثل حماكاة املناخ أو فرز مبشكالت أخرى (مثل جذب الشركاء) وال على حلٍ على االنشغال
ماليني السجالت احملاسبية) .فاملشكالت خمتلفة ،واملعارف الالزمة حللِّها خمتلفة .على عكس شيطان البالس ،وهو الكائن األسطوري
الذي يعرف موقع كل جسيم يف الكون وقوته الدافعة ويُدخلهما يف معادالت للقوانني الفيزيائية من أجل حساب حالة كل شيء يف أي
فإن الكائن العارف احلقيقي عليه اكتساب املعلومات عن عامل األشخاص واألشياء الفوضوي عرب التعامل معه يف وقت يف املستقبلَّ ،
نطاق على حدة .ال يعمل الفهم وفق قانون مور ،فاملعرفة تُكتسب عرب صياغة تفسريات واختبار مطابقتها للواقع ،وليس عرب إجراء كل ٍ
أيضا ،فالبيانات الضخمة ما تزال بياناتاخلوارزميات على حن ٍو أسرع وأسرع ،والتهام املعلومات على اإلنرتنت لن مينح املرء املعرفة املطلقة ً
حمدودة ،وعامل املعرفة غري حمدود.
هلذه األسباب ينزعج كثريٌ من الباحثني يف جمال الذكاء االصطناعي من محلة الدعاية األخرية (ضرر الذكاء االصطناعي املستمر)
أن كائن الذكاء االصطناعي الشامل على األبواب .على حد علمي ،ال توجد أي مشروعات حالية اليت ضلَّلت املتابعني وجعلتهم يظنون َّ
متاما. أيضا َّ
ألن املفهوم ليس مرتابطًا منطقيًّا ً لبناء كائن ذكاء اصطناعي شامل ،ليس فقط ألنَّه سيكون مريبًا من الناحية التجارية ،ولكن ً
التعرف على الكالم وهزمية البشر يف لعبة «احملك»
جلب لنا عقد 2010بالتأكيد أنظمة تستطيع قيادة السيارات والتعليق على الصور و ُّ
التطورات مل تصدر عن فه ٍم أفضل لعمل الذكاء َّ
وإمنا من القوة العمياء النابعة من الرقائق ولكن هذه ُّ ولعبة الـ «جو» وألعاب األتاريَّ ،
عال ٍ
مة التدرب على ماليني األمثلة وتعميمها على أمثلة جديدة مشاهبة .كل نظام عبارة عن َّ األسرع والبيانات األضخم ،ممَّا يتيح للربامج ُّ
معتوه ذي قدرة حمدودة على االنتقال إىل املشكالت اليت مل يؤهل حللِّها ،وإتقان هش للمشكالت املؤهل حللِّها .فربنامج التعليق على
مثال يعنون صورة حلادثة حتطم طائرة وشيكة بـ «طائرة متوقفة على مدرج الطائرات» ،وبرنامج األلعاب يذهله أقل تغيري يف قواعدالصور ً
أي من هذهستتحسن بالتأكيدَّ ،إال أنَّه ال توجد أي عالمات على سيناريو الـ " ،"foomومل تأخذ ٌّ
َّ حساب النقاط .رغم َّ
أن الربامج
الربامج خطوة جتاه السيطرة على املعمل أو استعباد مربجميها.
حىت لو حاول كائن الذكاء االصطناعي الشامل ممارسة إرادة القوة اخلاصة به فسيظل دون تعاون البشر جمرد «دماغ عاجز يف
وعاء» .حيطِّم عامل احلاسبات رامز نام ( )Ramez Naamالفقاعات احمليطة بسيناريو الـ " "foomوالتفرد التكنولوجي والتطوير
الذايت املطرد ،فيقول:
يغين يعيق العامل الواقعي كثريا من سيناريوهات هناية العامل الرقمية ،فعندما يصبح «هال»* مغرورا ،يعطِّله ديف عن العمل ٍ
مبفك ويرتكه ِّ ً ً
متاما وشرير وذي ً هلك مُ كمبيوتر لي
ُّ ُت بالطبع املرء يستطيع للشفقة. مثري ٍ
و حن على " A Bicycle Built for لنفسه أغنية "Two
نب آلة هبذه إمكانات عاملية ويف وضع التشغيل دائما ومضاد للتالعب ،والطريقة املثلى للتعامل مع هذا اخلطر واضحة للغاية ،ال ت ِ
ً
املواصفات!
خطرا
تصعب أخذها على حممل اجلد ،وجد احلُراس الوجوديون ً عندما بدأت احتمالية ظهور روبوتات شريرة تبدو سخيفة لدرجة ِّ
وإمنا على اجلين الذي حيقِّق لنا ثالث أمنيات ،تكون الثالثة منها الزمة جديدا .ال تقوم هذه القصة على فرانكنشتاين وال الغومل** َّ
رقميًّا ً
لنقض األمنيتني األوىل والثانية ،وعلى ندم امللك ميداس على قدرته على حتويل كل شيء يلمسه إىل ذهب ،حىت طعامه وأفراد أسرته.
يكمن اخلطر ،الذي يُطلق عليه أحيانًا مشكلة مواءمة القيم ) ،(Value Alignment Problemيف أنَّنا رمبا نضع هدفًا لكائن
الذكاء االصطناعي ،مث نقف مكتويف األيدي نشاهده وهو ينفِّذ باستمرار وبطريقة حرفية تأويله اخلاص لذلك اهلدف ،ولتذهب بقية
ٍ
بفيضان مصاحلنا إىل اجلحيم .إذا وضعنا لكائن الذكاء االصطناعي هدف احلفاظ على مستوى املياه خلف أحد السدود ،فرمبا يُغ ِرق بلد ًة
ث باألشخاص الذين غرقوا ،وإذا وضعنا له هدف صناعة دبابيس الورق ،فرمبا حييل كل املادة يف الكون الذي يستطيع الوصول غري مكرت ٍ
مجيعا حقن دوبامني وريدية إليه إىل دبابيس ورق ،مبا فيها ممتلكاتنا وأجسامنا .وإذا طلبنا منه زيادة معدل السعادة البشرية ،فرمبا يزرع فينا ً
تدربأو يعيد تنظيم أدمغتنا كي نكون أسعد باجللوس يف برطمانات أو يكسو اجملرة برتيليونات الصور الدقيقة لوجوهٍ مبتسمة لو كان قد َّ
على مفهوم السعادة بصوٍر لوجوهٍ مبتسمة.
ال أختلق هذه االحتماالت ،فهذه هي السيناريوهات اليت يفرتض َّأهنا ِّ
توضح اخلطر الوجودي على اجلنس البشري من الذكاء
ولكن كيفني كيلي ) ،(Kevin Kellyاحملرر املؤسس جمللة Wiredومؤلِّف كتاب ما تريده التكنولوجيا ( What َّ
إن التكنولوجيا ال تتقدَّم هبذه الطريقة .كان كيلي املنظِّم املشارك (مع ستيوارت براند Stewart
،)Technology Wantsيقول َّ
يوما ما قدرة البشرإن التكنولوجيا ستتجاوز ً )Brandيف املؤمتر األول للمخرتقني يف عام ،1984وقيل له منذ ذلك احلني مر ًارا وتكر ًارا َّ
أن هذا مل حيدث .يقرتح كيلي على ترويضها .ولكن رغم توسع التكنولوجيا اهلائل خالل تلك العقود (مبا يشمل اخرتاع اإلنرتنت)َّ ،إال َّ
ترسخا يف اجملتمع» .تستلزم التكنولوجيا املتطورة شبكةً من سببًا لذلك ،وهو أنَّه« :كلَّما أصبحت التكنولوجيا أقوى ،أصبحت أكثر ً
بعضا (وأصبحت التكنولوجيا ٍ
كثري منها بتأمني الناس من التكنولوجيا ومن بعضهم ً املتعاونني املتصلني بشبكات اجتماعية أوسع ،وتلتزم ٌ
كرا
أكثر أمانًا مبرور الوقت كما رأينا يف الفصل الثاين عشر) .يهدم هذا الفكرة املبتذلة اهلوليوودية عن العبقري الشرير املنفرد الذي يدير و ً
أن نتيجة ترسخ التكنولوجيا يف اجملتمعَّ ،
فإن القوة اهلدَّامة للتقنية العالية تعمل فيه التكنولوجيا من تلقاء نفسها مبعجزةٍ .يشري كيلي إىل َّ
تزدد مبرور الوقت يف الواقع:
للفرد الواحد مل َ
جمرد! نظرية عن قوس التكنولوجيا الطبيعي يف مقابل نظرية أخرى عنه ،كيف ينطبق هذا الكالم على األخطار كل هذا الكالم َّ
الفعلية اليت نواجهها كي نستطيع التفكري فيما إذا كانت البشرية هالكة؟ يكمن السر يف عدم االخنداع باحنياز التوفر وافرتاض أنَّنا إذا
شيء بشع ،فال بد له أن حيدث! يعتمد اخلطر احلقيقي على األرقام :مثل نسبة الذين يريدون التسبُّب يف العنف أو جرائم استطعنا ُتيُّل ٍ
فعال ،والفئةالقتل اجلماعية ،ونسبة تلك الفئة الضئيلة اليت تريد اإلبادة العرقية اليت تتمتَّع بالكفاءة إلعداد سالح بيولوجي أو إلكرتوين َّ
حدثالضئيلة من تلك الفئة الضئيلة اليت ستنجح خمططاهتا بالفعل ،والفئة الضئيلة من تلك الفئة الضئيلة من تلك الفئة الضئيلة اليت ست ِ
ُ
عوضا عن ضرٍر بسيط أو ضربة طفيفة أو حىت كارثة تستمر احلياة بعدها. جائحة عنيفة تقضي على احلضارة ً
كبريا من األشخاص الذين يريدون ارتكاب العنف والقتل ضد الغرباء؟ لو كان رقما ً لنبدأ بعدد املخابيل ،هل يأوي العامل احلديث ً
هذا هو الواقع ،لكانت احلياة مستحيلة ،إذ كان ميكن أن يصاب هؤالء حباالت هياج يطعنون فيها اآلخرين ،ويطلقون النار على احلشود
ودهس املشاة بالسيارات ويفجرون قنابل يدوية يف حلل الضغط ويدفعون الناس من فوق أرصفة الشوارع ومرتو األنفاق يف اجتاه السيارات
املدرب أو القاتل املتسلسل بإمكانه قتل والقطارات املندفعةَ .ح َسب الباحث جويرن برانوين (َّ )Gwern Branwen
أن القنَّاص َّ
املخرب املتعطِّش للدمار قد يتالعب مبنتجات املتاجر ،أو يضيف بعض مئات األشخاص دون أن يستطيع أح ٌد اإلمساك به .والشخص ِّ
املبيدات احلشرية إىل حقول التسمني أو شبكات إمداد املياه ،أو حىت جيري مكاملة من جمهول يدَّعي فيها أنَّه فعل أيًّا من هذه األمور،
وقد يكلِّف سحب املنتجات من األسواق نتيجةً لذلك الشركات مئات املاليني من الدوالرات ،وتكلِّف خسارة الصادرات الدول
مليارات الدوالرات .قد حتدث مثل هذه اهلجمات يف كل مدن العامل عدة مرات يف اليوم ،ولكنَّها يف احلقيقة حتدث يف ٍ
مكان أو آخر
كل بضع سنوات (مما َّأدى بربوس شناير Bruce Schneierإىل أن يتساءل« :أين كل هذه اهلجمات اإلرهابية؟») رغم كل الرعب
أن األفراد الذين ينتظرون الفرصة إلحداث تدم ٍري غاشم ال ميثِّلون سوى فئة ضئيلة.
الذي يولِّده اإلرهابَّ ،إال أنَّه ال بد َّ
فعال؟ َّ
إن فردا من بني هؤالء املنحرفني ِّ
يشكلون فئة أقل تتمتَّع بالذكاء واالنضباط الالزمني لتطوير سالح حيوي أو إلكرتوين َّ كم ً
معظم اإلرهابيني خرقى ومحقى وليسوا أصحاب عقول مدبِّرة إرهابية على اإلطالق .من األمثلة النموذجية على هذا النوع من البشر
صاحب احلذاء الناسف الذي فشل يف حماولة إسقاط طائرة بإشعال املتفجرات املخبأة يف حذائه ،وصاحب املالبس الداخلية الناسفة
املدرب املنتمي إىل داعش الذي كان يشرح
الذي فشل يف حماولة إسقاط طائرة عرب تفجري املتفجرات املخبأة يف مالبسه الداخلية ،و ِّ
متدربًا ،واألخوان تسارناييف اللذان
وفجر الواحد وعشرين ِّ
ففجر نفسه َّلتالميذه اإلرهابيني االنتحاريني الصاعدين على سرتة متفجرة َّ
أتبعا تفجري ماراثون بوسطن الذي ارتكباه بقتل ضابط شرطة يف حماولة فاشلة لسرقة مسدسه ،مث انطلقا يف محلة سطو وسرقة سيارة
ومطاردة بالسيارات على الطراز اهلوليوودي دهس فيها أحدمها اآلخر ،وعبد اهلل العسريي الذي حاول اغتيال نائب رئيس جملس الوزراء
السعودي بعبوة ناسفة بدائية خمبئة يف فتحة شرجه ومل ينجح سوى يف القضاء على نفسه فقط (ذكرت شركة حتليالت استخباراتية َّ
أن
ومتدربًا من اإلرهابيني كما
ماهرا ِّ
هذا احلادث «يدل على نقلة نوعية يف تكتيكات التفجري االنتحاري») .حيالف احلظ أحيانًا فري ًقا ً
ولكن أغلب املخططات الناجحة عبارة عن هجمات قائمة على تكنولوجيا بدائية حدث يف احلادي عشر من سبتمرب عام َّ ،2001
على جتمعات مليئة باملستهدفني تقتل عددا قليالً من الناس (كما رأينا يف الفصل الثالث عشر) .أقول ٍ
بثقة َّ
إن نسبة اإلرهابيني العباقرة ً
من الناس أصغر من نسبة اإلرهابيني مضروبةً يف نسبة األشخاص العباقرة .اإلرهاب كما هو واضح تكتيك عقيم ،والعقل الذي يسعد
بالعنف الفارغ ملصلحته اخلاصة ليس على األرجح أملع العقول املوجودة.
لنأخذ اآلن عدد صانعي األسلحة والقنابل العباقرة ونطرح منه النسبة اليت تتمتَّع باحلنكة واحلظ للتفوق يف الذكاء على الشرطة
كبريا .وكما يف كل املشروعات
صفرا ولكنَّه بالتأكيد ليس ً
واخلرباء األمنيني وقوات مكافحة اإلرهاب يف العامل ،رمبا ال يكون العدد الناتج ً
تنظيم من اإلرهابيني البيولوجيني أو اإللكرتونيني أكثر فعالية من عقل مدبٍِّر منفرد ،ولكن
يدا واحدة ال تصفق ،وقد يكون ٌ املعقدةَّ ،
فإن ً
هنا نذكر مالحظة كيلي ،فالقائد سيكون عليه جتنيد فريق من املتواطئني الذين أثبتوا كفاءهتم وسريتهم وإخالصهم للقضية املنحرفة،
وإدارة هذا الفريق ،ومع ازدياد حجم الفريق ،تزداد احتمالية كشفه واحتمالية اخليانة والتسلُّل واخلطأ والتخفي.
لبلد ما موارد ضخمة كموارد ٍ
دولة ما ،فاخرتاق الربامج ليس كافيًا ،إذ حيتاج ستتطلَّب التهديدات اخلطرية لسالمة البنية التحتية ٍ
املخرتق إىل معرفة تفصيلية بالبنية املادية لألنظمة اليت يأمل يف ُتريبها .عندما فضحت دودة ستوكسنت أجهزة الطرد املركزية النووية
تصعد العمليات التخريبيةمنسقة بني دولتني متطورتني تكنولوجيًّا ومها الواليات املتحدة وإسرائيلِّ . اإليرانية يف ،2010تطلَّب هذا ً
جهودا َّ
شكل من أشكال احلرب ،حتول فيه قيود العالقات الدولية -كما يف احلرب «احلركية» اإللكرتونية احلكومية هذه األحقاد من ٍ
إرهاب إىل ٍ
التقليدية -مثل األعراف واملعاهدات والعقوبات والرد باملثل والردع العسكري دون اهلجمات العدوانية .وأصبحت هذه القيود أكثر فعاليةً
يف منع احلروب بني الدول كما رأينا يف الفصل احلادي عشر.
حذروا من هجوم رقمي يشبه «هجوم بريل هاربر» و«هناية العامل اإللكرتونية» ُترتق فيها ولكن املسؤولني العسكريني األمريكيني َّ
َّ
الدول األجنبية أو املنظمات اإلرهابية املتطورة املواقع اإللكرتونية األمريكية لتحطيم الطائرات وفتح بوابات السدود وإذابة حمطات الطاقة
النووية وفصل شبكات الكهرباء وتعطيل النظام املايل .يعترب معظم خرباء األمن اإللكرتوين التهديدات مبالغًا فيها ،ذريعةً للحصول على
شخص واحد حىت اآلن ٌ يتعرض
املزيد من التمويل العسكري والسلطة والقيود على اخلصوصية واحلرية على اإلنرتنتَّ .أما يف الواقع فلم َّ
لإلصابة جراء هجمة إلكرتونية ،إذ كانت اهلجمات غالبًا عبارة عن مضايقات مثل االخرتاق والفضح ،أي تسريب وثائق سرية أو رسائل
إلكرتونية (كما حدث عند التدخل الروسي يف االنتخابات األمريكية لعام )2016وهجمات حجب اخلدمة املتفرقة ،اليت تُغ ِرق فيها
شبكة البوت (وهي منظومة من أجهزة احلاسب املخرتقة) أحد املواقع اإللكرتونية بازدحام البيانات .يشرح شناير األمر كما يلي« :رمبا
جيش دولةً ما ،مث اصطف هذا اجليش كله أمام الناس يف إدارة املرور كي ال يستطيعوا جتديد رخصة تتمثَّل املقارنة الواقعية يف حالة غزو ٍ
القيادة ،لو كان هذا ما تبدو عليه احلرب يف القرن احلادي والعشرين ،فليس لدينا ما خنشاه تقريبًا».
إن كل ما يتطلَّبه ذلك أن حيالف احلظ خمرتقًا أو
فهم يقولون َّ
تعزي القائلني باهلالك التكنولوجيُ ،
ولكن ضآلة االحتماالت ال ِّ َّ
شائعا أكثر
احدا أو دولةً فاسدة واحد ًة فقط وتنتهي اللعبة .وهلذا تلي كلمة (الوجودية) كلمة (األخطار) ،ممَّا جعل استخدامها ً
إرهابيًّا و ً
أن «أكرب خطر وجودي قائم هو حذر رئيس هيئة األركان املشرتكة يف عام َّ 2001وقت مضى منذ أوج فرتة سارتر وكاموَّ . من أي ٍ
قائال« :بفرض َّ
أن هذا باملقارنة مع األخطار الوجودية الصغرية»). حث جون مولر على التعليق ً اإلنرتنت» (ممَّا َّ
تقوم هذه النزعة الوجودية على احندار من املضايقات إىل املِحن إىل املآسي إىل الكوارث إىل الفناء .لنفرتض وقوع أحداث إرهاب
أن أحد املخرتقني جنح بالفعل يف تعطيل اإلنرتنت ،هل ٍ
شخص ،لنفرتض َّ بيولوجي أو خطأ بيولوجي بالفعل وتسبُّبها يف مقتل مليون
ستفىن الدولة حرفيًّا؟ هل ستنهار احلضارة؟ هل سينقرض اجلنس البشري؟ ال داعي للمبالغة ،فحىت هريوشيما ما زالت قائمة! إن االفرتاض
أن اإلنرتنت لو اهنار يف أي وقت ،فسيقف املزارعون مكتويف األيدي بينما يشاهدونعاجز للغاية لدرجة َّ
أن اإلنسان املعاصر ٌالشائع هو َّ
يوضح
ع من علم االجتماع خمتص بذلك) ِّ ولكن علم اجتماع الكوارث (أجل ،يوجد فر ٌجوعاَّ ،
حماصيلهم تتعفَّن ويتضور سكان املدن ً
فهم ال ينهبون أو يهلعون أو يصابون بشلل التفكري ،بل يتعاونون بعفوية من أجل استعادة َّ
أن الناس مرنون للغاية يف مواجهة الكوارثُ ،
النظام ويرجتلون شبكات لتوزيع السلع واخلدمات .ذكر إنريكو كوارانتيلي ( )Enrico Quarantelliأنَّه يف غضون دقائق من
انفجار هريوشيما النووي حصل ما يلي:
"لن تتجنب البشرية التدمري الذايت الوشيك إال بتأسيس حكومة عاملية واحدة" ألربت أينشتني يف .1950
اعتقاد راسخ بأننا إن مل نفكر بصورة جادة ومتزنة يف خمتلف جوانب املشكلة االسرتاتيجية ..فلن نصل إىل عام
ٌ "لدي
- 2000أو حىت عام -1965دون وقوع كارثة" هريمان كان ( )Herman Kahnيف .1960
"ستُطلق بعض هذه القنابل النووية خالل عشرة سنوات على األكثر ،وأقول ذلك بكل ما أستطيع من مسؤولية ،فهذه
حقيقة مؤكدة" تشارلز بريسي سنو يف عام .1961
وقد ساندهم خرباء مثل الباحث يف العلوم السياسية هانز مورجنتاو ( )Hans Morgenthauاملناصر الشهري «للواقعية» فيما خيص
العالقات الدولية والذي تنبأ بالتايل يف عام :1979
حتما ،حرب نووية اسرتاتيجية ،وال أظن أن هناك ما ميكن فعله لتجنبها".
"أعتقد أن العامل يتجه حنو حرب عاملية ثالثة ً
والصحايف جوناثان شيل ( )Jonathan Schellالذي أهنى كتابه «مصري األرض» )(The Fate of the Earthمبا يلي:
يوما ما -ومن الصعب االعتقاد بعدم اقرتاب هذا اليوم -إذا ما كنا سنغرق يف غيبوبتنا األخرية ،أو نستيقظ على
"سنقرر ً
حقيقة اخلطر الذي نعرض أنفسنا له ..ونطهر األرض من األسلحة النووية".
أصبحت هذه النبوءات موضة قدمية بعد انتهاء احلرب الباردة وعدم غرق البشرية يف غيبوبتها األخرية على الرغم من عدم إقامة
حكومة عاملية أو تطهري األرض من األسلحة النووية .حيرص النشطاء على االحتفاظ بقوائم احلروب النووية الوشيكة إلبقاء املخاوف
تنج إال بضربات حظ مدهشة متتالية ،ومتيل القوائم لتجميع حلظات جدا و َّ
أن البشرية مل ُ دوما وشيكة ًحية وإلظهار أن هناية العامل كانت ً
خطرية ح ًقا مثل مناورة حلف الناتو اليت حدثت يف عام 1983واليت كاد املسؤولون السوفييت يتصورون َّأهنا ضربة أوىل وشيكة ،وكذلك
اهلفوات والزالت الصغرية مثلما حدث يف عام 2013عندما مثل اجلنرال األمريكي املسؤول عن الصواريخ النووية خارج ساعات عمله
وتصرف حبماقة مع النساء أثناء رحلة مدهتا أربعة أيام يف روسيا .ومل يوضَّح مطل ًقا تسلسل األحداث الذي قد يؤدي إىل تبادل إطالق
ط أي تقديرات بديلة هلذه احلوادث كي تضعها يف إطارها الصحيح وتقلل اخلوف.
الصواريخ النووية ،ومل تُع َ
ٍ
وبشكل مروع مامل يتخذ إن الرسالة اليت يود النشطاء املناهضون لألسلحة النووية توصيلها هي «أننا سنموت يف أي يوم اآلن
العامل تدابري فورية من املستحيل عمليًا اُتاذها» ،وتأثري ذلك على العامة كما هو متوقع :يتجنب الناس التفكري فيما ال ميكن تصوره
ويواصلون حياهتم ويتمنون أن يكون اخلرباء خمطئني ،وتراجعت اإلشارة إىل «احلرب النووية» بانتظام يف الكتب والصحف منذ مثانينيات
اهتماما لإلرهاب وعدم املساواة والفضائح واحلماقات املختلفة أكرب من االهتمام الذي يولونه لألخطار
ً القرن املاضي وأوىل الصحفيون
اليت هتدد بقاء احلضارة .وال يتأثر قادة العامل أيضا ،فعندما كان كارل ساجان مؤلفا مشارًكا يف الورقة التحذيرية األوىل من ٍ
شتاء نووي، ً ً
وعندما شن محلة من أجل جتميد التسليح النووي عن طريق توليد «اخلوف مث التصديق مث االستجابة» قال له خبري حتديد األسلحة:
أي «إذا كنت تظن أن جمرد احتمالية هناية العامل كافية لتغيري السياسات يف واشنطن وموسكو فمن الواضح أنك مل ِ
تقض وقتًا كافيًا يف ٍّ
منهما».
فمثال كتب الدبلوماسي
حتولت التوقعات عن الكارثة النووية الوشيكة يف العقود األخرية من احلرب النووية إىل اإلرهاب النوويً ،
أن القاعدة ستشن هجمة باستخدام األمريكي جون جنروبونيت ( )John Negroponteيف عام « :2003هناك احتمال كبري َّ
أبدا إنكار التوقعات احملتملة اليت مل تقع من األساس سالح نووي أو سالح دمار شامل خالل عامني» .وعلى الرغم من أنه ال ميكن ً
أن الكم اهلائل من التوقعات اخلاطئة يشري توقعا مبواعيد هنائية متعاقبة على مدار عدة عقود) َّإال َّ
(ذكر مولر يف جمموعته أكثر من ً 70
إىل أن املتنبئني مييلون إلخافة الناس (كتب أربعة سياسيني أمريكيني مقالة عن خطر اإلرهاب النووي يف عام 2004بعنوان «شعرنا
حيرتق» " ،"Our Hair Is on Fireوهذا األسلوب مريب .فاهلجمات احلقيقية باألسلحة النارية والقنابل منزلية الصنع ميكنها
لكن التوقعات حبدوث انفجارحث الناس بسهولة على دعم املمارسات القمعية مثل املراقبة الداخلية أو حظر هجرة املسلمني الوافدينَّ ،
نووي يف الشوارع الرئيسية مل تُثِر سوى القليل من االهتمام بسياسات مكافحة اإلرهاب النووي مثل الربنامج العاملي لضبط املواد
االنشطارية.
توقع نقاد احلمالت التخويفية األوىل من األسلحة النووية مثل هذه النتائج العكسية ،فالحظ عامل الالهوت راينهولد نيبار
( )Reinhold Niebuhrمنذ وقت بعيد ،يف عام 1945أنَّه« :مهما كانت ضخامة األخطار املطلقة َّ
فإن تأثريها احلقيقي على
اخليال البشري أقل من االستياءات والصراعات املباشرة مهما كانت صغرية مقارنةً هبا» .وجد املؤرخ بول بوير (َّ )Paul Boyer
أن
شجع يف الواقع على سباق التسلح عن طريق حث الدولة على السعي المتالك قنابل أكرب وأكثر لردع السوفييت بشكل التهويل النووي َّ
أفضل ،وحىت يوجني روبينويتش ( )Eugene Rabinowitchمنشئ ساعة هناية العامل ندم على اسرتاتيجية حركته فقال« :بينما
كان العلماء حياولون ُتويف الناس كي يتعقلوا ،أصابوا الكثريين باخلوف املرعب أو الكراهية العمياء».
ٍ
مبشكلة ما عندما يعتقدون بإمكانية حلها خالفًا ملا حيدث عندما وكما رأينا يف حالة التغري املناخي ،فرمبا تزيد احتمالية اعرتاف الناس
يفقدون األمل واإلحساس بسبب الرعب .ينبغي أن تشتمل اخلطة اإلجيابية إلزالة خطر احلرب النووية على عدة أفكار.
الفكرة األوىل هي التوقف عن إخبار اجلميع بأهنم هالكون .وحقيقة احلقبة النووية األساسية أنه مل تُستخدم قنبلة نووية واحدة منذ
حادثة ناجازاكي ،وإذا ظلت عقارب الساعة تشري إىل قُرب حلول منتصف الليل خالل بضع دقائق ملدة 72سنة فهناك خطأٌ ما يف
أبدا ما إذا كان هذا حقيقيًّا -ولكن قبل أن نُسلِّم باستنتاج
الساعة .ورمبا حالفت العامل ضربات متتالية من احلظ السعيد -لن يعرف أحد ً
ليس عليه أي دليل علمي ،ينبغي أن نضع يف االعتبار احتمالية أن تكون خصائص النظام الدويل قد ناهضت استخدام القنابل النووية،
ويكره كثريٌ من النشطاء املناهضني لألسلحة النووية هذه الطريقة يف التفكري ألهنا ُتفف عبء نزع األسلحة عن الدول ،ولكن مبا أن
الدول التسع احلائزة على أسلحة نووية لن تفكك أسلحتها قريبًا ،فيجب علينا أن نكتشف الصواب فيما حدث ساب ًقا حىت ميكننا
اإلكثار منه.
واألهم من ذلك االكتشاف التارخيي الذي أوجزه الباحث يف العلوم السياسية روبرت جريفيس كما يلي« :مل تكشف السجالت
السوفيتية بعد عن أي خطط جادة لعدوان غري مربر على غرب أوروبا وبالطبع أي خطط لضربة أوىل ضد الواليات املتحدة» ،يعين ذلك
َّ
أن األسلحة املعقدة واملبادئ االسرتاتيجية للردع النووي خالل احلرب الباردة -وهي ما أمساها أحد الباحثني يف العلوم السياسية «امليتافيزيقيا
النووية» -كانت حتاول ردع هجوم مل ين ِو االحتاد السوفييت شنه من األساس .وبانتهاء احلرب الباردة ،تالشت املخاوف من االحتالل
الواسع والضربات االستباقية باألسلحة النووية( ،وكما سنرى الح ًقا) شعر كال اجلانبني باألمان الكايف خلفض خمزون األسلحة لديهما
دون أن يكلفا نفسيهما عناء املفاوضات الرمسية .وعلى عكس ما تقول نظرية احلتمية التكنولوجية اليت ترى َّ
أن األسلحة النووية ستشن
فإن اخلطورة يف األساس تعتمد على حالة العالقات الدولية ،ويعود أكثر الفضل يف غياب احلرب النووية بني حربًا من تلقاء نفسهاَّ ،
القوى العظمى إىل عوامل احلد من احلروب بينها (كما رأينا يف الفصل احلادي عشر) وكل ما يُقلل من احتمالية نشوب حرب ،يُقلل
كذلك من احتمالية نشوب حرب نووية.
أيضا على ضربات حظ متتالية مدهشة ،بل يرى العديد من علماء السياسة واملؤرخني
رمبا ال تعتمد النجاة من حروب نووية وشيكة ً
الذين حللوا الوثائق اخلاصة بأزمة الصواريخ الكوبية وخاصةً نصوص اجتماعات جون كينيدي مبستشاريه األمنيني أنَّه على الرغم من رؤية
أن «احتمالية دخول األمريكان يف حرب كانت شبه معدومة» .وتبني السجالت َّ
أن املشاركني أهنم أنقذوا العامل من هناية وشيكةَّ ،إال َّ
كال من خورشوف ( )Khrushchevوكينيدي أحكم قبضته على احلكومة وسعى إىل هناية سلمية لألزمة متجاهلَ ْني التحريضات، ًّ
وأتاحا لنفسيهما الكثري من اخليارات للرتاجع.
ال تعين اإلنذارات الكاذبة املخيفة واحتمالية حدوث إطالقات غري مقصودة لألسلحة َّ
أن اهلل لطف بنا مرةً بعد أخرى بالضرورة،
ولكنَّها قد تعين َّ
أن حلقيت البشر والتكنولوجيا يف السلسلة كانتا مهيئتني ملنع الكوارث وازدادت قوتيهما بعد كل حادثة .ويلخص احتاد
أن ٍ
حبكمة يف تقريرهم عنها كما يلي« :يشري عدم إطالق صواريخ نووية حىت اآلن إىل َّ العلماء املهتمني تاريخ احلوادث النووية الوشيكة
ٍ
حادثة كهذه ضئيلة ،لكنَّها ليست منعدمة». تدابري السالمة ناجحة مبا يكفي جلعل احتمالية وقوع
كال من اخلوف والقناعة بالوضع الراهن ،وإذا افرتضنا أن احتمالية اندالع حرب
يتيح لنا التفكري يف حمنتنا هبذه الطريقة أن نتجنب ً
نووية هي %1يف السنة الواحدة (وهذا تقدير مبالغ فيه :فيجب أن تكون االحتمالية أقل من احتمالية إطالق غري مقصود لألسلحة
ألن تفاقم حرب شاملة نتيجة حادثة فردية أمر ال حيدث بصورةٍ تلقائية ،ومل تقع حادثة إطالق واحدة غري مقصودة خالل االثنني َّ
ألن املعرفة البسيطة بعلم اجلرب توضح َّ
أن احتمالية مرور قرن دون وقوع قطعاَّ ،
وسبعني سنة املاضية) ،تكون هذه االحتمالية مرفوضة ً
كارثة نووية أقل من ،%37أما إذا استطعنا خفض احتمالية اندالع حرب نووية إىل %0.1يف السنة ،فستزداد احتمالية عدم اندالع
حرب نووية خالل القرن إىل ،%90وخبفض االحتمالية أكثر إىل %0.01فستزداد االحتمالية إىل %99وهكذا.
أيضا ،فخالفًا للتوقعات اليت ظهرت يف الستينيات من القرن
أن اخلوف من االنتشار الكثيف لألسلحة النووية مبال ٌغ فيه ً وقد ثبت َّ
العشرين بأنَّه ستكون هناك 25أو 30دولة نووية قريبًا ،وبعد مرور مخسني سنة على هذه التوقعات ،ال توجد سوى 9دول نووية
فقط .وخالل نصف هذا القرن فقد حدت 4دول من األسلحة النووية عن طريق التخلي عنها (جنوب إفريقيا وكازاخستان وأوكرانيا
وبيالروسيا) وسعت 16دولة حليازهتا ولكنها تراجعت عن تلك اخلطوة يف النهاية وكان آخرها ليبيا وإيران ،وللمرة األوىل منذ عام
،1964فال توجد دول غري حائزة على أسلحة نووية تسعى لصناعتها .ونعم تبدو فكرة حيازة كيم جونغ أون ()Kim Jong-un
ولكن العامل جنا من قبل من طغاة شبه جمانني وكان لديهم أسلحة نووية مثل ستالني وماو وقد ِحيل بينهم وبنيعلى أسلحة نووية مقلقة َّ
جيدا من أجلأي منهم أنه حباجة إىل ذلك .وليس التحلي باهلدوء خبصوص انتشار األسلحة النووية ً استخدامها ،أو باألحرى مل يشعر ٌ
صحتنا النفسية فقط ،وإمنا قد مينع الدول من الوقوع يف حروب وقائية كارثية كما حدث يف غزو العراق عام 2003واحلرب احملتملة
بني إيران والواليات املتحدة أو إسرائيل يف هناية نفس العقد.
وقد فحص بعض العقالء اهلادئون صحة التوقعات املرجتفة اليت تنبأت بسرقة اإلرهابيني أسلحةً نووية أو صناعتها يف منازهلم وهتريبها
إىل داخل البالد يف حقيبة سفر أو يف حاوية شحن ،ومن هؤالء العقالء مايكل ليفي ( )Michael Leviيف كتاب «عن اإلرهاب
النووي» ) (On Nuclear Terrorismوجون مولر يف كتاب «الهاجس النووي» ) (Atomic Obsessionوريتشارد
مولر ( )Richard Mullerيف كتاب «الفيزياء لرؤساء المستقبل» ) (Physics for Future Presidentsوريتشارد
رودز ( )Richard Rhodesيف كتاب «غروب شمس القنابل النووية» ) ،(The Twilight of the Bombsوأيدهم
أيضا رجل الدولة جاريث إيفانز ( )Gareth Evansوهو خبري يف انتشار األسلحة النووية ونزعها ،وقد ألقى احملاضرة االفتتاحية يف
ً
الندوة السنوية السابعة عشرة لنشرة علماء الذرة يف عام 2015بعنوان «إعادة المنطق إلى النقاش النووي».
ٍ
بانفعال أقل أيضا قد يتحسن إذا نُفذ
إن (األمن النووي) ً لست كذلك -فيجب أن أقول َّ ومع خطورة أن أبدو راضيًا -وأنا ُ
ومبز ٍ
يد من اهلدوء والعقالنية عن ذي قبل.
ومع َّ
أن املعرفة التقنية الالزمة لبناء جهاز انشطار بسيط مثل املوجود يف قنبلة هريوشيما وناجازاكي متاحة ،إال أنه من
جدا
الصعب احلصول على اليورانيوم عايل التخصيب والبلوتونيوم القابل لالستخدام يف صناعة األسلحة ،ومن الصعب ً
جتميع الف ريق الضروري املكون من اجملرمني والعلماء واملهندسني للحصول على أجزاء هذا السالح وبنائه وتسليمه واحلفاظ
بعيدا عن أنظار املصادر االستخباراتية واجلهات املعنية بتنفيذ القانون وهي معنية اآلن مبنع هذا
على هذا الفريق ملدة طويلة ً
اخلطر حول العامل.
قليال ،فاخلطوة القادمة لتقليل اخلطر النووي هي جتريد األسلحة النووية من بريقها الوحشي بدءًا من امللحمة
اآلن وبعد أن هدأنا ً
اليونانية اليت أدت فيها دور البطولة ،فتقنية األسلحة النووية ال متثِّل قمة سيطرة البشر على قوى الطبيعة ،وإمنا هي ورطة وقعنا فيها بسبب
تقلبات التاريخ ،وعلينا اآلن أن نكتشف كيف ميكننا أن ننتشل أنفسنا منها .وقد نشأ مشروع ماهناتن بسبب اخلوف من صناعة األملان
للسالح النووي وقد استقطب العلماء ألسباب شرحها عامل النفس جورج ميلر ( )George Millerالذي عمل على مشروع حبثي
قائال« :لقد رأي جيلي احلرب ضد هتلر على أهنا حرب اخلري ضد الشر ،وكان من غري املمكن ألي شاب قوي البنية آخر أثناء احلربً ،
جدا أنه
أن يتحمل خزي احلياة املدنية إال إذا كان لديه اعتقاد داخلي بأن ما يفعله يساهم بصورة أكرب يف حتقيق النصر» .ومن احملتمل ً
لوال وجود النازيني ملا ُوجدت القنابل النووية ،فاألسلحة ال تُصنع جملرد توافر القدرة على تصميمها أو تصنيعها ،إذ حلم الناس بأنواع
كثرية من األسلحة اليت مل َتر النور مثل :أشعة املوت ومركبات الفضاء احلربية وأساطيل الطائرات اليت تغطي املدن بالغازات السامة مثل
طائرة رش احلقول واملخططات لـ «احلرب اجليوفيزيائية» مثل حتويل الطقس والفيضانات والزالزل وأمواج التسونامي وطبقة األوزون والنيازك
يخ بديل للقرن العشرين رمبا كانت األسلحة النووية لتبدو للناس واالنفجارات الشمسية وحزام فان ألن اإلشعاعي إىل أسلحة .ويف تار ٍ
بنفس غرابة األسلحة السابقة.
وال تستحق األسلحة النووية أن يُنسب هلا الفضل يف إهناء احلرب العاملية الثانية أو إرساء السالم الطويل الذي تبعها ،ومها احلجتان
أن اليابان مل تستسلم بسبباللتان تُذكران باستمرار لطرح فكرة أن األسلحة النووية جيدة وليست سيئة .يعتقد معظم املؤرخني اليوم َّ
القنابل النووية ،اليت مل يكن الدمار الناتج عنها أكرب من الناتج عن القنابل احلارقة اليت تعرضت هلا ستون مدينة يابانية أخرىَّ ،
وإمنا
بسبب انضمامها إىل االحتاد السوفييت يف احلرب وهو ما هدَّد بشروط استسالم أصعب.
وخالفًا لالقرتاح األقرب للنكتة بإهداء جائزة نوبل للسالم للقنبلة النووية ،فقد اتضح فشل األسلحة النووية يف الردع (فيما عدا
احلاالت الشديدة من األخطار الوجودية مثل ردع سالح نووي آخر) ،فاألسلحة النووية تدمر دون تفرقة وتلوث مناطق واسعة بالغبار
الذري املشع مبا فيها املناطق املتنازع عليها ،وعلى حسب الطقس فقد تصيب جنود الدولة صاحبة السالح ومواطنيها .وقد حيطم حرق
أعداد هائلة من املدنيني مبادئ التكافؤ والتمييز اليت تنظم سري احلروب وستكون من أسوأ جرائم احلرب على مر التاريخ ،وحىت السياسيون
حوهلا بصورة فعالة إىل خدعة .مل تؤثر حيازة الدول
قد يشعرون بالغثيان من تلك الفكرة ،لذا فقد زاد حترمي استخدام األسلحة النووية مما َّ
على أسلحة نووية يف حصوهلا على ما تريد يف املواجهات الدولية أكثر من الدول اليت ال متتلكها ،وقد افتعلت دول أو فصائل ال متتلك
دول حائزة على أسلحة نووية (فعلى سبيل املثال استولت األرجنتني على جزر أسلحة نووية اشتباكات يف كثري من الصراعات مع ٍ
الفوكالند من اململكة املتحدة يف عام 1982وهي واثقة أن مارجريت ثاتشر لن تطلق قنبلة نووية على بوينس آيرس) .وال يعين ذلك
أن الدبابات التقليدية وسالح املدفعية وقاذفات القنابل كانت مدمرة بالفعلأن الردع نفسه غري مهم :فقد أظهرت احلرب العاملية الثانية َّ
ومل تُرد أي دولة أن تُعيد الكرة ثانيةً.
بدال من إيصاله إىل حالة توازن مستقر (توازن الرعب الزائف) .ويف وقت عرض األسلحة النووية العامل ملستقبل جمهول ومقلق ً قد تُ ِّ
أوال ليقي نفسهكل منهما إلطالق النار ً ٍ
مسلحا مييل ٌ
ً لصا
األزمات ،تشبه الدول احلائزة على أسلحة نووية صاحب منزل مسلح يواجه ً
قادرا على شن ضربة ثانية بالغواصات
من اإلصابة برصاصة اآلخر ،ونظريًا ميكن إبطال هذه املعضلة األمنية أو فخ هوبز إذا كان كل طرف ً
مثال أو بقاذفات القنابل اجلوية واليت ميكن أن تفلت من الضربة األوىل وتتسبب يف دما ٍر ساحق ،أي حالة التدمري املتبادل املؤكد ً
() ، MADولكن يثري البعض يف جمال امليتافيزيقيا النووية الشكوك حول ضمان شن ضربة ثانية يف كل السيناريوهات احملتملة وما إذا
كانت الدولة املعتمدة عليها معرضة لالبتزاز النووي .لذا حتتفظ كلٌّ من الواليات املتحدة وروسيا خبيار «اإلطالق مبجرد اإلنذار» ووفقه
يقرر يف غضون دقائق من إبالغه بأن صوارخيه تتعرض للهجوم ما إذا كان سيستخدم الصواريخ أم سيخسرها ،وميكن يستطيع الرئيس أن ِّ
حلالة التأهب القصوى ( )hair triggerهذه كما يسميها النقاد أن تتسبب يف تبادل إطالق الصواريخ النووية استجابةً إلنذار كاذب
ٍ
بشكل مقلق. مصرح به ،وتشري قائمة احلروب النووية الوشيكة بأن احتمالية وقوعها أكرب من الصفر
أو إطالق غري مقصود أو غري َّ
مبا أنَّه مل تكن هناك حاجة الخرتاع األسلحة النووية ،و َّأهنا غري جمدية يف االنتصار يف احلروب أو حفظ السالم ،فهذا يعين أنه من
أن املعرفة بكيفية صناعة األسلحة النووية ستختفي َّ
وإمنا أنَّه ميكن تفكيكها وإعادة بناء أسلحة جديدة، املمكن االستغناء عنها ،وال أعين َّ
ولن تكون هذه هي املرة األوىل اليت يُهمش فيها نوع من األسلحة أو يُفكك .فقد حظرت دول العامل استخدام األلغام األرضية املضادة
لألفرا د والقنابل العنقودية واألسلحة الكيميائية والبيولوجية ،وقد شهدت هتاوي أسلحة أخرى ذات تكنولوجيا متطورة بسبب عبثيتها.
ميال ،وكانت
مدفعا عمالقًا متعدد الطوابق ميكنه إطالق قذيفة وزهنا 200رطل ألبعد من ً 80 اخرتع األملان خالل احلرب العاملية األوىل ً
القذائف ترعب سكان باريس بتساقطها من السماء دون سابق إنذار ،كانت هذه األسلحة الضخمة ،اليت أُطلق على أكربها فيما بعد
نب سوى القليل منها وحتولت يف النهاية إىل خردة .ويقول املتشككون يف انتشار مدفع جوستاف ،غري دقيقة وصعبة االستخدام ،لذا مل يُ َ
األسلحة النووية كني بريي ( )Ken Berryوباتريشيا لويس ( )Patricia Lewisوبينوا بيلوبيداس ()Benoît Pelopidas
ونيكوالي سوكوف ( )Nikolai Sokovوورد ويلسون (:)Ward Wilson
ال تتسابق الدول اليوم يف بناء مدافعها الضخمة ..وال يوجد هجاء غاضب يف الصحف الليربالية عن بشاعة هذه األسلحة
وضرورة حظرها ،وال توجد مقاالت رأي واقعية يف الصحف احملافظة تؤكد على عدم وجود طريقة إلعادة املدفع الضخم إىل
القمقم .كانت األسلحة غري فعالة وتبديدية ،فالتاريخ مليء باألسلحة اليت كانت توصف بأهنا السبب يف االنتصار يف
احلروب وهجرهتا اجليوش يف النهاية َّ
ألن فعاليتها كانت ضعيفة.
فهل سيحدث مع األسلحة النووية مثل ما حدث مع مدفع جوستاف؟ يف أواخر اخلمسينيات من القرن العشرين تأسست حركة
من أجل حظر استخدام القنابل النووية وتوسعت احلركة على مر العقود من جمرد كوهنا حركة تضم غرباء األطوار وأساتذة اجلامعة لتتحول
إىل تيا ٍر رئيسي ،إذ طرح ميخائيل جورباتشوف ( )Mikhail Gorbachevورونالد رجيان يف عام 1986قضية الصفر الشامل
-وهي التسمية اليت تُطلق على هدف احلد من األسلحة اآلن ،-ورونالد رجيان هو املشهور مبقولة «ال ميكن االنتصار يف حرب نووية
أبدا ،ولكن أليس من األفضل وجيب عدم خوضها مطل ًقا ،والقيمة الوحيدة المتالك دولتينا أسلحةً نووية هي ضمان عدم استخدامها ً
مشكلة من احلزب الدميقراطي واجلمهوري (هنري كيسنجرعدم امتالكها من األساس؟» كتبت جمموعة رباعية من أنصار الواقعية الدفاعية َّ
وجورج شولتز وسام نون وويليام بريي) ( Henry Kissinger, George Shultz, Sam Nunn, and William
خال من األسلحة النووية» ( )A World Free of Nuclear Weaponsبتأييد 14 )Perryمقالةً بعنوان «عالم ٍ
مستشارا ساب ًقا لألمن القومي ووزيري الدفاع واخلارجية ،ويف عام 2009ألقى باراك أوباما خطابًا تارخييًّا يف براغ قال فيه« :تتعهد أمريكا
ً
ٍ
بوضوح وبقناعة تامة بأن تسعى حنو عامل خال من األسلحة النووية يعمه السالم واألمن» ،وهو التطلع الذي ساعده على الفوز جبائزة
نوبل للسالم ،وكرر اخلطاب نظريه الروسي يف ذلك الوقت دميرتي ميدفيديف (( )Dmitry Medvedevوهو ما مل يتكرر ممَّن
ألن الواليات املتحدة وروسيا كانتا متعهدتني بالتخلص من ترسانتيهما داع للخطاب َّ كال منهما) .ومع ذلك فلم ي ُكن هناك ٍ خلف ًّ
النوويتني بالفعل بتوقيعهما على معاهدة عدم انتشار األسلحة النووية يف عام 1970طب ًقا للمادة السادسة منها ،ومن الدول املتعهدة
أيضا :اململكة املتحدة وفرنسا والصني ،والدول األخرى احلائزة على أسلحة نووية ممن مشلتهم املعاهدة (مل توقع اهلند أو باكستان أو ً
ٍ
أيضا ،مؤِّكدين بذلك دون قصد أمهية املعاهدات) .ويدعم سكان العامل احلركة، إسرائيل على هذه املعاهدة ،وانسحبت كوريا الشمالية ً
فضلت الغالبية العظمى من املشاركني التخلص من األسلحة النووية. ففي كل الدول اليت أجريت فيها استطالعات الرأي تقريبًا َّ
أيضا أي دافع لدولة
رقما مغريًا ،ألنَّه يوسع نطاق حظر األسلحة النووية من استخدامها إىل جمرد امتالكها ،ويزيل ً يُعترب الصفر ً
سهال ،حىت مع حتديد مراحل
أمرا ً
تود حيازة األسلحة النووية حلماية نفسها من أسلحة أعدائها النووية ،ولكن لن يكون الوصول للصفر ً
متتالية من التفاوض والتقليص والتحقق .حيذر بعض اخلرباء االسرتاتيجيني من حماولة الوصول إىل الصفرَّ ،
ألن الدول اليت كانت متتلك
أسلحة نووية قد تتسابق يف إعادة التسليح عند حدوث أزمة ،ورمبا يشن الفائز يف هذا السباق ضربة استباقية بدافع اخلوف من أن يشنها
أوال .وطب ًقا هلذه النظرية ،فسيكون العامل مكانًا أفضل إذا أبقت الدول احلائزة على األسلحة النووية بعض هذه األسلحة كرادع.عدوه ً
فإن العامل بعي ٌد كل البعد عن الصفر أو حىت عن حيازة «عدد قليل من األسلحة النووية» ،وحىت يأيت ذلك اليوم ويف كلتا احلالتني َّ
املوعود ،ميكننا أخذ خطوات تدرجيية لتقريبه بينما جنعل العامل أكثر أمانًا.
قدم وساق ،وال يدرك سوى القليل من الناس اخليار األكثر بداهة هو خفض حجم الرتسانة النووية ،وهذه العملية جترى على ٍ
أن الواليات املتحدة خفضت خمزوهنا النووي بنسبة يوضح الشكل رقم َّ 1-19 احلجم اهلائل الذي خفضه العامل من األسلحة النوويةِّ .
رؤوسا نووية أقل من أي وقت منذ عام ،1956وخفضت روسيا بدورها %85مقارنةً بالذروة اليت بلغتها عام ،1967ولديها اآلن ً
أن %10من الطاقة الكهربائية للواليات ترسانتها بنسبة %89منذ ذروهتا يف فرتة االحتاد السوفييت (رمبا يدرك عدد أقل من الناس َّ
أن أكثر هذه الرؤوس سوفييتية) .وقَّعت الدولتان املعاهدة اجلديدة للحد من األسلحة املتحدة تأيت من الرؤوس النووية املفككة ،و َّ
االسرتاتيجية ( )New STARTيف عام ،2010اليت تلزمهما خبفض خمزونيهما من الرؤوس احلربية االسرتاتيجية املنصوبة مبقدار
وحتدث روسيا الثلثني ،وقد وافق أوباما على التحديث بعيد املدى لرتسانة األسلحة األمريكية يف مقابل موافقة الكوجنرس على املعاهدةُ ،
أيضا ،ولكن ستستمر الدولتان يف خفض خمزونيهما ٍ
مبعدل رمبا يكون أعلى من احملدد يف املعاهدة .ميكن تشبيه القوى النووية ترسانتها ً
األخرى بطبقة رقيقة يصعب إدراكها تغلف كومة القوى النووية السابق ذكرها ،فقد كانت الرتسانتان النوويتان اإلجنليزية والفرنسية صغريتني
من البداية وقد اخنفضتا للنصف ووصلتا إىل 215و 300على التوايل (وَمنَت الرتسانة النووية الصينية قل ًيال من 235إىل ،260
لكل منهما ،وتقدر ترسانة إسرائيل بـ 80تقريبًا ،أما ترسانة كوريا الشمالية فغري معروفة ولكنها وكذلك اهلندية والباكستانية إىل ٍ 135
صغرية) ،وكما ذكرت ،فال توجد دول أخرى معروف عنها أهنا تسعى حليازة األسلحة النووية ،وقد اخنفض عدد الدول احلائزة على املواد
القابلة لالنشطار اليت ميكن تصنيع القنابل النووية منها من 50دولة إىل 24خالل اخلمسة وعشرين سنة املاضيني.
إسرائيل
الهند
باكستان
االتحاد
السوفييتي/روسيا المملكة المتحدة
الصين
فرنسا
الواليات المتحدة
بتقدم حيتوي فيه العامل على 10200رأس نووي ،فكما تقول امللصقات اليت انتشرت يف الثمانينيات: قد ال ينبهر املتشائمون ٍ
أس نووي واحد أن يفسد يومك ،لكن باخنفاض عدد الرؤوس النووية على الكوكب مبقدار 54000رأس نووي مقارنةً بعام ميكن لر ٍ
،1986تقل احتمالية وقوع احلوادث اليت قد تفسد يومك ،ويوجد قرار ُمسبق باستمرار نزع األسلحة .وسيتم التخلص من املزيد من
الرؤوس النووية وف ًقا لشروط املعاهدة اجلديدة للحد من األسلحة االسرتاتيجية ،وكما ذكرت فرمبا يتم التخلص من الرؤوس النووية خارج
إطار املعاهدات املثقلة باملفاوضات القانونية واخلالفات السياسية .وعندما يقل التوتر بني القوى العظمى ،تُقلص ترساناهتا الباهظة يف
صمت (وهو اجتاه طويل األمد ،حىت وإن كان معل ًقا اليوم) ،وحىت عندما يكاد ينعدم احلوار بني املتنافسني ،ميكنهم التعاون يف نزع
السالح عن طريق استخدام أسلوب أطلق عليه عامل اللغويات النفسية تشارلز أوزجود ( )Charles Osgoodاملعاملة باملثل تدرجييًّا
للحد من التوتر ) ،(Graduated Reciprocation in Tension-Reduction) (GRITويتنازل طب ًقا هلذا
يوما ما من أجل تنازال فرديًا مع دعوة علنية لبذل جهود مماثلة من الطرف اآلخر .إذا تضافرت هذه التطورات ً
األسلوب أحد املتنافسني ً
هائل فحسب ،وإمنا سيقضي على خفض عدد الرؤوس النووية إىل 200رأس لكل دولة ،فلن يقلل ذلك احتمالية وقوع حادثة بقد ٍر ٍ
احتمالية حدوث شتاء نووي وهو اخلطر الوجودي احلقيقي.
ال يأيت هتديد احلرب النووية األعظم يف املستقبل القريب من عدد الرؤوس النووية املوجودة ،وإمنا من الظروف اليت قد تؤدي إىل
كابوس حقيقي ،وال
ٌ استخدامها ،فسياسات اإلطالق مبجرد اإلنذار أو اإلطالق عند التعرض للهجوم أو إنذار حالة التأهب القصوى
يوجد جهاز إنذار ِّ
مبكر ميكنه التمييز بدقة تامة بني اإلشارة والتشويش ،وسيكون أمام الرئيس املستيقظ على مكاملة الساعة الثالثة فجًرا
تتدمر يف مستودعاهتا .ونظريًا ،فرمبا يبدأ الرئيس حربًا عاملية ثالثة استجابةً
بضع دقائق ليقرر ما إذا كان سيطلق الرؤوس النووية قبل أن َّ
ولكن أجهزة اإلنذار يف احلقيقة أفضل من ملاس كهربائي أو لقطي ٍع من النوارس أو لبعض الربامج الضارة من تصميم مراهق بُلغاريَّ ،
ذلك ،وال توجد حالة «تأهب قصوى» تطلق الصواريخ تلقائيًا دون تدخل بشري ،ولكن عندما يكون من املمكن إطالق الصواريخ
خالل فرتة وجيزة كهذه ،فمن الوارد حدوث إطالق غري مقصود أو متهور أو لسبب خادع أو بسبب إنذار كاذب.
كان السبب األساسي وراء وضع سياسة اإلطالق مبجرد اإلنذار هو إحباط الضربة األوىل للعدو اليت قد تدمر كل الصواريخ أثناء
وجودها يف مستودعاهتا ومتنع الدولة من االنتقام من العدو ،لكن كما ذكرت ،تستطيع الدول إطالق الصواريخ من الغواصات املوجودة
يف أعماق املياه أو من قاذفات القنابل واليت ميكن إرساهلا بسرعة هائلة مما جيعل هذه األسلحة منيعة ضد الضربة األوىل ومتأهبة لتحقيق
انتقام فادح .ميكن أخذ قرار االنتقام أثناء النهار عند التيقن من التعرض للهجوم :فأنت ستعرف بالتأكيد إذا انفجرت قنبلة نووية على
أراضيك.
