You are on page 1of 380

‫التنوير اآلن‬

‫شعار فايكنج للنشر‬


‫مؤلفات أخرى لستيفن بينكر‬
)‫ (القابلية لتع ُّلم اللغات وتطويرها‬Language Learnability and Language Development
)‫ (القابلية للتع ُّلم واإلدراك‬Learnability and Cognition
)‫ (الغريزة اللغوية‬The Language Instinct
)‫ (كيف يعمل العقل‬How the Mind Works
)‫ (الكلمات والقواعد‬Words and Rules
)‫ (الصفحة البيضاء‬The Blank Slate
)‫ (جوهر الفكر‬The Stuff of Thought
)‫ (الجوانب المالئكية من طبيعتنا البشرية‬The Better Angels of Our Nature
)‫ مقاالت مختارة‬:‫ (اللغة واإلدراك والطبيعة البشرية‬Language, Cognition, and Human Nature: Selected Articles
)‫ (الذوق في أسلوب الكتابة‬The Sense of Style

‫مؤلفات من تحرير ستيفن بينكر‬


‫ اإلدراك البصري‬- Visual Cognition
)‫ – أدوات الربط والرموز (مع جاك ميلر‬Connections and Symbols (with Jacques Mehler)
)‫ – الدالالت المعجمية والمفاهيمية (مع بيث لفين‬Lexical and Conceptual Semantics (with Beth Levin)
2004 ‫ – أفضل الكتابات األمريكية في العلوم والطبيعة لعام‬The Best American Science and Nature Writing 2004
‫التنوير اآلن‬
‫دفا ًع ا عن العقل والعلم والنزعة اإلنسانية والتقدم‬

‫ستيفن بينكر‬
‫]‪[c/r tk‬‬
‫]صفحة بيانات الناشر والكتاب لم ُتضَف بعد[‬
‫إهداء إىل‬

‫هاري بينكر (‪)2015 – 1928‬‬


‫املتفائل‬

‫و‬

‫سولومون لوبيز (مواليد ‪)2017‬‬


‫والقرن الثاين والعشرين‬
‫«إن الذين يقودهم العقل‪ ..‬ال يرغبون في شيء ألنفسهم اإال ويرغبون فيه لبقية ال ّناس أيضًا»‪.‬‬
‫‪ -‬باروخ سبينوزا‬

‫«كل ما ال تمنعه قوانين الطبيعة قابل للتحقيق في ظ ِّل وجود المعرفة الصحيحة»‪.‬‬
‫‪ -‬ديفيد دويتش‬
‫فهرس المحتويات‬
‫قائمة األشكال‬
‫تمهيد‬
‫الجزء األول‪ :‬التنوير‬
‫تجرأ على الفهم!‬
‫الفصل األول‪َّ :‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬اإلنتروبيا والتطور والمعلومات‬
‫الفصل الثالث‪ :‬الفكر المضاد للتنوير‬
‫الجزء الثاني‪ :‬التقدم‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رهاب التقدم‬
‫الفصل الخامس‪ :‬الحياة‬
‫الفصل السادس‪ :‬الصحة‬
‫الفصل السابع‪ :‬المعيشة‬
‫الفصل الثامن‪ :‬الثروة‬
‫الفصل التاسع‪ :‬غياب المساواة‬
‫الفصل العاشر‪ :‬البيئة‬
‫الفصل الحادي عشر‪ :‬السالم‬
‫الفصل الثاني عشر‪ :‬األمان‬
‫الفصل الثالث عشر‪ :‬اإلرهاب‬
‫الفصل الرابع عشر‪ :‬الديمقراطية‬
‫الفصل الخامس عشر‪ :‬المساواة في الحقوق‬
‫الفصل السادس عشر‪ :‬المعرفة‬
‫الفصل السابع عشر‪ :‬جودة الحياة‬
‫الفصل الثامن عشر‪ :‬السعادة‬
‫الفصل التاسع عشر‪ :‬األخطار الوجودية‬
‫الفصل العشرون‪ :‬مستقبل التقدم‬
‫الجزء الثالث‪ :‬العقل والعلم والنزعة اإلنسانية‬
‫الفصل الحادي والعشرون‪ :‬العقل‬
‫الفصل الثاني والعشرون‪ :‬العلم‬
‫الفصل الثالث والعشرون‪ :‬النزعة اإلنسانية‬
‫قائمة األشكال‬
‫الشكل رقم ‪ :1-4‬نبرة نشرات األخبار منذ ‪ 1945‬حتى ‪2010‬‬
‫الشكل رقم ‪ :1-5‬متوسط العمر المتوقع منذ ‪ 1771‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :2-5‬معدل وفيات األطفال منذ ‪ 1751‬حتى ‪2013‬‬
‫الشكل رقم ‪ :3-5‬معدل وفيات األمهات منذ ‪ 1751‬حتى ‪2013‬‬
‫الشكل رقم ‪ :4-5‬متوسط العمر المتوقع في المملكة المتحدة منذ ‪ 1701‬حتى ‪2013‬‬
‫الشكل رقم ‪ :1-6‬معدل وفيات األطفال بفعل األمراض المعدية منذ ‪ 2000‬حتى ‪2013‬‬
‫الشكل رقم ‪ :1-7‬السعرات الحرارية منذ ‪ 1700‬حتى ‪2013‬‬
‫الشكل رقم ‪ :2-7‬نسبة توقف نمو األطفال منذ ‪ 1966‬حتى ‪2014‬‬
‫الشكل رقم ‪ :3-7‬نسبة نقص التغذية منذ ‪ 1990‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :4-7‬معدل الوفيات بسبب المجاعات منذ ‪ 1860‬حتى ‪2016‬‬
‫الشكل رقم ‪ :1-8‬الناتج العالمي اإلجمالي منذ ‪ 1‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :2-8‬الناتج المحلي اإلجمالي للفرد منذ ‪ 1600‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :3-8‬توزيع الدخل العالمي في ‪ 1800‬و‪ 1975‬و‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :4-8‬الفقر المدقع (النسبة) منذ ‪ 1820‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :5-8‬الفقر المدقع (العدد) منذ ‪ 1820‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :1-9‬غياب المساواة بين الدول منذ ‪ 1820‬حتى ‪2013‬‬
‫الشكل رقم ‪ :2-9‬غياب المساواة عالميا ً منذ ‪ 1820‬حتى ‪2011‬‬
‫الشكل رقم ‪ :3-9‬غياب المساواة في المملكة المتحدة والواليات المتحدة األمريكية منذ ‪ 1688‬و‪2013‬‬
‫الشكل رقم ‪ :4-9‬اإلنفاق االجتماعي في دول منظمة التعاون والتنمية في الميدان االقتصادي منذ ‪ 1880‬حتى ‪2016‬‬
‫الشكل رقم ‪ :5-9‬زيادة الدخل منذ ‪ 1988‬حتى ‪2008‬‬
‫الشكل رقم ‪ :6-9‬الفقر في الواليات المتحدة منذ ‪ 1960‬حتى ‪2016‬‬
‫الشكل رقم ‪ :1-10‬السكان والنمو السكاني منذ ‪ 1750‬حتى ‪ 2015‬والنمو المتوقع حتى عام ‪2100‬‬
‫الشكل رقم ‪ :2-10‬االستدامة منذ ‪ 1955‬حتى ‪2109‬‬
‫الشكل رقم ‪ :3-10‬التلوث والطاقة والنمو في الواليات المتحدة منذ ‪ 1970‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :4-10‬معدل إزالة الغابات منذ ‪ 1700‬حتى ‪2010‬‬
‫الشكل رقم ‪ :5-10‬حوادث تسرب النفط منذ ‪ 1970‬حتى ‪2016‬‬
‫الشكل رقم ‪ :6-10‬المناطق المحمية منذ ‪ 1990‬حتى ‪2014‬‬
‫دوالر من الناتج المحلي اإلجمالي) منذ ‪1820‬‬
‫ٍ‬ ‫الشكل رقم ‪ :7-10‬كثافة انبعاثات الكربون (انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لكل‬
‫حتى ‪2014‬‬
‫الشكل رقم ‪ :8-10‬انبعاثات ثاني أكسيد الكربون منذ ‪ 1960‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :1-11‬حروب القوى العظمى منذ ‪ 1500‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :2-11‬معدل الوفيات في المعارك منذ ‪ 1946‬حتى ‪2016‬‬
‫الشكل رقم ‪ :3-11‬معدل الوفيات نتيجة اإلبادة العرقية منذ ‪ 1956‬حتى ‪2016‬‬
‫الشكل رقم ‪ :1-12‬معدل الوفيات نتيجة جرائم القتل‪ ،‬في أوروبا الغربية والواليات المتحدة والمكسيك‪ ،‬منذ ‪ 1300‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :2-12‬معدل الوفيات نتيجة جرائم القتل منذ ‪ 1967‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :3-12‬معدل الوفيات الناتجة عن حوادث السيارات والطرق منذ ‪ 1921‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :4-12‬معدل وفيات المشاة في الواليات المتحدة منذ ‪ 1927‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :5-12‬معدل الوفيات الناتجة عن حوادث تحطم الطائرات منذ ‪ 1970‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :6-12‬معدل الوفيات الناتجة عن حوادث السقوط والحريق والغرق والسم‪ ،‬في الواليات المتحدة‪ ،‬منذ ‪ 1903‬حتى‬
‫‪2014‬‬
‫الشكل رقم ‪ :7-12‬معدل الوفيات الناتجة عن حوادث العمل في الواليات المتحدة منذ ‪ 1913‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :8-12‬معدل الوفيات الناتجة عن الكوارث الطبيعية منذ ‪ 1900‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :9-12‬معدل الوفيات الناتجة عن صواعق البرق في الواليات المتحدة منذ ‪ 1900‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :1-13‬معدل الوفيات الناتجة عن الحوادث اإلرهابية منذ ‪ 1970‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :1-14‬الديمقراطية في مقابل األوتوقراطية (استبداد الفرد) منذ ‪ 1800‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :2-14‬حقوق اإلنسان منذ ‪ 1949‬حتى ‪2014‬‬
‫الشكل رقم ‪ :3-14‬إلغاء عقوبة اإلعدام منذ ‪ 1863‬حتى ‪2016‬‬
‫الشكل رقم ‪ :4-14‬حاالت اإلعدام في الواليات المتحدة منذ ‪ 1780‬حتى ‪2016‬‬
‫الشكل رقم ‪ :1-15‬اآلراء التي تتسم بالعنصرية والتمييز على أساس الجنس ورهاب المثلية‪ ،‬في الواليات المتحدة‪ ،‬منذ ‪1987‬‬
‫حتى ‪2012‬‬
‫الشكل رقم ‪ :2-15‬معدل البحث على اإلنترنت بكلمات تتسم بالعنصرية والتمييز على أساس الجنس ورهاب المثلية‪ ،‬في‬
‫الواليات المتحدة‪ ،‬منذ ‪ 2004‬حتى ‪2017‬‬
‫الشكل رقم ‪ :3-15‬جرائم الكراهية في الواليات المتحدة منذ ‪ 1996‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :4-15‬االغتصاب والعنف األسري في الواليات المتحدة منذ ‪ 1993‬حتى ‪2014‬‬
‫الشكل رقم ‪ :5-15‬إنهاء تجريم المثلية الجنسية منذ ‪ 1791‬حتى ‪2016‬‬
‫الشكل رقم ‪ :6-15‬القيم الليبرالية عبر الزمن واألجيال‪ ،‬في البلدان المتقدمة منذ ‪ 1980‬حتى ‪2005‬‬
‫الشكل رقم ‪ :7-15‬القيم الليبرالية عبر الزمن (بالقياس)‪ ،‬في مختلف المناطق الثقافية في العالم منذ ‪ 1960‬حتى ‪2006‬‬
‫الشكل رقم ‪ :8-15‬إيذاء األطفال في الواليات المتحدة منذ ‪ 1993‬حتى ‪2012‬‬
‫الشكل رقم ‪ :9-15‬عمالة األطفال منذ ‪ 1850‬حتى ‪2012‬‬
‫الشكل رقم ‪ :1-16‬محو األمية منذ ‪ 1475‬حتى ‪2010‬‬
‫الشكل رقم ‪ :2-16‬التعليم األساسي منذ ‪ 1820‬حتى ‪2010‬‬
‫الشكل رقم ‪ :3-16‬سنوات الدراسة منذ ‪ 1875‬حتى ‪2010‬‬
‫الشكل رقم ‪ :4-16‬محو أمية اإلناث منذ ‪ 1979‬حتى ‪2011‬‬
‫الشكل رقم ‪ :5-16‬زيادة معدل الذكاء منذ ‪ 1909‬حتى ‪2013‬‬
‫الشكل رقم ‪ :6-16‬الرفاهة العالمية منذ ‪ 1820‬حتى ‪2007‬‬
‫الشكل رقم ‪ :1-17‬ساعات العمل‪ ،‬في أوروبا الغربية والواليات المتحدة منذ ‪ 1870‬حتى ‪2000‬‬
‫الشكل رقم ‪ :2-17‬التقاعد في الواليات المتحدة منذ ‪ 1880‬حتى ‪2010‬‬
‫الشكل رقم ‪ :3-17‬المرافق واألدوات المنزلية والعمل المنزلي‪ ،‬في الواليات المتحدة‪ ،‬منذ ‪ 1900‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :4-17‬تكلفة اإلنارة في إنجلترا منذ ‪ 1300‬حتى ‪2006‬‬
‫الشكل رقم ‪ :5-17‬اإلنفاق على الضروريات‪ ،‬في الواليات المتحدة‪ ،‬منذ ‪ 1929‬حتى ‪2016‬‬
‫الشكل رقم ‪ :6-17‬وقت الفراغ في الواليات المتحدة منذ ‪ 1965‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :7-17‬تكلفة السفر بالطيران في الواليات المتحدة منذ ‪ 1979‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :8-17‬السياحة الدولية منذ ‪ 1995‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :1-18‬مستوى الرضا عن الحياة والدخل‪2006 ،‬‬
‫الشكل رقم ‪ :2-18‬الوحدة لدى الطالب في الواليات المتحدة منذ ‪ 1978‬حتى ‪2011‬‬
‫الشكل رقم ‪ :3-18‬االنتحار‪ ،‬في إنجلترا وسويسرا والواليات المتحدة‪ ،‬منذ ‪ 1860‬حتى ‪2014‬‬
‫الشكل رقم ‪ :4-18‬السعادة والحماس‪ ،‬في الواليات المتحدة‪ ،‬منذ ‪ 1972‬حتى ‪2016‬‬
‫الشكل رقم ‪ :1-19‬األسلحة النووية منذ ‪ 1945‬حتى ‪2015‬‬
‫الشكل رقم ‪ :1-20‬دعم الشعبوية عبر األجيال‪2016 ،‬‬
‫تمهيد‬
‫ال يبدو النصف الثاين من العقد الثاين من األلفية الثالثة وقتًا مناسبا ومبشِّرا لنشر ٍ‬
‫كتاب عن اكتساح التقدم عرب التاريخ وأسبابه‪ .‬بينما‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أشخاص ذوو رؤية مظلمة للحظة احلالية‪ :‬فـ «األمهات واألطفال حياصرهم الفقر‪ ،‬والنظام التعليمي يرتك طالبنا‬
‫ٌ‬ ‫أكتب هذا‪ ،‬يقود بلدي‬
‫حرب صرحية تتوسع وتنتشر»‪ ،‬وميكن‬ ‫الشباب حمرومني من املعرفة‪ ،‬واجلرمية والعصابات واملخدرات سرقت أرواح الكثريين»‪ ،‬فنحن يف « ٍ‬
‫اإللقاء باللوم يف هذا الكابوس على «هيكل القوى العاملي» الذي اجتث «األسس األخالقية والروحانية الكامنة يف املسيحية»‪.‬‬

‫بنسبة قليلة‪ ،‬بل خاطئ خاطئ‪،‬‬‫سأوضح أن هذا التقييم القامت ألوضاع العامل خاطئ‪ ،‬وليس خاطئا ٍ‬
‫ِّ‬ ‫يف الصفحات التالية‪،‬‬
‫ً‬
‫متاما‪ ،‬وال ميكن أن يكون أكثر خطأ من ذلك‪ .‬ولكن هذا الكتاب ال يدور حول الرئيس اخلامس واألربعني للواليات املتحدة‬ ‫خاطئ ً‬
‫ومستشاريه‪ ،‬وإمنا َّ‬
‫فكرت فيه قبل إعالن دونالد ترامب ترشحه للرئاسة بسنوات‪ ،‬وآمل أن يتجاوز الكتاب إدارته بعدة سنوات أخرى‪ .‬إن‬
‫األفكار اليت مهدت الطريق النتخابه هي يف احلقيقة أفكار واسعة االنتشار بني املثقفني والعامة من اليمني واليسار‪ ،‬وتشمل هذه األفكار‬
‫هدف أمسى يف أي شيء سوى الدين‪ .‬سأعرض‬ ‫تشاؤما بالطريقة اليت يسري هبا العامل‪ ،‬وباملؤسسات احلديثة‪ ،‬وعدم القدرة على تصور ٍ‬
‫ً‬
‫إن ُمثُل التنوير ‪-‬‬ ‫فهما خمتل ًفا للعامل‪ ،‬على ٍ‬
‫أساس من احلقائق‪ ،‬وبوح ٍي من ُمثُل التنوير‪ ،‬وهي‪ :‬العقل والعلم والنزعة اإلنسانية والتقدم‪َّ .‬‬ ‫ً‬
‫وقت مضى‪.‬‬‫أوضح‪ -‬خالدة‪ ،‬ولكنها اليوم أكثر صلةً بالواقع من أي ٍ‬
‫كما آمل أن ِّ‬

‫عرف عامل االجتماع روبرت مرتون شيوع املعرفة ‪ -Communalism-‬بأنه أحد الفضائل العلمية األساسية‪ ،‬إضافةً إىل الفضائل‬
‫َّ‬
‫األخرى وهي العاملية ‪ -Universalism-‬وغياب املصاحل ‪ -Disinterestedness-‬والشك املنظم ‪Organized -‬‬
‫بروح تتبع فضيلة «شيوع املعرفة» وأجابوا‬
‫وُتتصر إىل )‪ .(CUDOS‬حتيةً للعلماء العديدين الذين شاركوا بياناهتم ٍ‬
‫‪ُ ،-Skepticism‬‬
‫بسرعة وبتعمق‪ .‬ومن بينهم ماكس روزر‪ ،‬صاحب موقع ‪ Our World in Data‬اإللكرتوين املغذي للعقل‪ ،‬والذي‬ ‫ٍ‬ ‫استفسارايت‬
‫أيضا إىل‬ ‫ٍ‬
‫كانت أفكاره ورؤاه الثاقبة وكرمه ال غىن عنها يف نقاشات عديدة يف اجلزء الثاين‪ ،‬يف القسم اخلاص بالتقدم‪ .‬أتقدم باالمتنان ً‬
‫ماريان تويب من مشروع ‪ HumanProgress‬وإىل أوال روزلينج وهانس روزلينج من مؤسسة ‪ ،Gapminder‬ومها مصدران قيِّمان‬
‫ملهما ومثَّلت وفاته يف عام ‪ 2017‬مأساةً ملن يتبعون العقل والعلم والنزعة اإلنسانية‬
‫شخصا ً‬
‫ً‬ ‫آخران لفهم وضع البشرية‪ ،‬لقد كان هانس‬
‫والتقدم‪.‬‬

‫أيضا إىل علماء البيانات اآلخرين الذين أثقلت عليهم‪ ،‬وإىل املعاهد واملؤسسات اليت جتمع البيانات وحتتفظ‬
‫أتقدم باالمتنان ً‬
‫هبا‪ :‬كارلني بومان‪ ،‬ودانييل كوكس (املعهد العام لبحوث الدين ‪ ،)PRRI‬وتامار إبنر (مؤشر التقدم االجتماعي)‪ ،‬وكريستوفر فاريس‪،‬‬
‫وتشيلسيا فوليت (التقدم البشري ‪ ،)HumanProgress -‬وآندرو جيلمان‪ ،‬ويائري غيتزا‪ ،‬وأبريل إجنرام (أبطال العلم ‪Science -‬‬
‫‪ ،)Heroes‬وجيل يانوخا (مكتب إحصاءات العمل)‪ ،‬وجايل كيلش (إدارة مكافحة احلرائق األمريكية‪/‬الوكالة الفيدرالية إلدارة الطوارئ)‪،‬‬
‫وألينا كولوش (جملس األمن القومي)‪ ،‬وكاليف ليتارو (مشروع قاعدة البيانات العاملية لألحداث واللغة والنربة ‪ ،)GDELT‬ومونيت‬
‫مارشال (‪ ،)Polity Project‬وبروس ماير‪ ،‬وبرانكو ميالنوفيتش (البنك الدويل)‪ ،‬وروبرت موجاه (مرصد جرائم القتل ‪-‬‬
‫‪ ،)Homicide Monitor‬وبيبا نوريس (مسح القيم العاملية)‪ ،‬وتوماس أولشانسكي (إدارة مكافحة احلرائق األمريكية‪/‬الوكالة‬
‫الفيدرالية إلدارة الطوارئ)‪ ،‬آميي بريس (‪ ،)Science Heroes‬وترييز بيرتسون (برنامج أوبساال لبيانات الصراعات ‪Uppsala -‬‬
‫‪ ،)Conflict Data Program‬ومارك بريي‪ ،‬وليوناردو برادوس دي ال إسكورسا‪ ،‬وستيفن رادليت‪ ،‬وأوك ريبما (مشروع ‪Clio‬‬
‫‪ Infra‬التابع ملنظمة التعاون والتنمية يف امليدان االقتصادي)‪ ،‬وهانا ريتشي (‪ ،)Our World in Data‬وسيث ستيفنز ديفيدوتيز‬
‫(مؤشرات جوجل)‪ ،‬وجيمس خافيري سوليفان‪ ،‬وسام توب (‪ ،)Uppsala Conflict Data Program‬وكايال توماس‪ ،‬وجينيفر‬
‫ترومان (مكتب إحصاءات العدل)‪ ،‬وجني توينج‪ ،‬وباس فان ليوين (مشروع ‪ Clio Infra‬التابع ملنظمة التعاون والتنمية يف امليدان‬
‫االقتصادي)‪ ،‬وكارلوس فياللتا‪ ،‬وكريستيان ويلزيل (مسح القيم العاملية)‪ ،‬وبيلي وودوورد (‪ ،)Science Heroes‬وجاسنت وولفرز‪.‬‬

‫قرأ كلٌّ من ديفيد دويتش‪ ،‬وريبيكا نيوبرجر جولدشتاين‪ ،‬وكيفن كيلي‪ ،‬وجون مويلر‪ ،‬وروزلني بينكر‪ ،‬وماكس روزر‪ ،‬وبروس‬
‫فصوال أو مقتطفات‪ ،‬ومنهم سكوت‬
‫أيضا تعليقات اخلرباء الذين قرؤوا ً‬
‫شناير‪ ،‬مسودة الكتاب بأكمله وقدَّموا يل نصائح قيِّمة‪ .‬وأفادتين ً‬
‫أرونسون‪ ،‬وليدا كوزمايدز‪ ،‬وجريميي إجنالند‪ ،‬وبول إيوالد‪ ،‬وجوشوا جولدشتاين‪ ،‬وإيه سي جرايلينج‪ ،‬وجوشوا جرين‪ ،‬وسيزار هيداجلو‪،‬‬
‫وجودي جاكسون‪ ،‬ولورنس كراوس‪ ،‬وبرانكو ميالنوفيتش‪ ،‬وروبرت موجاه‪ ،‬وجايسون نيمريو‪ ،‬وماثيو نوك‪ ،‬وتيد نوردهاوس‪ ،‬وآنتوين‬
‫باجدن‪ ،‬وروبرت بينكر‪ ،‬وسوزان بينكر‪ ،‬وستيفن رادليت‪ ،‬وبيرت سكوبلك‪ ،‬ومايكل شيلينربجر‪ ،‬وكريستيان ويلزيل‪.‬‬

‫وأجاب بعض األصدقاء والزمالء اآلخرين عن بعض األسئلة أو قدموا بعض االقرتاحات املهمة‪ ،‬ومنهم تشارلني آدامز‪ ،‬وروزاليند‬
‫آردن‪ ،‬وآندرو باملفورد‪ ،‬ونيكوالس بومارد‪ ،‬وبرايان بوتويل‪ ،‬وستيوارد براند‪ ،‬وديفيد بايرن‪ ،‬وريتشارد دوكينز‪ ،‬ودانييل دينيت‪ ،‬وجريج‬
‫إيسرتبروك‪ ،‬وإمييلي روز إيستوب‪ ،‬ونيلس بيرت جليديتش‪ ،‬وجينيفر جاك‪ ،‬وباري التزر‪ ،‬ومارك ليال‪ ،‬وكارن لونج‪ ،‬وآندرو ماك‪ ،‬ومايكل‬
‫ماك كولو‪ ،‬وهاينر ريندرمان‪ ،‬وجيم روسي‪ ،‬وسكوت ساجان‪ ،‬وسايل ساتل‪ ،‬ومارتن سيليجمان‪ ،‬ومايكل شريمر‪ .‬وأتقدم بشك ٍر خاص‬
‫إىل زمالئي جبامعة هارفارد مازرين باناجي‪ ،‬ومريسيه كروساس‪ ،‬وجيمس إجنل‪ ،‬ودانييل جلربت‪ ،‬وريتشارد ماك نايل‪ ،‬وكاثرين سيكينك‪،‬‬
‫ولورنس سامرز‪.‬‬

‫وأشكر ريا هوارد ولوز لوبيز على جهودمها البطولية يف مجع البيانات وحتليلها وُتطيطها بيانيًّا‪ ،‬وكيهاب يانج على إجراء العديد‬
‫أيضا إيالفينيل سوبيا على تصميم الرسوم البيانية األنيقة وعلى اقرتاحاهتا خبصوص الشكل واجلوهر‪.‬‬
‫من حتليالت االحندار‪ .‬وأشكر ً‬
‫أنا ممنت بشدة للمحررين ويندي وولف وتوماس بني‪ ،‬ولوكيل أعمايل األدبية جون بروكمان‪ ،‬على إرشادهم وتشجيعهم خالل‬
‫كثريا من عملها‪.‬‬
‫استفدت ً‬
‫ُ‬ ‫تعلمت و‬
‫ُ‬ ‫مراحل املشروع‪ .‬نقَّحت كاتيا رايس مثانية كتب من تأليفي حىت اآلن‪ ،‬ويف كل مرة‪،‬‬

‫خاصا إىل عائليت روزلني وسوزان ومارتن وإيفا وكارل وإيريك وروبرت وكريس وجاك وديفيد ويائل وماركو وسولومون‬
‫شكرا ً‬
‫أوجه ً‬
‫وخصوصا ريبيكا‪ ،‬معلِّميت وشريكيت يف تقدير قيمة ُمثُل التنوير العليا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ودانييل‪،‬‬
‫الجزء األول‪:‬‬
‫التنوير‬
‫«كان الحس العام في القرن الثامن عشر‪ ،‬واستيعابه الحقائق الواضحة عن معاناة البشر‪ ،‬والمطالب الواضحة‬
‫للطبيعة البشرية‪ ،‬بمثابة مغطس للتطهير األخالقي للعالم»‪.‬‬

‫‪ -‬ألفريد نورث وايتهيد‬


‫على مدار ٍ‬
‫عقود عديدة من إلقاء احملاضرات العامة عن اللغة والعقل والطبيعة البشرية‪ ،‬تلقيت بعض األسئلة الغريبة‪ ،‬مثل‪ :‬ما هي أفضل‬
‫لغة؟ هل احملار والصدف كائنات واعية؟ مىت سأستطيع رفع حمتويات عقلي على اإلنرتنت؟ هل السمنة املفرطة أحد أشكال العنف؟‬

‫شرحت فيها فكرة مألوفة بني العلماء وهي أن احلياة العقلية تتكون من‬
‫ُ‬ ‫ولكن السؤال األكثر لفتًا للنظر تلقيته بعد حماضرةٍ‬
‫أمناط من النشاط يف أنسجة املخ‪ ،‬حيث رفعت إحدى الطالبات من اجلمهور يدها وسألتين‪:‬‬

‫«ما الذي يجب أن أحيا من أجله؟»‬

‫أوضحت نربة الطالبة البسيطة أهنا مل ت ُكن ساخرة وال تنتاهبا أفكار انتحارية‪ ،‬وإمنا ينتاهبا فضول أصيل حول كيفية العثور على‬
‫املعىن واهلدف إذا كان آخر ما يتوصل إليه العلم يهدم املعتقدات الدينية التقليدية اليت تتمحور حول الروح اخلالدة‪ .‬تقول سياسيت إنه ال‬
‫حد معقول‪ .‬أذكر أنين قلت ‪-‬‬
‫أيضا‪ ،‬أنين استجمعت إجابة ذات مصداقية إىل ٍّ‬
‫يوجد سؤال غيب‪ .‬ومما فاجأ الطالبة واجلمهور‪ ،‬وفاجئين ً‬
‫متأخرا‪ -‬ما يلي‪:‬‬
‫قليال بالتأكيد بفعل الذاكرة وحضور الذهن ً‬
‫بعد حتريفه ً‬
‫فأنت تبحثني عن أسباب عقلية لقناعاتك‪ ،‬وهكذا ِ‬
‫فأنت تلتزمني بالعقل وسيلةً الستكشاف األمور املهمة‬ ‫مبجرد طرحك هذا السؤال‪ِ ،‬‬
‫ِ‬
‫لك وتربيرها‪ .‬وللحياة أسباب كثرية!‬
‫ميكنك تنقيح ملكتك العقلية نفسها عرب التعلُّم واجلدال‪ ،‬و ِ‬
‫ميكنك‬ ‫ِ‬ ‫حساسا‪ ،‬فإن ِ‬
‫لديك القدرة على االزدهار‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بصفتك كائنًا َّ ً‬
‫ِ‬
‫ميكنك حتقيق‬ ‫التبصر يف احلالة البشرية من خالل الفنون والعلوم اإلنسانية‪.‬‬
‫البحث عن تفسريات من عامل الطبيعة عن طريق العلم‪ ،‬و ُّ‬
‫ِ‬
‫ميكنك تقدير مجال‬ ‫ألسالفك باالزدهار‪ ،‬ومن مث مسح ِ‬
‫لك بالوجود‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أقصى استفادة من قدراتك يف االستمتاع والرضا‪ ،‬وهذا هو ما مسح‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫عامل الطبيعة والثقافة وثرائهما‪ِ .‬‬
‫ميكنك بدورك أن حتاويل إدامة احلياة ً‬ ‫أنت وريثة مليارات السنوات اليت أدامت احلياة فيها نفسها‪،‬‬
‫هبت حس التعاطف ‪-‬القدرة على اإلعجاب واحلب واالحرتام واملساعدة وإظهار الرفق والشفقة‪ -‬و ِ‬
‫ميكنك االستمتاع بنعمة اللطف‬ ‫لقد و ِ‬
‫ُ‬
‫املتبادل بني األصدقاء وأفراد األسرة والزمالء‪.‬‬

‫خيصك وحدك‪ ،‬فإن على عاتقك تقع مسؤولية منح اآلخرين ما تتوقعينه أو تريدينه‬ ‫ِ‬ ‫وألن العقل ِ‬
‫خيربك بأن أيًّا من هذا ال‬
‫احلساسة األخرى عرب حتسني مستوى احلياة والصحة واملعرفة واحلرية والوفرة واألمن واجلمال‬ ‫ِ‬
‫ميكنك تعزيز رفاهة الكائنات َّ‬ ‫لنفسك‪ ،‬إذ‬
‫تقدما يف‬
‫والسالم‪ .‬إن التاريخ يرينا أننا عندما نتعاطف بعضنا مع بعض ونطبِّق براعتنا يف تطوير احلالة البشرية‪ ،‬فإن بإمكاننا أن حنقِّق ً‬
‫هذا اجملال‪ ،‬ومي ِ‬
‫كنك املساعدة يف مواصلة ذلك التقدم‪.‬‬

‫ال يُعد تفسري معىن احلياة من املهام الوظيفية املعتادة ألساتذة العلوم املعرفية‪ ،‬ومل أ ُكن ألحتلى باجلرأة لإلجابة عن سؤاهلا لو‬
‫كنت أوجه هلا‬
‫فت أنين ُ‬ ‫كانت اإلجابة تعتمد على معرفيت الفنية املتخصصة أو على حكميت الشخصية املشكوك يف قيمتها‪ .‬ولكنين عر ُ‬
‫تشكلت منذ أكثر من قرنني واليت تتصل بالواقع اآلن أكثر من أي ٍ‬
‫وقت مضى‪ ،‬وهي‪ُ :‬مثُل التنوير‪.‬‬ ‫جمموعة االعتقادات والقيم اليت َّ‬

‫ومبتذال وقدميًا‪ ،‬ولكنين‬


‫ً‬ ‫اضحا‬
‫قد يبدو املبدأ التنويري القائم على أن بإمكاننا تسخري العقل والتعاطف لتعزيز ازدهار البشر و ً‬
‫ألَّفت هذا الكتاب ألنين أدركت أنه ليس كذلك يف احلقيقة‪ ،‬إذ حتتاج ُمثُل التنوير ‪-‬أي العقل والعلم والنزعة اإلنسانية والتقدم‪ -‬إىل ٍ‬
‫دفاع‬
‫وقت مضى‪ ،‬فنحن نسلِّم بوجود نَِعمها مثل‪ :‬األطفال الذين سيعيشون أكثر من مثانية عقود‪ ،‬واألسواق اليت‬ ‫خملص اآلن أكثر من أي ٍ‬ ‫ٍ‬
‫يغمرها الطعام‪ ،‬واملياه النظيفة اليت تتدفق بإشارةٍ من أصابعنا‪ ،‬والنفايات اليت ُتتفي بإشارةٍ أخرى منها‪ ،‬وأقراص الدواء اليت تقضي على‬
‫أي عدوى مؤملة تصيبنا‪ ،‬وأبنائنا الذين مل تعد احلكومات ترسلهم إىل احلروب‪ ،‬وبناتنا الاليت ميكنهن السري يف الشوارع ٍ‬
‫بأمان‪ ،‬ومنتقدي‬ ‫ُ‬
‫مجيعا إجنازات‬
‫أصحاب السلطة الذين ال يتعرضون للسجن أو للقتل‪ ،‬وكل معارف العامل وثقافاته موجودة يف جيبك‪ .‬ولكن هذه ً‬
‫اإلنسان‪ ،‬وليست حقوقًا كونية مكتسبة بالوالدة‪ِّ .‬‬
‫يشكل كلٌّ من احلرب والندرة واألمراض واجلهل واألخطار الفتاكة جزءًا طبيعيًّا من‬
‫الوجود يف ذاكرة العديد من َّقراء هذا الكتاب ‪-‬بل ويف واقع سكان املناطق األقل حظًّا من العامل‪ .-‬نعرف أن دول العامل قد تعود إىل‬
‫تلك الظروف البدائية بسهولة‪ ،‬لذا نتجاهل إجنازات التنوير على مسؤوليتنا اخلاصة‪.‬‬
‫يف السنوات اليت تلت سؤال تلك الشابة‪ ،‬تذكرت يف مو ٍ‬
‫اقف عدة احلاجة إىل إعادة توضيح مبادئ التنوير (الذي يُطلق عليه‬
‫أيضا النزعة اإلنسانية واجملتمع املفتوح والليربالية العاملية أو الكالسيكية)‪ .‬ليست األسئلة الشبيهة بسؤاهلا واليت تصلين يف صندوق الوارد‬
‫ً‬
‫حممل‬ ‫ٍ‬
‫لشخص أخذ األفكار املذكورة يف كتبك والعلم على ٍ‬ ‫هي فقط ما ِّ‬
‫يذكرين بذلك‪( ،‬مثال‪« :‬عزيزي األستاذ بينكر‪ ،‬ما نصيحتك‬
‫حريف وأصبح يرى نفسه جمموعة ذرات؟ أو آلة ذات مدى حمدود من الذكاء انبثقت من جينات أنانية وتسكن الزمكان؟»)‪ ،‬وإمنا يذكرين‬
‫أيضا أن نسيان مدى التقدم البشري قد يؤدي إىل أعر ٍ‬
‫اض أسوأ من الفزع الوجودي‪ ،‬فيمكن أن جيعل الناس متشائمني وهتكميني من‬ ‫به ً‬
‫ويوجههم حنو بدائل‬
‫املؤسسات القائمة على مبادئ التنوير واليت تكفل هذا التطوير مثل الدميقراطية الليربالية ومنظمات التعاون الدويل‪ِّ ،‬‬
‫رجعية‪.‬‬

‫ب أخرى من الطبيعة البشرية‪ ،‬مثل‪ :‬الوالء للقبيلة‪ ،‬واإلذعان‬


‫نتاج للعقل البشري‪ ،‬ولكنها يف صر ٍاع دائم مع جوان َ‬ ‫َّ‬
‫إن ُمثُل التنوير ٌ‬
‫للسلطة‪ ،‬والتفكري السحري‪ ،‬ولوم مرتكيب الشرور على احملن واملصائب‪ .‬لقد شهد العقد الثاين من القرن احلادي والعشرين ظهور حركات‬
‫ُ‬
‫سياسية تدَّعي أن هناك فصائل خبيثة حتيل بلداهنا إىل «ديستوبيا»‪ ‬جهنمية‪ ،‬وأنه ال ميكن أن يقاوم هذه الفصائل سوى قائد قوي يعيد‬
‫عظيما مرة أخرى»‪ .‬حثت على هذه احلركات رواية تشيع بني كث ٍري من أعىت معارضيها‪ ،‬و تشري إىل أن مؤسسات‬ ‫هيكلة البلد ليجعله « ً‬
‫احلداثة قد فشلت‪ ،‬وأن كل جوانب احلياة يف أزمة متفاقمة‪ ،‬فالطرفان متفقان اتفاقًا مرعبًا على أن حتطيم هذه املؤسسات سيجعل العامل‬
‫مكانًا أفضل‪ .‬ويصعب العثور على رؤية إجيابية ترى مشكالت العامل على خلفية التقدم الذي تسعى إىل اإلضافة إليه عرب حل تلك‬
‫أيضا‪.‬‬
‫املشكالت بدورها ً‬
‫شخص به شرياز ماهر‪ ،‬احمللل‬ ‫دفاع مستميت‪ ،‬ف ِّ‬
‫فكر فيما َّ‬ ‫إذا مل ت ُكن واث ًقا بعد من حاجة ُمثُل النزعة اإلنسانية التنويرية إىل ٍ‬
‫للحركات اإلسالمية الراديكالية‪ ،‬مشكلتنا‪« :‬الغرب خيجل من قيمه‪ ،‬وال يدافع علنًا عن الليربالية الكالسيكية» فنحن كما يقول‪« :‬غري‬
‫واثقني منها‪ ،‬فهي تُربكنا»‪ .‬قارن بني هذا وبني الدولة اإلسالمية‪ ،‬اليت «تعرف ما ترمز إليه بالتحديد»‪ ،‬ولديها يقني «مغ ٍر للغاية»‪ .‬وهو‬
‫قائدا إقليميًّا جملموعة جهادية تُدعى حزب التحرير‪.‬‬
‫يعرف ما يتحدث عنه‪ ،‬مبا أنه كان من قبل ً‬

‫‪‬أي المدينة الفاسدة‪ ،‬وهي مقابل المدينة الفاضلة أو اليوتوبيا ‪ -‬المترجم‬


‫عرب االقتصادي فريدريش‬
‫وقت طويل من اجتيازها أصعب اختباراهتا‪َّ ،‬‬‫وبتأمل املثل الليربالية يف عام ‪ ،1960‬أي ليس بعد ٍ‬
‫يد للحقائق القدمية أن حتتفظ مبكاهنا يف عقل اإلنسان‪ ،‬فال بد إذًا من إعادة صياغتها ٍ‬
‫بلغة األجيال‬ ‫قائال‪« :‬إذا أر َ‬
‫هايك عن مالحظاته ً‬
‫الالحقة ومفاهيمها‪ .‬فما قد يكون يف ٍ‬
‫حلظة ما أقوى التعبريات‪ ،‬قد يبطل مع االستخدام ويتوقف عن التعبري عن معىن حمدد‪ .‬رمبا تظل‬
‫ٍ‬
‫مشكالت ما تزال‬ ‫األفكار األساسية صاحلة يف كل وقت‪ ،‬ولكنن الكلمات مل ُتعد تنقل نفس القناعات‪ ،‬حىت وإن كانت تشري إىل‬
‫قائمة»‪.‬‬
‫إن هذا الكتاب هو حماوليت إلعادة صياغة وتوضيح مثُل التنوير ٍ‬
‫بلغة القرن احلادي والعشرين ومفاهيمه‪ ،‬سأعرض يف البداية‬ ‫ُ‬
‫استنادا إىل العلوم احلديثة؛ من حنن ومن أين جئنا وما التحديات املاثلة أمامنا وكيف ميكننا التغلب عليها‪.‬‬‫ً‬ ‫إطارا لفهم احلالة البشرية‬
‫ً‬
‫أخصص أغلب الكتاب للدفاع عن تلك املثُل بالطريقة املميِّزة للقرن احلادي والعشرين‪ :‬البيانات! تكشف هذه النظرة املستندة إىل األدلة‬ ‫و ِّ‬
‫ُ‬
‫التغين هبذا‬
‫ونادرا ما تُروى‪ .‬وألن ِّ‬‫ملشروع التنوير عن أنه مل ي ُكن جمرد أمل ساذج‪ ،‬فالتنوير جنح بالفعل! بل رمبا هو أعظم قصة حدثت ً‬
‫وبدال من اإلمجاع على هذه املثُل‪ ،‬فإن املثقفني واملفكرين‬
‫أيضا تقدير قيمة ُمثُله كالعقل والعلم والنزعة اإلنسانية‪ً .‬‬ ‫النصر نادر‪ ،‬يندر ً‬
‫ُ‬
‫أن مثل التنوير محاسية وملهمة ونبيلة‪ ،‬بل وحىت سبب ٍ‬ ‫يعاملوهنا اليوم بال مباالة ُّ‬
‫كاف للحياة‪ ،‬إذا‬ ‫وتشكك وأحيانًا باحتقار‪ .‬إنين أرى َّ ُ ُ‬
‫َّ‬
‫قدرناها حق قدرها‪.‬‬
‫الفصل األول‬
‫تجرَّأ على الفهم!‬
‫ما هو التنوير؟ يف مقال منشور يف عام ‪ 1784‬حتت هذا العنوان‪ ،‬أجاب إميانويل كانط بأنه عبارة عن «خروج اإلنسان من‬
‫وجنب» ل«دوغما وقواعد السلطة الدينية أو السياسية»‪ .‬أعلن كانط أن شعار‬ ‫قصوره الذي جلبه على نفسه» وخضوعه «يف ٍ‬
‫كسل ُ‬
‫جترأ على الفهم!» وأن مطلبه األساسي هو حرية الفكر والتعبري‪ .‬وقال‪« :‬ال ميكن أن تُعقد يف أحد العصور معاهدة متنع‬
‫التنوير هو « َّ‬
‫أبناء العصور الالحقة من توسيع بصريهتم وزيادة معرفتهم وتصحيح أخطائهم‪ ،‬إذ ستكون هذه جرمية يف حق الطبيعة البشرية‪ ،‬اليت يكمن‬
‫مصريها باألحرى يف هذا التقدُّم»‪.‬‬

‫تعبريا ينتمي إىل القرن احلادي والعشرين عن الفكرة ذاهتا يف دفاع الفيزيائي ديفيد دويتش عن التنوير يف كتاب «بداية‬
‫جند ً‬
‫الالنهاية»‪ .‬يقول دويتش إننا إذا جرؤنا على الفهم‪ ،‬يصبح التقدم ممكنًا يف كل اجملاالت العلمية والسياسية واألخالقية‪:‬‬

‫نظرية ترى أن كل اإلخفاقات –كل الشرور‪ -‬سببُها نقصُ المعرفة‪...‬المشكالت‬ ‫ٌ‬ ‫التفاؤل (بالمعني الذي سُقته) هو‬
‫ا‬
‫حتمية الحدوث؛ ألن معرفتنا ستكون دومًا أبعد ما يكون عن الكمال‪ .‬تتسِ م بعضُ المشكالت بالصعوبة‪ ،‬لكن من‬
‫الخطأ أنْ نخلط بين هذه وبين تلك التي لن ُتح ال على األرجح‪ .‬المشكالت قابلة للحل‪ ،‬وك ُّل ش ٍّر بمنزلة مشكل ٍة‬
‫يمكن ح ُّلها‪ .‬الحضارة المتفائلة منفتحة ال تخشى االبتكار‪ ،‬وتقوم على تقاليد النقد‪ .‬إن مؤسساتها ُتطوِّ ُر من نفسها‬
‫دائمًا‪ ،‬وأهم معرف ٍة ِّ‬
‫تمثلها هي معرف ُة كيفي ِة الكشف عن األخطاء واستبعادها‪.‬‬

‫ما هو التنوير؟ ال توجد إجابة رمسية‪ ،‬ألن احلقبة املذكورة يف مقالة كانط مل ُحتدد بدايتها وهنايتها مبراس ٍم مثل األوملبياد ً‬
‫مثال‪،‬‬
‫قس ٍم أو عقيدة‪ .‬من املتفق عليه أن التنوير كان يف الثلثني األخريين من القرن الثامن عشر‪ ،‬رغم أنه انبثق عن‬ ‫ومل يُنص على مبادئها يف َ‬
‫الثورة العلمية وعصر العقل يف القرن السابع عشر وامتد حىت أوج الليربالية الكالسيكية يف النصف األول من القرن التاسع عشر‪ .‬التمس‬
‫جديدا «للحالة البشرية»‪ ،‬مدفوعني بتحدي العلم واالستكشاف للحكمة السائدة‪ ،‬وواعني بسفك الدماء‬ ‫فهما ً‬ ‫ِّ‬
‫مفكرو عصر التنوير ً‬
‫الناتج عن احلروب الدينية‪ ،‬وشجعتهم على ذلك سهولة حركة األفكار واألفراد‪ .‬كانت يف هذه احلقبة وفرة من األفكار‪ ،‬وكان بعضها‬
‫متناقضا‪ ،‬ولكن تربطها أربعة موضوعات هي العقل والعلم والنزعة اإلنسانية والتقدم‪.‬‬
‫ً‬
‫على رأسها العقل‪ ،‬فالعقل غري قابل للتفاوض‪ .‬مبجرد أن تبدأ مبناقشة سؤال "ما الذي جيب أن حنيا من أجله؟" (أو أي سؤال‬
‫أيضا‪ ،‬تكون قد ألزمت‬
‫أصررت أن إجابتك ‪-‬مهما كانت‪ -‬عقالنية أو مربرة أو صحيحة ومن مث جيب أن يصدقها اآلخرون ً‬ ‫َ‬ ‫آخر)‪ ،‬طاملا‬
‫نفسك بالعقل‪ ،‬وبوضع معتقداتك حمل احملاسبة وفق معايري موضوعية‪ .‬إذا كان هناك ما جيمع بني ِّ‬
‫مفكري التنوير‪ ،‬فهو اإلصرار على أننا‬
‫نطبق معيار العقل يف فهم عاملنا بكل طاقتنا‪ ،‬وال ننتكص إىل صانعي األوهام مثل اإلميان أو الدوغما أو الوحي أو السلطة أو الفتنة أو‬
‫التصوف أو التنجيم أو الرؤى أو احلدس أو التحليل التأويلي للنصوص املقدسة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫صفات بشرية مهتم بشؤون اإلنسان‪ ،‬وأظهر‬ ‫كان العقل هو ما دفع معظم ِّ‬
‫مفكري عصر التنوير إىل رفض اإلميان بإله ذي‬
‫استخدام العقل أن القصص املأثورة عن املعجزات مثار شك‪ ،‬وأن أسلوب مؤلفي الكتب املقدسة بشري أكثر من الالزم‪ ،‬وأن الظواهر‬
‫الطبيعية حتدث دون اعتبا ٍر لرفاهة البشر‪ ،‬وأن خمتلف الثقافات تؤمن بآهلة متعارضة وتنايف بعضها ً‬
‫بعضا‪ ،‬ليس أحدها دونًا عن غريه‬
‫منزها عن أن يكون نتاج اخليال‪( ،‬مثلما كتب مونتسكيو‪« :‬لو كان للمثلثات إله‪ ،‬لتصوروه بثالثة أضالع»)‪ .‬رغم كل ذلك‪ ،‬مل ي ُكن‬ ‫ً‬
‫كل ِّ‬
‫مفكري عصر التنوير ملحدين‪ ،‬بل كان بعضهم ربوبيًّا (وهؤالء خيتلفون عن املؤمنني باأللوهية واألديان)‪ ،‬أي كانوا يعتقدون أن اهلل‬
‫قد خلق الكون مث ابتعد ومسح له بالسري وف ًقا لقوانني الطبيعة‪ ،‬وكان بعضهم مؤمنني بالواحدية‪ ،‬اليت كانت تستخدم كلمة «اهلل» للتعبري‬
‫ولدا‪.‬‬
‫عن قوانني الطبيعة‪ ،‬ولكن جلأت قلة منهم إىل إله الكتب املقدسة الذي يضع التشريعات وحيقق املعجزات ويتخذ له ً‬
‫كثري من الكتاب اليوم بني تأييد التنوير الستخدام العقل من جانب‪ ،‬واالدعاء غري املعقول أن البشر كائنات فاعلة‬
‫خيلط ٌ‬
‫متاما‪ .‬هذا اخللط أبعد ما يكون عن الواقع التارخيي‪ِّ ،‬‬
‫فاملفكرون مثل كانط وباروخ سبينوزا وتوماس هوبز وديفيد هيوم وآدم مسيث‬ ‫عقالنية ً‬
‫متاما بنواقصنا وعواطفنا الال عقالنية‪ ،‬وأصروا أننا ال ميكن أن نتغلب على مصادر محاقتنا‬
‫كانوا علماء نفس فضوليني للعلم وواعني ً‬
‫فتعمد استخدام العقل ضروري بصورةٍ خاصة ألن عادات تفكرينا الشائعة ليست منطقية‪.‬‬
‫الشائعة إال بانتقادها وحتديها‪ُّ .‬‬

‫يقودنا ذلك إىل املثال الثاين‪ ،‬وهو العلم‪ ،‬أي تنقيح العقل من أجل فهم العامل‪ .‬كانت الثورة العلمية ثوريةً بطريقة يصعب علينا‬
‫املؤرخ ديفيد ووتون مبستوى فهم الرجل اإلجنليزي‬ ‫اليوم فهمها وتقديرها‪ ،‬إذ أصبحت اكتشافاهتا اآلن عادية يف نظر معظمنا‪ِّ .‬‬
‫يذكرنا ِّ‬
‫املتعلِّم يف عشية الثورة يف عام ‪ 1600‬كما يلي‪:‬‬

‫يؤمن بأن الساحرات يمكنهن استحضار العواصف التي تغرق السفن في البحر‪...‬ويؤمن بالمستذئبين‪ ،‬رغم عدم‬
‫ي منهم في إنجلترا‪ ،‬فهو يعرف أنهم موجودون في بلجيكا‪...‬ويؤمن أن كيركي حوا لت رجال أوديسيوس‬ ‫وجود أ ٍّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫إلى خنازير فعال‪ .‬يؤمن أن الفئران تتولد عشوائيا في أكوام القش‪ ،‬ويؤمن بالسحرة المعاصرين‪...‬ورأى قرن‬
‫وحيد القرن‪ ،‬في حين لم ي َر وحيد القرن نفسه‪.‬‬

‫يؤمن بأن جثة القتيل تنزف في حضور القاتل‪ ،‬ويؤمن بوجود دهان إذا وُ ضع على خنجر كان قد أحدث جرحً ا‪،‬‬
‫فسيُشفى هذا الجُرح‪ .‬ويؤمن بأن شكل النبات أو لونه أو ملمسه يشيران إلى كيفية عمله عالجً ا لبعض األمراض‬
‫ألن هللا صمام الطبيعة كي يفسِّرها اإلنسان‪ .‬ويؤمن أنه من الممكن تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب‪ ،‬إال أنه‬
‫يشك في أن يعرف أح ٌد كيف يفعل ذلك‪ .‬ويؤمن بأن الطبيعة تمقت الخواء‪ ،‬ويؤمن بأن قوس قزح عالمة من هللا‬
‫وأن المذ انبات تنذر بالشر‪ .‬إنه يؤمن بأن األحالم تتنبأ بالمستقبل إذا عرفنا كيف نفسِّرها تفسيرً ا صحيحً ا‪ ،‬ويؤمن‬
‫بالطبع بأنا األرض ثابتة والشمس والنجوم تدور حول األرض مرة كل أربعة وعشرين ساعة‪.‬‬
‫بعد مرور ٍ‬
‫قرن وثُلث القرن‪ ،‬مل يعُد َسلَف هذا الرجل اإلجنليزي املتعلِّم يصدق أيًّا من هذه األمور‪ ،‬فلم ي ُكن هذا هروبًا من اجلهل‬
‫أيضا‪ .‬يشري عامل االجتماع روبرت سكوت أنَّه يف العصور الوسطى «أسهم االعتقاد ُّ‬
‫بتحكم قوة خارجية يف‬ ‫فحسب‪ ،‬بل من الرعب ً‬
‫احلياة اليومية حبدوث ما يشبه ارتيابًا مجاعيًا»‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫كانت العواصف الممطرة والرعد والبرق وهباات الريح وكسوف الشمس وخسوف القمر وموجات البرد والحر‬
‫نتيجة لذلك‪ ،‬سكنت «عفاريت‬ ‫وفترات الجفاف والزالزل ُتعد عالمات وإشارات على سخط هللا على اإلنسان‪ ،‬و ً‬
‫الخوف» كل ميادين الحياة‪ ،‬فأصبح البحر ميدان إبليس‪ ،‬والغابات مسكونة بوحوش الفرائس والغيالن‬
‫والساحرات والشياطين‪ ،‬واللصوص والسفاحين الحقيقيين‪...‬وبعد انسدال الظالم امتأل العالم بال ُن ُذر التي تنبئ‬
‫نوع‪ ،‬مثل‪ :‬المذ انبات والنيازك وال ُشهُب وخسوف القمر وعواء الحيوانات البرية‪.‬‬‫باألخطار من كل ٍ‬
‫ملفكري عصر التنوير مدى خطأ حكمتنا السائدة‪ ،‬وكيف أن الطرق العلمية ‪ُّ -‬‬
‫التشكك وقابلية اخلطأ‬ ‫أوضح اهلروب من اجلهل واخلرافة ِّ‬
‫والنقاش املفتوح واالختبار التجرييب‪ -‬هي مناذج لكيفية الوصول إىل املعرفة املوثوقة‪.‬‬
‫موضوعا ربط بني ِّ‬
‫مفكري التنوير الذين اختلفوا‬ ‫ً‬ ‫تشمل تلك املعرفة فهم أنفسنا‪ ،‬فكانت احلاجة إىل «علم خاص باإلنسان»‬
‫يف أموٍر أخرى كثرية‪ ،‬ومنهم مونتسكيو وهيوم ومسيث وكانط ونيكوال ماركيز كوندورسيه ودنيس ديدرو وجان داملبري وجان جاك روسو‬
‫وجيامباتيستا فيكو‪ .‬جعلهم اعتقادهم بأن هناك شيئا امسه الطبيعة البشرية‪ ،‬ميكن دراسته دراسة علمية‪ ،‬أول املمارسني ٍ‬
‫لعلوم مل يُطلق‬ ‫ً‬
‫عليها اسم سوى بعد قرون‪ .‬كانوا علماء أعصاب معرفيني حاولوا تفسري الفكر والعاطفة واألمراض النفسية من حيث اآلليات املادية‬
‫لعمل املخ‪ ،‬وكانوا علماء نفس تطوري حاولوا متييز احلياة يف احلالة الطبيعية وحتديد الغرائز احليوانية «املغروسة فينا»‪ .‬كانوا علماء نفس‬
‫تقسمنا‪ ،‬ونواقص قصر النظر اليت تفسد أفضل خططنا‪ .‬وكانوا علماء‬
‫توحدنا‪ ،‬والعواطف األنانية اليت ِّ‬
‫كتبوا عن املشاعر األخالقية اليت ِّ‬
‫أنثروبولوجيا نقَّبوا يف حكايات املسافرين واملستكشفني عن أي بيانات عن العموميات البشرية وتنوع التقاليد واألعراف بني خمتلف ثقافات‬
‫العامل‪.‬‬

‫موضوع ثالث هو النزعة اإلنسانية‪ .‬رأى ِّ‬


‫مفكرو عصر العقل والتنوير حاجةً ماسة إىل‬ ‫ٍ‬ ‫تنقلنا فكرة الطبيعة البشرية العاملية إىل‬
‫أساس علماين لألخالقية‪ ،‬ألهنم كانوا مطاردين بذكرى تارخيية ٍ‬
‫لقرون من املذابح الدينية‪ ،‬مثل‪ :‬احلروب الصليبية وحماكم التفتيش ومطاردة‬ ‫ٍ‬
‫تفضل رفاهة األفراد من الرجال والنساء‬
‫الساحرات واحلروب الدينية يف أوروبا‪ .‬وضعوا ذلك األساس مبا نسميه اآلن النزعة اإلنسانية‪ ،‬اليت ِّ‬
‫الحساسة‪ ،‬أي اليت حتس باملتعة واألمل والرضا والكرب‪،‬‬
‫واألطفال على جمد القبيلة أو العرق أو األمة أو الدين‪ .‬فاألفراد ُهم الكائنات َّ‬
‫وليست اجملموعات‪ .‬كانت القدرة العاملية بني البشر على املعاناة واالزدهار‪ ،‬سواء كانت يف إطار توفري السعادة القصوى ألكرب ٍ‬
‫عدد من‬
‫الناس أو يف إطار إلزٍام قطعي مبعاملة الناس بوصفهم غايات ً‬
‫بدال من وسائل‪ ،‬هي ما استدعت اهتمامنا األخالقي كما قالوا‪.‬‬
‫ِ ِ‬
‫وحلسن احلظ‪ ،‬أعدَّتنا الطبيعة البشرية لتلبية النداء‪ ،‬ألننا ُوهبنا حس التعاطف‪ ،‬الذي يطلقون عليه ً‬
‫أيضا اإلحسان والشفقة‬
‫واملواساة‪ .‬بالنظر إىل أننا مزودون بالقدرة على التعاطف مع اآلخرين‪ ،‬ال ميكن ألي شيء أن مينع دائرة التعاطف من التوسع من األسرة‬
‫أي من اجملموعات اليت ننتمي‬
‫والقبيلة لتشمل كل البشرية‪ ،‬وخاصةً عندما حيثنا العقل على إدراك أنه ال ميكن أن يوجد يف أنفسنا أو يف ٍّ‬
‫إليها شيء متفرد باالستحقاق‪ ،‬فنحن مرغمون على العاملية‪ :‬أي قبول كوننا مواطنني يف هذا العامل‪.‬‬

‫دفع اإلحساس اإلنساين ِّ‬


‫مفكري التنوير إىل إدانة العنف الديين‪ ،‬إضافةً إىل األفعال الوحشية العلمانية يف عصرهم‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫العبودية‪ ،‬والطغيان‪ ،‬واإلعدام بسبب جنايات تافهة مثل سرقة املعروضات واالعتداء على أراضي الغري للصيد‪ ،‬والعقوبات السادية مثل‬
‫اجللد والبرت واخلوزقة ونزع األحشاء والتكسري بالعجلة واحلرق حيًّا‪ .‬يُطلق على التنوير أحيانًا الثورة اإلنسانية ألنه أدى إىل القضاء على‬
‫املمارسات الوحشية اليت كانت شائعة بني خمتلف احلضارات لعدة ألفيات‪.‬‬

‫ُّما‪ ،‬فال ميكن أن يُعد أي شيء آخر كذلك‪ ،‬وهو ما يصل بنا إىل‬ ‫إذا مل ي ُكن القضاء على العبودية والعقوبات القاسية تقد ً‬
‫وتوسع دائرة تعاطفنا بفعل العقل والعاملية‪ ،‬قد ُحت ِدث البشرية تقدُّما فكريًّا‬
‫تطور فهمنا للعامل بفعل العلم‪ُّ ،‬‬
‫املثال الرابع من ُمثُل التنوير‪ .‬مع ُّ‬
‫وصوال إىل عص ٍر ذهيب ضائع‪.‬‬‫وأخالقيًّا‪ .‬ليس عليها أن تذعن ملآسي احلاضر وال عقالنيته‪ ،‬وال أن حتاول إعادة الزمن للوراء ً‬
‫ال ينبغي اخللط بني اإلميان التنويري بالتقدم واإلميان الرومانسي يف القرن التاسع عشر بالقوى الروحانية والقوانني واجلدلية‬
‫والصراعات والكشف الروحاين الصويف واألقدار و«عصور اإلنسان» والقوى التطورية اليت تدفع البشرية يف اجتاهٍ صاعد حنو اليوتوبيا‬
‫(املدينة الفاضلة)‪ .‬وكما تشري عبارة كانط اليت ذكرناها‪...« :‬زيادة معرفتهم وتصحيح أخطائهم»‪ ،‬فإن هذا اإلميان بالتقدم كان عاديًّا‪،‬‬
‫وجربناها‪ ،‬وأبقينا منها على ما جيعل‬
‫طرق لتحسينها‪َّ ،‬‬‫وفكرنا يف ٍ‬‫وكان خليطًا من العقل والنزعة اإلنسانية‪ .‬إذا تتبعنا مسار قوانيننا وآدابنا‪َّ ،‬‬
‫ويوضح‬ ‫الناس أفضل‪ ،‬ميكننا أن جنعل العامل مكانا أفضل بالتدريج‪ .‬فالعلم نفسه يتحرك ٍ‬
‫ببطء إىل األمام من خالل دورة النظرية والتجربة‪ِّ ،‬‬ ‫ً‬
‫تطوره املتواصل‪ ،‬واملتداخل مع بعض االنتكاسات والنقض الداخلي‪ ،‬مدى إمكانية التقدُّم‪.‬‬

‫كما ال جيب اخللط بني مثال التقدم من جانب‪ ،‬واحلركة من أجل إعادة تصميم اجملتمع ملالءمة أصحاب اخلربة الفنية‬
‫(التكنوقراط) واملخطِّطني يف القرن العشرين‪ ،‬وهو ما أطلق عليه خبري العلوم السياسية جيمس سكوت احلداثة السلطوية الفائقة‪ .‬أنكرت‬
‫صمم احلداثيون مشروعات‬
‫هذه احلركة وجود الطبيعة البشرية‪ ،‬باحتياجاهتا الفوضوية إىل اجلمال والطبيعة والتقاليد واحلميمية االجتماعية‪َّ .‬‬
‫للتجديد احلضري تستبدل باألحياء النابضة باحلياة طرقًا سريعة ومباين متعددة الطوابق وساحات مفتوحة والعمارة الوحشية أو اخلام‪،‬‬
‫أن‪« :‬البشرية ستولد من جديد‪ ،‬وحتيا ضمن ٍ‬
‫عالقة متناسقة بال ُكل»‪ .‬رغم ربط‬ ‫وكأهنا لوحات بيضاء فارغة دون تاريخ‪ .‬كانت نظريتهم َّ‬
‫ُّما‪.‬‬
‫توجهه النزعة اإلنسانية ليس تقد ً‬
‫مثريا للسخرية‪ ،‬فالتقدُّم الذي ال ِّ‬ ‫هذه التطويرات أحيانًا بكلمة التقدُّم‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن استخدامها كان ً‬
‫يأمل التنوير أن يرِّكز التقدُّم على املؤسسات البشرية ً‬
‫بدال من حماولة تشكيل الطبيعة البشرية‪ ،‬فاألنظمة اليت من صنع البشر‬
‫مثل احلكومات والقوانني واألسواق واملدارس واهليئات الدولية هي اهلدف الطبيعي لتسخري العقل يف حتسني أحوال البشر‪.‬‬

‫جتسيدا للروح األممية وال الدينية‬


‫ً‬ ‫مرسوما إهليًّا باحلكم وال مرادفًا للمجتمع‪ ،‬وال‬
‫ً‬ ‫ضمن منظومة التفكري هذه‪ ،‬ال تُعد احلكومة‬
‫مصمم لتعزيز رفاهة املواطنني عرب تنسيق سلوكياهتم وصرفهم عن‬ ‫عقد اجتماعي‪َّ ،‬‬ ‫وال العرقية‪ .‬إهنا اخرتاع بشري‪ ،‬متفق عليه ضمنيًّا يف ٍ‬
‫أثرا سلبيًّا‪ .‬فكما قال أشهر نواتج التنوير‪ ،‬إعالن االستقالل‬
‫األفعال األنانية اليت قد تكون مغرية لكل األفراد ولكنها ترتك فيهم مجي ًعا ً‬
‫تؤسس احلكومات بني الناس‪ ،‬وتستمد سلطاهتا العادلة‬
‫األمريكي‪ :‬من أجل كفالة احلق يف احلياة واحلرية والسعي وراء حتقيق السعادة‪َّ ،‬‬
‫من موافقة احملكومني‪.‬‬

‫فكر ُكتَّاب مثل مونتسكيو وتشيزاري بيكاريا واآلباء ااملؤسسني للواليات‬ ‫من بني سلطات احلكومة توزيع العقوبات‪ ،‬وقد َّ‬
‫تفويضا بتطبيق العدالة الكونية‪ ،‬وإمنا‬ ‫إن العقوبة اجلنائية ليست‬ ‫املتحدة من ٍ‬
‫جديد يف الرخصة املمنوحة للحكومة بإيذاء مواطنيها‪ ،‬فقالوا َّ‬
‫ً‬
‫بنية حتفيزية تُثين عن ارتكاب األفعال املعادية للمجتمع دون أن تتسبَّب يف معاناةٍ أكثر مما تردعها‪ .‬فالسبب وراء فكرة َّ‬
‫أن‬ ‫هي جزء من ٍ‬
‫مثال ليس معادلة ميز ٍان روحاين للعدل‪ ،‬وإمنا ضمان توقُّف املذنب عند ارتكاب جر ٍ‬
‫مية صغرية‬ ‫اجلزاء ال بد أن يكون من جنس العمل ً‬
‫وعدم جتاوزها الرتكاب جرمية أكثر إيذاءً‪ .‬ليست العقوبات القاسية‪ ،‬سواء كانت «مستحقة» أم ال‪ ،‬أكثر فعالية يف ردع األذى من‬
‫العقوبات املتوسطة الثابتة‪ ،‬وهي تقلل حساسية املتفرجني وتزيد وحشية اجملتمع الذي يطبِّقها‪.‬‬
‫أيضا أول حتليل عقالين للرخاء‪ ،‬ومل ينطلق من كيفية توزيع الثروة وإمنا من السؤال عن كيفية وجود الثروة من‬ ‫شهد التنوير ً‬
‫األساس‪ .‬أشار مسيث‪ ،‬مضي ًفا إىل التأثريات الفرنسية واهلولندية واالسكتلندية‪ ،‬إىل أن الوفرة من األغراض املفيدة ال ميكن أن توجد بفعل‬
‫سح ٍر يقوم به مزارع أو حريف منعزل‪ ،‬بل تقوم على شبكة من املتخصصني‪ ،‬يتعلَّم كل منهم كيفية فعل ٍ‬
‫شيء ما بأكرب قد ٍر ممكن من‬ ‫ٌّ‬
‫منفردا‬
‫أن صانع الدبابيس الذي يعمل ً‬ ‫شهريا حسب فيه َّ‬
‫مثاال ً‬
‫الكفاءة‪ ،‬وجيمعون ويتبادلون مثار براعتهم ومهارهتم وعملهم‪ .‬قدَّم مسيث ً‬
‫وثالث‬
‫ويقومه‪ٌ ،‬‬
‫يسويه ِّ‬
‫ورشة يوجد فيها «رجل يسحب السلك‪ ،‬وآخر ِّ‬ ‫قد يصنع دبوسا واحدا ٍ‬
‫حبد أقصى يف اليوم‪ ،‬يف حني أنَّه يف ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وخامس يشحذه من األعلى كي تُثبَّت رأسه»‪ ،‬قد يُنتج كل منهم مخسة آالف قطعة تقريبًا‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ابع يسنَّه‪،‬‬
‫يقطعه‪ ،‬ور ٌ‬
‫ال ينجح التخصص سوى يف ٍ‬
‫سوق تتيح للمتخصصني تبادل سلعهم وخدماهتم‪ ،‬وشرح مسيث َّ‬
‫أن النشاط االقتصادي شكل‬
‫كل منهما على شيء أكثر قيمة لديه من الشيء الذي يتنازل عنه‪ .‬ينفع الناس‬
‫من أشكال التعاون املتبادل املفيد للطرفني‪ ،‬إذا حيصل ٌ‬
‫أيضا من خالل املقايضة الطوعية‪ ،‬فكما كتب مسيث‪« :‬إننا ال نتوقع حصولنا على العشاء بفضل إحسان‬
‫بعضا عرب نفع أنفسهم ً‬
‫بعضهم ً‬
‫كل منهم مصلحته اخلاصة‪ ،‬فنحن ال خناطب إنسانيتهم وإمنا حبهم لذواهتم»‪ .‬مل‬
‫اجلزار أو صانع اخلمر أو اخلباز‪ ،‬وإمنا بفضل مراعاة ٍّ‬
‫مفسري التاريخ على تعاطف‬ ‫يقصد مسيث َّ‬
‫أن الناس أنانيون ال يعرفون الرمحة‪ ،‬وال أن عليهم أن يكونوا كذلك‪ ،‬إذ إنه كان أحد أحرص ِّ‬
‫البشر‪ ،‬وإمنا كان يقصد فقط أنَّه يف ميدان األسواق‪ ،‬ميكن أن يؤدي ميل الناس إىل االعتناء بأسرهم وبأنفسهم إىل اخلري للجميع‪.‬‬

‫أيضا‪ ،‬ألن شراء األغراض من السوق العاملة أرخص من سرقتها‪ ،‬وبعض الناس‬
‫جمتمعا بأكمله أثرى‪ ،‬وألطف ً‬
‫فالتبادل قد جيعل ً‬
‫الرتزي‬
‫قرون‪« :‬لو حارب ُّ‬ ‫تكون قيمتهم وهم أحياء أعلى من قيمتهم وهم أموات (إذ كما قال االقتصادي لودفيج فون ميزس بعد بضعة ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كثري من ِّ‬
‫مفكري التنوير مبن فيهم مونتسكيو وكانط وفولتري وديدرو وشارل‬ ‫اخلبَّ َاز‪ ،‬فسيضطر بعد ذلك إىل صنع خبزه بنفسه»)‪ .‬أيَّد ٌ‬
‫صمم اآلباء املؤسسون للواليات املتحدة األمريكية‬
‫إيرينيه رئيس دير سان بيري منوذج ‪ doux commerce‬أي التجارة الناعمة‪،‬وقد َّ‬
‫‪-‬جورج واشنطن وجيمس ماديسون‪ ،‬وباألخص ألكساندر هاملتون‪ -‬مؤسسات الوطن الشاب مبا ينمي هذا النموذج‪.‬‬

‫يصل بنا هذا إىل مثال آخر من ُمثُل التنوير وهو السالم‪ .‬كانت احلرب شائعة جدًّا يف التاريخ لدرجة أنه كان من الطبيعي أن‬
‫دائما من احلالة البشرية وأن نظن أن السالم لن يأيت سوى يف العصر املسياين ‪.‬ولكن مل ُيعد يُنظر إىل احلرب‬
‫يُنظر إليها بوصفها جزءًا ً‬
‫حتمله واستهجانه‪ ،‬وال مسابقة جميدة جيب الفوز واالحتفاء هبا‪ ،‬وإمنا كمشكلة عملية جيب احلد منها‬
‫اآلن كأهنا عقاب إهلي جيب ُّ‬
‫يوما ما ‪.‬وضع كانط يف كتابه "السالم الدائم" إجراءات متنع القادة من جر بالدهم إىل احلروب‪ ،‬فأوصى بالتجارة الدولية‪،‬‬
‫وحلها ً‬
‫إضافةً إىل اجلمهوريات التمثيلية ‪-‬أي ما نطلق عليه اآلن الدميقراطيات‪ -‬والشفافية املتبادلة‪ ،‬وأعراف مضادة للغزو والتدخل يف الشؤون‬
‫الداخلية‪ ،‬وحرية السفر واهلجرة‪ ،‬واحتاد للدول يفصل يف النزاعات بينها‪.‬‬

‫املشرعني والفالسفة‪ ،‬فإن هذا ليس كتابًا لتقديس التنوير‪ِّ ،‬‬


‫فمفكرو التنوير كانوا رجال عصرهم‬ ‫رغم بصرية اآلباء املؤسسني و ِّ‬
‫ونساءه‪ ،‬أي يف القرن الثامن عشر‪ ،‬كان بعضهم عنصريًّا‪ ،‬وبعضهم مييِّز على أساس اجلنس‪ ،‬وبعضهم معاديًا للسامية‪ ،‬وبعضهم مال ًكا‬

‫‪ً ‬‬
‫نسبة إلى المسيا‪ ،‬وهو شخصية تظهر في نهاية العالم حسب الديانة اليهودية‪ ،‬وهو يشبه شخصية المهدي لدى المسلمين‪ ،‬ويتسم العصر المسياني باالتحاد‬
‫والحب والسالم ‪ -‬المترجم‬
‫مبارزا ‪.‬فبعض املسائل اليت كانت تشغلهم غري مفهومة لنا تقريبًا‪ ،‬وتوصلوا إىل كثري من األفكار احلمقاء كما توصلوا‬
‫للعبيد‪ ،‬وبعضهم ً‬
‫ٍ‬
‫مرحلة مبكرة جدًّا‪ ،‬مما منعهم من معرفة بعض أحجار أساس فهمنا احلديث‬ ‫إىل كث ٍري من األفكار العبقرية‪ُ ،‬‬
‫فهم باختصار ُولدوا يف‬
‫للواقع‪.‬‬

‫متجد العقل‪ ،‬فما يهمك هو سالمة األفكار وليس شخصيات‬ ‫كان هؤالء انفسم ليصبحوا اول من يقر بالتايل‪ :‬إذا كنت ِّ‬
‫ملتزما بالتقدُّم‪ ،‬فال ميكنك ادعاء معرفة كل شيء‪ .‬فال يقلل من ِّ‬
‫مفكري التنوير أن حندِّد بعض األفكار احلامسة‬ ‫ِّ‬
‫املفكرين‪ ،‬وإذا كنت ً‬
‫اليت نعرفها حنن يف حني مل يعرفوها‪ ،‬وتلك األفكار هي يف رأيي اإلنرتوبيا والتطور واملعلومات‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫اإلنتروبيا والتطور والمعلومات‬
‫وعرفه بشكله‬
‫إن حجر األساس األول يف فهم احلالة البشرية هو مفهوم اإلنرتوبيا أو الفوضى‪ ،‬الذي ظهر من فيزياء القرن التاسع عشر َّ‬
‫احلايل الفيزيائي لودفيج بولتزمان‪ .‬ينص القانون الثاين للديناميكا احلرارية على أن اإلنرتوبيا ال تقل مطل ًقا يف ٍ‬
‫نظام معزول (أي نظام يتفاعل‬
‫مع بيئته)‪( .‬ينص القانون األول على حفظ الطاقة‪ ،‬وينص الثالث على استحالة الوصول إىل درجة الصفر املطلق)‪ .‬تقل بنية األنظمة‬
‫املغلقة ونظامها وقدرهتا على حتقيق نتائج مفيدة ومهمة‪ ،‬حىت تعود إىل التوازن الرمادي احملايد الفاتر الرتيب وحتافظ عليه‪.‬‬

‫أشار القانون الثاين يف صيغته األصلية إىل عملية التبدد احلتمي للطاقة الصاحلة لالستخدام على هيئة فَـ ْرٍق يف درجات احلرارة‬
‫فسر فريق فالندرز وسوان يف إحدى أغانيه‪« :‬ال ميكنك نقل‬
‫بني جسمني مع تدفق احلرارة من اجلسم األدفأ إىل اجلسم األبرد‪( .‬فكما َّ‬
‫احلرارة من األبرد إىل األدفأ‪ ،‬حاول إذا أردت ولكن األفضل أال تفعل»)‪ .‬فكوب القهوة سيربد َّإال إذا ُو ِضع فوق ٍ‬
‫صفيح ساخن متصل‬
‫بالكهرباء‪ .‬عندما ينفد الفحم الذي يشغِّل احملرك البخاري‪ ،‬لن يستطيع البخار البارد على أحد جانيب املكبس حتريكه ألن اهلواء والبخار‬
‫الدافئ على اجلانب اآلخر يصدونه بنفس القوة‪.‬‬

‫سائال خفيًّا وإمنا هي الطاقة الكامنة يف اجلزيئات املتحركة‪ ،‬وأن الفرق يف درجات حرارة األجسام‬
‫مبجرد فهم أن احلرارة ليست ً‬
‫تكونت صيغة إحصائية أعم من مفهوم اإلنرتوبيا والقانون الثاين‪ .‬ميكن وصف‬ ‫َّ‬
‫يتشكل من الفرق بني متوسط سرعات تلك اجلزيئات‪َّ ،‬‬
‫االنتظام من حيث جمموعة حاالت النظام املختلفة اختالفات دقيقة (مثل األوضاع والسرعات احملتملة لكل اجلزيئات يف اجلسمني يف‬
‫تشكل تلك اليت جندها مفيدة من منظور «عني الطائر» (مثل أن‬‫املثال األصلي الذي يتضمن احلرارة)‪ .‬ومن بني كل هذه احلاالت‪ِّ ،‬‬
‫رتجم إىل أن يكون متوسط سرعة اجلزيئات يف أحد اجلسمني أعلى من متوسط سرعتها‬ ‫يكون أحد اجلسمني أسخن من اآلخر‪ ،‬وهو ما يُ َ‬
‫يف اآلخر) جزءا صغريا جدًّا من االحتماالت املمكنة‪ ،‬يف حني ِّ‬
‫تشكل كل احلاالت الفوضوية أو غري املفيدة (اليت ال تشمل فرقًا يف‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فإن أي اضطراب‬‫احدا) األغلبية العظمى من االحتماالت‪ .‬وبناءً عليه‪َّ ،‬‬
‫درجات احلرارة‪ ،‬واليت يكون فيها متوسط السرعة يف اجلسمني و ً‬
‫تقلقال عشوائيًّا يف أجزائه أو ضربة من اخلارج‪ ،‬سيدفع النظام إىل الفوضى أو العبث حسب قوانني االحتماالت‪،‬‬ ‫يف النظام‪ ،‬سواء كان ً‬
‫مثال عن ٍ‬
‫قلعة من‬ ‫كثريا من الطرق إىل االنتظام‪ .‬إذا ابتعدت ً‬
‫ليس ألن الطبيعة تسعى إىل الفوضى‪ ،‬وإمنا ألن الطرق إىل الفوضى أكثر ً‬
‫الرمال‪ ،‬فلن جتدها مكاهنا يف اليوم التايل‪ ،‬ألن الرياح واألمواج والنوارس واألطفال عندما يدفعون حبات الرمال وحيركوهنا‪ ،‬فإن احتمالية‬
‫أن يرتِّبوها بألف ٍ‬
‫شكل ال يشبه القلعة أكرب من احتمالية أن يرتِّبوها ببضعة أشكال تشبهها‪ .‬سأشري غالبًا إىل الصيغة اإلحصائية من‬
‫أيضا على تبدد االنتظام‪ ،‬بـ «قانون اإلنرتوبيا»‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫القانون الثاين‪ ،‬الذي ال ينطبق بصفة خاصة على معادلة الفروق يف درجات احلرارة وإمنا ً‬
‫ما صلة اإلنرتوبيا بالشؤون اإلنسانية؟ تعتمد احلياة والسعادة على ٍ‬
‫جزء شديد الصغر من الرتتيبات املنتظمة للمادة من بني ٍ‬
‫عدد‬
‫إن أجسامنا عبارة عن جتمعات مستبعدة للجزيئات‪ ،‬وحتافظ على ذلك االنتظام مبساعدة احتماالت مستبعدة‬ ‫فلكي من االحتماالت‪َّ .‬‬
‫حترك األغراض كما‬ ‫أخرى‪ ،‬مثل‪ :‬املواد الضئيلة اليت ِّ‬
‫تغذينا‪ ،‬وبضع األدوات الضئيلة بأشكاهلا الضئيلة اليت ميكنها أن تكسونا أو تأوينا أو ِّ‬
‫كثريا‪ ،‬لذا فعندما تتغري األحوال دون تدخل العامل البشري بتوجيه‬
‫حنب‪ .‬فرتتيبات املادة املوجودة على األرض واليت ال نفع منها لنا أكثر ً‬
‫ٍ‬
‫مبقوالت مثل‪« :‬األمور‬ ‫هذا التغيري‪ ،‬فإهنا‪ ،‬على األرجح‪ ،‬ستتغري إىل األسوأ‪ .‬وحنن نقر بقانون اإلنرتوبيا على ٍ‬
‫نطاق واسع يف حياتنا اليومية‬
‫أبدا»‪ ،‬و«احلياة مليئة باخليبات»‪ ،‬و«كل مشكلة حيتمل أن حتدث‪ ،‬ستحدث»‪ ،‬وكما قال سام‬ ‫بطبيعتها تنهار»‪ ،‬و«الصدأ ال يتوقف ً‬
‫(املشرع من والية تكساس)‪« :‬بإمكان أي محار أن يهد احلظرية‪ ،‬لكن بناءها يتطلَّب جن ً‬
‫َّارا»‪.‬‬ ‫ريبورن ِّ‬
‫يقدِّر العلماء َّ‬
‫أن القانون الثاين أكرب من جمرد تفسري للمضايقات اليومية العادية‪ ،‬بل هو أساس فهمنا للكون وملكاننا فيه‪.‬‬
‫كتب الفيزيائي آرثر إدينجتون يف عام ‪ 1928‬ما يلي‪:‬‬

‫أعتقد أنا القانون الذي ينص على أن اإلنتروبيا تزداد يحتل أعلى مكانة بين قوانين الطبيعة‪ .‬إذا أشار أحد إلى أن‬
‫نظريتك المفضالة عن الكون غير متفقة مع معادالت ماكسويل‪ ،‬فإنّ هذا أمر مؤسف لمعادالت ماكسويل ًإذا‪ ،‬وإذا‬
‫ً‬
‫أحيانا‪ .‬ولكن إذا وُ جِد أن نظريتك تعارض القانون‬ ‫وُ جِد أنها تناقض المالحظات‪ ،‬فهؤالء التجريبيون يخطؤون‬
‫الثاني للديناميكا الحرارية‪ ،‬فال أمل لك‪ ،‬ال يوجد أمامها سوى االنهيار في أعماق الخزي‪.‬‬

‫علَّق العامل والروائي تشارلز بريسي سنو يف حماضرة ريد الشهرية اليت عُقدت عام ‪ 1959‬واملنشورة بعنوان الثقافتان والثورة‬
‫العلمية‪ ،‬على ازدراء العلم بني الربيطانيني املثقَّفني يف عصره‪ً ،‬‬
‫قائال‪:‬‬
‫حضرت عدة مرات اجتماعات ألشخاص ُيعَدون‪ ،‬بمقاييس الثقافة التقليدية‪ ،‬واسعي الثقافة‪ ،‬ويعبِّرون عن ِّ‬
‫شكهم‬ ‫ُ‬
‫وسألت الذين معي كم منهم يستطيع وصف القانون الثاني‬ ‫ُ‬ ‫في جهل العلماء‪ .‬شعرت باالستفزاز مرة أو اثنتين‬
‫باردا‪ ،‬وكان أيضًا سلب ّ ًيا‪ .‬ومع ذلك فإن سؤالي ليس أكثر من المكافئ العلمي‬
‫للديناميكا الحرارية‪ ،‬كان الرد ً‬
‫لسؤال‪« :‬هل قرأتَ أحد أعمال شكسبير؟»‬

‫تحرك الكون»‪ ،‬وعلى مقربة مين‪ ،‬وضع علماء‬


‫ويلمح الكيميائي بيرت أتكنز إىل القانون الثاين يف عنوان كتابه «أربعة قوانين ِّ‬
‫النفس التطوريون جون تويب وليدا كوزمايدس وكالرك باريت إلحدى أوراقهم البحثية احلديثة عن أسس العلم املعين بالذهن العنوان التايل‪:‬‬
‫«القانون الثاين للديناميكا احلرارية هو القانون األول لعلم النفس»‪.‬‬

‫ما سر هيبة القانون الثاين؟ من وجهة نظر شاملة عليا‪ ،‬فإنه حيدِّد مصري الكون والغرض النهائي من احلياة والذهن وسعي‬
‫اإلنسان‪ :‬نشر الطاقة واملعرفة لصد تيار اإلنرتوبيا واالحتماء منها باالنتظام النافع‪ .‬أما من وجهة نظر أرضية‪ ،‬فيمكننا أن نكون أكثر‬
‫أوال فكرتني تأسيسيتني‪.‬‬‫نقطة مألوفة‪ ،‬جيب أن أعرض ً‬ ‫حتديدا‪ ،‬ولكن قبل أن نصل إىل ٍ‬ ‫ً‬
‫مباض حمبط ومستقبل كئيب‪ .‬بدأ الكون ٍ‬
‫حبالة من اإلنرتوبيا‪،‬‬ ‫قد يبدو قانون اإلنرتوبيا للوهلة األوىل وكأنه ال يسمح سوى ٍ‬
‫االنفجار العظيم‪ ،‬برتكي ٍز هائل للطاقة على حن ٍو غري مفهوم‪ ،‬ومن هنا بدأ كل شيء يف التدهور‪ ،‬فتبدد الكون ‪-‬وسيواصل التبدد‪ -‬مثل‬
‫يدا عدمي الشكل‪ ،‬وإمنا هو مفعم‬ ‫ٍ‬
‫طبعا ثر ً‬
‫ثريد من اجلسيمات املنتشرة بالتساوي واملتناثرة يف الفضاء‪ .‬ليس الكون يف احلقيقة كما نراه ً‬
‫باحلياة باجملرات والكواكب واجلبال والسحب ورقاقات الثلج وازدهار النباتات واحليوانات‪ ،‬مبا فيها حنن البشر‪.‬‬

‫أحد أسباب امتالء الكون بالكثري من األمور املثرية لالهتمام هو جمموعة من العمليات اليت تُدعى التنظيم الذايت‪ ،‬وهي تسمح‬
‫بظهور مناطق منتظمة حماطة ٍ‬
‫حبدود‪ .‬عندما تتدفق الطاقة إىل ٍ‬
‫نظام ما‪ ،‬ينشر النظام تلك الطاقة منزل ًقا حنو اإلنرتوبيا‪ ،‬وميكن أن يكون‬
‫متوازنًا يف ٍ‬
‫شكل مجيل‪ ،‬مثل كرة أو حلزون أو شكل انفجار جنمي أو دوامة أو موجات متجعدة أو بلورة أو شكل هندسي متكرر‪.‬‬
‫وتشري حقيقة أننا جند هذه األشكال مجيلة إىل أن اجلمال رمبا ال يكون يف عني الرائي فحسب‪ ،‬فاستجابة العقل اجلمالية قد تكون تقبُّ ًال‬
‫لألمناط غري اإلنرتوبية اليت تنبع من الطبيعة‪.‬‬

‫أيضا‪ ،‬وهو ليس التناظر واإليقاع البديع يف العامل الفيزيائي‪ ،‬وإمنا‬


‫ولكن هناك نوعٌ آخر من االنتظام يف الطبيعة جيب تفسريه ً‬
‫مشكلة ومرتبة على حن ٍو مدهش كي تقوم‬ ‫التصميم الوظيفي يف عامل األحياء‪ ،‬فالكائنات احلية مكونة من أعضاء ذات أجزاء متباينة َّ‬
‫بوظائف للمحافظة على حياة الكائن (أي تواصل امتصاص الطاقة ملقاومة اإلنرتوبيا)‪.‬‬

‫لدي‪.‬‬
‫املفضلة َّ‬
‫سأوضح نقطيت باستخدام ثاين األعضاء َّ‬
‫ِّ‬ ‫املثال التوضيحي املعتاد على التصميم البيولوجي هو العني‪ ،‬ولكين‬
‫حتتوي أذن اإلنسان على طبلة مرنة هتتز استجابةً ألقل نفخة هواء‪ ،‬ورافعة عظمية تضخم قوة االهتزاز‪ ،‬ومكبس ينقل االهتزاز إىل السائل‬
‫نفق طويل (ملتف ليالئم جدار اجلمجمة)‪ ،‬وغشاء مستدق على طول النفق يفصل املوجات إىل نغماهتا املتوافقة‪ ،‬وجمموعة‬ ‫املوجود يف ٍ‬
‫قطارا من النبضات الكهربائية إىل املخ‪.‬‬
‫من اخلاليا ذات الشعريات الصغرية اليت تنحين إىل األمام واخللف بفعل الغشاء املهتز‪ ،‬وترسل ً‬
‫أن هذا الشكل‬ ‫املستبعدة للغاية دون اإلشارة إىل َّ‬
‫َ‬ ‫من املستحيل تفسري ترتيب هذه األغشية والعظام والسوائل والشعريات بتلك الطريقة‬
‫يسمح للمخ بتسجيل الصوت ٍ‬
‫بنمط معني‪ .‬وحىت األذن اخلارجية املكسوة باللحم ‪-‬دون متاثل بني اجلزء العلوي والسفلي‪ ،‬وال بني األمام‬
‫تشكل الصوت القادم على حن ٍو يُعلِم املخ مبصدر الصوت‪ ،‬سواء كان من أعلى‬
‫مصممة بطريقة ِّ‬
‫واخللف‪ ،‬واجملعدة باملرتفعات واألودية‪َّ -‬‬
‫أم أسفل‪ ،‬من األمام أم اخللف‪.‬‬

‫إن الكائنات احلية حافلة باعضاء يصعب تنبؤ أن يكون تكوهنا تلقائيا مثل العني واألذن والقلب واملعدة‪ ،‬مما يقودنا لالستفسار‬
‫مصمم‪،‬‬
‫تفسريا يف عام ‪ ،1859‬كان من املنطقي اعتقاد أهنا من صنع إله ِّ‬
‫عن نشأهتا‪ .‬قبل أن يقدِّم تشارلز داروين وألفريد راسل واالس ً‬
‫أن كثريا من ِّ‬
‫مصمم‪.‬‬
‫مفكري التنوير كانوا ربوبيني وليسوا ملحدين‪ .‬نفى داروين وواالس ضرورة وجود ِّ‬ ‫وهذا كما أظن هو السبب يف َّ ً‬
‫شكل من أشكال املادة ميكنه تكرار نفسه‪ ،‬أصبحت النسخ تنسخ نفسها‪،‬‬ ‫عندما نتج عن عمليات التنظيم الذايت يف الفيزياء والكيمياء ٌ‬
‫حترك عملية‬ ‫وتنسخ النسخ الثانية نفسها‪ ،‬وهكذا‪ ،‬يف انفجا ٍر مطرد‪ .‬تتنافس أنظمة التكرار على املادة كي تنتج نُ ً‬
‫سخا وعلى الطاقة كي ِّ‬
‫التكرار‪ .‬مبا أن عملية النسخ ليست مثالية ‪-‬ويضمن قانون اإلنرتوبيا ذلك‪ -‬تقع بعض األخطاء‪ ،‬ورغم أن معظم هذه الطفرات تنتقص‬
‫أن إحداها رمبا تصبح أكثر كفاء ًة يف االستنساخ بضر ٍبة حظ عارضة‪ ،‬ويكتسح أسالفها املنافسة‪.‬‬
‫أيضا)‪َّ ،‬إال َّ‬
‫املكرر (بفعل اإلنرتوبيا ً‬
‫من ِّ‬
‫حتسن االستقرار والتكرار على مر األجيال‪ ،‬يبدو نظام التكرار ‪-‬الذي نطلق عليه «الكائن»‪ -‬وكأنَّه قد مت‬
‫مع تراكم أخطاء النسخ اليت ِّ‬
‫هندسته وتصميمه بغرض البقاء والتكاثر يف املستقبل‪ ،‬رغم أنه حافظ فقط على أخطاء النسخ اليت أدت إىل البقاء والتكاثر يف املاضي‪.‬‬

‫الدعاء َّ‬
‫أن التطور البيولوجي‪ ،‬أي زيادة االنتظام مبرور الوقت‪،‬‬ ‫حيرف أنصار نظرية اخلَلق عادةً القانون الثاين للديناميكا احلرارية ِّ‬
‫ِّ‬
‫مستحيل فيزيائيًّا‪ ،‬إذ حيذفون من القانون اجلزء الذي يقول «يف نظام مغلق»‪ .‬إن الكائنات احلية أنظمة مفتوحة‪ ،‬فهي تلتقط الطاقة من‬
‫الشمس أو الغذاء أو منافس احمليطات كي ِّ‬
‫تشكل جتاويف مؤقتة من االنتظام يف أجسامها وأعشاشها بينما تلقي حبرارهتا ونفاياهتا يف‬
‫البيئة لتزيد بذلك الفوضى يف العامل بأكمله‪َّ .‬‬
‫إن استخدام الكائنات احلية للطاقة من أجل احلفاظ على سالمتها من اإلنرتوبيا هو تفسري‬
‫أساسا‬ ‫حديث ملبدأ الكوناتوس (أي اجملهود أو السعي) الذي َّ‬
‫عرفه سبينوزا بأنه «حماولة الفرد لالستمرار واالزدهار بطبيعته»‪ ،‬والذي كان ً‬
‫لنظريات عديدة عن احلياة والذهن يف حقبة التنوير‪.‬‬

‫يؤدي الشرط الصارم المتصاص الطاقة من البيئة إىل إحدى مآسي الكائنات احلية‪ ،‬ففي حني َّ‬
‫أن النباتات متتص الطاقة‬
‫الشمسية‪ ،‬وبعض الكائنات اليت تسكن أعماق احمليطات متتص املرق الكيميائي الفائض عن الشقوق املوجودة يف هذه األعماق‪ ،‬فإن‬
‫املخزنة يف أجسام النباتات واحليوانات األخرى واليت حصلت عليها بصعوبة‪ ،‬عرب‬
‫احليوانات تولد استغاللية‪ :‬فهي تعيش على الطاقة َّ‬
‫تناوهلا‪ .‬كذلك تفعل الفريوسات والبكترييا والطفيليات ومسبِّبات األمراض األخرى اليت تنخر يف األجسام من الداخل‪ ،‬فكل ما ندعوه‬
‫«غذاء»‪ ،‬باستثناء الفاكهة‪ ،‬هو أحد أعضاء جسم كائ ٍن آخر أو خمزن طاقته‪ ،‬والذي قد حيتفظ هبذا الكنز لنفسه‪ .‬الطبيعة ٌ‬
‫حرب‪ ،‬وكثري‬
‫مما يلفت انتباهنا يف العامل الطبيعي هو سباق األسلحة‪ ،‬فالفريسة حتمي نفسها بالصدف أو العمود الفقري أو املخالب أو القرون أو‬
‫تطور‬
‫السم أو التمويه أو الفر أو الدفاع عن النفس‪ ،‬وأنسجة النباتات مشبعة باألشواك والقشر واللحاء واملهيِّجات والسموم‪ ،‬فيما ِّ‬
‫احليوانات أسلحة الخرتاق تلك الدفاعات‪ :‬فيتمتع آكلو اللحوم بالسرعة والرباثن والرؤية القوية مثل عني النسر‪ ،‬يف حني يتمتع آكلو‬
‫ٍ‬
‫بأسنان طاحنة وكبد يزيل السموم الطبيعية‪.‬‬ ‫العشب‬

‫املكون الذي مييِّز‬


‫اخنفاضا يف اإلنرتوبيا‪ ،‬فهي ِّ‬
‫ً‬ ‫نصل اآلن إىل حجر األساس الثالث‪ ،‬وهو املعلومات‪ .‬ميكن اعتبار املعلومات‬
‫قرد على ٍ‬
‫آلة كاتبة‪ ،‬أو‬ ‫النظام املنتظم املرتَّب عن بقية األنظمة العشوائية غري املفيدة‪ُ .‬تيل صفحات من احلروف العشوائية اليت كتبها ٌ‬
‫ملف تالف على‬ ‫ضوضاء بيضاء من املذياع غري املضبوط على حمطة بعينها‪ ،‬أو شاشة ممتلئة باشكال شبيهه بقصاصات الورق نتيجة ٍ‬
‫ملال من اآلخر‪ .‬لكن لنفرتض اآلن َّ‬
‫أن األجهزة ُتضع‬ ‫كل من هذه األشياء تريليون شكل خمتلف‪ ،‬كل شكل أكثر ً‬
‫الكمبيوتر‪ .‬قد يتخذ ٌ‬
‫تشكل منطًا يتناسب مع ٍ‬
‫شيء موجود يف العامل‪ ،‬مثل إعالن‬ ‫لتحكم إشارة ترتِّب احلروف أو موجات الصوت أو وحدات البيكسل كي ِّ‬
‫االستقالل أو ميزان مطلع أغنية ‪ ،Hey, Jude‬أو قطة ترتدي نظارات مشسية‪ .‬نقول يف تلك احلالة َّ‬
‫إن اإلشارة ترسل معلومات عن‬
‫إعالن االستقالل أو األغنية أو القطة‪.‬‬

‫ط ما على مدى دقة رؤيتنا للعامل‪ ،‬إذا كنا هنتم بالرتتيب املضبوط للحروف فيما أنتجه‬‫تتوقف املعلومات اليت حيتوي عليها من ٌ‬
‫صوت وآخر من أصوات الضوضاء‪ ،‬أو بنمط وحدات البيكسل احملدد يف إحدى الشاشات العشوائية‪،‬‬ ‫القرد‪ ،‬أو بالفرق الدقيق بني ٍ‬
‫كال من هذه األمناط حيتوي على نفس مقدار املعلومات الذي حتتوي عليه األمناط األخرى‪ .‬حتتوي األمناط املثرية لالهتمام‬ ‫إن ًّ‬‫سنقول َّ‬
‫مثال)‪ ،‬فإن بإمكانك ُتمني بقية األجزاء (مثل احلرف التايل‪،‬‬
‫جزء واحد (حرف الـ ق ً‬‫بالطبع على معلومات أقل ألنك عندما تنظر إىل ٍ‬

‫ك) دون احلاجة إىل اإلشارة‪ .‬ولكننا غالبًا جنمع األغلبية العظمى من األشكال العشوائية سويًّا ونصفها بامللل بقد ٍر متسا ٍو‪ِّ ،‬‬
‫ونفرق بينها‬
‫مجيعا من جانب‪ ،‬واألشكا ل القليلة اليت ترتبط يف أذهاننا بشيء آخر من جانب‪ .‬من وجهة النظر تلك‪ ،‬حتتوي صورة القطة على‬ ‫ً‬
‫معلومات أكثر مما حتتوي عليها قصاصات وحدات البيكسل‪ ،‬ألهنا تستخدم رسالة فائضة التفاصيل لتحديد ٍ‬
‫شكل متناسق نادر من بني‬
‫ومتناسق وليس عشوائيًّا يعين أنه حيتوي على املعلومات‬ ‫منتظم‬ ‫ٍ‬
‫عدد هائل من األشكال غري املتناسقة بنفس القدر‪ .‬فالقول بأن الكون‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫املكونات األساسية للكون‪ ،‬إضافةً إىل املادة والطاقة‪.‬‬
‫هبذا املعىن‪ ،‬وبعض الفيزيائيني يقدِّسون املعلومات بوصفها إحدى ِّ‬
‫املعلومات هي ما يرتاكم يف اجلينوم خالل التطور‪ ،‬يرتبط تتابع القواعد النووية يف جزيء احلمض النووي بتتابع األمحاض األمينية‬
‫تشكل جسم الكائن‪ ،‬وقد نشأ هذا التتابع عرب تنظيم أسالف الكائن ‪-‬أي خفض اإلنرتوبيا‪ -‬يف األشكال مستبعدة‬ ‫يف الربوتينات اليت ِّ‬
‫التكوين اليت مسحت هلم باحلصول على الطاقة والنمو والتكاثر‪.‬‬

‫حتول األذن الصوت إىل انبعاثات عصبية‪ُ ،‬تتلف‬


‫أيضا املعلومات طوال حياته‪ ،‬فعندما ِّ‬
‫جيمع اجلهاز العصيب اخلاص بالكائن ً‬
‫ضخما‪ ،‬ولكن بفضل االرتباط بينهما‪ ،‬حيمل منط النشاط العصيب يف مخ‬
‫ً‬ ‫العمليتان الفيزيائيتان ‪-‬هز اهلواء ونشر األيونات‪ -‬اختالفًا‬
‫احليوان معلومات عن الصوت املوجود يف العامل‪ .‬من هنا ميكن حتويل املعلومات من كهربائية إىل كيميائية والعكس عند مرورها باملشابك‬
‫مرورا بكل هذه التحويالت الفيزيائية حمفوظةً‪.‬‬
‫العصبية اليت تصل إحدى اخلاليا العصبية بالتالية‪ ،‬وتظل املعلومات ً‬
‫أن الشبكات العصبونية ال تستطيع االحتفاظ‬ ‫من االكتشافات بالغة األمهية يف علم األعصاب النظري يف القرن العشرين َّ‬
‫بطرق تسمح لنا بتفسري كيف ميكن للمخ أن يكون ذكيًّا‪ .‬ميكن توصيل خليتني عصبيتني‬ ‫وإمنا تستطيع أيضا نقلها ٍ‬
‫باملعلومات فحسب‪َّ ،‬‬
‫ً‬
‫يقة جتعل أمناط االنبعاث تتوافق مع العالقات املنطقية مثل «و» و«أو» و«ال»‪ ،‬أو‬ ‫خمتصتني باإلدخال خبلية عصبية خمتصة باإلخراج بطر ٍ‬
‫مع قرا ٍر إحصائي يتوقف على حجم األدلة القادمة‪ .‬مينح هذا للشبكات العصبونية القدرة على القيام مبعاجلة املعلومات أو حساهبا‪.‬‬
‫وبشرط توافر ٍ‬
‫شبكة كبرية مبا يكفي قائمة على هذه الدوائر املنطقية واإلحصائية (وبوجود مليارات العصبونات‪ ،‬يتسع املخ لكث ٍري منها)‪،‬‬
‫ميكن للمخ أن جيري عمليات حسابية معقدة‪ ،‬وهذا الشرط األساسي للذكاء‪ .‬ميكنه نقل املعلومات عن العامل اليت تتلقاها من أعضاء‬
‫احلواس بطر ٍ‬
‫يقة تعكس القوانني اليت حتكم العامل‪ ،‬وهو ما يسمح له بدوره باالستدالل والتنبؤ‪ .‬والصور التمثيلية الداخلية املرتبطة بأوضاع‬
‫إن الشخص‬ ‫العامل‪ ،‬واليت تقوم باستدالالت اليت تستنتج نتائج صادقة من مقدمات صادقة‪ ،‬ميكن أن نطلق عليها معرفة‪ .‬ميكننا أن نقول َّ‬
‫يعرف ما هو طائر أبو احلناء إذا َّ‬
‫فكر يف «طائر أبو احلناء» كلما رآه‪ ،‬وإذا استطاع استنتاج أنه أحد أنواع الطيور‪ ،‬يظهر يف الربيع‬
‫ويستخرج الدود من األرض‪.‬‬

‫نعود اآلن إىل التطور‪ .‬يستطيع املخ‪ ،‬الذي أهلته املعلومات املوجودة يف اجلينوم إلجراء احلسابات على املعلومات الداخلة إليه‬
‫مثال تطبيق القاعدة اليت تقول‪« :‬إذا‬
‫يقة مسحت له بالتقاط الطاقة ومقاومة اإلنرتوبيا‪ ،‬فاستطاع ً‬‫من احلواس‪ ،‬أن ينظِّم سلوك احليوان بطر ٍ‬
‫أصدر الكائن صر ًيرا‪ ،‬فطارده‪ ،‬أما إذا نبح‪ ،‬فلُذ بالفرار منه»‪.‬‬
‫ولكن املطاردة والفرار ليسا جمرد متتالية من انقباضات العضالت‪ ،‬بل إهنما حمددان ٍ‬
‫هبدف‪ .‬قد تتضمن املطاردة اجلري أو‬ ‫َّ‬
‫التجمد أو‬ ‫التسلُّق أو القفز أو نصب كم ٍ‬
‫ني‪ ،‬حسب الظروف‪ ،‬طاملا كانت تزيد من فرص متزيق الفريسة‪ .‬وقد يتضمن الفرار االختباء أو ُّ‬
‫متعرج‪ .‬ويطرح هذا فكرة أخرى بالغة األمهية ظهرت يف القرن العشرين‪ ،‬ويُطلق عليها التحكم اآليل أو التغذية الراجعة أو‬
‫اُتاذ مسلك ِّ‬
‫حتركه أغراض أو أهداف‪ ،‬وكل ما حيتاج إليه هو طريقةٌ‬ ‫نظاما فيزيائيًّا قد يبدو غائيًّا‪ ،‬أي ِّ‬
‫أن ً‬ ‫تفسر هذه الفكرة كيف َّ‬
‫الضبط أحيانًا‪ِّ .‬‬
‫لإلحساس حبالته وبيئته‪ ،‬ومتثيل للحالة املستهدفة (ما «يريده» وما «حياول الوصول إليه»)‪ ،‬والقدرة على حساب الفرق بني احلالة احلالية‬
‫يقة جتعله يستحث إجراءات تقلل الفرق‬ ‫مصمما بطر ٍ‬
‫واحلالة املستهدفة‪ ،‬وخمزون من اإلجراءات املوسومة بآثارها النمطية‪ .‬إذا كان النظام َّ ً‬
‫قابال للتنبؤ بالقدر الكايف‪ ،‬يبلغ هذه‬
‫بني احلالة احلالية واحلالة املستهدفة‪ ،‬فيمكن أن نقول إنه يقصد أهدافًا ما (وعندما يكون العامل ً‬
‫األهداف)‪ .‬اكتُشف هذا املبدأ بفعل االنتخاب الطبيعي على هيئة االستتباب أو االتزان الداخلي‪ ،‬وهو عبارة عن ضبط أجسامنا درجات‬
‫حرارهتا باالرجتاف والتعرق‪ .‬عندما اكتشفه البشر‪ ،‬طبقوه هندسيَّا يف ٍ‬
‫أنظمة مثل منظِّم احلرارة (الرتموستات) ومثبِّت السرعة‪ ،‬مث يف أنظمة‬
‫رقمية مثل برامج لعب الشطرنج والروبوتات املستقلة‪.‬‬

‫تسد مبادئ ا ملعلومات واحلساب والضبط الفجوة بني العامل الفيزيائي القائم على السبب والنتيجة‪ ،‬والعامل العقلي القائم على‬
‫املعرفة والذكاء والغرض‪ ،‬فعندما نقول َّ‬
‫إن األفكار تستطيع تغيري العامل‪ ،‬فهذا ليس جمرد تطلع كالمي‪ ،‬وإمنا هو حقيقة عن التكوين‬
‫يتكون من ٍ‬
‫أمناط من املادة‪ ،‬فشبَّهوا األفكار بطبعات األسنان‬ ‫الفيزيائي للمخ‪ .‬كانت لدى مف ِّكري التنوير فكرةٌ مفادها أن الفكر قد َّ‬
‫على الشمع‪ ،‬أو االهتزازات يف األوتار‪ ،‬أو املوجات الناجتة عن حركة القارب‪ .‬واقرتح بعضهم‪ ،‬مثل هوبز‪َّ ،‬‬
‫أن «التعقُّل ليس سوى تقدير»‪،‬‬
‫شخص بثنائية العقل واجلسد ويُعزي احلياة‬
‫ٌ‬ ‫أي حساب‪ .‬ولكن قبل اتضاح مفاهيم املعلومات واحلساب‪ ،‬كان من املعقول أن يؤمن‬
‫التطور أن يكون املرء مؤمنًا بنظرية اخلَلق ويُعزي التصميم يف الطبيعة‬
‫روح غري مادية (مثلما كان من املعقول قبل اتضاح مفهوم ُّ‬
‫العقلية إىل ٍ‬
‫أن كثريا من ِّ‬
‫مفكري التنوير كانوا ربوبيني‪.‬‬ ‫مصمم كوين)‪ .‬وهذا سبب آخر كما أظن يف َّ ً‬ ‫إىل ِّ‬
‫من الطبيعي بالتأكيد أن ِّ‬
‫تفكر فيما إذا كان هاتفك «يعرف» حقًّا أحد أرقامك املفضَّلة‪ ،‬أو إذا كان نظام حتديد املواقع ‪GPS‬‬
‫تطور أنظمة‬
‫فعال تنظيف األرضية‪ .‬ولكن مع ُّ‬
‫«يكتشف» حقًّا الطريق األفضل إىل منزلك‪ ،‬أو إذا كانت املكنسة اآللية رومبا «حتاول» ً‬
‫معاجلة املعلومات ‪-‬حبيث يصبح متثيلها للعامل أفضل وأغىن‪ ،‬وترتتب أهدافها بصورةٍ هرمية إىل أهداف فرعية ضمن أهداف فرعية‪ ،‬وتصبح‬
‫شكل من أشكال الشوفينية البشرية‪( .‬سأعود‬
‫إجراءاهتا لبلوغ األهداف أكثر تنوعًا وأقل قابلية للتنبؤ‪ -‬يبدو اإلصرار على أهنا ال تتطور ٌ‬
‫يفسر الوعي إضافةً إىل املعرفة والذكاء والغرض)‪.‬‬
‫يف الفصل األخري إىل مسألة ما إذا كان احلساب ِّ‬
‫يدا هو َّ‬
‫أن‬ ‫يظل الذكاء البشري هو املقياس للذكاء االصطناعي‪ ،‬وما جيعل اإلنسان العاقل (‪ً )Homo Sapiens‬‬
‫نوعا فر ً‬
‫وسخروا جمموعة‬
‫وتعقيدا‪َّ ،‬‬ ‫تطورا‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫مجعت معلومات أكثر عن العامل‪ ،‬وتعقَّلوا هذه املعلومات بطرق أكثر ً‬ ‫أسالفنا استثمروا يف أدمغة أكرب َ‬
‫أيضا التخصص الثقايف وُتصص‬ ‫يسمى ً‬
‫متنوعة وأكرب من اإلجراءات لتحقيق أهدافهم‪ ،‬فهم قد ُتصصوا يف التخصص املعريف‪ ،‬الذي َّ‬
‫الصيد ومجع الثمار‪ .‬وقد استوعب هذا حزمة من وسائل التكيُّف اجلديدة اليت تشمل القدرة على التالعب بالنماذج الذهنية عن العامل‬
‫لفرق من الناس بتحقيق ما مل ِ‬
‫يستطع‬ ‫والتنبؤ مبا قد حيدث لو جربنا أشياء جديدة‪ ،‬والقدرة على التعاون مع اآلخرين‪ ،‬اليت مسحت ٍ‬
‫َ‬
‫شخص واحد حتقيقه‪ ،‬واللغة اليت مسحت هلم بتنسيق أفعاهلم وجتميع مثار جتارهبم يف جمموعات من املهارات واألعراف اليت نسميها‬ ‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫جمموعة هائلة من النباتات واحليوانات وحصد املكافأة على هيئة‬ ‫ثقافات‪ .‬مسحت هذه االستثمارات للبشر األوائل هبزمية وسائل دفاع‬
‫الطاقة‪ ،،‬اليت أذكت أدمغتهم املتمددة‪ ،‬مما أمدهم باملزيد من املعرفة وإمكانية الوصول إىل املزيد من الطاقة‪ .‬تعد قبيلة هادزا يف تنزانيا من‬
‫تطور‬
‫القبائل املعاصرة اليت تعيش على الصيد ومجع الثمار واليت خضعت لدراسة متعمقة‪ ،‬حيث تعيش هذه القبيلة يف النظام البيئي الذي َّ‬
‫فيه اإلنسان احلديث يف البداية‪ ،‬وحتتفظ على األرجح بقد ٍر كبري من منط حياته‪ ،‬ويستهلك الفرد الواحد من هذه القبيلة ‪ 3000‬سع ٍر‬
‫نوعا من األطعمة‪ ،‬ويعد قائمة طعامه بطرق ٍ‬
‫علف مبتكرة ينفرد هبا البشر‪ ،‬مثل قطع احليوانات‬ ‫حراري يف اليوم من أكثر من ‪ً 880‬‬
‫سن مسمومة‪ ،‬وطرد النحل بالدخان من خالياه من أجل سرقة العسل‪ ،‬وزيادة القيمة الغذائية يف اللحوم والدرنات‬
‫الكبرية بأسهم ذات ٍّ‬
‫النباتية بطهيها‪.‬‬

‫تقدم يف مصري اإلنسان‪ .‬ضاعف‬


‫الطاقة اليت توجهها املعرفة هي اإلكسري الذي نتفادى به اإلنرتوبيا‪ ،‬والتقدُّم يف التقاط الطاقة ٌ‬
‫وحرر جزءًا من‬
‫اكتشاف الزراعة منذ حوايل عشرة آالف سنة من السعرات احلرارية املتاحة من النباتات املزروعة واحليوانات املستأنسة‪َّ ،‬‬
‫السكان من متطلبات الصيد ومجع الثمار‪ ،‬ومنحهم يف النهاية رفاهية الكتابة والتفكري وتراكم األفكار‪ .‬ويف حوايل سنة ‪ 500‬قبل احلقبة‬
‫احلالية‪ ،‬فيما أطلق عليه الفيلسوف كارل ياسربز العصر احملوري‪ ،‬انتقلت عدة ثقافات منفصلة من أنظمة الطقوس والتضحيات اليت‬
‫عززت اإليثار ووعدت بالتسامي الروحي‪.‬‬
‫كان غرضها جمرد درء املصائب إىل أنظمة االعتقاد الديين والفلسفي اليت َّ‬

‫ظهرت كلٌّ من الطاوية والكونفوشية يف الصني‪ ،‬واهلندوسية والبوذية واجلاينية يف اهلند‪ ،‬والزرادشتية (اجملوسية) يف بالد فارس‪،‬‬
‫قرون بعضها عن بعض‪( .‬كان كلٌّ من‬ ‫ويهودية اهليكل الثاين يف يهوذا‪ ،‬والدراما والفلسفة اإلغريقية الكالسيكية‪ ،‬بفاصل بضعة ٍ‬
‫يق من الباحثني‬
‫مؤخرا فر ٌ‬
‫كونفوشيوس وبوذا وفيثاغورس وأسخيلوس وآخر نيب عربي يعيشون على وجه األرض يف الوقت نفسه)‪ .‬حدَّد ً‬
‫أن كوكب األرض قد حلَّت عليه هالةٌ من الروحانية‪ ،‬وإمنا كان شيئًا أكثر‬
‫متعددي التخصصات السبب املشرتك‪ ،‬مل ي ُكن السبب هو َّ‬
‫عادية‪ ،‬وهو التقاط الطاقة‪ .‬العصر احملوري هو الذي قدَّمت فيه التطورات االقتصادية والزراعية دفعةً من الطاقة‪ :‬أكثر من ‪ 20‬ألف سع ٍر‬
‫وعلف ٍ‬
‫ووقود ومو َاد خام‪ .‬وأتاحت هذه القفزة للحضارات سكىن املدن األكرب‪ ،‬وظهور فئات الباحثني‬ ‫غذاء ٍ‬ ‫حراري للشخص يوميًّا من ٍ‬
‫والكهنة‪ ،‬وإعادة توجيه أولوياهتم من البقاء قصري املدى إىل التناغم طويل املدى‪ ،‬أو كما صاغ بريتولت برخيت األمر بعد ٍ‬
‫ألفية كاملة‪:‬‬
‫أوال مث األخالق»‪.‬‬
‫«الطعام ً‬

‫فتحت الثورة الصناعية نافورةً من الطاقة الصاحلة لالستخدام من فح ٍم وبرتول وشالالت مياه‪ ،‬وفتحت بابًا للهروب من الفقر‬
‫أوال‪ ،‬مث يف بقية العامل على حن ٍو متزايد (كما سنرى يف الفصول من اخلامس إىل الثامن)‪.‬‬
‫واملرض واجلوع واألمية والوفاة املبكرة يف الغرب ً‬
‫وتعتمد القفزة التالية يف رفاهية اإلنسان ‪-‬هناية الفقر املدقع وانتشار الوفرة‪ ،‬وكل فوائدمها األخالقية‪ -‬على التقدُّم التكنولوجي الذي يوفِّر‬
‫الطاقة بتكلفة اقتصادية وبيئية مناسبة للعامل بأكمله (الفصل العاشر)‪.‬‬

‫تعرف هذه املفاهيم قصة تطور اإلنسان‪ :‬املأساة اليت ُولِدنا هبا‪ ،‬ووسائلنا لتدبري معيشة أفضل‪.‬‬
‫اإلنرتوبيا والتطور واملعلومات‪ِّ ،‬‬
‫كانت أول حكمة قدَّموها هي َّ‬
‫أن املصائب قد ال تكون خطأ أي شخص‪ ،‬وكان من الطفرات الكربى للثورة العلمية ‪-‬رمبا‬
‫أكرب الطفرات اليت أحدثتها‪ -‬نفي احلدس البديهي الذي يقول َّ‬
‫إن الكون مشبَّع باألغراض والغايات‪ .‬ففي هذا الفهم البدائي واسع‬
‫فاعل ما‬
‫االنتشار‪ ،‬لكل شيء سبب‪ ،‬فعندما حتدث أمور سيئة ‪-‬مثل احلوادث أو املرض أو اجملاعة أو الفقر‪ -‬فال بد أن يكون هناك ٌ‬
‫ٍ‬
‫شخص بإصبع االهتام يف إحدى املصائب‪ ،‬فيمكن معاقبته أو ابتزازه لتعويض األضرار‪ .‬أما إذا مل يكن اختيار‬ ‫أراد حدوثها‪ .‬وإذا أشري إىل‬
‫ٍ‬
‫حماكمة‪ ،‬أو ارتكاب مذابح جتاههم‪.‬‬ ‫فرٍد واحد ملعاقبته ممكنًا‪ ،‬فقد يُلقى باللوم على أقرب أقلية إثنية أو دينية ميكن إعدام أفرادها دون‬

‫بدين بعينه‬
‫ٍ‬ ‫تقويم ديني خاص‬
‫ٍ‬ ‫‪‬الحقبة الحالية أو ‪ُ C.E‬تستخدَم في الكتابات العلمانية ً‬
‫بديال عن ‪ B.C.‬أي قبل الميالد و ‪A.D.‬أي بعد الميالد لتج ُّنب استخدام‬
‫دو ًنا عن البقية – المترجم‪.‬‬
‫اهتاما ميكن تصديقه‪ ،‬فإن باإلمكان البحث عن الساحرات الاليت ميكن حرقهن أو إغراقهن‪ .‬وعند‬
‫صعب اهتام أحد البشر الفانني ً‬
‫وإذا ُ‬
‫فشل كل هذه احملاوالت‪ ،‬يشري املرء إىل اآلهلة السادية‪ ،‬اليت ال ميكن عقاهبا‪ ،‬ولكن ميكن اسرتضاؤها بالصلوات والتضحيات‪ .‬مث توجد‬
‫القوى اجملهولة مثل الكارما والقدر والرسائل الروحانية والعدالة الكونية وضمانات أخرى للحدس القائل بأن لكل شيء سببًا‪.‬‬
‫استبدل جاليليو ونيوتن والبالس هبذه اللعبة األخالقية الكونية كونًا ذا حر ٍ‬
‫كة آلية حتدث فيه األمور بفعل الظروف القائمة يف‬
‫وهم‪ ،‬فقد حتدث‬ ‫ٍ‬
‫احلاضر وليس بفعل أهداف للمستقبل‪ .‬لدى الناس أهداف بالطبع ولكن إسقاط األهداف على طرق عمل الطبيعة ٌ‬
‫أمور دون أن يضع أي أحد يف اعتباره أثرها يف سعادة البشر‪.‬‬

‫تعمقت بصرية الثورة العلمية والتنوير باكتشاف اإلنرتوبيا‪ ،‬إذا ليس الكون غري مهتم برغباتنا فحسب‪ ،‬بل يبدو يف املسار‬
‫أيضا‪َّ ،‬‬
‫ألن الطرق إىل حدوث املشاكل أكثر من الطرق إىل سري األمور على ما يرام‪ ،‬فاملنازل حترتق‪ ،‬والسفن‬ ‫الطبيعي لألمور كأنه حيبطها ً‬
‫تغرق‪ ،‬واجليوش ُهتزم يف املعارك ألتفه األسباب‪.‬‬

‫وتعمق وعينا بعدم اكرتاث الكون بنا أكثر بفهمنا للتطور‪ ،‬فالكائنات املفرتسة والطفيليات ومسببات األمراض حتاول باستمرار‬
‫أن تأكلنا‪ ،‬واآلفات والكائنات املفسدة حتاول أن تأكل أغراضنا‪ ،‬ورمبا جيعلنا هذا تعساءَ‪ ،‬ولكن هذه ليست مشكلتهم!‬

‫أيضا ال حيتاج إىل تفسري‪ ،‬فهو احلالة االفرتاضية للبشرية يف عا ٍمل حتكمه اإلنرتوبيا والتطور‪ ،‬فاملادة ال ترتِّب نفسها على‬
‫والفقر ً‬
‫طعام لنا‪ .‬ومثلما أشار آدم مسيث‪َّ ،‬‬
‫فإن ما حيتاج‬ ‫هيئة مأوى أو مالبس‪ ،‬والكائنات احلية تفعل كل ما بوسعها كي تتجنب أن تتحول إىل ٍ‬
‫بأن احلوادث أو األمراض حتدث بفعل ٍ‬
‫فاعل‪ ،‬وتدور املناقشات عن‬ ‫إىل تفسري هو الثروة‪ .‬ولكن حىت اليوم‪ ،‬ما زال بعض الناس يؤمنون َّ‬
‫الفقر غالبًا حول حجج متعلقة مبن يقع عليه اللوم يف الفقر‪.‬‬
‫أن العامل الطبيعي ٍ‬
‫خال من الضغائن والشرور‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬يضمن التطور وجود الكثري منها‪.‬‬ ‫ال يُقصد بأي من هذا َّ‬
‫يقوم االنتخاب الطبيعي على التنافس بني اجلينات اليت ستتمثل يف اجليل التايل‪ ،‬والكائنات اليت نراها اليوم هي نسل الكائنات اليت‬
‫تفسر نظرية التطور‬
‫دائما‪ ،‬إذ ِّ‬ ‫هزمت خصومها يف املنافسة على الشركاء اجلنسيني والغذاء واهليمنة‪ .‬وال يعين هذا َّ‬
‫أن كل املخلوقات ضارية ً‬
‫احلديثة كيف ميكن للجينات األنانية أن تسفر عن نشأة كائنات غري أنانية‪ ،‬ولكن الكرم خيضع للقياس‪ .‬فالبشر ‪-‬على عكس خاليا‬
‫اجلسم أو األفراد ضمن مستعمرات‪ -‬متفردون جينيًّا‪ ،‬وراكم كلٌّ منهم ومجع جمموعة خمتلفة من الطفرات اليت ظهرت على مر أجيا ٍل من‬
‫أيضا للنزاعات‪ ،‬إذ تشتعل العالقات‬
‫متهد الطريق ً‬
‫التكرار املعرض لإلنرتوبيا يف ساللته‪ .‬متنحنا الفردية اجلينية احتياجات وأذواقًا خمتلفة‪ ،‬و ِّ‬
‫بني األسر واألزواج واألصدقاء واحللفاء واجملتمعات بتضاربات يف املصاحل‪ ،‬واليت تظهر يف هيئة توتر وجداالت وأحيانًا عنف‪ .‬من اآلثار‬
‫نظام معقد ككائن حي‪ ،‬ألن عمله يتوقف على تلبية شروط كثرية مستبعدة احلدوث يف ٍ‬
‫وقت‬ ‫األخرى لقانون اإلنرتوبيا إمكانية تعطيل ٍ‬
‫َّ‬
‫واحد‪ ،‬فمجرد صخرة تضرب الرأس‪ ،‬أو يد تلتف حول العنق‪ ،‬أو سهم مسموم يصيب اهلدف‪ ،‬يُعطل املنافس‪ .‬ومن أكثر الوسائل إغراءً‬
‫للكائن الذي يستخدم اللغة‪ ،‬التهديد بالعنف الذي قد يُستخدم يف إجبار اخلصم مما يفتح الباب لالضطهاد واالستغالل‪.‬‬
‫أن ملكاتنا املعرفية والعاطفية واألخالقية تكيَّفت من أجل البقاء الفردي والتكاثر يف ٍ‬
‫بيئة عتيقة‬ ‫ترك لنا التطور عبئًا آخر‪ ،‬وهو َّ‬
‫بيئة حديثة‪ .‬ولكي نقدِّر حجم هذا العبء‪ ،‬فليس علينا أن نصدِّق أننا رجال كهف يعيشون يف زم ٍن غري‬ ‫وليس من أجل االزدهار يف ٍ‬
‫زمنهم‪ ،‬وإمنا علينا أن نصدق فقط أن التطور‪ ،‬الذي تقاس حدود سرعته باألجيال‪ ،‬مل ِ‬
‫يستطع تكييف أدمغتنا مع املؤسسات والتكنولوجيا‬
‫احلديثة‪ .‬يعتمد البشر اليوم على امللكات املعرفية اليت كانت ناجحة يف اجملتمعات التقليدية‪ ،‬ولكننا نراها اآلن مليئة باألخطاء‪.‬‬

‫الناس بطبيعتهم أميون وعاجزون عن احلساب‪ ،‬وحيددون الكميات يف العامل بـ «واحد‪ ،‬اثنان‪ ،‬كثري» وبتخمينات وتقديرات‬
‫بدال من قوانني الفيزياء أو األحياء‪ ،‬فاألغراض‬
‫تقريبية‪ ،‬ويفهمون أن األشياء املادية هلا جوهر خفي يطيع قوانني سحر التعاطف أو الفودو ً‬
‫تستطيع عبور الزمان واملكان لتؤثر يف أشياء تشبهها أو اتصلت هبا يف املاضي َّ‬
‫(تذكر معتقدات الرجل اإلجنليزي قبل الثورة العلمية)‪.‬‬
‫يظنون أن الكلمات واآلراء قد تعتدي على العامل املادي بالصلوات واللعنات‪ ،‬ويقلِّلون من مدى انتشار الصدفة‪ِّ .‬‬
‫يعممون مناذج ضئيلة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫جملموعة ما على أي فرد ينتمي إليها‪ .‬يستنتجون السببية من‬ ‫أي جتربتهم اخلاصة‪ِّ ،‬‬
‫ويفكرون بأمناط سائدة‪ ،‬ويسقطون السمات النمطية‬
‫تفكريا كليًّا‪ ،‬إما أبيض أو أسود‪ ،‬ويتعاملون مع الشبكات اجملردة كأهنا أشياء ملموسة‪ .‬ليسوا علماءَ بالبداهة بقدر ما‬ ‫ِّ‬
‫االرتباط‪ ،‬ويفكرون ً‬
‫ُهم حمامون وساسة بالبداهة‪ ،‬حيشدون األدلة اليت تؤكد قناعاهتم يف حني يستبعدون األدلة اليت تعارضها‪ ،‬ويبالغون يف تقدير معرفتهم‬
‫وفهمهم واستقامتهم وكفاءهتم وحظهم‪.‬‬

‫أيضا لغايات متقاطعة مع رفاهتنا‪ ،‬فالناس يشيطنون املختلفني عنهم‪ ،‬ويعزون اختالفهم يف‬
‫ويعمل احلس األخالقي للبشر ً‬
‫مصدرا لألسس اليت يدينون بناءً عليها خصومهم‬
‫ً‬ ‫اآلراء إىل الغباء واخليانة‪ .‬عند كل مصيبة‪ ،‬يبحثون عن كبش الفداء‪ ،‬ويرون األخالق‬
‫أيضا قد تُبىن على استهزائهم بالتقاليد‬
‫أن املتهمني قد آذوا اآلخرين‪ ،‬ولكنها ً‬ ‫وحيشدون السخط جتاههم‪ .‬قد تُبىن أسس اإلدانة على َّ‬
‫السلطة أو َّقوضوا الوحدة القبَلية أو قاموا مبمارسات غذائية أو جنسية جنسة‪ .‬يرى الناس العنف أخالقيًّا وليس العكس‪،‬‬ ‫َّ‬
‫أو شككوا يف ُ‬
‫ففي العامل كله على مر التاريخ‪ ،‬كان عدد من قُتِلوا لتحقيق العدالة أكثر ممن قُتِلوا بدافع اجلشع‪.‬‬

‫متاما‪ ،‬يأيت اإلدراك البشري خباصيتني مينحانه وسيلةً لتجاوز حدوده‪ :‬األوىل هي التجريد‪ ،‬إذ يستطيع الناس‬
‫ولكننا لسنا سيئني ً‬
‫ظرف ما‪ ،‬مثلما نستقبل منط تفكري مثل «جرى الغزال من‬ ‫كيان يف ٍ‬
‫مكان ما واستخدامه يف تصور ٍ‬ ‫شيء ما يف ٍ‬‫أخذ مفهومهم عن ٍ‬
‫البحرية إىل التل» ونسقطه على آخر مثل «حتولت حالة الطفل من املرض إىل الصحة»‪ .‬ميكنهم أخذ مفهوم عن ٍ‬
‫فاعل يبذل قوة جسدية‬
‫ويستخدمونه يف تصور أنو ٍاع أخرى من السببية‪ ،‬مثل عندما نسقط الصورة يف مجلة «لقد أجبَـَرت الباب على أن يُفتَح» على مجلة «لقد‬
‫أجبـرت ليزا على االنضمام إليها» أو «لقد أجبـرت نفسها على التعامل بأدب»‪ .‬تقدِّم هذه الصيغ للناس وسيلةً للتفكري يف املتغري بقيمةٍ‬
‫ََ‬ ‫ََ‬
‫ما ويف السبب ونتيجته‪ ،‬وهذه بالتحديد هي اآللية املفاهيمية اليت حيتاج إليها املرء كي يصوغ النظريات والقوانني‪ .‬ميكنهم أن يفعلوا هذا‪،‬‬
‫أيضا مع الرتكيبات األعقد‪ ،‬مما يتيح هلم التفكري باجملاز والتشبيهات‪ ،‬مثل‪ :‬احلرارة سائلة‪ ،‬أو الرسالة‬
‫ليس مع عناصر الفكر فحسب‪ ،‬بل ً‬
‫حاوية‪ ،‬أو اجملتمع أسرة‪ ،‬أو االلتزامات قيود‪.‬‬

‫املرحلة الثانية يف اإلدراك هي قوته الرتكيبية التكرارية‪،‬إذ ميكن أن يضمر الذهن جمموعةً ضخمة من األفكار عرب جتميع مفاهيم‬
‫أساسية مثل الشيء واملكان واملسار والفاعل والسب واهلدف يف فرضيات‪ ،‬وليس ذلك فحسب‪ ،‬بل ميكنه أن يضمر فرضيات عن‬
‫الفرضيات وفرضيات عن الفرضيات عن الفرضيات‪ ،‬وهكذا‪ .‬على سبيل املثال‪( :‬حيتوي اجلسم على أخالط‪ .‬املرض هو خلل يف توازن‬
‫أعد أؤمن بالنظرية القائلة َّ‬
‫بأن املرض هو خلل يف توازن األخالط اليت حيتوي عليها اجلسم)‪.‬‬ ‫األخالط اليت حيتوي عليها اجلسم‪ ،‬مل ُ‬
‫مفكر واحد‪ ،‬بل أصبح من املمكن مشاركتها مع جمتم ٍع من‬ ‫بفضل اللغة‪ ،‬مل ُتعد األفكار ُتضع للتجريد والتجميع داخل رأس ِّ‬
‫تشبيه‪ ،‬فقال‪َ « :‬من يتلقى مين فكرة‪ ،‬يتلقى الرسالة بنفسه دون أن تنتقص من‬ ‫املفكرين‪ .‬شرح توماس جيفرسون قوة اللغة باستخدام ٍ‬ ‫ِّ‬
‫أن من يشعل مشعته من مشعيت‪ ،‬حيصل على الضوء دون أن حييطين بالظالم»‪ .‬تضاعفت قوة اللغة بوصفها تطبيق املشاركة‬ ‫فكريت‪ ،‬كما َّ‬
‫تكرر هذا يف عصوٍر الحقة مع الطباعة‪ ،‬مث مع انتشار املعرفة بالقراءة والكتابة‪ ،‬مث مع اإلعالم اإللكرتوين)‪.‬‬
‫األصلي مع اخرتاع الكتابة (مث َّ‬
‫املفكرين املتواصلني مبرور الوقت ومع الزيادة السكانية‪ ،‬واختلطت وترَّكزت يف املدن‪ ،‬وأتاح توافر الطاقة بقد ٍر أكرب من احلد‬
‫منت شبكات ِّ‬
‫األدىن الالزم للبقاء للكثري منهم رفاهية التفكري واحلديث‪.‬‬
‫تتشكل جمتمعات كبرية ومتصلة‪ ،‬ميكنها أن تتوصل إىل ٍ‬
‫طرق لتنظيم شؤوهنا تعمل للصاحل املشرتك ألفرادها‪ .‬وعلى الرغم‬ ‫عندما َّ‬
‫من أن اجلميع يريد أن يكون حمقًّا‪َّ ،‬إال أنه مبجرد أن يبدأ الناس يف عرض آرائهم املتضاربة‪ ،‬يتَّضح أنَّه ال ميكن أن يكون اجلميع ًّ‬
‫حمقا‬
‫بشأن كل شيء‪ .‬وقد تتصادم رغبة املرء يف أن يكون حمقًّا ٍ‬
‫برغبة أخرى‪ ،‬وهي الرغبة يف معرفة احلقيقة اليت حتظى باألولوية يف أذهان‬
‫جدال ليسوا مهتمني بفوز أي طرف من أطرافه‪ .‬ميكن أن تتوصل اجملتمعات بذلك إىل قواعد تسمح بنشأة معتقدات‬ ‫املتفرجني على ٍ‬
‫حقيقية من اجلداالت غري املقيدة ٍ‬
‫بنظام ما‪ ،‬كأن يكون عليك تقدمي أسباب ملعتقداتك‪ ،‬ويُسمح لك باإلشارة إىل العيوب يف معتقدات‬
‫يبني لك ما‬
‫اآلخرين‪ ،‬وال يُسمح لك بإسكات املختلفني معك عنوةً‪ .‬إذا أضفت القاعدة اليت تنص على أن عليك أن تدع العامل كله ِّ‬
‫جمتمع‬
‫علما‪ .‬باستخدام القواعد املناسبة‪ ،‬يستطيع ٌ‬
‫إذا كانت معتقداتك صحيحة أم خاطئة‪ ،‬فإن بإمكاننا أن نطلق على هذه القواعد ً‬
‫أفكارا عقالنية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫من املفكرين غري العقالنيني بالكامل أن يُنبتوا ً‬
‫أيضا أن تسمو مبشاعرنا األخالقية‪ ،‬فعندما تتباحث جمموعة كبرية بالقدر املناسب من الناس يف أفضل‬ ‫ميكن حلكمة اجلماهري ً‬
‫ٍ‬
‫اجتاهات معينة‪ .‬إذا كان عرضي املبدئي هو أنين «حيق يل أن أسرقك وأضربك‬ ‫حتما يف‬
‫طريقة للتعامل بعضهم مع بعض‪ ،‬ستتجه احملادثة ً‬
‫وأستعبدك وأقتلك أنت وأمثالك‪ ،‬ولكن ال حيق لك أنت أن تسرقين أو تضربين أو تستعبدين أو تقتلين أنا وأمثايل»‪ ،‬فال ميكن أن أتوقع‬
‫أن توافق على االتفاق أو أن تصدِّق عليه أي أطراف أخرى‪ ،‬ألنه ال يوجد سبب وجيه ألن أحصل أنا على امتيازات فقط ألنين أنا‬
‫اتفاق ينص على أنين «حيق يل أن أسرقك وأضربك وأستعبدك وأقتلك أنت وأمثالك‪،‬‬ ‫وألنك لست مثلي‪ .‬ولن نتفق على األرجح على ٍ‬
‫ُ‬
‫وحيق لك أنت أن تسرقين أو تضربين أو تستعبدين أو تقتلين أنا وأمثايل»‪ ،‬رغم متاثله‪َّ ،‬‬
‫ألن املساوئ اليت سنعاين منها بسبب األذى الواقع‬
‫علينا تفوق مبقدا ٍر هائل املميزات اليت سيحصل عليها ٌّ‬
‫أي منَّا عليها من إيذاء اآلخر (وهو نتيجة أخرى لقانون اإلنرتوبيا‪ ،‬فاإلصابة‬
‫باألذى أسهل وهلا آثار سلبية أكثر مما هلا من فوائد)‪ .‬سيكون من احلكمة أن نتفاوض على ٍ‬
‫عقد اجتماعي متبادل مفيد للطرفني‪ ،‬فال‬
‫ويشجع ًّ‬
‫كال منا على مساعدة اآلخر‪.‬‬ ‫ألي منَّا احلق يف أن يؤذي اآلخر ِّ‬
‫يعطي ٍّ‬
‫توجه‬ ‫إ ًذا رغم كل العيوب املوجودة يف الطبيعة البشرية‪َّ ،‬إال َّأهنا حتتوي على بذور تطورها‪ ،‬طاملا وصلت إىل أعر ٍ‬
‫اف ومؤسسات ِّ‬
‫املصاحل احملدودة إىل منافع عاملية‪ .‬ومن بني تلك األعراف حرية التعبري والال عنف والتعاون واملواطنة العاملية (الكوزموبوليتانية) وحقوق‬
‫اإلنسان واالعرتاف بقابلية البشر للخطأ‪ ،‬ومن بني تلك املؤسسات العلم والتعليم واإلعالم واحلكومة الدميقراطية واملنظمات الدولية‬
‫واألسواق‪ ،‬ومل ت ُكن مصادفةً كون هذه األعراف واملؤسسات كانت بنات أفكار التنوير‪.‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫الفكر المضاد للتنوير‬
‫الكلمات عذبةً‪ ،‬وتبدو املثُل ممتازة ال ميكن نقدها‪ ،‬إذ إهنا حتدِّد مهام‬
‫ُ‬ ‫من ميكنه أن يعادي العقل والعلم والنزعة اإلنسانية والتقدُّم؟ تبدو‬
‫ُ‬
‫مدارس ومستشفيات ومجعيات خريية ووكاالت إخبارية وحكومات دميقراطية ومنظمات دولية‪ ،‬فهل حتتاج‬ ‫ٍ‬ ‫كل مؤسسات احلداثة‪ ،‬من‬
‫دفاع؟‬
‫هذه املثُل حقًّا إىل ٍ‬
‫ُ‬
‫بالتأكيد حتتاج إليه‪ ،‬فمنذ ستينيات القرن املاضي‪ ،‬اخنفضت مستويات الثقة يف مؤسسات احلداثة‪ ،‬وشهد العقد الثاين من‬
‫ٍ‬
‫بشكل سافر من ُمثُل التنوير‪ ،‬وهي حركات ذات انتماء قبَلي وليس عامليًا‪،‬‬ ‫القرن احلادي والعشرين ازدهار احلركات الشعبوية اليت تتربأ‬
‫بدال من أن يكون لديها أمل يف‬
‫بدال من أن حترتم املعرفة‪ ،‬ولديها حنني للماضي الشاعري ً‬
‫سلطوية وليست دميقراطية‪ ،‬حتتقر اخلرباء ً‬
‫ولكن ردود الفعل هذه ليست قاصرة بأي ٍ‬
‫شكل على الشعبوية السياسية يف القرن احلادي والعشرين (وهي حركة‬ ‫ٍ‬
‫مستقبل أفضل‪َّ .‬‬
‫جيدا يف الفصلني العشرين والثالث والعشرين)‪ ،‬فازدراء العقل والعلم والنزعة اإلنسانية والتقدُّم له ٍ‬
‫ماض قدمي يعود إىل الثقافة‬ ‫سنفحصها ً‬
‫الفكرية والفنية النخبوية‪ ،‬ال ينبع فقد من القواعد الشعبية‪ ،‬وليس جمرد تعب ٍري عن غضب أعضاء حزب «ال أعرف شيئًا»‪.‬‬

‫متاما‪،‬‬
‫من االنتقادات الشائعة ملشروع التنوير أنَّه اخرتاع غريب غري مالئم للعامل بكل تنوعه واختالفاته‪ ،‬وهذا االنتقاد خاطئ ً‬
‫أثر يف جدارهتا ‪ .‬وعلى الرغم من التعبري عن كث ٍري من أفكار التنوير بأوضح الصيغ وأكثرها‬ ‫ٍ‬
‫فكل األفكار تنشأ يف مكان ما‪ ،‬وليس ملنبعها ٌ‬
‫أن جذورها ترجع إىل العقل والطبيعة البشرية‪ ،‬لذا فإن أي إنسان عاقل ميكنه التفاعل‬ ‫تأثريا يف أوروبا وأمريكا يف القرن الثامن عشر‪َّ ،‬إال َّ‬
‫ً‬
‫معها‪ ،‬ولذا فإن التعبري عن ُمثُل التنوير قد حتقق يف حضارات غري غربية عدة مرات على مر التاريخ‪.‬‬

‫التنوير‬ ‫إن رد فعلي األساسي على االدعاء َّ‬


‫بأن التنوير هو النموذج التوجيهي للغرب هو‪ :‬ليته كان كذلك ح ًقا! فسرعان ما تال َ‬
‫منقسما منذ ذلك احلني‪ .‬ومبجرد أن بدأ الناس خيطون حنو النور‪ ،‬أشار عليهم آخرون بأن الظالم ليس‬
‫ً‬ ‫فكر مضاد للتنوير‪ ،‬وظل الغرب‬
‫ٌ‬
‫سيئًا جدًّا‪ ،‬وأن عليهم أن يتوقفوا عن التجرؤ على حماولة فهم الكثري‪ ،‬وأن الدوغما والقواعد تستحق فرصة ثانية‪ ،‬وأن مصري الطبيعة‬
‫البشرية ليس التقدم‪ ،‬وإمنا التدهور‪.‬‬

‫تصدت احلركة الرومانسية‪ ،‬على حنو خاص‪ ،‬ملثُل التنوير بقوة‪ ،‬فقد أنكر روسو ويوهان هردر وفريدريش شيلينج وغريهم إمكانية‬
‫ُ‬
‫أن على األشخاص أن يقدِّموا أسبابًا ألفعاهلم‪ ،‬و َّ‬
‫أن‬ ‫فصل العقل عن العاطفة‪ ،‬وإمكانية النظر إىل األفراد بصرف النظر عن ثقافتهم‪ ،‬و َّ‬
‫كل عضوي ‪-‬ثقافة أو عرق أو أمة أو‬ ‫القيم تنطبق على خمتلف العصور واألماكن‪ ،‬و َّ‬
‫أن السالم والرخاء غايات مرجوة‪ .‬اإلنسان جزءٌ من ٍّ‬
‫بإبداع‪ ،‬فالنضال البطويل‪ ،‬وليس حل‬ ‫يوجهوا الوحدة السامية اليت ينتمون إليها ٍ‬
‫دين أو روح مجاعية أو قوة تارخيية‪ -‬وعلى الناس أن ِّ‬

‫‪‬هو حزب أمريكي أنشئ في القرن التاسع عشر وأُطلق عليه هذا االسم ألن أعضاءه كانوا يرفضون اإلفصاح عن قواعد الحزب وتعليماته قائلين ‪:‬ال‬
‫أعرف شي ًئا – المترجم‪.‬‬
‫املشكالت‪ ،‬هو اخلري األعظم‪ ،‬والعنف متأص ٌل يف الطبيعة وال ميكن كبته دون انتزاع احلياة منها‪ ،‬وقد كتب شارل بودلري‪« :‬هناك ثالث‬
‫فئات جديرة باالحرتام‪ ،‬وهي‪ :‬الكهنة‪ ،‬واحملاربون‪ ،‬والشعراء‪ ..‬أن تعرف‪ ،‬وأن تقتل‪ ،‬وأن تُبدع»‪.‬‬

‫ولكن هذه املثُل املضادة للتنوير ما زالت موجودة يف القرن احلادي والعشرين وسط عدد مدهش من احلركات‬ ‫يبدو هذا جنونيًّا‪َّ ،‬‬
‫ُ‬
‫وساذجا وجبانًا‬
‫ً‬ ‫أن علينا تسخري عقلنا اجلمعي يف تشجيع االزدهار وتقليل املعاناة أمحق‬ ‫الفكرية والثقافية النخبوية‪ .‬ويُعترب التصور القائل َّ‬
‫وعتي ًقا‪ .‬دعين أطرح هنا بعض البدائل الشائعة للعقل والعلم والنزعة اإلنسانية والتقدُّم‪ ،‬وسأعرضها ثانيةً يف ٍ‬
‫فصول أخرى‪ ،‬ويف اجلزء الثالث‬
‫من الكتاب سأتناوهلا مباشرةً‪.‬‬

‫سبب منطقي وجيه‪،‬‬ ‫أبرز هذه البدائل وأوضحها هو اإلميان الديين‪ ،‬فأن تقبل شيئًا ٍ‬
‫بإميان يعين أن تصدِّقه وتؤمن به دون ٍ‬
‫أيضا مع النزعة‬
‫فاإلميان بوجود كيانات خارقة للطبيعة ‪-‬بطبيعته وحسب تعريفه‪ -‬يتعارض مع العقل املنطقي‪ ،‬كما تتعارض األديان عادةً ً‬
‫ص إهلي‪ ،‬أو التصديق على رواية مقدسة‪ ،‬أو فرض‬ ‫"خريا أمسى ما" أمهيةً أكرب من رفاهة البشر‪ ،‬مثل قبول خملِّ ٍ‬
‫اإلنسانية عندما متنح ً‬
‫ٍ‬
‫طقوس أو حمظورات معينة‪ ،‬أو تبشري اآلخرين ليقوموا بنفس األمور‪ ،‬وعقاب من ال يقبلون ذلك أو شيطنتهم‪ .‬تصطدم األديان مع النزعة‬
‫أيضا بإضفاء قيمة على الروح أكرب من الحياة‪ ،‬وهو ليس أمراً ً‬
‫مبهجا كما يبدو‪ ،‬فاإلميان باحلياة اآلخرة يقتضي أال تكون‬ ‫اإلنسانية ً‬
‫الصحة والسعادة مهمتني‪ ،‬ألن احلياة على األرض ال متثل سوى جزء ضئيل من وجود املرء‪ ،‬كما يقتضي اإلميان أن يكون إجبار الناس‬
‫على قبول اخلالص مبثابة معروف يُسدى إليهم‪ ،‬وأن يكون االستشهاد أفضل شيء قد حيدث لك‪ .‬أما عن عدم توافق اإلميان مع العلم‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬من جاليليو وحماكمة القرد‪ ‬إىل األحباث على اخلاليا اجلذعية و ُّ‬
‫التغري‬ ‫قصص ترويها األساطري كما تفعل األحداث اجلارية ً‬
‫ٌ‬ ‫فهذه‬
‫املناخي‪.‬‬

‫الفكرة الثانية من األفكار املضادة للتنوير هي أن اإلنسان خلية ميكن االستغناء عنها من جسم كائن أكرب ‪-‬عشرية أو قبيلة‬
‫أو جمموعة إثنية أو دين أو عرق أو طبقة أو أمة‪ -‬وأن اخلري األمسى هو جمد هذه اجملموعة‪ ،‬وليس رفاهة األفراد الذين ِّ‬
‫يشكلوهنا سويًّا‪.‬‬
‫وتعد النزعة القومية من األمثلة الواضحة على هذه األفكار‪ ،‬إذ يكون الكائن األكرب هو الدولة القومية‪ ،‬أي جمموعة إثنية هلا حكومة‪،‬‬
‫ونرى هذا الصدام بني النزعة القومية والنزعة اإلنسانية يف شعارات وطنية مرعبة مثل‪“Dulce et decorum est pro patria :‬‬
‫”‪( mori‬كم هو مجيل أن متوت يف سبيل وطنك)‪ ،‬و«ياهلناء من عانق املوت والنصر ٍ‬
‫بإميان ساط ٍع»‪ ،‬بل وحىت مجلة جون األقل رعبًا‬ ‫َ‬
‫توضح هذا التوتر بني النزعتني‪.‬‬
‫«ال تسأل ما الذي يستطيع بلدك أن يقدمه لك‪ ،‬بل اسأل ما الذي تستطيع أنت تقدميه لبلدك» ِّ‬
‫ال ينبغي اخللط بني النزعة القومية من جانب‪ ،‬والقيم املدنية والروح اجلماعية واملسؤولية االجتماعية والفخر الثقايف من ٍ‬
‫جانب‬
‫آخر‪ ،‬فاإلنسان كائن اجتماعي‪ ،‬وتعتمد رفاهة كل فرد على أمناط التعاون والتناغم اليت تسود اجملتمع‪ .‬وعندما يُنظر إىل «األمة» بوصفها‬
‫إقليما‪ ،‬كملكية مشرتكة‪ ،‬فإن ذلك يكون وسيلة جوهرية لتقدم وازدهار أعضائها‪.‬‬
‫عقدا اجتماعيًا ضمنيًا بني جمموعة أفراد يتشاركون ً‬
‫ً‬
‫فرد ما مبصاحله اخلاصة من أجل مصاحل أفراد عدة‪ ،‬ولكن هذا خيتلف عن إجبار شخص على‬
‫طبعا أن يضحي ٌ‬
‫ومن اجلدير باإلعجاب ً‬

‫‪‬هي محاكمة معلِّم المدرسة الثانوية جون توماس سكوبز عام ‪ ، 1925‬وأُطلق عليها هذا االسم ألنه كان متهمًا بتدريس نظرية التطور وهو ما كان غير‬
‫قانون ًّيا آنذاك‪.‬‬
‫التضحية الكربى لصاحل قائد مؤثر‪ ،‬أو قطعة قماش أو ألوان على خريطة‪ ،‬وال يُعد من أمجل األشياء وأصحها أن تعانق املوت من أجل‬
‫ٍ‬
‫مقاطعة ما‪ ،‬أو توسيع دائرة النفوذ أو تنفيذ محلة صليبية وحدوية‪.‬‬ ‫منع انفصال‬

‫الدين والنزعة القومية من األسباب املميزة للمحافظة السياسية‪ ،‬وما زاال يؤثران يف مصري مليارات األشخاص يف الدول الواقعة‬
‫كثري من الزمالء اليساريني عندما عرفوا أنين أؤلف كتابًا عن العقل والنزعة اإلنسانية‪ ،‬متحمسني الحتمالية‬
‫شجعين ٌ‬
‫حتت نفوذمها‪ .‬وقد َّ‬
‫بعيدا‪ ،‬كان اليسار متعاط ًفا مع النزعة‬ ‫أن أضمن الكتاب ترسانةً حمتملة من النقاط اليت سأثريها ضد اليمني‪ ،‬ولكن‪ ،‬حىت ٍ‬
‫وقت ليس ً‬
‫كثري من اليساريني سياسيي هويات عرقية و ناشطي عدالة إجتماعية‬
‫وشجع ٌ‬
‫القومية عندما كانت ملتحمة مع حركات التحرير املاركسية‪َّ ،‬‬
‫قللوا من أمهية احلقوق الفردية لصاحل املساواة بني أوضاع األعراق والطبقات واألجناس املختلفة‪ ،‬والذين يرون أهنا يُزج هبا يف منافسة‬
‫صفرية‪.‬‬

‫أيضا مدافعون من شىت األطياف السياسية‪ ،‬وحىت الكتَّاب الذين يرفضون الدفاع عن احملتويات احلرفية للمعتقدات‬
‫للدين ً‬
‫الدينية قد يصبحون مدافعني بشراسة عن الدين‪ ،‬ومعادين بشدة لفكرة أن يكون للعلم والعقل عالقة باألخالق (فليس لدى معظمهم‬
‫امتيازا حصريًا ملناقشة األسئلة حول األمور‬
‫أن للدين ً‬‫علم بوجود النزعة اإلنسانية من األساس)‪ .‬يصر املدافعون عن اإلميان الديين على َّ‬
‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫املهمة‪ ،‬ويرون أنه حىت لو مل ي ُكن األشخاص رفيعو املستوى مثلنا حباجة إىل الدين ليكونوا ذوي ُخلق‪َّ ،‬‬
‫فإن اجلموع الغفرية حتتاج لذلك‪،‬‬
‫أو أنه حىت لو كان حال اجلميع سيبدو أفضل دون اإلميان الديين‪ ،‬فال جدوى من احلديث عن وضع الدين يف العامل‪َّ ،‬‬
‫ألن الدين جزء‬
‫من الطبيعة البشرية‪ ،‬وهلذا فهو متماسك أكثر من أي ٍ‬
‫وقت مضى‪ ،‬هازئًا بآمال التنوير‪ .‬سأنظر يف كل هذه االدعاءات يف الفصل الثالث‬
‫والعشرين‪.‬‬
‫تطوع املصاحل البشرية ٍ‬
‫لكيان أمسى هو النظام البيئي‪ ،‬حيث ال ترى احلركة البيئية‬ ‫مييل اليسار إىل التعاطف مع حر ٍ‬
‫كة أخرى ِّ‬
‫اخلضراء الرومانسية أن التقا َط البشر للطاقة طريقةٌ ملقاومة اإلنرتوبيا وحتسني ازدهار البشرية‪ ،‬وإمنا جرميةٌ سافرة يف حق الطبيعة اليت ستقتص‬
‫منا بقوة يف صورة حروب على املوارد‪ ،‬وتلوث يف اهلواء واملياه‪ ،‬وتغري مناخي سيفضي إىل القضاء على احلضارة‪ .‬ويكمن خالصنا يف‬
‫ٍ‬
‫شخص مطلع‬ ‫التنصل من التكنولوجيا والنمو االقتصادي‪ ،‬والرجوع إىل طريقة حياة أبسط وأقرب للطبيعة‪ .‬ال ميكن بالطبع ألي‬ ‫التوبة و ُّ‬
‫أن الضرر الواقع على النظم الطبيعية بفعل نشاط اإلنسان ٍ‬
‫مؤذ وأننا إذا مل نفعل شيئًا حياله سيصبح الضرر كارثيًّا‪ ،‬لكن السؤال‬ ‫أن ينكر َّ‬
‫بأال يفعل شيئًا حياله‪ .‬سنستكشف يف الفصل العاشر‬ ‫احلقيقي هو ما إذا كان اجملتمع املعقد‪ ،‬واملتقدم تكنولوجيًّا‪ ،‬حمكوم عليه بالفعل َّ‬
‫النزعة البيئية اإلنسانية‪ ،‬وهي تنويرية أكثر منها رومانسية‪ ،‬ويُطلق عليها أحيانًا احلداثة البيئية أو الربمجاتية البيئية‪.‬‬

‫جمتمعا من اإلخوة املتشاهبني فكريًّا‪،‬‬


‫حتول األيديولوجيات السياسية اليسارية واليمينية أنفسها إىل أديان علمانية توفر لألفراد ً‬
‫ِّ‬
‫كما توفر هلم معتقدات مقدسة‪ ،‬وإمكانية دراسة شياطني األيديولوجيات األخرى‪ ،‬وثقةً مبهجة يف صحة قضيتهم‪ .‬وسنرى يف الفصل‬
‫وحترك العقلية القبَلية‬
‫تشوش حكم الناس على األمور‪ِّ ،‬‬ ‫تقوض األيديولوجية السياسية العقل املنطقي والعلم‪ ،‬فهي ِّ‬
‫احلادي والعشرين كيف ِّ‬
‫البدائية‪ ،‬وتشتِّتهم عن الفهم األصح لكيفية حتسني العامل‪ .‬إن ألد أعدائنا ليسوا خصومنا السياسيني‪َّ ،‬‬
‫وإمنا اإلنرتوبيا والتطور (يف صورة‬
‫الوباء والعيوب يف الطبيعة البشرية)‪ ،‬وأمهها اجلهل‪ ،‬أي القصور يف معرفة كيفية حل مشاكلنا على أفضل حن ٍو‪.‬‬
‫تقع احلركتان األخريان املضادتان للتنوير يف املنتصف بني اليمني واليسار‪ .‬أعلنت جمموعة متنوعة من الكتَّاب على مدار قرنني‬
‫تقريبًا َّ‬
‫أن احلضارة البشرية ال تتميز بالتقدُّم‪ ،‬وإمنا هي يف تدهور مستمر وعلى حافة االهنيار‪ ،‬ويسرد املؤرخ آرثر هريمان يف كتابه ‪The‬‬
‫‪( Idea of Decline in Western Civilization‬فكرة التدهور يف احلضارة الغربية) تاريخ قرنني من املتشائمني الذين‬
‫أطلقوا صافرة اإلنذار باالضمحالل العرقي أو الثقايف أو السياسي أو البيئي‪ .‬يبدو أن العامل يشرف على االنتهاء منذ زم ٍن بعيد‪.‬‬

‫يتحسر أحد أشكال النزعة القائلة بأن احلضارة تتدهور على لعبنا بالتكنولوجيا ‪-‬كما لعب بروميثيوس بالنار‪ -‬فبانتزاع النار‬
‫من اآلهلة‪ُ ،‬منح جنسنا البشري وسيلة القضاء على وجوده بنفسه‪ ،‬إن مل ي ُكن بتسميم بيئتنا‪ ،‬فبإطالق األسلحة النووية‪ ،‬وبالنانو‬
‫تكنولوجي‪ ،‬واإلرهاب اإللكرتوين واإلرهاب البيولوجي والذكاء االصطناعي وخماطر وجودية أخرى على العامل (الفصل التاسع عشر)‪.‬‬
‫وحىت إذا استطاعت حضارتنا التكنولوجية اهلروب من الفناء الكامل‪ ،‬فهي يف طريقها السريع حنو «ديستوبيا» من العنف والظلم‪« :‬عامل‬
‫جديد شجاع» من اإلرهاب‪ ،‬والطائرات بدون طيار‪ ،‬واملؤسسات الصناعية املستغلة‪ ،‬والعصابات‪ ،‬واإلجتار بالبشر‪ ،‬والالجئني‪ ،‬وغياب‬
‫املساواة‪ ،‬والتنمر اإللكرتوين‪ ،‬واالعتداء اجلنسي‪ ،‬وجرائم الكراهية‪.‬‬

‫وتتأمل جمموعة أخرى من أنصار النزعة القائلة بالتدهور من املشكلة املضادة‪ ،‬ليس َّ‬
‫أن احلداثة قد جعلت احلياة قاسية وخطرية‪،‬‬
‫وإمنا أهنا جعلتها سارة وآمنة‪ ،‬فوف ًقا هلؤالء الناقدين‪ ،‬فإن الصحة والسالم والرخاء احنرافات برجوازية عن األمور املهمة حقًّا يف احلياة‪.‬‬
‫بتيه مشتت‪ ،‬منشق‪ ،‬استهالكي‪ ،‬مادي‪ ،‬رتيب‪ ،‬ذي توجهات‬ ‫وبتقدمي هذه املتع غري الفكرية‪ ،‬حكمت الرأمسالية التكنولوجية على الناس ٍ‬
‫خارجية‪ ،‬وبال جذور‪ ،‬ومنهك للروح‪ .‬يف هذا الوجود العبثي‪ ،‬يعاين الناس من االغرتاب والفزع وغياب املعايري االجتماعية والال مباالة‬
‫فهم «رجال جموفون يتناولون غداءهم املكشوف يف األرض املقفرة يف انتظار جودو (املخلص)»‪.‬‬
‫وسوء النية والسأم والتوعك والغثيان‪ُ ،‬‬
‫(سأنظر يف هذه االدعاءات يف الفص السابع عشر والثامن عشر)‪ .‬عند غروب حضارة مضمحلة متدهورة‪ ،‬لن جتد التحرر احلقيقي يف‬
‫العقالنية العقيمة وال النزعة اإلنسانية الضعيفة‪ ،‬وإمنا يف الوجود احلقيقي البطويل الكلي العضوي املقدس احليوي يف ذاته‪ ،‬وإرادة القوة‪.‬‬
‫ويف حال كنت تتساءل عن ماهية هذه البطولة املقدسة‪ ،‬فإن فريدريك نيتشه ‪-‬الذي صاغ مصطلح «إرادة القوة»‪ -‬يوصي بالعنف‬
‫الشقر»‪ ‬والساموراي والفايكينج وأبطال هومريوس‪ :‬عنف « ٍ‬
‫قاس بارد فظيع دون‬ ‫األرستقراطي الذي يشبه عنف «الوحوش التيوتونيني ُ‬
‫مشاعر ودون ضمري‪ ،‬حيطم كل شيء‪ ،‬ويلوث كل شيء بالدماء»‪( .‬سنلقي نظرة عن كثب على هذه األخالق يف الفصل األخري)‪.‬‬
‫أن املثقفني والفنانني الذين يتنبؤون باهنيار احلضارة يستجيبون إىل هذه النبوءة بطر ٍ‬
‫يقة من اثنتني‪ ،‬فاملتشائمون‬ ‫يشري هريمان إىل َّ‬
‫إن‬ ‫ٍ‬
‫بشماتة وحشية»‪ ،‬يقولون َّ‬ ‫يرحبون به «‬‫التارخييون يرعبهم االهنيار‪ ،‬ولكنهم ينوحون بأننا عاجزون عن منعه‪ ،‬واملتشائمون الثقافيون ِّ‬
‫نظام جديد سيكون بكل تأكيد متفوقًا‬
‫مستحيال‪ ،‬ومن أنقاضها سيظهر ٌ‬
‫ً‬ ‫فضال عن جتاوزها‪،‬‬
‫احلداثة مفلسة للدرجة اليت جتعل حتسينها‪ً ،‬‬
‫عليها‪.‬‬

‫أما آخر بدائل النزعة اإلنسانية التنويرية فإنه يدين تبنِّيها العلم‪ ،‬وميكننا أن نطلق عليه الثقافة الثانية كما أمساه تشارلز بريسي‬
‫سنو‪ ،‬وميثل وجهة نظر كث ريين من املثقفني األدباء والنقاد الثقافيني‪ ،‬يف مقابل الثقافة األوىل أي ثقافة العلم‪ .‬انتقد سنو الستار احلديدي‬

‫‪‬التيوتونيون قبائل جرمانية سكنت يوتالند قديمًا‪.‬‬


‫الفاصل بني الثقافتني‪ ،‬ودعا إىل اندماج العلم أكثر يف احلياة الفكرية‪ .‬مل ي ُكن األمر فقط أن العلم «بعمقه الفكري وتعقيده وألفاظه كان‬
‫أمجل وأروع عمل مجعي من إنتاج أذهان البشر»‪ ،‬وإمنا كانت املعرفة بالعلم‪،‬كما قال‪ ،‬حتمية أخالقية ألهنا ميكن أن تقلل املعاناة على‬
‫نطاق عاملي عرب عالج األمراض وإطعام اجلوعى وإنقاذ حياة األطفال واألمهات والسماح للنساء بالتحكم يف خصوبتهن‪.‬‬

‫شهريا من الناقد األديب فرانك رميوند‬ ‫أن حجة سنو تبدو اليوم متنبئة باملستقبل‪َّ ،‬إال َّأهنا واجهت يف عام ‪ً 1962‬‬
‫تفنيدا ً‬ ‫رغم َّ‬
‫وعدا بعدم رفع دعوى‬
‫ليفيس‪ ،‬وكان انتقاد ليفيس مسيئًا للدرجة اليت جعلت جملة ‪ The Spectator‬تطلب من سنو أن يقطع ً‬
‫قضائية بتهمة القذف قبل أن ينشروه‪ .‬بعد أن أشار ليفيس إىل «عدم حتلي سنو بأي متييز فكري‪ ..‬وإىل أسلوبه املبتذل الذي يندى له‬
‫اجلبني»‪ ،‬استهزأ بنظام القيم الذي يكون املعيار األهم فيه هو «املستوى املعيشي»‪ ،‬ويكون رفع هذا املستوى هو «الغاية النهائية»‪.‬‬
‫بديال هو أن «فهم األدب العظيم وااللتزام به هو ما جيعلنا نكتشف ما نؤمن به ًّ‬
‫حقا من أعماقنا‪ ،‬ما الغرض؟ ما الغرض النهائي؟‬ ‫واقرتح ً‬
‫ما الذي يتبعه اإلنسان؟ تشري األسئلة إىل ما ميكنين أن أطلق عليه عمق ديين يف الفكر واإلحساس»‪( .‬رمبا يتساءل أي شخص ميتد‬
‫ضاعف هذا التعاطف‬ ‫ٍ‬
‫«عمق فكره وإحساسه» ليصل إىل امرأة يف بلد فقري عاشت لرتى مولودها بسبب رفع مستواها املعيشي‪ ،‬مث ي َ‬
‫مبئات املاليني‪ ،‬ملاذا ميكن أن يكون معيار «فهم األدب العظيم وااللتزام به» أمسى أخالقيًّا من معيار «رفع املستوى املعيشي» لـ «ما‬
‫بديال عن اآلخر من األساس)‪.‬‬
‫نؤمن به حقًّا من أعماقنا»‪ ،‬أو ملاذا ينبغي اعتبار أحدمها ً‬

‫رمبا جند منظور ليفيس يف مساحة كبرية من «الثقافة الثانية» اليوم –كما سنرى يف الفصل الثاين والعشرين‪ -‬فكثريٌ من املثقفني‬
‫حال للمشكالت العادية‪ ،‬ويكتبون و َّ‬
‫كأن استهالك فن النخبة هو اخلري األخالقي األمسى‪.‬‬ ‫والناقدين يعربون عن ازدراء العلم كأنه ال ميثِّل ًّ‬
‫ال تقوم منهجيتهم يف البحث عن احلقيقة على إعداد الفرضيات وذكر األدلة‪ ،‬وإمنا على تعبريات مستوحاة من سعة اطالعهم وعاداهتم‬
‫احلياتية املتمثلة يف القراءة‪ .‬ويف السياق نفسه تستنكر اجملالت الثقافية عادةً «العلموية»‪ ،‬وهي إقحام العلم يف جمال اإلنسانيات مثل‬
‫ات حقيقية‪ ،‬وإمنا جمرد أسطورة أو رواية أخرى‪،‬‬ ‫السياسة والفنون‪ ،‬وال يقدَّم العلم يف كليات وجامعات كثرية على أنه البحث عن تفسري ٍ‬
‫ُ‬
‫كثريا على العلم يف العنصرية واإلمربيالية واحلروب العاملية واهلولوكوست‪ ،‬ويُتهم بانتزاع السحر واجلاذبية من احلياة وجتريد‬
‫كما يُلقى باللوم ً‬
‫البشر من حريتهم وكرامتهم‪.‬‬

‫فالنزعة اإلنسانية التنويرية إ ًذا هي أبعد ما تكون عن حماولة إرضاء اجلماهري‪ ،‬ففكرة َّ‬
‫أن اخلري األمسى هو استخدام املعرفة يف‬
‫تعزيز رفاهة البشر تُشعِر الناس بالفتور‪ .‬لديك تفسريات عميقة للكون وللكوكب وللحياة وللدماغ؟ إذا مل ت ُكن تتضمن السحر فال نريد‬
‫أن نسمعها! إنقاذ حياة مليارات البشر والقضاء على األمراض وإطعام اجلوعى؟ ياللملل! أشخاص يزيدون تعاطفهم ليشمل كل البشرية؟‬
‫جيدا مبا يكفي‪ ،‬نريد أن هتتم بنا قوانين الكون نفسه! طول العمر والصحة والفهم واجلمال واحلرية واحلب؟ ال بد وأن يكون يف‬
‫ليس ً‬
‫احلياة ما هو أكثر وأهم من ذلك!‬

‫ولكن فكرة التقدم هي اليت جتعلهم يستشيطون غضبًا‪ ،‬وحىت أولئك الذين يظنون أن استخدام املعرفة يف تعزيز رفاهة البشر‬
‫هائال لتشاؤمهم‪ :‬فهي‬‫دعما ً‬ ‫فكرة جيدة من الناحية النظرية‪ ،‬ولكنهم يصرون أهنا لن تنجح عمليًّا مطل ًقا‪ ،‬فإن األخبار اليومية تقدم ً‬
‫تصور العامل كأنه و ٍاد مليء بالدموع‪ ،‬وحكاية مليئة بالويالت‪ ،‬ووحل من اليأس‪ .‬مبا َّ‬
‫أن الدفاع عن العقل املنطقي والعلم والنزعة اإلنسانية‬
‫عاما من عصر التنوير ليس أفضل من حال أسالفنا يف العصور املظلمة‪ ،‬فال بد إذًا‬ ‫لن يكون جمديًا لو َّ‬
‫أن حالنا اآلن بعد مئتني ومخسني ً‬
‫أن تبدأ حجة دفاعنا من تقييم تقدُّم البشر‪.‬‬
‫الجزء الثاني‪:‬‬
‫التقدم‬
‫إذا كان عليك أن تختار أن تولد في لحظة تاريخية معينة‪ ،‬ولم تعرف مسب ًقا من ستكون‪ ،‬لم تعرف ما إذا كنت‬
‫ستولد ألسر ٍة ثرية أو ألسر ٍة فقيرة‪ ،‬في أي دول ٍة ستولد‪ ،‬ستكون ً‬
‫رجال أم امرأة ‪.‬إذا كان عليك أن تختار اختيارً ا‬
‫أعمى في أي لحظة تريد أن تولد‪ ،‬ستختار هذه اللحظة ‪..‬اآلن‪.‬‬

‫‪ -‬باراك أوباما‪.2016 ،‬‬


‫الفصل الرابع‪:‬‬
‫رهاب التق ُّدم‬
‫يكره املثقفون التقدم‪ ،‬املثقفون الذين يطلقون على أنفسهم «تقدميني» يكرهون التقدم ًّ‬
‫حقا‪ ،‬إهنم ال يكرهون ثمار التقدم‪ ،‬بل على‬
‫ويفضلون اخلضوع للعمليات‬
‫بدال من الريشة واحملربة يف الكتابة‪ِّ ،‬‬
‫العكس‪ ،‬يستخدم معظم املثقفني والناقدين وقراؤهم احملافظون الكمبيوتر ً‬
‫اجلراحية حتت تأثري املخدر‪ ،‬ولكن ما يزعج الفئة الثرثارة هو فكرة التقدم نفسها‪ ،‬أي االعتقاد التنويري بأن بإمكاننا حتسني احلالة البشرية‬
‫عرب فهم العامل‪.‬‬

‫كامال من الكلمات اليت يسيئون استخدامها للتعبري عن استهزائهم‪ ،‬فإذا كنت تعتقد َّ‬
‫أن املعرفة ميكن أن‬ ‫جما ً‬‫لقد ألفوا مع ً‬
‫تساعد يف حل املشاكل‪ ،‬فلديك «إميان أعمى»‪ ،‬و«اعتقاد أشبه بالدين» بـ «اخلرافة البالية» و«الوعد الزائف» بـ «أسطورة مسرية التقدم‬
‫مشجع» لـ «القدرة األمريكية املبتذلة على حتقيق أي شيء» بروح «محاسية مغ َفلة» لـ «أيديولوجية جمالس اإلدارة»‪،‬‬
‫احلتمي»‪ .‬أنت « ِّ‬
‫و«وادي السيليكون» و«غرفة التجارة»‪ .‬وأنت ممارس لـ «منهج األحرار‪ ‬يف تفسري التاريخ»‪ ،‬و«متفائل ساذج» و«بوليانا‪ .»‬وبالطبع‬
‫أن «كل شيء‬ ‫نسخة عصرية من الفيلسوف الذي حيمل نفس االسم يف رواية ‪ Candide‬لفولتري‪ ،‬ويؤكد َّ‬ ‫ٍ‬ ‫«باجنلوس»‪ ،‬وهو يشري إىل‬
‫يسري حنو األفضل يف أفضل العوامل املمكنة»‪.‬‬

‫متشائما‪ ،‬فاملتشائم العصري يؤمن َّ‬


‫بأن العامل ميكنه أن يكون‬ ‫ً‬ ‫وللمصادفة‪َّ ،‬‬
‫فإن األستاذ باجنلوس ميثل ما قد نطلق عليه اليوم‬
‫كثريا مما هو اآلن‪ .‬مل ي ُكن فولتري يهجو أمل الفكر التنويري يف التقدم وإمنا نقيضه‪ ،‬التربير الديين للمعاناة الذي يُطلق عليه‬
‫كثريا ً‬
‫أفضل ً‬
‫خيار سوى السماح باألوبئة واجملازر ألن العامل دوهنما مستحيل من الناحية امليتافيزيقية‪.‬‬
‫«العدالة اإلهلية»‪ ،‬اليت وف ًقا هلا ليس أمام اهلل ٌ‬
‫بغض النظر عن املسميات‪ ،‬فإن الفكرة القائلة بأن العامل أفضل مما كان وسيكون أفضل بعد ذلك أصبحت فكرة قدمية الطراز‬
‫يوضح آرثر هريمان يف كتاب ‪َّ The Idea of Decline in Western History‬‬
‫أن‬ ‫يف أوساط أهل الفكر منذ فرتة طويلة‪ِّ .‬‬
‫املتنبئني باهلالك ُهم جنوم حتفل هبم املقررات الفنية الليربالية‪ ،‬ومنهم نيتشه وآرثر شوبنهاور ومارتن هيدجر وثيودور أدورنو ووالرت بنجامني‬
‫وهربرت ماركوز وجان بول سارتر وفرانتز فانون وميشيل فوكو وإدوارد سعيد وكورنل وست وجوقة من املتشائمني بشأن البيئة‪ .‬حصر‬
‫هريمان املشهد الثقايف يف هناية القرن العشرين‪ ،‬وحتسر على «الرتاجع الضخم» يف عدد «الدعاة الالمعني» للنزعة اإلنسانية التنويرية الذين‬
‫أيضا حلها»‪ .‬واتفق مع هذا عامل االجتماع روبرت‬
‫كانوا مقتنعني بأنه «مبا أن الناس خيلقون صراعات ومشكالت يف اجملتمع‪ ،‬فيمكنهم ً‬
‫ُّ‬
‫التشكك يف التقدم الغريب اليت‬ ‫نيسبت يف كتاب ‪( History of the Idea of Progress‬تاريخ فكرة التقدم)‪« :‬منت نزعة‬
‫ٍ‬
‫جمموعة معدودة من املثقفني يف القرن التاسع عشر وانتشرت‪ ،‬ليس قط بني أغلبية املثقفني يف الربع األخري‬ ‫يوما ما قاصرة على‬
‫كانت ً‬
‫من هذا القرن‪ ،‬وإمنا بني ماليني الناس يف الغرب»‪.‬‬

‫نسبة إلى حزب األحرار البريطاني ‪– The Whigs‬المترجم‪.‬‬ ‫‪ً ‬‬


‫ً‬ ‫‪ً ‬‬
‫نسبة إلى بطلة الرواية التي تحمل نفس االسم للروائية األمريكية إليانور بورتر التي صدرت عام ‪ 1913‬وأصبح هذا االسم مرادفا للشخص شديد‬
‫التفاؤل ‪-‬المترجم‪.‬‬
‫أيضا‬
‫أجل‪ ،‬ليس الذين يتمحور عملهم حول الثقافة والفكر ُهم فقط من يظنون أن العامل سيحل به اخلراب‪ ،‬بل يظن ذلك ً‬
‫األشخاص العاديون الذين تتلبَّسهم حالة «املثقف»‪ .‬يعرف علماء النفس منذ ٍ‬
‫وقت طويل أن الناس مييلون إىل النظر إىل حياهتم بعدسة‬
‫ٍ‬
‫حلادث أو مرض أو جرمية أقل من أي‬ ‫التعرض‬
‫فهم يظنون أن احتمالية أن يصبحوا ضحيةً للطالق أو الفصل من العمل أو ُّ‬ ‫وردية‪ُ ،‬‬
‫ٍ‬
‫شخص آخر‪ ،‬ولكن عندما تغري حمور السؤال من حياتهم إىل مجتمعهم‪ ،‬يتحولون من بوليانا إىل حوار‪.‬‬

‫مرورا باألوقات اجليدة والسيئة‪،‬‬


‫يطلق الباحثون املختصون بالرأي العام على هذا مسمى فجوة التفاؤل‪ ،‬فألكثر من عقدين ً‬
‫عندما مت استطالع آراء األوروبيني حول ما إذا كان وضعهم االقتصادي الخاص سيتحسن أم سيسوء خالل السنة التالية‪ ،‬أجاب أكثرهم‬
‫بأنه سيتحسن‪ ،‬يف حني عندما ُسئلوا عن وضع بلدهم االقتصادي‪ ،‬أجاب أكثرهم بأنه سيسوء‪ .‬تظن أغلبية الربيطانيني َّ‬
‫أن اهلجرة ومحل‬
‫املراهقات والقمامة والبطالة واجلرمية والتخريب واملخدرات مشاكل موجودة يف اململكة املتحدة كلها‪ ،‬ولكن قليلني منهم يظنون أهنا‬
‫مشاكل موجودة يف منطقتهم فقط‪ .‬وكذلك حيكم الناس على جودة البيئة يف معظم الدول بأهنا أسوأ يف بلدهم وليس يف جمتمعهم احمليط‬
‫فقط‪ ،‬وأسوأ يف العامل كله وليس يف بلدهم فقط‪ .‬وقد قال أغلب األمريكيني يف استطالعات الرأي يف كل ٍ‬
‫عام تقريبًا منذ ‪ 1992‬حىت‬
‫أن معدل جرائم العنف قد اخنفض يف هذه الفرتة‪ ،‬ويف أواخر عام ‪ ،2015‬قالت األغلبية يف‬ ‫إن اجلرمية يف زيادة‪ ،‬يف حني َّ‬
‫‪َّ 2015‬‬
‫أوضاع أسوأ»‪ ،‬ويف أغلب السنوات األربعني املاضية‪ ،‬قالت أغلبية األمريكيني َّ‬
‫إن أمريكا‬ ‫ٍ‬ ‫إحدى عشرة دولة متقدمة َّ‬
‫إن «العامل يتجه حنو‬
‫«تسري يف االجتاه اخلاطئ»‪.‬‬

‫هل هم حمقون؟ هل التشاؤم صحيح؟ هل ميكن أن يغرق العامل أكثر وأكثر كالدوامة؟ تسهل معرفة سبب شعور الناس هبذا‬
‫األمر‪ ،‬فالوسائل اإلخبارية متتلئ كل يوم بأخبا ٍر عن احلرب واإلرهاب واجلرمية والتلوث وغياب املساواة وتعاطي املخدرات والقمع‪ ،‬وال‬
‫أيضا‪ .‬تنذرنا أغلفة اجملالت بالثورات الفوضوية والطواعني‬
‫أقصد عناوين األخبار فقط‪ ،‬وإمنا مقاالت الرأي واملقاالت اإلخبارية الطويلة ً‬
‫احملررين تصعيدها ملكانة‬ ‫واألوبئة واالهنيارات وكث ٍري من «األزمات» (يف الزراعة والصحة والتقاعد والرفاهة والطاقة و َ‬
‫الع ْجز) اليت كان على ِّ‬
‫«األزمة اخلطرية»‪.‬‬

‫فعال أم ال‪ ،‬فستتفاعل طبيعة األخبار مع طبيعة اإلدراك لتجعلنا نظن أنه يسوء حقًّا‪ .‬تتحدث‬
‫وسواء كان وضع العامل يسوء ً‬
‫األخبار عن األمور اليت حتدث‪ ،‬ال عن تلك اليت مل حتدث‪ ،‬فلم نر قط صحافيًّا يقول أمام الكامريا‪« :‬أحدثكم مباشرةً من ٍ‬
‫بلد مل تندلع‬ ‫َ‬
‫تتعرض حلادث إطالق نريان‪ .‬طاملا مل ِ‬
‫ُتتف األمور السيئة من على وجه‬ ‫تتعرض لتفج ٍري‪ ،‬أو مدرسة مل َّ‬
‫حرب»‪ ،‬أو من مدينة مل َّ‬‫فيه ٌ‬
‫حولت مليارات اهلواتف الذكية أصحاهبا إىل‬
‫دائما حوادث كافية مللء كل الوسائل اإلخبارية‪ ،‬وخاصةً عندما َّ‬
‫األرض‪ ،‬ستكون هناك ً‬
‫مراسلي جرائم وحروب‪.‬‬

‫ومن بني األمور اليت حتدث بالفعل‪ ،‬تتضح األمور السلبية واإلجيابية على فرتات زمنية خمتلفة‪ ،‬فاألخبار أبعد ما تكون عن‬
‫«مسودة أوىل للتاريخ»‪ ،‬وإمنا هي أقرب إىل التعليق الرياضي حلظة بلحظة‪ ،‬فهي ترِّكز على أحداث منفصلة‪ ،‬وتكون بشكل عام هي‬
‫االحداث اليت وقعت منذ آخر إصدار (يف أوقات سابقة‪ ،‬أو يف اليوم السابق‪ ،‬أو اآلن منذ بضع ثو ٍان ً‬
‫مثال)‪ .‬قد حتدث األمور السيئة‬

‫‪‬حوا ار أو إيور هو حمار كئيب وأزرق اللون وهو أحد شخصيات كارتون ويني الدبدوب ويعني هنا أنهم يتحوّ لون من متفائلين إلى متشائمين – المترجم‪.‬‬
‫سريعا‪ ،‬يف حني ال تُبىن األمور اجليدة يف ٍ‬
‫ليلة وضحاها‪ ،‬وعندما تتضح وتتكشف لن تكون متوافقة مع دورة األخبار‪ .‬أشار الباحث يف‬ ‫ً‬
‫جمال السالم جون جالتونج إىل أنَّه إذا كانت إحدى الصحف تصدر كل مخسني سنة‪ ،‬فلن تكتب عن نصف ٍ‬
‫قرن من النميمة عن‬
‫املشاهري أو الفضائح السياسية‪ ،‬وإمنا ستكتب عن التغريات العاملية بالغة األمهية مثل زيادة متوسط العمر املتوقع‪.‬‬

‫تشوه طبيعة األخبار نظرة الناس للعامل بسبب عيب ذهين يطلق عليه عاملا النفس عاموس تفريسكي ودانييل كامنان «احلدس‬
‫ِّ‬
‫املبين على اإلتاحة» (‪ )Availability heuristic‬والذي يعين أن الناس يقدِّرون احتمالية وقوع ٍ‬
‫حدث ما أو معدل تكرار حدوث‬
‫ٍ‬
‫شيء ما حسب مدى سهولة تفكريهم يف أحداث شبيهة‪ ،‬وهذه قاعدة عامة صاحلة يف خمتلف مناحي احلياة‪ .‬ترتك األحداث املتكررة‬
‫ُتمن َّ‬
‫أن‬ ‫عموما إىل أحداث أكثر تكر ًارا‪ :‬فأنت تستند إىل ٍ‬
‫أساس متني عندما ِّ‬ ‫آثارا أقوى يف الذاكرة‪ ،‬وهكذا َّ‬
‫فإن الذكريات القوية تشري ً‬ ‫ً‬
‫احلمام يتواجد يف املدن أكثر من طيور الصفاري‪ ،‬رغم أنك تستند إىل ذكرياتك عن مقابلتهم وليس على إحصاء للطيور‪ .‬ولكن عندما‬
‫تظهر ذكرى ما يف أعلى قائمة نتائج حبث عقلك ألسباب أخرى غري التكرار ‪-‬إما ألهنا حديثة أو واضحة أو دموية أو مميزة أو مزعجة‪-‬‬
‫عددا‪ ،‬تلك اليت تبدأ حبرف ‪ k‬أم اليت يكون‬
‫‪ ،‬فإن الناس يبالغون يف تقدير مدى احتمالية حدوثها يف العامل‪ .‬أي من الكلمات أكثر ً‬
‫ترتيب حرف ‪ k‬فيها الثالث؟ جييب أكثر الناس باالختيار األول‪َّ .‬‬
‫إن عدد الكلمات اليت يكون حرف ‪ k‬فيها هو الثالث (مثل ‪،ankle‬‬
‫و‪ ،ask‬و‪ ،awkward‬و‪ ،bake‬و‪ ،cake‬و‪ ،make‬و‪...take‬إخل‪ ).‬يبلغ ثالثة أضعاف الكلمات اليت تبدأ حبرف ‪ ،k‬ولكننا‬
‫أوال عند احلاجة‪.‬‬
‫نسرتجع الكلمات مبطلعها‪ ،‬فتأيت كلمات مثل‪ ،keep :‬و‪ ،kind‬و‪ ،kill‬و‪ ،kid‬و‪ king‬يف بالنا ً‬

‫شائعا للحماقات يف االستدالل‪ ،‬فعلى سبيل املثال يفسر طالب السنة األوىل يف‬
‫مصدرا ً‬
‫ً‬ ‫متثِّل األخطاء الناجتة عن اإلتاحة‬
‫طفح جلدي بأنه أحد أعراض ٍ‬
‫مرض غريب‪ ،‬ويبتعد املصطافون عن البحر بعد أن يقرؤوا عن إحدى هجمات القرش‬ ‫كلية الطب كل ٍ‬
‫دائما‪ ،‬يف حني ال تفعل حوادث السيارات تقريبًا‪ ،‬على الرغم‬ ‫أو يشاهدوا فيلم الفك املفرتس‪ ،‬وتتصدر حوادث حتطم الطائرات األخبار ً‬
‫كثريا من الناس خيشون الطريان يف حني ال خيشى أح ٌد تقريبًا‬ ‫ٍ‬
‫كثريا من الناس‪ ،‬ومن غري املفاجئ إ ًذا أن ً‬
‫من أهنا تتسبب يف قتل عدد أكرب ً‬
‫شيوعا من الربو (الذي‬
‫قيادة السيارات‪ .‬يصنِّف الناس األعاصري (اليت تتسبب يف قتل حوايل مخسني أمريكيًّا سنويًّا) بأهنا سبب وفاة أكثر ً‬
‫أخبارا شيقة للتليفزيون‪.‬‬
‫يتسبب يف قتل أكثر من أربعة آالف أمريكي سنويًّا)‪ ،‬وذلك على ما يبدو ألن األعاصري متثِّل ً‬
‫تسهل رؤية كيف قد يستحث «احلدس املبين على اإلتاحة»‪ ،‬الذي تذكيه السياسة اإلخبارية ”‪“If it bleeds, it leads‬‬
‫إحساسا بالكآبة بشأن أوضاع العامل‪ .‬حيصي بعض الباحثني يف جمال اإلعالم‬
‫ً‬ ‫دائما‪،‬‬
‫اليت تشري إىل حصول األخبار الدموية على الصدارة ً‬
‫األخبار مبختلف أنواعها‪ ،‬أو يعرضون على احملررين قائمة من األخبار اليت ميكن نشرها‪ ،‬ويرون أيها سيختارون وكيف سيعرضوهنا‪ ،‬و َّ‬
‫أكدوا‬
‫يفضلون تغطية األخبار السلبية عن اإلجيابية واإلبقاء على تدفق األحداث ٍ‬
‫كعامل ثابت‪ .‬يوفِّر هذا بدوره‬ ‫أن حراس البوابات اإلعالمية ِّ‬
‫معادلة سهلة للمتشائمني يف الصفحة التحريرية‪ :‬ضع قائمة بأسوأ األمور اليت حتدث يف أي مكان يف الكوكب ذلك األسبوع‪ ،‬وستكون‬
‫خطرا أعظم ذات وق ٍع مذهل‪.‬‬ ‫قضيتك َّ‬
‫بأن احلضارة مل تواجه يف تارخيها ً‬
‫فبدال من أن يكون املتابعون الدائمون لألخبار على اطالع أكرب‪ ،‬قد تصبح‬
‫أيضا‪ً ،‬‬
‫تكون تبعات األخبار السلبية نفسها سلبية ً‬
‫متاما‪ ،‬إذ وجد استطالع‬
‫فهم يقلقون أكثر بشأن اجلرمية‪ ،‬حىت عندما ترتاجع معدالهتا‪ ،‬وأحيانًا ينفصلون عن الواقع ً‬
‫معايريهم خاطئة‪ُ .‬‬
‫أن أغلب األمريكيني يتابعون أخبار داعش عن كثب‪ ،‬ووافق ‪ 77‬باملئة منهم على َّ‬
‫أن‬ ‫رأي أجري يف عام ‪ 2016‬على سبيل املثال َّ‬
‫خطرا حقيقيًّا على وجود الواليات املتحدة وبقائها»‪ ،‬وهو اعتقاد ال ميكن وصفه سوى‬
‫«امليليشيات اإلسالمية يف سوريا والعراق متثِّل ً‬
‫بالومهي‪ .‬ومن غري املفاجئ أن يصبح متلقو األخبار السلبية كئيبني‪ ،‬فذكرت مراجعة حديثة للدراسات السابقة أن نتائجها تكون‪«:‬سوء‬
‫إدراك املخاطر‪ ،‬والقلق‪ ،‬واحلاالت املزاجية السيئة‪ ،‬والعجز املكتسب‪ ،‬واالزدراء والعدائية جتاه اآلخرين‪ ،‬وضعف احلساسية‪ ،‬ويف بعض‬
‫مثال‪« :‬ملاذا علي أن أديل بصويت؟ لن يفيد هذا ٍ‬
‫بشيء»‪،‬‬ ‫احلاالت‪ ..‬التجنب التام لألخبار»‪ ،‬كما يصبح متلقوها مؤمنني باجلربية فيقولون ً‬
‫َّ‬
‫طفل آخر من اجلوع األسبوع التايل على أي حال»‪.‬‬ ‫أو «قد أتربع باملال‪ ،‬لكن سيتضور ٌ‬
‫بعدما رأينا كيف ُُترج العادات الصحافية واالحنيازات املعرفية أسوأ ما فينا‪ ،‬كيف ميكننا تقييم وضع العامل على حن ٍو سليم؟‬
‫اإلجابة هي العدُّ‪ .‬كم عدد ضحايا العنف بالنسبة إىل عدد األحياء؟ كم عدد املرضى؟ كم عدد اجلوعى؟ كم عدد الفقراء؟ كم عدد‬
‫املظلومني؟ كم عدد األميني؟ وهل تزيد هذه األعداد أم تنخفض؟ َّ‬
‫إن العقلية الكمية‪ ،‬رغم هالة اهلوس اليت حتيط هبا‪ ،‬هي يف احلقيقة‬
‫العقلية املستنرية أخالقيًّا‪ ،‬ألهنا تتعامل مع حياة كل إنسان على أساس َّ‬
‫أن هلا قيمة مساوية حلياة اآلخرين‪ ،‬وال متيِّز األشخاص األقرب‬
‫التعرف على أسباب املعاناة ومن مث على معرفة أي إجراءات ستخففها على‬
‫أمال يف قدرتنا على ُّ‬
‫إليها أو األمجل يف الصور‪ ،‬وحتمل ً‬
‫األرجح‪.‬‬

‫كان هذا هو اهلدف من كتايب «‪ ،»The Better Angels of Our Nature‬الذي عرض مئة رسم بياين وخريطة‬
‫ٍ‬
‫ألسباب خمتلفة‪،‬‬ ‫توضح مدى تراجع العنف والظروف اليت تعززه على مدار التاريخ‪ ،‬وللتأكيد على حدوث هذا الرتاجع يف أزمنة خمتلفة‬
‫ِّ‬
‫اخنفاضا خبمسة أضعاف يف معدل الوفيات الناجتة عن التناحر والغزو القبَلي‪،‬‬
‫ً‬ ‫أيضا األمساء‪ .‬أنتجت عملية التهدئة وإرساء السالم‬
‫عرضت ً‬
‫اخنفاضا بأربعني ضع ًفا يف معدل جرائم القتل وجرائم‬
‫ً‬ ‫وهذه إحدى تبعات سيطرة الدول الفعالة على أقالي ٍم ما‪ .‬وأنتجت عملية التمدين‬
‫العنف األخرى تال إرساء حكم القانون وأعراف ضبط النفس يف بداية احلداثة يف أوروبا‪ .‬ويُطلق اسم الثورة اإلنسانية على ما حدث يف‬
‫عصر التنوير من إلغاء العبودية واالضطهاد الديين والعقوبات القاسية‪ .‬ويستخدم املؤرخون مصطلح فرتة السالم الطويلة للتعبري عن تراجع‬
‫احلروب بني القوى العظمى وبني الدول بعد احلرب العاملية الثانية‪ .‬وبعد هناية احلرب الباردة‪ ،‬نَعِ َم العاملُ بسالم جديد إذ كانت احلروب‬
‫األهلية واإلبادة العرقية واحلكم االستبدادي أقل‪ ،‬ومنذ مخسينيات القرن املاضي‪ ،‬اكتسح العامل فيضان من الثورات احلقوقية‪ ،‬مثل‪ :‬حركات‬
‫احلقوق املدنية‪ ،‬وحقوق املرأة‪ ،‬وحقوق املثليني‪ ،‬وحقوق الطفل‪ ،‬وحقوق احليوان‪.‬‬

‫ال خالف بني اخلرباء الذين يألفون هذه األرقام سوى على قلة قليلة من أمثلة هذا الرتاجع‪ .‬فعلماء اجلرمية التارخيية على سبيل‬
‫أن معدل جرائم القتل اخنفض بعد العصور الوسطى‪ ،‬ومن املألوف للباحثني يف العالقات الدولية َّ‬
‫أن احلروب الكربى‬ ‫املثال يتفقون على َّ‬
‫قلَّت تدرجييًّا بعد عام ‪ ،1945‬و َّ‬
‫لكن هذه األمور تُعد مفاجأة ألغلب الناس على نطاق العامل‪.‬‬

‫أن استعراض رسوم بيانية ميثِّل حمورها األفقي الزمن وميثِّل حمورها الرأسي عدد ضحايا العنف أو أي مقاييس أخرى‬ ‫ظننت َّ‬
‫ُ‬
‫أن اخلط املنحين من أعلى اليسار إىل أسفل اليمني قد يعاجل اجلمهور من االحنياز املبين على اإلتاحة ويقنعهم َّ‬
‫بأن العامل قد‬ ‫للعنف‪ ،‬و َّ‬
‫أن مقاومة فكرة التقدم راسخة ٍ‬
‫بعمق يتجاوز املغالطات‬ ‫ُّما يف هذا اجملال على األقل‪ .‬ولكين عرفت من أسئلتهم واعرتاضاهتم َّ‬
‫أحدث تقد ً‬
‫فعال هو سؤال‬‫ناقصا للواقع‪ ،‬لذا فالسؤال عن مدى دقة األرقام وتعبريها عن الواقع ً‬
‫انعكاسا ً‬
‫ً‬ ‫اإلحصائية‪ .‬متثِّل أي جمموعة بيانات بالطبع‬
‫تشكك يف البيانات فحسب‪ ،‬بل عن عدم االستعداد حىت الحتمالية أن تكون احلالة البشرية‬ ‫مشروع‪ ،‬ولكن االعرتاضات مل تكشف عن ُّ‬
‫فعال أم مل حيدث‪ ،‬فال ميكنهم إجراء‬
‫حتسنت‪ .‬يفتقر كثريٌ من الناس إىل األدوات املفاهيمية للتحقق مما إذا كان التقدم قد حدث ً‬
‫قد َّ‬
‫حتسن األوضاع‪ .‬فيما يلي نُ َس ٌخ معدَّلة للحوارات اليت أجريتها مع السائلني‪.‬‬
‫معاجلة ذهنية لفكرة إمكانية ُّ‬
‫ًإذا فالعنف قد تراجع خط ً ّيا منذ بداية التاريخ! ياللروعة!‬
‫كال‪ ،‬مل يرتاجع «خطيًّا»‪ ،‬فسيكون من املذهل أن ينخفض أي مقياس للسلوك البشري بكل تقلباته مبقدا ٍر ٍ‬
‫ثابت لكل وحدة‬
‫أيضا (وهو على األرجح ما يدور يف عقل السائل)‪ ،‬إذ سيعين هذا أنه‬ ‫ٍ‬
‫عقدا تلو اآلخر وقرنًا تلو اآلخر‪ ،‬وليس على وترية واحدة ً‬ ‫زمنية‪ً ،‬‬
‫ٍ‬
‫بتذبذبات وزيادات وارتفاعات مفاجئة وأحيانًا تأرجح مقلق‪،‬‬ ‫اخنفاض أو ٍ‬
‫ثبات دائم وال يزداد مطل ًقا‪ .‬تتسم املنحنيات التارخيية الفعلية‬ ‫ٍ‬ ‫يف‬
‫ومن األمثلة على ذلك احلربان العامليتان‪ ،‬وانتشار اجلرمية يف الدول الغربية منذ منتصف الستينيات حىت بداية التسعينيات يف القرن املاضي‪،‬‬
‫والزيادة املفاجئة يف احلروب األهلية يف العامل النامي بعد إهناء االستعمار يف ستينيات وسبعينيات القرن املاضي‪ .‬يتكون التقدم من‬
‫تضخ ٍم مؤقت إىل خط أساس منخفض‪ ،‬فال‬‫اندفاع هابط‪ ،‬أو عودة من ُّ‬
‫اف أو ٍ‬ ‫اجتاهات يف العنف تطرأ عليها هذه التقلبات‪ ،‬مثل اجنر ٍ‬
‫ألن احللول لبعض املشاكل ُتلق مشاكل أخرى‪ ،‬ولكن ميكن استئناف التقدم عند حل املشاكل‬ ‫ميكن أن يسري التقدُّم على وتريةٍ واحدة َّ‬
‫اجلديدة بدورها‪.‬‬

‫وباملناسبة‪ ،‬يقدم اختالف وترية البيانات االجتماعية معادلة سهلة للمنافذ اإلخبارية إلبراز السلبيات‪ ،‬فإذا جتاهلت كل السنوات‬
‫خربا)‪ ،‬فسيتكون لدى القراء انطباع َّ‬
‫بأن احلياة تزداد‬ ‫َّ‬
‫اليت اخنفض فيها مؤشر إحدى املشاكل‪ ،‬وأعلنت عن كل زيادة فيه (مبا أهنا متثِّل ً‬
‫كل‬
‫تتحسن‪ .‬يف الستة أشهر األوىل من عام ‪ ،2016‬نفذت صحيفة نيويورك تاميز هذه اخلدعة ثالث مرات مع أرقام ٍّ‬ ‫سوءًا حىت عندما َّ‬
‫من االنتحار وطول العمر والوفيات الناجتة عن حوادث السيارات‪.‬‬

‫انخفاض دائم‪،‬فهذا يعني أنها دورية‪ ،‬أي أنها حتى لو كانت منخفضة‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫حسنا‪ ،‬إذا كانت معدالت العنف ليست في‬
‫اآلن‪ ،‬فارتفاعها ً‬
‫ثانية مجرد مسألة وقت‪.‬‬

‫كال‪ ،‬رمبا تكون التغيريات على مدا ٍر زمين إحصائية‪ ،‬ذات تقلبات ميكن التنبؤ هبا‪ ،‬دون أن تكون دورية‪ ،‬أي تتأرجح كبندول‬
‫الساعة بني طريف نقيض‪ .‬يعين ذلك أنه حىت لو كان االنعكاس ممكنًا يف أي وقت‪ ،‬فال يعين هذا أن احتماليته تزداد مبرور الوقت‪( .‬خسر‬
‫كثري من املستثمرين الكثري من املال برهاهنم على «الدورة االقتصادية» ذات التسمية اخلاطئة اليت تتكون يف الواقع من تقلبات مفاجئة‬
‫ٌ‬
‫متاما يف‬ ‫ٍ‬
‫ال ميكن التنبؤ هبا)‪ .‬ميكن أن حيدث التقدم عندما يقل معدل االنعكاسات املتجهة يف اجتاه إجيايب‪ ،‬أو تقل حدهتا‪ ،‬أو تتوقف ً‬
‫بعض احلاالت‪.‬‬

‫كيف يمكنك أن تقول إن معدالت العنف انخفضت؟ ألم تقرأ عن حادث إطالق النيران على المدرسة (أو عن‬
‫التفجير اإلرهابي أو القصف المدفعي أو حاالت الشغب في مباريات كرة القدم أو حادث الطعن في الحانة) في‬
‫األخبار هذا الصباح؟‬
‫كثريا دون أن يتالشى‬ ‫الرتاجع ال يعين االختفاء (كما َّ‬
‫أن عبارة س < ص خمتلفة عن عبارة ص = ‪ .)0‬ميكن أن يقل شيءٌ ما ً‬
‫متاما‪ ،‬مما يعين َّ‬
‫أن مستوى العنف اليوم ال صلة له مطل ًقا بالسؤال عما إذا كانت مستويات العنف قد تراجعت على مدار التاريخ‪ .‬الطريقة‬ ‫ً‬
‫الوحيدة لإلجابة عن ذلك السؤال هو املقارنة بني مستوى العنف اآلن ومستوى العنف يف املاضي‪ ،‬وعندما تنظر إىل مستوى العنف يف‬
‫كثريا من العنف‪ ،‬حىت لو مل ي ُكن حيًّا يف ذاكرتك بنفس قدر عناوين األخبار اليت قرأهتا هذا الصباح‪.‬‬
‫املاضي ستجد ً‬
‫لن تعني لك كل اإلحصاءات المزخرفة عن قلة العنف ً‬
‫شيئا إذا كنت أحد الضحايا‪.‬‬

‫صحيح‪ ،‬ولكنها تعين أن احتمالية أن تكون ضحية أقل‪ ،‬ولذلك السبب‪ ،‬فهي تعين أن هنالك ماليني األشخاص الذين ليسوا‬
‫ضحايا‪ ،‬ولكن كان ميكن أن يكونوا من بني الضحايا لو أن معدالت العنف قد بقيت كما هي دون تغيري‪.‬‬

‫ًإذا ما تقوله هو أن بإمكاننا جميعًا االسترخاء وأنا العنف سينخفض بنفسه‪.‬‬

‫أيت كومة املالبس املتسخة قد تناقصت‪ ،‬فال يعين هذا َّ‬


‫أن املالبس قد غسلت نفسها بنفسها‪،‬‬ ‫هذا غري منطقي يا أستاذ! إذا ر َ‬
‫تغيريا ما يف الوسط االجتماعي أو الثقايف أو املادي‬
‫أن ً‬ ‫شخصا ما غسلها‪ .‬إذا اخنفض معدل أحد أنواع العنف‪ ،‬يعين هذا َّ‬
‫ً‬ ‫بل يعين أن‬
‫منخفضا أو حىت يرتاجع أكثر‪ ،‬ولكن إذا مل تستمر‬
‫ً‬ ‫كان سبب هذا االخنفاض‪ .‬إذا استمرت الظروف كما هي‪ ،‬قد يظل مستوى العنف‬
‫الظروف كما هي‪ ،‬فلن يظل العنف كما هو‪ .‬يؤكد هذا على أمهية معرفة أسباب الرتاجع‪ ،‬كي حناول تقويتها وتطبيقها على ٍ‬
‫نطاق أوسع‬
‫لضمان استمرار تراجع العنف‪.‬‬

‫من السذاجة والعاطفية والمثالية والرومانسية الحالمة والتفاؤل على منهج حزب األحرار والحلم باليوتوبيا‬
‫والتشبه ببوليانا وبانجلوس أن تقول إن العنف قلا‪.‬‬

‫توضح اخنفاض مستوى العنف وتقول «مستوى العنف اخنفض» فأنت بذلك تصف حقيقةً‪،‬‬ ‫كال‪ ،‬أن تنظر إىل البيانات اليت ِّ‬
‫توضح اخنفاض مستوى العنف وتقول «مستوى العنف ارتفع» فأنت بذلك تكون وامهًا‪ ،‬أما أن تتجاهل البيانات‬‫أما أن تنظر إىل بيانات ِّ‬
‫اخلاصة بالعنف وتقول «مستوى العنف ارتفع» فأنت بذلك تكون من أنصار «ال أعرف شيئًا»‪.‬‬

‫أما عن االهتامات بالرومانسية احلاملة‪ ،‬فسأرد ببعض الثقة‪ ،‬فأنا مؤلف كتاب ‪The Blank Slate: The Modern‬‬
‫‪ ،Denial of Human Nature‬وهو كتاب غري رومانسي ومضاد لليوتوبيا بصورةٍ واضحة‪ ،‬وأوضحت فيه أن التطور أعد البشر‬
‫أيضا أن لدى الناس حس التعاطف‬ ‫ٍ‬
‫مبجموعة من الدوافع املدمرة مثل اجلشع والشهوة واهليمنة واالنتقام وخداع النفس‪ ،‬ولكنين أؤمن ً‬
‫والقدرة على التأمل يف مآزقهم وملكات للتفكري ومشاركة األفكار اجلديدة‪ ،‬وهذه هي اجلوانب املالئكية من طبيعتنا البشرية كما قال‬
‫أبراهام لينكولن‪ .‬مبجرد النظر إىل احلقائق‪ ،‬ميكننا أن نعرف إىل أي مدى انتصرت جوانبنا املالئكية على شياطيننا الداخلية يف أي ٍ‬
‫زمان‬
‫ٍ‬
‫ومكان‪.‬‬
‫كيف يمكنك التنبؤ بانخفاض مستوى العنف؟ يمكن أن تندلع ً‬
‫غدا حربٌ وتدحض نظريتك‪.‬‬
‫التصريح َّ‬
‫بأن أحد مقاييس العنف قد اخنفض ال يُعد «نظرية» وإمنا هو مالحظة حلقيقة‪ .‬أجل‪ ،‬هناك فرق بني احلقيقة اليت‬
‫تقول إن أحد املقاييس تغري مع الوقت‪ ،‬والتنبؤ بأنه سيواصل التغري بنفس الطريقة طوال الوقت لألبد‪ .‬كما تقول إعالنات الشركات‬
‫االستثمارية‪ ،‬فاألداء السابق ال يضمن نتائج مستقبلية‪.‬‬

‫في تلك الحالة‪ ،‬في َم تفيد كل تلك الرسوم البيانية والتحليالت؟ أال يفترض بالنظرية العلمية أن تقدم توقعات قابلة‬
‫لالختبار؟‬

‫خاصا‬ ‫تقدم النظرية العلمية توقعاهتا يف التجارب العملية اليت تُضبط فيها املؤثرات السببية‪ ،‬ال ميكن ألي نظرية أن تقدم ً‬
‫توقعا ً‬
‫أفكارا سريعة االنتشار يف شبكات عاملية ويتفاعلون مع‬
‫بالعامل بأكمله‪ ،‬حيث ينشر سكانه الذين يبلغ عددهم سبعة مليارات شخص ً‬
‫صرح مبا حيمله املستقبل يف عا ٍمل غري خاضع للضبط والتحكم‪ ،‬ودون تفسري لسبب وقوع األحداث‬
‫دورات الطقس واملوارد الفوضوية‪ .‬أن تُ ِّ‬
‫توقعا وإمنا نبوءة‪ ،‬وكما قال ديفيد دويتش‪« :‬أهم القيود على صنع املعرفة هو أننا ال نستطيع التنبؤ‪ ،‬ال‬
‫هبذه الطريقة أو تلك‪ ،‬ال يُعد ً‬
‫نستطيع توقع حمتوى األفكار اليت مل تنشأ بعد‪ ،‬أو آثارها‪ .‬وليست هذه القيود متماشية مع منو املعرفة بقد ٍر غري حمدود فحسب‪ ،‬إمنا‬
‫يستلزم هذا النمو تلك القيود»‪.‬‬

‫أمورا كثرية‬
‫أن ً‬ ‫يشري إىل َّ‬
‫فالتحسن يف أحد مقاييس رفاهة اإلنسان ُ‬
‫ُّ‬ ‫إن عجزنا عن التنبؤ ليس رخصةً لتجاهل احلقائق بالطبع‪،‬‬
‫بدال من الطريق اخلاطئ‪ ،‬ويعتمد توقعنا عما إذا كان التقدم سيستمر أم ال‪ ،‬على مدى معرفتنا مباهية القوى‬
‫قد دفعته يف الطريق الصحيح ً‬
‫الدافعة له‪ ،‬وإىل أي وقت ستظل كما هي‪ .‬سيختلف هذا من اجتاهٍ إىل آخر‪ ،‬قد يصبح بعضها مثل قانون مور (عدد الرتانزستورات‬
‫أساسا للثقة (ولكن ليس لليقني) يف َّ‬
‫أن مثار براعة البشر سترتاكم والتقدم سيستمر‪ .‬يف حني قد يشبه بعضها‬ ‫يتضاعف كل عامني) ويضع ً‬
‫سوق األسهم ويتكهن بتقلبات قصرية املدى ولكنها ستحقق مكاسب على املدى البعيد‪ .‬رمبا يتحرك بعضها يف توزي ٍع إحصائي «مسيك‬
‫أيضا دوريًّا أو فوضويًّا‪ .‬يف الفصلني‬
‫الذيل»‪ ،‬ال ميكن فيه استبعاد األحداث احلدية وإن كان احتمال حدوثها أقل‪ .‬ورمبا يكون بعضها ً‬
‫التاسع عشر واحلادي والعشرين سنلقي نظرةً على التوقع العقالين يف عا ٍمل متقلب‪ ،‬أما اآلن فعلينا أن نتذكر َّ‬
‫أن االجتاه اإلجيايب يشري إىل‬
‫صحيحا‪ ،‬وأن علينا حماولة حتديد هذا الشيء ونكرره أكثر‪.‬‬
‫ً‬ ‫أمرا‬
‫(ولكنه ال يثبت) أننا فعلنا ً‬
‫جيدا كما تقرتح‬
‫أشخاصا يعتصرون دماغهم ليجدوا طريقةً ما جتعل هذا اخلرب ليس ً‬
‫ً‬ ‫عندما تنفد كل هذه االعرتاضات‪ ،‬أرى‬
‫البيانات‪ .‬وليأسهم‪ ،‬يلجؤون إىل دالالت األلفاظ‪.‬‬

‫أليس التصيد اإللكتروني (‪ )Trolling‬أحد أشكال العنف؟ أليس التعدين السطحي أحد أشكال العنف؟ أليس غياب‬
‫المساواة أحد أشكال العنف؟ أليس التلوث أحد أشكال العنف؟ أليس الفقر أحد أشكال العنف؟ أليست االستهالكية‬
‫أحد أشكال العنف؟ أليس الطالق أحد أشكال العنف؟ أليست الدعاية أحد أشكال العنف؟ أليس إعداد اإلحصاءات‬
‫أحد أشكال العنف؟‬

‫برغم روعة اجملاز كوسيلة تعبريية كالمية‪َّ ،‬إال أهنا طريقة ضعيفة لتقييم وضع البشرية‪ ،‬يستلزم التعقُّل أو االستدالل األخالقي‬
‫شخص ما أشياء بغيضة على تويرت‪ ،‬ولكنه ال مياثل جتارة العبيد أو اهلولوكوست‪ .‬ويستلزم‬
‫ٌ‬ ‫مزعجا عندما يقول‬
‫تناسبًا‪ ،‬رمبا يكون األمر ً‬
‫باندفاع إىل مركز معين بأزمات االغتصاب واملطالبة مبعرفة ما الذي فعلوه بشأن اغتصاب البيئة‬
‫ٍ‬ ‫أيضا التمييز بني الكالم والواقع‪ ،‬فالدخول‬
‫ً‬
‫أن احلدس األخالقي‬ ‫أخريا‪ ،‬يتطلَّب حتسني العامل ً‬
‫فهما للسبب والنتيجة‪ .‬رغم َّ‬ ‫ال يفيد ضحايا االغتصاب الفعلي وال يفيد البيئة بشيء‪ .‬و ً‬
‫أن «األمور السيئة» ليست ظاهرة مرتابطة ميكننا‬‫مجيعا على «الشرير»‪َّ ،‬إال َّ‬
‫البدائي مييل إىل جتميع األمور السيئة سويًّا وإلقاء اللوم فيها ً‬
‫حماولة فهمها والقضاء عليها‪( .‬فاإلنرتوبيا والتطور ينتجان هذه األمور السيئة بغزارة)‪ .‬فاحلرب واجلرمية والتلوث والفقر واملرض واهلمجية‬
‫مستحيال‪.‬‬
‫ً‬ ‫كل منها على حدة‬
‫شرور ال جيمعها قاسم مشرتك‪ ،‬وإذا أردنا احلد منها‪ ،‬فال ميكننا أن نلعب بالكلمات مما جيعل حىت مناقشة ٍّ‬
‫ِّ‬
‫املتشكك على كتاب‬ ‫لقد عرضت هذه االعرتاضات كي أمهد الطريق لعرض املقاييس األخرى لتقدم البشرية‪ .‬أقنعين رد الفعل‬
‫الجوانب المالئكية َّ‬
‫بأن احلدس املبين على اإلتاحة ليس هو العامل الوحيد الذي جيعل الناس جربيني فيما خيص التقدم‪ ،‬وال ميكن إلقاء‬
‫إن اجلذور النفسية لرهاب التقدُّم راسخة ٍ‬
‫بعمق أكرب‪.‬‬ ‫متاما على مطاردة العيون والنقرات‪ .‬كال‪َّ ،‬‬
‫اللوم يف ولع اإلعالم باألخبار السيئة ً‬
‫ٍ‬
‫جمموعة من التجارب الفكرية التخيلية اليت‬ ‫أعمقها احنياز خلَّصه شعار يقول‪« :‬السيئ أقوى من اجليد»‪ .‬تتضح الفكرة يف‬
‫اقرتحها تفريسكي‪ .‬إىل أي مدى تتخيل نفسك تشعر بأن حالك أفضل مما تشعر به اآلن؟ إىل أي مدى تتخيل نفسك تشعر بأن حالك‬
‫ردا على الفرضية األوىل‪ ،‬ولكن إجابتنا عن الثانية ستكون‪ :‬دون حدود‪.‬‬ ‫أسوأ؟ ميكننا مجيعا ُتيل أن منشي ٍ‬
‫خبفة أكثر أو تلمع أعيننا ًّ‬ ‫ً‬
‫ميكن تفسري هذا التباين يف احلالة املزاجية بالتباين يف احلياة (وهو الزمة منطقية لقانون اإلنرتوبيا)‪ .‬كم شيئًا قد حيدث اليوم وجيعل حالك‬
‫ٍ‬ ‫مجيعا أن ِّ‬
‫مكسب مفاجئ غريب أو ضربة حظ‬ ‫نفكر يف‬ ‫وجمددا‪ ،‬ميكننا ً‬
‫كثريا؟ ً‬ ‫كثريا؟ وكم شيئًا قد حيدث اليوم وجيعل حالك أسوأ ً‬ ‫أفضل ً‬
‫ردا على الس ؤال األول‪ ،‬ولكن ستكون اإلجابة عن السؤال الثاين‪ :‬أشياء ال هنائية‪ .‬ولكن ال ينبغي أن نعتمد على ُتيالتنا‪،‬‬ ‫سعيد ًّ‬
‫أن الناس ميقتون اخلسائر أكثر مما يتطلعون إىل املكاسب‪ ،‬ويرِّكزون على اإلخفاقات أكثر مما يتلذذون باحلظ‬
‫فالنصوص النفسية تؤكد َّ‬
‫أيضا َّ‬
‫أن اللغة اإلجنليزية‬ ‫يشجعهم الثناء‪( .‬وبصفيت عامل لغويات نفسية‪ ،‬فأنا مضطر إىل أن أضيف ً‬
‫السعيد‪ ،‬ويؤملهم االنتقاد أكثر مما ِّ‬
‫حتتوي على كلمات للتعبري عن املشاعر السلبية أكثر من املشاعر اإلجيابية)‪.‬‬

‫احدا لالحنياز للسلبية‪ ،‬فرغم أننا نتذكر األحداث السيئة كما نتذكر اجليدة‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن لون‬ ‫يف ذاكرتنا اخلاصة حبياتنا جند استثناءً و ً‬
‫إن احلنني إىل املاضي من طبيعتنا‪ ،‬ففي ذاكرة‬ ‫ٍ‬
‫بشكل شخصي‪َّ .‬‬ ‫املصائب الداكن يبهت مبرور الوقت‪ ،‬وباألخص املصائب اليت حدثت لنا‬
‫اإلنسان‪ ،‬يشفي الزمن معظم جروحنا‪ .‬ويضللنا ومهان آخران وجيعالننا نظن َّ‬
‫أن األمور ليست كما كانت‪ :‬فعندما تثقلنا أعباء النضج‬
‫أن العامل أصبح أقل براءةً‪ ،‬وعندما تتدهور قوانا نظن خطأً َّ‬
‫أن الزمن هو الذي يتدهور‪.‬‬ ‫ومسؤوليات األبوة واألمومة املتنامية نظن خطأً َّ‬
‫مثلما أشار كاتب املقاالت فرانكلني بريس آدامز «ال شيء مسؤول عن األيام اخلوايل أكثر من ضعف الذاكرة»‪.‬‬

‫ينبغي أن تسعى الثقافة الفكرية حنو مقاومة احنيازاتنا املعرفية‪ ،‬ولكنها يف الواقع تدعمها غالبًا‪َّ .‬‬
‫إن عالج احلدس القائم على‬
‫تاما يف جمال الفنون واإلنسانيات على‬ ‫إمجاعا ً‬
‫أن «هناك ً‬ ‫ولكن الباحث األديب ستيفن كونور أشار إىل َّ‬
‫اإلتاحة هو التفكري الكمي‪َّ ،‬‬
‫الرعب املفرط من األرقام»‪ .‬يؤدي هذا اجلهل بالرياضيات واإلحصاء الذي مصدره أيديولوجي وليس عرضيًّا إىل أن يالحظ ال ُكتَّاب َّ‬
‫أن‬
‫احلروب تندلع اليوم واندلعت يف املاضي ويستنتجون أنَّه «مل يتغري شيء»‪ ،‬عاجزين عن إدراك الفرق بني ٍ‬
‫حقبة اندلعت هبا حفنةٌ من‬ ‫ٌ‬
‫احلروب اليت تسببت جمتمعةً يف قتل اآلالف‪ ،‬وحقبة اندلعت فيها عشرات احلروب اليت تسببت جمتمعةً يف قتل املاليني‪ ،‬وجيعلهم ذلك‬
‫مقدرين للعمليات املنهجية اليت هتيئ لنا تراكم التطورات والتحسينات على املدى البعيد‪.‬‬
‫غري ِّ‬
‫جماال حملرتيف سرعة الغضب‬
‫وليست الثقافة الفكرية مؤهلة لعالج االحنياز للسلبية‪ ،‬فحذرنا من األمور السلبية احمليطة بنا يفتح ً‬
‫أن الناس ينظرون إىل الناقد الذي ينتقد كتابًا ما بشدة‬ ‫والضيق الذين يلفتون انتباهنا إىل األمور السيئة اليت فاتتنا‪ .‬أظهرت التجارب َّ‬
‫أيضا على النقاد اجملتمعيني‪ .‬قدَّم املوسيقي اهلزيل توم لرير نصيحة مفادها‬
‫بوصفه أكثر كفاءة من الناقد الذي يثين عليه‪ ،‬ورمبا ينطبق هذا ً‬
‫دائما‪ ،‬وسيهللون لك كأنك نيب»‪ .‬منذ زمن األنبياء العربيني‪ ،‬الذين شابوا نقدهم االجتماعي بتحذيرات من وقوع الكوارث‪،‬‬ ‫«توقَّع األسوأ ً‬
‫جرت مساواة التشاؤم باجلدية األخالقية‪ .‬يعتقد الصحافيون َّأهنم يؤدون دورهم يف املراقبة والتنقيب عن الفساد وفضحه وابتالء املرتفني‪،‬‬
‫وقارا فوريًّا عرب اإلشارة إىل مشكلة مل ُحتل بعد‪ ،‬والتنظري بأهنا أحد أعراض‬ ‫َّ‬
‫عرب إبراز السلبيات‪ ،‬ويعرف املثقفون أهنم ميكنهم أن يكتسبوا ً‬
‫اجملتمع املريض‪.‬‬

‫أيضا‪ ،‬إذ الحظ الكاتب يف الشؤون املالية مورجان هاوزل أنَّه يف حني يبدو املتشائمون كأهنم حياولون‬
‫والعكس صحيح ً‬
‫حال إلحدى املشاكل‪ ،‬سيسارع‬ ‫شخص ما ًّ‬
‫ٌ‬ ‫مساعدتك‪ ،‬فإن املتفائلني يبدون كأهنم حياولون أن يبيعوا لك شيئًا‪ .‬عندما يعرض عليك‬
‫حل‬
‫مسكن أو ٍّ‬ ‫حال يناسب اجلميع‪ ،‬إنَّه جمرد ِّ‬
‫عالجا سر ًيعا وال عصا سحرية وال ًّ‬
‫شامال وال ً‬‫عالجا ً‬
‫املنتقدون باإلشارة إىل أنه ليس ً‬
‫تكنولوجي سريع يعجز عن فهم األسباب اجلذرية وسيأيت بنتائج عكسية فيكون له آثار جانبية وعواقب غري مقصودة‪ .‬وبالطبع‪ ،‬مبا أنَّه‬
‫فضا لتقبُّل إمكانية‬ ‫منعزال عن البقية)‪َّ ،‬‬
‫فإن هذه اجملازات تُعد ر ً‬ ‫ال يوجد عالج شامل ولكل شيء آثار جانبية (فال ميكنك أن تفعل شيئًا ً‬
‫حتسن أي شيء على اإلطالق‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ميكن أن يكون التشاؤم يف أوساط أهل الفكر أحد أشكال املزايدة‪ ،‬فاجملتمع احلديث عبارة عن رابطة من النخب السياسية‬
‫والصناعية واملالية والتكنولوجية والعسكرية والفكرية‪ ،‬اليت تتنافس مجيعها على املكانة والنفوذ‪ ،‬ولكل منها مسؤوليات خمتلفة جتاه إدارة‬
‫اجملتمع‪ .‬قد تكون الشكوى من اجملتمع احلديث طريقة غرضها اخلفي تثبيط اخلصوم‪ ،‬كأن يشعر األكادمييون بأفضلية على رجال األعمال‪،‬‬
‫ميال إىل‬
‫ويشعر رجال األعمال بأفضلية على الساسة‪ ،‬وهكذا‪ .‬مثلما ذكر توماس هوبز عام ‪« :1651‬ينتج التنافس على نيل املديح ً‬
‫تبجيل األقدمية‪ ،‬لذلك فإن الناس يتنازعون مع األحياء ال مع املوتى»‪.‬‬

‫للتشاؤم بالتأكيد جانب مشرق‪ ،‬إذ جتعلنا دائرة التعاطف املتسعة مهتمني باألضرار اليت كانت ستمر علينا مرور الكرام يف‬
‫نادرا ما نتذكر حروب العقود السابقة‬
‫أن احلرب األهلية السورية مأساة إنسانية‪ ،‬يف حني ً‬ ‫مثال ندرك اليوم َّ‬
‫األزمنة األشد قسوًة‪ ،‬فنحن ً‬
‫مثل احلرب األهلية الصينية وتقسيم اهلند واحلرب الكورية بنفس الطريقة‪ ،‬رغم َّأهنا تسببت يف قتل املزيد من الناس ونزوحهم‪ .‬عندما ُ‬
‫كنت‬
‫يوما ما خطبةً‬ ‫أن رئيس الواليات املتحدة قد يلقي ً‬ ‫يف مراحل النمو‪ ،‬كان التنمر يُعد جزءًا طبيعيًّا من الصبا‪ ،‬كان من الصعب تصديق َّ‬
‫عن شرور التنمر‪ ،‬كما فعل باراك أوباما يف ‪ .2011‬عندما يزداد اهتمامنا باإلنسانية‪ ،‬منيل إىل أن نظن خطأً َّ‬
‫أن األضرار احمليطة بنا متثِّل‬
‫عالمات على مدى االحنطاط الذي وصل إليه العامل‪ ،‬وليس على مدى ارتقاء معايرينا‪.‬‬

‫مؤخرا‪ ،‬ففي أعقاب‬


‫ولكن قد يكون للسلبية املتعنتة نفسها عواقب غري مقصودة‪ ،‬واليت بدأ بعض الصحافيني يشريون إليها ً‬
‫تأمل ديفيد بورنشتاين وتينا روزنربج‪ ،‬الكاتبان بصحيفة نيويورك تاميز‪ ،‬يف دور اإلعالم يف نتيجتها‬
‫االنتخابات األمريكية لعام ‪َّ ،2016‬‬
‫الصادمة‪ ،‬كما يلي‪:‬‬
‫استفاد ترامب من االعتقاد ‪-‬الشائع في الصحافة األمريكية‪ -‬بأنا «األخبار الجادة» يمكن تعريفها بـ «المشاكل‬
‫التي تحدث»‪ ..‬مهاد تركيز الصحافة المستمر طيلة عقود على المشاكل واألمراض التي تبدو كأ انها ليس لها عالج‬
‫الطريق الذي سمح بأن يزرع ترامب بذور االستياء واليأس‪ ..‬وأحد عواقب ذلك أنا كثيرً ا من األمريكيين اليوم‬
‫يصعب عليهم تخيل الوعد بالتغيير المتزايد للنظام أو تقدير قيمته أو حتى تصديقه‪ ،‬مما يؤدي إلى فتح الشهية‬
‫للتغيير الثوري بما يشبه حركة «تحطيم اآلالت»‪.‬‬

‫ال يلقي كلٌّ من بورنشتاين وروزنربج باللوم على املذنبني املعتادين (التليفزيون ووسائل اإلعالم االجتماعي وبرامج الكوميديا‬
‫ٍ‬
‫بتطرف يف التشاؤم‬ ‫وإمنا يربطونه بالتحول الذي حدث خالل حقبيت فييتنام ووترجيت من متجيد القادة إىل التدقيق يف سلطاهتم‪،‬‬ ‫املسائية) َّ‬
‫شرسا‪.‬‬
‫هجوما ً‬
‫الساخر دون تفرقة‪ ،‬إذ أصبح كل شيء خاص باجلهات املدنية األمريكية الفاعلة يستدعي ً‬
‫إذا كانت جذور رهاب التقدُّم تكمن يف الطبيعة البشرية‪ ،‬فهل يُعد اقرتاحي َّ‬
‫بأهنا تنمو ومهًا من صنع االحنياز املبين على‬
‫ٍ‬
‫مقياس موضوعي‪ ،‬استباقًا لألساليب اليت سأستخدمها يف بقية الكتاب‪ .‬طبَّق عامل البيانات كاليف ليتارو‬ ‫اإلتاحة؟ سننظر فيما يلي إىل‬
‫تقنيةً تُدعى التنقيب عن املشاعر أو حتليل املشاعر على كل مقال نشرته صحيفة نيويورك تاميز بني عامي ‪ 1945‬و‪ ،2005‬وعلى‬
‫أرشيف من النشرات اإلذاعية واملقاالت املرتمجة من ‪ 130‬دولة بني عامي ‪ 1979‬و‪ .2010‬يقيِّم حتليل املشاعر نربة النص عرب مجع‬
‫عدد الكلمات ذات الدالالت اإلجيابية والسلبية‪ ،‬وسياقاهتا‪ ،‬مثل جيد‪ ،‬ولطيف‪ ،‬وفظيع‪ ،‬ومريع‪ِّ .‬‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 1-4‬نتائج‬
‫أن االنطباع َّ‬
‫بأن األخبار ازدادت سلبيةً مبرور الوقت‬ ‫التحليل‪ .‬بعد استبعاد كل الذبذبات واألمواج اليت تعكس أزمات كل حني‪ ،‬نرى َّ‬
‫(قليال فقط)‬
‫قليال ً‬
‫حقيقي‪ .‬ازدادت صحيفة نيويورك تاميز كآبة يف القرن املاضي منذ أوائل الستينيات حىت أوائل السبعينيات‪ ،‬وابتهجت ً‬
‫يف الثمانينيات والتسعينيات‪ ،‬مث غرقت يف مز ٍاج أسوأ بصورةٍ تصاعدية يف العقد األول من القرن اجلديد‪ ،‬وازدادت املنافذ اإلعالمية يف‬
‫أيضا كآبةً منذ أواخر سبعينيات القرن املاضي حىت يومنا هذا‪.‬‬
‫بقية العامل ً‬
‫إذًا‪ ،‬هل العامل حقًّا يف احندا ٍر مستمر طيلة هذه العقود؟ َّ‬
‫تذكر الشكل رقم ‪ 1-4‬عندما نفحص حالة البشرية يف الفصول‬
‫التالية‪.‬‬
‫ملخص للنشرات اإلذاعية العالمية‬
‫نبرة نشرات األخبار (انحرافات معيارية)‬

‫نيويورك تايمز‬

‫الشكل رقم ‪ :1-4‬نبرة نشرات األخبار منذ ‪ 1945‬حتى ‪2010‬‬


‫المصدر‪ :‬ليتارو ‪.2011‬‬

‫أبدا‪ ،‬لكنَّه يف احلقيقة أحد‬ ‫ما هو التقدم؟ رمبا تظن َّ‬


‫أن هذا السؤال ذايت ونسيب جدًّا حسب الثقافة لذا ال ميكن اإلجابة عنه ً‬
‫أسهل األسئلة اليت ميكن اإلجابة عنها‪.‬‬

‫يتفق معظم الناس على َّ‬


‫أن احلياة أفضل من املوت‪ ،‬والصحة أفضل من املرض‪ ،‬وتوفر الرزق أفضل من اجلوع‪ ،‬والوفرة أفضل‬
‫من الفقر‪ ،‬والسالم أفضل من احلرب‪ ،‬واألمن أفضل من اخلطر‪ ،‬واحلرية أفضل من االستبداد‪ ،‬واملعرفة أفضل من اجلهل‪ ،‬والذكاء أفضل‬
‫من تبلد الذهن‪ ،‬والسعادة أفضل من البؤس‪ ،‬وفرص االستمتاع بالعائلة واألصدقاء والثقافة والطبيعة أفضل من الكدح والرتابة‪.‬‬

‫حتسنت مبرور الوقت‪ ،‬فهذا هو التقدُّم‪.‬‬


‫وكل هذه األمور قابلة للقياس‪ ،‬إذا كانت قد َّ‬
‫بالطبع لن يتفق اجلميع على هذه القائمة كما هي بالضبط‪ ،‬فالقيم إنسانية بصر ٍ‬
‫احة‪ ،‬وتتجاوز عن الفضائل الدينية والرومانسية‬
‫واألرستقراطية مثل اخلالص واللطف والقدسية والبطولة والشرف واجملد واألصالة‪ .‬ولكن قد يتفق الغالبية على َّأهنا بداية ضرورية‪ ،‬فمن‬
‫السهل متجيد قي ٍم سامية جمردة‪ ،‬و َّ‬
‫لكن أغلب الناس مينحون األولوية للحياة والصحة واألمن واملعرفة بالقراءة والكتابة والرزق والتحفيز‬
‫أن هذه األمور اجليدة شروط الزمة حلدوث أي شيء آخر‪ .‬إذا كنت تقرأ هذا الكتاب‪ ،‬فأنت لست ميتًا وال تتضور‬ ‫اضح هو َّ‬ ‫ٍ‬
‫لسبب و ٍ‬
‫أن وضعك ال يسمح لك بالتعايل على هذه القيم أو إنكار َّ‬
‫أن‬ ‫مستعبدا وال أميًّا‪ ،‬مما يعين َّ‬
‫ً‬ ‫مفزوعا وال‬
‫ً‬ ‫حمتضرا وال‬
‫ً‬ ‫معدما وال‬
‫جوعا وال ً‬
‫ً‬
‫من حق اآلخرين مشاركتك يف حظك السعيد‪.‬‬
‫مجيعا‪ ،‬وهي ‪ 189‬دولة‪ ،‬إضافةً إىل ما‬
‫وللمفاجأة‪ ،‬ال يتفق العامل على هذه القيم‪ ،‬ففي عام ‪ ،2000‬اتفقت الدول األعضاء ً‬
‫متاما مع هذه القائمة‪.‬‬
‫يقرب من ‪ 25‬منظمة دولية‪ ،‬على مثانية أهداف إمنائية لأللفية لعام ‪ 2015‬تتداخل ً‬
‫مذهال في كل مقياس من مقاييس رفاهة اإلنسان‪ ،‬وإليك صدمة ثانية‪ :‬ال يعرف‬
‫ُّما ً‬
‫وإليك هذه الصدمة‪ :‬أحدث العالم تقد ً‬
‫أحد تقريبًا بهذا األمر‪.‬‬

‫يسهل العثور على معلومات عن تقدُّم اإلنسان‪ ،‬رغم غياهبا عن املنافذ اإلعالمية الكربى واملنتديات الفكرية‪ ،‬فالبيانات ليست‬
‫مدفونة يف تقاري ٍر مملة وإمنا معروضة يف مواقع إلكرتونية رائعة‪ ،‬وباألخص موقع ماكس روزر ‪ Our World in Data‬وموقع ماريان‬
‫سيف خالل إحدى حماضرات‬ ‫أن حىت ابتالع ٍ‬
‫تويب ‪ HumanProgress‬وموقع هانس روزلينج ‪( .Gapminder‬اكتشف روزلينج َّ‬
‫تيد يف عام ‪ 2007‬ليس كافيًا للفت انتباه العامل)‪ .‬أقيمت هذه احلجة يف ٍ‬
‫كتب رائعة‪ ،‬بعضها من تأليف ُكتَّاب فائزين جبائزة نوبل‪،‬‬
‫وتفخر عناوينها بالتقدُّم‪ ،‬ومنها‪ ،Progress :‬و‪ ،The Progress Paradox‬و‪ ،Infinite Progress‬و ‪The Infinite‬‬
‫‪ ،Resource‬و‪ ،The Rational Optimist‬و‪ ،The Case for Rational Optimism‬و ‪Utopia for‬‬
‫‪ ،Realists‬و‪ ،Mass Flourishing‬و‪ ،Abundance‬و‪،The Improving State of the World‬‬
‫و‪ ،Getting Better‬و‪ ،The End of Doom‬و‪ ،The Moral Arc‬و‪ ،The Big Ratchet‬و ‪The Great‬‬
‫أي منها جبائزة كربى‪ ،‬ولكن يف الفرتة‬
‫‪ ،Escape‬و‪ ،The Great Surge‬و‪( .The Great Convergence‬مل يكافأ ٌّ‬
‫اليت ظهرت فيها هذه الكتب‪ ،‬حصلت أربعة كتب عن اإلبادة العرقية وثالثة عن اإلرهاب واثنان عن السرطان واثنان عن العنصرية وكتاب‬
‫واحد عن االنقراض على جائزة بولتزر عن فئة األعمال غري اخليالية)‪ .‬وإىل من تستهويهم قراءة مقاالت القوائم‪ ،‬نُشر يف السنوات األخرية‬
‫بعض منها مثل‪ ،Five Amazing Pieces of Good News Nobody Is Reporting :‬و ‪Five Reasons‬‬
‫‪ ،Why 2013 Was the Best Year in Human History‬و ‪Seven Reasons the World Looks‬‬
‫‪ ،Worse Than It Really Is‬و ‪26 Charts and Maps That Show the World Is Getting‬‬
‫‪ ،Much, Much Better‬و‪ ،40 Ways the World Is Getting Better‬وقائميت املفضلة هي‪50 Reasons :‬‬
‫‪ .Why We’re Living Through the Greatest Period in World History‬لنلقي نظرةً على ٍ‬
‫بعض من‬
‫هذه األسباب‪.‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫الحياة‬
‫إن الصراع من أجل البقاء على قيد احلياة هو الدافع البدائي للكائنات احلية‪ ،‬وينشر اإلنسان براعته وعزمه الواعي على جتنب املوت‬ ‫َّ‬
‫ك»‪ ،‬وناشد ديالن توماس بـ «الغضب‪ ،‬الغضب على‬ ‫وقت ممكن‪ ،‬وقد قال إله العهد القدمي‪« :‬فَاخ ِرت ْ ِ‬ ‫ألطول ٍ‬
‫ت َونَ ْسلُ َ‬
‫احلَيَاةَ ل َك ْي َْحتيَا أَنْ َ‬ ‫َْ‬
‫احتضار النور»‪ ،‬فالعمر املديد هو النعمة الكربى‪.‬‬

‫ما العمر املتوقع‪ ،‬يف رأيك‪ ،‬أن يعيشه شخص عادي يف هذا العامل اليوم؟ َّ‬
‫تذكر َّ‬
‫أن املتوسط العاملي يتأثر سلبًا حباالت الوفاة‬
‫أصفارا‬
‫ً‬ ‫املبكرة بفعل اجلوع واملرض يف الدول كثيفة السكان يف العامل النامي‪ ،‬ويتأثر على حنو خاص بوفيات األطفال‪ ،‬الذين يضيفون‬
‫كثرية إىل متوسط األعمار‪.‬‬

‫استطالع حديث أجراه‬


‫ٍ‬ ‫عاما‪ ،‬إىل أي مدى قارب ُتمينك هذه اإلجابة؟ يف‬
‫يف عام ‪ ،2015‬كانت اإلجابة هي ‪ً 71.4‬‬
‫كبريا هكذا‪ ،‬وهذه النتيجة متوافقة‬
‫أن متوسط العمر كان ً‬ ‫ٍ‬
‫شخص واحد من بني كل أربعة سويديني مخَّنوا َّ‬ ‫هانس روزلينج‪ ،‬وجد أن أقل من‬
‫كل من طول العمر واملعرفة بالقراءة والكتابة والفقر فيما أمساه روزلينج‬
‫مع نتائج استطالعات الرأي على جنسيات متعددة أخرى بشأن ٍّ‬
‫كتبت اختيارات لإلجابة عن كل سؤال على‬
‫فسر روزلينج‪« :‬لو ُ‬‫مبشروع اجلهل‪ .‬كان شعار املشروع هو حيوان الشمبانزي‪ ،‬ألنَّه كما َّ‬
‫حبات موز‪ ،‬وطلبت من حيوانات الشمبانزي يف حديقة احليوان اختيار اإلجابة الصحيحة‪ ،‬لكانت نتيجة إجاباهتم أفضل من املشاركني‬
‫يف االستطالعات»‪ .‬مل ي ُكن املشاركون‪ ،‬الذين كان من بينهم طالب جمال الصحة العاملية وأساتذته‪ ،‬جاهلني باحلقائق بقدر ما كانوا‬
‫متشائمني بصورةٍ مغلوطة‪.‬‬

‫يف الشكل رقم ‪ ،1-5‬وهو خمطط للعمر املتوقع على مر القرون صنعه ماكس روزر‪ ،‬يظهر منط عام يف تاريخ العامل‪.‬‬
‫أوروبا‬
‫األمريكيتن‬

‫العالم‬

‫آسيا‬
‫متوسط العمر المتوقع‬

‫إفريقيا‬

‫الشكل رقم ‪ :1-5‬متوسط العمر المتوقع منذ ‪ 1771‬حتى ‪2015‬‬


‫المصدر‪ :‬موقع ‪ ،Our World in Data‬روزر ‪ ،n2016‬بنا ًء على بيانات مستمدة من دراسة رايلي عام ‪ 2005‬لألعوام قبل ‪ ،2000‬ومن منظة الصحة العالمية والبك‬
‫الدولي لألعوام التي تلتها‪ ،‬وبيانات محدثة قدمها ماكس روزر‪.‬‬

‫عاما‪،‬‬
‫كان متوسط العمر املتوقع يف أوروبا واألمريكتني يف زمن بداية هذا املخطط‪ ،‬أي يف القرن الثامن عشر‪ ،‬حوايل ‪ً 35‬‬
‫عاما لدينا بياناهتم قبل هذه النقطة الزمنية‪ ،‬إذ كان متوسط العمر املتوقع يف العامل بأكمله ‪29‬‬
‫وكان ثابتًا على ذلك الرقم منذ ‪ً 225‬‬
‫عاما‪ .‬تقع هذه األرقام يف نطاق املدى العمري املتوقع يف أغلب مراحل تاريخ البشرية‪ ،‬فقد كان متوسط العمر املتوقع للبشر يف مرحلة‬
‫ً‬
‫عاما ونصف‪ ،‬وتناقص على األرجح لدى أول من عملوا بالزراعة بسبب نظامهم الغذائي املعتمد على‬
‫الصيد ومجع الثمار حوايل ‪ً 32‬‬
‫النشويات واألمراض اليت انتقلت إليهم من املاشية ومن اآلخرين‪ .‬مث عاد العمر املتوقع إىل أوائل الثالثينيات يف العصر الربونزي وظل‬
‫كذلك آالف السنوات‪ ،‬مع بعض التقلبات الصغرية يف خمتلف القرون واملناطق‪ .‬ميكننا أن نطلق على هذه الفرتة من تاريخ البشرية احلقبة‬
‫مصطلحا‬
‫ً‬ ‫املالتوسية‪ ،‬إذ كان أي تقدم يف الزراعة أو الصحة يُلغى سر ًيعا بفعل الزيادة السكانية السريعة الناجتة‪ ،‬رغم َّ‬
‫أن كلمة حقبة تبدو‬
‫غريبًا إذا أطلقناها على ‪ 99.9‬باملئة من زمن وجود نوعنا على األرض‪.‬‬

‫ولكن بدءًا من القرن التاسع عشر‪ ،‬انطلق العامل يف رحلة اهلروب الكبري‪ ،‬وهو املصطلح الذي استخدمه االقتصادي آجنوس‬
‫ديتون للتعبري عن حترر البشرية من إرث الفقر واملرض والوفاة املبكرة‪ .‬بدأ متوسط العمر املتوقع يف الزيادة‪ ،‬وتسارع يف القرن العشرين‪ ،‬وال‬
‫تظهر عليه أي عالمات على التباطؤ‪ .‬منيل‪ ،‬مثلما أشار املؤرخ االقتصادي يوهان نوربريج‪ ،‬إىل أن نقول ألنفسنا «إنَّنا مع كل ٍ‬
‫عام ميرر‬
‫عام‪ ،‬ولكن خالل القرن العشرين كان الشخص العادي يقرتب إىل املوت مبقدار سبعة أشه ٍر فقط‬ ‫من عمرنا‪ ،‬نقرتب إىل املوت مبقدار ٍ‬
‫أن ِهبَة العمر املديد تنتشر لتشمل البشرية مجعاء‪ ،‬مبا يشمل الدول األفقر يف العامل‪ ،‬وخبطى أسرع‬ ‫مع كل ٍ‬
‫عام مير من عمره»‪ .‬ومن املثري َّ‬
‫من خطى انتشارها يف الدول الغنية‪ .‬إذ قال نوربريج َّ‬
‫إن‪« :‬متوسط العمر املتوقع يف كينيا قد ازداد مبقدار عشرة أعوام تقريبًا ما بني عامي‬
‫احدا من بقية حياته‪ ،‬فزاد‬ ‫ٍ‬
‫عاما و ً‬
‫‪ 2003‬و‪ .2013‬بعد أن عاش الشخص العادي يف كينيا وأحب وكافح طيلة عقد كامل‪ ،‬مل يفقد ً‬
‫عمر اجلميع عشرة أعوام‪ ،‬ومل يقرتب منهم املوت مبقدار خطوةٍ واحدة»‪.‬‬

‫نتيجةً لذلك‪ ،‬فإن غياب املساواة يف متوسط العمر املتوقع‪ ،‬الذي ظهر خالل مرحلة اهلروب الكبري عندما انفصلت بضعة دول‬
‫حمظوظة عن البقية‪ ،‬يتضاءل اآلن بانضمام بقية الدول إىل من سبقوها‪ .‬يف عام ‪ ،1800‬مل ي ُكن متوسط العمر املتوقع يف أي ٍ‬
‫دولة يف‬
‫كثريا‪.‬‬
‫عاما يف أوروبا واألمريكتني‪ ،‬سابقني بذلك إفريقيا وآسيا ً‬
‫عاما‪ ،‬وحبلول عام ‪ 1950‬كان قد بلغ حوايل ‪ً 60‬‬ ‫العامل أعلى من ‪ً 40‬‬
‫ولكن منذ ذلك احلني‪ ،‬زاد متوسط العمر املتوقع يف آسيا بضعف املعدل األورويب‪ ،‬ويف إفريقيا مبقدار مرة ونصف أكثر منه‪ .‬يُتوقع أن‬
‫ٍ‬
‫لشخص مولود يف األمريكتني يف مخسينيات القرن املاضي أو يف أوروبا يف ثالثينياته‪ ،‬ولوال‬ ‫عمرا مساويًا‬
‫يعيش طفل إفريقي مولود اليوم ً‬
‫فظيعا يف التسعينيات قبل أن تبدأ األدوية املضادة للفريوسات الرجعية بالسيطرة على املرض‪ ،‬لكان‬
‫اخنفاضا ً‬
‫ً‬ ‫نكبة اإليدز‪ ،‬اليت سببت‬
‫املتوسط أعلى‪.‬‬

‫حتما رفاهة كل إنسان يف كل مكان طوال الوقت‪،‬‬ ‫إن منحدر اإليدز يف إفريقيا مبثابة تذكري َّ‬
‫بأن التقدم ليس سل ًما متحرًكا يزيد ً‬ ‫َّ‬
‫فهذا فعل السحر‪ ،‬والتقدم ليس نتيجةً للسحر وإمنا حلل املشاكل‪ .‬املشاكل حتمية‪ ،‬وقد عانت قطاعات خاصة من البشرية يف بعض‬
‫األوقات من انتكاسات فظيعة‪ ،‬فباإلضافة إىل وباء اإليدز يف إفريقيا‪ ،‬اخنفض معدل العمر بني صغار البالغني حول العامل خالل مرحلة‬
‫تفشي اإلنفلونزا اإلسبانية يف عامي ‪ 1918‬و‪ ،1919‬وبني األمريكيني البيض يف منتصف العمر من أصل غري التيين‪/‬إسباين وغري‬
‫احلاصلني على تعلي ٍم جامعي يف بداية القرن احلادي والعشرين‪ .‬ول َّ‬
‫كن املشاكل قابلة للحل‪ ،‬وتعين حقيقة االرتفاع املتواصل يف األعمار‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫كل من الدميوغرافيات الغربية األخرى َّ‬
‫أن حلول املشكالت اليت تواجه هذه الدميوغرافية ممكنةٌ ً‬ ‫يف ٍّ‬
‫ميتد متوسط املدى العمري بفعل االخنفاض يف معدل وفيات املواليد واألطفال أكثر من أي ٍ‬
‫سبب آخر‪َّ ،‬‬
‫ألن األطفال يتسمون‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 2-5‬ما حدث ملعدل‬
‫مسن يف الستني من عمره‪ِّ .‬‬ ‫وألن وفاة ٍ‬
‫طفل ُتفِّض املتوسط أكثر مما تفعل وفاة ٍّ‬ ‫باهلشاشة َّ‬
‫معربة بصورةٍ أو بأخرى عن قاراهتا‪.‬‬
‫وفيات األطفال منذ عصر التنوير يف مخس دول ِّ‬
‫النسبة المئوية لألطفال الذين يموتون قبل سن الخامسة‬

‫كوريا الجنوبية‬
‫إثيوبيا‬

‫كندا‬

‫تشيلي‬
‫السويد‬

‫الشكل رقم ‪ :2-5‬معدل وفيات األطفال منذ ‪ 1751‬حتى ‪2013‬‬


‫المصدر‪ ، Our World in Data:‬روزر ‪ ،2016a‬بنا ًء على تقديرات األمم المتحدة لمعدل وفيات األطفال المنشورة على موقع‬
‫‪ ،http://www.childmortality.org/‬وقاعدة بيانات الوفيات البشرية ‪ Human Mortality Database‬على موقع ‪.http://www.mortality.org/‬‬

‫انظر إىل األرقام على احملور الرأسي‪َّ ،‬إهنا تشري إىل النسبة املئوية لألطفال الذين ميوتون قبل أن يبلغوا عامهم اخلامس من إمجايل‬
‫األطفال‪ .‬أجل‪ ،‬حىت السنوات األوىل من القرن التاسع عشر يف السويد‪ ،‬إحدى أكثر دول العامل ثراءً‪ ،‬كانت نسبة ترتاوح بني الربع‬
‫والثلث من إمجايل األطفال يتوفون قبل عيد ميالدهم اخلامس‪ ،‬ويف بعض السنوات بلغت هذه النسبة ما يقرب من النصف‪ .‬يبدو َّ‬
‫أن‬
‫هذا أمر منطي يف تاريخ البشرية‪ ،‬إذ كان ُمخس األطفال يف مرحلة الصيد ومجع الثمار ميوتون يف عامهم األول‪ ،‬ونصفهم تقريبًا ميوتون قبل‬
‫أيضا طبيعة احلياة‬
‫بلوغ سن الرشد‪ .‬ال تعكس هذه االرتفاعات الناتئة يف املنحىن قبل القرن العشرين لغط البيانات فحسب‪ ،‬بل تعكس ً‬
‫احملفوفة باملخاطر‪ ،‬فقد يدق الوباء أو احلرب أو اجملاعة األبواب يف أي ٍ‬
‫وقت بصحبة املوت‪ .‬وحىت املرتفني قد تلحق هبم املآسي‪ ،‬إذ فقد‬
‫تشارلز داروين طفلني رضيعني مث فقد ابنته العزيزة آين عندما كانت يف العاشرة من عمرها‪.‬‬
‫مث حدث أمر الفت للنظر‪ ،‬هبط معدل وفيات األطفال هبوطًا مفاجئا مبقدار مئة مرة‪ ،‬ليبلغ كسرا من ٍ‬
‫نقطة مئوية يف الدول‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫املتقدمة‪ ،‬وأصبح اهلبوط عامليًّا‪ .‬مثلما الحظ ديتون يف عام ‪« :2013‬ال توجد دولة واحدة يف العامل ال يقل فيها معدل وفيات املواليد‬
‫عما كان عليه يف عام ‪ .»1950‬اخنفض معدل وفيات األطفال يف منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكربى من حوايل‬
‫واألطفال اليوم َّ‬
‫طفل من بني كل أربعة أطفال يف ستينيات القرن املاضي إىل أقل من ٍ‬
‫طفل واحد من بني كل عشرة أطفال يف عام ‪ ،2015‬واخنفض‬ ‫ٍ‬
‫املعدل العاملي من ‪ 18‬إىل ‪ 4‬يف املئة‪ ،‬وهي ما تزال نسبة مرتفعة‪ ،‬ولكنَّها ستقل بالتأكيد إذا استمرت قوة الدفع احلالية حنو تعزيز الصحة‬
‫العاملية‪.‬‬
‫تذكر حقيقتني تكمنان وراء هذه األرقام‪ ،‬األوىل هي الدميوغرافية‪ :‬فعندما ميوت أطفال أقل‪ ،‬يكون لدى اآلباء أطفال أقل‪ ،‬مبا‬
‫سيفجر‬
‫ِّ‬ ‫أهنم مل ُيعد عليهم تأمني رهاهنم ضد فقدان أسرهتم بأكملها‪ .‬وهكذا‪ ،‬على النقيض من القلق بشأن َّ‬
‫أن إنقاذ حياة األطفال‬
‫«قنبلة سكانية» (وهو هلع بيئي ضخم سيطر على الستينيات والسبعينيات من القرن املاضي‪ ،‬مما أدى إىل مطالبات بتقليل الرعاية‬
‫الصحية يف دول العامل النامي)‪َّ ،‬‬
‫فإن الرتاجع يف معدل وفيات األطفال قد أبطل هذه القنبلة‪.‬‬

‫تدمريا لإلنسان‪ُ .‬تيَّل هذه املأساة‪ ،‬مث حاول ُتيلها مليون‬


‫واحلقيقة الثانية شخصية‪ ،‬ففقدان طفل يُعد من بني أكثر التجارب ً‬
‫ِ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬هذا ُربع عدد األطفال الذين لم يموتوا العام الماضي فقط‪ ،‬والذين كانوا ليموتوا لو كانوا قد ُولدوا قبل مخسة عشر ً‬
‫عاما‪،‬‬
‫توضح الرسوم البيانية مثل الشكل رقم ‪-5‬‬ ‫وصوال إىل بداية الرتاجع يف معدل وفيات األطفال‪ِّ .‬‬
‫كرر العملية مئيت مرة تقريبًا‪ ،‬لألعوام ً‬
‫مث ِّ‬
‫انتصارا للرفاهة البشرية ال ميكن للعقل أن يبدأ حىت يف استيعاب مدى جسامته‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪2‬‬

‫مما يصعب تقديره كذلك انتصار البشرية القريب على أحد أشكال قسوة الطبيعة األخرى‪ ،‬وهو وفاة األم أثناء الوالدة‪ ،‬وقد‬
‫أوالدا»‪ .‬كانت نسبة واحد يف املئة تقريبًا من‬
‫تكثريا اكثر أتعاب حبلك‪ .‬بالوجع تلدين ً‬
‫قال إله العهد القدمي‪ ،‬الرحيم‪ ،‬للمرأة األوىل‪ً « :‬‬
‫قرن أشبه باإلصابة بسرطان الثدي‬ ‫األمهات ميُنت أثناء هذه العملية حىت ٍ‬
‫وقت قريب‪ ،‬ويف حالة نساء أمريكا‪ ،‬كانت خطورة احلمل منذ ٍ‬
‫تعرب كلٌّ منها عن منطقتها‪.‬‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 3-5‬مسار معدل وفيات األمهات منذ عام ‪ 1751‬يف أربع دول ِّ‬
‫اليوم‪ِّ .‬‬

