You are on page 1of 1

‫الصورة وسطوة العقل الرقمي‬

‫د‪ .‬مازن عصفور ‪ -‬لم يتوقع البحث الفني الجمالي المعاصر ان ي تناول المستجدات‬
‫الثورية التي طرأت على العمل الفني وتلقيه و أن تغرق بأسئلة من قبل علم النفس المعاصر‪ ،.‬ذلك ان دراسة التحوالت الجذرية‬
‫في مكونات الفن المعاصر وازاماته اقتصر في غالبية األحيان على باحثي الفن والجمال ومنظريه الذين وجدوا أن توغل العلم‬
‫بالفن ا سهم إلى حد بعيد في تقويض الفن وهدم معناه وتحويله إلى مجرد عمليات ذهنية خالصة‪.‬‬
‫هنا نتوقف عند مسألة هدم المعنى والصورة‪ ،‬وتحويلها بفعل الثورة العلمية المعاصرة إلى إشارات‪ ،‬ورموز مختزلة تغدو فيها‬
‫األخيرة رهينة الرقم‪.‬‬
‫ومع أن الداللة واإلشارة‪ ،‬ليست جديدة في تاريخ التعبير الفني اإلنساني‪ ،‬وعرفتها الفنون البدائية وحروفيات السومرين‬
‫بنقوشها وزخارفها‪ ،‬اال أنها في العصر الحديث اتخذت وضعاً آخر شكال ً ووظيفة‪ ،‬ودوراً جوهرياً في بنيوية العمل الفني وسبل‬
‫تلقيه والتواصل معه‪.‬‬
‫الكتابة القديمة وإشاراتها ودالالتها المختزلة ظلت غير قادرة على التواصل مع الذهن البشري ‪ ،‬ألنها بقيت في إطار الصورة‬
‫األصل التي استنبطت منها‪ ،‬ولم تكن منسلخة البتة عن عواطف اإلنسان ومشاعره وقدراته الذهنية‪.‬‬
‫الحال في العصر المعاصر مغاير تماما‪ .‬فقد ازدادت ظاهرة تفكيك الصورة والمشهد‪ .‬بل وأمعن العقل العلمي الحديث‪ ،‬وخصوصا‬
‫في طوره الرقمي في اختزاله حتى باتت مشاهدنا وصورنا ورؤانا التخيلية مجرد أرقام وعميلة حسابية‪.‬‬
‫حدث ذلك بشكل مواز مع امتدادات التطور العلمي بدءا بطوره الميكانيكي منذ عصور النهضة‪ ،‬وأسهمت آلة الطباعة الميكانيكية‬
‫التي أوجدها جوتينرغ في استنساخ الصورة‪ ،‬المشهد‪ ،‬وتفكيك وحدتها ‪.‬‬
‫ورافق ذلك اختراع آلة المنظور العلمي التي مهدت‪ d‬للتطور العلمي الذي ادى الى اختراع آلة التصوير الفوتوغرافي‪ ،‬ومن ثم‬
‫السينمائي والفيديو‪ ،‬وأخيرا‪   ‬الديجتال‪.  ‬‬
‫ورغم أن العلم في مراحله الميكانيكية األولى حافظ نسبيا على الصورة بمعناها التناظري‪ ،‬خصوصا في عصر النهضة‬
‫والرومانسية‪ ،‬إال أن هذا قد بدأ يتضاءل منذ انبثاق فجر الحداثة العلمية والثقافية والفنية نهايات القرن التاسع عشر عندما بلغت‬
‫الصورة أشد مراحل تفكيكها‪.‬‬
‫االنطباعية جاءت وليدة للتصوير الفوتوغرافي‪ ،‬وبدايات علم اإلشارات الصوتية (إشارات موريس)‪ ،‬والتطور العلمي للكيمياء‬
‫والفيزياء البصرية أحالت الصورة إلى ذبذبات بصرية نقية ذات غاية فيزيائية بصرية‪ ،‬رغم االحتفاظ النسبي بالصورة والمشهد‪d.‬‬
‫تال ذلك مجادالت‪ d‬شبيهة‪   ‬بالردة‪   ‬لصالح الصورة التناظرية ‪ ،‬كالتعبيرية والسوريالية‪ ،‬اال أنها فشلت في وقف المد العلمي‬
‫المتسارع في تحطيم الصورة والمشهد‪ d‬لصالح اإلشارة النقية‪.‬‬
‫تجلى تقويض الصورة التاظرية التماثلية ك ذلك في التجريدية التعبيرية لالميركيين في النصف الثاني من القرن الماضي‪،‬بما فيها‬
‫نزعةا فن اآلكشن الحركي لجاكسون بوللوك الذي أحال المشهد‪ d‬والعمل الفني إلى بقع وحركات إشاراتية نقية‪ ،‬في مواكبة‬
‫ل لتطور العلمي الفيزيائي للمرئيات واألمواج الصوتية المنقولة إلكترونيا‪.‬‬
‫وهو تصنيف يتكيء على فلسفة العلم‪   ‬اإلينشتانية ‪   ‬التي أحالت كل ما هو مرئي إلى طاقة وكتلة وسرعة‪ ،‬بل إلى أنوية‬
‫ذرية‪ ،‬ومن ثم الكترونات‪،‬وأرقام رياضية فيما بعد‪.‬‬
‫من هنا بدأت تتعالى صرخات علماء النفس والجمال‪ ،‬وخبرات التواصل الجماهيري‪ ،‬منبهة إلى الحالة الجديدة التي الت إليها‬
‫الصورة في العمل الفني بعد التواصل البشري‪ ،‬أو باألحرى‪ ،‬الجزء المدرك في العقل البشري‪.‬‬
‫وظهرت مصطلحات فنية وثقافية جديدة ذات صلة مثل‪   ‬الديجيتال آرت‪   ،  ‬الفن الرقمي‪   ‬وبشكل أكثر تحديداً‪ ،‬برز مصطلحان‬