إ ًذا فاإلطالق مبجرد اإلنذار غري ضروري للردع وخطري بشكل غري مقبول ،ويوصي -ال ،بل يصر -معظم احملللني األمنيني بأن
بات عميق ،ويوافق على ذلك أوباما ونون وشولتز وجورج بوش تنزع الدول حالة التأهب القصوى عن الصواريخ النووية وتضعها يف س ٍ
ُ
االبن وروبرت ماكنمارا والعديد من القادة السابقني لقيادة القوات االسرتاتيجية ومديري وكالة األمن الوطين .ويوصي البعض مثل ويليام
بريي بالتخلي عن اجلزء القائم على األرض من الثالوث النووي بالكامل واالعتماد على الغواصات وقاذفات القنابل يف الردع مبا َّ
أن
يرغب أي شخص أن يبقى ِ
الصواريخ املخزنة يف املستودعات أهداف سهلة تغري القادة باستخدامها ما دام باستطاعتهم ذلك .ملَ قد ُ
الصواريخ النووية يف مستودعاهتا يف حالة تأهب قصوى مادام هذا جيعل مصري العامل على احملك؟ يزعم بعض امليتافيزيقيني النوويني َّ
أن
أن الصواريخ املوجودةعمال استفزازيًا ،ويرى آخرون أنَّه مبا َّ
إعادة اإلنذار للصواريخ أثناء إحدى األزمات بعد فصل اإلنذار عنها سيكون ً
أيضا يف االنتصار يف
ألهنا ليست جمرد سالح ردع فقط وإمنا ميكن استخدامها ً يف املستودعات أدق وأكثر موثوقية فهي تستحق احلماية َّ
احلروب ،ويقودنا هذا إىل طريقة أخرى لتقليل احتمالية اندالع حرب نووية.
أن دولته مستعدة الستخدام األسلحة النووية ألي سبب آخر غري ردع يصعب على أي شخص صاحب ضمري حي أن يعتقد َّ
مجيعا َّأهنم قد
لكن هذه هي السياسة الرمسية للواليات املتحدة واململكة املتحدة وفرنسا وروسيا وباكستان ،فقد أعلنوا ً
هجوم نوويَّ ،
بسالح غري نووي أو تعرض أحد حلفائهم هلجوم مماثلَّ .
إن سياسة املبادرة إىل استخدام ٍ يطلقون األسلحة النووية إذا تعرضوا ٍ
هلجوم شامل
أيضا َّ
ألن الدول املعتدية بأسلحة غري نووية قد متيل إىل استخدام األسلحة النووية خطرية ،ليس فقط النتهاكها مبدأ التكافؤَّ ،
وإمنا ً
األسلحة النووية كإجراء وقائي ،وحىت لو مل تفعل ،فبعد تعرضها للهجوم بالسالح النووي قد ترد اهلجوم بضربة نووية.
لذا فالطريقة السليمة لتقليل خطر احلرب النووية هي إعالن سياسة عدم املبادرة إىل استخدام األسلحة النووية ،قد يقضي ذلك
أوال ،فلن يستخدمها أحد ،ومن الناحية العملية، نظريًا على احتمالية اندالع حرب نووية هنائيًّا :فإذا مل يستخدم أحد األسلحة النووية ً
فقد يقضي ذلك على جزء من الرغبة يف توجيه ضربة استباقية .وميكن جلميع الدول احلائزة على أسلحة نووية االتفاق على عدم املبادرة
إىل استخدام األسلحة النووية عن طريق عقد معاهدة ،أو ميكنهم التوصل إىل ذلك االتفاق عن طريق «املعاملة باملثل تدرجييًّا للحد من
التوترات» (مع االلتزامات املتزايدة مثل عدم استهداف املدنيني وعدم استهداف الدول غري احلائزة على أسلحة نووية وعدم اهلجوم على
أهداف ميكن تدمريها بالوسائل التقليدية) أو ميكنهم املبادرة إىل ذلك بطريقة فردية وهو ما خيدم مصاحلهم الذاتية .وقد قلل حترمي
األسلحة النووية قيمة سياسة املبادرة باستخدامها كسالح رادع ،وميكن للمعلن عن سياسة عدم املبادرة باستخدامها محاية نفسه بالقوى
التقليدية وبالقدرة على رد اهلجوم النووي ٍ
هبجوم مماثل.
ال حتتاج سياسة عدم املبادرة باستخدام األسلحة النووية إىل تفك ٍري ،وقد شارف باراك أوباما على تبنيها يف عام ،2016ولكنَّه
أن توقيت القرار مل يكن مناسبًا ،إذ قد يعطي القرار إشارة تراجع عن قراره يف اللحظة األخرية بسبب نصيحة مستشاريه الذين زعموا َّ
على الضعف أمام القوى الصاعدة اجلديدة مثل روسيا والصني وكوريا الشمالية ،ورمبا يُفزع احللفاء املتوترين املعتمدين على «املظلة النووية»
بدال من السعي إىل تصنيع أسلحتهم النووية اخلاصة ،خاصةً بعد هتديد دونالد ترامب بتقليص حجم األمريكية يف الدفاع عن أنفسهم ً
الدعم األمريكي حللفائها .رمبا ُتف حدة هذه التوترات على املدى البعيد ،ويُنظر يف سياسية عدم املبادرة باستخدام األسلحة النووية
مرةً أخرى.
خال من األسلحة النووية وهو عام وقت قريب وخاصةً يف الوقت الذي تستهدفه حركة عامل ٍ لن تُلغى األسلحة النووية يف أي ٍ
،2030قال أوباما يف خطابه يف براغ عام 2009أنَّنا «لن نصل إىل اهلدف بسرعة ،ورمبا لن نصل إليه خالل حيايت» ممَّا يشري إىل
قائال« :سيحتاج األمر إىل الصرب واملثابرة» ،وتؤكد التطورات
عدم حتققه سوى بعد عام 2055بفرتة (انظر الشكل رقم ،)1-5وأضاف ً
األخرية يف الواليات املتحدة وروسيا أنَّنا سنحتاج إىل الكثري منهما.
لكن الطريق قد ُرسم ،فإذا استمر تفكيك الرؤوس النووية بسرعة أكرب من بنائها ،وإذا ُرفعت حالة التأهب القصوى عنها ،قدمت َّ
ضمانات بعدم املبادرة باستخدامها ،وإذا استمر البُعد عن احلرب بني الدول ،فقد ينتهي األمر يف النصف الثاين من القرن إىل ترسانات
نووية صغرية آمنة حمفوظة من أجل الردع فقط ،ورمبا تُنهي أمرها بنفسها بعد ٍ
عقود قليلة .وسريى أحفادنا األسلحة النووية مثرية للسخرية
اض سلمية إىل األبد .ورمبا لن نصل إىل نقطة تنعدم فيها احتمالية حدوث كارثة أثناء مرحلة التفكيك، آنذاك ،وسيستخدموهنا يف أغر ٍ
ولكن كل خطوة جتاه التفكيك ُُتفض اخلطورة حىت تتساوي باألخطار األخرى اليت هتدد البشرية مثل النيازك والرباكني العمالقة أو كائن
الذكاء االصطناعي الذي قد حييلنا إىل دبابيس ورق.
الفصل العشرون:
مستقبل التقدم
عاما يف
عاما ،وقفز إىل ً 81 منذ انتشار التنوير يف أواخر القرن الثامن عشر ،زاد متوسط العمر املتوقع حول العامل من 30إىل ً 71
الدول األكثر حظًّا .وعندما بدأ التنوير كان ثُلث األطفال املولودين يف أغىن مناطق العامل ميوتون قبل بلوغ عامهم اخلامسَّ ،أما اليوم
أيضا من املأساة ،إذ كانت 1يف املئة من األمهات
فيلقى هذا املصري 6يف املئة فقط من األطفال يف أفقر مناطق العامل ،وحتَّررت أمهاهتم ً
يف أغىن الدول ال تعيش لرتى مولودها ،وهو ما ميثِّل ثالثة أضعاف النسبة احلالية يف أفقر الدول ،واليت تواصل اخنفاضها .واألمراض
القاتلة املعدية يف تراج ٍع مستمر يف تلك الدول الفقرية ،فال يصيب بعضها سوى بضع العشرات سنويًّا ،وهي على وشك أن تلحق
باجلدري وتنقرض.
رمبا ال يظل الفقراء معنا إىل األبد ،فالعامل اليوم أكثر ثراء ممَّا كان عليه منذ قرنني مبقدار مئة ٍ
ضعف تقريبًا ،وتزداد املساواة يف توزيع ً
الرخاء على شعوب العامل ودوله ،واخنفضت نسبة البشر الذين يعيشون يف فق ٍر مدق ٍع من 90يف املئة تقريبًا إىل أقل من 10يف املئة،
كثريا عن البشر خالل أغلب وقد تصل إىل الصفر يف حياة معظم قراء هذا الكتاب .اختفت اجملاعة الكارثية -اليت مل ت ُكن بعيدة ً
قرن نسبة واحدخصصت الدول األغىن منذ ٍ تارخيهم-من أغلب أحناء العامل ،ونقص التغذية وتوقف النمو يف تراج ٍع مستمر وثابت .وقد َّ
يف املئة من ثرواهتا لدعم األطفال والفقراء وكبار السن ،وتُ ِنفق اليوم حوايل ُربع تلك النسبة ،فمعظم فقرائها اليوم حيصلون على الطعام
وامللبس واملأوى وميتلكون رفاهيات مثل اهلواتف الذكية وأجهزة تكييف اهلواء اليت مل ت ُكن من قبل متاحةً ألي شخص سواء أكان غنيًّا
فقريا ،واخنفض مستوى الفقر بني األقليات العرقية واهنار مستوى الفقر بني املسنِّني. أم ً
ُمينح العامل فرصةً للسالم ،فاحلروب بني الدول يف طريقها إىل الزوال ،واختفت احلروب داخل الدول من مخس أسداس العامل.
وسدس ما كانت عليه يف وتبلغ نسبة األشخاص الذين تقتلهم احلروب سنويًّا حوايل ُربع ما كانت عليه يف مثانينيات القرن العشرينُ ،
أوائل سبعينياته ،وستة عشر جزءًا ممَّا كانت عليه يف أوائل مخسينياته ،ونصف نسبة مئوية مما كانت عليه خالل احلرب العاملية الثانية.
وأصبحت محالت اإلبادة العرقية اليت كانت شائعة يف السابق نادرةً .تتسبَّب جرائم القتل يف قتل ٍ
عدد من الناس أكرب ممَّا تقتله منهم
تعرض األمريكي للقتل نصف ما كانت عليه أيضا ،فاحتمالية ُّ ٍ
اخنفاض ً احلروب يف أغلب األزمنة واألماكن ،ومعدالت جرائم القتل يف
عاما.
تعرض املرء للقتل يف أي مكان يف العامل أقل مبقدار سبعة من عشرة ممَّا كانت عليه منذ عشرين ً منذ حوايل ربع قرن ،واحتمالية ُّ
يقة ممكنة ،وعلى مدار القرن العشرين أصبحت احتمالية مقتل الشخص األمريكي نتيجة حادث سيارة تزداد احلياة أمانًا بكل طر ٍ
تعرضه للدهس على الرصيف أقل بنسبة 88يف املئة ،واحتمالية وفاته يف حادث حتطم طائرة أقل أقل بنسبة 96يف املئة ،واحتمالية ُّ
بنسبة 99يف املئة ،واحتمالية موته نتيجة سقوطه أقل بنسبة 59يف املئة ،واحتمالية موته نتيجة حر ٍيق أقل بنسبة 92يف املئة ،واحتمالية
غرقه أقل بنسبة 90يف املئة ،واحتمالية موته باالختناق أقل بنسبة 92يف املئة ،واحتمالية موته أثناء تأدية وظيفته أقل بنسبة 95يف
املئة .واحلياة يف الدول الغنية األخرى أكثر أمانًا ،وستزداد احلياة يف الدول الفقرية أمانًا عندما تزداد غىن.
دول دميقراطية سوى حفنة من الدول
أيضا ،فمنذ قرنني مل ت ُكن هناك ٌ
ال يزداد الناس صحةً وغىن وأمانًا فحسب ،بل يزدادون حريةً ً
وقت قريب ،كانت احدا يف املئة من سكان العاملَّ ،أما اليوم فثُلثا دول العامل اليت تشمل ثُلثي سكان العامل دميقراطية .وحىت ٍ
اليت تشمل و ً
تفضل أقلياهتا أكثر من الدول اليت متيِّز ضد
يف نصف دول العامل قوانني متيِّز ضد األقليات العرقيةَّ ،أما اليوم فالدول اليت لديها سياسات ِّ
دولة واحدةَّ ،أما اليوم فيمكنهن التصويت يف كلهذه األقليات .مل ي ُكن باستطاعة النساء التصويت يف مطلع القرن العشرين سوى يف ٍ
جترم املثلية اجلنسية ،وتزداد املواقف من األقليات
الدول اليت ميكن للرجال التصويت فيها عدا دولة واحدة .ويتواصل إلغاء القوانني اليت ِّ
والنساء واملثليني تساحمًا ٍ
مبعدل ثابت ،وخاصةً بني الشباب ،وهو ما يبشِّر خب ٍري ملستقبل العامل ،وجرائم الكراهية والعنف ضد النساء وإيذاء
األطفال يف تراج ٍع كبري وطويل األمد ،وكذلك استغالل األطفال يف العمالة.
تعليما ومعرفةً وذكاءً ،ففي أوائل القرن التاسع عشر ،مل ي ُكن سوى 12
أيضا ً ومع ازدياد الناس صحةً وغىن وأمانًا وحريةً ،يزدادون ً
يف املئة من سكان العامل يستطيعون القراءة والكتابةَّ ،أما اليوم فـ 83يف املئة منهم يستطيعون ذلك ،وقريبًا ستكون املعرفة بالقراءة
نطاق عاملي للفتيات كما للفتيان .جيعلنا التعليم ،إىل جانب الصحةوالكتابة ،والتعليم الذي ُمت ِّكن هذه املعرفة املرء منه ،متاحةً على ٍ
والثروة ،أذكى حرفيًّا من أسالفنا مبقدار ثالثني نقطة من معدل الذكاء أو احنرافني معياريني.
يستغل الناس حياهتم األطول واألكثر صحةً وأمانًا وحريةً وغىن وحكمةً على حن ٍو جيد ،فيعمل املواطن األمريكي يف األسبوع وقتًا
أقل من السابق مبقدار 22ساعة ،وحيصل على ثالثة أسابيع من العطلة املدفوعة ،ويفقد وقتًا أقل من حياته يف أداء املهام املنزلية مبقدار
بدال من مخسة أمثانه ،ويستغل وقت فراغه ودخله املتاح لإلنفاق يف السفر، 43ساعة ،وال يُ ِنفق على الضروريات سوى ثُلث راتبه ً
وجيرب أكالت عاملية ،وخيترب معارف وثقافات من خمتلف أحناء العامل .نتيجةً هلذه النِ َعم، ويقضي وقته مع أطفاله ،ويتواصل مع أحبائهِّ ،
أصبح الناس على مستوى العامل أسعد ،وحىت األمريكيني الذين يعتربون حظَّهم اجليد مسلَّ ًما به «سعداء جدًّا» أو أسعد ،وتصبح
وميال لالنتحار.
املخدرات ً
األجيال األصغر أقل تعاسةً ووحد ًة واكتئابًا وإدمانًا على ِّ
عندما أصبحت اجملتمعات تتمتَّع باملزيد من الصحة والثروة واحلرية والسعادة والتعليم األفضل ،وضعت نصب أعينها التحديات
وخصصت املزيد من وسربت كميات أقل من النفط َّ امللوثات وأزالت غابات أقل َّ إحلاحا ،فأصدرت انبعاثات أقل من ِّ
العاملية األكثر ً
عدد أقل من أنواع احليوانات وغريها ،وأنقذت طبقة األوزون ،ووصلت إىل ذروة استخدامها من النفط واألراضي احملميات وقضت على ٍ
توصلت إىل ٍ
اتفاق تارخيي على الزراعية واخلشب والورق والسيارات والفحم ورمبا حىت الكربون .رغم كل اختالفات دول العاملَّ ،إال َّأهنا َّ
التغري املناخي ،كما حدث يف السنوات املاضية فيما خيص االختبارات النووية وانتشار األسلحة النووية واألمن النووي ونزع األسلحة
عاما منذ صناعتها منذ الظروف االستثنائية يف األيام األخرية يف احلرب العاملية ستخدم األسلحة النووية خالل االثنني وسبعني ً
النووية .مل تُ َ
عاما ،واخنفضت خمزونات العامل النووية بنسبة 85يف الثانية .مل حيدث أي إرهاب نووي على عكس توقُّعات اخلرباء على مدار أربعني ً
املئة ،وما زال هناك املزيد من االخنفاض يف املستقبل ،وتوقَّفت االختبارات (فيما عدا ما يقوم به النظام املارق يف بيونج يانج) َّ
وجتمد
إحلاحا يف العامل -رغم عدم حلِّهما بعد-قابلتان للحل ،إذ ُو ِضعت أجندات عملية انتشار األسلحة النووية .إ ًذا فاملشكلتان األكثر ً
طويلة األمد للتخلُّص من األسلحة النووية وُتفيف حدة التغري املناخي.
رغم كل عناوين األخبار الدموية ،ورغم كل األزمات واالهنيارات والفضائح واألمراض املتفشية واألوبئة واألخطار الوجوديةَّ ،إال َّ
أن
هذه اإلجنازات تستحق أن نستمتع هبا .لقد جنح التنوير؛ إذ استخدم الناس على مدار قرنني ونصف املعرفة يف تعزيز ازدهار البشرية،
وسخر املخرتعون قوانني الطبيعة لتحدي اإلنرتوبيا ،وجعل رواد األعمال ابتكاراهتم وكشف العلماء طرق عمل املادة واحلياة والعقلَّ ،
ميسورة التكلفة ،وجعل واضعو القانون األشخاص أفضل عرب ثنيهم عن األفعال املفيدة للفرد وحده ولكنَّها ضارة باجلميع ،و َّأدى
الدبلوماسيون الدور نفسه مع الدول .وخلَّد الباحثون كنز املعرفة ومنوا قوة العقل املنطقيَّ ،
ووسع الفنَّانون دائرة التعاطف ،وضغط النشطاء
حتولت كل على أصحاب السلطة من أجل إبطال املمارسات القمعية ،وضغطوا على املواطنني اآلخرين من أجل تغيري األعراف القمعيةَّ .
هذه اجلهود إىل مؤسسات أتاحت لنا التحايل على عيوب الطبيعة البشرية ومتكني جوانبنا املالئكية.
ويف الوقت نفسه..
شخص يف العامل اليوم يف فق ٍر مدقع ،ومتوسط العمر املتوقع يف املناطق اليت يتمركزون فيها أقل من ً 60
عاما، ٍ يعيش سبعمئة مليون
طفل سنويًّا تقريبًا جراء االلتهاب الرئوي ،ونصف مليون جراءويعاين ُربع هؤالء األشخاص تقريبًا من نقص التغذية .كما ميوت مليون ٍ
ٍ
حروب حمتدمة يف العامل ،تشمل حربًا مات فيها اإلسهال أو املالريا ،ومئات اآلالف جراء احلصبة واإليدز .توجد اآلن أكثر من عشر
شخص على األقل يف مذابح إبادةٍ مجاعية يف عام .2015يعيش أكثر من ٍ شخص ،وقُتِل عشرة آالف
ٍ أكثر من مئتني ومخسني ألف
دول أوتوقراطية ،ويفتقر ُمخس سكان العامل تقريبًا إىل التعليم األساسي،شخص -أي حوايل ثُلث البشرية -يف قم ٍع يف ظل ٍ ٍ ملياري
شخص ،ويعاين 300ٍ ويتعرض للقتل أكثر من 400ألف ادثَّ ، شخص سنويًّا يف حو ٍ
ٍ وسدسهم تقريبًا ِّأميون .وميوت مخسة ماليني
ُ
ٍ
مليون شخص تقريبًا من االكتئاب السريري ،سيموت منهم 800ألف تقريبًا هذا العام منتحرين.
الدنيا ارتفاع دخلها بأقل من 10يفليست الدول الغنية يف العامل املتقدِّم منيعةً ضد هذه األمور ،إذ شهدت الطبقات املتوسطة ُ
أن على املرأة العودة إىل أدوارها التقليدية ،ويعارض عُشرهم تواعُد شخصني املئة خالل عقدين .وما زال ُمخس َّ
سكان أمريكا يعتقدون َّ
من أعر ٍاق خمتلفة ،وتعاين أمريكا من وقوع أكثر من ثالثة آالف جرمية كراهية سنويًّا ،وأكثر من مخسة عشر ألف جرمية قتل .يفقد
ٍ
استعجال دائم ،ويُنكر أكثر من ثلثي األمريكيني َّأهنم سعداء األمريكيون ساعتني يوميًّا يف قضاء األعمال املنزلية ،ويشعر ربعهم َّ
بأهنم يف ُ
عاما ،وازدادت تعاسة النساء والفئات العمرية الدميوغرافية الكربى مبرور الوقت ،إذ يصبح
جدًّا ،بنفس نسبة سعادهتم تقريبًا منذ سبعني ً
ٍ
لدرجة يائسة جتعلهم يقتلون أنفسهم. حوايل 14ألف أمريك ٍي كل عام تعساء
شخص آخرين قبلٍ إن املشكالت اليت تواجه الكوكب بأكمله جسيمة بالطبع ،إذ سيكون على هذا الكوكب استضافة ملياري َّ
هناية هذا القرن ،واقتُطع مئة مليون هكتار من الغابات االستوائية خالل العقد املاضي ،واخنفضت نسبة األمساك البحرية مبقدار 40يف
املئة تقريبًا ،وآالف األنواع مهدَّدة باالنقراض .يستمر انبعاث أول أكسيد الكربون وثاين أكسيد الكربيت وأكاسيد النيرتوجني واملواد
طن من ثاين أكسيد الكربون كل عام ،وهو ما يهدِّد -يف حالة تركه دون رقابة -برفع درجات
اجلسيمية يف اجلو ،إضافةً إىل 38مليار ٍّ
احلرارة العاملية مبقدار درجتني إىل أربع درجات مئوية ،وميتلك العامل أكثر من عشرة آالف سالح نووي ُموزعة على تسع دول.
إن احلقائق املذكورة يف الفقرات الثالثة السابقة هي نفسها بالطبع املذكورة يف أول سبع فقرات ،ما فعلته ببساطة هو أنَّين قرأت
بدال من الطرف اإلجيايب منها ،أو طرحت النسب املتفائلة من .100وليس هديف من عرض وضع األرقام من الطرف السليب للمقاييس ً
أن بإمكاين الرتكيز على النصف الفارغ من الكوب إىل جانب النصف املمتلئَّ ،
وإمنا هو التأكيد على أ َّن العامل هباتني الطريقتني إظهار َّ
أيضا .-إذا استطعنا مواصلة االجتاهات املذكورة يف التقدُّم ليس يوتوبيا ،و َّ
أن أمامنا مساحة للسعي وراء مواصلة التقدُّم -بل التزام بذلك ً
السبع فقرات األوىل عرب نشر املعرفة من أجل تعزيز االزدهار ،ال بد وأن تنخفض األرقام املذكورة يف الثالث فقرات األخرية ،وإن كان
وصوال إىل الصفر ضعيفة (حل هذه املشاكل بالكامل) فيمكننا أن نقلق بشأن ذلك عندما نقرتب إىل احتمالية اخنفاض هذه األرقام ً
الصفر أكثر ،فحىت إذا وصلت بعض األرقام إىل الصفر بالفعل ،فسنكتشف بالتأكيد املزيد من األضرار اليت علينا تداركها وطرقًا جديدة
إلثراء التجربة البشرية ،فالتنوير عملية متواصلة من االكتشافات والتحسينات.
ما مدى منطقية األمل يف التقدُّم املتواصل؟ هذا هو السؤال الذي سأنظر فيه يف الفصل األخري يف قسم التقدُّم قبل أن أنتقل يف
بقية الكتاب إىل املثُل الضرورية لتحقيق هذا األمل.
ُ
ٍ
سأبدأ بقضية الدفاع عن التقدُّم املتواصل .بدأنا الكتاب بتفسري إلمكانية التقدُّم دون روحانية ودون تأريخ مييين يقول حبتمية التقدُّم ودون
أن الثورة العلمية والتنوير أطلقا عملية استخدام املعرفة يف حتسني احلالة البشرية .كان من املمكن أن تفاؤٍل ساذج ،وهذا التفسري هو َّ
معقوال ،ولكن بعد أكثر من قرنني ميكننا أن نقول إنَّه قد جنح بالفعل:أبدا» ويكون كالمهم ً املتشككون آنذاك« :لن ينجح هذا ً ِّ يقول
يتحسن هبا العامل.
إذ رأينا أكثر من سبعني رمسًا بيانيًّا تربر األمل يف التقدُّم عرب رسم الطرق اليت ميكن أن َّ
ابح توضح األمور اجليدة يف ٍ
أوقات خمتلفة باجتاه اليمني واألعلى بصورةٍ تلقائيةَّ ،
ولكن هذا رها ٌن ر ٌ ال ميكن استقراء اخلطوط اليت ِّ
أن مبانينا أكثر قابلية لالشتعال ،أو َّ
أن الناس غريوا يف العديد من الرسوم البيانية .من املستبعد أن نستيقظ يف صباح أحد األيام وجند َّ
رأيهم يف التواعد بني األعراق املختلفة ،أو يف احتفاظ املعلِّمني املثليني جنسيًّا بوظائفهم .ومن املستبعد أن تغلق الدول النامية مدارسها
وعياداهتا الطبية أو تتوقَّف عن بناء مدارس وعيادات جديدة َّ
ألهنا بدأت تتمتَّع بثمار هذه املؤسسات. َ
ٍ
مشكالت جديدة، ستمثِّل التغيريات اليت حتدث يف نطاق الصحافة الزمين دائما بالتأكيد ار ٍ
تفاعات واخنفاضات ،فاحللول ُتلق ً
واليت بدورها تستغرق وقتًا يف احلل ،ولكن عندما نقف على أرجلنا بعد هذه احلركات املفاجئة واالنتكاسات ،نرى َّ
أن املؤشرات على
التقدُّم البشري تراكمية ،فهي ليست دورية ذات مكاسب تلغيها اخلسائر ال حمالة.
حتمل تكلفة محاية البيئة أكثر ويفرض النظام
أن التحسينات تُبىن بعضها على بعض ،فالعامل األغىن سيستطيع ُّ واألمر األفضل هو َّ
ويدعم شبكات األمان االجتماعي فيه ويعلِّم مواطنيه ويعاجلهم ،والعامل األكثر تو ً
اصال وذو التعليم األفضل يهتم بالبيئة على عصاباته ِّ
أكثر وال يطلق العنان للحكام االستبداديني بنفس القدر ويشن حروبًا أقل.
وقعا أسرع ،فما زال قانون شتاين ميتثل لالزمة دافيس ليس على التطورات التكنولوجية اليت دفعت هذا التقدُّم سوى أن تتخذ ً
كثريا ممَّا تظن) ،وكلٌّ من علم اجلينوم واألحياء الرتكيبية ٍ
(األشياء اليت ال ميكن أن تستمر إىل األبد ،ميكنها أن تستمر إىل وقت أطول ً
أن اندثار األمراضوعلم األعصاب والذكاء االصطناعي وعلم املواد وعلم البيانات وحتليل السياسات املستند إىل األدلة يف ازدها ٍر .نعرف َّ
ولكن التقدُّم
التنكسية فهي مستعصية أكثرَّ ، ماضَّ ،أما األمراض املزمنة و ُّ
املعدية ممكن ،وكثريٌ من األمراض من املقرر إهناؤها وحتويلها إىل ٍ
اض أخرى منها (مثل الزهامير). املتزايد يف كث ٍري منها (مثل السرطان) يتسارع ،ومن احملتمل حدوث طفرات يف أمر ٍ
أن العادات اهلمجية ال ميكن احلد منها فحسب ،بل ميكن إلغاؤها وكذلك الوضع فيما خيص التقدُّم األخالقي ،إذ خيربنا التاريخ َّ
أساسا ،لتبقى على األكثر يف بضع مناطق نائية قابعة يف ظالم اجلهل .ال يتوقَّع حىت أكثر الناس قل ًقا عودة التضحية بالبشر كقر ٍ
بان ،أو ً
أكل حلوم البشر ،أو اخلصي ،أو احلرمي ،أو العبودية ،أو املبارزة ،أو التناحر بني العائالت ،أو ربط القدم ،أو حرق الزنادقة ،أو غمس
الرضَّع ،أو عروض املسوخ ،أو السخرية من اجملاذيب .يف حني ال ميكننا التنبؤ بالطقوس الساحرات ،أو التعذيب واإلعدام العلين ،أو وأد ُ
أن عقوبة اإلعدام ،وجترمي املثلية اجلنسية ،واختصاصاهلمجية احلالية اليت سيكون مصريها كمصري مزادات العبيد ورسوم اإلميانَّ ،إال َّ
الذكور فقط بالتصويت والتعليم ،يف طريقهما إىل هذا املصري ،ومن يعرف ما إذا كان سيلحق هبا بعد بضع ٍ
عقود تشويه األعضاء اجلنسية
لإلناث ،وجرائم الشرف ،وعمالة األطفال ،وزواج القاصرات ،واألنظمة الشمولية ،واألسلحة النووية ،واحلروب بني الدول؟
ٍ
سياسات بعض اآلفات األخرى أصعب يف استئصاهلا َّ
ألهنا تعتمد على سلوك مليارات األفراد بكل وصماهتم البشرية ،وليس على
دول بأكملها يف خطوةٍ واحدة ،ولكن حىت إذا مل ُمت َح هذه اآلفات من على وجه األرض ،فيمكن ِّ
احلد منها أكثر ،ويشمل ذلك تتبنَّاها ٌ
العنف ضد النساء واألطفال ،وجرائم الكراهية ،واحلروب األهلية ،وجرائم القتل.
طموحا مشرقًا ،بل هي رؤية املستقبل ذات اجلذور ً ساذجا وال
ً خجل َّ
ألهنا ليست حلم يقظة أعرض هذه الرؤية املتفائلة دون ٍ
تأمل توماس أن ما حدث بالفعل سيواصل احلدوث .كما َّ الواقعية التارخيية ،اليت تدعمها احلقائق القاسية ،وال تعتمد سوى على احتمالية َّ
بأن اجملتمع قد وصل إىل نقطة ٍ
حتول، قائال« :ال ميكننا إثبات خطأ من خيربوننا َّ
ماكويل ( )Thomas Macaulayيف عام ً 1830
أيضا ،وكان لديهم نفس املنطق الواضح تقريبًا..على أي مبدأ يستند التوقُّع
ولكن هذا ما قاله السابقون ً
بأن أفضل أيامنا قد مضتَّ ، َّ
التحسن؟»
ُّ بأنَّه ليس أمامنا سوى االضمحالل يف حني ال نرى خلفنا سوى
ٍ
إجابات على سؤال ماكويل الذي تنبَّأ بنهاية كارثية لكل ذلك التقدُّم يف صورة التغري استعرضت يف الفصلني العاشر واحلادي عشر ُ
املناخي واحلرب النووية وأخطار وجودية أخرى ،ويف بقية هذا الفصل سأنظر يف تطورين يف القرن احلادي والعشرين مل يصال إىل حد
أن أفضل أيامنا قد مضت. الكارثة العاملية ،ولكنَّهما ما زاال يشريان يف نظر بعض الناس إىل َّ
أول غمامة تُنذ ٍر باخلطر هي الركود االقتصادي ،فكما ذكر الكاتب لوجان بريسال مسيث ):(Logan Pearsall Smith
نفعا» .ال توفِّر الثروة األشياء الواضحة اليت يستطيع املال
«قليلةٌ هي اهلموم -مهما كانت شدهتا -اليت ال جيدي معها الدخل اجليد ً
أيضا خريات روحانية على املدى الطويل مثل السالم واحلرية وحقوق شراءها كالتغذية والصحة والتعليم واألمان فحسب ،بل توفِّر ً
اإلنسان والسعادة واحلماية البيئية وقي ٍم سامية أخرى.
آذنت الثورة الصناعية بأكثر من قرنني من النمو االقتصادي ،وخاصةً خالل الفرتة بني احلرب العاملية الثانية وأوائل السبعينيات
عندما منا نصيب الفرد من الناتج العاملي اإلمجايل مبعدل حوايل 3.4يف املئة سنويًّا ،متضاع ًفا كل عشرين سنةَّ .
حذر املتشائمون البيئيون
ويلوث الكوكب ،ولكن يف القرن احلادي والعشرين أن النمو االقتصادي غري مستدام ألنَّه يستنزف املوارد ِّيف أواخر القرن العشرين من َّ
أن املستقبل ال يعد بالكثري جدًّا من النمو االقتصادي بل بالقليل جدًّا ،إذ هبط املعدَّل السنوي للنمو منذ أثريت املخاوف املضادةَّ ،
وصوال إىل حوايل 1.4يف املئة .يتحدَّد النمو على املدى البعيد غالبًا باإلنتاجية ،أي
أوائل سبعينيات القرن املاضي بأكثر من النصفً ،
قيمة السلع واخلدمات اليت تستطيع الدولة إنتاجها لكل دوال ٍر استثماري وساعة عمل للفرد ،وتعتمد اإلنتاجية بدورها على التطور
التكنولوجي :مهارات العمال يف الدولة وكفاءة آالهتا وإدارهتا وبنيتها التحتية .منت اإلنتاجية يف الواليات املتحدة منذ أربعينيات القرن
عاما ،ومنت منذ ذلك احلني مبعدل ٍ
املاضي حىت ستينياته مبعدل سنوي حوايل 2يف املئة ،وهو ما يضاعف اإلنتاجية كل مخسة وثالثني ً
قرن لتتضاعف. 0.6يف املئة وهو ما يستلزم أكثر من ٍ
خيشى بعض االقتصاديني أن تكون معدالت النمو املنخفضة هي الوضع العادي اجلديد .وف ًقا لـ «فرضية الركود املزمن اجلديدة»
اليت حلَّلها لورانس سامرز ( )Lawrence Summersفإنَّه حىت تلك املعدَّالت الزهيدة ال ميكن احلفاظ عليها (باالقرتان مع معدل
البطالة املنخفض) سوى إذا حدَّدت البنوك املركزية أسعار الفائدة عند صفر أو قيم سلبية ،وهو ما قد يؤدي إىل عدم استقرا ٍر مايل
أغلب األشخاص من أصحاب الدخل الثابت أو املتدين ٍ
كود املزمن َ
ومشاكل أخرى .يف فرتة تقل فيها املساواة يف الدخول ،قد جيعل الر ُ
يف املستقبل املنظور ،وإذا توقفَّت االقتصادات عن النمو ،فقد يصبح الوضع شديد السوء.
ال أحد يعلم حقًّا سبب تراخي منو اإلنتاجية يف أوائل السبعينيات وال كيفية إعادته ملستواه ،يشري بعض االقتصاديني ،مثل روبرت
جوردن ( )Robert Gordonيف كتابه صعود وانهيار النمو األمريكي ( The Rise and Fall of American
) ،Growthإىل قوى معاكسة دميوغرافية واقتصادية كلية ،مثل إعالة عدد أقل من العاملني ً
عددا أكرب من املتقاعدين ،وتوقُّف توسيع
نقطة معينة ،وارتفاع الدين احلكومي ،واخنفاض املساواة (وهو ما يضعِف الطلب على السلع واخلدمات َّ
ألن األغنياء ينفقون التعليم عند ٍ
أن مرحلة اخرتاع االخرتاعات اليت ُحت ِدث حتوالت جذرية رمبا تكون قد انتهت من دخلهم نسبةً أقل مما يفعل الفقراء) .ويضيف جوردن َّ
باحملرك،
بالفعل ،فالنصف األول من القرن العشرين أحدث ثورة يف املنازل بالكهرباء واملياه والصرف الصحي واهلواتف واألجهزة اليت تعمل ِّ
تتغري املنازل بقد ٍر مشابه منذ ذلك احلني ،فمرحاض الشطف اإللكرتوين ذي املقعد املدفَّأ لطيف ،ولكنَّه ال يشبه االنتقال من املرحاض
ومل َّ
اخلارجي إىل املرحاض الدافق للمياه.
أن أمريكا فقدت قواها السحرية ،فلم ُيعد العاملون يف املناطق املصابة بالكساد يرحلون إىل مناطق تفسري آخر ثقايف ،وهو َّ
وهناك ٌ
وإمنا أصبحوا حيصدون مبالغ التأمني ضد اإلعاقة وخيرجون من سوق العمل .مينع مبدأ الوقاية أي شخص من جتربة أي شيء حيوية َّ
املؤسسات
كثريا جدًّا من االستثمارات مقيَّدة يف «رأمسال رمادي» يسيطر عليه مديرو َّ للمرة األوىل .فقدت الرأمسالية كل الرأمسالينيَّ ،
ألن ً
الذين يسعون وراء عوائد آمنة للمتقاعدين ،والشباب الطموحون يريدون أن يصبحوا فنَّانني ومهنيني ال َّرواد أعمال ،ومل ُيعد املستثمرون
تعبريا عن حسرته« :أردنا سيارات طائرة، واحلكومات يدعمون األفكار اخلالقة ،فكما قال رائد األعمال بيرت ثيل (ً )Peter Thiel
بدال من ذلك على 140حرفًا». فحصلنا ً
خطًرا أمام صنَّاع السياسات يفويشكل حتديا ِ
مهما كانت أسباب الركود االقتصادي ،فهو يف صميم العديد من املشاكل األخرى ِّ
ً
فأوال :النمو األبطأ ممَّا
قائما ولكنَّه انتهى اآلن؟ هذا مستبعد! ً
أن التقدُّم كان لطي ًفا عندما كان ً القرن احلادي والعشرين .هل يعين ذلك َّ
مطردا ،زاد الناتج العاملي اإلمجايل يف إحدى ومخسني سنة من السنوات اخلمسة منوا ً منوا ،بل ً
كان خالل أيام اجملد اليت تلت احلرب مازال ً
سنة من تلك اإلحدى ومخسني سنة (مبا يشمل السنوات الستة املاضية) أغىن من أن العامل أصبح يف كل ٍ واخلمسني املاضية ،ممَّا يعين َّ
ُّما
ُّما أكثر تقد ً أن الركود املزمن يُعد من مشاكل العامل األول بصورةٍ كبرية ،فرغم َّ
أن حماولة جعل أكثر الدول تقد ً السنة السابقة .إضافةً إىل َّ
تتبىن أفضل ٍ
مبعدالت أعلى إذ َّ ُّما ما زال أمامها الكثري لتلحق هبا ،وهي تنمو هائالَّ ،إال َّ
أن الدول األقل تقد ً عاما تلو اآلخر ميثِّل حتديًا ً
ً
املمارسات اليت تتبعها الدول األغىن (الفصل الثامن) .التقدُّم املستمر األكرب اليوم يف العامل هو خروج مليارات األشخاص من الفقر
املدقع ،وال ينبغي أن تضع الوعكات األمريكية واألوروبية سق ًفا هلذا االرتقاء.
يتسلَّل منو اإلنتاجية املدفوع بالتكنولوجيا ليفاجئ العامل بطريقته املميزة ،وتستغرق معرفة الناس كيف يستغلون التكنولوجيا اجلديدة
على أفضل وجه فرتةً من الزمن ،وحتتاج الصناعات وقتًا إلعادة جتهيز املصانع باملعدات وإعادة تنظيم املمارسات وف ًقا هلذه التكنولوجيا.
ولكن مالحظة االقتصاديني لالنتعاش الذي كان بارزا على ذلك ،بدأ التزويد بالكهرباء يف تسعينيات القرن التاسع عشرَّ ، مثاال ً
لنأخذ ً
أثر خامل قبل إطالق منو اإلنتاجية يف التسعينيات (وهوعاما .كان لثورة احلواسب الشخصية ٌ ينتظره اجلميع يف اإلنتاجية استغرق أربعني ً
كبريا من أيامهم يف الثمانينيات يف تعريف الفأرة أو جعل طابعة ما مل ي ُكن مفاجئًا للمستخدمني األوائل مثلي ،الذين أهدروا جزءًا ً
ولكن املعرفة بكيفية حتقيق االستفادة القصوى من تكنولوجيا القرن احلادي والعشرين رمبا
مصفوفة النقاط تطبع الكتابة باخلط املائل)َّ ،
ترتاكم خلف ٍ
سدود حىت تنفجر مندفعةً قريبًا.
يصر مراقبو التكنولوجيا -على عكس ممارسي العلم الكئيب (علم االقتصاد) -أنَّنا على مشارف عصر الوفرة .شبَّه بيل جيتس
التكهن بالركود التكنولوجي بالتوقُّع (اخلاطئ) يف عام َّ 1913
بأن احلرب أصبحت بالية ،وكتب رائد األعمال يف جمال التقنية بيرت ُّ
ديامانديس ( )Peter Diamandisوالصحايف ستيفن كوتلر )ُ« :(Steven Kotlerتيل عاملا به تسعة مليارات شخص،
ً
لديهم مياه نظيفة وطعام ٍّ
مغذ وإسكان ميسور التكلفة وتعليم ذو طابع شخصي ورعاية طبية رفيعة املستوى وطاقة واسعة االنتشار غري
ملوثة» .ال تنبع رؤيتهم من خياالت نابعة من مسلسل The Jetsonsبل من صور التكنولوجيا القائمة والناجحة بالفعل أو اليت ِّ
اقرتبت من النجاح.
لنبدأ باملورد الذي ميثِّل -إىل جانب املعلومات -الوسيلة الوحيدة لتفادي اإلنرتوبيا والذي يشغِّل كل شيء آخر حرفيًّا ،وهو الطاقة.
ف كما رأينا يف الفصل العاشر ،ميكن أن يكون اجليل الرابع من الطاقة النووية يف هيئة مفاعالت الوحدات الصغرية آمنًا أمانًا سلبيًّا،
أجل غريومزوًدا بالوقود الذي يكفيه إىل ٍ ومضادا لالنتشار ،وال خيلِّف أي نفايات ،وينتج على ٍ
نطاق واسع ،ويتطلَّب صيانة بسيطةَّ ، ُ ً
مسمى ،وأرخص من الفحم .وميكن أن تكون األلواح الشمسية املصنوعة من أنابيب الكربون النانوية أكثر كفاءة من األلواح الكهروضوئية
احلالية مبئة ضعف ،ممَّا حيقِّق االستمرارية لقانون مور للطاقة الشمسية ،وميكن ُتزين طاقتها يف بطاريات معدنية سائلة ،فالبطارية حبجم
حاوية شحن ميكنها نظريًّا تشغيل حي كامل ،وبطارية حبجم متجر ووملارت ميكنها تشغيل مدينة صغرية ،وتستطيع األلواح الذكية مجع
ِ
أيضا ،إذ
روحا جديدة يف الوقود األحفوري ً الطاقة حيثما ومىت تولَّدت وتوزيعها حيثما ومىت ُوجدت حاجة هلا .رمبا تبث التكنولوجيا ً
بدال من اإلسراف يف غلي املياه ،مث ٍ
انبعاثات العوادم يف تشغيل التوربني مباشرةً ً يستخدم تصميم جديد ٍ
حملطة تعمل بالغاز وال تصدر ٌ
يعزل ثاين أكسيد الكربون وحيجزه حتت األرض.
بات أقوى قد ينتج كلٌّ من التصنيع الرقمي ودمج تكنولوجيا النانو والطباعة ثالثية األبعاد والتصنيع السريع للنماذج األولية مرَّك ٍ
وأرخص من الصلب واخلرسانة وميكن طباعتها يف املوقع من أجل بناء املنازل واملصانع يف العامل النامي .ميكن للرتشيح النانوي تنقية املياه
من مسبِّبات األمراض واملعادن ،بل وحىت األمالح ،واملراحيض اخلارجية عالية التقنية ال تستلزم أي توصيالت وحتول الفضالت البشرية
جمسات رخيصة ورقائق ذات ذكاء اصطناعي من إىل مساد ومياه شرب وطاقة .قد خيفِّض الري الدقيق وشبكات املياه الذكية باستخدام َّ
إن حمصول األرز املعدَّل جينيًّا ليحل مسار ك 4للبناء الضوئي يف الذرة وقصب السكر استهالك املياه مبقدار يرتاوح بني الثُلث والنصفَّ .
ويتحمل درجات احلرارةَّ كثريا من السماد،
حمل مسار ك 3غري الكايف أكرب بنسبة 50يف املئة ،ويستخدم نصف مقدار املياه وكمية أقل ً
األعلى ،والطحالب املعدَّلة جينيًّا بوسعها سحب الكربون من اجلو وإفراز الوقود احليوي .تستطيع الطائرات بدون طيار رصد السكك
احلديدية وخطوط األنابيب البعيدة على مسافة أميال وتستطيع توصيل املعدات الطبية وقطع الغيار إىل اجملتمعات املعزولة ،وميكن أن
تتوىل الروبوتات املهام اليت يكرهها البشر مثل استخراج الفحم وتعبئة الرفوف وترتيب السرير.
مرض من بني مئات األمراض من شرحية بأخذ عينة من السوائل واكتشاف أي ٍ ويف اجملال الطيب ،قد يقوم جهاز املعمل احملمول يف ٍ
بدقة أكرب من احلاسة السادسة لدى األطباء عرب معاجلة البيانات سيشخص الذكاء االصطناعي األمراض ٍ ِّ نقطة دم أو لعاب فقط.
املوجودة يف اجلينوم واألعراض والتاريخ املرضي ،وسيصف األدوية اليت تناسب الكيمياء احليوية الفريدة لدينا .بوسع اخلاليا اجلذعية تعديل
أمراض املناعة الذاتية مثل التهاب املفاصل الروماتويدي والتصلب املتعدِّد ،وميكنها أن تسكن أعضاء اجلثث أو األعضاء املزروعة يف
احليوانات أو النماذج املطبوعة ثالثية األبعاد اليت حتتوي على أنسجتنا .وميكن أن ُخي ِمد تدخل احلمض النووي الريبوزي اجلينات الضارة
كاجلني الذي ينظِّم مستقبِل إنسولني الدهون ،وميكن تضييق نطاق عالجات السرطان لتصبح موجهة حنو بصمة الورم اجلينية الفريدة
بدال من تسميم كل خلية منقسمة يف اجلسم. ً
ميكن أن يتحول التعليم العاملي ،فمعارف العامل أصبحت متاحة بالفعل ملليارات األشخاص حاملي اهلواتف الذكية يف موسوعات
املتطوعون (مثل فريق Grannyوحماضرات وتدريبات وجمموعات بيانات .ميكن توفري التدريس اخلاص عرب اإلنرتنت الذي يقدِّمه ِّ
)Cloudلألطفال يف العامل النامي ويقدِّمه معلِّمو الذكاء االصطناعي للدارسني يف أي مكان.
إن االبتكارات اجلاري تطويرها ليست جمرد قائمة أفكا ٍر لطيفة ،فهي ناجتة عن التطور التارخيي الذي أُطلِق عليه النهضة اجلديدةَّ
مدفوعا بالطاقةَّ ،
فإن العصر الثاين مدفوع باملورد ً وعصر اآللة الثاين .بينما كان عصر اآللة األول الذي ُولِد من رحم الثورة الصناعية
اآلخر املضاد لإلنرتوبيا ،وهو املعلومات .ينبع األمل الثوري فيها من االستخدام املفرط للمعلومات يف توجيه كل أشكال التكنولوجيا
األخرى ،ومن التحسني املتزايد لتكنولوجيا املعلومات نفسها ،مثل طاقة احلواسب اآللية وعلم اجلينوم.
أيضا من االبتكارات يف عملية االبتكار نفسها ،أحدها إتاحة منصات االبتكار مثل واجهات يأيت الوعد بعصر اآللة اجلديد ً
قادرا على صنع التكنولوجيا العالية بنفسه .وثانيها ظهور
برامج التطبيقات والطابعات ثالثية األبعاد للعامة ،وهو ما قد جيعل أي شخص ً
فبدال من كتابة الشيكات من أجل احلصول على حق تسمية قاعات احلفالت ،يستخدم هؤالء براعتهم فاعلي اخلري يف جمال التكنولوجياً ،
وصالهتم ومطالبهم يف إجياد ح ٍ
لول للمشكالت العاملية .وثالثها التمكني االقتصادي ملليارات األشخاص عرب اهلواتف الذكية والتعليم ِ
عرب اإلنرتنت والتمويل الصغري .يتمتع مليون شخص من بني املليار األفقر يف العامل مبعدل ذكاء عبقريُ ،تيَّل كيف سيكون العامل لو
استُغلِّت قدراهتم العقلية على أكمل وجه!
أكيدا َّ
ألن النمو االقتصادي ال يعتمد على التكنولوجيا املتاحة هل سيُخرِج عصر اآللة الثاين االقتصادات من ركودها؟ ليس هذا ً
أيضا على مدى ُحسن تكريس الدولة رأس ماهلا البشري واملايل الستخدام هذه التكنولوجيا ،وحىت لو مت استغالل فحسب ،بل يعتمد ً
هذه التكنولوجيا على أكمل وجه ،فرمبا ال تندرج منافعها ضمن اإلجراءات االقتصادية املعيارية .الحظ الفنان الكوميدي بات بولسن
( )Pat Paulsenأنَّنا «نعيش يف ٍ
دولة كل شيء فيها ضخم حىت الناتج احمللي اإلمجايل» .يتَّفق أغلب االقتصاديني على َّ
أن الناتج
القومي اإلمجايل (وقريبه الناتج احمللي اإلمجايل) مؤشر إمجايل على االزدهار االقتصادي ،فهو يتمتَّع مبيزة سهولة قياسه ،ولكنَّه ليس مثل
يد إىل أخرى يف إنتاج السلع واخلدمات .لطاملا أربكت مشكلة العالوات اليت يستمتع هبا الناس ألنَّه جمرد سجل لألموال اليت تنتقل من ٍ
فائض املستهلك أو مفارقة القيمة عملية القياس الكمي للرخاء (الفصل الثامن والتاسع) وتزيد االقتصادات احلديثة من حدة املشكلة.
اجملمعة مثل نصيب الفرد من الناتج احمللي اإلمجايل ومشتقاته مثلأن« :اإلحصاءات َّ يذكر جويل موكري (َّ )Joel Mokyr
إن مصممة لتناسب اقتصاد الصلب والقمح ،ال اقتصاد ِّ
تشكل فيه املعلومات والبيانات القطاع األكثر ديناميةًَّ ، إنتاجية عوامل اإلنتاجَّ .
تصميم كث ٍري من السلع واخلدمات اجلديدة مكلِّف ،ولكن مبجرد جناحها ،ميكن تقليدها بتكلفة منخفضة للغاية أو دون تكلفة ،يعين
ذلك َّأهنا تُسهم غالبًا يف الناتج القابل للقياس بالقليل حىت لو كان أثرها يف رفاهة املستهلك ٌ
كبري جدًّا» .ينفي ُّ
احلد من استخدام املواد
كبريا عن املنزل يف الذي نظرنا فيه يف الفصل العاشر على سبيل املثال املالحظة القائلة َّ
بأن املنزل يف عام 2015ال يبدو خمتل ًفا اختالفًا ً
يكمن الفرق الكبري فيما ال نراه ألنَّه أصبح باليًا بفعل أجهزة التابلت واهلواتف الذكية ،إضافةً إىل املعجزات اجلديدة مثل
عام ُ ،1965
بث الفيديوهات واحملادثات عرب برنامج سكايب .وفضالً عن احلد من استخدام املواد ،أطلقت تكنولوجيا املعلومات عملية إلغاء النقود،
املبوبة واألخبار واملوسوعات واخلرائط والكامريات
فكثري من األشياء اليت اعتاد الناس أن يدفعوا مقابلها جمانية اآلن ،مبا فيها اإلعالنات َّ
وقت مضى ،ولكنَّهاواملكاملات الدولية والنفقات اإلضافية ملتاجر التجزئة التقليدية ،حيث يستمتع الناس هبذه اخلريات اآلن أكثر من أي ٍ
اختفت من الناتج القومي اإلمجايل.
كرست املزيديقة أخرى ،فكلَّما أصبحت اجملتمعات احلديثة أكثر إنسانيةًَّ ، افرتقت الرفاهة البشرية عن الناتج القومي اإلمجايل بطر ٍ
مقال حديث يف صحيفة وول سرتيت جورنال عن الركود من ثروهتا ألشكال حتسني أحوال البشر غري حمدَّدة بسع ٍر يف السوق .ذكر ٌ
االقتصادي أنَّه قد مت توجيه نسبة متنامية من جهود االبتكار حنو هو ٍاء أنظف وسيارات أكثر أمانًا وأدوية لعالج األمراض املهملة اليت
عموما من البحث والتطوير من 7يف شخص على الصعيد الوطين ،وارتفعت نسبة الرعاية الصحية ً ٍ يصيب كلٌّ منها أقل من مئيت ألف
أن «األدوية من أعراض املئة يف عام 1960إىل 25يف املئة يف .2007وذكر الصحايف املايل الذي كتب هذا املقال يف ٍ
حزن تقريبًا َّ
القيمة املتزايدة اليت تضفيها اجملتمعات املوسرة على حياة اإلنسان..فاألحباث الصحية حتل حمل البحث والتطوير الذي كان من املمكن
منوا أبطأ يف السلع واخلدمات أن يتوجه حنو املزيد من املنتجات االستهالكية العادية .تفرض القيمة املتزايدة حلياة اإلنسان بالطبع ً
االستهالكية االعتيادية ،واليت ِّ
تشكل اجلزء األكرب من الناتج القومي اإلمجايل القابل للقياس» .التفسري الطبيعي َّ
أن هذه املفاضلة دليلٌ
خيريك بني حياتك أو نقودك ،على عكس على تسارع التقدُّم ال ركوده ،فاجملتمعات احلديثة لديها ردٌّ سريع على طلب اللص عندما ِّ
*
الكوميديان احلريص جاك بيين (.)Jack Benny
كثريا للتقدُّم البشري ،وهو حركة سياسية تسعى إىل تقويض أسسها التنويرية ،إذ شهد العقد الثاين من القرن احلادي يوجد هتديد خمتلف ً
والعشرين هنوض حركة مضادة للتنوير تُدعى الشعبوية ،أو بتعب ٍري أدق ،الشعبوية السلطوية .تدعو الشعبوية إىل السيادة املباشرة «للشعب»
يوجه جتارهبم وفضائلهم األصيلة بصورةٍ مباشرة. جمسدا يف ٍ
قائد قوي ِّ (الذي يكون عادةً مجاعة عرقية ،وأحيانًا طبقة ما)ً َّ ،
ميكن اعتبار الشعبوية مقاومة من بعض عناصر الطبيعة البشرية مثل القبلية والسلطوية والشيطنة والتفكري الصفري ضد املؤسسات
بدال من الفرد ،ال يوجد مكان فيها حلماية حقوق األقلية أو تعزيز رفاهة صممت للتحايل عليها .برتكيزها على القبيلة ً التنويرية اليت ُ
بأن املعرفة اليت وصلنا إليها بشق األنفس هي سر تقدم اجملتمع فهي تُشوه مسعة «النُخب» و«اخلرباء» وتقلل منالبشر ،وبعدم اعرتافها َّ
قيمة سوق األفكار مبا فيها حرية التعبري واختالف الرأي والتحقق من صدق املطالب اليت ُتدم املصاحل الذاتية ،وبتقدير القائد القوي
تتجاهل الشعبوية قصور الطبيعة البشرية وتستخف باملؤسسات احملكومة بالقانون والضوابط الدستورية اليت حتد من سلطة البشر املعيبني
بطبعهم.
للشعبوية عدة صور منها اليميين ومنها اليساري وتشرتك مجيعها يف نظرية فلكلورية لالقتصاد بوصفه منافسة صفرية ال بد فيها من
*الذي تعرا ض له في أحد المشاهد في برنامجه الكوميدي لصٌّ خياره بين حياته وماله ،فسكت جاك ،فأعاد عليه اللص السؤال فصرخ جاك في وجهه
ً
قائال« :إ انني أف ِّكر في األمر».
رابح وخاسر بني الطبقات االقتصادية عند اليسار وبني الدول أو اجلماعات العرقية عند اليمني .ال يُنظر إىل املشاكل على أهنا حتديات
أصال ،فالشعبوية حتمية يف عا ٍمل غري ٍ
مبال وإمنا خمططات شريرة من النخب املاكرة أو األقليات أو األجانبَّ .أما التقدُّم فال تُفكر فيه ً
قائما على الزراعة
تتطلع إىل املاضي عندما كانت البلد متجانسة عرقيًا وأرثوذوكسية ثقافيًا وكانت القيم الدينية هي السائدة واالقتصاد ً
سلعا مادية لالستهالك احمللي والتصدير.