‫إثيوبيا‬

‫ماليزيا‬
‫النسبة المئوية لألمهات التي تموت أثناء الوالدة‬

‫الواليات المتحدة‬

‫السويد‬

‫الشكل رقم ‪ :3-5‬معدل وفيات األمهات منذ ‪ 1751‬حتى ‪2013‬‬


‫المصدر‪ ،Our World in Data :‬روزر ‪ ،2016p‬بنا ًء على بيانات كلوديا هانسن من مؤسسة ‪ Gapminder‬بصور ٍة جزئية‪،‬‬
‫‪.https://www.gapminder.org/data/documentation/gd010/‬‬
‫ابتداءً من القرن الثامن عشر يف أوروبا‪ ،‬اخنفض معدل الوفيات بثالمثئة ضعف‪ ،‬من ‪ 1.2‬إىل ‪ 0.004‬يف املئة‪ .‬انتشر هذا‬
‫وقت أقصر بسبب بدايتها‬‫الرتاجع ليصل إىل بقية العامل‪ ،‬مبا يشمل الدول األفقر اليت اخنفض فيها معدل الوفيات على حن ٍو أسرع يف ٍ‬
‫عاما فقط‪ ،‬حوايل ‪ 0.2‬يف املئة‬
‫متأخرةً‪ .‬يبلغ معدل الوفيات يف العامل بأكمله‪ ،‬بعد اخنفاضه مبقدار النصف تقريبًا خالل مخسة وعشرين ً‬
‫اآلن‪ ،‬وهو تقريبًا املعدل الذي وصلت إليه السويد يف عام ‪.1941‬‬

‫عما إذا كان االخنفاض يف معدل وفيات األطفال ميكنه تفسري كل الزيادات يف طول العمر املوضحة يف الشكل‬‫رمبا تتساءل َّ‬
‫ٍ‬
‫بأعداد أكرب؟ ففي النهاية‪ ،‬ال تعين حقيقة كون متوسط‬ ‫عمرا أطول أم أننا ننجو فقط من مرحلة الرضاعة‬
‫رقم ‪ ،1-5‬هل نعيش حقًّا ً‬
‫عاما َّ‬
‫أن مجيعهم مات فجأةً يف أعياد ميالدهم‬ ‫العمر املتوقع لألشخاص الذين عاشوا يف القرن التاسع عشر عند والدهتم كان حوايل ‪ً 30‬‬
‫سن كبرية‪ ،‬وهؤالء املسنون‬
‫الثالثني‪ ،‬فاألطفال ال ُكثر الذين ماتوا كانوا خيفِّضون من املتوسط‪ ،‬مما ألغى أثر األشخاص الذين ماتوا يف ٍّ‬
‫العمر الذي تويف فيه سقراط قبل‬
‫عاما‪ ،‬وهذا هو ُ‬ ‫موجودون يف كل جمتمع‪ .‬يف زمن العهد القدمي‪ ،‬قيل َّ‬
‫إن أيام عمرنا كانت حوايل سبعني ً‬
‫سبب طبيعي وإمنا بفعل ٍ‬
‫كأس من شراب الشوكران السام‪ .‬كان كثريون من بني القبائل‬ ‫أوانه عام ‪ 399‬قبل احلقبة احلالية‪ ،‬ليس نتيجة ٍ‬
‫اليت عاشت على الصيد ومجع الثمار يف السبعينيات والثمانينيات من عمرهم‪ ،‬رغم َّ‬
‫أن متوسط العمر املتوقع المرأة من قبيلة اهلادزا عند‬
‫عاما‪َّ ،‬إال َّأهنا لو جتاوزت اخلامسة واألربعني‪ ،‬فيمكنها أن تتوقع أن تعيش ‪ً 21‬‬
‫عاما آخرين‪.‬‬ ‫والدهتا كان ‪ً 32.5‬‬
‫عمرا أطول من عمر الناجني يف احلقب السابقة؟ أجل‪ ،‬أطول‬ ‫ِ‬
‫إذًا فهل يعيش من ينجون منَّا من حمَن اإلجناب والطفولة اليوم ً‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 4-5‬متوسط العمر املتوقع يف اململكة املتحدة عند الوالدة‪ ،‬ويف أعما ٍر خمتلفة ترتاوح بني العام و‪ً 70‬‬
‫عاما‪،‬‬ ‫كثريا‪ِّ .‬‬
‫ً‬
‫على مدار الثالثة قرون املاضية‪.‬‬
‫لشخص في السبعين‬
‫لشخص في الستين‬
‫لشخص في الخمسين‬
‫لشخص في األربعين‬
‫لشخص في الثالثين‬
‫العمر المتوقع‬

‫لشخص في العشرين‬
‫لطفل في العاشرة‬
‫لطفل في الخامسة‬

‫لطفل في الثالثة من عمره‬


‫للمولود‬

‫الشكل رقم ‪ :4-5‬متوسط العمر المتوقع في المملكة المتحدة منذ ‪ 1701‬حتى ‪ 2013‬المصدر‪ ،Our World in Data :‬روزر ‪ .2016n‬بيانات األعوام السابقة على‬
‫‪ 1845‬تخص إنجلترا وويلز ومصدرها مشروع ‪ Clio Infra‬التابع لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان االقتصادي)‪ ،‬فان زاندن وآخرين‪ .2014 ،‬وبيانات األعوام منذ‬
‫‪ 1845‬تخص أعوام منتصف العقد فقط‪ ،‬ومصدرها ‪.http://www.mortality.org/ ،Human Mortality Database‬‬

‫مهما كان عمرك‪ ،‬فأمامك اآلن سنوات أكثر لتعيشها ممن كانوا يف نفس عمرك يف العقود والقرون السابقة‪ ،‬فالطفل الرضيع‬
‫عاما يف‬
‫عاما يف ‪ ،1905‬و‪ً 72‬‬
‫عاما يف ‪ ،1845‬و‪ً 57‬‬
‫الذي جنا من السنة األوىل احلرجة من حياته‪ ،‬كان العمر املتوقع أن يعيشه ‪ً 47‬‬
‫عاما آخر يف ‪ ،1845‬و‪36‬‬
‫عاما كان من املتوقع أن يتطلع إىل ثالثني ً‬
‫عاما يف ‪ .2011‬والشخص الذي يبلغ ثالثني ً‬
‫‪ ،1955‬و‪ً 81‬‬
‫عاما آخر يف ‪ .2011‬لو كان سقراط قد تعاىف يف عام ‪ ،1905‬لتوقَّع أن‬
‫عاما آخر يف ‪ ،1955‬و‪ً 52‬‬
‫عاما آخر يف ‪ ،1905‬و‪ً 43‬‬
‫ً‬
‫عاما يف ‪ 1845‬كان ما‬
‫عاما آخر يف ‪ .2011‬والشخص البالغ ‪ً 80‬‬
‫حييا تسعة أعوام أخرى‪ ،‬وعشرة أعوام أخرى يف ‪ ،1955‬و‪ً 16‬‬
‫عاما يف ‪.2011‬‬
‫زال يف عمره مخسة أعوام أخرى‪ ،‬يف مقابل تسعة أعوام يف عمر البالغ ‪ً 80‬‬
‫ٍ‬
‫بأعداد أقل (حىت اآلن) يف بقية أحناء العامل‪ ،‬فالطفل اإلثيويب املولود عام ‪ 1950‬والذي‬ ‫وظهرت اجتاهات مشاهبة‪ ،‬وإن كانت‬
‫عاما‪ ،‬يف مقابل الطفل اإلثيويب الذي يبلغ ‪ 10‬سنوات واملولود حاليًا الذي من‬
‫يبلغ عمره ‪ 10‬سنوات كان من املتوقع أن يعيش ‪ً 44‬‬
‫أن «التحسينات اليت جرت يف الصحة بني فقراء العامل خالل‬ ‫عاما‪ .‬أشار االقتصادي ستيفن رادليت إىل َّ‬
‫املتوقع أن يعيش حىت ‪ً 61‬‬
‫نادرا ما حتسنت الرفاهة‬ ‫َّ‬
‫العقود القليلة املاضية كبرية جدًّا ومنتشرة للغاية لدرجة أهنا تُصنَّف ضمن أعظم اإلجنازات يف تاريخ البشرية‪ً .‬‬
‫األساسية لكث ٍري من الناس حول العامل هبذه الدرجة اهلائلة وهذه السرعة الكبرية‪ ،‬ومع ذلك فال يعي حبدوث هذا التحسن سوى قلة‬
‫قليلة»‪.‬‬
‫كال‪ ،‬لن نقضي سنوات الشيخوخة اإلضافية من عمرنا يف كرسي هزاز‪ ،‬فبالطبع كلما طال عمرك‪ ،‬قضيت سنوات أكثر يف‬
‫أيضا يف مقاومة االعتداءات‬
‫ولكن األجسام األفضل يف مقاومة الضربات القاضية أفضل ً‬
‫مرحلة الشيخوخة‪ ،‬بآالمها وأوجاعها احلتمية‪َّ ،‬‬
‫أيضا عنفواننا‪ ،‬حىت لو مل ي ُكن ذلك بنفس عدد السنوات‪.‬‬
‫األقل خطورة كاملرض واإلصابة واإلهناك‪ .‬مع زيادة املدى العمري‪ ،‬يزداد ً‬
‫التحسن ليس فقط عرب‬
‫ُّ‬ ‫حاول مشروع بطويل يُدعى ‪( The Global Burden of Disease‬عبء املرض العاملي) قياس هذا‬
‫أيضا عرب حساب عدد‬
‫كل من األمراض واإلعاقات اليت يبلغ عددها ‪ ،291‬وإمنا ً‬
‫حساب عدد األشخاص الذين ميوتون فجأة بفعل ٍّ‬
‫كل من احلاالت املرضية جلودة حياهتم‪ .‬قدَّر املشروع َّ‬
‫أن ‪56.8‬‬ ‫مرجحة حسب درجة هتديد ٍّ‬
‫السنوات اليت يفقدوهنا من احلياة الصحية‪َّ ،‬‬
‫عاما من احلياة اليت كان من املتوقع أن يعيشها شخص عادي يف العامل يف عام ‪ 1990‬هي أعوام يتمتع فيها بالصحة‪،‬‬
‫من أصل ‪ً 67.5‬‬
‫عاما من بني األعوام اإلضافية املتوقعة‬
‫أيضا‪ ،‬نعرف أنَّه ‪ً 3.8‬‬
‫ويف الدول املتقدمة على األقل‪ ،‬حيث توجد تقديرات متاحة لعام ‪ً 2010‬‬
‫توضح هذه األرقام َّ‬
‫أن الناس يعيشون اليوم يف‬ ‫عاما واليت اكتسبناها خالل هذين العقدين‪ ،‬متثِّل أعو ًاما صحية‪ِّ .‬‬
‫حلياتنا اليت تبلغ ‪ً 4.7‬‬
‫كثريا من جمموع ما عاشه أسالفهم من سنوات يف الصحة والوهن سويًّا‪ .‬ميثِّل اخلََرف اخلوف األكرب الذي‬ ‫ٍ ٍ‬
‫صحة مثالية سنوات أطول ً‬
‫تثريه احتمالية احلياة الطويلة لكث ٍري من الناس‪ ،‬ولكن مفاجأة سارة أخرى ظهرت‪ ،‬فبني عامي ‪ 2000‬و‪ ،2012‬تراجع معدل اإلصابة‬
‫عاما‪.‬‬
‫عاما مبعدل الربع‪ ،‬وارتفع متوسط سن تشخيص اإلصابة به من ‪ 80.7‬إىل ‪ً 82.4‬‬
‫به بني األمريكيني الذين تتجاوز أعمارهم ‪ً 65‬‬
‫هناك املزيد من األخبار السارة‪ ،‬فاملنحنيات املوضحة يف الشكل رقم ‪ 4-5‬ليست جمرد رسوم تزخرف حياتك وتُقاس مبص ٍري‬
‫جتمد املعرفة‬
‫مثال‪ ،‬وإمنا هي توقعات من إحصاءات حيوية حديثة مبنية على افرتاض ُّ‬
‫يوما ما مبقدار الثلث ً‬
‫من اثنني فقط وستنخفض ً‬
‫الطبية يف وضعها احلايل‪ ،‬ال يصدق أحد هذا االفرتاض بالطبع‪ ،‬ولكن ليس أمامنا خيار آخر يف غياب القدرة على استشفاف التقدم‬
‫كثريا‪ -‬مما تشري إليه األرقام اليت قرأهتا على احملور الرأسي‪.‬‬
‫الطيب املستقبلي‪ .‬يعين ذلك أنَّك ستعيش على األرجح أطول ‪-‬ورمبا أطول ً‬
‫تابعا للرئيس بغرض التعامل‬
‫جملسا لألخالقيات البيولوجية ً‬
‫عني جورج بوش ً‬ ‫يشكو الناس كل شيء تقريبًا‪ ،‬ففي عام ‪َّ 2001‬‬
‫ٍ‬
‫بصحة أفضل‪ .‬قضى رئيس هذا اجمللس‪ ،‬الفيزيائي‬ ‫وتتسم‬ ‫مع اخلطر احملدق الناتج عن التقدم يف الطب البيولوجي الذي يَعِ ُد حبياة أطول‬
‫ُ‬
‫تعرب عن أمنية طفولية ونرجسية غري متوافقة مع االهتمام املخلص‬
‫بأن «الرغبة يف إطالة أمد الشباب ِّ‬ ‫و ِّ‬
‫املفكر اجلماهريي ليون كاس‪َّ ،‬‬
‫بالذرية‪ ،‬و َّ‬
‫أن السنوات اليت ستُضاف إىل عمر اآلخرين ال تستحق أن يعيشوها (إذ سأل‪« :‬هل سيستمتع العبو التنس احملرتفون حقًّا‬
‫يفضل معظم الناس أن يتخذوا هذه القرارات بأنفسهم‪ ،‬وحىت لو كان حمقًّا يف َّ‬
‫أن‬ ‫بلعب مباريات تنس أكثر مبقدار ‪ 25‬يف املئة؟»)‪ِّ .‬‬
‫ولكن حقيقة تكرار حتطُّم تأكيدات اخلرباء بشأن احلد األقصى املمكن ملتوسط‬
‫«الفناء جيعل للحياة أمهية»‪ ،‬فطول العمر ال يعين اخللود‪َّ .‬‬
‫يوما ما من قيود الفناء‬
‫حد ويتحرر ً‬
‫عما إذا كان طول العمر سيزداد دون ٍّ‬ ‫تساؤال َّ‬
‫العمر املتوقع (بعد نشرها مبتوسط مخس سنوات) تثري ً‬
‫متاما‪ .‬هل علينا أن نقلق بشأن عا ٍمل من ِّ‬
‫املعمرين املث َقلني الذين سيقاومون ابتكارات احملدثني يف التسعني من عمرهم ورمبا مينعون إجناب‬ ‫ً‬
‫متاما؟‬
‫األطفال املزعجني ً‬
‫مولوا مراكز حبثية ال هتدف إىل القضاء على الفناء‬
‫حياول عدد من احلاملني يف وادي السيليكون تقريب ذلك العامل إلينا‪ ،‬فقد َّ‬
‫ٍ‬
‫نسخة خالية من ذلك العيب‪.‬‬ ‫مبحاربة ٍ‬
‫مرض تلو اآلخر‪ ،‬وإمنا إىل اهلندسة العكسية لعملية الشيخوخة نفسها وترقية مكوناتنا اخللوية إىل‬
‫ستكون النتيجة كما يأملون زياد ًة يف املدى العمري لإلنسان إىل مخسني‪ ،‬أو مئة‪ ،‬بل وحىت ألف سنة‪ ،‬وقد تنبأ املخرتع راي كورزوايل يف‬
‫كتابه الذي حقق أعلى املبيعات يف عام ‪( The Singularity Is Near ،2006‬اقرتبت نقطة التفرد)‪َّ ،‬‬
‫بأن من سيصل منَّا إىل‬
‫عام ‪ 2045‬سيعيش إىل األبد بفضل التقدم يف علم اجلينات والنانو تكنولوجي (مثل روبوتات النانو اليت ستسري يف جمرى الدم وتصلح‬
‫سيحسن ذكاءه الذايت بصورةٍ‬
‫ِّ‬ ‫أجسامنا من الداخل) والذكاء االصطناعي الذين لن يكتشف فقط كيفية القيام بكل هذه األمور‪َّ ،‬‬
‫وإمنا‬
‫متكررة دون حدود‪.‬‬

‫ايدا‬
‫حتسنًا متز ً‬
‫لقراء النشرات اإلخبارية الطبية واملصابني بوسواس املرض‪ .‬حنن جند بالتأكيد ُّ‬
‫قليال َّ‬
‫تبدو احتماالت اخللود خمتلفة ً‬
‫عاما املاضية حبوايل نقطة مئوية‬
‫جديرا باالحتفاء‪ ،‬مثل الرتاجع يف معدالت الوفيات الناجتة عن السرطان على مدار اخلمسة وعشرين ً‬
‫ً‬
‫أيضا بصورة متكررة بسبب العقارات السحرية اليت ال‬
‫ولكن أملنا خييب ً‬ ‫ٍ‬
‫شخص يف الواليات املتحدة وحدها‪َّ ،‬‬ ‫سنويًّا‪ ،‬وإنقاذ حياة مليون‬
‫تفيد أكثر من الدواء الومهي‪ ،‬والعالج الذي تكون آثاره اجلانبية أسوأ من املرض نفسه‪ ،‬والفوائد املعلنة اليت ُتتفي عند إجراء حتاليل ما‬
‫بعد العالج‪َّ .‬‬
‫إن التقدم الطيب اليوم أشبه مبحنة سيزيف االبدية وبعيد عن الثبات‪.‬‬

‫التطور‬
‫ولكن ُّ‬
‫عالجا للفناء‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬
‫يوما ما ً‬ ‫مع افتقارنا إىل هبة النبوءة‪ ،‬ال ميكن ألي شخص أن يعرف ما إذا كان العلماء سيجدون ً‬
‫يفضل‬ ‫واإلنرتوبيا يقلالن من احتمالية حدوث هذا‪ ،‬فاهلَِرم مرتسخ يف اجلينوم اخلاص بنا على كل مستويات ترتيبه‪َّ ،‬‬
‫ألن االنتخاب الطبيعي ِّ‬
‫اجلينات اليت جتعلنا أكثر عنفوانًا يف صغرنا على اجلينات اليت جتعلنا نعيش أطول ٍ‬
‫وقت ممكن‪ .‬يكمن فينا هذا االحنياز بسبب عدم التماثل‬
‫ٍ‬
‫حادث ال ميكن جتنبه مثل صاعقة الربق أو االهنيار األرضي‪،‬‬ ‫الزمين‪ ،‬فهناك احتمالية غري مستحيلة ألن نلقى مصرعنا يف أي ٍ‬
‫حلظة نتيجة‬
‫مما جيعل ميزة أي زيادة مكلِّفة يف جني طول العمر مثار خالف‪ .‬سيضطر علماء األحياء إىل إعادة برجمة آالف اجلينات أو املسارات‬
‫اجلزيئية‪ ،‬اليت سيكون لكل منها أثر صغري وغري أكيد على طول العمر‪ ،‬كي يفتحوا الباب للقفزة حنو اخللود‪.‬‬

‫وحىت لو كنا مزودين مبكونات بيولوجية مصممة بإحكام‪َّ ،‬‬


‫فإن مسرية اإلنرتوبيا ستهدمها‪ ،‬ومثلما أشار الفيزيائي بيرت هوفمان‪:‬‬
‫حترض احلياة األحياء والفيزياء على الصراع املميت»‪ ،‬فاجلزيئات املتصارعة تصطدم باستمرا ٍر بآليات خاليانا‪ ،‬اليت تشمل اآلليات اليت‬
‫« ِّ‬
‫ُّ‬
‫التحكم املتنوعة يف التلف‪ ،‬تزيد خطورة‬ ‫تصد اإلنرتوبيا عرب تصحيح األخطاء وإصالح التلف‪ .‬ومع تراكم التلف الواقع على أنظمة‬
‫آجال أي طرق قدَّمها لنا الطب البيولوجي للوقاية من املخاطر املستمرة مثل السرطان وفشل‬
‫عاجال أم ً‬
‫االهنيار زياد ًة تصاعدية‪ ،‬وتكتسح ً‬
‫األعضاء‪.‬‬

‫إن أفضل تصور يف رأيي لنتيجة حربنا على املوت اليت استمرت عدة قرون هو قانون شتاين الذي ينص على َّ‬
‫أن «األمور اليت‬ ‫َّ‬
‫ال ميكن أن تستمر إىل األبد‪ ،‬ال تستمر إىل األبد»‪ ،‬وأصبح بعد تعديل ديفيس كوروالري‪« :‬األمور اليت ال ميكن أن تستمر إىل األبد‪،‬‬
‫كثريا مما تظن»‪.‬‬
‫ميكنها أن تستمر وقتًا أطول ً‬
‫الفصل السادس‪:‬‬
‫الصحة‬

‫نفسر هدية احلياة اليت ُوِهبت إىل أجيال أكثر وأكثر من بين البشر منذ هناية القرن الثامن عشر؟ قد يعطينا التوقيت فكرًة ما‪.‬‬
‫كيف ِّ‬
‫كتب ديتون يف كتاب الهروب الكبير (‪« :)The Great Escape‬منذ مترد الناس على السلطة يف ظل التنوير‪ ،‬وشرعوا يستخدمون‬
‫مكاسب طول‬
‫َ‬ ‫قوة املنطق يف حتسني حياهتم‪ ،‬وجدوا طريقةً لفعل هذا‪ ،‬ومما ال شك فيه أهنم سيواصلون االنتصار على قوى املوت»‪ .‬إن‬
‫العمر اليت احتفينا هبا يف الفصل السابق هي غنائم االنتصارات على العديد من تلك القوى ‪-‬مثل األمراض واجملاعات واحلروب وجرائم‬
‫كل منها‪.‬‬
‫القتل واحلوادث‪ ،-‬ويف هذا الفصل والفصول التالية‪ ،‬سأقص عليك حكاية ٍّ‬
‫كانت أعنف قوى املوت على مدار أغلب مراحل تاريخ اإلنسان هي األمراض املعدية‪ ،‬وهي إحدى اخلصائص البغيضة للتطور‬
‫اليت تتيح لكائنات صغرية سريعة التكاثر أن حتيا على حسابنا وتتنقل من جس ٍم إىل آخر عرب احلشرات والدود واملخلفات اجلسدية‪.‬‬
‫كانت األوبئة تقتل البشر باملاليني وتبيد حضارات بأكملها‪ ،‬وحيل بالبؤس املفاجئ على مجاعات سكانية حملية‪ .‬وأحد األمثلة على ذلك‬
‫احلمى الصفراء‪ ،‬وهو مرض فريوسي ينتقل عن طريق البعوض‪ ،‬وأُطلق عليه هذا االسم ألنه كان حييل لون ضحاياه إىل األصفر قبل أن‬
‫ميوتوا من األمل‪ .‬ووف ًقا لرواية عن الوباء الذي اكتسح مدينة ممفيس عام ‪ ،1878‬فقد «زحف املرضى إىل حف ٍر وأجسامهم ملتوية‪ ،‬ومل‬
‫[وعثر على جثة أم] ممددة على الفراش‪ ،‬وحوهلا من كل جانب قيء‬‫تُكتشف جثثهم سوى بسبب الرائحة الكريهة الناجتة عن حتللها‪ُ ،‬‬
‫أسود يشبه القهوة املطحونة‪ ،‬وأطفاهلا يتدحرجون على األرض ويتأوهون»‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬ففي عام ‪ 1836‬تويف أغىن رجل يف العامل آنذاك‪ ،‬ناثان ماير روثتشايلد‪ ،‬نتيجة خراج مصاب بالعدوى‪.‬‬ ‫ومل يسلم األغنياء ً‬
‫كما مل يسلم أصحاب السلطة‪ ،‬فقد انتهت حياة كث ٍري من حكام بريطانيا بفعل الزحار واجلدري وااللتهاب الرئوي والتيفوئيد والدرن‬
‫أيضا معرضني لإلصابة باألوبئة‪ ،‬فم ِرض ويليام هنري هاريسون بعد حفل تنصيبه بفرتةٍ قصرية يف عام ‪1841‬‬
‫واملالريا‪ .‬وكان رؤساء أمريكا ً‬
‫وتويف نتيجةً صدمة إنتانية بعد ‪ 31‬يوما‪ ،‬ومات جاميس بولك متأثرا بالكولريا بعد ترك منصبه بثالثة أشهر يف عام ‪ .1849‬ويف ٍ‬
‫وقت‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫قريب‪ ،‬عام ‪ ،1924‬تويف ابن الرئيس األمريكي آنذاك‪ ،‬كالفن كوليدج االبن‪ ،‬يف السادسة عشرة من عمره إثر بثرة ملتهبة أصابته أثناء‬
‫لعب التنس‪.‬‬
‫دائما املرض بصوٍر متنوعة من الدجل مثل الصالة‪ ،‬والتضحية‪ ،‬والفصد‪ ،‬واحلجامة‪ ،‬وإخراج‬ ‫لطاملا حارب اإلنسان العاقل املبدع ً‬
‫املعادن السامة‪ ،‬واملعاجلة املثلية‪ ،‬وإسالة دماء دجاجة على عضو اجلسم املصاب حىت متوت‪ ،‬ولكن بدءا من اخرتاع اللقاحات يف القرن‬
‫الثامن عشر‪ ،‬وسرعة إنتاجها يف القرن التاسع عشر مع قبول نظرية جر ِ‬
‫ثومية املرض‪ ،‬بدأت موازين املعركة تنقلب‪ .‬فجاء الغسيل اليدوي‬
‫وخدمات القبالة ومكافحة البعوض ومحاية مياه الشرب عن طريق شبكات الصرف العامة ومعاجلة مياه الصنبور بالكلور لينقذ حياة‬
‫سائال بنيًّا‬
‫اكما يف املدن‪ ،‬والنفايات متأل األهنار والبحريات‪ ،‬وسكان املدن يشربون ً‬
‫مليارات البشر‪ .‬قبل القرن العشرين‪ ،‬كان الروث مرت ً‬
‫(ولد عام‬ ‫عفنًا ويغسلون به مالبسهم‪ ،‬وكان الناس يلقون اللوم يف األوبئة على امليازما ‪-‬اهلواء كريه الرائحة‪ -‬حىت توصل جون سنو ُ‬
‫أن املياه اليت كان يتناوهلا سكان لندن املصابون بالكولريا جاءت من ماسورة سحب‬‫‪ 1813‬وتويف عام ‪1858‬م)‪ ،‬أول عامل أوبئة‪ ،‬إىل َّ‬
‫هائال إذ كانوا ينتقلون بني تشريح اجلثث وفحص املرضى مرتدين‬
‫خطرا صحيًّا ً‬ ‫ِّ‬
‫من الصرف الصحي‪ .‬وكان األطباء أنفسهم يشكلون ً‬
‫معاطف سوداء مغطاة بالصديد والدم اجلافني‪ ،‬ويفحصون جروح مرضاهم ٍ‬
‫بأياد متسخة‪ ،‬وخييطوهنا باخليوط املوجودة يف عراوي أزرار‬
‫(ولد عام ‪ 1827‬وتويف عام ‪)1912‬‬ ‫(ولد عام ‪ 1818‬وتويف عام ‪ )1865‬وجوزيف ليسرت ُ‬ ‫مالبسهم‪ ،‬حىت جعلهم إجينز سيملفيس ُ‬
‫بدال من أن تعذهبم وتشوههم‪ ،‬وصدت املضادات‬ ‫يعقِّمون أياديهم ومعداهتم‪ .‬جعلت املطهرات والتخدير ونقل الدم اجلراحة تعاجل املرضى ً‬
‫احليوية ومضادات السموم والتقدمات الطبية األخرى اليت ال حتصى هجمات الطاعون والوباء‪.‬‬
‫ولكن مرتكبيها يقبعون يف الدائرة‬
‫رمبا مل حتتل خطيئة نكران اجلميل قائمة اخلطايا السبع املميتة (الذنوب الكاردينالية) يف املسيحية‪َّ ،‬‬
‫التاسعة من اجلحيم وف ًقا لدانيت‪ ،‬وه ناك قد جتد الثقافة الفكرية يف حقبة ما بعد ستينيات القرن املاضي بسبب نسياهنا التام ملن قضوا‬
‫كنت صبيًّا‪ ،‬كان من األصناف األدبية الرائجة لألطفال السري الذاتية البطولية للرواد‬
‫دائما كذلك‪ ،‬فعندما ُ‬ ‫على األمراض‪ .‬مل ي ُكن الوضع ً‬
‫يف الطب مثل إدوارد جينر ولويس باستور وجوزيف ليسرت وفريدريك بانتنج وتشارلز بست وويليام أولسر وأليكساندر فليمنج‪ .‬يف ‪12‬‬
‫أن اللقاح الذي اكتشفه جون سالك ضد شلل األطفال ‪-‬املرض الذي تسبب يف وفاة آالف‬ ‫يق من العلماء َّ‬
‫من أبريل ‪ ،1955‬أعلن فر ٌ‬
‫األشخاص سنويًّا‪ ،‬وإصابة فرانكلني روزفلت بالشلل‪ ،‬وحبس العديد من األطفال داخل الرئة احلديدية‪ -‬ثبت كونه آمنًا‪ .‬ووف ًقا لتأريخ‬
‫ريتشارد كارتر هلذا االكتشاف‪ ،‬فالناس يف ذلك اليوم «وقفوا دقيقة صمت‪ ،‬وقرعوا األجراس واألبواق وأطلقوا صافرات املصانع وأطلقوا‬
‫ٍ‬
‫حبماس‪ ،‬وشربوا األخناب‪ ،‬وعانقوا أطفاهلم‪،‬‬ ‫احتفاال‪ ،‬واسرتاحوا من العمل بقية اليوم‪ ،‬وأغلقوا املدارس أو جتمعوا داخلها‬
‫ً‬ ‫النريان يف اهلواء‬
‫كب تُنثر فيه الشرائط‬ ‫وذهبوا إىل الكنائس‪ ،‬وابتسموا يف وجوه الغرباء‪ ،‬وساحموا أعداءهم»‪ .‬عرضت مدينة نيويورك تكرمي سالك مبو ٍ‬
‫لالحتفال‪ ،‬وهو ما رفضه سالك ٍ‬
‫بذوق‪.‬‬
‫ٍ‬
‫شخص فقط باكتشاف فصائل الدم‪ ،‬وماذا عن‬ ‫مؤخرا؟ كارل َمن؟ إنَّه من أنقذ حياة مليار‬
‫كم مرة فكرت يف كارل الندشتاينر ً‬
‫هؤالء األبطال اآلخرين؟‬

‫عدد األفراد الذين أنقذ حياهتم‬ ‫االكتشاف‬ ‫العامل‬


‫‪ 177‬مليونًا‬ ‫إيبل ووملان (‪ )1892-1982‬ولني معاجلة املياه بالكلور‬
‫إنسلو (‪)1892-1957‬‬
‫‪ 131‬مليونًا‬ ‫اسرتاتيجية القضاء على اجلدري‬ ‫ويليام فيجي (مواليد ‪)1936‬‬
‫‪ 129‬مليونًا‬ ‫مثانية لقاحات‬ ‫موريس هيلمان (‪)1919-2005‬‬
‫‪ 120‬مليونًا‬ ‫لقاح احلصبة‬ ‫جون إندرز (‪)1897-1985‬‬
‫‪ 82‬مليونًا‬ ‫البنسلني‬ ‫هوارد فلوري (‪)1898-1968‬‬
‫‪ 60‬مليونًا‬ ‫لقاحات الدفترييا والتيتانوس‬ ‫جاستون رامون (‪)1886-1963‬‬
‫‪ 54‬مليونًا‬ ‫معاجلة اجلفاف عن طريق الفم‬ ‫ديفيد نالني (مواليد ‪)1942‬‬
‫‪ 42‬مليونًا‬ ‫ترياق الدفترييا والتيتانوس‬ ‫بول إيرليش (‪)1854-1915‬‬
‫‪ 15‬مليونًا‬ ‫رأب األوعية‬ ‫آندرياس جرونتسيش (‪)1939-1985‬‬
‫‪ 14‬مليونًا‬ ‫جريس إلدرنج (‪ )1900-1988‬وبريل لقاح السعال الديكي‬
‫كيندريك (‪)1890-1980‬‬
‫‪ 5‬ماليني‬ ‫تصميم األدوية‬ ‫جيرتود إليون (‪)1918-1999‬‬
‫فإن أكثر من مخسة مليارات شخص حىت اآلن قد أ ِ‬
‫ُنقذت حياهتم‬ ‫وفق حسابات الباحثني الذين مجعوا هذه التقديرات املتحفظة‪َّ ،‬‬
‫تعرب قصص األبطال بالطبع عن الطريقة اليت يعمل‬
‫بفضل العلماء الذين اختاروهم يف القائمة‪ ،‬والذين يبلغ عددهم حوايل مئة عامل‪ .‬ال ِّ‬
‫فرق‪ ،‬ويكدحون دون أن يسمع أح ٌد هبم‪ ،‬وجيمعون‬ ‫بدقة شديدة‪ ،‬فالعلماء يقفون على أكتاف عمالقة‪ ،‬ويتعاونون ضمن ٍ‬ ‫هبا العلم ٍ‬
‫غريت‬ ‫شبكات عاملية‪ .‬ولكن سواء أكان ما يتعرض للتجاهل هو العلم أم العلماء‪َّ ،‬‬
‫فإن إمهال االكتشافات اليت َّ‬ ‫ٍ‬ ‫األفكار ويكدِّسوهنا يف‬
‫احلياة لألفضل يُعد إدانةً لعدم تقديرنا للحالة البشرية احلديثة‪.‬‬

‫بصفيت عامل لغويات نفسية ألَّف كتابًا ً‬


‫كامال عن الفعل املاضي‪ ،‬أستطيع أن أخص بالذكر مثايل املفضل يف تاريخ اللغة اإلجنليزية‪،‬‬
‫وهو أول مجلة يف الصفحة اإلجنليزية على موسوعة ويكيبيديا اليت تقول‪:‬‬

‫‪Smallpox was an infectious disease caused by either of two virus variants,‬‬


‫‪Variola major and Variola minor.‬‬

‫أي‪ :‬كان الجدري ً‬


‫مرضا معديًا ينتج عن اإلصابة إما بفريوس اجلدري الكبري أو فريوس اجلدري الصغري‪.‬‬

‫أجل‪« ،‬كان اجلدري»‪ ،‬فاملرض الذي استمد امسه من البثور املؤملة اليت تغطي جلد الضحية وفمها وعينيها‪ ،‬والذي تسبب يف وفاة‬
‫أكثر من ثالمثئة مليون شخص يف القرن العشرين‪ ،‬مل ُيعد له وجود‪( .‬مت تشخيص آخر حالة هبذا املرض يف الصومال عام ‪.)1977‬‬
‫كال من إدوارد جينر الذي اكتشاف اللقاح عام ‪ ،1796‬ومنظمة الصحة العاملية اليت غامرت يف عام ‪ 1959‬بوضع‬ ‫وميكننا أن نشكر ًّ‬
‫هدف للقضاء على املرض‪ ،‬وويليام فيجي الذي اكتشف َّ‬
‫أن تطعيم جمموعة قليلة‪ ،‬ولكن خمتارة بعناية واسرتاتيجية‪ ،‬من الفئات األكثر‬
‫عرضة لإلصابة سيؤدي الغرض‪ ،‬وغريهم الكثري على هذا االنتصار املعنوي املذهل‪ .‬يعلِّق االقتصادي تشارلز كيين يف كتاب التعافي‬
‫)‪ً (Getting Better‬‬
‫قائال‪:‬‬

‫كانت التكلفة اإلمجالية للربنامج على مدار تلك السنوات العشرة حوايل ‪ 312‬مليون دوالر أمريكي‪ ،‬أي تقريبًا ‪ 32‬سنتًا‬
‫أمريكيًّا للشخص يف البلدان املصابة باملرض‪ .‬لقد كلَّف برنامج القضاء على املرض نفس تكلفة صنع مخسة أفالم هوليوودية‬
‫حديثة ضخمة اإلنتاج واألرباح‪ ،‬أو جناح قاذفة القنابل ‪ ،B-2‬أو اقل من ُعشر تكلفة مشروع تطوير الطريق األخري يف‬
‫بوسطن والذي يُطلق عليه «احلفر الكبري»‪ .‬وبقدر ما يعجب املرء مبشهد الضفة يف بوسطن بعد تطويرها‪ ،‬وبشكل حواف‬
‫القاذفة الشبحية‪ ،‬أو مهارات كريا نايتلي يف التمثيل يف فيلم قراصنة الكارييب أو مهارات الغوريال يف فيلم كينج كونج‪ ،‬يظل‬
‫علي أن أتفق مع ذلك‪.‬‬ ‫جلال‪ ،‬ورغم كوين أحد سكان ضفة النهر يف بوسطن‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن َّ‬ ‫هذا الربنامج حدثًا ً‬

‫أيضا يف تعريفها لطاعون البقر‪،‬‬


‫ولكن هذا اإلجناز الضخم مل ي ُكن سوى البداية‪ ،‬تستخدم موسوعة ويكيبيديا باإلجنليزية الفعل املاضي ً‬
‫َّ‬
‫الذي تسبب يف تفشي اجملاعة بني ماليني املزارعني ورعاة البقر على مر التاريخ بسبب إبادة املاشية‪ ،‬ومن املقرر القضاء على أربعة مصادر‬
‫أخرى للبؤس يف الدول النامية‪ .‬مل ميتد عمر جوناس سالك حىت يرى اقرتاب املبادرة العاملية للقضاء على شلل األطفال من بلوغ هدفها‪،‬‬
‫متاما لتصل إىل ‪ 37‬حالة فقط يف ثالث دول (هي أفغانستان وباكستان‬ ‫ففي عام ‪ 2016‬كانت نسبة اإلصابة باملرض قد اخنفضت ً‬
‫ونيجرييا)‪ ،‬وهي أقل نسبة يف التاريخ‪ ،‬واخنفض املعدل أكثر يف ‪ .2017‬دودة غينيا هي كائن طفيلي طوله ثالثة أقدام‪ ،‬أي حوايل ‪90‬‬
‫قليال‪ ،‬تنفجر‬
‫تكون بثرةً مؤملة‪ ،‬وعندما يغمس املريض قدمه يف املياه لريحيها ً‬ ‫سنتيمرتا‪ ،‬وتشق طريقها إىل األطراف السفلية لضحيتها مث ِّ‬
‫ً‬
‫الدودة وتطلق آالف الريقات يف املياه‪ ،‬اليت يشرب منها أشخاص آخرون‪ ،‬فتتواصل دائرة اإلصابة والعدوى‪ .‬يتمثَّل العالج الوحيد يف‬
‫استخراج الدودة على فرتة ترتاوح بني عدة أيام وأسابيع‪ ،‬ولكن بفضل محلة التوعية ومعاجلة املياه اليت قام هبا مركز كارتر ملدة ثالثة عقود‪،‬‬
‫اخنفض عدد احلاالت من ‪ 3.5‬مليون حالة يف ‪ 21‬دولة يف عام ‪ 1986‬إىل ‪ 25‬حالة يف ثالث دول فقط يف ‪( 2016‬وثالث حاالت‬
‫أيضا يف تعريف أمر ٍ‬
‫اض‬ ‫ٍ‬
‫فقط يف دولة واحدة يف الربع األول من عام ‪ .)2017‬ويف عام ‪ ،2030‬رمبا نستطيع استخدام الفعل املاضي ً‬
‫أن احلصبة واحلصبة األملانية والداء العليقي ومرض النوم الطفيلي والدودة‬ ‫مثل داء الفيل والعمى النهري والرمد احلبييب املسبب للعمى‪ ،‬كما َّ‬
‫أيضا‪( .‬هل ستقابَل أي من هذه االنتصارات بدقائق من الصمت أو بقرع األجراس واألبواق وابتسام‬ ‫الشصية حمط أنظار علماء األوبئة ً‬
‫الناس يف وجوه الغرباء ومساحمة األعداء؟)‬
‫مثال اخنفض عدد الوفيات بفعل‬ ‫بنسبة كبرية‪ ،‬فبني عامي ‪ 2000‬و‪ً 2015‬‬ ‫وحىت األمراض اليت مل تندثر بعد يتم القضاء عليها ٍ‬
‫املالريا (اليت كانت تتسبب يف املاضي يف وفاة نصف األشخاص الذين عاشوا على وجه األرض) بنسبة ‪ 60‬يف املئة‪ .‬تبنَّت منظمة‬
‫الصحة العاملية خطة خلفض املعدل بنسبة ‪ 90‬يف املئة أخرى حبلول عام ‪ ،2030‬واحلد منها يف الدول اليت تستوطنها اليوم واليت يرتاوح‬
‫(متاما كما حدت منها يف الواليات املتحدة اليت كانت تستوطنها حىت عام ‪ ،)1951‬وتبنَّت مؤسسة بيل‬ ‫عددها بني ‪ 35‬و‪ 97‬دولة ً‬
‫متاما‪ .‬وكما رأينا يف الفصل اخلامس‪ ،‬كان فريوس نقص املناعة البشري املكتسب (‪/)HIV‬اإليدز‬ ‫وميليندا جيتس هدف القضاء عليها ً‬
‫ولكن املوازين انقلبت يف العقد‬
‫يف تسعينيات القرن املاضي يف إفريقيا ميثِّل انتكاسة للتقدم الذي حققته اإلنسانية يف إطالة املدى العمري‪َّ ،‬‬
‫شجع األمم املتحدة يف عام ‪ 2016‬على املوافقة على ٍ‬
‫خطة إلهناء‬ ‫التايل‪ ،‬واخنفض املعدل العاملي لوفيات األطفال مبقدار النصف‪ ،‬ممَّا َّ‬
‫ضخما بني‬
‫اخنفاضا ً‬
‫ً‬ ‫يوضح الشكل رقم ‪َّ 1-6‬‬
‫أن العامل شهد‬ ‫مرض اإليدز (وليس بالضرورة القضاء على الفريوس) حبلول عام ‪ِّ .2030‬‬
‫عامي ‪ 2000‬و‪ 2013‬يف عدد األطفال الذين ميوتون بفعل أكثر مخسة أمراض معدية فت ًكا‪ ،‬واستطاعت مكافحة األمراض املعدية‬
‫إمجاال منذ عام ‪ 1990‬إنقاذ حياة أكثر من مئة مليون طفل‪.‬‬ ‫ً‬
‫عدد وفيات األطفال تحت سن الخامسة (باآلالف)‬

‫االلتهاب الرئوي‬

‫اإلسهال‬

‫الحصبة‬ ‫المالريا‬

‫فيروس ‪/HIV‬إيدز‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 1 - 6‬م ع د ل وف ي ا ت ا أل ط ف ا ل ب ف ع ل ا أل م را ض ا مل ع د ي ة م ن ذ ‪ 2 0 0 0‬ح ىت ‪2 0 1 3‬‬


‫‪Child Health Epidemiology Reference Group of the World Health Organization, Liu et al. 2014,‬‬ ‫املصدر‪:‬‬
‫‪supplementary appendix.‬‬

‫يق من خرباء الصحة بقيادة االقتصاديان دين جاميسون ولورانس سامرز خريطة‬ ‫طموحا على اإلطالق‪ ،‬وضع فر ٌ‬
‫ً‬ ‫ويف أكثر اخلطط‬
‫طريق «التقارب الكبري يف الصحة العاملية» حبلول عام ‪ ،2035‬حيث يتوقع أن تكو َن معدالت الوفيات الناجتة عن األمراض املعدية‪،‬‬
‫ووفيات األمهات واألطفال‪ ،‬يف كل ٍ‬
‫مكان يف العامل‪ ،‬قد اخنفضت إىل مستوياهتا املوجودة اليوم يف الدول متوسطة الدخل اليت تتمتع‬
‫بأفضل ٍ‬
‫صحة‪.‬‬
‫وبقدر ما هو اهلجوم على األمراض املعدية يف أوروبا وأمريكا مذهل‪ ،‬فإن التقدم املتواصل يف الدول الفقرية على مستوى العامل‬
‫ويكمن جزءٌ آخر يف‬
‫ألن العامل األغىن عاملٌ أكثر صحة‪ُ ،‬‬‫ويكمن جزءٌ من السبب يف التنمية االقتصادية (الفصل الثامن)‪َّ ،‬‬‫إهبارا‪ُ ،‬‬‫أكثر ً‬
‫دائرة التعاطف املمتدة‪ ،‬اليت أهلمت قادة العامل مثل بيل جيتس وجيمي كارتر وبيل كلينتون جلعل اإلرث الذي سيخلِّفونه هو صحة‬
‫عوضا عن ٍ‬
‫مبان َّبراقة يف أوطاهنم‪ ،‬وأثىن على جورج بوش االبن حىت أشد منتقديه بسبب سياسته يف اإلغاثة من‬ ‫ٍ‬
‫الفقراء يف قارات بعيدة ً‬
‫اإليدز يف إفريقيا‪ ،‬اليت أنقذت حياة املاليني‪.‬‬
‫ولكن املساهم األقوى هو العلم‪ ،‬وكما يقول ديتون‪« :‬املعرفة هي السر‪ ،‬أما الدخل ‪-‬رغم أمهيته لذاته ولكونه أحد مكونات الرفاهة‬
‫أيضا‪ -‬فليس هو السبب األكرب يف الرفاهة»‪ .‬ال تقتصر مثار العلم على املستحضرات الدوائية عالية التقنية مثل اللقاحات واملضادات‬
‫أيضا من أفكا ٍر‪ ،‬أفكا ٍر قد تبدو بأثر رجعي واضحة ويبدو‬
‫احليوية ومضادات الفريوسات القهقرية وأقراص طرد الديدان‪ ،‬ولكنَّها تتكون ً‬
‫تنفيذها منخفض التكلفة‪ ،‬ولكنها أنقذت حياة املاليني‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك غلي املياه أو تنقيتها أو إضافة الكلور إليها‪ ،‬وغسل‬
‫بدال من احلقول‬
‫األيدي‪ ،‬وإعطاء مكمالت اليود للحوامل‪ ،‬وإرضاع حديثي الوالدة رضاعةً طبيعية واحتضاهنم‪ ،‬والتغوط يف املرحاض ً‬
‫ٍ‬
‫مبحلول من امللح والسكر‬ ‫والشوارع واملمرات املائية‪ ،‬ومحاية األطفال أثناء نومهم بناموسيات معاجلة باملبيدات احلشرية‪ ،‬وعالج اإلسهال‬
‫املذابني يف مياه نظيفة‪ .‬ويف املقابل‪ ،‬قد ينتكس التقدم بفعل األفكار السيئة‪ ،‬مثل نظرية املؤامرة اليت نشرهتا مجاعتا طالبان وبوكو حرام‪،‬‬
‫إن اللقاحات تعقِّم الفتيات املسلمات‪ ،‬أو اليت نشرها النشطاء األمريكيون املرفهون واليت تقول َّإهنا تسبِّب ُّ‬
‫التوحد‪ ،‬ويذكر‬ ‫اليت تقول َّ‬
‫ديتون أنَّه حىت الفكرة اليت تقع يف مركز مفهوم التنوير ‪َّ -‬‬
‫أن املعرفة جتعلنا أفضل‪ -‬رمبا ُمتثِّل اكتشافًا يف بعض أحناء العامل حيث استسلم‬
‫حيسنها‪.‬‬ ‫الناس لضعف صحتهم ومل حيلموا قط َّ‬
‫بأن التغيري يف مؤسساهتم وأعرافهم قد ِّ‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫المعيشة‬

‫فضالً عن الشيخوخة والوالدة ومسببات األمراض‪ ،‬فقد خدعنا كلٌّ من التطور واإلنرتوبيا خدعةً شريرًة أخرى‪ ،‬وهي حاجتنا غري املنقطعة‬
‫ني من اجلوع» ‪-‬أي السنوات‬ ‫شكلت اجملاعة جزءا من احلالة البشرية‪ ،‬فالكتاب املقدس العربي حيكي عن «سبع سن ٍ‬ ‫إىل الطاقة‪ .‬لطاملا َّ‬
‫ً‬
‫العجاف‪ -‬يف مصر‪ ،‬وحيكي اإلجنيل املسيحي عن اجملاعة بوصفها أحد فرسان الرؤيا األربع‪ .‬وحىت بعد ٍ‬
‫وقت طويل من بداية القرن التاسع‬
‫عشر‪ ،‬كان فساد احملصول بإمكانه أن جيلب البؤس إىل أغىن أحناء العامل‪ ،‬يقتبس يوهان نوربرج ذكرى طفولة أحد املعاصرين ألحد أسالفه‬
‫يف شتاء عام ‪ 1868‬يف السويد فيقول‪:‬‬

‫يعز على أي أم أال يكون لديها أي طعام تقدمه ألطفاهلا اجلائعني‪،‬‬ ‫كثريا ما نرى إحدى األمهات تبكي وحدها‪ ،‬وكان ُّ‬ ‫"كنا ً‬
‫مزرعة إىل أخرى يتسولون بضع لقيمات من اخلبز‪ .‬وقد جاء إلينا يف‬‫وكنا كثريا ما نرى األطفال اجلوعى اهلزيلني ينتقلون من ٍ‬
‫ً‬
‫أحد األيام ثالثة أطفال يبكون ويتسولون شيئًا لسد جوعهم‪ ،‬ومع األسف‪ ،‬فقد اضطرت أمنا‪ ،‬والدموع متأل عينيها‪ ،‬إىل‬
‫أن ُتربهم بأننا ال منلك سوى بضع لقيمات من اخلبز وأننا حنتاج إليها‪ .‬عندما رأينا حنن األطفال ال َكَرب يف عيون األطفال‬
‫اجملهولني املتوسلة‪ ،‬انفجرنا يف البكاء وتوسلنا إىل أمنا أن تقامسهم الفتات الذي منلكه‪ .‬انصاعت إىل طلبنا بعد ٍ‬
‫تردد‪ ،‬التهم‬
‫كثريا عن منزلنا‪ ،‬ويف اليوم التايل‪ ،‬عُثر على‬
‫األطفال اجملهولون الطعام مث مضوا يف طريقهم إىل املزرعة التالية‪ ،‬واليت كانت تبعد ً‬
‫جثثهم الثالثة يف الطريق بني مزرعتنا واملزرعة التالية‪".‬‬

‫وثق املؤرخ فرناند براودل َّ‬


‫أن أوروبا قبل احلداثة كانت تعاين من اجملاعات كل بضعة عقود‪ ،‬وكان الفالحون اليائسون حيصدون‬
‫كثري منهم حيصلون‬
‫احلبوب قبل نضجها‪ ،‬ويأكلون األعشاب أو حلم البشر‪ ،‬ويذهبون إىل املدن للتسول‪ .‬وحىت يف أوقات الرخاء‪ ،‬كان ٌ‬
‫على أغلب سعراهتم احلرارية من كمية قليلة من اخلبز أو العصيدة‪ ،‬ويف كتابه الهروب من الجوع والموت المبكر ( ‪The Escape‬‬
‫‪ ،)from Hunger and Premature Death, 1700–2100‬ذكر االقتصادي روبرت فوجل (‪)Robert Fogel‬‬
‫ٍ‬
‫لدرجة متاثل ما كان عليه الوضع يف النظام‬ ‫قليال‬ ‫َّ‬
‫أن «مقدار الطاقة يف النظام الغذائي العادي يف فرنسا عند بداية القرن الثامن عشر كان ً‬
‫جوعا‬
‫الغذائي العادي يف رواندا يف عام ‪ ،1965‬حيث كانت رواندا أسوأ الدول تغذيةً يف ذلك العام»‪ .‬كان كثريٌ ممن ال يتضورون ً‬
‫أضعف من أن يستطيع وا العمل‪ ،‬مما حكم عليهم بالفقر‪ ،‬وكان األوروبيون اجلائعون يداعبون مشاعرهم خبياالت مثرية عن الطعام‪،‬‬
‫كحكايات عن أرض كوكني اليت تنمو فيها فطائر «البان كيك» على األشجار‪ ،‬وتكون فيها الشوارع ممهدة باملعجنات‪ ،‬وتتجول فيها‬ ‫ٍ‬
‫ني يف ظهورها ليسهل تقطيعها‪ ،‬ويقفز فيها السمك املطهي من املاء ليقع حتت أرجل البشر‪.‬‬‫اخلنازير املشوية بسكاك ٍ‬

‫تكمن مشكلتنا يف قلة السعرات احلرارية وإمنا يف وفرهتا‪ ،‬فكما ذكر املمثل الكوميدي كريس‬
‫حنن نعيش اليوم يف أرض كوكني‪ ،‬وال ُ‬
‫ٍ‬
‫بغضب‬ ‫روك‪« :‬هذا أول جمتمع يف التاريخ يكون فيه الفقراء بدناء»‪ .‬يتذمر النقاد االجتماعيون للمجتمع احلديث من وباء السمنة املفرطة‬
‫رمبا يتناسب مع اجملاعة على سبيل املثال‪ ،‬بنكران اجلميل املعهود من العامل األول (وهذا عندما ال يتذمرون من وصم البدناء‪ ،‬أو عارضات‬
‫أن السمنة املفرطة تُعد بالطبع مشكلة صحية عامة‪ ،‬ولكنها مشكلة جيدة بالنظر إىل‬ ‫املوضة النحيفات‪ ،‬أو اضطرابات األكل)‪ ،‬ورغم َّ‬
‫مقاييس التاريخ‪.‬‬
‫إن اجلوع الذي يربطه كثريٌ من الغربيني بأفريقيا وآسيا ليس ظاهرةً حديثة بأي ٍ‬
‫شكل من األشكال‪ ،‬فلطاملا‬ ‫ماذا عن بقية العامل؟ َّ‬
‫ألن ماليني الناس كانوا يقتاتون على األرز الذي كان يُروى يف مواس ٍم غري منتظمة أو‬
‫كانت كلٌّ من اهلند والصني عرضةً للمجاعات‪َّ ،‬‬
‫بأنظمة ري هشة وكان جيب نقله مسافات كبرية‪ .‬حيكي براودل شهادة تاجر هولندي كان يف اهلند أثناء إحدى اجملاعات يف عامي‬
‫‪ 1630‬و‪ ،1631‬فيقول‪:‬‬

‫«هجر الناس البلدات والقرى وهاموا على وجوههم عاجزين عن أي شيء‪ ،‬وكان يسهل إدراك حالتهم‪ ،‬فكانت أعينهم‬
‫غائرة إىل الداخل‪ ،‬وشفاههم شاحبة ومغطاة مبادة لزجة‪ ،‬وجلدهم جاف‪ ،‬وعظامهم بارزة‪ ،‬وبطوهنم ليست سوى جرابًا‬
‫حمتضرا مبأساوية»‪ .‬وكان يتبع ذلك كل‬
‫ً‬ ‫جوعا‪ ،‬ويتمدد اآلخر جواره على األرض‬‫فار ًغا متدليًّا‪ ..‬كان أحدهم يبكي وينوح ً‬
‫املآسي اإلنسانية املأ لوفة‪ ،‬فكان اآلباء يهجرون الزوجات واألطفال‪ ،‬ويبيعون أطفاهلم‪ ،‬وقد يبيعون أنفسهم هبدف النجاة‪،‬‬
‫شق فيها اجلائعون بطون املوتى أو احملتضرين «ونزعوا األحشاء مللء‬
‫انتحارا مجاعيًّا‪ ..‬مث جاءت مرحلة َّ‬
‫ً‬ ‫وكان الناس ينتحرون‬
‫جوعا‪ ،‬فكان البلد بأكمله مغطى باجلثث املتناثرة دون أن تُدفن‪ ،‬مما بعث رائحة نتنة يف‬
‫بطوهنم»‪« .‬مات مئات اآلالف ً‬
‫ٍ‬
‫لدرجة مألت اهلواء كله وأصابته‪ ..‬يف قرية سوسونرتا‪..‬كان حلم البشر يُباع يف السوق املفتوحة»‪.‬‬ ‫اجلو‬

‫ولكن العامل يف األزمنة احلديثة نَعِ َم بتقدٍُّم جدير باملالحظة‪ ،‬ولكنه غري ملحوظ‪ ،‬فرغم أعداد سكان العامل النامي املتزايدة‪ ،‬إال أنه‬
‫َّ‬
‫قادر على إطعام نفسه‪ ،‬ويتضح هذا أكثر يف الصني‪ ،‬اليت يستطيع كلٌّ من سكاهنا الذين يبلغ عددهم ‪ 1.3‬مليار نسمة احلصول على‬
‫شاب شديد النشاط وف ًقا إلرشادات احلكومة األمريكية‪ ،‬بينما حيصل‬ ‫متوسط ‪ 3100‬سعر حراري يف اليوم‪ ،‬وهو العدد الذي حيتاج إليه ٌ‬
‫لشابة شديدة النشاط أو رجل‬ ‫سكان اهلند الذين يبلغ عددهم املليار نسمة على متوسط ‪ 2400‬سعر حراري‪ ،‬وهو العدد املوصى به ٍ‬
‫نشيط يف منتصف العمر‪ ،‬ويرتاوح الرقم اخلاص بإفريقيا بني االثنني مبتوسط ‪ 2600‬سعر حراري‪ .‬يظهر الشكل رقم ‪ ،1-7‬الذي حيدد‬
‫بالرسم عدد السعرات احلرارية املتاحة لعينة متثيلية من الدول املتقدمة والنامية وعن العامل كله‪ ،‬منطًا مألوفًا يشبه الرسوم البيانية السابقة‪،‬‬
‫يظهر حتس ٌن سريع يف أوروبا والواليات املتحدة على مدار العقدين‬ ‫حيث توجد مصاعب يف كل مكان قبل القرن التاسع عشر‪ ،‬فيما ُ‬
‫التاليني له‪ ،‬مث يلحق هبما بقية العامل يف العقود األخرية‪.‬‬
‫الواليات المتحدة‬
‫السعرات الحرارية للفرد يوم ًّيا‬

‫إنجلترا‬ ‫العالم‬
‫الهند‬
‫فرنسا‬

‫الصين‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 1 - 7‬ا ل س ع را ت ا حل را ري ة م ن ذ ‪ 1 7 0 0‬ح ىت ‪2 0 1 3‬‬


‫املصادر‪ :‬لبيانات الواليات املتحدة وإجنلرتا وفرنسا‪ ،Our World in Data :‬روزر ‪ ،d2016‬بناءً على بيانات من فوجل‬
‫‪ .2004‬لبيانات الصني واهلند والعامل‪ :‬منظمة األغذية والزراعة لألمم املتحدة (الفاو)‪،‬‬
‫‪.http://www.fao.org/faostat/en/#data‬‬

‫ضلال على الرفاهة لو أهنا كانت تزيد بسبب‬


‫مؤشرا ُم ً‬
‫إن األرقام احملددة يف الشكل رقم ‪ 1-7‬هي متوسط القيم‪ ،‬وكانت ستكون ً‬
‫‪‬‬
‫ولكن األرقام‪ ،‬حلسن احلظ‪ ،‬تعكس زيادةً يف‬ ‫استهالك األغنياء سعرات حرارية أكثر (وإذا مل ي ُكن أح ٌد يزداد وزنًا سوى ماما كاس )‪َّ .‬‬
‫السعرات احلرارية املتاحة ضمن هذا النطاق‪ ،‬مبا يشمل أقل نقاطه‪ .‬عندما تنقص تغذية األطفال‪ ،‬يتوقف منوهم‪ ،‬ويكونون طوال حياهتم‬
‫ويوضح الشكل رقم ‪ 2-7‬نسبة األطفال الذين يتوقف منوهم يف عينة متثيلية من الدول اليت لديها‬ ‫أكثر عرضة لإلصابة باألمراض والوفاة‪ِّ ،‬‬
‫أن نسبة األطفال متوقفي النمو يف الدول الفقرية مثل كينيا وبنجالديش مؤسفة‪َّ ،‬إال أنَّنا نرى‬
‫بيانات على مدار أطول فرتات زمنية‪ .‬ورغم َّ‬
‫أيضا تعاين من‬ ‫دول أخرى مثل كولومبيا والصني ً‬‫أن معدل توقف النمو قد اخنفض مبقدار النصف خالل عقدين فقط‪ ،‬وقد كانت ٌ‬ ‫َّ‬
‫وقت قريب‪ ،‬واستطاعت ُتفيضها أكثر من ذلك‪.‬‬ ‫معدالت مرتفعة من توقف النمو حىت ٍ‬

‫‪ ‬ماما كاس (كاس إليوت) هي مطربة وممثلة أمريكية‪ ،‬واقتبس الكاتب عبارة من كلمات إحدى أغنياتها التي تقول فيها‪No one’s getting fat :‬‬
‫‪ - .except Mama Cass‬المترجمة‬
‫بنجالديش‬
‫النسبة المئوية لألطفال متوقفي النمو تحت سن الخامسة‬

‫كينيا‬
‫كولومبيا‬

‫الصين‬

‫الواليات المتحدة‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 2 - 7‬ن س ب ة ت وق ف من و ا أل ط ف ا ل م ن ذ ‪ 1 9 6 6‬ح ىت ‪2 0 1 4‬‬


‫املصدر‪ ،Our World in Data :‬روزر ‪ ،j2016‬بناءً على بيانات من منظمة الصحة العاملية ‪Nutrition Landscape‬‬
‫‪Information System, http://www.who.int/nutrition/nlis/en/.‬‬

‫يقدم الشكل رقم ‪ 3-7‬نظرةً أخرى على كيفية إطعام العامل للجائعني‪ ،‬ويوضح معدل نقص التغذية (قضاء ٍ‬
‫عام أو أكثر على‬
‫كمية ٍ‬
‫طعام غري كافية) يف الدول النامية يف مخس مناطق‪ ،‬ويف العامل أمجع‪.‬‬
‫النسبة المئوية لألشخاص الذين يعانون من نقص التغذية في‬ ‫العالم النامي‬

‫إفريقيا جنوب الصحراء‬


‫جنوب شرق آسيا‬
‫الدول النامية‬

‫جنوب آسيا‬

‫شرق آسيا‬

‫أمريكا الالتينية‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 3 - 7‬ن س ب ة ن ق ص ا ل ت غ ذ ي ة م ن ذ ‪ 1 9 9 0‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫املصدر‪ ،Our World in Data :‬روزر‪ ،j2016‬بناءً على بيانات من منظمة األغذية والزراعة ‪ ،2014‬واملذكورة ً‬
‫أيضا يف الرابط‬
‫فرنسا‬
‫التايل ‪./http://www.fao.org/economic/ess/ess-fs/ess-fadata/en‬‬

‫كان معدل نقص التغذية يف الدول املتقدمة‪ ،‬اليت ال تشملها هذه التقديرات‪ ،‬أقل من ‪ 5‬يف املئة خالل هذه الفرتة بأكملها‪ ،‬وهي‬
‫أن ‪ 13‬يف املئة من سكان العامل النامي يعانون من نقص التغذية‪ ،‬وهي نسبة كبرية جدًّا‪ ،‬إال أهنا أفضل‬ ‫نسبة ال تُذكر إحصائيًّا‪ .‬ورغم َّ‬
‫من ‪ 35‬يف املئة اليت كانت نسبة الذين يعانون من نقص التغذية قبل مخسة وأربعني سنة‪ ،‬أو ‪ 50‬يف املئة اليت كانت نسبتهم التقديرية‬
‫أن هذه األرقام عبارة عن نسب‪ ،‬فقد زاد عدد سكان‬ ‫يف العامل بأكمله عام ‪( 1947‬وهذا العام غري مذكور يف الرسم البياين)‪ .‬تَ َّ‬
‫ذكر َّ‬
‫أن العامل بينما كان خيفِّض معدل اجلوع‪ ،‬كان يف الوقت نفسه‬ ‫ٍ‬
‫شخص تقريبًا خالل تلك السنوات السبعني‪ ،‬مما يعين َّ‬ ‫العامل خبمسة مليار‬
‫يُطعم مليارات األفواه اإلضافية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بأعداد‬ ‫أيضا اجملاعات الكارثية‪ ،‬وهي الكوارث اليت تقتل الناس‬
‫مل ترتاجع معدالت نقص التغذية املزمنة فحسب‪ ،‬بل تراجعت ً‬
‫كبرية وتتسبَّب يف انتشار اهلزال (وهي احلالة اليت يكون فيها املرء أقل من وزنه املتوقع مبقدار قيميت احنراف معياري) والكواشيوركور (مرض‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 4-7‬عدد الوفيات‬ ‫رمزا للمجاعة)‪ِّ .‬‬
‫نقص الربوتني الذي تسبَّب يف انتفاخ بطون األطفال يف الصور اليت أصبحت ً‬
‫عاما املاضية‪ ،‬بالنسبة إىل تعداد سكان العامل يف ذلك الوقت‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫يف اجملاعات الكربى يف كل عقد خالل املئة ومخسني ً‬
‫معدل الوفيات بسبب المجاعات لكل ‪ 100,000‬شخص لكل عقد‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 4 - 7‬م ع د ل ا ل وف ي ا ت ب س ب ب ا جمل ا ع ا ت م ن ذ ‪ 1 8 6 0‬ح ىت ‪2 0 1 6‬‬


‫املصدر‪ ،Our World in Data :‬هاسل ورورز ‪ ،2017‬بناءً على بيانات من ‪ ،Devereux 2000‬و ‪Ó Gráda‬‬
‫‪ ،2009‬و‪ ،White 2011‬و‪( The International Disaster Database ،EM-DAT‬قاعدة البيانات الدولية‬
‫نعرف «اجملاعة» كما يعرفها املصدر ‪.Ó Gráda 2009‬‬
‫للكوارث)‪ ،http://www.emdat.be/ ،‬ومصادر أخرى‪ِّ .‬‬

‫كتب االقتصادي ستيفن ديفرو يف عام ‪ 2000‬يلخص التقدُّم الذي أحرزه العامل يف القرن العشرين‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫«يبدو أنه قد مت القضاء افرتاضيًّا على إمكانية حدوث اجملاعات يف كل املناطق خارج أفريقيا‪ ..‬ويبدو َّ‬
‫أن مشكلة اجملاعة‬
‫بوصفها مشكلة مستوطنة يف آسيا وأوروبا قد أصبحت يف طيات التاريخ‪ ،‬فقد سقط لقب «أرض اجملاعة» املقيت عن‬
‫الصني وروسيا واهلند وبنجالديش‪ ،‬والتصق منذ سبعينيات القرن املاضي بإثيوبيا والسودان فقط‪.‬‬
‫إضافةً إىل ذلك‪ ،‬فقد انقطع الرابط بني فساد احملصول واجملاعة‪ ،‬إذ متت مواجهة أزمات الطعام األخرية الناجتة عن‬
‫اجلفاف أو الفيضانات مبساعدات إنسانية حملية ودولية‪.‬‬
‫وإذا تواصل هذا االجتاه‪ ،‬فسينتهي القرن العشرون وهو حيمل صفة القرن األخري الذي مات فيه عشرات املاليني‬
‫بسبب نقص الطعام‪.‬‬

‫أيضا‪ ،‬وكانت هناك جماعات يف شرق‬ ‫وهذا االجتاه حىت اآلن يف تواصل‪ ،‬ما زال هناك جوع حىت بني الفقراء يف الدول املتقدمة ً‬
‫إفريقيا عام ‪ 2011‬ويف الساحل اإلفريقي يف ‪ 2012‬ويف جنوب السودان يف ‪ ،2016‬وجماعات وشيكة يف الصومال ونيجرييا واليمن‪،‬‬
‫ولكنها مل تتسبب يف وفاة أشخاص بنفس قدر الكوارث اليت كانت أحداثًا عادية يف القرون السابقة‪.‬‬
‫أن اجملاعات املتكررة يف عصره كانت حتمية‬ ‫أي من هذا‪ ،‬ففي عام ‪ 1798‬أوضح توماس مالتوس َّ‬ ‫مل ي ُكن من املفرتض أن حيدث ٌّ‬
‫ألن «عدد السكان يتزايد عند تركه دون رقابة مبتوالية هندسية‪ ،‬يف حني ال يتزايد «حد الكفاف»‬ ‫ال ميكن جتنبها و َّأهنا ستزداد سوءًا َّ‬
‫سوى مبتوالية حسابية (عددية)‪ .‬ستؤدي املعرفة البسيطة باألرقام إىل فهم جسامة القوة األوىل مقارنةً بالثانية»‪ .‬يعين هذا ضمنًا َّ‬
‫أن اجلهود‬
‫أيضا بدورهم‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫يدا من األطفال احملكوم عليهم باجلوع ً‬ ‫املبذولة إلطعام اجلائعني لن تؤدي سوى إىل مزيد من الشقاء‪ ،‬ألهنم سينجبون مز ً‬
‫ٍ‬
‫حبماس شديد‪ ،‬ففي عام ‪ 1967‬ألف كلٌّ من ويليام وبول‬ ‫انتعش الفكر املالتوسي ‪-‬نسبةً إىل توماس مالتوس‪ -‬منذ ٍ‬
‫وقت قريب‬
‫بادوك (‪ )William and Paul Paddock‬كتاب المجاعة ‪ ،(Famine 1975 ( 1975‬ويف عام ‪ 1968‬ألَّف عامل‬
‫األحياء بول إيرليش (‪ )Paul R. Ehrlich‬كتاب القنبلة السكانية )‪ (The Population Bomb‬الذي أعلن فيه َّ‬
‫أن‬
‫جوعا حىت املوت حبلول الثمانينيات‪.‬‬ ‫«معركة إطعام كل البشرية قد انتهت» وتنبَّأ َّ‬
‫أن ‪ 65‬مليون أمريكي و‪ 4‬ماليني آخرين سيتضورون ً‬
‫عرف قراء جملة نيويورك تاميز ألول مرة املصطلح املستخدم يف املعارك الفرز (‪ )triage‬وهو ممارسة تتم يف حاالت الطوارئ‪ ،‬إذ يتم فرز‬
‫ٍ‬
‫بشخص من‬ ‫حججا فلسفية حول ما إذا كان من املقبول أخالقيًّا اإللقاء‬ ‫ً‬ ‫أيضا‬
‫اجلرحى من اجلنود إىل قابلني لإلنقاذ وهالكني‪ ،‬وعرفوا ً‬
‫مركب إنقاذ مزدحم حلمايته من االنقالب والتسبب يف غرق اجلميع‪ .‬دافع إيرليش ونشطاء بيئيون آخرون عن وقف املساعدات الغذائية‬
‫ميؤوسا منها‪ .‬أحبط روبرت ماكنمارا‪ ،‬رئيس البنك الدويل منذ عام ‪ 1968‬حىت ‪ ،1981‬فكرة متويل‬ ‫ٍ‬
‫عن الدول اليت اعتربوها حاالت ً‬
‫ألن املرافق الصحية تسهم عادةً يف تراجع معدالت الوفيات‪ ،‬وبالتايل يف‬ ‫الرعاية الصحية «إال إذا ارتبطت ارتباطًا وثي ًقا بتنظيم السكان‪َّ ،‬‬
‫االنفجار السكاين»‪ ،‬وأجربت برامج تنظيم السكان يف اهلند والصني (وخاصةً يف ظل سياسة الطفل الواحد اليت اتبعتها الصني) النساء‬
‫على اخلضوع لعمليات التعقيم واإلجهاض وزرع أجهزة اللولب الرمحي املؤملة واملسببة إلنتان الدم‪.‬‬
‫أين أخطأ مالتوس يف حساباته؟ بالنظر إىل أول منحىن ذكره‪ ،‬رأينا بالفعل َّ‬
‫أن النمو السكاين ال يتزايد بالضرورة مبتوالية هندسية إىل‬
‫أطفاال أقل‪ .‬ويف املقابل‪ ،‬ال تؤدي اجملاعات إىل خفض‬‫ألن الناس عندما يزدادون غىن وينجو املزيد من صغارهم‪ ،‬ينجبون ً‬ ‫ما ال هناية‪َّ ،‬‬
‫يعوض الناجون‬
‫بشكل غري متناسب‪ ،‬وعندما تتحسن األوضاع‪ ،‬سرعان ما ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫النمو السكاين لفرتةٍ طويلة‪ ،‬فهي تقتل األطفال واملسنني‬
‫تعداد السكان‪ ،‬فكما قال هانس روزلينج‪« :‬ال ميكنك وقف النمو السكاين برتك األطفال الفقراء ميوتون»‪.‬‬
‫وبالنظر إىل املنحىن الثاين‪ ،‬سنكتشف َّ‬
‫أن اإلمداد من الطعام ميكن أن ينمو مبتوالية هندسية عند تطبيق املعرفة يف زيادة كمية الغذاء‬
‫اليت ميكن احلصول عليها من رقعة من األرض‪ .‬يقوم البشر بتعديل النباتات واحليوانات جينيًّا منذ نشأة الزراعة قبل عشرة آالف سنة عن‬
‫السلَف‬
‫طريق القيام بالتناسل االنتقائي لتلك اليت حتتوي على سعرات حرارية أكثر ومستوى مسية أقل ويسهل زرعها وحصادها‪ .‬كان َ‬
‫الربي لنبات الذرة عشبًا له بضع بذور قوية‪ ،‬وكان شكل َسلَف اجلزر وطعمه يشبه اهلندباء الربية‪ ،‬وكانت أسالف العديد من الفواكه‬
‫ولكن‬
‫بدال من اللب الطري‪ ،‬وتالعب املزارعون املاهرون بالري واحملاريث واألمسدة العضوية‪َّ ،‬‬ ‫مريرة والذعة وتغلب عليها البذور الصلبة ً‬
‫دائما!‬
‫مالتوس كان لديه القول الفصل ً‬
‫يوجهون هذا املنحىن إىل األعلى سوى يف عصر التنوير والثورة الصناعية يف رواية جوناثان سويفت الصادرة‬
‫مل يعرف الناس كيف ِّ‬
‫بدال من ورقة واحدة‬ ‫بدال من ٍ‬
‫عود واحد أو ورقتني من النبات ً‬ ‫عام ‪ ،1726‬قال ملك بروبدجنناج جلوليفر‪« :‬من يُنبِت عودين من الذرة ً‬
‫يوضح لنا الشكل رقم ‪،1-7‬‬
‫يستحق أفضل ما لدى البشرية‪ ،‬ويقدم لبلده خدمة حيوية أكثر مما يفعل الساسة كلهم جمتمعني»‪ .‬وكما ِّ‬
‫فقد نبت بالفعل املزيد من أعواد الذرة‪ ،‬فيما أطلق عليه الثورة الزراعية الربيطانية‪ ،‬وبعد تطبيق الدورة الزراعية للمحاصيل وإجراء حتسينات‬
‫على احملاريث وآالت زرع البذور‪ ،‬ظهرت امليكنة‪ ،‬فحل الوقود األحفوري حمل العضالت البشرية واحليوانية‪ .‬يف منتصف القرن التاسع‬
‫شخص واحد‬
‫ٌ‬ ‫رجال‪ ،‬أما اليوم فيمكن أن يفعل هذا‬
‫كامال من مخسة وعشرين ً‬ ‫يوما ً‬ ‫عشر‪ ،‬كان حصاد طن من احلبوب وطحنه يستغرق ً‬
‫صادة يف ست دقائق‪.‬‬ ‫يشغِّل احل َّ‬
‫أيضا إحدى املشاكل املالزمة للغذاء‪ ،‬فكما يعرف أي شخص يزرع الكوسا يف أغسطس‪ ،‬فإن الكثري من احملصول‬ ‫حتل اآلالت ً‬
‫ولكن توفر السكك احلديدية والقنوات والشاحنات ومستودعات احلبوب‬ ‫متوفرا مرة واحدة‪ ،‬مث سرعان ما يفسد أو تأكله اآلفات‪َّ ،‬‬ ‫يصبح ً‬
‫ولكن الدفعة‬
‫والتربيد وازن بني فرتات ذروة العرض وفرتات اخنفاضه‪ ،‬وواءمها مع الطلب‪ ،‬ونسقها باملعلومات اليت تعرب عنها األسعار‪َّ .‬‬
‫اهلائلة حقًّا جاءت من الكيمياء‪ ،‬يرمز حرف الـ ‪ N‬يف الرمز ‪ ،SPONCH‬وهو اختصار للعناصر الكيميائية اليت ِّ‬
‫تشكل اجلزء األكرب‬
‫من أجسامنا‪ ،‬إىل النيرتوجني‪ ،‬وهو أحد املكونات الرئيسية للربوتني واحلمض النووي والكلوروفيل واألدينوسني ثالثي الفوسفات ناقل‬
‫الطاقة‪ .‬توجد ذرات النيرتوجني بوفرة يف اجلو ولكنَّها ترتبط يف ثنائيات (ومن هنا جاءت الصيغة الكيميائية ‪ )2N‬يصعب فصلها كي‬
‫تستطيع النباتات استخدامها‪ .‬أتقن كارل بوش يف عام ‪ 1909‬العملية اليت اخرتعها فريتز هاربر‪ ،‬اليت استخدمت امليثان والبخار‬
‫مساد على ٍ‬
‫نطاق صناعي‪ ،‬ليحل حمل الكميات اهلائلة من فضالت الطيور اليت كانوا حيتاجون‬ ‫الستخراج النيرتوجني من اهلواء وحتويله إىل ٍ‬
‫إليها قبل ذلك إلعادة النيرتوجني إىل الرتبة املستنزفة‪ .‬يأيت هذان الكيميائيان على قمة قائمة علماء القرن العشرين الذين أنقذوا حياة‬
‫أكرب عدد من الناس يف التاريخ‪ ،‬وهذا العدد هو ‪ 2.7‬مليار شخص‪.‬‬
‫اخنفاضا‬
‫ً‬ ‫باندفاع شديد بينما اخنفضت األسعار الفعلية‬
‫ٍ‬ ‫انس املتوالية احلسابية‪ ،‬ففي القرن املاضي‪ ،‬ازدادت حماصيل احلبوب‬
‫لذا َ‬
‫كبريا‪ ،‬فمقدار التوفري الذي حدث مذهل‪ ،‬ولو كان الغذاء املزروع اليوم قد ُزِرع بتقنيات الزراعة اليت سبقت النيرتوجني‪ ،‬لكنا احتجنا إىل‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫مثال‪ .‬كان األجر يف الساعة يف الواليات املتحدة يف عام ‪ 1901‬يعادل حوايل ثالثة أرباع جالون من احلليب (أي‬ ‫أرض مبساحة روسيا ً‬
‫لرتا‪ .‬وتضاعف كذلك املقدار الذي ميكن شراؤه من أي غذاء آخر‬ ‫ٍ‬
‫ما يقرب من ‪ 3‬لرتات)‪ ،‬وبعد قرن‪ ،‬أصبح األجر نفسه يعادل ‪ً 15‬‬
‫ساعة من العمل‪ ،‬من رطل من الزبدة إىل مخسة أرطال‪ ،‬ومن دستة بيض إىل اثنيت عشرة دستة‪ ،‬ومن رطلني من حلم اخلنزير إىل‬ ‫بأجر ٍ‬
‫رطال‪.‬‬
‫مخسة أرطال‪ ،‬ومن تسعة أرطال من الدقيق إىل تسعة وأربعني ً‬
‫تفوق نورمان بورلوج‪ ،‬وهو واحد من الذين أنقذوا حياة الكثريين‪ ،‬يف اخلمسينيات والستينيات‪ ،‬على التطور إلطالق الثورة اخلضراء‬
‫كثريا من الطاقة واملواد الغذائية يف سيقاهنا اخلشبية اليت حتمل أوراقها وزهورها وترفعها أعلى‬
‫يف العامل النامي‪ .‬تستثمر النباتات بطبيعتها ً‬
‫من ظل احلشائش اجملاورة بعضها لبعض‪ ،‬ومثل اجلمهور يف حفالت الروك‪ ،‬يقف اجلميع ولكن ال يرى أح ٌد أفضل من غريه‪ .‬وهكذا‬
‫يعمل التطور‪ ،‬فهو ينتقي بقصر نظ ٍر لصاحل املزايا الفردية‪ ،‬وليس للصاحل العام للنوع‪ ،‬وال لصاحل األنواع األخرى‪ ،‬فمن وجهة نظر املزارع‪،‬‬
‫ُتصبها األمسدة فإهنا تنهار بسبب وزن البذور‬
‫ال تكتفي نباتات القمح الطويلة بإهدار الطاقة يف السيقان اخلشبية فحسب‪ ،‬بل وعندما ِّ‬
‫فهجن اآلالف من سالالت القمح‪ ،‬مث انتقى النسل ذا السيقان القصرية والغالل الكثرية واملقاوم للصدأ‬ ‫الثقيل‪ .‬حتكم بورلوج يف التطور‪َّ ،‬‬
‫طور بورلوج سالالت من القمح (مث الذرة واألرز)‬ ‫والذي ال يتأثر بطول اليوم‪ ،‬وبعد عدة سنوات من هذا العمل اململ اجملهد للذهن‪َّ ،‬‬
‫حول‬
‫غالال أكثر من أسالفها بعدة أضعاف‪ .‬وعرب مجع هذه السالالت بالتقنيات احلديثة يف الري والتسميد وإدارة احملاصيل‪َّ ،‬‬ ‫تنتج ً‬
‫ليلة وضحاها‪ .‬تواصلت الثورة‬‫ودوال أخرى كانت عرضة للمجاعات‪ ،‬إىل دول مصدِّرة للحبوب بني ٍ‬ ‫بورلوج املكسيك مث اهلند وباكستان ً‬
‫ُ‬
‫اخلضراء ‪-‬اليت أشري إليها بأهنا السر األفريقي الدفني‪ -‬مدفوعةً بالتحسينات اليت جترى على السورغم والدُّخن والكسافا والدرنات‪.‬‬
‫بفضل الثورة اخلضراء‪ ،‬أصبح العامل حيتاج إىل مساحة من األرض أقل مبقدار الثُلث من املساحة اليت كان حيتاج إليها إليها من قبل‬
‫إن مساحة األرض املستخدمة لزراعة األغذية زادت‬ ‫يقة أخرى عن تلك النعمة ميكن أن نقول َّ‬ ‫إلنتاج مقدا ٍر ما من الغذاء‪ ،‬وللتعبري بطر ٍ‬
‫ولكن مقدار الغذاء الذي متت زراعته زاد بنسبة ‪ 300‬يف املئة‪ .‬إضافةً إىل هزمية اجلوع‪،‬‬‫بني عامي ‪ 1961‬و‪ 2009‬بنسبة ‪ 12‬يف املئة‪َّ ،‬‬
‫فإن القدرة على زراعة املزيد من الغذاء باستهالك مساحات أقل من األرض كانت مفيدة للكوكب على وجه العموم‪ .‬فعلى الرغم من‬ ‫َّ‬
‫السحر الريفي يف املزارع‪َّ ،‬إال َّأهنا صحارى حيوية تزحف على املناظر الطبيعية على حساب الغابات واملروج الطبيعية‪ ،‬واآلن بعد احنسار‬
‫املزارع يف بعض أحناء العامل‪ ،‬بدأت الغابات املعتدلة يف معاودة الظهور‪ ،‬وهي ظاهرة سنعود إليها يف الفصل العاشر‪ .‬لو كانت الكفاءة‬
‫عاما املاضية مع زراعة العامل مقدار الغذاء نفسه‪ ،‬لكنا اضطررنا إىل إجالء‬ ‫الزراعية قد ظلت يف نفس مستواها على مدار اخلمسني ً‬
‫مساحة حبجم الواليات املتحدة وكندا والصني جمتمعات‪ ،‬وحرثها‪ .‬وفق تقديرات عامل البيئة جيسي أوزوبيل‪ ،‬فالعامل قد بلغ ذروة األراضي‬ ‫ٍ‬
‫الزراعية‪ ،‬ورمبا ال حنتاج إىل مقدار ما نستخدمه اليوم من األراضي الزراعية مطل ًقا‪.‬‬
‫تعرضت الثورة اخلضراء فور بدايتها إىل اهلجوم مثل كل صور التقدم اليت أحرزهتا البشرية‪ ،‬فقال املنتقدون َّ‬
‫إن الزراعة عالية التقنية‬
‫مياها جوفية‪ ،‬وتستخدم مبيدات األعشاب ومبيدات حشرية‪ ،‬وُتل بزراعة الكفاف التقليدية‪َّ ،‬‬
‫وإهنا غري طبيعية‬ ‫وقودا أحفوريًّا و ً‬
‫تستهلك ً‬
‫باحا للشركات‪ .‬بالنظر إىل َّأهنا أنقذت حياة مليار شخص وساعدت يف اإللقاء باجملاعات الكربى يف «مزبلة‬ ‫من الناحية احليوية‪ ،‬وتولِّد أر ً‬
‫يكمن‬
‫مقبوال‪ ،‬واألهم من ذلك‪ ،‬أنَّنا لن ندفع بالضرورة هذا الثمن إىل األبد‪ ،‬فجمال التقدم العلمي ُ‬ ‫التاريخ»‪ ،‬فإن هذا الثمن يبدو يل ً‬
‫يف أنَّه ال يتوقف بنا عند تكنولوجيا معينة‪ ،‬ولكنه يطور تكنولوجيات جديدة ذات مشاكل أقل من القدمية (وهي دينامية سنعود إليها يف‬
‫الفصل العاشر)‪.‬‬
‫ألفية وما حققه بورلوج يف سنوات من العمل‬‫خالل أيام ما حققه املزارعون التقليديون يف ٍ‬ ‫تستطيع اهلندسة الوراثية اآلن أن حتقق َ‬
‫غالال أكثر وحتتوي على فيتامينات منقذة وتتحمل اجلفاف وامللوحة‬ ‫«اململ اجملهد للذهن»‪ ،‬إذ جيري تطوير حماصيل معدلة وراثيًّا لتنتج ً‬
‫وتقاوم األمراض واآلفات والعطب وتقلل احلاجة إىل األراضي واألمسدة واحلرث‪ ،‬وشهدت مئات الدراسات وكل املنظمات العلمية‬
‫والصحية الكربى وأكثر من مئة فائز جبائزة نوبل على سالمتها (وهو أمر غري مفاجئ مبا أنَّه ال وجود حملاصيل غري معدلة جينيًّا)‪ .‬ومع‬
‫ذلك شنَّت اجملموعات البيئية التقليدية محلة شرسة تشبه احلمالت الصليبية‪ ،‬فيما أطلق عليه الكاتب يف اإليكولوجيا ستيوارت براند «ال‬
‫مباالة باجملاعة»‪ ،‬من أجل منع احملاصيل املعدلة جينيًّا عن الناس‪ ،‬وليس عن حمالت الذواقة اليت تبيع األغذية الكاملة يف الدول الغنية‬
‫بقيمة مقدسة‪ ،‬وإن مل ي ُكن هلا معىن يف احلقيقة‪ ،‬وهي‬ ‫فحسب‪ ،‬بل وعن املزارعني الفقراء يف الدول النامية‪ .‬تنطلق معارضتهم من التزٍام ٍ‬
‫قيمة «الطبيعية»‪ ،‬وتدفعهم حنو استنكار «التلوث اجليين» و«التالعب بالطبيعة» وترويج «الغذاء احلقيقي» القائم على «الزراعة‬
‫أن حوايل نصف العامة‬ ‫اإليكولوجية»‪ ،‬واستغلوا احلدس البدائي باملاهية والتلوث لدى العامة غري املثقفة علميًّا‪ .‬أظهرت دراسات حمبطة َّ‬
‫أن الطماطم العادية ال حتتوي على جينات بينما حتتوي عليها الطماطم املعدلة وراثيًّا‪ ،‬و َّ‬
‫أن اجلني املضاف إىل الغذاء قد ينتقل‬ ‫يعتقدون َّ‬
‫تقالة جيعل طعمها يشبه طعم السبانخ‪ ،‬وأيد ‪ 80‬يف املئة منهم‬ ‫أن جني السبانخ عند إضافته إىل بر ٍ‬‫إىل جينوم األشخاص الذين يأكلونه‪ ،‬و َّ‬
‫محض نووي»‪ .‬وكما قال براند‪« :‬أظن َّ‬
‫أن احلركة البيئية قد تسببت‬ ‫إقرار قانون يلزم بوضع ملصقات على كل األغذية اليت «حتتوي على ٍ‬
‫مبعارضتها للهندسة الوراثية يف أذى أكثر من أي شيء آخر أخطأنا بشأنه‪ ،‬فقد تسببنا يف جتويع الناس‪ ،‬وإعاقة العلم‪ ،‬وأذى البيئة‬
‫الطبيعية‪ ،‬وحرمنا ممارسي العلم من أداة ضرورية»‪.‬‬
‫أن معارضة احملاصيل املعدلة وراثيًّا كانت فعالة بصورةٍ مهلكة يف أكثر ٍ‬
‫جزء من العامل ميكنه‬ ‫أحد أسباب قسوة حكم براند هو َّ‬
‫االستفادة منها‪ ،‬فقد ألقت الطبيعة على أفريقيا جنوب الصحراء لعنة الرتبة الرقيقة‪ ،‬وسقوط األمطار ٍ‬
‫بنمط متقلب‪ ،‬وندرة املوانئ واألهنار‬
‫الصاحلة للمالحة‪ ،‬ومل تطور هذه املنطقة شبكة شاملة من الطرق أو السكك احلديدية أو القنوات‪ ،‬ومثل كل األراضي املزروعة‪ ،‬استُنزفت‬
‫تربتها‪ ،‬ولكن على عكس تلك األراضي يف بقية العامل‪ ،‬مل ُجتدد أراضي أفريقيا بأمسدة صناعية‪ .‬قد يتيح تبين احملاصيل املعدلة جينيًّا‬
‫خصيصا ألفريقيا واليت تُزرع بأساليب حديثة أخرى مثل الزراعة بدون حرث والري بالتنقيط‪ ،‬ألفريقيا‬‫ً‬ ‫أيضا املصممة‬
‫املستخدمة بالفعل و ً‬
‫انتشارا اليت ترجع إىل الثورة اخلضراء األوىل والقضاء على ما تبقى لديها من نقص التغذية‪.‬‬
‫ً‬ ‫جتاوز األساليب األكثر‬
‫أن األمن الغذائي ال يتعلق بالزراعة فحسب‪ ،‬إذ ال حتدث اجملاعات فقط عندما يندر الغذاء‪ ،‬ولكنها‬ ‫رغم أمهية العلوم الفالحية‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أيضا عندما ال يستطيع الناس حتمل تكلفته‪ ،‬أو عندما متنع اجليوش الناس من احلصول عليه‪ ،‬أو عندما ال هتتم حكوماهتم مبقدار‬ ‫حتدث ً‬
‫أن االنتصار على اجملاعات مل ي ُكن عبارة عن حتقيق مكتسبات يف الكفاءة الزراعية على‬ ‫يوضح الشكل رقم ‪َّ 4-7‬‬ ‫ما حيصلون عليه منه‪ِّ .‬‬
‫وترية منتظمة‪ ،‬كانت اجملاعات يف القرن التاسع عشر نامجة عن اجلفاف ولفحات النبات املعتادة‪ ،‬ولكنها كانت تتفاقم يف اهلند وأفريقيا‬
‫يف حقبة االستعمار بسبب اجلمود والفشل والسياسات املتعمدة أحيانًا اليت كان يطبقها املسؤولون الذين مل يهتموا برفاهة رعاياهم‪ .‬ويف‬
‫بداية القرن العشرين كانت السياسات االستعمارية قد أصبحت أكثر جتاوبًا مع األزمات الغذائية وكان التقدم احملرز يف الزراعة قد اقتطع‬
‫ولكن الكوارث السياسية املرعبة التالية تسببت يف جماعات متفرقة على مدار بقية القرن‪ ،‬فمن بني السبعني مليون‬ ‫كبريا من اجلوع‪َّ ،‬‬ ‫قسما ً‬
‫ً‬
‫شخص الذين ماتوا خالل جماعات القرن العشرين الكربى‪ ،‬كان ‪ 80‬يف املئة منهم ضحايا سياسات الزراعة اجلماعية اإلجبارية واملصادرة‬ ‫ٍ‬
‫اجلزائية والتخطيط املركزي الشمويل اليت طبقتها األنظمة الشيوعية‪ .‬ويشمل هذا اجملاعات يف االحتاد السوفيييت يف أعقاب الثورة الروسية‬
‫واحلرب األهلية الروسية واحلرب العاملية الثانية‪ ،‬واجملاعة الكربى (هولودومور) اليت أصابت أوكرانيا يف عهد ستالني يف عامي ‪1932‬‬
‫و‪ ،1933‬وقفزة ماو الكربى إىل األمام بني عامي ‪ 1958‬و‪ ،1961‬وسنة الصفر اليت أعلنها بول بوت بدءًا من ‪ 1975‬حىت ‪،1979‬‬
‫وقت قريب‪ .‬طبَّقت احلكومات األوىل‬ ‫وجماعة "مارس العصيب" يف كوريا الشمالية يف عهد كيم جونغ إل يف أواخر التسعينيات‪ ،‬أي منذ ٍ‬
‫يف حقبة ما بعد االستعمار يف أفريقيا وآسيا سياسات مسايرة لأليديولوجيات املتبعة ولكنها كارثية من الناحية االقتصادية‪ ،‬مثل الزراعة‬
‫اجلماعية‪ ،‬والقيود على االسترياد لتعزيز «االكتفاء الذايت»‪ ،‬وُتفيض أسعار الغذاء مبا يفيد سكان املدن ذوي النفوذ السياسي على‬
‫خلل يف توزيع الغذاء فحسب‪،‬‬‫حرب أهلية‪ ،‬كما حدث يف أغلبها‪ ،‬مل ينتج عن ذلك ٌ‬ ‫حساب املزارعني‪ .‬وعندما نشبت يف هذه الدول ٌ‬
‫سالحا‪ ،‬بالتواطؤ أحيانًا مع رعاة احلرب الباردة‪.‬‬
‫بل كان الطرفان يستخدمان اجلوع ً‬
‫حلسن احلظ‪ ،‬فمنذ التسعينيات‪ ،‬بدأت املتطلبات الضرورية لتحقيق الرخاء تتضح يف أحناء أكثر من العامل‪ ،‬ومبجرد الكشف عن‬
‫معتمدا على تراجع معدالت الفقر واحلرب واالستبداد‪.‬‬
‫ً‬ ‫أسرار زرع الغذاء بوفرةٍ وتوافر البنية التحتية الالزمة لنقله‪ ،‬يصبح تراجع اجملاعات‬
‫كال من هذه املصائب‪.‬‬ ‫لننتقل إىل التقدم احملرز فيما خيص ًّ‬
‫الفصل الثامن‪:‬‬
‫الثروة‬

‫كتب االقتصادي بيرت باور يقول‪« :‬ليس للفقر أسباب‪َّ ،‬أما الثروة فلها أسباهبا»‪ .‬يف عا ٍمل حتكمه اإلنرتوبيا والتطور‪ ،‬ال ُمت َّهد ُ‬
‫الطرق‬
‫باملعجنات‪ ،‬وال يقفز السمك املطهي ليقع حتت أرجلنا‪ ،‬ولكننا ننسى هذه البديهيات بسهولة‪ ،‬ونظن أن الثروة لطاملا كانت مصاحبة‬
‫لنا‪ .‬إن التاريخ ال يكتبه املنتصرون‪ ،‬وإمنا املرتفون‪ ،‬تلك القلة من البشر من ذوي الرفاهية والتعليم اليت تسمح هلم بذلك‪ ،‬فكما أشار‬
‫رونق األدب‬
‫االقتصادي ناثان روزنربج والباحث القانوين إل‪ .‬إي‪ .‬بريدزل‪« :‬يدفعنا أحيانًا إىل نسيان الشقاء املهيمن على األزمنة األخرى ُ‬
‫والشعر والرومانسية واألساطري اليت حتتفي مبن عاشوا يف يُس ِر يف تلك األزمنة ونسيت من عاشوا يف صمت الفقر‪ .‬فقد مت حتويل حقب‬
‫الشقاء إىل أساطري خيالية ورمبا نتذكرها حىت بأهنا عصور ذهبية من البساطة الريفية‪ ،‬ولكنها مل ت ُكن كذلك»‪.‬‬
‫صورا موجزة حلقبة الشقاء‪ ،‬عندما كان تعريف الفقر بسيطًا‪« :‬إذا كنت تستطيع‬
‫استنادا إىل ما قاله براودل‪ ،‬يعرض يوهان نوربرج ً‬
‫و ً‬
‫فقريا»‪.‬‬
‫يوما آخر‪ ،‬فإنك مل ت ُكن ً‬
‫حتمل تكلفة شراء اخلبز لتحيا ً‬

‫عبيدا الستخدامهم يف التجديف يف مدينة جنوة الثرية كل شتاء‪ ،‬ويف باريس كان شديدو الفقر‬ ‫كان الفقراء يبيعون أنفسهم ً‬
‫عمل شاق كتنظيف املصارف‪ ،‬ويف إجنلرتا كان الفقراء يضطرون إىل العمل يف‬ ‫معا بالسالسل يف أزو ٍاج وجيربون على ٍ‬ ‫يقيَّدون ً‬
‫اإلصالحيات من أجل احلصول على اإلعانات‪ ،‬فكانوا يعملون ساعات طويلة مقابل ال شيء تقريبًا‪ ،‬وكان بعضهم يؤمر‬
‫تفتيش على إحدى اإلصالحيات يف عام‬ ‫بتحطيم عظام الكالب واخليول واملاشية الستخدامها كأمسدة‪ ،‬حيث اتضح من ٍ‬
‫‪َّ 1845‬‬
‫أن الفقراء املعدمني كانوا يتقاتلون على العظام املتعفنة كي ميتصوا خناعها‪.‬‬

‫أشار كارلو تشيبوال‪ ،‬وهو مؤرخ آخر‪ ،‬إىل أنَّه‪:‬‬

‫ثوب أو القماش الالزم لصنع ٍ‬


‫ثوب ما زال يُعد رفاهية ال يستطيع عامة الناس حتمل‬ ‫يف أوروبا قبل الثورة الصناعية‪ ،‬كان شراء ٍ‬
‫تكلفتها سوى بضع مرات يف حياهتم كلها‪ .‬كانت إحدى الشواغل الرئيسية إلدارة املستشفيات ضمان عدم االستيالء على‬
‫مالبس املتوفني ومنحها للورثة الشرعيني‪ .‬وخالل فرتة انتشار وباء الطاعون‪ ،‬كانت السلطات احمللية تكافح من أجل مصادرة‬
‫مالبس املوتى وحرقها‪ ،‬فالناس كانوا ينتظرون موت اآلخرين من أجل االستيالء على مالبسهم‪ ،‬وهو األمر الذي كان يتسبب‬
‫عموما يف نشر الوباء‪.‬‬
‫ً‬

‫صعب احلاجة إىل شرح تكوين الثروة أكثر النقاشات السياسية داخل اجملتمعات احلديثة حول ضرورة توزيع الثروة‪ ،‬وهو ما‬ ‫مما ي ِّ‬
‫أن هناك ثروة ميكن توزيعها أصالً‪ ،‬فيتحدث االقتصاديون عن «مغالطة الكتلة اإلمجالية» أو «مغالطة املادية» اليت تقول‬ ‫يفرتض مسب ًقا َّ‬
‫مثال‪ ،‬ويتقاتل الناس منذ ذلك احلني على كيفية تقسيمها‪ .‬من بني بنات‬ ‫بوجود مقدار حمدود من الثروة منذ بدء التاريخ‪ ،‬كعروق الذهب ً‬
‫ٍ‬
‫أشكال‬ ‫ٍ‬
‫شبكات على تنظيم املادة يف‬ ‫أفكار التنوير‪ ،‬إدراك َّ‬
‫أن الثروة ُُتلق‪ ،‬وهي ُُتلق باألساس باملعرفة والتعاون‪ ،‬إذ يعمل الناس يف‬
‫أيضا أننا نستطيع اكتشاف‬
‫حدوثها من تلقاء نفسها مستبعد‪ ،‬ولكنها مفيدة‪ ،‬وجيمعون مثار براعتهم وعملهم‪ ،‬والنتيجة املنطقية اجلوهرية ً‬
‫كيفية صنع املزيد منها‪.‬‬
‫مقياسا معياريًّا لتكوين‬
‫ميكن التعبري عن حتمل الفقر والتحول إىل اليُسر يف العصر احلديث يف رسم بياين بسيط ومذهل‪ ،‬وهو حيدد ً‬
‫مقيسا بسعر الدوالر الدويل لعام ‪( .2011‬الدوالر الدويل هو وحدة‬ ‫ٍ‬
‫الثروة على مدار األلفي عام املاضية‪ ،‬وهو الناتج العاملي اإلمجايل‪ً ،‬‬
‫تعوض عن الفروق‬ ‫افرتاضية لعملة تعادل الدوالر األمريكي يف سنة مرجعية حمددة‪ ،‬وهو معدَّل ملراعاة التضخم وتعادل القوة الشرائية‪ ،‬اليت ِّ‬
‫أن سعر قصة الشعر يف دكا أقل من سعرها يف لندن)‪.‬‬ ‫يف أسعار اخلدمات والبضائع املتماثلة يف أماكن خمتلفة‪ ،‬مثل َّ‬
‫بالدوالر الدولي لعام ‪ ،2011‬بالتريليون‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 1 - 8‬ا ل ن ا ت ج ا ل ع ا مل ي ا إل مج ا يل م ن ذ ‪ 1‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫املصدر‪ ،Roser 2016c ،Our World in Data :‬بناءً على بيانات من البنك الدويل ومن آجنس ماديسون ومشروع‬
‫ماديسون ‪.2014‬‬

‫يصورها الشكل رقم ‪ 1-8‬تقرتب من الال شيء‪ ..‬ال شيء‪ ..‬ال شيء‪( ..‬كررها لبضع‬ ‫إن قصة منو الرخاء يف تاريخ البشر واليت ِّ‬‫َّ‬
‫عام من بدء احلقبة احلالية‪ ،‬مل يصبح العامل أغىن مما كان يف عهد يسوع تقريبًا‪ ،‬استغرق البشر‬ ‫آالف من السنوات)‪ ..‬بوم! بعد ألف ٍ‬
‫يؤد إىل من ٍو تراكمي مستمر‪ .‬بدءًا من‬ ‫نصف ألفية أخرى ملضاعفة الدخل‪ ،‬ومتتعت بعض املناطق بنمو مفاجئ من ٍ‬
‫آن آلخر‪ ،‬ولكنه مل ِّ‬
‫القرن التاسع عشر‪ ،‬حتولت هذه الزيادات البسيطة إىل طفرات بسرعة الربق‪ ،‬وازداد دخل العامل ثالثةَ أضعاف بني عامي ‪1820‬‬
‫عاما بقليل‪ ،‬ومل تستغرق زيادته ثالثةَ أضعاف للمرة الثالثة سوى مخسة‬
‫و‪ ،1900‬وازداد ثالثةَ أضعاف مرة ثانية خالل أكثر من مخسني ً‬
‫وعشرين عاما‪ ،‬وللمرة الرابعة سوى ثالثة وثالثني عاما‪ .‬منا الناتج العاملي اإلمجايل ليبلغ اليوم تقريبا مئة ِ‬
‫ضعف ما كان عليه يف زمن الثورة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الصناعية عام ‪ ،1820‬ومئيت ضعف تقريبًا منذ بداية التنوير يف القرن الثامن عشر‪ .‬تقارن النقاشات حول توزيع الثروة والنمو بني تقسيم‬
‫الكعكة وبني صنع كعكة أكرب (كما قال جورج بوش االبن)‪ .‬لو كانت الكعكة اليت كنا نقتسمها عام ‪ 1700‬خمبوزة يف صينية متوسطة‬
‫مثال قطعة قطرها ‪5‬‬
‫احلجم‪ ،‬إذًا فحجم الكعكة اليوم أكرب منها بأكثر من عشرة أضعاف‪ ،‬إذا اقتطعنا بعناية أقل قطعة ممكنة ‪-‬لنقل ً‬
‫سنتيمرتات‪ ،‬فستكون هذه القطعة يف حجم كعكة عام ‪ 1700‬كلها‪.‬‬
‫إن الناتج العاملي اإلمجايل هو بالتأكيد تقليل من قيمة انتشار الرخاء‪ ،‬فكيف حيسب املرء وحدات عملة مثل اجلنيه أو الدوالر عرب‬ ‫َّ‬
‫خط واحد؟ هل املئة دوالر يف عام ‪ 2000‬أكثر أم أقل من دوالر واحد يف عام ‪1800‬؟ َّإهنا جمرد‬ ‫القرون كي يستطيع رمسها على ٍّ‬
‫أوراق عليها أرقام‪ ،‬تعتمد قيمتها على ما يستطيع الناس شراءه هبا يف ذلك الوقت‪ ،‬وهو ما يتغري مع التضخم ورفع القيمة‪ ،‬فالطريقة‬
‫الوحيدة ملقارنة الدوالر يف عام ‪ 1800‬بالدوالر يف عام ‪ 2000‬هو البحث عن مقدار ما جيب على املرء دفعه مقابل شراء سلة سلع‬
‫قياسية من السوق‪ ،‬أي كمية ثابتة من الغذاء أو املالبس أو الرعاية الصحية أو الوقود‪ ،‬وهكذا‪ .‬وهكذا يتم حتويل األرقام يف الشكل رقم‬
‫‪ 1-8‬ويف الرسوم البيانية األخرى املقيَّمة بالدوالر أو اجلنيه إىل مقياس واحد مثل «الدوالر الدويل لعام ‪.»2011‬‬
‫تتحسن مبرور الوقت‪ ،‬فقطعة «املالبس»‬ ‫املشكلة هي َّ‬
‫أن التقدم التكنولوجي يفنِّد فكرة سلة السلع الثابتة‪ ،‬فجودة السلع يف السلة َّ‬
‫مصنوعا من القماش املشمع اجلامد الثقيل ولكنه ال مينع التسرب‪ ،‬ويف عام ‪ 2000‬قد‬ ‫ً‬ ‫يف عام ‪ 1800‬قد تكون رداءً واقيًا من املطر‬
‫ومصنوعا من قماش اصطناعي خفيف مسامي يسمح مبرور اهلواء‪ .‬والرعاية الطبية باألسنان‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬
‫بسحاب‬ ‫مزودا‬
‫تكون معط ًفا واقيًا من املطر ً‬
‫كانت يف عام ‪ 1800‬تعين زردية األسنان وأطقم األسنان اخلشبية‪ ،‬أما يف عام ‪ 2000‬فكانت تعين خمدر نوفوكني وزرع األسنان‪ .‬إذًا‬
‫إن الـ ‪ 300‬دوال ٍر أمريكي اليت ميكن شراء كمية معينة من املالبس والرعاية الصحية هبا يف عام ‪ 2000‬تعادل الـ ‪ 10‬دوالرات‬ ‫فأن نقول َّ‬
‫تضليال‪.‬‬
‫اليت كان ميكن شراء «الكمية نفسها» هبا يف عام ‪ 1800‬يُعد ً‬
‫أيضا‪ .‬ففي عام ‪ ،1800‬كم كانت تكلفة‬ ‫أن التكنولوجيا ال تطور األشياء القدمية فحسب‪ ،‬بل ُترتع أشياءَ جديدة ً‬ ‫إضافةً إىل َّ‬
‫شراء ثالجة أو تسجيل موسيقي أو دراجة أو هاتف خلوي أو موسوعة ويكيبيديا أو صورة من طفولتك أو البتوب أو طابعة أو حبوب‬
‫منع العمل أو جرعة من املضادات احليوية؟ اإلجابة‪ :‬ال تكفي أموال العامل كلها‪َّ .‬‬
‫إن هذا املزيج من املنتجات األفضل واملنتجات اجلديدة‬
‫جيعل تتبع الرفاهة املادية عرب العقود والقرون شبه مستحيل‪.‬‬
‫واخنفاض األسعار يعقِّد األمور أكثر‪ ،‬فالثالجة سعرها اليوم حوايل ‪ 500‬دوال ٍر أمريكي‪ ،‬كم ستقبل مثنًا مقابل التخلي عن التربيد؟‬
‫كثريا من ‪ 500‬دوال ٍر بالتأكيد! أطلق آدم مسيث على هذه احلالة اسم مفارقة القيمة‪ :‬عندما تصبح سلعة مهمة متوافرة بكثرة‪ ،‬فإن‬ ‫أكثر ً‬
‫كثريا مما قد يكون الناس مستعدين لدفعه مقابلها‪ ،‬ويسمى الفرق فائض املستهلك‪ ،‬ويستحيل جدولة انفجار هذا‬ ‫مثنها يصبح أقل ً‬
‫أن مقاييسهم‪ ،‬على رأي أوسكار وايلد‪« ،‬تعرف سعر كل شيء‪ ،‬ولكنها ال‬ ‫الفائض عرب الزمن‪ .‬وعلماء االقتصاد هم أول من يشري إىل َّ‬
‫تعرف قيمة أي شيء»‪.‬‬
‫بعملة معدَّلة ملراعاة التضخم والقوة الشرائية أمر غري ٍ‬
‫جمد‬ ‫ال يعين هذا أ َّن املقارنات فيما خيص الثروة بني خمتلف األزمنة واألماكن ٍ‬
‫ٌ‬
‫‪-‬فهي أفضل من اجلهل أو التخمينات التقديرية‪ ،-‬ولكنَّه يعين َّأهنا ُتدع حساباتنا للتقدم‪ .‬إن الشخص الذي حتتوي حمفظته اليوم على‬
‫بشكل خيايل من سلفه الذي كانت حمفظته حتتوي على ما يعادل نفس املبلغ منذ مئيت‬ ‫ٍ‬ ‫ما يعادل مئة دوال ٍر دويل لعام ‪ 2011‬أغىن‬
‫عام ‪ ،‬ويؤثر هذا‪ ،‬كما سنرى‪ ،‬على تقييمنا للرخاء يف العامل النامي (يف هذا الفصل)‪ ،‬ولغياب املساواة يف الدخل يف العامل النامي (يف‬
‫الفصل التايل)‪ ،‬وملستقبل النمو االقتصادي (يف الفصل التاسع عشر)‪.‬‬
‫ما الذي تسبب يف اهلروب الكبري؟ السبب األوضح هو تطبيق العلم لتحسني جودة احلياة املادية‪ ،‬مما أدى إىل ما أطلق عليه املؤرخ‬
‫االقتصادي جويل موكري «االقتصاد املستنري»‪ ،‬إذ استطاعت آالت الثورة الصناعية ومصانعها‪ ،‬ومزارع الثورة الزراعية املنتجة‪ ،‬وأنابيب‬
‫املياه الناجتة عن ثورة الصحة العامة‪ ،‬أن تقدِّم للناس من املالبس واألدوات واملركبات والكتب واألثاث والسعرات احلرارية واملياه النظيفة‬
‫كثري من أوائل االبتكارات مثل‬‫واألشياء األخرى اليت يريدها الناس أكثر مما استطاع احلرفيون واملزارعون يف القرن السابق تقدميه‪ .‬خرجت ٌ‬
‫احملركات البخارية واألنوال وأطر الغزل ومسابك املعادن والطواحني من ورش العمال الذين مل يدرسوا هذه األمور نظريًّا ومن ساحاهتم‬
‫ولكن التجربة واخلطأ يُعدان شجرة متفرعة من االحتماالت اليت ال يؤدي معظمها إىل شيء‪ ،‬وميكن تقليم هذه الشجرة بتطبيق‬ ‫اخللفية‪َّ ،‬‬
‫يسرع معدل االكتشافات‪ .‬وكما أشار موكري‪« :‬بعد عام ‪ ،1750‬بدأت القاعدة اإلبستمولوجية للتكنولوجيا تتوسع ببطء‪ ،‬فلم‬ ‫العلم ممَّا ِّ‬
‫أيضا‪ ،‬ومن‬
‫تظهر منتجات وتقنيات جديدة فحسب‪ ،‬بل أصبح هناك فهم أفضل لسبب جناح املنتجات والتقنيات القدمية وكيفية عملها ً‬
‫بطرق جديدة وتكييفها لتناسب استخدامات جديدة»‪.‬‬ ‫مث أصبح من املمكن تعديلها وتصحيح األخطاء فيها وحتسينها ومجعها مع غريها ٍ‬
‫أدى اخرتاع البارومرت يف عام ‪ ،1643‬الذي أثبت وجود الضغط اجلوي‪ ،‬يف النهاية إىل اخرتاع احملركات البخارية‪ ،‬اليت كانت تُعرف آنذاك‬
‫يسر‬
‫بـ «احملركات اجلوية»‪ ،‬ومشلت الطرق التبادلية األخرى اليت سلكها العلم والتكنولوجيا تطبيق الكيمياء يف تصنيع األمسدة‪ ،‬بعد أن َّ‬
‫ذلك اخرتاع البطارية‪ ،‬وتطبيق نظرية جرثومية املرض ‪-‬اليت نشأت بسبب وجود امليكروسكوب‪ -‬يف ُتليص مياه الشرب وأيادي األطباء‬
‫وأدواهتم من مسببات األمراض‪.‬‬
‫مل ي ُكن العلماء التطبيقيون ليتحفزوا الستخدام براعتهم يف ُتفيف آالم احلياة اليومية‪ ،‬وكانت أجهزهتم ستظل حبيسة خمترباهتم‬
‫ومرائبهم لوال وجود ابتكارين آخرين‪.‬‬
‫سهلت تبادل السلع واخلدمات واألفكار‪ ،‬وهي الدينامية اليت اعتربها آدم مسيث وحدها مولِّد‬ ‫أحدمها هو تطوير املؤسسات اليت َّ‬
‫الثروة‪ .‬يقول االقتصاديون دوجالس نورث وجون واليس وباري واينجاست َّ‬
‫إن أكثر الطرق اليت تؤدي هبا الدولة وظائفها طبيعيةً يف التاريخ‬
‫بعضا‪ ،‬يف مقابل أن يكافَئوا بإقطاعية أو رخصة أو‬ ‫ٍ‬
‫ويف أحناء كثرية من العامل اليوم هي أن تتفق النخبة على أال ينهب أو يقتل بعضهم ً‬
‫امتياز أو احتكار أو سيطرة على إحدى املناطق‪ ،‬أو شبكة حمسوبية تسمح هلم بالتحكم يف أحد قطاعات االقتصاد والتكسب من الريع‬
‫(باملعىن االقتصادي الذي يشري إىل الدخل املتحصل من احلق احلصري يف الوصول إىل أحد املوارد)‪ .‬أفسحت هذه احملسوبية يف إجنلرتا‬
‫يف القرن الثامن عشر اجملال أمام االقتصادات املفتوحة اليت يستطيع أي شخص أن يبيع أي شيء ألي شخص آخر يف إطارها‪ ،‬وحيمي‬
‫حكم القانون وحقوق امللكية والعقود النافذة ومؤسسات مثل البنوك والشركات والوكاالت احلكومية اليت حتكمها الواجبات‬ ‫تعامالهتم ُ‬
‫منتجا ما بسع ٍر‬
‫جديدا من املنتجات يف السوق‪ ،‬أو يبيع ً‬ ‫نوعا ً‬ ‫شخص مغامر اآلن ً‬
‫ٌ‬ ‫االئتمانية وليس الصالت الشخصية‪ .‬ميكن أن يطرح‬
‫اض رمبا ال تدر رحبًا سوى بعد‬ ‫نقودا اآلن مقابل شيء سيسلِّمه الح ًقا‪ ،‬أو يستثمر يف معدات أو أر ٍ‬
‫أقل من التجار اآلخرين‪ ،‬أو يقبل ً‬
‫كثريا منه على الرفوف‬ ‫َّ‬
‫بضع سنوات‪ .‬من املسلم به اآلن يل أنَّين إذا أردت بعض احلليب‪ ،‬فإن بإمكاين أن أدخل أي متجر صغري وسأجد ً‬
‫ولن يكون خمف ًفا وال ملوثًا وسيكون بسع ٍر أستطيع دفعه‪ ،‬وسيرتكين صاحب املتجر أخرج منه بعد مترير ٍ‬
‫بطاقة صغرية‪ ،‬رغم أننا مل ِ‬
‫نلتق‬
‫ومرورا ببضعة متاجر‬
‫جمددا مطل ًقا وليس بيننا أي أصدقاء مشرتكني ميكن أن يشهدوا على حسن نوايانا‪ً ،‬‬ ‫من قبل قط‪ ،‬ورمبا لن نلتقي ً‬
‫أخرى‪ ،‬ميكنين أن أكرر العملية نفسها عند شراء بنطلون جينز أو مثقبًا كهربائيًّا أو كمبيوتر أو سيارة‪ .‬جيب أن تتمتع مؤسسات كثرية‬
‫باالستقرار كي ميكن إمتام هذه التعامالت واملاليني غريها من ماليني التعامالت األخرى جمهولة اهلوية اليت ِّ‬
‫تشكل االقتصاد احلديث‬
‫بسهو ٍلة شديدة‪.‬‬
‫واالبتكار الثالث بعد العلم واملؤسسات هو تغيري القيم‪ ،‬أي قبول ما يطلق عليه املؤرخ االقتصادي ديردري ماك كلوسكي «الفضيلة‬
‫الربجوازية»‪ .‬لطاملا تعالت الثقافات األرستقراطية والدينية والعسكرية على التجارة لكوهنا يف نظرهم رخيصة وقائمة على الرشوة‪ ،‬ولكن‬
‫يف إجنلرتا وهولندا يف القرن الثامن عشر‪ ،‬أصبح يُنظر إىل التجارة باعتبارها أخالقية وتنهض باألوضاع‪ ،‬وقدَّر فولتري وفالسفة التنوير‬
‫اآلخرون قيمة روح التجارة لقدرهتا على تبديد الضغائن الطائفية‪.‬‬

‫لننظر إىل البورصة امللكية يف لندن‪ ،‬وهي مكان أكثر مهابةً من كث ٍري من قاعات احملاكم‪ ،‬حيث يلتقي ممثلون عن كل الدول‬
‫مجيعا يدينون باألديان نفسها‪ ،‬وال يطلقون‬ ‫ألجل منفعة البشرية‪ ،‬ففيها يتعامل اليهود واحملمديون واملسيحيون سويًّا و َّ‬
‫كأهنم ً‬
‫لقب الك افر سوى على املفلسني‪ ،‬وفيها قد يضع أتباع الكنيسة املشيخية ثقتهم يف أتباع حركة جتديدية العماد‪ ،‬ويعتمد‬
‫‪‬‬
‫الكهنة على كالم أعضاء مجعية الكويكرز‪ ..‬ويكون اجلميع راضيًا‪.‬‬

‫بأهنم سعداء‪ ،‬وسعداء لكوهنم سعداء ‪-‬خمتلفون ولكنهم‬ ‫قائال إنَّه «عرب تصوير البشر َّ‬
‫علَّق املؤرخ روي بورتر على هذا النص ً‬
‫متفقون على االختالف‪ ،-‬أشار الفيلسوف إىل ضرورة إعادة النظر يف اخلري األمسى‪ ،‬أي حتويله من التقوى إىل فردية موجهة حنو‬
‫فإن التنوير قد ترجم سؤال‪ :‬كيف ميكن أن أجد اخلالص؟ إىل السؤال الربمجايت‪ :‬كيف ميكن أن أجد‬ ‫االحتياجات النفسية‪ .‬وبالتايل َّ‬
‫بتطبيق جديد للتكيف االجتماعي والشخصي»‪ .‬مشل هذا التطبيق أعراف اللياقة والتدبري وضبط النفس والتوجه حنو‬ ‫ٍ‬ ‫السعادة؟ مبشًِّرا‬
‫مبكانة ومنز ٍلة رفيعة ً‬
‫بدال من اجلنود والكهنة واحلاشية امللكية فقط‪ .‬كان نابليون‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بدال من املاضي وتقدير التجار واملبتكرين‬ ‫املستقبل ً‬
‫ولكن الربيطانيني يف ذلك الوقت كانوا جينون أكثر مما‬
‫الداعي إىل اجملد العسكري‪ ،‬يزدري إجنلرتا لكوهنا «أمة من أصحاب الدكاكني»‪َّ ،‬‬
‫مجيعا ما حدث يف معركة‬‫يفعل الفرنسيون بنسبة ‪ 83‬يف املئة‪ ،‬وكانوا يتمتعون بتناول سعرات حرارية أكثر منهم مبقدار الثلث‪ ،‬ونعرف ً‬
‫واترلو‪.‬‬
‫هروب يف الدول اجلرمانية والشمالية األوروبية واملستعمرات الربيطانية يف أسرتاليا‬
‫سرعان ما حلق باهلروب الكبري يف بريطانيا وهولندا ٌ‬
‫أن الرأمسالية تعتمد على «األخالق‬ ‫ونيوزيلندا وكندا والواليات املتحدة‪ ،‬ويف عام ‪ ،1905‬أشار عامل االجتماع ماكس فيرب إىل َّ‬
‫بأن اليهود يعانون يف ظل اجملتمعات الرأمسالية‪ ،‬وخاصةً يف جمايل املال واألعمال)‪ .‬وسرعان ما‬ ‫الربوتستانتية» (وهي فرضية مثرية تتنبأ َّ‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 2-8‬مما أثبت‬ ‫أيضا من حيز الفقر‪ ،‬مث بدأت سلسلة تالية من اهلروب كما ِّ‬ ‫خرجت الدول الكاثوليكية يف أوروبا ً‬
‫تفسر عدم توافق البوذية أو الكونفوشية أو اهلندوسية أو القيم «اآلسيوية» أو «الالتينية» العامة مع‬ ‫كذب النظريات املتنوعة اليت ِّ‬
‫اقتصادات السوق احلركية‪.‬‬

‫ً‬
‫نسبة إلى مجالس الشيوخ التي تحكم هذه الكنائس‪ ،‬وتجديدية العماد هي حركة مسيحية‬ ‫‪‬الكنيسة المشيخية هي نظام كنسي يتبع البروتستانتية وهذا االسم‬
‫إصالحية تؤمن بتعميد البالغين أو تجديد معموديتهم في مقابل تعميد األطفال‪ .‬جمعية الكويكرز أو جمعية األصدقاء الدينية هي حركة دينية تؤمن بوجود‬
‫روح هللا في كل إنسان وبأنا العالقة مع هللا روحانية وليست شعائرية وأ انه ال ضرورة للكهنة والطقوس الدينية‪- .‬المترجمة‬
‫‪‬معركة واترلو هي معركة وقعت عام ‪ 1815‬وانهزم فيها الجيش الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت وكانت آخر معاركه‪- .‬المترجمة‬
‫الواليات‬
‫المتحدة‬

‫المملكة المتحدة‬
‫بالدوالر الدولي لعام ‪2011‬‬

‫كوريا‬
‫الجنوبية‬

‫تشيلي‬

‫العالم‬
‫الصين‬

‫الهند‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 2 - 8‬ا ل ن ا ت ج ا حمل ل ي ا إل مج ا يل ل ل ف رد م ن ذ ‪ 1 6 0 0‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫املصدر‪ ،Roser 2016c ،Our World in Data :‬بناءً على بيانات من البنك الدويل ومن مشروع ماديسون ‪.2014‬‬

‫ثان مذهل يف قصة الرخاء‪ ،‬فبدءًا من أواخر القرن العشرين‪ ،‬بدأت‬ ‫فصل ٍ‬‫تعرب املنحنيات غري الربيطانية يف الشكل رقم ‪ 2-8‬عن ٍ‬ ‫ِّ‬
‫الدول الفقرية هترب بدورها من الفقر‪ ،‬وبدأ اهلروب الكبري يتحول إىل التقارب الكبري‪ ،‬فهناك دول كانت شديدة الفقر حىت ٍ‬
‫وقت قريب‪،‬‬
‫أصبحت غنية موسرة مثل كوريا اجلنوبية وتايوان وسنغافورة‪( .‬تذكر محايت السابقة السنغافورية عشاء أحد أيام طفولتها حني قسمت‬
‫دوال‬
‫أسرهتا بيضةً واحدة على أربعة أشخاص)‪ .‬منذ عام ‪ ،1995‬أصبح ثلث دول العامل النامية اليت يبلغ عددها ‪ 109‬دولة تشمل ً‬
‫متنوعة بقد ٍر كبري مثل بنجالديش والسلفادور وإثيوبيا وجورجيا ومنغوليا وموزمبيق وبنما ورواندا وأوزبكستان وفييتنام تتمتع مبعدالت منو‬
‫عاما‪ ،‬ومتتعت أربعون دولة أخرى مبعدالت تضاعف الدخل كل مخسة‬ ‫اقتصادي تصل إىل درجة يتضاعف معها الدخل كل مثانني ً‬
‫أن نصيب الفرد من الدخل يف‬ ‫عاما‪ ،‬وهو ما ميكن مقارنته مبعدل النمو التارخيي للواليات املتحدة‪ ،‬فمن الالفت للنظر أن جند َّ‬
‫وثالثني ً‬
‫الصني واهلند يف عام ‪ 2008‬يساوي نصيب الفرد من الدخل يف السويد يف عامي ‪ 1950‬و‪ 1920‬على التوايل‪ ،‬ولكن ما يلفت نظرنا‬
‫أكثر أن نتذكر عدد األفراد الذي قُسم عليهم هذا الدخل‪ 1.3 :‬و‪ 1.2‬مليون نسمة‪ .‬يف عام ‪ ،2008‬كان متوسط نصيب الفرد‪ ،‬من‬
‫سكان العامل البالغ عددهم ‪ 6.7‬مليار نسمة‪ ،‬يساوي نصيب الفرد يف غرب أوروبا يف عام ‪ ،1964‬ومل ي ُكن ذلك َّ‬
‫ألن األغنياء يزدادون‬
‫غىن (رغم َّأهنم يفعلون ذلك بالتأكيد‪ ،‬وهو موضوع سننظر فيه يف الفصل التايل)‪ .‬جيري القضاء على الفقر املدقع‪ ،‬ويصبح العامل مكونًا‬
‫من الطبقة الوسطى‪.‬‬
‫عرض أوال روزليند (ابن هانس) توزيع الدخل على مستوى العامل على هيئة مدرجات تكرارية‪ ،‬يشري فيها ارتفاع املنحىن إىل نسبة‬
‫األشخاص ذوي مستوى دخل ما‪ ،‬يف ثالث فرتات تارخيية خمتلفة (الشكل رقم ‪ .)3-8‬يف عام ‪ ،1800‬عند بزوغ فجر الثورة الصناعية‪،‬‬
‫معادال ملتوسط دخل أفقر دول أفريقيا اليوم (حوايل ‪ 500‬دوال ٍر دويل‬ ‫كان معظم الناس يف كل ٍ‬
‫مكان فقراءَ‪ ،‬وكان متوسط الدخل ً‬
‫مدقعا» (أي على أقل من ‪ 1.90‬دوالر يف اليوم)‪.‬‬ ‫فقرا ً‬
‫سنويًّا)‪ ،‬وكان ‪ 95‬يف املئة من سكان العامل تقريبًا يعيشون فيما يُعد اليوم « ً‬
‫وحبلول عام ‪ ،1975‬كانت أوروبا وفروعها قد انتهت من اهلروب الكبري‪ ،‬خملِّفةً وراءها بقية العامل‪ ،‬الذي أصبح دخله ُعشر دخلها عند‬
‫ذلك املنحىن السفلي الذي يشبه سنام اجلمل‪ ،‬مث أصبح اجلمل يف القرن احلادي والعشرين وحيد السنام وانتقل هذا السنام حنو اليمني‪،‬‬
‫كثريا‪ ،‬أي أصبح العامل أغىن ويتمتع مبساواةٍ أكرب‪.‬‬
‫أما الذيل إىل اليسار فقد اخنفض ً‬

‫الفقر المدقع‬

‫دوالر دولي لعام ‪ 2011‬في اليوم‬


‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 3 - 8‬ت وزي ع ا ل د خ ل ا ل ع ا مل ي يف ‪ 1 8 0 0‬و ‪ 1 9 7 5‬و ‪2 0 1 5‬‬
‫املصدر‪ ،Gapminder :‬أوال روزلينج‪ .http://www.gapminder.org/tools/mountain ،‬املقياس بالدوالر الدويل‬
‫لعام ‪.2011‬‬

‫يوضح الشكل رقم ‪ 4-8‬نسبة من يعيشون يف «فق ٍر مدقع» من‬ ‫تستحق الشرائح إىل يسار اخلط املنقَّط ُتصيص صورة هلا‪ِّ .‬‬
‫ولكن األمم املتحدة والبنك الدويل يبذالن كل‬
‫أن حتديد النقطة الفاصلة لذلك الوضع سيكون اعتباطيًّا‪َّ ،‬‬ ‫سكان العامل‪ ،‬ال ميكن إنكار َّ‬
‫ما بوسعهما عرب مجع بيانات خطوط الفقر الوطنية من ٍ‬
‫عينة من الدول النامية‪ ،‬واليت تستند بدورها على دخل األسرة العادية اليت حتاول‬
‫إطعام أفرادها‪ .‬يف عام ‪ ،1996‬كان خط الفقر هو «دوالر يف اليوم» للفرد الواحد‪ ،‬أما حاليًا فهو حمدد بـ ‪ 1.90‬دوالر دويل لعام‬
‫أيضا إىل أسفل)‪ .‬الحظ شكل املنحىن‪ ،‬ومدى‬ ‫(إن املنحنيات ذات النقط الفاصلة األكثر أعلى وأقصر ولكنَّها تنزلق ً‬ ‫‪ 2011‬يف اليوم‪َّ .‬‬
‫وصوال إىل ‪ 10‬يف املئة‪ ،‬وهبط معدل الفقر املدقع يف العامل خالل مئيت عام من ‪ 90‬يف املئة إىل ‪ 10‬يف املئة‪،‬‬ ‫اخنفاضه‪ ،‬فقد اخنفض ً‬
‫وحدث نصف هذا الرتاجع تقريبًا خالل األعوام اخلمسة والثالثني املاضية‪.‬‬
‫النسبة المئوية لمن يعيشون في فقر مدقع من سكان‬
‫العالم‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 4 - 8‬ا ل ف ق ر ا مل د ق ع ( ا ل ن س ب ة ) م ن ذ ‪ 1 8 2 0‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫املصدر‪ ،Roser & Ortiz-Ospina 2017 ،Our World in Data :‬بناءً على بيانات من ‪Bourguignon‬‬
‫‪ ،)1992–1820( & Morrison 2002‬مع حساب نسب متوسط «الفقر املدقع» والنسب املئوية «للفقر» يف بياناهتم‬
‫للمقايسة مع بيانات الفرتة من ‪ 1981‬حىت ‪ 2015‬من البنك الدويل ‪ g2016‬حول «الفقر املدقع» (أقل من ‪ 1.90‬دوالر دويل‬
‫لعام ‪ 2011‬يف اليوم)‪.‬‬

‫أن النسب ومعدالت دخل الفرد اليت أشرت إليها بالرسوم البيانية تُعد املقياس‬ ‫ميكننا أن نقدِّر قيمة التقدم بطريقتني‪ ،‬األوىل َّ‬
‫تقبل أن تتجسد‬‫األخالقي للتقدم‪ ،‬ألهنا تتناسب مع جتربة جون رول الفكرية اليت كانت هتدف إىل تعريف اجملتمع العادل‪ :‬اذكر عالَ ًما ُ‬
‫طويال‬
‫فيه يف هيئة مواطن عادي خلف ستار من اجلهل بظروف ذلك املواطن‪ ،‬فالعامل الذي يشمل نسبة أكرب من الناس الذين يعيشون ً‬
‫أيضا‪ ،‬فكل‬ ‫جيدا ويعيشون يف رفاهة هو عامل يفضل املرء أن يغامر مبيالده فيه‪ .‬والثانية هي َّ‬ ‫ٍ‬
‫أن األرقام املطلقة مهمة ً‬ ‫وبصحة ويتغذون ً‬
‫جيدا ويعيش يف رفاهة هو كائن حساس قادر على الشعور بالسعادة وسيكون العامل مكانًا‬ ‫ٍ‬
‫وبصحة ويتغذى ً‬ ‫طويال‬
‫شخص إضايف يعيش ً‬
‫أفضل بوجود املزيد من أمثاله‪ ،‬وكل زيادة يف عدد األشخاص الذين يستطيعون حتمل طحن اإلنرتوبيا وصراع التطور تشهد على ضخامة‬
‫اخلرية اليت يتمتع هبا كلٌّ من العلم واألسواق واحلكم اجليد واملؤسسات احلديثة األخرى‪ .‬يف الرسم البياين ذي الطبقات‬ ‫حجم القوى ِّ‬
‫املكدسة يف الشكل رقم ‪ ،5-8‬ميثل مسك اللوح السفلي عدد األشخاص الذين يعيشون يف فقر مدقع‪ ،‬وميثل مسك اللوح العلوي عدد‬
‫أن عدد األشخاص الفقراء قد‬ ‫األشخاص الذين ال يعيشون يف فق ٍر‪ ،‬وميثل ارتفاع الطبقات املكدسة عدد سكان العامل‪ِّ ،‬‬
‫ويوضح الشكل َّ‬
‫تراجع مع انفجار عدد السكان اإلمجايل من ‪ 3.7‬مليار نسمة يف عام ‪ 1970‬إىل ‪ 7.3‬مليار نسمة يف عام ‪( .2015‬يشري ماكس‬
‫أن املنافذ اإلخبارية لو كانت ُُتِرب الناس حقًّا حبالة العامل املتغرية‪ ،‬لكانت عرضت عنوانًا رئيسيًّا يقول اخنفاض عدد األشخاص‬‫روزر إىل َّ‬
‫عاما املاضية)‪ .‬حنن نعيش يف‬‫الذين يعيشون يف فقر مدقع مبقدار ‪ 137,000‬شخص منذ األمس كل يوم على مدار اخلمسة والعشرين ً‬
‫عا ٍمل ال يشمل نسبةً أقل من األشخاص شديدي الفقر فحسب‪ ،‬بل يشمل ً‬
‫عددا أقل منهم‪ ،‬ويشمل ‪ 6.6‬مليار شخص ال يعيشون‬
‫يف فقر مدقع‪.‬‬
‫عدد األشخاص (بالمليار)‬

‫عدد من ال يعيشون في فقر‬


‫مدقع‬

‫عدد من يعيشون في فقر مدقع‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 5 - 8‬ا ل ف ق ر ا مل د ق ع ( ا ل ع د د ) م ن ذ ‪ 1 8 2 0‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫املصدر‪ ،Roser & Ortiz-Ospina 2017 ،Our World in Data :‬بناءً على بيانات من ‪Bourguignon‬‬
‫‪ )1992–1820( & Morrison 2002‬والبنك الدويل ‪.)2015–1981( g2016‬‬

‫ولكن هذا اخلرب يفاجئ اجلميع‪ ،‬حىت املتفائلني‪ ،‬بصدمة‬


‫إن معظم املفاجآت اليت حدثت يف التاريخ كانت مفاجآت غري سارة‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫سارة‪ .‬وضعت األمم املتحدة يف عام ‪ 2000‬مثانية أهداف إمنائية لأللفية‪ ،‬ويرجع تاريخ بداية العمل على هذه األهداف إىل عام‬
‫نصا‬
‫‪ ،1990‬واستهان املراقبون املتشائمون لتلك املنظمة اليت كان أداؤها ضعي ًفا يف ذلك الوقت هبذه الغايات باعتبارها ال تعدو كوهنا ًّ‬
‫عاما؟ أجل‪،‬‬‫ض معدل الفقر العاملي مبقدار النصف‪ ،‬وأُخرج مليار شخص من حيز الفقر خالل مخسة وعشرين ً‬ ‫طموحا‪ُ .‬خف َ‬
‫ً‬ ‫منوذجيًّا‬
‫ولكن العامل حقَّق هذا اهلدف قبل امليعاد احملدد له خبمس سنوات‪ ،‬وما زال خرباء التنمية يدعكون أعينهم ليصدقوا َّ‬
‫أن ما يرونه‬ ‫أجل‪َّ .‬‬
‫حقيقة‪ .‬كتب ديتون يقول‪« :‬رمبا تكون هذه أهم حقيقة عن الرفاهة يف العامل منذ احلرب العاملية الثانية»‪ ،‬وقال االقتصادي روبرت لوكاس‬
‫إن عواقب التنمية االقتصادية السريعة على رفاهة البشر صاعقة ببساطة‪ ،‬فبمجرد أن يبدأ املرء يف‬ ‫(الفائز جبائزة نوبل مثل ديتون)‪َّ « :‬‬
‫التفكري فيها‪ ،‬يصعب عليه التفكري يف أي ٍ‬
‫شيء آخر»‪.‬‬
‫خطريا‪ ،‬لكن ماذا سيحدث عندما‬
‫أمرا ً‬‫دائما ما يكون ً‬ ‫دعنا ال نتوقف عن التفكري يف الغد‪ .‬رغم َّ‬
‫أن استقراء املنحنيات التارخيية ً‬
‫حناول ذلك؟ إذا وضعنا مسطرة مبحاذاة بيانات البنك الدويل يف الشكل رقم ‪ ،4-8‬فسنجد َّأهنا تتقاطع مع حمور السينات (مما يشري‬
‫صفرا) يف عام ‪ .2026‬أتاحت األمم املتحدة لنفسها مساحةً احتياطية يف أهداف التنمية املستدامة لعام ‪2015‬‬ ‫إىل معدل فقر يساوي ً‬
‫(خليفة األهداف اإلمنائية لأللفية) وحددت غاية هي‪« :‬القضاء على الفقر املدقع لكل الناس يف كل مكان» حبلول عام ‪.2030‬‬
‫القضاء على الفقر املدقع لكل الناس يف كل مكان! أمتىن أن أعيش ألرى هذا اليوم‪( .‬حىت يسوع مل ي ُكن هبذا التفاؤل‪ ،‬إذ قال لتالميذه‪:‬‬
‫ألن الفقراء معكم يف كل حني»‪).‬‬‫« َّ‬
‫جهدا أعظم من جمرد‬‫هذا اليوم بعيد جدًّا بالطبع‪ ،‬فمئات املاليني من الناس ما زالوا يف فقر مدقع‪ ،‬وسيتطلب الوصول إىل الصفر ً‬
‫أن األرقام يف ٍ‬
‫دول مثل اهلند وإندونيسيا يف تناقص‪َّ ،‬إال َّأهنا تزداد يف أفقر الدول الفقرية مثل الكونغو‬ ‫االستقراء باستخدام مسطرة‪ ،‬فرغم َّ‬
‫نغري أهدافنا مبا‬
‫وهاييت والسودان‪ ،‬وسيكون القضاء على مراكز الفقر األخرية هو األصعب‪ .‬ومع اقرتابنا إىل حتقيق اهلدف‪ ،‬فإن علينا أن ِّ‬
‫أيضا‪ .‬لقد حذرت عند طرح مفهوم التقدم من اخللط بني تقدُّم لألمام حتقق بشق األنفس‪ ،‬وعملية‬ ‫فقرا ً‬ ‫َّ‬
‫أن الفقر غري املدقع ما زال ً‬
‫حتدث من تلقاء نفسها بعصا سحرية‪ ،‬وليس الغرض من لفت االنتباه إىل التقدُّم هو هتنئة أنفسنا َّ‬
‫وإمنا معرفة األسباب اليت أدت إليه كي‬
‫نكثر من القيام مبا ينجح‪ ،‬ومبا أنَّنا نعرف َّ‬
‫أن شيئًا ما قد جنح‪ ،‬فمن غري الالزم أن نواصل تصوير العامل النامي بأنَّه حالة ميؤوس منها كي‬
‫نيقظ الناس من ال مباالهتم‪ ،‬مع املخاطرة بأن يظنوا َّ‬
‫أن أي دعم إضايف سيكون مبثابة إلقاء النقود يف األرض‪.‬‬
‫بعضا كما يف معظم أشكال التقدم‪،‬‬ ‫إ ًذا ما الشيء الصحيح الذي فعله العامل؟ حتدث أمور كثرية جيدة يف ٍ‬
‫وتعزز بعضها ً‬
‫وقت واحد ِّ‬
‫لذا يصعب حتديد أول قطعة دومينو أثَّرت يف كل ما تالها‪ .‬خضعت التفسريات التشاؤمية ‪-‬مثل اليت تقول َّ‬
‫إن اإلثراء هو ربح عارض‬
‫إن اإلحصاءات متضخمة بسبب هنوض الصني كثيفة السكان‪-‬للفحص‬ ‫ناتج عن االرتفاع املفاجئ لسعر النفط والسلع األخرى‪ ،‬أو َّ‬
‫وتعرضت للرفض‪ .‬يشري رادليت وخرباء تنمية آخرون إىل مخسة أسباب‪.‬‬
‫احد بسيط‪ :‬أنَّه مات»‪ ،‬رغم أن هنوض‬ ‫بفعل و ٍ‬
‫هائال ٍ‬
‫تغيريا ً‬
‫غري ماو مبفرده مسار الفقر العاملي ً‬
‫فقد كتب‪« :‬يف عام ‪َّ ،1976‬‬
‫مسؤوال وحده عن التقارب الكبري‪َّ ،‬إال أنَّه مع ضخامة حجمها‪ ،‬كان من احلتمي أن تتغري األعداد اإلمجالية‪ ،‬وتنطبق‬
‫ً‬ ‫الصني مل ي ُكن‬
‫مكان آخر‪ ،‬فوفاة ماو تسي تونج رمز ٍ‬
‫لثالثة من األسباب الرئيسية للتقارب الكبري‪.‬‬ ‫تفسريات تقدمها على ٍ‬
‫ٍ‬
‫ألسباب ذكرناها ساب ًقا‬ ‫أوهلا هو تراجع الشيوعية (واالشرتاكية التدخلية)‪ ،‬إذ تستطيع اقتصادات السوق توليد الثروة مبقدا ٍر ضخم‬
‫أن اقتصادات السوق جتين مثار التخصص‬ ‫يف حني تفرض االقتصادات الشمولية املخططة الندرة والركود‪ ،‬بل وغالبًا اجملاعة‪ .‬إضافةً إىل َّ‬
‫وتُقدِّم حوافز لألشخاص الذين ينتجون ما يريده أشخاص آخرون‪ ،‬فهي حتل مشكلة تنسيق جهود مئات املاليني من الناس باستخدام‬
‫نطاق واسع‪ ،‬وهي مشكلة حسابية ال يوجد ُخمَطِّط بارع مبا يكفي حللها من مكانه يف‬ ‫األسعار لنشر معلومات عن احلاجة والتوافر على ٍ‬
‫مكتب مركزي‪ .‬حدث التحول من الزراعة اجلماعية والتحكم املركزي واالحتكار احلكومي وبريوقراطية التصاريح اخلانقة (اليت كان يطلق‬ ‫ٍ‬
‫عدد من اجلبهات بدءًا من مثانينيات القرن املاضي‪ ،‬ومشل ذلك تبين‬ ‫عليها يف اهلند «أحكام الرتاخيص») إىل االقتصادات املفتوحة على ٍ‬
‫دينج شياو بنج الرأمسالية يف الصني‪ ،‬واهنيار االحتاد السوفيييت وانتهاء هيمنته على أوروبا الشرقية‪ ،‬وحترير اقتصادات اهلند والربازيل وفييتنام‬
‫ودول أخرى‪.‬‬
‫دفاع عن الرأمسالية‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن مزاياها االقتصادية واضحة للغاية‬ ‫رغم َّ‬
‫أن املثقَّفني رمبا يبصقون ما يف أفواههم من الدهشة عند قراءة ٍ‬
‫اجلنوب‬
‫َ‬ ‫لدرجة َّأهنا ال حتتاج إىل إثباهتا باألرقام‪ ،‬إذ ميكن رؤيتها من الفضاء حرفيًّا‪ ،‬حيث تُظهر صورة التقطت بالقمر الصناعي لكوريا‬
‫بوضوح التناقض بني النظامني االقتصاديني يف القدرة على توليد‬‫ٍ‬ ‫وتبني تلك الصورة‬
‫قليال‪ِّ ،‬‬
‫مظلما ً‬ ‫الشمال الشيوعي ً‬
‫متوهجا و َ‬‫ً‬ ‫الرأمسايل‬
‫الثروات‪ ،‬مع ثبات عوامل أخرى مثل اجلغرافيا والتاريخ والثقافة‪ .‬وهناك ثنائيات أخرى مطابقة هبا جمموعة جتريبية وجمموعة ضابطة وتؤدي‬
‫مقسمتني بالستار احلديدي‪ ،‬وبوتسوانا وزميبابوي حتت حكم روبرت‬ ‫إىل االستنتاج نفسه‪ ،‬ومنها‪ :‬أملانيا الشرقية والغربية عندما كانتا َّ‬
‫موجايب‪ ،‬وتشيلي وفنزويال حتت حكم هوجو تشافيز ونيكوالس مادورو‪ ،‬فكانت تلك األخرية دولةً ثرية وغنية بالنفط‪ ،‬واآلن أصبحت‬
‫أن اقتصادات السوق اليت ازدهرت يف األحناء األوفر حظًّا‬
‫تعاين من انتشار اجلوع ونقص خطري يف الرعاية الطبية‪ .‬من املهم أن نضيف َّ‬
‫وإمنا استثمرت حكوماهتم‬ ‫كابوسا لليسار‪َّ ،‬‬
‫حلما يف خيال اليمني و ً‬
‫من العامل النامي مل ت ُكن أناركية مبدأ «دعه يعمل‪ ،‬دعه مير» الذي ميثِّل ً‬
‫ٍ‬
‫بدرجات متفاوتة يف التعليم والصحة العامة والبنية التحتية والتدريب الزراعي والوظيفي وبرامج التأمينات االجتماعية واحلد من الفقر‪.‬‬
‫وتفسري رادلت الثاين للتقارب الكبري هو القيادة‪ .‬فرض ماو على الصني ما هو أكثر من الشيوعية‪ ،‬فقد كان مصابًا جبنون العظمة‬
‫سريع التقلب يزج بالبالد يف خمططات خمبولة مثل القفزة الكربى إىل األمام (بكميوناهتا اهلائلة‪ ،‬وأماكن صهر املعادن يف الباحات اخللفية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫عصابات من اخلارجني على القانون الذين أرهبوا املعلِّمني‬ ‫حولت اجليل األصغر إىل‬ ‫واملمارسات الزراعية احلمقاء) والثورة الثقافية (اليت َّ‬
‫واملديرين وأبناء «الفالحني األغنياء»)‪ .‬خالل عقود الركود منذ سبعينيات القرن املاضي حىت أوائل التسعينيات‪ ،‬استوىل على ٍ‬
‫دول نامية‬
‫بدال من والية تعزز‬‫أخرى عديدة زعماء سيكوباتيون ذوو أجندات أيديولوجية أو دينية أو قبلية أو قائمة على االرتياب أو تعظيم الذات ً‬
‫رفاهة مواطنيها‪ ،‬وتلقوا الدعم إما من االحتاد السوفيييت أو الواليات املتحدة على حسب تعاطفهم مع الشيوعية أو بغضهم هلا‪ ،‬حتت‬
‫مبدأ «رمبا يكون ابن عاهرة‪ ،‬ولكنه ابن العاهرة التابع لنا»)‪ .‬شهدنا يف التسعينيات وأوائل األلفية انتشار الدميقراطية (يف الفصل الرابع‬
‫عشر) وظهور زعماء متزين الرأي ويتسمون بالنزعة اإلنسانية‪ ،‬وليس فقط على مستوى نساء الدولة ورجاهلا الوطنيني مثل نيلسون مانديال‬
‫وإمنا على مستوى القادة الدينيني وقادة اجملتمع املدين احملليني الذين حياولون حتسني حياة‬ ‫وكورازون أكينو وإلني جونسون سريليف‪َّ ،‬‬
‫املواطنني‪.‬‬
‫عدد من الدكتاتوريني الرديئني فحسب‪ ،‬بل أمخدت‬ ‫والسبب الثالث هو هناية احلرب الباردة‪ ،‬إذ مل تسحب السجادة من حتت ٍ‬
‫دمرت الدول النامية منذ حصوهلا على االستقالل يف الستينيات‪ .‬متثِّل احلرب األهلية أزمة‬ ‫العديد من احلروب األهلية اليت كانت قد َّ‬
‫أيضا‪ ،‬إذ تتدمر املرافق‪ ،‬ويتحول توجه املوارد‪ ،‬وخيرج األطفال من املدارس‪ ،‬ويُ َبع ُد املديرون والعاملون عن عملهم أو‬
‫إنسانية واقتصادية ً‬
‫يتم قتلهم‪ .‬قدَّر االقتصادي بول كوليري‪ ،‬الذي يقول على احلرب َّإهنا «عكس التنمية»‪ ،‬تكاليف احلرب األهلية النمطية على الدولة‬
‫الواحدة بـ ‪ 50‬مليار دوالر‪.‬‬
‫والسبب الرابع هو العوملة‪ ،‬وباألخص االنفجار يف التجارة الذي أتاحته السفن احلاوية والطائرات النفاثة وحترير الرسوم اجلمركية‬
‫أن وجود شبكة جتارة أكرب سيجعل اجلميع‬ ‫والعوائق األخرى أمام االستثمار والتجارة‪ .‬يتفق االقتصاديون الكالسيكيون والعرف العام على َّ‬
‫حاال‪ ،‬ومع ُتصص بعض الدول يف خدمات وبضائع خمتلفة‪ ،‬فإن بإمكاهنا إنتاجها بكفاءةٍ أكرب‪ ،‬ولن يكلِّفها عرض املزيد من‬ ‫أفضل ً‬
‫كثريا‪ ،‬ويف الوقت نفسه‪ ،‬سيتمكن املشرتون الذين سيتسوقون حبثًا عن السعر األفضل‬ ‫بدال من اآلالف أكثر ً‬ ‫سلعها على مليارات الناس ً‬
‫كثريا النتيجة املنطقية اليت يطلق عليها امليزة النسبية‪ ،‬اليت تتنبأ‬ ‫ٍ‬
‫يف بازار عاملي من احلصول على املزيد مما يريدونه‪( .‬ال يقدِّر العرف العام ً‬
‫حاال عندما تبيع كل دولة البضائع واخلدمات اليت تستطيع إنتاجها بأكرب كفاءةٍ ممكنة حىت لو‬ ‫أنه يف املتوسط سيكون اجلميع أفضل ً‬
‫أيضا)‪ .‬خبالف ما تبثه الكلمة من رعب يف كث ٍري من األطياف السياسية‪َّ ،‬‬
‫لكن العوملة‬ ‫ٍ‬
‫استطاع املشرتون إنتاجها بأنفسهم بكفاءة كبرية ً‬
‫إن العوملة مؤامرة نيو ليربالية مصممة‬‫كما يتفق احملللون يف جمال التنمية كانت طفرة من الرخاء للفقراء‪ ،‬ويقول ديتون‪« :‬يقول البعض َّ‬
‫فشال ذر ًيعا‪ ،‬أو على األقل ساعدت أكثر من مليار‬ ‫فإن هذه املؤامرة قد فشلت ً‬ ‫إلثراء القلة على حساب األكثرية‪ ،‬لو كانت كذلك‪َّ ،‬‬
‫دائما على هذا النحو اإلجيايب»‪.‬‬
‫شخص عن غري عمد‪ ،‬ليت العواقب غري املتعمدة تعمل ً‬
‫بالطبع أنتج التحول الصناعي للعامل النامي‪ ،‬كما فعلت الثورة الصناعية قبله بقرنني‪ ،‬ظروف عمل قاسية مبعايري الدول احلديثة الغنية‬
‫استنكارا مر ًيرا‪ ،‬فكانت احلركة الرومانسية يف القرن التاسع عشر بصورةٍ جزئية رد فعل على «الطواحني الشيطانية املظلمة» (كما‬
‫ً‬ ‫وأثار‬
‫ظل االمشئزاز من الصناعة قيمة مقدَّسة لدى «الثقافة الثانية» حسب تعبري تشارلز‬‫أطلق عليها الشاعر ويليام بليك)‪ ،‬ومنذ ذلك احلني‪َّ ،‬‬
‫بريسي سنو‪ ،‬أي ثقافة املثقفني األدباء‪ .‬مل ي ُكن هناك يف مقالة سنو ما أغضب مهامجه فرانك رميوند ليفيس بقدر هذه الفقرة‪:‬‬

‫أن املعايري املادية للمعيشة ليست مهمة للغاية‪ ،‬من اجليد أن يتمكن‬ ‫تياح شديد ِّ‬
‫لنفكر يف َّ‬ ‫«من اجليد أن نستطيع اجللوس بار ٍ‬
‫شخص من اُتاذ قرار شخصي برفض التحول الصناعي‪ ،‬اذهب للعيش يف الغابة كما يف كتاب والدن (‪ )Walden‬إذا‬ ‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫أردت‪ ،‬وإذا عشت دون كثري من الغذاء‪ ،‬ورأيت أطفالك ميوتون وهم ُرضَّع‪ ،‬ونفرت من راحة املعرفة بالقراءة والكتابة‪ ،‬وقبلت‬
‫ُكن لك ذرة من االحرتام إذا حاولت ‪-‬حىت‬ ‫لكين لن أ ِّ‬
‫احلسي‪ ،‬و ِّ‬
‫عاما من عمرك‪ ،‬إ ًذا فسأحرتمك لقوة نفورك ِّ‬‫اقتطاع عشرين ً‬
‫يقة سلبية‪ -‬فرض اخليار نفسه على اآلخرين الذين ال يتمتعون حبرية االختيار‪ ،‬وحنن يف احلقيقة نعرف ماذا سيكون‬ ‫لو بطر ٍ‬
‫ٍ‬
‫بسرعة بقدر ما‬ ‫بلد سنحت الفرصة للفقراء فيه بالذهاب إىل املصانع‪ ،‬ذهبوا‬ ‫اختيارهم لو استطاعوا االختيار‪ ،‬ألنَّه يف أي ٍ‬
‫اتسعت هلم املصانع‪.‬‬

‫أيضا يف َّ‬
‫أن املعيار املالئم للنظر يف حمنة الفقراء يف‬ ‫كان سنو كما رأينا دقي ًقا يف ادعاءاته عن التقدم يف احلياة والصحة‪ ،‬وكان حمقًّا ً‬
‫عاما خرباء التنمية‬
‫يردد حجة سنو بعد مخسني ً‬ ‫الدول الصناعية هو جمموعة البدائل املتاحة أمامهم يف الزمان واملكان الذي يعيشون فيه‪ِّ .‬‬
‫كثريا من منشأ كل‬ ‫َّ‬ ‫مثل رادلت‪ ،‬الذي الحظ أنَّه «رغم َّ‬
‫أن العمل يف منصات املصانع يُشار إليه غالبًا بالعمل االستغاليل‪ ،‬إال أنَّه أفضل ً‬
‫األعمال االستغاللية‪ ،‬وهو العمل يف احلقول كعامل زراعي بأج ٍر يومي»‪.‬‬

‫حد ما جلمال العمل يف‬‫حمم ًال بنظرة رومانسية إىل ٍّ‬


‫وصلت إليها َّ‬
‫ُ‬ ‫مقيما يف إندونيسيا يف بداية التسعينيات‪،‬‬
‫كنت ً‬‫عندما ُ‬
‫كت أكثر مدى شدة‬ ‫حقول األرز‪ ،‬مع حتفظات على سرعة زيادة الوظائف يف املصانع‪ ،‬وكلما طالت إقاميت هناك‪ ،‬أدر ُ‬
‫ٍ‬
‫لساعات طويلة يف‬ ‫صعوبة العمل يف حقول األرز‪ ،‬فهي مطحنة مضنية‪ ،‬ويدبر الناس أقل القليل من الرزق عرب ثين ظهورهم‬
‫حرارة الشمس لتقسيم احلقول إىل مدرجات وزراعة البذور وإزالة احلشائش ونقل الشتالت ومطاردة اآلفات وحصاد احلبوب‪،‬‬
‫يتسبب الوقوف يف بِرك املياه يف اإلصابة بالعلقات‪ ،‬ويف خطر اإلصابة باملالريا والتهاب الدماغ وأمراض أخرى‪ ،‬واجلو بالطبع‬
‫أن مئات األشخاص سارعوا باالصطفاف أمام املصانع عندما فتحت أبواهبا‬ ‫حار طوال الوقت‪ .‬إ ًذا‪ ،‬مل ي ُكن من املفاجئ َّ‬
‫عارضةً دوالرين كأج ٍر يف اليوم‪ ،‬فقط للحصول على فرص ٍة يف التقدُّم إىل الوظائف‪.‬‬

‫حترًرا للنساء الاليت حيصلن على هذه الوظائف‪.‬‬ ‫متتد مزايا العمل الصناعي إىل ما هو أكثر من املعايري املادية للمعيشة‪ ،‬فقد يُعد ُّ‬
‫حتكي تشيلسيا فوليت (مديرة حترير ‪ )HumanProgress‬يف مقاهلا «اجلانب النسوي للمؤسسات الصناعية املستغلة» َّ‬
‫أن العمل‬
‫يف املصانع يف القرن التاسع عشر قدَّم للنساء مهربًا من األدوار االجتماعية التقليدية يف حياة القرية واملزرعة‪ ،‬ولذا اعتربه بعض الرجال‬
‫صالحا وفضيلةً سيئات السمعة»‪ .‬مل تنظر الفتيات أنفسهن لألمر بتلك الطريقة يف كل األحوال‪ ،‬إذ‬ ‫ً‬ ‫آنذاك «كافيًا جلعل أكثر الفتيات‬
‫كتبت إحدى العامالت يف مصنع نسيج يف لويل يف ماساتشوستس يف عام ‪:1840‬‬
‫يتم مجعنا كي جنين أكرب قد ٍر من املال يف أسرع ٍ‬
‫وقت ممكن‪ ..‬من الغريب أن تُرفض إحدى أكثر الوظائف رحبًا للنساء يف‬
‫ألهنا شاقة أو َّ‬
‫ألن بعض الناس متحيزون ضدها‪ ،‬ففتيات الشمال األمريكي يتمتعن بالكثري من‬ ‫نيو إجنالند احملبة للمال َّ‬
‫االستقاللية اليت متنعهن من ذلك‪.‬‬

‫كانت تلك التجارب خالل الثورة الصناعية تنبئ بالتجارب اليت مير هبا العامل النامي اليوم‪ ،‬قالت كافيتا رامداس‪ ،‬رئيسة الصندوق‬
‫العاملي للنساء‪ ،‬يف عام ‪ 2001‬إنَّه يف القرى اهلندية «كل ما يُتاح للمرأة فعله أن تطيع زوجها وأقرباءها‪ ،‬وتطحن حبوب الدَّخن‪ ،‬وتغين‪.‬‬
‫أكد حملل يف بنجالديش‬ ‫عمال جتاريًّا‪ ،‬وتسمح ألطفاهلا بتلقي التعليم»‪ ،‬و َّ‬
‫فإذا انتقلت إىل البلدة‪ ،‬ميكنها أن حتصل على وظيفة‪ ،‬وتنشئ ً‬
‫أن النساء الاليت يعملن يف صناعة املالبس (كما فعلت جدَّيت يف كندا يف الثالثينيات) ُك َّن يتمتعن بارتفاع األجور وتأخر سن الزواج‬‫َّ‬
‫جيل واحد‪ ،‬ميكن أن َّ‬
‫تتشكل األحياء الفقرية والضواحي الفقرية واألحياء العشوائية‬ ‫وإجناب ٍ‬
‫أطفال أقل حيصلون على تعلي ٍم أفضل‪ .‬وخالل ٍ‬
‫لتصبح ضواحي راقية وميكن أن تصبح الطبقة العاملة طبقةً متوسطة‪.‬‬
‫ِّرا ملزاياه طويلة األمد‪ ،‬إذ يستطيع املرء ُتيل تاريخ بديل للثورة‬
‫ليس على املرء أن يقبل وحشية التحول الصناعي كي يكون مقد ً‬
‫وقت أبكر‪ ،‬وتعمل فيه املصانع دون أطفال وتوفِّر ظروف عمل أفضل‬ ‫الصناعية‪ ،‬يكون فيه البشر قد طبَّقوا حساسيتهم احلديثة يف ٍ‬
‫للعمال البالغني‪ .‬يوجد اليوم يف العامل النامي بال شك مصانع تستطيع توفري نفس العدد من الوظائف وتعامل عماهلا برفق‪ ،‬وجتين رحبًا‬
‫أيضا‪ ،‬فقد تسبَّب الضغط الذي قامت به مفاوضات التجار ومظاهرات املستهلكني االحتجاجية يف حتسني ظروف العمال يف العديد‬ ‫ً‬
‫من األماكن بقد ٍر ملموس‪ ،‬وهو تقدم طبيعي مصاحب لزيادة الدول غىن و ً‬
‫اندماجا يف اجملتمع الدويل (كما سنرى يف الفصل الثاين عشر‬
‫عندما ننظر إىل تاريخ السالمة يف مواقع العمل يف جمتمعنا)‪ .‬ال يقوم التقدم على قبول كل تغيري ضمن حزمة متكاملة‪ ،‬و َّ‬
‫كأن علينا أن‬
‫متاما بتفاصيلها أحداث جيدة أو‬ ‫خيارا باإلجياب أو بالسلب بشأن ما إذا كانت الثورة الصناعية أو العوملة كما حدثت أي منهما ً‬
‫نتخذ ً‬
‫وإمنا يشتمل التقدم على تفكيك خصائص أي عملية اجتماعية بقدر اإلمكان هبدف مضاعفة املزايا املفيدة للبشر مع تقليل‬ ‫سيئة‪َّ ،‬‬
‫األضرار‪.‬‬
‫العامل األخري ‪-‬واألهم يف العديد من التحليالت‪ -‬الذي أسهم يف التقارب الكبري هو العلم والتكنولوجيا‪ ،‬فتكلفة احلياة تقل‬
‫باستمرار‪ ،‬وهو أمر جيد‪ ،‬وبفضل التطورات يف املعارف العملية‪ ،‬أصبح من املمكن بأجر ساعة واحدة من العمل شراء ٍ‬
‫غذاء ورعاية‬
‫طعاما‬
‫صحية وتعليم ومالبس ومواد بناء وضرورات بسيطة ورفاهيات أكثر مما كان من املمكن شراؤه هبا من قبل‪ .‬مل ُيعد الناس يتناولون ً‬
‫بدال من السري حفاة‪ ،‬وبإمكان البالغني‬
‫أرخص وأدوية أرخص فحسب‪ ،‬بل أصبح بإمكان األطفال ارتداء صنادل بالستيكية رخيصة ً‬
‫قضاء الوقت سويًّا أثناء تصفيف الشعر يف الصالون أو مشاهدة مباراة كرة قدم باستخدام أجهزة وألواح مشسية رخيصة‪َّ .‬أما النصائح‬
‫اجليدة بشأن الصحة أو الزراعة أو األعمال التجارية‪ ،‬فهي أفضل من «رخيصة»‪َّ ،‬إهنا جمانية‪.‬‬
‫ميتلك اليوم حوايل نصف األشخاص البالغني يف العامل هواتف ذكية‪ ،‬وأغلبهم مشرتكون يف اخلدمات اهلاتفية‪ ،‬ففي أحناء العامل اليت‬
‫ال توجد هبا طرق وال خطوط هاتفية أرضية وال خدمات بريدية وال صحف وال بنوك‪ ،‬ال تكون اهلواتف احملمولة جمرد طريقة للنميمة‬
‫أيضا مولِّ ًدا رئيسيًّا للثروة‪ ،‬فهي تسمح للناس بتحويل األموال وطلب األدوات واإلمدادات ومتابعة‬
‫ومشاركة صور القطط‪ ،‬بل تكون ً‬
‫الطقس واألسواق والعثور على وظيفة هنارية واحلصول على نصائح بشأن املمارسات الصحية والزراعية‪ ،‬بل وحىت تلقي التعليم األساسي‪.‬‬
‫حتليل أجراه االقتصادي روبرت جنسن حتت عنوان فرعي هو «اقتصاديات املعلومات الصغرية واخلاصة بسمك األسقمري‬ ‫وضَّح ٌ‬
‫(املاكريل)» كيف زاد صغار الصيادين يف جنوب اهلند من دخلهم وخفضوا السعر احمللي للسمك باستخدام هواتفهم احملمولة يف البحر‬
‫ملعرفة السوق اليت تعرض أفضل سعر يف ذلك اليوم‪ ،‬مما وفَّر عليهم عناء تفريغ صيدهم سريع التلف يف بلدات متخمة بالسمك يف الوقت‬
‫متاما‪ .‬تتيح اهلواتف احملمولة هبذه الطريقة ملئات املاليني من صغار املزارعني والصيادين أن يصبحوا فاعلني‬
‫الذي ُتلو بلدات أخرى منه ً‬
‫عقالنيني ذوي عل ٍم يف األسواق املثالية غري االحتكاكية كما تصفها كتب االقتصاد‪ .‬وف ًقا ألحد التقديرات‪ ،‬يضيف كل هاتف خلوي‬
‫‪ 3000‬دوالر إىل الناتج احمللي اإلمجايل ألي ٍ‬
‫دولة نامية‪.‬‬
‫لقد أعادت قوة املعرفة املفيدة كتابة قواعد التنمية العاملية‪ .‬وخيتلف خرباء التنمية حول مدى حكمة املعونات األجنبية‪ ،‬فيقول‬
‫بعضهم َّإهنا تضر أكثر مما تنفع عرب إثراء احلكومات الفاسدة ومنافسة التجارة احمللية‪ ،‬ويذكر آخرون ً‬
‫أرقاما حديثة تشري إىل َّ‬
‫أن املعونات‬
‫ٍ‬
‫هائال بالفعل‪ ،‬ويف حني َّأهنم خيتلفون على آثار التربع بالغذاء واملال‪ ،‬لكنَّهم يتفقون ً‬
‫مجيعا على أن‬ ‫نفعا ً‬ ‫املخصصة حبكمة قد حققت ً‬
‫التربع بالتكنولوجيا ‪-‬مثل األدوية واإللكرتونيات وأنواع خمتلفة من احملاصيل وأفضل املمارسات يف الزراعة واألعمال التجارية والصحة‬
‫العامة‪ِ -‬هبةٌ خالصة‪( .‬كما قال جيفرسون‪ :‬من يتلقى مين فكرة‪ ،‬يتلقى الرسالة بنفسه دون أن تنتقص من فكريت)‪ .‬ورغم التشديد على‬
‫أن قيمة املعرفة جعلت هذا املقياس أقل صلةً مبا هنتم به حقًّا‪ ،‬وهو جودة احلياة‪ .‬لو‬‫أمهية نصيب الفرد من الناتج احمللي اإلمجايل‪َّ ،‬إال َّ‬
‫ضمنت خطًّا ميثِّل إفريقيا يف الركن األمين السفلي من الشكل رقم ‪ ،2-8‬كان سيبدو عاديًّا‪ ،‬وكان املنحىن سيتجه إىل األعلى‬ ‫كنت َّ‬
‫أن تقدم إفريقيا الفعلي ِّ‬
‫يكذب‬ ‫بالتأكيد‪ ،‬ولكن دون االنطالق املطرد الذي حدث للخطوط املمثلة ألوروبا وآسيا‪ .‬يؤِّكد تشارلز كيين َّ‬
‫عموما‬
‫أن سكان الدول األغىن يعيشون أطول ً‬ ‫ألن الصحة وطول العمر والتعليم أقل تكلفةً مما كانا من قبل‪ ،‬ورغم َّ‬ ‫املنحدر السطحي َّ‬
‫صعودا‪ ،‬أي يعيش اجلميع أطول‬‫أن املنحىن يندفع ً‬ ‫(وهي عالقة يُطلق عليها منحىن بريستون‪ ،‬نسبةً إىل االقتصادي الذي اكتشفه)‪َّ ،‬إال َّ‬
‫عاما فقط‪ ،‬ومل ي ُكن أعلى من مخسة وأربعني‬ ‫بغض النظر عن الدخل‪ .‬كان متوسط العمر املتوقع يف أغىن دولة منذ قرنني (هولندا) أربعني ً‬
‫عاما‪ ،‬وال يقل‬
‫عاما يف أي دولة أخرى‪َّ ،‬أما اليوم فمتوسط العمر املتوقع يف أفقر دولة يف العامل (مجهورية إفريقيا الوسطى) أربعة ومخسون ً‬
‫ً‬
‫عاما‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫يف أي دولة عن مخسة وأربعني ً‬
‫مقياسا سطحيًّا وماديًّا‪َّ ،‬إال أنَّه يرتبط بكل مؤشرات االزدهار‪ ،‬كما سنرى مر ًارا‬
‫رغم سهولة السخرية من الدخل القومي باعتباره ً‬
‫أن نصيب الفرد من الناتج احمللي اإلمجايل يرتبط بطول العمر والصحة والتغذية‪،‬‬ ‫وتكر ًارا يف الفصول التالية‪ ،‬فمن األمور شديدة الوضوح َّ‬
‫وضوحا أنَّه يرتبط بقي ٍم أخالقية أمسى مثل السالم واحلرية وحقوق اإلنسان والتسامح‪ .‬فالدول األغىن ‪-‬يف املتوسط‪-‬‬ ‫ً‬ ‫ومن األمور األقل‬
‫ميال إىل أن متزقها احلروب األهلية (الفصل‬‫مبعدل أقل من غريها (يف الفصل احلادي عشر)‪ ،‬وهي أقل ً‬ ‫ُتوض حروبا بعضها مع بعض ٍ‬
‫ً‬
‫ميال إىل أن تصري دميقراطية وتظل كذلك (الفصل الرابع عشر)‪ ،‬وتتميز باحرتام أكرب حلقوق اإلنسان (الفصل‬ ‫احلادي عشر)‪ ،‬وأكثر ً‬
‫كن مواطنو الدول األغىن احرت ًاما أكرب للقيم «التحررية» أو‬ ‫الثاين عشر‪ :‬يف املتوسط‪ ،‬أي َّ‬
‫أن دول النفط العربية غنية ولكنَّها قمعية)‪ .‬يَ ُّ‬
‫الليربالية مثل متتُّع النساء باملساواة وحرية التعبري وحقوق املثليني والدميقراطية التشاركية ومحاية البيئة (الفصل العاشر والرابع عشر)‪ ،‬فمن‬
‫غري املفاجئ أن تزداد الدول سعادةً كلما ازدادت غىن (الفصل الثامن عشر)‪ ،‬ولكن املفاجئ َّأهنا كلما ازدادت غىن‪ ،‬ازدادت ذكاءً!‬
‫(الفصل السادس عشر)‪.‬‬
‫وعند تفسري متسلسلة «من الصومال إىل السودان» هذه‪ ،‬حيث تقع الدول الفقرية العنيفة القمعية غري السعيدة على أحد الطرفني‪،‬‬
‫أن هناك عوامل أخرى‬ ‫أن االرتباط ال يعين السببية‪ ،‬و َّ‬
‫وتقع الدول الغنية املساملة الليربالية السعيدة على الطرف اآلخر‪ ،‬ال بد أن نذكر َّ‬
‫مثل التعليم واجلغرافيا والتاريخ والثقافة قد يكون هلا دور يف األمر‪ ،‬ولكن عندما حياول احملللون الكميون املقارنة بينهما‪ ،‬جيدون َّ‬
‫أن التنمية‬
‫اجتماعا ألعضاء هيئة التدريس‪،‬‬
‫ً‬ ‫حمرك رئيسي لرفاهة اإلنسان‪ .‬تقول نكتة أكادميية قدمية َّ‬
‫إن هناك عميد كلية يرأس‬ ‫االقتصادية تبدو و َّ‬
‫كأهنا ِّ‬
‫جين وعرض عليه حتقيق أمنية واحدة من بني ثالث أمنيات‪َّ :‬إما املال أو الشهرة أو احلكمة‪ ،‬فأجاب العميد وقال‪« :‬هذا‬ ‫وفجأة ظهر ِّ‬
‫ست حيايت للفهم‪ ،‬سأختار احلكمة بالتأكيد»‪َّ .‬لوح اجلين بيده واختفى وسط الدخان‪ ،‬مث انقشع الدخان‬ ‫كر ُ‬ ‫سهل جدًّا‪ ،‬أنا باحث‪ ،‬و َّ‬
‫أخريا قال أحد األساتذة‪« :‬ماذا‬
‫اضعا رأسه بني يديه‪ ،‬غارقًا يف فكره‪ ،‬مرت دقيقة‪ ،‬مث عشر دقائق‪ ،‬مث مخس عشرة دقيقة‪ ،‬و ً‬ ‫وظهر العميد و ً‬
‫بعد؟ ماذا بعد؟» فتمتم العميد وقال‪« :‬كان ال بد أن أختار املال»‪.‬‬
‫الفصل التاسع‪:‬‬
‫انعدام المساواة‬

‫«ولكن هل يذهب كل شيء إىل جيوب األغنياء؟» هذا سؤال من الطبيعي أن يُطرح يف الدول املتقدمة يف العقد الثاين من القرن احلادي‬
‫والعشرين‪ ،‬مع اهلوس بانعدام املساواة االقتصادية‪ ،‬إذ أطلق عليها البابا فرانسيس «أصل الشرور االجتماعية»‪ ،‬ودعاها باراك أوباما بـ‬
‫«التحدي الفارق يف عصرنا»‪ ،‬وازدادت نسبة املقاالت املنشورة يف نيويورك تاميز اليت تشمل كلمة انعدام املساواة بني عامي ‪2009‬‬
‫مقاال‪ .‬أصبحت احلكمة السائدة اجلديدة هي َّ‬
‫أن القلة الغنية اليت متثِّل نسبة‬ ‫و‪ 2016‬بعشرة أضعاف‪ ،‬إذ بلغت ‪ 1‬من بني كل ‪ً 73‬‬
‫‪ %1‬من الناس قد استحوذت على كل النمو االقتصادي خالل العقود األخرية‪ ،‬وكل من سواهم يغرق ٍ‬
‫ببطء أو يصارع املياه يف حماو ٍلة‬
‫مسهما يف‬
‫ً‬ ‫للنجاة‪ .‬لو كان هذا ما حدث‪ ،‬ملا كان انفجار الثروة الذي وثقناه يف الفصل السابق يستحق االحتفاء‪ ،‬مبا أنه مل ي ُكن ليظل‬
‫عموما‪.‬‬
‫رفاهة البشر ً‬
‫لطاملا كان انعدام املساواة االقتصادية قضية مميِّزة لليسار الذي اختص هبا‪ ،‬مث اكتسبت أمهية بارزة بعدما بدأ الكساد الكبري يف عام‬
‫يعرف نفسه‬‫‪ ،2007‬فأشعلت حركة «احتلوا وول سرتيت» يف عام ‪ ،2011‬وترشح بريين ساندرز للرئاسة يف عام ‪ ،2016‬وهو الذي ِّ‬
‫صرح َّ‬
‫بأن «األمة لن تنجو أخالقيًّا وال اقتصاديًّا طاملا متتلك قلةٌ قليلة الكثري‪ ،‬بينما ال متتلك األكثرية سوى القليل‬ ‫بأنه اشرتاكي والذي َّ‬
‫أن الواليات املتحدة قد أصبحت «دولة‬ ‫ولكن الثورة أكلت أبناءها يف ذلك العام ودفعت حنو ترشح دونالد ترامب الذي زعم َّ‬ ‫جدًّا»‪َّ .‬‬
‫عامل ثالث» ومل يُ ِلق باللوم يف تناقص ثروات الطبقة العاملة على وول سرتيت والـ ‪َّ ،%1‬‬
‫وإمنا على اهلجرة والتجارة اخلارجية‪ .‬التقى طرفا‬
‫ولكل منهما أسبابه املختلفة للغضب من انعدام املساواة االقتصادية‪ ،‬وساعد تشاؤمهما املشرتك بشأن‬ ‫الطيف السياسي‪ ،‬اليمني واليسار‪ٍّ ،‬‬
‫االقتصاد احلديث يف انتخاب أكثر رؤساء أمريكا تطرفًا يف العصور احلديثة‪.‬‬
‫هل أشقى انعدام املساواة حقًّا أغلبية املواطنني؟ ال شك َّ‬
‫أن انعدام املساواة قد زاد يف معظم الدول الغربية منذ وصوله إىل أدىن‬
‫مستوى له حوايل عام ‪ ،1980‬وخاصةً يف الواليات املتحدة ودول أخرى متحدثة باإلجنليزية‪ ،‬ال سيما يف التفاوت بني األغىن وبني كل‬
‫من سواهم‪ .‬يُقاس انعدام املساواة عاد ًة مبعامل جيين‪ ،‬وهو رقم يرتاوح بني ‪ 0‬الذي يعين أن ما ميتلكه اجلميع متسا ٍو‪ ،‬و‪ 1‬الذي يعين َّ‬
‫أن‬
‫عموما من ‪ 0.25‬وهو ما يشري إىل توزيع الدخل األكثر‬ ‫احدا لديه كل شيء بينما ال ميتلك سواه شيئًا‪( .‬تتنوع قيم جيين ً‬ ‫شخصا و ً‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫بدرجة هائلة‬ ‫مساواةً‪ ،‬مثلما هو يف البلدان اإلسكندنافية بعد الضرائب واالستحقاقات‪ ،‬إىل ‪ 0.7‬وهو ما يشري إىل توزيع غري متسا ٍو‬
‫مثلما هو يف جنوب إفريقيا)‪ .‬ارتفع مؤشر جيين لدخل السوق (قبل الضرائب واالستحقاقات) يف الواليات املتحدة من ‪ 0.44‬يف عام‬
‫أيضا بنسبة إمجايل الدخل الذي جينيه جزءٌ ما (تقسيم كمي) من‬ ‫‪ 1984‬إىل ‪ 0.51‬يف عام ‪ .2012‬ميكن قياس انعدام املساواة ً‬
‫السكان‪ .‬منت حصة الدخل املتجه إىل الفئة األغىن من سكان الواليات املتحدة‪ ،‬اليت متثل ‪ 1‬يف املئة‪ ،‬من ‪ 8‬يف املئة يف عام ‪1980‬‬
‫العشر األغىن من بني هؤالء الذين ميثلون ‪ 1‬يف املئة‪ ،‬من ‪ 2‬يف املئة‬
‫إىل ‪ 18‬يف املئة يف عام ‪ ،2015‬يف حني منت احلصة املتجهة إىل ُ‬
‫لتصل إىل ‪ 8‬يف املئة‪.‬‬
‫أن بعض الظواهر اليت تندرج حتت عنوان انعدام املساواة (هناك الكثري من تلك الظواهر) خطرية وجيب تناوهلا‪ ،‬وإن كان‬ ‫ال شك َّ‬
‫حترض عليها مثل ترك اقتصادات السوق والتقدم التكنولوجي والتجارة اخلارجية‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫ذلك فقط بغرض تعطيل األجندات اهلدَّامة اليت ِّ‬
‫حتليل انعدام املساواة شديد التعقيد (يف سكان يبلغ عددهم مليون نسمة‪ ،‬توجد ‪ 999,999‬طريقةً ميكن هبا أن تنعدم املساواة بينهم)‪،‬‬
‫متاما باخلطاب الديستويب اليائس‬‫كثريا من الناس تأثروا ً‬
‫ألن ً‬‫فصل عن هذا املوضوع َّ‬‫وقد مأل هذا املوضوع كتبًا عديدة‪ ،‬وسأحتاج إىل ٍ‬
‫ٍ‬
‫ألسباب كثرية‪.‬‬ ‫وأصبحوا يرون انعدام املساواة عالمةً على إخفاق احلداثة يف حتسني احلالة البشرية‪ ،‬وهذا كما سنرى خطأ‬
‫مكونات‬
‫مكونًا أساسيًّا من ِّ‬
‫أن انعدام املساواة يف الدخل ليس ِّ‬ ‫إن نقطة البداية لفهم انعدام املساواة يف سياق تقدم البشر هو إدراك َّ‬
‫الرفاهة‪ ،‬فهو ليس كالصحة والرخاء واملعرفة واألمن والسالم وجماالت التقدم األخرى اليت أنظر فيها يف هذه الفصول‪ ،‬والسبب يف ذلك‬
‫ت عنه نكتة قدمية من عهد االحتاد السوفيييت وهي‪ :‬كان إجيور وبوريس فالحني معدمني حيصدان من أرضيهما الصغريتني بالكاد ما‬ ‫عرب ْ‬
‫َّ‬
‫يكفي إلطعام أسرتيهما‪ ،‬وكان الفرق الوحيد بينهما َّ‬
‫أن بوريس كان ميتلك عنزة هزيلة‪ .‬ويف أحد األيام‪ ،‬رأى إجيور جنيةً أخربته أن يتمىن‬
‫أمنية وستحققها له‪ ،‬فقال إجيور‪« :‬أمتىن أن متوت عنزة بوريس»‪.‬‬
‫حاال‪ ،‬وإن كان إجيور قد أرضى حسده‬ ‫واملقصود هبذه النكتة بالطبع َّأهنما أصبحا متساويني ولكن أيًّا منهما مل يصبح أيسر ً‬
‫عرب الفيلسوف هاري فرانكفورت )‪ (Harry Frankfurt‬يف كتابه عن انعدام المساواة (‪ )On Inequality‬الصادر‬ ‫اخلبيث‪َّ .‬‬
‫ٍ‬
‫جانب أخالقي يف ذاته‪،‬‬ ‫عام ‪ 2005‬عن هذه النقطة أيضا مع ٍ‬
‫فارق كبري‪ ،‬فقال فرانكفورت َّ‬
‫إن انعدام املساواة ليس مستهجنًا من‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫جانب أخالقي كم جيين‬ ‫فاملستهجن هو الفقر‪ ،‬إذا عاش املرء حياةً طويلة مفعمة بالصحة واملتعة واحلماس‪ ،‬فلن يكون من املهم من‬
‫جريانك األثرياء وال حجم منزهلم وال عدد سياراهتم‪ .‬كتب فرانكفورت‪« :‬من وجهة نظ ٍر أخالقية‪ ،‬ليس من املهم أن ميتلك اجلميع نفس‬
‫َّاما‬
‫األشياء‪ ،‬فاملهم من الناحية األخالقية أن ميتلك اجلميع ما يكفي»‪ .‬قد يكون الرتكيز ضيق األفق على انعدام املساواة االقتصادية هد ً‬
‫بدال من اكتشاف كيف ميكن أن حيصل إجيور على عنزة أخرى‪.‬‬ ‫بالطبع إذا أهلانا وجعلنا نقتل عنزة بوريس ً‬
‫دودا‬
‫موردا حم ً‬
‫ينبع اخللط بني الفقر وانعدام املساواة مباشرًة من مغالطة الكتلة اإلمجالية‪ ،‬وهي العقلية اليت تنظر إىل الثروة باعتبارها ً‬
‫كجثة حيوان جيب تقسيمها مبعادلة صفرية‪ ،‬فإذا حصل بعض األفراد على مقدار أكثر‪ ،‬فإن اآلخرين حيصلون بالضرورة على مقدا ٍر أقل‪.‬‬
‫مطردا‪ ،‬ويعين هذا أنَّه عندما يزداد األغنياء غىن‪ ،‬فإن الفقراء‬
‫ازديادا ً‬
‫والثروة كما رأينا ليست كذلك‪ ،‬فمنذ الثورة الصناعية ازدادت الثروة ً‬
‫يرددون مغالطة الكتلة اإلمجالية‪ ،‬من منطلق محاسة بالغية على ما يبدو وليس من منطلق ٍ‬
‫خلط‬ ‫أيضا‪ .‬وحىت اخلرباء ِّ‬
‫ميكن أن يغتنوا ً‬
‫مفاهيمي‪ ،‬كتب توماس بيكييت (‪ ،)Thomas Piketty‬الذي أصبح كتابه رأس المال في القرن الحادي والعشرين‬
‫(‪ ،)Capital in the Twenty-First Century‬الصادر عام ‪ 2014‬والذي حقق أعلى املبيعات‪ ،‬طلسم احلظ للضجة‬
‫إن النصف األفقر من السكان اليوم يف نفس مستوى الفقر الذي كان فيه يف املاضي‪ ،‬إذ ميتلك‬ ‫املثارة حول انعدام املساواة‪ ،‬وقال‪َّ « :‬‬
‫ولكن الثروة اإلمجالية اليوم أكثر مما كانت‬
‫متاما كما كان ميتلكه يف عام ‪َّ ،»1910‬‬
‫بالكاد ‪ 5‬يف املئة من الثروة اإلمجالية يف عام ‪ً ،2010‬‬
‫كثريا وليس «يف نفس مستوى الفقر»‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫يف عام ‪ 1910‬بقدر هائل‪ ،‬إ ًذا‪ ،‬لو كان النصف األفقر ميتلك نفس النسبة‪ ،‬فهو أغىن ً‬
‫ضررا هو االعتقاد بأنَّه إذا اغتىن بعض الناس‪ ،‬فال بد أن يكونوا قد سرقوا من اآلخرين‬
‫من عواقب مغالطة الكتلة اإلمجالية األكثر ً‬
‫مثال شهري تصوره الفيلسوف روبرت نوزيك‪ ،‬ولكننا حدَّثناه ليالئم القرن احلادي‬‫أكثر من نصيبهم‪ ،‬وهذا خطأ‪ ،‬ويتضح سبب خطئه يف ٍ‬
‫والعشرين‪ :‬يشمل مليارديرات العامل جي كي رولينج‪ ،‬مؤلفة سلسلة روايات هاري بوتر‪ ،‬اليت بيعت منها أكثر من ‪ 400‬مليون نسخة‬
‫أن هناك مليار شخص‪ ،‬دفع كلٌّ منهم ‪ 10‬دوالرات‬ ‫ومت حتويلها إىل سلسلة أفالم شاهدها عدد مقارب من املشاهدين‪ .‬لنفرتض َّ‬
‫لالستمتاع بنسخة ورقية من إحدى روايات هاري بوتر أو بتذكرة سينما ملشاهدة أحد أفالم السلسلة‪ ،‬وذهب ُعشر األرباح للمؤلفة‪،‬‬
‫أن كل شخص من‬ ‫حاال ال أسوأ (ال يعين هذا َّ‬‫فأصبحت مليارديرة‪ ،‬مما يزيد من نسبة انعدام املساواة‪ ،‬ولكنَّها جعلت الناس أفضل ً‬
‫حاال)‪ ،‬وال يعين هذا َّ‬
‫أن ثروهتا مستحقة نتيجة جهودها أو مهارهتا‪ ،‬وال مكافأة على املعرفة والسعادة اليت‬ ‫األغنياء قد جعل الناس أفضل ً‬
‫حكما باستحقاقها أن تكون بتلك الدرجة من الثراء‪ ،‬وإمنا نتجت ثروهتا عن قرارات طوعية اُتذها‬‫أضافتها إىل العامل‪ ،‬ومل تصدر جلنةٌ ما ً‬
‫مليارات مشرتي الكتب ومرتادي قاعات السينما‪.‬‬
‫رمبا توجد بالتأكيد أسباب للقلق بشأن انعدام املساواة يف ذاته وليس بشأن الفقر فقط‪ ،‬فقد يكون أغلب الناس مثل إجيور وتتحدَّد‬
‫سعادهتم بالفرق بينهم وبني املواطنني اآلخرين وليس مبدى جودة حاهلم يف املطلق‪ .‬عندما يصبح األغنياء شديدي الغىن‪ ،‬يشعر كل من‬
‫فإن انعدام املساواة يقلِّل من الرفاهة حىت لو أصبح اجلميع أغىن‪ ،‬وهذه فكرة قدمية يف علم النفس االجتماعي‪ ،‬ويُطلق‬
‫سواهم بالفقر‪ ،‬لذا َّ‬
‫عليها أمساء خمتلفة مثل نظرية املقارنة االجتماعية‪ ،‬أو اجلماعات املرجعية‪ ،‬أو قلق السعي إىل املكانة‪ ،‬أو احلرمان النسيب‪ ،‬ولكن جيب أن‬
‫بلد فقري مقيَّدة حبدود قريتها‪ ،‬وفقدت نصف أطفاهلا‬‫نضع الفكرة يف نصاهبا الصحيح‪ُ .‬تيل معي امرأة جاهلة امسها «سيما» تعيش يف ٍ‬
‫بفعل املرض‪ ،‬وستموت يف عمر اخلمسني‪ ،‬كما سيحدث ألغلب من تعرفهم‪ ،‬واآلن ُتيل «سايل»‪ ،‬وهي امرأة متعلِّمة يف ٍ‬
‫بلد غين وزارت‬
‫الدنيا‪ .‬من اجلائز أال‬
‫عدة مدن وحدائق وطنية‪ ،‬وشهدت منو أطفاهلا‪ ،‬وستعيش حىت عمر الثمانني‪ ،‬ولكنَّها عالقة يف الطبقة الوسطى ُ‬
‫تكون «سايل» سعيدة‪ ،‬إلحباطها بسبب الثروة الظاهرية اليت لن حتصل عليها مطل ًقا‪ ،‬ورمبا تكون حىت أتعس من «سيما» اليت تشعر‬
‫حاال‪ ،‬ومن الضالل أن نتوصل إىل أننا من‬ ‫أن «سايل» مل ت ُكن أفضل ً‬ ‫باالمتنان على النعم البسيطة‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فمن اجلنون افرتاض َّ‬
‫حيسن حياة جرياهنا أكثر مما ال جيعلها أسعد‪.‬‬ ‫األفضل أال حناول حتسني حياة «سيما» َّ‬
‫ألن هذا قد ِّ‬
‫ألن «سايل» يف احلياة الواقعية أسعد بكل تأكيد‪ .‬وعلى عكس االعتقاد السابق َّ‬
‫بأن‬ ‫وهذه التجربة الفكرية جدلية على أي حال‪َّ ،‬‬
‫الناس واعون باملواطنني اآلخرين األغىن منهم لدرجة أهنم يواصلون إعادة ضبط مقياس سعادهتم الداخلية على هذا األساس مهما كان‬
‫أن األشخاص األغىن واألشخاص الذين يعيشون يف ٍ‬
‫دول أغىن أسعد (يف املتوسط) من‬ ‫مستواهم‪ ،‬فسنرى يف الفصل الثامن عشر َّ‬
‫األشخاص األفقر واألشخاص الذين يعيشون يف ٍ‬
‫دول أفقر‪.‬‬
‫بؤسا إذا ظل احمليطون‬
‫ولكن حىت لو صار الناس أسعد عندما يصبحون أغىن وتصبح بلداهنم أغىن‪ ،‬فهل ميكن أن يصريوا أكثر ً‬
‫هبم أغىن منهم مع زيادة نسبة انعدام املساواة االقتصادية؟ يدَّعي اختصاصيا الوبائيات ريتشارد ويلكينسون‬
‫)‪ (Richard Wilkinson‬وكيت بيكيت )‪ (Kate Pickett‬يف كتاهبما الشهري مستوى الروح )‪(The Spirit Level‬‬
‫أيضا من جرائم القتل والسجن ومحل املراهقات‬ ‫أن الدول ذات املستويات األعلى من انعدام املساواة يف الدخل هبا مستويات أعلى ً‬ ‫َّ‬
‫الرضَّع واألمراض اجلسدية والنفسية وغياب الثقة االجتماعية والسمنة املفرطة وتعاطي املواد املخدرة‪ ،‬فانعدام املساواة‬
‫ووفيات األطفال ُ‬
‫بأهنم يُزج هبم يف منافسة على‬‫االقتصادية يتسبب يف األمراض كما يقولون‪ :‬جتعل اجملتمعات اليت تغيب فيها املساواة الناس يشعرون َّ‬
‫َ‬
‫ويدمرون أنفسهم‪.‬‬
‫السيطرة حيصل فيها الفائز على كل شيء‪ ،‬وجيعلهم التوتر والضغط مرضى ِّ‬
‫أُطلق على نظرية مستوى الروح «نظرية اليسار اجلديدة عن كل شيء»‪ ،‬وهي إشكالية كأي نظرية أخرى تقفز من ارتباطات‬
‫أن الناس يصابون بقلق املنافسة نتيجة وجود جي كي رولينج وسريجي برين‬ ‫متشابكة إىل تفس ٍري أحادي السبب‪ً ،‬‬
‫فأوال‪ ،‬ليس من الواضح َّ‬
‫خالفًا ملنافسيهم احملليني على النجاح االجتماعي أو العاطفي أو املهين‪ ،‬وُتتلف الدول األكثر مساواةً من الناحية االقتصادية مثل السويد‬
‫ب عديدة أخرى غري توزيع الدخل‪ ،‬فالدول األكثر مساوا ًة تتسم‬ ‫وفرنسا عن الدول غري املتوازنة مثل الربازيل وجنوب إفريقيا يف جوان َ‬
‫جتانسا من الناحية الثقافية‪ ،‬ولذا فالربط األويل بني انعدام املساواة والسعادة (أو أي‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بكوهنا أغىن وبتعليم أفضل وإدارة أفضل وبأهنا أكثر ً‬
‫صورةٍ أخرى من صور اخلري االجتماعي) ال يُظهر سوى وجود عدة أسباب لكون احلياة يف الدامنارك أفضل من احلياة يف أوغندا‪ .‬كانت‬
‫ولكن االرتباطات حىت يف نطاق تلك العينة كانت عابرة‪ ،‬تظهر وُتتفي بناءً على‬ ‫عينة ويلكينسون وبيكيت قاصرة على الدول املتقدمة‪َّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫بصحة اجتماعية‬ ‫اختيار الدول اليت ستشملها العينة‪ ،‬فالدول الثرية‪ ،‬ولكن املتسمة بانعدام املساواة‪ ،‬مثل سنغافورة وهونج هونج‪ ،‬تتمتع‬
‫أفضل غالبًا من الدول األفقر املتسمة مبساواةٍ أكرب‪ ،‬مثل دول شرق أوروبا اليت كانت شيوعية ساب ًقا‪.‬‬
‫اسة أجرياها على مئيت ألف‬ ‫قطع عاملا االجتماع جوناثان كيلي وماريا إيفانز الرابط السبيب بني انعدام املساواة والسعادة يف در ٍ‬
‫جمتمعا على مدار ثالثة عقود‪( ،‬وسننظر يف كيفية قياس السعادة ومستوى الرضا عن احلياة يف الفصل الثامن‬ ‫شخص يف مثانية وستني ً‬ ‫ٍ‬
‫عشر)‪ ،‬كانت العوامل الثابتة يف دراسة كيلي وإيفانز هي العوامل الكربى اليت من املعروف أهنا تؤثر يف السعادة ومنها‪ :‬نصيب الفرد من‬
‫العمر‪ ،‬والنوع‪ ،‬واملستوى التعليمي‪ ،‬واحلالة االجتماعية‪ ،‬واملواظبة على الطقوس الدينية‪ ،‬ووجدت الدراسة َّ‬
‫أن‬ ‫الناتج احمللي اإلمجايل‪ ،‬و ُ‬
‫حمطما‬
‫بأن انعدام املساواة يتسبب يف التعاسة قد «حتطمت على صخرة احلقيقة»‪ .‬ليس انعدام املساواة يف الدول النامية ً‬ ‫النظرية القائلة َّ‬
‫أن األمل يطغي على ما يشعر به الناس‬ ‫مشج ًعا‪ ،‬فالناس يف اجملتمعات األقل مساواةً كانوا أسعد‪ ،‬إذ يشري الباحثان إىل َّ‬
‫للمعنويات‪ ،‬بل ِّ‬
‫ٍ‬
‫حرمان نسيب‪ ،‬فيُنظر إىل انعدام املساواة باعتباره‬ ‫يف الدول الفقرية اليت تغيب فيها املساواة من ٍ‬
‫حسد أو قلق بشأن السعي إىل املكانة أو‬
‫أن التعليم والطرق األخرى للحراك االجتماعي الصاعد قد تؤيت مثارها هلم وألطفاهلم‪ .‬ويف الدول‬ ‫بشرى بوجود الفرص‪ ،‬وعالمة على َّ‬
‫املتقدمة (عدا الدول الشيوعية ساب ًقا)‪ ،‬مل يصنع انعدام املساواة أي فرق بأي شكل‪( .‬ولكن يف الدول الشيوعية ساب ًقا‪ ،‬كانت آثاره‬
‫قليال‪ ،‬فانعدام املساواة أضر جبيل كبار السن الذين نشؤوا يف ظل الشيوعية‪ ،‬ولكنَّه إما ساعد األجيال األصغر أو مل يصنع فرقًا‬ ‫ملتبسة ً‬
‫يف حياهتم)‪.‬‬
‫شائعا آخر يف هذه النقاشات‪ ،‬وهو ربط انعدام املساواة بغياب العدل‪ .‬أظهرت‬ ‫تثري آثار انعدام املساواة املتقلبة على الرفاهية خلطًا ً‬
‫يفضلون تقسيم املكاسب بالتساوي بني املشاركني حىت لو حصل اجلميع‬ ‫أن الناس ‪-‬مبا يشمل األطفال‪ِّ -‬‬ ‫دراسات عديدة يف علم النفس َّ‬
‫يف النهاية على مقدا ٍر أقل‪ ،‬و َّأدى هذا ببعض علماء النفس إىل افرتاض وجود متالزمة يُطلق عليها «النفور من عدم املساواة»‪ :‬وهي‬
‫ولكن علماء النفس كريستينا ستارمانز ومارك شيسكني وبول بلوم ألقوا نظرة ثانية على هذه الدراسات‬ ‫الرغبة الظاهرة يف توزيع الثروة‪َّ .‬‬
‫أن الناس ‪-‬الذين يشملون زمالءهم يف املخترب ومواطنني‬ ‫يفضل الناس اجملتمعات غري املتساوية؟»‪ ،‬ووجدوا َّ‬‫مقال حديث بعنوان «ملاذا ِّ‬ ‫يف ٍ‬
‫جبد أكثر‪ ،‬أو‬
‫أن العالوات ذهبت إىل العاملني ٍّ‬ ‫أن التقسيم عادل‪ :‬أي َّ‬ ‫يفضلون التوزيع غري املتساوي طاملا شعروا َّ‬
‫آخرين من بلدهم‪ِّ -‬‬
‫بيانصيب نزيه‪ .‬توصل الباحثون يف النهاية إىل أنَّه «ال يوجد دليل حىت اآلن على َّ‬
‫أن‬ ‫ٍ‬ ‫املساعدين األكرم‪ ،‬أو حىت الفائزين احملظوظني‬
‫األطفال أو البالغني يشعرون بأي نفوٍر من عدم املساواة»‪ ،‬فالناس يرضون بانعدام املساواة االقتصادية طاملا شعروا َّ‬
‫بأن البلد تقوم على‬
‫إن التصورات حول أسباب انعدام املساواة تدور يف عقول الناس أكثر مما تفعل‬ ‫أساس اجلدارة‪ ،‬ويغضبون عندما يشعرون بغري ذلك‪َّ .‬‬
‫حقيقة انعدام املساواة‪ .‬خيلق هذا ثغرة للساسة كي يثريوا عواطف الناس باالستفراد «بالغشاشني» الذين يأخذون أكثر من حصتهم‬
‫العادلة مثل‪ :‬املرتحبات من الشؤون االجتماعية‪ ،‬واملهاجرين‪ ،‬والدول األجنبية‪ ،‬واملصرفيني‪ ،‬واألغنياء الذين ينتمون إىل أقلية عرقية‪.‬‬
‫إضافةً إىل آثار انعدام املساواة فيما خيص علم النفس الفردي‪ ،‬فقد ارتبط بأنواع عديدة من االختالالت على النطاق اجملتمعي‪ ،‬مبا‬
‫فيها الركود االقتصادي‪ ،‬واالضطراب املايل‪ ،‬والثبات االجتماعي بني األجيال‪ ،‬واستغالل النفوذ السياسي‪ .‬جيب أن نأخذ هذه األضرار‬
‫أيضا‪ ،‬ويف احلالتني‪ ،‬أظن َّ‬
‫أن توجيه إصبع االهتام إىل‬ ‫على حممل اجلد‪ ،‬ولكن ال جيب أن نقفز من االرتباط إىل السببية يف هذه النقطة ً‬
‫لكل من هذه‬ ‫مؤشر جيين بكونه السبب اجلذري العميق لكث ٍري من األمراض االجتماعية أقل فعاليةً من تركيز االنتباه على احللول ٍّ‬
‫املشكالت‪ ،‬مثل‪ :‬االستثمار يف األحباث والبنية التحتية من أجل اهلروب من الركود االقتصادي‪ ،‬وتنظيم القطاع املايل للحد من االضطراب‪،‬‬
‫وتوسيع فرص احلصول على التعليم والتدريب على الوظائف من أجل تسهيل احلراك االقتصادي‪ ،‬والشفافية االنتخابية وإصالح نظام‬
‫خبيث بصورةٍ خاصة ألن بإمكانه تشويه‬‫إن أثر املال يف السياسة ٌ‬ ‫التمويالت للقضاء على استغالل النفوذ بطريقة غري شرعية‪ ،‬وهكذا‪َّ .‬‬
‫كل سياسات احلكومة‪ ،‬ولكنه ال يساوي انعدام املساواة يف الدخل‪ ،‬فهذه مشكلة أخرى‪ ،‬ففي ظل عدم القيام بإصالح النظام االنتخايب‪،‬‬
‫سيتمكن الداعمون األغىن من التأثري يف الساسة سواء كانوا جينون ‪ 2‬أم ‪ 8‬يف املئة من الدخل القومي‪.‬‬
‫فانعدام املساواة االقتصادية إ ًذا ليس أحد أبعاد رفاهة البشرية يف ذاته‪ ،‬وال جيب خلطه مع الفقر أو غياب العدل‪ .‬لننتقل اآلن من‬
‫الداللة األخالقية النعدام املساواة إىل السؤال عن سبب تغريه مبرور الوقت‪.‬‬
‫إن الرواية التارخيية األبسط عن انعدام املساواة أنَّه جاء مصاحبا للحداثة‪ ،‬ال بد أنَّنا قد بدأنا يف ٍ‬
‫حالة أصلية من املساواة‪ ،‬ألنَّه عندما مل‬ ‫َّ‬
‫ً‬
‫صنِعت الثروة‪ ،‬استطاع بعض الناس أن حيصلوا على نصيب‬ ‫ت ُكن هناك ثروة‪ ،‬كان لدى اجلميع حصص متساوية من الال شيء‪ ،‬مث عندما ُ‬
‫أكثر من اآلخرين‪ .‬فانعدام املساواة وفق هذه القصة قد بدأ من مستوى الصفر‪ ،‬ومع تزايد الثروة مبرور الوقت‪ ،‬زاد مستوى انعدام املساواة‬
‫متاما‪.‬‬
‫ولكن هذه القصة ليست صحيحة ً‬ ‫أيضا‪َّ ،‬‬ ‫ً‬
‫إن البشر الذين يعيشون على الصيد ومجع الثمار يبدو أهنم يتمتعون بقد ٍر كبري من املساواة‪ ،‬وهي احلقيقة اليت أهلمت ظهور نظرية‬ ‫َّ‬
‫فأوال‪:‬‬
‫أن تلك الصورة عن املساواتية لدى العالفني مضللة‪ً .‬‬ ‫ولكن علماء اإلثنوغرافيا يشريون إىل َّ‬
‫ماركس وإجنلز عن «الشيوعية البدائية»‪َّ ،‬‬
‫ألن هذه اجلماعات قد‬ ‫ال متثل مجاعات الصيد ومجع الثمار املوجودة حىت اليوم واليت ميكننا دراستها طريقة احلياة اليت عاشها أسالفنا‪َّ ،‬‬
‫أمرا‬ ‫ٍ‬
‫أن نقلها من مكان آلخر كان سيصبح ً‬ ‫مستحيال‪ ،‬كما َّ‬
‫ً‬ ‫ض حدية ويعيشون حياة بدوية جتعل تراكم الثروة‬ ‫ُدفِعت حنو العيش يف أرا ٍ‬
‫ولكن مجاعات الصيد ومجع الثمار املستقرة‪ ،‬مثل السكان األصليني لشمال غرب احمليط اهلادئ‪ ،‬الذي يفيض بسمك السلمون‬ ‫مزعجا‪َّ .‬‬
‫ً‬
‫عبيدا وتكتنز وسائل الرتفيه‬‫والتوت واحليوانات ذات الفرو‪ ،‬مل تكن حتقق املساواة‪ ،‬بل ونشأت فيها طبقة من النبالء بالوراثة متتلك ً‬
‫أن الصيد‬‫أن مجاعات الصيد ومجع الثمار البدوية تتشارك يف اللحوم‪ ،‬مبا َّ‬ ‫وتتفاخر بثروهتا يف احتفاالت البوتالتش املبهرجة*‪ .‬ويف حني َّ‬
‫لكن احتمالية أن يتشاركوا‬‫يؤمن اجلميع ضد األيام اليت يعودون فيها خاليي الوفاض‪َّ ،‬‬ ‫أن مشاركة املكسب ِّ‬ ‫يتوقَّف على احلظ غالبًا و َّ‬
‫أن مجع الثمار يتوقَّف على اجملهود‪ ،‬و َّ‬
‫أن املشاركة دون متييز ستسمح باالنتفاع اجملاين‪ .‬إذًا فانعدام‬ ‫غذائهم املكون من نباتات أقل‪ ،‬مبا َّ‬
‫أمر عام يف خمتلف اجملتمعات‪ ،‬وكذلك الوعي بانعدامها‪ .‬وجد حبث حديث عن انعدام املساواة يف أشكال الثروة اليت‬ ‫ٍ‬
‫املساواة بدرجة ما ٌ‬
‫أن هذه اجملتمعات أبعد ما تكون عن‬ ‫الع ْلف) َّ‬
‫ميكن صنعها يف جمتمعات الصيد ومجع الثمار (مثل األحصنة والقوارب وعائدات الصيد و َ‬
‫«الشيوعية البدائية»‪ ،‬فكان متوسط قيم جيين هلذه اجملتمعات ‪ ،0.33‬وهو ما يقرب من قيمة الدخل املتاح لإلنفاق يف الواليات املتحدة‬
‫يف عام ‪.2012‬‬
‫ماذا حيدث عندما يبدأ أحد اجملتمعات يف توليد ثروة وافرة؟ تكون زيادة انعدام املساواة املطلقة (أي الفرق بني األغىن واألفقر)‬
‫حصصا متطابقة‪ ،‬يكون من احلتمي أن ينتهز بعض الناس الفرص‬ ‫ً‬ ‫توزع‬
‫ضرورةً رياضية تقريبًا‪ ،‬ففي ظل غياب هيئة توزيع الدخل اليت ِّ‬

‫*هو احتفال عند السكان األصليين للشمال الغربي من كندا والواليات المتحدة ُتقدم فيه الهدايا‪- .‬المترجمة‪.‬‬
‫اجلديدة أكثر من غريهم‪ ،‬سواء أكان ذلك باحلظ أم باملهارات أم باجملهود‪ ،‬وسيحصدون عوائد غري متناسبة مع ما حيصده اآلخرون‪.‬‬
‫وليست الزيادة يف انعدام املساواة النسبية (اليت تُقاس مبؤشر جيين أو باحلصص من الدخل) ضرورةً رياضية‪ ،‬ولكن من احملتمل جدًّا‬
‫ألن بعض الناس يرتكون‬‫حدوثها‪ ،‬وف ًقا لفرضية االقتصادي سيمون كوزنتس‪ ،‬فإنه مع ازدياد غىن الدولة‪ ،‬ال بد أن تقل فيها املساواة‪َّ ،‬‬
‫معا‪ ،‬فكلما‬
‫الزراعة ويتجهون إىل أعمال ذات أجر أعلى يف حني يظل البقية يف بؤس الريف‪ .‬ولكن يف النهاية‪ ،‬يرفع التيار كل القوارب ً‬
‫مشكال حرف ‪ ،U‬ويُطلق على القوس‬ ‫زاد عدد السكان الذين يتجهون إىل االقتصاد احلديث‪ ،‬فإن انعدام املساواة ال بد أن يرتاجع‪ِّ ،‬‬
‫االفرتاضي ملستوى انعدام املساواة عرب األزمنة منحىن كوزنتس‪.‬‬
‫رأينا يف الفصل السابق مالمح من منحىن كوزنتس النعدام املساواة بني الدول‪ .‬بينما اشتد عود الثورة الصناعية‪ ،‬قامت الدول‬
‫األوروبية باهلروب الكبري من الفقر العاملي‪ ،‬خملِّفةً وراءها الدول األخرى‪ ،‬وكما قال ديتون‪« :‬العامل األفضل يصنع عاملا مليء باالختالفات‪،‬‬
‫ً‬
‫أما اهلروب فيتسبب يف انعدام املساواة»‪ .‬مث مع استمرار العوملة ونشر املعارف العملية املولِّدة للثروة‪ ،‬بدأت الدول الفقرية تلحق مبن‬
‫سبقتها فيما يُطلق عليه التقارب الكبري‪ .‬ورأينا مالمح اخنفاض مستوى انعدام املساواة العاملية يف انطالق الناتج احمللي اإلمجايل يف الدول‬
‫مجل ذي سنامني‪ ،‬إىل ٍ‬
‫مجل وحيد السنام‬ ‫اآلسيوية (الشكل رقم ‪ ،)2-8‬ويف تغري شكل توزيع الدخل العاملي من قوقعة صغرية إىل ٍ‬
‫(الشكل رقم ‪ ،)3-8‬ويف اخنفاض نسبة األشخاص الذين يعيشون يف فق ٍر مدقع (الشكل رقم ‪ )4-8‬وعددهم (الشكل رقم ‪.)5-8‬‬
‫اجعا يف مستوى انعدام املساواة ‪-‬أي َّ‬
‫أن الدول الفقرية تغتين أسرع مما تفعل الدول‬ ‫أن هذه املكاسب ِّ‬
‫تشكل حقًّا تر ً‬ ‫وإلثبات َّ‬
‫يوضح الشكل رقم ‪-9‬‬ ‫كأهنا شخص‪ِّ .‬‬ ‫مقياس واحد جيمعهما سويًّا‪ ،‬أي مؤشر «جيين» دويل يعامل كل دولة َّ‬‫ٍ‬ ‫الغنية‪ -‬فنحن ٍ‬
‫حباجة إىل‬
‫أن مؤشر جيين الدويل قد ارتفع من قيمة ‪ 0.16‬املنخفضة يف عام ‪ 1820‬عندما كانت كل الدول فقرية‪ ،‬إىل قيمة ‪ 0.56‬يف عام‬ ‫‪َّ 1‬‬
‫ولكن مؤشر جيين الدويل مضلِّل إىل ٍّ‬
‫حد ما‪،‬‬ ‫‪ 1970‬عندما كانت بعضها غنية‪ ،‬مث استقر وبدأ يهبط يف الثمانينيات كما تنبَّأ كوزنتس‪َّ ،‬‬
‫للتحسن يف مستويات معيشة ‪ 4‬مليون مواطن بنمي على سبيل‬‫ُّ‬ ‫التحسن يف مستويات معيشة مليار مواطن صيين كأنه مسا ٍو‬
‫ُّ‬ ‫ألنَّه حيسب‬
‫املثال‪ .‬يوضح الشكل رقم ‪ 1-9‬مؤشر «جيين» دويل حسبه االقتصادي برانكو ميالنوفيتش‪ ،‬وفيه يتم حساب كل دولة بالنسبة لعدد‬
‫سكاهنا‪ ،‬مما جيعل أثر البشر على االخنفاض يف مستوى انعدام املساواة أوضح‪.‬‬
‫انعدام المساواة بين الدول‬
‫(مرجا ح حسب عدد السكان)‬
‫مؤشر جيني‬

‫انعدام المساواة بين الدول‬


‫(مرجا ح حسب عدد السكان)‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 1 - 9‬ا ن ع د ا م ا مل س ا وا ة ب ني ا ل د ول م ن ذ ‪ 1 8 2 0‬ح ىت ‪2 0 1 3‬‬


‫املصادر‪ ،International inequality: OECD Clio Infra Project, Moatsos et al. 2014 :‬البيانات خاصة بدخل األسرة يف‬
‫خمتلف الدول‪ ،Population-weighted international inequality: Milanović 2012 .‬البيانات اخلاصة بعامي ‪ 2012‬و‪2013‬‬
‫مقدَّمة من برانكو ميالنوفيتش عن طريق التواصل الشخصي‪.‬‬

‫كأهنم جينون متوسط الدخل‬ ‫كأهنم جينون نفس القدر من املال‪ ،‬وكل األمريكيني َّ‬ ‫ولكن مؤشر «جيين» الدويل يعامل كل الصينيني َّ‬
‫األمريكي‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ونتيجةً لذلك فهو يقلِّل من تقدير مستوى انعدام املساواة لدى اجلنس البشري مبختلف جنسياته‪ .‬ويصعب أكثر‬
‫حساب مؤشر «جيين» العاملي الذي ُحيتسب فيه كل شخص بنفس القيمة بغض النظر عن بلده‪ ،‬ألنَّه يستلزم مزج دخول أشخاص من‬
‫ألهنما قد مت معايرهتما‬‫دول متباينة سويًّا‪ ،‬ولكننا نظهر يف الشكل رقم ‪ 2-9‬تقديرين خمتلفني‪ .‬يطفو اخلطَّان على ارتفاعات خمتلفة َّ‬ ‫ٍ‬
‫ٍ‬
‫بدرجة ما‪ ،‬فبعد الثورة الصناعية‪،‬‬ ‫يشكل منحىن كوزنتس‬ ‫ولكن ميلهما ِّ‬ ‫بالدوالر وتعديلهما ملراعاة تعادل القوة الشرائية يف أعوام خمتلفة‪َّ ،‬‬
‫يوضح منحنيا «جيين» الدويل والعاملي أنَّه‬
‫مبعدل ثابت حىت حوايل العام ‪ ،1980‬مث بدأ يف اهلبوط‪ِّ .‬‬ ‫زاد مستوى انعدام املساواة العاملية ٍ‬
‫ولكن‬
‫أن مستوى انعدام املساواة يف العامل يف تراجع‪َّ .‬‬ ‫على الرغم من القلق بشأن ارتفاع مستوى انعدام املساواة بني الدول الغربية‪َّ ،‬إال َّ‬
‫هذه طريقة ملتوية للتعبري عن حالة التقدم‪ ،‬فاألمر املهم يف تراجع مستوى انعدام املساواة هو أنَّه يعين الرتاجع يف مستويات الفقر‪.‬‬
‫مؤشر جيني‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 2 - 9‬ا ن ع د ا م ا مل س ا وا ة ب ني ا ل د ول م ن ذ ‪ 1 8 2 0‬ح ىت ‪2 0 1 3‬‬


‫املصدر‪ Milanović 2016, fig. 3.1. :‬يوضِّح املنحىن األيسر الدخل املتاح لإلنفاق للفرد بالدوالر الدويل لعام ‪ ،1990‬ويوضِّحه املنحىن األمين‬
‫بالدوالر الدويل لعام ‪ ،2005‬وجيمع املسوح اليت أجريت على األسر على الدخل املتاح لإلنفاق للفرد واستهالكه‪.‬‬

‫مؤخرا هو انعدام املساواة بني الدول املتقدمة مثل الواليات املتحدة واململكة املتحدة‪ ،‬وسنعرض قيم هاتني‬
‫كان ما أطلق جرس اإلنذار ً‬
‫وقت قريب‪ ،‬كانت الدولتان ِّ‬
‫تشكالن قوس كوزنتس‪ ،‬مث ارتفع‬ ‫الدولتني حسب مؤشر جيين لسنوات طويلة يف الشكل رقم ‪ .3-9‬حىت ٍ‬
‫مستوى انعدام املساواة خالل الثورة الصناعية‪ ،‬مث بدأ يهبط تدرجييًّا يف البداية يف أواخر القرن التاسع عشر‪ ،‬مث هبط حبدة يف منتصف‬
‫تباعا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫القرن العشرين‪ ،‬ويف ‪ 1980‬تقريبًا ارتد مستوى انعدام املساواة لريتفع يف ٍ‬
‫شكل خمتلف عن منحىن كوزنتس‪ .‬لنفحص كل جزء ً‬
‫مؤشر جيني‬

‫إنجلترا‪/‬المملكة المتحدة‬ ‫الواليات‬


‫المتحدة‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 3 - 9‬ا ن ع د ا م ا مل س ا وا ة يف ا مل م ل ك ة ا مل ت ح د ة وا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة ا أل م ري ك ي ة م ن ذ ‪1 6 8 8‬‬


‫ح ىت ‪2 0 1 3‬‬
‫املصدر‪ ،Milanović 2016, fig. 2.1 :‬الدخل املتاح لإلنفاق للفرد‪.‬‬

‫يدا من‬
‫يعكس ارتفاع مستوى انعدام املساواة واخنفاضه يف القرن التاسع عشر توسع االقتصاد وفق افرتاض كوزنتس‪ ،‬مما جيذب مز ً‬
‫الناس إىل مه ٍن حضرية تلزمها املهارات‪ ،‬ومن مث فهي ذات أجور أعلى‪ ،‬ولكن كانت هناك أسباب مفاجئة للهبوط الشديد يف القرن‬
‫العشرين ‪-‬الذي أُطلق عليه التسوية الكربى أو الضغط الكبري‪ ،-‬إذ يتداخل هذا اهلبوط مع احلربني العامليتني‪ ،‬وال تُعد هذه مصادفة‪،‬‬
‫وتضخم أصول الدائنني‪ ،‬وحتث األغنياء على حتمل‬‫ِّ‬ ‫وتدمر احلروب رأس املال املولِّد للثروة‪،‬‬
‫فاحلروب الكربى تساوي توزيع الدخل غالبًا‪ِّ ،‬‬
‫الضرائب األعلى‪ ،‬اليت تعيد احلكومة توزيعها على رواتب اجلنود وعمال الذخرية‪ ،‬مما زاد بدوره من الطلب على العمالة يف بقية قطاعات‬
‫االقتصاد‪.‬‬
‫احدا فقط من أشكال الكوارث اليت ميكنها خلق املساواة مبنطق إجيور وبوريس‪ ،‬فيحدد املؤرخ والرت شايدل‬ ‫شكال و ً‬
‫تُعد احلروب ً‬
‫وهم حروب التعبئة الشعبية‪ ،‬والثورات التحولية‪ ،‬واهنيار الدول‪ ،‬واألوبئة الفتاكة‪ .‬تسبب هؤالء الفرسان األربعة‬
‫«فرسان التسوية األربعة»‪ُ ،‬‬
‫فضال عن خفض مستويات انعدام املساواة عرب قتل أعداد‬ ‫يف إبادة الثروة (وكذلك األشخاص الذين كانوا ميلكوهنا يف الثورات الشيوعية)‪ً ،‬‬
‫أن‪« :‬من األفضل أن يتذكر كل من يقدِّر املزيد من املساواة‬ ‫كبرية من العمال‪ ،‬مما نتج عنه زيادة أجور الناجني‪ .‬خيلُص شايدل إىل َّ‬
‫تأت دون أسى إال يف بعض االستثناءات النادرة للغاية‪ ،‬فاحذر ما تتمناه»‪.‬‬‫االقتصادية َّأهنا مل ِ‬

‫خطرا خلفض مستويات انعدام املساواة‪ ،‬فكما رأينا‬


‫ولكن احلداثة قد أنتجت طرقًا أقل ً‬
‫ينطبق حتذير شايدل على مدى التاريخ‪َّ ،‬‬
‫مثال فإن اقتصاد السوق هو الربنامج األفضل الذي نعرفه خلفض مستوى الفقر يف ٍ‬
‫دولة بأكملها‪ ،‬ولكنَّه ليس معدًّا لإلنفاق على األفراد‬ ‫ً‬
‫يف تلك الدولة ممن ليس لديهم ما يقدِّمونه يف املقابل مثل‪ :‬الصغار‪ ،‬واملسنني‪ ،‬واملرضى‪ ،‬وقليلي احلظ‪ ،‬واآلخرين الذين ال يتمتعون‬
‫فإن اقتصاد السوق يضاعف املتوسط‪ ،‬ولكننا هنتم‬ ‫دخال كرميًا يف املقابل‪( .‬وبعبارةٍ أخرى‪َّ ،‬‬
‫باملهارات والعمل القيِّم لآلخرين مبا حيقِّق هلم ً‬
‫أيضا بالتباين واملدى)‪ .‬مع توسع دائرة التعاطف لتتجاوز الفقراء (ومع رغبة الناس يف تأمني أنفسهم يف حالة إذا أصبحوا فقراء يف أي‬ ‫ً‬
‫خيصصون جزءًا من مواردهم اجلماعية ‪-‬أي األموال احلكومية‪ -‬للتخفيف من حدة ذلك الفقر‪ .‬ال بد أن تأيت تلك‬ ‫وقت)‪ ،‬أصبح الناس ِّ‬ ‫ٍ‬
‫مكان ما‪ ،‬رمبا تأيت من ضرائب على املبيعات أو على الشركات‪ ،‬أو من صناديق الثروة السيادية‪ ،‬ولكنَّها يف أغلب الدول تأيت‬ ‫املوارد من ٍ‬
‫من ضرائب الدخل املتدرجة‪ ،‬اليت يدفع وفقها املواطنون األغىن نسبة أعلى َّ‬
‫ألهنم ال يشعرون باخلسارة حبدة كاآلخرين‪ .‬النتيجة النهائية‬
‫ألن اهلدف هو رفع القاعدة وليس خفض القمة‪ ،‬حىت إذا اخنفضت القمة عمليًّا‪.‬‬ ‫ولكن هذا خطأ يف التسمية‪َّ ،‬‬
‫هي «إعادة التوزيع»‪َّ ،‬‬
‫أولئك الذين يدينون اجملتمعات الرأمسالية احلديثة بسبب قسوهتا على الفقراء ال يعون على األرجح مدى قلة ما كانت تنفقه‬
‫متاحا لإلنفاق على الفقراء أقل يف‬
‫مقدارا ً‬ ‫َّ‬
‫اجملتمعات قبل الرأمسالية يف املاضي على إغاثة الفقراء‪ ،‬مل يقتصر األمر على أهنم كانوا ميتلكون ً‬
‫كثريا‪ :‬إذ أنفقت الدول األوروبية من عصر النهضة حىت بداية القرن‬ ‫أيضا كانوا ينفقون نسبةً أقل من ثروهتم‪ ،‬نسبةً أقل ً‬ ‫املطلق‪ ،‬وإمنا ً‬
‫العشرين متوسط ‪ 1.5‬يف املئة من ناجتها احمللي اإلمجايل على إغاثة الفقراء والتعليم والتحويالت االجتماعية‪ ،‬ويف كث ٍري من الدول والفرتات‬
‫الزمنية‪ ،‬مل ينفقوا أي شيء على اإلطالق‪.‬‬
‫كبريا من‬
‫قسما ً‬‫ُتصص اآلن ً‬ ‫ومن األمثلة األخرى على التقدم‪ ،‬ما يُطلق عليه أحيانًا الثورة املساواتية‪ ،‬وهو َّ‬
‫أن اجملتمعات احلديثة ِّ‬
‫يوضح الشكل رقم ‪َّ 4-9‬‬
‫أن اإلنفاق االجتماعي قد بدأ يف منتصف القرن‬ ‫ثروهتا للصحة والتعليم ومعاشات التقاعد وإعانات الدخل‪ِّ .‬‬
‫العشرين (يف الواليات املتحدة بربنامج «الصفقة اجلديدة» يف الثالثينيات‪ ،‬ويف الدول املتقدمة األخرى مع هنوض «دولة الرفاه» بعد‬
‫احلرب العاملية الثانية)‪ ،‬وحيتل اإلنفاق االجتماعي اآلن متوسط ‪ 22‬يف املئة من الناتج احمللي اإلمجايل‪.‬‬

‫فرنسا‬

‫السويد‬ ‫إيطاليا‬
‫النسبة المئوية من الناتج المحلي اإلجمالي‬

‫ألمانيا‬
‫هولندا اليونان‬
‫المملكة المتحدة‬
‫أستراليا‬
‫كندا‬
‫الواليات‬
‫المتحدة‬
‫اليابان‬
‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 4 - 9‬ا إل ن ف ا ق ا ال ج ت م ا ع ي يف د ول م ن ظ م ة ا ل ت ع ا ون وا ل ت ن م ي ة يف ا مل ي د ا ن ا ال ق ت ص ا د ي‬
‫م ن ذ ‪ 1 8 8 0‬ح ىت ‪2 0 1 6‬‬
‫املصدر‪ ،Ortiz-Ospina & Roser 2016b ،Our World in Data :‬بناءً على بيانات من ‪ Lindert 2004‬ومنظمة التعاون والتنمية‬
‫مخسا وثالثني دولة دميقراطية تتبع‬
‫يف امليدان االقتصادي (‪ 1985 )OECD‬و‪ ،2014‬و‪ .2017‬تشمل منظمة التعاون والتنمية يف امليدان االقتصادي ً‬
‫نظام اقتصاد السوق‪.‬‬

‫أعاد انطالق اإلنفاق االجتماعي حتديد مهمة احلكومة‪ ،‬من القتال وحفظ األمن والنظام إىل الرعاية‪ ،‬وخضعت احلكومات هلذا‬
‫التحول ألسباب عدة‪ ،‬فاإلنفاق االجتماعي يلقِّح املواطنني ضد إغواء الشيوعية والفاشية‪ ،‬وبعض املنافع مثل التعليم العاملي والصحة‬
‫تؤمن املواطنني ضد األضرار اليت ال‬
‫عاما يستفيد منه اجلميع وليس املنتفعون املباشرون فحسب‪ .‬توجد برامج كثرية ِّ‬ ‫خريا ً‬
‫العامة متثِّل ً‬
‫يستطيعون أو ال يريدون تأمني أنفسهم ضدها (ومن هنا جاءت الكناية «شبكة األمان االجتماعي»)‪ ،‬وترضي مساعدة احملتاجني ضمري‬
‫اإلنسان املعاصر‪ ،‬الذي ال ميكنه حتمل فكرة أن تتجمد «بائعة الثقاب الصغرية»* حىت املوت‪ ،‬أو أن يُسجن جان فاجلان* ألنَّه سرق‬
‫*‬
‫اخلبز لينقذ أخته اجلائعة‪ ،‬أو أن يدفن جود جده على جانب الطريق رقم ‪.66‬‬
‫ماال إىل احلكومة مث يُرد إليهم (بعد اقتطاع حصة السلطة البريوقراطية)‪ ،‬فاإلنفاق االجتماعي‬
‫مبا أنَّه من غري املنطقي أن يرسل اجلميع ً‬
‫قدرا أكثر من املال‪ ،‬وهذا‬‫قدرا أقل من املال‪ ،‬على حساب األشخاص الذين ميتلكون ً‬ ‫ُمصمم بطريقة جتعله يساعد الناس الذين ميتلكون ً‬
‫هو املبدأ املعروف بإعادة التوزيع‪ ،‬أو دولة الرفاه أو الدميقراطية االجتماعية أو االشرتاكية (وهي تسمية مضللة َّ‬
‫ألن رأمسالية السوق احلر‬
‫مصمما بطريقة ُتفِّض مستوى انعدام املساواة أم ال‪ ،‬فهذا‬
‫ً‬ ‫تتوافق مع أي قدر من اإلنفاق االجتماعي)‪ .‬سواء أكان اإلنفاق االجتماعي‬
‫ويفسر زيادة النفقات االجتماعية منذ الثالثينيات حىت السبعينيات جزءًا من أسباب تراجع مؤشر جيين‪.‬‬ ‫أحد آثارها‪ِّ ،‬‬
‫جمددا يف الفصول الالحقة‪ .‬رغم أنَّين أخشى أي تصور للحتمية التارخيية‬
‫يظهر اإلنفاق االجتماعي جانبًا غريبًا من التقدم سنقابله ً‬
‫كأهنا بفعل قوة خارقة عنيدة‪ ،‬ومع‬ ‫فعال و َّ‬ ‫أو القوى الكونية أو «أقواس العدالة» الصوفية‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن بعض أنواع التغريات االجتماعية تبدو ً‬
‫استمرار هذه التغريات‪ ،‬تعارضها بعض الفصائل احملددة بقوة شديدة‪ ،‬ولكن يتضح أ َّن املقاومة عبثية‪ .‬واإلنفاق االجتماعي مثال على‬
‫ُتصص ‪ 19‬يف املئة من ناجتها احمللي اإلمجايل‬‫ذلك‪ ،‬تشتهر الواليات املتحدة مبقاومة أي شيء يُنذر بإعادة التوزيع‪ ،‬ومع ذلك فهي ِّ‬
‫أن اإلنفاق استمر يف الزيادة والتوسع‪ ،‬وأحدث هذه‬ ‫للخدمات االجتماعية‪ ،‬ورغم بذل احملافظني والتحرريني قصارى جهودهم‪َّ ،‬إال َّ‬
‫املسماة تيمنًا بأوباما الذي‬
‫التوسعات برنامج إعانة األدوية املوصوفة الذي طرحه جورج بوش االبن‪ ،‬وخطة التأمني الصحي «أوباما كري» َّ‬
‫طرحها‪.‬‬
‫كثريا من األمريكيني ُجيربون على دفع مقابل الرعاية‬
‫ألن ً‬‫إن اإلنفاق االجتماعي يف الواليات املتحدة بالتأكيد أعلى مما يبدو عليه‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫الصحية والتقاعد وإعانات العجز من خالل جهة عملهم وليس احلكومة‪ ،‬وعند إضافة هذا اإلنفاق االجتماعي ذي اإلدارة اخلاصة إىل‬
‫العام‪ ،‬تنتقل الواليات املتحدة من املرتبة الرابعة والعشرين إىل املرتبة الثانية من بني دول منظمة التعاون والتنمية يف امليدان االقتصادي‪،‬‬
‫بعد فرنسا‪.‬‬

‫*بائعة الثقاب الصغيرة )‪ (Little Match Girl‬قصة قصيرة من تأليف الكاتب الدانماركي هانس كريستيان أندرسن‪- .‬المترجمة‪.‬‬
‫*جان فالجان هو بطل رواية فيكتور هوجو الشهيرة «البؤساء»‪- .‬المترجمة‪.‬‬
‫*جود هو بطل رواية «عناقيد الغضب» )‪ (The Grapes of Wrath‬للكاتب األمريكي جون ستاينبيك‪- .‬المترجمة‪.‬‬
‫رغم كل احتجاجات الناس على احلكومة الضخمة والضرائب املرتفعة‪َّ ،‬إال َّأهنم حيبون اإلنفاق االجتماعي‪ ،‬فقد أُطلق على الضمان‬
‫ألن الساسة إذا اقرتبوا منه ماتوا‪ .‬قيل يف األساطري َّ‬
‫إن أحد الناخبني الغاضبني‬ ‫االجتماعي «القضيب الثالث» لقطار السياسة األمريكية‪َّ ،‬‬
‫(مشريا إىل برنامج احلكومة‬
‫ً‬ ‫قائال‪« :‬كفوا أيدي حكومتكم عن برنامج الرعاية الطبية»‬ ‫حذر ممثِّليه يف أحد اجتماعات جملس البلدية ً‬
‫ولكن كل هجماهتم‬
‫للتأمني الصحي لكبار السن)‪ .‬مبجرد مترير برنامج «أوباما كري»‪ ،‬جعل احلزب اجلمهوري إلغاءه قضيتهم املقدسة‪َّ ،‬‬
‫املشرعون اخلائفون من حنقهم‪.‬‬
‫عليه بعد احلصول على الرئاسة يف عام ‪ 2017‬صدها املواطنون الغاضبون يف اجتماعات جمالس البلدية و ِّ‬
‫إن أبرز نشاطني للتسلية يف كندا (بعد اهلوكي) مها الشكوى من نظام الرعاية الصحية والتفاخر بنظام الرعاية الصحية‪.‬‬‫َّ‬
‫قرن‪ ،‬على اإلنفاق االجتماعي‪ ،‬فإندونيسيا على سبيل املثال تنفق‬ ‫تبخل الدول النامية اليوم‪ ،‬كما كانت تفعل الدول املتقدمة منذ ٍ‬
‫عليه ‪ 2‬يف املئة من ناجتها احمللي اإلمجايل‪ ،‬وتنفق اهلند ‪ 2.5‬يف املئة‪ ،‬يف حني تنفق الصني ‪ 7‬يف املئة‪ ،‬ولكن كلَّما ازدادت الدول غىن‪،‬‬
‫ازدادت سخاءً‪ ،‬وهي ظاهرة امسها قانون فاجنر‪ .‬بني عامي ‪ 1985‬و‪ ،2012‬ضاعفت املكسيك نسبة إنفاقها االجتماعي خبمسة‬
‫أن قانون فاجنر ليس حكاية حتذيرية من تغطرس احلكومة وتضخم البريوقراطية‪،‬‬ ‫أضعاف‪ ،‬والنسبة يف الربازيل اآلن ‪ 16‬يف املئة‪ ،‬يبدو َّ‬
‫وإمنا تعبري عن التقدم‪ .‬وجد االقتصادي ليوناردو برادوس دي ال إسكوسورا صلةً قوية بني النسبة املئوية من الناتج احمللي اإلمجايل اليت‬‫َّ‬
‫خصصتها إحدى دول منظمة التعاون والتنمية يف امليدان االقتصادي للتحويالت االجتماعية بني عامي ‪ 1800‬و‪ 2000‬ونتيجتها‬
‫إن عدد الدول اليت تعيش يف جنة التحرريني يف العامل ‪-‬أي دول متقدمة دون إنفاق‬ ‫على مقياس مرَّكب للرخاء والصحة والتعليم‪َّ .‬‬
‫اجتماعي يُذكر‪ -‬صفر‪ ،‬وهلذا داللة بالطبع‪.‬‬
‫تظل الصلة بني اإلنفاق االجتماعي والرفاهة االجتماعية قوية حىت نقطة معينة‪ ،‬فيستقر املنحىن عند حوايل ‪ 25‬يف املئة وقد يهبط‬
‫خطرا أخالقيًّا» كأن‬
‫مع ارتفاع النسب‪ ،‬فاإلنفاق االجتماعي له جوانب سلبية مثل كل شيء آخر‪ ،‬إذ قد يصنع كل هذا التأمني « ً‬
‫أن أقساط التأمني جيب أن تغطي‬ ‫حبماقة‪ ،‬معتمدين على أن تنقذهم جهة التأمني إذا فشلوا‪ ،‬ومبا َّ‬ ‫ٍ‬ ‫املؤمن عليهم أو خياطروا‬
‫يرتاخى َّ‬
‫املدفوعات‪ ،‬فإذا أخطأ اخلرباء األكتواريون يف األرقام أو تغريت األرقام مبا يؤدي إىل دفع أموال أكثر من األقساط املدفوعة‪ ،‬فإن النظام‬
‫متاما‪َّ ،‬‬
‫وإمنا يكون مزجيًا من التأمني واالستثمار والصدقة‪ ،‬ومن مث‬ ‫ميكن أن ينهار‪ .‬ال يكون اإلنفاق االجتماعي يف الواقع مثل التأمني ً‬
‫يعتمد جناحه على مدى شعور املواطنني بكوهنم جزءًا من جمتم ٍع واحد‪ ،‬وميكن أن يتأزم هذا الشعور بالزمالة عندما يكون املنتفعون به‬
‫دائما حمل نزاع‬ ‫من املهاجرين أو األقليات العرقية بقد ٍر غري متناسب‪ِّ .‬‬
‫أصيال من اإلنفاق االجتماعي وستظل ً‬ ‫تشكل هذه التوترات جزءًا ً‬
‫أن منافع التحويالت االجتماعية تتجاوز تكاليفها‪،‬‬ ‫أن كل الدول املتقدمة قررت َّ‬‫سياسي‪ ،‬ورغم عدم االتفاق على «قد ٍر صحيح»‪َّ ،‬إال َّ‬
‫ٍ‬
‫بدرجة ما‪ ،‬مستند ًة إىل ثروهتا اهلائلة‪.‬‬ ‫واستقرت على قد ٍر كبري‬
‫لنكمل جولتنا يف تاريخ انعدام املساواة باالنتقال إىل اجلزء األخري من الشكل رقم ‪ ،3-9‬وهو ظهور انعدام املساواة يف الدول الثرية‪،‬‬
‫بأن احلياة قد أصبحت أسوأ للجميع عدا أغىن األغنياء‪ ،‬خيالف‬ ‫الذي بدأ يف حوايل العام ‪ .1980‬هذه هي التنمية اليت أوحت للناس َّ‬
‫ازن عند نقطة منخفضة‪ ،‬ومت تقدمي‬ ‫هذا االرتداد منحىن كوزنتس‪ ،‬الذي كان من املفرتض وفقه أن يستقر مستوى انعدام املساواة يف تو ٍ‬
‫تفسريات كثرية هلذه املفاجأة‪ .‬كانت القيود املفروضة يف زمن احلرب على التنافس االقتصادي متماسكة لدرجة َّأهنا جتاوزت زمن احلرب‬
‫أخريا‪ ،‬ممَّا منح األغنياء احلرية يف أن يزدادوا غىن من دخلهم من االستثمارات‪ ،‬وأن يفتحوا ساحة دينامية‬
‫العاملية الثانية‪ ،‬ولكنَّها تالشت ً‬
‫للتنافس االقتصادي حيصل فيها الفائز على كل األرباح‪ .‬وأبطأ التحول األيديولوجي املرتبط برونالد رجيان ومارجريت ثاتشر احلركة املتجهة‬
‫إنفاق اجتماعي أكرب ممول بضرائب مفروضة على األغنياء وأسهم يف تآكل األعراف االجتماعية املناهضة للرواتب الباهظة والثروة‬ ‫حنو ٍ‬
‫كثر راتبني كبريين‪ ،‬أصبح من احلتمي أن يزيد التباين يف‬ ‫الظاهرة للعيان‪ .‬ومع زيادة العزوبية والطالق‪ ،‬يف الوقت الذي جيين فيه أزواج ٌ‬
‫الدخل بني أسرةٍ وأخرى‪ ،‬حىت لو كانت الرواتب ظلَّت كما كانت‪ .‬أعادت «الثورة الصناعية الثانية» املدفوعة بالتكنولوجيا اإللكرتونية‬
‫طلب على املهنيني ذوي املهارات العالية‪ ،‬الذين ابتعدوا عن األشخاص ذوي املستوى التعليمي األقل‪،‬‬ ‫االرتفاع «الكوزنتسي» عرب خلق ٍ‬
‫يف نفس الوقت الذي قضت فيه األمتتة على الوظائف اليت تتطلب مستوى تعليميًا أقل‪ .‬أتاحت العوملة للعمال يف الصني واهلند وأماكن‬
‫نطاق عاملي‪ ،‬واهنزمت الشركات احمللية اليت مل ِ‬
‫تستطع استغالل‬ ‫أخرى أن يقدِّموا أسعارا أقل من نظرائهم األمريكيني يف سوق عمالة على ٍ‬
‫ً‬
‫فرص العمالة اخلارجية يف املنافسة على األسعار‪ .‬ويف الوقت نفسه‪ ،‬أصبح الناتج الفكري ألجنح احملللني ورواد األعمال واملستثمرين‬
‫سرح العامل يف شركة بونتياك بينما تصبح جي كي رولينج مليارديرة‪.‬‬‫متاحا بصورةٍ متزايدة يف سوق ضخمة عاملية‪ .‬يُ َّ‬
‫واملبدعني ً‬
‫عاما املاضية ‪-‬تراجع مستويات انعدام املساواة على مستوى‬
‫مجع ميالنوفيتش بني االجتاهني يف انعدام املساواة خالل الثالثني ً‬
‫يقسم «منحىن‬
‫فيل (الشكل رقم ‪ِّ .)5-9‬‬ ‫العامل‪ ،‬وارتفاع مستويات انعدام املساواة بني الدول الغنية‪ -‬يف رس ٍم بياين واحد على شكل ٍ‬
‫ويوضح بالرسم مقدار ما حقَّقته كل جمموعة‬
‫تقسيما كميًّا أو جمموعة عددية‪ ،‬من األفقر إىل األغىن‪ِّ ،‬‬
‫ً‬ ‫النمو» هذا سكان العامل إىل عشرين‬
‫دخل للفرد بني عامي ‪( 1988‬قبل سقوط جدار برلني مباشرةً) و‪( 2008‬قبل الكساد الكبري مباشرةً)‪.‬‬ ‫أو خسرته من ٍ‬
‫الزيادة التراكمية في الدخل الفعلي منذ ‪ 1988‬حتى ‪)%( 2008‬‬

‫الدرجة المئوية لتوزيع الدخل العالمي‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 5 - 9‬زي ا د ة ا ل د خ ل م ن ذ ‪ 1 9 8 8‬ح ىت ‪2 0 0 8‬‬


‫املصدر‪Milanović 2016, fig. 1.3. :‬‬

‫الفكرة املبتذلة عن العوملة هي َّأهنا تصنع راحبني وخاسرين‪ ،‬ويعرضهم املنحىن على شكل الفيل على هيئة «قمم» و«أودية»‪ ،‬وهو‬
‫أن الراحبني هم أغلب البشر‪ .‬يتكون الفيل (جسمه ورأسه)‪ ،‬الذي يشمل حوايل سبعة أعشار سكان العامل‪ ،‬من «الطبقة‬ ‫يكشف َّ‬
‫الوسطى العاملية الناشئة»‪ ،‬وهي باألساس يف آسيا‪ ،‬إذ شهدت على مدار هذه الفرتة زيادات تراكمية بنسبة ترتاوح بني ‪ 40‬و‪ 60‬يف‬
‫أيضا‬
‫املئة يف دخلها الفعلي‪ .‬ويتكون طرف خرطوم الفيل من أغىن سكان العامل الذين يشكلون نسبة ‪ 1‬يف املئة‪ ،‬والذين ارتفع دخلهم ً‬
‫أيضا‪ ،‬بينما‬
‫وتشكل نسبة ‪ 4‬يف املئة‪ ،‬فيُظهر أن هذه الفئة قد أبلت حسنًا ً‬ ‫تفاعا كبريا‪ ،‬أما بقية اخلرطوم الذي يشمل الفئة اليت تليهم ِّ‬
‫ار ً ً‬
‫وهم الطبقة الوسطى الدنيا من العامل الغين‪ ،‬اليت رحبت‬
‫نرى عند ثنية اخلرطوم عند حوايل الدرجة املئوية ‪« 85‬اخلاسرين» يف لعبة العوملة‪ُ :‬‬
‫أقل من ‪ 10‬يف املئة‪ ،‬وهي اليت تركز عليها املخاوف اجلديدة بشأن انعدام املساواة‪« :‬الطبقة الوسطى اجملوفة»‪ ،‬أنصار ترامب‪ ،‬األشخاص‬
‫الذين خلَّفتهم العوملة وراءها‪.‬‬
‫كون حديقة حيوان مجيلة مع‬ ‫فيل من قطيع ميالنوفيتش‪ ،‬ألنَّه ميثِّل تذكِرة واضحة بآثار العوملة (وهو يُ ِّ‬ ‫مل ِ‬
‫أستطع أن أقاوم رسم أبرز ٍ‬
‫يصور العامل كأنَّه أقل مساوا ًة مما هو عليه بالفعل‪ ،‬ويرجع هذا لسببني‪،‬‬
‫ولكن املنحىن ِّ‬‫اجلمل واجلمل وحيد السنام يف الشكل رقم ‪َّ .)3-8‬‬
‫يخ الحق هلذا الرسم البياين‪ ،‬موازنة العامل‪ .‬يشري‬ ‫األول هو أنَّه من اآلثار الغريبة لألزمة املالية يف عام ‪ ،2008‬اليت حدثت يف تار ٍ‬
‫كسادا يف دول مشال األطلسي‪ ،‬فنقص دخل أغىن سكان العامل الذين ِّ‬
‫يشكلون ‪ 1‬يف‬ ‫أن الكساد الكبري كان يف احلقيقة ً‬‫ميالنوفيتش َّ‬
‫كبريا (وتضاعف يف الصني)‪ ،‬وبعد ثالث سنوات من االزمة ما زلنا نرى هذا‬ ‫تفاعا ً‬
‫ولكن دخل العاملني يف أماكن أخرى ارتفع ار ً‬
‫املئة‪َّ ،‬‬
‫الضعف‪.‬‬‫قليال بينما َّقوس ظهره ألعلى مبقدار ِ‬‫الفيل‪ ،‬ولكنَّه قد خفض طرف خرطومه ً‬
‫كثريا من النقاشات عن انعدام املساواة‪ ،‬ما الذي نعنيه عندما نقول‬
‫يشوه شكل الفيل هو نقطة مفاهيمية تضلل ً‬
‫األمر اآلخر الذي ِّ‬
‫اجملهلة‪ ،‬أي تتبَّع‬
‫«اخلُمس األفقر» أو «الـ ‪ 1‬يف املئة األغىن»؟ تستخدم أغلب توزيعات الدخل ما يطلق عليه االقتصاديون البيانات َّ‬
‫عاما يف عام‬
‫إن ُعمر املواطن األمريكي املتوسط تراجع من ‪ً 30‬‬ ‫املدى اإلحصائي وليس األشخاص احلقيقيني‪ .‬لنفرتض أنين قلت لك َّ‬
‫خلطت‬
‫َ‬ ‫عاما يف ‪ ،1970‬لو كانت أول فكرة خطرت ببالك هي «ياللعجب! كيف أصبح هذا الرجل أصغر؟» فقد‬ ‫‪ 1950‬إىل ‪ً 28‬‬
‫أن «الـ ‪ 1‬يف املئة األغىن يف عام ‪ »2008‬كانت‬ ‫شخصا‪ .‬يرتكب القراء نفس املغالطة عندما يقرؤون َّ‬
‫ً‬ ‫بني أمرين‪ ،‬فاملتوسط مرتبة وليست‬
‫أن جمموعة من األشخاص األغنياء‬ ‫رواتبهم أعلى بنسبة ‪ 50‬يف املئة من رواتب «الـ ‪ 1‬يف املئة األغىن يف عام ‪ ،»1988‬ويستنتجون َّ‬
‫ازدادت غىن ثانيةً مبقدار النصف‪ .‬يدخل الناس شرائح الدخل املختلفة وخيرجون منها‪ ،‬ويتغري الرتتيب‪ ،‬لذا فإننا ال نتحدث بالضرورة عن‬
‫نفس األفراد‪ ،‬وينطبق األمر نفسه على «اخلُمس األفقر» وكل اجملموعات اإلحصائية األخرى‪.‬‬
‫ات زمنية‪ ،‬متاحة يف معظم الدول‪ ،‬لذا فعل ميالنوفيتش ثاين‬ ‫اجملهلة أو الطولية‪ ،‬اليت تتبَّع أشخاصا على فرت ٍ‬
‫ليست البيانات غري َّ‬
‫ً‬
‫مثال بني فقراء اهلند يف عام ‪ 1988‬بفقراء غانا‬ ‫أفضل شيء ميكنه فعله وتتبَّع تقسيمات كمية فردية يف ٍ‬
‫دول حمددة‪ ،‬كي ال تتم املقارنة ً‬
‫ألن الطبقات األفقر يف ٍ‬
‫دول‬ ‫تفاعا‪َّ ،‬‬
‫أيضا على نتيجة على شكل فيل‪ ،‬ولكنَّه كان بذيل وفخذ أكثر ار ً‬ ‫يف عام ‪ ،2008‬ومع ذلك حصل ً‬
‫الدنيا والوسطى يف الدول الفقرية‪ ،‬والطبقة العليا‬ ‫عديدة خرجت من الفقر املدقع‪ .‬يظل النمط كما هو ‪-‬أي َّ‬
‫أن العوملة أفادت الطبقتني ُ‬
‫ولكن االختالفات أقل حدة‪.‬‬
‫الدنيا يف الدول الغنية‪َّ -‬‬
‫يف الدول الغنية‪ ،‬أكثر مما أفادت الطبقة الوسطى ُ‬
‫واآلن بعد أن اطلعنا على تاريخ انعدام املساواة ورأينا القوى اليت حتركه‪ ،‬ميكننا تقييم االدعاء القائل بأَّن زيادة مستويات انعدام املساواة‬
‫أن مجيع من سواهم يف حالة‬ ‫أن األغنياء فقط ُهم من ازدهروا‪ ،‬يف حني َّ‬ ‫أن وضع العامل يزداد سوءًا‪ ،‬و َّ‬‫خالل العقود الثالث املاضية تعين َّ‬
‫ولكن االدعاء اخلاص بالفئات األخرى‬‫كود أو معاناة‪ .‬ازدهر األغنياء بالتأكيد أكثر من أي فئة أخرى‪ ،‬ورمبا أكثر مما كان ينبغي هلم‪َّ ،‬‬ ‫ر ٍ‬
‫حاال‪ ،‬وحتول اجلمل‬‫جملموعة من األسباب‪ ،‬أبرزها أنَّه خطأ بشأن العامل ككل‪ ،‬فأغلبية اجلنس البشري أصبحت أفضل ً‬ ‫ٍ‬ ‫كلها ليس دقي ًقا‪،‬‬
‫شديدا ورمبا‬
‫اخنفاضا ً‬
‫ً‬ ‫فيل حقيقي‪ ،‬ومعدل الفقر املدقع اخنفض‬ ‫سنام واحد‪ ،‬وحجم الفيل يساوي حجم ٍ‬ ‫مجل ذي ٍ‬ ‫ذو السنامني إىل ٍ‬
‫أن فقراء العامل قد ازدادوا غىن على حساب الطبقة الوسطى‬ ‫خيتفي‪ ،‬ومعامل انعدام املساواة العاملي وبني الدول يف تراج ٍع‪ .‬من الصحيح َّ‬
‫ولكن مبا أنَّنا مواطنون عامليون‬ ‫ألصرح علنًا َّ‬
‫بأن هذه املبادلة ال تستحق‪َّ ،‬‬ ‫كنت ِّ‬ ‫الدنيا األمريكية بقد ٍر ما‪ ،‬ولو ُ‬
‫كنت سياسيًّا أمريكيًّا‪ ،‬رمبا ُ‬ ‫ُ‬
‫إن هذه املبادلة تستحق‪.‬‬‫نفكر يف البشرية ككل‪ ،‬فعلينا أن أنقول َّ‬‫ِّ‬
‫الدنيا يف الدول الغنية‪ ،‬فإن زيادات الدخل املعتدلة ليست مماثلة للرتاجع يف مستويات‬
‫ولكن حىت يف الطبقة الدنيا والطبقة الوسطى ُ‬
‫املعيشة‪ .‬تقارن النقاشات احلالية النعدام املساواة غالبًا احلاضر بعص ٍر ذهيب كانت فيه وظائف العمالة اليدوية احملرتمة ذات األجور اجملزية‬
‫كل من‬‫اليت ألغتها األمتتة والعوملة‪ .‬تتوارى هذه الصورة الشاعرية خلف التصوير املعاصر لقسوة حياة الطبقة العاملة يف تلك احلقبة‪ ،‬يف ٍّ‬
‫«الفضائح» الصحافية مثل كتاب أمريكا األخرى )‪ (The Other America‬املنشور عام ‪ 1962‬ملايكل هارينجتون‬
‫)‪ ،(Michael Harrington‬واألفالم الواقعية مثل على ضفة النهر)‪ ،(On the Waterfront‬و الياقة الزرقاء ( ‪Blue‬‬
‫‪ ،)Collar‬و إبتة عامل المنجم )‪ ،(Coal Miner’s Daughter‬و نورما راي )‪ .(Norma Rae‬تواجه املؤرخة ستيفاين‬
‫كونتز )‪ ،(Stephanie Coontz‬اليت تكشف زيف احلنني إىل اخلمسينيات‪ ،‬هذه التصورات باألرقام‪:‬‬

‫كان ‪ 25‬يف املئة‪ ،‬أي ما بني ‪ 40‬و‪ 50‬مليون شخص‪ ،‬من األمريكيني فقراءَ يف منتصف اخلمسينيات‪ ،‬ويف ظل غياب‬
‫قسائم الطعام وبرامج اإلسكان‪ ،‬كان هذا الفقر قاسيًا جدًّا‪ ،‬وحىت يف هناية اخلمسينيات‪ ،‬كان ثُلث األطفال األمريكيني‬
‫كثريا‬ ‫ٍ‬
‫عاما أقل من ‪ 1000‬دوالر يف عام ‪ ،1958‬أي أقل ً‬ ‫فقراء‪ .‬كان دخل ستني يف املئة من األمريكيني األكرب من ‪ً 56‬‬
‫من املستوى الذي يُعد معبِّـًرا عن حالة الطبقة الوسطى وهو ما بني ‪ 3000‬و‪ 10000‬دوال ٍر‪ .‬ومل ي ُكن لدى أغلبية املسنني‬
‫صحي‪ ،‬ويف عام ‪ 1959‬مل ي ُكن لدى نصف السكان مدخرات‪ ،‬ومل ي ُكن لدى ربع السكان أي أصول سائلة‬ ‫ٌّ‬ ‫تأمني‬
‫أيضا ٌ‬‫ً‬
‫على اإلطالق‪ ،‬وحىت عندما ال نأخذ يف االعتبار سوى األسر أمريكية املولد ومن ذوي البشرة البيضاء‪ ،‬فلم ي ُكن ثُلثها‬
‫اعتمادا على دخل رب األسرة‪.‬‬
‫ً‬ ‫يستطيع تدبري أموره‬