‫جديدان أثارا اهتمام الباحثين نظرا لطبيعتهما الجدلية فيما يتعلق بالصورة الفنية ‪ ،‬وهما‪ :‬الفن التناظري‪ ،‬والفن الرقمي ‪.‬‬
‫وكان أبرز من كرس هذين االصطالحين هو العالم األميركي بول فيتز الذي اوردهما في مؤلفه الشهير ‪Art Analog and digital‬‬
‫ودفق ناقوس الخطر من خالل دراسة سيكولوجية بصرية تواصلية حول مصير المشهد‪ d‬والصورة والتحوالت الجوهرية التي طرأت‬
‫على تواصل الذهن البشري مع العمل الفني‪.‬‬
‫وتوصلت دراسات وابحاث فيتز إلى أبعد من ذلك‪ ،‬منبهاً من تحوالت فسيولوجية خطيرة في تركيب المخ البشري لإلنسان‬
‫المعاصر جراء ثقافة الثورة الرقمية‪   ‬الديجيتال‪ ،  ‬مشيراً إلى أن الجانب األيمن من المخ البشري‪ ،‬والمناط به وظيفة استقبال‬
‫الصور التناظرية‪   ‬الصورة المتخيلة‪ ،  ‬تناقص حجمه بشكل تدريجي لصالح الجزء األيسر المناط به التقاط المشاهد والمرئيات‬
‫ذات التركيب اإلشاراتي المختزلة‪.‬‬
‫استند بول فيتز في نظريته على التصنيفات العلمية افي علم الوظائف البشرية فيما يتصل بتقسيمات مهام المخ والدماغ‬
‫البشري‪ ،‬واضعاً وظائفها إلى قسمين أساسيين‪ :‬النصف األيمن من الدماغ المناط به عملية التفكير التخيلية‪ ،‬والمكلف‬
‫باستقبال المشاهد والصورة‪ ،‬أما النصف الثاني من الدماغ ‪ ،‬وهو األيسر فتناط به مهام التقاط الدالالت غبر التصويرية‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫اإلشارات التقنية كاألرقام والحروف التي يستقبلها العقل البشري وتوجه سلوكه دون االفصاح عن معلوماتها تصويرياً‪.‬‬
‫أطلق فيتز على النصف األول من الجزء األيمن (باالنالوج)‪ ،‬أي النظام التناظري في تشفير المعلومات التصويرية والمتخيلة‪ .‬فيما‬
‫أطلق على الجزء األيسر من الدماغ (الديجتال الرقمي)‪ ،‬كون األخير يتخصص باستالم المعلومات المجردة التي بإمكانها توجيه‬
‫السلوك اإلنساني دون اعتمادها على الصورة أو المشهد‪ ،‬وطبقاً لنظرية فيتز فان األعمال الفنية من حيث التوصيل للمتلقي‬
‫تنقسم الى نوعين‪.:‬‬
‫األول‪ :‬يرسل للمتلقي رموزاً صورية أو مشهدية يطلق عليها الرموز التناظرية‪ ،‬وهي صور ومعلومات خيالية مكانية‪ ،‬حدسية‬
‫تنتقل من العمل الفني إلى الذهن اإلدراكي في الجانب األيمن بشكل متزامن ومتوازٍ مع الصورة العيانية‪ ،‬ومن أمثلة ذلك‬
‫األعمال الفنية التصويرية الواقعية والطبيعية لفناني النهضة والرومانسية‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬وهو العمل الفني الذي يرسل إلى الجانب األيسر رموزا ومعلومات مجردة‪ ،‬على شكل إشارات لفظية مجردة غير‬
‫تصويرية‪ ،‬أو إشارات ذات أوامر تعليمات استداللية‪،‬مثل‪ :‬إشارات المرور‪ ،‬واألرقام‪ ،‬لذا يطلق عليها الديجتال‪ ،‬أي ارسال المرسل‬
‫والرمز المستقبل‪ .‬تماماً كما تفعل اجهزة‪   ‬الساتياليت‪   ‬عندما تستقبل أرقاماً أرسلتها محطات البث ‪ ،‬ثم يحيلها الجهاز الالقط‬
‫إلى صور متخيلة بعد أن يحيل نظام األرقام إلى صور‪.‬‬
‫وكما تقول النظرية‪ :‬ينطبق هذا على األعمال الفنية المختزلة والمجردة في الفن الحديث‪ ،‬مثل االنطباعية التنقيطية‪ ،‬والتجريد‬
‫النقي الكامل في التوجهات الحداثية كأعمال مونديان وماليفكش وكاندينسكي وبول كلي وغيرهم‪.‬‬
‫وتتميز االستجابة العقلية لهذا النوع من األعمال المجردة بشدة الغموض والدقة وتتطلب جهداً تحليياً خصوصا من النصف األيسر‬
‫من الدماع‪ ،‬وهو ما يفسر بروز فجوة التواصل بين العمل الفني والمتلقي في الفن الحديث‪ ،‬بينما يمتاز النصف األيمن من العقل‬
‫البشري للصور العقلية المتنوعة ذات الثراء التناظري الذي يجسد الفرح واالنفعاالت والتعابير الجمالية المتطابقة والمتماثلة بين‬
‫المرسل والمتلقي‪.‬‬