والصناعة اليت أنتجت ً
بعمق أكثرَّ ،أما هنا فسأركز على صعودها األخريسيبحث الفصل الثالث والعشرون يف اجلذور الثقافية للشعبوية السلطوية ٍ
ومستقبلها املحتمل .استقطبت األحزاب الشعبوية (اليمينية منها على األغلب) 13.2%من التصويت السابق على االنتخابات الربملانية
ُ
األوروبية يف عام ( 2016مقارنةً بـ %5.1يف الستينيات) وشاركت يف االئتالفات احلاكمة إلحدى عشرة دولة مبا فيها اجملر وبولندا.
تستطيع األحزاب الشع بوية الدفع بأهدافها حىت مع عدم وجودها يف السلطة وال سيما حثها على استفتاء الربيكست يف عام 2016
عندما صوت %52من الربيطانيني باملوافقة على اخلروج من االحتاد األورويب ،وانتُخب دونالد ترامب يف هذه السنة لرئاسة أمريكا وفاز
بأصوات اجملمع االنتخايب على الرغم من حصوله على أقلية يف التصويت الشعيب ( %46يف مقابل %48حصلت عليها هيالري
كلينتون) .وال يوجد ما يعكس قَـبَلِية الشعبوية ونظرهتا إىل الوراء أكثر من شعار محلة ترامب االنتخابية :لنجعل أمريكا عظيمة مرةً أُخرى.
كنت أكتب الفصول اخلاصة بالتقدُّم ،قاومت الضغط على من قراء املسودات األوىل كي أهني كل فصل هبذا التحذير: بينما ُ
«لكن كل هذا التقدم يف خطر إذا جنح دونالد ترامب يف خطته» .التقدم يف خطر بالتأكيد ،وسواء أكانت سنة 2017متثِّل منعط ًفا
تارخييًا حقًّا أم ال ،فهذه التهديدات تستحق املراجعة خاصةً إذا كانت ستطلعنا على طبيعة التقدم املهدد باخلطر.
حتسنت الحياة والصحة بصورة كبرية بسبب اللقاحات والتدخالت الطبية األخرى اليت جرى فحصها ً
جيدا ،ومن بني نظريات املؤامرة
اليت أيَّدها ترامب االدعاء املفضوح منذ مدة طويلة َّ
بأن املواد احلافظة املوجودة يف اللقاحات تصيب بالتوحد .ومت ضمان املكتسبات عن
نطاق واسع ،وقد سعى لتشريع سيسحب التأمني الصحي من عشرات املاليني من األمريكيني، طريق إتاحة الوصول للرعاية الطبية على ٍ
وهو انتكاسة للنزعة السائدة باجتاه اإلنفاق االجتماعي النافع.
نتجت التطورات فيما خيص الثروة عن عوملة االقتصاد وهي مدعومة بشكل كبري بالتجارة الدولية ،وترامب شخص محائي يرى التجارة
ابح وخاس ٍر ،ويسعى لفض مجيع اتفاقات التجارة الدولية.
الدولية على أهنا منافسة صفرية بني الدول ال بد فيها من ر ٍ
سيحرك منو الثروة كلٌّ من :االبتكارات التكنولوجية والتعليم والبنية التحتية وزيادة القوة الشرائية للطبقات الدنيا واملتوسطة ووضع قيود
على احملسوبية وحكم األثرياء الذي يشوه تنافسية السوق ووضع قواعد تنظيمية للشؤون املالية ُتفض من احتمالية حدوث فقاعات
واهنيارات اقتصادية .إضافةً إىل عدوانية ترامب جتاه التجارة ،فهو غري ٍ
مبال بالتكنولوجيا والتعليم ومؤيد للتخفيضات الضريبية التنازلية
لألثرياء ،بينما يضم أباطرة املال والشركات الكربى إىل حكومته وهم معادون للقواعد التنظيمية دون متييز.
ولالستفادة من املخاوف من انعدام المساواة ،شيطن ترامب صورة املهاجرين والشركاء التجاريني بينما جتاهل املعرقل األساسي لتوظيف
وحتديدا الضرائب
ً بنجاح غالبًا من أضرار هذا التغري،
أيضا اإلجراءات اليت حتد ٍالطبقات املتوسطة الدنيا وهو التغري التكنولوجي ،وعارض ً
التصاعدية واإلنفاق االجتماعي.
انتفعت البيئة من القواعد املنظِّمة لتلوث اهلواء واملاء الذي تزامن مع زيادة السكان والناتج احمللي اإلمجايل والسفر ،ويعتقد ترامب َّ
أن
مدمرة اقتصاديًا واألسوأ من ذلك أنه قال َّ
إن التغري املناخي جمرد خدعة وأعلن االنسحاب من اتفاقية باريس القواعد التنظيمية البيئية ِّ
التارخيية.
أيضا بصورة هائلة بفعل اللوائح الفيدرالية اليت يزدريها ترامب وحلفاؤه بشكل عميق ،فبينما يُعرف ترامب حبفظ النظام حتسن األمان ً
وتطبيق القانون ،لكنَّه غري مهتم بأي سياسة مبنية على أدلة متيز بني إجراءات مكافحة اجلرمية الفعَّالة وبني الكالم العنيف عدمي الفائدة.
تَرس َخ سالم ما بعد احلرب بالتجارة والديموقراطية واالتفاقيات واملنظمات الدولية والقواعد املناهضة للغزو.
معجب بفالدميري
ٌ حط ترامب من قدر التجارة الدولية وهدَّد بعدم االلتزام باالتفاقيات الدولية وإضعاف املؤسسات الدولية .فرتامب
بوتني الذي عكس مسار التحول الدميقراطي يف روسيا ،وحاول هدم الدميقراطية يف الواليات املتحدة وأوروبا باهلجمات اإللكرتونية،
وحرك حروبًا أصغر يف أوكرانيا وجورجيا ،وارتكب أحد حمرمات وساعد يف إمتام أكثر حرب مدمرة يف القرن احلادي والعشرين يف سورياَّ ،
ما بعد احلرب وهو الغزو بضمه شبه جزيرة القرم لروسيا ،وتواطأ العديد من أعضاء حكومة ترامب بصورة سرية مع روسيا يف حماو ٍلة لرفع
العقوبات عنها ،مما أضعف إحدى اآلليات األساسية لتطبيق القانون على اخلارجني عن قانون احلرب.
كل من الضمانات الدستورية الصرحية مثل حرية الصحافة ،واملعايري املشرتكة وخاصة معايري القيادة السياسية تعتمد الديمقراطية على ٍّ
السلطة .اقرتح ترامب ُتفيف قوانني التشهري بدال من رغبة القائد صاحب الكاريزما يف ُ اليت حيددها القانون واملنافسة السياسية السلمية ً
ضد الصحفيني وشجع على العنف يف جتمعاته االنتخابية ضد منتقديه ومل يكن ليلتزم بنتيجة انتخابات 2016لو مل تكن يف صاحله،
وحاول التشكيك يف مصداقية فرز التصويت الشعيب الذي مل يكن يف صاحله ،وهدد بسجن منافِسته يف االنتخابات وهاجم شرعية
النظام القضائي عندما اعرتض على قراراته ،أي لديه مجيع السمات املميزة للدكتاتور .تعتمد قدرة الدميوقراطية على التحمل عامليًا بصورة
جزئية على مسعتها يف اجملتمع الدويل ،يف حني أشاد ترامب باحلكام املستبدين يف روسيا وتركيا والفلبني وتايالند واململكة العربية السعودية
ومصر بينما أساء للحلفاء الدميقراطيني مثل أملانيا.
تعرضت مبادئ التسامح واملساواة والمساواة في الحقوق لالنتقاد بشكل كبري أثناء محلته وبداية واليته ،إذ شيطن ترامب املهاجرين
متاما (وحاول فرض حظر جزئي بعد انتخابه مباشرةً) وحط من قدر النساء مر ًارا وسكت من أصول التينية واقرتح حظر هجرة املسلمني ً
عن تعبريات عنصرية ومتحيزة جنسيًّا وسوقية من حلفائه يف التجمعات االنتخابية ،وتقبل الدعم من مجاعات اليمني املتطرف (املؤمنة
عاما معاديني حلركة احلقوق املدنية.
خبريا اسرتاتيجيًّا ومدعيًّا ً
وعني ً
بالتفوق العرقي للبيض) وساوى بينهم وبني منافسيهم َّ
مثارا للسخرية بتكراره نظريات مؤامرة سخيفةجعل ترامب مبدأ المعرفة -وهو أن تكون آراء املرء مبنية على اعتقادات حقيقية مربرةً -
أن اآلالف من مسلمي أن والد السيناتور تيد كروز ( )Ted Cruzشارك يف اغتيال جون كينيدي ،و َّ أن أوباما ُولد يف كينيا ،و َّ
مثلَّ :
مقتوال ،وأنَّه كان يتم التصنت على هواتف أوباما،
أن القاضي أنتونني سكاليا مات ً نيو جريسي احتفلوا باحلادي عشر من سبتمرب ،و َّ
أن ماليني الناخبني غري الشرعيني هم السبب يف خسارته يف التصويت الشعيب والعشرات حرفيًّا من نظريات املؤامرة األخرى .أظهر و َّ
أن %69من تصرحيات ترامب اليت حاولوا التحقق من صحتها كانت «خطأً غالبًا» أو «خطأ» تقصي احلقائق َّ PolitiFact موقع ِّ
أن مجيع البشر يلوون عنق احلقيقة ويكذبون أو «خطأ بصورة فظيعة» .يلوى مجيع الساسة عنق احلقيقة ويكذب مجيعهم أحيانًا (مبا َّ
ولكن تأكيدات ترامب السافرة اليت ميكن فضحها يف احلال (على سبيل املثال أنه فاز يف االنتخابات بأغلبية ساحقة) تُظهر أنَّه أحيانًا)َّ ،
سالحا إلظهار السيطرة وإهانة املنافسني. أرض مشرتكة قائمة على حقيقة موضوعية َّ
وإمنا ً ال يرى اخلطاب العام وسيلةً للعثور على ٍ
فشكك يفأن ترامب دفع يف اجتاهٍ مضاد للقواعد اليت حافظت على العامل من الخطر الوجودي احملتمل للحرب النوويةَّ ،
األمر األخطر َّ
وفكر علنًا يف تشجيع انتشار األسلحة يف ٍ
دول أخرى ،وهدَّد وغرد عن استئناف سباق التسلح النوويَّ ،
حظر استخدام األسلحة النوويةَّ ،
بإلغاء االتفاقية اليت متنع إيران عن صناعة أسلحة نووية .واألسوأ من ذلك كلهَّ ،
أن التسلسل القيادي يعطي للرئيس األمريكي صالحيةً
بأن أي رئيس لن يتصرف بتهوٍر يف مسألة خطرية كهذه،
هائلة الستخدام األسلحة النووية أثناء األزمات بناءً على االفرتاض الضمين َّ
معروف بطبعه املندفع واالنتقامي.
ٌ لكن ترامب
َّ
وال ميكن حىت للمتفائلني بالفطرة توقع اخلري من وراء ذلك ،لكن هل سينقض دونالد ترامب حقًّا (والشعبوية السلطوية عامةً) ما
بناه التقدم خالل ربع ألفية كاملة؟ هناك أسباب لعدم اإلسراع إىل االنتحار بعد .إذا استمرت حركةٌ ما ٍ
لعقود أو قرون ،فهناك على ُ
األرجح قوى خلف حركتها وأطراف كثرية معنية ومهتمة بأال تعكس مسارها.
نظاما ملكيًّا بالتناوب ،فالرئيس يتوىل مسؤولية شبكة موزعة من السلطة (يسميها الشعبويون مل تُصمم الرئاسة األمريكية كي تكون ً
«الدولة العميقة») تدوم أطول من القيادات الفردية وتضطلع بأعمال احلكومة يف ظل معوقات واقعية ال ميكن إزالتها بسهولة عن طريق
مشرعني مسؤولني أمام الناخبني ومجاعات الضغط وقُضاة يودون احلفاظ تصفيق صفوف الشعبويني وال نزوات من يتوىل القيادة .وتتضمن ِّ
على نزاهة مسعتهم ومديرين تنفيذيني وبريوقراطيني وموظفني مسؤولني عن مهام أقسامهم .تضع غرائز ترامب التسلطية مؤسسات
ولكن هذه املؤسسات دافعت عن الدميقراطية على عدة أصعدة ،فقد نبذ جملس الوزراء عالنيةً الدميقراطية األمريكية يف اختبار حتملَّ ،
العديد من تعليقاته وتغريداته وتلميحاته الكريهة ،وأبطلت احملاكم إجراءاته غري الدستورية ،وانشق بعض أعضاء جملس الشيوخ وبعض
وحتقِّق وزارة العدل وجلان الكوجنرس يف عالقة حكومته بروسيا ،وأدان أعضاء الكوجنرس عن حزبه كي يصوتوا ضد تشريعاته املدمرةُ ،
وسرب موظفوهرئيس مكتب التحقيقات الفيدرايل حماولة ترامب ترهيبه علنًا (ممَّا أدى إىل إثارة احلديث عن اهتامه بعرقلة سري العدالة)َّ ،
حقائق تنتقص منه للصحافة الستيائهم ممَّا يرون منه ،وكل هذا خالل األشهر األوىل من واليته.
أيضا احلكومات احمللية وإدارات الواليات األقرب إىل احلقائق امللموسة على األرض ،وحكومات الدول األخرى تقيِّد حركة الرئيس ً
اليت ال ميكن أن نتوقَّع منها أن تضع يف أهم أولوياهتا جعل أمريكا عظيمة مرةً أُخرى ،وأغلب الشركات اليت يعود عليها كلٌّ من السالم
والرخاء واالستقرار بنف ٍع .العوملة على وجه اخلصوص موجة يستحيل على أي حاكم أن يعود هبا إىل اخللف ،العديد من مشاكل البلد
مشاكل عاملية بطبعها مبا فيها اهلجرة واألوبئة واإلرهاب واجلرمية اإللكرتونية وانتشار األسلحة النووية والدول املارقة اليت هتدد سالم العامل
والبيئة .ال ميكن االستمرار يف التظاهر بعدم وجود هذه املشاكل إىل األبد ،وال ميكن حلها سوى بالتعاون الدويل ،وال ميكن إنكار فوائد
العوملة إىل األبد -سلع أرخص وأسواق تصدير أكرب واخنفاض معدالت الفقر العاملية-ومع وجود اإلنرتنت والسفر قليل التكلفة ،فلن
يكون إيقاف تدفق األشخاص وتناقل األفكار (خاصةً بني الشباب كما سنرى) ممكنًا .أما فيما خيص احلرب ضد احلقيقة ،فتتمتَّع مبيزة
ذاتية تساعدها على البقاء وهي َّأهنا ال ُتتفي عندما تتوقف عن اإلميان هبا.
السؤال األهم هو إذا ما كان صعود احلركات الشعبوية -مهما كان الضرر الذي تتسبب فيه على املدى القصري -سيؤدي إىل تغيري شكل
املستقبل -وإذا ما كان «عهد التنوير قد انتهى» كما قالت افتتاحية حديثة جلريدة .Boston Globeهل تعين األحداث اليت
جرت يف َّ 2016
أن العامل يف طريقه إىل العصور الوسطى ح ًقا؟ تسهل املبالغة يف تفسري األحداث األخرية كما يُثبت املتشككون يف
بصباح قارس الربودة.
ٍ التغري املناخي صحة آرائهم
أوال ،ليست االنتخابات األخرية استفتاءً على التنوير ،ففي نظام االحتكار السياسي الثنائي األمريكي ،يبدأ أي مرشح مجهوري بـ
ً
%45من املناصرين على األقل يف سباق ثنائي ،وخسر ترامب يف التصويت الشعيب بنسبة 46إىل ،%48وانتفع من اخلدع االنتخابية
وسوء تقدير من محلة هيالري كلينتون االنتخابية .وغادر باراك أوباما منصبه بنسبة تأييد شعبية تبلغ %58وهو أعلى من املتوسط
للرؤساء املنتهية واليتهم ،وهو الذي نسب الفضل يف خطبة الوداع للتنوير بأنه «اجلوهر األساسي هلذا البلد» ،يف حني توىل ترامب منصبه
بتقييم يبلغ ،%40وهو أقل تقييم على اإلطالق لرئيس جديد ،واخنفض هذا التقييم إىل %34خالل أشهره السبعة األوىل ،وهو يزيد
بالكاد على نصف متوسط تقييمات الرؤساء التسعة السابقني يف نفس املرحلة من واليتهم.
أيضا وإمنا جمرد ردود فعل على قضايا يومية مثرية للعواطف ،ومن مقياسا لاللتزام باإلنسانية العاملية ً
االنتخابات األوروبية ليست ً
هذه القضايا املثارة يف اآلونة األخرية :عملة اليورو (واليت تثري شكوك العديد من االقتصاديني) واللوائح التدخلية من بروكسل والضغط
لقبول أعداد كبرية من الالجئني من الشرق األوسط يف نفس وقت تصاعد اخلوف من اإلرهاب اإلسالمي بفعل اهلجمات املروعة (على
الرغم من عدم تناسب اخلوف مع اخلطورة) .رغم ذلك ،مل ت ُفز األحزاب الشعبوية سوى بـ %13من األصوات يف السنوات األخرية
عددا مساويًا ملا فازوا به من املقاعد يف اجملالس التشريعية .يف السنة اليت تلت صدميت ترامب والربيكست ،نُبذ اجلناح األمينوخسروا ً
الشعبوي يف االنتخابات يف هولندا واململكة املتحدة وفرنسا -حيث أعلن الرئيس اجلديد إميانويل ماكرون َّ
أن أوروبا «تنتظر منَّا الدفاع
عن روح التنوير املهددة يف أماكن عدة».
لكن األهم من األحداث السياسية اليت وقعت يف منتصف العقد األول من القرن احلادي والعشرين هي االجتاهات االجتماعية
عززت من الشعبوية السلطوية ،واليت قد تتنبأ مبستقبلها.
واالقتصادية اليت َّ
إن اخلاسرين اقتصاديًا من العوملة (وهم الطبقات الدنيا يف الدول كثريا ما يُقال َّ
ُتلق التطورات التارخيية اإلجيابية راحبني وخاسرين ،و ً
لكن احملللني دقَّقوا يف نتائج
كاف لتفسري صعود احلركة يف رأي احلتميني االقتصادينيَّ .الغنية) هم مؤيدو الشعبوية السلطوية ،وهذا سبب ٍ
صوت الناخبون من أن التفسري االقتصادي خطأ ،إذ َّ االنتخابات كما يفحص احملققون احلطام يف موقع حادث طائرة ،وقد تبني لنا اآلن َّ
إن «االقتصاد» هو دخال لصاحل هيالري كلينتون يف االنتخابات األمريكية بنسبة 52إىل ،42كما فعل من يقولون َّ الفئتني األقل ً
دخال لصاحل ترامب ،وحدد املصوتون لصاحل ترامب أن القضايا األكثر وصوت أكثرية الناخبني من األربع فئات األعلى ً القضية األهمَّ ،
أمهية هي «اهلجرة» و«اإلرهاب» وليس «االقتصاد».
أظهرت التحليالت خيوطًا أكثر مبشرة باخلري .بدأ مقال كتبه اإلحصائي نيت سيلفر ( )Nate Silverبالتايل« :أحيانًا يكون
التحليل اإلحصائي صعبًا ،وأحيانًا تكون النتائج واضحة وضوح الشمس» ،ظهرت هذه النتائج الواضحة يف عنوان املقال« :التعليم،
صنع هذا الفارق الكبري؟ هناك تفسريان غري مثريين لالهتمام ،أحدمها وليس الدخل ،تنبأ مبن سيصوت لرتامب» .كيف ميكن للتعليم ُ
مؤشرا على األمان االقتصادي أفضل من مستوى أن التعليم رمبا يكون ًأن ذوي املستوى العايل من التعليم يتبعون الفريق الليربايل ،والثاين َّ
َّ
ٍ
ألشخاص من أعراق وثقافات عرض الناس يف مرحلة البلوغ املبكرة الدخل احلايل .هناك تفسري أكثر إثارةً لالهتمام وهو َّ
أن التعليم يُ ِّ
تصعب شيطنتهم .والتفسري األكثر إثارًة لالهتمام على اإلطالق هو احتمالية َّ
أن التعليم يغرس يف الناس احرتام احلقائق أخرى بطريقة ِّ
املفحوصة واجلدال باملنطق ،عندما يكون التعليم كما ينبغي له أن يكون ،وهبذا حيمي الناس من نظريات املؤامرة والنقاش بالنوادر
والدمياغوجية العاطفية.
متاما بالتوزيع الدميوغرايف للبطالة أو الديانة أو ملكية األسلحة أو أيضا َّ
أن التوزيع الدميوغرايف ملؤيدي ترامب ال يقرتن ً وجد سيلفر ً
نسبة املهاجرين ،ولكنَّه يتوافق مع التوزيع الدميوغرايف للبحث عن كلمة niggerيف حمرك حبث جوجل ،وهو مؤشر موثوق للعنصرية
ولكن
أن معظم مؤيدي ترامب عنصريونَّ ، طب ًقا ملا أوضحه سيث ستيفنز ديفيدويتز (كما رأينا يف الفصل اخلامس عشر) .ال يعين هذا َّ
متحولة إىل كراهية وانعدام ثقة ،ويشري هذا التقاطع إىل أن املناطق اليت سامهت يف فوز ترامب يف اجملمع
العنصرية املعلنة ُتفت تدرجييًا ِّ
االنتخايب هي املناطق األكثر مقاومة للعملية املمتدة لعقود لدمج مصاحل األقلية وتعزيزها (وخاصةً التمييز اإلجيايب على أساس العرق،
والذي يرونه على أنه متييز عكسي ضدهم).
كان التشاؤم هو املؤشر األكثر ثباتًا على دعم ترامب ضمن أسئلة استطالع الرأي اليت فحصت املواقف العامة ،إذ شعر %96
أيضا من أسلوب احلكومة الفيدرالية يف تسيري
من مؤيدي ترامب أن البلد ُترج «عن مسارها الصحيح بصورة خطرية» وكانوا متشائمني ً
األمور وقلقني على حياة اجليل القادم من األمريكيني.
على اجلانب اآلخر من احمليط ،رصد عاملا السياسة رونالد إجنلهارت وبيبا نوريس أمناطًا مشاهبة يف حتليلهما لـ 268حزبًا سياسيًا
دورا يف البيانات الرمسية لألحزاب أصغر من دور القضايا غري االقتصادية. أن القضايا االقتصادية لعبت ً يف 31دولة أوروبية ،ووجدا َّ
أيضا على توزيع الناخبني ،إذ ال يأيت التأييد األقوى لألحزاب الشعبوية من العمال اليدويني َّ
وإمنا من «الطبقة الربجوازية ينطبق هذا ً
الصغرية» (احلرفيني املستقلني وأصحاب املشاريع الصغرية) يليهم رؤساء العمال والفنيون .الناخبون الشعبويون أكرب سنًا وأكثر تدينًا وأقل
تعليما ويغلب عليهم الطابع الريفي ،وُهم غالبًا من الذكور وينتمون إىل األغلبية العرقية ،ويتبنون القيم السلطوية ،ويعتربون أنفسهم من ً
تعليما ويغلب
ً أقلو اًسن أكرب اأيض
ً الربيكست لصاحل املصوتون كان الوطنية.
و العاملية احلكومة و افدة
و ال اهلجرة ويكرهون السياسي اليمني
صوت %66من احلاصلني على التعليم الثانوي لصاحل اخلروج ،يف حني مل يؤيِّد اخلروج سوى عليهم الطابع الريفي ممَّن صوتوا ضده :إذ َّ
%29فقط من احلاصلني على شهادات جامعية.
أن داعمي السلطوية الشعبوية هم اخلاسرون ثقافيًا وليس اقتصاديًا فقط .فالناخبون الذكور املتدينونتوصل إجنلهارت ونوريس إىل َّ
َّ
تعليما « يشعرون بأهنم أصبحوا غرباء عن القيم السائدة يف بلدهم ويشعرون بأهنم متخلفون عن الركب املنتمون لألغلبية العرقية واألقل ً
متخضت عن رد فعل مناهض نتيجة التغري الثقايف الذي ال يتفقون معه..يبدو َّ
أن الثورة الصامتة اليت انطلقت يف سبعينيات القرن العشرين َّ
للثورة يف الوقت احلايل» .أبرز بول تايلور ( )Paul Taylorاحمللل السياسي مبركز بيو لألحباث نفس التيار املعاكس يف نتائج استطالع
مقتنع هبا». لكن هذا ال يعين َّ الرأي األمريكية« :هناك توجه عام حنو الليربالية يف ٍ
أن البلد بأكمله ٌ عدد من القضايا و َّ
أن مصدر رد الفعل العكسي الشعبوي قد يكون تيارات احلداثة اليت جتتاح العامل منذ بعض الوقت -العوملة والتعددية العرقية ومع َّ
فإن جناحه انتخابيًّا يعتمد على وجود قائد يستطيع توجيه هذه الكراهية يف اجتاهٍ ومتكني النساء والعلمانية والتوسع احلضري والتعليمَّ -
ما ،لذا قد خيتلف مدى القبول الذي تتلقاه الشعبوية يف الدول املتجاورة ذات الثقافات املتشاهبة ،فاجملر أكثر تقبُّ ًال للشعبوية من مجهورية
التشيك ،والنرويج أكثر من السويد ،وبولندا أكثر من رومانيا ،والنمسا أكثر من أملانيا ،وفرنسا أكثر من إسبانيا ،والواليات املتحدة أكثر
مشرعون من األحزاب الشعبوية إطالقًا).
من كندا (ليس لدى إسبانيا وكندا والربتغال ومجهورية التشيك ِّ
ستتطور التوترات القائمة بني النزعة اإلنسانية الليربالية العاملية التنويرية اليت جتتاح العامل منذ ٍ
عقود والشعبوية الرجعية السلطوية َّ كيف
القبلية اليت تقاومها؟ من املستبعد أن تسري القوى الرئيسية اليت أدت على مدى طويل إىل الليربالية -احلراك وسهولة التواصل والتعليم
والتوسع احلضري -يف االجتاه العكسي ،وكذلك مطالبة النساء واألقليات العرقية باملساواة.
أن الشعبوية حركة لكبار السن. ولكن أحدها يقيين كـ «املوت والضرائب» ،وهي َّ كل هذه التحذيرات بالتأكيد جمرد ُتميناتَّ ،
أن الدعم املوجه ملا ميثل تفاقمها -ترامب وخروج بريطانيا من االحتاد األورويب واألحزاب األوروبية الشعبوية- ويظهر الشكل رقم َّ 1-20
ينخفض بصورة هائلة مع صغر السن (تتكون حركة اليمني البديل -اليت تتقاطع مع الشعبوية -من أعضاء صغار السن ،ورغم مسعتها
ألهنا تتكون من حوايل 50ألف شخص فقط أو %0.02من عدد السكان األمريكيني) .ليس السيئة َّإال َّأهنا ليس هلا وجود انتخايب َّ
مثريا للدهشة ألنَّنا كما رأينا يف الفصل اخلامس عشر فقد كان كل جيل من مواليد القرن العشرين أكثر تساحمًا وليرباليةً هذا االخنفاض ً
من اجليل الذي سبقه (ويف نفس الوقت أصبحت كل األجيال أكثر ليربالية) ،ويزيد هذا من احتمالية اختفاء السلطوية الشعبوية مع
رحيل اجليل الصامت وجيل طفرة املواليد األكرب سنًا.
نسبة المصوتين لصالح ترامب أو لخروج المملكة المتحدة من االتحاد األوروبي
ترامب
األحزاب
األوروبية
الشعبوية
ا ل ش ك ل رق م : 1 - 2 0د ع م ا ل ش ع ب وي ة ع رب ا أل ج ي ا ل 2 0 1 6 ،
المصادر :ترامب :استطالعات الرأي اليت أجرهتا شركة إديسون لألحباث )New York Times ،(Edison Research
.2016خروج المملكة المتحدة من االتحاد األوروبي (الربيكست) :استطالعات الرأي اليت أجراها اللورد آشكروفت ( Lord
BBC News Magazine, June 24, 2016, ،Ashcroft )Polls
.http://www.bbc.com/news/magazine-36619342األحزاب األوروبية الشعبوية (:)2014–2002
.Inglehart & Norris 2016, fig. 8البيانات اخلاصة بكل فئة عمرية حمددة عند منتصف مداها.
ال تدل التوجهات السياسية ألجيال احلاضر على سياسات املستقبل بالطبع إذا كان الناس يغريون مبادئهم مع تقدمهم يف العمر،
رمبا ال متلك أي مشاعر إذا كنت شعبويًا يف سن اخلامسة والعشرين وإذا مل تكن شعبويًا يف سن اخلامسة واألربعني فليس لديك عقل
(كما يقول امليم عن الليرباليني واالشرتاكيني والشيوعيني واليساريني واجلمهوريني والدميقراطيني والثوريني وقد نُسب قول هذا امليم إىل
العديد من املشاهري مثل فيكتور هوجو وبنجامني دزرائيلي وجورج برنارد شو وجورج كليمنصو Georges Clemenceauوونستون
عمن قاله (وهو على األرجح رجل القانون أنسليم باتيب Anselme Batbieوالذي عزاه تشرشل وبوب ديالن) .لكن بغض النظر َّ
إلدموند بريك Edmund Burkeبدوره) وبغض النظر عن النظام العقائدي الذي ينطبق عليه ،فاالدعاء بوجود تأثري لدورة احلياة
على التوجه السياسي ادعاء خاطئ ،فكما رأينا يف الفصل اخلامس عشر ،فإن الناس حيتفظون بقيمهم التحررية مع تقدُّمهم يف السن وال
ينزلقون إىل التوجهات املعادية لليربالية .وقد أظهر حتليل حديث للناخبني يف القرن العشرين أجراه عاملا السياسة يائري غيتزا ( Yair
أن األمريكيني ال يصوتون لصاحل الرؤساء احملافظني مع تقدمهم يف السن ،إذ )Ghitzaوآندرو جيلمان (َّ )Andrew Gelman
تتأثر التفضيالت االنتخابية للناخبني بشعبية الرؤساء الذين يتولون احلكم خالل حياهتم وتبلغ ذروة هذا التأثري يف الفرتة العمرية بني 14
عاما ،ومن املستبعد على الشباب الذين يرفضون الشعبوية اليوم أن يعتنقوها يف املستقبل.
وً 24
كيف ميكن للمرء مواجهة خطر الشعبوية على قيم التنوير؟ ليس انعدام األمن االقتصادي هو الدافع ،لذا َّ
فإن اسرتاتيجيات احلد
من انعدام املساواة يف الدخل واحلوار مع عمال صناعة الصلب املسرحني وحماولة الشعور بآالمهم لن تكون فعَّالة على األرجح مع أهنا
ُ
أن رد الفعل الثقايف العكسي هو أحد الدوافع ،لذا فتجنب اخلطابات االستقطابية والرمزية وسياسات اهلوية قد تستحق اإلشادة .يبدو َّ
يساعد على جذب الناخبني الذين ال يعرفون إىل أي فر ٍيق ينتمون أو على األقل عدم تنفريهم (سنخوض يف هذه املسألة ٍ
بعمق أكثر يف
تأثريا يتجاوز حجم املنتمني إليها ،فقد يساعد إصالح املخالفات أن احلركات الشعبوية قد حققت ً الفصل احلادي والعشرين) .مبا َّ
االنتخابية مثل التزوير االنتخايب وأشكال التمثيل غري املتكافئ والذي يزيد من تأثري املناطق الريفية (مثل اجملمع االنتخايب للواليات
بدال من ربطها باألخطاء التافهة
املتحدة) ،وقد تساعد كذلك التغطية الصحفية اليت تربط شعبية املرشحني بسجلهم من الدقة واالتساق ً
والفضائح .سيتالشى جزءٌ من املشكلة على املدى الطويل مع التوسع احلضري ،فال تستطيع أن تبقيهم يف املزرعة ،وسيتالشى جزءٌ آخر
بالعوامل الدميوغرافية .وكما قيل عن العلم ،يتقدم اجملتمع أحيانًا جنازًة تلو األخرى.
جدا من السكان ممن هدَّدت نتيجة
هناك لغز بشأن تصاعد السلطوية الشعبوية وهو ملاذا مل تشارك يف االنتخابات قطاعات كبرية ً
االنتخابات مصاحلهم أكثر من غريهم مثل الشباب الربيطاين أثناء استفتاء خروج بريطانيا من االحتاد األورويب واألمريكيني من أصول
إفريقية والالتينيني وجيل األلفية من األمريكيني أثناء انتخاب ترامب .يعود بنا هذا إىل موضوع أساسي من موضوعات هذا الكتاب وإىل
وصفيت الصغرية لتدعيم تيار اإلنسانية التنويرية يف مواجهة االنتكاسة األخرية على التنوير.
أن ال شيء ميكنه أن اإلعالم واملثقفني كانا متواطئني مع الصورة الشعبوية للدول الغربية احلديثة َّ
بأهنا ظاملة وخمتلة لدرجة َّ أعتقد َّ
مقاال بعنوان «اقتحم غرفة القيادة أو مت!» وفيه يشبِّه الدولة بالطائرةإصالحها سوى تغيري جذري .كتب أحد الكتاب احملافظني ً
املختطفة يف يوم 11سبتمرب واليت سقطت بسبب مترد أحد الركاب ،قال أحد املدافعني عن اليسار املناصر لـ (سياسة إشعال احلرائق):
بدال من التحرك بالقيادة اآللية
أفضل أن حترتق اإلمرباطورية برمتها حتت ُحكم ترامب مما يفتح الباب أمام تغيري جذري على األقل ً « ِّ
احملررون املعتدلون يف الصحف املنتمية إىل التيار السائد يصفون أمريكا عادةً َّ
بأهنا بؤرة للعنصرية حتت والية هيالري كلينتون» .وحىت ِّ
وانعدام املساواة واإلرهاب واملرض االجتماعي واملؤسسات املتهاوية.
أن البلد عبارة عن مكب نفايات حمرتق فسيتجاوبون مع نداء الزعماء أن الناس إذا صدقوا َّ واملشكلة يف اخلطاب السوداوي َّ
الدمياغوجيني الذي يسأل« :ماذا ستخسر؟» ميكن لإلعالم واملثقفني املساعدة يف اإلجابة على هذا السؤال إذا وضعوا األحداث يف
أن الناس سيخسرون سياقها التارخيي واإلحصائي .تُظهر األنظمة الثورية مثل أملانيا النازية والصني أثناء حكم ماو وفنزويال املعاصرة َّ
الكثري عندما يطأ الزعماء املستبدون ذوو الشعبية على قواعد الدميقراطية ومؤسساهتا أثناء «األزمات» ويسيطرون على بالدهم بقوة
شخصيتهم.
بدال من
مهما ،ولن ُتلو من املشاكل حىت يأيت املسيح ،ولكن من األفضل حل هذه املشاكل ً إجنازا ًّ
تعد الدميقراطية الليربالية ً
إشعال حريق هائل ومتين نشوء شيء ما أفضل من بني العظام واألنقاض .عندما نعجز عن مالحظة فوائد احلداثةُ ،حيرض النقاد
االجتماعيون الناخبني على األمناء املسؤولني واألفراد الذين حياولون اإلصالح تدرجييًّا الذين ميكنهم ترسيخ التقدم اهلائل الذي متتعنا به
وتعزيز األوضاع اليت ستحقِّق لنا املزيد منه.
اصرا باألخبار ،يبدو التفاؤل سذاجة أو كما يقول الكليشيه اجلديد املفضل لدى
يُعترب إقناع الناس باحلداثة حتديًا ألنَّك عندما تكون ُحم ً
انفصاال عن الواقع»،
املثقفني عن النخبة « ً
ولكن يف عا ٍمل بعيد عن أساطري األبطال ،يكون النوع الوحيد من التقدم الذي ميكننا احلصول عليه هو النوع الذي يسهل السهو عنه
أن املثل األعلى من عا ٍمل عادل وحر وصحي ومتكافئ أثناء معايشته ،مثلما أشار الفيلسوف آيزيا برلني ( )Isaiah Berlinإىل َّ
ُ
شخصا
ً نسخا متطابقة ،فما يرضيأبدا هو جمرد خيال ،والناس ليسوا ًمتاما والذي ال ترقى إىل مستواه الدميوقراطيات الليربالية ً
ومتجانس ً
سيُحبِط آخر ،والطريقة الوحيدة للمساواة بينهما هي عدم معاملتهما باملثل ،إضافةً إىل ذلك ،فمن بني شروط احلرية أن تتمتَّع باحلرية
يف إفساد حياتك .تستطيع الدميقراطيات الليربالية إحراز تقدم فقط يف سياق التنازالت الفوضوية واإلصالح املستمر:
هذه هي طبيعة التقدم ،يدفعنا إىل األمام كلٌّ من اإلبداع والتعاطف واملؤسسات النافعة ،وجتذبنا إىل اخللف اجلوانب املظلمة من
الطبيعة البشرية والقانون الثاين للديناميكا احلرارية .ويشرح كيفن كيلي كيف ميكن هلذه اجلدلية أن تؤدي إىل التقدم على الرغم من ذلك:
لكن هذا االختالفجدا منذ بداية التنوير وظهور العلم ،و َّ عاما تلو اآلخر أكثر ممَّا ندمر ٍ
بقليل ً لقد جنحنا يف أن نبين ً
اإلجيايب البسيط ترا َك َم على مر العقود وكون ما ميكن أن نسميه باحلضارة«..فالتقدم» خيفي نفسه بنفسه وال يُالحظ إال يف
ٍ
وقت الحق ،وهلذا أخرب الناس َّ
بأن تفاؤيل الكبري جتاه املستقبل له جذور تارخيية.
أفكار اخلرباء االقتصاديني والفالسفة السياسيني أقوى بكثري ممَّا يظن اجلميع ،سواء أكانت هذه
األفكار صحيحة أو خاطئة ،إذ ال حيكم العامل غريها بالفعل سوى القليل من األفكار األخرى،
عبيدا ملفك ٍر
فالرجال العمليون الذين يظنون أنفسهم غري خاضعني ألي نفوذ فكري يكونون عادةً ً ُ
منقرض ما ،ويستمد اجملانني من أصحاب مراكز السلطة الذين يسمعون أصواتًا من العدم ٍ اقتصاد ٍي
اثق َّ
أن قوة املصاحل اخلاصة مبال ٌغ فيها بشكل كبري مقارنةً قدمي ما ،وأنا و ٌ جنوهنم من ٍ
مؤلف أكادميي ٍ َ
بالزحف التدرجيي لألفكار.
-جون ماينارد كينز )(John Maynard Keynes
األفكار مهمة ،يعيش «اإلنسان العاقل» بذكائه وخيلق وجيمع مفاهيم عن كيفية سري العامل وكيف ميكن أن يعيش أفراده حياهتم بأفضل
أصر على قوة املصاحل الشخصية والذي طريقة .وال يوجد دليل على قوة األفكار أكرب من مفارقة قوة تأثري الفيلسوف السياسي الذي َّ
كتب« :لطاملا كانت األفكار احلاكمة لكل عصر هي أفكار الطبقة احلاكمة» .مل ميتلك كارل ماركس ( )Karl Marxأي ثروة ،ومل
شكلت مسار القرن العشرين وما بعده وغريت حياة دوهنا يف غرفة القراءة يف املتحف الربيطاين َّ
ولكن األفكار اليت َّ
ي ُقد أي جيشَّ ،
مليارات البشر.
يلخص هذا اجلزء من الكتاب دفاعي عن أفكار التنوير .عرض اجلزء األول هذه األفكار وأثبت اجلزء الثاين فعاليتها ،واآلن حان ِّ
الوقت للدفاع عنها ضد بعض األعداء غري املتوقعني ،وال أعين بذلك الشعبويني الغاضبني واألصوليني الدينيني ،بل أقصد طوائف من
التيار الفكري الرئيسي .قد يبدو الدفاع عن التنوير يف وجه أساتذة اجلامعة والنقاد واملثقفني وقرائهم مثالية ساذجة ،ألهنم إذا ُسئِلوا
مشكوك يف أمره ،ولدى العديد منهم انتماءات
ٌ ولكن التزام املثقفني هبذه املبادئ
بصراحة عن هذه املبادئ فلن ينكرها سوى القليل منهمَّ ،
أخرى ،والقليل منهم مستعدون للدفاع عن التنوير .لذا تتالشى مبادئ التنوير تدرجييًّا يف ظل عدم وجود من يدعو إليها وتصبح صهرجيًا
دائما هناك العديد من هذه املشاكل) .أما األفكار غري الليربالية مثل السلطوية والقبليةلكل مشاكل اجملتمع غري احمللولة (وسيكون ً
والتفكري القائم على السحر فهي حترك املشاعر بسهولة وهلا الكثري من األنصار ،فاملعركة بينهما ليست عادلة.
رغم أنَّين أمتىن أن ترتسخ مبادئ التنوير بعمق أك ٍرب يف نفوس اجلمهور عامةً -األصوليني والشعبويني الغاضبني واجلميعَّ -إال أنَّين
حججا موجهة ملن ً ال َّأدعي إتقان فنون السحر األسود مثل إقناع اجلماهري أو احلشد اجلماهريي أو امليمات سريعة االنتشار .وفيما يلي
ألن الرجال والنساء العمليني واجملانني أصحاب مراكز السلطة يتأثرون بطريقة مباشرة أو يهتمون باجلدال ،وقد ُحت ِدث هذه احلجج فارقًا َّ
غري مباشرة بعامل األفكار ،فهم يذهبون إىل اجلامعة ،ويقرؤون اجملالت الفكرية حىت وإن مل يفعلوا ذلك سوى يف غُرف االنتظار يف
ويلخص هلم موظفوهم املشرتكون يف الصحف رفيعة عيادات أطباء األسنان ،ويشاهدون املتحدثني يف الربامج اإلخبارية صباح األحدِّ .
املستوى والذين يشاهدون حماضرات تيد ( )TEDاملعلومات اليت تقدِّمها هذه املنصات ،ويرتددون على منتديات النقاش على اإلنرتنت
اليت تتأثر باإلجياب أو السلب بقراءات املشاركني األكثر ثقافة .تروقين فكرة أنه قد يأيت بعض اخلري إىل العامل إذا كانت أفكار التنوير
مثل املنطق والعلم والنزعة اإلنسانية من األفكار اليت تصل إىل هذه الروافد.
الفصل الحادي والعشرون:
المنطق
االدعاء َّ
بأن «كل شيء ذايت» هراءٌ! إذ إنَّه بنفسه َّإما يكون ذاتيًّا أو موضوعيًّا ،ولكنَّه ال ميكن أن يكون موضوعيًّا أن ِّ ال بد َّ
االدعاءات املوضوعية ،مبا
صحيحا ،وال ميكن أن يكون ذاتيًّا ألنَّه لن يستبعد ِّ ً مبا أنَّه يف هذه احلالة سيكون خاطئًا لو كان
ناحية موضوعية .رمبا يكون هناك بعض الذاتيني الذين قد يلقِّبون أنفسهم بالربمجاتيني ويعرضون االدعاءات اخلاطئة من ٍفيها ِّ
ردا ،مبا َّأهنا لن تكون سوى تقرير ملا يراه الشخص الذايت بأهنا تنطبق حىت على نفسها ،ولكنَّها حينها لن تستدعي ًّ الذاتية َّ
مقبوال ،وإذا دعانا لالنضمام إليه ،فلن حنتاج إىل تقدمي أي سبب منطقي للرفض مبا أنَّه مل يقدم أي سبب منطقي للموافقة. ً
أن حقيقة تساؤل املرء يسمي نيجل أسلوب التفكري هذا بالديكاريت ،ألنَّه يشبه حجة ديكارت «أنا ِّ
أفكر ،إذًا أنا موجود» ،كما َّ ِّ
توضح َّ
أن املنطق موجود .ميكن أن يُطلق عليه أن حقيقة َّ
أن املرء يستخدم األسباب املنطقية ِّ توضح أنَّه موجود ،و َّ
موجودا ِّ
ً عما إذا كان
َّ
حجة ما (وهي تعود بطر ٍ
يقة ما إىل مفارقة أيضا حجة ترانسندنتالية ،حجة تستدعي الشروط املسبقة الضرورية ألداء ما تفعله ،وهو تقدمي ٍ
ً
رجل من كريت يقول« :كل الكريتيني كاذبون») .مهما كان االسم الذي ستطلقه على احلجة، الكاذب القدمية ،اليت كان بطلها ٌ
فسيكون من اخلطأ تفسريها على َّأهنا تربير لـ «اعتقاد» أو « ٍ
إميان» باملنطق ،وهو ما يطلق عليه نيجل« :مبالغة يف التفكري» ،فنحن ال
*سبوك هو إحدى شخصيات سلسلة الخيال العلمي Star Trekوالذي كان هجي ًنا بين البشر والفولكان ،فكان يغلب عليه المنطق أكثر من العاطفة على
عكس ماكوي البشري.
وإمنا نستخدم املنطق (كما أنَّنا ال نربمج حواسبنا اآللية على امتالك وحدة معاجلة مركزيةَّ ،
وإمنا يكون الربنامج سلسلة من نؤمن باملنطقَّ ،
العمليات تتيحها وحدة املعاجلة املركزية).
استنادا إىل املبادئ األوىل ،فبمجرد أن نبدأ
ً رغم َّ
أن املنطق سابق على كل شيء وال حاجة لتربيره (بل وال ميكن تربيره يف احلقيقة)
حلما
سليم مبالحظة اتساقه مع نفسه ومع الواقع .احلياة ليست ً أن نوع التفكري املنطقي الذي نستخدمه ٌ يف تطبيقه ،ميكننا التأكد من َّ
تظهر فيه التجارب غري املرتابطة بتتاب ٍع مربك .ويثبت تطبيق املنطق على العامل صحته بنفسه عن طريق منحنا القدرة على إرضاخ العامل
إلرادتنا ،سواء أكانت هذه اإلرادة هي الشفاء من العدوى أم إرسال ٍ
رجل إىل القمر.
رغم نشأة احلجة الديكارتية من الفلسفة التجريديةَّ ،إال َّأهنا ليست تدريبًا على التحذلق .يعرف اجلميع ،من أكثر التفكيكيني
ٍ
استجابات مثل «ما الذي قد جيعلين أصدِّقك؟» نشرا لنظريات املؤامرة و«احلقائق البديلة» ،قوة
غموضا حىت أكثر معادي الفكر العقالين ً
ً
أو «أثبِت ما تقول» أو «كل ما تقوله هراء!» لن جييب كثريون قائلني« :هذا صحيح ،ليس لديك سبب لتصديقي» ،أو «أجل ،أنا
فعال» ،فمن طبيعة اجلدال أن حياول الناس إثبات كوهنم على حق ،ومبجرد أن اآلن أكذب عليك» ،أو «أتفق معك ،ما أقوله هراء ً
وجي َرب مستمعوهم ،الذين حياولون إقناعهم على االتفاق ،على االتساق والدقة. يفعلوا ،يكونون قد ألزموا أنفسهم باملنطقُ ،
أن طائر القربة أحادي النغمة أخربين ثالثة متتبعني !-نيت و/ويس وبورو//تساو -من منطقة لون تري يف وسط كاهلاري َّ
بأن السماء أمطرت» .وأخربين أحد املتتبِّعنيسعيدا َّ
يغرد سوى بعد املطر ألنَّه «يكون ً ( )Mirafra passerinaال ِّ
يغرد جيفِّف الرتبة ممَّا جيعل اجلذور صاحلة لألكل .بعد ذلك ،أخربين كلٌّ من !نيت و/ويس وامسه بورو/تساو َّ
أن الطائر عندما ِّ
وإمنا الشمس هي اليت تفعل ذلك ،وال يفعل الطائر سوى أن خيربهم أن بورو//تساو خمطئ ،فليس الطائر من جيفِّف الرتبةَّ ، َّ
أن هذا هو الوقت الذي تكون فيه اجلذور صاحلة لألكل..بأن الرتبة ستجف خالل الشهور التالية و َّ
َّ
إن الشمس مثل ظيب أخربين !نامكا ،وهو متتبِّع من بريي يف وسط صحراء كاهلاري يف بوتسوانا ،بأسطورة تقول َّ
إيالند يعرب السماء مث يقتله من يسكنون الغرب ،والوهج األمحر الذي يوجد يف السماء عندما تغرب الشمس هو دم ظيب
مشسا اإليالند ،وبعد أن يأكلوه ،يلقون بعظم الكتف عرب السماء حنو الشرق حيث يسقط يف بر ٍ
مكونًا ًكة وينمو ثانيةً ِّ
جديدة ،ويُقال َّ
إن املرء ميكنه أحيانًا مساع صوت طريان عظم الكتف يف اهلواء .وبعد أن أخربين بالقصة بالتفصيل اململ،
طائرا يف السماء ومل يسمع صوت طريانه مطل ًقا.
أن «القدامى» كذبوا عليهم ،ألنَّه مل َير عظم الكتف ًقال يل إنَّه يظن َّ
أن اإلنسان عرضة لألوهام واملغالطات ،فقدرات أدمغتنا حمدودة يف معاجلة املعلومات،أي من هذا بالطبع مع اكتشاف َّ ال يتعارض ٌّ
ولكن الواقع ِّ
يشكل ضغطًا جبَّ ًارا من أجل االنتقاء، لتقصي احلقائقَّ ، وقد تطورت يف عا ٍمل دون عل ٍم وال دراسة ،ودون الصور األخرى ِّ
فإن النوع الذي يعيش بأفكاره ال بد وأن يكون قد تطور ليحظى بالقدرة على تفضيل األفكار الصحيحة .التحدي املاثل أمامنا اليوم لذا َّ
هو تصميم بيئة معلوماتية تسود أو تتغلب فيها تلك القدرة على القدرات اليت تؤدي بنا إىل احلماقة ،واخلطوة األوىل هي حتديد سبب انقياد
نوع ذكي هبكذا سهولة إىل احلماقات.
ٍ
أيضا ،وهو عصر أصبح الوصول فيه إىل املعلومات غري مسبوق ،دوامات من الال عقالنية ،مبا فيها إنكار شهد القرن احلادي والعشرون ً
التطور وسالمة اللقاحات والتغري املناخي الناتج عن األنشطة البشرية ،وترويج نظريات املؤامرة عن احلادي عشر من سبتمرب ،حىت
نادرا ما حاجة َّ ٍ
ٍ النظريات عن حجم التصويت الشعيب لصاحل دونالد ترامبَّ .
ماسة إىل فهم هذه املفارقة ،ولكنَّهم ً إن أنصار العقالنية يف
تفسرها بسبب بعض الال عقالنية اليت يتَّسمون هبا ُهم أنفسهم. ينظرون يف البيانات اليت قد ِّ
إن التفسري املعتاد جلنون العامة هو اجلهل ،فنظام التعليم متوسط اجلودة قد جعل العامة جاهلني بالعلم ،وواقعني حتت رمحة
احنيازاهتم املعرفية ،ومن مث يكونون غري مسلَّحني يف مواجهة املشاهري األغبياء والقنوات اإلخبارية ومظاهر الفساد األخرى يف الثقافة
الشعبية ،واحلل النموذجي هو التعليم األفضل واملزيد من توعية العلماء للعامة عن طريق التليفزيون ووسائل التواصل االجتماعي واملواقع
كت َّأهنا خاطئة ،أو على األقل ال متثِّل سوى
اإللكرتونية الرائجة .وبصفيت عاملًا أقوم بالتوعية ،فلطاملا أعجبتين هذه النظرية ،ولكنَّين أدر ُ
جزٍء صغ ٍري فقط من املشكلة.
التطور: ِّ
فكر يف هذه األسئلة عن ُّ
أثناء الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر ،غطى السخام الريف اإلنجليزي ،وأصبح لون العثة المفلفلة أغمق ،كيف حدث
ذلك؟
أ) كان على العث أن يصبح داكن اللون حىت ميتزج مع حميطه.
ب) كانت احتمالية تعرض العث داكن اللون لالفرتاس أقل وبالتايل كانت احتمالية تكاثره أكرب.
بعد ٍ
عام ،أصبح متوسط مجموع نتائج االختبارات في إحدى المدارس الثانوية الخاصة أعلى بثالثين نقطة ،ما التفسير لهذا
التغيير المناظر لتفسير داروين لتكيف األنواع؟
أ) مل ُتعد املدرسة تقبل أبناء اخلرجيني األثرياء إال إذا استوفوا املعايري اليت على اجلميع استيفاءها.
ب) منذ االختبارات األخرية ،منت معرفة كل الطالب.
اإلجابتان الصحيحتان مها (ب) و(أ) .أعطى عامل النفس آندرو شتوملان ( )Andrew Shtulmanبعض طالب املرحلة الثانوية
إن التطورواجلامعية جمموعة من األسئلة املماثلة اليت تبحث عن فه ٍم أعمق لنظرية االنتخاب الطبيعي ،وخاصةً الفكرة الرئيسية القائلة َّ
يتشكل من تغيريات يف نسب اجملموعات ذات السمات التكيفية وليس من حتول اجملموعات كي تصبح مساهتا أكثر تكيُّـ ًفا .ومل ِجيد أي
لتطور دون أنيفسر نشأة اإلنسان ،إذ ميكن أن يؤمن الناس با ُّ بأن االنتخاب الطبيعي ِّ صلة بني أداء املمتحنني يف االختبار واالعتقاد َّ
يفهموه ،والعكس بالعكس .أ صيب عديد من علماء األحياء يف الثمانينيات باإلحراج عند قبوهلم دعوات ملناظرة بعض املؤمنني بنظرية
وإمنا مرتافعني واسعي االطِّالع يستشهدون بأحدث األحباث لبث الشك فيما إذا اخللق الذين اتضح َّأهنم ليسوا ريفيني سذج ِّ
متعصبنيَّ ،
كامال.
كان العلم ً
ليس التصريح باإلميان بالتطور من هبات الثقافة العلمية َّ
وإمنا إثبات للوالء لثقافة فرعية علمانية ليربالية يف مقابل الثقافة الدينية
احملافظة .أزالت املؤسسة الوطنية للعلوم يف عام 2010البند التايل من اختبار الثقافة العلمية« :نشأ جنس البشر كما نعرفه اليوم عن
أن املؤسسة الوطنية للعلوم قد انصاعت لضغط القائلني بنظرية اخللق من أجل أنواع قدمية من احليوانات» .مل ي ُكن سبب ذلك التغيري َّ
حذف التطور من القوانني العلمية كما صاح العلماء آنذاكَّ ،
وإمنا كان السبب َّ
أن الصلة بني األداء يف ذلك البند واألداء يف كل البنود
األخرى يف االختبار (مثل «اإللكرتون أصغر من الذرة» و«املضادات احليوية تقتل الفريوسات») كانت ضعيفة جدًّا لدرجة أنَّه كان
اختبارا لإلذعان وليس للثقافة العلمية ،وعندما
بنود أكثر تشخيصية .بعبارة أخرى ،كان البند ً يشغل مساحة يف االختبار ميكن أن تشغلها ٌ
سبقت البند عبارة «وف ًقا لنظرية التطور» كي ينفصل الفهم العلمي عن الوالء الثقايف ،أجاب املمتحنون املتدينون وغري املتدينني إجابات
متماثلة.
أو ِّ
فكر يف هذه األسئلة:
أن الغطاء الجليدي فوق القطب الشمالي إذا ذاب نتيجةً لالحترار العالمي الناتج عن األنشطة البشريةَّ ،
فإن يعتقد علماء المناخ َّ
مستويات سطح البحر العالمية سترتفع ،صواب أم خطأ؟
ما الغاز الذي يعتقد أغلب العلماء أنَّه سبب ارتفاع درجات الحرارة في الغالف الجوي؟ هل هو ثاني أكسيد الكربون أم
الهيدروجين أم الهيليوم أم الرادون؟
يعتقد علماء المناخ َّ
أن االحترار العالمي الناتج عن األنشطة البشرية سيزيد من خطر إصابة البشر بسرطان الجلد ،صواب أم
خطأ؟
إجابة السؤال األول هي «خطأ» ،لو كانت اإلجابة «صواب» لكانت املياه الغازية تفيض من الكوب مع ذوبان مكعبات الثلج ،فالغطاء
اجلليدي فوق اليابسة مثل جرينالند والقارة القطبية اجلنوبية هو الذي يؤدي عند ذوبانه إىل ارتفاع مستويات سطح البحر .مل حيقِّق
عموما،
املؤمنون بالتغري املناخي الناتج عن األنشطة البشرية نتيجةً أعلى ممن ينكرونه يف االختبارات اخلاصة بعلوم املناخ أو الثقافة العلمية ً
أن االحرتار العاملي سببه ثقب يف طبقة األوزون وأنَّه من املمكن احلد منه بتنظيف كثري من املؤمنني بالتغري املناخي على سبيل املثال َّ
فيظن ٌ
مقالب النفايات السامة .ليس اجلهل العلمي هو ما يتنبأ بإنكار التغري املناخي الناتج عن األنشطة البشرية بل األيديولوجية السياسية،
أن األرض تزداد احرت ًارا بسبب األنشطة البشرية (وأنكر 57يفإذ اتفق 10يف املئة من اجلمهوريني احملافظني يف عام 2015مع مقولة َّ
أن األرض تزداد احرت ًارا من األساس) ،مقارنةً بـ 36يف املئة من اجلمهوريني املعتدلني و 53يف املئة من املستقلني حزبيًّا و63 املئة منهم َّ
يف املئة من الدميقراطيني املعتدلني و 78يف املئة من الدميقراطيني الليرباليني.