‫كيف نوفِّق بني التحسن الواضح يف مستويات املعيشة يف العقود األخرية واحلكمة السائدة الناجتة عن الركود االقتصادي؟ يشري‬
‫االقتصاديون إىل أربع طرق ميكن أن ترسم اإلحصاءات عن املساواة هبا صورة مضللة للطريقة اليت يعيش هبا الناس حياهتم‪ ،‬وتعتمد كلٌّ‬
‫منها على تفاوت نظرنا فيه من قبل الفعل‪.‬‬
‫األوىل هي الفرق بني الرخاء النسيب واملطلق‪ ،‬فكما أنَّه ال ميكن أن يكون كل األطفال فوق املتوسط‪َّ ،‬‬
‫فإن احلصة اليت جينيها اخلُمس‬
‫األفقر من الدخل إذا مل تزداد مبرور الوقت‪ ،‬فإن هذا ال يُعد عالمةً على الركود‪ ،‬فاألمر املتصل بالرفاهة هو مقدار ما جينيه األشخاص‪،‬‬
‫بدال من التقسيمات‬
‫قسمت دراسة حديثة أجراها االقتصادي ستيفن روز الشعب األمريكي إىل فئات بنقاط ثابتة ً‬ ‫ال مدى ارتفاع مراتبهم‪َّ .‬‬
‫املكونة من ‪ 3‬أفراد اليت يرتاوح دخلها بني ‪ 0‬و‪ 30000‬دوالر (لعام ‪ ،)2014‬و«الطبقة الوسطى‬ ‫فعرف «الفقراء» باألسرة َّ‬ ‫الكمية‪َّ ،‬‬
‫أن األمريكيني يف اجتاهٍ صاعد مطلق‪ ،‬فبني عامي‬‫بدخل يرتاوح بني ‪ 30000‬و‪ 50000‬دوالر‪ ،‬وهكذا‪ .‬وجدت الدراسة َّ‬ ‫الدنيا» ٍ‬ ‫ُ‬
‫الدنيا من ‪ 24‬إىل‬
‫‪ 1979‬و‪ ،2014‬اخنفضت نسبة الفقراء من األمريكيني من ‪ 24‬إىل ‪ 20‬يف املئة‪ ،‬واخنفضت نسبة الطبقة الوسطى ُ‬
‫ٍ‬
‫(بدخل‬ ‫كثري منهم إىل الطبقة الوسطى العليا‬
‫‪ 17‬يف املئة‪ ،‬وانكمشت نسبة الطبقة الوسطى من ‪ 32‬إىل ‪ 30‬يف املئة‪ .‬أين ذهبوا؟ وصل ٌ‬
‫يرتاوح بني ‪ 100000‬و‪ 350000‬دوالر)‪ ،‬اليت ازدادت نسبتها من ‪ 13‬إىل ‪ 30‬يف املئة من السكان‪ ،‬وإىل الطبقة العليا اليت ازدادت‬
‫كثريا من األمريكيني يزدادون سعةً‪ ،‬وقد ازداد‬
‫أن ً‬ ‫نسبتها من ‪ 0.1‬إىل ‪ 2‬يف املئة‪ .‬يرجع كون الطبقة الوسطى أصبحت جموفة جزئيًّا إىل َّ‬
‫ولكن اجلميع (يف املتوسط) أصبح أغىن‪.‬‬
‫مستوى انعدام املساواة بال شك ‪-‬أي اغتىن األغنياء أسرع مما فعل الفقراء والطبقة الوسطى‪َّ -‬‬
‫أن اخلُمس األفقر من الشعب األمريكي مل حيرز أي تقدم خالل‬ ‫اجملهلة والطولية‪ ،‬لنفرتض َّ‬
‫واخللط الثاين هو احلاصل بني البيانات َّ‬
‫أن جو السباك حصل يف عام ‪ 2008‬على نفس الراتب الذي حصل عليه يف عام ‪( 1998‬أو أعلى منه‬ ‫عاما‪ ،‬ال يعين هذا َّ‬
‫عشرين ً‬
‫ماال أكثر مع كرب سنهم وزيادة خربهتم‪ ،‬أو ينتقلون من وظيفة ذات ر ٍ‬
‫اتب قليل إىل‬ ‫قليال‪ ،‬بسبب زيادة تكاليف املعيشة)‪ .‬جيين الناس ً‬‫ً‬
‫شاب‬
‫مثال‪ ،‬وأخذ مكانه يف اخلُمس األفقر ٌ‬ ‫اتب أعلى‪ ،‬لذا فرمبا يكون جو قد انتقل من اخلُمس األفقر إىل اخلُمس املتوسط ً‬ ‫وظيفة ذات ر ٍ‬
‫أن نصف‬ ‫قليال على اإلطالق‪ ،‬إذ أوضحت دراسة حديثة تستخدم البيانات الطولية َّ‬ ‫صغري أو شابة أو مهاجر‪ .‬ليس معدل الدوران ً‬
‫لعام واحد على األقل من حياهتم املهنية‪ ،‬وواحد من كل ‪ 9‬منهم‬ ‫األمريكيني جيدون أنفسهم ضمن العشر األعلى من أصحاب الدخل ٍ‬
‫ُ‬
‫طويال)‪ .‬رمبا يكون هذا أحد أسباب كون اآلراء االقتصادية‬‫أن معظمهم ال يظل يف هذا املكان ً‬ ‫نفسه يف الـ ‪ 1‬يف املئة األعلى (رغم َّ‬
‫أن مستوى معيشة‬ ‫ُتضع لفجوة التفاؤل (أي االحنياز املبين على االفرتاض التايل‪« :‬أنا خبري‪ ،‬أما ُهم فال»)‪ :‬تعتقد أغلبية األمريكيني َّ‬
‫حتسن‪.‬‬
‫ولكن مستوى معيشتهم قد َّ‬ ‫الطبقة الوسطى قد تراجع يف السنوات األخرية َّ‬
‫أن التحويالت االجتماعية قد خفَّفت‬ ‫الدنيا أسوأ هو َّ‬
‫أن زيادة مستويات انعدام املساواة مل جيعل حال الطبقات ُ‬ ‫والسبب الثالث يف َّ‬
‫كثريا وفق مبدأ إعادة التوزيع‪ ،‬فما زالت ضرائب الدخل‬ ‫َّ َّ‬
‫أزمة الدخل املنخفض‪ .‬رغم أيديولوجية الواليات املتحدة الفردانية‪ ،‬إال أهنا تعمل ً‬
‫وُتفِّف «دولة الرفاه اخلفية» مشكلة الدخل املنخفض مبا يشمل التأمني ضد البطالة‪ ،‬والضمان االجتماعي‪ ،‬والرعاية الطبية‬ ‫متدرجة‪ُ ،‬‬
‫(ميديكري وميديك إيد)‪ ،‬واملساعدة املؤقتة لألسر احملتاجة‪ ،‬وقسائم الطعام‪ ،‬وائتمان ضريبة الدخل املكتسب‪ ،‬وهي أحد أنواع ضرائب‬
‫أن أمريكا أصبحت‬ ‫الدخل السلبية اليت تعزز هبا احلكومة دخل أصحاب الدخل املنخفض‪ .‬إذا مجعت هذه األمور كلها سويًّا‪ ،‬ستجد َّ‬
‫أكثر مساواةً بقد ٍر كبري جدًّا‪ .‬كان مؤشر جيين لدخل السوق األمريكي يف عام ‪( 2013‬قبل الضرائب والتحويالت) ‪ 0.53‬وهو رقم‬
‫مرتفع‪ ،‬وللدخل املتاح لإلنفاق (بعد الضرائب والتحويالت) كان ‪ 0.38‬وهو رقم معتدل‪ .‬مل تبلغ الواليات املتحدة ما بلغته دول مثل‬
‫حبزم أكرب‪ ،‬فخفَّضتا مؤشر جيي إىل ‪ 0.2‬وهو رقم مرتفع‪،‬‬ ‫أملانيا وفنلندا‪ ،‬اللتان انطلقتا بتوزيع مشابه لدخل السوق ولكنَّهما تساويانه ٍ‬
‫متجاوزتني ارتفاع مستويات انعدام املساواة الذي انتشر يف مرحلة ما بعد الثمانينيات‪ .‬سواء كانت دولة الرفاه األوروبية الكرمية مستدامة‬
‫بشكل أو بآخر يف كل الدول املتقدمة‪ ،‬وهي تقلِّل‬‫ٍ‬ ‫على املدى البعيد وميكن نقلها إىل الواليات املتحدة أم ال‪َّ ،‬‬
‫فإن دولة الرفاه موجودة‬
‫مستوى انعدام املساواة حىت وهي خفية‪.‬‬
‫أيضا دخول غري‬
‫وإمنا أنعشت ً‬ ‫مل تقلِّل هذه التحويالت مستوى انعدام املساواة يف الدخل فحسب (وهو إجناز مشكوك فيه) َّ‬
‫األغنياء (وهو إجناز حقيقي)‪ .‬أظهر حتليل أجراه االقتصادي جاري بورتليس َّ‬
‫أن الدخل املتاح لإلنفاق ألفقر أربعة تقسيمات للدخل منى‬
‫كثريا‪ -‬من الكساد‬
‫بني عامي ‪ 1979‬و‪ 2010‬بنسبة ‪ 49‬و‪ 37‬و‪ 36‬و‪ 45‬باملئة على التوايل‪ ،‬وكان هذا قبل التعايف ‪-‬الذي تأخر ً‬
‫تفاعا غري مسبوق‪،‬‬
‫الكبري‪ ،‬فبني عامي ‪ 2014‬و‪ ،2016‬قفزت األجور املتوسطة وارتفعت ار ً‬
‫عرب كلٌّ من اليسار واليمني عن نظرهتما التشاؤمية لربامج مكافحة الفقر‪،‬‬
‫واألكثر أمهية ما حدث يف قاعدة هذا املقياس‪ .‬لطاملا َّ‬
‫ولكن الفقر‬
‫كما قال رونالد رجيان يف مزحته الشهرية‪« :‬منذ بضع سنوات‪ ،‬أعلنت احلكومة الفيدرالية احلرب على الفقر‪ ،‬وانتصر الفقر»‪َّ ،‬‬
‫يف الواقع مهزوم‪ .‬أجرى عامل االجتماع كريستوفر جينكس حسابات تشري إىل أنَّه عند مجع إعانات دولة الرفاه اخلفية‪ ،‬وعند تقدير تكلفة‬
‫أن معدل الفقر قد اخنفض خالل اخلمسني‬ ‫حتسن جودة السلع االستهالكية وهبوط أسعارها‪ ،‬جند َّ‬ ‫املعيشة بطر ٍ‬
‫يقة تضع يف حساباهتا ُّ‬
‫وتوصلت ثالثة حتليالت أخرى إىل‬ ‫عاما املاضية مبقدار أكثر من ثالثة أرباع‪ ،‬وكان ثابتًا يف عام ‪ 2013‬عند نسبة ‪ 4.8‬يف املئة‪َّ .‬‬ ‫ً‬
‫ويوضح اخلط العلوي يف الشكل رقم ‪ 6-9‬بيانات أحد هذه التحليالت الذي أجراه االقتصاديان بروس ماير وجيمس‬ ‫االستنتاج نفسه‪ِّ ،‬‬
‫سوليفان‪ .‬ركد التقدم يف فرتة الكساد الكبري‪ ،‬ولكنَّه اسرتد عافيته يف عامي ‪ 2015‬و‪( 2016‬ومها غري موضحتني يف الرسم البياين)‪،‬‬
‫تفعا وشهد معدل الفقر أكرب اخنفاض له منذ عام ‪ .1999‬وحدث إجناز آخر ال يتغىن‬ ‫رقما قياسيًّا مر ً‬
‫عندما حقق دخل الطبقة الوسطى ً‬
‫املشردين دون مأوى‪ -‬اخنفضت بني عامي ‪ 2007‬و‪ 2015‬مبقدار الثُلث تقريبًا رغم الكساد‬ ‫أن نسبة أفقر الفقراء ‪-‬أي َّ‬ ‫به أحد‪ ،‬وهو َّ‬
‫الكبري‪.‬‬
‫النسبة المئوية للفقراء‬

‫الدخل المتاح لإلنفاق‬

‫االستهالك‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 6 - 9‬ا ل ف ق ر وا ل د خ ل ا مل ن خ ف ض يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة م ن ذ ‪ 1 9 6 0‬ح ىت ‪2 0 1 4‬‬


‫املصدر‪ ،Meyer & Sullivan 2012 :‬البيانات اإلضافية لألعوام من ‪ 2010‬إىل ‪ 2014‬مقدمة من بروس ماير‪« .‬الدخل املتاح لإلنفاق يف املستوى‬
‫العاشر األقل» هو الدرجة املئوية العاشرة من «الدخل بعد اقتطاع الضرائب إضافةً إىل اإلعانات غري النقدية» (مثل قسائم الطعام والوجبات املدرسية واإلعانات‬
‫السكنية)‪ ،‬معدَّل ملراعاة التضخم باستخدام سلسلة األحباث عن مؤشر أسعار املستهلك يف املناطق احلضرية (‪ ،)CPI-U-RS‬وميثِّل أسرة تتكون من‬
‫فردين بالغني وطفلني‪ .‬يشري «االستهالك» إىل «استهالك األسرة املقيس بدقة»‪ ،‬ويشمل الغذاء الذي يتناولونه يف املنزل‪ ،‬واإلجيار أو ما يعادله‪ ،‬ونفقات السيارة‬
‫أو املواصالت‪ .‬أما «الفقر» فهو يطابق تعريف مكتب تعداد الواليات املتحدة له لعام ‪ ،1980‬معدَّل ملراعاة التضخم‪ .‬للمزيد من التفاصيل‪ ،‬انظر ‪Meyer‬‬
‫‪.& Sullivan 2016‬‬

‫ويسلِّط اخلط السفلي يف الشكل رقم ‪ 6-9‬الطريقة الرابعة اليت تقلل هبا املقاييس اليت تقيس مستوى انعدام املساواة من قدر التقدم‬
‫الدنيا والوسطى يف الدول الغنية‪ .‬الدخل هو جمرد وسيلة لغاية‪ ،‬أي طريقة للدفع مقابل األغراض اليت حيتاج إليها‬ ‫الذي حققته الطبقتان ُ‬
‫بدال‬
‫الناس أو يريدوهنا أو حيبوهنا‪ ،‬أو ما يطلق عليه االقتصاديون «االستهالك»‪ .‬عندما يتم تعريف الفقر حسب ما يستهلكه األشخاص ً‬
‫أن معدل الفقر األمريكي قد تراجع بنسبة تسعني يف املئة منذ عام ‪ ،1960‬أي من ‪ 30‬يف املئة من السكان إىل ‪ 3‬يف‬ ‫مما جينونه‪ ،‬جند َّ‬
‫املئة منهم فقط‪ .‬والقوتان اللتان تسببتا يف زيادة مستوى انعدام املساواة يف الدخل قد تسببتا يف الوقت نفسه يف خفض مستوى انعدام‬
‫املساواة يف األمور املهمة‪ ،‬األوىل هي العوملة‪ ،‬اليت رمبا تصنع راحبني وخاسرين يف الدخل‪ ،‬ولكنَّها جتعل اجلميع تقريبًا راحبًا يف االستهالك‪،‬‬
‫سلعا كانت تُعد ساب ًقا رفاهيات لألغنياء فقط‪( .‬يف عام‬ ‫فاملصانع اآلسيوية وسفن احلاويات وجتارة التجزئة الفعالة جتلب إىل اجلماهري ً‬
‫أن متجر وول مارت قد وفَّر على األسرة األمريكية النموذجية ‪ 2300‬دوالر يف السنة)‪ .‬القوة‬ ‫‪ ،2005‬قدَّر االقتصادي جيسون فورمان َّ‬
‫الثانية هي التكنولوجيا‪ ،‬اليت تواصل إحداث ثورة يف معىن الدخل (كما رأينا يف النقاش حول مفارقة القيمة يف الفصل الثامن)‪ ،‬فالدوالر‬
‫حتسن جودة احلياة أكثر مما كان يستطيع الدوالر الواحد أمس شراءه‪،‬‬ ‫ض ِّ‬‫الواحد اليوم‪ ،‬مهما عدَّلناه ملراعاة التضخم‪ ،‬يستطيع شراء أغرا ٍ‬
‫فهو يشرتي أشياءَ مل ت ُكن موجودة من قبل‪ ،‬مثل التربيد والكهرباء واملراحيض واللقاحات واهلواتف ووسائل منع احلمل والسفر عرب اجلو‪،‬‬
‫ويغري األمور املوجودة بالفعل‪ ،‬مثل حتويل خطوط اهلاتف العمومية املشرتكة اليت يصلها عامل حتويل املكاملات بعضها ببعض إىل هاتف‬ ‫ِّ‬
‫ذكي ميكن استخدامه يف التحدث مع اآلخرين دون حدود زمنية‪.‬‬
‫فقريا‪ ،‬على األقل يف الدول املتقدمة‪ ،‬كانت الصورة النمطية القدمية عن الفقر‬
‫غريت العوملة والتكنولوجيا سويًّا معىن أن يكون املرء ً‬
‫َّ‬
‫صعلوك هزيل يرتدي خرقًا بالية‪ ،‬أما اآلن فمن املمكن أن يكون الفقراء زائدي الوزن مثل رؤسائهم يف العمل‪ ،‬ويرتدون نفس‬ ‫ٍ‬ ‫تتمثَّل يف‬
‫املالبس الصوفية واحلذاء الرياضي وسروال اجلينز‪ .‬كان يُطلق على الفقراء «من ال ميلكون شيئًا‪ ،‬يف حني كان أكثر من ‪ 95‬يف املئة من‬
‫األسر األمريكية اليت تقع حتت خط الفقر يف عام ‪ 2011‬متتلك الكهرباء واملياه واملراحيض املزودة بنظام الشطف وثالجة وموقد‬
‫قرن ونصف‬ ‫أي من هذه األشياء منذ ٍ‬ ‫(بوتاجاز) وتليفزيونًا ملونًا‪( .‬مل ي ُكن لدى أي من عائالت روثتشايلد وال أستور وال فاندربيلت ٌّ‬
‫القرن)‪ .‬كان لدى نصف األسر اليت تقع حتت خط الفقر تقريبًا غسالة أطباق‪ ،‬ولدى ‪ 60‬يف املئة منهم حاسب آيل‪ ،‬ولدى حوايل‬
‫الثلثني منهم غسالة مالبس وجمفف مالبس‪ ،‬ولدى أكثر من ‪ 80‬يف املئة منهم مكيِّف هواء وجهاز تسجيل الفيديو وهاتف خلوي‪ .‬يف‬
‫نشأت فيه‪ ،‬كانت الفئات «املقتدرة» من الطبقة الوسطى ال متتلك سوى بعض هذه األشياء أو‬ ‫ُ‬ ‫عصر املساواة االقتصادية الذهيب الذي‬
‫ٍ‬
‫تصاعد لدى اجلميع‪،‬‬ ‫ال متتلك أيًّا منها مطل ًقا‪ .‬نتيجةً لذلك‪َّ ،‬‬
‫فإن املوارد األمثن من أي شيء ‪-‬أي الوقت واحلرية والتجارب القيِّمة‪ -‬يف‬
‫وهو موضوع سننظر فيه يف الفصل السابع عشر‪.‬‬
‫ولكن حياهتم مل تصبح أفضل هلذه الدرجة‪ ،‬فرمبا ميتلك وارن بافيت مكيِّفات هواء أكثر أو أفضل من معظم‬ ‫ازداد األغنياء غىن‪َّ ،‬‬
‫فإن كون أغلبية األمريكيني الفقراء لديهم مكيِّفات هواء من األساس هي حقيقة مذهلة‪ .‬عند حساب‬ ‫الناس‪ ،‬ولكن وفق املعايري التارخيية‪َّ ،‬‬
‫مسطحا أو مستويًا‪ .‬وتراجع يف احلقيقة مستوى انعدام املساواة يف السعادة املعلنة‬
‫ً‬ ‫ظل‬
‫بدال من الدخل‪ ،‬جنده قد َّ‬
‫مؤشر جيين لالستهالك ً‬
‫عرب التقرير الذايت بني الشعب األمريكي‪ ،‬ورغم أنَّين أجد االحتفاء برتاجع أرقام مؤشر جيين اخلاصة باحلياة والصحة والتعليم َّ‬
‫(كأن قتل‬
‫حتسنت‬
‫بغيضا ورمبا حىت غريبًا‪ ،‬ولكنَّها تراجعت يف الواقع ألسباب جيدة‪ ،‬إذ َّ‬
‫أمرا ً‬
‫األصحاء وطرد األذكياء من املدارس قد يفيد البشرية) ً‬
‫حياة الفقراء أسرع ممَّا فعلت حياة األغنياء‪.‬‬
‫إن اإلقرار بأن حياة الطبقات الدنيا والوسطى يف الدول املتقدمة قد حتسنت يف العقود األخرية ال يعين إنكار املشكالت اجلسيمة اليت‬
‫لكن معدل زيادته بطيء‪ ،‬وقد يؤدي نقص طلب‬ ‫تواجهها اقتصادات القرن احلادي والعشرين‪ ،‬ومع أن الدخل املتاح لإلنفاق زاد َّ‬
‫قطاع واحد من السكان (أي األمريكيني البيض يف‬‫املستهلك الناتج عن ذلك إىل تراجع االقتصاد ككل‪ .‬إن الصعوبات اليت يواجهها ٌ‬
‫منتصف العمر ذوي املستوى التعليمي األقل الذين يسكنون املناطق غري احلضرية) حقيقية ومأساوية وتتجلى يف ارتفاع معدالت تناول‬
‫جرعة زائدة من املخدرات (الفصل الثاين عشر) واالنتحار (الفصل الثامن عشر)‪ .‬يهدد التقدم يف علم الروبوت بإلغاء ماليني الوظائف‬
‫شيوعا يف معظم الواليات ورمبا تُسرحهم السيارات ذاتية القيادة من‬
‫اإلضافية‪ ،‬فعلى سبيل املثال يشغل سائقو الشاحنات املهنة األكثر ً‬
‫وصناع العجالت اخلشبية وعمال حتويل املكاملات‪ .‬وال يستطيع التعليم‪ ،‬وهو أحد احملركات‬ ‫عملهم مثلما حدث مع الكتاب العموميني ُ‬
‫كبريا (خبالف كل السلع‬
‫تفاعا ً‬
‫األساسية للحراك االقتصادي‪ ،‬مواكبة متطلبات االقتصادات احلديثة‪ :‬فقد ارتفعت تكلفة التعليم اجلامعي ار ً‬
‫األخرى تقريبًا)‪ ،‬وتدىن مستوى التعليم االبتدائي والثانوي يف األحياء األمريكية الفقرية بشكل غري معقول‪ .‬وتعترب جوانب عديدة من‬
‫ضررا هو أن االنطباع عن االقتصاد احلديث‪،‬‬‫كثريا من النفوذ السياسي‪ .‬ورمبا يكون األمر األكثر ً‬
‫النظام الضرييب رجعية‪ ،‬ويشرتي املال ً‬
‫بأنَّه قد أضر مبعظم الناس‪ ،‬يشجع على انتهاج سياسيت إفقار اجلار وحتطيم اآلالت مما جيعل اجلميع يف وض ٍع أسوأ‪.‬‬
‫كيز‬
‫فإن الرتكيز على انعدام املساواة يف الدخل واحلنني إىل الضغط الكبري الذي حدث يف منتصف القرن العشرين هو تر ٌ‬ ‫ومع ذلك َّ‬
‫ظل كلٌّ من مؤشر جيين وحصة ذوي الدخل األعلى مرتفعني‪ ،‬وهو ما‬ ‫يف غري حمله‪ .‬ميكن أن يستمر العامل احلديث يف التحسن حىت إذا َّ‬
‫بدال من بريوس‪ ،‬ولن يتم‬
‫قد حيدث ألن القوى اليت أدت الرتفاعهما لن تزول‪ .‬ال ميكن إجبار األمريكيني على شراء سيارات بونتياك ً‬
‫إبعاد كتب هاري بوتر عن متناول أطفال العامل جملرد َّأهنم جيعلون جي كي رولينج مليارديرة‪ .‬ومن غري املنطقي أن جنعل عشرات املاليني‬
‫من األمريكيني الفقراء يدفعون أكثر يف مقابل املالبس من أجل إنقاذ عشرات اآلالف من الوظائف يف صناعة املالبس‪ ،‬وليس من‬
‫ٍ‬
‫بفعالية أكرب فقط من أجل تقدمي‬ ‫أشخاصا يقومون بوظائف مملة وخطرية ميكن أن تنفذها اآلالت‬ ‫املنطقي على املدى البعيد أن جنعل‬
‫ً‬
‫عمل جم ٍز هلم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بدال من حماربة انعدام املساواة يف حد ذاته‪ ،‬رمبا يكون من األجدى أن نستهدف املشكالت احملددة املصاحبة له‪ .‬من األولويات‬ ‫ً‬
‫الواضحة تعزيز معدل النمو االقتصادي‪ ،‬مبا أنَّه سيزيد حصة اجلميع من الكعكة ويوفِّر كمية أكرب من الكعك الذي ميكن إعادة توزيعه‪.‬‬
‫ايدا يف كال األمرين‪ ،‬فهي مؤهلة بصورةٍ‬
‫دورا متز ً‬ ‫مسح لدول العامل‪ ،‬إىل َّ‬
‫أن احلكومات تلعب ً‬ ‫تشري اجتاهات القرن املاضي‪ ،‬إضافةً إىل ٍ‬
‫فريدة لالستثمار يف التعليم واألحباث األساسية والبنية التحتية وضمان املخصصات للصحة وللتقاعد (ُتليص الشركات األمريكية من‬
‫األعباء املحبطة املتمثلة يف تقدمي خدمات اجتماعية)‪ ،‬ودعم الدخول لتصل إىل مستوى أعلى من أسعار السوق‪ ،‬اليت قد ترتاجع أكثر‬
‫ُ‬
‫ملاليني الناس مع زيادة الثروة اإلمجالية‪.‬‬
‫إنفاق اجتماعي أكرب توفري دخل أساسي عاملي (أو ابنة عمه‪ :‬ضريبة الدخل‬ ‫رمبا تكون اخلطوة التالية يف االجتاه التارخيي حنو ٍ‬
‫عقود‪ ،‬ورمبا تكون يف طريقها إىل التطبيق‪ ،‬ورغم نزعتها االشرتاكية‪َّ ،‬إال َّأهنا حصلت على تأييد اقتصاديني‬‫السلبية)‪ ،‬أشيعت الفكرة منذ ٍ‬
‫(مثل ميلتون فريدمان) وساسة (مثل ريتشارد نيكسون) وواليات (مثل أالسكا) يرتبطون باليمني السياسي‪ ،‬ويقلِّب حملِّلون كثر اليوم من‬
‫أن تطبيق الدخل األساسي العاملي أبعد ما يكون عن البساطة والسهولة (فيجب‬ ‫خمتلف األطياف السياسية هذه الفكرة يف رؤوسهم‪ .‬رغم َّ‬
‫أن تكون األعداد منطقية ومتوافقة‪ ،‬وجيب تأمني احلوافز للتعليم والعمل واملخاطرة)‪َّ ،‬إال أنَّه ال ميكن جتاهل ما يبشِّر به‪ ،‬فقد ُحيدث ثورة‬
‫حيول كارثة إحالل الروبوتات حمل العمال اليت حتدث بالتصوير البطيء إىل‬ ‫يف اخلليط غري املتناسق املتمثِّل يف دولة الرفاه اخلفية‪ ،‬وقد ِّ‬
‫ٍ‬
‫إنتاجية‬ ‫كثريا من الوظائف اليت ستتوالها الروبوتات هي وظائف ال يستمتع الناس بأدائها‪ ،‬وقد يكون الربح الناتج من‬ ‫«قرن الوفرة»‪َّ *.‬‬
‫إن ً‬
‫أمان ورفاهية نعمةً للبشرية طاملا شاركه البشر على ٍ‬
‫نطاق واسع‪َّ .‬‬
‫إن شبح غياب املعايري االجتماعية وفقدان املعىن واجلدوى مبالغ فيه‬ ‫و ٍ‬
‫ٍ‬
‫بوظائف عامة ال تدعمها األسواق وال تستطيع‬ ‫جربت الدخل املضمون)‪ ،‬وميكن مواجهته‬
‫على األرجح (وف ًقا لدراسات على املناطق اليت َّ‬
‫الروبوتات أداءها‪ ،‬أو ٍ‬
‫بفرص جديدة يف وظائف تطوع جمدية وأشكال أخرى من اإليثار الفعال‪ .‬رمبا يكون األثر النهائي هو تقليل مستوى‬
‫أثرا جانبيًّا لرفع مستوى معيشة اجلميع‪ ،‬وال سيما الضعفاء من الناحية االقتصادية‪.‬‬
‫ولكن هذا سيكون ً‬
‫انعدام املساواة‪َّ ،‬‬
‫معاكسا لتقدم البشر‪ ،‬وحنن ال نعيش يف ديستوبيا ينهار فيها الدخل وتعكس ما‬ ‫ً‬ ‫مثاال‬
‫أن انعدام املساواة يف الدخل ليس ً‬ ‫خالصة القول َّ‬
‫حتقق من زيادة الرخاء يف القرون الطويلة املاضية‪ ،‬وال يدعو إىل حتطيم الروبوتات‪ ،‬أو رفع اجلسر املتحرك كي يسقط األعداء‪ ،‬وال حتويل‬
‫موضوع معقد‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫النظام إىل االشرتاكية‪ ،‬وال إعادة زمن اخلمسينيات‪ .‬دعين أخلِّص قصيت املعقدة حول‬
‫عدا أساسيًّا من أبعاد ازدهار البشرية‪ ،‬وباملقارنة بني خمتلف الدول يف الرفاهة‪ ،‬جنده‬ ‫َّ‬
‫إن انعدام املساواة ال يعين الفقر‪ ،‬وهو ليس بُ ً‬
‫أمرا سيئًا بالضرورة‪ ،‬فمع هروب اجملتمعات من الفقر‬
‫باهتًا وأقل أمهية يف مقابل الثروة اإلمجالية‪ .‬ليست زيادة مستويات انعدام املساواة ً‬
‫مصدرا‬
‫ً‬ ‫يتكرر هذا االندفاع املتفاوت عندما يكتشف أحد اجملتمعات‬
‫العاملي‪ ،‬فإن من احلتمي أن يزداد مستوى انعدام املساواة فيها‪ ،‬ورمبا َّ‬
‫جيدا‪ ،‬فالعوامل األكثر فعالية يف تسوية التفاوتات االقتصادية‬
‫أمرا ً‬
‫دائما ً‬ ‫جديدا للثروة‪ .‬كما َّ‬
‫أن زيادة مستويات انعدام املساواة ال تُعد ً‬ ‫ً‬
‫هي االوبئة واحلروب الكربى والثورات العنيفة واهنيار الدول‪.‬‬
‫هائال من‬
‫مقدارا ً‬ ‫َّ‬ ‫رغم كل ذلك‪َّ ،‬‬
‫فإن االجتاه املستمر يف التاريخ منذ التنوير هو زيادة ثروات اجلميع‪ ،‬وقد ولدت اجملتمعات احلديثة ً‬
‫حاال‪.‬‬
‫الثروة‪ ،‬وإضافةً إىل ذلك‪ ،‬كَّرست حصةً متزايدة من تلك الثروة إلعانة األسوأ ً‬
‫أن العوملة والتكنولوجيا قد أخرجت مليارات الناس من دائرة الفقر وصنعت طبقة وسطى عاملية‪ ،‬فقد تناقصت مستويات‬ ‫وكما َّ‬
‫انعدام املساواة الدولية والعاملية‪ ،‬يف الوقت الذي أغنتا فيه النخبة اليت يصل أثرها التحليلي أو اإلبداعي أو املايل إىل العامل كله‪ .‬مل يتحسن‬
‫حتسن‪ ،‬ويرجع هذا غالبًا إىل ارتقاء أفرادها إىل الطبقات العليا‪ ،‬وتتعزز هذه‬
‫الدنيا يف الدول املتقدمة بنفس القدر‪ ،‬ولكنَّه َّ‬ ‫حظ الطبقات ُ‬
‫التحسينات بفعل اإلنفاق االجتماعي‪ ،‬وهبوط األسعار وزيادة جودة األشياء اليت يريدها الناس‪ .‬أصبح العامل بطر ٍ‬
‫يقة أو بأخرى أقل‬
‫حاال ٍ‬
‫بطرق أكثر‪.‬‬ ‫ولكن سكان العامل أصبحوا أفضل ً‬ ‫مساواةً‪َّ ،‬‬

‫*هو رمز من األساطير القديمة على الوفرة والغذاء‪- .‬المترجمة‪.‬‬


‫الفصل العاشر‪:‬‬
‫البيئة‬

‫أن هذه األمور ال ميكن أن تستمر‪،‬‬‫ولكن هل التقدم مستدام؟ من الردود الشائعة على األخبار السعيدة عن الصحة والثروة واملعيشة َّ‬
‫فنحن نكتسح العامل بأعدادنا الغفرية‪ ،‬ونبالغ يف جترع نَِعم األرض متغافلني عن حمدوديتها‪ ،‬ونُفسد أعشاشنا بالتلوث والنفايات‪ِّ ،‬‬
‫ونعجل‬
‫بيوم احلساب «البيئي»‪ ،‬وإذا مل ِ‬
‫تقض علينا الزيادة السكانية واستنزاف املوارد والتلوث‪ ،‬سيقضي علينا التغري املناخي‪.‬‬
‫أن املشكالت اليت تواجهنا صغرية‪ ،‬ولكنَّين سأعرض طريقة‬ ‫أن كل االجتاهات إجيابية أو َّ‬
‫ولن َّأدعي كما يف فصل انعدام املساواة َّ‬
‫تشجع عليها‪ .‬الفكرة‬
‫بديال بنَّاءً عن الراديكالية أو اجلربية اليت ِّ‬
‫تفكري يف هذه املشكالت ُتتلف عن احلكمة السائدة الكئيبة وتقدِّم ً‬
‫أن املشكالت البيئية قابلة للحل مثل أي مشكالت أخرى بشرط توفر املعرفة املناسبة‪.‬‬ ‫الرئيسية هي َّ‬
‫ال ميكن بالتأكيد التسليم بفكرة وجود مشاكل بيئية بالفعل‪ ،‬فمن وجهة نظر الفرد‪ ،‬تبدو األرض غري حمدودة ويبدو أثرنا فيها غري‬
‫وتسمم‬
‫خببث ِّ‬ ‫تسممنا ٍ‬ ‫امللوثات اليت ِّ‬
‫مهم وال يُذكر‪ ،‬ومن وجهات نظر العلم‪ ،‬فالرؤية أكثر إقالقًا‪ .‬وتكشف وجهة النظر الدقيقة عن ِّ‬
‫أنواع الكائنات اليت حنبها ونعتمد عليها‪ ،‬وتكشف وجهة النظر العيانية عن آثا ٍر على النظم البيئية رمبا تكون غري ملحوظة عند إجراء‬
‫دمارا مأساويًّا‪ .‬بدءًا منذ ستينيات القرن املاضي‪ ،‬نشأت احلركة البيئية من رحم املعرفة العلمية‬ ‫ِ‬ ‫كل ٍ‬
‫فعل على حدة‪ ،‬ولكنَّها ترتاكم لتُحدث ً‬
‫(من اإليكولوجيا والصحة العامة وعلوم األرض والغالف اجلوي) والتبجيل الرومانسي للطبيعة‪ ،‬وجعلت هذه احلركة صحة الكوكب أولويةً‬
‫ات مهمة وكبرية‪ ،‬وهذا أحد األشكال األخرى لتقدم‬ ‫دائمةً على جدول أعمال البشرية‪ ،‬وكما سنرى‪ ،‬فهي تستحق الثناء على إجناز ٍ‬
‫البشرية‪.‬‬
‫طموح‬
‫ٌ‬ ‫بأن تقدم البشر‬‫كثريا من األصوات يف احلركة البيئية التقليدية ترفض االعرتاف بذلك التقدم‪ ،‬أو حىت َّ‬
‫أن ً‬ ‫من سخرية القدر َّ‬
‫مفهوما أجدد للنزعة البيئية‪ ،‬يتشارك يف هدف محاية اهلواء واملاء وأنواع الكائنات والنظم البيئية ولكنه‬
‫ً‬ ‫وجيه‪ .‬سأعرض يف هذا الفصل‬
‫يستند إىل التفاؤل التنويري وليس إىل نزعة الرتاجع الرومانسية‪.‬‬

‫بدءًا منذ السبعينيات‪ ،‬تعلقت احلركة البيئية السائدة بأيديولوجية شبه دينية‪ ،‬وهي املذهب األخضر‪ ،‬الذي جنده يف بيانات نشطاء خمتلفني‬
‫مفجر اجلامعات والطائرات»‪ ،‬والبابا فرانسيس‪ .‬تنطلق األيديولوجية اخلضراء من صورةٍ لألرض الربيئة البكر‬
‫ومتنوعني مثل آل جور‪ ،‬و« ِّ‬
‫اليت دنَّستها ضراوة البشر‪ ،‬وكما قال فرانسيس يف رسالته البابوية ‪ُ ( Laudato Si‬كن ُم َسبَّ ًحا) يف عام ‪َّ « :2015‬‬
‫إن بيتنا املشرتك‬
‫كأخت نشاركها حياتنا‪ ..‬ولكنها تصرخ بسبب األذى الذي سببناه هلا»‪ .‬واألذى يزداد سوءًا حسب هذه الرواية‪ ،‬فـ «األرض‪ ،‬بيتنا‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بدأت تشبه كومةً ضخمة من الوسخ»‪ .‬والسبب اجلذري هو االلتزام النابع من الفكر التنويري باملنطق والعلم والتقدم‪ :‬فيقول فرانسيس‪:‬‬
‫مكان آخر» أي تقدير‬ ‫مستقبل أفضل يف ٍ‬
‫ٍ‬ ‫يكمن الطريق حنو‬
‫«ال ميكن مساواة التقدم العلمي والتكنولوجي بتقدم البشرية والتاريخ‪ ،‬إذ ُ‬
‫«شبكة العالقات الغامضة بني األشياء» و(بالطبع) «كنز التجربة الروحانية املسيحية»‪ .‬لو مل نتُب ونندم على خطايانا برتاجع النمو‬
‫عسريا يف يوم القيامة البيئي‪.‬‬
‫وتراجع التصنيع ورفض اآلهلة املزيفة ويُقصد هبا العلم والتكنولوجيا والتقدم والنزعة اإلنسانية‪ ،‬فسنواجه حسابًا ً‬
‫انغماسا يف‬ ‫وككث ٍري من احلركات املنذرة بنهاية العامل‪َّ ،‬‬
‫فإن املذهب األخضر ممزوج ببغض البشرية‪ ،‬مبا يشمل ال مباالة باجلوع‪ ،‬و ً‬
‫خال من السكان‪ ،‬ومقارنات شبه نازية بني البشر من ٍ‬
‫جانب واآلفات ومسببات األمراض والسرطان من‬ ‫كب ٍ‬ ‫اخلياالت الوحشية عن كو ٍ‬
‫جانب آخر‪ .‬كتب بول واتسون‪ ،‬مجعية راعي البحار للحفاظ على البحار (‪)Society Sea Shepherd Conservation‬‬ ‫ٍ‬
‫بشكل ذكي وجذري إىل أقل من مليار نسمة‪ ..‬يتطلب عالج جسم‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حباجة إىل خفض أعداد البشر‬ ‫على سبيل املثال ما يلي‪« :‬حنن‬
‫هنجا تدخليًّا‬
‫أيضا ً‬ ‫عالجا تدخليًّا وجذريًّا‪ ،‬وبالتايل َّ‬
‫فإن عالج اجملال احليوي اخلاص بفريوس البشر سيتطلب ً‬ ‫ٍ‬
‫شخص ما من السرطان ً‬
‫وجذريًّا»‪.‬‬
‫يوجد منهج بديل حديث حلماية البيئة يدعمه كلٌّ من جون أسافو أدجي‪ ،‬وجيسي أوزوبيل‪ ،‬وآندرو باملفورد‪ ،‬وستيوارت براند‪،‬‬
‫وروث ديفرايز‪ ،‬ونانسي نولتون‪ ،‬وتيد نوردهاوس‪ ،‬ومايكل شيلينربجر‪ ،‬وغريهم‪ .‬ويُطلق عليه احلداثة البيئية‪ ،‬أو الربمجاتية البيئية‪ ،‬أو التفاؤل‬
‫األرضي‪ ،‬أو احلركة اخلضراء‪/‬الزرقاء (أو الفريوزية)‪ ،‬رغم أنَّنا ميكن أن ننظر إليها كنزعة بيئية تنويرية أو إنسانية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بدرجة ما أحد العواقب احلتمية للقانون الثاين للديناميكا احلرارية‪ ،‬فعندما يستخدم الناس‬ ‫تنطلق احلداثة البيئية من إدراك َّ‬
‫أن التلوث‬
‫مكان آخر يف البيئة على هيئة نفايات وتلوث‬ ‫نظام يف أجسامهم ويف منازهلم‪ ،‬فإهنم يزيدون بالضرورة اإلنرتوبيا يف ٍ‬ ‫الطاقة خللق منطقة ٍ‬
‫بارعا يف ذلك ‪-‬وهذا ما مييزنا عن بقية الثدييات‪ -‬ومل يعِش يف تناغ ٍم مع البيئة‬
‫وأشكال أخرى من الفوضى‪ .‬لطاملا كان اجلنس البشري ً‬
‫نظاما بيئيًّا ما‪ ،‬كانوا عادةً يصطادون حيوانات كبرية حىت االنقراض‪ ،‬وكانوا غالبًا حيرقون مساحات شاسعة‬ ‫قط‪ ،‬فعندما كانت أقدام البشر ً‬
‫أن حمميات احلياة الربية ال تنشأ سوى بعد إهالك السكان األصليني‬ ‫متاما‪ .‬من األسرار اخلفية حلركة احلفاظ على البيئة َّ‬
‫من الغابات وخيلوهنا ً‬
‫قسرا‪ ،‬وينطبق ذلك على احلدائق الوطنية يف الواليات املتحدة ومتنزه سريينجييت يف شرق إفريقيا‪ ،‬فالربية كما كتب املؤرخ‬ ‫أو نقلهم منها ً‬
‫وإمنا هي نفسها أحد منتجات احلضارة‪.‬‬ ‫البيئي ويليام كرونون ليست مال ًذا بكرا‪َّ ،‬‬
‫ً‬
‫أيضا‪ ،‬وحسب ما يقول عامل املناخ القدمي ويليام رودميان‪َّ ،‬‬
‫فإن تبين زراعة األرز‬ ‫تدمريا ً‬
‫عندما عمل البشر بالزراعة‪ ،‬أصبحوا أكثر ً‬
‫يف احلقول الرطبة يف آسيا منذ حوايل مخسة آالف عام رمبا قد يكون تسبب يف إطالق كث ٍري من غاز امليثان يف الغالف اجلوي بسبب‬
‫إن الناس الذين عاشوا يف العصر احلديدي‪ ،‬بل وحىت يف أواخر العصر‬ ‫غري املناخ‪ ،‬ويقول إنَّه «من املمكن أن نقول َّ‬
‫النباتات املتعفِّنة مما َّ‬
‫احلجري‪ ،‬كان أثر الفرد الواحد منهم على املناظر الطبيعية على األرض أكثر من أثر الشخص املعاصر العادي»‪ .‬وكما أشار براند (يف‬
‫رضا يف املصطلحات‪ ،‬فعندما يسمع كلميت الطعام الطبيعي‪ ،‬فإن ذلك يغريه بأن‬ ‫فإن «الزراعة الطبيعية» تشمل تعا ً‬ ‫الفصل السابع)‪َّ ،‬‬
‫يسب ويقول‪:‬‬

‫ال يرى أي عامل إيكولوجيا أي منتج من منتجات الزراعة طبيعيًّا ولو بقد ٍر ضئيل! فأنت تأخذ هذا النظام البيئي املعقد‬
‫متاما حىت ال يكون فيه شيء سوى األرض‪ ،‬وطرقه حىت حيدث التعاقب ِّ‬
‫املبكر‬ ‫اجلميل وتقطِّعه إىل مستطيالت‪ ،‬وُتليه ً‬
‫تعمره مبحاصيل موحدة من‬‫متاما وتغمره بكميات هائلة متواصلة من املياه! مث ِّ‬ ‫وتسوي سطحه ً‬ ‫املستمر! وتٌفسد أعشابه ِّ‬
‫نبات من النباتات الغذائية متخصص بدقة يف‬ ‫بشكل كبري وغري قادرة على احلياة وحدها دون مساعدة! فكل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫نباتات تالفة‬
‫مهارةٍ واحدة‪ ،‬وخضع للتوالد الداخلي آلالف السنوات حىت وصل إىل حالة من البالهة اجلينية‪ ،‬فتلك النباتات هشة للغاية‪،‬‬
‫واضطرت إىل ترويض البشر كي يعتنوا هبا إىل ما ال هناية!‬
‫مفيدا للبشرية‪ ،‬فقد أطعم املليارات من الناس‬‫أن التحول الصناعي كان ً‬ ‫من األمور األخرى اليت أدركتها حركة احلداثة البيئية َّ‬
‫وسهل إهناء العبودية وحترير النساء وتعليم األطفال (الفصل السابع‪،‬‬
‫وضاعف املدى العمري هلم وخفض معدل الفقر املدقع بشدة‪َّ ،‬‬
‫ليال والعيش حيثما أرادوا‪ ،‬والتدفئة يف‬
‫والسادس عشر‪ ،‬والسابع عشر) بسبب حلول اآلالت حمل العضالت‪ .‬لقد مسح للناس بالقراءة ً‬
‫الشتاء‪ ،‬ورؤية العامل‪ ،‬ومضاعفة التواصل البشري‪ ،‬وجيب حساب أي تكلفة من ٍ‬
‫تلوث وفقدان املوائل الطبيعية يف مقابل هذه النعم‪ .‬وكما‬
‫مقدارا مناسبًا من التلوث يف البيئة‪ ،‬مثلما يوجد مقدار مناسب من األتربة يف منزلك‪ ،‬كلما‬
‫يقول االقتصادي روبرت فرانك‪ ،‬فإن هناك ً‬
‫كان أنظف‪ ،‬كان الوضع أفضل بالطبع‪ ،‬ولكن ليس على حساب كل شيء آخر يف احلياة‪.‬‬
‫واملقدمة املنطقية الثالثة هي َّ‬
‫أن تلك املبادلة اليت تضع رفاهة البشر يف مواجهة مع األضرار البيئية ميكن أن تعيد التكنولوجيا التفاوض‬
‫فيها‪ .‬فمن املشكالت التكنولوجية السؤال التايل‪ :‬كيف نستمتع باملزيد من السعرات احلرارية ووحدات التدفق الضوئي والوحدات احلرارية‬
‫الربيطانية ووحدات ُتزين املعلومات (البت) واألميال مع إنتاج تلوث أقل وباستخدام مساحات أقل من األرض؟ وهي مشكلة حيلها‬
‫يوما بعد يوم‪ .‬يتحدث االقتصاديون عن منحىن كوزنتس البيئي‪ ،‬وهو نظري قوس انعدام املساواة على شكل حرف ‪ ،U‬بوصفه‬ ‫العامل ً‬
‫دالة للنمو االقتصادي‪ ،‬فعندما تنمو الدول يف البداية‪ ،‬يسبق النمو يف أولوياهتا النقاء البيئي‪ ،‬ولكن مع ازديادها غىن‪ ،‬تتجه أفكارها حنو‬
‫البيئة‪ .‬إذا مل يكن الناس يستطيعون حتمل تكلفة الكهرباء سوى بوجود بعض الضباب الدخاين‪ ،‬فسيتعايشون مع الضباب الدخاين‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بسرعة كبرية‪ ،‬فالتكنولوجيا‬ ‫كل من الكهرباء واهلواء النقي‪ ،‬سيدفعون مثن اهلواء النقي‪ .‬قد حيدث هذا‬
‫ولكن عندما يستطيعون حتمل تكلفة ٍّ‬
‫جتعل السيارات واملصانع وحمطات توليد الكهرباء أنظف‪ ،‬وبالتايل جتعل اهلواء النظيف أقل تكلفةً‪.‬‬
‫أيضا‪ .‬بعض املخاوف‬ ‫يثين النمو االقتصادي منحىن كوزنتس البيئي عرب إحداث تقدم‪ ،‬ليس فقط يف التكنولوجيا‪َّ ،‬‬
‫وإمنا يف القيم ً‬
‫ولكن هناك خماوف أخرى أكثر‬
‫متاما‪ ،‬إذ يشتكي الناس من الضباب الدخاين يف مدهنم أو من رصف املساحات اخلضراء‪َّ ،‬‬ ‫البيئية عملية ً‬
‫ولكن القلق بشأهنا‬
‫إن مصري وحيد القرن األسود ورفاهة نسلنا يف العام ‪ 2025‬على سبيل املثال تُعد خماوف معنوية مهمة‪َّ ،‬‬ ‫روحانية‪َّ .‬‬
‫حد ما‪ ،‬فعندما تزداد اجملتمعات غىن‪ ،‬وال يعود الناس يفكرون يف توفري القوت واملأوى‪ ،‬تصعد قيمهم هرم االحتياجات‬ ‫اآلن يُعد رفاهية إىل ٍّ‬
‫ويتوسع منظور خماوفهم عرب املكان والزمان‪ .‬وجد كلٌّ من رونالد إجنلهارت وكريستيان ويلزيل‪ ،‬باستخدام بيانات من مسح القيم العاملية‪،‬‬
‫أيضا إىل إعادة‬
‫أن أصحاب القيم التحررية األقوى ‪-‬التسامح واملساواة وحرية الفكر والتعبري‪ -‬املالزمة غالبًا لليُسر والتعليم‪ ،‬مييلون أكثر ً‬ ‫َّ‬
‫تدوير النفايات والضغط على احلكومات واألعمال التجارية من أجل محاية البيئة‪.‬‬

‫تشكك وظن‬
‫ٌ‬ ‫بأن التكنولوجيا ستنقذنا»‪ ،‬وهذا يف احلقيقة‬ ‫يرفض املتشائمون فيما خيص البيئة عاد ًة هذه الطريقة يف التفكري َّ‬
‫بأهنا «إميان َّ‬
‫أن املعرفة ستتجمد يف حالتها الراهنة‪ ،‬وسيستمر الناس يف سلوكياهتما بصورةٍ آلية بغض النظر عن الظروف‪.‬‬ ‫بأن الوضع الراهن سيُهلكنا‪ ،‬و َّ‬
‫َّ‬
‫قيامة بيئي‪،‬كانت أوىل هذه النبوءات «القنبلة السكانية»‬‫َّأدى اإلميان الساذج بالثبات بكل تأكيد من قبل إىل نبوءات مل تتحقق بيوم ٍ‬
‫اليت (كما رأينا يف الفصل السابع) أبطلت نفسها‪ .‬عندما تصبح الدول أغىن وذات تعلي ٍم أفضل‪ ،‬متر مبا يطلق عليه الدميغرافيون (علماء‬
‫ولكن هذا‬
‫فأوال‪ :‬ترتاجع معدالت الوفيات مع حتسن التغذية والصحة‪ ،‬يتسبب هذا يف تضخم السكان‪َّ ،‬‬ ‫السكان) التحول الدميوغرايف‪ً ،‬‬
‫وإمنا َّ‬
‫ألهنم‬ ‫ألن سكان الدول الفقرية يبدؤون يف التكاثر كاألرانب‪َّ ،‬‬
‫أمر ال يستحق البكاء عليه‪ ،‬فهو ال حيدث كما أشار يوهان نوربرج َّ‬
‫يتوقفون عن املوت كالذباب‪ .‬وهذه الزيادة مؤقتة على أي حال‪ ،‬فمعدالت املواليد تصل إىل الذروة مث ترتاجع‪ ،‬لسببني على األقل‪،‬‬
‫تعليما أفضل‪ ،‬يتزوجن الح ًقا ويؤجلن‬ ‫ٍ‬
‫فاآلباء يتوقفون عن إجناب أنسال كثرية كضمان يف حالة وفاة بعض أطفاهلم‪ ،‬وعندما تتلقى النساء ً‬
‫أن معدل منو سكان العامل بلغ ذروته وهي نسبة ‪ 2.1‬يف املئة سنويًّا يف عام ‪ ،1962‬مث‬ ‫يوضح الشكل رقم ‪َّ 1-10‬‬ ‫إجناب األطفال‪ِّ .‬‬
‫هبط ليصل إىل ‪ 1.2‬يف املئة يف عام ‪ ،2010‬وسينخفض أكثر على األرجح ليصل إىل ‪ 0.5‬حبلول عام ‪ ،2050‬ويقرتب من الصفر‬
‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫بأن تعداد السكان يف ذلك الوقت سيستقر مث سيرتاجع‪ .‬اخنفضت معدالت اخلصوبة‬ ‫يف حوايل العام ‪ 2070‬حسب التوقع َّ‬
‫ملحوظ للغاية يف املناطق املتقدمة مثل أوروبا واليابان‪ ،‬ولكنَّها قد تنهار فجأة يف أجز ٍاء أخرى من العامل مبا سيفاجئ الدميوغرافيني‪ .‬رغم‬
‫ٍ‬
‫حولت الغرب متاما وستهزها زالزل الشباب يف ٍ‬
‫وقت غري معلوم‪،‬‬ ‫بأن اجملتمعات املسلمة مقاومة للتغريات االجتماعية اليت َّ‬‫االعتقاد الشائع َّ‬
‫ً‬
‫اجعا يف معدل اخلصوبة بنسبة ‪ 4‬يف املئة على مدار العقود الثالث املاضية‪ ،‬وتشمل هذه النسبة‬ ‫أن الدول املسلمة قد شهدت تر ً‬ ‫َّإال َّ‬
‫هبوطًا بنسبة ‪ 70‬يف املئة يف إيران‪ ،‬وبنسبة ‪ 60‬يف املئة يف بنجالديش وسبع دول عربية‪.‬‬
‫معدل النمو السنوي (في المئة)‬

‫مليارات األشخاص‬
‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 1 - 1 0‬ا ل س ك ا ن وا ل ن م و ا ل س ك ا ين م ن ذ ‪ 1 7 5 0‬ح ىت ‪ 2 0 1 5‬وا ل ن م و ا مل ت وق ع ح ىت‬
‫عام ‪2100‬‬
‫املصادر‪ Our World in Data, Ortiz-Ospina & Roser 2016d. :‬البيانات لألعوام من ‪ 1750‬حىت ‪ :2015‬شعبة السكان باألمم‬
‫املتحدة وقاعدة البيانات التارخيية للبيئة العاملية ()‪ ،HYDE‬و‪( PBL‬وكالة التقييم البيئي اهلولندية) (غري حمددة التاريخ)‪ .‬التوقعات ملا بعد ‪ :2015‬معدل‬
‫النمو السنوي‪ ،‬نفس املعدل يف األعوام من ‪ 1750‬حىت ‪ .2015‬مليارات األشخاص‪ ،‬حتليل املعهد الدويل لألنظمة التطبيقية‪ ،‬توقع متوسط (جمموع التقديرات‬
‫اخلاصة بكل دولة‪ ،‬مع أخذ التعليم يف احلسبان)‪.Lutz, Butz, & Samir 2014 ،‬‬

‫ولكن املوارد تأىب أن تنفد‪ ،‬إذ جاءت الثمانينيات‬


‫اخلوف اآلخر املوجود منذ ستينيات القرن املاضي هو أن تنفد موارد العامل‪َّ ،‬‬
‫جتوع عشرات املاليني من األمريكيني ومليارات األشخاص حول العامل‪ ،‬مث مضى عام‬
‫ومضت دون اجملاعات اليت كان من املفرتض أن ِّ‬
‫‪ ،1992‬وعلى عكس توقعات الكتاب الذي حقق أعلى املبيعات يف عام ‪ ،1972‬حدود النمو (‪،)The Limits to Growth‬‬
‫واخلطابات املشاهبة شديدة اللهجة‪ ،‬فلم يستنزف العامل كل ما فيه من ألومنيوم أو حناس أو كروم أو ذهب أو نيكل أو قصدير أو‬
‫أن مخسة من هذه املعادن ستصبح أندر‪،‬‬ ‫شهريا على َّ‬
‫تنجسنت أو زنك‪( .‬راهن إيرليش يف عام ‪ 1980‬االقتصادي جوليان سيمون رهانًا ً‬
‫لكن معظم املعادن أرخص اليوم بالتأكيد مما كانت عليه يف عام‬
‫وبالتايل أغلى‪ ،‬حبلول هناية العقد‪ ،‬وخسر الرهانات اخلمس كلها‪ .‬و َّ‬
‫تصور األخبار عن إمداد العامل من النفط مبؤشر‬
‫‪ .)1960‬منذ هناية السبعينيات حىت بداية األلفينيات‪ ،‬كانت أغلفة اجملالت اإلخبارية ِّ‬
‫االتالنتك‬ ‫جملة‬ ‫نشرت‬ ‫‪2013‬‬ ‫وقود يشري إىل كون خزان الوقود فار ًغا‪ ،‬ولكن يف عام‬
‫‪ً The Atlantic‬‬
‫خربا عن ثورة التكسري اهليدروليكي بعنوان «لن ينفد النفط مطل ًقا»‪.‬‬
‫وتوجد عناصر أرضية نادرة مثل اإلتريوم والسكانديوم واليوروبيوم والالنثانوم‪ ،‬رمبا تتذكر هذه العناصر الكيميائية من اجلدول الدوري‬
‫مكونات بالغة األمهية للمغناطيس‬
‫الذي درسته يف حصة الكيمياء أو من أغنية «العناصر» اليت غناها توم هلرر‪ ،‬وتُعد هذه املعادن ِّ‬
‫واألضواء الفلورية وشاشات عرض الفيديوهات واملواد احلفَّازة وأجهزة الليزر واملكثفات الكهربائية وزجاج البصريات وتطبيقات أخرى‬
‫ذات تكنولوجيا عالية‪ .‬مت حتذيرنا بأنَّه عندما تبدأ هذه املعادن يف النفاد‪ ،‬سنعاين من نقص حرج واهنيار يف صناعة التكنولوجيا ورمبا حرب‬
‫مع الصني‪ ،‬وهي مصدر ‪ 95‬يف املئة من إمداد العامل منها‪ ،‬وكان هذا ما أدى إىل أزمة اليوروبيوم الكربى يف أواخر القرن العشرين‪ ،‬عندما‬
‫املكون احلاسم لنقاط الفوسفور احلمراء يف أنابيب أشعة املهبط (الكاثود) يف التليفزيونات امللونة وشاشات الكمبيوتر‪،‬‬ ‫نفد العامل من ِّ‬
‫وانقسم العامل إىل املقتدرين الذين أخذوا يكتنزون آخر أجهزة تليفزيون صاحلة‪ ،‬ومن ال ميلكون شيئًا الذين اضطروا إىل تدبر أمورهم‬
‫أن لوحات العرض البلوري‬ ‫باألبيض واألسود‪ .‬ماذا؟ أمل تسمع عن هذه األزمة قط؟ من بني أسباب عدم نشوب هذه األزمة من األساس َّ‬
‫السائل املصنوعة من العناصر الشائعة قد حلَّت حمل أنابيب أشعة املهبط‪ .‬وماذا عن احلرب على العناصر النادرة؟ يف الواقع‪ ،‬عندما‬
‫قلَّصت الصني صادراهتا يف عام ‪( 2010‬ليس بسبب النقص وإمنا كسالح جيوسياسي وجتاري)‪ ،‬بدأت الدول األخرى يف استخراج‬
‫عناصر أرضية نادرة من منامجها اخلاصة‪ ،‬وأعادت تدويرها من النفايات الصناعية‪ ،‬وأعادت تصميم املنتجات كي ال حتتاج إىل هذه‬
‫العناصر ثانيةً‪.‬‬
‫عندما ال تتحقق التنبؤات املنذرة بنهاية العامل بسبب نقص املوارد مر ًارا وتكر ًارا‪ ،‬فإن املرء ال بد أن يستنتج إما َّ‬
‫أن البشرية قد جنت‬
‫أن هناك عيبًا يف طريقة التفكري اليت تتنبأ بنقص املوارد الذي سينهي العامل‪.‬‬ ‫موت حمقق مرة تلو األخرى كبطل هوليوودي أو َّ‬‫بأعجوبة من ٍ‬
‫صوت‬
‫وقد متت اإلشارة إىل هذا العيب مرات عدة‪ ،‬فالبشرية ال متتص املوارد من األرض كما متتص املاصة خمفوق احلليب حىت خيربها ٌ‬
‫اجا أندر‪ ،‬ارتفع سعره‪ ،‬مما يشجع الناس على االحتفاظ به‪ ،‬أو الوصول‬ ‫بأن املشروب قد نفد‪ ،‬بل كلما أصبح حىت أسهل املوارد استخر ً‬ ‫ما َّ‬
‫إىل الرواسب اليت يصعب الوصول إليها أكثر‪ ،‬أو العثور على بدائل أرخص ووافرة‪.‬‬
‫أن الناس «حيتاجون إىل املوارد» من األساس‪ ،‬فهم حيتاجون إىل ٍ‬
‫طرق لزرع الغذاء‪ ،‬واالنتقال‪ ،‬وإضاءة‬ ‫من املغالطة بالطبع اعتقاد َّ‬
‫ُ‬
‫وهم يلبون هذه االحتياجات باألفكار‪ :‬بالوصفات والصيغ والتقنيات واملخططات‬ ‫منازهلم‪ ،‬وعرض املعلومات‪ ،‬ومصادر الرفاهة األخرى‪ُ ،‬‬
‫إن العقل البشري بقوته الرتكيبية التكرارية ميكنه استكشاف‬‫واخلوارزميات من أجل التالعب بالعامل املادي كي يقدِّم هلم ما يريدونه‪َّ .‬‬
‫نوع حمدد من املواد املوجودة يف األرض‪ ،‬فعندما ال تنجح فكرة ما‪ ،‬حتل حملها فكرةٌ‬ ‫مساحة ال هنائية من األفكار‪ ،‬وال يتقيد بكمية أي ٍ‬
‫أخرى‪ ،‬وال يتحدى هذا قوانني االحتماالت َّ‬
‫وإمنا ينصاع هلا‪ .‬ملاذا قد تسمح قوانني الطبيعة بطريقة واحدة فقط ممكنة لتلبية رغبة بشرية‬
‫ما‪ ،‬ال أكثر وال أقل؟‬
‫رسام الكاريكاتري راندال مونرو يف‬
‫ويوضح َّ‬ ‫ال ميكن إنكار َّ‬
‫أن هذه الطريقة يف التفكري ال تتوافق مع أخالقيات «االستدامة»‪ِّ ،‬‬
‫الشكل رقم ‪ 2-10‬املشكلة يف هذه الكلمة الدارجة والقيمة املقدسة‪.‬‬

‫‪ :2019‬كل الجمل عبارة عن كلمة «مستدامة»‬


‫مكررة مرارً ا وتكرارً ا‬

‫معدل استخدام كلمة‬


‫«مستدامة» في النصوص‬ ‫‪ :2061‬تظهر كلمة «مستدامة» في متوسط مرة‬
‫األمريكية باللغة‬ ‫في كل جملة‬
‫اإلنجليزية‪ ،‬بالنسبة المئوية‬
‫من كل الكلمات‪ ،‬سنو ًّيا‬ ‫‪ :2036‬تظهر كلمة «مستدامة» في متوسط مرة‬
‫في كل صفحة‬

‫المصدر‪GOOGLE :‬‬
‫‪NGRAMS‬‬

‫الحاضر‬

‫السنة‬

‫كلمة «مستدامة» غير مستدامة‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 2 - 1 0‬ا ال س ت د ا م ة م ن ذ ‪ 1 9 5 5‬ح ىت ‪2 1 0 9‬‬


‫املصدر‪ :‬راندال مونرو‪./http://xkcd.com/1007 ،XKCD ،‬‬

‫حقوق الصورة‪ :‬راندال مونرو‪.xkcd.com ،‬‬

‫أن املعدل احلايل الستخدام أحد املوارد ميكن أن ميتد يف املستقبل حىت يصطدم يف ٍ‬
‫سقف‪ ،‬واملغزى‬ ‫تفرتض عقيدة االستدامة َّ‬
‫أن علينا االنتقال إىل استخدام مورد متجدد ميكن جتديده بنفس معدل استخدامنا‪ ،‬أي إىل ٍ‬
‫أجل غري مسمى‪ .‬يف الواقع‪ ،‬لطاملا‬ ‫الضمين َّ‬
‫إن العصر احلجري مل ِ‬
‫ينته َّ‬
‫ألن العامل‬ ‫كثريا َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كانت اجملتمعات هتجر املورد وتذهب إىل مورد أفضل قبل استنزاف القدمي بوقت طويل‪ ،‬ويُقال ً‬
‫أيضا‪ .‬ويشري أوزوبيل إىل أنَّه‪« :‬كان هناك ٌ‬
‫كثري من األخشاب والقش املتبقية واملتاحة‬ ‫نفد من األحجار‪ ،‬وينطبق هذا على الطاقة ً‬
‫لالستغالل عندما انتقل العامل إىل استخدام الفحم‪ ،‬وعندما ظهر النفط فاض الفحم‪ ،‬واآلن سيفيض النفط مع ظهور امليثان (الغاز‬
‫أيضا قبل أن يشتعل آخر قدم مكعب منه ٍ‬
‫بلهب أزرق‪.‬‬ ‫الطبيعي)»‪ .‬وكما سنرى‪ ،‬رمبا حتل مصادر طاقة ذات كربون أقل حمل الغاز ً‬
‫مطردا (كما رأينا يف الفصل السابع) رغم أنَّه مل ي ُكن هناك قط أي أسلوب مستدام من‬ ‫منوا ً‬‫أيضا ً‬
‫لقد منا اإلمداد من الغذاء ً‬
‫أساليب زراعته‪ .‬يف كتاب السقاطة الكبرى‪ :‬كيف تزدهر البشرية في وجه الكوارث الطبعية ( ‪The Big Ratchet: How‬‬
‫‪ ،)Humanity Thrives in the Face of Natural Crisis‬وصفت عاملة اجلغرافيا روث ديفرايز‬
‫)‪ (Ruth DeFries‬التسلسل كما يلي‪« :‬السقاطة‪-‬البلطة‪-‬الدوران»‪ ،‬أي يكتشف الناس طريقةً لزراعة املزيد من الطعام‪ ،‬فيجري‬
‫احد حنوه كالسقاطة‪ ،‬مث يفشل هذا األسلوب يف مواكبة الطلب أو تظهر آثار جانبية مزعجة له‪ ،‬فتسقط البلطة‪ ،‬مث‬ ‫كل الناس يف اجتاه و ٍ‬
‫أوقات خمتلفة يف اجتاه البستنة القائمة على القطع واحلرق‪،‬‬ ‫أسلوب جديد‪ .‬قام املزارعون هبذا الدوران يف ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫يدور الناس يف اجتاهٍ آخر حنو‬
‫والسماد البشري (أي الغائط البشري)‪ ،‬والدورة الزراعية للمحاصيل‪ ،‬وفضالت الطيور‪ ،‬ونرتات البوتاسيوم‪ ،‬وعظام جواميس البيسون‬
‫املطحونة‪ ،‬واملخصبات الكيميائية‪ ،‬واحملاصيل اهلجينة‪ ،‬واملبيدات احلشرية‪ ،‬والثورة اخلضراء‪ .‬رمبا يشمل هذا الدوران يف املستقبل الكائنات‬
‫املعدلة جينيًّا والزراعة يف املاء‪ ،‬والزراعة اهلوائية‪ ،‬واملزارع الرأسية احلضرية‪ ،‬واحلصاد اآليل‪ ،‬واللحوم املزروعة يف األنابيب‪ ،‬وخوارزميات الذكاء‬
‫االصطناعي اليت يغذيها نظام حتديد املواقع العاملي (‪ )GPS‬واجملسات احليوية‪ ،‬واسرتداد الطاقة واملخصبات من شبكات الصرف‬
‫بدال من األمساك األخرى‪ ،‬ومن يعرف ما الذي ميكن أن يفعله الناس غري ذلك طاملا كان‬ ‫ٍ‬
‫بأمساك تأكل التوفو ً‬ ‫الصحي‪ ،‬والزراعة املائية‬
‫أن املياه أحد املوارد اليت لن يبتعد عنها الناس مطل ًقا‪َّ ،‬إال أنَّه باستطاعة املزارعني توفري قد ٍر‬
‫مسموحا هلم إطالق العنان لرباعتهم؟ رغم َّ‬
‫ً‬
‫طور العامل مصادر طاقة وفرية خالية من الكربون (وهو موضوع‬ ‫ضخ ٍم منها إذا انتقلوا إىل الزراعة الدقيقة على الطراز اإلسرائيلي‪ ،‬وإذا َّ‬
‫سنستكشفه الح ًقا)‪ ،‬فيمكنه أن حيصل على ما حيتاج إليه عرب حتلية مياه البحار‪.‬‬

‫أيضا التطورات اليت عدَّهتا‬


‫وإمنا حتققت بالفعل ً‬‫مل يقتصر األمر على عدم حتقق الكوارث اليت تنبأت هبا احلركة اخلضراء يف السبعينيات‪َّ ،‬‬
‫تعرب «الكومة الضخمة من الوسخ» عن‬ ‫مستحيلة‪ ،‬فمع ازدياد العامل غىن ووصول املنحىن البيئي إىل ذروته‪ ،‬بدأت الطبيعة يف االنتعاش‪ِّ .‬‬
‫متخيال أننا يف عام ‪ ،1965‬حقبة املداخن النفاثة‪ ،‬وشالالت الصرف الصحي‪ ،‬واندالع النريان يف األهنار‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬
‫شخص استيقظ‬ ‫رؤية‬
‫يوضح الشكل رقم ‪َّ 3-10‬‬
‫أن الواليات املتحدة قد خفَّضت انبعاثاهتا‬ ‫أن سكان نيويورك ال حيبون تنفس هوا ٍء ال يرونه‪ِّ .‬‬ ‫والنكات عن َّ‬
‫أنشئت وكالة محاية البيئة‪ ،‬وخالل نفس تلك الفرتة‪ ،‬منا عدد السكان‬ ‫مخسة من ملوثات اهلواء حبوايل الثلثني منذ عام ‪ ،1970‬عندما ِ‬ ‫من ٍ‬
‫بنسبة أكثر من ‪ 40‬يف املئة‪ ،‬وأصبح هؤالء السكان يقودون سياراهتم ملسافات تُقدر بضعف عدد األميال‪ ،‬وأصبحوا أغىن مبقدار‬
‫الضعفني والنصف‪ ،‬واستقر استخدام الطاقة‪ ،‬وحىت انبعاثات ثاين أكسيد الكربون قد جتاوز منعط ًفا صعبًا‪ ،‬وهي نقطة سنعود إليها فيما‬
‫ألن اجلزء األعظم من استخدام الطاقة واالنبعاثات ينبع‬‫بعد‪ .‬ال يعكس هذا الرتاجع إلقاء عبء الصناعات الثقيلة على العامل النامي‪َّ ،‬‬
‫وإمنا يعكس باألساس املكاسب احملققة‬ ‫من النقل والتدفئة وتوليد الكهرباء‪ ،‬وهي مهام ال ميكن االستعانة مبصاد ٍر خارجية يف تنفيذها‪َّ ،‬‬
‫يف الكفاءة والتحكم يف االنبعاثات‪ .‬تنفي هذه املنحنيات املتفرقة ًّ‬
‫كال من ادعاء احلركة اخلضراء املتشددة بأنَّه ال ميكن سوى لرتاجع النمو‬
‫بأن محاية البيئة ال بد أن هتدم النمو االقتصادي ومستوى معيشة الناس‪.‬‬ ‫أن حيد من التلوث‪ ،‬وادعاء اجلناح اليميين املتشدد َّ‬
‫الناتج المحلي‬
‫اإلجمالي‬

‫األميال المقطوعة‬
‫بالمركبات‬
‫النسبة المئوية للتغير‬

‫عدد السكان‬

‫الطاقة‬
‫ثاني أكسيد الكربون‬

‫االنبعاثات‬
‫(‪ 5‬ملوثات)‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 3 - 1 0‬ا ل ت ل وث وا ل ط ا ق ة وا ل ن م و يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة م ن ذ ‪ 1 9 7 0‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫استنادا إىل املصادر التالية‪ .‬الناتج احمللي اإلمجايل‪ :‬مكتب التحليل االقتصادي األميال املقطوعة باملركبات‪ :‬اإلدارة‬
‫ً‬ ‫املصادر‪ :‬وكالة محاية البيئة األمريكية ‪،2016‬‬
‫الفيدرالية للطرق السريعة‪ .‬عدد السكان‪ :‬مكتب تعداد الواليات املتحدة‪ .‬االستهالك من الطاقة‪ :‬وزارة الطاقة األمريكية‪ .‬ثاين أكسيد الكربون‪ :‬تقرير اجلرد‬
‫األمريكي للغازات الدفيئة‪ .‬االنبعاثات (أول أكسيد الكربون‪ ،‬وأكاسيد النيرتوجني‪ ،‬واملواد اجلسيمية األصغر من ‪ 10‬مايكرومرت‪ ،‬وثاين أكسيد الكربيت‪،‬‬
‫واملركبات العضوية املتطايرة)‪ :‬وكالة محاية البيئة األمريكية‪https://www.epa.gov/air-emissions-inventories/air-pollutant- ،‬‬
‫‪.emissions-trends-data‬‬

‫ميكن رؤية كثري من هذه التطورات بالعني اجملردة‪ ،‬إذ أصبحت املدن غالبًا أقل امتالءً بالشبورة األرجوانية البنية‪ ،‬ومل ُتعد لندن مليئة‬
‫بالضباب ‪-‬وهو يف احلقيقة الدخان الناتج عن الفحم‪ -‬الذي خلَّدته اللوحات االنطباعية والروايات القوطية وأغنية جريشوين* وماركة‬
‫املعاطف الواقية من املطر‪ *.‬عادت األمساك والطيور والثدييات املائية وأحيانًا السبَّاحون إىل املمرات املائية احلضرية ‪-‬مبا فيها لسان بيوجت‬
‫ساوند وخليج تشيزبيك وميناء بوسطن وحبرية إيري وأهنار هدسون وبوتوماك وشيكاغو وتشارلز والسني والراين والتاميز (ووصف دزرائيلي‬
‫هذا األخري بأنَّه «مسبح جهنمي تنبعث منه روائح وأهوال ال توصف وال ُحتتمل»)‪ .‬ويرى سكان الضواحي الذئاب والثعالب والدببة‬
‫وقطط الوشق األمحر وحيوانات الغرير والغزال ن وطيور العقاب النساري والديوك الرومية الربية والنسور الصلعان‪ .‬عندما تصبح الزراعة‬
‫جدارا من األحجار‬ ‫متنزه وجد أمامه ً‬‫أكثر كفاءة (الفصل السابع)‪ ،‬تعود األراضي الزراعية إىل طبيعتها كغابة معتدلة املناخ‪ ،‬كما يعرف أي ِّ‬
‫أن األشجار يف الغابات االستوائية ما زالت تتعرض للقطع على حن ٍو مقلق‪َّ ،‬إال‬ ‫املتباينة اليت متتد بطول أراضي نيو إجنالند املشجرة‪ ،‬ورغم َّ‬
‫أن معدل قطعها اخنفض مبقدار الثلثني بني منتصف القرن العشرين وبداية القرن احلادي والعشرين (الشكل رقم ‪ .)4-10‬بلغ معدل‬ ‫َّ‬

‫*أغنية للمطرب جورج جيرشوين عنوانها ‪( A Foggy Day in London‬يوم ضبابي في لندن)‪- .‬المترجمة‪.‬‬
‫*اسمها ‪( London Fog‬ضباب لندن)‪- .‬المترجمة‪.‬‬
‫إزالة أكرب الغابات االستوائية يف العامل‪ ،‬وهي غابة األمازون‪ ،‬إىل ذروته يف عام ‪ ،1995‬مث اخنفض مبقدار أربعة أمخاس منذ عام ‪2004‬‬
‫حىت ‪.2013‬‬

‫غابة معتدلة‬

‫غابة استوائية‬
‫مليون هكتار‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 4 - 1 0‬م ع د ل إ زا ل ة ا ل غ ا ب ا ت م ن ذ ‪ 1 7 0 0‬ح ىت ‪2 0 1 0‬‬


‫املصدر‪ :‬منظمة األغذية والزراعة لألمم املتحدة‪ ،2012 ،‬ص‪ 9.‬متثِّل هذه اخلطوط اإلمجايل على مدار فرتات خمتلفة‪ ،‬وليست معدالت سنوية‪ ،‬وبالتايل فهي‬
‫ٍ‬
‫بشكل مباشر‪.‬‬ ‫ليست متناسبة‬

‫َّ‬
‫إن الرتاجع املتأخر يف معدل إزالة الغابات االستوائية أحد العالمات على انتشار محاية البيئة من الدول املتقدمة إىل بقية العامل‪،‬‬
‫فيمكن تتبع تقدم العامل يف بطاقة تقرير يُطلق عليها مؤشر األداء البيئي‪ ،‬وهو مرَّكب من مؤشرات جلودة اهلواء واملاء والغابات ومصايد‬
‫عقد أو أكثر‪ ،‬وعددها ‪ 180‬دولة‪ ،‬ما عدا دولتني‬ ‫األمساك واملزارع واملوائل الطبيعية‪ .‬ظهر التحسن على كل الدول اليت مت تتبعها ملدة ٍ‬
‫فقط‪ ،‬ويف املتوسط‪ ،‬كلما زاد ثراء الدولة‪ ،‬زادت نظافة بيئتها‪ ،‬فكانت دول مشال أوروبا هي األنظف‪ ،‬يف حني كانت أفغانستان‬
‫إن اثنني من أكثر أشكال التلوث فت ًكا ‪-‬مياه‬ ‫تعرضا للخطر‪َّ .‬‬
‫وبنجالديش وعدة دول من منطقة أفريقيا جنوب الصحراء هي األكثر ً‬
‫الشرب امللوثة والدخان الناتج عن الطهي يف األماكن املغلقة‪ -‬من االبتالءات اليت أصيبت هبا الدول الفقرية‪ ،‬ولكن مع ازدياد الدول‬
‫مياها ملوثة مبقدار مخسة‬
‫غىن خالل العقود األخرية‪ ،‬فهي هترب من هذه اآلفات‪ ،‬فقد اخنفضت نسبة سكان العامل الذين يشربون ً‬ ‫الفقرية ً‬
‫أمثان‪ ،‬ونسبة سكان العامل الذين يستنشقون الدخان الناتج عن الطهي مبقدار الثُلث‪ .‬وكما قالت إنديرا غاندي‪« :‬الفقر هو أكرب مصدر‬
‫تلوث»‪.‬‬
‫الصورة املصغرة لألضرار البيئية هي حوادث تسرب النفط من الناقالت البحرية‪ ،‬الذي يغطي الشواطئ البكر برواسب سوداء سامة‬
‫ويلوث ريش الطيور البحرية وفراء كالب املاء والفقمات‪ ،‬وتبقى يف ذاكرتنا اجلمعية أشهر احلوادث السيئة مثل حتطم الناقلة توري كانيون‬
‫أن وسائل نقل النفط البحرية أصبحت أكثر‬ ‫يف عام ‪ 1967‬والناقلة إيكسون فالديز يف عام ‪ ،1989‬وال يعي سوى القليل من الناس َّ‬
‫أن العدد السنوي حلوادث تسرب النفط قد اخنفض من تسعني حادثة يف عام ‪ 1973‬إىل مخس‬ ‫يوضح الشكل رقم ‪َّ 5-10‬‬ ‫أمانًا بكث ٍري‪ِّ .‬‬
‫حوادث فقط يف عام ‪( 2016‬واخنفض عدد حوادث التسرب الضخمة من اثنني وثالثني حادثة يف عام ‪ 1978‬إىل حادثة واحدة يف‬
‫أيضا أنَّه رغم تسرب كمية أقل من النفط‪َّ ،‬إال أنَّه قد مت نقل كمية أكرب منه‪ ،‬ويقدِّم هذان املنحنيان‬
‫ويوضح الشكل ً‬‫عام ‪ِّ ،)2016‬‬
‫أن شركات النفط تريد تقليل عدد حوادث الناقالت‪،‬‬ ‫دليال إضافيًا على متاشي احلماية البيئية مع النمو االقتصادي‪ .‬ال عجب َّ‬
‫املتقاطعان ً‬
‫ألن مصاحلها تتفق مع مصاحل البيئة‪ ،‬فحوادث تسرب النفط كارثة يف العالقات العامة (وخاصةً عندما يزين اسم الشركة سفينةً متصدعة)‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫بدرجة‬ ‫أن الشركات قد جنحت يف ذلك‬ ‫وتتسبَّب يف دفع غرامات باهظة‪ ،‬وهتدر بالطبع النفط القيِّم‪ .‬من األمور األكثر إثارة لالهتمام َّ‬
‫خطرا مبرور الوقت واستبعاد الباحثون التقنيون يف تصميماهتم الثغرات األخطر‬‫كبرية‪ ،‬فالتكنولوجيا تسري يف منحىن التعلم وتصبح أقل ً‬
‫ولكن الناس يتذكرون هذه احلوادث وال يعون التطورات املتزايدة‪ .‬تظهر أشكال‬ ‫(وهي النقطة اليت سنعود إليها يف الفصل الثاين عشر)‪َّ ،‬‬
‫التكنولوجيا املختلفة على مدار جداول زمنية خمتلفة‪ ،‬ففي عام ‪ 2010‬عندما كانت حوادث تسرب النفط يف الناقالت البحرية قد‬
‫اخنفضت إىل أقل مستوى هلا على اإلطالق‪ ،‬حدث ثالث أسوأ تسرب نفطي من أبراج احلفر الثابتة‪ ،‬وأدت حادثة منصة ‪Deepwater‬‬
‫‪ Horizon‬يف خليج املكسيك بدورها إىل إرساء لوائح جديدة ملوانع االنفجار‪ ،‬وتصميم اآلبار‪ ،‬واملراقبة‪ ،‬واالحتواء‪.‬‬

‫النفط المنقول عبر البحر‬


‫عدد حوادث تسرب النفط‬

‫مليار طن متري‬
‫حوادث تسرب‬
‫النفط‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 5 - 1 0‬ح وا د ث ت س رب ا ل ن ف ط م ن ذ ‪ 1 9 7 0‬ح ىت ‪2 0 1 6‬‬


‫استنادا إىل بيانات (حمدثة) من االحتاد الدويل احملدود ملالكي الناقالت املعين بالتلوث‪،‬‬
‫ً‬ ‫املصدر‪،Roser 2016r ،Our World in Data :‬‬
‫‪ ./http://www.itopf.com/knowledge-resources/data-statistics/statistics‬تشمل حوادث تسرب النفط كل تلك احلوادث‬
‫اليت ينتج عنها فقدان ‪ 7‬أطنان مرتية من النفط على األقل‪ .‬يتكون النفط املنقول من «النفط اخلام‪ ،‬واملنتجات البرتولية والغاز احململ»‪.‬‬
‫أحد مظاهر التقدم األخرى اليت حدثت‪ ،‬متثل يف خضوع مساحات بأكملها من األراضي واحمليطات للحماية من استخدام البشر‬
‫يوضح الشكل رقم‬
‫بأهنا ما زالت غري كافية‪ ،‬ولكن الزخم مذهل‪ِّ .‬‬ ‫وجيمع خرباء احلفاظ على البيئة على تقييمهم للمناطق احملمية َّ‬
‫متاما‪ُ ،‬‬
‫ً‬
‫أن نسبة األراضي املخصصة من كوكب األرض للحدائق الوطنية وحمميات احلياة الربية واملناطق احملمية األخرى قد منت من‬ ‫‪َّ 6-10‬‬
‫‪ 8.2‬يف املئة يف عام ‪ 1990‬إىل ‪ 14.8‬يف املئة يف عام ‪ ،2014‬وهي مساحة تبلغ ضعف حجم الواليات املتحدة‪ .‬ومنت احملميات‬
‫أيضا مبقدار أكثر من الضعف خالل هذه الفرتة وهي حتمي اآلن أكثر من ‪ 12‬يف املئة من حميطات العامل‪.‬‬ ‫البحرية ً‬

‫المناطق المحمية األرضية‬


‫النسبة المئوية من األرض أو المياه‬

‫المناطق المحمية البحرية‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 6 - 1 0‬ا مل ن ا ط ق ا حمل م ي ة م ن ذ ‪ 1 9 9 0‬ح ىت ‪2 0 1 4‬‬


‫استنادا إىل بيانات من برنامج األمم املتحدة للبيئة واملركز العاملي لرصد حفظ البيئة واليت مجعها معهد املوارد‬
‫ً‬ ‫املصدر‪ :‬البنك الدويل ‪ h2016‬و‪،2017‬‬
‫العاملية‪.‬‬

‫بفضل جهود محاية املوائل الطبيعية واجلهود املوجهة حنو احلفاظ على البيئة‪ ،‬مت إنقاذ كث ٍري من أنواع احليوانات والطيور اليت كانت‬
‫على وشك االنقراض‪ ،‬مثل‪ :‬طائر القطرس‪ ،‬وطائر الكندور‪ ،‬واملها‪ ،‬والباندا‪ ،‬ووحيد القرن‪ ،‬وشيطان تسمانيا‪ ،‬والنمر‪ .‬وقد اخنفض معدل‬
‫كثريا من األنواع ما زالت يف مأزق خطري‪َّ ،‬إال‬
‫أن ً‬ ‫انقراض الطيور بنسبة ‪ 75‬يف املئة وفق ما قال عامل اإليكولوجيا ستيوارت بيم‪ .‬ورغم َّ‬
‫بأن البشر يتسبَّبون يف حدوث انقراض مجاعي كالذي حدث يف‬ ‫أن االدعاء َّ‬
‫عددا من علماء اإليكولوجيا واملستحاثات يعتقدون َّ‬ ‫َّ‬
‫أن ً‬
‫كثري من املشاكل اخلاصة باحلياة الربية اليت حتتاج إىل‬
‫قائال‪« :‬يظل أمامنا ٌ‬
‫العصر الربمي والعصر الطباشريي مبال ٌغ فيه‪ ،‬وكما يشري براند ً‬
‫بأهنا أزمات انقراض أدى إىل ذع ٍر عام من أن تكون الطبيعة هشة للغاية أو قد تلفت بالفعل ً‬
‫متاما بال أمل يف‬ ‫ولكن وصفها كثريا َّ‬
‫حل‪َّ ،‬‬
‫ً‬
‫إصالحها‪ ،‬وهذا أبعد ما يكون عن الوضع الفعلي‪ ،‬فالطبيعة ككل قوية كما كانت طوال عمرها‪ ،‬بل ورمبا أقوى‪ ...‬وعن طريق التعامل‬
‫مع هذه القوة يتم حتقيق أهداف احلفاظ على البيئة»‪.‬‬
‫نطاق عاملي‪ ،‬ففي عام ‪ 1963‬قضت املعاهدة اليت حتظر التجارب النووية يف الغالف‬ ‫وحدثت تطورات وحتسينات أخرى على ٍ‬
‫أن دول العامل ميكن أن تتفق على إجر ٍ‬
‫اءات‬ ‫ترويعا على اإلطالق‪ ،‬وهو الغبار الذري املشع‪ ،‬وأثبتت َّ‬
‫اجلوي على أكثر أشكال التلوث ً‬
‫حلماية الكوكب حىت يف ظل عدم وجود حكومة عاملية‪ .‬ومنذ ذلك احلني‪ ،‬متكن التعاون العاملي من مواجهة حتديات أخرى عديدة‪ ،‬فقد‬
‫ساعدت املعاهدات الدولية بشأن احلد من انبعاثات الكربيت واألشكال األخرى من «التلوث اجلوي بعيد املدى عرب احلدود» اليت مت‬
‫توقيعها يف الثمانينيات والتسعينيات من القرن املاضي يف القضاء على الفزع من سقوط األمطار احلمضية‪ ،‬وبفضل حظر‬
‫الفلوروكلوروكربونات يف عام ‪ 1987‬الذي صدقت عليه ‪ 197‬دولةً‪ ،‬فمن املتوقع تعايف طبقة األوزون يف منتصف القرن احلادي والعشرين‪.‬‬
‫متهد هذه النجاحات الطريق كما سنرى التفاقية باريس بشأن التغري املناخي التارخيية اليت انعقدت يف عام ‪.2015‬‬
‫ِّ‬

‫حتسن‬
‫إن مواصلة ُّ‬ ‫يج من الغضب والال منطقية ككل املظاهر األخرى الدالة على التقدم‪َّ .‬‬ ‫تُقابل التقارير عن حتسن حالة البيئة غالبًا مبز ٍ‬
‫أن البيئة تتحسن من تلقاء نفسها أو َّ‬
‫أن بإمكاننا االسرتخاء‬ ‫أن كل شيء على ما يرام‪ ،‬أو َّ‬ ‫مقاييس عديدة للجودة البيئية ال يعين بالضرورة َّ‬
‫دون فعل أي شيء‪ .‬علينا أن نشكر النقاشات والنشاطات والتشريعات والقواعد املنظمة واملعاهدات والرباعة التكنولوجية لدى من سعوا‬
‫إىل حتسني البيئة يف املاضي على البيئة األنظف اليت نتمتع هبا اليوم‪ ،‬وسنحتاج إىل املزيد من كل هذه األمور ملواصلة التقدم الذي حققناه‪،‬‬
‫ومننع انعكاسه (وخاصةً يف ظل رئاسة ترامب)‪ ،‬وتوسيع نطاقه ليشمل املشاكل اخلبيثة اليت ما زالت تواجهنا مثل صحة احمليطات والغازات‬
‫الدفيئة يف الغالف اجلوي كما سنرى فيما بعد‪.‬‬
‫سيعجلون‬
‫النهابني الذين ِّ‬‫خسيسا مليئًا باللصوص و َّ‬
‫ً‬ ‫ولكن الوقت قد حان للتخلي عن اللعبة األخالقية اليت يكون البشر فيها عرقًا‬
‫َّ‬
‫وبدال من ذلك‪ ،‬ميكننا أن‬‫بنهاية العامل لو مل يرتاجعوا عن الثورة الصناعية وينبذون التكنولوجيا ويعودون إىل التناغم الزاهد مع الطبيعة‪ً .‬‬
‫نتعامل مع محاية البيئة بوصفها مشكلة جيب حلها‪ ،‬كيف ميكن أن حييا الناس حياة آمنة ومرحية وحمفِّزة مع التسبُّب يف أقل قد ٍر ممكن‬
‫يشجعنا التقدم الذي حققناه حىت اآلن يف حل هذه املشكلة على السعي وراء حتقيق املزيد ال‬ ‫من التلوث وفقدان املوائل الطبيعية؟ ِّ‬
‫سريت هذا التقدم‪.‬‬
‫أيضا إىل القوى اليت َّ‬
‫السماح بالقناعة بالوضع الراهن‪ ،‬ويشري ً‬
‫انتفاعا أكرب بكميات أقل من املادة والطاقة‪،‬‬ ‫أحد مفاتيح حل هذه املشكلة هو فصل اإلنتاجية عن املوارد‪ ،‬أي حتقيق البشر ً‬
‫مهجنة أو معدَّلة إلنتاج املزيد من الربوتني والسعرات‬
‫وألن الزراعة أصبحت مكثَّفة عرب زراعة حماصيل َّ‬ ‫ويضفي هذا قيمة كبري على الكثافة‪َّ .‬‬
‫جزء كبري من األراضي الزراعية‬‫كميات أقل من املياه واألمسدة‪ ،‬مت االستغناء عن ٍ‬ ‫مساحات أقل من األراضي و ٍ‬
‫ٍ‬ ‫احلرارية واأللياف باستخدام‬
‫ٍ‬
‫مساحات‬ ‫أن الزراعة العضوية‪ ،‬اليت حتتاج إىل‬‫ائل طبيعية مرة أخرى‪( .‬يشري أنصار حركة احلداثة البيئية إىل َّ‬
‫وميكن أن يتغري شكلها لتعود مو َ‬
‫كثريا من األرض إلنتاج كيلوجرام واحد من الغذاء‪ ،‬ليست خضراءً وال مستدامةً)‪ .‬مع انتقال الناس إىل املدن‪ ،‬ال يفسحون مساحات‬ ‫أكرب ً‬
‫أيضا موارد أقل للتجوال والبناء والتدفئة‪َّ ،‬‬
‫ألن ما ميثِّل سق ًفا ألحد األفراد ميثِّل أرضيةً‬ ‫أكرب من األراضي يف الريف فحسب‪ ،‬بل يستلزمون ً‬
‫لفرد آخر‪ .‬ومع حصد حماصيل أشجار املزارع الكثيفة‪ ،‬اليت تتمتَّع خبمسة إىل عشرة أضعاف الغلة الناجتة عن الغابات الطبيعية‪ ،‬يتم‬ ‫ٍ‬
‫االستغناء عن أراضي الغابات وسكاهنا من ذوي الريش والفرو واحلراشف‪.‬‬
‫صديق آخر لألرض وهو احلد من استخدام املواد ()‪ ،Dematerialization‬فالتقدم يف‬
‫ٌ‬ ‫ويسهل كل هذه العمليات‬
‫ِّ‬
‫التكنولوجيا يتيح لنا القيام باملزيد من األمور باستخدام أغر ٍ‬
‫اض أقل‪ ،‬إذ كان وزن علبة املياه الغازية املكونة من األلومنيوم على سبيل املثال‬
‫ٍ‬
‫حباجة إىل أعمدة‬ ‫ولكن وزهنا اليوم أقل من نصف أوقية ‪-‬أي ‪ 14‬جر ًاما‪ ،-‬ومل ُتعد اهلواتف احملمولة‬
‫‪ 3‬أوقيات ‪-‬أي ‪ 85‬جر ًاما‪َّ -‬‬
‫وأسالك متتد ٍ‬
‫ألميال‪ .‬حتد الثورة الرقمية من استخدام املواد يف العامل أمام أعيننا إذ حتل وحدات البت حمل الذرات‪ ،‬فالياردات املكعبة من‬
‫الفينيل اليت كانت قدميًا متثِّل جمموعة أقراصي املوسيقية استسلمت للبوصات املكعبة من األقراص املدجمة‪ ،‬مث لصيغة الـ ‪ MP3‬اليت ال‬
‫وزن هلا من األساس‪ ،‬وأوقف جهاز األيباد تدفق هنر أوراق الصحف يف شقيت‪ ،‬ومع سعة التخزين على جهاز الالبتوب اليت تبلغ تريابايت‪،‬‬
‫فكر يف كل البالستيك واملعدن والورق الذي مل ُيعد يدخل يف‬ ‫أعد أشرتي صناديق الورق اليت حيتوي الواحد منها على عشرة رزم‪ِّ .‬‬ ‫مل ُ‬
‫مثال اهلاتف‬
‫هاتف ذكي واحد‪ ،‬وتشمل هذه املنتجات ً‬ ‫مجيعا ٌ‬
‫منتجا للمستهلك الواحد ميكن أن حيل حملهم ً‬ ‫تصنيع أكثر من أربعني ً‬
‫ومسجل الصوت والراديو واملنبه واآللة احلاسبة والقاموس وحافظة البطاقات‬ ‫ِّ‬ ‫ومسجل الفيديو‬
‫ِّ‬ ‫وجهاز الرد اآليل ودفرت اهلاتف والكامريا‬
‫(رولودكس) والتقومي وخريطة الشوارع واملصباح اليدوي والفاكس والبوصلة‪ ،‬بل وحىت بندول اإليقاع ومقياس درجة احلرارة يف اخلارج وميزان‬
‫التسوية‪.‬‬
‫أيضا عرب إتاحة اقتصاد املشاركة‪ ،‬مما جيعل من غري الضروري صناعة السيارات‬
‫حتد التكنولوجيا الرقمية من استخدام املواد يف العامل ً‬
‫مثال بأعداد ضخمة تظل بعد ذلك غري مستخدمة أغلب الوقت‪ .‬أشار احمللل يف جمال الدعاية روري ساذرالند‬ ‫واألدوات وغرف النوم ً‬
‫تسهل احلد من استخدام املواد‪ ،‬فأغلى األراضي العقارية يف لندن اليوم رمبا كانت‬
‫أيضا ِّ‬
‫أن التغيريات يف معايري املكانة االجتماعية ً‬ ‫إىل َّ‬
‫شجعت وسائل التواصل‬ ‫اجا من الضواحي الراقية‪َّ .‬‬ ‫ولكن وسط املدينة اآلن أكثر رو ً‬
‫لتبدو مزدمحةً للغاية بأغنياء العصر الفيكتوري‪َّ ،‬‬
‫بدال من سياراهتم ومالبسهم‪ ،‬وحتول الشباب إىل «هيبسرتز» جيعلهم مييِّزون أنفسهم عن‬ ‫االجتماعي الشباب على التباهي بتجارهبم ً‬
‫اآلخرين بذوقهم يف البرية والقهوة واملوسيقى‪ ،‬وانتهت احلقبة اليت مثَّلتها فرقة ذا بيتش بويز وفيلم ‪ ،American Graffiti‬إذ َّ‬
‫أن‬
‫عاما اآلن ال ميتلك رخصة قيادة‪.‬‬
‫نصف الشباب األمريكي البالغ من العمر ‪ً 18‬‬
‫يشري تعبري «الذروة النفطية» ‪ ،‬الذي اشتهر بعد أزمات الطاقة يف السبعينيات‪ ،‬إىل العام الذي سيبلغ فيه العامل احلد األقصى من‬
‫معدل إنتاج البرتول‪ .‬يشري أوزوبيل إىل أنَّه بسبب التحول الدميوغرايف وزيادة الكثافة واحلد من استخدام املواد‪ ،‬رمبا نكون قد بلغنا ذروة‬
‫األطفال وذروة األراضي الزراعية وذروة األخشاب وذروة الورق وذروة السيارات‪ .‬رمبا نبلغ بالفعل «ذروة األشياء»‪ ،‬فمن بني مئة سلعة‬
‫ثالث ومخسون سلعة‬
‫ست وثالثون سلعة إىل ذروة استخدامها يف الواليات املتحدة‪ ،‬وقد تكون ٌ‬ ‫درسها أوزوبيل ورمسها بيانيًّا‪ ،‬وصلت ٌ‬
‫أخرى يف طريقها لالخنفاض (مبا فيها املياه والنيرتوجني والكهرباء)‪ ،‬مما يرتك إحدى عشرة سلعة فقط ما زالت يف من ٍو مستمر‪ .‬وصل‬
‫أيضا إىل ذروة األشياء‪ ،‬إذ اخنفض استهالكهم السنوي من املواد من ‪ 15.1‬طن مرتي للفرد يف عام ‪ 2001‬إىل ‪10.3‬‬ ‫الربيطانيون ً‬
‫طن مرتي للفرد يف عام ‪.2013‬‬
‫بعفوية مع اُتاذ الناس قرارات بشأن طريقة‬‫ٍ‬ ‫مل تستلزم هذه االجتاهات امللحوظة أي إجبار أو تشريع أو وعظ أخالقي‪ ،‬بل حدثت‬
‫عيش حياهتم‪ .‬ال توضح هذه االجتاهات بالتأكيد َّ‬
‫أن التشريعات البيئية غري ضرورية‪ ،‬فقد كان لوكاالت محاية البيئة واملعايري املقررة للطاقة‬
‫ولكن هذه االجتاهات تشري‬ ‫آثار مفيدة للغاية‪َّ ،‬‬‫ومحاية األنواع املهددة باالنقراض والقوانني الوطنية والدولية للمياه النظيفة واهلواء النظيف ٌ‬
‫مسرعا باجتاه زيادة االستخدام غري املستدام للموارد‪ .‬تشمل طبيعة التكنولوجيا‪ ،‬وخاصةً تكنولوجيا‬ ‫أن تيار احلداثة ال يكتسح البشرية ً‬ ‫إىل َّ‬
‫املعلومات‪ ،‬شيئًا ما يعمل على فصل ازدهار البشرية عن استغالل األشياء املادية‪.‬‬
‫إن كل أجزاء‬ ‫أيضا َّأال نقبل الرواية اليت تقول َّ‬
‫إن البشرية تنهب وتفسد كل جزء من البيئة‪ ،‬علينا ً‬ ‫كما علينا َّأال نقبل الرواية اليت تقول َّ‬
‫البيئة ستتعاىف يف ظل ممارساتنا احلالية‪ .‬على أي نزعة بيئية مستنرية أن تواجه احلقائق‪ ،‬مبشِّرة كانت أم منذرة‪ ،‬ومن احلقائق املنذرة باخلطر‬
‫بال شك أثر الغازات الدفيئة على مناخ األرض‪ ،‬فكلما حرقنا اخلشب أو الفحم أو النفط أو الغاز‪ ،‬يتأكسد الكربون املوجود يف الوقود‬
‫أن بعض جزيئات ثاين أكسيد الكربون تتفكك يف احمليط‪ ،‬أو ترتبط‬ ‫ليكون ثاين أكسيد الكربون (‪ )CO2‬الذي ينتقل يف اجلو‪ .‬رغم َّ‬ ‫ِّ‬
‫أن هذه املصارف الطبيعية ال ميكنها مواكبة مقدار ما‬ ‫كيميائيًّا مع الصخور‪ ،‬أو متتصها النباتات اليت تقوم بعملية البناء الضوئي‪َّ ،‬إال َّ‬
‫خنلِّفه يف اجلو كل عام وهو ما يعادل ‪ 38‬مليار ط ٍن‪ .‬ومع احرتاق جيجات األطنان من الكربون الذي تركه العصر الكربوين‪ ،‬ارتفعت‬
‫نسبة تركيز ثاين أكسيد الكربون يف اجلو من حوايل ‪ 270‬جزءا يف املليون قبل الثورة الصناعية إىل أكثر من ‪ٍ 400‬‬
‫جزء يف املليون اليوم‪.‬‬ ‫ً‬
‫أن ثاين أكسيد الكربون حيبس احلرارة املنبعثة من سطح األرض كما يفعل الزجاج يف الصوبة الزجاجية (البيت الزجاجي)‪َّ ،‬‬
‫فإن املتوسط‬ ‫مبا َّ‬
‫أيضا حبوايل ‪ 0.8‬درجة مئوية (‪ 1.4‬درجة فهرهنايت)‪ ،‬وكان عام ‪ 2016‬هو األكثر حرارةً على‬ ‫العاملي لدرجات احلرارة قد ارتفع ً‬
‫أيضا إزالة الغابات اليت متتص الكربون‪ ،‬وإطالق امليثان (وهو أحد الغازات‬ ‫اإلطالق وتاله عام ‪ ،2015‬مث ‪ .2014‬ومما زاد اجلو احرت ًارا ً‬
‫التسرب‪ ،‬وذوبان اجلليد يف الرتبة الصقيعية‪ ،‬وغاز امليثان الذي خيرج من املاشية واألبقار‪ .‬قد يزداد‬‫الدفيئة األقوى) من آبار الغاز بسبب ُّ‬
‫حلقة مفرغة إذا حلَّت املياه واليابسة الداكنة املاصة للحرارة حمل الثلج واجلليد األبيض العاكس للحرارة‪ ،‬وإذا‬ ‫االحرتار أكثر وندور يف ٍ‬
‫أيضا أحد الغازات الدفيئة)‪.‬‬
‫تسارع ذوبان جليد الرتبة الصقيعية‪ ،‬وإذا تصاعد إىل اهلواء مزي ٌد من خبار املاء (وهو ً‬
‫إذا استمرت انبعاثات الغازات الدفيئة‪ ،‬فسريتفع متوسط درجات حرارة األرض حبلول هناية القرن احلادي والعشرين أعلى من‬
‫مستوى ما قبل احلقبة الصناعية مبقدار ‪ 1.5‬درجة مئوية (‪ 2.7‬درجة فهرهنايت) على األقل‪ ،‬ورمبا حىت مبقدار ‪ 4‬درجات مئوية (‪7.2‬‬
‫درجة فهرهنايت) أو أكثر‪ .‬سيتسبَّب هذا يف مزيد من املوجات احلارة األكثر حدة وتكر ًارا‪ ،‬ومزيد من الفيضانات يف املناطق الرطبة‪،‬‬
‫واجلفاف يف املناطق اجلفاف‪ ،‬وعواصف أشد‪ ،‬وأعاصري أعنف‪ ،‬وقلة غالت احملاصيل يف املناطق الدافئة‪ ،‬وانقراض املزيد من األنواع‪،‬‬
‫(ألن احمليطات ستكون أكثر حرارًة وحامضيةً)‪ ،‬وارتفاع متوسط مستوى سطح البحر مبقدار يرتاوح بني ‪0.7‬‬ ‫وفقدان الشعاب املرجانية َّ‬
‫كل من ذوبان اجلليد على اليابسة ومتدد مياه البحر‪( .‬ارتفع مستوى سطح البحر بالفعل‬ ‫مرتا (قدمني و‪ 4‬أقدام) بسبب ٍّ‬ ‫مرتا و‪ً 1.2‬‬ ‫ً‬
‫َّ‬
‫مبقدار ‪ 8‬بوصة تقريبًا منذ عام ‪ ،1870‬ويبدو أن معدل االرتفاع متسارع)‪ .‬ستغرق املناطق املنخفضة بفعل الفيضانات‪ ،‬وستختفي‬
‫الدول اجلزرية أسفل األمواج‪ ،‬ولن تظل مساحات شاسعة من األراضي الزراعية صاحلة للزراعة‪ ،‬وسينزح ماليني البشر‪ ،‬وقد تزداد اآلثار‬
‫سوءًا يف القرن الثاين والعشرين وما بعده‪ ،‬ونظريًّا‪ ،‬قد حتدث اضطرابات مثل احنراف تيار اخلليج الدافئ (وهو ما قد حييل أوروبا إىل ما‬
‫يشبه سيبرييا) أو اهنيار الصفائح اجلليدية يف القطب اجلنويب‪ .‬يُعد االرتفاع مبقدار درجتني مئويتني هو أكثر ما قد يستطيع العامل التكيُّف‬
‫فإن االرتفاع مبقدار ‪ 4‬درجات مئوية «ال جيب السماح به من‬ ‫معه‪ ،‬وحسبما ذكر أحد تقارير البنك الدويل الصادر عام ‪َّ ،2012‬‬
‫األساس»‪،‬‬
‫وللحفاظ على مستوى االرتفاع مبقدار درجتني مئويتني أو أقل‪ ،‬ينبغي على العامل أن خيفِّض انبعاثاته من الغازات الدفيئة مبقدار‬
‫متاما قبل بداية القرن الثاين والعشرين‪ ،‬فالتحدي أمامنا جسيم‪.‬‬
‫النصف أو أكثر حبلول منتصف القرن احلادي والعشرين والتخلص منها ً‬
‫يُنتج الوقود األحفوري ‪ 86‬يف املئة من طاقة العامل‪ ،‬فهو يشغِّل تقريبًا كل سيارة وشاحنة وقطار وطائرة وسفينة وجرار وفرن ومصنع على‬
‫ٍ‬
‫مشكلة كهذه قط‪.‬‬ ‫الكوكب‪ ،‬إضافةً إىل أغلب حمطات توليد الكهرباء‪ .‬مل تواجه البشرية‬
‫متاما بالطبع االحتجاج‬ ‫أن النشاط البشري هو السبب‪ .‬من املقبول ً‬ ‫من االستجابات الحتمالية تغري املناخ إنكار حدوثها أو زعم َّ‬
‫على فرضية التغري املناخي الناتج عن األنشطة البشرية على أسس علمية‪ ،‬وخاصةً بالنظر إىل اإلجراءات الصارمة اليت ستستلزمها إذا‬
‫إن التغري املناخي‬ ‫أن الفرضية الصحيحة ستصمد على املدى البعيد أمام حماوالت تفنيدها‪َّ .‬‬ ‫كانت حقيقية‪ .‬تتمثَّل فضيلة العلم الكربى يف َّ‬
‫ضا لالحتجاج بقوةٍ يف التاريخ‪ ،‬وحىت اآلن مت تفنيد كل االحتجاجات الكربى‬ ‫تعر ً‬
‫الناتج عن األنشطة البشرية هو أكثر الفرضيات العلمية ُّ‬
‫كأهنا ترتفع بسبب قياسها يف اجلزر احلرارية احلضرية‪ ،‬أو َّأهنا ترتفع حقًّا‬
‫أن درجات احلرارة العاملية توقفت عن االرتفاع‪ ،‬أو َّأهنا تبدو َّ‬ ‫‪َّ -‬‬
‫أن ‪ 4‬من بني كل ‪ 69,406‬باحثًا من‬ ‫ِّ‬
‫املتشككني‪ .‬وجد مسح حديث َّ‬ ‫ولكن بسبب زيادة حرارة الشمس‪ -‬بل واقتنع حىت كثريٌ من‬
‫كتاب املقاالت اليت ُتضع ملراجعة األقران يف املنشورات العلمية رفضوا فرضية االحرتار العاملي (االحتباس احلراري) الناتج عن األنشطة‬
‫أن «املؤلفات العلمية اخلاضعة ملراجعة األقران ال حتتوي على أي دليل مقنع على خطأ [الفرضية]»‪.‬‬ ‫البشرية و َّ‬
‫ولكن إحدى احلركات اليت تنتمي إىل اليمني السياسي األمريكي‪ ،‬مدعومة بقوةٍ من مجاعات مصاحل الوقود األحفوري‪ ،‬قد شنت‬ ‫َّ‬
‫رسخت نظرية املؤامرة اليت تقول َّ‬
‫إن اجملتمع العلمي‬ ‫محلة متعصبة وكاذبة إلنكار تسبُّب الغازات الدفيئة يف احرتار الكوكب‪ ،‬وبذلك َّ‬
‫مصاب بداء اللباقة السياسية القاتل وملتزم أيديولوجيًّا جتاه استيالء احلكومة على االقتصاد‪ .‬ولكوين شخص يعترب نفسه مراقبًا لدوغما‬
‫ٌ‬
‫اللباقة السياسية يف البيئة األكادميية‪ ،‬ميكنين أن أقول َّ‬
‫إن هذا هراء‪ ،‬فليس لدى العلماء الفيزيائيني أي أجندة‪ ،‬واألدلة واضحة للجميع‪.‬‬
‫حتديات كهذه بالتحديد يقع على عاتق الباحثني يف كل اجملاالت واجب ضمان مصداقية املؤسسات العلمية عرب عدم فرض‬ ‫ٍ‬ ‫(وبسبب‬
‫أي معتقدات سياسية)‪.‬‬
‫ِّ‬
‫املتشككني احلكماء يف التغري املناخي‪ ،‬ويُطلق عليهم أحيانًا «الفاترين»‪ ،‬الذين يقبلون بالعلم السائد يف هذا‬ ‫هناك بالتأكيد بعض‬
‫أن أسوأ‬‫فهم ينحازون إىل احتماالت االرتفاع البطيء يف درجات احلرارة‪ ،‬ويشريون إىل َّ‬ ‫الشأن‪ ،‬ولكنهم يؤِّكدون على اإلجيابيات‪ُ ،‬‬
‫أن نسبة ثاين أكسيد الكربون ودرجات احلرارة‬ ‫أيضا إىل َّ‬
‫السيناريوهات املمكنة يف حالة احللقة املفرغة هي سيناريوهات افرتاضية‪ ،‬ويشريون ً‬
‫قليال هلا فوائد فيما خيص غالت احملاصيل وهي مبادلة عادلة يف مقابل تكلفة هذه الزيادة‪ ،‬ويقولون إنَّه إذا مت السماح للدول بأن‬‫األعلى ً‬
‫حتقق أعلى درجة ممكنة من الثراء (دون فرض قيود معيقة للنمو على الوقود األحفوري) فستكون هذه الدول مؤهلة أكثر للتكيف مع‬
‫ولكن هذه مقامرة متهورة كما يشري االقتصادي ويليام نوردهاوس فيما يطلق عليه «كازينو املناخ»‪.‬‬ ‫التغري املناخي الذي حيدث بالفعل‪َّ .‬‬
‫إن الوضع الراهن ينبئ بتساوي الفرص بني أن يزداد وضع العامل سوءًا بقد ٍر هائل أو ال‪ ،‬وباحتمالية ‪ 5‬يف املئة أن مير العامل مبرحلة‬ ‫لنقل َّ‬
‫حرجة ويواجه كارثة‪ ،‬فسيكون من احلكمة اُتاذ إجراءات وقائية حىت لو كانت النتيجة الكارثية غري أكيدة‪ ،‬مثلما نشرتي مطافئ احلريق‬
‫أن التعامل مع مسألة التغري املناخي سيكون ببذل‬ ‫ووثائق التأمني على منازلنا وال نرتك عبوات البنزين مفتوحة يف مرائب سياراتنا‪ .‬ومبا َّ‬
‫جهود على مدار عدة عقود‪ ،‬فأمامنا كثري من الوقت للرتاجع إذا توقفت درجات احلرارة ومستوى سطح البحر وحامضية احمليط عن‬ ‫ٍ‬
‫مجيعا‪.‬‬
‫الزيادة‪ ،‬وهو ما سيسعدنا ً‬
‫من االستجابات األخرى للتغري املناخي استجابة أقصى اليسار السياسي واليت تبدو َّ‬
‫كأهنا مصممة لتربير نظريات املؤامرة اليت يقول‬
‫هبا أقصى اليمني السياسي‪ ،‬فوفق حركة «العدالة املناخية» اليت نشرهتا الصحافية ناعومي كالين )‪ (Naomi Klein‬يف كتاهبا الصادر‬
‫عام ‪ 2014‬والذي حقق أعلى املبيعات هذا يغير كل شيء‪ :‬الرأسمالية بمواجهة المناخ ( ‪This Changes Everything:‬‬
‫‪ ،)Capitalism vs. the Climate‬ال جيب أن نتعامل مع خطر التغري املناخي باعتباره حتديًّا مبنع التغري املناخي‪ ،‬بل جيب أن‬
‫نتعامل معه باعتباره فرصةً إللغاء األسواق احلرة وإعادة هيكلة االقتصاد العاملي وجتديد نظامنا السياسي‪ .‬يف أحد أكثر األحداث سرياليةً‬
‫ممويل محالت‬
‫يف تاريخ السياسة البيئية‪ ،‬انضمت ناعومي كالين إىل ديفيد وتشارلز كوك ‪-‬رجلي األعمال املليارديرين يف صناعة النفط‪ ،‬و ِّ‬
‫إنكار التغري املناخي‪ -‬من أجل املساعدة يف إحباط مبادرة طرحتها والية واشنطن للتصويت يف عام ‪ 2016‬كانت ستطبق أول ضريبة‬
‫على الكربون يف البالد‪ ،‬وهو اإلجراء السياسي الذي يؤيده كل احملللني تقريبًا ويعتربونه شرطًا أساسيًّا للتعامل مع التغري املناخي‪ ،‬ملاذا؟‬
‫ألن هذا اإلجراء كان «صدي ًقا لليمني السياسي»‪ ،‬ومل جيعل «صانعي التلوث يدفعون الثمن‪ ،‬ويشغِّل أرباحهم الفاسدة يف إصالح التلف‬ ‫َّ‬
‫أيضا حتليل التغري املناخي بصورٍة كمية‪:‬‬
‫الذي أحدثوه رغم علمهم به»‪ .‬بل وعارضت ناعومي يف حوا ٍر هلا عام ‪ً 2015‬‬

‫فنحن لن نفوز يف هذه املعركة بإجراء بعض احلسابات‪ ،‬ال ميكننا هزمية «احملاسبني» يف جماهلم‪ ،‬بل سنفوز يف هذه املعركة َّ‬
‫ألن‬
‫أيضا بعض اإلحصاءات‬ ‫هذه مسألة قي ٍم وحقوق إنسان‪ ،‬وصواب وخطأ‪ .‬لدينا هذه الفرتة القصرية اليت علينا أن جنمع خالهلا ً‬
‫حيرك قلوب الناس حقًّا هو احلجج املبنية على قيمة‬ ‫اجليدة اليت ميكننا استخدامها‪ ،‬ولكن ال ينبغي أن يغيب عن نظرنا َّ‬
‫أن ما ِّ‬
‫احلياة‪.‬‬

‫أيضا «القيم‪،‬‬
‫ليس جتاهل التحليل الكمي ووصفه بأنَّه جمرد «إجراء بعض احلسابات» معاداة للفكر العقالين فحسب‪ ،‬بل خيالف ً‬
‫وحقوق اإلنسان‪ ،‬والصواب واخلطأ»‪ ،‬فمن يقدِّر حياة اإلنسان سيؤيد السياسات اليت تقدم فرصة أكرب إلنقاذ الناس من النزوح أو اجلوع‬
‫بدال من السحر واألعمال الشيطانية‪ ،‬يتطلَّب هذا‬ ‫مع تقدمي الوسائل الالزمة لعيش حياة صحية ومرضية‪ .‬ويف ٍ‬
‫كون حتكمه قوانني الطبيعة ً‬ ‫ُ‬
‫«إجراء بعض احلسابات»‪ .‬حىت عندما يتعلَّق األمر بالتحدي البالغي بـ «حتريك قلوب الناس»‪ ،‬فالفعالية مهمة‪ ،‬إذ إن الناس مييلون إىل‬
‫قبول حقيقة االحرتار العاملي عندما يُقال هلم َّ‬
‫إن املشكلة قابلة للحل باالبتكارات التكنولوجية والسياسية أكثر مما يقبلون هبا عندما تُقدم‬
‫هلم حتذيرات خميفة من مدى بشاعته‪.‬‬
‫يعرب اجلواب التايل الذي أتلقى مثله كل فرتة عن شعوٍر شائع آخر جتاه كيفية منع التغري املناخي‪:‬‬

‫عزيزي األستاذ بينكر‪،‬‬


‫علينا أن نفعل شيئًا بشأن االحرتار العاملي‪ ،‬ملاذا ال يوقِّع العلماء الفائزون جبائزة نوبل عريضةً؟ ملاذا ال يقولون‬
‫أن الساسة خنازير ال يهتمون بعدد من ستقتلهم الفيضانات واجلفاف؟‬ ‫احلقيقة الصرحية وهي َّ‬
‫ملاذا ال تنشئ أنت وبعض أصدقائك حركةً على اإلنرتنت لدفع الناس إىل توقيع عريضةً تطالب ببذل تضحيات‬
‫ألن هذه هي املشكلة‪ ،‬ال أحد يريد التضحية‪ .‬جيب أن يتعهد الناس بعدم ركوب‬ ‫حقيقية ملكافحة االحرتار العاملي؟ َّ‬
‫كثريا من الوقود‪ ،‬وجيب أن يتعهد الناس بعدم تناول‬ ‫الطائرات سوى يف حاالت الطوارئ القصوى‪َّ ،‬‬
‫ألن الطائرات حترق ً‬
‫ألن عملية إنتاج اللحوم تعبئ اجلو بكث ٍري من الكربون‪ ،‬وجيب أن يتعهد‬
‫اللحوم ثالثة أيام على األقل يف األسبوع َّ‬
‫ألن تكرير الذهب والفضة يستخدم الطاقة بكثافة‪ .‬علينا أن نلغي صناعة‬ ‫الناس بعدم شراء اجملوهرات على اإلطالق َّ‬
‫كثريا من الكربون‪ ،‬جيب أن يتقبل صناع الفخار يف أقسام الفنون باجلامعات أنَّنا ال‬ ‫الفخار ألغر ٍ‬
‫اض فنية ألنَّه حيرق ً‬
‫ميكن أن نستمر هبذا الوضع‪.‬‬
‫ساحموين على احلسابات اليت سأجريها اآلن‪ ،‬ولكن حىت لو ُتلى اجلميع عن جموهراهتم‪ ،‬لن ُحيدث هذا أقل أثر يف انبعاثات العامل من‬
‫الغازات الدفيئة‪ ،‬اليت حتتل أغلبها الصناعات الثقيلة (بنسبة ‪ 29‬يف املئة)‪ ،‬واملباين (‪ 18‬يف املئة)‪ ،‬والنقل (‪ 15‬يف املئة)‪ ،‬وتغيري‬
‫استخدامات األراضي (‪ 15‬يف املئة)‪ ،‬والطاقة الالزمة لإلمداد بالطاقة (‪ 13‬يف املئة)‪( .‬املاشية مسؤولة عن ‪ 5.5‬يف املئة‪ ،‬وينبعث منها‬
‫على األغلب امليثان وليس ثاين أكسيد الكربون‪ ،‬والطريان مسؤول عن ‪ 1.5‬يف املئة)‪ .‬مل تقرتح صاحبة اجلواب بالطبع التخلي عن‬
‫وإمنا بسبب التضحية‪ ،‬ومن غري املفاجئ َّأهنا استبعدت استخدام اجملوهرات ً‬
‫متاما‪ ،‬فهي املثال النموذجي‬ ‫اجملوهرات والفخار بسبب أثر ذلك َّ‬
‫على الرفاهية‪ .‬ذكرت اقرتاحها البسيط لتوضيح عائقني نفسيني نواجههما عند التعامل مع التغري املناخي‪.‬‬
‫فرقون بني األفعال اليت ستخفِّض انبعاثات ثاين‬
‫العائق األول معريف‪ ،‬فالناس يواجهون صعوبة يف التفكري يف نطاق املشكلة‪ ،‬فال ي ِّ‬
‫يفرقون بني املستوى واملعدل والتسارع واملشتقات العليا‪ ،‬أي‬
‫أكسيد الكربون بآالف األطنان أو ماليني األطنان أو مليارات األطنان‪ ،‬وال ِّ‬
‫بني األفعال اليت ستؤثر يف معدل زيادة انبعاثات ثاين أكسيد الكربون‪ ،‬واليت ستؤثر يف معدل انبعاثات ثاين أكسيد الكربون‪ ،‬واليت ستؤثر‬
‫يف مستوى ثاين أكسيد الكربون يف اجلو‪ ،‬واليت ستؤثر يف درجات احلرارة العاملية (اليت سرتتفع حىت لو ظل مستوى ثاين أكسيد الكربون‬
‫ثابتًا)‪ .‬ال يهم من هذه األمور سوى األخري‪ ،‬ولكن إذا مل ِّ‬
‫يفكر املرء يف نطاق املشكلة والتغيري‪ ،‬قد يرضى بسياسات ال حتقق شيئًا‪.‬‬
‫يشجع على التجريد من‬‫متاما‪ ،‬فهو ِّ‬‫العائق الثاين أخالقي‪ .‬كما ذكرت يف الفصل الثاين‪ ،‬ليس احلس األخالقي للبشر أخالقيًّا ً‬
‫اإلنسانية («الساسة خنازير») والعدائية اجلزائية (جعل «صانعي التلوث يدفعون الثمن»)‪ .‬وباخللط بني التبذير والشر‪ ،‬وبني الزهد‬
‫ٍ‬
‫ثقافات عديدة عرب النذور بالصيام‬ ‫والفضيلة‪ ،‬قد يقدس احلس األخالقي مظاهر التضحية عدمية اجلدوى‪ .‬يتفاخر الناس باستقامتهم يف‬
‫والعفة ونكران الذات وحرق متاع الدنيا والتضحية باحليوانات (أو البشر أحيانًا)‪ ،‬وحىت يف اجملتمعات احلديثة ‪-‬وفق دراسات أجريتها مع‬
‫علماء النفس جيسون نيمريو وماكس كراسنو وريا هوارد‪ -‬حيرتم الناس اآلخرين على أساس مقدار الوقت أو املال الذي يبدِّدونه يف‬
‫بدال من مقدار اخلري الذي حيقِّقونه بالفعل‪.‬‬
‫أفعاهلم اإليثارية ً‬
‫تتضمن أغلب األحاديث العامة عن احلد من التغري املناخي تضحيات طوعية مثل إعادة التدوير أو خفض عدد األميال املقطوعة‬
‫كت بنفسي يف صور مللصقات يف العديد من هذه احلمالت اليت يقودها طالب‬ ‫لنقل الغذاء أو فصل الشاحن عن الكهرباء وهكذا‪( .‬شار ُ‬
‫بأن هذه املظاهر فاضلة‪ ،‬فهي تشتِّتنا عن التحدي الضخم الذي يواجهنا‪ ،‬واملشكلة َّ‬
‫أن انبعاثات‬ ‫جامعة هارفرد)‪ .‬ولكن مهما شعرنا َّ‬
‫أيضا مبأساة املشاع (أي مأساة املوارد العامة املشرتكة)‪ ،‬فينتفع األفراد‬
‫الكربون هي مثال كالسيكي على لعبة املصاحل العامة‪ ،‬اليت تُعرف ً‬
‫من تضحيات اآلخرين ويعانون من تضحياهتم‪ ،‬لذا يكون لدى اجلميع حافز ألن ينتفع باجملان ويدع اآلخرين يقومون بالتضحية‪ ،‬فيعاين‬
‫ولكن أي حكومة تتمتع‬ ‫السلطة القسرية اليت ميكنها معاقبة املنتفعني جمانًا‪َّ ،‬‬
‫اجلميع‪ .‬من طرق العالج القياسية ملعضالت املصاحل العامة ُ‬
‫بدال‬
‫بالسلطة الشمولية إللغاء صناعة الفخار ألغراض فنية لن تقصر على األرجح استخدام تلك السلطة على زيادة املصلحة املشرتكة‪ً .‬‬
‫حلث اجلميع على بذل التضحيات الضرورية‪ ،‬ولكن بينما‬ ‫من ذلك‪ ،‬ميكن أن حيلم املرء بأن تكون قوة اإلقناع األخالقي كبرية مبا يكفي ِّ‬
‫لدى البشر بالفعل مشاعر عامة‪ ،‬فمن غري احلكمة أن نرتك مصري الكوكب معل ًقا على أمل أن يتطوع مليارات األشخاص بالتصرف‬
‫أن التضحية الالزمة خلفض انبعاثات الكربون مبقدار النصف مث بالكامل‬ ‫ضد مصاحلهم الشخصية يف نفس الوقت‪ .‬واألهم من ذلك‪َّ ،‬‬
‫كثريا من التخلي عن اجملوهرات‪ ،‬إذ ستتطلَّب التخلي عن الكهرباء والتدفئة واألمسنت والفوالذ والورق والسفر‬ ‫وصوال إىل الصفر أعظم ً‬ ‫ً‬
‫إضافةً إىل األغذية واملالبس ميسورة التكلفة‪.‬‬
‫يدعو احملاربون من أجل العدالة املناخية إىل نظام «التنمية املستدامة»‪ ،‬وهم منغمسون يف الوهم ب َّ‬
‫أن العامل النامي سيفعل ذلك‪،‬‬
‫إن هذه التنمية ستتكون من «تعاونيات صغرية يف غابة األمازون حيث سيجمع املزارعون‬ ‫وهو ما ينتقده شيلينربجر وتيد نوردهاوس قائلني َّ‬
‫الفالحون واهلنود املكسرات والتوت من أجل بيعها إىل شركة بني آند جريي لتصنع اآليس كرمي بنكهة (القرمشة االستوائية)»‪ .‬سيُسمح‬
‫إن من يعيشون‬‫هلم باقتناء األلواح الشمسية اليت تستطيع تشغيل شاشة ‪ LED‬أو شحن اهلاتف اخللوي‪ ،‬ال أكثر‪ .‬وال داعي ألن نقول َّ‬
‫بالفعل يف تلك الدول لديهم فكرة خمتلفة عن هذا‪ ،‬فاهلروب من الفقر حيتاج إىل طاقة وفرية‪ .‬يشري ماريان تويب‪ ،‬صاحب موقع‬
‫كل‬
‫أن بوتسوانا وبوروندي كانتا معدمتني بنفس القدر يف عام ‪ ،1962‬فكان دخل الفرد السنوي يف ٍّ‬ ‫‪ ،HumanProgress‬إىل َّ‬
‫أي منهما كمية كبرية من ثاين أكسيد الكربون‪ ،‬وحبلول عام ‪ 2010‬كان مواطنو بوتسوانا جينون‬ ‫دوالرا‪ ،‬ومل تنبعث من ٍّ‬
‫منهما ‪ً 70‬‬
‫دوالرا سنويًّا‪ ،‬وهو ما يعادل ‪ 32‬ضعف ما جينيه مواطنو بوروندي الذين ما زالوا فقراء‪ ،‬وتعادل انبعاثات ثاين أكسيد الكربون‬
‫‪ً 7,650‬‬
‫لديهم ‪ 89‬ضعف انبعاثات بوروندي منه‪.‬‬
‫بدال من إثراء الدول الفقرية‪،‬‬ ‫عند مواجهة احملاربون من أجل العدالة املناخية هبذه احلقائق‪ ،‬جييبون َّ‬
‫بأن علينا أن نُفقر الدول الغنية ً‬
‫أوال)‪ .‬يشري كلٌّ من شيلينربجر ونوردهاوس‬ ‫مثال إىل «الزراعة كثيفة العمال» (والرد الوحيد املالئم على هذا هو‪ :‬ابدؤوا بأنفسكم ً‬ ‫أن نعيدها ً‬
‫إىل مدى تطور السياسة التقدمية عن األيام اليت كان فيها تزويد املناطق الريفية بالكهرباء والتنمية االقتصادية ضمن مشروعاهتا املميزة‪،‬‬
‫فيقولون‪َّ « :‬إهنا تقدِّم اآلن لفقراء العامل باسم الدميقراطية ليس ما يريدونه فقط ‪-‬أي الكهرباء الرخيصة‪ ،-‬بل تقدِّم هلم املزيد مما ال يريدونه‬
‫حقًّا‪ ،‬أي الطاقة املتقطعة واملكلِّفة»‪.‬‬
‫إن التقدم االقتصادي حتمي يف الدول الغنية والفقرية على حد سواء‪ ،‬ألنَّنا سنحتاج إليه للتكيف مع التغري املناخي الذي حيدث‬ ‫َّ‬
‫حتسنت (الفصل اخلامس والسادس)‪ ،‬و َّأهنم أصبحوا يتغذون على حنو‬ ‫أن صحة البشر قد َّ‬ ‫بالفعل‪ .‬ويرجع الفضل جزئيًّا إىل الرخاء يف َّ‬
‫ٍ‬
‫حلماية أكرب من الكوارث واألخطار الطبيعية (الفصل‬ ‫بسالم أكثر (الفصل احلادي عشر)‪ ،‬وخيضعون‬‫أفضل (الفصل السابع)‪ ،‬وينعمون ٍ‬
‫الثالث عشر)‪ ،‬وقد جعلت هذه التطورات البشرية أكثر مرونةً يف مواجهة التهديدات الطبيعية وتلك اليت من صنع البشر‪ ،‬فلم ُيعد تفشي‬
‫وُتمد املناوشات احمللية قبل أن‬
‫األمراض يتحول إىل أوبئة‪ ،‬وفساد احملصول يف إحدى املناطق خيفف وطأته الفائض يف منطقة أخرى‪ُ ،‬‬
‫حلماية أفضل من العواصف والفيضانات واجلفاف‪ .‬جيب أن تشمل استجابتنا للتغري املناخي‬ ‫ٍ‬ ‫تؤدي إىل اندالع حرب‪ ،‬وخيضع السكان‬
‫ضمان استمرار هذه املكاسب يف املرونة يف جتاوز التهديدات اليت سيأيت هبا الكوكب الذي يزداد احرت ًارا‪ .‬يف كل عام تزداد فيه الدول‬
‫النامية غىن‪ ،‬ستتمتع باملزيد من املوارد الالزمة لبناء األسوار البحرية واخلزانات‪ ،‬وحتسني خدمات الرعاية الصحية العامة‪ ،‬ونقل السكان‬
‫أيضا أن تزيد هذه الدول‬‫بعيدا عن مناطق البحار املرتفعة‪ ،‬ولذلك ال جيب إبقاء هذه الدول يف فق ٍر من الطاقة‪ ،‬ولكن من غري املنطقي ً‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫الدخل حبرق الفحم بكميات هائلة مما سيغرق اجلميع فيما بعد يف كوارث جوية‪.‬‬

‫كيف إذًا علينا أن نتعامل مع التغري املناخي؟ إذ جيب علينا التعامل معه‪ ،‬فأنا أتفق مع البابا فرانسيس واحملاربني من أجل العدالة املناخية‬
‫ولكن األخالقية خمتلفة عن‬
‫أن منع التغري املناخي قضية أخالقية ألنَّه يستطيع إيذاء مليارات األشخاص‪ ،‬وباألخص فقراء العامل‪َّ ،‬‬ ‫يف َّ‬
‫ٍ‬
‫بنتيجة عكسية‪ ،‬فتسببت يف قلة االهتمام بالتغري املناخي‬ ‫كثريا ما يضر هذا الوعظ األخالقية‪( .‬إذ أتت الرسالة البابوية‬
‫الوعظ األخالقي‪ ،‬و ً‬
‫يف أوساط الكاثوليك احملافظني الذين كانوا على وع ٍي به)‪ .‬رمبا يكون من املرضي لنا أن نشيطن شركات الوقود األحفوري اليت تبيع لنا‬
‫املدمر‪.‬‬
‫ولكن صكوك الغفران هذه لن متنع التغري املناخي ِّ‬
‫الطاقة اليت نريدها‪ ،‬أو التدليل على فضيلتنا ببذل تضحيات ظاهرية‪َّ ،‬‬
‫إن االستجابة املستنرية للتغري املناخي هي اكتشاف كيفية احلصول على أكرب قدر ممكن من الطاقة بأقل قدر ممكن من انبعاثات‬ ‫َّ‬
‫الغازات الدفيئة‪ .‬توجد بالطبع رؤية مأساوية للحداثة تكون فيها هذه االستجابة مستحيلة‪ ،‬وتقوم هذه الرؤية على َّ‬
‫أن اجملتمع الصناعي‬
‫ولكن هذه الرؤية املأساوية غري صحيحة‪ ،‬إذ يشري أوزوبيل إىل َّ‬
‫أن العامل احلديث‬ ‫الذي يعمل بالكربون املشتعل حيتوي على عوامل تدمريه‪َّ ،‬‬
‫يقلِّل تدرجييًّا من استخدام الكربون‪.‬‬
‫تتكون اهليدروكربونات املوجودة يف األشياء اليت حنرقها من اهليدروجني والكربون اللذين يصدران الطاقة عندما جيتمعان مع‬ ‫َّ‬
‫إن النسبة يف اخلشب اجلاف‪ ،‬وهو أقدم وقود هيدروكربوين‪ ،‬بني ذرات‬ ‫ليكونوا املاء ‪ O2H‬وثاين أكسيد الكربون ‪َّ .2CO‬‬ ‫األوكسجني ِّ‬
‫الكربون القابلة لالشتعال وذرات اهليدروجني هي حوايل ‪ 10‬إىل ‪َّ ،1‬أما الفحم الذي حل حمله خالل الثورة الصناعية فمتوسط نسبة‬
‫الكربون إىل اهليدروجني فيه ‪ 2‬إىل ‪ ،1‬وقد تكون النسبة يف الوقود املشتق من البرتول مثل الكريوسني ‪ 1‬إىل ‪ ،2‬ويتكون الغاز الطبيعي‬
‫باألساس من امليثان‪ ،‬وصيغته الكيميائية ‪ ،4CH‬فتكون النسبة فيه ‪ 1‬إىل ‪ .4‬إ ًذا فبينما تسلَّق العامل الصناعي سلم الطاقة من اخلشب‬
‫إىل الفحم إىل النفط إىل الغاز (وتسارع هذا التحول األخري يف القرن احلادي والعشرين بسبب وفرة الغاز الصخري الناتج عن عمليات‬
‫التكسري اهليدروليكي)‪ ،‬اخنفضت نسبة الكربون إىل اهليدروجني يف مصادر الطاقة مبعدل ثابت‪ ،‬كما اخنفضت كمية الكربون الالزم حرقها‬
‫إلنتاج وحدة من الطاقة (من ‪ 30‬كجم من الكربون لكل جيجا جول يف عام ‪ 1850‬إىل حوايل ‪ 15‬كجم اليوم)‪ .‬يوضح الشكل رقم‬
‫أن انبعاثات الكربون تتبع قوس كوزنتس‪ ،‬أي عندما بدأت الدول الغنية مثل الواليات املتحدة واململكة املتحدة يف التحول‬ ‫‪َّ 7-10‬‬
‫الصناعي‪ ،‬فإن انبعاثاهتا من ثاين أكسيد الكربون إلنتاج دوال ٍر واحد من الناتج احمللي اإلمجايل كانت تستمر يف الزيادة‪ ،‬ولكن يف‬
‫ٍ‬
‫اخنفاض منذ ذلك‬ ‫اخلمسينيات من القرن العشرين جتاوزت هذه الدول هذا املنعطف وأصبحت انبعاثاهتا من ثاين أكسيد الكربون يف‬
‫احلني‪ .‬تسري كلٌّ من الصني واهلند على نفس النهج‪ ،‬إذ بلغتا الذروة من االنبعاثات يف أواخر السبعينيات ومنتصف التسعينيات على‬
‫التوايل‪( .‬جتاوزت ا لصني كل احلدود يف أواخر اخلمسينيات بسبب خمططات ماو الغبية مثل مصاهر احلديد يف الباحات اخللفية ذات‬
‫إن كثافة الكربون يف العامل بأكمله يف تراج ٍع منذ نصف ٍ‬
‫قرن‪.‬‬ ‫االنبعاثات الغزيرة والناتج االقتصادي املنعدم)‪َّ .‬‬
‫اإلجمالي‬
‫انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لكل‬

‫الصين‬

‫الواليات‬
‫المملكة المتحدة‬ ‫المتحدة‬
‫دوالر من الناتج المحلي‬
‫ٍ‬

‫العالم‬

‫الهند‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 7 - 1 0‬ك ث ا ف ة ا ن ب ع ا ث ا ت ا ل ك رب ون ( ا ن ب ع ا ث ا ت ث ا ين أ ك س ي د ا ل ك رب ون ل ك ل د وال رٍ م ن‬
‫ا ل ن ا ت ج ا حمل ل ي ا إل مج ا يل ) م ن ذ ‪ 1 8 2 0‬ح ىت ‪2 0 1 4‬‬
‫املصدر‪ ،Ritchie & Roser 2017 :‬بناءً على بيانات من مركز حتليل معلومات ثاين أكسيد الكربون‪،‬‬
‫‪ .http://cdiac.ornl.gov/trends/emis/tre_coun.html‬الناتج احمللي اإلمجايل بالدوالر الدويل لعام ‪ ،2011‬والناتج احمللي اإلمجايل لألعوام‬
‫قبل ‪ 1990‬من مشروع ماديسون ‪.2014‬‬

‫يسود رئات عمال املناجم‪،‬‬


‫إن احلد من انبعاثات الكربون هو نتيجة طبيعية لتفضيالت الناس‪ ،‬فكما يوضح أوزوبيل‪« :‬الكربون ِّ‬ ‫َّ‬
‫متاما‪ ،‬إذ مينع االشتعال بتكوين املاء»‪ .‬يريد الناس أن‬
‫ويعرض هواء احلضر للخطر‪ ،‬ويهدد بالتغري املناخي‪ ،‬أما اهليدروجني فهو بريء ً‬ ‫ِّ‬
‫تكون طاقتهم كثيفة ونظيفة‪ ،‬ومع انتقاهلم إىل املدن ال يقبلون سوى الكهرباء اليت تصل إىل غرف نومهم والغاز الذي يصل إىل البوتاجاز‪.‬‬
‫أن هذا التطور الطبيعي قد وصل بالعامل إىل «ذروة الفحم»‪ ،‬بل ورمبا حىت «ذروة الكربون»‪ ،‬وكما يوضح الشكل‬ ‫ومن اجلدير بالذكر َّ‬
‫فإن االنبعاثات يف العامل قد استقرت منذ ‪ 2014‬إىل ‪ 2015‬مث اخنفضت يف املناطق صاحبة أكرب نسبة انبعاثات‪ ،‬وهي‬ ‫رقم ‪َّ 8-10‬‬
‫الصني واالحتاد األورويب والواليات املتحدة‪( .‬كما رأينا فيما خيص الواليات املتحدة يف الشكل رقم ‪َّ 3-10‬‬
‫فإن انبعاثات الكربون‬
‫بعض من نسبة‬
‫استقرت بينما ازداد الرخاء‪ ،‬فبني عامي ‪ 2014‬و‪ 2016‬منا الناتج العاملي اإلمجايل بنسبة ‪ 3‬يف املئة سنويًّا)‪ .‬اخنفض ٌ‬
‫بديال عن الفحم‬ ‫ولكن أغلبها اخنفض بفعل استخدام الغاز ‪ً 4CH‬‬ ‫َّ‬ ‫الكربون بفعل منو طاقة الرياح والطاقة الشمسية‪،‬‬
‫‪ ،NS9O97H137C‬وخاصةً يف الواليات املتحدة‪.‬‬
‫أخرى‬
‫انبعاثات ثاني أكسيد الكربون السنوية (مليار طن)‬

‫األجواء والبحار‬
‫الدولية‬

‫الهند‬

‫أوروبا (أخرى)‬ ‫الصين‬

‫الواليات المتحدة‬

‫االتحاد األوروبي ‪28 -‬‬


‫دولة‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 8 - 1 0‬ا ن ب ع ا ث ا ت ث ا ين أ ك س ي د ا ل ك رب ون م ن ذ ‪ 1 9 6 0‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫املصدر‪ Ritchie & Roser 2017 ،Our World in Data :‬و‪https://ourworldindata.org/grapher/annual-co2-‬‬
‫‪emissions-by-region‬بناءً على بيانات من مركز حتليل معلومات ثاين أكسيد الكربون‪،http://cdiac.ornl.gov/CO2_Emission/ ،‬‬
‫و‪ .2016 .Le Quéré et al‬يشري مصطلح «األجواء والبحار الدولية» إىل وسائل النقل اجلوية والبحرية‪ ،‬ويقابلها يف املصادر األصلية مصطلح‬
‫«»‪( Bunker fuels‬وقود السفن أو وقود النقل)‪ ،‬وتشري «أخرى» إىل الفرق بني انبعاثات ثاين أكسيد الكربون العاملية التقديرية وجمموع اإلمجاليات الوطنية‬
‫واإلقليمية‪ ،‬ويقابلها عنصر «»‪( Statistical difference‬الفرق اإلحصائي)‪.‬‬

‫يوضح االجتاه اجلارف حنو احلد من انبعاثات الكربون َّ‬


‫أن النمو االقتصادي ليس مرادفًا حلرق الكربون‪ .‬يعتقد بعض املتفائلني أنَّه‬
‫إذا أتيح هلذا االجتاه أن يتطور ليصل إىل مرحلته التالية ‪-‬أي االنتقال من الغاز الطبيعي ذي نسبة الكربون املنخفضة إىل الطاقة النووية‬
‫أن هذا سيحدث‬ ‫ولكن احلاملني فقط هم من يظنون َّ‬ ‫ٍ‬
‫بسالسة‪َّ ،‬‬ ‫اخلالية من الكربون‪ ،‬وهي عملية يُرمز هلا بـ ‪َّ -N2N‬‬
‫فإن املناخ سيستقر‬
‫ولكن الكثري من ثاين‬ ‫من تلقاء نفسه‪ .‬رمبا تكون انبعاثات ثاين أكسيد الكربون السنوية قد استقرت حاليًا عند حوايل ‪ 36‬مليار طن‪َّ ،‬‬
‫أكسيد الكربون ال يزال يُضاف سنويًّا إىل اجلو‪ ،‬وال توجد عالمة على االخنفاض املندفع الذي سنحتاج إليه كي نتفادى النتائج الضارة‪.‬‬
‫ينبغي أن تدفع كلٌّ من السياسات والتكنولوجيا عملية احلد من انبعاثات الكربون‪ ،‬وهي فكرة يُطلق عليها اخلفض الشديد لنسبة الكربون‪.‬‬
‫تبدأ هذه العملية بتسعري الكربون‪ ،‬أي حماسبة األفراد والشركات على الضرر الذي يتسببون فيه عندما يلقون بالكربون يف اجلو‪،‬‬
‫عن طريق فرض ضريبة على الكربون أو وضع حد أقصى وطين لالئتمانات القابلة للتداول‪ .‬يؤيد االقتصاديون من خمتلف األطياف‬
‫معا‪ .‬ال أحد ميتلك اجلو‪ ،‬لذا ال يوجد سبب ألن يبخل‬ ‫السياسية تسعري الكربون ألنَّه جيمع بني املزايا الفريدة للحكومات واألسواق ً‬
‫لكل منهم التمتع بالطاقة‪ ،‬وإيذاء اآلخرين يف الوقت نفسه‪ ،‬وهي نتيجة فاسدة يطلق عليها‬ ‫األفراد (والشركات) باالنبعاثات اليت تتيح ٍّ‬
‫االقتصاديون أثر خارجي سليب (وهو جمموع التكاليف يف «لعبة املصاحل العامة»‪ ،‬أو الضرر الذي يصيب املوارد العامة املشرتكة يف «مأساة‬
‫إن الضريبة على الكربون‪ ،‬اليت ال ميكن سوى للحكومة فرضها‪ ،‬جتعل التكاليف العامة مسألة شخصية‪ ،‬فتجرب األفراد على‬ ‫املشاع»)‪َّ .‬‬
‫أن السماح ملليارات األشخاص‬ ‫أن يأخذوا يف حساهبم األذى الذي سيتسببون فيه عند اُتاذ كل قرار تنتج عنه انبعاثات الكربون‪ .‬ال بد َّ‬
‫تعرب عنها األسعار سيكون أكثر كفاء ًة وأرحم من جعل‬ ‫يقرروا كيف حيافظون على البيئة بأفضل طريقة وفق قيمهم واملعلومات اليت ِّ‬ ‫بأن ِّ‬
‫وهم جالسني على مكاتبهم‪ .‬ليس على صانعي الفخار إخفاء أفراهنم من شرطة‬ ‫التكهن باخللطة املثالية ُ‬
‫احملللني احلكوميني حياولون ُّ‬
‫مكافحة الكربون‪ ،‬بل ميكنهم القيام بدورهم يف إنقاذ الكوكب بأن يستغرقوا وقتًا أقل يف االستحمام أو يتنازلوا عن قيادة السيارات أيام‬
‫بدال من اللحم البقري‪ ،‬وليس على اآلباء واألمهات أن حيسبوا إذا ما كانت خدمات صنع احلفاظات‬ ‫األحد أو يأكلوا الباذجنان ً‬
‫اضحا يف األسعار‪،‬‬
‫بشاحنات نقلها ومغاسلها تبعث كربونًا أكثر مما يفعل صانعو احلفاظات اليت تستعمل مرة واحدة‪ ،‬فالفرق سيكون و ً‬
‫وسيكون لدى كل شركة احلافز خلفض انبعاثاهتا كي تنافس الشركة األخرى‪ .‬ميكن للمبتكرين ورواد األعمال أن خياطروا باستخدام مصادر‬
‫بدال من األرضية املنحرفة احلالية اليت تتمكن عليها شركات‬ ‫الطاقة اخلالية من الكربون اليت ستنافس الوقود األحفوري على ٍ‬
‫أرضية متكافئة ً‬
‫الوقود األحفوري من إلقاء نفاياهتا يف اجلو جمانًا‪ .‬فدون تسعري الكربون‪ ،‬يكون للوقود األحفوري ‪-‬شديد الوفرة والقابل للنقل وذي الطاقة‬
‫الكثيفة‪ -‬أفضلية كبرية على البدائل‪.‬‬
‫حيول أمواله من القطاع اخلاص إىل القطاع احلكومي‬ ‫أثَّرت الضريبة على الكربون بالطبع يف الفقراء بطر ٍ‬
‫يقة تُقلق اليسار‪ ،‬الذي ِّ‬
‫ولكن هذه اآلثار ميكن معادلتها بتعديل املبيعات وكشوف األجور والدخل والتحويالت والضرائب األخرى‪( .‬كما‬
‫يقة تُزعج اليمني‪َّ ،‬‬ ‫بطر ٍ‬
‫ٍ‬
‫منخفضة مث ازدادت مع الوقت بصورةٍ‬ ‫قال آل جور‪ :‬لنفرض الضرائب على ما حنرقه‪ ،‬ال على ما جننيه)‪ .‬وإذا بدأت الضرائب ٍ‬
‫بنسبة‬
‫حادة ومتوقعة‪ ،‬سيتمكن األفراد من وضع الزيادة يف حسباهنم يف االستثمارات واملشرتيات طويلة األمد‪ ،‬وميكنهم تفادي معظم الضرائب‬
‫متاما عرب تفضيل استخدام تقنيات ذات نسبة كربون منخفضة‪.‬‬ ‫ً‬
‫يكشف العامل الرئيسي الثاين يف احلد الشديد من انبعاثات الكربون عن حقيقة مزعجة للحركة البيئية اخلضراء التقليدية‪ ،‬وهي َّ‬
‫أن‬
‫أن مصادر الطاقة املتجددة‪ ،‬وباألخص‬ ‫الطاقة النووية هي أكثر مصادر الطاقة اخلالية من الكربون وفرةً وقابليةً للزيادة يف العامل‪ ،‬رغم َّ‬
‫أن حصتها من طاقة العامل تضاعفت بأكثر من ثالثة أضعاف خالل‬ ‫كثريا جدًّا‪ ،‬و َّ‬
‫الطاقة الشمسية وطاقة الرياح‪ ،‬أصبحت أرخص ً‬
‫حد معني‪ .‬فالرياح‬ ‫أن هذه احلصة ما تزال ‪ 1.5‬يف املئة وهي نسبة ضئيلة‪ ،‬وال ميكن أن ترتفع أكثر من ٍّ‬ ‫السنوات اخلمسة املاضية‪َّ ،‬إال َّ‬
‫ولكن الناس حيتاجون إىل الطاقة طوال الوقت‪ ،‬عند سقوط األمطار وعند‬ ‫تسكن غالبًا‪ ،‬والشمس تغرب كل ليلة ورمبا حيجبها السحاب‪َّ ،‬‬
‫سطوع الشمس‪ .‬ستساعد يف هذا األمر البطاريات اليت تستطيع ُتزين كميات كبرية من الطاقة املستخرجة من املصادر املتجددة مث‬
‫حلما لن يتحقق سوى بعد سنوات‪ .‬متتد الرياح‬ ‫ٍ‬
‫ولكن البطاريات اليت قد تعمل على نطاق مدن بأكملها ما زالت ً‬ ‫إطالق هذه الطاقة‪َّ ،‬‬
‫والطاقة الشمسية على مساحات شاسعة‪ ،‬مما يعارض عملية التكثيف صديقة البيئة‪ ،‬فيقدِّر احمللل املختص بالطاقة روبرت برايس َّ‬
‫أن جمرد‬
‫ياح كل عام‪ .‬وستتطلب تلبية احتياجات العامل باملوارد‬‫مواكبة زيادة استخدام العامل للطاقة سيتطلب حتويل منطقة حبجم أملانيا إىل مزارع ر ٍ‬
‫املتجددة حبلول عام ‪ 2050‬تركيب طواحني اهلواء واأللواح الشمسية على مساحة حبجم الواليات املتحدة (مبا فيها أالسكا) واملكسيك‬
‫ووسط أمريكا واجلزء املأهول بالسكان من كندا‪.‬‬
‫َّأما الطاقة النووية فهي على العكس تقدِّم أكرب قد ٍر ممكن من الكثافة‪ ،‬ألنَّك يف التفاعل النووي ‪ E = mc 2‬حتصل على قدر‬
‫أثرا أقل‬ ‫ٍ‬
‫هائل من الطاقة (بالنسبة إىل مربع سرعة الضوء) من كتلة صغرية جدًّا‪ .‬يرتك التنقيب عن اليورانيوم للحصول على الطاقة النووية ً‬
‫‪1‬‬
‫من مساحة األرض اليت‬ ‫كثريا يف البيئة من التنقيب عن الفحم أو النفط أو الغاز‪ ،‬وحتتل حمطات توليد الكهرباء نفسها حوايل‬ ‫ً‬
‫‪500‬‬
‫إن الطاقة النووية متاحة طوال الوقت‪ ،‬وميكن توصيلها بشبكات الكهرباء اليت توفِّر الطاقة املرَّكزة‬ ‫حتتاج إليها الرياح أو الطاقة الشمسية‪َّ .‬‬
‫أيضا‪ .‬لقد شهدت السنوات‬ ‫حيث توجد حاجة إليها‪ ،‬وهلا بصمة كربونية أقل من الطاقة الشمسية واملائية والكتلة احليوية‪ ،‬وهي أكثر أمنًا ً‬
‫الستون اليت مت استخدام الطاقة النووية فيها إحدى وثالثني حالة وفاة يف كارثة تشرينوبيل عام ‪ ،1986‬نتيجةً للحماقة الغريبة يف احلقبة‬
‫السوفييتية‪ ،‬إضافةً إىل بضعة آالف حالة وفاة مبكرة جراء السرطان زيادةً على حاالت الوفاة الطبيعية جراء السرطان اليت كان عددها‬
‫‪ 100,000‬حالة يف املناطق املعرضة للطاقة النووية‪ .‬ومل تتسبب احلادثتان الشهريتان األخرتان‪ ،‬و ُمها حادثة جزيرة ثري مايل عام ‪1979‬‬
‫يوما تلو اآلخر بسبب التلوث الناتج‬ ‫أعدادا هائلة من الناس ميوتون ً‬
‫فإن ً‬ ‫وحادثة فوكوشيما عام ‪ ،2011‬يف مقتل أي شخص‪ .‬ومع ذلك َّ‬
‫أي من هذه احلوادث عناوين األخبار‪ .‬مقارنةً‬ ‫عن حرق املواد القابلة لالشتعال وبسبب احلوادث أثناء التنقيب عنها ونقلها‪ ،‬وال تتصدر ٌّ‬
‫عددا أكرب من الناس مبقدار ‪ 38‬ضع ًفا لكل كيلو وات ساعة من الكهرباء املتولدة‪ ،‬والكتلة‬ ‫فإن الغاز الطبيعي يقتل ً‬ ‫بالطاقة النووية‪َّ ،‬‬
‫عددا أكرب مبقدار ‪ 387‬ضع ًفا‪،‬‬ ‫عددا أكرب مبقدار ‪ 243‬ضع ًفا‪ ،‬والفحم يقتل ً‬ ‫عددا أكرب مبقدار ‪ 63‬ضع ًفا‪ ،‬والبرتول يقتل ً‬ ‫احليوية تقتل ً‬
‫أي رمبا مليون حالة وفاة سنويًّا‪.‬‬
‫عدد كبري من علماء املناخ مبا يلي‪« :‬ال يوجد مسار معقول حنو‬ ‫يلخص كلٌّ من نوردهاوس وشيلينربجر احلسابات اليت أجراها ٌ‬ ‫ِّ‬
‫كثريا‪ ،‬فهي التقنية الوحيدة اليت لدينا اليوم ذات نسبة‬ ‫ٍ‬
‫خفض انبعاثات الكربون العاملية دون استخدام الطاقة النووية على نطاق أوسع ً‬
‫الكربون املنخفضة واليت أظهرت قدرهتا على توليد كميات كبرية من الطاقة الكهربائية اليت تولَّد مركزيًّا»‪ .‬يقدِّر مشروع مسارات احلد‬
‫الشديد من انبعاثات الكربون ‪ ،Deep Decarbonization Pathways Project‬وهو احتاد من الفرق البحثية اليت وضعت‬
‫أن الواليات املتحدة ستضطر إىل احلصول على‬ ‫للدول خرائط طرق خلفض انبعاثاهتا مبا يكفي لتحقق مستهدف الدرجتني املئويتني‪َّ ،‬‬
‫نسبة ترتاوح بني ‪ 30‬و‪ 60‬يف املئة من استهالكها من الكهرباء من الطاقة النووية حبلول عام ‪( 2050‬وهو ما بني ‪ 1.5‬ضع ًفا إىل ‪3‬‬
‫أضعاف االستهالك احلايل)‪ ،‬و َّأهنا يف الوقت نفسه تولِّد املزيد من تلك الكهرباء لتحل حمل الوقود األحفوري يف تدفئة املنازل وتشغيل‬
‫املركبات وإنتاج الفوالذ واألمسنت واألمسدة‪ .‬وفق أحد السيناريوهات‪ ،‬سيتطلب هذا مضاعفة قدراهتا النووية بأربعة أضعاف‪ ،‬وسيكون‬
‫من الضروري إجراء توسعات مشاهبة يف الصني وروسيا ودول أخرى‪.‬‬
‫مفاعال نوويًّا تعرض‬
‫ً‬ ‫يتقلص استخدام الطاقة النووية لألسف يف حني ينبغي أن يزداد‪ ،‬فيوجد يف الواليات املتحدة أحد عشر‬
‫مؤخرا أو مهدد باإلغالق‪ ،‬وهو ما سيلغي كل ما كنا سنوفره من الكربون بسبب التوسع يف استخدام الطاقة الشمسية والرياح‪.‬‬ ‫لإلغالق ً‬
‫أيضا‪ ،‬مما‬ ‫ٍ‬
‫تقوم أملانيا‪ ،‬اليت كانت تعتمد على الطاقة النووية يف جزء كبري من إنتاجها من الكهرباء‪ ،‬بإغالق حمطات توليد الطاقة النووية ً‬
‫سيزيد من انبعاثات الكربون من حمطات التوليد اليت تعمل بالفحم اليت ستحل حملها‪ ،‬ورمبا حتذو حذوها فرنسا واليابان‪.‬‬
‫ملاذا تسري الدول الغربية يف االجتاه اخلاطئ؟ تضغط الطاقة النووية على عدة نقاط نفسية‪ ،‬مثل اخلوف من التسمم وسهولة ُتيل‬
‫وضخمت احلركة البيئية اخلضراء التقليدية ومؤيدوها «التقدميون» ‪-‬وهو‬‫الكوارث وعدم الثقة يف األمور غري املألوفة وما يصنعه البشر‪َّ .‬‬
‫املفسرين باللوم يف االحرتار العاملي على فرقة دويب براذرز واملغنية بوين ريت وجنوم الروك‬
‫أمر مشكوك فيه‪ -‬من هذا الفزع‪ .‬يلقي أحد ِّ‬
‫اآلخرين الذين أهاجوا مشاعر جيل «طفرة املواليد» ضد الطاقة النووية حبفلتهم وفيلمهم يف عام ‪ 1979‬بعنوان ‪( No Nukes‬أي‬
‫ال للنووي)‪( .‬عينة من كلمات نشيد اخلتام‪« :‬أعطين فقط طاقة الشمس الدافئة‪ ،‬أعطين روح الكائنات احلية عند عودهتا للطني‪ ،‬أعطين‬
‫أيضا كلٌّ من جني فوندا ومايكل‬
‫بريق نريان األخشاب املريح‪ ،‬ولكن ألن تُبعد عين طاقتك الذرية السامة؟») رمبا يتحمل بعض اللوم ً‬
‫دوجالس ومنتجو الفيلم الكارثي ‪ The China Syndrome‬عام ‪ ،1979‬الذي ُمسي كذلك ألنَّه يفرتض أن قلب املفاعل‬
‫ٍ‬
‫مصادفة‬ ‫النووي املنصهر سيتخلل القشرة األرضية حىت يصل إىل الصني بعد أن جيعل «منطقة حبجم بنسلفانيا» غري صاحلة للسكن‪ .‬ويف‬
‫شيطانية‪ ،‬عانت حمطة التوليد النووية يف جزيرة ثري مايل يف وسط بنسلفانيا من انصها ٍر جزئي بعد أسبوعني من إصدار الفيلم‪ ،‬مما خلق‬
‫هائال وجعل فكرة الطاقة النووية نفسها مشعة بنفس قدر وقود اليورانيوم‪.‬‬
‫فزعا ً‬‫ً‬
‫إن من يعرفون أكثر عن التغري املناخي هم األكثر خوفًا‪ ،‬ولكن يف حالة الطاقة النووية‪َّ ،‬‬
‫فإن من يعرفون أكثر هم األقل‬ ‫يُقال غالبًا َّ‬
‫خوفًا‪ .‬لقد تعلَّم املهندسون من احلوادث والكوارث الوشيكة وحققوا املزيد من األمان للمفاعالت النووية‪ ،‬كما فعلوا مع ناقالت النفط‬
‫كثريا من هذه املخاطر عند‬
‫والسيارات والطائرات واملباين واملصانع (الفصل الثاين عشر)‪ ،‬ممَّا جعل خماطر وقوع احلوادث والتلوث أقل ً‬
‫أيضا‪ ،‬وهو اخلاصية الطبيعية للرماد املتطاير وغازات املداخن املنبعثة من‬
‫استخدام الوقود األحفوري‪ .‬بل وينطبق هذا األمر على اإلشعاع ً‬
‫الفحم احملرتق‪.‬‬
‫أن عليها إزاحة عقبات تنظيمية معيقة من طريقها يف حني يتمتَّع منافسوها‬ ‫ولكن الطاقة النووية مكلِّفة‪ ،‬ويرجع هذا باألساس إىل َّ‬
‫َّ‬
‫كات خاصة باستخدام تصميمات ذات‬ ‫بطر ٍيق ممهد‪ .‬تُبىن اآلن يف الواليات املتحدة حمطات طاقة نووية بعد فجوة طويلة على يد شر ٍ‬
‫طاب ٍع خاص‪ ،‬لذا فهي مل تصل إىل أعلى منحىن التعلم اهلندسي واستقرت على أفضل املمارسات يف التصميم والرتكيب والبناء‪َّ ،‬أما‬
‫باء رخيصة تُنتج انبعاثات كربون‬‫بأعداد كبرية ويتمتَّعون اآلن بكهر ٍ‬
‫ٍ‬ ‫موحدة‬
‫السويد وفرنسا وكوريا اجلنوبية على العكس قد بنوا مفاعالت َّ‬
‫أقل بقد ٍر هائل‪ .‬فكما قال إيفان سيلني‪ ،‬املفوض السابق للجنة التنظيمية النووية‪« :‬لدى الفرنسيني نوعان من املفاعالت ومئات األنواع‬
‫من اجلنب‪ ،‬بينما األرقام معكوسة يف الواليات املتحدة»‪.‬‬
‫دورا جوهريًّا يف التحول يف احلد من انبعاثات الكربون‪ ،‬سيكون عليها يف النهاية أن تتجاوز تكنولوجيا‬ ‫كي تؤدي الطاقة النووية ً‬
‫اجليل الثاين من مفاعالت املاء اخلفيف‪( .‬كان «اجليل األول» يتكون من مناذج أولية من اخلمسينيات وأول الستينيات من القرن املاضي)‪.‬‬
‫قريبًا ستنشأ بضعة مفاعالت من اجليل الثالث‪ ،‬اليت تطورت من التصميمات احلالية إضافةً إىل بعض التحسينات يف األمان والكفاءة‪،‬‬
‫ولكنَّها تعاين حىت اآلن من مشكالت مالية وإنشائية‪ .‬تتكون مفاعالت اجليل الرابع من ستة تصميمات جديدة تعد بأن جتعل احملطات‬
‫النووية سلعة تُنتج بكميات كبرية وليست إصدارات حمدودة‪ .‬رمبا يُنتج أحد األنواع بكمية كبرية على خط التجميع مثل احملركات النفاثة‪،‬‬
‫وتوضع هذه الكمية يف حاويات شحن‪ ،‬وتُنقل بالسكك احلديدية‪ ،‬وتُرَّكب على مراكب البضائع الراسية قريبًا من شواطئ املدن‪ .‬سيسمح‬
‫بعيدا يف هناية‬
‫هذا بالتخلص من عقبة املعرتضني عن إقامة احملطات يف مدهنم‪ ،‬والصمود أثناء العواصف والتسونامي‪ ،‬وسحب احملطات ً‬
‫دورة حياهتا املفيدة كي يتم وقف تشغيلها‪ .‬وعلى حسب تصميمها ميكن دفنها وتشغيلها حتت األرض‪ ،‬وتربيدها بالغاز أو امللح املنصهر‬
‫بدال من غلقها من أجل استبدال قضبان الوقود‪،‬‬ ‫الذي ال حيتاج إىل ضغطه‪ ،‬وتزويدها بالوقود باستمرار من خالل تيا ٍر متدفق من احلصى ً‬
‫وإعدادها لتشارك يف توليد اهليدروجني (أنظف أنواع الوقود)‪ ،‬وتصميمها مبا جيعلها تغلق نفسها دون تدخل بشري إذا ارتفعت حرارهتا‪.‬‬
‫سيكون وقود بعضها الثوريوم الوفري نسبيًّا‪ ،‬ووقود بعضها اآلخر اليورانيوم املستخرج من مياه البحر‪ ،‬أو من األسلحة النووية املفككة (وهو‬
‫مثال رائع على حتويل العنف إ ىل سالم)‪ ،‬أو من نفايات املفاعالت القائمة‪ ،‬أو حىت من نفايات املفاعالت نفسها‪ .‬سيكون هذا أقرب‬ ‫ٌ‬
‫ما سنتوصل إليه إىل آلة دائمة احلركة قادرة على تزويد العامل بالطاقة آلالف السنني‪ .‬حىت االندماج النووي‪ ،‬الذي طاملا سخر منه الناس‬
‫عاما حقًّا (أو أقل)‪.‬‬
‫دائما»‪ ،‬رمبا يبعد عنا هذه املرة ثالثني ً‬
‫بعيدا ً‬
‫عاما وسيظل ً‬‫قائلني إنَّه مصدر الطاقة «الذي يبعد عنا ثالثني ً‬
‫إن فوائد الطاقة النووية املتقدمة ال ُحتصى‪ .‬تنادي معظم جهود مكافحة التغري املناخي بإصالحات سياسية (مثل تسعري الكربون)‬
‫فإن مصدر الطاقة األرخص واألكثر‬ ‫ما زالت حمل نزاع وسيصعب تنفيذها على نطاق العامل حىت يف السيناريوهات الوردية احلاملة‪ ،‬لذا َّ‬
‫كثافة واألنظف من الوقود األحفوري سيبيع نفسه دون احلاجة إىل إرادة سياسية جبارة أو تعاون دويل‪ .‬لن خيفِّف هذا املصدر من التغري‬
‫املناخي فحسب‪ ،‬بل سيوفر هدايا أخرى متعددة ومتنوعة‪ ،‬وسيتمكن سكان العامل النامي من ُتطي الدرجات املتوسطة من سلم الطاقة‪،‬‬
‫ممَّا سريفع مستوى معيشتهم حىت يصل إىل مستوى معيشة الغرب دون أن خينقهم الدخان الناتج عن حرق الفحم‪ .‬ميكن لتحلية املياه‬
‫ميسورة التكلفة‪ ،‬وهي عملية هنمة للطاقة‪ ،‬أن تقوم بري املزارع واإلمداد مبياه الشرب‪ ،‬وإتاحة تفكيك خزانات املياه عرب تقليل احلاجة‬
‫نظما بيئية بأكملها‪ .‬سيفيد الفريق الذي ميد العامل‬
‫إىل املياه السطحية والطاقة املائية‪ ،‬مما يعيد تدفق األهنار إىل البحريات والبحار وينعش ً‬
‫بطاقة وفرية ونظيفة البشرية أكثر مما فعل كل القديسني واألبطال واألنبياء والشهداء والفائزون باجلوائز يف التاريخ كله جمتمعني‪.‬‬
‫رمبا تنتج الطفرات يف الطاقة عن شركات ناشئة يؤسسها مبتكرون مثاليون‪ ،‬أو عن أعمال كريهة تقوم هبا وحدات مشاريع التطوير‬
‫بشركات الطاقة‪ ،‬أو عن املشاريع اليت يقوم هبا مليارديرات اجملال التقين للتباهي‪ ،‬وخاصةً إذا كانوا يتمتعون مبحفظة متنوعة من الرهانات‬
‫ولكن البحث والتطوير سيحتاجان إىل تعزي ٍز من احلكومات َّ‬
‫ألن هذه املصاحل العامة العاملية متثِّل‬ ‫املضمونة واألفكار اخلالقة اجملنونة‪َّ .‬‬
‫فإن «البنية التحتية‬‫دورا ألنَّه كما يشري براند َّ‬
‫للشركات اخلاصة خماطرًة كبرية جدًّا ذات عائد قليل جدًّا‪ ،‬فيجب أن تؤدي احلكومات ً‬
‫كثريا من التشريعات والسندات وحقوق الطريق‬ ‫َّ‬
‫نعني احلكومة لتتوالها‪ ،‬وخاصةً البنية التحتية للطاقة اليت تتطلب ً‬ ‫إحدى األمور اليت ِّ‬
‫واللوائح التنظيمية واإلعانات املالية واألحباث والعقود بني اجلهات احلكومية واخلاصة مع اإلشراف التفصيلي»‪ ،‬يشمل هذا توفري بيئة‬
‫بدال من رهاب التكنولوجيا والفزع من الطاقة النووية املالئمني حلقبة السبعينيات‪.‬‬ ‫تنظيمية مالئمة لتحديات القرن احلادي والعشرين ً‬
‫توجد بعض التكنولوجيات النووية من اجليل الرابع اجلاهزة للتنفيذ‪ ،‬ولكنَّها مقيَّدة بالبريوقراطية التنظيمية بسبب املخاوف البيئية ورمبا لن‬
‫أبدا‪ ،‬على األقل ليس يف الواليات املتحدة‪ ،‬ورمبا تأخذ زمام املبادرة كلٌّ من الصني وروسيا واهلند‪ ،‬الذين يتعطشون إىل الطاقة‬ ‫ترى النور ً‬
‫وسئموا الضباب الدخاين واملتحررين من اجلمود السياسي واحلساسية األمريكية‪.‬‬
‫سيعتمد جناح احلد من انبعاثات الكربون على التقدم التكنولوجي أيًا يكن من سيقوم به وأيًا يكن الوقود املستخدم‪ ،‬ملاذا نفرتض‬
‫ُ‬
‫أن املعرفة العلمية اليت لدينا يف ‪ 2018‬هي أفضل ما يستطيع العامل التوصل إليه؟ لن حيتاج احلد من انبعاثات الكربون إىل طفرات يف‬ ‫َّ‬
‫الطاقة النووية فحسب‪ ،‬بل يف حقول تكنولوجية جديدة أخرى‪ ،‬مثل بطاريات لتخزين الطاقة املتقطعة من املصادر املتجددة‪ ،‬وشبكات‬
‫توزع الكهرباء من مصاد ٍر متفر ٍقة على مستخدمني متفرقني يف ٍ‬
‫أوقات متفرقة‪ ،‬وتكنولوجيات جتعل العمليات الصناعية‬ ‫ذكية مثل اإلنرتنت ِّ‬
‫مثل إنتاج األمسنت واألمسدة والفوالذ تعتمد على الكهرباء واحلد من انبعاثات الكربون من هذه العمليات‪ ،‬والوقود احليوي السائل‬
‫للشاحنات الثقيلة والطائرات اليت حتتاج إىل طاقة كثيفة وقابلة للنقل‪ ،‬ووسائل الحتجاز ثاين أكسيد الكربون وُتزينه‪.‬‬

‫آخر هذه األمثلة ضروري ٍ‬


‫لسبب بسيط‪ ،‬وهو أنَّه حىت لو اخنفضت انبعاثات الغازات الدافئة مبقدار النصف حبلول عام ‪ 2050‬ووصلت‬
‫ألن ثاين أكسيد الكربون املنبعث بالفعل سيظل يف اجلو ٍ‬
‫لوقت‬ ‫إىل الصفر حبلول عام ‪ ،2075‬فسيظل العامل يف طريقه حنو احرتا ٍر خطري َّ‬
‫نفككها يف ٍ‬
‫مرحلة ما‪.‬‬ ‫طويل جدًّا‪ ،‬فال يكفي هذا لوقف ازدياد مسُك الصوبة الزجاجية‪ ،‬فعلينا أن ِّ‬
‫ٍ‬
‫تعود التكنولوجيا األساسية إىل أكثر من مليار ٍ‬
‫عام‪ ،‬متتص النباتات الكربون من اهلواء َّ‬
‫ألهنا تستخدم الطاقة املوجودة يف ضوء‬
‫الشمس جلمع ثاين أكسيد الكربون ‪ 2CO‬مع املاء ‪ O2H‬وصنع السكريات (مثل ‪ ،)6O12H6C‬والسليولوز (سلسلة من وحدات‬
‫ويكون السليولوز والليغنني معظم الكتلة احليوية املوجودة يف‬
‫‪ ،)5O10H6C‬والليغنني (سلسلة من وحدات مثل ‪ِّ ،)4O14H10C‬‬
‫اخلشب والسيقان‪ .‬الطريقة الواضحة إلزالة ثاين أكسيد الكربون من اهلواء هي توظيف أكرب عدد ممكن من النباتات اجلائعة للكربون يف‬
‫مساعدتنا‪ ،‬ميكننا أن نفعل هذا بتشجيع االنتقال من عمليات إزالة الغابات إىل عمليات إعادة تشجري الغابات والتشجري (غرس غابات‬
‫جديدة)‪ ،‬وبعكس أثر تدمري األراضي الرطبة واحملروثة‪ ،‬وباستعادة املوائل الطبيعية الساحلية والبحرية‪ .‬ومن أجل خفض مقدار الكربون‬
‫الذي يعود إىل اجلو عندما تتعفن النباتات امليتة‪ ،‬ميكننا تشجيع البناء باألخشاب ومنتجات النباتات األخرى‪ ،‬أو طهي الكتلة احليوية‬
‫كمحسن للرتبة يُطلق عليه «الفحم احليوي»‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫فحما نباتيًّا غري متعفِّن ودفنه‬
‫لتصبح ً‬
‫يوجد نطاق واسع من األفكار األخرى الحتجاز الكربون ولكنَّها أفكار هشة‪ ،‬على األقل مبعايري التكنولوجيا احلالية‪ .‬يتداخل‬
‫اجلانب القائم على التخمينات مع اهلندسة اجليولوجية‪ ،‬ويشمل خططًا لتشتيت الصخور املسحوقة اليت تستهلك ثاين أكسيد الكربون‬
‫أثناء عملية التجوية‪ ،‬وإلضافة املواد القولية إىل السحب أو احمليطات إلذابة املزيد من ثاين أكسيد الكربون يف املاء‪ ،‬ولتلقيح احمليط باحلديد‬
‫فيتكون من تكنولوجيات ميكنها فرك ثاين أكسيد الكربون إلزالته‬ ‫لتسريع عملية البناء الضوئي اليت تقوم هبا العوالق‪َّ .‬أما اجلانب املثبت َّ‬
‫ُ‬
‫(إن نزع الـ ‪ 400‬جزء يف املليون املتفرقني من اجلو‬‫من مداخن حمطات الطاقة بالوقود األحفوري وضخه يف زوايا وأركان القشرة األرضية‪َّ .‬‬
‫أن ذلك قد يتغري يف حالة أصبحت الطاقة النووية رخيصة بالقدر الكايف)‪.‬‬ ‫مباشرةً ممكن نظريًّا ولكنَّه غري فعَّال مما حيول دون حتقيقه‪ ،‬رغم َّ‬
‫أن هذه التكنولوجيات نفسها متعطشة للطاقة‪َّ ،‬إال َّأهنا‬ ‫ميكن تعديل املصانع وحمطات الطاقة القائمة وحتديثها بالتكنولوجيات‪ ،‬ورغم َّ‬
‫تستطيع خفض انبعاثات الكربون من البنية التحتية للطاقة الكبرية املوجودة بالفعل (مما يُنتج ما يطلق عليه الفحم النظيف)‪ ،‬وميكن إضافة‬
‫حتول الفحم إىل وقود سائل‪ ،‬وهو ما قد تظل حتتاج إليه الطائرات والشاحنات الثقيلة‪.‬‬ ‫أيضا إىل حمطات التغويز اليت ِّ‬ ‫هذه التكنولوجيات ً‬
‫فإن تنحية ثاين‬ ‫أن عملية التغويز عليها بالفعل فصل ثاين أكسيد الكربون عن تيار الغاز‪ ،‬لذا َّ‬ ‫يشري دانييل شراج عامل اجليوفيزياء إىل َّ‬
‫سائال ذا بصمة كربونية أقل من البرتول‪ .‬واألفضل من ذلك‬ ‫وقودا ً‬
‫تشكل نفقات إضافية ضئيلة‪ ،‬وستُنتج ً‬ ‫أكسيد الكربون حلماية اجلو ِّ‬
‫أنَّه إذا مت تكميل املادة األساسية من الفحم بالكتلة احليوية (مبا فيها احلشائش والنفايات الزراعية واملقتطعات من الغابات والقمامات‬
‫حمايدا من حيث البصمة الكربونية‪ .‬واألمر األفضل على‬ ‫يوما ما)‪ ،‬فقد يصبح ً‬ ‫احمللية ورمبا حىت الطحالب أو النباتات املعدَّلة جينيًّا ً‬
‫حصرا من الكتلة احليوية‪ ،‬فستكون سلبية من حيث البصمة الكربونية‪ ،‬فالنباتات‬ ‫تتكون ً‬ ‫اإلطالق هو أنَّه إذا كانت هذه املادة األساسية َّ‬
‫تسحب ثاين أكسيد الكربون من اجلو‪ ،‬وعندما تُستخدم كتلتها احليوية لإلمداد بالطاقة (عن طريق االحرتاق أو التخمر أو التغويز)‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫عملية احتجاز الكربون تستبعده‪ .‬أُطلق على هذا االحتاد‪ ،‬الذي يُدعى أحيانًا ‪- BEECS‬الطاقة احليوية واحتجاز الكربون وُتزينه‪-‬‬
‫التكنولوجيا املنقذة من التغري املناخي‪.‬‬
‫إن العوائق مثرية لألعصاب‪ ،‬فهي تشمل تعطش العامل املتنامي للطاقة‪ ،‬والراحة يف استخدام الوقود‬ ‫أي من هذا؟ َّ‬ ‫هل سيحدث ٌّ‬
‫األحفوري بسبب توفر بنيته التحتية الواسعة‪ ،‬وإنكار شركات الطاقة واليمني السياسي للمشكلة‪ ،‬ومعاداة احلركة البيئية اخلضراء التقليدية‬
‫فإن منع التغري املناخي فكرة قد حان‬ ‫واليسار املؤمن بالعدالة املناخية للحلول التكنولوجية‪ ،‬ومأساة املشاع الكربوين‪ .‬ورغم كل ذلك‪َّ ،‬‬
‫وقتها‪ ،‬وتدل على ذلك ثالثية عناوين األخبار اليت ظهرت يف جملة تامي خالل ثالثة أسابيع فقط يف عام ‪ ،2015‬وهم كالتايل‪« :‬الصني‬
‫تظهر جديتها بشأن التغري املناخي»‪ ،‬و«وول مارت وماكدونالدز و‪ 79‬شركة أخرى تلتزم مبكافحة التغري املناخي»‪ ،‬و«إنكار األمريكيني‬
‫اخنفاضا قياسيًّا»‪ .‬ويف نفس املوسم نشرت صحيفة نيويورك تاميز اخلرب التايل‪« :‬االستفتاء على ضرورة التصدي‬
‫ً‬ ‫للتغري املناخي يسجل‬
‫إمجاعا عامليًّا»‪ ،‬يف األربعني دولة اليت أجري فيها املسح كلها عدا دولة واحدة (باكستان)‪ ،‬فضلت أغلبية املشاركني‬
‫للتغري املناخي جيد ً‬
‫احلد من انبعاثات الغازات الدفيئة‪ ،‬مبا يشمل ‪ 69‬يف املئة من األمريكيني‪.‬‬
‫ليس اإلمجاع الدويل جمرد هراء‪ ،‬ففي ديسمرب ‪ 2015‬وقَّعت ‪ 195‬دولة اتفاقية تارخيية تلزمها باإلبقاء على مقدار ارتفاع درجة‬
‫كثريا» من درجتني مئويتني (وتستهدف ‪ 1.5‬درجة مئوية)‪ ،‬وبتخصيص ‪ 100‬مليار دوالر سنويًّا لتمويل التخفيف‬ ‫احلرارة العاملية «أقل ً‬
‫من التغري املناخي يف الدول النامية (وهي النقطة اليت كانت مثار خالف يف احملاوالت السابقة الفاشلة يف الوصول إىل اإلمجاع العاملي)‪،‬‬
‫مفصلة‬
‫ويف أكتوبر ‪ ،2016‬صدَّقت ‪ 155‬دولة من املوقِّعني على االتفاقية‪ ،‬ممَّا أدخلها حيز التنفيذ‪ .‬قدَّمت معظم الدول املوقِّعة خططًا َّ‬
‫لكيفية السعي وراء هذه األهداف حىت عام ‪ ،2025‬ووعد اجلميع بتحديث اخلطط كل مخس سنوات وتكثيف اجلهود‪ .‬دون هذا‬
‫التصعيد‪ ،‬تكون اخلطط احلالية غري كافية‪ ،‬إذ ستسمح لدرجة حرارة العامل باالرتفاع مبقدار ‪ 2.7‬درجة مئوية‪ ،‬وستقلل فرصة االرتفاع‬
‫اخلطري مبقدار ‪ 4‬درجات مئوية يف عام ‪ 2100‬بنسبة ‪ 75‬يف املئة فقط‪ ،‬وهي النسبة اليت ما تزال قريبة للغاية بقد ٍر ال يسمح بالراحة‪،‬‬
‫كثريا‬
‫ولكن االلتزامات العامة إضافةً إىل التقدم التكنولوجي املعدي قد يسامهوا يف التصعيد أكثر‪ ،‬ويف هذه احلالة ستقلل اتفاقية باريس ً‬ ‫َّ‬
‫من احتمالية االرتفاع مبقدار درجتني مئويتني وتقضي على احتمالية االرتفاع مبقدار ‪ 4‬درجات مئوية‪.‬‬
‫شهدت هذه اخلطة انتكاسةً يف عام ‪ 2017‬عندما أعلن دونالد ترامب‪ ،‬الذي أطلق على التغري املناخي عالنيةً خدعةً صينية‪،‬‬
‫أن الواليات املتحدة ستنسحب من االتفاقية‪ .‬حىت لو مت االنسحاب يف نوفمرب ‪( 2020‬وهو أقرب تاريخ ممكن لالنسحاب)‪َّ ،‬‬
‫فإن احلد‬ ‫َّ‬
‫من انبعاثات الكربون املدفوع بالتكنولوجيا واالقتصاد سيتواصل‪ ،‬وستُطرح سياسات مكافحة التغري املناخي من طرف املدن والواليات‬
‫واألعمال التجارية وقادة اجملال التقين ودول العامل األخرى اليت أعلنت َّ‬
‫أن االتفاق «هنائي» ورمبا تضغط على الواليات املتحدة لاللتزام‬
‫بكلمتها عرب فرض رسوم على الكربون على الصادرات األمريكية وفرض عقوبات أخرى‪.‬‬

‫أن التحوالت الضرورية‬ ‫فإن اجلهد الالزم ملنع التغري املناخي هائل‪ ،‬وليس لدينا أي ضمانة على َّ‬
‫وحىت إذا جاءت الرياح مبا تشتهي السفن‪َّ ،‬‬
‫ضررا بالغًا‪ .‬مما يؤدي بنا إىل‬ ‫ٍ‬
‫يف التكنولوجيا والسياسات ستكون نافذة يف وقت قريب مبا يكفي إلبطاء االحرتار العاملي قبل أن ُحيدث ً‬
‫إجراء وقائي أخري مستميت‪ ،‬وهو خفض درجة حرارة العامل عرب تقليل كمية إشعاع الشمس الذي يصل إىل الغالف اجلوي السفلي‬
‫وسطح األرض‪ .‬ميكن أن يرش أسطول من الطائرات ضبابًا رقي ًقا مكونًا من الكربيتات أو الكالسيت أو اجلسيمات النانوية يف الغالف‬
‫مقدارا كافيًا ملنع االحرتار اخلطري‪ .‬وسيحاكي هذا آثار انفجار‬
‫ستارا رقي ًقا يعكس من ضوء الشمس ً‬ ‫اجلوي العلوي (السرتاتوسفري) فينشر ً‬
‫كثريا من ثاين أكسيد الكربيت يف اجلو لدرجة َّ‬
‫أن درجة حرارة‬ ‫بركاين كانفجار جبل بيناتوبو الربكاين يف الفلبني عام ‪ ،1991‬الذي ألقى ً‬
‫الكوكب قد اخنفضت مبقدار نصف درجة مئوية (أي حوايل درجة واحدة فهرهنايت) ملدة عامني‪ .‬أو ميكن أن يرش أسطول من «سفن‬
‫الس ُحب» ضبابًا رقي ًقا من مياه البحر يف اهلواء‪ ،‬ومع تبخر املياه‪ ،‬ستنتقل بلورات امللح إىل السحب ويتكثَّف حوهلا خبار املاء ِّ‬
‫مشك ًال‬ ‫ُ‬
‫الس ُحب وتعكس املزيد من ضوء الشمس إىل الفضاء‪ .‬هذه اإلجراءات غري مكلفة نسبيًّا‪ ،‬وال تتطلب تكنولوجيا‬ ‫قطرات صغرية ستبيِّض ُ‬
‫ولكن‬
‫أيضا‪َّ ،‬‬ ‫جديدة غريبة‪ ،‬وقد ُتفِّض درجات احلرارة العاملية سر ًيعا‪ .‬يُشاع بعض احلديث عن أفكار أخرى للتالعب باجلو واحمليطات ً‬
‫مجيعا ما تزال يف مهدها‪.‬‬
‫األحباث عنها ً‬
‫تبدو فكرة «هندسة» املناخ خطة جمنونة ٍِ‬
‫لعامل جمنون وكانت من قبل أشبه بأم ٍر حمظور‪ ،‬ويراها املنتقدون محاقةً بروميثيوسية قد‬
‫أن آثار أي إجراء يُطبق على الكوكب‬ ‫يكون هلا عواقب غري مقصودة مثل اإلخالل بأمناط سقوط األمطار واإلضرار بطبقة األوزون‪ .‬مبا َّ‬
‫فإن مسألة هندسة املناخ تثري التساؤل حول من الذي عليه التحكم يف ترموستات العامل‪ ،‬فمثلما قد‬ ‫بأكمله ُتتلف من ٍ‬
‫مكان آلخر‪َّ ،‬‬
‫دولة أخرى‪ ،‬قد يُشعل هذا حربًا‪ .‬إذا تراخت‬ ‫حيدث مع األزواج املشاكسني‪ ،‬إذا خفضت إحدى الدول درجة احلرارة على حساب ٍ‬
‫كثريا مما يستطيع البشر‬
‫هندسة املناخ ألي سبب بعد أن يعتمد العامل عليها‪ ،‬سرتتفع درجات احلرارة يف اجلو املتشبع بالكربون أسرع ً‬
‫إن جمرد ذكر خمرٍج صغري من أزمة املناخ خيلق خماطر أخالقية‪ ،‬إذ يغري الدول بالتملص من واجبها من أجل خفض‬ ‫التكيف معه‪َّ .‬‬
‫انبعاثات الغازات الدفيئة‪ .‬وسيستمر ثاين أكسيد الكربون املرتاكم يف اجلو يف الذوبان يف مياه البحار مما حييل احمليطات بالتدريج إىل‬
‫محض الكربونيك‪.‬‬
‫أن بإمكاننا مواصلة ضخ الكربون يف اجلو مث ندهن واقيًا من الشمس‬ ‫لكل هذه األسباب‪ ،‬ال ميكن ألي شخص مسؤول أن يدَّعي َّ‬
‫ولكن الفيزيائي ديفيد كيث )‪ (David Keith‬يدافع يف كتابه الصادر عام ‪2013‬‬ ‫على الغالف اجلوي السفلي للتعويض عن ذلك‪َّ .‬‬
‫أن كميات الكربيت أو الكالسيت ستكون‬ ‫عن أحد أشكال هندسة املناخ‪ ،‬وهي هندسة معتدلة‪ ،‬ومتجاوبة‪ ،‬ومؤقتة‪« .‬معتدلة» تعين َّ‬
‫ألن التالعبات البسيطة ذات احتمالية أقل إلحداث مفاجآت‬ ‫متاما‪ ،‬إن االعتدال فضيلة َّ‬‫كافية بالكاد خلفض معدل االحرتار ال إلغاءه ً‬
‫متاما إذا‬
‫وخاضعا للتعديل باستمرار وسيتم وقفه ً‬
‫ً‬ ‫ومراقَـبًا عن كثب‬
‫حذرا وتدرجييًّا ُ‬
‫أن أي تالعب سيكون ً‬ ‫غري مرغوبة‪ .‬و«متجاوبة» تعين َّ‬
‫متنفسا حىت يقضوا على انبعاثات الغازات الدفيئة‬
‫ً‬ ‫مصمما فقط كي يوفر للبشر‬ ‫ًّ‬ ‫أن الربنامج سيكون‬‫تطلب األمر‪ .‬و«مؤقتة» تعين َّ‬
‫ردا على اخلوف من أن يدمن العامل هندسة املناخ‬ ‫ويعيدون ثاين أكسيد الكربون يف اجلو إىل مستواه قبل احلقبة الصناعية‪ .‬يقول كيث ًّ‬
‫لألبد‪« :‬هل يُعقل أنَّنا لن نكتشف كيف نسحب على سبيل املثال مخسة جيجا طن من الكربون يف العام من اهلواء حبلول عام ‪2075‬؟‬
‫ال أصدق ذلك»‪.‬‬
‫أن كيث من بني أول مهندسي املناخ يف العامل‪َّ ،‬إال أنَّه ال ميكن ِّاهتامه باالجنراف وراء فتنة االبتكار‪ .‬جند يف كتاب الصحايف‬
‫رغم َّ‬
‫أوليفر مورتون )‪ (Oliver Morton‬الصادر عام ‪ 2015‬الكوكب عند إعادة تكوينه )‪ (The Planet Remade‬حجة‬
‫يوضح‬
‫مدروسة مشاهبة أخرى‪ ،‬ويعرض الكتاب األبعاد التارخيية والسياسية واألخالقية هلندسة املناخ‪ ،‬إضافةً إىل آخر املستجدات التقنية‪ِّ .‬‬
‫قرن‪ ،‬فقد فات األوان على احلفاظ على نظام أرضي‬ ‫أن البشرية ُتل بالدورات العاملية للماء والنيرتوجني والكربون منذ أكثر من ٍ‬
‫مورتون َّ‬
‫بسرعة أو بسهو ٍلة‪ .‬تبدو األحباث حول‬
‫ٍ‬ ‫بدائي‪ .‬وبالنظر إىل جسامة مشكلة التغري املناخي‪ ،‬فمن غري احلكمة أن نفرتض أنَّنا سنحلها‬
‫كيف ميكننا تقليل حجم الضرر الواقع على ماليني الناس قبل تطبيق احللول بالكامل متحفظة‪ ،‬ويرسم مورتون سيناريوهات بشأن كيف‬
‫ميكن تطبيق برنامج هندسة مناخ معتدلة ومؤقتة حىت يف عا ٍمل بعيد عن احلكومة العاملية املثالية‪ .‬أوضح الباحث القانوين دان كاهان َّ‬
‫أن‬
‫احنيازا على أساس‬
‫تقدمي املعلومات عن هندسة املناخ ال خيلق خماطر أخالقية‪ ،‬بل جيعل الناس أكثر قل ًقا بشأن التغري املناخي وأقل ً‬
‫أيديولوجيتهم السياسية‪.‬‬
‫أن البشرية ليست يف طر ٍيق ال رجعة فيه حنو االنتحار اإليكولوجي‪ ،‬فاخلوف من نقص املوارد مبين على‬ ‫رغم نصف ٍ‬
‫قرن من اهللع‪َّ ،‬إال َّ‬
‫خسيس للكوكب البكر‪ .‬تدرك النزعة البيئية املستنرية‬
‫ٌ‬ ‫ص‬
‫أن اإلنسان احلديث ل ٌ‬‫سوء فهم‪ ،‬وكذلك النزعة البيئية الباغضة للبشر اليت ترى َّ‬
‫ٍ‬
‫أساليب للقيام‬ ‫أن البشر حيتاجون إىل استخدام الطاقة للخروج من الفقر الذي حكم عليهم به كلٌّ من التطور واإلنرتوبيا‪ ،‬وتبحث عن‬ ‫َّ‬
‫هذا بأقل ضرٍر على الكوكب وعامل األحياء‪ .‬يشري التاريخ إىل َّ‬
‫أن هذه النزعة البيئية احلديثة الربمجاتية اإلنسانية ميكن أن تنجح‪ ،‬فكلما‬
‫حد من استخدام املادة ومن انبعاثات الكربون ويكثِّف الطاقة ويستغىن عن بعض األراضي وأنواع الكائنات‬ ‫زاد العامل غىن وذكاءً تقنيًّا‪َّ ،‬‬
‫وتعليما أفضل‪ ،‬اهتموا أكثر بالبيئة واكتشفوا طرقًا حلمايتها وازداد استعدادهم لدفع التكاليف‪ .‬تتعاىف أجزاءٌ‬
‫احلية‪ ،‬وكلما ازداد الناس غىن ً‬
‫كثرية من البيئة‪ ،‬مما يشجعنا على التعامل مع املشكالت الباقية املعرتف حبدهتا‪.‬‬
‫تشكله‪ .‬يسألين بعض األشخاص أحيانًا عما‬ ‫أول هذه املشكالت انبعاثات الغازات الدفيئة وهتديد التغري املناخي اخلطري الذي ِّ‬
‫أن البشرية ستتصدى للتحدي أم ال‪ ،‬أو عما إذا كنا سنسرتخي وندع الكارثة حتدث أم ال‪ .‬إن كان يهمك رأيي‪ ،‬فأنا‬ ‫إذا كنت أعتقد َّ‬
‫يفرق االقتصادي بول رومر بني التفاؤل الراضي مثل‬ ‫أعتقد أننا سنتصدى للتحدي‪ ،‬ولكن من الضروري أن نفهم طبيعة هذا التفاؤل‪ِّ .‬‬
‫شعور الطفل الذي ينتظر اهلدايا صباح عيد امليالد اجمليد‪ ،‬والتفاؤل الشرطي مثل شعور الطفل الذي يريد منزال يف الشجر ويدرك أنَّه إذا‬
‫منزل شجرة‪ .‬ال ميكننا أن نتمتع بالتفاؤل‬‫أطفاال آخرين مبساعدته‪ ،‬فإن بإمكانه أن يبين َ‬‫حصل على بعض األخشاب واملسامري وأقنع ً‬
‫الراضي بشأن التغري املناخي‪ ،‬ولكن ميكننا أن نتمتع بالتفاؤل الشرطي‪ ،‬إذ لدينا بعض الطرق العملية ملنع األضرار ولدينا الوسائل الالزمة‬
‫لنتعلم املزيد‪ .‬املشكالت قابلة للحل‪ ،‬ال يعين هذا َّأهنا ستحل نفسها بنفسها‪ ،‬ولكنَّه يعين أنَّنا نستطيع حلها إذا حافظنا على قوى‬
‫اخلرية اليت مسحت لنا حبل املشكالت حىت اآلن‪ ،‬مبا فيها الرخاء اجملتمعي‪ ،‬واألسواق املنظَّمة حبكمة‪ ،‬واحلوكمة الدولية‪،‬‬ ‫احلداثة ِّ‬
‫واالستثمارات يف العلوم والتكنولوجيا‪.‬‬
‫الفصل الحادي عشر‪:‬‬
‫السالم‬

‫إىل أي مدى وصل عمق تيار التقدم؟ وهل ميكن أن يتوقف هذا التيار فجأة أو ينعكس مساره؟ يقدم لنا تاريخ العنف فرصةً ملواجهة‬
‫أن كل مقياس موضوعي‬ ‫هذه األسئلة‪ .‬أوضحت يف كتايب الزاويا االفضل لطبيعتنا ‪َّ The Better Angels of Our Nature‬‬
‫أن حجته قد تبطل قبل إصدار أول‬ ‫للعنف يف تراج ٍع بدءًا من العقد األول من القرن احلادي والعشرين‪ ،‬وحذرين املراجعون أثناء كتابته َّ‬
‫نسخة منه يف املكتبات‪( .‬إذ كان القلق السائد آنذاك بشأن اندالع حرب ‪-‬رمبا حرب نووية‪ -‬بني إيران وإسرائيل أو الواليات املتحدة)‪.‬‬
‫منذ إصدار الكتاب يف عام ‪ ،2011‬يبدو وكأن شالل األخبار السيئة يبطله‪ :‬احلرب األهلية يف سوريا‪ ،‬واألعمال الوحشية يف الدولة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬واإلرهاب يف غرب أوروبا‪ ،‬واألوتوقراطية يف شرق أوروبا‪ ،‬وحوادث إطالق النريان من الشرطة يف الواليات املتحدة‪ ،‬وجرائم‬
‫الكراهية‪ ،‬واندالع العنصرية ومعاداة املرأة من الشعبويني الغاضبني يف خمتلف أحناء الغرب‪.‬‬
‫أيضا‬
‫ولكن احنياز التوفر واالحنياز للسلبية اللذين دفعا الناس إىل الشك يف احتمالية أن يكون العنف قد تراجع بالفعل‪ ،‬ميكنهما ً‬
‫َّ‬
‫أن أي تراج ٍع قد انعكس مساره‪ .‬على مدار الفصول اخلمسة التالية‪ ،‬سأضع األخبار السيئة األخرية‬ ‫دفع الناس إىل اإلسراع يف استنتاج َّ‬
‫وصوال إىل وقتنا احلاضر‪ ،‬مبا فيه تذكرة‬
‫يف نصاهبا الصحيح عرب اللجوء إىل البيانات‪ ،‬وسأرسم املسارات التارخيية لعدة أنو ٍاع من العنف ً‬
‫بآخر نقطة بيانية متاحة يف وقت طباعة كتاب الزاويا االفضل لطبيعتنا‪ .‬تُعد سبع سنوات جمرد غمضة عني بالنسبة للتاريخ‪ ،‬ولكنَّها‬
‫مستمرا‪ .‬واألهم من ذلك أنَّين سأحاول تفسري االجتاهات‬
‫ً‬ ‫اجتاها‬
‫مؤشرا بسيطًا على ما إذا كان الكتاب استغل حلظة حظ أم حدَّد ً‬
‫تقدم ً‬
‫موضوعا له‪( .‬وسأطرح يف هذه األثناء بعض‬
‫ً‬ ‫من حيث القوى التارخيية األعمق‪ ،‬وأضعها يف نطاق قصة التقدم اليت يتخذها هذا الكتاب‬
‫األفكار اجلديدة حول ماهية تلك القوى)‪ .‬سأبدأ بأكثر أشكال العنف تكلفةً‪ ،‬وهو احلرب‪.‬‬

‫كانت احلرب طوال أغلب تاريخ البشرية التسلية الطبيعية للحكومات‪ ،‬وكان السالم جمرد مهلة لالسرتاحة بني احلروب‪ ،‬يظهر هذا يف‬
‫يوضح نسبة الوقت الذي قضته القوى العظيمة خالل نصف األلفية املاضية يف احلروب‪( .‬القوى العظيمة‬ ‫الشكل رقم ‪ ،1-11‬الذي ِّ‬
‫بعضا كأنداد‪ ،‬واليت تتحكم جمتمعةً‬
‫هي حفنة من الدول واإلمرباطوريات اليت بإمكاهنا استخدام القوة خارج حدودها‪ ،‬واليت تعامل بعضها ً‬
‫يف أغلبية موارد العامل العسكرية)‪َّ .‬‬
‫إن احلروب بني القوى العظمى‪ ،‬اليت تشمل احلربني العامليتني‪ ،‬هي أشد أشكال التدمري اليت اخرتعها‬
‫أن القوى العظمى كانت يف‬ ‫جنس البشر البائس‪ ،‬وهذه احلروب مسؤولة عن أغلبية ضحايا كل احلروب جمتمعةً‪ .‬يوضح الرسم البياين َّ‬
‫ٍ‬
‫حروب على حنو مستمر تقريبًا‪ ،‬ولكنَّها اآلن ال ُتوض حروبًا مطل ًقا تقريبًا‪ ،‬إذ كانت آخر حرب هي اليت‬ ‫فجر العصر احلديث يف‬
‫عاما مضت‪.‬‬
‫واجهت فيها الواليات املتحدة الصني يف كوريا منذ أكثر من ستني ً‬
‫السنوات التي قضتها القوى العظيمة تحارب بعضها بعضًا‬
‫بالنسبة المئوية‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 1 - 1 1‬ح روب ا ل ق وى ا ل ع ظ م ى م ن ذ ‪ 1 5 0 0‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫جممعة‬
‫بعضا‪َّ ،‬‬
‫املصدر‪ ،Levy & Thompson 2011 :‬حمدَّثة لتشمل القرن احلادي والعشرين‪ .‬نسبة السنوات اليت قضتها القوى العظمى حتارب بعضها ً‬
‫كل منها ‪ 25‬سنة‪ ،‬باستثناء السنوات من ‪ 2000‬إىل ‪ .2015‬يشري السهم إىل السنوات من ‪ 1975‬إىل ‪ ،1999‬أي ربع القرن املرسوم‬‫على فرتات مدة ٍّ‬
‫يف الشكل رقم ‪ 12-5‬من دراسة ‪.Pinker 2011‬‬

‫عاما‪ ،‬أصبحت احلروب‬ ‫ٍ‬


‫خيفي الرتاجع احلاد يف احلروب بني القوى العظمى اجتاهني كانا حىت وقت قريب معاكسني‪ ،‬فلمدة ‪ً 450‬‬
‫اليت تشمل قوى عظمى أقصر وأقل تكر ًارا‪ ،‬ولكن مع زيادة تأهيل جيوشها وتدريبها وتسليحها‪ ،‬أصبحت احلروب اليت تندلع أكثر فت ًكا‪،‬‬
‫بشكل مذهل رغم كوهنما قصريتني‪ .‬مل ترتاجع مقاييس احلروب الثالث ‪-‬معدل‬ ‫ٍ‬ ‫وبلغت ذروهتا يف احلربني العامليتني اللتني كانتا مدمرتني‬
‫مجيعا سوى بعد احلرب العاملية الثانية‪ ،‬ودخل العامل يف الفرتة اليت أُطلق عليها «السالم الطويل»‪.‬‬
‫تكرارها ومدهتا ومدى فتكها‪ً -‬‬
‫أن احلرب مبعناها الكالسيكي‪ ،‬أي النزاع املسلح بني جيشني‬ ‫ليست القوى العظمى فقط هي من توقفت عن القتال‪ ،‬بل يبدو َّ‬
‫أي منها يف أغلب السنوات منذ ‪،1989‬‬ ‫نظاميني‪ ،‬قد عفا عليها الزمن‪ .‬إذ مل يزد عددها عن ثالثة يف كل سنة منذ ‪ ،1945‬ومل يندلع ٌّ‬
‫حروب بني الدول منذ هناية‬ ‫ٍ‬ ‫أي منها على اإلطالق منذ الغزو األمريكي للعراق يف عام ‪ ،2003‬وهي أطول فرتة متر دون‬ ‫ومل يندلع ٌّ‬
‫بدال من مئات اآلالف أو املاليني الذين ماتوا يف احلروب‬ ‫احلرب العاملية الثانية‪ .‬تقتل املناوشات بني اجليوش الوطنية اليوم عشرات الناس ً‬
‫الشعواء اليت حاربت فيها الدول القومية على مر التاريخ‪ .‬واجه هذا «السالم الطويل» بالطبع بعض االختبارات منذ ‪ ،2011‬مثل‬
‫كل من هذه احلاالت‪ ،‬تراجعت أطراف‬ ‫ولكن يف ٍّ‬
‫الصراعات بني أرمينيا وأذربيجان‪ ،‬وبني روسيا وأوكرانيا‪ ،‬وبني كوريا الشمالية واجلنوبية‪ْ ،‬‬
‫حرب كربى أمر مستحيل‪ ،‬ولكنَّه يُعد غريبًا استثنائيًّا‪،‬‬‫أن التصعيد إىل ٍ‬‫حرب شاملة‪ .‬ال يعين هذا بالطبع َّ‬ ‫بدال من تصعيده إىل ٍ‬ ‫الصراع ً‬
‫أمرا حتاول كل الدول جتنبه بأي مثن (تقريبًا)‪.‬‬
‫ً‬
‫أيضا االنكماش‪ ،‬ففي ‪ ،2016‬أهنت اتفاقية سالم بني حكومة كولومبيا وعصابات «فارك» (القوات‬ ‫وتواصل جغرافيا احلرب ً‬
‫باق من عهد‬‫املسلحة الثورية الكولومبية) املاركسية آخر صراع مسلح سياسي نشط يف نصف الكرة األرضية الغريب‪ ،‬وهو آخر صر ٍاع ٍ‬
‫عقود مضت‪ .‬كانت العصابات اليسارية املسلحة يف جواتيماال والسلفادور وبريو ‪-‬‬ ‫احلرب الباردة‪ .‬وهذا تغيري بالغ األمهية عن بضعة ٍ‬
‫معكوسا (إذ كانت مجاعات الكونرتا‬
‫ً‬ ‫مثلما حدث يف كولومبيا‪ -‬تقاتل احلكومات املدعومة من أمريكا‪ ،‬ويف نيكاراجوا كان الوضع‬
‫املدعومة من أمريكا تقاتل احلكومة اليسارية)‪ ،‬وأدت هذه الصراعات جمتمعةً إىل قتل أكثر من ‪ 650‬ألف شخص‪ .‬حذا نصف الكرة‬
‫األرضية بأكمله حذو مناطق كبرية أخرى يف العامل يف االنتقال حنو السالم‪ .‬استسلمت قرون احلرب الدامية يف أوروبا‪ ،‬واليت بلغت ذروهتا‬
‫عقود من السالم‪ .‬ويف شرق آسيا‪ ،‬حصدت حروب منتصف القرن العشرين أرواح ماليني‬ ‫يف احلربني العامليتني‪ ،‬أمام أكثر من سبعة ٍ‬
‫فإن شرق وجنوب‬‫الناس‪ ،‬يف الغزوات اليابانية واحلرب األهلية الصينية واحلروب يف كوريا وفيتنام‪ .‬ولكن رغم النزاعات السياسية اخلطرية‪َّ ،‬‬
‫متاما من أي معارك قائمة بني الدول‪.‬‬‫شرق آسيا اليوم خاليان تقريبًا ً‬
‫ترتكز كل حروب العامل اآلن تقريبًا يف منطقة متتد من نيجرييا إىل باكستان وحتتوي على أقل من ُسدس سكان العامل‪ ،‬وهي حروب‬
‫حكومة وقوة منظمة يؤدي إىل قتل ألف‬‫ٍ‬ ‫يعرفها برنامج أوبساال لبيانات الصراعات (‪َّ )UCDP‬‬
‫بأهنا صراع مسلح بني‬ ‫أهلية‪ ،‬واليت ِّ‬
‫جندي ومدين على األقل سنويًّا مبا ميكن إثباته‪ .‬جند هنا سببًا حديثًا لإلحباط‪ ،‬فالرتاجع شديد االحندار يف عدد احلروب األهلية بعد‬
‫هناية احلرب الباردة ‪-‬من ‪ 14‬حربًا أهلية يف ‪ 1990‬إىل ‪ 4‬يف ‪ -2007‬قد انعكس وارتفع العدد إىل ‪ 11‬يف ‪ 2014‬و‪ 2015‬وإىل‬
‫‪ 12‬يف ‪ .2016‬هذا التغيري مدفوع باألساس بالصراعات اليت تكون إحدى اجلماعات اإلسالمية املتطرفة أحد طرفيها (‪ 8‬من ‪ 11‬يف‬
‫‪ 2015‬و‪ 10‬من ‪ 12‬يف ‪ ،)2016‬فدون هذه اجلماعات‪ ،‬مل ت ُكن لتحدث أي زيادة يف عدد احلروب على اإلطالق‪ .‬رمبا ليس من‬
‫أن اثنتني من احلروب يف عامي ‪ 2014‬و‪ 2015‬حركتهما أيديولوجية أخرى معادية للنزعة اإلنسانية‪ ،‬وهي القومية الروسية‬ ‫قبيل الصدفة َّ‬
‫اليت دفعت القوى االنفصالية بدع ٍم من فالدميري بوتني لقتال حكومة أوكرانيا يف مقاطعتني‪.‬‬
‫احلرب األسوأ من بني احلروب الدائرة هي تلك اليت يف سوريا‪ ،‬حيث سحقت حكومة بشار األسد بلدها يف حماو ٍلة هلزمية جمموعة‬
‫متنوعة من القوى املتمردة اإلسالمية وغري اإلسالمية‪ ،‬مبساعدة روسيا وإيران‪ .‬احلرب األهلية السورية مسؤولة عن اجلزء األعظم من‬
‫االرتفاع يف املعدل العاملي لوفيات احلروب املوضح يف الشكل رقم ‪ ،2-11‬بوفياهتا يف املعارك اليت بلغ عددها ‪ 250‬ألف حالة وفاة‬
‫منذ ‪( 2016‬وهذا تقدير متحفظ)‪.‬‬
‫معدل الوفيات في المعارك لكل ‪ 100,000‬شخص لكل‬
‫سنة‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 2 - 1 1‬م ع د ل ا ل وف ي ا ت يف ا مل ع ا رك م ن ذ ‪ 1 9 4 6‬ح ىت ‪2 0 1 6‬‬


‫املصادر‪ :‬مقتبس من مشروع تقرير األمن البشري لعام ‪ .2007‬بيانات األعوام من ‪ 1946‬إىل ‪Peace Research Institute of Oslo :1988‬‬
‫‪ Lacina & Gleditsch 2005. ,2008–1946Battle Deaths Dataset‬لبيانات األعوام من ‪ 1989‬إىل ‪UCDP :2015‬‬
‫‪Uppsala Conflict Data Program 2017, Melander, ,Battle-Related Deaths Dataset version 5.0‬‬
‫‪ ،Pettersson, & Themnér 2016‬حمدث مبعلومات من ‪ .Therese Pettersson and Sam Taub of UCDP‬أرقام تعداد‬
‫سكان العامل‪ ،US Census Bureau; 1946–1949, McEvedy & Jones 1978 ,2016–1950 :‬مع بعض التعديالت‪ .‬يشري‬
‫السهم إىل سنة ‪ ،2008‬وهي آخر سنة مرسومة يف الشكل رقم ‪ 2-6‬من دراسة ‪.Pinker 2011‬‬

‫ٍ‬
‫اخنفاض مذهل دام ستة عقود‪ .‬شهدت احلرب العاملية الثانية يف أسوأ حاالهتا ‪ 300‬حالة وفاة‬ ‫ولكن هذا االرتفاع يأيت يف هناية‬
‫ألهنا كانت ستجعل اخلط ينكمش طوال كل السنوات‬ ‫شخص لكل عام‪ ،‬وهي غري موضحة يف الرسم البياين َّ‬
‫ٍ‬ ‫يف املعارك لكل ‪100000‬‬
‫يوضح الرسم البياين‪ ،‬إذ بلغ ذروته عند نقطة‬
‫الالحقة ليشبه سجادة جمعدة‪ .‬اخنفض معدل الوفيات يف فرتات ما بعد احلرب سر ًيعا كما ِّ‬
‫‪ 22‬خالل احلرب الكورية‪ ،‬و‪ 9‬خالل حرب فيتنام يف أواخر ستينيات القرن املاضي وأوائل السبعينيات‪ ،‬و‪ 5‬عند حرب إيران والعراق‬
‫يف منتصف الثمانينيات‪ ،‬قبل أن يطفو على القاعدة عند نقطة أقل من ‪ 0.5‬بني عامي ‪ 2001‬و‪ ،2011‬وارتفع ٍ‬
‫ببطء ليصل إىل‬
‫‪ 1.5‬يف ‪ 2014‬وتراجع إىل ‪ 1.2‬يف ‪ ،2016‬وهو العام ذو البيانات األحدث‪.‬‬
‫رمبا يكون متابعو األخبار يف منتصف عقد ‪ 2010‬توقعوا أن تكون املذحبة السورية قد حمت كل التقدم التارخيي الذي حتقق يف‬
‫العقود السابقة‪ ،‬وهذا َّ‬
‫ألهنم ينسون احلروب األهلية العديدة اليت انتهت دون أبواق احلرب بعد عام ‪( 2009‬يف أجنوال وتشاد واهلند‬
‫أيضا احلروب السابقة ذات أعداد الوفيات الضخمة مثل احلروب يف اهلند الصينية (منذ ‪ 1946‬إىل‬
‫وإيران وبريو وسرييالنكا) وينسون ً‬
‫‪ 500 ،1954‬ألف حالة وفاة)‪ ،‬واهلند (منذ ‪ 1946‬إىل ‪ ،1948‬مليون حالة وفاة)‪ ،‬والصني (منذ ‪ 1946‬إىل ‪ ،1950‬مليون حالة‬
‫وفاة)‪ ،‬والسودان (منذ ‪ 1956‬إىل ‪ 500 - 1972‬ألف حالة وفاة‪ ،‬ومنذ ‪ 1983‬إىل ‪ - 2002‬مليون حالة وفاة)‪ ،‬وأوغندا (منذ‬
‫‪ 1971‬إىل ‪ 500 ،1978‬ألف حالة وفاة)‪ ،‬وإثيوبيا (منذ ‪ 1974‬إىل ‪ 750 ،1991‬ألف حالة وفاة)‪ ،‬وأجنوال (منذ ‪ 1975‬إىل‬
‫‪ ،2002‬مليون حالة وفاة)‪ ،‬وموزمبيق (منذ ‪ 1981‬إىل ‪ 500 ،1992‬ألف حالة وفاة)‪.‬‬
‫أدت الصور املؤملة لالجئني اليائسني من احلرب األهلية السورية الذين يكافح كثريٌ منهم من أجل إعادة التسكني يف أوروبا إىل‬
‫ولكن هذا أحد أعراض فقد الذاكرة التارخيية واحنياز التوفر‪.‬‬
‫وقت مضى يف التاريخ‪َّ ،‬‬‫إن العامل اآلن به الجئون أكثر من أي ٍ‬ ‫االدعاء القائل َّ‬
‫عددا من العشرة ماليني نازٍح بسبب حرب االستقالل‬ ‫يشري عامل السياسة جوشوا جولدشتاين إىل َّ‬
‫أن األربعة مليون الجئ سوري اليوم أقل ً‬
‫البنجالديشية يف عام ‪ ،1971‬واألربعة عشر مليون نازٍح بسبب تقسيم اهلند يف عام ‪ ،1947‬والستة ماليني نازٍح بسبب احلرب العاملية‬
‫صغريا من تعداده احلايل‪ .‬ليس التحديد الكمي هلذا األسى قسوة‬ ‫الثانية يف أوروبا وحدها‪ ،‬ويف هذه احلقب كان تعداد سكان العامل جزءًا ً‬
‫وإمنا إكر ًاما ملعاناة ضحايا األمس‪ ،‬ويضمن أن يتصرف صناع السياسات ملصاحلهم من‬ ‫على املعاناة الفظيعة اليت يعانيها ضحايا اليوم‪َّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫استنتاجات خطرية عن «العامل الذي خيوض حربًا»‪،‬‬ ‫خالل االنطالق من فه ٍم دقيق للعامل‪ ،‬وباألخص‪ ،‬ينبغي أن مينعهم من التوصل إىل‬
‫وهو ما قد يغريهم بالتخلص من احلوكمة العاملية أو العودة إىل «االستقرار» األسطوري الذي اتسمت به مواجهات احلرب الباردة‪ .‬يشري‬
‫أن «املشكلة ليست يف العامل‪ ،‬املشكلة يف سوريا‪ ...‬فالسياسات واملمارسات اليت أهنت احلروب (يف أماكن أخرى) ميكن‬ ‫جولدشتاين إىل َّ‬
‫أن تنهي احلروب اليوم يف جنوب السودان واليمن ورمبا حىت سوريا‪ٍ ،‬‬
‫ببعض من اجلهد واالستخبارات»‪.‬‬
‫أيضا باإلبادة اجلماعية أو القتل اجلماعي باسم احلكومات‬
‫قد تكون عمليات القتل اجلماعي للمدنيني غري املسلحني‪ ،‬اليت تُعرف ً‬
‫أو العنف من ٍ‬
‫طرف واحد‪ ،‬مهلكة بنفس قدر احلروب وتتداخل معها غالبًا‪ .‬وف ًقا للمؤرخني فرانك تشاك وكريت يوناسون َّ‬
‫فإن «اإلبادة‬
‫اجلماعية قد حدثت يف كل أديان العامل وخالل كل فرتات التاريخ»‪ .‬خالل احلرب العاملية الثانية‪ ،‬ذُبح عشرات املاليني من املدنيني على‬
‫يد هتلر وستالني واإلمرباطورية اليابانية‪ ،‬ويف قصف متعمد ملناطق املدنيني على يد مجيع األطراف (ومرتني بأسلحة نووية)‪ ،‬وبلغ معدل‬
‫بأن «العامل مل يتعلَّم شيئًا من‬
‫الوفيات ذروته عند حوايل ‪ 350‬حالة لكل ‪ 100‬ألف شخص سنويًّا‪ .‬ولكن على عكس اجلزم َّ‬
‫فإن فرتة ما بعد احلروب مل تشهد شيئًا مثل سيل الدماء الذي شهدته أربعينيات القرن املاضي‪ .‬حىت خالل فرتة ما بعد‬ ‫اهلولوكوست»‪َّ ،‬‬
‫حادا كما سنرى يف جمموعيت البيانات املوضحتني يف الشكل رقم ‪-11‬‬ ‫احندارا ًّ‬
‫احلروب‪ ،‬احندر معدل الوفيات بسبب اإلبادة اجلماعية ً‬
‫‪.3‬‬
‫معدل الوفيات نتيجة اإلبادة الجماعية لكل ‪ 100000‬شخص لكل سنة‬

‫فرقة عمل االضطرابات السياسية‬

‫برنامج أوبساال‬
‫لبيانات الصراعات‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 3 - 1 1‬م ع د ل ا ل وف ي ا ت ن ت ي ج ة ا إل ب ا د ة ا جل م ا ع ي ة م ن ذ ‪ 1 9 5 6‬ح ىت ‪2 0 1 6‬‬


‫املصادر‪ :‬فرقة عمل االضطرابات السياسية‪Political Instability Task Force State Failure Problem Set, :2008–1955 ،‬‬
‫‪ Marshall, Gurr, & Harff 2009; Center for Systemic Peace 2015. ,2008–1955‬وصف احلسابات مذكور يف دراسة‬
‫‪ .Pinker 2011, p. 338‬برنامج أوبساال لبيانات الصراعات‪UCDP One-Sided Violence Dataset v. :2016-1989 ،‬‬
‫‪ ،2.5-2016, Melander, Pettersson, & Themnér 2016; Uppsala Conflict Data Program 2017‬تقديرات‬
‫«معدالت الوفاة املرتفعة»‪ ،‬حمدَّثة ببيانات من سام تاوب من برنامج أوبساال لبيانات الصراعات‪ ،‬بالنسبة إىل أرقام تعداد سكان العامل من مكتب تعداد‬
‫الواليات املتحدة‪ .‬يشري السهم إىل سنة ‪ ،2008‬وهي آخر سنة مرسومة يف الشكل رقم ‪ 8-6‬من دراسة ‪.Pinker 2011‬‬

‫متثل «القمم» يف الرسم البياين حاالت القتل اجلماعي أثناء معاداة الشيوعية يف «سنة املخاطر» يف إندونيسيا (منذ ‪ 1965‬إىل‬
‫‪ 700 ،1966‬ألف حالة وفاة)‪ ،‬والثورة الثقافية الصينية (منذ ‪ 1966‬إىل ‪ 600 ،1975‬ألف حالة وفاة)‪ ،‬واحلرب بني عرقي التوتسي‬
‫واهلوتو يف بوروندي (منذ ‪ 1965‬إىل ‪ 140 ،1973‬ألف حالة وفاة)‪ ،‬وحرب االستقالل البنجالديشية (عام ‪ 1,7 ،1971‬مليون‬
‫حالة وفاة)‪ ،‬وعنف الشمال ضد اجلنوب يف السودان (منذ ‪ 1956‬إىل ‪ 500 ،1972‬ألف حالة وفاة)‪ ،‬ونظام عيدي أمني يف أوغندا‬
‫(منذ ‪ 1972‬إىل ‪ 150 ،1979‬ألف حالة وفاة)‪ ،‬ونظام بول بوت يف كمبوديا (منذ ‪ 1975‬إىل ‪ 2,5 ،1979‬مليون حالة وفاة)‪،‬‬
‫وقتل األعداء السياسيني يف فيتنام (منذ ‪ 1965‬إىل ‪ 500 ،1975‬ألف حالة وفاة)‪ ،‬واجملازر األحدث يف البوسنة (منذ ‪ 1992‬إىل‬
‫‪ 225 ،1995‬ألف حالة وفاة)‪ ،‬ورواندا (عام ‪ 700 ،1994‬ألف حالة وفاة)‪ ،‬ودارفور (منذ ‪ 2003‬إىل ‪ 373 ،2008‬ألف حالة‬
‫وفاة)‪ .‬يشمل التضخم غري امللحوظ تقريبًا منذ ‪ 2014‬إىل ‪ 2016‬الفظاعات اليت تسهم يف االنطباع بأننا نعيش يف عصوٍر عنيفة على‬
‫ٍ‬
‫شخص يف نيجرييا‬ ‫غري العادة‪ ،‬إذ قتلت داعش ‪ 4500‬مدين على األقل من اليزيديني واملسيحيني والشيعيني‪ ،‬وقتلت بوكو حرام ‪5000‬‬
‫شخصا يف مجهورية إفريقيا الوسطى‪ .‬ال ميكن أن يستخدم املرء كلمة‬
‫ً‬ ‫والكامريون وتشاد‪ ،‬وقتلت امليليشيات املسلمة واملسيحية ‪1750‬‬
‫ولكن األرقام يف القرن احلادي والعشرين متثل جزءًا ضئيال جدًّا من األرقام يف العقود‬
‫«حلُسن احلظ» مطل ًقا فيما خيص قتل األبرياء‪َّ ،‬‬
‫السابقة‪.‬‬
‫بأهنا قراءة مباشرة ملخاطر احلرب‪ ،‬فالسجل التارخيي شحيح فيما يتعلق‬ ‫ال ميكن تأويل األرقام يف إحدى جمموعات البيانات بالطبع َّ‬
‫بتقدير أي تغيري يف احتمالية اندالع احلروب النادرة جدًّا واملدمرة جدًّا يف الوقت نفسه‪ .‬لفهم البيانات املتناثرة يف عا ٍمل ال حيدث تارخيه‬
‫نكمل األرقام باملعرفة املتوفرة عن مسبِّبات احلرب‪ ،‬مثلما يشري شعار اليونسكو‪« :‬تبدأ احلروب يف عقول‬ ‫سوى مرة واحدة‪ ،‬علينا أن ِّ‬
‫أيضا يف‬
‫أن االبتعاد عن احلرب ال يتمثل فقط يف اخنفاض عدد احلروب والوفيات الناجتة عن احلروب‪ ،‬بل نراه ً‬ ‫البشر»‪ .‬وجند اآلن َّ‬
‫استعدادات الدول للحروب‪ ،‬فقد اخنفض معدل انتشار التجنيد اإلجباري وحجم القوات املسلحة ونسبة اإلنفاق العسكري العاملي من‬
‫الناتج احمللي اإلمجايل يف العقود األخرية املاضية‪ ،‬واألهم من ذلك التغريات اليت طرأت على عقول البشر‪.‬‬

‫كل من باسكال وسويفت وفولتري وصمويل جونسون والكويكرز‬ ‫بشجب للحروب من ٍّ‬‫ٍ‬ ‫كيف حدث ذلك؟ جاء عصر العقل والتنوير‬
‫أيضا اقرتاحات عملية لكيفية احلد من احلروب أو القضاء عليها‪ ،‬وخاصةً مقالة كانط الشهرية «السالم الدائم»‪ .‬ويُعزى‬
‫وغريهم‪ ،‬وشهد ً‬
‫الفضل لنشر هذه األفكار يف تراجع حروب القوى العظمى يف القرنني الثامن عشر والتاسع عشر وحدوث فجوات عديدة يف حاالت‬
‫حددها كانط وآخرون غريه بشكل منظم سوى بعد احلرب العاملية الثانية‪.‬‬ ‫احلرب خالل تلك الفرتة‪ ،‬ولكن مل ترتسخ قوى التهدئة اليت َّ‬
‫كما رأينا يف الفصل األول‪ ،‬طرح العديد من ِّ‬
‫مفكري التنوير فكرة التجارة الناعمة اليت تفيد َّ‬
‫بأن التجارة الدولية ستجعل احلرب‬
‫هائال يف حقبة ما بعد احلروب‪ ،‬و َّ‬
‫أكدت التحليالت‬ ‫اعا ً‬ ‫أقل جاذبيةً‪ ،‬وارتفعت بالتأكيد حصة التجارة من الناتج احمللي اإلمجايل ارتف ً‬
‫أن احتمالية خوض الدول التجارية حروبًا أقل من غريها مع ثبات كل العوامل األخرى‪.‬‬ ‫الكمية َّ‬
‫جيرون بلداهنم‬ ‫من بنات أفكار التنوير األخرى النظرية القائلة َّ‬
‫بأن احلكومة الدميقراطية تكبح القادة الذين يُسكرهم اجملد والذين قد ُّ‬
‫دول أكثر متنح الدميقراطية فرصةً‬‫حروب عقيمة‪ .‬بدءًا من سبعينيات القرن املاضي‪ ،‬وبعد اهنيار جدار برلني عام ‪ ،1989‬بدأت ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫إىل‬
‫بعضا أمر مشكوك فيه‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن‬ ‫أن التصريح القاطع بأنَّه مل حيدث أن حاربت دولتان دميقراطيتان بعضهما ً‬ ‫(الفصل الرابع عشر)‪ .‬رغم َّ‬
‫البيانات تؤيد حتقق نسخة تدرجيية من نظرية السالم الدميقراطي‪ ،‬اليت تقل فيها احتمالية أن تواجه دولتان تتمتعان بدميقراطية أكرب‬
‫بعضا يف نزاعات عسكرية‪.‬‬
‫بعضهما ً‬
‫وسهلت بعض الواقعية السياسية من عملية «السالم الطويل»‪ .‬جعلت قوة اجليش األمريكي واجليش السوفيييت اهلائلة املدمرة (حىت‬
‫َّ‬
‫بعضا يف أرض املعركة‪ ،‬وهو ما مل يفعلوه‬
‫دون أسلحتهما النووية) أطراف احلرب الباردة من القوى العظمي يرتددون يف مواجهة بعضهم ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫قط‪ ،‬مما فاجأ العامل وأراحه ً‬
‫فإن أكرب تغيري يف النظام الدويل هو فكرة ال نقدِّرها مبا يكفي اليوم‪ ،‬وهي َّ‬
‫أن احلرب غري قانونية‪ ،‬إذ مل ي ُكن هذا هو‬ ‫ومع ذلك َّ‬
‫امتدادا للسياسة بالوسائل األخرى‪ ،‬وكان املنتصر يفوز‬
‫ً‬ ‫الوضع يف اجلزء األغلب من تارخينا‪ ،‬حيث كان احلق مع القوي‪ ،‬وكانت احلرب‬
‫بأن دولةً أخرى قد أخطأت يف حقها‪ ،‬كان بإمكاهنا إعالن احلرب وغزو بعض من أراضيها كتعويض‬ ‫بالغنائم‪ ،‬وإذا شعرت إحدى الدول َّ‬
‫أن ًّ‬
‫كال من أريزونا وكاليفورنيا وكولورادو ونيفادا ونيو مكسيكو ويوتا‬ ‫بضم هذه األراضي هلا‪ ،‬فالسبب يف َّ‬‫وتتوقع أن يعرتف بقية العامل ِّ‬
‫ون غري مسددة‪ .‬ال ميكن أن حيدث‬ ‫حرب بسبب دي ٍ‬‫أن الواليات املتحدة قد غزهتا واستولت عليها من املكسيك يف ٍ‬‫واليات أمريكية هو َّ‬
‫هذا اليوم‪ ،‬فقد ألزمت دول العامل نفسها بعدم شن احلروب سوى يف حالة الدفاع عن النفس أو مبوافقة جملس األمن التابع لألمم املتحدة‪،‬‬
‫فالدول خالدة‪ ،‬واحلدود حقوق مكتسبة‪ ،‬وأي دولة ُتوض حرب غزٍو تتوقع من البقية أن يصموها بالعار ال أن يذعنوا هلا‪.‬‬
‫كبريا من الفضل يف فرتة السالم الطويل يرجع إىل جترمي احلرب‪.‬‬‫إن جزءًا ً‬‫يقول الباحثان القانونيان أونا هاثاواي وسكوت شابريو َّ‬
‫اقرتح كانط يف عام ‪ 1795‬فكرة ضرورة اتفاق الدول على جعل احلرب غري قانونية‪ ،‬ومتت املوافقة عليها ألول مرة يف ميثاق باريس عام‬
‫أيضا مبيثاق كيلوج برييان الذي تعرض للكثري من السخرية‪ ،‬ولكنَّها مل تصبح نافذة حقًّا سوى مع تأسيس األمم‬ ‫‪ ،1928‬املعروف ً‬
‫باستجابة عسكرية‪ ،‬كما حدث عندما عكس التحالف الدويل غزو‬ ‫ٍ‬ ‫املتحدة يف عام ‪ ،1945‬ومنذ ذلك احلني مت فرض حظر الغزو‬
‫معيارا ‪«-‬احلرب شيء ال تقوم به الدول املتحضرة»‪-‬‬ ‫ٍ‬
‫العراق للكويت يف عام ‪ .1991-1990‬كان هذا احلظر يف حاالت أكثر ً‬
‫فعالة إىل احلد الذي جيعل الدول تقدِّر مكانتها يف اجملتمع الدويل‪ ،‬وهذه تذكرة‬‫مدعوما بالعقوبات االقتصادية والرمزية‪ ،‬وهذه العقوبات َّ‬
‫ً‬
‫بضرورة االعتزاز بذلك اجملتمع ودعمه يف مواجهة التهديدات احلالية من القومية الشعبوية‪.‬‬
‫ضمت روسيا القرم‪ ،‬قد يبدو َّ‬
‫أن هذا يؤكد النظرة التشاؤمية‬ ‫تعرض هذا املعيار بالطبع للخرق أحيانًا‪ ،‬وآخرها يف عام ‪ 2014‬عندما َّ‬ ‫َّ‬
‫بأن املعايري الدولية ليس هلا أنياب وستتعرض للخرق مع اإلفالت من العقاب حىت تكون لدينا حكومة عاملية‪ .‬يرد كلٌّ من هاثاواي‬ ‫َّ‬
‫أيضا‪ ،‬من خمالفات وقوف السيارات إىل جرائم القتل‪ ،‬ومع ذلك َّ‬
‫فإن حكم‬ ‫بأن القوانني املفروضة داخل الدول تتعرض للخرق ً‬ ‫وشابريو َّ‬
‫القانون النافذ على حن ٍو غري مثايل أفضل من عدم وجود قانون على اإلطالق‪ .‬شهد القرن السابق على ميثاق باريس للسالم وفق‬
‫حساباهتم ما يعادل إحدى عشرة حالة ضم حبجم القرم سنويًّا‪ ،‬واستمرت أغلبها‪ ،‬ولكن كل فدان من األرض تعرض للغزو بعد عام‬
‫‪ 1928‬متت إعادته إىل الدولة اليت فقدته‪ .‬رمبا يكون فرانك كيلوج (وزير اخلارجية األمريكي) وأرتيستيد برييان (وزير اخلارجية الفرنسي)‬
‫أخريا‪.‬‬
‫مها من يضحكان ً‬
‫يشري كلٌّ من هاثاواي وشابريو إىل َّ‬
‫أن هناك جانبًا سلبيًّا لتجرمي احلرب بني الدول‪ ،‬فعندما أخلت اإلمرباطوريات األوروبية املناطق‬
‫دوال ضعيفة ذات حدود مبهمة ودون خليفة معرتف به ليحكمها‪ ،‬فسقطت هذه الدول غالبًا يف‬ ‫املستعمرة اليت غزهتا‪ ،‬خلَّفت وراءها ً‬
‫مشروعا للدول األقوى واألكثر فاعلية‪،‬‬
‫ً‬ ‫حفرة احلرب األهلية والعنف الطائفي‪ .‬يف ظل النظام الدويل اجلديد‪ ،‬مل ُيعد غزو هذه الدول هدفًا‬
‫ٍ‬
‫وظلَّت معلَّقة سنوات أو ً‬
‫عقودا يف حالة شبه فوضوية‪.‬‬
‫عددا أقل من الناس مما تفعل احلروب بني الدول‪،‬‬
‫ائعا على التقدم‪ ،‬فاحلروب األهلية تقتل ً‬
‫مثاال ر ً‬
‫كان تراجع احلروب بني الدول ً‬
‫اهتماما مبن يفوز‬
‫ً‬ ‫أيضا احلروب األهلية منذ أواخر الثمانينيات‪ .‬عندما انتهت احلرب الباردة‪ ،‬أصبحت القوى العظيمة أقل‬
‫وقد تراجعت ً‬
‫اهتماما بكيفية إهنائها‪ ،‬ودعمت قوات حفظ السالم التابعة لألمم املتحدة واجلماعات الدولية األخرى اليت أقحمت‬ ‫حبرب ٍ‬
‫أهلية ما وأكثر‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫نفسها بني أطراف الصراعات وحفظت السالم بالفعل يف أكثر احلاالت‪ .‬كلما ازداد غىن الدول‪ ،‬أصبحت أقل قابلية لالخنراط يف ٍ‬
‫حرب‬
‫أهلية‪ ،‬إذ تستطيع حكوماهتا حتمل تكاليف تقدمي خدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم وحفظ األمن والنظام العام‪ ،‬وبالتايل تتغلب على‬
‫املتمردين يف املنافسة على والء مواطنيها‪ ،‬وتستطيع استعادة السيطرة على املناطق احلدودية اليت يستويل عليها أمراء احلروب واملافيا‬
‫كثريا من احلروب تندلع بفعل اخلوف املتبادل من َّ‬
‫أن الدولة إذا مل هتاجم‬ ‫أن ً‬ ‫والعصابات املسلحة (ويكونون غالبًا نفس اجملموعة)‪ .‬ومبا َّ‬
‫هجمات وقائية ستُهلكها هجمةٌ وقائية من دولة أخرى (وهو سيناريو يف نظرية األلعاب يُطلق عليه معضلة األمن أو فخ هوبز)‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫(أما احلرب فقد تكون معدية)‪ .‬يساعد هذا يف تفسري انكماش‬ ‫ٍ‬
‫منطقة ما أيًّا يكن سببه األول قد يكون مقويًّا هلا‪َّ .‬‬ ‫إحالل السالم يف‬
‫جغرافيا احلرب بتعايش معظم مناطق الكرة األرضية يف ٍ‬
‫سالم‪.‬‬

‫مع وجود األفكار والسياسات اليت تقلِّل من حدوث احلروب‪ ،‬حدث تغيري يف القيم ً‬
‫أيضا‪َّ ،‬‬
‫إن قوى التهدئة اليت رأيناها حىت اآلن هي‬
‫نوعا ما‪ ،‬وهي وسائل ميكنها ترجيح كفة السالم إذا كان هذا هو السالم الذي يريده الناس‪ .‬أصبحت فكرة قيمة السالم‬ ‫تكنولوجية ً‬
‫األصيلة من طبيعة الغربيني‪ ،‬على األقل منذ الستينيات اليت اتسمت باألغاين الفولكلورية ومهرجان وودستوك‪ ،‬وعندما مت شن تدخالت‬
‫عنف أكرب‪ .‬ولكن حىت ٍ‬
‫وقت ليس بالبعيد‪ ،‬كانت احلرب هي اليت‬ ‫عسكرية كان التربير َّأهنا إجراءات مؤسفة ولكنَّها ضرورية ملنع نشوب ٍ‬
‫مطهر من خنوثة اجملتمع الربجوازي املنحط‬
‫تُعترب ذات قيمة كبرية‪ ،‬فاحلرب جميدة ومؤثرة وروحانية ورجولية ونبيلة وبطولية وإيثارية‪ ،‬وهي ٌ‬
‫وأنانيته واستهالكيته وانغماسه يف اللذات‪.‬‬
‫تذهلنا اليوم فكرة نُبل قتل الناس وتشويههم وبرت أطرافهم وتدمري طرقهم وجسورهم ومزارعهم ومساكنهم ومدارسهم ومستشفياهتم‬
‫ولكن هذا كله كان منطقيًّا خالل القرن التاسع عشر يف حقبة الفكر املضاد للتنوير‪ ،‬إذ ازداد رواج النزعة‬
‫كأهنا هذيان رجل جمنون‪َّ ،‬‬ ‫و َّ‬
‫وإمنا بني كث ٍري من الفنانني واملثقفني ً‬
‫أيضا‪ .‬كتب‬ ‫العسكرية الرومانسية‪ ،‬ليس فقط بني الضباط املرتدين قبعات البيكلهاوبه العسكرية‪َّ ،‬‬
‫إن احلرب هي «احلياة نفسها»‪ ،‬وكتب جون‬ ‫وحتسن شخصيته»‪ ،‬وقال إميل زوال َّ‬
‫تكرب عقول الشعب ِّ‬ ‫ألكسيس دو توكفيل َّ‬
‫أن احلرب « ِّ‬
‫راسكن َّأهنا‪« :‬أساس كل الفنون والفضائل الرفيعة وملكات البشر»‪.‬‬
‫متجد لغة جمموعة إثنية ما ‪-‬وحدة الدم‬ ‫كانت النزعة العسكرية الرومانسية تندمج أحيانًا مع النزعة القومية الرومانسية‪ ،‬اليت ِّ‬
‫بأن األمة لن تستطيع حتقيق غايتها سوى عندما تكون دولة سيادية طاهرة عرقيًّا‪،‬‬ ‫واألرض‪ -‬وثقافتها وموطنها وتركيبها العرقي‪ ،‬وتؤمن َّ‬
‫وتستمد قوهتا من التصور امللتبس َّ‬
‫بأن الصراع العنيف هو قوة احلياة الطبيعية (فالطبيعة محراء األنياب واملخالب) وحمرك التقدم البشري‪.‬‬
‫إن حمرك التقدم البشري هو حل املشاكل)‪ .‬ينسجم إضفاء قيمة على الصراع مع نظرية فريدريش‬ ‫(خيتلف هذا عن الفكرة التنويرية القائلة َّ‬
‫أن احلروب ضرورية « َّ‬
‫ألهنا تنقذ الدولة‬ ‫هيجل عن اجلدل (الديالكتيك) اليت تؤدي فيها قوى التاريخ إىل دولة قومية متفوقة‪ ،‬فكتب هيجل َّ‬
‫من التحجر والركود»‪ .‬طبَّق ماركس هذه الفكرة على األنظمة االقتصادية وتنبأ َّ‬
‫بأن تعاقب الصراعات العنيفة بني الطبقات سيبلغ ذروته‬
‫ليحقق يف النهاية يوتوبيا شيوعية‪.‬‬
‫ولكن رمبا كان أكرب حمفز للنزعة العسكرية الرومانسية هو االحندارية‪ ،‬أو امشئزاز املثقفني من فكرة متتع األفراد العاديني حبياهتم يف‬
‫تعمق التشاؤم الثقايف يف أملانيا بفعل تأثري شوبنهاور ونيتشه وياكوب بوركهارت وجيورج سيمل وأوسفالد شبينجلر‪ ،‬وهو‬ ‫ٍ‬
‫سالم ورخاء‪َّ .‬‬
‫مؤلف كتاب ‪ The Decline of the West‬الذي نُشر منه جزآن بني عامي ‪ 1918‬و‪( .1923‬سنعود إىل هذه األفكار يف‬
‫الفصل الثالث والعشرين)‪ .‬حىت يومنا هذا‪ ،‬ما زال مؤرخو احلرب العاملية األوىل حيتارون يف سبب اختيار إجنلرتا وأملانيا‪ ،‬ومها دولتان لديهما‬
‫كثري من السمات املشرتكة ‪-‬فهما غربيتان ومسيحيتان وصناعيتان وموسرتان‪ ،-‬أن يقوما مبذحبة عقيمة‪ .‬األسباب عديدة ومتشابكة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بدرجة ما األيديولوجيا‪ ،‬فاألملان قبل احلرب العاملية األوىل «كانوا يرون أنفسهم خارج احلضارة األوروبية أو الغربية» كما‬ ‫ولكنَّها تشمل‬
‫ٍ‬
‫ببسالة زحف الثقافة الليربالية الدميقراطية التجارية اليت َّقوضت حيوية‬ ‫أشار آرثر هريمان‪ ،‬وبصورةٍ خاصة‪ ،‬كانوا يظنون أنَّنهم يقاومون‬
‫ظن كثريون أنَّه ال ميكن أن ينشأ نظام بطويل جديد سوى على أنقاض‬ ‫الغرب منذ عصر التنوير‪ ،‬باشرتاك بريطانيا والواليات املتحدة‪َّ .‬‬
‫أخريا الرومانسية‪ ،‬وأصبح السالم‬ ‫كارثة خملِّصة‪ ،‬وحتققت أمنيتهم يف هذه الكارثة‪ ،‬ولكن بعد كارثة ثانية أكثر ً‬
‫ترويعا‪ ،‬استنزفت احلرب ً‬
‫هو اهلدف املعلن لكل املؤسسات الغربية والدولية‪ ،‬وأصبحت حياة اإلنسان أمثن‪ ،‬يف حني اخنفضت قيمة اجملد والشرف والتفوق والرجولة‬
‫والبطولة واألعراض األخرى لفائض التستوستريون‪.‬‬
‫أن الطبيعة البشرية تتضمن‬ ‫أن التقدم حنو السالم ممكن‪ ،‬حىت وإن كان غري منتظم‪ ،‬ويصرون على َّ‬
‫كثري من الناس أن يصدقوا َّ‬‫يرفض ٌ‬
‫املفسرين هوس ذكور اإلنسان العاقل على كل أشكال الذكاء‪،‬‬ ‫شرها للغزو‪( .‬وليست الطبيعة البشرية فحسب‪ ،‬بل يُسقط بعض ِّ‬ ‫دافعا ً‬‫ً‬
‫عرق متطور من الكائنات الفضائية وجاء‬‫إن علينا عدم البحث عن حياة خارج كوكب األرض إال إذا اكتشف وجودنا ٌ‬ ‫ِّ‬
‫وحيذروننا قائلني َّ‬
‫أن رؤية السالم العاملي رمبا تكون قد جعلت جون لينون وزوجته يوكو يقدمان بعض األغاين اجليدة‪ ،‬ولكنَّها‬ ‫ليحاول إخضاعنا)‪ .‬رغم َّ‬
‫رؤية شديدة السذاجة يف العامل الواقعي‪.‬‬
‫يف الواقع‪ ،‬رمبا تكون احلرب جمرد عقبة أخرى يتعلم اجلنس املستنري التغلب عليها مثل الطاعون واجلوع والفقر‪ .‬رغم َّ‬
‫أن الغزو قد‬
‫يكون مغريًا على املدى القريب‪َّ ،‬إال أنَّه من األفضل يف النهاية اكتشاف كيفية احلصول على ما تريد دون دفع تكلفة الصراع ِّ‬
‫املدمر‬
‫أوال‪َّ .‬أما على املدى‬
‫حافزا ليدمرونك ً‬
‫هتديدا لآلخرين فقد قدمت هلم ً‬
‫والكوارث املتضمنة يف حياة السالح‪ ،‬أي أنَّك إذا كنت تشكل ً‬
‫البعيد‪ ،‬فالعامل الذي حتجم فيه مجيع األطراف عن احلرب يكون عاملا أفضل للجميع‪ ،‬واالخرتاعات مثل التجارة والدميقراطية والتنمية‬
‫ً‬
‫ات تساعد يف بناء ذلك العامل‪.‬‬
‫االقتصادية وقوات حفظ السالم واملعايري الدولية والقانون الدويل أدو ٌ‬
‫الفصل الثاني عشر‪:‬‬
‫األمان والسالمة‬

‫هش‪ ،‬فحىت عندما حيافظ الناس على تغذية جسمهم وأدائه وظائفه وخلوه من مسببات األمراض‪ ،‬يظلون عرضةً‬ ‫َّ‬
‫إن اجلسم البشري ٌّ‬
‫آلالف العلل واألسقام اليت تنتاب اجلسم‪ .‬كان أسالفنا فريسة سهلة للكائنات املفرتسة مثل التماسيح والقطط الكبرية‪ ،‬فكان سم الثعابني‬
‫والعناكب واحلشرات واحللزونات والضفادع يقضي عليهم‪ .‬وكانوا عالقني يف معضلة القوارت (آكلي اللحوم والنباتات)‪ ،‬إذ ميكن أن‬
‫يصابوا بالتسمم بسبب املواد السامة يف نظامهم الغذائي الواسع الذي يشمل األمساك والبقوليات واجلذور والبذور والفطر‪ .‬وعندما كانوا‬
‫يغامرون بتسلق األشجار حبثًا عن الفاكهة والعسل‪ ،‬كانت أجسامهم تنصاع لقانون نيوتن اخلاص باجلاذبية فكانوا عرضة للتسارع باجتاه‬
‫مرتا يف الثانية املربعة‪ .‬وإذا خاضوا البحريات واألهنار وتعمقوا فيها‪ ،‬يقطع عنهم املاء إمدادهم من اهلواء‪ ،‬وكانوا يلعبون‬
‫األرض مبعدل ‪ً 9.8‬‬
‫أيضا‬
‫بالنار واليت كانت حترقهم أحيانًا‪ .‬وميكن أن يكونوا ضحايا سوء النية املبيتة‪ ،‬فأي تكنولوجيا قد تودي حبياة حيوان ميكنها أن تودي ً‬
‫حبياة ٍ‬
‫إنسان غرمي‪.‬‬
‫أعدادا كبرية‪.‬‬
‫ال يؤكل اليوم سوى قلة من البشر‪ ،‬ولكن عشرات اآلالف كل عام ميوتون جراء لدغات الثعابني‪ ،‬وتقتل منَّا الكوارث ً‬
‫احلوادث هي رابع أكرب سبب للوفاة يف الواليات املتحدة بعد مرض القلب والسرطان وأمراض اجلهاز التنفسي‪ ،‬وإصاباهتا مسؤولة عن‬
‫حوايل ثُلث الوفيات يف العامل‪ ،‬وهو ما يتجاوز عدد ضحايا اإليدز واملالريا والسل جمتمعني‪ ،‬وهي مسؤولة عن ‪ 11‬يف املئة من السنوات‬
‫أيضا أثر كبري‪ ،‬فهو من بني أكرب مخس كوارث تصيب الشباب يف‬ ‫اليت يفقدها اإلنسان بسبب الوفاة أو اإلعاقة‪ .‬وللعنف الشخصي ً‬
‫الواليات املتحدة وتصيب أي شخص يف أمريكا الالتينية وإفريقيا جنوب الصحراء‪.‬‬
‫محاسا يف الشعائر الدينية اليهودية هي‬
‫طويال يف أسباب اخلطر وكيف ميكن الوقاية منها‪ .‬رمبا تُعد أكثر اللحظات ً‬‫فكر الناس ً‬
‫الصالة اليت تُتلى أمام تابوت التوراة املقدس خالل أيام التوبة العشرة‪:‬‬

‫يف رأس السنة يتم كتابته ويف عيد الغفران يتم ختمه‪ :‬من يعيش ومن ميوت‪ ،‬من ميوت يف أوانه ومن ميوت قبل أوانه‪ ،‬من‬
‫ميوت باملاء ومن ميوت بالنار‪ ،‬من بالسيف ومن بالوحش‪ ،‬من باجلوع ومن باللهاث‪ ،‬من بالزلزال ومن بالعدوى‪ ،‬من باخلنق‬
‫ومن بالرجم‪ ..‬ولكن التوبة والصالة والزكاة تزيل احلكم القاسي‪.‬‬

‫حلسن احلظ‪ ،‬جتاوزت معرفتنا بكيفية حدوث اإلصابات املميتة الكتابات اإلهلية‪ ،‬وأصبح باإلمكان االعتماد على وسائلنا يف الوقاية‬
‫منها أكثر من التوبة والصالة والزكاة‪ .‬استطاعت الرباعة البشرية هزمية األخطار الكربى على احلياة‪ ،‬مبا فيها املذكورة يف تلك الصالة‪،‬‬
‫وحنن نعيش اآلن أكثر العصور أمانًا يف التاريخ‪.‬‬
‫رأينا يف الفصول السابقة كيف حتاول االحنيازات املعرفية واألخالقية أن تلعن احلاضر وتربئ املاضي‪ ،‬وسنرى يف هذا الفصل طريقة‬
‫أن خفض أعدادها ليس قضية‬ ‫أن اإلصابات القاتلة مصيبة كربى تصيب حياة البشر‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أخرى ُتفي هبا هذه االحنيازات تقدمنا‪ .‬رغم َّ‬
‫جذابة‪ ،‬فلم ي ُفز مبتكر حواجز الطرق السريعة جبائزة نوبل‪ ،‬وال حيصل مصممو النشرات األوضح لألدوية املوصوفة على جوائز إنسانية‪،‬‬
‫نوع من أنواع‬
‫كثريا من اجلهود اليت ال يتغىن هبا أح ٌد واليت خفَّضت أعداد الوفيات الناجتة عن كل ٍ‬ ‫ومع ذلك َّ‬
‫فإن البشرية قد انتفعت ً‬
‫اإلصابات‪.‬‬

‫ألهنا ليست عارضة بالضبط‪ ،‬وهي القتل‪ .‬فباستثناء احلروب‬ ‫من ميوت بالسيف‪ :‬لنبدأ بفئة اإلصابات األصعب من حيث احلد منها َّ‬
‫العاملية‪ ،‬يكون أعداد ضحايا جرائم القتل أكثر من ضحايا احلروب‪ ،‬وكانت النسبة حوايل ‪ 4.5‬إىل ‪ 1‬يف عام ‪ 2015‬املشوه باملعارك‪،‬‬
‫خطرا أكرب يهدد احلياة يف املاضي‪ ،‬ففي أوروبا يف القرون الوسطى كان‬‫ولكنها تكون عادةً ‪ 10‬إىل ‪ 1‬أو أكثر‪ .‬كانت جرائم القتل ً‬
‫ات‪ ،‬وكان قطاع الطرق واللصوص‬ ‫السادة (اللوردات) يذحبون عبيد خصومهم‪ ،‬واألرستقراطيون وحاشيتهم حياربون بعضهم بعضا يف مبارز ٍ‬
‫ً‬
‫ردا على اإلهانة على مائدة العشاء على سبيل املثال‪.‬‬
‫بعضا ًّ‬
‫يقتلون ضحايا سرقاهتم‪ ،‬وكان األشخاص العاديون يطعنون بعضهم ً‬
‫ولكن يف تطور تارخيي كاسح أطلق عليه عامل االجتماع األملاين نوربرت إلياس (‪« )Norbert Elias‬عملية نشر احلضارة»‪،‬‬
‫بدأ األوروبيون الغربيون يف القرن الرابع عشر حيلون نزاعاهتم ٍ‬
‫بطرق أقل عن ًفا‪ .‬أعزى إلياس هذا التغيري إىل نشأة املمالك املركزية من‬
‫البارونيات والدوقيات الكثرية يف القرون الوسطى‪ ،‬فهدأ التناحر وقطع الطرق واحلروب بسبب محاية امللك‪ .‬مث أصبحت أنظمة العدالة‬
‫اجلنائية أكثر احرتافيةً يف القرن التاسع عشر مع إرساء قوات الشرطة البلدية ونظام حماكم أكثر تداولية‪ .‬على مر تلك القرون‪ ،‬طورت‬
‫أيضا بنيةً حتتية للتجارة‪ ،‬مادية على هيئة مركبات وطرق أفضل‪ ،‬ومالية على هيئة عملة وعقود‪ .‬انتشرت التجارة الناعمة واستسلمت‬ ‫أوروبا ً‬
‫عمليات هنب األراضي اليت كانت نتائجها صفرية أمام عمليات مبادلة السلع واخلدمات وهي ذات نتائج إجيابية‪ .‬أصبح الناس منخرطني‬
‫يف شبكات من االلتزامات التجارية واملهنية املنصوص عليها يف القواعد القانونية والبريوقراطية‪ ،‬وحتولت معايريهم للسلوكيات اليومية من‬
‫ث قافة الشرف الذكورية اليت كان جيب فيها الرد على اإلهانات بالعنف‪ ،‬إىل ثقافة الكرامة النبيلة اليت يفوز فيها املرء باملكانة من خالل‬
‫مظاهر اللياقة وضبط النفس‪.‬‬
‫مجع الباحث يف علم اجلرمية التارخيي مانويل أيزنر )‪ (Manuel Eisner‬جمموعات بيانات عن جرائم القتل يف أوروبا‪ ،‬وأضافت‬
‫(إن معدالت جرائم القتل هي أكثر املؤشرات موثوقية على جرائم العنف‬ ‫قاما ملا توصل إليه إلياس ونشره عام ‪َّ .1939‬‬
‫هذه البيانات أر ً‬
‫يف أزمنة خمتلفة وأماكن خمتلفة ألنَّه من الصعب جتاهل اجلثث‪ ،‬وترتبط معدالت جرائم القتل مبعدالت جرائم العنف األخرى مثل السرقة‬
‫ضع حكومةٌ ما منطقةً حدودية حلكم‬ ‫إن نظرية إلياس كانت صائبة‪ ،‬وليس يف أوروبا فقط‪ ،‬فعندما ُُت ِ‬
‫واالعتداء واالغتصاب)‪ .‬يقول أيزنر َّ‬
‫أوضح يف الشكل رقم ‪ 1-12‬بيانات أيزنر اخلاصة بإجنلرتا وهولندا‬ ‫القانون ويندمج سكاهنا يف جمتم ٍع جتاري‪ ،‬تنخفض معدالت العنف‪ِّ .‬‬
‫وصوال إىل عام ‪ ،2012‬وكذلك املنحنيات اخلاصة بالدول األوروبية الغربية األخرى‪ .‬أضفت مناطق من‬ ‫وإيطاليا‪ ،‬وحتديثات هلا ً‬
‫األمريكتني‪ ،‬وهي اليت سيطر عليها القانون والنظام الح ًقا‪ ،‬وهي نيو إجنالند يف زمن االستعمار‪ ،‬وتلتها منطقة يف «الغرب املتوحش»‪،‬‬
‫كثريا يف املاضي‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وتلتها املكسيك اليت تشتهر اليوم بعنفها ولكنَّها كانت تتسم بعنف أكرب ً‬
‫جنوب غرب الواليات‬
‫المتحدة‬
‫نيو إنجالند‬
‫جرائم القتل لكل ‪ 100‬ألف شخص سنو ًّيا‬

