You are on page 1of 5

‫‪2021-2020‬‬ ‫تاريخ القن‬ ‫الفصل الخامس‪:‬‬ ‫ذ‪ .

‬طارق مداني‬

‫الجزء الثاني‬

‫فن ما قبل التاريخ‪.‬‬


‫مقدمة‬
‫في التأريخ للفن يواجهنا سؤال كبير‪ :‬كيف ظهر الفن في حياة البشر؟ وكيف استطاع‬
‫الوعي البشري أن يبتكر الصورة أو العمل الفني؟ إن النظر في مثل هذه المواضيع يستلزم‬
‫االستناد إلى معطيات ومبادئ منهجية أولية‪:‬‬
‫ُك ّل نظر علمي يستدعي الجمع بين" التاريخي" و "المنطقي" في وحدة‬ ‫‪-‬‬
‫متكاملة يكون بمقتضاها الطرح النظري يتطابق مع الحقائق والمعطيات التاريخية‪.‬‬
‫األخذ بعين االعتبار أن العمل الفني أو الصورة الفنية هو تركيب دائم بين‬ ‫‪-‬‬
‫الفكرة والمادة والفعل (اإلرادة)‪.‬‬
‫فمنذ أن عرف اإلنسان في العصور القديمة االستقرار والتملك واالدخار تحرر من‬
‫سلطة اللحظة الراهنة‪ .‬وبدال من الفعل الغريزي واآللي ابتدأ القيام بأنشطة واعية‪:‬التفكير‬
‫والتخيل واالستذكار وبدأ وعيه باألشياء‪ .‬وكان أول وعيه باألشياء بمقدار ما تضر وتنفع؛‬
‫وعندما أصبح بوسع اإلنسان أن يصنع شيئا مثل أبسط أنواع األدوات الحجرية صار يعرف‬
‫سلفا‪ ،‬لماذا؟ أي صار يعرف "غاية" الفعل‪ ،‬وأصبح يتغيّى األمور‪ ،‬ويسعى لتحقيق صورة‬
‫األفكار‪ .‬و من تم بدأ ينتج الشيء وفق تصور قبلي‪ ،‬وتخطيط مسبق‪ ،‬وصورة ذهنية‪ .‬و بدأت‬
‫األشياء تكتسب وجودا مزدوجا‪ ،‬وجودا فيزيائيا وآخر يدركه ويتصوره العقل‪ ،‬وأصبح يمتلك‬
‫جوهر األشياء‪ :‬الصلة بين الشيء وتصوره‪ .‬وما أن بدأ ينتج األشياء حتى بدأ ينتج األفكار‬
‫أيضاً‪ ،‬والعكس صحيح‪ .‬وأصبح يضيف للوجود أشياء جديدة‪.‬‬
‫إن مسألة بداية الفن مسألة معضلة وغريبة على شاكلة بداية اللغة والتخاطب‪ ،‬مسألة‬
‫مرتبطة ببداية اإلنسان نفسه‪ .‬فإذا سلّمنا أن الفن هو بناء العمارة والمعابد ورسم وإنشاء‬
‫التماثيل ونحتها فإن ما من شعب لم ينشئ فنه‪.‬أما إذا كان تصورنا أن الفن بذخ جميل‪ ،‬يُنتج‬
‫ليلج المتاحف والمعارض‪ ،‬ك ُمنشأ ثقافي يؤثث غرف العرض‪ ،‬فهذا أمر مستجد ولم يكن حال‬
‫السابقين‪.‬‬
‫لقد بدأ الفن وظيفيا في األول‪ .‬ومجال العمارة واإلنشاء المعماري يوضح هذا األمر‪،‬‬
‫هناك منشآت معمارية قديمة أسست ألغراض معينة أصبحت تُقدر وتُثمن حاليّا ً كعمل فني‪.‬‬
‫وما من منشأة معمارية قديمة أو رسم أو نحت إال كان لوظيفة معينة (تزيين‪ ،‬تخليد‪ ،‬أهداف‬
‫شعائرية‪ ،‬حماية من خطر‪ .)...‬من هذا المنطلق‪ ،‬ال يمكننا تقدير وتوصيف فن األقدمين اذا لم‬
‫نجتهد في استيعاب مقاصده‪ .‬وكلما تعمقنا في التاريخ تجدّد فهمنا لهذه المقاصد وتنوعت حتى‬
‫لتكاد تفاجئنا‪.‬‬
‫قد تكون هذه األعمال الفنية ُوجدت لتحمي أصحابها كما يعتقدون من أخطار الريح‬
‫والمطر والشمس‪ ،‬أو لتحقيق مصلحة وأهداف‪ .‬فاألمر يفترض إذن استنباط تصورات‬