رموزا
أن هناك اعتقادات معينة تصبح ً ذكر الباحث القانوين دان كاهان ( )Dan Kahanيف حتليل ثوري للمنطق يف اجملال العام َّ
وإمنا عن هويتهم .ننتمي ً
مجيعا إىل قبائل أو ثقافات عما يعرفونه َّ
للوالء الثقايف ،فالناس يؤيدون هذه االعتقادات أو ينكروهنا ال للتعبري َّ
يشكل حياة جيدة وكيف على اجملتمع إدارة شؤونه .تتنوع هذه العقائد بني بُعدين ،جيمع فرعية معينة ،وتتبىن كلٌّ منها عقيدةً خاصة مبا ِّ
األول بني ارتياح اجلناح األمين للهرياركية الطبيعية وتفضيل اجلناح األيسر للمساواتية املصطنعة (اليت تُقاس باالتفاق مع عبارات مثل:
« علينا احلد من عدم املساواة بني األغنياء والفقراء ،والبيض وأصحاب البشرة امللونة ،والرجال والنساء») .والثاين هو التآلف التحرري
مع النزعة الفردانية يف مقابل تآلف النزعة اجملتمعية أو السلطوية مع التضامن (اليت تُقاس باالتفاق مع عبارات مثل« :على احلكومة وضع
معيارا أو كلمة سر
حدود للخيارات اليت ميكن لألفراد اُتاذها كي ال يعيقوا ما هو يف صاحل اجملتمع») .ميكن أن يصبح أحد املعتقدات ً
شعارا أو قيمة مقدَّسة أو ميني والء إلحدى هذه القبائل ،ويعتمد هذا على كيفية صياغته وعلى من يؤيده ويصدِّق عليه.
أو عالمةً أو ً
وكما أوضح كاهان ومعاونوهَّ ،
فإن:
السبب األساسي الختالف الناس حول علم التغري املناخي ليس إيصاله إليهم بصوٍر ال يستطيعون فهمهاَّ ،
وإمنا أل َّن املوقف
تقسمهم -مثل مصلحة اجملتمع يف مقابل االعتماد الفردي على النفس ،أو نكران يعرب عن القيم اليت ِّ
من التغري املناخي ِّ
الذات يف مقابل البحث البطويل على املكافئة ،أو التواضع مقابل العبقرية ،أو التناغم مع الطبيعة يف مقابل السيطرة عليها.
أيضا حسب َمن ُهم الشياطني املالمون على مصائب اجملتمع ،الشركات اجلشعة ،أم النخبة املنعزلة عن تقسم الناس ً تتحدَّد القيم اليت ِّ
الواقع ،أم البريوقراطيون املتطفلون ،أم الساسة الكاذبون ،أم املتعصبون اجلهلة أم األقليات العرقية.
دفاعا دون مصلحة ،هو ميل عقالين بصورةٍ كأهنا ميني والء ،وليست ً أن ميل الناس إىل التعامل مع اعتقاداهتم َّيشري كاهان إىل َّ
ٌ
وحمركي األحداث ومتخذي القرارات ،ال تصنع آراء الشخص يف التغري املناخي أو التطور فرقًا يف ٍ
ما ،فباستثناء عدد حمدود من احملرضني ِّ
ضخما يف االحرتام الذي يفرضه الشخص على اآلخرين يف دائرته االجتماعية .قد جيعلك التعبري عن ً عموما ،ولكنَّها تصنع فرقًا
العامل ً
جيدا» -أو خائنًا يف أسوأ األحوال ،يصبح الضغط شخصا «ال يفهم األمر ً الرأي اخلاطئ يف مسألة مسيَّسة شاذًّا يف أفضل األحوال ً -
على املرء من أجل االمتثال لآلخرين أكرب عندما يعيش ويعمل مع أشخاص يشبهونه وعندما تسم الفئات األكادميية أو التجارية أو
الدينية نفسها بقضايا يسارية أو ميينية ،قد ميثِّل وقوف املثقَّفني والساسة الذين يشتهرون بقيادة فئاهتم على اجلانب اخلاطئ من ٍ
قضية ما
انتحارا مهنيًّا هلم.
ً
متاما ،على األقل ليس ٍ
بالنظر إىل هذه العوامل احلامسة ،يكون تأييد اعتقاد مل جيتَز اختباري العلم وتقصي احلقائق غري عقالين ً
مبعيار آثاره املباشرة على املؤمن بهَّ ،أما آثاره على اجملتمع والكوكب ،فتلك مسألة أخرى ،فالغالف اجلوي ال يهتم برأي الناس فيه ،وإذا
كم من حظوا منهم بالتقدير يف مجاعات أقراهنمزادت حرارته بالفعل مبقدار 4درجات مئوية ،فسيعاين مليارات البشر ،بغض النظر عن ِّ
مجيعا ممثِّلون يف تراجيديا مشاع االعتقادات ،فاالعتقاد العقالين لكل
لتبنِّيهم الرأي الرائج فيها عن التغري املناخي .ينتهي كاهان إىل أنَّنا ً
يتصرف اجملتمع بأكمله على أساسه (بناءً على الواقع).
فرد (بناءً على التقدير الذي حيصل عليه) قد يكون من غري العقالين أن َّ ٍ
تساعد احلوافز الفاسدة وراء «العقالنية التعبريية» أو «اإلدراك املدفوع حبماية اهلوية» يف تفسري مفارقة ال عقالنية القرن احلادي
عرب عنها داعمو ترامب (وترامب نفسه يف كثري من األحيان) خالل والعشرين .كان كثريٌ من املراقبني السياسيني مرتابني من اآلراء اليت َّ
أن هيالري كلينتون مصابة مبرض التصلب املتعدِّد وُتفي ذلك بدوبلري! أو أنَّه ال بد أن يكون احلملة االنتخابية يف عام ،2016مثل َّ
دور يف أحداث احلادي عشر من سبتمرب ألنَّه مل ي ُكن يف املكتب البيضاوي يف ذلك الوقت (مل ي ُكن أوباما بالتأكيد الرئيس لباراك أوباما ٌ
فإن «هؤالء األشخاص لديهم األهلية الكافية الرتداء يف عام .)2001وكما قالت آماندا ماركوت (َّ )Amanda Marcotte
مالبسهم بأنفسهم ،وقراءة عنوان التجمع االنتخايب والوصول إليه يف الوقت احملدد ،ومع ذلك فما زالوا يصدقون أشياء جنونية وزائفة
أن هؤالء الناس يشاركون أن بإمكان أي شخص غري جمنون أن يصدقها! ما الذي حيدث؟» ما حيدث هو َّ لدرجة يستحيل تصديق َّ
جمموعة ذات مصاحل مشرتكة (وكانت هذه اجملموعة ٍ كذبات زرقاء ،تكون الكذبة البيضاء لصاحل املستمعَّ ،أما الكذبة الزرقاء فهي لصاحل
يعرب معظمهم عن يف األصل عند ظهور املصطلح هي ضباط الشرطة) .يف حني قد يكون بعض املؤمنني بنظريات املؤامرة مضلَّلني حقًّاِّ ،
فهم حياولون معارضة الليرباليني وإظهار التضامن مع إخواهنم .يضيف عامل األنثروبولوجيا هذه االعتقادات بغرض األداء وليس احلقيقةُ ،
جون تويب (َّ )John Tooby
أن االعتقادات املحالة عالمة على الوالء للتحالف أكثر فعاليةً من االعتقادات العقالنية ،ميكن أن
ُ
أن الصخور تسقط ألسفل وال تصعد ألعلى ،ولكن ليس لدى أي شخص أي سبب ليقول َّ
إن اهلل ثالثة أشخاص، يقول أي شخص َّ
أن احلزب الدميقراطي يدير حلقة ملمارسة اجلنس مع األطفال من مطعم بيتزا يف واشنطن ،عدا الشخص شخص واح ٌد ،أو َّ
ٌ أيضا
ولكنَّه ً
حبق جتاه ٍ
أخوية ما. امللتزم ٍّ
ولكن
متثِّل نظريات املؤامرة اليت تشاركها احلشود املتحمسة يف جتم ٍع سياسي حالة بالغة من التعبري عن النفس الذي يطغي على احلقيقةَّ ،
مأساة مشاع االعتقادات هلا جذور أعمق من ذلك .من مفارقات الواقع األخرى َّ
أن اخلربة والقدرات العقلية والتفكري املنطقي الواعي ال
املفكرين من احلقيقة ،بل على العكس ،قد تكون أسلحة للتربير شديد الرباعة ،فكما قال بنجامني فرانكلني تضمن يف حد ذاهتا اقرتاب ِّ
سبب لكل شيء ألن هذا ميكنِّك من العثور على -أو إجيادٍ - عاقالَّ ،
(« Benjamin Franklin):من املريح للغاية أن تكون كائنًا ً
تريد فعله».
بدال من
استنتاج مفضَّل ً
ٍ مصاب بالتفكري املنطقي احملفَّز (توجيه احلجة حنو وقت طويل َّ
أن املخ البشري يعرف علماء النفس منذ ٍ
ٌ
يؤدي إليه) ،والتقييم املتحيِّز (العثور على ٍ
عيوب يف األدلة اليت تنفي املوقف املفضَّل ونتساهل وصوال إىل االستنتاج الذي ِّ
تتبُّع مسارها ً
مع األدلة اليت تدعمه) واالحنياز إىل «جانيب من األمر» (وهو يشرح نفسه) .يف جتر ٍبة كالسيكية يف عام 1954سأل كلٌّ من آل
هاستورف ( )Al Hastorfوهاديل كانرتيل ( )Hadley Cantrilطالب جامعيت دارمتوث وبرينستون عن فيل ٍم حول مباراة كرة
أن كل جمموعة من الطالب رأت خمالفات أكثر قدم أمريكية حديثة آنذاك بني اجلامعتني كانت مليئة بتكسري العظام واجلزاءات ،ووجدا َّ
لدى الفريق اآلخر.
أن احلزبية السياسية تشبه التشجيع يف عامل الرياضة ،إذ ترتفع مستويات التستوستريون أو تنخفض ليلة االنتخابات نعرف اليوم َّ
أن أنصار الفرق السياسية -الذين يشملون كما تفعل يف يوم هنائي الدوري الوطين لكرة القدم األمريكية ،ولذا ال جيب أن يفاجئنا َّ
اسة كالسيكية أخرى ،عرض علماء النفس تشارلز لورد ( Charles معظمنا -يرون دائما خمالفات أكثر لدى الفريق اآلخر .ويف در ٍ
ً
)Lordويل روس ( )Lee Rossومارك ليرب ( )Mark Lepperعلى مؤيدي عقوبة اإلعدام ومعارضيها دراستني ،تشري إحدامها
أن عقوبة اإلعدام تردع جرائم القتل (اخنفضت معدالت جرائم القتل يف الواليات اليت تبنَّتها يف العام التايل) ،وتشري األخرى إىل إىل َّ
فشلها يف ردع اجلرائم (جرائم القتل يف الواليات اليت تطبِّق عقوبة اإلعدام أعلى منها يف الواليات اجملاورة اليت ال تطبِّقها) .كانت الدراستان
املختربون النتائج لنصف املشاركني يف حال وجد أحدهم املقارنات بني ٍ
وقت وآخر أكثر زائفتني ولكنَّهما كانتا تبدوان واقعيتني ،وقلب ِ
ٍ
للحظة تأثـًُّرا بالنتيجة اليت عرفتها للتو ،ولكن أن كل جمموعة تذبذبت مكان وآخر ،أو العكس .وجد ِ
املختربون َّ إقناعا من املقارنات بني ٍ
ً
أمورا مثل« :ال معىن لألدلة
تأملوا يف الدراسة غري املتناسبة مع مواقفهم املبدئية ،قائلني ً مبجرد أن حظي أفرادها بالفرصة لقراءة التفاصيلَّ ،
بيانات عن كيفية ارتفاع معدل اجلرمية اإلمجايل يف تلك السنوات» أو «رمبا ُتتلف ظروف الواليتني رغم َّأهنما تتشاركان يف احلدود». دون ٍ
مجيعا لنفس األدلة من قبل ،فأصبح املعارضون أكثر تعرضوا ًاالدعاء االنتقائي ،أصبح املشاركون أكثر استقطابًا بعد أن َّ نتيجة هذا ِّ
تأييدا.
معارضةً واملؤيدون أكثر ً
ويشبه االخنراط يف السياسة التشجيع يف عامل الرياضة من ٍ
ناحية أخرى ،فالناس يبحثون عن األخبار ويتابعوهنا من أجل تعزيز جتربة
ويفسر هذا إحدى نتائج كاهان األخرى ،فكلَّما زادت معلومات املرء عن ُّ
التغري املناخي ،أصبح رأيه أكثر املشجع ال جلعل آرائها أدقِّ ،
ِّ
استقطابًا ،وليس بالضرورة أن يكون للشخص رأي سابق كي تستقطبه احلقائق .عندما عرض كاهان على الناس ً
عرضا متوازنًا حياديًّا
ملخاطر تكنولوجيا النانو (اليت ال تُعد قضية ساخنة حساسة مثارة على الشبكات اإلعالمية التليفزيونية) ،انقسموا سر ًيعا إىل فئات
تتماشى مع آرائهم يف الطاقة النووية واألغذية املعدلة جينيًّا.
ٍ
اكتشاف عن الدماغ كآبة فكر يف التالية اليت وصفتها إحدى اجملالت َّ
بأهنا «أكثر إذا مل تفتح هذه الدراسات عينيك مبا يكفيِّ ،
على اإلطالق» ،وفيها استقدم كاهان ألف أمريكي من مجيع مناحي احلياة ،وقيَّم سياساهتم ومعرفتهم باحلساب باستبيانات قياسية،
جيدا إىل وطلب منهم النظر يف بعض البيانات من أجل تقييم فعالية عالج جديد ألحد األمراض .قيل للمشاركني َّ
إن عليهم االنتباه ً
أن سوء املرض قد يقل من تلقاء ألن جناح العالج غري متوقع بنسبة مئة يف املئة من الوقت ،بل ورمبا يزيد الوضع سوءًا ،يف حني َّ
األرقامَّ ،
ألن عددًا أكرب من اخلاضعني للعالج َّ
حتسنوا) أن العالج جنح َّ نفسه دون أي عالج .مت التالعب باألرقام كي تظهر إجابةٌ ما (وهي َّ
حتسنت) ،وقد تلغي بعض ألن نسبةً أقل من اخلاضعني للعالج َّ أن العالج مل ينجحَّ ، ولكن اإلجابة األخرى كانت صحيحة (وهي َّ َّ
أن املرض طفح جلدي احلسابات العقلية البسيطة -أي تقدير النسب بالنظر -اإلجابة التلقائية .قيل للمشاركني يف إحدى نسخ الدراسة َّ
والعالج كرمي للبشرة ،وفيما يلي األرقام اليت ُعرضت عليهم:
حاال من قبل[ .خاطئ] عندما ُجيري فردان صفقةً طوعية خيرج منها كالمها بالضرورة أفضل ً
جترمي اإلجهاض سيزيد عدد عمليات اإلجهاض يف السوق السوداء[ .صحيح]
املخدرات إىل متتُّع عصابات الشوارع باملزيد من الثروة والقوة ،وزيادة اجلرمية املنظَّمة[ .خاطئ]
سيؤدي تقنني ِّ
وإذا كان اليسار واليمني متساويني يف مقدار الغباء يف االختبارات والتجارب ،فيمكن أن نتوقع منهما أن يكونا متساويني يف اخلطأ يف
أي من األيديولوجيات فهم العامل .تقدِّم البيانات عن التاريخ اإلنساين املذكورة يف الفصول من اخلامس حىت الثامن عشر فرصةً ملعرفة ٍّ
إن الدوافع األساسية كانت املبادئ غري السياسية ،أي العقل والعلم والنزعة السياسية الكربى بوسعها تفسري حقائق تقدُّم البشرية .أقول َّ
عزز ازدهار البشرية ،هل لدى األيديولوجيات اليمينية أو اليساريةاإلنسانية ،اليت أدت إىل سعي البشر إىل املعرفة وتطبيقهم إيَّاها ممَّا َّ
شيئًا ميكنها إضافته؟ هل جتيز الرسوم البيانية األكثر من سبعني رمسًا أليِّهما أن يقول« :احنياز أو ال احنياز ،حنن على حق وأنتم على
أيضا. ٍ
خطأ»؟ يبدو أنَّه ميكن أن يكون لكل طرف منهما الفضل يف بعض اإلجنازات مع افتقاد أجزاء كبرية من القصة ً
حمافظ معاصر ،إدموند بريك (َّ )Edmund Burke
أن البشر تشكك احملافظني يف مبدأ التقدُّم نفسه ،منذ اقرتح أول ٍ أمهها ُّ
معيبون بقد ٍر أكرب من أن يتيح هلم ابتكار خطط لتحسني حالتهم ويكونون أفضل ً
حاال عند االلتزام بالتقاليد واملؤسسات اليت منعتهم
املتطرفة الرجعية عن االنزالق إىل اهلاوية ،أصبح تيار رئيسي من الفكر احملافظ ِّ
متشك ًكا يف أفضل اخلطط اليت وضعها البشر .تعتقد الفئة ِّ
أن احلضارة الغربية مالت إىلاملتطرف األورويب (الفصل الثاين والعشرين) َّ
مؤخرا أنصار ترامب واليمني ِّ من احملافظني اليت كشف عنها ً
قرن ذهيب ،وُتلَّت عن الوضوح األخالقي يف العامل املسيحي التقليدي لصاحل الرتف العلماين املنحل الذي إذا اخلروج عن السيطرة بعد ٍ
تُ ِرك يف مساره احلايل سينهار نتيجة اإلرهاب واجلرمية وغياب املعايري االجتماعية.
الرضَّع وطرق اإلعدام
هذا خطأ! فاحلياة قبل التنوير كانت مظلمة نتيجة اجملاعات واالوبئة واخلرافات ووفيات األمهات واألطفال ُ
السادية بالتعذيب والعبودية ومطاردة الساحرات واحلمالت الصليبية اليت تؤدي إىل اإلبادة العرقية والغزوات واحلروب الدينية ،غمة
توضح األقواس الظاهرة يف األشكال من رقم 1-5حىت رقم 4-18أنَّه مع تطبيق اإلبداع والتعاطف على احلالة البشرية، وانزاحت! ِّ
ولكن املشاكل حتمية.
أصبحت احلياة أطول وأصح وأغىن وأكثر أمانًا وأسعد وأكثر حريةً وأعمق وأكثر إثارةً لالهتمام .املشاكل باقيةَّ ،
أيضا يف احتقار السوق ورومانسيته مع املاركسية ،أطلقت الرأمسالية الصناعية اهلروب الكبري من الفقر العاملي يف القرن
أخطأ اليسار ً
التاسع عشر وهي تنقذ بقية البشرية بالتقارب الكبري يف القرن احلادي والعشرين ،ويف نفس الفرتة الزمنية ،جلبت الشيوعية للعامل جماعات
كربى ومحالت تطهري ومعسكرات العمل القسري واإلبادات اجلماعية وتشرنوبل واحلروب الثورية اليت أدت إىل ماليني الوفيات والفقر
عرفعلى طراز كوريا الشمالية قبل أن تنهار يف كل املناطق األخرى جراء تناقضاهتا الداخلية .ومع ذلك ففي استطالع رأي حديثَّ ،
بأهنم ماركسيني ،وما زالت كلمات مثل رأمسايل والسوق احلرة متثِّل شوكةً يف حلق 18يف املئة من أساتذة العلوم االجتماعية أنفسهم َّ
يغري هذه املصطلحات تلقائيًّا إىل أسواق حرة جاحمة أو غري منظَّمة أو غري مقيَّدة ،أو غري معظم املثقَّفني .يعود هذا جزئيًّا إىل َّ
أن عقلهم ِّ
متاما
مكر ًسا بذلك الثنائية الكاذبة ،فالسوق احلرة بوسعها التعايش مع وجود قواعد تنظيمية خاصة بالسالمة والعمالة والبيئةً ، حمدودةِّ ،
كما بوسع الدولة احلرة أن تتعايش مع وجود القوانني اجلنائية .وميكن للسوق احلرة التعايش مع وجود مستويات مرتفعة من اإلنفاق على
الصحة والتعليم والرفاه (الفصل التاسع) ،وتتمتَّع بالفعل بعض الدول ذات القدر األكرب من اإلنفاق االجتماعي بأكرب درجات احلرية
االقتصادية.
مستعد للقيام مبغالطة رجل القشٌّ أيضا نفس الثنائية الكاذبة ويبدو أنَّه
التحرري ً
تبىن اليمني ُّ
لن ُكن منصفني يف حق اليسار ،فقد َّ
التحرريون من اجلناح اليميين (يف نسخة احلزب اجلمهوري منه يف القرن احلادي والعشرين) مالحظة َّ
أن التنظيم حول ُّ مع حجج اليسارَّ ،
ضارا (بالتمكني الزائد للبريوقراطيني ،ممَّا يكلِّف اجملتمع أكثر ممَّا يقدِّمه من منافع ،أو حبماية أصحاب املناصب من املفرط قد يكون ًّ
وحولوا مالحظة َّ
أن دائماَّ .
إن قلة التنظيم أفضل من كثرة التنظيم ً بدال من محاية املستهلكني من الضرر) إىل الدوغما القائلة َّ
املنافسة ً
ضارا (خبلق حوافز عكسية ضد العمل وبتقويض أعراف اجملتمع املدين ومؤسساته) إىل الدوغما اإلنفاق االجتماعي املفرط قد يكون ًّ
ٍ
خطاب هستريي أن معدالت الضرائب قد تكون مرتفعة للغاية إىل إن أي قدر من اإلنفاق االجتماعي مفر ٌط ،وترمجوا مالحظة َّ
القائلة َّ
عن «احلرية» يعين فيه رفع معدل الضريبة احلدي على الدخل األكرب من 400,000دوال ٍر أمريكي من 35إىل 39.6يف املئة تسليم
البلد إىل قوات الصدمة العدوانية .يُ َّربر عاد ًة رفض السعي وراء بلوغ املستوى األمثل من احلكم باللجوء إىل ُحجة فريدريش هايك يف
ميهدان الطريق أمام منز ٍلق سينزلق فيه
إن التنظيم والرفاهة ِّكتاب الطريق إلى العبودية ) (The Road to Serfdomواليت تقول َّ
البلد إىل الفقر املدقع والطغيان.
التحررية اليمينية بقدر قسوهتا على احملافظة اليمينية واملاركسية اليسارية،
تفاجئين حقائق التقدُّم البشري بكوهنا قاسية على ُّ
وإمنا فرضها أصحاب فاحلكومات الشمولية اليت حكمت يف القرن العشرين مل تنشأ عن انزالق دول الرفاه الدميقراطية يف منز ٍلق ماَّ ،
أن الدول اليت جتمع بني األسواق احلرة وضرائب وإنفاق اجتماعي وتنظي ٍم أكثر املتعصبون وعصابات من اجملرمني .واتَّضح َّ
األيديولوجيات ِّ
وإمنا أماكن يطيب العيش فيها ،وهي هتزم الواليات من الواليات املتحدة (مثل كندا ونيوزيلندا وغرب أوروبا) ليست ديستوبيا كئيبة َّ
الرضَّع والتعليم والسعادة .وكما
املتحدة يف كل مقاييس ازدهار البشرية ،مبا فيها مقاييس اجلرمية ومتوسط العمر املتوقع ووفيات األطفال ُ
التحررية اليمينية ،ومل تُرسم أي نسخة واقعية ٍ
لدولة كهذه مطل ًقا. رأينا ،ال تعمل أي دولة متقدِّمة وفق املبادئ ُّ
َ
أن حقائق تقدم البشرية تفنِّد املفاهيم الكربى ،فاأليديولوجيات عمرها أكثر من عقدين ومبنية على رؤى قاصرة ليس من الغريب َّ
احدا أم جمموعة منعضوا و ً
حد ممكن ،وإذا ما كان اجملتمع بأكمله ً مثل إذا ما كان البشر معيبني بصورة مأسوية أم مرنني إىل أقصى ٍّ
عقال حيتوي على تريليونات الوصالت كل منها ً األفراد .يتضمن أي جمتمع حقيقي مئات املاليني من الكائنات االجتماعية اليت ميتلك ٌ
ٍ
شبكات معقدة الكثري منها يكم هائل من املؤثرات اإلجيابية والسلبية يف
العصبية ويسعى وراء سالمته ،بينما يؤثر على سالمة اآلخرين ٍّ
غري مسبوق ،لذا فلن تسري طب ًقا ألي سردية بسيطة تتنبأ مبا سيحدث يف املستقبل يف ظل قواعد معينة .الطريقة األكثر عقالنية ملمارسة
السياسة هي معاملة اجملتمعات على أهنا جتارب مستمرة وتعلم أفضل املمارسات ٍ
بعقل متفتح أيًا كان مصدرها .تُشري الصورة احلالية
جدا يف الدميقراطيات الليربالية مع مزيج من األعراف املدنية واحلقوق املكفولة واقتصاد
املستمدة من واقع التجربة إىل أن الناس يزدهرون ً
السوق احلر واإلنفاق االجتماعي والتنظيم احلكيم .وكما أشار بات باولسن )« :(Pat Paulsenإذا سيطر اليمني أو اليسار على
البلد ،فستدور يف دوائر مفرغة».
أن اجملتمعات أن احلقيقة تقع دائما بني طريف النقيضَّ ،
وإمنا َّ دائما على حق و َّ * ليس األمر َّ
ً أن جولديلوكس (ً )Goldilocks
احلالية غربلت أسوأ أخطاء املاضي ،لذا فإذا كان هناك جمتمع يعمل على حن ٍو جيد جزئيًا -إذا مل ت ُكن الشوارع مليئة بالدماء ،وإذا كانت
*جولديلوكس هي الفتاة في قصة جولديلوكس والثالث دببة التي كانت تختار دائمًا الخيار األوسط بين نقيضين.
السمنة متثِّل مشكلةً أكرب من سوء التغذية ،وإذا كان الذين يعربون عن أصواهتم االنتخابية بأفعاهلم يصرخون من أجل املشاركة يف
بدال من إسراعهم إىل اخلروج منها -إ ًذا فرمبا تشكل مؤسسات هذا اجملتمع نقطة انطالق جيدة (وهو درس ميكن أن نتعلمه
االنتخابات ً
بدال من
مثمرا إذا تعامل مع احلكم على أنه جتربة علمية ً
أن التشاور السياسي سيكون ً من فكر إدموند بريك املتحفظ) .خيربنا املنطق َّ
مسابقة رياضية خطرة.
أن دراسة البيانات من التاريخ وعلم االجتماع هي طريقة لتقييم أفكارنا أفضل من اجلدال من خميلتناَّ ،إال َّ
أن االختبار احلقيقي رغم َّ
للعقالنية التجريبية هو التوقُّع ،يتقدم العلم باختبار توقعات الفرضيات وكلنا نُقدر املنطق يف حياتنا اليومية عندما مندح ُحكماء احلانات
أو نسخر منهم حسب األحداث ،وعندما نستخدم مصطلحات لتحميل األشخاص مسؤولية أعماهلم مثل من أفسد شيئًا فعليه
إصالحه ،ولطخ العار جبينه ،وعندما نستخدم مقوالت مثل «دع أفعالك تتحدث عنك» و« َّإمنا قيمة األشياء مبا هلا من أثر».
نادرا ما تُطبق املعايري املعرفية للحس السليم -الذي يلزمنا بأن نقدر الناس واألفكار اليت تتوقَّع توقعات صحيحة وأن
ولألسفً ،
نستبعد التوقعات اخلاطئة -على املثقفني واإلعالميني الذين يقولون آراءهم دون أي إحساس باملسؤولية .وتستمر الصحافة يف الرتويج
دائما مثل بول إيرليش وال يعرف ال ُقراء ما إذا كان كتاهبم املفضلني أو معلميهم الروحانيني أو املتحدثني يف براجمهم
للعرافني املخطئني ً
اب أم ال .قد تكون العواقب وخيمة ،فقد نتج العديد من اهلزائم السياسية والعسكرية عن الثقة اخلاطئة يف توقعات املفضلة على صو ٍ
يطور أسلحة نووية يف عام )2003وميكن أن يكون القليل من الدقة يف إن صدام حسني ِّ اخلرباء (مثل التقارير االستخباراتية اليت قالت َّ
التنبؤ بسري األسواق املالية هو الفارق بني ربح ثروة أو خسارهتا.
أن بعض االختالفات جيب أن نسرتشد بسجل التوقعات يف تقييمنا للنظم الفكرية مبا فيها األيديولوجيات السياسية ،ومع َّ
أن العديد منها يعتمد على وسائل خمتلفة لتحقيق غايات متفق عليها األيديولوجية ناجتة عن القيم املتضادة وقد يتعذر التوفيق بينهاَّ ،إال َّ
وينبغي أن تكون قابلة للحسم ،فأي السياسات ستحقق ما يريده اجلميع تقريبًا ،مثل السالم الدائم أو النمو االقتصادي؟ وأيُّها سيحد
بدال من افرتاض وجود املعرفة
من الفقر أو اجلرمية أو األمية؟ جيب على أي جمتمع عقالين أن يبحث عن اإلجابات باستشارة العامل ً
الكلية لدى بعض ذوي الرأي الذين يتشاهبون يف املعتقد.
أيضا على الصحفيني واخلرباء ،وال تتطابق العوامل اليت حتدد مسعتهم
ولألسف ،تنطبق العقالنية التعبريية اليت وثقها كاهان يف جتاربه ً
بدال من ذلك ،تتوقف مسعتهم على قدرهتم على التسلية أو دغدغة مع دقة تنبؤاهتم يف ظل عدم وجود من يتحقق من دقة هذه التنبؤاتً ،
املشاعر أو الصدمة وقدرهتم على بث الثقة أو اخلوف (على أمل أن حتقق النبوءة ذاهتا أو هتزم نفسها) وعلى مهارهتم يف حشد التحالف
واالحتفاء بقيمه.
العرافني «املخطئني
درس عامل النفس فيليب تيتلوك ( )Philip Tetlockمنذ الثمانينيات ما مييز املتنبئني املتسمني بالدقة عن َّ
عادةً ولكنَّهم واثقون يف أنفسهم» ،واستقدم مئات احمللِّلني وُكتَّاب املقاالت واألكادمييني واألشخاص العاديني املهتمني من أجل التنافس
يف دورات تنبؤ تُعرض عليهم فيها أحداث حمتملة ويُطلب منهم تقييم احتمالية وقوعها .يربع اخلرباء يف صياغة توقُّعاهتم حلماية أنفسهم
من التكذيب ،واستخدام أفعال مساعدة (قد ،رمبا) ،وصفات (فرصة كبرية ،احتمالية قوية) ،وتعبريات زمنية مراوغة (قريبًا ًّ
جدا ،يف
املستقبل غري البعيد) .لذا حاصرهم تيتلوك بتحديد أحداث ٍ
معينة ذات نتائج ومواعيد هنائية واضحة (مثل« :هل ستضم روسيا أر ٍ
اض
ٍ
إضافية خالل الثالثة أشهر التالية؟» أو «خالل العام التايل ،هل ستنسحب أي دولة من منطقة اليورو» أو «كم دولة أخرى أوكرانية
يدونون احتماالت عددية.
ستبلغ عن حاالت إصابة بفريوس اإليبوال خالل الثمانية أشهر التالية؟») وجعلهم ِّ
تعرض نيت أيضا املغالطة الشائعة املتمثِّلة يف الثناء على توق ٍع ٍ
حمتمل واحد أو السخرية منه بعد ظهور احلقيقة ،مثلما َّ جتنَّب تيتلوك ً
جممع بيانات استطالعات الرأي يف موقع FiveThirtyEightاإللكرتوين للهجوم الشديد بعد أن سيلفر )ِّ ،(Nate Silver
توقَّع أن تكون احتمالية فوز دونالد ترامب بانتخابات عام 29 2016يف املئة فقط ،ومبا أنَّنا ال نستطيع إعادة االنتخابات آالف
عما إذا كان التوقع قد تأكد أم انتفى ال معىن له .ما نستطيع القيام به املرات إلحصاء عدد املرات اليت فاز هبا ترامب ،فيكون السؤال َّ
بالفعل ،وما فعله تيتلوك ،هو مقارنة جمموعة احتماالت كل متنبِّئ بالنتائج املرتبطة هبا .استخدم تيتلوك معادلة ال تُعطي الفضل للمتنبِّئ
يف الدقة فحسب ،بل يف اجملازفة بالتخمني ٍ
بدقة (مبا أنَّه من األسهل أن يكون كالمك دقي ًقا عندما تظل يف منطقة األمان وتقول توقُّعاتك
باحتمالية %50إىل .)%50ترتبط املعادلة حسابيًّا مبقدار ما قد يفوزون به لو دعموا أقواهلم بأمواهلم وراهنوا على توقُّعاهتم حسب
االحتماليات اليت يتنبؤون هبا ُهم أنفسهم.
عاما ومثانية وعشرين ألف توقُّ ٍع ،كيف كان أداء اخلرباء؟ كأداء الشمبانزي يف املتوسط (وهو ما وصفه تيتلوك بأنَّه يشبه
بعد عشرين ً
بدال من قطف املوز) .أجرى كلٌّ من تيتلوك وعاملة النفس باربرا ميلرز ( )Barbara Mellersإعادةً بني رمي السهام يف الظالم ً
عامي 2011و 2015جنَّدا فيها عدة آالف من املتسابقني على املشاركة يف دورة تنبؤات عقدهتا وكالة نشاط مشاريع أحباث املخابرات
كثري من التخمينات اليت تشبه رمي السهام يف املتقدمة (وهي املنظمة البحثية التابعة الحتاد وكاالت املخابرات األمريكية) .كان هناك ٌ
الظالم ،ولكنَّهما استطاعا خالل الدورتني مالحظة «متنبِّئني خارقني» مل ي ُكن أداؤهم أفضل من الشمبانزي واملثقَّفني فحسب ،بل
ٍ
املتخصصني ذوي القدرة على الوصول إىل معلومات سرية ،وأفضل من أسواق التوقُّعات ،وال يبعد ً
كثريا ِّ أفضل من ضباط االستخبارات
عام يف املستقبل ،فالدقة تنخفض مع زيادة البُعد الزمين يف نفسر هذا االستبصار الواضح؟ (ملدة ٍ عن احلد األقصى النظري .كيف ِّ
املستقبل ،وتصل إىل مستوى «الصدفة» عندما تصل إىل حوايل مخس سنوات) .اإلجابات على ذلك واضحة وعميقة.
كان املتنبِّؤون الذين حقَّقوا أسوأ أداء ُهم أصحاب األفكار العظيمة -يساريني كانوا أم ميينيني ،متفائلني أم متشائمني -اليت تبنُّوها
بثقة ُمل ِهمة (ولكنَّها ُخم ِطئة):
ٍ
ٍ
مكانة مرئية للعامة هي اليت جعلتهم األسوأ يف التوقُّعات ،فكلَّما كانت شهرهتم كانت السمات اليت وضعت هؤالء اخلرباء يف
ولكن جناح األيديولوجيات الشهرية الذي ال خيتلف عنأكرب ،وكلَّما كان احلدث أقرب إىل جمال خربهتم ،أصبحت توقُّعاهتم أقل دقةَّ .
ٍ
حباجة إىل مراجعة مفهومنا عن أن علينا التشكيك يف النُ َخبَّ ،
وإمنا يعين أنَّنا جناح الشمبانزي ال يعين َّ
أن «اخلرباء» عدميو القيمة ،أو َّ
اخلبري .كان املتنبِّؤون اخلارقون يف دراسة تيتلوك:
..خرباءَ برامجاتيني استخدموا أدوات حتليلية عديدة ،وكان اختيار األداة يتوقَّف على املشكلة املعينة اليت يتناولوهنا ،مجع
يفكرون ،كانوا يتنقَّلون من فكرةٍ إىل هؤالء اخلرباء أكرب قد ٍر استطاعوا مجعه من أكرب ٍ
عدد ممكن من املصادر .وعندما كانوا ِّ
أخرى ،فشمل حديثهم إشارات انتقالية مثل « َّإمنا» ،و«لكن» و«رغم» و«على اجلانب اآلخر» ،وكانوا يتحدَّثون عن
كنت خمطئًا»َّ ،إال َّ
أن هؤالء اخلرباء اعرتفوا االحتماليات واملمكنات ال عن اليقينيات .ورغم أ ْن ال أحد حيب أن يقولُ « :
ٍ
بسرعة أكرب. وغريوا رأيهم
بذلك َّ
فهم يقعون يف اخلُمس التوقُّع الناجح هو انتقام املهووسني األذكياء ،واملتنبِّؤون اخلارقون أذكياء ولكنَّهم ليسوا بالضرورة عباقرةُ ،
وهم ذوو معرفةً كبرية بالعلم واحلساب ،ال يعين هذا براعتهم يف احلساب َّ
وإمنا يعين أنَّه يسهل األعلى من السكان من حيث الذكاءُ .
بسمات شخصية يطلق عليها علماء النفس «االنفتاح على التجربة» (الفضول الفكري ٍ ات ُتمينية ،ويتمتَّعونعليهم التفكري بتقدير ٍ
التنوع) ،و«احلاجة إىل اإلدراك» (التمتُّع بالنشاط الفكري) ،و«التعقيد املتكامل» (تقدير الشك ورؤية اجلوانب املتعددة)َّ .إهنم و ُحب ُّ
ويشكون يف حدسهم األويل ،ليسوا يساريني وال ميينيني ،ليسوا بالضرورة متواضعني فيما خيص قدراهتم ،ولكنَّهم ُّ مناهضون لالندفاع
كنوزا ال بد من محايتها» .يسألونمتواضعون بالفعل فيما خيص اعتقادات معينة ،فيعاملوهنا باعتبارها «فرضيات ال بد من اختبارها ،ال ً
كنت ٍ
دوما« :هل هناك ثغرات يف هذا االستدالل؟ هل ينبغي يل البحث عن شيء آخر لسد هذه الثغرات؟ هل سأقتنع لو ُ أنفسهم ً
شخصا آخر؟» َّإهنم واعون بالبقع ال عمياء يف اإلدراك مثل احنيازات التوفر والتأكيد (االحنياز للذات) ويضبطون أنفسهم لتجنُّبها، ً
ٍ
وميارسون ما يطلق عليها عامل النفس جوناثان بارون )« (Jonathan Baronاالنفتاح العقلي النشط» مع آراء كهذه:
واألهم من طبعهم العام أسلوهبم يف االستدالل والتفكري املنطقي ،املتنبِّؤون اخلارقون «بايزيون» ،أي يستخدمون ضمنًا قاعدة
القسيس بايز -الذي ُمسِّيت القاعدة تيمنًا به -لكيفية حتديث درجة إميان املرء بقضية ما يف ضوء األدلة اجلديدة ،ينطلقون من املعدل
صعودا أو هبوطًا بناءً على بوجه عام وعلى األمد الطويل ،مث يدفعون هذا التقديراألساسي للحدث املعين ،ما املعدل املتوقع حلدوثه ٍ
ً
مدى إشارة الدليل اجلديد إىل حدوث الفعل أو عدم حدوثه ،ويبحثون عن هذا الدليل اجلديد بنه ٍم ويتجنَّبون املبالغة يف االستجابة له
يغري كل شيء!») وكذلك االستجابة الضعيفة له («ال يعين هذا أي شيء!») («هذا ِّ
فعلى سبيل املثال ،فإن الساسة واملثقفني سيتخيلون السيناريو اخلاص بالتنبؤ القائل بأن «املتطرفني اإلسالميني يف غرب أوروبا سيشنون
هجوما بني يومي 21يناير و 31مارس من عام »2015والذي قيل بعد جمزرة شاريل إيبدو ( ،)Charlie Hebdoوسيوافقون ً
بالتأكيد على احتماليه حدوثه متأثرين بقانون التوفر ،وحىت ال يظهروا مبظهر السذج أو املتواطئني.
ٍ
بصوت عال ،قال إنه ولكن ليست هذه هي الطريقة اليت يُفكر هبا املتنبؤون اخلارقون ،فعندما طلب تيتلوك من أحدهم أن يفكر
بدأ حبساب املعدل األساسي عن طريق زيارة موسوعة ويكيبيديا ،مث حبث عن قائمة اهلجمات اإلرهابية اإلسالمية على أوروبا خالل
تغري منذ الربيع
أن العامل قد َّ السنوات اخلمس املاضية ،مث قسم النتيجة على 5واليت تنبأت بوقوع 1.2هجمة كل سنة ،ولكنه َّ
فكر يف َّ
العريب يف عام 2011لذا استبعد بيانات عام 2010مما زاد من املعدل األساسي ليصل إىل ،1.5وقد ازداد جتنيد داعش منذ هجمات
أيضا ،وبالتوفيق بني العاملني ،بدا من
ولكن اإلجراءات األمنية زادت كذلك ممَّا يستدعي خفضه ً شاريل إيبدو ،ممَّا يستدعى رفع املعدلَّ ،
توقعا بـ 1.8هجمة كل سنة ،وكان متبقيًّا من الفرتة املتوقع حدوث هجوم فيها 69 املنطقي رفع املعدل مبقدار اخلُمس تقريبًا ممَّا يعطينا ً
أن احتمالية حدوث هجوم إسالمي يف غرب أوروبا حىت يوما ،لذا قسم 69على 365وضرب نتيجة القسمة يف ،1.8وهذا يعين َّ ً
متاما.
هناية مارس كانت 1إىل 3تقريبًا .فاختالف طريقة التنبؤ يؤدي إىل تنبؤات خمتلفة ً
هناك صفتان أُخريان ُمتيزان املتنبئني اخلارقني عن املثقفني والشمبانزي ،فاملتنبؤون اخلارقون يؤمنون حبكمة اجلماهري ويطرحون
فرضياهتم كي ينتقدها اآلخرون ،أو يُعدلوهنا وجيمعون بني تقديراهتم وتقديرات اآلخرين ،ويؤمنون بقوة بالصدفة واحلوادث العارضة يف
عما إذا
كل من تيتلوك ( )Tetlockوميلرز ( )Mellersجمموعات خمتلفة من الناس َّ تاريخ البشرية يف مقابل احلتمية والقدر .سأل ٌ
كانوا يوافقون على مثل هذه األقوال:
أيضا على «ال أوافق» على األقوال وحسبا نقاطًا على اإلميان باحلتمية والقدر جبمع نقاط «أوافق» على األقوال املشاهبة للثالثة األوىل و ً
مكانة وسطى ،وحيرز الطالب اجلامعي امللتحق جبامعة راقية نقاطًا أقل بقليل ،وحيرز ٍ املشاهبة للثالثة األخرية ،يقع األمريكي العادي يف
أيضا ،وحيرز املتنبئ اخلارق نقاطًا أقل من اجلميع بينما يرفض املتنبئون اخلارقون الذين يتسمون بالدقة احلتميةَ
املتنبئ املتوسط نقاطًا أقل ً
بشدة ويتقبلون فكرة الصدفة.
يف رأيي ،ينبغي أن ُحيدث تقدير تيتلوك الشديد للخربة باملعيار األقصى ،أي التنبؤ ،ثورًة يف فهمنا للتاريخ والسياسة ونظرية املعرفة
دليال أكثر موثوقية للعامل من احلُكماء األذكياء والسرديات املستوحاة واحلياة الفكرية .ما الذي يعنيه اعتبار تعديل االحتماالت املتقن ً
عما
من منظومات فكرية؟ إضافةً إىل قرعنا على رؤوسنا برسالة تذكريية مفادها أن نتواضع أكثر وأن نكون منفتحني ،فإنَّه يعطينا حملة َّ
ات وعقود .حتدث الظواهر بسبب عدد ال ُحيصى من القوى الصغرية اليت تزيد من احتمالية حدوثها وحجمها أو يفعله التاريخ يف سنو ٍ
لكن العديد من املثقفني ومجيع املفكرين السياسيني ال يُفكرون هبذه الطريقة
ُتفيضهما وليس بسبب قوانني عامة وجدليات كربىَّ ،
قائال« :عندما ينظر
لألسف ،ورمبا من األفضل أن نعتاد ذلك .عندما طُلب من تيتلوك يف حماضرة عامة أن يتنبأ بطبيعة التنبؤ ،أجاب ً
مجهور 2515إىل مجهور ،2015سيكون احتقارهم لطريقتنا يف احلكم على النقاشات السياسية مساويًا الحتقارنا حملاكمات الساحرات
يف سامل عام .»1692
أيضا ،فطب ًقا لدراسة حديثة أجراها مركز بيو لألحباث ،كان حوايل ثُلث الدميقراطيني أكثر حمافظةً
حتيزا ً
أصبحت األحزاب أكثر ً
من اجلمهوري املتوسط يف عام 1994والعكس بالعكس ،وكانت هذه النسبة تُقارب 1من 20يف عام .2014على الرغم من ميل
األمريكيني من خمتلف االنتماءات السياسية إىل اليسار خالل سنة َّ ،2004إال َّأهنم اختلفوا منذ ذلك احلني على كل القضايا الكربى
األخرى عدا حقوق املثليني ،مبا يف ذلك اللوائح احلكومية واإلنفاق االجتماعي واهلجرة ومحاية البيئة وحجم القوة العسكرية .واألكثر
جدا»
مدعاةً للقلق أن كل جانب أصبح يكره اجلانب اآلخر أكثر ،ففي عام ،2014كانت لدى %38من الدميقراطيني آراءٌ «سلبية ً
أن احلزب اجلمهوري «يشكل عن احلزب اجلمهوري (بعد أن كانت النسبة %16يف عام )1994وأكثر من ُربْع الدميوقراطيني رؤوا َّ
هتديدا على رفاهة البلد» ،وكان اجلمهوريون أكثر عدائيةً حىت من الدميقراطيني ،ولدى %43منهم صورة سلبية عن احلزب الدميقراطيً
هتديدا .وأصبح األيديولوجيون أكثر مقاومةً للتنازل وقبول احللول الوسط.
يشكل ًوأكثر من الثُلث يرونه ِّ
اعتداال بشأن هذه اآلراء ،ومل تتغري نسبة الفئة اليت تسمي نفسها معتدلةً خالل 40
ً حلسن احلظَّ ،
فإن أغلبية األمريكيني أكثر
سنة ،ولكن من سوء احلظ ،فإ َّن املتطرفني هم من مييلون أكثر إىل التصويت ملمثليهم والتربع هلم والضغط عليهم .وبتعب ٍري ألطف ،ليس
أي من هذا منذ إجراء الدراسة يف عام .2014 هناك ما يدل على حتسن ًّ
جيب أن تكون اجلامعات ساحة لتنحية التحيزات السياسية واالستكشاف املنفتح ملعرفة الطريقة اليت يعمل هبا العامل ،ولكن يف
أيضا -ليست أكثر
الوقت الذي حنن فيه بأشد احلاجة إىل هذه الساحة النزيهة ،أصبحت األوساط األكادميية ُمسيسة أكثر من ذي قبل ً
ولكن هذا امليل أصبح يزداد باطراد ،يف عام 1990كان استقطابًا َّ
وإمنا أكثر يساريةً .لطاملا كانت اجلامعات أكثر ليربالية من العامةَّ ،
%42من هيئة التدريس منتمني ألقصى اليسار أو ليرباليني (أكثر من العامة بـ 11نقطة مئوية) ،وكان %40منهم معتدلني ،و%18
منهم ينتمون ألقصى اليمني أو كانوا حمافظني ،فكانت نسبة اليسار إىل اليمني 2.3إىل َّ .1أما يف عام 2014فكان %60منتمني
ألقصى اليسار أو ليرباليني (أكثر بـ 30نقطة مئوية من العامة) ،و %28معتدلني ،و %12حمافظني ،فكانت نسبة اليسار إىل اليمني
تبعا للمجال ،فأقسام األعمال وعلوم الكمبيوتر واهلندسة وعلوم الصحة ُم َقسمة بالتساوي ،بينما العلوم 5إىل ُ .1تتلف النسب ً
عددا بنسبة 2
اإلنسانية والعلوم االجتماعية يسارية بالتأكيد ،فنسبة احملافظني منهم تُعد على أصابع اليد الواحدة ويفوقهم املاركسيون ً
لكن
إىل .1ويقع أساتذة العلوم البيولوجية والفيزيائية يف املنتصف مع عدد قليل من الراديكاليني ،ودون ماركسيني على اإلطالق تقريبًاَّ ،
عددا بصورة كبرية.
الليرباليني يفوقون احملافظني ً
نوعا ما ،إذ ال بد للبحث الفكري من حتدي إن ميل األوساط األكادميية (وكذلك جمال الصحافة واحلياة الفكرية) لليربالية طبيعي ً َّ
أبدا .واالقرتاحات املصوغة شفهيًا -وهي رصيد املثقفني يف السوق -مالئمة للسياسات املدروسة الوضع الراهن الذي ال يكون مثاليًا ً
اليت يفضلها الليرباليون أكثر من النماذج املنتشرة للتنظيم االجتماعي مثل األسواق واألعراف التقليدية اليت يفضلها احملافظون عادةً .وامليل
أيضا ،فقد كانت الليربالية الفكرية يف صدارة العديد من أشكال التقدم اليت تقبلها اجلميع تقريبًا مثل الدميقراطيةمرغوب ً
ٌ لليربالية باعتدال
كل من العبودية والتعذيب القانوين وتضاؤل احلروب وتوسع نطاق حقوق اإلنسان واحلقوق والتأمينات االجتماعية والتسامح الديين وإلغاء ٍّ
املدنية ،ومجيعنا اآلن ليرباليون (تقريبًا) من عدة نو ٍاح.
ٍ
مبجموعة ذات مصاحل مشرتكة ،فقد تتعطل مهارات التفكري النقدي لدى أعضاء هذه لكنَّنا رأينا أنَّه عندما ترتبط عقيدة ما
بأن هذا ما حدث مع كث ٍري من األوساط األكادميية .وقد أوضحت يف كتايب الصفحة البيضاء
اجملموعة ،وهناك أشياء تدفعنا إىل االعتقاد َّ
)( (The Blank Slateصدرت منه نسخة حمدَّثة يف عام )2016كيف َّ
شوهت السياسة اليسارية دراسة الطبيعة البشرية مبا فيها
اجلنس والعنف واجلنسانية وتنشئة األطفال والشخصية والذكاء .وثَّق تيتلوك مع علماء النفس خوسيه دواريت ( )José Duarteوجاريت
كراوفورد ( )Jarret Crawfordوتشارلوتا سترين ( )Charlotta Sternوجوناثان هايت ( )Jonathan Haidtويل جوسيم
بيان حديث ميل علم النفس االجتماعي إىل اليسار وأظهر كيف أثَّر ذلك سلبًا على جودة البحث ،ونادوا ( )Lee Jussimيف ٍ
بتعددية سياسية أكرب يف علم النفس مستشهدين بقول جون ستيوارت ميل )« :(John Stuart Millمن ال يعرف سوى جانبه
من القضية ،ال يعرف عنها سوى القليل» ،وقصدوا التعددية احلقيقية اليت تصنع فارقًا (خبالف التعددية الصورية اليت يسعى إليها اجلميع
وحتديدا تعددية األشخاص الذين يبدون خمتلفني ولكنَّهم ِّ
يفكرون بالطريقة نفسها). ً غالبًا،
ولكن هذا االحرتام بعيد كل البعد عن العاملية ،فعندما
وحي َسب لعلم النفس األكادميي أنَّه تقبَّل نقد دواريت وزمالئه باحرتامَّ ،ُ
استشهد نيكوالس كريستوف ) ،(Nicholas Kristofالكاتب الصحفي بصحيفة نيويورك تاميز )،(New York Times
أكدت ردود الفعل الغاضبة أسوأ االهتامات املوجهة هلم (كان التعليق الذيمبقال دواريت وزمالئه بصورة إجيابية وقدم وجهة نظر مماثلةَّ ،
عدد من اإلعجابات« :ال نريد تعددية مع احلمقى») .وقد أصبح فصيل من الثقافة األكادميية املكون من أعضاء هيئة حظي بأكرب ٍ
التدريس من أقصى اليسار والطالب النشطاء والبريوقراطيني التعدديني املستقلني (والذين يطلق عليهم على سبيل االزدراء املدافعني عن
أن العنصرية هي سبب كل املشاكل يُلقَّب بالعنصري ،وتُلغىالعدالة االجتماعية) غري ليرباليني بشدة ،فأي شخص ال يتفق مع افرتاض َّ
دعوات كث ٍري من املتحدثني غري اليساريني بعد االحتجاجات أو تطغي عليهم أصوات احلشود الساخرة ،وقد تُفضح إحدى الطالبات
ٍ
لضغوط من أجل ويتعرض أساتذة اجلامعة
مثريا للجدلَّ ،
علنًا عن طريق عميد كليتها بسبب بريد إلكرتوين خاص تعترب فيه كال اجلانبني ً
جتنب إلقاء حماضرات عن املواضيع املثرية لالستياء وخيضعون لتحقيقات ستالينية بسبب آراء ال تتَسم باللباقة السياسية .يتحول هذا
القمع غالبا دون قصد إىل مسرحية هزلية ،فتضم اإلرشادات التوجيهية لعمداء الكليات للكشف عن «االعتداءات الصغرية» عبار ٍ
ات ً
ٍ
مثل« :أمريكا هي أرض ال ُفرص» و«أعتقد أن الوظيفة جيب أن تكون من نصيب األكفأ» ،وسخر الطالب من أستاذ جامع ٍي وسبوه
كثريا بشأن أزياء اهلالوين التنكرية ،وأُلغيت دورة يوجا أل َّهنا َّ
ألنَّه دعاهم ملناقشة خطاب من زوجته تقرتح فيه أال يشغل الطالب باهلم ً
تعترب «ضد الثقافة األمريكية» .واملمثلون الكوميديون غري راضني عن هذا الوضع ،فيخشى كلٌّ من جريي ساينفيلد ( Jerry
ألن بعض الطالب )Seinfeldوكريس روك ( )Chris Rockوبيل مار ( )Bill Maherوغريهم تقدمي عروض يف اجلامعات َّ
حتما سيغضبون من ٍ
نكتة ما. ً
جيب علينا أن نردع املتطرفني من اليمني عن حتيزهم ورفضهم ألي فكرة ناشئة من اجلامعة ال توافق أهواءهم ،يتبىن الوسط األكادميي
العديد من اآلراء املختلفة ،ويلتزم مبعايري مصممة لتعزيز البحث النزيه عن احلقيقة مثل مراجعة األقران والتثبيت الوظيفي والنقاش املفتوح
وضرورة االقتباس والدليل التجرييب ،وإن كانت هذه املعايري ال تُطبَّق على النحو األمثل .تعزز اجلامعات والكليات النقد املخالف للسائد
كنوزا معرفية عظيمة للعامل ،والساحات البديلة مثل املدونات وتويرت وأخبار وكاالت األنباء
املذكور هنا ويف األوساط األخرى بينما تقدم ً
ُ
والكوجنرس ليست مناذج مثالية للموضوعية والدقة!
كثريا (وال أحد
إن النموذج السياسي أخطر من النموذج األكادميي يف إفساد املنطق يف الوقت احلايل ،وهلذا سبب واضح ،يُقال ً
جداَّ ،أما املناظرات السياسية فاملخاطر إن املناظرات األكادميية تكون خبيثة َّ
ألن املخاطر الناجتة عنها ضئيلة ً يعلم من أول من قال ذلك) َّ
الناجتة عنها ال حد هلا وقد تصل إىل مستقبل الكوكب ،فالساسة ميلكون زمام السلطة خبالف أساتذة اجلامعة .يف أمريكا القرن احلادي
مقتنعا بصواب قضيتهوالعشرين ،أصبحت سيطرة احلزب اجلمهوري على الكوجنرس مهلكة ألنَّه أصبح مرادفًا للحق املطلق ،وكان احلزب ً
وبفساد قضية منافسيه لدرجة تقويضه مؤسسات الدميقراطية حىت ينفذ ما يريد ،وتضمنت صور الفساد تزوير االنتخابات وفرض قيود
على التصويت كي يقل عدد الناخبني الدميقراطيني وتشجيع تربعات أصحاب املصاحل األثرياء وعرقلة ترشيحات احملكمة الدستورية العليا
حىت يسيطر حزهبم على الرئاسة ،وتعطيل عمل احلكومة عند عدم تنفيذ معظم مطالب احلزب ،والدعم غري املشروط لدونالد ترامب
وجتاهلهم حىت العرتاضاهتم أنفسهم على نزعاته الواضحة املضادة للدميقراطية .جيب أن تظل آليات التشاور الدميقراطي مصونة مهما
كانت اخلالفات السياسية أو الفلسفية بني األحزاب ،فقد َّأدى تقويض هذه اآلليات على يد اليمني بصورةٍ خاصة إىل اقتناع كث ٍري من
الناس ،مبا فيهم جزء متزايد من الشباب األمريكيَّ ،
بأن احلكومة الدميقراطية فاشلة بطبيعتها وأصبحوا متشائمني من الدميقراطية نفسها.