‫إيطاليا‬

‫هولندا وبلجيكا‬
‫المكسيك‬

‫إنجلترا‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 1 - 1 2‬م ع د ل ا ل وف ي ا ت ن ت ي ج ة ج را ئ م ا ل ق ت ل ‪ ،‬يف أ وروب ا ا ل غ رب ي ة وا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة‬


‫وا مل ك س ي ك ‪ ،‬م ن ذ ‪ 1 3 0 0‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬
‫المصادر‪ :‬إجنلرتا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا‪ ،Eisner 2003 :1994–1300 ،‬موضحة يف الشكل رقم ‪ 3–3‬من ‪ .Pinker 2011‬إجنلرتا‪–2000 ،‬‬
‫‪ : 2014‬مكتب اململكة املتحدة لإلحصاءات الوطنية‪ .‬إيطاليا وهولندا‪ :2012-2010 ،‬مكتب األمم املتحدة املعين باملخدرات واجلرمية ‪ .2014‬نيو‬
‫إجنالند (نيو إجنالند‪ ،‬البيض فقط‪ ،1790–1636 ،‬وفريمونت ونيو هامبشري ‪ ،Roth 2009 :)1890–1780‬موضحة يف الشكل رقم ‪ 13–3‬من‬
‫‪ .Pinker 2011‬جنوب غرب الواليات املتحدة (أريزونا ونيفادا ونيو مكسيكو)‪ 1850 ،‬و‪ ،Roth 2009 :1914‬موضحة يف الشكل رقم ‪16–3‬‬
‫من ‪ ،Pinker 2011‬وبيانات ‪ 2006‬و‪ 2014‬من تقارير مكتب التحقيقات الفيدرايل املوحدة عن اجلرائم‪ .‬املكسيك‪ :‬كارلوس فياللتا ( ‪Carlos‬‬
‫وحسب متوسط هذه البيانات على‬ ‫‪ ، )Vilalta‬عن طريق التواصل الشخصي‪ ،‬من املعهد الوطين لإلحصاء واجلغرافيا ‪ 2016‬ودراسة ‪ُ ،Botello 2016‬‬
‫العقود حىت عام ‪.2010‬‬

‫عندما طرحت مفهوم التقدم‪ ،‬ذكرت َّ‬


‫أن أي اجتاه تقدمي ليس حتميًّا واجلرائم العنيفة مثال على ذلك‪ ،‬فبدءًا من الستينيات‪،‬‬
‫كامال من التقدم‪ .‬كان الوضع أكثر مأساويةً يف الواليات املتحدة‪،‬‬
‫انتشارا للعنف الشخصي حما قرنًا ً‬
‫ً‬ ‫شهدت معظم الدميوقراطيات الغربية‬
‫حيث ارتفع معدل جرائم القتل بضعفني ونصف‪ ،‬وحيث انقلبت احلياة السياسية واحلضرية بفعل اخلوف واسع االنتشار (واملربر بقد ٍر‬
‫دروسا يف طبيعة التقدم‪.‬‬
‫ولكن انعكاس التقدم يقدِّم لنا ً‬
‫جزئي) من اجلرمية‪َّ .‬‬
‫خالل العقود اليت ارتفعت فيها معدالت اجلرمية‪ ،‬قال أغلب اخلرباء إنَّه ال يوجد ما ميكن فعله لوقف اجلرائم العنيفة‪ ،‬وقالوا َّإهنا‬
‫جزء من نسيج اجملتمع األمريكي العنيف وال ميكن السيطرة عليها دون حل األسباب اجلذرية وهي العنصرية والفقر وانعدام املساواة‪ .‬ميكن‬
‫إن كل داء اجتماعي‬ ‫أن نطلق على هذا النوع من التشاؤم التارخيي «امليل إىل األسباب اجلذرية» وهو الفكرة ذات العمق املزيف اليت تقول َّ‬
‫ملرض أخالقي عميق وال ميكن ُتفيفه بالعالج املبسط الذي يعجز عن شفاء العلة اجلوهرية‪ .‬ليست مشكلة امليل إىل‬ ‫عرض ٍ‬‫عبارة عن ٍ‬
‫تعقيدا مما توحي به نظرية األسباب اجلذرية العادية‪،‬‬
‫متاما‪ ،‬فهي أكثر ً‬‫أن مشكالت العامل الفعلي بسيطة‪ ،‬بل العكس ً‬ ‫األسباب اجلذرية َّ‬
‫وخاصةً عندما تكون هذه النظرية مستندة إىل الوعظ األخالقي وليس إىل البيانات‪ ،‬وهي معقدة للغاية يف الواقع إىل الدرجة اليت جتعل‬
‫عالج األعراض أفضل طريقة للتعامل مع املشكلة‪ ،‬ألنَّه ال يتطلب اإلحاطة الشاملة باألسباب الفعلية املتشابكة‪ .‬ومبعرفة ما الذي خيفف‬
‫بدال من افرتاض صحتها‪.‬‬
‫من األعراض بالفعل‪ ،‬يستطيع املرء اختبار فرضياته عن األسباب ً‬
‫يف حالة انفجار اجلرمية يف الستينيات‪ ،‬كانت حىت احلقائق املاثلة أمامنا تُبطل نظرية األسباب اجلذرية‪ ،‬إذ كان هذا هو عقد احلقوق‬
‫املدنية‪ ،‬وكانت العنصرية يف تراج ٍع حاد (الفصل اخلامس عشر)‪ ،‬وكان عقد االزدهار االقتصادي الذي كانت مستويات انعدام املساواة‬
‫حنن إليها اآلن‪ .‬أما الثالثينيات‪ ،‬فكان على العكس عقد الكساد العظيم وقوانني جيم كرو* واإلعدام شهريًّا دون‬ ‫والبطالة هي تلك اليت ُّ‬
‫كثريا املعدل اإلمجايل جلرائم العنف‪ .‬تسببت التنمية اليت فاجأت اجلميع يف اقتالع نظرية األسباب اجلذرية‬ ‫حماكمة‪ ،‬ومع ذلك اخنفض ً‬
‫حقًّا‪ ،‬فبدءًا من عام ‪ ،1922‬تسارع اخنفاض معدل جرائم القتل يف أمريكا خالل حقبة ازدادت فيها معدالت انعدام املساواة زيادةً‬
‫شديدة‪ ،‬مث اخنفضت ثانيةً خالل الكساد الكبري الذي بدأ عام ‪( 2007‬الشكل رقم ‪ ،)2-12‬وشهدت إجنلرتا وكندا ومعظم الدول‬
‫أيضا اخنفاض معدالت جرائم القتل خالل العقدين املاضيني‪( .‬وعلى النقيض‪ ،‬اخنفضت معدالت انعدام املساواة يف‬ ‫الصناعية األخرى ً‬
‫كبريا)‪ .‬رغم عدم وجود أرقام خاصة بالعامل‬ ‫تفاعا ً‬
‫فنزويال خالل حكم نظام تشافيز ومادورو يف حني ارتفعت معدالت جرائم القتل ار ً‬
‫اجتاها‬
‫أن هناك ً‬ ‫بأكمله سوى تلك اخلاصة هبذه األلفية‪ ،‬ورغم َّأهنا تشمل تقديرات ُتمينية للدول اخلالية من البيانات‪َّ ،‬إال أنَّه يبدو َّ‬
‫ٍ‬
‫شخص‬ ‫أن هناك ‪ 180‬ألف‬ ‫أيضا من ‪ 8.8‬جرمية قتل لكل ‪ 100‬ألف شخص يف عام ‪ 2000‬إىل ‪ 6.2‬يف ‪ ،2012‬يعين هذا َّ‬ ‫هابطًا ً‬
‫يسريون اليوم على أقدامهم ولكنَّهم كانوا سيُقتلون خالل العام املاضي لو كان معدل جرائم القتل العاملي قد ظل يف مستواه منذ ‪12‬‬
‫عاما‪.‬‬
‫ً‬
‫الواليات المتحدة‬

‫العالم‬
‫جرائم القتل لكل ‪ 100‬ألف شخص سنو ًّيا‬

‫إنجلترا‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 2 - 1 2‬م ع د ل ا ل وف ي ا ت ن ت ي ج ة ج را ئ م ا ل ق ت ل م ن ذ ‪ 1 9 6 7‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫المصادر‪ :‬الواليات املتحدة‪( FBI Uniform Crime Reports :‬تقارير مكتب التحقيقات الفيدرايل املوحدة عن اجلرائم)‪،‬‬
‫‪ ،https://ucr.fbi.gov/‬و‪ .Federal Bureau of Investigation 2016a‬إجنلرتا (البيانات تشمل ويلز)‪Office for National :‬‬
‫‪( Statistics‬مكتب اإلحصاءات الوطنية) ‪ .2017‬العامل‪ .2002Krug et al. :2000 ،‬العامل‪United Nations :2011-2003 ،‬‬
‫‪ ،Economic and Social Council 2014, fig. 1‬مت حتويل النسب املئوية إىل معدالت جرائم القتل عرب حتديد معدل ‪ 2012‬بـ ‪ ،6.2‬وهو‬
‫املعدل التقديري املذكور يف ‪ .United Nations Office on Drugs and Crime 2014, p. 12‬يشري السهم إىل أحدث السنوات املشار‬
‫إليها يف ‪ Pinker 2011‬فيما خيص العامل (‪ ،2004‬الشكل رقم ‪ )9-3‬والواليات املتحدة (‪ ،2009‬الشكل رقم ‪ )8-3‬وإجنلرتا (‪ ،2009‬الشكل رقم‬
‫‪.)19-3‬‬

‫إن جرائم العنف مشكلة قابلة للحل‪ ،‬رمبا ال نستطيع خفض معدل جرائم القتل يف العامل إىل مستويات الكويت (‪ 0.4‬لكل‬ ‫َّ‬
‫‪ 100‬ألف شخص سنويًّا) أو أيسلندا (‪ )0.3‬أو سنغافورة (‪ ،)0.2‬فما بالك بالصفر! ولكن يف عام ‪ ،2014‬اقرتح أيزنر‪ ،‬بالتشاور‬
‫عاما‪ ،‬وليس هذا الطموح يوتوبيًّا‬
‫مع منظمة الصحة العاملية‪ ،‬هدفًا هو خفض معدل جرائم القتل العاملية مبقدار ‪ 50‬يف املئة خالل ثالثني ً‬
‫استنادا إىل حقيقتني عن إحصاءات جرائم القتل‪.‬‬
‫ً‬ ‫وإمنا هو عملي‪،‬‬
‫متاما على كل املستويات‪ ،‬فمعدالت جرائم القتل يف أخطر الدول يبلغ مئات‬ ‫احلقيقة األوىل هي َّ‬
‫أن توزيع جرائم القتل غري متماثل ً‬
‫أضعافه يف الدول األكثر أمانًا‪ ،‬إذ يبلغ على سبيل املثال يف هندوراس (‪ 90.4‬جرمية قتل لكل ‪ 100‬ألف شخص) ويف فنزويال (‪)53.7‬‬
‫والسلفادور (‪ )41.2‬وجامايكا (‪ )39.3‬وليسوتو (‪ )38‬وجنوب إفريقيا (‪ .)31‬تُرتكب نصف جرائم القتل يف العامل يف ثالثة وعشرين‬
‫دولة فقط حتتوي على ُعشر البشر تقريبًا‪ ،‬ويُرتكب ُربعها يف أربعة دول فقط‪ ،‬وهي‪ :‬الربازيل (‪ )25.2‬وكولومبيا (‪ )25.9‬واملكسيك‬
‫(‪ )12.9‬وفنزويال‪ُ( .‬تتلف منطقيت القتل يف العامل ‪-‬مشال أمريكا الالتينية وجنوب منطقة إفريقيا جنوب الصحراء‪ -‬عن مناطق احلروب‬
‫مرورا بالشرق األوسط حىت باكستان)‪ .‬يواصل هذا امليل هبوطه على مقياس الكسور‪ .‬ترتكز معظم جرائم القتل‬
‫اليت متتد من نيجرييا ً‬
‫داخل الدولة يف بضع مدن مثل كاراكاس يف فنزويال (‪ 120‬لكل ‪ 100‬ألف) وسان بيدرو سوال يف هندوراس (‪ ،)187‬وترتكز معظم‬
‫جرائم القتل داخل املدينة يف بضعة أحياء‪ ،‬وترتكز داخل األحياء يف بضعة مساكن‪ ،‬وداخل املساكن ينفذ العديد من جرائم القتل بضعة‬
‫أفراد‪ .‬يف مدينيت بوسطن‪ ،‬حتدث ‪ 70‬يف املئة من حوادث إطالق النريان يف ‪ 5‬يف املئة من املدينة‪ ،‬ويرتكب نصف هذه احلوادث واحد‬
‫يف املئة من الشباب‪.‬‬
‫أن معدالت جرائم القتل املرتفعة ميكن‬ ‫تتضح احلقيقة األخرى امللهمة هلدف ‪ 50‬خالل ‪ 30‬من الشكل رقم ‪ ،2-12‬وهي َّ‬
‫كبريا يف معدل جرائم القتل‬
‫اخنفاضا ً‬
‫ً‬ ‫خفضها سر ًيعا‪ ،‬إذ شهدت الواليات املتحدة‪ ،‬وهي الدميقراطية املوسرة صاحبة أكثر جرائم قتل‪،‬‬
‫مبقدار النصف تقريبًا خالل تسع سنوات‪ ،‬وكان اخنفاض املعدل يف مدينة نيويورك خالل ذلك الوقت أكثر حد ًة‪ ،‬فبلغت نسبته حوايل‬
‫أيضا‪ ،‬مبا فيها روسيا (من ‪ 19‬لكل ‪ 100‬ألف يف عام ‪2004‬‬ ‫حاد ً‬ ‫ٍ‬
‫باخنفاض ٍّ‬ ‫‪ 75‬يف املئة‪ .‬متتعت الدول اليت ما زالت تشتهر بالعنف‬
‫إىل ‪ 9.2‬يف ‪ )2012‬وجنوب إفريقيا (من ‪ 60‬يف ‪ 1995‬إىل ‪ 31‬يف ‪ )2012‬وكولومبيا (من ‪ 79.3‬يف ‪ 1991‬إىل ‪ 25.9‬يف‬
‫عاما املاضية‪َّ .‬أما‬
‫اخنفاضا خالل اخلمسة عشر ً‬
‫ً‬ ‫‪ .)2015‬وشهدت سبعة وستون دولة من بني الثمانية ومثانني ذات البيانات املوثوقة‪،‬‬
‫الدول تعيسة احلظ (وأغلبها يف أمريكا الالتينية) فقد أصابتها زيادة مريعة‪ ،‬ولكن حىت يف هذه الدول فإن قادة املدن واألقاليم عندما‬
‫انعكاسا من‬
‫ً‬ ‫أن املكسيك بعد أن عانت‬‫يوضح الشكل رقم ‪َّ 1-12‬‬ ‫يعتزمون خفض معدل إراقة الدماء‪ ،‬فإهنم ينجحون غالبًا يف ذلك‪ِّ .‬‬
‫اخنفاضا بنسبة ‪ 90‬يف‬
‫ً‬ ‫‪ 2007‬إىل ‪( 2011‬يُعزى بالكامل إىل اجلرمية املنظمة) متتَّعت بانعكاس االنعكاس حبلول عام ‪ 2014‬ومشل‬
‫اخنفاضا مبقدار أربعة أمخاس‬
‫ً‬ ‫املئة تقريبًا من عام ‪ 2010‬إىل ‪ 2012‬يف مدينة خواريز الشهرية‪ .‬وشهدت بوجوتا وميديلني (كولومبيا)‬
‫اخنفاضا مبقدار الثلثني‪ .‬حىت عاصمة القتل يف العامل‪،‬‬
‫ً‬ ‫خالل عقدين‪ ،‬وشهدت ساو باولو واألحياء العشوائية يف ريو دي جانريو (الربازيل)‬
‫هائال يف معدالت جرائم القتل بنسبة ‪ 62‬يف املئة خالل عامني فقط‪.‬‬ ‫اخنفاضا ً‬
‫ً‬ ‫سان بيدرو سوال‪ ،‬شهدت‬
‫واآلن امجع هذا التوزيع اجملنون جلرائم العنف واالحتمالية املؤكدة خلفض معدالت جرائم العنف املرتفعة سر ًيعا‪ ،‬ستجد َّ‬
‫أن املعادلة‬
‫قليال‪ ،‬وليست هذه خدعة‬ ‫عملي‪ ،‬بل إنَّه متحفظ ً‬ ‫ٍ‬
‫عاما ليس جمرد هدف ٍّ‬‫واضحة جدًّا‪ ،‬فاالخنفاض بنسبة ‪ 50‬يف املئة خالل ثالثني ً‬
‫تكمن القيمة األخالقية للقياس الكمي يف أنَّه يعامل حياة كل البشر كأهنا ذات قيمة متساوية‪ ،‬وهكذا َّ‬
‫فإن اإلجراءات اليت‬ ‫إحصائية‪ُ .‬‬
‫متنع أكرب عدد من جرائم القتل متنع أكرب قد ٍر ممكن من املآسي البشرية‪.‬‬
‫يشري هذا االحنراف املائل جلرائم العنف أيضا بسه ٍم أمحر المع إىل أفضل طر ٍ‬
‫يقة للتقليل منها‪ .‬لننسى األسباب اجلذرية‪ ،‬ونقرتب‬ ‫ً‬
‫من األعراض ‪-‬األحياء واألفراد املسؤولني عن أكرب قد ٍر من العنف‪ -‬وإضعاف احلوافز والفرص اليت ِّ‬
‫حتركهم تدرجييًّا‪.‬‬
‫دائما بالعنف كما قال توماس هوبز (‪ )Thomas Hobbes‬يف‬ ‫تبدأ هذه العملية بإنفاذ القانون‪ ،‬فمناطق الفوضى تتسم ً‬
‫عصر العقل )‪ .(Age of Reason‬ليس هذا بسبب رغبة اجلميع يف افرتاس غريهم‪ ،‬ولكن َّ‬
‫ألن التهديد بالعنف يف غياب احلكومة‬
‫قد يؤدي إىل تضخم الذات‪ .‬لذا فحىت إذا اندس بعض املفرتسني احملتملني يف املنطقة أو ظهروا فجأة‪ ،‬فإن السكان جيب أن يتبنوا موق ًفا‬
‫ردا على أي إهانة أو أي هنب‪ ،‬مهما كان الثمن‪ .‬ميكن‬ ‫عدوانيًّا لردعهم‪ ،‬وال ميكن تصديق هذا الردع إال إذا أعلنوا تصميمهم باالنتقام ًّ‬
‫ات من التناحر والثأر‪ ،‬إذ جيب أن تكون عني ًفا بنفس قدر خصومك على‬ ‫أن يؤدي «فخ هوبز» هذا كما يطلق عليه أحيانًا إىل دور ٍ‬
‫ُ‬
‫إن الفئة األكرب من جرائم القتل‪ ،‬واليت ُتتلف أكثر من غريها من زم ٍن آلخر ومن مكانٍ‬ ‫األقل وإال سيعاملونك كممسحة األرجل‪َّ .‬‬
‫جيدا بسبب السيطرة على املناطق أو السمعة أو االنتقام‪ ،‬ميكن أن‬
‫بعضا ً‬
‫آلخر‪ ،‬تتمثل يف مواجهات بني شباب ال يعرفون بعضهم ً‬
‫طرف ثالث غري متحيز حيتكر االستخدام الشرعي للقوة ‪-‬أي دولة لديها قوات شرطة وسلطة قضائية‪ -‬على دورات التناحر‬ ‫يقضي ٌ‬
‫أيضا للجميع تثبيط املعتدين‪ ،‬وبالتايل يرحيهم من احلاجة‬ ‫والثأر هذه يف مهدها‪ .‬ال يثبِّط التهديد بالعقاب املعتدين فحسب‪َّ ،‬‬
‫وإمنا يضمن ً‬
‫إىل الدفاع عن النفس بالقتال‪.‬‬
‫جند أوضح دليل على أثر إنفاذ القانون يف معدالت العنف شديدة االرتفاع يف األزمنة واألماكن اليت كان إنفاذ القانون فيها بدائيًا‬
‫أيضا ما حيدث عندما تُض ِرب‬ ‫مثلما يف األطراف اليُسرى العُليا من املنحنيات يف الشكل رقم ‪ .1-12‬ومن احلجج املقنعة بالقدر نفسه ً‬
‫أيضا عندما‬‫كبريا ً‬
‫تفاعا ً‬‫ولكن معدالت اجلرمية قد ترتفع ار ً‬ ‫الشرطة عن العمل‪ ،‬أي اندالع عمليات النهب واالقتصاص غري القانوين‪َّ ،‬‬
‫أن بإمكاهنم خرق القانون‬ ‫تكون وسائل إنفاذ القانون غري فعالة‪ ،‬أي عندما تكون غري مناسبة أو فاسدة أو مثقلة مبا جيعل الناس يعرفون َّ‬
‫مع اإلفالت من العقاب‪ .‬كان هذا أحد األسباب اليت أسهمت يف انتشار اجلرمية يف الستينيات عندما مل ي ُكن بإمكان النظام القضائي‬
‫أيضا يف ارتفاع معدل اجلرائم يف بعض‬ ‫جماراة موجة جيل «طفرة املواليد» عند وصوله إىل السنوات اليت كان فيها عرضة لإلجرام‪ ،‬وأسهم ً‬
‫يفسر توسع حفظ األمن والنظام العام والعقاب اجلنائي (رغم جتاوزه حد االعتدال فيما‬ ‫املناطق يف أمريكا الالتينية اليوم‪ .‬ويف املقابل‪ِّ ،‬‬
‫كبريا من تراجع اجلرمية بقد ٍر كبري يف أمريكا يف التسعينيات‪.‬‬
‫خيص االحتجاز واحلبس) جزءًا ً‬
‫فيما يلي ملخص أيزنر لكيفية خفض معدل جرائم القتل مبقدار النصف خالل ثالثة عقود‪َّ « :‬‬
‫إن حكم القانون الفعَّال‪ ،‬القائم‬
‫على إنفاذ القانون امل شروع ومحاية الضحايا والتقاضي السريع والعادل والعقوبات املعتدلة والسجون اليت تعامل السجناء معاملة إنسانية‪،‬‬
‫فعال ومشروع وسريع وعادل ومعتدلة وإنسانية‬ ‫ضروري للحد من العنف املميت بصورةٍ مستدامة»‪ُ .‬متيِّز الصفات اليت استخدمها مثل َّ‬
‫يفضله ساسة اجلناح اليميين‪ .‬تتضح أسباب هذا فيما شرحه تشيزاري بيكاريا‬ ‫نصيحته عن خطاب «الصرامة يف مواجهة اجلرمية» الذي ِّ‬
‫ومرض للعواطف‪،‬‬ ‫أن التهديد بالعقوبات األقسى على اإلطالق رخيص ٍ‬ ‫عاما‪ ،‬ففي حني َّ‬
‫(‪ )Cesare Beccaria‬منذ مئتني ومخسني ً‬
‫لكنَّه ليس فعَّ ًاال َّ‬
‫ألن منتهكي القوانني يعاملون هذه العقوبات كأهنا حوادث نادرة‪ ،‬فظيعة ولكنَّها خماطرة مصاحبة للعمل‪َّ ،‬أما العقوبات‬
‫املتوقعة حىت وإن كانت أقل قسوًة فسيأخذها الناس أكثر يف احلسبان عند اُتاذ اخليارات اليومية‪.‬‬
‫ألن الناس ال حيرتمون السلطات الشرعية نفسها فحسب‪ ،‬بل يأخذون‬‫أيضا إىل جانب إنفاذ القانون‪َّ ،‬‬‫أن شرعية النظام مهمة ً‬ ‫يبدو َّ‬
‫أيضا إىل أي درجة سيحرتمها خصومهم احملتملون حسب توقعاهتم‪ .‬يشري أيزنر‪ ،‬إضافةً إىل املؤرخ راندولف روث‬ ‫يف احلسبان ً‬
‫كثريا يف العقود اليت يتشكك الناس فيها يف جمتمعهم وحكومتهم‪ ،‬وتشمل هذه العقود‬ ‫(‪ ،)Randolph Roth‬إىل َّ‬
‫أن اجلرمية تزداد ً‬
‫احلرب األهلية األمريكية‪ ،‬والستينيات‪ ،‬وحقبة ما بعد اهنيار االحتاد السوفيييت يف روسيا‪.‬‬
‫هائال أجراه عاملا‬
‫حتليال جتميعيًّا (تلويًّا) ً‬
‫تؤيد املراجعات احلديثة ملا ينجح وما ال ينجح يف منع اجلرمية نصيحةَ أيزنر‪ ،‬وأخص بالذكر ً‬
‫االجتماع توماس أبت (‪ )Thomas Abt‬وكريستوفر وينشيب (‪ )Christopher Winship‬لـ ‪ 2300‬دراسة تقيِّم تقريبًا كل‬
‫أن التكتيك‬‫سياسة وخطة وبرنامج ومشروع ومبادرة وتدخل وشعوذة سياسية ووسيلة حتايل متت جتربتها يف العقود األخرية‪ .‬واستنتجا َّ‬
‫األوحد األكثر فعالية للحد من جرائم العنف هو الردع املرَّكز‪ ،‬جيب ً‬
‫أوال توجيه تركيز شديد على األحياء اليت تتفشى اجلرمية أو تبدأ يف‬
‫أوال بأول‪ ،‬وجيب توجيهه أكثر على األفراد والعصابات‬ ‫الزيادة فيها‪ ،‬وحتديد بؤر النشاط اإلجرامي بالبيانات اليت يتم مجعها على الفور ً‬
‫اليت تعتدي على الضحايا أو تبحث عن عر ٍاك جديد‪ .‬وجيب إيصال رسالة بسيطة وملموسة عن السلوك املتوقَّع من هؤالء األفراد‪ ،‬مثل‬
‫«إذا توقفتم عن إطالق النريان سنساعدكم‪ ،‬وإذا واصلتم إطالق النريان سنزج بكم يف السجن»‪ .‬يعتمد إيصال الرسالة مث تطبيقها على‬
‫تعاون أعضاء اجملتمع اآلخرين‪ ،‬مثل أصحاب املتاجر والوعاظ واملدربني وضباط مراقبة السلوك واألقرباء‪.‬‬
‫أيضا ال عالج السلوكي املعريف‪ ،‬ليس هلذا أي عالقة بالتحليل النفسي للصراعات اليت واجهها مرتكب اجلرمية يف‬ ‫ومما ثبت فعاليته ً‬
‫طفولته‪ ،‬أو فتح عينيه وتثبيت جفنيه بينما حياول التقيؤ أثناء إجباره على مشاهدة مقاطع فيديو عنيفة كما حدث يف فيلم ‪(A‬‬
‫)‪َّ ،Clockwork Orange‬إمنا هو جمموعة بروتوكوالت مصممة إللغاء عادات التفكري والسلوك اليت تؤدي إىل األفعال اإلجرامية‪.‬‬
‫فهم ينتهزون الفرص املفاجئة للسرقة أو التخريب‪ ،‬ويهامجون من يعارضوهنم غري مكرتثني بالعواقب طويلة األمد‪.‬‬ ‫َّ‬
‫إن املشاغبني مندفعون‪ُ ،‬‬
‫أيضا أمناط تفكري نرجسية ومعتلة‬‫ميكن مقاومة هذه اإلغراءات بالعالج الذي يعلِّم املرء اسرتاتيجيات التحكم يف النفس‪ .‬لدى املشاغبني ً‬
‫أن اآلخرين ليس لديهم‬ ‫أن اخلالفات تُعد إهانات شخصية‪ ،‬و َّ‬ ‫دائما على حق‪ ،‬و َّأهنم يستحقون انصياع العامل هلم‪ ،‬و َّ‬ ‫َّ‬
‫اجتماعيًّا‪ ،‬مثل أهنم ً‬
‫مشاعر وال مصاحل‪ .‬ورغم عدم إمكان «شفائهم» من هذه األوهام‪َّ ،‬إال أنَّه ميكن تدريبهم على إدراكها ومقاومتها‪ .‬تتضخم هذه العقلية‬
‫املختالة يف ظل ثقافة الشرف‪ ،‬وميكن تفكيكها يف العالج الذي يهدف إىل التحكم يف الغضب والتدريب على املهارات االجتماعية‬
‫كجزء من تقدمي االستشارات للشباب املعرضني هلذا اخلطر أو الربامج اليت هتدف إىل منع العودة إىل اإلجرام‪.‬‬
‫سواء متت السيطرة على رعونة األوغاد احملتملني أم ال‪ ،‬فإهنم ميكن أن يبتعدوا عن املشاكل بسبب إزالة فرص اإلشباع الفوري من‬
‫بيئتهم‪ ،‬فعندما تكون سرقة السيارات أصعب‪ ،‬والسطو على املنازل أصعب‪ ،‬وسرقة البضائع مث بيعها أصعب‪ ،‬وحيمل املشاة بطاقات‬
‫بدال من النقود‪ ،‬وتكون األزقة املظلمة مضاءة ومراقبة بالكامريات‪ ،‬فإن اجملرمني احملتملني لن يبحثوا عن ٍ‬
‫منفذ آخر لتلبية حاجتهم‬ ‫ائتمان ً‬
‫حولت األحداث اجلاحنني إىل مواطنني‬
‫امللحة للسرقة‪ ،‬ومن مث فإن اإلغراء سينقضي ولن تُرتكب اجلرمية‪ .‬من التطورات األخرى اليت َّ‬
‫ملتزمني بالقانون رغما عنهم السلع االستهالكية الرخيصة‪ ،‬فمن قد جيازف اليوم باقتحام ٍ‬
‫شقة من أجل سرقة راديو مزود بساعة؟‬ ‫ً‬
‫من أكرب العوامل احملفزة للعنف اإلجرامي‪ ،‬إىل جانب الفوضوية واالندفاع وإتاحة الفرص‪ ،‬هي البضائع املهربة‪ ،‬فرواد األعمال يف‬
‫البضائع والتسايل املمنوعة ال ميكنهم رفع دعوى قضائية عندما يشعرون َّأهنم تعرضوا لالحتيال‪ ،‬وال االتصال بالشرطة عندما يهددهم‬
‫شخص ما‪ ،‬لذا عليهم أن حيموا مصاحلهم بالتهديد احلقيقي بالعنف‪ .‬انتشرت جرائم العنف يف الواليات املتحدة عندما ُحظرت الكحول‬ ‫ٌ‬
‫يف العشرينيات وعندما شاع استخدام الكراك كوكايني يف أواخر الثمانينيات‪ ،‬وتتفشى هذه اجلرائم يف دول الكارييب وأمريكا الالتينية اليت‬
‫يتم فيها اليوم هتريب الكوكايني واهلريوين واملارجيوانا‪ .‬يظل العنف الناتج عن املخدرات مشكلة دولية قائمة‪ ،‬رمبا سيؤدي إهناء جترمي‬
‫املارجيوانا احلايل‪ ،‬وخمدرات أخرى يف املستقبل‪ ،‬إىل إخراج هذه الصناعات من عاملها السفلي املخالف للقانون‪ .‬بينما الحظ أبت‬
‫أن «احملاكم املتخصصة‬ ‫أن «مكافحة املخدرات العدوانية ال حتقق نتائج إجيابية كثرية وتزيد من العنف بصورةٍ عامة» يف حني َّ‬
‫ووينشيب َّ‬
‫يف قضايا املخدرات وعالج املخدرات هلا تاريخ طويل من الفعالية يف حل املشكلة»‪.‬‬
‫ال بد أن تطغي أي حسابات مستندة إىل أدلة على الربامج اليت تبدو واعدة يف مسرح اخليال‪ ،‬فمن املبادرات اجلريئة الغائبة عن‬
‫قائمة الوسائل الناجحة‪ ،‬إزالة العشوائيات وإعادة شراء األسلحة وسياسات عدم التسامح واحملاكمة باالختبارات القاسية يف الربية‬
‫عرض فيها الشباب‬ ‫واألحكام اإللزامية عند ارتكاب ‪ 3‬جرائم‪ ،‬وفصول التوعية باملخدرات بقيادة الشرطة وبرامج التقومي بالتخويف اليت يُ َّ‬
‫دليل اآلثار امللتبسة لقوانني‬ ‫ٍ‬
‫لسجون قذرة ومدانني أشرار‪ .‬ورمبا من أكثر األمور املخيبة آلمال أصحاب اآلراء القوية دون ٍ‬ ‫املعرضون للخطر‬
‫يفضلها اليسار فرقًا‬ ‫األسلحة‪ ،‬فعلى ما يبدو‪ ،‬مل ُحت ِدث قوانني احلق يف محل السالح اليت ِّ‬
‫يفضلها اليمني‪ ،‬وال قوانني املنع والقيود اليت ِّ‬
‫كبريا‪ ،‬رغم َّ‬
‫أن هناك الكثري مما ال نعرفه والكثري من العوائق السياسية والعملية أمام معرفة املزيد‪.‬‬ ‫ً‬

‫عندما حاولت تفسري تراجع العنف يف كتاب ‪The Better Angels of Our Nature‬كنت واث ًقا يف فكرة َّ‬
‫أن «حياة البشر‬
‫كانت رخيصة» يف املاضي ولكنَّها ازدادت قيمةً مبرور الوقت‪ ،‬بدت هذه الفكرة مبهمة وال ميكن اختبار صحتها‪ ،‬وكانت تشبه الدائرة‬
‫مررت بتجر ٍبة غريت رأيي‪،‬‬
‫املفرغة تقريبًا‪ ،‬لذا قدمت تفسريات أقرب لتلك الظاهرة مثل احلوكمة والتجارة‪ .‬بعد إرسال أصل الكتاب‪ُ ،‬‬
‫أردت أن أكافئ نفسي على االنتهاء من هذا املشروع الضخم‪ ،‬فقررت أن أستبدل سياريت القدمية الصدئة‪ ،‬ومن أجل البحث عن سيارة‬
‫مقاال بعنوان «السالمة باألرقام‪:‬‬ ‫أخرى اشرتيت أحدث عدد من جملة السيارة والسائق )‪ ،(Car and Driver‬كانت افتتاحية العدد ً‬
‫موضحا برس ٍم بياين مألوف للغاية‪ ،‬فكان الزمن على حمور‬ ‫ً‬ ‫اخنفاضا غري مسبوق» وكان هذا‬
‫ً‬ ‫اخنفاض الوفيات نتيجة احلوادث املرورية‬
‫ط من أعلى اليسار إىل أسفل اليمني‪ .‬اخنفض معدل الوفيات الناجتة عن احلوادث‬ ‫السينات ومعدل الوفيات على حمور الصادات وامتد خ ٌ‬
‫اجعا آخر يف املوت العنيف‪ ،‬ولكنَّه هذه املرة مل ي ُكن متعل ًقا‬
‫فوجدت أمامي تر ً‬
‫ُ‬ ‫املرورية بني عامي ‪ 1950‬و‪ 2009‬مبقدار ستة أضعاف‪.‬‬
‫كأن احلياة قد أصبحت‬ ‫باهليمنة والكراهية‪ ،‬إذ تضافرت بعض القوى للعمل على مدار ٍ‬
‫عقود على خفض احتمالية الوفاة أثناء القيادة‪ ،‬و َّ‬
‫بالفعل مثينة‪ ،‬فعندما أصبح اجملتمع أغىن‪ ،‬ركز املزيد من دخله وبراعته وعاطفته األخالقية على إنقاذ حياة الناس على الطريق‪.‬‬
‫قليال‪ ،‬فلو كانت رمست جمموعة البيانات هذه منذ عامها األول‪ ،‬عام ‪ ،1921‬لكانت‬ ‫أن اجمللة كانت متحفظة ً‬ ‫علمت الح ًقا َّ‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 3-12‬اخلط الزمين بأكمله‪ ،‬رغم َّ‬
‫أن هذه‬ ‫اخنفاضا مبقدار أربعة وعشرين ضع ًفا تقريبًا يف معدل الوفيات‪ِّ .‬‬
‫ً‬ ‫أظهرت‬
‫ٍ‬
‫شخص تويف‪ ،‬أصيب آخرون بالعجز والتشويه وأضناهم األمل‪.‬‬ ‫أيضا‪ ،‬ففي مقابل كل‬
‫ليست القصة كاملةً ً‬
‫عدد الوفيات لكل ‪ 100‬مليون ميل مقطوع بالمركبات‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 3 - 1 2‬م ع د ل ا ل وف ي ا ت ا ل ن ا جت ة ع ن ح وا د ث ا ل س ي ا را ت وا ل ط رق ‪ ،‬يف ا ل وال ي ا ت‬


‫ا مل ت ح د ة ‪ ،‬م ن ذ ‪ 1 9 2 1‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬
‫المصدر‪( National Highway Traffic Safety Administration :‬اإلدارة الوطنية لسالمة املرور على الطرق السريعة)‪ ،‬عن طريق‬
‫الروابط التالية‪:‬‬
‫‪http://www.informedforlife.org/demos/FCKeditor/UserFiles/File/TRAFFICFATALITIES(1899-‬‬
‫‪ ،2005).pdf‬و ‪ ،http://www-fars.nhtsa.dot.gov/Main/index.aspx‬و‬
‫‪.https://crashstats.nhtsa.dot.gov/Api/Public/ViewPublication/812384‬‬

‫ذيَّلت اجمللة الرسم البياين باملعامل الفارقة يف سالمة السيارات‪ ،‬واليت حددت القوى التكنولوجية والتجارية والسياسية واألخالقية‬
‫بعضا أحيانًا على املدى القصري‪ ،‬ولكنَّها على املدى البعيد خفَّضت جمتمعةً معدل الوفيات‬
‫الفاعلة‪ ،‬كانت هذه القوى تعارض بعضها ً‬
‫كثريا‪ .‬كانت هناك أحيانًا محالت أخالقية للحد من املذابح‪ ،‬وكانت تعترب صناع السيارات األشرار يف هذه القصة‪ ،‬ففي عام‬ ‫كثريا ً‬
‫كثريا ً‬
‫ً‬
‫‪ ،1965‬نشر حمام شاب يُدعى رالف نادر (‪ )Ralph Nader‬كتابًا بعنوان غير آمن على أي سرعة ( ‪Unsafe at Any‬‬ ‫ٍ‬
‫‪ ،)Speed‬وهو اهتام هلذه الصناعة بإمهاهلا السالمة يف تصميم السيارات‪ .‬بعد ذلك بقليل أُنشئت اإلدارة الوطنية لسالمة املرور على‬
‫ولكن الرسم يوضَّح‬ ‫ٍ‬
‫مبجموعة من اخلصائص اليت تضمن السالمة‪َّ .‬‬ ‫الطرق السريعة‪ ،‬ومت مترير تشريعات تستلزم إعداد السيارات اجلديدة‬
‫اخنفاض حاد قبل هذا النشاط والتشريعات‪ ،‬وكانت صناعة السيارات أحيانًا تسبق العمالء واهليئات التنظيمية‪ .‬احتوى الرسم‬ ‫ٍ‬ ‫حدوث‬
‫على الفتة تشري إىل عام ‪ 1956‬مبا يلي‪« :‬شركة فورد موتور تقدم حزمة اإلنقاذ‪ ..‬وهي تشمل أحزمة األمان ولوحة القيادة املبطَّنة‬
‫وواقيات الشمس املبطَّنة وحمور املقود الغائر املصمم مبا مينع السائقني من التحول إىل قطع كباب عند التصادم‪ .‬إن قيمتها أكرب من‬
‫مثنها»‪ .‬مل تصبح تلك اخلصائص إلزامية سوى بعد ٍ‬
‫عقد كامل‪.‬‬
‫تناثرت على طول ذلك املنحدر حلقات أخرى من الشد واجلذب بني املهندسني واملستهلكني ومسؤويل الشركات وموظفي احلكومة‬
‫ات متنوعة‪ ،‬اجتهت كلٌّ من مناطق امتصاص الصدمات‪ ،‬وأنظمة الكبح املزدوج لألربع عجالت‪ ،‬وأعمدة التوجيه‬ ‫الروتينيني‪ .‬وعلى فرت ٍ‬
‫القابلة للطي‪ ،‬وأضواء املكابح العالية الوسطى‪ ،‬وأحزمة األمان اخلانقة اليت تصدر طنينًا‪ ،‬والوسائد اهلوائية وأنظمة التحكم يف الثبات‪ ،‬من‬
‫املعمل وحىت معارض السيارات‪ .‬من األمور املنقذة األخرى متهيد الطرق الريفية الطويلة لتصبح طرقًا سريعة ُمقسمة ومضاءة ومسورة‬
‫والية إىل أخرى‪ .‬تأسست منظمة أمهات ضد القيادة حتت تأثري الكحول ( ‪Mothers‬‬ ‫حبواجز ومنحنية بسالسة وعريضة وتصل من ٍ‬
‫وشكلت ضغطًا من أجل رفع السن القانونية لتناول الكحول وخفض املستوى‬ ‫‪ )Against Drunk Driving‬يف عام ‪َّ ،1980‬‬
‫مثارا‬
‫القانوين املسموح به من الكحول يف الدم ووصم القيادة حتت تأثري الكحول‪ ،‬وهو ما تعاملت معه الثقافة الشعبية آنذاك باعتباره ً‬
‫للضحك كما يف فيلمي ‪North by Northwest‬و‪ .Arthur‬أنقذت اختبارات تصادم السيارات وتطبيق قوانني املرور وتعليم‬
‫القيادة (إضافةً إىل أموٍر غري مقصودة مثل االزدحام املروري والركود االقتصادي) حياة املزيد من الناس‪ ،‬حياة الكثري من الناس‪ ،‬فمنذ عام‬
‫‪ ،1980‬مل ميُت حوايل ‪ 650‬ألف مواطن أمريكي كانوا سيموتون لو بقيت معدالت الوفيات الناجتة عن احلوادث املرورية كما هي‪ ،‬بل‬
‫عقد (‪ 55‬مليار ميل يف ‪،1920‬‬ ‫أمياال أكثر مع كل ٍ‬
‫أن األمريكيني يقطعون ً‬ ‫جند األرقام جديرة باملالحظة أكثر عندما نضع يف اعتبارنا َّ‬
‫و‪ 458‬مليار يف ‪ 1.5 ،1950‬تريليون يف ‪ ،1980‬و‪ 3‬تريليون يف ‪ ،)2013‬فكانوا يستمتعون بكل متع الضواحي املليئة باألشجار‬
‫واألطفال الذين يلعبون كرة القدم أو يشاهدون الواليات املتحدة األمريكية من سياراهتم الشيفروليه أو يتجولون بالسيارة يف الشوارع‬
‫ولكن تلك األميال اإلضافية اليت قطعوها مل تقلل من املكاسب يف السالمة‪،‬‬
‫ويبتعدون عن األنظار وينفقون كل أمواهلم على ليلة السبت‪َّ ،‬‬
‫(بدال من لكل ميل) ذروته يف عام ‪ 1937‬فكان حوايل ‪ 30‬لكل ‪ 100‬ألف سنويًّا‪ ،‬وهو يف‬ ‫إذ بلغ معدل الوفيات يف السيارات للفرد ً‬
‫تراجع مستمر منذ أواخر السبعينيات ووصل يف عام ‪ 2014‬إىل ‪ 10.2‬وهو أقل معدل منذ ‪.1917‬‬
‫وقاصرا على األمريكيني‪ ،‬فقد اخنفضت معدالت‬ ‫ً‬ ‫يدا‬
‫ليس التقدم الذي حدث يف أعداد السائقني الذين يظلون على قيد احلياة فر ً‬
‫الوفيات يف الدول الثرية األخرى مثل فرنسا وأسرتاليا وبالطبع السويد املهتمة بالسالمة (اشرتيت يف النهاية سيارة فولفو)‪ ،‬ولكنَّه قد يرجع‬
‫إن معدل الوفيات نتيجة احلوادث املرورية للفرد يف الدول الناشئة مثل اهلند والصني والربازيل ونيجرييا ضعف‬ ‫إىل اإلقامة يف دو ٍلة ثرية‪َّ .‬‬
‫املعدل يف الواليات املتحدة وسبع أضعاف املعدل يف السويد‪ ،‬فالثروة تشرتي احلياة‪.‬‬

‫إجنازا إشكاليًّا لو كنا يف خط ٍر أكرب مما كنا فيه قبل اخرتاع السيارات‪َّ ،‬‬
‫ولكن‬ ‫كان الرتاجع يف معدل الوفيات على الطرق سيصبح ً‬
‫أيضا قبل السيارات يف احلقيقة‪ .‬حيكي أمني أرشيف الصور أوتو بيتمان (‪ )Otto Bettmann‬حكايات‬ ‫كثريا ً‬
‫احلياة مل ت ُكن آمنة ً‬
‫معاصرة عن شوارع املدينة يف حقبة جر العربات باألحصنة فيقول‪:‬‬

‫صيد صغري»‪ ..‬كان احلصان هو حمرك‬ ‫«يتطلب عبور شارع برودواي مهارة أكثر مما يتطلبه عبور احمليط األطلنطي يف قارب ٍ‬
‫الفوضى يف املدينة‪ ،‬إذكان هذا احليوان الضروري يعاين من العصبية ونقص التغذية‪ ،‬وكان السائقون عدميو الرمحة يضربونه‬
‫غالبًا بالسياط حىت ينهكونه ويغتبطون عنما يندفع لألمام «بأقصى قوة متحديًا القانون ويبتهجون بالتخريب والتدمري»‪.‬‬
‫شائعا‪ ،‬وكان هذا اخلراب يؤدي إىل قتل آالف األشخاص‪ .‬وف ًقا للمجلس الوطين للسالمة َّ‬
‫فإن معدل الوفيات‬ ‫كان اجلموح ً‬
‫املرتبطة باألحصنة كان أعلى بعشرة أضعاف من معدل الوفيات املرتبطة بالسيارات يف العصر احلديث (يف عام ‪،1974‬‬
‫وهو ضعف معدل الوفيات املرتبطة بالسيارات للفرد اليوم ‪.)SP -‬‬

‫أُطلق على فريق بروكلني دودجرز‪ ،‬قبل انتقاله إىل لوس أجنلوس‪ ،‬هذا االسم تيمنًا باملشاة يف املدينة الذين كانوا يشتهرون مبهارهتم‬
‫يف سرعة تفادي العربات املندفعة (مل ينجح اجلميع يف تفاديها يف تلك احلقبة‪ ،‬فأخت جدي قتلتها عربة يف وارسو يف سنة ‪.)1910‬‬
‫ازدادت قيمة حياة املشاة كقيمة حياة السائقني والركاب‪ ،‬ويرجع الفضل يف ذلك للمصابيح ومعابر املشاة واجلسور العلوية وهيئات تطبيق‬
‫يوضح‬
‫قوانني املرور واختفاء حلي أغطية حمركات السيارات والقطع اليت تشبه الرصاصات يف املصد واألسلحة األخرى املطلية بالكروم‪ِّ .‬‬
‫أن السري يف شوارع أمريكا اليوم أكثر أمانًا من السري فيها يف عام ‪ 1927‬بستة أضعاف‪.‬‬ ‫الشكل رقم ‪َّ 4-12‬‬
‫الوفيات لكل ‪ 100‬ألف شخص سنو ًّيا‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 4 - 1 2‬م ع د ل وف ي ا ت ا مل ش ا ة يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة م ن ذ ‪ 1 9 2 7‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫المصدر‪ :‬اإلدارة الوطنية لسالمة املرور على الطرق السريعة‪ .‬بيانات األعوام ‪Federal Highway Administration 2003. :1984-1927‬‬
‫بيانات األعوام ‪ National Center for Statistics and Analysis 1995. :1995-1985‬بيانات األعوام ‪:2005-1995‬‬
‫‪ National Center for Statistics and Analysis 2006.‬بيانات األعوام ‪National Center for Statistics :2014-2005‬‬
‫‪ and Analysis 2016.‬بيانات العام ‪National Center for Statistics and Analysis 2017. :2015‬‬

‫صادما (قارنه بعدد من قتلهم اإلرهابيون ‪44-‬‬


‫عددا ً‬ ‫إن عدد املشاة الذين قُتلوا يف عام ‪ 5000- 2014‬تقريبًا‪ -‬ما زال ً‬ ‫َّ‬
‫شخصا‪ -‬وحصلوا على تركيز إعالمي أكرب)‪ ،‬ولكنَّه أفضل من الـ ‪ 15‬أل ًفا الذين قُتلوا يف عام ‪ 1937‬عندما كان تعداد السكان يف‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫كثريا‪ .‬وما زال أمامنا تقدم أكثر يف إنقاذ البشر‪ ،‬فخالل عقد من كتابة هذا‬
‫البالد ُمخسي التعداد احلايل وكان هبا عدد سيارات أقل ً‬
‫بدال من البشر ذوي البديهة البطيئة واألذهان املشتتة‪ .‬عندما تكون السيارات‬
‫الكتاب‪ ،‬سيقود احلاسب اآليل أغلب السيارات اجلديدة ً‬
‫ٍ‬
‫شخص سنويًّا‪ ،‬وبذلك ستصبح أعظم هدية للحياة البشرية منذ اخرتاع‬ ‫اآللية واسعة االنتشار‪ ،‬فإهنا ستستطيع إنقاذ حياة أكثر من مليون‬
‫املضادات احليوية‪.‬‬
‫كثريا من الناس خيشون الطريان ولكن ال أحد خيشى القيادة تقريبًا رغم‬
‫أن ً‬ ‫من األقوال املأثورة يف املناقشات حول تصور املخاطر َّ‬
‫أبدا‪ ،‬فيفحصون الصندوق‬ ‫ولكن املشرفني على سالمة حركة الطريان ال يرضون عنها ً‬ ‫ٍ‬
‫بدرجة هائلة‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫أن السفر بالطيارات أكثر أمانًا‬
‫األسود واحلطام بدقة بعد كل حادثة‪ ،‬ويستمرون يف زيادة سالمة وسيلة النقل اآلمنة بالفعل‪ .‬يوضح الشكل رقم ‪َّ 5-12‬‬
‫أن احتمالية‬
‫وفاة أحد ركاب الطائرة يف حادث حتطم طائرة يف عام ‪ 1970‬كان أقل من ‪ 5‬يف املليون‪ ،‬واخنفضت هذه االحتمالية الضئيلة يف عام‬
‫‪ 2015‬مبئة ٍ‬
‫ضعف‪.‬‬
‫الوفيات لكل مليون راكب سنو ًّيا‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 5 - 1 2‬م ع د ل ا ل وف ي ا ت ا ل ن ا جت ة ع ن ح وا د ث حت ط م ا ل ط ا ئ را ت م ن ذ ‪ 1 9 7 0‬ح ىت‬


‫‪2015‬‬
‫المصدر‪ .Aviation Safety Network 2017 :‬البيانات اخلاصة بعدد الركاب من ‪.World Bank 2016b‬‬

‫من ميوت باملاء ومن ميوت بالنار‪ :‬قدميًا قبل اخرتاع السيارات والطائرات‪ ،‬كان الناس معرضني ألخطار مميتة يف بيئتهم‪ .‬بدأ عامل االجتماع‬
‫روبرت سكوت كتابه عن تاريخ احلياة يف أوروبا يف العصور الوسطى مبا يلي‪« :‬يف يوم ‪ 14‬من ديسمرب ‪ ،1421‬يف مدينة ساليزبري‬
‫سيخ ساخن» (قيل َّ‬
‫إن الدعاء للقديس أوزموند‬ ‫ٍ‬
‫اإلجنليزية‪ ،‬أصيبت فتاة يف الرابعة عشرة تُدعى آجنس بإصابة فاجعة عندما ثقب بطنها ٌ‬
‫الرضَّع الذين تركهم‬
‫احدا فقط على مدى خطورة اجملتمعات األوروبية يف العصور الوسطى‪ ،‬وكان األطفال و ُ‬ ‫مثاال و ً‬
‫قد شفاها)‪ .‬كان هذا ً‬
‫آباؤهم وحدهم أثناء العمل أكثر عرضةً لألخطار كما أوضحت املؤرخة كارول روكليف (‪:)Carol Rawcliffe‬‬
‫كان احمليط املزدحم املظلم املليء باملواقد املفتوحة والفراش من القش واألرضيات املغطاة باحلصائر واللهب املكشوف ِّ‬
‫يشكل‬
‫خطرا دائما على الصغار الفضوليني‪ ،‬وكان األطفال (حىت أثناء اللعب) يف خط ٍر بسبب ِ‬
‫الربك واملستلزمات الزراعية أو‬ ‫ً ً‬
‫احململة‪ ،‬إذ تظهر كل هذه األغراض بصورةٍ متكررة وكئيبة‬
‫َّ‬ ‫بات‬
‫ر‬ ‫الع‬
‫و‬ ‫اف‬
‫ر‬ ‫إش‬ ‫دون‬ ‫كة‬‫املرتو‬ ‫ارب‬
‫و‬ ‫الق‬
‫و‬ ‫اخلشب‬ ‫ام‬
‫و‬ ‫أك‬ ‫و‬ ‫الصناعية‬
‫يف تقارير حمققي الوفيات كأسباب وفاة الصغار‪.‬‬

‫تشري موسوعة األطفال والطفولة في التاريخ والمجتمع ( ‪The Encyclopedia of Children and Childhood‬‬
‫رضيعا‪ ،‬وهو املشهد الذي ظهر يف حكايات الفارس ( ‪The‬‬ ‫طفال ً‬
‫أن‪« :‬صورة خنزير يلتهم ً‬ ‫‪ )in History and Society‬إىل َّ‬
‫‪ )Knight's Tale‬لتشوسر (‪ ،)Chaucer‬تبدو غريبة للقراء املعاصرين‪ ،‬ولكنَّها كانت تعكس بالتأكيد اخلطر الشائع الذي كانت‬
‫ِّ‬
‫تشكله احليوانات على األطفال»‪.‬‬
‫ومل ي ُكن البالغون أكثر أمانًا‪ .‬يوجد موقع إلكرتوين امسه الحياة اليومية واألخطار المميتة في إنجلترا في القرن السادس عشر‬
‫( ‪ )Everyday Life and Fatal Hazard in Sixteenth-Century England‬ينشر حتديثات شهرية عن حتليالت‬
‫املؤرخني لتقارير حمققي الوفيات‪ ،‬تشمل أسباب الوفاة كتناول مسك املاكريل امللوث‪ ،‬وأن يعلق أحدهم أثناء تسلق النافذة‪ ،‬واالنسحاق‬
‫حتت كومة من ألواح اخلث‪ ،‬واالختناق برباط كان يعلق فيه املرء سالل على كتفيه‪ ،‬والسقوط من منحد ٍر أثناء صيد طيور الغاقة‪،‬‬
‫والسقوط على السكني أثناء ذبح خنزي ٍر‪ .‬يف غياب اإلضاءة الصناعية‪ ،‬كان كل من يغامر باخلروج بعد حلول الظالم يواجه خطر الغرق‬
‫يف اآلبار واألهنار واملصارف واخلنادق املائية والقنوات والبالوعات‪.‬‬
‫ولكن األخطار األخرى ما زالت موجودة‪ ،‬فالسبب األكرب للوفاة العرضية‬ ‫الرضع من أن تأكلهم اخلنازير‪َّ ،‬‬ ‫ال نقلق اليوم على أطفالنا ُ‬
‫ألن اختصاصيي الوبائيات‬ ‫بعد حوادث السيارات هو السقوط‪ ،‬ويليه الغرق واحلرائق ويليهما التسمم‪ .‬وحنن نعرف هذه املعلومات َّ‬
‫ومهندسي السالمة يرتبون حاالت الوفاة العرضية يف جداول مع االنتباه الشديد للتفاصيل‪ ،‬ويصنِّفوهنا إىل فئات مث يصنِّفوهنا إىل فئات‬
‫فرعية لتحديد ما يقتل أكرب عدد من الناس وكيف ميكن تقليل املخاطر (حتتوي النسخة العاشرة من التصنيف الدويل لألمراض‬
‫نوعا من حوادث السقوط فقط‪ ،‬و‪ 39‬استثناءً هلا)‪،‬‬ ‫‪ International Classification of Diseases‬على رموٍز لـ ‪ً 153‬‬
‫وعندما تُرتجم استشاراهتم إىل قوانني وقواعد للبناء وأنظمة التفتيش والفحص وأفضل املمارسات‪ ،‬فإن العامل يصبح أكثر أمانًا‪ .‬تراجعت‬
‫ألهنم أصبحوا يف محاية احلواجز والالفتات وواقيات‬‫احتمالية وفاة األمريكيني بالسقوط منذ ثالثينيات القرن املاضي بنسبة ‪ 72‬يف املئة‪َّ ،‬‬
‫النوافذ احلديدية ومقابض السالمة وأحزمة األمان للعمال واألرضيات والسالمل األكثر أمانًا وعمليات التفتيش (معظم حاالت الوفاة‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 6-12‬اخنفاض معدل حوادث السقوط ومسارات خماطر الوفاة العرضية الكربى‬ ‫الباقية ألشخاص مسنني ضعفاء)‪ِّ .‬‬
‫األخرى منذ عام ‪.1903‬‬
‫السقوط‬
‫الوفيات لكل ‪ 100‬ألف شخص سنو ًّيا‬

‫السم (صلب‬
‫أو سائل)‬

‫الحريق‬

‫الغرق‬

‫السم (غاز أو بخار)‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 6 - 1 2‬م ع د ل ا ل وف ي ا ت ا ل ن ا جت ة ع ن ح وا د ث ا ل س ق وط وا حل ري ق وا ل غ رق وا ل س م ‪ ،‬يف‬
‫ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة ‪ ،‬م ن ذ ‪ 1 9 0 3‬ح ىت ‪2 0 1 4‬‬
‫المصدر‪ .National Safety Council 2016 :‬البيانات اخلاصة باحلريق والغرق والسم (صلب أو سائل) َّ‬
‫جممعة من جمموعيت بيانات على الفرتة‬
‫من ‪ 1903‬حىت ‪ 1998‬ومن ‪ 1999‬حىت ‪ ،2014‬وتشمل بيانات ‪ 2014-1999‬عن السم (صلب أو سائل) حاالت الوفاة بالسم بالغاز أو البخار‪.‬‬
‫متتد البيانات اخلاصة حبوادث السقوط فقط حىت عام ‪ 1992‬بسبب أدوات إعداد التقارير يف السنوات الالحقة‪.‬‬

‫متاما تقريبًا‪ ،‬وتراجع عدد ضحايا كليهما بنسبة أكرب من ‪90‬‬ ‫َّ‬
‫إن االحندارين اللذين يشريان إىل املوت بالنار واملوت باملاء متطابقان ً‬
‫يف املئة‪ ،‬فعدد األمريكيني الذين يغرقون اليوم أقل بفضل سرتات النجاة وحراس اإلنقاذ واألسوار احمليطة باملسابح والتعليمات اخلاصة‬
‫بالسباحة وإنقاذ احلياة وزيادة الوعي بعُرضة األطفال للغرق يف املغاطس واملراحيض‪ ،‬وحىت الدالء‪.‬‬
‫يقضي عدد أقل من الناس حنبهم بألسنة اللهب والدخان‪ ،‬ففي القرن التاسع عشر نشأت فرق املطافئ احملرتفة إلطفاء احلرائق قبل‬
‫وتدمر مدنًا بأكملها‪ .‬ويف منتصف القرن العشرين‪ ،‬حتولت مهمة دوائر املطافئ من مكافحة احلرائق إىل منعها من األساس‪،‬‬ ‫أن حتتدم ِّ‬
‫كانت هذه احلملة مدفوعة باحلرائق املروعة مثل حريق امللهى الليلي ‪ Coconut Grove‬يف بوسطن عام ‪ ،1942‬والذي نتج عنه‬
‫وهم حيملون جثث األطفال‬ ‫شخصا‪ ،‬والذي انتشرت األخبار عنه بسبب الصور املوجعة للقلب اليت يظهر فيها رجال اإلطفاء ُ‬ ‫ً‬ ‫وفاة ‪492‬‬
‫الصغار اليت أخرجوها من املنازل احملرتقة‪ .‬اعتُربت احلريق حالة طوارئ أخالقية على املستوى الوطين يف تقارير اللجان الرئاسية اليت محلت‬
‫عناوين مثل أمريكا حترتق (‪ .)America Burning‬أدت احلملة إىل ظهور األغراض واسعة االنتشار اآلن مثل املرشات وكاشفات‬
‫الدخان واألبواب املقاومة للحرائق وسالمل النجاة والتدريبات لالستعداد للحرائق ومطافئ احلريق واملواد املانعة للهب‪ ،‬والشخصيات‬
‫الكرتونية املستخدمة يف تعليم السالمة من احلرائق مثل مسوكي الدب (‪ )Smokey the Bear‬وسباركي كلب احلريق ‪(Sparky‬‬
‫تشكل حاالت السكتة القلبية والطوارئ الطبية‬‫فإن إدارات املطافئ تعطِّل نفسها عن العمل‪ ،‬إذ ِّ‬
‫)‪ the Fire Dog‬نتيجةً لذلك َّ‬
‫األخرى ‪ 96‬يف املئة من املكاملات اليت تأتيها‪ ،‬فيما تشكل احلرائق الصغرية معظم النسبة الباقية من املكاملات (على عكس الصورة‬
‫احدا فقط كل عامني‪.‬‬ ‫الساحرة‪َّ ،‬‬
‫فإن رجال اإلطفاء ال تنقذ القطط الصغرية من األشجار) حيث يرى رجل اإلطفاء العادي مبىن حمرتقًا و ً‬
‫قلة من األمريكيني ميوتون بسبب التسمم العرضي بالغاز‪ ،‬فمن التطورات اليت حدثت بدءًا من أربعينيات القرن املاضي االنتقال‬
‫من استخدام غاز الفحم السام إىل استخدام الغاز الطبيعي غري السام يف التدفئة والطهي يف املنازل‪ ،‬إضافةً إىل حتسني تصميم املواقد‬
‫بشكل ناقص فينفث أول أكسيد الكربون يف املنزل‪ .‬بدءًا من السبعينيات‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫واملدافئ اليت تعمل بالغاز وصيانتها حىت ال حترق وقودها‬
‫وظل‬
‫أصبحت السيارات جمهزة باحملوالت احلفازة املصممة مبا جيعلها تقلل تلوث اهلواء واليت منعتها من أن تصبح أفران غاز متحركة‪َّ .‬‬
‫ذكرون خالل القرن كله َّ‬
‫بأن تشغيل السيارات واملولدات واملشاوي بالفحم واملدافئ املشتعلة داخل املنازل أو أسفل النوافذ فكرة‬ ‫الناس يُ َّ‬
‫سيئة‪.‬‬
‫إن االرتفاع احلاد الذي‬‫اضحا هلذا الغزو على احلوادث‪ :‬وهو فئة «السم (صلب أو سائل)»‪َّ .‬‬ ‫يوضح الشكل رقم ‪ 6-12‬استثناءً و ً‬ ‫ِّ‬
‫بدأ يف التسعينيات حالة شاذة يف جمتم ٍع يزداد فيه كل يوم استخدام األقفال وأجراس اإلنذار والبطانات الواقية وحواجز الطرق وامللصقات‬
‫التحذيرية‪ ،‬ويف البداية مل ِ‬
‫أستطع فهم تناول املزيد من األمريكيني على ما يبدو مسحوق قتل الصراصري أو الكلور املبيِّض‪ ،‬مث أدركت أ َّن‬
‫أن أغنية ليونارد كوهني ‪Leonard Cohen‬‬ ‫علي أن أتذكر َّ‬
‫أيضا اجلرعات املفرطة من املخدرات (كان َّ‬
‫فئة التسمم العرضي تشمل ً‬
‫وحيدا ‪ /‬ومن ميوت باملهدئات»)‪ .‬كانت ‪ 98‬يف املئة من حاالت‬ ‫املستوحاة من صالة عيد الغفران حتتوي على مجلة «ومن ميوت بز ٍلة ً‬
‫الوفاة نتيجة «التسمم» يف عام ‪ 2013‬بسبب املخدرات (‪ 92‬يف املئة) أو الكحول (‪ 6‬يف املئة)‪ ،‬وكانت كل احلاالت األخرى تقريبًا‬
‫من الغازات واألخبرة (أول أكسيد الكربون يف أغلب احلاالت)‪ ،‬يف حني كانت األخطار املنزلية واملهنية مثل املذيبات واملنظفات واملبيدات‬
‫احلشرية وسائل القداحات مسؤولة عن أقل من نصف يف املئة من حاالت الوفاة بالتسمم وكانت لتلمس أدىن نقطة يف الشكل رقم‬
‫معروضا أمامهم ويُسرع أهاليهم هبم‬
‫ً‬ ‫أن األطفال الصغار ما زالوا يفتِّشون عن األغراض أسفل احلوض ويتذوقون ما جيدونه‬ ‫‪ .6-12‬رغم َّ‬
‫إىل مراكز السموم‪َّ ،‬إال أنَّه ال ميوت منهم سوى القليل‪.‬‬
‫مناقضا للتقدم الذي حققته البشرية يف احلد من األخطار البيئية‪،‬‬
‫ً‬ ‫مثاال‬
‫إذًا فاملنحىن الصاعد الوحيد يف الشكل رقم ‪ 6-12‬ليس ً‬
‫نوع خمتلف من األخطار وهو تعاطي املخدرات‪ .‬بدأ املنحىن يف الصعود يف الستينيات اليت اشتهرت‬ ‫رغم أنَّه بكل تأكيد تراجع للخلف يف ٍ‬
‫هائال مع انتشار إدمان املواد األفيونية األخطر‬
‫تفاعا ً‬
‫جمددا مع انتشار وباء الكراك كوكايني يف الثمانينيات‪ ،‬مث شهد ار ً‬
‫باملخدرات‪ ،‬وارتفع ً‬
‫كثريا يف القرن احلادي والعشرين‪ ،‬بدأ األطباء يف التسعينيات يكثرون من وصف مسكنات األمل األفيونية الرتكيبية مثل األوكسيكودون‬ ‫ً‬
‫أيضا‪ .‬أصبحت اجلرعات‬ ‫َّ‬
‫واهليدروكودون والفنتانيل‪ ،‬واليت ال تتسم بكوهنا مسببة لإلدمان فحسب‪ ،‬بل بأهنا عقاقري تؤدي إىل اهلريوين ً‬
‫ٍ‬
‫شخص سنويًّا وجتعل «السم» أكرب فئة‬ ‫كبريا فهي تقتل أكثر من ‪ 40‬ألف‬ ‫ِّ‬
‫خطرا ً‬‫املفرطة من األفيونات املشروعة وغري املشروعة تشكل ً‬
‫من فئات أسباب الوفاة العرضية متجاوزًة حىت احلوادث املرورية‪.‬‬
‫بوضوح عن حوادث السيارات وحوادث السقوط واحلرائق والغرق واالختناق‬ ‫ٍ‬ ‫إن اجلرعات املفرطة من املخدرات ظاهرة ُتتلف‬‫َّ‬
‫جيدا‬ ‫بالغاز‪ ،‬فالناس ال يدمنون أول أكسيد الكربون وال يشتهون السالمل الطويلة للغاية‪ ،‬لذا َّ‬
‫فإن التدابري الوقائية امليكانيكية اليت جنحت ً‬
‫يف احلما ية من األخطار البيئية لن تكون كافية للقضاء على وباء األفيونات‪ .‬بدأ الساسة واملسؤولون يف قطاعات الصحة العامة يدركون‬
‫حجم املشكلة‪ ،‬وبدأ تطبيق تدابري مضادة‪ ،‬مثل‪ :‬مراقبة الوصفات الطبية‪ ،‬والتشجيع على استخدام مسكنات أكثر أمانًا‪ ،‬وإدانة شركات‬
‫األدوية اليت تروج املخدرات باستهتار وعقاهبا‪ ،‬وإتاحة النالوكسون ‪-‬وهو الدواء املضاد للمواد األفيونية‪ -‬أكثر‪ ،‬وعالج املدمنني مبضادات‬
‫أن عدد حاالت تناول جرعات مفرطة من األفيونات‬ ‫ٍ‬
‫بدرجة ما َّ‬ ‫األفيونات والعالج السلوكي املعريف‪ .‬من العالمات على فعالية هذه التدابري‬
‫املوصوفة طبيًّا (ولكن ليس من اهلريوين أو الفنتانيل غري املشروعني) قد وصل إىل الذروة يف عام ‪ 2010‬ورمبا بدأ يف االخنفاض‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بدرجة كبرية بني فئة متعاطيي املخدرات من جيل «طفرة املواليد»‬ ‫أيضا َّ‬
‫أن اجلرعات املفرطة من األفيونات منتشرة‬ ‫من اجلدير بالذكر ً‬
‫عند بلوغه منتصف العمر‪ .‬كانت أكثر حاالت الوفاة بالتسمم حتدث يف سن اخلمسني تقريبًا يف عام ‪ ،2011‬وكانت حتدث يف أوائل‬
‫األربعني يف ‪ ،2003‬ويف أواخر الثالثني يف عام ‪ ،1993‬ويف أوائل الثالثني يف عام ‪ ،1983‬ويف أوائل العشرين يف عام ‪ ،1973‬إذا‬
‫أن أفراد اجليل املولود بني عامي ‪ 1953‬و‪ 1963‬هم من خيدِّرون أنفسهم حىت املوت يف كل ٍ‬
‫عقد‪ .‬رغم‬ ‫أجريت عمليات الطرح ستجد َّ‬
‫حاال‪ ،‬فوف ًقا لدراسة طولية كربى أجريت‬
‫حال جيد نسبيًّا‪ ،‬أو على األقل أفضل ً‬ ‫فإن أطفال اليوم يف ٍ‬ ‫الذعر املتواصل بشأن املراهقني‪َّ ،‬‬
‫على املراهقني بعنوان رصد املستقبل (‪ ،)Monitoring the Future‬اخنفض استخدام طالب املرحلة الثانوية للكحول والسجائر‬
‫واملخدرات (عدا املارجيوانا والسجائر اإللكرتونية) إىل أقل مستويات له منذ بداية املسح يف عام ‪.1976‬‬

‫عرب كثري من املنتقدين االجتماعيني عن حنينهم إىل حقبة املصانع‬ ‫مع التحول الذي حدث من اقتصاد التصنيع إىل اقتصاد اخلدمات‪َّ ،‬‬
‫أي منها من قبل‪ .‬إىل جانب كل األخطار املميتة اليت ذكرناها‪ ،‬تضيف أماكن‬ ‫واملناجم والطواحني‪ ،‬وهذا على األرجح َّ‬
‫ألهنم مل يعملوا يف ٍّ‬
‫أخطارا أخرى ال حصر هلا‪َّ ،‬‬
‫ألن أيًّا ما كان ما تستطيع اآللة أن تفعله باملواد اخلام ‪-‬النشر أو السحق أو اخلبز والتحميص‬ ‫ً‬ ‫العمل الصناعية‬
‫أيضا بالعمال الذين يديروهنا‪ .‬أشار الرئيس بنجامني هاريسون‬ ‫أو الطالء أو الدمغ أو الدرس أو الذبح‪-‬فإن بإمكاهنا أن تفعله ً‬
‫أن «العمال األمريكيني عرضة ألخطار هائلة على حياهتم وأبداهنم كتلك اليت‬ ‫(‪ )Benjamin Harrison‬يف عام ‪ 1892‬إىل َّ‬
‫يتعرض هلا اجلنود يف أوقات احلروب»‪ .‬يعلِّق بيتمان على بعض الصور الشنيعة وعناوينها اليت مجعها من تلك احلقبة ً‬
‫قائال‪:‬‬

‫إن عامل املنجم كان «يذهب إىل العمل كما لو أنَّه يذهب إىل ق ٍرب مفتوح‪ ،‬ال يعرف مىت قد يُغلق فيحبسه باألسفل»‪..‬‬
‫قيل َّ‬
‫كانت عواميد توليد الكهرباء املكشوفة تسبب العاهات للعامالت الاليت يرتدين التنانري املقببة وتقتلهن‪ ..‬يتمتع هبلوان‬
‫السريك وطيار االختبار اليوم بتأمني أكرب على حياته مما كان يتمتع به عامل املكابح (يف السكك احلديدية) أمس‪ ،‬والذي‬
‫كان عمله يستدعي قفزات حمفوفة باملخاطر بني قاطرات الشحن استجابةً لصافرة القاطرة‪ ..‬ومن املعرضني للموت املفاجئ‬
‫دائما خلطر فقدان أياديهم أو أصابعهم يف أجهزة الربط والتثبيت البدائية‪..‬‬
‫أيضا عمال ربط القطارات الذين كانوا عرضة ً‬ ‫ً‬
‫دائما‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫سواء أكان العامل قد شوهه منشار كهربائي أو سحقته عارضةٌ أو ُدفن يف منجم أو سقط من أعلى عمود‪ ،‬كان هذا ً‬
‫نتيجة «حظه السيئ»‪.‬‬

‫يب ِّ‬
‫يشكل جزءًا من اإلميان املنتشر بالقضاء والقدر‬ ‫كان «احلظ السيئ» تفسريا مرحيا ألصحاب األعمال‪ ،‬وكان حىت ٍ‬
‫وقت قر ٍ‬ ‫ً ً‬
‫فيما خيص احلوادث املميتة اليت كانت تُعزى غالبًا إىل النصيب أو إىل إرادة اهلل (أما اليوم فال يستخدم مهندسو السالمة والباحثون يف‬
‫ألهنا تلمح ضمنيًّا إىل إصبع القدر اخلفي‪ ،‬فاملصطلح املهين املستخدم هو إصابة غري‬‫جمال الصحة العامة كلمة حادثة من األساس َّ‬
‫مقصودة)‪ .‬كانت تدابري السالمة وسياسات التأمني األوىل يف القرنني الثامن عشر والتاسع عشر حتمي األمالك ال البشر‪ ،‬وعندما بدأت‬
‫اإلصابات والوفيات يف الزيادة على حن ٍو ال ميكن جتاهله خالل الثورة الصناعية‪ ،‬مت التقليل من أمهيتها باعتبارها «ضريبة التقدم»‪ ،‬حسب‬
‫فسر أحد مشريف السكك احلديدية رفضه تسقيف رصيف التحميل َّ‬
‫بأن‬ ‫يف غري إنساين للتقدم ال يضع يف احلسبان رفاهة البشر‪َّ .‬‬ ‫تعر ٍ‬
‫«الرجال أرخص من األلواح اخلشبية‪ ..‬فعندما يسقط أحدهم‪ ،‬يوجد عشرة آخرون ينتظرون أن حيلوا حمله»‪ .‬خلَّد رموز الثقافة مثل‬
‫تشاريل تشابلن (‪ )Charlie Chaplin‬الوضع غري االنساين لالنتاج الصناعي من خالل العمل يف أحد املصانع على خط التجميع‬
‫يف فيلم )‪ (Modern Times‬ولوسيل بال (‪ )Lucille Ball‬من خالل العمل يف مصنع الشكوالتة يف مسلسل ‪(I Love‬‬
‫)‪.Lucy‬‬
‫بدأت أماكن العمل تتغري يف أواخر القرن التاسع عشر عندما أُنشئت أول نقابات عمالية واهتم الصحافيون بالقضية وبدأت‬
‫مستندا إىل أكثر من‬
‫ً‬ ‫اهليئات احلكومية جتمع البيانات اليت حتصي اخلسائر البشرية‪ .‬كان تعليق بيتمان عن خطورة العمل يف القطارات‬
‫ٍ‬
‫شخص‪ ،‬أي ‪1‬‬ ‫مذهال وهو ‪ 852‬لكل ‪ 100‬ألف‬ ‫رقما ً‬‫جمرد صور‪ ،‬ففي عقد ‪ 1890‬كان معدل الوفيات السنوي لعمال القطارات ً‬
‫يف املئة تقريبًا سنويًّا‪ ،‬واخنفض هذا املعدل عندما فرض قانون صادر عام ‪ 1893‬استخدام املكابح اهلوائية وأدوات الربط اآليل يف كل‬
‫قطارات الشحن‪ ،‬وكان هذا القانون هو أول قانون فيدرايل يهدف إىل تعزيز السالمة يف أماكن العمل‪.‬‬
‫انتشرت التدابري الوقائية إىل مه ٍن أخرى يف العقود األوىل من القرن العشرين‪ ،‬وهي احلقبة التقدمية‪ ،‬وكانت نتيجة حتريض اإلصالحيني‬
‫والنقابات العمالية والصحافيني والروائيني املهتمني بالفضائح مثل أوبنت سينكلري (‪ .)Upton Sinclair‬كان اإلصالح األكثر فعالية‬
‫تغيريا بسيطًا يف القانون الذي جاء من أوروبا‪ :‬مسؤولية أصحاب العمل وتعويض العمال‪ ،‬فكان العمال املصابون أو ورثتهم ساب ًقا‬ ‫ً‬
‫يضطرون إىل رفع الدعاوى القضائية للحصول على التعويضات‪ ،‬وخيسروهنا عاد ًة‪َّ ،‬أما اآلن فيلزم على أصحاب العمل تعويضهم بنسبة‬
‫حمددة‪ .‬أعجب هذا التغيري اإلدارة بقدر ما أعجب العمال‪ ،‬مبا أنَّه َّ‬
‫مكنهم من التنبؤ بنفقاهتم وجعل العمال أكثر تعاونًا‪ ،‬واألهم أنَّه ربط‬
‫لكل من الطرفني مصلحة يف جعل أماكن العمل أكثر أمانًا‪ ،‬وكذلك لشركات التأمني واهليئات‬ ‫بني مصاحل اإلدارة والعمالة‪ ،‬فكان ٍّ‬
‫احلكومية اليت تعهدت بالتعويض‪ .‬أنشأت الشركات جلانًا للسالمة وإدارات للسالمة وعيَّنت مهندسني للسالمة وطبَّقت إجراءات عديدة‬
‫ٍ‬
‫فضيحة ما أحيانًا أخرى‪ ،‬ويكون هذا غالبًا باإلكراه نتيجة‬ ‫للحماية بدواف َع اقتصادية أو إنسانية أحيانًا‪ ،‬واستجابةً للوصم العام بعد‬
‫الدعاوى القضائية واللوائح احلكومية‪ .‬والنتائج واضحة يف الشكل رقم ‪.7-12‬‬
‫الوفيات لكل ‪ 100‬ألف عامل سنو ًّيا‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 7 - 1 2‬م ع د ل ا ل وف ي ا ت ا ل ن ا جت ة ع ن ح وا د ث ا ل ع م ل ‪ ،‬يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة ‪ ،‬م ن ذ‬


‫‪ 1 9 1 3‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬
‫متاما‪ .‬البيانات اخلاصة باألعوام ‪ 1913‬و‪ 1933‬و‪ :1980‬مكتب إحصاءات العمل‪ ،‬واجمللس‬ ‫المصادر‪ :‬البيانات من مصادر خمتلفة ورمبا ال تكون متناسبة ً‬
‫الوطين للسالمة‪ ،‬واملعهد الوطين للسالمة والصحة املهنية التابع ملراكز مراقبة األمراض والوقاية منها‪ ،‬على التوايل‪ ،‬املقتبسة يف إرشادات ( ‪Centers for‬‬
‫عاما من تاريخ إدارة السالمة والصحة املهنية»‬
‫‪ .)Disease Control 1999‬بيانات العام ‪ :1970‬إدارة السالمة والصحة املهنية‪« ،‬خط زمين ألربعني ً‬
‫)‪ .https://www.osha.gov/osha40/timeline.html ،(Timeline of OSHA’s 40 Year History‬بيانات عامي‬
‫‪ :1994-1993‬مكتب إحصاءات العمل‪ ،‬املقتبس يف دراسة (‪ .)Pegula & Janocha 2013‬بيانات األعوام من ‪National :2005-1995‬‬
‫‪ Center for Health Statistics 2014, table 38.‬بيانات األعوام من ‪Bureau of Labor Statistics 2016a. :2014-2006‬‬
‫استنادا إىل عام ‪،2007‬‬
‫ً‬ ‫ذُكِرت البيانات األخرية كحاالت وفاة للعمال مبكافئ الدوام الكامل ويُضرب يف ‪ 0.95‬للمقايسة التقريبية مع األعوام السابقة‪،‬‬
‫عندما ذكر إحصاء اإلصابات املهنية القاتلة (‪ )CFOI‬يف تقريره املعدل لكل عامل (‪ )3.8‬ولكل وحدة مكافئ الدوام الكامل (‪.)4‬‬

‫كثريا من‬
‫ما زال عدد العمال الذين ميوتون أثناء تأدية عملهم كب ًريا جدًّا إذ بلغ ‪ 5000‬حالة وفاة يف عام ‪ ،2015‬ولكنَّه أفضل ً‬
‫‪ 20‬ألف حالة وفاة يف عام ‪ 1929‬عندما كان عدد السكان أقل من ُمخسي عددهم احلايل‪ .‬يرجع إنقاذ هؤالء الناس جزئيًّا إىل حركة‬
‫أن إنقاذ حياة األشخاص مع‬ ‫كبريا منه هدية أهدانا إياها اكتشاف َّ‬
‫ولكن جزءًا ً‬
‫القوى العمالية من املزارع واملصانع إىل املتاجر واملكاتب‪َّ ،‬‬
‫إنتاج نفس العدد من األدوات هو مشكلة هندسية ميكن حلها‪.‬‬
‫من ميوت بالزلزال‪ :‬هل ميكن جلهود البشر الفانني أن ُتفف مما يُطلق عليه احملامون «القضاء والقدر» مثل اجلفاف والفيضانات‬
‫واحلرائق املدمرة والعواصف والرباكني واالهنيارات الثلجية واالنزالقات األرضية واهلبوط األرضي واملوجات احلارة وموجات الطقس البارد‬
‫أيضا اليت تُعد كوارث ال ميكن التحكم فيها؟ اإلجابة املوضحة يف الشكل رقم ‪ 8-12‬هي (أجل)‪.‬‬ ‫وسقوط النيازك‪ ،‬والزالزل ً‬
‫الوفيات لكل ‪ 100‬ألف شخص سنو ًّيا‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 8 - 1 2‬م ع د ل ا ل وف ي ا ت ا ل ن ا جت ة ع ن ا ل ك وا رث ا ل ط ب ي ع ي ة م ن ذ ‪ 1 9 0 0‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫استنادا إىل بيانات من )‪ ،(EM-DAT‬قاعدة بيانات الكوارث الدولية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫المصدر‪،Roser 2016q ،Our World in Data :‬‬
‫‪ . www.emdat.be‬يوضح الرسم البياين جمموع معدالت الوفيات باجلفاف والزالزل ودرجات احلرارة القاسية والفيضانات والتصادمات واالنزالقات‬
‫احدا من‬
‫نوعا و ً‬ ‫األرضية والتحرك الكتلي (اجلاف) والعواصف واألنشطة الربكانية واحلرائق املدمرة (باستثناء احلرائق وبائية االنتشار)‪ .‬جند يف عدة عقود َّ‬
‫أن ً‬
‫الكوارث يغلب على الوفيات‪ ،‬فيغلب اجلفاف على الوفيات يف عقود ‪ 1910‬و‪ 1920‬و‪ 1930‬و‪ ، 1960‬وتغلب الفيضانات على الوفيات يف عقدي‬
‫‪ 1930‬و‪ ،1950‬وتغلب الزالزل على الوفيات يف عقود ‪ 1970‬و‪ 2000‬و‪.2010‬‬

‫بعد عقد ‪ ،1910‬عندما مزقت العامل احلرب العاملية وجائحة اإلنفلونزا ولكنَّه خال نسبيًّا من الكوارث الطبيعية‪ ،‬اخنفض معدل‬
‫أن العامل أصبح ينعم بعدد أقل من الزالزل والرباكني‬ ‫اخنفاضا سر ًيعا بعد بلوغه الذروة‪ .‬ليس هذا نتيجة َّ‬
‫ً‬ ‫الوفيات الناجتة عن الكوارث‬
‫تقدما من الناحية التكنولوجية‪ ،‬استطاع منع األخطار‬ ‫والنيازك مع كل ٍ‬
‫عقد جديد مبعجزةٍ‪َّ ،‬‬
‫وإمنا ألن العامل كلما أصبح أغىن وأكثر ً‬
‫عدد أقل من األشخاص حتت أنقاض املباين املنهارة أو حيرتقون‪،‬‬ ‫الطبيعية من أن تتحول إىل كوارث بشرية‪ .‬فعندما يصيبنا زلزال‪ ،‬ينسحق ٌ‬
‫اجملمعة يف اخلزانات‪ ،‬وعندما ترتفع درجات احلرارة أو تنخفض بشدة‪ ،‬ميكثون يف‬ ‫وعندما تتوقف األمطار‪ ،‬ميكن للناس استخدام املياه َّ‬
‫إن السدود واخلزانات‬ ‫أماك ٍن مغلقة مهيأة املناخ‪ ،‬وعندما يفيض هنر على ضفتيه‪ ،‬تكون مياههم حممية من النفايات البشرية والصناعية‪َّ .‬‬
‫اليت حتجز املياه للشرب والري جتعل احتمالية حدوث الفيضان أقل من األساس عند تصميمها وبنائها على حن ٍو مالئم‪ ،‬وأنظمة اإلنذار‬
‫املبكرة تتيح للناس إخالء املكان أو العثور على مأوى قبل أن تصل األعاصري إىل اليابسة‪ .‬رغم َّ‬
‫أن علماء اجليولوجيا ال يستطيعون التنبؤ‬
‫بالزالزل بعد‪َّ ،‬إال َّأهنم يستطيعون غالبًا التنبؤ بثورات الرباكني‪ ،‬وميكنهم إعداد األشخاص الذين يقيمون على طول منطقة احلزام الناري‬
‫ومناطق الصدع األخرى الُتاذ احتياطات إلنقاذ حياهتم‪ .‬وبوسع العامل األغىن بالطبع أن ينقذ املصابني ويعاجلهم ويعيد بناء ما تدمر‬
‫سر ًيعا‪.‬‬
‫إن الدول األفقر هي األكثر عرضةً حاليًا لألخطار الطبيعية‪ ،‬إذ تسبب زلزال يف هاييت يف وفاة أكثر من ‪ 200‬ألف شخص‪ ،‬يف‬ ‫َّ‬
‫أيضا عشرة أضعاف‬ ‫حني تسبب الزلزال األقوى الذي ضرب تشيلي بعد ذلك ببضعة أسابيع يف وفاة ‪ 500‬شخص فقط‪ ،‬وتفقد هاييت ً‬
‫ما تفقده مجهورية الدومينيكان ‪-‬الدولة اليت تتشارك معها جزيرة هيسبانيوال‪ -‬من السكان بفعل األعاصري‪ .‬اخلرب السعيد َّ‬
‫أن الدول األفقر‬
‫أيضا (على األقل طاملا كانت التنمية االقتصادية تتجاوز سرعة التغري املناخي)‪ .‬اخنفض معدل الوفيات‬‫عندما تزداد غىن‪ ،‬تزداد أمانًا ً‬
‫ألف يف السبعينيات إىل ‪ 0.2‬اليوم‪ ،‬وهو أقل من‬ ‫السنوي نتيجة الكوارث الطبيعية يف الدول منخفضة الدخل من ‪ 0.7‬لكل ‪ٍ 100‬‬
‫املعدل يف الدول ذات الدخل فوق املتوسط يف السبعينيات‪ ،‬وهو ما زال أعلى من املعدل يف الدول ذات الدخل املرتفع اليوم (‪،0.05‬‬
‫تقدما يف الدفاع عن أنفسها ضد هجمات إله‬ ‫أن ًّ‬
‫كال من الدول الغنية والفقرية ميكنها أن تصنع ً‬ ‫يوضح َّ‬
‫بعد أن كان ‪ )0.09‬ولكنَّه ِّ‬
‫منتقم‪.‬‬
‫ماذا عن النموذج األول إلرادة اإلله؟ القذيفة اليت أطلقها زيوس من جبل أوليمبوس‪ ،‬املصطلح املعرب عن اللقاء املفاجئ مع املوت‪،‬‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 9-12‬تارخيها‪.‬‬ ‫الصاعقة ‪-‬احلرفية‪ -‬من السماء‪ِّ .‬‬
‫الوفيات لكل مليون شخص سنو ًّيا‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 9 - 1 2‬م ع د ل ا ل وف ي ا ت ا ل ن ا جت ة ع ن ص وا ع ق ا ل ربق ‪ ،‬يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة ‪ ،‬م ن ذ‬


‫‪ 1 9 0 0‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬
‫استنادا إىل بيانات من اإلدارة الوطنية للمحيطات والغالف اجلوي ‪(National‬‬
‫ً‬ ‫المصدر‪،Roser 2016q ،Our World in Data :‬‬
‫)‪،http://www.lightningsafety.noaa.gov/victims.shtml ،Oceanic and Atmospheric Administration‬‬
‫و‪.López & Holle 1998‬‬
‫أجل‪ ،‬بفضل التوسع احلضري والتطورات يف جمال التنبؤ بالطقس والتوعية بالسالمة والعالج الطيب والنظم الكهربائية‪ ،‬اخنفضت‬
‫احتمالية أن يقتل أمريكي بصاعقة ٍ‬
‫برق منذ مطلع القرن العشرين مبقدار سبعة وثالثني ضع ًفا‪.‬‬ ‫ُ‬

‫أن بعض قراء مسودة هذا الفصل تعجبوا‬ ‫خاصا (لدرجة َّ‬‫تقديرا ً‬
‫إن انتصار البشرية على املخاطر اليومية ألحد صور التقدم اليت ال تلقى ً‬ ‫َّ‬
‫عدد من الناس أكرب من كل شيء آخر عدا أسوأ‬ ‫أن احلوادث تتسبب يف مقتل ٍ‬ ‫كتاب عن التقدم من األساس)‪ .‬رغم َّ‬ ‫من وجوده يف ٍ‬
‫ٍ‬
‫بعدسة أخالقية‪ ،‬فكما نقول‪ :‬تقع احلوادث ال حمالة‪ .‬لو تساءلنا عما إذا كانت مليون حالة وفاة‬ ‫احلروب‪َّ ،‬إال أنَّنا ً‬
‫نادرا ما ننظر إليها‬
‫ٍ‬
‫بسرعة ممتعة‪ ،‬لرأت قلة قليلة للغاية أنه‬ ‫وعشرات املاليني من اإلصابات سنويًّا مثنًا يستحق أن ندفعه مقابل رفاهية قيادة سياراتنا اخلاصة‬
‫ألن هذا التساؤل مل يُطرح علينا قط هبذه الطريقة‪ .‬يوضع أحد األخطار‬ ‫فإن هذا هو اخليار البشع الذي نتخذه ضمنيًّا َّ‬ ‫يستحق‪ ،‬ومع ذلك َّ‬
‫ني آلخر‪ ،‬وتُشن ضده محلة عنيفة‪ ،‬وخاصةً إذا تصدرت إحدى الكوارث عناوين األخبار وكان هناك «شرير»‬ ‫يف إطا ٍر أخالقي من ح ٍ‬
‫مقصر)‪ ،‬ولكن سرعان ما تنحسر احلملة ويُعزى األمر إىل‬ ‫ميكن توجيه أصابع االهتام له (صاحب مصنع جشع‪ ،‬أو مسؤول حكومي ِّ‬
‫لعبة احلياة واملوت‪.‬‬
‫أعماال وحشية (على األقل عندما ال يكونوا ُهم ضحاياها)‪ ،‬ال يعتربون املكاسب اليت حتققت يف‬ ‫كما ال يعترب الناس احلوادث ً‬
‫جمال السالمة انتصارات أخالقية‪ ،‬هذا إذا كانوا على عل ٍم هبا من األساس‪َّ ،‬‬
‫ولكن إنقاذ حياة املاليني وتقليل العاهات والتشوهات واملعاناة‬
‫خضوعا لألطر األخالقية‪ ،‬والذي‬ ‫تفسريا‪ ،‬وينطبق هذا حىت على القتل‪ ،‬الفعل األكثر‬ ‫على ٍ‬
‫نطاق هائل يستحقان امتناننا ويستلزمان‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫ألسباب ُتالف التصورات النموذجية‪.‬‬ ‫شديدا‬
‫اخنفاضا ً‬
‫ً‬ ‫اخنفض معدله‬
‫أيضا جمموعات خمتلفة من اجلهات الفاعلة‬
‫قاد الطريق حنو املزيد من السالمة بعض األبطال‪ ،‬كصور التقدم األخرى‪ ،‬ولكن دفعتها ً‬
‫املشرعني الذين يقومون بدوٍر أبوي‪ ،‬إضافةً إىل جمموعات من املخرتعني‬
‫يف نفس االجتاه خطوة خبطوة‪ ،‬وهي جمموعات النشطاء الشعبيني و ِّ‬
‫واملهندسني وخرباء السياسة وخرباء األرقام واإلحصاءات‪ .‬رغم أنَّنا نستاء أحيانًا من اإلنذارات الكاذبة وتدخالت الدولة احلاضنة‪َّ ،‬إال‬
‫أنَّنا نتمتع بنِعم التكنولوجيا دون ٍ‬
‫هتديد حلياتنا وأبداننا‪.‬‬ ‫َ‬
‫ورغم َّ‬
‫أن قصة أحزمة األمان واإلنذارات بانتشار الدخان وحفظ األمن يف البؤر اإلجرامية ليست جزءًا اعتياديًّا من ملحمة التنوير‪،‬‬
‫مسجال يف كتاب احلياة‪َّ ،‬‬
‫وإمنا يتأثر مبعرفة البشر وقدرهتم على‬ ‫أمرا‬ ‫َّ َّ‬
‫ً‬ ‫إال أهنا تطبق أعمق موضوعات التنوير‪ ،‬فمن حييا ومن ميوت ليس ً‬
‫الفعل مع زيادة إدراكهم للعامل وزيادة قيمة حياة اإلنسان‪.‬‬
‫الفصل الثالث عشر‪:‬‬
‫اإلرهاب‬

‫كتبت يف الفصل السابق أنَّنا نعيش يف أكثر العصور أمانًا يف التاريخ‪ ،‬كنت واعيًا بالتشكك الذي ستثريه هذه الكلمات‪ ،‬فقد‬ ‫عندما ُ‬
‫أغضبت اهلجمات اإلرهابية وعمليات القتل اليت حظيت بتغطية إعالمية واسعة يف السنوات األخرية العامل بأكمله وغذت الوهم بأنَّنا‬
‫نعيش يف عص ٍر خط ٍر على حن ٍو جديد وخمتلف‪ .‬قال أغلبية األمريكيني يف ‪َّ 2016‬‬
‫إن اإلرهاب هو أهم القضايا اليت تواجه البالد‪ ،‬وقالوا‬
‫يشوش اخلوف‬ ‫هتديدا لوجود الواليات املتحدة أو بقائها‪ .‬مل ِّ‬
‫وإن داعش متثِّل ً‬‫َّإهنم خيشون أن يقعوا ُهم أو أحد أفراد أسرهتم ضحيةً له‪َّ ،‬‬
‫شوش كذلك تفكري املثقفني اجلماهرييني‪ ،‬وخاصةً‬ ‫تفكري املواطنني العاديني الذين حياولون إهناء املكاملة مع مستطلع اآلراء فحسب‪ ،‬بل َّ‬
‫(دائما) على حافة االهنيار‪ .‬وصف الفيلسوف‬ ‫دائما ألي عالمات تدل على َّ‬
‫أن الثقافة الغربية ً‬ ‫املتشائمني فيما خيص الثقافة‪ ،‬املتعطشني ً‬
‫بأهنا «أراضي الصراعات العنيفة»‬ ‫السياسي جون جراي )‪ ،(John Gray‬اجملاهر برهابه من التقدم‪ ،‬اجملتمعات املعاصرة يف غرب أوروبا َّ‬
‫اليت يكون فيها «السالم واحلرب ضبابيني على حن ٍو ُمهلك»‪.‬‬
‫مثاال على‬‫خطر فريد ألنَّه جيمع بني ارتياع هائل وأذى ضئيل‪ .‬لن أعترب اجتاهات اإلرهاب ً‬‫إن اإلرهاب ٌ‬ ‫ولكن هذا كله وهم‪َّ .‬‬‫َّ‬
‫التقدم‪ ،‬مبا َّأهنا ال تُظهر الرتاجع طويل األمد الذي شهدناه يف اجتاهات األمراض واجلوع والفقر واحلرب وجرائم العنف واحلوادث‪ ،‬ولك ِّين‬
‫أن اإلرهاب يصرف انتباهنا عن تقييمنا للتقدم احملرز‪ ،‬ويشيد بذلك التقدم بطر ٍ‬
‫يقة ما‪.‬‬ ‫سأوضح َّ‬
‫ِّ‬
‫ويوضح اجلدول التايل سبب احتياجه إىل هذا‬
‫جتاهل جراي البيانات الفعلية اخلاصة بالعنف باعتبارها «تعاويذ» أو «شعوذة»‪ِّ ،‬‬
‫يوضح عدد ضحايا أنواع القتل األربع ‪-‬اإلرهاب واحلروب وجرائم القتل‬
‫اجلهل العلمي املبين على األيديولوجيا كي يتابع بكائيته‪ ،‬فهو ِّ‬
‫واحلوادث‪ -‬وإمجايل حاالت الوفاة كلها يف آخر سنة متاح هبا بيانات لكل نوع (‪ 2015‬أو قبلها)‪ .‬من املستحيل عمل رسم بياين َّ‬
‫ألن‬
‫األجزاء اخلاصة بأعداد الوفيات الناجتة عن اإلرهاب ستكون أصغر من بكسل واحد‪.‬‬

‫الجدول رقم ‪ :1-13‬عدد الوفيات الناتجة عن اإلرهاب‪ ،‬والحروب‪ ،‬وجرائم القتل‪ ،‬والحوادث‬
‫العالم‬ ‫غرب أوروبا‬ ‫الواليات المتحدة‬
‫‪38,422‬‬ ‫‪175‬‬ ‫‪44‬‬ ‫اإلرهاب‬
‫‪97,496‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪28‬‬ ‫احلروب‬
‫‪437,000‬‬ ‫‪3,962‬‬ ‫‪15,696‬‬ ‫جرائم القتل‬
‫‪1,250,000‬‬ ‫‪19,219‬‬ ‫‪35,398‬‬ ‫حوادث السيارات والطرق‬
‫‪5,000,000‬‬ ‫‪126,482‬‬ ‫‪136,053‬‬ ‫كل احلوادث‬
‫‪56,400,000‬‬ ‫‪3,887,598‬‬ ‫‪2,626,418‬‬ ‫كل الوفيات‬
‫يشمل تعريف «غرب أوروبا» يف قاعدة بيانات اإلرهاب العاملية ‪ 24‬دولة وعدد سكان يقدر بـ ‪ 418,245,997‬يف عام ‪2014‬‬
‫(وقت اإلحصاء عام ‪ ،)2015‬وحذفت منهم أندورا وكورسيكا وجبل طارق ولوكسمبورج وجزيرة مان‪.‬‬
‫المصادر‪ :‬اإلرهاب (‪( :)2015‬االحتاد الوطين لدراسة اإلرهاب واالستجابة لإلرهاب) ‪National Consortium for the‬‬
‫‪ .Study of Terrorism and Responses to Terrorism 2016‬الحروب‪ ،‬الواليات المتحدة وغرب أوروبا‬
‫(اململكة املتحدة ‪ +‬حلف الناتو) (‪ .http://icasualties.org ،icasualties.org :)2015‬الحروب‪ ،‬العالم (‪:)2015‬‬
‫(جمموعة بيانات حاالت الوفاة املرتبطة باملعارك‪ ،‬برنامج أوبساال لبيانات الصراع) ‪UCDP Battle-Related Deaths‬‬
‫‪ .Dataset, Uppsala Conflict Data Program 2017‬جرائم القتل‪ ،‬الواليات المتحدة (‪Federal :)2015‬‬
‫‪ .Bureau of Investigation 2016a‬جرائم القتل‪ ،‬غرب أوروبا والعالم (‪ 2012‬أو أحدث بيانات)‪ :‬مكتب األمم‬
‫املتحدة املعين باملخدرات واجلرمية ‪ .(United Nations Office on Drugs and Crime) 2013‬تستثين البيانات‬
‫اخلاصة بالنرويج هجوم أوتويا اإلرهايب‪ .‬حوادث السيارات والطرق‪ ،‬وكل الحوادث‪ ،‬وكل الوفيات‪ ،‬الواليات المتحدة (‪:)2014‬‬
‫‪ .table 10 ,2016Kochanek et al.‬حوادث السيارات والطرق‪ ،‬غرب أوروبا (‪World Health :)2013‬‬
‫‪ .Organization 2016c‬كل الحوادث‪ ،‬غرب أوروبا (‪ 2014‬أو أحدث بيانات)‪World Health :‬‬
‫‪ .Organization 2015a‬حوادث السيارات والطرق وكل الحوادث‪ ،‬العالم (‪World Health :)2012‬‬
‫‪ .Organization 2014‬كل الوفيات‪ ،‬غرب أوروبا (‪ 2012‬أو أحدث بيانات)‪World Health Organization :‬‬
‫‪ .2017a‬كل الوفيات‪ ،‬العالم (‪.World Health Organization 2017c :)2015‬‬
‫لنبدأ بالواليات املتحدة‪ ،‬األمر البارز يف اجلدول هو عدد الوفيات الضئيل يف ‪ 2015‬الناجتة عن اإلرهاب مقارنةً بتلك الناجتة عن‬
‫األخطار األخرى اليت ال تثري نفس مقدار األسى (كان تعداد الوفيات الناجتة عن اإلرهاب يف ‪ 2014‬أقل من ذلك‪ 19 ،‬حالة وفاة)‪،‬‬
‫وحىت هذا العدد التقديري (‪ ) 44‬مبالغ فيه‪ ،‬فهو مأخوذ من قاعدة بيانات اإلرهاب العاملية اليت تعترب جرائم الكراهية وأغلب عمليات‬
‫إطالق النار اجلماعية أمثلة على «اإلرهاب»‪ .‬ميكن مقارنة هذا التعداد بعدد وفيات العناصر العسكرية يف أفغانستان والعراق (‪ 28‬يف‬
‫يتلق ُربع التغطية اإلعالمية اليت تلقاها عدد وفيات اإلرهاب اتساقًا مع اخنفاض قيمة‬
‫عام ‪ 2015‬و‪ 58‬يف عام ‪ )2014‬والذي مل َّ‬
‫أن املواطن األمريكي كان يف ‪ 2015‬أكثر عرضةً ألن يتعرض جلرمية قتل من أن‬ ‫حياة اجلنود منذ قدمي األزل‪ .‬تكشف الصفوف التالية َّ‬
‫ضعف‪ ،‬وألن ميوت نتيجة أي حادث‬ ‫هجوم إرهايب مبقدار ‪ 350‬ضع ًفا‪ ،‬وأكثر عرضة ألن يقتل يف حادث سيارة مبقدار ‪ٍ 800‬‬ ‫يقتل يف ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫شخصا يف أي عام «صواعق الربق»‪ ،‬و«مالمسة ماء‬ ‫ٍ‬
‫مبقدار ‪ 3000‬ضعف (من ضمن فئات احلوادث اليت تقتل عادةً أكثر من ‪44‬‬
‫ً‬
‫الصنبور الساخن» و«مالمسة الزنابري والدبابري والنحل» و«التعرض للعض أو الضرب من الثدييات األخرى غري الكالب» و«الغرق‬
‫والغطس أثناء الوجود يف املغطس أو عند الوقوع فيه» و«اشتعال املالبس والثياب األخرى غري ثياب النوم أو ذوباهنا»)‪.‬‬
‫فظيعا‬
‫عاما ً‬‫أن ‪ 2015‬كان ً‬ ‫كان خطر اإلرهاب النسيب يف غرب أوروبا أعلى منه يف الواليات املتحدة‪ ،‬ويرجع هذا جزئيًّا إىل َّ‬
‫عام يف نيس (قُتل ‪ 5‬أشخاص فقط‬ ‫لإلرهاب يف تلك املنطقة‪ ،‬إذ وقعت هجمات يف مطار بروكسل وعدة مالهٍ ليلية يف باريس و ٍ‬
‫احتفال ٍ‬
‫أيضا على مدى أمان أوروبا يف النواحي األخرى كلها‪ ،‬فاألوروبيون الغربيون أقل‬ ‫ولكن خطر اإلرهاب األعلى نسبيًّا عالمة ً‬
‫يف ‪َّ .)2014‬‬
‫أيضا‬
‫وهم أقل جنونًا يف قيادة السيارات ً‬ ‫ارتكابًا جلرائم القتل من األمريكيني (فمعدل جرائم القتل لديهم حوايل ربع املعدل يف أمريكا) ُ‬
‫ترجح كفة اإلرهاب‪ ،‬كان املواطن يف دول غرب أوروبا يف عام‬ ‫عدد أقل من الناس على الطرق‪ .‬وحىت مع هذه العوامل اليت ِّ‬‫لذا ميوت ٌ‬
‫‪ 2015‬أكثر عرضة ألن ميوت يف إحدى جرائم القتل (النادرة نسبيًّا لديهم) من أن ميوت يف ٍ‬
‫هجوم إرهايب مبقدار ‪ 20‬ضع ًفا‪ ،‬وأكثر‬ ‫ً‬
‫ضعف‪ ،‬وأكثر عرضة ألن يتعرض للسحق أو التسمم أو احلرق أو االختناق أو حلادثٍ‬
‫عرضة ألن ميوت يف حادث سيارة مبقدار ‪ٍ 100‬‬
‫قاتل آخر مبقدار ‪ٍ 700‬‬
‫ضعف‪.‬‬
‫أن وضعنا جيد مقارنةً بأجز ٍاء أخرى‬
‫مؤخرا بسبب اإلرهاب يف الغرب‪ ،‬إال َّ‬
‫يوضح العمود الثالث أنَّه رغم كل الكرب الذي شهدناه ً‬ ‫ِّ‬
‫أن الواليات املتحدة وغرب أوروبا يشمالن حوايل عُشر سكان العامل‪َّ ،‬إال َّأهنم عانوا يف ‪ 2015‬من نصف يف املئة من‬ ‫من العامل‪ ،‬فرغم َّ‬
‫ألن‬ ‫أن اإلرهاب أحد األسباب الرئيسية للوفاة يف األماكن األخرى‪َّ ،‬‬
‫وإمنا َّ‬ ‫عدد الوفيات الناجتة عن العمليات اإلرهابية‪ .‬ليس هذا بسبب َّ‬
‫ٍ‬
‫بدرجة كبرية‪ ،‬واحلروب مل ُتعد تندلع يف الواليات املتحدة أو غرب أوروبا‪ .‬منذ هجوم‬ ‫اإلرهاب ‪-‬حسب تعريفه احلايل‪ -‬ظاهرة حربية‬
‫‪ 11‬من سبتمرب عام ‪ ،2001‬أصبحت عمليات العنف اليت كان يُطلق عليها «عصيانًا» أو «حرب عصابات» تندرج اآلن حتت‬
‫أن قاعدة بيانات اإلرهاب العاملية ال تصنِّف أي وفيات حدثت يف فيتنام يف آخر مخس سنوات من‬ ‫تصنيف «اإلرهاب» (ومن املذهل َّ‬
‫بأهنا عمليات «إرهابية»)‪ .‬حتدث أغلبية حاالت الوفاة الناجتة عن العمليات اإلرهابية يف العامل يف مناطق احلروب األهلية‬‫احلرب هناك َّ‬
‫(مبا يشمل ‪ 8831‬حالة يف العراق و‪ 6208‬يف أفغانستان و‪ 5288‬يف نيجرييا و‪ 3916‬يف سوريا و‪ 1606‬يف باكستان و‪ 689‬يف‬
‫ألن «اإلرهاب» يف ظل احلروب األهلية يُعد ببساطة‬ ‫أيضا كحاالت وفاة ناجتة عن احلروب َّ‬ ‫وحيسب الكثري من هذه احلاالت ً‬ ‫ليبيا)‪ُ ،‬‬
‫جرمية حرب ‪-‬هجوم متعمد على املدنيني‪ -‬ترتكبها مجاعة أخرى غري احلكومة (باستثناء مناطق احلرب األهلية الستة املذكورة‪ ،‬كان عدد‬
‫الوفيات الناجتة عن العمليات اإلرهابية يف ‪ 2015‬يبلغ ‪ 11884‬حالة)‪ .‬حىت مع هذا احلساب املزدوج لوفيات اإلرهاب واحلروب‬
‫خالل أسوأ عام يف القرن احلادي والعشرين من حيث أعداد الوفيات الناجتة عن احلروب‪ ،‬كان املواطن العاملي أكثر عرضة للموت جراء‬
‫هجوم إرهايب مبقدار ‪ 11‬ضع ًفا‪ ،‬وأكثر عرضة للموت يف حادث سيارة مبقدار ‪ 30‬ضع ًفا‪ ،‬وأكثر عرضة‬ ‫جرمية قتل من املوت جراء ٍ‬
‫ٍ‬
‫حادث آخر مبقدار ‪ 125‬ضع ًفا‪.‬‬ ‫للموت يف أي‬
‫ألن «اإلرهاب» تصنيف مطاط‪ ،‬فيختلف‬ ‫إن االجتاهات التارخيية حمرية‪َّ ،‬‬
‫هل زاد اإلرهاب مهما كان عدد قتاله مبرور الوقت؟ َّ‬
‫شكل اخلطوط املعربة عن االجتاهات بناءً على ما إذا كانت جمموعة البيانات تشمل جرائم حرب أهلية أو عدة جرائم قتل (واليت تشمل‬
‫السرقات أو جرائم القتل اليت تقوم هبا العصابات‪ ،‬واليت يتعرض فيها العديد من الضحايا إلطالق النريان) أو حاالت اهلياج االنتحاري‬
‫ٍ‬
‫سياسية ما قبل ارتكاب اجلرمية (تشمل قاعدة بيانات اإلرهاب العاملية على سبيل املثال مذحبة مدرسة‬ ‫اليت حتدث فيها القاتل عن مظلمة‬
‫إن عمليات القتل اجلماعي‬ ‫كولومباين اليت وقعت عام ‪ 1999‬يف حني ال تشمل مذحبة مدرسة ساندي هوك اليت وقعت عام ‪َّ .)2012‬‬
‫صعودا‬
‫ً‬ ‫تأرجح‬
‫ٍ‬ ‫مشاهد حيفزها اإلعالم‪ ،‬إذ توحي التغطية اإلعالمية هلذه العمليات لآلخرين بتقليدها‪ ،‬وهكذا تظل هذه العمليات يف‬
‫قليال‪ .‬تذبذب عدد «حوادث إطالق النار» (عمليات القتل باألسلحة‬ ‫وهبوطًا بينما تُلهم كل ٍ‬
‫عملية عمليةً أخرى حىت ُتفت «التقليعة» ً‬
‫أن عدد «عمليات القتل اجلماعي» (أربع أو مخس‬ ‫صعودا‪ ،‬رغم َّ‬
‫ً‬ ‫يف األماكن العامة) يف الواليات املتحدة منذ عام ‪ 2000‬مع اجتاهها‬
‫اخنفاضا طفي ًفا) منذ ‪ 1976‬حىت ‪ .2011‬جند يف الشكل‬ ‫حادث واحد) مل يطرأ عليه أي تغيري منهجي (بل اخنفض‬‫ٍ‬ ‫حاالت وفاة يف‬
‫ً‬
‫رقم ‪ 1-13‬معدل الوفيات الناجتة عن «احلوادث اإلرهابية» للفرد‪ ،‬إضافةً إىل االجتاهات املضطربة يف غرب أوروبا والعامل‪.‬‬
‫الواليات المتحدة‬
‫الوفيات لكل ‪ 100‬ألف شخص‬

‫العالم‬
‫غرب أوروبا‬ ‫(باستثناء مناطق الحرب‬
‫األهلية الرئيسية)‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 1 - 1 3‬م ع د ل ا ل وف ي ا ت ا ل ن ا جت ة ع ن ا حل وا د ث ا إل ره ا ب ي ة م ن ذ ‪ 1 9 7 0‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫المصدر‪ :‬قاعدة بيانات اإلرهاب العاملية‪( ،‬االحتاد الوطين لدراسة اإلرهاب واالستجابة لإلرهاب) ‪National Consortium for the Study‬‬
‫‪ ./ https://www.start.umd.edu/gtd،of Terrorism and Responses to Terrorism 2016‬يستثين معدل الوفيات يف‬
‫العامل الوفيات يف أفغانستان بعد ‪ 2001‬والعراق بعد ‪ 2003‬وباكستان بعد ‪ 2004‬ونيجرييا بعد ‪ 2009‬وسوريا بعد ‪ 2011‬وليبيا بعد ‪ .2014‬تقديرات‬
‫عدد السكان يف العامل وغرب أوروبا من مراجعة االحتاد األورويب للتوقعات السكانية يف العامل لعام ‪،(https://esa.un.org/unpd/wpp/) 2015‬‬
‫وتقديرات عدد السكان يف الواليات املتحدة من مكتب تعداد الواليات املتحدة لعام ‪ .2017‬يشري السهم الرأسي إىل سنة ‪ ،2007‬وهي آخر سنة مرسومة‬
‫يف األشكال رقم ‪ 9-6‬و‪ 10-6‬و‪ 11-6‬يف ‪.Pinker 2011‬‬

‫يطغي على الرسم البياين معدل الوفيات الناتج عن اإلرهاب يف أمريكا لعام ‪ 2001‬الذي يشمل ‪ 3000‬حالة وفاة بسبب‬
‫مكان آخر يشري إىل التفجري الذي وقع يف مدينة أوكالهوما عام ‪ 165( 1995‬حالة وفاة)‬ ‫هجمات ‪ 11‬من سبتمرب‪ ،‬ونرى نتوءا يف ٍ‬
‫ً‬
‫وبعض التجاعيد غري امللحوظة تقريبًا يف أعوام أخرى‪ .‬باستثناء حادثيت احلادي عشر من سبتمرب وأوكالهوما‪َّ ،‬‬
‫فإن عدد األمريكيني الذين‬
‫املتطرفني من اليمني السياسي األمريكي ضعف عدد من قُتلوا على يد اجلماعات اإلرهابية اإلسالمية منذ عام ‪.1990‬‬ ‫قُتلوا على يد ِّ‬
‫عقد من السكون النسيب‪ ،‬وهو ليس أسوأ ما شهده‬ ‫أن االرتفاع يف عام ‪ 2015‬حدث بعد ٍ‬ ‫يوضح اخلط الذي يشري إىل غرب أوروبا َّ‬ ‫ِّ‬
‫غرب أوروبا‪ ،‬فمعدل عمليات القتل كان أعلى يف السبعينيات والثمانينيات عندما كانت اجلماعات املاركسية واالنفصالية (مبا فيها اجليش‬
‫اجلمهوري األيرلندي وحركة إيتا ‪ ETA‬الباسكية) تنفذ عمليات تفجري وإطالق نار بانتظام‪ .‬حيتوي اخلط الذي يشري إىل العامل بأكمله‬
‫(باستثناء الوفيات األخرية يف مناطق احلرب الكربى اليت ذكرناها يف الفصل اخلاص باحلروب) على فرتة استقرار تشمل بعض النتوءات‬
‫تفاع حديث إىل مستوى ما زال أقل من مستويات العقود السابقة‪.‬‬ ‫خالل الثمانينيات والتسعينيات‪ ،‬و ٍ‬
‫اخنفاض بعد هناية احلرب الباردة‪ ،‬وار ٍ‬
‫تكذب اخلوف من أننا نعيش يف عص ٍر خط ٍر على حن ٍو جديد وخمتلف‪ ،‬وخاصةً يف‬ ‫أيضا‪ِّ ،‬‬
‫إذًا فاالجتاهات التارخيية‪ ،‬مثل األرقام احلالية ً‬
‫الغرب‪.‬‬

‫إن اإلرهاب‬‫ألن هذا هو هدفه‪َّ .‬‬ ‫ضئيال مقارنةً باألخطار األخرى‪َّ ،‬إال أنَّه خيلق ً‬
‫هلعا وهسترييا مبالغًا فيهما َّ‬ ‫خطرا ً‬ ‫ِّ‬ ‫رغم َّ‬
‫أن اإلرهاب يشكل ً‬
‫احلديث نتاج االنتشار الواسع لإلعالم‪ .‬يسعى فرد أو جمموعةٌ ما جلذب ٍ‬
‫جزء من انتباه العامل بالوسيلة املضمونة جلذبه‪ ،‬وهي قتل األبرياء‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫وخاصةً يف الظروف اليت جتعل قراء األخبار يتخيلون أنفسهم مكان الضحايا‪ ،‬وتبتلع وسائل اإلعالم الطُعم وتقدم تغطية واسعة حلمامات‬
‫خبوف غري مرتبط مبستوى اخلطر الفعلي‪.‬‬ ‫الدماء‪ ،‬ويعمل قانون التوفر فيصيب الناس ٍ‬

‫ليست أمهية احلدث املروع فقط هي ما يؤجج الرعب‪َّ ،‬‬


‫فإن عواطفنا تتفاعل أكثر مع املأساة عندما يكون سببها نية خبيثة وليس‬
‫كنت أشعر باالستياء عند قراءة عنوان يقول هجوم «إرهايب» يف ميدان‬
‫كثريا على لندن‪ُ ،‬‬
‫عارضا (أعرتف أنَّين بصفيت أتردد ً‬
‫سوء حظ ً‬
‫راسل يؤدي إىل قتل امرأة أكثر مما أشعر به عند قراءة عنوان يقول وفاة هاوي مجع حتف فنية شهري بعد أن صدمته حافلة يف شارع‬
‫تطوري معقول‪ ،‬فأسباب الوفاة العارضة ال حتاول أن‬
‫ٌّ‬ ‫سبب‬
‫أوكسفورد)‪ .‬هناك شيء مقلق يف فكرة أن إنسانًا آخر يريد قتلك‪ ،‬وهلذا ٌ‬
‫تقتلك‪ ،‬وال هتتم برد فعلك‪ ،‬يف حني َّ‬
‫أن اجلناة من البشر يكرسون ذكاءهم للتفوق عليك‪ ،‬والعكس بالعكس‪.‬‬
‫وإمنا فاعلون بشريون هلم أهداف‪ ،‬فهل من العقالنية أن نقلق بشأهنم رغم حجم‬ ‫أن اإلرهابيني ليسوا خطرا غري و ٍاع َّ‬
‫بالنظر إىل َّ‬
‫ً‬
‫ضئيال كعدد‬
‫أن عدد ضحاياهم قد يكون ً‬ ‫مثال بسبب الطغاة الذين يعدمون املتمردين‪ ،‬رغم َّ‬ ‫الضرر الضئيل الذي حيدثونه؟ فنحن نغضب ً‬
‫أن عنف الطغاة له آثار اسرتاتيجية غري متناسبة مع عدد الضحايا‪ ،‬فهو يقضي على أقوى‬ ‫ولكن االختالف يكمن يف َّ‬
‫ضحايا اإلرهاب‪َّ ،‬‬
‫املخاطر اليت هتدد النظام‪ ،‬ويردع بقية املواطنني عن تكرار فعلة هؤالء الضحايا‪ .‬يصيب العنف اإلرهايب ضحاياه بعشوائية‪ ،‬إ ًذا فاألمهية‬
‫املوضوعية هلذا التهديد‪ ،‬تتجاوز الضرر املباشر‪ ،‬وُتتلف حسب ما هتدف عملية القتل العشوائية إىل حتقيقه‪.‬‬
‫كثري من اإلرهابيني إىل ما هو أكثر من الدعاية نفسها‪ ،‬إذ حلَّل الباحث القانوين آدم النكفورد (‪)Adam Lankford‬‬ ‫يهدف ٌ‬
‫دوافع الفئات املتداخلة من اإلرهابيني االنتحاريني ومطلقي النار والقتلة مرتكيب جرائم الكراهية‪ ،‬مبا يشمل ًّ‬
‫كال من املتطرفني املستقلني‪،‬‬
‫كثري منهم مصابًا‬
‫ومنفذي العمليات الذين جنَّدهم أصحاب العقول املدبِّرة اإلرهابية‪ .‬يكون القتلة غالبًا مستقلني وفاشلني‪ ،‬ويكون ٌ‬
‫باضطراب عقلي مل يُعا َجل‪ ،‬ويستهلكهم السخط‪ ،‬وحيلمون باالنتقام والتقدير‪ ،‬دمج بعضهم بني املرارة اليت يشعرون هبا واأليديولوجيا‬
‫وقضية غائمة مثل «شن حرب عرقية» أو «ثورة على احلكومة الفيدرالية والضرائب والقوانني‬ ‫ٍ‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬ودمج بعضهم بني هذه املرارة‬
‫شخصا ما حىت لو كان هذا من خالل ترقب احلدث فقط‪،‬‬ ‫ً‬ ‫املناهضة حلمل السالح»‪ ،‬قدَّم هلم قتل الكثريين الفرصة يف أن يصبحوا‬
‫ويعين إهناء حياهتم بنريان اجملد َّأهنم ليسوا مضطرين إىل مواجهة التبعات الشاقة لكوهنم مرتكيب جرائم القتل اجلماعية‪ .‬ويزيد كلٌّ من‬
‫خريا أمسى من جاذبية املنزلة الرفيعة بعد املوت‪.‬‬ ‫َّ‬
‫تربر اجملازر بأهنا حتقق ً‬
‫الوعد باجلنة واأليديولوجيا اليت ِّ‬
‫َّأما اإلرهابيون اآلخرون فينتمون إىل مجاعات مسلَّحة حتاول جذب االنتباه لقضيتها‪ ،‬مثل ابتزاز احلكومة من أجل تغيري سياساهتا‬
‫أو استفزازها لتتخذ رد فعل متطرفًا قد يتسبب يف جتنيد متعاطفني جدد مع هذه اجلماعات أو خيلق هلا مساحة فوضى ميكنها استغالهلا‪،‬‬
‫بأهنا ال تستطيع محاية مواطنيها‪ .‬قبل أن نستنتج َّأهنا «متثِّل ً‬
‫هتديدا على وجود الواليات املتحدة‬ ‫أو تشويه مسعة احلكومة بنشر االنطباع َّ‬
‫املؤرخ يوفال هراري (‪َّ )Yuval Harari‬‬
‫أن‬ ‫أو بقائها»‪ ،‬علينا أن نأخذ يف اعتبارنا مدى ضعف هذا التكتيك يف احلقيقة‪ .‬يذكر ِّ‬
‫اإلرهاب عكس العمل العسكري‪ ،‬الذي حياول إتالف قدرة العدو على االنتقام واالنتصار‪ ،‬فعندما هامجت اليابان بريل هاربر يف عام‬
‫ردا عليها‪ ،‬كان من اجلنوين أن ُتتار اليابان اإلرهاب‬ ‫ٍ‬
‫أسطول ترسله إىل جنوب شرق آسيا ًّ‬ ‫جردت الواليات املتحدة من أي‬
‫‪َّ ،1941‬‬
‫مثال عرب نسف سفينة ركاب الستفزاز الواليات املتحدة كي ترد عليها بقواهتا البحرية الكاملة‪ .‬فيقول هراري َّ‬
‫إن ما حياول اإلرهابيون‬ ‫ً‬
‫وإمنا املشاهد املسرحية املؤثرة‪ .‬ليست الصورة اليت يتذكرها معظم الناس من حادث احلادي عشر‬‫حتقيقه من موقفهم الضعيف ليس الضرر َّ‬
‫دمر جزءا من مقرات العدو العسكرية وتسبب يف مقتل قادة وحملِّلني‪َّ -‬‬
‫وإمنا هجومها‬ ‫من سبتمرب هجوم القاعدة على البنتاجون ‪-‬الذي َّ ً‬
‫على مركز التجارة العاملي الرمزي‪ ،‬الذي تسبب يف مقتل وسطاء ماليني وحماسبني وغريهم من املدنيني‪.‬‬
‫َّ‬
‫توضح‬
‫نادرا ما حيصلون على ما يريدونه عن طريق العنف حمدود النطاق‪ِّ .‬‬‫أن اإلرهابيني يأملون حدوث األفضل‪َّ ،‬إال أهنم ً‬
‫رغم َّ‬
‫دراسات منفصلة أجراها الباحثون يف العلوم السياسية ماكس أبراهامز (‪ )Max Abrahms‬وأودري كرونني (‪)Audrey Cronin‬‬
‫وفريجينيا بيدج فورتنا (‪ )Virginia Page Fortna‬على مئات احلركات اإلرهابية النشطة منذ ستينيات القرن املاضي َّ‬
‫أن مجيعها‬
‫اندثرت أو خفت وهجها دون حتقيق أهدافها االسرتاتيجية‪.‬‬
‫ليس تزايد الوعي العام باإلرهاب عالمةً على مدى خطورة العامل بل على العكس‪ ،‬ويالحظ الباحث يف العلوم السياسية روبرت‬
‫أن احتالل اإلرهاب مكانة يف أعلى قائمة األخطار املهدِّدة «ينبع جزئيًّا من البيئة األمنية احلميدة‬ ‫جريفيس (‪َّ )Robert Jervis‬‬
‫نادرا‬ ‫نادرا‪َّ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫وإمنا أصبح استخدام العنف السياسي على الصعيد احمللي ً‬ ‫بصورة ملحوظة»‪ .‬ليست احلروب بني الدول فقط هي ما أصبح ً‬
‫قطاع من قطاعات اجملتمع كان له ميليشيا خاصة يف العصور الوسطى ‪-‬طبقة األرستقراطيني والطوائف‬ ‫أن كل ٍ‬ ‫كذلك‪ .‬يشري هراري إىل َّ‬
‫يؤمن مصاحله بالقوة‪« :‬إذا قتل بعض املتطرفني املسلمني يف عام ‪1150‬‬ ‫احلرفية والبلدات‪ ،‬بل وحىت الكنائس واألديرة‪ -‬وكان كلٌّ منهم ِّ‬
‫جمموعة صغرية من املدنيني يف القدس‪ ،‬مطالبني بأن يغادر الصليبيون األراضي املقدسة‪ ،‬كان رد الفعل سيكون االستهزاء وليس الرعب‪،‬‬
‫حمصنة أو اثنتني»‪ .‬عندما جنحت‬ ‫فإذا أردت أن يأخذك اآلخرون على حممل اجلد يف ذلك الوقت‪ ،‬كان عليك أن تستويل على قلعة َّ‬
‫صغريا لإلرهاب‪.‬‬
‫جماال ً‬ ‫الدول احلديثة يف احتكار القوة‪ ،‬وخفَّضت معدل القتل داخل حدودها‪ ،‬فتحت بذلك ً‬

‫شدَّدت الدولة مرات عدة على َّأهنا لن تتسامح مع العنف السياسي داخل حدودها فلم يصبح لديها بديل عن أن ترى َّ‬
‫أن‬
‫متاما‪ ،‬فأصبح املشهد اإلرهايب‬
‫أي فعل إرهايب ال ميكن التسامح معه‪َّ ،‬أما املواطنون فقد اعتادوا على غياب العنف السياسي ً‬
‫كأن النظام االجتماعي يوشك على االهنيار‪ .‬بعد ٍ‬
‫قرون من‬ ‫يثري بداخلهم خماوف عميقة من الفوضوية‪ ،‬ممَّا جيعلهم يشعرون َّ‬
‫موجودا‪ ،‬ينتظر‬ ‫بأن هذا الثقب األسود ما زال‬ ‫ٍ‬
‫بصعوبة من ثقب العنف األسود‪ ،‬ولكنَّنا نشعر َّ‬ ‫الصراعات الدموية‪ ،‬خرجنا‬
‫ً‬
‫بص ٍرب أن يبتلعنا ثانيةً‪ ،‬فبمجرد حدوث بعض الفظائع الشنيعة نتخيل السقوط يف هذا الثقب مرة أخرى‪.‬‬

‫بينما حتاول الدول القيام باملهمة املستحيلة وهي محاية مواطنيها من كل أشكال العنف السياسي يف كل مكان طوال الوقت‪،‬‬
‫تدمريا هو مبالغة الدول يف ردها عليه‪ ،‬ومن األمثلة على‬ ‫ٍ‬
‫أيضا‪ ،‬فأكثر آثار اإلرهاب ً‬
‫يغريها الرد على هذا العنف مبشهد مسرحي مؤثر ً‬
‫ذلك غزو أفغانستان والعراق بقيادةٍ أمريكية بعد احلادي عشر من سبتمرب‪.‬‬
‫بدال من ذلك بتسخري مزاياها الكربى‪ ،‬وهي املعرفة والتحليل‪ ،‬وال سيما املعرفة باألرقام‪ ،‬جيب‬
‫تستطيع الدول التعامل مع اإلرهاب ً‬
‫أن يكون اهلدف األمسى هو التأكد من أن تظل األرقام ضئيلة عرب تأمني أسلحة الدمار الشامل (الفصل التاسع عشر)‪ .‬ميكن مكافحة‬
‫تربر العنف ضد األبرياء مثل األديان والقوميات واملاركسية املسلحة بأنظمة قيم وعقائد أفضل (الفصل الثالث‬ ‫األيديولوجيات اليت ِّ‬
‫والعشرون)‪ .‬ميكن أن يفحص اإلعالم دوره اجلوهري يف جمال عروض اإلرهاب «الرتفيهية» عرب مواءمة تغطيتها مع اخلطر املوضوعي‬
‫وتأمل احلوافز الفاسدة اليت قدَّمها لإلرهابيني (أوصى كلٌّ من النكفورد وعامل االجتماع إريك مادفيس ‪ Erik Madfis‬باتباع سياسة‬
‫«ال تذكروا أمساءهم‪ ،‬ال تعرضوا صورهم‪ ،‬ولكن اذكروا كل األمور األخرى» فيما خيص حوادث إطالق النار‪ ،‬وهي قائمة على سياسة‬
‫متَّبعة بالفعل مع مرتكيب جرائم إطالق النار من األحداث يف كندا‪ ،‬وعلى اسرتاتيجيات أخرى من ضبط النفس اإلعالمي احملسوب)‪.‬‬
‫تطور احلكومات من إجراءاهتا االستخباراتية والسرية ضد الشبكات اإلرهابية وروافدها املالية‪ ،‬وميكن تشجيع األفراد على احلفاظ‬
‫ميكن أن ِّ‬
‫كثريا‪.‬‬
‫على هدوئهم ومواصلة طريقهم‪ ،‬مثلما حثَّهم على ذلك امللصق الربيطاين الشهري يف وقت احلرب الذي كان اخلطر فيه أعظم ً‬
‫تفشل احلركات اإلرهابية على املدى البعيد عندما يعجز العنف حمدود النطاق عن حتقيق أهدافها االسرتاتيجية‪ ،‬حىت لو تسبَّب‬
‫خوف وأسى على املستوى احمللي‪ ،‬فحدث هذا للحركات الفوضوية يف مطلع القرن العشرين (بعد عدة تفجريات واغتياالت)‪،‬‬ ‫ذلك يف ٍ‬
‫وحدث للجماعات املاركسية واالنفصالية يف النصف الثاين من القرن العشرين‪ ،‬وسيحدث بالتأكيد لداعش يف القرن احلادي والعشرين‪.‬‬
‫أن الرعب بشأن‬‫رمبا لن نستطيع مطل ًقا خفض أعداد ضحايا اإلرهاب املنخفضة بالفعل لتصل إىل الصفر‪ ،‬ولكن ميكننا أن نتذكر َّ‬
‫اإلرهاب ليس عالمةً على مدى خطورة جمتمعنا‪َّ ،‬‬
‫وإمنا على مدى أمنه‪.‬‬
‫الفصل الرابع عشر‪:‬‬
‫الديمقراطية‬

‫منذ نشأة احلكومات قبل حوايل مخسة آالف عام‪ ،‬حتاول البشرية حتقيق االعتدال بني عنف الفوضوية من جانب‪ ،‬وعنف االستبداد من‬
‫ٍ‬
‫حكومة قوية أو جريان أقوياء‪ ،‬متيل القبائل إىل االخنراط يف دورات متعاقبة من الغزو والتناحر‪ ،‬وتتجاوز معدالت‬ ‫جانب آخر‪ ،‬ففي غياب‬
‫الوفاة حينها معدالت الوفاة يف اجملتمعات احلديثة حىت يف أعنف احلَِقب اليت مرت عليها‪ .‬كانت احلكومات األوىل هتدِّئ شعوهبا وحتد‬
‫عهود من اإلرهاب تضمنت العبودية و«احلرمي» واألضاحي البشرية وحاالت اإلعدام‬ ‫من العنف الطاحن ولكنَّها حكمت يف ظل ٍ‬
‫بإجراءات موجزة وتعذيب املتمردين واملنحرفني وتشويههم وقطع أعضائهم (وال خيلو الكتاب املقدس من األمثلة على ذلك)‪ .‬استمر‬
‫ألن البديل كان أسوأ يف أغلب‬‫ألن وظيفة الطاغية جيدة إذا استطعت احلصول عليها‪ ،‬ولكن َّ‬ ‫الطغيان على مر التاريخ‪ ،‬ليس فقط َّ‬
‫إن مهمته إحصاء املوتى‪ -‬عدد الوفيات‬ ‫احلاالت من وجهة نظر الشعب‪ .‬قدَّر ماثيو وايت (‪- )Matthew White‬الذي يقول َّ‬
‫عام‪ ،‬وبعد البحث عن ٍ‬
‫أمناط متشاهبة يف قائمته‪ ،‬ذكر َّ‬
‫أن ما يلي هو األكثر‬ ‫حدث دمويةً يف تاريخ البشر منذ ‪ٍ 2500‬‬ ‫يف أكثر ‪ٍ 100‬‬
‫دموية‪:‬‬

‫الفوضى أكثر فت ًكا من االستبداد‪ ،‬تنتج أكثر هذه احلاالت املتعددة من القتل عن اهنيار السلطة وليس عن ممارسة السلطة‪.‬‬
‫مقارنةً حبفنة من احلكام الديكتاتوريني مثل عيدي أمني وصدام حسني الذين مارسوا سلطتهم املطلقة لقتل مئات اآلالف‬
‫وجدت فرتات اضطراب أكثر فت ًكا مل ميارس أح ٌد خالهلا أي سلطة كافية ملنع وفاة املاليني مثل عهد االضطرابات‬
‫ُ‬ ‫من الناس‪،‬‬
‫(يف روسيا يف القرن السابع عشر) واحلرب األهلية الصينية (منذ ‪ 1926‬إىل ‪ ،1937‬ومنذ ‪ 1945‬إىل ‪ )1949‬والثورة‬
‫املكسيكية (منذ ‪ 1910‬إىل ‪.)1920‬‬

‫ميكننا أن ننظر إىل الدميقراطية باعتبارها إحدى أشكال احلكومة اليت تتوسط بني القوى املتنازعة وتبذل ما يكفي من القوة ملنع‬
‫بعضا دون أن تفرتس هي نفسها الناس‪ .‬تتيح احلكومة الدميقراطية اجليدة لشعبها إمكانية أن يعيش حياته ٍ‬
‫بأمان‬ ‫الناس من افرتاس بعضهم ً‬
‫ولكن‬
‫كبريا يف ازدهار البشرية‪َّ ،‬‬ ‫ويف محا ٍية من عنف الفوضوية‪ ،‬وحبر ٍية ويف محاية من عنف االستبداد‪ .‬وهلذا السبب تُعد الدميقراطية ً‬
‫عامال ً‬
‫هذا ليس السبب الوحيد‪ ،‬فالدميقراطيات حتقق أعلى معدالت النمو االقتصادي‪ ،‬وُتوض حروبًا أقل وحتدث هبا عمليات إبادة مجاعية‬
‫أقل‪ ،‬وتتمتع مبواطنني ذوي ٍ‬
‫صحة وتعلي ٍم أفضل‪ ،‬وال حتدث هبا جماعات فعليًّا‪ .‬فإذا أصبح العامل أكثر دميقراطية مبرور الوقت‪ ،‬فإن هذا‬
‫تقدما‪.‬‬
‫يُعد ً‬
‫قسم الباحث يف العلوم السياسية‬ ‫يف احلقيقة‪ ،‬أصبح العامل بالفعل أكثر دميقراطية‪ ،‬رغم َّ‬
‫أن هذا مل حيدث بطريقة تصاعدية ثابتة‪َّ .‬‬
‫التحول إىل الدميقراطية إىل ثالث موجات‪ .‬جاءت املوجة األوىل يف القرن‬
‫صامويل هانتينجتون (‪ )Samuel Huntington‬تاريخ ُّ‬
‫التاسع عشر عندما بدا َّ‬
‫أن تلك التجربة التنويرية العظيمة (أي الدميقراطية الدستورية األمريكية ورقابتها على سلطة احلكومة) ناجحة‪،‬‬
‫عدد من الدول‪ ،‬أغلبها يف غرب أوروبا‪ ،‬تلك التجربة مع إضفاء بعض التغيريات حسب املكان‪ ،‬وبلغت هذه املوجة ذروهتا بـ ‪29‬‬ ‫حاكى ٌ‬
‫دولة يف عام ‪ ،1922‬تراجعت املوجة األوىل نتيجة صعود الفاشية‪ ،‬واحنسر عدد هذه الدول إىل ‪ 12‬دولة فقط يف عام ‪ .1942‬بعد‬
‫هزمية الفاشية يف احلرب العاملية الثانية‪ ،‬استجمعت املوجة الثانية قواها حبصول املستعمرات على استقالهلا عن املستعمرين األوروبيني‪ ،‬مما‬
‫دفع عدد الدول الدميقراطية املعرتف هبا ليصل يف عام ‪ 1962‬إىل ‪ 36‬دولة‪ .‬ولكن الدميوقراطيات األوروبية كانت حماطة بالديكتاتوريات‬
‫السوفييتية من الشرق والديكتاتوريات الفاشية يف الربتغال وإسبانيا من اجلنوب الغريب‪ ،‬وسرعان ما تراجعت املوجة الثانية نتيجة اجملالس‬
‫العسكرية يف اليونان وأمريكا الالتينية والنظم السلطوية يف آسيا واستيالء الشيوعية على إفريقيا والشرق األوسط وجنوب شرق آسيا‪ .‬يف‬
‫مستشارا حلكومة أملانيا‬
‫ً‬ ‫عرب فيلي براندت )‪ ،(Willy Brandt‬الذي كان‬ ‫منتصف السبعينيات‪ ،‬كان مستقبل الدميقراطية يبدو قامتًا‪َّ ،‬‬
‫عاما من الدميقراطية‪ ،‬وبعد ذلك ستنزلق دون حمرك ودون توجيه‬ ‫الغربية عن حسرته على أنَّه «مل ُيعد أمام غرب أوروبا سوى ‪ 20‬أو ‪ً 30‬‬
‫يف حبر الديكتاتورية احمليط هبا»‪ .‬اتفق معه السيناتور األمريكي وعامل االجتماع دانييل باتريك موينيهان ( ‪Daniel Patrick‬‬
‫أن‪« :‬الدميقراطية الليربالية على الطراز األمريكي تتجه يف اطر ٍاد إىل وضع امللكية يف القرن التاسع عشر‪ :‬احلكومة‬
‫‪ )Moynihan‬وكتب َّ‬
‫اليت تتجاوز مدهتا املقررة‪ ،‬واليت تعمل يف أماكن معزولة أو خاصة هنا أو هناك‪ ،‬وقد تصلح للظروف اخلاصة ولكن ال صلة هلا باملستقبل‬
‫ببساطة‪ .‬هذا ماضي العامل وليس مستقبله»‪.‬‬
‫قبل أن جيف احلرب الذي ُكتبت به هذه املرثيات‪ ،‬انبثقت موجة ‪-‬أو باألحرى تسونامي‪ -‬التحول الدميقراطي الثالثة‪ ،‬حيث سقطت‬
‫احلكومات العسكرية والفاشية يف جنوب أوروبا (اليونان والربتغال يف عام ‪ 1974‬وإسبانيا عام ‪ )1975‬وأمريكا الالتينية (مبا فيها‬
‫األرجنتني يف عام ‪ 1983‬والربازيل عام ‪ 1985‬وتشيلي عام ‪ )1990‬وآسيا (مبا يشمل تايوان والفلبني حوايل العام ‪ 1986‬وكوريا‬
‫اجلنوبية حوايل العام ‪ 1987‬وإندونيسيا يف عام ‪ .)1998‬وبعد هدم جدار برلني يف عام ‪ 1989‬حتررت شعوب شرق أوروبا لتؤسس‬
‫حكوماهتا الدميقراطية‪ ،‬واهنارت الشيوعية يف االحتاد السوفيييت يف عام ‪ 1991‬مما أفسح اجملال أمام روسيا ومعظم اجلمهوريات األخرى‬
‫كي تقوم هبذا التحول‪ُ .‬تلصت بعض الدول اإلفريقية من زعمائها‪ ،‬واختارت آخر املستعمرات األوروبية اليت حصلت على استقالهلا‬
‫واليت تقع غالبًا عند البحر الكارييب ومنطقة أوقيانوسيا أن تكون الدميقراطية هي أول شكل حكومة تنشأ هبا‪ .‬نشر الباحث يف علم‬
‫السياسة فرانسيس فوكوياما (‪ )Francis Fukuyama‬يف عام ‪ 1989‬مقالةً شهرية اقرتح فيها َّ‬
‫أن الدميقراطية الليربالية متثِّل «هناية‬
‫إلمجاع على أفضل شكل إنساين ممكن من احلكم ومل‬ ‫ٍ‬ ‫أبدا‪ ،‬ولكن َّ‬
‫ألن العامل بدأ يتوصل‬ ‫التاريخ»‪ ،‬ليس َّ‬
‫ألن شيئًا لن حيدث بعد ذلك ً‬
‫مضطرا إىل القتال على احلكم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُيعد‬
‫كثري من الكتب واملقاالت «هناية‪ »..‬الطبيعة‪،‬‬
‫صاغ فوكويوما فكرة سريعة االنتشار‪ ،‬ففي العقود اليت تلت نشر مقالته‪ ،‬أعلن ٌ‬
‫والعلم‪ ،‬واإلميان‪ ،‬والفقر‪ ،‬واملنطق‪ ،‬واملال‪ ،‬والرجال‪ ،‬واحملامني‪ ،‬واملرض‪ ،‬والسوق احلرة‪ ،‬واجلنس‪ .‬ولكن فكرة فوكوياما تلقت‪ ،‬على اجلانب‬
‫حبماس على األخبار السيئة بإعالن «عودة التاريخ» وصعود بدائل الدميقراطية مثل‬‫ٍ‬ ‫اآلخر‪ ،‬بعض الضربات عندما أصبح احملررون يعلِّقون‬
‫أن الدميقراطيات نفسها تسقط ثانيةً يف هوة السلطوية بانتصار‬ ‫الثيوقراطية يف العامل اإلسالمي والرأمسالية السلطوية يف الصني‪ ،‬وبدا َّ‬
‫الشعبويني يف بولندا واجملر واستيالء رجب طيب أردوغان على السلطة يف تركيا وفالدميري بوتني على السلطة يف روسيا (عودة السلطان‬
‫أن املوجة الثالثة من التحول الدميقراطي استسلمت أمام «التيار الرجعي» أو‬ ‫والقيصر)‪ .‬أعلن املتشائمون التارخييون بشماتتهم املعتادة َّ‬
‫«االنتكاس» أو «التآكل» أو «الرتاجع» أو «االهنيار»‪ ،‬وقالوا َّ‬
‫إن الدميقراطية غرور من الغربيني الذين يسقطون ميوهلم على بقية العامل‪،‬‬
‫أن السلطوية تناسب أغلب البشر‪.‬‬ ‫يف حني يبدو َّ‬
‫أن الناس سعداء بأ ْن تعاملهم حكوماهتم بوحشية؟ هذه الفكرة مريبة لسببني‪ ،‬السبب األوضح‬ ‫هل يعين هذا التاريخ احلديث حقًّا َّ‬
‫أحد جيرؤ على التعبري‬
‫ولكن ال َ‬ ‫ٍ‬
‫هو كيف ميكنك أن تعرف ذلك يف دولة غري دميقراطية؟ فرمبا تكون املطالبة املكبوتة بالدميقراطية هائلة ْ‬
‫عنها خشية أن يتعرض للسجن أو إلطالق النار‪ .‬والسبب اآلخر هو مغالطة عناوين األخبار‪ ،‬إذ تتصدر أعمال القمع عناوين األخبار‬
‫أكثر من عمليات التحرير‪ ،‬وقد جيعلنا احنياز التوفر ننسى كل الدول اململة اليت تتحول خطوة خبطوة إىل دول دميقراطية‪.‬‬
‫دائما القياس الكمي‪ ،‬يثري هذا التساؤل حول ما يُعد «دميقراطية»‪ ،‬وهي كلمة رمست حول‬ ‫الطريقة الوحيدة ملعرفة اجتاه العامل هي ً‬
‫أن أي دولة يشمل امسها الرمسي كلمة «الدميقراطية»‬ ‫نفسها هالةً من الصالح حىت أصبحت تقريبًا عقيمة‪ ،‬من القواعد العامة اجليدة َّ‬
‫مثل مجهورية كوريا الدميقراطية الشعبية (اليت تُعرف باسم كوريا الشمالية) أو مجهورية أملانيا الدميقراطية (اليت ُعرفت باسم أملانيا الشرقية)‬
‫ال تكون دميقراطية‪ .‬ليس من املفيد سؤال مواطين الدول غري الدميقراطية عن آرائهم يف معىن الكلمة‪ ،‬فنصفهم تقريبًا يظنون َّأهنا تعين «أن‬
‫يؤول الزعماء الدينيون القوانني»‪ ،‬وتواجه تقييمات اخلرباء مشكلة مرتبطة‬ ‫يتوىل اجليش احلكم عندما تكون احلكومة غري مؤهلة» أو «أن ِّ‬
‫هبذا األمر عندما تشمل القوائم املرجعية اليت يعرضوهنا مزجيًا من األمور اجليدة مثل «التخلص من انعدام املساواة يف اجلانب االجتماعي‬
‫كثريا باستمرار من حيث عناصر الدميقراطية مثل حرية‬ ‫أن الدول ُتتلف ً‬ ‫االقتصادي» و«التخلص من احلروب»‪ .‬من التعقيدات األخرى َّ‬
‫يقسم الدول إىل «دميقراطية» و«أوتوقراطية»‬ ‫عد ِّ‬ ‫فإن أي ٍّ‬ ‫التعبري وانفتاح العملية السياسية والقيود املفروضة على سلطة القائد‪ ،‬لذا َّ‬
‫عام وآخر حسب االختيارات االعتباطية ملكان الدول اليت تقرتب من احلد الفاصل بينهما (وهي املشكلة اليت تفاقمت‬ ‫سيتقلَّب بني ٍ‬
‫عندما ارتفعت معايري املقيِّمني مبرور الوقت‪ ،‬وسنعود إىل هذه الظاهرة الح ًقا)‪ .‬يتعامل مشروع نظام احلكم (‪ )Polity Project‬مع‬
‫هذه العقبات باستخدام جمموعة ثابتة من املعايري لتقييم كل دولة بنتيجة ترتاوح بني ‪ 10-‬و‪ 10‬كل عام‪ ،‬ويشري هذا التقييم إىل مدى‬
‫أوتوقراطية الدولة أو دميقراطيتها‪ ،‬ويرِّكز على قدرة املواطنني على التعبري عن تفضيالهتم السياسية‪ ،‬والقيود املفروضة على سلطة املسؤولني‬
‫مرورا مبوجات التحول الدميقراطي‬ ‫التنفيذيني‪ ،‬وضمان احلريات املدنية‪ .‬يتضح يف الشكل رقم ‪ 1-14‬جمموع نتائج العامل منذ عام ‪ً 1800‬‬
‫الثالثة‪.‬‬
‫نتيجة الديمقراطية في مقابل األوتوقراطية‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 1 - 1 4‬ا ل د مي ق را ط ي ة يف م ق ا ب ل ا أل وت وق را ط ي ة ‪ ،‬م ن ذ ‪ 1 8 0 0‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫استنادا إىل ‪Polity IV Annual Time-Series,‬‬ ‫ً‬ ‫المصدر‪،http://humanprogress.org/f1/2560 ،HumanProgress :‬‬
‫‪ُ .1800–2015, Marshall, Gurr, & Jaggers 2016‬جتمع النتائج من الدول السيادية ذات عدد السكان الذي يزيد على ‪ 500‬ألف نسمة‪،‬‬
‫متاما‪ .‬يشري السهم إىل سنة ‪ ،2008‬وهي آخر سنة مرسومة يف الشكل رقم ‪-5‬‬
‫متاما و‪ 10‬للدول الدميقراطية ً‬
‫وترتاوح النتائج بني ‪ 10-‬للدول األوتوقراطية ً‬
‫‪ 23‬من دراسة ‪.Pinker 2011‬‬

‫يوضح الرسم البياين َّ‬


‫أن املوجة الثالثة من التحول الدميقراطي أبعد ما تكون عن االنتهاء‪ ،‬فما بالك باالحنسار! حىت ولو مل تواصل‬ ‫ِّ‬
‫اندفاعها مبعدل فرتة اهنيار جدار برلني يف عام ‪ .1989‬كان يف العامل يف ذلك الوقت ‪ 52‬دولة دميقراطية (كما قيمها ‪Polity‬‬
‫‪ Project‬على مقياسه بنتيجة ‪ 6‬أو أكثر) وهو رقم أعلى من عدد الدول الدميقراطية يف عام ‪ 1971‬الذي بلغ ‪ 31‬دولة‪ .‬بعد الزيادة‬
‫اليت حدثت يف التسعينيات‪ ،‬امتدت املوجة الثالثة إىل القرن احلادي والعشرين يف شكل «الثورات امللونة» يف كرواتيا (‪ )2000‬وصربيا‬
‫(‪ )2000‬وجورجيا (‪ )2003‬وأوكرانيا (‪ )2004‬وقريغيزستان (‪ ،)2005‬فبلغ العدد يف عام ‪ 2009‬يف بداية فرتة أوباما الرئاسية ‪87‬‬
‫مكذبًا صورة الرتاجع أو االهنيار‪ .‬واستقر العدد عند ‪ 103‬يف عام ‪ ،2015‬وهو آخر‬ ‫دولة‪ ،‬وخالل فرتته الرئاسية واصل العدد الزيادة ِّ‬
‫الف بني بعض املنظمات اليت عززت التحول الدميقراطي‪ ،‬وهي‬ ‫عام يف جمموعة البيانات‪ ،‬ومنحت يف هذا العام جائزة نوبل للسالم إىل حت ٍ‬
‫ُ‬
‫أيضا حتوالت دميقراطية يف ميامنار وبوركينا فاسو‪ ،‬ومخسة‬
‫إحدى قصص جناح الربيع العريب الذي بدأ عام ‪ .2011‬وشهد هذا العام ً‬
‫حتركات إجيابية يف مخس دول أخرى تشمل نيجرييا وسريالنكا‪ .‬مشلت الدول الدميقراطية يف العامل يف عام ‪ 103( 2015‬دولة) ‪ 56‬يف‬
‫املئة من سكان العامل‪ ،‬وإذا أضفنا إليها الدول الـ ‪ 17‬اليت كانت متيل إىل الدميقراطية أكثر من األوتوقراطية‪ ،‬يكون إمجايل ثلثي سكان‬
‫العامل يعيشون يف جمتمعات حرة أو حرة نسبيًّا مقارنةً بنسبة اخلُمسني يف عام ‪ ،1950‬وسبعة يف املئة يف عام ‪ 1850‬وواحد يف املئة يف‬
‫متاما‪ ،‬و‪ 40‬دولة متيل إىل األوتوقراطية‬
‫إن أربعة أمخاس من يعيشون يف ‪ 60‬دولة غري دميقراطية اليوم (‪ 20‬دولة أوتوقراطية ً‬ ‫عام ‪َّ .1816‬‬
‫أكثر من الدميقراطية) يقيمون يف دولة واحدة هي الصني‪.‬‬
‫نقطة ما‪ ،‬فقد ثبت َّ‬
‫أن الدميقراطية أكثر جاذبيةً مما أقر به الباكون على‬ ‫أن فوكوياما كان حمقًّا يف ٍ‬ ‫أن التاريخ مل ِ‬
‫ينته‪َّ ،‬إال َّ‬ ‫رغم َّ‬
‫تفسر» عدم إمكانية ترسخ الدميقراطية يف الدول‬ ‫احتضارها‪ .‬بعد تكسر موجة التحول الدميقراطي األوىل‪ ،‬ظهرت نظريات خمتلفة « ِّ‬
‫الكاثوليكية أو غري الغربية أو اآلسيوية أو اإلسالمية أو الفقرية أو املتنوعة ثقافيًّا‪ ،‬ومت تفنيد كل من هذه النظريات‪ .‬صحيح َّ‬
‫أن الدميقراطية‬
‫تشكل جمموعة ذات‬ ‫ولكن احلكومات اليت متيل إىل الدميقراطية ِّ‬
‫املستقرة عالية اجلودة توجد غالبًا يف الدول األغىن وذات التعليم األفضل‪َّ ،‬‬
‫عناصر متنافرة وخمتلفة‪ ،‬فهي متأصلة يف معظم دول أمريكا الالتينية‪ ،‬ويف اهلند ذات التعدد اإلثين‪ ،‬ويف دول إسالمية مثل ماليزيا وإندونيسيا‬
‫والنيجر وكوسوفو‪ ،‬ويف أربعة عشر دولة يف منطقة إفريقيا جنوب الصحراء (وتشمل ناميبيا والسنغال وبنني)‪ ،‬ويف دول فقرية يف ٍ‬
‫مناطق‬
‫أخرى مثل نيبال وتيمور الشرقية ومعظم دول الكارييب‪.‬‬
‫بدرجة هائلة من أنظمة ستالني‬ ‫ٍ‬ ‫قمعا‬
‫وحىت الدول األوتوقراطية مثل روسيا والصني‪ ،‬واليت ال تنبئ بأي حترير قريب‪ ،‬ما زالت أقل ً‬
‫قائال‪« :‬يستطيع الصينيون اليوم التحرك كما حيبون تقريبًا‪ ،‬وأن يشرتوا منزًال‬
‫يلخص يوهان نوربرج شكل احلياة يف الصني ً‬ ‫وبرجينيف وماو‪ِّ .‬‬
‫عمال جتاريًّا‪ ،‬وأن ينتموا إىل إحدى دور العبادة (طاملا كانوا بوذيني أو طاويني أو‬
‫وخيتاروا تعليمهم ووظيفتهم‪ ،‬وأن يؤسسوا شركة أو ً‬
‫مسلمني أو كاثوليكيني أو بروتستانتيني)‪ ،‬وأن يرتدوا ما حيبون ويتزوجوا من يريدون‪ ،‬وأن يعلنوا عن مثليتهم اجلنسية دون أن ينتهي األمر‬
‫باحتجازهم يف معسكرات العمل القسري‪ ،‬وأن يسافروا إىل خارج بالدهم حبر ٍية‪ ،‬وأن ينتقدوا بعض جوانب سياسات احلزب (ليس من‬
‫ٍ‬
‫معارضة)‪ ،‬فحىت كلمة (غري حر) مل ُتعد تعين ما كانت تعنيه من قبل»‪.‬‬ ‫بينها حقه يف احلكم دون‬
‫ظل تيار التحول الدميقراطي يتجاوز التوقعات بصورةٍ متكررة؟ َّأدى تراجع الدميقراطية وانعكاسها والثقوب السوداء اليت سقطت فيها‬
‫ملاذا َّ‬
‫إىل نظريات تطرح شروطًا مسبقة شاقة للدميقراطية واختبارات قاسية هلا (ميثِّل هذا ذريعةً مناسبة إلصرار الدكتاتوريني على َّ‬
‫أن دوهلم‬
‫ليست مستعدة هلا‪ ،‬مثل الزعيم الثوري يف فيلم ‪ Bananas‬لوودي آلن )‪ ،(Woody Allen‬الذي أعلن بعد استيالئه على السلطة‬
‫ويعزز هذه الرهبة إضفاء املثالية على صورة الدميقراطية كما يدرسها‬
‫يصوتوا»)‪ِّ .‬‬
‫وهم أجهل من أن ِّ‬ ‫إن‪« :‬هؤالء الناس فالحون‪ُ ،‬‬‫قائال َّ‬
‫ً‬
‫الطالب يف حصة الرتبية الوطنية‪ ،‬عندما يتشاور العامة املطَّلعني يف الصاحل العام وخيتارون ٍ‬
‫بعناية القادة الذين سينفذون السياسات اليت‬
‫يفضلوهنا‪.‬‬
‫صفرا يف املستقبل‪.‬‬
‫وصفرا يف احلاضر‪ ،‬وبالتأكيد ً‬
‫صفرا يف املاضي‪ً ،‬‬ ‫وفق ذلك املعيار‪ ،‬يكون عدد الدول الدميقراطية يف العامل ً‬
‫يندهش علماء الس ياسة باستمرار من سطحية اعتقادات الناس السياسية وعدم تناسقها‪ ،‬ومن الصلة اهلشة بني تفضيالهتم وأصواهتم‪،‬‬
‫أيضا احلقائق األساسية‬
‫وبني تفضيالهتم وسلوكيات ممثِّليهم‪ ،‬فمعظم الناخبني ال جيهلون اخليارات السياسية احلالية فحسب‪ ،‬بل جيهلون ً‬
‫وتتغري آراؤهم‬
‫مثل فروع احلكومة الرئيسية‪ ،‬وخصوم الواليات املتحدة يف احلرب العاملية الثانية‪ ،‬والدول اليت استخدمت األسلحة النووية‪َّ ،‬‬
‫قليال جدًّا على «مساعدة الفقراء»‪َّ ،‬‬
‫وإن‬ ‫كثريا جدًّا على «الرفاهة» يف حني تنفق ً‬ ‫إن احلكومة تنفق ً‬ ‫حسب صياغة السؤال‪ ،‬فيقولون َّ‬
‫عموما للمرشح من‬
‫يصوتون ً‬‫تفضيل ما‪ِّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫عليها «استخدام القوة العسكرية» ولكن ال ينبغي أن «ُتوض حربًا»‪ .‬وعندما يتكون لديهم‬
‫يصوتون يف صاحل مواقفهم احلزبية بغض النظر عن‬
‫ألن الساسة مبجرد حصوهلم على املنصب ِّ‬ ‫ولكن هذا ال يهم تقريبًا‪َّ ،‬‬
‫الفريق املقابل‪َّ ،‬‬
‫آراء دوائرهم االنتخابية‪.‬‬
‫وال ميثِّل التصويت ردود الفعل جتاه أداء احلكومة‪ ،‬فالناخبون يعاقبون أصحاب املناصب على األحداث األخرية اليت ليس هلم عليها‬
‫أي سلطان تقريبًا مثل تقلبات االقتصاد الكلي واهلجمات اإلرهابية‪ ،‬أو اليت ليس هلم عليها أي سلطان مطل ًقا مثل اجلفاف والفيضانات‬
‫أن أصواهتم لن تؤثر على األرجح مطل ًقا يف نتيجة‬ ‫أن معظم الناس يدركون َّ‬‫كثري من علماء السياسة إىل َّ‬
‫وهجمات أمساك القرش‪ .‬توصل ٌ‬
‫االنتخابات‪ ،‬لذا يعطون األولوية للعمل واألسرة والرتفيه أكثر من تثقيف أنفسهم يف السياسة ومعايرة قيمة أصواهتم‪ ،‬ويستخدمون حق‬
‫يصوتون للمرشحني الذين يظنون َّأهنم يشبهوهنم وميثِّلوهنم‪.‬‬
‫اإلدالء بالصوت للتعبري عن أنفسهم‪ ،‬أي ِّ‬
‫بأن االنتخابات هي جوهر الدميقراطية‪َّ ،‬إال َّأهنا ليست أكثر من إحدى آليات مساءلة احلكومة‬
‫إذًا‪ ،‬رغم االعتقاد واسع االنتشار َّ‬
‫دائما آلية بنَّاءة‪ ،‬فعندما تكون االنتخابات مسابقة بني طغاة طموحني‪ُ ،‬تشى الفصائل املتنافسة وقوع أسوأ‬
‫أمام من حتكمهم‪ ،‬وليست ً‬
‫السيناريوهات يف حالة فوز الطرف اآلخر فتحاول كلٌّ منها منع الفصائل األخرى من االقرتاب من صندوق االقرتاع بالرتهيب‪ .‬ويستطيع‬
‫أيضا أن يتعلموا استغالل االنتخابات لصاحلهم‪ ،‬إذ يُطلق على أحدث صيحات الديكتاتورية النظام السلطوي التنافسي أو‬ ‫املستبدون ً‬
‫االنتخايب أو الكليبتوقراطي‪ ‬أو القائم على سيطرة الدولة أو الرعائي (روسيا يف عهد بوتني هي النموذج األويل هلذا النظام)‪ .‬يستغل‬
‫القادة موارد الدولة الضخمة يف التضييق على املعارضة وتأسيس أحزاب معارضة مزيفة واستخدام اإلعالم الذي تسيطر عليه الدولة يف‬
‫نشر الروايات املوافقة لرؤيتها والتالعب بالقواعد االنتخابية وبتسجيل الناخبني وباالنتخابات نفسها (ورغم كل ذلك إال َّ‬
‫أن احلكام‬

‫‪ ‬الكليبتوقراطية مصطلح يعني نظام حكم اللصوص‪- .‬المترجمة‪.‬‬


‫أيضا‪ ،‬فالثورات امللونة قد أطاحت بكث ٍري منهم)‪.‬‬
‫السلطويني الرعائيني ليسوا منيعني ً‬
‫إذا مل ي ُكن ميكن االعتماد على الناخبني وال على القادة املنتخبني يف التمسك مبُثُل الدميقراطية‪ ،‬فلماذا قد ال يكون هذا الشكل‬
‫من أشكال احلكومة بالغ السوء؟ وهو أسوأ أشكال احلكومة‪ ،‬باستثناء كل األشكال األخرى اليت جربناها‪ ،‬كما قال تشرشل‪ .‬قال‬
‫الفيلسوف كارل بوبر (‪ )Karl Popper‬يف كتابه اجملتمع املفتوح وأعداؤه )‪(The Open Society and Its Enemies‬‬
‫الصادر عام ‪ 1945‬إنَّه ال ينبغي فهم الدميقراطية بوصفها جوابًا عن سؤال «من الذي جيب أن حيكم؟» (أي الشعب) َّ‬
‫وإمنا بوصفها‬
‫وسع عامل السياسة جون مولر (‪ )John Mueller‬نطاق هذه الفكرة من «يوم‬ ‫حال ملشكلة عزل القيادة السيئة دون سفك الدماء‪َّ .‬‬‫ًّ‬
‫أن الدميقراطية تقوم يف جوهرها على منح الناس حرية الشكوى‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫حساب» متبادل إىل ردود الفعل اليومية املتواصلة‪ ،‬فيلمح إىل َّ‬
‫«حتدث ‪-‬الدميقراطية‪ -‬عندما يوافق الشعب عمليًّا على عدم استخدام العنف الستبدال القيادة‪ ،‬وترتك هلم القيادة حرية جتربة تنحيتها‬
‫بأي وسيلة أخرى»‪ .‬ويشرح الطريقة اليت حيدث هبا األمر كما يلي‪:‬‬

‫إذا كان للمواطنني احلق يف الشكوى وتقدمي العرائض والتنظيم واالحتجاج والتظاهر واإلضراب والتهديد باهلجرة أو االنفصال‬
‫والصياح والنشر وتصدير أمواهلم والتعبري عن غياب الثقة والتملق يف األروقة اخللفية‪ ،‬متيل احلكومة إىل االستجابة ألصوات‬
‫اهلاتفني وإحلاح املتملِّقني‪ ،‬أي َّأهنا ستصبح بالضرورة متجاوبة ‪-‬ستنتبه أكثر‪ -‬سواء انعقدت انتخابات أم ال‪.‬‬

‫تستطع املرأة التصويت على منح نفسها حق التصويت‪ ،‬ولكنَّها استطاعت احلصول عليه‬ ‫مثال على ذلك‪ ،‬إذ مل ِ‬ ‫وحق املرأة يف التصويت ٌ‬
‫بوسائل أخرى‪.‬‬
‫يؤدي التباين بني واقع الدميقراطية الفوضوي والصورة املثالية اليت يدرسها الطالب يف حصة الرتبية الوطنية إىل التحرر الدائم من‬
‫عقدا لتأليف ٍ‬
‫كتاب‬ ‫األوهام‪ .‬نصح جون كينيث جالربيث (‪ )John Kenneth Galbraith‬من قبل َّ‬
‫بأن املرء إذا أراد أن يوقِّع ً‬
‫مربح‪ ،‬فليقرتح عنوان أزمة الدميقراطية األمريكية ‪ .The Crisis of American Democracy‬يستنتج مولر من مراجعة‬
‫أن «انعدام املساواة واخلالفات والال مباالة تبدو عادية‪ ،‬ليست غريبة يف ظل الدميقراطية‪ ،‬ويكمن مجال هذا الشكل من أشكال‬ ‫التاريخ َّ‬
‫حد كبري يف جناحه رغم هذه الصفات‪ ،‬أو باألحرى بسببها من بعض اجلوانب»‪.‬‬ ‫احلكومة إىل ٍّ‬
‫معقدا أو متطلبًا من احلكم‪ ،‬فشرطها املسبق األساسي هو أن تكون احلكومة‬
‫شكال ً‬ ‫ويف هذا املفهوم التقليلي‪ ،‬ال تكون الدميقراطية ً‬
‫مؤهلة حلماية الشعب من العنف الفوضوي كي ال يسقطون فريسةً ألول زعيم يعد بأنه يستطيع أداء هذه املهمة‪ ،‬أو حىت يرحبون به‬
‫(الفوضى أكثر فت ًكا من االستبداد)‪ .‬وهذا أحد أسباب صعوبة أن جتد الدميقراطية لنفسها موطئ قدم يف الدول شديدة الفقر ذات‬
‫احلكومات الضعيفة كما يف منطقة إفريقيا جنوب الصحراء‪ ،‬ويف الدول اليت أطيح حبكوماهتا مثل أفغانستان والعراق بعد الغزو بقيادة‬
‫أمريكا‪ ،‬فمثلما قال عاملا السياسة ستيفن ليفيتسكي (‪ )Steven Levitsky‬ولوكان واي (‪َّ )Lucan Way‬‬
‫فإن‪« :‬فشل الدولة‬
‫يؤدي إىل العنف وعدم االستقرار‪ ،‬وال يؤدي مطل ًقا تقريبًا إىل التحول الدميقراطي»‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬فكي ترتسخ الدميقراطية‪ ،‬ال بد أن يرى أشخاص مؤثرون (وخاصةً من لديهم قوة السالح) َّأهنا أفضل من‬ ‫األفكار مهمة ً‬
‫البدائل األخرى مثل الثيوقراطية واحلق اإلهلي للملوك واألبوية االستعمارية وديكتاتورية الربوليتاريا (أو يف الواقع «طليعتها الثورية») أو‬
‫وجيسد رغبة الشعب‪ .‬يساعد هذا يف تفسري األمناط األخرى يف سجالت التحول الدميقراطي‬ ‫احلكم السلطوي لزعيم يتمتع بالكاريزما ِّ‬
‫مثل سبب صعوبة ترسخ الدميقراطية يف الدول ذات احلظ األقل من التعليم‪ ،‬ويف الدول البعيدة عن النفوذ الغريب (مثل وسط آسيا)‪ ،‬ويف‬
‫الدول اليت انبثقت أنظمتها من رحم ثورات أيديولوجية عنيفة (مثل الصني وكوبا وإيران وكوريا الشمالية وفيتنام)‪ .‬ويف املقابل‪ ،‬عندما يدرك‬
‫أن الدول الدميقراطية أماكن لطيفة للعيش فيها قد تصبح فكرة الدميقراطية معدية وقد يزداد العدد مبرور الوقت‪.‬‬ ‫الناس َّ‬

‫أن احلكومة لن تعاقب املشتكي أو ُُت ِرسه‪ ،‬فاخلط األمامي يف معركة التحول الدميقراطي إذًا هو إعاقة‬ ‫ترتكز حرية الشكوى على ضمان َّ‬
‫احلكومة عن إساءة استغالل احتكارها القوة يف معاملة مواطنيها املتبجحني بوحشية؟‬
‫رمست سلسلةٌ من االتفاقيات الدولية ابتداءً باإلعالن العاملي حلقوق اإلنسان الصادر عام ‪ 1948‬خطوطًا محراء لتكتيكات‬
‫احلكومة الدموية وباألخص التعذيب والقتل دون حماكمة وسجن املتمردين واملصطلح القبيح الذي ظهر خالل حكم النظام العسكري‬
‫يف األرجنتني منذ عام ‪ 1974‬و‪ 1984‬وهو االختفاء القسري‪ .‬ليست هذه اخلطوط احلمراء مثل الدميقراطية االنتخابية‪ ،‬مبا َّ‬
‫أن أغلبية‬
‫متسهم‪ .‬تظهر الدول الدميقراطية عمليًّا بالفعل احرت ًاما أكرب حلقوق اإلنسان‪،‬‬
‫الناخبني قد يكونون غري مبالني بوحشية احلكومة طاملا مل َّ‬
‫اخلرية مثل سنغافورة‪ ،‬وبعض الدول الدميقراطية القمعية مثل باكستان‪ .‬يقودنا هذا إىل‬
‫أيضا بعض الدول األوتوقراطية ِّ‬
‫ولكن العامل يشمل ً‬
‫تساؤل مهم عما إذا كانت موجات التحول الدميقراطي حقًّا إحدى أشكال التقدم‪ .‬هل أدى صعود الدميقراطية إىل ازدهار حقوق‬
‫اإلنسان؟ أم َّ‬
‫أن احلكام الديكتاتوريني يستغلون االنتخابات ومظاهر الدميقراطية األخرى للتسرت على انتهاكاهتم بابتسامة؟‬
‫راقبت وزارة اخلارجية األمريكية ومنظمة العفو الدولية ومنظمات أخرى انتهاكات حقوق اإلنسان على مدار العقود املاضية‪ .‬إذا‬
‫متاما‪ ،‬رغم انتشار الدميقراطية‬ ‫نظر املرء يف األرقام اليت توصلوا إليها منذ السبعينيات‪ ،‬فستبدو احلكومات و َّ‬
‫كأهنا ما زالت قمعية كما كانت ً‬
‫وقواعد حقوق اإلنسان واحملاكم اجلنائية الدولية واملنظمات الرقابية الدفاعية‪ .‬أدى ذلك إىل صدور تصرحيات (حتذيرية من طرف النشطاء‬
‫احلقوقيني وشامتة من طرف املتشائمني) بأنَّنا قد وصلنا إىل «آخر زمان حقوق اإلنسان» و«غروب قوانني حقوق اإلنسان» و«عامل ما‬
‫بعد حقوق اإلنسان»‪.‬‬
‫انتباها ألشكال من األذى مل‬
‫ولكن للتقدم طريقة خيفي هبا آثاره‪ ،‬فمع ارتقاء معايرينا األخالقية مبرور السنوات‪ ،‬أصبحنا أكثر ً‬‫َّ‬
‫دائما بوجود «أزمة» كي‬‫بأن عليها أن تصرخ ً‬ ‫نكن لنالحظها يف املاضي‪ ،‬وإضافةً إىل ذلك‪ ،‬تشعر املنظمات اليت تقوم بدور النشطاء َّ‬
‫أن تلك العقود من النشاط احلقوقي‬ ‫أن هذه االسرتاتيجية قد تأيت بنتائج عكسية‪ ،‬إذ تشري ضمنًا إىل َّ‬
‫حتافظ على استمرار الزخم (رغم َّ‬
‫إهدارا للوقت)‪ .‬تُطلق عاملة السياسة كاثرين سيكينك (‪ )Kathryn Sikkink‬على هذا «مفارقة املعلومات»‪ ،‬فكلما حبثت‬ ‫كانت ً‬
‫منظمات مراقبة حقوق اإلنسان أكثر عن االنتهاكات وحبثت يف أماكن أكثر عن االنتهاكات وصنفت املزيد من األفعال َّ‬
‫بأهنا انتهاكات‪،‬‬
‫حل عامل‬
‫وجدت املزيد منها‪ ،‬ولكن إذا مل ندرك زيادة قدرهتا على اكتشاف االنتهاكات‪ ،‬سنتوهم بوجود املزيد من هذه االنتهاكات‪َّ .‬‬
‫السياسة كريستوفر فاريس (‪ )Christopher Fariss‬هذه املعضلة بنموذج رياضي يعادل زيادة البحث والعنيد واإلبالغ عن‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 2-14‬النتائج اليت توصل إليها‬ ‫االنتهاكات مبرور الوقت ويقدِّر احلجم الفعلي النتهاكات حقوق اإلنسان يف العامل‪ِّ .‬‬
‫يف أربع دول منذ عام ‪ 1949‬حىت ‪ 2014‬ويف العامل بأكمله‪.‬‬
‫النرويج‬
‫حماية حقوق اإلنسان‬

‫العالم‬

‫كوريا الجنوبية‬

‫الصين‬

‫كوريا الشمالية‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 2 - 1 4‬ح ق وق ا إل ن س ا ن م ن ذ ‪ 1 9 4 9‬ح ىت ‪2 0 1 4‬‬


‫المصدر‪ ،Our World in Data, Roser 2016i :‬رسم بياين للمؤشر الذي وضعه فاريس يف دراسة )‪ ،(Fariss 2014‬الذي يقدِّر معدل‬
‫محاية اإلنسان من التعذيب والقتل دون حماكمة والسجن السياسي وحوادث االختفاء‪ "0" .‬هو الوسط احلسايب لكل الدول واألعوام‪ ،‬والوحدات األخرى‬
‫احنرافات معيارية‪.‬‬

‫أرقاما أخرجها منوذج رياضي‪ ،‬لذا علينا َّأال نأخذ القيم احملددة على حممل الدقة التامة‪ ،‬ولكنها تشري بالفعل‬
‫يعرض الرسم البياين ً‬
‫عيارا ذهبيًّا حلقوق اإلنسان‪ ،‬وهي دولة إسكندنافية كما هو احلال يف بقية‬‫إىل االختالفات واالجتاهات‪ .‬اخلط األعلى ميثِّل دولةً تُعد م ً‬
‫مقاييس ازدهار البشرية‪ ،‬والدولة يف هذه احلالة هي النرويج اليت بدأت مبعدل مرتفع وواصلت االرتفاع‪ .‬نرى خطني متباعدين ميثِّالن‬
‫الكوريتني‪ ،‬الشمالية اليت بدأت مبعدل منخفض وواصلت االخنفاض‪ ،‬واجلنوبية اليت ارتفعت وانتقلت من كوهنا دولة أوتوقراطية ميينية خالل‬
‫نقطة أفضل اليوم‪ .‬وصلت حقوق اإلنسان يف الصني إىل احلضيض خالل الثورة الثقافية مث ارتفعت بعد وفاة ماو‬ ‫احلرب الباردة إىل ٍ‬
‫ووصلت إىل ذروهتا خالل احلركة الدميقراطية يف الثمانينيات قبل أن تتخذ احلكومة إجراءات صارمة بعد احتجاجات ساحة تيان آن من‪،‬‬
‫ولكن املنحىن األهم هو املنحىن الذي ميثِّل العامل بأكمله‪ ،‬إذ يتجه‬
‫كثريا مما كانت فيه يف حقبة ماو‪َّ .‬‬ ‫َّ‬
‫رغم أهنا ما زالت يف مستوى أعلى ً‬
‫قوس حقوق اإلنسان لألعلى رغم كل انتكاساته‪.‬‬

‫كيف يتم حتجيم سلطة احلكومة باستمرار؟ من النوافذ الواضحة ‪-‬على حن ٍو غري معتاد‪ -‬املطلة على آلية التقدم البشري مصري ممارسة‬
‫عمدا‪.‬‬
‫الدولة املطلقة للعنف‪ ،‬أي قتل مواطنيها ً‬
‫كانت عقوبة اإلعدام من قبل واسعة االنتشار يف كل الدول‪ ،‬وكانت تُطبَّق عقابًا على مئات اجلُنح يف عروض عامة شنيعة من‬
‫التعذيب واإلذالل (ويُعد صلب يسوع مع لصني من العامة تذكرة جيدة بذلك)‪ .‬بعد عصر التنوير‪ ،‬توقفت الدول األوروبية عن إعدام‬
‫املواطنني عقابًا على أي جرائم سوى أبشعها‪ ،‬ويف منتصف القرن التاسع عشر‪ ،‬كانت بريطانيا قد خفَّضت عدد اجلرائم اليت يعاقب‬
‫عليها باإلعدام من ‪ 222‬جرمية إىل ‪ ،4‬وحبثت الدول عن طرق إعدام رحيمة بالقدر الذي يتناسب مع هذه املمارسة الشنيعة‪ ،‬مثل‬
‫متاما يف دولة‬
‫الشنق‪ .‬بعد احلرب العاملية الثانية‪ ،‬عندما أطلق اإلعالن العاملي حلقوق اإلنسان ثورة إنسانية ثانية‪ ،‬بدأ إلغاء عقوبة اإلعدام ً‬
‫تلو األخرى‪ ،‬ومل ُتعد موجودة اليوم يف أوروبا سوى يف بيالروسيا (روسيا البيضاء)‪.‬‬
‫نطاق عاملي (انظر الشكل رقم ‪ )3-14‬وعقوبة اإلعدام اليوم تنتظر تنفيذ حكم اإلعدام عليها‪،‬‬ ‫انتشر إلغاء عقوبة اإلعدام على ٍ‬
‫إذ كانت دولتان أو ثالث دول تلغيها كل عام خالل الثالثة عقود املاضية‪ ،‬ومل ُيعد ميارسها سوى أقل من ُمخس دول العامل (يف حني‬
‫عقد على األقل)‪ .‬يشري مقرر األمم املتحدة اخلاص‬ ‫أن أغلبها مل تعدم أحدا منذ ٍ‬ ‫حتتفظ تسعون دولةً بعقوبة اإلعدام يف كتب القانون‪َّ ،‬إال َّ‬
‫ً‬
‫املعين باإلعدام كريستوفر هينز (‪ )Christopher Heyns‬إىل أنَّه إذا استمر إلغاء عقوبة اإلعدام باملعدل احلايل (ال يعين هذا أنَّه‬
‫يتنبأ بأنَّه سيستمر)‪ ،‬فستتالشى عقوبة اإلعدام من على وجه األرض حبلول عام ‪.2026‬‬
‫عدد الدول التي ألغت عقوبة اإلعدام‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 3 - 1 4‬إ ل غ ا ء ع ق وب ة ا إل ع د ا م م ن ذ ‪ 1 8 6 3‬ح ىت ‪2 0 1 6‬‬


‫المصدر‪« :‬عقوبة اإلعدام حسب الدولة‪ :‬التسلسل الزمين لإللغاء»‪ ،‬ويكيبيديا‪ ،‬مت استخراج البيانات يف ‪ 15‬من أغسطس عام ‪ .2016‬ألغت عدة دول‬
‫يسجل آخر حالة إلغاء يف أي إقليم خاضع لواليتها‪ .‬يشري السهم إىل‬
‫لكن اخلط الزمين ِّ‬
‫أوروبية عقوبة اإلعدام يف بعض أراضيها قبل الوقت املشار إليه هنا‪ ،‬و َّ‬
‫سنة ‪ ،2008‬وهي آخر سنة مرسومة يف الشكل رقم ‪ 3-4‬من دراسة ‪.Pinker 2011‬‬

‫كل منهما)‬ ‫ٍ‬


‫تكون أبرز مخس دول ما زالت تعدم مواطنيها بأعداد كبرية ناديًا غريبًا‪ ،‬وهي‪ :‬الصني وإيران (أكثر من ألف سنويًّا يف ٍّ‬ ‫ِّ‬
‫وباكستان والسعودية والواليات املتحدة‪ ،‬فالواليات املتحدة متوانية وسط الدول الدميقراطية الثرية يف هذا املنحى كما يف املناحي األخرى‬
‫من ازدهار البشرية (مثل اجلرمية واحلرب والصحة وطول العمر واحلوادث والتعليم)‪ .‬تضيء هذه النزعة االستثنائية األمريكية املسار املتعرج‬
‫أيضا التوتر بني املفهومني اللذين‬‫وتوضح ً‬‫حجج فلسفية إىل حقائق على أرض الواقع‪ِّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الذي ينتقل من خالله التقدم األخالقي من‬
‫أن الدميقراطية شكل من أشكال احلكم تتحدد بدقة سلطته يف ممارسة العنف على املواطنني‪ ،‬والثاين‬ ‫فحصنامها عن الدميقراطية‪ :‬األول هو َّ‬
‫ناشزا عن غريها يف مسألة‬
‫أن الدميقراطية شكل من أشكال احلكم ينفِّذ رغبة أغلبية الشعب‪ .‬يكمن سبب كون الواليات املتحدة ً‬ ‫هو َّ‬
‫عقوبة اإلعدام يف كوهنا دميقراطية أكثر من الالزم‪.‬‬
‫أن الناس‬‫يشري الباحث القانوين أندرو هامل (‪ )Andrew Hammel‬يف كتابه عن تاريخ إلغاء عقوبة اإلعدام يف أوروبا إىل َّ‬
‫روحا‪ ،‬تستحق أن تفقد حياتك‪ .‬مل تبدأ احلجج املؤثرة‬ ‫كانوا يف معظم األزمنة ويف معظم األماكن يرون عقوبة اإلعدام عادلة‪ ،‬فإذا قتلت ً‬
‫أن تفويض الدولة مبمارسة العنف ال ينبغي أن ينتهك حياة‬ ‫ضد عقوبة اإلعدام يف الظهور سوى مع التنوير‪ ،‬كانت إحدى هذه احلجج َّ‬
‫أن األثر الرادع الذي هتدف عقوبة اإلعدام إىل حتقيقه ميكن حتقيقه بعقوبات أضمن وأقل وحشيةً‪.‬‬ ‫اإلنسان املقدسة‪ ،‬ومن احلجج األخرى َّ‬
‫تقاط رت األفكار من طبقة رقيقة من الفالسفة واملثقفني إىل الطبقات العليا املتعلمة‪ ،‬وباألخص أصحاب املهن احلرة مثل األطباء‬
‫ملف يشمل قضايا تقدمية أخرى مبا فيها التعليم اإلجباري وحق االقرتاع‬ ‫واحملامني وال ُكتَّاب والصحافيني‪ .‬اندرج إلغاء عقوبة اإلعدام حتت ٍ‬
‫رمزا لـ «اجملتمع الذي خنتار العيش فيه واألشخاص الذين‬ ‫العام وحقوق العمال‪ ،‬ومت تقديسه وإضفاء هالة «حقوق اإلنسان» عليه وأصبح ً‬
‫خنتار أن نكوهنم»‪ .‬حصلت النخبة الداعية إىل إلغاء عقوبة اإلعدام يف أوروبا على ما أرادته رغم شكوك رجل الشارع َّ‬
‫ألن الدول‬
‫مشكلة من باحثني‬‫سياسات‪ ،‬إذ وضعت قوانني العقوبات يف هذه الدول جلا ٌن َّ‬ ‫ٍ‬ ‫الدميقراطية األوروبية مل حت ِّول آراء رجل الشارع إىل‬
‫مشرعون كانوا يرون َّأهنم ِّ‬
‫يشكلون طبقة أرستقراطية طبيعية‪ ،‬وطبَّقها قضاة معيَّنون عملوا طيلة حياهتم يف اخلدمة املدنية‪.‬‬ ‫ومررها ِّ‬‫مشهورين‪َّ ،‬‬
‫أن البلد مل يسقط يف‬ ‫ومل يغري العامة رأيهم يف عقوبة اإلعدام حبيث يروهنا غري ضرورية سوى بعد مرور عقدين من الزمان رأوا خالهلما َّ‬
‫جهودا مركزة إلعادة تطبيق عقوبة اإلعدام‪.-‬‬
‫ظالم الفوضى ‪-‬ولو كان حدث هذا كانت الدولة ستبذل ً‬
‫ولكن الواليات املتحدة يف كل األحوال أقرب إىل أن تكون حكومتها من الشعب وتعمل من أجل الشعب‪ ،‬فتتخذ كل والية على‬ ‫َّ‬
‫املشرعون القريبون من ناخبيهم‪،‬‬
‫ويصوت عليها ِّ‬ ‫حدة قراراهتا بشأن عقوبة اإلعدام سوى يف بعض اجلرائم الفيدرالية مثل اإلرهاب واخليانة‪ِّ ،‬‬
‫ويلتمسها ويوافق عليها يف كث ٍري من الواليات النواب العموم والقضاة الذين يرتشحون إلعادة انتخاهبم‪ .‬لدى الواليات اجلنوبية ثقافة‬
‫ٍ‬
‫جمموعة صغرية من الواليات‬ ‫أن حاالت اإلعدام يف أمريكا ترتَّكز يف‬
‫املربر‪ ،‬فمن غري املفاجئ إ ًذا َّ‬
‫الشرف القدمية اليت تتسم بروح الثأر َّ‬
‫جمموعة صغرية من املقاطعات داخل تلك الواليات‪.‬‬‫ٍ‬ ‫اجلنوبية‪ ،‬وهي باألساس تكساس وجورجيا وميزوري‪ ،‬ويف‬
‫أيضا‪ ،‬وعقوبة اإلعدام فيها إىل زوال رغم شعبيتها املستمرة (إذ‬
‫ومع ذلك فإن ذلك التيار التارخيي قد اكتسح الواليات املتحدة ً‬
‫أيدها ‪ 61‬يف املئة من املواطنني يف عام ‪ ،)2015‬فأبطلت سبع واليات عقوبة اإلعدام خالل العقد املاضي‪ ،‬وعلَّقت ستة عشر والية‬
‫أخرى العمل هبا ومل تنفِّذ ثالثون والية أي حكم باإلعدام خالل اخلمس سنوات املاضية‪ ،‬وحىت والية تكساس مل تعدم سوى سبعة‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 4-14‬تراجع استخدام عقوبة اإلعدام خبطو ٍ‬
‫ات‬ ‫سجناء فقط يف عام ‪ 2016‬مقارنةً بأربعني سجينًا يف عام ‪ِّ .2000‬‬
‫ثابتة يف الواليات املتحدة‪ ،‬يف احندا ٍر واضح حنو الصفر ‪-‬قد يكون هو األخري‪ -‬يف أقصى اليمني‪ .‬وينطبق هذا النمط على ما حيدث يف‬
‫أوروبا‪ ،‬فكلما آلت املمارسة إىل الزوال‪ ،‬تشتت الرأي العام بشأهنا‪ ،‬ففي عام ‪ ،2016‬اخنفض الدعم الشعيب لعقوبة اإلعدام ألقل من‬
‫عاما تقريبًا‪.‬‬
‫‪ 50‬يف املئة ألول مرة خالل مخسني ً‬
‫حاالت اإلعدام لكل ‪ 100‬ألف شخص‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 4 - 1 4‬ح ا ال ت ا إل ع د ا م يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة م ن ذ ‪ 1 7 8 0‬ح ىت ‪2 0 1 6‬‬


‫المصدر‪ :‬مركز املعلومات عن عقوبة اإلعدام (‪ .)Death Penalty Information Center 2017‬التقديرات اخلاصة بالسكان من مكتب تعداد‬
‫الواليات املتحدة (‪ .)US Census Bureau 2017‬يشري السهم إىل سنة ‪ ،2010‬وهي آخر سنة مرسومة يف الشكل رقم ‪ 4-4‬من دراسة ‪Pinker‬‬
‫‪.2011‬‬

‫مسارا آخر يسري فيه التقدم األخالقي‪،‬‬


‫كيف تتخلص الواليات املتحدة من عقوبة اإلعدام رغم أنفها تقريبًا؟ نرى يف هذه احلالة ً‬
‫أن النظام السياسي األمريكي أكثر شعبويةً من األنظمة يف الدول الغربية األخرى‪َّ ،‬إال أنَّه ما زال غري مماثل للنظام الدميقراطي‬ ‫فرغم َّ‬
‫التشاركي املباشر كالنظام يف أثينا القدمية (وهو النظام الذي تسبَّب يف إعدام سقراط)‪ .‬مع التوسع التارخيي لنطاق التعاطف واملنطق‪ ،‬فقد‬
‫محاسا هلا شهيتهم إلعدام العصابات دون حماكمة‪ ،‬وشنق القضاة‪ ،‬واإلعدامات العلنية الغوغائية‪،‬‬ ‫حىت أكثر مشجعي عقوبة اإلعدام ً‬
‫وأصبحوا يصرون على تنفيذ هذه املمارسة ببعض الكرامة والرعاية‪ .‬يتطلب هذا وجود جهاز معقد للموت وفريق من امليكانيكيني لتشغيله‬
‫وإصالحه‪ ،‬وعندما تبلى اآللة ويرفض امليكانيكيون صيانتها‪ ،‬تزداد صعوبة إدارهتا وتدعو للتخلص منها‪ .‬ال تتعرض عقوبة اإلعدام يف‬
‫أمريكا لإللغاء بقدر ما تتعرض لالهنيار بالتدريج‪.‬‬
‫أوال‪ :‬أوضحت التطورات يف علم األدلة اجلنائية‪ ،‬وباألخص بصمة احلمض النووي‪ ،‬أنَّه قد مت بالتأكيد إعدام أشخاص أبرياء‪ ،‬وهو‬
‫ً‬
‫محاسا‪ .‬ثانيًا‪ :‬تطورت عملية القضاء البشعة على حياة إنسان من السادية الدموية‬
‫سيناريو يثري حفيظة حىت أكثر داعمي عقوبة اإلعدام ً‬
‫املتمثلة يف الصلب ونزع األحشاء إىل عملية القتل السريعة ‪-‬املزعجة‪ -‬باألحبال والرصاصات والسيوف مث إىل أدوات القتل اخلفية مثل‬
‫ولكن األطباء يرفضون القيام بذلك‪ ،‬وترفض شركات األدوية‬ ‫وصوال إىل عملية «طبية زائفة» وهي القتل ٍ‬
‫حبقنة مميتة‪َّ ،‬‬ ‫الغاز والكهرباء ً‬
‫توفري العقارات وينزعج الشهود من مشاهد املنازعة خالل احملاوالت الفاشلة‪ .‬ثالثًا‪ :‬أصبح البديل األساسي لعقوبة اإلعدام‪ ،‬وهو السجن‬
‫ابعا‪ :‬مع اخنفاض معدل جرائم‬ ‫مدى احلياة‪ ،‬أجدر بالثقة عندما أصبحت السجون التأديبية احملصنة ضد اهلروب والشغب ُحمكمة‪ .‬ر ً‬
‫خامسا‪ :‬تالشت حاالت اإلعدام باإلجراءات‬ ‫ً‬ ‫العنف إىل مستوى متد ٍن (الفصل الثاين عشر)‪ ،‬قلَّت حاجة الناس إىل التدابري القاسية‪.‬‬
‫املوجزة اليت اتسمت هبا احلقب املاضية وحلَّت حملَّها اإلجراءات القانونية طويلة األمد بسبب النظر إىل عقوبة اإلعدام بوصفها عملية‬
‫بالغة األمهية‪ .‬تعادل مرحلة إصدار احلُكم بعد إصدار قرار اإلدانة حماكمةً ثانية‪ ،‬ويؤدي احلكم باإلعدام إىل عملية طويلة من املراجعات‬
‫أن معظم السجناء احملكوم عليهم باإلعدام ميوتون نتيجة أسباب طبيعية‪ ،‬ويف الوقت نفسه‪َّ ،‬‬
‫فإن تكلفة‬ ‫واالستئنافات‪ ،‬وهي طويلة لدرجة َّ‬
‫سادسا‪ :‬تسببت الفوارق االجتماعية يف‬‫ساعات عمل احملامني املكلِّفني على الدولة تساوي مثانية أضعاف تكلفة السجن مدى احلياة‪ً .‬‬
‫أحكام اإلعدام ‪-‬فاملتهمون الفقراء والسود ُحيكم عليهم باإلعدام بصورة غري متكافئة مع غريهم («يُعاقَب من ال ميلكون رأس املال»)‪-‬‬
‫يف إثقال ضمري الشعب على حن ٍو متزايد‪ .‬و ً‬
‫أخريا‪ :‬عانت احملكمة العليا ‪-‬اليت ُوِّكلت مر ًارا وتكر ًارا بصياغة تربير متسق هلذا الغطاء اجملنون‪-‬‬
‫بأن الواليات ال جيوز هلا إعدام األحداث وذوي اإلعاقات‬ ‫يف تربير هذه املمارسة وأضعفتها تدرجييًّا‪ ،‬وحكمت يف السنوات األخرية َّ‬
‫مضادا لوسيلة احلقن العشوائي باحلقنة املميتة‪ .‬يعتقد مراقبو احملاكم َّ‬
‫أن‬ ‫حكما ً‬ ‫الذهنية ومرتكيب اجلرائم غري القتل‪ ،‬وكادت أن تصدر ً‬
‫اضطرار القضاة إىل التصدي لنزوة هذه املمارسة املروعة بأكملها واالستشهاد بـ «معايري اآلداب املتطورة» وإلغائها لكوهنا خرقًا حلظر‬
‫ا لعقوبة القاسية واالستثنائية املذكور يف التعديل الثامن‪ ،‬جمرد مسألة وقت ال أكثر‪.‬‬
‫إن تضافر كل القوى العلمية واملؤسسية والقانونية واالجتماعية على حن ٍو غريب من أجل جتريد احلكومة من سلطتها اليت تسمح‬ ‫َّ‬
‫أن احلياة‬ ‫ٍ‬
‫ببساطة أكثر‪ ،‬فإنَّنا نشهد انتشار مبدأ أخالقي ‪-‬وهو َّ‬ ‫غامضا ينحين يف اجتاه العدالة‪ ،‬أو‬ ‫قوسا‬ ‫هلا بالقتل يوحي َّ‬
‫ً‬ ‫بأن هناك ً‬
‫شاق‪ -‬وسط جمموعة كرية من املؤسسات واجلهات الفاعلة اليت عليها التعاون إلتاحة تنفيذ عقوبة اإلعدام‪.‬‬ ‫مقدسة‪ ،‬فالقتل‪ ،‬إذًا عبء ٌ‬
‫ومع ازدياد تطبيق هذه املؤسسات واجلهات الفاعلة هلذا املبدأ باستمرار وبدقة‪ ،‬فهي تبعد البلد بال هوادة عن االندفاع حنو االنتقام حلياة‬
‫ولكن فكرًة من عصر التنوير ميكنها‬
‫إن املسارات متشعبة ومتعرجة‪ ،‬واآلثار تكون بطيئة مث تصبح مفاجئة‪َّ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫شخص آخر‪َّ .‬‬ ‫ٍ‬
‫شخص حبياة‬
‫تغري العامل‪.‬‬
‫مبرور الزمن أن ِّ‬
‫الفصل الخامس عشر‪:‬‬
‫المساواة في الحقوق‬

‫لغاية ما أو مصدر إزعاج جيب تنحيته جانبًا‪ ،‬تسعى التحالفات‬‫كأهنم وسيلة ٍ‬ ‫مييل البشر إىل معاملة فئات كاملة من البشر اآلخرين َّ‬
‫القائمة على العرق أو العقيدة إىل أن تطغي على التحالفات املنافسة‪ .‬وحياول الرجال التحكم يف عمالة املرأة وحريتها ونشاطها اجلنسي‪،‬‬
‫اسم العنصرية والتمييز على أساس اجلنس‬
‫ويرتجم الناس انزعاجهم من االختالفات اجلنسية إىل إدانة أخالقية‪ .‬نطلق على هذه الظواهر َ‬
‫كبريا مما نطلق عليه‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫ورهاب املثلية‪ ،‬وهي منتشرة يف معظم الثقافات على مر التاريخ بدرجات خمتلفة‪ ،‬ويشكل التربؤ من هذه الشرور جزءًا ً‬
‫إن التوسع التارخيي لنطاق هذه احلقوق ‪-‬قصص مؤمتر سينيكا فولز )‪ (Seneca Falls‬وسيلما‬ ‫احلقوق املدنية أو املساواة يف احلقوق‪َّ .‬‬
‫مثريا من قصة تقدم البشرية‪.‬‬
‫فصال ً‬
‫)‪ (Selma‬ومظاهرات ستون وول )‪ -(Stonewall‬ميثِّل ً‬
‫مؤخرا بنقاط حتول بارزة‪ ،‬إذ شهد عام ‪ 2017‬انتهاء‬‫تواصل حقوق األقليات العرقية واملرأة واملثليني تقدمها‪ ،‬فقد مرت كلٌّ منها ً‬
‫ٍ‬
‫خطاب ألقته يف‬ ‫فرتتني رئاسيتني ألول رئيس أمريكي من أصول إفريقية‪ ،‬وهو إجناز ذكرته السيدة األوىل ميشيل أوباما بطر ٍ‬
‫يقة مؤثرة يف‬
‫ابنيت‪ ،‬فتاتني سوداوين ذكيتني‬
‫منزل بناه العبيد‪ ،‬وأشاهد َّ‬ ‫املؤمتر الوطين الدميقراطي يف عام ‪ ،2016‬فقالت‪« :‬أستيقظ كل صباح يف ٍ‬
‫مجيلتني تلعبان مع كالهبما يف حديقة البيت األبيض»‪ .‬وأعقب والية باراك أوباما ترشح أول امرأة من ٍ‬
‫حزب كبري يف انتخابات الرئاسة‬
‫قرن من السماح لنساء أمريكا بالتصويت‪ ،‬وفازت بأغلبية ساحقة يف التصويت الشعيب وكانت ستصبح رئيسة لوال خصائص‬ ‫بعد أقل من ٍ‬
‫نظام اجملمع االنتخايب الغريبة والنوادر األخرى اليت ميَّزت تلك السنة االنتخابية‪ .‬يف عا ٍمل موا ٍز ومشابه جدًّا لعاملنا حىت ‪ 8‬نوفمرب ‪،2016‬‬
‫تأثريا ونفو ًذا يف العامل (الواليات املتحدة واململكة املتحدة وأملانيا)‪ .‬ويف عام ‪ ،2015‬بعد أن حكمت‬
‫قد تقود النساء أكثر ثالث دول ً‬
‫عاما فقط‪ ،‬كفلت احملكمة حق الزواج للمتحابني من نفس اجلنس‪.‬‬ ‫احملكمة األمريكية العليا بعدم جترمي النشاط املثلي جنسيًّا باثين عشر ً‬
‫ولكن من طبيعة التقدم أنه خيفي آثاره‪ ،‬ويرِّكز أنصاره على املظامل املتبقية وينسون الشوط الطويل الذي قطعناه‪ ،‬فمن املسلَّمات‬‫َّ‬
‫من اآلراء التقدمية وخاصةً يف اجلامعات أنَّنا ما زلنا حنيا يف جمتم ٍع يتسم بالعنصرية والتمييز على أساس اجلنس ورهاب املثلية بشدة‪ ،‬وهو‬
‫أن النشاط التقدمي مضيعة للوقت ألنَّه مل حيقِّق شيئا بعد ٍ‬
‫عقود من النضال‪.‬‬ ‫ما قد يدل ضمنًا على َّ‬
‫ً‬
‫حرضت على الصور األخرى من‬ ‫حرضت العناوين اإلخبارية املثرية على إنكار التطورات اليت حدثت فيما خيص احلقوق‪ ،‬مثلما َّ‬ ‫َّ‬
‫رهاب التقدُّم‪َّ .‬أدت سلسلة من عمليات قتل بعض املشتبه هبم غري املسلحني من األمريكيني من أصول إفريقية على يد بعض رجال‬
‫الشرطة األمريكيني اليت ذاع صيتها اللتقاط بعضها يف فيديوهات باستخدام اهلواتف الذكية إىل انتشار إحساس َّ‬
‫بأن البالد اجتاحتها‬
‫هجمات الشرطة العنصرية على الرجال السود‪ .‬وأوحت التغطية اإلعالمية للرياضيني الذين اعتدوا على زوجاهتم أو حبيباهتم وحلوادث‬
‫االغتصاب يف اجلامعات لكث ٍري من الناس بأنَّنا نعاين موجةً عارمة من العنف ضد املرأة‪ .‬ووقعت يف عام ‪ 2016‬إحدى أبشع اجلرائم يف‬
‫شخصا وإصابة ثالثة‬
‫ً‬ ‫تاريخ أمريكا عندما أطلق عمر متني النار يف ملهى ليلي للمثليني يف أورالندو ممَّا َّأدى إىل قتل تسعة وأربعني‬
‫ومخسني آخرين‪.‬‬
‫بدال من‬
‫دعَّم التاريخ احلديث للعامل الذي حنيا فيه ‪-‬حيث انتفع دونالد ترامب من النظام االنتخايب األمريكي يف عام ‪ً 2016‬‬
‫تفوه ترامب خالل محلته بإهانات معادية للمرأة ولألمريكيني ذوي األصول الالتينية (اهلسبان)‬‫هيالري كلينتون‪ -‬اإلميان بغياب التقدُّم‪َّ .‬‬
‫شجعهم يف جتمعاته االنتخابية أكثر عدوانيةً منه‪ .‬وقد‬
‫وللمسلمني خارجة عن قواعد اخلطاب السياسي األمريكي‪ ،‬وكان أتباعه الذين َّ‬
‫عرب بعض املعلِّقني عن قلقهم من أن ميثِّل انتصاره نقطة حتول يف تقدُّم البالد يف اجتاه املساواة واحلقوق‪ ،‬أو أن يكشف عن احلقيقة املرة‬
‫َّ‬
‫وهي أنَّنا مل ُحن ِدث أي تقدُّم من األساس‪.‬‬
‫يغري‬
‫حيرك املساواة يف احلقوق‪ ،‬هل هو وهم؟ أم دوامة عنيفة أعلى بركة راكدة؟ هل ِّ‬ ‫اهلدف من هذا الفصل قياس عمق التيار الذي ِّ‬
‫اجتاهه بسهولة ويتدفَّق يف االجتاه املعاكس؟ أم َّ‬
‫أن العدالة تتدفق مثل النهر واالستقامة تتدفق مثل اجملرى القوي؟ وسأهنيه خبامتة عن التقدُّم‬
‫تعرضها لألذى‪ ،‬وهي األطفال‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫جمموعة من البشر يسهل ُّ‬ ‫الذي حدث فيما خيص حقوق أكثر‬

‫أيضا على االعتداءات األخرية يف جمال‬ ‫متشك ًكا يف التاريخ الذي تقرأه من عناوين األخبار‪ ،‬وينطبق هذا ً‬‫ال بد أنَّك قد أصبحت اآلن ِّ‬
‫تزدد خالل العقود األخرية (حىت‬ ‫أن عدد حوادث إطالق النار من جانب الشرطة قد اخنفض‪ ،‬ومل َ‬ ‫املساواة يف احلقوق‪ ،‬تشري البيانات إىل َّ‬
‫أن املشتبه هبم من السود ليسوا أكثر عرضةً للقتل على‬ ‫مع تصوير احلوادث اليت تقع بالفعل بالفيديو)‪ ،‬ووجدت ثالثة حتليالت مستقلة َّ‬
‫ولكن املشكلة ليست باألساس مشكلة‬ ‫يد الشرطة من املشتبه هبم من البيض (يطلق رجال الشرطة األمريكيون النار على كث ٍري من الناس‪َّ ،‬‬
‫عرقية)‪ .‬ال خيربنا سيل أخبار حوادث االغتصاب ما إذا كان العنف ضد املرأة اآلن أكثر‪ ،‬وهو أمر سيئ‪ ،‬أم أنَّنا هنتم اآلن أكثر بالعنف‬
‫ضد املرأة‪ ،‬وهو أمر جيد‪ .‬وحىت يومنا هذا‪ ،‬ال يتَّضح لنا ما إذا كانت جمزرة امللهى الليلي يف أورالندو ناجتة عن رهاب املثلية أم التعاطف‬
‫مع داعش أم دافع حتقيق الشهرة بعد املوت الذي حيفِّز معظم مرتكيب حوادث إطالق النار‪.‬‬
‫ميكن مجع نسخ أولية أفضل عن التاريخ من البيانات عن القيم واإلحصاءات احليوية‪ ،‬فحص مركز بيو لألحباث ( ‪Pew‬‬
‫‪ )Research Center‬آراء األمريكيني فيما خيص العرق والنوع االجتماعي وامليول اجلنسية خالل ربع القرن املاضي‪ ،‬وذكر َّ‬
‫أن هذه‬
‫منتشرا ساب ًقا يف طي النسيان‪ .‬نرى هذا‬
‫املواقف خضعت لتحول جوهري جتاه التسامح واحرتام احلقوق‪ ،‬وأصبح التعصب الذي كان ً‬
‫ات أخرى مذكورة يف استطالعات‬ ‫يوضح ردود الفعل على ثالث عبارات ممثِّلة عن عبار ٍ‬
‫التحول بوضوح يف الشكل رقم ‪ 1-15‬الذي ِّ‬
‫الرأي‪.‬‬
‫أوافق‪ :‬على المرأة أن تعود إلى‬
‫دورها التقليدي في المجتمع‬
‫النسبة المئوية‬

‫أوافق‪ :‬ال بد أن يكون إلدارات‬


‫المدارس الحق في فصل المعلِّمين‬
‫الذين يُعرف عنهم أ انهم مثليو‬ ‫ال أوافق‪ :‬أرى أ انه من‬
‫الجنس‬ ‫المقبول أن يتواعد البيض‬
‫والسود‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 1 - 1 5‬ا آل را ء ا ل يت ت ت س م ب ا ل ع ن ص ري ة وا ل ت م ي ي ز ع ل ى أ س ا س ا جل ن س وره ا ب ا مل ث ل ي ة ‪،‬‬


‫يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة ‪ ،‬م ن ذ ‪ 1 9 8 7‬ح ىت ‪2 0 1 2‬‬
‫المصدر‪ .Pew Research Center 2012b :‬يشري السهم إىل أحدث السنوات املشار إليها يف دراسة ‪ Pinker 2011‬فيما خيص أسئلة‬
‫مشاهبة‪ :‬السود‪( 1997 ،‬الشكل رقم ‪ ،)7-7‬املرأة‪( 1995 ،‬الشكل رقم ‪ ،)11-7‬املثليني‪( 2009 ،‬الشكل رقم ‪.)24-7‬‬

‫إن كل جيل يكون‬ ‫وتوضح استطالعات الرأي األخرى نفس التحوالت‪ .‬مل يصبح الشعب األمريكي أكثر حترريةً فحسب‪ ،‬بل َّ‬ ‫ِّ‬
‫فإن األشخاص حيتفظون غالبًا بقيمهم عندما يكربون يف السن‪ ،‬لذا َّ‬
‫فإن أفراد جيل‬ ‫أكثر حترريةً من اجليل الذي يسبقه‪ .‬وكما سنرى َّ‬
‫األلفية (املولودين بعد عام ‪ )1980‬األقل تعصبًا من املتوسط على املستوى الوطين ينبؤوننا باالجتاه الذي ستسري فيه البالد‪.‬‬
‫اخنفاضا يف مستوى التقبل‬
‫ً‬ ‫اخنفاضا يف مستوى التعصب أم‬
‫ً‬ ‫قد يتساءل املرء بالطبع عما إذا كان الشكل رقم ‪ 1-15‬يعرض‬
‫اجملتمعي للتعصب‪ ،‬مع استعداد ٍ‬
‫عدد أقل من الناس لالعرتاف مبواقفهم املشينة يف استطالعات الرأي‪ .‬لطاملا طاردت هذه املشكلة علماء‬
‫مؤشرا للمواقف يُعد أقرب‬
‫ولكن االقتصادي سيث ستيفنز ديفيدويتز (‪ )Seth Stephens-Davidowitz‬اكتشف ً‬ ‫االجتماع‪َّ ،‬‬
‫ما توصلنا إليه لـ «مصل حقيقة» رقمي‪ ،‬إذ يسأل األشخاص جوجل عن كل ٍ‬
‫فضول أو مصدر قلق أو متعة سرية ميكنك ُتيله والكثري‬
‫مما ال ميكنك ُتيله يف خصوصية لوحات مفاتيحهم وشاشات حواسبهم (تشمل كلمات البحث الشائعة «كيفية زيادة حجم القضيب»‬
‫و«رائحة مهبلي مثل رائحة السمك»)‪ .‬جيمع جوجل البيانات الكبرية اخلاصة مبا يبحث عنه األشخاص خالل شهور خمتلفة ويف مناطق‬
‫أن عمليات البحث عن كلمة ‪( nigger‬زجني) (حبثًا‬ ‫خمتلفة (باستثناء هوية الباحثني)‪ ،‬وأدوات لتحليلها‪ .‬اكتشف ستيفنز ديفيدويتز َّ‬
‫نكات عنصرية على األغلب) ترتبط مبؤشرات أخرى على التعصب العرقي يف خمتلف املناطق‪ ،‬مثل إمجايل أصوات الناخبني اليت‬ ‫عن ٍ‬
‫أن عمليات البحث هذه‬ ‫ملرشح من احلزب الدميقراطي‪ ،‬ويقرتح ستيفنز َّ‬
‫حصدها باراك أوباما يف عام ‪ 2008‬اليت كانت أقل من املتوقع ٍ‬
‫مؤشرا خفيًّا على العنصرية السرية‪.‬‬
‫قد تستخدم ً‬
‫أيضا‪ .‬خالل‬‫سرا ً‬
‫لنستخدمها إذًا لتتبُّع االجتاهات احلديثة فيما يتعلق بالعنصرية‪ ،‬ولنتتبع التمييز على أساس اجلنس ورهاب املثلية ًّ‬
‫فرتة مراهقيت كانت النكات عن البولنديني األغبياء والسيدات اخلرقاوات واللُثغ* ومثليي اجلنس املتشبهني بالنساء شائعة يف التليفزيون‬
‫والرسوم اهلزلية يف الصحف‪َّ ،‬أما اليوم فهي أمر حمظور يف وسائل اإلعالم الرئيسية‪ .‬ولكن هل ما زالت النكات املتعصبة وسيلة ترفيه‬
‫أن األشخاص أصبحوا يشعرون جتاه هذه النكات باإلهانة أو الوصم أو امللل‬ ‫كثريا لدرجة َّ‬
‫أن املواقف اخلاصة تغريت ً‬ ‫خاصة سرية؟ أم َّ‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 2-15‬اإلجابة عن هذا السؤال‪.‬‬ ‫منها؟ ِّ‬
‫معدل تكرار البحث (النسبة المئوية ألكثر الشهور ً‬

‫النكات التي‬
‫تتسم بالتمييز‬
‫على أساس‬
‫الجنس‬

‫النكات العنصرية‬
‫بحثا)‬

‫النكات التي تتسم برهاب المثلية‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 2 - 1 5‬م ع د ل ا ل ب ح ث ع ل ى ا إل ن رتن ت ب ك ل م ا ت ت ت س م ب ا ل ع ن ص ري ة وا ل ت م ي ي ز ع ل ى‬
‫أ س ا س ا جل ن س وره ا ب ا مل ث ل ي ة ‪ ،‬يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة ‪ ،‬م ن ذ ‪ 2 0 0 4‬ح ىت ‪2 0 1 7‬‬
‫المصدر‪ :‬مؤشرات جوجل )‪ ،(www.google.com/trends‬البحث عن "‪( "nigger jokes‬نكات عن الزنوج) و"‪( "bitch jokes‬نكات‬
‫عن العاهرات) و"‪( "fag jokes‬نكات عن الشواذ)‪ ،‬يف الواليات املتحدة منذ ‪ 2004‬حىت ‪ ،2017‬بالنسبة لكم البحث اإلمجايل‪ .‬البيانات (اليت مت‬
‫لكل من عبارات البحث مث مت حساب‬ ‫مقسمة حسب الشهر‪ ،‬وموضَّحة يف صورة نسبة مئوية ألكثر الشهور حبثًا ٍ‬
‫احلصول عليها بتاريخ ‪ 22‬يوليو ‪َّ )2017‬‬
‫متوسطها من شهور كل عام‪ ،‬ومتهيدها‪.‬‬

‫خجال من االعرتاف بالتعصب ممَّا كانوا ساب ًقا فحسب‪ ،‬بل َّإهنم ال جيدونه ً‬
‫ممتعا‬ ‫تشري املنحنيات إىل َّ‬
‫أن األمريكيني ليسوا أكثر ً‬
‫يشجع على‪ -‬التعصب‪ ،‬تواصل‬ ‫أن صعود ترامب يعكس ‪-‬أو ِّ‬ ‫أيضا‪ ،‬وعلى عكس اخلوف من َّ‬
‫بنفس القدر يف مساحاهتم اخلاصة ً‬
‫ئيسا يف بداية ‪.2017‬‬
‫املنحنيات اخنفاضها خالل فرتة شهرته قبل االنتخابات يف عامي ‪ 2015‬و‪ 2016‬وفرتة تنصيبه ر ً‬

‫*األلثغ هو من يخطئ نطق حرفٍ أو أكثر فينطق السين ثا ًء على سبيل المثال‪- .‬المترجمة‪.‬‬
‫أن هذه املنحنيات على األرجح تقلِّل من قدر الرتاجع يف مستويات التعصب بسبب التغري يف هوية‬ ‫نبَّهين ستيفنز ديفيدويتز إىل َّ‬
‫من يبحث باستخدام حمرك جوجل‪ ،‬فعندما بدأت هذه السجالت يف عام ‪ ،2004‬كان أغلب مستخدمي جوجل من الشباب وسكان‬
‫املدن‪ ،‬إذ يتأخر كبار السن وسكان الريف غالبًا يف استخدام التكنولوجيا‪ ،‬وإذا كانوا هم من يبحثون باستخدام التعبريات املهينة أكثر‬
‫يسجل جوجل أعمار الباحثني‬ ‫التزمت‪ .‬ال ِّ‬‫سيضخم النسبة يف السنوات الالحقة وخيفي مدى الرتاجع يف مستويات ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫من غريهم‪ ،‬كان هذا‬
‫صبة‬‫أن عمليات البحث املتع ِّ‬ ‫ردا على استفساري‪َّ ،‬‬ ‫يسجل مواقعهم اجلغرافية‪َّ .‬‬
‫أكد ستيفنز ديفيدويتز‪ًّ ،‬‬ ‫أو مستوياهتم التعليمية‪ ،‬ولكنَّه ِّ‬
‫ميال‬
‫كانت ُجترى غالبًا من مناطق معظم سكاهنا من كبار السن وذوي املستويات التعليمية األقل‪ ،‬فمجتمعات املسنِّني املتقاعدين أكثر ً‬
‫ميال للبحث عن «نكات عن الشواذ» بثالثني ضع ًفا من بقية سكان البالد‬ ‫للبحث عن «نكات عن الزنوج» بسبعة أضعاف وأكثر ً‬
‫أن جوجل أدووردز ‪ Google AdWords‬ال يوفِّر بيانات عن «النكات عن العاهرات»)‪ .‬حصل ستيفنز ديفيدويتز‬ ‫(وأخربين ٍ‬
‫بأسف َّ‬
‫أيضا على كن ٍز من بيانات البحث اخلاصة بشركة ‪ AOL‬اليت تتبع عمليات البحث اليت جيريها األفراد (ولكنَّها ال تتبَّع هوياهتم بالطبع)‬ ‫ً‬
‫أن العنصريني رمبا يكونون فئةً مندثرة‪ ،‬فالشخص الذي يبحث عن كلمة "‪"nigger‬‬ ‫أكدت هذه املوضوعات َّ‬ ‫على عكس جوجل‪ ،‬و َّ‬
‫أيضا عن موضوعات أخرى حيب كبار السن البحث عنها مثل «الضمان االجتماعي» و«فرانك سيناترا»‪ .‬كان‬ ‫(زجني) يبحث غالبًا ً‬
‫االستثناء األساسي هو جمموعة ضئيلة من املراهقني الذين حبثوا عن مواقعة احليوانات وفيديوهات الذبح وقطع الرأس واملواد اإلباحية اليت‬
‫شباب‬
‫ٌ‬ ‫أطفاال‪ ،‬وأي شيء ال يفرتض أن يبحث املرء عنه‪ .‬ولكن فيما عدا هؤالء الشباب املتجاوزين للحدود (ولطاملا ُوجد‬ ‫تشمل ً‬
‫التعصب يف املساحات اخلاصة يرتاجع مبرور الوقت ويرتاجع مع الشباب‪ ،‬مما يعين أنَّنا ميكن أن نتوقع تراجعه أكثر عندما‬ ‫فإن ُّ‬ ‫كهؤالء)‪َّ ،‬‬
‫تعصبًا‪.‬‬ ‫تزمتون املسنُّون الساحة ٍ‬
‫لفئات أقل ُّ‬ ‫يرتك امل ِّ‬
‫رجال بيض باألساس)‬ ‫(وهم ٌ‬‫حىت حيني ذلك الوقت‪ ،‬رمبا لن حيرتم هؤالء األشخاص األكرب سنًّا وذوو املستويات التعليمية األقل ُ‬
‫احلظر املفروض على العنصرية والتمييز على أساس اجلنس ورهاب املثلية‪ ،‬وهي األمور اليت أصبح حظرها من طبيعة التيار السائد‪ ،‬بل‬
‫بعضا على اإلنرتنت واالحتاد وراء زعي ٍم‬
‫ورمبا يهزؤون منها بوصفها «لباقة سياسية»‪ .‬يستطيع هؤالء األشخاص اليوم لقاء بعضهم ً‬
‫دول أوروبية أخرى على حن ٍو أفضل‬‫دمياغوجي‪ .‬وكما سنرى يف الفصل العشرين‪ ،‬ميكننا فهم جناح ترامب وجناح الشعبويني اليمينيني يف ٍ‬
‫بدال من أن ننظر إليه بوصفه‬
‫حشدا جملموعة دميوغرافية خاسرة ومتناقصة يف ظل مشهد سياسي يتسم باالستقطاب‪ً ،‬‬ ‫إذا نظرنا إليه بوصفه ً‬
‫انقالبا مفاجئًا للحركة اليت تطالب منذ ٍ‬
‫قرن باملساواة يف احلقوق‪.‬‬ ‫ً‬

‫أيضا يف البيانات اخلاصة‬ ‫ال يظهر التقدُّم يف املساواة يف احلقوق يف نقاط التحول السياسية البارزة ومؤشرات اآلراء فحسب‪َّ ،‬‬
‫وإمنا يظهر ً‬
‫حبياة األشخاص‪ ،‬إذ اخنفض معدل الفقر بني األمريكيني من أصل إفريقي من ‪ 55‬يف املئة يف عام ‪ 1960‬إىل ‪ 27.6‬يف املئة يف عام‬
‫‪ ،2011‬وارتفع متوسط العمر املتوقع من ‪ 33‬سنة يف عام ‪( 1900‬أقل من متوسط العمر املتوقع للبيض بـ ‪ 17.6‬سنة) إىل ‪75.6‬‬
‫سنة يف عام ‪( 2015‬أقل من متوسط العمر املتوقع للبيض بأقل من ‪ 3‬سنوات)‪ ،‬فاألمريكيون من أصل إفريقي الذين يبلغون عمر‬
‫السادسة واخلمسني ما تزال أمامهم سنوات أطول من أقراهنم من البيض‪ .‬اخنفض معدل األمية بني األمريكيني من أصل إفريقي من ‪45‬‬
‫يف املئة يف عام ‪ 1900‬إىل صفر يف املئة تقريبًا اليوم‪ .‬والفجوة العرقية بني األطفال يف االستعداد لاللتحاق باملدارس يف انكماش‪ ،‬كما‬
‫سنرى يف الفصل التايل‪ ،‬وكذلك الفجوة العرقية يف السعادة كما سنرى يف الفصل الثامن عشر‪.‬‬
‫هائال يف القرن العشرين بعد أن كان حدثًا عاديًّا يف‬‫اخنفاضا ً‬
‫ً‬ ‫اخنفض العنف العنصري الواقع على األمريكيني من أصل إفريقي‬
‫املدامهات الليلية وحاالت اإلعدام دون حماكمة (وكانت حتدث ثالث مرات أسبوعيًّا يف مطلع القرن العشرين)‪ ،‬مث اخنفضت أكثر منذ‬
‫يوضح الشكل رقم ‪( 3-15‬مل ي ُكن من بني هذه‬ ‫بدأ مكتب التحقيقات الفيدرايل يدمج يف تقاريره جرائم الكراهية يف عام ‪ 1996‬كما ِّ‬
‫اجلرائم جرائم قتل سوى حفنة قليلة‪ ،‬مثل جرمية قتل واحدة أو ال جرائم قتل على اإلطالق يف معظم األعوام)‪ .‬ال ميكن لوم ترامب على‬
‫الزيادة البسيطة اليت حدثت يف عام ‪( 2015‬آخر السنوات املتاح عنها بيانات)‪ ،‬مبا َّأهنا موازية للزيادة يف جرائم العنف يف ذلك العام‬
‫أن جرائم الكراهية تعرب عن معدالت اخلروج على القانون أكثر مما تعرب عن تصرحيات السياسيني‪.‬‬ ‫(انظر الشكل رقم ‪ ،)2-12‬إضافةً إىل َّ‬

‫ضد السود‬
‫عدد جرائم الكراهية‬

‫ضد اليهود‬

‫ضد اآلسيويين‬ ‫ضد البيض‬

‫ضد المسلمين‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 3 - 1 5‬ج را ئ م ا ل ك را ه ي ة يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة م ن ذ ‪ 1 9 9 6‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫المصدر‪ :‬مكتب التحقيقات الفيدرايل (‪ .)Federal Bureau of Investigation 2016b‬يشري السهم إىل سنة ‪ ،2008‬وهي آخر سنة موضحة‬
‫يف الشكل رقم ‪ 4-7‬من دراسة ‪.Pinker 2011‬‬

‫بأن اإلسالموفوبيا‬ ‫أن جرائم الكراهية ضد اآلسيويني واليهود والبيض قد قلَّت ً‬


‫أيضا‪ ،‬ورغم االدعاءات َّ‬ ‫يوضح الشكل رقم ‪َّ 3-15‬‬ ‫ِّ‬
‫كثريا باستثناء االرتفاع الذي حدث مرة واحدة‬
‫يتغري ً‬ ‫كثريا يف أمريكا‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن معدل جرائم الكراهية اليت تستهدف املسلمني مل َّ‬ ‫قد انتشرت ً‬
‫بعد أحداث احلادي عشر من سبتمرب والزيادات اليت تلت اهلجمات اإلرهابية اإلسالمية األخرى مثل اهلجمات اليت وقعت يف باريس‬
‫وسان برناردينو يف عام ‪ .2015‬حىت حلظة كتابة هذا الكتاب مل ت ُكن بيانات مكتب التحقيقات الفيدرايل لعام ‪ 2016‬متاحة‪ ،‬لذا‬
‫سابق ألوانه‪ .‬تأيت هذه االدعاءات من‬
‫فإن قبول االدعاءات واسعة االنتشار بظهور طفرة «ترامبية» من جرائم الكراهية يف ذلك العام ٌ‬ ‫َّ‬
‫منظمات املناصرة اليت يعتمد متويلها على اختالق اخلوف وليست مجاعات مراقبة ورصد ال مصلحة هلا يف هذه االدعاءات‪ ،‬وكانت‬
‫كثري منها انفعاالت فظة وليست جرائم فعلية‪ .‬إذًا ففيما عدا التغريات البسيطة املرتبطة‬
‫خدعا ساخرة وكان ٌ‬
‫بعض احلوادث اليت وقعت ً‬
‫باجلرائم وبفرتات ما بعد احلوادث اإلرهابية‪ ،‬فإن مستويات جرائم الكراهية تتجه إىل أسفل‪.‬‬
‫أيضا‪ .‬يف طفوليت‪ ،‬مل ت ُكن النساء األمريكيات يف معظم الواليات تستطيع أخذ ٍ‬
‫قرض أو حيازة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫إن وضع النساء يف اجتاه صاعد ً‬
‫بطاقة ائتمان بأمسائهن‪ ،‬وكان عليهن البحث عن الوظائف يف قس ٍم خمصص لإلناث من اإلعالنات املبوبة‪ ،‬ومل ي ُكن باستطاعتهن توجيه‬
‫اهتامات رمسية ألزواجهن باالغتصاب‪َّ .‬أما اليوم ِّ‬
‫فتشكل السيدات ‪ 47‬يف املئة من القوة العاملة وأغلبية طالب اجلامعات‪ .‬أفضل طريقة‬
‫لقياس مستويات العنف ضد املرأة هي الدراسات االستقصائية لضحايا اإليذاء‪َّ ،‬‬
‫ألهنا تتحايل على مشكلة قلة تبليغ الشرطة باجلرائم‪،‬‬
‫عقود ووصلت اآلن إىل ُربع مستوى‬‫اخنفاض منذ ٍ‬
‫ٍ‬ ‫أن معدالت االغتصاب والعنف ضد الزوجات واحلبيبات يف‬ ‫وتوضح هذه األدوات َّ‬
‫ِّ‬
‫تشجعنا حقيقة َّ‬
‫أن زيادة‬ ‫بعدد كبري‪ ،‬ولكن ينبغي أن ِّ‬ ‫ذروهتا يف املاضي أو أقل (الشكل رقم ‪ .)4-15‬ما زالت هذه اجلرائم حتدث ٍ‬
‫وإمنا َّأدت إىل تقدم ملموس ميكن قياسه‪ ،‬مما يعين أن مواصلة هذا‬ ‫االهتمام بقضية العنف ضد املرأة ليست جمرد وعظ أخالقي أجوف َّ‬
‫االهتمام قد يؤدي إىل تقدم أكرب‪.‬‬

‫العنف ضد الزوجات والحبيبات‬


‫الضحايا لكل ‪ 100‬ألف امرأة سنو ًّيا‬

‫االغتصاب واالعتداء الجنسي‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 4 - 1 5‬ا ال غ ت ص ا ب وا ل ع ن ف ا أل س ري يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة م ن ذ ‪ 1 9 9 3‬ح ىت ‪2 0 1 4‬‬


‫المصدر‪ :‬مكتب إحصاءات وزارة العدل األمريكية‪ ،‬الدراسة االستقصائية الوطنية لضحايا اجلرائم ‪(National Crime Victimization‬‬
‫)‪ ،Survey‬أداة حتليل اإليذاء‪ ،http://www.bjs.gov/index.cfm?ty=nvat ،‬وبيانات إضافية قدَّمتها جينيفر ترومان ( ‪Jennifer‬‬
‫‪ )Truman‬من مكتب إحصاءات وزارة العدل‪ .‬ميثِّل اخلط الرمادي «العنف من الشريك احلميم» الذي وقعت ضحاياه اإلناث‪ .‬يشري السهم إىل عام‬
‫‪ ،2005‬وهو آخر عام موضَّح يف الشكل رقم ‪ ،13-7‬و‪ ،2008‬وهو آخر عام موضَّح يف الشكل رقم ‪ ،10-7‬من دراسة ‪.Pinker 2011‬‬

‫ولكن التآكل التارخيي للعنصرية والتمييز على أساس اجلنس ورهاب املثلية أكثر من‬
‫ال توجد أي صورة حتمية من صور التقدم‪َّ ،‬‬
‫جمرد تغي ٍري يف األسلوب‪ ،‬بل يبدو أنَّه حدث بقوة دفع تيار احلداثة كما سنرى‪ .‬خيتلط األشخاص يف اجملتمع العاملي بأنو ٍاع أخرى من‬
‫الناس ويعملون معهم وجيدون أنفسهم يف مر ٍ‬
‫كب واحد معهم‪ ،‬وجيعلهم هذا غالبًا أكثر تعاط ًفا معهم‪ .‬وعندما يكون الناس مضطرين إىل‬
‫بدال من التسلُّط عليهم بدافع اجلمود الغريزي أو الديين أو التارخيي‪ ،‬فإن أي تربير سينهار بعد التدقيق‬
‫تربير طريقة تعاملهم مع اآلخرين ً‬
‫فيه‪ .‬يتعذر حقًّا تربير الفصل العنصري وقصر حق التصويت على الرجال وجترمي املثلية اجلنسية‪ ،‬فقد حاول الناس الدفاع عن هذه األمور‬
‫يف العصور اليت حدثت فيها‪ ،‬وفشلوا‪.‬‬
‫تستطيع هذه القوى االنتصار على املدى البعيد حىت على االنتكاسة الشعبوية‪ .‬يعطينا الزخم العاملي الدافع حنو إلغاء عقوبة اإلعدام‬
‫درسا يف الطرق غري املرتبة اليت حيدث هبا التقدم‪ ،‬فاألفكار غري العملية‬
‫(الفصل الرابع عشر)‪ ،‬رغم جاذبيتها القدمية على املستوى الشعيب‪ً ،‬‬
‫أو اليت يتعذر تربيرها تفشل يف مسريهتا‪ ،‬وُترج عن نطاق اخليارات احملتملة حىت لدى من يظنون َّأهنم ِّ‬
‫يفكرون يف املستحيل‪ ،‬ويتقدَّم‬
‫رغما عن أنوفهم‪ .‬ولذا فإنَّه حىت يف ظل أكثر احلركات السياسية رجعيةً يف تاريخ أمريكا احلديث‪ ،‬مل جند‬ ‫املتطِّرفون السياسيون لألمام ً‬
‫دعوات إلعادة تطبيق قوانني جيم كرو أو إلغاء حق النساء يف التصويت أو إعادة جترمي املثلية اجلنسية‪.‬‬

‫وإمنا يف مجيع أحناء العامل‪ .‬كان لدى نصف دول العامل تقريبًا يف عام ‪1950‬‬ ‫التعصب اإلثين والعرقي يف تراج ٍع‪ ،‬ليس يف الغرب فقط َّ‬
‫إن ُّ‬ ‫َّ‬
‫قوانني متييزية ضد األقليات اإلثنية أو العرقية (مبا يشمل بالطبع الواليات املتحدة)‪ ،‬ولكن يف عام ‪ 2003‬كان لدى أقل من ُمخس الدول‬
‫قوانني كهذه‪ ،‬وغلبتها عدداً الدول ذات سياسات اإلجراءات اإلجيابية اليت تدعم األقليات احملرومة من حقوقها‪ .‬وجد استطالع ضخم‬
‫أجرته منظمة الرأي العام العاملي (‪ )World Public Opinion‬على إحدى وعشرين دولة متقدمة ونامية أنَّه يف كل دولة‪ ،‬يقول‬
‫أغلبية املشاركني (حوايل ‪ 90‬يف املئة منهم) إنَّه من املهم التعامل مع األشخاص الذين ينتمون إىل أعراق وإثنيات وأديان خمتلفة على قدم‬
‫أن الدول غري الغربية هي األقل‬‫املساواة‪ .‬على الرغم من جلد الذات املعتاد الذي ميارسه املثقفون الغربيون فيما خيص العنصرية الغربية‪َّ ،‬إال َّ‬
‫تساحمًا‪ ،‬ولكن حىت يف اهلند‪ ،‬الدولة اليت تقع يف أدىن القائمة‪ ،‬أيَّد ‪ 59‬يف املئة من املشاركني املساواة العرقية‪ ،‬وأيَّد ‪ 76‬يف املئة منهم‬
‫املساواة الدينية‪.‬‬
‫دولة واحدة هي‬‫وهذا التقدُّم عاملي أيضا فيما خيص حقوق املرأة‪ ،‬فلم ي ُكن حيق للنساء التصويت يف عام ‪ 1900‬سوى يف ٍ‬
‫ً‬
‫نيوزيلندا‪َّ ،‬أما اليوم فيحق هلن التصويت يف كل دولة حيق للرجال التصويت فيها عدا دولة واحدة هي مدينة الفاتيكان‪ِّ .‬‬
‫تشكل النساء‬
‫‪ 72‬يف املئة من القوة العاملة على مستوى العامل وأكثر من ُمخس أعضاء الربملانات الوطنية‪ .‬وجد كلٌّ من منظمة الرأي العام العاملي‬
‫ومشروع بيو للمواقف العاملية َّ‬
‫أن أكثر من ‪ 85‬يف املئة من املشاركني يف استطالعاهتم يؤمنون باملساواة الكاملة بني الرجال والنساء‪،‬‬
‫وترتاوح املعدالت بني ‪ 60‬يف املئة يف اهلند و‪ 88‬يف املئة يف ست دول ذات أغلبية مسلمة و‪ 98‬يف املئة يف املكسيك واململكة املتحدة‪.‬‬
‫تبنَّت اجلمعية العامة لألمم املتحدة يف عام ‪ 1993‬إعالنًا بشأن القضاء على العنف ضد املرأة‪ ،‬ومنذ ذلك احلني‪ ،‬طبَّقت معظم‬
‫الدول قوانني ومحالت توعية للحد من االغتصاب والزواج القسري وزواج األطفال وتشويه األعضاء التناسلية وجرائم الشرف والعنف‬
‫أن بعض هذه املقاييس ضعيفة‪َّ ،‬إال َّأهنا تدعو إىل التفاؤل على املدى البعيد‪ .‬إذ َّأدت‬
‫األسري واألعمال الوحشية يف ظل احلروب‪ ،‬ورغم َّ‬
‫محالت اإلدانة العاملية ‪-‬حىت اليت بدأت كمجرد آمال حبتة‪ -‬يف املاضي إىل اخنفاضات هائلة يف مستويات العبودية واملبارزة وصيد احليتان‬
‫وحتجيم األقدام والقرصنة والقرصنة التفويضية واحلروب الكيميائية والتفرقة العنصرية والتجارب النووية يف الغالف اجلوي‪ .‬وتشويه األعضاء‬
‫أن بعض الناس ما زالوا ميارسونه يف تسع وعشرين دولة إفريقية (إضافةً إىل إندونيسيا والعراق‬ ‫مثال على ذلك‪ ،‬فرغم َّ‬
‫التناسلية لإلناث ٌ‬
‫واهلند وباكستان واليمن)‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن أغلبية الرجال والنساء يف تلك الدول يؤمنون بضرورة وقفه‪ ،‬واخنفضت معدالت ممارسته خالل الثالثني‬
‫عاما املاضية مبقدار الثُلث‪ .‬أيَّد الربملان اإلفريقي الذي يتعاون مع صندوق األمم املتحدة للسكان حظر هذه املمارسة‪ ،‬إضافةً إىل زواج‬
‫ً‬
‫األطفال‪ ،‬يف عام ‪.2016‬‬

‫وحقوق املثليني من األفكار األخرى اليت حان وقتها‪ .‬كانت املمارسات اجلنسية املثلية جرمية يف كل دول العامل تقريبًا‪ ،‬مث صاغ كلٌّ‬
‫شخص آخر يف عصر التنوير‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫إن أي سلوك بني شخصني بالغني بالرتاضي ال خيص أي‬ ‫من مونتسكيو وفولتري وبنتام أول حجة تقول َّ‬
‫دول قليلة متناثرة جترمي املثلية اجلنسية‪ ،‬وازداد عدد هذه الدول مع ثورة حقوق املثليني يف سبعينيات القرن‬‫وبعد ذلك بفرتةٍ قصرية‪ ،‬أهنت ٌ‬
‫أن املثلية اجلنسية ما زالت تُعد جرميةً يف أكثر من سبعني دولة (وجرمية يُعاقب عليها باإلعدام يف إحدى عشرة دولة‬ ‫املاضي‪ .‬رغم َّ‬
‫أن االجتاه العاملي يواصل مساره حنو التحرير‪ ،‬بتشجيع األمم‬ ‫إسالمية)‪ ،‬ورغم الرتاجع الذي حدث يف روسيا وعدة دول إفريقية‪َّ ،‬إال َّ‬
‫ويوضح الشكل رقم ‪ 5-15‬اخلط الزمين‪ ،‬فخالل السنوات الستة املاضية‪ ،‬أسقطت مثاين دول‬ ‫املتحدة ومنظمات حقوق اإلنسان كافة‪ِّ .‬‬
‫إضافية املثلية اجلنسية من قوانينها اجلنائية‪.‬‬
‫عدد الدول التي أنهت تجريم المثلية الجنسية‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 5 - 1 5‬إ هن ا ء جت رمي ا مل ث ل ي ة ا جل ن س ي ة م ن ذ ‪ 1 7 9 1‬ح ىت ‪2 0 1 6‬‬


‫المصدر‪ .Ottosson 2006, 2009 :‬حصلت على التواريخ اخلاصة بستة عشر دولة أخرى من «حقوق املثليني حسب الدولة أو اإلقليم»‪ ،‬ويكيبيديا‪،‬‬
‫أي من املصدرين التواريخ اخلاصة بستة وثالثني دولة أخرى تسمح حاليًا باملثلية اجلنسية‪ .‬يشري السهم إىل سنة ‪،2009‬‬
‫بتاريخ ‪ 31‬يوليو ‪ .2016‬مل يُدرج ٌّ‬
‫موضحة يف الشكل رقم ‪ 23-7‬من دراسة ‪.Pinker 2011‬‬ ‫وهي آخر سنة َّ‬

‫قد يبدو التقدم العاملي املناهض للعنصرية والتمييز على أساس اجلنس ورهاب املثلية‪ ،‬حىت بتعثُّره وانتكاساته‪ ،‬وكأنَّه اكتساح شامل‪ .‬اقتبس‬
‫مارتن لوثر كينج يف إحدى املرات الصورة اليت رمسها املؤيد إللغاء العنصرية ثيودور باركر ٍ‬
‫لقوس ينحين باجتاه العدالة‪ ،‬واعرتف باركر بأنَّه‬
‫مل ِ‬
‫يستطع رؤية القوس بأكمله ولكنَّه يتنبأ به بوجدانه‪ .‬هل هناك طريقة أكثر موضوعية ملعرفة ما إذا كان هناك قوس تارخيي ينحين باجتاه‬
‫العدالة؟ وإن كان هناك بالفعل قوس كهذا‪ ،‬فما الذي حينيه؟‬
‫يُقدِّم لنا مسح القيم العاملية ‪-‬الذي استطلع آراء ‪ 150‬ألف شخص يف أكثر من مخس وتسعني دولة تشمل ‪ 90‬يف املئة تقريبًا‬
‫من سكان العامل على مدار عدة عقود‪ -‬حملةً عن القوس األخالقي‪ .‬اقرتح عامل السياسة كريستيان ويلزيل (تكملةً لتعاونه مع رون‬
‫أن تكون عملية التحديث قد حفَّزت ظهور «القيم‬ ‫إجنلهارت وبيبا نوريس وغريمها) يف كتابه شروق احلرية )‪َّ (Freedom Rising‬‬
‫التحررية»‪ ،‬فمع حتول اجملتمعات من كوهنا زراعية إىل صناعية مث إىل معلوماتية‪ ،‬يصبح مواطنوها أقل قل ًقا بشأن صد األعداء واملخاطر‬
‫ويوجهها حنو حر ٍية أكرب ألنفسهم‬
‫يغري هذا من قيمهم ِّ‬ ‫الوجودية األخرى وأكثر تله ًفا للتعبري عن مبادئهم والبحث عن فرصهم يف احلياة‪ِّ .‬‬
‫ولغريهم‪ .‬يتَّسق هذا التحول مع نظرية عامل النفس أبراهام ماسلو (‪ )Abraham Maslow‬اخلاصة بالتسلسل اهلرمي لالحتياجات‪،‬‬
‫أوال مث األخالق»)‪ .‬يبدأ الناس يف‬
‫وهي تتدرج من البقاء واألمان إىل االنتماء‪ ،‬والتقدير‪ ،‬وحتقيق الذات (ومع تعبري برخيت‪« :‬الطعام ً‬
‫إعطاء األولوية للحرية على األمن‪ ،‬وللتنوع على التماثل‪ ،‬ولالستقاللية على السلطة‪ ،‬ولإلبداع على االنضباط‪ ،‬وللفردانية على االمتثال‬
‫أيضا القيم الليربالية‪ ،‬باملعىن التقليدي املرتبط بـ «احلرية» (‪ )liberty‬و«التحرير» (‪)liberation‬‬
‫للمعايري‪ .‬يُطلق على القيم التحررية ً‬
‫(وليس املعىن املرتبط باليسار السياسي)‪.‬‬
‫جمموعة من موضوعات‬‫ٍ‬ ‫أن اإلجابات عن‬ ‫استنبط ويلزيل طريقةً لتقييم االلتزام بالقيم التحررية برق ٍم واحد‪ ،‬بناءً على اكتشافه َّ‬
‫االستطالع ترتبط بعضها ببعض على األرجح لدى خمتلف األشخاص والدول واملناطق ذات التاريخ والثقافة املشرتكني‪ .‬تشمل هذه‬
‫املوضوعات املساواة بني اجلنسني (ما إذا كان األشخاص يشعرون بأنَّه ال بد أن يكون للنساء حق متكافئ يف الوظائف والقياد السياسية‬
‫بأن الطالق واملثلية اجلنسية واإلجهاض خيارات هلا مربر أم ال)‬ ‫والتعليم اجلامعي أم ال) واخليارات الشخصية (ما إذا كانوا يشعرون َّ‬
‫والصوت السياسي (ما إذا كانوا يعتقدون أنَّه ال بد أن تُكفل لألشخاص حرية التعبري والرأي يف احلكومة واجملتمعات احمللية وأماكن العمل‬
‫أم ال) وفلسفة تنشئة األطفال (ما إذا كانوا يشعرون بضرورة تشجيع األطفال على أن يكونوا مطيعني أم مستقلني ومبدعني)‪ .‬والرتابط‬
‫يفرق بني األشخاص الذين يتفقون على كث ٍري من املوضوعات‬ ‫بني هذه املوضوعات أبعد ما يكون عن املثالية ‪-‬فاإلجهاض باألخص ِّ‬
‫األخرى‪ -‬ولكنَّها جتتمع سويًّا غالبا‪ ،‬وتتنبأ سويًّا بالكثري من األمور يف ٍ‬
‫دولة ما‪.‬‬ ‫ً‬
‫أن مرور الوقت ال يقتصر على قلب صفحات الرزنامة‪ ،‬إذ كلما مر‬ ‫قبل أن ننظر إىل التغريات التارخيية يف القيم‪ ،‬علينا أن َّ‬
‫نتذكر َّ‬
‫جيل جديد‪ .‬إذًا فأي تغيري علماين (تارخيي أو طويل األمد) يف السلوك‬ ‫كرب األشخاص سنًّا‪ ،‬مث ميوتون يف النهاية وحيل حملهم ٌ‬ ‫الوقت‪ُ ،‬‬
‫البشري قد حيدث لثالثة أسباب‪ ،‬فقد يكون هذا االجتاه نتيجة أثر الفرتة‪ :‬كتغيري يف الزمن أو روح العصر أو املزاج الوطين الذي يرتقي‬
‫بكل مناحي احلياة أو يتسبب يف احندارها‪ .‬وقد يكون نتيجة السن (أو دورة احلياة)‪ :‬فاإلنسان يتغري عندما ينتقل من مرحلة الرضيع‬
‫أن معدل املواليد يف أي دولة يتعرض‬‫مثال وهكذا‪ .‬ومبا َّ‬
‫املتذمر مث إىل العاشق املتنهد مث إىل القاضي ذي البطن املمتلئة ً‬
‫الباكي إىل الطالب ِّ‬
‫تغري نسبة الشباب واألفراد يف منتصف العمر واملسنِّني‪ ،‬حىت لو‬ ‫سيتغري تلقائيًّا مع ُّ‬
‫فإن متوسط عدد السكان َّ‬ ‫ملراحل ارتفاع واخنفاض‪َّ ،‬‬
‫أخريا‪ ،‬قد يكون االجتاه نتيجة الفئة العمري (أو اجليل)‪ :‬فاألشخاص املولودون يف فرتةٍ معينة رمبا‬
‫سن ثابتة‪ .‬و ً‬ ‫كانت القيم السائدة يف كل ٍّ‬
‫املتغري من الفئات العمرية مع خروج اجليل من املرحلة ودخول‬ ‫تُطبع عليهم مسات تصحبهم طوال حياهتم‪ ،‬وسيعكس املتوسط املزيج ِّ‬
‫تكرب‬
‫متاما‪ ،‬ألنَّه مع انتقال كل فرتة إىل الفرتة التالية‪ُ ،‬‬
‫اجليل التايل فيها‪ .‬من املستحيل فصل آثار السن والفرتة والفئة العمرية عن بعض ً‬
‫كل فئة عمرية سنًّا‪ ،‬ولكن ميكننا استنباط أنواع التغيري الثالث منطقيًّا بقياس إحدى السمات لدى السكان يف فرتات متعددة وفصل‬
‫البيانات اخلاصة بالفئات العمرية املختلفة يف كل فرتة‪.‬‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 6-15‬مسار القيم‬ ‫تقدما كدول أمريكا الشمالية وغرب أوروبا واليابان‪ِّ .‬‬
‫أوال إىل تاريخ الدول األكثر ً‬
‫لننظر ً‬
‫عاما ومخسة‬ ‫ٍ‬ ‫التحررية على مدار ٍ‬
‫أشخاص بالغني (ترتاوح أعمارهم بني مثانية عشر ً‬ ‫قرن‪ ،‬فهو يرسم البيانات اليت مجعتها استطالعات آراء‬
‫عاما) على فرتتني (‪ 1980‬و‪ )2005‬واليت متثِّل فئات عمرية مولودة بني عامي ‪1895‬و‪( 1980‬تنقسم الفئات العمرية‬ ‫ومثانني ً‬
‫لألمريكيني عاد ًة إىل جيل ‪ GI‬أو اجليل األعظم املولود بني عامي ‪ 1900‬و‪ ،1924‬واجليل الصامت املولود بني عامي ‪1925‬‬
‫و‪ ،1945‬وجيل طفرة املواليد املولود بني عامي ‪ 1946‬و‪ ،1964‬واجليل إكس املولود بني عامي ‪ 1965‬و‪ ،1979‬وجيل األلفية‬
‫املولود بني عامي ‪ 1980‬و‪ .)2000‬الفئات العمرية مرتبة على طول احملور األفقي حسب سنة امليالد‪ ،‬وكلٌّ من العامني اللذين أجري‬
‫وصوال إىل أفراد‬
‫فيهما استطالع الرأي موضَّح بالرسم على اخلط (البيانات من عام ‪ 2011‬إىل ‪- 2014‬واليت متتد على نفس الشاكلة ً‬
‫جيل األلفية املولودين يف عام ‪ -1996‬مشاهبة لبيانات عام ‪.)2005‬‬

‫كان أفراد جيل طفرة المواليد‬


‫أكثر تحررً ا من الجيل‬
‫الصامت في عام ‪2005‬‬ ‫أجري االستطالع عام‬
‫‪2005‬‬

‫من تتراوح أعمارهم بين‬


‫مؤشر القيم التحررية‬

‫‪ 40‬و‪ 50‬عامًا‬
‫أصبح الجيل الصامت‬
‫أكثر تحررً ا بين عامي‬
‫أجري االستطالع عام‬
‫‪ 1980‬و‪2005‬‬
‫‪1980‬‬

‫من تتراوح أعمارهم بين‬


‫‪ 40‬و‪ 50‬عامًا‬

‫الجيل‬ ‫جيل طفرة‬


‫الجيل األعظم‬ ‫الصامت‬ ‫المواليد‬ ‫الجيل إكس‬ ‫جيل األلفية‬

‫سنة الميالد‬
‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 6 - 1 5‬ا ل ق ي م ا ل ل ي ربا ل ي ة ع رب ا ل زم ن وا أل ج ي ا ل ‪ ،‬يف ا ل ب ل د ا ن ا مل ت ق د م ة م ن ذ ‪1 9 8 0‬‬
‫ح ىت ‪2 0 0 5‬‬
‫المصدر‪ .Welzel 2013, fig. 4.1 :‬بيانات مسح القيم العاملية من أسرتاليا وكندا وفرنسا وأملانيا الغربية وإيطاليا واليابان وهولندا والنرويج والسويد‬
‫واململكة املتحدة والواليات املتحدة (كل دولة موزونة بقد ٍر متسا ٍو)‪.‬‬

‫نادرا ما نقدِّره يف وسط ضجيج اجلداالت السياسية‪ ،‬فرغم كل احلديث عن االنتكاسات اليمينية‬ ‫اجتاها تارخييًّا ً‬
‫يعرض الرسم ً‬
‫حترًرا بوترية ثابتة (وهو أحد أسباب غضب هؤالء الرجال‪ ،‬كما سنرى الح ًقا)‪.‬‬ ‫والرجال البيض الغاضبني‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن قيم الدول الغربية تزداد ُّ‬
‫حترًرا‬ ‫يوضح َّ‬
‫أن اجلميع ازداد ُّ‬ ‫اخلط الذي ميثِّل نتائج استطالع عام ‪ 2005‬أعلى من ذلك الذي ميثِّل نتائج استطالع عام ‪( 1980‬ممَّا ِّ‬
‫حترًرا من األجيال األكرب)‪،‬‬
‫أن األجيال األصغر يف الفرتتني كانا أكثر ُّ‬ ‫مبرور الوقت) وارتفع املنحنيان كلَّما اجتها إىل اليمني (ممَّا ِّ‬
‫يوضح َّ‬
‫عاما وكل مرحلة‬‫لكل من املنحنيني على مدار اخلمسة وعشرين ً‬ ‫كبريا‪ ،‬إذ بلغ حوايل ثالثة أرباع االحنراف املعياري ٍّ‬
‫وكان هذا االرتفاع ً‬
‫أيضا‪ ،‬إذ أوضح استطالع رأي أجرته شركة إبسوس عام ‪2016‬‬ ‫عاما (وال يلقى هذا االرتفاع التقدير الكايف ً‬ ‫جيلية مدهتا مخسة وعشرين ً‬
‫أن الناس يف كل دولة متقدمة تقريبًا يظنون َّ‬
‫أن املواطنني اآلخرين مييلون أكثر منهم إىل التحفُّظ االجتماعي)‪ .‬يعرض الرسم البياين اكتشافًا‬ ‫َّ‬
‫املتحررين إىل التحفُّظ كلما تقدَّم هبم العمر‪ .‬إذ لو كان هذا‬
‫أن التحررية ال تعكس ارتداد جمموعة متزايدة من الشباب ِّ‬ ‫حرجا وهو َّ‬
‫ً‬
‫بدال من أن يكون أحدمها أعلى من اآلخر‪ ،‬والخرتق املنحىن الذي ميثِّل عام ‪ٌّ 2005‬‬
‫خط رأسي ميثِّل فئة‬ ‫صحيحا‪ ،‬لرتافق املنحنيان ً‬
‫ً‬
‫حترًرا‪ .‬فالشباب‬
‫بدال من القيمة الكبرية اليت نراها واليت تعكس روح العصر األكثر ُّ‬
‫عاكسا التحفُّظ لدى كبار السن ً‬
‫عمرية ما بقيمة أدىن ً‬
‫التحررية مع تقدُّمهم يف السن‪ ،‬وسنعود إىل هذا االكتشاف عندما نتأ َّمل يف مستقبل التقدم يف الفصل العشرين‪.‬‬
‫حيتفظون بقيمهم ُّ‬
‫التحررية املوضَّحة يف الشكل رقم ‪ 6-15‬من السكان املرفهني يف الدول الغربية اليت ُتطت احلقبة الصناعية والذين‬ ‫تأيت االجتاهات ُّ‬
‫اخلمس وتسعني دولة املشمولة‬
‫َ‬ ‫يقودون سيارات الربيوس وحيتسون الشاي ويتناولون الطعام الصحي‪ ،‬فماذا عن بقية البشر؟ مجع ويلزيل‬
‫أيضا غياب أثر دورة احلياة لقياس القيم‬
‫يخ وثقافات مشرتكة‪ ،‬واستغل ً‬ ‫كل منها تار ٌ‬
‫يف مسح القيم العاملية يف عشر مناطق جيمع بني ٍّ‬
‫التحررية يف‬
‫عاما من ُّ‬‫عاما يف عام ‪ ،2000‬مع تعديلها ملراعاة آثار أربعني ً‬ ‫شخصا كان يبلغ ستني ً‬ ‫ً‬ ‫التحررية بأث ٍر رجعي‪ ،‬فالقيم اليت متثِّل‬
‫ُّ‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 7-15‬اجتاهات القيم‬ ‫عاما يف عام ‪ِّ .1960‬‬ ‫شخصا يبلغ عشرين ً‬‫ً‬ ‫معقوال للقيم اليت متثِّل‬
‫تقديرا ً‬‫بلده بأكمله‪ ،‬متنحنا ً‬
‫املتغرية يف كل ٍ‬
‫بلد (مثل الطفرة الواضحة‬ ‫عاما تقريبًا‪ ،‬وجيمع بني آثار روح العصر ِّ‬‫الليربالية يف مناطق خمتلفة من العامل على مدار مخسني ً‬
‫املتغرية (االرتفاع يف كل منحىن)‪.‬‬
‫بني املنحنيني يف الشكل رقم ‪ )6-15‬والفئات العمرية ِّ‬
‫مؤشر القيم التحررية‬
‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 7 - 1 5‬ا ل ق ي م ا ل ل ي ربا ل ي ة ع رب ا ل زم ن ( ب ا ل ق ي ا س ) ‪ ،‬يف خم ت ل ف ا مل ن ا ط ق ا ل ث ق ا ف ي ة يف ا ل ع ا مل‬
‫م ن ذ ‪ 1 9 6 0‬ح ىت ‪2 0 0 6‬‬
‫المصدر‪ :‬مسح القيم العاملية‪ ،‬كما حلله ويلزيل يف دراسته ‪ ،Welzel 2013, fig. 4-4‬بعد حتديثه بالبيانات اليت قدَّمها ويلزيل‪ُ .‬حتسب تقديرات القيم‬
‫التحررية يف كل دولة لكل عام لعينة افرتاضية ذات عم ٍر ثابت بناءً على الفئة العمرية لكل مشارك وسنة االستطالع وأثر الفرتة اخلاص بكل دولة‪ .‬متثِّل العناوين‬
‫ُّ‬
‫أعدت تسمية بعض املناطق كما يلي‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫رموزا جغرافية للمناطق اليت حدَّدها ويلزيل بأهنا «مناطق ثقافية» وال تنطبق حرفيًّا على كل دولة تشملها منطقةٌ ما‪ ،‬وقد‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫أوروبا الغربية الربوتستانتية هي ما أمساه ويلزيل «الغرب املصلَح»‪ ،‬والواليات املتحدة وأسرتاليا ونيوزيلندا = «الغرب اجلديد»‪ ،‬وأوروبا الكاثوليكية واجلنوبية =‬
‫ُ‬
‫«الغرب القدمي»‪ ،‬ووسط وشرق أوروبا = «الغرب العائد»‪ ،‬وشرق آسيا = «الشرق الصيين»‪ ،‬ويوغوسالفيا واالحتاد السوفيييت ساب ًقا = «الشرق األرثوذكسي»‪،‬‬
‫وجنوب وجنوب شرق آسيا = «الشرق اهلندي»‪ .‬الدول يف كل منطقة موزونة بقد ٍر متسا ٍو‪.‬‬