‫‪1‬‬
‫‪2021-2020‬‬ ‫تاريخ القن‬ ‫الفصل الخامس‪:‬‬ ‫ذ‪ .‬طارق مداني‬

‫الشعوب البدائية إلدراك أن هذه اإلنشاءات الفنية كان يُنظر إليها كقوة تحميهم أو سعي‬
‫لتحقيق كسب معين‪ ،‬وليس كفن يزين محيطهم‪.‬‬
‫أحيانا كان البدائيون‪ ،‬شأن األطفال‪ ،‬ال يفرقون بين الصورة والواقع‪ .‬يُحكى أن أحد‬
‫الرسامين األوربيين رسم قطيع غنم إحدى القبائل "البدائية" في إفريقيا‪ ،‬فصاح زعيمها‬
‫مستنكرا‪" :‬إذا أخذت قطيعنا فكيف سنعيش نحن؟" بمعنى أن رسم األشياء في تصور هؤالء‬
‫البدائيين يعادل تَملُّكها‪ .‬هذه التصورات األولية قد تُسهل إدراك مضامين وأهداف الرسومات‬
‫القديمة التي تعود لعهد ما قبل التاريخ‪.‬‬
‫فن المغارات‬
‫صعُب‬‫عند اكتشاف الرسومات الجدارية في مغارات ما قبل التاريخ (الصورة ‪3‬و‪َ ،)4‬‬
‫على األثريين‪ ،‬في بداية األمر‪ ،‬التسليم بأنها تعود لفترة ما قبل التاريخ‪ ،‬ولما فرض األمر‬
‫نفسه علميّاً‪ ،‬بدأت تظهر للوجود مجموعة من األطروحات التفسيرية لهذه األعمال‬
‫التصويرية‪.‬‬

‫الصورة ‪4‬‬
‫الصورة ‪3‬‬
‫البعض رأى أن اإلنسان القديم كان يسعى‪ ،‬من خالل رسم الحيوانات المختلفة على جدران‬
‫المغارات‪ ،‬اإلمساك بها‪ ،‬اعتقادا منه أن رسمها يُم ّكنه من السيطرة عليها‪ .‬لكن ما عالقة الفن‬
‫بالمعتقد؟‬
‫الحقيقة أن كل فنان يصدر عن معتقد ورؤية‪ ،‬فتاريخ الفن ليس تاريخ أدوات وتقنيات‬
‫قحسب‪ ،‬بل تاريخ أفكار ومتطلبات‪ .‬ففن ما قبل التاريخ هو في األساس فن صيادين وما‬
‫يترتب عن ذلك أمر بيّن ومهم‪ :‬فعندما كان الصياد القديم يرسم الحيوانات بمحيطها ‪contour‬‬
‫باعتبارها هدف يراد تحصيله‪ ،‬ما كان يه ّمه هو تحديد حيّز الحيوان ومحيطه ليحصل على‬
‫طريدته‪ .‬فظهر في الفن مفهوم ‪ :‬فن المحيط ‪.l’art du contour‬‬
‫إشكالية األيدي واألصابع المبتورة‬

‫‪2‬‬
‫‪2021-2020‬‬ ‫تاريخ القن‬ ‫الفصل الخامس‪:‬‬ ‫ذ‪ .‬طارق مداني‬

‫من المظاهر الفنية األخرى في فن المغارات‪ ،‬رسومات األيدي التي تتكرر باستمرار في‬
‫عديد من المواقع األثرية القديمة‪ .‬هذه األيدي هي ألناس كبار أو أطفال‪ ،‬إما رسم ليد مألى‬
‫( ‪ )main positive‬أو محيط يد ‪ . )main negative)f‬من المعلوم أن اليد كانت وما تزال‬
‫تُستعمل كرمز على البصمة واألثر‪ ،‬أو كمفهوم يعني التملك والحيازة‪ ،‬أو كمعنى الدفاع‬
‫والحماية من الخطر وعين السوء‪.‬كما تعبر كذلك عن الحضور‪ ،‬وتُستعمل كأداة استكشاف‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ما هي أهداف ومقاصد إنسان ما قبل التاريخ في رسمه لهذه األيادي؟‬