مفكرا حمافظًا عندما تتحول السياسة األمريكية ِّ
بعضا ،فيصعب أن تكون ً يغذي كلٌّ من االستقطاب الفكري والسياسي بعضهما ً
احملافظة إىل حزب «ال أعرف شيئًا» بدايةً من رونالد رجيان إىل دان كويل إىل جورج بوش االبن إىل سارة بالني إىل دونالد ترامب .وعلى
كل من ساسة اهلوية وشرطة اللباقة السياسية واملدافعني عن العدالة االجتماعية على اليسار الباب للثرثارين
اجلانب اآلخر ،تفتح سيطرة ٌ
الذين يتفاخرون «بقول احلقيقة كما هي» .وحتدي عصرنا هو كيفية تبين ثقافة فكرية وسياسية يقودها العقل املنطقي وليس القبلية أو رد
الفعل.
يبدأ جعل العقل طريقتنا يف احلوار بإيضاح مركزية املنطق نفسه ،فكما ذكرت ،هناك الكثري من املعلِّقني الذين خيتلط عليهم املنطق .وال
أن «البشر غري منطقيني» وأنَّه ال فائدة من حماولة جعل مناقشاتنا أكثر منطقيةً ،ولو كان يعين اكتشاف التحيزات املعرفية والعاطفية َّ
معيارا للعقالنية نُقيِّم على
البشر غري قادرين على العقالنية ،مل ن ُكن لنستطيع اكتشاف ما جيعلهم غري عقالنيني ألنَّنا مل ن ُكن لنملك ً
أن هذا ال ينطبق أساسه ُحكم اإلنسان وال طريقةً جنري هبا هذا التقييم .قد يكون البشر ُمعرضني للتحيز واخلطأ ،ولكن من الواضح َّ
إن البشر ُمعرضون للتحيز واخلطأ .الدماغ البشري قادر بالفعل على أن يكون على اجلميع وال طوال الوقت َّ
وإال فلن حيق ألحد أن يقول َّ
منطقيًّا يف الظروف املناسبة ،وتكمن املشكلة يف حتديد هذه الظروف وتثبيتها.
هلذا السبب نفسه ،ينبغي للكتاب الصحفيني التوقف عن ذكر الكليشيه اجلديد بأنَّنا يف «حقبة ما بعد احلقيقة» َّإال إذا كانوا
أن علينا أن نقبل بوجود الدعاية واألكاذيب ض َّيستطيعون مواصلة احلديث هبذه النغمة الساخرة الالذعة ،فهذا املصطلح ُمدمر ألنَّه يف ِرت ُ
وأن نواجهها بأكاذيب أكرب .لسنا يف حقبة ما بعد احلقيقة ،فكلٌّ من الكذب وإخفاء احلقيقة ونظريات املؤامرة واألوهام الغريبة الشائعة
بأن بعض األفكار صحيحة وبعضها غري صحيح قدميٌ كذلك ،فنفس العقد وجنون اجلماهري قدمي قِدم اجلنس البشريَّ ،
ولكن االقتناع َّ
أيضا صعود مبدأ تقصي احلقائق .الحظت آجني هوالن ( Angie الذي شهد صعود ترامب املفضوح بالكذب وأنصاره اجملانني شهد ً
)Holanحمررة موقع PolitiFactوهو موقع لتقصي احلقائق مت إطالقه يف عام َّ 2007
أن:
«العديد» من إعالميي التلفزيون يف الوقت احلايل بدؤوا يستخدمون تقصي احلقائق واآلن يستجوبون املرشحني خبصوص
عما إذا كانت تصرحياهتم أن من التحيز سؤال الناس َّ قضايا حتري الدقة أثناء مقابالهتم على اهلواء ،وال يعتقد معظم الناخبني َّ
أن 8أو أكثر اليت تبدو مبنيةً على احلقائق دقيقةً أم ال ،وأظهر حبث نشره معهد الصحافة األمريكية يف مطلع هذا العام َّ
من بني كل 10أمريكيني ينظرون إىل فكرة تقصي احلقائق يف السياسة نظرًة إجيابية.
أن مؤسساهتم اإلعالمية بدأت بتسليط الضوء على تقصي احلقائق يف تقاريرهم يف الواقع ،خيربين الصحافيون باستمرار َّ
ألن العديد من الناس ينقرون على املقاالت اليت تتقصي احلقائق بعد مناظرةٍ أو ٍ
حدث إخباري هام ،يريد العديد من ال ُقراء َّ
أيضا ،ويشكون علنًا ألمناء املظامل وممثِّلي القراء عندما
اآلن أن يكون تقصي احلقائق جزءًا من األخبار الصحافية التقليدية ً
خربا صحافيًا يكرر ِّادعاءات زائفة غري موثوقة.
يشاهدون ً
كثريا يف العقود السابقة عندما كانت الشائعات تتسبب يف مذابح وأعمال شغب وإعدامات دون حماكمة كان هذا املبدأ سيفيدنا ً
وحروب (مبا يف ذلك احلرب األمريكية اإلسبانية يف عام 1898وتفاقم حرب فيتنام عام 1964وغزو العراق عام 2003وكثري
غريها) .ومل يُطبق هذا املبدأ بقوة كافية ملنع ترامب من الفوز عام ،2016ولكن منذ ذلك أصبحت أكاذيبه وأكاذيب املتحدثني نيابةً
عنه موضع سخرية الذعة يف اإلعالم والثقافة الشعبية ممَّا يعين َّ
أن املوارد الالزمة النتصار احلقيقة موجودة ،حىت وإن كانت ُتسر أحيانًا.
على املدى البعيد ،ميكن أن حتد مؤسسات العقل من مأساة مشاع االعتقادات وتتيح للحقيقة االنتصار .وعلى الرغم من كل ال
أن عددا قليال فقط من األشخاص املؤثِّرين اليوم يؤمنون باملذؤوبني واحلصان وحيد القرن والساحرات واخليمياء والتنجيم
عقالنيتناَّ ،إال َّ
واحلجامة والغيوم الناقلة للمرض والتضحية باحليوانات وحق امللوك اإلهلي يف احلكم والنبوءات اخلارقة للطبيعة يف أقواس قزح واخلسوف.
فمؤخرا أثناء طفوليت ،أدان قاضي فريجينيا ليون بازيل ( )Leon Bazileزواج ريتشارد ً أيضا،
وميكن جتاوز الال عقالنية األخالقية ً
وميلدريد الفنج (َّ )Richard and Mildred Loving
ألهنما من عرقني خمتلفني حبجة ال يستطيع تقدميها أجهل احملافظني
اليوم ،وهي:
ارتكب الطرفان أخطر جرمية ،وكانت اجلرمية خمالفة للقانون العام املعلن القائم على السياسة العامة اليت يعتمد عليها النظام
االجتماعي واألخالق العامة واملصاحل العليا لكال العرقني..فقد خلق اهلل تعاىل األعراق بيضاء وسوداء وصفراء ومالوية ومحراء
يوضح أنَّه مل يُرد لألعراق أن ُتتلط.
ات منفصلة ،وفصله بني األعراق ِّ وأسكنهم قار ٍ
ومن املفرتض َّأال يقتنع معظم الليرباليني بالدفاع الذي قدمته سوزان سونتاج ( )Susan Sontagعن كوبا يف ظل حكم كاسرتو يف
عام 1969قائلةً:
احلسية واهللع ،وال يتَّسمون باجلفاف واالستقامة اخلطية اليت تتَّسم هبما ثقافة الطباعة.
يألف الكوبيون التلقائية واملرح و ِّ
فإن مشكلتهم عكس مشكلتنا تقريبًا ،وعلينا أن نتعاطف مع جهودهم من أجل حلها. باختصارَّ ،
ِّ
ولشكنا يف تزمت الثورات اليسارية التقليدي ،فيجب على الراديكاليني األمريكيني أن يفكروا مبوضوعية عندما تصبح دولة
قليال بشأن
أساسا باملوسيقى الراقصة والعاهرات والسيجار واإلجهاض وحياة املنتجعات واألفالم اإلباحية متشددة ًمعروفة ً
األخالقيات اجلنسية وتقرر يف حلظة سيئة منذ عامني أن جتمع اآلالف من مثليي اجلنس يف هافانا وترسلهم إىل مزرعة إلعادة
تأهيل أنفسهم.
ما الذي ميكن فعله لتحسني معايري التفكري املنطقي؟ ال يكون استخدام احلقائق واملنطق يف اإلقناع ،وهي االسرتاتيجية األكثر مباشرةً،
دائما ،نعم ،قد يتمسك الناس أحيانًا باعتقادات رغم خمالفتها مجيع احلقائق مثل لوسي يف املسلسل الكرتوين البينتس: دون جدوى ً
أن الثلج خيرج من األرض ويصعد إىل السماء حىت وهي تدفن ٍ
ببطء حتت الثلوج سنوبي وتشارلي براون ) (Peanutsاليت َّ
أصرت َّ
ُ
حدودا هلذا التمسك ،فعندما يُواجه الناس ألول مرةٍ مبعلومات تتعارض مع مواقفهم الراسخة ،يلتزمون هبا أكثر ً ولكن هناكاملتساقطةَّ .
ٍ
باعتقاد ما كما هو متوقع طب ًقا لنظريات اإلدراك املدفوع حبماية اهلوية واالستدالل املدفوع وتقليل التنافر املعريف .عندما يشعر املؤمنون
أن هناك جزءًا آخر من عقل اإلنسان بأن هويتهم مهددة يزدادون متس ًكا باعتقادهم وجيمعون ذخريةً أكرب لصد هذا التهديد ،لكن مبا َّ
َّ
يبقيه على ٍ
اتصال بالواقع ،فمع تراكم األدلة املضادة ،يزداد التنافر حىت يصبح غري حمتمل ويسقط الرأي ،وهي ظاهرة تسمى نقطة التحول
الوجدانية .تعتمد نقطة التحول الوجدانية على التوازن بني مدى الضرر الذي سيلحق بسمعة صاحب الرأي بتخليه عن رأيه وما إذا كان
لوما للجميع مثل إمرباطور عا ٍر أو ٍ
فيل يف الغرفة .وكما رأينا يف الفصل العاشر ،فقد بدأ هذا حيدث وعاما فيكون مع ً
صارخا ًّ
الدليل املضاد ً
مع الرأي العام يف التغري املناخي ،وميكن أن يتحول رأي السكان كلهم عندما تُغري نواة ناقدة من املؤثرين رأيها فيتبعها البقية ،أو عندما
حيل حمل اجليل القدمي جيل آخر ال يتمسك بنفس املبادئ الدوغمائية (التقدم جنازة تلو األخرى).
يؤثر املنطق يف الغالب على اجملتمع ككل ببطء ،وسيكون من األفضل تسريع هذه العملية ،واألماكن البديهية لتطبيقها هي اإلعالم
ط املؤيدون للمنطق على املدارس واجلامعات إلقرار مناهج دراسية تتضمن «التفكري النقدي» ٍ
لعقود عديدة ،حيث والتعليم .وقد ضغ َ
يُنصح الطُالب بالنظر جلانيب أي قضية ،ودعم آرائهم باألدلة واكتشاف املغالطات املنطقية مثل احلجة الدائرية والتحريف واالحتكام إىل
السلطة والشخصنة واختزال قضية معقدة يف أبيض أو أسود .وهناك برامج متعلقة باملوضوع تسمى «احلد من التحيز» حتاول حتصني
الطالب ضد املغالطات املعرفية مثل قانون التوفر واحنياز التأكيد.
عندما طُرحت هذه الربامج ألول مرة ،كانت نتائجها حمبطة ممَّا أدى إىل التشاؤم خبصوص ما إذا كنَّا سنستطيع جعل رجل الشارع
يوما ما ،لكن مامل يكن علماء النفس املعرفيون من ساللة متفوقة من اجلنس البشري ،فإن هناك شيئًا ما يف تعليمهم ِّ
يفكر بطريقة منطقية ً
يكمن ٍ
بصرهم باملغالطات املعرفية وكيفية جتنُّبها ،وال يوجد سبب للقول بأن هذه املعرفة التنويرية ال ميكن تطبيقها على نطاق أوسعُ .َّ
دائما تطبيقه من أجل فهم قصور املنطق ،أظهرت نظرةٌ أخرى على التفكري النقدي وبرامج احلد من التحيز مامجال املنطق يف أنَّه ميكن ً
الذي يؤدي إىل جناحها أو فشلها.
يعرف الباحثون يف جمال التعليم هذه األسباب ،سيكون أي منهج عدمي اجلدوى إذا كان عبارة عن ُحماضر يُثرثر أمام سبورة أو
ملون .ال يستوعب الناس املفاهيم سوى عندما يضطرون إىل إمعان التفكري فيها أو كتاب دراسي حيدد فيه الطالب بعض اجلمل بقلم َّ
أن الطالب ال ينقلون مناقشتها مع اآلخرين أو استخدامها حلل املشكالت .إحدى العراقيل األخرى اليت تقف أمام التدريس الفعال هو َّ
مثال حمدد إىل غريه يف نفس الفئة ،فالطالب امللتحقون مبادة الرياضيات الذين يتعلَّمون كيفية ترتيب فرقة استعراضيةبتلقائية ما تعلَّموه من ٍ
صفوف زوجية باستخدام مبدأ املضاعف املشرتك األصغر يتعثَّرون عندما يُطلب منهم ترتيب صفوف من اخلضروات يف حديقة. ٍ يف
وك ذلك لن يستطيع الطالب يف دورة التفكري النقدي الذين يتعلمون كيفية تناول الثورة األمريكية من وجهيت النظر األمريكية واإلجنليزية
التمادي لدرجة التفكري يف رؤية األملان للحرب العاملية األوىل.
استنادا إىل الدروس املستفادة من
ً مؤخرا برامج احلد من التحيز لتعزيز مناهج التفكري النقدي واملنطقي،
ابتكر علماء النفس ً
التجارب السابقة ،وهي تشجع الطالب على اكتشاف املغالطات ومعرفتها باالسم وتصحيحها يف سياقات كثرية متنوعة .تستخدم
وحتول بعضها
بعض املناهج ألعاب الكمبيوتر يف تدريب الطالب ،وتعقِّب على أدائهم مبا يتيح هلم رؤية العواقب الفادحة ألخطائهمُ ،
األخرى العبارات الرياضية املبهمة إىل سيناريوهات حمددة ميكن تصورها.
مجع تيتلوك ممارسات املتنبِّئني اخلارقني يف صورة جمموعة إرشادات توجيهية للحكم السليم (على سبيل املثال :ابدأ باملعدل األساسي،
مصدرا للمعايرة). تعطها أقل من حجمها ،وال حتاول تربير أخطائك بل استخدمها واحبث عن األدلة وال تبالغ يف رد فعلك عليها وال ِ
ً
ٍ
موضوعات أخرى. ثبتت فعالية هذه الربامج وبرامج أخرى ،فاحلكمة اجلديدة اليت تتولَّد لدى الطالب تدوم بعد دورة التدريب وتنتقل إىل
كشرط مسبق للتفكري يف أي ٍ
شيء آخرَّ ،إال رغم هذه النجاحات ورغم ضرورة امتالك القدرة على التفكري النقدي غري املتحيز ٍ
َّ
أن القليل من املؤسسات التعليمية اُتذت حتسني العقالنية هدفًا هلا (مبا يف ذلك جامعيت ،وقد حتولت اقرتاحايت أثناء مراجعة املناهج
بأنَّه ينبغي جلميع الطالب معرفة االحنيازات املعرفية إىل ٍ
هباء منثور) .وقد ناشد العديد من علماء النفس ُتصصهم بـ «تقدمي احلد من
التحيز للعامل» كأحد أعظم إسهاماته يف رفاهة البشرية.
قد يكون التدريب الفعال على التفكري النقدي واحلد من التحيز املعريف غري ٍ
كاف لعالج اإلدراك املدفوع حبماية اهلوية والذي جيعل الناس
انتشارا يف اجملال السياسي ،وخيطئ العلماء حىت اآلن
ً يتمسكون بأي رأي يُعزز من رفعة قبيلتهم ومكانتهم فيها .وهذا هو املرض األكثر
بدال من العقالنية قصرية النظر النابعة من مأساة مشاع االعتقادات .وكما الحظيف تشخصيه مشريين إىل الال عقالنية واجلهل العلمي ً
ٍ
وبصوت أعلى. أحد الكتاب ،فالعلماء يعاملون العامة كما يعامل اإلجنليز األجانب ،فهم يتحدثون ببطء
أيضا على قواعد إ ًذا ،ال يعتمد جعل العامل أكثر منطقيةً على جمرد تدريب الناس كي ِّ
يفكروا مبنطقية أكثر مث تركهم ،وإمنا يعتمد ً
أن القواعد الصحيحة ميكن أن تتالىف احلوار يف أماكن العمل والدوائر االجتماعية وساحات اجلدال واُتاذ القرار .أظهرت التجارب َّ
مأساة مشاع االعتقادات وجترب الناس على فصل تفكريهم عن هويتهم .هناك طريقة اكتشفها احلاخامات منذ ٍ
وقت طويل ،وهي إجبار
طُالب اليشيفا على وضع أنفسهم مكان اآلخر أثناء املناقشات التلمودية والدفاع عن وجهة نظر اخلصم ،وهناك طريقة أخرى وهي أن
حياول الناس التوصل إىل إمجاع يف جمموعات نقاش صغرية ،وجيربهم ذلك على الدفاع عن آرائهم أمام أفراد جمموعتهم ،وتنتصر احلقيقة
عادةً .واكتشف العلماء أنفسهم اسرتاتيجية جديدة تُسمى تعاون اخلصوم ،وفيها يتعاون ألد األعداء بعضهم مع بعض من أجل الوصول
إىل حل إشكالية ما ،وجيرون اختبارات جتريبية يتفقون مسب ًقا على َّأهنا ستحل اإلشكالية.
ميكن جملرد طلب تفسري الرأي أن يُفقد الناس ثقتهم الزائدة يف آرائهم ،فأكثرنا خمدوعون يف درجة فهمنا للعامل وهو حتيز معروف
السحاب وهم ُعمق الفهم ) ،(Illusion of Explanatory Depthفعلى الرغم من أننا نعتقد أنَّنا نفهم كيفية عمل َّ يسمى َ
أو القفل األسطواين أو املرحاضَّ ،إال أنَّه مبجرد أن يُطلب منَّا شرح طريقة عمل هذه األشياء نشعر بالذهول ونضطر إىل االعرتاف بأنَّنا
أيضا على القضايا السياسية الساخنة ،فعندما يُطلب من املؤيدين بشدة لربنامج «أوباما كري» أو اتفاقية التجارةال نعلم .ينطبق هذا ً
تقبال للحجج فعال ،يدركون َّأهنم ال يعلمون عنها شيئًا ويصبحون أكثر ً
احلرة ألمريكا الشمالية ( )NAFTAشرح هذه السياسات ً
توصل عاملا
حتيزا عندما يشاركون بأنفسهم ويتحملون تبعات آرائهمَّ . أن الناس يكونون أقل ًاملضادة .واألكثر أمهية على اإلطالق هو َّ
األنثروبولوجيا هوجو مريسييه ( )Hugo Mercierودان سبريبر ( )Dan Sperberمن مراجعتهما للمؤلفات عن العقالنية إىل
حد بعيد على التفكري املنطقي بطريقة غريأنَّه «خبالف التقديرات املتشائمة الشائعة لقدرة البشر على التفكري املنطقي ،فهم قادرون إىل ٍ
ُ
بدال من حماولة الفوز يف مناظرة».
متحيزة ،على األقل عندما يُقيِّمون احلجج وليس عندما يعرضوهنا ،وكذلك عندما يسعون وراء احلقيقة ً
ميكن للقواعد يف ساحات معينة أن تزيد من غبائنا أو ذكائنا بصورٍة مجاعية ،وهبذه الطريقة ميكن حل اإلشكالية اليت تظهر
أن مستوى العقالنية ينحدر يف العامل يف عصر به معرفة غري مسبوقة وأدوات ملشاركتها .اإلجابة باستمرار يف هذا الفصل وهي :ملاذا يبدو َّ
أن املرضى يف املستشفيات ميوتون بصورة متزايدة بسبب أن مستوى العقالنية مل ينحدر يف معظم الساحات ،فليس األمر كما لو َّ هي َّ
أن األكل يتعفَّن على أرصفة املوانئ َّ
ألن الناس ال يعرفون كيفية نقله إىل املتاجر. أن الطائرات تتساقط من السماء ،أو َّالدجل ،أو َّ
بنجاح قد ارتفع. فقد أظهرت الفصول اليت حتدثت عن التقدم َّ
أن مستوى براعتنا اجلمعية يف حل مشاكل اجملتمع ٍ
الصحف طٌرقها التقليدية فنحن بالفعل نشهد انتصار جيوش املنطق على احلدس واملبادئ الدوغمائية يف ٍ
فتكمل ُ
جمال تلو اآلخرِّ ،
املستقبل إىل مدى أبعد باستخدام طريقة تفكري
َ و«نقدها» خبرباء اإلحصاء وفرق تقصي احلقائق ،ويرى عا َمل االستخبارات الغامض
املتنبئني اخلارقني البايزية ،ويُعيد الطب القائم على األدلة تشكيل نظام الرعاية الصحي (وهو ما كان من املفرتض أن حيدث منذ زم ٍن
عالج مبىن على تعقيبات املريض على العملية العالجية ورؤيته هلا ،واخنفضت
وحتول العالج النفسي من األريكة واملفكرة إىل ٍ طويل)َّ ،
معدالت اجلرمية يف نيويورك ومدن أخرى باستخدام نظام حتليل بيانات فوري يسمى كومبستات ( .)Compstatوتسرتشد املساعدات
املوجهة للعامل النامي اآلن بالراندوميستاس ( ،)Randomistasوهم علماء اقتصاد جيمعون بيانات من جتارب عشوائية للتمييز بني َّ
فعال.
الربامج الشائعة اليت ال تفيد والربامج اليت ُحت ِّسن حياة الناس ً
كما تنتقد حركة «اإليثار الفعال» التطوع والتربعات اخلريية ،وهي حركة تُفرق بني األعمال اخلريية اإليثارية اليت ُحت ِّسن حياة املستحقني
واألعمال اليت ُحتسن صورة املتربعني .وشهدت األلعاب الرياضية ظهور طريقة «كرة املال» ( )Moneyballيف اإلدارة ،وفيها تُقيم
بدال من احلدس واملعرفة التقليدية ممَّا يتيح للفرق األذكى االنتصار على الفرق األغىن االسرتاتيجيات والالعبون بالتحليل اإلحصائي ً
وإعطاء املشجعني مواضيع جديدة للحوار خالل فرتة تنقالت الالعبني بعد انتهاء املوسم .وظهر يف عامل املدونات اجملتمع العقالين الذي
يُشجع الناس على أن تكون آراؤهم «أقل خطأً» بتطبيق طريقة التفكري البايزية والتعويض عن االحنيازات املعرفية .وأدى تطبيق الرؤى
السلوكية (اليت يُطلق عليها أحيانًا ” )“Nudgeوالسياسات القائمة على األدلة يف أعمال احلكومة اليومية إىل مزايا اجتماعية أكثر
من أموال ضرائب أقل.
إن العامل يزداد عقالنية يف ٍ
جمال تلو اآلخر.
هناك بالطبع استثناء واضح وهو سياسات االنتخاب والقضايا املتعلقة هبا ،فقواعد اللعبة هنا مصممة برباعة إلظهار ال عقالنية
الناس ،فالناخبون ميلكون قر ًارا بشأن قضايا ال تؤثر عليهم بشكل شخصي وال يتوجب عليهم تثقيف أنفسهم فيها أو تربير موقفهم
منها .وتُوضع بنود جدول األعمال العملية مثل التجارة والطاقة يف سلة واحدة مع القضايا األخالقية الساخنة مثل القتل الرحيم وتدريس
جمموعة ٍ
بنود بتحالف له دوائر انتخابية جغرافية وعرقية وإثنية .ويغطى اإلعالم االنتخابات َّ
كأهنا سباق خيل ِ نظرية التطور ،وتُلحق كل
وحيلل القضايا عن طريق حتريض املؤيدين لأليديولوجيات بعضهم ضد بعض يف مباريات ساخنة.
وتُبعد كل هذه السمات الناس عن التحليل املنطقي وتوجههم ناحية التعبري احلماسي عن أنفسهم .بعضها نتيجة التصور اخلاطئ
السلطة ومسؤولة أمام
أن مزايا الدميقراطية تعتمد أكثر على وجود حكومة مقيدة ُ بأن مزايا الدميقراطية تأيت من االنتخابات ،يف حني َّ
َّ
مواطنيها ويقظة لنتائج سياساهتا (الفصل الرابع عشر) .نتيجةً لذلك ،رمبا تكون اإلصالحات املصممة جلعل احلكم أكثر «دميقراطية»
ُ
تأثرا باهلوية وأقل عقالنية .املعضالت جزء ال يتجزأ من الدميقراطية وهي
مثل االستفتاءات واالنتخابات املباشرة قد َّأدت إىل جعله أكثر ً
فوري ،لكن ينبغي البدء مبعرفة أسوأ املشاكل احلالية ووضع أهداف للحد منها.
حل ٌّ
حمل جدال منذ عصر أفالطون ،وليس هلذه املشاكل ٌ
أن «نزاعات اجلمهور املريرة عن العلم هي عندما ال ُتضع القضايا للتسييس ،فإن الناس يفكرون فيها بعقالنية ،والحظ كاهان َّ
يف احلقيقة االستثناء وليست القاعدة» ،فال ينفعل أحد خبصوص ما إذا كانت املضادات احليوية فعالة أم ال ،وما إذا كانت قيادة السيارة
خممورا فكرة جيدة .ويُثبت التاريخ احلديث هذه النقطة بتجربة طبيعية وتامة مبجموعة ضابطة مطابقة بدقة ،ففريوس الورم احلُليمي البشري
ً
( ) HPVينتقل عن طريق االتصال اجلنسي وهو سبب رئيسي يف سرطان عنق الرحم ،ولكن ميكن الوقاية منه بلقاح ،والتهاب الكبد
ولكن لقاح
أيضا ،وميكن الوقاية منه بلقاح كذلكَّ . أيضا ،ويتسبب يف السرطان ً الوبائي بفريوس ب ينتقل عن طريق االتصال اجلنسي ً
أن لقاح فريوس فريوس الورم احلليمي أثار ضجةً سياسية باحتجاج أولياء األمور على تسهيل احلكومة على املراهقني ممارسة اجلنس ،مع َّ
أن االختالف يكمن يف طريقة عرض اللقاحني ،إذ كان التهاب الكبد الوبائي بفريوس التهاب الكبد الوبائي ال غبار عليه .يرى كاهان َّ
صنَّاع لقاح فريوس الورم احلليمي فضغطوا على اجملالس ب يُعامل كمسألة صحية روتينية مثل السعال الديكي أو احلمى الصفراء ،أما ُ
التشريعية بالواليات جلعل أخذ اللقاح إلزاميًّا بدءًا باملراهقات ،وهو ما َّأدى إىل إضفاء طابع جنسي على العالج ممَّا أغضب أولياء األمور
املتزمتني.
أن الناس عندما ينبغي نزع الطابع السياسي عن القضايا بقدر اإلمكان جلعل اخلطاب العام أكثر عقالنية .أظهرت التجارب َّ
فإهنم يؤيدوهنا إذا كانت ُمقرتحة من حزهبم ويعارضوهنا إذا كانت يسمعون عن سياسة جديدة مثل إصالح نظام الرعاية االجتماعية َّ
ُمقرتحة من احلزب اآلخر ،وهم مقتنعون َّ
أن رد فعلهم مبين على أسسها املوضوعية ،ويعين هذا أنَّه ينبغي اختيار املتحدثني الرمسيني بعناية.
الم َّرة» ( An Inconvenient إن كتابة آل جور الفيلم الوثائقي «الحقيقة ُ وقد قال العديد من النشطاء يف جمال التغري املناخي َّ
رشحا رئاسيًا ،فقد أضفى
وم ًنائب رئيس دميقراطيًا ساب ًقاُ ، ) ،Truthوظهوره فيه رمبا أحدث ً
ضررا للحركة أكثر من النف ٍع ،ألنَّه بصفته َ
يوما ما مستنكرة بوصفها قضية ميينية، ولكن النزعة البيئية كانت ً
على التغري املناخي صبغة يسارية (من الصعب تصديق ذلك اليومَّ ،
تعبريا عن خوف الطبقة العليا الشديد على البيئات اليت يصطادون فيها البط وقلقهم على إطالالت منازهلم الريفية ،ومل حيث كانت ً
تكن قل ًقا بشأن القضايا اخلطرية مثل العنصرية والفقر وفيتنام) .وسيكون استخدام معلِّقني حمافظني ُّ
وحترريني مقتنعني باألدلة ومستعدين
ٍ
وبصوت أعلى. ملشاركة خماوفهم أكثر فعالية من استخدام املزيد من العلماء الذين يتحدثون ٍ
ببطء ً
أن الناس يكونون أقل ينبغي الفصل بني الوضع الراهن الفعلي والتدابري العالجية احململة باملعاين الرمزية السياسية .وجد كاهان َّ
ذكرهم أح ٌد باحتمالية ُتفيف هذا التغرياستقطابًا يف آرائهم حول وجود تغري مناخي ناجم عن النشاط البشري من األساس عندما يُ ِّ
باهلندسة اجليولوجية ،ويكونون أكثر استقطابًا عندما خيربهم أح ٌد َّ
أن هذا التغري يتطلب الرقابة الصارمة على االنبعاثات (ال يعين هذا أنَّه
قضية ما إىل فعل حقيقي .ساعد ينبغي املناداة باهلندسة اجليولوجية على َّأهنا احلل األساسي بالطبع) .قد يؤدي نزع الصبغة السياسية عن ٍ
كاهان جمموعة من رجال أعمال فلوريدا وسياسييها ومجعيات سكاهنا -العديد منهم مجهوريون -على املوافقة على خطة للتكيف مع
ارتفاع مستويات سطح البحر اليت هددت الطرق الساحلية وموارد املياه العذبة ،وتضمنت اخلطة إجراءات لتقليل انبعاثات الكربون واليت
ظرف آخر .لكن ما دام التخطيط مرَّكًزا على مشاكل ميكنهم رؤيتها وما دامت أمهية كانت ستتحول إىل قضية ساخنة سياسيًّا حتت أي ٍ
اخللفية السياسية املثرية للخالف مهمشةَّ ،
فإهنم يتصرفون بعقالنية.
ومن جهته ،فإن بإمكان اإلعالم أن ينظر يف دوره يف حتويل السياسة إىل رياضة ،وأن يعيد املثقفون واملفكرون التفكري يف خالفاهتم.
متوقعاَّ ،
وإمنا حياولون التوصل إىل استنتاجات مربَّرة ٍ
توجها سياسيًّا ً
هل نستطيع ُتيل يوم ال ميلك فيه أشهر ال ُكتاب واملتحدِّثني يف الربامج ً
يوم جييب فيه الناس (وخاصةً األوساطمدمرا؟ ٍ لكل مسألة على حدة؟ ٍ
اجا ِّ ً
تردد موقف اليسار (أو اليمني)» إحر ً يوم تُعد فيه عبارة «إنَّك ِّ
األكادميية) على أسئلةً مثل« :هل حتد مراقبة األسلحة من اجلرمية؟» أو «هل يزيد احلد األدىن لألجور من البطالة؟» بإجابات مثل:
بدال من رد الفعل اجلاهز املتوقع املبين على توجههم السياسي؟ ٍ
يوم يتخلى فيه كتاب اليمني «دعين أحبث عن آخر حتليل جتميعي أوًال» ً
مسدسا ،وإذا تسبب أح ٌد منهم يف دخول أحد رجالك ً واليسار عن طريقة شيكاغو يف اجلدال («عندما يُلوحون بسكني ،أش ِهر
املستشفى ،فأرسل أحد رجاهلم إىل املشرحة») ويتبنون اسرتاتيجية املعاملة باملثل تدرجييًّا للحد من التوتر اليت يستخدمها مراقبو األسلحة
(وفيها يتنازل أحد املتنافسني تنازًال فرديًا مع دعوة لبذل جهود مماثلة من الطرف اآلخر)؟
ولكن قوى العقالنية اليت تُصلح من نفسها واليت يشار فيها إىل أخطاء االستدالل كأهداف للتعليم والنقد
هذا اليوم بعيد املنالَّ ،
تستغرق وقتًا كي تنجح .فقد استغرقت مالحظات فرانسيس بيكون على االستدالل املعتمد على الروايات الشخصية ( Francis
متأصال يف طريقة تفكري املتعلمني وكذلك اخللط بني االرتباط والسببية ،وقد استغرقت دالئل
ً عقودا حىت تُصبح جزءًا
ً )Bacon
عاما تقريبًا كي تشق طريقها
تفريسكي ( )Tverskyوكامنان ( )Kahnemanعلى احنياز التوفر واالحنيازات املعرفية األخرى ً 50
أن القبلية السياسية أخبث صورة من صور الال عقالنية اليوم فكرةً جديدة وجمهولة تقريبًا، إىل تصوراتنا السائدة .ما زال اكتشاف َّ
ٍ
شخص آخر ،ورمبا تظهر تدابري مضادة هلا قريبًا مع تسارع وترية كل شيء. وبالتأكيد ،ميكن أن يصاب هبا املفكرون احملنكون كأي
ومهما استغرق األمر ،فينبغي عليا َّأال ندع وجود االحنيازات املعرفية والعاطفية أو الالعقالنية املفاجئة يف الساحة السياسية يُثنينا
عن مبدأ التنوير بالسعي الدؤوب وراء املنطق واحلقيقة .وإذا كان بإمكاننا حتديد ما جيعل البشر غري عقالنيني ،فال بد وأنَّنا نعرف ماهية
العقالنية ،ومبا أنَّه ال يوجد ما مييزنا حنن ،فبالتأكيد ميلك زمالؤنا بعض القدرة على أن يكونوا عقالنيني ً
أيضا .ومن طبيعة العقالنية َّ
أن
حلوال هلا.
ويفكر يف أوجه قصوره وجيد ً املفكر ميكنه أن يأخذ خطوة للوراء ِّ
الفصل الثاني والعشرون:
العلم
إذا طُلِب منَّا ذكر أكثر إجنازات اجلنس البشري مدعاةً للفخر ،سواء أكان ذلك يف مسابقة تفاخر بني اجملرات أو يف شهادة أمام اإلله
القدير ،فماذا سنقول؟
ميكننا التباهي باالنتصارات التارخيية يف حقوق اإلنسان مثل القضاء على العبودية وهزمية الفاشية ،ولكن مهما كانت هذه
االنتصارات ملهمة ،فهي تتمثَّل يف إزالة عواقب وضعناها حنن بأنفسنا يف طريقنا ،وهو ما يشبه أن تدرج ضمن قائمة إجنازاتك يف سريتك
الذاتية أنَّك تغلَّبت على إدمان اهلريوين.
حساسة ذات أدمغة وجتارب ُتتلف عنَّا كل سنُدرج بالتأكيد روائع الفن واملوسيقى واألدب ،ولك ْن هل ستقدِّر كائنات فاعلة َّ
االختالف أعمال إسخيلي وس أو إل جريكو أو بيلي هوليداي؟ رمبا توجد قواعد عامة للجمال واملعىن تتجاوز الثقافات وتؤثر يف أي
كثريا.
أن هذه القواعد موجودة بالفعل-ولكن تصعب معرفة ذلك ً كائن ذكي -أحب أن أفرتض َّ
ولكن هناك ساحة إجنازات واحدة ميكننا التفاخر هبا بال خجل أمام أي جملس من العقول ،أال وهي العلم .يصعب ُتيل كائن
كبريا ،إذ ميكننا تفسري الكثري من
فاعل ذكي ال يشعر بفضول جتاه العامل الذي يعيش فيه ،وقد أرضى جنس البشر هذا الفضول إرضاءً ً
نتكون منها ،وأصل الكائنات احلية ،وآلية احلياة مبا فيها احلياة النفسية.
حتركه ،واألشياء اليت َّ
تاريخ الكون ،والقوى اليت ِّ
يوما تلو اآلخر .يقول الفيزيائي شون كارول ( Sean أن جهلنا هائل (وسيظل كذلك)َّ ،إال َّ
أن معرفتنا مذهلة وتنمو ً رغم َّ
)Carrollيف كتاب «الصورة الكبرى» )َّ (The Big Picture
إن قوانني الفيزياء األساسية يف احلياة اليومية (باستثناء القيم
القصوى من الطاقة واجلاذبية مثل الثقوب السوداء واملادة املظلمة واالنفجار الكبري) معروفة لنا متامًا .يصعب االختالف على َّ
أن هذا
وصف علمي ألكثر من مليون ونصف املليون نوٍع من الكائنات «أحد أعظم االنتصارات يف التاريخ الفكري لإلنسان» .استطعنا تقدمي ٍ
احلية ،ومع بعض اجلهود اإلضافية الواقعية ميكن تسمية البقية اليت تبلغ سبعة ماليني نوٍع خالل القرن اجلاري .واألكثر من ذلك َّ
أن فهمنا
أن اجلاذبية هي احنناء الزمكانوإمنا يف مبادئ عميقة وأنيقة مثل َّللعامل ال يتمثَّل يف قوائم جمردة للجسيمات والقوى واألنواع فحسبَّ ،
ٍ
جزيء ينقل املعلومات ويدير عملية األيض ويستنسخ نفسه. و َّ
أن احلياة تقوم على
تواصل االكتشافات العلمية إدهاشنا وإهباجنا وإجابة األسئلة اليت كنَّا نظن أ ْن ال إجابة هلا .عندما اكتشف كلٌّ من واتسون وكريك
يوما بتتبع تسلسل جينوم أحفورة نياندرتال عمرها 38,000عام واكتشاف احتوائها على جني له عالقة بنية احلمض النووي ،مل حيلما ً
بيوم يكشف فيه حتليل احلمض النووي اخلاص بأوبرا وينفري عن احندارها من ساللة قبيلة الكيبل يف غابات ليربيا بالكالم واللغة ،أو ٍ
املطرية.
مفكرو العصور القدمية وعصر العقل وعصر التنوير ِّ
مبكًرا فلم يسلط العلم الضوء على احلالة البشرية من زاوي ٍة جديدة .ولد ِّ
ُ َ
يستمتعوا باألفكار ذات اآلثار العميقة يف األخالق واملعىن ،ومنها اإلنرتوبيا والتطور واملعلومات ونظرية األلعاب والذكاء االصطناعي
تعززها اليوم هذه األفكار ،ويتم (رغم َّأهنم كانوا حياولون إنتاج بعض البوادر واملقاربات) ،فاملشكالت اليت طرحها علينا هؤالء ِّ
املفكرون ِّ
التدقيق فيها بأساليب مثل التصوير ثالثي األبعاد لنشاط املخ والتنقيب عن البيانات الضخمة لتتبع عملية انتشار األفكار.
صورا للجمال الرفيع ،مثل احلركة اجملمدة بفعل الضوء االصطرايب ،وحيوانات متوهجة من الغابات املطرية أيضا ًالعلم للعا َمل ً
قدَّم ُ
الس ُدم الشفافة ،وجمموعة الدوائر العصبية املشعة ،وكوكب
االستوائية واملنافس املائية يف أعماق احمليطات ،واجملرات احللزونية الرشيقة و ُ
متجها حنو عتمة الفضاء .ومثل األعمال الفنية العظيمة ،فهذه الصور ليست جمرد صوٍر مجيلةاألرض املضيء وهو يرتفع فوق أفق القمر ً
تعمق فهمنا ملعىن أن تكون إنسانًا وملكاننا يف الطبيعة. َّ
وإمنا حمفزات على التأمل ِّ
احدا من ومنحنا العلم بالطبع نِ َعم احلياة والصحة والثروة واملعرفة واحلرية اليت وثقناها يف الفصول اخلاصة بالتقدم .لنأخذ ً
مثاال و ً
ٍ
شخص يف القرن العشرين فقط .يف حالة ومشوه قتل 300مليون
الفصل السادس .قضت املعرفة العلمية على اجلدري ،وهو مرض مؤمل ِّ
ومشوه قتل
أكرر قويل :قضت املعرفة العلمية على اجلدري ،وهو مرض مؤمل ِّ أنَّك مررت سر ًيعا على هذا اإلجناز العظيم ومل تنتبه لهِّ ،
شخص يف القرن العشرين فقط. ٍ 300مليون
تكذب هذه اإلجنازات املذهلة أي شكوى عن أنَّنا حنيا يف عصر تدهور وخيبة أمل وفقدان املعىن وسطحية وعبث ،ومع ذلك َّ
فإن ِّ
ٍ
باستياء مرير .يظهر ازدراء العلم يف أوساط مفاجئة ،ليس بني األصوليني مجال العلم وقوته ال حيصالن على أي تقدير ،بل ويُنظر إليه
أيضا بني كث ٍري من املثقفني الذين حنبهم ويف أكثر مؤسسات التعليم العايل
املتدينني والساسة من حزب «ال أعرف شيئًا» فحسب ،وإمنا ً
اجلليلة.
وثَّق الصحايف كريس موين ( )Chris Mooneyيف كتاب «حرب الجمهوريين على العلم» ( The Republican War
) on Scienceاحتقار العلم يف أوساط الساسة األمريكيني اليمينيني ،وقاد بعض الشجعان (مثل بويب جيندال Bobby Jindal
حمافظ لويزيانا السابق) إىل أن يطلقوا على حزهبم «حزب الغباء» .نشأت هذه السمعة من السياسات املطبقة يف ظل إدارة جورج دابليو
بوش ،مبا فيها تشجيعه على تدريس نظرية اخللق (خلف ستار «التصميم الذكي») والتحول من اتباع ممارسة قدمية هي التماس مشورة
أفكارا هشة (مثل َّ
أن كثري منهم ً اللجان العلمية النزيهة إىل ملء هذه اللجان بأصحاب األيديولوجيات املتوافقة معها ،الذين يروج ٌ
اإلجهاض يسبِّب سرطان الثدي) وينكرون األفكار املدعومة باألدلة (مثل َّ
أن الواقي الذكري مينع اإلصابة باألمراض املنقولة جنسيًّا).
ب جيمس إهنوف ) ،(James Inhofeعضو جملس الشيوخ عن أوكالهوما اخنرط الساسة اجلمهوريون يف بعض مظاهر الس َفه ،مثل ج ْل ِ
َ َ
ورئيس جلنة البيئة واألشغال العامة ،كرة ثلج إىل جملس الشيوخ يف عام 2015للتشكيك يف حقيقة االحرتار العاملي.
حذرنا يف الفصل السابق َّ
أن التفسري الغيب للعلم يف اخلطاب السياسي حيدث غالبًا يف القضايا الساخنة مثل اإلجهاض والتطور
نطاق واسع ،انتقد ملار مسيث ( Lamarتوسعت لينتشر حزب «ال أعرف شيئًا» على ٍ ولكن االستهانة باإلمجاع العلمي َّ
والتغري املناخيَّ ،
الذعا،
انتقادا ً
) ،Smithالنائب عن والية تكساس ورئيس جلنة جملس النواب للعلوم والفضاء والتكنولوجيا ،املؤسسة الوطنية للعلوم ً
ليس بسبب أحباثها على التغري املناخي فحسب (والذي يظنه مؤامرة يسارية) َّ
وإمنا بسبب أحباثها األخرى يف املنح اليت ُتضع ملراجعة
تربر احلكومة الفيدرالية إنفاق ما يزيد على
األقران ،واليت خيرجها من سياقها ليسخر منها (كما قال على سبيل املثال« :كيف ِّ
220,000دوالر أمريكي لدراسة صورة احليوانات يف جملة ناشونال جيوجرافيك؟») حاول إضعاف الدعم الفيدرايل لألحباث األساسية
تعزز «املصاحل الوطنية» مثل الدفاع واالقتصاد فقط .يتجاوز العلم
عرب اقرتاح تشري ٍع يلزم املؤسسة الوطنية للعلوم بتمويل الدراسات اليت ِّ
بالطبع احلدود الوطنية (فكما قال تشيخوف« :ال يوجد علم وطين ،مثلما ال يوجد جدول ضرب وطين») وتنبع قدرته على تعزيز مصاحل
أي شخص من فهمه التأسيسي للواقع .فيستخدم النظام العاملي لتحديد املواقع على سبيل املثال نظرية النسبية ،ويعتمد عالج السرطان
على اكتشاف الرتكيب اللوليب املزدوج ،ويكيِّف الذكاء االصطناعي الشبكات العصبية والداللية من العلوم املعرفية واخلاصة بالدماغ.
أيضا ،فاليسار هو من أثار اهللع بشأن الزيادة ولكن الفصل احلادي والعشرين هيَّأنا حلقيقة َّ
أن القمع املسيَّس للعلم يأيت من اليسار ً َّ
تشوهت األحباث على الذكاء واجلنسانية والعنف والرتبية واألحكام املسبقة بفعل السكانية والطاقة النووية والكائنات املعدَّلة جينيًّاَّ .
يقرون باملعتقدات املتشددة اليت تتمتع باللياقة السياسية.
تكتيكات خمتلفة من اختيار بنود االستبيانات إىل ترهيب الباحثني الذين ال ُّ
تقوم الوضعية على االعتقاد االختزايل القائل بإمكانية تفسري الكون بأكمله ،مبا فيه السلوك البشري ،بعمليات فيزيائية حتمية
أسسا إبستمولوجية للداروينية االجتماعية والتصورات التطورية الشعبية َّ
وقابلة للقياس بدقة...شكلت االفرتاضات الوضعية ً
عن التقدم ،إضافةً إىل االستعمارية والعنصرية العلمية ،واحتدت هذه امليول مع مبدأ حتسني النسل ،الذي يقول بإمكانية
حتسني الرفاهة البشرية وجعلها مثالية يف النهاية من خالل التناسل االنتقائي «لألصلح» وتعقيم «غري الالئقني» أو
استبعادهم .يعرف حىت طالب املدارس ماذا حدث بعد ذلك :القرن العشرون الكارثي ،حربان عامليتان ومذابح منهجية
ِ
باإلمكان ُتيله ،وحروب مفاجئة متفرقة على حدود ٍ
بشكل مل يكن نطاق غري مسبوق ،وانتشار أسلحة مدمرة لألبرياء على ٍ
ٍ
بدرجات متفاوتة. اإلمرباطورية ،ومشلت كل هذه األحداث تطبيق األحباث العلمية والتكنولوجيا املتقدمة
وتتَّضح حجة اليمني يف هذا اخلطاب الذي ألقاه ليون كاس ) ،(Leon Kassمستشار الرئيس بوش يف جمال األخالقيات البيولوجية،
يف عام :2007
ولكن ِّادعاءهم ملفق كما سنرى .ال ميكن لوم العلم على اإلبادة اجلماعية واحلروب ،وهو المتحمسونَّ ، هؤالء بالطبع مدَّعون ِّ
يهدِّد صحة أمتنا األخالقية والروحانية ،بل على النقيض ،إذ ال غىن عن العلم يف كل اجملاالت اليت هتم اإلنسان مبا فيها السياسة والفنون
والبحث عن املعىن والغرض واألخالق.
إن حرب املثقَّفني على العلم تُشعل اجلدل الذي أثاره تشارلز بريسي سنو يف عام 1959عندما استنكر ازدراء العلم يف أوساط ِّ
املفكرين َّ
الربيطانيني يف حماضرته وكتابه بعنوان «الثقافتان»ِّ .
يفسر مصطلح «الثقافتان» باملعىن األنثروبولوجي لغز جذب العلم لالنتقادات ،ليس
أيضا.
وإمنا من بعض أعلم أهل الفكر ً متوهلم شركات الوقود األحفوري فحسبَّ ،من الساسة الذين ِّ
ُحفر مشهد املعرفة البشرية خالل القرن العشرين يف الدوقيات اليت اتسمت بطابع املهنية ،ويُنظر غالبًا إىل منو العلم (وخاصةً العلوم
ألن ممارسي العلوم اإلنسانيةتعد على جماالت كانت تدعمها وحتدُّها العلوم اإلنسانية األكادميية .ليس ذلك َّ ذات الطبيعة اإلنسانية) كأنَّه ٍّ
الرسامون واملوسيقيون وصنَّاع أنفسهم لديهم هذه العقلية الصفرية ،إذ ال يظهر على أغلب الفنانني أي عالمة على ذلك ،فالروائيون و َّ
األفالم الذين أعرفهم يتمتَّعون بالفضول الشديد جتاه الضوء الذي قد يلقيه العلم على وسيلة تعبريهم ،كما َّأهنم منفتحون على أي
يعرب عنه الباحثون الذين يغوصون يف احلقب التارخيية وأنواع الفنون ونظم األفكار واملسائل مصدر لإلهلام ،وال هو بسبب القلق الذي ِّ
أن الباحث احلقيقي يكون متقبِّ ًال لألفكار بغض النظر عن منشئها .تعود هذه املشاكسة األخرى اليت تشملها العلوم اإلنسانية ،مبا َّ
الدفاعية إىل إحدى الثقافتني :وهي الثقافة الثانية حسب تعبري تشارلز بريسي سنو أي ثقافة املثقفني األدباء والنقاد الثقافيني وُكتَّاب
(مستشهدا بعامل االجتماع دانييل بيل Daniel ً املقاالت الفكرية ،الذين يصفهم الكاتب دميون لينكر ()Damon Linker
املتخصصني يف التعميمات..الذين يلقون على العامل جتارهبم الفردية وعاداهتم يف القراءة وقدرهتم على إصدار األحكام. )Bellبـ « ِّ
فالذاتية بكل نوادرها وغرائبها هي عملة مجهورية اآلداب» .وُتتلف هذه الطريقة كل االختالف عن طريقة العلمِّ ،
ومفكرو الثقافة الثانية
بأن «العلم هو الشيء الوحيد املهم» أو بأنَّه ال بد من «الثقة يف هم أكثر من خيشى «العلموية» اليت يفهموهنا بأ َّهنا املوقف القائل َّ
العلماء حلل كل املشاكل».
مل ي ُكن موقف سنو بالطبع هذا املوقف اجلنوين القائل بأنَّه البد من نقل السلطة إىل ثقافة العلماء ،بل على العكس ،نادى بثقافةٍ
ثالثة جتمع األفكار املختلفة من العلم والثقافة والتاريخ وتطبِّقها بغرض تعزيز رفاهة البشرية حول العامل .أحيا الكاتب والوكيل األديب جون
بروكمان ( )John Brockmanاملصطلح يف عام ،1991ويرتبط هذا املصطلح مبفهوم عامل األحياء إدوارد أوزبورن ويلسون «توحيد
مفكري التنوير .اخلطوة األوىل يف فهم وعد العلم فيما خيص شؤون اإلنسان هي العلوم» ،وحدة العلوم ،الذي يُرجعه ويلسون بدوره إىل ِّ
اهلروب من عقلية الثقافة الثانية اليت تتَّسم بالتحصن وراء األسوار واليت تتَّضح على سبيل املثال يف العنوان الفرعي ٍ
ملقال كتبه األديب
البارز ليون ويسلتري ( )Leon Wieseltierيف عام « :2013العلم يريد اآلن غزو جمال اآلداب احلرة ،ال تسمحوا له بذلك!»
نبل ٍ
حبكمة أو ٍ أوال بني تأييد التفكري العلمي وأي اعتقاد َّ
بأن أعضاء اجلماعة املهنية اليت تُدعى «العلم» يتمتَّعون جيب التمييز ً
ٍ
بصفة خاصة .تقوم ثقافة العلم على االعتقاد املضاد ،فممارساهتا املميِّزة اليت تشمل النقاش املفتوح ومراجعة األقران والطرق مزدوجة
بشرا .املبدأ األول من مبادئ العلم هو كما
مصممة بغرض التحايل على األخطاء اليت يكون العلماء عرضةً للوقوع فيها لكوهنم ً التعمية َّ
أن« :عليك َّأال ُتدع نفسك ،وأنت أسهل شخص ميكنك خداعه». قال ريتشارد فينمان (َّ )Richard Feynman
يقة أكثر علمية والدعوة إىل تسليم اُتاذ القرارات إىل العلماء، وللسبب نفسه ،ال ينبغي اخللط بني دعوة اجلميع إىل التفكري بطر ٍ
كثري من الناس الفضل للعلم يف العقاقري واألجهزة املفيدة ويف تفسري عمل األشياء املادية ،ولكنَّهم يتوقفون عند األمور اليت هتمنا
ينسب ٌ
حقًّا كبشر ،األسئلة العميقة مثل من حنن؟ ومن أين أتينا؟ وكيف حندِّد معىن حياتنا والغرض منها؟ إذ تقع هذه األسئلة يف جمال الدين
محاسا ،ومييلون إىل تأييد خطة التقسيم اليت اقرتحها عامل املستحاثاتالتقليدي ،ويكون املدافعون عنه غالبًا هم أكثر منتقدي العلم ً
والكاتب العلمي ستيفن جاي جولد ( )Stephen Jay Gouldيف كتابه ) ،(Rocks of Agesواليت مفادها أ َّن شواغل العلم
وشواغل الدين ينتمون إىل «سلطات غري متداخلة» ،فالعلم يتوىل الكون التجرييب ،والدين يتوىل مسائل األخالق واملعىن والقيمة.
تفحصه ،فالنظرة األخالقية للعامل لدى أي شخص مثقف علميًّا -شخص مل جتعله
ولكن هذا الوفاق يتخلخل مبجرد أن تبدأ يف ُّ
َّ
تاما عن املفاهيم الدينية عن املعىن والقيمة.
انفصاال ً
ً األصولية ضيق األفق-تستلزم
أن النظم العقائدية اخلاصة بكل األديان والثقافات التقليدية يف العامل -نظرياهتم عن تكوين بدايةً ،تدل نتائج العلم ضمنيًّا على َّ
أن البشر ينتمون إىل نوٍع واحد من الرئيسيات اإلفريقيةولكن أسالفنا مل يعرفواَّ -
العامل واحلياة والبشر واجملتمعات-خاطئة .حنن نعرف َّ -
نسب تشمل كل أن نوعنا جمرد غصن صغري من شجرة ٍ طورت الزراعة واحلكومة والكتابة يف حقبة متأخرة من التاريخ ،ونعرف َّ اليت َّ
كب يدور حول إحدى الكائنات احلية نشأت من مواد كيميائية سبقت احلياة منذ أربعة ماليني عاٍم تقريبًا ،ونعرف أنَّنا حنيا على كو ٍ
احدا من ضمنعام ،والذي رمبا يكون و ًكون عمره 13.8مليار ٍ النجوم من مئة مليار جنم يف جمرتنا ،اليت تقع ضمن مئة مليار جمرة يف ٍ
أن حدسنا البديهي عن املكان والزمان واملادة والسببية غري قابل للقياس حسب طبيعة الواقع على عدد شاسع من األكوان .حنن نعرف َّ ٍ
أن القوانني اليت حتكم العامل املادي (مبا فيها احلوادث واألمراض واملصائب األخرى) ليس هلا مقاييس كبرية جدًّا وصغرية جدًّا ،ونعرف َّ
أهداف تتعلَّق برفاهة البشرية ،ال يوجد شيء امسه القدر أو العناية اإلهلية أو «الكارما» أو التعاويذ أو اللعنات أو العرافة أو العقاب
يفسر سبب اعتقاد الناس بوجود هذه األشياء. اإلهلي أو األدعية املستجابة ،وإن كان التعارض بني قوانني االحتماالت وأساليب اإلدراك ِّ
أن القناعات املفضلة لدى كل زمان وثقافة قد تُنفى بصورةٍ قاطعة ،مبا فيها بعض ونعرف أنَّنا مل ن ُكن نعرف هذه األمور طوال تارخينا ،و َّ
القناعات اليت حنملها اليوم ال حمالة.
وجه القيم األخالقية والروحانية لدى الشخص واسع املعرفة اليوم هي النظرة للعامل اليت يقدِّمها بعبارةٍ أخرىَّ ،
فإن النظرة للعامل اليت تُ ِّ
أن احلقائق العلمية ال تفرض القيم بنفسهاَّ ،إال َّأهنا حتصر االحتماالت بالتأكيد ،فبتجريد السلطة الكنسية من مصداقيتها لنا العلم .رغم َّ
يف املسائل الوقائعية ،فإن ذلك يثري الشك يف ِّادعاءاهتا بالتيقُّن من املسائل األخالقية .يهدم التفنيد العلمي لنظرية اآلهلة املنتقمة والقوى
اخلفية ممارسات كاألضحية البشرية ومطاردة الساحرات والعالج باإلميان واحملاكمة باالختبارات القاسية والتعذيب واضطهاد الزنادقة.