‫أن االختالفات كبرية للغاية بني خمتلف املناطق الثقافية يف العامل‪ ،‬فالدول الربوتستانتية يف‬‫أن الرسم البياين يكشف عن َّ‬ ‫ال عجب َّ‬
‫حترًرا‪ ،‬تليها الواليات املتحدة والدول الثرية األخرى‬
‫غرب أوروبا مثل هولندا والدول اإلسكندنافية واململكة املتحدة هي أكثر دول العامل ُّ‬
‫املتحدِّثة باإلجنليزية‪ ،‬مث أوروبا الكاثوليكية واجلنوبية‪ ،‬مث دول وسط أوروبا الشيوعية ساب ًقا‪ .‬ودول أمريكا الالتينية ودول شرق آسيا الصناعية‬
‫حتفظًا اجتماعيًّا‪ ،‬يليها جنوب وجنوب شرق آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء‪.‬‬ ‫ومجهوريات االحتاد السوفيييت السابق ويوغوسالفيا ساب ًقا أكثر ُّ‬
‫حترًرا هي منطقة الشرق األوسط اإلسالمي‪.‬‬ ‫وأقل مناطق العامل ُّ‬
‫حترًرا بقد ٍر كبري‪ ،‬إذ لدى شباب املسلمني يف الشرق‬ ‫حتررا يف كل ٍ‬
‫مكان يف العامل‪ ،‬ازدادوا ُّ‬ ‫ولكن األمر املفاجئ هو َّ‬
‫أن الناس ازدادوا ُّ ً‬ ‫َّ‬
‫حتررية يف العامل‪ -‬يف أوائل ستينيات‬ ‫ِ‬
‫األوسط ‪-‬أكثر ثقافة حمافظة يف العامل‪ -‬اليوم قيم شبيهة بقيم الشباب يف غرب أوروبا ‪-‬أكثر ثقافة ُّ‬
‫التحررية كانت مدفوعة يف بعض الثقافات‪،‬‬
‫ولكن ُّ‬
‫حترًرا يف كل ثقافة‪َّ ،‬‬ ‫القرن املاضي‪ .‬رغم َّ‬
‫أن األجيال اجلديدة وروح العصر أصبحوا أكثر ُّ‬
‫مثل ثقافة الشرق األوسط اإلسالمي‪ ،‬بدورة األجيال باألساس‪ ،‬وكان هلا دور واضح يف الربيع العريب‪.‬‬
‫للتحرر مبرور الوقت؟ ترتبط كثريٌ من السمات املشرتكة على‬
‫هل ميكننا حتديد األسباب اليت متيِّز بني مناطق العامل املختلفة وتدفعها ُّ‬
‫تكرٍر‪ ،-‬وهو أمر يزعج علماء االجتماع‬‫ببعض ‪-‬وهي مشكلة نواجها على حن ٍو م ِّ‬
‫التحررية‪ ،‬ومتيل إىل االرتباط بعضها ٍ‬ ‫نطاق اجملتمع بالقيم ُّ‬
‫التحررية‪ ،‬رمبا َّ‬
‫ألن‬ ‫الذين يريدون التفرقة بني السببية واالرتباط‪ .‬يرتبط الرخاء (الذي يُقاس بنصيب الفرد من الناتج احمللي اإلمجايل) بالقيم ُّ‬
‫حترًرا تكون يف املتوسط ذات‬
‫أن البلدان األكثر ُّ‬ ‫توضح البيانات َّ‬
‫األشخاص كلما ازدادوا صحةً وأمنًا‪ ،‬أمكنهم جتربة حترير جمتمعاهتم‪ِّ .‬‬
‫تعلي ٍم أفضل وتكون أكثر حضريةً وأقل خصوبةً وهبا حاالت أقل من زواج األقارب‪ ،‬وتكون أكثر سلميةً ودميقراطيةً وأقل ً‬
‫فسادا وال متتلئ‬
‫بدال من املصانع الكبرية أو استخراج النفط واملعادن‪.‬‬
‫باجلرمية واالنقالبات‪ ،‬وتُبىن اقتصاداهتا ‪-‬احلالية واملاضية‪ -‬غالبًا على شبكات جتارية ً‬
‫التحررية هو مؤشر البنك الدويل للمعرفة الذي جيمع مقاييس نصيب الفرد من التعليم (إملام البالغني‬
‫ولكن املؤشر األفضل للقيم ُّ‬ ‫َّ‬
‫بالقراءة والكتابة‪ ،‬وااللتحاق باملدارس الثانوية والكليات) واحلصول على املعلومات (مستخدمو اهلواتف واحلواسب اآللية واإلنرتنت)‬
‫واإلنتاجية العلمية والتكنولوجية (الباحثون وبراءات االخرتاع ومقاالت اجملالت العلمية) ونزاهة املؤسسات (حكم القانون واجلودة التنظيمية‬
‫مؤشرا‬
‫التحررية‪ ،‬ممَّا جيعله ً‬
‫أن مؤشر املعرفة حيسب سبعني يف املئة من االختالف بني الدول يف القيم ُّ‬ ‫واالقتصادات املفتوحة)‪ .‬وجد ويلزيل َّ‬
‫أن املعرفة واملؤسسات الشرعية تؤدي إىل‬‫كثريا من الناتج احمللي اإلمجايل‪ .‬تعلِّل هذه النتيجة اإلحصائية رؤية مهمة للتنوير‪ ،‬وهي َّ‬
‫أفضل ً‬
‫التقدم األخالقي‪.‬‬
‫ال بد أن تنظر أي جولة يف التقدُّم الذي حدث يف احلقوق إىل أضعف فئات البشرية‪ ،‬أي األطفال‪ ،‬الذين ال يستطيعون التحرك من‬
‫أن حال األطفال حول العامل أصبح أفضل‪ ،‬فاحتمالية أن يأتوا‬ ‫وإمنا يعتمدون على تعاطف اآلخرين‪ .‬لقد رأينا بالفعل َّ‬ ‫أجل مصاحلهم َّ‬
‫إىل العامل وال جيدوا أمهاهتم‪ ،‬أو أن ميوتوا قبل عامهم اخلامس‪ ،‬أو أال يكتمل منوهم بسبب قلة الطعام‪ ،‬أقل حدوثًا مما مضى‪ .‬وسنرى‬
‫فهم أكثر‬‫أيضا معدل هروهبم من االعتداءات البشرية‪ُ ،‬‬ ‫أن األطفال‪ ،‬إضافةً إىل هروهبم من هذه االعتداءات الطبيعية‪ ،‬يزداد اآلن ً‬ ‫هنا َّ‬
‫ٍ‬
‫بطفولة حقيقية أكرب‪.‬‬ ‫أمانًا مما سبق واحتمالية متتُّعهم‬
‫كثريا‪ ،‬فالتقارير‬
‫إن رفاهة األطفال حالة أخرى تُفزع فيها عناوين األخبار املثرية ال ُقَّراءَ حىت لو كانت األمور املُفزعة يف احلقيقة أقل ً‬‫َّ‬
‫التنمر اإللكرتوين وتبادل الرسائل اجلنسية وحوادث‬
‫التنمر و ُّ‬
‫اإلعالمية عن حوادث إطالق النار على املدارس وحاالت االختطاف و ُّ‬
‫كأن األطفال يعيشون اآلن يف زم ٍن يزداد خطورًة‪َّ .‬‬
‫ولكن البيانات تقول غري‬ ‫االغتصاب من الرفقاء واالنتهاك اجلنسي واجلسدي توحي و َّ‬
‫ذلك‪ ،‬وأحد األمثلة على هذا هو ابتعاد املراهقني عن املخدرات اخلطرة املذكورة يف الفصل الثاين عشر‪ .‬ذكر عامل االجتماع ديفيد‬
‫فينكلهور (‪ )David Finkelhor‬وزمالؤه يف مراجعة للمؤلفات عن العنف ضد األطفال يف الواليات املتحدة عام ‪ 2014‬أنَّه «من‬
‫اجتاها‪ ،‬ومل نشهد أي زيادة‬
‫كبريا يف ‪ً 27‬‬
‫اجعا ً‬‫تعرض األطفال للعنف اليت فحصناها‪ ،‬واليت بلغ عددها اخلمسني‪ ،‬شهدنا تر ً‬ ‫بني اجتاهات ُّ‬
‫كبريا على األخص فيما يتعلَّق بإيذاء األطفال باالعتداءات و ُّ‬
‫التنمر واإليذاء اجلنسي»‪.‬‬ ‫مؤثرة بني عامي ‪ 2003‬و‪ ،2011‬كان الرتاجع ً‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 8-15‬ثالثة اجتاهات من بني تلك املذكورة‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫اإليذاء العنيف في المدارس‬


‫الضحايا لكل ‪ 10‬آالف أو ‪ 100‬ألف طف ٍل سنو ًّيا‬

‫االنتهاك الجسدي‬

‫االنتهاك الجنسي‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 8 - 1 5‬إ ي ذ ا ء ا أل ط ف ا ل يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة م ن ذ ‪ 1 9 9 3‬ح ىت ‪2 0 1 2‬‬


‫المصادر‪ :‬االنتهاك اجلسدي واالنتهاك اجلنسي (على يد مقدِّمي الرعاية)‪ :‬النظام الوطين للبيانات اخلاصة بانتهاك األطفال وإمهاهلم‪،‬‬
‫‪ ،http://www.ndacan.cornell.edu/‬حلله فينكلهور ‪ .2014 ،Finkelhor 2014; Finkelhor et al‬اإليذاء يف املدارس‪ :‬مكتب‬
‫اإليذاء‪،‬‬ ‫حتليل‬ ‫أداة‬ ‫اجلرائم‪،‬‬ ‫لضحايا‬ ‫الوطنية‬ ‫االستقصائية‬ ‫الدراسة‬ ‫األمريكية‪،‬‬ ‫العدل‬ ‫وزارة‬ ‫إحصاءات‬
‫عاما‪ ،‬ومعدالت‬
‫طفل أصغر من ‪ً 18‬‬ ‫‪ .http://www.bjs.gov/index.cfm?ty=nvat‬معدالت االنتهاك اجلسدي واجلنسي لكل ‪ 100‬ألف ٍ‬
‫عاما‪ .‬يشري السهم إىل عامي ‪ 2003‬و‪ ،2007‬ومها آخر عامني موضَّحني‬ ‫اإليذاء العنيف يف املدارس لكل ‪ 10‬آالف ٍ‬
‫طفل ترتاوح أعمارهم بني ‪ 12‬و‪ً 17‬‬
‫يف الشكل رقم ‪ 22-7‬والشكل رقم ‪ 20-7‬من دراسة ‪ Pinker 2011‬على التوايل‪.‬‬

‫كثريا للعنف ضد األطفال العقاب اجلسماين مثل الصفع والضرب والضرب بالعصي وبأغصان‬ ‫من األشكال األخرى اليت تراجعت ً‬
‫األشجار وباألحبال وبالسياط واجلَلد ووسائل غليظة أخرى لتعديل السلوك استخدمها اآلباء واملعلِّمون مع األطفال الذين ال حول هلم‬
‫وال قوة منذ النصيحة اليت انتشرت يف القرن السابع قبل احلقبة احلالية واليت تقول‪« :‬إذا منعت عصاك‪ ،‬أفسدت ابنك»‪ .‬أدانت عدة‬
‫ولكن الواليات املتحدة تنشز ثانيةً عن الدول الدميقراطية‬
‫وجرمته أكثر من نصف دول العامل‪َّ ،‬‬‫قرارات لألمم املتحدة العقاب اجلسماين‪َّ ،‬‬
‫فإن قبول كل أشكال العقاب اجلسماين يف‬ ‫املتقدمة‪ ،‬إذ تسمح بضرب األطفال بالعصي يف املدارس‪ ،‬ولكن حىت يف الواليات املتحدة َّ‬
‫تراج ٍع ٍ‬
‫ثابت وإن كان بطيئًا‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫تتضمن استخراج نسالة الكتان من بني اخليوط القطرانية‬‫إن مهمة أوليفر تويست الذي يبلغ من العمر تسعة أعوام واليت كانت َّ‬
‫انتشارا‪ ،‬وهي عمالة األطفال‪ .‬فتحت رواية ديكنز‬ ‫ً‬ ‫يف إصالحية إجنليزية هي جمرد حملة خيالية عن إحدى أوسع انتهاكات األطفال‬
‫)‪ ،(Dickens‬إضافةً إىل قصيدة إليزابيث باريت براونينج (‪ )Elizabeth Barrett Browning‬اليت نُشرت عام ‪1843‬‬
‫بعنوان صرخة األطفال (‪ )The Cry of the Children‬وكث ٍري من الفضائح الصحافية عيون ال ُقَّراء يف القرن التاسع عشر على‬
‫الظروف املروعة اليت كان األطفال ُجي َربون على العمل فيها يف تلك احلقبة‪ .‬كان األطفال الصغار يقفون على صناديق إلدارة اآلالت‬
‫برش املاء‬
‫وجي َربون على البقاء مستيقظني ِّ‬‫حمم ًال بغبار القطن أو الفحم‪ُ ،‬‬
‫اخلطرية يف املطاحن واملناجم ومصانع التعليب‪ ،‬ويتنفسون هواءً َّ‬
‫البارد على وجوههم‪ ،‬مث ينهارون وينامون بعد الورديات املرهقة والطعام ما يزال يف أفواههم‪.‬‬
‫دي عاملة يف الزراعة ويف املنازل‪،‬‬
‫ولكن قسوة عمالة األطفال مل تبدأ يف املصانع يف العصر الفيكتوري‪ ،‬فلطاملا كان األطفال أيا َ‬
‫َّ‬
‫وكان أهلهم عاد ًة ما يؤجروهنم للعمل يف خدمة اآلخرين أو يف العمل يف الصناعات املنزلية مبجرد أن يستطيعوا املشي غالبًا‪ .‬ففي القرن‬
‫ٍ‬
‫لساعات وال‬ ‫السابع عشر على سبيل املثال كان األطفال الذين يُكلَّفون بالعمل يف املطابخ يشوون قطع اللحم باستخدام األسياخ‬
‫شكال من أشكال‬ ‫استغالال هلم‪ ،‬بل كانت ً‬
‫ً‬ ‫يفكر يف عمالة األطفال بوصفها‬‫قش مبلَّلة‪ .‬مل ي ُكن أحد ِّ‬
‫حيميهم من النريان سوى حزمة ٍّ‬
‫التعليم األخالقي الذي حيمي األطفال من البطالة والرتاخي‪.‬‬
‫أعيدت صياغة مفهوم الطفولة بدءًا باملقاالت املؤثرة اليت كتبها جون لوك يف عام ‪ 1693‬وجان جاك روسو يف عام ‪،1762‬‬
‫شكال جوهريًّا من أشكال التعلُّم‪َّ ،‬‬
‫وشكلت السنوات‬ ‫وأصبحت مرحلة الصبا والشباب اهلنيئة تُعد حقًّا طبيعيًّا لإلنسان‪ ،‬وأصبح اللعب ً‬
‫وحددت مستقبل اجملتمع‪ .‬يف العقود اليت سبقت مطلع القرن العشرين وتلته مت إضفاء هالة من‬ ‫األوىل من حياة الطفل بقية حياته كبال ٍغ َّ‬
‫القدسية على الطفولة كما تقول عاملة االقتصاد فيفيانا زيليزير (‪ )Viviana Zelizer‬ووصل األطفال إىل حالتهم احلالية وهي كوهنم‬
‫«ال قيمة هلم من الناحية االقتصادية وال يُقدَّرون بثم ٍن من الناحية العاطفية»‪ُ .‬تلَّصت اجملتمعات الغربية تدرجييًّا من عمالة األطفال‪،‬‬

‫‪ 1‬شخصية من كتاب بنفس االسم من تأليف تشارلز ديكنز‬


‫حتت ٍ‬
‫ضغط من مناصري حقوق األطفال ومبساعدة األسر الصغرية يسرية احلال ودائرة التعاطف املتنامية وزيادة العالوة اليت يتقاضاها‬
‫عدد صادر عام ‪ 1921‬من جملة‬ ‫اجلرارات يف ٍ‬ ‫الع َّمال على التعليم‪ .‬نرى حملةً من هذه القوى اليت تدفع يف نفس االجتاه يف ٍ‬
‫إعالن عن َّ‬ ‫ُ‬
‫الزراعة الناجحة كان عنوانه «دع الصيب يذهب إىل املدرسة»‪:‬‬

‫"يكون ضغط األعمال العاجلة يف الربيع هو السبب غالبًا يف منع الصبيان عن الذهاب إىل املدارس عدة أشهر‪ ،‬قد يبدو‬
‫عادال للصيب! فأنت إذا حرمته من التعليم‪ ،‬أعقت طريقه يف احلياة‪ ،‬ففي هذا العصر‪ ،‬تزداد أمهية‬ ‫هذا ضروريًّا‪ ،‬ولكنَّه ليس ً‬
‫يوما بعد يوم يف حتقيق النجاح واملكانة يف كل مناحي احلياة‪ ،‬مبا فيها الزراعة‪.‬‬
‫التعليم ً‬
‫إذا شعرت أنَّك أمهلت تعليمك على غري رغبتك‪ ،‬فسرتيد بطبيعة األمر ألطفالك أن يتمتَّعوا مبزايا التعليم احلقيقي وأن‬
‫حيصلوا على بعض ما مل ِ‬
‫تستطع احلصول عليه‪.‬‬
‫رجل مع طفله‬ ‫رجل واح ٌد من القيام ٍ‬ ‫َّ‬
‫بعمل أكثر مما يقوم به ٌ‬ ‫جرار كيس الذي يعمل بالكريوسني سيتمكن ٌ‬ ‫مبساعدة َّ‬
‫سيتمكن طفلك من تلقي تعليمه دون انقطاع ولن تتأثَّر األعمال يف فصل‬ ‫َّ‬ ‫الكادح مبساعدة األحصنة‪ ،‬خالل نفس الوقت‪.‬‬
‫جرار كيس وحمراث جراوند ديتور ومعدات هارو اآلن‪.‬‬ ‫الربيع بغيابه إذا استثمرت يف َّ‬
‫جرار كيس الذي يعمل بالكريوسني حيل حمله يف احلقل‪ ،‬ولن تندم مطل ًقا على‬ ‫دع الصيب يذهب إىل املدرسة‪ ،‬واجعل َّ‬
‫أي من هذين االستثمارين‪".‬‬
‫ٍّ‬

‫جرم عمالة األطفال بصورةٍ واضحة‪ِّ .‬‬


‫يوضح‬ ‫كانت الضربة القاضية يف كث ٍري من الدول التشريع الذي جعل التعليم إلزاميًّا والتايل َّ‬
‫أن نسبة األطفال من القوى العاملة يف إجنلرتا اخنفضت مبقدار النصف بني عامي ‪ 1850‬و‪ 1910‬قبل حظر‬ ‫الشكل رقم ‪َّ 9-15‬‬
‫مسارا مشاهبًا‪.‬‬
‫متاما يف عام ‪ ،1918‬واتَّبعت الواليات املتحدة ً‬‫عمالة األطفال ً‬
‫النسبة المئوية لألطفال العاملين‬

‫العالم‬
‫إيطاليا‬ ‫(منظمة العمل الدولية‬
‫‪ -‬برنامج التقديرات‬
‫إنجلترا‬
‫والتوقعات للسكان‬
‫ًّ‬
‫اقتصاديا)‬ ‫النشطين‬ ‫العالم‬
‫(منظمة العمل الدولية ‪ -‬البرنامج‬
‫الدولي للقضاء على عمل األطفال)‬
‫الواليات‬
‫المتحدة‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 9 - 1 5‬ع م ا ل ة ا أل ط ف ا ل م ن ذ ‪ 1 8 5 0‬ح ىت ‪2 0 1 2‬‬


‫المصادر‪ ،Our World in Data, Ortiz-Ospina & Roser 2016a :‬والتايل‪ :‬إجنلرتا‪Percentage of children aged :‬‬
‫املسجلني‬
‫َّ‬ ‫عاما‬
‫‪( 10–14 recorded as working, Cunningham 1996‬النسبة املئوية لألطفال الذين ترتاوح أعمارهم بني ‪ 10‬و‪ً 14‬‬
‫ٍ‬
‫كأطفال عاملني)‪ .‬الواليات املتحدة‪ Whaples 2005. :‬إيطاليا‪Child work incidence, ages 10–14, Toniolo & Vecchi :‬‬
‫‪( 2007‬حاالت عمل األطفال‪ ،‬األعمار من ‪ 10‬إىل ‪( World ILO-EPEAP .)14‬منظمة العمل الدولية‪ ،‬برنامج التقديرات والتوقعات للسكان‬
‫النشطني اقتصاديًّا)‪( Child Labor, ages 10–14, Basu 1999 :‬عمالة األطفال‪ ،‬األعمار من ‪ 10‬إىل ‪World ILO-IPEC .)14‬‬
‫(منظمة العمل الدولية ‪ -‬الربنامج الدويل للقضاء على عمل األطفال)‪Child Labor, ages 5–17, International Labour :‬‬
‫‪( Organization 2013‬عمالة األطفال‪ ،‬األعمار من ‪ 5‬إىل ‪.)17‬‬

‫أيضا الرتاجع الشديد يف إيطاليا‪ ،‬وتسلسلني زمنيني حديثني لبيانات العامل‪ ،‬ليست اخلطوط متناسبة بسبب‬ ‫يوضح الرسم البياين ً‬ ‫ِّ‬
‫االختالفات يف املدى العمري وتعريفات «عمالة األطفال» ولكنَّها تُظهر االجتاه نفسه‪ ،‬أي اهلبوط‪ .‬كان ‪ 16.7‬يف املئة من األطفال يف‬
‫العامل يف عام ‪ 2012‬يعملون ساعةً أو أكثر يف األسبوع‪ ،‬و‪ 10.6‬يف املئة منهم يشاركون يف أنو ٍاع مرفوضة من «عمالة األطفال»‬
‫مبكرة)‪ ،‬و‪ 5.4‬يف املئة منهم يعملون يف ٍ‬
‫أعمال خطرية‪ ،‬وهي نسبةٌ كبريةٌ جدًّا ولكنَّها أقل من نصف‬ ‫سن ِّ‬
‫(ساعات عمل طويلة أو يف ٍّ‬
‫عاما فقط‪ .‬ترتَّكز عمالة األطفال اآلن ‪-‬كما كانت ً‬
‫دائما‪ -‬يف الزراعة واحلراجة وصيد األمساك‪ ،‬ال يف التصنيع‪،‬‬ ‫املعدَّل قبل اثين عشر ً‬
‫أيضا‪ ،‬فكلَّما ازداد فقر الدولة‪ ،‬ازدادت النسبة املئوية لألطفال الذين يعملون‪.‬‬
‫أثر له ً‬
‫ب له و ٌ‬‫وتالزم الفقر على املستوى الوطين‪ ،‬سب ٌ‬
‫هائال مع ارتفاع األجور أو عندما تدفع احلكومات لآلباء مقابل إرسال أطفاهلم إىل املدرسة‪،‬‬
‫اخنفاضا ً‬
‫ً‬ ‫تنخفض معدالت عمالة األطفال‬
‫وهو ما يشري إىل َّ‬
‫أن اآلباء الفقراء يرسلون أطفاهلم إىل العمل بدافع اليأس وليس اجلشع‪.‬‬
‫مدفوعا‬
‫ً‬ ‫كان التقدُّم الذي حدث يف إهناء عمالة األطفال‪ ،‬كما حدث فيما خيص اجلرائم واملآسي األخرى اليت تصيب البشر‪،‬‬
‫بزيادة سعة العيش على املستوى العاملي‪ ،‬إضافةً إىل احلمالت األخالقية اإلنسانية‪ .‬صدَّقت ‪ 180‬دولةً يف عام ‪ 1999‬على اتفاقية‬
‫حظر أسوأ أشكال عمل األطفال‪ ،‬ومشلت «أسوأ أشكال العمل» اليت مت حظرها األعمال اخلطرية واستغالل األطفال يف العبودية واإلجتار‬
‫يف البشر وعبودية الدين والدعارة وصناعة األفالم اإلباحية واإلجتار يف املخدرات واحلروب‪ .‬رغم عدم حتقيق هدف منظمة العفو الدولية‬
‫بشكل رمزي على‬‫ٍ‬ ‫اضحا وضوح الشمس‪ ،‬ومت التصديق‬ ‫أن الزخم كان و ً‬ ‫بالقضاء على أسوأ أشكال العمل حبلول عام ‪َّ ،2016‬إال َّ‬
‫القضية يف عام ‪ 2014‬عند ُمنحت جائزة نوبل للسالم لكايالش ساتيارثي )‪ ،(Kailash Satyarthi‬الناشط ضد عمالة األطفال‬
‫تبين قرار عام ‪ ،1999‬وتشارك اجلائزة مع مالال يوسفزاي )‪ ،(Malala Yousafzai‬املدافعة الشجاعة‬ ‫مفيدا يف ِّ‬
‫والذي كان دوره ً‬
‫تطوٍر آخر يف ازدهار البشرية‪ ،‬وهو توسع نطاق إتاحة املعرفة‪.‬‬
‫عن تعليم الفتيات‪ .‬ويقودنا هذا إىل ُّ‬
‫الفصل السادس عشر‪:‬‬
‫المعرفة‬

‫«اإلنسان العاقل» )‪ (Homo Sapiens‬هو النوع الوحيد الذي يستخدم املعلومات يف مقاومة احنالل اإلنرتوبيا وأعباء التطور‪.‬‬
‫يكتسب البشر يف كل مكان املعرفة باملناظر الطبيعية احمليطة هبم والنباتات واحليوانات فيها‪ ،‬واألدوات واألسلحة اليت ميكنها هزميتهم‪،‬‬
‫والشبكات والقواعد اليت حتيطهم باألقرباء واحللفاء واألعداء‪ ،‬ويراكمون تلك املعرفة ويشاركوهنا باستخدام اللغة واإلشارات واإلرشاد‬
‫املباشر‪.‬‬
‫صورا من التكنولوجيا تضاعف باطِّر ٍاد معدل منو املعرفة‪ ،‬مثل الكتابة والطباعة ووسائل اإلعالم‬ ‫اكتشف الناس عرب التاريخ ً‬
‫اإللكرتونية‪ .‬تعيد سوبرنوفا املعرفة حتديد معىن صفة البشرية باستمرار‪ ،‬فيعتمد فهمنا ملاهيتنا ومنشأنا ولكيفية سري العامل ولألمور املهمة‬
‫متاما َّإال َّ‬
‫أن علماء‬ ‫أن الصيَّادين والرعاة و َّ‬ ‫يف احلياة على أخذ ٍ‬
‫جزء من خمزون املعرفة اهلائل واملتنامي باستمرار‪ .‬رغم َّ‬
‫بشر ً‬‫الفالحني األميني ٌ‬ ‫ُ‬
‫إن وعي املرء ببلده وتارخيه‪ ،‬وبتنوع العادات واملعتقدات يف‬ ‫كثريا على توجههم ناحية احلاضر واحمللي وامللموس‪َّ ،‬‬ ‫األنثروبولوجيا يعلِّقون ً‬
‫خمتلف أحناء الكرة األرضية وخمتلف العصور‪ ،‬وبأخطاء احلضارات السابقة وانتصاراهتا‪ ،‬وعوامل اخلاليا والذرات الصغرية وعوامل الكواكب‬
‫واجملرات الكبرية‪ ،‬وبواقعية األرقام واملنطق واألمناط غري امللموسة‪ ،‬يرتقي بنا حقًّا إىل مستوى أعلى من الوعي‪ ،‬وهذه هدية االنتماء إىل‬
‫نوع ذكي ِّ‬
‫مفكر له تاريخ طويل‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وقت طويل منذ أن استطعنا مترير خمزون ثقافتنا املعريف عرب احلكي والتعليم بالتدريب‪ ،‬تعود املدارس النظامية إىل آالف السنني‪،‬‬
‫مر ٌ‬ ‫َّ‬
‫يتجمد حىت املوت يف شبابه بعد أن تسلَّق‬ ‫ٍ‬
‫نشأت على قصة تلمودية من القرن األول حتكي عن احلَرب اليهودي هليل الذي كاد أن َّ‬ ‫فقد‬
‫ُ‬
‫يستطع دفع مصروفاهتا كي يسرتق السمع إىل الدروس من خالل كوة السقف‪ُّ .‬اهتِمت املدارس يف‬ ‫مدرسة مل ِ‬‫ٍ‬ ‫حىت وصل إىل سطح‬
‫وسع نطاق مسؤوليتها بتمجيده للمعرفة‪ .‬الحظ واضع‬ ‫لكن التنوير َّ‬‫أوقات كثريةٍ بغرس األفكار العملية أو الدينية أو الوطنية يف الصغار‪ ،‬و َّ‬
‫كثريا‬
‫أن‪« :‬التعليم النظامي اكتسب مع مدخل العصر احلديث أمهيةً أكرب ً‬ ‫النظريات التعليمية جورج كاونتس (‪َّ )George Counts‬‬
‫توسعت مؤسسة املدرسة‪ ،‬اليت مل ت ُكن يف املاضي سوى منظمة اجتماعية صغرية للغاية يف أغلب اجملتمعات‬ ‫من أي شيء شهده العامل‪َّ .‬‬
‫توس ًعا أفقيًّا ورأسيًّا حىت َّاُتذت مكاهنا بني أقوى مؤسسات اجملتمع إىل‬ ‫ٍ‬
‫جمموعة صغرية من السكان‪ُّ ،‬‬ ‫مباشرا سوى يف حياة‬
‫تأثريا ً‬
‫ال تؤثر ً‬
‫جانب الدولة والكنيسة واألسرة واملِلكية»‪ .‬التعليم اليوم إلزامي يف أغلب الدول‪ ،‬وهو معرتف به من ضمن حقوق اإلنسان األساسية يف‬
‫الـ ‪ 170‬دولة األعضاء يف األمم املتحدة اليت وقَّعت على العهد الدويل للحقوق االقتصادية واالجتماعية والثقافية الصادر عام ‪.1966‬‬
‫بطرق كثرية منها الواضح ومنها املخيف‪ ،‬فمن اآلثار الواضحة َّ‬
‫أن بعض املعرفة‬ ‫متتد آثار التعليم املذهلة إىل كل مناحي احلياة ٍ‬
‫كبريا يف حتسني الصحة وإطالة العمر‪ ،‬كما رأينا يف الفصل السادس‪ .‬ومن اآلثار‬‫بالنظافة الصحية والتغذية واجلنس اآلمن قد ُحتدث فرقًا ً‬
‫أن املعرفة بالقراءة والكتابة واحلساب هي أساس تكوين الثروة يف العصر احلديث‪ ،‬فالفتيات ال ِ‬
‫يستطعن العمل يف العامل‬ ‫أيضا َّ‬
‫الواضحة ً‬
‫العليا من السلِّم الوظيفي قدرات متزايدة‬
‫عد املؤن واللوازم‪ ،‬وتستلزم الدرجات ُ‬
‫النامي حىت يف املنازل إذا مل ي ُكن بقدرهتن قراءة مذكرة أو ِّ‬
‫لفهم املواد الفنية‪ .‬كانت أوائل الدول اليت قامت باهلروب الكبري من الفقر العاملي يف القرن التاسع عشر والدول اليت منت بأقصى سرعة‬
‫منذ ذلك احلني هي الدول اليت علَّمت أطفاهلا بكثافة قصوى‪.‬‬
‫أن الدول األغىن‬ ‫االرتباط ال يعين السببية‪ ،‬كما يف كل مسائل العلوم االجتماعية‪ ،‬هل تصبح الدول ذات التعليم األفضل أغىن أم َّ‬
‫أن السبب ال بد أن يسبق نتيجته‪ .‬تشري الدراسات‬ ‫تستطيع حتمل نفقات املزيد من التعليم؟ ميكننا حل هذه املعضلة باستغالل حقيقة َّ‬
‫يؤدي حقًّا إىل زيادة‬ ‫اليت تقيِّم التعليم يف الوقت س والثروة يف الوقت ص‪ ،‬مع ثبات بقية املعطيات كافة‪ ،‬إىل َّ‬
‫أن االستثمار يف التعليم ِّ‬
‫أن اإلسبانيني‬‫الدول غىن‪ ،‬على األقل إذا كان التعليم علمانيًّا وواقعيًّا‪ .‬كانت إسبانيا حىت القرن العشرين متوانية وسط الدول الغربية‪ ،‬رغم َّ‬
‫ألن التعليم اإلسباين كان حتت سيطرة الكنيسة الكاثوليكية‪ ،‬وكان «أطفال العامة ال يتلقون سوى‬ ‫عال‪َّ ،‬‬‫كانوا حيصلون على تعلي ٍم ٍ‬
‫التعليمات الشفهية اخلاصة بالعقيدة واملبادئ الدينية وبضع مهارات يدوية بسيطة‪َّ ..‬أما العلوم والرياضيات واالقتصاد السياسي والتاريخ‬
‫املدربني»‪ .‬وباملثل يُالم التدخل الديين على التأخر االقتصادي‬
‫العلماين فكانت تُعد مثرية للجدل بني أي أشخاص عدا علماء الالهوت َّ‬
‫يف أجز ٍاء من العامل العريب اليوم‪.‬‬
‫وعلى اجلانب األكثر روحانيةً‪ ،‬جند َّ‬
‫أن التعليم يأيت هبدايا تتجاوز املعرفة العملية والنمو االقتصادي‪ ،‬فالتعليم األفضل اليوم جيعل‬
‫صعب آثار التعليم واسعة النطاق متييز احللقات اليت تتخلَّل سلسلة السببية من التعليم النظامي إىل‬
‫غدا‪ .‬تُ ِّ‬
‫الدولة أكثر دميقراطيةً وسلميةً ً‬
‫التناغم االجتماعي‪ ،‬قد تكون بعض احللقات ببساطة دميوغرافية أو اقتصادية‪ ،‬فالفتيات احلاصالت على تعلي ٍم أفضل ينجنب ً‬
‫عددا أقل‬
‫بفائض من الشباب املشاغبني أقل‪ ،‬والدول ذات التعليم‬‫ٍ‬ ‫من األطفال عندما يكربن‪ ،‬وتكون احتمالية أن يتسبَّنب يف زيادة عدد الشباب‬
‫األفضل أغىن‪ ،‬والدول األغىن تكون غالبًا أكثر سلمية ودميقراطية كما رأينا يف الفصلني احلادي عشر والرابع عشر‪.‬‬
‫ولكن بعض املسارات السببية تؤيد قيم التنوير‪ ،‬إذ حتدث تغيريات كثرية عندما تتلقى التعليم! فتنسى اخلرافات اخلطرية اليت تعلَّمتها‬ ‫َّ‬
‫أن هناك ثقافات أخرى ترتبط بطريقة حياهتا‬ ‫أن من ال يشبهونك أقل رتبةً من البشر‪ .‬وتعرف َّ‬ ‫أن الزعماء حيكمون باحل ِّق اإلهلي أو َّ‬
‫مثل َّ‬
‫أن املنقذين أصحاب الكاريزما قد قادوا بالدهم حنو‬ ‫كثريا عن أسبابك‪ ،‬وتعرف َّ‬ ‫ٍ‬
‫كما ترتبط أنت بطريقة حياتك ألسباب ال ُتتلف ً‬
‫أن هناك طرقًا أفضل وأسوأ للحياة‪ ،‬و َّ‬
‫أن‬ ‫أن معتقداتك اخلاصة قد تكون خاطئة‪ ،‬مهما كانت صادقة أو رائجة‪ ،‬وتعرف َّ‬ ‫ث‪ ،‬وتعرف َّ‬ ‫كوار َ‬
‫أن هناك وسائل غري العنف حلل الصراعات‪ .‬حتول كل‬ ‫أمورا ال تعرفها‪ ،‬وتتعلَّم ً‬
‫أيضا َّ‬ ‫األشخاص اآلخرين أو الثقافات األخرى قد يعرفون ً‬
‫أي من هذه احلِ َكم‬ ‫محلة صليبية إلخضاع جريانك وقتلهم‪ .‬ليس حتقُّق ٍّ‬ ‫هذه التجليات دون اإلذعان حلكم املستبدين أو االنضمام إىل ٍ‬
‫ُ‬
‫أكيدا بالطبع‪ ،‬وخاصةً عندما تنشر السلطات عقائدها اخلاصة وحقائقها البديلة ونظريات املؤامرة‪ ،‬وتكبت األفكار واألشخاص الذين‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫قد يطعنون فيها‪ ،‬يف إطراء غري مباشر على قوة املعرفة‪.‬‬
‫كرها‬
‫متييزا على أساس اجلنس و ً‬‫وهم أقل عنصريةً و ً‬‫أن األشخاص املتعلِّمني أكثر استنارًة حقًّا‪ُ ،‬‬
‫تؤِّكد الدراسات على آثار التعليم َّ‬
‫التطوع‬
‫ميال إىل التصويت و ُّ‬
‫وهم أكثر ً‬ ‫ٍ‬
‫لألجانب ورهابًا من املثلية وسلطويةً‪ ،‬ويقدِّرون اخليال واالستقاللية وحرية التعبري بقيمة أكرب‪ُ .‬‬
‫أيضا‬ ‫ٍ‬
‫ميال ً‬‫جلمعيات مدنية مثل النقابات واألحزاب السياسية واملنظمات الدينية واجملتمعية‪ ،‬وأكثر ً‬ ‫والتعبري عن اآلراء السياسية واالنتماء‬
‫مكون أساسي يف اإلكسري الثمني الذي يُدعى رأس املال االجتماعي الذي مينح األشخاص الثقة‬ ‫إىل الثقة يف املواطنني اآلخرين‪ ،‬وهي ِّ‬
‫يتعرضوا للخداع من اجلميع‪.‬‬‫للتعاقد واالستثمار وطاعة القانون دون اخلوف من أن َّ‬
‫لكل هذه األسباب‪َّ ،‬‬
‫فإن منو التعليم ‪-‬وأوىل نتائجه اإلجيابية‪ ،‬املعرفة بالقراءة والكتابة‪ -‬أكرب عالمةً على تقدُّم البشرية‪ ،‬ونرى قصة‬
‫حال بائس حىت جاء التنوير‪ ،‬مث بدأت بضع دول ُترج عن القطيع‪،‬‬ ‫مشاهبة مع كث ٍري من أبعاد التنوير األخرى‪ ،‬إذ كان اجلميع تقريبا يف ٍ‬
‫ً‬
‫يوضح الشكل رقم ‪َّ 1-16‬‬
‫أن املعرفة بالقراءة والكتابة‬ ‫مؤخرا تلحق هبا‪ ،‬وقريبًا ستعم هذه النعمة على العامل كله تقريبًا‪ِّ .‬‬
‫وبدأت البقية ً‬
‫امتيازا لنخبة صغرية يف غرب أوروبا متثل أقل من ُمثن عدد السكان‪ ،‬وكان هذا ينطبق على العامل بأكمله‬ ‫كانت قبل القرن السابع عشر ً‬
‫وقت طويل من بداية القرن التاسع عشر‪ ،‬مث تضاعف معدل املعرفة بالقراءة والكتابة يف القرن التايل وتضاعف بأربعة أضعاف‬ ‫حىت بعد ٍ‬
‫يعرب بالقدر الكايف عن معدل تعليم القراءة‬ ‫يف القرن الذي تاله‪ ،‬واآلن يعرف ‪ 82‬يف املئة من العامل القراءة والكتابة‪ .‬وحىت هذا الرقم ال ِّ‬
‫األمي على األغلب مكون من كبار السن أو ممَّن هم يف منتصف العمر‪ ،‬ففي كث ٍري من دول منطقة الشرق‬ ‫ألن اخلُمس ِّ‬ ‫والكتابة يف العامل َّ‬
‫األميني من املراهقني‬
‫أن نسبة ِّ‬ ‫عاما‪ ،‬يف حني َّ‬‫األميون ثالثة أرباع َمن تبلغ أعمارهم أكثر من مخسة وستني ً‬ ‫األوسط ومشال إفريقيا ميثِّل ِّ‬
‫عاما إىل أربعة وعشرين‬‫والشباب يف العشرينات من أعمارهم ال يزيد على ‪ .10‬كان معدل معرفة الشباب الصغار (من مخسة عشر ً‬
‫عاما) بالقراءة والكتابة ‪ 91‬يف املئة يف عام ‪ ،2010‬وهو ما يساوي معدل املعرفة بالقراءة والكتابة من بني كل عدد سكان الواليات‬ ‫ً‬
‫دمارا بفعل احلرب‪،‬‬
‫أن أقل معدالت املعرفة بالقراءة والكتابة ترتكز يف أفقر دول العامل وأكثرها ً‬ ‫املتحدة يف عام ‪ .1910‬من غري املفاجئ َّ‬
‫مثل جنوب السودان (‪ 32‬يف املئة) ومجهورية إفريقيا الوسطى (‪ 37‬يف املئة) وأفغانستان (‪ 38‬يف املئة)‪.‬‬

‫هولندا‬ ‫المكسيك‬
‫الواليات‬
‫المتحدة‬

‫تشيلي‬
‫نسبة من يعرفون القراءة‬

‫إنجلترا ‪ /‬بريطانيا‬
‫العظمى‪/‬المملكة المتحدة‬
‫والكتابة‬

‫العالم‬
‫ألمانيا‬

‫إيطاليا‬

‫يا‬
‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 1 - 1 6‬حم و ا أل م ي ة م ن ذ ‪ 1 4 7 5‬ح ىت ‪2 0 1 0‬‬
‫المصدر‪ ،Ortiz-Ospina & Roser 2016a& ،Our World in Data :‬وبيانات مما يلي‪ :‬قبل عام ‪Buringh & Van :1800‬‬
‫‪ Zanden 2009.‬العامل‪ .2014van Zanden et al. :‬الواليات املتحدة‪ :‬املركز الوطين إلحصاءات التعليم‪ .‬بعد عام ‪Central :2000‬‬
‫‪( Intelligence Agency‬وكالة االستخبارات املركزية) ‪.2016‬‬

‫ويوضح الشكل رقم ‪ 2-16‬تقدُّم العامل فيما خيص إرسال‬


‫املعرفة بالقراءة والكتابة (حمو األمية) هي أساس بقية مراحل التعليم‪ِّ ،‬‬
‫األطفال إىل املدارس‪ ،‬واخلط الزمين مألوف‪ ،‬ففي عام ‪ 1820‬كان أكثر من ‪ 80‬يف املئة من العامل من غري املتعلِّمني‪ ،‬وحبلول عام‬
‫‪ 1900‬كانت أغلبية كبرية من سكان غرب أوروبا والعامل الناطق باإلجنليزية قد استفادت بالتعليم األساسي‪ ،‬وينطبق هذا اليوم على‬
‫أكثر من ‪ 80‬يف املئة من العامل‪ .‬تشبه معدالت املنطقة األقل حظًّا‪ ،‬إفريقيا جنوب الصحراء‪ ،‬معدالت العامل يف عام ‪ 1980‬وأمريكا‬
‫الالتينية يف عام ‪ 1970‬وشرق آسيا يف الستينيات وأوروبا الشرقية يف عام ‪ 1930‬وأوروبا الغربية يف عام ‪ .1880‬حسب التوقعات‬
‫احلالية‪ ،‬وحبلول منتصف القرن احلايل سيكون أكثر من مخس السكان غري متعلِّمني يف مخس دول فقط‪ ،‬وحبلول هناية القرن ستهبط‬
‫النسبة العاملية إىل الصفر‪.‬‬

‫الواليات المتحدة‬
‫نسبة البالغين (أكبر من ‪ )15‬الحاصلين على التعليم األساسي‬

‫وكندا وأستراليا‬
‫ونيوزيلندا‬ ‫أمريكا الالتينية‬

‫غرب أوروبا‬ ‫أوروبا الشرقية‬ ‫شرق آسيا‬

‫العالم‬ ‫جنوب وشرق‬


‫آسيا‬ ‫إفريقيا جنوب‬
‫الصحراء‬
‫الشرق األوسط‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 2 - 1 6‬ا ل ت ع ل ي م ا أل س ا س ي م ن ذ ‪ 1 8 2 0‬ح ىت ‪2 0 1 0‬‬


‫استنادا إىل بيانات من ‪.2014 .van Zanden et al‬‬‫ً‬ ‫المصدر‪،Ortiz-Ospina & Roser 2016a& ،Our World in Data :‬‬
‫احدا على األقل (وأكثر من ذلك يف احلقب الالحقة)‪ ،‬انظر ‪van‬‬
‫عاما دراسيًّا و ً‬
‫عاما أو أكثر الذين أهنوا ً‬
‫تشري الرسوم البيانية إىل نسبة السكان البالغني ‪ً 15‬‬
‫‪.Leeuwen & van Leewen-Li 2014, pp. 88–93‬‬

‫إن السعي من أجل املعرفة غري حمدود على عكس مقاييس الرفاهة‬ ‫«لعمل كتب كثرية ال هناية‪ ،‬والدرس الكثري تعب للجسد»‪َّ .‬‬
‫تتوسع‬
‫اليت حدها األدىن الطبيعي هو الصفر مثل احلرب واملرض‪ ،‬أو سقفها الطبيعي مئة يف املئة مثل التغذية واملعرفة بالقراءة والكتابة‪ ،‬ال َّ‬
‫مدفوع بالتكنولوجيا‪ .‬بينما تقرتب‬ ‫ٍ‬
‫اقتصاد‬ ‫هائال يف ظل‬
‫ازديادا ً‬ ‫املعرفة يف حد ذاهتا إىل ما ال هناية فحسب‪ ،‬بل َّ‬
‫ٍ‬ ‫إن عالوة املعرفة تزداد ً‬
‫ممتدا إىل التعليم‬
‫املعدالت العاملية حملو األمية والتعليم األساسي إىل سقفها الطبيعي‪ ،‬فإن عدد سنوات الدراسة يواصل منوه يف كل الدول‪ً ،‬‬

‫‪‬سفر الجامعة ‪- .12:12‬المترجمة‪.‬‬


‫اجلامعي وما بعد اجلامعات يف الكليات واجلامعات‪ .‬كان ‪ 28‬يف املئة فقط من املراهقني األمريكيني الذين يرتاوح عمرهم بني أربعة عشر‬
‫عاما ملتحقني باملدرسة الثانوية يف عام ‪ ،1920‬ومنت هذه النسبة إىل النصف تقريبًا حبلول عام ‪ ،1930‬وكانت‬ ‫عاما وسبعة عشر ً‬ ‫ً‬
‫ُترجوا يف عام ‪ 2011‬تبلغ ‪ 80‬يف املئة‪ ،‬واصل ‪ 70‬يف املئة منهم تعليمهم يف اجلامعة‪ .‬كان أقل من ‪ 5‬يف املئة من األمريكيني‬ ‫نسبة من َّ‬
‫يوضح الشكل رقم ‪3-16‬‬ ‫يف عام ‪ 1940‬من حاملي شهادات البكالوريوس‪َّ ،‬أما يف عام ‪ 2015‬فكان ثُلثهم حيمل هذه الشهادة‪ِّ .‬‬
‫املسارات املتوازية لطول مدة الدراسة يف عينة من الدول‪ ،‬إذ توجد زيادة حديثة ترتاوح بني أربع سنوات يف سرياليون وثالث عشرة سنة‬
‫فإن أكثر من ‪ 90‬يف املئة من سكان العامل سيحصلون على قد ٍر من‬ ‫(بعض سنوات الكلية) يف الواليات املتحدة‪ .‬وف ًقا ألحد التوقعات َّ‬
‫التعليم الثانوي و‪ 40‬يف املئة منهم سيحصلون على قد ٍر من التعليم اجلامعي حبلول هناية القرن احلايل‪ .‬مبا َّ‬
‫أن األشخاص املتعلِّمني ينجبون‬
‫أن سكان العامل من املتوقع أن يبلغ عددهم الذروة مث يرتاجع يف‬ ‫عددا أقل من األطفال‪ ،‬فإن منو التعليم سيكون سببًا أساسيًّا يف َّ‬
‫غالبًا ً‬
‫وقت ٍ‬
‫الحق يف القرن احلايل (انظر الشكل رقم ‪.)1-10‬‬ ‫ٍ‬

‫الواليات المتحدة‬

‫اليابان‬
‫تشيلي‬
‫الصين‬
‫سنوات الدراسة‬

‫الهند‬

‫كمبوديا‬

‫سيراليون‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 3 - 1 6‬س ن وا ت ا ل د را س ة م ن ذ ‪ 1 8 7 5‬ح ىت ‪2 0 1 0‬‬


‫استنادا إىل بيانات من ‪ .Lee & Lee 2016‬البيانات‬
‫ً‬ ‫المصدر‪،Ortiz-Ospina & Roser 2016a& ،Our World in Data :‬‬
‫عاما‪.‬‬
‫اخلاصة بالسكان الذين ترتاوح أعمارهم بني ‪ 15‬و‪ً 64‬‬

‫أن ثورة توزيع املعرفة املستمرة‬ ‫رغم أنَّنا ال نرى تقاربًا عامليًّا سوى بقد ٍر ٍ‬
‫ضئيل أو منعدم تقريبًا يف طول مدة الدراسة النظامية‪َّ ،‬إال َّ‬
‫حتد من أمهية الفجوة‪ ،‬إذ إ َّن معظم معارف العامل متاحة اآلن على اإلنرتنت وليست حبيسة املكتبات (والكثري منها جماين)‪ ،‬والدورات‬
‫شخص ميتلك هات ًفا ذكيًّا‪.‬‬‫ٍ‬ ‫التعليمية املفتوحة على اإلنرتنت (‪ )MOOCs‬وصور التعليم عن بعد األخرى متاحة ألي‬
‫أيضا‪ ،‬إذ ازدادت مقاييس االستعداد لاللتحاق باملدارس يف الواليات املتحدة بني أطفال األسر‬
‫تتناقص الفوارق األخرى يف التعليم ً‬
‫كبريا بني عامي ‪ 1998‬و‪ ،2010‬رمبا يرجع هذا لربامج الروضة‬‫ازديادا ً‬
‫منخفضة الدخل واألسر اهلسبانية واألمريكية من أصل إفريقي ً‬
‫اجملانية املتاحة على ٍ‬
‫نطاق واسع‪ ،‬والمتالك األسر الفقرية اليوم املزيد من الكتب واحلواسب اآللية وإمكانية االتصال باإلنرتنت وقضاء‬
‫اآلباء وقتًا أطول يف التفاعل مع أطفاهلم‪.‬‬
‫وبالتايل فإنَّه حىت أكرب أشكال التمييز على أساس اجلنس ‪-‬منع الفتيات من التعليم‪ -‬يف تراج ٍع‪ ،‬وهذا التغيري ضروري‪ ،‬ليس فقط‬
‫أيضا َّ‬
‫ألن اليد اليت هتز املهد‬ ‫يشكلن نصف عدد السكان فتعليمهن يعين إ ًذا مضاعفة حجم جمموعة املهارات املتاحة‪ ،‬بل ً‬ ‫ألن النساء ِّ‬
‫َّ‬
‫حتكم العامل‪ .‬عندما تتعلَّم الفتيات‪ ،‬تصبح صحتهن أفضل‪ ،‬وينجنب ً‬
‫عددا أقل وأكثر صحةً من األطفال‪ ،‬وت ُك َّن أكثر إنتاجيةً‪ ،‬وكذلك‬
‫يوضح‬
‫أن تعليم الشعب بأكمله‪ ،‬وليس النصف ذي األعضاء الذكورية فقط‪ ،‬فكرة جيدة‪ِّ .‬‬ ‫تكون بلداهنن‪ .‬استغرق الغرب قرونًا يف إدراك َّ‬
‫أن النساء اإلجنليزيات مل يتعلَّمن القراءة والكتابة بنفس معدل الرجال اإلجنليز حىت عام‬‫الشكل رقم ‪ 4-16‬اخلط الذي ميثِّل إجنلرتا َّ‬
‫عوض الوقت الضائع فانتقل من تعليم القراءة للبنات بقدر ثُلثي الصبيان فقط‬ ‫‪ .1885‬حلق هبا العامل بأكمله الح ًقا ولكنَّه سرعان ما َّ‬
‫أن العامل قد حقَّق هدف التنمية‬ ‫ٍ‬
‫بأعداد متساوية يف عام ‪ .2014‬أعلنت األمم املتحدة َّ‬ ‫يف عام ‪ 1975‬إىل تعليم الصبيان والبنات‬
‫املستدامة لعام ‪ 2015‬وهو حتقيق التكافؤ بني اجلنسني يف التعليم األساسي والثانوي واجلامعي‪.‬‬

‫العالم‬
‫نسبة اإلناث المتعلِّمات إلى الذكور المتعلِّمين‬

‫إنجلترا‬
‫باكستان‬

‫أفغانستان‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 4 - 1 6‬حم و أ م ي ة ا إل ن ا ث م ن ذ ‪ 1 9 7 9‬ح ىت ‪2 0 1 1‬‬


‫عاما)‪HumanProgress, :‬‬
‫المصادر‪ :‬إنجلترا (كل البالغني)‪ .Clark 2007, p. 179 :‬العالم وباكستان وأفغانستان (األعمار من ‪ 15‬إىل ‪ً 24‬‬
‫‪ ،http://www.humanprogress.org/f1/2101‬استنادا إىل ٍ‬
‫بيانات من معهد اليونسكو لإلحصاء مت تلخيصها يف ‪( World Bank‬البنك‬ ‫ً‬
‫قليال حتتوي على ٍ‬
‫دول يف أعو ٍام خمتلفة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫خمتلفة‬ ‫جمموعات‬ ‫الدويل) ‪ .f2016‬مت حساب متوسط البيانات اخلاصة بالعامل من‬

‫َّأما اخلطَّان الثانيان فريويان قصتهما اخلاصة‪ .‬الدولة األسوأ يف النسبة بني اجلنسني يف املعرفة بالقراءة والكتابة هي أفغانستان‪ ،‬ال‬
‫حد يف كل مقاييس التنمية البشرية تقريبًا (مبا يشمل معدل املعرفة اإلمجالية بالقراءة والكتابة‪ ،‬الذي‬‫تقرتب أفغانستان فحسب إىل أقل ٍّ‬
‫أيضا منذ عام ‪ 1996‬حىت ‪ 2001‬حتت سيطرة طالبان‪ ،‬احلركة‬ ‫وإمنا كانت ً‬‫ثبت يف عام ‪ 2011‬عند رقم بالغ السوء هو ‪َّ ،)0.52‬‬
‫األصولية اإلسالمية اليت منعت الفتيات والنساء من ارتياد املدارس ضمن بشاعات أخرى ارتكبتها‪ .‬واصلت طالبان ترهيب الفتيات من‬
‫تلقِّي التعليم يف املناطق اليت تسيطر عليها من أفغانستان وباكستان اجملاورة‪ .‬بدأت مالال يوسف زاي ‪-‬اليت كانت تبلغ من العمر اثين‬
‫عاما واليت كانت أسرهتا تدير سلسلة مدارس يف وادي سوات يف باكستان‪ -‬يف عام ‪ 2009‬تدافع علنًا عن حق الفتيات يف‬ ‫عشر ً‬
‫يوم ستعيش ذكراه املخزية هو ‪ 9‬من أكتوبر عام ‪ ،2012‬صعد رجل مسلَّح ينتمي إىل طالبان على منت حافلتها املدرسية‬ ‫التعليم‪ ،‬ويف ٍ‬
‫وأطلق النار على رأسها‪ ،‬وجنت من احلادث لتصبح أصغر حائزة على جائزة نوبل للسالم وإحدى أكثر السيدات احملبوبات يف العامل‪.‬‬
‫ولكن ميكننا أن نرى التقدُّم حىت يف هذه األجزاء املظلمة من العامل‪ .‬تضاعفت النسبة بني اجلنسني يف املعرفة بالقراءة والكتابة يف أفغانستان‬
‫خالل الثالثة عقود املاضية وازدادت مبقدار النصف يف باكستان اليت تطابق النسبةُ فيها اليوم النسبةَ يف العامل يف عام ‪ 1980‬والنسبةَ‬
‫العرف العام واللباقة العامة ستدفع هذه‬ ‫ولكن تيار النشاط العاملي والتنمية االقتصادية و ُ‬
‫يف إجنلرتا يف عام ‪ .1850‬ال يوجد شيءٌ أكيد َّ‬
‫النسبة على األرجح لتبلغ سقفها الطبيعي‪.‬‬

‫أيضا؟ هل ميكن أن يكون الناس أمهر يف تعلُّم مهارات‬


‫وإملاما بالقراءة والكتابة فحسب بل يزداد ذكاءً ً‬
‫أن العامل ال يزداد معرفةً ً‬ ‫هل يُعقل َّ‬
‫أن اإلجابة أجل! ترتفع معدالت الذكاء (‪ )IQ‬منذ أكثر من‬ ‫اجملردة وحل املشكالت غري املتوقعة؟ من املذهل َّ‬ ‫جديدة وفهم األفكار َّ‬
‫عقد‪ .‬عندما أثار الفيلسوف جيمس فلني ( ‪James‬‬ ‫(مخس االحنراف املعياري) لكل ٍ‬ ‫مكان يف العامل مبعدل حوايل ‪ 3‬نقاط ُ‬ ‫قرن يف كل ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ظن الكثريون َّأهنا ال بد وأن تكون خطأً أو خدعة‪ ،‬فأوًال‬
‫‪ )Flynn‬انتباه علماء النفس إىل هذه الظاهرة ألول مرة يف عام ‪َّ ،1984‬‬
‫عددا أكرب‬ ‫ٍ‬
‫بدرجة كبرية و َّ‬ ‫حنن نعرف َّ‬
‫أن العامل مل يشارك يف مشروع ضخم لتحسني النسل ينجب فيه األشخاص األذكى ً‬ ‫أن الذكاء وراثي‬
‫جيال بعد جيل‪ ،‬ومل ي ُكن األشخاص يتزوجون من خارج عشريهتم وقبيلتهم (فبالتايل يتجنبون زواج األقارب ويزيدون قوة‬ ‫من األطفال ً‬
‫أن الشخص العادي يف عام ‪ 1910‬إذا انتقل إىل‬ ‫أيضا تصديق َّ‬ ‫لوقت ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بأعداد كبرية مبا يكفي ٍ‬
‫طويل لتفسري االرتفاع‪ .‬ويصعب ً‬ ‫اهلجني)‬
‫أن أي شخصني عاديني إذا قطعا الرحلة يف االجتاه املعاكس‪ ،‬فسيتفوقان يف‬ ‫اليوم عرب آلة زمن فسيكون معاقًا ذهنيًّا مبعايرينا‪ ،‬يف حني َّ‬
‫الذكاء على ‪ 98‬يف املئة من األشخاص ذوي الشارب الذين يرتدون األردية الواسعة يف العصر اإلدواردي والذين حيَّومها عند ظهورمها‪.‬‬
‫حتليل جتميعي لـ ‪ 271‬عينة من إحدى وثالثني‬‫مؤخرا يف ٍ‬
‫وتأكد ً‬ ‫أن أثر فلني مل ُيعد حمل شك‪َّ ،‬‬ ‫ولكن رغم كون هذا األمر مفاجئًا‪َّ ،‬إال َّ‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 5-16‬بالرسم «االرتفاع طويل األجل يف معدالت الذكاء» كما يطلق عليه العلماء‪.‬‬ ‫دو ٍلة هبا أربعة ماليني شخص‪ِّ .‬‬
‫آسيا‬
‫الزيادة في نقاط معدل الذكاء بالنسبة إلى البيانات السابقة‬

‫األمريكتين‬

‫العالم‬

‫أوروبا‬

‫أستراليا ونيوزيلندا‬
‫إفريقيا‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 5 - 1 6‬زي ا د ة م ع د ل ا ل ذك ا ء م ن ذ ‪ 1 9 0 9‬ح ىت ‪2 0 1 3‬‬


‫المصدر‪ ،Pietschnig & Voracek 2015 :‬مواد تكميلية على اإلنرتنت‪ .‬تعرض هذه اخلطوط تغيريات يف معدالت الذكاء تقيسها اختبارات خمتلفة‬
‫بدءا من ٍ‬
‫أوقات خمتلفة وال ميكن مقارنة بعضها ببعض‪.‬‬ ‫ً‬

‫يوضح بالرسم التغيري يف معدالت الذكاء يف قارةٍ بالنسبة إىل متوسط النتيجة يف أول ٍ‬
‫عام أتيحت‬ ‫كال من هذه اخلطوط ِّ‬ ‫أن ًّ‬
‫الحظ َّ‬
‫ألن االختبارات والفرتات اخلاصة بالقارات املختلفة ليست متناسبة بصورةٍ مباشرة‪ .‬ال ميكنا أن‬‫عنه بيانات‪ ،‬وهو ُحيدَّد بالصفر عشوائيًّا َّ‬
‫أن معدل الذكاء يف إفريقيا يف عام ‪ 2007‬يساوي معدل الذكاء‬ ‫نقرأ الرسم البياين كما قرأنا الرسوم السابقة ونستنبط على سبيل املثال َّ‬
‫أن االرتفاع يف معدالت الذكاء يتبع قانون شتاين الذي ينص على َّ‬
‫أن األشياء‬ ‫يف أسرتاليا ونيوزيلندا يف عام ‪ .1970‬من غري املفاجئ َّ‬
‫اليت ال ميكن أن تستمر إىل األبد‪ ،‬ال تستمر‪ .‬إذ يتضاءل أثر فلني اآلن يف بعض الدول اليت استمر فيها فرتًة طويلة‪.‬‬
‫رغم أنَّه ليس من السهل حتديد أسباب ارتفاع معدالت الذكاء بدقة‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن إمكانية تعزيز مسة تنتقل بالوراثة عرب إحداث تغيريات‬
‫أيضا وازدادت على مر العقود‪ ،‬ولنفس األسباب تقريبًا‪ ،‬وهي‬ ‫يف البيئة ليست مفارقةً‪ ،‬وهذا ما حدث يف الطول‪ ،‬وهو مسة تنتقل بالوراثة ً‬
‫كونة من الدهون والربوتينات اليت يتطلَّب‬
‫إن املخ عضو جشع‪ ،‬يستهلك حوايل ُمخس طاقة اجلسم امل َّ‬ ‫التغذية األفضل واألمراض األقل‪َّ .‬‬
‫ارد‬ ‫إنتاجها من اجلسم الكثري‪ ،‬وحماربة العدوى مكلِّفة جدًّا من حيث عمليات األيض‪ ،‬وقد ينتزع اجلهاز املناعي اخلاص ٍ‬
‫بطفل مريض مو َ‬
‫الس ِّميات‬
‫أيضا يف منو املخ البيئة النظيفة اليت حتتوي على مستويات أقل من الرصاص و ُ‬ ‫توجه لوال ذلك ناحية منو املخ‪ ،‬وممَّا يساعد ً‬‫قد َّ‬
‫إن الغذاء والصحة وجودة البيئة من ضمن مزايا اجملتمع األغىن‪ ،‬ومن غري املفاجئ ارتباط أثر فلني بالزيادات يف نصيب الفرد‬ ‫األخرى‪َّ .‬‬
‫من الناتج احمللي اإلمجايل‪.‬‬
‫فأوال‪ :‬جيب أن ترتَّكز مزايامها على رفع النصف األدىن‬
‫ولكن التغذية والصحة ال ميكنهما تفسري سوى جزء واحد من أثر فلني‪ً ،‬‬
‫َّ‬
‫مجودا الذين أعاقهم سوء الغذاء والصحة (فالقدر اإلضايف‬
‫املعرب عن معدالت الذكاء‪ ،‬الذي يشمل األشخاص األكثر ً‬
‫من منحىن اجلرس ِّ‬
‫من الطعام عندما يتجاوز نقطةً معينة جيعل الناس أبدن ال أذكى)‪ .‬يرتَّكز أثر فلني بالفعل يف بعض األوقات واألماكن يف النصف األدىن‬
‫ٍ‬
‫مجودا إىل املتوسط‪ ،‬ولكن يف أوقات وأماكن أخرى‪ ،‬يتحرك املنحىن بأكمله إىل اليمني‪ ،‬فيزداد األذكياء ذكاءً‬‫فيقرب األشخاص األكثر ً‬ ‫ِّ‬
‫بداية تتسم بالصحة والغذاء اجليد‪ .‬ثانيًا‪ :‬جيب أن تؤثر التحسينات يف الصحة والتغذية يف األطفال أكثر من‬ ‫رغم َّأهنم ينطلقون من ٍ‬
‫أن التجارب يف الطريق حنو النضج قد‬ ‫ولكن أثر فلني أقوى على البالغني منه على األطفال‪ ،‬ممَّا يشري إىل َّ‬
‫غريهم حىت يصبحوا بالغني‪َّ ،‬‬
‫املبكرة (والتجربة األوضح من بني هذه التجارب هي‬ ‫أيضا إىل جانب التكوين البيولوجي يف الطفولة ِّ‬ ‫دفعت معدالت الذكاء لالرتفاع ً‬
‫لكن فرتات صعودها‬
‫أيضا‪َّ ،‬‬ ‫التعليم)‪ .‬يف حني َّ‬
‫أن معدل الذكاء ارتفع مبرور العقود‪ ،‬وازداد كلٌّ من التغذية والصحة والطول مبرور العقود ً‬
‫بعضا عن ٍ‬
‫قرب‪.‬‬ ‫واستقرارها املختلفة ال تتبَّع بعضها ً‬
‫ولكن السبب األساسي يف كون الصحة والتغذية غري كافيتني لتفسري ارتفاع معدل الذكاء هو َّ‬
‫أن ما ارتفع مبرور الوقت ليس القدرة‬ ‫َّ‬
‫العقلية اإلمجالية‪ ،‬فأثر فلني ليس زياد ًة يف العامل ‪ ،g‬العامل العام للذكاء الذي ِّ‬
‫يشكل أساس كل أنواع الذكاء الفرعية (اللفظي واملكاين‬
‫أن معدل الذكاء‬‫والرياضي وذكاء الذاكرة‪ ،‬وغري ذلك) وهو اجلانب األكثر تأثـًُّرا من الذكاء بصورة مباشرة باجلينات الوراثية‪ .‬يف حني َّ‬
‫ٍ‬
‫بسرعة أكرب من‬ ‫لكن بعض نتائج االختبارات الفرعية قد ارتفعت‬
‫أن نتائج كل اختبارات الذكاء الفرعية قد ارتفعت‪َّ ،‬‬ ‫اإلمجايل قد ارتفع و َّ‬
‫ٍ‬
‫بدرجة كبرية‪.‬‬ ‫بنمط خيتلف عن النمط املرتبط باجلينات‪ ،‬وهذا سبب آخر ال جيعل أثر فلني يشك يف إمكانية توريث معدل الذكاء‬ ‫غريها ٍ‬

‫أحد املكاسب مل ت ُكن يف‬ ‫أن َّ‬ ‫إذًا ما أنواع األداء الفكري الذي دفعته البيئات األفضل لالرتفاع يف العقود األخرية؟ من املفاجئ َّ‬
‫اجملردة‬
‫بشكل مباشر يف املدارس مثل املعلومات العامة واحلساب واملفردات‪ ،‬بل كانت يف أنواع الذكاء َّ‬ ‫ٍ‬ ‫درس‬‫املهارات امللموسة اليت تُ َّ‬
‫املائعة اليت حتفزها األسئلة عن أوجه التشابه مثل («ما العامل املشرتك بني الساعة والسنة؟») والتناظر («الطائر ميثِّل للبيضة ما متثِّله‬
‫تسلسال حتكمه قاعدة‬‫ً‬ ‫شكل هندسي معقَّد يالئم‬
‫الشجرة ملاذا؟») واملصفوفات البصرية (عندما يكون على اخلاضع لالختبار اختيار ٍّ‬
‫جمردة (الساعة والسنة «وحدتان زمنيتان»)‬ ‫فإن ما ازداد أكثر من غريه هو العقلية التحليلية‪ ،‬أي وضع املفاهيم يف فئات َّ‬ ‫حمددة)‪ .‬إذًا َّ‬
‫بدال من استيعاهبا بالكامل‪ ،‬وأن يضع املرء نفسه يف عا ٍمل افرتاضي حتدِّه قواعد معينة‬ ‫وتشريح األغراض ذهنيًّا إىل أجز ٍاء وعالقات ً‬
‫أن كل شيء يف الدولة س مصنوعٌ من البالستيك‪ ،‬هل تكون‬ ‫ويستكشف آثاره املنطقية مع تنحية التجارب اليومية جانبًا («لنفرتض َّ‬
‫األفران مصنوعة من البالستيك؟») تنطبع العقلية التحليلية يف الذهن بالتعليم النظامي حىت لو مل خيصها املعلِّم بالذكر يف الدرس مطل ًقا‪،‬‬
‫الصم (وهذا هو اجتاه التعليم منذ أوائل عقود القرن العشرين)‪ .‬خارج مبىن‬ ‫التفكر وليس احلفظ َ‬ ‫املقرر الدراسي يستلزم الفهم و ُّ‬ ‫طاملا كان َّ‬
‫تشجع الثقافة اليت تتبادل الرموز البصرية (خرائط مرتو األنفاق وشاشات العرض الرقمية) واألدوات التحليلية (جداول البيانات‬ ‫املدرسة‪ِّ ،‬‬
‫وتقارير األسهم) واملفاهيم األكادميية اليت تنتشر يف اللغة العامية (مثل العرض والطلب‪ ،‬ويف املتوسط‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ ،‬ومفيد جلميع‬
‫األطراف‪ ،‬واالرتباط يف مقابل السببية‪ ،‬واإلجيابية الزائفة)‪.‬‬
‫هل أثر فلني مهم يف العامل الواقعي؟ بالتأكيد‪ ،‬فمعدل الذكاء املرتفع ليس جمرد رقم ميكنك التباهي به يف ٍ‬
‫حانة أو تنضم به إىل‬
‫ٍ‬
‫وظائف‬ ‫ياح قوية تدفعك يف حياتك‪ ،‬فأصحاب النتائج العالية يف اختبارات الذكاء حيصلون على‬ ‫مجعية منسا )‪ ،(Mensa‬ولكنَّه ر ٌ‬
‫بصحة أفضل وحياةٍ أطول‪ ،‬وتقل احتمالية ُّ‬
‫تعرضهم ملشاكل قانونية‪ ،‬ويكون لديهم عددٌ‬ ‫ٍ‬ ‫أفضل ويؤدون أفضل يف وظائفهم ويتمتَّعون‬
‫أكرب من اإلجنازات اجلديرة بالذكر مثل تأسيس شركات أو احلصول على براءات اخرتاع أو صناعة أعمال فنية حمرتمة‪ ،‬وكل هذا مع ثبات‬
‫ٍ‬
‫كمقياس‪ ،‬واليت ما‬ ‫املكانة االقتصادية االجتماعية (مت تفنيد األسطورة القائلة بعدم وجود معدل الذكاء أو عدم إمكانية االعتماد عليه‬
‫زالت شائعة بني ِّ‬
‫املفكرين اليساريني منذ عقود)‪ .‬ال نعرف ما إذا كانت هذه العالوات تأيت من العامل العام للذكاء وحده أم من عنصر‬
‫اجملرد ميكنه أن يصقل احلس األخالقي‪ ،‬وأوافقه الرأي‪،‬‬ ‫أن ُّ‬
‫التفكر َّ‬ ‫ولكن اإلجابة هي كالمها على األرجح‪ .‬مخَّن فلني َّ‬
‫الذكاء لدى فلني‪َّ ،‬‬
‫التأمل يف مساءل مثل «لوال ثرويت ألملَّ يب هذا املصاب» أو «كيف‬
‫فالفعل املعريف املتمثِّل يف حترير النفس من تفاصيل حياة املرء نفسه و ُّ‬
‫سيكون العامل لو فعل اجلميع هذا؟» قد يكون بوابةً على العطف واألخالقيات‪.‬‬
‫أن الذكاء يف زيادةٍ‪ ،‬فهل ميكننا أن نرى األرباح الناجتة عن الذكاء املتزايد يف التحسينات اليت‬
‫أن الذكاء يأيت بنتائج جيدة ومبا َّ‬
‫مبا َّ‬
‫أفكارا أكثر عبقريةً‬ ‫ِّ‬
‫شك بعض املشككني (مبن فيهم فلني نفسه يف البداية) فيما إذا كان القرن العشرون قد أنتج حقًّا ً‬ ‫جتري على العامل؟ َّ‬
‫مناطق بكر‪ ،‬فبمجرد أن يكتشف أحدهم االختالف بني‬ ‫لكن عباقرة املاضي حظوا مبيزة استكشاف ٍ‬ ‫من عصور هيوم وجوته وداروين‪ .‬و َّ‬
‫إن املشهد الفكري اليوم وطئه الكثريون‪،‬‬ ‫التحليلي والرتكييب أو نظرية االنتخاب الطبيعي لن يستطيع أحد اكتشافهما ثانيةً مطل ًقا‪َّ .‬‬
‫املفكرين ذوي التعليم الفائق والشبكات املرتابطة الذين يشغلون كل زاوية وركن‪ ،‬ومع‬‫ويصعب على عبقر ٍي منفرد أن يتفوق على حشود ِّ‬
‫أن أبرز العيب الشطرنج والربيدج يصبحون أصغر باستمرار‪ ،‬وال‬ ‫ذلك فقد ظهرت بعض العالمات على زيادة ذكاء العامة‪ ،‬مثل حقيقة َّ‬
‫يستطيع أحد التشكيك يف السرعة اهلائلة للتطورات يف العلم والتكنولوجيا خالل نصف القرن املاضي‪.‬‬
‫اجملرد حول العامل كله‪ ،‬وهو الرباعة يف التكنولوجيا الرقمية‪ ،‬فالفضاء املعلومايت هو اجملال‬
‫وهناك زيادة ظاهرة يف أحد أنواع الذكاء َّ‬
‫أمناط غري ملموسة‪ .‬عندما واجه الناس‬ ‫وإمنا بالتالعب برموٍز و ٍ‬‫اجملرد األكرب الذي تتحقَّق فيه األهداف ليس بدفع املادة عرب الفضاء‪َّ ،‬‬
‫مسجالت شرائط الفيديو وماكينات التذاكر يف أنظمة مرتو األنفاق اجلديدة‪ ،‬كانوا‬ ‫الواجهات الرقمية للمرة األوىل يف السبعينيات مثل ِّ‬
‫أن معظم أجهزة تسجيل شرائط الفيديو تشري شاشاهتا إىل الساعة "‪"12:00‬‬ ‫مرتبكني‪ ،‬فكانت من النكات الشائعة يف الثمانينيات َّ‬
‫ولكن اجليل إكس وجيل األلفية اشتهرا بازدهارمها يف اجملال الرقمي (يف‬ ‫ألن أصحاهبا مل يستطيعوا اكتشاف كيفية ضبط الوقت فيها‪َّ .‬‬ ‫َّ‬
‫ُّ‬
‫التحكم فيما تراه على‬ ‫اشرتيت ووالدتك برناجمًا ِّ‬
‫ميكننا من‬ ‫ُ‬ ‫أب البنه الصغري‪« :‬يا بين‪،‬‬
‫أحد الرسوم الكارتونية يف األلفية اجلديدة‪ ،‬يقول ٌ‬
‫متجاوزا الغرب غالبًا يف تبنِّيه اهلواتف الذكية وتطبيقاهتا‬
‫ً‬ ‫أيضا‪،‬‬
‫اإلنرتنت‪ .‬ممم‪ ..‬هل ميكنك تثبيته؟») وازدهر العامل النامي يف ذلك اجملال ً‬
‫مثل اخلدمات البنكية عرب اهلواتف احملمولة‪ ،‬والتعليم‪ ،‬والتحديثات الفورية خبصوص األسواق‪.‬‬
‫حتليل أجراه االقتصادي‬
‫هل يساعد أثر فلني يف تفسري االرتفاعات األخرى اليت رأيناها يف معدالت الرفاهة يف هذه الفصول؟ يشري ٌ‬
‫املتغريات املربكة املعتادة ‪-‬مثل التعليم والناتج احمللي اإلمجايل‬
‫آر دابليو هيفر (‪ )R. W. Hafer‬إىل أنَّه يفعل‪ ،‬فوجد مع ثبات كل َّ‬
‫أن متوسط معدل الذكاء يف الدولة يتنبأ بنموها الالحق يف‬ ‫واإلنفاق احلكومي‪ ،‬بل وحىت تكوين الدولة الديين وتارخيها االستعماري‪َّ -‬‬
‫نصيب الفرد من الناتج احمللي اإلمجايل‪ ،‬إضافةً إىل منوها يف املقاييس غري االقتصادية للرفاهة مثل طول العمر ووقت الفراغ‪ .‬وقدَّر َّ‬
‫أن‬
‫عاما فقط‬‫الزيادة يف معدل الذكاء مبقدار ‪ 11‬نقطة بإمكاهنا اإلسراع مبعدل منو الدولة مبا يكفي ملضاعفة رفاهتها خالل تسعة عشر ً‬
‫عجل بأثر فلني‪ ،‬مثل االستثمارات يف الصحة والتغذية والتعليم‪ ،‬قد جتعل الدولة أغىن وتتمتَّع‬‫بدال من سبعة وعشرين‪ ،‬والسياسات اليت تُ ِّ‬
‫ً‬
‫حبك ٍم أفضل وأسعد على املدى البعيد‪.‬‬

‫دائما علم االجتماع‪ ،‬ورمبا يكون من غري املستحيل حل ِحَزم االرتباطات بني كل الطرق اليت َّ‬
‫حتسنت هبا احلياة‬ ‫ما يفيد البشرية ال يفيد ً‬
‫بدال من ذلك‪.‬‬‫ني‪ ،‬ولكن لنتوقف عن القلق حلظةً بشأن مدى صعوبة فك اخليوط ومالحظة اجتاهها الشائع ً‬ ‫وتتبُّع األسهم السببية بيق ٍ‬
‫تشري حقيقة ارتباط كث ٍري من أبعاد الرفاهة يف خمتلف الدول والعقود إىل احتمالية وجود ظاهرة متناسقة تكمن وراءها‪ ،‬وهي ما يطلق عليه‬
‫مسترتا أو متدخال‪ ،‬ولدينا اسم لذلك العامل‪ ،‬وهو التقدُّم‪.‬‬
‫عنصرا أساسيًا أو متغيِّـًرا خفيًا أو ً‬
‫عاما أو ً‬
‫عامال ً‬‫علماء اإلحصاء ً‬
‫ولكن برنامج األمم املتحدة اإلمنائي يقدِّم ‪ٍ -‬‬
‫بإهلام من‬ ‫مل حيسب أح ٌد قوة التقدُّم املوجهة الكامنة يف كل أبعاد ازدهار البشرية‪َّ ،‬‬
‫يتكون من ثالثة‬
‫االقتصاديني حمبوب احلق (‪ )Mahbub ul Haq‬وأمارتيا سن (‪ -)Amartya Sen‬مؤشًرا للتنمية البشرية َّ‬
‫مؤشرات رئيسية‪ ،‬هي‪ :‬متوسط العمر املتوقع‪ ،‬ونصيب الفرد من الناتج احمللي اإلمجايل‪ ،‬والتعليم‪ .‬نكون هبذا الفصل قد نظرنا يف كل هذه‬
‫اخلريات ‪-‬التمتُّع بصحة جيدة وثروة وحكمة‪ -‬وهي مرحلة مالئمة للرتاجع خطوةً إىل الوراء واستيعاب تاريخ تقدُّم البشرية القابل للقياس‬
‫الكمي قبل أن ننتقل إىل جوانبه النوعية يف الفصلني التاليني‪.‬‬
‫طور اقتصاديان نسخهما اخلاصة من مؤشر التنمية البشرية الذي ميكن تقديره بأثر رجعي يف القرن التاسع عشر‪ ،‬وجتمع كل نسخة‬ ‫َّ‬
‫منها مقاييس طول العمر والدخل والتعليم ٍ‬
‫بطرق خمتلفة‪ .‬حيسب مقياس ليوناردو برادوس دي ال إسكوسورا التارخيي للتنمية البشرية الذي‬
‫متطرفة يف أحد املقاييس االثنني‬ ‫ٍ‬
‫بوسيط هندسي وليس حسابيًّا (كي ال تغمر قيمةٌ ِّ‬ ‫يعود إىل عام ‪ 1870‬متوسط املقاييس الثالث‬
‫طور أوك رجيما ( ‪Auke‬‬ ‫ويغري مقياسي طول العمر والتعليم للتعويض عن تناقص املردود يف طرفيهما ذوي املستوى العايل‪َّ .‬‬‫اآلخرين) ِّ‬
‫‪ )Rijpma‬من مشروع «كيف كانت احلياة؟ ‪How Was Life -‬؟» مرَّكبًا للرفاهة يعود إىل عام ‪ ،1820‬يشمل إضافةً إىل‬
‫مقاييس للطول (نيابةً عن الصحة) والدميقراطية وجرائم القتل وانعدام املساواة يف الدخل والتنوع البيولوجي‬
‫َ‬ ‫الثالثة مقاييس الكبرية‬
‫يتحسنا بصورةٍ منتظمة على مدار القرنني املاضيني)‪ .‬تتضَّح يف الشكل رقم ‪ 6-16‬درجات‬‫(املقياسان األخريان مها الوحيدان اللذان مل َّ‬
‫العامل يف بطاقيت التقارير‪.‬‬

‫المؤشر التاريخي للتنمية البشرية‬


‫مر اكب الرفاهة‬

‫مر اكب الرفاهة‬

‫المؤشر التاريخي للتنمية البشرية‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 6 - 1 6‬ا ل رف ا ه ة ا ل ع ا مل ي ة م ن ذ ‪ 1 8 2 0‬ح ىت ‪2 0 0 7‬‬


‫المصادر‪ :‬المؤشر التاريخي للتنمية البشرية‪ ،Prados de la Escosura 2015 :‬على مقياس من ‪ 0‬إىل ‪ ،10‬متاح على‪Our World in :‬‬
‫‪ Data, Roser 2016h.‬مرَّكب الرفاهة‪ ،Rijpma 2014, p. 259 :‬مقياس االحنراف املعياري يف خمتلف الدول والعقود‪.‬‬

‫حملة من البصر‪ .‬وجند يف اخلطني حبكتني فرعيتني حيويتني‪ ،‬إحدامها أنَّه‬ ‫يعد النظر إىل هذا الرسم البياين مبثابة أسر تقدُّم البشرية يف ٍ‬
‫ُ‬
‫أن األجزاء األسوأ من العامل اليوم أفضل من األجزاء‬ ‫حتس ٍن‪ ،‬و َّ‬
‫أن كل منطقة يف ُّ‬ ‫ٍ‬
‫أن العامل ما زال غري متسا ٍو بقدر كبري‪ ،‬إَّال َّ‬
‫على الرغم من َّ‬
‫أن بقية العامل قد وصل يف عام ‪ 2007‬إىل‬ ‫قسمنا العامل إىل الغرب وبقية العامل‪ ،‬فسنجد َّ‬ ‫وقت ليس بالبعيد (إذا َّ‬‫األفضل من العامل منذ ٍ‬
‫أن اخلطني ال‬ ‫مؤشرات الرفاهة تقريبًا يرتبط بالثروة‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن كل مؤشِّر من ِّ‬‫مستوى الغرب يف عام ‪ .)1950‬واألخرى أنَّه على الرغم من َّ‬
‫تزدد فيها‬‫وإمنا ازداد كلٌّ من طول العمر والصحة واملعرفة حىت يف كث ٍري من األوقات واألماكن اليت مل َ‬ ‫يعكسان عاملا أكثر ثراء فحسب‪َّ ،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫التحسن على األمد الطويل حىت عندما ال تكون يف تزام ٍن مثايل‪ ،‬وتؤيِّد هذه‬ ‫ُّ‬ ‫أن كل جوانب ازدهار البشرية متيل إىل‬ ‫الثروة‪ .‬واحلقيقة َّ‬
‫احلقيقة فكرة وجود شيء يُدعى التقدُّم بالفعل‪.‬‬
‫الفصل السابع عشر‪:‬‬
‫جودة الحياة‬

‫عما إذا كانت التطورات‬ ‫أن املرء قد يتساءل َّ‬ ‫أن القضاء على األمراض واجلوع واألمية إجنازات هائلة َّإال ال ُقساة‪َّ ،‬إال َّ‬ ‫رغم أنَّه ال ينكر َّ‬
‫يشجع الرغد اإلضايف يف العيش‬ ‫ُّما حقيقيًّا‪ .‬بعد تلبية االحتياجات األساسية‪ ،‬أال ِّ‬ ‫املتواصلة يف األمور اليت يقيسها االقتصاديون تُـ َعد تقد ً‬
‫األشخاص على االنغماس يف االستهالكية السطحية؟ وأمل ت ُكن التطورات يف الصحة وحمو األمية اليت تفاخر هبا أصحاب اخلطط اخلمسية‬ ‫َ‬
‫يف االحتاد السوفيييت والصني وكوبا‪ ،‬واليت كانت مجيعها أماكن فيها احلياة قامتة؟ قد يكون األشخاص أصحاء وموسرين ومتعلِّمني وال‬
‫حييون مع ذلك حيا ًة غنية وهادفة‪.‬‬
‫بعض من هذه التحفظات‪ ،‬فقد شهدنا تراجع العائق األساسي أمام التمتُّع حبياةٍ جيدة يف اليوتوبيا الشيوعية املزعومة‪،‬‬ ‫مت الرد على ٍ‬
‫أيضا هنوض أحد األبعاد الرئيسية لالزدهار الذي ال تشمله املقاييس املعيارية ‪-‬وهو حقوق املرأة والطفل‬ ‫وهو الشمولية‪ .‬وشهدنا ً‬
‫نوع أوسع من التشاؤم الثقايف‪ ،‬وهو خشية َّأال يكون الدخل اإلضايف واملدى العمري‬ ‫واألقليات‪ -‬بوتريةٍ ثابتة‪ .‬يدور هذا الفصل حول ٍ‬
‫سباق على الوصولية املسعورة واالستهالكية اجلوفاء‬ ‫الصحي اإلضايف قد زاد من ازدهار البشرية يف النهاية إذا كانا قد وضعا الناس يف ٍ‬
‫هدف وغياب املعايري االجتماعية املهلك للروح‪.‬‬ ‫والرتفيه دون ٍ‬
‫ُ‬
‫ميكن للمرء بالطبع معارضة هذا االعرتاض الذي يأيت من النخب الدينية والثقافية التقليدية العريقة اليت حتتقر حياة الطبقة الربجوازية‬
‫ضح‬ ‫والربوليتاريا اخلاوية اليت تفرتض هذه النخب َّأهنا خاوية‪ .‬قد يكون النقد االجتماعي تكبُّـًرا متخفيًّا يتداخل مع بُغض البشرية‪ .‬يو ِّ‬
‫الناقد جون كاري (‪ )John Carey‬يف كتابه المثقفون والجماهير )‪ (The Intellectuals and the Masses‬كيف‬
‫احتقارا للشخص العادي كاد أن مياثل التطهري العرقي‪ .‬تعين‬‫ً‬ ‫أضمرت طبقة املثقفني األدباء الربيطانية يف العقود األوىل من القرن العشرين‬
‫أن النخبة اليت تدينها متيل إىل أن تكون هي نفسها من مستهلكي السلع الباهظة‬ ‫«االستهالكية» غالبًا يف الواقع «استهالك اآلخر» مبا َّ‬
‫كالكتب ذات األغلفة املقواة واألطعمة اجليدة والنبيذ اجليد والعروض الفنية املباشرة والسفر إىل اخلارج والتعليم عايل اجلودة ألبنائهم‪ .‬إذا‬
‫يفضلوهنا‪ ،‬حىت وإن بدت تافهة ملن ُهم أفضل من الناحية الثقافية‪ ،‬فال بد أن‬ ‫استطاع املزيد من األشخاص حتمل تكلفة الرفاهيات اليت ِّ‬
‫أن خطيبًا كان يلقي خطبةً من فوق منربه عن أجماد الشيوعية فقال‪« :‬عندما تأيت الثورة‪ ،‬سيأكل‬ ‫جيدا! حتكي نكتةٌ قدمية َّ‬
‫يُعد هذا شيئًا ً‬
‫قائال‪« :‬عندما‬
‫ولكين ال أحب الفراولة والقشطة»‪ ،‬فصاح اخلطيب ً‬ ‫قائال‪ِّ « :‬‬
‫رجل يف الصفوف األمامية ً‬ ‫فتذمر ٌ‬‫اجلميع الفراولة والقشطة!» َّ‬
‫تأيت الثورة‪ ،‬ستحب الفراولة والقشطة!»‬
‫أن اهلدف‬‫يتجنَّب أمارتيا سن هذا الفخ يف كتاب التنمية حرية )‪ (Development as Freedom‬عرب اقرتاح فكرة َّ‬
‫وطورت الفيلسوفة مارثا نوسبام‬
‫النهائي من التنمية هو متكني األفراد من اُتاذ خيارات‪ ،‬أي إتاحة الفراولة والقشطة ملن يريدوهنما‪َّ .‬‬
‫قليال وحدَّدت جمموعة من «القدرات» األساسية اليت ال بد أن حيظى كل الناس بفرصة‬ ‫(‪ )Martha Nussbaum‬هذه الفكرة ً‬
‫ممارستها‪ ،‬ميكن أن نعتربها مصادر مربَّرة للرضا واإلجناز تتيحها لنا الطبيعة البشرية‪ .‬تبدأ قائمتها بالقدرات اليت يتيح العامل احلديث للناس‬
‫بإدراكها كما رأينا مثل طول العمر والصحة واألمان واإلملام بالقراءة والكتابة واملعرفة وحرية التعبري واملشاركة السياسية‪ ،‬وتستمر لتشمل‬
‫التجارب اجلمالية واالستجمام واللعب واالستمتاع بالطبيعة واالرتباطات العاطفية واالنتماءات االجتماعية وفرص التأمل يف تصور املرء‬
‫للحياة اجليدة وفرص املشاركة فيها‪.‬‬
‫تتحسن يف‬
‫أن احلياة َّ‬ ‫وسأوضح َّ‬
‫ِّ‬ ‫سأوضح يف هذا الفصل كيف تتيح احلداثة بصورةٍ متزايدة للناس أن ميارسوا هذه القدرات ً‬
‫أيضا‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫كثري من الناس ال حيبون الفراولة والقشطة وميكنهم ممارسة‬ ‫أموٍر أبعد من مقاييس االقتصاديني املعيارية مثل طول العمر والثروة‪ .‬ما زال ٌ‬
‫إحدى هذه القدرات ‪-‬التمتُّع حبريتهم يف مشاهدة التليفزيون واللعب بألعاب الفيديو‪ -‬للتنازل عن أخرى مثل التقدير اجلمايل أو‬
‫شخص دوروثي باركر ‪ Dorothy Parker‬الستخدام كلمة "‪- "horticulture‬أي البستنة‪-‬‬ ‫ٌ‬ ‫االستمتاع بالطبيعة (عندما حتدى‬
‫يف مجلة‪ ،‬أجابت قائلةً‪ "You can lead a horticulture, but you can't make her think" :‬وهو تالعب‬
‫باأللفاظ إذ استخدمت كلمة "‪ "horticulture‬وقصدت هبا "‪ "whore to culture‬أي‪ :‬ميكنك أن تقود العاهرة حنو الثقافة‪،‬‬
‫فرصا للتمتُّع مبختلف األطعمة اجلمالية والفكرية‬‫ولكن املطعم الشامل الذي يقدِّم للناس ً‬ ‫ولكن ال ميكنك إجبارها على التفكري)‪َّ .‬‬
‫عما يتناوله كلٌّ منهم‪ ،‬هو الصورة النهائية للتقدُّم‪.‬‬
‫واالجتماعية والثقافية والطبيعية يف العامل‪ ،‬بغض النظر َّ‬

‫يكرسه الناس إلبقاء أنفسهم على قيد احلياة على حساب‬ ‫وقت‪ ،‬ومن مقاييس التقدُّم اخنفاض مقدار الوقت الذي ِّ‬ ‫احلياة عبارة عن ٍ‬

‫إمتاعا يف احلياة‪ .‬قال اهلل الرحيم آلدم وحواء وهو يطردمها من جنة عدن‪« :‬بِ َعَرق وجهك تأكل ً‬
‫خبزا»*‪ ،‬وأكل‬ ‫األمور األخرى األكثر ً‬
‫أن من يصطادون‬ ‫أغلب الناس على مر التاريخ اخلبز بعرقهم بالفعل‪ .‬فالزراعة مهنة ميتد عملها من شروق الشمس حىت غروهبا‪ ،‬ورغم َّ‬
‫وجيمعون الثمار يفعلون هذا لبضع ساعات فقط يف اليوم مث يقضون ساعات أطول يف معاجلة وجتهيز الطعام (مثل تكسري البندق الصلب‬
‫كالصخر) إضافةً إىل مجع احلطب ونقل املياه وأداء مهام أخرى‪ .‬يعمل شعب بومشن يف صحراء كاهلاري‪ ،‬الذي كان يُطلق عليه «اجملتمع‬
‫املوسر األصلي»‪ ،‬مثاين ساعات يوميًّا على األقل‪ ،‬من ستة إىل سبعة أيام يف األسبوع‪ ،‬على ٍ‬
‫مهام خاصة بالطعام وحده‪.‬‬
‫كان أسبوع عمل بوب كراتشيت *الذي يبلغ عدد ساعاته ‪- 60‬ويوم عطلة واحد يف السنة‪ ،‬وهو عيد امليالد اجمليد بالطبع‪ -‬يف‬
‫سكان أوروبا الغربية يف عام ‪ 1870‬كانوا يعملون حوايل ‪ 66‬ساعة‬ ‫أن َّ‬
‫يوضح الشكل رقم ‪َّ 1-17‬‬ ‫متساهال مبعايري هذه احلقبة‪ِّ .‬‬
‫ً‬ ‫الواقع‬
‫يف األسبوع (وكان البلجيكيون يعملون ‪ 72‬ساعة) يف حني كان األمريكيون يعملون ‪ 62‬ساعة‪ .‬على مدار القرن ونصف القرن املاضي‪،‬‬
‫العمال بصورةٍ متزايدة من العبودية باألجر‪ ،‬ويف أوروبا الغربية الدميقراطية االجتماعية (حيث يعملون اآلن أقل مبقدار ‪ 28‬ساعة يف‬
‫حترر َّ‬ ‫َّ‬
‫األسبوع) على حن ٍو أبرز من الواليات املتحدة الطموحة (حيث يعملون أقل مبقدار ‪ 22‬ساعة)‪ .‬حىت مخسينيات القرن العشرين كان‬
‫وليال سبعة أيام يف األسبوع‪ ،‬وكان خياف أن يطلب تقليل‬ ‫جدي أليب يعمل خلف ثالجة اجلنب يف متج ٍر غري ُمدفَّأ يف مونرتيال ً‬
‫هنارا ً‬
‫الدي الشابَّان نيابةً عنه‪ ،‬منحوه عطالت متقطعة (وهو ما رآه صاحب العمل ‪-‬‬‫احتج و َّ‬
‫عدد ساعات عمله حىت ال يستبدلونه‪ ،‬عندما َّ‬
‫عذرا واهيًا للنشل من جيوب الناس») حىت قدَّمت له قوانني العمل بعد إنفاذها على حن ٍو أفضل أسبوع العمل‬ ‫*‬
‫مثل سكروج ‪ -‬بال شك « ً‬
‫املكون من ‪ 6‬أيام‪.‬‬
‫َّ‬

‫*سفر التكوين‪ ،‬إصحاح ‪ ،3‬آية ‪ – .19‬المترجمة‪.‬‬


‫*شخصية خيالية في رواية ترنيمة عيد الميالد )‪ (A Christmas Carol‬لريتشارد ديكنز )‪ - .(Richard Dickens‬المترجمة‪.‬‬
‫*شخصية خيالية في الرواية السابقة‪ ،‬وهو صاحب العمل الذي يعمل لديه بوب كراتشيت‪ – .‬المترجمة‪.‬‬
‫غرب أوروبا‬
‫ساعات العمل األسبوعية‬

‫الواليات المتحدة‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 1 - 1 7‬س ا ع ا ت ا ل ع م ل ‪ ،‬يف أ وروب ا ا ل غ رب ي ة وا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة م ن ذ ‪ 1 8 7 0‬ح ىت‬


‫‪2000‬‬
‫ٍ‬
‫بيانات من ‪ Huberman & Minns 2007‬عن عمال قطاع اإلنتاج بدو ٍام كامل (من اجلنسني) يف‬ ‫استنادا إىل‬ ‫المصدر‪،Roser 2016t :‬‬
‫ً‬
‫األنشطة غري الزراعية‪.‬‬

‫أجرا على ممارسة قدراتنا األساسية ونبذل بإرادتنا ساعات عمل كتلك اليت اتسم هبا العصر‬ ‫أن قلةً حمظوظةً منا تتلقى ً‬‫رغم َّ‬
‫بطرق أخرى (كان‬‫العمال ممتنُّون لألرب ِع وعشرين ساعة اإلضافية املتاحة هلم كي يقضوها يف حتقيق أنفسهم ٍ‬
‫أن معظم َّ‬ ‫الفيكتوري‪َّ ،‬إال َّ‬
‫جدي يف يوم عطلته الذي فاز به بشق األنفس يقرأ الصحف اليديشية ويتأنق مرتديًا سرتةً وربطة عنق وقبعة فيدورا ويزور إما أخواته أو‬
‫أسريت)‪.‬‬
‫أن كثريا من زمالئي األساتذة ينهون حياهتم املهنية حممولني على ٍ‬
‫نقالة من مكاتبهم‪َّ ،‬إال َّ‬
‫العمال يف وظائف أخرى‬ ‫أن َّ‬ ‫وباملثل‪ ،‬رغم َّ ً‬
‫كوخ على‬
‫عديدة يسعدون بقضاء سنواهتم الذهبية يف القراءة وأخذ الدورات وزيارة احلدائق الوطنية بسيارة رحالت أو تدليل األحفاد يف ٍ‬
‫أيضا من هدايا احلداثة‪ ،‬فكما يقول مورجان هاوسل )‪« :(Morgan Housel‬نقلق باستمرا ٍر بشأن أزمة‬ ‫جزيرةٍ رملية هادئة‪ .‬وهذا ً‬
‫متويل التقاعد اليت تلوح يف األفق يف أمريكا دون أن ندرك أن مفهوم التقاعد بأكمله فري ٌد وخاص بآخر مخسة عقود فقط‪ ،‬فحىت ٍ‬
‫وقت‬ ‫ٌ‬
‫لنفكر يف األمر كما يلي‪ :‬يتقاعد الشخص األمريكي العادي‬‫ليس بالبعيد كان الرجل األمريكي العادي مير مبرحلتني مها‪ :‬العمل والوفاة‪ِّ ..‬‬
‫يوضح الشكل رقم ‪-17‬‬ ‫اآلن يف سن الثانية والستني‪ ،‬منذ مئة عام‪ ،‬كان الشخص األمريكي العادي ميوت يف سن الواحدة واخلمسني»‪ِّ .‬‬
‫‪َّ 2‬‬
‫أن ‪ 80‬يف املئة تقريبًا من الرجال األمريكيني فيما نعتربه اآلن سن التقاعد كانوا ما زالوا على قوة العمل يف عام ‪ ،1880‬وحبلول عام‬
‫‪ 1990‬اخنفضت هذه النسبة إىل أقل من ‪ 20‬يف املئة‪.‬‬
‫نسبة الرجال فوق سن الخامسة والستين المشاركين في القوة العاملة‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 2 - 1 7‬ا ل ت ق ا ع د يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة م ن ذ ‪ 1 8 8 0‬ح ىت ‪2 0 1 0‬‬


‫ٍ‬
‫بيانات من مكتب إحصاءات العمل‪ ،‬و‪.Costa 1998‬‬ ‫استنادا إىل‬ ‫المصدر‪،Housel 2013 :‬‬
‫ً‬

‫بدال من انتظار التقاعد خيشون اإلصابة أو الوهن الذي سيمنعهم عن العمل ويُرسلهم إىل مأوى الفقراء والعجزة‪ ،‬وهو‬
‫كان الناس ً‬
‫ما كان يُعرف باخلوف الذي يطارد الناس يف خريف حياهتم‪ ،‬وحىت بعد أن محى قانون الضمان االجتماعي لعام ‪ 1935‬املسنِّني من‬
‫منوت ويف ذهين صورة أصحاب املعاشات الذين يقتاتون على طعام الكالب‬ ‫ٍ‬
‫العوز الشديد‪ ،‬كان الفقر هناية شائعة حلياة حافلة بالعمل‪ ،‬و ُ‬
‫(رمبا كانت هذه أسطورة يف املدن)‪ .‬ولكن مع توفري شبكات أمان حكومية وخاصة أقوى‪ ،‬أصبح املسنُّون اليوم أغىن من األشخاص يف‬
‫سن العمل‪ ،‬إذ اخنفض معدل الفقر لدى من تتجاوز أعمارهم اخلامسة والستني من ‪ 35‬يف املئة يف عام ‪ 1960‬إىل أقل من ‪ 10‬يف‬
‫كثريا من املعدل الوطين الذي يبلغ ‪ 15‬يف املئة‪.‬‬
‫املئة يف عام ‪ ،2011‬وهو أقل ً‬
‫العمال‪ ،‬حتقَّق حلم آخر جنوين‪ ،‬وهو اإلجازات مدفوعة األجر‪ ،‬إذ حيصل العامل‬‫بفضل احلركة العمالية والتشريعات وزيادة إنتاجية َّ‬
‫يوما يف‬
‫يوما يف السنة (مقارنةً بـ ‪ً 16‬‬
‫األمريكي العادي اليوم بعد مرور مخس سنوات على توظيفه على إجازة مدفوعة األجر ملدة ‪ً 22‬‬
‫عام ‪ )1970‬وهذه مدة قصرية وفق معايري أوروبا الغربية‪َّ .‬‬
‫إن املزيج بني أسبوع العمل األقصر واإلجازات مدفوعة األجر األكثر والتقاعد‬
‫أن النسبة اليت يشغلها العمل من حياة املرء اخنفضت مبقدار الربع منذ ‪ 1960‬فقط‪ُ .‬تتلف االجتاهات اخلاصة بالعامل‬ ‫األطول يعين َّ‬
‫النامي حسب الدولة‪ ،‬ولكن مع ازدياد هذه الدول غىن‪ ،‬متيل إىل اتباع خطى دول الغرب‪.‬‬
‫أن األجهزة‬ ‫حتررت مساحات أخرى من احلياة بطر ٍ‬
‫يقة أخرى كي يسعى األشخاص وراء أهدافهم األكرب‪ .‬رأينا يف الفصل التاسع َّ‬ ‫َّ‬
‫املنزلية مثل الثالجات واملكانس الكهربائية والغساالت وأفران امليكرويف أصبحت شائعة أو عامة حىت بني فقراء األمريكيني‪ .‬كان على‬
‫األمريكي الذي حيصل على أجوٍر متوسطة يف عام ‪ 1919‬أن يعمل ملدة ‪ 1800‬ساعة لدفع مثن ثالجة‪ ،‬يف حني كان عليه يف عام‬
‫‪ 2014‬أن يعمل أقل من ‪ 180‬ساعة لدفع مثنها (وكانت الثالجة اجلديدة بال صقيع ‪-‬نو فروست‪ -‬وهبا صانعة ثلج)‪ .‬هل هذه‬
‫مجيعا‪،‬‬
‫أن اإلنرتوبيا تنتقص من قيمهم ً‬ ‫أن الطعام وامللبس واملأوى هي أساسيات احلياة الثالثة‪ ،‬و َّ‬ ‫استهالكية بال هدف؟ ليس عدما َّ‬
‫تتذكر َّ‬
‫ملساع أخرى‪ .‬تُعيد إلينا كلٌّ من الكهرباء واملياه‬
‫وقت ميكن ُتصيصه ٍ‬ ‫أن الوقت الذي يستغرقه احلفاظ عليها صاحلة لالستخدام هو ٌ‬ ‫و َّ‬
‫اجلارية واألجهزة املنزلية (أو كما كان يُطلق عليها «األدوات املوفِّرة للعمالة») ذلك الوقت‪ ،‬الساعات الطويلة اليت كانت جداتنا تقضيها‬
‫يف الضخ والتعليب وخمض اللنب واجللي واملعاجلة والكنس والتشميع والتنظيف باحلك والعصر واإلرغاء والتجفيف واخلياطة والرتق واحلياكة‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 3-17‬أنَّه مع تغلغل املرافق‬ ‫يذكرننا‪ِّ .‬‬ ‫جهد» كما ظللن ِّ‬‫مطوال أمام املوقد الساخن والعمل بكل ٍ‬‫والرفو‪ ،‬و«الوقوف ً‬
‫واألجهزة املنزلية يف املنازل األمريكية خالل القرن العشرين‪ ،‬اخنفض مقدار الوقت الذي يقضيه الناس يف األعمال املنزلية من حياهتم ‪-‬‬
‫يفضلون قضاء وقتهم فيها‪ -‬بأربعة أضعاف تقريبًا‪ ،‬من ‪ 58‬ساعة أسبوعيًّا يف عام ‪ 1900‬إىل‬ ‫أن الناس يقولون َّإهنم ال ِّ‬
‫وال عجب َّ‬
‫‪ 15.5‬ساعة يف عام ‪ .2011‬اخنفض مقدار الوقت الذي يقضيه األشخاص يف غسيل املالبس فقط من ‪ 11.5‬ساعة يف األسبوع يف‬
‫أن الغسالة تستحق أن يُطلق عليها أعظم اخرتاعات الثورة‬ ‫عام ‪ 1920‬إىل ‪ 1.5‬ساعة يف عام ‪ ،2014‬ويشري هانس روزلينج إىل َّ‬
‫الصناعية‪ ،‬إلعادة «يوم الغسيل» إىل حياتنا‪.‬‬

‫الثالجة‬

‫الكهرباء‬
‫المكنسة الكهربائية‬
‫ساعات العمل المنزلي في األسبوع‬

‫األعمال المنزلية‬
‫البوتاجاز‬
‫الغسالة‬

‫نسبة األسر‬
‫المياه‬
‫الجارية‬ ‫غسالة األطباق‬

‫فرن الميكرويف‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 3 - 1 7‬ا مل را ف ق وا أل ج ه زة ا مل ن زل ي ة وا أل ع م ا ل ا مل ن زل ي ة ‪ ،‬يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة ‪ ،‬م ن ذ‬


‫‪ 1 9 0 0‬ح ىت ‪2 0 0 5‬‬
‫المصادر‪ :‬قبل عام ‪ .Greenwood, Seshadri, & Yorukoglu 2005 :2005‬األجهزة املنزلية‪ 2005 ،‬و‪ :2011‬مكتب تعداد الواليات‬
‫استنادا إىل استقصاء استخدام الوقت‬
‫ً‬ ‫املتحدة‪ .Siebens 2013 ،‬األعمال املنزلية‪،Our World in Data, Roser 2016t :2015 ،‬‬
‫)‪ ،(American Time Use Survey‬مكتب إحصاءات العمل (‪.)Bureau of Labor Statistics 2016b‬‬

‫ولكن‬ ‫ٍ‬
‫بصدق عند االحتفاء هبذا املكسب‪َّ ،‬‬ ‫نظرا لكوين زو ًجا من حقبة النسوية‪ ،‬ميكنين استخدام ضمري املتكلم اجلمع «حنن»‬
‫ً‬
‫األعمال املنزلية يف معظم األزمنة واألماكن مرتبطة بالنوع االجتماعي‪ ،‬لذا َّ‬
‫فإن حترير البشرية من األعمال املنزلية هو يف الواقع العملي‬
‫عموما‪ .‬تعود احلجج املنادية مبساواة املرأة بالرجل إىل املقالة اليت كتبتها ماري أستيل‬
‫حترير املرأة من األعمال املنزلية‪ ،‬ورمبا حترير املرأة ً‬
‫فحمة‪ .‬إ ًذا ملاذا استغرق انتشارها قرونًا؟ تنبَّأ توماس إديسون (‪)Thomas Edison‬‬ ‫(‪ )Mary Astell‬عام ‪ ،1700‬وهي حجج م ِ‬
‫ُ‬
‫يف حوا ٍر يف جملة التدبير المنزلي الجيد ‪ Good Housekeeping‬بأحد أكرب التحوالت االجتماعية يف القرن العشرين‪:‬‬

‫ألن احتياجات املنزل ستكون أقل‪،‬‬ ‫اهتماما أقل َّ‬


‫ً‬ ‫لن تكون ربة املنزل يف املستقبل جاريةً للخدم وال كادحةً‪ ،‬ستويل املنزل‬
‫ستكون مهندسة منزلية وليست عاملة منزلية‪ ،‬وستكون أعظم اخلادمات‪ ،‬الكهرباء‪ ،‬يف خدمتها‪ .‬وستقلب هذه القوة والقوى‬
‫ٍ‬
‫بدرجة أكرب‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫جماالت أوسع وبنَّاءة‬ ‫امليكانيكية األخرى عامل املرأة فستحفظ املرأة ٍ‬
‫جبزء كب ٍري من طاقتها لتستخدمها يف‬

‫ليس الوقت هو املورد الوحيد الذي متنحنا إياه التكنولوجيا ويثري حياتنا‪ ،‬فالضوء من املوارد األخرى‪ ،‬والضوء متكيين للغاية لدرجة‬
‫ولكن الضوء الصناعي يتيح‬
‫حلالة فكرية وروحانية فائقة‪ :‬التنوير‪ .‬حنن نغرق يف الظالم يف العامل الطبيعي نصف حياتنا‪َّ ،‬‬‫أنَّه اجملاز املختار ٍ‬
‫لنا اسرتداد الليل للقراءة واالنتقال ورؤية وجوه اآلخرين والتفاعل مع ما حولنا‪ .‬استشهد االقتصادي ويليام نوردهاوس باخنفاض سعر‬
‫أن سعر مليون لومن ساعة‬ ‫يوضح الشكل رقم ‪َّ 4-17‬‬ ‫رمزا للتقدُّم‪ِّ .‬‬
‫(وبالتايل زيادة إتاحة) هذا املورد الثمني على مستوى العامل بوصفه ً‬
‫من الضوء معدَّل ملراعاة التضخم (ما قد حتتاجه للقراءة ملدة ساعتني ونصف يوميًّا ملدة سنة) قد اخنفض مبقدار أربعة عشر ألف ضعف‬
‫منذ العصور الوسطى (اليت كان يُطلق عليها عصور الظالم)‪ ،‬من ‪ 40,500‬جنيه إسرتليين يف عام ‪ 1300‬إىل أقل من ‪ 3‬جنيهات‬
‫يقة أخرى‪ ،‬فليس هذا‬‫إسرتلينية اليوم‪ .‬إذا كنت يف هذه األيام (أو الليايل) ال تقرأ أو حتادث اآلخرين أو ُترج أو تثقِّف نفسك بأي طر ٍ‬
‫ألنَّك ال تستطيع حتمل تكلفة الضوء‪.‬‬
‫السعر بالجنيه اإلسترليني (عام ‪)2000‬‬
‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 4 - 1 7‬ت ك ل ف ة ا إل ن ا رة يف إ جن ل رتا م ن ذ ‪ 1 3 0 0‬ح ىت ‪2 0 0 6‬‬
‫ٍ‬
‫بيانات من ‪ .Fouquet & Pearson 2012‬تكلفة مليون لومن ساعة‬ ‫استنادا إىل‬ ‫المصدر‪،Our World in Data, Roser 2016o :‬‬
‫ً‬
‫(حوايل ‪ 833‬ساعة من مصباح متوهج ‪ 80‬واط) باجلنيه اإلسرتليين (معدَّل ملراعاة التضخم يف العام ‪.)2000‬‬

‫فإن‪« :‬الثمن احلقيقي‬‫يعرب اخنفاض القيمة النقدية للضوء الصناعي يف احلقيقة عن التقدم بالقدر الكايف ألنَّه كما أشار آدم‪َّ ،‬‬‫ال ِّ‬
‫لكل شيء يكمن يف املشقة والعناء من أجل احلصول عليه»‪ .‬قدَّر نوردهاوس عدد الساعات اليت سيضطر الشخص إىل أن يعملها‬
‫ليجين تكلفة ساعة من الضوء الالزم للقراءة يف أوقات خمتلفة عرب التاريخ‪ .‬كان على الشخص البابلي يف عام ‪ 1750‬قبل احلقبة احلالية‬
‫أن يعمل مخسني ساعةً كي يقضي ساعةً واحد ًة يف قراءة األلواح املسمارية على ضوء مصباح مضاء بزيت السمسم‪ ،‬وكان على الشخص‬
‫ست ساعات كاملة كي يستطيع إشعال مشعة من الشحم حترتق خالل ساعة (ُتيل لو أنَّك‬ ‫اإلجنليزي يف عام ‪ 1800‬أن يكدح َّ‬
‫مخس عشرة دقيقة‬ ‫خططت ميزانية أسرتك وفق هذه األمور‪ ،‬رمبا كنت لرتضى بالظالم)‪ .‬كنت ستحتاج يف عام ‪ 1880‬إىل العمل َ‬
‫أيضا‪ ،‬ونصف ثانية إلضاءة ملبة‬‫إلضاءة مصباح بالكريوسني ملدة ساعة‪ ،‬ومثاين ساعات يف عام ‪ 1950‬إلضاءة ملبة متوهجة ملدة ساعة ً‬
‫ضعف يف اإلتاحة خالل قرنني‪ .‬ومل يقف التقدُّم عند هذه النقطة‪ ،‬إذ نشر‬ ‫فلورسنتية مضغوطة ملدة ساعة‪ ،‬وهي قفزة مبقدار ‪ 43‬ألف ٍ‬
‫ستغري مصابيح ‪ LED‬الرخيصة اليت تضاء بالطاقة الشمسية حياة أكثر من‬ ‫نوردهاوس مقاله قبل أن تغرق ملبات ‪ LED‬السوق‪ .‬قريبًا ِّ‬
‫ٍ‬
‫شخص ال يتمتعون بالكهرباء‪ ،‬مما سيتيح هلم قراءة األخبار أو أداء الواجبات املنزلية دون التجمع حول الرباميل املليئة بالقمامة‬ ‫مليار‬
‫احملرتقة‪.‬‬
‫قد يكون اخنفاض نسبة الوقت الذي نضطر إىل التفريط فيه يف مقابل الضوء واألجهزة املنزلية والطعام من حياتنا جزءا من ٍ‬
‫قانون‬ ‫ً‬
‫نوعا ما‪،‬‬
‫عام‪ ،‬إذ أملح خبري التكنولوجيا كيفن كيلي (‪ )Kevin Kelly‬إىل أنَّه «مبرور الوقت‪ ،‬إذا استمرت تكنولوجيا ما ملدة طويلة ً‬
‫قدرا أقل من ساعات‬
‫فإن تكلفتها تبدأ باالجتاه حنو الصفر (ولكنَّها ال تصل إليه مطل ًقا)»‪ .‬ومع اخنفاض تكلفة ضروريات احلياة‪ ،‬هندر ً‬
‫أيضا‪ ،‬وهكذا‬ ‫بوقت ٍ‬‫يومنا يف احلصول عليها‪ ،‬وحنظى ٍ‬
‫ومال أكثر لكل األغراض األخرى‪ ،‬وتنخفض تكلفة «كل األغراض األخرى» ً‬
‫أن األمريكيني كانوا ينفقون يف عام ‪ 1929‬أكثر من ‪ 60‬يف املئة‬ ‫يوضح الشكل رقم ‪َّ 5-17‬‬ ‫أصبح باستطاعتنا التمتُّع بالكثري منها‪ِّ .‬‬
‫من دخلهم املتاح لإلنفاق على الضروريات‪ ،‬واخنفضت هذه النسبة حبلول عام ‪ 2016‬مبقدار الثُلث‪.‬‬
‫نسبة الدخل المُنفق على الضروريات‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 5 - 1 7‬ا إل ن ف ا ق ع ل ى ا ل ض روري ا ت ‪ ،‬يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة ‪ ،‬م ن ذ ‪ 1 9 2 9‬ح ىت ‪2 0 1 6‬‬


‫المصدر‪ ،HumanProgress, http://humanprogress.org/static/1937 :‬مأخوذ من رسم بياين خاص مبارك بريي ‪(Mark‬‬
‫)‪ ،Perry‬باستخدام بيانات من مكتب التحليل االقتصادي‪ .http://www.bea.gov/iTable/index_nipa.cfm ،‬نسبة الدخل املتاح‬
‫لإلنفاق والذي يُنفق على الطعام يف املنزل والسيارة واملالبس وأثاث املنزل والسكن واملرافق والبنزين‪ُ .‬حذفت البيانات اخلاصة باألعوام من ‪ 1941‬إىل ‪1946‬‬
‫َّ‬
‫ألهنا مشوهة نتيجة الرتشيد ورواتب اجلنود خالل احلرب العاملية الثانية‪.‬‬

‫ما الذي يفعله األشخاص بذلك الوقت واملال اإلضافيني؟ هل يثرون حياهتم حقًّا أم َّأهنم يشرتون املزيد من مضارب اجلولف‬
‫املصممني العامليني؟ رغم أنَّه من التغطرس أن حنكم على الطريقة اليت خيتار األشخاص أن يقضوا وقتهم هبا‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن‬ ‫وحقائب اليد من ِّ‬
‫بوسعنا الرتكيز على املساعي اليت يتفق اجلميع تقريبًا على كوهنا مقومات احلياة اجليدة‪ ،‬وهي التواصل مع األحباء واألصدقاء‪ ،‬والتمتُّع‬
‫بثراء عامل الطبيعة وعامل الثقافة‪ ،‬والتمتُّع بإمكانية الوصول إىل مثار اإلبداع الفين والفكري‪.‬‬
‫مع زيادة أعداد األسر اليت يعمل فيها الزوج والزوجة‪ ،‬واألطفال الذين ميتلئ وقتهم باألنشطة‪ ،‬واألجهزة الرقمية‪ ،‬يوجد اآلن اعتقاد‬
‫بأن األسر عالقة يف أزمة ضيق الوقت اليت تقضي على اجتماع األسرة على العشاء (رثى كلٌّ‬ ‫متكرر يف اإلعالم) َّ‬
‫واسع االنتشار (وذعر ِّ‬
‫من آل جور ودان كويل احتضاره يف الفرتة السابقة لالنتخابات الرئاسية األمريكية يف عام ‪ ،2000‬وكان هذا قبل اهلواتف الذكية ووسائل‬
‫التواصل االجتماعي)‪ .‬ولكن ال بد من موازنة هذه امللهيات واملشتتات اجلديدة مع األربع وعشرين ساعة اإلضافية يف األسبوع اليت‬
‫أن الناس يشكون مدى انشغاهلم‬ ‫قدَّمتها احلداثة للمعيلني واالثنيت وأربعني ساعة اإلضافية يف األسبوع اليت قدَّمتها لربَّات املنازل‪ .‬رغم َّ‬
‫بصورةٍ متزايدة (وأطلق بعض االقتصاديني على هذا تعبري « ُّ‬
‫تذمر الشباب املرتف»)‪َّ ،‬إال َّأهنم عندما يُطلب منهم مراقبة وتتبُّع الوقت‪،‬‬
‫عاما حبوايل‬
‫أن أوقات فراغهم تبلغ ‪ 42‬ساعة أسبوعيًّا‪ ،‬أي أكثر مما كانت منذ مخسني ً‬ ‫تتَّضح صورة خمتلفة‪ .‬ذكر الرجال يف عام ‪َّ 2015‬‬
‫أن أوقات فراغهن تبلغ ‪ 36‬ساعة‪ ،‬أي أكثر حوايل ‪ 6‬ساعات (الشكل رقم ‪( .)6-17‬لكي نكون‬ ‫‪ 10‬ساعات‪ ،‬وذكرت النساء َّ‬
‫التذمر‪ ،‬إذ ذكر أصحاب املستويات التعليمية األقل التمتُّع بأوقات فراغ أكثر‪ ،‬ومنى‬
‫حق يف ُّ‬ ‫منصفني‪ ،‬رمبا يكون لدى الشباب املرتف ٌّ‬
‫عاما املاضية)‪ .‬وظهرت يف أوروبا الغربية اجتاهات مشاهبة‪.‬‬
‫مستوى انعدام املساواة بينهما خالل اخلمسني ً‬

‫الرجال‬
‫ساعات الفراغ في األسبوع‬

‫النساء‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 6 - 1 7‬وق ت ا ل ف راغ يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة م ن ذ ‪ 1 9 6 5‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫المصادر‪ :‬األعوام من ‪ 1965‬حىت ‪( Aguiar & Hurst 2007, table III, Leisure Measure 1 :2003‬جدول ‪ ،3‬مقياس وقت الفراغ‬
‫‪ :2015 .)1‬استقصاء استخدام الوقت )‪ ،(American Time Use Survey‬مكتب إحصاءات العمل ( ‪Bureau of Labor Statistics‬‬
‫)‪ ، 2016c‬جبمع بيانات أوقات الفراغ وممارسة الرياضة‪ ،‬واالعتناء باملرج واحلديقة‪ ،‬والتطوع‪ ،‬للمقايسة مع بيانات مقياس أجيار وهريست األول ( ‪Aguiar‬‬
‫‪.)& Hurst’s Measure 1‬‬

‫توضح مراجعة أجراها عامل االجتماع جون روبينسون ( ‪John‬‬ ‫وال يشعر األمريكيون باستمرار باملزيد من االستعجال‪ِّ ،‬‬
‫استعجال دائم» بني عامي ‪1965‬‬ ‫ٍ‬ ‫‪ )Robinson‬بعض االرتفاعات واالخنفاضات يف نسبة من يقولون َّإهنم يشعرون َّ‬
‫بأهنم «يف‬
‫و‪( 2010‬واخنفضت النسبة إىل ‪ 18‬يف املئة يف عام ‪ 1976‬وارتفعت إىل ‪ 35‬يف املئة يف عام ‪ ،)1998‬ولكنَّها مل تُظهر أي اجتاه‬
‫عاما‪ .‬ويف النهاية‪ ،‬ما زالت األسر جتتمع على العشاء‪ ،‬إذ تتفق دراسات واستطالعات عديدة على َّ‬
‫أن‬ ‫ثابت على مدار مخسة وأربعني ً‬
‫كثريا من عام ‪ 1960‬حىت ‪ ،2014‬رغم هواتف اآليفون وأجهزة البالي ستيشن‬ ‫يتغري ً‬‫معا مل َّ‬
‫عدد وجبات العشاء اليت تتناوهلا األسر ً‬
‫وحسابات الفيسبوك‪ .‬إذ كان اآلباء األمريكيون العاديون يقضون على مدار القرن العشرين وقتًا أكثر مع أطفاهلم‪ ،‬ال أقل‪ ،‬ففي عام‬
‫‪ 1924‬مل ي ُكن سوى ‪ 45‬يف املئة من األمهات يقضني ساعتني أو أكثر يوميًّا مع أطفاهلن (وكان ‪ 7‬يف املئة منهن ال يقضني أي وقت‬
‫مع أطفاهلن)‪ ،‬ومل ي ُكن سوى ‪ 60‬يف املئة من اآلباء يقضون ساعةً على األقل يوميًّا معهم‪ ،‬وحبلول عام ‪ 1999‬ارتفعت هذه النسب‬
‫املتفرغات‬
‫إىل ‪ 71‬و‪ 83‬يف املئة‪ .‬تقضي األمهات العزباوات والعامالت اليوم يف احلقيقة وقتًا أكثر مع أطفاهلن مما كانت تفعل األمهات ِّ‬
‫للمنزل يف عام ‪( 1965‬الزيادة يف عدد الساعات اليت يقضيها األهل يف العناية باألطفال هي السبب الرئيسي يف االحندار يف أوقات‬
‫ولكن دراسات استخدام الوقت ال تطابق رسومات نورمان روكويل ( ‪Norman‬‬ ‫الفراغ الذي نراه يف الشكل رقم ‪َّ .)6-17‬‬
‫كثري من الناس منتصف القرن العشرين على حن ٍو ٍ‬
‫خادع بأنَّه العصر‬ ‫‪ )Rockwell‬ومسلسل )‪َّ ،(Leave It to Beaver‬‬
‫ويتذكر ٌ‬
‫الذهيب لتكاتف األسرة‪.‬‬
‫بديال رديئًا عن‬
‫هتديدا للعالقات اإلنسانية‪ ،‬وتُعد صداقات الفيسبوك بالتأكيد ً‬
‫كثريا إىل وسائل اإلعالم اإللكرتونية بوصفها ً‬
‫يشار ً‬
‫بشكل عام هدية ال تُقدَّر بثم ٍن للتقارب اإلنساين‪ .‬منذ ٍ‬
‫قرن‬ ‫ٍ‬ ‫ولكن التكنولوجيا اإللكرتونية‬ ‫التواصل وجها لوجه مع الرفقاء من حل ٍم ٍ‬
‫ودم‪َّ ،‬‬ ‫ً‬
‫بعيدا عن‬ ‫ٍ‬
‫كان أحد أفراد األسرة إذا انتقل إىل مدينة بعيدة‪ ،‬رمبا ال يسمع املرء صوته وال يرى وجهه ثانيةً مطل ًقا‪ ،‬وكان األحفاد يكربون ً‬
‫أعني أجدادهم‪ ،‬وكان الزوجان اللذان يفصل بينهما العمل أو الدراسة أو احلرب يعيدان قراءة اخلطابات عشرات املرات وينهار املحب‬
‫ُ‬
‫أن احلبيب غاضب أو خائن أو ميت (وهي لوعة‬ ‫تأخر اخلطاب التايل‪ ،‬ال يعرف ما إذا كان اخلطاب قد ضاع يف الربيد أم َّ‬ ‫يف ٍ‬
‫يأس إذا َّ‬
‫حكت عنها أغنيات مثل ”‪ “Please Mr. Postman‬لفريق البيتلز ومارفلتس‪ ،‬و”‪“Why Don't You Write Me‬‬
‫لسامين وجارفنكل)‪ .‬حىت عندما أتاحت املكاملات اهلاتفية الدولية لألشخاص التواصل مع أحدهم‪ ،‬فإن التكلفة الباهظة قيَّدت محيمية‬
‫التواصل‪ .‬يتذكر أبناء جيلي غرابة التحدث سر ًيعا عرب اهلواتف العامة يف الكابينات ووضع النقود املعدنية فيها‪ ،‬أو الركض السريع عندما‬
‫بتبخر أموال اإلجيار أثناء حمادثة هاتفية ممتعة‪ .‬نصحنا‬
‫قائال‪( :‬إهنا مكاملة دولية!!!)‪ ،‬أو الشعور ُّ‬
‫يناديك أحد أفراد األسرة للرد على اهلاتف ً‬
‫إدوارد مورجان فورسرت (‪ )E. M. Forster‬بأن «نتواصل فقط»‪ ،‬وتتيح لنا التكنولوجيا اإللكرتونية بالتواصل كما مل نفعل من قبل‪.‬‬
‫حيث يتمتَّع اليوم حوايل نصف سكان العامل بإمكانية الوصول إىل اإلنرتنت وثالثة أرباعهم بإمكانية احلصول على هاتف حممول‪،‬‬
‫وأصبحت التكلفة احلدية للمحادثات الدولية صفرا تقريبا‪ ،‬ويستطيع املتحدِّثون اآلن أن يروا الطرف اآلخر أيضا ٍ‬
‫إضافة إىل االستماع إىل‬ ‫ً‬ ‫ً ً‬
‫صوته‪.‬‬
‫فإن اخنفاض تكلفة التصوير ميثِّل هدية أخرى لثراء التجربة‪ ،‬ففي احلقب املاضية مل ي ُكن لدى األشخاص ما‬ ‫ومبناسبة الرؤية‪َّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫يذكرهم بأحد أفراد أسرهتم حيًّا كان أو ميتًا سوى صورة ذهنية‪َّ ،‬أما اليوم فتنتايب عدة موجات من االمتنان على النعم الكثرية اليت أمتتع‬
‫أيضا للمرء أن حييا اللحظات املهمة يف‬ ‫هبا عندما تقع عيناي على صورة ملن أحبهم‪ ،‬مثل املليارات من البشر‪ .‬يتيح التصوير الرخيص ً‬
‫وقت بعيد وكبار السن يف ربيع‬‫ات كثرية ال مرة واحدة‪ ،‬مثل املناسبات اخلاصة واملناظر املذهلة ومناظر املدينة اليت اختفت منذ ٍ‬ ‫احلياة مر ٍ‬
‫صغارا واألطفال عندما كانوا رضيعني‪.‬‬
‫عمرهم والبالغني عندما كانوا ً‬
‫حىت يف املستقبل‪ ،‬عندما يكون لدينا واقع افرتاضي جمسم ثالثي األبعاد بالصوت احمليطي والقفازات التالمسية ذات اهليكل‬
‫فإن تضاؤل تكلفة النقل واملواصالت نعمة أخرى‬ ‫ميكننا من ملسهم‪ ،‬لذا َّ‬‫اخلارجي‪ ،‬فسنظل نرغب يف أن نكون بالقرب ممن حنبهم مما ِّ‬
‫معا‪ ،‬وأزالت إتاحة السفر بالطائرات للعامة‬ ‫نعمت هبا البشرية‪ ،‬فقد ضاعفت القطارات واحلافالت والسيارات فرصنا يف اللقاء واالجتماع ً‬
‫حواجز املسافات واحمليطات‪ .‬إن مصطلح )‪- (Jet Set‬أي فئة مرتادي الطائرات‪ -‬الذي يشري إىل املشاهري األنيقني مصطلح قدمي يعود‬
‫إىل الستينيات‪ ،‬عندما مل ي ُكن أكثر من ُمخس األمريكيني قد سافروا بالطائرة‪ .‬رغم تكاليف الوقود شديدة االرتفاع‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن السعر احلقيقي‬
‫للسفر بالطائرة يف الواليات املتحدة قد اخنفض مبقدا ٍر أكرب من النصف منذ أواخر السبعينيات‪ ،‬عندما حتررت خطوط الطريان من القيود‬
‫دوالرا (بدوالر‬
‫التنظيمية (الشكل رقم ‪ ،)7-17‬ففي عام ‪ 1974‬كانت تكلفة السفر بالطيارة من نيويورك إىل لوس أجنلوس ‪ً 1,442‬‬
‫عدد أكرب من الناس بالطائرات فقد سافر‬ ‫عام ‪ ،)2011‬أما اليوم فتكلفته قد تكون أقل من ‪ 300‬دوال ٍر‪ .‬مع هبوط األسعار‪ ،‬سافر ٌ‬
‫رحلة ذهاب وإياب واحدة على األقل‪ .‬رمبا تضطر إىل املباعدة بني ساقيك عندما يفتِّشك‬ ‫أكثر من نصف األمريكيني يف عام ‪ 2000‬يف ٍ‬
‫ولكن احملبني يف ٍ‬
‫عالقة عاطفية عن بعد‬ ‫رجال األمن‪ ،‬ورمبا يصطدم كوع أحدهم بضلوعك ويصطدم ظهر املقعد الذي أمامك بذقنك‪َّ ،‬‬
‫بعضا‪ ،‬وإذا مرضت والدتك ستستطيع أن تصل إليها يف اليوم التايل‪.‬‬
‫يستطيعون اآلن رؤية بعضهم ً‬
‫التكلفة لكل ميل (بدوالر عام ‪)2015‬‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 7 - 1 7‬ت ك ل ف ة ا ل س ف ر ب ا ل ط ريا ن يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة م ن ذ ‪ 1 9 7 9‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫ببيانات من رابطة اخلطوط اجلوية من أجل أمريكا )‪،(Airlines for America‬‬ ‫ٍ‬ ‫المصدر‪ ،Thompson 2013 :‬حمدَّث‬
‫‪ .http://airlines.org/dataset/annual-round-trip-fares-and-fees-domestic/‬الطريان الداخلي‪ ،‬دون حساب رسوم‬
‫احلقائب املسجلة (اليت قد تزيد التكلفة املتوسطة للركاب ذوي احلقائب املسجلة مبقدار نصف سنت لكل ميل ابتداءً من عام ‪.)2008‬‬

‫أيضا جتربة املشاهد الساحرة اخليالية‬


‫تؤدي املواصالت ذات التكلفة املعقولة إىل أكثر من جمرد مل الشمل‪ ،‬فهي تتيح لألشخاص ً‬
‫منجدها عندما نقوم هبا حنن ونطلق عليها «السفر» ونلعنها عندما يفعلها اآلخرون ونطلق‬ ‫يف كوكب األرض‪ ،‬وهذه هي التسلية اليت ِّ‬
‫عليها «السياحة»‪ ،‬ولكنَّها بالتأكيد تُعد أحد األمور اليت جتعل احلياة تستحق أن نعيشها‪ .‬أن نرى منتزه جراند كانيون ونيويورك والشفق‬
‫توسع منظور إدراكنا‪ ،‬مما يتيح لنا استيعاب اتساع املكان والزمان والطبيعة‬ ‫القطيب والقدس‪ ،‬ليست هذه جمرد متع حسية‪َّ ،‬‬
‫وإمنا هي جتارب ِّ‬
‫واملبادرة لدى البشر‪ .‬رغم أنَّنا نستاء من احلافالت السياحية الكبرية واملرشدين السياحيني‪ ،‬وأفواج السياح الذين يلتقطون صور السيلفي‬
‫بأن احلياة تكون أفضل عندما يستطيع الناس توسيع نطاق وعيهم بكوكبنا ونوعنا‬ ‫مرتدين سراويلهم القصرية املبتذلة‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن علينا اإلقرار َّ‬
‫بدال من أن يظلوا حبيسي نطاق حمل ميالدهم‪ .‬مع زيادة الدخل املتاح لإلنفاق وتراجع تكلفة السفر بالطائرات‪ ،‬أصبح املزيد من الناس‬ ‫ً‬
‫يستكشفون العامل‪ ،‬كما سنرى يف الشكل رقم ‪.8-17‬‬
‫عدد الوافدين (بالمليار)‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 8 - 1 7‬ا ل س ي ا ح ة ا ل د ول ي ة م ن ذ ‪ 1 9 9 5‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫ٍ‬
‫بيانات من منظمة السياحة العاملية‪ ،‬حولية إحصاءات السياحة ( ‪Yearbook of‬‬ ‫استنادا إىل‬ ‫المصدر‪ :‬البنك الدويل )‪،(World Bank 2016e‬‬
‫ً‬
‫)‪.Tourism Statistics‬‬

‫وال يصطف املسافرون يف طواب ٍري أمام متاحف الشمع وعامل ديزين فقط‪ .‬يتجاوز عدد املناطق احملمية من التنمية واالستغالل‬
‫كثريا يف العامل الطبيعي ُحتفظ يف حمميات طبيعية‬ ‫ٍ‬
‫االقتصادي ‪ 160,000‬منطقة يف العامل وهذا العدد يف زيادة يومية‪ ،‬فهناك مناطق أكثر ً‬
‫كما رأينا يف الشكل رقم ‪.6-10‬‬
‫يُعد الطعام أحد األشياء األخرى اليت اتسع فيها نطاق جتاربنا اجلمالية‪ ،‬فقد كان نظام الغذاء األمريكي يف أواخر القرن التاسع‬
‫أساسا من حلم اخلنزير والنشويات‪ .‬كانت أغلب اخلضروات والفواكه ستفسد قبل وصوهلا إىل املستهلك لوال وجود تقنية‬ ‫عشر يتكون ً‬
‫التربيد ووسائل النق ل اآليل‪ ،‬لذا زرع املزارعون احملاصيل اليت ال تتلف مثل اللفت والفول والبطاطس‪ ،‬وكانت الفاكهة الوحيدة املوجودة‬
‫هي التفاح‪ ،‬واستخدم معظمها يف عمل عصري التفاح (كانت متاجر اهلدايا التذكارية يف والية فلوريدا تبيع حقائب الربتقال للسياح كي‬
‫يقدِّموها هدايا ألقربائهم وأصدقائهم حىت سبعينيات القرن العشرين)‪ .‬أُطلق على النظام الغذائي األمريكي نظام "اخلبز األبيض"‬
‫و"البطاطس واللحم" لسبب وجيه‪ ،‬ورمبا كان الطهاة املغامرون يقلون بعض شرائح حلم اخلنزير املعلَّب‪ ،‬أو فطرية تفاح كاذبة مصنوعة من‬
‫عرفنا هبا املهاجرون غريبة لدرجة‬
‫بسكويت ريتز‪ ،‬أو «السلطة املثالية» (وهي سلطة الكولسلو جبيلي الليمون)‪ .‬كانت املطابخ اجلديدة اليت َّ‬
‫َّأهنا أصبحت مثار النكات‪ ،‬مبا فيها املطبخ اإليطايل («ماما ميا! كرات اللحم حارة للغاية!») واملكسيكي («حيل مشكلة العجز يف‬
‫طعاما»)‪َّ .‬أما اليوم فستجد حىت يف البلدات الصغرية وصاالت‬ ‫الغاز») والصيين («جتوع ثانيةً بعد ساعة») والياباين («إنَّه طُعم ليس ً‬
‫الطعام يف األسواق التجارية قوائم طعام عاملية‪ ،‬وجتد أحيانًا كل هذه املطابخ إضافةً إىل املطبخ اليوناين والتايلندي واهلندي والفيتنامي‬
‫أيضا‪ ،‬من بضع مئات من األغراض يف عشرينيات القرن املاضي إىل ‪ 2200‬يف اخلمسينيات‬ ‫والشرق أوسطي‪ ،‬وزاد البقالون معروضاهتم ً‬
‫و‪ 17,500‬يف الثمانينيات و‪ 39,500‬يف عام ‪.2015‬‬
‫آخرا‪ ،‬زادت إمكانية الوصول إىل أجود منتجات العقل البشري ووصلت إىل العامة‪ ،‬يصعب علينا إعادة متثيل امللل‬ ‫أخريا وليس ً‬
‫ً‬
‫أيضا‬
‫املزعج الذي كان خييم على املنازل الريفية املعزولة يف املاضي‪ ،‬ففي أواخر القرن التاسع عشر مل ي ُكن هناك إنرتنت‪ ،‬ومل ي ُكن هناك ً‬
‫ٍ‬
‫صحف‪ ،‬فكان ما يفعله الرجال للرتفيه‬ ‫راديو وال تليفزيون وال أفالم وال تسجيالت موسيقية‪ ،‬ومل ت ُكن أغلبية املنازل حتتوي على ٍ‬
‫كتب أو‬
‫هو الذهاب إىل احلانات للشرب‪ .‬كان الكاتب واحملرر ويليام دين هاولز (‪ )William Dean Howells‬الذي عاش بني عامي‬
‫طفال بإعادة قراءة صفحات جريدة قدمية استخدمها والده كورق حائط يف مقصورهتم يف‬ ‫‪ 1837‬و‪ 1920‬يسلِّي نفسه عندما كان ً‬
‫أوهايو‪.‬‬
‫يستطيع ساكن الريف اليوم االختيار من بني مئات القنوات التليفزيونية ونصف مليار موق ٍع إلكرتوين‪ ،‬واحلصول على كل الصحف‬
‫قرن)‪ ،‬وكل عمل أديب سقطت حقوق التأليف والنشر اخلاصة به‪،‬‬ ‫واجملالت يف العامل (مبا يشمل األرشيف الذي يعود إىل أكثر من ٍ‬
‫وموسوعة أكرب من سبعني ضعف حجم املوسوعة الربيطانية وتتمتَّع بنفس القدر من الدقة تقريبًا‪ ،‬وكل األعمال الفنية واملوسيقية‬
‫الكالسيكية‪ ،‬ويستطيع التحقُّق من صحة اإلشاعات باستخدام موقع ‪ ،Snopes‬ويعلِّم نفسه الرياضة والعلوم يف أكادميية خان‪ ،‬ويبين‬
‫قدرته اللغوية باستخدام قاموس التراث األمريكي )‪ ،(American Heritage Dictionary‬ويثقِّف نفسه باستخدام موسوعة‬
‫ستانفورد للفلسفة )‪ ،(Stanford Encyclopedia of Philosophy‬ويشاهد حماضرات كبار الباحثني وال ُكتَّاب والنُـقَّاد يف‬
‫العامل الذين تويف كثري منهم منذ ٍ‬
‫وقت طويل‪ .‬لن يضطر هليل‪ 2‬الفقري اليوم أن يُغشى عليه بفعل الربد أثناء اسرتاق السمع إىل الدروس‬ ‫ٌ‬
‫من خالل الكوة يف سقف املدرسة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بشكل هائل حىت لألثرياء من سكان احلضر الغربيني الذين لطاملا أداروا قصور الثقافة‪.‬‬ ‫وزادت إمكانية الوصول للفنون واآلداب‬
‫عرض حملية أو على التليفزيون يف آخر‬‫ات حىت يُعرض فيلم كالسيكي يف دار ٍ‬ ‫عندما كنت طالبا‪ ،‬كان على حميب األفالم انتظار سنو ٍ‬
‫ُ ً‬
‫الليل‪ ،‬هذا إذا ُع ِرض من األساس‪َّ ،‬أما اليوم فيمكن بثه عند الطلب‪ .‬ميكنين االستماع إىل أي أغنية من بني آالف األغنيات أثناء اجلري‬
‫أو غسيل الصحون أو االنتظار يف طابوٍر يف إدارة تسجيل السيارات‪ ،‬ببضع نقرات‪ ،‬ميكن أن أنسى نفسي وسط األعمال الكاملة‬
‫لكارافاجيو )‪ ،(Caravaggio‬أو اإلعالن الدعائي األصلي لفيلم )‪ ،(Rashomon‬أو ديالن توماس (‪)Dylan Thomas‬‬
‫وهو يلقي قصيدة ”‪ ،“And Death Shall Have No Dominion‬أو إلينور روزفلت (‪)Eleanor Roosevelt‬‬
‫وهي تتلو اإلعالن العاملي حلقوق اإلنسان‪ ،‬أو ماريا كاالس (‪ )Maria Callas‬وهي تغين ”‪ ،“O mio babbino caro‬أو‬
‫بيلي هوليداي (‪ )Billie Holiday‬وهي تغين ”‪ ،“My Man Don't Love Me‬أو سولومون ليندا ( ‪Solomon‬‬
‫حتسن مساعات األذن هاي‬ ‫ظرف منذ بضع سنوات‪ِّ .‬‬ ‫‪ )Linda‬وهو يغين ”‪ ،“Mbube‬وهي جتارب مل أ ُكن ألحظى هبا حتت أي ٍ‬
‫مكربات الصوت اليت تصدر صوتًا‬ ‫فاي‪ ،‬وقريبًا نظارات الواقع االفرتاضي املصنوعة من الورق املقوى‪ ،‬من التجربة اجلمالية أكثر من ِّ‬
‫مشوشا ونسخ األفالم الباهتة باألبيض واألسود واليت تعود إىل فرتة شبايب‪ .‬ويستطيع من حيب األوراق أن يشرتي نسخةً مستعملة من‬ ‫ً‬
‫رواية الدفتر الذهبي )‪ ،(The Golden Notebook‬لدوريس ليسنج )‪ ،(Doris Lessing‬أو رواية نيران شاحبة ‪(Pale‬‬
‫)‪ ،Fire‬لفالدميري نابوكوف )‪ ،(Vladimir Nabokov‬أو كتاب أكيه‪ :‬سنوات الطفولة ‪(Aké: The Years of‬‬

‫للحث على طلب العلم والدراسة‪ ،‬إذ يروى عنه أنه حين عجز عن‬ ‫ّ‬ ‫‪ 2‬هيليل هو حاخام يهودي ولد في بابل بحوالي قرن قبل الميالد‪ ،‬يضرب به المثل‬
‫دفع رسوم دخول المدرسة‪ ،‬صعد إلى كوّ ة في السقف‪ ،‬واسترق السمع للدروس من هناك‪ ،‬ولم يثنيه البرد الشديد وال انهمار الثلج عن التعلّم‪.‬‬
‫)‪Childhood‬لوويل سوينكا (‪ )Wole Soyinka‬مقابل دوال ٍر واحد‪.‬‬
‫يج من تكنولوجيا اإلنرتنت وحشد مصادر آالف املتطوعني إىل الوصول املفاجئ إىل أعمال البشرية العظيمة‪ .‬ال حاجة‬ ‫َّأدى مز ٌ‬
‫للتساؤل عن أعظم احلقب من ناحية الثقافة‪ ،‬فاإلجابة بالتأكيد هي اليوم‪ ،‬حىت حيل الغد حمله‪ ،‬وال تعتمد اإلجابة على مقارنات فردية‬
‫تلق كثريٌ من األعمال العظيمة يف‬
‫بني جودة أعمال اليوم وأعمال املاضي (وهي مقارنات لسنا يف وض ٍع يسمح لنا بإجرائها‪ ،‬كما مل َ‬
‫ٍ‬
‫بشكل مذهل‪ ،‬ففي متناول يدينا كل أعمال العباقرة‬ ‫تقديرا يف عصرها)‪ .‬ينبع ذلك من إبداعنا املتواصل وذاكرتنا الثقافية الرتاكمية‬
‫املاضي ً‬
‫أن من سبقونا مل ي ُكن لديهم هذه وال تلك‪ ،‬واألفضل من ذلك َّ‬
‫أن مرياث العامل الثقايف‬ ‫الذين سبقونا‪ ،‬إضافةً إىل عباقرة عصرنا‪ ،‬يف حني َّ‬
‫شخص متصل بشبكة املعرفة الشاسعة‪ ،‬أي ألغلب البشرية‪ ،‬بل‬ ‫ٍ‬ ‫متاحا اآلن لألغنياء واملقيمني يف املواقع اجليدة فحسب‪ ،‬بل ألي‬
‫ليس ً‬
‫وقريبًا كلها‪.‬‬
‫الفصل الثامن عشر‪:‬‬
‫السعادة‬

‫ولكن هل حنن أسعد اآلن؟ ال بد أن نكون أسعد لو كان عندنا بذرة امتنان للكون‪ .‬كان لدى املواطن األمريكي يف عام ‪ 2015‬تسع‬
‫سنوات إضافية يف حياته مقارنةً مبن سبقوه بنصف قرن ‪ ،‬وحظى بثالث سنوات إضافية من التعليم‪ ،‬وجيين ‪ 33‬ألف دوال ٍر إضايف سنويًّا‬
‫بدال من نصفها)‪ ،‬ويتمتع بثماين ساعات إضافية من وقت الفراغ‬ ‫لكل فرد من أفراد األسرة (ال يُنفق سوى ثُلثها على الضروريات‪ً ،‬‬
‫أسبوعيًّا‪ ،‬وميكنه أن يقضي وقت الفراغ يف القراءة على اإلنرتنت‪ ،‬أو االستماع إىل املوسيقى عرب اهلاتف الذكي‪ ،‬أو مشاهدة األفالم على‬
‫بدال من شرائح‬‫شاشات التليفزيون عالية اجلودة‪ ،‬أو التحدث مع األصدقاء أو األقرباء عرب برنامج سكايب‪ ،‬أو تناول الطعام التايلندي ً‬
‫حلم اخلنزير املقلية‪.‬‬
‫فإن األمريكيني اليوم ليسوا أسعد مبقدار الضعف ونصف الضعف (كما‬ ‫دليال على شيء‪َّ ،‬‬
‫ولكن‪ ،‬إذا كانت االنطباعات الشائعة ً‬
‫كانوا سيصبحون لو كانت السعادة تتبع الدخل) أو مبقدار الثُلث (لو كانت تتبع التعليم) أو حىت مبقدار الثُمن (لو كانت تتبع طول‬
‫دائما‪ ،‬فقد ظلَّت نسبة األمريكيني الذين‬
‫أن الناس يشكون ويتأوهون ويتأففون ويعرتضون ويتذمرون مثلما كانوا يفعلون ً‬ ‫العمر)‪ .‬يبدو َّ‬
‫بأهنم سعداء ثابتةً طيلة عقود‪ .‬انتبهت الثقافة الشعبية إىل هذا اجلحود يف شكل «امليمز» على اإلنرتنت‬ ‫خيربون مستطلعي اآلراء َّ‬
‫و«هاشتاج» ‪( firstworldproblems#‬أي مشاكل دول العامل األول) على تويرت وحوار الكوميديان لوي سي كي ( ‪Louis‬‬
‫‪ )C.K.‬املشهور بعبارة «كل شيء رائع وال أحد سعيد» الذي يقول فيه‪:‬‬

‫إن أسس الرأمسالية تتحطَّم»‪ ،‬أقول رمبا حنتاج إىل بعض الوقت الذي نتجول خالله ممتطني ً‬
‫محارا‬ ‫عندما أقرأ عبارات مثل « َّ‬
‫هدر على أسوأ ٍ‬
‫جيل‪ ،‬فهو‬ ‫على جانبيه بعض القدور اليت ترتطم بعضها ببعض‪ ..‬ألنَّنا اآلن نعيش يف عا ٍمل مذهل‪ ،‬وهو ُم ٌ‬
‫مليء باحلمقى املدلَّلني‪..‬‬
‫كنت أشاهد مقاطع‬ ‫كنت على منت طائرة وكان هبا إنرتنت عايل السرعة‪ ،‬وكان هذا أحدث ما رأيته‪ ،‬وكان سر ًيعا‪ ،‬و ُ‬ ‫ُ‬
‫مذهال‪ ،‬مث تعطَّل واعتذر الطاقم‪ ،‬فقال الرجل اجلالس جواري «أُف! هذه سخافة!»‬ ‫فيديوهات على يوتيوب‪ ،‬وكان الوضع ً‬
‫ألن الناس يعودون‬‫هبذه السرعة أصبح العامل مدينًا له بشيء مل ي ُكن يعرف بوجوده قبل عشر ثو ٍان! والطريان أسوأ مثال‪َّ ،‬‬
‫من رحالهتم بالطائرات مث خيربونك بقصتهم‪ ..‬فيقولون‪« :‬كان اليوم أسوأ أيام حيايت‪ ..‬صعدنا على منت الطائرة وظللنا‬
‫جالسني منتظرين يف املدرج أربعني دقيقة»‪ ..‬حقًّا؟ وماذا حدث بعد ذلك؟ هل طرمت يف اهلواء كالطري؟ هل حلَّقتم بني‬
‫بعجالت عمالقة ال تستطيعون تصور كيفية وضع‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بسالسة‬ ‫السحب؟ هل شاركتم يف معجزة طريان اإلنسان؟ مث هبطتم‬
‫تأخريا يف‬
‫إن هناك ً‬ ‫اهلواء بداخلها؟‪ ..‬إنَّكم جتلسون على كرسي يف السماء‪ ،‬كأنَّكم يف أسطورة إغريقية!‪ ..‬ويقول الناس َّ‬
‫جوا بطيء؟ من نيويورك إىل كاليفورنيا يف مخس ساعات‪ ،‬كانت هذه الرحلة تستغرق ثالثني سنة!‬ ‫أن الطريان ًّ‬ ‫الرحالت؟‪ ..‬و َّ‬
‫وكان بعض الناس ميوتون يف الطريق‪ ،‬ورمبا كنت ستُصاب بسه ٍم يف عنقك‪ ،‬وكان اآلخرون سيدفنونك ويضعون عصا فوق‬
‫مجيعا بني أرجلنا!‬
‫مدفنك ويضعون عليها قبعتك مث يواصلون مسريهتم‪ ..‬لو علم األخوان رايت ما حيدث لضربونا ً‬
‫أن الناس‬‫قائال‪« :‬يبدو َّ‬
‫صا الفهم الشائع للحداثة يف ذلك الوقت ً‬ ‫ملخ ً‬
‫كتب جون مولر )‪ (John Mueller‬يف عام ‪ِّ 1999‬‬
‫التحسن االقتصادي امللحوظ واستطاعوا مبهارةٍ العثور على خماوف جديدة تزعجهم‪ ،‬إ ًذا فبصورةٍ ما‪ ،‬األمور ال َّ‬
‫تتحسن مطل ًقا»‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫قد تقبَّلوا‬
‫توصل االقتصادي ريتشارد إيسرتلن‬ ‫قائما على أكثر من االنطباعات عن الوعكة األمريكية فقط‪ ،‬ففي عام ‪َّ 1973‬‬ ‫كان هذا الفهم ً‬
‫أن األشخاص األغىن‬ ‫(‪ )Richard Easterlin‬إىل مفار ٍقة ُمسيت تيمنًا به‪ ،‬إذ رغم أنَّه عند إجراء املقارنة داخل دولة واحدة جند َّ‬
‫أن األشخاص األغىن يبدو َّأهنم ليسوا أسعد من األفقر‪ ،‬وعند املقارنة بني خمتلف األزمنة‬‫أسعد‪َّ ،‬إال أنَّه عند املقارنة بني خمتلف الدول جند َّ‬
‫أن الناس مل يصبحوا أسعد عندما أصبحت دوهلم أغىن‪.‬‬ ‫جند َّ‬
‫فسرت اثنتان من نظريات علم النفس مفارقة إيسرتلن‪ ،‬وف ًقا لنظرية ثبات مستوى السعادة (أو «مشاية السعادة» ‪Hedonic -‬‬ ‫َّ‬
‫فإن األشخاص يتأقلمون مع التغريات اليت تطرأ عليهم كما تعتاد العيون على الضوء أو الظالم‪ ،‬ويعودون سر ًيعا إىل‬ ‫‪َّ )Treadmill‬‬
‫مستوى القاعدة الذي حددته هلم العوامل الوراثية‪ .‬ووف ًقا لنظرية املقارنة االجتماعية (أو اجملموعات املرجعية أو القلق بشأن السعي إىل‬
‫فإن سعادة األشخاص تتحدَّد مبدى ُحسن حاهلم يف رأيهم‬ ‫املكانة االجتماعية أو احلرمان النسيب‪ ،‬الذي نظرنا فيه يف الفصل التاسع)‪َّ ،‬‬
‫مقارنةً بأقراهنم‪ ،‬لذا فعندما تزداد الدولة بأكملها غىن‪ ،‬ال يشعر أحد باملزيد من السعادة‪ ،‬فإذا اخنفض معدل املساواة يف بلدهم‪ ،‬فرمبا‬
‫يسوء شعورهم حىت إذا ازدادوا غىن‪.‬‬
‫إذا كانت األمور ال تتحسن مطل ًقا هبذا املعىن‪ ،‬فيمكن للمرء التساؤل عما إذا كان كل ذلك التقدم االقتصادي والطيب والتكنولوجي‬
‫كال من زيادة النزعة الفردانية واملادية واالستهالكية والثروة السفيهة‪،‬‬‫إن ًّ‬
‫املزعوم ذا جدوى‪ .‬ويقول الكثريون إنَّه ليس ذا جدوى‪ ،‬ويقولون َّ‬
‫وتآكل اجملتمعات التقليدية ذات الروابط االجتماعية احلميمة واإلحساس باملعىن والغاية اليت مينحهم الدين إياها‪ ،‬أدى إىل إفقارنا روحانيًّا‪.‬‬
‫تفاعا بالغًا ويف اشتهار السويد ‪-‬تلك اجلنة‬ ‫أن هذا هو السبب يف ارتفاع معدالت االكتئاب والقلق والوحدة واالنتحار ار ً‬ ‫كثريا َّ‬
‫ونقرأ ً‬
‫شن الناشط جورج مونبيوت (‪ )George Monbiot‬محلةً كحمالت املتشائمني القدمية‬ ‫العلمانية‪ -‬مبعدالت مرتفعة من االنتحار‪َّ .‬‬
‫فيما خيص الثقافة ضد احلداثة يف مقال رأي بعنوان «النيوليبرالية تؤدي إلى الوحدة وهذا ما يمزق المجتمع» ( ‪Neoliberalism‬‬
‫)‪ ، Is Creating Loneliness. That's What's Wrenching Society Apart‬وكان شعارها‪« :‬وباء األمراض‬
‫قائال‪« :‬تعكس أحدث‬ ‫النفسية حيطِّم عقول وأجسام املاليني‪ ،‬وآن األوان أن نسأل إىل أين حنن متجهون وملاذا»‪َّ .‬‬
‫وحذر املقال نفسه ً‬
‫األرقام املأساوية الدالة على صحة األطفال النفسية يف إجنلرتا أزمةً عاملية»‪.‬‬
‫إذا كانت كل تلك السنوات اإلضافية من احلياة والصحة‪ ،‬وكل تلك املعرفة اإلضافية ووقت الفراغ اإلضايف واتساع نطاق التجربة‪،‬‬
‫وميال إىل االنتحار‪،‬‬
‫شعورا بالوحدة ً‬
‫وإمنا جعلتنا أكثر ً‬‫وكل تلك التطورات يف السالم واألمان والدميقراطية واحلقوق‪ ،‬مل جتعلنا أسعد حقًّا َّ‬
‫فسيكون هذا أكرب مقلب لعبه التاريخ على البشرية‪ .‬ولكن قبل أن نبدأ يف التجول على ظهر محا ٍر على جانبيه بعض القدور اليت ترتطم‬
‫بعضها ببعض‪ ،‬من األفضل أن ننظر عن ٍ‬
‫كثب يف احلقائق اخلاصة بسعادة البشر‪.‬‬

‫مهما يف العلوم االجتماعية‪،‬‬


‫موضوعا ًّ‬
‫ً‬ ‫املفكرون‪ ،‬منذ العصر احملوري على األقل‪ ،‬فيما ِّ‬
‫يشكل حياةً جيدة‪ ،‬وأصبحت السعادة اليوم‬ ‫تأمل ِّ‬
‫َّ‬
‫بدال من الشعراء والفالسفة وُكتَّاب‬ ‫ويشعر بعض املثقَّفون باالرتياب‪ ،‬بل وباإلهانة‪ ،‬من َّ‬
‫أن السعادة أصبحت موضوع دراسة االقتصاديني ً‬
‫ولكن مناهجهم ليست متعارضة‪ .‬ينطلق علماء االجتماعيات يف دراساهتم للسعادة غالبًا من أفكا ٍر كانت يف األصل من‬ ‫املقاالت‪َّ ،‬‬
‫تصور الفنانني والفالسفة‪ ،‬وميكنهم طرح أسئلة عن األمناط التارخيية والعاملية ال ميكن أن جييب ُّ‬
‫التفكر املنفرد وحده عنها‪ ،‬مهما كان‬
‫أوال‬ ‫ٍ‬
‫خاصة على السؤال عما إذا كان التقدُّم قد جعل الناس أسعد أم ال‪ .‬لإلجابة عن هذا السؤال‪ ،‬علينا ً‬ ‫متبصرا‪ ،‬وينطبق هذا بصورةٍ‬
‫ً‬
‫أن هندِّئ من ارتياب املعارضني من احتمالية قياس السعادة من األساس‪.‬‬
‫حاال يف بعض‬
‫احدا‪ ،‬فقد يكون الناس أفضل ً‬
‫عدا و ً‬ ‫يتفق كلٌّ من الفنانني والفالسفة وعلماء االجتماعيات على َّ‬
‫أن الرفاهة ليست بُ ً‬
‫لنفرق بني اجلوانب الكربى‪.‬‬
‫حاال يف جوانب أخرى‪ِّ .‬‬‫اجلوانب وأسوأ ً‬
‫ميكن أن نبدأ باجلوانب املوضوعية من الرفاهة‪ ،‬مثل اهلدايا اليت نعتربها قيِّمة يف ذاهتا سواء أكان مالكوها يقدِّروهنا أم ال‪ ،‬وتتصدر‬
‫أيضا الصحة والتعليم ووقت الفراغ واحلرية‪ .‬هذه هي العقلية اليت ينطلق منها نقد لوي سي‬ ‫تلك القائمة احلياة نفسها‪ ،‬وتشمل القائمة ً‬
‫إن األشخاص‬ ‫كي االجتماعي‪ ،‬واليت ينطلق منها جزئيًّا تصور أمارتيا سن ومارثا نوسبام للقدرات البشرية األساسية‪ .‬ميكن أن نقول َّ‬
‫حاال حقًّا حىت لو كان مزاجهم حزينًا أو سيئًا‪ ،‬أو لو كانوا محقى‬
‫الذين يعيشون حياة طويلة ويتمتعون فيها بصحة جيدة ومحاس أفضل ً‬
‫أن احلياة والصحة واحلرية من املقتضيات الضرورية‬ ‫مدلَّلني ومل حيصوا النعم اليت يتمتَّعون هبا‪ .‬من أسباب هذه النزعة األبوية الواضحة َّ‬
‫أيضا َّ‬
‫أن‬ ‫التأمل يف األشياء اليت متثل قيِّ ًما يف احلياة‪ ،‬ولذا فهذه األمور قيِّمة بطبيعتها‪ ،‬ومنها ً‬
‫املسبقة لكل شيء آخر‪ ،‬مبا يشمل فعل ُّ‬
‫يشكلون عينة متحيزة من الناجني احملظوظني‪ .‬إذا كان بوسعنا استطالع آراء‬ ‫األشخاص الذين يتمتَّعون برفاهية عدم تقدير حظهم اجليد ِّ‬
‫أرواح األطفال واألمهات امليتني وضحايا احلروب واجملاعات واألمراض‪ ،‬أو إذا عدنا بالزمن وقدمنا هلم اخليار بني أن يواصلوا حياهتم يف‬
‫العامل احلديث أو عامل ما قبل احلداثة‪ ،‬رمبا نكشف عن تقدي ٍر للحداثة أكثر تناسبًا مع مزاياها املوضوعية‪ .‬تناولت الفصول السابقة هذه‬
‫حتسنت مبرور الوقت أم ال‪.‬‬ ‫األبعاد من أبعاد الرفاهة‪ ،‬وصدر احلكم بشأن ما إذا كانت قد َّ‬
‫من بني هذه اخلريات اجلوهرية احلرية أو االستقاللية‪ ،‬أي إتاحة اخليارات يف عيش حياة جيدة (احلرية اإلجيابية) وغياب اإلجبار‬
‫الذي مينع الشخص من اختيار أحد هذه اخليارات (احلرية السلبية)‪ .‬أشار أمارتيا سن إىل هذه القيمة يف عنوان كتابه عن اهلدف األقصى‬
‫من تنمية األمم‪ :‬التنمية حرية‪ .‬ترتبط احلرية اإلجيابية بتصور االقتصادي للمرافق (ما يريده الناس وما ينفقون عليه ثروهتم) وترتبط احلرية‬
‫مسبق لتقييم‬
‫ط ٌ‬ ‫السلبية بتصور عامل السياسة للدميقراطية وحقوق اإلنسان‪ .‬كما ذكرت ساب ًقا َّ‬
‫فإن احلرية (إىل جانب احلياة واملنطق) شر ٌ‬
‫أن الناس يف املاضي‬ ‫ٍ‬
‫بأسلوب عاجز‪ ،‬فإنَّنا حني نقيِّم حالتنا نفرتض مسب ًقا َّ‬ ‫األمور اجليدة يف احلياة‪ ،‬ومامل ن ُكن نرثي مصرينا أو حنتفي به‬
‫خيارا فيما ننشده‪ ،‬وهلذه األسباب‬
‫أن أمامنا ً‬ ‫اختيارا آخر‪ ،‬وعندما نسأل إىل أين علينا أن نتوجه فإنَّنا نفرتض مسب ًقا َّ‬
‫ً‬ ‫كانوا سيختارون‬
‫َّ‬
‫فإن احلرية قيِّمة بطبيعتها‪.‬‬
‫متعا ضارة هبم‪ ،‬أو يندمون على اختياراهتم‬
‫احلرية مستقلة نظريًّا عن السعادة‪ ،‬فالناس قد يستسلمون ملغريات مهلكة‪ ،‬أو يشتهون ً‬
‫يف اليوم التايل‪ ،‬أو يتجاهلون النصيحة باحلذر مما يتمنون حدوثه‪َّ .‬أما عمليًّا فاحلرية تالزم األمور اجليدة األخرى يف احلياة‪ ،‬سواء أكان‬
‫لدولة بأكملها‪ ،‬أو ذاتيًّا من خالل تقدير األشخاص أنفسهم ما إذا كانوا يشعرون َّ‬
‫بأن‬ ‫تقييمها موضوعيًّا من خالل مؤشر الدميقراطية ٍ‬
‫لديهم «حرية االختيار والتحكم يف حياهتم»‪ ،‬ومن مث فإن مستوى السعادة يف دو ٍلة ما يرتبط مبستوى احلرية فيها‪ .‬خيص الناس احلرية‬
‫بالذكر بوصفها أحد مقومات احلياة اهلادفة ذات املعىن سواء أكانت تؤدي إىل حياة سعيدة أم ال‪ ،‬فرمبا يكون لديهم بعض األمور اليت‬
‫يتعرضون لبعض املصاعب‪ ،‬ولكنَّهم يعيشون احلياة بطريقتهم‪ ،‬كما قال فرانك سيناترا (‪ .)Frank Sinatra‬بل‬ ‫يندمون عليها ورمبا َّ‬
‫يفضل الناس االستقاللية على السعادة‪ ،‬فكثريٌ ممَّن خاضوا جتربة الطالق املؤملة على سبيل املثال لن خيتاروا العودة بالزمن إىل الوقت‬ ‫قد ِّ‬
‫ٍ‬
‫بشكل تقليدي‪.‬‬ ‫الذي كان يرتِّب اآلباء فيه زواج أبنائهم وبناهتم‬
‫ماذا عن السعادة نفسها؟ كيف ميكن للعلماء قياس شيء موضوعي كالرفاهة الشخصية؟ أفضل طريقة ملعرفة مدى سعادة الناس‬
‫هي سؤاهلم‪ ،‬فمن يستطيع تقييم األمر أفضل منهم؟ تظهر املمثلة جيلدا رادنر (‪ )Gilda Radner‬يف سكتش قدمي من برنامج‬
‫)‪ (Saturday Night Live‬يف حوار بعد عالقة جنسية مع شريكها املتوتر ‪-‬الذي قام بدوره تشيفي تشيس ( ‪Chevy‬‬
‫‪ -)Chase‬وهو قلق بشأن عدم وصوهلا للنشوة اجلنسية فتواسيه قائلةً‪« :‬أحيانًا أصل إىل النشوة اجلنسية وال أشعر هبا»‪ .‬نضحك ألن‬
‫صاحبة التجربة الذاتية لديها السلطة العليا فيما خيص جتربتها‪ .‬ولكن ليس علينا أن نسلِّم مبا يقوله الناس وحسب‪ ،‬يبدو َّ‬
‫أن اإلقرار الذايت‬
‫بالرفاهة يرتبط بكل األشياء األخرى اليت نرى َّأهنا تشري إىل السعادة مثل االبتسامات والسلوك املبتهج والنشاط يف أجزاء املخ اليت‬
‫تستجيب إىل األطفال اللطفاء وأحكام اآلخرين بصرف النظر عن جيلدا وتشيفي‪.‬‬
‫للسعادة جانبان‪ ،‬جانب جترييب أو شعوري وجانب تقييمي أو معريف‪ .‬يتكون العنصر التجرييب من تو ٍ‬
‫ازن بني العواطف اإلجيابية‬
‫مثل النشوة واالنبساط والزهو والبهجة‪ ،‬والعواطف السلبية مثل القلق والغضب واحلزن‪ .‬ويستطيع العلماء معاينة هذه التجارب فور‬
‫أوقات عشوائية وحيثهم على اإلشارة إىل شعورهم‪ ،‬ويكون املقياس‬ ‫حدوثها عن طريق ارتداء بعض األشخاص جهاز تنبيه ينطلق يف ٍ‬
‫النهائي للسعادة عبارة عن حاصل تكاملي أو مرجح على مدى احلياة لشعور األشخاص السعداء وكم من الوقت يدوم هذا الشعور‪.‬‬
‫أن معاينة التجارب هي الطريقة األكثر مباشرةً لتقييم الرفاهة املوضوعية‪َّ ،‬إال َّأهنا شاقة ومكلِّفة‪ ،‬وال توجد جمموعات بيانات جيدة‬
‫رغم َّ‬
‫تقارن بني أشخاص يف بلدان خمتلفة أو تتتبَّعهم على مدار سنوات‪ ،‬واحلل األفضل بعد ذلك هو سؤال األشخاص عن شعورهم يف وقت‬
‫السؤال أو عن شعورهم خالل اليوم أو األسبوع السابق حسب ما َّ‬
‫يتذكرون‪.‬‬
‫ويقودنا هذا إىل اجلانب اآلخر من الرفاهة‪ ،‬وهو تقييم األشخاص لطريقة حياهتم‪ .‬ميكن أن نطلب من األشخاص أن َّ‬
‫يتفكروا يف‬
‫عموما» أو «بالنظر إىل كل األمور»‪ ،‬أو أن يصدروا حكمهم الفلسفي على مكاهنم‬ ‫مدى الرضا الذي يشعرون به «هذه األيام» أو « ً‬
‫وتعرب ‪ 10‬عن «أفضل حياة ممكنة يف رأيك»‪ .‬جيد الناس هذه األسئلة‬ ‫تعرب ‪ 1‬عن «أسوأ حياة ممكنة يف رأيك» ِّ‬ ‫من ‪ 1‬إىل ‪ ،10‬إذ ِّ‬
‫صعبة (وال عجب من ذلك‪ ،‬مبا َّأهنا صعبة بالفعل)‪ ،‬ورمبا تكون إجاباهتم متأثرة بالطقس أو حالتهم املزاجية احلالية أو السؤال السابق‬
‫أثر كئيب‬ ‫ٍ‬
‫شخص عن السياسة ٌ‬ ‫الذي طُرح عليهم (فقد يكون لألسئلة املوجهة للطالب اجلامعيني عن حياهتم العاطفية أو املوجهة ألي‬
‫أن صورة السعادة والرضا ومفهوم أفضل حياة ممكنة وأسوأ حياة ممكنة ضبابية يف أذهان‬ ‫بالتأكيد)‪ .‬سلَّم علماء االجتماعيات حبقيقة َّ‬
‫معا يكون أسهل غالبًا‪.‬‬
‫مجيعا ً‬‫أن حساب متوسطها ً‬ ‫الناس و َّ‬
‫ولكن غياب القلق واحلزن ال‬ ‫ترتبط العواطف بالتقييمات بالطبع وإن كان ارتباطًا غري كامل‪ ،‬فوفرة السعادة ِّ‬
‫تشكل حيا ًة أفضل‪َّ ،‬‬
‫يؤدي إىل ذلك‪ .‬ويقودنا هذا إىل البُعد األخري من أبعاد احلياة اجليدة‪ ،‬وهو املعىن والغاية‪ ،‬وهذه هي اخلاصية اليت متثِّل ‪-‬إىل جانب‬
‫السعادة‪-‬الصورة األرسطية اليوداميونيا أو «الروح اجليدة»‪ ،‬فالسعادة ليست كل شيء‪ ،‬إذ ميكن أن نتخذ خيارات جتعلنا غري سعداء على‬
‫تاب أو الدفاع عن ٍ‬
‫قضية مهمة‪.‬‬ ‫طفل أو تأليف ك ٍ‬
‫املدى القريب ولكنَّها تشعرنا بالرضا على مدى احلياة‪ ،‬مثل تربية ٍ‬
‫أن عامل النفس روي باوميسرت ( ‪Roy‬‬ ‫رغم أنَّه ال يوجد إنسان يستطيع حتديد ما جيعل احلياة ذات معىن حقًّا‪َّ ،‬إال َّ‬
‫عما جيعل الناس يشعرون َّ‬
‫بأن حياهتم ذات معىن‪ .‬قيَّم املشاركون على حدة إىل أي مدى حياهتم سعيدة‬ ‫‪ )Baumeister‬وزمالءه حبثوا َّ‬
‫كثريا من األمور اليت جتعل‬ ‫وذات معىن‪ ،‬وأجابوا عن ٍ‬
‫قائمة طويلة من األسئلة عن أفكارهم وأنشطتهم وظروفهم‪ ،‬وتشري النتائج إىل َّ‬
‫أن ً‬
‫ولكن هناك‬
‫أيضا‪ ،‬مثل التواصل مع اآلخرين والشعور باإلنتاجية وعدم الشعور بالوحدة أو امللل‪َّ ،‬‬ ‫الناس سعداء جتعل حياهتم ذات معىن ً‬
‫أمورا أخرى قد تزيد حياة الناس سعاد ًة دون أن جتعلها ذات معىن أكرب أو أقل‪.‬‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫بصحة جيدة‬ ‫تكون مجيع احتياجات األشخاص الذين يعيشون حياة سعيدة‪ ،‬وإن مل ت ُكن بالضرورة ذات معىن‪ ،‬ملبَّاة‪ ،‬فيتمتَّعون‬
‫ات كثرية من الوقت‪َّ ،‬أما األشخاص الذين يعيشون حياة ذات معىن فرمبا ال يتمتَّعون‬ ‫وميتلكون ما يكفي من املال ويشعرون بارتياح لفرت ٍ‬
‫بأي من هذه النعم‪ .‬يعيش األشخاص السعداء يف احلاضر‪ ،‬يف حني تكون لدى أصحاب احلياة ذات املعىن قصة عن ماضيهم وخطة‬ ‫ٍّ‬
‫إن من يعيشون حياة سعيدة ولكن ال معىن هلا منتفعون ومتلقون‪ ،‬ومن يعيشون حياة ذات معىن ولكنَّها غري سعيدة ُحم ِسنون‬ ‫ملستقبلهم‪َّ .‬‬
‫ومعطاؤون‪ .‬جيد اآلباء املعىن يف أطفاهلم‪ ،‬ولكنَّهم ال جيدون فيهم السعادة بالضرورة‪ .‬الوقت الذي نقضيه مع أصدقائنا جيعل حياتنا‬
‫أسعد‪ ،‬والوقت الذي نقضيه مع أحبابنا جيعل حياتنا ذات معىن أكرب‪ ،‬والضغط والقلق واجلداالت والتحديات والصراعات جتعل احلياة‬
‫ٍ‬
‫مبازوخية عن املتاعب‪ ،‬ولكنَّه يعين َّأهنم يسعون‬ ‫أن أصحاب احلياة ذات املعىن يبحثون‬ ‫أقل سعادةً ولكن ذات معىن أكرب‪ .‬ال يعين ذلك َّ‬
‫فإن املعىن يتعلَّق بالتعبري وليس بإرضاء‬ ‫أخريا َّ‬
‫وراء أهداف طموحة‪« ،‬ما كل ما يتمىن املرء يدركه‪ ،‬جتري الرياح مبا ال تشتهي السفن»‪ .‬و ً‬
‫النفس‪ ،‬فهو يزداد باألنشطة اليت حتدِّد هوية الشخص وتبين مسعته‪.‬‬
‫ميكننا أن ننظر إىل السعادة بوصفها نتاج نظام بيولوجي قدمي للتغذية الراجعة يتتبع مدى التقدم الذي حنرزه يف سعينا وراء عالمات‬
‫املؤن والتواصل االجتماعي واجلنس واحلب‪.‬‬‫عموما عندما نتمتع بالصحة والراحة واألمان و َ‬
‫مبشِّرة بتوافقنا مع البيئة الطبيعية‪ ،‬فنكون أسعد ً‬
‫إن وظيفة السعادة هي أن حتثَّنا على البحث عن مفاتيح هذا التوافق‪ ،‬فحينما نكون تعساء‪ ،‬نتدافع وراء األمور اليت ستزيد نصيبنا من‬
‫يسجل األهداف اجلديدة واملتوسعة اليت تتاح أمامنا‬
‫السعادة‪ ،‬وحينما نكون سعداء‪ ،‬نقدِّر الوضع القائم‪َّ .‬أما املعىن‪ ،‬فعلى العكس‪ِّ ،‬‬
‫نفكر يف األهداف املتأصلة يف‬‫املفكرة املتكلِّمة اليت تشغل جمال اإلدراك املقتصر على البشر‪ .‬حنن ِّ‬
‫بوصفنا الكائنات االجتماعية الذكية ِّ‬
‫ٍ‬
‫أشخاص خارج دوائر معارفنا‪ ،‬واليت ال بد أن يوافق عليها اآلخرون استجابةً‬ ‫املاضي السحيق واليت متتد إىل املستقبل البعيد‪ ،‬واليت تؤثر يف‬
‫إىل قدرتنا على إقناعهم بقيمتها وإىل اشتهارنا باإلحسان والفعالية‪.‬‬
‫عدد‬
‫تقتضي حمدودية دور السعادة يف نفسية البشر أال يكون هدف التقدُّم هو زيادة السعادة إىل ما ال هناية على أمل أن يصبح ٌ‬
‫كثريا من التعاسة اليت ميكن احلد منها‪ ،‬وال حد ملا ميكن أن تصل إليه حياتنا من حيث‬
‫ولكن هناك ً‬
‫ابتهاجا‪َّ ،‬‬
‫ً‬ ‫أكرب من األشخاص أكثر‬
‫املعىن والغاية‪.‬‬

‫لنتفق على َّ‬


‫أن مواطين الدول املتقدِّمة ليسوا سعداءَ كما يفرتض أن يكونوا بالنظر إىل التقدُّم الرائع يف حظهم وحريتهم‪ ،‬ولكن‪ ،‬هل مل‬
‫ٍ‬
‫بأعداد قياسية؟ هل يعانون انتشار وباء الوحدة‬ ‫يصبحوا أسعد على اإلطالق؟ هل أصبحت حياهتم فارغة لدرجة َّأهنم خيتارون إهناءها‬
‫حتد للعدد املهول من فرص التواصل مع اآلخرين؟ هل أعجز االكتئاب واألمراض النفسية اجليل األصغر‪ ،‬مبا ينذر بشؤم على مستقبلنا؟‬ ‫يف ٍّ‬
‫كل من هذه األسئلة‪ ،‬كما سنرى‪( ،‬ال) قاطعة‪.‬‬
‫إجابة ٍّ‬
‫تُعد التصرحيات دون ٍ‬
‫دليل عن شقاء البشرية من املخاطر املهنية يف عمل الناقد االجتماعي‪ ،‬وقد كتب هنري ديفيد ثوريو‬
‫(‪ )Henry David Thoreau‬يف كتابه الكالسيكي ‪ Walden‬عام ‪« :1854‬يعيش مجوع البشر حياة تتَّسم باليأس‬
‫لشخص يعيش منعزًال يف مقصورة مطلة على بركة أن يعرف هذا‪ ،‬وخيتلف معه مجوع البشر‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫الساكن»‪ ،‬ومل يتَّضح لنا مطل ًقا كيف ميكن‬
‫حد ما» أو «سعداء للغاية» ورأى متوسط‬ ‫يقول ستة ومثانون يف املئة ممن ُسئِلوا عن سعادهتم يف مسح القيم العاملية َّإهنم «سعداء إىل ٍّ‬
‫املعربة‬
‫أن حياهتم تندرج حتت النصف األعلى من بني املراتب ِّ‬ ‫املشاركني يف تقرير السعادة العاملي لعام ‪ 2016‬الذي مشل ‪ 150‬دولة َّ‬
‫عن التصنيف من األسوأ إىل األفضل‪ .‬كان ثوريو ضحية فجوة التفاؤل (أي وهم «أنا خبري‪َّ ،‬أما ُهم فال») واليت تشبه واديًا عمي ًقا وليس‬
‫فجوًة يف حالة السعادة‪ ،‬ففي كل ٍ‬
‫دولة يقلِّل الناس من نسبة املواطنني اآلخرين الذين يقولون َّإهنم سعداء‪ ،‬مبتوسط ‪ 42‬نقطة مئوية‪.‬‬
‫توصل إيسرتلن إىل املفارقة املثرية لالهتمام يف عام ‪ 1973‬أي قبل حقبة البيانات الضخمة ٍ‬
‫بعقود‪َّ ،‬أما‬ ‫ماذا عن املسار التارخيي؟ َّ‬
‫توضح عدم وجود مفارقة إيسرتلن‪ ،‬إذ ليس األشخاص األغىن يف ٍ‬
‫دولة ما أسعد‬ ‫اليوم فلدينا املزيد من األدلة على الثروة والسعادة اليت ِّ‬
‫إن األشخاص يف الدول األغىن أسعد‪ ،‬وكلَّما ازدادت الدول غىن مبرور الوقت‪ ،‬ازدادت شعوهبا سعاد ًة‪ .‬جاء هذا الفهم‬ ‫فحسب‪ ،‬بل َّ‬
‫اجلديد من عدة حتليالت مستقلة‪ ،‬مبا فيها تلك اليت أجراها كلٌّ من آجنس ديتون (‪ )Angus Deaton‬ومسح القيم العاملية وتقرير‬
‫السعادة العاملي لعام ‪ ،2016‬وحتليلي املفضل هو حتليل االقتصاديني بيتسي ستيفنسون (‪ )Betsy Stevenson‬وجاسنت وولفرز‬
‫يوضح الشكل رقم ‪ 1-18‬تقييم مستوى الرضا عن احلياة يف مقابل متوسط‬ ‫(‪ )Justin Wolfers‬وميكننا تلخيصه يف رس ٍم بياين‪ِّ .‬‬
‫الدخل (على مقياس لوغاريتمي) يف ‪ 131‬دولة‪ ،‬متثِّل ًّ‬
‫كال منها نقطةٌ‪ ،‬إضافةً إىل عالقة الرضا عن احلياة بالدخل لدى مواطين كل دولة‬
‫سهم خيرتق النقطة‪.‬‬
‫وميثِّلها ٌ‬
‫الرضا عن الحياة‬

‫نصيب الفرد الحقيقي من الناتج المحلي اإلجمالي (آالف الدوالرات‪ ،‬مقياس لوغاريتمي)‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 1 - 1 8‬م س ت وى ا ل رض ا ع ن ا حل ي ا ة وا ل د خ ل ‪2 0 0 6 ،‬‬
‫استنادا إىل بيانات من استطالع جالوب العاملي لعام ‪Gallup World ( 2006‬‬
‫ً‬ ‫المصدر‪Stevenson & Wolfers 2008a, fig. 11K :‬‬
‫‪.)Poll 2006‬‬

‫حقوق الصورة‪ :‬بيتسي ستيفنسون وجاسنت وولفرز‪.‬‬

‫تتَّضح عدة أمناط من الرسم‪ ،‬وأبرزها غياب مفارقة إيسرتلن بني الدول‪ ،‬إذ متتد جمموعة األسهم على طول اخلط القطري املائل مما‬
‫أن مقياس الدخل لوغاريتمي‪َّ ،‬أما لو كان مبقياس خطي معياري لكانت‬ ‫يشري إىل أنَّه كلما كانت الدولة أغىن‪ ،‬كان شعبها أسعد‪َّ .‬‬
‫تذكر َّ‬
‫أن أي أمو ٍال إضافية تزيد‬‫حادا من الطرف األيسر مث تنثين ناحية الطرف األمين‪ ،‬ويعين هذا َّ‬
‫تفاعا ً‬
‫جمموعة األسهم نفسها ارتفعت ار ً‬
‫سعادة سكان الدول الفقرية أكثر من سعادة سكان الدول الغنية‪ ،‬وكلَّما كانت الدولة أغىن‪ ،‬احتاج شعبها إىل املزيد من األموال ليصبحوا‬
‫أسعد (وهذا أحد أسباب ظهور مفارقة إيسرتلن يف املقام األول‪ ،‬فمع كثرة بيانات تلك احلقبة‪ ،‬كان من الصعب مالحظة االرتفاع‬
‫أي من املقياسني ال يستوي مطل ًقا كما كان سيحدث لو كان الناس‬ ‫ولكن اخلط على ٍّ‬
‫الطفيف يف الطرف األعلى من مقياس الدخل)‪َّ .‬‬
‫ال حيتاجون سوى إىل احلد األدىن من الدخل لتلبية احتياجاهتم األساسية وأي مبالغ إضافية ال جتعلهم أسعد‪ .‬وفيما خيص السعادة فقد‬
‫نوعا ما عندما قالت‪« :‬ال ميكن أن تكون غنيًّا أكثر من الالزم أو حني ًفا أكثر‬
‫كانت واليس سيمسون (‪ )Wallis Simpson‬حمقة ً‬
‫من الالزم»‪.‬‬
‫أن األسهم متشاهبة يف احنرافها ومطابقة الحنراف ِسرب األسهم بأكمله (اخلط الرمادي املتقطع املتواري خلف‬
‫ومن املدهش َّ‬
‫شخص مقارنةً بأقرانه تضيف إىل سعادته بقدر ما تفعل الزيادة نفسها يف الدولة كلها‪ِّ .‬‬
‫يشكك‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫السرب)‪ ،‬ويعين ذلك َّ‬
‫أن أي عالوة ألي‬
‫إن الناس يكونون سعداء أو تعساء فقط يف حالة املقارنة مع جرياهنم األثرياء‪ .‬األمر املهم فيما خيص السعادة هو‬‫ذلك يف الفكرة القائلة َّ‬
‫الدخل املطلق وليس الدخل النسيب (وهو استنتاج متسق مع النتيجة اليت ناقشها الفصل التاسع خبصوص عدم ارتباط انعدام املساواة‬
‫بأن السعادة تتأقلم مع الظروف احمليطة كما تفعل العني‪،‬‬ ‫بالسعادة)‪ ،‬وهذه من بني ٍ‬
‫عدد من النتائج اليت تُضعِف من االعتقاد القدمي َّ‬
‫نقطة ثابتة أو تظل ساكنة بينما يسريون على «مشاية السعادة» دون أن يتقدموا خطوًة واحدة إىل األمام‪ .‬رغم َّ‬
‫أن الناس‬ ‫فتعود إىل ٍ‬
‫فعا‬ ‫ٍ‬ ‫يتعافون غالبًا من انتكاساهتم ويستعيدون حظهم‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن سعادهتم تتلقى ضربةً بسيطة من جتارب مثل البطالة أو اإلعاقة‪ ،‬وتتلقى دا ً‬
‫فإن فوز الشخص باليانصيب جيعله‬ ‫دولة هبا سعادة أكثر‪ ،‬وعلى عكس االعتقاد السابق َّ‬ ‫من اهلدايا مثل الزواج الناجح أو اهلجرة إىل ٍ‬
‫بالفعل أسعد على املدى البعيد‪.‬‬
‫أن الدول تزداد غىن مبرور الوقت (الفصل الثامن)‪ ،‬فإن بإمكاننا أن ننظر إىل الشكل رقم ‪ 1-18‬كأنَّه لقطة جممدة‬ ‫مبا أنَّنا نعرف َّ‬
‫يف فيل ٍم يتكرر فيها متتع البشر باملزيد من السعادة مبرور الوقت‪ ،‬وهذه الزيادة يف السعادة مؤشر آخر على تقدُّم البشر ومن بني أهم‬
‫سجل استطالعات آراء األشخاص حول العامل ملدة ٍ‬
‫قرون‬ ‫املؤشرات على اإلطالق‪ .‬ليست هذه اللقطة بالطبع ًّ‬
‫سجال زمنيًّا طوليًّا فعليًّا ي ِّ‬
‫ولكن ستيفنسون ووولفرز قتال املؤلفات حبثًا عن‬ ‫فبيانات كهذه غري موجودة من األساس‪َّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ويرسم مستويات سعادهتم مبرور الوقت‪،‬‬
‫أن السعادة يف مثانية من بني تسع دول أوروبية زادت بني عامي ‪ 1973‬و‪ 2009‬بالتزامن مع زيادة‬ ‫الدراسات الطولية املوجودة‪ ،‬ووجدا َّ‬
‫أن السعادة زادت بني عامي‬ ‫نصيب الفرد من الناتج احمللي اإلمجايل فيها‪ ،‬ويؤِّكد هذا يف العامل بأكمله مسح القيم العاملية‪ ،‬الذي وجد َّ‬
‫مخس وأربعني دولة من بني اثنتني ومخسني دولة‪ .‬طوت هذه االجتاهات مبرور الوقت صفحة مفارقة إيسرتلن‪ ،‬فنحن‬ ‫‪ 1981‬و‪ 2007‬يف ٍ‬
‫أن األشخاص يزدادون سعاد ًة كلَّما ازدادت دوهلم غىن (ممَّا‬ ‫أن الدول األغىن أسعد و َّ‬ ‫أن األشخاص األغىن يف ٍ‬
‫دولة ما أسعد و َّ‬ ‫نعرف اآلن َّ‬
‫أن األشخاص يزدادون سعادةً مبرور الوقت)‪.‬‬ ‫يعين َّ‬
‫تعتمد السعادة بالتأكيد على ما هو أكثر من الدخل‪ ،‬وينطبق هذا على األفراد‪ ،‬الذين خيتلفون يف تاريخ حياهتم وطباعهم الفطرية‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬كما نرى من النقاط املبعثرة حول اخلط الرمادي يف الرسم البياين‪ .‬تكون الدول‬ ‫وكذلك على الدول اليت ُتتلف بعضها عن بعض ً‬
‫بصحة أفضل (مع ثبات عامل الدخل) وتكون أسعد كما ذكرت عندما يشعر مواطنوها بتمتُّعهم حبرية اختيار‬ ‫ٍ‬ ‫أسعد عندما يتمتع شعبها‬
‫أيضا‪ ،‬والصورة النمطية املعروفة حقيقية‪ ،‬فدول أمريكا الالتينية أسعد ممَّا ينبغي بالنظر‬
‫ما يريدون فعله يف حياهتم‪ .‬الثقافة واجلغرافيا مهمتان ً‬
‫إىل دخلها‪ ،‬ودول أوروبا الشرقية الشيوعية ساب ًقا أقل سعادةً‪ .‬وجد تقرير السعادة العاملي لعام ‪ 2016‬ثالث مسات أخرى تالزم السعادة‬
‫إن لديهم أصدقاء أو أقرباء ميكنهم االعتماد عليهم‬ ‫على املستوى الوطين‪ ،‬وهي‪ :‬الدعم االجتماعي (أي إذا ما كان األشخاص يقولون َّ‬
‫أن األعمال يف بلدهم فاسدة)‪ .‬ولكن ال‬ ‫يف وقت الضيق)‪ ،‬والكرم (أي إذا ما كانوا يتصدَّقون بأمواهلم)‪ ،‬والفساد (أي إذا ما كانوا يرون َّ‬
‫ٍ‬
‫بعدسات وردية‪ ،‬وقد يقدِّرون‬ ‫أن السعداء يرون العامل‬‫أن هذه السمات تؤدي إىل املزيد من السعادة‪ ،‬وأحد األسباب َّ‬ ‫ميكننا أن نستنتج َّ‬
‫داعما‬
‫سعيدا جيعله ً‬‫أن السعادة تنبع من الداخل‪ ،‬فكون املرء ً‬ ‫األمور اجليدة يف حياهتم وجمتمعاهتم بأكرب من حقيقتها‪ ،‬والسبب اآلخر َّ‬
‫وكرميًا ويقظ الضمري وليس العكس‪.‬‬
‫تعد الواليات املتحدة من بني الدول اليت حتقِّق معدل سعادةٍ أقل مما يتناسب مع ثروهتا‪ ،‬ليس األمريكيون تعساء على اإلطالق‪ ،‬إذ يقيِّم‬
‫بأهنم «سعداء جدًّا»‪ ،‬وعندما يُطلب‬‫بأهنم «سعداء للغاية» ويقيِّم ثُلثهم تقريبًا أنفسهم َّ‬
‫‪ 90‬يف املئة منهم تقريبًا أنفسهم على األقل َّ‬
‫ولكن الواليات املتحدة جاءت يف‬
‫منهم تقييم حياهتم على مقياس من ‪( 1‬أسوأ حياة ممكنة) إىل ‪( 10‬أفضل حياة ممكنة)‪ ،‬خيتارون ‪َّ ،7‬‬
‫أن متوسط‬ ‫عام ‪ 2015‬يف املرتبة الثالثة عشرة بني دول العامل (بعد مثاين دول يف غرب أوروبا وثالث دول يف الكومنولث وإسرائيل) رغم َّ‬
‫مجيعا باستثناء النرويج وسويسرا (جاءت اململكة املتحدة‪ ،‬اليت خيتار مواطنوها ‪ 6.7‬على مقياس‬ ‫دخلها كان أعلى من هذه الدول ً‬
‫مستوى احلياة‪ ،‬يف املرتبة الثالثة والعشرين)‪.‬‬
‫تزدد الواليات املتحدة سعادةً على حن ٍو منتظم على مدار السنوات (وهي خدعة أخرى أدت إىل اإلعالن عن أثر إيسرتلن ِّ‬
‫مبكًرا‪،‬‬ ‫مل َ‬
‫نطاق ضيق منذ عام ‪،1947‬‬ ‫ألن الواليات املتحدة هي أيضا الدولة اليت لديها أقدم بيانات عن السعادة)‪ ،‬تقلَّبت مستويات السعادة يف ٍ‬
‫َّ‬
‫ً‬
‫اخنفاض ثابت‪ .‬تُظ ِهر إحدى جمموعات البيانات تر ً‬
‫اجعا طفي ًفا‬ ‫ٍ‬ ‫تفاع أو‬
‫منحرفةً استجابةً للكساد والتعايف والضوائق والفقاعات دون أي ار ٍ‬
‫يف مستوى السعادة يف أمريكا من عام ‪ 1955‬حىت عام ‪ ،1980‬تاله ارتفاعٌ حىت عام ‪ ،2006‬وتُظ ِهر جمموعةٌ أخرى تر ً‬
‫اجعا طفي ًفا‬
‫أن جمموع من يقولون َّإهنم «سعداء جدًّا» ومن‬ ‫يف نسبة األشخاص الذين يقولون َّإهنم «سعداء ًّ‬
‫جدا» بدءًا من عام ‪( 1972‬رغم َّ‬
‫يقولون َّإهنم «سعداء للغاية» مل َّ‬
‫يتغري)‪.‬‬
‫دولة ٍ‬
‫غنية‬ ‫التغريات يف ٍ‬ ‫ال تنفي حالة ركود السعادة األمريكية االجتاه العاملي الذي تزداد فيه السعادة مع الثروة‪ ،‬ألنَّنا حني ننظر إىل ُّ‬
‫اضحا عندما تنظر إىل آثار اختالف‬
‫حمدودا من املقياس‪ ،‬فكما يشري ديتون‪ ،‬فإن االجتاه الذي يكون و ً‬ ‫على مدار بضعة عقود‪ ،‬نرى نطاقًا ً‬
‫مغمورا‬
‫الدخل بني توجو والواليات املتحدة على سبيل املثال واملقدر خبمسني ضع ًفا‪ ،‬الذي ميثل ُربع ألفية من النمو االقتصادي‪ ،‬قد جتده ً‬
‫عاما من النمو االقتصادي‪ .‬وشهدت الواليات‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫عندما تنظر إىل آثار اختالف الدخل يف دولة واحدة مبقدار ضعفني على مدار عشرين ً‬
‫تفاعا يف مستوى انعدام املساواة يف الدخل أكرب من دول غرب أوروبا (الفصل التاسع)‪ ،‬وقد يكون من متتَّع بنمو ناجتها‬ ‫أيضا ار ً‬
‫املتحدة ً‬
‫إن ُتمني أسباب االستثنائية األمريكية وسيلة تسلية مذهلة‪ ،‬ولكن مهما كان السبب َّ‬
‫فإن‬ ‫احمللي اإلمجايل جمموعة صغرية من السكان‪َّ .‬‬
‫أن الواليات املتحدة ناشز عن االجتاه العاملي يف الرفاهة املوضوعية‪.‬‬ ‫«خرباء السعادة» يتَّفقون على َّ‬
‫أن الدولة عبارة عن عشرات املاليني من البشر الذين‬ ‫من األسباب األخرى لصعوبة فهم اجتاهات السعادة يف كل ٍ‬
‫دولة على حدة َّ‬
‫معا على رقعة أرض‪ ،‬ومن العجب أن جند أي أمور مشرتكة بينهم عندما حنسب املتوسطات‪ ،‬وال ينبغي أن نتفاجأ‬ ‫يتصادف وجودهم ً‬
‫بعضا أحيانًا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫عندما جند َّ‬
‫وتغري املتوسط أحيانًا‪ ،‬وتلغي بعضها ً‬
‫اجتاهات خمتلفة مبرور الوقت‪ِّ ،‬‬ ‫أن الشرائح املختلفة من السكان تسري يف‬
‫عاما املاضية يف حني اخنفض مستوى سعادة األمريكيني‬ ‫ٍ‬
‫يزداد األمريكيون من أصل إفريقي سعادةً بدرجة كبرية على مدار اخلمسة وثالثني ً‬
‫ولكن الفجوة بني الدول الغربية تقلَّصت‪ ،‬إذ يزداد الرجال سعادةً مبعدَّل أسرع من‬
‫قليال‪ ،‬وتكون النساء غالبًا أسعد من الرجال‪َّ ،‬‬
‫البيض ً‬
‫نوعا ما‪.‬‬
‫ظل مستوى الرجال ثابتًا ً‬‫متاما إذ اخنفض مستوى سعادة النساء بينما َّ‬‫النساء‪ ،‬وانعكس الوضع يف الواليات املتحدة ً‬
‫التغريات اليت‬
‫ولكن اإلشكال األكرب أمام فهم االجتاهات التارخيية هو ما صادفناه يف الفصل اخلامس عشر‪ ،‬وهو التمييز بني ُّ‬ ‫َّ‬
‫حتدث على مدار دورة احلياة (السن) وروح العصر (الفرتة) وعلى مدار األجيال (الفئات العمرية)‪ ،‬فدون آلة زمن‪ ،‬يكون من املستحيل‬
‫عاما يف‬
‫العمر مخسني ً‬
‫منطقيًّا فصل آثار السن والفئات العمرية والفرتة عن بعضها كليًّا‪ ،‬فما بالك بتقاطعاهتا‪ .‬إذا كان الذين يبلغون من ُ‬
‫عام ‪ 2005‬على سبيل املثال تعساء‪ ،‬فلن نعرف ما إذا كان أفراد جيل طفرة املواليد ميرون ٍ‬
‫بوقت عصيب يف التعامل مع منتصف العمر‪،‬‬
‫بوقت عصيب يف التعامل مع األلفية اجلديدة‪ ،‬أم َّ‬
‫أن األلفية اجلديدة كانت ُمتثِّل وقتًا عصيبًا لألشخاص يف منتصف العمر‪.‬‬ ‫أم ميرون ٍ‬
‫تغري األشخاص واألزمنة‪ ،‬ميكن‬‫أجياال متعددة‪ ،‬إضافةً إىل االفرتاضات بشأن مدى سرعة ُّ‬
‫عقودا و ً‬
‫ولكن مع جمموعة البيانات اليت تشمل ً‬
‫سن‪ ،‬وميكن‬
‫جبيل ما على مدار السنوات‪ ،‬واخلاصة بالسكان كافةً كل عام‪ ،‬واخلاصة بالسكان يف كل ٍّ‬ ‫حساب متوسط النتائج اخلاصة ٍ‬
‫اخلروج بتقديرات مستقلة ملسار العوامل الثالث على مر الوقت‪ .‬ويتيح لنا هذا أن نبحث عن صورتني خمتلفتني للتقدُّم‪ ،‬فاألشخاص من‬
‫حاال من الكبار ممَّا يرفع مستوى سعادة‬
‫حاال يف الفرتات القريبة أو تصبح الفئات العمرية األصغر أفضل ً‬
‫كل األعمار قد يصبحون أفضل ً‬
‫السكان عندما حتل الفئات العمرية الصغرية حمل الكبرية‪.‬‬
‫يزداد األشخاص سعادةً كلَّما كربوا غالبًا (وهذا أثر السن)‪ ،‬ويرجع هذا غالبًا َّ‬
‫ألهنم يتغلَّبون على العقبات يف بداية رحلة النضج‬
‫ويكتسبون احلكمة الالزمة للتكيُّف مع االنتكاسات ولوضع حياهتم يف نصاهبا الصحيح (رمبا ميرون بأزمة منتصف العمر أو باحندا ٍر يف‬
‫املتغري ‪-‬فال يُطلق االقتصاديون على‬
‫تغري الزمن‪ ،‬وخاصةً مع االقتصاد ِّ‬ ‫السنوات األخرية من حياهتم)‪ .‬تتقلَّب مستويات السعادة مع ُّ‬
‫سبب‪-‬وقد أخرج األمريكيون أنفسهم للتو من احلضيض بعد الكساد‬ ‫مرَّكب معدل التضخم ومعدل البطالة اسم مؤشر البؤس دون ٍ‬
‫الكبري‪.‬‬
‫صعود وهبوط‪ ،‬ففي عينتني كبريتني كان األمريكيون املولودون يف كل العقود بدءًا من‬ ‫ٍ‬ ‫يتَّسم النمط بني خمتلف األجيال مبراحل‬
‫ألن الكساد الكبري ترك عالمةً يف حياة األجيال اليت‬ ‫‪ 1900‬إىل ‪ 1940‬يعيشون حياةً أسعد من الفئة العمرية السابقة عليهم‪ ،‬رمبا َّ‬
‫قليال مع جيل طفرة املواليد‬
‫تعمق الكساد أكثر‪ .‬وقد استقرت مستويات السعادة على ارتفاعها مث اخنفضت ً‬ ‫بلغت سن الرشد يف ظل ُّ‬
‫كبريا مبا يكفي ليتيح للباحثني فصل الفئة العمرية عن الفرتة‪ .‬ويف دراسة ثالثة مستمرة حىت‬ ‫وجيل إكس يف بدايته‪ ،‬وكان اجليل األخري ً‬
‫أيضا بني أفراد جيل‬
‫الوقت احلاضر (املسح االجتماعي العام ‪ ،)the General Social Survey -‬احندرت مستويات السعادة ً‬
‫أن كل جيل يشعر باألسى جتاه‬ ‫ٍ‬
‫بشكل كامل بني أفراد اجليل إكس وجيل األلفية‪ .‬إذًا فرغم َّ‬ ‫طفرة املواليد‪ ،‬ولكنَّها رجعت إىل مستوياهتا‬
‫أيضا كما رأينا‬
‫ميال للعنف وتعاطي املخدرات ً‬ ‫أن األمريكيني الصغار يف احلقيقة يزدادون سعادةً (ويصبحون أقل ً‬ ‫«اجليل اجلديد»‪َّ ،‬إال َّ‬
‫يف الفصل الثاين عشر)‪ .‬وهكذا تكون شرائح اجملتمع اليت ازدادت سعاد ًة يف وسط ركود مستويات السعادة األمريكية هي‪ :‬األمريكيون‬
‫وصوال إىل جيل طفرة املواليد‪ ،‬وشباب اليوم‪.‬‬
‫من أصل إفريقي‪ ،‬والفئات العمرية املتتابعة ً‬
‫تغري تارخيي يف الرفاهة معقَّد بثالثة أضعاف ما يبدو عليه على األقل‪ ،‬وبعد‬
‫أن كل ُّ‬ ‫يعين التشابك بني السن والفرتة والفئة العمرية َّ‬
‫أخذ ذلك التنبيه يف اعتبارنا‪ ،‬لننظر إىل االدعاءات القائلة َّ‬
‫إن احلداثة َّأدت إىل تفشي أوبئة الوحدة واالنتحار واألمراض النفسية‪.‬‬

‫شعورا بالوحدة‪ ،‬فكتب ديفيد ريسمان (‪( )David Riesman‬باالشرتاك مع ناثان‬ ‫يقول مراقبو العامل احلديث َّ‬
‫إن الغربيني يزدادون ً‬
‫جليزر ‪ Nathan Glazer‬ورويل ديين ‪ )Reuel Denney‬يف عام ‪ 1950‬الكتاب الكالسيكي يف علم االجتماعي بعنوان‬
‫الجماهير الوحيدة )‪ ،(The Lonely Crowd‬وتساءلت فرقة البيتلز يف عام ‪ 1966‬من أين جاء كل هؤالء الوحيدين‪ ،‬وأشار‬
‫عامل السياسة روبرت بتنام (‪ )Robert Putnam‬يف عام ‪ 2000‬يف كتابه الذي حقَّق أعلى املبيعات إىل َّ‬
‫أن األمريكيني يلعبون‬
‫البولينج وحدهم )‪ (Bowling Alone‬وهو عنوان الكتاب‪ ،‬ويف عام ‪ 2010‬كتب الطبيبان النفسيان جاكلني أولدز‬
‫(‪ )Jacqueline Olds‬وريتشارد شوارتز (‪ )Richard Schwartz‬عن المواطن األمريكي الوحيد‪ :‬االنفصال في القرن‬
‫الحادي والعشرين )‪َّ .(The Lonely American: Drifting Apart in the Twenty-First Century‬‬
‫إن‬
‫كبريا على صحتهم‬ ‫نوعا من التعذيب ألفراد نوع اإلنسان العاقل االجتماعي‪ ،‬وميثِّل ضغط الوحدة هلم ً‬
‫خطرا ً‬ ‫االنعزال االجتماعي ميثِّل ً‬
‫وحياهتم‪ ،‬لذا َّ‬
‫فإن طرق تواصلنا اجلديدة تُعد مقلبًا آخر على احلداثة لو كانت جعلتنا أكثر وحدةً من ذي قبل‪.‬‬
‫قد يظن املرء َّ‬
‫أن وسائل التواصل االجتماعي ميكنها تعويضنا عن االغرتاب واالنعزال الذي صحب تدهور األسر الكبرية واجملتمعات‬
‫ولكن عاملة‬
‫احمللية الصغرية‪ ،‬فاليوم ميكن أن يكون هؤالء األشخاص الوحيدون املذكورون يف أغنية البيتلز أصدقاءك على موقع فيسبوك‪َّ .‬‬
‫أن الصداقات‬ ‫النفس سوزان بينكر (‪ )Susan Pinker‬تراجع يف كتاب تأثير القرية (‪ )The Village Effect‬أحباثًا ِّ‬
‫توضح َّ‬
‫وجها لوجه‪.‬‬
‫اإللكرتونية ال تقدِّم لنا نفس املنافع النفسية اليت يقدِّمها لنا التواصل املباشر ً‬
‫يزيد هذا من الغموض حول سبب شعور األشخاص باملزيد من الوحدة‪ ،‬فالعزلة االجتماعية تبدو من أسهل مشكالت العامل يف‬
‫شخصا تعرفه للحديث يف منزلك أو يف مقهى قريب؟ ملاذا ال يالحظ الناس الفرص املاثلة أمامهم؟ هل أصبح الناس‬ ‫ً‬ ‫حلِّها‪ِ ،‬ملَ ال تدعو‬
‫دائما‪ -‬مدمنني على التواصل اإللكرتوين لدرجة َّأهنم ُتلوا عن التواصل البشري الضروري‬ ‫اليوم ‪-‬وخاصةً اجليل الصغري املفرتى عليه ً‬
‫وحيكمون على أنفسهم بالوحدة غري الالزمة واليت رمبا تكون قاتلة‪ .‬هل ميكن أن نكون قد «منحنا قلوبنا لآلالت فأصبحنا اآلن نتحول‬
‫إىل آالت» حقًّا كما قال أحد النقاد االجتماعيني؟ هل خلق اإلنرتنت «عاملا مفتَّتًا خاليًا من التواصل البشري أو العاطفة البشرية» كما‬
‫ً‬ ‫شخص يصدِّق بوجود ٍ‬
‫وتوضح البيانات خطأ هذه املقوالت‪ ،‬فوباء الوحدة غري‬
‫أن هذا مستبعد‪ِّ ،‬‬ ‫طبيعة بشرية َّ‬ ‫ٍ‬ ‫قال ناق ٌد آخر؟ يبدو ألي‬
‫متفش‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫راجع عامل االجتماع كلود فيشر (‪ )Claude Fischer‬يف كتابه ما زلنا على تواصل )‪(Still Connected‬الصادر عام‬
‫أن «األمر األكثر‬‫عاما من استطالعات الرأي اليت تسأل األشخاص عن عالقاهتم االجتماعية‪ ،‬وأشار إىل َّ‬ ‫‪ 2011‬تارخيًا مدته أربعون ً‬
‫لفتًا للنظر يف البيانات هو مدى انتظام عالقات األمريكيني بأسرهم وأصدقائهم بني سبعينيات القرن املاضي والعقد األول من األلفية‪،‬‬
‫فنادرا ما جند اختالفات تصف تغيريات دائمة يف السلوك ذات عواقب شخصية مستمرة تزيد على حفنة من النقاط املئوية يف االجتاهني‪،‬‬ ‫ً‬
‫أجل‪َّ ،‬‬
‫إن األمريكيني أصبحوا حيصلون على ترفيه أقل يف املنزل ويقومون باملزيد من املكاملات اهلاتفية وإرسال الرسائل اإللكرتونية‪ ،‬ولكنَّهم‬
‫ُسر أصبحت أصغر وأصبح املزيد من‬ ‫أن األشخاص أعادوا تقسيم وقتهم َّ‬
‫ألن األ َ‬ ‫كثريا على مستوى املبادئ األساسية»‪ .‬رغم َّ‬
‫يتغريوا ً‬
‫مل َّ‬
‫أن األمريكيني اليوم يقضون نفس مقدار الوقت مع أقربائهم ولديهم نفس‬ ‫األشخاص عازبني وأصبحت املزيد من النساء يعملن‪َّ ،‬إال َّ‬
‫متوسط عدد األصدقاء ويقابلوهنم بنفس املعدل تقريبًا ومقدار الدعم العاطفي الذي يقولون َّإهنم يتلقونه هو نفسه‪ ،‬وما يزالون راضني‬
‫بعدد صداقاهتم وجودهتا بنفس مقدار رضا أقراهنم يف عقد رئاسة جريالد فورد (‪ )Gerald Ford‬ومسلسل أيام سعيدة ( ‪Happy‬‬
‫)‪ .Days‬يتواصل مستخدمو اإلنرتنت ووسائل التواصل االجتماعي أكثر مع أصدقائهم (رغم َّأهنم يتواصلون معهم ً‬
‫وجها لوجه أقل‬
‫أن الطبيعة البشرية تقتضي أن‪« :‬حياول الناس التكيُّف‬ ‫توصل فيشر إىل َّ‬‫بأن روابطهم اإللكرتونية وطَّدت عالقاهتم وأثرهتا‪َّ .‬‬
‫قليال) ويشعرون َّ‬‫ً‬
‫املتغرية من أجل محاية أمثن غاياهتم اليت تشمل احلفاظ على حجم عالقاهتم الشخصية وجودهتا‪ ،‬مثل الوقت الذي يقضونه‬ ‫مع الظروف ِّ‬
‫مع أطفاهلم والتواصل مع األقرباء وبعض مصادر الدعم احلميم»‪.‬‬
‫ماذا عن مشاعر الوحدة املوضوعية؟ َّ‬
‫إن استطالعات آراء السكان بأكملهم قليلة للغاية‪ ،‬وأشارت البيانات اليت عثر عليها فيشر‬
‫ولكن استطالعات‬
‫عددا أكرب من الناس أصبحوا عازبني‪َّ ،‬‬ ‫ألن ً‬ ‫أن «تعبريات األمريكيني عن الوحدة ظلَّت كما هي أو رمبا زادت ً‬
‫قليال» َّ‬ ‫إىل َّ‬
‫وهم فئة حمدودة‪ -‬كثرية‪ ،‬وأشار َّ‬
‫الطالب طيلة عقود إىل ما إذا كانوا يتفقون مع عبارات مثل « ُحيزنين القيام بالكثري من‬ ‫آراء ُّ‬
‫الطالب ‪ُ -‬‬
‫يلخص هذه االجتاهات عنوان مقال «تراجع الوحدة مبرور الوقت» ( ‪Declining‬‬ ‫األشياء وحدي» و«ليس لدي من أحتدث إليه»‪ِّ .‬‬
‫‪ )Loneliness Over Time‬املنشور عام ‪ ،2015‬وتتضَّح هذه االجتاهات يف الشكل رقم ‪.2-18‬‬

‫الكلية‬

‫الصف الثاني‬
‫عشر‬

‫الصف العاشر‬

‫الصف الثامن‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 2 - 1 8‬ا ل وح د ة ل د ى ا ل ط ال ب يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة م ن ذ ‪ 1 9 7 8‬ح ىت ‪2 0 1 1‬‬


‫المصدر‪َّ .Clark, Loxton, & Tobin 2015 :‬‬
‫طالب الكليات (احملور األيسر)‪ :‬مقياس جامعة كاليفورنيا بلوس أجنلوس املعدَّل للوحدة‬
‫)‪ ،(Revised UCLA Loneliness Scale‬خط االجتاه يف عدة عينات‪ ،‬مأخوذ من الشكل رقم ‪َّ .1‬‬
‫طالب المدارس الثانوية (احملور األمين)‪:‬‬
‫متوسط التقييم لستة بنود للوحدة من استطالع رصد املستقبل )‪ ،(Monitoring the Future‬واملتوسطات اليت ُحتسب كل ثالث سنوات مأخوذة‬
‫من الشكل رقم ‪ 4‬من نفس االستطالع املذكور‪ .‬ميتد كال احملورين مبقدار نصف احنر ٍ‬
‫اف معياري‪ ،‬لذا َّ‬
‫فإن احنراف املنحنيني اخلاصني بالكلية واملدارس الثانوية‬
‫ولكن ارتفاعيهما النسيب ليس متناسبًا‪.‬‬
‫متناسب َّ‬

‫مبا أنَّه مل جي ِر تتبُّع الطالب بعدما غادروا املدرسة‪ ،‬إ ًذا فنحن ال نعلم ما إذا كان الرتاجع يف مستويات الوحدة نتيجة أثر الفرتة‪ ،‬اليت‬
‫أصبح فيها من األسهل على الشباب تلبية احتياجاهتم االجتماعية على حن ٍو ثابت‪ ،‬أم أثر الفئة العمرية‪ ،‬أي أصبحت األجيال اجلديدة‬
‫مدمرة من اخلواء والضياع واالنعزال»‪.‬‬
‫أن شباب األمريكيني ال يعانون «مستويات ِّ‬ ‫لكن ما نعلمه هو َّ‬
‫أكثر رضا اجتماعيًّا وستظل كذلك‪َّ .‬‬
‫َّ‬
‫إن التكنولوجيا هي اهلدف الدائم للمتشائمني فيما خيص الثقافة‪ ،‬وكذلك لـ «اجليل اجلديد»‪ .‬قدَّم عامل االجتماع كيث هامبتون‬
‫(‪ )Keith Hampton‬وزمالؤه املشاركون يف عام ‪ 2015‬تقر ًيرا عن اآلثار النفسية لوسائل التواصل االجتماعي واستهله بالفقرة‬
‫التالية‪:‬‬

‫ظل املعلِّقون على مدار األجيال قلقني من أثر التكنولوجيا يف الضغط النفسي على األشخاص‪ ،‬فقد كان يُنظر إىل القطارات‬
‫واآلالت الصناعية على َّأهنا مسبِّبات إزعاج واختالل للحياة القروية الرعوية وجتعل أهلها متوترين‪ ،‬واهلواتف كانت تقطع‬
‫اهلدوء يف املنازل‪ ،‬وساعات اليد واحلائط كانت تضيف إىل الضغوط الزمنية غري اإلنسانية الواقعة على عمال املصانع من‬
‫أجل حتقيق اإلنتاجية‪ ،‬وكانت برامج الراديو والتليفزيون تُعد وف ًقا لإلعالنات اليت فتحت الباب أمام الثقافة االستهالكية‬
‫احلديثة وزادت من قلق األشخاص بشأن السعي إىل املكانة االجتماعية‪.‬‬

‫التغريات يف مستويات الوحدة‬


‫وهكذا كان ال بد للنقاد توجيه تركيزهم إىل وسائل التواصل االجتماعي‪ ،‬ولكن ال ميكن نسبة الفضل يف ُّ‬
‫بني الطالب األمريكيني املوضَّحة يف الشكل رقم ‪ 2-18‬إىل وسائل التواصل االجتماعي أو لومها على ذلك‪ ،‬إذ بدأ الرتاجع منذ‬
‫‪ 1977‬حىت ‪ ،2009‬ومل يقع «انفجار» فيسبوك قبل عام ‪ ،2006‬ووف ًقا لالستطالعات احلديثة فلم يصبح البالغون منعزلني بسبب‬
‫ويعربون أكثر عن‬
‫املقربني ِّ‬
‫بعدد أكرب من األصدقاء َّ‬‫وسائل التواصل االجتماعي أيضا‪ .‬يتمتَّع مستخدمو وسائل التواصل االجتماعي ٍ‬
‫ً‬
‫بأهنم حيصلون على املزيد من الدعم وينخرطون أكثر يف السياسة‪ .‬وعلى الرغم من الشائعة اليت تقول َّ‬
‫إن‬ ‫ثقتهم يف اآلخرين ويشعرون َّ‬
‫مستخدمي وسائل التواصل االجتماعي يُساقون إىل منافسة حممومة على مواكبة املعدالت اهلائلة من األنشطة املمتعة اليت ميارسها‬
‫أصدقاؤهم املزيفني على اإلنرتنت‪َّ ،‬إال َّأهنم ال يشريون إىل َّأهنم يعانون معدالت ضغط نفسي أعلى من غري مستخدمي هذه الوسائل‪.‬‬
‫شخصا يهتممن به‬ ‫أن‬ ‫ٍ‬
‫باستثناء واحد هو َّأهنن يشعرن باالستياء عندما يعرفن َّ‬ ‫ٍ‬
‫بضغط نفسي أقل‪،‬‬ ‫بل العكس‪َّ ،‬‬
‫فإن النساء منهم يشعرن‬
‫ً‬
‫كثريا وليس العكس‪،‬‬‫مرضا أو حالة وفاة يف أسرته أو انتكاسة أخرى‪ .‬يهتم مستخدمو وسائل التواصل االجتماعي باآلخرين ً‬ ‫يعاين ً‬
‫ويتعاطفون معهم يف مشكالهتم وال حيسدوهنم على جناحهم‪.‬‬
‫مدمرة من اخلواء والعزلة‪ ،‬ومل تفصلنا عن‬‫حتولنا إىل آالت مفتَّتة تعاين مستويات ِّ‬‫إ ًذا فاحلياة العصرية مل حتطِّم عقولنا وأجسامنا‪ ،‬ومل ِّ‬
‫اصل بشري أو عاطفة بشرية‪ ،‬فمن أين نشأ هذا االعتقاد اخلاطئ اجلنوين؟ نشأ جزئيًّا من الصيغة النموذجية اليت يستخدمها‬ ‫بعض دون تو ٍ‬
‫فإهنا متثِّل اجتاها‪ ،‬وبالتايل َّ‬
‫فإهنا متثِّل أزمة»‪ ،‬ولكنَّه نشأ‬ ‫النقاد االجتماعيون يف نشر الذعر‪ ،‬وهي «هذه حكاية مثرية وقعت‪ ،‬وبالتايل َّ‬
‫بعضا أقل يف األماكن التقليدية مثل النوادي أو الكنائس أو‬ ‫تغريات حقيقية يف طريقة تفاعل األشخاص‪ ،‬فالناس يرون بعضهم ً‬ ‫جزئيًّا من ُّ‬
‫النقابات أو املنظمات األخوية أو حفالت العشاء ويرون بعضهم بعضا أكثر يف جتمعات غري رمسية عرب الوسائل الرقمية‪ .‬ويثقون يف ٍ‬
‫عدد‬ ‫ً‬
‫عدد أكرب من الزمالء‪ ،‬وال يكون لديهم غالبًا عدد كبري من األصدقاء‪ ،‬ولكنَّهم ال يريدون‬ ‫أقل من األقرباء البعيدين ولكنَّهم يثقون يف ٍ‬
‫عما كانت عليه يف اخلمسينيات‪ ،‬فإن هذا ال يعين َّ‬
‫أن‬ ‫عددا أكرب من األصدقاء‪ ،‬ولكن كون احلياة االجتماعية اليوم تبدو خمتلفة َّ‬ ‫غالبًا ً‬
‫البشر ‪-‬النوع االجتماعي باألساس‪-‬أصبحوا أقل اجتماعيةً‪.‬‬

‫أن جرائم القتل هي أكثر مقياس يُعتمد عليه للصراعات‬ ‫أن االنتحار أكثر مقياس يُعتمد عليه للتعاسة االجتماعية‪ ،‬كما َّ‬ ‫رمبا يظن املرء َّ‬
‫أن إهناء وعيه بصورةٍ دائمة‬
‫يقرر َّ‬ ‫ٍ‬
‫لدرجة جعلته ِّ‬ ‫االجتماعية‪ ،‬فالشخص الذي مات نتيجةً لالنتحار ال بد وأنَّه قد عاىن تعاسةً شديدة‬
‫أن حاالت االنتحار ميكن ترتيبها بصورةٍ موضوعية بطر ٍ‬
‫يقة ال ميكن إجراؤها مع التعاسة‪.‬‬ ‫حتملها‪ ،‬إضافةً إىل َّ‬
‫أفضل من ُّ‬
‫يشوشان حكم‬ ‫ولكن معدالت االنتحار تكون غالبًا مبهمة يف الواقع‪َّ ،‬‬
‫فإن احلزن واالهتياج اللذين ميثِّل االنتحار راحةً منهما ِّ‬ ‫َّ‬
‫فإن ما يفرتض به أن يكون القرار الوجودي النهائي يتوقَّف على مسألة بسيطة هي مدى سهولة تنفيذ هذا الفعل‪.‬‬ ‫الشخص‪ ،‬وهكذا َّ‬
‫تُعد قصيدة دوروثي باركر عن املوت بعنوان ”‪( “Resumé‬اليت تقول يف هنايتها‪« :‬املسدسات ليست قانونية‪ ،‬وحبل املشنقة قد‬
‫يفكر يف االنتحار‪ .‬تزيد معدَّالت االنتحار يف دو ٍلة ما‬
‫يفلت‪ ،‬والغاز رائحته فظيعة‪ ،‬إذًا لتعِش أفضل») قريبة من عقلية الشخص الذي ِّ‬
‫نطاق واسع ‪-‬أو يُقضى عليها‪-‬مثل غاز الفحم يف إجنلرتا يف النصف‬ ‫أو تنخفض بقد ٍر هائل عند تواجد وسيلة مرحية وفعَّالة متاحة على ٍ‬
‫أن حاالت االنتحار تزداد‬ ‫األول من القرن العشرين‪ ،‬واملبيدات احلشرية يف عدة دول نامية‪ ،‬واملسدسات يف الواليات املتحدة‪ .‬وال عجب َّ‬
‫خالل فرتات الركود االقتصادي واالضطرابات السياسية‪ ،‬ولكنَّها تتأثَّر كذلك بالطقس وعدد ساعات النهار يف اليوم‪ ،‬وتزداد عندما‬
‫يقة رومانسية‪ .‬وميكن التشكيك حىت يف الفكرة البسيطة اليت تعترب‬ ‫يصورها بطر ٍ‬ ‫يتعامل اإلعالم مع احلوادث األخرية َّ‬
‫كأهنا طبيعية أو ِّ‬
‫أن الواليات األمريكية األسعد والدول الغربية األسعد‬‫مقياسا للتعاسة‪ ،‬إذ وثَّقت دراسةٌ حديثة «مفارقة السعادة واالنتحار» وهي َّ‬
‫االنتحار ً‬
‫إيالما‬
‫فإن العثرات الشخصية تكون أكثر ً‬ ‫أن املصائب جتمع بني الناس‪ ،‬لذا َّ‬‫(خيمن الباحثون َّ‬ ‫هبا معدَّالت انتحار أعلى ً‬
‫قليال‪ ،‬ال أقل ِّ‬
‫أيضا‪ ،‬وهو صعوبة التمييز بني حاالت االنتحار‬ ‫لسبب آخر ً‬‫ٍ‬ ‫للمرء عندما يكون كل من حوله سعداء)‪ .‬تتقلَّب َّ‬
‫معدالت االنتحار‬
‫واحلوادث غالبًا (وخاصةُ عندما يكون السبب هو السم أو جرعة مفرطة من املخدرات‪ ،‬وعندما يكون حادث سقوط أو حادث سيارة‬
‫جمرًما‪.‬‬
‫موصوما أو َّ‬
‫ً‬ ‫حيرف األطباء الشرعيون تصنيفاهتم يف األوقات واألماكن اليت يكون فيها االنتحار‬ ‫أو طلق ناري)‪ ،‬ورمبا ِّ‬
‫أن االنتحار أحد األسباب الرئيسية للوفاة‪ ،‬ففي الواليات املتحدة حتدث أكثر من ‪ 40‬ألف حالة انتحار سنويًّا‪ ،‬ممَّا‬ ‫ولكنَّنا نعلم َّ‬
‫جيعل االنتحار السبب العاشر من األسباب املؤدية للوفاة‪ ،‬وحتدث أكثر من ‪ 800‬ألف حالة انتحار حول العامل ممَّا جيعله السبب‬
‫اخلامس عشر من أكثر األسباب املؤدية للوفاة‪ .‬ولكن يصعب فهم االجتاهات املختلفة عرب الزمن واالختالفات بني الدول‪ .‬إضافةً إىل‬
‫أن معدل انتحار النساء‬ ‫ٍ‬
‫اجتاهات خمتلفة‪ ،‬فرغم َّ‬ ‫تشابك السن والفئة العمرية والفرتة‪َّ ،‬‬
‫فإن اخلطوط اليت متثِّل الرجال والنساء تسري غالبًا يف‬
‫أن الرجال يقتلون أنفسهم مبعدل‬ ‫يف الدول النامية اخنفض بأكثر من ‪ 40‬يف املئة من منتصف مثانينيات القرن املاضي و‪َّ ،2013‬إال َّ‬
‫مثال ملاذا أكثر دول العامل من‬‫تغري االجتاهات العامة غالبًا‪ .‬وال أحد يعلم ً‬‫املعربة عن الرجال ِّ‬ ‫حوايل أربعة أضعاف النساء‪ ،‬لذا َّ‬
‫فإن األرقام ِّ‬
‫كبريا منذ عام ‪ 1976‬حىت‬ ‫تفاعا ً‬
‫حيث معدالت االنتحار هي غيانا وكوريا اجلنوبية وسريالنكا وليتوانيا‪ ،‬وال ملاذا ارتفع املعدل يف فرنسا ار ً‬
‫‪ 1986‬مث اخنفض ثانيةً حبلول عام ‪.1999‬‬
‫أن االنتحار يف ازدياد مستمر بصورةٍ ثابتة ووصل اآلن إىل‬
‫ولكنَّنا نعرف ما يكفي لكشف زيف اعتقادين شائعني‪ ،‬األول هو َّ‬
‫شائعا يف العامل القدمي بالقدر الذي جعل‬
‫وتعرب عن انتشاره كالوباء‪ .‬كان االنتحار ً‬
‫وتشكل أزمة‪ِّ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫نسب تارخيية مرتفعة‪ ،‬وغري مسبوقة‪ِّ ،‬‬
‫مذكورا يف القصص التوراتية واإلجنيلية مثل قصص مششون وشاؤول ويهوذا‪َّ .‬‬
‫إن البيانات التارخيية‬ ‫ً‬ ‫اإلغريق يتجادلون فيه والذي جعله‬
‫دول عديدة منها إجنلرتا حىت عام‬‫أيضا «قتل النفس»‪ ،‬كان جرميةً يف ٍ‬
‫أن االنتحار‪ ،‬الذي يُطلق عليه ً‬‫نادرة‪ ،‬ومن أهم أسباب ذلك َّ‬
‫رمست هذه البيانات يف الشكل رقم ‪-18‬‬ ‫ٍ‬
‫ولكن البيانات تعود إىل أكثر من قرن يف إجنلرتا وسويسرا والواليات املتحدة‪ ،‬وقد ُ‬
‫‪َّ ،1961‬‬
‫‪.3‬‬
‫سويسرا‬
‫حاالت االنتحار لكل ‪ 100‬ألف شخص‬

‫الواليات‬
‫المتحدة‬

‫إنجلترا‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 3 - 1 8‬ا ال ن ت ح ا ر يف إ جن ل رتا وس وي س را وا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة ‪ ،‬م ن ذ ‪ 1 8 6 0‬ح ىت ‪2 0 1 4‬‬


‫المصادر‪ :‬إنجلترا (البيانات تشمل ويلز)‪ :‬توماس وجانيل (‪ )Thomas & Gunnell 2010‬الشكل رقم ‪ ،1‬متوسط معدالت الذكور واإلناث ( ‪fig.‬‬
‫)‪ ،1, average of male and female rates‬مقدَّمة من كايلي توماس (‪ .)Kylie Thomas‬مل يتم متديد هذه السلسلة َّ‬
‫ألن البيانات مل ت ُكن‬
‫متناسبة مع السجالت احلالية‪ .‬سويسرا منذ ‪ 1880‬حتى ‪ .fig. 1 ,2006 Ajdacic-Gross et al. :1959‬سويسرا منذ ‪ 1960‬حتى ‪:2013‬‬
‫قاعدة بيانات الوفيات التابعة ملنظمة الصحة العاملية )‪ ،(WHO Mortality Database‬ومنظمة التعاون والتنمية يف امليدان االقتصادي ( ‪OECD‬‬
‫‪ .)2015b‬الواليات المتحدة منذ ‪ 1900‬حتى ‪table Ab950. ,2000Centers for Disease Control, Carter et al. :1998‬‬
‫الواليات املتحدة منذ ‪ 1999‬حىت ‪Centers for Disease Control 2015. :2014‬‬

‫كان معدل االنتحار السنوي يف إجنلرتا ‪ 13‬لكل ‪ 100,000‬شخص يف عام ‪ ،1863‬مث وصل إىل ‪ 19‬تقريبًا يف العقد األول‬
‫كثريا خالل احلرب العاملية الثانية واخنفض ثانيةً خالل‬
‫من القرن العشرين ووصل إىل أكثر من ‪ 20‬خالل الكساد الكبري مث اخنفض ً‬
‫اخنفاضا مبقدار النصف أو أكثر‪ ،‬من‬
‫ً‬ ‫أيضا‬
‫ستينيات القرن املاضي مث اخنفض تدرجييًّا ليصل إىل ‪ 7.4‬يف عام ‪ .2007‬شهدت سويسرا ً‬
‫‪ 24‬يف عام ‪ 1881‬و‪ 27‬خالل الكساد إىل ‪ 12.2‬يف عام ‪ .2013‬وصل االنتحار إىل ذروته يف الواليات املتحدة مبعدل ‪ 17‬يف‬
‫بداية القرن العشرين ومرةً أخرى خالل الكساد الكبري قبل أن ينخفض إىل ‪ 10.5‬يف مطلع األلفية مث ارتفع ثانيةً ليصل إىل ‪ 13‬بعد‬
‫الركود الكبري األخري‪.‬‬
‫شيوعا يف املاضي يف هذه الدول الثالثة اليت لدينا بيانات تارخيية عنها‪ .‬هذه التذبذبات الصاعدة‬
‫إذًا فقد كان االنتحار أكثر ً‬
‫واهلابطة الظاهرة عبارة عن سطح حب ٍر متقلِّب مليء بأعمار وفئات عمرية وفرتات وأجناس خمتلفة‪ ،‬إذ ترتفع معدالت االنتحار بشدة‬
‫خالل سن املراهقة مث بالتدريج خالل منتصف العمر بينما تصل لذروهتا يف هذا الوقت لدى النساء (رمبا ألهنن يواجهن مشكليت انقطاع‬
‫الطمث وبُعد األبناء عن بيت األسرة) مث تنخفض ثانيةً‪ ،‬بينما تظل كما هي لدى الرجال قبل أن ترتفع سر ًيعا يف سنوات التقاعد (رمبا‬
‫مؤخرا على حنو جزئي إىل تقدم‬ ‫بسبب انتهاء دورهم التقليدي يف إعالة األسرة)‪ .‬ميكن أن نعزو ارتفاع معدالت االنتحار يف أمريكا ً‬
‫لكن الفئات العمرية‬‫السكان يف العمر‪ ،‬مع وصول أفراد جيل طفرة املواليد من الذكور إىل أكثر سن يكونون معرضني فيه لالنتحار‪َّ ،‬‬
‫أيضا‪ .‬كان اجليل األعظم واجليل الصامت أكثر عزوفًا عن االنتحار من اجليل الفيكتوري الذي سبقهما وجيل طفرة املواليد‬ ‫نفسها مهمة ً‬
‫واجليل إكس اللذين حلقامها‪ ،‬يبدو أن جيل األلفية يبطئ ارتفاع املعدالت أو يعكسه‪ ،‬فقد اخنفضت معدالت انتحار املراهقني بني بداية‬
‫تسعينيات القرن املاضي والعقود األوىل من القرن العشرين‪ .‬وأصبحت األزمنة نفسها (مع مراعاة السن والفئات العمرية) أقل تسبُّبًا يف‬
‫ٍ‬
‫اخنفاض دام‬ ‫االنتحار منذ بلوغه الذروة قرب مطلع القرن العشرين والثالثينيات وأواخر الستينيات حىت أوائل السبعينيات‪ ،‬مث وصلت إىل‬
‫التهويل الذي قام به خربٌ منشور‬ ‫تفاعا طفي ًفا بعد الركود الكبري‪ِّ .‬‬
‫يكذب هذا التعقيد‬ ‫عاما حىت عام ‪ ،1999‬رغم أنَّنا شهدنا ار ً‬
‫مخسني ً‬
‫َ‬
‫قريبًا يف صحيفة نيويورك تاميز )‪(New York Times‬بعنوان‪« :‬ارتفاع معدل االنتحار يف الواليات املتحدة ألعلى مستوى له منذ‬
‫ثالثني سنة» بينما كان من املمكن استخدام عنوان‪« :‬اخنفاض معدل االنتحار يف الواليات املتحدة عن ذروته السابقة مبقدار الثلث‬
‫بالرغم من الكساد وشيخوخة السكان»‪.‬‬
‫جبانب االعتقاد بأن احلداثة جتعل الناس يريدون قتل أنفسهم‪ ،‬هناك أسطورة كبرية أخرى عن االنتحار تقول بأن السويد وهي‬
‫النموذج املثايل للنزعة اإلنسانية التنويرية هبا أعلى معدل انتحار يف العامل‪ ،‬نشأت هذه األسطورة (وف ًقا ملا قد يكون أسطورة أخرى) يف‬
‫خطاب لدوايت أيزهناور (‪ )Dwight Eisenhower‬يف عام ‪ 1960‬صرح فيه مبعدل االنتحار املرتفع يف السويد وألقى باللوم فيه‬ ‫ٍ‬
‫لكن‬
‫على نظامها االشرتاكي األبوي‪ .‬كنت أللقي أنا اللوم على أفالم إجنمار بريمجان (‪ )Ingmar Bergman‬الوجودية الكئيبة‪َّ ،‬‬
‫كلتا النظريتني جمرد تفسريات حتتاج إىل حقائق لتفسريها‪ .‬مع أن معدل االنتحار يف السويد يف عام ‪ 1960‬كان أعلى منه يف الواليات‬
‫املتحدة (‪ 15.2‬لكل ‪ 100,000‬يف السويد و‪ 10.8‬يف الواليات املتحدة)‪َّ ،‬إال أنَّه مل يكن أعلى معدل انتحار يف العامل قط‪ ،‬وقد‬
‫اخنفض منذ هذا الوقت حىت وصل إىل ‪ 11.1‬وهو أقل من متوسط معدل االنتحار يف العامل (‪ )11.6‬ومنه يف الواليات املتحدة‬
‫(‪ )12.1‬وهي حتتل بذلك املركز الـ ‪ 58‬على مستوى العامل‪ .‬أشارت مراجعة حديثة ملعدالت االنتحار يف مجيع أحناء العامل إىل أن‬
‫«موجة االنتحار تتجه حنو االخنفاض عامةً يف أوروبا وال تشمل أعلى عشر دول يف معدل االنتحار أيًّا من دول الرفاه يف غرب أوروبا»‪.‬‬

‫يعاين اجلميع من االكتئاب أحيانًا‪ ،‬ويعاين بعض الناس من االكتئاب الشديد وفيه يستمر احلزن وفقدان األمل ألكثر من أسبوعني‬
‫ويعيقهم عن مواصلة احلياة اليومية بشكل طبيعي‪ ،‬وقد ُشخص عدد أكرب من الناس باالكتئاب يف العقود األخرية‪ ،‬وخاصةً من الفئات‬
‫شعار شهري ألحد برامج التليفزيون الوثائقية احلديثة‪« :‬وباءٌ صامت جيتاح البلد ويقتل أبناءنا»‪.‬‬
‫األصغر سنًا‪ ،‬وعرب عن التصور التقليدي ٌ‬
‫مستبعدا واتضح أنه كان ومهًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫لقد رأينا للتو أن البلد ال يعاين من تفشي التعاسة أو الوحدة أو االنتحار‪ ،‬لذا فيبدو تفشي االكتئاب‬
‫بأن كل الفئات العمرية بدايةً من اجليل األعظم‬ ‫كثريا‪ ،‬واليت تدعي ادعاءً غري مقنع َّ‬
‫لنتناول إحدى الدراسات اليت يُستشهد هبا ً‬
‫ٍ‬
‫أشخاص من‬ ‫حىت جيل طفرة املواليد تعاين من االكتئاب أكثر من الفئة اليت سبقتها‪ ،‬توصل الباحثون إىل هذا االستنتاج بطلبهم من‬
‫ولكن هذا جعل الدراسة معتمدةً على الذاكرة‪ :‬وكلما طالت املدة منذ اإلصابة‬ ‫أعما ٍر خمتلفة تذكر األوقات اليت أُصيبوا فيها باالكتئاب‪َّ ،‬‬
‫بنوبة االكتئاب‪ ،‬اخنفضت احتمالية أن يتذكرها الشخص‪ ،‬وخاصةً إذا كانت مريرة (كما رأينا يف الفصل الرابع)‪ .‬يومهنا هذا بأن الفرتات‬
‫أيضا على الوفيات‪ ،‬فاملصابون باالكتئاب أكثر عرضة‬ ‫احلديثة والفئات العمرية الصغرية أكثر عرضةً لالكتئاب‪ .‬تعتمد هذه الدراسة ً‬
‫ٍ‬
‫أسباب أخرى مع مرور الوقت‪ ،‬لذا فاملسنون األحياء الذين تشملهم العينة تكون صحتهم النفسية‬ ‫للموت عن طريق االنتحار أو نتيجة‬
‫أفضل‪ ،‬مما جيعل األمر يبدو كما لو أن مجيع من ُولدوا منذ زم ٍن بعيد يتمتَّعون بصحة نفسية أفضل‪.‬‬
‫أيضا تغري املواقف من الصحة النفسية‪ ،‬فقد شهدت العقود األخرية برامج توعية ومحالت إعالمية هتدف إىل زيادة‬
‫يشوه التاريخ ً‬
‫ممَّا ِّ‬
‫وسوقت شركات األدوية الكثري من مضادات االكتئاب للمستهلكني مباشرةً‪ ،‬وتطالب‬ ‫الوعي واحلد من الوصمة املرتبطة باالكتئاب‪َّ ،‬‬
‫مبرض معني قبل حصوهلم على استحقاقات مثل العالج واخلدمات احلكومية واحلق يف‬ ‫األنظمة البريوقراطية بأن يتم تشخيص األفراد ٍ‬
‫عدم التمييز‪ ،‬وقد تشجع كل هذه احملفزات الناس على االعرتاف بأهنم يعانون من االكتئاب‪.‬‬
‫مرضا نفسيًا‪ .‬فقد تضاعفت‬ ‫ٍ‬
‫ويف نفس الوقت‪ ،‬يُقلل العاملون يف جمال الصحة النفسية ورمبا الثقافة بوجه عام املعايري احملدِّدة ملا يُعترب ً‬
‫األمراض املتضمنة يف دليل التشخيص واإلحصاء (‪ )DSM‬اخلاص باجلمعية األمريكية للطب النفسي بثالثة أضعاف بني عامي ‪1952‬‬
‫و‪ 1994‬عندما مت إدراج ‪ 300‬اضطراب تقريبًا مبا فيها اضطراب الشخصية التجنبية (والذي ينطبق على من كانوا يوصفون ساب ًقا‬
‫باخلجل) وتسمم الكافيني واضطراب الضعف اجلنسي عند النساء‪ ،‬واخنفض عدد األعراض الالزمة للتشخيص‪ ،‬وزاد عدد الضغوط‬
‫النفسية اليت قد تتسبب يف املرض النفسي‪ .‬كما الحظ عامل النفس ريتشارد ماكنايل (‪َّ :)Richard McNally‬‬
‫أن «املدنيني الذي‬
‫مروا بأهوال احلرب العاملية الثانية‪ ،‬وخاصةً مبعسكرات املوت النازية‪ ..‬كانوا سيندهشون بالتأكيد لو علموا أن انتزاع ضرس العقل أو‬
‫مواجهة النكات التهكمية يف العمل أو إجناب طفل سليم معاىف بعد والدةٍ يسرية ميكن أن يتسبب يف اضطراب كرب ما بعد الصدمة»‪.‬‬
‫وف ًقا لنفس التغيري‪ ،‬أصبح مصطلح «االكتئاب» يُطلق اليوم على ما كان يسمى يف املاضي باألسى أو الشجن أو احلزن‪.‬‬
‫وقد بدأ علماء النفس واألطباء النفسيون يف التحذير من «توسع نطاق املرض من أجل ترويج العالج» و«متدد إمرباطورية األمراض‬
‫النفسية»‪ .‬أشارت عاملة النفس روبني روزنربج (‪ )Robin Rosenberg‬يف مقاهلا «أصبح غري العادي هو القاعدة»‬
‫أن آخر إصدار من دليل التشخيص واإلحصاء )‪(DSM‬‬ ‫(‪ )Abnormal Is the New Normal‬املنشور عام ‪ 2013‬إىل َّ‬
‫ميكن أن يُشخص نصف الشعب األمريكي بأحد االضطرابات النفسية خالل فرتة ما من حياهتم‪.‬‬
‫يُعد متدد إمرباطورية األمراض النفسية أحد مشاكل العامل األول‪ ،‬وعالمةً على التقدم األخالقي يف نو ٍاح كثرية‪ ،‬فاالعرتاف مبعاناة‬
‫نوع من التعاطف‪ ،‬وخاصةً عندما يكون باإلمكان ُتفيف هذه املعاناة عنه‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫تشخيص ما عليه‪ ،‬هو ٌ‬ ‫شخص ما‪ ،‬حىت وإن كان بإطالق‬‫ٍ‬
‫أن العالج املعريف السلوكي فعَّال بصورة جلية (أكثر فعاليةً من األدوية عادةً) يف عالج كث ٍري من‬
‫إن أحد أسرار علم النفس اخلفية هو َّ‬
‫االضطرابات مثل االكتئاب والقلق ونوبات اهللع واضطراب كرب ما بعد الصدمة واألرق وأعراض ال ُفصام‪ .‬تُشكل االضطرابات النفسية‬
‫أكثر من ‪ %7‬من عبء اإلعاقة العاملي (يشكل االكتئاب الشديد مبفرده ‪ ،)%2.5‬وهذه معاناة هائلة ميكن ُتفيفها‪ .‬لفت حمررو جملة‬
‫المكتبة العامة للعلوم‪ :‬الطب )‪(Public Library of Science: Medicine‬االنتباه لـ «مفارقة الصحة النفسية»‪ :‬وهي‬
‫اعتبار املشاكل العادية اضطرابًا يستحق العالج واإلفراط يف العالج يف الغرب الثري وقلة االعرتاف باألمراض وقلة العالج يف بقية العامل‪.‬‬
‫باتساع نطاق التشخيص‪ ،‬أصبحت الطريقة الوحيدة ملعرفة ما إذا كان عدد أكرب من الناس يعانون من االكتئاب يف الوقت احلايل‬
‫هي عمل اختبار قياسي موحد ألعراض االكتئاب على عينات ممثلة على املستوى الوطين من الناس من أعمار خمتلفة على مدى ٍ‬
‫عقود‬
‫معيارا ثابتًا على فئات سكانية أكثر‬ ‫ِ‬
‫كثريا من الدراسات طبَّقت ً‬
‫أي دراسة حىت اآلن هذه القاعدة األساسية‪ ،‬ولك ًّن ً‬ ‫تستوف ُّ‬ ‫كثرية‪ ،‬ومل‬
‫أشخاصا يسكنون يف مقاطعتني ريفيتني (أحدمها يف السويد واألخرى يف كندا) من‬
‫ً‬ ‫حمدودية‪ .‬وقد مشلت دراستان مكثفتان طويلتا األمد‬
‫مواليد الفرتة ما بني ‪ 1870‬والتسعينيات وتتبَّعتاهم من منتصف القرن العشرين حىت آخره متضمنتني حيوات متعاقبة امتدت ألكثر من‬
‫أي منهما دالالت على ارتفاع معدالت االكتئاب على املدى الطويل‪.‬‬
‫قرن‪ ،‬ومل جتد ٌ‬
‫أيضا العديد من التحليالت التجميعية (وهي األحباث اليت ُجترى على األحباث)‪ ،‬فوجدت توينج (‪َّ )Twenge‬‬
‫أن‬ ‫أُجريت ً‬
‫سجلوا منذ عام ‪ 1938‬حىت عام ‪ 2007‬معدالت مرتفعة على مقياس االكتئاب املوجود يف اختبار مينيسوتا متعدد‬ ‫الطالب اجلامعيني َّ‬
‫اختبار شائع للشخصية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال يعين هذا بالضرورة ازدياد عدد الطالب الذين يعانون من‬‫األوجه للشخصية )‪ ،(MMPI‬وهو ٌ‬
‫االكتئاب الشديد‪ ،‬ولكن هذا االرتفاع رمبا يكون بسبب التحاق عدد أكرب من الناس باجلامعة على مر العقود‪ .‬وعالوة على ذلك‪ ،‬فقد‬
‫تغري أو اخنفاض يف معدالت االكتئاب‪ ،‬وخاصةً لدى الشباب‬ ‫وجدت دراسات أخرى (بعضها قامت هبا توينج بنفسها) أنَّه ال يوجد ُّ‬
‫والفئات العمرية الصغرية ويف العقود الالحقة‪ ،‬أحدها بعنوان‪« :‬هل تفشى االكتئاب بني املراهقني واألطفال؟» ( ‪Is There An‬‬
‫?‪ )Epidemic of Child or Adolescent Depression‬وهي تؤكد قانون بيرتيدج (‪ )Betteridge's Law‬للعناوين‬
‫القائل بأن‪ :‬أي عنوان رئيسي ينتهي بعالمة استفهام ميكن اإلجابة عليه بكلمة ال‪ .‬وتوضح الدراسة َّ‬
‫أن «تصور الناس عن (الوباء املتفشي)‬
‫قد ينتج عن تزايد الوعي باضطراب كانت معرفة األطباء به وتشخيصهم له أقل يف املاضي»‪ .‬كان عنوان أحد أكرب التحليالت التجميعية‬
‫يشوق قُـَّراءَه‪« :‬رفض‬
‫اضحا ومل ِّ‬
‫حىت اآلن ‪-‬الذي درس معدل انتشار القلق واالكتئاب بني عامي ‪ 1990‬و‪ 2010‬يف العامل بأكمله‪ -‬و ً‬
‫توصل الباحثون إىل أنَّه «عند تطبيق معايري تشخيص واضحة‪ ،‬فال يوجد دليل على‬ ‫أسطورة (تفشي) االضطرابات النفسية الشائعة»‪َّ .‬‬
‫َّ‬
‫أن انتشار االضطرابات النفسية الشائعة يف ازدياد»‪.‬‬
‫تساؤال حول ما إذا كان العامل قد‬ ‫يتالزم االكتئاب مع القلق‪ ،‬يف ٍ‬
‫عالقة يُطلق عليها اختصاصيو الوبائيات التزامن املرضي‪ ،‬ممَّا يثري ً‬
‫أصبح أكثر قل ًقا‪ ،‬جند إجابةً عن هذا السؤال يف عنوان قصيدة سردية طويلة للشاعر ويسنت هيو أودن (‪ )W. H. Auden‬املنشورة‬
‫عام ‪ 1947‬وهو «عصر القلق» )‪ .(The Age of Anxiety‬الحظ الباحث اإلجنليزي آالن جايكوبز (‪ )Alan Jacobs‬يف‬
‫كثريا من النقاد الثقافيني على مر العقود أثنوا على فطنة أودن يف تسمية احلقبة اليت حنيا فيها‪،‬‬
‫أن « ً‬ ‫مقدمة طبعة حديثة هلذه القصيدة َّ‬
‫أساسا بالقلق بالتحديد أو ما إذا‬
‫أن عصرنا يتَّسم ً‬‫يتمكن سوى قليلون من فهم سبب اعتقاده َّ‬ ‫ولكن بالنظر إىل صعوبة القصيدة‪ ،‬فلم َّ‬
‫فإن االسم الذي أطلقه على حقبتنا ارتبط هبا‪ ،‬واستُخدم يف عنوان‬ ‫كان هذا ما يقوله حقًّا »‪ .‬سواء أكان أودن يقول هذا حقًّا أم ال‪َّ ،‬‬
‫الطالب اجلامعيني بني عامي ‪1952‬‬ ‫املوجه لألطفال و َّ‬
‫أن جمموع درجات اختبار القلق املعياري َّ‬ ‫حتليل جتميعي أجرته توينج‪ ،‬وأوضح َّ‬
‫و‪ 1993‬ارتفع مبقدار احنراف معياري كامل‪ .‬األشياء اليت ال ميكن أن تستمر إىل األبد‪ ،‬ال تستمر‪ ،‬وحسب معلوماتنا َّ‬
‫فإن هذه الزيادة‬
‫الطالب اجلامعيني استقرت بعد عام ‪ .1993‬ومل تصبح القطاعات الدميوغرافية األخرى أكثر قل ًقا‪ ،‬إذ مل جتد الدراسات الطولية اليت‬ ‫بني َّ‬
‫تفاع يف‬
‫طالب املرحلة الثانوية والبالغني منذ سبعينيات القرن املاضي حىت العقود األوىل من القرن احلادي والعشرين أي ار ٍ‬ ‫أُجريت على َّ‬
‫أن القلق الذي يصل‬ ‫أن بعض األشخاص ذكروا يف بعض االستطالعات إصابتهم باملزيد من أعراض الكرب‪َّ ،‬إال َّ‬ ‫خمتلف الفئات‪ .‬ورغم َّ‬
‫إىل حد املرض مل يبلغ مستويات وبائية‪ ،‬ومل حيقِّق أي زيادات عاملية منذ عام ‪.1990‬‬