‫االنعكاسات الثقافية للسلوك الرقمي‬

‫بعد أن يستعرض فيتنر في كتابه الذي حمل نظريته المثيرة للجدل‪ ،‬يسرد جملة من التطبيقات البصرية لكل من النظامين‪ :‬الرقمي والتناطري في التواصل البصري من خالل تناوله نماذج من المدارس‪d‬‬
‫والمراحل عبر تاريخ الفن المتصل بالتحوالت التناظرية والرقمية‪..‬‬
‫وخصص جزءاً كبيراً من تحليالته على الفن الحديث التي كما يرى أنها اتسمت باإلغراق في الرقمية والديجتال والتواصل الفني‪ ..‬وطرح في سياق نظريته جملة من التحوالت االجتماعية والسلوكية‬
‫والثقافية‪ ،‬ومنها‪.:‬‬
‫‪ - 1‬انعكاسات في فسيولوجية المنح البشري نفسه تتصل بضمور الجزء وتناقض حجم الجزء األيمن منه ‪ ،‬خصوصا ما يتصل بالوظيفة الخيالية التصويرية لصالح تضخم الجزء األيسر من المخ ذي الوظيفة‬
‫اإاشارتية الرقمية المجردة‪ ،‬موضحا أن هذا التضخم يسير بتسارع مضطرد‪ ،‬ومقلق مع تسارع عملية الفن الحديث المواكب للتطور العلمي والرقمي‪.‬‬
‫‪ - 2‬انعكاسات فنية بصرية بحتة تمثلت بهدم المعنى والصورة‪ ،‬والتخلي عن الصور التشخيصية والتمثيلية المعبرة للعواطف واالنفعاالت‪ ،‬حيث تعين على المشاهد أن يكتفي بالنظر إلى العمل الفني‬
‫دون القدرة على فهم دالالته ودون الخوض في تفكيك شيفرة الدالالت‪ ،‬وخصوصا أعمال التجريد اإلشاراتي التي سلخت المشاهد عن التفكير بالصور النظرية وإدراك الفضاء والمتطور والعمق لصالح‬
‫التسطيح‪.‬‬
‫‪ -3‬انعكاسات اجتماعية وسلوكية‪ ،‬مورداً‪ d‬ما أحدثته الحضارة الحديثة من تحوالت اجتماعية وثقافية تمثلت ببرود العواطف اإلنسانية‪ ،‬وتغير األنماط السلوكية المتصلة باإلحساس بالزمن والدقائق واأليام‪،‬‬
‫وتحول الحياة والخبرات اإلنسانية إلى نمطية مملة وروتينية اضمحلت معها الهواجس الشاعرية والتعبيرية والتجميلية‪.‬‬
‫خلص بول فيتز في اطروحته إلى أن األنسان المعاصر في ظل تنامي طغيان الرموز الرقمية‪ ،‬سيقع في شرك الرموز التناظرية التي تمثل نوعاً من اإلدمان على مشاهدة األفالم والتلفزيون بصورة‬
‫طاغية‪ ،‬ونزوع اإلنسان إلى حياة بديلة يعوض فيها طغيان الحياة الرقمية االنتاجية االستهالكية نحو‪   ‬خلوة‪   ‬صورية ‪.‬‬
‫ويرى فيتز أن اإلنسان ربما أصبح كائناً رقمياً في النهار‪ ،‬وتناظرياً في المساء‪ ،‬ألن الليل على األقل يبقى ولو بشكل نسبي خلوة المتأمل البعيد عن ضوضاء الحياة الرقمية اليومية‪.‬‬
‫ويختتم إن العقل البشري بنصفه األيمن ما يزال يكبر ويتضخم سنين بعد سنين‪ ،‬ومن يدري‪ ..‬هل سنشهد موت العقل الصوري خالل القرن المقبل‪ ،‬ويصبح البشر كائنات رقمية في عواطفها وأفكارها‬
‫وسلوكياتها؟!‪.‬‬

You might also like