حتمل مسؤولية رفاهتنا ونوعنا وكوكبنا بأنفسنا ،وللسبب وجيربنا العلم بالكشف عن غياب اهلدف عن القوانني اليت حتكم العامل على ُّ
أيضا أي نظام أخالقي أو سياسي يقوم على القوى الصوفية الغامضة أو املساعي الصوفية أو األقدار أو اجلدليات أو نفسه ،يهدم ً
مجيعا نقدِّر رفاهتنا اخلاصة
الصراعات أو العصور املسيانية (عصور املسيح املنتظر) .وإىل جانب بعض القناعات اليت ال غبار عليها -أنَّنا ً
وأنَّنا كائنات اجتماعية يؤثِّر بعضها يف بعض وميكنها التفاوض على قواعد السلوكَّ -
فإن احلقائق العلمية تدفع باجتاه األخالق املربَّرة،
احلساسة األخرى إىل أقصى حد .هذه النزعة اإلنسانية (الفصل الثالث والعشرون) اليت أي املبادئ اليت تزيد ازدهار اإلنسان والكائنات َّ
حررة،ال تنفصل عن فهم العامل من منظوٍر علمي يف طريقها إىل أن متثِّل األخالق الفعلية للدميقراطيات واملنظمات الدولية واألديان امل ِّ
ُ
وحتدِّد الوعود غري احملقَّقة اليت تقدِّمها الضرورات األخالقية اليت نواجهها اليوم.
جاهال يف
هدا ً كثريا من مؤسساتنا الثقافية تزرع ُز ً
أن ً انغماسا على حن ٍو نافع يف حياتنا الفكرية واألخالقية واملاديةَّ ،إال َّ
ً رغم َّ
أن العلم يزداد
اهتماما طفي ًفا لألفكار وتوجه
تكرس نفسها ظاهريًّا لألفكار يف السياسة والفنونِّ ، ٍ
ً يتحول إىل ازدراء .حتصر اجملالت الفكرية اليت ِّالعلم َّ
ولكن األسوأ هو تناول العلمالتغري املناخي (واهلجمات املنتظمة على العلموية)َّ . اجلديدة النابعة من العلم باستثناء القضايا املسيَّسة مثل ُّ
ٍ
بدرجة ضئيلة ،وما يتعلَّمونه يتعرضوا للعلم سوى
يتخرج الطالب دون أن َّ يف مناهج اآلداب احلرة يف كث ٍري من اجلامعات ،إذ ميكن أن َّ
ليسمم أفكارهم جتاهه.
مصم ًما ِّ بالفعل يكون على األغلب َّ
شيوعا يف مقررات العلم يف اجلامعات احلديثة (إضافةً إىل أحد الكتب اجلامعية الرائجة عن األحياء) هو كتاب
إن الكتاب األكثر ً
توماس كون ( )Thomas Kuhnبعنوان «بنية الثورات العلمية» ).(The Structure of Scientific Revolutions
أن العلم ال جيتمع حول احلقيقة ،بل يشغل نفسه بفك األلغاز قبل يوضح َّ
يشيع تفسري الكتاب الكالسيكي الصادر عام 1962كأنَّه ِّ
أن كون بنفسه أنكر هذا التفسري العدميَّ ،إال أنَّه
أن يرتكها وينتقل إىل منوذج جديد جيعل النظريات السابقة عليه باطلة وملتبسة .ورغم َّ
أن عامل الفن مل ُيعد يهتم مبا إذاأصبح التصور السائد يف أوساط الثقافة الثانية .شرح يل أحد النقاد من جملة فكرية كربى ذات مرة َّ
كانت األعمال الفنية «مجيلة» أم ال للسبب نفسه الذي جعل العلماء غري مهتمني مبا إذا كانت النظريات «صحيحة» أم ال ،وبدا
حت له هذه الفكرة.
صح ُفعال عندما َّمتفاجئًا ً
تعمقت مشكلة الثقافتني خالل السنوات قال مؤرخ العلوم ديفيد ووتن ( )David Woottonعن أعراف جماله ما يليَّ « :
بدال من أن يؤدي تاريخ العلم دور اجلسر بني اآلداب والعلوم ،يقدِّم اليوم للعلماء صورةً ال يعرفها اليت مرت منذ حماضرة سنو ،إذ ً
كثريا من مؤرخي العلوم يعتربون أن من السذاجة التعامل مع العلم على أنَّه البحث عن التفسريات ألن ًمعظمهم عن أنفسهم» ،وهذا َّ
احلقيقية للعامل .فتكون النتيجة كتقرير عن مباراة كرة سلة يضعه ناقد رقص غري مسموح له بأن يقول َّ
إن الالعبني حياولون مترير الكرة من
احللقة.
مؤرخي العلوم سلسلةً من الصور املتحركة ثالثية األبعاد متعددة فكك فيها أحد ِّحضرت ذات مرة حماضرةً عن سيمياء التصوير العصيب َّ
اعا معينة من «األنفس» اليت ميكن بعد ذلك األلوان للدماغ وشرح ببالغة كيف َّ
أن «النظرة العلمية اليت تبدو حيادية وطبيعية حتفز أنو ً
تطويعها ألجندات سياسية معينة ،مما يغري املوقف من الغرض العصيب (النفسي) إىل املوقف املراقب اخلارجي» وهكذا ،أي تفسري سوى
يكرس كثريٌ من الباحثني يف جمال «الدراسات العلمية» حياهتم املهنية
تسهل رؤية ما حيدث يف الدماغ! ِّ التفسري الواضح ،وهو َّ
أن الصور ِّ
للتحليالت املبهمة لكيف َّ
أن املؤسسة بأكملها عبارة عن ذريعة لالضطهاد ،ومن األمثلة على ذلك هذا اإلسهام البحثي يف أكثر حتديات
إحلاحا:
العامل ً
الكتل الجليدية والنوع االجتماعي والعلم :إطار نسوي لعلم الجليد لألبحاث على التغيرات البيئية العالمية
واألكثر خبثًا من التفتيش عن صوٍر ملغزة للعنصرية والتمييز على أساس اجلنس هو احلملة املشيطنة اليت تطعن يف العلم (إىل جانب
املنطق وقيم التنوير األخرى) وتتَّهمه جبرائم قدمية قِ َدم احلضارة مبا فيها العنصرية والعبودية والغزو واإلبادة اجلماعية .كانت هذه إحدى
السمات الرئيسية للنظرية النقدية املؤثرة ملدرسة فرانكفورت ،وهي احلركة شبه املاركسية اليت أسسها ثيودور أدورنو ( Theodor
متاما تُشع كوارث وتسعد هبا» ،وتتمثل أن «األرض املستنرية ً )Adornoوماكس هوركهامير ( )Max Horkheimerالذي زعم َّ
بأن اهلولوكوست كان النتيجة احلتمية كذلك يف أعمال ُمنظري ما بعد احلداثة مثل ميشيل فوكو ( )Michel Foucaultالذي قال َّ
«للسياسة احليوية» اليت بدأت مع التنوير عندما زاد تأثري العلم واحلُكم العقالين يف حياة الناس ،ومن ُمنطلق مماثل ،ألقى عامل االجتماع
زجيمونت باومان ( )Zygmunt Baumanمسؤولية حدوث اهلولوكوست على التصور التنويري «جتديد اجملتمع وإجباره على
االلتزام خبطة شاملة من ابتكار العلم» .يف هذه الرواية امللتوية ،تُرفع املسؤولية عن النازيني («إهنا غلطة احلداثة!») .وكذلك األيديولوجية
بتطرف واليت كانت حتتقر عبادة الليرباليني الربجوازيني املنحلني للمنطق والتقدم ،وتبنَّت حرا ًكا بدائيًّا عضويًّا أجج ٍ النازية املضادة للتنوير
أن النظرية النقدية وما بعد احلداثة تتجنبان األساليب «العلمية» مثل القياس الكمي وتسلسل األحداث الصراع بني األعراق .رغم َّ
منتشرين يف عصور ما قبل احلداثة ،ولكنهما أن احلقائق تشري إىل رجوعهما إىل اخللف ،إذ كانت اإلبادة اجلماعية واالستبداد َ املرتبَّ ،إال َّ
ُ
تضاءال ومل يزدادا بعد أن زاد تأثري قيم العلم والتنوير الليربايل بعد احلرب العاملية الثانية.
كثريا لدعم حركات سياسية يُرثى هلا ،ومن الضروري بالطبع فهم هذا التاريخ ،وجيوز إصدار األحكام
كان العلم بالتأكيد يُستغل ً
على العلماء لدورهم فيه مثلما حيدث مع أي رموز تارخيية أخرى ،ومع ذلك ،يتخلى الباحثون يف العلوم اإلنسانية عن الصفات اليت
نقدِّرهم بسببها -السياق والفروق الدقيقة والعمق التارخيي -عندما تسنح هلم فرصة شن محلة ضد منافسيهم يف الوسط األكادميي .يُالم
العلم عاد ًة على احلركات الفكرية املصبوغة بصبغة علمية زائفة مع َّ
أن هذه احلركات هلا جذور عميقة ومتشعبة.
الرقي العقلي ،ويعتلي إن األعراق ِّ
ونظرية «العنصرية العلمية» مثال بارز على ذلك ،وهي النظرية اليت تقول َّ
هرما تطوريًّا من ُ
تشكل ً
األوروبيون الشماليون قمة هذا اهلرم .كانت هذه النظرية شائعة يف العقود األوىل من القرن العشرين ،ومن الواضح أهنا كانت مدعومة
بقياسات اجلمجمة (كان هناك اعتقاد بأن قياسات اجلمجمة تدل على صفات معينة يف الشخصية) واالختبارات العقلية قبل أن ينفيها
ولكن تعليق العنصرية الفكرية على مشَّاعة العلم وخاصةً علىيف منتصف القرن العشرين العلم األفضل وكذلك جرائم النازية املروعةَّ .
نظرية التطور هو صورة خاطئة للتاريخ الفكري ،فقد ُوجدت االعتقادات العُنصرية عرب التاريخ ويف مناطق عديدة من العامل ،وكانت
بأن العبيد مناسبون بطبيعتهم للعبودية و َّ
أن اهلل خلقهم كذلك ،وأقوال ال ُكتَّاب العبودية موجودة يف مجيع احلضارات وكانت تُربر عادةً َّ
اإلغريق وال ُكتَّاب العرب يف العصور الوسطى عن دونية األفارقة بيولوجيًّا قد ُجت ِّمد الدم يف عروقك ،ومل يكن رأي شيشرون يف الربيطانيني
كثريا.
أفضل ً
بدقة أكرب ،كانت العنصرية الفكرية اليت تفشَّت يف الغرب يف القرن التاسع عشر من بنات أفكار العلوم اإلنسانية مثل التاريخ وفقه
اللغة والكالسيكيات وامليثولوجيا وليس العلم .نشر آرثر دي جوبينو -روائي ومؤرخ ها ٍو -يف عام 1853نظريته السخيفة اليت تقول
أرض قدمية ونشر حضارةً من املقاتلني األبطال يف أوراسيا (أوروبا وآسيا) الشجعان -اجلنس اآلري -نشأ من ٍ بأن عِرقًا من الرجال البيض ُ
وتشعبت إىل ال ُفرس واحليثيني واإلغريق اهلومرييني واهلنود الفيديني مث بعد ذلك إىل الفايكنج والقوطيني والقبائل اجلرمانية األخرى (اجلزء
احلقيقي الوحيد من هذه القصة هو أن هذه القبائل حتدثت لغات تنتمي إىل عائلة واحدة هي اهلندو-أوروبية) ،واهنار كل شيء عندما
خالط اجلنس اآلري األجناس األدىن اليت غزاها مما قلَّل من عظمته وحتول إىل الثقافات اخلائرة الفاسدة عدمية الروح الربجوازية التجارية
سهال
دائما .كان دمج هذه القصة اخليالية مع النزعة القومية الرومانسية ومعاداة السامية األملانية ً اليت كان الرومانسيون يتذمرون منها ً
أن الشعب التيوتوين وريث اآلريني َّأما اليهود فهم عرق آسيوي هجني .تشرب أفكار جوبينو ريتشارد فاجنر (الذي فكانت النتيجة َّ
كانت مسرحياته األوبرالية إحياءً لألساطري اآلرية القدمية) ،وكذلك صهره هيوسنت ستيوارت تشامربلني ( Houston Stewart
( )Chamberlainوهو الفيلسوف الذي كتب َّ
أن اليهود ل َّوثوا احلضارة التيوتونية بالرأمسالية واإلنسانية الليربالية والعلم العقيم)،
ووصلت هذه األفكار منهم إىل هتلر الذي كان ينظر لتشامربلني بوصفه «أباه الروحي».
دورا يُذ َكر ،فرفض كلٌّ من جوبيناو وتشامربلني وهتلر بوضوح نظرية داروين عن التطور ،وخاصةً
مل يلعب العلم يف حلقة التأثري هذه ً
فكرة تطور البشر تدرجييًّا من القرود ،واليت تعارضت مع نظريتهم الرومانسية عن العرق واملفاهيم الدينية اليت نشأت عنها .فطب ًقا هلذه
اعا خمتلفة وكل نوع يتناسب مع حضارة ذات مستوى معني من الرقي ،وستتدهور هذه االعتقادات املنتشرة ،كانت األعراق متثِّل أنو ً
أصوال «مهجية»وإن لكل البشر ً نوع واحد وهلم أصل مشرتكَّ ،إن البشر أفراد متقاربون ينتمون إىل ٍ األعراق إذا اختلطت .قال داروين َّ
مجيعا دون حدوث ضرر .وقد ختم املؤرخ روبرت وإن األعراق ميكنها أن متتزج ًوإن القدرات العقلية جلميع األعراق واحدة تقريبًاَّ ،َّ
ريتشاردز (- )Robert Richardsالذي تتبع املؤثرات اليت أثَّرت يف هتلرً -
فصال بعنوان «هل كان هتلر داروينيًّا؟» (وهو ِّادعاء
شائع بني املؤمنني بنظرية اخللق) مبا يلي« :اإلجابة املنطقية الوحيدة عن هذا السؤال..هي كال ،واضحة وقاطعة!»
تُنسب الداروينية االجتماعية إىل العلم عاد ًة بصورة مغرضة مثل «العنصرية العلمية» ،عندما شاع مفهوم التطور يف أواخر القرن
التاسع عشر وبداية القرن العشرين ،حتول إىل اختبار شخصية ورأت تشكيالت سياسية وحركات ثقافية متنوعة أنَّه حيمي براجمهم ،وأراد
اجلميع أن يصدق أن رؤيته اخلاصة للصراع والتقدم واحلياة اجليدة هي طريقة الطبيعةُ .مسيت إحدى هذه احلركات بالداروينية االجتماعية
بأثر رجعي ،مع َّأهنا نشأت على يد هربرت سبنسر ( )Herbert Spencerوليس على يد داروين يف عام ،1851أي قبل نشر
كتاب «أصل األنواع» ) (Origins of Speciesبثمانية أعوام .مل يكن سبنسر يؤمن بالطفرات العشوائية واالنتخاب الطبيعي،
بل كان يؤمن بنظام الوراثة الالماركي الذي كان فيه صراع الوجود يدفع الكائنات للسعي حنو ٍ
تعقيد وتكيُّف أكرب وهو ما ينقلونه بدورهم
أن من األفضل عدم عرقلة قوة التقدم هذه ،لذا هاجم الرفاهة االجتماعية والقواعد التنظيمية لألجيال الالحقة .كان سبنسر يعتقد َّ
احلكومية اليت تطيل عمر األفراد واجملموعات األضعف واحملكوم عليهم باهلالك .وقد تبىن فلسفته السياسية ،واليت كانت صورة مبكرة من
التحررية ،البارونات اإلقطاعيون وأنصار املبدأ االقتصادي «دعه يعمل ،دعه مير» واملعارضون لإلنفاق االجتماعيَّ .
وألن هذه األفكار ُّ
تبدو ميينية ،فقد أطلق اليساريون مصطلح الداروينية االجتماعية على أفكار أخرى ذات طابع مييين مثل اإلمربيالية وعلم حتسني النسل
سالحا ضد أي تطبيق لنظرية التطور يف فهمً ومؤخرا استُخدم املصطلح
ً متاما ملثل هذا التدخل احلكومي. معارضا ً
ً أن سبنسر كان مع َّ
البشر .إ ًذا فعلى الرغم من أصل هذا املصطلح اللغويَّ ،إال أنَّه ال صلة له بداروين أو البيولوجية التطورية ،وهو اآلن مصطلح ال معىن له
يُساء استخدامه.
شخص موسوعي من العصر ٌ سالحا أيديولوجيًّا .اقرتح فرانسيس جالتون -وهو
ميثِّل علم حتسني النسل حركةً أخرى استُخدمت ً
أطفاال
الفيكتوري -إمكانية حتسني املخزون الوراثي للجنس البشري بتقدمي حوافز تشجيعية لألشخاص املوهوبني حىت يتزاوجوا ويُنجبوا ً
أكثر (علم حتسني النسل اإلجيايب) ،ولكن هذه الفكرة عندما انتشرت امتدت لتشمل احلد من تزاوج «غري الالئقني» (علم حتسني النسل
جمموعة وا ٍ
سعة من ٍ السليب) .فعقَّمت العديد من الدول بصورةٍ إلزامية اجلاحنني واملتخلفني عقليًّا واملرضى النفسيني وغريهم ممن ينتمون إىل
األمراض والوصمات ،واقتدت أملانيا النازية يف قوانينها اخلاصة بالتعقيم اإلجباري بقوانني الواليات املتحدة والدول االسكندنافية ،وتُعد
تذرع النازيون يف تعقيمهم بالصحة امتدادا منطقيًّا لعلم حتسني النسل السليب (يف الواقعَّ ،
ً جرائم القتل اجلماعي لليهود والروم واملثليني
تذرعوا بالوراثة أو التطور :إذ شبَّهوا اليهود باحلشرات ومسببات األمراض والسرطانات واألعضاء امليتة والدم املسموم). العامة أكثر مما َّ
تسبب ارتباط حركة حتسني النسل بالنازية يف تشويه مسعتها إىل األبد ،ولكن املصطلح بقي لوصم عدد من املساعي العلمية مثل
استخدام علم الوراثة الطبية يف إجناب أطفال بدون أمراض تنكسية مميتة ،وكذلك لوصم علم الوراثة السلوكي الذي ُحيلل األسباب الوراثية
والبيئية املسؤولة عن الفروق الفردية بأكمله .وتوصف حركة حتسني النسل عادةً بأهنا حركة العلماء اليمينيني على خالف املذكور
دعما من التقدميني والليرباليني واالشرتاكيني مبا يف ذلك ثيودور روزفلت ( Theodore بالسجالت التارخيية ،فقد القت يف احلقيقة ً
)Rooseveltوهربرت جورج ويلز ( )H. G. Wellsوإميا جولدمان ( )Emma Goldmanوجورج برنارد شو ( George
)Bernard Shawوهارولد السكي ( )Harold Laskiوجون ماينارد كينز ( )John Maynard Keynesوسيدين ويب
( )Sidney Webbوبياتريس ويب ( )Beatrice Webbووودرو ويلسون ( )Woodrow Wilsonومارجرت ساجنر
( .)Margaret Sangerفقد أضفى علم حتسني النسل على اإلصالح قيمة أكرب من قبول الوضع الراهن ،وعلى املسؤولية االجتماعية
قيمة أكرب من األنانية ،وعلى التخطيط املركزي قيمة أكرب من مبدأ «دعه يعمل ،دعه مير» .يرجع الرفض القاطع لعلم حتسني النسل إىل
وإمنا مؤسسة حمدودةأن احلكومة ليست حاكما كلي القدرة يتحكم يف وجود اإلنسانَّ ، مبادئ الليربالية والتحررية التقليدية وهي َّ
ً
السلطات ،وال يقع الوصول بالرتكيب اجليين للمثالية ضمن هذه السلطات.
العلماء (فكثريون منهم كانوا نشطاء أو متواطئني بالطبع) وإمنا ألن هذه مل أذكر الدور احملدود للعلم يف هذه احلركات إلعفاء ُ
بدال من دورها احلايل كحمالت دعائية معادية للعلم .وقد عززت إساءة الفهم اعتمادا على سياقها ً
ً فهما أعمق وأكثر
احلركات تستحق ً
اليت تعرض هلا داروين هذه احلركات ،ولكنَّها انبثقت من القناعات الدينية والفنية والفكرية والسياسية هلذه العصور مثل :النزعة الرومانسية
والتشاؤمية ورؤية التقدم على أنه صراع جديل أو كشف روحاين صويف واحلداثة العليا السلطوية .وإذا كنا نرى أن هذه األفكار غري عصرية
أيضا ،فهذا يرجع إىل أننا نتمتع اليوم بفهم أفضل للتاريخ والعلم.
وخاطئة ً
ليس تبادل االهتامات حول طبيعة العلم من بقايا «حروب العلم» اليت حدثت يف مثانينيات القرن املاضي وتسعينياته فحسب ،وإمنا
يواصل هذا التبادل بلورة دور العلم يف اجلامعات ،فعندما عدَّلت جامعة هارفارد شروط تعليمها العام يف عام ،2007-2006طرح
تأثريا
التصريح األويل لفريق العمل تدريس العلم دون أي ذكر ملكانته يف املعرفة البشرية كما يلي« :يؤثر العلم والتكنولوجيا يف طالبنا ً
مباشرا بطرق عديدة باإلجياب والسلب :فقد نتج عنهما أدوية ميكنها إنقاذ احلياة ،واإلنرتنت ،وطرق ُتزين أكثر كفاءة للطاقة ،ووسائل ً
إن فن أيضا أسلحة نووية وبيولوجية ،ووسائل تنصت إلكرتونية ،وإضرار بالبيئة» .أجل ،ميكن أن نقول َّ ً عنهما نتج ولكن ة، قمير ترفيه
أيضا وهكذا، وإن املوسيقى الكالسيكية حتفز النشاط االقتصادي ،وإهنا أهلمت النازيني ً كال من املتاحف وغُرف الغازَّ ، العمارة أنتج ًّ
أن من املمكن أن يكون لدينا لكن هذه املواربة الغريبة بني املنافع واألضرار مل تُطبَّق على اجملاالت األخرى ،ومل يُ ِشر هذا التصريح إىل َّ
َّ
نفضل الفهم والدراية على اجلهل واخلرافة.
أسبابنا املقنعة اليت جتعلنا ِّ
خلَّصت زميلة أخرى يف مؤمتر حديث إرث العلم املتناقض يف رأيها ،إذ أنتج العلم من جهة لقاحات اجلدري ،وأنتج من جهة
أخرى دراسة الزهري اليت أجرهتا جامعة توسكيجي ،وخبصوص هذا الشأن ،فإن أحد األقاويل احملرضة اليت تتضمنها السردية املشهورة
أن الباحثني يف جمال الصحة العامة تعقبوا تطور مرض الزهري الكامن يف عينة من األمريكيني الفقراء من أصول إفريقية عن شرور العلم َّ
فجة طب ًقا ملعايرينا اآلن ،ولكنَّها ُحت َكى بطريقة مضللة لزيادة
ملدة أربعة عقود دون أن يعاجلوهم .كانت الدراسة غري أخالقية بصورة َّ
االهتامات املوجهة للعلم ،فالباحثون (وكان معظمهم أمريكيني من أصول إفريقية أو من املناصرين لصحتهم ورفاهتهم) مل يصيبوا املشاركني
صنع يف معامل بالعدوى كما يعتقد كثريٌ من الناس (وهو تصور خاطئ َّأدى إىل نظرية املؤامرة واسعة االنتشار اليت تقول بأن اإليدز ُ
احلكومة األمريكية للحد من عدد السود) .ورمبا أمكن الدفاع عن الدراسة مبعايري الفرتة اليت بدأت فيها ،فقد كانت األدوية املتاحة آنذاك
لعالج الزهري (مثل الزرنيخ) سامة وغري فعَّالة ،وعندما أصبحت املضادات احليوية متاحة بعد ذلك مل يكن أحد يعرف ما إذا كانت
أن املعادلة بأكملها متبلِّدة
لكن املقصود هنا َّ
أن الزهري الكامن خيتفي من تلقاء نفسه بدون عالجَّ ، وفعالة أم ال ،وكان من املعروف َّ آمنة َّ
أن دراسة احلس األخالقي ،وتُظهر قوة حجج الثقافة الثانية يف إثارة حس التكافؤ .افرتضت املقارنة اليت أجرهتا زميليت بشكل حتمي َّ
بدال من اعتبارها انتها ًكا استنكره اجلميع يف أحناء العامل ،وساوت العجز مرة واحدة توسكيجي متثِّل جزءًا ال يتجزأ من املمارسة العلمية ً
عن منع وقوع الضرر على بعض الناس مبنع هالك املاليني يف القرن الواحد إىل ما ال هناية.
كثريا من الطالب
أن ًهل ُحتدث شيطنة العلم يف برامج اآلداب احلرة يف التعليم العايل فرقًا؟ أجل ،وذلك لعدة أسباب .فرغم َّ
كثريا منهم ال يعرفون ما الذي يودون فعله يف حياهتم ويتأثرون أن ًيتدافعون لدراسة الطب واهلندسة مبجرد التحاقهم باجلامعةَّ ،إال َّ
أن العلم جمرد سردية أخرى مثل األديان واألساطري ،وأنَّه خيرج من ثورة ليدخل يف بأستاذهتم ومرشديهم .وماذا سيحدث للذين يدرسون َّ
شهدت اإلجابة عن ذلك السؤال ٍ
بسرعة دون إحراز أي تقدم ،وأنَّه تربير للعنصرية والتمييز اجلنسي واإلبادة اجلماعية؟ وقد ُ أخرى
بنفسي :فبعضهم يقول« :إذا كان هذا هو العلم ،فمن األفضل أن أجين منه بعض املال!» وبعد أربعة أعوام يستخدمون عقوهلم يف
بدال من استخدامها يف اكتشاف أدوية اخرتاع خوارزميات تُسرع من القرارات اليت تتخذها صناديق التحوط عند قراءة املعلومات املالية ً
جديدة لعالج مرض الزهامير أو تقنيات الحتجاز الكربون وُتزينه.
أيضا ،فإذا أراد أي شخص اآلن أن جيري حبثًا علميًّا على البشر ،حىت وإن كان جمرد وتعرقل عملية إدانة العلم تقدم العلم نفسه ً
للجنة ما أنَّه ليس يوسف مينجله )،*(Josef Mengele حوار عن اآلراء السياسية أو استبيان عن األفعال غري املنتظمة ،فعليه أن يثبت ٍ
أن البريوقراطية املؤسسية للتحقق من ذلك قد تضخمت بصورة ورغم أنَّه جيب محاية املشاركني يف األحباث من الضرر واالستغالل َّإال َّ
وسالحا يستخدمه املتعصبون إلسكات من الً خطرا على حرية التعبري
أن البريوقراطية أصبحت ً تتجاوز مهمتها بكثري ،وأشار النُـقَّاد إىل َّ
يرضون عن آرائهم ،وبريوقراطية ُُتفض من مستوى البحث العلمي بينما تفشل يف محاية املرضى واملشاركني يف البحث العلمي بل وتضرهم
وضم إىل جلنة مراجعة البحثأحيانًا .قال جوناثان موس ) ،(Jonathan Mossالباحث الطيب الذي طور فئة جديدة من األدوية ُ
العلمي يف جامعة شيكاغو« :أود منكم أن تُفكروا يف ثالث معجزات طبية نعتربها من املسلَّمات ،وهي :األشعة السينية وقسطرة القلب
أن ثالثتها مل تكن لرتى الشمس لو حاولنا تطويرها يف عام ( »2005وذُكِرت املالحظة نفسها عن األنسولني والتخدير الكلي ،وأزعم َّ
أيضا ،فأي شخص يود احلديث مع إنسان بنية وعالجات احلروق وأدوية أخرى منقذة للحياة) .تواجه العلوم االجتماعية عوائق مماثلة ً
مسبق من هذه اللجان ،وهو انتهاك أكيد للتعديل يح ٍ احلصول على معرفة قابلة للتعميم فإن من الواجب عليه أن حيصل على تصر ٍ
وحيظَر على علماء األنثروبولوجيا التحدث إىل الفالحني األميني الذين ال يستطيعون توقيع استمارة موافقة أو حماورة الدستوري األولُ ،
ات انتحارية الحتمالية إفشائهم معلومات قد تعرضهم للخطر. األشخاص احملتمل قيامهم بتفجري ٍ
ض ناتج عن الزحف البريوقراطي ،ويف احلقيقة ،فإن العديد من األكادمييني يف جمال يسمى ليست عرقلة البحث العلمي جمرد َعَر ٍ
باألخالقيات البيولوجية يربروهنا ،إذ خيتلق هؤالء املنظرون أسبابًا حلظر مشاركة البالغني املوافقني يف العالجات اليت تساعدهم وتساعد
أحدا ،مستخدمني كلمات مبهمة مثل «الكرامة» و«القداسة» و«العدالة االجتماعية» ،وحياولون زرع اخلوف من اآلخرين بينما ال تضر ً
التطورات يف أحباث الطب احليوي باستخدام تشبيهات بأشياء من املستبعد حدوثها تشمل األسلحة النووية وأعمال النازيني الوحشية
وديستوبيا من اخليال العلمي مثل «عالم جديد شجاع» ) (Brave New Worldو«جاتاكا» ) ،(Gattacaوسيناريوهات
خميفة مثل جيوش من كائنات مستنسخة من هتلر وأشخاص يبيعون أعينهم على متجر إي باي ( )eBayأو خمازن من املوتى األحياء
لتوفري أعضاء احتياطية للناس .فضح الفيلسوف األخالقي جوليان سافوليسكو ( )Julian Savulescuاملعايري املنخفضة للمنطق
وراء هذه احلجج وأشار إىل أنَّه من املمكن أن تكون هذه العرقلة اليت يقوم هبا جمال األخالقيات البيولوجية غري أخالقية ،فقال« :يعين
مرضا مميتًا يقتل مئة ألف شخص يف السنة ملدة سنة أنَّك مسؤول عن موت هؤالء املئة ألف حىت وإن مل َترهم تأخري تطوير دواء يعاجل ً
مطل ًقا».
أن البشر ُمعرضونفإن املردود األعظم لغرس تقدير العلم هو أن يفكر اجلميع بطريقة أكثر علمية ،ورأينا يف الفصل السابق َّ
ويف النهايةَّ ،
عالجا للتفكري الذي يتَّسم باملغالطات املنطقية فيما يتعلق
أن املعرفة العلمية ليست يف حد ذاهتا ً لالحنيازات واملغالطات املعرفية .رغم َّ
حاال إذا َّ
فكروا يف هذه القضايا بطريقة أكثر باهلوية املسيَّسةَّ ،إال أنَّه ليست مجيع القضايا تبدأ على هذا النحو ،وسيصبح اجلميع أفضل ً
علمية .بإمكان احلركات اليت هتدف إىل نشر التطور العلمي ،مثل صحافة البيانات والتنبؤ البايزي والطب والسياسة املستندين إىل األدلة
* أو جوزيف مينجل الشهير بمالك الموت هو ضابط طبيب نازي كان يعمل في معسكر األوشفيتز ويجري تجارب وحشية مميتة على المعتقلين ويختار
المعتقلين الذي سيواجهون مصيرهم في أفران الغاز – .المترجمة.
ولكن تقدير قيمتها يتغلغل يف الثقافة ٍ
ببطء. والرصد الفوري للعنف واإليثار الفعَّال ،تعزيز رفاهة البشر بصورةٍ هائلةَّ ،
قائال« :يقول بعض مرضاي أنَّه
عما إذا كان املكمل الغذائي الذي وصفه يل بسبب أمل ركبيت فعَّ ًاال حقًّا ،فأجاب ً
سألت طبييب َّ
ُ
الحظت َّ
أن العديد من األذكياء ُ فعال معهم» .شارك أحد زمالئي يف كلية إدارة األعمال مالحظته التالية عن عامل الشركات« :لقد ٌ
ليس لديهم أي فكرة عن كيفية التفكري باملنطق حلل مشكلة ،ويستنتجون عالقة سببية من جمرد االرتباط ويستخدمون احلكايات
الشخصية كدليل يفوق بكثري احتمالية حدوث هذه األمور» .يصف زميل آخر يقيس مقدار احلرب والسالم واألمن البشري بصورةٍ
كمية األمم املتحدة َّ
بأهنا «منطقة خالية من األدلة»: ِّ
ال ُتتلف املناصب العليا يف األمم املتحدة عن برامج العلوم اإلنسانية املعادية للعلم ،فمعظم من يصل إىل هذه املناصب
حمامون وخرجيو كليات اآلداب احلرة ،واجلزء الوحيد من األمانة العامة الذي لديه ما يشبه ثقافة البحث ال يتمتَّع سوى
بالقليل من النفوذ والتأثري .ومل يفهم عبارات حتفظية بسيطة مثل «يف املتوسط ومع ثبات العوامل األخرى» سوى القليل من
كبار املسؤولني يف األمم املتحدة ،لذا فإذا كنا نتحدث عن احتماالت نشوب نزاعات ،فثِق َّ
أن السري أرشيبالد برندرجاست
قائال« :الوضع ليس كذلك يف بوركينا فاسو».
الثالث أو أحد الزعماء البارزين اآلخرين سريفض ً
كميًّا ،لكن مامل يكونوا مستعدين للحديث يعرتض من يرفضون التفكري العلمي عليه عادةً بقوهلم َّ
إن بعض األشياء ال ميكن قياسها ِّ
بأهنا خري أو شر فقط ،ونبذ استخدام كلمات مثل أكثر وأقل وأفضل وأسوأ (و«أفعل» التفضيل)َّ ،
فإهنم يدَّعون عن القضايا احملسومة َّ
ولكن الشيء الذي نعرفه عن
ادعاءات كميَّة بطبعها .إذا اعرتضوا على إمكانية إضافة األرقام للقضايا ،فهم يقولون« :ثق يف حدسي»َّ ،
أن الناس (مبا فيهم اخلرباء) يثقون يف حدسهم ثقةً زائدة .صدم بول مييل ( )Paul Meehlزمالءه من علماء النفس بتوضيح احلدس َّ
َّ
أن معادالت اكتوارية بسيطة ميكنها التفوق على آراء اخلرباء يف التنبؤ بتشخيص األمراض النفسية وحماوالت االنتحار واألداء الوظيفي
والدراسي والكذب واجلرمية والتشخيص الطيب وبأي ناتج آخر ميكن قياس دقته .أهلمت أعمال مييل اكتشافات تفريسكي وكامنان فيما
أن استنتاجه بتفوق التقدير اإلحصائي على احلدسي هو أحد أقوى خيص االحنيازات املعرفية ودورات تيتلوك للتنبؤ ،ومن املعروف َّ
االكتشافات يف تاريخ علم النفس.
حال جلميع املشكالت ،فال تستطيع حال سحريًّا وال رصاصة فضية أو سحرية وليست ًّ ليست البيانات -ككل األشياء اجليدةًّ -
دائما للبشر يف
كل أموال العامل دفع تكاليف التجارب العشوائية اخلاضعة للمراقبة الالزمة لإلجابة عن كل سؤال يراودنا .وسيبقى القرار ً
دائما ،وحىت
كميًّا بدائية ًقياسا ِّ
حتديد البيانات اليت يودون مجعها وكيفية حتليلها وتفسريها .تبقى احملاوالت األوىل لقياس أي مفهوم ً
تاما ،وعلى الرغم من ذلك ،حدد علماء االجتماعيات الكمية معايري لتقييم املقاييس احملاوالت األفضل تؤدي إىل فه ٍم احتمايل وليس ًّ
وتطويرها ،وليس املعيار احلاسم هو ما إذا كان املقياس مثاليًّا أم الَّ ،
وإمنا كونه أفضل من تقدير اخلبري أو الناقد أو الصحفي أو الطبيب
أن هذا املعيار منخفض املستوى. أو القاضي أو اخلبري املخضرم .واتَّضح َّ
نتيجة خللو ثقافات السياسة والصحافة من أسلوب التفكري العلمي ،فإن اإلجابة عن األسئلة ذات العواقب اهلائلة للحياة واملوت
تكون ٍ
بطرق نعرف أهنا خاطئة مثل احلكايات الشخصية والعناوين الرئيسية واخلُطب الرنانة وما يسميه املهندسون (رأي الشخص األعلى
أجرا).
ً
أن اجلرمية واحلرب ُترجان عنلقد رأينا بالفعل بعض التصورات اخلاطئة اخلطرية الناجتة عن عدم استخدام اإلحصاء ،حيث ظن الناس َّ
كبريا على حياة
خطرا ً أن اإلرهاب اإلسالمي يشكل ً ٍ
اخنفاض ال ارتفاع ،ويظنون َّ نطاق السيطرة ،مع َّ
أن جرائم القتل ووفيات املعارك يف
أن «داعش» هتدد وجود الواليات املتحدة وبقائها رغم أنَّه يندر أن حتقق أن خطره أقل من خطر الدبابري والنحل ،ويظنون َّ الناس رغم َّ
احلركات اإلرهابية أهدافها االسرتاتيجية.
ميكن أن تؤدي عقلية رهاب البيانات («الوضع ليس كذلك يف بوركينا فاسو») إىل مأساة حقيقية ،يتذكر بالطبع العديد من
املعلقني السياسيني فشل قوات حفظ السالم (مثلما حدث يف البوسنة عام )1995ويستنتجون بالتايل َّ
أن هذه القوات إهدار للمال
واملوارد البشرية ،ولكن عندما تنجح قوات حفظ السالم ،فال حيدث شيء جدير بالتصوير والنشر ،وال يصل من ذلك شيء إىل األخبار.
تناولت عاملة السياسة فريجينيا بيدج فورنتا ( )Virginia Page Fortnaيف كتاهبا «هل ينجح حفظ السالم؟» ( Does
)? Peacekeeping Workالسؤال الذي يطرحه عنوان كتاهبا بطريقة علمية ً
بدال من استخدام عناوين صحفية بارزة وكانت
أيضا ،وقد متثِّل املعرفة بنتائج ٍ
اإلجابة« :نعم واضحة ومدوية» يف حتد لقانون بيرتيدج .وتوصلت دراسات أخرى إىل االستنتاج نفسه ً
هذه التحليالت الفارق بني مساعدة مؤسسة دولية للحفاظ على السالم يف ٍ
دولة ما وترك احلرب املدنية تتفاقم فيها.
ٍ
مقاطعات إثنية وإخراج األقليات هل تأوي املناطق متعددة األعراق «كراهيات قدمية» ال ميكن إمخادها إال بتقسيم هذه املناطق إىل
منها؟ نسمع عن األعراق املتجاورة يف األخبار عندما تتقاتل ،ولكن ماذا عن األحياء املتجاورة من األعراق املختلفة اليت ال تصلنا أخبارها
سالم ممل؟ وما هي نسبة األعراق املتجاورة اليت تتعايش سويًّا دون عنف؟ اإلجابة هي :معظمهم %95 ،من األعراق ألهنا تعيش يف ٍ أبدا َّ
ً
املتجاورة يف االحتاد السوفييت ساب ًقا و %99من األعراق املتجاورة يف إفريقيا.
أن غاندي ومارتن لوثر كينج كانا حمظوظني ،و َّ
أن حركتيهما أسرت فعال؟ يعتقد كثريٌ من الناس َّ
هل تنجح محالت املقاومة السلمية ً
مكان آخر فيحتاجون إىل العنف للخروج من حتت سيطرة أي ٍ قلوب الدميقراطيات املستنرية يف الوقت املناسب ،أما املظلومون يف ِّ
الدكتاتوريات .مجعت عاملتا السياسة إريكا شينويث ( )Erica Chenowethوماريا ستيفان ( )Maria Stephanبيانات
أن ثالثة أرباع حركات املقاومة السلمية جنحت
حركات املقاومة السياسية يف مجيع أحناء العامل بني عامي 1900و 2006واكتشفتا َّ
مقارنة بثُلث احلركات اليت استخدمت العنف يف املقاومة فقط .كان غاندي وكينج على حق ولكنَّك مل ت ُكن لتعرف ذلك قط دون وجود
بيانات.
أن االنضمام إىل مجاعة متمردة تستخدم العنف ،أو مجاعة إرهابية ،رمبا يكون بسبب الرغبة يف تكوين رابطة قوية على الرغم من َّ
أن أغلب املقاتلني يعتقدون أهنم إذا أرادوا خلق عامل أفضل فليس لديهم خيار بني الذكور أكثر منه بسبب نظرية احلرب العادلةَّ ،إال َّ
أيضا؟ ال يعين
فعال ًوإمنا غري ٍ
أن استخدام العنف ليس غري أخالقي فحسب َّ سوى قتل بعض الناس .ماذا سيحدث إذا علم اجلميع َّ
ولكن قادة اجلماعات املتطرفة يكونون عادةً ذوي
جوا على مناطق النزاعَّ ،أن علينا أن نقذف ُكتُب شينويث وستيفان ً ذلك أنَّين أعتقد َّ
عال (ويستخلصون جنوهنم من كتابات أكادميية قدمية) وحىت منفِّذو العمليات عاد ًة ما يلتحقون باجلامعة ويستبطنون التصور تعليم ٍ
اهتماما أقل لكتابات
ً كرست املقررات الدراسية اجلامعية
التقليدي للحاجة إىل العنف الثوري .ما الذي سيحدث على املدى البعيد إذا َّ
اهتماما أكثر للتحليالت الكمية للعنف السياسي؟ كارل ماركس وفرانز فانون و ً
دمج أعمق مع شريكه األكادميي :العلوم اإلنسانية ،فالعلوم اإلنسانية
رمبا يكون أحد اإلسهامات العظيمة احملتملة للعلم احلديث هو ٌ
ٍ
انكماش ،واجليل القادم من الباحثني إما عاطل عن العمل أو يعاين من بطالة جزئية، واقعة يف ورطة بكل املقاييس ،فالربامج اجلامعية يف
والروح املعنوية يف اخنفاض ،وتبتعد أعداد كبرية من الطالب عن اجلامعة.
حبث أكادميي تارخييليس من املفرتض َّأال يكرتث أي شخص عاقل بعدم استثمار جمتمعنا يف العلوم اإلنسانية ،فمجتمع دون ٍ
ٌ
أن الوضوح واملنطق ال يسهل اكتساهبما وأنَّنا نكونومشوشا ويسهل استغالله .تنبع الفلسفة من إدراك َّ
ً شخصا دون ذاكرة ،وامهًا
ً يشبه
أفضل عندما نصقل تفكرينا ونعمقه ،والفنون إحدى األمور اليت جتعل احلياة جديرة بأن تُعاش وتُثري التجربة اإلنسانية باجلمال واحلكمة،
صل املعرفة يف هذه اجملاالت بشق األنفس وحتتاج إىل إثراء وإطالع فن يزيد من تقديرنا لألعمال العظيمة واستمتاعنا هباُ .حت َّ والنقد نفسه ٌ
مستمر مع تغري الزمن.
تشري العلل اليت أصابت العلوم اإلنسانية بصورة مباشرة إىل االجتاهات املعادية للفكر يف ثقافتنا وإىل االستغالل التجاري للجامعات،
بأن بعض هذا الضرر ناتج عن األذى الذايت .ما زال على العلوم اإلنسانية أن تتعايف من ولكن التقييم الصادق سيدفعنا إىل االعرتاف َّ
َّ
كثري من أبرز رموزها مثل نيتشه
كارثة ما بعد احلداثة بظالميتها العنيدة ونسبيتها اليت تنقض نفسها بنفسها ولباقتها السياسية اخلانقةٌ .
( )Nietzscheوهايدجر ( )Heideggerوفوكو ( )Foucaultوالكان ( )Lacanودريدا ( )Derridaوالنقاد املنظرين هم
إن احلداثة بغيضة وكل التصرحيات متناقضة ،فاألعمال الفنية أدوات قم ٍع، أشخاص متشائمون فيما خيص الثقافة ،وكئيبون ويقولون َّ
والدميقراطية الليربالية مثل الفاشية بالضبط ،واحلضارة الغربية تتدهور باستمرار ومصريها الفشل.
ليس من املفاجئ إ ًذا أن تواجه العلوم اإلنسانية صعوبة يف حتديد خطة تقدمية لنفسها يف ظل هذه النظرة املبتهجة الساذجة للعامل.
وقد شكا يل العديد من رؤساء اجلامعات وعمدائها من َّ
أن العلماء عندما يأتون إىل مكاتبهم ،فإهنم يأتون ألهنم اكتشفوا فرصة حبثية
جديدة ويطالبون باملوارد الالزمة للسعي وراءها ،أما عندما يأيت إليهم باحث يف العلوم اإلنسانية ،فيأيت لينشد احرتام طريقة سري األمور
منذ قدمي األزل .تستحق طريقة سري األمور االحرتام بالفعل ،وال بديل عن القراءة املتأنية والوصف املكثَّف واالنغماس العميق الذي
يُطبقه الباحثون اخلرباء يف األعمال الفردية ،ولكن هل ال بد أن تكون هذه هي الطرق الوحيدة للفهم؟
يُقدم ارتباط ا لعلوم اإلنسانية بالعلم إمكانيات عديدة لرؤية جديدة ،فالفن والثقافة واجملتمع من نواتج العقل البشري ،تنشأ يف
شخص ما يف اآلخرين .أال ينبغي أن يدفعنا
ٌ ملكاتنا اإلدراكية وفكرنا وعواطفنا وترتاكم وتنتشر من خالل ديناميات االنتشار اليت يؤثر هبا
الفضول لفهم هذه الروابط؟ سيفوز كال الطرفني ،وستتمتع العلوم اإلنسانية مبزيد من ُعمق الفهم الذي يتميز به العلم وخبطة تطلعية
(فضال عن أهنا ستعجب العمداء واجلهات املاحنة) .وميكن للعلوم أن تعارض فرضياهتا بالتجاربتستطيع جذب املواهب الشابة الطموحة ً
كثريا.
الطبيعية والظواهر اليت تتسم بالصالحية البيئية (اإليكولوجية) اليت أسهب يف وصفها باحثو العلوم اإلنسانية ً
فرعا من تاريخ الفن ،إىل علم قائم على التكنولوجيا الفائقة،
أمر واقع يف بعض اجملاالت ،إذ تطور علم اآلثار من كونه ً
هذا االرتباط ٌ
وتتداخل فلسفة العقل مع املنطق الرياضي وعلم الكمبيوتر والعلوم املعرفية وعلم األعصاب ،وجيمع علم اللغويات بني الدراسة اللغوية
لتاريخ الكلمات والرتاكيب النحوية من جانب والدراسات املعملية للكالم والنماذج الرياضية لقواعد النحو والتحليالت احلاسوبية ملدونات
هائلة من الكتابات واحملادثات من ٍ
جانب آخر.
أيضا بني النظرية السياسية وعلوم العقل ،يقول جيمس ماديسون« :وما احلكومة َّإال أعظم التأمالت يفهناك عالقة طبيعية وثيقة ً
الطبيعة البشرية» .ويعيد علماء االجتماع والسياسة واملعرفة فحص الروابط بني السياسة والطبيعة اإلنسانية ،ونوقشت هذه الروابط باهتمام
ولكن النقاش اختفى يف فرتةٍ مت التعامل فيها مع البشر على َّأهنم صفحات بيضاء أو كائنات فاعلة عقالنية.
شديد يف فرتة ماديسون َّ
أن البشر كائنات فاعلة أخالقية تسرتشد حبدسها عن السلطة والقبيلة والنقاء ،وتلتزم باعتقادات مقدسة تُعرب عن هويتها، نعرف اآلن َّ
وحتركها نزعات انتقامية وتصاحلية .وبدأنا للتو يف فهم ملاذا تطورت هذه النزعات ،وكيف تعمل يف الدماغ ،وكيف ُتتلف بني األفراد
والثقافات والثقافات الفرعية وما الظروف اليت تطلق هذه النزعات أو ُُتمدها.
تلوح فرص مشاهبة يف قطاعات أخرى من العلوم اإلنسانية ،إذ ميكن أن تستفيد الفنون البصرية باالنفجار املعريف يف علم الرؤية
مبا فيه من إدراك اللون والشكل وامللمس واإلضاءة واجلماليات التطورية يف الوجوه واملناظر الطبيعية واألشكال اهلندسية ،وهناك فرص
كثرية للنقاش بني وأمام الباحثني يف املوسيقى والعلماء الذين يدرسون إدراك الكالم وبنية اللغة وحتليل الدماغ للعامل السمعي.
ال أعرف من أين أبدأ فيما خيص الدراسة األدبية .كتب جون درايدن أن العمل الروائي« :صورة حية وصادقة للطبيعة اإلنسانية
متثل مشاعرها ومزاجها ،وتعرب عن تغري املصائر الذي ُتضع له من أجل إدخال البهجة على البشرية وإرشادها» .وميكن لعلم النفس
املعريف أن يُسلط الضوء على الكيفية اليت يعيش فيها القراء بوعيهم جتربة املؤلف وشخصيات الرواية .وميكن أن ُحيدِّث علم الوراثة
السلوكي النظريات الشعبية للتأثري األبوي باكتشافاته اخلاصة بتأثري اجلينات واألقران والصدفة ،ذات التأثريات العميقة يف تفسري ِ
الس َري
كثريا من علم النفس املعريف للذاكرة وعلم النفس االجتماعي لتقدمي الذات.
الشخصية واملذكرات ،وهو مسعى آخر ميكن أن يستفيد ً
كما يستطيع علماء النفس التطوريون التفرقة بني اهلواجس العاملية واهلواجس اليت تغايل فيها ثقافة معينة ،وميكنهم حتديد الصراعات
الفطرية واملصاحل املشرتكة داخل األسر وبني األزواج واألصدقاء واملتنافسني واليت ُحترك احلبكة .ميكن أن تساعد كل هذه األفكار على
إضافة عمق جديد ملالحظة درايدن عن األدب اخليايل والطبيعة البشرية.
ومع أن من األفضل فهم العديد من القضايا اليت تطرحها العلوم اإلنسانية بالنقد السردي التقليدي ،إال أن بعض هذه القضايا
يُثري أسئلة جتريبية ميكن اإلجابة عنها بالبيانات .افتتح تطبيق علم البيانات على الكتب والدوريات واملراسالت والعالمات املوسيقية
علوما إنسانية رقمية» جديدة ومتوسعة .وال حيد فرص النظريات واالكتشافات سوى اخليال ،وتتضمن هذه الفرص منشأ األفكار « ً
وانتشارها ،وشبكات التأثري الفكري والفين ،ومعامل الذاكرة التارخيية ،وظهور واختفاء املواضيع يف األدب ،واحلبكات والنماذج األولية
العاملية واحملددة بثقافة ما ،وأمناط الرقابة واحملظورات غري الرمسية.
ال ميكن حتقيق وحدة املعرفة إال إذا سرت املعرفة يف مجيع االجتاهات .كان بعض الباحثني الذين نفروا من جتاوزات العلماء يف
سبب أدعى كي ميدوا أيديهم وجيمعوا بني خربهتم يف
جدا وساذجة مبعايريهم ،وهو ٌ أن هذه التفسريات ضحلة ً تفسري الفن حمقني يف َّ
جيال
درب اجلامعات ً األعمال الفردية وأنواع الفن ،والرؤية العلمية للمشاعر اإلنسانية واالستجابات اجلمالية .واألفضل من ذلك ،أن تُ ِّ
جديدا من الباحثني الذين جييدون ًّ
كال من ثقافيت العلم واألدب. ً
كثريا من باحثي العلوم اإلنسانية مييلون لتقبل بعض األفكار من العلمَّ ،إال َّ
أن العديد من املنتمني إىل «الثقافة أن ً على الرغم من َّ
الثانية» يعلنون َّأهنم غري مهتمني مبثل هذه األفكار .كتب آدم جوبنيك مراجعة يف جريدة نيويوركر ) (New Yorkerيعارض فيها
كتابًا للباحث األديب جوناثان جوتشل ( )Jonathan Gottschallعن تطور غريزة السرد وقال« :ليس السؤال اهلام فيما يتعلق
وإمنا ما الفرق اهلائل بني القصص اجليدة والقصص اململة؟..فاالختالفات البسيطة بالقصص هو ما الذي جيعل حب الناس هلا عامليًّاَّ ،
"السطحية" يف القصص -مثلما يف أزياء النساء -هي لب املوضوع كله يف احلقيقة» .ولكن هل جيب أن يكون التذوق األديب هو حمور
تقدير األدب؟ قد حيرك الفضول أحد ُحميب البحث ملعرفة الطرق املتكررة اليت تعاملت هبا عقول خمتلفة الثقافات واألزمنة مع ألغاز الوجود
اإلنساين.
أملى ويسلتري شروطًا تعجيزية ملا ال ميكن أن تفعله الدراسة البحثية يف العلوم اإلنسانية مثل إحراز التقدم ،فقال« :قضايا الفلسفة
تنته ،وال ُتضع األخطاء للتصحيح والنبذ» .لكن يف احلقيقة ،إن سألت فالسفة األخالق اليوم فسيقول القدمية املثرية لالستياء..مل ِ
إن احلجج القدمية اليت تُدافع عن العبودية بوصفها مؤسسة طبيعية هي ُحجج خاطئة خضعت للتصحيح وتعرضت للنبذ ،وقد معظمهم َّ
بأن اإلدراك اإلنساين صادق َّ
ألن اهلل ال ميكن أن أن جماهلم تطور من الزمن الذي كان ديكارت يقول فيه َّ يضيف فالسفة اإلبستمولوجيا َّ
إن هناك «اختالفًا مصرييًّا بني دراسة العامل الطبيعي ودراسة عامل اإلنسان» وأي حماولة «لتعدي هذه أيضا َّ
خيدعنا .ويقول ويسلتري ً
ألن «التفسري العلمي سيكشف التماثل اخلفي» و«سيبتلع مجيع العوامل احلدود» بني العاملني سيجعل العلوم اإلنسانية «خادمةً للعلم» َّ
يف عا ٍمل واحد ،عامله هو» .إىل أين يقودنا جنون االرتياب هذا وهذه النزعة اإلقليمية؟ دعا ويسلتري يف مقال هام له يف New York
) )Times Book Reviewإىل رؤية عاملية متثل ما قبل الداروينية «عدم عزو االختالف اإلنساين ٍّ
ألي من جوانبنا احليوانية»
وإىل رؤية «مركزية البشرية بالنسبة للعامل» وهي بالتأكيد رؤية سابقة على الكوبرنيكية.
لنأمل َّأال يسري الفنانون والباحثون خلف هؤالء الناس الذين َّ
نصبوا أنفسهم مدافعني عنهم إىل هذه اهلاوية .وال ميكننا وقف سعينا
وراء حل األزمة اإلنسانية عند القرن السابق أو ما قبله ،فما بالك بالعصور الوسطى! وليس مثة شك يف أن هناك الكثري لنضيفه إىل
نظرياتنا السياسية والثقافية واألخالقية من فهمنا األفضل للعامل ولبنية نوعنا.
قائال:
أشاد توماس بني ( )Thomas Paineيف عام 1778بفضائل العلم العاملية ً
«تُستمد معرفتنا عن العالم من المالحظة والتجربة والتحليل العقالني .يرى أصحاب النزعة اإلنسانية َّ
أن العلم
أيضا قيمة االنطالقات
هو الطريقة املثلى للحصول على هذه املعرفة وكذلك حلل املشاكل وتطوير تقنيات مفيدة .وندرك ً
اجلديدة يف الفكر والفنون والتجارب الداخلية ،وخيضع كلٌّ من هذه األمور لتحليل أمناط الذكاء النقدية.
اإلنسان جزء ال يتجزأ من الطبيعة ،ونتاج للتطور غير الموجه..نرى أن هذه هي حياتنا الوحيدة ونكتفي هبا ،ومنيز
بني ماهية األشياء وما نتمىن أو نتخيل أن تكون .نُرحب بتحديات املستقبل وننجذب إىل اجملهول وال هنابه.
تنبع القيم األخالقية من احتياج اإلنسان ومصلحته كما ثبت بالتجربة ،يستند أصحاب النزعة اإلنسانية يف قيمهم
إىل الرفاهة البشرية اليت تصوغها ظروف البشرية ومصاحلها واهتماماهتا ومتتد إىل النظام البيئي العاملي وتتجاوزه..
أن مبادئ اإلنسانية ال تنتمي إىل أي طائفة ،مثل الرجل احملرتم سيكون أعضاء املؤسسات اإلنسانية هم أول من يُصر على َّ
نثرا طوال عمره ،فكثريٌ من الناس إنسانيون دون أن يدروا. سرته معرفة أنَّه كان يتكلم ً
الربجوازي يف مسرحية موليري ( )Molièreالذي َّ
مي كن العثور على بعض املبادئ اإلنسانية يف معتقدات ترجع إىل العصر احملوري (الفرتة من القرن الثامن إىل القرن الثالث قبل امليالد).
وبرزت هذه املبادئ خالل عصر العقل والتنوير و َّأدت إىل بيان احلقوق اإلجنليزي والفرنسي واألمريكي ،ونشطت مرة أخرى بعد احلرب
العاملية الثانية وأهلمت إنشاء األمم املتحدة ووضع اإلعالن العاملي حلقوق اإلنسان وإنشاء مؤسسات تعاون عاملي أخرى .مع َّ
أن اإلنسانية
ال تعتمد على اآلهلة أو اجلن أو األرواح كأساس لألخالق واملعىنَّ ،إال َّأهنا ال تتعارض بأي حال من األحوال مع املؤسسات الدينية .فقد
بدال من األوامر اإلهلية،
استندت بعض الديانات الشرقية مثل الكونفوشية وبعض مذاهب البوذية يف أخالقها على رفاهة البشرية ً
وأصبحت العديد من الطوائف املسيحية واليهودية إنسانية النزعة ،خمففني من إرثهم من املعتقدات الغيبية والسلطة الكنسية لصاحل املنطق
واالزدهار العاملي للبشر ،ومن بني هؤالء الكويكريون ( )Quakersواملوحدون ( )Unitariansواألساقفة الليرباليون ( liberal
)Episcopaliansواللوثريون الشماليون ( )Nordic Lutheransوالفروع اإلصالحية والتفكيكية واإلنسانية من اليهودية.