‫كل شيء رائع‪ ،‬هل حنن حقًّا تعساء للغاية؟ لسنا تعساء يف األغلب‪ ،‬فالدول املتقدِّمة يف احلقيقة سعيدة جدًّا‪ ،‬وأصبحت أغلبية دول‬
‫العامل أسعد‪ ،‬وكلَّما ازداد غىن الدول ازدادت سعادةً ً‬
‫أيضا‪ .‬ال تصمد التحذيرات املخيفة من أوبئة الوحدة واالنتحار واالكتئاب والقلق‬
‫فإن أفراد جيل األلفية‬ ‫ٍ‬
‫ملتاعب‪َّ ،‬إال أنَّه بالنسبة لألجيال األصغر َّ‬ ‫قلق إزاء تعرض اجليل التايل‬
‫أن كل جيل ٌ‬ ‫تقصي احلقائق‪ ،‬ورغم َّ‬ ‫أمام ِّ‬
‫بصحة نفسية أفضل من آبائهم املدلِّلني (أو من يُطلق عليهم اآلباء اهلليكوبرت)‪.‬‬‫ٍ‬ ‫حال جيد للغاية وأسعد ويتمتَّعون‬ ‫يبدون يف ٍ‬
‫كثريا من الناس ال يبلغون مستويات عليا‪ ،‬فاألمريكيون متأخرون عن بقية أقراهنم من شعوب العامل‬ ‫فإن ً‬ ‫ولكن فيما يتعلَّق بالسعادة َّ‬
‫أن أفراد جيل طفرة املواليد جيل مضطرب‬ ‫األول‪ ،‬وركدت مستويات سعادهتم يف احلقبة اليت يُطلق عليها أحيانًا «القرن األمريكي»‪ .‬ثبُت َّ‬
‫ورخاء‪ ،‬ممَّا أثار حرية آبائهم الذين مروا بالكساد الكبري واحلرب العاملية الثانية و(يف حالة كث ٍري من أصدقائي)‬ ‫ٍ‬ ‫رغم نشأهتم يف ٍ‬
‫سالم‬
‫اهلولوكوست‪ .‬أصبحت النساء األمريكيات أتعس يف نفس الوقت الذي حقَّقن فيه مكاسب غري مسبوقة يف الدخل والتعليم واإلجناز‬
‫الرجال النساء‪ .‬رمبا يكون القلق وبعض األعراض االكتئابية‬
‫ُ‬ ‫واالستقاللية‪ ،‬ويف الدول املتقدِّمة األخرى اليت ازداد فيها اجلميع سعاد ًة‪ ،‬جتاوز‬
‫قد زادت يف العقود اليت تلت احلرب‪ ،‬على األقل لدى بعض األشخاص‪ ،‬وال أحد منا سعيد كما ينبغي بالنظر إىل مدى الروعة اليت‬
‫وصل إليها عاملنا‪.‬‬
‫سأهني هذا الفصل بالتأمل يف هذا النقص يف السعادة‪ ،‬اليت متثِّل للكثري من املعلِّقني فرصةً للتشكيك يف احلداثة‪ ،‬فيقولون َّ‬
‫إن‬
‫تعاستنا ردٌّ على عبادتنا للفرد وللثروة املادية وعلى انصياعنا لتآكل األسرة والتقاليد والدين واجملتمع احمللي‪.‬‬
‫ولكن هناك طريقة أخرى نفهم هبا إرث احلداثة‪ ،‬فمن حينُّون إىل العادات الشعبية نسوا كم كافح أسالفنا للتخلُّص منها‪ .‬رغم َّ‬
‫أن‬ ‫َّ‬
‫كثريا من أشكال الفنون الرائعة اليت‬
‫أن ً‬‫من عاشوا يف جمتمعات وثيقة الرتابط أرخت احلداثة روابطها مل ُجيروا استبيانات عن السعادة‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أُنتِجت خالل فرتة التحول أظهرت جوانبها املظلمة مثل ضيق األفق والتطابق والقبلية والقيود املفروضة على استقاللية النساء كتلك اليت‬
‫ايات عديدة منذ منتصف القرن الثامن عشر حىت أوائل القرن العشرين صراعات األشخاص من‬ ‫تفرضها حركة طالبان‪ .‬وقد تناولت رو ٌ‬
‫أجل جتاوز أعراف النظم األرستقراطية أو الربجوازية أو الريفية اخلانقة‪ ،‬مبا فيها أعمال ريتشاردسون (‪ )Richardson‬وثاكري‬
‫(‪ )Thackeray‬وتشارلوت برونيت (‪ )Charlotte Brontë‬وإليوت (‪ )Eliot‬وفونتانه (‪ )Fontane‬وفلوبري (‪)Flaubert‬‬
‫وتولستوي (‪ )Tolstoy‬وإبسن (‪ )Ibsen‬وألكوت (‪ )Alcott‬وهاردي (‪ )Hardy‬وتشيخوف (‪ )Chekhov‬ولويس‬
‫(‪ .)Lewis‬بعد أن أصبح اجملتمع الغريب املتمدِّن أكثر تساحمًا وعامليةً‪ ،‬ظهرت هذه التوترات ثانيةً يف طريقة تناول أعمال الثقافة الشعبية‬
‫للحياة يف البلدات الصغرية األمريكية‪ ،‬مثلما يف أغنيات بول سيمسون )‪« (Paul Simson‬يف بلديت الصغرية مل أ ُكن أعين شيئًا ‪ /‬مل‬
‫أكن سوى ابن أيب» ‪ )"In my little town I never meant nothin' / I was just my father's son" -‬ولو‬
‫ريد )‪« (Lou Reed‬عندما تنشأ يف بلدة صغرية ‪ /‬تعرف أنك ستذبل يف بلدة صغرية» ‪When you're growing " -‬‬
‫‪ )"up in a small town / You know you'll grow down in a small town‬وبروس سربجنستني ( ‪Bruce‬‬
‫( )‪«Springsteen‬هذه البلدة ستخلع عظامك يا عزيزيت ‪ /‬إهنا مصيدة موت‪ ،‬حكم باالنتحار» ‪Baby, this town " -‬‬
‫‪ .)"rips the bones from your back / It's a death trap, a suicide rap‬وظهرت ثانيةً يف أدب املهاجرين‪،‬‬
‫مبا يشمل أعمال إسحاق باشيفيس سنجر (‪ )Isaac Bashevis Singer‬وفيليب روث (‪ )Philip Roth‬وبرنارد ماالمود‬
‫(‪ )Bernard Malamud‬مث أعمال إميي تان (‪ )Amy Tan‬وماكسني هونج كينجستون ( ‪Maxine Hong‬‬
‫‪ )Kingstone‬وجومبا الهريي (‪ )Jhumpa Lahiri‬وبارايت موكرجي (‪ )Bharati Mukherjee‬وتشيرتا بانرجي ديفاكاروين‬
‫(‪.)Chitra Banerjee Divakaruni‬‬
‫نتمتَّع اليوم بعا ٍمل ميتاز هبذه احلرية الشخصية اليت كانت هذه الشخصيات حتلم هبا‪ ،‬عا ٍمل يستطيع املرء فيه أن يتزوج ويعمل وحييا‬
‫حيذر آنا كارنينا (‪ )Anna Karenina‬أو نورا هلمر ( ‪Nora‬‬ ‫كما حيب‪ .‬يتخيل املرء أحد النقاد االجتماعيني احلاليني وهو ِّ‬
‫ٍ‬
‫بلحظات من القلق والتعاسة دون روابط األسرة والقرية‪،‬‬ ‫تتصورانه و َّأهنما ستُصابان‬ ‫‪ )Helmer‬من َّ‬
‫أن اجملتمع العاملي املتسامح ليس كما َّ‬
‫أن هذه صفقة رائعة!‬‫ولكين أظن َّأهنما ستعتقدان َّ‬
‫ال أستطيع التحدث بالنيابة عنهما‪ِّ ،‬‬
‫وتفك ٍر ٍ‬
‫وحبث داخل‬ ‫عما تقتضيه احلرية من ٍ‬
‫يقظة ُّ‬ ‫قليال من القلق مثنًا للحرية وما ينتج عنها من حرية‪ ،‬وهي تعبري آخر َّ‬
‫ورمبا نعاين ً‬
‫الذات‪ .‬وال عجب يف اخنفاض مستويات السعادة لدى النساء بعد اكتساهبن بعض االستقاللية بالنسبة إىل الرجال‪ ،‬ففي العصور السابقة‬
‫إن أهداف حياهتن تتضمن ًّ‬
‫كال من‬ ‫ونادرا ما تعدت ذلك‪ ،‬أما اليوم فالشابات ي ُقلن َّ‬
‫كانت مسؤوليات النساء قاصرة على نطاق األسرة ً‬
‫احلياة املهنية واألسرة والزواج واملال والرتفيه والصداقة واخلربة وتصحيح التفاوت االجتماعي وأن يصبحن قائدات يف جمتمعاهتن احمللية وأن‬
‫كل ما يتمىن املرء يدركه»‪.‬‬
‫وطرق كثرية للشعور باإلحباط‪ ،‬إذ «ما ُّ‬
‫يسهمن يف اجملتمع‪ ،‬وهذه أشياءُ كثرية مثرية للقلق ٌ‬
‫أيضا‪،‬‬ ‫ليست االختيارات اليت أتاحتها االستقاللية الذاتية فقط هي ما تثقل على العقل احلديث‪َّ ،‬‬
‫وإمنا األسئلة الوجودية الكربى ً‬
‫فمع حصول الناس على تعليم أفضل وازدياد شكهم يف السلطات القائمة يقل اقتناعهم حبقائق الدين التقليدية‪ ،‬ويشعرون بأهنم هائمون‬
‫كون ال يأبه باألخالق‪ .‬ففي فيلم «هانا وأخواتها» )‪ (Hannah and Her Sisters,1986‬يرمز وودي آلن‬ ‫على وجوههم يف ٍ‬
‫(‪ )Woody Allen‬للقلق املعاصر بتمثيله يف حوار بينه وبني والديه يعرب عن الفجوة بني األجيال يف القرن العشرين‪:‬‬

‫ميكي‪ :‬أراك تكرب يف العمر يا أيب‪ ،‬أليس كذلك؟ أال ُتشى املوت؟‬
‫األب‪ :‬وِملَ اخلوف؟‬
‫موجودا!‬
‫ً‬ ‫ميكي‪ :‬أوه! ألنك لن تكون‬
‫األب‪ :‬وماذا يف ذلك؟‬
‫ميكي‪ :‬أال ترعبك هذه الفكرة؟‬
‫األب‪ :‬ال أحد يفكر يف مثل هذه السخافات‪ ،‬أنا ٌ‬
‫حي اآلن‪ ،‬عندما أموت‪ ،‬سأكون ميتًا‪.‬‬
‫ميكي‪ :‬ال أستطيع استيعاب األمر‪ .‬ألست خائ ًفا؟‬
‫األب‪ِ :‬م َّم أخاف؟ لن أكون واعيًا‪.‬‬
‫ميكي‪ :‬نعم‪ ،‬أعرف ذلك‪ .‬ولكن فكرة العدم!‬
‫األب‪ :‬ال أحد يعلم ما سيحدث‪.‬‬
‫ميكي‪ :‬ال تبدو األمور مبشرة باخلري‪.‬‬
‫األب‪ :‬من يعلم ما الذي سيحدث؟ سأكون إما واعيًا أو ال‪ ،‬إن كنت واعيًا فسأتعامل مع األمر حينها‪ ،‬لن أقلق اآلن َّ‬
‫عما‬
‫سيحدث عندما أكون غري و ٍاع‪.‬‬
‫األم [ال تظهر على الشاشة]‪ :‬يوجد إله بالطبع أيها األمحق! أال تؤمن به؟‬
‫ميكي‪ :‬لكن إذا كان هناك إله‪ ،‬فلماذا يوجد كل هذا الشر يف العامل؟ ببساطة‪ ،‬ملاذا ظهر النازيون؟‬
‫األم‪ :‬أخربه يا ماكس‪.‬‬
‫األب‪ :‬كيف يل أن أعرف ملاذا ظهر النازيون؟ أنا ال أعرف حىت كيف تعمل فتاحة العلب‪.‬‬
‫أيضا إمياهنم املطمئن بصالح مؤسساهتم‪ .‬اختار املؤرخ ويليام أونيل (‪ )William O’Neill‬لكتابه عن تاريخ‬ ‫فقد الناس ً‬
‫سنوات طفولته التالية للحرب العاملية الثانية عنوان «الذروة األمريكية‪ :‬أعوام الثقة ‪American High: ( »1960-1945‬‬
‫ائعا يف هذه احلقبة‪ ،‬إذ كان الدخان املتصاعد من املصانع‬ ‫)‪ .The Years of Confidence 1945-1960‬بدا كل شيء ر ً‬
‫دليال على عبقرية األمريكان‪ ،‬وكانت‬ ‫عالمةً على الرخاء‪ ،‬وكانت مهمة أمريكا نشر الدميوقراطية يف أحناء العامل‪ ،‬وكانت القنبلة النووية ً‬
‫املرأة تستمتع مبملكتها يف املنزل‪ ،‬وكان الزنوج يعرفون مقامهم‪ .‬وبالرغم من أنه كان يوجد الكثري من األشياء الرائعة يف أمريكا خالل هذه‬
‫تفعا ومعدالت حدوث اجلرمية واألمراض االجتماعية األخرى منخفضة)‪ ،‬إال أَّننا ننظر إىل‬ ‫احلقبة ح ًقا (كان معدل النمو االقتصادي مر ً‬
‫هذه احلقبة اليوم على أهنا جنة احلمقى‪ .‬فليس من قبيل الصدفة أن يكون القطاعان ذوا مستوى السعادة املنخفض ‪-‬األمريكيون وجيل‬
‫طفرة املواليد‪ -‬مها القطاعان اللذان واجها احلقائق وُتلصا من أوهامها يف ستينيات القرن املاضي‪ .‬ميكننا أن نرى اآلن بأث ٍر رجعي أنَّه مل‬
‫يكن من املمكن تأجيل االهتمام بشؤون البيئة واحلرب النووية واألخطاء الفادحة يف السياسة اخلارجية األمريكية واملساواة بني اجلنسني‬
‫وبني األعراق املختلفة إىل األبد‪ ،‬حىت وإن أصبحنا أكثر قل ًقا‪ ،‬فالوعي هبذه املشاكل أفضل‪.‬‬
‫عندما نعي مبسؤولياتنا املشرتكة‪ ،‬يضيف كلٌّ منَّا جزءًا من أعباء العامل إىل اهتماماته‪ .‬يبدأ فيلم «اجلنس واألكاذيب وشريط الفيديو»‬
‫معرب عن قلق أواخر القرن العشرين‪ ،‬مبشهد تعرب فيه البطلة‪ ،‬وهي‬
‫رمز آخر ِّ‬ ‫)‪ ،(Sex, Lies, and Videotape, 1989‬وهو ٌ‬
‫من جيل طفرة املواليد‪ ،‬عن قلقها ملعاجلها النفسي قائلةً‪:‬‬

‫القمامة‪ .‬كل ما كنت أفكر فيه طوال هذا األسبوع هو القمامة‪ ،‬ال أستطيع التوقف عن التفكري فيها‪ .‬أنا‪ ..‬أنا قلقةٌ ح ًقا‬
‫بشأن كل هذه القمامة‪ .‬أعين أن لدينا الكثري من القمامة‪ ،‬أتفهمين؟ أعين أن األماكن اليت نضع فيها هذه القمامة ستنفد‬
‫يف النهاية‪ ،‬آخر مرة شعرت فيها هبذا الشعور كانت عندما علقت «البارجة» وكانت تدور حول اجلزيرة وما من ٍ‬
‫أحد يريد‬
‫قبوهلا‪.‬‬

‫تشري «البارجة» املذكورة إىل الضجة اإلعالمية اليت حدثت عام ‪ 1987‬عندما رفضت مدافن القمامة املوجودة يف كل أحناء ساحل‬
‫أبدا‪ ،‬فقد أُجريت جتربة شاهد‬
‫احمليط األطلسي بارجة حمملة بثالثة آالف طن من قمامة نيويورك‪ .‬وال يعد مشهد العالج النفسي خياليًا ً‬
‫أثرا سلبيًا‪،‬‬ ‫أثرا إجيابيًا أو سلبيًا‪ ،‬وأظهرت َّ‬
‫أن «الذين شاهدوا النشرة اإلخبارية املصممة لترتك ً‬ ‫أخبارا متالعبًا هبا كي ترتك ً‬
‫أشخاص ً‬
‫ٌ‬ ‫فيها‬
‫كثريا من‬
‫أن ً‬ ‫زادت لديهم مستويات القلق واحلزن‪ ،‬وزاد ميلهم إىل توقع أسوأ النتائج احملتملة ملا يقلقهم»‪ .‬بعد مرور ثالثة عقود‪ ،‬أظن َّ‬
‫املعاجلني يستمعون إىل خماوف مرضاهم من اإلرهاب وعدم املساواة يف الدخل والتغري املناخي‪.‬‬
‫ليس القلق بالقدر الضئيل سيئًا إذا حفز الناس على دعم السياسات اليت قد تساعد على حل املشاكل الكربى‪ .‬ورمبا جلأ الناس‬
‫زعيما دينيًا‬
‫يف العقود السابقة إىل إلقاء مهومهم على عاتق سلطة أعلى‪ ،‬وما زال بعضهم يفعل ذلك‪ .‬ففي عام ‪ ،2000‬أيد ستون ً‬
‫إعالن كورنوال بشأن احلفاظ على البيئة الذي تناول «أزمة املناخ املزعومة» واملشاكل البيئية األخرى بتأكيد َّ‬
‫أن «الرب الرحيم مل يتخلَّ‬
‫تدخل على مدار التاريخ للحفاظ على عبادة البشر له عن طريق إدارهتم لتعزيز مجال‬ ‫عن عباده املخطئني وال نظام الكون احملكم َّ‬
‫وإمنا َّ‬
‫األرض وخصوبتها»‪ .‬أعتقد َّأهنم واملوقعني األلف ومخسمئة اآلخرين ال يذهبون إىل معاجليهم النفسيني للشكوى من قلقهم بشأن مستقبل‬
‫الكرة األرضية‪ ،‬لكن كما أشار جورج برنارد شو )‪« :(George Bernard Shaw‬حقيقة َّ‬
‫أن املؤمن أسعد من املتشكك تشبه‬
‫سعادة الرجل الثمل مقارنة بالشخص اليقظ»‪.‬‬
‫احملرية سيصيبنا ببعض القلق ال حمالة‪ ،‬فال ينبغي أن يصيبنا ذلك باملرض أو‬
‫ومع أن التفكري يف املشكالت السياسية والوجودية ِّ‬
‫اليأس‪ .‬أحد حتديات احلداثة هو التصدي للمسؤوليات املتزايدة دون أن منوت من القلق‪ ،‬وحنن نتجه حنو استخدام املزيج املناسب من‬
‫احليل القدمية واجلديدة كعادتنا يف مواجهة التحديات اجلديدة‪ ،‬ومن هذه احليل التواصل البشري والفن والتأمل والعالج املعريف السلوكي‬
‫والتأمل الواعي واألمور املمتعة الصغرية واالستخدام املناسب لألدوية وجتديد اخلدمات واملؤسسات االجتماعية ونصائح احلكماء لعيش‬
‫حياة متوازنة‪.‬‬
‫قلق دائم‪ ،‬وترمز قصة البارجة احململة بالقمامة إىل‬‫ورمبا تود وسائل اإلعالم والعاملون هبا التفكري يف دورهم يف إبقاء البلد يف ٍ‬
‫ممارسات وسائل اإلعالم املولِّدة للقلق‪ ،‬فوسط التغطية اإلعالمية يف ذلك الوقت‪ ،‬ضاعت حقيقة أن السفينة مل ُجترب على البقاء يف املاء‬
‫وإمنا بسبب أخطاء يف اإلجراءات الورقية والضجة اإلعالمية نفسها‪ ،‬ومل ُجتَر سوى القليل من املتابعات هلذه‬ ‫بسبب نقص مدافن القمامة َّ‬
‫احلادثة يف العقود اليت تلتها لنفي التصورات اخلاطئة عن أزمة النفايات الصلبة (إذ لدينا يف احلقيقة كثريٌ من مدافن القمامة‪ ،‬وهي غري‬
‫حلوال للمشاكل اليت تواجههم‪.‬‬ ‫أن الناس جيدون ً‬ ‫مضرة بالبيئة)‪ .‬ال متثِّل كل مشكلة أزمةً أو كارثةً أو وباءً‪ ،‬ومن بني ما حيدث يف العامل َّ‬
‫أن هذه املخاطر‬‫ومبناسبة اهللع‪ ،‬فما املخاطر الكربى اليت تواجه اجلنس البشري يف ظنِّك؟ أشار بعض املفكرين يف الستينيات إىل َّ‬
‫هي الزيادة السكانية واحلرب النووية وامللل‪ ،‬وقال أحد العلماء إنَّه مع أن بإمكاننا ُتطِّي املشكلتني األوىل والثانية إال أنَّنا لن نستطيع‬
‫بالتأكيد ُتطِّي الثالثة‪ .‬امللل؟ حقًّا! سيحتار الناس فيما سيشغل وقت يقظتهم ألهنم مل يعودوا حباجة إىل العمل طوال اليوم والقلق بشأن‬
‫الطعام‪ ،‬وسيكونون عرضة لالنغماس يف امللذات واجلنون واالنتحار وسطوة املتطرفني من رجال الدين والسياسة‪ .‬يبدو يل أننا قد وجدنا‬
‫بدال من ذلك يف زم ٍن مثري ‪-‬كما تقول اللعنة الصينية‪ ،-‬لكن‬ ‫عاما وحنيا ً‬‫حالً ألزمة امللل (أم هل كانت وباءً متفشيًّا؟) بعد مخسني ً‬
‫ليس عليك أن تسلِّم مبا أقول‪ .‬يسأل املسح االجتماعي العام األمريكيني منذ عام ‪َّ 1973‬‬
‫عما إذا كانوا يرون احلياة «مثرية» أم «روتينية»‬
‫جدا»‪ ،‬قال عدد أكرب منهم‬ ‫عدد قليل من األمريكيني َّإهنم «سعداء ً‬ ‫أن العقود اليت قال فيها ٌ‬ ‫ويوضح الشكل رقم ‪َّ 4-18‬‬ ‫أم «مملة»‪ِّ ،‬‬
‫َّ‬
‫إن «احلياة مثرية»‪.‬‬
‫الحياة مثيرة‬
‫نسبة الموافقين‬

‫سعدا ٌء ج ًدا‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 4 - 1 8‬ا ل س ع ا د ة وا حل م ا س ‪ ،‬يف ا ل وال ي ا ت ا مل ت ح د ة ‪ ،‬م ن ذ ‪ 1 9 7 2‬ح ىت ‪2 0 1 6‬‬


‫المصدر‪ ،General Social Survey, Smith, Son, & Schapiro 2015 :‬الشكالن ‪ 1‬و‪ 5‬حمدَّثان وف ًقا لبيانات عام ‪ 2016‬من‬
‫‪ .https://gssdataexplorer.norc.org/projects/15157/variables/438/vshow‬حاالت عدم االستجابة مستبعدة من البيانات‪.‬‬

‫أن من يشعرون أهنم يعيشون حياةً ذات معىن يكونون معرضني أكثر من غريهم للضغوط‬ ‫عد تفاوت املنحنيات مفارقةً‪ ،‬تذكر َّ‬‫ال يُ ُّ‬
‫أن القلق لطاملا كان مصاحبًا للنضج‪ :‬فهو يزيد حبدة من سنوات الدراسة حىت بداية العشرينات عندما‬ ‫أيضا يف َّ‬
‫وفكر ً‬‫واملعاناة والقلق‪ِّ ،‬‬
‫يبدأ الناس يف حتمل مسؤوليات البالغني ويهبط تدرجييًّا مبرور السنني بينما يتعلمون كيفية التكيف مع هذه املسؤوليات‪ .‬رمبا يرمز ذلك‬
‫أن الناس اليوم أسعد‪َّ ،‬إال َّأهنم ليسوا سعداء كما هو متوقع‪ ،‬رمبا َّ‬
‫ألهنم ينظرون للحياة بنظرة البالغني بكل‬ ‫إىل حتديات احلداثة‪ ،‬إذ رغم َّ‬
‫َ‬
‫ما فيها من القلق واإلثارة‪ .‬ففي النهاية‪ ،‬كان التعريف األصلي للتنوير هو «خروج اإلنسان من قصوره الذي جلبه على نفسه»‪.‬‬

‫الفصل التاسع عشر‪:‬‬


‫األخطار الوجودية‬

‫ردهم‬ ‫تتحسن يوما بعد يوم ٍ‬


‫لعدد أكرب من الناس‪ ،‬يكون ُّ‬ ‫هل حنن يف طريقنا إىل اهلاوية؟ عندما يضطر املتشائمون إىل اإلقرار َّ‬
‫بأن احلياة َّ ً‬
‫مر ٍ‬
‫بطابق قال‪« :‬ما زلت خبري حىت اآلن»‪،‬‬ ‫جاهزا‪ ،‬فيقولون إنَّنا نندفع بسعادةٍ حنو كار ٍثة‪ ،‬كالرجل الذي سقط من فوق السطح وكلَّما َّ‬
‫ً‬
‫أو كأنَّنا نلعب لعبة الروليت الروسية وستصيبنا الرصاصة القاتلة ال حمالة‪ ،‬أو كأنَّنا سنُفاجأ ٍ‬
‫حبدث غري متوقَّع وخط ٍر شبه مستحيل‬
‫إحصائيًّا‪ ،‬احتمالية حدوثه ضعيفة ولكن نتائجه كارثية‪.‬‬
‫مؤخرا‬ ‫َّ‬
‫ظلت كلٌّ من الزيادة السكانية ونقص املوارد والتلوث واحلرب النووية طيلة نصف قرن متثِّل فرسان الرؤيا األربعة‪ ،‬وانضم إليها ً‬
‫فرسا ٌن أغرب مثل روبوتات النانو اليت ستحيط بنا من كل جانب‪ ،‬والروبوتات اليت ستستعبدنا‪ ،‬والذكاء االصطناعي الذي سيحيلنا إىل‬
‫فريوسا لإلبادة اجلماعية أو تعطيل اإلنرتنت من منازهلم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫مواد خام‪ ،‬واملراهقون البلغاريون الذين سيُعدُّون ً‬
‫حيذرون من خماطر التكنولوجيا‬ ‫ولكن من ِّ‬
‫كان مراقبو الفرسان التقليديون غالبًا من أتباع احلركة الرومانسية وحركة حتطيم اآلالت‪َّ ،‬‬
‫التعرف على املزيد من الطرق اليت سينتهي هبا العامل قريبًا‪ .‬نشر‬
‫العالية يكونون غالبًا من العلماء والتقنيني الذين استخدموا براعتهم يف ُّ‬
‫عامل الفيزياء الفلكية مارتن ريس (‪ )Martin Rees‬يف عام ‪ 2003‬كتابًا بعنوان ساعتنا األخيرة )‪َّ (Our Final Hour‬‬
‫حذر‬
‫عرضنا هبا مستقبل الكون بأكمله للخطر»‪ .‬فقد تصنع التجارب‬ ‫أن «البشرية رمبا تقضي على نفسها بنفسها» وأورد عدة طرق « َّ‬‫فيه من َّ‬
‫مكونًا من الكواركات املضغوطة اليت‬
‫جسيما غريبًا» (‪َّ )strangelet‬‬ ‫على مصادمات اجلسيمات ثقبًا أسود يقضي على األرض‪ ،‬أو « ً‬
‫قد تتسبَّب يف ارتباط كل املادة املوجودة يف الكون هبا واختفائها‪ .‬اكتشف ريس خمزونًا ثريًّا من نظريات الكوارث‪ ،‬وذكرت صفحة الكتاب‬
‫أيضا ‪ ،Global Catastrophic Risks‬و ‪Our Final‬‬ ‫على موقع أمازون َّ‬
‫أن «العمالء الذين شاهدوا هذا املنتج شاهدوا ً‬
‫‪ ،Artificial Intelligence and the End of the Human Era :Invention‬و‪What :The End‬‬
‫‪ ،Science and Religion Tell Us About the Apocalypse‬و‪An Oral History :World War Z‬‬
‫تكرس جهودها الكتشاف‬ ‫»‪َّ .of the Zombie War‬‬
‫مول أصحاب األعمال اخلريية يف اجملال التكنولوجي املعاهد البحثية اليت ِّ‬
‫األخطار الوجودية اجلديدة ومعرفة كيفية إنقاذ العامل منها‪ ،‬مبا فيها معهد مستقبل البشرية (‪)Future of Humanity Institute‬‬
‫ومعهد مستقبل احلياة (‪ )Future of Life Institute‬ومركز دراسات املخاطر الوجودية ( ‪Center for the Study of‬‬
‫‪ )Existential Risk‬واملعهد املعين باملخاطر الكارثية العاملية (‪.)Global Catastrophic Risk Institute‬‬
‫أبدا‪،‬‬ ‫نفكر يف األخطار الوجودية الكامنة يف تقدُّمنا املتزايد؟ ال ميكن ٍ‬ ‫كيف علينا أن ِّ‬
‫يتكهن بعدم حدوث جائحة كربى ً‬ ‫ألحد أن َّ‬
‫ولكين سأطرح طريقةً للتفكري يف هذه األخطار‪ ،‬وسأنظر يف التهديدات الكربى‪ .‬ناقشنا‬ ‫يتضمن هذا الفصل ضمانًا من هذا النوع‪ِّ ،‬‬ ‫وال َّ‬
‫يف الفصل العاشر ثالثةً من تلك األخطار ‪-‬وهي الزيادة السكانية واستنزاف املوارد والتلوث مبا يشمل الغازات الدفيئة‪ -‬وسأتبع املنهج‬
‫نفسه هنا‪ .‬بعض هذه األخطار من نسج خيال النزعة التشاؤمية التارخيية والثقافية‪ ،‬وبعضها حقيقي‪ ،‬ولكن ميكننا التعامل معها باعتبارها‬
‫مشكالت ينبغي حلها ال باعتبارها هناية العامل املنتظرة‪.‬‬

‫فكرنا أكثر يف املخاطر الوجودية‪ ،‬كان أفضل‪ ،‬فاالحتماالت ال ميكن أن تبلغ مستويات أعلى من‬ ‫قد يظن املرء للوهلة األوىل أنَّنا كلَّما َّ‬
‫مستوياهتا احلالية‪ ،‬فما الضرر يف محل الناس على التفكري يف هذه املخاطر املريعة؟ فأسوأ ما قد حيدث أن نتخذ بعض االحتياطات اليت‬
‫يتَّضح يف املستقبل َّأهنا مل ت ُكن ضرورية‪.‬‬
‫املدمرة له جوانب سلبية‪ ،‬أحدها َّ‬
‫أن اإلنذارات الكاذبة باملخاطر الكارثية قد تكون هي نفسها كارثية‪،‬‬ ‫ولكن التفكري يف هناية العامل ِّ‬‫َّ‬
‫فقد انطلق سباق األسلحة النووية يف الستينيات على سبيل املثال نتيجة خماوف من «فجوة الصواريخ» اخلرافية لصاحل االحتاد السوفيييت‪،‬‬
‫يطور أسلحة نووية وخيطط‬
‫مربر غزو العراق عام ‪ 2003‬هو االحتمالية الكارثية‪ ،‬وإن كانت غري مؤكدة‪ ،‬ألن يكون صدام حسني ِّ‬ ‫وكان ِّ‬
‫الستخدامها ضد الواليات املتحدة (كما قال جورج واشنطن االبن‪« :‬ال ميكننا انتظار الدليل الدامغ ‪-‬سالح اجلرمية‪ -‬الذي قد يظهر‬
‫التعهد بعدم البدء باستخدام‬
‫فإن من أسباب رفض القوى العظمى ُّ‬ ‫على هيئة سحابة من دخان االنفجار النووي»)‪ .‬وكما سنرى‪َّ ،‬‬
‫األسلحة النووية َّأهنا تريد االحتفاظ حبق استخدامها يف مواجهة األخطار الوجودية املفرتضة األخرى مثل اإلرهاب البيولوجي أو اهلجمات‬
‫بدال من محايته‪.‬‬
‫يعرض مستقبل البشرية للخطر ً‬ ‫اإللكرتونية‪ .‬ميكن لزرع اخلوف من الكوارث االفرتاضية أن ِّ‬
‫من األخطار األخرى لتعديد سيناريوهات هناية العامل َّ‬
‫أن البشرية لديها ميزانية حمدودة من املوارد والقدرة العقلية والقلق‪ ،‬ال ميكنك‬
‫التغري‬
‫هائال من اجلهد والرباعة‪ ،‬مثل ُّ‬‫قدرا ً‬ ‫أن تقلق بشأن كل شيء‪ .‬بعض األخطار اليت تواجهنا ال لُبس فيها وسيتطلَّب احلد منها ً‬
‫املناخي واحلرب النووية‪ ،‬لن يؤدي إدراج مثل هذه األخطار ضمن قائمة من السيناريوهات العجيبة ذات احتمالية احلدوث الضئيلة أو‬
‫أن الناس ضعفاء يف تقييم االحتماليات وخاصةً االحتماليات الضعيفة‪،‬‬ ‫اجملهولة َّإال إىل ُتفيف اإلحساس بإحلاح هذه األخطار‪َّ .‬‬
‫تذكر َّ‬
‫بدال من ذلك سيناريوهات يف ذهنهم‪ ،‬وإذا استطاعوا ُتيُّل سيناريوهني بنفس السهولة والوضوح‪ ،‬فرمبا يعتربون احتمالية‬ ‫ويتخيلون ً‬
‫كل من اخلطر احلقيقي وسيناريو اخليال العلمي بنفس القدر‪ .‬وكلَّما استطاع األشخاص ُتيُّل‬ ‫حدوثهما واحدة‪ ،‬وسيقلقون بشأن وقوع ٍّ‬
‫بطرق أكثر‪ ،‬كان ُتمينهم الحتمالية حدوث أمر سيء بالفعل يف املستقبل أكرب‪.‬‬ ‫حدوث األمور السيئة ٍ‬

‫أن العقالء يقولون ألنفسهم‪ ،‬كما ذكر مقال حديث يف صحيفة نيويورك تاميز‪:‬‬ ‫ويؤدي ذلك إىل أعظم خطر على اإلطالق‪ ،‬وهو َّ‬ ‫ِّ‬
‫نضحي‬ ‫أن هذه احلقائق الكئيبة ستجعل أي شخص عاقل يستنتج َّ‬
‫أن البشرية هالكة»‪ .‬إذا كانت البشرية هالكة ال حمالة‪ ،‬فلماذا ِّ‬ ‫«ال بد َّ‬
‫بأي شيء للحد من املخاطر احملتملة؟ ملاذا نستغين عن الراحة يف استخدام الوقود األحفوري أو حنث احلكومات على إعادة التفكري يف‬
‫غدا! وقد أوضحت نتيجة استطالع رأي أُجري يف عام‬ ‫سياساهتا اخلاصة باألسلحة النووية؟ تناول طعامك وشرابك ومتتَّع فإنَّنا سنموت ً‬
‫أن حياتنا بنمطها الذي نتبعه ستنتهي خالل ٍ‬
‫قرن أيَّدوا العبارة‬ ‫أن أغلبية املشاركني الذين يعتقدون َّ‬
‫‪ 2013‬يف أربع دول ناطقة باإلجنليزية َّ‬
‫التالية‪« :‬يبدو مستقبل العامل كئيبًا‪ ،‬لذا علينا الرتكيز على االعتناء بأنفسنا ومبن حنبهم»‪.‬‬
‫كثريا يف اآلثار النفسية الرتاكمية لدق الطبول إيذانًا باهلالك‪ ،‬وتشري إلني كيلسي )‪،(Elin Kelsey‬‬ ‫ِّ‬
‫ال يفكر سوى قلة من الكتَّاب ً‬
‫اليت تعمل على تبسيط العلوم البيئية‪ ،‬قائلةً‪ « :‬لدينا تصنيفات فنية وإعالمية حلماية األطفال من اجلنس والعنف يف األفالم‪ ،‬ولكنَّنا‬
‫نستخف بدعوة عا ٍمل إىل فصل دراسي من طالب الصف الثاين ليخربهم َّ‬
‫أن الكوكب أصابه اخلراب‪ .‬يشعر ُربع األطفال (األسرتاليني)‬ ‫ُّ‬
‫بالقلق الشديد بشأن وضع العامل لدرجة جتعلهم يعتقدون حقًّا أنَّه سينتهي قبل أن يكربوا»‪ .‬ووفق استطالعات الرأي احلديثة‪ ،‬يشعر‬
‫بشعورهم ‪ 15‬يف املئة من الناس حول العامل‪ ،‬وما يرتاوح بني ُربع وثُلث األمريكيني‪ .‬يقرتح الصحايف جريج إيسرتبروك ( ‪Gregg‬‬
‫أن األمريكيني ليسوا‬ ‫‪ )Easterbrook‬يف كتاب مفارقة التقدُّم )‪َّ ،(The Progress Paradox‬‬
‫أن أحد أكرب األسباب يف َّ‬
‫أسعد رغم زيادة حظوظهم املوضوعية هو «القلق من االهنيار»‪ ،‬أي اخلوف من اهنيار احلضارة وعدم استطاعة أي شخص أن يفعل أي‬
‫شيء ملنعه‪.‬‬

‫ولكن تقييمات املخاطر تتداعى عندما تتعامل مع أحداث‬


‫ال تكون ملشاعر األشخاص صلة باألمر بالطبع لو كانت األخطار حقيقية‪َّ ،‬‬
‫بأن احتمالية وقوع ٍ‬
‫حدث‬ ‫فإن أي تصريح َّ‬ ‫مستبعدة للغاية يف نُظُ ٍم معقَّدة‪ .‬ومبا أنَّنا ال نستطيع إعادة التاريخ آالف املرات َّ‬
‫وعد النتائج‪َّ ،‬‬
‫ما هي ‪ 0.01‬أو ‪ 0.001‬أو ‪ 0.0001‬أو ‪ 0.00001‬هو باألساس عبارة عن تعب ٍري عن ثقة املقيِّم الذاتية‪ ،‬ويشمل هذا التحليالت‬
‫ويوضحون اندراجها حتت توزيع قانون‬
‫الرياضية اليت يرسم فيها العلماء توزيع األحداث يف املاضي (مثل احلروب أو اهلجمات اإللكرتونية) ِّ‬
‫الرفع للقوة‪ ،‬ويكون توز ًيعا ذا ذيل «مسني» أو «مسيك» تكون فيه األحداث املتطرفة مستبعدة للغاية‪ ،‬ولكنَّها ليست مستبعدة إىل أقصى‬
‫كثريا يف معايرة اخلطر‪َّ ،‬‬
‫ألن البيانات املتناثرة على طول ذيل التوزيع تنحرف عن املنحىن املنتظم وجتعل التقدير‬ ‫حد‪ .‬ال يساعدنا احلساب ً‬
‫أمورا سيئة جدًّا قد حتدث‪.‬‬‫أن ً‬‫مستحيال‪ ،‬فكل ما نعرفه َّ‬ ‫ً‬
‫تضخمها غالبًا احنيازات التوفر والسلبية وكذلك سوق اكتساب الوقار (الفصل الرابع)‪ ،‬فمن‬ ‫يُعيدنا ذلك إىل التعبريات الذاتية اليت ِّ‬
‫أن املتوازنني يُنظر إليهم على َّأهنم قانعون وساذجون‪.‬‬
‫يزرعون اخلوف من نبوءة مفزعة قد يُنظر إليهم على َّأهنم جادون ومسؤولون‪ ،‬يف حني َّ‬
‫إن ينبوع اليأس ال ينضب‪ ،‬فاألنبياء منذ عهد األنبياء العربانيني وسفر الرؤيا ورمبا قبل ذلك ِّ‬
‫حيذرون معاصريهم من يوم القيامة‪ ،‬والتنبؤات‬
‫ومؤسسي األديان والرجال‬‫العرافني والوسطاء الروحيني والصوفيني والدعاة اإلعالميني والطوائف املختلة ِّ‬
‫مكون أساسي لدى َّ‬ ‫بنهاية الزمان ِّ‬
‫الذين يسريون على الرصيف حاملني الفتات تقول‪« :‬توبوا»! متثِّل القصة اليت تكون حبكتها الرد القاسي على الغرور التكنولوجي النموذج‬
‫األصلي لقصص اخليال الغربية مبا يشمل نار بروميثيوس وصندوق باندورا ورحلة إيكاروس وصفقة فاوست وصيب الساحر ووحش‬
‫فيلما هوليووديًّا عن هناية العامل‪ .‬الحظ املهندس إريك زينسي (‪َّ )Eric Zencey‬‬
‫أن «التفكري يف هناية‬ ‫فرانكنشتاين وأكثر من ‪ً 250‬‬
‫كبريا من احلزن الشديد»‪.‬‬ ‫العامل ُمغ ٍر بالفعل‪ ،‬فإذا عاش املرء يف األيام األخرية‪ ،‬فإن أفعاله وحياته نفسها تكتسب معىن تارخييًّا ً‬
‫وقدرا ً‬
‫حمصنني ضد هذا اإلغراء‪ ،‬هل تذكر مشكلة عام ‪(Y2k) 2000‬؟ يف تسعينيات القرن املاضي‪،‬‬ ‫ليس العلماء وال التكنولوجيون َّ‬
‫ومع اقرتاب مطلع األلفية‪ ،‬بدأ علماء الكمبيوتر يف حتذير العامل من كارثة وشيكة‪ .‬يف العقود األوىل من عصر الكمبيوتر عندما كانت‬
‫املعلومات غالية‪ ،‬كان املربجمون يوفِّرون بضع وحدات من البايت عرب التعبري عن السنة بآخر رقمني فيها فقط‪َّ ،‬‬
‫وفكروا أنَّه حبلول العام‬
‫ولكن استبدال الربامج املعقَّدة حيدث بوترية‬
‫لوقت طويل‪َّ .‬‬ ‫‪ 2000‬لن يصبح الرقم «‪ »19‬على سبيل املثال صاحلا وستصبح الربامج بالية ٍ‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫بطيئة‪ ،‬وكانت العديد من الربامج القدمية ما تزال تعمل على احلاسبات الكربى املؤسسية وكانت مثبتة يف رقاقات‪ .‬كانت الفكرة أنَّه‬
‫أن التاريخ يف‬‫وتتغري األرقام يف احلاسب‪ ،‬سيظن الربنامج َّ‬
‫عندما تدق الساعة الثانية عشر معلنةً بداية يوم األول من يناير عام ‪َّ 2000‬‬
‫أن هذا سيحدث ألنَّه سيقسم رق ًما ما على الفرق بني ما يظن أنَّه العام‬ ‫عام ‪ 1900‬ويتعطَّل أو خيرج عن السيطرة (وكان من املفرتض َّ‬
‫يوضح أح ٌد مطل ًقا ملاذا قد يقوم الربنامج هبذا)‪ .‬ويف هذه اللحظة‪ ،‬ستُمحى أرصدة البنوك‪،‬‬ ‫احلايل وعام ‪ ،1900‬أي صفر‪ ،‬ولكن مل ِّ‬
‫وستتجمد مضخات املياه‪ ،‬وستسقط الطائرات من السماء‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وستتوقف املصاعد بني الطوابق‪ ،‬وستتعطَّل احلاضنات يف عنابر الوالدة‪،‬‬
‫وستذوب حمطات الطاقة النووية‪ ،‬وستنطلق الصواريخ الباليستية العابرة للقارات من منصاهتا‪.‬‬
‫قائال‪ :‬أود أن أشدِّد على‬
‫حذر الشعب ً‬ ‫وكانت هذه تنبؤات واقعية من السلطات اخلبرية بالتقنية (مثل الرئيس بيل كلينتون الذي َّ‬
‫إحلاح هذا التحدي‪ ،‬فليس هذا أحد األفالم الرتفيهية اليت ميكنك أن تغلق عينيك فيها خالل املشهد املخيف)‪ .‬رأى املتشائمون فيما‬
‫املفكرون الدينيون مقاومة الربط العددي‬ ‫أن مشكلة عام ‪ 2000‬عقوبةٌ على جعل حضارتنا أسرية التكنولوجيا‪ .‬ومل ِ‬
‫يستطع ِّ‬ ‫خيص الثقافة َّ‬
‫قائال‪« :‬أعتقد َّ‬
‫أن مشكلة عام‬ ‫فصرح الكاهن جريي فولويل (‪ً )Jerry Falwell‬‬ ‫التنجيمي بني هذه املشكلة ومعتقد األلفية املسيحي‪َّ ،‬‬
‫‪ 2000‬رمبا تكون وسيلة اهلل يف زعزعة هذه األمة وإخشاع هذه األمة وإيقاظ هذه األمة‪ ،‬وأن يبدأ من هذه األمة حركة إحياء تسود‬
‫حتد‬
‫وجه األرض قبل اختطاف الكنيسة»‪ .‬أُنفقت مئة مليار دوالر حول العامل على إعادة برجمة الربامج لالستعداد لعام ‪ ،2000‬وهو ٍّ‬
‫مت تشبيهه باستبدال كل املسامري يف كل جسور العامل‪.‬‬
‫كنت بالصدفة يف اللحظة املصريية يف نيوزيلندا‬
‫متشك ًكا يف سيناريوهات «يوم القيامة» بصفيت مربجمًا ساب ًقا للغة التجميع‪ ،‬و ُ‬ ‫كنت ِّ‬
‫اليت كانت أول دولة تدخل يف األلفية اجلديدة‪ ،‬وبالتأكيد مل حيدث شيءٌ يف الثانية عشرة منتصف ليلة رأس السنة (وسرعان ما طمأنت‬
‫استعدادا للعام ‪ 2000‬ألنفسهم الفضل يف‬
‫ً‬ ‫أفراد أسريت عرب اهلاتف الذي كان يعمل على أكمل وجه)‪ .‬نسب من قاموا بإعادة الربجمة‬
‫كثريا من الدول والشركات الصغرية جازفت بعدم إجراء أي استعداد للعام ‪،2000‬‬ ‫ولكن ً‬ ‫تفادي الكارثة ‪-‬غري املوجودة من األساس‪َّ -‬‬
‫حتديث (إذ ظهر يف أحد الربامج على حاسيب احملمول التاريخ‬ ‫ٍ‬ ‫أن بعض الربامج كانت حباجة إىل‬ ‫أيضا‪ .‬رغم َّ‬ ‫ومل تواجه أي مشاكل ً‬
‫أن الربامج اليت كانت حتتوي على هذه املشكلة وأجرت عمليات حسابية مضطربة‬ ‫كالتايل‪ 1« :‬يناير ‪َّ ،)»19100‬إال أنَّه اتَّضح َّ‬
‫أن خطورة التهديد ال تزيد على خطورة الكلمات املكتوبة‬ ‫حلساب العام اجلاري برامج قليلة جدًّا وخاصةً تلك املثبَّتة يف آالت‪ .‬واتَّضح َّ‬
‫أن كل التحذيرات من الكوارث‬ ‫على اللوحة اليت حيملها النيب الواقف على الرصيف‪ .‬ال يعين الفزع اهلائل بشأن مشكلة العام ‪َّ 2000‬‬
‫يذكرنا بأنَّنا عرضة لألوهام اخلاصة بنهاية العامل التقنية‪.‬‬‫احملتملة إنذارات كاذبة‪ ،‬ولكنَّه ِّ‬
‫نفكر يف التهديدات الكارثية؟ لنبدأ بأكرب مسألة وجودية على اإلطالق‪ ،‬مصري النوع البشري‪ .‬ال مفر من التصاحل‬ ‫كيف جيدر بنا أن ِّ‬
‫بأن التقدير التقرييب األويل يشري إىل َّ‬
‫أن‬ ‫حتديدا وهي مصرينا كأفراد‪ .‬ميزح علماء األحياء َّ‬
‫مع فناء نوعنا‪ ،‬مثلما فعلنا مع املسألة األكثر ً‬
‫أن هذا كان مصري ‪ 99‬يف املئة على األقل من كل األنواع اليت عاشت على وجه األرض‪ ،‬يستمر النوع النموذجي‬ ‫كل األنواع منقرضة‪ ،‬مبا َّ‬
‫أن اإلنسان العاقل سيمثِّل استثناءً لتلك القاعدة‪ .‬حىت لو كنا بقينا نعمل يف‬ ‫من الثدييات حوايل مليون سنة‪ ،‬ويصعب التأكيد على َّ‬
‫الصيد ومجع الثم ار ومنتلك معرفة تكنولوجية متواضعة‪ ،‬لكنا ما نزال حنيا يف صالة رماية جيولوجية‪ ،‬إذ ميكن أن تقضي دفعة من أشعة‬
‫وتدمر طبقة األوزون‬
‫جاما من سوبرنوفا (جنم مستعر أعظم) أو جنم منهار على نصف الكوكب‪ ،‬وحتيل الغالف اجلوي إىل اللون األمسر ِّ‬
‫ٍ‬
‫لفاصل‬ ‫فيعرض الكوكب‬‫ممَّا يسمح لضوء األشعة فوق البنفسجية بالقضاء على النصف اآلخر‪ .‬أو قد ينقلب جمال األرض املغناطيسي ِّ‬
‫حطاما حيجب الشمس‬ ‫ً‬ ‫فيسوي آالف األميال املربَّعة وخيلِّف‬
‫كويكب باألرض ِّ‬
‫ٌ‬ ‫من اإلشعاع الكوين والشمسي القاتل‪ ،‬وقد يصطدم‬
‫ويغمرنا بأمطا ٍر مسبِّبة للتآكل‪ .‬قد ُتنقنا الرباكني العمالقة أو تدفقات احلمم الربكانية الضخمة بالرماد وثاين أكسيد الكربون ومحض‬
‫ثقب أسود إىل اجملموعة الشمسية وجيذب األرض خارج مدارها أو يسحبها بداخله فتندثر‪ .‬حىت لو استطاع‬ ‫الكربيتيك‪ ،‬وقد يدخل ٌ‬
‫نوعنا البقاء مليار سنة أخرى‪ ،‬فلن تستطيع األرض واجملموعة الشمسية البقاء تلك املدة‪ ،‬فالشمس ستبدأ يف استهالك اهليدروجني‬
‫تتبخر يف طريقها إىل أن تصبح عمالقًا أمحر‪.‬‬
‫بداخلها وتزداد كثافةً وحرارة وتغلي حميطاتنا حىت َّ‬
‫يوما ما إىل مواجهة قابض األرواح‪ ،‬بل هي أفضل أمل لنا يف خداع املوت‪،‬‬ ‫أن نوعنا سيضطر ً‬ ‫إذًا فالتكنولوجيا ليست السبب يف َّ‬
‫أيضا يف التطورات االفرتاضية اليت ستتيح‬
‫نفكر ً‬ ‫على األقل لفرتةٍ ما‪ .‬وما دمنا ِّ‬
‫نفكر يف الكوارث االفرتاضية يف املستقبل البعيد‪ ،‬فعلينا أن ِّ‬
‫لنا النجاة من هذه الكوارث‪ ،‬مثل زراعة الطعام على أضو ٍاء تعمل باالنصهار النووي أو تصنيعه يف منشآت صناعية كالوقود احليوي‪.‬‬
‫كثريا قد تنقذنا‪ ،‬فمن املمكن عمليًّا تتبُّع مسارات الكويكبات واألجسام األخرى القريبة من‬ ‫وحىت تكنولوجيات املستقبل غري البعيد ً‬
‫األرض اليت قد تؤدي إىل االنقراض‪ ،‬وحتديد األجسام اليت يف طريقها إىل االصطدام مع األرض ودفعها خارج املسار قبل أن تُرسلنا‬
‫كان عمالق واستخراج احلرارة للحصول على الطاقة‬ ‫عال يف بر ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بضغط ٍ‬ ‫أيضا طريقة لضخ املياه‬
‫لنلحق بالديناصورات‪ .‬اكتشفت ناسا ً‬
‫يربد الصهارة مبا يكفي لضمان َّأهنا لن تنفجر‪ .‬كان أسالفنا عاجزين عن التصدِّي هلذه التهديدات القاتلة‪ ،‬ومن هذا‬ ‫احلرارية اجلوفية‪ ،‬ممَّا ِّ‬
‫فإن التكنولوجيا مل جتعل هذه احلقبة يف تاريخ نوعنا خطرية على حن ٍو فريد َّ‬
‫وإمنا جعلتها حقبة آمنة على حن ٍو فريد‪.‬‬ ‫اجلانب َّ‬
‫تدمر نفسها بنفسها مغلوط‪ ،‬فمعظم‬ ‫االدعاء من منظور هناية العامل التقنية َّ‬
‫بأن حضارتنا هي األوىل اليت ميكن أن ِّ‬ ‫وهلذا السبب َّ‬
‫فإن ِّ‬
‫ذكر أوزمياندياس الرحالة يف قصيدة بريسي بيش شيلي‪ .‬يلوم التاريخ التقليدي األحداث‬ ‫تعرضت للتدمري كما َّ‬ ‫احلضارات اليت ُوجدت َّ‬
‫ولكن ديفيد دويتش يشري إىل َّ‬
‫أن تلك احلضارات‬ ‫اخلارجية مثل الطاعون أو الغزوات أو الزالزل أو الطقس على الدمار الذي كان حيصل‪َّ ،‬‬
‫كان بإمكاهنا اعرتاض طريق هذه الضربات القاتلة لو كانت تتمتَّع بتكنولوجيا زراعية أو طبية أو عسكرية أفضل‪:‬‬

‫أشخاصا كانوا ميوتون فوق وسيلة صنع‬


‫ً‬ ‫أن هناك‬ ‫قبل أن يتعلَّم أسالفنا كيفية صنع النار (وبعده ً‬
‫أيضا ملرات عديدة) ال بد َّ‬
‫ولكن‬
‫أن الطقس قتلهم‪َّ ،‬‬ ‫ألهنم مل يكونوا يعرفون كيفية صنعها‪ ،‬فمن منظور حمدود‪ ،‬نرى َّ‬ ‫النار اليت كانت ستنقذ حياهتم َّ‬
‫التفسري األعمق هو االفتقار إىل املعرفة‪ .‬وال بد َّ‬
‫أن مئات املاليني من ضحايا الكولريا على مر التاريخ ماتوا قرب اجملامر اليت‬
‫أيضا‪ .‬وبصورةٍ عامة َّ‬
‫فإن التفرقة‬ ‫كان ميكنهم استخدامها يف غلي مياه الشرب وإنقاذ حياهتم‪ ،‬ولكنَّهم مل يكونوا يعرفون ذلك ً‬
‫كثريا من اخليارات اليت مل يتَّخذها ‪-‬أو باألحرى‬
‫بني الكارثة «الطبيعية» والكارثة اليت تسبَّب فيها اجلهل حمدودة‪ ،‬إذ نرى اآلن ً‬
‫مل يصنعها‪-‬أولئك الذين وقعوا ضحايا لكل كارثة طبيعية اعتاد الناس أن يعتربوها «حدثًا عاديًّا حيدث دون سبب» أو بأم ٍر‬
‫وتكون كل تلك اخليارات جمتمعةً اخليار الشامل الذي عجزوا عن صنعه وهو إقامة حضارة علمية‬ ‫من اآلهلة قبل وقوعها‪ِّ .‬‬
‫وتكنولوجية كحضارتنا‪ ،‬وتقاليد النقد‪ ،‬والتنوير‪.‬‬

‫ومن األخطار الوجودية البارزة اليت يُفرتض َّأهنا ُهتدِّد مستقبل البشرية نسخة خاصة بالقرن احلادي والعشرين من مشكلة العام ‪،2000‬‬
‫وهو اخلطر املتمثِّل يف أنَّنا سيتم إخضاعنا بفعل الذكاء االصطناعي‪ ،‬سواء عن ٍ‬
‫عمد أو عن غري عمد‪ ،‬وهي كارثة يُطلق عليها أحيانًا‬
‫بلقطات من أفالم ‪ .The Terminator‬وبعض األذكياء يأخذون‬ ‫ٍ‬ ‫«روبوبوكاليس» أي «هناية العامل على يد الروبوت» وتُوضَّح غالبًا‬
‫هذا اخلطر على حممل اجلد‪ ،‬كما حدث مع مشكلة عام ‪ ،2000‬فقد قال إيلون ماسك (‪ )Elon Musk‬الذي تنتج شركته سيارات‬
‫وحذر ستيفن هوكينج (‪)Stephen Hawking‬‬ ‫إن هذه التكنولوجيا «أخطر من األسلحة النووية»‪َّ ،‬‬ ‫ذكاء اصطناعي ذاتية القيادة َّ‬
‫متحدثًا عرب جهاز معدِّل الصوت الذي يتمتَّع بالذكاء االصطناعي من َّأهنا قد «تدق آخر مسمار يف نعش اجلنس البشري»‪ .‬ولكن من‬ ‫ِّ‬
‫بني األذكياء الذين ال يصيبهم األرق بسبب هذا اخلطر أغلب اخلرباء يف جمال الذكاء االصطناعي وأغلب اخلرباء يف جمال الذكاء البشري‪.‬‬
‫يستند مفهوم هناية العامل على يد الروبوت إىل تصوٍر مبهم عن الذكاء يرجع إىل سلسلة الوجود العظمى وإرادة القوة النيتشوية‬
‫أكثر مما يرجع إىل فه ٍم للعلم احلديث‪ .‬يُعد الذكاء حسب هذا التصور جرعة سحرية متنح قوة مطلقة وحتقِّق األمنيات متتلكها القوى‬
‫بكميات خمتلفة‪ ،‬فالبشر ميتلكون منها أكثر ممَّا متتلك احليوانات‪ ،‬وسيمتلك الكمبيوتر ذو الذكاء االصطناعي أو الروبوت يف‬ ‫ٍ‬ ‫الفاعلة‬
‫املستقبل منها أكثر ممَّا ميتلك البشر‪ .‬ومبا أنَّنا حنن البشر استغللنا هبتنا املتوسطة يف استئناس احليوانات األقل حظًّا أو إبادهتا (ومبا َّ‬
‫أن‬
‫أن كائن الذكاء االصطناعي‬ ‫اجملتمعات املتقدِّمة تكنولوجيًّا استعبدت اجملتمعات البدائية تكنولوجيًّا أو قضت عليها)‪ ،‬إذًا فيستتبع هذا َّ‬
‫ضعف وسيستخدم ذكاءه الفائق يف تطوير ذكائه‬ ‫سيفكر أسرع منا مبليون ٍ‬ ‫أن كائن الذكاء االصطناعي ِّ‬ ‫فائق الذكاء سيعاملنا باملثل‪ .‬ومبا َّ‬
‫متكرر (وهو السيناريو الذي يُطلق عليه أحيانًا "‪ "foom‬تيمنًا باملؤثر الصويت يف القصص املصورة)‪ ،‬فبمجرد أن يعمل‬ ‫ٍ‬
‫بشكل ِّ‬ ‫الفائق‬
‫هذا الكائن سنعجز عن إيقافه‪.‬‬
‫مثال من أن هتبط الطائرات النفاثة من السماء لتخطف املاشية كما تفعل النسور َّ‬
‫ألهنا جتاوزت‬ ‫ولكن السيناريو غري منطقي كالقلق ً‬
‫َّ‬
‫ق درة النسور على الطريان‪ .‬املغالطة األوىل هي اخللط بني الذكاء والدافع‪ ،‬بني املعتقدات والرغبات‪ ،‬بني االستنتاجات واألهداف‪ ،‬بني‬
‫التفكري واإلرادة‪ .‬حىت إذا ابتكرنا بالفعل روبوتات ذكية خارقة‪ ،‬فلماذا تريد هذه الروبوتات استعباد أسيادها أو السيطرة على العامل؟‬
‫ولكن األهداف ال عالقة هلا بالذكاء‪ ،‬فكون املرء ذكيًّا ال يساوي كونه‬
‫هدف ما‪َّ ،‬‬‫الذكاء هو القدرة على تسخري وسائل جديدة لتحقيق ٍ‬
‫أن الذكاء يف أحد األنظمة‪ ،‬نظام اإلنسان العاقل‪ ،‬نتاج االنتخاب الطبيعي الدارويين‪ ،‬وهو عملية تنافسية‬ ‫يريد شيئًا ما‪ .‬من قبيل الصدفة َّ‬
‫ٍ‬
‫بأهداف مثل اهليمنة على املنافسني‬ ‫ٍ‬
‫شخص آلخر)‬ ‫ٍ‬
‫(بدرجات خمتلفة من‬ ‫بطبيعتها‪ ،‬ففي عقل ذلك النوع‪ ،‬يأيت التفكري املنطقي مصحوبًا‬
‫نوع ما من الرئيسيات وطبيعة الذكاء نفسها‪ ،‬فنظام الذكاء‬ ‫وتكديس املوارد‪ .‬ولكن من اخلطأ اخللط بني دائرةٍ ما يف اجلزء احلويف من مخ ٍ‬
‫يتطور ميكن أن ِّ‬
‫يفكر مثل كائنات الـ «مشو» اإليثارية املذكورة يف القصة املصورة من تأليف آل كاب‬ ‫االصطناعي الذي مت تصميمه ومل َّ‬
‫(‪ )Al Capp‬بعنوان آبنر الصغير )‪ ،(Li'l Abner‬اليت ِّ‬
‫تسخر براعتها البالغة يف شوي أنفسها كي يأكلها البشر‪ .‬ال يوجد قانون‬
‫نوعا من أنواع الذكاء املتقدِّم للغاية‬
‫تتحول إىل غزاة وحشيني‪ ،‬وحنن نعرف ً‬ ‫لألنظمة املعقِّدة ينص على َّ‬
‫أن الكائنات الذكية ال بد وأن َّ‬
‫تطور دون هذا اخللل‪ ،‬وأقصد النساء‪.‬‬
‫الذي َّ‬
‫قادرا على حل أي مشكلة وحتقيق أي‬ ‫إكسريا خارقًا ً‬
‫ً‬ ‫واملغالطة الثانية هي النظر إىل الذكاء بوصفه متسلسلة ال متناهية من القدرة‪،‬‬
‫هدف‪ .‬تؤدي هذه املغالطة إىل أسئلة غري منطقية مثل‪ :‬مىت سيتجاوز كائن الذكاء االصطناعي «مستوى الذكاء البشري»‪ ،‬ويصل إىل‬
‫مكونة من جمموعة أدوات‪ ،‬وحدة برجمية‬ ‫صورة كائن الذكاء االصطناعي الشامل (‪ )AGI‬كلي القدرة وكلي املعرفة كاإلله‪ .‬الذكاء هو آلة َّ‬
‫حتصل على املعرفة اخلاصة بكيفية السعي وراء أهداف متنوعة يف نطاقات متنوعة‪ ،‬أو مربجمة هبذه املعرفة بالفعل‪ .‬البشر مؤهلون للعثور‬
‫على الطعام وكسب األصدقاء والتأثري يف اآلخرين وجذب الشركاء احملتملني وتنشئة األطفال والتنقُّل حول العامل والسعي وراء مصادر‬
‫التعرف على الوجوه) ليس‬‫اهلوس والتسلية البشرية األخرى‪َّ ،‬أما احلواسب اآللية فرمبا تكون مربجمة على حل بعض هذه املشكالت (مثل ُّ‬
‫ٍ‬
‫مشكالت أخرى ال يستطيع البشر حلَّها (مثل حماكاة املناخ أو فرز‬ ‫مبشكالت أخرى (مثل جذب الشركاء) وال على حل‬‫ٍ‬ ‫على االنشغال‬
‫ماليني السجالت احملاسبية)‪ .‬فاملشكالت خمتلفة‪ ،‬واملعارف الالزمة حللِّها خمتلفة‪ .‬على عكس شيطان البالس‪ ،‬وهو الكائن األسطوري‬
‫الذي يعرف موقع كل جسيم يف الكون وقوته الدافعة ويُدخلهما يف معادالت للقوانني الفيزيائية من أجل حساب حالة كل شيء يف أي‬
‫فإن الكائن العارف احلقيقي عليه اكتساب املعلومات عن عامل األشخاص واألشياء الفوضوي عرب التعامل معه يف‬ ‫وقت يف املستقبل‪َّ ،‬‬
‫نطاق على حدة‪ .‬ال يعمل الفهم وفق قانون مور‪ ،‬فاملعرفة تُكتسب عرب صياغة تفسريات واختبار مطابقتها للواقع‪ ،‬وليس عرب إجراء‬ ‫كل ٍ‬
‫أيضا‪ ،‬فالبيانات الضخمة ما تزال بيانات‬‫اخلوارزميات على حن ٍو أسرع وأسرع‪ ،‬والتهام املعلومات على اإلنرتنت لن مينح املرء املعرفة املطلقة ً‬
‫حمدودة‪ ،‬وعامل املعرفة غري حمدود‪.‬‬
‫هلذه األسباب ينزعج كثريٌ من الباحثني يف جمال الذكاء االصطناعي من محلة الدعاية األخرية (ضرر الذكاء االصطناعي املستمر)‬
‫أن كائن الذكاء االصطناعي الشامل على األبواب‪ .‬على حد علمي‪ ،‬ال توجد أي مشروعات حالية‬ ‫اليت ضلَّلت املتابعني وجعلتهم يظنون َّ‬
‫متاما‪.‬‬ ‫أيضا َّ‬
‫ألن املفهوم ليس مرتابطًا منطقيًّا ً‬ ‫لبناء كائن ذكاء اصطناعي شامل‪ ،‬ليس فقط ألنَّه سيكون مريبًا من الناحية التجارية‪ ،‬ولكن ً‬
‫التعرف على الكالم وهزمية البشر يف لعبة «احملك»‬
‫جلب لنا عقد ‪ 2010‬بالتأكيد أنظمة تستطيع قيادة السيارات والتعليق على الصور و ُّ‬
‫التطورات مل تصدر عن فه ٍم أفضل لعمل الذكاء َّ‬
‫وإمنا من القوة العمياء النابعة من الرقائق‬ ‫ولكن هذه ُّ‬ ‫ولعبة الـ «جو» وألعاب األتاري‪َّ ،‬‬
‫عال ٍ‬
‫مة‬ ‫التدرب على ماليني األمثلة وتعميمها على أمثلة جديدة مشاهبة‪ .‬كل نظام عبارة عن َّ‬ ‫األسرع والبيانات األضخم‪ ،‬ممَّا يتيح للربامج ُّ‬
‫معتوه ذي قدرة حمدودة على االنتقال إىل املشكالت اليت مل يؤهل حللِّها‪ ،‬وإتقان هش للمشكالت املؤهل حللِّها‪ .‬فربنامج التعليق على‬
‫مثال يعنون صورة حلادثة حتطم طائرة وشيكة بـ «طائرة متوقفة على مدرج الطائرات»‪ ،‬وبرنامج األلعاب يذهله أقل تغيري يف قواعد‬‫الصور ً‬
‫أي من هذه‬‫ستتحسن بالتأكيد‪َّ ،‬إال أنَّه ال توجد أي عالمات على سيناريو الـ "‪ ،"foom‬ومل تأخذ ٌّ‬
‫َّ‬ ‫حساب النقاط‪ .‬رغم َّ‬
‫أن الربامج‬
‫الربامج خطوة جتاه السيطرة على املعمل أو استعباد مربجميها‪.‬‬
‫حىت لو حاول كائن الذكاء االصطناعي الشامل ممارسة إرادة القوة اخلاصة به فسيظل دون تعاون البشر جمرد «دماغ عاجز يف‬
‫وعاء»‪ .‬حيطِّم عامل احلاسبات رامز نام (‪ )Ramez Naam‬الفقاعات احمليطة بسيناريو الـ "‪ "foom‬والتفرد التكنولوجي والتطوير‬
‫الذايت املطرد‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫دقيق ما (أو رمبا مباليني املعاجلات الدقيقة) وتبتكر يف ٍ‬


‫حلظة‬ ‫ُتيَّل أنَّك كائن ذكاء اصطناعي فائق الذكاء تعمل مبعا ٍجل ٍ‬
‫تصميما ملعا ٍجل دقيق أسرع وأقوى ميكنك أن تعمل به‪ ،‬واآلن‪ ..‬تبًّا! عليك أن تصنع تلك املعاجلات الدقيقة! وتستلزم حمطات‬
‫ً‬
‫التصنيع تلك طاقةً هائلةً وتستلزم إدخال مواد مستوردة من كل أحناء العامل وتستلزم بيئات داخلية خاضعة لتحك ٍم شديد‬
‫املتخصصة للصيانة وهكذا‪ ،‬ويستلزم كل هذا وقتًا وطاقةً للحصول‬
‫ِّ‬ ‫ويتطلَّب هذا غرف ضغط ومرشِّحات وكل أنواع املعدات‬
‫عليه ونقله ودجمه وبناء ٍ‬
‫مبان وحمطات طاقة له واختباره وتصنيعه‪ .‬وهكذا يعيق العامل الواقعي خمططك لالرتقاء بنفسك‪.‬‬

‫يغين‬ ‫يعيق العامل الواقعي كثريا من سيناريوهات هناية العامل الرقمية‪ ،‬فعندما يصبح «هال»* مغرورا‪ ،‬يعطِّله ديف عن العمل ٍ‬
‫مبفك ويرتكه ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫متاما وشرير وذي‬ ‫ً‬ ‫هلك‬ ‫م‬‫ُ‬ ‫كمبيوتر‬ ‫ل‬‫ي‬
‫ُّ‬ ‫ُت‬ ‫بالطبع‬ ‫املرء‬ ‫يستطيع‬ ‫للشفقة‪.‬‬ ‫مثري‬ ‫ٍ‬
‫و‬ ‫حن‬ ‫على‬ ‫"‬ ‫‪A‬‬ ‫‪Bicycle‬‬ ‫‪Built‬‬ ‫‪for‬‬ ‫لنفسه أغنية "‪Two‬‬
‫نب آلة هبذه‬ ‫إمكانات عاملية ويف وضع التشغيل دائما ومضاد للتالعب‪ ،‬والطريقة املثلى للتعامل مع هذا اخلطر واضحة للغاية‪ ،‬ال ت ِ‬
‫ً‬
‫املواصفات!‬
‫خطرا‬
‫تصعب أخذها على حممل اجلد‪ ،‬وجد احلُراس الوجوديون ً‬ ‫عندما بدأت احتمالية ظهور روبوتات شريرة تبدو سخيفة لدرجة ِّ‬
‫وإمنا على اجلين الذي حيقِّق لنا ثالث أمنيات‪ ،‬تكون الثالثة منها الزمة‬ ‫جديدا‪ .‬ال تقوم هذه القصة على فرانكنشتاين وال الغومل** َّ‬
‫رقميًّا ً‬
‫لنقض األمنيتني األوىل والثانية‪ ،‬وعلى ندم امللك ميداس على قدرته على حتويل كل شيء يلمسه إىل ذهب‪ ،‬حىت طعامه وأفراد أسرته‪.‬‬
‫يكمن اخلطر‪ ،‬الذي يُطلق عليه أحيانًا مشكلة مواءمة القيم )‪ ،(Value Alignment Problem‬يف أنَّنا رمبا نضع هدفًا لكائن‬
‫الذكاء االصطناعي‪ ،‬مث نقف مكتويف األيدي نشاهده وهو ينفِّذ باستمرار وبطريقة حرفية تأويله اخلاص لذلك اهلدف‪ ،‬ولتذهب بقية‬
‫ٍ‬
‫بفيضان‬ ‫مصاحلنا إىل اجلحيم‪ .‬إذا وضعنا لكائن الذكاء االصطناعي هدف احلفاظ على مستوى املياه خلف أحد السدود‪ ،‬فرمبا يُغ ِرق بلد ًة‬
‫ث باألشخاص الذين غرقوا‪ ،‬وإذا وضعنا له هدف صناعة دبابيس الورق‪ ،‬فرمبا حييل كل املادة يف الكون الذي يستطيع الوصول‬ ‫غري مكرت ٍ‬
‫مجيعا حقن دوبامني وريدية‬ ‫إليه إىل دبابيس ورق‪ ،‬مبا فيها ممتلكاتنا وأجسامنا‪ .‬وإذا طلبنا منه زيادة معدل السعادة البشرية‪ ،‬فرمبا يزرع فينا ً‬
‫تدرب‬‫أو يعيد تنظيم أدمغتنا كي نكون أسعد باجللوس يف برطمانات أو يكسو اجملرة برتيليونات الصور الدقيقة لوجوهٍ مبتسمة لو كان قد َّ‬
‫على مفهوم السعادة بصوٍر لوجوهٍ مبتسمة‪.‬‬
‫ال أختلق هذه االحتماالت‪ ،‬فهذه هي السيناريوهات اليت يفرتض َّأهنا ِّ‬
‫توضح اخلطر الوجودي على اجلنس البشري من الذكاء‬

‫*هال هو الحاسب الذكي في فيلم ‪.2001: A Space Odyssey‬‬


‫*الغولم هو كائن في التراث اليهودي مصنوع من الطين بالسحر‪.‬‬
‫أن البشر موهوبون‬ ‫ولكن هذه السيناريوهات حلسن احلظ تنقض نفسها بنفسها‪ ،‬فهي تقوم على مقدمات هي‪َّ )1 :‬‬ ‫املتطور‪َّ .‬‬
‫االصطناعي ِّ‬
‫لدرجة َّأهنم يستطيعون تصميم كائن ذكاء اصطناعي كلي القدرة وكلي املعرفة‪ ،‬ولكنَّهم يف الوقت نفسه محقى لدرجة َّأهنم سيمنحونه‬
‫أن كائن الذكاء االصطناعي سيكون عبقريًّا لدرجة أنَّه سيكتشف كيفية‬ ‫السيطرة الكاملة على الكون دون اختبار سري هذه العملية‪ ،‬و‪َّ )2‬‬
‫حتويل العناصر وإعادة تنظيم الدماغ ولكنَّه يف نفس الوقت سيكون أبلهَ لدرجة أنَّه سيثري الفوضى بناءً على أخطاء سوء الفهم البدائية‪.‬‬
‫ليست القدرة على اختيار الفعل الذي حيقِّق األهداف املتضاربة على أفضل حن ٍو إضافةً للذكاء هي ما قد خيبط املهندسون بأيديهم على‬
‫ألهنم نسوا تنصيبها‪ ،‬بل َّإهنا الذكاء نفسه! وكذلك القدرة على تأويل مقاصد مستخدم اللغة يف السياق‪ ،‬فال حيدث أن يستجيب‬ ‫جباههم َّ‬
‫الروبوت لعبارة "‪ "Grab the waiter‬اليت تعين «اجلب النادل» برفع املرت فوق رأسه واإلتيان به‪ ،‬أو عبارة "‪"Kill the light‬‬
‫اليت يُقصد هبا «اطفئ النور» بإخراج املسدس وإطالق النار على املصباح سوى يف مسلسل كوميدي مثل ‪.Get Smart‬‬
‫عندما نضع خياالت مثل "‪ "foom‬وهوس العظمة الرقمي واملعرفة املطلقة اللحظية والسيطرة التامة على كل جزيء يف الكون‬
‫ومصمم الستيفاء شروط متعددة‬
‫َّ‬ ‫يتطور بصورةٍ متزايدة‬
‫أن الذكاء االصطناعي مثله كمثل أي تكنولوجيا أخرى‪ ،‬فهو َّ‬ ‫جانبًا‪ ،‬فسنجد َّ‬
‫وجترى عليه التعديالت باستمرار لضمان الكفاءة والسالمة (الفصل الثاين عشر)‪ .‬وكما قال ستيوارت راسل‬
‫وخيضع لالختبار قبل تطبيقه ُ‬
‫فهم يقولون‬
‫(‪ )Stuart Russell‬خبري الذكاء االصطناعي‪« :‬ال يتحدث أح ٌد يف جمال اهلندسة املدنية عن بناء جسور ال تنهار‪ُ ،‬‬
‫أن الذكاء االصطناعي املفيد وليس اخلطري هو كذلك ببساطة (ذكاء اصطناعي) فقط‪.‬‬ ‫(بناء اجلسور) فقط»‪ ،‬ويشري إىل َّ‬
‫يفرض الذكاء االصطناعي حتديًا أبسط بالتأكيد‪ ،‬وهو اخلاص مبا سنفعل باألشخاص الذين ستقضي األمتتة على وظائفهم‪ ،‬ولكنَّها‬
‫لن تقضي على الوظائف بتلك السرعة‪ .‬فما زالت املالحظة املذكورة يف تقرير ناسا الصادر عام ‪ 1965‬سارية‪ ،‬وهي‪« :‬اإلنسان هو‬
‫ٍ‬
‫بعمالة غري‬ ‫نظام حاسب غري خطي لكافة األغراض وزنه ‪ 70‬كجم‪ ،‬وهو أقل أنظمة احلاسب تكلفةً‪ ،‬وميكن إنتاجه بكميات كبرية‬
‫إن قيادة السيارة مشكلة هندسية أسهل من تفريغ غسالة األطباق أو القيام مبشوار أو تغيري حفاظة األطفال‪ ،‬وحىت وقت كتابة‬ ‫ماهرة»‪َّ .‬‬
‫هذه السطور‪ ،‬فإننا لسنا مستعدين إلطالق سيارات القيادة الذاتية يف شوارع املدن‪ .‬وحىت حيني اليوم الذي تلقِّح فيه كتائب من الروبوتات‬
‫كثري من األعمال‬
‫األطفال وتبين املدارس يف العامل النامي‪ ،‬أو تبين البنية التحتية وتعتين باملسنِّني يف العامل املتقدِّم‪ ،‬سيكون لدى البشر ٌ‬
‫َ‬
‫ليقوموا هبا‪ .‬ميكن تطبيق نفس الرباعة اليت طُبِّقت يف تصميم الربامج والروبوتات يف تصميم سياسات للحكومة والقطاع اخلاص تصل بني‬
‫العاطلني عن العمل واألعمال غري املنجزة‪.‬‬

‫فهم مراهقون بلغاريون‪،‬‬ ‫مجيعا الصور النمطية الشهرية عن املخرتقني‪ُ :‬‬


‫إذا مل ت ُكن هنايتنا على يد الروبوتات‪ ،‬فماذا عن املخرتقني؟ نعرف ً‬
‫بأهنم «أشخاص جيلسون‬ ‫أو شباب يرتدون صنادل ويشربون ريد بول‪ ،‬أو كما وصفهم دونالد ترامب يف مناظرة رئاسية يف عام ‪َّ 2016‬‬
‫أسرهتم ويزنون ‪ 400‬باوند»‪ .‬ووف ًقا الجتاه فكري شائع‪َّ ،‬‬
‫فإن القدرة التدمريية املتاحة للفرد ستتضاعف مع تقدُّم التكنولوجيا‪ ،‬فأن‬ ‫على َّ‬
‫فريوسا وبائيًّا أو يعطِّل اإلنرتنت جمرد مسألة وقت‪ ،‬ومع اعتماد‬
‫يبين مهووس بالتكنولوجيا أو إرهايب قنبلةً نووية يف منزله أو يعدِّل جينيًّا ً‬
‫العامل بشدة على التكنولوجيا‪ ،‬فقد يؤدي العُطل إىل اهللع واجملاعة والفوضى‪ .‬طرح مارتن ريس (‪ )Martin Rees‬يف عام ‪2002‬‬
‫شخص يف ٍ‬
‫حدث‬ ‫ٍ‬ ‫أن «اإلرهاب البيولوجي أو اخلطأ البيولوجي سيؤدي حبلول عام ‪ 2020‬إىل خسائر تبلغ مليون‬ ‫رهانًا علنيًّا على َّ‬
‫واحد»‪.‬‬
‫كيف جيدر بنا أن ِّ‬
‫نفكر يف هذه الكوابيس؟ يُقصد هبا أحيانًا دفع الناس حنو أخذ الثغرات األمنية على حممل اجلد‪ ،‬يف ظل النظرية‬
‫تبين سياسات مسؤولة هي ترويعهم بشدة‪ ،‬وسواء‬ ‫(اليت سنراها ثانيةً يف هذا الفصل) القائلة َّ‬
‫إن أكثر الطرق فعاليةً لتحريك الناس حنو ِّ‬
‫أكانت هذه النظرية صحيحة أم ال‪ ،‬فال يستطيع أح ٌد أن يقول َّ‬
‫إن علينا أن نقنع باجلرائم اإللكرتونية أو تفشي األمراض‪ ،‬وهذه األمور‬
‫من االبتالءات اليت أصيب هبا العامل املعاصر بالفعل (سأنتقل إىل اخلطر النووي يف القسم التايل)‪ .‬حياول االختصاصيون يف جمال أمن‬
‫احلاسوب والوبائيات باستمرار أن يسبقوا هذه التهديدات خبطوة‪ ،‬وعلى الدول أن تستثمر يف كال اجملالني‪ ،‬فيجب جعل البنية التحتية‬
‫العسكرية واملالية والبنية التحتية للطاقة واإلنرتنت أكثر سالمةً ومرونةً‪ .‬ميكن تعزيز معاهدات وضمانات التصدي لألسلحة البيولوجية‪،‬‬
‫وجيب توسيع شبكات الرعاية الصحية العامة العابرة للحدود ذات القدرة على اكتشاف حاالت تفشي األمراض واحتوائها قبل أن تتحول‬
‫لقاحات ومضادات حيوية ومضادات فريوسات أفضل واختبارات تشخيصية أسرع‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫إىل أوبئة عاملية االنتشار‪ .‬سيكون ذلك‪ ،‬إىل جانب‬
‫أيضا وضع إجراءات ملكافحة اإلرهاب ومنع‬ ‫مفيدا يف حماربة مسببات األمراض بشرية الصنع‪ ،‬وكذلك الطبيعية‪ .‬سيكون على الدول ً‬ ‫ً‬
‫اجلرمية مثل املراقبة واجملاهبة‪.‬‬
‫منيعا بالتأكيد‪ ،‬فرمبا تقع بعض حوادث إرهاب إلكرتوين وإرهاب حيوي‪ ،‬ولن‬‫كل من سباقات التسلح تلك ً‬ ‫لن يكون الدفاع يف ٍّ‬
‫تكون احتمالية وقوع كارثة منعدمة مطل ًقا‪ .‬السؤال الذي سأتناوله هو ما إذا كانت هذه احلقائق الكئيبة ال بد و َّأهنا ستجعل أي شخص‬
‫يوما ما يف الذكاء على ذوي القبعات‬
‫أن املخرتقني ذوي القبعات السوداء سيتفوقون ً‬‫أن البشرية هالكة‪ ،‬هل من احلتمي حقًّا َّ‬
‫عاقل يستنتج َّ‬
‫ويدمرون احلضارة؟ هل جعل التقدُّم التكنولوجي العامل هشًّا يف صورةٍ جديدة ومثرية لسخرية القدر؟‬
‫البيضاء ِّ‬
‫بدال من أن يسيطر علينا الفزع من أسوأ‬ ‫ال يستطيع أحد أن يعلم ذلك علم اليقني‪ ،‬ولكن عندما نقوم بالتفكري اهلادئ ً‬
‫السيناريوهات‪ ،‬تبدأ الكآبة بالتبدد‪ .‬لنبدأ باملسح التارخيي‪ ،‬أي إذا ما كان الدمار الشامل على يد ٍ‬
‫فرد ما‪ ،‬هو النتيجة الطبيعية للعملية‬
‫اليت أطلقتها الثورة العلمية والتنوير‪ .‬وف ًقا هلذه الرواية َّ‬
‫فإن التكنولوجيا تتيح للناس حتقيق املزيد واملزيد من األمور باألقل واألقل من املوارد‪،‬‬
‫احد القيام بأي شيء‪ ،‬وبالنظر إىل الطبيعة البشرية‪ ،‬يعين ذلك تدمري كل شيء‪.‬‬ ‫لفرد و ٍ‬ ‫إذًا فبتوافر الوقت الكايف‪ ،‬ستتيح ٍ‬

‫ولكن كيفني كيلي )‪ ،(Kevin Kelly‬احملرر املؤسس جمللة ‪Wired‬ومؤلِّف كتاب ما تريده التكنولوجيا ( ‪What‬‬ ‫َّ‬
‫إن التكنولوجيا ال تتقدَّم هبذه الطريقة‪ .‬كان كيلي املنظِّم املشارك (مع ستيوارت براند ‪Stewart‬‬
‫‪ ،)Technology Wants‬يقول َّ‬
‫يوما ما قدرة البشر‬‫إن التكنولوجيا ستتجاوز ً‬ ‫‪ )Brand‬يف املؤمتر األول للمخرتقني يف عام ‪ ،1984‬وقيل له منذ ذلك احلني مر ًارا وتكر ًارا َّ‬
‫أن هذا مل حيدث‪ .‬يقرتح كيلي‬ ‫على ترويضها‪ .‬ولكن رغم توسع التكنولوجيا اهلائل خالل تلك العقود (مبا يشمل اخرتاع اإلنرتنت)‪َّ ،‬إال َّ‬
‫ترسخا يف اجملتمع»‪ .‬تستلزم التكنولوجيا املتطورة شبكةً من‬ ‫سببًا لذلك‪ ،‬وهو أنَّه‪« :‬كلَّما أصبحت التكنولوجيا أقوى‪ ،‬أصبحت أكثر ً‬
‫بعضا (وأصبحت التكنولوجيا‬ ‫ٍ‬
‫كثري منها بتأمني الناس من التكنولوجيا ومن بعضهم ً‬ ‫املتعاونني املتصلني بشبكات اجتماعية أوسع‪ ،‬وتلتزم ٌ‬
‫كرا‬
‫أكثر أمانًا مبرور الوقت كما رأينا يف الفصل الثاين عشر)‪ .‬يهدم هذا الفكرة املبتذلة اهلوليوودية عن العبقري الشرير املنفرد الذي يدير و ً‬
‫أن نتيجة ترسخ التكنولوجيا يف اجملتمع‪َّ ،‬‬
‫فإن القوة اهلدَّامة‬ ‫للتقنية العالية تعمل فيه التكنولوجيا من تلقاء نفسها مبعجزةٍ‪ .‬يشري كيلي إىل َّ‬
‫تزدد مبرور الوقت يف الواقع‪:‬‬
‫للفرد الواحد مل َ‬

‫عددا أكرب من الناس‪ ،‬وكلَّما احتاج استخدامها‬


‫لسالح ً‬
‫ٍ‬ ‫كلَّما كانت التكنولوجيا أقوى وأكثر ً‬
‫تطورا‪ ،‬احتاج استخدامها‬
‫عددا أكرب من الناس‪ ،‬عملت املزيد من الضوابط االجتماعية على تلطيف األضرار أو التخفيف من حدهتا أو منعها‬
‫سالحا ً‬
‫ً‬
‫من احلدوث‪ .‬أضيف إىل ذلك فكرًة أخرى‪ ،‬وهي أنَّك حىت لو كنت متتلك امليزانية الالزمة لتعيني فر ٍيق من العلماء مهمته‬
‫تطوير سالح حيوي يقضي على اجلنس البشري أو يعطِّل اإلنرتنت‪ ،‬فلن تستطيع فعل ذلك على األرجح‪َّ ،‬‬
‫ألن الكثري من‬
‫اجلهود على مدار مئات اآلالف من السنوات قد بذلت ملنع هذا من احلدوث من اجلانب اخلاص باإلنرتنت‪ ،‬والكثري من‬
‫اجلهود التطورية على مدار ماليني السنوات ملنع انقراض النوع من اجلانب اخلاص باألحياء‪ .‬ويصعب القيام بذلك للغاية‪،‬‬
‫إذ كلَّما كان الفريق الفاسد أصغر‪ ،‬كان األمر أصعب‪ ،‬وكلَّما كان الفريق أكرب‪ ،‬كانت التأثريات اجملتمعية أكرب‪.‬‬

‫جمرد! نظرية عن قوس التكنولوجيا الطبيعي يف مقابل نظرية أخرى عنه‪ ،‬كيف ينطبق هذا الكالم على األخطار‬ ‫كل هذا الكالم َّ‬
‫الفعلية اليت نواجهها كي نستطيع التفكري فيما إذا كانت البشرية هالكة؟ يكمن السر يف عدم االخنداع باحنياز التوفر وافرتاض أنَّنا إذا‬
‫شيء بشع‪ ،‬فال بد له أن حيدث! يعتمد اخلطر احلقيقي على األرقام‪ :‬مثل نسبة الذين يريدون التسبُّب يف العنف أو جرائم‬ ‫استطعنا ُتيُّل ٍ‬
‫فعال‪ ،‬والفئة‬‫القتل اجلماعية‪ ،‬ونسبة تلك الفئة الضئيلة اليت تريد اإلبادة العرقية اليت تتمتَّع بالكفاءة إلعداد سالح بيولوجي أو إلكرتوين َّ‬
‫حدث‬‫الضئيلة من تلك الفئة الضئيلة اليت ستنجح خمططاهتا بالفعل‪ ،‬والفئة الضئيلة من تلك الفئة الضئيلة من تلك الفئة الضئيلة اليت ست ِ‬
‫ُ‬
‫عوضا عن ضرٍر بسيط أو ضربة طفيفة أو حىت كارثة تستمر احلياة بعدها‪.‬‬ ‫جائحة عنيفة تقضي على احلضارة ً‬
‫كبريا من األشخاص الذين يريدون ارتكاب العنف والقتل ضد الغرباء؟ لو كان‬ ‫رقما ً‬ ‫لنبدأ بعدد املخابيل‪ ،‬هل يأوي العامل احلديث ً‬
‫هذا هو الواقع‪ ،‬لكانت احلياة مستحيلة‪ ،‬إذ كان ميكن أن يصاب هؤالء حباالت هياج يطعنون فيها اآلخرين‪ ،‬ويطلقون النار على احلشود‬
‫ودهس املشاة بالسيارات ويفجرون قنابل يدوية يف حلل الضغط ويدفعون الناس من فوق أرصفة الشوارع ومرتو األنفاق يف اجتاه السيارات‬
‫املدرب أو القاتل املتسلسل بإمكانه قتل‬ ‫والقطارات املندفعة‪َ .‬ح َسب الباحث جويرن برانوين (‪َّ )Gwern Branwen‬‬
‫أن القنَّاص َّ‬
‫املخرب املتعطِّش للدمار قد يتالعب مبنتجات املتاجر‪ ،‬أو يضيف بعض‬ ‫مئات األشخاص دون أن يستطيع أح ٌد اإلمساك به‪ .‬والشخص ِّ‬
‫املبيدات احلشرية إىل حقول التسمني أو شبكات إمداد املياه‪ ،‬أو حىت جيري مكاملة من جمهول يدَّعي فيها أنَّه فعل أيًّا من هذه األمور‪،‬‬
‫وقد يكلِّف سحب املنتجات من األسواق نتيجةً لذلك الشركات مئات املاليني من الدوالرات‪ ،‬وتكلِّف خسارة الصادرات الدول‬
‫مليارات الدوالرات‪ .‬قد حتدث مثل هذه اهلجمات يف كل مدن العامل عدة مرات يف اليوم‪ ،‬ولكنَّها يف احلقيقة حتدث يف ٍ‬
‫مكان أو آخر‬
‫كل بضع سنوات (مما َّأدى بربوس شناير ‪ Bruce Schneier‬إىل أن يتساءل‪« :‬أين كل هذه اهلجمات اإلرهابية؟») رغم كل الرعب‬
‫أن األفراد الذين ينتظرون الفرصة إلحداث تدم ٍري غاشم ال ميثِّلون سوى فئة ضئيلة‪.‬‬
‫الذي يولِّده اإلرهاب‪َّ ،‬إال أنَّه ال بد َّ‬
‫فعال؟ َّ‬
‫إن‬ ‫فردا من بني هؤالء املنحرفني ِّ‬
‫يشكلون فئة أقل تتمتَّع بالذكاء واالنضباط الالزمني لتطوير سالح حيوي أو إلكرتوين َّ‬ ‫كم ً‬
‫معظم اإلرهابيني خرقى ومحقى وليسوا أصحاب عقول مدبِّرة إرهابية على اإلطالق‪ .‬من األمثلة النموذجية على هذا النوع من البشر‬
‫صاحب احلذاء الناسف الذي فشل يف حماولة إسقاط طائرة بإشعال املتفجرات املخبأة يف حذائه‪ ،‬وصاحب املالبس الداخلية الناسفة‬
‫املدرب املنتمي إىل داعش الذي كان يشرح‬
‫الذي فشل يف حماولة إسقاط طائرة عرب تفجري املتفجرات املخبأة يف مالبسه الداخلية‪ ،‬و ِّ‬
‫متدربًا‪ ،‬واألخوان تسارناييف اللذان‬
‫وفجر الواحد وعشرين ِّ‬
‫ففجر نفسه َّ‬‫لتالميذه اإلرهابيني االنتحاريني الصاعدين على سرتة متفجرة َّ‬
‫أتبعا تفجري ماراثون بوسطن الذي ارتكباه بقتل ضابط شرطة يف حماولة فاشلة لسرقة مسدسه‪ ،‬مث انطلقا يف محلة سطو وسرقة سيارة‬
‫ومطاردة بالسيارات على الطراز اهلوليوودي دهس فيها أحدمها اآلخر‪ ،‬وعبد اهلل العسريي الذي حاول اغتيال نائب رئيس جملس الوزراء‬
‫السعودي بعبوة ناسفة بدائية خمبئة يف فتحة شرجه ومل ينجح سوى يف القضاء على نفسه فقط (ذكرت شركة حتليالت استخباراتية َّ‬
‫أن‬
‫ومتدربًا من اإلرهابيني كما‬
‫ماهرا ِّ‬
‫هذا احلادث «يدل على نقلة نوعية يف تكتيكات التفجري االنتحاري»)‪ .‬حيالف احلظ أحيانًا فري ًقا ً‬
‫ولكن أغلب املخططات الناجحة عبارة عن هجمات قائمة على تكنولوجيا بدائية‬ ‫حدث يف احلادي عشر من سبتمرب عام ‪َّ ،2001‬‬
‫على جتمعات مليئة باملستهدفني تقتل عددا قليالً من الناس (كما رأينا يف الفصل الثالث عشر)‪ .‬أقول ٍ‬
‫بثقة َّ‬
‫إن نسبة اإلرهابيني العباقرة‬ ‫ً‬
‫من الناس أصغر من نسبة اإلرهابيني مضروبةً يف نسبة األشخاص العباقرة‪ .‬اإلرهاب كما هو واضح تكتيك عقيم‪ ،‬والعقل الذي يسعد‬
‫بالعنف الفارغ ملصلحته اخلاصة ليس على األرجح أملع العقول املوجودة‪.‬‬
‫لنأخذ اآلن عدد صانعي األسلحة والقنابل العباقرة ونطرح منه النسبة اليت تتمتَّع باحلنكة واحلظ للتفوق يف الذكاء على الشرطة‬
‫كبريا‪ .‬وكما يف كل املشروعات‬
‫صفرا ولكنَّه بالتأكيد ليس ً‬
‫واخلرباء األمنيني وقوات مكافحة اإلرهاب يف العامل‪ ،‬رمبا ال يكون العدد الناتج ً‬
‫تنظيم من اإلرهابيني البيولوجيني أو اإللكرتونيني أكثر فعالية من عقل مدبٍِّر منفرد‪ ،‬ولكن‬
‫يدا واحدة ال تصفق‪ ،‬وقد يكون ٌ‬ ‫املعقدة‪َّ ،‬‬
‫فإن ً‬
‫هنا نذكر مالحظة كيلي‪ ،‬فالقائد سيكون عليه جتنيد فريق من املتواطئني الذين أثبتوا كفاءهتم وسريتهم وإخالصهم للقضية املنحرفة‪،‬‬
‫وإدارة هذا الفريق‪ ،‬ومع ازدياد حجم الفريق‪ ،‬تزداد احتمالية كشفه واحتمالية اخليانة والتسلُّل واخلطأ والتخفي‪.‬‬
‫لبلد ما موارد ضخمة كموارد ٍ‬
‫دولة ما‪ ،‬فاخرتاق الربامج ليس كافيًا‪ ،‬إذ حيتاج‬ ‫ستتطلَّب التهديدات اخلطرية لسالمة البنية التحتية ٍ‬
‫املخرتق إىل معرفة تفصيلية بالبنية املادية لألنظمة اليت يأمل يف ُتريبها‪ .‬عندما فضحت دودة ستوكسنت أجهزة الطرد املركزية النووية‬
‫تصعد العمليات التخريبية‬‫منسقة بني دولتني متطورتني تكنولوجيًّا ومها الواليات املتحدة وإسرائيل‪ِّ .‬‬ ‫اإليرانية يف ‪ ،2010‬تطلَّب هذا ً‬
‫جهودا َّ‬
‫شكل من أشكال احلرب‪ ،‬حتول فيه قيود العالقات الدولية ‪-‬كما يف احلرب «احلركية»‬ ‫اإللكرتونية احلكومية هذه األحقاد من ٍ‬
‫إرهاب إىل ٍ‬
‫التقليدية‪ -‬مثل األعراف واملعاهدات والعقوبات والرد باملثل والردع العسكري دون اهلجمات العدوانية‪ .‬وأصبحت هذه القيود أكثر فعاليةً‬
‫يف منع احلروب بني الدول كما رأينا يف الفصل احلادي عشر‪.‬‬
‫حذروا من هجوم رقمي يشبه «هجوم بريل هاربر» و«هناية العامل اإللكرتونية» ُترتق فيها‬ ‫ولكن املسؤولني العسكريني األمريكيني َّ‬
‫َّ‬
‫الدول األجنبية أو املنظمات اإلرهابية املتطورة املواقع اإللكرتونية األمريكية لتحطيم الطائرات وفتح بوابات السدود وإذابة حمطات الطاقة‬
‫النووية وفصل شبكات الكهرباء وتعطيل النظام املايل‪ .‬يعترب معظم خرباء األمن اإللكرتوين التهديدات مبالغًا فيها‪ ،‬ذريعةً للحصول على‬
‫شخص واحد حىت اآلن‬ ‫ٌ‬ ‫يتعرض‬
‫املزيد من التمويل العسكري والسلطة والقيود على اخلصوصية واحلرية على اإلنرتنت‪َّ .‬أما يف الواقع فلم َّ‬
‫لإلصابة جراء هجمة إلكرتونية‪ ،‬إذ كانت اهلجمات غالبًا عبارة عن مضايقات مثل االخرتاق والفضح‪ ،‬أي تسريب وثائق سرية أو رسائل‬
‫إلكرتونية (كما حدث عند التدخل الروسي يف االنتخابات األمريكية لعام ‪ )2016‬وهجمات حجب اخلدمة املتفرقة‪ ،‬اليت تُغ ِرق فيها‬
‫شبكة البوت (وهي منظومة من أجهزة احلاسب املخرتقة) أحد املواقع اإللكرتونية بازدحام البيانات‪ .‬يشرح شناير األمر كما يلي‪« :‬رمبا‬
‫جيش دولةً ما‪ ،‬مث اصطف هذا اجليش كله أمام الناس يف إدارة املرور كي ال يستطيعوا جتديد رخصة‬ ‫تتمثَّل املقارنة الواقعية يف حالة غزو ٍ‬
‫القيادة‪ ،‬لو كان هذا ما تبدو عليه احلرب يف القرن احلادي والعشرين‪ ،‬فليس لدينا ما خنشاه تقريبًا»‪.‬‬
‫إن كل ما يتطلَّبه ذلك أن حيالف احلظ خمرتقًا أو‬
‫فهم يقولون َّ‬
‫تعزي القائلني باهلالك التكنولوجي‪ُ ،‬‬
‫ولكن ضآلة االحتماالت ال ِّ‬ ‫َّ‬
‫شائعا أكثر‬
‫احدا أو دولةً فاسدة واحد ًة فقط وتنتهي اللعبة‪ .‬وهلذا تلي كلمة (الوجودية) كلمة (األخطار)‪ ،‬ممَّا جعل استخدامها ً‬
‫إرهابيًّا و ً‬
‫أن «أكرب خطر وجودي قائم هو‬ ‫حذر رئيس هيئة األركان املشرتكة يف عام ‪َّ 2001‬‬‫وقت مضى منذ أوج فرتة سارتر وكامو‪َّ .‬‬ ‫من أي ٍ‬
‫قائال‪« :‬بفرض َّ‬
‫أن هذا باملقارنة مع األخطار الوجودية الصغرية»)‪.‬‬ ‫حث جون مولر على التعليق ً‬ ‫اإلنرتنت» (ممَّا َّ‬
‫تقوم هذه النزعة الوجودية على احندار من املضايقات إىل املِحن إىل املآسي إىل الكوارث إىل الفناء‪ .‬لنفرتض وقوع أحداث إرهاب‬
‫أن أحد املخرتقني جنح بالفعل يف تعطيل اإلنرتنت‪ ،‬هل‬ ‫ٍ‬
‫شخص‪ ،‬لنفرتض َّ‬ ‫بيولوجي أو خطأ بيولوجي بالفعل وتسبُّبها يف مقتل مليون‬
‫ستفىن الدولة حرفيًّا؟ هل ستنهار احلضارة؟ هل سينقرض اجلنس البشري؟ ال داعي للمبالغة‪ ،‬فحىت هريوشيما ما زالت قائمة! إن االفرتاض‬
‫أن اإلنرتنت لو اهنار يف أي وقت‪ ،‬فسيقف املزارعون مكتويف األيدي بينما يشاهدون‬‫عاجز للغاية لدرجة َّ‬
‫أن اإلنسان املعاصر ٌ‬‫الشائع هو َّ‬
‫يوضح‬
‫ع من علم االجتماع خمتص بذلك) ِّ‬ ‫ولكن علم اجتماع الكوارث (أجل‪ ،‬يوجد فر ٌ‬‫جوعا‪َّ ،‬‬
‫حماصيلهم تتعفَّن ويتضور سكان املدن ً‬
‫فهم ال ينهبون أو يهلعون أو يصابون بشلل التفكري‪ ،‬بل يتعاونون بعفوية من أجل استعادة‬ ‫َّ‬
‫أن الناس مرنون للغاية يف مواجهة الكوارث‪ُ ،‬‬
‫النظام ويرجتلون شبكات لتوزيع السلع واخلدمات‪ .‬ذكر إنريكو كوارانتيلي (‪ )Enrico Quarantelli‬أنَّه يف غضون دقائق من‬
‫انفجار هريوشيما النووي حصل ما يلي‪:‬‬

‫بعضا بأي طريقة ممكنة وانسحبوا من املناطق احملرتقة بالطريان‪،‬‬


‫شارك الناجون يف عمليات البحث واإلنقاذ وساعدوا بعضهم ً‬
‫يوم واحد‪ ،‬كانت بعض اجملموعات قد أعادت الطاقة الكهربائية إىل بعض املناطق‪ ،‬واستأنفت إحدى شركات‬ ‫وخالل ٍ‬
‫الصلب عملها بـ ‪ %20‬من عماهلا‪ ،‬واجتمع موظفو االثين عشر مصرفًا الذين تشملهم هريوشيما يف فرع هريوشيما يف‬
‫املدينة وبدؤوا يف عمليات الدفع‪ ،‬ومت إخالء خطوط الرتويل املؤدية إىل املدينة بصورةٍ شاملة واستعادت حركتها املرورية جزئيًّا‬
‫يف اليوم التايل‪ ،‬وهذا إىل جانب التخطيط الذي قامت به احلكومة واملنظمات العسكرية اليت جنا بعضها‪.‬‬

‫أن املخطِّطني للحرب من اجلانبني تبنَّوا اسرتاتيجية قصف‬


‫كان أحد األسباب اليت جعلت أعداد الوفيات يف احلرب العاملية الثانية مفزعة َّ‬
‫املدنيني حىت اهنيار اجملتمع‪ ،‬وهو ما مل حيدث مطل ًقا‪ .‬ومل ت ُكن هذه املرونة إحدى بقايا اجملتمعات املتجانسة املاضية‪ ،‬إذ تستطيع جمتمعات‬
‫بنظام عقب هجمات احلادي عشر من سبتمرب‬ ‫أيضا‪ ،‬كما رأينا عند إخالء وسط ماهناتن ٍ‬ ‫القرن احلادي والعشرين التأقلم مع الكوارث ً‬
‫مدمر وحاجب للخدمات‪.‬‬ ‫تعرضت ٍ‬
‫هلجوم إلكرتوين ِّ‬ ‫يف الواليات املتحدة وغياب أي أثر للهلع يف إستونيا يف عام ‪ 2007‬عندما َّ‬
‫هتديدا ومهيًّا آخر‪ ،‬إذ مل تلعب األسلحة البيولوجية اليت نبذهتا مجيع الدول تقريبًا يف معاهدة دولية عام‬
‫رمبا ميثل اإلرهاب البيولوجي ً‬
‫‪ 1972‬أي دور يف احلروب املعاصرة‪ .‬كان احلظر مدفوعا بالنفور العام من الفكرة يف حد ذاهتا‪ ،‬ولكن مل ت ُكن جيوش العامل ٍ‬
‫حباجة إىل‬ ‫ً‬
‫صناع السالح واجلنود واملواطنني من اجلانب الذي‬ ‫ألن الكائنات احلية الصغرية متثِّل أسلحة سيئة‪ ،‬فيمكن أن ترتد بسهولة وتُصيب ُ‬ ‫إقناع َّ‬
‫يستخدمها (ُتيل إصابة األخوين تسارناييف جبراثيم اجلمرة اخلبيثة)‪ .‬ويعتمد تفشي املرض أو تالشيه على شبكة ديناميكية معقدة ال‬
‫يستطيع التنبؤ هبا حىت أفضل علماء األوبئة‪.‬‬
‫وال تناسب العوامل البيولوجية اإلرهابيني ألن هدفهم هو االستعراض وليس التدمري (كما رأينا يف الفصل الثالث عشر)‪ ،‬ويرى‬
‫عامل األحياء بول إيوالد (‪ )Paul Ewald‬أن االنتخاب الطبيعي ملسببات األمراض يتعارض مع هدف اإلرهابيني يف التدمري املفاجئ‬
‫واملثري‪ .‬فاجلراثيم اليت تعتمد على اإلصابة بالعدوى عن طريق االنتقال من شخص إىل آخر بسرعة مثل فريوس نزالت الربد تُنتخب طبيعيًا‬
‫ًّ‬
‫ومتنقال حىت يصافح أكرب عدد ممكن من الناس ويعطس بالقرب منهم‪ ،‬وال تطمع اجلراثيم وتقتل مصابيها‬ ‫إلبقاء الشخص املصاب حيًّا‬
‫إال عندما تكون لديها طريقة أخرى يف االنتقال من ٍ‬
‫جسد إىل آخر مثل البعوض (كما يف حالة اإلصابة باملالريا) أو مصدر مياه ملوث‬
‫(كما يف حالة اإلصابة بالكولريا) أو اخلنادق املكتظة باجلنود املصابني (كما حدث يف ‪ 1918‬عند انتشار اإلنفلونزا اإلسبانية)‪ .‬وتقع‬
‫مسببات األمراض املنقولة جنسيًّا مثل فريوس نقص املناعة البشرية املكتسب ومرض الزهري يف منزلة متوسطة‪ ،‬فهي حتتاج إىل فرتة حضانة‬
‫طويلة خالية من األعراض ينقل خالهلا املصابون العدوى إىل شركائهم مث تبدأ يف إحداث الضرر بعد انقضاء هذه الفرتة‪ .‬وتتناسب شدة‬
‫اجلراثيم عكسيًا مع قدرهتا على العدوى‪ ،‬لذا سيحبط تطور اجلراثيم آمال اإلرهابيني يف إطالق وباء سريع ومميت يستحق أن يكون عنوانًا‬
‫عد وقادر على احلياة خارج أجسام‬ ‫مبسبب للمرض شديد وم ٍ‬
‫ٍ‬ ‫الصحف‪ .‬وميكن لإلرهابيني البيولوجيني كسر القاعدة نظريًا‬
‫ُ‬ ‫رئيسيًّا يف ُ‬
‫ولكن إنتاج مثل هذه اجلرثومة سيحتاج إىل جتارب تشبه جتارب النازيني على البشر األحياء ومن املستبعد حىت على اإلرهابيني‬
‫مصابيه‪َّ ،‬‬
‫(فما بالك باملراهقني منهم!) تنفيذ ٍ‬
‫جتارب كهذه‪ .‬رمبا مل ي ُكن ابتالء العامل سوى هبجمة إرهابية بيولوجية واحدة فقط (عندما مسمت‬
‫السلَطة بالساملونيال يف والية أورجيون عام ‪ ،1984‬وهو ما مل ينتج عنه أي وفيات) وجرمية‬‫طائفة راجنيش «‪ »Rajneesh‬الدينية َ‬
‫قتل متعدد واحدة (إرسال بكترييا اجلمرة اخلبيثة بالربيد مما تسبب يف قتل مخسة أشخاص يف عام ‪ )2001‬جمرد ضربة حظ‪.‬‬
‫إن ما هو أكيد هو أن التقدم يف علم األحياء الرتكييب مثل تقنيات تعديل اجلينات كريسرب كاس ‪)CRISPR-Cas9( 9‬‬
‫يسهل التالعب بالكائنات احلية مبا فيها مسببات املرض‪ ،‬لكن يصعب إعادة تصميم مسة متطورة معقدة بإضافة جني أو اثنني ألن تأثري‬
‫أي جني مرتبط ارتباطًا وثي ًقا جبينوم الكائن احلي‪ .‬ويقول إيوالد‪« :‬ال أعتقد أننا اقرتبنا إىل فهم كيفية إضافة جمموعة من املتغريات اجلينية‬
‫اليت تعمل بتناغم على توليد صفيت سرعة العدوى وشدة الضرر على البشر إىل أ ٍي من مسببات املرض»‪ ،‬ويضيف خبري التكنولوجيا‬
‫احليوية روبرت كارلسون (‪ )Robert Carlson‬أن‪ :‬إحدى املعضالت اليت تواجه بناء أي فريوس إنفلونزا هي احلاجة إىل احلفاظ‬
‫شيء حياول تدمري نظام اإلنتاج‪ ..‬ويصعب‬ ‫على نظام اإلنتاج (سواء أكان خاليا أم بويضات) حيًّا لفرتةٍ كافية إلنتاج كمية كافية من ٍ‬
‫قلق أكثر بشأن ما تبلينا به الطبيعة طوال الوقت»‪.‬‬
‫متاما‪ ،‬ولكنَّين بصراحة ٌ‬
‫جدا بدء تشغيل الفريوس الناتج‪ ..‬لن أنفي هذا التهديد ً‬ ‫ً‬
‫أيضا‪ :‬فهو يُسهل الكثري من األمور على األشخاص الصاحلني‬ ‫واألهم من ذلك أن التقدم يف علم األحياء يسري يف االجتاه اآلخر ً‬
‫(وهناك الكثري منهم) مثل اكتشاف مسببات األمراض واخرتاع املضادات احليوية اليت ميكنها التغلب على البكترييا املقاومة للمضادات‬
‫احليوية وسرعة تطوير اللقاحات‪ ،‬مثل لقاح اإليبوال الذي طُور يف األيام األخرية يف الفرتة الطارئة يف عامي ‪ 2015-2014‬بعد أن‬
‫بدال من ماليني الضحايا الذين تنبأت هبا وسائل اإلعالم‪ .‬وبذلك انضم‬ ‫أوقفت جمهودات الصحة العامة عدد الوفيات عند ‪ 12‬ألف ً‬
‫نطاق عاملي مثل محى السا وفريوس اهلنتا وفريوس الكورونا ومرض‬ ‫فريوس اإليبوال لقائمة األمراض اليت ثبت خطأ توقُّع تفشيها على ٍ‬
‫طاق عاملي بسبب‬‫جنون البقر وإنفلونزا الطيور وإنفلونزا اخلنازير‪ ،‬ومل يكن من املمكن لبعض هذه األمراض من األساس التفشي على ن ٍ‬
‫بدال من االنتقال املتسارع للعدوى من شخص إىل آخر‪ ،‬وقضت على بعضها اآلخر اجلهود‬ ‫انتقاهلا من احليوانات أو الطعام إىل البشر ً‬
‫يوما ما على دفاعات‬
‫الطبية وتدخالت هيئات الصحة العامة‪ .‬وبالطبع فال يعلم أح ٌد يقينًا ما إذا كان أحد العباقرة األشرار سيتغلب ً‬
‫ولكن العادات الصحفية واحنيازات التوفر والسلبية تزيد من فرصة‬
‫العامل وينشر وباءً من أجل املتعة أو االنتقام أو من أجل قضية مقدسة‪َّ ،‬‬
‫قبلت حتدي السيد مارتن‪ ،‬ورمبا تعرف من الفائز فينا يف وقت قراءتك هذا الكتاب‪.‬‬
‫حدوث ذلك‪ ،‬وهلذا ُ‬

‫جدا‪ :‬احلرب النووية‪ ،‬إذ ميتلك العامل أكثر من‬


‫حقيقي ً‬
‫ٌ‬ ‫لكن أحدها‬
‫بعض التهديدات اليت تواجه البشرية متناهية الصغر أو جمرد أوهام‪ ،‬و َّ‬
‫نووي ُموزٍع على تسع دول‪ ،‬وكثريٌ منها ُمثبت على صواريخ أو ُحممل يف قاذفات القنابل وميكنه إصابة آالف األهداف‬
‫عشرة آالف سالح ٍّ‬
‫خالل ساعات أو أقل‪ ،‬وكلٌّ منها مصمم إلحداث دما ٍر هائل‪ :‬إذ تستطيع القنبلة النووية الواحدة تدمري مدينة كاملة‪ ،‬وميكن جلميع‬
‫القنابل قتل مئات املاليني من البشر عن طريق ما ي نتج عنها من انفجارات وحرارة وإشعاعات وغبار ذري مشع‪ .‬لو بدأت احلرب بني‬
‫اهلند وباكستان وانفجرت املئات من قنابلهم النووية‪ ،‬فقد يُقتل عشرون مليون شخص يف احلال‪ ،‬ويستطيع السخام الناتج عن العواصف‬
‫عقد كامل وهو ما سيؤدي إىل خفض‬ ‫النارية الوصول إىل الغالف اجلوي وُتريب طبقة األوزون وخفض درجة حرارة الكوكب ألكثر من ٍ‬
‫جماعة تصيب أكثر من مليار شخص‪ .‬وميكن لتبادل إطالق األسلحة النووية الشامل بني الواليات املتحدة وروسيا‬‫إنتاج الغذاء وإىل ٍ‬
‫خفض درجة حرارة األرض مبقدار ‪ 8‬درجات مئوية لسنوات‪ ،‬وخلق شتاء (أو خريف على األقل) نووي مما سيؤدي إىل إصابة املزيد‬
‫باجملاعة‪ .‬وسواء أكانت احلرب النووية ستدمر احلضارة (كما يؤكد الكثريون) أو اجلنس البشري أو الكوكب أم ال‪ ،‬فإهنا ستكون مروعة‬
‫أكثر مما ميكن أن نتخيل‪.‬‬
‫بعد سقوط القنابل النووية على اليابان بقليل‪ ،‬وبعدما انطلقت الواليات املتحدة واالحتاد السوفيييت يف سباق التسلح النووي‪ ،‬بدأ‬
‫وحكم‬‫فإن البشرية قد انتزعت معرفة مهلكة من اآلهلة ُ‬‫شكل جديد من التشاؤم التارخيي يرتسخ‪ ،‬ومن منظوٍر بروميثي‪ 3‬هلذه القصة‪َّ ،‬‬
‫اية أخرى‪ ،‬ال تسري البشرية وحدها إىل هذا‬‫عليها بإبادة نفسها لعدم امتالكها احلكمة الالزمة الستخدام هذه املعرفة مبسؤولية‪ ،‬ويف رو ٍ‬
‫وإمنا أي ذكاء متطور‪ .‬ويفسر هذا ملاذا مل ُتزرنا كائنات فضائية بعد على الرغم من َّ‬
‫أن الكون ال بد وأن يكون مليئًا هبا‬ ‫املصري املأسوي َّ‬
‫(مفارقة فريمي املسماة على اسم إنريكو فريمي ‪ Enrico Fermi‬الذي طرح هذا السؤال ألول مرة)‪ ،‬فبمجرد نشوء احلياة على كو ٍ‬
‫كب‬
‫حتما إىل الذكاء واحلضارة والعلم والفيزياء النووية واألسلحة النووية واحلرب االنتحارية مبيدةً نفسها قبل أن تغادر جمموعتها‬
‫ما‪ ،‬تتطور ً‬
‫الشمسية‪.‬‬
‫ألن خطر حدوث حمرقة يلغي أي‬ ‫اهتاما للمؤسسة العلمية ‪-‬واحلداثة نفسها بالتأكيد‪َّ -‬‬
‫تُعد األسلحة النووية يف رأي بعض املثقَّفني ً‬
‫مهم ًشا‬
‫هدايا أخرى وهبنا العلم إياها‪ ،‬يبدو اهتام العلم يف غري حمله مبا أنه منذ فجر العصر النووي عندما كان التيار الرئيسي من العلماء َّ‬
‫من السياسة النووية‪ ،‬كان علماء الفيزياء هم من شنوا محلة مدوية لتذكري العامل خبطر احلرب النووية وحثوا الدول على نزع األسلحة‪ .‬من‬
‫هؤالء الرموز التارخيية نيلز بور (‪ )Niels Bohr‬ويوليوس روبرت أوبنهامير (‪ )J. Robert Oppenheimer‬وألربت أينشتاين‬
‫(‪ )Albert Einstein‬وإيزيدور رايب (‪ )Isidor Rabi‬وليو زيالرد (‪ )Leo Szilard‬وجوزيف روتبالت ( ‪Joseph‬‬
‫‪ )Rotblat‬وهارولد يوري (‪ )Harold Urey‬وتشارلز بريسي سنو (‪ )C. P. Snow‬وفيكتور فايسكوف ( ‪Victor‬‬
‫‪ )Weisskopf‬وفيليب موريسون (‪ )Philip Morrison‬وهريمان فيشباخ (‪ )Herman Feshbach‬وهنري كيندال‬
‫(‪ )Henry Kendall‬وثيودور تايلور (‪ )Theodore Taylor‬وكارل ساجان )‪ ،(Carl Sagan‬وما تزال احلركة مستمرة بني‬
‫العلماء املرموقني حىت اآلن مبن فيهم ستيفن هوكينج (‪ 4)Stephen Hawking‬وميتشيو كاكو (‪ )Michio Kaku‬ولورنس‬
‫كراوس (‪ )Lawrence Krauss‬وماكس تيجمارك (‪ .)Max Tegmark‬أسس العلماء املؤسسات الناشطة الكربى والرقابية‬
‫مبا فيها احتاد العلماء املهتمني (‪ )Union of Concerned Scientists‬واحتاد العلماء األمريكيني وجلنة املسؤولية النووية‬
‫(‪ )Committee for Nuclear Responsibility‬ومؤمترات باجواش (‪ )Pugwash Conferences‬ونشرة علماء‬
‫الذرة اليت يعرض غالفها ساعة هناية العامل الشهرية مضبوطة على دقيقتني ونصف قبل منتصف الليل‪.‬‬
‫ولألسف يعترب علماء الفيزياء أنفسهم خرباء يف جمال علم النفس السياسي ويبدو أن معظمهم يتبىن النظرية الشعبية القائلة بأن‬
‫تأثريا حلشد الرأي العام هي استخدام اخلوف والرتهيب‪ ،‬وعلى الرغم من احتواء عنوان اجمللة على كلمة «علماء»‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن‬ ‫الطريقة األكثر ً‬

‫‪ 3‬نسبة إلى بروميثيوس‪ ،‬سارق نار المعرفة من اآللهة‪.‬‬


‫‪ 4‬توفي مؤخراَ‬
‫الساعة امل شرية إىل هناية العامل ال تتبع املؤشرات املوضوعية على األمن النووي وإمنا هي جمرد حيلة دعائية حسبما يقول مؤسسها‪:‬‬
‫«للحفاظ على احلضارة عن طريق دفع الناس باخلوف يف اجتاه العقالنية»‪ .‬كان مؤشر دقائق عقارب الساعة أبعد عن منتصف الليل يف‬
‫كثريا َّ‬
‫ألن احملررين أعادوا تعريف «هناية العامل» لتشمل‬ ‫عام ‪ ،1962‬يف وقت أزمة الصواريخ الكوبية مقارنةً بعام ‪ 2007‬الذي كان أهدأ ً‬
‫التغري املناخي خوفًا من ال مباالة الرأي العام باألمر‪ ،‬وقد صدر عن اخلرباء العلميني بعض التنبؤات اخلاطئة أثناء محلتهم إلخراج الناس‬
‫من ال مباالهتم‪ ،‬مثل‪:‬‬

‫"لن تتجنب البشرية التدمري الذايت الوشيك إال بتأسيس حكومة عاملية واحدة" ألربت أينشتني يف ‪.1950‬‬

‫اعتقاد راسخ بأننا إن مل نفكر بصورة جادة ومتزنة يف خمتلف جوانب املشكلة االسرتاتيجية‪ ..‬فلن نصل إىل عام‬
‫ٌ‬ ‫"لدي‬
‫‪- 2000‬أو حىت عام ‪ -1965‬دون وقوع كارثة" هريمان كان (‪ )Herman Kahn‬يف ‪.1960‬‬

‫"ستُطلق بعض هذه القنابل النووية خالل عشرة سنوات على األكثر‪ ،‬وأقول ذلك بكل ما أستطيع من مسؤولية‪ ،‬فهذه‬
‫حقيقة مؤكدة" تشارلز بريسي سنو يف عام ‪.1961‬‬

‫مجيعا (خياطب الطالب) أمواتًا"‬ ‫ٍ‬ ‫"أنا على يق ٍ‬


‫ني تام ‪-‬وليس لدي أي شك فيما أقول‪ -‬أنه حبلول عام ‪ 2000‬ستكونون ً‬
‫جوزيف ويزنباوم (‪ )Joseph Weizenbaum‬يف عام ‪.1976‬‬

‫وقد ساندهم خرباء مثل الباحث يف العلوم السياسية هانز مورجنتاو (‪ )Hans Morgenthau‬املناصر الشهري «للواقعية» فيما خيص‬
‫العالقات الدولية والذي تنبأ بالتايل يف عام ‪:1979‬‬

‫حتما‪ ،‬حرب نووية اسرتاتيجية‪ ،‬وال أظن أن هناك ما ميكن فعله لتجنبها‪".‬‬
‫"أعتقد أن العامل يتجه حنو حرب عاملية ثالثة ً‬

‫والصحايف جوناثان شيل (‪ )Jonathan Schell‬الذي أهنى كتابه «مصري األرض» )‪(The Fate of the Earth‬مبا يلي‪:‬‬

‫يوما ما ‪-‬ومن الصعب االعتقاد بعدم اقرتاب هذا اليوم‪ -‬إذا ما كنا سنغرق يف غيبوبتنا األخرية‪ ،‬أو نستيقظ على‬
‫"سنقرر ً‬
‫حقيقة اخلطر الذي نعرض أنفسنا له‪ ..‬ونطهر األرض من األسلحة النووية"‪.‬‬

‫أصبحت هذه النبوءات موضة قدمية بعد انتهاء احلرب الباردة وعدم غرق البشرية يف غيبوبتها األخرية على الرغم من عدم إقامة‬
‫حكومة عاملية أو تطهري األرض من األسلحة النووية‪ .‬حيرص النشطاء على االحتفاظ بقوائم احلروب النووية الوشيكة إلبقاء املخاوف‬
‫تنج إال بضربات حظ مدهشة متتالية‪ ،‬ومتيل القوائم لتجميع حلظات‬ ‫جدا و َّ‬
‫أن البشرية مل ُ‬ ‫دوما وشيكة ً‬‫حية وإلظهار أن هناية العامل كانت ً‬
‫خطرية ح ًقا مثل مناورة حلف الناتو اليت حدثت يف عام ‪ 1983‬واليت كاد املسؤولون السوفييت يتصورون َّأهنا ضربة أوىل وشيكة‪ ،‬وكذلك‬
‫اهلفوات والزالت الصغرية مثلما حدث يف عام ‪ 2013‬عندما مثل اجلنرال األمريكي املسؤول عن الصواريخ النووية خارج ساعات عمله‬
‫وتصرف حبماقة مع النساء أثناء رحلة مدهتا أربعة أيام يف روسيا‪ .‬ومل يوضَّح مطل ًقا تسلسل األحداث الذي قد يؤدي إىل تبادل إطالق‬
‫ط أي تقديرات بديلة هلذه احلوادث كي تضعها يف إطارها الصحيح وتقلل اخلوف‪.‬‬
‫الصواريخ النووية‪ ،‬ومل تُع َ‬
‫ٍ‬
‫وبشكل مروع مامل يتخذ‬ ‫إن الرسالة اليت يود النشطاء املناهضون لألسلحة النووية توصيلها هي «أننا سنموت يف أي يوم اآلن‬
‫العامل تدابري فورية من املستحيل عمليًا اُتاذها» ‪ ،‬وتأثري ذلك على العامة كما هو متوقع‪ :‬يتجنب الناس التفكري فيما ال ميكن تصوره‬
‫ويواصلون حياهتم ويتمنون أن يكون اخلرباء خمطئني‪ ،‬وتراجعت اإلشارة إىل «احلرب النووية» بانتظام يف الكتب والصحف منذ مثانينيات‬
‫اهتماما لإلرهاب وعدم املساواة والفضائح واحلماقات املختلفة أكرب من االهتمام الذي يولونه لألخطار‬
‫ً‬ ‫القرن املاضي وأوىل الصحفيون‬
‫اليت هتدد بقاء احلضارة‪ .‬وال يتأثر قادة العامل أيضا‪ ،‬فعندما كان كارل ساجان مؤلفا مشارًكا يف الورقة التحذيرية األوىل من ٍ‬
‫شتاء نووي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وعندما شن محلة من أجل جتميد التسليح النووي عن طريق توليد «اخلوف مث التصديق مث االستجابة» قال له خبري حتديد األسلحة‪:‬‬
‫أي‬ ‫«إذا كنت تظن أن جمرد احتمالية هناية العامل كافية لتغيري السياسات يف واشنطن وموسكو فمن الواضح أنك مل ِ‬
‫تقض وقتًا كافيًا يف ٍّ‬
‫منهما»‪.‬‬
‫فمثال كتب الدبلوماسي‬
‫حتولت التوقعات عن الكارثة النووية الوشيكة يف العقود األخرية من احلرب النووية إىل اإلرهاب النووي‪ً ،‬‬
‫أن القاعدة ستشن هجمة باستخدام‬ ‫األمريكي جون جنروبونيت (‪ )John Negroponte‬يف عام ‪« :2003‬هناك احتمال كبري َّ‬
‫أبدا إنكار التوقعات احملتملة اليت مل تقع من األساس‬ ‫سالح نووي أو سالح دمار شامل خالل عامني»‪ .‬وعلى الرغم من أنه ال ميكن ً‬
‫أن الكم اهلائل من التوقعات اخلاطئة يشري‬ ‫توقعا مبواعيد هنائية متعاقبة على مدار عدة عقود) َّإال َّ‬
‫(ذكر مولر يف جمموعته أكثر من ‪ً 70‬‬
‫إىل أن املتنبئني مييلون إلخافة الناس (كتب أربعة سياسيني أمريكيني مقالة عن خطر اإلرهاب النووي يف عام ‪ 2004‬بعنوان «شعرنا‬
‫حيرتق» "‪ ،"Our Hair Is on Fire‬وهذا األسلوب مريب‪ .‬فاهلجمات احلقيقية باألسلحة النارية والقنابل منزلية الصنع ميكنها‬
‫لكن التوقعات حبدوث انفجار‬‫حث الناس بسهولة على دعم املمارسات القمعية مثل املراقبة الداخلية أو حظر هجرة املسلمني الوافدين‪َّ ،‬‬
‫نووي يف الشوارع الرئيسية مل تُثِر سوى القليل من االهتمام بسياسات مكافحة اإلرهاب النووي مثل الربنامج العاملي لضبط املواد‬
‫االنشطارية‪.‬‬
‫توقع نقاد احلمالت التخويفية األوىل من األسلحة النووية مثل هذه النتائج العكسية‪ ،‬فالحظ عامل الالهوت راينهولد نيبار‬
‫(‪ )Reinhold Niebuhr‬منذ وقت بعيد‪ ،‬يف عام ‪ 1945‬أنَّه‪« :‬مهما كانت ضخامة األخطار املطلقة َّ‬
‫فإن تأثريها احلقيقي على‬
‫اخليال البشري أقل من االستياءات والصراعات املباشرة مهما كانت صغرية مقارنةً هبا»‪ .‬وجد املؤرخ بول بوير (‪َّ )Paul Boyer‬‬
‫أن‬
‫شجع يف الواقع على سباق التسلح عن طريق حث الدولة على السعي المتالك قنابل أكرب وأكثر لردع السوفييت بشكل‬ ‫التهويل النووي َّ‬
‫أفضل‪ ،‬وحىت يوجني روبينويتش (‪ )Eugene Rabinowitch‬منشئ ساعة هناية العامل ندم على اسرتاتيجية حركته فقال‪« :‬بينما‬
‫كان العلماء حياولون ُتويف الناس كي يتعقلوا‪ ،‬أصابوا الكثريين باخلوف املرعب أو الكراهية العمياء»‪.‬‬

‫ٍ‬
‫مبشكلة ما عندما يعتقدون بإمكانية حلها خالفًا ملا حيدث عندما‬ ‫وكما رأينا يف حالة التغري املناخي‪ ،‬فرمبا تزيد احتمالية اعرتاف الناس‬
‫يفقدون األمل واإلحساس بسبب الرعب‪ .‬ينبغي أن تشتمل اخلطة اإلجيابية إلزالة خطر احلرب النووية على عدة أفكار‪.‬‬
‫الفكرة األوىل هي التوقف عن إخبار اجلميع بأهنم هالكون‪ .‬وحقيقة احلقبة النووية األساسية أنه مل تُستخدم قنبلة نووية واحدة منذ‬
‫حادثة ناجازاكي‪ ،‬وإذا ظلت عقارب الساعة تشري إىل قُرب حلول منتصف الليل خالل بضع دقائق ملدة ‪ 72‬سنة فهناك خطأٌ ما يف‬
‫أبدا ما إذا كان هذا حقيقيًّا‪ -‬ولكن قبل أن نُسلِّم باستنتاج‬
‫الساعة‪ .‬ورمبا حالفت العامل ضربات متتالية من احلظ السعيد ‪-‬لن يعرف أحد ً‬
‫ليس عليه أي دليل علمي‪ ،‬ينبغي أن نضع يف االعتبار احتمالية أن تكون خصائص النظام الدويل قد ناهضت استخدام القنابل النووية‪،‬‬
‫ويكره كثريٌ من النشطاء املناهضني لألسلحة النووية هذه الطريقة يف التفكري ألهنا ُتفف عبء نزع األسلحة عن الدول‪ ،‬ولكن مبا أن‬
‫الدول التسع احلائزة على أسلحة نووية لن تفكك أسلحتها قريبًا‪ ،‬فيجب علينا أن نكتشف الصواب فيما حدث ساب ًقا حىت ميكننا‬
‫اإلكثار منه‪.‬‬
‫واألهم من ذلك االكتشاف التارخيي الذي أوجزه الباحث يف العلوم السياسية روبرت جريفيس كما يلي‪« :‬مل تكشف السجالت‬
‫السوفيتية بعد عن أي خطط جادة لعدوان غري مربر على غرب أوروبا وبالطبع أي خطط لضربة أوىل ضد الواليات املتحدة»‪ ،‬يعين ذلك‬
‫َّ‬
‫أن األسلحة املعقدة واملبادئ االسرتاتيجية للردع النووي خالل احلرب الباردة ‪-‬وهي ما أمساها أحد الباحثني يف العلوم السياسية «امليتافيزيقيا‬
‫النووية»‪ -‬كانت حتاول ردع هجوم مل ين ِو االحتاد السوفييت شنه من األساس‪ .‬وبانتهاء احلرب الباردة‪ ،‬تالشت املخاوف من االحتالل‬
‫الواسع والضربات االستباقية باألسلحة النووية‪( ،‬وكما سنرى الح ًقا) شعر كال اجلانبني باألمان الكايف خلفض خمزون األسلحة لديهما‬
‫دون أن يكلفا نفسيهما عناء املفاوضات الرمسية‪ .‬وعلى عكس ما تقول نظرية احلتمية التكنولوجية اليت ترى َّ‬
‫أن األسلحة النووية ستشن‬
‫فإن اخلطورة يف األساس تعتمد على حالة العالقات الدولية‪ ،‬ويعود أكثر الفضل يف غياب احلرب النووية بني‬ ‫حربًا من تلقاء نفسها‪َّ ،‬‬
‫القوى العظمى إىل عوامل احلد من احلروب بينها (كما رأينا يف الفصل احلادي عشر) وكل ما يُقلل من احتمالية نشوب حرب‪ ،‬يُقلل‬
‫كذلك من احتمالية نشوب حرب نووية‪.‬‬
‫أيضا على ضربات حظ متتالية مدهشة‪ ،‬بل يرى العديد من علماء السياسة واملؤرخني‬
‫رمبا ال تعتمد النجاة من حروب نووية وشيكة ً‬
‫الذين حللوا الوثائق اخلاصة بأزمة الصواريخ الكوبية وخاصةً نصوص اجتماعات جون كينيدي مبستشاريه األمنيني أنَّه على الرغم من رؤية‬
‫أن «احتمالية دخول األمريكان يف حرب كانت شبه معدومة»‪ .‬وتبني السجالت َّ‬
‫أن‬ ‫املشاركني أهنم أنقذوا العامل من هناية وشيكة‪َّ ،‬إال َّ‬
‫كال من خورشوف (‪ )Khrushchev‬وكينيدي أحكم قبضته على احلكومة وسعى إىل هناية سلمية لألزمة متجاهلَ ْني التحريضات‪،‬‬ ‫ًّ‬
‫وأتاحا لنفسيهما الكثري من اخليارات للرتاجع‪.‬‬
‫ال تعين اإلنذارات الكاذبة املخيفة واحتمالية حدوث إطالقات غري مقصودة لألسلحة َّ‬
‫أن اهلل لطف بنا مرةً بعد أخرى بالضرورة‪،‬‬
‫ولكنَّها قد تعين َّ‬
‫أن حلقيت البشر والتكنولوجيا يف السلسلة كانتا مهيئتني ملنع الكوارث وازدادت قوتيهما بعد كل حادثة‪ .‬ويلخص احتاد‬
‫أن‬ ‫ٍ‬
‫حبكمة يف تقريرهم عنها كما يلي‪« :‬يشري عدم إطالق صواريخ نووية حىت اآلن إىل َّ‬ ‫العلماء املهتمني تاريخ احلوادث النووية الوشيكة‬
‫ٍ‬
‫حادثة كهذه ضئيلة‪ ،‬لكنَّها ليست منعدمة»‪.‬‬ ‫تدابري السالمة ناجحة مبا يكفي جلعل احتمالية وقوع‬
‫كال من اخلوف والقناعة بالوضع الراهن‪ ،‬وإذا افرتضنا أن احتمالية اندالع حرب‬
‫يتيح لنا التفكري يف حمنتنا هبذه الطريقة أن نتجنب ً‬
‫نووية هي ‪ %1‬يف السنة الواحدة (وهذا تقدير مبالغ فيه‪ :‬فيجب أن تكون االحتمالية أقل من احتمالية إطالق غري مقصود لألسلحة‬
‫ألن تفاقم حرب شاملة نتيجة حادثة فردية أمر ال حيدث بصورةٍ تلقائية‪ ،‬ومل تقع حادثة إطالق واحدة غري مقصودة خالل االثنني‬ ‫َّ‬
‫ألن املعرفة البسيطة بعلم اجلرب توضح َّ‬
‫أن احتمالية مرور قرن دون وقوع‬ ‫قطعا‪َّ ،‬‬
‫وسبعني سنة املاضية)‪ ،‬تكون هذه االحتمالية مرفوضة ً‬
‫كارثة نووية أقل من ‪ ،%37‬أما إذا استطعنا خفض احتمالية اندالع حرب نووية إىل ‪ %0.1‬يف السنة‪ ،‬فستزداد احتمالية عدم اندالع‬
‫حرب نووية خالل القرن إىل ‪ ،%90‬وخبفض االحتمالية أكثر إىل ‪ %0.01‬فستزداد االحتمالية إىل ‪ %99‬وهكذا‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬فخالفًا للتوقعات اليت ظهرت يف الستينيات من القرن‬
‫أن اخلوف من االنتشار الكثيف لألسلحة النووية مبال ٌغ فيه ً‬ ‫وقد ثبت َّ‬
‫العشرين بأنَّه ستكون هناك ‪ 25‬أو ‪ 30‬دولة نووية قريبًا‪ ،‬وبعد مرور مخسني سنة على هذه التوقعات‪ ،‬ال توجد سوى ‪ 9‬دول نووية‬
‫فقط‪ .‬وخالل نصف هذا القرن فقد حدت ‪ 4‬دول من األسلحة النووية عن طريق التخلي عنها (جنوب إفريقيا وكازاخستان وأوكرانيا‬
‫وبيالروسيا) وسعت ‪ 16‬دولة حليازهتا ولكنها تراجعت عن تلك اخلطوة يف النهاية وكان آخرها ليبيا وإيران‪ ،‬وللمرة األوىل منذ عام‬
‫‪ ،1964‬فال توجد دول غري حائزة على أسلحة نووية تسعى لصناعتها‪ .‬ونعم تبدو فكرة حيازة كيم جونغ أون (‪)Kim Jong-un‬‬
‫ولكن العامل جنا من قبل من طغاة شبه جمانني وكان لديهم أسلحة نووية مثل ستالني وماو وقد ِحيل بينهم وبني‬‫على أسلحة نووية مقلقة َّ‬
‫جيدا من أجل‬‫أي منهم أنه حباجة إىل ذلك‪ .‬وليس التحلي باهلدوء خبصوص انتشار األسلحة النووية ً‬ ‫استخدامها‪ ،‬أو باألحرى مل يشعر ٌ‬
‫صحتنا النفسية فقط‪ ،‬وإمنا قد مينع الدول من الوقوع يف حروب وقائية كارثية كما حدث يف غزو العراق عام ‪ 2003‬واحلرب احملتملة‬
‫بني إيران والواليات املتحدة أو إسرائيل يف هناية نفس العقد‪.‬‬
‫وقد فحص بعض العقالء اهلادئون صحة التوقعات املرجتفة اليت تنبأت بسرقة اإلرهابيني أسلحةً نووية أو صناعتها يف منازهلم وهتريبها‬
‫إىل داخل البالد يف حقيبة سفر أو يف حاوية شحن‪ ،‬ومن هؤالء العقالء مايكل ليفي (‪ )Michael Levi‬يف كتاب «عن اإلرهاب‬
‫النووي» )‪ (On Nuclear Terrorism‬وجون مولر يف كتاب «الهاجس النووي» )‪ (Atomic Obsession‬وريتشارد‬
‫مولر (‪ )Richard Muller‬يف كتاب «الفيزياء لرؤساء المستقبل» )‪ (Physics for Future Presidents‬وريتشارد‬
‫رودز (‪ )Richard Rhodes‬يف كتاب «غروب شمس القنابل النووية» )‪ ،(The Twilight of the Bombs‬وأيدهم‬
‫أيضا رجل الدولة جاريث إيفانز (‪ )Gareth Evans‬وهو خبري يف انتشار األسلحة النووية ونزعها‪ ،‬وقد ألقى احملاضرة االفتتاحية يف‬
‫ً‬
‫الندوة السنوية السابعة عشرة لنشرة علماء الذرة يف عام ‪ 2015‬بعنوان «إعادة المنطق إلى النقاش النووي»‪.‬‬

‫ٍ‬
‫بانفعال أقل‬ ‫أيضا قد يتحسن إذا نُفذ‬
‫إن (األمن النووي) ً‬ ‫لست كذلك‪ -‬فيجب أن أقول َّ‬ ‫ومع خطورة أن أبدو راضيًا ‪-‬وأنا ُ‬
‫ومبز ٍ‬
‫يد من اهلدوء والعقالنية عن ذي قبل‪.‬‬
‫ومع َّ‬
‫أن املعرفة التقنية الالزمة لبناء جهاز انشطار بسيط مثل املوجود يف قنبلة هريوشيما وناجازاكي متاحة‪ ،‬إال أنه من‬
‫جدا‬
‫الصعب احلصول على اليورانيوم عايل التخصيب والبلوتونيوم القابل لالستخدام يف صناعة األسلحة‪ ،‬ومن الصعب ً‬
‫جتميع الف ريق الضروري املكون من اجملرمني والعلماء واملهندسني للحصول على أجزاء هذا السالح وبنائه وتسليمه واحلفاظ‬
‫بعيدا عن أنظار املصادر االستخباراتية واجلهات املعنية بتنفيذ القانون وهي معنية اآلن مبنع هذا‬
‫على هذا الفريق ملدة طويلة ً‬
‫اخلطر حول العامل‪.‬‬

‫قليال‪ ،‬فاخلطوة القادمة لتقليل اخلطر النووي هي جتريد األسلحة النووية من بريقها الوحشي بدءًا من امللحمة‬
‫اآلن وبعد أن هدأنا ً‬
‫اليونانية اليت أدت فيها دور البطولة‪ ،‬فتقنية األسلحة النووية ال متثِّل قمة سيطرة البشر على قوى الطبيعة‪ ،‬وإمنا هي ورطة وقعنا فيها بسبب‬
‫تقلبات التاريخ‪ ،‬وعلينا اآلن أن نكتشف كيف ميكننا أن ننتشل أنفسنا منها‪ .‬وقد نشأ مشروع ماهناتن بسبب اخلوف من صناعة األملان‬
‫للسالح النووي وقد استقطب العلماء ألسباب شرحها عامل النفس جورج ميلر (‪ )George Miller‬الذي عمل على مشروع حبثي‬
‫قائال‪« :‬لقد رأي جيلي احلرب ضد هتلر على أهنا حرب اخلري ضد الشر‪ ،‬وكان من غري املمكن ألي شاب قوي البنية‬ ‫آخر أثناء احلرب‪ً ،‬‬
‫جدا أنه‬
‫أن يتحمل خزي احلياة املدنية إال إذا كان لديه اعتقاد داخلي بأن ما يفعله يساهم بصورة أكرب يف حتقيق النصر»‪ .‬ومن احملتمل ً‬
‫لوال وجود النازيني ملا ُوجدت القنابل النووية‪ ،‬فاألسلحة ال تُصنع جملرد توافر القدرة على تصميمها أو تصنيعها‪ ،‬إذ حلم الناس بأنواع‬
‫كثرية من األسلحة اليت مل َتر النور مثل‪ :‬أشعة املوت ومركبات الفضاء احلربية وأساطيل الطائرات اليت تغطي املدن بالغازات السامة مثل‬
‫طائرة رش احلقول واملخططات لـ «احلرب اجليوفيزيائية» مثل حتويل الطقس والفيضانات والزالزل وأمواج التسونامي وطبقة األوزون والنيازك‬
‫يخ بديل للقرن العشرين رمبا كانت األسلحة النووية لتبدو للناس‬ ‫واالنفجارات الشمسية وحزام فان ألن اإلشعاعي إىل أسلحة‪ .‬ويف تار ٍ‬
‫بنفس غرابة األسلحة السابقة‪.‬‬
‫وال تستحق األسلحة النووية أن يُنسب هلا الفضل يف إهناء احلرب العاملية الثانية أو إرساء السالم الطويل الذي تبعها‪ ،‬ومها احلجتان‬
‫أن اليابان مل تستسلم بسبب‬‫اللتان تُذكران باستمرار لطرح فكرة أن األسلحة النووية جيدة وليست سيئة‪ .‬يعتقد معظم املؤرخني اليوم َّ‬
‫القنابل النووية‪ ،‬اليت مل يكن الدمار الناتج عنها أكرب من الناتج عن القنابل احلارقة اليت تعرضت هلا ستون مدينة يابانية أخرى‪َّ ،‬‬
‫وإمنا‬
‫بسبب انضمامها إىل االحتاد السوفييت يف احلرب وهو ما هدَّد بشروط استسالم أصعب‪.‬‬
‫وخالفًا لالقرتاح األقرب للنكتة بإهداء جائزة نوبل للسالم للقنبلة النووية‪ ،‬فقد اتضح فشل األسلحة النووية يف الردع (فيما عدا‬
‫احلاالت الشديدة من األخطار الوجودية مثل ردع سالح نووي آخر)‪ ،‬فاألسلحة النووية تدمر دون تفرقة وتلوث مناطق واسعة بالغبار‬
‫الذري املشع مبا فيها املناطق املتنازع عليها‪ ،‬وعلى حسب الطقس فقد تصيب جنود الدولة صاحبة السالح ومواطنيها‪ .‬وقد حيطم حرق‬
‫أعداد هائلة من املدنيني مبادئ التكافؤ والتمييز اليت تنظم سري احلروب وستكون من أسوأ جرائم احلرب على مر التاريخ‪ ،‬وحىت السياسيون‬
‫حوهلا بصورة فعالة إىل خدعة‪ .‬مل تؤثر حيازة الدول‬
‫قد يشعرون بالغثيان من تلك الفكرة‪ ،‬لذا فقد زاد حترمي استخدام األسلحة النووية مما َّ‬
‫على أسلحة نووية يف حصوهلا على ما تريد يف املواجهات الدولية أكثر من الدول اليت ال متتلكها‪ ،‬وقد افتعلت دول أو فصائل ال متتلك‬
‫دول حائزة على أسلحة نووية (فعلى سبيل املثال استولت األرجنتني على جزر‬ ‫أسلحة نووية اشتباكات يف كثري من الصراعات مع ٍ‬
‫الفوكالند من اململكة املتحدة يف عام ‪ 1982‬وهي واثقة أن مارجريت ثاتشر لن تطلق قنبلة نووية على بوينس آيرس)‪ .‬وال يعين ذلك‬
‫أن الدبابات التقليدية وسالح املدفعية وقاذفات القنابل كانت مدمرة بالفعل‬‫أن الردع نفسه غري مهم‪ :‬فقد أظهرت احلرب العاملية الثانية َّ‬
‫ومل تُرد أي دولة أن تُعيد الكرة ثانيةً‪.‬‬
‫بدال من إيصاله إىل حالة توازن مستقر (توازن الرعب الزائف)‪ .‬ويف وقت‬ ‫عرض األسلحة النووية العامل ملستقبل جمهول ومقلق ً‬ ‫قد تُ ِّ‬
‫أوال ليقي نفسه‬‫كل منهما إلطالق النار ً‬ ‫ٍ‬
‫مسلحا مييل ٌ‬
‫ً‬ ‫لصا‬
‫األزمات‪ ،‬تشبه الدول احلائزة على أسلحة نووية صاحب منزل مسلح يواجه ً‬
‫قادرا على شن ضربة ثانية بالغواصات‬
‫من اإلصابة برصاصة اآلخر‪ ،‬ونظريًا ميكن إبطال هذه املعضلة األمنية أو فخ هوبز إذا كان كل طرف ً‬
‫مثال أو بقاذفات القنابل اجلوية واليت ميكن أن تفلت من الضربة األوىل وتتسبب يف دما ٍر ساحق‪ ،‬أي حالة التدمري املتبادل املؤكد‬ ‫ً‬
‫()‪ ، MAD‬ولكن يثري البعض يف جمال امليتافيزيقيا النووية الشكوك حول ضمان شن ضربة ثانية يف كل السيناريوهات احملتملة وما إذا‬
‫كانت الدولة املعتمدة عليها معرضة لالبتزاز النووي‪ .‬لذا حتتفظ كلٌّ من الواليات املتحدة وروسيا خبيار «اإلطالق مبجرد اإلنذار» ووفقه‬
‫يقرر يف غضون دقائق من إبالغه بأن صوارخيه تتعرض للهجوم ما إذا كان سيستخدم الصواريخ أم سيخسرها‪ ،‬وميكن‬ ‫يستطيع الرئيس أن ِّ‬
‫حلالة التأهب القصوى (‪ )hair trigger‬هذه كما يسميها النقاد أن تتسبب يف تبادل إطالق الصواريخ النووية استجابةً إلنذار كاذب‬
‫ٍ‬
‫بشكل مقلق‪.‬‬ ‫مصرح به‪ ،‬وتشري قائمة احلروب النووية الوشيكة بأن احتمالية وقوعها أكرب من الصفر‬
‫أو إطالق غري مقصود أو غري َّ‬
‫مبا أنَّه مل تكن هناك حاجة الخرتاع األسلحة النووية‪ ،‬و َّأهنا غري جمدية يف االنتصار يف احلروب أو حفظ السالم‪ ،‬فهذا يعين أنه من‬
‫أن املعرفة بكيفية صناعة األسلحة النووية ستختفي َّ‬
‫وإمنا أنَّه ميكن تفكيكها وإعادة بناء أسلحة جديدة‪،‬‬ ‫املمكن االستغناء عنها‪ ،‬وال أعين َّ‬
‫ولن تكون هذه هي املرة األوىل اليت يُهمش فيها نوع من األسلحة أو يُفكك‪ .‬فقد حظرت دول العامل استخدام األلغام األرضية املضادة‬
‫لألفرا د والقنابل العنقودية واألسلحة الكيميائية والبيولوجية‪ ،‬وقد شهدت هتاوي أسلحة أخرى ذات تكنولوجيا متطورة بسبب عبثيتها‪.‬‬
‫ميال‪ ،‬وكانت‬
‫مدفعا عمالقًا متعدد الطوابق ميكنه إطالق قذيفة وزهنا ‪ 200‬رطل ألبعد من ‪ً 80‬‬ ‫اخرتع األملان خالل احلرب العاملية األوىل ً‬
‫القذائف ترعب سكان باريس بتساقطها من السماء دون سابق إنذار‪ ،‬كانت هذه األسلحة الضخمة‪ ،‬اليت أُطلق على أكربها فيما بعد‬
‫نب سوى القليل منها وحتولت يف النهاية إىل خردة‪ .‬ويقول املتشككون يف انتشار‬ ‫مدفع جوستاف‪ ،‬غري دقيقة وصعبة االستخدام‪ ،‬لذا مل يُ َ‬
‫األسلحة النووية كني بريي (‪ )Ken Berry‬وباتريشيا لويس (‪ )Patricia Lewis‬وبينوا بيلوبيداس (‪)Benoît Pelopidas‬‬
‫ونيكوالي سوكوف (‪ )Nikolai Sokov‬وورد ويلسون (‪:)Ward Wilson‬‬

‫ال تتسابق الدول اليوم يف بناء مدافعها الضخمة‪ ..‬وال يوجد هجاء غاضب يف الصحف الليربالية عن بشاعة هذه األسلحة‬
‫وضرورة حظرها‪ ،‬وال توجد مقاالت رأي واقعية يف الصحف احملافظة تؤكد على عدم وجود طريقة إلعادة املدفع الضخم إىل‬
‫القمقم‪ .‬كانت األسلحة غري فعالة وتبديدية‪ ،‬فالتاريخ مليء باألسلحة اليت كانت توصف بأهنا السبب يف االنتصار يف‬
‫احلروب وهجرهتا اجليوش يف النهاية َّ‬
‫ألن فعاليتها كانت ضعيفة‪.‬‬

‫فهل سيحدث مع األسلحة النووية مثل ما حدث مع مدفع جوستاف؟ يف أواخر اخلمسينيات من القرن العشرين تأسست حركة‬
‫من أجل حظر استخدام القنابل النووية وتوسعت احلركة على مر العقود من جمرد كوهنا حركة تضم غرباء األطوار وأساتذة اجلامعة لتتحول‬
‫إىل تيا ٍر رئيسي‪ ،‬إذ طرح ميخائيل جورباتشوف (‪ )Mikhail Gorbachev‬ورونالد رجيان يف عام ‪ 1986‬قضية الصفر الشامل‬
‫‪-‬وهي التسمية اليت تُطلق على هدف احلد من األسلحة اآلن‪ ،-‬ورونالد رجيان هو املشهور مبقولة «ال ميكن االنتصار يف حرب نووية‬
‫أبدا‪ ،‬ولكن أليس من األفضل‬ ‫وجيب عدم خوضها مطل ًقا‪ ،‬والقيمة الوحيدة المتالك دولتينا أسلحةً نووية هي ضمان عدم استخدامها ً‬
‫مشكلة من احلزب الدميقراطي واجلمهوري (هنري كيسنجر‬‫عدم امتالكها من األساس؟» كتبت جمموعة رباعية من أنصار الواقعية الدفاعية َّ‬
‫وجورج شولتز وسام نون وويليام بريي) ( ‪Henry Kissinger, George Shultz, Sam Nunn, and William‬‬
‫خال من األسلحة النووية» (‪ )A World Free of Nuclear Weapons‬بتأييد ‪14‬‬ ‫‪ )Perry‬مقالةً بعنوان «عالم ٍ‬
‫مستشارا ساب ًقا لألمن القومي ووزيري الدفاع واخلارجية‪ ،‬ويف عام ‪ 2009‬ألقى باراك أوباما خطابًا تارخييًّا يف براغ قال فيه‪« :‬تتعهد أمريكا‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫بوضوح وبقناعة تامة بأن تسعى حنو عامل خال من األسلحة النووية يعمه السالم واألمن»‪ ،‬وهو التطلع الذي ساعده على الفوز جبائزة‬
‫نوبل للسالم‪ ،‬وكرر اخلطاب نظريه الروسي يف ذلك الوقت دميرتي ميدفيديف (‪( )Dmitry Medvedev‬وهو ما مل يتكرر ممَّن‬
‫ألن الواليات املتحدة وروسيا كانتا متعهدتني بالتخلص من ترسانتيهما‬ ‫داع للخطاب َّ‬ ‫كال منهما)‪ .‬ومع ذلك فلم ي ُكن هناك ٍ‬ ‫خلف ًّ‬
‫النوويتني بالفعل بتوقيعهما على معاهدة عدم انتشار األسلحة النووية يف عام ‪ 1970‬طب ًقا للمادة السادسة منها‪ ،‬ومن الدول املتعهدة‬
‫أيضا‪ :‬اململكة املتحدة وفرنسا والصني‪ ،‬والدول األخرى احلائزة على أسلحة نووية ممن مشلتهم املعاهدة (مل توقع اهلند أو باكستان أو‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫أيضا‪ ،‬مؤِّكدين بذلك دون قصد أمهية املعاهدات)‪ .‬ويدعم سكان العامل احلركة‪،‬‬ ‫إسرائيل على هذه املعاهدة‪ ،‬وانسحبت كوريا الشمالية ً‬
‫فضلت الغالبية العظمى من املشاركني التخلص من األسلحة النووية‪.‬‬ ‫ففي كل الدول اليت أجريت فيها استطالعات الرأي تقريبًا َّ‬
‫أيضا أي دافع لدولة‬
‫رقما مغريًا‪ ،‬ألنَّه يوسع نطاق حظر األسلحة النووية من استخدامها إىل جمرد امتالكها‪ ،‬ويزيل ً‬ ‫يُعترب الصفر ً‬
‫سهال‪ ،‬حىت مع حتديد مراحل‬
‫أمرا ً‬
‫تود حيازة األسلحة النووية حلماية نفسها من أسلحة أعدائها النووية‪ ،‬ولكن لن يكون الوصول للصفر ً‬
‫متتالية من التفاوض والتقليص والتحقق‪ .‬حيذر بعض اخلرباء االسرتاتيجيني من حماولة الوصول إىل الصفر‪َّ ،‬‬
‫ألن الدول اليت كانت متتلك‬
‫أسلحة نووية قد تتسابق يف إعادة التسليح عند حدوث أزمة‪ ،‬ورمبا يشن الفائز يف هذا السباق ضربة استباقية بدافع اخلوف من أن يشنها‬
‫أوال‪ .‬وطب ًقا هلذه النظرية‪ ،‬فسيكون العامل مكانًا أفضل إذا أبقت الدول احلائزة على األسلحة النووية بعض هذه األسلحة كرادع‪.‬‬‫عدوه ً‬
‫فإن العامل بعي ٌد كل البعد عن الصفر أو حىت عن حيازة «عدد قليل من األسلحة النووية»‪ ،‬وحىت يأيت ذلك اليوم‬ ‫ويف كلتا احلالتني َّ‬
‫املوعود‪ ،‬ميكننا أخذ خطوات تدرجيية لتقريبه بينما جنعل العامل أكثر أمانًا‪.‬‬
‫قدم وساق‪ ،‬وال يدرك سوى القليل من الناس‬ ‫اخليار األكثر بداهة هو خفض حجم الرتسانة النووية‪ ،‬وهذه العملية جترى على ٍ‬
‫أن الواليات املتحدة خفضت خمزوهنا النووي بنسبة‬ ‫يوضح الشكل رقم ‪َّ 1-19‬‬ ‫احلجم اهلائل الذي خفضه العامل من األسلحة النووية‪ِّ .‬‬
‫رؤوسا نووية أقل من أي وقت منذ عام ‪ ،1956‬وخفضت روسيا بدورها‬ ‫‪ %85‬مقارنةً بالذروة اليت بلغتها عام ‪ ،1967‬ولديها اآلن ً‬
‫أن ‪ %10‬من الطاقة الكهربائية للواليات‬ ‫ترسانتها بنسبة ‪ %89‬منذ ذروهتا يف فرتة االحتاد السوفييت (رمبا يدرك عدد أقل من الناس َّ‬
‫أن أكثر هذه الرؤوس سوفييتية)‪ .‬وقَّعت الدولتان املعاهدة اجلديدة للحد من األسلحة‬ ‫املتحدة تأيت من الرؤوس النووية املفككة‪ ،‬و َّ‬
‫االسرتاتيجية (‪ )New START‬يف عام ‪ ،2010‬اليت تلزمهما خبفض خمزونيهما من الرؤوس احلربية االسرتاتيجية املنصوبة مبقدار‬
‫وحتدث روسيا‬ ‫الثلثني‪ ،‬وقد وافق أوباما على التحديث بعيد املدى لرتسانة األسلحة األمريكية يف مقابل موافقة الكوجنرس على املعاهدة‪ُ ،‬‬
‫أيضا‪ ،‬ولكن ستستمر الدولتان يف خفض خمزونيهما ٍ‬
‫مبعدل رمبا يكون أعلى من احملدد يف املعاهدة‪ .‬ميكن تشبيه القوى النووية‬ ‫ترسانتها ً‬
‫األخرى بطبقة رقيقة يصعب إدراكها تغلف كومة القوى النووية السابق ذكرها‪ ،‬فقد كانت الرتسانتان النوويتان اإلجنليزية والفرنسية صغريتني‬
‫من البداية وقد اخنفضتا للنصف ووصلتا إىل ‪ 215‬و‪ 300‬على التوايل (وَمنَت الرتسانة النووية الصينية قل ًيال من ‪ 235‬إىل ‪،260‬‬
‫لكل منهما‪ ،‬وتقدر ترسانة إسرائيل بـ ‪ 80‬تقريبًا‪ ،‬أما ترسانة كوريا الشمالية فغري معروفة ولكنها‬ ‫وكذلك اهلندية والباكستانية إىل ‪ٍ 135‬‬
‫صغرية)‪ ،‬وكما ذكرت‪ ،‬فال توجد دول أخرى معروف عنها أهنا تسعى حليازة األسلحة النووية‪ ،‬وقد اخنفض عدد الدول احلائزة على املواد‬
‫القابلة لالنشطار اليت ميكن تصنيع القنابل النووية منها من ‪ 50‬دولة إىل ‪ 24‬خالل اخلمسة وعشرين سنة املاضيني‪.‬‬
‫إسرائيل‬
‫الهند‬
‫باكستان‬
‫االتحاد‬
‫السوفييتي‪/‬روسيا‬ ‫المملكة المتحدة‬
‫الصين‬
‫فرنسا‬
‫الواليات المتحدة‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 1 - 1 9‬ا أل س ل ح ة ا ل ن ووي ة م ن ذ ‪ 1 9 4 5‬ح ىت ‪2 0 1 5‬‬


‫استنادا إىل بيانات من احتاد علماء الذرة ‪(the‬‬
‫ً‬ ‫المصدر‪،http://humanprogress.org/static/2927 ،HumanProgress :‬‬
‫)‪ ،Kristensen & Norris 2016a ،Federation of Atomic Scientists‬حمدث يف ‪ ،Kristensen 2016‬انظر ‪Kristensen‬‬
‫‪ & Norris 2016b‬للمزيد من التوضيح‪ .‬تُدرِج اإلحصائيات األسلحة املنصوبة واملخزنة‪ ،‬لكنَّها تستبعد األسلحة اليت خرجت من اخلدمة وسيتم تفكيكها‪.‬‬
‫ُ‬

‫بتقدم حيتوي فيه العامل على ‪ 10200‬رأس نووي‪ ،‬فكما تقول امللصقات اليت انتشرت يف الثمانينيات‪:‬‬ ‫قد ال ينبهر املتشائمون ٍ‬
‫أس نووي واحد أن يفسد يومك‪ ،‬لكن باخنفاض عدد الرؤوس النووية على الكوكب مبقدار ‪ 54000‬رأس نووي مقارنةً بعام‬ ‫ميكن لر ٍ‬
‫‪ ،1986‬تقل احتمالية وقوع احلوادث اليت قد تفسد يومك‪ ،‬ويوجد قرار ُمسبق باستمرار نزع األسلحة‪ .‬وسيتم التخلص من املزيد من‬
‫الرؤوس النووية وف ًقا لشروط املعاهدة اجلديدة للحد من األسلحة االسرتاتيجية‪ ،‬وكما ذكرت فرمبا يتم التخلص من الرؤوس النووية خارج‬
‫إطار املعاهدات املثقلة باملفاوضات القانونية واخلالفات السياسية‪ .‬وعندما يقل التوتر بني القوى العظمى‪ ،‬تُقلص ترساناهتا الباهظة يف‬
‫صمت (وهو اجتاه طويل األمد‪ ،‬حىت وإن كان معل ًقا اليوم)‪ ،‬وحىت عندما يكاد ينعدم احلوار بني املتنافسني‪ ،‬ميكنهم التعاون يف نزع‬
‫السالح عن طريق استخدام أسلوب أطلق عليه عامل اللغويات النفسية تشارلز أوزجود (‪ )Charles Osgood‬املعاملة باملثل تدرجييًّا‬
‫للحد من التوتر )‪ ،(Graduated Reciprocation in Tension-Reduction) (GRIT‬ويتنازل طب ًقا هلذا‬
‫يوما ما من أجل‬ ‫تنازال فرديًا مع دعوة علنية لبذل جهود مماثلة من الطرف اآلخر‪ .‬إذا تضافرت هذه التطورات ً‬
‫األسلوب أحد املتنافسني ً‬
‫هائل فحسب‪ ،‬وإمنا سيقضي على‬ ‫خفض عدد الرؤوس النووية إىل ‪ 200‬رأس لكل دولة‪ ،‬فلن يقلل ذلك احتمالية وقوع حادثة بقد ٍر ٍ‬
‫احتمالية حدوث شتاء نووي وهو اخلطر الوجودي احلقيقي‪.‬‬
‫ال يأيت هتديد احلرب النووية األعظم يف املستقبل القريب من عدد الرؤوس النووية املوجودة‪ ،‬وإمنا من الظروف اليت قد تؤدي إىل‬
‫كابوس حقيقي‪ ،‬وال‬
‫ٌ‬ ‫استخدامها‪ ،‬فسياسات اإلطالق مبجرد اإلنذار أو اإلطالق عند التعرض للهجوم أو إنذار حالة التأهب القصوى‬
‫يوجد جهاز إنذار ِّ‬
‫مبكر ميكنه التمييز بدقة تامة بني اإلشارة والتشويش‪ ،‬وسيكون أمام الرئيس املستيقظ على مكاملة الساعة الثالثة فجًرا‬
‫تتدمر يف مستودعاهتا‪ .‬ونظريًا‪ ،‬فرمبا يبدأ الرئيس حربًا عاملية ثالثة استجابةً‬
‫بضع دقائق ليقرر ما إذا كان سيطلق الرؤوس النووية قبل أن َّ‬
‫ولكن أجهزة اإلنذار يف احلقيقة أفضل من‬ ‫ملاس كهربائي أو لقطي ٍع من النوارس أو لبعض الربامج الضارة من تصميم مراهق بُلغاري‪َّ ،‬‬
‫ذلك‪ ،‬وال توجد حالة «تأهب قصوى» تطلق الصواريخ تلقائيًا دون تدخل بشري‪ ،‬ولكن عندما يكون من املمكن إطالق الصواريخ‬
‫خالل فرتة وجيزة كهذه‪ ،‬فمن الوارد حدوث إطالق غري مقصود أو متهور أو لسبب خادع أو بسبب إنذار كاذب‪.‬‬
‫كان السبب األساسي وراء وضع سياسة اإلطالق مبجرد اإلنذار هو إحباط الضربة األوىل للعدو اليت قد تدمر كل الصواريخ أثناء‬
‫وجودها يف مستودعاهتا ومتنع الدولة من االنتقام من العدو‪ ،‬لكن كما ذكرت‪ ،‬تستطيع الدول إطالق الصواريخ من الغواصات املوجودة‬
‫يف أعماق املياه أو من قاذفات القنابل واليت ميكن إرساهلا بسرعة هائلة مما جيعل هذه األسلحة منيعة ضد الضربة األوىل ومتأهبة لتحقيق‬
‫انتقام فادح‪ .‬ميكن أخذ قرار االنتقام أثناء النهار عند التيقن من التعرض للهجوم‪ :‬فأنت ستعرف بالتأكيد إذا انفجرت قنبلة نووية على‬
‫أراضيك‪.‬‬
‫إ ًذا فاإلطالق مبجرد اإلنذار غري ضروري للردع وخطري بشكل غري مقبول‪ ،‬ويوصي ‪-‬ال‪ ،‬بل يصر‪ -‬معظم احملللني األمنيني بأن‬
‫بات عميق‪ ،‬ويوافق على ذلك أوباما ونون وشولتز وجورج بوش‬ ‫تنزع الدول حالة التأهب القصوى عن الصواريخ النووية وتضعها يف س ٍ‬
‫ُ‬
‫االبن وروبرت ماكنمارا والعديد من القادة السابقني لقيادة القوات االسرتاتيجية ومديري وكالة األمن الوطين‪ .‬ويوصي البعض مثل ويليام‬
‫بريي بالتخلي عن اجلزء القائم على األرض من الثالوث النووي بالكامل واالعتماد على الغواصات وقاذفات القنابل يف الردع مبا َّ‬
‫أن‬
‫يرغب أي شخص أن يبقى‬ ‫ِ‬
‫الصواريخ املخزنة يف املستودعات أهداف سهلة تغري القادة باستخدامها ما دام باستطاعتهم ذلك‪ .‬ملَ قد ُ‬
‫الصواريخ النووية يف مستودعاهتا يف حالة تأهب قصوى مادام هذا جيعل مصري العامل على احملك؟ يزعم بعض امليتافيزيقيني النوويني َّ‬
‫أن‬
‫أن الصواريخ املوجودة‬‫عمال استفزازيًا‪ ،‬ويرى آخرون أنَّه مبا َّ‬
‫إعادة اإلنذار للصواريخ أثناء إحدى األزمات بعد فصل اإلنذار عنها سيكون ً‬
‫أيضا يف االنتصار يف‬
‫ألهنا ليست جمرد سالح ردع فقط وإمنا ميكن استخدامها ً‬ ‫يف املستودعات أدق وأكثر موثوقية فهي تستحق احلماية َّ‬
‫احلروب‪ ،‬ويقودنا هذا إىل طريقة أخرى لتقليل احتمالية اندالع حرب نووية‪.‬‬
‫أن دولته مستعدة الستخدام األسلحة النووية ألي سبب آخر غري ردع‬ ‫يصعب على أي شخص صاحب ضمري حي أن يعتقد َّ‬
‫مجيعا َّأهنم قد‬
‫لكن هذه هي السياسة الرمسية للواليات املتحدة واململكة املتحدة وفرنسا وروسيا وباكستان‪ ،‬فقد أعلنوا ً‬
‫هجوم نووي‪َّ ،‬‬
‫بسالح غري نووي أو تعرض أحد حلفائهم هلجوم مماثل‪َّ .‬‬
‫إن سياسة املبادرة إىل استخدام‬ ‫ٍ‬ ‫يطلقون األسلحة النووية إذا تعرضوا ٍ‬
‫هلجوم شامل‬
‫أيضا َّ‬
‫ألن الدول املعتدية بأسلحة غري نووية قد متيل إىل استخدام‬ ‫األسلحة النووية خطرية‪ ،‬ليس فقط النتهاكها مبدأ التكافؤ‪َّ ،‬‬
‫وإمنا ً‬
‫األسلحة النووية كإجراء وقائي‪ ،‬وحىت لو مل تفعل‪ ،‬فبعد تعرضها للهجوم بالسالح النووي قد ترد اهلجوم بضربة نووية‪.‬‬
‫لذا فالطريقة السليمة لتقليل خطر احلرب النووية هي إعالن سياسة عدم املبادرة إىل استخدام األسلحة النووية‪ ،‬قد يقضي ذلك‬
‫أوال‪ ،‬فلن يستخدمها أحد‪ ،‬ومن الناحية العملية‪،‬‬ ‫نظريًا على احتمالية اندالع حرب نووية هنائيًّا‪ :‬فإذا مل يستخدم أحد األسلحة النووية ً‬
‫فقد يقضي ذلك على جزء من الرغبة يف توجيه ضربة استباقية‪ .‬وميكن جلميع الدول احلائزة على أسلحة نووية االتفاق على عدم املبادرة‬
‫إىل استخدام األسلحة النووية عن طريق عقد معاهدة‪ ،‬أو ميكنهم التوصل إىل ذلك االتفاق عن طريق «املعاملة باملثل تدرجييًّا للحد من‬
‫التوترات» (مع االلتزامات املتزايدة مثل عدم استهداف املدنيني وعدم استهداف الدول غري احلائزة على أسلحة نووية وعدم اهلجوم على‬
‫أهداف ميكن تدمريها بالوسائل التقليدية) أو ميكنهم املبادرة إىل ذلك بطريقة فردية وهو ما خيدم مصاحلهم الذاتية‪ .‬وقد قلل حترمي‬
‫األسلحة النووية قيمة سياسة املبادرة باستخدامها كسالح رادع‪ ،‬وميكن للمعلن عن سياسة عدم املبادرة باستخدامها محاية نفسه بالقوى‬
‫التقليدية وبالقدرة على رد اهلجوم النووي ٍ‬
‫هبجوم مماثل‪.‬‬
‫ال حتتاج سياسة عدم املبادرة باستخدام األسلحة النووية إىل تفك ٍري‪ ،‬وقد شارف باراك أوباما على تبنيها يف عام ‪ ،2016‬ولكنَّه‬
‫أن توقيت القرار مل يكن مناسبًا‪ ،‬إذ قد يعطي القرار إشارة‬ ‫تراجع عن قراره يف اللحظة األخرية بسبب نصيحة مستشاريه الذين زعموا َّ‬
‫على الضعف أمام القوى الصاعدة اجلديدة مثل روسيا والصني وكوريا الشمالية‪ ،‬ورمبا يُفزع احللفاء املتوترين املعتمدين على «املظلة النووية»‬
‫بدال من السعي إىل تصنيع أسلحتهم النووية اخلاصة‪ ،‬خاصةً بعد هتديد دونالد ترامب بتقليص حجم‬ ‫األمريكية يف الدفاع عن أنفسهم ً‬
‫الدعم األمريكي حللفائها‪ .‬رمبا ُتف حدة هذه التوترات على املدى البعيد‪ ،‬ويُنظر يف سياسية عدم املبادرة باستخدام األسلحة النووية‬
‫مرةً أخرى‪.‬‬
‫خال من األسلحة النووية وهو عام‬ ‫وقت قريب وخاصةً يف الوقت الذي تستهدفه حركة عامل ٍ‬ ‫لن تُلغى األسلحة النووية يف أي ٍ‬
‫‪ ،2030‬قال أوباما يف خطابه يف براغ عام ‪ 2009‬أنَّنا «لن نصل إىل اهلدف بسرعة‪ ،‬ورمبا لن نصل إليه خالل حيايت» ممَّا يشري إىل‬
‫قائال‪« :‬سيحتاج األمر إىل الصرب واملثابرة»‪ ،‬وتؤكد التطورات‬
‫عدم حتققه سوى بعد عام ‪ 2055‬بفرتة (انظر الشكل رقم ‪ ،)1-5‬وأضاف ً‬
‫األخرية يف الواليات املتحدة وروسيا أنَّنا سنحتاج إىل الكثري منهما‪.‬‬
‫لكن الطريق قد ُرسم‪ ،‬فإذا استمر تفكيك الرؤوس النووية بسرعة أكرب من بنائها‪ ،‬وإذا ُرفعت حالة التأهب القصوى عنها‪ ،‬قدمت‬ ‫َّ‬
‫ضمانات بعدم املبادرة باستخدامها‪ ،‬وإذا استمر البُعد عن احلرب بني الدول‪ ،‬فقد ينتهي األمر يف النصف الثاين من القرن إىل ترسانات‬
‫نووية صغرية آمنة حمفوظة من أجل الردع فقط‪ ،‬ورمبا تُنهي أمرها بنفسها بعد ٍ‬
‫عقود قليلة‪ .‬وسريى أحفادنا األسلحة النووية مثرية للسخرية‬
‫اض سلمية إىل األبد‪ .‬ورمبا لن نصل إىل نقطة تنعدم فيها احتمالية حدوث كارثة أثناء مرحلة التفكيك‪،‬‬ ‫آنذاك‪ ،‬وسيستخدموهنا يف أغر ٍ‬
‫ولكن كل خطوة جتاه التفكيك ُُتفض اخلطورة حىت تتساوي باألخطار األخرى اليت هتدد البشرية مثل النيازك والرباكني العمالقة أو كائن‬
‫الذكاء االصطناعي الذي قد حييلنا إىل دبابيس ورق‪.‬‬
‫الفصل العشرون‪:‬‬
‫مستقبل التقدم‬

‫عاما يف‬
‫عاما‪ ،‬وقفز إىل ‪ً 81‬‬ ‫منذ انتشار التنوير يف أواخر القرن الثامن عشر‪ ،‬زاد متوسط العمر املتوقع حول العامل من ‪ 30‬إىل ‪ً 71‬‬
‫الدول األكثر حظًّا‪ .‬وعندما بدأ التنوير كان ثُلث األطفال املولودين يف أغىن مناطق العامل ميوتون قبل بلوغ عامهم اخلامس‪َّ ،‬أما اليوم‬
‫أيضا من املأساة‪ ،‬إذ كانت ‪ 1‬يف املئة من األمهات‬
‫فيلقى هذا املصري ‪ 6‬يف املئة فقط من األطفال يف أفقر مناطق العامل‪ ،‬وحتَّررت أمهاهتم ً‬
‫يف أغىن الدول ال تعيش لرتى مولودها‪ ،‬وهو ما ميثِّل ثالثة أضعاف النسبة احلالية يف أفقر الدول‪ ،‬واليت تواصل اخنفاضها‪ .‬واألمراض‬
‫القاتلة املعدية يف تراج ٍع مستمر يف تلك الدول الفقرية‪ ،‬فال يصيب بعضها سوى بضع العشرات سنويًّا‪ ،‬وهي على وشك أن تلحق‬
‫باجلدري وتنقرض‪.‬‬
‫رمبا ال يظل الفقراء معنا إىل األبد‪ ،‬فالعامل اليوم أكثر ثراء ممَّا كان عليه منذ قرنني مبقدار مئة ٍ‬
‫ضعف تقريبًا‪ ،‬وتزداد املساواة يف توزيع‬ ‫ً‬
‫الرخاء على شعوب العامل ودوله‪ ،‬واخنفضت نسبة البشر الذين يعيشون يف فق ٍر مدق ٍع من ‪ 90‬يف املئة تقريبًا إىل أقل من ‪ 10‬يف املئة‪،‬‬
‫كثريا عن البشر خالل أغلب‬ ‫وقد تصل إىل الصفر يف حياة معظم قراء هذا الكتاب‪ .‬اختفت اجملاعة الكارثية ‪-‬اليت مل ت ُكن بعيدة ً‬
‫قرن نسبة واحد‬‫خصصت الدول األغىن منذ ٍ‬ ‫تارخيهم‪-‬من أغلب أحناء العامل‪ ،‬ونقص التغذية وتوقف النمو يف تراج ٍع مستمر وثابت‪ .‬وقد َّ‬
‫يف املئة من ثرواهتا لدعم األطفال والفقراء وكبار السن‪ ،‬وتُ ِنفق اليوم حوايل ُربع تلك النسبة‪ ،‬فمعظم فقرائها اليوم حيصلون على الطعام‬
‫وامللبس واملأوى وميتلكون رفاهيات مثل اهلواتف الذكية وأجهزة تكييف اهلواء اليت مل ت ُكن من قبل متاحةً ألي شخص سواء أكان غنيًّا‬
‫فقريا‪ ،‬واخنفض مستوى الفقر بني األقليات العرقية واهنار مستوى الفقر بني املسنِّني‪.‬‬ ‫أم ً‬
‫ُمينح العامل فرصةً للسالم‪ ،‬فاحلروب بني الدول يف طريقها إىل الزوال‪ ،‬واختفت احلروب داخل الدول من مخس أسداس العامل‪.‬‬
‫وسدس ما كانت عليه يف‬ ‫وتبلغ نسبة األشخاص الذين تقتلهم احلروب سنويًّا حوايل ُربع ما كانت عليه يف مثانينيات القرن العشرين‪ُ ،‬‬
‫أوائل سبعينياته‪ ،‬وستة عشر جزءًا ممَّا كانت عليه يف أوائل مخسينياته‪ ،‬ونصف نسبة مئوية مما كانت عليه خالل احلرب العاملية الثانية‪.‬‬
‫وأصبحت محالت اإلبادة العرقية اليت كانت شائعة يف السابق نادرةً‪ .‬تتسبَّب جرائم القتل يف قتل ٍ‬
‫عدد من الناس أكرب ممَّا تقتله منهم‬
‫تعرض األمريكي للقتل نصف ما كانت عليه‬ ‫أيضا‪ ،‬فاحتمالية ُّ‬ ‫ٍ‬
‫اخنفاض ً‬ ‫احلروب يف أغلب األزمنة واألماكن‪ ،‬ومعدالت جرائم القتل يف‬
‫عاما‪.‬‬
‫تعرض املرء للقتل يف أي مكان يف العامل أقل مبقدار سبعة من عشرة ممَّا كانت عليه منذ عشرين ً‬ ‫منذ حوايل ربع قرن‪ ،‬واحتمالية ُّ‬
‫يقة ممكنة‪ ،‬وعلى مدار القرن العشرين أصبحت احتمالية مقتل الشخص األمريكي نتيجة حادث سيارة‬ ‫تزداد احلياة أمانًا بكل طر ٍ‬
‫تعرضه للدهس على الرصيف أقل بنسبة ‪ 88‬يف املئة‪ ،‬واحتمالية وفاته يف حادث حتطم طائرة أقل‬ ‫أقل بنسبة ‪ 96‬يف املئة‪ ،‬واحتمالية ُّ‬
‫بنسبة ‪ 99‬يف املئة‪ ،‬واحتمالية موته نتيجة سقوطه أقل بنسبة ‪ 59‬يف املئة‪ ،‬واحتمالية موته نتيجة حر ٍيق أقل بنسبة ‪ 92‬يف املئة‪ ،‬واحتمالية‬
‫غرقه أقل بنسبة ‪ 90‬يف املئة‪ ،‬واحتمالية موته باالختناق أقل بنسبة ‪ 92‬يف املئة‪ ،‬واحتمالية موته أثناء تأدية وظيفته أقل بنسبة ‪ 95‬يف‬
‫املئة‪ .‬واحلياة يف الدول الغنية األخرى أكثر أمانًا‪ ،‬وستزداد احلياة يف الدول الفقرية أمانًا عندما تزداد غىن‪.‬‬
‫دول دميقراطية سوى حفنة من الدول‬
‫أيضا‪ ،‬فمنذ قرنني مل ت ُكن هناك ٌ‬
‫ال يزداد الناس صحةً وغىن وأمانًا فحسب‪ ،‬بل يزدادون حريةً ً‬
‫وقت قريب‪ ،‬كانت‬ ‫احدا يف املئة من سكان العامل‪َّ ،‬أما اليوم فثُلثا دول العامل اليت تشمل ثُلثي سكان العامل دميقراطية‪ .‬وحىت ٍ‬
‫اليت تشمل و ً‬
‫تفضل أقلياهتا أكثر من الدول اليت متيِّز ضد‬
‫يف نصف دول العامل قوانني متيِّز ضد األقليات العرقية‪َّ ،‬أما اليوم فالدول اليت لديها سياسات ِّ‬
‫دولة واحدة‪َّ ،‬أما اليوم فيمكنهن التصويت يف كل‬‫هذه األقليات‪ .‬مل ي ُكن باستطاعة النساء التصويت يف مطلع القرن العشرين سوى يف ٍ‬
‫جترم املثلية اجلنسية‪ ،‬وتزداد املواقف من األقليات‬
‫الدول اليت ميكن للرجال التصويت فيها عدا دولة واحدة‪ .‬ويتواصل إلغاء القوانني اليت ِّ‬
‫والنساء واملثليني تساحمًا ٍ‬
‫مبعدل ثابت‪ ،‬وخاصةً بني الشباب‪ ،‬وهو ما يبشِّر خب ٍري ملستقبل العامل‪ ،‬وجرائم الكراهية والعنف ضد النساء وإيذاء‬
‫األطفال يف تراج ٍع كبري وطويل األمد‪ ،‬وكذلك استغالل األطفال يف العمالة‪.‬‬
‫تعليما ومعرفةً وذكاءً‪ ،‬ففي أوائل القرن التاسع عشر‪ ،‬مل ي ُكن سوى ‪12‬‬
‫أيضا ً‬ ‫ومع ازدياد الناس صحةً وغىن وأمانًا وحريةً‪ ،‬يزدادون ً‬
‫يف املئة من سكان العامل يستطيعون القراءة والكتابة‪َّ ،‬أما اليوم فـ ‪ 83‬يف املئة منهم يستطيعون ذلك‪ ،‬وقريبًا ستكون املعرفة بالقراءة‬
‫نطاق عاملي للفتيات كما للفتيان‪ .‬جيعلنا التعليم‪ ،‬إىل جانب الصحة‬‫والكتابة‪ ،‬والتعليم الذي ُمت ِّكن هذه املعرفة املرء منه‪ ،‬متاحةً على ٍ‬
‫والثروة‪ ،‬أذكى حرفيًّا من أسالفنا مبقدار ثالثني نقطة من معدل الذكاء أو احنرافني معياريني‪.‬‬
‫يستغل الناس حياهتم األطول واألكثر صحةً وأمانًا وحريةً وغىن وحكمةً على حن ٍو جيد‪ ،‬فيعمل املواطن األمريكي يف األسبوع وقتًا‬
‫أقل من السابق مبقدار ‪ 22‬ساعة‪ ،‬وحيصل على ثالثة أسابيع من العطلة املدفوعة‪ ،‬ويفقد وقتًا أقل من حياته يف أداء املهام املنزلية مبقدار‬
‫بدال من مخسة أمثانه‪ ،‬ويستغل وقت فراغه ودخله املتاح لإلنفاق يف السفر‪،‬‬ ‫‪ 43‬ساعة‪ ،‬وال يُ ِنفق على الضروريات سوى ثُلث راتبه ً‬
‫وجيرب أكالت عاملية‪ ،‬وخيترب معارف وثقافات من خمتلف أحناء العامل‪ .‬نتيجةً هلذه النِ َعم‪،‬‬ ‫ويقضي وقته مع أطفاله‪ ،‬ويتواصل مع أحبائه‪ِّ ،‬‬
‫أصبح الناس على مستوى العامل أسعد‪ ،‬وحىت األمريكيني الذين يعتربون حظَّهم اجليد مسلَّ ًما به «سعداء جدًّا» أو أسعد‪ ،‬وتصبح‬
‫وميال لالنتحار‪.‬‬
‫املخدرات ً‬
‫األجيال األصغر أقل تعاسةً ووحد ًة واكتئابًا وإدمانًا على ِّ‬
‫عندما أصبحت اجملتمعات تتمتَّع باملزيد من الصحة والثروة واحلرية والسعادة والتعليم األفضل‪ ،‬وضعت نصب أعينها التحديات‬
‫وخصصت املزيد من‬ ‫وسربت كميات أقل من النفط َّ‬ ‫امللوثات وأزالت غابات أقل َّ‬ ‫إحلاحا‪ ،‬فأصدرت انبعاثات أقل من ِّ‬
‫العاملية األكثر ً‬
‫عدد أقل من أنواع احليوانات وغريها‪ ،‬وأنقذت طبقة األوزون‪ ،‬ووصلت إىل ذروة استخدامها من النفط واألراضي‬ ‫احملميات وقضت على ٍ‬
‫توصلت إىل ٍ‬
‫اتفاق تارخيي على‬ ‫الزراعية واخلشب والورق والسيارات والفحم ورمبا حىت الكربون‪ .‬رغم كل اختالفات دول العامل‪َّ ،‬إال َّأهنا َّ‬
‫التغري املناخي‪ ،‬كما حدث يف السنوات املاضية فيما خيص االختبارات النووية وانتشار األسلحة النووية واألمن النووي ونزع األسلحة‬
‫عاما منذ صناعتها منذ الظروف االستثنائية يف األيام األخرية يف احلرب العاملية‬ ‫ستخدم األسلحة النووية خالل االثنني وسبعني ً‬
‫النووية‪ .‬مل تُ َ‬
‫عاما‪ ،‬واخنفضت خمزونات العامل النووية بنسبة ‪ 85‬يف‬ ‫الثانية‪ .‬مل حيدث أي إرهاب نووي على عكس توقُّعات اخلرباء على مدار أربعني ً‬
‫املئة‪ ،‬وما زال هناك املزيد من االخنفاض يف املستقبل‪ ،‬وتوقَّفت االختبارات (فيما عدا ما يقوم به النظام املارق يف بيونج يانج) َّ‬
‫وجتمد‬
‫إحلاحا يف العامل ‪-‬رغم عدم حلِّهما بعد‪-‬قابلتان للحل‪ ،‬إذ ُو ِضعت أجندات عملية‬ ‫انتشار األسلحة النووية‪ .‬إ ًذا فاملشكلتان األكثر ً‬
‫طويلة األمد للتخلُّص من األسلحة النووية وُتفيف حدة التغري املناخي‪.‬‬
‫رغم كل عناوين األخبار الدموية‪ ،‬ورغم كل األزمات واالهنيارات والفضائح واألمراض املتفشية واألوبئة واألخطار الوجودية‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن‬
‫هذه اإلجنازات تستحق أن نستمتع هبا‪ .‬لقد جنح التنوير؛ إذ استخدم الناس على مدار قرنني ونصف املعرفة يف تعزيز ازدهار البشرية‪،‬‬
‫وسخر املخرتعون قوانني الطبيعة لتحدي اإلنرتوبيا‪ ،‬وجعل رواد األعمال ابتكاراهتم‬ ‫وكشف العلماء طرق عمل املادة واحلياة والعقل‪َّ ،‬‬
‫ميسورة التكلفة‪ ،‬وجعل واضعو القانون األشخاص أفضل عرب ثنيهم عن األفعال املفيدة للفرد وحده ولكنَّها ضارة باجلميع‪ ،‬و َّأدى‬
‫الدبلوماسيون الدور نفسه مع الدول‪ .‬وخلَّد الباحثون كنز املعرفة ومنوا قوة العقل املنطقي‪َّ ،‬‬
‫ووسع الفنَّانون دائرة التعاطف‪ ،‬وضغط النشطاء‬
‫حتولت كل‬ ‫على أصحاب السلطة من أجل إبطال املمارسات القمعية‪ ،‬وضغطوا على املواطنني اآلخرين من أجل تغيري األعراف القمعية‪َّ .‬‬
‫هذه اجلهود إىل مؤسسات أتاحت لنا التحايل على عيوب الطبيعة البشرية ومتكني جوانبنا املالئكية‪.‬‬
‫ويف الوقت نفسه‪..‬‬

‫شخص يف العامل اليوم يف فق ٍر مدقع‪ ،‬ومتوسط العمر املتوقع يف املناطق اليت يتمركزون فيها أقل من ‪ً 60‬‬
‫عاما‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يعيش سبعمئة مليون‬
‫طفل سنويًّا تقريبًا جراء االلتهاب الرئوي‪ ،‬ونصف مليون جراء‬‫ويعاين ُربع هؤالء األشخاص تقريبًا من نقص التغذية‪ .‬كما ميوت مليون ٍ‬
‫ٍ‬
‫حروب حمتدمة يف العامل‪ ،‬تشمل حربًا مات فيها‬ ‫اإلسهال أو املالريا‪ ،‬ومئات اآلالف جراء احلصبة واإليدز‪ .‬توجد اآلن أكثر من عشر‬
‫شخص على األقل يف مذابح إبادةٍ مجاعية يف عام ‪ .2015‬يعيش أكثر من‬ ‫ٍ‬ ‫شخص‪ ،‬وقُتِل عشرة آالف‬
‫ٍ‬ ‫أكثر من مئتني ومخسني ألف‬
‫دول أوتوقراطية‪ ،‬ويفتقر ُمخس سكان العامل تقريبًا إىل التعليم األساسي‪،‬‬‫شخص ‪-‬أي حوايل ثُلث البشرية‪ -‬يف قم ٍع يف ظل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ملياري‬
‫شخص‪ ،‬ويعاين ‪300‬‬‫ٍ‬ ‫ويتعرض للقتل أكثر من ‪ 400‬ألف‬ ‫ادث‪َّ ،‬‬ ‫شخص سنويًّا يف حو ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وسدسهم تقريبًا ِّأميون‪ .‬وميوت مخسة ماليني‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫مليون شخص تقريبًا من االكتئاب السريري‪ ،‬سيموت منهم ‪ 800‬ألف تقريبًا هذا العام منتحرين‪.‬‬
‫الدنيا ارتفاع دخلها بأقل من ‪ 10‬يف‬‫ليست الدول الغنية يف العامل املتقدِّم منيعةً ضد هذه األمور‪ ،‬إذ شهدت الطبقات املتوسطة ُ‬
‫أن على املرأة العودة إىل أدوارها التقليدية‪ ،‬ويعارض عُشرهم تواعُد شخصني‬ ‫املئة خالل عقدين‪ .‬وما زال ُمخس َّ‬
‫سكان أمريكا يعتقدون َّ‬
‫من أعر ٍاق خمتلفة‪ ،‬وتعاين أمريكا من وقوع أكثر من ثالثة آالف جرمية كراهية سنويًّا‪ ،‬وأكثر من مخسة عشر ألف جرمية قتل‪ .‬يفقد‬
‫ٍ‬
‫استعجال دائم‪ ،‬ويُنكر أكثر من ثلثي األمريكيني َّأهنم سعداء‬ ‫األمريكيون ساعتني يوميًّا يف قضاء األعمال املنزلية‪ ،‬ويشعر ربعهم َّ‬
‫بأهنم يف‬ ‫ُ‬
‫عاما‪ ،‬وازدادت تعاسة النساء والفئات العمرية الدميوغرافية الكربى مبرور الوقت‪ ،‬إذ يصبح‬
‫جدًّا‪ ،‬بنفس نسبة سعادهتم تقريبًا منذ سبعني ً‬
‫ٍ‬
‫لدرجة يائسة جتعلهم يقتلون أنفسهم‪.‬‬ ‫حوايل ‪ 14‬ألف أمريك ٍي كل عام تعساء‬
‫شخص آخرين قبل‬‫ٍ‬ ‫إن املشكالت اليت تواجه الكوكب بأكمله جسيمة بالطبع‪ ،‬إذ سيكون على هذا الكوكب استضافة ملياري‬ ‫َّ‬
‫هناية هذا القرن‪ ،‬واقتُطع مئة مليون هكتار من الغابات االستوائية خالل العقد املاضي‪ ،‬واخنفضت نسبة األمساك البحرية مبقدار ‪ 40‬يف‬
‫املئة تقريبًا‪ ،‬وآالف األنواع مهدَّدة باالنقراض‪ .‬يستمر انبعاث أول أكسيد الكربون وثاين أكسيد الكربيت وأكاسيد النيرتوجني واملواد‬
‫طن من ثاين أكسيد الكربون كل عام‪ ،‬وهو ما يهدِّد ‪-‬يف حالة تركه دون رقابة‪ -‬برفع درجات‬
‫اجلسيمية يف اجلو‪ ،‬إضافةً إىل ‪ 38‬مليار ٍّ‬
‫احلرارة العاملية مبقدار درجتني إىل أربع درجات مئوية‪ ،‬وميتلك العامل أكثر من عشرة آالف سالح نووي ُموزعة على تسع دول‪.‬‬
‫إن احلقائق املذكورة يف الفقرات الثالثة السابقة هي نفسها بالطبع املذكورة يف أول سبع فقرات‪ ،‬ما فعلته ببساطة هو أنَّين قرأت‬
‫بدال من الطرف اإلجيايب منها‪ ،‬أو طرحت النسب املتفائلة من ‪ .100‬وليس هديف من عرض وضع‬ ‫األرقام من الطرف السليب للمقاييس ً‬
‫أن بإمكاين الرتكيز على النصف الفارغ من الكوب إىل جانب النصف املمتلئ‪َّ ،‬‬
‫وإمنا هو التأكيد على أ َّن‬ ‫العامل هباتني الطريقتني إظهار َّ‬
‫أيضا‪ .-‬إذا استطعنا مواصلة االجتاهات املذكورة يف‬ ‫التقدُّم ليس يوتوبيا‪ ،‬و َّ‬
‫أن أمامنا مساحة للسعي وراء مواصلة التقدُّم ‪-‬بل التزام بذلك ً‬
‫السبع فقرات األوىل عرب نشر املعرفة من أجل تعزيز االزدهار‪ ،‬ال بد وأن تنخفض األرقام املذكورة يف الثالث فقرات األخرية‪ ،‬وإن كان‬
‫وصوال إىل الصفر ضعيفة (حل هذه املشاكل بالكامل) فيمكننا أن نقلق بشأن ذلك عندما نقرتب إىل‬ ‫احتمالية اخنفاض هذه األرقام ً‬
‫الصفر أكثر‪ ،‬فحىت إذا وصلت بعض األرقام إىل الصفر بالفعل‪ ،‬فسنكتشف بالتأكيد املزيد من األضرار اليت علينا تداركها وطرقًا جديدة‬
‫إلثراء التجربة البشرية‪ ،‬فالتنوير عملية متواصلة من االكتشافات والتحسينات‪.‬‬
‫ما مدى منطقية األمل يف التقدُّم املتواصل؟ هذا هو السؤال الذي سأنظر فيه يف الفصل األخري يف قسم التقدُّم قبل أن أنتقل يف‬
‫بقية الكتاب إىل املثُل الضرورية لتحقيق هذا األمل‪.‬‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫سأبدأ بقضية الدفاع عن التقدُّم املتواصل‪ .‬بدأنا الكتاب بتفسري إلمكانية التقدُّم دون روحانية ودون تأريخ مييين يقول حبتمية التقدُّم ودون‬
‫أن الثورة العلمية والتنوير أطلقا عملية استخدام املعرفة يف حتسني احلالة البشرية‪ .‬كان من املمكن أن‬ ‫تفاؤٍل ساذج‪ ،‬وهذا التفسري هو َّ‬
‫معقوال‪ ،‬ولكن بعد أكثر من قرنني ميكننا أن نقول إنَّه قد جنح بالفعل‪:‬‬‫أبدا» ويكون كالمهم ً‬ ‫املتشككون آنذاك‪« :‬لن ينجح هذا ً‬ ‫ِّ‬ ‫يقول‬
‫يتحسن هبا العامل‪.‬‬
‫إذ رأينا أكثر من سبعني رمسًا بيانيًّا تربر األمل يف التقدُّم عرب رسم الطرق اليت ميكن أن َّ‬
‫ابح‬ ‫توضح األمور اجليدة يف ٍ‬
‫أوقات خمتلفة باجتاه اليمني واألعلى بصورةٍ تلقائية‪َّ ،‬‬
‫ولكن هذا رها ٌن ر ٌ‬ ‫ال ميكن استقراء اخلطوط اليت ِّ‬
‫أن مبانينا أكثر قابلية لالشتعال‪ ،‬أو َّ‬
‫أن الناس غريوا‬ ‫يف العديد من الرسوم البيانية‪ .‬من املستبعد أن نستيقظ يف صباح أحد األيام وجند َّ‬
‫رأيهم يف التواعد بني األعراق املختلفة‪ ،‬أو يف احتفاظ املعلِّمني املثليني جنسيًّا بوظائفهم‪ .‬ومن املستبعد أن تغلق الدول النامية مدارسها‬
‫وعياداهتا الطبية أو تتوقَّف عن بناء مدارس وعيادات جديدة َّ‬
‫ألهنا بدأت تتمتَّع بثمار هذه املؤسسات‪.‬‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫مشكالت جديدة‪،‬‬ ‫ستمثِّل التغيريات اليت حتدث يف نطاق الصحافة الزمين دائما بالتأكيد ار ٍ‬
‫تفاعات واخنفاضات‪ ،‬فاحللول ُتلق‬ ‫ً‬
‫واليت بدورها تستغرق وقتًا يف احلل‪ ،‬ولكن عندما نقف على أرجلنا بعد هذه احلركات املفاجئة واالنتكاسات‪ ،‬نرى َّ‬
‫أن املؤشرات على‬
‫التقدُّم البشري تراكمية‪ ،‬فهي ليست دورية ذات مكاسب تلغيها اخلسائر ال حمالة‪.‬‬
‫حتمل تكلفة محاية البيئة أكثر ويفرض النظام‬
‫أن التحسينات تُبىن بعضها على بعض‪ ،‬فالعامل األغىن سيستطيع ُّ‬ ‫واألمر األفضل هو َّ‬
‫ويدعم شبكات األمان االجتماعي فيه ويعلِّم مواطنيه ويعاجلهم‪ ،‬والعامل األكثر تو ً‬
‫اصال وذو التعليم األفضل يهتم بالبيئة‬ ‫على عصاباته ِّ‬
‫أكثر وال يطلق العنان للحكام االستبداديني بنفس القدر ويشن حروبًا أقل‪.‬‬
‫وقعا أسرع‪ ،‬فما زال قانون شتاين ميتثل لالزمة دافيس‬ ‫ليس على التطورات التكنولوجية اليت دفعت هذا التقدُّم سوى أن تتخذ ً‬
‫كثريا ممَّا تظن)‪ ،‬وكلٌّ من علم اجلينوم واألحياء الرتكيبية‬ ‫ٍ‬
‫(األشياء اليت ال ميكن أن تستمر إىل األبد‪ ،‬ميكنها أن تستمر إىل وقت أطول ً‬
‫أن اندثار األمراض‬‫وعلم األعصاب والذكاء االصطناعي وعلم املواد وعلم البيانات وحتليل السياسات املستند إىل األدلة يف ازدها ٍر‪ .‬نعرف َّ‬
‫ولكن التقدُّم‬
‫التنكسية فهي مستعصية أكثر‪َّ ،‬‬ ‫ماض‪َّ ،‬أما األمراض املزمنة و ُّ‬
‫املعدية ممكن‪ ،‬وكثريٌ من األمراض من املقرر إهناؤها وحتويلها إىل ٍ‬
‫اض أخرى منها (مثل الزهامير)‪.‬‬ ‫املتزايد يف كث ٍري منها (مثل السرطان) يتسارع‪ ،‬ومن احملتمل حدوث طفرات يف أمر ٍ‬

‫أن العادات اهلمجية ال ميكن احلد منها فحسب‪ ،‬بل ميكن إلغاؤها‬ ‫وكذلك الوضع فيما خيص التقدُّم األخالقي‪ ،‬إذ خيربنا التاريخ َّ‬
‫أساسا‪ ،‬لتبقى على األكثر يف بضع مناطق نائية قابعة يف ظالم اجلهل‪ .‬ال يتوقَّع حىت أكثر الناس قل ًقا عودة التضحية بالبشر كقر ٍ‬
‫بان‪ ،‬أو‬ ‫ً‬
‫أكل حلوم البشر‪ ،‬أو اخلصي‪ ،‬أو احلرمي‪ ،‬أو العبودية‪ ،‬أو املبارزة‪ ،‬أو التناحر بني العائالت‪ ،‬أو ربط القدم‪ ،‬أو حرق الزنادقة‪ ،‬أو غمس‬
‫الرضَّع‪ ،‬أو عروض املسوخ‪ ،‬أو السخرية من اجملاذيب‪ .‬يف حني ال ميكننا التنبؤ بالطقوس‬ ‫الساحرات‪ ،‬أو التعذيب واإلعدام العلين‪ ،‬أو وأد ُ‬
‫أن عقوبة اإلعدام‪ ،‬وجترمي املثلية اجلنسية‪ ،‬واختصاص‬‫اهلمجية احلالية اليت سيكون مصريها كمصري مزادات العبيد ورسوم اإلميان‪َّ ،‬إال َّ‬
‫الذكور فقط بالتصويت والتعليم‪ ،‬يف طريقهما إىل هذا املصري‪ ،‬ومن يعرف ما إذا كان سيلحق هبا بعد بضع ٍ‬
‫عقود تشويه األعضاء اجلنسية‬
‫لإلناث‪ ،‬وجرائم الشرف‪ ،‬وعمالة األطفال‪ ،‬وزواج القاصرات‪ ،‬واألنظمة الشمولية‪ ،‬واألسلحة النووية‪ ،‬واحلروب بني الدول؟‬
‫ٍ‬
‫سياسات‬ ‫بعض اآلفات األخرى أصعب يف استئصاهلا َّ‬
‫ألهنا تعتمد على سلوك مليارات األفراد بكل وصماهتم البشرية‪ ،‬وليس على‬
‫دول بأكملها يف خطوةٍ واحدة‪ ،‬ولكن حىت إذا مل ُمت َح هذه اآلفات من على وجه األرض‪ ،‬فيمكن ِّ‬
‫احلد منها أكثر‪ ،‬ويشمل ذلك‬ ‫تتبنَّاها ٌ‬
‫العنف ضد النساء واألطفال‪ ،‬وجرائم الكراهية‪ ،‬واحلروب األهلية‪ ،‬وجرائم القتل‪.‬‬
‫طموحا مشرقًا‪ ،‬بل هي رؤية املستقبل ذات اجلذور‬ ‫ً‬ ‫ساذجا وال‬
‫ً‬ ‫خجل َّ‬
‫ألهنا ليست حلم يقظة‬ ‫أعرض هذه الرؤية املتفائلة دون ٍ‬
‫تأمل توماس‬ ‫أن ما حدث بالفعل سيواصل احلدوث‪ .‬كما َّ‬ ‫الواقعية التارخيية‪ ،‬اليت تدعمها احلقائق القاسية‪ ،‬وال تعتمد سوى على احتمالية َّ‬
‫بأن اجملتمع قد وصل إىل نقطة ٍ‬
‫حتول‪،‬‬ ‫قائال‪« :‬ال ميكننا إثبات خطأ من خيربوننا َّ‬
‫ماكويل (‪ )Thomas Macaulay‬يف عام ‪ً 1830‬‬
‫أيضا‪ ،‬وكان لديهم نفس املنطق الواضح تقريبًا‪..‬على أي مبدأ يستند التوقُّع‬
‫ولكن هذا ما قاله السابقون ً‬
‫بأن أفضل أيامنا قد مضت‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫التحسن؟»‬
‫ُّ‬ ‫بأنَّه ليس أمامنا سوى االضمحالل يف حني ال نرى خلفنا سوى‬
‫ٍ‬
‫إجابات على سؤال ماكويل الذي تنبَّأ بنهاية كارثية لكل ذلك التقدُّم يف صورة التغري‬ ‫استعرضت يف الفصلني العاشر واحلادي عشر‬ ‫ُ‬
‫املناخي واحلرب النووية وأخطار وجودية أخرى‪ ،‬ويف بقية هذا الفصل سأنظر يف تطورين يف القرن احلادي والعشرين مل يصال إىل حد‬
‫أن أفضل أيامنا قد مضت‪.‬‬ ‫الكارثة العاملية‪ ،‬ولكنَّهما ما زاال يشريان يف نظر بعض الناس إىل َّ‬
‫أول غمامة تُنذ ٍر باخلطر هي الركود االقتصادي‪ ،‬فكما ذكر الكاتب لوجان بريسال مسيث )‪:(Logan Pearsall Smith‬‬
‫نفعا»‪ .‬ال توفِّر الثروة األشياء الواضحة اليت يستطيع املال‬
‫«قليلةٌ هي اهلموم ‪-‬مهما كانت شدهتا‪ -‬اليت ال جيدي معها الدخل اجليد ً‬
‫أيضا خريات روحانية على املدى الطويل مثل السالم واحلرية وحقوق‬ ‫شراءها كالتغذية والصحة والتعليم واألمان فحسب‪ ،‬بل توفِّر ً‬
‫اإلنسان والسعادة واحلماية البيئية وقي ٍم سامية أخرى‪.‬‬
‫آذنت الثورة الصناعية بأكثر من قرنني من النمو االقتصادي‪ ،‬وخاصةً خالل الفرتة بني احلرب العاملية الثانية وأوائل السبعينيات‬
‫عندما منا نصيب الفرد من الناتج العاملي اإلمجايل مبعدل حوايل ‪ 3.4‬يف املئة سنويًّا‪ ،‬متضاع ًفا كل عشرين سنة‪َّ .‬‬
‫حذر املتشائمون البيئيون‬
‫ويلوث الكوكب‪ ،‬ولكن يف القرن احلادي والعشرين‬ ‫أن النمو االقتصادي غري مستدام ألنَّه يستنزف املوارد ِّ‬‫يف أواخر القرن العشرين من َّ‬
‫أن املستقبل ال يعد بالكثري جدًّا من النمو االقتصادي بل بالقليل جدًّا‪ ،‬إذ هبط املعدَّل السنوي للنمو منذ‬ ‫أثريت املخاوف املضادة‪َّ ،‬‬
‫وصوال إىل حوايل ‪ 1.4‬يف املئة‪ .‬يتحدَّد النمو على املدى البعيد غالبًا باإلنتاجية‪ ،‬أي‬
‫أوائل سبعينيات القرن املاضي بأكثر من النصف‪ً ،‬‬
‫قيمة السلع واخلدمات اليت تستطيع الدولة إنتاجها لكل دوال ٍر استثماري وساعة عمل للفرد‪ ،‬وتعتمد اإلنتاجية بدورها على التطور‬
‫التكنولوجي‪ :‬مهارات العمال يف الدولة وكفاءة آالهتا وإدارهتا وبنيتها التحتية‪ .‬منت اإلنتاجية يف الواليات املتحدة منذ أربعينيات القرن‬
‫عاما‪ ،‬ومنت منذ ذلك احلني مبعدل‬ ‫ٍ‬
‫املاضي حىت ستينياته مبعدل سنوي حوايل ‪ 2‬يف املئة‪ ،‬وهو ما يضاعف اإلنتاجية كل مخسة وثالثني ً‬
‫قرن لتتضاعف‪.‬‬‫‪ 0.6‬يف املئة وهو ما يستلزم أكثر من ٍ‬

‫خيشى بعض االقتصاديني أن تكون معدالت النمو املنخفضة هي الوضع العادي اجلديد‪ .‬وف ًقا لـ «فرضية الركود املزمن اجلديدة»‬
‫اليت حلَّلها لورانس سامرز (‪ )Lawrence Summers‬فإنَّه حىت تلك املعدَّالت الزهيدة ال ميكن احلفاظ عليها (باالقرتان مع معدل‬
‫البطالة املنخفض) سوى إذا حدَّدت البنوك املركزية أسعار الفائدة عند صفر أو قيم سلبية‪ ،‬وهو ما قد يؤدي إىل عدم استقرا ٍر مايل‬
‫أغلب األشخاص من أصحاب الدخل الثابت أو املتدين‬ ‫ٍ‬
‫كود املزمن َ‬
‫ومشاكل أخرى‪ .‬يف فرتة تقل فيها املساواة يف الدخول‪ ،‬قد جيعل الر ُ‬
‫يف املستقبل املنظور‪ ،‬وإذا توقفَّت االقتصادات عن النمو‪ ،‬فقد يصبح الوضع شديد السوء‪.‬‬
‫ال أحد يعلم حقًّا سبب تراخي منو اإلنتاجية يف أوائل السبعينيات وال كيفية إعادته ملستواه‪ ،‬يشري بعض االقتصاديني‪ ،‬مثل روبرت‬
‫جوردن (‪ )Robert Gordon‬يف كتابه صعود وانهيار النمو األمريكي ( ‪The Rise and Fall of American‬‬
‫)‪ ،Growth‬إىل قوى معاكسة دميوغرافية واقتصادية كلية‪ ،‬مثل إعالة عدد أقل من العاملني ً‬
‫عددا أكرب من املتقاعدين‪ ،‬وتوقُّف توسيع‬
‫نقطة معينة‪ ،‬وارتفاع الدين احلكومي‪ ،‬واخنفاض املساواة (وهو ما يضعِف الطلب على السلع واخلدمات َّ‬
‫ألن األغنياء ينفقون‬ ‫التعليم عند ٍ‬
‫أن مرحلة اخرتاع االخرتاعات اليت ُحت ِدث حتوالت جذرية رمبا تكون قد انتهت‬ ‫من دخلهم نسبةً أقل مما يفعل الفقراء)‪ .‬ويضيف جوردن َّ‬
‫باحملرك‪،‬‬
‫بالفعل‪ ،‬فالنصف األول من القرن العشرين أحدث ثورة يف املنازل بالكهرباء واملياه والصرف الصحي واهلواتف واألجهزة اليت تعمل ِّ‬
‫تتغري املنازل بقد ٍر مشابه منذ ذلك احلني‪ ،‬فمرحاض الشطف اإللكرتوين ذي املقعد املدفَّأ لطيف‪ ،‬ولكنَّه ال يشبه االنتقال من املرحاض‬
‫ومل َّ‬
‫اخلارجي إىل املرحاض الدافق للمياه‪.‬‬
‫أن أمريكا فقدت قواها السحرية‪ ،‬فلم ُيعد العاملون يف املناطق املصابة بالكساد يرحلون إىل مناطق‬ ‫تفسري آخر ثقايف‪ ،‬وهو َّ‬
‫وهناك ٌ‬
‫وإمنا أصبحوا حيصدون مبالغ التأمني ضد اإلعاقة وخيرجون من سوق العمل‪ .‬مينع مبدأ الوقاية أي شخص من جتربة أي شيء‬ ‫حيوية َّ‬
‫املؤسسات‬
‫كثريا جدًّا من االستثمارات مقيَّدة يف «رأمسال رمادي» يسيطر عليه مديرو َّ‬ ‫للمرة األوىل‪ .‬فقدت الرأمسالية كل الرأمساليني‪َّ ،‬‬
‫ألن ً‬
‫الذين يسعون وراء عوائد آمنة للمتقاعدين‪ ،‬والشباب الطموحون يريدون أن يصبحوا فنَّانني ومهنيني ال َّرواد أعمال‪ ،‬ومل ُيعد املستثمرون‬
‫تعبريا عن حسرته‪« :‬أردنا سيارات طائرة‪،‬‬ ‫واحلكومات يدعمون األفكار اخلالقة‪ ،‬فكما قال رائد األعمال بيرت ثيل (‪ً )Peter Thiel‬‬
‫بدال من ذلك على ‪ 140‬حرفًا»‪.‬‬ ‫فحصلنا ً‬
‫خطًرا أمام صنَّاع السياسات يف‬‫ويشكل حتديا ِ‬
‫مهما كانت أسباب الركود االقتصادي‪ ،‬فهو يف صميم العديد من املشاكل األخرى ِّ‬
‫ً‬
‫فأوال‪ :‬النمو األبطأ ممَّا‬
‫قائما ولكنَّه انتهى اآلن؟ هذا مستبعد! ً‬
‫أن التقدُّم كان لطي ًفا عندما كان ً‬ ‫القرن احلادي والعشرين‪ .‬هل يعين ذلك َّ‬
‫مطردا‪ ،‬زاد الناتج العاملي اإلمجايل يف إحدى ومخسني سنة من السنوات اخلمسة‬ ‫منوا ً‬ ‫منوا‪ ،‬بل ً‬
‫كان خالل أيام اجملد اليت تلت احلرب مازال ً‬
‫سنة من تلك اإلحدى ومخسني سنة (مبا يشمل السنوات الستة املاضية) أغىن من‬ ‫أن العامل أصبح يف كل ٍ‬ ‫واخلمسني املاضية‪ ،‬ممَّا يعين َّ‬
‫ُّما‬
‫ُّما أكثر تقد ً‬ ‫أن الركود املزمن يُعد من مشاكل العامل األول بصورةٍ كبرية‪ ،‬فرغم َّ‬
‫أن حماولة جعل أكثر الدول تقد ً‬ ‫السنة السابقة‪ .‬إضافةً إىل َّ‬
‫تتبىن أفضل‬ ‫ٍ‬
‫مبعدالت أعلى إذ َّ‬ ‫ُّما ما زال أمامها الكثري لتلحق هبا‪ ،‬وهي تنمو‬ ‫هائال‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن الدول األقل تقد ً‬ ‫عاما تلو اآلخر ميثِّل حتديًا ً‬
‫ً‬
‫املمارسات اليت تتبعها الدول األغىن (الفصل الثامن)‪ .‬التقدُّم املستمر األكرب اليوم يف العامل هو خروج مليارات األشخاص من الفقر‬
‫املدقع‪ ،‬وال ينبغي أن تضع الوعكات األمريكية واألوروبية سق ًفا هلذا االرتقاء‪.‬‬
‫يتسلَّل منو اإلنتاجية املدفوع بالتكنولوجيا ليفاجئ العامل بطريقته املميزة‪ ،‬وتستغرق معرفة الناس كيف يستغلون التكنولوجيا اجلديدة‬
‫على أفضل وجه فرتةً من الزمن‪ ،‬وحتتاج الصناعات وقتًا إلعادة جتهيز املصانع باملعدات وإعادة تنظيم املمارسات وف ًقا هلذه التكنولوجيا‪.‬‬
‫ولكن مالحظة االقتصاديني لالنتعاش الذي كان‬ ‫بارزا على ذلك‪ ،‬بدأ التزويد بالكهرباء يف تسعينيات القرن التاسع عشر‪َّ ،‬‬ ‫مثاال ً‬
‫لنأخذ ً‬
‫أثر خامل قبل إطالق منو اإلنتاجية يف التسعينيات (وهو‬‫عاما‪ .‬كان لثورة احلواسب الشخصية ٌ‬ ‫ينتظره اجلميع يف اإلنتاجية استغرق أربعني ً‬
‫كبريا من أيامهم يف الثمانينيات يف تعريف الفأرة أو جعل طابعة‬ ‫ما مل ي ُكن مفاجئًا للمستخدمني األوائل مثلي‪ ،‬الذين أهدروا جزءًا ً‬
‫ولكن املعرفة بكيفية حتقيق االستفادة القصوى من تكنولوجيا القرن احلادي والعشرين رمبا‬
‫مصفوفة النقاط تطبع الكتابة باخلط املائل)‪َّ ،‬‬
‫ترتاكم خلف ٍ‬
‫سدود حىت تنفجر مندفعةً قريبًا‪.‬‬
‫يصر مراقبو التكنولوجيا ‪-‬على عكس ممارسي العلم الكئيب (علم االقتصاد)‪ -‬أنَّنا على مشارف عصر الوفرة‪ .‬شبَّه بيل جيتس‬
‫التكهن بالركود التكنولوجي بالتوقُّع (اخلاطئ) يف عام ‪َّ 1913‬‬
‫بأن احلرب أصبحت بالية‪ ،‬وكتب رائد األعمال يف جمال التقنية بيرت‬ ‫ُّ‬
‫ديامانديس (‪ )Peter Diamandis‬والصحايف ستيفن كوتلر )‪ُ« :(Steven Kotler‬تيل عاملا به تسعة مليارات شخص‪،‬‬
‫ً‬
‫لديهم مياه نظيفة وطعام ٍّ‬
‫مغذ وإسكان ميسور التكلفة وتعليم ذو طابع شخصي ورعاية طبية رفيعة املستوى وطاقة واسعة االنتشار غري‬
‫ملوثة»‪ .‬ال تنبع رؤيتهم من خياالت نابعة من مسلسل ‪ The Jetsons‬بل من صور التكنولوجيا القائمة والناجحة بالفعل أو اليت‬ ‫ِّ‬
‫اقرتبت من النجاح‪.‬‬
‫لنبدأ باملورد الذي ميثِّل ‪-‬إىل جانب املعلومات‪ -‬الوسيلة الوحيدة لتفادي اإلنرتوبيا والذي يشغِّل كل شيء آخر حرفيًّا‪ ،‬وهو الطاقة‪.‬‬
‫ف كما رأينا يف الفصل العاشر‪ ،‬ميكن أن يكون اجليل الرابع من الطاقة النووية يف هيئة مفاعالت الوحدات الصغرية آمنًا أمانًا سلبيًّا‪،‬‬
‫أجل غري‬‫ومزوًدا بالوقود الذي يكفيه إىل ٍ‬ ‫ومضادا لالنتشار‪ ،‬وال خيلِّف أي نفايات‪ ،‬وينتج على ٍ‬
‫نطاق واسع‪ ،‬ويتطلَّب صيانة بسيطة‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫مسمى‪ ،‬وأرخص من الفحم‪ .‬وميكن أن تكون األلواح الشمسية املصنوعة من أنابيب الكربون النانوية أكثر كفاءة من األلواح الكهروضوئية‬
‫احلالية مبئة ضعف‪ ،‬ممَّا حيقِّق االستمرارية لقانون مور للطاقة الشمسية‪ ،‬وميكن ُتزين طاقتها يف بطاريات معدنية سائلة‪ ،‬فالبطارية حبجم‬
‫حاوية شحن ميكنها نظريًّا تشغيل حي كامل‪ ،‬وبطارية حبجم متجر ووملارت ميكنها تشغيل مدينة صغرية‪ ،‬وتستطيع األلواح الذكية مجع‬
‫ِ‬
‫أيضا‪ ،‬إذ‬
‫روحا جديدة يف الوقود األحفوري ً‬ ‫الطاقة حيثما ومىت تولَّدت وتوزيعها حيثما ومىت ُوجدت حاجة هلا‪ .‬رمبا تبث التكنولوجيا ً‬
‫بدال من اإلسراف يف غلي املياه‪ ،‬مث‬ ‫ٍ‬
‫انبعاثات العوادم يف تشغيل التوربني مباشرةً ً‬ ‫يستخدم تصميم جديد ٍ‬
‫حملطة تعمل بالغاز وال تصدر‬ ‫ٌ‬
‫يعزل ثاين أكسيد الكربون وحيجزه حتت األرض‪.‬‬
‫بات أقوى‬ ‫قد ينتج كلٌّ من التصنيع الرقمي ودمج تكنولوجيا النانو والطباعة ثالثية األبعاد والتصنيع السريع للنماذج األولية مرَّك ٍ‬
‫وأرخص من الصلب واخلرسانة وميكن طباعتها يف املوقع من أجل بناء املنازل واملصانع يف العامل النامي‪ .‬ميكن للرتشيح النانوي تنقية املياه‬
‫من مسبِّبات األمراض واملعادن‪ ،‬بل وحىت األمالح‪ ،‬واملراحيض اخلارجية عالية التقنية ال تستلزم أي توصيالت وحتول الفضالت البشرية‬
‫جمسات رخيصة ورقائق ذات ذكاء اصطناعي من‬ ‫إىل مساد ومياه شرب وطاقة‪ .‬قد خيفِّض الري الدقيق وشبكات املياه الذكية باستخدام َّ‬
‫إن حمصول األرز املعدَّل جينيًّا ليحل مسار ك ‪ 4‬للبناء الضوئي يف الذرة وقصب السكر‬ ‫استهالك املياه مبقدار يرتاوح بني الثُلث والنصف‪َّ .‬‬
‫ويتحمل درجات احلرارة‬‫َّ‬ ‫كثريا من السماد‪،‬‬
‫حمل مسار ك ‪ 3‬غري الكايف أكرب بنسبة ‪ 50‬يف املئة‪ ،‬ويستخدم نصف مقدار املياه وكمية أقل ً‬
‫األعلى‪ ،‬والطحالب املعدَّلة جينيًّا بوسعها سحب الكربون من اجلو وإفراز الوقود احليوي‪ .‬تستطيع الطائرات بدون طيار رصد السكك‬
‫احلديدية وخطوط األنابيب البعيدة على مسافة أميال وتستطيع توصيل املعدات الطبية وقطع الغيار إىل اجملتمعات املعزولة‪ ،‬وميكن أن‬
‫تتوىل الروبوتات املهام اليت يكرهها البشر مثل استخراج الفحم وتعبئة الرفوف وترتيب السرير‪.‬‬
‫مرض من بني مئات األمراض من‬ ‫شرحية بأخذ عينة من السوائل واكتشاف أي ٍ‬ ‫ويف اجملال الطيب‪ ،‬قد يقوم جهاز املعمل احملمول يف ٍ‬
‫بدقة أكرب من احلاسة السادسة لدى األطباء عرب معاجلة البيانات‬ ‫سيشخص الذكاء االصطناعي األمراض ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫نقطة دم أو لعاب فقط‪.‬‬
‫املوجودة يف اجلينوم واألعراض والتاريخ املرضي‪ ،‬وسيصف األدوية اليت تناسب الكيمياء احليوية الفريدة لدينا‪ .‬بوسع اخلاليا اجلذعية تعديل‬
‫أمراض املناعة الذاتية مثل التهاب املفاصل الروماتويدي والتصلب املتعدِّد‪ ،‬وميكنها أن تسكن أعضاء اجلثث أو األعضاء املزروعة يف‬
‫احليوانات أو النماذج املطبوعة ثالثية األبعاد اليت حتتوي على أنسجتنا‪ .‬وميكن أن ُخي ِمد تدخل احلمض النووي الريبوزي اجلينات الضارة‬
‫كاجلني الذي ينظِّم مستقبِل إنسولني الدهون‪ ،‬وميكن تضييق نطاق عالجات السرطان لتصبح موجهة حنو بصمة الورم اجلينية الفريدة‬
‫بدال من تسميم كل خلية منقسمة يف اجلسم‪.‬‬ ‫ً‬
‫ميكن أن يتحول التعليم العاملي‪ ،‬فمعارف العامل أصبحت متاحة بالفعل ملليارات األشخاص حاملي اهلواتف الذكية يف موسوعات‬
‫املتطوعون (مثل فريق ‪Granny‬‬‫وحماضرات وتدريبات وجمموعات بيانات‪ .‬ميكن توفري التدريس اخلاص عرب اإلنرتنت الذي يقدِّمه ِّ‬
‫‪ )Cloud‬لألطفال يف العامل النامي ويقدِّمه معلِّمو الذكاء االصطناعي للدارسني يف أي مكان‪.‬‬
‫إن االبتكارات اجلاري تطويرها ليست جمرد قائمة أفكا ٍر لطيفة‪ ،‬فهي ناجتة عن التطور التارخيي الذي أُطلِق عليه النهضة اجلديدة‬‫َّ‬
‫مدفوعا بالطاقة‪َّ ،‬‬
‫فإن العصر الثاين مدفوع باملورد‬ ‫ً‬ ‫وعصر اآللة الثاين‪ .‬بينما كان عصر اآللة األول الذي ُولِد من رحم الثورة الصناعية‬
‫اآلخر املضاد لإلنرتوبيا‪ ،‬وهو املعلومات‪ .‬ينبع األمل الثوري فيها من االستخدام املفرط للمعلومات يف توجيه كل أشكال التكنولوجيا‬
‫األخرى‪ ،‬ومن التحسني املتزايد لتكنولوجيا املعلومات نفسها‪ ،‬مثل طاقة احلواسب اآللية وعلم اجلينوم‪.‬‬
‫أيضا من االبتكارات يف عملية االبتكار نفسها‪ ،‬أحدها إتاحة منصات االبتكار مثل واجهات‬ ‫يأيت الوعد بعصر اآللة اجلديد ً‬
‫قادرا على صنع التكنولوجيا العالية بنفسه‪ .‬وثانيها ظهور‬
‫برامج التطبيقات والطابعات ثالثية األبعاد للعامة‪ ،‬وهو ما قد جيعل أي شخص ً‬
‫فبدال من كتابة الشيكات من أجل احلصول على حق تسمية قاعات احلفالت‪ ،‬يستخدم هؤالء براعتهم‬ ‫فاعلي اخلري يف جمال التكنولوجيا‪ً ،‬‬
‫وصالهتم ومطالبهم يف إجياد ح ٍ‬
‫لول للمشكالت العاملية‪ .‬وثالثها التمكني االقتصادي ملليارات األشخاص عرب اهلواتف الذكية والتعليم‬ ‫ِ‬
‫عرب اإلنرتنت والتمويل الصغري‪ .‬يتمتع مليون شخص من بني املليار األفقر يف العامل مبعدل ذكاء عبقري‪ُ ،‬تيَّل كيف سيكون العامل لو‬
‫استُغلِّت قدراهتم العقلية على أكمل وجه!‬
‫أكيدا َّ‬
‫ألن النمو االقتصادي ال يعتمد على التكنولوجيا املتاحة‬ ‫هل سيُخرِج عصر اآللة الثاين االقتصادات من ركودها؟ ليس هذا ً‬
‫أيضا على مدى ُحسن تكريس الدولة رأس ماهلا البشري واملايل الستخدام هذه التكنولوجيا‪ ،‬وحىت لو مت استغالل‬ ‫فحسب‪ ،‬بل يعتمد ً‬
‫هذه التكنولوجيا على أكمل وجه‪ ،‬فرمبا ال تندرج منافعها ضمن اإلجراءات االقتصادية املعيارية‪ .‬الحظ الفنان الكوميدي بات بولسن‬
‫(‪ )Pat Paulsen‬أنَّنا «نعيش يف ٍ‬
‫دولة كل شيء فيها ضخم حىت الناتج احمللي اإلمجايل»‪ .‬يتَّفق أغلب االقتصاديني على َّ‬
‫أن الناتج‬
‫القومي اإلمجايل (وقريبه الناتج احمللي اإلمجايل) مؤشر إمجايل على االزدهار االقتصادي‪ ،‬فهو يتمتَّع مبيزة سهولة قياسه‪ ،‬ولكنَّه ليس مثل‬
‫يد إىل أخرى يف إنتاج السلع واخلدمات‪ .‬لطاملا أربكت مشكلة‬ ‫العالوات اليت يستمتع هبا الناس ألنَّه جمرد سجل لألموال اليت تنتقل من ٍ‬
‫فائض املستهلك أو مفارقة القيمة عملية القياس الكمي للرخاء (الفصل الثامن والتاسع) وتزيد االقتصادات احلديثة من حدة املشكلة‪.‬‬
‫اجملمعة مثل نصيب الفرد من الناتج احمللي اإلمجايل ومشتقاته مثل‬‫أن‪« :‬اإلحصاءات َّ‬ ‫يذكر جويل موكري (‪َّ )Joel Mokyr‬‬
‫إن‬ ‫مصممة لتناسب اقتصاد الصلب والقمح‪ ،‬ال اقتصاد ِّ‬
‫تشكل فيه املعلومات والبيانات القطاع األكثر ديناميةً‪َّ ،‬‬ ‫إنتاجية عوامل اإلنتاج‪َّ .‬‬
‫تصميم كث ٍري من السلع واخلدمات اجلديدة مكلِّف‪ ،‬ولكن مبجرد جناحها‪ ،‬ميكن تقليدها بتكلفة منخفضة للغاية أو دون تكلفة‪ ،‬يعين‬
‫ذلك َّأهنا تُسهم غالبًا يف الناتج القابل للقياس بالقليل حىت لو كان أثرها يف رفاهة املستهلك ٌ‬
‫كبري جدًّا»‪ .‬ينفي ُّ‬
‫احلد من استخدام املواد‬
‫كبريا عن املنزل يف‬ ‫الذي نظرنا فيه يف الفصل العاشر على سبيل املثال املالحظة القائلة َّ‬
‫بأن املنزل يف عام ‪ 2015‬ال يبدو خمتل ًفا اختالفًا ً‬
‫يكمن الفرق الكبري فيما ال نراه ألنَّه أصبح باليًا بفعل أجهزة التابلت واهلواتف الذكية‪ ،‬إضافةً إىل املعجزات اجلديدة مثل‬
‫عام ‪ُ ،1965‬‬
‫بث الفيديوهات واحملادثات عرب برنامج سكايب‪ .‬وفضالً عن احلد من استخدام املواد‪ ،‬أطلقت تكنولوجيا املعلومات عملية إلغاء النقود‪،‬‬
‫املبوبة واألخبار واملوسوعات واخلرائط والكامريات‬
‫فكثري من األشياء اليت اعتاد الناس أن يدفعوا مقابلها جمانية اآلن‪ ،‬مبا فيها اإلعالنات َّ‬
‫وقت مضى‪ ،‬ولكنَّها‬‫واملكاملات الدولية والنفقات اإلضافية ملتاجر التجزئة التقليدية‪ ،‬حيث يستمتع الناس هبذه اخلريات اآلن أكثر من أي ٍ‬
‫اختفت من الناتج القومي اإلمجايل‪.‬‬
‫كرست املزيد‬‫يقة أخرى‪ ،‬فكلَّما أصبحت اجملتمعات احلديثة أكثر إنسانيةً‪َّ ،‬‬ ‫افرتقت الرفاهة البشرية عن الناتج القومي اإلمجايل بطر ٍ‬
‫مقال حديث يف صحيفة وول سرتيت جورنال عن الركود‬ ‫من ثروهتا ألشكال حتسني أحوال البشر غري حمدَّدة بسع ٍر يف السوق‪ .‬ذكر ٌ‬
‫االقتصادي أنَّه قد مت توجيه نسبة متنامية من جهود االبتكار حنو هو ٍاء أنظف وسيارات أكثر أمانًا وأدوية لعالج األمراض املهملة اليت‬
‫عموما من البحث والتطوير من ‪ 7‬يف‬ ‫شخص على الصعيد الوطين‪ ،‬وارتفعت نسبة الرعاية الصحية ً‬ ‫ٍ‬ ‫يصيب كلٌّ منها أقل من مئيت ألف‬
‫أن «األدوية من أعراض‬ ‫املئة يف عام ‪ 1960‬إىل ‪ 25‬يف املئة يف ‪ .2007‬وذكر الصحايف املايل الذي كتب هذا املقال يف ٍ‬
‫حزن تقريبًا َّ‬
‫القيمة املتزايدة اليت تضفيها اجملتمعات املوسرة على حياة اإلنسان‪..‬فاألحباث الصحية حتل حمل البحث والتطوير الذي كان من املمكن‬
‫منوا أبطأ يف السلع واخلدمات‬ ‫أن يتوجه حنو املزيد من املنتجات االستهالكية العادية‪ .‬تفرض القيمة املتزايدة حلياة اإلنسان بالطبع ً‬
‫االستهالكية االعتيادية‪ ،‬واليت ِّ‬
‫تشكل اجلزء األكرب من الناتج القومي اإلمجايل القابل للقياس»‪ .‬التفسري الطبيعي َّ‬
‫أن هذه املفاضلة دليلٌ‬
‫خيريك بني حياتك أو نقودك‪ ،‬على عكس‬ ‫على تسارع التقدُّم ال ركوده‪ ،‬فاجملتمعات احلديثة لديها ردٌّ سريع على طلب اللص عندما ِّ‬
‫*‬
‫الكوميديان احلريص جاك بيين (‪.)Jack Benny‬‬

‫كثريا للتقدُّم البشري‪ ،‬وهو حركة سياسية تسعى إىل تقويض أسسها التنويرية‪ ،‬إذ شهد العقد الثاين من القرن احلادي‬ ‫يوجد هتديد خمتلف ً‬
‫والعشرين هنوض حركة مضادة للتنوير تُدعى الشعبوية‪ ،‬أو بتعب ٍري أدق‪ ،‬الشعبوية السلطوية‪ .‬تدعو الشعبوية إىل السيادة املباشرة «للشعب»‬
‫يوجه جتارهبم وفضائلهم األصيلة بصورةٍ مباشرة‪.‬‬ ‫جمسدا يف ٍ‬
‫قائد قوي ِّ‬ ‫(الذي يكون عادةً مجاعة عرقية‪ ،‬وأحيانًا طبقة ما)‪ً َّ ،‬‬
‫ميكن اعتبار الشعبوية مقاومة من بعض عناصر الطبيعة البشرية مثل القبلية والسلطوية والشيطنة والتفكري الصفري ضد املؤسسات‬
‫بدال من الفرد‪ ،‬ال يوجد مكان فيها حلماية حقوق األقلية أو تعزيز رفاهة‬ ‫صممت للتحايل عليها‪ .‬برتكيزها على القبيلة ً‬ ‫التنويرية اليت ُ‬
‫بأن املعرفة اليت وصلنا إليها بشق األنفس هي سر تقدم اجملتمع فهي تُشوه مسعة «النُخب» و«اخلرباء» وتقلل من‬‫البشر‪ ،‬وبعدم اعرتافها َّ‬
‫قيمة سوق األفكار مبا فيها حرية التعبري واختالف الرأي والتحقق من صدق املطالب اليت ُتدم املصاحل الذاتية‪ ،‬وبتقدير القائد القوي‬
‫تتجاهل الشعبوية قصور الطبيعة البشرية وتستخف باملؤسسات احملكومة بالقانون والضوابط الدستورية اليت حتد من سلطة البشر املعيبني‬
‫بطبعهم‪.‬‬
‫للشعبوية عدة صور منها اليميين ومنها اليساري وتشرتك مجيعها يف نظرية فلكلورية لالقتصاد بوصفه منافسة صفرية ال بد فيها من‬

‫*الذي تعرا ض له في أحد المشاهد في برنامجه الكوميدي لصٌّ خياره بين حياته وماله‪ ،‬فسكت جاك‪ ،‬فأعاد عليه اللص السؤال فصرخ جاك في وجهه‬
‫ً‬
‫قائال‪« :‬إ انني أف ِّكر في األمر»‪.‬‬
‫رابح وخاسر بني الطبقات االقتصادية عند اليسار وبني الدول أو اجلماعات العرقية عند اليمني‪ .‬ال يُنظر إىل املشاكل على أهنا حتديات‬
‫أصال‪ ،‬فالشعبوية‬ ‫حتمية يف عا ٍمل غري ٍ‬
‫مبال وإمنا خمططات شريرة من النخب املاكرة أو األقليات أو األجانب‪َّ .‬أما التقدُّم فال تُفكر فيه ً‬
‫قائما على الزراعة‬
‫تتطلع إىل املاضي عندما كانت البلد متجانسة عرقيًا وأرثوذوكسية ثقافيًا وكانت القيم الدينية هي السائدة واالقتصاد ً‬
‫سلعا مادية لالستهالك احمللي والتصدير‪.‬‬
‫والصناعة اليت أنتجت ً‬
‫بعمق أكثر‪َّ ،‬أما هنا فسأركز على صعودها األخري‬‫سيبحث الفصل الثالث والعشرون يف اجلذور الثقافية للشعبوية السلطوية ٍ‬
‫ومستقبلها املحتمل‪ .‬استقطبت األحزاب الشعبوية (اليمينية منها على األغلب) ‪ 13.2%‬من التصويت السابق على االنتخابات الربملانية‬
‫ُ‬
‫األوروبية يف عام ‪( 2016‬مقارنةً بـ ‪ %5.1‬يف الستينيات) وشاركت يف االئتالفات احلاكمة إلحدى عشرة دولة مبا فيها اجملر وبولندا‪.‬‬
‫تستطيع األحزاب الشع بوية الدفع بأهدافها حىت مع عدم وجودها يف السلطة وال سيما حثها على استفتاء الربيكست يف عام ‪2016‬‬
‫عندما صوت ‪ %52‬من الربيطانيني باملوافقة على اخلروج من االحتاد األورويب‪ ،‬وانتُخب دونالد ترامب يف هذه السنة لرئاسة أمريكا وفاز‬
‫بأصوات اجملمع االنتخايب على الرغم من حصوله على أقلية يف التصويت الشعيب (‪ %46‬يف مقابل ‪ %48‬حصلت عليها هيالري‬
‫كلينتون)‪ .‬وال يوجد ما يعكس قَـبَلِية الشعبوية ونظرهتا إىل الوراء أكثر من شعار محلة ترامب االنتخابية‪ :‬لنجعل أمريكا عظيمة مرةً أُخرى‪.‬‬
‫كنت أكتب الفصول اخلاصة بالتقدُّم‪ ،‬قاومت الضغط على من قراء املسودات األوىل كي أهني كل فصل هبذا التحذير‪:‬‬ ‫بينما ُ‬
‫«لكن كل هذا التقدم يف خطر إذا جنح دونالد ترامب يف خطته»‪ .‬التقدم يف خطر بالتأكيد‪ ،‬وسواء أكانت سنة ‪ 2017‬متثِّل منعط ًفا‬
‫تارخييًا حقًّا أم ال‪ ،‬فهذه التهديدات تستحق املراجعة خاصةً إذا كانت ستطلعنا على طبيعة التقدم املهدد باخلطر‪.‬‬

‫حتسنت الحياة والصحة بصورة كبرية بسبب اللقاحات والتدخالت الطبية األخرى اليت جرى فحصها ً‬
‫جيدا‪ ،‬ومن بني نظريات املؤامرة‬
‫اليت أيَّدها ترامب االدعاء املفضوح منذ مدة طويلة َّ‬
‫بأن املواد احلافظة املوجودة يف اللقاحات تصيب بالتوحد‪ .‬ومت ضمان املكتسبات عن‬
‫نطاق واسع‪ ،‬وقد سعى لتشريع سيسحب التأمني الصحي من عشرات املاليني من األمريكيني‪،‬‬ ‫طريق إتاحة الوصول للرعاية الطبية على ٍ‬
‫وهو انتكاسة للنزعة السائدة باجتاه اإلنفاق االجتماعي النافع‪.‬‬
‫نتجت التطورات فيما خيص الثروة عن عوملة االقتصاد وهي مدعومة بشكل كبري بالتجارة الدولية‪ ،‬وترامب شخص محائي يرى التجارة‬
‫ابح وخاس ٍر‪ ،‬ويسعى لفض مجيع اتفاقات التجارة الدولية‪.‬‬
‫الدولية على أهنا منافسة صفرية بني الدول ال بد فيها من ر ٍ‬
‫سيحرك منو الثروة كلٌّ من‪ :‬االبتكارات التكنولوجية والتعليم والبنية التحتية وزيادة القوة الشرائية للطبقات الدنيا واملتوسطة ووضع قيود‬
‫على احملسوبية وحكم األثرياء الذي يشوه تنافسية السوق ووضع قواعد تنظيمية للشؤون املالية ُتفض من احتمالية حدوث فقاعات‬
‫واهنيارات اقتصادية‪ .‬إضافةً إىل عدوانية ترامب جتاه التجارة‪ ،‬فهو غري ٍ‬
‫مبال بالتكنولوجيا والتعليم ومؤيد للتخفيضات الضريبية التنازلية‬
‫لألثرياء‪ ،‬بينما يضم أباطرة املال والشركات الكربى إىل حكومته وهم معادون للقواعد التنظيمية دون متييز‪.‬‬
‫ولالستفادة من املخاوف من انعدام المساواة‪ ،‬شيطن ترامب صورة املهاجرين والشركاء التجاريني بينما جتاهل املعرقل األساسي لتوظيف‬
‫وحتديدا الضرائب‬
‫ً‬ ‫بنجاح غالبًا من أضرار هذا التغري‪،‬‬
‫أيضا اإلجراءات اليت حتد ٍ‬‫الطبقات املتوسطة الدنيا وهو التغري التكنولوجي‪ ،‬وعارض ً‬
‫التصاعدية واإلنفاق االجتماعي‪.‬‬
‫انتفعت البيئة من القواعد املنظِّمة لتلوث اهلواء واملاء الذي تزامن مع زيادة السكان والناتج احمللي اإلمجايل والسفر‪ ،‬ويعتقد ترامب َّ‬
‫أن‬
‫مدمرة اقتصاديًا واألسوأ من ذلك أنه قال َّ‬
‫إن التغري املناخي جمرد خدعة وأعلن االنسحاب من اتفاقية باريس‬ ‫القواعد التنظيمية البيئية ِّ‬
‫التارخيية‪.‬‬
‫أيضا بصورة هائلة بفعل اللوائح الفيدرالية اليت يزدريها ترامب وحلفاؤه بشكل عميق‪ ،‬فبينما يُعرف ترامب حبفظ النظام‬ ‫حتسن األمان ً‬
‫وتطبيق القانون‪ ،‬لكنَّه غري مهتم بأي سياسة مبنية على أدلة متيز بني إجراءات مكافحة اجلرمية الفعَّالة وبني الكالم العنيف عدمي الفائدة‪.‬‬
‫تَرس َخ سالم ما بعد احلرب بالتجارة والديموقراطية واالتفاقيات واملنظمات الدولية والقواعد املناهضة للغزو‪.‬‬

‫معجب بفالدميري‬
‫ٌ‬ ‫حط ترامب من قدر التجارة الدولية وهدَّد بعدم االلتزام باالتفاقيات الدولية وإضعاف املؤسسات الدولية‪ .‬فرتامب‬
‫بوتني الذي عكس مسار التحول الدميقراطي يف روسيا‪ ،‬وحاول هدم الدميقراطية يف الواليات املتحدة وأوروبا باهلجمات اإللكرتونية‪،‬‬
‫وحرك حروبًا أصغر يف أوكرانيا وجورجيا‪ ،‬وارتكب أحد حمرمات‬ ‫وساعد يف إمتام أكثر حرب مدمرة يف القرن احلادي والعشرين يف سوريا‪َّ ،‬‬
‫ما بعد احلرب وهو الغزو بضمه شبه جزيرة القرم لروسيا‪ ،‬وتواطأ العديد من أعضاء حكومة ترامب بصورة سرية مع روسيا يف حماو ٍلة لرفع‬
‫العقوبات عنها‪ ،‬مما أضعف إحدى اآلليات األساسية لتطبيق القانون على اخلارجني عن قانون احلرب‪.‬‬
‫كل من الضمانات الدستورية الصرحية مثل حرية الصحافة‪ ،‬واملعايري املشرتكة وخاصة معايري القيادة السياسية‬ ‫تعتمد الديمقراطية على ٍّ‬
‫السلطة‪ .‬اقرتح ترامب ُتفيف قوانني التشهري‬ ‫بدال من رغبة القائد صاحب الكاريزما يف ُ‬ ‫اليت حيددها القانون واملنافسة السياسية السلمية ً‬
‫ضد الصحفيني وشجع على العنف يف جتمعاته االنتخابية ضد منتقديه ومل يكن ليلتزم بنتيجة انتخابات ‪ 2016‬لو مل تكن يف صاحله‪،‬‬
‫وحاول التشكيك يف مصداقية فرز التصويت الشعيب الذي مل يكن يف صاحله‪ ،‬وهدد بسجن منافِسته يف االنتخابات وهاجم شرعية‬
‫النظام القضائي عندما اعرتض على قراراته‪ ،‬أي لديه مجيع السمات املميزة للدكتاتور‪ .‬تعتمد قدرة الدميوقراطية على التحمل عامليًا بصورة‬
‫جزئية على مسعتها يف اجملتمع الدويل‪ ،‬يف حني أشاد ترامب باحلكام املستبدين يف روسيا وتركيا والفلبني وتايالند واململكة العربية السعودية‬
‫ومصر بينما أساء للحلفاء الدميقراطيني مثل أملانيا‪.‬‬
‫تعرضت مبادئ التسامح واملساواة والمساواة في الحقوق لالنتقاد بشكل كبري أثناء محلته وبداية واليته‪ ،‬إذ شيطن ترامب املهاجرين‬
‫متاما (وحاول فرض حظر جزئي بعد انتخابه مباشرةً) وحط من قدر النساء مر ًارا وسكت‬ ‫من أصول التينية واقرتح حظر هجرة املسلمني ً‬
‫عن تعبريات عنصرية ومتحيزة جنسيًّا وسوقية من حلفائه يف التجمعات االنتخابية‪ ،‬وتقبل الدعم من مجاعات اليمني املتطرف (املؤمنة‬
‫عاما معاديني حلركة احلقوق املدنية‪.‬‬
‫خبريا اسرتاتيجيًّا ومدعيًّا ً‬
‫وعني ً‬
‫بالتفوق العرقي للبيض) وساوى بينهم وبني منافسيهم َّ‬
‫مثارا للسخرية بتكراره نظريات مؤامرة سخيفة‬‫جعل ترامب مبدأ المعرفة ‪-‬وهو أن تكون آراء املرء مبنية على اعتقادات حقيقية مربرة‪ً -‬‬
‫أن اآلالف من مسلمي‬ ‫أن والد السيناتور تيد كروز (‪ )Ted Cruz‬شارك يف اغتيال جون كينيدي‪ ،‬و َّ‬ ‫أن أوباما ُولد يف كينيا‪ ،‬و َّ‬
‫مثل‪َّ :‬‬
‫مقتوال‪ ،‬وأنَّه كان يتم التصنت على هواتف أوباما‪،‬‬
‫أن القاضي أنتونني سكاليا مات ً‬ ‫نيو جريسي احتفلوا باحلادي عشر من سبتمرب‪ ،‬و َّ‬
‫أن ماليني الناخبني غري الشرعيني هم السبب يف خسارته يف التصويت الشعيب والعشرات حرفيًّا من نظريات املؤامرة األخرى‪ .‬أظهر‬ ‫و َّ‬
‫أن ‪ %69‬من تصرحيات ترامب اليت حاولوا التحقق من صحتها كانت «خطأً غالبًا» أو «خطأ»‬ ‫تقصي احلقائق ‪َّ PolitiFact‬‬ ‫موقع ِّ‬
‫أن مجيع البشر يلوون عنق احلقيقة ويكذبون‬ ‫أو «خطأ بصورة فظيعة»‪ .‬يلوى مجيع الساسة عنق احلقيقة ويكذب مجيعهم أحيانًا (مبا َّ‬
‫ولكن تأكيدات ترامب السافرة اليت ميكن فضحها يف احلال (على سبيل املثال أنه فاز يف االنتخابات بأغلبية ساحقة) تُظهر أنَّه‬ ‫أحيانًا)‪َّ ،‬‬
‫سالحا إلظهار السيطرة وإهانة املنافسني‪.‬‬ ‫أرض مشرتكة قائمة على حقيقة موضوعية َّ‬
‫وإمنا ً‬ ‫ال يرى اخلطاب العام وسيلةً للعثور على ٍ‬
‫فشكك يف‬‫أن ترامب دفع يف اجتاهٍ مضاد للقواعد اليت حافظت على العامل من الخطر الوجودي احملتمل للحرب النووية‪َّ ،‬‬
‫األمر األخطر َّ‬
‫وفكر علنًا يف تشجيع انتشار األسلحة يف ٍ‬
‫دول أخرى‪ ،‬وهدَّد‬ ‫وغرد عن استئناف سباق التسلح النووي‪َّ ،‬‬
‫حظر استخدام األسلحة النووية‪َّ ،‬‬
‫بإلغاء االتفاقية اليت متنع إيران عن صناعة أسلحة نووية‪ .‬واألسوأ من ذلك كله‪َّ ،‬‬
‫أن التسلسل القيادي يعطي للرئيس األمريكي صالحيةً‬
‫بأن أي رئيس لن يتصرف بتهوٍر يف مسألة خطرية كهذه‪،‬‬
‫هائلة الستخدام األسلحة النووية أثناء األزمات بناءً على االفرتاض الضمين َّ‬
‫معروف بطبعه املندفع واالنتقامي‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫لكن ترامب‬
‫َّ‬

‫وال ميكن حىت للمتفائلني بالفطرة توقع اخلري من وراء ذلك‪ ،‬لكن هل سينقض دونالد ترامب حقًّا (والشعبوية السلطوية عامةً) ما‬
‫بناه التقدم خالل ربع ألفية كاملة؟ هناك أسباب لعدم اإلسراع إىل االنتحار بعد‪ .‬إذا استمرت حركةٌ ما ٍ‬
‫لعقود أو قرون‪ ،‬فهناك على‬ ‫ُ‬
‫األرجح قوى خلف حركتها وأطراف كثرية معنية ومهتمة بأال تعكس مسارها‪.‬‬
‫نظاما ملكيًّا بالتناوب‪ ،‬فالرئيس يتوىل مسؤولية شبكة موزعة من السلطة (يسميها الشعبويون‬ ‫مل تُصمم الرئاسة األمريكية كي تكون ً‬
‫«الدولة العميقة») تدوم أطول من القيادات الفردية وتضطلع بأعمال احلكومة يف ظل معوقات واقعية ال ميكن إزالتها بسهولة عن طريق‬
‫مشرعني مسؤولني أمام الناخبني ومجاعات الضغط وقُضاة يودون احلفاظ‬ ‫تصفيق صفوف الشعبويني وال نزوات من يتوىل القيادة‪ .‬وتتضمن ِّ‬
‫على نزاهة مسعتهم ومديرين تنفيذيني وبريوقراطيني وموظفني مسؤولني عن مهام أقسامهم‪ .‬تضع غرائز ترامب التسلطية مؤسسات‬
‫ولكن هذه املؤسسات دافعت عن الدميقراطية على عدة أصعدة‪ ،‬فقد نبذ جملس الوزراء عالنيةً‬ ‫الدميقراطية األمريكية يف اختبار حتمل‪َّ ،‬‬
‫العديد من تعليقاته وتغريداته وتلميحاته الكريهة‪ ،‬وأبطلت احملاكم إجراءاته غري الدستورية‪ ،‬وانشق بعض أعضاء جملس الشيوخ وبعض‬
‫وحتقِّق وزارة العدل وجلان الكوجنرس يف عالقة حكومته بروسيا‪ ،‬وأدان‬ ‫أعضاء الكوجنرس عن حزبه كي يصوتوا ضد تشريعاته املدمرة‪ُ ،‬‬
‫وسرب موظفوه‬‫رئيس مكتب التحقيقات الفيدرايل حماولة ترامب ترهيبه علنًا (ممَّا أدى إىل إثارة احلديث عن اهتامه بعرقلة سري العدالة)‪َّ ،‬‬
‫حقائق تنتقص منه للصحافة الستيائهم ممَّا يرون منه‪ ،‬وكل هذا خالل األشهر األوىل من واليته‪.‬‬
‫أيضا احلكومات احمللية وإدارات الواليات األقرب إىل احلقائق امللموسة على األرض‪ ،‬وحكومات الدول األخرى‬ ‫تقيِّد حركة الرئيس ً‬
‫اليت ال ميكن أن نتوقَّع منها أن تضع يف أهم أولوياهتا جعل أمريكا عظيمة مرةً أُخرى‪ ،‬وأغلب الشركات اليت يعود عليها كلٌّ من السالم‬
‫والرخاء واالستقرار بنف ٍع‪ .‬العوملة على وجه اخلصوص موجة يستحيل على أي حاكم أن يعود هبا إىل اخللف‪ ،‬العديد من مشاكل البلد‬
‫مشاكل عاملية بطبعها مبا فيها اهلجرة واألوبئة واإلرهاب واجلرمية اإللكرتونية وانتشار األسلحة النووية والدول املارقة اليت هتدد سالم العامل‬
‫والبيئة‪ .‬ال ميكن االستمرار يف التظاهر بعدم وجود هذه املشاكل إىل األبد‪ ،‬وال ميكن حلها سوى بالتعاون الدويل‪ ،‬وال ميكن إنكار فوائد‬
‫العوملة إىل األبد ‪-‬سلع أرخص وأسواق تصدير أكرب واخنفاض معدالت الفقر العاملية‪-‬ومع وجود اإلنرتنت والسفر قليل التكلفة‪ ،‬فلن‬
‫يكون إيقاف تدفق األشخاص وتناقل األفكار (خاصةً بني الشباب كما سنرى) ممكنًا‪ .‬أما فيما خيص احلرب ضد احلقيقة‪ ،‬فتتمتَّع مبيزة‬
‫ذاتية تساعدها على البقاء وهي َّأهنا ال ُتتفي عندما تتوقف عن اإلميان هبا‪.‬‬