‫الصور ‪ 5-4‬و ‪6‬‬

‫إذا كان معنى الحضور والتملك قد يبدو هو التفسير الوجيه فإن الجدل حول رسوم‬
‫األيدي المبتورة األصابع ‪( doigts mutilés‬الصورة ‪ )7‬مازال مفتوحاً‪ .‬فالباحث ‪G.H.‬‬
‫‪ Luquet‬كتب في سنة ‪ 1926‬يفسر هذه الظاهرة باعتبارها فعالً مقصودا ً عند وضع اليد‪،‬‬
‫ألنه من الصعب التوفيق بين األمر كفعل إرادي وبين ضرورة عيش الصيادين المحتاجين‬
‫أليديهم كاملة‪ .‬في ‪ ،1927‬رأى الباحث ‪ Baudoin‬أن الفعل المقصود واإلرادي احتمال‬
‫وارد‪ ،‬شأنه شأن عادة نزع أسنان مقدمة الفك وظاهرة تربنة الجمجة ‪trépanation‬‬
‫الموجودة عند بعض التجمعات البشرية في ما قبل التاريخ‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫‪2021-2020‬‬ ‫تاريخ القن‬ ‫الفصل الخامس‪:‬‬ ‫ذ‪ .‬طارق مداني‬

‫الصورة ‪7‬‬
‫إذا كانت ظاهرة البتر واردة‪ ،‬فإنها مسألة إشكالية‪ .‬الباحثان ‪ Leroi-Gourhan‬و‬
‫‪Van der Brock‬يريان أنها نوع من "البطاقة التعريفية" أو اإلمضاء للتميز (الصورة ‪.)8‬‬
‫لكن كيف نفسر اآلن كثرة بطاقات التعريف و كثرة "اإلمضاءات" ؟ وكيف نفسر وجود‬
‫أصابع أيد تامة أحيانا؟‬

‫الصورة ‪8‬‬
‫هنا يجب األخذ بعين اإلعتبار دقة مالحظة اإلنسان القديم‪ ،‬ال ُمتعود على تتبع األثر‬
‫والمراقبة الحذرة‪ .‬وعودا ً لمسألة صورة األصابع المبتورة في مغارات إنسان ما قبل التاريخ‪،‬‬
‫فإن الباحثان ‪ H. Weinert‬و ‪ N. Casteret‬استنتجا من خالل مقارنة اثنوغرافية مع‬
‫شعوب "بدائية" في إفريقيا وأستراليا‪ ،‬أن البتر قد يكون عادة اجتماعية عند فقدان أحد‬
‫األقارب من العائلة‪ ،‬غير أن األثري ‪ Leroi-Gourhan‬لم يوافق على مثل هذه المقارنات‬
‫‪4‬‬
‫‪2021-2020‬‬ ‫تاريخ القن‬ ‫الفصل الخامس‪:‬‬ ‫ذ‪ .‬طارق مداني‬

‫" المريحة والخادعة" حسب رأيه‪ ،‬في بناء تصور عن اإلنسان القديم بمعطيات تلفيقية من‬
‫هنا وهناك‪.‬‬

‫في ‪ ،1953‬تساءل ‪ ، Breuil‬الذي كان يدافع في األول عن تفسير الظاهرة باعتبارها سلوك‬
‫شعائري‪ ،‬عن إمكانية ربطها بمرض معين‪ ،‬كمرض الجذامى ‪. lépreux‬تدخل بعد ذلك‬
‫الباحث الطبيب ‪ Dekeyser‬رافضا فكرة الجذامى‪ ،‬وربط األمر بمرض جلدي يُسبب البتر‪.‬‬
‫غير أن هذه األطروحة ال يمكنها أن تُفسر كل تشكيالت وأصناف األيد المبتورة األصابع‪ .‬إذا‬
‫كانت فكرة الباثولوجيا المرضية غير مقنعة للبعض‪ ،‬فإن دراسة ‪ Callejo Serrano‬التي‬
‫بينت مختلف حاالت البتر الموجودة في أيادي مغارة ‪ 30( Tibirian‬حالة)‪ ،‬مع وجود حالة‬
‫واحدة ليد مكتملة‪ .‬مثل هذه األبحاث‪ ،‬فتحت المجال لمقاربة هذه الرسوم كلغة‪،‬‬
‫أو ككتابة‪ ،‬أو كفن مركب‪ .‬فدراسة ‪ Laming-Empéraire‬اعتبرتها فن مركب َيتّبع قواعدا ً‬
‫وتشكيلةً من المواجهات والمقابالت للتدليل عن الذكورة واألنوثة‪ .‬على إثر ذلك‪ ،‬أصبح‬
‫التعامل مع هذه الرسوم (حيوانات وأيد) بتحليل بنيوي يسعى الكتشاف منطق انتظامها‬
‫(تقابل‪ ،‬مواجهة‪ ،‬تكرار‪ ،‬عودة منتظمة‪ )...‬كرمز للعالقات االجتماعية القائمة بين تلك‬
‫التجمعات البشرية‪( .‬الصورة ‪)9‬‬

‫‪5‬‬

You might also like