قد تبدو اإلنسانية عادية ومتف ًقا عليها ،فمن ميكنه الوقوف ضد ازدهار البشر؟ لكنَّها يف احلقيقة التزام أخالقي ُمميز ال يُفكر فيه
العقل البشري بالفطرة ،وكما سنرى ،فإهنا تلقى معارضة شديدة من العديد من الديانات واألحزاب السياسية ،وما يثري العجب أهنا تلقى
أيضا من فنانني وأكادمييني ومثقفني بارزين .إذا أرادت اإلنسانية أن حتافظ على مكانتها يف عقول الناس -مثل مبادئ التنوير معارضة ً
األخرى -فال بد أن يكون شرحها والدفاع عنها بلغة العصر احلايل وأفكاره.
وضعت مسودة اإلعالن العاملي حلقوق اإلنسان -وهو بيان إنساين يتكون من 30مادة -يف أقل من سنتني بفضل إصرار رئيسة
قدما وجتنب اخلوض يف األيديولوجيات (وعندما ُسئل جون مهفري واضع املسودة األوىل عن جلنة الصياغة إلينور روزفلت على املضي ً
نب على أي فلسفة على اإلطالق») ،واعتمدته اجلمعية العامة لألمم املتحدة يف ٍ
املبادئ اليت بُين عليها اإلعالن ،أجاب بلباقة« :مل يُ َ
ديسمرب عام 1948دون ُمعارضة .وخالفًا لالهتامات اليت تقول بأن حقوق اإلنسان نتاج عقيدة أبرشية غربية ،فقد أيد اإلعالن كلٌّ
من اهلند والصني وتايالند وبورما وإثيوبيا وسبع دول مسلمة ،بينما اضطر روزفلت إىل الضغط على املسؤولني األمريكيني واإلجنليز حىت
يصطفوا خلفه ،بسبب قلق الواليات املتحدة بشأن زنوجها وخوف اململكة املتحدة على مستعمراهتا .وامتنع كلٌّ من االحتاد السوفيييت
واململكة العربية السعودية وجنوب إفريقيا عن املشاركة.
تُرجم اإلعالن إىل 500لغة ،وكان له أثر يف معظم دساتري الدول اليت صيغت يف العقود التالية ،إضافة إىل العديد من القوانني
عاما.
مؤثرا بعد سبعني ً
الدولية واملعاهدات واملنظمات ،وما يزال ً
مع أن اإلنسانية هي القانون األخالقي الذي يلتقي عنده الناس عندما يفكرون بعقالنية وينتمون إىل ثقافات خمتلفة وحيتاجون إىل التوافق،
حال من األحوال .وتتعارض فكرة أن األخالق هي حتقيق احلد األقصى من االزدهار إال أهنا ليست جمرد حد أدىن مشرتك تافه بأي ٍ
ُ
للبشرية مع بديلني ُمغريني ،األول هو األخالق الدينية ،أي االعتقاد بأن األخالق عبارة عن طاعة أوامر إله ،وتعزز هذه األوامر بثواب
وعقاب غيبيني يف الدنيا أو يف اآلخرة ،أما الثاين فهو البطولة الرومانسية ،أي االعتقاد بأن األخالق تتمثل يف النقاء واألصالة وعظمة
الفرد أو الدولة .ومع أن البطولة الرومانسية ذُكرت ألول مرة يف القرن التاسع عشر ،إال أننا جندها يف جمموعة من احلركات املؤثرة اجلديدة
مثل الشعبوية السلطوية والفاشية اجلديدة والرجعية احلديثة واليمني البديل.
يعتقد العديد من املثقفني الذين ال يوافقون على بدائل اإلنسانية أن هذه البدائل تعكس حقيقة جوهرية عنَّا وهي أن البشر حيتاجون
إىل اعتقادات توحيدية أو روحانية أو بطولية أو قبلية ،ويقولون إن اإلنسانية قد ال تكون خاطئة ،ولكنها تتعارض مع الطبيعة البشرية،
طويال ،فما بالك ٍ
بنظام عاملي قائم عليها! وال ميكن أن يدوم جمتمع مبين على املبادئ اإلنسانية ً
يسهل القفز من االدعاء النفسي إىل ٍ
ادعاء تارخيي بأن اإلنسانية شرعت يف االهنيار احلتمي ،وأننا اآلن نشاهد بأعيننا تفكك
الرؤية العاملية الليربالية الكوزموبوليتانية التنويرية اإلنسانية .أعلن الكاتب الصحفي جبريدة نيويورك تاميز روجر كوهني ( Roger
قائال« :التجربة الليربالية الدميقراطية هي جمرد فاصل قصري -بإمياهنا النابع )Cohenيف عام َّ 2016
أن «الليربالية ماتت» ،وأضاف ً
من التنوير يف قدرة األفراد الذين ميتلكون حقوقًا طبيعية غري قابلة للتصرف يف تقرير مصائرهم حبرية على ممارسة ما يريدون .»-ووافق
احملرر ستيفن كينزر ( )Stephen Kinzerعلى ذلك يف مقاله يف صحيفة بوسطن جلوب ( )Boston Globeبعنوان« :كانت
حركة التنوير ناجحة..لفرتةٍ قصرية»ً ،
قائال:
حققت الكوزموبوليتانية -وهي حمور التنوير -نتائج تزعج الناس يف العديد من اجملتمعات ،مما يدفعهم حنو العودة إىل نظام
أسسا
احلكم الذي تفضله الرئيسيات غريزيًّا :أي قائد قوي حيمي القبيلة ،ويف املقابل ينصاع له أفرادها..ال يُقدم املنطق ً
باردا وغري إنساين،
كافية لألخالق ،ويرفض القوة الروحانية ،وينكر أمهية العاطفة والفن واإلبداع ،وعندما يكون املنطق ً
فيمكنه أن يعزل الناس عن تركيبات متجذرة ٍ
بعمق فيهم تعطي احلياة معىن.
يضيف مثقفون آخرون أنه ال عجب من اجنذاب العديد من الشباب إىل «داعش» ،فهم ينصرفون عن «العلمانية اجلافة» ويسعون إىل
«عالج جذري وديين ٍ
لرؤية سطحية للحياة البشرية».
قت يف اجلزء الثاين واقع التقدم ،وركزت يفإ ًذا ،فهل كان ينبغي أن أمسِّي هذا الكتاب« :التنوير..قبل أن ينتهي»؟ بالطبع ال! وثَّ ُ
هذا اجلزء على األفكار احملركة له وملاذا أتوقع أن تدوم .وبعد أن دحضت احلجج اليت تعارض املنطق والعلم يف الفصلني السابقني،
سأناقش اآلن احلجج املعارضة لإلنسانية ،سأفحص هذه احلجج ،لكنين لن أفعل ذلك لتوضيح أن احلجج األخالقية والنفسية والتارخيية
أيضا ألن أفضل طريقة لفهم فكرة ما هي معرفة ما ال متثله ،لذا فإن فحص بدائل اإلنسانية ميكن املعارضة لإلنسانية خاطئة فقط ،بل ً
أوال ،سنرى احلجة الدينية املعارضة لإلنسانية ،مث سننظر يف الرتكيبة الرومانسية أن ِّ
يذكرنا مبا سيكون على احملك لو مل نُعزز مبادئ التنويرً .
البطولية القبلية السلطوية.
هل ميكن أن يوجد خري بدون إله حقًّا؟ هل قوضت اكتشافات العلم ِ
نفسه العاملَ غري املؤمن الذي قدمه العلماء اإلنسانيون؟ وهل هناك
تكيف فطري للوجود اإلهلي -جني خاص باإلله يف محضنا النووي أو منوذج لإلله يف عقلنا -يضمن استمرار مقاومة الدين لإلنسانية
العلمانية؟
حترم على الناس قتل أحدهم اآلخر أو سرقته أو االعتداء عليه، لنبدأ باألخالق الدينية ،صحيح أن العديد من القواعد الدينية ِّ
أيضا األخالق العلمانية وهذا لسبب واضح :أن هذه قواعد يود أي كائن عقالين اجتماعي مهتم مبصلحته أن يوافق ولكن هذا ما تفعله ً
َّ
عليها جاره .ال عجب إ ًذا أن هذه األخالق ُمقننة يف كل الدول وتبدو حاضرة يف كل اجملتمعات البشرية.
حاال؟ اإلضافة األوضح هي تطبيقشرع خارق للطبيعة إىل االلتزام اإلنساين حىت جيعل الناس أفضل ً ما الذي يضيفه اللجوء مل ِّ
ُ
شرع اخلارق الطبيعة للقانون األخالقي أي أنه إذا ارتكب أح ٌد خطيئة سيبتليه اإلله أو سيُخلَّد يف النار أو سيُحذف امسه من كتاب امل ِّ
ُ
احلياة ،وهي إضافة مغرية حقًّا ألن قوى تنفيذ القانون العلماين ال تستطيع اكتشاف كل انتهاك للقانون واملعاقبة عليه ،ويكون لدى كل
دافع ألن يقنع اآلخرين بأهنم لن يفلتوا من العقاب إذا ارتكبوا جرمية قتل .واإلله -كما هو احلال مع سانتا كلوز -يراك وأنت شخص ٌ
نائم ويعرف مىت تستيقظ ويعرف أي خ ٍري أو ش ٍر فعلته ،لذا فينبغي أن تكون خيِّـًرا ألجل اهلل.
ولكن هناك ثغرتني خطريتني يف األخالق الدينية ،األوىل :أنه ال يوجد سبب مقنع لإلميان بوجود إله .يف ملحق غري روائي لرواية
َّ
«ست وثالثون حجة تثبت وجود اإلله :عمل روائي» (Thirty-Six Arguments for the Existence of God:
،)A Work of Fictionتدحض ريبيكا نيوبرجر جولدشتاين ( )Rebecca Newberger Goldsteinمجيع هذه
أصال مثل
حججا ً
ً شيوعا ليست
كل من أفالطون وسبينوزا وهيوم وكانط وراسل) .وأكثر هذه احلجج ً
احلجج فيه (باالستناد جزئيًّا إىل ٍّ
اإلميان القليب والوحي والنص املقدس والسلطة والتقاليد واإلعجاب الشخصي ،وليس األمر أن هذه احلجج ال ميكن الوثوق هبا منطقيًّا
بعضا مثل عدد اآلهلة املوجودة واملعجزات
أن هذه الديانات املختلفة تطالب أتباعها باإلميان باعتقادات تعارض بعضها ً فحسب ،وإمنا َّ
استنادا إىل هذه املصادر .وأظهرت الدراسات التارخيية أن الكتب املقدسة نتاج بشري للحقب ً اليت حققوها ومطالبهم من املؤمنني هبم
التارخيية اليت ظهرت فيها مبا فيها من تناقضات داخلية وأخطاء متعارضة مع الواقع وسرقة من احلضارات اجملاورة وسخافات علمية (مثل
خلق اهلل للشمس بعد أن ميَّز بني الليل والنهار بثالثة أيام) .وليست احلجج املبهمة اليت يقدمها علماء الدين املتمرسون أكثر منطقيةً،
فاحلجج الكوزمولوجية واألنطولوجية الدالة على وجود إله غري سليمة منطقيًّا ،ودحض داروين حجة التصميم الذكي ،واحلجج األخرى
بشكل جلي (مثل النظرية القائلة بأن البشر يتميزون مبلكة فطرية لإلحساس حبقيقة اإلله) وإما جمرد حماولة واضحة للهروب ٍ إما خاطئة
(مثل اإلشارة إىل أن البعث أهم من أن يكون حمل حتقق على حن ٍو جترييب).
يصر بعض ال ُكتَّاب على أنه ال مكان للعلم يف هذا احلوار ،ويسعون لفرض حالة من «املذهب الطبيعي املنهجي» على العلم مما
عاجزا عن تقييم ادعاءات الدين وال حىت من حيث املبدأ ،وخيلق هذا مساحةً آمنةً للمؤمنني ميكن أن حيافظوا فيها على معتقداهتم
جيعله ً
بينما يظلون متعاطفني مع العلم .ولكن كما رأينا يف الفصل السابق ،فالعلم ليس لعبة ذات قواعد عشوائية وإمنا هو استخدام املنطق
لتفسري العامل والتحقق مما إذا كانت هذه التفسريات صحيحة أم ال .يقيم عامل األحياء جريي كوين ( )Jerry Coyneيف كتابه
«اإليمان والحقيقة» ) (Faith Versus Factاحلجة على أن وجود اإلله املذكور يف الكتب املقدسة هي فرضية علمية ميكن
ُ
التحقق من صحتها ،وميكن التحقق من املعلومات التارخيية املذكورة يف اإلجنيل بعلم احلفريات وعلم الوراثة وفقه اللغة .كان من املمكن
أن حيتوي اإلجنيل على حقائق علمية مستقبلية مثل «لن تسافر أسرع من الضوء» أو «سر احلياة هو شريطان متضافران» .قد يظهر
صندال ومعه مالئكة بأجنحة ،وحييي املوتى ويُربئ العميان.
يوما ما ،وقد ينزل رجل ُمتشِّح باألبيض ويرتدي ً ضوء ساطع يف السماوات ً
ورمبا نكتشف أن الصالة قد ترد البصر لفاقده أو تعيد منو األطراف املبتورة أو يصعق من يذكر اسم النيب حممد ُسدى بينما ال ميرض وال
شرا يشقى يف
خريا حييا حياةً طيبة ومن يفعل ًّ
عموما أن من يعمل ً يُصاب بضرر من يُصلي مخس مرات يوميًّا .أو رمبا توضح البيانات ً
حياته أي أن األمهات الاليت ميُنت أثناء الوالدة واألطفال الذين ميوتون بسبب السرطان وماليني الضحايا الذين ميوتون من الزالزل
واألعاصري واهلولوكوست يستحقون ما حدث هلم.
أيضا من املكونات األخرى للمبادئ األخالقية الدينية مثل وجود أرواح غري مادية وملكوت متجاوز للمادة والطاقة. ميكن التحقق ً
مقطوعا ميكنه احلديث ،ورمبا يتنبأ الكاهن باليوم احملدد حلدوث الكوارث الطبيعية واهلجمات اإلرهابية .وميكن أنً أسا
فرمبا نكتشف ر ً
تُرسل اخلالة هيلدا رسالة من العامل اآلخر ُتربنا فيها باملكان احملدد من األرضية اليت خبَّأت حتتها جموهراهتا ،وميكن أن حتتوي رؤى مرضى
نقص األكسجني الذين ميرون بتجربة خروج أرواحهم من أجسادهم على تفاصيل غري متاحة حلواسنا وميكن التحقق منها .ومما يقوض
النظرية القائلة بوجود أرواح غري مادية خاضعة للعدالة اإلهلية أنه مت فضح هذه األخبار على أهنا أساطري وذكريات كاذبة ومصادفات
متت املبالغة يف تفسريها وحيل رخيصة .توجد بالطبع فلسفات رافضة لفكرة الوحي ووفق هذه الفلسفات َّ
فإن اإلله قد خلق الكون مث
ولكن هذه اآلهلة
تراجع ليكتفي مبشاهدة ما حيدث أو فلسفات أخرى يعترب «اإلله» فيها جمرد مرادف لقوانني الفيزياء والرياضياتَّ ،
الضعيفة ليست يف وضع يسمح هلا بضمان األخالق.
نشأت العديد من املعتقدات اإلميانية كفرضيات لتفسري الظواهر الطبيعية مثل الطقس واملرض وأصل األنواع ،وقد انكمش النطاق اإلمياين
أبدا ،فهناك حجة زائفة تُعد املالذ
فرضيات علميةٌ حمل هذه الفرضيات .ولكن مبا أن إدراكنا العلمي ال يكتمل ً ٌ بانتظام عندما حلت
األخري دائ ًما تُسمى بإله الفجوات ( .)God of the Gapsيف وقتنا احلايل ،حاول املؤمنون املتمرسون وضع اإلله يف هاتني الفجوتني:
الثوابت الفيزيائية األساسية ومعضلة الوعي الكربى .وعلى أي إنساين يُصر على أننا ال ميكننا استخدام اإلله لتربير األخالق أن يتوقع
قليال ،فكما سنرى ،فهم على األرجح قد يصدقون أن زيوس هو من يرسل الصواعق اجه هباتني الفجوتني ،لذا سأتكلم عنهما ً أن يو َ
على أنه تفسري للعواصف الرعدية.
ميكن تعريف عاملنا ببضعة أرقام مبا يف ذلك قوى الطبيعة (اجلاذبية والقوة الكهرومغناطيسية والقوى النووية) وعدد األبعاد الكبرية
للزمكان (أربعة) وكثافة الطاقة املظلمة (مصدر تسارع متدد الكون) .يُعدهم مارتن ريس يف كتابه «ستة أرقام فقط» ( Just Six
حتديدا على صيغة النظرية الفيزيائية املستخدمة وما إذا كنا حنسب الثوابت فقط أو النسب ) Numbersعلى ٍ
يد وإصبع ،ويعتمد ُّ
العد ً
ي من هذه الثوابت مبقدار ذرة ،تتفكك املادة أو تنهار وما كانت لتوجد النجوم واجملرات والكواكب واحلياة على
أيضا .وإذا تغري أ ٌّ
بينها ً
األرض والبشر مطل ًقا .ويف الوقت احلايل ،ال تفسر أكثر نظريات الفيزياء ً
رسوخا ضبط قيم هذه الثوابت بدقة كي تتيح وجودنا (وخاصة
كثافة الطاقة املظلمة) ولذا تقول احلجة الدينية األلوهية أنه ال بد من وجود ضابط دقيق أال وهو اإلله .وهذا تطبيق حلجة التصميم
القدمية على الكون كله بدًال من الكائنات احلية فقط.
هناك اعرتاض فوري على هذه احلجة وهو مشكلة الشر القدمية قِدم حجة التصميم ،إذا كان اإلله -وهو كلي القدرة واملعرفة-
أرضا تُدمر الكوارث اجليولوجية والطبيعية فيها مناطق مأهولة باألبرياء؟ ما الغرض اإلهلي
صمم الكون بدقة كي خيلقنا عليه ،فلماذا صمم ً
من الرباكني اهلائلة اليت أهلكت نوعنا يف املاضي وقد تُبيدنا يف املستقبل أو حتيل الشمس إىل عمالق أمحر سيبيدنا بالتأكيد؟
ولكن هذا التنظري عن سبب وجود الشر يف العامل أمر ثانوي ،ومل يقف علماء الفيزياء مذهولني أمام هذا الضبط الدقيق الواضح
للثوابت األساسية وإمنا يسعون بنشاط وراء تفسريه بعدة تفسريات .ذُكر أحدها يف كتاب عامل الفيزياء فيكتور ستينجر ( Victor
« )Stengerمغالطة الضبط الدقيق» ) .(The Fallacy of Fine-Tuningيعتقد العديد من ُعلماء الفيزياء أنه من املبكر
استنتاج أن قيم الثوابت األساسية عشوائية أو أهنا الوحيدة اليت ُمت ِّكن من وجود حياة .رمبا يُظهر الفهم األعمق للفيزياء (وخاصةً التوحيد
املنشود بني النسبية ونظرية الكم) أن بعض القيم ال بد أن تكون كما هي بالضبط ،ورمبا نكتشف أن بعضها اآلخر قد يُستبدل بقي ٍم
كون مستقر مليء باملادة ،وإن مل ي ُكن الكون الذي نعرفه وحنبه .قد يكشف التطور يف أخرى -جمموعات متوافقة من القيم -تتسق مع ٍ
علم الفيزياء أن الثوابت ليست مضبوطة بدقة كبرية ،وأن احتمالية وجود كون يتيح إمكانية احلياة ليست مستبعدة.
أن كوننا هو جمرد منطقة واحدة وسط عا ٍمل شاسع ورمبا ال هنائي من األكوان -عامل متعدد األكوانٍّ -
لكل منها التفسري اآلخر هو َّ
ثوابته األساسية املختلفة .فنجد أنفسنا يف كون يتسق مع وجود حياة ،ليس بسبب أنَّه كان مضبوطًا ليسمح بوجودنا وإمنا َّ
ألن حقيقة
وجودنا تعين ببساطة أننا يف ٍ
كون من هذا النوع بالتحديد وليس من األكوان العديدة األخرى غري املواتية للحياة ،إ ًذا فالضبط الدقيق
مغالطة منطقية من النوع «حدث بعده ،إذًا هو سببه» مثل الفائز باليانصيب الذي يُفكر ما الذي جعله يفوز خمالفةً لكل االحتماالت
املتوقعة ،كان ال بد أن يفوز أح ٌد ما ،وهو ال يتعجب سوى ألنه هو من فاز حقًّا .ليست هذه هي املرة األوىل اليت تدفع فيها خدعة
االصطفاء املفكرين حنو البحث عن تفسريات عميقة ليس هلا وجود للثابت الفيزيائي ،فقد أرهق يوهانس كبلر ()Johannes Kepler
نفسه يف البحث عن السبب وراء بُعد األرض عن الشمس بـ 93مليون ميل ،وهي املسافة املثالية حىت ال تتجمد املياه يف البحريات
أن األرض جمرد كوكب من عدة كواكب ،يبعد كلٌّ منها مسافة خمتلفة عن الشمس أو عن جن ٍم
واألهنار أو تتبخر ،لكننا نعرف اآلن َّ
بدال من املريخ.
آخر ،وال نندهش لوجودنا على هذا الكوكب ً
تفسريا من نوع «حدث بعده ،إذًا هو سببه» لو مل تكن متسقة مع نظريات أخرى يف كانت نظرية األكوان املتعددة ذاهتا لتصبح ً
الفيزياء ،وباألخص نظرية قدرة الفراغ املوجود يف الفضاء على إحداث انفجارات كربى تصبح أكوانًا جديدة ،وميكن أن تنشأ هذه
األكوان اجلديدة بثوابت أساسية خمتلفة .ومع ذلك ،تُنفر الفكرة العديد من الناس (وال سيما بعض علماء الفيزياء) ألهنا ُحمرية للعقل
بصورة مذهلة .يقتضي وجود عدد ال هنائي من األكوان (أو على األقل عدد ضخم مبا يكفي ليشمل مجيع احتماالت ترتيبات املادة)
شخصا آخر ،أو قُتل يف حادث سيارة أمس ،أو امسه إيفيلن ،أو ليس أني ًقا ،أو
ً أن هناك أكوانًا حتتوي على نسخة منك إال أنه تزوج
أغلق هذا الكتاب من حلظة وال يقرأ هذه اجلملة اآلن ،وهكذا.
جيدا ملعرفة الواقع،
مرشدا ً
ومهما كانت نتائج هذه األفكار مربكة وغريبة ،إال أن تاريخ األفكار خيربنا بأن غرابة الفكرة ليست ً
وقد أهان العلم مر ًارا وتكر ًارا احلس السليم ألجدادنا باكتشافاته املربكة اليت اتضحت صحتها الح ًقا مبا يف ذلك كروية األرضة وتباطؤ
الوقت مع السرعات العالية والرتاكب الكمي واحنناء الزمان واملكان ،وبالطبع التطور .ولكن عندما نتخطى الصدمة األولية ،جند أن فكرة
تعدد األكوان ليست شديدة الغرابة .ليست هذه هي املرة األوىل اليت جيد فيها علماء الفيزياء سببًا الفرتاض تعدد األكوان .وهناك نسخة
أخرى من نظرية تعدد األكوان وهي ناجتة مباشرةً عن اكتشاف أن الفضاء يبدو غري هنائي وأن املادة تبدو موزعة فيه بالتساوي ،فال بد
متجاوزا أُفقنا الكوين إ ًذا .وهناك نسخة أخرى وهي تفسري العوامل
ً من وجود عدد ال هنائي من األكوان ينتشر يف الفضاء ثالثي األبعاد
كمية حمتملة (مثل مسار الفوتون) يف أكو ٍان متوازية متداخلة (وهي احتمالية
املتعددة مليكانيكا الكم وفيه تتحقق النتائج املتعددة لعملية ِّ
وقت واحد) .تبدو نظرية تعدد األكوان قد تؤدي إىل احلواسيب الكمية اليت تتمثل فيها مجيع القيم املمكنة للمتغريات لعملية حسابية يف ٍ
بصورةٍ ما النظرية األبسط عن الواقع ،ألنه إذا كان كوننا هو الكون الوحيد يف الوجود ،فسنحتاج إىل تعقيد قوانني الفيزياء األنيقة بشروط
اعتباطية حلالة كوننا األولية احملدودة وثوابته الفيزيائية احملدودة .وكما يقول عامل الفيزياء ماكس تيجمارك (( )Max Tegmarkوهو
سفها وأقل لياقةً يف رأينا :كثري من العوامل أم
أي األمرين أكثر ً
أحد املؤيدين لألنواع األربعة من تعدد األكوان)« :يعتمد ُحكمنا على ِّ
كثري من الكلمات».
إذا اتضح َّ
أن هذا هو التفسري األفضل للثوابت الفيزيائية األساسية ،فلن تكون هذه هي املرة األوىل اليت أدهشتنا فيها عواملُ بعيدة
(لكل منها
عن أعيننا ،فقد اضطر أسالفنا إىل تقبُّل اكتشاف نصف األرض الغريب ،ومثانية كواكب أخرى ،ومئة مليار جنمة يف جمرتنا ٍّ
كواكب) ومئة مليار جمرة يف كوننا امللحوظ .إذا تعارض العقل مع احلدس ثانيةً ،فأسفي على احلدسِّ .
يذكرنا أحد املؤيدين لفكرة األكوان
املتعددة براين جرين ( )Brain Greeneمبا يلي:
ً
أشكاال مختلفة – .المترجمة. *المشكال عبارة عن أنبوب من المرايا به خرز ملون وحصى وزجاج يصنع
جسد الذي سيخرج حبذ ٍر من مسرحي ويدخل إىل مسرحك ليتحقَّق من اللون األمحر أو يزور مسرح اخلفاش ويشاهد الفيلم املعروض ٍ
حاضرا أو غائبًا لدى اإلنسان اآليل ،والذي قد ينجو من الرحلة اإلشعاعية إىل
ً موجودا لدى الزوميب وقد يكون
ً هناك ،والذي لن يكون
زاكدورن أو ال ينجو منها .أحيانًا عندما أرى الضرر الذي تسبَّبت فيه املشكلة الصعبة (مبا فيه تلويح ِّ
املفكر احملافظ دينيش ديسوزا
Dinesh D'Souzaبنسخة من كتايب «كيف يعمل العقل» ”“How the Mind Worksيف مناظرةٍ عن وجود اإلله)،
أن حالنا سيكون أفضل دون هذا املصطلح .على عكس أوجه سوء الفهم املختلفة ،فاملشكلة الصعبة تُغريين فكرة االتفاق مع دينيت يف َّ
ال تتكون من ظواهر فيزيائية أو خارقة للطبيعة مثل االستبصار أو التخاطر أو االنتقال عرب الزمن أو العرافة أو حتريك األشياء عن بُعد،
وال تستلزم فيزياء كمية غريبة وال اهتزازات الطاقة املبتذلة وال ترهات العصر اجلديد األخرى ،واألمر األهم فيما خيص النقاش احلايلَّ ،أهنا
متاما على النشاط العصيب.
روحا غري مادية .ليس هناك مما نعرفه عن الوعي ما ال يتسق مع فهمنا بأنَّه يعتمد ً تتضمن ًال َّ
أن املشكلة الصعبة عبارة عن مشكلة مفاهيمية ذات معىن ،ولكنَّين أتفق مع دينيت يف َّأهنا ليست لت أعتقد َّ
يف النهاية ،ما ز ُ
ٍ
كنت زوميب أو ما إذا كان كابنت كريك الذي يسري على ظهر سفينة مشكلة علمية ذات معىن .لن حيصل أح ٌد على منحة لدراسة ما إذا َ
Enterpriseهو ذاته الذي يسري على سطح زاكدورن .وأتفق مع العديد من الفالسفة اآلخرين يف أنَّه رمبا يكون من العبث أن نأمل
ألهنا مشكلة مفاهيمية ،او بتعب ٍري أدق ،مشكلة مع مفاهيمنا .كما قال توماس ناجل يف مقاله الشهري
حل على اإلطالقَّ ،
يف الوصول إىل ٍّ
كنت خفا ًشا؟» (? )What Is It Like to Be a Batفرمبا تكون هناك «حقائق ال ميكن للبشر أن يتصوروها «كيف ستشعر لو َ
تبىن
ألن تركيبتنا ال تسمح لنا بالعمل وفق أنواع املفاهيم الالزمة لذلك»َّ . أو يفهموها حىت لو بقي جنس البشر إىل األبد ،ببساطة َّ
إن هناك تباينًا بني أدواتنا املعرفية لتفسري الواقع (أي تسلسلالفيلسوف كولني ماكجني ( )Colin McGinnهذه الفكرة وقال َّ
السبب والنتيجة ،وحتليل األجزاء وتفاعالهتا سويًّا ،وتصميم مناذج املعادالت الرياضية) وطبيعة مشكلة الوعي الصعبة ،وهي مشولية على
أن الوعي َّ
يتشكل من مساحة عمل عاملية متثِّل أهدافنا احلالية وذكرياتنا عكس ما يشري احلدس .خيربنا أفضل ما توصلنا إليه يف العلم َّ
أن هذه الدائرة تشعر َّ
بأهنا لكن اجلزء األخري الباقي من النظرية َّ -
وحميطنا ،ويُطبَّق بانبعاث عصيب متزامن يف الدائرة اجلبهية اجلدارية .و َّ
متاما ،فكما ذكر أمربوز بريس شخصٌ ما -رمبا ميكن وصفه بأنَّه حقيقةٌ عن الواقع يتوقَّف عندها التفسري .ال ينبغي أن يكون هذا مفاجئًا ً
( )Ambrose Bierceيف كتابه «قاموس الشيطان» ) ،(The Devil’s Dictionaryال ميلك العقل َّإال نفسه ليعرف
نفسه به ،ورمبا ال يرضى مطل ًقا بأنَّه يفهم أعمق جوانب وجوده نفسه ،وهو ذاتيته اجلوهرية.
أوال
مفيدا على اإلطالق ،فهذا االفرتاض ً مهما كان ما نفهمه من مشكلة الوعي الصعبة ،فلن يكون افرتاض وجود روح غري مادية ً
أن الوعي املوهوب من اإلله ال يستويف حياول حل لغز بلغ ٍز أكرب ،وثانيًا يتنبأ خطأ بوجود الظواهر اخلارقة للطبيعة .واألكثر من ذلك َّ
ٍ
عصابة القدرة على التمتع مبكاسبه غري املشروعة أو مينح معتديًا مواصفات تصميم احملل اهلندسي للجزاء العادل ،فلماذا مينح اهلل رجل
جنسيًا املتعة اجلنسية؟ (إذا كان هذا الختبارهم مبغريات عليهم أن يثبتوا صالحهم األخالقي مبقاومتها ،فلماذا يكون ضحاياهم خسائر
جانبية؟) ملاذا قد يستاء إلهٌ رحيم من سرقة سنوات من ُعمر مريض السرطان ويزيد عقوبة العذاب األليم بال مسوغ؟ تبدو ظواهر الوعي
متاما كاملتوقَّع إذا كانت قوانني الطبيعة تُطبَّق دون اعتبار لرفاهة البشرية ،فإذا أردنا تعزيز رفاهة البشرية ،علينا أن
-مثل ظواهر الفيزياءً -
نكتشف كيف نفعل ذلك بأنفسنا.
ويقودنا هذا إىل مشكلة األخالق الدينية الثانية .ليس األمر أنَّه من شبه املؤكد أنَّه ال يوجد إله ليُملي علينا الوصايا األخالقية ويفرضها
أيضا أنَّه حىت لو كان هناك إلهٌ ،فال ميكن أن تكون تعاليمه اإلهلية ،اليت تصلنا عن طريق الدين ،مصدر األخالق. علينا فحسب ،بل ً
يعود تفسري ذلك إىل كتاب «يوثيفرو» ( )Euthyphroألفالطون ،الذي يشري فيه سقراط إىل أنَّه إذا كان لدى اآلهلة أسباب مقنعة
العتبار ٍ
أفعال ما أخالقية ،فيمكننا أن نستند إىل تلك األسباب مباشرةً دون وسيطَّ .أما إذا مل يكن لديهم أسباب مقنعة ،فال ينبغي أن
املفكرون أن يقدِّموا أسبابًا لعدم القتل أو االغتصاب أو التعذيب عدانأخذ أوامرهم على حممل اجلد! ففي النهاية ،يستطيع األشخاص ِّ
أن اهلل قد ُتلَّى عنهم أو إذا أخربهم اهلل َّ
أن هذه اخلوف من اجلحيم األبدي ،ولن يصبحوا مغتصبني أو قتلة مأجورين فجأةً إذا اعتقدوا َّ
األفعال مقبولة.
أن إله الكتب املقدَّسة بطبيعته ال يستطيع إصدار أوامر غري أخالقية ،على عكس آهلة األساطري يرد فالسفة األخالق الدينية َّ
اإلغريقية املتقلِّبنيَّ ،
ولكن كل من لديه إملام بالنصوص املقدَّسة يعرف َّ
أن هذا ليس حقيقيًا .قتل إله العهد القدمي األبرياء باملاليني ،وأمر
آل إسرائيل بارتكاب جرائم االغتصاب اجلماعي واإلبادة اجلماعية ،وأقر عقوبة اإلعدام على الكفر وعبادة األصنام واملثلية اجلنسية والزنا
والرد على الوالدين كلمة بكلمة والعمل يف يوم السبت ،يف حني مل جيد أدىن غضاضة يف العبودية واالغتصاب والتعذيب وقطع األعضاء
املتنورون ينتقون بالطبع األوامر
معتادا يف حضارات العصر الربونزي والعصر احلديديَّ ،أما اليوم فاملؤمنون ِّواإلبادة اجلماعية .كان هذا ً
حيوروهنا أو يتجاهلوهنا ،وهذا هو مربط الفرس ،ف ُهم يقرؤون اإلجنيل بعيون النزعة اإلنسانية فقط بينما يعتربون األوامر اخلبيثة جمازية أو ِّ
اإلنسانية التنويرية.
بأن اإلحلاد يدفعنا حنو النسبية األخالقية إذ يستطيع كل شخص أن يفعل ما حيلو له .يعكستنفي حجة يوثيفرو االدعاء الشائع َّ
هذا االدعاء واقع األمر ،فاألخالق اإلنسانية تقوم على قاعدةٍ عاملية َّ
مكونة من املنطق واملصاحل البشرية ،فمن خواص احلالة البشرية
كثريا من الفالسفة املعاصرين
فإن ًبعضا .هلذا السبب َّ
بعضا وامتنعنا عن إيذاء بعضنا ً
بعضنا ً
حاال إذا ساعد ُمجيعا نكون أفضل ً احلتمية أنَّنا ً
مبن فيهم ناجل وجولدشتاين وبيرت سنجر وبيرت ريلتون وريتشارد بويد وديفيد برينك وديريك بارفيت يؤمنون بالواقعية األخالقية (عكس
بأن املقوالت األخالقية قد تكون صحيحة أو خاطئة ٍ
بشكل موضوعي .الدين هو الذي يكون نسبيًّا بطبيعته، النسبية األخالقية) ويقولون َّ
فبالنظر إىل غياب األدلة ،ال ميكن أن يعتمد أي اعتقاد بشأن كم عدد اآلهلة املوجودة ومن أنبياؤهم ورسلهم على األرض وما يطالبوننا
به سوى على دوغما قبيلة املرء احملدودة.
أيضا ال أخالقية ،فاآلهلة اخلفية قد تأمر الناس بنحر الزنادقة والكفار
ال جيعل هذا األخالق الدينية نسبيةً فحسب ،بل قد جيعلها ً
واملرتدين .والروح غري املادية ال تتأثر باحملفزات الدنيوية اليت تدفعنا إىل التوافق ،عادةً ما يكون املتنافسون على أحد املوارد املادية أفضل
ولكن املتنافسني على ٍ
قيمة مقدَّسة (مثل بدال من أن يتقاتلوا عليه ،وخاصةً إذا كانوا يقدِّرون حياهتم على األرضَّ ، حاال إذا تقامسوه ً
ً
ضئيال
أن روحهم خالدة فلن تعين خسارة جسدهم الكثري ،بل رمبا تكون مثنًا ً األرض املقدَّسة أو تأكيد معتقدهم) لن يساوموا ،وإذا ظنوا َّ
يدفعونه للحصول على مكافأة أبدية يف جنة النعيم.
كثري من املؤرخني إىل َّ
أن احلروب الدينية طويلة ودموية ،وغالبًا ما تتسبَّب العقائد الدينية يف إطالة مدة احلروب الدموية. أشار ٌ
اعا دينيًّا من بني قائمة بأسوأ ما فعله البشر بعضهم
حصر ماثيو وايتُ ،حمصي املوتى الذي ذكرناه يف الفصل الرابع عشر ،ثالثني صر ً
اعا منها،
بعضا يف سبعة عشر صر ً
ببعض على اإلطالق ،ونتج عنها حوايل 55مليون قتيل (حارب أصحاب األديان التوحيدية بعضهم ً ٍ
يعرب اجلزم الشائع َّ
بأن احلربني العامليتني انطلقتا بسبب تراجع األخالق الدينية (مثل ادعاء وحاربوا الوثنيني يف مثانية صراعات أخرى)ِّ .
بأن احلرب العاملية الثانية كانت مواجهة بني «الغرب املسيحي اليهودي من جانب ستيفن بانون خبري ترامب االسرتاتيجي السابق َّ
يخ غيب .إذ كان احملاربون على اجلانبني يف احلرب العاملية األوىل مسيحيني مؤمنني فيما عدا اإلمرباطوريةوامللحدين من جانب») عن تار ٍ
العثمانية ،اليت كانت ثيوقراطية إسالمية ،والقوة الوحيدة امللحدة علنًا اليت شاركت يف احلرب العاملية الثانية كانت االحتاد السوفيييت،
وكانت حتارب أغلب احلرب يف صفنا ضد النظام النازي ،والذي كان (على عكس األسطورة الشائعة) متعاط ًفا مع املسيحية األملانية
مفوض والعكس بالعكس ،فكانت الفئتان متحدتني يف كرههما للحداثة العلمانية (كان هتلر نفسه ربوبيًّا وقال «أنا على ٍ
قناعة بأنَّين َّ
بأن احلروب واألعمال الوحشية غري من خالقنا ،فأنا أنفذ مشيئة الرب مبحاربة اليهود») .يرد املدافعون عن اإلميان باإلله على ذلك َّ
عدد أكرب من الناس ،ياهلا من نسبية! من الغريب الدينية املدفوعة بأيديولوجية الشيوعية العلمانية وبالغزو العادي تسبَّبت يف مقتل ٍ
صفرا،
تصنيف الدين على هذا املنحىن ،فإذا كان الدين هو مصدر األخالق ،فال بد أن يكون عدد احلروب واألعمال الوحشية الدينية ً
أن اإلحلاد ليس منظومةً أخالقية من األساس ،فهو جمرد غياب االعتقاد الغييب ،كعدم الرغبة يف اإلميان بزيوس أو فيشنو، ومن الواضح َّ
والبديل األخالقي عن اإلحلاد هو النزعة اإلنسانية.
فكرين ،ولكن كان رد فعل كث ٍري من ال يؤمن اليوم باجلنة والنار أو حبرفية ما جاء يف اإلجنيل أو بإله يهزأ بقوانني الفيزياء سوى بضع م ِّ
لكل من
املثقَّفني غاضبًا على «اإلحلاد اجلديد» الذي روجته أربعة كتب حقَّقت أفضل املبيعات ونُشرت بني عامي 2005وٍّ 2007
سام هاريس وريتشارد دوكنز ودانييل دينيت وكريستوفر هيتشنز .أُطلِق على رد فعلهم «ملحد ولكن ،»..و«إميا ٌن باإلميان» ،و«الرؤية
الدجمية» و(املصطلح الذي صاغه كوين) «اإلحلاد املتعاون مع اإلميان» .ويتداخل رد فعلهم هذا مع العداء جتاه العلم يف أوساط الثقافة
أن هذا بسبب التعاطف املشرتك مع املنهجيات التأويلية على حساب املنهجيات التحليلية والتجريبية ،والنفور من الثانية ،ويُفرتض َّ
أن اإلحلاد -عدم اإلميان بأن العلماء اململني والفالسفة العلمانيني قد يكونون حمقني بشأن مسائل الوجود األساسية .رغم َّ االعرتاف َّ
أن امللحدين اجلدد من أنصار النزعة اإلنسانية بصورةٍ علنية،
باهلل -متوافق مع جمموعة واسعة من املعتقدات اإلنسانية وغري اإلنسانيةَّ ،إال َّ
عموما إىل النزعة اإلنسانية.
فإن أي عيوب يف رؤيتهم للعامل قد متتد ً لذا َّ
حادون ومتشدِّدون ومزعجون بنفس قدر إزعاج األصوليني الذين وف ًقا للملحدين املتعاونني مع املؤمنني َّ
فإن امللحدين اجلدد ُّ
ينتقدوهنم (يرد أحد الشخصيات الكرتونية يف رسم كاريكاتريي على موقع XKCDفيقول« :املهم أنَّك وجدت طريقةً لتشعر
أبدا من معتقداهتم الدينية ،ورمبا ال ينبغي أن يتحرروا منهاَّ ،
ألن إن األشخاص العاديني لن يتحرروا ً باألفضلية على كليهما») .يقولون َّ
تليب تلك احلاجة بالرتويجحباجة إىل الدين ليكون حصنًا ضد األنانية واالستهالكية الفارغة ،فاملؤسسات الدينية ٍِّ اجملتمعات الصحية
لألعمال اخلريية واجملتمعات الصغرية واملسؤولية االجتماعية وطقوس العبور واهلداية فيما خيص املسائل الوجودية اليت لن يقدِّمها هلم العلم
مطل ًقا .ومعظم الناس يعاملون التعاليم الدينية بصورةٍ جمازية وليست حرفية على أي حال ،وجيدون معىن وحكمةً يف اإلحساس األمسى
االدعاءات.
بالروحانية والفضل والنظام اإلهلي .لننظر يف هذه ِّ
من مصادر اإلهلام املثرية للسخرية لإلحلاد املتعاون مع اإلميان األحباث على اجلذور النفسية للمعتقدات الغيبية ،مبا فيها عادات
معرفية متمثلة يف املبالغة يف نَسب التصميم والوكالة (أي القدرة على الفعل) للظواهر الطبيعية ،ومشاعر التضامن العاطفية داخل اجملتمعات
العقائدية .التفسري األكثر طبيعية هلذه النتائج َّأهنا هتدم املعتقدات الدينية بتوضيح َّأهنا من خياالت تكويننا العصيب احليوي ،ولكن هذه
أن الطبيعة البشري ة حتتاج إىل الدين كما حتتاج إىل الغذاء واجلنس والصحبة ،لذا فمن العبث ُتيل توضح َّ أيضا َّ
بأهنا ِّ األحباث مت تفسريها ً
دافعا توازنيًّا ال بد من ري عطشها له بانتظام .أجل،ولكن هذا التفسري إشكايل ،فليست كل خواص الطبيعة البشرية ً عدم وجود الدينَّ .
الناس عرضة لألوهام املعرفية اليت تؤدي إىل املعتقدات الغيبية ،وحيتاجون بالطبع إىل االنتماء إىل جمتم ٍع صغري .نشأت على مدار التاريخ
أن الناس ٍ
حباجة إىل هذه ولكن هذا ال يعين َّ
وتليب تلك االحتياجاتَّ ،تشجع تلك األوهام ِّ ٍ
جمموعات من التقاليد اليت ِّ مؤسسات تقدِّم
ٍ
حباجة إىل نوادي البالي بوي .كلَّما ازدادت اجملتمعات تعلُّ ًما وأمانًا، اجملموعات بأكملها كما ال يعين وجود الرغبة اجلنسية َّ
أن الناس
املتحررة تقدمي الفن والطقوس والرمزية
أمكن فصل مكونات املؤسسات الدينية اليت ورثناها بعضها عن بعض ،فيمكن أن تواصل األديان ِّ
كثري من الناس دون الدوغما الغيبية أو أخالق العصر احلديدي.
والدفء اجملتمعي الذي يتمتَّع به ٌ
مربرة
وإمنا دراستها وف ًقا ملنطق يوثيفرو ،أي إذا كانت هناك أسباب َّ يعين ذلك أنَّه ال ينبغي شجب األديان أو مدحها ٍ
بوجه عامَّ ،
ألنشطة معينة ،فينبغي التشجيع على تلك األنشطة ،ولكن ال ينبغي التغاضي عن أفعال بعض احلركات جملرد َّأهنا دينية .من بني إسهامات ٍ
األديان اإلجيابية يف أزمنة معينة وأماكن معينة التعليم والصدقة واألعمال اخلريية والرعاية الطبية واملشورة وحل النزاعات وخدمات اجتماعية
دين كان سيقضي على أن هذه اجلهود اليت يبذهلا املتدينون يف العامل املتقدِّم ال تُضاهي جهود نظرائهم من العلمانيني ،فال َ أخرى (رغم َّ
إحساسا
ً أيضا
اجلوع أو املرض أو األمية أو احلروب أو القتل أو الفقر على النطاقات اليت رأيناها يف اجلزء الثاين) .تقدِّم املنظمات الدينية ً
بالتضامن اجملتمعي والدعم املتبادل ،إىل جانب الفنون والطقوس واملعمار ذي اجلمال اخلالب والصدى التارخيي ،بفضل بدايتها اليت
كثريا. سبقت غريها ٍ
أشارك بنفسي يف هذه األنشطة وأستمتع هبا ً بألفية كاملةُ .
إذا كانت إسهامات املؤسسات الدينية اإلجيابية نابعة من دورها كروابط إنسانية يف اجملتمع املدين ،فنتوقع َّأال ترتبط هذه املساعدات
أن مرتادي الكنائس ودور العبادة أسعد وأكثر إحسانًا ممَّن وقت طويل َّباملعتقد الديين التوحيدي ،وهذا هو الوضع بالفعل .نعرف منذ ٍ
ولكن روبرت بتنام وزميله عامل السياسة ديفيد كامبل ( )David Campbellوجدا َّ
أن هذه اهلبات ال عالقة هلا ميكثون يف منازهلمَّ ،
باإلميان باهلل أو اخللق أو اجلنة أو النار ،فامللحد الذي تصطحبه زوجته امللتزمة إىل التجمعات الدينية يكون ُحم ِسنًا بقدر إحسان املؤمنني
أن املؤمن املتحمس الذي يصلِّي وحده ال يكون ُحم ِسنًا بالضرورة .ويف الوقت نفسه ،ميكن تعزيز احلس االجتماعي يف اجلماعة ،يف حني َّ
والفضائل املدنية باالنتماء إىل اجملتمعات اخلدمية العلمانية الصغرية مثل مجعية ( The Shrinersباملستشفيات ووحدات احلروق
املخصصة لألطفال) ومنظمة الروتاري الدولية (اليت تساعد يف القضاء على شلل األطفال) ونادي ليونز (الذي يكافح فقدان البصر)، َّ
أو حىت احتاد البولينج وفق حبث بتنام وكامبل!
كما تستحق املؤسسات الدينية الثناء عندما تسعى وراء حتقيق غايات إنسانية ،فال ينبغي إعفاؤها من النقد عندما تعيق حتقيق
تلك الغايات .تشمل األمثلة على إعاقتها حتقيق تلك الغايات منع الرعاية الطبية عن األطفال املرضى يف القطاعات اليت تؤمن بالعالج
باإلميان ،ومعارضة املوت الرحيم ،وإفساد تعليم العلوم يف املدارس ،وقمع األحباث الطبية احليوية احلرجة مثل األحباث على اخلاليا اجلذعية،
وعرقلة سياسات الصحة العامة اليت تنقذ حياة الناس مثل وسائل منع احلمل والواقيات الذكرية ولقاح فريوس الورم احلليمي .وال ينبغي
اضا أخالقية أمسى بالضرورة ،فقد اخندع مر ًارا وتكر ًارا امللحدون املتعاونون مع املؤمنني ( )Faitheistsالذين
افرتاض امتالك األديان أغر ً
كات تسعى لتحقيق التنمية االجتماعية .كان هناك يف أوائل األلفينات كانوا يأملون أن يتوجه محاس املسيحية اإلجنيلية األخالقي حنو حر ٍ
حتالف ثنائي من النشطاء البيئيني الذين يأملون جعل التغري املناخي قضيةً مشرتكة مع اإلجنيليني حتت عناوين مثل االعتناء مبخلوقات اهلل
ٌ
تبىن اسرتاتيجية عدم التعاون
ولكن الكنائس اإلجنيلية فئة رئيسية من فئات احلزب اجلمهوري الذي َّ
والنزعة البيئية املنطلقة من اإلميانَّ ،
التحررية (الليربتارية) الراديكالية على رعاية
التام مع حكومة أوباما ،فانتصرت ال َقبَلية السياسية واصطف اإلجنيليون مع حزهبم وفضَّلوا ُّ
املخلوقات.
وكان هناك أمل لفرتة قصرية كذلك يف عام 2016يف أن تقلب الفضائل املسيحية مثل التواضع واالعتدال والسماحة والكياسة
فاحشا
والشهامة واحلرص والعطف على الضعفاء اإلجنيليني على مطور نوادي قمار متغطرس مرتف انتقامي فاسق كاره للنساء ثري ثراءً ً
ومزد ٍر للناس الذين يطلق عليهم «فاشلني» .ولكن هذا مل حيدث :ففاز دونالد ترامب بأصوات 81يف املئة من املسيحيني اإلجنيليني
البيض وأولئك الذين ُولِدوا «والدة ثانية» ،وهي نسبة أعلى من نسبة األصوات من أي فئة دميوغرافية أخرى .وفاز ترامب بأصواهتم
بالوعد بإبطال ٍ
قانون حيظر على املؤسسات اخلريية املعفية من الضرائب (مبا فيها الكنائس) االخنراط يف النشاط السياسي ،وهكذا هزم
النفوذ السياسي الفضائل املسيحية.
إذا مل ُتعد تعاليم الدين الفعلية تؤخذ مأخذ اجلد وإذا كانت تعاليمه األخالقية تعتمد بالكامل على ما إذا كان ميكن لألخالقية العلمانية
تربيرها ،فماذا عن ادعائه احلكمة يف مسائل الوجود الكربى؟ من حجج امللحدين املتعاونني مع املؤمنني املفضَّلة أنَّه ال ميكن سوى للدين
أن خياطب أعمق تطلعات القلب البشري ،فالعلم لن يكون كافيًا لتناول املسائل الوجودية الكربى كاحلياة واملوت واحلب والوحدة
والفقدان والشرف والعدالة الكونية واألمل امليتافيزيقي.
طفل صغري) «شبه عميق» ( )deepityأي يكون ظاهره عمي ًقا، (مقتبسا من ًٍ وهذا النوع من العبارات هو ما يطلق عليه دينيت
بديال عن الدين من حيث مصدر املعىن ،فلم يقرتح أح ٌد مطل ًقا تفكر فيما يعنيه » .فبدايةً ،ليس «العلم» ً ولكنه يبدو هراء مبجرد أن ِّ
ً
وإمنا أن نبحث عن ذلك يف نسيج املعرفة أن نبحث يف علم األمساك أو طب الكلى عن املعرفة بالكيفية اليت جيب أن نعيش هبا حياتناَّ ،
أن هذا النسيج حيتوي على خيوط مهمة كان يشكل العلم جزءًا منه .صحيح َّ البشرية والعقل املنطقي والقيم اإلنسانية بأكملها ،والذي ِّ
ولكن األغلبية العظمى منه اليوم هي احملتوى منشؤها الدين مثل اللغة ورموز الكتاب املقدس وكتابات احلكماء والباحثني واألحبارَّ ،
العلمي مبا يشمل مناظرات عن األخالق النابعة من الفلسفة اإلغريقية وفلسفة التنوير ،وتصوير احلب والفقدان والوحدة يف أعمال
شكسبري وشعراء املدرسة الرومانسية وروائيي القرن التاسع عشر وفنانني وُكتَّاب مقاالت عظماء آخرين .باحلكم وفق املقاييس العاملية،
كثريا من إسهامات الدين يف مسائل احلياة الكربى ليست عميقة وال خالدة ،بل سطحية وعتيقة مثل مفهوم «العدالة» الذي أن ً اتَّضح َّ
يشمل عقاب الكفار أو مفهوم «احلب» الذي يناشد املرأة بإطاعة زوجها .وكما رأينا فأي تصور للحياة واملوت يقوم على فكرة وجود
روح غري مادية مشكوك يف صحته وخطري من الناحية األخالقية ،ومبا أنَّه ال وجود للعدالة الكونية واألمل امليتافيزيقي (يف مقابل العدالة ٍ
بأن على البشر البحث عن معىن أعمق يف االدعاء َّ
البشرية واألمل الدنيوي) ،فال معىن للبحث عنهما دون جدوى .ال يوجد ما يؤيد ِّ
املعتقدات الغيبية.
يدا؟ إذا كانت الروحانية تتمثَّل يف امتنان املرء لوجوده ،والرهبة من مجال الكون واتساعه،
ماذا عن حس «الروحانية» األكثر جتر ً
فإهنا بالتأكيد جتربة جتعل حياة املرء تستحق أن تُعاش ،وترقى إىل ٍ
أبعاد أمسى مبا يكشف عنه كلٌّ والتواضع أمام حدود الفهم البشريَّ ،
أن لكل شيءبأن الكون شخصي بصورةٍ ما ،و َّ
بأهنا تعين شيئًا أكرب ،وهو القناعة َّولكن «الروحانية» تُفهم غالبًا َّ
من العلم والفلسفةَّ .
سببًا ،وأنَّنا سنجد املعىن يف خضم احلياة .كانت أوبرا وينفري تتحدَّث يف احللقة األخرية من برناجمها البارز نيابةً عن املاليني عندما
صرحت قائلةً« :إنَّين أفهم جتليات اهلل وفضله ،لذا أعرف أنَّه ال توجد صدف ،ال توجد صدف على اإلطالق ،فال يوجد سوى نظام َّ
إهلي».
ذُكِر حس الروحانية هذا يف سكتش كوميدي للفنانة الكوميدية إميي شومر ( )Amy Schumerبعنوان «الكون» ،يبدأ ِّ
مببسط
العلوم بيل ناي ( )Bill Nyeواق ًفا أمام ٍ
خلفية من النجوم واجملرات:
ناي :الكون؛ حاولت البشرية طيلة قرون فهم هذا االمتداد الشاسع من الطاقة والغاز والغبار ،ولكن طفرة مذهلة يف مفهومنا َّ
عما
يفعله الكون حدثت يف السنوات األخرية.
[تقريب الصورة على سطح األرض ،مث على متجر زبادي مثلج تتبادل فيه شابتان أطراف احلديث].
فقلت
كنت أرسل رسالة نصية أثناء القيادة ،فانعطفت منعط ًفا خاطئًا أدى يب إىل املرور أمام متجر للفيتاميناتُ ، الفتاة األولىُ :
علي تناول الكالسيوم! أن الكون خيربين َّ
بأن َّ لنفسي إنَّه ال بد و َّ
جتم ٍع فوضوي للمادة ،ولكنَّنا اآلن نعرف َّ
أن الكون هو باألساس قوة ترسل ناي :كان العلماء يعتقدون ساب ًقا َّ
أن الكون عبارة عن ُّ
إرشادات كونية للنساء يف العشرينيات من عمرهن.
[تقريب الصورة على صالة رياضية هبا إميي شومر وصديقتها على دراجات ثابتة].
أبدا ،ولكن يف تدريب شومر :تعرفني أنَّين أضاجع مديري املتزوج منذ حوايل ستة أشهر ،مث ُ
بدأت أخشى أنَّه لن يرتك زوجته ً
ففكرت َّ
أن الكون بالتأكيد يقول يل: ُ قميصا مكتوبًا عليه ”( “Chillأي اهدأ)،
اليوجا أمس ،كانت الفتاة أمامي مرتديةً ً
«واصلي مضاجعة مديرك املتزوج!»
نح احلُجج جانبًا ،هل تقاوم احلاجة إىل اإلميان النزعة اإلنسانية العلمانية؟ يتباهى املؤمنون وامللحدون املتعاونون مع املؤمنني وكارهو
لنُ ِّ
منوا يف العامل العلم والتقدُّم بعودة الدين الظاهرية يف كل أحناء العامل ،ولكن كما سنرى َّ
فإن هذا االرتداد عبارة عن وهم ،فالدين األسرع ً
هو الال دين.