‫السؤال األهم هو إذا ما كان صعود احلركات الشعبوية ‪-‬مهما كان الضرر الذي تتسبب فيه على املدى القصري‪ -‬سيؤدي إىل تغيري شكل‬
‫املستقبل‪ -‬وإذا ما كان «عهد التنوير قد انتهى» كما قالت افتتاحية حديثة جلريدة ‪ .Boston Globe‬هل تعين األحداث اليت‬
‫جرت يف ‪َّ 2016‬‬
‫أن العامل يف طريقه إىل العصور الوسطى ح ًقا؟ تسهل املبالغة يف تفسري األحداث األخرية كما يُثبت املتشككون يف‬
‫بصباح قارس الربودة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫التغري املناخي صحة آرائهم‬
‫أوال‪ ،‬ليست االنتخابات األخرية استفتاءً على التنوير‪ ،‬ففي نظام االحتكار السياسي الثنائي األمريكي‪ ،‬يبدأ أي مرشح مجهوري بـ‬
‫ً‬
‫‪ %45‬من املناصرين على األقل يف سباق ثنائي‪ ،‬وخسر ترامب يف التصويت الشعيب بنسبة ‪ 46‬إىل ‪ ،%48‬وانتفع من اخلدع االنتخابية‬
‫وسوء تقدير من محلة هيالري كلينتون االنتخابية‪ .‬وغادر باراك أوباما منصبه بنسبة تأييد شعبية تبلغ ‪ %58‬وهو أعلى من املتوسط‬
‫للرؤساء املنتهية واليتهم‪ ،‬وهو الذي نسب الفضل يف خطبة الوداع للتنوير بأنه «اجلوهر األساسي هلذا البلد»‪ ،‬يف حني توىل ترامب منصبه‬
‫بتقييم يبلغ ‪ ،%40‬وهو أقل تقييم على اإلطالق لرئيس جديد‪ ،‬واخنفض هذا التقييم إىل ‪ %34‬خالل أشهره السبعة األوىل‪ ،‬وهو يزيد‬
‫بالكاد على نصف متوسط تقييمات الرؤساء التسعة السابقني يف نفس املرحلة من واليتهم‪.‬‬
‫أيضا وإمنا جمرد ردود فعل على قضايا يومية مثرية للعواطف‪ ،‬ومن‬ ‫مقياسا لاللتزام باإلنسانية العاملية ً‬
‫االنتخابات األوروبية ليست ً‬
‫هذه القضايا املثارة يف اآلونة األخرية‪ :‬عملة اليورو (واليت تثري شكوك العديد من االقتصاديني) واللوائح التدخلية من بروكسل والضغط‬
‫لقبول أعداد كبرية من الالجئني من الشرق األوسط يف نفس وقت تصاعد اخلوف من اإلرهاب اإلسالمي بفعل اهلجمات املروعة (على‬
‫الرغم من عدم تناسب اخلوف مع اخلطورة)‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬مل ت ُفز األحزاب الشعبوية سوى بـ ‪ %13‬من األصوات يف السنوات األخرية‬
‫عددا مساويًا ملا فازوا به من املقاعد يف اجملالس التشريعية‪ .‬يف السنة اليت تلت صدميت ترامب والربيكست‪ ،‬نُبذ اجلناح األمين‬‫وخسروا ً‬
‫الشعبوي يف االنتخابات يف هولندا واململكة املتحدة وفرنسا ‪-‬حيث أعلن الرئيس اجلديد إميانويل ماكرون َّ‬
‫أن أوروبا «تنتظر منَّا الدفاع‬
‫عن روح التنوير املهددة يف أماكن عدة»‪.‬‬
‫لكن األهم من األحداث السياسية اليت وقعت يف منتصف العقد األول من القرن احلادي والعشرين هي االجتاهات االجتماعية‬
‫عززت من الشعبوية السلطوية‪ ،‬واليت قد تتنبأ مبستقبلها‪.‬‬
‫واالقتصادية اليت َّ‬
‫إن اخلاسرين اقتصاديًا من العوملة (وهم الطبقات الدنيا يف الدول‬ ‫كثريا ما يُقال َّ‬
‫ُتلق التطورات التارخيية اإلجيابية راحبني وخاسرين‪ ،‬و ً‬
‫لكن احملللني دقَّقوا يف نتائج‬
‫كاف لتفسري صعود احلركة يف رأي احلتميني االقتصاديني‪َّ .‬‬‫الغنية) هم مؤيدو الشعبوية السلطوية‪ ،‬وهذا سبب ٍ‬
‫صوت الناخبون من‬ ‫أن التفسري االقتصادي خطأ‪ ،‬إذ َّ‬ ‫االنتخابات كما يفحص احملققون احلطام يف موقع حادث طائرة‪ ،‬وقد تبني لنا اآلن َّ‬
‫إن «االقتصاد» هو‬ ‫دخال لصاحل هيالري كلينتون يف االنتخابات األمريكية بنسبة ‪ 52‬إىل ‪ ،42‬كما فعل من يقولون َّ‬ ‫الفئتني األقل ً‬
‫دخال لصاحل ترامب‪ ،‬وحدد املصوتون لصاحل ترامب أن القضايا األكثر‬ ‫وصوت أكثرية الناخبني من األربع فئات األعلى ً‬ ‫القضية األهم‪َّ ،‬‬
‫أمهية هي «اهلجرة» و«اإلرهاب» وليس «االقتصاد»‪.‬‬
‫أظهرت التحليالت خيوطًا أكثر مبشرة باخلري‪ .‬بدأ مقال كتبه اإلحصائي نيت سيلفر (‪ )Nate Silver‬بالتايل‪« :‬أحيانًا يكون‬
‫التحليل اإلحصائي صعبًا‪ ،‬وأحيانًا تكون النتائج واضحة وضوح الشمس»‪ ،‬ظهرت هذه النتائج الواضحة يف عنوان املقال‪« :‬التعليم‪،‬‬
‫صنع هذا الفارق الكبري؟ هناك تفسريان غري مثريين لالهتمام‪ ،‬أحدمها‬ ‫وليس الدخل‪ ،‬تنبأ مبن سيصوت لرتامب»‪ .‬كيف ميكن للتعليم ُ‬
‫مؤشرا على األمان االقتصادي أفضل من مستوى‬ ‫أن التعليم رمبا يكون ً‬‫أن ذوي املستوى العايل من التعليم يتبعون الفريق الليربايل‪ ،‬والثاين َّ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫ألشخاص من أعراق وثقافات‬ ‫عرض الناس يف مرحلة البلوغ املبكرة‬ ‫الدخل احلايل‪ .‬هناك تفسري أكثر إثارةً لالهتمام وهو َّ‬
‫أن التعليم يُ ِّ‬
‫تصعب شيطنتهم‪ .‬والتفسري األكثر إثارًة لالهتمام على اإلطالق هو احتمالية َّ‬
‫أن التعليم يغرس يف الناس احرتام احلقائق‬ ‫أخرى بطريقة ِّ‬
‫املفحوصة واجلدال باملنطق‪ ،‬عندما يكون التعليم كما ينبغي له أن يكون‪ ،‬وهبذا حيمي الناس من نظريات املؤامرة والنقاش بالنوادر‬
‫والدمياغوجية العاطفية‪.‬‬
‫متاما بالتوزيع الدميوغرايف للبطالة أو الديانة أو ملكية األسلحة أو‬ ‫أيضا َّ‬
‫أن التوزيع الدميوغرايف ملؤيدي ترامب ال يقرتن ً‬ ‫وجد سيلفر ً‬
‫نسبة املهاجرين‪ ،‬ولكنَّه يتوافق مع التوزيع الدميوغرايف للبحث عن كلمة ‪ nigger‬يف حمرك حبث جوجل‪ ،‬وهو مؤشر موثوق للعنصرية‬
‫ولكن‬
‫أن معظم مؤيدي ترامب عنصريون‪َّ ،‬‬ ‫طب ًقا ملا أوضحه سيث ستيفنز ديفيدويتز (كما رأينا يف الفصل اخلامس عشر)‪ .‬ال يعين هذا َّ‬
‫متحولة إىل كراهية وانعدام ثقة‪ ،‬ويشري هذا التقاطع إىل أن املناطق اليت سامهت يف فوز ترامب يف اجملمع‬
‫العنصرية املعلنة ُتفت تدرجييًا ِّ‬
‫االنتخايب هي املناطق األكثر مقاومة للعملية املمتدة لعقود لدمج مصاحل األقلية وتعزيزها (وخاصةً التمييز اإلجيايب على أساس العرق‪،‬‬
‫والذي يرونه على أنه متييز عكسي ضدهم)‪.‬‬
‫كان التشاؤم هو املؤشر األكثر ثباتًا على دعم ترامب ضمن أسئلة استطالع الرأي اليت فحصت املواقف العامة‪ ،‬إذ شعر ‪%96‬‬
‫أيضا من أسلوب احلكومة الفيدرالية يف تسيري‬
‫من مؤيدي ترامب أن البلد ُترج «عن مسارها الصحيح بصورة خطرية» وكانوا متشائمني ً‬
‫األمور وقلقني على حياة اجليل القادم من األمريكيني‪.‬‬
‫على اجلانب اآلخر من احمليط‪ ،‬رصد عاملا السياسة رونالد إجنلهارت وبيبا نوريس أمناطًا مشاهبة يف حتليلهما لـ ‪ 268‬حزبًا سياسيًا‬
‫دورا يف البيانات الرمسية لألحزاب أصغر من دور القضايا غري االقتصادية‪.‬‬ ‫أن القضايا االقتصادية لعبت ً‬ ‫يف ‪ 31‬دولة أوروبية‪ ،‬ووجدا َّ‬
‫أيضا على توزيع الناخبني‪ ،‬إذ ال يأيت التأييد األقوى لألحزاب الشعبوية من العمال اليدويني َّ‬
‫وإمنا من «الطبقة الربجوازية‬ ‫ينطبق هذا ً‬
‫الصغرية» (احلرفيني املستقلني وأصحاب املشاريع الصغرية) يليهم رؤساء العمال والفنيون‪ .‬الناخبون الشعبويون أكرب سنًا وأكثر تدينًا وأقل‬
‫تعليما ويغلب عليهم الطابع الريفي‪ ،‬وُهم غالبًا من الذكور وينتمون إىل األغلبية العرقية‪ ،‬ويتبنون القيم السلطوية‪ ،‬ويعتربون أنفسهم من‬ ‫ً‬
‫تعليما ويغلب‬
‫ً‬ ‫أقل‬‫و‬ ‫ا‬‫ً‬‫سن‬ ‫أكرب‬ ‫ا‬‫أيض‬
‫ً‬ ‫الربيكست‬ ‫لصاحل‬ ‫املصوتون‬ ‫كان‬ ‫الوطنية‪.‬‬
‫و‬ ‫العاملية‬ ‫احلكومة‬ ‫و‬ ‫افدة‬
‫و‬ ‫ال‬ ‫اهلجرة‬ ‫ويكرهون‬ ‫السياسي‬ ‫اليمني‬
‫صوت ‪ %66‬من احلاصلني على التعليم الثانوي لصاحل اخلروج‪ ،‬يف حني مل يؤيِّد اخلروج سوى‬ ‫عليهم الطابع الريفي ممَّن صوتوا ضده‪ :‬إذ َّ‬
‫‪ %29‬فقط من احلاصلني على شهادات جامعية‪.‬‬
‫أن داعمي السلطوية الشعبوية هم اخلاسرون ثقافيًا وليس اقتصاديًا فقط‪ .‬فالناخبون الذكور املتدينون‬‫توصل إجنلهارت ونوريس إىل َّ‬
‫َّ‬
‫تعليما « يشعرون بأهنم أصبحوا غرباء عن القيم السائدة يف بلدهم ويشعرون بأهنم متخلفون عن الركب‬ ‫املنتمون لألغلبية العرقية واألقل ً‬
‫متخضت عن رد فعل مناهض‬ ‫نتيجة التغري الثقايف الذي ال يتفقون معه‪..‬يبدو َّ‬
‫أن الثورة الصامتة اليت انطلقت يف سبعينيات القرن العشرين َّ‬
‫للثورة يف الوقت احلايل»‪ .‬أبرز بول تايلور (‪ )Paul Taylor‬احمللل السياسي مبركز بيو لألحباث نفس التيار املعاكس يف نتائج استطالع‬
‫مقتنع هبا»‪.‬‬ ‫لكن هذا ال يعين َّ‬ ‫الرأي األمريكية‪« :‬هناك توجه عام حنو الليربالية يف ٍ‬
‫أن البلد بأكمله ٌ‬ ‫عدد من القضايا و َّ‬
‫أن مصدر رد الفعل العكسي الشعبوي قد يكون تيارات احلداثة اليت جتتاح العامل منذ بعض الوقت ‪-‬العوملة والتعددية العرقية‬ ‫ومع َّ‬
‫فإن جناحه انتخابيًّا يعتمد على وجود قائد يستطيع توجيه هذه الكراهية يف اجتاهٍ‬ ‫ومتكني النساء والعلمانية والتوسع احلضري والتعليم‪َّ -‬‬
‫ما‪ ،‬لذا قد خيتلف مدى القبول الذي تتلقاه الشعبوية يف الدول املتجاورة ذات الثقافات املتشاهبة‪ ،‬فاجملر أكثر تقبُّ ًال للشعبوية من مجهورية‬
‫التشيك‪ ،‬والنرويج أكثر من السويد‪ ،‬وبولندا أكثر من رومانيا‪ ،‬والنمسا أكثر من أملانيا‪ ،‬وفرنسا أكثر من إسبانيا‪ ،‬والواليات املتحدة أكثر‬
‫مشرعون من األحزاب الشعبوية إطالقًا)‪.‬‬
‫من كندا (ليس لدى إسبانيا وكندا والربتغال ومجهورية التشيك ِّ‬

‫ستتطور التوترات القائمة بني النزعة اإلنسانية الليربالية العاملية التنويرية اليت جتتاح العامل منذ ٍ‬
‫عقود والشعبوية الرجعية السلطوية‬ ‫َّ‬ ‫كيف‬
‫القبلية اليت تقاومها؟ من املستبعد أن تسري القوى الرئيسية اليت أدت على مدى طويل إىل الليربالية ‪-‬احلراك وسهولة التواصل والتعليم‬
‫والتوسع احلضري‪ -‬يف االجتاه العكسي‪ ،‬وكذلك مطالبة النساء واألقليات العرقية باملساواة‪.‬‬
‫أن الشعبوية حركة لكبار السن‪.‬‬ ‫ولكن أحدها يقيين كـ «املوت والضرائب»‪ ،‬وهي َّ‬ ‫كل هذه التحذيرات بالتأكيد جمرد ُتمينات‪َّ ،‬‬
‫أن الدعم املوجه ملا ميثل تفاقمها ‪-‬ترامب وخروج بريطانيا من االحتاد األورويب واألحزاب األوروبية الشعبوية‪-‬‬ ‫ويظهر الشكل رقم ‪َّ 1-20‬‬
‫ينخفض بصورة هائلة مع صغر السن (تتكون حركة اليمني البديل ‪-‬اليت تتقاطع مع الشعبوية‪ -‬من أعضاء صغار السن‪ ،‬ورغم مسعتها‬
‫ألهنا تتكون من حوايل ‪ 50‬ألف شخص فقط أو ‪ %0.02‬من عدد السكان األمريكيني)‪ .‬ليس‬ ‫السيئة َّإال َّأهنا ليس هلا وجود انتخايب َّ‬
‫مثريا للدهشة ألنَّنا كما رأينا يف الفصل اخلامس عشر فقد كان كل جيل من مواليد القرن العشرين أكثر تساحمًا وليرباليةً‬ ‫هذا االخنفاض ً‬
‫من اجليل الذي سبقه (ويف نفس الوقت أصبحت كل األجيال أكثر ليربالية)‪ ،‬ويزيد هذا من احتمالية اختفاء السلطوية الشعبوية مع‬
‫رحيل اجليل الصامت وجيل طفرة املواليد األكرب سنًا‪.‬‬
‫نسبة المصوتين لصالح ترامب أو لخروج المملكة المتحدة من االتحاد األوروبي‬

‫نسبة المصوتين لصالح األوروبيين الشعبويين‬


‫البريكست‬

‫ترامب‬

‫األحزاب‬
‫األوروبية‬
‫الشعبوية‬

‫ا ل ش ك ل رق م ‪ : 1 - 2 0‬د ع م ا ل ش ع ب وي ة ع رب ا أل ج ي ا ل ‪2 0 1 6 ،‬‬
‫المصادر‪ :‬ترامب‪ :‬استطالعات الرأي اليت أجرهتا شركة إديسون لألحباث )‪New York Times ،(Edison Research‬‬
‫‪ .2016‬خروج المملكة المتحدة من االتحاد األوروبي (الربيكست)‪ :‬استطالعات الرأي اليت أجراها اللورد آشكروفت ( ‪Lord‬‬
‫‪BBC‬‬ ‫‪News‬‬ ‫‪Magazine,‬‬ ‫‪June‬‬ ‫‪24,‬‬ ‫‪2016, ،Ashcroft‬‬ ‫)‪Polls‬‬
‫‪ .http://www.bbc.com/news/magazine-36619342‬األحزاب األوروبية الشعبوية (‪:)2014–2002‬‬
‫‪ .Inglehart & Norris 2016, fig. 8‬البيانات اخلاصة بكل فئة عمرية حمددة عند منتصف مداها‪.‬‬

‫ال تدل التوجهات السياسية ألجيال احلاضر على سياسات املستقبل بالطبع إذا كان الناس يغريون مبادئهم مع تقدمهم يف العمر‪،‬‬
‫رمبا ال متلك أي مشاعر إذا كنت شعبويًا يف سن اخلامسة والعشرين وإذا مل تكن شعبويًا يف سن اخلامسة واألربعني فليس لديك عقل‬
‫(كما يقول امليم عن الليرباليني واالشرتاكيني والشيوعيني واليساريني واجلمهوريني والدميقراطيني والثوريني وقد نُسب قول هذا امليم إىل‬
‫العديد من املشاهري مثل فيكتور هوجو وبنجامني دزرائيلي وجورج برنارد شو وجورج كليمنصو ‪ Georges Clemenceau‬وونستون‬
‫عمن قاله (وهو على األرجح رجل القانون أنسليم باتيب ‪ Anselme Batbie‬والذي عزاه‬ ‫تشرشل وبوب ديالن)‪ .‬لكن بغض النظر َّ‬
‫إلدموند بريك ‪ Edmund Burke‬بدوره) وبغض النظر عن النظام العقائدي الذي ينطبق عليه‪ ،‬فاالدعاء بوجود تأثري لدورة احلياة‬
‫على التوجه السياسي ادعاء خاطئ‪ ،‬فكما رأينا يف الفصل اخلامس عشر‪ ،‬فإن الناس حيتفظون بقيمهم التحررية مع تقدُّمهم يف السن وال‬
‫ينزلقون إىل التوجهات املعادية لليربالية‪ .‬وقد أظهر حتليل حديث للناخبني يف القرن العشرين أجراه عاملا السياسة يائري غيتزا ( ‪Yair‬‬
‫أن األمريكيني ال يصوتون لصاحل الرؤساء احملافظني مع تقدمهم يف السن‪ ،‬إذ‬ ‫‪ )Ghitza‬وآندرو جيلمان (‪َّ )Andrew Gelman‬‬
‫تتأثر التفضيالت االنتخابية للناخبني بشعبية الرؤساء الذين يتولون احلكم خالل حياهتم وتبلغ ذروة هذا التأثري يف الفرتة العمرية بني ‪14‬‬
‫عاما‪ ،‬ومن املستبعد على الشباب الذين يرفضون الشعبوية اليوم أن يعتنقوها يف املستقبل‪.‬‬
‫و‪ً 24‬‬
‫كيف ميكن للمرء مواجهة خطر الشعبوية على قيم التنوير؟ ليس انعدام األمن االقتصادي هو الدافع‪ ،‬لذا َّ‬
‫فإن اسرتاتيجيات احلد‬
‫من انعدام املساواة يف الدخل واحلوار مع عمال صناعة الصلب املسرحني وحماولة الشعور بآالمهم لن تكون فعَّالة على األرجح مع أهنا‬
‫ُ‬
‫أن رد الفعل الثقايف العكسي هو أحد الدوافع‪ ،‬لذا فتجنب اخلطابات االستقطابية والرمزية وسياسات اهلوية قد‬ ‫تستحق اإلشادة‪ .‬يبدو َّ‬
‫يساعد على جذب الناخبني الذين ال يعرفون إىل أي فر ٍيق ينتمون أو على األقل عدم تنفريهم (سنخوض يف هذه املسألة ٍ‬
‫بعمق أكثر يف‬
‫تأثريا يتجاوز حجم املنتمني إليها‪ ،‬فقد يساعد إصالح املخالفات‬ ‫أن احلركات الشعبوية قد حققت ً‬ ‫الفصل احلادي والعشرين)‪ .‬مبا َّ‬
‫االنتخابية مثل التزوير االنتخايب وأشكال التمثيل غري املتكافئ والذي يزيد من تأثري املناطق الريفية (مثل اجملمع االنتخايب للواليات‬
‫بدال من ربطها باألخطاء التافهة‬
‫املتحدة)‪ ،‬وقد تساعد كذلك التغطية الصحفية اليت تربط شعبية املرشحني بسجلهم من الدقة واالتساق ً‬
‫والفضائح‪ .‬سيتالشى جزءٌ من املشكلة على املدى الطويل مع التوسع احلضري‪ ،‬فال تستطيع أن تبقيهم يف املزرعة‪ ،‬وسيتالشى جزءٌ آخر‬
‫بالعوامل الدميوغرافية‪ .‬وكما قيل عن العلم‪ ،‬يتقدم اجملتمع أحيانًا جنازًة تلو األخرى‪.‬‬
‫جدا من السكان ممن هدَّدت نتيجة‬
‫هناك لغز بشأن تصاعد السلطوية الشعبوية وهو ملاذا مل تشارك يف االنتخابات قطاعات كبرية ً‬
‫االنتخابات مصاحلهم أكثر من غريهم مثل الشباب الربيطاين أثناء استفتاء خروج بريطانيا من االحتاد األورويب واألمريكيني من أصول‬
‫إفريقية والالتينيني وجيل األلفية من األمريكيني أثناء انتخاب ترامب‪ .‬يعود بنا هذا إىل موضوع أساسي من موضوعات هذا الكتاب وإىل‬
‫وصفيت الصغرية لتدعيم تيار اإلنسانية التنويرية يف مواجهة االنتكاسة األخرية على التنوير‪.‬‬
‫أن ال شيء ميكنه‬ ‫أن اإلعالم واملثقفني كانا متواطئني مع الصورة الشعبوية للدول الغربية احلديثة َّ‬
‫بأهنا ظاملة وخمتلة لدرجة َّ‬ ‫أعتقد َّ‬
‫مقاال بعنوان «اقتحم غرفة القيادة أو مت!» وفيه يشبِّه الدولة بالطائرة‬‫إصالحها سوى تغيري جذري‪ .‬كتب أحد الكتاب احملافظني ً‬
‫املختطفة يف يوم ‪ 11‬سبتمرب واليت سقطت بسبب مترد أحد الركاب‪ ،‬قال أحد املدافعني عن اليسار املناصر لـ (سياسة إشعال احلرائق)‪:‬‬
‫بدال من التحرك بالقيادة اآللية‬
‫أفضل أن حترتق اإلمرباطورية برمتها حتت ُحكم ترامب مما يفتح الباب أمام تغيري جذري على األقل ً‬ ‫« ِّ‬
‫احملررون املعتدلون يف الصحف املنتمية إىل التيار السائد يصفون أمريكا عادةً َّ‬
‫بأهنا بؤرة للعنصرية‬ ‫حتت والية هيالري كلينتون»‪ .‬وحىت ِّ‬
‫وانعدام املساواة واإلرهاب واملرض االجتماعي واملؤسسات املتهاوية‪.‬‬
‫أن البلد عبارة عن مكب نفايات حمرتق فسيتجاوبون مع نداء الزعماء‬ ‫أن الناس إذا صدقوا َّ‬ ‫واملشكلة يف اخلطاب السوداوي َّ‬
‫الدمياغوجيني الذي يسأل‪« :‬ماذا ستخسر؟» ميكن لإلعالم واملثقفني املساعدة يف اإلجابة على هذا السؤال إذا وضعوا األحداث يف‬
‫أن الناس سيخسرون‬ ‫سياقها التارخيي واإلحصائي‪ .‬تُظهر األنظمة الثورية مثل أملانيا النازية والصني أثناء حكم ماو وفنزويال املعاصرة َّ‬
‫الكثري عندما يطأ الزعماء املستبدون ذوو الشعبية على قواعد الدميقراطية ومؤسساهتا أثناء «األزمات» ويسيطرون على بالدهم بقوة‬
‫شخصيتهم‪.‬‬
‫بدال من‬
‫مهما‪ ،‬ولن ُتلو من املشاكل حىت يأيت املسيح‪ ،‬ولكن من األفضل حل هذه املشاكل ً‬ ‫إجنازا ًّ‬
‫تعد الدميقراطية الليربالية ً‬
‫إشعال حريق هائل ومتين نشوء شيء ما أفضل من بني العظام واألنقاض‪ .‬عندما نعجز عن مالحظة فوائد احلداثة‪ُ ،‬حيرض النقاد‬
‫االجتماعيون الناخبني على األمناء املسؤولني واألفراد الذين حياولون اإلصالح تدرجييًّا الذين ميكنهم ترسيخ التقدم اهلائل الذي متتعنا به‬
‫وتعزيز األوضاع اليت ستحقِّق لنا املزيد منه‪.‬‬

‫اصرا باألخبار‪ ،‬يبدو التفاؤل سذاجة أو كما يقول الكليشيه اجلديد املفضل لدى‬
‫يُعترب إقناع الناس باحلداثة حتديًا ألنَّك عندما تكون ُحم ً‬
‫انفصاال عن الواقع»‪،‬‬
‫املثقفني عن النخبة « ً‬

‫ولكن يف عا ٍمل بعيد عن أساطري األبطال‪ ،‬يكون النوع الوحيد من التقدم الذي ميكننا احلصول عليه هو النوع الذي يسهل السهو عنه‬
‫أن املثل األعلى من عا ٍمل عادل وحر وصحي ومتكافئ‬ ‫أثناء معايشته‪ ،‬مثلما أشار الفيلسوف آيزيا برلني (‪ )Isaiah Berlin‬إىل َّ‬
‫ُ‬
‫شخصا‬
‫ً‬ ‫نسخا متطابقة‪ ،‬فما يرضي‬‫أبدا هو جمرد خيال‪ ،‬والناس ليسوا ً‬‫متاما والذي ال ترقى إىل مستواه الدميوقراطيات الليربالية ً‬
‫ومتجانس ً‬
‫سيُحبِط آخر‪ ،‬والطريقة الوحيدة للمساواة بينهما هي عدم معاملتهما باملثل‪ ،‬إضافةً إىل ذلك‪ ،‬فمن بني شروط احلرية أن تتمتَّع باحلرية‬
‫يف إفساد حياتك‪ .‬تستطيع الدميقراطيات الليربالية إحراز تقدم فقط يف سياق التنازالت الفوضوية واإلصالح املستمر‪:‬‬

‫وجمتمعا أكثر عدالة‪ ،‬واختفت‬


‫ً‬ ‫قدرا أكرب من احلرية‪ ،‬ورفاهيةً مادية أكرب‪،‬‬
‫نال األطفال ما تاق إليه أباؤهم وأجدادهم؛ أي ً‬
‫املشاكل القدمية‪ ،‬ويواجه األطفال اآلن مشاكل جديدة جلبتها عليهم حلول املشاكل القدمية‪ ،‬وحىت لو أمكن حل هذه‬
‫املشاكل فستخلق هذه احللول مواقف جديدة ومتطلبات جديدة وهكذا إىل األبد وبصورة غري متوقعة‪.‬‬

‫هذه هي طبيعة التقدم‪ ،‬يدفعنا إىل األمام كلٌّ من اإلبداع والتعاطف واملؤسسات النافعة‪ ،‬وجتذبنا إىل اخللف اجلوانب املظلمة من‬
‫الطبيعة البشرية والقانون الثاين للديناميكا احلرارية‪ .‬ويشرح كيفن كيلي كيف ميكن هلذه اجلدلية أن تؤدي إىل التقدم على الرغم من ذلك‪:‬‬
‫لكن هذا االختالف‬‫جدا منذ بداية التنوير وظهور العلم‪ ،‬و َّ‬ ‫عاما تلو اآلخر أكثر ممَّا ندمر ٍ‬
‫بقليل ً‬ ‫لقد جنحنا يف أن نبين ً‬
‫اإلجيايب البسيط ترا َك َم على مر العقود وكون ما ميكن أن نسميه باحلضارة‪«..‬فالتقدم» خيفي نفسه بنفسه وال يُالحظ إال يف‬
‫ٍ‬
‫وقت الحق‪ ،‬وهلذا أخرب الناس َّ‬
‫بأن تفاؤيل الكبري جتاه املستقبل له جذور تارخيية‪.‬‬

‫ليس لدينا اسم َّ‬


‫جذاب خلطة بنَّاءة توفق بني املكتسبات على املدى الطويل واإلخفاقات قصرية األمد‪ ،‬وبني التيارات التارخيية‬
‫ألن االعتقاد َّ‬
‫بأن األشياء ستتحسن باستمرار ال يُعد أكثر عقالنية من االعتقاد‬ ‫متاما َّ‬
‫يحا ً‬‫والتدخالت البشرية‪ .‬ليس تعبري «التفاؤل» صح ً‬
‫بأن األشياء ستسوء باستمرار‪ ،‬ويقرتح كيلي مصطلح «بروتوبيا» "‪ "protopia‬و‪ pro‬مأخوذة من كلميت ‪ progress‬و‪،process‬‬ ‫َّ‬
‫تعبريي «األمل التشاؤمي» و«التدرج اجلذري»‪َّ ،‬أما التعبري املفضل لدي فصاحبه هو هانس روزلينج‪ ،‬فعندما ُسئِل َّ‬
‫عما‬ ‫واقرتح آخرون َ‬
‫بأن كل شيء ممكن»‬ ‫متفائال‪َّ ،‬‬
‫وإمنا أؤمن َّ‬ ‫لست ً‬ ‫متفائال‪ ،‬أجاب قائالً « ُ‬
‫إذا كان ً‬
‫الجزء الثالث‪:‬‬
‫العقل والعلم والنزعة اإلنسانية‬

‫أفكار اخلرباء االقتصاديني والفالسفة السياسيني أقوى بكثري ممَّا يظن اجلميع‪ ،‬سواء أكانت هذه‬
‫األفكار صحيحة أو خاطئة‪ ،‬إذ ال حيكم العامل غريها بالفعل سوى القليل من األفكار األخرى‪،‬‬
‫عبيدا ملفك ٍر‬
‫فالرجال العمليون الذين يظنون أنفسهم غري خاضعني ألي نفوذ فكري يكونون عادةً ً‬ ‫ُ‬
‫منقرض ما‪ ،‬ويستمد اجملانني من أصحاب مراكز السلطة الذين يسمعون أصواتًا من العدم‬ ‫ٍ‬ ‫اقتصاد ٍي‬
‫اثق َّ‬
‫أن قوة املصاحل اخلاصة مبال ٌغ فيها بشكل كبري مقارنةً‬ ‫قدمي ما‪ ،‬وأنا و ٌ‬ ‫جنوهنم من ٍ‬
‫مؤلف أكادميي ٍ‬ ‫َ‬
‫بالزحف التدرجيي لألفكار‪.‬‬
‫‪ -‬جون ماينارد كينز )‪(John Maynard Keynes‬‬
‫األفكار مهمة‪ ،‬يعيش «اإلنسان العاقل» بذكائه وخيلق وجيمع مفاهيم عن كيفية سري العامل وكيف ميكن أن يعيش أفراده حياهتم بأفضل‬
‫أصر على قوة املصاحل الشخصية والذي‬ ‫طريقة‪ .‬وال يوجد دليل على قوة األفكار أكرب من مفارقة قوة تأثري الفيلسوف السياسي الذي َّ‬
‫كتب‪« :‬لطاملا كانت األفكار احلاكمة لكل عصر هي أفكار الطبقة احلاكمة»‪ .‬مل ميتلك كارل ماركس (‪ )Karl Marx‬أي ثروة‪ ،‬ومل‬
‫شكلت مسار القرن العشرين وما بعده وغريت حياة‬ ‫دوهنا يف غرفة القراءة يف املتحف الربيطاين َّ‬
‫ولكن األفكار اليت َّ‬
‫ي ُقد أي جيش‪َّ ،‬‬
‫مليارات البشر‪.‬‬
‫يلخص هذا اجلزء من الكتاب دفاعي عن أفكار التنوير‪ .‬عرض اجلزء األول هذه األفكار وأثبت اجلزء الثاين فعاليتها‪ ،‬واآلن حان‬ ‫ِّ‬
‫الوقت للدفاع عنها ضد بعض األعداء غري املتوقعني‪ ،‬وال أعين بذلك الشعبويني الغاضبني واألصوليني الدينيني‪ ،‬بل أقصد طوائف من‬
‫التيار الفكري الرئيسي‪ .‬قد يبدو الدفاع عن التنوير يف وجه أساتذة اجلامعة والنقاد واملثقفني وقرائهم مثالية ساذجة‪ ،‬ألهنم إذا ُسئِلوا‬
‫مشكوك يف أمره‪ ،‬ولدى العديد منهم انتماءات‬
‫ٌ‬ ‫ولكن التزام املثقفني هبذه املبادئ‬
‫بصراحة عن هذه املبادئ فلن ينكرها سوى القليل منهم‪َّ ،‬‬
‫أخرى‪ ،‬والقليل منهم مستعدون للدفاع عن التنوير‪ .‬لذا تتالشى مبادئ التنوير تدرجييًّا يف ظل عدم وجود من يدعو إليها وتصبح صهرجيًا‬
‫دائما هناك العديد من هذه املشاكل)‪ .‬أما األفكار غري الليربالية مثل السلطوية والقبلية‬‫لكل مشاكل اجملتمع غري احمللولة (وسيكون ً‬
‫والتفكري القائم على السحر فهي حترك املشاعر بسهولة وهلا الكثري من األنصار‪ ،‬فاملعركة بينهما ليست عادلة‪.‬‬
‫رغم أنَّين أمتىن أن ترتسخ مبادئ التنوير بعمق أك ٍرب يف نفوس اجلمهور عامةً ‪-‬األصوليني والشعبويني الغاضبني واجلميع‪َّ -‬إال أنَّين‬
‫حججا موجهة ملن‬ ‫ً‬ ‫ال َّأدعي إتقان فنون السحر األسود مثل إقناع اجلماهري أو احلشد اجلماهريي أو امليمات سريعة االنتشار‪ .‬وفيما يلي‬
‫ألن الرجال والنساء العمليني واجملانني أصحاب مراكز السلطة يتأثرون بطريقة مباشرة أو‬ ‫يهتمون باجلدال‪ ،‬وقد ُحت ِدث هذه احلجج فارقًا َّ‬
‫غري مباشرة بعامل األفكار‪ ،‬فهم يذهبون إىل اجلامعة‪ ،‬ويقرؤون اجملالت الفكرية حىت وإن مل يفعلوا ذلك سوى يف غُرف االنتظار يف‬
‫ويلخص هلم موظفوهم املشرتكون يف الصحف رفيعة‬ ‫عيادات أطباء األسنان‪ ،‬ويشاهدون املتحدثني يف الربامج اإلخبارية صباح األحد‪ِّ .‬‬
‫املستوى والذين يشاهدون حماضرات تيد (‪ )TED‬املعلومات اليت تقدِّمها هذه املنصات‪ ،‬ويرتددون على منتديات النقاش على اإلنرتنت‬
‫اليت تتأثر باإلجياب أو السلب بقراءات املشاركني األكثر ثقافة‪ .‬تروقين فكرة أنه قد يأيت بعض اخلري إىل العامل إذا كانت أفكار التنوير‬
‫مثل املنطق والعلم والنزعة اإلنسانية من األفكار اليت تصل إىل هذه الروافد‪.‬‬
‫الفصل الحادي والعشرون‪:‬‬
‫المنطق‬

‫كبريا من الال عقالنيني من تفضيل القلب على العقل‪ ،‬واجلهاز‬ ‫عددا ً‬


‫ولكن هذا مل مينع ً‬‫إن معارضة املنطق غري منطقية بالبداهة‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫احلويف على القشرة املخية‪ ،‬والتجاهل على التفكري وماكوي على سبوك‪ *.‬كانت هناك احلركة الرومانسية املضادة للتنوير اليت َّ‬
‫عرب عنها‬
‫وإمنا ألكون‪ ،‬ألشعر‪ ،‬ألحيا!» وهناك تعظيم اإلميان (ليس من ناحية‬ ‫يوهان هردر (‪ )Johann Herder‬بقوله‪« :‬مل أُخلَق ِّ‬
‫ألفكر َّ‬
‫سبب منطقي‪ ،‬وهناك العقيدة ما بعد احلداثية اليت تقول َّ‬
‫إن املنطق ذريعةً ملمارسة‬ ‫املتديِّنني فحسب) الشائع‪ ،‬أي تصديق شيء دون ٍ‬
‫شبكة من املرجعية الذاتية وتتحول إىل تناقضات‪ .‬وحىت زمالئي من‬ ‫السلطة‪ ،‬والواقع نتاج البناء االجتماعي‪ ،‬وكل العبارات حمصورة يف ٍ‬
‫ُ‬
‫بأن اإلنسان كائن فاعل عقالين‪ ،‬وبالتايل هدم مركزية املنطق نفسه‪ .‬وأثر‬‫كثريا تفنيد االعتقاد التنويري القائل َّ‬
‫ً‬ ‫َّعون‬
‫يد‬ ‫املعريف‬ ‫النفس‬ ‫علماء‬
‫ذلك يف عدم جدوى حماولة جعل العامل مكانًا أكثر عقالنيةً‪.‬‬
‫لكل من هذه املواقف عيبًا قاتال‪ ،‬وهو َّأهنا تدحض نفسها‪ ،‬فهي تنفي إمكانية وجود سبب منطقي لإلميان بتلك املواقف‪،‬‬ ‫ولكن ٍّ‬
‫ألهنم هبذا الفعل يكونون ملتزمني ضمنيًّا باإلقناع‪،‬‬ ‫ومبجرد أن يفتح املدافعون عنها أفواههم لبدء الدفاع‪ ،‬يكونون قد خسروا قضيتهم‪َّ ،‬‬
‫وإال َّ‬
‫فإهنم‬ ‫بتقدمي أسباب منطقية ملا سيقولونه‪ ،‬وهو ما يصرون على ضرورة أن يقبله املستمعون طب ًقا ملعايري العقالنية اليت يقبلها الطرفان‪َّ ،‬‬
‫بدال من ذلك! أوضح الفيلسوف‬ ‫يهدرون طاقتهم دون جدوى ورمبا يكون من األفضل أن حياولوا تغيري رأي مجهورهم بالرشوة أو العنف ً‬
‫أن الذاتية والنسبية غري متسقتني مع‬ ‫توماس نيجل (‪ )Thomas Nagel‬يف كتابه الكلمة األخيرة )‪َّ ،(The Last Word‬‬
‫املنطق والواقع ألنَّك «ال ميكنك نقد شيء بالال شيء»‪:‬‬

‫االدعاء َّ‬
‫بأن «كل شيء ذايت» هراءٌ! إذ إنَّه بنفسه َّإما يكون ذاتيًّا أو موضوعيًّا‪ ،‬ولكنَّه ال ميكن أن يكون موضوعيًّا‬ ‫أن ِّ‬ ‫ال بد َّ‬
‫االدعاءات املوضوعية‪ ،‬مبا‬
‫صحيحا‪ ،‬وال ميكن أن يكون ذاتيًّا ألنَّه لن يستبعد ِّ‬ ‫ً‬ ‫مبا أنَّه يف هذه احلالة سيكون خاطئًا لو كان‬
‫ناحية موضوعية‪ .‬رمبا يكون هناك بعض الذاتيني الذين قد يلقِّبون أنفسهم بالربمجاتيني ويعرضون‬ ‫االدعاءات اخلاطئة من ٍ‬‫فيها ِّ‬
‫ردا‪ ،‬مبا َّأهنا لن تكون سوى تقرير ملا يراه الشخص الذايت‬ ‫بأهنا تنطبق حىت على نفسها‪ ،‬ولكنَّها حينها لن تستدعي ًّ‬ ‫الذاتية َّ‬
‫مقبوال‪ ،‬وإذا دعانا لالنضمام إليه‪ ،‬فلن حنتاج إىل تقدمي أي سبب منطقي للرفض مبا أنَّه مل يقدم أي سبب منطقي للموافقة‪.‬‬ ‫ً‬

‫أن حقيقة تساؤل املرء‬ ‫يسمي نيجل أسلوب التفكري هذا بالديكاريت‪ ،‬ألنَّه يشبه حجة ديكارت «أنا ِّ‬
‫أفكر‪ ،‬إذًا أنا موجود»‪ ،‬كما َّ‬ ‫ِّ‬
‫توضح َّ‬
‫أن املنطق موجود‪ .‬ميكن أن يُطلق عليه‬ ‫أن حقيقة َّ‬
‫أن املرء يستخدم األسباب املنطقية ِّ‬ ‫توضح أنَّه موجود‪ ،‬و َّ‬
‫موجودا ِّ‬
‫ً‬ ‫عما إذا كان‬
‫َّ‬
‫حجة ما (وهي تعود بطر ٍ‬
‫يقة ما إىل مفارقة‬ ‫أيضا حجة ترانسندنتالية‪ ،‬حجة تستدعي الشروط املسبقة الضرورية ألداء ما تفعله‪ ،‬وهو تقدمي ٍ‬
‫ً‬
‫رجل من كريت يقول‪« :‬كل الكريتيني كاذبون»)‪ .‬مهما كان االسم الذي ستطلقه على احلجة‪،‬‬ ‫الكاذب القدمية‪ ،‬اليت كان بطلها ٌ‬
‫فسيكون من اخلطأ تفسريها على َّأهنا تربير لـ «اعتقاد» أو « ٍ‬
‫إميان» باملنطق‪ ،‬وهو ما يطلق عليه نيجل‪« :‬مبالغة يف التفكري»‪ ،‬فنحن ال‬

‫*سبوك هو إحدى شخصيات سلسلة الخيال العلمي ‪ Star Trek‬والذي كان هجي ًنا بين البشر والفولكان‪ ،‬فكان يغلب عليه المنطق أكثر من العاطفة على‬
‫عكس ماكوي البشري‪.‬‬
‫وإمنا نستخدم املنطق (كما أنَّنا ال نربمج حواسبنا اآللية على امتالك وحدة معاجلة مركزية‪َّ ،‬‬
‫وإمنا يكون الربنامج سلسلة من‬ ‫نؤمن باملنطق‪َّ ،‬‬
‫العمليات تتيحها وحدة املعاجلة املركزية)‪.‬‬
‫استنادا إىل املبادئ األوىل‪ ،‬فبمجرد أن نبدأ‬
‫ً‬ ‫رغم َّ‬
‫أن املنطق سابق على كل شيء وال حاجة لتربيره (بل وال ميكن تربيره يف احلقيقة)‬
‫حلما‬
‫سليم مبالحظة اتساقه مع نفسه ومع الواقع‪ .‬احلياة ليست ً‬ ‫أن نوع التفكري املنطقي الذي نستخدمه ٌ‬ ‫يف تطبيقه‪ ،‬ميكننا التأكد من َّ‬
‫تظهر فيه التجارب غري املرتابطة بتتاب ٍع مربك‪ .‬ويثبت تطبيق املنطق على العامل صحته بنفسه عن طريق منحنا القدرة على إرضاخ العامل‬
‫إلرادتنا‪ ،‬سواء أكانت هذه اإلرادة هي الشفاء من العدوى أم إرسال ٍ‬
‫رجل إىل القمر‪.‬‬
‫رغم نشأة احلجة الديكارتية من الفلسفة التجريدية‪َّ ،‬إال َّأهنا ليست تدريبًا على التحذلق‪ .‬يعرف اجلميع‪ ،‬من أكثر التفكيكيني‬
‫ٍ‬
‫استجابات مثل «ما الذي قد جيعلين أصدِّقك؟»‬ ‫نشرا لنظريات املؤامرة و«احلقائق البديلة»‪ ،‬قوة‬
‫غموضا حىت أكثر معادي الفكر العقالين ً‬
‫ً‬
‫أو «أثبِت ما تقول» أو «كل ما تقوله هراء!» لن جييب كثريون قائلني‪« :‬هذا صحيح‪ ،‬ليس لديك سبب لتصديقي»‪ ،‬أو «أجل‪ ،‬أنا‬
‫فعال»‪ ،‬فمن طبيعة اجلدال أن حياول الناس إثبات كوهنم على حق‪ ،‬ومبجرد أن‬ ‫اآلن أكذب عليك»‪ ،‬أو «أتفق معك‪ ،‬ما أقوله هراء ً‬
‫وجي َرب مستمعوهم‪ ،‬الذين حياولون إقناعهم على االتفاق‪ ،‬على االتساق والدقة‪.‬‬ ‫يفعلوا‪ ،‬يكونون قد ألزموا أنفسهم باملنطق‪ُ ،‬‬

‫كتب حقَّقت أعلى‬


‫أصبح اآلن كثريٌ من الناس على وع ٍي باألحباث يف جمال علم النفس املعريف على الال عقالنية البشرية‪ ،‬واليت تشرحها ٌ‬
‫وببطء )‪ (Thinking Fast and Slow‬لدانييل كامنان (‪)Daniel Kahneman‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بسرعة‬ ‫املبيعات مثل كتاب التفكير‬
‫وكتاب غير عقالني كالمتوقَّع )‪ (Predictably Irrational‬لدان آريلي (‪ .)Dan Ariely‬لقد أحملت يف الفصول السابقة إىل‬
‫هذه العلل املعرفية‪ ،‬مثل الطريقة اليت نقدِّر هبا االحتماالت باحلكايات الفردية املتاحة أمامنا‪ ،‬ونسقط الصور النمطية على األفراد‪ ،‬ونبحث‬
‫بدال من‬ ‫عن األدلة املثبِتة ونتجاهل األدلة النافية‪ ،‬وهناب األضرار واخلسائر‪ِّ ،‬‬
‫ونفكر انطالقًا من مبدأ الغائية وما يشبه سحر الفودو ً‬
‫أن من اخلطأ أن ننظر إليها َّ‬
‫كأهنا تدحض بعض مبادئ التنوير اليت تشري إىل َّ‬
‫أن‬ ‫السببية التلقائية‪ .‬ولكن رغم أمهية هذه االكتشافات‪َّ ،‬إال َّ‬
‫اإلنسان كائن فاعل عقالين‪ ،‬وال َّ‬
‫كأهنا جتيز االستنتاج اجلربي أنَّه رمبا يكون من األفضل أن نتخلى عن اإلقناع املدعوم باألسباب املنطقية‬
‫وحنارب الدمياغوجية بالدمياغوجية‪.‬‬
‫أن البشر عقالنيون باستمرار‪ ،‬وبالتأكيد مل يدِّع ذلك كانط املفرط يف العقالنية‬ ‫مفكري التنوير قط َّ‬ ‫مفكر من ِّ‬ ‫بدايةً‪ ،‬مل يد َِّع أي ِّ‬
‫الذي كتب أنَّه‪« :‬ال ميكن لشيء مستقيم حقًّا أن ينتُج عن ضلع اإلنسانية األعوج»‪ ،‬وكذلك مل يفعل سبينوزا وال هيوم وال مسيث وال‬
‫املوسوعيون الذين كانوا علماء نفس اجتماعي ومعريف سابقني لعصرهم‪ .‬ما كانوا يقولونه هو أ َّن علينا أن نكون عقالنيني‪ ،‬عرب تعلُّم كبت‬
‫بشكل مجاعي أو فردي‪ ،‬عرب املؤسسات‬ ‫ٍ‬ ‫أن بوسعنا أن نكون عقالنيني‪،‬‬ ‫املغالطات والعقائد الدوغمائية اليت تغرينا بسهو ٍلة شديدة‪ ،‬و َّ‬
‫التنفيذية وااللتزام باملعايري اليت تقيِّد ملكاتنا مبا فيها حرية التعبري والتحليل املنطقي واالختبار التجرييب‪ ،‬وإذا كان رأيك خمال ًفا‪ ،‬فلماذا قد‬
‫بأن البشر عاجزون عن العقالنية؟‬ ‫نقبل ِّادعاءك َّ‬
‫تربر نسخةٌ بدائية من علم النفس التطوري (نسخةٌ ال يؤيِّدها علماء النفس التطوريون أنفسهم) التشاؤَم الساخر من املنطق غالبًا‪،‬‬
‫ِّ‬
‫حفيف بني األعشاب والذي قد ينذر‬ ‫ٍ‬ ‫يفكرون باللوزة الدماغية ويستجيبون بصورةٍ غريزية ألقل صوت‬‫إن البشر ِّ‬
‫وتقول هذه النسخة َّ‬
‫كأهنم حيوانات تسري على قدمني‪،‬‬‫ولكن علم النفس التطوري احلقيقي يعامل البشر على حن ٍو خمتلف‪ ،‬ليس َّ‬ ‫ٍ‬
‫متخف جامث‪َّ .‬‬ ‫بوجود من ٍر‬
‫وإمنا بصفتهم النوع الذي يفوق احليوانات ذكاء‪ ،‬فنحن نوع ذو قدرات إدراكية تعتمد على تفسري ٍ‬
‫ات للعامل‪ .‬مبا َّ‬
‫أن وضع العامل كما هو‬ ‫َّ‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫بغض النظر عن اعتقادات الناس بشأنه‪ ،‬فهناك ضغط شديد على االنتخاب الذي يسمح بالقدرة على صياغة تفسريات صحيحة‪.‬‬
‫جذورا تطورية عميقة‪ .‬درس العامل املستقل لويس ليبنربج (‪ )Louis Liebenberg‬شعب بومشن‬ ‫فإن للتفكري املنطقي ً‬ ‫ومن مث َّ‬
‫فهم ميارسون أقدم أنواع املطاردة‪،‬‬‫وهم أصحاب إحدى أقدم ثقافات العامل‪ُ ،‬‬ ‫الذي يعيش على الصيد ومجع الثمار يف صحراء كاهلاري‪ُ ،‬‬
‫الصيد باملثابرة‪ ،‬إذ يطارد البشر أصحاب القدرة الفريدة على طرد احلرارة عرب جلدهم املغطى بالعرق إحدى الثدييات املغطاة بالفرو يف‬
‫أن معظم الثدييات أسرع من البشر وتبتعد سر ًيعا لالختفاء مبجرد أن يراها‬ ‫الشمس يف منتصف اليوم حىت تنهار مصابةً بضربة ٍ‬
‫مشس‪ .‬مبا َّ‬
‫أح ٌد‪ ،‬فإن الصيادين يتبعوهنا باملثابرة عرب اقتفاء أثرها‪ ،‬ممَّا يعين استنتاج نوع احليوان وجنسه وسنه ومستوى إجهاده‪ ،‬ومن مث استنتاج اجتاه‬
‫هروبه احملتمل من آثار حوافره وسيقان النباتات املثنية واحلصى املزاحة اليت خيلِّفها وراءه أثناء هروبه‪ .‬ال ميارس البومشن االستدالل فحسب‪،‬‬
‫ُ‬
‫جيدا على سبيل املثال‪ ،‬يف حني َّ‬
‫أن املرامري‬ ‫أن الغزالن الرشيقة تطأ األرض ٍ‬
‫بعمق حبوافرها املدبَّبة لتثبِّت أقدامها يف األرض ً‬ ‫مثل استنتاج َّ‬
‫فيعربون عن املنطق وراء استدالالهتم‬‫أيضا التفكري واجلدال املنطقي‪ِّ ،‬‬
‫وإمنا ميارسون ً‬ ‫الثقيل يطأ األرض بأقدامه املسطحة لتدعم وزنه‪َّ ،‬‬
‫أن متتبِّعي األثر من شعب الكاهلاري ال يقبلون احلجج اليت تقدِّمها السلطة‪،‬‬ ‫بغرض إقناع رفقائهم أو اقتناعهم يف املقابل‪ .‬الحظ ليبنربج َّ‬
‫مقنعا فإن بإمكانه إقناعهم‪ ،‬ليزيد بذلك دقة اجلماعة‪.‬‬
‫فاملتتبِّع الصغري قد يتحدى رأي غالبية الشيوخ‪ ،‬وإذا كان تفسريه للدليل ً‬
‫إذا كنت ما تزال تود إجياد عذ ٍر للخرافة والدوغما احلديثة بأن تقول َّإهنا طبع بشري‪ ،‬انظر إىل ما قاله ليبنربج عن ُّ‬
‫التشكك العلمي‬
‫بني البومشن‪:‬‬

‫أن طائر القربة أحادي النغمة‬ ‫أخربين ثالثة متتبعني ‪!-‬نيت و‪/‬ويس وبورو‪//‬تساو‪ -‬من منطقة لون تري يف وسط كاهلاري َّ‬
‫بأن السماء أمطرت»‪ .‬وأخربين أحد املتتبِّعني‬‫سعيدا َّ‬
‫يغرد سوى بعد املطر ألنَّه «يكون ً‬ ‫(‪ )Mirafra passerina‬ال ِّ‬
‫يغرد جيفِّف الرتبة ممَّا جيعل اجلذور صاحلة لألكل‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬أخربين كلٌّ من !نيت و‪/‬ويس‬ ‫وامسه بورو‪/‬تساو َّ‬
‫أن الطائر عندما ِّ‬
‫وإمنا الشمس هي اليت تفعل ذلك‪ ،‬وال يفعل الطائر سوى أن خيربهم‬ ‫أن بورو‪//‬تساو خمطئ‪ ،‬فليس الطائر من جيفِّف الرتبة‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫أن هذا هو الوقت الذي تكون فيه اجلذور صاحلة لألكل‪..‬‬‫بأن الرتبة ستجف خالل الشهور التالية و َّ‬
‫َّ‬
‫إن الشمس مثل ظيب‬ ‫أخربين !نامكا‪ ،‬وهو متتبِّع من بريي يف وسط صحراء كاهلاري يف بوتسوانا‪ ،‬بأسطورة تقول َّ‬
‫إيالند يعرب السماء مث يقتله من يسكنون الغرب‪ ،‬والوهج األمحر الذي يوجد يف السماء عندما تغرب الشمس هو دم ظيب‬
‫مشسا‬ ‫اإليالند‪ ،‬وبعد أن يأكلوه‪ ،‬يلقون بعظم الكتف عرب السماء حنو الشرق حيث يسقط يف بر ٍ‬
‫مكونًا ً‬‫كة وينمو ثانيةً ِّ‬
‫جديدة‪ ،‬ويُقال َّ‬
‫إن املرء ميكنه أحيانًا مساع صوت طريان عظم الكتف يف اهلواء‪ .‬وبعد أن أخربين بالقصة بالتفصيل اململ‪،‬‬
‫طائرا يف السماء ومل يسمع صوت طريانه مطل ًقا‪.‬‬
‫أن «القدامى» كذبوا عليهم‪ ،‬ألنَّه مل َير عظم الكتف ً‬‫قال يل إنَّه يظن َّ‬

‫أن اإلنسان عرضة لألوهام واملغالطات‪ ،‬فقدرات أدمغتنا حمدودة يف معاجلة املعلومات‪،‬‬‫أي من هذا بالطبع مع اكتشاف َّ‬ ‫ال يتعارض ٌّ‬
‫ولكن الواقع ِّ‬
‫يشكل ضغطًا جبَّ ًارا من أجل االنتقاء‪،‬‬ ‫لتقصي احلقائق‪َّ ،‬‬ ‫وقد تطورت يف عا ٍمل دون عل ٍم وال دراسة‪ ،‬ودون الصور األخرى ِّ‬
‫فإن النوع الذي يعيش بأفكاره ال بد وأن يكون قد تطور ليحظى بالقدرة على تفضيل األفكار الصحيحة‪ .‬التحدي املاثل أمامنا اليوم‬ ‫لذا َّ‬
‫هو تصميم بيئة معلوماتية تسود أو تتغلب فيها تلك القدرة على القدرات اليت تؤدي بنا إىل احلماقة‪ ،‬واخلطوة األوىل هي حتديد سبب انقياد‬
‫نوع ذكي هبكذا سهولة إىل احلماقات‪.‬‬
‫ٍ‬

‫أيضا‪ ،‬وهو عصر أصبح الوصول فيه إىل املعلومات غري مسبوق‪ ،‬دوامات من الال عقالنية‪ ،‬مبا فيها إنكار‬ ‫شهد القرن احلادي والعشرون ً‬
‫التطور وسالمة اللقاحات والتغري املناخي الناتج عن األنشطة البشرية‪ ،‬وترويج نظريات املؤامرة عن احلادي عشر من سبتمرب‪ ،‬حىت‬
‫نادرا ما‬ ‫حاجة َّ ٍ‬
‫ٍ‬ ‫النظريات عن حجم التصويت الشعيب لصاحل دونالد ترامب‪َّ .‬‬
‫ماسة إىل فهم هذه املفارقة‪ ،‬ولكنَّهم ً‬ ‫إن أنصار العقالنية يف‬
‫تفسرها بسبب بعض الال عقالنية اليت يتَّسمون هبا ُهم أنفسهم‪.‬‬ ‫ينظرون يف البيانات اليت قد ِّ‬
‫إن التفسري املعتاد جلنون العامة هو اجلهل‪ ،‬فنظام التعليم متوسط اجلودة قد جعل العامة جاهلني بالعلم‪ ،‬وواقعني حتت رمحة‬
‫احنيازاهتم املعرفية‪ ،‬ومن مث يكونون غري مسلَّحني يف مواجهة املشاهري األغبياء والقنوات اإلخبارية ومظاهر الفساد األخرى يف الثقافة‬
‫الشعبية‪ ،‬واحلل النموذجي هو التعليم األفضل واملزيد من توعية العلماء للعامة عن طريق التليفزيون ووسائل التواصل االجتماعي واملواقع‬
‫كت َّأهنا خاطئة‪ ،‬أو على األقل ال متثِّل سوى‬
‫اإللكرتونية الرائجة‪ .‬وبصفيت عاملًا أقوم بالتوعية‪ ،‬فلطاملا أعجبتين هذه النظرية‪ ،‬ولكنَّين أدر ُ‬
‫جزٍء صغ ٍري فقط من املشكلة‪.‬‬
‫التطور‪:‬‬ ‫ِّ‬
‫فكر يف هذه األسئلة عن ُّ‬
‫أثناء الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر‪ ،‬غطى السخام الريف اإلنجليزي‪ ،‬وأصبح لون العثة المفلفلة أغمق‪ ،‬كيف حدث‬
‫ذلك؟‬
‫أ) كان على العث أن يصبح داكن اللون حىت ميتزج مع حميطه‪.‬‬
‫ب) كانت احتمالية تعرض العث داكن اللون لالفرتاس أقل وبالتايل كانت احتمالية تكاثره أكرب‪.‬‬
‫بعد ٍ‬
‫عام‪ ،‬أصبح متوسط مجموع نتائج االختبارات في إحدى المدارس الثانوية الخاصة أعلى بثالثين نقطة‪ ،‬ما التفسير لهذا‬
‫التغيير المناظر لتفسير داروين لتكيف األنواع؟‬
‫أ) مل ُتعد املدرسة تقبل أبناء اخلرجيني األثرياء إال إذا استوفوا املعايري اليت على اجلميع استيفاءها‪.‬‬
‫ب) منذ االختبارات األخرية‪ ،‬منت معرفة كل الطالب‪.‬‬
‫اإلجابتان الصحيحتان مها (ب) و(أ)‪ .‬أعطى عامل النفس آندرو شتوملان (‪ )Andrew Shtulman‬بعض طالب املرحلة الثانوية‬
‫إن التطور‬‫واجلامعية جمموعة من األسئلة املماثلة اليت تبحث عن فه ٍم أعمق لنظرية االنتخاب الطبيعي‪ ،‬وخاصةً الفكرة الرئيسية القائلة َّ‬
‫يتشكل من تغيريات يف نسب اجملموعات ذات السمات التكيفية وليس من حتول اجملموعات كي تصبح مساهتا أكثر تكيُّـ ًفا‪ .‬ومل ِجيد أي‬
‫لتطور دون أن‬‫يفسر نشأة اإلنسان‪ ،‬إذ ميكن أن يؤمن الناس با ُّ‬ ‫بأن االنتخاب الطبيعي ِّ‬ ‫صلة بني أداء املمتحنني يف االختبار واالعتقاد َّ‬
‫يفهموه‪ ،‬والعكس بالعكس‪ .‬أ صيب عديد من علماء األحياء يف الثمانينيات باإلحراج عند قبوهلم دعوات ملناظرة بعض املؤمنني بنظرية‬
‫وإمنا مرتافعني واسعي االطِّالع يستشهدون بأحدث األحباث لبث الشك فيما إذا‬ ‫اخللق الذين اتضح َّأهنم ليسوا ريفيني سذج ِّ‬
‫متعصبني‪َّ ،‬‬
‫كامال‪.‬‬
‫كان العلم ً‬
‫ليس التصريح باإلميان بالتطور من هبات الثقافة العلمية َّ‬
‫وإمنا إثبات للوالء لثقافة فرعية علمانية ليربالية يف مقابل الثقافة الدينية‬
‫احملافظة‪ .‬أزالت املؤسسة الوطنية للعلوم يف عام ‪ 2010‬البند التايل من اختبار الثقافة العلمية‪« :‬نشأ جنس البشر كما نعرفه اليوم عن‬
‫أن املؤسسة الوطنية للعلوم قد انصاعت لضغط القائلني بنظرية اخللق من أجل‬ ‫أنواع قدمية من احليوانات»‪ .‬مل ي ُكن سبب ذلك التغيري َّ‬
‫حذف التطور من القوانني العلمية كما صاح العلماء آنذاك‪َّ ،‬‬
‫وإمنا كان السبب َّ‬
‫أن الصلة بني األداء يف ذلك البند واألداء يف كل البنود‬
‫األخرى يف االختبار (مثل «اإللكرتون أصغر من الذرة» و«املضادات احليوية تقتل الفريوسات») كانت ضعيفة جدًّا لدرجة أنَّه كان‬
‫اختبارا لإلذعان وليس للثقافة العلمية‪ ،‬وعندما‬
‫بنود أكثر تشخيصية‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬كان البند ً‬ ‫يشغل مساحة يف االختبار ميكن أن تشغلها ٌ‬
‫سبقت البند عبارة «وف ًقا لنظرية التطور» كي ينفصل الفهم العلمي عن الوالء الثقايف‪ ،‬أجاب املمتحنون املتدينون وغري املتدينني إجابات‬
‫متماثلة‪.‬‬
‫أو ِّ‬
‫فكر يف هذه األسئلة‪:‬‬
‫أن الغطاء الجليدي فوق القطب الشمالي إذا ذاب نتيجةً لالحترار العالمي الناتج عن األنشطة البشرية‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫يعتقد علماء المناخ َّ‬
‫مستويات سطح البحر العالمية سترتفع‪ ،‬صواب أم خطأ؟‬

‫ما الغاز الذي يعتقد أغلب العلماء أنَّه سبب ارتفاع درجات الحرارة في الغالف الجوي؟ هل هو ثاني أكسيد الكربون أم‬
‫الهيدروجين أم الهيليوم أم الرادون؟‬
‫يعتقد علماء المناخ َّ‬
‫أن االحترار العالمي الناتج عن األنشطة البشرية سيزيد من خطر إصابة البشر بسرطان الجلد‪ ،‬صواب أم‬
‫خطأ؟‬
‫إجابة السؤال األول هي «خطأ»‪ ،‬لو كانت اإلجابة «صواب» لكانت املياه الغازية تفيض من الكوب مع ذوبان مكعبات الثلج‪ ،‬فالغطاء‬
‫اجلليدي فوق اليابسة مثل جرينالند والقارة القطبية اجلنوبية هو الذي يؤدي عند ذوبانه إىل ارتفاع مستويات سطح البحر‪ .‬مل حيقِّق‬
‫عموما‪،‬‬
‫املؤمنون بالتغري املناخي الناتج عن األنشطة البشرية نتيجةً أعلى ممن ينكرونه يف االختبارات اخلاصة بعلوم املناخ أو الثقافة العلمية ً‬
‫أن االحرتار العاملي سببه ثقب يف طبقة األوزون وأنَّه من املمكن احلد منه بتنظيف‬ ‫كثري من املؤمنني بالتغري املناخي على سبيل املثال َّ‬
‫فيظن ٌ‬
‫مقالب النفايات السامة‪ .‬ليس اجلهل العلمي هو ما يتنبأ بإنكار التغري املناخي الناتج عن األنشطة البشرية بل األيديولوجية السياسية‪،‬‬
‫أن األرض تزداد احرت ًارا بسبب األنشطة البشرية (وأنكر ‪ 57‬يف‬‫إذ اتفق ‪ 10‬يف املئة من اجلمهوريني احملافظني يف عام ‪ 2015‬مع مقولة َّ‬
‫أن األرض تزداد احرت ًارا من األساس)‪ ،‬مقارنةً بـ ‪ 36‬يف املئة من اجلمهوريني املعتدلني و‪ 53‬يف املئة من املستقلني حزبيًّا و‪63‬‬ ‫املئة منهم َّ‬
‫يف املئة من الدميقراطيني املعتدلني و‪ 78‬يف املئة من الدميقراطيني الليرباليني‪.‬‬
‫رموزا‬
‫أن هناك اعتقادات معينة تصبح ً‬ ‫ذكر الباحث القانوين دان كاهان (‪ )Dan Kahan‬يف حتليل ثوري للمنطق يف اجملال العام َّ‬
‫وإمنا عن هويتهم‪ .‬ننتمي ً‬
‫مجيعا إىل قبائل أو ثقافات‬ ‫عما يعرفونه َّ‬
‫للوالء الثقايف‪ ،‬فالناس يؤيدون هذه االعتقادات أو ينكروهنا ال للتعبري َّ‬
‫يشكل حياة جيدة وكيف على اجملتمع إدارة شؤونه‪ .‬تتنوع هذه العقائد بني بُعدين‪ ،‬جيمع‬ ‫فرعية معينة‪ ،‬وتتبىن كلٌّ منها عقيدةً خاصة مبا ِّ‬
‫األول بني ارتياح اجلناح األمين للهرياركية الطبيعية وتفضيل اجلناح األيسر للمساواتية املصطنعة (اليت تُقاس باالتفاق مع عبارات مثل‪:‬‬
‫« علينا احلد من عدم املساواة بني األغنياء والفقراء‪ ،‬والبيض وأصحاب البشرة امللونة‪ ،‬والرجال والنساء»)‪ .‬والثاين هو التآلف التحرري‬
‫مع النزعة الفردانية يف مقابل تآلف النزعة اجملتمعية أو السلطوية مع التضامن (اليت تُقاس باالتفاق مع عبارات مثل‪« :‬على احلكومة وضع‬
‫معيارا أو كلمة سر‬
‫حدود للخيارات اليت ميكن لألفراد اُتاذها كي ال يعيقوا ما هو يف صاحل اجملتمع»)‪ .‬ميكن أن يصبح أحد املعتقدات ً‬
‫شعارا أو قيمة مقدَّسة أو ميني والء إلحدى هذه القبائل‪ ،‬ويعتمد هذا على كيفية صياغته وعلى من يؤيده ويصدِّق عليه‪.‬‬
‫أو عالمةً أو ً‬
‫وكما أوضح كاهان ومعاونوه‪َّ ،‬‬
‫فإن‪:‬‬

‫السبب األساسي الختالف الناس حول علم التغري املناخي ليس إيصاله إليهم بصوٍر ال يستطيعون فهمها‪َّ ،‬‬
‫وإمنا أل َّن املوقف‬
‫تقسمهم ‪-‬مثل مصلحة اجملتمع يف مقابل االعتماد الفردي على النفس‪ ،‬أو نكران‬ ‫يعرب عن القيم اليت ِّ‬
‫من التغري املناخي ِّ‬
‫الذات يف مقابل البحث البطويل على املكافئة‪ ،‬أو التواضع مقابل العبقرية‪ ،‬أو التناغم مع الطبيعة يف مقابل السيطرة عليها‪.‬‬

‫أيضا حسب َمن ُهم الشياطني املالمون على مصائب اجملتمع‪ ،‬الشركات اجلشعة‪ ،‬أم النخبة املنعزلة عن‬ ‫تقسم الناس ً‬ ‫تتحدَّد القيم اليت ِّ‬
‫الواقع‪ ،‬أم البريوقراطيون املتطفلون‪ ،‬أم الساسة الكاذبون‪ ،‬أم املتعصبون اجلهلة أم األقليات العرقية‪.‬‬
‫دفاعا دون مصلحة‪ ،‬هو ميل عقالين بصورةٍ‬ ‫كأهنا ميني والء‪ ،‬وليست ً‬ ‫أن ميل الناس إىل التعامل مع اعتقاداهتم َّ‬‫يشري كاهان إىل َّ‬
‫ٌ‬
‫وحمركي األحداث ومتخذي القرارات‪ ،‬ال تصنع آراء الشخص يف التغري املناخي أو التطور فرقًا يف‬ ‫ٍ‬
‫ما‪ ،‬فباستثناء عدد حمدود من احملرضني ِّ‬
‫ضخما يف االحرتام الذي يفرضه الشخص على اآلخرين يف دائرته االجتماعية‪ .‬قد جيعلك التعبري عن‬ ‫ً‬ ‫عموما‪ ،‬ولكنَّها تصنع فرقًا‬
‫العامل ً‬
‫جيدا»‪ -‬أو خائنًا يف أسوأ األحوال‪ ،‬يصبح الضغط‬ ‫شخصا «ال يفهم األمر ً‬ ‫الرأي اخلاطئ يف مسألة مسيَّسة شاذًّا يف أفضل األحوال ‪ً -‬‬
‫على املرء من أجل االمتثال لآلخرين أكرب عندما يعيش ويعمل مع أشخاص يشبهونه وعندما تسم الفئات األكادميية أو التجارية أو‬
‫الدينية نفسها بقضايا يسارية أو ميينية‪ ،‬قد ميثِّل وقوف املثقَّفني والساسة الذين يشتهرون بقيادة فئاهتم على اجلانب اخلاطئ من ٍ‬
‫قضية ما‬
‫انتحارا مهنيًّا هلم‪.‬‬
‫ً‬
‫متاما‪ ،‬على األقل ليس‬ ‫ٍ‬
‫بالنظر إىل هذه العوامل احلامسة‪ ،‬يكون تأييد اعتقاد مل جيتَز اختباري العلم وتقصي احلقائق غري عقالين ً‬
‫مبعيار آثاره املباشرة على املؤمن به‪َّ ،‬أما آثاره على اجملتمع والكوكب‪ ،‬فتلك مسألة أخرى‪ ،‬فالغالف اجلوي ال يهتم برأي الناس فيه‪ ،‬وإذا‬
‫كم من حظوا منهم بالتقدير يف مجاعات أقراهنم‬‫زادت حرارته بالفعل مبقدار ‪ 4‬درجات مئوية‪ ،‬فسيعاين مليارات البشر‪ ،‬بغض النظر عن ِّ‬
‫مجيعا ممثِّلون يف تراجيديا مشاع االعتقادات‪ ،‬فاالعتقاد العقالين لكل‬
‫لتبنِّيهم الرأي الرائج فيها عن التغري املناخي‪ .‬ينتهي كاهان إىل أنَّنا ً‬
‫يتصرف اجملتمع بأكمله على أساسه (بناءً على الواقع)‪.‬‬
‫فرد (بناءً على التقدير الذي حيصل عليه) قد يكون من غري العقالين أن َّ‬ ‫ٍ‬

‫تساعد احلوافز الفاسدة وراء «العقالنية التعبريية» أو «اإلدراك املدفوع حبماية اهلوية» يف تفسري مفارقة ال عقالنية القرن احلادي‬
‫عرب عنها داعمو ترامب (وترامب نفسه يف كثري من األحيان) خالل‬ ‫والعشرين‪ .‬كان كثريٌ من املراقبني السياسيني مرتابني من اآلراء اليت َّ‬
‫أن هيالري كلينتون مصابة مبرض التصلب املتعدِّد وُتفي ذلك بدوبلري! أو أنَّه ال بد أن يكون‬ ‫احلملة االنتخابية يف عام ‪ ،2016‬مثل َّ‬
‫دور يف أحداث احلادي عشر من سبتمرب ألنَّه مل ي ُكن يف املكتب البيضاوي يف ذلك الوقت (مل ي ُكن أوباما بالتأكيد الرئيس‬ ‫لباراك أوباما ٌ‬
‫فإن «هؤالء األشخاص لديهم األهلية الكافية الرتداء‬ ‫يف عام ‪ .)2001‬وكما قالت آماندا ماركوت (‪َّ )Amanda Marcotte‬‬
‫مالبسهم بأنفسهم‪ ،‬وقراءة عنوان التجمع االنتخايب والوصول إليه يف الوقت احملدد‪ ،‬ومع ذلك فما زالوا يصدقون أشياء جنونية وزائفة‬
‫أن هؤالء الناس يشاركون‬ ‫أن بإمكان أي شخص غري جمنون أن يصدقها! ما الذي حيدث؟» ما حيدث هو َّ‬ ‫لدرجة يستحيل تصديق َّ‬
‫جمموعة ذات مصاحل مشرتكة (وكانت هذه اجملموعة‬ ‫ٍ‬ ‫كذبات زرقاء‪ ،‬تكون الكذبة البيضاء لصاحل املستمع‪َّ ،‬أما الكذبة الزرقاء فهي لصاحل‬
‫يعرب معظمهم عن‬ ‫يف األصل عند ظهور املصطلح هي ضباط الشرطة)‪ .‬يف حني قد يكون بعض املؤمنني بنظريات املؤامرة مضلَّلني حقًّا‪ِّ ،‬‬
‫فهم حياولون معارضة الليرباليني وإظهار التضامن مع إخواهنم‪ .‬يضيف عامل األنثروبولوجيا‬ ‫هذه االعتقادات بغرض األداء وليس احلقيقة‪ُ ،‬‬
‫جون تويب (‪َّ )John Tooby‬‬
‫أن االعتقادات املحالة عالمة على الوالء للتحالف أكثر فعاليةً من االعتقادات العقالنية‪ ،‬ميكن أن‬
‫ُ‬
‫أن الصخور تسقط ألسفل وال تصعد ألعلى‪ ،‬ولكن ليس لدى أي شخص أي سبب ليقول َّ‬
‫إن اهلل ثالثة أشخاص‪،‬‬ ‫يقول أي شخص َّ‬
‫أن احلزب الدميقراطي يدير حلقة ملمارسة اجلنس مع األطفال من مطعم بيتزا يف واشنطن‪ ،‬عدا الشخص‬ ‫شخص واح ٌد‪ ،‬أو َّ‬
‫ٌ‬ ‫أيضا‬
‫ولكنَّه ً‬
‫حبق جتاه ٍ‬
‫أخوية ما‪.‬‬ ‫امللتزم ٍّ‬

‫ولكن‬
‫متثِّل نظريات املؤامرة اليت تشاركها احلشود املتحمسة يف جتم ٍع سياسي حالة بالغة من التعبري عن النفس الذي يطغي على احلقيقة‪َّ ،‬‬
‫مأساة مشاع االعتقادات هلا جذور أعمق من ذلك‪ .‬من مفارقات الواقع األخرى َّ‬
‫أن اخلربة والقدرات العقلية والتفكري املنطقي الواعي ال‬
‫املفكرين من احلقيقة‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬قد تكون أسلحة للتربير شديد الرباعة‪ ،‬فكما قال بنجامني فرانكلني‬ ‫تضمن يف حد ذاهتا اقرتاب ِّ‬
‫سبب لكل شيء‬ ‫ألن هذا ميكنِّك من العثور على ‪-‬أو إجياد‪ٍ -‬‬ ‫عاقال‪َّ ،‬‬
‫(‪« Benjamin Franklin):‬من املريح للغاية أن تكون كائنًا ً‬
‫تريد فعله»‪.‬‬
‫بدال من‬
‫استنتاج مفضَّل ً‬
‫ٍ‬ ‫مصاب بالتفكري املنطقي احملفَّز (توجيه احلجة حنو‬ ‫وقت طويل َّ‬
‫أن املخ البشري‬ ‫يعرف علماء النفس منذ ٍ‬
‫ٌ‬
‫يؤدي إليه)‪ ،‬والتقييم املتحيِّز (العثور على ٍ‬
‫عيوب يف األدلة اليت تنفي املوقف املفضَّل ونتساهل‬ ‫وصوال إىل االستنتاج الذي ِّ‬
‫تتبُّع مسارها ً‬
‫مع األدلة اليت تدعمه) واالحنياز إىل «جانيب من األمر» (وهو يشرح نفسه)‪ .‬يف جتر ٍبة كالسيكية يف عام ‪ 1954‬سأل كلٌّ من آل‬
‫هاستورف (‪ )Al Hastorf‬وهاديل كانرتيل (‪ )Hadley Cantril‬طالب جامعيت دارمتوث وبرينستون عن فيل ٍم حول مباراة كرة‬
‫أن كل جمموعة من الطالب رأت خمالفات أكثر‬ ‫قدم أمريكية حديثة آنذاك بني اجلامعتني كانت مليئة بتكسري العظام واجلزاءات‪ ،‬ووجدا َّ‬
‫لدى الفريق اآلخر‪.‬‬
‫أن احلزبية السياسية تشبه التشجيع يف عامل الرياضة‪ ،‬إذ ترتفع مستويات التستوستريون أو تنخفض ليلة االنتخابات‬ ‫نعرف اليوم َّ‬
‫أن أنصار الفرق السياسية ‪-‬الذين يشملون‬ ‫كما تفعل يف يوم هنائي الدوري الوطين لكرة القدم األمريكية‪ ،‬ولذا ال جيب أن يفاجئنا َّ‬
‫اسة كالسيكية أخرى‪ ،‬عرض علماء النفس تشارلز لورد ( ‪Charles‬‬ ‫معظمنا‪ -‬يرون دائما خمالفات أكثر لدى الفريق اآلخر‪ .‬ويف در ٍ‬
‫ً‬
‫‪ )Lord‬ويل روس (‪ )Lee Ross‬ومارك ليرب (‪ )Mark Lepper‬على مؤيدي عقوبة اإلعدام ومعارضيها دراستني‪ ،‬تشري إحدامها‬
‫أن عقوبة اإلعدام تردع جرائم القتل (اخنفضت معدالت جرائم القتل يف الواليات اليت تبنَّتها يف العام التايل)‪ ،‬وتشري األخرى إىل‬ ‫إىل َّ‬
‫فشلها يف ردع اجلرائم (جرائم القتل يف الواليات اليت تطبِّق عقوبة اإلعدام أعلى منها يف الواليات اجملاورة اليت ال تطبِّقها)‪ .‬كانت الدراستان‬
‫املختربون النتائج لنصف املشاركني يف حال وجد أحدهم املقارنات بني ٍ‬
‫وقت وآخر أكثر‬ ‫زائفتني ولكنَّهما كانتا تبدوان واقعيتني‪ ،‬وقلب ِ‬
‫ٍ‬
‫للحظة تأثـًُّرا بالنتيجة اليت عرفتها للتو‪ ،‬ولكن‬ ‫أن كل جمموعة تذبذبت‬ ‫مكان وآخر‪ ،‬أو العكس‪ .‬وجد ِ‬
‫املختربون َّ‬ ‫إقناعا من املقارنات بني ٍ‬
‫ً‬
‫أمورا مثل‪« :‬ال معىن لألدلة‬
‫تأملوا يف الدراسة غري املتناسبة مع مواقفهم املبدئية‪ ،‬قائلني ً‬ ‫مبجرد أن حظي أفرادها بالفرصة لقراءة التفاصيل‪َّ ،‬‬
‫بيانات عن كيفية ارتفاع معدل اجلرمية اإلمجايل يف تلك السنوات» أو «رمبا ُتتلف ظروف الواليتني رغم َّأهنما تتشاركان يف احلدود»‪.‬‬ ‫دون ٍ‬
‫مجيعا لنفس األدلة من قبل‪ ،‬فأصبح املعارضون أكثر‬ ‫تعرضوا ً‬‫االدعاء االنتقائي‪ ،‬أصبح املشاركون أكثر استقطابًا بعد أن َّ‬ ‫نتيجة هذا ِّ‬
‫تأييدا‪.‬‬
‫معارضةً واملؤيدون أكثر ً‬
‫ويشبه االخنراط يف السياسة التشجيع يف عامل الرياضة من ٍ‬
‫ناحية أخرى‪ ،‬فالناس يبحثون عن األخبار ويتابعوهنا من أجل تعزيز جتربة‬
‫ويفسر هذا إحدى نتائج كاهان األخرى‪ ،‬فكلَّما زادت معلومات املرء عن ُّ‬
‫التغري املناخي‪ ،‬أصبح رأيه أكثر‬ ‫املشجع ال جلعل آرائها أدق‪ِّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫استقطابًا‪ ،‬وليس بالضرورة أن يكون للشخص رأي سابق كي تستقطبه احلقائق‪ .‬عندما عرض كاهان على الناس ً‬
‫عرضا متوازنًا حياديًّا‬
‫ملخاطر تكنولوجيا النانو (اليت ال تُعد قضية ساخنة حساسة مثارة على الشبكات اإلعالمية التليفزيونية)‪ ،‬انقسموا سر ًيعا إىل فئات‬
‫تتماشى مع آرائهم يف الطاقة النووية واألغذية املعدلة جينيًّا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫اكتشاف عن الدماغ كآبة‬ ‫فكر يف التالية اليت وصفتها إحدى اجملالت َّ‬
‫بأهنا «أكثر‬ ‫إذا مل تفتح هذه الدراسات عينيك مبا يكفي‪ِّ ،‬‬
‫على اإلطالق»‪ ،‬وفيها استقدم كاهان ألف أمريكي من مجيع مناحي احلياة‪ ،‬وقيَّم سياساهتم ومعرفتهم باحلساب باستبيانات قياسية‪،‬‬
‫جيدا إىل‬ ‫وطلب منهم النظر يف بعض البيانات من أجل تقييم فعالية عالج جديد ألحد األمراض‪ .‬قيل للمشاركني َّ‬
‫إن عليهم االنتباه ً‬
‫أن سوء املرض قد يقل من تلقاء‬ ‫ألن جناح العالج غري متوقع بنسبة مئة يف املئة من الوقت‪ ،‬بل ورمبا يزيد الوضع سوءًا‪ ،‬يف حني َّ‬
‫األرقام‪َّ ،‬‬
‫ألن عددًا أكرب من اخلاضعني للعالج َّ‬
‫حتسنوا)‬ ‫أن العالج جنح َّ‬ ‫نفسه دون أي عالج‪ .‬مت التالعب باألرقام كي تظهر إجابةٌ ما (وهي َّ‬
‫حتسنت)‪ ،‬وقد تلغي بعض‬ ‫ألن نسبةً أقل من اخلاضعني للعالج َّ‬ ‫أن العالج مل ينجح‪َّ ،‬‬ ‫ولكن اإلجابة األخرى كانت صحيحة (وهي َّ‬ ‫َّ‬
‫أن املرض طفح جلدي‬ ‫احلسابات العقلية البسيطة ‪-‬أي تقدير النسب بالنظر‪ -‬اإلجابة التلقائية‪ .‬قيل للمشاركني يف إحدى نسخ الدراسة َّ‬
‫والعالج كرمي للبشرة‪ ،‬وفيما يلي األرقام اليت ُعرضت عليهم‪:‬‬

‫تحسن حاله ساء حاله‬


‫َّ‬
‫‪75‬‬ ‫مع العالج ‪223‬‬
‫‪21‬‬ ‫دون عالج ‪107‬‬
‫حتسن‬
‫حتسنوا بنسبة حوايل ثالثة إىل واحد‪ ،‬يف حني َّ‬
‫أن ضرر كرمي البشرة كان أكثر من نفعه‪ ،‬فمن استخدموه َّ‬ ‫تشري البيانات ضمنًا إىل َّ‬
‫من مل يستخدموه بنسبة حوايل مخسة إىل واحد (مت قلب هذه الصفوف يف جتربة نصف املشاركني‪ ،‬لتشري ضمنًا إىل َّ‬
‫أن كرمي البشرة جنح‬
‫حتسنوا (‪ 223‬يف مقابل ‪ )107‬املشاركني األقل معرفةً بالعلم واحلساب‪،‬‬‫بالفعل)‪ .‬أغرى العدد األكرب من اخلاضعني للعالج الذين َّ‬
‫فاختاروا اإلجابة اخلاطئة‪َّ ،‬أما املشاركني األكثر معرفةً بالعلم واحلساب فرَّكزوا على الفرق بني النسبتني (‪ 3:1‬يف مقابل ‪ )5:1‬واختاروا‬
‫اإلجابة الصحيحة‪ .‬مل ي ُكن املشاركون األكثر معرفةً باحلساب بالطبع منحازين لكرمي البشرة أو ضده‪ ،‬فالحظوا الفرق مهما كان اجتاه‬
‫البيانات‪ ،‬وعلى عكس أسوأ شكوك الدميقراطيني الليرباليني واجلمهوريني احملافظني يف ذكاء بعضهم بعض‪ ،‬مل تُ ِبل إحدى الفئتني أفضل‬
‫من األخرى‪.‬‬
‫تغري فيها العالج من كرمي بشرة ممل إىل قانون مراقبة األسلحة النارية (قانون مينع املواطنني‬
‫تغري يف نسخة التجربة اليت َّ‬
‫ولكن كل هذا َّ‬
‫َّ‬
‫وتغريت النتيجة من معدالت اإلصابة بالطفح اجللدي إىل معدالت اجلرائم‪ .‬إذ اختلف‬ ‫من محل املسدسات املخفية يف األماكن العامة) َّ‬
‫أن إجراء مراقبة األسلحة‬‫آنذاك املشاركون األكثر معرفةً بالعلم واحلساب بعضهم عن بعض حسب سياساهتم‪ ،‬عندما أشارت البيانات إىل َّ‬
‫حيد من اجلرائم‪ ،‬الحظ ذلك كل الليرباليني الذين جييدون احلساب‪ ،‬وأغفله معظم احملافظني الذين جييدون احلساب‪ ،‬فكان أداؤهم أفضل‬
‫أن مراقبة األسلحة تزيد اجلرائم‪،‬‬‫قليال من احملافظني الذين ال جييدون احلساب ولكنَّهم أخطؤوا أكثر ممَّا أصابوا‪ .‬عندما أظهرت البيانات َّ‬
‫ً‬
‫ولكن الليرباليني الذين جييدون احلساب أغفلوه‪ ،‬فلم ي ُكن أداؤهم يف‬ ‫الحظ هذه املرة معظم احملافظني الذين جييدون احلساب ذلك‪َّ ،‬‬
‫احلقيقة أفضل من أداء الليرباليني الذين ال جييدون احلساب‪ .‬إ ًذا ال ميكننا لوم دماغ الزواحف املوجودة بداخلنا على ال عقالنية اإلنسان‪،‬‬
‫فاملشاركون املثقَّفون ُهم من أعمتهم اعتقاداهتم السياسية أكثر من غريهم‪ .‬وخلَّصت جملَّتان أخريان النتائج كما يلي‪« :‬العلم يثبت َّ‬
‫أن‬
‫السياسة هتدم قدرتك على احلساب» و«جتعلنا السياسة أغبياء»‪.‬‬
‫أن خصومهم السياسيني‬ ‫ليس الباحثون أنفسهم منيعني ضد هذا األمر‪ ،‬فغالبًا ما تعرقلهم احنيازاهتم اخلاصة عندما حياولون إظهار َّ‬
‫منحازون‪ ،‬وهي مغالطة ميكن أن نطلق عليها احنياز االحنياز (كما ذُكر يف إجنيل مىت‪ ،‬اإلصحاح ‪ 7‬آية ‪« :3‬وملاذا تنظر القذى يف عني‬
‫توجب الرتاجع عن دراسة حديثة أجراها ثالثة علماء اجتماع (ينتمون إىل ٍ‬
‫مهنة‬ ‫أخيك‪ ،‬و َّأما اخلشبة اليت يف عينك فال تفطن هلا؟») َّ‬
‫أن احملافظني أكثر عدائية وعدوانية‪ ،‬عندما اكتشف الباحثون َّأهنم أخطؤوا يف قراءة العناوين‪ ،‬فكان‬ ‫تطغي عليها الليربالية)‪ ،‬مفادها إظهار َّ‬
‫تعصبًا‬ ‫كثريا من الدراسات اليت حتاول إظهار َّ‬
‫أن احملافظني أكثر ُّ‬ ‫أن ً‬ ‫الليرباليون يف احلقيقة ُهم من ُو ِصفوا باألكثر عدائية وعدوانية‪ .‬يتَّضح َّ‬
‫تعصبًا بالتأكيد ضد األمريكيني من أصول إفريقية‪،‬‬‫ومجودا من الليرباليني قد انتقت بنود االختبار لتحقيق ذلك الغرض‪ ،‬فاحملافظون أكثر ُّ‬ ‫ً‬
‫ولكن‬
‫تعصبًا ضد املسيحيني املتديِّنني‪ ،‬واحملافظون أكثر حتيُّـًزا جتاه السماح بصالة املسيحيني يف املدارس‪َّ ،‬‬ ‫ولكن اتَّضح َّ‬
‫أن الليرباليني أكثر ُّ‬
‫الليرباليني أكثر حتيُّـًزا جتاه السماح بصالة املسلمني يف املدارس‪.‬‬
‫قاصر على اليسار‪ ،‬وهذا هو احنياز احنياز االحنياز‪ .‬نشر عاملا‬ ‫نظن َّ‬
‫أن ذلك االحنياز بشأن االحنياز ٌ‬ ‫أيضا أن َّ‬‫سيكون من اخلطأ ً‬
‫التحرريان دانييل كالين (‪ )Daniel Klein‬وزيلكا بوتوروفيتش (‪ )Zeljka Buturovic‬دراسة هتدف إىل توضيح َّ‬
‫أن‬ ‫االقتصاد ُّ‬
‫الليرباليني اليساريني جاهلني اقتصاديًّا استنادا إىل إجابات خاطئة على ٍ‬
‫بنود يف مبادئ االقتصاد مثل‪:‬‬ ‫ً‬

‫جتعل القيود على تطوير املساكن اإلسكان أكثر تكلفةً‪[ .‬صحيح]‬


‫يزيد الرتخيص اإللزامي للخدمات املهنية من تكلفة تلك اخلدمات‪[ .‬صحيح]‬
‫الشركة اليت متتلك أكرب حصة يف السوق ِ‬
‫حمتكرة‪[ .‬خاطئ]‬
‫تؤدي الرقابة على اإلجيار إىل عج ٍز يف اإلسكان‪[ .‬صحيح]‬

‫عاما»‪ ،‬وهو صحيح‪ ،‬ومتاشيًا مع ِّادعائي‬ ‫أيضا‪ٍ « :‬‬


‫بشكل عام‪ ،‬مستوى املعيشة اليوم أعلى ممَّا كان عليه منذ ‪ً 30‬‬ ‫(كان من ضمن البنود ً‬
‫بأن التقدُّميني يكرهون التقدُّم‪ ،‬اختلف مع هذا البند ‪ 61‬يف املئة من التقدُّميني و‪ 52‬يف املئة من الليرباليني)‪ِ .‬مشت‬
‫يف الفصل الرابع َّ‬
‫التحرريون وأحلقت وول سرتيت جورنال الدراسة بعنوان «هل أنت أذكى من طالب الصف اخلامس االبتدائي؟ قاصد ًة ضمنًا‬ ‫احملافظون و ُّ‬
‫ولكن النقاد أشاروا إىل َّ‬
‫أن البنود املذكورة يف االختبار كانت تتحدَّى ضمنيًّا قضايا اليسار‪ ،‬لذا أجرى االقتصاديان‬ ‫أن اليسار ليسوا كذلك‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫أيضا على نفس املستوى وكانت مصممة هذه املرة الستفزاز احملافظني‪:‬‬ ‫اختبارا تاليًا بنوده من مبادئ االقتصاد البدائية ً‬
‫ً‬

‫حاال من قبل‪[ .‬خاطئ]‬ ‫عندما ُجيري فردان صفقةً طوعية خيرج منها كالمها بالضرورة أفضل ً‬
‫جترمي اإلجهاض سيزيد عدد عمليات اإلجهاض يف السوق السوداء‪[ .‬صحيح]‬
‫املخدرات إىل متتُّع عصابات الشوارع باملزيد من الثروة والقوة‪ ،‬وزيادة اجلرمية املنظَّمة‪[ .‬خاطئ]‬
‫سيؤدي تقنني ِّ‬

‫كنت خمطئًا‪،‬‬ ‫ٍ‬


‫وحي َسب لكالين أنه تراجع عن هجومه على اليسار يف مقال بعنوان‪ُ « :‬‬
‫أصبح مصطلح األغبياء حينها من نصيب احملافظني‪ُ .‬‬
‫كنت أنت»‪ ،‬فكما قال‪،‬‬‫وكذلك َ‬
‫التحرريني (وأكثر من ‪ 40‬يف املئة من احملافظني) على سبيل املثال مع عبارة‪:‬‬‫اختلف أكثر من ‪ 30‬يف املئة من زمالئي ُّ‬
‫«الدوالر يعين للفقري أكثر ممَّا يعين للغين» ‪-‬حقًّا؟‪ -‬يف مقابل ‪ 4‬يف املئة من التقدُّميني‪..‬أوضح التبويب الكامل للـ ‪17‬‬
‫أن أيًّا من اجملموعات ال تفوق األخرى غباءً‪ ،‬إذ يبدو َّأهنا متساوية يف الغباء يف مواجهة ما يتحدى مواقفهم‪.‬‬
‫سؤ ًاال َّ‬

‫وإذا كان اليسار واليمني متساويني يف مقدار الغباء يف االختبارات والتجارب‪ ،‬فيمكن أن نتوقع منهما أن يكونا متساويني يف اخلطأ يف‬
‫أي من األيديولوجيات‬ ‫فهم العامل‪ .‬تقدِّم البيانات عن التاريخ اإلنساين املذكورة يف الفصول من اخلامس حىت الثامن عشر فرصةً ملعرفة ٍّ‬
‫إن الدوافع األساسية كانت املبادئ غري السياسية‪ ،‬أي العقل والعلم والنزعة‬ ‫السياسية الكربى بوسعها تفسري حقائق تقدُّم البشرية‪ .‬أقول َّ‬
‫عزز ازدهار البشرية‪ ،‬هل لدى األيديولوجيات اليمينية أو اليسارية‬‫اإلنسانية‪ ،‬اليت أدت إىل سعي البشر إىل املعرفة وتطبيقهم إيَّاها ممَّا َّ‬
‫شيئًا ميكنها إضافته؟ هل جتيز الرسوم البيانية األكثر من سبعني رمسًا أليِّهما أن يقول‪« :‬احنياز أو ال احنياز‪ ،‬حنن على حق وأنتم على‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫خطأ»؟ يبدو أنَّه ميكن أن يكون لكل طرف منهما الفضل يف بعض اإلجنازات مع افتقاد أجزاء كبرية من القصة ً‬
‫حمافظ معاصر‪ ،‬إدموند بريك (‪َّ )Edmund Burke‬‬
‫أن البشر‬ ‫تشكك احملافظني يف مبدأ التقدُّم نفسه‪ ،‬منذ اقرتح أول ٍ‬ ‫أمهها ُّ‬
‫معيبون بقد ٍر أكرب من أن يتيح هلم ابتكار خطط لتحسني حالتهم ويكونون أفضل ً‬
‫حاال عند االلتزام بالتقاليد واملؤسسات اليت منعتهم‬
‫املتطرفة الرجعية‬ ‫عن االنزالق إىل اهلاوية‪ ،‬أصبح تيار رئيسي من الفكر احملافظ ِّ‬
‫متشك ًكا يف أفضل اخلطط اليت وضعها البشر‪ .‬تعتقد الفئة ِّ‬
‫أن احلضارة الغربية مالت إىل‬‫املتطرف األورويب (الفصل الثاين والعشرين) َّ‬
‫مؤخرا أنصار ترامب واليمني ِّ‬ ‫من احملافظني اليت كشف عنها ً‬
‫قرن ذهيب‪ ،‬وُتلَّت عن الوضوح األخالقي يف العامل املسيحي التقليدي لصاحل الرتف العلماين املنحل الذي إذا‬ ‫اخلروج عن السيطرة بعد ٍ‬
‫تُ ِرك يف مساره احلايل سينهار نتيجة اإلرهاب واجلرمية وغياب املعايري االجتماعية‪.‬‬
‫الرضَّع وطرق اإلعدام‬
‫هذا خطأ! فاحلياة قبل التنوير كانت مظلمة نتيجة اجملاعات واالوبئة واخلرافات ووفيات األمهات واألطفال ُ‬
‫السادية بالتعذيب والعبودية ومطاردة الساحرات واحلمالت الصليبية اليت تؤدي إىل اإلبادة العرقية والغزوات واحلروب الدينية‪ ،‬غمة‬
‫توضح األقواس الظاهرة يف األشكال من رقم ‪ 1-5‬حىت رقم ‪ 4-18‬أنَّه مع تطبيق اإلبداع والتعاطف على احلالة البشرية‪،‬‬ ‫وانزاحت! ِّ‬
‫ولكن املشاكل حتمية‪.‬‬
‫أصبحت احلياة أطول وأصح وأغىن وأكثر أمانًا وأسعد وأكثر حريةً وأعمق وأكثر إثارةً لالهتمام‪ .‬املشاكل باقية‪َّ ،‬‬
‫أيضا يف احتقار السوق ورومانسيته مع املاركسية‪ ،‬أطلقت الرأمسالية الصناعية اهلروب الكبري من الفقر العاملي يف القرن‬
‫أخطأ اليسار ً‬
‫التاسع عشر وهي تنقذ بقية البشرية بالتقارب الكبري يف القرن احلادي والعشرين‪ ،‬ويف نفس الفرتة الزمنية‪ ،‬جلبت الشيوعية للعامل جماعات‬
‫كربى ومحالت تطهري ومعسكرات العمل القسري واإلبادات اجلماعية وتشرنوبل واحلروب الثورية اليت أدت إىل ماليني الوفيات والفقر‬
‫عرف‬‫على طراز كوريا الشمالية قبل أن تنهار يف كل املناطق األخرى جراء تناقضاهتا الداخلية‪ .‬ومع ذلك ففي استطالع رأي حديث‪َّ ،‬‬
‫بأهنم ماركسيني‪ ،‬وما زالت كلمات مثل رأمسايل والسوق احلرة متثِّل شوكةً يف حلق‬ ‫‪ 18‬يف املئة من أساتذة العلوم االجتماعية أنفسهم َّ‬
‫يغري هذه املصطلحات تلقائيًّا إىل أسواق حرة جاحمة أو غري منظَّمة أو غري مقيَّدة‪ ،‬أو غري‬ ‫معظم املثقَّفني‪ .‬يعود هذا جزئيًّا إىل َّ‬
‫أن عقلهم ِّ‬
‫متاما‬
‫مكر ًسا بذلك الثنائية الكاذبة‪ ،‬فالسوق احلرة بوسعها التعايش مع وجود قواعد تنظيمية خاصة بالسالمة والعمالة والبيئة‪ً ،‬‬ ‫حمدودة‪ِّ ،‬‬
‫كما بوسع الدولة احلرة أن تتعايش مع وجود القوانني اجلنائية‪ .‬وميكن للسوق احلرة التعايش مع وجود مستويات مرتفعة من اإلنفاق على‬
‫الصحة والتعليم والرفاه (الفصل التاسع)‪ ،‬وتتمتَّع بالفعل بعض الدول ذات القدر األكرب من اإلنفاق االجتماعي بأكرب درجات احلرية‬
‫االقتصادية‪.‬‬
‫مستعد للقيام مبغالطة رجل القش‬‫ٌّ‬ ‫أيضا نفس الثنائية الكاذبة ويبدو أنَّه‬
‫التحرري ً‬
‫تبىن اليمني ُّ‬
‫لن ُكن منصفني يف حق اليسار‪ ،‬فقد َّ‬
‫التحرريون من اجلناح اليميين (يف نسخة احلزب اجلمهوري منه يف القرن احلادي والعشرين) مالحظة َّ‬
‫أن التنظيم‬ ‫حول ُّ‬ ‫مع حجج اليسار‪َّ ،‬‬
‫ضارا (بالتمكني الزائد للبريوقراطيني‪ ،‬ممَّا يكلِّف اجملتمع أكثر ممَّا يقدِّمه من منافع‪ ،‬أو حبماية أصحاب املناصب من‬ ‫املفرط قد يكون ًّ‬
‫وحولوا مالحظة َّ‬
‫أن‬ ‫دائما‪َّ .‬‬
‫إن قلة التنظيم أفضل من كثرة التنظيم ً‬ ‫بدال من محاية املستهلكني من الضرر) إىل الدوغما القائلة َّ‬
‫املنافسة ً‬
‫ضارا (خبلق حوافز عكسية ضد العمل وبتقويض أعراف اجملتمع املدين ومؤسساته) إىل الدوغما‬ ‫اإلنفاق االجتماعي املفرط قد يكون ًّ‬
‫ٍ‬
‫خطاب هستريي‬ ‫أن معدالت الضرائب قد تكون مرتفعة للغاية إىل‬ ‫إن أي قدر من اإلنفاق االجتماعي مفر ٌط‪ ،‬وترمجوا مالحظة َّ‬
‫القائلة َّ‬
‫عن «احلرية» يعين فيه رفع معدل الضريبة احلدي على الدخل األكرب من ‪ 400,000‬دوال ٍر أمريكي من ‪ 35‬إىل ‪ 39.6‬يف املئة تسليم‬
‫البلد إىل قوات الصدمة العدوانية‪ .‬يُ َّربر عاد ًة رفض السعي وراء بلوغ املستوى األمثل من احلكم باللجوء إىل ُحجة فريدريش هايك يف‬
‫ميهدان الطريق أمام منز ٍلق سينزلق فيه‬
‫إن التنظيم والرفاهة ِّ‬‫كتاب الطريق إلى العبودية )‪ (The Road to Serfdom‬واليت تقول َّ‬
‫البلد إىل الفقر املدقع والطغيان‪.‬‬
‫التحررية اليمينية بقدر قسوهتا على احملافظة اليمينية واملاركسية اليسارية‪،‬‬
‫تفاجئين حقائق التقدُّم البشري بكوهنا قاسية على ُّ‬
‫وإمنا فرضها أصحاب‬ ‫فاحلكومات الشمولية اليت حكمت يف القرن العشرين مل تنشأ عن انزالق دول الرفاه الدميقراطية يف منز ٍلق ما‪َّ ،‬‬
‫أن الدول اليت جتمع بني األسواق احلرة وضرائب وإنفاق اجتماعي وتنظي ٍم أكثر‬ ‫املتعصبون وعصابات من اجملرمني‪ .‬واتَّضح َّ‬
‫األيديولوجيات ِّ‬
‫وإمنا أماكن يطيب العيش فيها‪ ،‬وهي هتزم الواليات‬ ‫من الواليات املتحدة (مثل كندا ونيوزيلندا وغرب أوروبا) ليست ديستوبيا كئيبة َّ‬
‫الرضَّع والتعليم والسعادة‪ .‬وكما‬
‫املتحدة يف كل مقاييس ازدهار البشرية‪ ،‬مبا فيها مقاييس اجلرمية ومتوسط العمر املتوقع ووفيات األطفال ُ‬
‫التحررية اليمينية‪ ،‬ومل تُرسم أي نسخة واقعية ٍ‬
‫لدولة كهذه مطل ًقا‪.‬‬ ‫رأينا‪ ،‬ال تعمل أي دولة متقدِّمة وفق املبادئ ُّ‬
‫َ‬
‫أن حقائق تقدم البشرية تفنِّد املفاهيم الكربى‪ ،‬فاأليديولوجيات عمرها أكثر من عقدين ومبنية على رؤى قاصرة‬ ‫ليس من الغريب َّ‬
‫احدا أم جمموعة من‬‫عضوا و ً‬
‫حد ممكن‪ ،‬وإذا ما كان اجملتمع بأكمله ً‬ ‫مثل إذا ما كان البشر معيبني بصورة مأسوية أم مرنني إىل أقصى ٍّ‬
‫عقال حيتوي على تريليونات الوصالت‬ ‫كل منها ً‬ ‫األفراد‪ .‬يتضمن أي جمتمع حقيقي مئات املاليني من الكائنات االجتماعية اليت ميتلك ٌ‬
‫ٍ‬
‫شبكات معقدة الكثري منها‬ ‫يكم هائل من املؤثرات اإلجيابية والسلبية يف‬
‫العصبية ويسعى وراء سالمته‪ ،‬بينما يؤثر على سالمة اآلخرين ٍّ‬
‫غري مسبوق‪ ،‬لذا فلن تسري طب ًقا ألي سردية بسيطة تتنبأ مبا سيحدث يف املستقبل يف ظل قواعد معينة‪ .‬الطريقة األكثر عقالنية ملمارسة‬
‫السياسة هي معاملة اجملتمعات على أهنا جتارب مستمرة وتعلم أفضل املمارسات ٍ‬
‫بعقل متفتح أيًا كان مصدرها‪ .‬تُشري الصورة احلالية‬
‫جدا يف الدميقراطيات الليربالية مع مزيج من األعراف املدنية واحلقوق املكفولة واقتصاد‬
‫املستمدة من واقع التجربة إىل أن الناس يزدهرون ً‬
‫السوق احلر واإلنفاق االجتماعي والتنظيم احلكيم‪ .‬وكما أشار بات باولسن )‪« :(Pat Paulsen‬إذا سيطر اليمني أو اليسار على‬
‫البلد‪ ،‬فستدور يف دوائر مفرغة»‪.‬‬
‫أن اجملتمعات‬ ‫أن احلقيقة تقع دائما بني طريف النقيض‪َّ ،‬‬
‫وإمنا َّ‬ ‫دائما على حق و َّ‬ ‫*‬ ‫ليس األمر َّ‬
‫ً‬ ‫أن جولديلوكس (‪ً )Goldilocks‬‬
‫احلالية غربلت أسوأ أخطاء املاضي‪ ،‬لذا فإذا كان هناك جمتمع يعمل على حن ٍو جيد جزئيًا ‪-‬إذا مل ت ُكن الشوارع مليئة بالدماء‪ ،‬وإذا كانت‬

‫*جولديلوكس هي الفتاة في قصة جولديلوكس والثالث دببة التي كانت تختار دائمًا الخيار األوسط بين نقيضين‪.‬‬
‫السمنة متثِّل مشكلةً أكرب من سوء التغذية‪ ،‬وإذا كان الذين يعربون عن أصواهتم االنتخابية بأفعاهلم يصرخون من أجل املشاركة يف‬
‫بدال من إسراعهم إىل اخلروج منها‪ -‬إ ًذا فرمبا تشكل مؤسسات هذا اجملتمع نقطة انطالق جيدة (وهو درس ميكن أن نتعلمه‬
‫االنتخابات ً‬
‫بدال من‬
‫مثمرا إذا تعامل مع احلكم على أنه جتربة علمية ً‬
‫أن التشاور السياسي سيكون ً‬ ‫من فكر إدموند بريك املتحفظ)‪ .‬خيربنا املنطق َّ‬
‫مسابقة رياضية خطرة‪.‬‬

‫أن دراسة البيانات من التاريخ وعلم االجتماع هي طريقة لتقييم أفكارنا أفضل من اجلدال من خميلتنا‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن االختبار احلقيقي‬ ‫رغم َّ‬
‫للعقالنية التجريبية هو التوقُّع‪ ،‬يتقدم العلم باختبار توقعات الفرضيات وكلنا نُقدر املنطق يف حياتنا اليومية عندما مندح ُحكماء احلانات‬
‫أو نسخر منهم حسب األحداث‪ ،‬وعندما نستخدم مصطلحات لتحميل األشخاص مسؤولية أعماهلم مثل من أفسد شيئًا فعليه‬
‫إصالحه‪ ،‬ولطخ العار جبينه‪ ،‬وعندما نستخدم مقوالت مثل «دع أفعالك تتحدث عنك» و« َّإمنا قيمة األشياء مبا هلا من أثر»‪.‬‬
‫نادرا ما تُطبق املعايري املعرفية للحس السليم ‪-‬الذي يلزمنا بأن نقدر الناس واألفكار اليت تتوقَّع توقعات صحيحة وأن‬
‫ولألسف‪ً ،‬‬
‫نستبعد التوقعات اخلاطئة‪ -‬على املثقفني واإلعالميني الذين يقولون آراءهم دون أي إحساس باملسؤولية‪ .‬وتستمر الصحافة يف الرتويج‬
‫دائما مثل بول إيرليش وال يعرف ال ُقراء ما إذا كان كتاهبم املفضلني أو معلميهم الروحانيني أو املتحدثني يف براجمهم‬
‫للعرافني املخطئني ً‬
‫اب أم ال‪ .‬قد تكون العواقب وخيمة‪ ،‬فقد نتج العديد من اهلزائم السياسية والعسكرية عن الثقة اخلاطئة يف توقعات‬ ‫املفضلة على صو ٍ‬
‫يطور أسلحة نووية يف عام ‪ )2003‬وميكن أن يكون القليل من الدقة يف‬ ‫إن صدام حسني ِّ‬ ‫اخلرباء (مثل التقارير االستخباراتية اليت قالت َّ‬
‫التنبؤ بسري األسواق املالية هو الفارق بني ربح ثروة أو خسارهتا‪.‬‬
‫أن بعض االختالفات‬ ‫جيب أن نسرتشد بسجل التوقعات يف تقييمنا للنظم الفكرية مبا فيها األيديولوجيات السياسية‪ ،‬ومع َّ‬
‫أن العديد منها يعتمد على وسائل خمتلفة لتحقيق غايات متفق عليها‬ ‫األيديولوجية ناجتة عن القيم املتضادة وقد يتعذر التوفيق بينها‪َّ ،‬إال َّ‬
‫وينبغي أن تكون قابلة للحسم‪ ،‬فأي السياسات ستحقق ما يريده اجلميع تقريبًا‪ ،‬مثل السالم الدائم أو النمو االقتصادي؟ وأيُّها سيحد‬
‫بدال من افرتاض وجود املعرفة‬
‫من الفقر أو اجلرمية أو األمية؟ جيب على أي جمتمع عقالين أن يبحث عن اإلجابات باستشارة العامل ً‬
‫الكلية لدى بعض ذوي الرأي الذين يتشاهبون يف املعتقد‪.‬‬
‫أيضا على الصحفيني واخلرباء‪ ،‬وال تتطابق العوامل اليت حتدد مسعتهم‬
‫ولألسف‪ ،‬تنطبق العقالنية التعبريية اليت وثقها كاهان يف جتاربه ً‬
‫بدال من ذلك‪ ،‬تتوقف مسعتهم على قدرهتم على التسلية أو دغدغة‬ ‫مع دقة تنبؤاهتم يف ظل عدم وجود من يتحقق من دقة هذه التنبؤات‪ً ،‬‬
‫املشاعر أو الصدمة وقدرهتم على بث الثقة أو اخلوف (على أمل أن حتقق النبوءة ذاهتا أو هتزم نفسها) وعلى مهارهتم يف حشد التحالف‬
‫واالحتفاء بقيمه‪.‬‬
‫العرافني «املخطئني‬
‫درس عامل النفس فيليب تيتلوك (‪ )Philip Tetlock‬منذ الثمانينيات ما مييز املتنبئني املتسمني بالدقة عن َّ‬
‫عادةً ولكنَّهم واثقون يف أنفسهم»‪ ،‬واستقدم مئات احمللِّلني وُكتَّاب املقاالت واألكادمييني واألشخاص العاديني املهتمني من أجل التنافس‬
‫يف دورات تنبؤ تُعرض عليهم فيها أحداث حمتملة ويُطلب منهم تقييم احتمالية وقوعها‪ .‬يربع اخلرباء يف صياغة توقُّعاهتم حلماية أنفسهم‬
‫من التكذيب‪ ،‬واستخدام أفعال مساعدة (قد‪ ،‬رمبا)‪ ،‬وصفات (فرصة كبرية‪ ،‬احتمالية قوية)‪ ،‬وتعبريات زمنية مراوغة (قريبًا ًّ‬
‫جدا‪ ،‬يف‬
‫املستقبل غري البعيد)‪ .‬لذا حاصرهم تيتلوك بتحديد أحداث ٍ‬
‫معينة ذات نتائج ومواعيد هنائية واضحة (مثل‪« :‬هل ستضم روسيا أر ٍ‬
‫اض‬
‫ٍ‬
‫إضافية خالل الثالثة أشهر التالية؟» أو «خالل العام التايل‪ ،‬هل ستنسحب أي دولة من منطقة اليورو» أو «كم دولة أخرى‬ ‫أوكرانية‬
‫يدونون احتماالت عددية‪.‬‬
‫ستبلغ عن حاالت إصابة بفريوس اإليبوال خالل الثمانية أشهر التالية؟») وجعلهم ِّ‬
‫تعرض نيت‬ ‫أيضا املغالطة الشائعة املتمثِّلة يف الثناء على توق ٍع ٍ‬
‫حمتمل واحد أو السخرية منه بعد ظهور احلقيقة‪ ،‬مثلما َّ‬ ‫جتنَّب تيتلوك ً‬
‫جممع بيانات استطالعات الرأي يف موقع ‪ FiveThirtyEight‬اإللكرتوين للهجوم الشديد بعد أن‬ ‫سيلفر )‪ِّ ،(Nate Silver‬‬
‫توقَّع أن تكون احتمالية فوز دونالد ترامب بانتخابات عام ‪ 29 2016‬يف املئة فقط‪ ،‬ومبا أنَّنا ال نستطيع إعادة االنتخابات آالف‬
‫عما إذا كان التوقع قد تأكد أم انتفى ال معىن له‪ .‬ما نستطيع القيام به‬ ‫املرات إلحصاء عدد املرات اليت فاز هبا ترامب‪ ،‬فيكون السؤال َّ‬
‫بالفعل‪ ،‬وما فعله تيتلوك‪ ،‬هو مقارنة جمموعة احتماالت كل متنبِّئ بالنتائج املرتبطة هبا‪ .‬استخدم تيتلوك معادلة ال تُعطي الفضل للمتنبِّئ‬
‫يف الدقة فحسب‪ ،‬بل يف اجملازفة بالتخمني ٍ‬
‫بدقة (مبا أنَّه من األسهل أن يكون كالمك دقي ًقا عندما تظل يف منطقة األمان وتقول توقُّعاتك‬
‫باحتمالية ‪ %50‬إىل ‪ .)%50‬ترتبط املعادلة حسابيًّا مبقدار ما قد يفوزون به لو دعموا أقواهلم بأمواهلم وراهنوا على توقُّعاهتم حسب‬
‫االحتماليات اليت يتنبؤون هبا ُهم أنفسهم‪.‬‬
‫عاما ومثانية وعشرين ألف توقُّ ٍع‪ ،‬كيف كان أداء اخلرباء؟ كأداء الشمبانزي يف املتوسط (وهو ما وصفه تيتلوك بأنَّه يشبه‬
‫بعد عشرين ً‬
‫بدال من قطف املوز)‪ .‬أجرى كلٌّ من تيتلوك وعاملة النفس باربرا ميلرز (‪ )Barbara Mellers‬إعادةً بني‬ ‫رمي السهام يف الظالم ً‬
‫عامي ‪ 2011‬و‪ 2015‬جنَّدا فيها عدة آالف من املتسابقني على املشاركة يف دورة تنبؤات عقدهتا وكالة نشاط مشاريع أحباث املخابرات‬
‫كثري من التخمينات اليت تشبه رمي السهام يف‬ ‫املتقدمة (وهي املنظمة البحثية التابعة الحتاد وكاالت املخابرات األمريكية)‪ .‬كان هناك ٌ‬
‫الظالم‪ ،‬ولكنَّهما استطاعا خالل الدورتني مالحظة «متنبِّئني خارقني» مل ي ُكن أداؤهم أفضل من الشمبانزي واملثقَّفني فحسب‪ ،‬بل‬
‫ٍ‬
‫املتخصصني ذوي القدرة على الوصول إىل معلومات سرية‪ ،‬وأفضل من أسواق التوقُّعات‪ ،‬وال يبعد ً‬
‫كثريا‬ ‫ِّ‬ ‫أفضل من ضباط االستخبارات‬
‫عام يف املستقبل‪ ،‬فالدقة تنخفض مع زيادة البُعد الزمين يف‬ ‫نفسر هذا االستبصار الواضح؟ (ملدة ٍ‬ ‫عن احلد األقصى النظري‪ .‬كيف ِّ‬
‫املستقبل‪ ،‬وتصل إىل مستوى «الصدفة» عندما تصل إىل حوايل مخس سنوات)‪ .‬اإلجابات على ذلك واضحة وعميقة‪.‬‬
‫كان املتنبِّؤون الذين حقَّقوا أسوأ أداء ُهم أصحاب األفكار العظيمة ‪-‬يساريني كانوا أم ميينيني‪ ،‬متفائلني أم متشائمني‪ -‬اليت تبنُّوها‬
‫بثقة ُمل ِهمة (ولكنَّها ُخم ِطئة)‪:‬‬
‫ٍ‬

‫توحدهم‪ ،‬فحاولوا حشر املشاكل‬ ‫أن حقيقة َّ‬


‫أن تفكريهم كان أيديولوجيًّا للغاية كانت ِّ‬ ‫تنوعهم األيديولوجي الكبري‪َّ ،‬إال َّ‬
‫ورغم ُّ‬
‫عرضي‪ .‬وحلساسيتهم جتاه‬ ‫املعقدة داخل مناذج «العلة واملعلول» املفضَّلة وعاملوا ما مل يالئم هذه النماذج كأنَّه مشتِّت َ‬
‫اإلجابات املطاطية‪ ،‬حاولوا دفع حتليالهتم إىل أقصى حد (بل وحاولوا جتاوز هذا احلد)‪ ،‬باستخدام مصطلحات مثل‬
‫«واألكثر من ذلك» و«إضافةً إىل ذلك» مع مراكمة أسباب كوهنم حمقني وكون اآلخرين خمطئني‪ .‬نتيجةً لذلك‪ ،‬كانوا واثقني‬
‫ميال إىل اعتبار أموٍر ما «مستحيلة» أو «أكيدة»‪ .‬واللتزامهم جتاه استنتاجاهتم‪ ،‬كانوا‬ ‫يف أنفسهم على حن ٍو غريب وأكثر ً‬
‫بوضوح‪ ،‬فكانوا يقولون لنا‪« :‬انتظروا»‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ممانعني لتغيري رأيهم حىت عندما ثبت فشل توقُّعاهتم‬

‫ٍ‬
‫مكانة مرئية للعامة هي اليت جعلتهم األسوأ يف التوقُّعات‪ ،‬فكلَّما كانت شهرهتم‬ ‫كانت السمات اليت وضعت هؤالء اخلرباء يف‬
‫ولكن جناح األيديولوجيات الشهرية الذي ال خيتلف عن‬‫أكرب‪ ،‬وكلَّما كان احلدث أقرب إىل جمال خربهتم‪ ،‬أصبحت توقُّعاهتم أقل دقة‪َّ .‬‬
‫ٍ‬
‫حباجة إىل مراجعة مفهومنا عن‬ ‫أن علينا التشكيك يف النُ َخب‪َّ ،‬‬
‫وإمنا يعين أنَّنا‬ ‫جناح الشمبانزي ال يعين َّ‬
‫أن «اخلرباء» عدميو القيمة‪ ،‬أو َّ‬
‫اخلبري‪ .‬كان املتنبِّؤون اخلارقون يف دراسة تيتلوك‪:‬‬

‫‪ ..‬خرباءَ برامجاتيني استخدموا أدوات حتليلية عديدة‪ ،‬وكان اختيار األداة يتوقَّف على املشكلة املعينة اليت يتناولوهنا‪ ،‬مجع‬
‫يفكرون‪ ،‬كانوا يتنقَّلون من فكرةٍ إىل‬ ‫هؤالء اخلرباء أكرب قد ٍر استطاعوا مجعه من أكرب ٍ‬
‫عدد ممكن من املصادر‪ .‬وعندما كانوا ِّ‬
‫أخرى‪ ،‬فشمل حديثهم إشارات انتقالية مثل « َّإمنا»‪ ،‬و«لكن» و«رغم» و«على اجلانب اآلخر»‪ ،‬وكانوا يتحدَّثون عن‬
‫كنت خمطئًا»‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن هؤالء اخلرباء اعرتفوا‬ ‫االحتماليات واملمكنات ال عن اليقينيات‪ .‬ورغم أ ْن ال أحد حيب أن يقول‪ُ « :‬‬
‫ٍ‬
‫بسرعة أكرب‪.‬‬ ‫وغريوا رأيهم‬
‫بذلك َّ‬

‫فهم يقعون يف اخلُمس‬ ‫التوقُّع الناجح هو انتقام املهووسني األذكياء‪ ،‬واملتنبِّؤون اخلارقون أذكياء ولكنَّهم ليسوا بالضرورة عباقرة‪ُ ،‬‬
‫وهم ذوو معرفةً كبرية بالعلم واحلساب‪ ،‬ال يعين هذا براعتهم يف احلساب َّ‬
‫وإمنا يعين أنَّه يسهل‬ ‫األعلى من السكان من حيث الذكاء‪ُ .‬‬
‫بسمات شخصية يطلق عليها علماء النفس «االنفتاح على التجربة» (الفضول الفكري‬ ‫ٍ‬ ‫ات ُتمينية‪ ،‬ويتمتَّعون‬‫عليهم التفكري بتقدير ٍ‬
‫التنوع)‪ ،‬و«احلاجة إىل اإلدراك» (التمتُّع بالنشاط الفكري)‪ ،‬و«التعقيد املتكامل» (تقدير الشك ورؤية اجلوانب املتعددة)‪َّ .‬إهنم‬ ‫و ُحب ُّ‬
‫ويشكون يف حدسهم األويل‪ ،‬ليسوا يساريني وال ميينيني‪ ،‬ليسوا بالضرورة متواضعني فيما خيص قدراهتم‪ ،‬ولكنَّهم‬ ‫ُّ‬ ‫مناهضون لالندفاع‬
‫كنوزا ال بد من محايتها»‪ .‬يسألون‬‫متواضعون بالفعل فيما خيص اعتقادات معينة‪ ،‬فيعاملوهنا باعتبارها «فرضيات ال بد من اختبارها‪ ،‬ال ً‬
‫كنت‬ ‫ٍ‬
‫دوما‪« :‬هل هناك ثغرات يف هذا االستدالل؟ هل ينبغي يل البحث عن شيء آخر لسد هذه الثغرات؟ هل سأقتنع لو ُ‬ ‫أنفسهم ً‬
‫شخصا آخر؟» َّإهنم واعون بالبقع ال عمياء يف اإلدراك مثل احنيازات التوفر والتأكيد (االحنياز للذات) ويضبطون أنفسهم لتجنُّبها‪،‬‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫وميارسون ما يطلق عليها عامل النفس جوناثان بارون )‪« (Jonathan Baron‬االنفتاح العقلي النشط» مع آراء كهذه‪:‬‬

‫جيب أن يأخذ الناس يف اعتبارهم األدلة اليت ُتالف معتقداهتم‪[ .‬أوافق]‬


‫االنتباه ملن خيالفونك الرأي أنفع من االنتباه إىل من يوافقونك‪[ .‬أوافق]‬
‫تغيري رأيك عالمةٌ على الضعف‪[ .‬ال أوافق]‬
‫احلدس هو أفضل دليل يف اُتاذ القرارات‪[ .‬ال أوافق]‬
‫من املهم الثبات على معتقداتك حىت عندما تكون كل األدلة ضدها‪[ .‬ال أوافق]‬

‫واألهم من طبعهم العام أسلوهبم يف االستدالل والتفكري املنطقي‪ ،‬املتنبِّؤون اخلارقون «بايزيون»‪ ،‬أي يستخدمون ضمنًا قاعدة‬
‫القسيس بايز ‪-‬الذي ُمسِّيت القاعدة تيمنًا به‪ -‬لكيفية حتديث درجة إميان املرء بقضية ما يف ضوء األدلة اجلديدة‪ ،‬ينطلقون من املعدل‬
‫صعودا أو هبوطًا بناءً على‬ ‫بوجه عام وعلى األمد الطويل‪ ،‬مث يدفعون هذا التقدير‬‫األساسي للحدث املعين‪ ،‬ما املعدل املتوقع حلدوثه ٍ‬
‫ً‬
‫مدى إشارة الدليل اجلديد إىل حدوث الفعل أو عدم حدوثه‪ ،‬ويبحثون عن هذا الدليل اجلديد بنه ٍم ويتجنَّبون املبالغة يف االستجابة له‬
‫يغري كل شيء!») وكذلك االستجابة الضعيفة له («ال يعين هذا أي شيء!»)‬ ‫(«هذا ِّ‬
‫فعلى سبيل املثال‪ ،‬فإن الساسة واملثقفني سيتخيلون السيناريو اخلاص بالتنبؤ القائل بأن «املتطرفني اإلسالميني يف غرب أوروبا سيشنون‬
‫هجوما بني يومي ‪ 21‬يناير و‪ 31‬مارس من عام ‪ »2015‬والذي قيل بعد جمزرة شاريل إيبدو (‪ ،)Charlie Hebdo‬وسيوافقون‬ ‫ً‬
‫بالتأكيد على احتماليه حدوثه متأثرين بقانون التوفر‪ ،‬وحىت ال يظهروا مبظهر السذج أو املتواطئني‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بصوت عال‪ ،‬قال إنه‬ ‫ولكن ليست هذه هي الطريقة اليت يُفكر هبا املتنبؤون اخلارقون‪ ،‬فعندما طلب تيتلوك من أحدهم أن يفكر‬
‫بدأ حبساب املعدل األساسي عن طريق زيارة موسوعة ويكيبيديا‪ ،‬مث حبث عن قائمة اهلجمات اإلرهابية اإلسالمية على أوروبا خالل‬
‫تغري منذ الربيع‬
‫أن العامل قد َّ‬ ‫السنوات اخلمس املاضية‪ ،‬مث قسم النتيجة على ‪ 5‬واليت تنبأت بوقوع ‪ 1.2‬هجمة كل سنة‪ ،‬ولكنه َّ‬
‫فكر يف َّ‬
‫العريب يف عام ‪ 2011‬لذا استبعد بيانات عام ‪ 2010‬مما زاد من املعدل األساسي ليصل إىل ‪ ،1.5‬وقد ازداد جتنيد داعش منذ هجمات‬
‫أيضا‪ ،‬وبالتوفيق بني العاملني‪ ،‬بدا من‬
‫ولكن اإلجراءات األمنية زادت كذلك ممَّا يستدعي خفضه ً‬ ‫شاريل إيبدو‪ ،‬ممَّا يستدعى رفع املعدل‪َّ ،‬‬
‫توقعا بـ ‪ 1.8‬هجمة كل سنة‪ ،‬وكان متبقيًّا من الفرتة املتوقع حدوث هجوم فيها ‪69‬‬ ‫املنطقي رفع املعدل مبقدار اخلُمس تقريبًا ممَّا يعطينا ً‬
‫أن احتمالية حدوث هجوم إسالمي يف غرب أوروبا حىت‬ ‫يوما‪ ،‬لذا قسم ‪ 69‬على ‪ 365‬وضرب نتيجة القسمة يف ‪ ،1.8‬وهذا يعين َّ‬ ‫ً‬
‫متاما‪.‬‬
‫هناية مارس كانت ‪ 1‬إىل ‪ 3‬تقريبًا‪ .‬فاختالف طريقة التنبؤ يؤدي إىل تنبؤات خمتلفة ً‬
‫هناك صفتان أُخريان ُمتيزان املتنبئني اخلارقني عن املثقفني والشمبانزي‪ ،‬فاملتنبؤون اخلارقون يؤمنون حبكمة اجلماهري ويطرحون‬
‫فرضياهتم كي ينتقدها اآلخرون‪ ،‬أو يُعدلوهنا وجيمعون بني تقديراهتم وتقديرات اآلخرين‪ ،‬ويؤمنون بقوة بالصدفة واحلوادث العارضة يف‬
‫عما إذا‬
‫كل من تيتلوك (‪ )Tetlock‬وميلرز (‪ )Mellers‬جمموعات خمتلفة من الناس َّ‬ ‫تاريخ البشرية يف مقابل احلتمية والقدر‪ .‬سأل ٌ‬
‫كانوا يوافقون على مثل هذه األقوال‪:‬‬

‫تتم األمور وف ًقا خلطة إهلية‪.‬‬


‫لكل شيء سبب‪.‬‬
‫ال توجد صدف أو حوادث‪.‬‬
‫ال يوجد شيء حتمي‪.‬‬
‫متاما‪.‬‬
‫حىت األحداث الكربى مثل احلرب العاملية الثانية أو احلادي عشر من سبتمرب كان ميكن أن حتدث بصورة خمتلفة ً‬
‫ٍ‬
‫حاالت كثرية‪.‬‬ ‫دورا يف حياتنا الشخصية يف‬ ‫تلعب العشوائية ً‬

‫أيضا على «ال أوافق» على األقوال‬ ‫وحسبا نقاطًا على اإلميان باحلتمية والقدر جبمع نقاط «أوافق» على األقوال املشاهبة للثالثة األوىل و ً‬
‫مكانة وسطى‪ ،‬وحيرز الطالب اجلامعي امللتحق جبامعة راقية نقاطًا أقل بقليل‪ ،‬وحيرز‬ ‫ٍ‬ ‫املشاهبة للثالثة األخرية‪ ،‬يقع األمريكي العادي يف‬
‫أيضا‪ ،‬وحيرز املتنبئ اخلارق نقاطًا أقل من اجلميع بينما يرفض املتنبئون اخلارقون الذين يتسمون بالدقة احلتميةَ‬
‫املتنبئ املتوسط نقاطًا أقل ً‬
‫بشدة ويتقبلون فكرة الصدفة‪.‬‬
‫يف رأيي‪ ،‬ينبغي أن ُحيدث تقدير تيتلوك الشديد للخربة باملعيار األقصى‪ ،‬أي التنبؤ‪ ،‬ثورًة يف فهمنا للتاريخ والسياسة ونظرية املعرفة‬
‫دليال أكثر موثوقية للعامل من احلُكماء األذكياء والسرديات املستوحاة‬ ‫واحلياة الفكرية‪ .‬ما الذي يعنيه اعتبار تعديل االحتماالت املتقن ً‬
‫عما‬
‫من منظومات فكرية؟ إضافةً إىل قرعنا على رؤوسنا برسالة تذكريية مفادها أن نتواضع أكثر وأن نكون منفتحني‪ ،‬فإنَّه يعطينا حملة َّ‬
‫ات وعقود‪ .‬حتدث الظواهر بسبب عدد ال ُحيصى من القوى الصغرية اليت تزيد من احتمالية حدوثها وحجمها أو‬ ‫يفعله التاريخ يف سنو ٍ‬
‫لكن العديد من املثقفني ومجيع املفكرين السياسيني ال يُفكرون هبذه الطريقة‬
‫ُتفيضهما وليس بسبب قوانني عامة وجدليات كربى‪َّ ،‬‬
‫قائال‪« :‬عندما ينظر‬
‫لألسف‪ ،‬ورمبا من األفضل أن نعتاد ذلك‪ .‬عندما طُلب من تيتلوك يف حماضرة عامة أن يتنبأ بطبيعة التنبؤ‪ ،‬أجاب ً‬
‫مجهور ‪ 2515‬إىل مجهور ‪ ،2015‬سيكون احتقارهم لطريقتنا يف احلكم على النقاشات السياسية مساويًا الحتقارنا حملاكمات الساحرات‬
‫يف سامل عام ‪.»1692‬‬

‫طويال وآمنًا حلدوثه‪ ،‬فبالتأكيد سيكون من احلماقة التنبؤ‬ ‫موعدا هنائيًا ً‬


‫مل ُحيدد تيتلوك مدى احتمالية حدوث توقعه االعتباطي ووضع ً‬
‫أن العدو األساسي للمنطق يتصاعد‬ ‫بتحسن جودة النقاش السياسي خالل ‪ 5‬سنوات وهي فرتة من املمكن حتقُّق التنبؤ فيها‪ .‬يبدو َّ‬
‫بشكل ملحوظ يف اجملال العام يف الوقت احلايل‪ ،‬وهذا العدو هو التسييس وليس اجلهل أو عدم معرفة قواعد احلساب أو االحنيازات‬ ‫ٍ‬
‫املعرفية‪.‬‬
‫أصبح األمريكيون مستقطبني بصورةٍ متزايدة يف اجملال السياسي نفسه‪ ،‬إذ إ َّن آراء معظم الناس سطحية ً‬
‫جدا وتفتقر إىل احلقائق‬
‫تطورا مريبًا‪ ،‬فقد تضاعفت نسبة ذوي اآلراء الليربالية الثابتة وذوي اآلراء‬‫ولكن هناك ً‬‫وال ترقى لتشكل جزءًا من أيدولوجية متماسكة‪َّ ،‬‬
‫احملافظة الثابتة من األمريكيني بني عامي ‪ 1994‬و‪ 2014‬لتصل إىل ‪ %21‬بعد أن كانت ‪ .%10‬تزامن هذا االستقطاب مع زيادة‬
‫التفرقة االجتماعية بفعل السياسة‪ :‬فخالل هذين العقدين أصبح األصدقاء املقربون ألصحاب األيديولوجيات أكثر تشاهبًا معهم يف نفس‬
‫وجهات النظر السياسية‪.‬‬

‫أيضا‪ ،‬فطب ًقا لدراسة حديثة أجراها مركز بيو لألحباث‪ ،‬كان حوايل ثُلث الدميقراطيني أكثر حمافظةً‬
‫حتيزا ً‬
‫أصبحت األحزاب أكثر ً‬
‫من اجلمهوري املتوسط يف عام ‪ 1994‬والعكس بالعكس‪ ،‬وكانت هذه النسبة تُقارب ‪ 1‬من ‪ 20‬يف عام ‪ .2014‬على الرغم من ميل‬
‫األمريكيني من خمتلف االنتماءات السياسية إىل اليسار خالل سنة ‪َّ ،2004‬إال َّأهنم اختلفوا منذ ذلك احلني على كل القضايا الكربى‬
‫األخرى عدا حقوق املثليني‪ ،‬مبا يف ذلك اللوائح احلكومية واإلنفاق االجتماعي واهلجرة ومحاية البيئة وحجم القوة العسكرية‪ .‬واألكثر‬
‫جدا»‬
‫مدعاةً للقلق أن كل جانب أصبح يكره اجلانب اآلخر أكثر‪ ،‬ففي عام ‪ ،2014‬كانت لدى ‪ %38‬من الدميقراطيني آراءٌ «سلبية ً‬
‫أن احلزب اجلمهوري «يشكل‬ ‫عن احلزب اجلمهوري (بعد أن كانت النسبة ‪ %16‬يف عام ‪ )1994‬وأكثر من ُربْع الدميوقراطيني رؤوا َّ‬
‫هتديدا على رفاهة البلد»‪ ،‬وكان اجلمهوريون أكثر عدائيةً حىت من الدميقراطيني‪ ،‬ولدى ‪ %43‬منهم صورة سلبية عن احلزب الدميقراطي‬‫ً‬
‫هتديدا‪ .‬وأصبح األيديولوجيون أكثر مقاومةً للتنازل وقبول احللول الوسط‪.‬‬
‫يشكل ً‬‫وأكثر من الثُلث يرونه ِّ‬

‫اعتداال بشأن هذه اآلراء‪ ،‬ومل تتغري نسبة الفئة اليت تسمي نفسها معتدلةً خالل ‪40‬‬
‫ً‬ ‫حلسن احلظ‪َّ ،‬‬
‫فإن أغلبية األمريكيني أكثر‬
‫سنة‪ ،‬ولكن من سوء احلظ‪ ،‬فإ َّن املتطرفني هم من مييلون أكثر إىل التصويت ملمثليهم والتربع هلم والضغط عليهم‪ .‬وبتعب ٍري ألطف‪ ،‬ليس‬
‫أي من هذا منذ إجراء الدراسة يف عام ‪.2014‬‬ ‫هناك ما يدل على حتسن ًّ‬
‫جيب أن تكون اجلامعات ساحة لتنحية التحيزات السياسية واالستكشاف املنفتح ملعرفة الطريقة اليت يعمل هبا العامل‪ ،‬ولكن يف‬
‫أيضا ‪-‬ليست أكثر‬
‫الوقت الذي حنن فيه بأشد احلاجة إىل هذه الساحة النزيهة‪ ،‬أصبحت األوساط األكادميية ُمسيسة أكثر من ذي قبل ً‬
‫ولكن هذا امليل أصبح يزداد باطراد‪ ،‬يف عام ‪ 1990‬كان‬ ‫استقطابًا َّ‬
‫وإمنا أكثر يساريةً‪ .‬لطاملا كانت اجلامعات أكثر ليربالية من العامة‪َّ ،‬‬
‫‪ %42‬من هيئة التدريس منتمني ألقصى اليسار أو ليرباليني (أكثر من العامة بـ ‪ 11‬نقطة مئوية)‪ ،‬وكان ‪ %40‬منهم معتدلني‪ ،‬و‪%18‬‬
‫منهم ينتمون ألقصى اليمني أو كانوا حمافظني‪ ،‬فكانت نسبة اليسار إىل اليمني ‪ 2.3‬إىل ‪َّ .1‬أما يف عام ‪ 2014‬فكان ‪ %60‬منتمني‬
‫ألقصى اليسار أو ليرباليني (أكثر بـ ‪ 30‬نقطة مئوية من العامة)‪ ،‬و‪ %28‬معتدلني‪ ،‬و‪ %12‬حمافظني‪ ،‬فكانت نسبة اليسار إىل اليمني‬
‫تبعا للمجال‪ ،‬فأقسام األعمال وعلوم الكمبيوتر واهلندسة وعلوم الصحة ُم َقسمة بالتساوي‪ ،‬بينما العلوم‬ ‫‪ 5‬إىل ‪ُ .1‬تتلف النسب ً‬
‫عددا بنسبة ‪2‬‬
‫اإلنسانية والعلوم االجتماعية يسارية بالتأكيد‪ ،‬فنسبة احملافظني منهم تُعد على أصابع اليد الواحدة ويفوقهم املاركسيون ً‬
‫لكن‬
‫إىل ‪ .1‬ويقع أساتذة العلوم البيولوجية والفيزيائية يف املنتصف مع عدد قليل من الراديكاليني‪ ،‬ودون ماركسيني على اإلطالق تقريبًا‪َّ ،‬‬
‫عددا بصورة كبرية‪.‬‬
‫الليرباليني يفوقون احملافظني ً‬
‫نوعا ما‪ ،‬إذ ال بد للبحث الفكري من حتدي‬ ‫إن ميل األوساط األكادميية (وكذلك جمال الصحافة واحلياة الفكرية) لليربالية طبيعي ً‬ ‫َّ‬
‫أبدا‪ .‬واالقرتاحات املصوغة شفهيًا ‪-‬وهي رصيد املثقفني يف السوق‪ -‬مالئمة للسياسات املدروسة‬ ‫الوضع الراهن الذي ال يكون مثاليًا ً‬
‫اليت يفضلها الليرباليون أكثر من النماذج املنتشرة للتنظيم االجتماعي مثل األسواق واألعراف التقليدية اليت يفضلها احملافظون عادةً‪ .‬وامليل‬
‫أيضا‪ ،‬فقد كانت الليربالية الفكرية يف صدارة العديد من أشكال التقدم اليت تقبلها اجلميع تقريبًا مثل الدميقراطية‬‫مرغوب ً‬
‫ٌ‬ ‫لليربالية باعتدال‬
‫كل من العبودية والتعذيب القانوين وتضاؤل احلروب وتوسع نطاق حقوق اإلنسان واحلقوق‬ ‫والتأمينات االجتماعية والتسامح الديين وإلغاء ٍّ‬
‫املدنية‪ ،‬ومجيعنا اآلن ليرباليون (تقريبًا) من عدة نو ٍاح‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مبجموعة ذات مصاحل مشرتكة‪ ،‬فقد تتعطل مهارات التفكري النقدي لدى أعضاء هذه‬ ‫لكنَّنا رأينا أنَّه عندما ترتبط عقيدة ما‬
‫بأن هذا ما حدث مع كث ٍري من األوساط األكادميية‪ .‬وقد أوضحت يف كتايب الصفحة البيضاء‬
‫اجملموعة‪ ،‬وهناك أشياء تدفعنا إىل االعتقاد َّ‬
‫)‪( (The Blank Slate‬صدرت منه نسخة حمدَّثة يف عام ‪ )2016‬كيف َّ‬
‫شوهت السياسة اليسارية دراسة الطبيعة البشرية مبا فيها‬
‫اجلنس والعنف واجلنسانية وتنشئة األطفال والشخصية والذكاء‪ .‬وثَّق تيتلوك مع علماء النفس خوسيه دواريت (‪ )José Duarte‬وجاريت‬
‫كراوفورد (‪ )Jarret Crawford‬وتشارلوتا سترين (‪ )Charlotta Stern‬وجوناثان هايت (‪ )Jonathan Haidt‬ويل جوسيم‬
‫بيان حديث ميل علم النفس االجتماعي إىل اليسار وأظهر كيف أثَّر ذلك سلبًا على جودة البحث‪ ،‬ونادوا‬ ‫(‪ )Lee Jussim‬يف ٍ‬
‫بتعددية سياسية أكرب يف علم النفس مستشهدين بقول جون ستيوارت ميل )‪« :(John Stuart Mill‬من ال يعرف سوى جانبه‬
‫من القضية‪ ،‬ال يعرف عنها سوى القليل»‪ ،‬وقصدوا التعددية احلقيقية اليت تصنع فارقًا (خبالف التعددية الصورية اليت يسعى إليها اجلميع‬
‫وحتديدا تعددية األشخاص الذين يبدون خمتلفني ولكنَّهم ِّ‬
‫يفكرون بالطريقة نفسها)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫غالبًا‪،‬‬
‫ولكن هذا االحرتام بعيد كل البعد عن العاملية‪ ،‬فعندما‬
‫وحي َسب لعلم النفس األكادميي أنَّه تقبَّل نقد دواريت وزمالئه باحرتام‪َّ ،‬‬‫ُ‬
‫استشهد نيكوالس كريستوف )‪ ،(Nicholas Kristof‬الكاتب الصحفي بصحيفة نيويورك تاميز )‪،(New York Times‬‬
‫أكدت ردود الفعل الغاضبة أسوأ االهتامات املوجهة هلم (كان التعليق الذي‬‫مبقال دواريت وزمالئه بصورة إجيابية وقدم وجهة نظر مماثلة‪َّ ،‬‬
‫عدد من اإلعجابات‪« :‬ال نريد تعددية مع احلمقى»)‪ .‬وقد أصبح فصيل من الثقافة األكادميية املكون من أعضاء هيئة‬ ‫حظي بأكرب ٍ‬
‫التدريس من أقصى اليسار والطالب النشطاء والبريوقراطيني التعدديني املستقلني (والذين يطلق عليهم على سبيل االزدراء املدافعني عن‬
‫أن العنصرية هي سبب كل املشاكل يُلقَّب بالعنصري‪ ،‬وتُلغى‬‫العدالة االجتماعية) غري ليرباليني بشدة‪ ،‬فأي شخص ال يتفق مع افرتاض َّ‬
‫دعوات كث ٍري من املتحدثني غري اليساريني بعد االحتجاجات أو تطغي عليهم أصوات احلشود الساخرة‪ ،‬وقد تُفضح إحدى الطالبات‬
‫ٍ‬
‫لضغوط من أجل‬ ‫ويتعرض أساتذة اجلامعة‬
‫مثريا للجدل‪َّ ،‬‬
‫علنًا عن طريق عميد كليتها بسبب بريد إلكرتوين خاص تعترب فيه كال اجلانبني ً‬
‫جتنب إلقاء حماضرات عن املواضيع املثرية لالستياء وخيضعون لتحقيقات ستالينية بسبب آراء ال تتَسم باللباقة السياسية‪ .‬يتحول هذا‬
‫القمع غالبا دون قصد إىل مسرحية هزلية‪ ،‬فتضم اإلرشادات التوجيهية لعمداء الكليات للكشف عن «االعتداءات الصغرية» عبار ٍ‬
‫ات‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫مثل‪« :‬أمريكا هي أرض ال ُفرص» و«أعتقد أن الوظيفة جيب أن تكون من نصيب األكفأ»‪ ،‬وسخر الطالب من أستاذ جامع ٍي وسبوه‬
‫كثريا بشأن أزياء اهلالوين التنكرية‪ ،‬وأُلغيت دورة يوجا أل َّهنا‬ ‫َّ‬
‫ألنَّه دعاهم ملناقشة خطاب من زوجته تقرتح فيه أال يشغل الطالب باهلم ً‬
‫تعترب «ضد الثقافة األمريكية»‪ .‬واملمثلون الكوميديون غري راضني عن هذا الوضع‪ ،‬فيخشى كلٌّ من جريي ساينفيلد ( ‪Jerry‬‬
‫ألن بعض الطالب‬ ‫‪ )Seinfeld‬وكريس روك (‪ )Chris Rock‬وبيل مار (‪ )Bill Maher‬وغريهم تقدمي عروض يف اجلامعات َّ‬
‫حتما سيغضبون من ٍ‬
‫نكتة ما‪.‬‬ ‫ً‬
‫جيب علينا أن نردع املتطرفني من اليمني عن حتيزهم ورفضهم ألي فكرة ناشئة من اجلامعة ال توافق أهواءهم‪ ،‬يتبىن الوسط األكادميي‬
‫العديد من اآلراء املختلفة‪ ،‬ويلتزم مبعايري مصممة لتعزيز البحث النزيه عن احلقيقة مثل مراجعة األقران والتثبيت الوظيفي والنقاش املفتوح‬
‫وضرورة االقتباس والدليل التجرييب‪ ،‬وإن كانت هذه املعايري ال تُطبَّق على النحو األمثل‪ .‬تعزز اجلامعات والكليات النقد املخالف للسائد‬
‫كنوزا معرفية عظيمة للعامل‪ ،‬والساحات البديلة مثل املدونات وتويرت وأخبار وكاالت األنباء‬
‫املذكور هنا ويف األوساط األخرى بينما تقدم ً‬
‫ُ‬
‫والكوجنرس ليست مناذج مثالية للموضوعية والدقة!‬
‫كثريا (وال أحد‬
‫إن النموذج السياسي أخطر من النموذج األكادميي يف إفساد املنطق يف الوقت احلايل‪ ،‬وهلذا سبب واضح‪ ،‬يُقال ً‬
‫جدا‪َّ ،‬أما املناظرات السياسية فاملخاطر‬ ‫إن املناظرات األكادميية تكون خبيثة َّ‬
‫ألن املخاطر الناجتة عنها ضئيلة ً‬ ‫يعلم من أول من قال ذلك) َّ‬
‫الناجتة عنها ال حد هلا وقد تصل إىل مستقبل الكوكب‪ ،‬فالساسة ميلكون زمام السلطة خبالف أساتذة اجلامعة‪ .‬يف أمريكا القرن احلادي‬
‫مقتنعا بصواب قضيته‬‫والعشرين‪ ،‬أصبحت سيطرة احلزب اجلمهوري على الكوجنرس مهلكة ألنَّه أصبح مرادفًا للحق املطلق‪ ،‬وكان احلزب ً‬
‫وبفساد قضية منافسيه لدرجة تقويضه مؤسسات الدميقراطية حىت ينفذ ما يريد‪ ،‬وتضمنت صور الفساد تزوير االنتخابات وفرض قيود‬
‫على التصويت كي يقل عدد الناخبني الدميقراطيني وتشجيع تربعات أصحاب املصاحل األثرياء وعرقلة ترشيحات احملكمة الدستورية العليا‬
‫حىت يسيطر حزهبم على الرئاسة‪ ،‬وتعطيل عمل احلكومة عند عدم تنفيذ معظم مطالب احلزب‪ ،‬والدعم غري املشروط لدونالد ترامب‬
‫وجتاهلهم حىت العرتاضاهتم أنفسهم على نزعاته الواضحة املضادة للدميقراطية‪ .‬جيب أن تظل آليات التشاور الدميقراطي مصونة مهما‬
‫كانت اخلالفات السياسية أو الفلسفية بني األحزاب‪ ،‬فقد َّأدى تقويض هذه اآلليات على يد اليمني بصورةٍ خاصة إىل اقتناع كث ٍري من‬
‫الناس‪ ،‬مبا فيهم جزء متزايد من الشباب األمريكي‪َّ ،‬‬
‫بأن احلكومة الدميقراطية فاشلة بطبيعتها وأصبحوا متشائمني من الدميقراطية نفسها‪.‬‬
‫مفكرا حمافظًا عندما تتحول السياسة األمريكية‬ ‫ِّ‬
‫بعضا‪ ،‬فيصعب أن تكون ً‬ ‫يغذي كلٌّ من االستقطاب الفكري والسياسي بعضهما ً‬
‫احملافظة إىل حزب «ال أعرف شيئًا» بدايةً من رونالد رجيان إىل دان كويل إىل جورج بوش االبن إىل سارة بالني إىل دونالد ترامب‪ .‬وعلى‬
‫كل من ساسة اهلوية وشرطة اللباقة السياسية واملدافعني عن العدالة االجتماعية على اليسار الباب للثرثارين‬
‫اجلانب اآلخر‪ ،‬تفتح سيطرة ٌ‬
‫الذين يتفاخرون «بقول احلقيقة كما هي»‪ .‬وحتدي عصرنا هو كيفية تبين ثقافة فكرية وسياسية يقودها العقل املنطقي وليس القبلية أو رد‬
‫الفعل‪.‬‬
‫يبدأ جعل العقل طريقتنا يف احلوار بإيضاح مركزية املنطق نفسه‪ ،‬فكما ذكرت‪ ،‬هناك الكثري من املعلِّقني الذين خيتلط عليهم املنطق‪ .‬وال‬
‫أن «البشر غري منطقيني» وأنَّه ال فائدة من حماولة جعل مناقشاتنا أكثر منطقيةً‪ ،‬ولو كان‬ ‫يعين اكتشاف التحيزات املعرفية والعاطفية َّ‬
‫معيارا للعقالنية نُقيِّم على‬
‫البشر غري قادرين على العقالنية‪ ،‬مل ن ُكن لنستطيع اكتشاف ما جيعلهم غري عقالنيني ألنَّنا مل ن ُكن لنملك ً‬
‫أن هذا ال ينطبق‬ ‫أساسه ُحكم اإلنسان وال طريقةً جنري هبا هذا التقييم‪ .‬قد يكون البشر ُمعرضني للتحيز واخلطأ‪ ،‬ولكن من الواضح َّ‬
‫إن البشر ُمعرضون للتحيز واخلطأ‪ .‬الدماغ البشري قادر بالفعل على أن يكون‬ ‫على اجلميع وال طوال الوقت َّ‬
‫وإال فلن حيق ألحد أن يقول َّ‬
‫منطقيًّا يف الظروف املناسبة‪ ،‬وتكمن املشكلة يف حتديد هذه الظروف وتثبيتها‪.‬‬
‫هلذا السبب نفسه‪ ،‬ينبغي للكتاب الصحفيني التوقف عن ذكر الكليشيه اجلديد بأنَّنا يف «حقبة ما بعد احلقيقة» َّإال إذا كانوا‬
‫أن علينا أن نقبل بوجود الدعاية واألكاذيب‬ ‫ض َّ‬‫يستطيعون مواصلة احلديث هبذه النغمة الساخرة الالذعة‪ ،‬فهذا املصطلح ُمدمر ألنَّه يف ِرت ُ‬
‫وأن نواجهها بأكاذيب أكرب‪ .‬لسنا يف حقبة ما بعد احلقيقة‪ ،‬فكلٌّ من الكذب وإخفاء احلقيقة ونظريات املؤامرة واألوهام الغريبة الشائعة‬
‫بأن بعض األفكار صحيحة وبعضها غري صحيح قدميٌ كذلك‪ ،‬فنفس العقد‬ ‫وجنون اجلماهري قدمي قِدم اجلنس البشري‪َّ ،‬‬
‫ولكن االقتناع َّ‬
‫أيضا صعود مبدأ تقصي احلقائق‪ .‬الحظت آجني هوالن ( ‪Angie‬‬ ‫الذي شهد صعود ترامب املفضوح بالكذب وأنصاره اجملانني شهد ً‬
‫‪ )Holan‬حمررة موقع ‪ PolitiFact‬وهو موقع لتقصي احلقائق مت إطالقه يف عام ‪َّ 2007‬‬
‫أن‪:‬‬

‫«العديد» من إعالميي التلفزيون يف الوقت احلايل بدؤوا يستخدمون تقصي احلقائق واآلن يستجوبون املرشحني خبصوص‬
‫عما إذا كانت تصرحياهتم‬ ‫أن من التحيز سؤال الناس َّ‬ ‫قضايا حتري الدقة أثناء مقابالهتم على اهلواء‪ ،‬وال يعتقد معظم الناخبني َّ‬
‫أن ‪ 8‬أو أكثر‬ ‫اليت تبدو مبنيةً على احلقائق دقيقةً أم ال‪ ،‬وأظهر حبث نشره معهد الصحافة األمريكية يف مطلع هذا العام َّ‬
‫من بني كل ‪ 10‬أمريكيني ينظرون إىل فكرة تقصي احلقائق يف السياسة نظرًة إجيابية‪.‬‬
‫أن مؤسساهتم اإلعالمية بدأت بتسليط الضوء على تقصي احلقائق يف تقاريرهم‬ ‫يف الواقع‪ ،‬خيربين الصحافيون باستمرار َّ‬
‫ألن العديد من الناس ينقرون على املقاالت اليت تتقصي احلقائق بعد مناظرةٍ أو ٍ‬
‫حدث إخباري هام‪ ،‬يريد العديد من ال ُقراء‬ ‫َّ‬
‫أيضا‪ ،‬ويشكون علنًا ألمناء املظامل وممثِّلي القراء عندما‬
‫اآلن أن يكون تقصي احلقائق جزءًا من األخبار الصحافية التقليدية ً‬
‫خربا صحافيًا يكرر ِّادعاءات زائفة غري موثوقة‪.‬‬
‫يشاهدون ً‬

‫كثريا يف العقود السابقة عندما كانت الشائعات تتسبب يف مذابح وأعمال شغب وإعدامات دون حماكمة‬ ‫كان هذا املبدأ سيفيدنا ً‬
‫وحروب (مبا يف ذلك احلرب األمريكية اإلسبانية يف عام ‪ 1898‬وتفاقم حرب فيتنام عام ‪ 1964‬وغزو العراق عام ‪ 2003‬وكثري‬
‫غريها)‪ .‬ومل يُطبق هذا املبدأ بقوة كافية ملنع ترامب من الفوز عام ‪ ،2016‬ولكن منذ ذلك أصبحت أكاذيبه وأكاذيب املتحدثني نيابةً‬
‫عنه موضع سخرية الذعة يف اإلعالم والثقافة الشعبية ممَّا يعين َّ‬
‫أن املوارد الالزمة النتصار احلقيقة موجودة‪ ،‬حىت وإن كانت ُتسر أحيانًا‪.‬‬
‫على املدى البعيد‪ ،‬ميكن أن حتد مؤسسات العقل من مأساة مشاع االعتقادات وتتيح للحقيقة االنتصار‪ .‬وعلى الرغم من كل ال‬
‫أن عددا قليال فقط من األشخاص املؤثِّرين اليوم يؤمنون باملذؤوبني واحلصان وحيد القرن والساحرات واخليمياء والتنجيم‬
‫عقالنيتنا‪َّ ،‬إال َّ‬
‫واحلجامة والغيوم الناقلة للمرض والتضحية باحليوانات وحق امللوك اإلهلي يف احلكم والنبوءات اخلارقة للطبيعة يف أقواس قزح واخلسوف‪.‬‬
‫فمؤخرا أثناء طفوليت‪ ،‬أدان قاضي فريجينيا ليون بازيل (‪ )Leon Bazile‬زواج ريتشارد‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪،‬‬
‫وميكن جتاوز الال عقالنية األخالقية ً‬
‫وميلدريد الفنج (‪َّ )Richard and Mildred Loving‬‬
‫ألهنما من عرقني خمتلفني حبجة ال يستطيع تقدميها أجهل احملافظني‬
‫اليوم‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫ارتكب الطرفان أخطر جرمية‪ ،‬وكانت اجلرمية خمالفة للقانون العام املعلن القائم على السياسة العامة اليت يعتمد عليها النظام‬
‫االجتماعي واألخالق العامة واملصاحل العليا لكال العرقني‪..‬فقد خلق اهلل تعاىل األعراق بيضاء وسوداء وصفراء ومالوية ومحراء‬
‫يوضح أنَّه مل يُرد لألعراق أن ُتتلط‪.‬‬
‫ات منفصلة‪ ،‬وفصله بني األعراق ِّ‬ ‫وأسكنهم قار ٍ‬

‫ومن املفرتض َّأال يقتنع معظم الليرباليني بالدفاع الذي قدمته سوزان سونتاج (‪ )Susan Sontag‬عن كوبا يف ظل حكم كاسرتو يف‬
‫عام ‪ 1969‬قائلةً‪:‬‬

‫احلسية واهللع‪ ،‬وال يتَّسمون باجلفاف واالستقامة اخلطية اليت تتَّسم هبما ثقافة الطباعة‪.‬‬
‫يألف الكوبيون التلقائية واملرح و ِّ‬
‫فإن مشكلتهم عكس مشكلتنا تقريبًا‪ ،‬وعلينا أن نتعاطف مع جهودهم من أجل حلها‪.‬‬ ‫باختصار‪َّ ،‬‬

‫ِّ‬
‫ولشكنا يف تزمت الثورات اليسارية التقليدي‪ ،‬فيجب على الراديكاليني األمريكيني أن يفكروا مبوضوعية عندما تصبح دولة‬
‫قليال بشأن‬
‫أساسا باملوسيقى الراقصة والعاهرات والسيجار واإلجهاض وحياة املنتجعات واألفالم اإلباحية متشددة ً‬‫معروفة ً‬
‫األخالقيات اجلنسية وتقرر يف حلظة سيئة منذ عامني أن جتمع اآلالف من مثليي اجلنس يف هافانا وترسلهم إىل مزرعة إلعادة‬
‫تأهيل أنفسهم‪.‬‬

‫تعبريا عن‬ ‫َّ‬


‫كانت هذه «املزارع» يف احلقيقة معسكرات عمل قسري‪ ،‬ومل تنشأ هذه املعسكرات لتصحيح البهجة التلقائية أو اهللع وإمنا ً‬
‫ذكر أنفسنا َّ‬
‫بأن الناس‬ ‫رهاب املثلية املتجذر ٍ‬
‫بعمق يف الثقافة الالتينية‪ .‬عندما نستاء من جنون اخلطاب العام يف الوقت احلايل‪ ،‬فعلينا أن نُ ِّ‬
‫كثريا يف املاضي كذلك‪.‬‬‫مل يكونوا عقالنيني ً‬

‫ما الذي ميكن فعله لتحسني معايري التفكري املنطقي؟ ال يكون استخدام احلقائق واملنطق يف اإلقناع‪ ،‬وهي االسرتاتيجية األكثر مباشرةً‪،‬‬
‫دائما‪ ،‬نعم‪ ،‬قد يتمسك الناس أحيانًا باعتقادات رغم خمالفتها مجيع احلقائق مثل لوسي يف املسلسل الكرتوين البينتس‪:‬‬ ‫دون جدوى ً‬
‫أن الثلج خيرج من األرض ويصعد إىل السماء حىت وهي تدفن ٍ‬
‫ببطء حتت الثلوج‬ ‫سنوبي وتشارلي براون )‪ (Peanuts‬اليت َّ‬
‫أصرت َّ‬
‫ُ‬
‫حدودا هلذا التمسك‪ ،‬فعندما يُواجه الناس ألول مرةٍ مبعلومات تتعارض مع مواقفهم الراسخة‪ ،‬يلتزمون هبا أكثر‬ ‫ً‬ ‫ولكن هناك‬‫املتساقطة‪َّ .‬‬
‫ٍ‬
‫باعتقاد ما‬ ‫كما هو متوقع طب ًقا لنظريات اإلدراك املدفوع حبماية اهلوية واالستدالل املدفوع وتقليل التنافر املعريف‪ .‬عندما يشعر املؤمنون‬
‫أن هناك جزءًا آخر من عقل اإلنسان‬ ‫بأن هويتهم مهددة يزدادون متس ًكا باعتقادهم وجيمعون ذخريةً أكرب لصد هذا التهديد‪ ،‬لكن مبا َّ‬
‫َّ‬
‫يبقيه على ٍ‬
‫اتصال بالواقع‪ ،‬فمع تراكم األدلة املضادة‪ ،‬يزداد التنافر حىت يصبح غري حمتمل ويسقط الرأي‪ ،‬وهي ظاهرة تسمى نقطة التحول‬
‫الوجدانية‪ .‬تعتمد نقطة التحول الوجدانية على التوازن بني مدى الضرر الذي سيلحق بسمعة صاحب الرأي بتخليه عن رأيه وما إذا كان‬
‫لوما للجميع مثل إمرباطور عا ٍر أو ٍ‬
‫فيل يف الغرفة‪ .‬وكما رأينا يف الفصل العاشر‪ ،‬فقد بدأ هذا حيدث‬ ‫وعاما فيكون مع ً‬
‫صارخا ًّ‬
‫الدليل املضاد ً‬
‫مع الرأي العام يف التغري املناخي‪ ،‬وميكن أن يتحول رأي السكان كلهم عندما تُغري نواة ناقدة من املؤثرين رأيها فيتبعها البقية‪ ،‬أو عندما‬
‫حيل حمل اجليل القدمي جيل آخر ال يتمسك بنفس املبادئ الدوغمائية (التقدم جنازة تلو األخرى)‪.‬‬
‫يؤثر املنطق يف الغالب على اجملتمع ككل ببطء‪ ،‬وسيكون من األفضل تسريع هذه العملية‪ ،‬واألماكن البديهية لتطبيقها هي اإلعالم‬
‫ط املؤيدون للمنطق على املدارس واجلامعات إلقرار مناهج دراسية تتضمن «التفكري النقدي» ٍ‬
‫لعقود عديدة‪ ،‬حيث‬ ‫والتعليم‪ .‬وقد ضغ َ‬
‫يُنصح الطُالب بالنظر جلانيب أي قضية‪ ،‬ودعم آرائهم باألدلة واكتشاف املغالطات املنطقية مثل احلجة الدائرية والتحريف واالحتكام إىل‬
‫السلطة والشخصنة واختزال قضية معقدة يف أبيض أو أسود‪ .‬وهناك برامج متعلقة باملوضوع تسمى «احلد من التحيز» حتاول حتصني‬
‫الطالب ضد املغالطات املعرفية مثل قانون التوفر واحنياز التأكيد‪.‬‬
‫عندما طُرحت هذه الربامج ألول مرة‪ ،‬كانت نتائجها حمبطة ممَّا أدى إىل التشاؤم خبصوص ما إذا كنَّا سنستطيع جعل رجل الشارع‬
‫يوما ما‪ ،‬لكن مامل يكن علماء النفس املعرفيون من ساللة متفوقة من اجلنس البشري‪ ،‬فإن هناك شيئًا ما يف تعليمهم‬ ‫ِّ‬
‫يفكر بطريقة منطقية ً‬
‫يكمن‬ ‫ٍ‬
‫بصرهم باملغالطات املعرفية وكيفية جتنُّبها‪ ،‬وال يوجد سبب للقول بأن هذه املعرفة التنويرية ال ميكن تطبيقها على نطاق أوسع‪ُ .‬‬‫َّ‬
‫دائما تطبيقه من أجل فهم قصور املنطق‪ ،‬أظهرت نظرةٌ أخرى على التفكري النقدي وبرامج احلد من التحيز ما‬‫مجال املنطق يف أنَّه ميكن ً‬
‫الذي يؤدي إىل جناحها أو فشلها‪.‬‬
‫يعرف الباحثون يف جمال التعليم هذه األسباب‪ ،‬سيكون أي منهج عدمي اجلدوى إذا كان عبارة عن ُحماضر يُثرثر أمام سبورة أو‬
‫ملون‪ .‬ال يستوعب الناس املفاهيم سوى عندما يضطرون إىل إمعان التفكري فيها أو‬ ‫كتاب دراسي حيدد فيه الطالب بعض اجلمل بقلم َّ‬
‫أن الطالب ال ينقلون‬ ‫مناقشتها مع اآلخرين أو استخدامها حلل املشكالت‪ .‬إحدى العراقيل األخرى اليت تقف أمام التدريس الفعال هو َّ‬
‫مثال حمدد إىل غريه يف نفس الفئة‪ ،‬فالطالب امللتحقون مبادة الرياضيات الذين يتعلَّمون كيفية ترتيب فرقة استعراضية‬‫بتلقائية ما تعلَّموه من ٍ‬
‫صفوف زوجية باستخدام مبدأ املضاعف املشرتك األصغر يتعثَّرون عندما يُطلب منهم ترتيب صفوف من اخلضروات يف حديقة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫يف‬
‫وك ذلك لن يستطيع الطالب يف دورة التفكري النقدي الذين يتعلمون كيفية تناول الثورة األمريكية من وجهيت النظر األمريكية واإلجنليزية‬
‫التمادي لدرجة التفكري يف رؤية األملان للحرب العاملية األوىل‪.‬‬
‫استنادا إىل الدروس املستفادة من‬
‫ً‬ ‫مؤخرا برامج احلد من التحيز لتعزيز مناهج التفكري النقدي واملنطقي‪،‬‬
‫ابتكر علماء النفس ً‬
‫التجارب السابقة‪ ،‬وهي تشجع الطالب على اكتشاف املغالطات ومعرفتها باالسم وتصحيحها يف سياقات كثرية متنوعة‪ .‬تستخدم‬
‫وحتول بعضها‬
‫بعض املناهج ألعاب الكمبيوتر يف تدريب الطالب‪ ،‬وتعقِّب على أدائهم مبا يتيح هلم رؤية العواقب الفادحة ألخطائهم‪ُ ،‬‬
‫األخرى العبارات الرياضية املبهمة إىل سيناريوهات حمددة ميكن تصورها‪.‬‬

‫مجع تيتلوك ممارسات املتنبِّئني اخلارقني يف صورة جمموعة إرشادات توجيهية للحكم السليم (على سبيل املثال‪ :‬ابدأ باملعدل األساسي‪،‬‬
‫مصدرا للمعايرة)‪.‬‬ ‫تعطها أقل من حجمها‪ ،‬وال حتاول تربير أخطائك بل استخدمها‬ ‫واحبث عن األدلة وال تبالغ يف رد فعلك عليها وال ِ‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫موضوعات أخرى‪.‬‬ ‫ثبتت فعالية هذه الربامج وبرامج أخرى‪ ،‬فاحلكمة اجلديدة اليت تتولَّد لدى الطالب تدوم بعد دورة التدريب وتنتقل إىل‬
‫كشرط مسبق للتفكري يف أي ٍ‬
‫شيء آخر‪َّ ،‬إال‬ ‫رغم هذه النجاحات ورغم ضرورة امتالك القدرة على التفكري النقدي غري املتحيز ٍ‬
‫َّ‬
‫أن القليل من املؤسسات التعليمية اُتذت حتسني العقالنية هدفًا هلا (مبا يف ذلك جامعيت‪ ،‬وقد حتولت اقرتاحايت أثناء مراجعة املناهج‬
‫بأنَّه ينبغي جلميع الطالب معرفة االحنيازات املعرفية إىل ٍ‬
‫هباء منثور)‪ .‬وقد ناشد العديد من علماء النفس ُتصصهم بـ «تقدمي احلد من‬
‫التحيز للعامل» كأحد أعظم إسهاماته يف رفاهة البشرية‪.‬‬
‫قد يكون التدريب الفعال على التفكري النقدي واحلد من التحيز املعريف غري ٍ‬
‫كاف لعالج اإلدراك املدفوع حبماية اهلوية والذي جيعل الناس‬
‫انتشارا يف اجملال السياسي‪ ،‬وخيطئ العلماء حىت اآلن‬
‫ً‬ ‫يتمسكون بأي رأي يُعزز من رفعة قبيلتهم ومكانتهم فيها‪ .‬وهذا هو املرض األكثر‬
‫بدال من العقالنية قصرية النظر النابعة من مأساة مشاع االعتقادات‪ .‬وكما الحظ‬‫يف تشخصيه مشريين إىل الال عقالنية واجلهل العلمي ً‬
‫ٍ‬
‫وبصوت أعلى‪.‬‬ ‫أحد الكتاب‪ ،‬فالعلماء يعاملون العامة كما يعامل اإلجنليز األجانب‪ ،‬فهم يتحدثون ببطء‬
‫أيضا على قواعد‬ ‫إ ًذا‪ ،‬ال يعتمد جعل العامل أكثر منطقيةً على جمرد تدريب الناس كي ِّ‬
‫يفكروا مبنطقية أكثر مث تركهم‪ ،‬وإمنا يعتمد ً‬
‫أن القواعد الصحيحة ميكن أن تتالىف‬ ‫احلوار يف أماكن العمل والدوائر االجتماعية وساحات اجلدال واُتاذ القرار‪ .‬أظهرت التجارب َّ‬
‫مأساة مشاع االعتقادات وجترب الناس على فصل تفكريهم عن هويتهم‪ .‬هناك طريقة اكتشفها احلاخامات منذ ٍ‬
‫وقت طويل‪ ،‬وهي إجبار‬
‫طُالب اليشيفا على وضع أنفسهم مكان اآلخر أثناء املناقشات التلمودية والدفاع عن وجهة نظر اخلصم‪ ،‬وهناك طريقة أخرى وهي أن‬
‫حياول الناس التوصل إىل إمجاع يف جمموعات نقاش صغرية‪ ،‬وجيربهم ذلك على الدفاع عن آرائهم أمام أفراد جمموعتهم‪ ،‬وتنتصر احلقيقة‬
‫عادةً‪ .‬واكتشف العلماء أنفسهم اسرتاتيجية جديدة تُسمى تعاون اخلصوم‪ ،‬وفيها يتعاون ألد األعداء بعضهم مع بعض من أجل الوصول‬
‫إىل حل إشكالية ما‪ ،‬وجيرون اختبارات جتريبية يتفقون مسب ًقا على َّأهنا ستحل اإلشكالية‪.‬‬
‫ميكن جملرد طلب تفسري الرأي أن يُفقد الناس ثقتهم الزائدة يف آرائهم‪ ،‬فأكثرنا خمدوعون يف درجة فهمنا للعامل وهو حتيز معروف‬
‫السحاب‬ ‫وهم ُعمق الفهم )‪ ،(Illusion of Explanatory Depth‬فعلى الرغم من أننا نعتقد أنَّنا نفهم كيفية عمل َّ‬ ‫يسمى َ‬
‫أو القفل األسطواين أو املرحاض‪َّ ،‬إال أنَّه مبجرد أن يُطلب منَّا شرح طريقة عمل هذه األشياء نشعر بالذهول ونضطر إىل االعرتاف بأنَّنا‬
‫أيضا على القضايا السياسية الساخنة‪ ،‬فعندما يُطلب من املؤيدين بشدة لربنامج «أوباما كري» أو اتفاقية التجارة‬‫ال نعلم‪ .‬ينطبق هذا ً‬
‫تقبال للحجج‬ ‫فعال‪ ،‬يدركون َّأهنم ال يعلمون عنها شيئًا ويصبحون أكثر ً‬
‫احلرة ألمريكا الشمالية (‪ )NAFTA‬شرح هذه السياسات ً‬
‫توصل عاملا‬
‫حتيزا عندما يشاركون بأنفسهم ويتحملون تبعات آرائهم‪َّ .‬‬ ‫أن الناس يكونون أقل ً‬‫املضادة‪ .‬واألكثر أمهية على اإلطالق هو َّ‬
‫األنثروبولوجيا هوجو مريسييه (‪ )Hugo Mercier‬ودان سبريبر (‪ )Dan Sperber‬من مراجعتهما للمؤلفات عن العقالنية إىل‬
‫حد بعيد على التفكري املنطقي بطريقة غري‬‫أنَّه «خبالف التقديرات املتشائمة الشائعة لقدرة البشر على التفكري املنطقي‪ ،‬فهم قادرون إىل ٍ‬
‫ُ‬
‫بدال من حماولة الفوز يف مناظرة»‪.‬‬
‫متحيزة‪ ،‬على األقل عندما يُقيِّمون احلجج وليس عندما يعرضوهنا‪ ،‬وكذلك عندما يسعون وراء احلقيقة ً‬

‫ميكن للقواعد يف ساحات معينة أن تزيد من غبائنا أو ذكائنا بصورٍة مجاعية‪ ،‬وهبذه الطريقة ميكن حل اإلشكالية اليت تظهر‬
‫أن مستوى العقالنية ينحدر يف العامل يف عصر به معرفة غري مسبوقة وأدوات ملشاركتها‪ .‬اإلجابة‬ ‫باستمرار يف هذا الفصل وهي‪ :‬ملاذا يبدو َّ‬
‫أن املرضى يف املستشفيات ميوتون بصورة متزايدة بسبب‬ ‫أن مستوى العقالنية مل ينحدر يف معظم الساحات‪ ،‬فليس األمر كما لو َّ‬ ‫هي َّ‬
‫أن األكل يتعفَّن على أرصفة املوانئ َّ‬
‫ألن الناس ال يعرفون كيفية نقله إىل املتاجر‪.‬‬ ‫أن الطائرات تتساقط من السماء‪ ،‬أو َّ‬‫الدجل‪ ،‬أو َّ‬
‫بنجاح قد ارتفع‪.‬‬ ‫فقد أظهرت الفصول اليت حتدثت عن التقدم َّ‬
‫أن مستوى براعتنا اجلمعية يف حل مشاكل اجملتمع ٍ‬
‫الصحف طٌرقها التقليدية‬ ‫فنحن بالفعل نشهد انتصار جيوش املنطق على احلدس واملبادئ الدوغمائية يف ٍ‬
‫فتكمل ُ‬
‫جمال تلو اآلخر‪ِّ ،‬‬
‫املستقبل إىل مدى أبعد باستخدام طريقة تفكري‬
‫َ‬ ‫و«نقدها» خبرباء اإلحصاء وفرق تقصي احلقائق‪ ،‬ويرى عا َمل االستخبارات الغامض‬
‫املتنبئني اخلارقني البايزية‪ ،‬ويُعيد الطب القائم على األدلة تشكيل نظام الرعاية الصحي (وهو ما كان من املفرتض أن حيدث منذ زم ٍن‬
‫عالج مبىن على تعقيبات املريض على العملية العالجية ورؤيته هلا‪ ،‬واخنفضت‬
‫وحتول العالج النفسي من األريكة واملفكرة إىل ٍ‬ ‫طويل)‪َّ ،‬‬
‫معدالت اجلرمية يف نيويورك ومدن أخرى باستخدام نظام حتليل بيانات فوري يسمى كومبستات (‪ .)Compstat‬وتسرتشد املساعدات‬
‫املوجهة للعامل النامي اآلن بالراندوميستاس (‪ ،)Randomistas‬وهم علماء اقتصاد جيمعون بيانات من جتارب عشوائية للتمييز بني‬ ‫َّ‬
‫فعال‪.‬‬
‫الربامج الشائعة اليت ال تفيد والربامج اليت ُحت ِّسن حياة الناس ً‬

‫كما تنتقد حركة «اإليثار الفعال» التطوع والتربعات اخلريية‪ ،‬وهي حركة تُفرق بني األعمال اخلريية اإليثارية اليت ُحت ِّسن حياة املستحقني‬
‫واألعمال اليت ُحتسن صورة املتربعني‪ .‬وشهدت األلعاب الرياضية ظهور طريقة «كرة املال» (‪ )Moneyball‬يف اإلدارة‪ ،‬وفيها تُقيم‬
‫بدال من احلدس واملعرفة التقليدية ممَّا يتيح للفرق األذكى االنتصار على الفرق األغىن‬ ‫االسرتاتيجيات والالعبون بالتحليل اإلحصائي ً‬
‫وإعطاء املشجعني مواضيع جديدة للحوار خالل فرتة تنقالت الالعبني بعد انتهاء املوسم‪ .‬وظهر يف عامل املدونات اجملتمع العقالين الذي‬
‫يُشجع الناس على أن تكون آراؤهم «أقل خطأً» بتطبيق طريقة التفكري البايزية والتعويض عن االحنيازات املعرفية‪ .‬وأدى تطبيق الرؤى‬
‫السلوكية (اليت يُطلق عليها أحيانًا ”‪ )“Nudge‬والسياسات القائمة على األدلة يف أعمال احلكومة اليومية إىل مزايا اجتماعية أكثر‬
‫من أموال ضرائب أقل‪.‬‬
‫إن العامل يزداد عقالنية يف ٍ‬
‫جمال تلو اآلخر‪.‬‬
‫هناك بالطبع استثناء واضح وهو سياسات االنتخاب والقضايا املتعلقة هبا‪ ،‬فقواعد اللعبة هنا مصممة برباعة إلظهار ال عقالنية‬
‫الناس‪ ،‬فالناخبون ميلكون قر ًارا بشأن قضايا ال تؤثر عليهم بشكل شخصي وال يتوجب عليهم تثقيف أنفسهم فيها أو تربير موقفهم‬
‫منها‪ .‬وتُوضع بنود جدول األعمال العملية مثل التجارة والطاقة يف سلة واحدة مع القضايا األخالقية الساخنة مثل القتل الرحيم وتدريس‬
‫جمموعة ٍ‬
‫بنود بتحالف له دوائر انتخابية جغرافية وعرقية وإثنية‪ .‬ويغطى اإلعالم االنتخابات َّ‬
‫كأهنا سباق خيل‬ ‫ِ‬ ‫نظرية التطور‪ ،‬وتُلحق كل‬
‫وحيلل القضايا عن طريق حتريض املؤيدين لأليديولوجيات بعضهم ضد بعض يف مباريات ساخنة‪.‬‬
‫وتُبعد كل هذه السمات الناس عن التحليل املنطقي وتوجههم ناحية التعبري احلماسي عن أنفسهم‪ .‬بعضها نتيجة التصور اخلاطئ‬
‫السلطة ومسؤولة أمام‬
‫أن مزايا الدميقراطية تعتمد أكثر على وجود حكومة مقيدة ُ‬ ‫بأن مزايا الدميقراطية تأيت من االنتخابات‪ ،‬يف حني َّ‬
‫َّ‬
‫مواطنيها ويقظة لنتائج سياساهتا (الفصل الرابع عشر)‪ .‬نتيجةً لذلك‪ ،‬رمبا تكون اإلصالحات املصممة جلعل احلكم أكثر «دميقراطية»‬
‫ُ‬
‫تأثرا باهلوية وأقل عقالنية‪ .‬املعضالت جزء ال يتجزأ من الدميقراطية وهي‬
‫مثل االستفتاءات واالنتخابات املباشرة قد َّأدت إىل جعله أكثر ً‬
‫فوري‪ ،‬لكن ينبغي البدء مبعرفة أسوأ املشاكل احلالية ووضع أهداف للحد منها‪.‬‬
‫حل ٌّ‬
‫حمل جدال منذ عصر أفالطون‪ ،‬وليس هلذه املشاكل ٌ‬
‫أن «نزاعات اجلمهور املريرة عن العلم هي‬ ‫عندما ال ُتضع القضايا للتسييس‪ ،‬فإن الناس يفكرون فيها بعقالنية‪ ،‬والحظ كاهان َّ‬
‫يف احلقيقة االستثناء وليست القاعدة»‪ ،‬فال ينفعل أحد خبصوص ما إذا كانت املضادات احليوية فعالة أم ال‪ ،‬وما إذا كانت قيادة السيارة‬
‫خممورا فكرة جيدة‪ .‬ويُثبت التاريخ احلديث هذه النقطة بتجربة طبيعية وتامة مبجموعة ضابطة مطابقة بدقة‪ ،‬ففريوس الورم احلُليمي البشري‬
‫ً‬
‫(‪ ) HPV‬ينتقل عن طريق االتصال اجلنسي وهو سبب رئيسي يف سرطان عنق الرحم‪ ،‬ولكن ميكن الوقاية منه بلقاح‪ ،‬والتهاب الكبد‬
‫ولكن لقاح‬
‫أيضا‪ ،‬وميكن الوقاية منه بلقاح كذلك‪َّ .‬‬ ‫أيضا‪ ،‬ويتسبب يف السرطان ً‬ ‫الوبائي بفريوس ب ينتقل عن طريق االتصال اجلنسي ً‬
‫أن لقاح فريوس‬ ‫فريوس الورم احلليمي أثار ضجةً سياسية باحتجاج أولياء األمور على تسهيل احلكومة على املراهقني ممارسة اجلنس‪ ،‬مع َّ‬
‫أن االختالف يكمن يف طريقة عرض اللقاحني‪ ،‬إذ كان التهاب الكبد الوبائي بفريوس‬ ‫التهاب الكبد الوبائي ال غبار عليه‪ .‬يرى كاهان َّ‬
‫صنَّاع لقاح فريوس الورم احلليمي فضغطوا على اجملالس‬ ‫ب يُعامل كمسألة صحية روتينية مثل السعال الديكي أو احلمى الصفراء‪ ،‬أما ُ‬
‫التشريعية بالواليات جلعل أخذ اللقاح إلزاميًّا بدءًا باملراهقات‪ ،‬وهو ما َّأدى إىل إضفاء طابع جنسي على العالج ممَّا أغضب أولياء األمور‬
‫املتزمتني‪.‬‬
‫أن الناس عندما‬ ‫ينبغي نزع الطابع السياسي عن القضايا بقدر اإلمكان جلعل اخلطاب العام أكثر عقالنية‪ .‬أظهرت التجارب َّ‬
‫فإهنم يؤيدوهنا إذا كانت ُمقرتحة من حزهبم ويعارضوهنا إذا كانت‬ ‫يسمعون عن سياسة جديدة مثل إصالح نظام الرعاية االجتماعية َّ‬
‫ُمقرتحة من احلزب اآلخر‪ ،‬وهم مقتنعون َّ‬
‫أن رد فعلهم مبين على أسسها املوضوعية‪ ،‬ويعين هذا أنَّه ينبغي اختيار املتحدثني الرمسيني بعناية‪.‬‬
‫الم َّرة» ( ‪An Inconvenient‬‬ ‫إن كتابة آل جور الفيلم الوثائقي «الحقيقة ُ‬ ‫وقد قال العديد من النشطاء يف جمال التغري املناخي َّ‬
‫رشحا رئاسيًا‪ ،‬فقد أضفى‬
‫وم ً‬‫نائب رئيس دميقراطيًا ساب ًقا‪ُ ،‬‬ ‫)‪ ،Truth‬وظهوره فيه رمبا أحدث ً‬
‫ضررا للحركة أكثر من النف ٍع‪ ،‬ألنَّه بصفته َ‬
‫يوما ما مستنكرة بوصفها قضية ميينية‪،‬‬ ‫ولكن النزعة البيئية كانت ً‬
‫على التغري املناخي صبغة يسارية (من الصعب تصديق ذلك اليوم‪َّ ،‬‬
‫تعبريا عن خوف الطبقة العليا الشديد على البيئات اليت يصطادون فيها البط وقلقهم على إطالالت منازهلم الريفية‪ ،‬ومل‬ ‫حيث كانت ً‬
‫تكن قل ًقا بشأن القضايا اخلطرية مثل العنصرية والفقر وفيتنام)‪ .‬وسيكون استخدام معلِّقني حمافظني ُّ‬
‫وحترريني مقتنعني باألدلة ومستعدين‬
‫ٍ‬
‫وبصوت أعلى‪.‬‬ ‫ملشاركة خماوفهم أكثر فعالية من استخدام املزيد من العلماء الذين يتحدثون ٍ‬
‫ببطء‬ ‫ً‬
‫أن الناس يكونون أقل‬ ‫ينبغي الفصل بني الوضع الراهن الفعلي والتدابري العالجية احململة باملعاين الرمزية السياسية‪ .‬وجد كاهان َّ‬
‫ذكرهم أح ٌد باحتمالية ُتفيف هذا التغري‬‫استقطابًا يف آرائهم حول وجود تغري مناخي ناجم عن النشاط البشري من األساس عندما يُ ِّ‬
‫باهلندسة اجليولوجية‪ ،‬ويكونون أكثر استقطابًا عندما خيربهم أح ٌد َّ‬
‫أن هذا التغري يتطلب الرقابة الصارمة على االنبعاثات (ال يعين هذا أنَّه‬
‫قضية ما إىل فعل حقيقي‪ .‬ساعد‬ ‫ينبغي املناداة باهلندسة اجليولوجية على َّأهنا احلل األساسي بالطبع)‪ .‬قد يؤدي نزع الصبغة السياسية عن ٍ‬
‫كاهان جمموعة من رجال أعمال فلوريدا وسياسييها ومجعيات سكاهنا ‪-‬العديد منهم مجهوريون‪ -‬على املوافقة على خطة للتكيف مع‬
‫ارتفاع مستويات سطح البحر اليت هددت الطرق الساحلية وموارد املياه العذبة‪ ،‬وتضمنت اخلطة إجراءات لتقليل انبعاثات الكربون واليت‬
‫ظرف آخر‪ .‬لكن ما دام التخطيط مرَّكًزا على مشاكل ميكنهم رؤيتها وما دامت أمهية‬ ‫كانت ستتحول إىل قضية ساخنة سياسيًّا حتت أي ٍ‬
‫اخللفية السياسية املثرية للخالف مهمشة‪َّ ،‬‬
‫فإهنم يتصرفون بعقالنية‪.‬‬
‫ومن جهته‪ ،‬فإن بإمكان اإلعالم أن ينظر يف دوره يف حتويل السياسة إىل رياضة‪ ،‬وأن يعيد املثقفون واملفكرون التفكري يف خالفاهتم‪.‬‬
‫متوقعا‪َّ ،‬‬
‫وإمنا حياولون التوصل إىل استنتاجات مربَّرة‬ ‫ٍ‬
‫توجها سياسيًّا ً‬
‫هل نستطيع ُتيل يوم ال ميلك فيه أشهر ال ُكتاب واملتحدِّثني يف الربامج ً‬
‫يوم جييب فيه الناس (وخاصةً األوساط‬‫مدمرا؟ ٍ‬ ‫لكل مسألة على حدة؟ ٍ‬
‫اجا ِّ ً‬
‫تردد موقف اليسار (أو اليمني)» إحر ً‬ ‫يوم تُعد فيه عبارة «إنَّك ِّ‬
‫األكادميية) على أسئلةً مثل‪« :‬هل حتد مراقبة األسلحة من اجلرمية؟» أو «هل يزيد احلد األدىن لألجور من البطالة؟» بإجابات مثل‪:‬‬
‫بدال من رد الفعل اجلاهز املتوقع املبين على توجههم السياسي؟ ٍ‬
‫يوم يتخلى فيه كتاب اليمني‬ ‫«دعين أحبث عن آخر حتليل جتميعي أوًال» ً‬
‫مسدسا‪ ،‬وإذا تسبب أح ٌد منهم يف دخول أحد رجالك‬ ‫ً‬ ‫واليسار عن طريقة شيكاغو يف اجلدال («عندما يُلوحون بسكني‪ ،‬أش ِهر‬
‫املستشفى‪ ،‬فأرسل أحد رجاهلم إىل املشرحة») ويتبنون اسرتاتيجية املعاملة باملثل تدرجييًّا للحد من التوتر اليت يستخدمها مراقبو األسلحة‬
‫(وفيها يتنازل أحد املتنافسني تنازًال فرديًا مع دعوة لبذل جهود مماثلة من الطرف اآلخر)؟‬
‫ولكن قوى العقالنية اليت تُصلح من نفسها واليت يشار فيها إىل أخطاء االستدالل كأهداف للتعليم والنقد‬
‫هذا اليوم بعيد املنال‪َّ ،‬‬
‫تستغرق وقتًا كي تنجح‪ .‬فقد استغرقت مالحظات فرانسيس بيكون على االستدالل املعتمد على الروايات الشخصية ( ‪Francis‬‬
‫متأصال يف طريقة تفكري املتعلمني وكذلك اخللط بني االرتباط والسببية‪ ،‬وقد استغرقت دالئل‬
‫ً‬ ‫عقودا حىت تُصبح جزءًا‬
‫‪ً )Bacon‬‬
‫عاما تقريبًا كي تشق طريقها‬
‫تفريسكي (‪ )Tversky‬وكامنان (‪ )Kahneman‬على احنياز التوفر واالحنيازات املعرفية األخرى ‪ً 50‬‬
‫أن القبلية السياسية أخبث صورة من صور الال عقالنية اليوم فكرةً جديدة وجمهولة تقريبًا‪،‬‬ ‫إىل تصوراتنا السائدة‪ .‬ما زال اكتشاف َّ‬
‫ٍ‬
‫شخص آخر‪ ،‬ورمبا تظهر تدابري مضادة هلا قريبًا مع تسارع وترية كل شيء‪.‬‬ ‫وبالتأكيد‪ ،‬ميكن أن يصاب هبا املفكرون احملنكون كأي‬
‫ومهما استغرق األمر‪ ،‬فينبغي عليا َّأال ندع وجود االحنيازات املعرفية والعاطفية أو الالعقالنية املفاجئة يف الساحة السياسية يُثنينا‬
‫عن مبدأ التنوير بالسعي الدؤوب وراء املنطق واحلقيقة‪ .‬وإذا كان بإمكاننا حتديد ما جيعل البشر غري عقالنيني‪ ،‬فال بد وأنَّنا نعرف ماهية‬
‫العقالنية‪ ،‬ومبا أنَّه ال يوجد ما مييزنا حنن‪ ،‬فبالتأكيد ميلك زمالؤنا بعض القدرة على أن يكونوا عقالنيني ً‬
‫أيضا‪ .‬ومن طبيعة العقالنية َّ‬
‫أن‬
‫حلوال هلا‪.‬‬
‫ويفكر يف أوجه قصوره وجيد ً‬ ‫املفكر ميكنه أن يأخذ خطوة للوراء ِّ‬
‫الفصل الثاني والعشرون‪:‬‬
‫العلم‬

‫إذا طُلِب منَّا ذكر أكثر إجنازات اجلنس البشري مدعاةً للفخر‪ ،‬سواء أكان ذلك يف مسابقة تفاخر بني اجملرات أو يف شهادة أمام اإلله‬
‫القدير‪ ،‬فماذا سنقول؟‬
‫ميكننا التباهي باالنتصارات التارخيية يف حقوق اإلنسان مثل القضاء على العبودية وهزمية الفاشية‪ ،‬ولكن مهما كانت هذه‬
‫االنتصارات ملهمة‪ ،‬فهي تتمثَّل يف إزالة عواقب وضعناها حنن بأنفسنا يف طريقنا‪ ،‬وهو ما يشبه أن تدرج ضمن قائمة إجنازاتك يف سريتك‬
‫الذاتية أنَّك تغلَّبت على إدمان اهلريوين‪.‬‬
‫حساسة ذات أدمغة وجتارب ُتتلف عنَّا كل‬ ‫سنُدرج بالتأكيد روائع الفن واملوسيقى واألدب‪ ،‬ولك ْن هل ستقدِّر كائنات فاعلة َّ‬
‫االختالف أعمال إسخيلي وس أو إل جريكو أو بيلي هوليداي؟ رمبا توجد قواعد عامة للجمال واملعىن تتجاوز الثقافات وتؤثر يف أي‬
‫كثريا‪.‬‬
‫أن هذه القواعد موجودة بالفعل‪-‬ولكن تصعب معرفة ذلك ً‬ ‫كائن ذكي ‪-‬أحب أن أفرتض َّ‬
‫ولكن هناك ساحة إجنازات واحدة ميكننا التفاخر هبا بال خجل أمام أي جملس من العقول‪ ،‬أال وهي العلم‪ .‬يصعب ُتيل كائن‬
‫كبريا‪ ،‬إذ ميكننا تفسري الكثري من‬
‫فاعل ذكي ال يشعر بفضول جتاه العامل الذي يعيش فيه‪ ،‬وقد أرضى جنس البشر هذا الفضول إرضاءً ً‬
‫نتكون منها‪ ،‬وأصل الكائنات احلية‪ ،‬وآلية احلياة مبا فيها احلياة النفسية‪.‬‬
‫حتركه‪ ،‬واألشياء اليت َّ‬
‫تاريخ الكون‪ ،‬والقوى اليت ِّ‬
‫يوما تلو اآلخر‪ .‬يقول الفيزيائي شون كارول ( ‪Sean‬‬ ‫أن جهلنا هائل (وسيظل كذلك)‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن معرفتنا مذهلة وتنمو ً‬ ‫رغم َّ‬
‫‪ )Carroll‬يف كتاب «الصورة الكبرى» )‪َّ (The Big Picture‬‬
‫إن قوانني الفيزياء األساسية يف احلياة اليومية (باستثناء القيم‬
‫القصوى من الطاقة واجلاذبية مثل الثقوب السوداء واملادة املظلمة واالنفجار الكبري) معروفة لنا متامًا‪ .‬يصعب االختالف على َّ‬
‫أن هذا‬
‫وصف علمي ألكثر من مليون ونصف املليون نوٍع من الكائنات‬ ‫«أحد أعظم االنتصارات يف التاريخ الفكري لإلنسان»‪ .‬استطعنا تقدمي ٍ‬
‫احلية‪ ،‬ومع بعض اجلهود اإلضافية الواقعية ميكن تسمية البقية اليت تبلغ سبعة ماليني نوٍع خالل القرن اجلاري‪ .‬واألكثر من ذلك َّ‬
‫أن فهمنا‬
‫أن اجلاذبية هي احنناء الزمكان‬‫وإمنا يف مبادئ عميقة وأنيقة مثل َّ‬‫للعامل ال يتمثَّل يف قوائم جمردة للجسيمات والقوى واألنواع فحسب‪َّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫جزيء ينقل املعلومات ويدير عملية األيض ويستنسخ نفسه‪.‬‬ ‫و َّ‬
‫أن احلياة تقوم على‬
‫تواصل االكتشافات العلمية إدهاشنا وإهباجنا وإجابة األسئلة اليت كنَّا نظن أ ْن ال إجابة هلا‪ .‬عندما اكتشف كلٌّ من واتسون وكريك‬
‫يوما بتتبع تسلسل جينوم أحفورة نياندرتال عمرها ‪ 38,000‬عام واكتشاف احتوائها على جني له عالقة‬ ‫بنية احلمض النووي‪ ،‬مل حيلما ً‬
‫بيوم يكشف فيه حتليل احلمض النووي اخلاص بأوبرا وينفري عن احندارها من ساللة قبيلة الكيبل يف غابات ليربيا‬ ‫بالكالم واللغة‪ ،‬أو ٍ‬
‫املطرية‪.‬‬
‫مفكرو العصور القدمية وعصر العقل وعصر التنوير ِّ‬
‫مبكًرا فلم‬ ‫يسلط العلم الضوء على احلالة البشرية من زاوي ٍة جديدة‪ .‬ولد ِّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫يستمتعوا باألفكار ذات اآلثار العميقة يف األخالق واملعىن‪ ،‬ومنها اإلنرتوبيا والتطور واملعلومات ونظرية األلعاب والذكاء االصطناعي‬
‫تعززها اليوم هذه األفكار‪ ،‬ويتم‬ ‫(رغم َّأهنم كانوا حياولون إنتاج بعض البوادر واملقاربات)‪ ،‬فاملشكالت اليت طرحها علينا هؤالء ِّ‬
‫املفكرون ِّ‬
‫التدقيق فيها بأساليب مثل التصوير ثالثي األبعاد لنشاط املخ والتنقيب عن البيانات الضخمة لتتبع عملية انتشار األفكار‪.‬‬
‫صورا للجمال الرفيع‪ ،‬مثل احلركة اجملمدة بفعل الضوء االصطرايب‪ ،‬وحيوانات متوهجة من الغابات املطرية‬ ‫أيضا ً‬‫العلم للعا َمل ً‬
‫قدَّم ُ‬
‫الس ُدم الشفافة‪ ،‬وجمموعة الدوائر العصبية املشعة‪ ،‬وكوكب‬
‫االستوائية واملنافس املائية يف أعماق احمليطات‪ ،‬واجملرات احللزونية الرشيقة و ُ‬
‫متجها حنو عتمة الفضاء‪ .‬ومثل األعمال الفنية العظيمة‪ ،‬فهذه الصور ليست جمرد صوٍر مجيلة‬‫األرض املضيء وهو يرتفع فوق أفق القمر ً‬
‫تعمق فهمنا ملعىن أن تكون إنسانًا وملكاننا يف الطبيعة‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وإمنا حمفزات على التأمل ِّ‬
‫احدا من‬ ‫ومنحنا العلم بالطبع نِ َعم احلياة والصحة والثروة واملعرفة واحلرية اليت وثقناها يف الفصول اخلاصة بالتقدم‪ .‬لنأخذ ً‬
‫مثاال و ً‬
‫ٍ‬
‫شخص يف القرن العشرين فقط‪ .‬يف حالة‬ ‫ومشوه قتل ‪ 300‬مليون‬
‫الفصل السادس‪ .‬قضت املعرفة العلمية على اجلدري‪ ،‬وهو مرض مؤمل ِّ‬
‫ومشوه قتل‬
‫أكرر قويل‪ :‬قضت املعرفة العلمية على اجلدري‪ ،‬وهو مرض مؤمل ِّ‬ ‫أنَّك مررت سر ًيعا على هذا اإلجناز العظيم ومل تنتبه له‪ِّ ،‬‬
‫شخص يف القرن العشرين فقط‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫‪ 300‬مليون‬
‫تكذب هذه اإلجنازات املذهلة أي شكوى عن أنَّنا حنيا يف عصر تدهور وخيبة أمل وفقدان املعىن وسطحية وعبث‪ ،‬ومع ذلك َّ‬
‫فإن‬ ‫ِّ‬
‫ٍ‬
‫باستياء مرير‪ .‬يظهر ازدراء العلم يف أوساط مفاجئة‪ ،‬ليس بني األصوليني‬ ‫مجال العلم وقوته ال حيصالن على أي تقدير‪ ،‬بل ويُنظر إليه‬
‫أيضا بني كث ٍري من املثقفني الذين حنبهم ويف أكثر مؤسسات التعليم العايل‬
‫املتدينني والساسة من حزب «ال أعرف شيئًا» فحسب‪ ،‬وإمنا ً‬
‫اجلليلة‪.‬‬

‫وثَّق الصحايف كريس موين (‪ )Chris Mooney‬يف كتاب «حرب الجمهوريين على العلم» ( ‪The Republican War‬‬
‫)‪ on Science‬احتقار العلم يف أوساط الساسة األمريكيني اليمينيني‪ ،‬وقاد بعض الشجعان (مثل بويب جيندال ‪Bobby Jindal‬‬
‫حمافظ لويزيانا السابق) إىل أن يطلقوا على حزهبم «حزب الغباء»‪ .‬نشأت هذه السمعة من السياسات املطبقة يف ظل إدارة جورج دابليو‬
‫بوش‪ ،‬مبا فيها تشجيعه على تدريس نظرية اخللق (خلف ستار «التصميم الذكي») والتحول من اتباع ممارسة قدمية هي التماس مشورة‬
‫أفكارا هشة (مثل َّ‬
‫أن‬ ‫كثري منهم ً‬ ‫اللجان العلمية النزيهة إىل ملء هذه اللجان بأصحاب األيديولوجيات املتوافقة معها‪ ،‬الذين يروج ٌ‬
‫اإلجهاض يسبِّب سرطان الثدي) وينكرون األفكار املدعومة باألدلة (مثل َّ‬
‫أن الواقي الذكري مينع اإلصابة باألمراض املنقولة جنسيًّا)‪.‬‬
‫ب جيمس إهنوف )‪ ،(James Inhofe‬عضو جملس الشيوخ عن أوكالهوما‬ ‫اخنرط الساسة اجلمهوريون يف بعض مظاهر الس َفه‪ ،‬مثل ج ْل ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ورئيس جلنة البيئة واألشغال العامة‪ ،‬كرة ثلج إىل جملس الشيوخ يف عام ‪ 2015‬للتشكيك يف حقيقة االحرتار العاملي‪.‬‬
‫حذرنا يف الفصل السابق َّ‬
‫أن التفسري الغيب للعلم يف اخلطاب السياسي حيدث غالبًا يف القضايا الساخنة مثل اإلجهاض والتطور‬
‫نطاق واسع‪ ،‬انتقد ملار مسيث ( ‪Lamar‬‬‫توسعت لينتشر حزب «ال أعرف شيئًا» على ٍ‬ ‫ولكن االستهانة باإلمجاع العلمي َّ‬
‫والتغري املناخي‪َّ ،‬‬
‫الذعا‪،‬‬
‫انتقادا ً‬
‫)‪ ،Smith‬النائب عن والية تكساس ورئيس جلنة جملس النواب للعلوم والفضاء والتكنولوجيا‪ ،‬املؤسسة الوطنية للعلوم ً‬
‫ليس بسبب أحباثها على التغري املناخي فحسب (والذي يظنه مؤامرة يسارية) َّ‬
‫وإمنا بسبب أحباثها األخرى يف املنح اليت ُتضع ملراجعة‬
‫تربر احلكومة الفيدرالية إنفاق ما يزيد على‬
‫األقران‪ ،‬واليت خيرجها من سياقها ليسخر منها (كما قال على سبيل املثال‪« :‬كيف ِّ‬
‫‪ 220,000‬دوالر أمريكي لدراسة صورة احليوانات يف جملة ناشونال جيوجرافيك؟») حاول إضعاف الدعم الفيدرايل لألحباث األساسية‬
‫تعزز «املصاحل الوطنية» مثل الدفاع واالقتصاد فقط‪ .‬يتجاوز العلم‬
‫عرب اقرتاح تشري ٍع يلزم املؤسسة الوطنية للعلوم بتمويل الدراسات اليت ِّ‬
‫بالطبع احلدود الوطنية (فكما قال تشيخوف‪« :‬ال يوجد علم وطين‪ ،‬مثلما ال يوجد جدول ضرب وطين») وتنبع قدرته على تعزيز مصاحل‬
‫أي شخص من فهمه التأسيسي للواقع‪ .‬فيستخدم النظام العاملي لتحديد املواقع على سبيل املثال نظرية النسبية‪ ،‬ويعتمد عالج السرطان‬
‫على اكتشاف الرتكيب اللوليب املزدوج‪ ،‬ويكيِّف الذكاء االصطناعي الشبكات العصبية والداللية من العلوم املعرفية واخلاصة بالدماغ‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬فاليسار هو من أثار اهللع بشأن الزيادة‬ ‫ولكن الفصل احلادي والعشرين هيَّأنا حلقيقة َّ‬
‫أن القمع املسيَّس للعلم يأيت من اليسار ً‬ ‫َّ‬
‫تشوهت األحباث على الذكاء واجلنسانية والعنف والرتبية واألحكام املسبقة بفعل‬ ‫السكانية والطاقة النووية والكائنات املعدَّلة جينيًّا‪َّ .‬‬
‫يقرون باملعتقدات املتشددة اليت تتمتع باللياقة السياسية‪.‬‬
‫تكتيكات خمتلفة من اختيار بنود االستبيانات إىل ترهيب الباحثني الذين ال ُّ‬

‫سأرِّكز يف بقية هذا الفصل على العداء املتجذر للعلم‪ ،‬يغضب ٌ‬


‫كثري من املثقفني عادةً من إقحام العلم يف جمال اإلنسانيات التقليدية مثل‬
‫السياسة والتاريخ والفنون‪ .‬ويتعرض للتنديد بنفس القدر تطبيق التفكري املنطقي العلمي يف منطقة كانت حمكومة ساب ًقا بالدين‪ ،‬فكثري‬
‫من ال ُكتَّاب الذين ال يؤمنون باهلل مطل ًقا يقولون إنَّه من غري املناسب أن يشارك العلم بإجاباته عن األسئلة الكربى‪ .‬يـُتَّهم «الدخالء»‬
‫ثريا يف كربى جمالت الرأي باحلتمية واالختزالية واجلوهرية والوضعية‪ ،‬واألسوأ من ذلك‪ ،‬جبرمية تُدعى العلموية‪.‬‬
‫على العلم ك ً‬
‫وهذا االمتعاض صادر عن الطرفني‪ ،‬وجند يف مراجعة كتبها املؤرخ جاكسون لريز (‪ )Jackson Lears‬يف جملة ‪The‬‬
‫)‪ )Nation‬يف عام ‪ 2011‬حجة اليسار القياسية للدفاع عن هذا االدعاء‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬

‫تقوم الوضعية على االعتقاد االختزايل القائل بإمكانية تفسري الكون بأكمله‪ ،‬مبا فيه السلوك البشري‪ ،‬بعمليات فيزيائية حتمية‬
‫أسسا إبستمولوجية للداروينية االجتماعية والتصورات التطورية الشعبية‬ ‫َّ‬
‫وقابلة للقياس بدقة‪...‬شكلت االفرتاضات الوضعية ً‬
‫عن التقدم‪ ،‬إضافةً إىل االستعمارية والعنصرية العلمية‪ ،‬واحتدت هذه امليول مع مبدأ حتسني النسل‪ ،‬الذي يقول بإمكانية‬
‫حتسني الرفاهة البشرية وجعلها مثالية يف النهاية من خالل التناسل االنتقائي «لألصلح» وتعقيم «غري الالئقني» أو‬
‫استبعادهم‪ .‬يعرف حىت طالب املدارس ماذا حدث بعد ذلك‪ :‬القرن العشرون الكارثي‪ ،‬حربان عامليتان ومذابح منهجية‬
‫ِ‬
‫باإلمكان ُتيله‪ ،‬وحروب مفاجئة متفرقة على حدود‬ ‫ٍ‬
‫بشكل مل يكن‬ ‫نطاق غري مسبوق‪ ،‬وانتشار أسلحة مدمرة‬ ‫لألبرياء على ٍ‬
‫ٍ‬
‫بدرجات متفاوتة‪.‬‬ ‫اإلمرباطورية‪ ،‬ومشلت كل هذه األحداث تطبيق األحباث العلمية والتكنولوجيا املتقدمة‬

‫وتتَّضح حجة اليمني يف هذا اخلطاب الذي ألقاه ليون كاس )‪ ،(Leon Kass‬مستشار الرئيس بوش يف جمال األخالقيات البيولوجية‪،‬‬
‫يف عام ‪:2007‬‬

‫متاما بطبيعتهم‪ -‬يف‬ ‫مرحبني وغري مؤذيني ً‬


‫طوعُ االكتشافات واألفكار العلمية عن اإلنسان والطبيعة احلية ‪-‬الذين يكونون ِّ‬
‫«تُ َّ‬
‫املعركة ضد تعاليمنا الدينية واألخالقية التقليدية‪ ،‬بل وحىت ضد فهمنا لذواتنا ككائنات تتمتَّع باحلرية والكرامة‪ .‬نشأ بيننا‬
‫بأن تركيبنا البيولوجي اجلديد ميكنه تزويدنا بسجل كامل‬ ‫معتقد شبه ديين ‪-‬سأطلق عليه «العلموية عدمية الروح»‪ -‬يؤمن َّ‬
‫حلياة البشر‪ ،‬وتقدمي تفسريات علمية حبتة للفكر البشري واحلب واإلبداع واحلكم األخالقي وحىت سبب إمياننا باهلل‪ ،‬مز ًيال‬
‫بذلك كل الغموض‪ .‬ال يأيت اخلطر الذي يهدد إنسانيتنا اليوم من تناسخ األرواح يف احلياة التالية‪َّ ،‬‬
‫وإمنا من احلرمان من الروح‬
‫يف هذه احلياة‪»..‬‬
‫أن املخاطر يف هذه املنافسة عالية‪ ،‬وتشمل صحة أمتنا األخالقية والروحانية‪ ،‬ونشاط العلم املتواصل‪ ،‬وفهمنا‬ ‫تأكد َّ‬
‫بشرا وأبناء الغرب‪...‬على كل أصدقاء احلرية والكرامة اإلنسانية ‪-‬حىت امللحدين بيننا‪ -‬أن يفهموا أن إنسانيتنا‬‫لذواتنا بصفتنا ً‬
‫على احملك‪.‬‬

‫ولكن ِّادعاءهم ملفق كما سنرى‪ .‬ال ميكن لوم العلم على اإلبادة اجلماعية واحلروب‪ ،‬وهو ال‬‫متحمسون‪َّ ،‬‬ ‫هؤالء بالطبع مدَّعون ِّ‬
‫يهدِّد صحة أمتنا األخالقية والروحانية‪ ،‬بل على النقيض‪ ،‬إذ ال غىن عن العلم يف كل اجملاالت اليت هتم اإلنسان مبا فيها السياسة والفنون‬
‫والبحث عن املعىن والغرض واألخالق‪.‬‬

‫إن حرب املثقَّفني على العلم تُشعل اجلدل الذي أثاره تشارلز بريسي سنو يف عام ‪ 1959‬عندما استنكر ازدراء العلم يف أوساط ِّ‬
‫املفكرين‬ ‫َّ‬
‫الربيطانيني يف حماضرته وكتابه بعنوان «الثقافتان»‪ِّ .‬‬
‫يفسر مصطلح «الثقافتان» باملعىن األنثروبولوجي لغز جذب العلم لالنتقادات‪ ،‬ليس‬
‫أيضا‪.‬‬
‫وإمنا من بعض أعلم أهل الفكر ً‬ ‫متوهلم شركات الوقود األحفوري فحسب‪َّ ،‬‬‫من الساسة الذين ِّ‬
‫ُحفر مشهد املعرفة البشرية خالل القرن العشرين يف الدوقيات اليت اتسمت بطابع املهنية‪ ،‬ويُنظر غالبًا إىل منو العلم (وخاصةً العلوم‬
‫ألن ممارسي العلوم اإلنسانية‬‫تعد على جماالت كانت تدعمها وحتدُّها العلوم اإلنسانية األكادميية‪ .‬ليس ذلك َّ‬ ‫ذات الطبيعة اإلنسانية) كأنَّه ٍّ‬
‫الرسامون واملوسيقيون وصنَّاع‬ ‫أنفسهم لديهم هذه العقلية الصفرية‪ ،‬إذ ال يظهر على أغلب الفنانني أي عالمة على ذلك‪ ،‬فالروائيون و َّ‬
‫األفالم الذين أعرفهم يتمتَّعون بالفضول الشديد جتاه الضوء الذي قد يلقيه العلم على وسيلة تعبريهم‪ ،‬كما َّأهنم منفتحون على أي‬
‫يعرب عنه الباحثون الذين يغوصون يف احلقب التارخيية وأنواع الفنون ونظم األفكار واملسائل‬ ‫مصدر لإلهلام‪ ،‬وال هو بسبب القلق الذي ِّ‬
‫أن الباحث احلقيقي يكون متقبِّ ًال لألفكار بغض النظر عن منشئها‪ .‬تعود هذه املشاكسة‬ ‫األخرى اليت تشملها العلوم اإلنسانية‪ ،‬مبا َّ‬
‫الدفاعية إىل إحدى الثقافتني‪ :‬وهي الثقافة الثانية حسب تعبري تشارلز بريسي سنو أي ثقافة املثقفني األدباء والنقاد الثقافيني وُكتَّاب‬
‫(مستشهدا بعامل االجتماع دانييل بيل ‪Daniel‬‬ ‫ً‬ ‫املقاالت الفكرية‪ ،‬الذين يصفهم الكاتب دميون لينكر (‪)Damon Linker‬‬
‫املتخصصني يف التعميمات‪..‬الذين يلقون على العامل جتارهبم الفردية وعاداهتم يف القراءة وقدرهتم على إصدار األحكام‪.‬‬ ‫‪ )Bell‬بـ « ِّ‬
‫فالذاتية بكل نوادرها وغرائبها هي عملة مجهورية اآلداب»‪ .‬وُتتلف هذه الطريقة كل االختالف عن طريقة العلم‪ِّ ،‬‬
‫ومفكرو الثقافة الثانية‬
‫بأن «العلم هو الشيء الوحيد املهم» أو بأنَّه ال بد من «الثقة يف‬ ‫هم أكثر من خيشى «العلموية» اليت يفهموهنا بأ َّهنا املوقف القائل َّ‬
‫العلماء حلل كل املشاكل»‪.‬‬
‫مل ي ُكن موقف سنو بالطبع هذا املوقف اجلنوين القائل بأنَّه البد من نقل السلطة إىل ثقافة العلماء‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬نادى بثقافةٍ‬
‫ثالثة جتمع األفكار املختلفة من العلم والثقافة والتاريخ وتطبِّقها بغرض تعزيز رفاهة البشرية حول العامل‪ .‬أحيا الكاتب والوكيل األديب جون‬
‫بروكمان (‪ )John Brockman‬املصطلح يف عام ‪ ،1991‬ويرتبط هذا املصطلح مبفهوم عامل األحياء إدوارد أوزبورن ويلسون «توحيد‬
‫مفكري التنوير‪ .‬اخلطوة األوىل يف فهم وعد العلم فيما خيص شؤون اإلنسان هي‬ ‫العلوم»‪ ،‬وحدة العلوم‪ ،‬الذي يُرجعه ويلسون بدوره إىل ِّ‬
‫اهلروب من عقلية الثقافة الثانية اليت تتَّسم بالتحصن وراء األسوار واليت تتَّضح على سبيل املثال يف العنوان الفرعي ٍ‬
‫ملقال كتبه األديب‬
‫البارز ليون ويسلتري (‪ )Leon Wieseltier‬يف عام ‪« :2013‬العلم يريد اآلن غزو جمال اآلداب احلرة‪ ،‬ال تسمحوا له بذلك!»‬
‫نبل‬ ‫ٍ‬
‫حبكمة أو ٍ‬ ‫أوال بني تأييد التفكري العلمي وأي اعتقاد َّ‬
‫بأن أعضاء اجلماعة املهنية اليت تُدعى «العلم» يتمتَّعون‬ ‫جيب التمييز ً‬
‫ٍ‬
‫بصفة خاصة‪ .‬تقوم ثقافة العلم على االعتقاد املضاد‪ ،‬فممارساهتا املميِّزة اليت تشمل النقاش املفتوح ومراجعة األقران والطرق مزدوجة‬
‫بشرا‪ .‬املبدأ األول من مبادئ العلم هو كما‬
‫مصممة بغرض التحايل على األخطاء اليت يكون العلماء عرضةً للوقوع فيها لكوهنم ً‬ ‫التعمية َّ‬
‫أن‪« :‬عليك َّأال ُتدع نفسك‪ ،‬وأنت أسهل شخص ميكنك خداعه»‪.‬‬ ‫قال ريتشارد فينمان (‪َّ )Richard Feynman‬‬
‫يقة أكثر علمية والدعوة إىل تسليم اُتاذ القرارات إىل العلماء‪،‬‬ ‫وللسبب نفسه‪ ،‬ال ينبغي اخللط بني دعوة اجلميع إىل التفكري بطر ٍ‬

‫فمعظم العلماء ساذجون فيما يتعلَّق بالسياسات والقانون‪ ،‬ويبتكرون ً‬


‫أمورا غري فعَّالة كاحلكومة العاملية والرتخيص اإللزامي لآلباء واألمهات‬
‫واهلروب من األرض املدنَّسة باستعمار الكواكب األخرى‪ .‬ال يهم أي من ذلك‪ ،‬ألنَّنا لسنا بصدد احلديث عن أي مجاعة ينبغي منحها‬
‫ٍ‬
‫حبكمة أكرب‪.‬‬ ‫السلطة‪ ،‬بل نتحدث عن كيفية اُتاذ القرارات اجلمعية‬
‫أن كل الفرضيات العلمية احلالية صحيحة‪ ،‬فمعظم الفرضيات اجلديدة ليست صحيحة‪.‬‬ ‫ال يعين احرتام التفكري العلمي اعتقاد َّ‬
‫وشريان حياة العلم هو دورة التخمني والتفنيد‪ :‬طرح فرضية مث اكتشاف ما إذا كانت ستنجو من حماوالت تكذيبها‪ .‬تفوت هذه النقطة‬
‫كثريا من نقاد العلم الذين يشريون إىل بعض الفرضيات اليت مت دحضها َّ‬
‫كأهنا دليل على أنَّه ال ميكن الثقة بالعلم‪ ،‬مثل احلاخام الذي‬ ‫ً‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫قائال‪« :‬يظن العلماء أن عمر العامل أربعة ماليني عام‪ ،‬وكانوا يظنون قبل ذلك أن عمر العامل مثانية ماليني‬‫فنَّد نظرية التطور يف طفوليت ً‬
‫عام‪ ،‬وإذا كانوا خمطئني بأربعة ماليني عام‪ ،‬فيمكن أن يكونوا خمطئني اآلن باألربعة ماليني عام األخرى!» وتكمن املغالطة هنا (بغض‬ ‫ٍ‬
‫ٍ‬
‫فرضية ما مع تراكم األدلة‪ ،‬وليس ادعاء نزاهتها عن‬ ‫النظر عن التاريخ امللفق) يف عدم إدراك َّ‬
‫أن ما يتيحه لنا العلم هو تزايد الثقة يف‬
‫أن اجملادل ال بد وأن يلجأ هو نفسه إىل حقيقة االدعاءات‬ ‫اخلطأ من أول حماولة! ينفي هذا النوع من احلجج نفسه بنفسه بالتأكيد مبا َّ‬
‫إن ادعاءات العلم غري جديرة بالثقة‬‫العلمية احلالية للتشكيك يف االدعاءات السابقة‪ ،‬وينطبق األمر نفسه على احلجة الشائعة القائلة َّ‬
‫َّ‬
‫ألن علماء األزمنة السابقة كانوا مدفوعني بالشوفينية واالحنيازات املسبقة اليت اتسمت هبا تلك الفرتات‪ .‬عندما كانوا يُدفعون هبذه األمور‬
‫علما سيئًا‪ ،‬والصور األفضل من العلم اليت توفرت يف الفرتات الالحقة هي اليت تتيح لنا اليوم اكتشاف أخطائهم‪.‬‬ ‫كانوا ينتجون ً‬
‫هناك حماولةٌ لتشييد سوٍر عازل حول العلم وجعله يندم على ذلك‪ ،‬وتستخدم هذه احملاولة حجة خمتلفة‪ ،‬وهي َّ‬
‫أن العلم ال يتعامل‬
‫سوى مع احلقائق اخلاصة باألشياء املادية‪ ،‬لذا َّ‬
‫فإن العلماء يرتكبون خطأً منطقيًّا عندما يقولون أي شيء عن القيم أو اجملتمع أو الثقافة‪.‬‬
‫وكما قال ويسلتري‪« :‬ال حيق للعلم أن يقول ما إذا كان العلم ينتمي إىل جمال األخالق والسياسة والفن‪ ،‬فهذه مسائل فلسفية والعلم ليس‬
‫أن االفرتاضات‬ ‫ولكن هذه احلجة هي اليت ترتكب خطأً منطقيًّا باخللط بني االفرتاضات واجملاالت األكادميية‪ ،‬من احلقيقي َّ‬ ‫فلسفةً»‪َّ .‬‬
‫أن العلماء خاضعني‬ ‫ولكن هذا ال يعين َّ‬
‫التجريبية ليست كاالفرتاضات املنطقية‪ ،‬وينبغي متييزمها عن االدعاءات املعيارية أو األخالقية‪َّ ،‬‬
‫متاما كما ال ينبغي للفالسفة االمتناع عن احلديث عن العامل املادي‬‫لقرا ٍر حبظر النشر مينعهم عن مناقشة القضايا املفاهيمية واألخالقية‪ً ،‬‬
‫امللموس‪.‬‬
‫العلم ليس جمرد قائمةً باحلقائق التجريبية‪ ،‬فالعلماء منغمسون يف وسط املعلومات األثريي‪ ،‬الذي يشمل حقائق الرياضيات ومنطق‬
‫توجه أعماهلم‪ .‬ومل حتصر الفلسفة نفسها يف مضمار األفكار احملضة اليت تطوف متحررةً من الكون املادي‪ .‬نسج‬‫نظرياهتم والقيم اليت ِّ‬
‫فالسفة التنوير على حنو خاص حججهم املفاهيمية بفرضيات عن اإلدراك والوعي والشعور والنزعة االجتماعية (انطلق حتليل هيوم على‬
‫متبصًرا من بني أموٍر أخرى)‪ ،‬ويؤمن اليوم معظم‬
‫سبيل املثال لطبيعة السببية من رؤاه عن علم نفس السببية‪ ،‬وكان كانط عامل نفس معرفيًا ِّ‬
‫إن «الطبيعة تستنزف‬ ‫الفالسفة (على األقل يف التقاليد الفلسفية األجنلو أمريكية أو التحليلية) بـ «املذهب الطبيعي»‪ ،‬وهو املذهب القائل َّ‬
‫الواقع وال حتتوي على أي شيء خارق للطبيعة وإنَّه ال بد من استخدام املنهج العلمي للتحقيق يف جوانب الواقع كافةً‪ ،‬مبا فيها الروح‬
‫البشرية»‪ .‬العلم باملفهوم احلديث مثله مثل الفلسفة واملنطق نفسه‪.‬‬
‫ما الذي مييِّز العلم إذًا عن الصور األخرى ملمارسة املنطق؟ ليس «املنهج العلمي» بالطبع‪ ،‬وهو مصطلح يتعلَّمه طالب املدارس‬
‫أبدا‪ ،‬فالعلماء يستخدمون أي منهج يساعدهم يف فهم العامل‪ ،‬مثل تبويب البيانات‪ ،‬والتجارب اجلريئة‪ ،‬واألفكار‬ ‫ولكن ال ينطقه أي عامل ً‬
‫اخليالية النظرية‪ ،‬وتصميم النماذج الرياضية األنيقة‪ ،‬واحملاكاة غري املتناسقة بالكمبيوتر‪ ،‬والسرديات اللفظية الكاسحة‪ .‬وُتدم كل األساليب‬
‫مبدأين‪ ،‬وهذان املبدآن مها اللذان يود مناصرو العلم تصديرمها لبقية جوانب احلياة الفكرية‪.‬‬
‫أن العامل قابل للفهم‪ ،‬إذ ميكن تفسري الظواهر اليت نشهدها مببادئ أعمق من الظواهر نفسها‪ ،‬هلذا يضحك‬
‫املبدأ األول هو َّ‬
‫العلماء من نظرية الربونتصور خلبرية الديناصورات يف برنامج سيرك مونتي بايثون الطائر‪« :‬كل ديناصورات الربونتصور حنيفة من أحد‬
‫شرحا لسبب‬ ‫الطرفني مث تكون مسينة من املنتصف مث حنيلة من الطرف اآلخر»‪ ،‬فهذه «النظرية» هي جمرد وصف حلقيقة األمور وليست ً‬
‫دائما يف بداية‬
‫كوهنا كذلك‪ .‬واملبادئ اليت متثِّل التفسري ميكن تفسريها بدورها مببادئ أعمق‪ ،‬وهكذا (كما قال ديفيد دويتش‪« :‬حنن ً‬
‫أن «هذا‬ ‫بأن «هذا هو الواقع دون أسباب» أو َّ‬ ‫الالهنائية»)‪ .‬عند حماولة فهم عاملنا‪ ،‬ال بد أن نضطر يف بعض األحيان إىل التسليم َّ‬
‫قلت ذلك»‪ .‬ليس االلتزام بالوضوح وقابلية الفهم مسألة إميان حمض‪ ،‬ولكنَّه يثبت نفسه باستمرار إذ تصبح جوانب‬ ‫سحر» أو «ألنَّين ُ‬
‫أكثر من العامل أكثر قابلة للتفسري مبصطلحات علمية‪ ،‬فعملية احلياة على سبيل املثال كانت تُعزى إىل دفعة احلياة الغامضة‪ ،‬ولكنَّنا‬
‫نعرف اآلن َّأهنا مدفوعة بالتفاعالت الكيميائية والفيزيائية بني جزيئات معقدة‪.‬‬
‫نظام معقد إىل عناصر أبسط‪،‬‬ ‫خيلط أولئك الذين يشيطنون العلموية غالبا بني القابلية للفهم وخطيئة تُدعى االختزالية‪ ،‬أي حتليل ٍ‬
‫ً‬
‫أو إىل ال شيء سوى عناصر أبسط‪ ،‬حسب االهتام‪ .‬ال يعين تفسري حدث معقد مببادئ أعمق جتاهل ثرائه‪ ،‬فتنشأ يف أحد مستويات‬
‫تكونت من مادةٍ متحركة‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن ال أح َد‬ ‫أن احلرب العاملية األوىل َّ‬ ‫ٍ‬
‫مكونات من مستوى أدىن‪ .‬رغم َّ‬ ‫التحليل أمناط ال ميكن اختزاهلا يف‬
‫املعربة عن تصورات قادهتا وأهدافهم يف أوروبا يف عام ‪.1914‬‬ ‫بدال من اللغة األوضح ِّ‬
‫سيحاول تفسريها بلغة الفيزياء والكيمياء واألحياء ً‬
‫شخص فضويل أن يسأل ملاذا يكون العقل البشري عرضة لتصورات وأهداف كهذه‪ ،‬مبا فيها القبَلية وفرط‬ ‫ٍ‬ ‫ويف الوقت نفسه‪ ،‬حيق ألي‬
‫قاتال‪.‬‬ ‫الثقة واخلوف املتبادل وثقافة الشرف‪ ،‬وهي األمور اليت َّ‬
‫شكلت يف تلك اللحظة التارخيية مزجيًا ً‬
‫أن علينا أن نسمح للعامل بأن خيربنا ما إذا كانت أفكارنا صحيحة أم ال‪ ،‬فاألسباب التقليدية للمعتقدات ‪-‬مثل‬ ‫املبدأ الثاين هو َّ‬
‫اإلميان والكشف والدوغما والسلطة واجلاذبية والتصورات السائدة والتحليل التأويلي للنصوص ومحاسة اليقني الذايت‪ -‬من مسبِّبات‬
‫بدال من ذلك حسب مدى مالءمتها للعامل‪.‬‬ ‫األخطاء وينبغي رفضها كمصدر للمعرفة‪ .‬جيب تقييم معتقداتنا عن االفرتاضات التجريبية ً‬
‫إحلاحا من أجل شرح كيف يفعلون ذلك‪ ،‬فإهنم يذكرون عاد ًة منوذج كارل بوبر (‪ )Karl Popper‬للتخمني‬ ‫عندما يواجه العلماء ً‬
‫والتفنيد‪ ،‬الذي ميكن وفقه أن تدحض االختبارات التجريبية النظريةَ العلمية ولكن ال تُثبَت النظرية مطل ًقا‪ .‬ال يشبه العلم يف الواقع رماية‬
‫كثريا‪ ،‬كأن تُطلق جمموعة متتالية من الفرضيات يف اهلواء مثل أهداف الصلصال على شكل احلمام وتُطلق عليها النار‬ ‫األطباق الطائرة ً‬
‫لتنسفها إىل شظايا‪َّ ،‬إمنا يشبه طريقة التفكري البايزية (املنطق الذي يستخدمه املتنبؤون اخلارقون الذين َّ‬
‫تعرفنا عليهم يف الفصل السابق)‪.‬‬
‫تكتسب النظرية درجةً أولية من التصديق بناءً على اتساقها مع كل شيء آخر نعرفه‪ ،‬مث يزداد مستوى التصديق أو ينخفض حسب‬
‫مدى احتمالية وقوع املالحظة التجريبية إذا كانت النظرية صحيحة‪ ،‬مقارنةً مبدى احتمالية وقوعها إذا كانت النظرية خاطئة‪ .‬وبغض‬
‫فإن درجة تصديق ِ‬
‫العامل نظريةً ما تعتمد على اتساقها مع األدلة التجريبية‪.‬‬ ‫عما إذا كان منوذج بوبر أو منوذج بايز هو األفضل‪َّ ،‬‬ ‫النظر َّ‬
‫بوضوح عندما تقتل من خيتلفون معها أو‬
‫ٍ‬ ‫تعزز فرص اختبار معتقداهتا (ويظهر ذلك‬ ‫وأي حركة تطلق على نفسها «علمية» ولكنَّها ال ِّ‬
‫تسجنهم) ليست حركةً علمية‪.‬‬

‫كثري من الناس الفضل للعلم يف العقاقري واألجهزة املفيدة ويف تفسري عمل األشياء املادية‪ ،‬ولكنَّهم يتوقفون عند األمور اليت هتمنا‬
‫ينسب ٌ‬
‫حقًّا كبشر‪ ،‬األسئلة العميقة مثل من حنن؟ ومن أين أتينا؟ وكيف حندِّد معىن حياتنا والغرض منها؟ إذ تقع هذه األسئلة يف جمال الدين‬
‫محاسا‪ ،‬ومييلون إىل تأييد خطة التقسيم اليت اقرتحها عامل املستحاثات‬‫التقليدي‪ ،‬ويكون املدافعون عنه غالبًا هم أكثر منتقدي العلم ً‬
‫والكاتب العلمي ستيفن جاي جولد (‪ )Stephen Jay Gould‬يف كتابه )‪ ،(Rocks of Ages‬واليت مفادها أ َّن شواغل العلم‬
‫وشواغل الدين ينتمون إىل «سلطات غري متداخلة»‪ ،‬فالعلم يتوىل الكون التجرييب‪ ،‬والدين يتوىل مسائل األخالق واملعىن والقيمة‪.‬‬
‫تفحصه‪ ،‬فالنظرة األخالقية للعامل لدى أي شخص مثقف علميًّا ‪-‬شخص مل جتعله‬
‫ولكن هذا الوفاق يتخلخل مبجرد أن تبدأ يف ُّ‬
‫َّ‬
‫تاما عن املفاهيم الدينية عن املعىن والقيمة‪.‬‬
‫انفصاال ً‬
‫ً‬ ‫األصولية ضيق األفق‪-‬تستلزم‬
‫أن النظم العقائدية اخلاصة بكل األديان والثقافات التقليدية يف العامل ‪-‬نظرياهتم عن تكوين‬ ‫بدايةً‪ ،‬تدل نتائج العلم ضمنيًّا على َّ‬
‫أن البشر ينتمون إىل نوٍع واحد من الرئيسيات اإلفريقية‬‫ولكن أسالفنا مل يعرفوا‪َّ -‬‬
‫العامل واحلياة والبشر واجملتمعات‪-‬خاطئة‪ .‬حنن نعرف ‪َّ -‬‬
‫نسب تشمل كل‬ ‫أن نوعنا جمرد غصن صغري من شجرة ٍ‬ ‫طورت الزراعة واحلكومة والكتابة يف حقبة متأخرة من التاريخ‪ ،‬ونعرف َّ‬ ‫اليت َّ‬
‫كب يدور حول إحدى‬ ‫الكائنات احلية نشأت من مواد كيميائية سبقت احلياة منذ أربعة ماليني عاٍم تقريبًا‪ ،‬ونعرف أنَّنا حنيا على كو ٍ‬
‫احدا من ضمن‬‫عام‪ ،‬والذي رمبا يكون و ً‬‫كون عمره ‪ 13.8‬مليار ٍ‬ ‫النجوم من مئة مليار جنم يف جمرتنا‪ ،‬اليت تقع ضمن مئة مليار جمرة يف ٍ‬
‫أن حدسنا البديهي عن املكان والزمان واملادة والسببية غري قابل للقياس حسب طبيعة الواقع على‬ ‫عدد شاسع من األكوان‪ .‬حنن نعرف َّ‬ ‫ٍ‬
‫أن القوانني اليت حتكم العامل املادي (مبا فيها احلوادث واألمراض واملصائب األخرى) ليس هلا‬ ‫مقاييس كبرية جدًّا وصغرية جدًّا‪ ،‬ونعرف َّ‬
‫أهداف تتعلَّق برفاهة البشرية‪ ،‬ال يوجد شيء امسه القدر أو العناية اإلهلية أو «الكارما» أو التعاويذ أو اللعنات أو العرافة أو العقاب‬
‫يفسر سبب اعتقاد الناس بوجود هذه األشياء‪.‬‬ ‫اإلهلي أو األدعية املستجابة‪ ،‬وإن كان التعارض بني قوانني االحتماالت وأساليب اإلدراك ِّ‬
‫أن القناعات املفضلة لدى كل زمان وثقافة قد تُنفى بصورةٍ قاطعة‪ ،‬مبا فيها بعض‬ ‫ونعرف أنَّنا مل ن ُكن نعرف هذه األمور طوال تارخينا‪ ،‬و َّ‬
‫القناعات اليت حنملها اليوم ال حمالة‪.‬‬
‫وجه القيم األخالقية والروحانية لدى الشخص واسع املعرفة اليوم هي النظرة للعامل اليت يقدِّمها‬ ‫بعبارةٍ أخرى‪َّ ،‬‬
‫فإن النظرة للعامل اليت تُ ِّ‬
‫أن احلقائق العلمية ال تفرض القيم بنفسها‪َّ ،‬إال َّأهنا حتصر االحتماالت بالتأكيد‪ ،‬فبتجريد السلطة الكنسية من مصداقيتها‬ ‫لنا العلم‪ .‬رغم َّ‬
‫يف املسائل الوقائعية‪ ،‬فإن ذلك يثري الشك يف ِّادعاءاهتا بالتيقُّن من املسائل األخالقية‪ .‬يهدم التفنيد العلمي لنظرية اآلهلة املنتقمة والقوى‬
‫اخلفية ممارسات كاألضحية البشرية ومطاردة الساحرات والعالج باإلميان واحملاكمة باالختبارات القاسية والتعذيب واضطهاد الزنادقة‪.‬‬
‫حتمل مسؤولية رفاهتنا ونوعنا وكوكبنا بأنفسنا‪ ،‬وللسبب‬ ‫وجيربنا العلم بالكشف عن غياب اهلدف عن القوانني اليت حتكم العامل على ُّ‬
‫أيضا أي نظام أخالقي أو سياسي يقوم على القوى الصوفية الغامضة أو املساعي الصوفية أو األقدار أو اجلدليات أو‬ ‫نفسه‪ ،‬يهدم ً‬
‫مجيعا نقدِّر رفاهتنا اخلاصة‬
‫الصراعات أو العصور املسيانية (عصور املسيح املنتظر)‪ .‬وإىل جانب بعض القناعات اليت ال غبار عليها ‪-‬أنَّنا ً‬
‫وأنَّنا كائنات اجتماعية يؤثِّر بعضها يف بعض وميكنها التفاوض على قواعد السلوك‪َّ -‬‬
‫فإن احلقائق العلمية تدفع باجتاه األخالق املربَّرة‪،‬‬
‫احلساسة األخرى إىل أقصى حد‪ .‬هذه النزعة اإلنسانية (الفصل الثالث والعشرون) اليت‬ ‫أي املبادئ اليت تزيد ازدهار اإلنسان والكائنات َّ‬
‫حررة‪،‬‬‫ال تنفصل عن فهم العامل من منظوٍر علمي يف طريقها إىل أن متثِّل األخالق الفعلية للدميقراطيات واملنظمات الدولية واألديان امل ِّ‬
‫ُ‬
‫وحتدِّد الوعود غري احملقَّقة اليت تقدِّمها الضرورات األخالقية اليت نواجهها اليوم‪.‬‬

‫جاهال يف‬
‫هدا ً‬ ‫كثريا من مؤسساتنا الثقافية تزرع ُز ً‬
‫أن ً‬ ‫انغماسا على حن ٍو نافع يف حياتنا الفكرية واألخالقية واملادية‪َّ ،‬إال َّ‬
‫ً‬ ‫رغم َّ‬
‫أن العلم يزداد‬
‫اهتماما طفي ًفا لألفكار‬ ‫وتوجه‬
‫تكرس نفسها ظاهريًّا لألفكار يف السياسة والفنون‪ِّ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫يتحول إىل ازدراء‪ .‬حتصر اجملالت الفكرية اليت ِّ‬‫العلم َّ‬
‫ولكن األسوأ هو تناول العلم‬‫التغري املناخي (واهلجمات املنتظمة على العلموية)‪َّ .‬‬ ‫اجلديدة النابعة من العلم باستثناء القضايا املسيَّسة مثل ُّ‬
‫ٍ‬
‫بدرجة ضئيلة‪ ،‬وما يتعلَّمونه‬ ‫يتعرضوا للعلم سوى‬
‫يتخرج الطالب دون أن َّ‬ ‫يف مناهج اآلداب احلرة يف كث ٍري من اجلامعات‪ ،‬إذ ميكن أن َّ‬
‫ليسمم أفكارهم جتاهه‪.‬‬
‫مصم ًما ِّ‬ ‫بالفعل يكون على األغلب َّ‬
‫شيوعا يف مقررات العلم يف اجلامعات احلديثة (إضافةً إىل أحد الكتب اجلامعية الرائجة عن األحياء) هو كتاب‬
‫إن الكتاب األكثر ً‬
‫توماس كون (‪ )Thomas Kuhn‬بعنوان «بنية الثورات العلمية» )‪.(The Structure of Scientific Revolutions‬‬
‫أن العلم ال جيتمع حول احلقيقة‪ ،‬بل يشغل نفسه بفك األلغاز قبل‬ ‫يوضح َّ‬
‫يشيع تفسري الكتاب الكالسيكي الصادر عام ‪ 1962‬كأنَّه ِّ‬
‫أن كون بنفسه أنكر هذا التفسري العدمي‪َّ ،‬إال أنَّه‬
‫أن يرتكها وينتقل إىل منوذج جديد جيعل النظريات السابقة عليه باطلة وملتبسة‪ .‬ورغم َّ‬
‫أن عامل الفن مل ُيعد يهتم مبا إذا‬‫أصبح التصور السائد يف أوساط الثقافة الثانية‪ .‬شرح يل أحد النقاد من جملة فكرية كربى ذات مرة َّ‬
‫كانت األعمال الفنية «مجيلة» أم ال للسبب نفسه الذي جعل العلماء غري مهتمني مبا إذا كانت النظريات «صحيحة» أم ال‪ ،‬وبدا‬
‫حت له هذه الفكرة‪.‬‬
‫صح ُ‬‫فعال عندما َّ‬‫متفاجئًا ً‬
‫تعمقت مشكلة الثقافتني خالل السنوات‬ ‫قال مؤرخ العلوم ديفيد ووتن (‪ )David Wootton‬عن أعراف جماله ما يلي‪َّ « :‬‬
‫بدال من أن يؤدي تاريخ العلم دور اجلسر بني اآلداب والعلوم‪ ،‬يقدِّم اليوم للعلماء صورةً ال يعرفها‬ ‫اليت مرت منذ حماضرة سنو‪ ،‬إذ ً‬
‫كثريا من مؤرخي العلوم يعتربون أن من السذاجة التعامل مع العلم على أنَّه البحث عن التفسريات‬ ‫ألن ً‬‫معظمهم عن أنفسهم»‪ ،‬وهذا َّ‬
‫احلقيقية للعامل‪ .‬فتكون النتيجة كتقرير عن مباراة كرة سلة يضعه ناقد رقص غري مسموح له بأن يقول َّ‬
‫إن الالعبني حياولون مترير الكرة من‬
‫احللقة‪.‬‬
‫مؤرخي العلوم سلسلةً من الصور املتحركة ثالثية األبعاد متعددة‬ ‫فكك فيها أحد ِّ‬‫حضرت ذات مرة حماضرةً عن سيمياء التصوير العصيب َّ‬
‫اعا معينة من «األنفس» اليت ميكن بعد ذلك‬ ‫األلوان للدماغ وشرح ببالغة كيف َّ‬
‫أن «النظرة العلمية اليت تبدو حيادية وطبيعية حتفز أنو ً‬
‫تطويعها ألجندات سياسية معينة‪ ،‬مما يغري املوقف من الغرض العصيب (النفسي) إىل املوقف املراقب اخلارجي» وهكذا‪ ،‬أي تفسري سوى‬
‫يكرس كثريٌ من الباحثني يف جمال «الدراسات العلمية» حياهتم املهنية‬
‫تسهل رؤية ما حيدث يف الدماغ! ِّ‬ ‫التفسري الواضح‪ ،‬وهو َّ‬
‫أن الصور ِّ‬
‫للتحليالت املبهمة لكيف َّ‬
‫أن املؤسسة بأكملها عبارة عن ذريعة لالضطهاد‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك هذا اإلسهام البحثي يف أكثر حتديات‬
‫إحلاحا‪:‬‬
‫العامل ً‬

‫الكتل الجليدية والنوع االجتماعي والعلم‪ :‬إطار نسوي لعلم الجليد لألبحاث على التغيرات البيئية العالمية‬

‫لكن العالقات بني النوع االجتماعي والعلم والكتل‬


‫«الكتل اجلليدية رموز رئيسية للتغري املناخي والتغريات البيئية العاملية‪َّ ،‬‬
‫اجلليدية ‪-‬وخاصةً تلك املتعلقة باألسئلة اإلبستمولوجية عن إنتاج املعرفة يف جمال علم اجلليد‪ -‬ما زالت ال ُتضع للدراسة‬
‫الكافية‪ .‬ومن مث تقرتح هذه الورقة البحثية إط ًارا نسويًّا لعلم اجلليد ذي أربعة مكونات رئيسية‪ ،‬هي‪ )1( :‬منتجو املعرفة‪،‬‬
‫(‪ )2‬العلم واملعرفة ذوا البعد اجلنساين‪ )3( ،‬أنظمة اهليمنة العلمية‪ )4( ،‬عروض بديلة للكتل اجلليدية‪ .‬يدمج اإلطار النسوي‬
‫حتليال قويًّا للنوع‬
‫لعلم اجلليد الدراسات العلمية النسوية فيما بعد االستعمار بعلم اإليكولوجيا السياسي النسوي‪ ،‬وينتج ً‬
‫االجتماعي والسلطة واإلبستمولوجيا يف األنظمة االجتماعية اإليكولوجية الدينامية‪ ،‬وبذلك يؤدي إىل عل ٍم أكثر عدالً‬
‫وإنصافًا‪ ،‬وتفاعالت أعدل بني اإلنسان واجلليد»‪.‬‬

‫واألكثر خبثًا من التفتيش عن صوٍر ملغزة للعنصرية والتمييز على أساس اجلنس هو احلملة املشيطنة اليت تطعن يف العلم (إىل جانب‬
‫املنطق وقيم التنوير األخرى) وتتَّهمه جبرائم قدمية قِ َدم احلضارة مبا فيها العنصرية والعبودية والغزو واإلبادة اجلماعية‪ .‬كانت هذه إحدى‬
‫السمات الرئيسية للنظرية النقدية املؤثرة ملدرسة فرانكفورت‪ ،‬وهي احلركة شبه املاركسية اليت أسسها ثيودور أدورنو ( ‪Theodor‬‬
‫متاما تُشع كوارث وتسعد هبا»‪ ،‬وتتمثل‬ ‫أن «األرض املستنرية ً‬ ‫‪ )Adorno‬وماكس هوركهامير (‪ )Max Horkheimer‬الذي زعم َّ‬
‫بأن اهلولوكوست كان النتيجة احلتمية‬ ‫كذلك يف أعمال ُمنظري ما بعد احلداثة مثل ميشيل فوكو (‪ )Michel Foucault‬الذي قال َّ‬
‫«للسياسة احليوية» اليت بدأت مع التنوير عندما زاد تأثري العلم واحلُكم العقالين يف حياة الناس‪ ،‬ومن ُمنطلق مماثل‪ ،‬ألقى عامل االجتماع‬
‫زجيمونت باومان (‪ )Zygmunt Bauman‬مسؤولية حدوث اهلولوكوست على التصور التنويري «جتديد اجملتمع وإجباره على‬
‫االلتزام خبطة شاملة من ابتكار العلم»‪ .‬يف هذه الرواية امللتوية‪ ،‬تُرفع املسؤولية عن النازيني («إهنا غلطة احلداثة!»)‪ .‬وكذلك األيديولوجية‬
‫بتطرف واليت كانت حتتقر عبادة الليرباليني الربجوازيني املنحلني للمنطق والتقدم‪ ،‬وتبنَّت حرا ًكا بدائيًّا عضويًّا أجج‬ ‫ٍ‬ ‫النازية املضادة للتنوير‬
‫أن النظرية النقدية وما بعد احلداثة تتجنبان األساليب «العلمية» مثل القياس الكمي وتسلسل األحداث‬ ‫الصراع بني األعراق‪ .‬رغم َّ‬
‫منتشرين يف عصور ما قبل احلداثة‪ ،‬ولكنهما‬ ‫أن احلقائق تشري إىل رجوعهما إىل اخللف‪ ،‬إذ كانت اإلبادة اجلماعية واالستبداد َ‬ ‫املرتب‪َّ ،‬إال َّ‬
‫ُ‬
‫تضاءال ومل يزدادا بعد أن زاد تأثري قيم العلم والتنوير الليربايل بعد احلرب العاملية الثانية‪.‬‬
‫كثريا لدعم حركات سياسية يُرثى هلا‪ ،‬ومن الضروري بالطبع فهم هذا التاريخ‪ ،‬وجيوز إصدار األحكام‬
‫كان العلم بالتأكيد يُستغل ً‬
‫على العلماء لدورهم فيه مثلما حيدث مع أي رموز تارخيية أخرى‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬يتخلى الباحثون يف العلوم اإلنسانية عن الصفات اليت‬
‫نقدِّرهم بسببها ‪-‬السياق والفروق الدقيقة والعمق التارخيي‪ -‬عندما تسنح هلم فرصة شن محلة ضد منافسيهم يف الوسط األكادميي‪ .‬يُالم‬
‫العلم عاد ًة على احلركات الفكرية املصبوغة بصبغة علمية زائفة مع َّ‬
‫أن هذه احلركات هلا جذور عميقة ومتشعبة‪.‬‬
‫الرقي العقلي‪ ،‬ويعتلي‬ ‫إن األعراق ِّ‬
‫ونظرية «العنصرية العلمية» مثال بارز على ذلك‪ ،‬وهي النظرية اليت تقول َّ‬
‫هرما تطوريًّا من ُ‬
‫تشكل ً‬
‫األوروبيون الشماليون قمة هذا اهلرم‪ .‬كانت هذه النظرية شائعة يف العقود األوىل من القرن العشرين‪ ،‬ومن الواضح أهنا كانت مدعومة‬
‫بقياسات اجلمجمة (كان هناك اعتقاد بأن قياسات اجلمجمة تدل على صفات معينة يف الشخصية) واالختبارات العقلية قبل أن ينفيها‬
‫ولكن تعليق العنصرية الفكرية على مشَّاعة العلم وخاصةً على‬‫يف منتصف القرن العشرين العلم األفضل وكذلك جرائم النازية املروعة‪َّ .‬‬
‫نظرية التطور هو صورة خاطئة للتاريخ الفكري‪ ،‬فقد ُوجدت االعتقادات العُنصرية عرب التاريخ ويف مناطق عديدة من العامل‪ ،‬وكانت‬
‫بأن العبيد مناسبون بطبيعتهم للعبودية و َّ‬
‫أن اهلل خلقهم كذلك‪ ،‬وأقوال ال ُكتَّاب‬ ‫العبودية موجودة يف مجيع احلضارات وكانت تُربر عادةً َّ‬
‫اإلغريق وال ُكتَّاب العرب يف العصور الوسطى عن دونية األفارقة بيولوجيًّا قد ُجت ِّمد الدم يف عروقك‪ ،‬ومل يكن رأي شيشرون يف الربيطانيني‬
‫كثريا‪.‬‬
‫أفضل ً‬
‫بدقة أكرب‪ ،‬كانت العنصرية الفكرية اليت تفشَّت يف الغرب يف القرن التاسع عشر من بنات أفكار العلوم اإلنسانية مثل التاريخ وفقه‬
‫اللغة والكالسيكيات وامليثولوجيا وليس العلم‪ .‬نشر آرثر دي جوبينو ‪-‬روائي ومؤرخ ها ٍو‪ -‬يف عام ‪ 1853‬نظريته السخيفة اليت تقول‬
‫أرض قدمية ونشر حضارةً من املقاتلني األبطال يف أوراسيا (أوروبا وآسيا)‬ ‫الشجعان ‪-‬اجلنس اآلري‪ -‬نشأ من ٍ‬ ‫بأن عِرقًا من الرجال البيض ُ‬
‫وتشعبت إىل ال ُفرس واحليثيني واإلغريق اهلومرييني واهلنود الفيديني مث بعد ذلك إىل الفايكنج والقوطيني والقبائل اجلرمانية األخرى (اجلزء‬
‫احلقيقي الوحيد من هذه القصة هو أن هذه القبائل حتدثت لغات تنتمي إىل عائلة واحدة هي اهلندو‪-‬أوروبية)‪ ،‬واهنار كل شيء عندما‬
‫خالط اجلنس اآلري األجناس األدىن اليت غزاها مما قلَّل من عظمته وحتول إىل الثقافات اخلائرة الفاسدة عدمية الروح الربجوازية التجارية‬
‫سهال‬
‫دائما‪ .‬كان دمج هذه القصة اخليالية مع النزعة القومية الرومانسية ومعاداة السامية األملانية ً‬ ‫اليت كان الرومانسيون يتذمرون منها ً‬
‫أن الشعب التيوتوين وريث اآلريني َّأما اليهود فهم عرق آسيوي هجني‪ .‬تشرب أفكار جوبينو ريتشارد فاجنر (الذي‬ ‫فكانت النتيجة َّ‬
‫كانت مسرحياته األوبرالية إحياءً لألساطري اآلرية القدمية)‪ ،‬وكذلك صهره هيوسنت ستيوارت تشامربلني ( ‪Houston Stewart‬‬
‫‪( )Chamberlain‬وهو الفيلسوف الذي كتب َّ‬
‫أن اليهود ل َّوثوا احلضارة التيوتونية بالرأمسالية واإلنسانية الليربالية والعلم العقيم)‪،‬‬
‫ووصلت هذه األفكار منهم إىل هتلر الذي كان ينظر لتشامربلني بوصفه «أباه الروحي»‪.‬‬

‫دورا يُذ َكر‪ ،‬فرفض كلٌّ من جوبيناو وتشامربلني وهتلر بوضوح نظرية داروين عن التطور‪ ،‬وخاصةً‬
‫مل يلعب العلم يف حلقة التأثري هذه ً‬
‫فكرة تطور البشر تدرجييًّا من القرود‪ ،‬واليت تعارضت مع نظريتهم الرومانسية عن العرق واملفاهيم الدينية اليت نشأت عنها‪ .‬فطب ًقا هلذه‬
‫اعا خمتلفة وكل نوع يتناسب مع حضارة ذات مستوى معني من الرقي‪ ،‬وستتدهور هذه‬ ‫االعتقادات املنتشرة‪ ،‬كانت األعراق متثِّل أنو ً‬
‫أصوال «مهجية»‬‫وإن لكل البشر ً‬ ‫نوع واحد وهلم أصل مشرتك‪َّ ،‬‬‫إن البشر أفراد متقاربون ينتمون إىل ٍ‬ ‫األعراق إذا اختلطت‪ .‬قال داروين َّ‬
‫مجيعا دون حدوث ضرر‪ .‬وقد ختم املؤرخ روبرت‬ ‫وإن األعراق ميكنها أن متتزج ً‬‫وإن القدرات العقلية جلميع األعراق واحدة تقريبًا‪َّ ،‬‬‫َّ‬
‫ريتشاردز (‪- )Robert Richards‬الذي تتبع املؤثرات اليت أثَّرت يف هتلر‪ً -‬‬
‫فصال بعنوان «هل كان هتلر داروينيًّا؟» (وهو ِّادعاء‬
‫شائع بني املؤمنني بنظرية اخللق) مبا يلي‪« :‬اإلجابة املنطقية الوحيدة عن هذا السؤال‪..‬هي كال‪ ،‬واضحة وقاطعة!»‬
‫تُنسب الداروينية االجتماعية إىل العلم عاد ًة بصورة مغرضة مثل «العنصرية العلمية»‪ ،‬عندما شاع مفهوم التطور يف أواخر القرن‬
‫التاسع عشر وبداية القرن العشرين‪ ،‬حتول إىل اختبار شخصية ورأت تشكيالت سياسية وحركات ثقافية متنوعة أنَّه حيمي براجمهم‪ ،‬وأراد‬
‫اجلميع أن يصدق أن رؤيته اخلاصة للصراع والتقدم واحلياة اجليدة هي طريقة الطبيعة‪ُ .‬مسيت إحدى هذه احلركات بالداروينية االجتماعية‬
‫بأثر رجعي‪ ،‬مع َّأهنا نشأت على يد هربرت سبنسر (‪ )Herbert Spencer‬وليس على يد داروين يف عام ‪ ،1851‬أي قبل نشر‬
‫كتاب «أصل األنواع» )‪ (Origins of Species‬بثمانية أعوام‪ .‬مل يكن سبنسر يؤمن بالطفرات العشوائية واالنتخاب الطبيعي‪،‬‬
‫بل كان يؤمن بنظام الوراثة الالماركي الذي كان فيه صراع الوجود يدفع الكائنات للسعي حنو ٍ‬
‫تعقيد وتكيُّف أكرب وهو ما ينقلونه بدورهم‬
‫أن من األفضل عدم عرقلة قوة التقدم هذه‪ ،‬لذا هاجم الرفاهة االجتماعية والقواعد التنظيمية‬ ‫لألجيال الالحقة‪ .‬كان سبنسر يعتقد َّ‬
‫احلكومية اليت تطيل عمر األفراد واجملموعات األضعف واحملكوم عليهم باهلالك‪ .‬وقد تبىن فلسفته السياسية‪ ،‬واليت كانت صورة مبكرة من‬
‫التحررية‪ ،‬البارونات اإلقطاعيون وأنصار املبدأ االقتصادي «دعه يعمل‪ ،‬دعه مير» واملعارضون لإلنفاق االجتماعي‪َّ .‬‬
‫وألن هذه األفكار‬ ‫ُّ‬
‫تبدو ميينية‪ ،‬فقد أطلق اليساريون مصطلح الداروينية االجتماعية على أفكار أخرى ذات طابع مييين مثل اإلمربيالية وعلم حتسني النسل‬
‫سالحا ضد أي تطبيق لنظرية التطور يف فهم‬‫ً‬ ‫ومؤخرا استُخدم املصطلح‬
‫ً‬ ‫متاما ملثل هذا التدخل احلكومي‪.‬‬ ‫معارضا ً‬
‫ً‬ ‫أن سبنسر كان‬ ‫مع َّ‬
‫البشر‪ .‬إ ًذا فعلى الرغم من أصل هذا املصطلح اللغوي‪َّ ،‬إال أنَّه ال صلة له بداروين أو البيولوجية التطورية‪ ،‬وهو اآلن مصطلح ال معىن له‬
‫يُساء استخدامه‪.‬‬
‫شخص موسوعي من العصر‬ ‫ٌ‬ ‫سالحا أيديولوجيًّا‪ .‬اقرتح فرانسيس جالتون ‪-‬وهو‬
‫ميثِّل علم حتسني النسل حركةً أخرى استُخدمت ً‬
‫أطفاال‬
‫الفيكتوري‪ -‬إمكانية حتسني املخزون الوراثي للجنس البشري بتقدمي حوافز تشجيعية لألشخاص املوهوبني حىت يتزاوجوا ويُنجبوا ً‬
‫أكثر (علم حتسني النسل اإلجيايب)‪ ،‬ولكن هذه الفكرة عندما انتشرت امتدت لتشمل احلد من تزاوج «غري الالئقني» (علم حتسني النسل‬
‫جمموعة وا ٍ‬
‫سعة من‬ ‫ٍ‬ ‫السليب)‪ .‬فعقَّمت العديد من الدول بصورةٍ إلزامية اجلاحنني واملتخلفني عقليًّا واملرضى النفسيني وغريهم ممن ينتمون إىل‬
‫األمراض والوصمات‪ ،‬واقتدت أملانيا النازية يف قوانينها اخلاصة بالتعقيم اإلجباري بقوانني الواليات املتحدة والدول االسكندنافية‪ ،‬وتُعد‬
‫تذرع النازيون يف تعقيمهم بالصحة‬ ‫امتدادا منطقيًّا لعلم حتسني النسل السليب (يف الواقع‪َّ ،‬‬
‫ً‬ ‫جرائم القتل اجلماعي لليهود والروم واملثليني‬
‫تذرعوا بالوراثة أو التطور‪ :‬إذ شبَّهوا اليهود باحلشرات ومسببات األمراض والسرطانات واألعضاء امليتة والدم املسموم)‪.‬‬ ‫العامة أكثر مما َّ‬
‫تسبب ارتباط حركة حتسني النسل بالنازية يف تشويه مسعتها إىل األبد‪ ،‬ولكن املصطلح بقي لوصم عدد من املساعي العلمية مثل‬
‫استخدام علم الوراثة الطبية يف إجناب أطفال بدون أمراض تنكسية مميتة‪ ،‬وكذلك لوصم علم الوراثة السلوكي الذي ُحيلل األسباب الوراثية‬
‫والبيئية املسؤولة عن الفروق الفردية بأكمله‪ .‬وتوصف حركة حتسني النسل عادةً بأهنا حركة العلماء اليمينيني على خالف املذكور‬
‫دعما من التقدميني والليرباليني واالشرتاكيني مبا يف ذلك ثيودور روزفلت ( ‪Theodore‬‬ ‫بالسجالت التارخيية‪ ،‬فقد القت يف احلقيقة ً‬
‫‪ )Roosevelt‬وهربرت جورج ويلز (‪ )H. G. Wells‬وإميا جولدمان (‪ )Emma Goldman‬وجورج برنارد شو ( ‪George‬‬
‫‪ )Bernard Shaw‬وهارولد السكي (‪ )Harold Laski‬وجون ماينارد كينز (‪ )John Maynard Keynes‬وسيدين ويب‬
‫(‪ )Sidney Webb‬وبياتريس ويب (‪ )Beatrice Webb‬ووودرو ويلسون (‪ )Woodrow Wilson‬ومارجرت ساجنر‬
‫(‪ .)Margaret Sanger‬فقد أضفى علم حتسني النسل على اإلصالح قيمة أكرب من قبول الوضع الراهن‪ ،‬وعلى املسؤولية االجتماعية‬
‫قيمة أكرب من األنانية‪ ،‬وعلى التخطيط املركزي قيمة أكرب من مبدأ «دعه يعمل‪ ،‬دعه مير»‪ .‬يرجع الرفض القاطع لعلم حتسني النسل إىل‬
‫وإمنا مؤسسة حمدودة‬‫أن احلكومة ليست حاكما كلي القدرة يتحكم يف وجود اإلنسان‪َّ ،‬‬ ‫مبادئ الليربالية والتحررية التقليدية وهي َّ‬
‫ً‬
‫السلطات‪ ،‬وال يقع الوصول بالرتكيب اجليين للمثالية ضمن هذه السلطات‪.‬‬
‫العلماء (فكثريون منهم كانوا نشطاء أو متواطئني بالطبع) وإمنا ألن هذه‬ ‫مل أذكر الدور احملدود للعلم يف هذه احلركات إلعفاء ُ‬
‫بدال من دورها احلايل كحمالت دعائية معادية للعلم‪ .‬وقد عززت إساءة الفهم‬ ‫اعتمادا على سياقها ً‬
‫ً‬ ‫فهما أعمق وأكثر‬
‫احلركات تستحق ً‬
‫اليت تعرض هلا داروين هذه احلركات‪ ،‬ولكنَّها انبثقت من القناعات الدينية والفنية والفكرية والسياسية هلذه العصور مثل‪ :‬النزعة الرومانسية‬
‫والتشاؤمية ورؤية التقدم على أنه صراع جديل أو كشف روحاين صويف واحلداثة العليا السلطوية‪ .‬وإذا كنا نرى أن هذه األفكار غري عصرية‬
‫أيضا‪ ،‬فهذا يرجع إىل أننا نتمتع اليوم بفهم أفضل للتاريخ والعلم‪.‬‬
‫وخاطئة ً‬