سهال ،فلم تطرح سوى بضع استطالعات رأي على الناس األسئلة نفسها يف أزمنة وأماكن ليس قياس تاريخ االعتقادات الدينية ً
كثري من الناس من إطالق لفظ يتحسس ٌَّ خمتلفة ،وحىت عندما تطرح نفس األسئلة ،فإن املشاركني فيها يفسروهنا تفسريات خمتلفة.
يعرضهم للعدائية والتمييز و-يف كث ٍري من الدول «ملحد» على أنفسهم ،فهو لفظ يساوي يف نظرهم كلمة «غري أخالقي» ،وهو ما قد ِّ
أن معظم الناس ذوي معتقدات الهوتية ضبابية وقد يتوقَّفون عند التصريح باإلحلاد اإلسالمية -السجن أو التشويه أو املوت .إضافةً إىل َّ
بأهنم ال يؤمنون بأي ٍ
أديان أو معتقدات دينية أو يرون الدين غري مهم أو َّأهنم روحانيون ولكنَّهم ليسوا مؤمنني أو َّأهنم يف حني يعرتفون َّ
يؤمنون بوجود «قوة عليا» ال بوجود إله .قد تتوصل استطالعات الرأي املختلفة إىل تقديرات خمتلفة لعدم اإلميان بالدين حسب صياغة
البدائل األخرى.
كبريا ،إذ كانت نسبتهم 0.2يف
أن عددهم مل ي ُكن ً ال ميكننا اجلزم بعدد غري املؤمنني يف العقود والقرون املاضية ،ولكن ال بد و َّ
املئة يف عام 1900حسب أحد التقديرات .وف ًقا ملسح أجراه ائتالف الشبكة العاملية املستقلة ومؤسسة جالوب الدولية على مخسني
بأهنم «ملحدون عن اقتناع»،فإن 13يف املئة من سكان العامل يصنِّفون أنفسهم َّ شخص يف سبعة ومخسني دولة عام َّ ،2012 ٍ ألف
بعد أن كانت النسبة 10يف املئة يف عام .2005لن يكون من الغريب أن نقول َّ
إن معدل اإلحلاد العاملي زاد على مدار القرن العشرين
خبمسمئة ضعف مث تضاعف ثانيةً حىت هذا اليوم يف القرن احلادي والعشرين .يصنِّف 23يف املئة من سكان العامل أنفسهم َّ
بأهنم «غري
متدينني» ،مما يرتك لنا 59يف املئة من سكان العامل يندرجون حتت تصنيف «املتدينني» ،بعد أن كانت نسبتهم ما يقرب من 100يف
املئة منذ ٍ
قرن.
ومهما كانت املبادئ األخالقية الدينية التوحيدية يف الغرب مؤذية ،فإن تأثريها يف اإلسالم املعاصر أكثر إثارةً للقلق ،فال ميكن ألي ٍ
نقاش
عدد من املقاييس املوضوعية أنَّه خارج مسار التقدم الذي يتمتَّع به بقيةعن التقدم العاملي أن يتجاهل العامل اإلسالمي الذي يبدو وفق ٍ
إن أداء ال دول ذات األغلبية املسلمة ضعيف يف مقاييس الصحة والتعليم واحلرية والسعادة والدميقراطية واالحتفاظ بالثروة ،فكل العاملَّ .
تتضمن مجاعات إسالمية ،وكانت تلك اجلماعات دول ذات أغلبية مسلمة أو كانت َّ احلروب اليت اندلعت يف عام 2016اندلعت يف ٍ
مسؤولة عن األغلبية العظمى من اهلجمات اإلرهابية .وكما رأينا يف الفصل اخلامس عشر َّ
فإن القيم التحررية كاملساواة بني اجلنسني
شيوعا يف قلب العامل اإلسالمي من أي منطقة أخرى يف العامل ،مبا فيها منطقة إفريقيا جنوب واالستقاللية الذاتية والصوت السياسي أقل ً
الصحراء ،وحقوق اإلنسان يف وض ٍع شديد السوء يف كث ٍري من الدول اإلسالمية اليت تطبِّق احلدود الوحشية (مثل اجلَلد والتعمية وقطع
األوصال) ،ال عقابًا على جرائ ٍم فعلية َّ
وإمنا على املثلية اجلنسية والسحر وال ِردة والتعبري عن اآلراء الليربالية على مواقع التواصل االجتماعي.
مظهرا من مظاهر غياب التقدم هذا ناتج عن املبادئ األخالقية الدينية؟ ال ميكن عزوه بالتأكيد إىل اإلسالم نفسه ،فاحلضارة كم ً
وسالما داخليًّا من الغرب املسيحي .بعض التقاليد الرجعية
ً اإلسالمية مشلت ثورةً علمية مبكرة ،وكانت طوال تارخيها أكثر تساحمًا وعامليةً
املوجودة يف الدول ذات األغلبية املسلمة مثل تشويه األعضاء التناسلية لإلناث و«جرائم الشرف» مثل قتل األخوات والبنات غري
العفيفات هي يف احلقيقة ممارسات قبَلية إفريقية أو آسيوية قدمية وينسبها ممارسوها خطأً إىل الشريعة اإلسالمية .وبعض املشكالت
موجودة يف دول ديكتاتورية أخرى مصابة بلعنة املوارد ،وتفاقمت مشكالت أخرى بفعل التدخالت الغربية اخلرقاء يف الشرق األوسط مبا
فيها متزيق اإلمرباطورية العثمانية ودعم اجملاهدين املعادين لالحتاد السوفيييت يف أفغانستان وغزو العراق.
ولكن ميكن عزو جزء من مقاومة تيار التقدم إىل االعتقاد الديين ،فتبدأ املشكلة من حقيقة كون كثري من تعاليم اإلسالم مناهضة
تعرب عن كراهية الكفار وحقيقة االستشهاد كبريا من اآليات اليت ِّ
عددا ً
للنزعة اإلنسانية عندما تُفهم باملعىن احلريف ،فالقرآن يتضمن ً
وقدسية اجلهاد املسلَّح ،ويقر جلد شارب اخلمر ورجم الزناة واملثليني جنسيًّا وصلب أعداء اإلسالم واالسرتقاق اجلنسي للوثنيني والزواج
القسري للفتيات يف عمر التاسعة.
أيضا بالطبع .ال حاجة للجدال حول أيهما أسوأ من اآلخر ،فما يهم كثري من آيات الكتاب املقدس مناهضة للنزعة اإلنسانية ًٌ
هو مدى احلرفية اليت يفهمهما هبا أتباعهما .لدى اإلسالم -كبقية األديان اإلبراهيمية -نسخته اخلاصة من اجلدلية اليهودية واملناظرة
أيضا نسخته اخلاصة من اليهود ثقافيًّا فقط
وتؤوهلا لتحسني صورهتا .لدى اإلسالم ً
وتقسم النص إىل أجزاء ِّ
اليسوعية اليت تستخدم اجملاز ِّ
تطورا يف العامل اإلسالمي املعاصر.
أن هذا النفاق احلميد أقل ً والكاثوليكيني االنتقائيني واملسيحيني باالسم فقط .تكمن املشكلة يف َّ
الحظ عاملا السياسة إميي ألكساندر ( )Amy Alexanderوكريستيان ويلزيل عند فحص البيانات الضخمة اخلاصة باالنتماء
بأهنم مسلمون يربزون كالطائفة ذات النسبة األكرب حىت اآلن من أن «من يصنِّفون أنفسهم َّ الديين اليت أتاحها مسح القيم العاملية َّ
بأهنم مسلمون يضعون أنفسهم أن %92ممَّن يصنِّفون أنفسهم َّ
إدهاشا من ذلك ًَّ األشخاص شديدي التديُّن ،وهي .%82 :واألكثر
أن تصنيف يف أعلى نقطتني على مقياس التدين املكون من عشر نقاط [مقارنةً بأقل من نصف اليهود والكاثوليك واإلجنيليني] .يبدو َّ
نفسك كمسلم -بغض النظر عن املذهب -مرادف تقريبًا لكونك شديد التديُّن» .وجند نتائج مشاهبة يف بعض االستطالعات األخرى.
وجد استطالع رأي كبري أجراه مركز بيو لألحباث أنَّه «يف 32دولة من بني 39دولة خاضعة لالستطالع ،يقول نصف املسلمني أو
أكثر أنَّه ليس هناك سوى طريقة واحدة لفهم تعاليم اإلسالم» ،و َّ
أن ما بني 50و 93يف املئة يف الدول اليت طُرِح فيها السؤال عن حرفية
أن «هناك نسبا غامرة من املسلمني يف كث ٍري من الدول يريدون أن تكون القرآن يؤمنون أنَّه «جيب قراءة القرآن حرفيًّا ،كلمة بكلمة» و َّ
الشريعة اإلسالمية التشريع الرمسي للبالد».
كثريا من املسلمني
أن ً كثريا من تعاليم اإلسالم مناهضة لإلنسانية وحقيقة َّأن ًاالرتباط ال يعين السببية ،ولكن إذا مجعت بني حقيقة َّ
أن املسلمني الذين ينفِّذون السياسات غري الليربالية وأفعال العنف، بأن التعاليم اإلسالمية منزهة عن اخلطأ ،إضافةً إىل حقيقة َّ
يؤمنون َّ
أن السبب احلقيقي هو النفط أو االستعمارية أو إن املمارسات غري اإلنسانية ال عالقة هلا بالتقوى الدينية و َّ
جند أنَّه من الصعب أن نقول َّ
بيانات كي يقتنعوا ،ففي مسوح القيم العاملية اليت يُقاس فيها كل متغريٍ اإلسالموفوبيا أو االستشراق أو الصهيونية .وملن حيتاجون إىل
حيب علماء االجتماع قياسه (مبا يشمل الدخل والتعليم واالعتماد على عوائد النفط) ،يرتبط اإلسالم نفسه ٍ
جبرعة إضافية من القيم
األبوية وقيم غري ليربالية أخرى يف خمتلف الدول وبني خمتلف األفراد ،وكذلك ارتياد املسجد يف اجملتمعات غري اإلسالمية (هذه القيم
عامال غري مهم).
متفشية للغاية يف اجملتمعات اإلسالمية ممَّا جيعل ارتياد املسجد فيها ً
ولكن الغرب بدأ مع التنوير عملية (وما زالت هذه العملية
يوما ماَّ ،
كانت كل هذه األمناط املقلقة تنطبق على العامل املسيحي ً
مستمرة) فصل الكنيسة عن الدولة وخلق مساحة للمجتمع املدين العلماين وتأسيس مؤسساته على أخالقيات إنسانية عاملية .ليست
(كثري منهم مسلمون)
تلك العملية حىت يف طريقها إىل التطبيق يف معظم الدول ذات األغلبية املسلمة .وضَّح مؤرخون وعلماء اجتماع ٌ
كيف أعاقت سيطرة الدين اإلسالمي املحكمة على املؤسسات احلكومية واجملتمع املدين يف الدول اإلسالمية تقدمها االقتصادي
ُ
والسياسي واالجتماعي.
(ولد عام 1906وتويف عام ممَّا يزيد الوضع سوءًا أيديولوجية رجعية أصبحت مؤثرة بفعل كتابات الكاتب املصري سيد قطب ُ
عضوا يف مجاعة اإلخوان املسلمني وامللهم االساسي إلنشاء تنظيم القاعدة وحركات إسالمية أخرى .تتأمل هذه ،)1966وكان ً
األيديولوجية يف أيام اجملد يف عهد الرسول واخللفاء الراشدين واحلضارة العربية الكالسيكية ،وترثي حال القرون الالحقة اليت تتسم بالذل
أخريا أنصار احلداثة العلمانية اخلبيثة .يُنظر إىل ذلك التاريخ على أنَّه نتاج
على أيدي الصليبيني والقبائل اخليالة واملستعمرين األوروبيني و ً
هجر املمارسات اإلسالمية املتشددة ،وال ميكن أن ينتج اخلالص سوى عن طريق إحياء الدول اإلسالمية احلقيقية اليت حتكمها الشريعة
وتتطهر من التأثريات غري اإلسالمية.
أن كثريا من ِّ َّ
املفكرين الغربيني - أن دور املبادئ األخالقية الدينية يف املشكالت اليت تكتنف العامل اإلسالمي حتمي ،إال َّ ً رغم َّ
الذين سيستاؤون لو وجدوا يف جمتمعاهتم القمع وكراهية النساء ورهاب املثلية والعنف السياسي الشائعني يف العامل اإلسالمي ،حىت وإن
أن بعض التربيرات تنطلقكانت أقل مبئة ِضعف -أصبحوا مييلون إىل التربير الغريب عند القيام هبذه املمارسات باسم اإلسالم .ال شك َّ
من رغبة جديرة باإلعجاب يف منع العنصرية ضد املسلمني ،وبعضها بقصد تكذيب رواية هدَّامة (ورمبا حتقِّق ذاهتا) تقول َّ
إن العامل متورط
يخ طويل من املفكرين الغربيني الذين يلعنون جمتمعهم ويصورون أعداءه بصورةٍ رومانسية (وهي يف صراع حضارات ،وينتمي بعضها إىل تار ٍ
لكن كثريا من التربيرات تنبع من احتفاظ امللحدين وامللحدين املتعاونني مع املؤمنني ِّ
ومفكري الثقافة متالزمة سنعود إليها بعد قليل) .و َّ ً
اطف رقيقة جتاه الدين ،وعزوفهم عن الدعم الكامل للنزعة اإلنسانية التنويرية.
الثانية بعو َ
ليس انتقاد خصائص املعتقد اإلسالمي املعاصر املناهضة لإلنسانية إسالموفوبيا وال صراع حضارات على اإلطالق ،فاألغلبية
الساحقة من ضحايا القمع والعنف اإلسالمي مسلمون آخرون .اإلسالم ليس عرقًا ،وكما قالت الناشطة املسلمة ساب ًقا سارة حيدر:
«األديان جمرد أفكار وليس هلا حقوق» .ليس انتقاد أفكار اإلسالم أكثر تعصبًا من انتقاد أفكار النيو ليربالية أو منصة احلزب اجلمهوري.
هل ميكن أن يتمتَّع العامل اإلسالمي بالتنوير؟ هل ميكن أن يوجد إسالم إصالحي أو إسالم ليربايل أو إسالم إنساين أو جممع
أعذارا لعدم ليربالية اإلسالم ِّ
كثري من املفكرين حميب الدين على أن جيدوا ً مسكوين إسالمي وأن حيدث فصل بني املسجد والدولة؟ يصر ٌ
يف أنَّه من غري املنطقي توقُّع إحراز املسلمني أي تقدُّم يتجاوز اإلسالم .ويف حني قد يتمتَّع الغرب بالسالم والرخاء والتعليم والسعادة اليت
يتمسكوا ٍ
بنظام قائم أبدا هذا االنغماس السطحي يف اللذات ،ومن املفهوم أن َّ تتسم هبم جمتمعات ما بعد التنوير ،فلن يقبل املسلمون ً
على تقاليد ومعتقدات من العصور الوسطى إىل األبد.
كزا للعلوم
ولكن تاريخ اإلسالم واحلركات الوليدة فيه يكذبان هذا االستعالء ،كانت احلضارة العربية الكالسيكية كما ذكرت مر ً َّ
والفلسفة العلمانية .وثَّق أمارتيا سن كيف طبَّق اإلمرباطور املغويل أكرب األول يف القرن السادس عشر ً
نظاما اجتماعيًّا ليرباليًّا متعدِّد
األديان واملعتقدات (يشمل امللحدين والال أدريني) يف اهلند حتت حكم اإلسالم يف ٍ
وقت كانت فيه حماكم التفتيش على أشدِّها يف أوروبا
وأُح ِرق جوردانو برونو حيًّا عقابًا على اهلرطقة .تعمل اآلن قوى احلداثة يف أجزاء كثرية من العامل اإلسالمي ،فقد قطعت كلٌّ من تونس
طويال حنو الدميقراطية الليربالية (الفصل الرابع عشر) ،واملواقف جتاه النساء واألقليات يف حتسن يف
وبنجالديش وماليزيا وإندونيسيا شوطًا ً
ٍ
ملحوظ أكثر بني النساء والشباب واملتعلِّمني .لن ٍ
بشكل تتحسن ٍ
ببطء ولكن كث ٍري من الدول اإلسالمية (الفصل اخلامس عشر) ،وهي َّ
تتجاوز القوى التحررية اليت حررت الغرب -مثل سهولة التواصل والتعليم واحلراك وتقدم النساء -العامل اإلسالميَّ ،أما املمشى املتحرك
املتمثل يف إحالل جيل حمل آخر فقد يتجاوز يف سرعته املشاة املتثاقلني عليه.
املفكرين وال ُكتَّاب والناشطني املسلمني منذ ٍ
وقت بعيد من أجل إحداث ثورة إنسانية يف عدد من ِّ أيضا ،إذ يضغط ٌ األفكار مهمة ً
اإلسالم ،ومن بينهم سعاد عدنان (املؤسسة املشاركة للمركز العريب لألحباث العلمية والدراسات اإلنسانية يف املغرب) ومصطفى أكيول
(مؤلِّف كتاب «اإلسالم دون تطرف» ” )“Islam Without Extremesوفيصل سعيد املطر (مؤسس احلركة اإلنسانية
ُ
العلمانية العاملية) وسارة حيدر (املؤسسة املشاركة ملنظمة املسلمني السابقني يف أمريكا الشمالية) وشادي محيد (مؤلِّف كتاب «االستثنائية
اإلسالمية» ” )“Islamic Exceptionalismوبرويز هودبوي (مؤلِّف كتاب «اإلسالم والعلم :التشدُّد الديني ومعركة
العقالنية» ” ،)“Islam and Science: Religious Orthodoxy and the Battle for Rationalityوأمري
أمحد نصر (مؤلِّف كتاب «إسالمي» ” )“My Isl@mوجوالالي إمساعيل (مؤسسة منظمة الفتيات الواعيات “Aware
” Girlsيف باكستان) ،وشرياز ماهر (مؤلف كتاب «الجهادية السلفية» ”“Salafi-Jihadismالذي اقتبسنا منه يف الفصل
األول) ،وعمر حممود ،وإرشاد ماجني (مؤلفة كتاب «مشكلة اإلسالم» ” ،)“The Trouble with Islamومرمي منازي
(املتحدثة باسم منظمة قانون واحد للجميع ” ،)“One Law for Allوتسليمة نسرين (مؤلفة كتاب «طفولتي كفتاة» “My
” ،)Girlhoodوإسراء نعماين (مؤلفة كتاب «الوقوف وحدي في مكة» ” ،)“Standing Alone in Meccaوماجد
نواز (املؤلف املشارك مع سام هاريس يف كتاب «اإلسالم ومستقبل التسامح» “Islam and the Future of
” ،)Toleranceوراحيل رضا (مؤلفة كتاب «جهادهم وليس جهادي» ” ،)“Their Jihad, Not My Jihadوعلي
رضوي (مؤلف كتاب «المسلم الملحد» ” ،“The Atheist Muslimووفاء سلطان (مؤلفة كتاب «إلهٌ يكره» “A God
” ،Who Hatesوحممد سيد (رئيس منظمة املسلمني السابقني يف أمريكا الشمالية) ،وأشهرهم سلمان رشدي وآيان هريسي علي
ومالال يوسفزاي.
ولكن غري املسلمني هلم دور عليهم أن يؤدونهَّ .
إن أن أي تنوير إسالمي جديد جيب أن يكون بقيادة املسلمنيَّ ، من الواضح َّ
الشب كة العاملية للتأثري الفكري متداخلة وملتحمة ،وبالنظر إىل مكانة الغرب وقوته (حىت لدى من يكرهونه) ،فيمكن للقيم واألفكار
كتاب من تأليف نعوم تشومسكي). ٍ
الغربية أن تسيل وتتدفق وتنهمر كالشالل بطرق مفاجئة (فكان لدى أسامة بن الدن على سبيل املثال ٌ
كتب مثل «ميثاق الشرف» ” “The Honor Codeللفيلسوف كوامي أنتوين أبيا يشري تاريخ التقدم األخالقي املذكور يف ٍ
ٍ
ممارسة رجعية تقوم هبا ثقافةٌ أخرى ال تستدعي أن الوضوح األخالقي يف ٍ
ثقافة ما حول ) ،(Kwame Anthony Appiahإىل َّ
دائما رد فعل ساخطًا ولكنَّه قد يُشعِر املتباطئني باخلزي حىت يقوموا باإلصالح املتأخر (تشمل األمثلة املاضية على ذلك العبودية واملبارزة
ً
وربط القدم والفصل العنصري ،ورمبا تشمل األمثلة املستقبلية اليت تستهدف الواليات املتحدة عقوبة اإلعدام واإلفراط يف احلبس) .قد
ٍ
بصمود وال تنغمس يف الدين عندما يصطدم مع القيم اإلنسانية منارةً للطالب واملفكرين متثِّل الثقافة الفكرية اليت تدافع عن قيم التنوير
وأصحاب العقول املنفتحة يف بقية أحناء العامل.
الحظت تناقضه الصارخ مع منظومتني عقائديتني أخريني .ألقينا للتو نظرًة على املبادئ األخالقية ُ بعد عرض منطق النزعة اإلنسانية،
حترك السلطوية الناهضة والقومية والشعبوية والتفكري الرجعي،الدينية ،وسأجته اآلن حنو عدو النزعة اإلنسانية اآلخر ،وهو األيديولوجية اليت ِّ
بل وحىت الفاشية .تدَّعي هذه األيديولوجية -كما تفعل املبادئ األخالقية الدينية -امتالك أسس فكرية والصلة الوثيقة بالطبيعة البشرية
االدعاءات الثالثة خاطئة .لنبدأ ببعض التاريخ الفكري.فإن كل هذه ِّ واحلتمية التارخيية ،وكما سنرى َّ
مفكًرا ميثِّل نقيض النزعة اإلنسانية (يف كل حجة يف كتابه تقريبًا) ،لن جند من هو أفضل من فقيه اللغة إذا أردنا أن خنص بالذكر ِّ
جزء سابق من هذا الفصل عن قلقي بشأن كيف ميكن األملاين فريدريك نيتشه (ولد عام 1844وتويف عام .)1900أعربت يف ٍ
ُ
قاس أناين مصاب جبنون العظمة ومعتل اجتماعيًّاَّ ،أما نيتشه فكان يقول إنَّه من اجليدشخص ٍ ٍ للمبادئ األخالقية اإلنسانية التعامل مع
ولكن هذا غري مهم ،فحياة مجع غفري من البشر أن يكون املرء قاسيًا أنانيًّا مصابًا جبنون العظمة ًّ
ومعتال اجتماعيًّا .ليس للجميع بالطبعَّ ،
(«الفاشلني واحلمقى» و«األقزام الثرثارين» و«خنافس الربغوث» حسب وصفه) ال قيمة هلا ،فاألمر ذو القيمة يف احلياة هو أن يتجاوز
السوبرمان ( ،Übermenschواليت تعين حرفيًّا «اإلنسان األعلى») اخلري والشر وميتلك رغبةً يف السلطة وحيقِّق ً
جمدا بطوليًّا .وال ميكن
ولكن مناقب العظمة ال تشمل شفاء املرضى حتقيق أقصى إمكانات البشرية وانتقاهلا إىل مستوى أعلى من الوجود سوى هبذه البطولةَّ ،
وإمنا األعمال الفنية البارعة والغزو العسكري .فاحلضارة الغربية يف احندا ٍر ثابت منذ أوج عصر وال إطعام اجلوعى وال صنع السالمَّ ،
اإلغريق اهلومريني واحملاربني اآلريني والفايكينج مرتديي اخلوذ وغريهم من الرجال الشجعان ،وأفسدهتا على اخلصوص «أخالق العبيد»
املسيحية ،وعبادة املنط ق يف ظل حركة التنوير ،واحلركات الليربالية يف القرن التاسع عشر اليت سعت وراء اإلصالح االجتماعي والرخاء
ليوجهوا للحضارة احلديثة
املشرتك ،و َّأدت هذه العاطفية املتخاذلة إىل االضمحالل والتدهور .على من رأوا احلقيقة أن «يتفلسفوا باملطرقة» ِّ
إليك بعض
أحرف فكرة الـ «سوبرمان»َ ، نظام جديد .وحىت ال تظن أنين ِّالضربة القاضية اليت ستجلب الكارثة املخلِّصة اليت سينشأ منها ٌ
االقتباسات:
أبغض ابتذال الرجل عندما يقول« :ما يناسب شخص ما يناسب غريه» و«ال تُعامل اآلخرين مبا ال حتب أن يعاملوك»..هذه
ُ
قدرا ما من التساوي يف القيمة بني أفعايل وأفعالك. الفرضية وضيعة إىل أقصى حد ،فهي تُسلِّم َّ
بأن هناك ً
تتدرب النساء على ترفيه احملاربني ،وكل ما عدا ذلك محاقة..هل أنت ذاهب إىل
يتدرب الرجال على احلرب وأن َّ
جيب أن َّ
تنس سوطَك.
امرأة؟ ال َ
إن تلك الفصيلة األرقى من األحياء اليت ستمسك بزمام أعظم املهام ،الساللة األرقى من البشرية ،مبا يشمل إبادة كل ما
َّ
هو متدهور وطفيلي دون رمحة ،ستتيح ثانيةً ً
فائضا من احلياة على األرض تنشأ منه احلالة الديونيسية ثانيةً.
كأهنا نابعة من مر ٍ
اهق عدواين يستمع إىل موسيقى ميتال املوت أكثر من الالزم، قد تبدو هذه اخلطرفة املنادية باإلبادة اجلماعية و َّ
أو حماكاة هتكمية ألحد أشرار أفالم جيمس بوند مثل دكتور إيفل ( )Dr. Evilيف سلسلة أفالم َّ ،Austin Powers
ولكن نيتشه
تأثريا ،واستمر تأثريه حىت القرن احلادي والعشرين. ِّ
يف احلقيقة من بني أكثر مفكري القرن العشرين ً
أن نيتشه ساعد يف إهلام النزعة العسكرية الرومانسية اليت َّأدت إىل احلرب العاملية األوىل والفاشية اليت َّأدت إىل احلرب من اجللي َّ
أن نيتشه نفسه مل ي ُكن أملانيًّا قوميًّا أو معاديًا للساميةَّ ،إال أنَّه من غري املصادفة أن تربز هذه االقتباسات ِّ
لتعرب العاملية الثانية ،ورغم َّ
حج هتلر يف عامه األول كمستشار إىل أرشيف نيتشه، يقة مثالية عن النازية ،فأصبح نيتشه بعد موته فيلسوف البالط النازي (إذ َّ بطر ٍ
شجعت دون كلل على هذه الصلة بينه وبني الذي كانت ترأسه إليزابيث فورسرت نيتشه ،أخت الفيلسوف ومنفِّذة وصيته األدبية ،واليت َّ
أن« :اللحظة اليت ارتبطت فيها النسبية النازية) .وصلته بالفاشية اإليطالية أكثر مباشرةً :فقد كتب بينيتو موسوليين يف عام َّ 1921
بنيتشه وبالرغبة يف السلطة اليت حتدَّث عنها ،كانت اللحظة اليت أصبحت فيها الفاشية اإليطالية -وما زالت -أبدع خملوق من صنع رغبة
املؤرخة
ولكن ِّالفرد واألمة يف السلطة»َّ .أما صلته بالبلشفية والستالينية -من السوبرمان إىل الرجل السوفيييت اجلديد -فهي أقل شهرةً َّ
جيدا .والروابط بني أفكار نيتشه واحلركات اليت َّأدت إىلبرنيس جالتسر روزنتال ( )Bernice Glatzer Rosenthalوثَّقتها ً
ماليني الوفيات يف القرن العشرين واضحة بالقدر الكايف ،وتتَّضح يف متجيد العنف والقوة ،واحلماس هلدم مؤسسات الدميقراطية الليربالية،
متحجرة القلب جتاه حياة البشر.ِّ واحتقار أغلب البشرية ،والال مباالة
أن حبر الدماء الذي سال سيكون كافيًا لوصم أفكار نيتشه بني ِّ
املفكرين والفنانني ،لكنَّه حيظى بإعجاب على نطاق قد تظن َّ
بشكل ال يصدق .يقول رسم جرافييت رائج يف اجلامعات وعلى أقمصة الشباب ”( “Nietzsche is pietzscheويُقصد ٍ واسع
ألن تعاليمه مقنعة بصورٍة خاصة ،وكما أشار برتراند راسل يف كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية»
أن نيتشه رائع!) .ال يرجع هذا َّ
بذلك َّ
احة يف ٍ
مجلة واحدة :أمتىن لو عشت يف أثينا ببساطة وصر ٍ
ٍ ) (A History of Western Philosophyفإنه «ميكن تلخيصه
يف زمن بريكليس أو فلورنسا يف عصر أسرة ميديتشي» .تفشل األفكار أمام أول اختبار لالتساق األخالقي ،وهو قابلية تعميمها على
الشخص الذي يطرحها ،فإذا كنت أستطيع السفر عرب الزمن ،فإنين كنت سأواجهه كما يلي« :أنا سوبرمان ،قوي ،بارد ،فظيع ،دون
بك أنت ،أيها القصري ،ورمبا
جمدا بطوليًّا عرب إبادة بعض األقزام الثرثارين ،وسأبدأ َ
مشاعر ودون ضمري ،وحسب اقرتاحك ،فأنا سأحقِّق ً
أيضاَّ ،إال إذا استطعت أن جتد سببًا مينعين من ذلك».
قليال بأختك النازية ً
أعبث ً
كثريا من املعجبني؟ رمبا من غري املفاجئ أن تلقى املنظومة األخالقية
إ ًذا إذا كانت أفكار نيتشه منفِّرة وغري متسقة ،فلماذا جند هلا ً
جديرا باحلياة إعجابًا من كث ٍري من الفنانني ،مثل :ويسنت هيو أودن ()،W. H. Auden اليت يكون فيها الفنان (إىل جانب احملارب) ً
وألبري كامو ) ،(Albert Camusوأندريه جيد ) ،(Andrè Gideوديفيد هربرت لورنس () ،D. H. Lawrenceوجاك
لندن ) ،(Jack Londonوتوماس مان ) ،(Thomas Mannويوكيو ميشيما () ،Yukio Mishimaويوجني أونيل
) ،(Eugene O'Neillوويليام باتلر ييتس ) ،(William Butler Yeatsوويندام لويس )،(Whyndham Lewis
وجورج برنارد شو (( )George Bernard Shawمع بعض التحفظات) مؤلِّف مسرحية «اإلنسان والسوبرمان» (Man
(أما بيلهام جرينفيل وودهاوس P. G. Wodehouseفعلى العكس ،جيعل جيفز -أحد أبطال قصصه- )َّ .and Superman
كثريا من
أيضا ً
متاما») .تعجب القيم النيتشوية ً
املعجب بسبينوزا يقول لبرييت ووسرت« :لن تستمتع بقراءة نيتشه يا سيدي ،فهو مضطرب ً
ألن «األدب العظيم» هو «الغرض(تذكر ليفيس وهو يسخر من خماوف سنو بشأن األمراض والفقر العاملي َّ ِّ
مفكري الثقافة الثانية َّ
النهائي الذي يتبعه اإلنسان») والنقاد االجتماعيني الذين حياولون كتم ضحكاهتم على «طبقة السذج» (حسب وصف هنري لويس
منكن H. L. Menckenامللقَّب بـ «نيتشه األمريكي» للعامة) .وكان احتفاء آين راند باألنانية وتأليهها للرأمسايل البطويل وازدراؤها
للرفاهة العامة -رغم حماولتها إخفاء هذه األمور الح ًقا -يتَّضح فيه أثر نيتشه جليًّا.
كان نيتشه كما أوضح موسوليين مصدر إهلام ألتباع النسبية يف كل مكان ،كان نيتشه يزدري االلتزام جتاه البحث عن احلقيقة يف
أن «احلقيقة نوعٌ من األخطاء ال يستطيع أحد أنواع فأكد أنَّه «ال توجد حقائقَّ ،إمنا توجد تفسريات» و َّ أوساط العلماء ِّ
ومفكري التنويرَّ ،
ٍ
وألسباب أن هاتني العبارتني صحيحتان) .هلذا السبب الكائنات احلية أن حييا بدونه» (أعجزه هذا بالطبع عن شرح ملاذا علينا أن نصدق َّ
أخرى ،كان أحد مصادر التأثري الرئيسية على مارتن هيدجر وجان بول سارتر وجاك دريدا ( )Jacques Derridaوميشيل فوكو،
كما كان األب الروحي لكل احلركات الفكرية يف القرن العشرين اليت كانت معادية للعلم واملوضوعية مبا فيها الوجودية والنظرية النقدية
وما بعد البنيوية والتفكيكية وما بعد احلداثة.
ممَّا ُحيسب لنيتشه أنَّه كان صاحب أسلوب بارع رشيق ،وقد يعذر املرء إعجاب الفنانني و ِّ
املفكرين لو كان أساسه تقدير محاسته َ
ٍ
ولكن طريقة التفكري هذه قد راقت لكثري منهم لألسف .حتدَّث ٍ
األدبية والقراءة الساخرة لتصويره لطريقة تفكري يرفضوهنا هم أنفسهمَّ ،
املؤرخ الفكري ٍ
حبماس بالغ عن الدكتاتوريني الشموليني ،وهي متالزمة أطلق عليها ِّ عدد مذهل من ِّ
املفكرين والفنانني يف القرن العشرين ٌ
مارك ليال ” “Tyrannophiliaأي «حب الطاغية» .كان بعض حميب الطاغية ماركسيني يتبعون املبدأ العريق الذي يقول «قد
كثريا منهم كانوا نيتشويني ،وكان أشهرهم مارتن هيدجر وفيلسوف القانون كارل مشيت ( Carl لكن ًوغدا ،ولكنَّه واح ٌد منَّا» ،و َّ
يكون ً
)Schmittاللذان كانا معاونني متحمسني للنازيني وهلتلر .فلم ي ُكن هناك مستب ٌد يف القرن العشرين ينقصه أنصار من أهل الفكر،
مبن فيهم موسوليين (عزرا باوند وبرنارد شو وويليام ييتس وويندام لويس) ولينني (برنارد شو وهربرت جورج ويلز) وستالني (برنارد شو
وسارتر وبياتريس ويب وسيدين ويب وبرتولد برخيت ودو بويز وبابلو بيكاسو وليليان هيلمان) وماو (سارتر وفوكو ودو بويز ولوي ألتوسري
وآالن باديو) وآية اهلل اخلميين (فوكو) وكاسرتو (سارتر وجراهام جرين وجونرت جراس ونورمان ميلر وهارولد بينرت ،وكما رأينا يف الفصل
أوقات خمتلفة مبديح هو تشي منه ومعمر القذايف وصدام حسني وكيم إل سونجاملفكرون الغربيون يف ٍ
وتغىن ِّ
العشرين ،سوزان سونتاج)َّ .
وبول بوت وجوليوس نرييري وسلوبودان ميلوشيفيتش وهوجو شافيز.
املفكرين هم أول من ِّ
يفكك ذرائع السلطة ،و َّ
أن أن ِّ املفكرون والفنانون من بني الناس لدكتاتوريني قتلة؟ يظن املرء َّملاذا يتملَّق ِّ
كثريا منهم فعلوا ذلك حقًّا) .من ضمن التفسريات التفسري الذي أن ً يوسع مدى التعاطف اإلنساين (وحلسن احلظ َّ الفنانني هم أول من ِّ
قدَّمه االقتصادي توماس سويل ( )Thomas Sowellوعامل االجتماع بول هوالندر ( )Paul Hollanderوهو النرجسية
املهنية ،فقد يشعر ِّ
املفكرون والفنانون بعدم التقدير يف الدميقراطيات الليربالية اليت تسمح ملواطنيها بتلبية احتياجاهتم بأنفسهم يف األسواق
دورا يشعرون أنَّه مناسب ِّ
وخيصصون للمفكرين ً واملنظمات املدنيةَّ ،أما الدكتاتوريون فيطبِّقون نظريات من أعلى السلم إىل أسفلهِّ ،
يفضل الرداءة على الفن الرفيع والثقافة ،واإلعجاب
أيضا باالزدراء النيتشوي لرجل الشارع الذي ِّ مدفوع ً
ٌ ولكن حب الطاغية
لقيمتهمَّ .
بالسوبرمان الذي يتجاوز تسويات الدميقراطية املتخبطة ويطبِّق على حن ٍو بطويل رؤيةً للمجتمع اجليد.
متجد السوبرمان وحده وليس أي «جمموع»َّ ،إال أنَّه يسهل تأويل «اإلنسان املنفرد األقوى» بأنَّه قبيلة أن بطولة نيتشه الرومانسية ِّ رغم َّ
مجيعا
أشكال أخرى من القومية الرومانسية هذا التعديل على أفكار نيتشه وتبنَّتها ،وأصبحوا ً أو عرق أو أمة .وأجرت النازية والفاشية و ٌ
أبطال الدراما السياسية املتواصلة حىت يومنا احلاضر.
لكن اجملانني من أصحاب كنت أعتقد َّ
أن «الرتامبية» متثِّل «اهلَُو» ،هنوض القبَلية والسلطوية من األعماق املظلمة للنفس البشرية ،و َّ ُ
مراكز السلطة يستمدون جنوهنم من كتابات أكادميية تعود إىل بضع سنوات فقط ،وال حتتوي عبارة «اجلذور الفكرية للرتامبية» على
شكلوا جمموعة امسها «باحثون وُكتَّاب من أجل شخصا َّ
ً تناقضات لفظية ،إذ حصل ترامب يف انتخابات عام 2016على تأييد 136
بيان بعنوان «بيان االحتاد» ) ،(Statement of Unityبعضهم على صلة مبعهد كلريمونت ،وهو مركز فكري حبثي أمريكا» يف ٍ
بأهنما قارئان جيدان ويعتربان نفسيهما أُطلق عليه «املوطن األكادميي للرتامبية» .وكان من بني مستشاري ترامب املقربني رجالن معروفان َّ
ومها ستيفن بانون ومايكل آنتون .على من يريد أن يتجاوز شخصية املرء عند حماولة فهم الشعبوية السلطوية أن يدرك ِّ
مفكَرينُ ،
األيديولوجيتني اللتني حتركاهنا ،فكلتامها معادية بشر ٍ
اسة للنزعة اإلنسانية التنويرية ،وكلتامها متأثرتان بنيتشه بصوٍر خمتلفة ،إحداها فاشي
حتفظًا مين» َّ
وإمنا باملعىن األصلي. يعرب عن «أي شخص أكثر ُّ واآلخر رجعي ،ليس باملعىن اليساري الشائع الذي ِّ
بأن الفرد أسطورة نشأ مصطلح الفاشية ،املشتق من الكلمة اإليطالية اليت تعين «جمموعة» أو «حزمة» ،من التصور الرومانسي َّ
وأنَّه ال ميكن فصل الناس عن ثقافتهم وساللتهم وموطنهم .أعادت األحزاب النازية اجلديدة يف أوروبا وبانون واحلركة اليمينية املتطرفة يف
املفكرين الفاشيني األوائل مبن فيهم يوليوس إيفوال ()Julius Evola مجيعا بأثر نيتشه -اكتشاف ِّ
الواليات املتحدة -الذين يقرون ً
(ولد عام 1868وتويف عام .)1952تُربَّر الفاشية (ولد 1898وتويف عام )1974وشارل موراس (ُ )Charles Maurras ُ
ٍ
املخفَّفة احلالية اليت تتداخل مع الشعبوية السلطوية والقومية الرومانسية احيانًا بنسخة خام من علم النفس التطوري تكون فيها اجملموعة
هي وحدة االنتخاب ،فالتطور مدفوع ببقاء اجملموعة األصلح يف مقابل اجملموعات األخرى ،ومت انتخاب البشر للتضحية مبصاحلهم
لصاحل سيادة جمموعتهم (يتناقض هذا مع التيار الرئيسي من علم النفس التطوري الذي تكون فيه وحدة االنتخاب هي اجلني) .يرتتَّب
جمتمع متعدِّد ٍ
بشرا يعين أن تكون جزءًا من أمة ما ،وال ميكن أن ينجح ٌ على ذلك أنَّه ال ميكن للمرء أن يكون مواطنًا عامليًّا ،فأن تكون ً
وصوال إىل أقل عامل مشرتك. ألن شعبه سيشعر بأنَّه ليس له جذور وبأنَّه مغرتب و َّ
أن ثقافته ستُختزل ً الثقافات متعدِّد األعراق واإلثنياتَّ ،
أن ُُتضع أمةٌ ما مصاحلها لالتفاقيات الدولية يعين تفريطها يف حقها األصيل يف العظمة وحتوهلا إىل ٍ
طرف مغفل يف املنافسة الدولية بني
يعرب عن روح الشعب مباشرةً غري تتجسد يف عظمة قائدها الذي ِّ كل ال يتجزأ ،فإن عظَمتها ميكن أن َّ أن األمة عبارة عن ٍّالكل .ومبا َّ
ُمث َق ٍل برحى الدولة اإلدارية.
واأليديولوجية الرجعية هي احملافظة الثيوقراطية ) ،(Theoconservatismوعلى عكس ما قد يوحي به املصطلح الذي ال
يتسم باجلدية (الذي صاغه املرتد دميون لينكر ” “Damon Linkerعلى وزن ” “Neoconservatismاليت تعين احملافظة
فإن أول احملافظني الثيوقراطيني كانوا راديكاليني من ستينيات القرن املاضي أعادوا توجيه محاسهم الثوري من أقصى اليسار إىل اجلديدة)َّ ،
أن االعرتاف باحلق يف احلياة أقصى اليمني ،وهم يدعون إىل إعادة التفكري يف جذور التنوير يف النظام السياسي األمريكي ،ويعتقدون َّ
واحلرية والسعي وراء السعادة ووالية احلكومة لكفالة هذه احلقوق غري مناسب جملتم ٍع ذي صالحية أخالقية .إذ مل تدفعنا هذه الرؤية
الفقرية سوى إىل غياب املعايري االجتماعية واالنغماس يف اللذات وتفشي الفسق مبا يشمل فساد النسب واألفالم اإلباحية وفشل املدارس
واالعتمادية على إعانات الرعاية االجتماعية واإلجهاض .على اجملتمع أن يستهدف ما هو أكثر من هذه الفردانية املتعثرة وتعزيز االمتثال
ملعايري أخالقية أكثر حزما من ٍ
سلطة أكرب منَّا ،واملصدر الواضح هلذه املعايري هو املسيحية التقليدية بالطبع. ً
أساس أخالقي صلب، أن جتريف سلطة الكنيسة أثناء عصر التنوير جعل احلضارة الغربية دون ٍ يعتقد احملافظون الثيوقراطيون َّ
وقت أثناء إدارة بيل كلينتون ،كالوتقويضها أكثر خالل ستينيات القرن املاضي جعلها على حافة االهنيار ،وستسقط إىل اهلاوية يف أي ٍ
يربر مقال آنتون اهلسترييمل حيدث ،إ ًذا فأثناء إدارة أوباما ،كال مل حيدث ،ولكنَّها ستسقط بالتأكيد أثناء إدارة هيالري كلينتون (ممَّا ِّ
املذكور يف الفصل العشرين بعنوان «انتخابات الرحلة رقم )The Flight 93 Election( »93الذي قارن فيه البالد بالطائرة
املختطفة يف يوم 11سبتمرب ودعا الناخبني إىل االختيار بني أن يقتحموا غرفة القيادة أو ميوتوا!) مهما كان حجم االنزعاج الذي شعر
فإن حجم األمل يف أنَّه وحده يستطيع به احملافظون الثيوقراطيون جراء ابتذال حامل لوائهم يف عام 2016وتصرفاته املنافية للدميقراطيةَّ ،
فرض التغيريات الراديكالية اليت حتتاج إليها أمريكا كي تتفادى الكارثة كان أكرب.
أن هذه احلركات ثارت بسبب اجلماعات اإلسالمية الراديكالية يشري مارك ليال إىل السخرية الكامنة يف احملافظة الثيوقراطية ،رغم َّ
(اليت يظن احملافظون الثيوقراطيون َّأهنا ستُطلق احلرب العاملية الثالثة قريبًا)َّ ،إال َّ
أن كليهما متشابه يف العقلية الرجعية بذعرها من احلداثة
والتقدُّم .يعتقد كالمها أنَّه يف زم ٍن ما يف املاضي كانت هناك دولة سعيدة منظَّمة يعرف فيها الشعب مقامه ،مث أفسدت القوى العلمانية
الغريبة هذا التناغم وجلبت معها التدهور واالضمحالل ،ولن يستطيع أن يُعيد اجملتمع إىل عصره الذهيب سوى طليعة شجاعة لديها
ذكرياهتا عن األساليب القدمية.
أن ترامب قرر يف عام 2017أن يسحب الواليات املتحدة من عما يربط هذا التاريخ الفكري باألحداث اجلاريةَّ ،
تذكر َّ وحىت ال تغفل َّ
اتفاق باريس للمناخ حتت ٍ
ضغط من بانون الذي أقنعه َّ
بأن التعاون مع الدول األخرى عالمةٌ على االستسالم يف السباق الدويل على
ونظرا لكثرة املخاطر ،فيُستحسن أن ِّ
نذكر أنفسنا ملاذا حجة الدفاع العظمة (ونبع عداء ترامب للهجرة والتجارة من هذه اجلذور نفسها)ً .
ناقشت بالفعل مدى سخافة البحث عن ٍ
أساس لألخالق ُ عن القومية الشعبوية الرجعية الثيوقراطية اجلديدة مفلسة على اجلانب الفكري.
يف املؤسسات اليت جاءت باحلمالت الصليبية وحماكم التفتيش ومطاردة الساحرات واحلروب الدينية يف أوروبا ،وفكرة ضرورة أن يتكون
بعضا سخيفة بنفس القدر.
النظام العاملي من دول قومية ذات متاثُل إثين وتعادي بعضها ً
بأن هناك حتمية فطرية لدى البشر جتعلهم يتماهون مع الدولة القومية (ممَّا يعين ضمنًا َّ
أن املواطنة العاملية ُتالف إن االدعاء َّ
أوالَّ :
ً
الطبيعة البشرية) ميثِّل صورةً سيئة لعلم النفس التطوري ،فهو خيلط بني القابلية واحلاجة ،مثل احلتمية الفطرية املفرتضة لالنتماء إىل الدين.
شك بالتضامن مع قبيلتهم ،ولكن أيًّا ما كان تصور «القبيلة» البديهي الذي يولد معنا فهو ال ميكن أن يكون «الدولة يشعر الناس بال ٍ
أن أسالفنا التطوريني ملالقومية» اليت متثِّل نتيجة تارخيية ملعاهديت وستفاليا املنعقدتني يف عام ( 1648وال ميكن أن يكون العرق ،مبا َّ
جمرد ومتعدِّد
إن التصنيف املعريف للقبيلة أو اجملموعة ذات املصاحل املشرتكة أو التحالف يف احلقيقة ٌ كثريا)َّ . ٍ
أحدا من أعراق أخرى ًيقابلوا ً
األبعاد ،يرى الناس َّأهنم ينتمون إىل قبائل عديدة متداخلة ،عشريهتم ومسقط رأسهم وموطنهم وبلدهم الثاين ودينهم ومجاعتهم اإلثنية
ومدرستهم أو جامعتهم األم وأخويتهم وحزهبم السياسي وجهة عملهم ومنظمتهم اخلدمية وفريقهم الرياضي ،بل وحىت ماركة معدات
ألق نظرًة على جمموعة نقاشية عن الكامريات «نيكون يف مقابل كانون» على الكامريا اخلاصة هبم (إذا أردت أن ترى القبلية يف أوجهاِ ،
اإلنرتنت).
أن التاجر السياسي يستطيع تسويق أسطورة وأيقونة ُتدع الناس ليميِّزوا دينًا أو إثنية أو أمة معينة عن غريها لتكون هويتهم صحيح َّ
جنود منفِّذين بالتلقني واإلكراه املالئمني ،لكن هذا ال يعين َّ
أن القومية نزعة بشرية .ليس يف الطبيعة حيوهلم إىل ٍ
اجلوهرية ،بل وميكنه أن ِّ
فخورا بكل ذلك يف الوقت نفسه. شخصا من أن يكون مواطنًا فرنسيًّا وأوروبيًّا وعامليًّا ً
ً البشرية ما مينع
بأن الوحدة اإلثنية تؤدي إىل التفوق الثقايف خطأ إىل أقصى حد .هناك سبب وراء أنَّنا نشري إىل األشياء البسيطة َّ
بأهنا االدعاء َّ َّ
إن ِّ
بأهنا متحضرة وعاملية .ليس هناك شخص عبقري مبا يكفي ليبتكر أي شيء «شعبية» أو حمدودة أو ضيقة األفق وإىل األشياء املعقدة َّ
جممعني ومستولني وجامعني ألفضل األفكار واالبتكارات ،فالثقافات النابضة متاما ،فاألفراد والثقافات العبقرية عبارة عن ِّ
قيِّم وحده ً
يفسر هذا كون أوراسيا كانت أول قارة ٍ
وصوبِّ . بالنشاط تتمركز يف مناطق رفد شاسعة يتدفق إليها الناس واالبتكارات من كل ٍ
حدب
تولد فيها حضارات توسعية وليست أسرتاليا وال إفريقيا وال األمريكتني (حسبما وثَّقه سويل يف ثالثية «الثقافة» اليت كتبها وجاريد داميوند
Jared Diamondيف كتابه «أسلحة وجراثيم وفوالذ» ”ِّ ،)“Guns, Germs, and Steel
ويفسر كون نوافري الثقافة
جوالني ينتقَّلون إىل أي مكان يستطيعون أن
دائما َّ
ويفسر كون البشر ً دائما بني املدن يف مفارق الطرق واملمرات املائية الرئيسيةِّ ،
تتنقل ً
فتحركهم أقدامهم.
يعيشوا فيه أفضل حياة ممكنة ،فاجلذور تثبِّت األشجارَّ ،أما البشر ِّ
نظاما
جرب العامل بني عامي 1803وً 1945 أخريا ،دعنا ال ننسى سبب نشأة املؤسسات الدولية والوعي العاملي من األساسَّ . و ً
يؤد هذا إىل نتائج جيدة .ومن اخلطأ أن يستخدم اليمني الرجعي ٍ
ببسالة من أجل حتقيق العظمة ،ومل ِّ قائما على كفاح الدول القومية
دوليًّا ً
كسبب للعودة إىل ٍ
نظام دويل ٍ حرب» إسالمية على الغرب (يكون تعداد الوفيات فيها باملئات) على األخص التحذيرات احملمومة من « ٍ
خيوض فيه الغرب باستمرار حروبًا ضد نفسه (يكون تعداد الوفيات فيها بعشرات املاليني) .فبعد عام ،1945قال قادة العامل« :حسنًا،
دعونا ال نفعل ذلك ثانيةً» ،وبدؤوا يقلِّلون من القومية لصاحل حقوق اإلنسان العاملية والقوانني الدولية واملنظمات العابرة للحدود .والنتيجة
عاما من الرخاء والسالم النسبيني يف أوروبا واملتناميني نسبيًّا يف بقية العامل.
كما رأينا يف الفصل احلادي عشر سبعون ً
َّأما فيما خيص رثاء الكتاب الصحفيني حال التنوير واصفني إياه بأنَّه «اسرتاحة قصرية» ،فهذا الرثاء سيُكتب على األرجح على
قرب الفاشية اجلديدة والرجعية اجلديدة واالنتكاسات الشبيهة اليت حدثت يف بداية القرن احلادي والعشرين .تشري االنتخابات األوروبية
أن العامل رمبا يكون قد وصل إىل ذروة الشعبوية ،وكما رأينا يف الفصل العشرين َّ
فإن املدمر هلا يف عام 2017إىل َّوُتبط إدارة ترامب ِّ
توضح َّ
أن الدميقراطية (الفصل الرابع عشر) والقيم الليربالية احلركة يف طريقها الدميوغرايف إىل الال مكان .ورغم عناوين األخبارَّ ،
فإن األرقام ِّ
ليلة وضحاها .ال ميكن إنكار مزايا عال طويل املدى من املستبعد أن ينعكس مساره بني ٍ (الفصل اخلامس عشر) على منت مصعد ٍ
الكوزموبوليتانية والتعاون الدويل لفرتةٍ طويلة يف عا ٍمل ال يتوقف فيه تدفق األفكار واألشخاص.
*لغة اإلسبرانتو هي لغة مصطنعة كان هدفها أن تكون لغة دولية سهلة لتعزيز السالم والتفاهم الدولي – .المترجمة.
ليس موضوع «التنوير اآلن» جمرد نفي املغالطات أو نشر البيانات ،بل قد يكون مصو ًغا كسردية مؤثرة ،وأمتىن أن حيكيها من
حبق ،وهي جميدة ،ومبهجة، يتمتَّعون حباسة فنية وقوة خطابية أكثر مين على حن ٍو أفضل وينشروهنا أكثرَّ .
إن قصة تقدم البشرية بطولية ٍّ
بل وأجرؤ أن أقول حىت َّإهنا روحانية .والقصة كما يلي:
معرضون باستمرا ٍر خلطر كون ال يرحم ،نواجه احتماالت جناة ضئيلة يف ظل النظام الذي ِّ
ميكن املرء من احلياة ،وحنن َّ ولِدنا يف ٍ
ُ
االهنيارَّ ،
شكلتنا قوةٌ تنافسية عدمية الرمحة ،فتكويننا من ضل ٍع أعوج ،عرضة لألوهام والتمركز حول الذات والغباء الصاعق أحيانًا.
نوع من اخلالص ،فنحن نتحلَّى بالقدرة على اجلمع بني األفكار جماال أمام ٍ
ومع ذلك فقد نعمت الطبيعة البشرية باملوارد اليت تفسح ً
أفكار عن أفكارنا ،ولدينا غريزة اللغة ،اليت تسمح لنا مبشاركة مثار جتاربنا وبراعتنا ،ويف أعماقنا القدرة
متكرر ،وأن تنشأ يف رأسنا ٌ ٍ
بشكل ِّ
على التعاطف ،على الشفقة والتخيل والعطف واملواساة.
وتوسعت دائرة
توسع بالكتابة والطباعة والكلمات اإللكرتونيةَّ ،
وجدت هذه اهلبات طرقًا لتعظيم قدراهتا اخلاصة ،فمنظور اللغة َّ
تعاطفنا بفعل التاريخ والصحافة والفنون السردية ،وتعاظمت َملَكاتنا العقالنية الضئيلة بفعل معايري العقل املنطقي ومؤسساته ،مثل
الفضول الفكري واحلوار املفتوح و ُّ
التشكك يف السلطة والدوغما وعبء اإلثبات للتحقُّق من صحة األفكار عرب مواجهتها بالواقع.
املتكرر زمخًا ،حناول االنتصار على القوى اليت تسحقنا ،وال سيما اجلوانب املظلمة من طبيعتنا نفسها .نقتحم
التحسن ِّ
ُّ بينما جيمع
عمرا أطول ونعاين أقل ونتعلم أكثر ونزداد ذكاءً ونستمتع أكثر باملتع الصغرية والتجارب
ألغاز الكون مبا فيها احلياة والعقل ،ونعيش ً
تتوسع األراضي اليت تنعم بالسالم
عدد أقل منا للقتل واالعتداءات واالستعباد والقمع واالستغالل على يد اآلخرينَّ . ويتعرض ٌ الثريةَّ ،
ولكن
كثري من املعاناة واخلطر اهلائلَّ ،
يوما ما .ما زال هناك ٌ
والرخاء بعد أن كانت بضع واحات قليلة ،وقد تطوق الكرة األرضية بأكملها ً
أفكارا مقرتحة لكيفية احلد منهما ،وعدداً ال هنائيًّا من األفكار األخرى اليت مل ُتطر على بال أحد بعد.
هناك ً
لن ننعم بعا ٍمل مثايل ً
أبدا ،ومن اخلطر أن حناول خلق هذا العامل ،ولكن ال حدود للتحسينات اليت ميكننا حتقيقها إذا واصلنا تطبيق
املعرفة يف تعزيز ازدهار البشرية.
ليست هذه القصة البطولية جمرد أسطورة أخرى ،فاألساطري من نسج اخليالَّ ،أما هذه فحقيقية ،حقيقية حسب علمنا احلايل،
ألن لدينا أسبابًا تدفعنا لتصديقها .كلَّما عرفنا أكثر ،استطعنا توضيح أي أجزاء من القصة
وهي احلقيقة الوحيدة اليت منلكها ،ونصدقِّها َّ
ستظل حقيقية وأيها زائفة ،فأي جزء منها قد يكون زائ ًفا.
للتمسك
وباعث ٍُّ حساس ذي قدرةٍ على التفكري املنطقي
ال تنتمي هذه القصة إىل أي قبيلة بل إىل البشرية مجعاء ،إىل أي كائن َّ
أن احلياة أفضل من املوت ،والصحة أفضل من املرض ،والوفرة أفضل من العوز ،واحلرية أفضل بوجودهَّ ،
ألهنا ال حتتاج سوى إىل قناعة َّ
من العبودية ،والسعادة أفضل من املعاناة ،واملعرفة أفضل من اخلرافات واجلهل.