‫ليس تبادل االهتامات حول طبيعة العلم من بقايا «حروب العلم» اليت حدثت يف مثانينيات القرن املاضي وتسعينياته فحسب‪ ،‬وإمنا‬
‫يواصل هذا التبادل بلورة دور العلم يف اجلامعات‪ ،‬فعندما عدَّلت جامعة هارفارد شروط تعليمها العام يف عام ‪ ،2007-2006‬طرح‬
‫تأثريا‬
‫التصريح األويل لفريق العمل تدريس العلم دون أي ذكر ملكانته يف املعرفة البشرية كما يلي‪« :‬يؤثر العلم والتكنولوجيا يف طالبنا ً‬
‫مباشرا بطرق عديدة باإلجياب والسلب‪ :‬فقد نتج عنهما أدوية ميكنها إنقاذ احلياة‪ ،‬واإلنرتنت‪ ،‬وطرق ُتزين أكثر كفاءة للطاقة‪ ،‬ووسائل‬ ‫ً‬
‫إن فن‬ ‫أيضا أسلحة نووية وبيولوجية‪ ،‬ووسائل تنصت إلكرتونية‪ ،‬وإضرار بالبيئة»‪ .‬أجل‪ ،‬ميكن أن نقول َّ‬ ‫ً‬ ‫عنهما‬ ‫نتج‬ ‫ولكن‬ ‫ة‪،‬‬ ‫قمي‬‫ر‬ ‫ترفيه‬
‫أيضا وهكذا‪،‬‬ ‫وإن املوسيقى الكالسيكية حتفز النشاط االقتصادي‪ ،‬وإهنا أهلمت النازيني ً‬ ‫كال من املتاحف وغُرف الغاز‪َّ ،‬‬ ‫العمارة أنتج ًّ‬
‫أن من املمكن أن يكون لدينا‬ ‫لكن هذه املواربة الغريبة بني املنافع واألضرار مل تُطبَّق على اجملاالت األخرى‪ ،‬ومل يُ ِشر هذا التصريح إىل َّ‬
‫َّ‬
‫نفضل الفهم والدراية على اجلهل واخلرافة‪.‬‬
‫أسبابنا املقنعة اليت جتعلنا ِّ‬
‫خلَّصت زميلة أخرى يف مؤمتر حديث إرث العلم املتناقض يف رأيها‪ ،‬إذ أنتج العلم من جهة لقاحات اجلدري‪ ،‬وأنتج من جهة‬
‫أخرى دراسة الزهري اليت أجرهتا جامعة توسكيجي‪ ،‬وخبصوص هذا الشأن‪ ،‬فإن أحد األقاويل احملرضة اليت تتضمنها السردية املشهورة‬
‫أن الباحثني يف جمال الصحة العامة تعقبوا تطور مرض الزهري الكامن يف عينة من األمريكيني الفقراء من أصول إفريقية‬ ‫عن شرور العلم َّ‬
‫فجة طب ًقا ملعايرينا اآلن‪ ،‬ولكنَّها ُحت َكى بطريقة مضللة لزيادة‬
‫ملدة أربعة عقود دون أن يعاجلوهم‪ .‬كانت الدراسة غري أخالقية بصورة َّ‬
‫االهتامات املوجهة للعلم‪ ،‬فالباحثون (وكان معظمهم أمريكيني من أصول إفريقية أو من املناصرين لصحتهم ورفاهتهم) مل يصيبوا املشاركني‬
‫صنع يف معامل‬ ‫بالعدوى كما يعتقد كثريٌ من الناس (وهو تصور خاطئ َّأدى إىل نظرية املؤامرة واسعة االنتشار اليت تقول بأن اإليدز ُ‬
‫احلكومة األمريكية للحد من عدد السود)‪ .‬ورمبا أمكن الدفاع عن الدراسة مبعايري الفرتة اليت بدأت فيها‪ ،‬فقد كانت األدوية املتاحة آنذاك‬
‫لعالج الزهري (مثل الزرنيخ) سامة وغري فعَّالة‪ ،‬وعندما أصبحت املضادات احليوية متاحة بعد ذلك مل يكن أحد يعرف ما إذا كانت‬
‫أن املعادلة بأكملها متبلِّدة‬
‫لكن املقصود هنا َّ‬
‫أن الزهري الكامن خيتفي من تلقاء نفسه بدون عالج‪َّ ،‬‬ ‫وفعالة أم ال‪ ،‬وكان من املعروف َّ‬ ‫آمنة َّ‬
‫أن دراسة‬ ‫احلس األخالقي‪ ،‬وتُظهر قوة حجج الثقافة الثانية يف إثارة حس التكافؤ‪ .‬افرتضت املقارنة اليت أجرهتا زميليت بشكل حتمي َّ‬
‫بدال من اعتبارها انتها ًكا استنكره اجلميع يف أحناء العامل‪ ،‬وساوت العجز مرة واحدة‬ ‫توسكيجي متثِّل جزءًا ال يتجزأ من املمارسة العلمية ً‬
‫عن منع وقوع الضرر على بعض الناس مبنع هالك املاليني يف القرن الواحد إىل ما ال هناية‪.‬‬
‫كثريا من الطالب‬
‫أن ً‬‫هل ُحتدث شيطنة العلم يف برامج اآلداب احلرة يف التعليم العايل فرقًا؟ أجل‪ ،‬وذلك لعدة أسباب‪ .‬فرغم َّ‬
‫كثريا منهم ال يعرفون ما الذي يودون فعله يف حياهتم ويتأثرون‬ ‫أن ً‬‫يتدافعون لدراسة الطب واهلندسة مبجرد التحاقهم باجلامعة‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن العلم جمرد سردية أخرى مثل األديان واألساطري‪ ،‬وأنَّه خيرج من ثورة ليدخل يف‬ ‫بأستاذهتم ومرشديهم‪ .‬وماذا سيحدث للذين يدرسون َّ‬
‫شهدت اإلجابة عن ذلك السؤال‬ ‫ٍ‬
‫بسرعة دون إحراز أي تقدم‪ ،‬وأنَّه تربير للعنصرية والتمييز اجلنسي واإلبادة اجلماعية؟ وقد ُ‬ ‫أخرى‬
‫بنفسي‪ :‬فبعضهم يقول‪« :‬إذا كان هذا هو العلم‪ ،‬فمن األفضل أن أجين منه بعض املال!» وبعد أربعة أعوام يستخدمون عقوهلم يف‬
‫بدال من استخدامها يف اكتشاف أدوية‬ ‫اخرتاع خوارزميات تُسرع من القرارات اليت تتخذها صناديق التحوط عند قراءة املعلومات املالية ً‬
‫جديدة لعالج مرض الزهامير أو تقنيات الحتجاز الكربون وُتزينه‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬فإذا أراد أي شخص اآلن أن جيري حبثًا علميًّا على البشر‪ ،‬حىت وإن كان جمرد‬ ‫وتعرقل عملية إدانة العلم تقدم العلم نفسه ً‬
‫للجنة ما أنَّه ليس يوسف مينجله )‪،*(Josef Mengele‬‬ ‫حوار عن اآلراء السياسية أو استبيان عن األفعال غري املنتظمة‪ ،‬فعليه أن يثبت ٍ‬
‫أن البريوقراطية املؤسسية للتحقق من ذلك قد تضخمت بصورة‬ ‫ورغم أنَّه جيب محاية املشاركني يف األحباث من الضرر واالستغالل َّإال َّ‬
‫وسالحا يستخدمه املتعصبون إلسكات من ال‬‫ً‬ ‫خطرا على حرية التعبري‬
‫أن البريوقراطية أصبحت ً‬ ‫تتجاوز مهمتها بكثري‪ ،‬وأشار النُـقَّاد إىل َّ‬
‫يرضون عن آرائهم‪ ،‬وبريوقراطية ُُتفض من مستوى البحث العلمي بينما تفشل يف محاية املرضى واملشاركني يف البحث العلمي بل وتضرهم‬
‫وضم إىل جلنة مراجعة البحث‬‫أحيانًا‪ .‬قال جوناثان موس )‪ ،(Jonathan Moss‬الباحث الطيب الذي طور فئة جديدة من األدوية ُ‬
‫العلمي يف جامعة شيكاغو‪« :‬أود منكم أن تُفكروا يف ثالث معجزات طبية نعتربها من املسلَّمات‪ ،‬وهي‪ :‬األشعة السينية وقسطرة القلب‬
‫أن ثالثتها مل تكن لرتى الشمس لو حاولنا تطويرها يف عام ‪( »2005‬وذُكِرت املالحظة نفسها عن األنسولني‬ ‫والتخدير الكلي‪ ،‬وأزعم َّ‬
‫أيضا‪ ،‬فأي شخص يود احلديث مع إنسان بنية‬ ‫وعالجات احلروق وأدوية أخرى منقذة للحياة)‪ .‬تواجه العلوم االجتماعية عوائق مماثلة ً‬
‫مسبق من هذه اللجان‪ ،‬وهو انتهاك أكيد للتعديل‬ ‫يح ٍ‬ ‫احلصول على معرفة قابلة للتعميم فإن من الواجب عليه أن حيصل على تصر ٍ‬
‫وحيظَر على علماء األنثروبولوجيا التحدث إىل الفالحني األميني الذين ال يستطيعون توقيع استمارة موافقة أو حماورة‬ ‫الدستوري األول‪ُ ،‬‬
‫ات انتحارية الحتمالية إفشائهم معلومات قد تعرضهم للخطر‪.‬‬ ‫األشخاص احملتمل قيامهم بتفجري ٍ‬

‫ض ناتج عن الزحف البريوقراطي‪ ،‬ويف احلقيقة‪ ،‬فإن العديد من األكادمييني يف جمال يسمى‬ ‫ليست عرقلة البحث العلمي جمرد َعَر ٍ‬
‫باألخالقيات البيولوجية يربروهنا‪ ،‬إذ خيتلق هؤالء املنظرون أسبابًا حلظر مشاركة البالغني املوافقني يف العالجات اليت تساعدهم وتساعد‬
‫أحدا‪ ،‬مستخدمني كلمات مبهمة مثل «الكرامة» و«القداسة» و«العدالة االجتماعية»‪ ،‬وحياولون زرع اخلوف من‬ ‫اآلخرين بينما ال تضر ً‬
‫التطورات يف أحباث الطب احليوي باستخدام تشبيهات بأشياء من املستبعد حدوثها تشمل األسلحة النووية وأعمال النازيني الوحشية‬
‫وديستوبيا من اخليال العلمي مثل «عالم جديد شجاع» )‪ (Brave New World‬و«جاتاكا» )‪ ،(Gattaca‬وسيناريوهات‬
‫خميفة مثل جيوش من كائنات مستنسخة من هتلر وأشخاص يبيعون أعينهم على متجر إي باي (‪ )eBay‬أو خمازن من املوتى األحياء‬
‫لتوفري أعضاء احتياطية للناس‪ .‬فضح الفيلسوف األخالقي جوليان سافوليسكو (‪ )Julian Savulescu‬املعايري املنخفضة للمنطق‬
‫وراء هذه احلجج وأشار إىل أنَّه من املمكن أن تكون هذه العرقلة اليت يقوم هبا جمال األخالقيات البيولوجية غري أخالقية‪ ،‬فقال‪« :‬يعين‬
‫مرضا مميتًا يقتل مئة ألف شخص يف السنة ملدة سنة أنَّك مسؤول عن موت هؤالء املئة ألف حىت وإن مل َترهم‬ ‫تأخري تطوير دواء يعاجل ً‬
‫مطل ًقا»‪.‬‬

‫أن البشر ُمعرضون‬‫فإن املردود األعظم لغرس تقدير العلم هو أن يفكر اجلميع بطريقة أكثر علمية‪ ،‬ورأينا يف الفصل السابق َّ‬
‫ويف النهاية‪َّ ،‬‬
‫عالجا للتفكري الذي يتَّسم باملغالطات املنطقية فيما يتعلق‬
‫أن املعرفة العلمية ليست يف حد ذاهتا ً‬ ‫لالحنيازات واملغالطات املعرفية‪ .‬رغم َّ‬
‫حاال إذا َّ‬
‫فكروا يف هذه القضايا بطريقة أكثر‬ ‫باهلوية املسيَّسة‪َّ ،‬إال أنَّه ليست مجيع القضايا تبدأ على هذا النحو‪ ،‬وسيصبح اجلميع أفضل ً‬
‫علمية‪ .‬بإمكان احلركات اليت هتدف إىل نشر التطور العلمي‪ ،‬مثل صحافة البيانات والتنبؤ البايزي والطب والسياسة املستندين إىل األدلة‬

‫* أو جوزيف مينجل الشهير بمالك الموت هو ضابط طبيب نازي كان يعمل في معسكر األوشفيتز ويجري تجارب وحشية مميتة على المعتقلين ويختار‬
‫المعتقلين الذي سيواجهون مصيرهم في أفران الغاز‪ – .‬المترجمة‪.‬‬
‫ولكن تقدير قيمتها يتغلغل يف الثقافة ٍ‬
‫ببطء‪.‬‬ ‫والرصد الفوري للعنف واإليثار الفعَّال‪ ،‬تعزيز رفاهة البشر بصورةٍ هائلة‪َّ ،‬‬
‫قائال‪« :‬يقول بعض مرضاي أنَّه‬
‫عما إذا كان املكمل الغذائي الذي وصفه يل بسبب أمل ركبيت فعَّ ًاال حقًّا‪ ،‬فأجاب ً‬
‫سألت طبييب َّ‬
‫ُ‬
‫الحظت َّ‬
‫أن العديد من األذكياء‬ ‫ُ‬ ‫فعال معهم»‪ .‬شارك أحد زمالئي يف كلية إدارة األعمال مالحظته التالية عن عامل الشركات‪« :‬لقد‬ ‫ٌ‬
‫ليس لديهم أي فكرة عن كيفية التفكري باملنطق حلل مشكلة‪ ،‬ويستنتجون عالقة سببية من جمرد االرتباط ويستخدمون احلكايات‬
‫الشخصية كدليل يفوق بكثري احتمالية حدوث هذه األمور»‪ .‬يصف زميل آخر يقيس مقدار احلرب والسالم واألمن البشري بصورةٍ‬
‫كمية األمم املتحدة َّ‬
‫بأهنا «منطقة خالية من األدلة»‪:‬‬ ‫ِّ‬

‫ال ُتتلف املناصب العليا يف األمم املتحدة عن برامج العلوم اإلنسانية املعادية للعلم‪ ،‬فمعظم من يصل إىل هذه املناصب‬
‫حمامون وخرجيو كليات اآلداب احلرة‪ ،‬واجلزء الوحيد من األمانة العامة الذي لديه ما يشبه ثقافة البحث ال يتمتَّع سوى‬
‫بالقليل من النفوذ والتأثري‪ .‬ومل يفهم عبارات حتفظية بسيطة مثل «يف املتوسط ومع ثبات العوامل األخرى» سوى القليل من‬
‫كبار املسؤولني يف األمم املتحدة‪ ،‬لذا فإذا كنا نتحدث عن احتماالت نشوب نزاعات‪ ،‬فثِق َّ‬
‫أن السري أرشيبالد برندرجاست‬
‫قائال‪« :‬الوضع ليس كذلك يف بوركينا فاسو»‪.‬‬
‫الثالث أو أحد الزعماء البارزين اآلخرين سريفض ً‬

‫كميًّا‪ ،‬لكن مامل يكونوا مستعدين للحديث‬ ‫يعرتض من يرفضون التفكري العلمي عليه عادةً بقوهلم َّ‬
‫إن بعض األشياء ال ميكن قياسها ِّ‬
‫بأهنا خري أو شر فقط‪ ،‬ونبذ استخدام كلمات مثل أكثر وأقل وأفضل وأسوأ (و«أفعل» التفضيل)‪َّ ،‬‬
‫فإهنم يدَّعون‬ ‫عن القضايا احملسومة َّ‬
‫ولكن الشيء الذي نعرفه عن‬
‫ادعاءات كميَّة بطبعها‪ .‬إذا اعرتضوا على إمكانية إضافة األرقام للقضايا‪ ،‬فهم يقولون‪« :‬ثق يف حدسي»‪َّ ،‬‬
‫أن الناس (مبا فيهم اخلرباء) يثقون يف حدسهم ثقةً زائدة‪ .‬صدم بول مييل (‪ )Paul Meehl‬زمالءه من علماء النفس بتوضيح‬ ‫احلدس َّ‬
‫َّ‬
‫أن معادالت اكتوارية بسيطة ميكنها التفوق على آراء اخلرباء يف التنبؤ بتشخيص األمراض النفسية وحماوالت االنتحار واألداء الوظيفي‬
‫والدراسي والكذب واجلرمية والتشخيص الطيب وبأي ناتج آخر ميكن قياس دقته‪ .‬أهلمت أعمال مييل اكتشافات تفريسكي وكامنان فيما‬
‫أن استنتاجه بتفوق التقدير اإلحصائي على احلدسي هو أحد أقوى‬ ‫خيص االحنيازات املعرفية ودورات تيتلوك للتنبؤ‪ ،‬ومن املعروف َّ‬
‫االكتشافات يف تاريخ علم النفس‪.‬‬
‫حال جلميع املشكالت‪ ،‬فال تستطيع‬ ‫حال سحريًّا وال رصاصة فضية أو سحرية وليست ًّ‬ ‫ليست البيانات ‪-‬ككل األشياء اجليدة‪ًّ -‬‬
‫دائما للبشر يف‬
‫كل أموال العامل دفع تكاليف التجارب العشوائية اخلاضعة للمراقبة الالزمة لإلجابة عن كل سؤال يراودنا‪ .‬وسيبقى القرار ً‬
‫دائما‪ ،‬وحىت‬
‫كميًّا بدائية ً‬‫قياسا ِّ‬
‫حتديد البيانات اليت يودون مجعها وكيفية حتليلها وتفسريها‪ .‬تبقى احملاوالت األوىل لقياس أي مفهوم ً‬
‫تاما‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬حدد علماء االجتماعيات الكمية معايري لتقييم املقاييس‬ ‫احملاوالت األفضل تؤدي إىل فه ٍم احتمايل وليس ًّ‬
‫وتطويرها‪ ،‬وليس املعيار احلاسم هو ما إذا كان املقياس مثاليًّا أم ال‪َّ ،‬‬
‫وإمنا كونه أفضل من تقدير اخلبري أو الناقد أو الصحفي أو الطبيب‬
‫أن هذا املعيار منخفض املستوى‪.‬‬ ‫أو القاضي أو اخلبري املخضرم‪ .‬واتَّضح َّ‬
‫نتيجة خللو ثقافات السياسة والصحافة من أسلوب التفكري العلمي‪ ،‬فإن اإلجابة عن األسئلة ذات العواقب اهلائلة للحياة واملوت‬
‫تكون ٍ‬
‫بطرق نعرف أهنا خاطئة مثل احلكايات الشخصية والعناوين الرئيسية واخلُطب الرنانة وما يسميه املهندسون (رأي الشخص األعلى‬
‫أجرا)‪.‬‬
‫ً‬
‫أن اجلرمية واحلرب ُترجان عن‬‫لقد رأينا بالفعل بعض التصورات اخلاطئة اخلطرية الناجتة عن عدم استخدام اإلحصاء‪ ،‬حيث ظن الناس َّ‬
‫كبريا على حياة‬
‫خطرا ً‬ ‫أن اإلرهاب اإلسالمي يشكل ً‬ ‫ٍ‬
‫اخنفاض ال ارتفاع‪ ،‬ويظنون َّ‬ ‫نطاق السيطرة‪ ،‬مع َّ‬
‫أن جرائم القتل ووفيات املعارك يف‬
‫أن «داعش» هتدد وجود الواليات املتحدة وبقائها رغم أنَّه يندر أن حتقق‬ ‫أن خطره أقل من خطر الدبابري والنحل‪ ،‬ويظنون َّ‬ ‫الناس رغم َّ‬
‫احلركات اإلرهابية أهدافها االسرتاتيجية‪.‬‬
‫ميكن أن تؤدي عقلية رهاب البيانات («الوضع ليس كذلك يف بوركينا فاسو») إىل مأساة حقيقية‪ ،‬يتذكر بالطبع العديد من‬
‫املعلقني السياسيني فشل قوات حفظ السالم (مثلما حدث يف البوسنة عام ‪ )1995‬ويستنتجون بالتايل َّ‬
‫أن هذه القوات إهدار للمال‬
‫واملوارد البشرية‪ ،‬ولكن عندما تنجح قوات حفظ السالم‪ ،‬فال حيدث شيء جدير بالتصوير والنشر‪ ،‬وال يصل من ذلك شيء إىل األخبار‪.‬‬
‫تناولت عاملة السياسة فريجينيا بيدج فورنتا (‪ )Virginia Page Fortna‬يف كتاهبا «هل ينجح حفظ السالم؟» ( ‪Does‬‬
‫)?‪ Peacekeeping Work‬السؤال الذي يطرحه عنوان كتاهبا بطريقة علمية ً‬
‫بدال من استخدام عناوين صحفية بارزة وكانت‬
‫أيضا‪ ،‬وقد متثِّل املعرفة بنتائج‬ ‫ٍ‬
‫اإلجابة‪« :‬نعم واضحة ومدوية» يف حتد لقانون بيرتيدج‪ .‬وتوصلت دراسات أخرى إىل االستنتاج نفسه ً‬
‫هذه التحليالت الفارق بني مساعدة مؤسسة دولية للحفاظ على السالم يف ٍ‬
‫دولة ما وترك احلرب املدنية تتفاقم فيها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مقاطعات إثنية وإخراج األقليات‬ ‫هل تأوي املناطق متعددة األعراق «كراهيات قدمية» ال ميكن إمخادها إال بتقسيم هذه املناطق إىل‬
‫منها؟ نسمع عن األعراق املتجاورة يف األخبار عندما تتقاتل‪ ،‬ولكن ماذا عن األحياء املتجاورة من األعراق املختلفة اليت ال تصلنا أخبارها‬
‫سالم ممل؟ وما هي نسبة األعراق املتجاورة اليت تتعايش سويًّا دون عنف؟ اإلجابة هي‪ :‬معظمهم‪ %95 ،‬من األعراق‬ ‫ألهنا تعيش يف ٍ‬ ‫أبدا َّ‬
‫ً‬
‫املتجاورة يف االحتاد السوفييت ساب ًقا و‪ %99‬من األعراق املتجاورة يف إفريقيا‪.‬‬
‫أن غاندي ومارتن لوثر كينج كانا حمظوظني‪ ،‬و َّ‬
‫أن حركتيهما أسرت‬ ‫فعال؟ يعتقد كثريٌ من الناس َّ‬
‫هل تنجح محالت املقاومة السلمية ً‬
‫مكان آخر فيحتاجون إىل العنف للخروج من حتت سيطرة‬ ‫أي ٍ‬ ‫قلوب الدميقراطيات املستنرية يف الوقت املناسب‪ ،‬أما املظلومون يف ِّ‬
‫الدكتاتوريات‪ .‬مجعت عاملتا السياسة إريكا شينويث (‪ )Erica Chenoweth‬وماريا ستيفان (‪ )Maria Stephan‬بيانات‬
‫أن ثالثة أرباع حركات املقاومة السلمية جنحت‬
‫حركات املقاومة السياسية يف مجيع أحناء العامل بني عامي ‪ 1900‬و‪ 2006‬واكتشفتا َّ‬
‫مقارنة بثُلث احلركات اليت استخدمت العنف يف املقاومة فقط‪ .‬كان غاندي وكينج على حق ولكنَّك مل ت ُكن لتعرف ذلك قط دون وجود‬
‫بيانات‪.‬‬
‫أن االنضمام إىل مجاعة متمردة تستخدم العنف‪ ،‬أو مجاعة إرهابية‪ ،‬رمبا يكون بسبب الرغبة يف تكوين رابطة قوية‬ ‫على الرغم من َّ‬
‫أن أغلب املقاتلني يعتقدون أهنم إذا أرادوا خلق عامل أفضل فليس لديهم خيار‬ ‫بني الذكور أكثر منه بسبب نظرية احلرب العادلة‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أيضا؟ ال يعين‬
‫فعال ً‬‫وإمنا غري ٍ‬
‫أن استخدام العنف ليس غري أخالقي فحسب َّ‬ ‫سوى قتل بعض الناس‪ .‬ماذا سيحدث إذا علم اجلميع َّ‬
‫ولكن قادة اجلماعات املتطرفة يكونون عادةً ذوي‬
‫جوا على مناطق النزاع‪َّ ،‬‬‫أن علينا أن نقذف ُكتُب شينويث وستيفان ً‬ ‫ذلك أنَّين أعتقد َّ‬
‫عال (ويستخلصون جنوهنم من كتابات أكادميية قدمية) وحىت منفِّذو العمليات عاد ًة ما يلتحقون باجلامعة ويستبطنون التصور‬ ‫تعليم ٍ‬
‫اهتماما أقل لكتابات‬
‫ً‬ ‫كرست املقررات الدراسية اجلامعية‬
‫التقليدي للحاجة إىل العنف الثوري‪ .‬ما الذي سيحدث على املدى البعيد إذا َّ‬
‫اهتماما أكثر للتحليالت الكمية للعنف السياسي؟‬ ‫كارل ماركس وفرانز فانون و ً‬
‫دمج أعمق مع شريكه األكادميي‪ :‬العلوم اإلنسانية‪ ،‬فالعلوم اإلنسانية‬
‫رمبا يكون أحد اإلسهامات العظيمة احملتملة للعلم احلديث هو ٌ‬
‫ٍ‬
‫انكماش‪ ،‬واجليل القادم من الباحثني إما عاطل عن العمل أو يعاين من بطالة جزئية‪،‬‬ ‫واقعة يف ورطة بكل املقاييس‪ ،‬فالربامج اجلامعية يف‬
‫والروح املعنوية يف اخنفاض‪ ،‬وتبتعد أعداد كبرية من الطالب عن اجلامعة‪.‬‬
‫حبث أكادميي تارخيي‬‫ليس من املفرتض َّأال يكرتث أي شخص عاقل بعدم استثمار جمتمعنا يف العلوم اإلنسانية‪ ،‬فمجتمع دون ٍ‬
‫ٌ‬
‫أن الوضوح واملنطق ال يسهل اكتساهبما وأنَّنا نكون‬‫ومشوشا ويسهل استغالله‪ .‬تنبع الفلسفة من إدراك َّ‬
‫ً‬ ‫شخصا دون ذاكرة‪ ،‬وامهًا‬
‫ً‬ ‫يشبه‬
‫أفضل عندما نصقل تفكرينا ونعمقه‪ ،‬والفنون إحدى األمور اليت جتعل احلياة جديرة بأن تُعاش وتُثري التجربة اإلنسانية باجلمال واحلكمة‪،‬‬
‫صل املعرفة يف هذه اجملاالت بشق األنفس وحتتاج إىل إثراء وإطالع‬ ‫فن يزيد من تقديرنا لألعمال العظيمة واستمتاعنا هبا‪ُ .‬حت َّ‬ ‫والنقد نفسه ٌ‬
‫مستمر مع تغري الزمن‪.‬‬
‫تشري العلل اليت أصابت العلوم اإلنسانية بصورة مباشرة إىل االجتاهات املعادية للفكر يف ثقافتنا وإىل االستغالل التجاري للجامعات‪،‬‬
‫بأن بعض هذا الضرر ناتج عن األذى الذايت‪ .‬ما زال على العلوم اإلنسانية أن تتعايف من‬ ‫ولكن التقييم الصادق سيدفعنا إىل االعرتاف َّ‬
‫َّ‬
‫كثري من أبرز رموزها مثل نيتشه‬
‫كارثة ما بعد احلداثة بظالميتها العنيدة ونسبيتها اليت تنقض نفسها بنفسها ولباقتها السياسية اخلانقة‪ٌ .‬‬
‫(‪ )Nietzsche‬وهايدجر (‪ )Heidegger‬وفوكو (‪ )Foucault‬والكان (‪ )Lacan‬ودريدا (‪ )Derrida‬والنقاد املنظرين هم‬
‫إن احلداثة بغيضة وكل التصرحيات متناقضة‪ ،‬فاألعمال الفنية أدوات قم ٍع‪،‬‬ ‫أشخاص متشائمون فيما خيص الثقافة‪ ،‬وكئيبون ويقولون َّ‬
‫والدميقراطية الليربالية مثل الفاشية بالضبط‪ ،‬واحلضارة الغربية تتدهور باستمرار ومصريها الفشل‪.‬‬
‫ليس من املفاجئ إ ًذا أن تواجه العلوم اإلنسانية صعوبة يف حتديد خطة تقدمية لنفسها يف ظل هذه النظرة املبتهجة الساذجة للعامل‪.‬‬
‫وقد شكا يل العديد من رؤساء اجلامعات وعمدائها من َّ‬
‫أن العلماء عندما يأتون إىل مكاتبهم‪ ،‬فإهنم يأتون ألهنم اكتشفوا فرصة حبثية‬
‫جديدة ويطالبون باملوارد الالزمة للسعي وراءها‪ ،‬أما عندما يأيت إليهم باحث يف العلوم اإلنسانية‪ ،‬فيأيت لينشد احرتام طريقة سري األمور‬
‫منذ قدمي األزل‪ .‬تستحق طريقة سري األمور االحرتام بالفعل‪ ،‬وال بديل عن القراءة املتأنية والوصف املكثَّف واالنغماس العميق الذي‬
‫يُطبقه الباحثون اخلرباء يف األعمال الفردية‪ ،‬ولكن هل ال بد أن تكون هذه هي الطرق الوحيدة للفهم؟‬
‫يُقدم ارتباط ا لعلوم اإلنسانية بالعلم إمكانيات عديدة لرؤية جديدة‪ ،‬فالفن والثقافة واجملتمع من نواتج العقل البشري‪ ،‬تنشأ يف‬
‫شخص ما يف اآلخرين‪ .‬أال ينبغي أن يدفعنا‬
‫ٌ‬ ‫ملكاتنا اإلدراكية وفكرنا وعواطفنا وترتاكم وتنتشر من خالل ديناميات االنتشار اليت يؤثر هبا‬
‫الفضول لفهم هذه الروابط؟ سيفوز كال الطرفني‪ ،‬وستتمتع العلوم اإلنسانية مبزيد من ُعمق الفهم الذي يتميز به العلم وخبطة تطلعية‬
‫(فضال عن أهنا ستعجب العمداء واجلهات املاحنة)‪ .‬وميكن للعلوم أن تعارض فرضياهتا بالتجارب‬‫تستطيع جذب املواهب الشابة الطموحة ً‬
‫كثريا‪.‬‬
‫الطبيعية والظواهر اليت تتسم بالصالحية البيئية (اإليكولوجية) اليت أسهب يف وصفها باحثو العلوم اإلنسانية ً‬
‫فرعا من تاريخ الفن‪ ،‬إىل علم قائم على التكنولوجيا الفائقة‪،‬‬
‫أمر واقع يف بعض اجملاالت‪ ،‬إذ تطور علم اآلثار من كونه ً‬
‫هذا االرتباط ٌ‬
‫وتتداخل فلسفة العقل مع املنطق الرياضي وعلم الكمبيوتر والعلوم املعرفية وعلم األعصاب‪ ،‬وجيمع علم اللغويات بني الدراسة اللغوية‬
‫لتاريخ الكلمات والرتاكيب النحوية من جانب والدراسات املعملية للكالم والنماذج الرياضية لقواعد النحو والتحليالت احلاسوبية ملدونات‬
‫هائلة من الكتابات واحملادثات من ٍ‬
‫جانب آخر‪.‬‬
‫أيضا بني النظرية السياسية وعلوم العقل‪ ،‬يقول جيمس ماديسون‪« :‬وما احلكومة َّإال أعظم التأمالت يف‬‫هناك عالقة طبيعية وثيقة ً‬
‫الطبيعة البشرية»‪ .‬ويعيد علماء االجتماع والسياسة واملعرفة فحص الروابط بني السياسة والطبيعة اإلنسانية‪ ،‬ونوقشت هذه الروابط باهتمام‬
‫ولكن النقاش اختفى يف فرتةٍ مت التعامل فيها مع البشر على َّأهنم صفحات بيضاء أو كائنات فاعلة عقالنية‪.‬‬
‫شديد يف فرتة ماديسون َّ‬
‫أن البشر كائنات فاعلة أخالقية تسرتشد حبدسها عن السلطة والقبيلة والنقاء‪ ،‬وتلتزم باعتقادات مقدسة تُعرب عن هويتها‪،‬‬ ‫نعرف اآلن َّ‬
‫وحتركها نزعات انتقامية وتصاحلية‪ .‬وبدأنا للتو يف فهم ملاذا تطورت هذه النزعات‪ ،‬وكيف تعمل يف الدماغ‪ ،‬وكيف ُتتلف بني األفراد‬
‫والثقافات والثقافات الفرعية وما الظروف اليت تطلق هذه النزعات أو ُُتمدها‪.‬‬
‫تلوح فرص مشاهبة يف قطاعات أخرى من العلوم اإلنسانية‪ ،‬إذ ميكن أن تستفيد الفنون البصرية باالنفجار املعريف يف علم الرؤية‬
‫مبا فيه من إدراك اللون والشكل وامللمس واإلضاءة واجلماليات التطورية يف الوجوه واملناظر الطبيعية واألشكال اهلندسية‪ ،‬وهناك فرص‬
‫كثرية للنقاش بني وأمام الباحثني يف املوسيقى والعلماء الذين يدرسون إدراك الكالم وبنية اللغة وحتليل الدماغ للعامل السمعي‪.‬‬
‫ال أعرف من أين أبدأ فيما خيص الدراسة األدبية‪ .‬كتب جون درايدن أن العمل الروائي‪« :‬صورة حية وصادقة للطبيعة اإلنسانية‬
‫متثل مشاعرها ومزاجها‪ ،‬وتعرب عن تغري املصائر الذي ُتضع له من أجل إدخال البهجة على البشرية وإرشادها»‪ .‬وميكن لعلم النفس‬
‫املعريف أن يُسلط الضوء على الكيفية اليت يعيش فيها القراء بوعيهم جتربة املؤلف وشخصيات الرواية‪ .‬وميكن أن ُحيدِّث علم الوراثة‬
‫السلوكي النظريات الشعبية للتأثري األبوي باكتشافاته اخلاصة بتأثري اجلينات واألقران والصدفة‪ ،‬ذات التأثريات العميقة يف تفسري ِ‬
‫الس َري‬
‫كثريا من علم النفس املعريف للذاكرة وعلم النفس االجتماعي لتقدمي الذات‪.‬‬
‫الشخصية واملذكرات‪ ،‬وهو مسعى آخر ميكن أن يستفيد ً‬
‫كما يستطيع علماء النفس التطوريون التفرقة بني اهلواجس العاملية واهلواجس اليت تغايل فيها ثقافة معينة‪ ،‬وميكنهم حتديد الصراعات‬
‫الفطرية واملصاحل املشرتكة داخل األسر وبني األزواج واألصدقاء واملتنافسني واليت ُحترك احلبكة‪ .‬ميكن أن تساعد كل هذه األفكار على‬
‫إضافة عمق جديد ملالحظة درايدن عن األدب اخليايل والطبيعة البشرية‪.‬‬
‫ومع أن من األفضل فهم العديد من القضايا اليت تطرحها العلوم اإلنسانية بالنقد السردي التقليدي‪ ،‬إال أن بعض هذه القضايا‬
‫يُثري أسئلة جتريبية ميكن اإلجابة عنها بالبيانات‪ .‬افتتح تطبيق علم البيانات على الكتب والدوريات واملراسالت والعالمات املوسيقية‬
‫علوما إنسانية رقمية» جديدة ومتوسعة‪ .‬وال حيد فرص النظريات واالكتشافات سوى اخليال‪ ،‬وتتضمن هذه الفرص منشأ األفكار‬ ‫« ً‬
‫وانتشارها‪ ،‬وشبكات التأثري الفكري والفين‪ ،‬ومعامل الذاكرة التارخيية‪ ،‬وظهور واختفاء املواضيع يف األدب‪ ،‬واحلبكات والنماذج األولية‬
‫العاملية واحملددة بثقافة ما‪ ،‬وأمناط الرقابة واحملظورات غري الرمسية‪.‬‬
‫ال ميكن حتقيق وحدة املعرفة إال إذا سرت املعرفة يف مجيع االجتاهات‪ .‬كان بعض الباحثني الذين نفروا من جتاوزات العلماء يف‬
‫سبب أدعى كي ميدوا أيديهم وجيمعوا بني خربهتم يف‬
‫جدا وساذجة مبعايريهم‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫أن هذه التفسريات ضحلة ً‬ ‫تفسري الفن حمقني يف َّ‬
‫جيال‬
‫درب اجلامعات ً‬ ‫األعمال الفردية وأنواع الفن‪ ،‬والرؤية العلمية للمشاعر اإلنسانية واالستجابات اجلمالية‪ .‬واألفضل من ذلك‪ ،‬أن تُ ِّ‬
‫جديدا من الباحثني الذين جييدون ًّ‬
‫كال من ثقافيت العلم واألدب‪.‬‬ ‫ً‬
‫كثريا من باحثي العلوم اإلنسانية مييلون لتقبل بعض األفكار من العلم‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن العديد من املنتمني إىل «الثقافة‬ ‫أن ً‬ ‫على الرغم من َّ‬
‫الثانية» يعلنون َّأهنم غري مهتمني مبثل هذه األفكار‪ .‬كتب آدم جوبنيك مراجعة يف جريدة نيويوركر )‪ (New Yorker‬يعارض فيها‬
‫كتابًا للباحث األديب جوناثان جوتشل (‪ )Jonathan Gottschall‬عن تطور غريزة السرد وقال‪« :‬ليس السؤال اهلام فيما يتعلق‬
‫وإمنا ما الفرق اهلائل بني القصص اجليدة والقصص اململة؟‪..‬فاالختالفات البسيطة‬ ‫بالقصص هو ما الذي جيعل حب الناس هلا عامليًّا‪َّ ،‬‬
‫"السطحية" يف القصص ‪-‬مثلما يف أزياء النساء‪ -‬هي لب املوضوع كله يف احلقيقة»‪ .‬ولكن هل جيب أن يكون التذوق األديب هو حمور‬
‫تقدير األدب؟ قد حيرك الفضول أحد ُحميب البحث ملعرفة الطرق املتكررة اليت تعاملت هبا عقول خمتلفة الثقافات واألزمنة مع ألغاز الوجود‬
‫اإلنساين‪.‬‬
‫أملى ويسلتري شروطًا تعجيزية ملا ال ميكن أن تفعله الدراسة البحثية يف العلوم اإلنسانية مثل إحراز التقدم‪ ،‬فقال‪« :‬قضايا الفلسفة‬
‫تنته‪ ،‬وال ُتضع األخطاء للتصحيح والنبذ»‪ .‬لكن يف احلقيقة‪ ،‬إن سألت فالسفة األخالق اليوم فسيقول‬ ‫القدمية املثرية لالستياء‪..‬مل ِ‬
‫إن احلجج القدمية اليت تُدافع عن العبودية بوصفها مؤسسة طبيعية هي ُحجج خاطئة خضعت للتصحيح وتعرضت للنبذ‪ ،‬وقد‬ ‫معظمهم َّ‬
‫بأن اإلدراك اإلنساين صادق َّ‬
‫ألن اهلل ال ميكن أن‬ ‫أن جماهلم تطور من الزمن الذي كان ديكارت يقول فيه َّ‬ ‫يضيف فالسفة اإلبستمولوجيا َّ‬
‫إن هناك «اختالفًا مصرييًّا بني دراسة العامل الطبيعي ودراسة عامل اإلنسان» وأي حماولة «لتعدي هذه‬ ‫أيضا َّ‬
‫خيدعنا‪ .‬ويقول ويسلتري ً‬
‫ألن «التفسري العلمي سيكشف التماثل اخلفي» و«سيبتلع مجيع العوامل‬ ‫احلدود» بني العاملني سيجعل العلوم اإلنسانية «خادمةً للعلم» َّ‬
‫يف عا ٍمل واحد‪ ،‬عامله هو»‪ .‬إىل أين يقودنا جنون االرتياب هذا وهذه النزعة اإلقليمية؟ دعا ويسلتري يف مقال هام له يف ‪New York‬‬
‫)‪ )Times Book Review‬إىل رؤية عاملية متثل ما قبل الداروينية «عدم عزو االختالف اإلنساين ٍّ‬
‫ألي من جوانبنا احليوانية»‬
‫وإىل رؤية «مركزية البشرية بالنسبة للعامل» وهي بالتأكيد رؤية سابقة على الكوبرنيكية‪.‬‬

‫لنأمل َّأال يسري الفنانون والباحثون خلف هؤالء الناس الذين َّ‬
‫نصبوا أنفسهم مدافعني عنهم إىل هذه اهلاوية‪ .‬وال ميكننا وقف سعينا‬
‫وراء حل األزمة اإلنسانية عند القرن السابق أو ما قبله‪ ،‬فما بالك بالعصور الوسطى! وليس مثة شك يف أن هناك الكثري لنضيفه إىل‬
‫نظرياتنا السياسية والثقافية واألخالقية من فهمنا األفضل للعامل ولبنية نوعنا‪.‬‬
‫قائال‪:‬‬
‫أشاد توماس بني (‪ )Thomas Paine‬يف عام ‪ 1778‬بفضائل العلم العاملية ً‬

‫معبدا ميكن أن يلتقي فيه اجلميع‪ ،‬وتأثريه على العقل‬


‫«افتتح العلم ‪-‬الذي ال يتبع أي دولة‪ ،‬ولكنَّه يساعد ويرعى الكل‪ً -‬‬
‫‪-‬الذي يشبه سطوع الشمس على األرض املتجمدة من الربودة‪ -‬كان يُعِدَّه منذ زم ٍن طويل للمزيد من التثقيف والتطوير‪،‬‬
‫وال ينظر الفيلسوف إىل زميله الفيلسوف من دولة أخرى على أنَّه عدو‪ ،‬بل إنه يتخذ مقعده يف معبد العلم‪ ،‬وال يلتفت إىل‬
‫من جياوره»‪.‬‬

‫أيضا‪ ،‬وعلى هذا النحو وغريه‪َّ ،‬‬


‫فإن روح العلم هي‬ ‫وينطبق ما كتبه توماس بني عن املشهد املادي امللموس على املشهد املعريف املعنوي ً‬
‫روح التنوير‪.‬‬
‫الفصل الثالث والعشرون‪:‬‬
‫النزعة اإلنسانية‬

‫ولكن هذه هي‬


‫ظل وجود املعرفة الصحيحة» َّ‬ ‫قابل للتحقيق يف ِّ‬
‫العلم وحده ال يكفي إلحراز التقدم‪« ،‬فكل ما ال متنعه قوانني الطبيعة ٌ‬
‫املشكلة‪« ،‬فكل شيء» يعين إمكانية حدوث كل شيء‪ :‬مثل اللقاحات واألسلحة البيولوجية والفيديوهات املتاحة مبجرد الطلب و«األخ‬
‫ضمن استخدام اللقاحات يف القضاء على األمراض بينما حظر‬ ‫األكرب» على شاشات التليفزيون الضخمة‪ .‬هناك شيء ما جبانب العلم ِ‬
‫ٌ‬
‫قدمت مقولة سبينوزا (‪ )Spinoza‬على مقولة ديفيد دويتش (‪« :)David Deutsch‬إنَّ‬ ‫ُ‬ ‫استخدام األسلحة البيولوجية‪ ،‬وهلذا‬
‫ٍ‬
‫الذين يقودهم العقل‪..‬ال يرغبون يف شيء ألنفسهم َّإال ويرغبونه ً‬
‫أيضا لبقية الناس»‪ .‬ويتطلب التقدم نشر املعرفة حىت تزدهر البشرية كلها‬
‫بنفس الطريقة اليت يسعى هبا كل و ٍ‬
‫احد منا لالزدهار‪.‬‬
‫رمبا يسمى هدف حتقيق احلد األقصى من ازدهار البشرية ‪-‬أي احلياة والصحة والسعادة واحلرية واملعرفة واحلب والتجربة الثرية‪-‬‬
‫ولكن هذا الكتاب يُركز على رفاهة البشر)‪.‬‬‫بالنزعة اإلنسانية (بغض النظر عن جذر كلمة اإلنسانية‪ ،‬فهي ال ُهتمل ازدهار احليوانات‪َّ ،‬‬
‫كمل ما هو قائم بالفعل‪ ،‬ومتيِّز بني التقدم‬‫فاإلنسانية هي اليت ُحتدد ما الذي علينا حماولة حتقيقه مبعرفتنا‪ ،‬وهي تزودنا باملفروض الذي يُ ِّ‬
‫احلقيقي والرباعة اخلالصة‪.‬‬

‫هناك حركة متنامية تسمى بالنزعة اإلنسانية‪ ،‬تروج ُ‬


‫ألسس غري غيبية ملعىن احلياة واألخالق‪ ،‬أي فعل اخلري دون وجود إله‪ ،‬وأُعلنت‬
‫أهدافها يف ثالثة بيانات كان أوهلا يف عام ‪ ،1933‬ويؤكد البيان الثالث للنزعة اإلنسانية الذي أُعلن عام ‪ 2003‬على‪:‬‬

‫«تُستمد معرفتنا عن العالم من المالحظة والتجربة والتحليل العقالني‪ .‬يرى أصحاب النزعة اإلنسانية َّ‬
‫أن العلم‬
‫أيضا قيمة االنطالقات‬
‫هو الطريقة املثلى للحصول على هذه املعرفة وكذلك حلل املشاكل وتطوير تقنيات مفيدة‪ .‬وندرك ً‬
‫اجلديدة يف الفكر والفنون والتجارب الداخلية‪ ،‬وخيضع كلٌّ من هذه األمور لتحليل أمناط الذكاء النقدية‪.‬‬
‫اإلنسان جزء ال يتجزأ من الطبيعة‪ ،‬ونتاج للتطور غير الموجه‪..‬نرى أن هذه هي حياتنا الوحيدة ونكتفي هبا‪ ،‬ومنيز‬
‫بني ماهية األشياء وما نتمىن أو نتخيل أن تكون‪ .‬نُرحب بتحديات املستقبل وننجذب إىل اجملهول وال هنابه‪.‬‬
‫تنبع القيم األخالقية من احتياج اإلنسان ومصلحته كما ثبت بالتجربة‪ ،‬يستند أصحاب النزعة اإلنسانية يف قيمهم‬
‫إىل الرفاهة البشرية اليت تصوغها ظروف البشرية ومصاحلها واهتماماهتا ومتتد إىل النظام البيئي العاملي وتتجاوزه‪..‬‬

‫المثل اإلنسانية‪ ،‬فنحن‪..‬نُفعم حياتنا باحليوية َ‬


‫عرب اإلحساس‬ ‫يتأتى اإلنجاز في الحياة من مشاركة الفرد في خدمة ُ‬
‫َّ‬
‫بأن لوجودنا هدفًا‪ ،‬وباكتشاف اجلمال والدهشة يف ُمتع الوجود اإلنساين ومجاله وحتدياته ومآسيه وحىت يف حتمية املوت‬
‫وهنائيته‪..‬‬
‫البشر اجتماعيون بطبعهم ويجدون معنى في عالقاتهم ببعض‪ .‬يصبو اإلنسانيون إىل عا ٍمل مليء باالهتمام واحلرص‬
‫ٍ‬
‫بتعاون دون اللجوء إىل العنف‪..‬‬ ‫املتبادل ٍ‬
‫وخال من القسوة وتبعاهتا‪ ،‬عامل ُحتل فيه املشاكل‬
‫خير المجتمع َّ‬
‫الحد األقصى من السعادة له‪ .‬عملت الثقافات التقدمية على حترير‬ ‫يحقق عمل الفرد لما فيه ُ‬
‫البشرية من وحشية البقاء وعلى تقليل املعاناة وحتسني اجملتمع وإنشاء جمتمع عاملي‪»..‬‬

‫أن مبادئ اإلنسانية ال تنتمي إىل أي طائفة‪ ،‬مثل الرجل احملرتم‬ ‫سيكون أعضاء املؤسسات اإلنسانية هم أول من يُصر على َّ‬
‫نثرا طوال عمره‪ ،‬فكثريٌ من الناس إنسانيون دون أن يدروا‪.‬‬ ‫سرته معرفة أنَّه كان يتكلم ً‬
‫الربجوازي يف مسرحية موليري (‪ )Molière‬الذي َّ‬
‫مي كن العثور على بعض املبادئ اإلنسانية يف معتقدات ترجع إىل العصر احملوري (الفرتة من القرن الثامن إىل القرن الثالث قبل امليالد)‪.‬‬
‫وبرزت هذه املبادئ خالل عصر العقل والتنوير و َّأدت إىل بيان احلقوق اإلجنليزي والفرنسي واألمريكي‪ ،‬ونشطت مرة أخرى بعد احلرب‬
‫العاملية الثانية وأهلمت إنشاء األمم املتحدة ووضع اإلعالن العاملي حلقوق اإلنسان وإنشاء مؤسسات تعاون عاملي أخرى‪ .‬مع َّ‬
‫أن اإلنسانية‬
‫ال تعتمد على اآلهلة أو اجلن أو األرواح كأساس لألخالق واملعىن‪َّ ،‬إال َّأهنا ال تتعارض بأي حال من األحوال مع املؤسسات الدينية‪ .‬فقد‬
‫بدال من األوامر اإلهلية‪،‬‬
‫استندت بعض الديانات الشرقية مثل الكونفوشية وبعض مذاهب البوذية يف أخالقها على رفاهة البشرية ً‬
‫وأصبحت العديد من الطوائف املسيحية واليهودية إنسانية النزعة‪ ،‬خمففني من إرثهم من املعتقدات الغيبية والسلطة الكنسية لصاحل املنطق‬
‫واالزدهار العاملي للبشر‪ ،‬ومن بني هؤالء الكويكريون (‪ )Quakers‬واملوحدون (‪ )Unitarians‬واألساقفة الليرباليون ( ‪liberal‬‬
‫‪ )Episcopalians‬واللوثريون الشماليون (‪ )Nordic Lutherans‬والفروع اإلصالحية والتفكيكية واإلنسانية من اليهودية‪.‬‬
‫قد تبدو اإلنسانية عادية ومتف ًقا عليها‪ ،‬فمن ميكنه الوقوف ضد ازدهار البشر؟ لكنَّها يف احلقيقة التزام أخالقي ُمميز ال يُفكر فيه‬
‫العقل البشري بالفطرة‪ ،‬وكما سنرى‪ ،‬فإهنا تلقى معارضة شديدة من العديد من الديانات واألحزاب السياسية‪ ،‬وما يثري العجب أهنا تلقى‬
‫أيضا من فنانني وأكادمييني ومثقفني بارزين‪ .‬إذا أرادت اإلنسانية أن حتافظ على مكانتها يف عقول الناس ‪-‬مثل مبادئ التنوير‬ ‫معارضة ً‬
‫األخرى‪ -‬فال بد أن يكون شرحها والدفاع عنها بلغة العصر احلايل وأفكاره‪.‬‬

‫أساسا ِعلمانيًّا لألخالق‪ ،‬وذلك بإدراك أنَّه ال يوجد ما مييز الضمري‬


‫ليشكل ً‬ ‫ميثِّل رأي سبينوزا أحد املبادئ اليت جلأت إىل عدم التحيز ِّ‬
‫«أنا» حىت أُقد م مصاحلي على مصاحل اآلخرين‪ ،‬فإذا كنت ال أحب أن أتعرض لالغتصاب أو التشويه أو اجلوع أو القتل‪ ،‬فال ميكنين‬
‫يشكل عدم التحيز أساس حماوالت عدة لتشييد األخالق على أُسس عقالنية‪ :‬وجهة‬ ‫أجوعك أو أقتلك‪ِّ .‬‬ ‫أن أغتصبك أو أشوهك أو ِّ‬
‫نظر سبينوزا لألبدية والعقد االجتماعي هلوبز (‪ )Hobbes‬والضرورة احلتمية لكانط (‪ )Kant‬وحجاب اجلهل لرولز (‪ )Rawls‬ونظرة‬
‫ناجل (‪ )Thomas Nagel‬من الال مكان واحلقيقة البديهية للوك (‪ )Locke‬وجيفرسون (‪ )Jefferson‬بأن مجيع البشر سواسية‪،‬‬
‫وبالطبع القاعدة الذهبية وصيغها املختلفة اليت أُعيد اكتشافها يف مئات التقاليد األخالقية (القاعدة الفضية هي «ال تُعامل اآلخرين مبا‬
‫ال حتب أن يعاملوك» والقاعدة البالتينية هي «عامل الناس كما حيبون أن يُعاملوا»‪ ،‬واملقصود هبذه القواعد تاليف املازوخيني واملفجرين‬
‫االنتحاريني واختالف األذواق ونقاط الضعف األخرى للقاعدة الذهبية)‪.‬‬
‫احلجة وراء عدم التحيز غري تامة بالطبع‪ ،‬فإذا كان هناك شخص ٍ‬
‫قاس وأناين ومعتل اجتماعيًا ومصاب جبنون العظمة وميكنه‬
‫أيضا‪،‬‬
‫قليل ً‬
‫أن مضمون ُحجج عدم التحيز ٌ‬ ‫استغالل اجلميع دون أن يُعاقب‪ ،‬فلن تقنعه أي ُحجة بأنه وقع يف مغالطة منطقية‪ ،‬إضافة إىل َّ‬
‫ففضال عن النصيحة العامة باحرتام رغبات الناس‪ ،‬ال ُتربنا احلجج سوى القليل عن ماهية هذه الرغبات‪ ،‬مثل الرغبات واالحتياجات‬‫ً‬
‫والتجارب اليت متيِّز ازدهار البشر‪ .‬وهذه هي املطالب اليت ينبغي أال تتاح بصورة حيادية فقط وإمنا ينبغي أن نسعى إليها بنشاط ونوسعها‬
‫سد هذه الفجوة بوضع قائمة من «القدرات األساسية» اليت‬ ‫ليحصل عليها أكرب عدد ممكن من الناس‪ .‬تذكر أن مارثا نوسباوم حاولت َّ‬
‫حيق للناس احلصول عليها مثل طول العمر والصحة واألمان والثقافة واإلملام بالقراءة والكتابة واملعرفة وحرية التعبري واملرح والتمتع بالطبيعة‬
‫لكن هذه جمرد قائمة‪ ،‬وتفتح اجملال لالعرتاض على من وضعت هذه القائمة بأهنا تُعدد األشياء اليت‬ ‫والروابط العاطفية واالجتماعية‪َّ ،‬‬
‫تفضلها‪ .‬هل ميكننا أن نؤسس األخالق اإلنسانية على أرضية أعمق‪ ،‬أرضية تستبعد العقالنيني املعتلني اجتماعيًا وميكنها تربير‬
‫االحتياجات اإلنسانية اليت جيب أن حنرتمها؟ أعتقد أننا نستطيع‪.‬‬
‫طب ًقا إلعالن االستقالل‪ ،‬فاحلق يف احلياة واحلرية والسعي وراء السعادة هي حقوق «بديهية»‪ .‬وهذا غري ٍ‬
‫كاف‪َّ ،‬‬
‫ألن ما هو‬
‫هاما‪ ،‬فستكون أسس األخالق منحرفة إذا كان علينا تربير احلياة نفسها أثناء‬
‫حدسا ً‬ ‫ئما‪ ،‬ولكنَّه يعكس ً‬ ‫«بديهي» ال يكون بديهيًّا دا ً‬
‫عما إذا كان يتسىن للشخص استكمال ما يقوله أم ستُطلق عليه النار‪ .‬وفعل الفحص‬ ‫فحص هذه االُسس‪ ،‬فكأنه من املمكن السؤال َّ‬
‫نفسه ألي شيء يفرتض ُمسب ًقا وجود من سيفحص‪ ،‬إذا كانت حجة ناجل الرتانسندنتالية خبصوص عدم قابلية املنطق للتفاوض هلا‬
‫مسوغاهتا ‪-‬وهو أن النظر يف صالحية املنطق يفرتض ُمسب ًقا صالحية املنطق‪ -‬إذًا فهي تفرتض بالطبع وجود املناطقة‪.‬‬
‫يفتح هذا اجملال أمام تعميق تربيراتنا اإلنسانية لألخالق بفكرتني هامتني من العلم ومها‪ :‬اإلنرتوبيا والتطور‪ .‬تصورت التحليالت‬
‫حتاورا بني أرواح بال جسد‪ ،‬لنُثري هذا النموذج املثايل باملقدمة املنطقية البسيطة اليت تقول َّ‬
‫إن هذه األرواح‬ ‫التقليدية للعقد االجتماعي ً‬
‫املفكرة موجودة يف العامل املادي‪ ،‬ويرتتب على ذلك الكثري‪.‬‬
‫تجسدة حتدت قوانني املادة بالتحول إىل عُضو ُمفكر عن طريق االنتخاب الطبيعي‪ ،‬وهو العملية املادية‬ ‫فال بد َّ‬
‫أن هذه الكائنات امل ِّ‬
‫الوحيدة القادرة على إنتاج تصميم ُمعقد قادر على التكيف‪ ،‬وال بد أهنا حتدت قوانني اإلنرتوبيا فرتة تكفي وجودها حىت إجراء النقاش‬
‫واستمرارها فيه‪ .‬يعين هذا أهنا استمدت طاقة من البيئة‪ ،‬وبقيت يف حيز صغري من الظروف املالئمة لسالمتها اجلسدية‪ ،‬وأهنا تصدَّت‬
‫هلجمات الكائنات احلية وخماطر الطبيعة‪ .‬ومبا أهنا نتيجة لالنتخاب الطبيعي واجلنسي‪ ،‬فال بد أهنا سليلة فصيلة متأصلة اجلذور من‬
‫نمى باملعرفة‪ ،‬فيجب أن يكون لديهم‬ ‫املتناسخني الذين وجد كل منهم زوجةً وأجنب ذُرية‪ ،‬ومبا أن الذكاء ليس خوارزمية غامضة وإمنا يُ َّ‬
‫دافع الكتساب معرفة عن العامل واهتمام بأمناطه غري العشوائية‪ .‬وإذا كانوا يتبادلون األفكار مع كائنات عقالنية أخرى‪ ،‬فال بد من توافر‬
‫شروط احلوار‪ ،‬أي ال بد من كوهنم كائنات اجتماعية ُتاطر باألمان والوقت للتفاعل مع بعضهم‪.‬‬
‫ليست املتطلبات املادية اليت تتيح للكائنات العقالنية الوجود يف العامل املادي جمرد مواصفات جتريدية وإمنا موجودة يف العقل على‬
‫شكل رغبات واحتياجات وعواطف وآالم َّ‬
‫ولذات‪ .‬ويف البيئة اليت نشأ فيها نوعنا‪ ،‬أتاحت التجارب املمتعة ألسالفنا البقاءَ والتكاثر‪،‬‬
‫رق مسدودة‪ ،‬ويعين هذا أن الطعام والراحة والفضول واجلمال واإلثارة واحلب واجلنس والصداقة ليست جمرد‬ ‫وأدت التجارب املؤملة إىل طُ ٍ‬
‫هلو أو َّلذات سطحية‪ ،‬وإمنا حلقات يف سلسلة األسباب اليت أتاحت تكوين عقولنا‪ .‬وخالفًا لألنظمة الزاهدة واملتزمتة‪ ،‬فاألخالقيات‬
‫اإلنسانية ال تُشكك يف القيمة اجلوهرية لألشخاص الذين يسعون وراء الراحة أو املتعة أو حتقيق الذات‪ ،‬فلو أن الناس مل يسعوا وراء هذه‬
‫بشر‪ .‬ويضمن التطور يف الوقت نفسه أن تعمل هذه الرغبات على أهداف متقاطعة مع بعضها ومع رغبات‬ ‫األمور‪ ،‬ملا كان هنالك ٌ‬
‫اآلخرين‪ ،‬وما احلكمة إال موازنة الرغبات املتصارعة داخلنا‪ ،‬أما ما نسميه األخالق والسياسة فهما موازنة رغبات الناس املتصارعة‪.‬‬
‫كما ذكرت يف الفصل الثاين (بعد مالحظة جلون تويب)‪ ،‬فقانون اإلنرتوبيا يعرضنا لتهديد دائم آخر‪ ،‬ألن من الواجب توافر العديد‬
‫من العوامل على حن ٍو صحيح كي يعمل اجلسد (وبالتايل العقل)‪ ،‬يف حني ميكن لشيء واحد خاطئ فقط أن يُتلفه ً‬
‫متاما مثل نزف بعض‬
‫شخص آخر‪.‬‬‫ٍ‬ ‫لفعل عدواين من شخص ما القضاء على‬ ‫الدماء أو ضيق يف التنفس أو عطل يف أ ٍي من أجزائه متناهية الصغر‪ ،‬وميكن ٍ‬
‫مجيعا للعنف على حن ٍو خطري‪ ،‬ولكن ميكننا يف نفس الوقت التمتع مبنافع عظيمة إذا وافقنا على اإلحجام عن العنف‪.‬‬ ‫وحنن معرضون ً‬
‫تظل معضلة املساملني (كيف ميكن ألعضاء اجملتمع أن يتخلوا عن الرغبة يف استغالل اآلخرين يف ُمقابل عدم التعرض لالستغالل) ُمعلقة‬
‫فوق رقاب البشرية كسيف دميوقليس‪ ،‬ممَّا جيعل السالم واألمان مهمة دائمة لألخالقيات اإلنسانية‪ .‬ويوضح االخنفاض التارخيي يف‬
‫معدالت العنف أنه ُمشكلة قابلة للحل‪.‬‬
‫تُوضح هشاشتنا أمام العنف ِملَ ال ميكن أن يبقى القساة األنانيون املعتلون اجتماعيًا واملصابون جبنون العظمة منفصلني عن ساحة‬
‫خطرا أهوج يف‬
‫اخلطاب األخالقي (ومطالبها بعدم التحيز وعدم استخدام العنف) إىل األبد‪ ،‬ألنه إذا رفض االلتزام باألخالق‪ ،‬فسيصبح ً‬
‫خطرا ينبغي إزالته بالقوة الغامشة دون سؤال (كما يقول هوبز‪« :‬ال‬
‫أعني اجلميع مثله كمثل جرثومة أو حريق هائل أو مستذئب هائج‪ً ،‬‬
‫ولكن قانون اإلنرتوبيا يستبعد أن يكون‬
‫تعاهد مع الوحوش»)‪ .‬وما دام يظن أنه منيع إىل األبد‪ ،‬فرمبا خياطر برفض االلتزام باألخالق‪َّ ،‬‬‫ُ‬
‫ولكن قوة أعدائه جمتمعني تستطيع هزميته يف النهاية‪ .‬تُشجع استحالة وجود حصانة أبدية للجميع‪ ،‬حىت‬ ‫ٍ‬
‫منيعا‪ ،‬فقد يظلم اجلميع لفرتة‪َّ ،‬‬
‫ً‬
‫خصما‬
‫املعتلني اجتماعيًا‪ ،‬على العودة إىل ساحة األخالق‪ ،‬فكما يقول عامل النفس بيرت ديشيويل )‪ ،(Peter DeScioli‬عندما تواجه ً‬
‫خصما يف وجود حشد من الناس‪ ،‬فإن اجلدال هو ما يصبح سالحك‬ ‫منعزًال‪ ،‬فإن الفأس تُصبح سالحك املفضل‪ ،‬ولكن عندما تواجه ً‬
‫جداال قد يُهزم حبُجة أفضل‪ .‬ويف النهاية‪ ،‬يشمل عامل األخالق كل من يستطيع التفكري‪.‬‬‫املفضل‪ ،‬ومن خيوض ً‬
‫تساعد نظرية التطور على تفسري أساس آخر لألخالق العلمانية وهو قُدرتنا على التعاطف (أو كما أشار إليها ُكتاب التنوير بطرق‬
‫مجيعا‬
‫خمتلفة مثل اإلحسان أو الشفقة أو التخيل أو املواساة)‪ ،‬وحىت لو استنتج شخص عقالين أنه من مصلحة اجلميع أن نلتزم ً‬
‫باألخالق‪ ،‬فمن الصعب ُتيله ُخياطر بنفسه للتضحية يف سبيل شخص آخر إال إذا دفعه شيءٌ ما لذلك‪ .‬وليس بالضرورة أن يأيت هذا‬
‫الشيء من مالك يقف على أكتافنا‪ ،‬فعلم النفس التطوري يُوضح إمكانية نبوعه من العواطف اليت جتعلنا كائنات اجتماعية‪ ،‬ويرجع‬
‫مجيعا يف شبكة احلياة الكبرية‪َّ .‬أما التعاطف بني بقية الناس فسببه عدم‬
‫التعاطف بني األقارب إىل تداخل الرتكيب الوراثي الذي يربطنا ً‬
‫ٍ‬
‫شخص آخر أن ُخيففه عنه بدرجة كبرية‪ ،‬لذا ميكننا أنا حنيا حياةً‬ ‫حتيز الطبيعة‪ ،‬فقد جيد كلٌّ منا نفسه يف مأزق ُميكن ٍ‬
‫لقليل من الرفق من‬
‫كل منا لنفسه فقط‪ .‬ولذلك تنتخب الطبيعة‬ ‫بدال من أن يعيش ٌ‬
‫كل منا اآلخر (دون وجود من يأخذ دون أن يُعطي) ً‬ ‫أفضل إذا ساعد ٌ‬
‫املشاعر األخالقية مثل‪ :‬التعاطف والثقة واالمتنان واإلحساس بالذنب واإلحساس باخلزي والتسامح والغضب الناشئ عن دوافع أخالقية‪،‬‬
‫ومع وجود التعاطف يف تركيبتنا النفسية‪ ،‬ميكن توسيع نطاقه باملنطق والتجربة ليشمل مجيع الكائنات احلساسة‪.‬‬

‫هناك اعرتاض فلسفي آخر على النزعة اإلنسانية َّ‬


‫بأهنا جمرد اس ٍم آخر «للنفعية» ومفاده أن األخالق املبنية على تعزيز ازدهار البشر‬
‫ألقصى حد مماثلة لألخالق اليت تسعى لتحقيق السعادة ال ُقصوى ألكرب عدد من األشخاص (يطلق الفالسفة عادةً على السعادة‬
‫مصطلح «املنفعة»)‪ .‬ميكن ألي شخص حضر دورة «مقدمة يف الفلسفة األخالقية» أن يثرثر بالعديد من املشكالت‪ ،‬فهل نُطلق العنان‬
‫لوحش النفعية الذي ُحيقق السعادة بالتهامه للبشر أكثر من السعادة اليت ُحيققها ضحاياه إذا عاشوا؟ وهل علينا قتل بعض األشخاص‬
‫جمهول وهددوا بأعمال شغب خطرية‪ ،‬فهل‬‫أشخاص أكثر؟ وإذا غضب ُسكان البلدة من قضية قتل فاعلها ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫وأخذ أعضائهم إلنقاذ حياة‬
‫أحالما سعيدة‬ ‫ِ‬
‫يُطمئنهم العمدة بتلفيق القضية لسكري البلدة وشنقه؟ وإذا كان هناك دواء ميكنه إدخالنا يف حالة ُسبات دائمة حنلم فيها ً‬
‫فهل ينبغي أن نتناوله؟ وهل نبين سلسلة مزارع ميكن تربية املليارات من األرانب السعيدة فيها دون تكلفة كبرية؟ تسوق هذه األسئلة‬
‫احلجج اليت تربر أخالق الواجب‪ ،‬اليت تتكون من حقوق وواجبات ومبادئ تنظر إىل األفعال على أهنا أخالقية أو غري أخالقية بطبيعتها‪،‬‬
‫ويف بعض صور أخالق الواجب‪ ،‬تأيت هذه املبادئ من اإلله‪.‬‬
‫لإلنسانية نكهة نفعية بالطبع‪ ،‬أو على األقل تنظر إىل العواقب وتُقيِّم األفعال والسياسات فيها بعواقبها‪ ،‬وال تنحصر هذه العواقب‬
‫ٍ‬
‫ابتسامة على الوجوه‪ ،‬وإمنا تتبىن معىن أوسع لالزدهار يتضمن تربية األطفال والتعبري عن‬ ‫بالضرورة يف السعادة باملعىن الضيق هلا كرسم‬
‫النفس والتعليم والتجربة الثرية وصنع أعمال ذات قيمة باقية (الفصل الثامن عشر)‪ .‬وميثل اجلانب الذي ينظر إىل العواقب يف اإلنسانية‬
‫نقطة لصاحلها لعدة أسباب‪:‬‬
‫أوال‪ :‬ميكن ألي طالب ممن حضر حماضرات األسبوع الثاين من املنهج الدراسي لفلسفة األخالق أن يُعدد مشاكل أخالق الواجب‪،‬‬ ‫ً‬
‫فإذا كان الكذب خطأً بطبيعته‪ ،‬فهل ينبغي أن جنيب بصدق عندما تسألنا الشرطة السرية النازية عن مكان اختباء آن فرانك؟ هل‬
‫اإلمتاع الذايت غري أخالقي (كما قال كانط‪ ،‬فيلسوف أخالق الواجب) ألن اإلنسان يستخدم نفسه وسيلةً إلشباع غريزة حيوانية وينبغي‬
‫دائما على أهنم غايات ال وسائل؟ إذا خبَّأ إرهايبٌّ قنبلة نووية موقوتة ستقضي على املاليني‪ ،‬فهل من غري األخالقي تعذيبه‬
‫معاملة الناس ً‬
‫باإليهام بالغرق حىت يفصح عن مكاهنا؟ ومبا أنه ال يوجد صوت هادر من السماء خيربنا مبا علينا أن نفعل‪ ،‬فمن حيق له اختالق املبادئ‬
‫أحدا؟ استخدم فالسفة األخالق يف ٍ‬
‫أزمنة خمتلفة‬ ‫اليت ينبغي أن نتبعها وحيكم على ٍ‬
‫أفعال ما بأهنا غري أخالقية بطبيعتها حىت إذا مل تضر ً‬
‫تفكري «أخالق الواجب» للتأكيد على أن اللقاحات والتخدير ونقل الدم والتأمني على احلياة والزواج بني األعراق املختلفة واملثلية‬
‫اجلنسية أفعال غري أخالقية بطبيعتها‪.‬‬
‫أن التناقض املوجود يف مقدمة فلسفة األخالق حاد للغاية‪ ،‬فمبادئ أخالق الواجب تتسبب‬ ‫يعتقد العديد من فالسفة األخالق َّ‬
‫غالبًا يف حتقيق السعادة القصوى ألكرب عدد من الناس‪ .‬ومبا أنه ال ميكن ألحد أن حيسب مجيع عواقب أفعاله اليت قد متتد إىل ما ال‬
‫هناية يف املستقبل‪ ،‬ومبا أن الناس يستطيعون دائما تأويل أفعاهلم األنانية َّ‬
‫بأهنا يف صاحل اآلخرين‪ ،‬فأحد أفضل الطرق لزيادة السعادة الكلية‬ ‫ً‬
‫هو وضع حدود واضحة ال ميكن ألحد أن يتخطاها‪ .‬فنحن ال نسمح للحكومات خبداع مواطنيها أو قتلهم ألن الساسة احلقيقيني قد‬
‫يستخدمون هذه السلطة يف االستبداد أو خلدمة نزواهتم ‪-‬خبالف أنصاف اآلهلة األخيار املنزهني عن اخلطأ املذكورين يف التجارب‬
‫الفكرية‪ ،-‬وهذا أحد األسباب اليت جتعل احلكومة اليت تلفق للناس جرائم يعاقب عليها باإلعدام أو تقتلهم لتأخذ أعضاءهم ال حتقق‬
‫السعادة القصوى ألكرب عدد من الناس‪ .‬لننظر إىل مبدأ املساواة يف املعاملة‪ ،‬فهل القوانني اليت فيها ٌ‬
‫متييز ضد النساء واألقليات جمحفة‬
‫بطبيعتها أم بسبب الضرر الذي يقع على ضحايا التمييز؟ ُرمبا ليس علينا اإلجابة عن هذا السؤال‪ ،‬إذ ينبغي إمهال أي مبدأ من مبادئ‬
‫أخالق الواجب ذي عواقب ضارة مثل مبدأ قدسية الدم الالزم للحياة (والذي ُحيِّرم نقل الدم)‪ .‬تعزز حقوق اإلنسان ازدهار البشر‪ ،‬وهلذا‬
‫تقرتن اإلنسانية حبقوق اإلنسان على أرض الواقع‪.‬‬
‫ائعا يف حتسني رفاهة‬
‫سجال تارخييًّا ر ً‬
‫أن هلذا املنهج ً‬ ‫ال ينبغي لإلنسانية أن تشعر باحلرج من تداخلها مع النفعية ٍ‬
‫لسبب آخر‪ ،‬وهو َّ‬
‫حججا معارضة للعبودية والتعذيب‬ ‫ً‬ ‫البشر‪ ،‬فقد أقام النفعيون الكالسيكيون ‪-‬تشيزاري بيكاريا وجريميي بنتام وجون ستيوارت ميل‪-‬‬
‫السادي والقسوة جتاه احليوانات وجترمي املثلية اجلنسية وتبعية املرأة وجنحوا‪ .‬وحىت احلقوق اجملردة مثل حرية التعبري وحرية املعتقد كان الدفاع‬
‫ضرر على اآلخرين‪،‬‬
‫عنها على أساس املنافع واألضرار‪ ،‬وقد كتب توماس جيفرسون‪« :‬متتد سلطة احلكومة الشرعية لتشمل األفعال اليت هلا ٌ‬
‫ولكن ال يضرين أن يقول جاري َّ‬
‫إن هناك عشرين إهلًا أو إنَّه ال يوجد إله‪ ،‬فاعتقاده ال يسرق حمفظيت وال يكسر ساقي»‪ .‬تطور كلٌّ من‬
‫أيضا‪ ،‬ومل تظهر مشكلة وحوش النفعية ومصانع إسعاد األرانب‪ ،‬على األقل‬
‫التعليم العاملي وحقوق العمال ومحاية البيئة على أسس نفعية ً‬
‫حىت اآلن‪.‬‬
‫لسبب ما‪ ،‬وهو أن بوسع اجلميع تقديرها‪ ،‬فرمبا كانت مبادئ مثل‪« :‬أنت حر ما مل تضر» و«إذا مل‬ ‫جنحت احلجج النفعية كثريا ٍ‬
‫ً‬
‫أحدا‪ ،‬فال ميكن أن تكون خمطئًا» و«ال ينبغي أن ينشغل أحد مبا يفعله البالغون يف حياهتم اخلاصة برضاهم» و«ال ينبغي أن ينشغل‬ ‫ِ‬
‫تُؤذ ً‬
‫نويت أن أقفز يف البحر أو فعلت» غري عميقة أو استثنائية‪ ،‬ولكن عندما تُرسى هذه املبادئ‪ ،‬يستطيع الناس فهمها بسهولة‬ ‫أحد إذا ُ‬
‫أن النفعية بديهية‪ ،‬إذ جاءت الليربالية الكالسيكية متأخرة يف تاريخ البشرية‪ ،‬وتعتقد‬ ‫ويصعب على من يعارضها إقامة حجته‪ .‬ليس األمر َّ‬
‫أن ما يفعله البالغون برضاهم يف حياهتم اخلاصة خيصها‪ .‬يرى الفيلسوف وعامل األعصاب املعريف جوشوا جرين‬ ‫الثقافات التقليدية َّ‬
‫أن العديد من اعتقادات أخالق الواجب مبنية على بديهيات بدائية من القبَلية والطهارة واالمشئزاز واألعراف‬ ‫(‪َّ )Joshua Greene‬‬
‫نوعي التفكري األخالقي يُشغِّالن اجلهازين العاطفي واملنطقي‬
‫أن َّ‬ ‫االجتماعية‪ ،‬بينما تنشأ االستنتاجات النفعية من التأمل العقالين (وأظهر َّ‬
‫أشخاص من خلفيات ثقافية خمتلفة إىل االتفاق على قانون أخالقي‪ ،‬فإهنم‬ ‫ٌ‬ ‫أيضا إنَّه عندما يضطر‬
‫يف املخ على التوايل)‪ .‬يقول جرين ً‬
‫مييلون إىل النفعية‪ ،‬وي ُف ِّسر هذا السرعة الرهيبة اليت نقضت هبا حركات إصالحية مثل حركة املساواة القانونية للنساء وزواج املثليني قرونًا‬
‫سابقة (الفصل اخلامس عشر)‪ ،‬فباستخدام البداهة والعُرف‪ ،‬اهنار الوضع القائم يف مواجهة احلجج النفعية‪.‬‬
‫حىت عندما تعزز احلركات اإلنسانية أهدافها بلغة احلقوق‪ ،‬فال بد أن يكون النظام الفلسفي املربر هلذه احلقوق بسيطًا‪ ،‬فال ميكن‬
‫بناء فلسفة أخالقية صاحلة جملتمع عاملي من طبقات معقدة من احلجج أو على عقائد ميتافيزيقية أو دينية‪ ،‬وإمنا جيب بناؤها على مبادئ‬
‫بسيطة وشفافة ميكن للجميع فهمها واالتفاق عليها‪ .‬يُعد تصور ازدهار البشر ‪-‬أنَّه من اجليد أن يعيش الناس حياة صحية وطويلة وثرية‬
‫مثاال على ذلك‪ ،‬مبا أنه مبين على إنسانيتنا املشرتكة فقط‪ ،‬ال أكثر وال أقل‪.‬‬
‫وسعيدة ومثرية‪ً -‬‬
‫ففصل الكنيسة عن‬
‫ُ‬ ‫يؤكد التاريخ أنه عندما يتوجب على الثقافات املختلفة العثور على أرضية مشرتكة فإهنا تلجأ إىل اإلنسانية‪،‬‬
‫أيضا‪ .‬أشار عامل االقتصاد سامويل هاموند‬
‫الدولة يف الدستور األمريكي مل ينتج من فلسفة التنوير فحسب‪ ،‬وإمنا من الضرورة العملية ً‬
‫(‪ )Samuel Hammond‬أن مثاين مستعمرات من جمموع ثالث عشرة كان لديها كنائس رمسية تتدخل يف الشأن العام بدفع‬
‫رواتب الكهنة وفرض رقابة دينية متشددة واضطهاد أعضاء الطوائف األخرى‪ .‬وكانت الطريقة الوحيدة لتوحيد املستعمرات حتت مظلة‬
‫دستور واحد هي كفالة حرية التعبري عن املعتقدات الدينية واحلق الطبيعي يف ممارستها‪.‬‬
‫قرن ونصف‪ ،‬اضطرت الدول اليت ما زالت تعاين من آثار ٍ‬
‫حرب عاملية إىل وضع جمموعة من املبادئ لتوحيد جهودها التعاونية‪،‬‬ ‫وبعد ٍ‬
‫أن « أمريكا دولة عظيمة تقف شاخمة فوق التل»‪ .‬سألت منظمة‬ ‫أن «املسيح عيسى هو خملِّصنا» أو َّ‬
‫ومل يكن من احملتمل أن ُجيمعوا على َّ‬
‫اليونسكو العديد من مفكري العامل (مبا فيهم جاك ماريتان ‪ Jacques Maritain‬واملهامتا غاندي وألدوس هكسلي ‪Aldous‬‬
‫‪ Huxley‬وهارولد السكي ‪ Harold Laski‬وكوينسي رايت ‪ Quincy Wright‬وبيري تيار دي شاردان ‪Pierre‬‬
‫‪ Teilhard de Chardin‬والعديد من الباحثني املسلمني والكونفوشيني) عن احلقوق اليت ينبغي إدراجها يف إعالن األمم املتحدة‬
‫العاملي حلقوق اإلنسان‪ ،‬ومن املثري للدهشة أن قوائم احلقوق كانت متشاهبة‪ .‬سرد ماريتان يف مقدمة تقريرهم ما يلي‪:‬‬
‫عرب أحدهم عن تعجبه من أن أنصار‬
‫يف أحد اجتماعات جلنة اليونسكو القومية حيث كانت جتري مناقشة حقوق اإلنسان‪َّ ،‬‬
‫أيديولوجيات معينة تعارض بعضها ٍ‬
‫بعنف وافقوا على قائمة هبذه احلقوق‪ ،‬وقالوا‪« :‬نعم‪ ،‬نوافق على هذه احلقوق ولكن‬
‫بشرط َّأال نُسأل عن السبب»‪.‬‬

‫وضعت مسودة اإلعالن العاملي حلقوق اإلنسان ‪-‬وهو بيان إنساين يتكون من ‪ 30‬مادة‪ -‬يف أقل من سنتني بفضل إصرار رئيسة‬
‫قدما وجتنب اخلوض يف األيديولوجيات (وعندما ُسئل جون مهفري واضع املسودة األوىل عن‬ ‫جلنة الصياغة إلينور روزفلت على املضي ً‬
‫نب على أي فلسفة على اإلطالق»)‪ ،‬واعتمدته اجلمعية العامة لألمم املتحدة يف‬ ‫ٍ‬
‫املبادئ اليت بُين عليها اإلعالن‪ ،‬أجاب بلباقة‪« :‬مل يُ َ‬
‫ديسمرب عام ‪ 1948‬دون ُمعارضة‪ .‬وخالفًا لالهتامات اليت تقول بأن حقوق اإلنسان نتاج عقيدة أبرشية غربية‪ ،‬فقد أيد اإلعالن كلٌّ‬
‫من اهلند والصني وتايالند وبورما وإثيوبيا وسبع دول مسلمة‪ ،‬بينما اضطر روزفلت إىل الضغط على املسؤولني األمريكيني واإلجنليز حىت‬
‫يصطفوا خلفه‪ ،‬بسبب قلق الواليات املتحدة بشأن زنوجها وخوف اململكة املتحدة على مستعمراهتا‪ .‬وامتنع كلٌّ من االحتاد السوفيييت‬
‫واململكة العربية السعودية وجنوب إفريقيا عن املشاركة‪.‬‬
‫تُرجم اإلعالن إىل ‪ 500‬لغة‪ ،‬وكان له أثر يف معظم دساتري الدول اليت صيغت يف العقود التالية‪ ،‬إضافة إىل العديد من القوانني‬
‫عاما‪.‬‬
‫مؤثرا بعد سبعني ً‬
‫الدولية واملعاهدات واملنظمات‪ ،‬وما يزال ً‬

‫مع أن اإلنسانية هي القانون األخالقي الذي يلتقي عنده الناس عندما يفكرون بعقالنية وينتمون إىل ثقافات خمتلفة وحيتاجون إىل التوافق‪،‬‬
‫حال من األحوال‪ .‬وتتعارض فكرة أن األخالق هي حتقيق احلد األقصى من االزدهار‬ ‫إال أهنا ليست جمرد حد أدىن مشرتك تافه بأي ٍ‬
‫ُ‬
‫للبشرية مع بديلني ُمغريني‪ ،‬األول هو األخالق الدينية‪ ،‬أي االعتقاد بأن األخالق عبارة عن طاعة أوامر إله‪ ،‬وتعزز هذه األوامر بثواب‬
‫وعقاب غيبيني يف الدنيا أو يف اآلخرة‪ ،‬أما الثاين فهو البطولة الرومانسية‪ ،‬أي االعتقاد بأن األخالق تتمثل يف النقاء واألصالة وعظمة‬
‫الفرد أو الدولة‪ .‬ومع أن البطولة الرومانسية ذُكرت ألول مرة يف القرن التاسع عشر‪ ،‬إال أننا جندها يف جمموعة من احلركات املؤثرة اجلديدة‬
‫مثل الشعبوية السلطوية والفاشية اجلديدة والرجعية احلديثة واليمني البديل‪.‬‬
‫يعتقد العديد من املثقفني الذين ال يوافقون على بدائل اإلنسانية أن هذه البدائل تعكس حقيقة جوهرية عنَّا وهي أن البشر حيتاجون‬
‫إىل اعتقادات توحيدية أو روحانية أو بطولية أو قبلية‪ ،‬ويقولون إن اإلنسانية قد ال تكون خاطئة‪ ،‬ولكنها تتعارض مع الطبيعة البشرية‪،‬‬
‫طويال‪ ،‬فما بالك ٍ‬
‫بنظام عاملي قائم عليها!‬ ‫وال ميكن أن يدوم جمتمع مبين على املبادئ اإلنسانية ً‬
‫يسهل القفز من االدعاء النفسي إىل ٍ‬
‫ادعاء تارخيي بأن اإلنسانية شرعت يف االهنيار احلتمي‪ ،‬وأننا اآلن نشاهد بأعيننا تفكك‬
‫الرؤية العاملية الليربالية الكوزموبوليتانية التنويرية اإلنسانية‪ .‬أعلن الكاتب الصحفي جبريدة نيويورك تاميز روجر كوهني ( ‪Roger‬‬
‫قائال‪« :‬التجربة الليربالية الدميقراطية هي جمرد فاصل قصري ‪-‬بإمياهنا النابع‬ ‫‪ )Cohen‬يف عام ‪َّ 2016‬‬
‫أن «الليربالية ماتت»‪ ،‬وأضاف ً‬
‫من التنوير يف قدرة األفراد الذين ميتلكون حقوقًا طبيعية غري قابلة للتصرف يف تقرير مصائرهم حبرية على ممارسة ما يريدون‪ .»-‬ووافق‬
‫احملرر ستيفن كينزر (‪ )Stephen Kinzer‬على ذلك يف مقاله يف صحيفة بوسطن جلوب (‪ )Boston Globe‬بعنوان‪« :‬كانت‬
‫حركة التنوير ناجحة‪..‬لفرتةٍ قصرية»‪ً ،‬‬
‫قائال‪:‬‬
‫حققت الكوزموبوليتانية ‪-‬وهي حمور التنوير‪ -‬نتائج تزعج الناس يف العديد من اجملتمعات‪ ،‬مما يدفعهم حنو العودة إىل نظام‬
‫أسسا‬
‫احلكم الذي تفضله الرئيسيات غريزيًّا‪ :‬أي قائد قوي حيمي القبيلة‪ ،‬ويف املقابل ينصاع له أفرادها‪..‬ال يُقدم املنطق ً‬
‫باردا وغري إنساين‪،‬‬
‫كافية لألخالق‪ ،‬ويرفض القوة الروحانية‪ ،‬وينكر أمهية العاطفة والفن واإلبداع‪ ،‬وعندما يكون املنطق ً‬
‫فيمكنه أن يعزل الناس عن تركيبات متجذرة ٍ‬
‫بعمق فيهم تعطي احلياة معىن‪.‬‬

‫يضيف مثقفون آخرون أنه ال عجب من اجنذاب العديد من الشباب إىل «داعش»‪ ،‬فهم ينصرفون عن «العلمانية اجلافة» ويسعون إىل‬
‫«عالج جذري وديين ٍ‬
‫لرؤية سطحية للحياة البشرية»‪.‬‬
‫قت يف اجلزء الثاين واقع التقدم‪ ،‬وركزت يف‬‫إ ًذا‪ ،‬فهل كان ينبغي أن أمسِّي هذا الكتاب‪« :‬التنوير‪..‬قبل أن ينتهي»؟ بالطبع ال! وثَّ ُ‬
‫هذا اجلزء على األفكار احملركة له وملاذا أتوقع أن تدوم‪ .‬وبعد أن دحضت احلجج اليت تعارض املنطق والعلم يف الفصلني السابقني‪،‬‬
‫سأناقش اآلن احلجج املعارضة لإلنسانية‪ ،‬سأفحص هذه احلجج‪ ،‬لكنين لن أفعل ذلك لتوضيح أن احلجج األخالقية والنفسية والتارخيية‬
‫أيضا ألن أفضل طريقة لفهم فكرة ما هي معرفة ما ال متثله‪ ،‬لذا فإن فحص بدائل اإلنسانية ميكن‬ ‫املعارضة لإلنسانية خاطئة فقط‪ ،‬بل ً‬
‫أوال‪ ،‬سنرى احلجة الدينية املعارضة لإلنسانية‪ ،‬مث سننظر يف الرتكيبة الرومانسية‬ ‫أن ِّ‬
‫يذكرنا مبا سيكون على احملك لو مل نُعزز مبادئ التنوير‪ً .‬‬
‫البطولية القبلية السلطوية‪.‬‬

‫هل ميكن أن يوجد خري بدون إله حقًّا؟ هل قوضت اكتشافات العلم ِ‬
‫نفسه العاملَ غري املؤمن الذي قدمه العلماء اإلنسانيون؟ وهل هناك‬
‫تكيف فطري للوجود اإلهلي ‪-‬جني خاص باإلله يف محضنا النووي أو منوذج لإلله يف عقلنا‪ -‬يضمن استمرار مقاومة الدين لإلنسانية‬
‫العلمانية؟‬
‫حترم على الناس قتل أحدهم اآلخر أو سرقته أو االعتداء عليه‪،‬‬ ‫لنبدأ باألخالق الدينية‪ ،‬صحيح أن العديد من القواعد الدينية ِّ‬
‫أيضا األخالق العلمانية وهذا لسبب واضح‪ :‬أن هذه قواعد يود أي كائن عقالين اجتماعي مهتم مبصلحته أن يوافق‬ ‫ولكن هذا ما تفعله ً‬
‫َّ‬
‫عليها جاره‪ .‬ال عجب إ ًذا أن هذه األخالق ُمقننة يف كل الدول وتبدو حاضرة يف كل اجملتمعات البشرية‪.‬‬
‫حاال؟ اإلضافة األوضح هي تطبيق‬‫شرع خارق للطبيعة إىل االلتزام اإلنساين حىت جيعل الناس أفضل ً‬ ‫ما الذي يضيفه اللجوء مل ِّ‬
‫ُ‬
‫شرع اخلارق الطبيعة للقانون األخالقي أي أنه إذا ارتكب أح ٌد خطيئة سيبتليه اإلله أو سيُخلَّد يف النار أو سيُحذف امسه من كتاب‬ ‫امل ِّ‬
‫ُ‬
‫احلياة‪ ،‬وهي إضافة مغرية حقًّا ألن قوى تنفيذ القانون العلماين ال تستطيع اكتشاف كل انتهاك للقانون واملعاقبة عليه‪ ،‬ويكون لدى كل‬
‫دافع ألن يقنع اآلخرين بأهنم لن يفلتوا من العقاب إذا ارتكبوا جرمية قتل‪ .‬واإلله ‪-‬كما هو احلال مع سانتا كلوز‪ -‬يراك وأنت‬ ‫شخص ٌ‬
‫نائم ويعرف مىت تستيقظ ويعرف أي خ ٍري أو ش ٍر فعلته‪ ،‬لذا فينبغي أن تكون خيِّـًرا ألجل اهلل‪.‬‬
‫ولكن هناك ثغرتني خطريتني يف األخالق الدينية‪ ،‬األوىل‪ :‬أنه ال يوجد سبب مقنع لإلميان بوجود إله‪ .‬يف ملحق غري روائي لرواية‬
‫َّ‬
‫«ست وثالثون حجة تثبت وجود اإلله‪ :‬عمل روائي» ‪(Thirty-Six Arguments for the Existence of God:‬‬
‫‪ ،)A Work of Fiction‬تدحض ريبيكا نيوبرجر جولدشتاين (‪ )Rebecca Newberger Goldstein‬مجيع هذه‬
‫أصال مثل‬
‫حججا ً‬
‫ً‬ ‫شيوعا ليست‬
‫كل من أفالطون وسبينوزا وهيوم وكانط وراسل)‪ .‬وأكثر هذه احلجج ً‬
‫احلجج فيه (باالستناد جزئيًّا إىل ٍّ‬
‫اإلميان القليب والوحي والنص املقدس والسلطة والتقاليد واإلعجاب الشخصي‪ ،‬وليس األمر أن هذه احلجج ال ميكن الوثوق هبا منطقيًّا‬
‫بعضا مثل عدد اآلهلة املوجودة واملعجزات‬
‫أن هذه الديانات املختلفة تطالب أتباعها باإلميان باعتقادات تعارض بعضها ً‬ ‫فحسب‪ ،‬وإمنا َّ‬
‫استنادا إىل هذه املصادر‪ .‬وأظهرت الدراسات التارخيية أن الكتب املقدسة نتاج بشري للحقب‬ ‫ً‬ ‫اليت حققوها ومطالبهم من املؤمنني هبم‬
‫التارخيية اليت ظهرت فيها مبا فيها من تناقضات داخلية وأخطاء متعارضة مع الواقع وسرقة من احلضارات اجملاورة وسخافات علمية (مثل‬
‫خلق اهلل للشمس بعد أن ميَّز بني الليل والنهار بثالثة أيام)‪ .‬وليست احلجج املبهمة اليت يقدمها علماء الدين املتمرسون أكثر منطقيةً‪،‬‬
‫فاحلجج الكوزمولوجية واألنطولوجية الدالة على وجود إله غري سليمة منطقيًّا‪ ،‬ودحض داروين حجة التصميم الذكي‪ ،‬واحلجج األخرى‬
‫بشكل جلي (مثل النظرية القائلة بأن البشر يتميزون مبلكة فطرية لإلحساس حبقيقة اإلله) وإما جمرد حماولة واضحة للهروب‬ ‫ٍ‬ ‫إما خاطئة‬
‫(مثل اإلشارة إىل أن البعث أهم من أن يكون حمل حتقق على حن ٍو جترييب)‪.‬‬
‫يصر بعض ال ُكتَّاب على أنه ال مكان للعلم يف هذا احلوار‪ ،‬ويسعون لفرض حالة من «املذهب الطبيعي املنهجي» على العلم مما‬
‫عاجزا عن تقييم ادعاءات الدين وال حىت من حيث املبدأ‪ ،‬وخيلق هذا مساحةً آمنةً للمؤمنني ميكن أن حيافظوا فيها على معتقداهتم‬
‫جيعله ً‬
‫بينما يظلون متعاطفني مع العلم‪ .‬ولكن كما رأينا يف الفصل السابق‪ ،‬فالعلم ليس لعبة ذات قواعد عشوائية وإمنا هو استخدام املنطق‬
‫لتفسري العامل والتحقق مما إذا كانت هذه التفسريات صحيحة أم ال‪ .‬يقيم عامل األحياء جريي كوين (‪ )Jerry Coyne‬يف كتابه‬
‫«اإليمان والحقيقة» )‪ (Faith Versus Fact‬احلجة على أن وجود اإلله املذكور يف الكتب املقدسة هي فرضية علمية ميكن‬
‫ُ‬
‫التحقق من صحتها‪ ،‬وميكن التحقق من املعلومات التارخيية املذكورة يف اإلجنيل بعلم احلفريات وعلم الوراثة وفقه اللغة‪ .‬كان من املمكن‬
‫أن حيتوي اإلجنيل على حقائق علمية مستقبلية مثل «لن تسافر أسرع من الضوء» أو «سر احلياة هو شريطان متضافران»‪ .‬قد يظهر‬
‫صندال ومعه مالئكة بأجنحة‪ ،‬وحييي املوتى ويُربئ العميان‪.‬‬
‫يوما ما‪ ،‬وقد ينزل رجل ُمتشِّح باألبيض ويرتدي ً‬ ‫ضوء ساطع يف السماوات ً‬
‫ورمبا نكتشف أن الصالة قد ترد البصر لفاقده أو تعيد منو األطراف املبتورة أو يصعق من يذكر اسم النيب حممد ُسدى بينما ال ميرض وال‬
‫شرا يشقى يف‬
‫خريا حييا حياةً طيبة ومن يفعل ًّ‬
‫عموما أن من يعمل ً‬ ‫يُصاب بضرر من يُصلي مخس مرات يوميًّا‪ .‬أو رمبا توضح البيانات ً‬
‫حياته أي أن األمهات الاليت ميُنت أثناء الوالدة واألطفال الذين ميوتون بسبب السرطان وماليني الضحايا الذين ميوتون من الزالزل‬
‫واألعاصري واهلولوكوست يستحقون ما حدث هلم‪.‬‬
‫أيضا من املكونات األخرى للمبادئ األخالقية الدينية مثل وجود أرواح غري مادية وملكوت متجاوز للمادة والطاقة‪.‬‬ ‫ميكن التحقق ً‬
‫مقطوعا ميكنه احلديث‪ ،‬ورمبا يتنبأ الكاهن باليوم احملدد حلدوث الكوارث الطبيعية واهلجمات اإلرهابية‪ .‬وميكن أن‬‫ً‬ ‫أسا‬
‫فرمبا نكتشف ر ً‬
‫تُرسل اخلالة هيلدا رسالة من العامل اآلخر ُتربنا فيها باملكان احملدد من األرضية اليت خبَّأت حتتها جموهراهتا‪ ،‬وميكن أن حتتوي رؤى مرضى‬
‫نقص األكسجني الذين ميرون بتجربة خروج أرواحهم من أجسادهم على تفاصيل غري متاحة حلواسنا وميكن التحقق منها‪ .‬ومما يقوض‬
‫النظرية القائلة بوجود أرواح غري مادية خاضعة للعدالة اإلهلية أنه مت فضح هذه األخبار على أهنا أساطري وذكريات كاذبة ومصادفات‬
‫متت املبالغة يف تفسريها وحيل رخيصة‪ .‬توجد بالطبع فلسفات رافضة لفكرة الوحي ووفق هذه الفلسفات َّ‬
‫فإن اإلله قد خلق الكون مث‬
‫ولكن هذه اآلهلة‬
‫تراجع ليكتفي مبشاهدة ما حيدث أو فلسفات أخرى يعترب «اإلله» فيها جمرد مرادف لقوانني الفيزياء والرياضيات‪َّ ،‬‬
‫الضعيفة ليست يف وضع يسمح هلا بضمان األخالق‪.‬‬
‫نشأت العديد من املعتقدات اإلميانية كفرضيات لتفسري الظواهر الطبيعية مثل الطقس واملرض وأصل األنواع‪ ،‬وقد انكمش النطاق اإلمياين‬
‫أبدا‪ ،‬فهناك حجة زائفة تُعد املالذ‬
‫فرضيات علميةٌ حمل هذه الفرضيات‪ .‬ولكن مبا أن إدراكنا العلمي ال يكتمل ً‬ ‫ٌ‬ ‫بانتظام عندما حلت‬
‫األخري دائ ًما تُسمى بإله الفجوات (‪ .)God of the Gaps‬يف وقتنا احلايل‪ ،‬حاول املؤمنون املتمرسون وضع اإلله يف هاتني الفجوتني‪:‬‬
‫الثوابت الفيزيائية األساسية ومعضلة الوعي الكربى‪ .‬وعلى أي إنساين يُصر على أننا ال ميكننا استخدام اإلله لتربير األخالق أن يتوقع‬
‫قليال‪ ،‬فكما سنرى‪ ،‬فهم على األرجح قد يصدقون أن زيوس هو من يرسل الصواعق‬ ‫اجه هباتني الفجوتني‪ ،‬لذا سأتكلم عنهما ً‬ ‫أن يو َ‬
‫على أنه تفسري للعواصف الرعدية‪.‬‬
‫ميكن تعريف عاملنا ببضعة أرقام مبا يف ذلك قوى الطبيعة (اجلاذبية والقوة الكهرومغناطيسية والقوى النووية) وعدد األبعاد الكبرية‬
‫للزمكان (أربعة) وكثافة الطاقة املظلمة (مصدر تسارع متدد الكون)‪ .‬يُعدهم مارتن ريس يف كتابه «ستة أرقام فقط» ( ‪Just Six‬‬
‫حتديدا على صيغة النظرية الفيزيائية املستخدمة وما إذا كنا حنسب الثوابت فقط أو النسب‬ ‫)‪ Numbers‬على ٍ‬
‫يد وإصبع‪ ،‬ويعتمد ُّ‬
‫العد ً‬
‫ي من هذه الثوابت مبقدار ذرة‪ ،‬تتفكك املادة أو تنهار وما كانت لتوجد النجوم واجملرات والكواكب واحلياة على‬
‫أيضا‪ .‬وإذا تغري أ ٌّ‬
‫بينها ً‬
‫األرض والبشر مطل ًقا‪ .‬ويف الوقت احلايل‪ ،‬ال تفسر أكثر نظريات الفيزياء ً‬
‫رسوخا ضبط قيم هذه الثوابت بدقة كي تتيح وجودنا (وخاصة‬
‫كثافة الطاقة املظلمة) ولذا تقول احلجة الدينية األلوهية أنه ال بد من وجود ضابط دقيق أال وهو اإلله‪ .‬وهذا تطبيق حلجة التصميم‬
‫القدمية على الكون كله بدًال من الكائنات احلية فقط‪.‬‬
‫هناك اعرتاض فوري على هذه احلجة وهو مشكلة الشر القدمية قِدم حجة التصميم‪ ،‬إذا كان اإلله ‪-‬وهو كلي القدرة واملعرفة‪-‬‬
‫أرضا تُدمر الكوارث اجليولوجية والطبيعية فيها مناطق مأهولة باألبرياء؟ ما الغرض اإلهلي‬
‫صمم الكون بدقة كي خيلقنا عليه‪ ،‬فلماذا صمم ً‬
‫من الرباكني اهلائلة اليت أهلكت نوعنا يف املاضي وقد تُبيدنا يف املستقبل أو حتيل الشمس إىل عمالق أمحر سيبيدنا بالتأكيد؟‬
‫ولكن هذا التنظري عن سبب وجود الشر يف العامل أمر ثانوي‪ ،‬ومل يقف علماء الفيزياء مذهولني أمام هذا الضبط الدقيق الواضح‬
‫للثوابت األساسية وإمنا يسعون بنشاط وراء تفسريه بعدة تفسريات‪ .‬ذُكر أحدها يف كتاب عامل الفيزياء فيكتور ستينجر ( ‪Victor‬‬
‫‪« )Stenger‬مغالطة الضبط الدقيق» )‪ .(The Fallacy of Fine-Tuning‬يعتقد العديد من ُعلماء الفيزياء أنه من املبكر‬
‫استنتاج أن قيم الثوابت األساسية عشوائية أو أهنا الوحيدة اليت ُمت ِّكن من وجود حياة‪ .‬رمبا يُظهر الفهم األعمق للفيزياء (وخاصةً التوحيد‬
‫املنشود بني النسبية ونظرية الكم) أن بعض القيم ال بد أن تكون كما هي بالضبط‪ ،‬ورمبا نكتشف أن بعضها اآلخر قد يُستبدل بقي ٍم‬
‫كون مستقر مليء باملادة‪ ،‬وإن مل ي ُكن الكون الذي نعرفه وحنبه‪ .‬قد يكشف التطور يف‬ ‫أخرى ‪-‬جمموعات متوافقة من القيم‪ -‬تتسق مع ٍ‬
‫علم الفيزياء أن الثوابت ليست مضبوطة بدقة كبرية‪ ،‬وأن احتمالية وجود كون يتيح إمكانية احلياة ليست مستبعدة‪.‬‬

‫أن كوننا هو جمرد منطقة واحدة وسط عا ٍمل شاسع ورمبا ال هنائي من األكوان ‪-‬عامل متعدد األكوان‪ٍّ -‬‬
‫لكل منها‬ ‫التفسري اآلخر هو َّ‬
‫ثوابته األساسية املختلفة‪ .‬فنجد أنفسنا يف كون يتسق مع وجود حياة‪ ،‬ليس بسبب أنَّه كان مضبوطًا ليسمح بوجودنا وإمنا َّ‬
‫ألن حقيقة‬
‫وجودنا تعين ببساطة أننا يف ٍ‬
‫كون من هذا النوع بالتحديد وليس من األكوان العديدة األخرى غري املواتية للحياة‪ ،‬إ ًذا فالضبط الدقيق‬
‫مغالطة منطقية من النوع «حدث بعده‪ ،‬إذًا هو سببه» مثل الفائز باليانصيب الذي يُفكر ما الذي جعله يفوز خمالفةً لكل االحتماالت‬
‫املتوقعة‪ ،‬كان ال بد أن يفوز أح ٌد ما‪ ،‬وهو ال يتعجب سوى ألنه هو من فاز حقًّا‪ .‬ليست هذه هي املرة األوىل اليت تدفع فيها خدعة‬
‫االصطفاء املفكرين حنو البحث عن تفسريات عميقة ليس هلا وجود للثابت الفيزيائي‪ ،‬فقد أرهق يوهانس كبلر (‪)Johannes Kepler‬‬
‫نفسه يف البحث عن السبب وراء بُعد األرض عن الشمس بـ ‪ 93‬مليون ميل‪ ،‬وهي املسافة املثالية حىت ال تتجمد املياه يف البحريات‬
‫أن األرض جمرد كوكب من عدة كواكب‪ ،‬يبعد كلٌّ منها مسافة خمتلفة عن الشمس أو عن جن ٍم‬
‫واألهنار أو تتبخر‪ ،‬لكننا نعرف اآلن َّ‬
‫بدال من املريخ‪.‬‬
‫آخر‪ ،‬وال نندهش لوجودنا على هذا الكوكب ً‬
‫تفسريا من نوع «حدث بعده‪ ،‬إذًا هو سببه» لو مل تكن متسقة مع نظريات أخرى يف‬ ‫كانت نظرية األكوان املتعددة ذاهتا لتصبح ً‬
‫الفيزياء‪ ،‬وباألخص نظرية قدرة الفراغ املوجود يف الفضاء على إحداث انفجارات كربى تصبح أكوانًا جديدة‪ ،‬وميكن أن تنشأ هذه‬
‫األكوان اجلديدة بثوابت أساسية خمتلفة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تُنفر الفكرة العديد من الناس (وال سيما بعض علماء الفيزياء) ألهنا ُحمرية للعقل‬
‫بصورة مذهلة‪ .‬يقتضي وجود عدد ال هنائي من األكوان (أو على األقل عدد ضخم مبا يكفي ليشمل مجيع احتماالت ترتيبات املادة)‬
‫شخصا آخر‪ ،‬أو قُتل يف حادث سيارة أمس‪ ،‬أو امسه إيفيلن‪ ،‬أو ليس أني ًقا‪ ،‬أو‬
‫ً‬ ‫أن هناك أكوانًا حتتوي على نسخة منك إال أنه تزوج‬
‫أغلق هذا الكتاب من حلظة وال يقرأ هذه اجلملة اآلن‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫جيدا ملعرفة الواقع‪،‬‬
‫مرشدا ً‬
‫ومهما كانت نتائج هذه األفكار مربكة وغريبة‪ ،‬إال أن تاريخ األفكار خيربنا بأن غرابة الفكرة ليست ً‬
‫وقد أهان العلم مر ًارا وتكر ًارا احلس السليم ألجدادنا باكتشافاته املربكة اليت اتضحت صحتها الح ًقا مبا يف ذلك كروية األرضة وتباطؤ‬
‫الوقت مع السرعات العالية والرتاكب الكمي واحنناء الزمان واملكان‪ ،‬وبالطبع التطور‪ .‬ولكن عندما نتخطى الصدمة األولية‪ ،‬جند أن فكرة‬
‫تعدد األكوان ليست شديدة الغرابة‪ .‬ليست هذه هي املرة األوىل اليت جيد فيها علماء الفيزياء سببًا الفرتاض تعدد األكوان‪ .‬وهناك نسخة‬
‫أخرى من نظرية تعدد األكوان وهي ناجتة مباشرةً عن اكتشاف أن الفضاء يبدو غري هنائي وأن املادة تبدو موزعة فيه بالتساوي‪ ،‬فال بد‬
‫متجاوزا أُفقنا الكوين إ ًذا‪ .‬وهناك نسخة أخرى وهي تفسري العوامل‬
‫ً‬ ‫من وجود عدد ال هنائي من األكوان ينتشر يف الفضاء ثالثي األبعاد‬
‫كمية حمتملة (مثل مسار الفوتون) يف أكو ٍان متوازية متداخلة (وهي احتمالية‬
‫املتعددة مليكانيكا الكم وفيه تتحقق النتائج املتعددة لعملية ِّ‬
‫وقت واحد)‪ .‬تبدو نظرية تعدد األكوان‬ ‫قد تؤدي إىل احلواسيب الكمية اليت تتمثل فيها مجيع القيم املمكنة للمتغريات لعملية حسابية يف ٍ‬
‫بصورةٍ ما النظرية األبسط عن الواقع‪ ،‬ألنه إذا كان كوننا هو الكون الوحيد يف الوجود‪ ،‬فسنحتاج إىل تعقيد قوانني الفيزياء األنيقة بشروط‬
‫اعتباطية حلالة كوننا األولية احملدودة وثوابته الفيزيائية احملدودة‪ .‬وكما يقول عامل الفيزياء ماكس تيجمارك (‪( )Max Tegmark‬وهو‬
‫سفها وأقل لياقةً يف رأينا‪ :‬كثري من العوامل أم‬
‫أي األمرين أكثر ً‬
‫أحد املؤيدين لألنواع األربعة من تعدد األكوان)‪« :‬يعتمد ُحكمنا على ِّ‬
‫كثري من الكلمات»‪.‬‬
‫إذا اتضح َّ‬
‫أن هذا هو التفسري األفضل للثوابت الفيزيائية األساسية‪ ،‬فلن تكون هذه هي املرة األوىل اليت أدهشتنا فيها عواملُ بعيدة‬
‫(لكل منها‬
‫عن أعيننا‪ ،‬فقد اضطر أسالفنا إىل تقبُّل اكتشاف نصف األرض الغريب‪ ،‬ومثانية كواكب أخرى‪ ،‬ومئة مليار جنمة يف جمرتنا ٍّ‬
‫كواكب) ومئة مليار جمرة يف كوننا امللحوظ‪ .‬إذا تعارض العقل مع احلدس ثانيةً‪ ،‬فأسفي على احلدس‪ِّ .‬‬
‫يذكرنا أحد املؤيدين لفكرة األكوان‬
‫املتعددة براين جرين (‪ )Brain Greene‬مبا يلي‪:‬‬

‫كون غريب صغري متمحور حول األرض إىل ٍ‬


‫كون مليء مبليارات اجملرات شيقة وتدعو للتواضع‪ .‬لقد أ ِ‬
‫ُجربنا‬ ‫كانت رحلتنا من ٍ‬
‫على التخلي عن اإلميان املقدس مبركزيتنا‪ ،‬ولكنَّنا خبفض منزلتنا يف الكون أظهرنا قدرة العقل البشري على الوصول إىل ما‬
‫كثريا من حدود التجربة العادية للكشف عن احلقيقة غري العادية‪.‬‬
‫هو أبعد ً‬
‫أيضا مبشكلة الوجدان والذاتية‬
‫الفجوة األخرى اليت من املفرتض أن باإلمكان ملؤها باإلله هي «مشكلة الوعي الصعبة»‪ ،‬واليت تُعرف ً‬
‫أساسا الفيلسوف‬
‫إن املصطلح الذي اقرتحه ً‬ ‫والوعي الظاهرايت (الفينومينولوجي) والكيفيات احملسوسة (أي اجلانب «الكيفي» من الوعي)‪َّ .‬‬
‫زعم َّأهنا «سهلة» ‪-‬التحدي العلمي املتمثل يف‬ ‫ديفيد كاملرز (‪ )David Chalmers‬عبارة عن مزحة خاصة‪َّ ،‬‬
‫ألن املشكلة اليت يُ َ‬
‫التمييز بني احلسابات الذهنية الواعية وغري الواعية‪ ،‬وحتديد ركائزها يف املخ‪ ،‬وشرح أسباب تطورها‪ -‬تعترب «سهلة» كما يعترب عالج‬
‫سهال»‪ ،‬أي مرنة علميًّا‪ .‬وحلسن احلظ فاملشكلة السهلة جتاوزت نقطة املرونة‪ ،‬فنحن يف طريقنا‬ ‫السرطان أو إرسال ٍ‬
‫إنسان إىل القمر « ً‬
‫بدال من وحدات بكسل‬ ‫وملونة وثالثية األبعاد ً‬
‫تفسري أنَّنا نرى أشياءَ ثابتة وصلبة َّ‬
‫ُ‬ ‫رض‪ .‬ليس من الغامض‬ ‫حنو التوصل إىل تفس ٍري ُم ٍ‬
‫مشكالية* يف شبكية أعيننا‪ ،‬أو تفسري أنَّنا نستمتع ‪-‬وبالتايل نسعى إىل‪ -‬الطعام واجلنس وسالمة اجلسد ونعاين من ‪-‬وبالتايل نتجنب‪-‬‬
‫تشجع عليه هذه احلاالت عبارة عن وسائل تكيف داروينية‬ ‫العزلة االجتماعية وتلف األنسجة‪ ،‬فهذه احلاالت الداخلية والسلوك الذي ِّ‬
‫ٍ‬
‫بشكل واضح‪ .‬مع التطورات يف علم النفس التطوري‪ ،‬أصبح يتم تفسري املزيد واملزيد من التجارب الواعية هبذه الطريقة‪ ،‬مبا فيها هواجسنا‬
‫الفكرية وعواطفنا األخالقية وردود فعلنا اجلمالية‪.‬‬
‫وليست أسس الوعي احلسابية والعصبية احليوية مربكة وعنيدة‪ ،‬وقد قال عامل األعصاب املعريف ستانيسالس دوهان ( ‪Stanislas‬‬
‫أن جمموعة متنوعة‬‫إن الوعي يعمل كـ «مساحة عمل عاملية» أو «سبورة»‪ .‬يشري جماز «السبورة» إىل َّ‬ ‫‪ )Dehaene‬وزمالؤه املساعدون َّ‬
‫مجيعا أن «تراها»‪ ،‬وتشمل هذه الوحدات اإلدراك‬ ‫ٍ‬
‫من الوحدات احلسابية بإمكاهنا نشر نتائجها بصيغة مشرتكة ميكن لبقية الوحدات ً‬
‫ٍ‬
‫جمموعة مشرتكة من املعلومات اليت هلا صلة‬ ‫مجيعا إىل‬
‫والذاكرة والتحفيز واللغة والفهم وُتطيط العمل‪ ،‬وتتيح لنا حقيقة إمكانية وصوهلا ً‬
‫مبا حيدث حاليًا (حمتويات الوعي) أن نصف ما نراه أو نستوعبه أو نتناوله‪ ،‬وأن نستجيب ملا يقوله اآلخرون أو يفعلونه وأن نتذكر وخنطِّط‬
‫فإن احلسابات داخل كل وحدة مثل حساب العمق من العينني أو تسلسل انقباضات‬ ‫استنادا إىل ما نريده وما نعرفه (وعلى النقيض‪َّ ،‬‬
‫ً‬
‫فعال ما ميكن أن تعمل بناءً على تدفقات مدخالهتا اخلاصة‪ ،‬وتواصل عملها حتت مستوى الوعي‪ ،‬فال حاجة لرؤيتها‬ ‫يكون ً‬‫العضلة الذي ِّ‬
‫اإلمجالية)‪ .‬تُطبَّق مساحة العمل العاملية هذه يف املخ على هيئة انبعاث متناغم ومتزامن يف الشبكات العصبية اليت تربط ًّ‬
‫كال من القشرتني‬
‫املخيتني اجلبهية األمامية واجلدارية بعضهما ببعض‪ ،‬وتربطهما مبناطق املخ اليت ترسل إليهما إشارات إدراكية وذاكرية وحتفيزية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بشكل ذايت‪ ،‬مثل األمحر الذي يبدو أمحر‬ ‫زعم ‪-‬ملاذا يشعر كل شخص و ٍاع بأنَّه شخصٌ ما‬ ‫ليست املشكلة «الصعبة» كما يُ َ‬
‫حمرية‪ .‬فهي تتضمن أحجيات مثل ما إذا كان‬
‫ألهنا معضلة مفاهيمية ِّ‬‫مستعص‪ ،‬بل َّ‬
‫ٍ‬ ‫ألهنا موضوع علمي‬ ‫وامللح الذي طعمه ماحل‪ -‬صعبةً َّ‬
‫خفاشا‪ ،‬وما إذا كان من املمكن أن يوجد موتى أحياء «زوميب»‬
‫كنت ً‬ ‫األمحر الذي أراه مماثال لألمحر الذي تراه أنت‪ ،‬وكيف ستشعر لو َ‬
‫(أشخاص ال خيتلفون عنك وعين ولكن ليس بداخلهم شيء وال يشعرون بشيء)‪ ،‬وإذا كانوا موجودين‪ ،‬فهل مجيع من سواي من الزوميب‪،‬‬
‫وما إذا كان إنسا ٌن آيل يشبه اإلنسان العادي بدقة تامة واعيًا‪ ،‬وما إذا كنت أستطيع حتقيق اخللود بتحميل بيانات خريطة الشبكة العصبية‬
‫يف خمي إىل السحابة اإللكرتونية‪ ،‬وما إذا كانت آلة االنتقال عن بعد يف مسلسل ستار تريك (‪ )Star Trek‬تنقل كابنت كريك إىل‬
‫سطح الكوكب بالفعل أم تقتله وتبين تو ًأما مطاب ًقا له‪.‬‬
‫مفس ًرا» )‪ ،(Conscious Explained‬بعدم وجود ما يُدعى‬ ‫قال بعض الفالسفة‪ ،‬مثل دانييل دينيت يف كتابه «الوعي َّ‬
‫اجملرب دون‬ ‫مبشكلة الوعي الصعبة‪ ،‬فهذا لبس ناتج عن عادةٍ سيئة‪ ،‬وهي تصور ٍ‬
‫إنسان مصغَّر جالس يف مسرٍح داخل اجلمجمة‪ ،‬وهو ِّ‬ ‫ٌ‬

‫ً‬
‫أشكاال مختلفة‪ – .‬المترجمة‪.‬‬ ‫*المشكال عبارة عن أنبوب من المرايا به خرز ملون وحصى وزجاج يصنع‬
‫جسد الذي سيخرج حبذ ٍر من مسرحي ويدخل إىل مسرحك ليتحقَّق من اللون األمحر أو يزور مسرح اخلفاش ويشاهد الفيلم املعروض‬ ‫ٍ‬
‫حاضرا أو غائبًا لدى اإلنسان اآليل‪ ،‬والذي قد ينجو من الرحلة اإلشعاعية إىل‬
‫ً‬ ‫موجودا لدى الزوميب وقد يكون‬
‫ً‬ ‫هناك‪ ،‬والذي لن يكون‬
‫زاكدورن أو ال ينجو منها‪ .‬أحيانًا عندما أرى الضرر الذي تسبَّبت فيه املشكلة الصعبة (مبا فيه تلويح ِّ‬
‫املفكر احملافظ دينيش ديسوزا‬
‫‪ Dinesh D'Souza‬بنسخة من كتايب «كيف يعمل العقل» ”‪“How the Mind Works‬يف مناظرةٍ عن وجود اإلله)‪،‬‬
‫أن حالنا سيكون أفضل دون هذا املصطلح‪ .‬على عكس أوجه سوء الفهم املختلفة‪ ،‬فاملشكلة الصعبة‬ ‫تُغريين فكرة االتفاق مع دينيت يف َّ‬
‫ال تتكون من ظواهر فيزيائية أو خارقة للطبيعة مثل االستبصار أو التخاطر أو االنتقال عرب الزمن أو العرافة أو حتريك األشياء عن بُعد‪،‬‬
‫وال تستلزم فيزياء كمية غريبة وال اهتزازات الطاقة املبتذلة وال ترهات العصر اجلديد األخرى‪ ،‬واألمر األهم فيما خيص النقاش احلايل‪َّ ،‬أهنا‬
‫متاما على النشاط العصيب‪.‬‬
‫روحا غري مادية‪ .‬ليس هناك مما نعرفه عن الوعي ما ال يتسق مع فهمنا بأنَّه يعتمد ً‬ ‫تتضمن ً‬‫ال َّ‬
‫أن املشكلة الصعبة عبارة عن مشكلة مفاهيمية ذات معىن‪ ،‬ولكنَّين أتفق مع دينيت يف َّأهنا ليست‬ ‫لت أعتقد َّ‬
‫يف النهاية‪ ،‬ما ز ُ‬
‫ٍ‬
‫كنت زوميب أو ما إذا كان كابنت كريك الذي يسري على ظهر سفينة‬ ‫مشكلة علمية ذات معىن‪ .‬لن حيصل أح ٌد على منحة لدراسة ما إذا َ‬
‫‪ Enterprise‬هو ذاته الذي يسري على سطح زاكدورن‪ .‬وأتفق مع العديد من الفالسفة اآلخرين يف أنَّه رمبا يكون من العبث أن نأمل‬
‫ألهنا مشكلة مفاهيمية‪ ،‬او بتعب ٍري أدق‪ ،‬مشكلة مع مفاهيمنا‪ .‬كما قال توماس ناجل يف مقاله الشهري‬
‫حل على اإلطالق‪َّ ،‬‬
‫يف الوصول إىل ٍّ‬
‫كنت خفا ًشا؟» (?‪ )What Is It Like to Be a Bat‬فرمبا تكون هناك «حقائق ال ميكن للبشر أن يتصوروها‬ ‫«كيف ستشعر لو َ‬
‫تبىن‬
‫ألن تركيبتنا ال تسمح لنا بالعمل وفق أنواع املفاهيم الالزمة لذلك»‪َّ .‬‬ ‫أو يفهموها حىت لو بقي جنس البشر إىل األبد‪ ،‬ببساطة َّ‬
‫إن هناك تباينًا بني أدواتنا املعرفية لتفسري الواقع (أي تسلسل‬‫الفيلسوف كولني ماكجني (‪ )Colin McGinn‬هذه الفكرة وقال َّ‬
‫السبب والنتيجة‪ ،‬وحتليل األجزاء وتفاعالهتا سويًّا‪ ،‬وتصميم مناذج املعادالت الرياضية) وطبيعة مشكلة الوعي الصعبة‪ ،‬وهي مشولية على‬
‫أن الوعي َّ‬
‫يتشكل من مساحة عمل عاملية متثِّل أهدافنا احلالية وذكرياتنا‬ ‫عكس ما يشري احلدس‪ .‬خيربنا أفضل ما توصلنا إليه يف العلم َّ‬
‫أن هذه الدائرة تشعر َّ‬
‫بأهنا‬ ‫لكن اجلزء األخري الباقي من النظرية ‪َّ -‬‬
‫وحميطنا‪ ،‬ويُطبَّق بانبعاث عصيب متزامن يف الدائرة اجلبهية اجلدارية‪ .‬و َّ‬
‫متاما‪ ،‬فكما ذكر أمربوز بريس‬ ‫شخصٌ ما‪ -‬رمبا ميكن وصفه بأنَّه حقيقةٌ عن الواقع يتوقَّف عندها التفسري‪ .‬ال ينبغي أن يكون هذا مفاجئًا ً‬
‫(‪ )Ambrose Bierce‬يف كتابه «قاموس الشيطان» )‪ ،(The Devil’s Dictionary‬ال ميلك العقل َّإال نفسه ليعرف‬
‫نفسه به‪ ،‬ورمبا ال يرضى مطل ًقا بأنَّه يفهم أعمق جوانب وجوده نفسه‪ ،‬وهو ذاتيته اجلوهرية‪.‬‬
‫أوال‬
‫مفيدا على اإلطالق‪ ،‬فهذا االفرتاض ً‬ ‫مهما كان ما نفهمه من مشكلة الوعي الصعبة‪ ،‬فلن يكون افرتاض وجود روح غري مادية ً‬
‫أن الوعي املوهوب من اإلله ال يستويف‬ ‫حياول حل لغز بلغ ٍز أكرب‪ ،‬وثانيًا يتنبأ خطأ بوجود الظواهر اخلارقة للطبيعة‪ .‬واألكثر من ذلك َّ‬
‫ٍ‬
‫عصابة القدرة على التمتع مبكاسبه غري املشروعة أو مينح معتديًا‬ ‫مواصفات تصميم احملل اهلندسي للجزاء العادل‪ ،‬فلماذا مينح اهلل رجل‬
‫جنسيًا املتعة اجلنسية؟ (إذا كان هذا الختبارهم مبغريات عليهم أن يثبتوا صالحهم األخالقي مبقاومتها‪ ،‬فلماذا يكون ضحاياهم خسائر‬
‫جانبية؟) ملاذا قد يستاء إلهٌ رحيم من سرقة سنوات من ُعمر مريض السرطان ويزيد عقوبة العذاب األليم بال مسوغ؟ تبدو ظواهر الوعي‬
‫متاما كاملتوقَّع إذا كانت قوانني الطبيعة تُطبَّق دون اعتبار لرفاهة البشرية‪ ،‬فإذا أردنا تعزيز رفاهة البشرية‪ ،‬علينا أن‬
‫‪-‬مثل ظواهر الفيزياء‪ً -‬‬
‫نكتشف كيف نفعل ذلك بأنفسنا‪.‬‬
‫ويقودنا هذا إىل مشكلة األخالق الدينية الثانية‪ .‬ليس األمر أنَّه من شبه املؤكد أنَّه ال يوجد إله ليُملي علينا الوصايا األخالقية ويفرضها‬
‫أيضا أنَّه حىت لو كان هناك إلهٌ‪ ،‬فال ميكن أن تكون تعاليمه اإلهلية‪ ،‬اليت تصلنا عن طريق الدين‪ ،‬مصدر األخالق‪.‬‬ ‫علينا فحسب‪ ،‬بل ً‬
‫يعود تفسري ذلك إىل كتاب «يوثيفرو» (‪ )Euthyphro‬ألفالطون‪ ،‬الذي يشري فيه سقراط إىل أنَّه إذا كان لدى اآلهلة أسباب مقنعة‬
‫العتبار ٍ‬
‫أفعال ما أخالقية‪ ،‬فيمكننا أن نستند إىل تلك األسباب مباشرةً دون وسيط‪َّ .‬أما إذا مل يكن لديهم أسباب مقنعة‪ ،‬فال ينبغي أن‬
‫املفكرون أن يقدِّموا أسبابًا لعدم القتل أو االغتصاب أو التعذيب عدا‬‫نأخذ أوامرهم على حممل اجلد! ففي النهاية‪ ،‬يستطيع األشخاص ِّ‬
‫أن اهلل قد ُتلَّى عنهم أو إذا أخربهم اهلل َّ‬
‫أن هذه‬ ‫اخلوف من اجلحيم األبدي‪ ،‬ولن يصبحوا مغتصبني أو قتلة مأجورين فجأةً إذا اعتقدوا َّ‬
‫األفعال مقبولة‪.‬‬
‫أن إله الكتب املقدَّسة بطبيعته ال يستطيع إصدار أوامر غري أخالقية‪ ،‬على عكس آهلة األساطري‬ ‫يرد فالسفة األخالق الدينية َّ‬
‫اإلغريقية املتقلِّبني‪َّ ،‬‬
‫ولكن كل من لديه إملام بالنصوص املقدَّسة يعرف َّ‬
‫أن هذا ليس حقيقيًا‪ .‬قتل إله العهد القدمي األبرياء باملاليني‪ ،‬وأمر‬
‫آل إسرائيل بارتكاب جرائم االغتصاب اجلماعي واإلبادة اجلماعية‪ ،‬وأقر عقوبة اإلعدام على الكفر وعبادة األصنام واملثلية اجلنسية والزنا‬
‫والرد على الوالدين كلمة بكلمة والعمل يف يوم السبت‪ ،‬يف حني مل جيد أدىن غضاضة يف العبودية واالغتصاب والتعذيب وقطع األعضاء‬
‫املتنورون ينتقون بالطبع األوامر‬
‫معتادا يف حضارات العصر الربونزي والعصر احلديدي‪َّ ،‬أما اليوم فاملؤمنون ِّ‬‫واإلبادة اجلماعية‪ .‬كان هذا ً‬
‫حيوروهنا أو يتجاهلوهنا‪ ،‬وهذا هو مربط الفرس‪ ،‬ف ُهم يقرؤون اإلجنيل بعيون النزعة‬ ‫اإلنسانية فقط بينما يعتربون األوامر اخلبيثة جمازية أو ِّ‬
‫اإلنسانية التنويرية‪.‬‬
‫بأن اإلحلاد يدفعنا حنو النسبية األخالقية إذ يستطيع كل شخص أن يفعل ما حيلو له‪ .‬يعكس‬‫تنفي حجة يوثيفرو االدعاء الشائع َّ‬
‫هذا االدعاء واقع األمر‪ ،‬فاألخالق اإلنسانية تقوم على قاعدةٍ عاملية َّ‬
‫مكونة من املنطق واملصاحل البشرية‪ ،‬فمن خواص احلالة البشرية‬
‫كثريا من الفالسفة املعاصرين‬
‫فإن ً‬‫بعضا‪ .‬هلذا السبب َّ‬
‫بعضا وامتنعنا عن إيذاء بعضنا ً‬
‫بعضنا ً‬
‫حاال إذا ساعد ُ‬‫مجيعا نكون أفضل ً‬ ‫احلتمية أنَّنا ً‬
‫مبن فيهم ناجل وجولدشتاين وبيرت سنجر وبيرت ريلتون وريتشارد بويد وديفيد برينك وديريك بارفيت يؤمنون بالواقعية األخالقية (عكس‬
‫بأن املقوالت األخالقية قد تكون صحيحة أو خاطئة ٍ‬
‫بشكل موضوعي‪ .‬الدين هو الذي يكون نسبيًّا بطبيعته‪،‬‬ ‫النسبية األخالقية) ويقولون َّ‬
‫فبالنظر إىل غياب األدلة‪ ،‬ال ميكن أن يعتمد أي اعتقاد بشأن كم عدد اآلهلة املوجودة ومن أنبياؤهم ورسلهم على األرض وما يطالبوننا‬
‫به سوى على دوغما قبيلة املرء احملدودة‪.‬‬
‫أيضا ال أخالقية‪ ،‬فاآلهلة اخلفية قد تأمر الناس بنحر الزنادقة والكفار‬
‫ال جيعل هذا األخالق الدينية نسبيةً فحسب‪ ،‬بل قد جيعلها ً‬
‫واملرتدين‪ .‬والروح غري املادية ال تتأثر باحملفزات الدنيوية اليت تدفعنا إىل التوافق‪ ،‬عادةً ما يكون املتنافسون على أحد املوارد املادية أفضل‬
‫ولكن املتنافسني على ٍ‬
‫قيمة مقدَّسة (مثل‬ ‫بدال من أن يتقاتلوا عليه‪ ،‬وخاصةً إذا كانوا يقدِّرون حياهتم على األرض‪َّ ،‬‬ ‫حاال إذا تقامسوه ً‬
‫ً‬
‫ضئيال‬
‫أن روحهم خالدة فلن تعين خسارة جسدهم الكثري‪ ،‬بل رمبا تكون مثنًا ً‬ ‫األرض املقدَّسة أو تأكيد معتقدهم) لن يساوموا‪ ،‬وإذا ظنوا َّ‬
‫يدفعونه للحصول على مكافأة أبدية يف جنة النعيم‪.‬‬
‫كثري من املؤرخني إىل َّ‬
‫أن احلروب الدينية طويلة ودموية‪ ،‬وغالبًا ما تتسبَّب العقائد الدينية يف إطالة مدة احلروب الدموية‪.‬‬ ‫أشار ٌ‬
‫اعا دينيًّا من بني قائمة بأسوأ ما فعله البشر بعضهم‬
‫حصر ماثيو وايت‪ُ ،‬حمصي املوتى الذي ذكرناه يف الفصل الرابع عشر‪ ،‬ثالثني صر ً‬
‫اعا منها‪،‬‬
‫بعضا يف سبعة عشر صر ً‬
‫ببعض على اإلطالق‪ ،‬ونتج عنها حوايل ‪ 55‬مليون قتيل (حارب أصحاب األديان التوحيدية بعضهم ً‬ ‫ٍ‬
‫يعرب اجلزم الشائع َّ‬
‫بأن احلربني العامليتني انطلقتا بسبب تراجع األخالق الدينية (مثل ادعاء‬ ‫وحاربوا الوثنيني يف مثانية صراعات أخرى)‪ِّ .‬‬
‫بأن احلرب العاملية الثانية كانت مواجهة بني «الغرب املسيحي اليهودي من جانب‬ ‫ستيفن بانون خبري ترامب االسرتاتيجي السابق َّ‬
‫يخ غيب‪ .‬إذ كان احملاربون على اجلانبني يف احلرب العاملية األوىل مسيحيني مؤمنني فيما عدا اإلمرباطورية‬‫وامللحدين من جانب») عن تار ٍ‬
‫العثمانية‪ ،‬اليت كانت ثيوقراطية إسالمية‪ ،‬والقوة الوحيدة امللحدة علنًا اليت شاركت يف احلرب العاملية الثانية كانت االحتاد السوفيييت‪،‬‬
‫وكانت حتارب أغلب احلرب يف صفنا ضد النظام النازي‪ ،‬والذي كان (على عكس األسطورة الشائعة) متعاط ًفا مع املسيحية األملانية‬
‫مفوض‬ ‫والعكس بالعكس‪ ،‬فكانت الفئتان متحدتني يف كرههما للحداثة العلمانية (كان هتلر نفسه ربوبيًّا وقال «أنا على ٍ‬
‫قناعة بأنَّين َّ‬
‫بأن احلروب واألعمال الوحشية غري‬ ‫من خالقنا‪ ،‬فأنا أنفذ مشيئة الرب مبحاربة اليهود»)‪ .‬يرد املدافعون عن اإلميان باإلله على ذلك َّ‬
‫عدد أكرب من الناس‪ ،‬ياهلا من نسبية! من الغريب‬ ‫الدينية املدفوعة بأيديولوجية الشيوعية العلمانية وبالغزو العادي تسبَّبت يف مقتل ٍ‬
‫صفرا‪،‬‬
‫تصنيف الدين على هذا املنحىن‪ ،‬فإذا كان الدين هو مصدر األخالق‪ ،‬فال بد أن يكون عدد احلروب واألعمال الوحشية الدينية ً‬
‫أن اإلحلاد ليس منظومةً أخالقية من األساس‪ ،‬فهو جمرد غياب االعتقاد الغييب‪ ،‬كعدم الرغبة يف اإلميان بزيوس أو فيشنو‪،‬‬ ‫ومن الواضح َّ‬
‫والبديل األخالقي عن اإلحلاد هو النزعة اإلنسانية‪.‬‬

‫فكرين‪ ،‬ولكن كان رد فعل كث ٍري من‬ ‫ال يؤمن اليوم باجلنة والنار أو حبرفية ما جاء يف اإلجنيل أو بإله يهزأ بقوانني الفيزياء سوى بضع م ِّ‬
‫لكل من‬
‫املثقَّفني غاضبًا على «اإلحلاد اجلديد» الذي روجته أربعة كتب حقَّقت أفضل املبيعات ونُشرت بني عامي ‪ 2005‬و‪ٍّ 2007‬‬
‫سام هاريس وريتشارد دوكنز ودانييل دينيت وكريستوفر هيتشنز‪ .‬أُطلِق على رد فعلهم «ملحد ولكن‪ ،»..‬و«إميا ٌن باإلميان»‪ ،‬و«الرؤية‬
‫الدجمية» و(املصطلح الذي صاغه كوين) «اإلحلاد املتعاون مع اإلميان»‪ .‬ويتداخل رد فعلهم هذا مع العداء جتاه العلم يف أوساط الثقافة‬
‫أن هذا بسبب التعاطف املشرتك مع املنهجيات التأويلية على حساب املنهجيات التحليلية والتجريبية‪ ،‬والنفور من‬ ‫الثانية‪ ،‬ويُفرتض َّ‬
‫أن اإلحلاد ‪-‬عدم اإلميان‬ ‫بأن العلماء اململني والفالسفة العلمانيني قد يكونون حمقني بشأن مسائل الوجود األساسية‪ .‬رغم َّ‬ ‫االعرتاف َّ‬
‫أن امللحدين اجلدد من أنصار النزعة اإلنسانية بصورةٍ علنية‪،‬‬
‫باهلل‪ -‬متوافق مع جمموعة واسعة من املعتقدات اإلنسانية وغري اإلنسانية‪َّ ،‬إال َّ‬
‫عموما إىل النزعة اإلنسانية‪.‬‬
‫فإن أي عيوب يف رؤيتهم للعامل قد متتد ً‬ ‫لذا َّ‬
‫حادون ومتشدِّدون ومزعجون بنفس قدر إزعاج األصوليني الذين‬ ‫وف ًقا للملحدين املتعاونني مع املؤمنني َّ‬
‫فإن امللحدين اجلدد ُّ‬
‫ينتقدوهنم (يرد أحد الشخصيات الكرتونية يف رسم كاريكاتريي على موقع ‪ XKCD‬فيقول‪« :‬املهم أنَّك وجدت طريقةً لتشعر‬
‫أبدا من معتقداهتم الدينية‪ ،‬ورمبا ال ينبغي أن يتحرروا منها‪َّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫إن األشخاص العاديني لن يتحرروا ً‬ ‫باألفضلية على كليهما»)‪ .‬يقولون َّ‬
‫تليب تلك احلاجة بالرتويج‬‫حباجة إىل الدين ليكون حصنًا ضد األنانية واالستهالكية الفارغة‪ ،‬فاملؤسسات الدينية ِّ‬‫ٍ‬ ‫اجملتمعات الصحية‬
‫لألعمال اخلريية واجملتمعات الصغرية واملسؤولية االجتماعية وطقوس العبور واهلداية فيما خيص املسائل الوجودية اليت لن يقدِّمها هلم العلم‬
‫مطل ًقا‪ .‬ومعظم الناس يعاملون التعاليم الدينية بصورةٍ جمازية وليست حرفية على أي حال‪ ،‬وجيدون معىن وحكمةً يف اإلحساس األمسى‬
‫االدعاءات‪.‬‬
‫بالروحانية والفضل والنظام اإلهلي‪ .‬لننظر يف هذه ِّ‬
‫من مصادر اإلهلام املثرية للسخرية لإلحلاد املتعاون مع اإلميان األحباث على اجلذور النفسية للمعتقدات الغيبية‪ ،‬مبا فيها عادات‬
‫معرفية متمثلة يف املبالغة يف نَسب التصميم والوكالة (أي القدرة على الفعل) للظواهر الطبيعية‪ ،‬ومشاعر التضامن العاطفية داخل اجملتمعات‬
‫العقائدية‪ .‬التفسري األكثر طبيعية هلذه النتائج َّأهنا هتدم املعتقدات الدينية بتوضيح َّأهنا من خياالت تكويننا العصيب احليوي‪ ،‬ولكن هذه‬
‫أن الطبيعة البشري ة حتتاج إىل الدين كما حتتاج إىل الغذاء واجلنس والصحبة‪ ،‬لذا فمن العبث ُتيل‬ ‫توضح َّ‬ ‫أيضا َّ‬
‫بأهنا ِّ‬ ‫األحباث مت تفسريها ً‬
‫دافعا توازنيًّا ال بد من ري عطشها له بانتظام‪ .‬أجل‪،‬‬‫ولكن هذا التفسري إشكايل‪ ،‬فليست كل خواص الطبيعة البشرية ً‬ ‫عدم وجود الدين‪َّ .‬‬
‫الناس عرضة لألوهام املعرفية اليت تؤدي إىل املعتقدات الغيبية‪ ،‬وحيتاجون بالطبع إىل االنتماء إىل جمتم ٍع صغري‪ .‬نشأت على مدار التاريخ‬
‫أن الناس ٍ‬
‫حباجة إىل هذه‬ ‫ولكن هذا ال يعين َّ‬
‫وتليب تلك االحتياجات‪َّ ،‬‬‫تشجع تلك األوهام ِّ‬ ‫ٍ‬
‫جمموعات من التقاليد اليت ِّ‬ ‫مؤسسات تقدِّم‬
‫ٍ‬
‫حباجة إىل نوادي البالي بوي‪ .‬كلَّما ازدادت اجملتمعات تعلُّ ًما وأمانًا‪،‬‬ ‫اجملموعات بأكملها كما ال يعين وجود الرغبة اجلنسية َّ‬
‫أن الناس‬
‫املتحررة تقدمي الفن والطقوس والرمزية‬
‫أمكن فصل مكونات املؤسسات الدينية اليت ورثناها بعضها عن بعض‪ ،‬فيمكن أن تواصل األديان ِّ‬
‫كثري من الناس دون الدوغما الغيبية أو أخالق العصر احلديدي‪.‬‬
‫والدفء اجملتمعي الذي يتمتَّع به ٌ‬
‫مربرة‬
‫وإمنا دراستها وف ًقا ملنطق يوثيفرو‪ ،‬أي إذا كانت هناك أسباب َّ‬ ‫يعين ذلك أنَّه ال ينبغي شجب األديان أو مدحها ٍ‬
‫بوجه عام‪َّ ،‬‬
‫ألنشطة معينة‪ ،‬فينبغي التشجيع على تلك األنشطة‪ ،‬ولكن ال ينبغي التغاضي عن أفعال بعض احلركات جملرد َّأهنا دينية‪ .‬من بني إسهامات‬ ‫ٍ‬
‫األديان اإلجيابية يف أزمنة معينة وأماكن معينة التعليم والصدقة واألعمال اخلريية والرعاية الطبية واملشورة وحل النزاعات وخدمات اجتماعية‬
‫دين كان سيقضي على‬ ‫أن هذه اجلهود اليت يبذهلا املتدينون يف العامل املتقدِّم ال تُضاهي جهود نظرائهم من العلمانيني‪ ،‬فال َ‬ ‫أخرى (رغم َّ‬
‫إحساسا‬
‫ً‬ ‫أيضا‬
‫اجلوع أو املرض أو األمية أو احلروب أو القتل أو الفقر على النطاقات اليت رأيناها يف اجلزء الثاين)‪ .‬تقدِّم املنظمات الدينية ً‬
‫بالتضامن اجملتمعي والدعم املتبادل‪ ،‬إىل جانب الفنون والطقوس واملعمار ذي اجلمال اخلالب والصدى التارخيي‪ ،‬بفضل بدايتها اليت‬
‫كثريا‪.‬‬ ‫سبقت غريها ٍ‬
‫أشارك بنفسي يف هذه األنشطة وأستمتع هبا ً‬ ‫بألفية كاملة‪ُ .‬‬
‫إذا كانت إسهامات املؤسسات الدينية اإلجيابية نابعة من دورها كروابط إنسانية يف اجملتمع املدين‪ ،‬فنتوقع َّأال ترتبط هذه املساعدات‬
‫أن مرتادي الكنائس ودور العبادة أسعد وأكثر إحسانًا ممَّن‬ ‫وقت طويل َّ‬‫باملعتقد الديين التوحيدي‪ ،‬وهذا هو الوضع بالفعل‪ .‬نعرف منذ ٍ‬
‫ولكن روبرت بتنام وزميله عامل السياسة ديفيد كامبل (‪ )David Campbell‬وجدا َّ‬
‫أن هذه اهلبات ال عالقة هلا‬ ‫ميكثون يف منازهلم‪َّ ،‬‬
‫باإلميان باهلل أو اخللق أو اجلنة أو النار‪ ،‬فامللحد الذي تصطحبه زوجته امللتزمة إىل التجمعات الدينية يكون ُحم ِسنًا بقدر إحسان املؤمنني‬
‫أن املؤمن املتحمس الذي يصلِّي وحده ال يكون ُحم ِسنًا بالضرورة‪ .‬ويف الوقت نفسه‪ ،‬ميكن تعزيز احلس االجتماعي‬ ‫يف اجلماعة‪ ،‬يف حني َّ‬
‫والفضائل املدنية باالنتماء إىل اجملتمعات اخلدمية العلمانية الصغرية مثل مجعية ‪( The Shriners‬باملستشفيات ووحدات احلروق‬
‫املخصصة لألطفال) ومنظمة الروتاري الدولية (اليت تساعد يف القضاء على شلل األطفال) ونادي ليونز (الذي يكافح فقدان البصر)‪،‬‬ ‫َّ‬
‫أو حىت احتاد البولينج وفق حبث بتنام وكامبل!‬
‫كما تستحق املؤسسات الدينية الثناء عندما تسعى وراء حتقيق غايات إنسانية‪ ،‬فال ينبغي إعفاؤها من النقد عندما تعيق حتقيق‬
‫تلك الغايات‪ .‬تشمل األمثلة على إعاقتها حتقيق تلك الغايات منع الرعاية الطبية عن األطفال املرضى يف القطاعات اليت تؤمن بالعالج‬
‫باإلميان‪ ،‬ومعارضة املوت الرحيم‪ ،‬وإفساد تعليم العلوم يف املدارس‪ ،‬وقمع األحباث الطبية احليوية احلرجة مثل األحباث على اخلاليا اجلذعية‪،‬‬
‫وعرقلة سياسات الصحة العامة اليت تنقذ حياة الناس مثل وسائل منع احلمل والواقيات الذكرية ولقاح فريوس الورم احلليمي‪ .‬وال ينبغي‬
‫اضا أخالقية أمسى بالضرورة‪ ،‬فقد اخندع مر ًارا وتكر ًارا امللحدون املتعاونون مع املؤمنني (‪ )Faitheists‬الذين‬
‫افرتاض امتالك األديان أغر ً‬
‫كات تسعى لتحقيق التنمية االجتماعية‪ .‬كان هناك يف أوائل األلفينات‬ ‫كانوا يأملون أن يتوجه محاس املسيحية اإلجنيلية األخالقي حنو حر ٍ‬
‫حتالف ثنائي من النشطاء البيئيني الذين يأملون جعل التغري املناخي قضيةً مشرتكة مع اإلجنيليني حتت عناوين مثل االعتناء مبخلوقات اهلل‬
‫ٌ‬
‫تبىن اسرتاتيجية عدم التعاون‬
‫ولكن الكنائس اإلجنيلية فئة رئيسية من فئات احلزب اجلمهوري الذي َّ‬
‫والنزعة البيئية املنطلقة من اإلميان‪َّ ،‬‬
‫التحررية (الليربتارية) الراديكالية على رعاية‬
‫التام مع حكومة أوباما‪ ،‬فانتصرت ال َقبَلية السياسية واصطف اإلجنيليون مع حزهبم وفضَّلوا ُّ‬
‫املخلوقات‪.‬‬
‫وكان هناك أمل لفرتة قصرية كذلك يف عام ‪ 2016‬يف أن تقلب الفضائل املسيحية مثل التواضع واالعتدال والسماحة والكياسة‬
‫فاحشا‬
‫والشهامة واحلرص والعطف على الضعفاء اإلجنيليني على مطور نوادي قمار متغطرس مرتف انتقامي فاسق كاره للنساء ثري ثراءً ً‬
‫ومزد ٍر للناس الذين يطلق عليهم «فاشلني»‪ .‬ولكن هذا مل حيدث‪ :‬ففاز دونالد ترامب بأصوات ‪ 81‬يف املئة من املسيحيني اإلجنيليني‬
‫البيض وأولئك الذين ُولِدوا «والدة ثانية» ‪ ،‬وهي نسبة أعلى من نسبة األصوات من أي فئة دميوغرافية أخرى‪ .‬وفاز ترامب بأصواهتم‬
‫بالوعد بإبطال ٍ‬
‫قانون حيظر على املؤسسات اخلريية املعفية من الضرائب (مبا فيها الكنائس) االخنراط يف النشاط السياسي‪ ،‬وهكذا هزم‬
‫النفوذ السياسي الفضائل املسيحية‪.‬‬

‫إذا مل ُتعد تعاليم الدين الفعلية تؤخذ مأخذ اجلد وإذا كانت تعاليمه األخالقية تعتمد بالكامل على ما إذا كان ميكن لألخالقية العلمانية‬
‫تربيرها‪ ،‬فماذا عن ادعائه احلكمة يف مسائل الوجود الكربى؟ من حجج امللحدين املتعاونني مع املؤمنني املفضَّلة أنَّه ال ميكن سوى للدين‬
‫أن خياطب أعمق تطلعات القلب البشري‪ ،‬فالعلم لن يكون كافيًا لتناول املسائل الوجودية الكربى كاحلياة واملوت واحلب والوحدة‬
‫والفقدان والشرف والعدالة الكونية واألمل امليتافيزيقي‪.‬‬
‫طفل صغري) «شبه عميق» (‪ )deepity‬أي يكون ظاهره عمي ًقا‪،‬‬ ‫(مقتبسا من ٍ‬‫ً‬ ‫وهذا النوع من العبارات هو ما يطلق عليه دينيت‬
‫بديال عن الدين من حيث مصدر املعىن‪ ،‬فلم يقرتح أح ٌد مطل ًقا‬ ‫تفكر فيما يعنيه »‪ .‬فبدايةً‪ ،‬ليس «العلم» ً‬ ‫ولكنه يبدو هراء مبجرد أن ِّ‬
‫ً‬
‫وإمنا أن نبحث عن ذلك يف نسيج املعرفة‬ ‫أن نبحث يف علم األمساك أو طب الكلى عن املعرفة بالكيفية اليت جيب أن نعيش هبا حياتنا‪َّ ،‬‬
‫أن هذا النسيج حيتوي على خيوط مهمة كان‬ ‫يشكل العلم جزءًا منه‪ .‬صحيح َّ‬ ‫البشرية والعقل املنطقي والقيم اإلنسانية بأكملها‪ ،‬والذي ِّ‬
‫ولكن األغلبية العظمى منه اليوم هي احملتوى‬ ‫منشؤها الدين مثل اللغة ورموز الكتاب املقدس وكتابات احلكماء والباحثني واألحبار‪َّ ،‬‬
‫العلمي مبا يشمل مناظرات عن األخالق النابعة من الفلسفة اإلغريقية وفلسفة التنوير‪ ،‬وتصوير احلب والفقدان والوحدة يف أعمال‬
‫شكسبري وشعراء املدرسة الرومانسية وروائيي القرن التاسع عشر وفنانني وُكتَّاب مقاالت عظماء آخرين‪ .‬باحلكم وفق املقاييس العاملية‪،‬‬
‫كثريا من إسهامات الدين يف مسائل احلياة الكربى ليست عميقة وال خالدة‪ ،‬بل سطحية وعتيقة مثل مفهوم «العدالة» الذي‬ ‫أن ً‬ ‫اتَّضح َّ‬
‫يشمل عقاب الكفار أو مفهوم «احلب» الذي يناشد املرأة بإطاعة زوجها‪ .‬وكما رأينا فأي تصور للحياة واملوت يقوم على فكرة وجود‬
‫روح غري مادية مشكوك يف صحته وخطري من الناحية األخالقية‪ ،‬ومبا أنَّه ال وجود للعدالة الكونية واألمل امليتافيزيقي (يف مقابل العدالة‬ ‫ٍ‬
‫بأن على البشر البحث عن معىن أعمق يف‬ ‫االدعاء َّ‬
‫البشرية واألمل الدنيوي)‪ ،‬فال معىن للبحث عنهما دون جدوى‪ .‬ال يوجد ما يؤيد ِّ‬
‫املعتقدات الغيبية‪.‬‬
‫يدا؟ إذا كانت الروحانية تتمثَّل يف امتنان املرء لوجوده‪ ،‬والرهبة من مجال الكون واتساعه‪،‬‬
‫ماذا عن حس «الروحانية» األكثر جتر ً‬
‫فإهنا بالتأكيد جتربة جتعل حياة املرء تستحق أن تُعاش‪ ،‬وترقى إىل ٍ‬
‫أبعاد أمسى مبا يكشف عنه كلٌّ‬ ‫والتواضع أمام حدود الفهم البشري‪َّ ،‬‬
‫أن لكل شيء‬‫بأن الكون شخصي بصورةٍ ما‪ ،‬و َّ‬
‫بأهنا تعين شيئًا أكرب‪ ،‬وهو القناعة َّ‬‫ولكن «الروحانية» تُفهم غالبًا َّ‬
‫من العلم والفلسفة‪َّ .‬‬
‫سببًا‪ ،‬وأنَّنا سنجد املعىن يف خضم احلياة‪ .‬كانت أوبرا وينفري تتحدَّث يف احللقة األخرية من برناجمها البارز نيابةً عن املاليني عندما‬
‫صرحت قائلةً‪« :‬إنَّين أفهم جتليات اهلل وفضله‪ ،‬لذا أعرف أنَّه ال توجد صدف‪ ،‬ال توجد صدف على اإلطالق‪ ،‬فال يوجد سوى نظام‬ ‫َّ‬
‫إهلي»‪.‬‬

‫ذُكِر حس الروحانية هذا يف سكتش كوميدي للفنانة الكوميدية إميي شومر (‪ )Amy Schumer‬بعنوان «الكون»‪ ،‬يبدأ ِّ‬
‫مببسط‬
‫العلوم بيل ناي (‪ )Bill Nye‬واق ًفا أمام ٍ‬
‫خلفية من النجوم واجملرات‪:‬‬

‫ناي‪ :‬الكون؛ حاولت البشرية طيلة قرون فهم هذا االمتداد الشاسع من الطاقة والغاز والغبار‪ ،‬ولكن طفرة مذهلة يف مفهومنا َّ‬
‫عما‬
‫يفعله الكون حدثت يف السنوات األخرية‪.‬‬
‫[تقريب الصورة على سطح األرض‪ ،‬مث على متجر زبادي مثلج تتبادل فيه شابتان أطراف احلديث‪].‬‬
‫فقلت‬
‫كنت أرسل رسالة نصية أثناء القيادة‪ ،‬فانعطفت منعط ًفا خاطئًا أدى يب إىل املرور أمام متجر للفيتامينات‪ُ ،‬‬ ‫الفتاة األولى‪ُ :‬‬
‫علي تناول الكالسيوم!‬ ‫أن الكون خيربين َّ‬
‫بأن َّ‬ ‫لنفسي إنَّه ال بد و َّ‬
‫جتم ٍع فوضوي للمادة‪ ،‬ولكنَّنا اآلن نعرف َّ‬
‫أن الكون هو باألساس قوة ترسل‬ ‫ناي‪ :‬كان العلماء يعتقدون ساب ًقا َّ‬
‫أن الكون عبارة عن ُّ‬
‫إرشادات كونية للنساء يف العشرينيات من عمرهن‪.‬‬
‫[تقريب الصورة على صالة رياضية هبا إميي شومر وصديقتها على دراجات ثابتة‪].‬‬
‫أبدا‪ ،‬ولكن يف تدريب‬ ‫شومر‪ :‬تعرفني أنَّين أضاجع مديري املتزوج منذ حوايل ستة أشهر‪ ،‬مث ُ‬
‫بدأت أخشى أنَّه لن يرتك زوجته ً‬
‫ففكرت َّ‬
‫أن الكون بالتأكيد يقول يل‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫قميصا مكتوبًا عليه ”‪( “Chill‬أي اهدأ)‪،‬‬
‫اليوجا أمس‪ ،‬كانت الفتاة أمامي مرتديةً ً‬
‫«واصلي مضاجعة مديرك املتزوج!»‬

‫وإمنا محقاء‪ ،‬واخلطوة األوىل حنو احلكمة هي إدراك َّ‬


‫أن قوانني‬ ‫ليست «الروحانية» اليت ترى معىن كونيًّا يف أهواء احلظ حكيمةً َّ‬
‫ألن الناس يهتمون بك‪ ،‬وأنت هتتم‬ ‫أن هذا ال يقتضي أن تكون حياتك خالية من املعىن‪َّ ،‬‬ ‫الكون ال هتتم بك‪ ،‬وما عليك إدراكه ثانيًا َّ‬
‫هبم‪ ،‬وهتتم بنفسك‪ ،‬وأنت مسؤول عن احرتام قوانني الكون اليت تُبقيك على قيد احلياة كل ال تُضيع وجودك‪ .‬يهتم بك أحباؤك ولديك‬
‫بأال تفطر قلبيهما‪ .‬ويهتم بك أي شخص ذي‬ ‫بأال ترتكها أرملة‪ ،‬وجتاه والديك َّ‬
‫بأال ترتكهم يتامى‪ ،‬وجتاه زوجتك َّ‬ ‫مسؤولية جتاه أطفالك َّ‬
‫حساسية إنسانية‪ ،‬ال يعين هذا أنَّه يشعر بأملك‪ ،‬فالتعاطف اإلنساين أضعف من أن يتوزع على مليارات الغرباء‪ ،‬ولكنَّه يعين أنَّه يدرك‬
‫مجيعا مسؤولية استخدام قوانني الكون يف حتسني الظروف كي نتمكن‬ ‫أن علينا ً‬ ‫أن وجودك ال يقل أمهية عن وجوده من منظوٍر كوين‪ ،‬و َّ‬ ‫َّ‬
‫مجيعا أن نزدهر‪.‬‬
‫ً‬

‫نح احلُجج جانبًا‪ ،‬هل تقاوم احلاجة إىل اإلميان النزعة اإلنسانية العلمانية؟ يتباهى املؤمنون وامللحدون املتعاونون مع املؤمنني وكارهو‬
‫لنُ ِّ‬
‫منوا يف العامل‬ ‫العلم والتقدُّم بعودة الدين الظاهرية يف كل أحناء العامل‪ ،‬ولكن كما سنرى َّ‬
‫فإن هذا االرتداد عبارة عن وهم‪ ،‬فالدين األسرع ً‬
‫هو الال دين‪.‬‬
‫سهال‪ ،‬فلم تطرح سوى بضع استطالعات رأي على الناس األسئلة نفسها يف أزمنة وأماكن‬ ‫ليس قياس تاريخ االعتقادات الدينية ً‬
‫كثري من الناس من إطالق لفظ‬ ‫يتحسس ٌ‬‫َّ‬ ‫خمتلفة‪ ،‬وحىت عندما تطرح نفس األسئلة‪ ،‬فإن املشاركني فيها يفسروهنا تفسريات خمتلفة‪.‬‬
‫يعرضهم للعدائية والتمييز و‪-‬يف كث ٍري من الدول‬ ‫«ملحد» على أنفسهم‪ ،‬فهو لفظ يساوي يف نظرهم كلمة «غري أخالقي»‪ ،‬وهو ما قد ِّ‬
‫أن معظم الناس ذوي معتقدات الهوتية ضبابية وقد يتوقَّفون عند التصريح باإلحلاد‬ ‫اإلسالمية‪ -‬السجن أو التشويه أو املوت‪ .‬إضافةً إىل َّ‬
‫بأهنم ال يؤمنون بأي ٍ‬
‫أديان أو معتقدات دينية أو يرون الدين غري مهم أو َّأهنم روحانيون ولكنَّهم ليسوا مؤمنني أو َّأهنم‬ ‫يف حني يعرتفون َّ‬
‫يؤمنون بوجود «قوة عليا» ال بوجود إله‪ .‬قد تتوصل استطالعات الرأي املختلفة إىل تقديرات خمتلفة لعدم اإلميان بالدين حسب صياغة‬
‫البدائل األخرى‪.‬‬
‫كبريا‪ ،‬إذ كانت نسبتهم ‪ 0.2‬يف‬
‫أن عددهم مل ي ُكن ً‬ ‫ال ميكننا اجلزم بعدد غري املؤمنني يف العقود والقرون املاضية‪ ،‬ولكن ال بد و َّ‬
‫املئة يف عام ‪ 1900‬حسب أحد التقديرات‪ .‬وف ًقا ملسح أجراه ائتالف الشبكة العاملية املستقلة ومؤسسة جالوب الدولية على مخسني‬
‫بأهنم «ملحدون عن اقتناع»‪،‬‬‫فإن ‪ 13‬يف املئة من سكان العامل يصنِّفون أنفسهم َّ‬ ‫شخص يف سبعة ومخسني دولة عام ‪َّ ،2012‬‬ ‫ٍ‬ ‫ألف‬
‫بعد أن كانت النسبة ‪ 10‬يف املئة يف عام ‪ .2005‬لن يكون من الغريب أن نقول َّ‬
‫إن معدل اإلحلاد العاملي زاد على مدار القرن العشرين‬
‫خبمسمئة ضعف مث تضاعف ثانيةً حىت هذا اليوم يف القرن احلادي والعشرين‪ .‬يصنِّف ‪ 23‬يف املئة من سكان العامل أنفسهم َّ‬
‫بأهنم «غري‬
‫متدينني»‪ ،‬مما يرتك لنا ‪ 59‬يف املئة من سكان العامل يندرجون حتت تصنيف «املتدينني»‪ ،‬بعد أن كانت نسبتهم ما يقرب من ‪ 100‬يف‬
‫املئة منذ ٍ‬
‫قرن‪.‬‬

‫فإن الال دين نتيجة طبيعية للرغد والتعليم‪ ،‬وتؤِّكد در ٌ‬


‫اسات‬ ‫طب ًقا لفكرة قدمية يف العلوم االجتماعية يُطلق عليها «أطروحة العلمنة»‪َّ ،‬‬
‫بوضوح أكرب يف الدول املتقدِّمة يف‬
‫ٍ‬ ‫حديثة َّ‬
‫أن الدول األغىن وذات مستوى التعليم األفضل تكون غالبًا أقل تديـُّنًا‪ .‬يظهر هذا الرتاجع‬
‫غرب أوروبا ودول الكومنولث وشرق آسيا‪ .‬فاملتدينون أقلية يف أسرتاليا وكندا وفرنسا وهونج كونج وأيرلندا واليابان وهولندا والسويد وعدة‬
‫أيضا يف الدول الشيوعية ساب ًقا (وخاصةً‬
‫دول أخرى‪ ،‬وترتاوح نسبة امللحدين فيها من ُربع السكان إىل أكثر من نصفهم‪ .‬تراجعت األديان ً‬
‫الصني)‪ ،‬يف حني مل ترتاجع يف أمريكا الالتينية والعامل اإلسالمي ومنطقة إفريقيا جنوب الصحراء‪.‬‬
‫توضح البيانات أي عالمة على حركة عاملية إلحياء الدين‪ .‬أصبحت إحدى عشرة دولة فقط من بني تس ٍع وثالثني دولة‬ ‫ال ِّ‬
‫خضعت للمسحني اللذين أجرامها املؤشر يف عامي ‪ 2005‬و‪ 2012‬أكثر تدينًا‪ ،‬ومل ت ُكن هذه الزيادة أكثر من ‪ 6‬نقاط مئوية‪ ،‬بينما‬
‫فإن الدول سريعة التأثر الديين‬ ‫ٍ‬
‫بدرجة كبرية‪ .‬وعلى عكس االنطباعات اليت تصلنا من األخبار‪َّ ،‬‬ ‫ست وعشرون دولة أقل تدينًا‬
‫أصبحت ٌ‬
‫مثل بولندا وروسيا والبوسنة وتركيا واهلند ونيجرييا وكينيا أصبحت أقل تدينًا على مدار تلك السنوات السبعة‪ ،‬وكذلك الواليات املتحدة‬
‫جماال‬ ‫(سنتحدث أكثر عن هذا األمر الح ًقا)‪ .‬تراجعت النسبة اإلمجالية ملن يصنِّفون أنفسهم َّ‬
‫بأهنم متدينون مبقدار تسع نقاط‪ ،‬ممَّا أفسح ً‬
‫لزيادة نسبة «امللحدين عن اقتناع» يف أغلبية الدول‪.‬‬
‫استطالع عاملي آخر أجراه مركز بيو لألحباث تقدير االنتماء الديين يف املستقبل (ومل يسأل عن املعتقد)‪ ،‬وجد االستطالع‬
‫ٌ‬ ‫حاول‬
‫أن ُسدس سكان العامل اختاروا «ال دين» إجابةً عن السؤال عن دينهم يف عام ‪ ،2010‬هناك يف العامل ال دينيون أكثر من اهلندوس أو‬ ‫َّ‬
‫يتحول إليها أكرب عدد من الناس‪ ،‬فبحلول عام‬‫البوذيني أو اليهود أو املؤمنني باألديان الشعبية‪ ،‬وهذه هي «الطائفة» اليت يُتوقَّع أن َّ‬
‫‪ 2050‬سيكون عدد من تركوا دينهم أكثر ممَّن دخلوا يف الدين مبقدار ‪ 61.5‬مليون شخص‪.‬‬
‫أن الناس يصبحون أقل تدينًا‪ ،‬فمن أين جاءت فكرة إحياء الدين؟ جاءت ممَّا يطلق عليه‬ ‫توضح َّ‬
‫ومع كل هذه األرقام اليت ِّ‬
‫الكيبيكيون ‪ ،la revanche du berceau‬أي االنتقام باإلجناب‪ ،‬فاملتدينون ينجبون ً‬
‫أطفاال أكثر‪ .‬أجرى علماء السكان يف مركز‬
‫بأن نسبة املسلمني من سكان العامل ستزيد من ‪ 23.2‬يف املئة يف عام ‪ 2010‬لتبلغ ‪ 29.7‬يف املئة يف عام‬ ‫بيو بعض احلسابات وتنبؤوا َّ‬
‫‪ ،2050‬يف حني ستظل نسبة املسيحيني كما هي دون تغيري‪ ،‬وستنخفض نسبة كل الطوائف األخرى ‪-‬ومن بينها غري املنتسبني إىل‬
‫األديان‪ .-‬حىت هذا التوقُّع مربوط بتقديرات اخلصوبة احلالية ورمبا يعترب ً‬
‫باطال إذا مرت إفريقيا (املتدينة اخلصبة) بتحول دميوغرايف‪ ،‬أو إذا‬
‫تواصل تراجع خصوبة املسلمني الذي ناقشناه يف الفصل العاشر‪.‬‬
‫أحد األسئلة املهمة فيما خيص موجة العلمنة هو ما إذا كانت مدفوعة بتغري الزمن (أثر الفرتة) أم شيخوخة السكان (أثر السن)‬
‫أم تعاقب األجيال (أثر الفئة العمرية)‪ .‬ال تتوفر البيانات اليت تشمل عدة عقود واليت حنتاج إليها لإلجابة عن هذا السؤال سوى يف دول‬
‫قليلة‪ ،‬وكلها ناطقة باإلجنليزية‪ .‬اخنفض معدل تدين األسرتاليني والنيوزيلنديني والكنديني مبرور السنوات‪ ،‬وهذا على األرجح نتيجة تغري‬
‫الزمن وليس نتيجة شيخوخة السكان (فمن املتوقَّع أن يزداد الناس تدينًا عندما يشارفون على لقاء خالقهم وليس العكس)‪ .‬مل حيدث‬
‫مجيعا‪ ،‬كان كل جيل أقل تدينًا من سابقه‪ ،‬فأثر الفئة العمرية‬
‫تغري كهذا يف روح العصر يف بريطانيا وال أمريكا‪ ،‬ولكن يف الدول اخلمسة ً‬ ‫ٍُّ‬
‫جوهري‪ .‬قال أكثر من ‪ 80‬يف املئة من اجليل األعظم («جيل آي» ‪ -‬املولود يف الفرتة بني عامي ‪ 1905‬و‪ )1924‬من الربيطانيني‬
‫َّإهنم ينتسبون إىل دي ٍن ما‪ ،‬ومل ي ُقل ذلك من جيل األلفية سوى أقل من ‪ 30‬يف املئة يف نفس ُ‬
‫العمر تقريبًا‪ .‬وقال أكثر من ‪ 70‬يف املئة‬
‫أن اهلل موجود» ولكن مل ي ُقل ذلك من أبناء أحفادهم من جيل األلفية سوى ‪ 40‬يف املئة‬ ‫من اجليل األعظم من األمريكيني َّإهنم يعرفون َّ‬
‫فقط‪.‬‬
‫يزيل اكتشاف تعاقب األجيال يف خمتلف دول األجنلوسفري شوكةً كبرية من ظهر أطروحة العلمنة‪ ،‬وهي الواليات املتحدة الثرية وإن‬
‫ورعا من‬ ‫أن األمريكيني أكثر ً‬‫كانت متدينة‪ .‬الحظ أليكسيس دي توكفيل (‪ )Alexis de Tocqueville‬منذ عام ‪َّ 1840‬‬
‫األوروبيني‪ ،‬وما زال هذا االختالف قائما اليوم‪ ،‬ففي عام ‪ ،2012‬صنَّف ‪ 60‬يف املئة من األمريكيني أنفسهم َّ‬
‫بأهنم متدينون‪ ،‬مقارنةً بـ‬ ‫ً‬
‫‪ 46‬يف املئة من الكنديني‪ ،‬و‪ 37‬يف املئة من الفرنسيني‪ ،‬و‪ 29‬يف املئة من السويديني‪ ،‬وحتتوي الدول الدميقراطية الغربية األخرى من‬
‫ضعفي إىل ‪ 6‬أضعاف نسبة امللحدين املوجودين يف الواليات املتحدة‪.‬‬
‫جيل إىل اجليل الذي يليه‪ .‬خلَّص‬‫أن األمريكيني ذوو مستوى أعلى من اإلميان‪َّ ،‬إال َّأهنم مل يتفادوا مسار العلمنة من ٍ‬‫ولكن رغم َّ‬
‫تقر ٌير أمريكي حديث هذا االجتاه بعنوان‪« :‬اخلروج الكبري‪ :‬ملاذا خيرج األمريكيون من الدين؟ وملاذا لن يعودوا إليه؟» يتَّضح هذا «اخلروج»‬
‫أكثر يف زيادة نسبة غري املنتسبني ألديان من ‪ 5‬يف املئة يف عام ‪ 1972‬إىل ‪ 25‬يف املئة اليوم‪ ،‬مما جيعلهم أكرب فئة «دينية» يف الواليات‬
‫املتحدة متجاوزةً الكاثوليك (‪ 21‬يف املئة) واإلجنيليني البيض (‪ 16‬يف املئة) والتيار الرئيسي من الربوتستانتيني البيض (‪ 13.5‬يف املئة)‪.‬‬
‫أن منزلق «الفئة العمرية» شديد االحندار‪ ،‬فنسبة غري املنتسبني إىل ٍ‬
‫أديان من اجليل الصامت وجيل طفرة املواليد األكرب سنًّا ‪ 13‬يف‬ ‫كما َّ‬
‫أن األجيال األصغر حيتمل أن تظل غري متدينة عندما تكرب يف السن‬ ‫املئة فقط‪ ،‬مقارنةً بـ ‪ 39‬يف املئة من جيل األلفية‪ ،‬واألكثر من ذلك َّ‬
‫وتواجه فناءها‪ .‬واالجتاهات أكثر دراميةً بني أفراد الفئة الفرعية من غري املنتسبني إىل أديان والذين ال ينطبق عليهم «أي مما سبق» َّ‬
‫وإمنا‬
‫أن الدين ال يهمهم (مل يكونوا‬ ‫بأهنم غري مؤمنني‪ ،‬وارتفعت نسبة األمريكيني الذين يقولون َّإهنم ملحدون أو ال أدريون أو َّ‬‫يصرحون َّ‬
‫ِّ‬
‫يزيدون يف اخلمسينيات على األرجح على نقطة مئوية أو اثنتني) إىل ‪ 10.3‬يف املئة يف عام ‪ 2007‬و‪ 15.8‬يف املئة يف عام ‪.2014‬‬
‫تنقسم الفئات العمرية إىل ما يلي‪ 7 :‬يف املئة من اجليل الصامت‪ ،‬و‪ 11‬يف املئة من جيل طفرة املواليد‪ ،‬و‪ 25‬يف املئة من جيل األلفية‪.‬‬
‫املصممة لتجاوز حساسية الناس من االعرتاف باإلحلاد َّ‬
‫أن النسب احلقيقية أعلى من ذلك‪.‬‬ ‫وتشري تقنيات االستطالع الذكية َّ‬
‫ٍ‬
‫الكتشاف آخر خبصوص اخلروج األمريكي الكبري‪ :‬وهو‬ ‫أن الدين يتعاىف يف الواليات املتحدة؟ يرجع هذا‬ ‫ملاذا إذًا يظن املعلِّقون َّ‬
‫يشكلون ‪ 20‬يف املئة من السكان و‪ 12‬يف املئة فقط من‬‫يصوتون يف االنتخابات‪ ،‬فكانوا يف عام ‪ِّ 2012‬‬ ‫أن غري املنتسبني إىل ٍ‬
‫أديان ال ِّ‬ ‫َّ‬
‫تسخر هذا التنظيم يف التشجيع على التصويت وتوجيه األصوات حنو‬ ‫الناخبني‪ .‬إن األديان املنظمة هي بطبيعة احلال منظمة وهي ِّ‬
‫أيضا يف عام ‪ ،2012‬ولكنَّهم َّ‬
‫شكلوا ‪ 26‬يف املئة‬ ‫شكل الربوتستانتيون اإلجنيليون البيض ‪ 20‬يف املئة من السكان البالغني ً‬ ‫مرشَّحيها‪َّ .‬‬
‫أن غري املنتسبني إىل ٍ‬
‫أديان كانوا يدعمون كلينتون يف مقابل ترامب بنسبة‬ ‫من الناخبني‪ ،‬أي أكثر من ضعف نسبة غري املتدينني‪ .‬فرغم َّ‬
‫ثالثة إىل واحد‪َّ ،‬إال َّأهنم مكثوا يف منازهلم يف يوم ‪ 8‬من نوفمرب عام ‪ 2016‬بينما اصطف اإلجنيليون أمام اللجان االنتخابية للتصويت‪.‬‬
‫وهم‬
‫وتنطبق أمنا ٌط مماثلة على احلركات الشعبوية يف أوروبا‪ ،‬فاملثقَّفون رمبا يسيئون فهم هذا النفوذ االنتخايب على أنَّه عودة للدين‪ ،‬وهي ٌ‬
‫تفسريا ثانيًا (إىل جانب اخلصوبة) لسبب كون العلمنة متخفية‪.‬‬‫يقدِّم لنا ً‬
‫جرمت احلكومات الشيوعية يف القرن العشرين الدين أو ثـَنَت عنه‪ ،‬وعندما أصبحت‬ ‫أسباب عدة‪َّ :‬‬
‫ٌ‬ ‫ملاذا يفقد العامل أديانه؟ هناك‬
‫ليربالية‪ ،‬تباطأ مواطنوها يف استعادة امليول الدينية‪ .‬يرجع بعض هذا اجلفاء جزئيًّا إىل قلة الثقة يف كل املؤسسات اليت وصلت إىل ذروهتا‬
‫يف الستينيات‪ ،‬ويرجع بعضه إىل التيار العاملي املتجه حنو القيم التحررية (الفصل اخلامس عشر) مثل حقوق املرأة واحلرية اإلجنابية والتسامح‬
‫مع املثلية اجلنسية‪ .‬إضافةً إىل أنَّه مع زيادة األمان املعيشي للناس بفضل سعة العيش والرعاية الطبية والتأمينات االجتماعية‪ ،‬فإهنم مل‬
‫ولكن‬
‫أمان أقوى تكون أقل تدينًا مع ثبات كل العوامل األخرى‪َّ .‬‬ ‫يعودوا يدعون اهلل أن ينقذهم من اهلالك‪ ،‬فالدول اليت تتمتَّع بشبكات ٍ‬
‫السبب األبرز رمبا يكون هو املنطق نفسه‪ ،‬فعندما يصبح لدى الناس فضول فكري أكثر وثقافة علمية أكرب‪ ،‬يتوقفون عن اإلميان‬
‫أن الدول ذات مستوى‬ ‫شيوعا لرتك األمريكيني دينهم هو «عدم اإلميان بتعاليم الدين»‪ .‬لقد رأينا بالفعل َّ‬
‫باملعجزات‪ ،‬فالسبب األكثر ً‬
‫التعليم األفضل هبا معدالت إميان أقل‪ ،‬ويتبع اإلحلاد أثر فلني‪ ،‬فكلما ازدادت الدول ذكاءً‪ ،‬ابتعدت عن اهلل‪.‬‬
‫أن اجملتمعات حمكوم عليها يف حالة غياب الدين بغياب املعايري االجتماعية وبالعدمية‬ ‫يكذب تاريخ العلمنة وجغرافيتها اخلوف من َّ‬ ‫ِّ‬
‫و«اخلسوف الكلي» لكل القيم‪ ،‬أيًّا ما كانت أسباب هذا اخلوف‪ .‬فالعلمنة تقدمت بالتوازي مع كل التقدم التارخيي املوثق يف اجلزء‬
‫الثاين‪ ،‬وكثري من اجملتمعات غري املتدينة مثل كندا والدمنارك ونيوزيلندا تُعد من بني أمجل أماكن املعيشة يف تاريخ البشر (وهي ذات‬
‫جحيما على األرض‪.‬‬‫ً‬ ‫كثريا من أكثر جمتمعات العامل تدينًا متثِّل‬
‫أن ً‬ ‫مستويات عالية من كل شيء جيد يف احلياة ميكن قياسه)‪ ،‬يف حني َّ‬
‫ولكن مستواها أقل يف السعادة والرفاهة‪ ،‬ولديها‬ ‫االستثنائية األمريكية مثرية لالهتمام‪ ،‬فالواليات املتحدة أكثر تدينًا من أقراهنا األوروبيني َّ‬
‫معدالت أعلى من جرائم القتل واحلبس واإلجهاض واألمراض املنقولة جنسيًّا ووفيات األطفال والسمنة املفرطة واجلودة التعليمية املتوسطة‬
‫اختالال‪ .‬يبدو َّ‬
‫أن السببية‬ ‫ً‬ ‫والوفاة املبكرة‪ .‬ينطبق الكالم نفسه على اخلمسني والية‪ ،‬فكلَّما ازداد تدين الوالية‪ ،‬كانت حياة مواطنيها أكثر‬
‫تسري يف اجتاهات عدة‪ ،‬ولكن من املعقول أن تؤدي العلمنة يف الدول الدميقراطية إىل النزعة اإلنسانية وتُبعد الناس عن الصالة والعقائد‬
‫والسلطة الكنسية وتوجههم حنو السياسات العملية اليت جتعل حاهلم وحال أصدقائهم أفضل‪.‬‬

‫ومهما كانت املبادئ األخالقية الدينية التوحيدية يف الغرب مؤذية‪ ،‬فإن تأثريها يف اإلسالم املعاصر أكثر إثارةً للقلق‪ ،‬فال ميكن ألي ٍ‬
‫نقاش‬
‫عدد من املقاييس املوضوعية أنَّه خارج مسار التقدم الذي يتمتَّع به بقية‬‫عن التقدم العاملي أن يتجاهل العامل اإلسالمي الذي يبدو وفق ٍ‬
‫إن أداء ال دول ذات األغلبية املسلمة ضعيف يف مقاييس الصحة والتعليم واحلرية والسعادة والدميقراطية واالحتفاظ بالثروة‪ ،‬فكل‬ ‫العامل‪َّ .‬‬
‫تتضمن مجاعات إسالمية‪ ،‬وكانت تلك اجلماعات‬ ‫دول ذات أغلبية مسلمة أو كانت َّ‬ ‫احلروب اليت اندلعت يف عام ‪ 2016‬اندلعت يف ٍ‬
‫مسؤولة عن األغلبية العظمى من اهلجمات اإلرهابية‪ .‬وكما رأينا يف الفصل اخلامس عشر َّ‬
‫فإن القيم التحررية كاملساواة بني اجلنسني‬
‫شيوعا يف قلب العامل اإلسالمي من أي منطقة أخرى يف العامل‪ ،‬مبا فيها منطقة إفريقيا جنوب‬ ‫واالستقاللية الذاتية والصوت السياسي أقل ً‬
‫الصحراء‪ ،‬وحقوق اإلنسان يف وض ٍع شديد السوء يف كث ٍري من الدول اإلسالمية اليت تطبِّق احلدود الوحشية (مثل اجلَلد والتعمية وقطع‬
‫األوصال)‪ ،‬ال عقابًا على جرائ ٍم فعلية َّ‬
‫وإمنا على املثلية اجلنسية والسحر وال ِردة والتعبري عن اآلراء الليربالية على مواقع التواصل االجتماعي‪.‬‬
‫مظهرا من مظاهر غياب التقدم هذا ناتج عن املبادئ األخالقية الدينية؟ ال ميكن عزوه بالتأكيد إىل اإلسالم نفسه‪ ،‬فاحلضارة‬ ‫كم ً‬
‫وسالما داخليًّا من الغرب املسيحي‪ .‬بعض التقاليد الرجعية‬
‫ً‬ ‫اإلسالمية مشلت ثورةً علمية مبكرة‪ ،‬وكانت طوال تارخيها أكثر تساحمًا وعامليةً‬
‫املوجودة يف الدول ذات األغلبية املسلمة مثل تشويه األعضاء التناسلية لإلناث و«جرائم الشرف» مثل قتل األخوات والبنات غري‬
‫العفيفات هي يف احلقيقة ممارسات قبَلية إفريقية أو آسيوية قدمية وينسبها ممارسوها خطأً إىل الشريعة اإلسالمية‪ .‬وبعض املشكالت‬
‫موجودة يف دول ديكتاتورية أخرى مصابة بلعنة املوارد‪ ،‬وتفاقمت مشكالت أخرى بفعل التدخالت الغربية اخلرقاء يف الشرق األوسط مبا‬
‫فيها متزيق اإلمرباطورية العثمانية ودعم اجملاهدين املعادين لالحتاد السوفيييت يف أفغانستان وغزو العراق‪.‬‬
‫ولكن ميكن عزو جزء من مقاومة تيار التقدم إىل االعتقاد الديين‪ ،‬فتبدأ املشكلة من حقيقة كون كثري من تعاليم اإلسالم مناهضة‬
‫تعرب عن كراهية الكفار وحقيقة االستشهاد‬ ‫كبريا من اآليات اليت ِّ‬
‫عددا ً‬
‫للنزعة اإلنسانية عندما تُفهم باملعىن احلريف‪ ،‬فالقرآن يتضمن ً‬
‫وقدسية اجلهاد املسلَّح‪ ،‬ويقر جلد شارب اخلمر ورجم الزناة واملثليني جنسيًّا وصلب أعداء اإلسالم واالسرتقاق اجلنسي للوثنيني والزواج‬
‫القسري للفتيات يف عمر التاسعة‪.‬‬
‫أيضا بالطبع‪ .‬ال حاجة للجدال حول أيهما أسوأ من اآلخر‪ ،‬فما يهم‬ ‫كثري من آيات الكتاب املقدس مناهضة للنزعة اإلنسانية ً‬‫ٌ‬
‫هو مدى احلرفية اليت يفهمهما هبا أتباعهما‪ .‬لدى اإلسالم ‪-‬كبقية األديان اإلبراهيمية‪ -‬نسخته اخلاصة من اجلدلية اليهودية واملناظرة‬
‫أيضا نسخته اخلاصة من اليهود ثقافيًّا فقط‬
‫وتؤوهلا لتحسني صورهتا‪ .‬لدى اإلسالم ً‬
‫وتقسم النص إىل أجزاء ِّ‬
‫اليسوعية اليت تستخدم اجملاز ِّ‬
‫تطورا يف العامل اإلسالمي املعاصر‪.‬‬
‫أن هذا النفاق احلميد أقل ً‬ ‫والكاثوليكيني االنتقائيني واملسيحيني باالسم فقط‪ .‬تكمن املشكلة يف َّ‬
‫الحظ عاملا السياسة إميي ألكساندر (‪ )Amy Alexander‬وكريستيان ويلزيل عند فحص البيانات الضخمة اخلاصة باالنتماء‬
‫بأهنم مسلمون يربزون كالطائفة ذات النسبة األكرب حىت اآلن من‬ ‫أن «من يصنِّفون أنفسهم َّ‬ ‫الديين اليت أتاحها مسح القيم العاملية َّ‬
‫بأهنم مسلمون يضعون أنفسهم‬ ‫أن ‪ %92‬ممَّن يصنِّفون أنفسهم َّ‬
‫إدهاشا من ذلك َّ‬‫ً‬ ‫األشخاص شديدي التديُّن‪ ،‬وهي‪ .%82 :‬واألكثر‬
‫أن تصنيف‬ ‫يف أعلى نقطتني على مقياس التدين املكون من عشر نقاط [مقارنةً بأقل من نصف اليهود والكاثوليك واإلجنيليني]‪ .‬يبدو َّ‬
‫نفسك كمسلم ‪-‬بغض النظر عن املذهب‪ -‬مرادف تقريبًا لكونك شديد التديُّن»‪ .‬وجند نتائج مشاهبة يف بعض االستطالعات األخرى‪.‬‬
‫وجد استطالع رأي كبري أجراه مركز بيو لألحباث أنَّه «يف ‪ 32‬دولة من بني ‪ 39‬دولة خاضعة لالستطالع‪ ،‬يقول نصف املسلمني أو‬
‫أكثر أنَّه ليس هناك سوى طريقة واحدة لفهم تعاليم اإلسالم»‪ ،‬و َّ‬
‫أن ما بني ‪ 50‬و‪ 93‬يف املئة يف الدول اليت طُرِح فيها السؤال عن حرفية‬
‫أن «هناك نسبا غامرة من املسلمني يف كث ٍري من الدول يريدون أن تكون‬ ‫القرآن يؤمنون أنَّه «جيب قراءة القرآن حرفيًّا‪ ،‬كلمة بكلمة» و َّ‬
‫الشريعة اإلسالمية التشريع الرمسي للبالد»‪.‬‬
‫كثريا من املسلمني‬
‫أن ً‬ ‫كثريا من تعاليم اإلسالم مناهضة لإلنسانية وحقيقة َّ‬‫أن ً‬‫االرتباط ال يعين السببية‪ ،‬ولكن إذا مجعت بني حقيقة َّ‬
‫أن املسلمني الذين ينفِّذون السياسات غري الليربالية وأفعال العنف‪،‬‬ ‫بأن التعاليم اإلسالمية منزهة عن اخلطأ‪ ،‬إضافةً إىل حقيقة َّ‬
‫يؤمنون َّ‬
‫أن السبب احلقيقي هو النفط أو االستعمارية أو‬ ‫إن املمارسات غري اإلنسانية ال عالقة هلا بالتقوى الدينية و َّ‬
‫جند أنَّه من الصعب أن نقول َّ‬
‫بيانات كي يقتنعوا‪ ،‬ففي مسوح القيم العاملية اليت يُقاس فيها كل متغري‬‫ٍ‬ ‫اإلسالموفوبيا أو االستشراق أو الصهيونية‪ .‬وملن حيتاجون إىل‬
‫حيب علماء االجتماع قياسه (مبا يشمل الدخل والتعليم واالعتماد على عوائد النفط)‪ ،‬يرتبط اإلسالم نفسه ٍ‬
‫جبرعة إضافية من القيم‬
‫األبوية وقيم غري ليربالية أخرى يف خمتلف الدول وبني خمتلف األفراد‪ ،‬وكذلك ارتياد املسجد يف اجملتمعات غري اإلسالمية (هذه القيم‬
‫عامال غري مهم)‪.‬‬
‫متفشية للغاية يف اجملتمعات اإلسالمية ممَّا جيعل ارتياد املسجد فيها ً‬
‫ولكن الغرب بدأ مع التنوير عملية (وما زالت هذه العملية‬
‫يوما ما‪َّ ،‬‬
‫كانت كل هذه األمناط املقلقة تنطبق على العامل املسيحي ً‬
‫مستمرة) فصل الكنيسة عن الدولة وخلق مساحة للمجتمع املدين العلماين وتأسيس مؤسساته على أخالقيات إنسانية عاملية‪ .‬ليست‬
‫(كثري منهم مسلمون)‬
‫تلك العملية حىت يف طريقها إىل التطبيق يف معظم الدول ذات األغلبية املسلمة‪ .‬وضَّح مؤرخون وعلماء اجتماع ٌ‬
‫كيف أعاقت سيطرة الدين اإلسالمي املحكمة على املؤسسات احلكومية واجملتمع املدين يف الدول اإلسالمية تقدمها االقتصادي‬
‫ُ‬
‫والسياسي واالجتماعي‪.‬‬
‫(ولد عام ‪ 1906‬وتويف عام‬ ‫ممَّا يزيد الوضع سوءًا أيديولوجية رجعية أصبحت مؤثرة بفعل كتابات الكاتب املصري سيد قطب ُ‬
‫عضوا يف مجاعة اإلخوان املسلمني وامللهم االساسي إلنشاء تنظيم القاعدة وحركات إسالمية أخرى‪ .‬تتأمل هذه‬ ‫‪ ،)1966‬وكان ً‬
‫األيديولوجية يف أيام اجملد يف عهد الرسول واخللفاء الراشدين واحلضارة العربية الكالسيكية‪ ،‬وترثي حال القرون الالحقة اليت تتسم بالذل‬
‫أخريا أنصار احلداثة العلمانية اخلبيثة‪ .‬يُنظر إىل ذلك التاريخ على أنَّه نتاج‬
‫على أيدي الصليبيني والقبائل اخليالة واملستعمرين األوروبيني و ً‬
‫هجر املمارسات اإلسالمية املتشددة‪ ،‬وال ميكن أن ينتج اخلالص سوى عن طريق إحياء الدول اإلسالمية احلقيقية اليت حتكمها الشريعة‬
‫وتتطهر من التأثريات غري اإلسالمية‪.‬‬
‫أن كثريا من ِّ‬ ‫َّ‬
‫املفكرين الغربيني ‪-‬‬ ‫أن دور املبادئ األخالقية الدينية يف املشكالت اليت تكتنف العامل اإلسالمي حتمي‪ ،‬إال َّ ً‬ ‫رغم َّ‬
‫الذين سيستاؤون لو وجدوا يف جمتمعاهتم القمع وكراهية النساء ورهاب املثلية والعنف السياسي الشائعني يف العامل اإلسالمي‪ ،‬حىت وإن‬
‫أن بعض التربيرات تنطلق‬‫كانت أقل مبئة ِضعف‪ -‬أصبحوا مييلون إىل التربير الغريب عند القيام هبذه املمارسات باسم اإلسالم‪ .‬ال شك َّ‬
‫من رغبة جديرة باإلعجاب يف منع العنصرية ضد املسلمني‪ ،‬وبعضها بقصد تكذيب رواية هدَّامة (ورمبا حتقِّق ذاهتا) تقول َّ‬
‫إن العامل متورط‬
‫يخ طويل من املفكرين الغربيني الذين يلعنون جمتمعهم ويصورون أعداءه بصورةٍ رومانسية (وهي‬ ‫يف صراع حضارات‪ ،‬وينتمي بعضها إىل تار ٍ‬
‫لكن كثريا من التربيرات تنبع من احتفاظ امللحدين وامللحدين املتعاونني مع املؤمنني ِّ‬
‫ومفكري الثقافة‬ ‫متالزمة سنعود إليها بعد قليل)‪ .‬و َّ ً‬
‫اطف رقيقة جتاه الدين‪ ،‬وعزوفهم عن الدعم الكامل للنزعة اإلنسانية التنويرية‪.‬‬
‫الثانية بعو َ‬
‫ليس انتقاد خصائص املعتقد اإلسالمي املعاصر املناهضة لإلنسانية إسالموفوبيا وال صراع حضارات على اإلطالق‪ ،‬فاألغلبية‬
‫الساحقة من ضحايا القمع والعنف اإلسالمي مسلمون آخرون‪ .‬اإلسالم ليس عرقًا‪ ،‬وكما قالت الناشطة املسلمة ساب ًقا سارة حيدر‪:‬‬
‫«األديان جمرد أفكار وليس هلا حقوق»‪ .‬ليس انتقاد أفكار اإلسالم أكثر تعصبًا من انتقاد أفكار النيو ليربالية أو منصة احلزب اجلمهوري‪.‬‬
‫هل ميكن أن يتمتَّع العامل اإلسالمي بالتنوير؟ هل ميكن أن يوجد إسالم إصالحي أو إسالم ليربايل أو إسالم إنساين أو جممع‬
‫أعذارا لعدم ليربالية اإلسالم‬ ‫ِّ‬
‫كثري من املفكرين حميب الدين على أن جيدوا ً‬ ‫مسكوين إسالمي وأن حيدث فصل بني املسجد والدولة؟ يصر ٌ‬
‫يف أنَّه من غري املنطقي توقُّع إحراز املسلمني أي تقدُّم يتجاوز اإلسالم‪ .‬ويف حني قد يتمتَّع الغرب بالسالم والرخاء والتعليم والسعادة اليت‬
‫يتمسكوا ٍ‬
‫بنظام قائم‬ ‫أبدا هذا االنغماس السطحي يف اللذات‪ ،‬ومن املفهوم أن َّ‬ ‫تتسم هبم جمتمعات ما بعد التنوير‪ ،‬فلن يقبل املسلمون ً‬
‫على تقاليد ومعتقدات من العصور الوسطى إىل األبد‪.‬‬
‫كزا للعلوم‬
‫ولكن تاريخ اإلسالم واحلركات الوليدة فيه يكذبان هذا االستعالء‪ ،‬كانت احلضارة العربية الكالسيكية كما ذكرت مر ً‬ ‫َّ‬
‫والفلسفة العلمانية‪ .‬وثَّق أمارتيا سن كيف طبَّق اإلمرباطور املغويل أكرب األول يف القرن السادس عشر ً‬
‫نظاما اجتماعيًّا ليرباليًّا متعدِّد‬
‫األديان واملعتقدات (يشمل امللحدين والال أدريني) يف اهلند حتت حكم اإلسالم يف ٍ‬
‫وقت كانت فيه حماكم التفتيش على أشدِّها يف أوروبا‬
‫وأُح ِرق جوردانو برونو حيًّا عقابًا على اهلرطقة‪ .‬تعمل اآلن قوى احلداثة يف أجزاء كثرية من العامل اإلسالمي‪ ،‬فقد قطعت كلٌّ من تونس‬
‫طويال حنو الدميقراطية الليربالية (الفصل الرابع عشر)‪ ،‬واملواقف جتاه النساء واألقليات يف حتسن يف‬
‫وبنجالديش وماليزيا وإندونيسيا شوطًا ً‬
‫ٍ‬
‫ملحوظ أكثر بني النساء والشباب واملتعلِّمني‪ .‬لن‬ ‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫تتحسن ٍ‬
‫ببطء ولكن‬ ‫كث ٍري من الدول اإلسالمية (الفصل اخلامس عشر)‪ ،‬وهي َّ‬
‫تتجاوز القوى التحررية اليت حررت الغرب ‪-‬مثل سهولة التواصل والتعليم واحلراك وتقدم النساء‪ -‬العامل اإلسالمي‪َّ ،‬أما املمشى املتحرك‬
‫املتمثل يف إحالل جيل حمل آخر فقد يتجاوز يف سرعته املشاة املتثاقلني عليه‪.‬‬
‫املفكرين وال ُكتَّاب والناشطني املسلمني منذ ٍ‬
‫وقت بعيد من أجل إحداث ثورة إنسانية يف‬ ‫عدد من ِّ‬ ‫أيضا‪ ،‬إذ يضغط ٌ‬ ‫األفكار مهمة ً‬
‫اإلسالم‪ ،‬ومن بينهم سعاد عدنان (املؤسسة املشاركة للمركز العريب لألحباث العلمية والدراسات اإلنسانية يف املغرب) ومصطفى أكيول‬
‫(مؤلِّف كتاب «اإلسالم دون تطرف» ”‪ )“Islam Without Extremes‬وفيصل سعيد املطر (مؤسس احلركة اإلنسانية‬
‫ُ‬
‫العلمانية العاملية) وسارة حيدر (املؤسسة املشاركة ملنظمة املسلمني السابقني يف أمريكا الشمالية) وشادي محيد (مؤلِّف كتاب «االستثنائية‬
‫اإلسالمية» ”‪ )“Islamic Exceptionalism‬وبرويز هودبوي (مؤلِّف كتاب «اإلسالم والعلم‪ :‬التشدُّد الديني ومعركة‬
‫العقالنية» ”‪ ،)“Islam and Science: Religious Orthodoxy and the Battle for Rationality‬وأمري‬
‫أمحد نصر (مؤلِّف كتاب «إسالمي» ”‪ )“My Isl@m‬وجوالالي إمساعيل (مؤسسة منظمة الفتيات الواعيات ‪“Aware‬‬
‫”‪ Girls‬يف باكستان)‪ ،‬وشرياز ماهر (مؤلف كتاب «الجهادية السلفية» ”‪“Salafi-Jihadism‬الذي اقتبسنا منه يف الفصل‬
‫األول)‪ ،‬وعمر حممود‪ ،‬وإرشاد ماجني (مؤلفة كتاب «مشكلة اإلسالم» ”‪ ،)“The Trouble with Islam‬ومرمي منازي‬
‫(املتحدثة باسم منظمة قانون واحد للجميع ”‪ ،)“One Law for All‬وتسليمة نسرين (مؤلفة كتاب «طفولتي كفتاة» ‪“My‬‬
‫”‪ ،)Girlhood‬وإسراء نعماين (مؤلفة كتاب «الوقوف وحدي في مكة» ”‪ ،)“Standing Alone in Mecca‬وماجد‬
‫نواز (املؤلف املشارك مع سام هاريس يف كتاب «اإلسالم ومستقبل التسامح» ‪“Islam and the Future of‬‬
‫”‪ ،)Tolerance‬وراحيل رضا (مؤلفة كتاب «جهادهم وليس جهادي» ”‪ ،)“Their Jihad, Not My Jihad‬وعلي‬
‫رضوي (مؤلف كتاب «المسلم الملحد» ”‪ ،“The Atheist Muslim‬ووفاء سلطان (مؤلفة كتاب «إلهٌ يكره» ‪“A God‬‬
‫”‪ ،Who Hates‬وحممد سيد (رئيس منظمة املسلمني السابقني يف أمريكا الشمالية)‪ ،‬وأشهرهم سلمان رشدي وآيان هريسي علي‬
‫ومالال يوسفزاي‪.‬‬
‫ولكن غري املسلمني هلم دور عليهم أن يؤدونه‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫أن أي تنوير إسالمي جديد جيب أن يكون بقيادة املسلمني‪َّ ،‬‬ ‫من الواضح َّ‬
‫الشب كة العاملية للتأثري الفكري متداخلة وملتحمة‪ ،‬وبالنظر إىل مكانة الغرب وقوته (حىت لدى من يكرهونه)‪ ،‬فيمكن للقيم واألفكار‬
‫كتاب من تأليف نعوم تشومسكي)‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫الغربية أن تسيل وتتدفق وتنهمر كالشالل بطرق مفاجئة (فكان لدى أسامة بن الدن على سبيل املثال ٌ‬
‫كتب مثل «ميثاق الشرف» ”‪ “The Honor Code‬للفيلسوف كوامي أنتوين أبيا‬ ‫يشري تاريخ التقدم األخالقي املذكور يف ٍ‬
‫ٍ‬
‫ممارسة رجعية تقوم هبا ثقافةٌ أخرى ال تستدعي‬ ‫أن الوضوح األخالقي يف ٍ‬
‫ثقافة ما حول‬ ‫)‪ ،(Kwame Anthony Appiah‬إىل َّ‬
‫دائما رد فعل ساخطًا ولكنَّه قد يُشعِر املتباطئني باخلزي حىت يقوموا باإلصالح املتأخر (تشمل األمثلة املاضية على ذلك العبودية واملبارزة‬
‫ً‬
‫وربط القدم والفصل العنصري‪ ،‬ورمبا تشمل األمثلة املستقبلية اليت تستهدف الواليات املتحدة عقوبة اإلعدام واإلفراط يف احلبس)‪ .‬قد‬
‫ٍ‬
‫بصمود وال تنغمس يف الدين عندما يصطدم مع القيم اإلنسانية منارةً للطالب واملفكرين‬ ‫متثِّل الثقافة الفكرية اليت تدافع عن قيم التنوير‬
‫وأصحاب العقول املنفتحة يف بقية أحناء العامل‪.‬‬

‫الحظت تناقضه الصارخ مع منظومتني عقائديتني أخريني‪ .‬ألقينا للتو نظرًة على املبادئ األخالقية‬ ‫ُ‬ ‫بعد عرض منطق النزعة اإلنسانية‪،‬‬
‫حترك السلطوية الناهضة والقومية والشعبوية والتفكري الرجعي‪،‬‬‫الدينية‪ ،‬وسأجته اآلن حنو عدو النزعة اإلنسانية اآلخر‪ ،‬وهو األيديولوجية اليت ِّ‬
‫بل وحىت الفاشية‪ .‬تدَّعي هذه األيديولوجية ‪-‬كما تفعل املبادئ األخالقية الدينية‪ -‬امتالك أسس فكرية والصلة الوثيقة بالطبيعة البشرية‬
‫االدعاءات الثالثة خاطئة‪ .‬لنبدأ ببعض التاريخ الفكري‪.‬‬‫فإن كل هذه ِّ‬ ‫واحلتمية التارخيية‪ ،‬وكما سنرى َّ‬
‫مفكًرا ميثِّل نقيض النزعة اإلنسانية (يف كل حجة يف كتابه تقريبًا)‪ ،‬لن جند من هو أفضل من فقيه اللغة‬ ‫إذا أردنا أن خنص بالذكر ِّ‬
‫جزء سابق من هذا الفصل عن قلقي بشأن كيف ميكن‬ ‫األملاين فريدريك نيتشه (ولد عام ‪ 1844‬وتويف عام ‪ .)1900‬أعربت يف ٍ‬
‫ُ‬
‫قاس أناين مصاب جبنون العظمة ومعتل اجتماعيًّا‪َّ ،‬أما نيتشه فكان يقول إنَّه من اجليد‬‫شخص ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫للمبادئ األخالقية اإلنسانية التعامل مع‬
‫ولكن هذا غري مهم‪ ،‬فحياة مجع غفري من البشر‬ ‫أن يكون املرء قاسيًا أنانيًّا مصابًا جبنون العظمة ًّ‬
‫ومعتال اجتماعيًّا‪ .‬ليس للجميع بالطبع‪َّ ،‬‬
‫(«الفاشلني واحلمقى» و«األقزام الثرثارين» و«خنافس الربغوث» حسب وصفه) ال قيمة هلا‪ ،‬فاألمر ذو القيمة يف احلياة هو أن يتجاوز‬
‫السوبرمان (‪ ،Übermensch‬واليت تعين حرفيًّا «اإلنسان األعلى») اخلري والشر وميتلك رغبةً يف السلطة وحيقِّق ً‬
‫جمدا بطوليًّا‪ .‬وال ميكن‬
‫ولكن مناقب العظمة ال تشمل شفاء املرضى‬ ‫حتقيق أقصى إمكانات البشرية وانتقاهلا إىل مستوى أعلى من الوجود سوى هبذه البطولة‪َّ ،‬‬
‫وإمنا األعمال الفنية البارعة والغزو العسكري‪ .‬فاحلضارة الغربية يف احندا ٍر ثابت منذ أوج عصر‬ ‫وال إطعام اجلوعى وال صنع السالم‪َّ ،‬‬
‫اإلغريق اهلومريني واحملاربني اآلريني والفايكينج مرتديي اخلوذ وغريهم من الرجال الشجعان‪ ،‬وأفسدهتا على اخلصوص «أخالق العبيد»‬
‫املسيحية‪ ،‬وعبادة املنط ق يف ظل حركة التنوير‪ ،‬واحلركات الليربالية يف القرن التاسع عشر اليت سعت وراء اإلصالح االجتماعي والرخاء‬
‫ليوجهوا للحضارة احلديثة‬
‫املشرتك‪ ،‬و َّأدت هذه العاطفية املتخاذلة إىل االضمحالل والتدهور‪ .‬على من رأوا احلقيقة أن «يتفلسفوا باملطرقة» ِّ‬
‫إليك بعض‬
‫أحرف فكرة الـ «سوبرمان»‪َ ،‬‬ ‫نظام جديد‪ .‬وحىت ال تظن أنين ِّ‬‫الضربة القاضية اليت ستجلب الكارثة املخلِّصة اليت سينشأ منها ٌ‬
‫االقتباسات‪:‬‬

‫أبغض ابتذال الرجل عندما يقول‪« :‬ما يناسب شخص ما يناسب غريه» و«ال تُعامل اآلخرين مبا ال حتب أن يعاملوك»‪..‬هذه‬
‫ُ‬
‫قدرا ما من التساوي يف القيمة بني أفعايل وأفعالك‪.‬‬ ‫الفرضية وضيعة إىل أقصى حد‪ ،‬فهي تُسلِّم َّ‬
‫بأن هناك ً‬

‫شرا وأكثر امتالءً باملعاناة‬


‫يوما ما أكثر ًّ‬
‫ُمين نفسي باألمل يف أن تصبح احلياة ً‬ ‫ال أشري إىل شر الوجود وأمله بإصبع اللوم‪َّ ،‬‬
‫وإمنا أ ِّ‬
‫من ذي قبل‪.‬‬

‫تتدرب النساء على ترفيه احملاربني‪ ،‬وكل ما عدا ذلك محاقة‪..‬هل أنت ذاهب إىل‬
‫يتدرب الرجال على احلرب وأن َّ‬
‫جيب أن َّ‬
‫تنس سوطَك‪.‬‬
‫امرأة؟ ال َ‬

‫حباجة إىل عقيدةٍ قوية مبا يكفي لتكون ً‬


‫عامال للتكاثر‪،‬‬ ‫حباجة إىل أن يعلن الرجال األعلى احلرب على اجلموع‪..‬فنحن ٍ‬ ‫حنن ٍ‬
‫وتدمرهم‪ .‬تُفين اهلراء الذي يُطلق عليه «األخالق»‪..‬تُفين األعراق املضمحلة‪..‬تسيطر‬
‫وتشل املنهكني من العامل ِّ‬
‫تقوي األقوياء َّ‬
‫ِّ‬
‫نوع أرقى‪.‬‬
‫على األرض كوسيلة إلنتاج ٍ‬

‫إن تلك الفصيلة األرقى من األحياء اليت ستمسك بزمام أعظم املهام‪ ،‬الساللة األرقى من البشرية‪ ،‬مبا يشمل إبادة كل ما‬
‫َّ‬
‫هو متدهور وطفيلي دون رمحة‪ ،‬ستتيح ثانيةً ً‬
‫فائضا من احلياة على األرض تنشأ منه احلالة الديونيسية ثانيةً‪.‬‬

‫كأهنا نابعة من مر ٍ‬
‫اهق عدواين يستمع إىل موسيقى ميتال املوت أكثر من الالزم‪،‬‬ ‫قد تبدو هذه اخلطرفة املنادية باإلبادة اجلماعية و َّ‬
‫أو حماكاة هتكمية ألحد أشرار أفالم جيمس بوند مثل دكتور إيفل (‪ )Dr. Evil‬يف سلسلة أفالم ‪َّ ،Austin Powers‬‬
‫ولكن نيتشه‬
‫تأثريا‪ ،‬واستمر تأثريه حىت القرن احلادي والعشرين‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫يف احلقيقة من بني أكثر مفكري القرن العشرين ً‬
‫أن نيتشه ساعد يف إهلام النزعة العسكرية الرومانسية اليت َّأدت إىل احلرب العاملية األوىل والفاشية اليت َّأدت إىل احلرب‬ ‫من اجللي َّ‬
‫أن نيتشه نفسه مل ي ُكن أملانيًّا قوميًّا أو معاديًا للسامية‪َّ ،‬إال أنَّه من غري املصادفة أن تربز هذه االقتباسات ِّ‬
‫لتعرب‬ ‫العاملية الثانية‪ ،‬ورغم َّ‬
‫حج هتلر يف عامه األول كمستشار إىل أرشيف نيتشه‪،‬‬ ‫يقة مثالية عن النازية‪ ،‬فأصبح نيتشه بعد موته فيلسوف البالط النازي (إذ َّ‬ ‫بطر ٍ‬
‫شجعت دون كلل على هذه الصلة بينه وبني‬ ‫الذي كانت ترأسه إليزابيث فورسرت نيتشه‪ ،‬أخت الفيلسوف ومنفِّذة وصيته األدبية‪ ،‬واليت َّ‬
‫أن‪« :‬اللحظة اليت ارتبطت فيها النسبية‬ ‫النازية)‪ .‬وصلته بالفاشية اإليطالية أكثر مباشرةً‪ :‬فقد كتب بينيتو موسوليين يف عام ‪َّ 1921‬‬
‫بنيتشه وبالرغبة يف السلطة اليت حتدَّث عنها‪ ،‬كانت اللحظة اليت أصبحت فيها الفاشية اإليطالية ‪-‬وما زالت‪ -‬أبدع خملوق من صنع رغبة‬
‫املؤرخة‬
‫ولكن ِّ‬‫الفرد واألمة يف السلطة»‪َّ .‬أما صلته بالبلشفية والستالينية ‪-‬من السوبرمان إىل الرجل السوفيييت اجلديد‪ -‬فهي أقل شهرةً َّ‬
‫جيدا‪ .‬والروابط بني أفكار نيتشه واحلركات اليت َّأدت إىل‬‫برنيس جالتسر روزنتال (‪ )Bernice Glatzer Rosenthal‬وثَّقتها ً‬
‫ماليني الوفيات يف القرن العشرين واضحة بالقدر الكايف‪ ،‬وتتَّضح يف متجيد العنف والقوة‪ ،‬واحلماس هلدم مؤسسات الدميقراطية الليربالية‪،‬‬
‫متحجرة القلب جتاه حياة البشر‪.‬‬‫ِّ‬ ‫واحتقار أغلب البشرية‪ ،‬والال مباالة‬
‫أن حبر الدماء الذي سال سيكون كافيًا لوصم أفكار نيتشه بني ِّ‬
‫املفكرين والفنانني‪ ،‬لكنَّه حيظى بإعجاب على نطاق‬ ‫قد تظن َّ‬
‫بشكل ال يصدق‪ .‬يقول رسم جرافييت رائج يف اجلامعات وعلى أقمصة الشباب ”‪( “Nietzsche is pietzsche‬ويُقصد‬ ‫ٍ‬ ‫واسع‬
‫ألن تعاليمه مقنعة بصورٍة خاصة‪ ،‬وكما أشار برتراند راسل يف كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية»‬
‫أن نيتشه رائع!)‪ .‬ال يرجع هذا َّ‬
‫بذلك َّ‬
‫احة يف ٍ‬
‫مجلة واحدة‪ :‬أمتىن لو عشت يف أثينا‬ ‫ببساطة وصر ٍ‬
‫ٍ‬ ‫)‪ (A History of Western Philosophy‬فإنه «ميكن تلخيصه‬
‫يف زمن بريكليس أو فلورنسا يف عصر أسرة ميديتشي»‪ .‬تفشل األفكار أمام أول اختبار لالتساق األخالقي‪ ،‬وهو قابلية تعميمها على‬
‫الشخص الذي يطرحها‪ ،‬فإذا كنت أستطيع السفر عرب الزمن‪ ،‬فإنين كنت سأواجهه كما يلي‪« :‬أنا سوبرمان‪ ،‬قوي‪ ،‬بارد‪ ،‬فظيع‪ ،‬دون‬
‫بك أنت‪ ،‬أيها القصري‪ ،‬ورمبا‬
‫جمدا بطوليًّا عرب إبادة بعض األقزام الثرثارين‪ ،‬وسأبدأ َ‬
‫مشاعر ودون ضمري‪ ،‬وحسب اقرتاحك‪ ،‬فأنا سأحقِّق ً‬
‫أيضا‪َّ ،‬إال إذا استطعت أن جتد سببًا مينعين من ذلك»‪.‬‬
‫قليال بأختك النازية ً‬
‫أعبث ً‬
‫كثريا من املعجبني؟ رمبا من غري املفاجئ أن تلقى املنظومة األخالقية‬
‫إ ًذا إذا كانت أفكار نيتشه منفِّرة وغري متسقة‪ ،‬فلماذا جند هلا ً‬
‫جديرا باحلياة إعجابًا من كث ٍري من الفنانني‪ ،‬مثل‪ :‬ويسنت هيو أودن ()‪،W. H. Auden‬‬ ‫اليت يكون فيها الفنان (إىل جانب احملارب) ً‬
‫وألبري كامو )‪ ،(Albert Camus‬وأندريه جيد )‪ ،(Andrè Gide‬وديفيد هربرت لورنس ()‪ ،D. H. Lawrence‬وجاك‬
‫لندن )‪ ،(Jack London‬وتوماس مان )‪ ،(Thomas Mann‬ويوكيو ميشيما ()‪ ،Yukio Mishima‬ويوجني أونيل‬
‫)‪ ،(Eugene O'Neill‬وويليام باتلر ييتس )‪ ،(William Butler Yeats‬وويندام لويس )‪،(Whyndham Lewis‬‬
‫وجورج برنارد شو (‪( )George Bernard Shaw‬مع بعض التحفظات) مؤلِّف مسرحية «اإلنسان والسوبرمان» ‪(Man‬‬
‫(أما بيلهام جرينفيل وودهاوس ‪ P. G. Wodehouse‬فعلى العكس‪ ،‬جيعل جيفز ‪-‬أحد أبطال قصصه‪-‬‬ ‫)‪َّ .and Superman‬‬
‫كثريا من‬
‫أيضا ً‬
‫متاما»)‪ .‬تعجب القيم النيتشوية ً‬
‫املعجب بسبينوزا يقول لبرييت ووسرت‪« :‬لن تستمتع بقراءة نيتشه يا سيدي‪ ،‬فهو مضطرب ً‬
‫ألن «األدب العظيم» هو «الغرض‬‫(تذكر ليفيس وهو يسخر من خماوف سنو بشأن األمراض والفقر العاملي َّ‬ ‫ِّ‬
‫مفكري الثقافة الثانية َّ‬
‫النهائي الذي يتبعه اإلنسان») والنقاد االجتماعيني الذين حياولون كتم ضحكاهتم على «طبقة السذج» (حسب وصف هنري لويس‬
‫منكن ‪ H. L. Mencken‬امللقَّب بـ «نيتشه األمريكي» للعامة)‪ .‬وكان احتفاء آين راند باألنانية وتأليهها للرأمسايل البطويل وازدراؤها‬
‫للرفاهة العامة ‪-‬رغم حماولتها إخفاء هذه األمور الح ًقا‪ -‬يتَّضح فيه أثر نيتشه جليًّا‪.‬‬
‫كان نيتشه كما أوضح موسوليين مصدر إهلام ألتباع النسبية يف كل مكان‪ ،‬كان نيتشه يزدري االلتزام جتاه البحث عن احلقيقة يف‬
‫أن «احلقيقة نوعٌ من األخطاء ال يستطيع أحد أنواع‬ ‫فأكد أنَّه «ال توجد حقائق‪َّ ،‬إمنا توجد تفسريات» و َّ‬ ‫أوساط العلماء ِّ‬
‫ومفكري التنوير‪َّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫وألسباب‬ ‫أن هاتني العبارتني صحيحتان)‪ .‬هلذا السبب‬ ‫الكائنات احلية أن حييا بدونه» (أعجزه هذا بالطبع عن شرح ملاذا علينا أن نصدق َّ‬
‫أخرى‪ ،‬كان أحد مصادر التأثري الرئيسية على مارتن هيدجر وجان بول سارتر وجاك دريدا (‪ )Jacques Derrida‬وميشيل فوكو‪،‬‬
‫كما كان األب الروحي لكل احلركات الفكرية يف القرن العشرين اليت كانت معادية للعلم واملوضوعية مبا فيها الوجودية والنظرية النقدية‬
‫وما بعد البنيوية والتفكيكية وما بعد احلداثة‪.‬‬
‫ممَّا ُحيسب لنيتشه أنَّه كان صاحب أسلوب بارع رشيق‪ ،‬وقد يعذر املرء إعجاب الفنانني و ِّ‬
‫املفكرين لو كان أساسه تقدير محاسته‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫ولكن طريقة التفكري هذه قد راقت لكثري منهم لألسف‪ .‬حتدَّث‬ ‫ٍ‬
‫األدبية والقراءة الساخرة لتصويره لطريقة تفكري يرفضوهنا هم أنفسهم‪َّ ،‬‬
‫املؤرخ الفكري‬ ‫ٍ‬
‫حبماس بالغ عن الدكتاتوريني الشموليني‪ ،‬وهي متالزمة أطلق عليها ِّ‬ ‫عدد مذهل من ِّ‬
‫املفكرين والفنانني يف القرن العشرين‬ ‫ٌ‬
‫مارك ليال ”‪ “Tyrannophilia‬أي «حب الطاغية»‪ .‬كان بعض حميب الطاغية ماركسيني يتبعون املبدأ العريق الذي يقول «قد‬
‫كثريا منهم كانوا نيتشويني‪ ،‬وكان أشهرهم مارتن هيدجر وفيلسوف القانون كارل مشيت ( ‪Carl‬‬ ‫لكن ً‬‫وغدا‪ ،‬ولكنَّه واح ٌد منَّا»‪ ،‬و َّ‬
‫يكون ً‬
‫‪ )Schmitt‬اللذان كانا معاونني متحمسني للنازيني وهلتلر‪ .‬فلم ي ُكن هناك مستب ٌد يف القرن العشرين ينقصه أنصار من أهل الفكر‪،‬‬
‫مبن فيهم موسوليين (عزرا باوند وبرنارد شو وويليام ييتس وويندام لويس) ولينني (برنارد شو وهربرت جورج ويلز) وستالني (برنارد شو‬
‫وسارتر وبياتريس ويب وسيدين ويب وبرتولد برخيت ودو بويز وبابلو بيكاسو وليليان هيلمان) وماو (سارتر وفوكو ودو بويز ولوي ألتوسري‬
‫وآالن باديو) وآية اهلل اخلميين (فوكو) وكاسرتو (سارتر وجراهام جرين وجونرت جراس ونورمان ميلر وهارولد بينرت‪ ،‬وكما رأينا يف الفصل‬
‫أوقات خمتلفة مبديح هو تشي منه ومعمر القذايف وصدام حسني وكيم إل سونج‬‫املفكرون الغربيون يف ٍ‬
‫وتغىن ِّ‬
‫العشرين‪ ،‬سوزان سونتاج)‪َّ .‬‬
‫وبول بوت وجوليوس نرييري وسلوبودان ميلوشيفيتش وهوجو شافيز‪.‬‬
‫املفكرين هم أول من ِّ‬
‫يفكك ذرائع السلطة‪ ،‬و َّ‬
‫أن‬ ‫أن ِّ‬ ‫املفكرون والفنانون من بني الناس لدكتاتوريني قتلة؟ يظن املرء َّ‬‫ملاذا يتملَّق ِّ‬
‫كثريا منهم فعلوا ذلك حقًّا)‪ .‬من ضمن التفسريات التفسري الذي‬ ‫أن ً‬ ‫يوسع مدى التعاطف اإلنساين (وحلسن احلظ َّ‬ ‫الفنانني هم أول من ِّ‬
‫قدَّمه االقتصادي توماس سويل (‪ )Thomas Sowell‬وعامل االجتماع بول هوالندر (‪ )Paul Hollander‬وهو النرجسية‬
‫املهنية‪ ،‬فقد يشعر ِّ‬
‫املفكرون والفنانون بعدم التقدير يف الدميقراطيات الليربالية اليت تسمح ملواطنيها بتلبية احتياجاهتم بأنفسهم يف األسواق‬
‫دورا يشعرون أنَّه مناسب‬ ‫ِّ‬
‫وخيصصون للمفكرين ً‬ ‫واملنظمات املدنية‪َّ ،‬أما الدكتاتوريون فيطبِّقون نظريات من أعلى السلم إىل أسفله‪ِّ ،‬‬
‫يفضل الرداءة على الفن الرفيع والثقافة‪ ،‬واإلعجاب‬
‫أيضا باالزدراء النيتشوي لرجل الشارع الذي ِّ‬ ‫مدفوع ً‬
‫ٌ‬ ‫ولكن حب الطاغية‬
‫لقيمتهم‪َّ .‬‬
‫بالسوبرمان الذي يتجاوز تسويات الدميقراطية املتخبطة ويطبِّق على حن ٍو بطويل رؤيةً للمجتمع اجليد‪.‬‬

‫متجد السوبرمان وحده وليس أي «جمموع»‪َّ ،‬إال أنَّه يسهل تأويل «اإلنسان املنفرد األقوى» بأنَّه قبيلة‬ ‫أن بطولة نيتشه الرومانسية ِّ‬ ‫رغم َّ‬
‫مجيعا‬
‫أشكال أخرى من القومية الرومانسية هذا التعديل على أفكار نيتشه وتبنَّتها‪ ،‬وأصبحوا ً‬ ‫أو عرق أو أمة‪ .‬وأجرت النازية والفاشية و ٌ‬
‫أبطال الدراما السياسية املتواصلة حىت يومنا احلاضر‪.‬‬
‫لكن اجملانني من أصحاب‬ ‫كنت أعتقد َّ‬
‫أن «الرتامبية» متثِّل «اهلَُو»‪ ،‬هنوض القبَلية والسلطوية من األعماق املظلمة للنفس البشرية‪ ،‬و َّ‬ ‫ُ‬
‫مراكز السلطة يستمدون جنوهنم من كتابات أكادميية تعود إىل بضع سنوات فقط‪ ،‬وال حتتوي عبارة «اجلذور الفكرية للرتامبية» على‬
‫شكلوا جمموعة امسها «باحثون وُكتَّاب من أجل‬ ‫شخصا َّ‬
‫ً‬ ‫تناقضات لفظية‪ ،‬إذ حصل ترامب يف انتخابات عام ‪ 2016‬على تأييد ‪136‬‬
‫بيان بعنوان «بيان االحتاد» )‪ ،(Statement of Unity‬بعضهم على صلة مبعهد كلريمونت‪ ،‬وهو مركز فكري حبثي‬ ‫أمريكا» يف ٍ‬
‫بأهنما قارئان جيدان ويعتربان نفسيهما‬ ‫أُطلق عليه «املوطن األكادميي للرتامبية»‪ .‬وكان من بني مستشاري ترامب املقربني رجالن معروفان َّ‬
‫ومها ستيفن بانون ومايكل آنتون‪ .‬على من يريد أن يتجاوز شخصية املرء عند حماولة فهم الشعبوية السلطوية أن يدرك‬ ‫ِّ‬
‫مفكَرين‪ُ ،‬‬
‫األيديولوجيتني اللتني حتركاهنا‪ ،‬فكلتامها معادية بشر ٍ‬
‫اسة للنزعة اإلنسانية التنويرية‪ ،‬وكلتامها متأثرتان بنيتشه بصوٍر خمتلفة‪ ،‬إحداها فاشي‬
‫حتفظًا مين» َّ‬
‫وإمنا باملعىن األصلي‪.‬‬ ‫يعرب عن «أي شخص أكثر ُّ‬ ‫واآلخر رجعي‪ ،‬ليس باملعىن اليساري الشائع الذي ِّ‬
‫بأن الفرد أسطورة‬ ‫نشأ مصطلح الفاشية‪ ،‬املشتق من الكلمة اإليطالية اليت تعين «جمموعة» أو «حزمة»‪ ،‬من التصور الرومانسي َّ‬
‫وأنَّه ال ميكن فصل الناس عن ثقافتهم وساللتهم وموطنهم‪ .‬أعادت األحزاب النازية اجلديدة يف أوروبا وبانون واحلركة اليمينية املتطرفة يف‬
‫املفكرين الفاشيني األوائل مبن فيهم يوليوس إيفوال (‪)Julius Evola‬‬ ‫مجيعا بأثر نيتشه‪ -‬اكتشاف ِّ‬
‫الواليات املتحدة ‪-‬الذين يقرون ً‬
‫(ولد عام ‪ 1868‬وتويف عام ‪ .)1952‬تُربَّر الفاشية‬ ‫(ولد ‪ 1898‬وتويف عام ‪ )1974‬وشارل موراس (‪ُ )Charles Maurras‬‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫املخفَّفة احلالية اليت تتداخل مع الشعبوية السلطوية والقومية الرومانسية احيانًا بنسخة خام من علم النفس التطوري تكون فيها اجملموعة‬
‫هي وحدة االنتخاب‪ ،‬فالتطور مدفوع ببقاء اجملموعة األصلح يف مقابل اجملموعات األخرى‪ ،‬ومت انتخاب البشر للتضحية مبصاحلهم‬
‫لصاحل سيادة جمموعتهم (يتناقض هذا مع التيار الرئيسي من علم النفس التطوري الذي تكون فيه وحدة االنتخاب هي اجلني)‪ .‬يرتتَّب‬
‫جمتمع متعدِّد‬ ‫ٍ‬
‫بشرا يعين أن تكون جزءًا من أمة ما‪ ،‬وال ميكن أن ينجح ٌ‬ ‫على ذلك أنَّه ال ميكن للمرء أن يكون مواطنًا عامليًّا‪ ،‬فأن تكون ً‬
‫وصوال إىل أقل عامل مشرتك‪.‬‬ ‫ألن شعبه سيشعر بأنَّه ليس له جذور وبأنَّه مغرتب و َّ‬
‫أن ثقافته ستُختزل ً‬ ‫الثقافات متعدِّد األعراق واإلثنيات‪َّ ،‬‬
‫أن ُُتضع أمةٌ ما مصاحلها لالتفاقيات الدولية يعين تفريطها يف حقها األصيل يف العظمة وحتوهلا إىل ٍ‬
‫طرف مغفل يف املنافسة الدولية بني‬
‫يعرب عن روح الشعب مباشرةً غري‬ ‫تتجسد يف عظمة قائدها الذي ِّ‬ ‫كل ال يتجزأ‪ ،‬فإن عظَمتها ميكن أن َّ‬ ‫أن األمة عبارة عن ٍّ‬‫الكل‪ .‬ومبا َّ‬
‫ُمث َق ٍل برحى الدولة اإلدارية‪.‬‬
‫واأليديولوجية الرجعية هي احملافظة الثيوقراطية )‪ ،(Theoconservatism‬وعلى عكس ما قد يوحي به املصطلح الذي ال‬
‫يتسم باجلدية (الذي صاغه املرتد دميون لينكر ”‪ “Damon Linker‬على وزن ”‪ “Neoconservatism‬اليت تعين احملافظة‬
‫فإن أول احملافظني الثيوقراطيني كانوا راديكاليني من ستينيات القرن املاضي أعادوا توجيه محاسهم الثوري من أقصى اليسار إىل‬ ‫اجلديدة)‪َّ ،‬‬
‫أن االعرتاف باحلق يف احلياة‬ ‫أقصى اليمني‪ ،‬وهم يدعون إىل إعادة التفكري يف جذور التنوير يف النظام السياسي األمريكي‪ ،‬ويعتقدون َّ‬
‫واحلرية والسعي وراء السعادة ووالية احلكومة لكفالة هذه احلقوق غري مناسب جملتم ٍع ذي صالحية أخالقية‪ .‬إذ مل تدفعنا هذه الرؤية‬
‫الفقرية سوى إىل غياب املعايري االجتماعية واالنغماس يف اللذات وتفشي الفسق مبا يشمل فساد النسب واألفالم اإلباحية وفشل املدارس‬
‫واالعتمادية على إعانات الرعاية االجتماعية واإلجهاض‪ .‬على اجملتمع أن يستهدف ما هو أكثر من هذه الفردانية املتعثرة وتعزيز االمتثال‬
‫ملعايري أخالقية أكثر حزما من ٍ‬
‫سلطة أكرب منَّا‪ ،‬واملصدر الواضح هلذه املعايري هو املسيحية التقليدية بالطبع‪.‬‬ ‫ً‬
‫أساس أخالقي صلب‪،‬‬ ‫أن جتريف سلطة الكنيسة أثناء عصر التنوير جعل احلضارة الغربية دون ٍ‬ ‫يعتقد احملافظون الثيوقراطيون َّ‬
‫وقت أثناء إدارة بيل كلينتون‪ ،‬كال‬‫وتقويضها أكثر خالل ستينيات القرن املاضي جعلها على حافة االهنيار‪ ،‬وستسقط إىل اهلاوية يف أي ٍ‬
‫يربر مقال آنتون اهلستريي‬‫مل حيدث‪ ،‬إ ًذا فأثناء إدارة أوباما‪ ،‬كال مل حيدث‪ ،‬ولكنَّها ستسقط بالتأكيد أثناء إدارة هيالري كلينتون (ممَّا ِّ‬
‫املذكور يف الفصل العشرين بعنوان «انتخابات الرحلة رقم ‪ )The Flight 93 Election( »93‬الذي قارن فيه البالد بالطائرة‬
‫املختطفة يف يوم ‪ 11‬سبتمرب ودعا الناخبني إىل االختيار بني أن يقتحموا غرفة القيادة أو ميوتوا!) مهما كان حجم االنزعاج الذي شعر‬
‫فإن حجم األمل يف أنَّه وحده يستطيع‬ ‫به احملافظون الثيوقراطيون جراء ابتذال حامل لوائهم يف عام ‪ 2016‬وتصرفاته املنافية للدميقراطية‪َّ ،‬‬
‫فرض التغيريات الراديكالية اليت حتتاج إليها أمريكا كي تتفادى الكارثة كان أكرب‪.‬‬
‫أن هذه احلركات ثارت بسبب اجلماعات اإلسالمية الراديكالية‬ ‫يشري مارك ليال إىل السخرية الكامنة يف احملافظة الثيوقراطية‪ ،‬رغم َّ‬
‫(اليت يظن احملافظون الثيوقراطيون َّأهنا ستُطلق احلرب العاملية الثالثة قريبًا)‪َّ ،‬إال َّ‬
‫أن كليهما متشابه يف العقلية الرجعية بذعرها من احلداثة‬
‫والتقدُّم‪ .‬يعتقد كالمها أنَّه يف زم ٍن ما يف املاضي كانت هناك دولة سعيدة منظَّمة يعرف فيها الشعب مقامه‪ ،‬مث أفسدت القوى العلمانية‬
‫الغريبة هذا التناغم وجلبت معها التدهور واالضمحالل‪ ،‬ولن يستطيع أن يُعيد اجملتمع إىل عصره الذهيب سوى طليعة شجاعة لديها‬
‫ذكرياهتا عن األساليب القدمية‪.‬‬

‫أن ترامب قرر يف عام ‪ 2017‬أن يسحب الواليات املتحدة من‬ ‫عما يربط هذا التاريخ الفكري باألحداث اجلارية‪َّ ،‬‬
‫تذكر َّ‬ ‫وحىت ال تغفل َّ‬
‫اتفاق باريس للمناخ حتت ٍ‬
‫ضغط من بانون الذي أقنعه َّ‬
‫بأن التعاون مع الدول األخرى عالمةٌ على االستسالم يف السباق الدويل على‬
‫ونظرا لكثرة املخاطر‪ ،‬فيُستحسن أن ِّ‬
‫نذكر أنفسنا ملاذا حجة الدفاع‬ ‫العظمة (ونبع عداء ترامب للهجرة والتجارة من هذه اجلذور نفسها)‪ً .‬‬
‫ناقشت بالفعل مدى سخافة البحث عن ٍ‬
‫أساس لألخالق‬ ‫ُ‬ ‫عن القومية الشعبوية الرجعية الثيوقراطية اجلديدة مفلسة على اجلانب الفكري‪.‬‬
‫يف املؤسسات اليت جاءت باحلمالت الصليبية وحماكم التفتيش ومطاردة الساحرات واحلروب الدينية يف أوروبا‪ ،‬وفكرة ضرورة أن يتكون‬
‫بعضا سخيفة بنفس القدر‪.‬‬
‫النظام العاملي من دول قومية ذات متاثُل إثين وتعادي بعضها ً‬
‫بأن هناك حتمية فطرية لدى البشر جتعلهم يتماهون مع الدولة القومية (ممَّا يعين ضمنًا َّ‬
‫أن املواطنة العاملية ُتالف‬ ‫إن االدعاء َّ‬
‫أوال‪َّ :‬‬
‫ً‬
‫الطبيعة البشرية) ميثِّل صورةً سيئة لعلم النفس التطوري‪ ،‬فهو خيلط بني القابلية واحلاجة‪ ،‬مثل احلتمية الفطرية املفرتضة لالنتماء إىل الدين‪.‬‬
‫شك بالتضامن مع قبيلتهم‪ ،‬ولكن أيًّا ما كان تصور «القبيلة» البديهي الذي يولد معنا فهو ال ميكن أن يكون «الدولة‬ ‫يشعر الناس بال ٍ‬
‫أن أسالفنا التطوريني مل‬‫القومية» اليت متثِّل نتيجة تارخيية ملعاهديت وستفاليا املنعقدتني يف عام ‪( 1648‬وال ميكن أن يكون العرق‪ ،‬مبا َّ‬
‫جمرد ومتعدِّد‬
‫إن التصنيف املعريف للقبيلة أو اجملموعة ذات املصاحل املشرتكة أو التحالف يف احلقيقة ٌ‬ ‫كثريا)‪َّ .‬‬ ‫ٍ‬
‫أحدا من أعراق أخرى ً‬‫يقابلوا ً‬
‫األبعاد‪ ،‬يرى الناس َّأهنم ينتمون إىل قبائل عديدة متداخلة‪ ،‬عشريهتم ومسقط رأسهم وموطنهم وبلدهم الثاين ودينهم ومجاعتهم اإلثنية‬
‫ومدرستهم أو جامعتهم األم وأخويتهم وحزهبم السياسي وجهة عملهم ومنظمتهم اخلدمية وفريقهم الرياضي‪ ،‬بل وحىت ماركة معدات‬
‫ألق نظرًة على جمموعة نقاشية عن الكامريات «نيكون يف مقابل كانون» على‬ ‫الكامريا اخلاصة هبم (إذا أردت أن ترى القبلية يف أوجها‪ِ ،‬‬
‫اإلنرتنت)‪.‬‬
‫أن التاجر السياسي يستطيع تسويق أسطورة وأيقونة ُتدع الناس ليميِّزوا دينًا أو إثنية أو أمة معينة عن غريها لتكون هويتهم‬ ‫صحيح َّ‬
‫جنود منفِّذين بالتلقني واإلكراه املالئمني‪ ،‬لكن هذا ال يعين َّ‬
‫أن القومية نزعة بشرية‪ .‬ليس يف الطبيعة‬ ‫حيوهلم إىل ٍ‬
‫اجلوهرية‪ ،‬بل وميكنه أن ِّ‬
‫فخورا بكل ذلك يف الوقت نفسه‪.‬‬ ‫شخصا من أن يكون مواطنًا فرنسيًّا وأوروبيًّا وعامليًّا ً‬
‫ً‬ ‫البشرية ما مينع‬
‫بأن الوحدة اإلثنية تؤدي إىل التفوق الثقايف خطأ إىل أقصى حد‪ .‬هناك سبب وراء أنَّنا نشري إىل األشياء البسيطة َّ‬
‫بأهنا‬ ‫االدعاء َّ‬ ‫َّ‬
‫إن ِّ‬
‫بأهنا متحضرة وعاملية‪ .‬ليس هناك شخص عبقري مبا يكفي ليبتكر أي شيء‬ ‫«شعبية» أو حمدودة أو ضيقة األفق وإىل األشياء املعقدة َّ‬
‫جممعني ومستولني وجامعني ألفضل األفكار واالبتكارات‪ ،‬فالثقافات النابضة‬ ‫متاما‪ ،‬فاألفراد والثقافات العبقرية عبارة عن ِّ‬
‫قيِّم وحده ً‬
‫يفسر هذا كون أوراسيا كانت أول قارة‬ ‫ٍ‬
‫وصوب‪ِّ .‬‬ ‫بالنشاط تتمركز يف مناطق رفد شاسعة يتدفق إليها الناس واالبتكارات من كل ٍ‬
‫حدب‬
‫تولد فيها حضارات توسعية وليست أسرتاليا وال إفريقيا وال األمريكتني (حسبما وثَّقه سويل يف ثالثية «الثقافة» اليت كتبها وجاريد داميوند‬
‫‪ Jared Diamond‬يف كتابه «أسلحة وجراثيم وفوالذ» ”‪ِّ ،)“Guns, Germs, and Steel‬‬
‫ويفسر كون نوافري الثقافة‬
‫جوالني ينتقَّلون إىل أي مكان يستطيعون أن‬
‫دائما َّ‬
‫ويفسر كون البشر ً‬ ‫دائما بني املدن يف مفارق الطرق واملمرات املائية الرئيسية‪ِّ ،‬‬
‫تتنقل ً‬
‫فتحركهم أقدامهم‪.‬‬
‫يعيشوا فيه أفضل حياة ممكنة‪ ،‬فاجلذور تثبِّت األشجار‪َّ ،‬أما البشر ِّ‬
‫نظاما‬
‫جرب العامل بني عامي ‪ 1803‬و‪ً 1945‬‬ ‫أخريا‪ ،‬دعنا ال ننسى سبب نشأة املؤسسات الدولية والوعي العاملي من األساس‪َّ .‬‬ ‫و ً‬
‫يؤد هذا إىل نتائج جيدة‪ .‬ومن اخلطأ أن يستخدم اليمني الرجعي‬ ‫ٍ‬
‫ببسالة من أجل حتقيق العظمة‪ ،‬ومل ِّ‬ ‫قائما على كفاح الدول القومية‬
‫دوليًّا ً‬
‫كسبب للعودة إىل ٍ‬
‫نظام دويل‬ ‫ٍ‬ ‫حرب» إسالمية على الغرب (يكون تعداد الوفيات فيها باملئات)‬ ‫على األخص التحذيرات احملمومة من « ٍ‬
‫خيوض فيه الغرب باستمرار حروبًا ضد نفسه (يكون تعداد الوفيات فيها بعشرات املاليني)‪ .‬فبعد عام ‪ ،1945‬قال قادة العامل‪« :‬حسنًا‪،‬‬
‫دعونا ال نفعل ذلك ثانيةً»‪ ،‬وبدؤوا يقلِّلون من القومية لصاحل حقوق اإلنسان العاملية والقوانني الدولية واملنظمات العابرة للحدود‪ .‬والنتيجة‬
‫عاما من الرخاء والسالم النسبيني يف أوروبا واملتناميني نسبيًّا يف بقية العامل‪.‬‬
‫كما رأينا يف الفصل احلادي عشر سبعون ً‬
‫َّأما فيما خيص رثاء الكتاب الصحفيني حال التنوير واصفني إياه بأنَّه «اسرتاحة قصرية»‪ ،‬فهذا الرثاء سيُكتب على األرجح على‬
‫قرب الفاشية اجلديدة والرجعية اجلديدة واالنتكاسات الشبيهة اليت حدثت يف بداية القرن احلادي والعشرين‪ .‬تشري االنتخابات األوروبية‬
‫أن العامل رمبا يكون قد وصل إىل ذروة الشعبوية‪ ،‬وكما رأينا يف الفصل العشرين َّ‬
‫فإن‬ ‫املدمر هلا يف عام ‪ 2017‬إىل َّ‬‫وُتبط إدارة ترامب ِّ‬
‫توضح َّ‬
‫أن الدميقراطية (الفصل الرابع عشر) والقيم الليربالية‬ ‫احلركة يف طريقها الدميوغرايف إىل الال مكان‪ .‬ورغم عناوين األخبار‪َّ ،‬‬
‫فإن األرقام ِّ‬
‫ليلة وضحاها‪ .‬ال ميكن إنكار مزايا‬ ‫عال طويل املدى من املستبعد أن ينعكس مساره بني ٍ‬ ‫(الفصل اخلامس عشر) على منت مصعد ٍ‬
‫الكوزموبوليتانية والتعاون الدويل لفرتةٍ طويلة يف عا ٍمل ال يتوقف فيه تدفق األفكار واألشخاص‪.‬‬

‫عما إذا كانت مكافئة‬


‫أن بعض الناس قد يتساءلون َّ‬ ‫أن احلجج األخالقية والفكرية للدفاع عن النزعة اإلنسانية غامرة كما أعتقد‪َّ ،‬إال َّ‬
‫رغم َّ‬
‫للدين والقومية والبطولة الرومانسية يف احلملة من أجل الفوز بقلوب الناس‪ ،‬هل سيفشل التنوير يف النهاية ألنَّه ال يستطيع خماطبة‬
‫الوعَّاظ املنرب بكتاب «األخالق»‬ ‫االحتياجات البشرية البدائية؟ هل على اإلنسانيني عقد اجتماعات إلحياء النزعة اإلنسانية يطرق فيها ُ‬
‫لسبينوزا ويغمض احلضور املنتشون أعينهم ويغمغمون بلغة اإلسربانتو؟* هل عليهم تنظيم جتمعات حييِّي فيها الشباب الذين يرتدون‬
‫صورا ضخمة جلون ستيوارت مل؟ ال أعتقد ذلك‪ ،‬لنتذكر َّ‬
‫أن القابلية ليست كاحلاجة‪ ،‬فمواطنو الدمنارك ونيوزيلندا واألجزاء‬ ‫أقمصة ملونة ً‬
‫جيدا دون تلك النوبات‪ ،‬وهبة الدميقراطية العلمانية الكوزموبوليتانية موجودة على مرأى من اجلميع‪.‬‬
‫السعيدة األخرى من العامل حتيا ً‬
‫فإن جاذبية األفكار الرجعية مستمرة‪ ،‬وال بد من الدفاع الدائم عن العقل والعلم والنزعة اإلنسانية والتقدم‪ .‬عندما نعجز‬‫ومع ذلك َّ‬
‫بأن النظام املثايل والرخاء العاملي مها الوضع الطبيعي و َّ‬
‫أن كل‬ ‫عن إدراك التقدم الذي حققناه بشق األنفس‪ ،‬رمبا نتوصل إىل االعتقاد َّ‬
‫املستحقة‪ .‬لقد قدمت أفضل حججي‬ ‫انتهاك يستدعي لوم األشرار وتقويض املؤسسات ومتكني ٍ‬
‫قائد يعيد البالد إىل عظمتها‬ ‫مشكلة هي ٌ‬
‫َ‬
‫املفكرين وغريهم من أصحاب الفكر (مبن‬ ‫للدفاع عن التقدم واملبادئ اليت جعلت حدوثه ممكنًا‪ ،‬وأحملت إىل كيف ميكن للصحافيني و ِّ‬
‫فيهم قُـَّراء هذا الكتاب) جتنُّب اإلسهام يف التغافل املنتشر عن هبات التنوير‪.‬‬
‫إن حقيقة َّ‬
‫أن شيئًا ما سيئ اليوم ال تعين أنَّه‬ ‫عاما‪َّ .‬‬
‫تذكر قواعد التاريخ‪َّ :‬‬ ‫اجتاها ً‬
‫تذكر قواعد احلساب‪ :‬النوادر الشخصية ال متثِّل ً‬ ‫َّ‬
‫أن هناك شيئًا حقيقيًا أو‬ ‫كان أفضل يف املاضي‪َّ .‬‬
‫تذكر قواعد الفلسفة‪ :‬ال يستطيع املرء أن حياجج باملنطق على أنَّه ال يوجد منطق‪ ،‬أو َّ‬
‫أيضا‪.‬‬
‫كثري ممَّا نعرفه ليس كما نظن‪ ،‬وخاصةً عندما يعرفه رفقاؤنا ً‬
‫تذكر قواعد علم النفس‪ٌ :‬‬ ‫ألن اهلل قال إنَّه كذلك‪َّ .‬‬
‫خريا َّ‬
‫ً‬
‫خطرا وجوديًّا‪ ،‬وليس كل تغيري هناية شيء ما أو‬
‫ضع األمور يف نصاهبا الصحيح‪ ،‬فليست كل مشكلة أزمة أو طاعونًا أو وباءً أو ً‬
‫العمق الفكري‪ ،‬املشكالت حتمية ولكنَّها قابلة للحل‪ ،‬وتشخيص كل‬ ‫موته أو فجر حقبة ما بعد أي شيء‪ .‬ال ُتلط بني التشاؤم و ُ‬
‫أخريا‪ ،‬دعك من نيتشه‪ .‬رمبا تبدو أفكاره جريئة وأصيلة وخطرية يف‬ ‫ٍ َّ‬
‫ض جملتم ٍع مريض حماولة رخيصة الجتذاب الوقار‪ .‬و ً‬‫عر ٌ‬‫انتكاسة بأهنا َ‬
‫حني تبدو النزعة اإلنسانية عاطفية مملة وغري عصرية وغري رائجة‪ ،‬ولكن ما املثري للسخرية يف السالم واحلب والتفهم؟‬

‫*لغة اإلسبرانتو هي لغة مصطنعة كان هدفها أن تكون لغة دولية سهلة لتعزيز السالم والتفاهم الدولي‪ – .‬المترجمة‪.‬‬
‫ليس موضوع «التنوير اآلن» جمرد نفي املغالطات أو نشر البيانات‪ ،‬بل قد يكون مصو ًغا كسردية مؤثرة‪ ،‬وأمتىن أن حيكيها من‬
‫حبق‪ ،‬وهي جميدة‪ ،‬ومبهجة‪،‬‬ ‫يتمتَّعون حباسة فنية وقوة خطابية أكثر مين على حن ٍو أفضل وينشروهنا أكثر‪َّ .‬‬
‫إن قصة تقدم البشرية بطولية ٍّ‬
‫بل وأجرؤ أن أقول حىت َّإهنا روحانية‪ .‬والقصة كما يلي‪:‬‬
‫معرضون باستمرا ٍر خلطر‬ ‫كون ال يرحم‪ ،‬نواجه احتماالت جناة ضئيلة يف ظل النظام الذي ِّ‬
‫ميكن املرء من احلياة‪ ،‬وحنن َّ‬ ‫ولِدنا يف ٍ‬
‫ُ‬
‫االهنيار‪َّ ،‬‬
‫شكلتنا قوةٌ تنافسية عدمية الرمحة‪ ،‬فتكويننا من ضل ٍع أعوج‪ ،‬عرضة لألوهام والتمركز حول الذات والغباء الصاعق أحيانًا‪.‬‬
‫نوع من اخلالص‪ ،‬فنحن نتحلَّى بالقدرة على اجلمع بني األفكار‬ ‫جماال أمام ٍ‬
‫ومع ذلك فقد نعمت الطبيعة البشرية باملوارد اليت تفسح ً‬
‫أفكار عن أفكارنا‪ ،‬ولدينا غريزة اللغة‪ ،‬اليت تسمح لنا مبشاركة مثار جتاربنا وبراعتنا‪ ،‬ويف أعماقنا القدرة‬
‫متكرر‪ ،‬وأن تنشأ يف رأسنا ٌ‬ ‫ٍ‬
‫بشكل ِّ‬
‫على التعاطف‪ ،‬على الشفقة والتخيل والعطف واملواساة‪.‬‬
‫وتوسعت دائرة‬
‫توسع بالكتابة والطباعة والكلمات اإللكرتونية‪َّ ،‬‬
‫وجدت هذه اهلبات طرقًا لتعظيم قدراهتا اخلاصة‪ ،‬فمنظور اللغة َّ‬
‫تعاطفنا بفعل التاريخ والصحافة والفنون السردية‪ ،‬وتعاظمت َملَكاتنا العقالنية الضئيلة بفعل معايري العقل املنطقي ومؤسساته‪ ،‬مثل‬
‫الفضول الفكري واحلوار املفتوح و ُّ‬
‫التشكك يف السلطة والدوغما وعبء اإلثبات للتحقُّق من صحة األفكار عرب مواجهتها بالواقع‪.‬‬
‫املتكرر زمخًا‪ ،‬حناول االنتصار على القوى اليت تسحقنا‪ ،‬وال سيما اجلوانب املظلمة من طبيعتنا نفسها‪ .‬نقتحم‬
‫التحسن ِّ‬
‫ُّ‬ ‫بينما جيمع‬
‫عمرا أطول ونعاين أقل ونتعلم أكثر ونزداد ذكاءً ونستمتع أكثر باملتع الصغرية والتجارب‬
‫ألغاز الكون مبا فيها احلياة والعقل‪ ،‬ونعيش ً‬
‫تتوسع األراضي اليت تنعم بالسالم‬
‫عدد أقل منا للقتل واالعتداءات واالستعباد والقمع واالستغالل على يد اآلخرين‪َّ .‬‬ ‫ويتعرض ٌ‬ ‫الثرية‪َّ ،‬‬
‫ولكن‬
‫كثري من املعاناة واخلطر اهلائل‪َّ ،‬‬
‫يوما ما‪ .‬ما زال هناك ٌ‬
‫والرخاء بعد أن كانت بضع واحات قليلة‪ ،‬وقد تطوق الكرة األرضية بأكملها ً‬
‫أفكارا مقرتحة لكيفية احلد منهما‪ ،‬وعدداً ال هنائيًّا من األفكار األخرى اليت مل ُتطر على بال أحد بعد‪.‬‬
‫هناك ً‬
‫لن ننعم بعا ٍمل مثايل ً‬
‫أبدا‪ ،‬ومن اخلطر أن حناول خلق هذا العامل‪ ،‬ولكن ال حدود للتحسينات اليت ميكننا حتقيقها إذا واصلنا تطبيق‬
‫املعرفة يف تعزيز ازدهار البشرية‪.‬‬
‫ليست هذه القصة البطولية جمرد أسطورة أخرى‪ ،‬فاألساطري من نسج اخليال‪َّ ،‬أما هذه فحقيقية‪ ،‬حقيقية حسب علمنا احلايل‪،‬‬
‫ألن لدينا أسبابًا تدفعنا لتصديقها‪ .‬كلَّما عرفنا أكثر‪ ،‬استطعنا توضيح أي أجزاء من القصة‬
‫وهي احلقيقة الوحيدة اليت منلكها‪ ،‬ونصدقِّها َّ‬
‫ستظل حقيقية وأيها زائفة‪ ،‬فأي جزء منها قد يكون زائ ًفا‪.‬‬
‫للتمسك‬
‫وباعث ُّ‬‫ٍ‬ ‫حساس ذي قدرةٍ على التفكري املنطقي‬
‫ال تنتمي هذه القصة إىل أي قبيلة بل إىل البشرية مجعاء‪ ،‬إىل أي كائن َّ‬
‫أن احلياة أفضل من املوت‪ ،‬والصحة أفضل من املرض‪ ،‬والوفرة أفضل من العوز‪ ،‬واحلرية أفضل‬ ‫بوجوده‪َّ ،‬‬
‫ألهنا ال حتتاج سوى إىل قناعة َّ‬
‫من العبودية‪ ،‬والسعادة أفضل من املعاناة‪ ،‬واملعرفة أفضل من اخلرافات واجلهل‪.‬‬

You might also like